نبراس الأحکام

هویة الکتاب

بطاقة تعريف:الحسیني الشیرازي، السیدجعفر، ‫1349 -

عنوان واسم المؤلف:نبراس الأحکام/ تقریرا لابحاث السیدجعفر الحسیني الشیرازي.

تفاصيل المنشور:تهران: دلیل ما ‫، 1439 ق. = 2018 م. ‫= 1397 -

مواصفات المظهر:3ج.

ISBN:دوره ‫ 978-600-442-080-8 : ؛ ‫200000 ریال ‫: ج.1 ‫ 978-600-442-079-2 : ؛ ‫200000 ریال ‫: ‫ج.2 ‫ 978-600-442-181-2 : ؛ ‫ج.3 ‫: 978-964-204-665-2

حالة الاستماع:فاپا

لسان:العربية.

ملحوظة:تمت إعادة طباعة المجلد الثاني من هذا الكتاب في عام 2018.

ملحوظة:ج.3. چاپ اول: 1443ق. = 1400. ( فیپا)

ملحوظة:فهرس.

محتويات:ج.1. الصید والذباحه، الاطعمه والاشربه.- ج.2. الغصب

الموضوع: أصول الفقه الشيعي

* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

ترتيب الكونجرس:BP159/8 ‫ /ح525ن16 1397

تصنيف ديوي:297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية:5204455

معلومات التسجيلة الببليوغرافية:فاپا

ص: 1

المجلد 1 : الصید و الذباحة ، الأطعمة والأشربة

اشارة

نبراس الأحکام - الصید و الذباحة - الأطعمة والأشربة

السيّد جعفر الحسيني الشيرازي

إخراج: نهضة الله العظيمي

الطبعة الأولی - 1439ه .ق

شابك:

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

ص: 3

ص: 4

الصید و الذباحة

اشارة

وفيه مقدمة وفصول

ص: 5

ص: 6

المقدمة

اشارة

نتحدث في هذه المقدمة عن عدة بحوث وهي:

البحث الأول: في عنوان الكتاب

ما هو المراد من الصيد والذباحة؟ وهل العنوان المذكور مناسب أم لا؟

لقد عنون بعض الفقهاء الكتاب بالصيد والذباحة(1)، وعنونه آخرون بالصيد والذبائح(2)، ولمعرفة الأنسب من العنوانين لابد من ذكر معنيي الصيد وهما: الحيوان المصيد، أي: الذي يصاد، والآخر: المعنى المصدري، أي: فعل الصيد(3).

فإن كان المراد المعنى الأول فالعنوان الأنسب هو الصيد والذبائح؛ وذلك لأن الذبائح جمع الذبيحة، أي: الحيوان المذبوح، فيكون معنى الصيد الحيوان المصيود وهو الأنسب.

وإن كان المراد المعنى الثاني، فالأنسب هو الصيد والذباحة؛ لأنها بمعنى الذبح، فيكون الصيد بمعنى الاصطياد.وحيث إن الغرض في المقام هو الكلام عن التذكية - أي: تذكية الحيوان

ص: 7


1- شرائع الإسلام 4: 735؛ التنقيح الرائع 4: 3؛ الروضة البهية 7: 195؛ كفاية الأحكام 2: 574.
2- المقنع: 413؛ المقنعة: 575؛ النهاية: 574؛ المهذب 2: 435؛ السرائر3: 82.
3- جواهر الكلام 37 : 5-6.

بالصيد أو الذبح - كان الأنسب أن يجعل العنوان (كتاب التذكية) فيدخل فيه الصيد والذبح، وتنتفي الإشكالات المتفرقة الواردة في المقام، ومنها على سبيل المثال: ما ذكر في الجواهر: من أن (المراد من الصيد خصوص إزهاق الروح)(1)، حيث يرد عليه وجود موارد لتحقق الصيد بلا إزهاق الروح، كصيد السمك من الماء وبلعه قبل موته، والذي أجازه البعض وإن كان جوازه محل خلاف(2).

فمع القول بمقالة صاحب الجواهر يخرج المثال المذكور عن الصيد مع أنه مصداق له، لكن الإشكال ينتفي مع عنونة الباب ب (التذكية) حيث يدخل جميع موارد الصيد والذباحة وسائر أقسام التذكية.

ثم إنه قد تُقَسَّم التذكية إلى ستة أنواع مع إلحاق بعضها بالصيد وبعضها بالذباحة، مع جعل عنوان جامع لها.

وقد ذكر صاحب المستند الأنواع الستة(3) وبحثها في فصول:

الأول: الصيد، كصيد الحيوان الوحشي بالرمح.

الثاني: الذبح، كفري الأوداج الأربعة للشاة.

الثالث: النحر، كما في الإبل، وهو ملحق بالذبح.

الرابع: التبعية، كما في تبعية الجنين في ذكاته لذكاة الأم، فهو تذكيةبالتبعية ويلحق بالذبح.

الخامس: الإخراج من الماء، كما في السمك ويلحق بالصيد.

ص: 8


1- جواهر الكلام 37: 5.
2- شرائع الإسلام 4: 742؛ تحرير الأحكام 4: 621؛ مسالك الأفهام 11: 505.
3- مستند الشيعة 15: 282، وما بعدها.

والسادس: الأخذ باليد، كما في الجراد، ويلحق بالصيد.

إلا أنه لو جعل عنوان الكتاب (التذكية) كما صنعه في المستند(1) لكان أحسن، حيث إنه أكثر اختصاراً، ولا يحتاج إلى التأويل، وكان جامعاً للموارد الستة.

ومع ورود هذه الملاحظات الفنية ذكر المتأخرون العنوان المشهور تبعاً للمتقدمين، مع ترجيح الذباحة على الذبائح؛ وذلك لأن الكلام ليس في حلية أوحرمة الحيوان المصيد، فهو يرتبط بكتاب الأطعمة والأشربة، بل الكلام في التذكية الشاملة لتذكية الحيوان المحرم بشروطها، فإنه وإن حرم لحمه لكنه مذكى وطاهر، ويمكن الانتفاع بجلده ويوجب الملكية.

وبعبارة أخرى: ليس الكلام في الكتاب عن الحيوان المصيود حتى يقال: الصيد بمعنى المصيود، والذبائح: جمع ذبيحة، بل الكلام في نفس العمل، وكيفية تحقق الصيد وشرائطه.

البحث الثاني: في ماهية التذكية
اشارة

هل هي الفعل الخارجي مع شرائطها في المحل القابل أي: السبب، أو أنها نتيجة الفعل الخارجي أي: المسبب، كما هو الحال في الوضوء، حيث اختلفوا في أنه السبب الذي هو الغسلتان والمسحتان، أو المسبب الذي هونتيجة الغسلتين والمسحتين، وهي النور الباطني مثلاً.

وفي المقام: هل التذكية هي فري الأوداج الأربعة أو الصيد بشرائطه مثلاً، أو نتيجة الفري والإرسال؟

ص: 9


1- مستند الشيعة 15: 279.

وظاهر الأدلة اللفظية هو أن التذكية هي نفس الأفعال مع الشرائط في المحل القابل. وقد استدل لذلك بأدلة ثلاثة:

الدليل الأول: إسناد التذكية إلى الإنسان في الأدلة، كما في قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ}(1)، والأفعال - كالرمي وإرسال الكلب وقطع الأوداج - هي الصادرة عنه دون النتيجة، ولو كانت التذكية هي النتيجة لم تنسب إليه، هذا ما نقل عن المحقق النائيني(2).

وأشكل عليه: بأن الأفعال المنسوبة إلى الإنسان نوعان: ما يصدر عنه مباشرة، وما يصدر عنه بالسبب، فمع الإتيان بالسبب يتحقق المسبب فيكون فعله، وإن لم يصدر عنه مباشرة، فإنه حيث فعل السبب وترتب عليه المسبب أسند المسبب إليه، كما في القاتل، فإنه وإن لم يزهق الروح مباشرة وإنما حيث فعل السبب أسند إليه المسبب، وكذا لو أشعل النار، حيث أوجد السبب، أسند إليه الإحراق. والحاصل: فكما يصح إسناد الأفعال المباشرية إلى الفاعل كذلك يصح إسناد الأفعال التسبيبية إليه.

وفيه: أنه لو أريد من الدليل الظهور في الفعل الذي هو السبب فيما لو أسندالشيء إلى الإنسان، فلا يخلو من وجه.

الدليل الثاني: ترتيب الحلية على نفس الأفعال الصادرة من الإنسان في بعض النصوص، وظاهره أن التذكية هي الأفعال(3)، فلو لم تكن الأفعال

ص: 10


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- كتاب الصلاة، للكاظمي1: 209، وفيه: «إن في بعض الأدلة رتب الحلية والطهارة وجواز الصلاة على نفس التذكية، كقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ}».
3- كتاب الصلاة، للكاظمي 1: 212؛ نهاية التقرير في مباحث الصلاة 1: 307.

تذكية لما كان معنى لترتيب الحلية عليها، ولزم ترتيبها على نتيجة الفعل.

ومن النصوص: صحيحة زيد الشحام(1)،

عن أبي عبد الله(علیه السلام): «إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس»(2)، حيث ارتبطت الحلية بقطع الحلقوم.

وأشكل عليه: بأنّه لو كانت التذكية هي النتيجة فهي نتيجة الفعل، ويصح النسبة إليهما على حد سواء، فلو كان هنالك سبب ومسبب وللمسبب نتيجة، فكما يصح نسبة النتيجة إلى المسبب كذلك يصح نسبتها إلى السبب، وهذا مما تعارف في الكلام. وفي هذه الروايات وإن ارتبطت الحلية بالفعل لكنه لا يكون دليلاً على أن التذكية هي الفعل، بل يمكن أن تكون التذكية هي نتيجة الفعل، وإنما ارتبطت الحلية بالفعل لأنه سبب التذكية.

وفيه: ما ذكرناه في سابقه، بأن الاحتمال وإن كان قائماً إلا أنه لا ينافي الظهور في الفعل لا النتيجة.

الدليل الثالث: ما ورد من أن «ذكاة الجنين ذكاة أمه»(3). وقد استدل بها على أن التذكية هي الأفعال، حيث إنه بفعل الذابح يتحقق شيئان:تذكية الأم والجنين، فإن السبب الواحد يمكن أن ينتج نتيجتين، فيصح القول: إن ذكاة الجنين ذكاة أمه، بخلاف ما لو كانت التذكية المسبب، فإنه شيئان متباينان، ولا معنى لاتحادهما، ولا وجه لحمل أحد المسببين على الآخر.

لكنه محل تأمل، فإنه لو كان معنى النص المذكور أن النتيجة نفس

ص: 11


1- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن زيد الشحام... .
2- الكافي 6: 228؛ الاستبصار 4: 80؛ وسائل الشيعة 24: 25.
3- الكافي 6: 234؛ وسائل الشيعة 24: 33.

النتيجة على القول بالمسبب كان الإشكال وارداً؛ لتباين النتيجتين، فلا معنى لاتحادهما، لكن المراد من النص التلازم بين التذكيتين لا الاتحاد، كما في قولك: مجيء زيد مجيء عمرو.

والمتحصل من جميع ما ذكر: إنه يمكن القول: إن التذكية هي الفعل، كما يمكن القول: إنها النتيجة، إلا أن ظاهر الأدلة هو الفعل لا النتيجة.

ثمرة البحث

وبعد كل ذلك فهل هنالك ثمرة في الخلاف المذكور؟

قيل: هنا ثمرتان:

الثمرة الأولى: تظهر الثمرة على بعض المباني في جريان البراءة في الشك في السبب دون الشك في المسبب، خلافاً لمبنى الكثير من المتأخرين، حيث يجري عندهم أصل البراءة، سواء كانت التذكية الفعل أم النتيجة.

وبيان ذلك: إنه لو كان المسبب هو التذكية فمع الشك في شرط من الشروط لا يمكن إجراء البراءة؛ لعدم العلم بحصول النتيجة المطلوبة للشارع، فإنه من قبيل العنوان والمحصل، فلابد من الاحتياط، وأما لو كان السبب هو التذكية جرت البراءة عن الشرط المشكوك.

خلافاً لما ذهب إليه الكثير من المتأخرين، حيث تجري البراءة علىالفرضين؛ وذلك لأنه إنما يلزم الاحتياط في الشك في المكلف به مع عدم وجود أصل سببي، وأما مع وجوده فلا يبقى موضوع للأصل المسببي.

وفي المقام: لو ذبح الصبي - مثلاً - وشك في تحقق التذكية بمعنى النتيجة جرى أصل البراءة؛ لأن الشك مسبب عن الشك في اشتراط البلوغ

ص: 12

وعدمه، وحينما يجري أصل البراءة عن الشرط المذكور - وهو أصل سببي - فلا محالة تحصل النتيجة بعد اجتماع سائر الشروط، ولا مجال للأصل المسبّبي، أي: الاحتياط.

وبعبارة أخرى: مع نفي اشتراط البلوغ بالأصل لا تصل النوبة إلى الشك في حصول النتيجة؛ وذلك لتحقق العلم التعبدي بحصولها.

والحاصل: إنه ينفى شرطية المشكوك بأصل البراءة، سواء قلنا: إن التذكية بمعنى الفعل أو النتيجة، وتحل الذبيحة مع فقد الشرط.

الثمرة الثانية: في الحيوانات التي لم يرد نص خاص أو عام على حليتها أو حرمتها، فيمكن القول بحليتها بناءً على كون التذكية هي السبب، فيقال: إن التذكية ثابتة بالوجدان - حيث فُريت الأوداج - والأصل حلية كل شيء، وأما بناءً على كون التذكية هي المسبب فلا يمكن القول بالحلية، لأنها متوقفة على التذكية وهي غير معلومة فالأصل عدمها، ومع استصحاب عدم التذكية لا تصل النوبة إلى أصالة الحلية.

وبعبارة أخرى: مع كون التذكية هي المسبب، ومع ملاحظة اختلاف أنواع التذكية - من فري الأوداج والنحر والإخراج من الماء حياً والأخذ باليد وذكاة الأم والرمي - فلا نعلم قابلية الحيوان الذي لا نص فيه للتذكية، فيجري استصحابعدمها، ولازمه الشرعي هو الحرمة، لتوقف الحلية على التذكية فقط.

وفيه نظر: لأن الأمر بالعكس إذ العمومات كقوله تعالى: {قُل

لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ...} الآية(1) تدلّ على حلية كل شيء

ص: 13


1- سورة الأنعام، الآية: 145.

إلاّ لو دلّ الدليل على حرمتها، فهذه الحيوانات كلّها حلال اللحم، ومع وجود الدليل الاجتهادي لا تصل النوبة إلى أصالة عدم قبول التذكية التي هي أصل عملي، وعليه فلازم الحلية هو إمكان التذكية، وأما كيفيتها فبالذبح بفري الأوداج، لأن سائر أقسام التذكية هي لحيوانات خاصة أو لأصناف خاصة، ويدل على لزوم الذبح بالفري دون غيره إطلاقات روايات الذبح، وعليه فلا فرق بين القولين، فتأمل.

البحث الثالث: في محل البحث

في الصيد بحثان:

الأول: ما يرتبط بالمكاسب، والثاني: ما يرتبط بالمقام.

أما الأول: فيكون البحث عن إثبات اليد على الحيوان الممتنع بالأصالة بأي وسيلة، كالقتل أو الجرح أو حصره في شبكة أو أخذه باليد، والبحث عن أصل الجواز فيه، وأحكامه المتفرعة عليه. كما أن بعض الأحكام ترتبط بكتاب الصلاة والصوم، كمن يسافر لصيد اللهو، فيكون الكلام من حيث صلاته وصومه.

وأما الثاني: فهو تذكية الحيوان عبر الآلة المعتبرة، أي: الكلب أو السهمونحوه، وليس الكلام في الاصطياد، وإنما في كيفية تحقق التذكية مع الصيد.

البحث الرابع: في أدلة جواز الصيد

تدل الأدلة الثلاثة على جواز الصيد وحصول التذكية به، وقد يضاف دليل العقل أيضاً(1).

ص: 14


1- الفقه 75: 202.

الدليل الأول: الكتاب فهنالك آيات ثلاث تدل على الجواز.

الأولى: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ مَتَٰعٗا

لَّكُمۡ وَلِلسَّيَّارَةِۖ وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ}(1)، وفي معنى الصيد احتمالان:

الأول: أن يكون المراد حلية الحيوان المصيود؛ وذلك لما ذكر في الفقه والأصول(2) من أن الحلية والحرمة لو تعلقت بالأعيان كان المراد منها الفعل المقصود من تلك العين؛ لارتباط الحلية والحرمة بفعل الإنسان، كقوله تعالى: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ}(3)، حيث إن المراد نكاحهن(4)، وهو فعل الإنسان، وكذا الكلام في (حرمة الكلب) أي: أكله.

وفي المقام - لو لم تكن هنالك قرينة خارجية - ليس المراد بيان حليةالاصطياد بما هو اصطياد، بل المراد حلية لحم المصيود.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد من (صيد البحر) الاصطياد(5)، وأما

ص: 15


1- سورة المائدة، الآية: 96.
2- معالم الدين: 156؛ مفاتيح الأصول: 226.
3- سورة النساء، الآية: 23.
4- معالم الدين: 156، وفيه: «... أكثر الناس على أنه لا إجمال في التحريم المضاف إلى الأعيان، نحو قوله تعالى: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ}، وخالف فيه البعض. والحق: الأول. لنا: أن من استقرأ كلام العرب علم أن مرادهم في مثله: حيث يطلقونه إنما هو تحريم الفعل المقصود من ذلك، كالأكل في المأكول، والشرب في المشروب، واللبس في الملبوس، والوطء في الموطوء، فإذا قيل: حرم عليكم لحم الخنزير، أو الخمر، أو الحرير، أو الأمهات، فهم ذلك سابقاً إلى الفهم عرفاً، فهو متضح الدلالة، فلا إجمال».
5- الانتصار: 401.

جواز الأكل فيستفاد من (طعامه).

وكذا قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيۡكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَرِّ مَا دُمۡتُمۡ حُرُمٗاۗ}، فإن المفهوم منه(1) الحلية بعد انتهاء الإحرام. فالآية جامعة لحلية صيد البر والبحر معاً.

الآية الثانية: قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ}(2)، والأمر عقيب الحظر يفيد الإباحة(3).

الآية الثالثة: قوله تعالى: {يَسَۡٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ}، ثم ذكر الخاص: {وَمَا

عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}، أي: الصيد مع الكلب الذي علمتم، ثم يقول تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(4).

وهذه الآيات جامعة لأقسام صيد البر والبحر، سواء تحقق بيد الإنسان نفسه أم عبر الحيوان، فالآيات الكريمات تدل على نفس الصيد وحلية الأكل.

ولكن لا إطلاق لها من جهة المأكول، كما استدل بالإطلاق البعض.

وسيأتي بيان الإبهام من جهة المصيد، فإن الظاهر أن الآية في مقام بيان حلية الاصطياد لا المصيد، وإن استفيد من حلية الاصطياد حلية بعضأقسام

ص: 16


1- وهو إما مفهوم الغاية أو مفهوم الشرط لأن (مادمتم) في قوة (إذا كنتم)، (السيد الأستاذ).
2- سورة المائدة، الآية: 2.
3- راجع تقريرات المجدد الشيرازي 2: 47؛ قوانين الأصول: 89؛ هداية المسترشدين 1: 667؛ فرائد الأصول 1: 538.
4- سورة المائدة، الآية: 4.

المصيد.

الدليل الثاني: الروايات المتواترة، وستأتي خلال المباحث الآتية.

الدليل الثالث: الإجماع المحصل والمنقول(1)، بل يمكن دعوى الضرورة.

الدليل الرابع: العقل، ولم يتطرق إليه غالب الفقهاء، وحاصله: إن الأصل في كل شيء البراءة العقلية، لقبح العقاب بلا بيان، ومن موارده الصيد، مع انتفاء الوجه المحتمل للمنع، والوجوه المذكورة للمنع لا تصلح للبيان لتكون واردة على البراءة العقلية، فتجري.

البحث الخامس: في صيد الحيوانات النادرة

ذكر السيد الوالد أعلى الله درجاته في الفقه(2) وجوها أربعة للمنع من صيد الحيوانات النادرة، أو ما يعبر عنه بكونها في معرض الانقراض، ثم قال: «وإن كانت المسألة بعد بحاجة إلى التتبع والتأمل»(3).

وهذه الوجوه هي:

الأول: الاستدلال بقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ}(4)، فالظالم يفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل، وفي المقام: صيد الحيوان الموجب لانقراضه يوجب إهلاك النسل،

ص: 17


1- رياض المسائل 13: 251؛ جواهر الكلام 37: 5.
2- الفقه 75: 202-203.
3- الفقه 75: 203.
4- سورة البقرة، الآية: 205.

فيكون من صفات الظالمين المنهية والمذمومة.لكن الظاهر أن الآية ليست في مقام البيان من هذه الجهة، بل المراد من النسل الإنسان، فإذا وصل الظالم إلى الحكم قتل الناس اعتباطاً، وهذا إهلاك للنسل، وليس من مصاديقه الحيوان الذي سينقرض.

الثاني: إنه نوع فساد في الأرض وهو منهي عنه.

وفيه: إنه إن صدق كونه فساداً في الأرض فلا مانع من الحكم، ولكن صدقه محل تأمل، بل معنى الفساد التخريب والعبث فيها، ومع الغرض العقلائي للقوت أو سائر الانتفاعات لا يعلم صدق الفساد عليه.

الوجه الثالث: إنه تغيير خلق الله، وهو منهي عنه؛ لكونه من صنع الشيطان، كما قال تعالى: {وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ}(1)، حيث يأمر بتغيير خلق الله - أي: المخلوقات - فالأرض التي فيها أنواع من الحيوانات فتسبيب انقراضها سبب لتغيير خلق الله.

وهو محل تأمل؛ لأن ظاهر {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ} المُثلة(2)، بأن يقطع أنف حيوان حي، وهو من أفعال الجاهلية وهو حرام.

وقد أشكل البعض على دلالة الآية بأن الحرام التغيير الذي هو بأمر الشيطان لا كل تغيير.

ص: 18


1- سورة النساء، الآية: 119.
2- تقريب القرآن إلى الأذهان 1: 548، وفيه: «... من التغييرات المحرمة كإخصاء العبد وفقء عين الدابة والتمثيل بالأحياء والأموات وما أشبه ذلك، ويستفاد من الآية أن كل تغيير في الخلق حرام إلا ما دل عليه الدليل».

لكنه غير وارد، فإن الظاهر أن العمل بنفسه مبغوض، فيأمر به الشيطان لا أنه نوعان يأمر الشيطان بالفاسد منه.والحاصل: إن المراد حرمة كل نوع من تغيير خلق الله، إلا أن ظاهره المُثلة، فلا يصدق على فعل ما يوجب الانقراض.

الوجه الرابع: الروايات الدالة على الرأفة بالحيوان، كالمروي عن رسول الله(صلی الله علیه و آله): «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض»(1).

ومع غض النظر عن السند، فإن المراد منها عدم إيذاء الحيوان على فرض دلالتها على الحرمة، ولا يشمل الغرض العقلائي للصيد.

والحاصل: إنه لا دليل على منع صيد الحيوانات التي تنقرض بالعنوان الأولي. نعم لو انطبق عنوان ثانوي حُكم بالحرمة.

ص: 19


1- مستدرك الوسائل 8: 303.

الفصل الأول: الصيد بالكلب

اشارة

يقع الكلام في آلة الصيد، وهي إما حيوان أو جماد، لذا يقع الكلام في عدة بحوث:

البحث الأول: الصيد بالكلب
اشارة

إن المشهور، بل كاد أن يكون إجماعاً(1) أن الحيوان الذي يوجب تذكية الصيد هو كلب الصيد فقط، ولا تحصل التذكية بسائر الجوارح، كالفهد والعقاب والبازي والصقر.

نعم، لو تمكن من تذكية المصيد بعد صيده بسائر الجوارح، بأن وصل إليه حياً فذكاه بشرائط التذكية الشرعية المذكورة في كتاب الذباحة حلَّ، لكن الحلية حينئذٍ لا ترتبط بالصيد.

أدلة حصول التذكية بكلب الصيد

ويدل على كفاية كلب الصيد الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}(2)، والمكلِّب صفة الصائد، أي: معلّم الكلب للصيد، والروايات متواترة،

ص: 20


1- الانتصار: 394؛ الخلاف 6: 5؛ غنية النزوع: 394؛ السرائر 3: 82؛ مسالك الأفهام 11: 407.
2- سورة المائدة، الآية: 4.

والإجماعحاصل من كل المسلمين(1).

عدم حصول التذكية بسائر الجوارح

وفي حصول التذكية بسائر الجوارح قولان:

الأول: ما هو المشهور، بل كاد أن يكون إجماعاً من عدم تحقق التذكية بسائر الجوارح(2)، وقد دلت عليه الروايات الكثيرة، وفيها الصحاح.

الثاني: ما ذهب إليه نادر من المتقدمين من الحكم بتحقق التذكية بها، كابن أبي عقيل العماني(3)، حيث أجاز صيد غير الكلب من بقية السباع المعلّمة، ومنشؤه الروايات الواردة بالنسبة إلى الفهد والصقر، وفيها الصحاح والحسان، كصحيحة زكريا بن آدم(4) عن الإمام الصادق(علیه السلام): «الكلب والفهد سواء»(5)، وربما بلغت عشرين رواية.

وقد حملها الشيخ الطوسي على محامل ثلاثة:

الأول: الفهد كلب(6)، فقد فسر الكلب في القاموس(7) بما يشمل الأسد والفهد والذئب فتشمله الآية(8).

ص: 21


1- رياض المسائل 12: 39.
2- الانتصار: 394؛ السرائر 3: 82؛ مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام 4: 147.
3- مختلف الشيعة 8: 349.
4- الشيخ الطوسي بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن سعد بن سعد، عن البزنطي، عن زكريا بن آدم... .
5- تهذيب الأحكام 9: 28؛ وسائل الشيعة 23: 345.
6- تهذيب الأحكام 9: 28.
7- القاموس المحيط 1: 125، وفيه: «الكلب: كل سبع عقور... والأسد...».
8- أي: قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}. سورة المائدة، الآية: 4.

لكنه محل نظر، أما أولاً: فلأن الكلب في اللغة هو الحيوان النابح الخاص(1)، أي: المعنى المعهود ولا يشمل سائر الجوارح.

نعم، أُطلق الكلب على الأعم في بعض الأحيان لكنه إطلاق مجازي، كما في دعاء النبي(صلی الله علیه و آله) على عتبة بن أبي لهب قائلاً: «سلّط الله عليك كلباً من كلابه»(2) فقتله أسد، فهو تعبير مجازي.

وثانياً: لو قلنا بكونه أعم لغة إلا أنّ المراد منه في الاستعمال العرفي والروايات خصوص الحيوان المعهود قطعاً، لا المعنى اللغوي الأعم.

الثاني: حمل الرواية على التقية لكونها في زمن سلاطين الجور الذين كانوا يصيدون بالفهد(3)، وسيأتي مؤيد لذلك، وقد اعتمد الفقهاء على هذا الوجه.

الثالث: حملها على الاضطرار(4)، حيث يصيد اضطراراً بالفهد.

لكنه وجه تبرعي لا شاهد له، كما لا معنى للاضطرار إلى الفهد، حيث يستخدمه الملوك عادة للصيد لا عامة الناس.

تحقق الإعراض

وحتى لو فرض تمامية الروايات الدالة على حصول التذكية بالفهد،

ص: 22


1- لسان العرب 1: 722، وفيه: «والكَلْب: معروفٌ، واحدُ الكِلابِ، قال ابن سيده: وقد غَلَبَ الكلبُ على هذا النوع النابح». وقال في تاج العروس 2: 380. وقد غلب الكَلْبُ على هذا النوْع النابح. قال شيخُنا: بل صار حقيقة لغوية فيه لا تحتمل غيرهُ<.
2- الخرائج والجرائح 1: 117؛ بحار الأنوار 18: 57؛ الغدير 1: 262.
3- تهذيب الأحكام 9: 28.
4- تهذيب الأحكام 9: 29، وفيه: «والثاني: أن تكون محمولة على حال الاضطرار؛ لأن عند الضرورة يجوز أن يؤكل مما قد قتله الفهد».

وعدم حملها على التقية، إلا أنها معارضة بالروايات الصحيحة النافية لذلك، وقد عمل بها المشهور مع إعراضهم عن هذه.

عدم حصول التذكية بسباع الطيور

أما بالنسبة إلى تحقق التذكية بسباع الطيور كالصقر والباز وعدمه، فهنالك طوائف ثلاث من الروايات.

الطائفة الأولى: روايات صحيحة دالة على عدم حلية الحيوان المصيود بالطائر(1).

الطائفة الثانية: الروايات الصحيحة الدالة على الحلية(2).

الطائفة الثالثة: الروايات الدالة على بيان التعليل للحكم المذكور في الطائفتين السابقتين، وفيها الصحيح، كما في رواية الإمام الصادق(علیه السلام) حيث بيّن(علیه السلام) أن القول بحلية المصيد بالصقر للخوف من حكام بني أمية(3)،

ص: 23


1- الكافي 6: 205؛ وسائل الشيعة 23: 349، وفيه: الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن الصادق(علیه السلام) وفيه: «وأما ما قتله الطير فلا تأكل منه...».
2- الاستبصار 4: 72؛ وسائل الشيعة 23: 353-354، وفيه: الشيخ الطوسي بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن مهزيار قال: «كتب إلي أبي جعفر(علیه السلام) عبد الله بن خالد بن نصر المدائني: أسألك جعلت فداك عن البازي إذا أمسك صيده وقد سمى عليه فقتل الصيد هل يحل أكله؟ فكتب(علیه السلام) بخطه وخاتمه: إذا سميته أكلته. وبإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن البرقي، عن سعد بن سعد، عن زكريا بن آدم قال: >سألت الرضا(علیه السلام) عن صيد البازي والصقر يقتل صيده والرجل ينظر إليه، قال: كل منه وإن كان قد أكل منه أيضاً شيئاً...».
3- الكافي 6: 207؛ وسائل الشيعة 23: 349. الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن الحلبي قال: قال أبو عبد الله(علیه السلام): «كان أبي(علیه السلام) يفتي وكان يتقي ونحن نخاف، في صيد البزاة والصقورة، وأما الآن فلا نخاف، ولا يحل صيدها إلاّ أن تدرك ذكاته...».

فالبيان المذكور دال على أن الروايات الدالة على الحرمة إنما هي لبيان الحكم الواقعي.

والحاصل: إن حيوان الصيد إنما هو الكلب فحسب، أما غيره فلا يمكن التذكية به، إلا إذا وصل الإنسان إليه فوجده حيّاً فذكّاه.

البحث الثاني: عدم الفرق بين أنواع كلب الصيد

لا فرق بين أنواع الكلب السلوقي(1) وغيره(2)، كما لا فرق بين ألوانه.

نعم، ذهب ابن الجنيد إلى عدم تحقق التذكية فيما لو كان الكلب أسود خالصاً(3)، واستدل على ذلك بما ورد في الكافي: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(علیه السلام): الكلب الأسود البهيم(4) لا يؤكل صيده؛ لأن رسول الله(صلی الله علیه و آله) أمر بقتله<(5).

وأورد عليه: أولاً: الإشكال السندي، حيث يحتوي على السكوني العامي والنوفلي المجهول.

لكنه غير وارد على الأصح، كما سيأتي بيانه في بحث ذكاة السمك.

وثانياً: تحقق الإعراض.

ص: 24


1- السلوق قرية في اليمن تخصصهم تربية الكلاب الصائدة. معجم البلدان 3: 242.
2- رياض المسائل 12: 43؛ جواهر الكلام 37: 11.
3- مختلف الشيعة 8: 271؛ الدروس الشرعية 2: 396.
4- أي: الخالص. العين 4: 62، وفيه: >والبهيم: ما كان من الألوان لوناً واحداً لا شية فيه من الدهمة والكمتة».
5- الكافي 6: 206؛ وسائل الشيعة 23: 356.

بالإضافة إلى إمكان حملها على الكراهة، أو التقية لذهاب بعض الشافعية(1) إلى حرمة الصيد بالكلب البهيم كما في المستند(2).

البحث الثالث: موارد لا يعلم شمول الأدلة لها
اشارة

هنالك بعض الموارد التي لا يعلم شمول الأدلة لها، فتكون الحلية محل تأمل، وقد ذكر بعضها السيد الوالد في الفقه، وهذه الموارد هي:

الأول: صيد الكلب للسمك، فيمكن ادعاء انصراف الأدلة عنه(3)، إلا أن يقال: إنه بدوي لقلة الوجود.

وقد ذكر في محله أن الانصراف معتبر إذا أخل بالظهور كانصراف قول المولى: (جئني بماء) عن الماء المالح غير القابل للشرب، فإن الظهور لا يشمله، وأما الانصراف الذي لا يخل بالظهور، بأن كان منشؤه قلة الوجود، كالإنسان الشامل لمن له إصبع زائدة، فهو بدوي يزول بأدنى تأمل.

والمقام كذلك، فإن إرسال الكلب لصيد السمك نادر، فيكون الانصراف بدوياً، ثم قال في الفقه: «لكن لا فائدة لهذه المسألة لأنها إن ماتت في الماء حرمت من جهته، وإن ماتت في اليابسة حلّت»(4)، فالمسألة قليلة الفائدة.

لكنه بحاجة تأمل بشقيه:

ص: 25


1- مستند الشيعة 15: 284، وفيه: «خلافاً للإسكافي، فخصه بما عدا الأسود، تبعاً لبعض الشافعية وأحمد، لخبر السكوني الضعيف دلالة - لموضع ما يحتمل الجملة الخبرية - ومتناً - للشذوذ - ومقاومة للإطلاقات، لما ذكر ولموافقة العامة».
2- وبما أن السكوني عامي يقوى احتمال التقية منه. (المقرر).
3- الفقه 75: 206.
4- الفقه 75: 206.

أما الأول: فلو مات في الماء فهو كالسمك الميت في الشبك، حيث أفتى البعض بتحقق التذكية كذلك(1)، ولا يخفى أنه لا بد من مراجعة دليله وتعميمه إلى المقام بعد فهم الملاك.

بالإضافة إلى أن دليل حلية صيد الكلب حاكم على دليل التذكية بغير الصيد؛ لذا لو صاده الكلب من رجله تحققت التذكية، فلا يشترط فري الأوداج الأربعة، ولا سائر الشرائط إلا البسملة وكذلك المقام، فلو مات السمك في الماء أمكن القول بحليته بأحد الوجهين، ولا بأس بالوجه الثاني إن كان الأول قياساً.

وأما الثاني: فلو مات خارج الماء، فمع القول بعدم فائدة للصيد لا يمكن الحكم بالحلية، فإن الموت خارج الماء لا يوجب التذكية؛ لأن الإخراج الموجب للتذكية ما كان باليد أو الشبك، وأما غير ذلك فلا يوجبها، كما لو خرج بسبب المد أو الجزر، أو عبر صيد طائر فوقع على الماء حياً ثم مات(2).

فالمسألة لا تخلو من فائدة.

المورد الثاني: لو مات لا بسبب صيد الكلب، بل من خوفه لم ينفع؛ لأن ظاهر الدليل الصيد بالعض، بل قد لا يطلق الصيد على موته خوفاً. وفي الفقه(3): عدم إطلاق الدليل؛ لأنه إنما يكون حجة فيما لو كان المولىفي

ص: 26


1- مجمع الفائدة والبرهان 11: 140.
2- لكنه محل تأمل؛ إذ المهم إخراج الإنسان للسمك، ولا فرق بين تحقق الإخراج بيده أو بوسيلته، فلو أخرجه بالشبك حلَّ، كما أنه لو أخرجه بواسطة الكلب أو الطير بأن أرسلهما لصيد السمك حلَّ أيضاً، فما هو الفرق بين الشبك والكلب المرسل؟ (المقرر).
3- الفقه 75: 206.

مقام البيان، فلو لم يكن كذلك فلا إطلاق، فيشكل القول بحليته إن مات بالخوف من الكلب.

صيد الحيوان المتولد من الكلب و غيره

يقع الكلام في حكم صيد الحيوان المتولد من الكلب وغيره، وهي مسألة فرضية؛ لعدم تحقق موضوعها خارجاً، ومنشؤها الرواية الواردة في المقام، فقد سأل أعرابي أمير المؤمنين(علیه السلام) عن كلب نزا على شاة فتولد حيوان، فهل هو حلال أو حرام؟(1)، وقد أجابه الإمام(علیه السلام) بتفصيل وفروع مختلفة، وبناءً عليها ذكرت فروع فقهية.

وأغلب الظن أن السائل كان كاذباً في المسألة، لكن الإمام(علیه السلام) تماشى مع فرضه؛ فأجابه الإمام(علیه السلام) بالحكم على فرض تحقق مورد السؤال، وإلا فمن الناحية العلمية لا يمكن تطابق النطف إلا في بعض الحيوانات، كالفرس والحمار.

وعلى فرض تحقق ذلك فإن الحكم تابع للموضوع، فلو أطلق عليه

ص: 27


1- شجرة طوبى 1: 67، وفيه: روى شيخنا البهائي أن أعرابياً سأل علياً(علیه السلام) فقال: «رأيت كلباً وطأ شاة فأولدها فما حكم ذلك في الحل؟ فقال(علیه السلام): اعتبره في الأكل فإن أكل لحماً فهو كلب، وإن رأيته يأكل علفاً فهو شاة. فقال الأعرابي: رأيته يأكل هذا تارة ويأكل هذا تارة، فقال(علیه السلام): اعتبره في الشرب فإن كرع فهو شاة، وإن ولغ فهو كلب. فقال الأعرابي: وجدته يلغ تارة ويكرع أخرى. فقال(علیه السلام): اعتبره في المشي مع الماشية فإن تأخر عنها فهو كلب، وإن تقدم أو توسط فهو شاة. قال: وجدته مرة هكذا ومرة هكذا. قال(علیه السلام): اعتبره في الجلوس فإن برك فهو شاة وإن أقعى فهو كلب، قال: وجدته مرة هكذا ومرة هكذا، فقال(علیه السلام): اذبحه فإن كان له كرش فهو شاة، وإن كان له أمعاء فهو كلب. فبهت الأعرابي من علم أمير المؤمنين(علیه السلام)».

الكلب حلَّ صيده، ولو شك فلا يحكم عليه بالحلية؛ للزوم إحراز شرائط الحلية، وهو مشكوك الكلبية.

البحث الرابع: شروط حلية صيد الكلب
اشارة

لحلية صيد الكلب شروط عدة، وهي:

الشرط الأول: أن يكون الكلب معلَّماً
اشارة

فلو لم يكن كذلك لم ينفع في التذكية، وحيث إنه ليس للشارع اصطلاح جديد للمعلَّم فلابد من حمل كلامه على المعنى العرفي.

وإنما يحمل على المعنى العرفي لأنه يتكلم بلسان القوم، قال تعالى: {وَمَآ

أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1)، بالإضافة إلى الأدلة العقلية من الحكمة وغيرها، فلو لم يتضح المعنى العرفي - لعدم استخدامه اليوم أو لجهل معناه في زمن الشارع - لزم الرجوع إلى اللغة، حيث إنها مأخوذة من العرف، فإن اللغويين يدونون المعاني المستخدمة عرفاً.

نعم، لو اصطلح الشارع اصطلاحاً جديداً، أو تصرف في المعنى العرفي - وهو ما يعبر عنه بالمواضيع المستنبطة - كان هو المتبع، كما لو اخترع موضوعاً كالصلاة واستعمل لفظ الدعاء فيه، بغض النظر عن الحقيقة الشرعية، فلو قبلناها كانت ماهية مخترعة، وإلا كان من باب أنه أحد مصاديق المعنى اللغوي لكن بشرائط معينة.

وقد ذهب المحقق الأردبيلي - كما في المستند(2)- إلى أن التعليم

ص: 28


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.
2- مستند الشيعة 15: 287-288.

مجمل(1)، لتقييده بقوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ}(2)، ولا يعلم حقيقة (ما علمه الله) حيث لم تذكر كيفيته في القرآن أو الروايات، ولم يعلم انعقاد الإجماع على طريقة معينة، فيكون مجملاً.

وأشكل عليه(3) بأن المراد من الآية: إن الله علم البشر علوماً، وهم يعلّمون الحيوانات بعض تلك العلوم، فيمكنهم تربيتها وتعليمها بما علّمهم الله، فيكون معنى الآية (تعلمونها بعض ما علّمه الله لكم)، وليس المراد طريقة خاصة لتعليم الكلاب للصيد، فإن مقتضى الإطلاق عدم خصوصية تعليم خاص، بل كل ما يسمى تعليماً، وهو واضح.

شروط تحقق التعليم

وقد ذكر الفقهاء لتحقق التعليم شروطاً ثلاثة، وهي ليست شروطاً شرعية مغايرة للمفهوم العرفي، بل هي بيان لما يتحقق به التعليم عرفاً، وهي:

الأول: أن يسترسل إذا أرسله

فلو كان يذهب من نفسه ولا يذهب مع إرسال صاحبه فليس معلماً، وهذا الشرط محل اتفاق بين الفقهاء(4)، وهو ركن في تحقق التعليم العرفي.

الثاني: أن ينزجر بزجره

فلا يذهب لو أشار إليه بعدم الذهاب، حتى لو كان جائعاً، وهذا الشرط

ص: 29


1- مجمع الفائدة والبرهان 11: 35.
2- سورة المائدة، الآية: 4.
3- مستند الشيعة 15: 288.
4- شرائع الإسلام 4: 735؛ قواعد الأحكام 3: 311؛ مسالك الأفهام 11: 414.

محل اتفاق بين الفقهاء في الجملة، فإن جمعاً من الفقهاء، كالعلامة(1) والشهيدين(2) ذهبوا إلى اشتراطه فيما لو كان الكلب واقفاً أي ساكناً، أما لو أرسله صاحبه فتحرك ورأى الصيد ثم زجره عن الاستمرار فلا يشترط، فإن الكلب المعلّم لا ينزجر، ولا يمكن إيقافه عادة، كما ينقل ذلك عن الصيادين؛ ولذا رضي المتأخرون بالتفصيل المذكور.

الثالث: أن لا يأكل مما يمسكه

وهذا الشرط محل خلاف بين الفقهاء(3) في كونه شرطاً مستقلاً أو مقوماً لمفهوم التعليم، ولا ثمرة عملية للخلاف المذكور، فهو شرط سواء لتحقق التعليم أم لأصل حلية الحيوان وتحقق ذكاته.

وفي هذا الشرط أقوال ثلاثة، وهي:

الأول: ما هو المشهور، بل نقل الإجماع على اشتراط عدم الأكل(4)، فلو أكل من الصيد لم تتحقق التذكية.

الثاني: عدم الأكل ليس بشرط، فتتحقق التذكية سواء أكل أم لا مع تحقق الشروط الأخرى، وقد نسب إلى الشيخ الصدوق وأبيه والعماني

ص: 30


1- تحرير الأحكام 4: 605.
2- الروضة البهية 7: 197؛ مسالك الأفهام 11: 414.
3- فالمشهور اعتباره، كما عن الانتصار: 398؛ مختلف الشيعة 8: 271؛ كفاية الأحكام 2: 577؛ كشف اللثام 2: 252؛ الانتصار: 183. وذهب جمع آخر إلى عدم اعتبار ذلك الشرط، منهم: الشيخ الصدوق في المقنع: 413؛ والأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان 11: 35؛ وصاحب المفاتيح 2: 211.
4- الانتصار: 398؛ الخلاف 6: 6؛ غنية النزوع: 395-396.

وقليل من المتأخرين(1)، ورجحه في الفقه صناعة(2).

الثالث: التفصيل الذي ذهب إليه ابن الجنيد: وهو أنه لو أكل منه قبل موته حرم ولو أكل بعد الموت حلَّ(3).

ومنشأ القولين الأولين اختلاف الروايات، وفيها الصحاح من الطرفين، ومنشأ القول الثالث الجمع بينها.

أدلة القول الأول

وقد استدل لهذا القول بعدة أدلة(4)، وهي:

الأول: لو اعتاد الأكل فلا يسمى معلّماً(5)، فعدم الأكل شرط صدق التعليم.

لكن يستفاد من ثنايا كلام الجواهر(6) التأمل فيه، فإن الأكل وعدمه يرتبط بكيفية التعليم، فلا ينافي التعليم، بل هو عين التعليم. نعم، عادة يقوم الصياد بالتعليم على عدم الأكل، فالوجه المذكور صحيح في الجملة.

الثاني: قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(7)، فلابد وأن يكون الإمساك (عليكم) لا (على نفسه)، ويستفاد ذلك من بعض الروايات أيضاً.

ص: 31


1- المقنع: 413؛ الهداية: 310؛ مختلف الشيعة 8: 271، حيث حكاه عن العماني؛ مجمع الفائدة والبرهان 11: 35.
2- الفقه 75: 228-229.
3- فتاوى ابن الجنيد: 312؛ مختلف الشيعة 8: 271.
4- جواهر الكلام 37: 25.
5- الانتصار: 398.
6- جواهر الكلام 37: 31.
7- سورة المائدة، الآية: 4.

لكنه محل تأمل؛ لصدق (الإمساك عليكم) على المقدار المتبقي بعد الأكل، ولا يخفى أنه لا ينافي صدق (أمسكه على نفسه) أيضاً. نعم، لو لم يكن الكلب معلّماً لم يصدق (الإمساك عليكم).

ويدل عليه خبر أبي بصير عن الإمام الصادق(علیه السلام) في جماعة ذهبوا إلى الصيد فأرسلوا كلابهم المعلمة، فشاركهم كلب غريب(1)، فنهى الإمام(علیه السلام) عن أكله لاحتمال كون الصائد هو الكلب الغريب، فهو (أمسك على نفسه) لا (عليكم).

الدليل الثالث: الروايات الكثيرة الدالة على ذلك وفيها الصحاح، كصحيحة رفاعة(2) قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الكلب يقتل، فقال: كل، فقلت: آكل منه؟ فقال: إذا أكل منه فلم يمسك عليك، وإنما أمسك على نفسه»(3).

الدليل الرابع: الإجماع المدعى(4).

لكنه موهون لكثرة المخالفين. نعم، هو المشهور.

الدليل الخامس: أصالة عدم التذكية(5)، وإنما تصل النوبة إليها فيما لو شككنا في الأدلة، فإن حلية لحم الحيوان متوقفة على التذكية، فلو شكفي

ص: 32


1- الكافي 6: 206؛ وسائل الشيعة 23: 343. عن أبي بصير، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «سألته عن قوم أرسلوا كلابهم وهي معلمة كلها وقد سمّوا عليها، فلما أن مضت الكلاب دخل فيها كلب غريب لم يعرفوا له صاحباً، فاشتركن جميعاً في الصيد، فقال: لا يؤكل منه لأنك لا تدري أخذه معلم أم لا».
2- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن رفاعة بن موسى.
3- الاستبصار 4: 69؛ وسائل الشيعة 23: 338.
4- الانتصار: 398.
5- جواهر الكلام 37: 25.

تحققها بعد أكل الكلب منه فالأصل عدم تحقق التذكية، وليس الأصل المذكور مثبتاً؛ لأن المراد إثبات عدم التذكية، لا الطهارة المتوقفة على الواسطة العقلية أو العادية، حيث إنها متوقفة على كونها ميتة. نعم، قال البعض: إن الواسطة خفية، وقال آخرون: إن النجاسة فرع عدم التذكية(1)، ولا حاجة إلى وساطة كونه ميتة، وتفصيل الكلام في محله.

ونقل عن البعض حرمة أكل اللحم المستورد من البلاد الأجنبية، مع جواز شرب مائه؛ وذلك لعدم ثبوت التذكية فيحرم، والحكم بالطهارة لأن النجاسة أصل مثبت.

وهو محل إشكال، فعلى فرض صحة المبنى وعدم نجاسة الماء بملاقاة اللحم المشكوك تذكيته، إلا أن أجزاءً من اللحم ودسومته تدخل الماء بالطبخ، وكذا المادة واللون، وكل ذلك من أجزاء حرام الأكل، فكما يحرم أكل اللحم كذلك يحرم شرب مائه بعد العصر، فإن الحرمة لا تختص باللحم فقط، بل كل الأجزاء بما فيها الأجزاء الصغار والدسومة و ما أشبه ذلك.

دليل القول الثاني

وقد يستدل لهذا القول ببعض الروايات منها:

خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «إن أصبت كلباً معلّماً أو فهداً بعد أن تسمي فكل مما أمسك عليك قتل أو لم يقتل، أكل أو لم يأكل، وإن أدركت صيده فكان في يدك حيّا فذكه، فان عجلعليك فمات قبل

ص: 33


1- عوائد الأيام: 606-607.

أن تذكيه فكل»(1).

ومنها: صحيحة الصيرفي(2): قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): «إنهم يقولون إنه إذا قتله وأكل منه فإنما أمسك على نفسه فلا تأكله! قال: كُل»(3).

وهذه الطائفة من الروايات أكثر من الطائفة الأولى.

دليل القول بالتفصيل

دليل القول بالتفصيل(4)

ودليله هو الجمع بين الطائفتين، فالأولى ناظرة إلى أكل الكلب قبل موت الصيد، والمجوزة ناظرة إلى أكله بعد موته.

لكنه جمع تبرعي لا شاهد له؛ ولذا لم يذهب إليه أحد.

وقد جمع المحقق الحلي في الشرائع بين الطائفتين بما لو كان من عادته عدم الأكل فأكل صدفة فلا يضر، فالروايات المحرمة ناظرة إلى تعوّده، والمحلّلة إلى عدم التعود، قال: «فإن أكل نادراً لم يقدح في إباحة ما يمسكه(5)»(6).

ص: 34


1- وسائل الشيعة 23: 241.
2- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى، عن جميل بن دراج، عن حكم بن حكيم الصيرفي... .
3- الكافي 6: 203؛ وسائل الشيعة 23: 333.
4- وهو التفصيل الذي ذهب إليه ابن الجنيد: وهو أنه لو أكل منه قبل موته حرم ولو أكل بعد الموت حلَّ.
5- فإن الإنسان صاحب الملكة قد يعمل خلاف ملكته، كأن يذنب العادل صدفة، أو يُخطئ النجار مرة؛ ولذا فإن العدالة ملكة بشرط عدم الإتيان بالمعصية، فمن لا ملكة له ليس بعادل، ومن له ملكة وعصى مرة سقط عن العدالة، لكن لو تاب عادت، فالعاقل قد يخالف الملكة، فالحيوان المعلّم بطريق أولى (السيد الأستاذ).
6- شرائع الإسلام 4: 735.

لكنه جمع تبرعي أيضاً، فلا يمكن الالتزام به.

وهنالك جمع آخر، وهو حمل الروايات الدالة على الحرمة على التقية؛لأنها توافق العامة، فيعمل بما دل على عدم الحرمة لمخالفتها لهم.

لكن أشكل عليه في الجواهر، فقال: «... ولعله أولى من حمل أخبار المنع على التقية أو الكراهة فإنه فرع التكافؤ، وهو منتفٍ، فإن التحريم هو المطابق للأصل والاحتياط، وظاهر الكتاب وفتوى الأصحاب والإجماع على اشتراط التعليم، ولا يحصل مع اعتياد الأكل كما قلنا»(1).

فلو تكافأ الخبران وكان أحدهما موافقاً والآخر مخالفاً عمل بالمخالف، وحمل الموافق على التقية، وأما لو كان أحدهما صحيحاً موافقاً للعامة، والآخر ضعيفاً مخالفاً لهم لم تصل النوبة إلى بحث التقية، وفي فقه الصادق: «ومجرد المطابقة لفتوى العامة لا يوجب طرح الخبر؛ لأن المرجحات الأُخر جُعلت في المرتبة السابقة، وهي الشهرة وصفات الراوي»(2).

ولا يخفى أن معظم الروايات موافقة، حيث إن تحريفهم لم يكن في كل شيء، بل في بعض الأشياء، فيكون الترجيح بمخالفة العامة فيما إذا تساوت الروايتان من حيث الوثاقة والعدالة وشهرة الخبر ونحوها.

والمقام ليس من ذلك؛ لأن أخبار الحرمة أشهر، بل كاد أن يكون إجماعاً، فلا تصل النوبة إلى القول بترجيح روايات الجواز لمخالفتها للعامة.

لكن هذا مبحث مبنائي، فهل المرجحات الواردة في الأدلة مرتبة أم لا؟

ص: 35


1- جواهر الكلام 37: 29.
2- فقه الصادق 23: 382.

ذهب المحقق الخراساني(1) إلى أن المرجحات منحصرة في موافقةالكتاب ومخالفة العامة، والبقية على نحو الاستحباب. وعلى هذا المبنى فالروايتان متكافئتان، فتصل النوبة إلى بحث التقية. وأما على سائر المباني فالترجيح بالشهرة، وهي في جانب الحرمة.

وذهب السيد الوالد في الفقه(2) إلى جمع آخر هو جمع دلالي: وهو أن أخبار المنع ظاهرة في الحرمة، وأخبار الجواز صريحة في الحلية، فتحمل الأولى على الكراهة.

ويبدو للنظر أن الأرجح هو قول المشهور، فإنه وإن تحقق التعارض بين الطائفتين بدواً، إلا أن الشهرة العظيمة مع الصحاح الدالة على الحرمة، بل كادت أن تكون إجماعاً، وقد أُعرض عن الروايات الدالة على الجواز، والإعراض مسقط عن الحجية.

اشتراط تكرار الاصطياد وعدمه

قال في الشرائع: «لابد من تكرار الاصطياد به متصفاً بهذه الشرائط، ليتحقق حصولها فيه، ولا يكفي اتفاقها مرة»(3)، فلو أرسل كلب الصيد مرة، أو زجره مرة فامتثل أمكن أن يكون اتفاقياً، فلم يحرز الشرط، بخلاف ما لو تكرر.

لكن مضى أن التعليم أمر عرفي، فهو الحاكم في كونه معلّماً، فالقول بالتكرار إنما هو لبيان مورد التعليم العرفي. وبعبارة أخرى: إنه كاشف عن

ص: 36


1- كفاية الأصول: 459.
2- الفقه 75: 228.
3- شرائع الإسلام 4: 736.

شرط التعليم، فليس الشرط المذكور شرطاً مستقلاً عن التعليم، بل هو كاشف عن المعنى العرفي. وكذلك الأمر في كل حرفة وصنعة، حيث لايتحقق التعليم بالعمل مرة واحدة، وأما التكرار فيكشف عن التعليم.

ويؤيده: أنه لو تعلم بمرة واحدة بحيث صدق أنه معلّم عرفاً كفى، لكن عادة لا يمكن الكشف عن كونه معلّماً بالعمل مرة واحدة.

عدم اشتراط الملكة

لا يلزم أن يصبح الأمر ملكة، فلو تعلّم حلَّ صيده حتى لو نسي في اليوم التالي لكن بشرط أن يصدق عليه المعلَّم في اليوم الأول؛ ولذا لو تعلّم شخص عملاً من دون أن يصبح ملكة عنده، وأمكنه أن يؤديه لكنه سينسى ذلك؛ لعدم صيرورته ملكة، صدق أنه معلّم.

ويشهد له معتبرة زرارة(1) عن الإمام الصادق(علیه السلام): «... وإن كان غير معلّم يعلمه في ساعته ثم يرسله فيأكل منه فإنه معلّم..»(2)، مع العلم بأن التعليم كذلك لا يلازم الملكة، بل التعليم أعمُّ فيمكن اجتماعهما، ويمكن تحقق التعليم بلا ملكة، ويؤيده الروايات الواردة في الوسائل، فراجعها(3).

نعم، الملكة ناشئة عن التكرار الكثير وشدّة التعليم.

والحاصل: إن التكرار المطلوب إنما هو لكشف التعليم.

ص: 37


1- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن زرارة... . والأقوى وثاقة موسى بن بكر، فالخبر صحيح (السيد الأستاذ).
2- الكافي 6: 205؛ وسائل الشيعة 23: 346-347.
3- وسائل الشيعة 23: 346-347.

وقد استدل البعض(1) على لزوم التكرار وإثبات موضوعيته بروايتين، وعليه لو تعلم من دون تكرار أو تعلم من تلقاء نفسه لم ينفع في التذكية، وهما:الأولى: خبر عبد الرحمن بن سيابة قال: قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): «إني استعير كلب المجوسي فأصيد به، فقال(علیه السلام): لا تأكل من صيده إلا أن يكون علّمه مسلم فتعلّمه»(2)، فهو يدل على لزوم التكرار لكون كلب المجوسي معلّم.

لكنه غير تام، حيث لم يتطرق في السؤال إلى أن كلب المجوسي كلب الصيد، فيمكن أن يستعير غيره، فالرواية مبهمة من هذه الجهة، هذا أولاً، وثانياً: إن ظاهر الرواية أنه لا يمكن الاعتماد على دعوى المجوسي بكون الكلب معلّماً، فيشترط أن يعلمه المسلم، أو يقول مسلم: إنه علمه فيعتمد عليه(3).

الثانية: موثقة السكوني(4)، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «كلب المجوسي لا تأكل صيده إلا أن يأخذه المسلم فيعلمه ويرسله»(5).

ولكنها لا تدل على لزوم التكرار؛ لأن الكلب لو كان معلّماً فلا يتعلم؛ لأنه تحصيل للحاصل، وإذا لم يكن معلّماً فحين الإرسال لا يمكن تعليمه(6).

ص: 38


1- الخلاف 6: 6؛ مستند الشيعة 15: 286.
2- الكافي 6: 209؛ وسائل الشيعة 23: 361.
3- لكنهما خلاف الظاهر، فإن الظاهر من السؤال استعارة كلب الصيد، كما أن الكلام أعم من دعوى المجوسي أو غيره، فكونه كلب صيد مفروغ منه. (المقرر).
4- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني.
5- الكافي 6: 209؛ وسائل الشيعة 23: 361.
6- لكنه غير تام أيضاً، فإننا نختار الشق الثاني، فالرواية تدل على لزوم تعليمه لكنها لا تدل على التكرار، والأولى أن يقال بالنسبة إلى الروايتين: إنهما أجنبيتان عن اشتراط التكرار، بل الشرط هو كون المعلّم مسلماً، إلا أن يعرض عن الشرط المذكور (المقرر).

فلابد من حمل الروايتين على محمل آخر، وهو أنه لو أرسله المجوسي لم ينفع، بل لابد من إرسال المسلم إياه، فليس المراد من التسبيب التعليم، بلالإرسال، فمعنى الروايتين أن الكلب المعلّم حيث ينطلق - عادة - بإرسال صاحبه الكافر لم ينفع في التذكية. نعم، لو استرسل بإرسال المسلم صح.

ويؤيده مرسلة حريز عن الصادق(علیه السلام): «إنه سئل عن كلب المجوسي يكلبه المسلم ويسمي ويرسله؟ فقال: نعم، إنه مكلب إذا سمّى وذكر اسم الله فلا بأس»(1).

والحاصل: إن الروايتين محمولتان على أن انطلاقه بأمر صاحبه لا بأمر المسلم، فلا تدلان على لزوم التكرار.

القول بكفاية التعليم مرة

استدل البعض(2) على كفاية المرة برواية عن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: «وإن كان غير معلم فعلمه في ساعته حين يرسله فليأكل منه فإنه معلم»(3)، فتدل على كفاية التعليم مرة.

لكن يرد عليه: أنه يمكن أن يتحقق التكرار في التعليم من ساعته، فلا يلزم أن تكون مدة التعليم طويلة.

والمختار: إن ما استدل به لكفاية المرة أو لزوم التكرار غير دال، بل اللازم تحقق التعليم العرفي، ومقتضى العادة كشف ذلك عن طريق التكرار كسائر الحرف والصناعات.

ص: 39


1- وسائل الشيعة 23: 361.
2- كشف اللثام 2: 252.
3- مرّ تخريجه.
نسيان التعليم

كذلك الحال فيما لو نسي التعليم(1)، فإن التكرار كاشف عن النسيان المذكور، فلو أرسل مرة فلم يمتثل فلا يمكن الحكم عليه بالنسيان.

نعم، لو تكرر ذلك كشف عن نسيانه، شأنه شأن صاحب الحرف والصناعات، حيث يمكن أن يُخطئ مرة بعد ترك العمل فترة لكن لا يدل على نسيانه، لكن تكرار الخطأ يكشف عن نسيان الملكة.

فروع تتعلق بتعليم كلب الصيد

يقع الكلام في ذكر عدة فروع في المقام، وقد ورد أكثرها في الفقه(2).

الأول: لو علمه ولم يستيقن أنه تعلم لم يكفِ؛ لعدم إحراز شرائط التذكية، فالاستصحاب محكم، وليس ذلك مثبتاً، فإن نتيجة عدم التعليم عدم حصول التذكية وهو أثر شرعي، كما هو الأمر في سائر الشرائط، ويمكن إثبات الأصل عن طريق آخر، وهو أنه لو صاد فالأصل عدم تحقق التذكية، ولازمه الحرمة، وسيأتي تفصيل ذلك.

الثاني: لو اشترى كلب صيد وقال البائع: إنه معلم كان قوله حجة؛ لحمل قول المسلم على الصحة.

وقد استدل على ذلك بكونه ذا يد، فيكون قوله معتبراً(3).

لكنه بحاجة إلى تأمل؛ لأن اليد أمارة الملكية أما الأوصاف فلا تثبت بها، فيكون قبول قوله من باب الحمل على الصحة، فتأمل.

ص: 40


1- لتركه الصيد فترة مثلاً خاصة فيما لو لم يصل إلى حد الملكة.
2- الفقه 75: 234.
3- الفقه 75: 234.

الفرع الثالث: الحكم منصرف عن المعلم لغير الصيد، كما لو صاد من عُلّم الحراسة، فلا يحل صيده(1)، فإنه وإن كان {تُعَلِّمُونَهُنَّ} مطلقاً إلا أن المدعى الانصراف إلى تعليم الصيد لا غيره.

الفرع الرابع: لو كان استرساله وانزجاره بالطبع لا بالتعليم، فهل يكفي لتحقق التذكية؟

قال بعض بعدم الكفاية للآية المذكورة(2)، وقال بعض بالكفاية(3)؛ لأن التعليم طريقي لا موضوعي، كما هو الغالب في العلم والرؤية المأخوذة في الأدلة؛ لذا تحمل على القطع الطريقي لا الموضوعي، فالمراد أن يطيع الأمر، سواء علّمه الإنسان أم تعلم من سائر الكلاب أم كان طبعه كذلك، فالقيد غالبي، وما عداه - كالتعلّم بالطبع - نادر.

الشرط الثاني: تحقق شروط المرسل
اشارة

يقع الكلام في الشرط الثاني لحلية صيد الكلب المعلّم، وهو شروط المرسل، فلابد من توفر شروط في مرسل الكلب لتتحقق التذكية. وقد ذكرت عدة قيود في مرسل الكلب المعلم، وهي:

القيد الأول: أن يكون المرسل مسلماً

أو بحكم المسلم كالصبي المميز من أبوين مسلمين(4)، فلو أرسلالصبي

ص: 41


1- الفقه 75: 234.
2- الخلاف 6: 16.
3- كفاية الأحكام 2: 578.
4- وإن كان الأصح أنه مسلم لا أنه بحكم الإسلام، وعبادته ليست تمرينية وقوله وفعله إن كان قاصداً كان مشروعاً وصحيحاً، وليس إسلامه ظاهرياً، ويؤيده ما قاله جمع: إن ابن الكافر المميز لو أظهر الإسلام عن قناعة قبل منه، خلافاً للمبنى الآخر الذي يجري عليه حكم الكافر إلى البلوغ، وأما عمد الصبي خطأ فهو خاص بباب القصاص وليس بمطلق ليحمل على جميع أفعال الصبي. نعم، غير المميز بحكم الإسلام (السيد الأستاذ).

المميز الكلب حلّ صيده، كما لو ذبح بيده بالشرائط المذكورة، وأما لو أرسل الكافر فلا يحل.

أدلة القيد الأول

وقد استدل على ذلك بآيات وروايات(1)، أما الآيات فهي:

الآية الأولى: قوله تعالى: {وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ}(2)، والكافر لا يذكر اسم الله لعدم اعتقاده، وحتى لو ادعى ذلك فلا يقبل منه، لحمل قول المسلم على الصحة لا الكافر، فالآية دالة على عدم كفاية صيد الكافر؛ لافتقاد شرط التسمية.

لكنه ضعيف، بل على عكس المطلوب أدل؛ لأنه جارٍ بالنسبة للملحد، وأما غيره فهو يقبل الله لكنه يشرك به، فلا مانع من تسميته، هذا أولاً.

وثانياً: الدليل أخص من المدعى، فيمكن الفرض فيما لو سمعنا منه ذكر الله تعالى.

الآية الثانية: {وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ}(3)، ولا يخفى أن الشرك ظلم عظيم، فلو أُكل صيد المشرك كان ركوناً إلى الذين ظلموا.

لكنه ضعيف، أما نقضاً فهل يحرم ذلك من المسلم الظالم؟

ص: 42


1- مجمع الفائدة والبرهان 11: 38.
2- سورة الأنعام، الآية: 121.
3- سورة هود، الآية: 113؛ مختلف الشيعة 8: 298.

وأما حلاً: فإن أكل صيد الكافر ليس ركوناً؛ لأن معنى الركون هو قبولسيطرته والانضواء تحت سلطانه والتسليم لسلطته، ومجرد الأكل ليس من ذلك، قال تعال: {ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ}(1).

وأما الروايات، فقد استدل لذلك بروايات تشترط الإسلام في الذابح، وستأتي في كتاب الذباحة، والصيد نوع من الذبح فنفس الأدلة الواردة في الذباحة جارية في الصيد، فلابد وأن يكون المرسل مسلماً.

لكنه ضعيف؛ لأن الإرسال ليس بذبح؛ ولذا لو صاد الكافر سمكاً حلّ لتحقق ذكاته بإخراجه من الماء حيّاً، فإن التذكية أعم من الذبح. نعم، يشترط في الذبح كون الذابح مسلماً، بل ليس الإرسال تذكية أصلاً؛ لذا لو أرسل الكلب فصاد ولم يمت الصيد، وكانت حياته مستقرة وجب على الصائد أن يذبحه حتى يحل، وإلا صار ميتة، فيدل ذلك على أن الإرسال ليس بتذكية، وإلا لم يجب ذبحه.

والحاصل: إن اشتراط الإسلام إنما هو في الذابح لا في كل تذكية، والإرسال ليس تذكية أصلاً.

نعم، هنا جملة من الروايات يستفاد منها لزوم كون المرسل غير كافر، ومنها: الروايات التي مرّت في المجوسي، ومنها: ما ورد في حرمة صيد نصارى العرب(2).

ص: 43


1- سورة المائدة، الآية: 5.
2- وهم طائفتان من العرب: بني تغلب وبني كلب، كانوا نصارى قبل الإسلام، وقد تأثروا بنصرانية الشام، حيث كانوا في أطراف جزيرة العرب (السيد الأستاذ).

فمنها: صحيحة محمد بن قيس(1)، عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «قالأمير المؤمنين(علیه السلام): لا تأكلوا ذبيحة نصارى العرب فإنهم ليسوا أهل الكتاب»(2).

لكن أشكل على دلالتها، لما ورد في تتمة الروايات: (لأنهم ليسوا أهل كتاب)؛ لأنهم مشركون، فيدل على أنهم ليسوا بنصارى أصلاً، فالإشكال في الموضوع، لا في الحكم بعد تحقق الموضوع، فعدم حلية ذبيحتهم أو صيدهم لا يدل على حرمة صيد أهل الكتاب.

القيد الثاني: أن يرسله للاصطياد

فلو استرسل من نفسه من دون إرسال الصياد له(3) لم يحل ما صاده، ونظيره الصيد عبر الآلة كالسهم، فلو رمى السهم لا بقصد الصيد، بل بقصد التمرين فأصاب طيراً صدفة لم يحل.

أدلة القيد الثاني

ويدل على ذلك أمور:

الأول: الإجماع المنقول(4).

ويمكن الخدشة فيه مبنىً وبناءً.

ص: 44


1- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد عن يوسف بن عقيل عن محمد بن قيس...، والأظهر أن محمد بن قيس هنا هو البجلي الثقة، فراجع مشتركات الكاظمي: 251.
2- الاستبصار 4: 83؛ وسائل الشيعة 24: 59.
3- لأن كلب الصيد وإن كان معلّماً إلا أنه لا ينحصر صيده في إرسال صاحبه، بل قد يجوع مثلاً فيصيد لنفسه.
4- غنية النزوع: 395؛ جامع الخلاف والوفاق: 536.

أما مبنىً: فلأنّه معلوم الاستناد؛ لوجود روايات في المقام استند المجمعون عليها ظاهراً، وعلى مشهور الأصوليين الإجماع المعلوم الاستناد بلمحتمله غير حجة. وإن كان يخطر بالبال أن الإجماع المنقول حجة وإن كان محتمل الاستناد، وإلا لم يبقَ إجماع أصلاً؛ لوجود أدلة في موارد الإجماعات عادة يحتمل استناد المجمعين إليها. والتفصيل في محله.

وأما بناءً: فلأن الإجماع غير ثابت؛ لوجود مخالفين في المقام، وعليه فتحقق الإجماع مشكل.

الدليل الثاني: الروايات، حيث استدل بثلاثة روايات في المقام(1)، وهي:

الأولى: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل»(2)، ومفهومها إذا لم ترسله فلا تأكل، فلو استرسل من نفسه لم يحل صيده.

وأورد عليها عدة إشكالات:

الأول: إنها نبوية عامية، لم ترد في المجاميع الروائية الخاصة، وقد اقتصر صاحب الوسائل على نقل الروايات التي وردت عن طريق الخاصة، وأما ما في الكتب الفقهية فلم يذكرها خوفاً من كونها روايات العامة.

لكنه محل تأمل مبنى وبناء، أما مبنى: فإنه وإن صح نقل العامة لها إلا أن علماء الشيعة أوردوها في كتبهم الفقهية(3)، مع العلم بأنهم لا يستندون على

ص: 45


1- الخلاف 6: 11؛ رياض المسائل 12: 50؛ جواهر الكلام 37: 36-37.
2- الخلاف 6: 11، والرواية موجودة في كتب العامة، مثل: البخاري 7: 113؛ مسند أحمد بن حنبل 4: 380، وغيرهما.
3- الخلاف 6: 11؛ المؤتلف من المختلف 2: 448؛ غنية النزوع: 395؛ جامع الخلاف والوفاق: 537؛ إيضاح الفوائد 4: 116.

روايات العامة، فالظاهر أنها وصلت إليهم من طرق الخاصة، وهذا ماذكره السيد الوالد في مجلس درسه.

فلا فرق بين نقل الشيخ الطوسي الرواية في التهذيب أو المبسوط، فيكف يقال: إن ما في المبسوط يمكن أن يكون عامياً مع ورود نفس الاحتمال على مرسلات التهذيب؟ فكما ينفى الاحتمال في الكتب الروائية كذلك في الكتب الفقهية الاستدلالية، بل احتمال الاستدلال بروايات العامة في الكتب الفقهية أبعد جداً؛ لأن مبناهم عدم الاستدلال بروايات العامة، فيعلم وصولها إليهم من طرق الخاصة. نعم، لو كان الفقيه في مقام المحاجة مع العامة احتمل استناده على رواياتهم التي عليهم.

والحاصل: إن مجرد عدم كون الرواية في المجاميع الروائية الخاصة لا يدل على أنها عامية مع وجودها في الكتب الاستدلالية الفقهية، خاصة أن أكثر الكتب الروائية مفقودة، والموجود منها مختارات.

وأما بناءً: فعلى فرض كونها عامية، إلا أن العلماء عملوا بها، فينجبر ضعفها بعمل المشهور.

ويمكن الإشكال على الانجبار المذكور بأنه إنما يتم إذا استند المشهور على الرواية لا مجرد مطابقتها لفتوى المشهور، فيشترط في الانجبار الاستناد على الرواية والعمل بها، وليس المقام كذلك، فإنه وإن استند بعض عليها لكن المشهور لم يستندوا عليها.

لكنه محل تأمل، فالظاهر أنه لا فرق في الانجبار بين الاستناد والتطابق، والبحث في محله.

ص: 46

الإشكال الثاني: يحتمل أن يكون الشرط لتحقق الموضوع، فلامفهوم له، فإن المفهوم إنما يتحقق إذا كان الشرط صفة الوجود، كقولك: (إذا جاء زيد فأكرمه)، فأصل وجود زيد مسلم، لكن له حالتان: إما يأتي أو لا، فلو جاء أكرمه، ومفهومه عدم الإكرام عند عدم المجيء.

وأما إذا كان أصل الوجود شرطاً، بأن سيق شرطاً لتحقق الموضوع، كقوله: (إذا رزقت ولداً فاختنه) فلا مفهوم له.

وكذلك المقام، فلا مفهوم لقوله: (إذا صاد فكل)، حيث لا معنى ل (إذا لم يصد فلا تأكل)، وإنما عبّر بالإرسال من باب كونه غالباً، حيث لا يسترسل من نفسه وإنما من صاحبه.

والحاصل: إنه يحتمل قوياً أن يكون الشرط في الرواية من قبيل تحقق الموضوع فلا مفهوم لها، والاحتمال المذكور نابع عن الغلبة، ولو شك أنه من قبيل تحقق الموضوع، أو من قبيل تحقق وصفه لم يمكن الاستدلال بالمفهوم.

لكن الظاهر تمامية الدلالة، فإنه وإن كان الاحتمال المذكور وارداً لكنه لا ينافي الظهور، فكل ظهور له احتمال الخلاف وإلا أصبح نصاً، فالمراد اشتراط الإرسال، وهو وصف الموضوع لا نفسه.

الرواية الثانية: خبر القاسم بن سليمان قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن كلب أفلت ولم يرسله صاحبه فصاد، فأدركه صاحبه وقد قتله أيأكل منه؟ فقال: لا، وقال(علیه السلام): إذا صاد وقد سمى فليأكل، وإن صاد ولم يسم فلا يأكل»(1).

ص: 47


1- الكافي 6: 205؛ وسائل الشيعة 23: 856.

وقد أشكل عليها(1) بأن تتمة الرواية تخل بظهور الصدر، حيث تدلعلى أن التحريم لعدم التسمية لا لأجل إفلاته واسترساله بلا إرسال.

لكنه غير وارد، فإن الظاهر كونهما روايتين ذكرهما الإمام(علیه السلام) في مقامين، فلا تصلح التتمة أن تكون قرينة على الصدر، ويشهد له ذكر الراوي (و قال) فلو كانت رواية واحدة لم يذكر ذلك.

الرواية الثالثة: حسنة الحضرمي(2) عن الصادق(علیه السلام): «إذا أرسلت الكلب المعلم فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته»(3).

ويرد عليه أن الإمام(علیه السلام) في مقام بيان اشتراط التسمية لا الإرسال.

الدليل الثالث: أصالة الحرمة(4)، وهو إما استصحاب عدم التذكية، أو عدم معلومية تحقق الشرائط فيحرم، وسيأتي بيان الأصل في اللحوم.

والنتيجة أن الإرسال شرط، فلو استرسل من قبل نفسه لم ينفع في التذكية.

فروع:بناء على اشتراط الإرسال

وهنا فروع بناء على اشتراط الإرسال، وهي:

الفرع الأول: لو استرسل من قبل نفسه فزجره صاحبه فوقف، ثم أرسله صاحبه انقطع حكم الاسترسال بالزجر(5)، والحكم تابع لإرسال صاحبه

ص: 48


1- رياض المسائل 12: 51.
2- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي... .
3- وسائل الشيعة 23: 333.
4- جواهر الكلام 37: 36.
5- مستند الشيعة 15: 333.

فيكون حلالاً؛ لأنه مستند إلى الإرسال لا الاسترسال.

الفرع الثاني: لو استرسل من نفسه فأغراه صاحبه، فإن لم يؤثر فيهالإغراء بأن لم تتغير حركة الكلب لم يصدق الإرسال، وإن زادت حركته بالإغراء وعلم أن ذلك لإرسال صاحبه ففيه خلاف(1)، منشؤه أن صيده مستند إلى الإرسال فقط فيحل، أو إليه وإلى الاسترسال معاً فلا يحل لعدم تحقق الشرط، حيث يشترط تحققه كاملاً مستقلاً، ومع عدمه يغلب جانب الحرمة؛ لعدم استناد الصيد إلى الكلب المرسل، كما لو اشترك المعلّم مع غير المعلّم في الصيد. والظاهر الثاني.

الفرع الثالث: لو أرسله المجوسي فأغراه المسلم بعده، فالحكم كالفرع السابق، وكذا العكس بأن أرسله مسلم فأغراه الكافر، فإن كان الإرسال مستنداً على المسلم فحسب حلّ، وإلا - بأن استند عليهما - حرم(2).

ويتفرع عليه ملكية الصيد، فلو أرسل كلبه كان هو أحق بالصيد، لكن لو غصب كلباً فأرسله فالصيد للغاصب لا المغصوب منه، لصدق (من سبق) عليه، كما لو غصب شبكاً وصاد سمكاً، فإنه وإن عصى بالغصب لكنه سبق فيملك، فهنا حكمان: تكليفي وهو الحرمة، ووضعي وهو الملكية، كما لو غسل يده بالماء المغصوب فإنها تطهر. نعم، لابد من إعطاء أجرة الكلب لصاحبه.

لكن احتمل السيد الوالد في الفقه(3) أن الصيد لهما حسب النسبة،فإن

ص: 49


1- المبسوط 6: 261؛ مستند الشيعة 15: 334.
2- جواهر الكلام 37: 39.
3- الفقه 75: 240-241، وفيه: «وهل عليه أجرة الشيء - كما هو المشهور - أو قدر الشيء بالنسبة إلى العمل في إنتاج هذه النتيجة؟ أي: إن الصيد يسوى مثلاً مائة، وكل من العمل والآلة دخيلان في هذا الإنتاج، ونسبة العمل إلى الآلة الثلث مثلاً، فله ثلث المانة ولصاحب الآلة الثلثان - كما يظهر من جماعة من علماء الاقتصاد - احتمالان، وإن كان الثاني أقرب إلى كون الكلام ملقى إلى العرف، والأول أقرب إلى ظاهر الأدلة ومذاق الفقهاء، والاحتياط التصالح».

الموازين الاقتصادية تحكم بكون النتيجة للعامل والآلة معاً، فلليد العاملة حق في النتيجة كما للآلة، ويختلف ذلك حسب الموارد.

ولو تمَّ ذلك وكان عليه بناء العقلاء، ولم يردع عنه الشارع، كان الصيد بينهما، وعليه فلابد من أن يعطي الغاصب للمالك سهمه من الصيد، بالإضافة إلى أجرة استخدام الكلب، خلافاً لسائر الفقهاء حيث أوجبوا الأجرة فحسب(1).

وعليه لو أرسل المالك كلبه، فأغراه الفضولي بما ضاعف الكلب سرعته، فإن صدق (السبق) على الفضولي كان له الحق بالنسبة، وإن لم يصدق عليه - كما هو الظاهر - لم يكن له حق، كما أن الحكم كذلك في العكس، فلو أرسله الفضولي فأغراه المالك، فإن صدق عليهما قانون (من سبق) كانا شريكين في الصيد، وإن صدق على المالك فقط - كما هو الظاهر عرفاً - لم يكن للفضولي شيء.

قال السيد الوالد في الفقه: «ولو أرسله المالك وأغراه الغاصب بما أوجب زيادة عدوه، فالظاهر أنه للمالك؛ لأن زيادة العدو لا يعد سبقاً»(2).

الفرع الرابع: لو أرسل شخصان كلبيهما، فصادا معاً صدق عليهما السبق، فيشتركان فيه، وليس الملاك في مقدار العض، بل في أصله، واستفيد ذلك من نظيره في باب الجنايات، فلو قتلاه معاً: أحدهما بخمس طلقات والآخر

ص: 50


1- تحرير الأحكام 4: 522؛ تذكرة الفقهاء 2: 379.
2- الفقه 75: 241.

بطلقة اشتركا فيه، وقسمت الدية قسمين لا ستة أقسام، فإن الملاك تعدد الجاني لا الجناية.

وفي المقام يستند الصيد عليهما فيشتركان، وليس نسبة القتل إلى أحدهما هيالملاك في تحقق الملكية، حيث لا يلزم في تحقق (السبق) موت الصيد، بل الملاك لتحقق الملكية الأخذ، فلو أخذه أحدهما من رجله والآخر من رقبته، ومات بسبب آخذ الرقبة كان ملكاً لكليهما؛ لتحقق السبق بالنسبة إليهما معاً.

الفرع الخامس: لو أرسلا كلبيهما واختلف زمان الإرسال، كان الملاك زمان الأخذ، فلو وصلا معاً صدق سبقهما، ولو كان أحدهما متأخراً في الإرسال إلا أنه وصل أولاً كان هو السابق، فالمهم زمان الأخذ؛ لصدق السبق عليه لا الإرسال.

والحاصل: إن الملكية تدور مدار السبق، سواء كان غاصباً أم مالكاً أم فضولياً.

الشرط الثالث : التسمية
اشارة

الشرط الثالث(1): التسمية

لو صاد بكلب الصيد لزمت التسمية عند الإرسال أو قبل العقر، ولو صاد بآلة كالسهم لزمت التسمية عند الرمي، ويدل عليه قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِۖ}(2).

والظاهر أن الأمر وضعي لا تكليفي، فليس معناه حرمة ترك التسمية، بل عدم حصول التذكية، فالشرط المذكور وضعي لا تكليفي. وقد قالوا في محله: إن الظاهر في الأوامر التكليفية، لكنها في مثل هذه الموارد بيان

ص: 51


1- من شروط الصيد.
2- سورة المائدة، الآية: 4.

للحكم الوضعي(1).ويدل عليه الروايات والإجماع وسيرة المسلمين(2)، ولا حاجة لبيان التفصيل لوضوح المطلب.

ولا يخفى أن التسمية المتأخرة عن القتل لا تنفع، فلو أرسل كلبه ولم يسمِ عمداً فقتل الصيد لم تتحقق التذكية، فتحرم ولا يجوز الأكل، وكذا مع الرمي أو الذبح، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقٞۗ}(3).

لكن قال بعض العامة(4): إنه لو سمّى قبل الأكل جاز، وإن لم يسمِ عند القتل أو الصيد أو الذبح.

ويرد عليه إشكالات متعددة، منها: إنه خلط بين (لم) و(لا) فالأول للماضي، والثاني للحال أو المستقبل، فلو كانت الآية هكذا (لا تأكلوا مما لا يذكر اسم الله عليه) أمكن القول بتحقق التسمية ولو بعد القتل، لكن ظاهر الآية عدم جواز الأكل فيما لو لم يذكر اسم الله حين الذبح.

ص: 52


1- أقول: بل الظاهر أنه حكم تكليفي ووضعي، فلو أراد الصيد بلا تسمية فعل محرماً، خاصة مع انطباق عنوان الإسراف عليه. (المقرر).
2- الخلاف 6: 10، وفيه: «دليلنا: إجماع الفرقة، وأخبارهم، ولأنه إذا أرسل وسمى حل أكله بلا خلاف، وإذا لم يسمِّ فليس على إباحته دليل. وأيضاً قوله تعالى: {وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ}». وكشف اللثام 9: 191، وفيه: «أن يسمّي عند إرساله بالنصوص والإجماع، فلو تركها عمداً لم يحلّ، خلافاً لبعض العامّة».
3- سورة الأنعام، الآية: 121.
4- انظر كمثال: المجموع 8: 408، وفيه: «التسمية مستحبة عند الذبح والرمي إلى الصيد وإرسال الكلب ونحوه، فلو تركها عمداً أو سهواً حلت الذبيحة».

ومنها: الانصراف القطعي عن التسمية عند الأكل كما في الفقه(1).ومنها: ورود روايات عن العامة والخاصة بذلك.

ومنها: سيرة المتشرعة على عدم الأكل إذا لم يسمِ عند التذكية.

ومنها: ما في الفقه(2): من أنه لو كان ذكر اسم الله عند الأكل مجزياً لكان التعبير المذكور في الآية لغواً، وكان اللازم التعبير ب (فإذا أردتم الأكل فاذكروا الله).

لزوم تجديد التسمية وعدمه

لو ذكر الصائدُ اللهَ عند الإرسال، فتحرك الكلب وعقر الصيد، فحضر الصائد عنده ولم يمت الصيد بعد لم يلزم تجديد التسمية، لكن لو كانت له حياة مستقرة فهل تلزم التسمية مرة ثانية، مع القول بلزوم تذكيته؟

قال البعض: بعدم اللزوم؛ وذلك لتحقق التسمية، وشمول إطلاق الآية له.

لكن ذهب آخرون إلى الانصراف عما لو كانت الحياة مستقرة وأريد ذبحه، والأقرب الثاني، فلو كانت له حياة مستقرة لزمت التسمية مرة ثانية حين الذبح؛ لعدم صدق ذكر اسم الله عليه.

ص: 53


1- الفقه 75: 243، وفيه: >واستدلال بعض العامة على الكفاية بإطلاق الآية، حيث قال سبحانه: {أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ} يشمل ما إذا ذكر اسمه سبحانه على اللحم حتى بعد طبخه غير تام للانصراف القطعي، وسيرة المتشرعة منذ زمان رسول الله(صلی الله علیه و آله)، هذا مع الغض عن الروايات...».
2- الفقه 75: 243، وفيه: «بل لو كان كذلك لم يكن وجه للنهي؛ لأنه بالإمكان البسملة عند الأكل، فكان الأولى أن يقال: وإذا أردتم الأكل فبسملوا».
بيان وقت التسمية

هل يشترط ذكر اسم الله وقت الإرسال حصراً، أو تكفي التسمية قبل العقر؟ فلو سمّى وقت الإرسال حلّ قطعاً، لكن لو لم يسمِ وقت الإرسال عمداًلكنه سمّى قبل أن يصل الكلب إلى الصيد فهل يحل؟(1)

وقد استدل(2) للزوم التسمية عند الإرسال وعدم كفاية التسمية عند العقر ببعض الروايات:

منها: معتبرة زرارة(3) عن الإمام الصادق(علیه السلام): «إن أرسله الرجل وسمّى فليأكلِ مما أمسك عليه»(4).

ومنها: صحيحة الحذاء(5): «ويسمي إذا سرحه»(6).

فإن إطلاق: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(7) يُقيد بهذه الروايات.

والظاهر أنه محل تأمل، والأقرب الكفاية سواء سمّى عند الإرسال أو

ص: 54


1- كفاية الأحكام 2: 578؛ رياض المسائل 13: 266؛ مستند الشيعة 15: 335.
2- كشف اللثام 9: 193؛ مستند الشيعة 15: 336.
3- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن زرارة... والأقوى اعتبار موسى بن بكر (السيد الأستاذ).
4- الكافي 6: 205؛ وسائل الشيعة 23: 335.
5- الكليني بأسناد متعددة منها: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة الحذاء.
6- الكافي 6: 203؛ وسائل الشيعة 23: 332، وفيه: عن أبي عبيدة الحذاء قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرجل يسرح كلبه المعلم ويسمي إذا سرحه، فقال: يأكل مما أمسك عليه فإذا أدركه قبل قتله ذكاه وإن وجد معه كلباً غير معلم فلا يأكل منه».
7- سورة المائدة، الآية: 4.

عند العقر، وقيل: الأكثر عليه(1). ولا وجه لتقييد الإطلاقات بما ذكر، فإن التقييد إنما يكون بعد تحقق التنافي، فيقدم النص أو الأظهر على الظاهر، وأمامع عدم المنافاة فلا تقييد؛ ولذا لا تنافي بين المثبتين.

وفي المقام: لو عُرض الدليلان على العرف لم يرَ المنافاة بينهما حتى يتم التقييد، بل العرف يرى أن اشتراط التسمية عند الإرسال في الروايات لبيان المصداق، أو للتسهيل على المكلف، فمن العسر أن تشترط التسمية عند العقر، وليس معنى ذلك عدم كفاية التسمية بعد الإرسال؛ ولذا قال في المسالك: «... فلم تكن التسمية متعينة حال الإرسال، بل ما قرب من وقت التذكية ينبغي أن يكون أولى بالإجزاء»(2).

كما لا حكومة في المقام كما قال به البعض؛ وذلك لأن الحكومة بحاجة إلى النظر على بعض الآراء، ولا نظر هنا.

هذا بالإضافة إلى الإشكال في دلالة الرواية؛ لأن السؤال عن التسمية حين التسريح، فأجابه الإمام(علیه السلام) على طبق فرضه.

فروع: تتعلق بالتسمية

الفرع الأول: تكفي تسمية واحدة لصيود متعددة(3) فيما لو كانت في زمان واحد؛ لصدق ذكر اسم الله عليه.

الفرع الثاني: ذهب بعض الفقهاء إلى تحقق التسمية فيما لو أرسله

ص: 55


1- تحرير الأحكام 4: 608؛ قواعد الأحكام 3: 312؛ الدروس الشرعية 3: 395.
2- مسالك الأفهام 11: 421.
3- الفقه 75: 243.

شخص وذكر اسم الله شخص آخر(1)، بشرط الصدق العرفي، وأما لو لم يصدق، كما لو أرسله وكان شخص غريب في مكان يبعد عنه قليلاً يذكر اسمالله، فلا يكفي.

هذا فيما لو كان الكلب واحداً، وأما لو كان كلبان لنفرين فسمّى أحدهما دون الآخر عمداً، وكان الصيد مستنداً عليهما معاً، ففي الفقه(2) لابد من ملاحظة استناد القتل، فإن استند على الذاكر كفى وإلا فلا، كما لو أخذ أحدهما رقبته والآخر رجله، وكذلك الأمر في قصابين يذبح أحدهما ويسمي بينما فيقطع الآخر الرجل ولا يسمي، فمن استند عليه الذبح لزم عليه التسمية.

لكنه ينافي بعض الفروع السابقة؛ وذلك لصدق اسم الله عليه، وإن لم يستند عليه القتل.

الفرع الثالث: لا إشكال فيما لو نسي التسمية؛ لورود روايات بعدم الحرمة(3)، لكن يشترط الاعتقاد بوجوب التسمية، وأما لو لم يكن معتقداً فلم يسمِّ غافلاً فلا يسمى ناسياً، وموضوع الحلية النسيان.

الفرع الرابع: بناء على القول باشتراط التسمية حين الإرسال، ونسي حينه لكنه ذكر قبل العقر وجبت التسمية لقاعدة الميسور على القول بها.

ص: 56


1- الفقه 75: 250.
2- الفقه 75: 243-244.
3- تهذيب الأحكام 5: 222؛ وسائل الشيعة 14: 154، الشيخ الطوسي بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن ابن سنان قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) يقول: «إذا ذبح المسلم ولم يسم ونسي فكل من ذبيحته وسم الله على ما تأكل».

الفرع الخامس: إلحاق الجاهل بالناسي مشكل إلا مع إلغاء الخصوصية، كما أن إلحاقه بالعامد مشكل أيضاً، ومع الشك فالأصل عدم تحقق شرط التذكية.

ترك التسمية لاعتقاده عدم وجوبها

لو ترك التسمية لاعتقاده عدم وجوبها ففي المقام احتمالان، الصحيح المفتى به عدم الحلية(1)، لصريح قوله تعالى: {وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ}(2)، وللأخبار الدالة منطوقاً ومفهوماً على حرمة الذبيحة فيما لو لم يسمِّ عليها عمداً(3).

ولم يذهب إلى الاحتمال الآخر(4) أحد، لكن أقيمت الأدلة عليه فلابد من ردها. وقد ذكر وجوه وجوه أربعة مع ردها(5):

الأول: حديث الرفع، فمن يعتقد بعدم وجوب البسملة لا يعلم وجوبها فهو مرفوع عنه.

وفيه: لقد ثبت في محله أن الرفع يثبت الحكم الظاهري لا الواقعي، فتحل لنفسه لا لغيره حيث الغير يعلم، فلا يشمله الرفع، كمن يأكل الطعام النجس جاهلاً، فيشمله الرفع دون غيره - أي: العالم - هذا أولاً.

وثانياً: إن دليل الرفع يرفع الحكم ولا يضعه، فما لا يعلم مرفوع، ولا

ص: 57


1- جواهر الكلام 37: 47.
2- سورة الأنعام، الآية: 121.
3- وقد تقدم قسم منها قريباً فراجع.
4- وهو الحلية.
5- مستند الشيعة 15: 415؛ الفقه 75: 247-248.

يثبت ذلك وضع ضده، والمراد في المقام إثبات الحلية وتحقق التذكية بحديث الرفع(1).وثالثاً: لا مجال للأصل العملي مع إطلاقات الأدلة.

الثاني: المناط، فإن التارك عمداً لعدم الاعتقاد يشمله مناط الناسي، وقد حكم بحلية ذبيحته.

لكنه محل نظر؛ لأن المناط ظني فهو قياس، وقد ثبت اختلاف أحكام الناسي والعامد لعدم الاعتقاد في بعض من المسائل، كالجاهل بالقصر والتمام، حيث يصح التمام في موضع القصر مع الجهل حتى عن عدم الاعتقاد، وأما الناسي فلا يصح منه ذلك.

الثالث: الدين يسر، ومن ترك التسمية لعدم اعتقاده بالوجوب كان من اليسر الحكم بحلية ذبيحته.

وهو ضعيف، فمعنى اليسر في الدين أن أساس أحكام الشرع مبنية على اليسر، وليس معناه رفع الشرائط التي جعلها الشارع للجهل، فليس ذلك من مصاديق اليسر، بل إن مبنى أصل التقنين على التسهيل، وهو حكم بشكل عام، وإن كانت هنالك موارد عسرة، كالجهاد الموضوع في مورد الضرر والعسر.

الرابع: حلية ذبيحة المخالفين مع أن الكثير منهم أو أكثرهم لا يسمون، وفي بعض الروايات: عن محمد بن سنان، عن أبي الجارود قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن الجبن، فقلت له: أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة؟ فقال:

ص: 58


1- أقول: المراد في المقام إثبات عدم الحرمة، فلو ثبتت بحديث الرفع كفى ذلك للمكلف، حيث يجوز له الأكل بمجرد إثبات عدم الحرمة. (المقرر).

أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله، وإن لم تعلم فاشترِ وبع وكل، والله إني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجبن، والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذهالسودان»(1).

لكنه ضعيف، للفرق بين المقامين، ففيما نحن فيه يعلم عدم التسمية، وأما ذبائح المخالفين فحيث إن البعض يُسمي تجري فيها أصالة الصحة الجارية مع الشك، لا مع العلم بالمخالفة.

كفاية تسمية الغير

هل تكفي تسمية الغير أم لا؟ كما لو أرسل كلبه وسمّى الآخر، أو كان القصاب يذبح والآخر يسمّي، فيه احتمالان:

الأول: الكفاية(2) لإطلاق الآية، والانصراف إلى الذابح أو المرسل بدوي.

والثاني: إن هنالك أدلة خاصة تدل على لزوم تسمية المرسل(3)، وبها تقيد الإطلاقات.

منها: خبر محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن القوم يخرجون جماعتهم إلى الصيد، فيكون الكلب لرجل منهم، ويرسل صاحب الكلب كلبه ويسمّي غيره أيجزي ذلك؟ قال: لا يسمي إلا صاحبه الذي أرسله»(4).

ص: 59


1- المحاسن: 495؛ وسائل الشيعة 25: 119.
2- الفقه 75: 250.
3- تحرير الأحكام 4: 606؛ كفاية الأحكام 2: 579؛ جواهر الكلام 37: 49.
4- تهذيب الأحكام 9: 26؛ وسائل الشيعة 23: 359. وفي سندها (محمد بن موسى) وهو السمّان الضعيف (السيد الأستاذ).

ومنها: عن أبي بصير، عن رجل، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «لا يجزيأن يسمّي إلا الذي أرسل الكلب»(1).

وسندهما وإن كان غير معتبر إلا أنهما منجبران بعمل المشهور. وصاحب المسالك عبّر عن الأولى بالصحيحة(2)، وربما اشتبه عليه الأمر، أو كانت عنده بعض الكتب التي تثبت صحتها.

والحاصل: إنه لابد من تقييد إطلاقات الأدلة بكون المسمّي نفس المرسل.

تعدد أسباب قتل الصيد

لو اشترك اثنان كان لهما كلبان فسمّى أحدهما دون الآخر، فقتلاه معاً ونسب القتل إليهما، وفيه صور متعددة كرمي راميين، أو كان هنالك رامٍ ومرسل، أو كان أحد الكلبين معلّم والآخر غير معلم، أو أرسل أحد الكلبين واسترسل الآخر من قبل نفسه، والحاصل: كان أحدهما واجداً للشرائط دون الآخر، واستند القتل عليهما، أو جهل استناده، فالحكم هو الحرمة؛ لأن دليل الشرط دل على اشتراط الحلية بوقوع القتل من السبب الجامع للشرائط، والسبب هنا نصفان من سببين، وهو غير جامع للشرائط؛ لكون كل واحد منها نصف السبب، والمركب منهما غير جامع للشرائط.

والنتيجة: إن السبب لا يؤثر أثره؛ لأن السبب المركب فاقد للشرائط. نعم، جزء السبب جامع للشرائط وهو غير نافع.

ص: 60


1- تهذيب الأحكام 9: 26؛ وسائل الشيعة 23: 359.
2- مسالك الأفهام 11: 423.

وهذه القاعدة جارية في كل مكان(1)، كما لو غسل وجهه بماءمباح، وغسل يده بماء مغصوب فيبطل الوضوء؛ لعدم تحقق الشرط في كل الوضوء، بل في بعضه، وكما لو ذبح ورمى طلقة وماتت بهما.

ويضاف إلى هذه القاعدة العقلية أدلة خاصة في المقام، منها: صحيحة أبي عبيدة(2)، عن الإمام الصادق(علیه السلام): «وإن وجدت معه كلباً غير معلم فلا تأكل منه»(3).

ومنها: خبر عن أبي بصير، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «سألته عن قوم أرسلوا كلابهم وهي معلمة كلها، وقد سموا عليها، فلما أن مضت الكلاب دخل فيها كلب غريب لم يعرفوا له صاحباً، فاشتركن جميعاً في الصيد، فقال: لا يؤكل منه؛ لأنك لا تدري أخذه معلّم أم لا»(4).

وقد عبر عن ذلك البعض بتغليب جانب الحرمة(5)، وعبر عن ذلك آخرون بكونه جزء السبب، والسبب الكامل فاقد للشرائط(6).

اشتراك كلبين في قتل الصيد

لو أرسل شخص كلبه، فأرسل شخص آخر كلبه أيضاً فقتلا الصيد معاً،

ص: 61


1- كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري 1: 285-286؛ مصباح الفقيه 1: 295.
2- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة.
3- تهذيب الأحكام 9: 26؛ وسائل الشيعة 23: 342.
4- الكافي 6: 206؛ وسائل الشيعة 23: 343.
5- مسالك الأفهام 11: 423.
6- كشف اللثام 9: 192.

فلو عُلم أن الثاني مسلم حلّ الصيد، وإن شك في تحقق سائر الشرائط، كما لو شك أنه سمّى أو أن كلبه معلّم؛ لجريان أصالة الصحة(1).لكن لو لم يعلم أنه مسلم، فالأصل وإن كان الحرمة إلا أنه يرفع اليد عنه للدليل الخاص، وهو: الملاك المستفاد من سائر الموارد، كما في لقيط دار الإسلام حيث إنه محكوم بالإسلام مع الشك في إسلام وكفر أبويه، وكما في اللحم المطروح حيث ذهب البعض(2) إلى جواز الأكل لو كان في بلاد الإسلام بخلاف بلاد الكفر، ومما يدل على ذلك ما عن الإمام علي(علیه السلام)(3) حيث جعل القرينة وجود السكين بجنب اللحم، والذي هو علامة التذكية، والمسألة خلافية وربما يكون المشهور ما ذكر.

وحيث كان الملاك بلاد الكفر والإسلام كان منطبقاً على المقام، وهو وارد على الأصل؛ لأنه مستنبط من الدليل، وأما مع عدم تمامية الملاك فالأصل الحرمة.

استناد الموت على السبب المحلل

ذكرنا سابقاً أن من شرائط حلية الصيد العلم باستناد إزهاق روحه إلى

ص: 62


1- الفقه 75: 254.
2- مجمع الفائدة والبرهان 11: 299؛ كفاية الأحكام 2: 619؛ الحدائق الناضرة 5: 526؛ الفقه 75: 254.
3- الكافي 6: 297، وفيه: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله(علیه السلام): «أن أمير المؤمنين(علیه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة، كثير لحمها وخبزها وبيضها وجبنها وفيها سكين، فقال أمير المؤمنين(علیه السلام): يقوم ما فيها ثم يؤكل؛ لأنه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل: يا أمير المؤمنين، لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي، فقال: هم في سعة حتى يعلموا».

سبب محلل لا محرم، وقد مرّ بعض الفروع، وأما الآن فسوف نتطرق إلى كلي الشرط، ولا يخفى أنه تمّ تغيير العنوان الذي طرحه مشهور الفقهاء، لما فيه منالإشكال(1).

فلو صاد بالكلب أو بآلة فغاب الصيد مجروحاً، ثم وجده ميتاً، قال الشيخ الطوسي في بعض كتبه: حرم(2)، لبعض الروايات(3).

لكن يستظهر من روايات(4) متعددة أخرى عدم مدخلية الغيبة في الحكم، بل الملاك ملاحظة استناد الموت إلى الكلب أو السهم لا إلى سبب آخر. فالمراد من الغيبة المأخوذة في بعض الروايات سبباً للحرمة إنما هو فيما لو غاب ولم يعلم سبب موته، كما لو احتمل افتراس سبع له، أو سقوطه من شاهق؛ ولذا لو كانت حياته غير مستقرة لم يحرم حتى عند من ذهب إلى الحرمة مع الغيبة؛ لأنه كاشف عن استناد الموت إلى الصيد.

والروايات متعددة بذلك، ومنها: صحيحة سليمان بن خالد(5)، قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرمية يجدها صاحبها أيأكلها؟ قال: إن كان

ص: 63


1- العنوان المختار العلم باستناد إزهاق الروح إلى السبب المحلل، والعنوان المأخوذ عند المشهور عدم الغيبة.
2- المبسوط 6: 259.
3- وسائل الشيعة 23: 367، وفيه: وعن عبد الله بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه قال: «سألته عن ظبي أو حمار وحش أو طير رماه رجل ثم رماه غيره بعد ما صرعه غيره فقال: كله ما لم يتغيب إذا سمى ورماه».
4- الكافي 6: 210.
5- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد... .

يعلم أن رميته هي التي قتلته فليأكل»(1)، فإنه وإن كان موضوعه الرمي لكن لا فرق بينه وبين الصيد بالكلب.ومنها: موثقة سماعة(2)، قال: «سألته عن رجل رمى حمار وحش أو ظبياً فأصابه، ثم كان في طلبه فوجده من الغد وسهمه فيه، فقال: إن علم أنه أصابه وإن سهمه هو الذي قتله فليأكل منه، وإلا فلا يأكل منه»(3).

وما ذكر من الغيبة في بعض الروايات إنما هو لعدم حصول الاطمئنان بالشرط مع الغيبة، وإلا فلا خصوصية لها.

ولو غاب وحياته غير مستقرة، فوجده وقد افترسته السباع قال صاحب المستند(4): إن عدم استقرار الحياة لا يوجب التذكية وربما السبع عجل في موته، فيكون الموت مستنداً على سبب غير محلل، فمجرد عدم استقرار الحياة لا ينفع، بل يلزم الاطمئنان بأن إزهاق الروح بسبب محلل.

فتفصيل بعض الفقهاء(5) بين ما إذا غاب غير مستقر الروح فيحل وإلا فلا، لا وجه له، إلا أن يكون ذلك من باب حصول الاطمئنان باستناد الموت على السبب المحلل إذا كانت الروح غير مستقرة.

سقوط الصيد من مرتفع

ومن فروع هذه المسألة: أنه لو كان الصيد على مرتفع فرماه فسقط فمات

ص: 64


1- الكافي 6: 210؛ وسائل الشيعة 23: 365.
2- الكليني، عن العدة، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة... .
3- الكافي 6: 210؛ تهذيب الأحكام 9: 34؛ وسائل الشيعة 23: 366.
4- مستند الشيعة 15: 426.
5- المبسوط 6: 259.

فلو لم يعلم سبب الموت حرم(1)، ولو علم أن السبب هو المحللحلّ(2).

فعن الإمام الصادق(علیه السلام) أنه قال: «وإن رميته وهو على جبل فسقط ومات فلا تأكله، وإن رميته فأصابه سهمك ووقع في الماء فمات فكله إذا كان رأسه خارجاً من الماء، وإن كان رأسه في الماء فلا تأكله»(3)، وورد في الخبر: فيمن ذبح على مرتفع فاضطربت وسقطت فلو علم أن الموت بسبب الذبح حلّ وإلا حرم(4)، مع أن فري الأوداج الأربعة سبب عدم استقرار الحياة، إلا أن الحلية أنيطت بالعلم بسبب الموت، أي: الذبح، وهو وإن كان محل خلاف بين الفقهاء إلا أن الرواية دالة عليه.

وهكذا الحكم فيما لو سقط في الماء بعد فري الأوداج، فلو لم يعلم سبب الموت حرم؛ ولذا ورد في الخبر الحكم بالحلية فيما لو كان رأسه خارج الماء، للعلم بكون سبب الموت ليس الغرق.

والحاصل: إن المستفاد من مجموع الروايات أن الغيبة والسقوط وما أشبه ذلك ليس ملاكاً، بل الملاك العلم بسبب الموت، فإن كان مستنداً على فعل الصائد حلّ وإلا حرم.

ص: 65


1- النهاية: 581.
2- شرائع الإسلام 4: 738.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 320؛ وسائل الشيعة 23: 379.
4- الكافي 6: 229؛ وسائل الشيعة 24: 26-27، عن حمران بن أعين أنه سأل أبا جعفر(علیه السلام) عن الذبح؟ فقال: إن تردّى في جُبّ أو وَهْدَةٍ من الأرض فلا تأكله ولا تطعمه، فإنك لا تدري التردي قتله أو الذبح.
الصيد بمساعدة شيء آخر

وهذا الفرع ذكره في الشرائع، قال: «ولو رمى سهماً فأوصلته الريح إلىالصيد فقتله حلّ، وإن كان لولا الريح لم يصل»(1). وعليه المعظم(2)؛ لأن القتل مستند على الرامي عرفاً(3)، ولا يقال: إنه مستند عليه وعلى الريح.

وكذا في الكلب، فلو كان يمشي ببطء، فأرسل كلباً غير معلّم حتى ينافسه فيسرع حلَّ أيضاً؛ لاستناد الصيد إلى الكلب المعلّم، وأما العوامل الخارجية فلا تجعل السبب سببين أو جزء السبب.

وكذا شرائط البيئة أو الزمان والمكان، كما لو كان الجرح في الصيف قاتلاً دون الشتاء، أو كان المرتفع سبباً للإسراع في الموت حيث لا هواء، فاختلاف الشرائط لا يجعل الفعل مستنداً على غير الصائد، ولذا لو قتل إنساناً كان قاتلاً حتى لو فرض أنه لو كان في شرائط أخرى لم يمت.

ولو رمى سهماً فأصاب جداراً، ثم أصاب الصيد بحيث لو لم يكن الجدار لم يصب الصيد حلّ؛ لاستناد الصيد على السبب المحلل، وهو الرامي لا أنه جزء السبب(4).

ولا يخفى أنه لا نص في جميع هذه المسائل، وإنما الملاك هو استناد الفعل على السبب المحلل عرفاً.

ص: 66


1- شرائع الإسلام 4: 737.
2- جواهر الكلام 37: 61.
3- جواهر الكلام 37: 61.
4- الخلاف 6: 17؛ السرائر 3: 85؛ شرائع الإسلام 4: 737.
الاعتبار في المرسل لا المعلم

المناط في الكلب المعلَّمِ المرسلُ لا المعلِّم، فلا يهم من علّمه؛ لذا لو كانالكلب كلب مسلم وكان معلّمه مسلماً، لكن استعاره المجوسي فأرسله لم يحل الصيد، وفي العكس العكس.

والدليل على ذلك الإجماع(1) والإطلاقات(2)، والأخبار المعتبرة كصحيح سليمان بن خالد(3) قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن كلب المجوسي يأخذه الرجل المسلم فيسمي حين يرسله أيأكل مما أمسك عليه؟ قال: نعم، لأنه مكلّب قد ذكر اسم الله عليه»(4).

وبه العمل لصحته سنداً، وقد عمل به المشهور، بل ادعي الإجماع عليه.

لكن هنالك خبران معتبران(5) - على الأصح - يدلان على عدم الحلية فيما لو كان الكلب للمجوسي، وإن كان المرسل مسلماً، أحدهما في الكافي: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «كلب المجوسي لا تأكل صيده إلا أن يأخذه مسلم فيعلمه ويرسله»(6).

ص: 67


1- مختلف الشيعة 8: 276.
2- كقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}. سورة المائدة، الآية: 4.
3- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد... .
4- الكافي 6: 208؛ وسائل الشيعة 23: 360.
5- راجع وسائل الشيعة 23: 360-361.
6- الكافي 6: 209.

لكن الترجيح مع الأول للشهرة العظمية مع أقوائية سنده، وأما الثاني فإنه وإن كان معتبراً إلا أن المشهور لم يعملوا به، وقد ذهب الشيخ الصدوق(1)إلى العمل بروايات السكوني إن لم يعارضها رواية من الخاصة.

وعليه، فلا يمكن العمل بظاهر هذه الرواية إلا مع أحد توجيهين:

الأول: أن لا يكون كلب المجوسي معلّماً بقرينة تتمة الرواية: «إلا أن يأخذه مسلم فيعلمه»، فإنه إن كان معلّماً كان تحصيلاً للحاصل، فيعلم أن المراد الكلب غير المعلّم.

الثاني: ما في الفقه من الحمل على الكراهة(2).

ومما استدل به على حرمة صيد كلب المجوسي ظاهر الآية: {وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ}(3)، و{تُعَلِّمُونَهُنَّ}، و {مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ}، فإن الخطاب للمسلمين، فيكون الملاك تعليم المسلم لا غيره(4).

الجواب عنه أولاً: إن القيد غالبي، فلا خصوصية للمسلم، وإنما جيء بالضمير له لكونه الفرد الغالب.

ص: 68


1- من لا يحضره الفقيه 4: 344؛ وقال الشيخ الطوسي في العدة في أصول الفقه 1: 149. «... عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث، وغياث بن كلوب، ونوح بن دراج، والسكوني، وغيرهم من العامة عن أئمتنا(علیهم السلام)، فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه».
2- الفقه 75: 266.
3- سورة المائدة، الآية: 4.
4- المبسوط 6: 262؛ ملاذ الأخيار 14: 178، وفيه: «وقال الشيخ في المبسوط: لا يحل مقتول ما علمه المجوسي، محتجاً بقوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ}، فإن الخطاب للمسلمين... وأجيب عن الآية بأنها خرجت مخرج الغالب لا على وجه الاشتراط».

وثانياً: وهو الأقرب، إن الخطاب ليس للمسلمين وإنما للإنسان، كقوله تعالى: {أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَحۡرُثُونَ * ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّٰرِعُونَ}(1)، فهلهو خطاب للزارع المسلم أم لجميع الزراع؟ وكذلك قوله تعالى: {أَفَرَءَيۡتُمُ

ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ}(2)، وهكذا: {أَفَرَءَيۡتُم مَّا تُمۡنُونَ}(3). نعم، المنتفع بهذا الخطاب هو المسلم؛ ولذا فالمشهور الذي كاد أن يكون إجماعاً حتى من الشيخ الطوسي في بعض كتبه أن الاعتبار بالمرسل لا المعلِّم(4).

ص: 69


1- سورة الواقعة، الآية: 63-64.
2- سورة الواقعة، الآية: 71.
3- سورة الواقعة، الآية: 58.
4- جواهر الكلام 37: 61.

الفصل الثاني: في المصيد

اشارة

يقع الكلام في هذا الفصل في الحيوان المصيد، وقد ذكر لحليته عدة شروط:

الشرط الأول: القصد
اشارة

وفيه عدة فروع:

الفرع الأول: في تعيين المصيد

لا يشترط تعيين المصيد بالخصوص، فلو رأى قطعياً فأرسل كلبه فصاد أحدها حلَّ(1)، لإطلاق الأدلة، وترك الاستفصال فيها مع كثرة الموارد، وخصوص موثقة عباد بن صهيب(2)، قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل سمى ورمى صيداً فأخطأ وأصاب صيداً آخر، فقال: يؤكل منه»(3)، فإنه وإن كان مورده قصد أحدها المعين فأصاب الآخر، لكنه شامل لما نحن فيه؛ لعدم الفرق بين قصد واحد من المجموع، وبين قصد أحدها فأصاب الآخر، بل ما نحن فيه أولى.

ص: 70


1- الخلاف 6: 15؛ رياض المسائل 12: 51؛ جواهر الكلام 37: 64.
2- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عباد بن صهيب... .
3- الكافي 6: 215؛ وسائل الشيعة 23: 380.
الفرع الثاني: لو لم يقصد الصيد

لو لم يقصد الصيد، بل قصد غيره، كما لو رمى هدفاً للتمرين فأصاب حيواناً، لم يحل؛ لانصراف المطلقات عنه. لكن في الفقه: «وهل يعتبر قصد الصيد، فلو رمى بقصد قطع شجر فقتل صيداً لم يحل، كما أفتى به الجواهر، أو لا يعتبر فيحل؛ لإطلاق الأدلة، احتمالان:

الأول: أحوط، للأصل والانصراف في المطلقات.

والثاني: غير بعيد، للإطلاق الذي لا انصراف قطعي عنه، ويؤيده ما دل على إصابة صيد آخر»(1).

لكن قد يقال: إن المسألة ليست عقلية، بل بفهم العرف، فلو رمى الشجرة فأصاب صيداً لم تشمله أدلة الصيد، والانصراف شبه قطعي.

وأما تأييد احتمال الحلية بموثقة عباد بن صهيب المتقدمة، فمع الفارق؛ لأن مورد الخبر قصد الصيد ورميه، وفيما نحن فيه لم يقصد الصيد أصلاً.

الفرع الثالث: قصد كبار القطيع

لو قصد كبار القطيع ففرت، وبقيت الصغار الممتنعة(2) فصادها الكلب حلَّ(3)، حيث لا فرق بينه وبين ما لو رمى صيداً فأصاب آخر، فإنه وإن كان غرضه الكبير لكنه أرسل الكلب وسمّى و قصد الصيد، فتحققت الشروط.

ص: 71


1- الفقه 75: 267.
2- سيأتي أن من شرائط الصيد الامتناع، فلو لم يكن ممتنعا كالأهلي لم يحل، أو الوحشي الصغير الذي لا يقدر على الفرار، حيث لابد من تذكيته ولا يحل بالصيد، فإن غير الممتنع لا يطلق عليه الصيد أصلاً (السيد الأستاذ).
3- المبسوط 6: 260؛ شرائع الإسلام 4: 737.
الفرع الرابع: لو قصد صيداً فصاد أكثر

لو أرسل الكلب وسمّى، وقصد صيداً واحداً، لكنه صاد أكثر كفى وحل؛ لشمول إطلاقات الأدلة له، ولا دليل على لزوم تكرار البسملة لكل صيد لو صادها في آن واحد؛ ولذا أفتى الفقهاء بجواز الذبح بالجهاز الذي يذبح متعدداً في آنٍ واحدٍ.

وهكذا إن صاد الكلب في إرسال واحد تدريجاً لصدق ذكر اسم الله عليه.

الفرع الخامس: لو قصد الحيوان المحرم

لو قصد حيواناً محرماً للانتفاع بجلده مثلاً، فصاد حيواناً محللاً حلّ لحصول التذكية بذلك(1).

الفرع السادس: لو أرسل الكلب ولم يشاهد صيداً

قال في الشرائع: «لو أرسله ولم يشاهد صيداً فاتفق إصابة الصيد لم يحلْ ولو سمّى، سواء كانت الآلة كلباً أم سلاحاً؛ لأنه لم يقصد الصيد فجرى مجرى استرسال الكلب»(2)، وأيده العلامة في التحرير بقوله: «لأن القصد إنما يتحقق مع العلم»(3)، فلو لم يعلم بالصيد لم يحصل قصد الصيد.

لكنه محل تأمل؛ لأن للمسألة صوراً ثلاثاً:

الأولى: لو لم يرَ صيداً لكنه يعلم بوجوده، كما لو يعلم أن الصيد خلف القصب حلَّ مع أنه لم يشاهده، فليست الرؤية شرطاً؛ ولذا يحل صيد الأعمى، والإطلاقات شاملة له.

ص: 72


1- الفقه 75: 268، وفيه: «إلا أن يكون على وجه التقييد».
2- شرائع الإسلام 4: 737.
3- تحرير الأحكام 4: 609.

الثانية: أن يرسل رجاءً، كمن يلقي الشبكة في البحر مع عدم علمه بوجود السمك، وإطلاقات الأدلة شاملة له، ولا دليل على لزوم العلم بوجود الصيد، وأشكل في الجواهر على قول العلامة: (لأن القصد إنما يتحقق مع العلم) بقوله: «ولكن فيه منع واضح، ضرورة صدق قصد الصيد»(1)، وقوى الإشكال السيد الوالد في الفقه قائلاً: «لأنه يأتي القصد مع الظن بالخلاف فكيف بالشك»(2)، فلو ظن عدم وجود الصيد ورمى صدق قصد الصيد، كمن يزور شخصاً ظاناً أنه غير موجود.

الثالثة: أن يعلم بعدم وجود الصيد، والأدلة منصرفة عن هذه الصورة، فليس الإرسال للصيد وإنما للعب، فلو أصاب اتفاقاً لم يحل، وربما هي مراد صاحب الشرائع.

الشرط الثاني: إطلاق الصيد عليه
اشارة

وفيه فروع:

الفرع الأول: كون الحيوان ممتنعاً

إنما يصدق الصيد فيما لو كان الحيوان ممتنعاً وإلا فلا(3)، كما لو كان أهلياً أو صغيراً غير قادر على الفرار، أو كان لا يفر بطبعه وإن كان وحشياً، وعليه لا يصدق الصيد لو رماه أو أرسل الكلب عليه، بل لابد من تذكيته

ص: 73


1- جواهر الكلام 37: 66.
2- الفقه 75: 269.
3- شرائع الإسلام 4: 737، وفيه: «والصيد الذي يحل بقتل الكلب له، أو الآلة، في غير موضع الذكاة، وهو كل ما كان ممتنعاً، وحشياً كان أو إنسياً». رياض المسائل 12: 59؛ الجواهر 37: 69.

بالذبح.

الفرع الثاني: لو أصبح الأهلي وحشياً

لو أصبح الحيوان الأهلي وحشياً، فقد ذهب البعض(1) إلى أن تذكيته بالذبح دون الصيد، والظاهر أنه لا وجه له(2)، فليست العبرة بحالته السابقة، بل بالحالة الفعلية، لصدق لفظ الصيد فيما لو كان وحشياً بالفعل، وإن لم يكن نوعه وحشياً أو كان أهلياً، ولو كان أهلياً بالفعل لم يصدق الصيد، وإن كان نوعه وحشياً، كما في الحيوانات الوحشيّة المدّربة.

الفرع الثالث: صيد الفراخ

لا يتحقق الصيد بالنسبة إلى الفراخ حيث لا امتناع، فلابد من ذبحها(3). نعم، يكره ذبح الصغار غير الممتنعة، وقد وردت رواية بالنهي عن ذلك(4)، لكنها محمولة على الكراهة لضعف سندها مع الإعراض عنها.

الفرع الرابع: النهي عن الصيد ليلاً

ورد في بعض الروايات النهي عن الصيد ليلاً؛ لأن الليل أمان لها، ومنها: خبر مسمع، عن أبي عبد الله(علیه السلام) أنه قال: «نهى رسول الله(صلی الله علیه و آله) عن إتيان

ص: 74


1- جواهر الكلام 36: 49؛ مسالك الأفهام 11: 435.
2- المبسوط 6: 262.
3- مستند الشيعة 15: 323.
4- تهذيب الأحكام 9: 20؛ وسائل الشيعة 23: 384. عن الأفلح قال: «سألت علي بن الحسين(علیه السلام) عن العصفور يفرخ في الدار هل يؤخذ فراخه فقال: لا، إن الفرخ في وكرها في ذمة الله ما لم تطر، ولو أن رجلاً رمى صيداً في وكره فأصاب الطير والفراخ جميعاً فإنه يأكل الطير ولا يأكل الفراخ؛ وذلك أن الفرخ ليس بصيد ما لم يطر، وإنما يؤخذ باليد وإنما يكون صيداً إذا طار».

الطير بالليل، وقال(علیه السلام): إن الليل أمان لها»(1).

لكن هنالك أدلة على الجواز، كما هو المشهور، ومنها: صحيحة البزنطي(2) قال: «سألت الرضا(علیه السلام) عن طروق الطير بالليل في وكرها، فقال: لا بأس بذلك»(3)، فتحمل أدلة النهي على الكراهة.

تتمة: لو سقط الحيوان الأهلي في البئر ولم يمكن إخراجه، فإن أمكن ذبحه فيها ولو بخلاف جهة القبلة لزم، وإن لم يمكن رماه أو ضربه بالسيف فيحل(4)، فإنه وإن لم يصدق عليه الصيد لكنه أُلحق به للنصوص الخاصة(5).

الشرط الثالث: عدم تقطيع الصيد

لو قطع الكلب الصيد، أو رمى السيف فقطعه نصفين، أو قطع عضواً منه كرجله فهل يحل أكله؟ في المسألة أقوال:

الأول: وهو الأصح، أنه لو أزهقت الروح فوراً فلا إشكال في حلية

ص: 75


1- الكافي 6: 216؛ وسائل الشيعة 23: 381.
2- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن البزنطي... .
3- الكافي 6: 216؛ وسائل الشيعة 23: 382.
4- الخلاف 6: 20، وفيه: «دليلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم...».
5- الكافي 6: 231؛ وسائل الشيعة 24: 20-21. منها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «إذا امتنع عليك بعير وأنت تريد أن تنحره فانطلق منك، فإن خشيت أن يسبقك فضربته بسيف أو طعنته برمح بعد أن تسمي فكل إلا أن تدركه ولم يمت بعد فذكه. ومنها: الخبر الصحيح رواه الكليني، عن علي بن إبرهيم، عن أبيه، عن صفوان، عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: إن ثوراً بالكوفة ثار فبادر الناس إليه بأسيافهم فضربوه فأتوا أمير المؤمنين(علیه السلام) فسألوه فقال: ذكاة وحية ولحمه حلال.

جميعه حتى العضو المبان(1)، ويدل عليه:

أولاً: إطلاق الأدلة الشامل للمقام.

وثانياً: ترك الاستفصال.

ولا يخفى أن ترك الاستفصال غير الإطلاق، وإن كان مرجعه إليه في غالب الموارد، فلو كانت للشيء حالتان وحكم الإمام(علیه السلام) بالحلية دون ذكر التفصيل، فترك الاستفصال فيما هو متعارف وشائع دليل على شمول الحكم للصورتين.

لا يقال: إن مرجعه إلى الإطلاق.

فإنه يقال: قد لا يكون اللفظ مطلقاً لخلل في مقدمات الحكمة، فيتمسك بترك الاستفصال.

وفيه تأمل؛ لأن صورة قطعه نصفين نادرة، والغالب تمزيق الصيد، وكذا في الرمي. نعم، قد يحصل ذلك، كما في ضربه بالسيف أو كان الحيوان ضعيفاً، فقد يكون ترك الاستفصال لأجل ندرة الفرد، فلا يمكن التمسك به.

وأما الإطلاق فلا محذور فيه، إلا أن يدعى انصرافه عنه، أو يقال: إنه بدوي، حيث لا يرتبط بكثرة الوجود أو ندرته، بل يعود إلى فهم العرف، فقد تكون قلة الوجود سبباً للانصراف، وقد لا تكون، فالأمر مرتبط بالظهور.

وثالثاً: الروايات، كموثقة محمد بن مسلم(2) عن الباقر(علیه السلام): «وسئلعن

ص: 76


1- شرائع الإسلام 4: 738، وفيه: >ولو تقاطعت الكلاب الصيد قبل إدراكه لم يحرم... ولو قطعه بنصفين فلم يتحركا فهما حلال».
2- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ثعلبة بن ميمون، عن بريد بن معاوية، عن محمد بن مسلم... .

صيدٍ صيدَ فتوزعه القوم قبل أن يموت، فقال: لا بأس به»(1)، ولا فرق بينه وبين ما لو قطعه الكلب.

وخبر علي بن جعفر، عن الإمام موسى بن جعفر‘: «سألته عن رجل لحق حماراً أو ظبياً فضربه بالسيف فقطعه نصفين، هل يحل أكله؟ قال: نعم،

إذا سمّى»(2)، والمراد النصف العرفي، وإن كانت إحدى القطعتين أكبر من الآخر.

نعم، لو قطع فلم يمت وبقيت حياته مستقرة لزم ذبحه وحرمت القطعة المبانة.

القول الثاني: الحرمة، واستدل بأدلة أربعة.

الأول: الأصل، فكلما شُك في تحقق شروط التذكية فالأصل عدم التذكية.

وفيه نظر، إذ مع وجود الإطلاقات والأخبار الخاصة لا تصل النوبة إلى الاستدلال بالأصل.

الثاني: موثقة غياث بن إبراهيم(3) عن أبي عبد الله(علیه السلام): «في الرجل يضرب الصيد فيقدّه نصفين(4)، قال: يأكلهما جميعاً، وإن ضربه فأبان منه عضواً لم يأكل منه ما أبان منه، وأكل سائره»(5).

ص: 77


1- الكافي 6: 209؛ وسائل الشيعة 23: 364.
2- قرب الإسناد: 278؛ وسائل الشيعة 23: 363.
3- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى، عن غياث بن إبراهيم... .
4- في وسائل الشيعة: «فيجدّله بنصفين».
5- الكافي 6: 255؛ وسائل الشيعة 23: 386.

والجواب: إن ظاهر الخبر بقاء الصيد على قيد الحياة بعد إبانةالعضو، والكلام في إزهاق الروح بضربة واحدة، وإنما استفيد ذلك من ضميمة جمعه مع سائر الروايات، فحينما ينفصل العضو ويكون الباقي حيّاً فهو من العضو المبان من الحي، وهو ميتة. وإنما يأكل سائره بالتذكية أو برمي آخر.

الثالث: الروايات الواردة في قطع أليات الغنم(1).

والجواب: إنها واردة في الحيوان الأهلي الذي ذكاته بالذبح، وقياسه بالصيد الذي ينفصل منه عضو قياس مع الفارق؛ لاختلاف الأحكام، فالجزء المبان من الحيوان الأهلي يختلف عن الجزء المبان عن الصيد الذي يموت بتلك الضربة.

الرابع: الإجماع.

وهو ضعيف لذهاب الأكثر إلى الحلية، بالإضافة إلى أنه معلوم الاستناد إن ثبت تحققه صغرىً، فلا يكون حجة على المبنى، لكن الالتزام بالمبنى مشكل حيث لا يمكن تحصيل إجماع يعلم أو يحتمل عدم استناده إلى دليل، فقد أقيمت الأدلة على كل مورد تحقق فيه الإجماع، فيعلم أن المجمعين استندوا إليها، ولا أقل من احتمال استنادهم، ومآل هذا المبنى إلى عدم حجية الإجماع.

وقد يقال: إن حجية الإجماع إنما هو لأجل بناء العقلاء وعدم ردع الشارع عنه، وهم لا يفرقون بين محتمل الاستناد، بل معلومه وغيره.ثم إن هنا أقوال شاذة منشؤها روايات ضعيفة السند أو الدلالة، فلابد من

ص: 78


1- الكافي 6: 254-255.

توجيهها أو جمعها بوجه من وجوه الجمع مع سائر الروايات، وإلا فلابد من طرحها لمعارضتها بما هو أصح سنداً، مع عمل المشهور به.

منها: حلية القطعة التي فيها الرأس دون الأخرى(1)، ويدل عليه ما في الوسائل بسند ضعيف(2).

لكن الظاهر أن المراد منها استقرار الحياة في القطعة التي فيها الرأس، وموت القطعة المبانة.

ومنها: لو قسم نصفين بدقة حلّ، وإلا حلت القطعة الكبرى، وحرمت الصغرى(3)، سواء كانت الرأس مع القطعة الكبرى أم الصغرى(4).

والظاهر أن المراد من القطعة الكبرى أو الصغرى في الرواية قطع يده مثلاً، لا أنه مات بالضربة.

ومنها: أنه لو سقط ميتاً حلت القطعتان، وإن تحركت قطعة دون أخرىحرمت التي لم تتحرك وحلت الأخرى(5)، كما في الرواية: عن النضر بن

ص: 79


1- الخلاف 6: 18.
2- وسائل الشيعة 23: 387. الكليني، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن يعقوب بن يزيد، عن يحيى بن المبارك، عن عبد الله بن جبلة، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله(علیه السلام): «في رجل ضرب غزالاً بسيفه حتى أبانه أيأكله؟ قال: نعم، يأكل مما يلي الرأس ويدع الذنب».
3- المختصر النافع: 241؛ شرائع الإسلام 4: 738.
4- الكافي 6: 255؛ وسائل الشيعة 23: 387، وفيه: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن الفضل النوفلي، عن أبيه، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: قلت له: «ربما رميت بالمعراض فأقتل؟ فقال: إذا قطعه جدلين فارم بأصغرهما وكل الأكبر وإن اعتدلا فكلهما».
5- الجامع للشرائع: 382.

سويد، عن بعض أصحابنا رفعه: «في الظبي وحمار الوحش يعترضان بالسيف فيقدان، فقال: لا بأس بأكلهما ما لم يتحرك أحد النصفين، فإن تحرك أحدهما لم يؤكل الآخر لأنه ميتة»(1).

ومن الواضح أن المراد قطع اليد أو الرجل حيث لا يتحرك، والمتحرك فيه حياة مستقرة لا مجرد الحركة، وإلا فكل ذبيحة تتحرك لإزهاق روحها، فالمراد من حركتها الحياة المستقرة.

وبعض هذه التوجيهات وإن كان خلاف ظاهر الرواية لكنه لابد منها للجمع، أو يقال بالإعراض، كما يمكن الحمل على التقية بعنوان الاحتمال؛ لعدم ثبوت هذه الأقوال عن العامة، فلابد من التحقيق في آرائهم.

الشرط الرابع: عدم إدراك تذكيته
اشارة

من شرائط حلية الحيوان المصيد عدم إدراك الصائد تذكيته، فلو عض الكلب رجله مثلاً فوصل إليه فتركه إلى أن مات ولم يذكه حرم على المشهور(2).

ولهذه المسألة مسائل كثيرة نذكر بعضها.

الإسراع إلى التذكية

ذهب المشهور إلى لزوم الإسراع إلى الصيد ليذكيه إن كان حيّاً، فإن لميسرع حرم(3)؛ لعدم العلم بكون موته بسبب الصيد أو بسبب النزيف مثلاً

ص: 80


1- الكافي 6: 255؛ وسائل الشيعة 23: 387.
2- رياض المسائل 12: 68، وفيه: «وفاقاً للمبسوط وكثير، بل الأكثر كما في المسالك، بل المشهور...».
3- الدروس الشرعية 2: 398؛ حاشية المختصر النافع: 159.

بعد أن كانت له حياة مستقرة؟ وقد مرّ أنه إن لم يعلم تحقق شرط الحلية فالأصل عدمه، فيكون حراماً، وستأتي مباحث تأصيل هذا الأصل.

واستدلوا على ذلك بأدلة أربع(1):

الأول: لولا المسارعة لم يعلم استناد الموت إلى الآلة؛ لاحتمال موته بسبب آخر.

لكنه ضعيف، فإن بين المسارعة والعلم باستناد الموت إلى الاصطياد عموماً من وجه، فلا يمكن أخذه دليلاً على اشتراطها.

الثاني: أصالة الحرمة بلا مسارعة.

وفيه: إنه لا تصل النوبة إلى الأصل مع الإطلاقات، فإنها تحكم بجواز الأكل سارع أو لم يسارع.

الثالث: المسارعة هي القدر المتيقن من أدلة الحل ومعه لا إطلاق؛ لأن من مقدمات الإطلاق عدم وجود قدر متيقن.

وفيه: إنما يضر القدر المتيقن بالإطلاق إذا كان في مقام التخاطب، لا القدر المتيقن الوجودي، وإلا أمكن رفع اليد عن كل إطلاق. فقول المولى: (جئني بماء) لا يشمل المالح مع أنه ماء؛ لأن القابل للشرب هو القدر المتيقن في مقام الخطاب، وأما المالح فهو خارج عنه؛ ولذا فالانصراف مقدم على الإطلاق؛ لأنه يخل بمقدمة الإطلاق، وأما لو لم يكن هنالك انصراف شملالإطلاق الفرد حتى مع القدر المتيقن الوجودي، كشمول لفظ الإنسان للمعوق الكافر، وإن كان الفرد المتيقن الوجودي هو الأنبياء

ص: 81


1- الفقه 75: 285.

والأوصياء(علیهم السلام) لكنه ليس القدر المتيقن من الخطاب.

وفي المقام الفرد المتيقن الوجودي هو مورد المسارعة فيحل قطعاً، لكنه لا يقيد اللفظ به.

الرابع: ما ورد في بعض الروايات من (الإدراك)، كما في خبر علي بن جعفر: «سألته عن رجل لحق صيداً أو حماراً، فضربه بالسيف فصرعه أيؤكل؟ فقال: إذا أدرك ذكاته أكل، وإن مات قبل أن يغيب عنه أكله»(1)، ففي هاتين الصورتين - أدرك ذكاته، أو مات قبل الغيبة - يجوز الأكل؛ للعلم بكون الموت مستنداً إلى الصيد، والإدراك يتضمن معنى المسارعة.

وفيه: إن الإدراك غير المسارعة، فإنه يعني التمكن من الذكاة، وهو غير المسارعة، فبينهما عموم مطلق.

فالأدلة الأربعة محل تأمل، والشهرة الفتوائية غير حجة، ولا رواية في المقام حتى يجبر ضعفها بعملهم، فلا مناص من القول بعدم اشتراط الإسراع.

لو أدرك الصيد حيّاًً

أفتى المشهور شهرة عظمية بوجوب ذبح الصيد إن وصل إليه حيّاً وأمكنه ذبحه، فإن لم يذبحه حتى مات حرم(2).

ص: 82


1- وسائل الشيعة 23: 363.
2- المختصر النافع: 241؛ تحرير الأحكام 4: 612؛ مسالك الأفهام 11: 443؛ مفاتيح الشرائع 2: 214؛ مستند الشيعة 15: 346.

لكن قال بعض بعدم وجوب الذبح(1)، واستدلوا عليه بطائفتين من الروايات:

الأولى: ما مرّ من جواز الأكل فيما لو قطعوا الصيد قبل موته، كصحيح محمد بن مسلم عن الباقر(علیه السلام): «وسئل عن صيدٍ صيدَ فتوزعه القوم قبل أن يموت، فقال: لا بأس به»(2)، وهذه الرواية دالة على كفاية مجرد الاصطياد في الحلية، فلا يلزم الذبح، بل يجوز تقطيعه وهو حي.

لكن الظاهر عدم تمامية ذلك؛ لأنها منصرفة عمّا لو كانت له حياة مستقرة، كما لو عض الكلب رجل الصيد، فالمراد منها عدم لزوم الصبر ليموت كاملاً، بل يحل فيما إذا قطع وهو في حال الموت والاحتضار، فإن الظاهر من (قبل أن يموت) أنه في حال الاحتضار.

الثانية: الروايات الدالة على عدم لزوم التذكية بالذبح، وكفاية انتظار موته، كمرسلة جميل، عن الصادق(علیه السلام): «أنه سئل عن الصيد يأخذه الرجل، ويتركه الرجل حتى يموت قال: نعم، إن الله يقول: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}»(3)، حيث استدل الإمام(علیه السلام) بإطلاق الآية على عدم لزوم التذكية بالذبح، وأن مجرد الإمساك تذكية له.

وكذلك مرسلة أبي حنظلة، عن الإمام الصادق(علیه السلام)، قال: «في الصيد

ص: 83


1- كفاية الأحكام 2: 580، وفيه: «وإن بقيت فيه حياة مستقرّة فظاهرهم وجوب المبادرة بالمعتاد إلى تذكيته. وفي إثباته إشكال، فإن أدرك ذكاته حلّ».
2- الكافي 6: 209.
3- وسائل الشيعة 23: 341.

يأخذه الكلب فيدركه الرجل فيأخذه، ثم يموت في يده أياكل؟(1)، قال: نعم، إن الله يقول: {فَكُلُواْ

مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}»(2).

وغيرهما من الروايات المتعددة المذكورة في الوسائل(3).

لكن لا يمكن التمسك بها لجهات ثلاث:

أولاً: ضعف السند، ومعارضتها بما هو أقوى منها.

ثانياً: إعراض المشهور عنها، والذي كاد أن يكون إجماعاً.

وثالثاً: إنها قابلة للتوجيه، بأن يقال: إن المراد منها فيما لو وصل إليه وهو حي لكن لا يتمكن من ذبحه(4)، فلا يشترط في الحلية أن يصل إليه بعد موته، بل حتى لو وصل إليه فأخذه فمات حلّ، فالروايات ليست في مقام بيان التذكية وعدمها، بل في مقام بيان أن الوصول إليه في حال حياته لا يوجب حرمته.

وهذا التوجيه وإن كان خلاف الظاهر، لكنه أولى من طرح الرواية للوجهين الأولين.

وقد استدل المشهور الذي اشترط التذكية إن وصل إليه حيّاً بجملة من الأخبار:

منها: صحيح محمد بن مسلم(5)، عنهما‘ جميعاً أنهما قالا: «فيالكلب

ص: 84


1- في المصدر: زيادة (منه).
2- وسائل الشيعة 23: 342.
3- وسائل الشيعة 23: 339.
4- قال في وسائل الشيعة 23: 341: «أقول: هذا محمول على ما لم يدرك ذكاته».
5- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن محمد بن مسلم، وغير واحد.

يرسله الرجل ويسمّي، قالا: إن أخذه فأدركت ذكاته فذكه، وإن أدركته وقد قتله وأكل منه فكل ما بقي، ولا ترون ما يرون في الكلب»(1). فيستفاد منه الحرمة إن لم يذكه.

لكن قال بعض الفقهاء(2): إن التذكية وإن كانت واجبة، إلا أن عدمها لا يوجب حرمة اللحم؛ لكنه ضعيف لأنه شرط، فأمثال هذه الأوامر لا تحمل على الوجوب التكليفي، بل الشرطي، فإن الإمام(علیه السلام) في مقام بيان الحكم الوضعي لا التكليفي.

في معنى الحياة المستقرة

قيل: «لو أدرك ذو الكلب أو السهم الصيد مع إسراعه إليه حالة الإصابة، وفيه حياة مستقرة توقف حلّه على التذكية»(3).

قال بعض الفقهاء(4): إن هذه العبارة لم ترد في الروايات، والمذكور فيها (إدراك الذكاة) فإن أدركه لزمه الذبح، وإلا فلا يلزم ويحل، فلا دليل على قيد الحياة المستقرة.

ووجهه البعض(5): بأن المراد منها الإدراك، وهو مأخوذ في الروايات.

وعلى كل فقد قيل: إن الحياة المستقرة فيما لو جرح بحيث يموتخلال

ص: 85


1- الكافي 6: 203؛ وسائل الشيعة 23: 334.
2- مستند الشيعة 15: 348-349.
3- الشرح الصغير في شرح المختصر النافع 3: 83؛ رياض المسائل 12: 68.
4- رياض المسائل 12: 71.
5- رياض المسائل 12: 74.

يوم أو أيام(1).

وقال بعض(2): يكفي في عدم الاستقرار موته خلال نصف يوم ولو زاد على النصف فالحياة مستقرة.

وقال آخرون: يكفي في الاستقرار ما يكفي في الذبيحة من تحريك العين أو الرجل أو الذنب(3)؛ مستشهدين لذلك بروايات باب الذبيحة، والتي أفتى بها المشهور، ومنها: صحيح زرارة(4) عن الباقر(علیه السلام) قال: «كلْ كلَّ شيء من الحيوان غير الخنزير والنطيحة والمتردية وما أكل السبع، وهو قول الله عز وجل: {إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ} فإن أدركت شيئاً منها وعين تطرف، أو قائمة تركض، أو ذنب يمصع(5) فقد أدركت ذكاته فكل<(6)، ومع عدمها تحرم الذبيحة، فالحياة المستقرة في باب الذبيحة هي نفسها في الصيد، فلو وصل إلى الصيد وعينه تطرف، أو قائمته تركض، أو ذنبه يمعص لزم ذبحه، وإن لم يذبحه حرم.

ص: 86


1- المبسوط 6: 275، «الثانية: جرحها جرحاً تموت منه لا محالة، لكن فيها حياة مستقرة تعيش اليوم والأيام».
2- المبسوط 6: 260.
3- الوسيلة: 356؛ غاية المرام 4: 11؛ مستند الشيعة 15: 350.
4- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة... .
5- الصحاح 3: 1285، وفيه: >مصعت الدابة بذنبها: حركته»، والنهاية في غريب الحديث 4: 334، وفيه: «وأصل المصع: الحركة والضرب».
6- تهذيب الأحكام 9: 59؛ وسائل الشيعة 24: 37.

لكن أشكل عليه في الفقه(1): بأنهما بابان مستقلان لهما أحكاممختلفة؛ فلذا لا يشترط في الصيد الكثير مما يشترط في الذبح، كالقبلة وفري الأوداج الأربعة، فإجراء أحكام الذبيحة على الصيد قياس مع الفارق.

والشرط الوارد لحلية المصيد في روايات الصيد هو: أن (تدرك ذكاته)، فلو كان في حال الاحتضار وهو يحرك رجله لم يطلق عليه عرفاً أنه أدرك ذكاته، فلابد من القول: إن الروايات في بابين، ف (عينه تطرف...) خاص بباب الذبيحة، وإدراك ذكاته خاص بباب الصيد.

وإن أبيت عن ذلك فتكفينا الأخبار الدالة على حليته فيما لو وزّع الصيد قبل موته، ومنها صحيحة محمد بن مسلم(2) عن الباقر(علیه السلام): «وسئل عن صيدٍ صيدَ فتوزعه القوم قبل أن يموت، فقال: لا بأس به»(3)، بخلاف الذبيحة فلو قطع رجلها قبل أن تموت حرمت ونجست.

فروع متعلقة بالإدراك
اشارة

وبعد ثبوت أصل المسألة(4)، فهنا فروع:

ص: 87


1- الفقه 75: 288، وفيه: «كون الحكم كذلك في باب الذبيحة لا يلازم فهمه كذلك من أخبار باب الصيد، وإن قلنا بمقالة المشهور؛ إذ المنصرف من أخبار الإدراك هنا الحياة التامة، لا مثل هذه الحشاشة من الحياة».
2- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ثعلبة، عن بريد عن محمد بن مسلم... .
3- الكافي 6: 209؛ وسائل الشيعة 23: 364.
4- أنه لو أدرك ذكاته بالذبح لزم بغض النظر عن معنى الإدراك.
الفرع الأول: لو لم توجد السكين

لو كان زمان التذكية وسيعاً لكنه لم يملك السكّين لذبحه، فهل يحل؟

قال البعض(1): لو لم يذكِ لغير عذر أو لعذر غير مقبول حرم؛ لأنه أدركتذكيته و لم يذكِ.

ومثّل البعض(2) للعذر غير المقبول: ما لو أراد صيقلة السكّين، ومثّل آخرون: ما لو لم يكن عنده سكّيناً، لكن الظاهر أنه عذر مقبول، فإن معظم الصيادين لا يحملون السكّين، كما مثّلوا له بما لو لم يتمكن من إخراج السيف أو السكين من غلافه فلا يقبل عذره، فلِمَ صنع غلافاً يعجز عن إخراج السكّين منه!

والظاهر إن المسألة عرفية.

قال البعض: «إذا أدرك الصيد وفيه حياة مستقرة ولا آلة ليذكيه لم يحل حتى يذكى. وفي رواية جميل: يدع الكلب حتى يقتله»(3)، فإن عادة كلب الصيد أن يخرج المصيد عن الامتناع ولا يقتله.

واستدل(4) على ذلك ببعض الروايات، ومنها صحاح، كصحيحة جميل(5) قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرجل يرسل الكلب على الصيد فيأخذه ولا يكون معه سكين يذكيه بها أيدعه حتى يقتله ويأكل منه؟ قال: لا بأس،

ص: 88


1- الخلاف 6: 14؛ المبسوط 6: 260.
2- كفاية الأحكام 2: 581؛ مفتاح الشرائع 2: 214؛ الشرح الصغير 3: 83.
3- المختصر النافع: 241.
4- المقنع: 414؛ النهاية ونكتها 3: 87؛ مختلف الشيعة 8: 266.
5- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البزنطي، عن جميل... .

قال الله عز وجل: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}»(1).لكن المشهور(2) على أنه لا يحل بذلك، واستدلوا بالإطلاقات، كما في صحيحة محمد بن مسلم وغيره(3) قوله(علیه السلام): «في الكلب يرسله الرجل ويسمي قالا: إن أخذه فأدركت ذكاته فذكه وإن أدركته قد قتله وأكل منه فكل ما بقي»(4)، وهذا أدرك ذكاته فلا يحق له أن يأمر الكلب بقتله.

إلا أن الروايات السابقة أخص من هذه العمومات، فالاستدلال بالعمومات مع الأدلة الخاصة الصحيحة سنداً محل تأمل.

وأما صاحب الرياض(5) فقد حكم بالتعارض، ثم رجح ما ذهب إليه المشهور.

وفيه نظر؛ لعدم التعارض بين العام والخاص والمطلق والمقيد حتى يصل الأمر إلى المرجحات السندية أو الدلالية، أو جهة الصدور، وإنما يصل الأمر إلى الترجيح مع إعراض المشهور إن كان هنالك تعارض.

اللهم إلا أن يقال: إن مراده أن الفقهاء لم يفتوا على طبق روايات غير المشهور، فتسقط عن الاعتبار وإن صح سندها.

فلو تم الإعراض فهو، لكنه أول الكلام، خاصة مع فتوى جملة من

ص: 89


1- الكافي 6: 204؛ من لا يحضره الفقيه 3: 320؛ وسائل الشيعة 23: 347.
2- كشف اللثام 9: 203؛ مستند الشيعة 15: 346.
3- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن مسلم، وغير واحد... .
4- الكافي 6: 202؛ الاستبصار 4: 67؛ وسائل الشيعة 23: 334.
5- رياض المسائل 12: 68-70.

الفقهاء على طبق هذه الروايات الصحيحة، فيشك في تحقق موضوع الإعراض.والحاصل: لو كفى الزمان للتذكية لكنه لم يملك آلة ذبح، أو كان هنالك مانع - كما لو كان الصيد وراء النهر فيطول الوصول إليه - حلَّ لشمول إطلاقات أدلة الصيد له، كما أن روايات قتل الكلب له معتبرة، وإعراض المشهور عنها غير ثابت، فتتعين الفتوى على طبقها، وإن كان خلاف الأشهر.

الفرع الثاني: الصيد بالسهم

لو صاد بالسهم ووصل إليه حيّاً، لكن لم يملك السكين، ففي الحلية والحرمة احتمالان(1):

الأول: الحلية؛ لجريان مناط الكلب والمتردية في البئر فيه، فإن المستفاد من مذاق الشارع لزوم عدم تلف الحيوان؛ ولذا يلزم قتله في البئر أو يقتله كلب الصيد، وفي المقام لو مات لعدم وجود السكين حلّ.

الثاني: الحرمة؛ لأن الأدلة العامة تحكم بوجوب التذكية وإلا حرم، خرج منه الصيد بالكلب، ولا يعلم خروج الصيد بالسهم.

والحاصل: إنه لو استفيد المناط، وإلا كان قياساً(2).

إن قلت: إن أدلة الحلية كقوله تعالى: {كُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(3)

ص: 90


1- الفقه 75: 291.
2- والفرق بين المناط والقياس هو أن الأول معلوم العلة قطعاً دون الثاني، حيث إنه مظنون.
3- سورة المائدة، الآية: 4.

مطلقة، وكذا أدلة حلية المصيد بالسهم.

قلت: إنها مخصصة بأدلة التذكية إن وصل إليه حيّاً.

الفرع الثالث: إدراك الصيد مستقر الحياة

لو أدرك الصيد مستقر الحياة فأراد أن يذبحه فمات لقصر الزمان، أو لامتناعه، أو أراد أن يدفع سبعاً يريد أن يفترسه، أو اشتغل بأخذ الآلة، حلَّ، كما عليه الأكثر(1).

ويدل عليه أولاً: الإطلاقات، وقد استثني منها ما لو أدرك ذكاته فلم يذكه، وهنا لم يدرك ذكاته فيشمله العام.

وثانياً: الروايات الخاصة، ومنها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله(علیه السلام): «وإن أدركت صيده فكان في يدك حيّاً فذكه، فإن عجل عليك فمات قبل أن تذكيه فكل»(2). فتدل على أنه حتى لو استقرت حياته لكنه مات للنزيف مثلاً حلَّ.

والمسألة قائمة على الفصل بين استقرار الحياة والإدراك، إلا أن احتمال اتحادهما قائم، كما رجحه في فقه الصادق(3)، فمع عدم الوصول إليه لا يمكن فرض استقرار حياته، وهو محل تأمل، فقد تكون الحياة مستقرة فيفر فيتعقبه إلى أن يدركه ميتاً، فالحياة مستقرة لكن لم يدرك تذكيته لِفراره، فبينهما عموم وخصوص من وجه.

وقد ذهب البعض(4) إلى الحرمة فيما لو استقرت حياته فلم يتمكن من

ص: 91


1- المبسوط 6: 260؛ قواعد الأحكام 3: 315؛ الفقه 75: 292؛ مسالك الأفهام 11: 448.
2- تهذيب الأحكام 9: 28؛ وسائل الشيعة 23: 341.
3- فقه الصادق 23: 407.
4- الخلاف 6: 14؛ السرائر 3: 85؛ قواعد الأحكام 4: 612.

ذبحه، واستدلوا بأن الإباحة متوقفة على الذبح فيما لو استقرتالحياة.

لكنه ضعيف؛ لعدم كون استقرار الحياة ملاكاً، حيث لم يؤخذ في الروايات، بل هو اصطلاح فقهائي، فلا يكون ملاكاً لاستنباط الحكم الشرعي، والمذكور في الروايات الإدراك، فلو لم يصل إلى ذبحه حلّ، وإن كانت له حياة مستقرة، والإدراك أمر عرفي.

الشرط الخامس: العقر
اشارة

إنما يحل الصيد إذا عقره الكلب، فلو لم يعقر وإنما خنقه مثلاً أو أتعبه ركضاً حتى مات، أو مات خوفاً، فالمشهور عدم الحلية(1).

واستدل لذلك بأدلة، فإن تمّ أحدها فبها، وإلا كان الإطلاق محكماً، فيدل على الحلية حتى مع عدم العقر. وهذه الأدلة هي:

الدليل الأول: أصالة عدم التذكية(2).

وفيه نظر، فلا مجال للأصل مع الإطلاق.

الدليل الثاني: انصراف الإطلاقات إلى صورة العقر(3).

وفيه: إن فُهم ذلك فهو، لكن الظاهر عدم الانصراف، فأدلة الصيد بالكلب كثيرة في القرآن الكريم والروايات الشريفة وهي مطلقة، وليس في أحدها إشارة إلى العقر الملازم لسفك الدم.

الدليل الثالث: إنه داخل في الموقوذة والمنخنقة(4)، كما في الآية

ص: 92


1- الخلاف 6: 26.
2- الفقه 75: 314؛ جواهر الكلام 36: 224؛ كشف اللثام 9: 139.
3- الفقه 75: 314.
4- كشف اللثام 9: 139.

الكريمة(1)، فإن الصدمة تدخله في الموقوذة، والخنق يدخله في المنخنقة.

وفيه: إن المنخنقة لا تشملها؛ لأنها خصصت بأدلة الصيد بالكلب، فتأمل.

الدليل الرابع(2): قوله تعالى: {مَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ}(3) فإن (الجوارح) مأخوذة من الجارحة وهو من الجرح، فتدل على لزوم إراقة الدم، كما في الجواهر(4).

لكن يرد عليه عدم ملاحظة الجذر اللغوي في دلالة الكلمات، وإنما الملاحظ الظهور، فالجوارح اسم للحيوانات المفترسة، وإن كان أصلها مشتق عن الجرح، لكن في المشتق لم يؤخذ معنى الجرح؛ لذا يطلق على الكلب الذي لم يصد أصلاً أنه من الجوارح، والسر في ذلك عدم مراعاة أصل اللغة وعلة الاشتقاق في ظهور الكلمات، كما تسمى يد الإنسان ورجله بل جميع أعضائه الظاهرة بالجوارح، ومنشأ هذا الوضع هو أن الإنسان حينما يصيد يصيد بيده، ولم يؤخذ هذا المنشأ في سائر الأعضاء، ويقابله الجوانح، أي: الأضلاع، وسميت بذلك لميلها وانحرافها، كما قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡلَهَا}(5)، أي: مالوا، ولأن القلب في

ص: 93


1- سورة المائدة، الآية: 3: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ}.
2- الخلاف 6: 26.
3- سورة المائدة، الآية: 4.
4- جواهر الكلام 37: 326، وفيه: «... بل يمكن إرادة الإدماء من إمساك الجوارح إن كان الاشتقاق من الجرح بمعناه لا بمعنى الكلب».
5- سورة الأنفال، الآية: 61.

الصدر سميت أفعال القلوب بأفعال الجوانح.

هذا ويمكن دعوى الانصراف في مورد واحد، وهو لو مات بالتعب أو الخوف، فإن أدلة الصيد منصرفة عنه.

تتمتان
التتمة الأولى: في طهارة موضع العض وعدمه

من الواضح أن الكلب يصيد بفمه النجسة، فيوجب نجاسة موضع العض، لإطلاقات أدلة نجاسة ملاقي الكلب بالرطوبة المسرية(1)، لكن ذهب الشيخ الطوسي(2) إلى طهارة موضع العض لأدلة ثلاثة:

الأول: وهو عمدة الأدلة، إطلاق قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}(3)، حيث لم يقيد ببعد الغسل.

والجواب: إنه لا إطلاق للآية من جهة الطهارة والنجاسة، وإنما إطلاقها من جهة الأكل، فإن الإطلاق إنما يتحقق فيما لو كان المولى في مقام البيان، والمحرز في المقام أن المولى لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة، ونظيره قوله تعالى: {وَكُلُواْ

وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ}(4)، فهل يمكن القول: إنه مطلق يشمل كل مأكول؟ وكذا قوله تعالى:{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمۡتُمۡ حَلَٰلٗا طَيِّبٗاۚ}(5)، فهل يشمل

ص: 94


1- الفقه 75: 284.
2- الخلاف 6: 12؛ المبسوط 6: 259.
3- سورة المائدة، الآية: 4.
4- سورة البقرة، الآية: 187.
5- سورة الأنفال، الآية: 69.

المحرمات؟ كلا؛ لأنه ليس في مقام البيان من هذه الجهة، بل في مقام بيان أن الغنيمة سبب الحلية، لا أن كل محرم يحل بالغنيمة، ولو صح التمسك بالإطلاق لطهارة موضع العض فهل يمكن التمسك بالإطلاق لحلية محرمات المصيد كالدم والمثانة و...؟!

الدليل الثاني: إن هذه المسألة مما يكثر الابتلاء بها، ولو كان موضع العض نجساً للزم التنبيه، فتركه دليل على عدم النجاسة.

والجواب: إنما لم يتطرق إليه بالخصوص للعمومات التي بيّنت النجاسة؛ لذا لم تذكر في روايات الصيد حرمة محرماتها؛ وذلك لوضوح العمومات المحرمة.

الدليل الثالث: العسر.

والجواب: لا عسر، ويدل على ذلك لزوم غسل الدم المراق؛ لأنه نجس، فهل يشمله دليل العسر؟ هذا أولاً، وثانياً: العسر شخصي فلا يمكن الرفع العام به، إلا أن يكون في منشأ الحكم فيمكن رفعه.

التتمة الثانية: في ملكية الصيد

يقع الكلام في عدة فروع تتعلق بملكية الصيد، وهي:

الفرع الأول: في كيفية الحيازة

لو دخل الصيد في حيازة صياد وقصد الصيد والملك أصبح ملكه، سواء أخذه بيده أم دخل في شبكته، أم في حيطته، كما لو فتح باب غرفته بقصدالصيد فدخل فيها. ويدل عليه ما يلي:

الأول: الإجماع كما ذكره صاحب الجواهر والمستند(1).

ص: 95


1- مستند الشيعة 15: 369؛ جواهر الكلام 37: 295.

الثاني: دليل من سبق.

الثالث: السيرة القطعية، بل الضرورة في الجملة كما في الفقه(1)، حيث يتعامل معه معاملة مالكية.

ولا يخفى لزوم إحراز اتصالها بزمن المعصوم(علیه السلام)، والظاهر أنه محرز في مثل المقام.

ويمكن إرجاع السيرة إلى بناء العقلاء الممضى عند الشارع، فالعقلاء يجعلون ذلك من أسباب الملك، فيدخل في المعاملات بالمعنى الأعم، وهي إمضائية.

وقد أشكل البعض في بعض الصور - على ما في المستند(2) - فلو كان له مكان وسيع جداً فدخل الصيد فيه، وقصد الملك لكن لم يتمكن من أخذها لم يصدق السبق، لكن في الفقه(3) أثبت الصدق.

الرابع: الروايات، ومنها: موثقة زرارة(4) عن الصادق(علیه السلام): «إذا ملك الطائر جناحه فهو لمن أخذه»(5).ومنها: موثقة السكوني(6) عن أبي عبد الله(علیه السلام) أنه قال: «إن أمير المؤمنين(علیه السلام) قال في رجل أبصر طائراً فتبعه حتى سقط على شجرة،

ص: 96


1- الفقه 75: 294.
2- مستند الشيعة 15: 371.
3- الفقه 75: 294.
4- الكليني، عن العدة، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن زرارة.
5- الكافي 6: 222؛ وسائل الشيعة 23: 389.
6- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه عن النوفلي، عن السكوني... .

فجاء رجل آخر فأخذه، فقال: أمير المؤمنين(علیه السلام): للعين ما رأت ولليد ما أخذت»(1).

وعليه، فلو دخل في حيازة الصائد مع قصد الملك ملكه.

الفرع الثاني: لو وقع الصيد في شبكته ثم انفلت

لو صاد الأسماك في شبكته ففرت منها، ففي بقاء ملكيته لها قولان:

القول الأول: ما هو المشهور(2): من عدم خروجها عن ملكه بعد دخولها فيه، حيث لا دليل على الخروج، كما هو الحكم فيما لو فرّ المصيد من المصيدة، أو بعد دخوله في غرفته، فإنه مع الدخول في حيازته ملكه، ولا دليل على خروجه عن الملك بالفرار. واستدلوا بدليلين:

الأول: الاستصحاب(3)، ويؤيده موردان: الأول: العبد الآبق، حيث لا يخرج عن ملكه. نعم، لا يمكنه بيعه لعدم إمكان التسليم لكن يمكن عتقه، والثاني: فرار الحيوان الأهلي بعد أن أصبح وحشياً(4).

الثاني: الروايات، ومنها: عدم تملك الصيد بعد معرفة الطالب له أوالصاحب، فعن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): «الطير يقع في الدار فنصيده وحولنا حمام لبعضهم، فقال: إذا ملك جناحه فهو لمن أخذه، قال: قلت: يقع علينا فنأخذه وقد نعلم لمن هو، قال: إذا عرفته فرده على

ص: 97


1- الكافي 6: 223؛ من لا يحضره الفقيه 3: 112؛ وسائل الشيعة 23: 391.
2- شرائع الإسلام 4: 744؛ جواهر الكلام 37: 297؛ الفقه 75: 298، وفيه: «والظاهر أن هذا القول هو المشهور».
3- مستند الشيعة 15: 372.
4- مسالك الأفهام 11: 523.

صاحبه»(1).

القول الثاني: أن الفرار من الحيازة موجب لسقوط ملكية الحائز، ومع إقامة الدليل على هذا القول لا تصل النوبة إلى الاستصحاب، وقد قام الدليل على أن الطائر لو ملك جناحه فهو لمن أخذه، ففي خبر زرارة عن أبي عبد الله(علیه السلام): «في رجل صاد حماماً أهلياً، قال: إذا ملك جناحه فهو لمن أخذه»(2).

وأما رواية إسحاق بن عمار فليست في الصيد، بل فيمن ملكه بالشراء أو بالتولد في ملكه مثلاً.

وعليه، فلو علم صاحبه وعلم أنه يعود إليه لزم إرجاعه، وأما لو لم يعلم له صاحباً أو علم صاحبه لكنه ملك جناحيه بأن فرّ منه لم يلزم إرجاعه.

إلا أن يقال: إن الشق الأول فيما لو جهل صاحبه بقرينة الشق الثاني من الرواية - أي: فهو لمن أخذه إذا لم يعلم صاحبه - فإنه وإن كان المقطع الأول مطلقاً - أي: إذا ملك جناحيه - لكن تتمة الرواية: إذا ملك جناحيه ولم تعرف له صاحباً، كما هو مقتضى العادة من عدم معرفة صاحبه.

الفرع الثالث: لو لم تكن آلة الصيد متعارفة

لو كانت آلة الصيد متعارفة تحقق الصيد، لكن لو لم تكن الآلة متعارفة ففيهتردد، كما في الشرائع(3)، مثل: ما لو جعل الأرض موحلة ليسقط فيه الحيوان، حيث لا يصدق الصيد والحيازة والسبق بهذه الطريقة غير المتعارفة.

ص: 98


1- وسائل الشيعة 23: 390.
2- وسائل الشيعة 23: 390.
3- شرائع الإسلام 4: 744.

والظاهر: أنه لا وجه للتردد، للصدق المذكور(1)، ولا وجه لانصراف الأدلة عن هذه الصور.

الفرع الرابع: لو قصد حيواناً فصاد آخر

لو ألقى الشبكة لصيد حيوان معين فوقع فيه حيوان آخر لم يقصد ملكه لم يملكه؛ لما سبق من اشتراط القصد في تحقق الملك والصيد والسبق. نعم، لو قصد الأعم صدق السبق لقصده الكلي(2). وعليه، فلو ألقى المؤمن الشبك فوقع فيه سمك غير ذات فلس، أو حيوان آخر لا يؤكل لم يملكه؛ لعدم قصد التملك، وفي المسألة صورتان:

الأولى: أن يكون ارتكازه أعم، وإن كان خصوص قصده شيئاً معيناً، كما لو أراد صيد الحمام فوقع فيه العصفور، ففي هذه الصورة يملك العصفور.

الثانية: أن لا يريد النوع الآخر حتى في ارتكازه فهنا لا يملكه.

ولا يخفى أن الحيازة مع القصد مملكة، سواء كان غرضه حلالاً أم حراماً، كما لو ألقى الشبكة وقصد صيد السمك المحرم ليأكله؛ لأن حرمة القصد أو حرمة نوع من التصرف لا ينافي الحيازة والملك، كما في صحة البيع والشراءحتى لو قصد منفعة محرمة.

نعم، لو لم يكن هنالك نفع محلل كان بيعه باطلاً، لكن الملك متحقق، كما لو أخذ التراب في الصحراء بقصد التملك فإنه يملكه، وإن لم يصح بيعه

ص: 99


1- الفقه 75: 300، وفيه: «إذ أي فرق بين ذلك وبين نصب الشبكة، ومجرد أنه لا يصدق عليه الآلات المتعارفة لا يوجب عدم صدق السبق والاصطياد مما هو معيار للحكم».
2- الفقه 75: 301.

لعدم ماليته مثلاً. إلا أن يترتب عليه غرض عقلائي يولّد المالية فيصح البيع.

واشتراط المنفعة المحللة إنما هو في البيع لا الملكية، فلو حاز شيئاً لا منفعة فيه أبداً ملكه وإن لم يصح بيعه. فالملك والمال أمران، وبينهما عموم مطلق أو من وجه، وقد ذكروا ذلك في كتاب البيع(1).

والحاصل: إن قصدَ الحرام لا يخل بالملكية.

وكذا الحكم في مقدمة الحرام، كما لو صادت المرأة بغير إذن زوجها، وقد نهاها عن الخروج من المنزل(2)، فإنها تملك وإن كانت مقدمة الصيد حراماً، فحرمة الصيد أو المقدمة لا يخلان بالملكية؛ لأن حرمة الصيد من باب حرمة الخروج، وملكيته من باب من سبق، ولا تنافي بين دليليهما.

الفرع الخامس: الإعراض عن الصيد بعد صيده

لو صاد حيواناً فَرَقّ عليه فأطلقه، ففي خروجه عن ملكه بالإعراض خلاف، والمسألة عامة، كما لو ألقى متاعه في الشارع معرضاً عنه، فهل يملكه الآخذ، أو هو مجرد إباحة لمن يتصرف فيه، كما في تقديم الطعام للضيف؟ والثمرةفي إمكان الاسترجاع مع بقاء العين.

وقد ذهب في الشرائع(3) إلى أن الإعراض غير مخرج عن الملكية على

ص: 100


1- كتاب البيع، للشيخ الأنصاري 1: 18؛ التعليقة على المكاسب، للرشتي: 520.
2- الفقه 75: 301.
3- شرائع الإسلام 4: 744، وفيه: «ولو أطلق الصيد من يده لم يخرج عن ملكه، فإن نوى إطلاقه وقطع نيته عن ملكه، هل يملكه غيره باصطياده؟ الأشبه لا؛ لأنه لا يخرج عن ملكه بنية الإخراج، وقيل: يخرج، كما لو وقع منه شيء حقير فأهمله، فإنه يكون كالمبيح له، ولعل بين الحالين فرقا».

الأشبه.

واستدل لذلك باستصحاب الملكية بعد الإعراض(1).

وفي المقابل قال بعض الفقهاء(2): كما أن اليد سبب للملك كذلك الإطلاق سبب لسقوط الملك. وليس بقياس وذلك لقيام دليلين على الخروج عن الملك بالإعراض، ومعه لا تصل النوبة إلى الاستصحاب، هما:

الأول: صحيحة عبد الله بن سنان(3)، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «من أصاب مالاً أو بعيراً في فلاة من الأرض قد كلّت وقامت، وسيبها(4) صاحبها مما لم يتبعه، فأخذها غيره فأقام عليها وأنفق نفقة حتى أحياها من الكلال ومن الموت، فهي له ولا سبيل له عليها، وإنما هي مثل الشيء المباح»(5)، فتدل على أنه لو أعرض عنه صاحبه وأخذه شخص آخر ملكه، ولا يحق له الرجوع، مع إلغاء خصوصية البعير في الفلاة.

الثاني: قاعدة (الناس مسلطون على أموالهم)، ومن مصاديق التسلط علىالصيد أن يخرجه عن ملكه(6).

ص: 101


1- مستند الشيعة 15: 373.
2- مفاتيح الشرائع 3: 36.
3- الشيخ الطوسي بإسناده عن ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان... .
4- أي: وقفت وتركها صاحبها والسائبة: المهملة.
5- الكافي 5: 140؛ تهذيب الأحكام 6: 392؛ وسائل الشيعة 25: 458.
6- لكنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فإن المالك مسلط على الإخراج لكن كون الإعراض مصداقاً للإخراج ومحققاً له بحاجة إلى دليل، ومجرد القاعدة لا تكفي. نعم، يمكن الاستدلال على ذلك بكون الإعراض مخرجاً عن الملك عرفاً. (المقرر).
الفرع السادس: لو أمكن الصيد التحامل

لو رمى الصيد لكن لم يفقد امتناعه، بأن أمكنه التحامل طائراً أو عادياً، بحيث لا يقدر عليه إلا بالاتباع المتضمن للإسراع لم يملكه، كما في الشرائع(1)، فلو أخذه آخر ملكه.

واستدل عليه في الجواهر(2) بعدم صدق الحيازة عليه.

وأشكل عليه في الفقه(3): بأنه قد لا تصدق الحيازة والصيد لكن يصدق السبق، فيملكه ولا يلزم صدق جميع أسباب التملك.

ومن المصاديق المتعارفة القنابل الصوتية التي تُلقى في الماء فتطفو السمك حية على سطحه فيأخذها الثاني، فإن السبق يصدق على المُلقي، وإن لم يصدق عليه أنه حاز، وكذا في الصعقة الكهربائية الخفيفة الموجبة لشل حركة الأسماك.

لا يقال: بتعارض سببي الملكية، فالأول يشمله السبق والثاني الحيازة.

لأنه يقال: تقدم السبق وتحقق الملكية به، ولا معنى لحيازة ملك الغير فلا تعارض.والحاصل: إن الملاك صدق السبق، وإن لم يقصد مَلَكَهُ الثاني.

الفرع السابع: في الصيد بالمغصوب

لو صاد بالمغصوب، كما لو غصب كلباً أو سهماً فصاد به، فلا إشكال في حرمة فعله، فإن التصرف في المغصوب حرام، لكن البحث في جهتين:

ص: 102


1- شرائع الإسلام 4: 744.
2- جواهر الكلام 37: 304.
3- الفقه 75: 304.

الأولى: هل يحل الصيد؟ والثانية: من يملك المصيد؟

أما الحلية فلإطلاق أدلتها، كما لو ذبح الشاة بسكين مغصوب.

وأما في الملكية ففيها احتمالات ثلاثة:

الأول: وهو المشهور وادعى صاحب الجواهر(1) عدم خلاف فيه: أنه ملك الصائد. نعم، لابد من دفع الأجرة لصاحب الآلة المغصوبة.

الثاني: ما احتمله المحقق الأردبيلي: وهو أن يكون ملكاً لصاحب الآلة، حيث قال: «ثم في خصوص الصيد قد يقال: حصول الملك للغاصب في الشبكة والكلب غير ظاهر، فإنه ليس له فعل مملك واضح مستقل ووضع يد، فيحتمل حصوله للمغصوب منه، وعدم حصول ملك لأحد فيبقى على إباحته حتى يأخذه آخذ على وجه التملك. نعم، في الجرح والرمح والسهم قد يقال: المملك هو فعله، والآلة ليست لها دخل إلا الآلية، وأن فعله وإثباته بفعله بمنزلة أخذه ووضع يده»(2)، فإنه لم يضع يده على المصيد، وليس الكلب ملكاً له حتى يقال: إن الفعل منسوب إلى مالك الكلب وفعل الكلب فعله.

والحاصل: إنه ليس هنالك فعل واضح منشأ للملكية في الغاصب، فلاوضوح أنه ملك للغاصب، بل فيه احتمالات ثلاثة: أن يكون ملكاً لمالك الكلب، أو ملكاً للغاصب، أو لا يملكه أحد، وإنما لمن سبق وضع يده عليه.

وقد شبّه البعض فعله بفعل العبد، فلو غصبه واستعمله كانت نتيجة فعله لمالكه لا الغاصب، وهو تام في العبد، فكذلك في الصيد.

ص: 103


1- جواهر الكلام 36: 65.
2- مجمع الفائدة والبرهان 11: 47.

وفيه نظر؛ فمن الواضح أنه فعل الغاصب، فهو الذي أرسله، فيكون الفعل صادراً منه بوضوح، ومجرد ملكية المغصوب منه لا يوجب صدور الفعل منه، بل لا فعل له قطعاً، فإن فعل الكلب ليس فعلاً لمالكه، وأما المرسل الغاصب فالفعل منسوب إليه عرفاً، وذلك للتسبيب فينطبق عليه (مَن سبق)، فأصل الاحتمال المذكور محل تأمل.

وأما التشبيه المذكور فهو قياس مع الفارق؛ لأن العبد قاصد للفعل، فيكون مالكه مالكاً لأفعاله لكن لا قصد للكلب، مضافاً إلى حصول الاستقلالية في العبد في العمل بخلاف الكلب، حيث يرى العرف أنه غير مستقل في فعله، بل يرى العمل لمرسل الكلب؛ ولذا لو قتل العبد شخصاً كان قاتلاً وإن أمره المولى، بخلاف الكلب فإن القاتل هو الآمر.

واحتمل في الفقه(1) أن يكون الفعل نتيجة اجتماع ثلاثة أشياء: العامل والآلة والمال(2)، فيشترك الثلاثة في الملكية، فلو قلنا: إن الشرع أمضاه؛ لأنه قانون عقلائي لزم الحكم بملكية الصائد لنسبة من المصيد.

لكن يشكل الفتوى به؛ لأنه خلاف المشهور، ولم يعمل بها العقلاء منقبل، فإمضاء الشارع لهذا النوع من التقسيم غير معلوم.

نعم، لو كانت معاملة جديدة شملها إطلاق: {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(3)، أو {تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ}(4)، كما هو الحال في المركب من المزارعة والمساقاة،

ص: 104


1- الفقه 75: 240-241.
2- إن كان هنالك مال.
3- سورة البقرة، الآية: 275.
4- سورة النساء، الآية: 29.

فقد أبطله البعض لعدم كونه في زمن الشارع، لكن جمع من الفقهاء صححوها، فإنها معاملة عقلائية فتشملها الإطلاقات، بعد عدم انطباق عنوان محرم عليها كعقد التأمين، وهو المشهور بين المتأخرين.

لكن اشتراك الجهات الثلاثة في الصيد ليس بالأمر الجديد، والعقلاء في زمن الشارع وبعده كانوا يحكمون بالإجارة فحسب، فالقول بإمضاء الشارع لهذه النتيجة العقلائية اليوم غير معلوم، فلا مناص عن قول المشهور.

ص: 105

الفصل الثالث: الصيد بالآلات

تمهيد

لا إشكال في حلية الصيد بالآلة، كالسيف والسهم والنبل وكل ما فيه فلز حاد، بالإجماع(1)، والروايات المستفيضة أو المتواترة، كصحيحة حريز(2) قال: «سئل أبو عبد الله(علیه السلام) عن الرمية يجدها صاحبها في الغد أيأكل منه؟ فقال: إن

علم أن رميته هي التي قتلته فليأكل من ذلك إذا كان قد سمى»(3).

والشاهد في الرمية سواء كان بالسهم أم الرمح أم غير ذلك.

وصحيحة الحلبي(4) قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الصيد يضربه الرجل بالسيف، أو يطعنه بالرمح، أو يرميه بسهم فيقتله وقد سمّى حين فعل؟ فقال: كُل، لا بأس به(5).

ص: 106


1- كفاية الأحكام 2: 583؛ مجمع الفائدة 11: 12؛ مسالك الأفهام 11: 411؛ كشف اللثام 9: 185؛ رياض المسائل 11: 40؛ مستند الشيعة 15: 308؛ جواهر الكلام 37: 12.
2- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز... .
3- الكافي 6: 210؛ وسائل الشيعة 23: 365.
4- الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن الحلبي... .
5- الكافي 6: 210؛ الفقيه 3: 203؛ التهذيب 9: 33؛ وسائل الشيعة 23: 363.

وفي الوسائل روايات متعددة في ذلك(1).

اشتراط الخرق

ثم إنه قد وقع الخلاف في بعض التفاصيل، منها: اشتراط خرق بدن الصيد وعدمه، فيقع الكلام في ذكر الأقوال في المسألة، وهي:

القول الأول: اشتراط الخرق، فلو لم يخرق بأن أصابه السهم من عرضه فمات من شدة الضربة لم يحل على المشهور(2).

وقد استدلوا بصحيحة أبي عبيدة الحذاء(3)، عن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: «إذا رميت بالمعراض فخرق فكل، وإن لم تخرق واعترض فلا تأكل»(4).

وفسر المعراض بسهم من خشب وسطه عريض وطرفاه حادان، ليس له نصل ولا ريش، ويصيب الصيد بعرضه(5). ويتعين العمل بها بعد فتوى المشهور على طبقها.

القول الثاني: عدم اشتراط الخرق. وهو ما ذهب إليه غير المشهور، حيث حكموا بالحلية سواء خرق السهم الصيد أم لم يخرق(6).

ص: 107


1- وسائل الشيعة 23: 362.
2- المقنعة: 578؛ النهاية: 580؛ جواهر الكلام 37: 21.
3- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن أبي عبيدة... .
4- الكافي 6: 212؛ تهذيب الأحكام 9: 35؛ وسائل الشيعة 23: 370.
5- الصحاح 3: 1083؛ معجم مقاييس اللغة 4: 276؛ لسان العرب 7: 180، وفيه: «والمِعْراضُ، بالكسر: سهم يُرْمَى به بلا ريش ولا نَصْل يَمْضِي عَرْضاً فيصيب بعَرْضِ العود لا بحده».
6- الروضة البهية 7: 203.

واستدلوا عليه بعدة أدلة، وهي:

أولاً: صحيحة الحلبي(1)، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «سألته عن الصيد يصيبه السهم معترضاً ولم يصبه بحديدة، وقد سمى حين رمى، قال: يأكله إذا أصابه وهو يراه»(2). وهي معارضة لصحيحة الحذاء بالعموم من وجه، فيتساقطان في مورد الاجتماع، وهو فيما لو أصاب ولم يخرق، فيكون المرجع العموم الفوقاني الدال على حلية المصيد.

لكن عند التأمل يظهر أن النسبة بين الصحيحتين ليست العموم من وجه، فإن الإصابة أعم مطلقاً من الخرق، فقد يحصل بها الخرق وقد لا يحصل، ولا معنى للخرق بلا إصابة، فصحيحة الحذاء أخص، وحتى لو كانت النسبة كذلك فتقدم صحيحة الحذاء لمرجح عمل المشهور، فلابد من العمل بها.

وثانياً: ما ورد في من لا يحضره الفقيه: عن الإمام علي(علیه السلام): «في رجل له نبال ليس فيها حديد وهي عيدان كلها، فيرمي بالعود فيصيب وسط الطير معترضاً فيقتله، ويذكر اسم الله عليه، وإن لم يخرج دم، وهي نبالة معلومة، فيأكل منه إذا ذكر اسم الله عز وجل»(3). فلا يشترط في حلية الصيد الخرق، فإنه لو خرق لزم خروج الدم، فلابد من حمل رواية الخرق على الكراهة.

لكنها مرسلة، فلا تعارض صحيحة الحذاء.

ص: 108


1- الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن الحلبي... .
2- الكافي 6: 213؛ وسائل الشيعة 23: 371.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 318؛ وسائل الشيعة 23: 373.

وأجيب عن ضعف السند باعتبار ضمان الصدوق ل (من لا يحضره الفقيه)(1).

لكن على فرض اعتبار السند لا يمكنها معارضة صحيحة الحذاء لعمل المشهور بها دونها، وإنما يصار إلى الجمع الدلالي بالحمل على الكراهة بعد فرض التكافؤ.

القول الثالث: التفصيل بين ما لو كان للسهم نصل فيحل وإن لم يخرق، بأن أصابه عرضاً، وإن لم يكن له نصل حرم(2).

واستدلوا ببعض الروايات: ومنها: صحيحة الحلبي(3)، عن أبي عبد الله(علیه السلام): «أنه سئل عما صرع المعراض من الصيد، فقال: إن لم يكن له نبل غير المعراض وذكر اسم الله عز وجل عليه فليأكل ما قتل، قلت: وإن كان له نبل غيره، قال: لا»(4).

لكنها لا ترتبط بالتفصيل المذكور.

نعم، هنالك تفصيل آخر يطابق مضمون هذه الرواية، وهو لو كان له

ص: 109


1- من لا يحضره الفقيه 1: 2، وفيه: «ولم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحته، وأعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي - تقدس ذكره وتعالت قدرته - وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعول وإليها المرجع».
2- السرائر 3: 92؛ المختصر النافع: 239؛ المهذب البارع 4: 149؛ الشرح الصغير في شرح المختصر النافع 3: 77؛ رياض المسائل 12: 42.
3- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبي المغرا، عن الحلبي... .
4- الكافي 6: 212؛ من لا يحضره الفقيه 3: 318؛ وسائل الشيعة 23: 371.

سهم آخر حرم وإلا حل، لكن لم يفتِ أحد من الفقهاء على حسب هذاالتفصيل، فلابد من حملها على الكراهة؛ لأن المعراض يؤذي الحيوان.

الصيد بشيء ثقيل

لو قتل الصيد بشيء ثقيل لكنه ليس سلاحاً كالحجر لم يحل، وعليه الفتوى والرواية.

قال في المبسوط: «فأما ما قتله بثقله كالحجارة والبندقة فلا يحل أكله، سواء قتله بجرح أم بغير جرح، وسواء كان الجرح ذبحاً أم غير ذبح...»(1).

وقال في كشف اللثام: «أمّا المثقّل فيحرم بالإجماع والنصوص»(2).

وقال في المستند: «المعروف منهم حرمة مقتول كل آلة جمادية غير ذي حدين ولا محددة تقتل بثقله، كالحجر والعمود والمقمعة(3)، وهو في الحجر منصوص عليه في صحاح عديدة، كصحيحة الحلبي(4): عما قتل الحجر والبندق أيؤكل؟ قال: لا<(5).

الصيد بالأسلحة الحديثة

وأما الصيد بالأسلحة الحديثة كالرشاش والمسدس وما أشبه فقد قال

ص: 110


1- المبسوط 6: 273.
2- كشف اللثام 9: 226.
3- مجمع البحرين 4: 383، وفيه: >هي شيء من حديد كالمحجن يضرب به».
4- الكافي 6: 213؛ التهذيب 9: 37؛ وسائل الشيعة 23: 374. ومن أسنادها: الكليني، عن علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي... .
5- مستند الشيعة 15: 314.

البعض بعدم الحلية(1)؛ لورود الروايات بعدم حلية الصيد بالبندقة(2).

ويشكل عليه بعد صدق السلاح عليه، وفي صحيحة محمد بن قيس(3)، عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «من جرح صيداً بسلاح وذكر اسم الله عز وجل عليه ثم بقي ليلة أو ليلتين لم يأكل منه سبع، وقد علم أن سلاحه هو الذي قتله فيأكل منه إن شاء»(4). فالأمر دائر مدار صدق السلاح لاتخاذه موضوعاً في الروايات، فيشمل المصاديق الجديدة التي لم تكن في زمن نزول الوحي، فما دام اللفظ مطلقاً غير منصرف عن المورد شمله الإطلاق.

وأما البندقة المأخوذة في الروايات(5) فالمراد رمي قطعة من الحديد يقتل بثقله لا أنه يخترق البدن، ولم يكن يعتبر سلاحاً.

وتفصيل الأمر في ذلك: أن صاحب الرياض(6) أشكل في الحلية وذهب إلى الحرمة الوضعية، واستدل لذلك بأربعة أدلة، وإن كان مجموع الأدلة المذكورة سبعة:

ص: 111


1- رياض المسائل 12: 58، وفيه: «ومنها يظهر حرمة مقتول الآلة الموسومة بالتفنك المستحدثة في قرب هذه الأزمنة»، مستند الشيعة 15: 316؛ جواهر الكلام 37: 17-18.
2- الكافي 6: 213؛ وسائل الشيعة 23: 374، الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما‘ قال: «سألته عن قتل الحجر والبندق أيؤكل منه؟ فقال: لا».
3- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن محمد بن قيس... .
4- الكافي 6: 210؛ تهذيب الأحكام 9: 34؛ وسائل الشيعة 23: 362.
5- الكافي 6: 213.
6- رياض المسائل 12: 58.

الدليل الأول: الأصل.

وفيه: إنه مع إثبات الإطلاقات للحلية لا مجال للأصل.

الدليل الثاني: إنه يقتل بثقله، فلا يوجب الحلية.

وفيه: صغرى: إنها لا تقتل بثقلها وإنما تثقب وتدخل البدن وتسبب القتل.

وكبرى: لا دليل على أن القتل بالثقل يوجب الحرمة.

نعم، هنالك رواية عامية(1) لا يصح الاستدلال بها.

الدليل الثالث: النهي عن البندق في بعض الروايات(2)، والمقام منه؛ لذلك تسمى بالبندقية.

وفيه: أولاً: قال البعض: البندق: الحجر المدور(3) فلا يشمل الحديد المدور.

ثانياً: لا يطلق عليها البندق، وحتى لو كان مدوراً(4) كي يقال بشمول الروايات الناهية له، بل لا تختلف عن النصل أو السهم فهي مثلهما.

الدليل الرابع: عدم إطلاق السلاح - المأخوذ في الروايات سبباً للحلية - عليها، وقد مرّ قريباً خبر محمد بن قيس، عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام).

ص: 112


1- رياض المسائل 12: 42، وفي النبوي: «في المعراض إن قتل بحدّه فكل، وإن قتل بثقله فلا تأكل»، وسنن ابن ماجه 2: 1072، مع اختلاف.
2- من لا يحضره الفقيه 3: 318، وفيه: عن حريز، عن أبي عبد الله(علیه السلام): «أنه سئل عن قتل الحجر والبندق أيؤكل؟ فقال: لا».
3- مجمع البحرين 5: 141، وفيه: «البندق: الذي يرمى به عن الجلاهق، الواحدة: بندقة، وهي طينة مدورة مجففة، وتجمع أيضاً على بنادق».
4- وهو ما يسمى بالفارسية (ساچمه).

فهذه الروايات لا تشمل الأسلحة الحديثة، فإنه وإن كان بعضها عاماًإلا أن الأصل حرمة الميتة، من غير فرق بين كون الموت بسبب طبيعي أو غير طبيعي، كافتراس سبع أو فقد شرط من شروط حلية الذبح، وقد خرج من الأصل المذكور الصيد بالآلة المعتبرة كالسهم، وأما غيره فلا يعلم خروجه عن أصالة الحرمة.

وفيه نظر: لأن أدلة الرمي بالسلاح أخص من أدلة حرمة الميتة.

الدليل الخامس: إن الروايات المتضمنة ل (من جرح صيداً بسلاح) نكرة في سياق الإثبات ولا تفيد العموم، فيكون السلاح مبهماً لا يعلم شموله للأسلحة الحديثة.

لكنه محل تأمل، فإنه وإن صح أنها لا تفيد العموم لا وضعاً ولا استعمالاً، لكن بعد تمامية مقدمات الحكمة ينعقد الإطلاق، فيشمل كل مورد يصدق عليه الاسم.

الدليل السادس: إن السلاح منصرف عنها لندرتها والغالب غيرها، وهو منشأ الانصراف.

لكنه ضعيف مبنىً وبناءً، وقد مرّ سابقاً، أن الانصراف إنما يكون حجة إذا أخل بالظهور، وإلا كان بدوياً، وكثرة الوجود وقلته لا يخلان بالظهور(1). نعم، لو سببتا الإخلال بالظهور كان الانصراف تاماً.

وعليه، لو كان السلاح نادراً لم يكن سبباً لانصراف اللفظ، مع أنه في زماننا هذا ليس نادراً.

ص: 113


1- كالإنسان ذي الأصابع الستة.

وبعبارة أخرى: هنالك قضايا خارجية وقضايا حقيقة والأصل الثاني، فلو قال الشارع: احترم العالم، فهل ينحصر الأمر في العلوم التي كانت في زمن الشارع؟ كلا؛ لأن القضية حقيقية، فالحكم يرتبط بهذا الموضوع متى ما تحقق الموضوع مع قطع النظر عن الوجود الخارجي، بخلاف القضايا الخارجية التي يكون الملاك فيها هو الوجود الخارجي للشيء.

وفي المقام لم تكن الأسلحة المتطورة في زمن الشارع، لكن قوله(علیه السلام) (من جرح صيداً بسلاح) قضية حقيقية، فمتى ما تحقق الجرح بالسلاح يترتب الحكم كيفما كان الجرح، وأي شيء كان السلاح.

والحاصل: إن الوجوه المذكورة ضعيفة، وإطلاقات الأدلة الدالة على (الرمي) بلا تقييده بشيء و (السلاح) بلا تعيين نوعه تشمل كل سلاح جديد.

نعم، هنالك موارد لم يرتضها الشارع، كما لو لم يخرق المعراض، فهي مخصصة لأدلة السلاح، وكذا الحجر، فهي تخصص أدلة (الرمي) المطلقة. لكن لو كان الحجر سلاحاً فتشمله أدلته، كما في الحجر الموضوع في المقلاع أو المقمعة، إلا أن الفقهاء ذهبوا إلى عدم حلية الصيد بالمقمعة(1)، لكن قال السيد الوالد: «أما العمود والمقمعة والرمي بالحديدة ونحوها مما يتعارف رميه سلاحاً في الحرب ونحوه، فالظاهر الحلية»(2).

مع ملاحظة القيد الذي ذكرناه سابقاً وهو الجرح، وإن لم يشترطه

ص: 114


1- مستند الشيعة 15: 314؛ مهذب الأحكام 23: 23.
2- الفقه 75: 218.

الكثيرون، والحجر المخصوص في المقلاع حاد من الأطراف، ويسمى عرفاًسلاحاً.

أما لو صاد بما لا يسمى سلاحاً، كالصيد بالمسحاة أو المنجل أو الفأس لم يحل؛ لعدم صدق السلاح عليه، فيحتمل بأنها إن احتوت على الحديد كفى من باب تحقق مناط السهم والرمح. فلو قطعنا بالملاك فلا بحث، وإلا فهو قياس.

ولا يخفى الفرق بين القياس الباطل الذي هو تنظير شيئين بالآخر يجري حكم أحدهما على الآخر للظن بالعلة، وبين تنقيح المناط حيث نقطع بالعلة المتحققة في المنصوص وغيره، وهي منشأ الحكم.

لكن استفادة الملاك مشكل، فحلية الصيد بهذه الوسائل محل تأمل.

لو قطعت الحبالة بعض الصيد

لو وقع الصيد في حبالة فسببت قطع عضو منه حرم كما في الشرائع(1)؛ لأنه جزء مبان من الحي، وأما الباقي لو ذكي حل وإلا حرم. ولو اختنق الصيد وهو في الحبالة حرم. وكذا الحكم فيما لو وقع في المصيدة فمات(2).

لأن أدلة الحلية لا تشمل هذه الموارد، فليست من مصاديق (الرمية) و(السلاح) ولم يرد فيها نص خاص، فلا وجه للحلية بعد شمول الأدلة العامة لحرمة الميتة لها. نعم، يجوز إخراج الصيد من الامتناع بأي طريقة ثم ذبحه فيحل.

ص: 115


1- شرائع الإسلام 4: 738.
2- قواعد الأحكام 3: 321؛ كشف اللثام 9: 229.

والحاصل: يجوز الصيد بأي وسيلة، لكن لا يوجب الحلية إلا إذاذكي.

رمي الصيد بأكبر منه

وهنا موارد نُهي عنها في الروايات، لكن فهم منها الفقهاء الكراهة:

منها: لو كانت آلة الصيد أكبر من الصيد، كما لو صاد العصفور بالسيف الكبير، فالإرسال والإعراض عنها وربما قيام الإجماع على عدم الحرمة يثبت الكراهة.

فعن أبي عبد الله(علیه السلام): «لا يرمى الصيد بشيء هو أكبر منه»(1).

مسائل متفرقة
المسألة الأولى: لو وقع حياً وجبت تذكيته

لو رمى فرخ الطير بالسهم ووقع حيّاً وجبت تذكيته(2)، وكذا صغير الحيوان الذي لا يستطيع الفرار، ولا طريق للوصول إليه كما لو كان على شجرة عالية، لكن لو مات بالسهم لم يحل؛ لاشتراط الامتناع في الصيد، ولا يصدق عليه الامتناع بمجرد عدم الوصول إليه، والظاهر عدم إطلاق الصيد عليه، لكن أصل العمل مكروه.

المسألة الثانية: لو رماه الأول وقتله الثاني

لو رماه الأول فجاء الثاني وقتله قبل أن يموت فهنا فروع:

الفرع الأول: أن يصيره الأول في حكم المذبوح فهو مالك له؛لأنه

ص: 116


1- الكافي 6: 211؛ تهذيب الأحكام 9: 35؛ وسائل الشيعة 23: 370.
2- قواعد الأحكام 3: 311.

الصائد(1)، وأما الثاني: فإن لم يصير الصيد حراماً أو ناقصاً لم يضمن، وإن عيبه - كما لو رماه فشق جلده مما نقص من قيمته - فعل حراماً وضمن؛ لأنه من التصرف في ملك الغير، وقد أورد عليه النقص.

وتدل على ملكية الأول الرواية التالية: «مرّ النبي مع أصحابه بضبي حاقف(2) فَهمَّ أصحابه به، فقال رسول الله(صلی الله علیه و آله): دعوه حتى يجيئ صاحبه».

لكن أشكل عليها بأنها عامية(3)؛ لأنها لم ترد في المجاميع الخاصة.

وفيه: إنها قد وردت في المبسوط(4) وهو كتاب استدلالي، فلا يصح نسبتها إلى العامة، حيث لا فرق بين ورود الرواية في كتاب التهذيب ليكون من الخاصة، أو المبسوط ليكون من العامة، كما ذهب إلى هذا الفرق صاحب الوسائل، حيث لم يتطرق إلى ذكر روايات النبي(صلی الله علیه و آله) الواردة في الكتب الفقهية للقدماء خوفاً من كونها عامية، لكن لا وجه له.

والحاصل: إن الرواية ليست عامية. نعم، هي مرسلة.

الفرع الثاني: لو ملكه الأول بالصيد فخرج عن الامتناع لكن لم يمت، فقتله الثاني قتلاً شرعياً بأن ذكاه، أو غير شرعي(5)، وعلى كل تقدير، إما زادت القيمة أو نقصت أو لا.

والحكم فيما لو كان قتله غير شرعي هو أنه لو لم يسبب نقصانالقيمة؛

ص: 117


1- المبسوط 6: 263-264؛ جواهر الكلام 37: 305.
2- مثخن بالجراح وعاجز عن الحركة.
3- المستدرك على الصحيحين 3: 624، مع اختلاف يسير.
4- المبسوط 6: 275.
5- كما لو رماه فكسر يده فذهب امتناعه، فرماه الثاني فقتله مع أن المفروض أن يذكيه.

لعدم ورود عيب عليه فلم يضمن شيئاً وإن فعل محرماً؛ لتصرفه في حق الغير، كما في صيد الفيل، فلو فرض أن نفعه في عاجه فقط، فلا فرق في تذكيته شرعاً أو موته حتف أنفه، حيث إنه لا ينجس؛ لكونه مما لا تحله الحياة.

ولو سبب نقصان القيمة، كما في قتل الغزال مع إمكان تذكيته، فصيرها ميتة فهو ضامن؛ لإتلافه مال الغير.

وقد ذهب المشهور(1) إلى كون الضمان في الحيوانات قيمية، فعليه أن يدفع قيمة الغزال.

لكن السيد الوالد أشكل على كلية المسألة في الفقه(2)، حيث إن الروايات تثبت الضمان على اليد: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي»(3)، فلابد من ملاحظة كيفية تحقق الأداء عرفاً.

وله خمس مراحل وهي: إرجاع العين، فإن تلفت فالمثل، فإن لم يكن له مثل فبدل الحيلولة، وإلا فالبدل الأقرب، وإلا فالقيمة.

فلا ندور مدار المثلية والقيمية، بل الأمر دائر مدار صدق (حتى تؤدي).

المسألة الثالثة: لو رماه الأول ولم يخرج عن الامتناع

لو رماه الأول لكن لم يخرج عن الامتناع، فرماه الثاني ملكه، كمافي

ص: 118


1- الحدائق الناضرة 20: 317؛ الأنوار اللامعة 11: 257؛ المناهل: 156.
2- الفقه 75: 426، وفيه: «... وهذا يؤيد ما ذكرناه في بعض مباحث (الفقه) من أن الحيوان مثلي أيضاً، خلافاً للمشهور الذين جعلوه قيمياً».
3- مستدرك الوسائل 14: 8؛ عوالي اللئالي 1: 224.

الشرائع(1)؛ لعدم صدق (من سبق)، و(من أخذ صيداً فهو له) على الأول؛ لعدم خروجه عن الامتناع بسببه، وإنما الثاني هو الذي صاده، وأخرجه عن الامتناع فيشمله السبق.

وهل يضمن الأول للثاني جرحه؟ كلا؛ لأنه لم يضر بملكه، وإنما أورد النقص على المباح الأصلي فلا يضمن.

لكن إطلاقه محل تأمل؛ حيث قد يصدق السبق في بعض الصور، فيملك حتى مع عدم خروجه عن الامتناع، كما لو رمى الغزال فأصاب رجله فضعف بحيث خفت سرعته، فأراد رميه ثانية لكن رماه الثاني، فالسبق يصدق على الأول عرفاً؛ ولذا يعترض عليه في رميه صيده، وكما في رمي طير يطير عالياً فلم يذهب امتناعه، لكن تدنى من علوه فأخذه الثاني، صدق السبق على الأول.

فإطلاق كلام الشرائع في (عدم ملكيته إن لم يخرجه من الامتناع) محل تأمل. نعم، لو لم يصدق على الأول السبق عرفاً، بأن جرحه جرحاً خفيفاً فقط، ولم يتغير فيه شيء من الفرار أو السرعة، ملكه الثاني.

المسألة الرابعة: لو جنى أحدهما على صيد ثم جنى عليه الثاني

وقد تطرق في الشرائع(2) إلى ذكر مسألة لا ترتبط بباب الصيد؛ ولذا لم

ص: 119


1- شرائع الإسلام 4: 744.
2- شرائع الإسلام 4: 745، وفيه: «ولعل فقه هذه المسألة ينكشف باعتبار فرض نفرضه، وهي دابة قيمتها عشرة، جني عليها فصارت تساوي تسعة، ثم جنى آخر فصارت إلى ثمانية، ثم سرت الجنايتان، ففيها احتمالات خمسة: لا يخلو أحدها من خلل، وهو إما إلزام الثاني بكمال قيمته معيباً؛ لأن جناية الأول غير مضمونة، وبتقدير أن يكون مباحاً وهو ضعيف؛ لأنه مع إهمال التذكية جرى مجرى المشارك في جنايته. وإما التسوية في الضمان، وهو حيف على الثاني، أو إلزام الأول بخمسة ونصف والثاني بخمسة، وهو حيف أيضاً، أو إلزام الأول بخمسة، والثاني بأربعة ونصف، وهو تضييع على المالك. أو إلزام كل واحد منهما بنسبة قيمته، يوم جنى عليه، وضم القيمتين وبسط العشرة عليهما، فيكون على الأول عشرة أسهم من تسعة عشر من عشرة، وهو أيضاً إلزام الثاني بزيادة لا وجه لها. والأقرب أن يقال: يلزم خمسة ونصف، والثاني أربعة ونصف؛ لأن الأرش يدخل في قيمة النفس، فيدخل نصف أرش جناية الأول في ضمان النصف، ويبقى عليه نصف الأرش مضافاً إلى ضمان نصف القيمة. وهذا أيضا لا يخلو من ضعف، ولو كانت إحدى الجنايتين من المالك سقط ما قابل جنايته، وكان له مطالبة الآخر نصيب جنايته».

يذكرها غالب الفقهاء إلا من شرحه كالمسالك والجواهر، لكنها لا تخلو من فائدة في باب الديات ومختلف أبواب الضمانات وهي: لو كان يملك حيواناً سعره (10) مثلاً، فجاء الأول وجنى عليه جناية فصارت قيمته (9)، وجاء الثاني وجنى جناية أخرى فصارت قيمته (8)، ثم سببت الجنايتان تلف الحيوان، فيستحق المالك القيمة الكاملة لكن الكلام في مقدار ضمانهما؟ وقد احتمل في الشرائع احتمالات خمسة، وأضاف في الجواهر(1) احتمالين لكن كلها محل إشكال، وفي الفقه(2) لم يتطرق إلى ذكر الاحتمالات، وإنما ذكر

ص: 120


1- جواهر الكلام 37: 319.
2- الفقه 75: 210، وفيه: «مع أن مقتضى القاعدة أن المسألة المفروضة لا احتمالات فيها خمسة، أو سبعة، كما ذكرها الجواهر، بل مقتضى الصناعة أن اللازم في الماليات هنا وفي غيرها أن على كل واحد نصف القيمة، في نحو المثال الذي ذكره؛ إذ الأول خسر المالك ديناراً، والثاني خسره ديناراً أيضاً، وبعد أن صارت قيمة مال المالك ثمانية اشتركا بالسراية في إتلاف ماله الذي قيمته ثمانية دنانير، فعلى كل منهما دينار - بالمباشرة - وأربعة دنانير بالسراية... فإن الجناية في الماليات تعتبر بقدر الجنايات، لا الجناة بخلاف باب الديات: فالاعتبار بالجناة لا بالجنايات، كما فصلنا وجهه هناك، فإن باب الديات خرج عن القاعدة حسب الدليل، وإلا فالقاعدة ملاحظة الجنايات».

قاعدة (من أتلف مال الغير فهو له ضامن) فيضمن الأول ديناراً، ويضمن الثاني ديناراً، ثم الجنايتان سببتا تلف حيوان قيمته (8) فهما سبب تلف الحيوان، فيضمن كل واحد منهما نصف قيمة ال (8).لكن وردت في باب الديات روايات خاصة للتقسيم على غير هذه الطريقة، فكانت منشأ لفتوى الفقهاء في الموارد الأخرى، وهي: فيما لو جنى الأول على عبد الغير فنقصت قيمته ثم جنى الثاني عليه فسرت الجنايتان، ضمنا قيمة العبد لمالكه، بشرط أن لا يزيد على دية إنسان حر(1)، ويكون ضمانهما كالآتي: يضمن الثاني أقل من نصف قيمة العبد، والأول ضامن لأكثر من نصف القيمة.

لكنه قياس، فالنص خاص بباب الديات، وقد أخرج مورده عن القاعدة العامة، ولا معنى لسراية باب الديات إلى بقية موارد الضمانات المالية، إلا أن يقال باستفادة الملاك منه.

وأما الاحتمالات التي ذكرت في المقام، فهي:

الأول: فرض كون الأول مالكاً للحيوان فأورد النقص على ماله، أو صاده بما سبب نقصه فجنى عليه الثاني.

لكن هذا الفرض خارج عن المفروض.

الثاني: يضمنان النقص وكل القيمة، فيلزم دفع اثني عشر ديناراً.

وهو باطل؛ لاستلزامه ضمانهما أكثر مما أتلفاه، وحتى في باب الديات لو قطع يد إنسان فمات، فإن سبب قطع اليد موته لزمته دية واحدة؛ لكونها

ص: 121


1- أي: ألف دينار.

جناية واحدة مسرية، لكن لو قطع يده فلم يمت فقتله لزمته ديتان؛ لكونهما جنايتين قطعاً وقتلاً.وفيما نحن فيه: الجنايتان سرتا معاً إلى الحيوان فتلف، فلا معنى للقول بدفع الأرش والقيمة الكاملة، أي: اثني عشر ديناراً.

الثالث: أن يدفع الأول خمسة دنانير والثاني أربعة دنانير ونصف دينار؛ لأن الأول عيّب حيواناً سالماً، فصار جزء سبب لتلفه، فيلزمه نصف قيمته، والثاني جنى على الحيوان المعيوب الذي قيمته (9) فيضمن نصفه، أي: الأربعة والنصف.

لكنه ظلم للمالك، حيث تلف منه ما قيمته (10)، ولم يعوض إلا بالتسعة والنصف.

الرابع: أن يضمن الأول خمسة ونصفاً والثاني خمسة.

لكنه يستلزم أخذ المالك أكثر من حقه، بالإضافة إلى استلزامه ظلم الأول؛ لأنه جنى على نصف فكيف يعطي أكثر من جنايته؟

الخامس: أن يضمن كل واحد منهما خمسة دنانير.

لكنه ظلم للثاني؛ لأنه لم يجنِ على حيوان قيمته عشرة، وإنما جنى على حيوان قيمته تسعة، فكيف يضمن أكثر من جنايته؟

السادس: إلزام كل واحد منهما بنسبة قيمة العبد يوم جنى عليه، كما في الشرائع(1).

وتوضيحه: نضم قيمتي الصحيح والمعيب - أي: عشرة وتسعة - فيكون

ص: 122


1- شرائع الإسلام 4: 745.

المجموع تسعة عشر، فيبسط العشرة عليهما، فيضمن الأول عشرةأسهم من تسعة عشر من العشرة، والثاني تسعة أسهم من تسعة عشر من العشرة.

ولمزيد من التوضيح نفرض أن سعر الحيوان المجني عليه ألف دينار، فجنى عليه الأول فصار تسعمائة، ثم جنى عليه الثاني فصار ثمانمائة، ثم مات الحيوان بسبب الجنايتين معاً، فلو قسمنا الألف على تسعة عشر صار (52.63)، فيضرب في (10)، فيضمن الأول (526.3)، ويضمن الثاني (473.6) تقريباً.

والحاصل: إن الأول يدفع أقل من خمسة ونصف، والثاني أربعة وثلاثة أرباع تقريباً.

وأشكل عليه في الشرائع(1) أنه يستلزم إلزام الثاني بأكثر؛ لأنه جنى على حيوان قيمته تسعة دينار، فكيف يلزم بدفع أربعة وثلاثة أرباع، حيث يُلزم بدفع ربع أكثر من جنايته.

وقد تبين مما ذكرناه أن جميع الوجوه المذكورة محل إشكال، فلابد من المصير إلى أن التقسيم الوارد في باب الديات حالة استثنائية عن الأمور المادية، فلا يمكن قياسها بها، وأما في الماديات فبناء العقلاء على أن الأول أضره ديناراً، والثاني ديناراً، فيضمن كل واحد منهما ديناراً، ثم مات الحيوان الذي قيمته ثمانية بفعلهما فيقسم عليهما بالسوية، والنتيجة ضمان الخمسة على كل واحد منهما، هذا هو الجاري في الماليات عند العقلاء، ولم يردع عنه الشارع، فتأمل.

ص: 123


1- شرائع الإسلام 4: 745.
المسألة الخامسة: تحقق امتناع الحيوان بشيئين

لو تحقق امتناع الحيوان بشيئين(1) كالقبج، حيث يركض بسرعة ويطير، فأذهب أحد الصائدين امتناعه الأول، وأذهب الآخر امتناعه الثاني، فهنا فروع:

الفرع الأول: لو ضرباه معاً فأصاب أحد السهمين جناحه والثاني رجله، فذهب امتناعه بهما ملكاه معاً على نحو الشراكة، فكلاهما صائد.

الفرع الثاني: لو كسر الأول جناحه، فلم يذهب امتناعه، بل فرّ برجله لم يملكه؛ لعدم صدق (السبق)، فلو رماه الثاني وأصاب رجله كان هو الذي أذهب امتناعه فيملكه، كما اختاره المحقق والعلامة(2).

لكن الشيخ الطوسي في المبسوط شركهما معاً؛ لكون عدم تمكنه من الفرار بفعلهما معاً، قال: إذ سبب الملك حصل بفعلهما معاً(3).

وفي الفقه(4): إن المسألة تدور مدار صدق (السبق) و(الصيد)، فإن صدق عرفاً على أحدهما (الصائد) أو (السابق) كان هو المالك، وإن صدق عليهما

ص: 124


1- أما الغزال والطير فامتناعه بشيء واحد - وهو الركض أو الطيران - فلو كسرت رجله أو جناحه ذهب امتناعه.
2- شرائع الإسلام 4: 746؛ قواعد الأحكام 3: 317.
3- المبسوط 6: 263-364 و 272، وقال في غاية المرام في شرح شرائع الإسلام 4: 44، بعد أن نقل قول المحقق الحلي في الشرائع: «أقول: القولان نقلهما الشيخ في المبسوط، ثمَّ قوى الاشتراك؛ لأن سبب الملك الإثبات، وقد حصل بفعلهما؛ إذ فعل كل واحد لو انفرد لم يكن مثبتاً، فكان الملك لهما...».
4- الفقه 75: 312.

معاً اشتركا.

والأقرب في النظر ما ذهب إليه المحقق؛ لأنه وإن صح أن الأول رماهفكسر جناحه والآن لا يمكنه الفرار لاجتماع السببين، لكن عرفاً يصدق (السبق) و(الصيد) على الثاني، ويتضح ذلك بعكس المثال، كما لو رماه الأول فأصاب رجله فطار محلّقاً في الآفاق، فلا يصدق عليه (السبق) أو (الصيد)، فلو رماه الثاني وأصاب جناحه فسقط مَلَكَه؛ لصدقهما عليه.

الفرع الثالث: لو رماه نفران معاً فمات بفعلهما حلّ؛ لقتلهما له معاً، وقد قلنا: إنه لا إشكال في تعدد الصائد، وإنما الإشكال فيما لو رماه الأول ثم رماه الثاني فمات، فلو كان الموت بسبب الأول أو صيره الأول كالميت حلَّ، ولا أثر لرمي الثاني، وإن ذهب امتناعه فقط بفعل الأول، وكانت الوظيفة ذبحه فرماه الثاني فقتله حرم.

وإن تدرجا في رميه، ولم يعلم أنه من قبيل الأول ليحل أو الثاني ليحرم لم يحكم بحليته؛ لأصالة الحرمة، حيث لا يعلم تحقق الشرط، وكلما شك في تحقق الشرط فالأصل عدمه، وسيأتي بيان هذا الأصل.

نعم، يستثنى من ذلك صورة واحدة - كما ذكرها البعض كالشرائع(1) - وهي: فيما لو أصاب الثاني مذبحه وقطع أوداجه الأربعة، وتوفرت سائر شروط التذكية، ككون السهم من حديد فيحل، فإنه وإن لم يمت بالأول

ص: 125


1- شرائع الإسلام 4: 746، وفيه: «لو رمى الصيد اثنان فعقراه ثم وجد ميتاً، فإن صادف مذبحه فذبحه فهو حلال، وكذا إن أدركاه أو أحدهما فذكاه، فإن لم يدرك ذكاته ووجد ميتاً لم يحل؛ لاحتمال أن يكون الأول أثبته ولم يصيره في حكم المذبوح فقتله الآخر وهو غير ممتنع».

فقد تحققت التذكية بفعل الثاني.

ولو علم القاتل، بأن كان السهم الأول هو الذي أثبت الحيوان وأذهبامتناعه كان هو المالك، وما فعله الثاني مجرد تذكية، وأما لو لم يعلم، ولا علامة مميزة لسهم القاتل، فلابد من التمسك بقاعدة العدل والإنصاف دون القرعة لحكومة قاعدة العدل على قاعدة القرعة لرفع الإشكال بها، ولأنها أخص حيث تنحصر في الماليات فيشتركان في الصيد.

المسألة السادسة: رمي الصيد بتوهم أنه حرام اللحم

لو رمى صيداً بتوهم أنه حرام اللحم فتبين أنه حلال اللحم لم يحل، كما في الشرائع(1).

ووجهه في الجواهر(2): بأن الأدلة وإن كانت مطلقة لكنها منصرفة إلى ما لو قصد الصيد المحلل.

لكنه محل تأمل؛ فإن أدلة الصيد المتعددة مطلقة ولا انصراف.

ويؤيد عدم الانصراف موارد من الأشباه والنظائر، وليس المقصود منها القياس، وإنما لفهم عدم الانصراف، فكثيراً ما يُفهم معنى الدليل من ملاحظة الأشباه والنظائر؛ ولذا لو عرف الإنسان مذاق الشارع اختلف فهمه للروايات، على عكس مَن لا يعرف مذاقه، ومن هنا قال البعض: إن أحد ملاكات تشخيص الأعلم هو معرفة الأشباه والنظائر؛ وذلك لأنه يورث فهم الدليل أحسن، لا أنه يقيس المورد بالأشباه والنظائر.

ص: 126


1- شرائع الإسلام 4: 747.
2- جواهر الكلام 37: 326.

وفي المقام، من الأشباه والنظائر: ما لو ذكى حيواناً بكامل الشرائط متوهماً أنه حرام اللحم لكي ينتفع بجلده مثلاً، ثم تبين أنه حلال، حيث لميلتزم أحد بحرمته، وأي فرق بين الذباحة والصيد؟

ومنها: ما لو قصد صيد السمك المحرم فوقع السمك المحلل في شبكته حلّ؛ لأنه قصد الصيد وإن لم يقصد المحلل منه.

ومنها: ما لو رأى قطيعاً فقصد معيناً منه فرماه فأصاب غيره حلّ، مع أنه لم يصب المقصود، بل حتى لو لم يقصد أحداً بعينه، وإنما رمى عشوائياً بقصد أن يصيب أحدها غير المعين.

والحاصل: عدم اشتراط قصد المعين في الحلية.

ومع ملاحظة هذه موارد يظهر عدم الانصراف في دليل الصيد إلى قصد المحلل.

المسألة السابعة: عدم توقف الحلية على قصد التملك

لا يشترط في الحلية قصد التملك، فلو صاد لإشباع فقير مثلاً ولم يقصد تملكه حلَّ، ولم يملكه. واستدل على عدم تملكه بدليلين:

الدليل الأول: قاعدة(1): (الناس مسلطون على أموالهم)، فمقتضى السلطة على المال أن الخروج عن الملك كالدخول فيه بحاجة إلى القصد والإرادة، ويستثنى من ذلك الموارد التي دل الدليل على الملكية أو زوالها قهراً كالإرث، ومن هنا نشأ الخلاف في الإبراء، حيث قال جمع من الفقهاء(2)،

ص: 127


1- الفقه 75: 322.
2- المبسوط 3: 314؛ غنية النزوع: 301؛ السرائر 3: 176.

منهم السيد الوالد في مجلس درسه: إنه عقد يلزم فيه القبول، خلافاًلآخرين حيث التزموا بكونه إيقاعاً(1)، واستدل للأول بعدم جواز التصرف في ذمة الغير بالإبراء، فهو تسلط على ذمته من دون إرادته. كذلك المقام فإن الدخول والخروج من الملك لابد وأن يتناسب مع سلطنته على ماله ونفسه، فتدل القاعدة على لزوم قصد الملك في تملك الصيد.

اللهم إلا أن يقال بالعموم من وجه بين أدلة الملكية بالصيد والسلطنة، ففي محل الاجتماع يتعارضان، فإن أدلة الصيد تحكم بملكيته، بينما أدلة السلطنة تنفي عنه الملكية فيما لو لم يرد التملك، ومع التساقط يكون المرجع استصحاب عدم الملك.

لكن يمكن القول: إن النسبة بينهما عموم مطلق، فإن أدلة تملك الصيد أخص من أدلة السلطنة فتتقدم عليها.

الدليل الثاني(2): ما ورد من ملكية المشتري للؤلؤة في جوف السمكة دون البائع، فإنه وإن اختلف المقامان إلا أنه يستفاد منه الملاك، فإن عدم ملكية البائع إنما هو بسبب عدم قصده التملك، وهو جارٍ في المقام.

لكن أفتى بعض الفقهاء(3) بوجوب إرجاعها إلى البائع؛ لكونه المالك وإن لم يقصد التملك، فإن لم يعرف البائع كان من المجهول المالك.

ص: 128


1- مفاتيح الشرائع 3: 161، وفيه: «وفي اشتراط القبول فيه قولان: أظهرهما وعليه الأكثر العدم؛ للأصل، ولأنه إسقاط لا نقل شيء إلى الملك...».
2- الفقه 75: 322.
3- المراسم العلوية: 209؛ السرائر 3: 147؛ مختلف الشيعة 6: 94.
خاتمة: وفيها فروع
اشارة

نتطرق في هذه الخاتمة إلى بعض الفروع التي وردت فيها روايات بالخصوص.

الفرع الأول: لو لم يقدر على التسمية

لو لم يقدر على التسمية كالأخرس، فهل يسقط الشرط أم له بديل، أم يحرم صيده؟

استدل(1) على كفاية الإشارة بدليلين عامين يشملان المقام:

الدليل الأول: قاعدة الميسور(2)، فلو لم يمكنه أداء التكليف بكامل شرائطه وأجزائه فهل يسقط التكليف رأساً، أم يجب عليه أداء الميسور منه؟ كمن لا يستطيع الركوع في الصلاة حيث يسقط عنه الركوع لا الصلاة.

فلو تمت القاعدة في غير التكليف الواجب أيضاً، أي الأمور الوضعية - لأن أدلتها مطلقة - كان المقام صغرى لها، فإن التسمية شرط الحلية، وهو أمر وضعي، والواجب أداء التسمية باللفظ، وحيث إنه غير ميسور كانت التسمية بالإشارة ميسورها.

ص: 129


1- الفقه 75: 326.
2- الجامع للشرائع: 79؛ كشف الرموز 1: 349؛ تحرير الأحكام 1: 637، وفيه: «والأخرس وإن لم ينطق لكن يجب تحريك لسانه بالتسمية». وتذكرة الأحكام 7: 251، وفيه: «والأخرس يشير إلى التلبية بإصبعه وتحريك لسانه وعقد قلبه بها، لقول علي(علیه السلام): تلبية الأخرس وتشهده وقراءته القران في الصلاة تحريك لسانه وإشارته بإصبعه». وقال الشهيد في الذكرى 3: 313: «قراءة الأخرس تحريك لسانه بها مهما أمكن، ويعقد قلبه بمعناها؛ لأن: الميسور لا يسقط بالمعسور، وروى الكليني عن السكوني، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال: تلبية الأخرس وتشهده، وقراءته للقرآن في الصلاة تحريك لسانه وإشارته بإصبعه. وهذا يدل على اعتبار الإشارة بالإصبع في القراءة كما مر في التكبير».

والحاصل: إن إشارة الأخرس هي ميسور كلامه، وهذه الصغرى، والكبرى تمامية قاعدة الميسور وشمولها للأحكام الوضعية، والنتيجة حليةصيد الأخرس وذبيحته فيما إذا سمّى بالإشارة.

الدليل الثاني(1): كفاية طلاق الأخرس بالإشارة(2)، مع أنه حكم وضعي لا تكليفي والمناط واحد؛ لأن الشارع جعل إشارته مكان لفظه، فإن تم المناط جرى في الصيد والذباحة.

الفرع الثاني: في بيان حكم الصيد المجهول

لو وجد صيداً فيه سهم وعلم أنه صاده شخص مجهول(3)، فلإثبات حليته لابد من إحراز أمرين: الأول أن يكون موته مستنداً إلى السهم، والثاني: أن يكون الرامي مسلماً راعى شرائط الرمي.

وقد يمكن إحراز الأمر الأول بالرؤية مثلاً، كما لو شاهد سقوط الحمام بإصابة السهم له، وأما الثاني فحيث لا نص بالخصوص عليه أمكن إجراء مناط أدلة حلية الطعام في بلاد المسلمين(4)، كما في رواية أمير المؤمنين(علیه السلام): فيمن وجد سفرة في الطريق كثير لحمها وفيها سكين(5)، لكنه في دلالتها إشكال يراجع في مظانه(6).

ص: 130


1- الفقه 75: 326.
2- شرائع الإسلام 3: 583؛ مختلف الشيعة 7: 374.
3- الفقه 75: 326.
4- الفقه 75: 326.
5- الكافي 6: 297؛ وسائل الشيعة 24: 90.
6- الرسائل الفقهية 1: 283؛ مستند الشيعة 1: 355.

وهنالك قول بالحرمة(1) حتى مع إحراز الشرطين المذكورين؛ وذلكلصحيحة محمد بن قيس(2)،

عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(علیه السلام) في صيد وجد فيه سهم وهو ميت لا يدري من قتله، قال: لا تطعمه»(3)، وسنده صحيح على الظاهر لأن محمد بن قيس وإن كان مشتركاً بين الثقة والضعيف إلاّ أن الراوي عنه إن كان عاصم بن حميد فهو محمد بن قيس البجلي الثقة، وقد حمل على عدم علمه باستناد الموت إلى السهم(4)، لكن ظاهرها الإطلاق وعلى كل حال فالاحتياط أولى.

الفرع الثالث: لو دخل السهم من طرف وخرج من آخر

لو رمى الصيد فدخل السهم من طرف وخرج من الطرف الآخر لقوته أو لضعف الحيوان حلَّ(5)، حيث لا يشترط ثبوت السهم فيه. ففي موثقة سماعة بن مهران(6)

قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الرجل يرمي الصيد وهو علي الجبل فيخرقه السهم حتى يخرج من الجانب الآخر، قال: كله»(7).

ص: 131


1- الفقه 75: 326.
2- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن محمد بن قيس... .
3- الكافي 6: 211؛ وسائل الشيعة 23: 368.
4- الفقه 75: 326.
5- الفقه 75: 326.
6- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن سماعة... .
7- الكافي 6: 211؛ وسائل الشيعة 23: 369.
الفرع الرابع: حكم الصيد مع الإكراه

لو أجبر على الصيد فصاد مكرهاً مع توفر الشرائط حلَّ(1)، ودليل رفع الإكراه - بأن يقال: إن صيده كالعدم لرفع ما استكرهوا عليه - لا يشمل المقام؛لأنه دليل امتناني وحرمة الصيد خلاف الامتنان، فالإكراه يرفع الحكم التكليفي والوضعي بشرط مطابقته للامتنان، فلو كان بقاء الحكم خلاف الامتنان رفع، كما لو طلق زوجته مكرهاً.

الفرع الخامس: حكم الدم المتبقي في الصيد

الدم المتبقي في الصيد بعد خروج المتعارف منه طاهر، وأما لو أصاب السهم رجله وخرج منه دم قليل لم يطهر الباقي؛ وذلك لإطلاقات أدلة نجاسة الدم المخصص بالدم المتبقي بعد خروج المتعارف منه، كما هو الحال في الذبيحة.

اللهم إلاّ أن يقال بالإطلاق المقامي على الطهارة، لأنه كان من المتعارف طبخ الصيد وأكله من غير غسل، وغالباً لم يكن يخرج الدم بالمقدار المتعارف حيث إن خروجه كذلك فيما لو أصاب السهم أو العض العروق الأصلية كالوريد وهذا لا يتحقق في الصيد غالباً، فتأمل.

الأصل العملي عند الشك في شرائط الصيد

ومع عدم قيام الدليل على اشتراط البلوغ مثلاً في الحلية، فهل الأصل العملي يقتضي الحلية أو الحرمة فيما لو فقد الشرط المشكوك، كما لو قام الصبي بالذبح أو الصيد.

ص: 132


1- مسالك الأفهام 11: 467.

ثم إنه لا يخفى أن هنالك أصول يستند الفقهاء إليها، وتختلف النتيجة باختلافها، لكن المختار جريان البراءة عن كل قيد أو شرط مشكوك.

وأما الأصول فهي:الأصل الأول: أصالة عدم التذكية(1)، فكل شرط مشكوك يلزم الإتيان به، وإلا استصحب عدم التذكية فيكون محرماً، لكن في جريان الأصل المذكور إشكالان:

الأول: إنه أصل مسببي، ومع جريان الأصل في السبب لا تصل النوبة إليه، كما لو لاقت يده الماء المشكوك طهارته المتنجس سابقاً، حيث لا يجري أصل الطهارة؛ لأن الشك في نجاسة اليد نابع عن الشك في طهارة الماء، وحيث يحكم بنجاسة الماء بالاستصحاب لا يبقى موضوع للشك في طهارة اليد.

كذلك المقام، فإن الشك في التذكية واستصحاب عدمها نابع عن الشك في اشتراط البلوغ، فلو نفي اشتراطه لم يبقَ مجال لاستصحاب عدم التذكية؛ لعدم تحقق الشك، بل المتحقق العلم بحصولها، فأصالة عدم التذكية أصل مسببي، ومع جريان الأصل السببي ينتفي موضوع الأصل المسببي.

ص: 133


1- مستند الشيعة 15: 275، وفيه: «التذكية أمر شرعي يتوقف ثبوتها - وكون فعل تذكية موجبة للحلية - على دليل شرعي، فكل عمل شك في أنه هل هو تذكية أم لا يحكم بالعدم حتى يثبت. والحاصل: إن الأصل في كل عمل عدم كونه تذكية شرعية، وهذا أحد معنيي أصالة عدم التذكية. والدليل عليه - بعد الإجماع المعلوم قطعاً - استصحاب الحرمة الثابتة للمحل حتى يعلم المزيل، ولا يعلم إلا إذا علم كونه تذكية بالدليل». وشرح العروة الوثقى 2: 409؛ المسائل المستحدثة: 132.

الإشكال الثاني: إنه أصل مثبت، فإن استصحاب عدم التذكية لا يثبت الحرمة والنجاسة؛ لأنهما متفرعان على عنوان (الميتة)، وهذا العنوان لازم عقلي لاستصحاب عدم التذكية.لكن المحقق الخراساني في الكفاية(1) يرى أن الواسطة خفية، فلا يكون مثبتاً.

ومن هنا قال المشهور بنجاسة الجلود المستوردة، وإن ذهب جمع من الفقهاء إلى طهارتها؛ لأن الأصل المثبت ليس بحجة، فلا يمكن إثبات النجاسة بالاستصحاب، فلا مانع من جريان أصالة الطهارة، والصحيح ما ذهب إليه الآخوند، لكن لا يضر ذلك بالمقام لتمامية الإشكال الأول.

الأصل الثاني: استصحاب الحرمة، حيث إنه كان حراماً حال حياته، فتستصحب الحرمة بعد موته.

ويظهر الإشكال عليه مما سبق؛ لأن الأصل مسببي، فإن الشك في الحرمة نابع عن الشك في اشتراط البلوغ، ومع رفع الاشتراط بأصالة البراءة لا يبقى شك في الحرمة حتى يستصحب، بل القطع التعبدي دال على الحلية.

الأصل الثالث: أصالة البراءة عن اعتبار ما شك في اعتباره.

وقد بين المراد من ذلك(2) باحتمالات ثلاثة:

الاحتمال الأول: إجراء البراءة بعد الإتيان بجميع الشرائط المعلومة والمشكوكة، لكن لا معنى له؛ لأن سببية المجموع المؤدية إلى حصول

ص: 134


1- كفاية الأصول: 419.
2- فقه الصادق 36: 32.

النتيجة متحققة قطعاً، فلا شك حتى يجري أصل البراءة، قال في فقه الصادق: «إذ سببية المجموع من المعلوم والمشكوك وترتب الحلية والطهارة معلومة لامعنى لأن ترفع بأدلة البراءة»(1).

وفيه تأمل؛ لأن سببية المجموع غير معلومة، فهل السبب المجموع أو بعضه؟ إذ المعلوم هو الإتيان بالسبب وتحقق النتيجة، إلا أن سببية المجموع ليس معلوماً، فهل هو كل المجموع أو بعضه؟ فالقول: إن سببية المجموع معلومة غير تام، إلا أن يقصد بذلك لغوية إجراء الأصل.

الاحتمال الثاني: رفع شرطية ما شك في اعتباره بأصل البراءة.

لكن الشرطية منتزعة من اشتراط الشارع لها، فلا تجري البراءة فيها لتقدم السبب على المسبب؛ ولذا لا تجري البراءة في السببية والمانعية والقاطعية، فلابد من البحث في منشأ انتزاعها، وهو اعتباره شرطاً أو سبباً أو قاطعاً أو مانعاً.

وفيه إشكالان:

الأول: الأصح أن الأصل يرفع الشرط؛ لأنه من قبيل الأقل والأكثر الارتباطيين. نعم، لو كان المبنى في الأصول عدم ذلك تمّ ما ذكره.

الثاني: إنما لا يجري الأصل في المسبب بشرط أن يجري في السبب؛ لأن جريان الأصل فيه ينفي موضوعه، وأما لو لم يجرِ الأصل في السبب لتعارض الأصلين مثلاً، وصلت النوبة إلى المسبب فيجرى الأصل فيه.

اللهم إلا أن يقال بجريان أصل آخر غير البراءة في السبب،

ص: 135


1- فقه الصادق 36: 32.

كالاستصحاب مثلاً، ومعه لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في المسبب، وهو البراءة عن الشرطية والجزئية.الاحتمال الثالث: أن يكون المراد إثبات سببية الفاقد، فالذبح الصادر من غير البالغ محقق للتذكية.

لكنه محل تأمل؛ لأن أصل البراءة رافع للحكم لا مثبت له، وليس المقصود إثبات سببية الفاقد وإنما عدم مدخلية الشرط المشكوك.

الأصل الرابع: أصالة الحلية(1).

لكن جريانها موقوف على عدم جريان أصالة البراءة، ومعه لا مجال له(2).

والمتحصل من جميع ما ذكر: صحة جريان البراءة عن الشرط الزائد، وما ذكر من الإشكالات غير وارد، فكل شرط مشكوك يمكن نفيه بالأصل، فتحل الذبيحة مع عدم الالتزام بالشرط المشكوك.

ص: 136


1- فقه الصادق 36: 31-32.
2- لكن يمكن القول بجريانهما معاً، بناءً على صحة جريان الأصول الطولية فيما إذا كانت متوافقة. (المقرر).

الفصل الرابع: في مباحث الذباحة

اشارة

يقع الكلام في الذباحة، وفيه ثلاثة بحوث: في الذابح وآلة الذبح وكيفية الذبح.

البحث الأول: في الذابح وشرائطه
اشارة

يقع الكلام في شرائط الذابح، وهي:

الشرط الأول: الإسلام
اشارة

فلا تحل ذبيحة الكافر بجميع أقسامه، سواء كان مشركاً كأهل الكتاب، أم منكراً لله، وكذا الحكم بالنسبة إلى المتظاهر بالإسلام كالغلاة. نعم، لو كان الكافر غير كتابي كان الحكم محل إجماع من المسلمين قاطبة(1).

الأقوال في ذبيحة الكافر الكتابي

أما ذبيحة الكافر الكتابي ففيها ثلاثة أقوال:

القول الأول: حرمة ذبيحته

وهو المشهور شهرة عظيمة كاد أن يكون إجماعاً، وقد عبر عنه الشيخ الطوسي والسيد المرتضى أنه من منفردات الإمامية(2)، وقال في المسالك:«بل

ص: 137


1- المقنعة: 579؛ مختلف الشيعة 8: 295؛ مسالك الأفهام 11: 451؛ مستند الشيعة 15: 378.
2- الانتصار: 403؛ الخلاف 6: 23-24.

كاد أن يعد هو المذهب»(1)، أي: على أن ذبيحة الكتابي حرام.

القول الثاني: الحلية مطلقاً

وهو ما نسب إلى ابن أبي عقيل وابن الجنيد، على ما نسبه لهم العلامة في المختلف، حيث قال: «وقال ابن أبي عقيل: ولا بأس بصيد اليهود والنصارى وذبائحهم، ولا يؤكل صيد المجوس وذبائحهم. وقال ابن الجنيد: ولو تجنب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي آنيتهم، وكذلك ما صنع في أواني مستحل الميتة ومواكيلهم ما لم يتيقن طهارة أوانيهم وأيديهم كان أحوط. وهذه العبارة لا تُعطي التحريم»(2).

القول الثالث: التفصيل بين سماع التسمية منه فيحل وإلا فلا

وهو ما ذهب إليه الصدوق، حيث قال: «ولا تأكل ذبيحة اليهودي والنّصرانيّ والمجوسيّ إلاّ إذا سمعتهم يذكرون اسم اللّه عليها، فإذا ذكروا اسم اللّه فلا بأس بأكلها، فانّ اللّه يقول: {وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ}، ويقول: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كُنتُم بَِٔايَٰتِهِۦ مُؤۡمِنِينَ}»(3).

وسيأتي أن مرجع القول الثالث إلى القول الثاني؛ للزوم إحراز الشرائط ومنها التسمية.

ومنشأ الأقوال الثلاثة الروايات المتعددة.

ص: 138


1- مسالك الأفهام 11: 465.
2- مختلف الشيعة 8: 296.
3- المقنع: 417.

وقد قال في الجواهر أن هنالك اثنتي عشرة طائفة من الروايات(1)،وأضاف في الفقه ثلاثة طوائف(2)، ولكل طائفة مدلولها، وفيها الصحيح والموثق، فلابد من ملاحظة كيفية الجمع بينها إن أمكن، وإلا وصلت النوبة إلى الترجيح السندي، وقد حمل المشهور الروايات الدالة على الحلية على التقية لكونها موافقة للعامة(3).

وقد استدل القائل بالحلية(4) بقوله تعالى: {وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ}(5)، حيث إنه مطلق يشمل اللحوم، بالإضافة إلى روايات الحلية.

لكنه محل نظر؛ لورود الروايات الصحيحة بأن المراد من الطعام في الآية الحنطة والشعير(6)، والمتعارف عند العرب إلى الآن إطلاق الطعام على الحنطة، هذا أولاً، وثانياً: الإعراض عن الروايات الصحيحة الدالة على الحلية، فحتى لو لم تحمل على التقية لم يمكن التمسك بها لإعراض المشهور عنها، والعمل بمقتضى الروايات الدالة على الحرمة بالإضافة إلى اعتبار بعضها(7).

ص: 139


1- جواهر الكلام 37: 116-124.
2- الفقه 75: 342.
3- مستند الشيعة 15: 385؛ جواهر الكلام 37: 125.
4- مستند الشيعة 15: 382، وفيه: «وحجة الثاني: أصل الإباحة، وعموم قوله سبحانه: {وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ}».
5- سورة المائدة، الآية: 5.
6- راجع وسائل الشيعة 24: 203-206.
7- مستند الشيعة 15: 385.
الطوائف الخمس عشرة الواردة في ذبائح أهل الكتاب

ونكتفي بذكر رواية واحدة من كل طائفة، وعند التأمل يتضح أن مرجعها جميعاً إلى طائفتين، مضافاً إلى أن بعض الروايات خارجة عنهما لجهة سنبينها، ولا يخفى أن ما ذكره صاحب الجواهر من التفصيل إنما هو تفصيل فيمضمون الرواية لا في الحكم الشرعي.

الطائفة الأولى: ما دل على عدم الجواز مطلقاً

ومنها: موثقة سماعة(1)،

عن أبي إبراهيم(علیه السلام)، قال: «سألته عن ذبيحة اليهودي والنصراني، قال: لا تقربنها»(2).

الطائفة الثانية: ما دل على الحلية مطلقاً

ومنها: صحيحة الحلبي(3):

«سأل الصادق(علیه السلام) عن ذبيحة أهل الكتاب ونسائهم، قال(علیه السلام): لا بأس»(4).

وبقية الطوائف لدى الدقة تعود إلى هاتين الطائفتين.

الطائفة الثالثة: التفصيل بين سماع التسمية وعدمها

ومنها: خبر عامر بن علي، قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): «إنا نأكل ذبائح أهل الكتاب ولا ندري يسمون عليها أم لا يسمون، قال(علیه السلام): إذا سمعتم قد

ص: 140


1- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبي المغرا، عن سماعة... .
2- الاستبصار 4: 81؛ تهذيب الأحكام 9: 63؛ وسائل الشيعة 24: 55.
3- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن الحسن، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن الحلبي... .
4- الاستبصار 4: 85؛ تهذيب الأحكام 9: 68؛ وسائل الشيعة 24: 62.

سمّوا فكلوا»(1).

وهذه الطائفة تعود إلى الحكم بالحلية إن توفرت سائر الشرائط، فإن التسمية شرط آخر، حيث يحمل فعل المسلم على الصحة بخلاف أهل الكتاب، فلابد من اليقين بحصول التسمية، أو قيام الدليل الشرعي على ذلك، فليس التفصيل المذكورتفصيلاً، بل حكم بالحلية بشرط تحقق سائر الشروط.

لكن بعض الفقهاء بيّن علة التفصيل، أن الإمام(علیه السلام) كان في ظرف التقية(2) ولا يمكنه بيان الحكم الشرعي، فاشترط ما نتيجته الحرمة، حيث لا يمكن عادة سماع التسمية من القصاب إلا نادراً.

الطائفة الرابعة: التفصيل بين ما لو سمع أو أخبره المسلم بالتسمية وبين عدمهما

ومنها: صحيحة حريز، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، وزرارة عن أبي جعفر(علیه السلام)(3) أنهما قالا: «في ذبائح أهل الكتاب فإذا شهدتموهم وقد سموا اسم الله فكلوا ذبائحهم، وإن لم تشهدهم فلا تأكل، وإن أتاك رجل مسلم فأخبرك أنهم سموا فكل»(4). ومرجعها إلى الطائفة الثالثة التي مرجعها إلى الحلية مطلقاً.

الطائفة الخامسة: الحلية سواء سمع التسمية أو لا

حلية ذبائحهم سواء سمع التسمية أم لا، إلا مع الحضور وقت التذكية والعلم بعدمها.

ص: 141


1- بصائر الدرجات: 353؛ وسائل الشيعة 24: 65.
2- تهذيب الأحكام 9: 70.
3- الشيخ الطوسي بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز... .
4- الاستبصار 4: 86؛ تهذيب الأحكام 9: 69؛ وسائل الشيعة 24: 63.

ومنها: صحيحة جميل ومحمد بن حمران(1): «أنهما سألا أبا عبد الله(علیه السلام)عن ذبائح اليهود والنصارى والمجوس، فقال: كل، فقال بعضهم: إنهم لا يسمون، فقال: فإن حضرتموهم فلم يسموا فلا تأكلوا، وقال: إذا غاب فكل»(2).

ومرجعها إلى التحليل المطلق، حيث تحل الذبيحة إلا إذا فُقد شرط آخر، فحالها حال ذبيحة المسلم.

والفرق بينها وبين الطائفة الثالثة والرابعة في اشتراط إحراز التسمية فيهما، وكفاية عدم العلم فيها.

الطائفة السادسة: حلية ذبائحهم حتى لو ذكروا اسم المسيح

فلو سمى باسم المسيح بدل اسم الله حلّ؛ وذلك لأن المراد منه الله.

ومنها: خبر عبد الملك بن عمرو، قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): «ما تقول في ذبائح النصارى؟ فقال: لا بأس بها، قلت: فإنه يذكرون عليها اسم المسيح، فقال: إنما أرادوا بالمسيح الله»(3).

لكنه معارض بموثقة حنان بن سدير(4) التي تحكم بالحرمة، حيث قال: «دخلنا على أبي عبد الله(علیه السلام) أنا وأبي فقلنا له: جعلنا الله فداك، إن لنا خلطاء من النصارى، وإنا نأتيهم فيذبحون لنا الدجاج والفراخ والجداء(5) أفنأكلها؟

ص: 142


1- الشيخ الطوسي بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل... .
2- الاستبصار 4: 85؛ تهذيب الأحكام 9: 68؛ وسائل الشيعة 24: 62.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 331؛ الاستبصار 4: 85؛ وسائل الشيعة 24: 62.
4- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حنان... .
5- الجدي من أولاد المعز ذكرها، الجمع أجد وجداء وجديان بكسرها.

قال: فقال: لا تأكلوها ولا تقربوها فإنهم يقولون على ذبائحهم ما لاأحب لكم أكلها، قال: فلما قدمنا الكوفة دعانا بعضهم فأبينا أن نذهب فقال: ما بالكم كنتم تأتونا ثم تركتموه اليوم؟ قال: فقلنا: إن عالماً لنا نهانا وزعم أنكم تقولون على ذبائحكم شيئاً لا يحب لنا أكلها، فقال: من هذا العالم؟ هذا والله أعلم الناس وأعلم من خلق الله، صدق والله إنا لنقول: بسم المسيح(علیه السلام)»(1).

وبغض النظر عن مقصودهم في التسمية، أو أن النصارى أقسام، فمنهم من يقصد الله، ومنهم من يقصد غيره، فإن الروايتين تدلان على حلية ذبيحة النصارى، فإن العلة من النهي عن الأكل ليس لكونهم نصارى، وإنما لأنهم (يقولون على ذبائحهم ما لا أحب لكم أكلها)، ومعنى ذلك أنه لو ذكروا اسم الله حلّت الذبيحة.

والحاصل: إن مرجع هذه الطائفة إلى الحلية مطلقاً، لكن الكلام في كيفية التسمية.

الطائفة السابعة: النهي عن أكلها لأن الاسم لا يؤمن عليه إلا المسلم

ومنها: صحيحة قتيبة الأعشى(2)

قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن ذبائح اليهود والنصارى، فقال: الذبيحة اسم، ولا يؤمن على الاسم إلا مسلم»(3).

ومفهومه الحل مع العلم، فمرجعها إلى الحلية مطلقاً من جهة الإسلام والكفر. نعم، يلزم إحراز التسمية، فالرواية بيان لأهم شرط في الحلية المذكور

ص: 143


1- الكافي 6: 241؛ الاستبصار 4: 82؛ وسائل الشيعة 24: 53.
2- الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن قتيبة الأعشى... .
3- الكافي 6: 240؛ الاستبصار 4: 81؛ وسائل الشيعة 24: 48.

فيالقرآن دون غيره، مثل: (الحج عرفة)(1)، أي: أهم جزء في الحج.

الطائفة الثامنة: جعل المدار على ذكر الله وعدمه

كخبر علي بن جعفر، عن موسى بن جعفر(علیه السلام): «سألته عن ذبيحة اليهودي والنصراني هل تحل؟ فقال: كلْ ما ذكر اسم الله عليه»(2)، فالمدار التسمية لا دين الذابح.

الطائفة التاسعة: التفصيل بين اليهود والنصارى وبين المجوس

لأن المجوس ليسوا من أهل الكتاب على الخلاف المذكور في محله.

ومنها: مرسلة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله(علیه السلام) في قول الله: «{فَكُلُواْ

مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ}، قال: أما المجوس فلا، فليسوا من أهل الكتاب، وأما اليهود والنصارى فلا بأس إذا سمّوا»(3).

ومرجعها إلى الحلية مطلقاً، لكن الإشكال في المصداق، وأن المجوسي ليس من أهل الكتاب.

الطائفة العاشرة: النهي عن ذبيحة المجوس ونصارى تغلب

ومنها: خبر أبي بصير قال: قال لي أبو عبد الله(علیه السلام): «لا تأكل من ذبيحة المجوسي، قال: وقال: لا تأكل ذبيحة نصارى تغلب فإنهم مشركو العرب»(4).

ص: 144


1- مستدرك الوسائل 10: 34 ، وفيه: عن النبي(صلی الله علیه و آله) أنه قال: «الحج عرفة».
2- قرب الإسناد: 117؛ وسائل الشيعة 24: 56.
3- وسائل الشيعة 24: 57.
4- الاستبصار 4: 82؛ تهذيب الأحكام 9: 65؛ وسائل الشيعة 24: 58.
الطائفة الحادية عشرة: الروايات الناهية عن ذبيحة نصارى العرب

ومنها: صحيحة محمد بن قيس(1)، عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(علیه السلام): لا تأكلوا ذبيحة نصارى العرب فإنهم ليسوا أهل الكتاب»(2).

ومرجعها إلى الطائفة الأولى، حيث لا خصوصية لنصارى العرب، ولعلّ الإمام(علیه السلام) خصَّهم بالذكر لكونهم مصب السؤال، فكان الجواب حسب السؤال، فخصوصية المورد لا تخصص الوارد، كما أن التعليل لا يخصهم فقط فجميع النصارى مشركون.

الطائفة الثانية عشرة: ما ورد من النهي عن ذبحهم للأضحية

ومنها: صحيحة أبي بصير(3)

قال: «سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) يقول: لا يذبح أضحيتك يهودي ولا نصراني ولا المجوسي...»(4).

ولا خصوصية للأضحية، بل لعلّه جواب عن سؤال السائل، فتدل على الحرمة مطلقاً.

الطائفة الثالثة عشرة: ما دل على أكل النبي(صلی الله علیه و آله) ذبيحة اليهودية

وهي الروايات الدالة على تناول النبي(صلی الله علیه و آله) الذراع المسموم الذي أعطته

ص: 145


1- الشيخ الطوسي بأسناده عن الحسين بن سعيد، عن يوسف بن عقيل، عن محمد بن قيس... وهو البجلي الثقة كما مرّ.
2- الاستبصار 4: 83؛ تهذيب الأحكام 9: 66؛ وسائل الشيعة 24: 59.
3- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير المرادي... .
4- الاستبصار 4: 82؛ تهذيب الأحكام 9: 64؛ وسائل الشيعة 24: 58.

اليهودية يوم فتح خيبر، فمنها: خبر عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «سمّت اليهودية النبي(صلی الله علیه و آله) في ذراع، قال: وكان رسول الله(صلی الله علیه و آله) يحب الذراع والكتف ويكره الورك لقربها من المبال، قال: لما أوتى بالشواء أكل من الذراع وكان يحبها فأكل ما شاء الله، ثم قال الذراع: يا رسول الله(صلی الله علیه و آله) إني مسموم فتركه، وما ذاك ينتقض به سمّه حتى مات(صلی الله علیه و آله)»(1).

لكن في الاستدلال بها إشكال من جهات:

أولاً: لا اعتبار بسندها، لجهالة جعفر بن محمد الراوي عن عبد الله بن ميمون.

ثانياً: لا جهة للفعل، فالفعل يدل على أصل الجواز لكن لا يدل على جهته، فلو رأينا النبي(صلی الله علیه و آله) يشاهد امرأة فهل يجوز النظر إليها؟ كلا، فربما كانت زوجته، ففعله(صلی الله علیه و آله) يدل على أصل جواز نظر الرجل في الجملة إلى المرأة في الجملة، وكذا المقام، فإن النبي(صلی الله علیه و آله) أكل من اللحم فهل يدل ذلك على جواز أكل ذبيحة اليهودي؟ فربما كان الذابح مسلماً، ولا إطلاق للرواية حتى يتمسك بالجواز، سواء كان الذابح مسلماً أم غير مسلم، وعليه فمجرد تناول اللحم من يد يهودي لا يدل على حلية ذبائح أهل الكتاب.

الطائفة الرابعة عشرة: ما دل على جواز الأكل وقت الضرورة

منها: صحيحة عن زكريا بن آدم(2)،

قال: قال لي أبو الحسن(علیه السلام): «إني

ص: 146


1- بصائر الدرجات: 523.
2- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن أحمد بن حمزة، عن زكريا بن آدم... .

أنهاك عن ذبيحة كل من كان على خلاف الذي أنت عليه وأصحابك، إلا في وقت الضرورة إليه»(1).

ومرجعه إلى التحريم مطلقاً؛ لأن الميتة أيضاً تحل في الضرورة.

الطائفة الخامسة عشرة: الحلية فيما لو كان الذابح على دين موسى وعيسى حقيقة

ومنها: خبر عن معاوية بن وهب قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن ذبائح أهل الكتاب، فقال: لا بأس إذا ذكروا اسم الله عز وجل، ولكني أعني منهم من يكون على أمر موسى وعيسى‘»(2).

ومرجعه إلى التحريم مطلقاً؛ لأن اليهود والنصارى اليوم ليسوا على دينهم حقيقة، والذي على أمر موسى وعيسى‘ حقيقة هو المسلم، وربما كان الإمام(علیه السلام) في تقية لم يمكنه بيان الحرمة فقال ما نتيجته الحرمة(3).

والحاصل: إن مرجع الطوائف الخمس عشرة إنما هو إلى الحلية أو الحرمة، وقد قام شبه الإجماع على الطائفة الأولى، وعليه عمل المشهور قديماًوحديثاً فلا مناص عنها، وأما الطائفة الثانية فإن لم تحمل على التقية فلابد من ردّ علمها إلى أهلها.

عدم اشتراط الإيمان

بعد إثبات اشتراط الإسلام في الذابح، فهل الإيمان بالمعنى الأخص -

ص: 147


1- الاستبصار 4: 86؛ تهذيب الأحكام 9: 70؛ وسائل الشيعة 24: 67.
2- الكافي 6: 241؛ وسائل الشيعة 24: 55.
3- وسائل الشيعة 24: 55، وفيه: «أقول: هذا محمول على الإتيان بالتسمية الصحيحة، وهي لا تجامع الشرك; لما مرّ، على أنه قد ورد في عدة أخبار أنهم كلهم الآن قد خالفوا أمر موسى وعيسى‘، مع أنه يحتمل التقية والضرورة وغير ذلك».

أي: كونه إمامياً اثنا عشرياً - شرط؟ ومع عدم الاشتراط فهل تحل ذبيحة الفرق الإسلامية المحكومة بالكفر المدعية للإسلام كالغلاة والنواصب؟

قال في الشرائع: «ولا يشترط الإيمان، وفيه قول بعيد باشتراطه»(1).

وقال في الفقه: «لايشترط في الذابح بعد الإسلام إلا أن لا يكون من الفرق المحكوم بكفرها على المشهور شهرة عظيمة»(2).

وفي هذه المسألة ستة أقوال:

الأول: الشرط هو الإسلام غير المحكوم بالكفر، كما عليه المشهور(3).

الثاني: حلية ذبيحة جميع الفرق حتى النواصب، وقد مال إليه في المسالك(4).

الثالث: اشتراط الإيمان بالمعنى الأخص(5).

الرابع: لو اعتقد المخالف بوجوب التسمية حلت ذبيحته وإلا حرمت،قال به العلامة في بعض كتبه(6).

القول الخامس: عدم حلية ذبيحة المخالف إلا إذا كان مستضعفاً، قال به

ص: 148


1- شرائع الإسلام 4: 739.
2- الفقه 75: 351.
3- المقنعة: 579؛ تبصرة المتعلمين: 210؛ تحرير الأحكام 4: 622؛ اللمعة الدمشقية: 214؛ مفتاح الشرائع 2: 197؛ مستند الشيعة 15: 378.
4- مسالك الأفهام 11: 468.
5- المهذب البارع 2: 439.
6- مختلف الشيعة 8: 300، وفيه: «والمعتمد جواز أكل ذبيحتهم إذا اعتقدوا وجوب التسمية».

ابن إدريس الحلي(1).

القول السادس: لو كان جاحداً للنص على أمير المؤمنين(علیه السلام) حرمت وإلا حلت(2).

وكأن مرجع القولين الأخيرين إلى الاعتقاد بكفر المخالفين إلا المستضعف وغير الجاحد؛ لجهلهما دون غيرهما، لكن المشهور لم يرتضِ ذلك، وذهب إلى عدم كفر المخالف ظاهراً، فالمسألة مبنائية.

ووجه القول الرابع هو عدم إمكان حمل فعله على الصحة لعدم اعتقاده، إلا أنه لا وجه للتفصيل المذكور؛ لاعتقاد العامة بوجوب التسمية لورودها في القرآن، ولو قال قائل منهم بعدم الوجوب فهو نادر.

وأما دليل المشهور القريب من الإجماع(3) فهو مستفيض الروايات، وهي على طوائف:

منها: ما يدل على كفاية الإسلام ولم يقيد بشيء، كما في خبر محمد بن قيس، عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(علیه السلام) ذبيحة من دانبكلمة الإسلام وصام وصلى لكم حلال إذا ذكر اسم الله عليه»(4).

ومنها: ما تدل على جواز الشراء من سوق المسلمين مع وضوح كونه سوق العامة، خاصة في زمن المعصوم(علیه السلام) لقلة المؤمنين.

ص: 149


1- السرائر 3: 105.
2- الكافي في الفقه: 277.
3- مسالك الأفهام 11: 467؛ جواهر الكلام 37: 114.
4- الاستبصار 4: 88؛ تهذيب الأحكام 9: 71؛ وسائل الشيعة 24: 67.

ففي صحيحة فضيل وزرارة ومحمد بن مسلم(1): «أنهم سألوا أبا جعفر(علیه السلام) عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون، قال: كلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه»(2).

ومنها: ما ورد من جواز تناول الطعام المطروح في الطريق إذا كان في بلاد المسلمين(3)، مع أن البلاد للعامة.

عدم كراهة ذبيحة أهل الخلاف

قال البعض بكراهة ذبيحة أهل الخلاف(4)، واستدل على ذلك بصحيحة زكريا بن آدم(5)

عن أبي الحسن(علیه السلام) قال: «إني أنهاك عن ذبيحة كل من كان على خلاف الذي أنت عليه وأصحابك، إلا في وقت الضرورة إليه»(6).وحيث لا يمكن حملها على الحرمة لروايات الحل، فلا بد من حملها على الكراهة.

لكن يشكل الاستدلال بها على الكراهة لكثرة الروايات المطلقة الدالة على الجواز، مع كونها قابلة للتوجيه إلى النواصب أو الكفار، فحمل كل تلك الروايات على الكراهة خلاف الظاهر، فتأمل.

ص: 150


1- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذنية، عن فضيل... .
2- تهذيب الأحكام 9: 73؛ وسائل الشيعة 24: 70.
3- وسائل الشيعة 24: 90؛ مستدرك الوسائل 16: 156.
4- الدروس الشرعية 2: 411؛ الرياض 12: 90.
5- الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن حمزة القمي، عن زكريا بن آدم... .
6- الاستبصار 4: 86؛ تهذيب الأحكام 9: 70؛ وسائل الشيعة 24: 51.
كفر المجبرة والمشبهة

وقد حكم بكفر المجبرة والمشبهة في بعض الروايات وهم غالب العامة؛ لأن المعتزلة قلّة وقد انقرضوا، ففي خبر إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا عن أبيه عن جده(علیهم السلام): «من زعم أن الله تعالى يجبر عباده على المعاصي، أو يكلفهم ما لا يطيقون فلا تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلوا وراءه، ولا تعطوه من الزكاة شيئاً»(1).

وفي خبر ابن ظبيان عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنه قال: «من زعم أن لله وجهاً كالوجوه فقد أشرك، ومن زعم أن لله جوارح كجوارح المخلوقين فهو كافر بالله، فلا تقبلوا شهادته ولا تأكلوا ذبيحته»(2).

وهاتان الروايتان دليل على اشتراط الإيمان في الذابح، ومع ذلك كيف ذهب المشهور إلى حلية ذبيحة المجبرة والمشبهة؟(3)والجواب: مضافاً إلى ضعف سندهما، أن المراد من الحكم بكفرهم هو الكفر الباطني لا الظاهري، بقرينة الروايات التي تحكم بإسلامهم(4)، فلابد

ص: 151


1- دعائم الإسلام 1: 113؛ وسائل الشيعة 24: 69.
2- مختصر بصائر الدرجات: 121؛ وسائل الشيعة 24: 69.
3- قال في الفقه 75: 353: «وحيث إن غالب العامة من القديم كانوا قالوا بالتجسيم والجبر وما أشبه؛ إذ إن أغلبهم أشاعرة ونحوهم وهم قائلون بذلك، كما لا يخفى على من راجع كتب الكلام والتفسير والسيرة القطعية، وإطلاق الأدلة التي لا تتحمل التقييد تعطي جواز ذبائحهم كجواز نكاحهم، وإجراء مراسم المسلمين عليهم في الموت، وباب الشهادات بعضهم لبعض، أو على بعض والطهارة وغير ذلك لابد، وأن تحمل روايات المنع على ما حملها المشهور، حيث إنهم حملوها على بعض مراتب الكراهة ونحوها». ومستند الشيعة 15: 391، وجواهر الكلام 37: 140.
4- تهذيب الأحكام 9: 72؛ وسائل الشيعة 24: 70.

من حمل النهي الوارد في الروايتين على التنزيه؛ لكثرة روايات الحلية، فحملها على خصوص العامة غير المشبهة والمجبرة خلاف الظاهر؛ لكونه حملاً على الفرد النادر.

كما أن غالب العامة لا يفهمون الجبر والتشبيه، فليسوا منهم، للجهل بمذهبهم عادة؛ لذا لو سئل أحدهم: هل الله يجبر العبد على المعصية؟ نفى ذلك حسب فطرته، فليس كل من كان مذهبه الجبر هو من المجبرة، بل قد يكون جاهلاً بمذهبه، فلا يكون منهم. نعم، لو كان عالماً بمذهبه وقال به كرهت ذبيحته للروايتين، ولا منافاة بينهما وبين روايات الحلية المطلقة.

وعليه، لو التفت إلى الجبر أو التشبيه وقال به كانت ذبيحته مكروهة، وإلا فلا؛ لأن الروايات الدالة على حلية ذبيحة المخالف كثيرة وآبية عن الحمل على الكراهة.

ذبيحة النواصب

وأما ذبيحة الناصبي فلا تحل؛ لأنه محكوم بالكفر الظاهري أيضاً؛ ولذا يكون نجساً، ولا يجوز نكاحه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا خلاف فيالحكم المذكور كما عبر عنه البعض(1)، بل الإجماع متحقق(2)، وقال في الفقه: «... بل السيرة القطعية من الشيعة على ذلك من القديم»(3)، وتدل عليه الروايات الخاصة التي عمل بها المشهور شهرة عظيمة.

ص: 152


1- الهداية: 312؛ مختلف الشيعة 8: 301؛ الدروس الشرعية 2: 410؛ كشف اللثام 9: 214.
2- المهذب البارع 4: 163؛ رياض المسائل 12: 93؛ مستند الشيعة 15: 387؛ جواهر الكلام 37: 137.
3- الفقه 75: 354.

ومنها: موثقة أبي بصير(1)

قال: «سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) يقول: ذبيحة الناصب لا تحل»(2).

ومنها: موثقته الأخرى(3): عن أبي جعفر(علیه السلام)، أنه قال: «لم تحل ذبائح الحرورية»(4). ويعني بهم الخوارج؛ سمّوا بذلك لأنهم اجتمعوا في قرية اسمهما الحروراء(5)، ومنها انطلقوا إلى النهروان.

لكن صاحب المسالك مال إلى الحلية وحمل الروايات على الكراهة(6)،لكن لا وجه له بعد كون الروايات الناهية أخص منها، وقد عمل المشهور بها.

زواج المعصوم من الناصبية

ولا يخفى التلازم بين عدم جواز النكاح وعدم حلية الذبيحة، لكن نشاهد في سيرة المعصومين(علیهم السلام) الزواج من الناصبية، كزواج الإمام الحسن(علیه السلام) من جعدة(7)، والإمام الجواد(علیه السلام) من أم الفضل(8)، فلو جاز النكاح دل على

ص: 153


1- الشيخ الطوسي بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن زرعة، عن أبي بصير... .
2- الاستبصار 4: 87؛ تهذيب الأحكام 9: 71؛ وسائل الشيعة 24: 67.
3- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن الحسين بن مختار، عن أبي بصير... .
4- الاستبصار 4: 87؛ تهذيب الأحكام 9: 71؛ وسائل الشيعة 24: 67.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 545، وفيه: «الحرورية: طائفة من الخوارج تبرأوا من علي(علیه السلام) وشهدوا عليه بالكفر، والنسبة إلى حروراء - بفتحتين وسكون الواو وراء أخرى وألف ممدودة - قرية بظاهر الكوفة، فإنهم اجتمعوا فيها أول أمرهم وخالفوا علياً(علیه السلام) فنسبوا إليها».
6- مسالك الأفهام 11: 467-470.
7- مقاتل الطالبيين: 31؛ شرح الأخبار 3: 123؛ الاحتجاج 2: 13؛ بحار الأنوار 43: 342.
8- مقاتل الطالبيين: 377؛ مناقب آل أبي طالب(علیهم السلام) 3: 488؛ بحار الأنوار 49: 132.

الإسلام الظاهري وإلا لم يجز، وعليه يكون الناصبي محكوماً بالإسلام.

وفي رواية أن الإمام السجاد(علیه السلام) تزوج بامرأة ثم رآها تسب علياً(علیه السلام) فطلقها(1).

والجواب عن ذلك: إن الناصبي هو من يظهر العداء، فقد يكون الإنسان في قلبه أشد عداوة لله ورسوله، لكنه لم يظهر ذلك؛ لذا لا يكون ناصبياً وإنما يكون منافقاً؛ ولذا فجعدة كانت منافقة إلى أن سقت الإمام(علیه السلام) سمّاً(2)، فأظهرت عداوتها فأصبحت ناصبية، كما أن عبد الله بن أبي أسلم في الظاهر، فكان منافقاً لا ناصبياً(3).

الشرط الثاني: اشتراط العقل في الذابح

ولا شرط في الذابح بعد الإسلام إلا ما ارتبط بالعقل، فلا تحل ذبيحة المجنون والصبي غير المميز(4)؛ لاشتراط العقل والتمييز؛ وذلك لأن

ص: 154


1- الكافي 5: 351 ، وفيه: عن زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «دخل رجل على علي بن الحسين‘ فقال: إن امرأتك الشيبانية خارجية تشتم علياً(علیه السلام) فإن سرك أن أسمعك منها ذاك أسمعتك؟ قال: نعم، قال: فإذا كان غداً حين تريد أن تخرج كما كنت تخرج فعد فاكمن في جانب الدار، قال: فلما كان من الغد كمن في جانب الدار، فجاء الرجل فكلمها فتبين منها ذلك، فخلى سبيلها وكانت تعجبه».
2- الكافي 1: 462 ، وفيه: عن أبي بكر الحضرمي قال: «إن جعدة بنت أشعث بن قيس الكندي سمت الحسن بن علي وسمت مولاة له، فأما مولاته فقاءت السم وأما الحسن فاستمسك في بطنه ثم انتفط به فمات».
3- بحار الأنوار 90: 70، وفيه: «فبعث بنو النضير إلى عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأس المنافقين...».
4- إرشاد الأذهان 2: 106؛ قواعد الأحكام 3: 318؛ الدروس الشرعية 2: 411؛ غاية المرام في شرح شرائع الإسلام 4: 18؛ مجمع الفائدة والبرهان 11: 86؛ كشف اللثام 9: 217.

إطلاقات الأدلة منصرفة إلى القاصد، ولا يعلم تحقق القصد منهما، ومن هنا لا تحل ذبيحة النائم والسكران(1).

وأما سائر الأمور فليست بشرط، فلا فرق بين البالغ والصبي المميز، وكذا الرجل والمرأة، وكذا الخنثى والمجبوب؛ لشمول الإطلاقات للجميع، مضافاً إلى ورود روايات معتبرة في خصوص المرأة.

منها: صحيحة الحلبي(2)،

عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «كانت لعلي بن الحسين‘ جارية تذبح له إذا أراد»(3).

البحث الثاني: في آلة الذبح وشروطها
اشارة

ويشترط في آلة الذبح أن تكون من الحديد، فلا تحل لو كانت الآلة من الحجر أو قشر القصب أو العظم، وإن كانت حادة، ويستثنى من ذلك ما لو كان مضطراً(4).ويدل عليه روايات معتبرة وعليه المشهور الذي لا خلاف فيه، بل ادعي الإجماع عليه(5)، فلابد من الالتزام به.

وهنالك طائفتان من الروايات: الأولى: التصريح بلزوم كونها من الحديد، والثانية: تجويز الذبح بغيره للمضطر، ومعناه اشتراط الحديد لغير المضطر.

ص: 155


1- قواعد الأحكام 3: 318.
2- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي... .
3- الكافي 6: 238؛ وسائل الشيعة 24: 45.
4- النهاية: 583؛ المهذب البارع 2: 439؛ السرائر 3: 107؛ شرائع الإسلام 4: 739.
5- الشرح الصغير في شرح المختصر النافع 3: 87؛ رياض المسائل 12: 93؛ مستند الشيعة 15: 394.

فمن الأولى: صحيحة محمد بن مسلم(1) قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن الذبيحة بالليطة(2) وبالمروة(3)، فقال(علیه السلام): لا ذكاة إلا بحديدة<(4). وهي تحصر جواز الذبح بالحديد لا غير.

ومنها: صحيحة الحلبي(5):

عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «سألته عن الذبيحة بالعود والحجر والقصبة، فقال: قال علي بن أبي طالب(علیه السلام): لا يصلح الذبح إلا بالحديدة»(6).ومن الطائفة الثانية: صحيحة عبد الله بن سنان(7)، عن أبي عبد الله(علیه السلام) أنه قال: «لا بأس بأن تأكل ما ذبح بحجر إذا لم تجد حديدة»(8).

الذبح بالإستيل

وأما الذبح بالإستيل فهي مسألة يكثر الابتلاء بها اليوم، حيث إن أكثر

ص: 156


1- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن محمد بن مسلم... .
2- العين 7: 453، وفيه: >الليط: قشر القصب اللازق به، وقشر كل شيء كانت له صلابة ومتانة كالقناة، والقطعة منه: ليطة».
3- الصحاح 6: 2491، وفيه: «المرو: حجارة بيض براقة تقدح منها النار، الواحدة مروة». ولسان العرب 15: 275، وفيه: «المَرْوُ: حجر أَبيض رقيق يجعل منها المَطارُّ، يذبح بها، يكون المَرْوُ منها كأَنه البَرَدُ، ولا يكون أَسود ولا أَحمر، وقد يُقْدَح بالحجر الأَحمر فلا يسمى مَرْواً».
4- الكافي 6: 227؛ تهذيب الأحكام 9: 51؛ وسائل الشيعة 24: 7.
5- الكليني، عن علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي... .
6- الكافي 6: 227؛ الاستبصار 4: 80؛ وسائل الشيعة 24: 7.
7- الشيخ الصدوق بإسناده عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن سنان... .
8- من لا يحضره الفقيه 3: 327؛ وسائل الشيعة 24: 8.

السكاكين منه، وبناءً على اشتراط الحديد لا تحل الذبيحة به(1)، ولا بسائر الفلزات(2)؛ لذا صرح الفقهاء بعدم جواز الذبح بسكين من الذهب أو الفضة(3).

ويمكن الاستدلال لجواز الذبح به بعدة طرق:

الأول: إن المراد من كلمة الحديد أو الحديدة الواردة في الروايات عموم الفلزات، لا خصوص الحديد للتوسعة العرفية، فإن العرف يتسامح فيه فيطلقه على كل ما يشبهه، فالإستيل من الحديد، ومع هذا التعميم يصح الاستدلال بالروايات لجواز الذبح به؛ لظهورها في الفلزات.

لكن يرد عليه مبنىً: بأن العرف حجة في تشخيص المفاهيم لا المصاديق فلو تسامح العرف في مصداق لم يكن حجة، كما هو الحال في معنى الفرسخوالتسامح في الأقل منه بقليل، وكذا غيره من المفاهيم الشرعية، ومشهور المتأخرين عدم الحجية، والحاصل: إن مفهوم الحديد عرفي لكنه يتسامح في المصداق ويطلقه على كل ما يشبهه.

الثاني: أن يراد من كلمة الحديد كل حاد؛ لأن الحديد له معنيان(4):

ص: 157


1- قال بعض أهل الخبرة: إن أكثر من سبعين بالمائة من الإستيل هو الحديد، لكن يضاف إليه مواد أخرى بين عشرة بالمائة إلى ثلاثين بالمائة حتى لا يصدأ، وذلك حسب اختلاف موارد الاستعمال، وحيث إن خلط المواد الأخرى لا يخرجه عن كونه حديداً كان له حكم الحديد، وإن خولط بشيء آخر (السيد الأستاذ).
2- لابد من التحقيق في كون كلمة الفلز بالمعنى المعروف عربية أم لا؟ ففي معجم مقاييس اللغة لابن الفارس4: 451: «الفلز خبث الحديد» أي: ما ينفصل عن الحديد حينما يجعل في الكورة لإخراج الحديد الخالص من غيره، ويطلق في الاصطلاح الفارسي على كل مادة تشبه الحديد (السيد الأستاذ).
3- رياض المسائل 12: 93؛ جواهر الكلام 37: 144.
4- مجمع البحرين 3: 34-36، مادة: «حدد».

أحدهما: الفلز المعين، والثاني الحاد، كقوله تعالى: {فَبَصَرُكَ

ٱلۡيَوۡمَ حَدِيدٞ}(1) فيشمل الإستيل، بخلاف الخشب والحجر وقشر القصب التي ليست حادة عادة فتؤذي الحيوان.

لكنه خلاف الظاهر؛ فإن المتبادر من: «لا ذكاة إلا بحديد» الحديد المعروف لا الحاد.

الثالث: ما ذكره في الفقه(2) من أن المتعارف في زمن المعصومين(علیهم السلام) الذبح بالحديد لا بسائر الفلزات، فذكره في الروايات من باب المتعارف لا إرادة الحصر، بل كان ذكره في مقابل الخشب وما أشبه ذلك.

وهو حسن إلا أن إثباته مشكل، حيث إنه خلاف الظاهر.

والحاصل: إن مقتضى الصناعة عدم حلية الذبح بالإستيل وغيره من الفلزات، إلاّ إذا كان أكثر الاستيل حديداً وصدق عليه الحديد عرفاً من غيرتسامح، فتأمل.

الاضطرار إلى الذبح بغير الحديد

لو اضطر إلى الذبح بغير الحديد جاز الذبح به، لما تقدم من الروايات، لكن في معنى الاضطرار أربعة أقوال:

الأول: الخوف من تلف الشاة أو موت الصيد، فالمراد من الاضطرار

ص: 158


1- سورة ق، الآية: 22.
2- الفقه 75: 360، وفيه: «لكن يمكن المناقشة فيها بأنها بصدد نفي مثل الليطة والمروة، لا نفي ما إذا جعل السكين من المعادن الأخر، كالشبه والآلات الحديثية المتعارفة في هذا اليوم... بل إن العرف لا يفهم من الروايات إلا ذلك، فالحديد من باب أنه المتعارف في أيام الروايات».

خوف فوت الذبيحة(1)، وإن لم يضطر هو للأكل.

الثاني: اضطرار الذابح(2)، كما لو أشرف على الموت من الجوع.

الثالث: كفاية أحدهما كما ذهب إليه العلامة(3).

الرابع: وهو الأصح: عدم وجود غير الحديد(4)، وإن لم يضطر إلى الأكل لوجود طعام آخر عنده مثلاً، أو لم يخف تلف الدابة.

ويدل عليه بعض الروايات المطلقة: كصحيحة زيد الشحام(5) قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل لم يكن بحضرته سكين أيذبح بقصبة؟ فقال: اذبح بالقصبة وبالحجر وبالعظم وبالعود إذا لم تصب الحديدة، إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس»(6).

وحيث إن السؤال مطلق كان الجواب مطلقاً، ولم يشترط في جواز الذبحخوف الموت أو الاضطرار إلى الأكل.

وأما سائر الأقوال فقد حملوا هذه الرواية على الاضطرار بأحد النحوين الأولين، لكنه خلاف الظاهر.

الذبح بالظفر والسن

هل يجوز الذبح بالسن أو الظفر في حال الاضطرار بأي معنى أريد به في

ص: 159


1- المهذب 2: 439؛ مستند الشيعة 15: 396.
2- رياض المسائل 12: 94.
3- قواعد الأحكام 3: 321.
4- النهاية: 583؛ المهذب 2: 439؛ المهذب البارع 4: 163.
5- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن زيد الشحام... .
6- الكافي 6: 228؛ الاستبصار 4: 80؛ وسائل الشيعة 24: 9.

الروايات؟

الجواب: لا يجوز ذلك، سواء كان متصلاً أم منفصلاً، وادعي عليه الإجماع(1).

أما عدم جواز المنفصل فللنص.

وأما المتصل فبالإضافة إلى النص عدم صدق الذبح(2). وأما القول بالجواز في المتصل وإن كان هو المشهور، بل ادعي عليه نفي الخلاف(3)، لكونهما من العظم أو لتحقق الملاك وهو فري الأوداج، إلا أنه خلاف الظاهر؛ لأنه وإن كانت المادة والتركيبة واحدة لكن لا يطلق عليه العظم عرفاً، والملاك لا ينحصر في الفري فقط، فهنالك شروط أخرى ككونه من الحديد.

نعم، هنالك رواية تجوز الذبح بهما في حال الاضطرار، حيث ورد عن النبي(صلی الله علیه و آله) النهي عن ذلك لأنه مدية أهل حبشة(4) إلا مضطراً، لكن الرواية عامية أومرسلة فلا يصح الاستدلال بها.

ص: 160


1- الخلاف 6: 23؛ غنية النزوع: 397.
2- مسالك الأفهام 11: 471.
3- شرائع الإسلام 4: 739؛ تحرير الأحكام 4: 623؛ الدروس الشرعية 2: 411؛ مسالك الأفهام 11: 472؛ مستند الشيعة 15: 396.
4- عوالي اللئالي 3: 457 ، وفيه: وروى رافع بن خديج، قال: «يا رسول الله(صلی الله علیه و آله) إنا نرجو أن نلقى الصيد غداً وليس معنا مدى، أنذبح بالقصب؟ فقال(صلی الله علیه و آله): ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، إلا ما كان من سن أو ظفر. وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم من الإنسان، وأما الظفر فمدى الحبشة».

وأشكل عليها أيضاً بعدم تحقق معنى للعلة المذكورة فيها(1)، لكنه غير وارد فالمعنى أنهم قوم وحوش يذبحون بظفرهم فلا تفعل مثلهم.

والمتحصل: من جميع ما سبق اشتراط الحديد، ويشكل بالإستيل إلا إذا صدق عرفاً أنه من الحديد، ويجوز بغير الحديد اضطراراً، ولا يجوز بالسن والظفر حتى في حال الضرورة.

البحث الثالث: في كيفية الذبح وشرائطه
اشارة

ولابد من اجتماع شروط في كيفية الذبح لتحل الذبيحة، وهي:

الشرط الأول: قطع بعض أعضاء الرقبة
اشارة

وفيه أربعة أقوال:

الأول: ما هو المشهور شهرة عظيمة(2) من لزوم فري الأوداج الأربعة، فلو لم تقطع أحدها لم تحل، وهي الحلقوم، أي: مجرى النفس، والمريء، أي: محل مرور الطعام، والودجان.

الثاني: يكفي قطع الحلقوم(3).

الثالث: كفاية قطع الحلقوم والودجين(4) دون المريء.القول الرابع: التخيير بين قطع الحلقوم أو الودجين(5).

ص: 161


1- جواهر الكلام 37: 150.
2- السرائر 3: 106؛ تحرير الأحكام 4: 624؛ رياض المسائل 12: 5.
3- مستند الشيعة 15: 398.
4- إصباح الشريعة: 382؛ رياض المسائل 12: 99؛ مستند الشيعة 15: 400؛ جواهر الكلام 37: 159.
5- مستند الشيعة 15: 400.
دليل لزوم قطع الحلقوم

أما الدليل على لزوم قطع الحلقوم - وهو جامع الأقوال وإن كان القول الرابع التخيير إلا أنه بنحو الوجوب - فبالإضافة إلى دعوى الإجماع، الروايات الصحيحة المستفيضة، كصحيحة معاوية بن عمار(1)

قال: «قال أبو عبد الله(علیه السلام): النحر في اللبة والذبح في الحلق»(2).

وصحيحة محمد بن مسلم(3)

عن الباقر(علیه السلام): «ولا تأكل من ذبيحة ما لم تذبح من مذبحها»(4)، والمراد من المذبح الحلق فإنه المعنى اللغوي(5).

أدلة لزوم الزيادة على قطع الحلق

وأما مدّعو الزيادة على قطع الحلق فاستدلوا بخمسة أدلة(6):

الأول: أصالة عدم الحلية، إما لاستصحاب الحرمة في حال الحياة، أولاستصحاب عدم التذكية.

ويرد عليه: إنه لا مجال للأصل مع وجود الإطلاقات الواردة في قطع الحلق.

ص: 162


1- الكليني، عن علي ابن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار... .
2- الكافي 6: 228؛ وسائل الشيعة 24: 10.
3- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم... .
4- الكافي 6: 229؛ تهذيب الأحكام 9: 53؛ وسائل الشيعة 24: 12، وفيه: «ذبيحة لم تذبح».
5- العين 3: 48، وفيه: «الحلق: مساغ الطعام والشراب، ومخرج النفس من الحلقوم، وموضع المذبح من الحلق».
6- مستند الشيعة 15: 400-403؛ رياض المسائل 13: 317-321؛ جواهر الكلام 37: 154؛ الفقه 75: 367.

الثاني: إنه القدر المتيقن، ومعه لا يتمسك بالإطلاق.

وفيه: إنه ليس القدر المتيقن في مقام التخاطب ليكون حجة، وأما القدر المتيقن في الوجود فلا يضر بالإطلاق.

الثالث: الإجماع المنقول.

لكن لا أساس له، حيث ذهب البعض إلى عدم اللزوم، مما يضر بتحقق الإجماع، كما أنه معلوم الاستناد أو محتمله.

الرابع: الشهرة.

لكنها فتوائية، فليست بحجة.

الخامس: وهو عمدة الأدلة، مفهوم صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج(1)، قال: «سألت أبا إبراهيم(علیه السلام) عن المروة والقصبة والعود يذبح بهن الإنسان إذا لم يجد سكيناً، فقال: إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك»(2). ومفهومها: إذا لم يفرِ الأوداج ففيه البأس.

إن قلت: إن الحكم المذكور وارد في حال الاضطرار فلا يمكن تعميمه.

قلت: لا فرق بين الحديد والمروة والقصب من هذه الجهة - أي: في حالالاضطرار - فلا بد من قطع ما يقطع في حال الاختيار، والفارق بينهما أنه يشترط القطع بالحديد اختياراً، ويجوز بغيره اضطراراً، وحيث لا فرق بين حالة الاختيار والاضطرار في مقدار الذبح، كان مفهومه إذا لم يفرِ الأوداج ففيه البأس، أي: إنه حرام.

ص: 163


1- الصدوق بإسناده، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الرحمن بن الحجاج... .
2- من لا يحضره الفقيه 3: 326؛ الاستبصار 4: 80؛ وسائل الشيعة 24: 8.

لكن قد يمنع من التمسك بهذا المفهوم؛ لأنه معارض مع منطوق صحيح زيد الشحام: «إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس»(1)، وهو مطلق علق الأمر فيها بقطع الحلقوم فقط.

إلا أنه لا تنافي بينهما؛ لأنهما مثبتان بالزيادة والنقيصة، ففي أحدهما ذكر قطع الحلقوم، وفي الآخر ذكر فري الأوداج، والمعنى أنه إذا قطع الحلقوم منضماً إلى سائر الشرائط فلا بأس.

ودعوى استهجان(2) مثل ذلك - أي: الاكتفاء بذكر شرط وترك سائر الشروط - محل تأمل من جهتين:

الأولى: لعدم الاستهجان، فما أكثره في الروايات، ومنها: كثرة اشتراط التسمية في الروايات مع ترك بقيه الشرائط.

الثانية: هنالك إشارة في الصحيحة إلى قطع الودجين، حيث قال(علیه السلام) «وخرج الدم»، فإنه إن كان المراد الدم القليل الخارج بجرح الجلد فهو قيد لغو؛ لأن قطع الحلقوم مستلزم لخروج الدم، فالمراد منه الدم الكثير، وهو الخارج من الودجين. فحتى في صحيحة الشحام لم يكتفِ بذكر الحلقوم،وإنما بقيد (خرج الدم) يمكن استفادة دم الودجين، أو لا أقل من أحدهما، لكن لا قائل به.

والحاصل: لا معارض للدليل الخامس، فلا بد من القول بما هو المشهور.

وقد يتساءل عن وجه لزوم فري الأوداج الأربعة مع أن (الأوداج) جمع

ص: 164


1- الكافي 6: 228.
2- الفقه 75: 368.

يتحقق بالثلاثة، فاللازم كفاية قطع الحلقوم والودجين دون المريء، وهو القول الثالث.

إلا أنه خلاف فهم المشهور، فلا يمكن التعدي عنه، وإنما أطلق عليه الأوداج من باب التغليب، حيث غلب جانب الودجين على الحلقوم والمريء، إلا أن يقال بعدم حجية فهمهم، فلابد من الالتزام بالقول الثالث الذي ذهب إليه نادر من الفقهاء.

وقد تطرق صاحب الجواهر(1) إلى رواية قطع الحلقوم، وقال: إنه لا يدل على اشتراط قطع الحلقوم فقط، بل على الأوداج، وإنما عبر الإمام(علیه السلام) عن الحلقوم فقط لتلازم قطعه مع قطع سائر الأوداج، كما عن الفاضل المقداد قال: «ويمكن توجيه الجمع بين الروايتين بأن الأربعة متصلة بعضها مع بعض، فإذا قطع الحلقوم أو الودجان فلا بد أن ينقطع الباقي معه»(2)، فالإمام عبر تعبيراً عرفياً، فقال: اقطع الحلقوم، وهو يستلزم قطع الباقي، ولا أقل من الودجين.

ص: 165


1- جواهر الكلام 37: 155-156.
2- التنقيح الرائع 4: 20؛ جواهر الكلام 37: 156.

لكنه محل تأمل فلا تلازم بينها، حيث يمكن قطع الحلقوم فقط دونغيره بالسكين أو الشفرة.

وأما القول بالتخيير - وهو ما نسب لابن أبي عقيل(1)- فكأن مستنده الجمع بين الروايات، حيث ورد في بعضها الحلقوم وفي بعضها الأوداج.

لكنه محل تأمل؛ لأن وجه الجمع بين الروايات يقتضي القول باشتراط الجميع، وأما التخيير فخلاف الظاهر على تفصيل مذكور في الأصول.

فتحصل أن الأقرب كلام المشهور وهو عدم كفاية قطع الحلقوم، بل لزوم قطع الأوداج الأربعة، ولا يخفى أن من اكتفى بقطع الحلقوم احتاط أيضاً بقطع الأربعة.

الشرط الثاني: إسلام الذابح

وقد مر بحثه سابقاً.

الشرط الثالث: استقبال القبلة بالذبيحة
اشارة

قال في الشرائع: «أن يستقبل بها القبلة مع الإمكان فإن أخل عامداً كانت ميتة، وإن كان ناسياً صح، وكذا لو لم يعلم جهة القبلة»(2).

وفي المسألة مطالب:

الأول: إن دليل اشتراط القبلة هو الروايات المستفيضة أو المتواترة - بالإضافة إلى دعوى الإجماع(3) - ففي صحيحة محمد بن مسلم(4)، عن أبيجعفر(علیه السلام) قال: «إذا أردت أن تذبح فاستقبل بذبيحتك القبلة»(5).

وفي صحيحته الأخرى(6)، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «سئل عن الذبيحة

ص: 166


1- مستند الشيعة 15: 400، وفيه: «وهنا قول رابع محكي عن العماني، وهو التخيير بين قطع الحلقوم وشق الودجين».
2- شرائع الإسلام 4: 740.
3- جواهر الكلام 37: 161، وفيه: «لا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه».
4- الكليني، عن علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن محمد بن مسلم... .
5- الكافي 6: 233؛ وسائل الشيعة 24: 27.
6- الكليني، عن علي، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن محمد بن مسلم... .

تذبح لغير القبلة، قال: لا بأس إذا لم يتعمد»(1)، ومفهومه أنه إذا تعمد ففيه البأس، وهو ظاهر في الحرمة.

وعن الباقرين‘ أنهما قالا: «فيمن ذبح لغير القبلة: إذا كان أخطأ أو نسي أو جهل فلا شيء عليه وتؤكل ذبيحته، وإن تعمّد ذلك فقد أساء، ولا نحب أن تؤكل ذبيحته تلك إذا تعمد خلاف السنة»(2).

وهنالك روايات أخرى، وقد اخترنا هذه الثلاثة لما تترتب عليها من بحوث لاحقاً.

المطلب الثاني: تشترط القبلة في وقت الذبح، أي: لحظة قطع الأوداج الأربعة؛ لذا لو قطعها بخلاف القبلة ثم وجهها نحو القبلة قبل أن تفارق الحياة لم ينفع، وبالعكس لم يضر؛ لأن الذبح هو عملية فري الأوداج، وأما قبله وبعده فلا يطلق عليه الذبح.

المطلب الثالث: يستظهر من بعض الروايات - كما أفتى به الفقهاء - أنالقبلة شرط علمي لا واقعي. فلو نسي الحكم أو الموضوع، أو أخطأ القبلة، أو جهل بأن لم يكن يعلم بوجوب الذبح باتجاه القبلة لم تحرم الذبيحة، ومما يدل عليه ما مرّ من قوله(علیه السلام): «إذا كان أخطأ أو نسي أو جهل فلا شيء عليه وتؤكل ذبيحته».

ولا يخفى أن المقطع الثاني (تؤكل ذبيحته) تأسيس لحكم جديد لا تأكيد للمقطع الأول (فلا شيء عليه)، فهنا حكمان: وضعي وتكليفي،

ص: 167


1- الكافي 6: 233؛ وسائل الشيعة 24: 28.
2- مستدرك الوسائل 16: 138؛ دعائم الإسلام 2: 174، وفيه: «ولا يجب» بدل «ولا نحب».

والأول عدم الضمان، والثاني الحلية.

وعلى فرض عدم دلالة الروايات تصل النوبة إلى الأصل العملي، وهو دال على الحلية أيضاً، فإن حديث الرفع كما يرفع التكليف يرفع الوضع، على الخلاف المذكور في محله.

المطلب الرابع: لو لم يعلم جهة القبلة، ولا طريق له إلى معرفة جهتها، مع علمه بالحكم، ولم يكن مضطراً، ولا خوف على تلف الذبيحة جاز له الذبح بأية جهة، وسقط اشتراط القبلة؛ وذلك لشمول الروايات التي مرّت، وهي تدل على الحلية مع الجهل، وتشمل بإطلاقها الجهل البسيط والمركب.

نعم، يمكن القول: إن الرواية ظاهرة في الجهل بالحكم لا الموضوع، لكن الظاهر إطلاقها.

فرع: لو لم يعتقد باشتراط القبلة سقط الشرط وحلت ذبيحته؛ لإطلاق الروايات الدالة على الحلية مع الجهل، حيث تشمل الجهل بالحكم أو الموضوع، وغير المعتقد جاهل جهلاً مركباً، وكما تشمل الرواية الجهل البسيط تشمل المركب أيضاً.المطلب الخامس: لم تذكر كيفية الاستقبال في الروايات، وعليه لا فرق بين جعل الذبيحة على يمينها أو يسارها، أو إبقائها واقفة أو معلقة، فكل ذلك يصدق عليه استقبال القبلة. نعم، في المقدار الذي يلزم أن يكون باتجاه القبلة قولان(1):

القول الأول: أن يكون كل مقاديم البدن باتجاه القبلة، واستدل عليه

ص: 168


1- مستند الشيعة 15: 411؛ الفقه 75: 371.

بدليلين:

الأول: التمسك بالأصل(1)، وهو استصحاب الحرمة أو عدم الذكية.

لكن مرّ عدم جريان الأصل المذكور بشقيه؛ لأنه أصل مسببي، بالإضافة إلى أن الإطلاقات لا تدع مجالاً للأصل، وعليه لا يشترط استقبال تمام المقاديم.

الدليل الثاني: ظاهر بعض الأخبار، كصحيحة محمد بن مسلم(2)

عن الإمام الباقر(علیه السلام): «استقبل بذبيحتك القبلة»(3)، فإن ظاهرها الاستقبال بكل المقاديم.

لكنه ضعيف لأنه كما يشمل الاستقبال بكل المقاديم كذلك بالبعض، كما في الواقف.

القول الثاني: كفاية المقدار الذي يصدق عليه الاستقبال.

واستدل عليه بأدلة:الأول: أصالة عدم لزوم استقبال جميع المقاديم، وهو أصل سببي، ولا تصل النوبة معه إلى الأصل المسببي، ومع ذلك لا حاجة إليه مع تحقق الدليل الاجتهادي.

الدليل الثاني: إطلاق الأدلة الدالة على لزوم الاستقبال.

الدليل الثالث: الظاهر من اشتراط استقبال القبلة لزوم كون المذبح باتجاه القبلة.

ص: 169


1- رياض المسائل 12: 101.
2- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن العلاء، عن محمد بن مسلم... .
3- الكافي 6: 233؛ وسائل الشيعة 24: 27.

وفيه تأمل، فقد لا يصدق الاستقبال حتى مع استقبال المذبح، كما لو استقبل القبلة برقبتها فقط.

استقبال الذابح للقبلة وعدمه

لم يشترط المشهور أن يكون الذابح مستقبل القبلة، لكن بعض الفقهاء اشترطوا ذلك(1)، واستدلوا عليه بأدلة ثلاث:

الدليل الأول: المتبادر من الباء في قول الإمام الباقر(علیه السلام): «فاستقبل بذبيحتك القبلة»، فإن الظاهر من التعدي بالباء المعية(2)، بخلاف التعدي بباب الإفعال، كقولك: ذهب به أو أذهبه.

وفيه نظر؛ لأن التعدي بالباء أو باب الإفعال لا يدل على اشتراك الفاعل في الفعل، كقوله تعالى: {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ}(3)، ومعناه: أذهب نورهم، بل يستفاد ذلك من القرائن الخارجية.الدليل الثاني: ما في دعائم الإسلام: عن الإمام الباقر(علیه السلام) أنه قال: «إذا أردت أن تذبح ذبيحة فلا تعذب البهيمة، أحد الشفرة واستقبل القبلة...»(4).

وفيه نظر لجهات:

الأولى: الإشكال السندي العام الوارد على أصل الكتاب، فإن مؤلفه لا توثيق له في كتب الرجال، وكتابه من الكتب المعتبرة عند الإسماعيلية، وإن

ص: 170


1- كفاية الأحكام 2: 585؛ مفتاح الشرائع 2: 203.
2- رياض المسائل 12: 101.
3- سورة البقرة، الآية: 17.
4- دعائم الإسلام 2: 174؛ مستدرك الوسائل 16: 132.

قال البعض(1): إنه كان إمامياً في حال التقية؛ لأنه كان قاضياً في حكم الإسماعيليين.

الثانية: على فرض اعتبار المؤلف إلا أنه لا طريق معتبر إليه، فما بأيدينا غير متصل إلى مؤلفه عن طريق معتبر.

الثالثة: مع غض النظر عن الإشكالين ففي السند مجاهيل.

الرابعة: إعراض الأصحاب عنها، حيث لم يفتوا بوجوب استقبال الذابح للقبلة.

الخامسة: الإشكال الدلالي، فليس الظاهر منها - بقرينة سائر الروايات - وقوف الذابح باتجاه القبلة، بل الذبيحة، وهذا ما يتبادر إلى الذهن الخالي عن الشوائب الخارجية. نعم، لو كانت هذه العبارة الوحيدة في المقام أمكن استفادة ذلك منها.

الدليل الثالث: الأصل.لكنه مسببي لا تصل إليه النوبة.

الشرط الرابع: التسمية
اشارة

ومن شروط حلية الذبيحة التسمية، وقد مرّ قسم من البحث في باب الصيد، وهنا فروع كثيرة ترتبط بالذبيحة لا بد من بحثها.

قال في الشرائع: «التسمية: وهي أن يذكر الله سبحانه، ولو تركها عمداً لم يحل، ولو نسي لم يحرم»(2).

ص: 171


1- دعائم الإسلام 1: 11.
2- شرائع الإسلام 4: 740.
مسألتان في شرط التسمية

وهنا مسألتان:

الأولى: وجوب التسمية عند الذبح

الأولى: وجوب التسمية عند الذبح(1)

والدليل على ذلك أمور:

الدليل الأول: القرآن الكريم حيث قال تعالى: {وَلَا تَأۡكُلُواْ مِمَّا لَمۡ يُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ}(2)، وقال تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ}(3).

الدليل الثاني: متواتر الروايات، ومنها: صحيحة محمد بن مسلم(4) عن الإمام الباقر(علیه السلام): «ولا تأكل من ذبيحة ما لم يذكر اسم الله عليها»(5).

ومنها: صحيحته الأخرى(6) قال: «سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن الرجل يذبح ولايسمي؟ قال: إن كان ناسياً فلا بأس»(7). ومفهومه إن لم يكن ناسياً ففيه البأس.

وفي روايات متعددة حكم بحلية ذبيحة المرأة والصبي إن سميا(8)، ولو جمعت رواياتها في الأبواب المختلفة لكانت متواترة.

الدليل الثالث: الإجماع المحصل والمنقول.

ص: 172


1- مستند الشيعة 15: 412.
2- سورة الأنعام، الآية: 121.
3- سورة الأنعام، الآية: 118.
4- الكليني، عن علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن محمد بن مسلم... .
5- الكافي 6: 233؛ تهذيب الأحكام 9: 60؛ وسائل الشيعة 24: 29.
6- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن العلاء، عن محمد بن مسلم... .
7- الكافي 6: 233؛ تهذيب الأحكام 9: 60؛ وسائل الشيعة 24: 29.
8- الكافي 6: 237؛ وسائل الشيعة 24: 42-44.
فروع: تتعلق بالمسألة الأولى

وهنا فروع كثيرة نتطرق إلى ذكر بعضها.

الفرع الأول: في المراد من التسمية

إنه لم تحدد الروايات اسماً خاصاً، فيجوز التسمية بأي اسم من أسمائه تعالى، ولا فرق في ذلك بين العربية أو غيرها(1)، كل ذلك للإطلاق، قال تعالى: {وَلِلَّهِ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ}(2)، وقد ورد في التفسير: أي صفاته تعالى(3)، فكلما كان اسماً له سبحانه صحت التسمية به. نعم، اشترط البعض أن تكون التسمية بالعربية(4).

لكن لا وجه له حيث لم تقيد الأدلة الواردة بالعربية، ولغة المخاطب وإن كانت عربية إلا أنه لا وجه لتخصيص الأدلة بلغته؛ ولذا تصح المعاملات بغير العربية.وأما الطلاق والنكاح فيجوزان - صناعة - بغير العربية كما عليه البعض، لكن منشأ الاحتياط في ذلك ذهاب جمع من الفقهاء إلى اشتراط العربية فيهما، وحيث إن المسألة مهمة لا مصير إلى الفتوى بالجواز، وإنما الاحتياط طريق النجاة، وأما لزوم إقامة الصلاة وما أشبه ذلك بالعربية فللدليل الخاص.

الفرع الثاني: في كفاية القرآن أو الدعاء

لا يكفي قراءة القرآن أو الدعاء لو لم يكن فيه اسم الله(5)، كأن يتلو قوله

ص: 173


1- الفقه 75: 376.
2- سورة الأعراف، الآية: 180.
3- التبيان في تفسير القرآن 5: 40؛ تفسير جوامع الجامع 1: 724؛ مجمع البيان 4: 399.
4- كفاية الأحكام 2: 586.
5- الفقه 75: 376.

تعالى: {تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ}(1)، أو: «ارزقنا توفيق الطاعة»(2)، فإنه وإن كان ذكراً مطلقاً لكنه ليس اسم الله، والشرط التسمية.

الفرع الثالث: لا يلزم معرفة معنى الاسم

ولا يلزم معرفة معنى الاسم، لكن بشرط أن يعلم أنه اسم الله(3)، وأما لو كان مجرد لقلقة لسان لا يدري أنه يتلفظ بأي شيء، كالأعجمي الذي يلقن من دون أن يعلم ماذا يقول، أمكن دعوى انصراف الأدلة عنه.

الفرع الرابع: اشتراط الاتصال

بأن يسمي ويذبح، ومع الفصل لا يحل(4)، فلو سمى وذبح الأولى وجب تكرار التسمية للثانية، ولا يكتفي بالأول للفصل. نعم، لو ذبحهما بضربة واحدة كفت التسمية الواحدة.

الفرع الخامس: التسمية بعنوان كونها على الذبيحة

هل اللازم الإتيان بذكر الله للذبح، أم يكفي الذكر الاتفاقي؟ كما لو أراد الذبح فسأله سائل ما هو اسم خالق الكون؟ فأجابه: الله، فذكر اسم الله لا بقصد الذبح وإنما بغرض آخر.

في المسألة قولان:

الأول: ذهب في الجواهر(5) إلى عدم الكفاية؛ لانصراف الأدلة عنه، كما لو

ص: 174


1- سورة المسد، الآية: 1.
2- المصباح: 280.
3- الفقه 75: 377.
4- الفقه 75: 376.
5- جواهر الكلام 37: 168.

كان ينادي صاحبه: يا عبد الله، أو كان يقرأ الجريدة مثلاً، وذبحها عند الذكر.

والانصراف المذكور لو أخل بالظهور كان متبعاً، وإلا كان بدوياً ليس بحجة.

الثاني(1): كفاية ذلك؛ لشمول الآية له حيث ذكر اسم الله عليه، لكنه محل تأمل، فإن قوله تعالى {عَلَيۡهِ} ظاهره في القصد، وأما لو أراد الذكر بلا قصد ليشمل مثل نداء صاحبه لكان التعبير ب (عنده) لا (عليه).

الفرع السادس: خلط اسم الله مع غيره

لو خلط اسم الله مع غيره لم يحل، سواء كان عدو الله، كما لو قال: بسم الله واللات، أم كان وليه، كما لو قال: بسم الله وبسم عيسى.

قال في المسالك: «ولو قال: بسم الله ومحمد بالجر لم يجز؛ لأنه شرك. وكذا لو قال: ومحمد رسول الله، ولو رفع فيهما لم يضر؛ لصدق التسميةبالأول تامة، وعطف الشهادة للرسول زيادة خير غير منافية، بخلاف ما لو قصد التشريك»(2).

وفيه نظر؛ لأن ذلك يرتبط بالقصد، فمن لا يعرف الإعراب وجر وقصد التبرك لم يضر، فالملاك القصد، فلو قصد التشريك حرمت، ولو قصد التبرك لم تحرم.

الفرع السابع: رفع الصوت بالتسمية

لو رفع صوته بالتسمية فيما لو كان رفع الصوت حراماً، كما لو كان عند

ص: 175


1- الفقه 75: 378.
2- مسالك الأفهام 11: 479.

النبي(صلی الله علیه و آله) لقوله تعالى: {لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ}(1)، أو كان العدو يبحث عنهم فرفع صوته فدلى العدو عليهم(2)، لم يكن ذلك سبباً لحرمة الذبيحة؛ وذلك لجهتين:

الأولى: ليس الجهر والإخفات جزءاً من القراءة وإنما عرضان عليها، والحرام الواقع ليس في التسمية وإنما في الكيفية، وهي لا ترتبط بالذكر - كما بحث ذلك في مباحث الصلاة - فمن يرفع صوته في صلاة جهرية ليسمع العدو لا تبطل صلاته؛ لأن النهي ليس في العبادة - أي: القراءة - حتى يقال: إن النهي في العبادة موجب للفساد، وإنما النهي في رفع الصوت وهو كيفية، ومن الواضح أن العرض غير المعروض.

الثانية: لو كان نفس الذكر حراماً لم يسبب حرمة الذبيحة؛ لأنه ليسعبادة حتى يقال: إن النهي فيه موجب للفساد. وبعبارة أخرى: هو وجوب شرطي، ومع حرمته لا يبطل الشرط(3)، كما لو غسل ثوبه النجس بالماء المغصوب، قال السيد الوالد في الفقه: «ولا منافاة بين الوجوب الشرطي المعاملي والحرمة»(4).

ص: 176


1- سورة الحجرات، الآية: 2.
2- الفقه 75: 379.
3- هذا منافٍ لما مرّ من اشتراط الإخلاص، حيث مرّ لزوم عدم التشريك مع اسمه تعالى؛ لما يستظهر من الأدلة لزوم الإخلاص في التسمية، فلو لم تكن عبادة لما لزم الإخلاص، ولو كانت عبادة لزم التقيد بعدم الجهر فيما يحرم (المقرر).
4- الفقه 75: 379.
المسألة الثانية: في نسيان التسمية

لو نسي التسمية لم تحرم الذبيحة للروايات الصحيحة المستفيضة(1)، بالإضافة إلى الإجماع(2).

فروع: تتعلق بالمسألة الثانية

وهنا فروع:

الفرع الأول: عدم الفرق بين أنواع النسيان

لا فرق بين أنواع النسيان، فقد يكون منشؤه طبيعياً، وقد يكون منشؤه اللامبالاة(3)، فمن لا يعتني بشيء ينساه عادة؛ وذلك لإطلاق الدليل وعدم الانصراف، وإن ذهب جمع إلى الانصراف(4)، ومنشأ الخلاف استظهار الفقيه الإطلاق أو الانصراف.

الفرع الثاني: في إلحاق الجهل والخطأ بالنسيان

في إلحاق الجهل والخطأ(5) بالنسيان، قولان:

القول الأول: عدم الحلية(6)؛ لأن التسمية شرط لم يتحقق فتحرم، وإنما خرج النسيان بالدليل فيبقى الباقي في الإطلاق، بالإضافة إلى الأصل، فإن المشروط عدم عند عدم شرطه.

ص: 177


1- الكافي 6: 233؛ تهذيب الأحكام 9: 60؛ وسائل الشيعة 24: 29.
2- رياض المسائل 12: 102؛ الجواهر 37: 167؛ مستند الشيعة 15: 414.
3- الفقه 75: 377.
4- الفقه 75: 377.
5- كما لو أراد التسمية فسمى غيره.
6- مجمع الفائدة والبرهان 11: 114.

القول الثاني ما مال إليه البعض كالمحقق الأردبيلي(1): من أنه ملحق بالنسيان، وربما ذلك لأجل استفادة الملاك، ولو مع ملاحظة الأشباه والنظائر، كما يمكن التمسك بحديث الرفع أيضاً، إن تمَّ تعميمه إلى رفعه للحكم الوضعي.

وأما الخطأ في الإعراب أو الحرف فلا يضر، كالأعجمي، حيث يتلفظ (الهاء) في (الله) (حاء) وكذا الخطأ في القواعد العربية؛ وذلك لصدق ذكر اسم الله عليه.

وهناك فروع كثرة ذكرها السيد الوالد في الفقه(2)، كلها ترتبط باستظهار الإطلاق أو الانصراف.

مباحث في شرائط الذبح والنحر

تختص الإبل بالنحر وغيرها بالذبح تحت اللحيين، وهما عظما الفكالأسفل(3). قال في الشرائع: «اختصاص الإبل بالنحر وما عداها بالذبح في الحلق تحت اللحيين، فإن نحر المذبوح، أو ذبح المنحور فمات لم يحل»(4).

وفي المقام مباحث:

المبحث الأول: في نحر غير الإبل

والمنحر هو المنخفض الذي يقع في أسفل الرقبة حيث الصدر ويسمى

ص: 178


1- مجمع الفائدة والبرهان 11: 115.
2- الفقه 75: 376-381.
3- العين 3: 296، وفيه: « اللحيان: العظمان اللذان فيهما منابت الأسنان من كل ذي لحي».
4- شرائع الإسلام 4: 740.

باللبة(1)، ومنتهى اللبة باعتبار انخفاضه يسمى وهدة(2)، والذي يتم إدخال السكين أو الشيء الحاد بقوة فيه هو النحر، ويسبب قطع الحلقوم عادة.

ويختص النحر بالإبل، فلو نحر البقر لم يكفِ.

ويدل على ذلك أدلة:

الأول: إطلاقات أدلة الذبح، وأما أدلة النحر فهي مختصة بالإبل مفقودة في غيره.

الثاني: النصوص الخاصة الدالة على حرمة نحر البقر.

منها: صحيحة صفوان(3)،

قال: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن ذبح البقر فيالمنحر، فقال: للبقر الذبح وما نحر فليس بذكي»(4).

ولا يخفى أن الإمام(علیه السلام) إنما ذكر النحر مع أنه لم يكن مورد سؤال السائل لأن أهل مكة كانوا ينحرون البقر؛ لذا أكد الإمام(علیه السلام) على عدم جوازه.

ومنها: صحيحة يونس بن يعقوب(5)، قال: «قلت لأبي الحسن الأول(علیه السلام): إن أهل مكة لا يذبحون البقر إنما ينحرون في لبة البقر، فما ترى في أكل لحمها؟ قال: فقال(علیه السلام): {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفۡعَلُونَ}، لا تأكل إلا ما

ص: 179


1- الصحاح 2: 824، وفيه: «والمنحر أيضاً: الموضع الذي ينحر فيه الهدي وغيره... والنحر في اللبة: مثل الذبح في الحلق».
2- العين 5: 77، وفيه: «الوهد: المكان المنخفض، كأنه حفرة، تقول: أرض وهدة، ومكان وهد».
3- الكليني، عن علي، عن أبيه، عن صفوان... .
4- الكافي 6: 228؛ تهذيب الأحكام 9: 53؛ وسائل الشيعة 24: 14.
5- الكليني بأسناد متعددة منها عن علي، عن أبيه، عن البزنطي، عن يونس بن يعقوب... .

ذبح»(1).

الثالث: السيرة القطعية على ذبح غير الإبل.

وأشكل عليه بأنه يثبت جواز الذبح لا نفي غيره، إذ يمكن دعوى كونه واجباً تخييراً، والمسلمون يعملون بأحد الشقين(2).

نعم، لو قلنا: إن السيرة قائمة على عدم أكل المنحور ملتزمين به أمكن استفادة الحكم من ذلك.

المبحث الثاني: في نحر الإبل

ويدل عليه عدة أدلة:

الدليل الأول: السيرة من زمن النبي(صلی الله علیه و آله) إلى يومنا هذا(3).الدليل الثاني(4): قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ}(5).

وفيه نظر حيث لم يرد تفسيره بنحر البعير في الروايات(6)، وإنما هو من كلام المفسرين، وقد اختلفوا في معناها، فقال البعض: إن معنى الآية نحر الإبل، وقال آخرون: معناها رفع اليد إلى النحر للتكبير، وقال جمع: إنها

ص: 180


1- الكافي 6: 229.
2- وقد يرد عليه أن السيرة متحققة في الالتزام على الذبح والالتزام كاشف عن الإلزام (المقرر).
3- مستند الشيعة 15: 408، وفيه: «والظاهر أن الإجماع وعمل الناس وسيرتهم في الأعصار والأمصار - بحيث صار ضرورياً لكل أحد - يكفينا مؤنة الاستدلال».
4- كشف اللثام 9: 229.
5- سورة الكوثر، الآية: 2.
6- لكن ورد التفسير الثاني في بعض الروايات وعليه يمكن أن يكون المراد من الآية كما في الرواية حصراً أي رفع اليد للتكبير، فعن الصادق(علیه السلام) هو رفع يديك حذاء وجهك، كما يمكن أن يفسر بالظاهر العرفي من النحر، ولا يمنع الجمع بينهما فإن للقرآن ظهرا وبطنا (المقرر).

بمعنى الأضحية من دون بيان الطريقة(1).

نعم، في زماننا (وانحر) ظاهر في نحر الإبل، ويمكن التمسك بأصالة عدم النقل لإثبات نفس المعنى وقت نزول الآية.

الدليل الثالث: الروايات الخاصة الدالة على لزوم نحر البعير.

منها: خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «إن امتنع عليك بعير وأنت تريد أن تنحره فانطلق منك، فإن خشيت أن يسبقك فضربته بسيف، أو طعنته بحربة بعد أن تسمي فكل، إلا أن تدركهولم يمت بعد فذكه»(2).

فلو كانت وظيفته الذبح لما كان معنى لكلامه، فإنه(علیه السلام) وإن لم يكن في سياق بيان النحر، بل ذكره لغرض آخر وهو الامتناع، إلا أنه دال على لزوم النحر، ولو كان للتخيير لزم ذكر الشق الثاني.

الدليل الرابع: الإجماع(3).

مناقشة المحقق الأردبيلي للأدلة المذكورة

وقد ناقش المحقق الأردبيلي الأدلة المذكورة(4)، وأشكل في دلالتها

ص: 181


1- التبيان في تفسير القرآن 10: 418، وفيه: «قال ابن عباس وأنس بن مالك ومجاهد وعطاء: معنى وانحر: انحر البدن متقرباً إلى الله بنحرها خلافاً لمن نحرها للأوثان. وقيل: معناه فصل لربك صلاة العيد وانحر البدن والأضاحي. وقيل: معناه صل لربك الصلاة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك». ومجمع البيان 10: 460، وفيه: «أمره سبحانه بالشكر على هذه النعمة العظيمة، بأن قال: فصل صلاة العيد؛ لأنه عقبها بالنحر أي: وانحر هديك وأضحيتك... وقيل: معناه فصل لربك صلاة الغداة المفروضة بجمع، وانحر البدن بمنى... وقيل: معناه صل لربك الصلاة المكتوبة، واستقبل القبلة بنحرك...».
2- الكافي 6: 231؛ وسائل الشيعة 24: 21.
3- كشف اللثام 9: 228.
4- مجمع الفائدة والبرهان 11: 97-99؛ الفقه 75: 383.

على لزوم نحر الإبل.

أما دليل الإجماع فهو محتمل الاستناد، بل مقطوعه، فلا يكون حجة.

وأما الآية ففيها احتمالات ثلاثة فلا يمكن التمسك بها.

وأما الروايات فالظاهر أن وجه حرمة نحر البقر عدم مراعاة الشرائط، حيث لا تقطع الأوداج الأربعة بالنحر عادة؛ ولذا لو قطعت بحربة كبيرة وضربة قوية لم يعلم شمول روايات الحرمة له، حيث لا يعلم جهة الحرمة فيها، وفي الإبل لا تدل على عدم جواز ذبحه، بل أقصى دلالتها على الاختيار (وأنت تريد أن تنحره)، ومع التمسك بإطلاق أدلة الذبح يمكن القول بجواز ذبح الإبل، فلا وجه للتمسك بالرواية المذكورة للحكم بنحره على نحو الإلزام.

وأما الوجه في نفي الذبح للإبل في بعض الروايات فإنما هي لاشتراطتمزيق اللبة، بالإضافة إلى سائر الشرائط، وحيث إن اللبة لا تتمزق بالذبح عادة تمَّ النهي عنه، فالملاك تمزيق اللبة، سواء كان بالرمح أم الذبح، وحيث إن الذبح عادة يتمَّ من الفوق فلا تتمزق اللبة، فلم يتحقق الشرط لذا نهي عنه. وعليه، فلو مزق اللبة بالذبح كفى.

والحاصل: إن الجهة في الروايات الدالة على أنه (لا نحر للبقر) و (الإبل تنحر) هي عدم مراعاة سائر الشرائط، فإنه لو نحر البقر لم تنقطع الأوداج كلها عادة، ولو ذبح الإبل لم تتمزق اللبة عادة، فتحمل الروايات على المتعارف من عدم تحقق الشرائط بهذه الطريقة غالباً.

ويؤيد ذلك روايات تدل على التخيير في البقر وغيره.

ص: 182

منها: ما رواه في التهذيب: عن علي(علیه السلام) قال: «أتيت أنا ورسول الله(صلی الله علیه و آله) رجلاً من الأنصار فإذا فرس له يكيد بنفسه، فقال له رسول الله(صلی الله علیه و آله): انحره يضعف لك به أجران: بنحرك إياه واحتسابك له، فقال: يا رسول الله، ألي منه شيء؟ قال: نعم، كلْ وأطعمني، قال: فأهدى للنبي(علیه السلام) فخذاً منه فأكل منه وأطعمني»(1).

ومنها: ما في دعائم الإسلام: عن الإمام الباقر(علیه السلام): «أنه سئل عن البقرة ما يصنع بها، تنحر أو تذبح؟ قال: السنة أن تذبح وتضجع للذبح، ولا بأس إن نحرت»(2).

لكنه محل تأمل؛ لضعف سندهما مع إعراض المشهور عنهما أيضاً.وأما ما ذكره(3) من توجيه الروايات لعدم مراعاة سائر الشرط فهو خلاف الظاهر، حيث إن ظاهرها الإطلاق في النحر، سواء فرى الأوداج أم لا، وخاصة أنه لو ضرب اللبة بالرمح قطع الحلقوم والأوداج، فإن عادة القصابين الضرب عميقاً. وعليه، فلو ذبح الإبل أو نحر البقر لم يحل حتى مع تحقق الشرائط الأخرى، مضافاً إلى فهم المشهور من هذه الروايات؛ ولذا قال في المستند: «وما يستفاد من بعض المتأخرين - كالمقدس الأردبيلي: من عدم قيام دليل صالح على التفصيل - من التدقيقات الباردة التي لا ينظر إليها الفقيه»(4).

ص: 183


1- تهذيب الأحكام 9: 48؛ وسائل الشيعة 24: 122.
2- دعائم الإسلام 2: 180؛ مستدرك الوسائل 16: 133.
3- مجمع الفائدة والبرهان 11: 120.
4- مستند الشيعة 15: 408.
المبحث الثالث: عدم اشتراط قطع الحلقوم في النحر

قال في المستند: «والنحر أن يدخل السكين أو نحوها من الآلات الحديدة في الثغرة من غير قطع الحلقوم»(1).

واستدل عليه بالإجماع، وبالرواية الواردة في دعائم الإسلام المنجبرة بعمل المشهور، عن الإمام الصادق(علیه السلام): «أنه سئل عن البعير يذبح أو ينحر، قال: السنة أن ينحر، قيل: كيف ينحر؟ قال: يقام قائماً حيال القبلة، فتعقل يده الواحدة، ويقوم الذي ينحره حيال القبلة، فيضرب في لبته بالشفرة حتى يقطع ويفرى»(2). ولم يقيده بقطع الحلقوم؛ ولذا لا يشترط الضرب بقوة أو بعمق.

ويمكن الإشكال عليه: بأنه إنما يجبر ضعف السند فيما لو استند المشهور إلىالرواية الضعيفة، لا ما إذا أفتوا بلا استناد إليها، وكانت نتيجة الفتوى مطابقة لمفاد الرواية، بل هما دليلان ضعيفان. وفي المقام لا يعلم استنادهم إليها.

نعم، ما يمكن الاستدلال به على لزوم الضرب في اللبة هو السيرة، ويؤيده أن المنخفض في أسفل الرقبة يُسمى بالمنحر، أي: مكان النحر، فلو مزق ما فوق لم يصدق النحر، لكنه محل تأمل.

وهنالك دليل آخر يمكن الاستدلال به، وهو صحيحة معاوية بن عمار(3) قال: «قال أبو عبد الله(علیه السلام): النحر في اللبة والذبح في الحلق»(4). ويستفاد

ص: 184


1- مستند الشيعة 15: 407.
2- دعائم الإسلام 2: 180؛ مستدرك الوسائل 16: 132.
3- الكليني، عن علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار... .
4- الكافي 6: 228؛ وسائل الشيعة 24: 10.

منها عدم لزوم قطع الحلقوم في النحر.

المبحث الرابع: في قطع رأس الذبيحة قبل البرد

لو قطع رأس الذبيحة قبل أن تبرد، ولم يكن متعمداً، كما لو كان حيواناً صغيراً كالعصفور لم يحرم، ولم يفعل حراماً. إنما الكلام في صورة التعمد، فهل يحرم تكليفاً ووضعاً أم لا؟

قال المحقق في الشرائع: «وفي إبانة الرأس عامداً خلاف أظهره الكراهية»(1).

ودليل الطرفين الروايات الناهية، الظاهرة في الحرمة، المحمولة على الكراهة للقرائن.

وعلى فرض ثبوت الحرمة التكليفية فهل هنالك دليل على الحرمةالوضعية؟ ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء، لكن آخرين منهم فرّقوا بين الأمرين، حيث أثبتوا الحرمة التكليفية دون الوضعية.

ولو راجعنا الروايات - وفيها المعتبرة - استفيد منها كلا الأمرين، لكن المشهور - شهرة عظيمة - أعرضوا عنهما وأفتوا بالعدم، فلا بد من رفع اليد عن ظهورها، وأما الإشكالات الدلالية التي ذكرها بعض الفقهاء(2) على تلك الروايات فهي محل تأمل.

ومن تلك الروايات: صحيحة محمد بن مسلم(3) قال: >سألت أبا

ص: 185


1- شرائع الإسلام 4: 740.
2- مستند الشيعة 15: 437، وفيه: «وأما في الرأس فلأن ما يظن تعارضه منحصر في صحيحتي الحلبي ومحمد الأخيرة، وهما لمقام الجملة الخبرية عن إفادة الحرمة قاصرتان».
3- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن العلاء، عن محمد بن مسلم... .

جعفر(علیه السلام) عن الرجل يذبح ولا يسمي؟ قال: إن كان ناسياً فلا بأس إذا كان مسلماً، وكان يحسن أن يذبح، ولا ينخع(1) ولا يقطع الرقبة بعد ما يذبح»(2).

وسواء كان قوله(علیه السلام): (لا يقطع الرقبة) نهياً أو نفياً دل على الحرمة، أما النهي فواضح، وأما النفي فمعناه: أنه لا بأس بشرط أن يحسن الذبح وبشرط عدم القطع، ومفهومه أنه لو لم يحسن أو قطع ففيه البأس.

نعم، على الأول تثبت الحرمة التكليفية، وعلى الثاني الوضعية، وحيث يتردد الأمر بين الاحتمالين تصبح الرواية مجملة، فلا بد من الاحتياط للعلم إما بحرمة اللحم، أو حرمة العمل، فالشك في المكلف به ومجراه الاحتياط.ومنها: خبر مسعدة بن صدقة(3) قال: «سمعت أبا عبد لله(علیه السلام) وقد سئل عن الرجل يذبح فتسرع السكين فتبين الرأس، فقال(علیه السلام): الذكاة الوحية(4) لا بأس بأكله ما لم يتعمد ذلك»(5). ويستفاد من مفهومه الحرمة الوضعية.

ومنها: صحيحة الحلبي(6)،

عن أبي عبد الله(علیه السلام): «أنه سئل عن رجل ذبح طيراً فقطع رأسه أيؤكل منه؟ قال: نعم، ولكن لا يتعمد قطع رأسه»(7).

ص: 186


1- لا يقطع النخاع.
2- الكافي 6: 233؛ تهذيب الأحكام 9: 60؛ وسائل الشيعة 24: 29.
3- الكليني، عن علي، عن أبيه، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة، وفي وثاقته خلاف؛ لأنه عامي لم يثبت توثيقه الخاص، وإن أراد البعض إثبات وثاقته من بعض طرق، فالرواية موثقة أو مجهولة (السيد الأستاذ).
4- أي: السريعة.
5- الكافي 6: 230؛ تهذيب الأحكام 9: 56؛ وسائل الشيعة 24: 18.
6- الصدوق بإسناده عن حماد، عن الحلبي... .
7- من لا يحضره الفقيه 3: 328؛ وسائل الشيعة 24: 18.

وهي تدل على الحرمتين معاً، أما الحرمة التكليفية للنهي في قوله(علیه السلام) (لا يتعمد)، وأما الحرمة الوضعية فلتعليق جواز الأكل على عدم التعمد(1).

والحاصل: إن الشهرة العظمية على عدم الحرمة التكليفية والوضعية توجب حمل الروايات على الكراهة، وعليه لا يحرم قطع الرأس، وليس شرطاً في الحلية، لكنه مكروه.

المبحث الخامس: في سلخ الجلد أو قطع بعض الأعضاء قبل البرد

يكره سلخ جلد الذبيحة أو قطع عضو من أعضائها قبل أن يبرد(2). وإن قالبعض الفقهاء(3) بحرمته التكليفية بالإضافة إلى كونه موجباً لنجاسة الجلد والعضو المبان وحرمته.

لكن المشهور على الجواز والحلية لأدلة(4):

الدليل الأول: إطلاق الآية والروايات، حيث لم تقيد جواز الأكل بالبرد ثم القطع.

الدليل الثاني: ما مرّ من الروايات المعتبرة في باب الصيد من الحكم بجواز الأكل من القطعة المبانة من الصيد قبل موته، ومناطه شامل للمقام، فلو أصبح بالتقطيع ميتة حرم في الاثنين وإلا حلّ فيهما، ولا يبعد ثبوت المناط.

ص: 187


1- وفيه تأمل، حيث إن الحكم بجواز الأكل منه بقوله(علیه السلام): (نعم) مطلق سواء تعمد أم لا، ثم نهى الإمام(علیه السلام) عن فعله، وهو دال على الحرمة التكليفية فقط (المقرر).
2- شرائع الإسلام 4: 740؛ الجواهر 37: 183.
3- النهاية: 584؛ الوسيلة: 360؛ المهذب 2: 440.
4- الفقه 75: 391.

الدليل الثالث: أصالة الحلية، بعد عدم الدليل على التحريم، أي: أصالة البراءة عن الشرط الزائد.

الدليل الرابع: ما ذكره صاحب المستند(1): من جواز قطع الرأس قبل البرد، ولا فرق بين الرأس وسائر الأعضاء، فاستدل بجواز قطع الرأس على جواز قطع عضو آخر قبل برده.

كل ذلك مؤيداً بالشهرة والإجماع المنقول.

واستدل على الحرمة التكليفية أو الوضعية بأدلة(2):

الدليل الأول: أصالة الحرمة في غير الموضع المتيقن.

لكن مرّ رد هذا الأصل، فإنه إما استصحاب الحرمة أو استصحاب التذكية،وكلاهما لا يجريان خاصة مع الدليل الاجتهادي، وهو إطلاق الآية والرواية، إضافة إلى أن أصالة الحل حاكمة على أصالة الحرمة؛ لأنها أصل سببي، ومعها لا تصل النوبة إلى الأصل المسببي.

الدليل الثاني: الإجماع(3).

لكنه مقطوع العدم، فإن المشهور على عدمهما.

الدليل الثالث: الروايات الدالة على حرمة الألية المبانة من الحي(4)،

ص: 188


1- مستند الشيعة 15: 434.
2- الفقه 75: 391.
3- غنية النزوع: 397.
4- الكافي 6: 255 ، وفيه: «عن أبي بصير، عن أبي عبد الله(علیه السلام) أنه قال: في أليات الضأن تقطع وهي أحياء: إنها ميتة<. و«عن الحسن بن علي قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) فقلت له: جعلت فداك، إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها، فقال: حرام هي...<.

والمذبوح الذي لم يمت بعد حي، فلو فصل عنه قطعه كان حراماً، فإن الدليل على الحرمة يشملهما معاً.

وفيه: الفرق بين الموردين، فالأول من الجزء المبان عن الحي، وأما المذبوح فقد ذكي، ولا يصدق عليه أنه مبان من الحي، فهو قياس، مع وضوح الفرق بين الحي والمذبوح.

الدليل الرابع(1): الروايات ومنها: ما في الكافي: عن محمد ين يحيى العطار رفعه، قال: «قال أبو الحسن الرضا(علیه السلام): إذا ذبحت الشاة وسلخت أو سلخ شيء منها قبل أن تموت لم يحل أكلها»(2).

وفيه أولاً: ضعف السند للإرسال، مع ضعف بعض مشايخ محمد بن يحيىالعطار - وإن كان هو ثقة جليلاً - كسلمة بن الخطاب، حيث اتفق على ضعفه(3).

ثانياً: على فرض اعتبارها فإعراض المشهور عنها مسقط لها.

وثالثاً: على فرض تمامية دلالتها لم يفتِ أحد بمضمونها، فلم يقل أحد أن اللحم يصبح حراماً بسلخ الجلد، بل أقصى ما قيل كون الجلد من الميتة.

وعليه، فلا بد من حملها على كراهة الفعل، وإن كان ذلك خلاف الظاهر؛ لكونه أولى من الطرح.

ومنها: ما في دعائم الإسلام: عن رسول الله(صلی الله علیه و آله): «أنه نهى أن تسلخ

ص: 189


1- مستند الشيعة 15: 435.
2- الكافي 6: 230؛ وسائل الشيعة 24: 17.
3- فهرست أسماء مصنفي الشيعة: 187، وفيه: «سلمة بن الخطاب: أبو الفضل البراوستاني الأزد ورقاني - قرية من سواد الري - كان ضعيفاً في حديثه له عدة كتب»، ورجال ابن الضغائري: 66؛ خلاصة الأقوال: 345؛ نقد الرجال 2: 349؛ منتهى المقال 3: 370.

البهيمة(1) أو يقطع رأسها حتى تموت وتهدأ»(2).

وفيه: ضعف السند، مع إعراض المشهور.

الدليل الخامس: إنه تعذيب للحيوان، وهو محرم(3).

وفيه: إن هذا الدليل مركب من صغرى، وهي: إنه لو قطع جزء من الحيوان فهو تعذيب، لكنه أول الكلام، فمع قطع الأوداج يُغمى عليه، فلا يحس بقطع العضو حتى يقال: إنه تعذيب.

وكبرى وهي: إن تعذيب الحيوان حرام.

وقد استدل على حرمة تعذيب الحيوان بروايات لا سند لها، كقوله(صلی الله علیه و آله):«دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من حشاش الأرض»(4).

نعم، يمكن الاستدلال لذلك بوجه قريب، وهو أنه ظلم وكل ظلم حرام، وعن كشف اللثام الضرورة على حرمة تعذيب الحيوان، وما أشد البون بينه وبين كلام بعض المعاصرين من عدم الدليل على حرمته، وإن كان عملاً سيئاً.

الشرط الخامس: حركة الذبيحة
اشارة

الشرط الخامس(5): حركة الذبيحة

ثم إنه هل يشترط في الحلية حركة الذبيحة أو خروج الدم غير المتثاقل،

ص: 190


1- وفي نسخة: الذبيحة.
2- دعائم الإسلام 2: 175.
3- كشف اللثام 9: 235، وفيه: «ويتّجه التحريم للتعذيب».
4- عوالي اللئالي 1: 154؛ جامع أحاديث الشيعة 16: 922.
5- من الشروط المعتبرة في الذبح.

أو كلاهما معاً أو أحدهما؟ وفي المسألة أربعة أقوال(1):

الأول: يلزم أن تحرك الذبيحة عينها أو ذنبها أو رجلها، فلو لم تصدر منها أية حركة حرمت.

الثاني: يشترط خروج الدم غير المتثاقل، بأن يخرج بشكل طبيعي، أما غير الطبيعي فلا ينفع في الحلية.

الثالث: لابد من اجتماع الاثنين، بأن تتحرك ويخرج الدم بشكل طبيعي.

الرابع: كفاية أحدهما.

ومنشأ هذه الأقوال الأخبار الواردة، حيث ذكر في بعضها الحركة، وفي بعضها خروج الدم. فلابد من تنقيحها لاستظهار دلالتها.

أدلة القول الأول

أما ما استدل به للقول الأول(2) فهي الروايات المستفيضة وفيها الصحاح، وقد عمل بها المشهور خاصة المتأخرون.

ومنها: صحيحة الحلبي(3):

عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «سألته عن الذبيحة، فقال: >إذا تحرك الذنب أو الطرف أو الأذن فهو ذكي»(4). ومفهومه إذا لم يتحرك فليس بذكي.

ص: 191


1- الفقه 75: 395؛ مستند الشيعة 15: 418؛ جواهر الكلام 37: 186.
2- مختلف الشيعة 8: 307.
3- الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مسكان، عن محمد الحلبي... .
4- الكافي 6: 233؛ وسائل الشيعة 24: 23.

ومنها: صحيحة أبي بصير(1)

قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الشاة تذبح فلا تتحرك ويهراق منها دم كثير عبيط، فقال: لا تأكل، إن علياً(علیه السلام) كان يقول: إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل»(2).

فهاتان الصحيحتان تدلان - منطوقاً ومفهوماً - على اشتراط الحركة، وعدم كفاية خروج الدم.

أدلة القول الثاني

واستدل للقول الثاني(3) بروايات، منها: صحيحة زيد الشحام، عن الصادق(علیه السلام): «إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس»(4).ومفهومها: إذا لم يخرج الدم ففيه البأس وإن تحركت.

ومنها: خبر الحسين بن مسلم، قال: «كنت عند أبي عبد الله(علیه السلام) إذ جاءه محمد بن عبد السلام فقال له: جعلت فداك يقول لك جدي: إن رجلاً ضرب بقرة بفأس فسقطت ثم ذبحها، فلم يرسل معه بالجواب، ودعا سعيدة مولاة أم فروة فقال لها: إن محمداً أتاني برسالة منك فكرهت أن أرسل

ص: 192


1- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير المرادي... .
2- تهذيب الأحكام 9: 57؛ وسائل الشيعة 24: 24.
3- الدروس الشرعية 2: 414.
4- الكافي 6: 228؛ وسائل الشيعة 24: 9، وفيه: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن زيد الشحام قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل لم يكن بحضرته سكين أيذبح بقصبة؟ فقال: اذبح بالقصبة وبالحجر وبالعظم وبالعود إذا لم تصب الحديدة، إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس».

إليك بالجواب معه، فإن كان الرجل الذي ذبح البقرة حين ذبح خرج الدم معتدلاً فكلوا وأطعموا، وإن كان خرج خروجاً متثاقلاً فلا تقربوه»(1).

وبناءً عليها لم يتعلق الأمر بالحركة وإنما بالخروج الطبيعي للدم.

ولا يخفى سرّ عدم الفائدة في الخروج المتثاقل؛ لأن ذبح الحيوان الميت حديثاً مستلزم لخروج الدم بشكل طبيعي أيضاً؛ لعدم انجماده، لكن يكون خروجه بتثاقل، أما لو كان حياً فيخرج بقوة للدفع الحاصل بفعل عمل القلب.

أدلة القول الثالث والرابع

واستدل للقول الثالث والرابع(2) بأنه طريق الجمع بين الطائفتين من الأخبار، فإن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح.

لكن هذه الطريقة من الجمع محل تأمل؛ لاشتراط كونه عرفياً، وإلا أصبح تبرعياً، وإنما تصح القاعدة فيما لو كان الجمع عرفياً.وأما الطريقة الثانية للجمع فهي فنية وحسب القواعد، ولكنها بحاجة إلى دقة نظر.

وبيان ذلك: إن مفهوم كل واحد منهما معارض لمنطوق الآخر، فمنطوق الطائفة الأولى هو: (إذا تحرك فهو ذكي)، ومفهومها (إذا لم يتحرك فليس بذكي وإن خرج الدم). ومنطوق الطائفة الثانية هو: (إذا خرج الدم فلا بأس)، ومفهومها (إذا لم يخرج الدم ففيه البأس تحرك أو لم يتحرك)،

ص: 193


1- الكافي 6: 232؛ تهذيب الأحكام 9: 56؛ وسائل الشيعة 24: 25.
2- غاية المرام في شرح شرائع الإسلام 4: 23؛ الفقه 75: 398.

فيتعارض مفهوم الأولى مع منطوق الثانية، ومفهوم الثانية مع منطوق الأولى، فيُعمل بالمنطوقين وتُرفع اليد عن المفهومين، وتكون النتيجة الحكم بالتذكية بخروج الدم والحركة جمعاً أو تخييراً.

وبما أنه لا يمكن رفع اليد عن المفهوم إلا بعد رفع اليد عن المنطوق - وذلك لأن دلالة المفهوم تبعية، فالخلل في المفهوم كاشف عن الخلل في المنطوق لأنه الدال عليه، ومع بقاء الأصل على دلالته وعدم التصرف فيه لم يمكن رفع اليد عن الفرع - فلابد من التصرف في المنطوق بأن نقول: للمنطوق إطلاقان لابد من رفع اليد عن أحدهما، حتى يمكن رفع التعارض بين الطائفتين، وهما: الأول: الإطلاق مقابل التقييد ب (أو). والثاني: الإطلاق مقابل التقييد ب (الواو).

بيان ذلك: إن للتحرك - الذي هو سبب الحلية - إطلاقاً قبال التقييد ب (أو)، أي: إن التحرك سبب الحلية مطلقاً، في قبال الحركة أو خروج الدم، فتارة نقول: الحركة مطلقاً، وتارة نقول: الحركة أو خروج الدم، ومعنى التقييد المذكور التخيير. وللتحرك إطلاق في قبال التقييد ب (الواو)، أي: إن التحركسبب للحلية مطلقاً في قبال التحرك المقيد بخروج الدم، ومعنى التقييد المذكور هو الجمع.

وقد رجح في فقه الصادق(1) الإطلاق الأول؛ وذلك لأن التقييد ضرورة وهي تقدر بقدرها، وقد اضطررنا إليه لرفع التعارض بين المفهوم والمنطوق، فلابد من رفع اليد عن أحد الإطلاقين، وهو ما كان التقييد فيه أقل، وهو

ص: 194


1- فقه الصادق 36: 159.

الإطلاق الأول.

بيانه: إن الحلية حكم، فإن كانت مقيدة بالتحرك وخروج الدم كانت دائرتها ضيقة، بخلاف ما لو كانت مقيدة بالتحرك أو خروج الدم؛ وذلك لأن معنى التقييد ب (الواو) هو أنه لو تحققت الحركة فقط حرمت الذبيحة، ولو تحقق خروج الدم فقط حرمت، وأما مع التقييد ب (أو) فيحلان، فتقييد الحكم بالحلية ب (أو) يضيق سعة الحكم أقل من التقييد ب (الواو)، فيرجح عليه. والنتيجة كفاية تحقق أحدهما.

ويرد عليه أمور بعضها مبنائية، ومنها: ما ذهب إليه من عدم إمكان رفع اليد عن المفهوم(1) إلا بعد التصرف في المنطوق لتبعية دلالته له، وهو محل تأمل، حيث يمكن رفع اليد عن المفهوم من دون التصرف في المنطوق؛ لما ذكر في الأصول(2): من أن أمر المفهوم دائر مدار الوجود والعدم، ولا يمكن تحققه مندون الحكم بحجيته، فإن وجوده مساوق لحجيته، وشرط وجود المفهوم أن يكون علة منحصرة بالفرد، وإلا لم يتحقق المفهوم، فلابد من إثبات كون الشرط علة منحصرة للجزاء.

وفي المقام، لو أردنا رفع التعارض نقول: إن الاشتراط ليس علة منحصرة أو نشكك في انحصارها، فيكون أصل وجود المفهوم محل إشكال، وليس ذلك تصرفاً في المنطوق؛ لأن انحصار العلة يستفاد من القرائن الخارجية،

ص: 195


1- أي: قوله في فقه الصادق 36: 159: «ولكن حيث لا يمكن التصرف في المفهوم، الذي هو دلالة تبعية بدون التصرف في المنطوق، فلا بدَّ من رفع اليد عن أحد إطلاقي المنطوق في كل منهما».
2- درر الفوائد 1: 195؛ فوائد الأصول 1: 479.

ولا يرتبط بالشرط. هذا أولاً.

وثانياً: إن التصرف في الإطلاق والتقييد أمر عرفي، وهو سرّ تقدم الخاص على العام، فإن العرف يرجح النص والأظهر على الظاهر، وهو مقتضى الجمع العرفي. والترجيح المذكور بهذه الكيفية غير عرفي، فلو أُعطيت الطائفتان للعرف، بمنطوقهما ومفهومهما، رأى التعارض بينهما، فالقول بالجمع أو التخيير ينافي ظاهر الطائفتين. فلابد من الرجوع إلى أحد القولين الأولين.

القول المختار

ومقتضى القاعدة القول بكفاية الحركة فقط، وعدم اشتراط خروج الدم المتعارف؛ وذلك لتمامية مفهوم الطائفة الأولى، وأما الطائفة الثانية فهي بين ما لا مفهوم لها، وبين ما لا سند لها.

بيان ذلك: إن قوله(علیه السلام) في صحيحة زيد الشحام: «إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا بأس»(1) لا مفهوم له؛ لأن الرواية غير ناظرة إلى اشتراطالحركة أو خروج الدم، والإطلاق إنما يكون حجة إذا كان المولى في مقام البيان من هذه الجهة، والجهة المرادة في الصحيحة كفاية الذبح بغير السكين من الحجر والليطة، وأما خبر الحسين بن مسلم(2) فإنه وإن تمَّ مفهومه؛ لأنه في مقام البيان من هذه الجهة لكن سنده ضعيف(3).

ولا يخفى أن للمسألة موارد منها: ما لو كان رأس الذبيحة إلى الأعلى،

ص: 196


1- مرّ تخريجه.
2- وسائل الشيعة 24: 25.
3- لجهالة الحسين بن مسلم (السيد الأستاذ).

ومنها: ما لو كان مجروحاً من قبل، فيظهر فيها كفاية الحركة وإن لم يخرج الدم.

الأقوال في زمان الحركة

ثم إنه في زمان الحركة المشروطة في الذبيحة ثلاثة أقوال(1)، هي:

الأول: اشتراط الحركة ولو قبل الذبح.

الثاني: اشتراطها بعد الذبح.

الثالث: اشتراطها سواء حين الذبح أو بعده.

ففي الأول تشترط الحركة مطلقاً، وفي الثاني بعد الذبح، وفي الثالث لا فرق بين كونها حينه أو بعده، ومنشأ الأقوال اختلاف الاستظهار من الروايات.

وقد استدل للقول الأول(2): بخبر أبان بن تغلب عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنه قال: «إذا شككت في حياة شاة فرأيتها تطرف عينها أو تحركأذنيها، أو تمصع بذنبها فاذبحها فإنها لك حلال»(3).

ويرد عليه الضعف سنداً(4)،

بالإضافة إلى الإشكال دلالة، حيث إنه في مقام بيان لزوم إحراز الحياة قبل الذبح، وعلامة ذلك الحركة قبل الذبح، كما أنه معارض بصحيحة أبي بصير قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الشاة تذبح فلا تتحرك ويهراق منها دم كثير عبيط، فقال: لا تأكل، إن علياً(علیه السلام)

ص: 197


1- الفقه 75: 400؛ مستند الشيعة 15: 424.
2- كشف اللثام 9: 231.
3- الكافي 6: 232؛ تهذيب الأحكام 9: 57؛ وسائل الشيعة 24: 23.
4- بسهل بن زياد على المشهور في ضعفه، وإن كان لنا تأمل في ضعفه (السيد الأستاذ).

كان يقول: إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل»(1)، ومفادها أن الحركة قبل الذبح لا تنفع.

واستدل للقول الثاني - أي اشتراط الحركة بعد الذبح - وهو مختار الجواهر(2) بالصحيحة المذكورة الدالة على لزوم تحقق الحركة بعد الذبح لمكان فاء التفريع.

لكن أشكل عليه في الفقه(3) بأن العرف يفهم من الرواية أن الحركة تكون بسبب الذبح، سواء كانت بعده أو مقارنة له، فإن الفاء وإن كانت للترتيب لكن الترجيح مع فهم العرف. نعم، لو شك في الفهم العرفي كانت اللغة حجة؛ لأنها مرآة للعرف.

وبعبارة أخرى: إنما تجري أصالة الحقيقة حيث لا نعلم المراد، فيكون المعنى اللغوي حجة، لكن لو فهم المراد بوسيلة العرف فلابد من رفع اليد عنالمعنى اللغوي، كما هو الحال في المعنى المجازي، فإن العرف يفهمه لأجل القرينة، فيرفع اليد عن المعنى اللغوي.

فرع: في اشتراط اجتماع الحركات الثلاثة وعدمه

ثم إنه لا يشترط اجتماع الحركات الثلاثة - وهي حركة العين والرجل والذنب - بل يكفي تحقق إحداها(4)؛ وذلك لأن غالب الروايات عطفت الحركات ب (أو)، وهي ظاهرة في التخيير.

ص: 198


1- تهذيب الأحكام 9: 57؛ وسائل الشيعة 24: 24.
2- جواهر الكلام 37: 190.
3- الفقه 75: 400-401.
4- مستند الشيعة 15: 423.

ويؤيده اختلاف الروايات، ففي بعضها أشير إلى علامتين(1)، وفي بعضها إلى ثلاث(2)، ولا يرى العرف تنافياً بينها، بل تكفي إحداها لمعرفة حياة الحيوان، فلا خصوصية للعدد، بل اللازم صدور أصل الحركة.

نعم، هنالك رواية واحدة عطفت الحركات ب (الواو)، وظاهرها لزوم الجمع، وهي قوله(علیه السلام): «آخر الذكاة إذا كانت العين تطرف والرجل تركض والذنب يتحرك»(3).

لكن لابد من حملها على أحد محملين لكي لا تنافي تلك الروايات، وهما(4):الأول: وإن كان ظاهر (الواو) الجمع لكن لابد من حملها في المقام على معنى (أو)، وقد استعمل ذلك في اللغة والعرف أيضاً؛ وذلك لأجل الروايات الدالة على التخيير، والتي هي أكثر عدداً وأصح سنداً.

الثاني: الحمل على أفضل الأفراد، فأفضل الذبائح ما يحصل فيها العلامات كلها.

ومع عدم ارتضاء أحد المحملين - لكونه جمعاً تبرعياً - لابد من الإعراض عنها، لضعف سندها ولمكان فتوى المشهور.

ص: 199


1- الكافي 6: 233؛ وسائل الشيعة 24: 23. عن أبي عبد الله(علیه السلام) أنه قال في الشاة: «إذا طرفت عينها أو حركت ذنبها فهي ذكية».
2- الكافي 6: 232؛ وسائل الشيعة 24: 24. عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «في كتاب علي(علیه السلام): إذا طرفت العين أو ركضت الرجل أو تحرك الذنب وأدركته فذكه».
3- الكافي 6: 208؛ وسائل الشيعة 23: 350.
4- الفقه 75: 401.
فرع: في كفاية صدور حركة أخرى غير ما ورد في الروايات

الظاهر كفاية صدور حركة أخرى غير ما وردت في الروايات، كما لو حركت شفتها أو فتحت فمها(1)؛ وذلك لأن العرف يفهم من العلامات الواردة أنها لمعرفة الحياة، فذكرها بعنوان المثال؛ لأنه الفرد الغالب لا خصوص موضوعيتها، ويؤيده عدم ذكر بعض الحركات في بعض الروايات.

فرع: اشتراط صدور الحركة من الحي

يشترط أن تصدر الحركة من الحي(2)، وأما ما يصدر من الميت مما هو طبيعي بسبب تغييرات تحصل في بدنه، ولا ترتبط بالحياة أو بالألم، والتي ربما تصدر حتى من الجماد، كرجفة جلده وما أشبه ذلك، فلا ينفع في الحلية.

والظاهر من الروايات لزوم كون الحركة ناشئة عن الحياة وإن لم تكن اختيارية، فإن المذبوح في اللحظة الأولى يفقد الوعي ولا يدرك، فتصدر منهالحركة بغير إرادته، كالحركة الصادرة عن النائم حيث لا يشعر ولا يعي، ويدل على ذلك الفهم العرفي، وقد نسبت الحركة في بعض الروايات إلى الحيوان، وظاهر نسبة الفعل إليه أن منشأه الحياة، كما في خبر أبان: (تطرف عينها)(3)، ولا يطلق مثل ذلك على حركة الميت، وفي خبر رفاعة: «في الشاة إذا طرفت عينها وحركت ذنبها»(4).

ص: 200


1- الفقه 75: 401.
2- مستند الشيعة 15: 423.
3- الكافي 6: 233؛ وسائل الشيعة 24: 23.
4- الكافي 6: 233؛ وسائل الشيعة 24: 23.

ولو شك في منشأ الحركة، كما لو افترسه الذئب وجرى منه دم كثير، ثم ذبح، فتحرك ولم يعلم أنه ناشئ عن الحياة أو حركة ميت، لم يحل؛ وذلك لعدم تحقق شرط الحلية.

إن قلت: يمكن استصحاب الحياة، فحين الذبح كان حياً فيكون منشأ الحركة الحياة.

قلت: أولاً: إنه أصل مثبت، فإن استصحاب الحياة لإثبات كون الحركة حركة حي أمر تكويني.

وثانياً: حيث حدد الشارع الحلية بالحركة فلا تصل النوبة إلى الأصل مع وجود الأمارة، فلابد من إثبات كون الحركة حركة حي(1).

فرع: عدم الحاجة لتكرار الحركة

لا حاجة إلى تكرار الحركة، بل تكفي المرة لتحقق الشرط، لإطلاقالدليل.

فرع: إذا لم يتحرك وعلمنا بحياته

لو لم يتحرك لكن علمنا بحياته قطعاً(2)، وعلمنا بأن موته بسبب الذبح، فلو كانت للحركة الموضوعية لم ينفع، وعليه تكون الحياة والحركة شرطين، ولو كانت طريقية حلّ، وكان شرطاً واحداً، فإن طريق معرفة الحياة الحركة، فكل طريق كافٍ لمعرفة الحياة وإن لم يتحرك.

ص: 201


1- وفيه: بغض النظر عن كونه مثبتاً، فإن الإشكال الثاني غير وارد، فإن الاستصحاب على فرض جريانه يعيّن شرط الحكم الشرعي، فبالاستصحاب تثبت الحياة فيتحقق الشرط، وهو الحلية. (المقرر).
2- مستند الشيعة 15: 423.

والظاهر موضوعية الحركة، وهو مختار صاحب الجواهر(1)، خلافاً لما في الفقه(2).

وقد استدل له بأنه الظاهر من الاشتراط(3)، لخبر أبان: «إذا شككت في حياة شاة فرأيتها تطرف عينها أو تحرك أذنيها، أو تمصع بذنبها فاذبحها فإنها لك حلال»(4). حيث إن الحركة متفرعة على الشك، فلو شك في الحياة فتحرك كان حلالاً، وظاهره الطريقية إلى الحياة، فإن اشتراط الحركة إنما هو في صورة الشك فمع العلم لا تشترط.

لكنه محل تأمل؛ لما مرّ من أن الحركة هنا لما قبل الذبح ليعرف أنه حي حتى لا يذبح الميت، فلا يرتبط الأمر بالحركة حين الذبح أو ما بعده، فلاينافي ذلك اشتراط الحركة بعد الذبح.

نعم، لو كان هنالك مانع خارجي عن الحركة فلم يتحرك، كما لو سدّ يده بقوة، لم يكن به بأس، فالمانع عن الحركة قسري، وإنما الكلام في اشتراط تحقق الحركة وإن علم بحياته، فهو شرط كشرطية الحديد.

ص: 202


1- جواهر الكلام 37: 192، وفيه: «نعم، لو فرض العلم بكونه حياً إلى ما بعد تمام الذبح، ولم تحصل منه حركة، ولا خرج منه دم اتجه الحل وإن كان تحقق هذا الفرض غير معلوم».
2- الفقه 75: 402.
3- الفقه 75: 402.
4- الكافي 6: 232؛ تهذيب الأحكام 9: 57؛ وسائل الشيعة 24: 23.

الفصل الخامس: في سوق المسلمين

اشارة

ولا يخفى أن قسماً من البحث يختص بكتاب الطهارة، ولكن الكلام هنا في سوق المسلمين، قال في الشرائع: «ما يباع في أسواق المسلمين من الذبائح واللحوم يجوز شراؤه، ولا يلزم الفحص عن حاله»(1)، وقال في الجواهر: «بل لعله مكروه»(2).

وفي المقام ثلاث أمارات قد تجتمع معاً، وقد لا تجتمع، وهي: سوق المسلمين، وأرضهم، ويد المسلم.

والبحث فعلاً في السوق، وفي جهة من جهاته وهي الحلية.

وقد انعقد الإجماع(3) على حجيته، بالإضافة إلى الروايات المستفيضة:

ومنها: صحيحة الفضلاء(4):

«سألوا أبا جعفر عن شراء اللحم من الأسواق ولا يدرون ما صنع القصابون؟ قال: كلْ إذا كان ذلك في أسواق المسلمين ولا تسأل عنه»(5).

ص: 203


1- شرائع الإسلام 4: 741.
2- جواهر الكلام 37: 205.
3- كفاية الأحكام 2: 590؛ كشف اللثام 9: 238؛ رياض المسائل 12: 117.
4- الكليني، عن علي، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن فضيل وزرارة ومحمد بن مسلم أنهم سألوا... .
5- الكافي 6: 237؛ وسائل الشيعة 24: 70.

ومنها: صحيحة البزنطي(1)

عن الرضا(علیه السلام)، قال: «سألته عن الخفاف(2) يأتي السوق فيشتري الخف لا يدري هو ذكي أو لا، ما تقول في الصلاة فيه، وهو لا يدري أيصلي فيه؟ قال: نعم، أنا أشتري الخف من السوق، ويصنع لي وأصلي فيه، وليس عليكم المسألة»(3). وليس معنى ذلك أنه(علیه السلام) كان يلبس الخف الميتة، بل أراد بيان جواز العمل بالظاهر، وأما هو(علیه السلام) فيعمل بعلمه الواقعي.

ومنها: ما ورد حول جبة الفرو في صحيحة البزنطي(4)، قال: «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال: نعم، ليس عليكم المسألة، إن أبا جعفر(علیه السلام) كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك»(5).

ومن ذلك يستظهر كراهة الفحص والسؤال حيث ورد النهي عنه.

وقد استثنى العلامة الحلي من سوق المسلمين ما كان مستحلاً لذبائح أهل الكتاب(6).

ص: 204


1- الشيخ الطوسي بإسناده عن أحمد بن محمد، عن البزنطي... .
2- جمع خف وهو شيء بين الجورب والحذاء يصنع من الجلد، يلبسه بعض خدام العتبات اليوم.
3- تهذيب الأحكام 9: 371؛ وسائل الشيعة 3: 492.
4- الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن علي ابن محبوب، عن أحمد بن محمد، عن البزنطي... .
5- تهذيب الأحكام 9: 368؛ وسائل الشيعة 3: 491.
6- تحرير الأحكام 4: 626.

وأجاب عنه في الجواهر بأنه ضعيف(1)؛ لإطلاق الصحيحة(2)، مضافاً إلى أن السوق كان زمان المعصومين(علیهم السلام) سوق العامة، وكلهم أو غالبهم يستحلون ذبائح أهل الكتاب، ولم يكن للشيعة سوق خاص، ومع ذلك ورد عدم السؤال، والشرط المذكور مستلزم لتخصيص الأكثر، وهو قبيح.

وما قيل: من عدم جريان الحكم في الزمن الحاضر؛ لأن أهل السوق لا يبالون اليوم! غير تام؛ لأن عدم المبالاة في السابق كان موجوداً إن لم يكن أكثر من اليوم، وخاصة أن الكثير منهم كانوا عبيداً من بلاد الكفر، فإنه وإن أسلم بعضهم لكن نشأت طبيعته في بلاد الكفر، فالأمر بعدم السؤال كما يشمل زمانهم يشمل زماننا.

فرع: في حلية اللحوم من كل الجهات

إن حلية اللحوم تكون من كل الجهات؛ لإطلاق الروايات التي لم تقيدها بجهة معينة.

قيل: من الجهات: الحلية مع الشك في كونه من حيوان محلل أو محرم كما في السمك، فإن بعض العامة يحللون جميع الموجودات البحرية(3)،

ص: 205


1- جواهر الكلام 37: 206، وفيه: «... وظاهرها عدم الفرق بين ما يأخذ من السوق بين معلوم الإسلام ومجهوله، وبين مستحل ذبائح أهل الكتاب من المسلمين وغيره، فما عن التحرير من اعتبار كون المسلم ممن لا يستحل ذبائح أهل الكتاب واضح الضعف، خصوصاً بعد اشتهار الجواز بين المخالفين الذي كان في ذلك الزمان لا يعرف سوق إلا لهم، ومورد النصوص الأخذ منهم...».
2- وهي صحيحة البزنطي عن الرضا(علیه السلام).
3- رياض المسائل 12: 139؛ المغني 11: 84-85؛ الشرح الكبير 11: 87.

وبعضهم يحلل السمك مطلقاً، فلا يلزم السؤال، وكذا أقراص دهنالسمك.

وفيه نظر، لانصراف الدليل إلى ما كان حلالاً في أصله وشك في مراعاة شرائطه، ولا أقل من عدم ثبوت الإطلاق، لعدم كونه(علیه السلام) في مقام البيان من هذه الجهة أو لوجود قدر متيقن في مقام التخاطب، فتأمل.

ومن الجهات: الحلية من جهة الذبح، فهل كان الذابح مسلماً؟ وهل تحققت شرائط الذبح؟

ومن الجهات: حلية الأجزاء، كما لو علم أنه لحم شاة وروعيت الشرائط، ولكن لا يعلم أنه هل يحتوي على الأجزاء المحرمة؟ كما في طعام الأسواق، فإطلاقات الأدلة تشمل جميع هذه الجهات، والتحقيق غير لازم، بل هو مرجوح.

إن قلت: لكن الأثر الوضعي يؤثر أثره فيما لو كان حراماً واقعياً.

قلت: ذهب السيد الوالد في الفقه(1) إلى أنه لا دليل على ثبوت الأثر الوضعي، وتأثير المشكوك على النفس والروح غير ثابت، حيث لم ترد في ذلك آية أو رواية، وهل يعقل أن يأمر الإمام(علیه السلام) بعدم السؤال، ثم يقول: إن ارتكابه سيؤثر سلباً عليك؟ وبعبارة أخرى: من جهة يقول المعصوم(علیه السلام): يكره السؤال، ومن جهة يقول: له أثر وضعي وحتى لا تبتلى به اسأل، هذا تهافت.إن قلت: لا شك أن الضرر ثابت للمحرمات، وهو لا يرتبط بالعلم

ص: 206


1- الفقه 75: 414، وفيه: «وما اشتهر في بعض الألسنة: من أن الحرام الواقعي يؤثر أثره لم أجد عليه دليلاً، بل سيرة النبي(صلی الله علیه و آله) والأئمة والعلماء الراشدين على خلافه، وأن المعيار الظاهر، وليس معنى هذا الكلام أنهم(علیهم السلام) كانوا يتناولون المحرم واقعاً المحلل ظاهراً، بل معناه أنهم علّموا بقولهم وسيرتهم عدم الفحص والاعتماد على السوق واليد والأرض».

والجهل.

قلت: لم يثبت كون الحرمة في كل المحرمات لأجل الضرر، فقد يكون بعضها لذلك، وبعضها لأجل الالتزام بالآداب، وبعضها لأجل عدم الوقوع في حرام آخر، فهي كالحمى، كما في حرمة نظر الرجل العجوز جداً للأجنبية، فحكمة النظر - وهي أنه سهم من سهام إبليس(1) - غير جارية، ومع ذلك فالحكم ثابت؛ وذلك لأجل أن الشارع أراد جعل الموانع حول هذا الفساد، فما هو في الواقع حرام لو حلّ ظاهراً لم يكن به بأس، فالحرمة غيرية. فما يقال: من أن تحريم اللحم الذي ذبحه الكافر فيه ضرر غير معلوم، بل لا فرق بينهما خارجاً، فالحرمة لأجل الآداب التي أراد الشارع الالتزام بها(2)، وهل يمكن القول: إن الصلاة خلف من تبين أنه كان كافراً أو فاسقاً فيها أثر وضعي؟!

وإن أبيت إلا عن تحقق الأثر الوضعي، فنقول: لابد للفرد أن يكون مطيعاً، ولا يسأل حيث نهاه الإمام(علیه السلام) عن السؤال.

بيان المراد من سوق المسلمين

قال في المسالك: «واعلم أنه ليس في كلام الأصحاب ما يعرف بهسوق

ص: 207


1- الكافي 5: 559 ، وفيه: عن علي بن عقبة، عن أبيه، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: سمعته يقول: «النظر سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة».
2- الفقه 75: 334، وفيه: «ثم لا يخفى أن الحرمة في الكفار، سواء قيل بها مطلقاً، أم في الجملة نوع تحديد للإسلام والمسلمين، ونوع ضغط أدبي على الكفار، كما هو كذلك في نجاستهم، فإن الضغوط الأدبية لها آثارها في تقويم المنحرف، فلا يلازم التحريم وجود ضرر في نفس الذبيحة».

الإسلام من غيره، فكان الرجوع فيه إلى العرف»(1).

بل تعيين الموضوع ليس من شأن الفقيه؛ ولذا لم يحدد في غالب الروايات. نعم، في الموضوعات المستنبطة تمّ تعيين الحدود؛ لأن الشارع اخترعها، وفي بعض الأحيان حيث سأل الراوي يبين له الموضوع لجهله، فالجواب ليس من باب بيان الحكم، بل من باب بيان المطلب العرفي.

ويوجد في المقام رواية معتبرة يفهم منها معنى سوق المسلمين، وهو مطابق للمعنى العرفي، وهي موثقة إسحاق بن عمار(2)، عن العبد الصالح(علیه السلام) أنه قال: «لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام، قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال: إذا

كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس»(3). فالمراد من السوق ما كان الغالب فيه المسلمين، ولا يهم غلبة المسلمين في البلد، بل الملاك المدينة، بل المنطقة، ففي بلاد الإسلام لو كانت هناك منطقة يهودية لم يكن سوقه سوق المسلمين، وفي بلاد الكفر لو كانت هناك منطقة إسلامية كان السوق سوقهم.

ملكية المنذور

ذكر في الشرائع فروعاً لا ترتبط مباشرة بالمقام، وإنما بباب النذر والبيع والحج، حيث قال: «إذا نذر أضحية معينة زال ملكه عنها»(4)، وعللهفي

ص: 208


1- مسالك الأفهام 11: 491.
2- الشيخ الطوسي بأسناده عن سعد، عن أيوب بن نوح، عن عبد الله بن المغيرة، عن إسحاق بن عمّار... .
3- التهذيب 2: 368؛ وسائل الشيعة 3: 491.
4- شرائع الإسلام 4: 741.

المسالك بقوله: «لتعينها للذبح»(1)، فإن زوال آثار الملك دال على زواله.

لكنه محل تأمل؛ لأن التعيين ليس من مخرجات الملك، فإن الخروج عن الملك بحاجة إلى سبب عينه الشارع مستقلاً، أو كان عقلائياً أمضاه الشارع.

وأما القول بزوال آثار الملك فيرد عليه:

أولاً: إن بعض الآثار باقية؛ ولذا صرحوا بجواز الانتفاع بلبنها وصوفها ونتاجها، كما يجوز ركوبها(2)، فلو لم يكن مالكاً فكيف جاز له التصرف دون غيره؟

ثانياً: لا ملازمة بين انتفاء آثار الملك والخروج عن الملكية؛ وذلك كالمحجور عليه، فإنه لا يحق له التصرف مع أنه مالك.

واستدل(3) ببعض الروايات على زوال الملك بذلك، فمنها: إنه كانت لأحد أصحاب النبي(صلی الله علیه و آله) ناقة منذورة، فأراد استبدالها بنياق، فنهاه النبي(صلی الله علیه و آله) عن ذلك(4).

ومنها(5): ما أورده العلامة في المنتهى من قوله(علیه السلام): «من عيّن أضحية فلا يستبدل بها»(6).

ص: 209


1- مسالك الأفهام 11: 497.
2- الخلاف 6: 57.
3- مسالك الأفهام 11: 497.
4- الخلاف 6: 56.
5- وقد استدل بها في المسالك 11: 497.
6- منتهى المطلب 2: 760؛ تذكرة الفقهاء 8: 325.

وهما بالإضافة إلى إرسالها، لا تدلان على الخروج عن الملك، فهنالك موارد عديدة للملكية مع عدم الحق في الاستبدال، كما في الجاريةالمستولدة.

وقيل: إن التبديل جائز لأصالة صحة التبديل، كما في المسالك(1)، وفي حاشيته نسبة القول إلى بعض العامة(2).

وفيه نظر؛ لأن الأصالة إنما تجري فيما لو لم يكن المملوك مورداً للنذر، وأما لو كان التبديل خلاف الوفاء بالنذر، حيث إن متعلق النذر لم يكن مطلقاً، بل معيناً، فلا مجال للأصل المذكور.

واستدل البعض(3) على بقاء الملك بما لو نذر عتق عبد معين فلا يحق له بيعه؛ لمنافاته الوفاء بالنذر، ومع ذلك لا يخرج عن ملكه كذلك المقام.

والجواب عنه بالفرق بين المقامين، فإن متعلق النذر في المقام نفس الأضحية، وفي العبد فعل الناذر وهو العتق، فالمنذور ليس هو العبد وإنما الفعل. نعم، لو كان متعلق النذر الذبح أو تعلق النذر بالعبد لم يكن فارق بين المقامين.

ص: 210


1- مسالك الأفهام 11: 497، وفيه: «وذهب بعض إلى عدم زوال ملكه عنها حتى يذبح ويتصدق باللحم، وله بيعها وإبدالها».
2- مسالك الأفهام 11: 497؛ المبسوط، للسرخسي 12: 13: «وإذا اشترى أضحية ثم باعها فاشترى مثلها فلا بأس بذلك؛ لأن بنفس الشراء لا تتعين الأضحية قبل أن يوجبها، وبعد الإيجاب يجوز بيعها في قول أبي حنيفة ومحمد».
3- مسالك الأفهام 11: 497، وفيه: «كما لو قال: لله علي أن أعتق هذا العبد، فإنه لا يزول ملكه عنه إلا بإعتاقه».

كما استدل(1) على جواز التبديل بما صنعه النبي(صلی الله علیه و آله) في حجة الوداع،حيث أحرم من مسجد الشجرة وعين مائة بعير للأضحية، وبعد أن التحق به أمير المؤمنين(علیه السلام) أعطاه ثلثها، وبدلها بغيرها مع تعينها(2).

والجواب: لا دليل على أنه(صلی الله علیه و آله) ساقها بنية نفسه، فربما نوى من بادئ الأمر أنها للإمام علي(علیه السلام).

الضمان مع التلف

قال في الشرائع: «ولو أتلفها كان عليه قيمتها»(3).

وهنا فروع:

الفرع الأول: لو تلف من نفسه لم يضمن؛ لعدم تقصيره.

الفرع الثاني: لو أتلفه بنفسه ضمن القيمة، لقاعدة (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)، وقد تعلق حق الغير بملكه وأتلفه فيكون ضامناً له. ويكون الأداء في المثلي بالمثل، وفي القيمي بالقيمة، والحيوان من القيميات على المشهور(4)، وإن أشكل الوالد على إطلاقه(5)، حيث يمكن أن يكون الحيوان مثلياً؛ لأن المثلي والقيمي عرفيان.

ص: 211


1- جواهر الكلام 37: 230، وفيه: «ويحتمل عدم التعين، لما روي أن النبي(صلی الله علیه و آله) شرّك علياً في هداياه، والتشريك إنما يكون بالنقل، ولأصالة البقاء على الإطلاق».
2- وسائل الشيعة 11: 213.
3- شرائع الإسلام 4: 741.
4- الحدائق الناضرة 20: 317؛ الأنوار اللامعة 11: 257؛ المناهل: 156.
5- الفقه 75: 426، وفيه: «... وهذا يؤيد ما ذكرناه في بعض مباحث (الفقه) من أن الحيوان مثلي أيضاً، خلافاً للمشهور الذين جعلوه قيمياً».

ثم إنه بناءً على لزوم دفع القيمة، فهنا صور:

لو كانت القيمة بمقدار أضحية جديدة ضمنه.

ولو كانت القيمة أكثر، كما لو صارت قيمتها بمقدار شاتين مثلاً، احتملضمان شرائهما؛ لأن قيمة الأضحية المنذورة للفقراء، فيلزمه ذلك.

ولو كانت القيمة أقل، كما لو كان المنذور رديئاً فقيمته نصف قيمة الشياه الموجودة في السوق، ولا يوجد مثله، احتمل لزوم الاشتراك مع غيره لتكميل الناقص؛ وذلك للارتكاز بالذبح وإعطاء لحمه للفقراء.

ولو لم يكن هنالك شريك فيحتمل لزوم شراء اللحم وتوزيعه على الفقراء، ولو لم يكن لحم أعطى ثمنه للفقراء لكونه الأقرب إلى المنذور، واللازم الأقرب فالأقرب حسب الارتكاز.

وقد تطرق الشيخ الأنصاري إلى وقت ثبوت الضمان، وأنه ضامن لقيمة يوم التلف أو الأداء أو الشراء أو أعلى القيم. وتفصيله يطلب من كتاب المكاسب في صحيحة أبي ولاد(1).

فرع: لو جنى على الأضحية عمداً

لو عيّب الأضحية عمداً لزمه الأرش لمستحقيها، كما في المسالك(2).

وفيه نظر؛ لأن الصور ثلاثة:

الأولى: لو كان العيب مخلاً بالمقصود، وهو أكل الفقراء، كما لو وطأها فحرمت، كان بحكم التلف، فعليه المثل أو القيمة.

ص: 212


1- كتاب المكاسب 3: 245-254.
2- مسالك الأفهام 11: 498.

الثانية: لو لم يكن للعيب تأثير في الأثر المقصود، كما لو كسر رجلها فلا وجه للقول بالأرش.

الثالثة: لو أثر في المقصود، كما لو حبسها فنقص وزنها(1) أو قطع رجلها،فلابد من إعطاء التفاوت بمقدار النقص، فهو ضامن للتفاوت بين الصحيح والمعيب.

ص: 213


1- وإن لم يصطلح عليه بالعيب.

الفصل السادس: في ذكاة السمك

اشارة

يقع الكلام في كيفية تذكية السمك، لا الأنواع المحللة والمحرمة، فإنها ترتبط بالأطعمة والأشربة، وهنا عدة بحوث:

البحث الأول: في كيفية تذكية السمك

وتذكية السمك إخراجه أو خروجه من الماء حياً، فلو مات في الماء حرم، ويدل عليه الإجماع(1) والروايات المستفيضة التي ربما تصل إلى حد التواتر المعنوي.

منها: الخبر الصحيح(2)

عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «والحيتان ذكي، فما مات في البحر فهو ميت»(3). والمراد من الحيتان السمك لا الحوت المصطلح عليه اليوم، ومعنى ذكي أنه لا حاجة إلى قطع رأسه.

البحث الثاني: في فروع تتعلق بكيفية التذكية

وهنا فروع:

ص: 214


1- جواهر الكلام 37: 239، وفيه: «لا خلاف نصاً وفتوى ولا إشكال في احتياج السمك إلى التذكية، بل الإجماع بقسميه عليه».
2- أحمد البرقي، عن أبي طالب عبد الله بن الصلت، عن أنس بن عياض، عن جعفر بن محمد، عن أبيه‘: أن علياً(علیه السلام) كان يقول... .
3- وسائل الشيعة 24: 74.
الفرع الأول: كفاية إخراج السمك بآية وسيلة

لا يلزم إخراجه من الماء باليد، بل يكفي إخراجه بالآلة، ولو خرج بنفسه فأخذه بيده كفى أيضاً لإطلاق الأدلة.

ومما يدل على ذلك: صحيحة علي بن جعفر(1) عن أخيه موسى بن جعفر‘، قال: «سألته عن سمكة وثبت من نهر فوقعت على الجد من النهر فماتت، هل يصلح أكلها؟ فقال: إن أخذتها قبل أن تموت ثم ماتت فكلها، وإن ماتت من قبل أن تأخذها فلا تأكلها»(2).

الفرع الثاني: في خروج السمك من الماء بنفسه

الأقوى عدم كفاية خروج السمك من الماء بنفسه وموته حتى لو علم بذلك، وقال بعض الفقهاء: لو خرج السمك بنفسه من الماء وعلم بذلك، فمات خارجاً حلّ، وممن قال بذلك الشيخ في النهاية(3)، والمحقق الحلي في بعض كتبه(4)؛ وذلك لروايات اشترطت في الحلية الخروج من الماء حيّاً لا الإخراج.

واستدلوا لذلك بروايات متعددة منها: خبر سلمة أبي حفص، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «إن علياً صلوات الله عليه كان يقول في صيد السمكة إذا أدركها الرجل وهي تضطرب وتضرب بيديها ويتحرك ذنبها وتطرف بعينها فهي ذكاتها»(5).

ص: 215


1- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن العمركي بن علي، عن علي بن جعفر... .
2- الكافي 6: 218؛ وسائل الشيعة 24: 81. والجد: شاطئ النهر.
3- النهاية في مجرد الفقه: 578.
4- المختصر النافع: 242.
5- الكافي 6: 217؛ وسائل الشيعة 24: 81.

ومنها: صحيحة زرارة(1)

قال: قلت له: «سمكة ارتفعت فوقعت على الجدد فاضطربت حتى ماتت آكلها؟ قال: نعم»(2).

وقد جمعوا بين الروايات بحمل الروايات المانعة على الكراهة.

أو الجمع بوجه آخر: وهو توجيه (الأخذ) بأنه لا ينحصر في الأخذ باليد، بل يشمل النظر بأن يراها ماتت خارج الماء.

إن قلت: إن المشهور قد أعرضوا عن الروايات المحلّلة.

قلت: لا يعلم تحقق الإعراض، فإنه وإن كان القول الأول أشهر إلا أن القول الثاني مشهور أيضاً، ومعنى الإعراض عدم عمل جميع الفقهاء أو أكثرية كبيرة منهم، لكن لو عمل جمع كبير ولم يعمل جمع أكبر فلا يعلم صدق الإعراض، فلابد من إعمال المرجحات الدلالية الأخرى.

أقول: الأقوى هو عدم كفاية ذلك بل لابد من أخذها حيّة، وذلك لقوة احتمال أن تكون الروايات المحلّلة في مقام بيان عدم اشتراط الإخراج، وهذا لا ينافي اشتراط الحلية بلزوم الأخذ بعد الخروج، فتأمل، والاحتياط سبيل النجاة.

الفرع الثالث: في موت السمك في الشبك أو الحظيرة

لو مات السمك في الشبك أو في الحظيرة ففيه أقوال ثلاثة:

الأول: يحرم ما مات في الشبك(3)، وربما هذا هو الأشهر.

ص: 216


1- الصدوق بإسناده عن أبان، عن زرارة... .
2- من لا يحضره الفقيه 3: 323؛ وسائل الشيعة 24: 82.
3- إرشاد الأذهان 2: 109.

الثاني: لو مات بعضها دون بعض وكان قابلاً للتمييز حرم الميت دون غيره، وإن لم يقبل التمييز حلّ الجميع(1).

الثالث: حلية الجميع(2)، وهو مقتضى الصناعة(3)؛ وذلك لروايات متعددة، ولم يتحقق الإعراض عنها، والفتوى عليه مشهورة وإن لم تكن الأشهر.

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم(4)

عن الباقر(علیه السلام): «في رجل نصب شبكة في الماء ثم رجع إلى بيته وتركها منصوبة، فأتاها بعد ذلك وقد وقع فيها سمك فيمتن، فقال: ما عملت يده فلا بأس بأكل ما وقع فيها»(5).

وقوله(علیه السلام): «ما عملت يده» يشمل الحظيرة أيضاً.

ومنها: صحيحة الحلبي(6)

عن الصادق(علیه السلام) قال: «سألته عن الحظيرة من قصب تجعل في الماء للحيتان، فيدخل فيه الحيتان فيموت بعضها فيها، فقال: لا بأس به، إن تلك الحظيرة إنما جعلت ليصاد فيها»(7). فإنه وإن كان السؤال عن بعضها لكن إطلاقها يشمل مورد التمييز عن غيره.

ص: 217


1- الدروس الشرعية 2: 408.
2- مختلف الشيعة 8: 263.
3- الفقه 75: 440.
4- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن القاسم بن بريد، عن محمد بن مسلم... .
5- الاستبصار 4: 61؛ وسائل الشيعة 24: 83.
6- الشيخ الطوسي بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد بن عثمان، عن الحلبي... .
7- الكافي 6: 217؛ وسائل الشيعة 24: 84.

وأما ما دلّ على النهي عن الأكل كخبر ابن مسكان(1) فلا اعتباربأسناده مضافاً إلى إمكان حمل النهي فيه على الكراهة.

البحث الثالث: عدم اشتراط الإسلام والتسمية والقبلة في تذكية السمك

لا يشترط في تذكية السمك الإسلام والتسمية والقبلة(2).

أما الإسلام فلم يذكر في الروايات، بل قد صرح في بعضها(3) أنه لا إشكال في صيد الكافر، لكن يلزم إحراز موته خارج الماء. ولو ادعى الكافر ذلك فإن حصل اطمئنان بقوله حلّ وإلا فلا، وإنما لم يشترط ذلك في المسلم لأن فعله يحمل على الصحة، فيحرز الشرط بذلك.

ومن الروايات الدالة على عدم اشتراط الإسلام: موثقة أبي بصير(4)، عن الصادق(علیه السلام) قال: «سألته عن صيد المجوس للسمك حين يضربون للشبك ولا يسمون أو يهودي، قال: لا بأس إنما صيد الحيتان أخذها»(5).

ومنها: صحيحة الحلبي(6) عن الصادق(علیه السلام): قال: «سألته عن صيد

ص: 218


1- التهذيب 9: 12؛ وسائل الشيعة 24: 83، وفيه: «عن رجل صاد سمكاً وهن أحياء ثم أخرجهن بعد ما مات بعضهن؟ فقال أبو عبد الله(علیه السلام) ما مات فلا تأكله».
2- الفقه 75: 451، وفيه: «لا يعتبر في صيد الحيتان ولا عند إخراجها من الماء، ولا عند موتها، ولا عند أكلها، التسمية، ولا الاستقبال، ولا الإسلام، بلا إشكال في الجميع ولا خلاف أجده في الأولين وعلى الأصح الأشهر في الثالث...».
3- وسائل الشيعة 24: 75.
4- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي... .
5- الاستبصار 4: 63؛ وسائل الشيعة 24: 77.
6- الشيخ الطوسي بأسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي... .

المجوس السمك، فقال(علیه السلام): ما كنت آكله حتى انظر إليه»(1).

وهو يدل على عدم اشتراط الإسلام، بل الشرط هو حصول الاطمئنان بموته خارج الماء.

ومنها: ما روي عن الصادق(علیه السلام): «إنه نهى عن أكل ما صاده المجوس من الحوت والجراد؛ لأنه لا يؤكل منه إلا ما أخذ حيّاً»(2).

والمقصود عدم العلم بحياته حين أخذه وهو علة عدم الأكل، فلا ضمان لتحقق الشرط، فلو ضمن المجوسي ذلك فليس بحجة، إلا أن يحصل الاطمئنان من قوله.

البحث الرابع: مسائل متفرقة
المسألة الأولى: لو وجد سمكة في جوف أخرى

قال في الشرائع: «ولو وجد في جوف سمكة أخرى حلّت إن كان من جنس ما يحل، وإلا فهي حرام»(3).

فليست العبرة بحلية وحرمة السمك الآكل، بل العبرة بالمأكول، حتى وإن مات في الماء(4)، لكن ذهب بعض الفقهاء إلى الحرمة(5).

واستدل للأول(6) بروايتين، إن تمّ سندهما كانتا مخصصتين لحرمة ما

ص: 219


1- الاستبصار 4: 62؛ تهذيب الأحكام 9: 9؛ وسائل الشيعة 24: 75.
2- دعائم الإسلام 2: 173؛ مستدرك الوسائل 16: 118.
3- شرائع الإسلام 4: 748.
4- وهذا ما ذهب إليه الشيخ المفيد في المقنعة: 576؛ والشيخ في النهاية: 576.
5- السرائر 3: 100؛ تحرير الأحكام 4: 637؛ إيضاح الفوائد 4: 144.
6- جواهر الكلام 37: 372.

مات في الماء، وإلا فلا.

الرواية الأولى: ما في الكافي: عن أبي علي الأشعري، عن الحسن بن علي الكوفي، عن العباس بن عامر، عن أبان، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: قلت: «رجل اصطاد سمكة فوجد في جوفها سمكة؟ فقال: يؤكلان جميعاً»(1)، وحيث إن أبان من أصحاب الإجماع(2) فيصح ما صح عنه، فيكون مضمون الرواية معتبراً.

الرواية الثانية: ما في الكافي: عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله(علیه السلام): «إن علياً(علیه السلام) سئل عن سمكة شق بطنها فوجد فيها سمكة، فقال: كلهما جميعاً»(3).

والسكوني عامي، لكن قال الطوسي في العدة: (إن الطائفة عملت برواياته)(4)، ولا وجه لذلك إلا وثاقته.

وأما الحسين بن يزيد النوفلي، فليس له توثيق خاص، بل نقل النجاشي عن بعض القميين أنه غالٍ(5)، ولكنه لم يرَ شيئاً من غلوه؛ ولذا توقف العلامة

ص: 220


1- الكافي 6: 218؛ وسائل الشيعة 24: 86.
2- اختيار معرفة الرجال 2: 673.
3- الكافي 6: 218؛ وسائل الشيعة 24: 86.
4- العدة في أصول الفقه 1: 149: «... عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث، وغياث بن كلوب، ونوح بن دراج، والسكوني، وغيرهم من العامة عن أئمتنا(علیهم السلام)، فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه».
5- فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي): 38، وفيه: «الحسين بن يزيد بن محمد بن عبد الملك النوفلي، نوفل النخع، مولاهم كوفي أبو عبد الله. كان شاعراً أديباً وسكن الري ومات بها، وقال قوم من القميين: إنه غلا في آخر عمره والله أعلم، وما رأينا له رواية تدل على هذا».

فيه(1).

ومع ذلك يمكن توثيقه عبر عمل الطائفة بأخبار السكوني، فيلازمه القول بوثاقة النوفلي، حيث إن معظم أخباره - التي ربما بلغت ثمانمائة رواية - رويت عن طريقه، وإلا لما صح العمل بأخباره.

والظاهر تمامية المبنيين وبذلك يثبت اعتبار الروايتين، فيثبت حلية المأكول وإن مات في الماء.

المسألة الثانية: في أكل السمك حياً

ذهب المشهور إلى جواز أكل السمك حيّاً(2)، وذهب جمع منهم الشيخ الطوسي في بعض كتبه إلى الحرمة(3).

استدل المشهور بدليلين(4):

الأول: عمومات: {أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ}(5)، وكذا عمومات كون صيد السمك أخذه من الماء حيّاً، ولم يقيد ذلك بالموت خارج الماء فيجوز أكله حياً.

الثاني: ما رواه البرقي في المحاسن بسندين: «الحوت ذكي حيه

ص: 221


1- خلاصة الأقوال: 339، وفيه: «الحسين بن يزيد بن محمد بن عبد الملك النوفلي... وأما عندي في روايته توقف لمجرد ما نقله عن القميين وعدم الظفر بتعديل الأصحاب له».
2- شرائع الإسلام 4: 742؛ جواهر الكلام 37: 251.
3- المبسوط 6: 277.
4- الفقه 75: 442-443.
5- سورة المائدة، الآية: 96.

وميته»(1).

والظاهر التأمل فيهما، أما العمومات فلا إطلاق لها من جهة الموت والحياة، ولابد من إحراز كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة، بل الآية في مقام بيان مطلبين: الأول: جواز الصيد، والثاني: حلية السمك في الجملة.

وأما رواية البرقي ففي السند مجاهيل، بالإضافة إلى أن معنى الذكي الطاهر(2)، لا أقل من عدم الظهور في كون المراد من الذكي الحلية.

واستدل للحرمة بعدة أدلة، وهي:

الدليل الأول: ما دل على أنه لو صاد السمك ثم أرجعه في الماء معلقاً له بخيط مثلاً ليبقى طازجاً فمات بعضها كان حراماً(3)، وتعليله في خبر عبد الرحمن بن سيّابة عن الصادق(علیه السلام) بقوله: «فإنه مات فيما فيه حياته»(4).

ووجه الاستدلال أنه لو كانت التذكية بإخراجه من الماء حياً فقد تحققت فلا مانع من إرجاعه إلى الماء، فلو مات فيه كان حلالاً؛ لأنه قد ذكي بالإخراج. لكن هذه الروايات تدل على حرمته فيما لو مات في الماء،

ص: 222


1- المحاسن 2: 475 ، وفيه: عن أبي أيوب المدايني وغيره، عن ابن أبي عمير، عن ابن المغيرة، عن رجل، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «الحوت ذكي حيه وميته». وعنه، عن أبيه، عن عون بن حريز، عن عمر بن هارون الثقفي، عن أبي عبد الله(علیه السلام) مثله.
2- جواهر الكلام 37: 257.
3- وسائل الشيعة 24: 79-80.
4- الاستبصار 4: 62؛ وسائل الشيعة 24: 79، وفيه: عن عبد الرحمن، قال: «أمرت رجلاً يسأل لي أبا عبد الله(علیه السلام) عن رجل صاد سمكاً وهن أحياء، ثم أخرجهن بعدما مات بعضهن، فقال: ما مات فلا تأكله فإنه مات فيما فيه حياته».

ومعنى ذلك أنه لم تتحقق التذكية بالإخراج من الماء حياً، وإنما المحققللتذكية إخراجه حياً وموته بعد ذلك.

وفيه نظر؛ لأن الروايات المذكورة تدل على الحرمة فيما لو رجع إلى الماء، فمع إخراجه من الماء تتحقق التذكية ويحل الأكل، فلو رجع إلى الماء حرم مجدداً، ولا إشكال عقلي في ذلك، فإن التذكية أمر اعتباري.

الدليل الثاني(1): ما في الاحتجاج: وقد أشكل الزنديق بعدم الفرق بين السمك وغيره، فكيف يؤكل ميتة؟ فأجابه الإمام الصادق(علیه السلام): «إن السمك ذكاته إخراجه حياً من الماء، ثم يترك حتى يموت من ذات نفسه»(2)، فليست الذكاة مجرد إخراجه من الماء حياً، بل يلزم موته أيضاً.

وفي رواية أخرى في الخز(3): «وجعل ذكاته موته كما أحل الحيتان وجعل ذكاتها موتها»(4)، فالسمك الحي لم يذكَ بعد.

وفيه نظر للإشكال السندي فيهما بالإرسال في الأول، وضعف الراوي في الثاني مع عدم الانجبار، بالإضافة إلى التأمل في الدلالة، فليس المراد كون ذكاته بالموت وإنما عدم لزوم قطع الرأس، فإن ظاهر الحديث التقابل مع الذبح وفري الأوداج.

وبعد عدم تمامية أدلة الطرفين استدل في فقه الصادق للحلية بعدم قيام

ص: 223


1- مستند الشيعة 15: 474؛ جواهر الكلام 37: 240.
2- الاحتجاج 2: 93؛ وسائل الشيعة 24: 75.
3- الخز: حيوان مائي حرام اللحم يصنع سداً في الماء ليعيش فيه، يجوز لبس جلده في الصلاة مع أنه لا يؤكل لحمه.
4- الكافي 3: 399؛ وسائل الشيعة 4: 360.

الدليل على حرمة أكل الحي، فيجري فيه أصل الحلية(1).وهو وإن كان غريباً لكن لا بأس به، حيث لا دليل على حرمة أكل الحيوان الحي. نعم، الدليل قائم على حرمة أكل الميتة. فإن تمّ هذا الدليل فبها، وإلا فلابد من المصير إلى الحرمة على الظاهر.

المسألة الثالثة: حكم ما لو قطع من السمك الحي

لو قطع قطعة من السمك الحي فهل يحل؟

فيه صورتان:

الأولى: لو قطعه في داخل الماء حرم؛ لأن ذكاة السمك بإخراجه من الماء حياً، وهذه القطعة بانت منه في الماء.

الثانية: لو أخرجه من الماء ثم قطع منه قطعة فتحل القطعة المبانة في جميع الصور، سواء مات السمك خارج الماء أم لا، أرجع إلى الماء أم لا؛ لأنه أخرج من الماء حياً، والقطعة المبانة ماتت خارج الماء.

ولكن صاحب الجواهر حرمها لأنها مبانة من الحي، وقد تم الدليل على حرمة الجزء المبان من الحي(2).

وهذه المسألة فرع المسألة السابقة، وهي: هل أن ذكاة السمك إخراجه من الماء حياً، سواء مات أم لا، كما هو المشهور، أو أن ذكاته إخراجه وموته؟

فعلى الثاني لا يحل، وعلى الأول يحل الجزء المبان؛ لأنه قطع من

ص: 224


1- فقه الصادق 36: 168.
2- جواهر الكلام 37: 252.

المذكى، وأدلة حرمة الجزء المبان من الحي منصرفة عن ذلك.

فإن تمّ الانصراف فبها، وإلا فما ذكر في الجواهر لا يخلو من قوة، فإنهجزء مبان من الحي، ومجرد الخروج من الماء لا يحقق التذكية، وإنما يلزم موته، فهو مبان من الجزء غير المذكى.

المسألة الرابعة: في تذكية السمك المحرم

لا تذكية للحيوان البحري المحرم؛ وذلك لعدم فائدة محصلة فيه؛ لأن للتذكية إحدى فائدتين: إما تحلل اللحم، أو ترفع النجاسة كتذكية الثعلب، حيث تسبب طهارة جلده.

وأما في الحيوان البحري المحرم فلا يحصل من تذكيته أي فائدة؛ وذلك لحرمة لحمه وطهارة ميتته، فلا فائدة في تذكيه؛ وذلك مثل التمساح الذي يصنع من جلده الأحذية. ولا يعقل جعل شيء وتشريعه من دون أثر يترتب عليه.

ص: 225

الفصل السابع: في ذكاة الجراد

اشارة

يحل أكل الجراد دون سائر الحشرات - وسيأتي تفصيله في كتاب الأطعمة والأشربة - وربما كانت الحكمة في حليته أنه حشرة نظيفة لا تأكل إلا النباتات، ولا تذهب إلى الأماكن الوسخة، ولا يضر أكله، بل فيه فوائد؛ ولذا حلّ أكله شرعاً.

وتتحقق تذكيتها بأخذها حية. ويدل على أصل الحلية وعلى كيفية التذكية روايات متعددة:

منها: صحيحة علي بن جعفر(1)، عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام) قال: «سألته عن الجراد نصيبه ميتاً في الصحراء أو في الماء أيؤكل؟ فقال: لا تأكله. وسألته عن الدبا من الجراد هل يحلّ أكله؟ قال: لا

يحلّ أكله حتى يطير»(2).

وفي رواية أخرى عنه: «سألته عن الجراد نصيده فيموت بعد أن نصيده أيؤكل: قال: لا بأس»(3). فلو كان حياً ومات أمام عينه ولم يأخذه لم يحل على المشهور(4).

ص: 226


1- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن العمركي بن علي، عن علي بن جعفر... .
2- الكافي 6: 222؛ وسائل الشيعة 24: 87.
3- قرب الأسناد: 277؛ وسائل الشيعة 24: 87.
4- مستند الشيعة 15: 476؛ جواهر الكلام 37: 257.

ويدل عليه ما ورد من عدم الحلية فيما لو مات ولو بفعل الإنسان، كما لو حرق مزرعته فمات الجراد به، كما في موثقة عمار الساباطي(1)،

عن الصادق(علیه السلام): «وسئل عن الجراد إذا كان في قراح(2) فيحرق ذلك القراح، فيحرق ذلك الجراد وينضج بتلك النار، هل يؤكل؟ قال: لا»(3)، مع أن موته مستند إلى الإنسان، لكن حيث افتقد الأخذ - الذي هو شرط الحلية - لم يحل.

ولا منافاة بينه وبين خبره الثاني: «سألته عن الجراد يشوى وهو حي؟ قال: نعم، لا بأس به»(4)، ووجه عدم المنافاة واضح، حيث إن الحكم بالحرمة في الموثقة لعدم الأخذ، وفي الخبر الحكم بالحلية فيما لو أخذه وشواه حياً.

لكن ذهب البعض إلى الحلية فيما لو سقط الجراد على الأرض دون الماء(5)، ولم يشترط فيه الأخذ، بل يكفي موته في البر.

واستدل لذلك بروايتين(6):

الأولى: خبر مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق(علیه السلام): «إن علياً(علیه السلام) قال: الأرض للجراد مصيدة»(7)، ومعناه لو مات في الأرض حلّ، ولم يشترطفيه

ص: 227


1- الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار بن موسى... .
2- القراح: المزرعة التي ليس فيها بناء ولا شجر.
3- تهذيب الأحكام 9: 62؛ وسائل الشيعة 24: 88.
4- وسائل الشيعة 24: 89.
5- الفقه 75: 447.
6- جامع المدارك 5: 133.
7- الكافي 6: 221؛ وسائل الشيعة 24: 88.

الأخذ.

الثانية: خبر الثقفي: عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(علیه السلام):

الجراد ذكي فكله، وأما ما مات في البحر فلا تأكله»(1)، ومفهومه أنه لو مات في البر حلّ؛ لأنه ذكي.

ومقتضى إطلاقهما عدم اشتراط الأخذ.

لكنه محل تأمل لصحة خبر علي بن جعفر مع عمل المشهور به، وهو أخص منهما، فعلى فرض صحة سندهما وتمامية دلالتهما فهما أعم من خبره فيقيدهما.

أما ضعفهما سنداً فلوجود المجاهيل فيهما، وأما ضعف الدلالة فلا إطلاق فيهما لكيفية الصيد في الأرض، كما أن ذكي ليس معناه التذكية، بل حلية اللحم، فإن الذكي بمعنى الطاهر والحلال والذكاة، ونفي الحلية عن الموت في البحر لا يدل على حلية البر، فإثبات شيء لا ينفي ما عداه.

تنبيه

ما ذكر من عدم كفاية الحرق إنما هو لو لم يكن آلة صيد، أما لو كان الحرق آلة للصيد فلا بأس به، حيث لا فرق بين أنواعها، فالمذكور في الرواية إنما هو ما لم يكن آلة الصيد، حيث لا يصدق الأخذ في صورة حرق المزرعة. نعم، لو جعل الحرق طريقاً للصيد صدق الأخذ، وبعد تحقق الموضوع يترتب الحكم، فالأمر مرتبط بالعرف.والحاصل: إن المهم صدق الأخذ عرفاً.

ص: 228


1- الكافي 6: 222؛ وسائل الشيعة 24: 88.
حكم صيد الدبا

واستثني من حكم الجراد الدبا وهو صغير الجراد(1)، حيث إنه حرام؛ وذلك للروايات المعتبرة بأن الجراد ما لم يطر لم يحل.

منها: صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن(علیه السلام) قال: «... وسألته(علیه السلام) عن الدبا من الجراد أيؤكل؟ قال: لا حتى يستقل بالطيران»(2). فالقفز لا يكفي، فالحلية مرهونة بالاستقلال بالطيران ولا يحل قبل ذلك، سواء لم يكن جناح أصلاً أم كان له لكن لم يطرْ بعد.

المشكوك كونه دبا

لكن قال بعض الفقهاء بأن الصغير الذي خرج جناحه لكن لم يطرْ بعد، لم يعلم إطلاق (دبا) عليه، وحيث إنه مشكوك فتشمله عمومات حلية الجراد.

وفيه نظر، حيث لا يهم إطلاق اسم (دبا) عليه، فإن الحلية منوطة بالاستقلال بالطيران، فيكون قبله محرماً، سواء سمي (دبى) أم لا.

نعم، ورد في الصحيحة السؤال عن حكم (الدبى) لكن لا عبرة به، بل العبرة بالجواب.

عدم اشتراط البلوغ في صيد الجراد

ولا يشترط في صيد الجراد البلوغ(3)، كما هو الحال في السمك، فلو

ص: 229


1- الصحاح 6: 2333، وفيه: «الدبا: الجراد قبل أن يطير، الواحدة دباة... وأرض مدبية، على مفعولة، إذا أكل الدبى نباتها...».
2- مرّ تخريجه.
3- الفقه 75: 450.

أخذ غير البالغ - بشرط كونه مميزاً - الجراد تحققت التذكية. وأما غير المميز فلو أخذه لم يحل؛ لعد القصد فلا يشمله الدليل، أو أن الدليل منصرف عنه.

ويدل على ذلك:

أولاً: الأولوية، حيث لا يشترط البلوغ في الذبح، فلا يشترط في أخذ الجراد بطريق أولى، كما أن أخذه فرع من فروع حيازة المباحات، ولا يشترط فيه الشروط المذكورة في الذبح(1).

وثانياً: إطلاق أدلة ذكاة الجراد، فإن القدر المتيقن من الأخذ صورة القصد، ولم يقيد ذلك بالبلوغ. نعم، لو لم يقصد كانت الأدلة منصرفة عنه، أو لا يصدق عليه الأخذ أصلاً.

فرع: في جواز أكل الجراد الميت الذي أخذه المميز

ذكر في الجواهر(2): أنه لا يجوز أكل الجراد الميت الذي يأتي به المميز؛ لعدم العلم بتذكيته؛ وذلك لعدم حمل فعله على الصحة، فإنه خاص بالمسلم البالغ. نعم، لو رآه أنه يأخذه حياً جاز.

لكنه محل تأمل؛ لأن حمل فعل المسلم على الصحة أعم من البالغ، حيث لم يشترط في الأدلة ذلك، بل هي مطلقة، كقوله(علیه السلام): «ضع أمر أخيك على أحسنه»(3)؛ ولذا لو باع غير البالغ جاز الشراء منه، بناءً على عدم

ص: 230


1- وفيه نظر؛ لأن كونه فرعاً من فروع حيازة المباحات لا يدل على حلية أكله، بل يدل على ملكيته وجواز التصرف فيه. (المقرر).
2- جواهر الكلام 37: 263.
3- الكافي 2: 362.

اشتراط البلوغ، فكيف يعلم أنه لم يسرقه أو ليس محجوراً عليه، أو أنهيبيعه بلا إذن أبيه وهو ملكه، أو أنه راعى شروط الذبح؟ فالحمل على الصحة ينفي هذه الاحتمالات.

ص: 231

الفصل الثامن: في ذكاة الجنين

اشارة

يقع الكلام في تذكية الجنين، وقد ذكر الفقهاء حكمه في ست صور، اتفقوا على حلية بعضها وحرمة بعضها، واختلفوا في بعضها(1).

الصورة الأولى: أن يخرج الجنين حياً من بطن أمه، سواء كانت الأم حين خروج الجنين حية أم ميتة أم مذكاة، فلابد من تذكيته، وهو محل اتفاق(2)، بل هو من الواضحات التي لا غبار عليها، ولا بحث فيها، فإن الجنين الخارج حيوان حي يلزم تذكيته، ولا مدخلية لحياة الأم في حليته وحرمته.

الصورة الثانية: أن يسقط الجنين ميتاً، سواء كانت الأم حية أم ميتة، فلا يحل(3)؛ لأنه حيوان ميت لم يذكَ، فتشمله العمومات الدالة على حرمة الميتة.

الصورة الثالثة: أن تذكى الأم قبل ولوج الروح في الجنين(4)، فلم يكن له قابلية الاستمرار في البقاء، فهو حلال بالإجماع والنصوص الكثيرة، لكن بشرط أن يكون كاملاً إلى حد خروج شعره أو وبره.

ص: 232


1- الفقه 75: 457.
2- الانتصار: 413؛ الخلاف 6: 88؛ المختصر النافع: 243.
3- كفاية الأحكام 2: 593.
4- مفاتيح الشرائع 2: 205؛ الشرح الصغير 3: 94؛ رياض المسائل 12: 129.

ومن النصوص: صحيحة يعقوب بن شعيب بن ميثم التمار(1)، قال: «سألت أبا عبد الله عن الحوار(2) تذكى أمه أيؤكل بذكاتها؟ فقال: إذا كان تاماً ونبت عليه الشعر فكل»(3).

وصحيحة محمد بن مسلم(4):

«سألت أحدهما عن قول الله عز وجل: {أُحِلَّتۡ لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ} قال: الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه»(5).

ولا يخفى ورود احتمالين في إعراب (ذكاة أمه) فلو أُعرب بالضم كان (ذكاته) مبتدأ، و(ذكاة أمه) خبراً، والمعنى: أن تذكية الجنين نفس ذكاة الأم، فبمجرد ذبح الأم كما يحل لحمها يحل جنينها.

ولو أ ُعرب بالنصب فهو من باب المنصوب بنزع الخافض، يعني: فذكاته في ذكاة أمه، ومفاده نفس المفاد، أي: إن حلية الجنين في تذكية أمه.

ولا يصح تقدير الكاف، أي: (ذكاته كذكاة أمه) ومفاده أنه كما تذكى الأم بالذبح كذلك يذكى الجنين بالذبح، كما فسره بذلك بعض علماء العامة(6).

ص: 233


1- الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن النعمان، عن يعقوب بن شعيب... .
2- الحوار بالضم وقد يكسر: ولد الناقة ساعة تضعه أو إلى أن ينفصل من أمه.
3- الكافي 6: 234؛ تهذيب الأحكام 9: 59؛ وسائل الشيعة 24: 33.
4- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن محمد بن مسلم... .
5- الكافي 6: 234؛ تهذيب الأحكام 9: 58؛ وسائل الشيعة 24: 34.
6- المجموع 9: 128، وفيه: «ذكاة الجنين ذكاة أمه، أي: ذكاته كذكاة أمة، أي ذكوه كما تذكون أمه»، والمبسوط، للسرخسي 12: 7؛ بدائع الصنائع 5: 43.

وهو غير تام؛ لأنه خلاف تفسيره في الروايات(1)، وإن كان الاحتمال قائماً من الناحية اللغوية.

الصورة الرابعة: أن يكون الجنين كاملاً وقد نفخ فيه الروح، فيموت حين ذبح الأم.

وهذه الصورة محل خلاف، حيث ذهب جمع منهم الشيخ الطوسي إلى الحرمة(2)، لكن المشهور الحلية(3).

واستدلوا على الحرمة بأصالة عدم الحل بعد تعارض أدلة حرمة الميتة وأدلة تذكية الجنين بالعموم من وجه، فيتساقطان في مورد الاجتماع.

بيان ذلك: إن أدلة حرمة الميتة تشمل الجنين وغيره، وأدلة حلية الجنين بذكاة أمه فيما لو مات في بطنها تشمل ما إذا ولجت فيه الروح أو لا، فيتعارضان في مورد الاجتماع بالعموم من وجه، فمورد الافتراق موت الحيوان الكبير حيث لا يشمله دليل الجنين، وكذا موت الجنين الذي لا روح فيه، حيث لا يشمله دليل الميتة، ومورد الاجتماع ما لو ولجت فيه الروح ومات بتذكية الأم، فدليل الجنين يحكم بحليته ودليل الميتة يحكم بحرمته، فبعد التعارض يتساقطان، فلابد من الرجوع إلى الأصل، وقد مرّ بيان أن الأصل الحرمة.وفيه نظر؛ فما ذكر من العموم من وجه تام لولا النص الخاص في مورد

ص: 234


1- كما في موثقة عمار بن موسى وستأتي قريباً.
2- النهاية: 585، وفيه: «وإن كان فيه روح وجبت تذكيته، وإلا فلا يجوز أكله».
3- مسالك الأفهام 11: 510؛ مجمع الفائدة والبرهان 11: 151؛ كشف اللثام 9: 223؛ مستند الشيعة 15: 458.

الاجتماع الدال على الحلية، فيصير دليل ذكاة الجنين أخص مطلقاً من دليل حرمة الميتة فيخصصه.

ففي موثقة عمار الساباطي(1)،

عن الصادق(علیه السلام): «عن الشاة تذبح فيموت ولدها في بطنها؟ قال: كلْه فإنه حلال؛ لأن ذكاته ذكاة أمه، فإن هو خرج وهو حي فاذبحه وكلْ، فإن مات قبل أن تذبحه فلا تأكله»(2)، فإن ظاهر (يموت) أنه نفخ فيه الروح، وإلا لم يطلق عليه الموت.

ومفاد الرواية أنه لو مات في بطن أمه فهو حلال، وأما لو خرج حياً ومات فهو حرام، ومفهومه أنه لو مات في البطن كان حلالاً، سواء ولجت فيه الروح أم لا. فالاستدلال بمنطوق (يموت) ومفهوم (فإن هو خرج وهو حي). وعليه، فالأقرب ما ذكره المشهور.

الصورة الخامسة: أن يكون الجنين كاملاً، ويخرج حياً من بطن أمه حين تذكيتها، لكن حياته غير مستقرة، ولم تكن هنالك فرصة لتذكيته، بأن خرج حياً وصاح ثم مات، وهذه الصورة محل خلاف أيضاً.

واستدل(3) على الحرمة بموثقة عمار المتقدمة: «فإن هو خرج وهو حي فاذبحه وكلْ، فإن مات قبل أن تذبحه فلا تأكله».وأشكل عليه بأنه منصرف إلى جنين مستقر الحياة(4)، بأن أخرج حياً ثم

ص: 235


1- الشيخ الطوسي بإسناده، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار بن موسى... .
2- تهذيب الأحكام 9: 80؛ وسائل الشيعة 24: 35.
3- رياض المسائل 12: 131؛ جواهر الكلام 37: 268.
4- رياض المسائل 12: 131.

مات بعد فترة؛ وذلك لقرينة السياق، فظاهر (فاذبحه) أنه مستقر الحياة، حيث يمكن ذبحه، ولو لم يكن مستقر الحياة لم يكن معنى ل (فاذبحه)، فمورد الرواية ما أذا استقرت الحياة، ولا تشمل غير ذلك بدليل الشق الأول (فإن هو خرج وهو حي فاذبحه).

لكن الانصراف محل نظر، فهنالك شقان في المسألة:

الأول: أن يخرج الجنين مستقر الحياة.

الثاني: أن يخرج غير مستقر الحياة، فمراد الإمام(علیه السلام) هذا المفاد: (الجنين إن كانت حياته مستقرة فاذبحه، وإن لم تكن له حياة مستقرة ومات فلا تأكله)، وقد بين المراد بهذه العبارة (إن هو خرج وهو حي فاذبحه)، هذا في صورة استقرارا الحياة، (فإن مات قبل أن تذبحه فلا تأكله) وهذا في صورة عدم استقرار الحياة، فلا تلازم بين الشقين، بأن يكونا معاً في صورة استقرار الحياة، بل الشق الأول في صورة استقرار الحياة، والثاني في صورة عدم استقرارها، فالأقرب الحرمة.

الصورة السادسة: أن لا يكون الجنين مكتمل الخلقة، وهو حرام بالإجماع(1) والنصوص(2).

فرع: عدم لزوم شق بطن الأم فوراً

لو ذبحت الأم فلا يلزم شق بطنها فوراً لمعرفة حياة الجنين(3)، حيث لم

ص: 236


1- الانتصار: 413؛ الخلاف 6: 88-89؛ جواهر الكلام 37: 269.
2- راجع وسائل الشيعة 24: 33-36.
3- مستند الشيعة 15: 460؛ الجواهر 37: 271.

يشترط ذلك في الروايات، فإطلاقها يحمل على الطريقة المتعارفة، وأما الأكثر من ذلك - بأن تطول الفترة كثيراً - فتنصرف عنه أدلة (ذكاة الجنين بذكاة أمه).

والحاصل: إنه لا يلزم المبادرة غير العرفية، ولا يصح التهاون.

فرع: في ذبح الجنين في بطن أمه

لو ذبح الجنين في بطن أمه، بأن أدخل السكين في بطنها وذكاه، سواء كانت الأم حية أم ميتة، حرم(1) على ما في الجواهر(2)، لأن قوله: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) يفيد الانحصار، وذكاة كل شيء بحسبه، فلو ذبحه بنفسه لم يكن ذكاة.

لكنه محل تأمل، ففي الفقه: «إنه بصدد أن الذكاة له تحصل بذكاتها، لا أن ذكاته لا تحصل إلا بذلك، فالحصر محل نظر»(3)، فلا حصر للتذكية بذلك، كما لو قال: (أكرم زيداً، استضفه) فمعناه أن استضافته إكرام له، لا أن إكرامه منحصر في الاستضافة، وإنما عبر الإمام(علیه السلام) كذلك لأنه الغالب، فلا أحد يذبح الجنين في بطن أمه.

ص: 237


1- الفقه 75: 462.
2- جواهر الكلام 37: 266.
3- الفقه 75: 462.

الفصل التاسع: في الحيوانات القابلة للتذكية وعدمها

اشارة

وقد مرّ في أول الكتاب أن القاعدة العامة هي القابلية للتذكية، وإنما نذكر هنا ما لا قابلية له للتذكية للدليل الخاص، أو ما أختلف فيه.

وينقسم ذلك إلى ست فئات:

الفئة الأولى: الحيوانات النجسة بالعارض

وهي الحيوانات التي أصبحت نجسة ومحرمة بالعرض، فلا تقبل التذكية إلى أن يزول الأمر العارض، كالجلال(1)، فإنه وإن كان حلالاً لكن بسبب أكل النجاسة صار حراماً، فلابد من استبرائه لزوال ذلك، وتذكيته قبل الاستبراء لغو، حيث لا تسبب الحلية ولا الطهارة.

قال بعض الفقهاء(2): وكذلك الحكم في الموطوء، حيث يحرم لحمه بالوطء، فلا قابلية له للتذكية.

وفيه نظر؛ لأن للتذكية إحدى فائدتين: إما حلية اللحم والطهارة، أو الطهارة فقط، ومع عدمهما لا فائدة للتذكية، والموطوء وإن حرم لحمه لكن لا ينجس، ففائدة التذكية الطهارة. هذا أولاً.

ص: 238


1- كفاية الأحكام 2: 603؛ مستند الشيعة 15: 118.
2- كشف اللثام 9: 269؛ جواهر الكلام 37: 418.

وثانياً: في مثل الفرس أو الحمار الموطوء والذي يلزم تبعيده دون حرقهإذا ذكي فليس بميتة، فيمكن الانتفاع بجلده، ولو كان ميتة لم يمكن الانتفاع بجلده على المشهور، حيث يرون حرمة الاستفادة من الميتة مطلقاً(1).

والحاصل: إن الجلال غير قابل للتذكية، والموطوء قابل لها على الأصح.

الفئة الثانية: الأسماك المحرّمة

الأسماك المحرّمة غير قابلة للتذكية؛ لعدم الفائدة فيها؛ لأن إخراجها من الماء حياً لا يسبب حلية لحمها، ولا يؤثر في طهارتها، فإن ميتتها طاهرة لعدم الدم الدافق لها.

الفئة الثالثة: الكلب والخنزير

والكلب والخنزير غير قابلين للتذكية(2)، حيث لا فائدة فيها؛ وذلك لنجاستهما العينية.

الفئة الرابعة: السباع

كالأسد والعقاب، وقد وقع الخلاف في ذلك على أقوال:

القول الأول: ما هو المشهور من قابليتها للتذكية(3)، واستدل(4) لذلك ببعض الروايات الخاصة، وبروايات باب الصلاة، وبصحيحة علي بن يقطين في الثعلب.

ص: 239


1- كشف اللثام 9: 271.
2- السرائر 3: 423؛ مختلف الشيعة 9: 425.
3- السرائر 3: 423؛ كشف اللثام 9: 220.
4- كنز الفوائد في حل مشكلات القواعد 3: 306؛ غاية المراد 3: 507؛ مفاتيح الشرائع 1: 69؛ كشف اللثام 9: 221.

1- أما الرواية الخاصة: فهي موثقة سماعة(1)، قال: «سألته عن جلود السباعأينتفع بها؟ قال: إذا رميت وسميت فانتفع بجلده، وأما الميتة فلا»(2). ومفاده أن المحل قابل للتذكية.

وأشكل عليها بالإضمار(3)، وقد كثر الإضمار في روايات سماعة.

والجواب: إن روايات سماعة المضمرة معتبرة على المشهور(4)، حيث كان يسأل الإمام(علیه السلام) عن مسائل شتى في مواضيع متعددة في مجلس واحد، فكان يجمعها في كتاب، ولم يكرر اسم الإمام(علیه السلام) فيها إلا بالضمير، ولما قطعها أصحاب المجاميع الروائية ليجعلوا كل سؤال وجواب في بابه جعلوها كما هي، ولما فقد كتابه صارت الروايات مضمرة، ولأجل ذلك ذكر المحدث الكليني وغيره من الفقهاء رواياته في كتبهم باعتبار أنها من المعصوم(علیه السلام).

2- وأما روايات باب الصلاة فتدل على جواز لبس فرو السمور والثعلب في الصلاة(5)، مع العلم بعدم جواز الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه، وقد

ص: 240


1- الشيخ الطوسي بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن الحسن، عن زرعة، عن سماعة... .
2- التهذيب 9: 79؛ وسائل الشيعة 3: 489.
3- مسالك الأفهام 11: 519.
4- الحدائق الناضرة 20: 64؛ جواهر الكلام 37: 293.
5- الاستبصار 1: 384؛ وسائل الشيعة 4: 350، وفيه: عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «سألته عن الفراء والسنجاب والسمور والثعالب وأشباهه، قال: لا بأس بالصلاة فيه».

استثني من ذلك الخز(1) وهو محل اتفاق(2)، وكذا السنجاب(3)، لكن لا يمكنالاستدلال بهما لأنهما ليسا من السباع.

وأما السمور فقد استثني أيضاً في بعض الروايات الصحيحة وهو من السباع، ويمكن الاستدلال به، حيث إنه لو لم يكن قابلاً للتذكية كان نجساً، ولا يجوز الصلاة فيه، وكذا الثعلب، فإنه من السباع، وفي بعض الروايات الصحيحة جواز الصلاة فيه(4).

لكن لا يصح الاستدلال بتلك الروايات مع صحتها لإعراض المشهور عنها، حيث ذهبوا إلى عدم جواز الصلاة في جلد السمور والثعلب(5)، وبالإعراض تسقط تلك الروايات عن الاعتبار، فلا يجوز الصلاة في جلدها، فلا دليل على قابليتها للتذكية. فالعمدة في المقام موثقة سماعة.

ص: 241


1- الكافي 3: 399؛ وسائل الشيعة 4: 360، وفيه: عن ابن أبي يعفور قال: «كنت عند أبي عبد الله(علیه السلام) إذ دخل عليه رجل من الخزازين فقال له: جعلت فداك ما تقول في الصلاة في الخز؟ فقال: لا بأس بالصلاة فيه».
2- المقنع: 229؛ المقنعة: 150؛ المبسوط 1: 82؛ تحرير الأحكام 1: 198.
3- الاستبصار 1: 384؛ وسائل الشيعة 4: 347-350.
4- الاستبصار 1: 382؛ وسائل الشيعة 4: 358، وسنده الشيخ الطوسي بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «سألته عن الصلاة في جلود الثعالب، فقال: إذا كانت ذكية فلا بأس». وبإسناده، عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن الحسين، عن صفوان، عن جميل، عن الحسن بن شهاب قال: >سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن جلود الثعالب إذا كانت ذكية أيصلى فيها؟ قال: نعم».
5- المقنعة: 150؛ الانتصار: 135؛ الخلاف 1: 63.

3- وأما صحيحة علي بن يقطين(1) فهي قوله: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن لباس الفراء والسّمور والفنك والثعالب وجميع الجلود، فقال: لا بأس بذلك»(2)

والثعلب من السباع ولا خصوصية له، كما أن الجلود تشمل جلود السباع.القول الثاني: عدم قابلية السباع للتذكية(3)، واستدلوا لذلك بالأصل بعد تضعيف رواية سماعة للإضمار(4)، وروايات باب الصلاة للإعراض.

وفيه إشكالان:

الأول: اعتبار الموثقة كما مرّ، فلا تصل النوبة إلى الأصل.

الثاني: إن الأصل لا يدل على عدم التذكية؛ لأن الكلام ليس في كون الحيوان حياً فمات فيشك أنه ذكي أم لا، حتى تجري أصالة عدم التذكية، بل الكلام في قابليته للتذكية وعدمها، ولا حالة سابقة له حتى يستصحب،

ص: 242


1- التهذيب 2: 211؛ وسائل الشيعة 4: 352.
2- الشيخ الطوسي بإسناده، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن أخيه الحسين، عن علي بن يقطين... .
3- شرائع الإسلام 4: 743، وفيه: «الرابع: السباع كالأسد والنمر والفهد والثعلب، وفي وقوع الذكاة عليها تردد...»، وكشف اللثام 9: 221، وفيه: «وفي المسوخ كالقرد والدبّ والفيل قولان... وكذا في السباع، من الطير أو غيرها، كالأسد والنمر والفهد والثعلب والأرنب قولان... وأمّا القول الآخر في السباع فقد حكي القول بنجاستها... وحينئذ لا إشكال في عدم قبولها التذكية»، ومستند الشيعة 15: 442، وفيه: «وظاهر المسالك الميل إلى عدم وقوع الذكاة عليها؛ لاستضعاف الموثقتين بكون سماعة واقفياً، والروايتان موقوفتان مضمرتان».
4- رياض المسائل 12: 158؛ الفقه 75: 479، وفيه: «ومما تقدم يعلم أن القول الآخر ضعيف، ومستنده الأصل بعد تضعيف الروايات المذكورة سنداً كالموثقتين، أو سنداً ودلالة».

وعلى فرض ثبوتها من باب الاستصحاب العدم الأزلي فإنه مثبت وليس بحجة.

ويرد عليه عدم كونه مثبتاً؛ لأن الأصل المثبت إنما يجري فيما لو كان هنالك حيوان ميت فيستصحب عدم تذكيته حال الحياة، فيثبت كونه ميتة، فهو نجس وهذا مثبت، وأما في قابليته للتذكية فمع جريان العدم الأزلي نقول إنه غير قابل للتذكية، وهذا هو المقصود من الاستصحاب في المقام وليسبمثبت، فإن الاستصحاب يحكم بأنه غير قابل للتذكية، وقد وقع الخلط بين الموضوع الخارجي الذي هو مثبت وبين المقام.

هذا بالإضافة إلى أن الاستصحاب في الموضوع الخارجي ليس بمثبت أيضاً على ما في الكفاية(1).

نعم، أشكل على الأصل بأنه استصحاب في الأحكام الكلية، وهو بحث مبنائي.

والحاصل: إنه لو لم تتم موثقة سماعة فلا إشكال في أصل عدم قبول التذكية.

القول الثالث: ما ذهب إليه السيد المرتضى وجمع(2): من أن السباع لو ذكيت ودبغ جلدها جاز الانتفاع بها، فهو كالقول الأول في قابلتيها للتذكية، ولكن جواز الاستفادة منوط بالدبغ.

ص: 243


1- كفاية الأصول: 416-417.
2- الانتصار: 91-92؛ ونسبه في غاية المراد في شرح نكت الإرشاد 3: 509، إلى الشيخ المفيد والطوسي والقاضي وابن إدريس.

ويدل عليه خبر أبي مخلد: «إني رجل سراج(1) أبيع جلود النمر، فقال: مدبوغة هي؟ قال: نعم، قال(علیه السلام): ليس به بأس»(2). ولو لم يكن الدبغ شرطاً في الجواز لم يكن معنى لسؤال الإمام(علیه السلام) عنه.

ويرد عليه(3):

أولاً: بضعف السند، بجهالة أبي مخلّد، وإن كان الأقوى اعتباره لأنه منمشايخ صفوان وابن أبي عمير.

ثانياً: بالإعراض.

ثالثاً: بعدم الإشكال في الانتفاع من جلد الميتة لكنه غير مشهور.

ورابعاً: إنه موافق للعامة.

وفيه نظر؛ لأن السؤال ليس عن الميتة، بل عن مطلق بيع جلود النمر، فلم يسأل عن الميتة حتى يقول الإمام(علیه السلام): لا إشكال فيه، حتى يقال: إنه مطابق للعامة. مضافاً إلى أن مجرد المطابقة للعامة لا يسقط الرواية، ولا يوجب حملها على التقية، إلا إذا كانت معارضة لرواية معتبرة، فعند التعارض يؤخذ بالمخالفة لهم، فمخالفتهم إحدى المرجحات(4).

وعمدة الإشكال الإعراض.

والحاصل: إن السباع قابلة للتذكية.

ص: 244


1- يبيع السروج.
2- الكافي 5: 227؛ وسائل الشيعة 17: 172.
3- مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى 2: 410.
4- وسائل الشيعة 27: 112، وفيه: وقوله(علیه السلام): «دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم».
الفئة الخامسة: المسوخ

الفئة الخامسة: المسوخ(1)

وقع الخلاف في كون المسوخ نجسة العين أم لا، وتفصيله في كتاب الطهارة.

وأما قابلتيها للتذكية فقد نسب صاحب الجواهر(2) إلى المشهور عدم قابليتها، بينما نسب كاشف اللثام(3) إلى المشهور عكس ذلك.

واستدل لقابليتها للتذكية بدليلين:

الأول: أصالة الحل والطهارة(4). وليس المراد من أصل الحل حلية اللحم، فإن من الواضح حرمة لحمها، وإنما المراد أصل جواز الانتفاع منها

ص: 245


1- جمع مسخ، فقد عذب الله بعض البشر، فجعلهم بشكل حيوان، وبعد ثلاثة أيام ماتوا وانتهوا، وما يقال: من أن هذه الحيوانات من نسل أولئك غير صحيح، ولا يخفى أن هنالك أربعة اصطلاحات باطلة، واصطلاح حق - كما في الفقه 75: 480 - نذكرها هنا حيث لا تخلو من فائدة: الأول: المسخ باصطلاح الروايات: بأن يتحول الإنسان إلى حيوان عذاباً من الله، وهذا هو الحق. الثاني: المسخ باصطلاح المتكلمين، وهو: أن يخرج روح إنسان ويدخل في حيوان آخر. الثالث: النسخ أو التناسخ في الأرواح: وهو انتقال روح من إنسان إلى إنسان آخر. الرابع: الفسخ: وهو انتقال روح إنسان إلى شجر. الخامس: الرسخ: وهو انتقال روح إنسان إلى حجر، وكل هذه الصور باطلة. وتحقيق المسوخ سيأتي في باب الأطعمة والأشربة، ومن المتيقّن أن القرد والخنزير من المسوخ، لكن بقية الموارد بحاجة إلى تحقيق في الروايات، والكلام في المقام في أصل قابلتها للتذكية (السيد الأستاذ).
2- جواهر الكلام 37: 287، وفيه: «المسوخ... والمشهور على ما قيل: إنه لا تقع عليها الذكاة».
3- كشف اللثام 9: 220، وفيه: «وقد تقع التذكية على ما لا يحلّ أكله... وفي المسوخ كالقرد والدبّ والفيل قولان، فالوقوع هو المشهور».
4- كشف اللثام 9: 220؛ الفقه 75: 482.

بعد تذكيتها، كالاستفادة من جلدها، فإن الحلية لا تختص بالأكل فقط، وإنما حلية التصرف.

والحاصل: إنه بناءً على عدم جواز التصرف في الميتة لو لم تقبل المسوخ التذكية كانت ميتة، ولا يجوز التصرف، لكن أصالة الحل تقتضي جواز التصرف.

وقد يشكل عليه: بأن أصالة عدم التذكية مقدمة على أصالة الحل، حيث يشك في قابليتها للتذكية فيستصحب بالعدم الأزلي؛ وذلك بناءً على تماميةاستصحاب العدم الأزلي، وأنه لا يختص بالموضوعات، بل يجري في الأحكام الكلية أيضاً، فعلى هذين المبناءين يجري استصحاب عدم التذكية.

وأجاب عنه في كشف اللثام(1): لا شك في قابلية المسوخ للتذكية كي يستصحب عدمها، فليس للشارع اصطلاح خاص فيها إلا بالتضييق تارة، كما في الخنزير، حيث لا تذكية له شرعاً، حتى مع قطع رأسه، والتوسعة أخرى، كما في السمك، حيث تذكيته شرعاً بإخراجه عن الماء حياً، بل التذكية أمر عرفي بمعنى فري الأوداج وقطع الرأس.

وقد يقال: إنه ليس للشارع اصطلاح مخترع للميتة إلا بالتوسعة والتضييق، كما لو لم تفرَ الأوداج الأربعة، أو لم يكن الذابح مسلماً، حيث إنه ميتة شرعاً لا عرفاً، والمسوخات قابلة لفري الأوداج الأربعة، ولم يعلم أن الشارع ضيق، فالتذكية العرفية جارية فيها.

ص: 246


1- كشف اللثام 9: 221.

وهو محل تأمل؛ لأن التذكية لا ترادف قطع الرأس أو فري الأوداج لا لغة ولا عرفاً، بل هي موضوع مستنبط شرعي، ويدل عليه اختلاف كيفية التذكية في الحيوانات، فتذكية السمك بإخراجه من الماء حياً، والجراد بأخذه، والصيد برميه أو إرسال الكلب عليه، والبعير نحره، وسائر الحيوانات بفري الأوداج الأربعة، فالاختلاف بين مصاديق التذكية يدل على أنها ليست عرفية، بل هي موضوع مستنبط شرعي، فمجرد قطع الرأس لا يساوي التذكية.

نعم، لو كان العنوان الذبح لكان منوطاً بالعرف، هذا بالإضافة إلى أن جذرالتذكية في اللغة(1) بمعنى الحلال والطيب والطاهر وغير ذلك، فللشارع اصطلاح خاص في ذلك؛ ولذا لا تستخدم هذه الكلمة في العرف، وإنما الذبح أو قطع الرأس أو ما أشبه ذلك.

نعم، لا يمكن العمل بهذا الأصل للدليل الخاص الدال على قابلية المسوخ للتذكية، وهو صحيحة علي بن يقطين الآتية.

الدليل الثاني: صحيحة علي بن يقطين، قال: «سألت أبا الحسن عن لباس الفراء والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود، فقال(علیه السلام): لا بأس بذلك»(2)، والثعلب من المسوخ، كما أن جميع الجلود يشمل المسوخ أيضاً، مع كونها متعارفة الاستخدام حين صدور الرواية كالأرنب.

والحاصل: إن المسوخات قابلة للتذكية، وفائدتها طهارة لحمها

ص: 247


1- النهاية في غريب الحديث 2: 164؛ لسان العرب 14: 288.
2- مرّ تخريجها وسندها.

وجلدها(1). نعم، لا يجوز استخدامها في الصلاة؛ لأن الشرط في لباس المصلي أن لا يكون من جلد غير مأكول اللحم.

الفئة السادسة: الحشرات

وهي جمع حشرة بمعنى الحيوانات التي تدخل في الأرض، كما في اللغة(2)، وهي مأخوذة من الحشر، حيث تحشر نفسها في التراب، وهذا المعنى غير المصطلح عليه اليوم، حيث تطلق على كل موجود صغير لا لحم ولا عظمله ولو لم يسكن في الأرض كالذباب والجراد.

فالفأرة والحية والحيوانات الكبيرة التي تبني بيتها في داخل الأرض من الحشرات لغة(3).

وهي قابلة للتذكية للقاعدة العامة(4).

وأما الحشرات بالمعنى المصطلح عليه اليوم فلا قابلية لها للتذكية، وذلك لحرمتها وطهارتها فلا فائدة في تشريع تذكيتها، كما أنه لا يمكن عادة ذبحها بشرائط الذبح ولا تشريع لنوع آخر من التذكية فيها، إلاّ الجراد فقد مرّ قابليته للتذكية.

وبهذا ينتهي البحث في كتاب الصيد والذباحة، وسيأتي الكلام في كتاب الأطعمة والأشربة إن شاء الله.

ص: 248


1- الحدائق الناضرة 18: 96.
2- العين 3: 92؛ الصحاح 2: 630؛ معجم مقاييس اللغة 2: 67؛ لسان العرب 4: 191.
3- لسان العرب 4: 191، وفيه: «والحَشَرَةُ: واحدة صغار دواب الأَرض كاليرابيع والقنافذ والضِّبابِ ونحوها».
4- الفقه 75: 271؛ غاية المراد في شرح نكت الإرشاد 3: 506؛ كشف اللثام 9: 223.

والحمد لله رب العالمين.

انتهى تقريره في 8 شوال 1437 المصادف للذكرى الأليمة لهدم قبور آل بيت رسول الله(صلی الله علیه و آله) في بقيع الغرقد، شيدها الله وعمرها بمحمد وآله الطاهرين، بجوار الإمام الرؤوف علي بن موسى الرضا(علیه السلام).

مشهد المقدسة

المقرر

ص: 249

ص: 250

الأطعمة والأشربة

اشارة

ص: 251

ص: 252

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على محمد و آله الطاهرين

تقرير بحث الخارج كتاب الأطعمة والأشربة، للسيد جعفر الشيرازي دام ظله

بقلم تلميذ من تلامذته

ابتداء التقرير

مشهد الإمام الرضا(علیه السلام)

شوال 1437

ص: 253

ص: 254

تمهيد

اشارة

والبحث فيه في حلية المأكول، سواء كان حيواناً أم غيره وحرمته، وكذا في المشروب.

وقبل الدخول في البحث لابد من تأصيل الأصل ليكون المرجع في المشكوك.

تأصيل الأصل

والأصل فيما شك في حليته وحرمته من المأكول والمشرب هو الحلية، ويدل عليه الآيات والروايات:

أما الآيات، فهي:

الآية الأولى: قوله تعالى: {قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا

مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ}(1).

وهي تدل على أمرين:

الأول: حلية غير الموارد المستثناة.

الثاني: عدم لزوم التصريح من قبل الشارع بالحلية، فنفس عدمالوحي

ص: 255


1- سورة الأنعام، الآية: 145.

بالحرمة يكفي للحلية، فمعنى قوله: {لَّآ

أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} هو حلية كلما لم يوحَ إليه بالحرمة.

الآية الثانية: قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا}(1)، فكل ما كان في الأرض فهو حلال.

وفي الإستدلال نظر؛ لأن الآية في مقام بيان أن كل شيء خلق في الأرض فهو لمنفعة البشر، وهي ساكتة عن كيفية الوصول إلى تلك المنفعة، فقد تكون المنفعة في الأكل، وقد تكون في غيره من الاستفادات، فلا إطلاق لها للأكل، بل للمنفعة.

إن قلت: قد لا يعلم الإنسان وجه المنفعة لشيء إلاّ الأكل.

قلت: عدم العلم لا يلازم عدم المنفعة، وربما من المنافع أن عدم وجودها يسبب اختلال قسم من الحياة، فخلقت لرعاية التعادل فيها.

الآية الثالثة: قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ}(2).

الآية الرابعة: قوله تعالى: {كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا}(3).

ولكنهما لا تدلان على المراد، لمكان (من) التبعيضية، فلا تدلان على حلية كل شيء، كما أن الآية الأخيرة مقيّدة بالحلال الطيب، فلابد من إثبات كونه حلالاً طيباً. وأمّا احتمال كون (من) بيانية فمع فرض وروده

ص: 256


1- سورة البقرة، الآية: 29.
2- سورة الملك، الآية: 15.
3- سورة البقرة، الآية: 168.

يوجبالإجمال، فلا يمكن الاستدلال بها.

وأمّا الروايات فقد ذكرت في مبحث البراءة من الأصول، والبحث فيها من حيث سندها ودلالتها، فراجع نبراس الأصول، ومنها قوله: «كل شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(1).

وادعي عليه الإجماع أيضاً لكنه محل تأمل.

موارد تخصيص الأصل الثانوي للأصل الأولي

وهنا أصل ثانوي لحرمة بعض الأشياء، وهو يخصص الأصل الأولي وذلك في موارد، وهي:

المورد الأول: الخبائث
اشارة

ولا إشكال في حرمتها، وتدل عليها آيات، هي:

الآية الأولى: قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ}(2)، وحيث إنه جمع محلى ب (أل) دلت الآية على حرمة كل الخبائث.

الآية الثانية: قوله تعالى: {يَسَۡٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ}(3)، ومفهومه حرمة الخبائث.

وأشكل عليه أنه مفهوم(4) وصف أو لقب، والثاني ليس بحجة، والأول الأصل عدم حجيته.

ص: 257


1- من لا يحضره الفقيه 3: 341؛ تهذيب الأحكام 7: 226.
2- سورة الأعراف، الآية: 157.
3- سورة المائدة، الآية: 4.
4- مستند الشيعة 15: 10.

وفيه نظر: فليس الاستدلال بمفهوم الوصف، بل الحصر، وهو حجة لظهوره.

الآية الثالثة والرابعة: قوله تعالى: {ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ}(1). وقوله تعالى: {وَيُحِلُّ

لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ}(2).

والاستدلال بمفهوم الوصف فيهما فلا تدلان.

والحاصل: إن حرمة الخبائث من المسلمات.

الأقوال في معنى الخبائث

وفي معنى الخبائث ثمانية أقوال(3):

القول الأول: المراد الخبيث الشرعي

المراد هو الخبيث الشرعي، سواء تنفرت طباع العرف منه أم لا، والشارع قد بيّن أن لحم الخنزير خبيث ولحم الغنم طيب، فما عيّنه الشارع خبيثاً كان خبيثاً، وما لم يعين فهو طيب.

وإنما ذهبوا إلى هذا القول لأن هنالك موارد تتنفر منها الطباع، كبعض الأدوية المرّة، ومع ذلك فليست خبيثة، بالإضافة إلى اختلاف الطباع، حيث تختلف طباع قوم عن قوم، وأهل البادية عن الحضر، فالعرب لا يتنفرون من شيء كالجراد، والعجم يتنفرون منه، كما أن هنالك موارد لا تتنفر منها النفوس والطباع وقد حرّمها الشارع، كالأرنب والسمك غير ذات الفلس، وأمّا لحم

ص: 258


1- سورة المائدة، الآية: 5.
2- سورة الأعراف، الآية: 157.
3- مستند الشيعة 15: 9-12؛ جواهر الكلام 36: 237-239.

الخنزيرفلو لم يحرّمه الشارع لم تكن الطباع تتنفر منه، ويشهد له أكل جميع البشر منه ما عدا المسلمين واليهود، وحتى بعضهم يأكله وهو طيب عنده.

وأشكل عليه بأن المرجع في الموضوعات العرف واللغة، إلاّ إذا كان للشارع اصطلاح خاص، وليس كذلك في كلمة (الخبيث) فالقول بأن الخبيث ما خبثه الشارع خلاف العرف واللغة.

القول الثاني: المراد الخبيث اللغوي

والمراد من الخبيث هو الخبيث اللغوي.

وفيه: أن اللغة تبيّن المعنى الكلي دون المصاديق.

القول الثالث: المراد الخبيث العرفي

والمراد هو الخبيث العرفي، فكل ما اشمأزت منه النفوس المستقيمة، وتنفرت منه الطبائع السليمة فهو خبيث، والتقيد بالسليمة مقابل أصحاب الطباع الشاذة.

وفيه نظر؛ لأن إن أكثر النفوس السليمة والطباع المستقيمة تتنفر من الأدوية، ولا تتنفر من السمك غير ذات الفلس مثلاً.

اللّهم إلاّ أن يقال: إن المدّعى كون الخبيث ما تتنفر الطباع السليمة منه، لا أن كل محرم هو خبيث يُتنفر منه، فتأمل.

القول الرابع: المراد التنفر من جميع الجهات

وهو ما اختاره جمع لدفع الإشكال عن القول الرابع، حيث قالوا: لابد من كون التنفر من جميع الجهات لا من جهة الأكل فقط، ففي الأدوية الخبث من جهة الأكل فقط، أمّا في العذرة فالتنفر من جهة الأكل والنظروالرائحة

ص: 259

واللمس، فما تنفروا منه من جميع الجهات كان خبيثاً. وكأنهم أرادوا التخلص من إشكال العقاقير.

وفيه نظر؛ فإن بعض ما حرّمه الشارع ليس فيه تنفر من جميع الجهات كالسمك المحرّم، فليس فيه تنفر من جميع الجهات نظراً ولمساً.

اللهم إلاّ أن يورد عليه ما أورد على سابقه.

القول الخامس: الخبيث ما تنفر منه أهالي البلاد

دون سكنة البادية، وكأنه اختاره للتخلص مما يأكله أهل البوادي، حيث يأكلون كل شيء بخلاف أهل البلد.

وفيه نظر؛ فإن أهل البلد تختلف طبائعهم بين بلادنا والصين مثلاً.

القول السادس: التقييد بنفوس العرب

وهو ما في المسالك(1) من التقييد بنفوس العرب؛ لأن الآية نزلت بلسانهم.

وفيه نظر؛ فإن الكثير من المحرمات التي جعلها الشارع خبيثاً لم يعتبره العرب قبل الإسلام خبيثاً كالخمر، بل جعلها أم الخبائث، وكذا الدم والخنزير.

والقول بأنها محرمة وإن لم تكن من الخبائث أو محللة وإن كانت من الخبائث محل نظر، حيث لا يقبل الأمر الاستثناء، فلا يرتبط بذوق العرب.

القول السابع: الخبيث مجمل

وهو ما اختاره المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة(2) من أن الخبيث مجمل فلا يمكن الاستدلال به للتحليل والتحريم، بل لابد من مراجعة

ص: 260


1- مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام 12: 7.
2- مجمع الفائدة والبرهان 11: 156-157.

الشرع في كل شيء حرّمه.

القول الثامن: المراد الطيب والخبيث الواقعي

فلا يرتبط الأمر بتنفر الطباع وعدمه، وإنما هنالك ما واقعه خبيث كشف الشارع عنه، وذلك كالطعام المسموم، حيث لا يتنفر الطبع منه، لكن لو كشف عنه لتنفر الإنسان منه.

ويدل عليه تنفر النفس عن كثير من الأشياء وليست من الخبائث كالعقاقير، وعكسه في كثير من الحيوانات المحرّمة، فالخبيث هو الخبيث الواقعي والطريق إلى الكشف عنه الشرع.

لكن لا يمكن قبول هذا على إطلاقه، فإن طريق الكشف لا ينحصر بالشرع، فإن الكثير من الخبائث التي تتنفر منها النفس يُطلق عليها الخبيث، كالميتة المتعفنة والعذرة، مع عدم وجود دليل خاص في بعض الموارد، كالبصاق المتجمع، فلو كان دليل حرمته تنفر النفس منه! فإن النفس تتنفر منه كما تتنفر من الدواء المر، فكيف عرف أن الأول خبيث واقعي فصار حراماً والثاني ليس بخبيث؟

والظاهر أنه يمكن الالتزام بهذا القول بأن يقال: إن تحريم الشارع يكشف أنه خبيث واقعي، كما أن الإنسان قد يكتشف بنفسه الخبيث من غير تفسيره بما تنفر الطباع منه.

لا يقال: إنه تعريف بالأخفى؛ لأن مفهوم الخبيث واضح دون مصداقه.

فإنه يقال: تارة يكون الخبيث الواقعي معلوماً كالعذرة، حيث يعرفه العرف - حتى غير المتشرع - بالخبث، فهنا العرف كشف الخبيث، وتارة

ص: 261

الأمربحاجة إلى كشف الشارع عنه، كالخمر وإن مالت إليه النفوس.

والحاصل: إن الكاشف إمّا النفس وإمّا الشرع.

ولا يخفى أن الأقوال المذكورة صوّرت النسبة بين الخبيث والحرام بالتساوي، والحال أن النسبة بينهما عموم مطلق، فتارة يكون الشيء حراماً ليس بخبيث كالتراب؛ ولذا يجوز أكله في موارد، ولكن كل خبيث حرام.

المورد الثاني: الأشياء المضرّة
اشارة

فهل هي خارجة عن أصالة الحلية؟

فقد ذهب البعض(1) إلى حرمة كل ما يضر البدن، سواء من المأكول أم المشروب، قليلاً كان أم كثيراً - إن كان قليله مضراً- .

أدلة حرمة الأشياء الضارّة

واستدل له بأدلة:

الدليل الأول: الإجماع

وقد استدل به جمع من الفقهاء(2).

لكنه دليل لبي، فلا يشمل الموارد المشكوكة، أمّا الأضرار المسلّمة التي لا يجوز التعرض لها فهي موارد:

الأول: الضرر الذي يسبب الهلاك مهما كان منشؤه، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ}(3)، فهي مطلقة وإن كان

ص: 262


1- كفاية الأحكام 2: 612.
2- مستند الشيعة 15: 15.
3- سورة البقرة، الآية: 195.

موردها الإنفاق حيث قال: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ}، فإن خصوصية المورد لا تخصص الوارد، فهذا الضرر منهي عنه شرعاً، فلا يجوز التعرض له، ومن أسبابه الأكل والشرب، كما في السم القاتل فيحرمان؛ لأنهما يؤديان إلى قتل النفس.

الثاني: ما يكون موجباً لفقد عضو أو قوة، كشرب مائع يؤدي إلى العمى، وهذا مما علم مبغوضيته لدى الشارع، ودليله السيرة والارتكاز وغيرهما مما بحث في محله، فيحرم التعرض له، فالأكل والشرب الموجب لفقد قوة حرام.

وهذا هو القدر المسلّم من الإجماع، ولا يعلم تحققه في غيره. مع الإشكال فيه من جهة معلومية استناده إلى أدلة أخرى.

وأما إدخال التحريم من جهة تضرر المال بأن يحرم الأكل الموجب للإسراف والتبذير. فلا يرتبط بحرمة الطعام، إذ هنا أمران: حرمة الطعام وحرمة الإسراف والتبذير، والكلام في الأول.

الدليل الثاني: استقلال العقل بحرمة الأشياء الضارة

حيث يقبّح العقل تناول الطعام المضر تقبيحاً شديداً من دون تبعيته لحكم الشرع، ولولا ذلك لم يكن من المستقلات العقلية.

لكن إطلاقه محل تأمل، حيث لا يحكم العقل بقبح كل طعام مضر، خاصة إذا كان في تناوله مصلحة أهم، فلو كان في تحمل الضرر منفعة عقلائية لم يستقل العقل بقبحه، بل قد يحكم بحسنه، كما هو الحال فيما يفعله العقلاء ويؤيده العقل مما فيه الضرر لكن فيه منفعة.

ص: 263

اللهم إلا أن يقال: إن الكلام بغض النظر عن العناوين الثانوية كالأهم، وإلا فجميع الأحكام الشرعية مؤطرة بالعناوين الثانوية، فحتى أكل الميتة قد يكون جائزاً، بل واجباً، كما لو أدى تركه إلى الموت، وهنا أيضاً كذلك، فالعقل يحكم بحرمة الضرر ما لم يكن فيه منفعة أهم. هذا أولاً.

وثانياً: إن العقل دليل لبي، والقدر المتيقن منه ما فيه هلاك النفس أو فقد عضو أو قوة إن لم يكن فيه غرض عقلائي كما في الجهاد.

وثالثاً: إن العقل اما نظري وملاكه الإمكان والاستحالة، أو عملي وملاكه الحسن والقبح، والأول لا يجري فيما نحن فيه، والثاني غير ثابت إلاّ في إهلاك النفس أو نقص العضو أو القوة وفي الجملة.

الدليل الثالث: أدلة نفي الضرر شاملة للأشياء الضارة

وهو إن أدلة نفي الضرر تشمل الطعام المضرّ. ولابد من توجيه الاستدلال بقاعدة (لا ضرر) عبر أحد طريقين:

الأول: إنه وإن كان نفياً لكن المراد منه النهي، فمفاد (ليس في الإسلام ضرر) هو (لا تضر).

لكن هذا الوجه لم يرتضه جمع من الأصوليين.

الثاني: أن يكون مفاده النفي الشامل لكل نوع من الأضرار، ومنه نفي الحكم الناشئ منه الضرر، فجواز أكل الطعام المضر - وهو حكم شرعي ينشأ منه الضرر - نفاه الشارع، ومعنى نفي الجواز الحرمة.

ويرد عليه - بغض النظر على المبنى في القاعدة - أنها لا تدل على حرمة الطعام المضر من جهتين:

ص: 264

الأولى: إن القاعدة امتنانية، فلو كان رفع الضرر خلاف الامتنان لم ترفعه القاعدة، كما هو الحال في رفع الإكراه، فلو أكره على بيع داره ثم نزلت قيمتها فالحكم ببطلان البيع خلاف الامتنان، لكن تخيير المكره بعد رفع الإكراه على القبول أو الإمضاء موافق للامتنان.

وفي المقام كذلك، فإن رفع الحكم الضرري قد يكون خلاف الامتنان، كما لو كانت مصلحة أهم في تناول الطعام المضر، والحاصل ليس الدليل مطلقاً(1).

الثانية: إن الطعام المضر المترتب عليه غرض عقلائي قد لا يسمى ضرراً عرفاً(2).

الدليل الرابع: عموم التعليل

إن الروايات الشريفة عللت تحريم بعض الأطعمة بالضرر، والعلة تعمم وتخصص. نعم، لا يمكن الاستدلال بالروايات التي رتبت الضرر على بعض أنواع الأطعمة من دون تعليل، لكن يصح الاستدلال بما علل به، ويفهم من العلة التعميم.

وفيه إشكالات:

الإشكال الأول: إن ما ورد في الروايات حكمة، فلا يمكن الاستناد إليها في سائر الموارد، ودليل كونه حكمة أن الحكم ليس دائراً مدار الضرر، كمافي تناول القليل الذي لا ضرر فيه، أو ما دفع ضرره طبياً أو كان مزاج

ص: 265


1- ويتأمل فيه: بأن القاعدة ترفعه لولا المزاحم الأهم، كما هو الحال في كل القواعد والأدلة التي يراعى فيها المصلحة الأهم أو المعارض المقدم عليه. (المقرر).
2- ويتأمل فيه: بأنه عرفاً ضرر لكنه يتحمل لغرض عقلائي، كما لو بتر رجله لأجل إنقاذه من الموت، فقطع الرجل ضرر يتحمله لدفع ضرر أشد. (المقرر).

الشخص خلاف الأمزجة المعتدلة فينفعه ما يضر الآخرين، فهل يمكن القول بحلية الطعام المنهي عنه المعلل بكونه للضرر؟ كلا، فيعلم من الحكم بحرمة قليله أو ما دفع ضرره، أو ما كان فيه النفع أن المذكور في الروايات حكمة لا علة.

هذا مع قطع النظر عن البحث السندي في بعض تلك الروايات، وإن كان بعضها معتبراً.

والحاصل: إن الأدلة التي أقيمت على حرمة الطعام المضر مطلقاً غير تامة، والقدر المسلّم ما كان موجباً لهلاك النفس، أو فقد عضو أو قوة.

ولا يخفى أن ما ذكر لا ينفي كون الحرمة لأجل المفسدة، فجميع المحرمات إنما حرمت لأجل مفسدة فيها، لكن لا تنحصر المفسدة في الضرر حتى تكون علة، فإن المفسدة تارة تكون ضرراً بالغاً في البدن، وتارة في العقل كحرمة الخمر، وتارة مفسدة دينية كحرمة المذبوح خلاف القبلة، حيث لا ضرر مادي فيه، وتارة مفسدة اجتماعية، وتارة لجهة أخرى كالخبائث.

نعم، لو صرح الشارع بأنه علة دار مداره الحكم.

المورد الثالث: الطعام النجس أو المتنجس

وذلك لروايات متعددة(1) تحكم بحرمته، فله دليل مستقل بقطع النظر عنأي شيء آخر كخباثته أو ضرره.

ص: 266


1- وسائل الشيعة 17: 84، وفيه: «وأمّا وجوه الحرام... أو شيء من وجوه النجس فهذا كله حرام ومحرم؛ لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه...».

والحاصل: إن الأصل الحلية إلا ما خرج، ومنها الخبائث والنجاسات والمتنجسات والمضر في الجملة.

ص: 267

الفصل الأول: في حكم الموجودات البحرية

اشارة

يقع الكلام في تشخيص الحلال والحرام من الموجودات البحرية، وينقسم البحث إلى ثلاثة أقسام: حكم غير السمك، وحكم السمك ذات الفلس، وحكم السمك غير ذات الفلس.

القسم الأول: الموجودات البحرية غير السمك

المشهور(1) شهرة عظيمة حرمة الموجودات البحرية غير السمك كالأخطبوط والسرطان، حتى ادعي عليه الإجماع(2)، ويقابله ما نسب إلى الشيخ الصدوق من الحلية، وهو المشهور بين العامة(3)، ومال إليه بعض المتأخرين صناعة، منهم: المحقق الأردبيلي(4) والمحقق السبزواري في كفايته(5).

أدلة حرمة الموجودات البحرية غير السمك

واستدل لحرمتها بأدلة:

ص: 268


1- كشف اللثام 9: 248؛ رياض المسائل 12: 137؛ جواهر الكلام 36: 253.
2- الخلاف 6: 31؛ الرياض 12: 135؛ مستند الشيعة 15: 66؛ جواهر الكلام 36: 241.
3- الخلاف 6: 30.
4- مجمع الفائدة 11: 190.
5- كفاية الأحكام 2: 596.
الدليل الأول: أصالة عدم التذكية

فالمسوغ للأكل هو التذكية، والموجودات البحرية غير السمك يشك في قابليتها لها، والأصل عدمها، وقد مرّ البحث فيه وأنه من العدم الأزلي، بناءً على حجيته، وبناءً على جريانه في الأحكام الكلية. وأمّا الأدلة الدالة على أخذه من الماء حياً فموضوعها السمك.

لكنه محل إشكال - مع غض النظر عن الإشكال المبنائي - لأنه أصل مسببي، ولا تصل النوبة إليه مع وجود الأصل السببي.

بيان ذلك: إن قابليتها للتذكية وعدمها مسبب عن الحلية والحرمة، حيث إننا نشك أنه حلال أو حرام فلو كان حلالاً قَبِلَ التذكية، ولو كان حراماً لم يَقبل؛ لعدم الفائدة فيه، فإن الغرض من التذكية إمّا الحلية وإمّا الطهارة، والأول خلاف الفرض، والثاني متحقق قبل التذكية؛ لأن ميتته طاهرة على كل حال، فأصالة عدم التذكية لا تجري لأنه مسببي، حيث يجري الأصل في السببي وهو أصل الحلية.

هذا بالإضافة إلى الأدلة العامة على حلية الموجودات البحرية، فلا تصل النوبة إلى الأصل، ومن الأدلة العامة قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ}(1)، فمع وجود الدليل العام على الحلية لا تصل النوبة إلى الأصل، بل لابد من دليل يخصص العمومات.

والحاصل: إن الأصل المذكور مسببي، مضافاً إلى أنه لا يجري لوجوددليل لفظي عام على خلافه.

ص: 269


1- سورة المائدة، الآية: 96.
الدليل الثاني: العمومات الدالة على حرمة الميتة

فالموجود البحري بعد خروجه من الماء يكون ميتة، فتشمله أدلتها، ومنها: {حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ}(1).

وفيه إشكالان:

الأول: ما يقبل التذكية ليس ميتة، فلا تشمله أدلة الميتة.

الثاني: على فرض صدق الميتة عليه فلابد من تخصيص أدلة الميتة، وقد خصصت بإطلاق الآيات والروايات، ومنها: {أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ}، فتخصص {حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ} لأنها تشمل البري والبحري، والآية استثنت البحري(2)، وفي الرواية (وحلال ميتته)(3) بالنسبة إلى ميتة البحر.

وذهب صاحب الرياض(4) إلى عدم دلالة الآية على سائر الموجودات البحرية غير السمك؛ وذلك لانصرافها إلى السمك فقط، ولو فرض شمولها لها لزم تخصيص الأكثر، حيث إن سائر الموجودات البحرية محرمة إما لخبثها أو لضررها.

ص: 270


1- سورة البقرة، الآية: 173.
2- ويمكن القول: إن النسبة بينهما عموم من وجه، فإن أدلة حرمة الميتة تشمل ميتة البحر والبر، وأدلة حلية طعام البحر تشمل الحي والميت، فيتعارضان في ميتة البحر، ولا يخفى أن عموم الثاني إنما هو بالدقة، ولكن الإنصاف أن العرف لا يرى عمومه ليشمل الحي والميت، فتأمل (المقرر).
3- وسائل الشيعة 1: 136، وفيه: قال(علیه السلام): وقد سئل عن الوضوء بماء البحر؟ فقال: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته».
4- رياض المسائل 12: 135.

لكنه غير تام فلا انصراف، حيث لا منشأ له، فإن المنشأ قد يكون عدم التعارف بين الناس، لكن أكلها كان متعارفاً منذ زمن النبي(صلی الله علیه و آله) وإلى يومنا عند أكثر الناس. نعم، جمع من الشيعة - لأجل فتوى الفقهاء - يقتصرون على السمك، وأمّا كونه خبيثاً أو مضراً فهو أول الكلام، فلا يلزم تخصيص الأكثر.

الدليل الثالث: موثقة عمار الساباطي

عن الصادق(علیه السلام)(1) قال: «سألته عن الربيثا، فقال: لا تأكلها فإنا لا نعرفها في السمك يا عمار»(2). فتدل على أن الحلية دائرة مدار كونه سمكاً، فيحرم كل ما ليس بسمك.

لكنه محل تأمل؛ لأنها تعارض الروايات المعتبرة الدالة على حلية الربيثا - أي الروبيان - ، التي عمل بها المشهور شبه المجمع عليه، فلابد من حمل الموثقة على الكراهة أو الإعراض. و لا يمكن القول بحرمة سائر الموارد؛ لأن خروج المورد من الحكم قبيح.

الدليل الرابع: ما يدل على حرمة الموجودات البحرية إن لم تكن سمكاً ذات فلس

وستأتي المناقشة فيه عند بحث التعارض بين الروايات الدالة على حلية وحرمة السمك غير ذات الفلس، فلو رجحنا الروايات الدالة على تحريم

ص: 271


1- الشيخ الطوسي بأسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار بن موسى الساباطي، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
2- الاستبصار 4: 91.

غير ذات الفلس تم الدليل الرابع وإلا فلا.

الدليل الخامس: الإجماع

وقد ادعاه جمع(1) وقال في المسالك: «لا خلاف بين أصحابنا في تحريمه»(2).

وفيه إشكال صغرى وكبرى، حيث لا إجماع لمخالفة جمع كالشيخ الصدوق والطوسي في بعض الموارد كالمارماهي(3) حيث اختلفت فتواه فيه، فالإجماع غير ثابت صغرى، وأمّا كبرى فهو معلوم الاستناد، ومبناهم عدم حجية محتمله فكيف بمعلومه؟

إلاّ أن يقال: إن معلومية الاستناد فضلاً عن محتمله غير مخلٍّ بحجية الإجماع؛ لأن حجيته من باب بناء العقلاء، وهم لا يفرقون في ذلك، وهو بحث مبنائي.

والحاصل: إنه أقيمت خمسة أدلة على حرمة الموجودات البحرية غير السمك، فإن تمَّ الرابع منها - كما سيأتي - كان المدعى تاماً.

القسم الثاني: السمك ذات الفلس

وقد اتفق جميع المسلمين على حليته بلا خلاف ولا من واحد، وفيها روايات متواترة(4)، وربما يمكن دعوى الضرورة على ذلك.

ص: 272


1- الخلاف 6: 31؛ غنية النزوع: 398؛ السرائر 3: 99؛ المعتبر 2: 84؛ مختلف الشيعة 8 : 283.
2- مسالك الأفهام 12: 10.
3- النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 576.
4- وسائل الشيعة 24: 127.
فرع: في سقوط الفلس

لا يخفى أن السمك ذات الفلس نوعان: ما لا يتساقط فلسه، وما له فلس خلقة لكنه يتساقط، لسوء خلقه، حيث يحك نفسه على صخور البحر.

والمهم في الحكم أن يكون له فلس خلقة ولو تساقط بعده.

ومن الثاني ما يسمى بالكنعت، وقد وردت حليتها في الروايات الصحيحة، حيث لها فلس خلقة، ومنها: صحيحة حماد(1): «قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): جعلت فداك، الحيتان ما يؤكل منها؟ فقال: ما كان له قشر، قلت: جعلت فداك، ما تقول في الكنعت، قال: لا بأس بأكله، قال: قلت له: فإنه ليس له قشر، فقال لي: بلى ولكنها حوت سيئة الخلق تحك بكل شيء، وإذا نظرت في أصل أذنها وجدت له قشراً»(2).

القسم الثالث: السمك غير ذات الفلس

وله أقسام كثيرة، ومنشأ الإشكال فيه تعارض الروايات، حيث إن هنالك روايات كثيرة، وبعضها معتبرة تدل على حرمته، وهنالك روايات ظاهرها الحلية.

والمشهور شهرة عظيمة وادعي عليه الإجماع الحرمة(3)، ويقابله قول الصدوق بالحلية(4)، ومال إليه بعض المتأخرين(5)، كما نقل ذلك عن الشيخ

ص: 273


1- محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن يحيى، عن حماد بن عثمان...
2- الكافي 6: 219؛ وسائل الشيعة 24: 137.
3- الانتصار: 400؛ ملاذ الأخيار 14: 118؛ تحرير الأحكام 4: 636.
4- مستند الشيعة 15: 61.
5- مجمع الفائدة والبرهان 11: 190؛ كفاية الأحكام 2: 596.

الطوسي في التهذيب والاستبصار(1).

روايات حرمة السمك غير ذات الفلس

ومما يدل على الحرمة صحيحة(2) محمد بن مسلم عن الصادق(علیه السلام) قال: «كُلْ ما له قشر من السمك، وما ليس له قشر فلا تأكله»(3).

وصحيحة(4) عبد الله بن سنان عن الصادق(علیه السلام): «كان علي(علیه السلام) في الكوفة يركب بغلة رسول الله(صلی الله علیه و آله) ثم يمر بسوق الحيتان فيقول: لا تأكلوا ولا تبيعوا من السمك ما لم يكن له قشر»(5).

وموثقة(6) حنان بن سدير عن الصادق(علیه السلام): «ما لم يكن له قشر من السمك فلا تقربنه»(7).

ومرسل(8) حريز عن بعض أصحابه، عن الصادق والباقر‘: «أن أمير المؤمنين كان يكره الجريث(9)، ويقول: لا تأكلوا من السمك إلاشيئاً عليه

ص: 274


1- الاستبصار 4: 59؛ تهذيب الأحكام 9: 5.
2- الكليني، عن العدة، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، وأحمد بن محمد بن أبي نصر جميعاً، عن العلاء، عن محمد بن مسلم... .
3- الكافي 6: 219؛ وسائل الشيعة 24: 127.
4- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن سنان... .
5- الكافي 6: 220؛ وسائل الشيعة 24: 128.
6- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حنان بن سدير، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
7- الكافي 6: 220؛ وسائل الشيعة 24: 128.
8- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عمن ذكره عنهما‘ ... .
9- نوع من السمك يشبه المارماهي، كما قاله بعض. العين 6: 98؛ لسان العرب 2: 128.

فلوس وكره المارماهي»(1).

وهناك روايات أخرى مذكورة في الوسائل(2).

الروايات الدالة على حلية السمك غير ذات الفلس

ومما يدل على الحلية روايات:

منها: صحيحة(3) زرارة عن الصادق(علیه السلام) قال: «ويكره كل شيء من البحر ليس له قشر مثل الورق، وليس بحرام إنما هو مكروه»(4).

ولا يخفى استخدام الكراهة في الحرمة كثيراً في الروايات، فتستخدم في المعنيين، بخلاف ما هو المصطلح اليوم؛ ولذا أكد الإمام(علیه السلام) على بيان مراده.

ومنها: صحيحة(5) ابن مسكان، عن الحلبي، عن الصادق(علیه السلام): «لا يكره شيء من الحيتان إلا الجري»(6).

والاستثناء دليل على حليتها كلها غير المستثنى.

توجيه روايات الحلية

وتسقط دلالة الطائفة الثانية بأحد طريقين:

الأول: التقية، فغالب العامة يحللّون كل الموجودات البحرية، وأمّاأبو

ص: 275


1- الكافي 6: 220؛ تهذيب الأحكام 9: 2؛ وسائل الشيعة 24: 128.
2- وسائل الشيعة 26: 127.
3- الشيخ الطوسي بأسناده، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة... .
4- الاستبصار 4: 59؛ وسائل الشيعة 24: 135.
5- الشيخ الطوسي بأسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن محمد الحلبي... .
6- تهذيب الأحكام 9: 5؛ وسائل الشيعة 24: 134.

حنيفة(1) فيرى حلية السمك مطلقاً - سواء كان له فلس أم لا - ، ويحرم سائر الموجودات.

فالروايات الدالة على الحرمة تخالف العامة، ومخالفتهم من المرجحات، فلابد من حمل روايات الحلية على التقية.

إن قلت: مع إمكان الجمع العرفي بحمل النهي على الكراهة لا تصل النوبة إلى الترجيح بمخالفة العامة لأنه فرع التعارض.

قلت: لو كان الشيء حراماً واقعاً واتفقت العامة على حليته فإن كان الإمام(علیه السلام) في تقية فلا يكون كلامه إلاّ بالتحليل ولا طريق آخر، وحينئذٍ فمع علم العرف بهذا يرى تعارض النهي والإباحة، فتأمل.

الثاني: ما في المستند(2) من أن روايات الجواز عامة حيث تعم الموجودات البحرية، وروايات عدم الجواز خاصة بالسمك غير ذات الفلس، فيتقدم الخاص على العام.

وفيه نظر؛ لعدم عمومية بعض أدلة الجواز، بل هي خاصة بالسمك غير ذات الفلس، كما في السؤال عن الجري في صحيحة زرارة، حيث إن مورد السؤال السمك غير ذات الفلس، فقال(علیه السلام): «ويكره كل شيء من البحر ليس له قشر مثل الورق وليس بحرام، إنما هو مكروه»(3)، فهو بيان لحكم الخاص.وكذلك في صحيحة الحلبي(4) ابن مسكان يقول(علیه السلام): «لا يكره شيء من

ص: 276


1- الخلاف 6: 30.
2- مستند الشيعة 15: 62.
3- الاستبصار 4: 59؛ وسائل الشيعة 24: 135.
4- مرّ تخريجه قريباً.

الحيتان إلا الجري»(1)، فلو كان المراد من الحيتان السمك ذات الفلس كان استثناء الجري منقطعاً، وهو خلاف الظاهر، فيعلم من ذلك كله أنه ليس مورد روايات التحليل الموجودات البحرية، بل خصوص السمك الذي لا فلس له.

وعليه فمقتضى الصناعة حرمة السمك غير ذات الفلس وعليه الشهرة العظيمة التي كادت أن تكون إجماعاً، بل قال جمع: إنه من شعار الشيعة، فيبعد عدم استناده إلى المعصومين(علیهم السلام).

القسم الرابع: الروبيان

وليس من السمك، بل هو من فصائل سرطان البحر، لكنه حلال لروايات كثيرة، وقد ذكر فيها الأربيان والرباثا أو الربيثا.

منها: صحيحة(2) يونس بن عبد الرحمان، عن الكاظم(علیه السلام): «ما تقول في أكل الأربيان؟ فقال لي: لا بأس بذلك، والأربيان ضرب من السمك»(3).

ومنها: معتبرة(4) عمر بن حنظلة سأل الصادق(علیه السلام) عن الربيثا، فقال:«كلها،

ص: 277


1- الاستبصار 4: 59؛ وسائل الشيعة 24: 134.
2- الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمان، عن أبي الحسن(علیه السلام) ... .
3- وسائل الشيعة 24: 141.
4- الشيخ الطوسي بأسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن البرقي، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن عمر بن حنظلة... . وفي اعتبار عمر بن حنظلة كلام، حيث ليس له توثيق خاص، لكن الفقهاء قبلوا روايته المعروفة بمقبولة عمر بن حنظلة، ويمكن إثبات وثاقته عن طريق رواية يزيد بن خليفة، حيث ورد عن الإمام الصادق(علیه السلام) في حقه: «إذن لا يكذب علينا»، إلا أن يزيد مجهول لكنه من مشايخ ابن أبي عمير، كما يمكن إثبات وثاقته عن طريق كونه من مشايخ ابن أبي عمير. والمتحقق عندنا وثاقته واعتباره (السيد الأستاذ).

وقال: لها قشر»(1).

ومنها: موثقة(2) حنان بن سدير قال(علیه السلام): «هذه لها قشر، فأكل منها ونحن نراه»(3).

ومنها: صحيحة(4) محمد بن إسماعيل عن الرضا(علیه السلام) قال: «لا بأس بها»(5).

ولكن هنالك روايات منها موثقة عمار الساباطي(6) نهت عن أكل الربيثا، إلا أن المشهور اعرضوا عنها فتحمل على الكراهة.

ولا يخفى أن المقصود من قول الإمام(علیه السلام): «لها قشر» الجلد الذي عليه، فهو مع قشر السمك من مادة واحدة ولا فرق بينهما، كما لا فرق بين الفلس الكثير أو الفلس الواحد الكبير، وربما الأمر من باب الحكومة وتوسعة القشر ليشمل جلد الروبيان.

ولا يخفى أنه لا عمومية لهذا كي يشمل سائر فصائل السرطان، إذ إنه ليس بعلة بل حكمة.

القسم الخامس: في خصوص الجري والمارماهي والزمير

فلو قلنا بحرمة غير ذات الفلس فهي محرمة وإنما ذكرت بخصوصها في

ص: 278


1- الاستبصار 4: 91؛ وسائل الشيعة 24: 139.
2- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه ، عن حنان بن سدير... .
3- الكافي 6: 220؛ من لا يحضره الفقيه 3: 340.
4- محمد بن الحسن بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، وبإسناده عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن إسماعيل... .
5- تهذيب الأحكام 9: 6؛ وسائل الشيعة 24: 140.
6- مرت مع تخريجها قريباً.

الروايات لسؤال الناس عنها لكثرتها في الفرات، ومعه ليس الأمر بحاجة إلى روايات خاصة.

وأمّا بناء على حلية السمك غير ذات الفلس فلابد من الاستدلال على حرمتها بالروايات الخاصة المعتبرة الكثيرة التي لا يبعد تواترها(1) بالإضافة إلى فتوى المشهور، كما يستدل على ذلك بكونها من المسوخ.

القسم السادس: في السمك الجلاّل

لو انحصر طعام السمك المحلل في عذرة الإنسان صار جلالاً، وحرم لحمه. وفي المقام بحوث:

البحث الأول: في معنى الجلال

وفي معنى الجلال(2) أقوال(3):

منها: إن الجلال هو الحيوان الذي يأكل النجاسة لمدة يوم وليلة.

ومنها: إنه ما يأكل النجس إلى أن يتغير طعم لحمه ورائحة بدنه.

وهنالك أقوال أخرى لكن لا مستند لها لا لغة ولا عرفاً.

والأقرب أن تشخيص الموضوع بيد العرف، حيث ليس للشارع مصطلح جديد. نعم، قد لا يشخص العرف، فتكون اللغة طريقاً لكشف المعنى العرفي، فلو أكل النجاسة يوماً لم يسم جلالاً، وإنما ما كان عادته ذلك، سواءكان يوماً أم ثلاثة، حتى لو لم يتغير طعم لحمه.

ص: 279


1- راجع وسائل الشيعة 24: 130-137.
2- وحقه أن يبحث في البهائم، لكن صاحب الشرائع أورده هنا بعد ذكر أحكام السمك الحلال وتمييزه عن الحرام، فتبعه الفقهاء (السيد الأستاذ).
3- مجمع الفائدة والبرهان 11: 250؛ رياض المسائل 12: 144.

ولا يخفى أنه ليس المراد أكل كل نجاسة وإنما خصوص العذرة، فلو تعود على أكل السمك الحرام أو تعود على أكل الميتة لم يصبح جلالاً.

نعم، لو تغذى حيوان بلبن الخنزير حرم وإن لم يكن جلالاً، لكنه لا يجري في السمك؛ لعدم تصور الموضوع وإنما في البهائم، وله دليله الخاص كما سيأتي.

والدليل على اشتراط خصوص العذرة ما ورد في الروايات(1)، فيجري في غيرها أصالة الطهارة والحلية بعد عدم إحراز وحدة المناط.

البحث الثاني: الدليل على الحرمة

إن أصل منشأ الحرمة روايتان ضعيفتان سنداً، لكن أفتى على طبقهما المشهور وعملوا بهما، فلا يضر ضعف السند بالحكم، وهما:

الرواية الأولى: ما رواه يونس بن عبد الرحمن، عن الرضا(علیه السلام): «سألته عن السمك الجلال. قال: ينتظر به يوماً وليلة»(2).

والجملة الخبرية تدل على الوجوب، بل هي أصرح من صيغة الأمر في إفادته، ووجه ضعفها وجود السياري في السند.

الرواية الثانية: ما عن الصادق(علیه السلام): «والسمك الجلال يربط يوماً إلى الليل في الماء»(3).

ص: 280


1- الكافي 6: 250؛ وسائل الشيعة 24: 164.
2- الكافي 6: 252؛ وسائل الشيعة 24: 167.
3- من لا يحضره الفقيه 3: 338؛ وسائل الشيعة 24: 168. بإسناده عن القاسم بن محمد الجوهري... .

ووجه ضعفها وجود قاسم بن محمد الجوهري حيث ضعفه العلامة(1)، وبناءً على عدم اعتبار تضعيفه فهو مجهول.

كما يمكن الاستدلال للحكم المذكور بالروايات الواردة في البهائم لو استفيد منها الملاك.

البحث الثالث: في مدة الاستبراء

وقد اختلف الفقهاء(2) في مدة الاستبراء، ومنشؤه تلك الروايتين، حيث اشترطت الأولى الانتظار يوماً وليلة، والثانية إلى الليل فحسب.

وأراد البعض إرجاع الثانية إلى الأولى ببيان أن الغاية داخلة في المغيى، فالليل داخل في الحكم.

لكن المبنى محل تأمل؛ لما تقرر في الأصول من عدم دخولها فيه. فهما متعارضان، فلابد من الترجيح، والأول هو المرجح لاختيار المشهور له، وعدم عملهم بهذا المقطع من الثانية فلا جابر له.

وعلى فرض اعتبارها لم تنافِ الأولى أيضاً؛ لإمكان الجمع الدلالي بأن يحمل الخبر الأول على الاستحباب في الليل(3).

ولو فرض التعارض والتساقط فالاستصحاب مع الحرمة فيما لو استبرأ في النهار فقط.

البحث الرابع: في إعطاء الطعام وعدمه في مدة الاستبراء

هل يلزم في مدة الاستبراء إعطاؤه الطعام الحلال أم يكفي حبسه للفترة

ص: 281


1- خلاصة الأقوال: 388.
2- رياض المسائل 12: 145؛ جواهر الكلام 36: 260.
3- أقول: لكنهما مثبتان، فلا تنافي بينهما، فلابد من الأخذ بالأكثر. (المقرر).

المذكورة بلا إطعام. فيه خلاف.

قال جمع(1) بلزوم إعطاء الطعام الحلال وإلا لم يحل، وقال آخرون بكفاية عدم أكل الحرام.

وقد تمسك للقول الأول بأدلة:

الدليل الأول: استصحاب الحرمة.

الدليل الثاني: إن حقيقة الاستبراء الحبس مع التغذية، وأمّا مجرد الحبس فلا يسمى استبراء.

الدليل الثالث: ورد لزوم التعليف بالطعام الحلال في البهائم، ولا فرق بينها وبين السمك.

لكنها محل تأمل، أمّا الأول: فلا مجال للاستصحاب مع وجود الإطلاق «ينتظر به يوماً وليلة» وهو دليل اجتهادي، ومع أن الإمام(علیه السلام) في مقام البيان لم يقيده بلزوم إطعامه الحلال.

وأمّا الثاني: فلم ترد في الروايات كلمة الاستبراء في خصوص السمك، وإنما هو اصطلاح فقهائي، أو متخذ مما ورد في البهائم، والوارد في السمك: «ينتظر به يوماً وليلة».

كما أن حقيقة الاستبراء التطهير، ولا يلزم فيه أكل الحلال.

وأمّا القول باشتراط التغذية بالحلال في الاستبراء فلا أصل له، كما أن القولباستبدال الأجزاء النامية من الحرام بالطعام الحلال، ففيه أن ما نبت من الحرام لا يذوب بأكل الحلال حتى يتولد لحم جديد.

ص: 282


1- مجمع الفائدة والبرهان 11: 254؛ رياض المسائل 12: 145.

وأمّا الثالث فهو أن ما ورد في البهائم من اشتراط التغذية ليس له مدخلية في الاستبراء، بل لطول المدة كأربعين يوماً في الإبل، وعشرين في البقر، وعشرة أيام في الغنم، وخمسة في البط، وثلاثة في الدجاج، فربما يموت مع عدم التعليف، وعلى فرض المدخلية فالمناط لإسراء الحكم من البهائم إلى السمك غير معلوم.

نعم، لو قلنا بمدخلية التغذية في الاستبراء وفهمنا المناط لزم ذلك في السمك أيضاً.

البحث الخامس: اشتراط كون العلف طاهراً وعدمه

هل يشترط في العلف أن يكون طاهراً أم يكفي النجس منه؟

اشترط البعض الطهارة(1) وإلا استصحبت الحرمة، وهو مقتضى الاحتياط.

لكنه محل تأمل؛ لأن الإطلاق لا يدع مجالاً لهما.

إن قلت: لو كانت نجاسة العلف بالعرض لم يمنع للإطلاق، لكن نجس العين كالميتة أو لحم الكلب فهو مشكل للشك في الإطلاق فيستصحب.

قلت: لا شك في الإطلاق، لعدم الانصراف وتمامية مقدمات الحكمة فلا يبعد تحقق الاستبراء حتى بأكل النجس غير العذرة.

فرع: في بيض السمك

المعروف بالثرب.

ذهب المشهور(2) إلى تبعية البيض للسمك في الحلية والحرمة، فلو كان

ص: 283


1- المختصر النافع: 243؛ رياض المسائل 12: 145.
2- شرائع الإسلام 4: 749؛ مسالك الأفهام 12: 21؛ رياض المسائل 12: 146.

حلالاً حل، ولو كان حراماً حرم. وأمّا ابن إدريس(1) فقد ذهب إلى حلية البيض، سواء كان السمك حلالاً أم حراماً.

واستدل للأول بدليلين:

الأول: ما ورد في الطيور من تبعية بيضه له.

وفيه نظر؛ لأنها في مورد الطيور، ولم يحرز إطلاقها ليشمل بيض السمك، خاصة وإن المنصرف من البيض هو بيض الطيور، فتعميمه إلى البيض في بطن السمك محل تأمل والملاك غير ثابت.

الدليل الثاني: إنه جزء السمك عرفاً، فله حكم الأصل كالأجزاء. ولا بأس به.

وأمّا ابن إدريس فقد تمسك بأصالة الحل، لكنه ضعيف؛ لأن بيض السمك من أجزائه عرفاً، فيشمله دليل حليته وحرمته.

فالأقرب المشهور أن البيض تابع للأصل.

وهنا مباحث متفرقة يمكن معرفة تفاصيلها بمراجعة الكتب الفقهية، كحكم السمك الطافي، والميت في الحظيرة، وما لو شك في موته في الماء أو خارجه، وقد تم مناقشة بعضها في المباحث السابقة.

ص: 284


1- السرائر 3: 113؛ رياض المسائل 12: 146.

الفصل الثاني: في الحيوانات البريّة المحلّلة

اشارة

وهي أنواع، منها:

النوع الأول: الأنعام الثلاثة

ولا إشكال في حليتها بجميع أنوعها الشامل للبعير البخاتي - الذي له سنامان - والمعز والجاموس. وتدل على ذلك أدلة، هي:

الدليل الأول: الضرورة من الدين، حيث يعلم بحليتها كل مسلم.

الدليل الثاني: الآيات الكريمات. منها: قوله تعالى: {ثَمَٰنِيَةَ

أَزۡوَٰجٖۖ مِّنَ ٱلضَّأۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَمِنَ ٱلۡمَعۡزِ ٱثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۖ نَبُِّٔونِي بِعِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ * وَمِنَ ٱلۡإِبِلِ ٱثۡنَيۡنِ وَمِنَ ٱلۡبَقَرِ ٱثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ}(1)، وظاهرها، بل نصها حلية الأزواج الثمانية.

نعم، فسر الظأن - في تفسير القمي(2) - بالجبلي والأهلي، ولم ينسبه إلى معصوم، وحتى لو فرض أن كل ما في التفسير روايات أو مقتبس منها، فهذا مرسل لا يترك الظاهر لأجله، فإن ظاهرها الذكر والأنثى.

ومنها: قوله سبحانه: {وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ حَمُولَةٗ وَفَرۡشٗاۚ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ

ص: 285


1- سورة الأنعام، الآية: 143-144.
2- تفسير القمي 1: 219.

ٱللَّهُ}(1)، والأمر فيه يفيد الإباحة.ومنها: قوله عز وجل: {أُحِلَّتۡ

لَكُم بَهِيمَةُ ٱلۡأَنۡعَٰمِ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ}(2).

الدليل الثالث: متواتر الروايات.

الدليل الرابع: الإجماع.

النوع الثاني: الفرس والحمار والبغل

فهل يحل لحمها؟ وعلى فرض الحلية هل يكره؟ وعلى فرض الكراهة أيها أشد كراهة؟

ذهب المشهور شهرة عظمية إلى حليتها على كراهة، وقد ادعي عليه الإجماع(3).

وخالفهم الشيخ المفيد وأبو الصلاح، أمّا أبو الصلاح فقد حرم البغل(4)، وأمّا الشيخ المفيد فحرم البغل والحمار والهجن(5) وهو الفرس الأهلي، وظاهره حلية الفرس الوحشي.

أمّا أدلة الحلية فأمور:

الدليل الأول: الإجماع، ولا يضر في ذلك مخالفة الشيخ المفيد وأبي الصلاح، فعلى مبنى القدماء خروج معلوم النسب لا يضر بتحقق الإجماع، وعلى مبنى المتأخرين فلا يخل مخالفتها بالكشف عن رأي المعصوم، أو

ص: 286


1- سورة الأنعام، الآية: 142.
2- سورة المائدة، الآية: 1.
3- الخلاف 6: 80؛ غنية النزوع: 401.
4- الكافي في الفقه: 277.
5- المقنعة: 768.

بناء العقلاء.الدليل الثاني وهو العمدة: مستفيض الروايات، وقد ادعي تواترها(1).

منها: صحيحة(2) محمد بن مسلم: سألت أبا جعفر(علیه السلام): «عن لحوم الخيل والبغال والحمير، فقال: حلال ولكن الناس يعافونها»(3).

ومنها: صحيحة الآخرى(4): «وقد نهى رسول الله(صلی الله علیه و آله) يوم خيبر عن أكل لحوم الحمير، وإنما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوه(5)، وليست الحمر بحرام، ثم قال: اقرأ الآية: {قُل

لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا أَوۡ لَحۡمَ خِنزِيرٖ فَإِنَّهُۥ رِجۡسٌ أَوۡ فِسۡقًا أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۚ}»(6).

ولابد من حمل نهيه(صلی الله علیه و آله) على الكراهة، أو قضية ثانوية في وقتها، حيث لم يكن لأجل تشريع الحرمة، وإنما لأجل أمر ثانوي، حيث كان يستفاد من ظهورها أثناء الحرب.

وأمّا أدلة الحرمة فهي الروايات المتضمنة للنهي الظاهرة فيها، وفيها معتبرات.

ص: 287


1- جواهر الكلام 36: 265.
2- البرقي، عن أبيه، عن صفوان، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم... .
3- المحاسن: 473؛ من لا يحضره الفقيه 3: 335؛ وسائل الشيعة 24: 122.
4- الشيخ الطوسي بأسناده، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(علیه السلام)... .
5- أي: مخافة أن يفنوها.
6- الاستبصار 4: 74؛ وسائل الشيعة 24: 123.

منها: مرسلة أبان بن تغلب عمّن أخبره عن الصادق(علیه السلام): «سألته عنلحوم الخيل، فقال: لا تأكل إلا أن تصيبك ضرورة، ولحوم الحمير الأهلية، فقال: في كتاب علي(علیه السلام): إنه منع أكلها»(1). ودلالتها على الحرمة للنهي والاستثناء.

ومنها: صحيحة(2) عبد الله بن مسكان: «وسألته عن أكل لحم الخيل والبغال، فقال: نهى

رسول الله(صلی الله علیه و آله) عن أكلها، فلا تأكلها إلا أن تضطر إليها»(3).

ومنها: صحيحة(4) سعد بن سعد الأشعري القمي عن الرضا(علیه السلام): «سألته عن لحوم البراذين(5) والخيل والبغال، فقال: لا تأكلها»(6).

ووجه الجمع بين الطائفتين واضح؛ لأن الطائفة الأولى نص في الحلية، فلا يحتمل فيها الخلاف، والطائفة الثانية نهي ظاهره الحرمة، فيحمل الظاهر على النص، فتدل على الكراهة بضميمة أن المشهور شهرة عظيمة هو الحلية.

وقد جمع بعض(7) بين الطائفتين بما نتيجته الحرمة، وهو حمل روايات الحلية على الاضطرار، فتكون الحرمة هي الحكم الأولي.

ص: 288


1- الكافي 6: 246؛ وسائل الشيعة 24: 121.
2- الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن ابن مسكان... .
3- الكافي 6: 246؛ وسائل الشيعة 24: 121.
4- الشيخ الطوسي بأسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن سعد بن سعد... .
5- جمع برذون نوع من الفرس.
6- الاستبصار 4: 74.
7- فقه الصادق 24: 122.

ووجه ذلك هو تقدم الجمع الموضوعي على الجمع الحكمي، فلو قالالمولى: أكرم العلماء، ثم قال: لا تكرم فساقهم، فمقتضى الجمع الموضوعي وجوب إكرام العلماء إلا الفساق، فالمراد من العلماء بالإرادة الجدية غير الفاسقين - أي: العدول - فهو تضييق لدائرة الموضوع. ومقتضى الجمع الحكمي استحباب إكرام العلماء وكراهة إكرام فساقهم، فهذا الجمع وإن كان ممكناً إلا أنه غير عرفي، ولا تصل النوبة إليه مع إمكان الجمع الموضوعي.

والمقام كذلك، حيث يتم تقييد الخيل والبغال والحمير بحال الاضطرار، وهو جمع موضوعي فيقدم على الحكمي.

وفيه إشكالان:

الأول: إن بعض الأخبار الواردة صريحة بالحلية في حال الاختيار، كقوله(علیه السلام): «حلال ولكن الناس يعافونها» فإن الكلام في مورد الاختيار.

الثاني: ما ذكر من الجمع ليس من الجمع الموضوعي حتى يقدم على الجمع الحكمي، حيث تم تقييد الحكم لا الموضوع، أي: الحلية في حال الاختيار والحرمة في الاضطرار، فهما قيدا الحلية والحرمة لا الخيل والبغال.

كما يمكن الجمع بحمل روايات النهي على التقية لموافقتها للعامة، كما مرّ نظيره في السمك غير ذات الفلس، فراجع.

درجات الكراهة

وبعد ثبوت الكراهة فهل لها درجات؟

المشهور(1) أن لحم البغل أشد كراهة؛ وذلك لأنه مركب من حيوانين

ص: 289


1- مجمع الفائدة والبرهان 11: 163؛ رياض المسائل 12: 151؛ جواهر الكلام 36: 269.

مكروهين.

وذهب القاضي ابن البراج(1) إلى أن الحمار أشد كراهة؛ لأنه متولد من حيوانين مكروهين بشدة، أمّا البغل فقد تولد من حيوان مكروه بشدة والآخر أقل كراهة وهو الفرس؛ لأن النبي(صلی الله علیه و آله) أكل منه(2).

وفي الاثنين نظر؛ لأن الكراهة حكم شرعي، والأشدية أيضاً حكم شرعي، ولا يثبتان بالاستحسان؛ ولذلك لا دليل على أشدية أحدها على الآخر.

ولو فرض أن النبي(صلی الله علیه و آله) أكل من الفرس - كما استدل به على أقلية الكراهة - فهو(صلی الله علیه و آله) لا يفعل المكروه، بل لا يترك الأولى، فحتى لو ثبت أكله لم يكن ذلك مكروهاً أصلاً حتى يستدل على كونه أقل كراهة.

وبما أن هنالك روايات على الكراهة فلابد من القول بأن فعله(صلی الله علیه و آله) لحالة خاصة، فيرتفع الحكم بالحرمة أو الكراهة لأجل تلك الحالة، فلا يمكن الاستدلال بكونه أقل كراهة لفعل النبي(صلی الله علیه و آله)، ففعله قطعاً ليس بمكروه في تلك الحالة الاستثنائية.

حكم لحم البقر والجاموس

ذهب البعض(3) إلى كراهة لحم الجاموس والبقر، وكراهة سمن خصوص الجاموس، واستدلوا على ذلك ببعض الروايات:

ص: 290


1- المهذب 1: 26؛ جواهر الكلام 36: 269.
2- وسائل الشيعة 24: 122 ، وفيه: «فإذا فرس يكيد بنفسه... فأهدى للنبي(صلی الله علیه و آله) فخذاً منه، فأكل منه، وأطعمني».
3- الكافي في الفقه: 279.

منها: معتبره(1) السكوني عن الصادق(علیه السلام): «ألبان البقر دواء، وسمونها شفاء، ولحومها داء»(2).

واستفيد منها الكراهة، لاعتبار السند على الأقوى، وحتى لو لم نقل باعتباره فيمكن شمول أدلة التسامح له وإن كان في دلالتها على المكروهات إشكال.

ومنها: ما عن الكاظم(علیه السلام): «عن سمن الجواميس، فقال: لا تشتره ولاتبعه»(3). فيدل على الكراهة وإن كان في سنده جهالة.

لكنه محل تأمل؛ لأن الرواية الأولى لا تدل على أكثر من الحكم الإرشادي، فإن الضرر لا يساوق الكراهة، كما هو الحال في سائر موارد الإرشاد، وأمّا الرواية الثانية فأكثر ما يثبت بها كراهة البيع والشراء لا الأكل، ككراهة بيع الذهب دون لبسه للنساء، وكذا بيع الحنطة، فاستفادة الكراهة محل تأمل.

النوع الثالث: سائر الحيوانات البرية غير المستثناة

كل حيوان بري لم يندرج في عمومات التحريم، ولم ينص على تحريمه فهو حلال؛ لأصالة الحلية الشاملة للحيوانات، مع قابليتها للتذكية كما مرّ في أوائل كتاب الصيد والذباحة، وعليه فالحيوانات البرية المكتشفة اليوم - وهي كثيرة - حلال بمقتضى القاعدة، مثل (لاما) و (كنغر) وما أشبه ذلك.

ص: 291


1- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن عبد الله بن المغيرة، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... وقد مرّ منا اعتبار السكوني (السيد الأستاذ).
2- الكافي 6: 311؛ وسائل الشيعة 25: 45.
3- تهذيب الأحكام 7: 128؛ وسائل الشيعة 25: 53.

الفصل الثالث: في أسباب الحرمة العرضية

السبب الأول: الجلل

ولابد من التنويه إلى أن الحيوان المحلل قد يحرم لحمه بعارض، كما في الوطء وشرب لبن الخنزيرة، ولا عكس لذلك، بأن يصبح الحيوان المحرم محللاً بسبب، إلا مع الاستحالة.

مطالب في البهائم الجلالة

وفي مسألة البهائم الجلالة مطالب:

المطلب الأول: في بيان المراد من الجلال

المشهور(1) شهرة عظيمة أن الجلال إنما هو في أكل خصوص عذرة الإنسان، ونقل عن أبي الصلاح الحلبي كل نجاسة(2).

واستدل للمشهور بأدلة(3):

الدليل الأول: الانصراف، حيث إن المنصرف من لفظ الجلال آكل العذرة.

لكنه محل تأمل؛ لعدم ثبوت الانصراف ولو لأجل عدم استعمال اللفظالمذكور في العرف الحاضر حتى نرى حدوده.

ص: 292


1- مختلف الشيعة 8 : 293؛ مسالك الأفهام 12: 25؛ رياض المسائل 12: 153.
2- الكافي في الفقه: 278.
3- الفقه 76: 63.

الدليل الثاني: إنه القدر المتيقن.

الدليل الثالث: مرسلة النميري عن بعض أصحابه عن أبي جعفر(علیه السلام): «وكذلك إذا اعتلفت بالعذرة ما لم تكن جلالة، والجلالة التي يكون غذاؤها ذلك»(1)، وهي معتبرة لعمل المشهور بها.

واستدل للقول الآخر بدليلين:

الدليل الأول: عدم فهم الخصوصية، فلا فرق بين العذرة وسائر النجاسات، كالميتة.

لكنه محل تأمل؛ فهو قياس.

الدليل الثاني: تفسير بعض اللغويين من أنها البقرة التي تتبع النجاسات(2).

لكنه محل تأمل؛ حيث لا يمكن الاستدلال بها للجهالة، ومن الواضح اشتراط الوثاقة في اللغوي(3)، وقد اشترط الشيخ الأعظم(4) العدد والعدالة، وإن كان لا يبعد كفاية الثقة الواحد. وعلى فرض ثبوت الوثاقة فالمرجع حينئذٍ مرسلة النميري بعد اعتبارها، وذلك للحكومة، فتأمل، ومع الشك فالمرجع استصحاب الحلية.

المطلب الثاني: في مقدار أكل النجاسة

يقع البحث في مقدار أكل النجاسة حتى يصبح جلالاً وفيه أقوال(5):

ص: 293


1- وسائل الشيعة 24: 160.
2- لسان العرب 11: 119.
3- كفاية الأصول: 286؛ أجود التقريرات 2: 95.
4- فرائد الأصول 1: 175.
5- رياض المسائل 12: 153؛ جواهر الكلام 36: 274؛ الفقه 76: 60.

الأول: أن يأكل يوماً وليلة.

الثاني: أن يأكل حتى ينمو بدنه من النجاسة، وهو ظاهر في الحيوانات الصغيرة.

الثالث: أن يأكل إلى أن تظهر الرائحة النتنة للنجاسة على لحمه وجلده.

الرابع: أن يأكل إلى أن يُسمى في العرف آكل النجاسة، بأن يقال: طعامه النجاسة، وهو اختيار صاحب الجواهر(1).

الخامس: ما صدق عليه عرفاً أنه جلال، سواء أطلق عليه أن طعامه النجاسة أم لا.

وهو الأقرب؛ لأن الشارع لم يحدد الجلال، وكلما لم يحدد أُخذ من العرف.

وأشكل عليه في الجواهر(2) بأنها كلمة غير مستعملة في العرف، فكيف يؤخذ معناه منه؟

والجواب: إنه وإن صح عدم استعمال هذه الكلمة عندهم لكن المعنى واضح عندهم. وقد أشرنا سابقاً إلى أن المعنى يؤخذ من العرف، وإن لم يستخدم في العرف أخذ من اللغة؛ لأنها مرآة إلى العرف، واللغة كاشفة عن استخدام اللفظ في المعنى عند تدوينها، وهذا المقدار كافٍ لمعرفة المعنى.وكلما اختلف العرف واللغة رجح العرف، بضميمة أصالة عدم النقل، لكن لو هجرت كلمة في العرف كان المرجع اللغة، فتكون مرآة للعرف في

ص: 294


1- جواهر الكلام 36: 274.
2- جواهر الكلام 36: 274.

زمان الصدور.

والحاصل: إنه لو أكل النجاسة لفترة سُمي جلالاً، سواء ظهرت رائحة النجاسة فيه أم لا، وسواء أطلق عليه أن طعامه النجاسة أم لا، دون مثل اليوم واليومين. ولم يستبعد الوالد في الفقه(1) الصدق العرفي خلال ثلاثة أيام، ولو شك في الصدق استصحب العدم.

المطلب الثالث: في حرمة الجلال

وقد ذهب المشهور(2) بل كاد أن يكون إجماعاً إلى الحرمة، ولكن يستفاد من كلمات ابن الجنيد(3) والشيخ الطوسي(4) الكراهة، وإن قال البعض: إن مورد كلامهما في الامتزاج(5)، حيث يخلط بين النجاسة وغيرها في الأكل، لا في الجلال؛ ولذا صرح الشيخ الطوسي بحرمة الجلال(6).

ويدل على الحرمة صحيحة(7) حفص البختري، عن الصادق(علیه السلام): «لا تشرب من ألبان الإبل الجلالة، وإن أصابك شيء من عرقهافاغسله»(8).

وسيأتي أن اللبن تابع للحيوان حلية وحرمة، بل تدل على نجاستها؛ لأن

ص: 295


1- الفقه 76: 61.
2- مجمع الفائدة والبرهان 11: 250؛ جواهر الكلام 36: 272.
3- فتاوى ابن الجنيد: 313؛ مختلف الشيعة 8 : 279.
4- المبسوط 6: 282؛ الخلاف 6: 85 .
5- المهذب البارع 4: 201؛ مستند الشيعة 15: 110.
6- النهاية: 574.
7- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
8- الكافي 6: 215؛ وسائل الشيعة 24: 164.

(فاغسله) ظاهر في النجاسة، فيستفاد حرمتها للنجاسة أيضاً، وسيأتي تفصيله.

وصحيحة(1) زكريا بن آدم، عن أبي الحسن(علیه السلام): «ونهى(علیه السلام) عن ركوب الجلالة وشرب ألبانها، وقال: إن أصابك شيء من عرقها فاغسله»(2).

وقد يكون وجه النهي عن الركوب النجاسة، حيث يسبب الإشكال لأداء الصلاة، خاصة في تلك الأزمنة التي لم يتوفر فيها الماء.

المطلب الرابع: أكل الحيوان النجاسة وغيرها

لو خلط الحيوان بين النجاسة وغيرها فأكل منهما لم يصدق عليه الجلال، كما أفتى به المشهور(3).

وتدل عليه روايات معتبرة، منها: صحيحة(4) سعد بن سعد الأشعري، عن الرضا(علیه السلام): «سألته عن أكل لحوم الدجاج في الدساكر(5)، وهي تأكل كل ماوقع أمامها، وهم لا يمنعوها من شيء تمر على العذرة مخلى عنها، وعن أكل بيضهن، فقال: لا بأس»(6).

ومنها: مضمرة علي بن أسباط عمن روى في الجلالات قال: «لا بأس

ص: 296


1- الشيخ الصدوق بإسناده، عن زكريا بن آدم، عن أبي الحسن(علیه السلام)...، ورجال السند كلهم ثقات.
2- وسائل الشيعة 24: 165.
3- كشف اللثام 9: 265؛ الفقه 76: 61.
4- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن سعد بن سعد الأشعري، عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام)... .
5- معرب ومعناه القرية، أو بيت المجوس. القاموس المحيط 2: 29؛ لسان العرب 4: 286.
6- الكافي 6: 252؛ وسائل الشيعة 24: 165.

بأكلهن إذا كن يخلطن»(1).

وهي مرسلة أيضاً لكن يجبر ضعفها بعمل المشهور، ووجودها في كتب الأصحاب دليل على أنها مروية عن الإمام(علیه السلام)، خاصة مع جلالة علي بن أسباط، وإنما صارت مضمرة للتقطيع.

المطلب الخامس: في نجاسة الجلال وعدمها

وبعد إثبات الحرمة فهل الجلال نجس؟ حيث لا تلازم بين حرمة اللحم والنجاسة، كما هو الحال في السباع.

ذهب المشهور(2) إلى النجاسة، واستدلوا على ذلك بروايات تدل على لزوم الغسل، كما مر في صحيحة حفص بن البختري وغيرها.

وأشكل عليه بأنه شرط للصلاة، أي: وإن لم يكن نجساً لكنه يمنع الصلاة، كجلد محرم اللحم المذكى، حيث إنه طاهر لكن لا صلاة فيه، وكذلك عرق الجنب من الحرام فهو طاهر يمنع من الصلاة على بعض المباني، فالأمر بالغسل لأجل الصلاة، أو لا أقل من الاحتمال، فربما لأجل النجاسة، وربما لأجل المانعية، فلا يمكن الاستدلال به على النجاسة.وفيه نظر؛ لأن ظاهر (اغسله) النجاسة، وليس الكلام عن الصلاة حتى ينصرف إلى المانعية، ولا يخطر بالبال أن المراد من ذلك الصلاة، فلا مجال للاحتمال المذكور.

ص: 297


1- الكافي 6: 252؛ وسائل الشيعة 24: 164.
2- مجمع الفائدة 11: 252؛ مفتاح الكرامة 2: 5.
المطلب السادس: حكم ركوب الجلال

يجوز ركوب الجلال على كراهة للنهي في صحيحة زكريا(1)، المحمول على الكراهة؛ لفهم المشهور، بل الإجماع.

وربما وجه الكراهة أن ركوب البعير في السفر يلازم تنجس الراكب عادة، فيصعب التطهير لأجل الصلاة خاصة، مع ملاحظة قلة الماء في الأسفار السابقة. وعليه لا تُكره سائر الانتفاعات؛ لعدم ورود الاحتمال المذكور، وإن ذهب البعض إلى عدم خصوصية الركوب، فيشمل كراهة الحرث وسقي الماء للمزارع.

المطلب السابع: في حكم ما لا تحله الحياة من الجلال كالعظم والسن

وفيه احتمالات ثلاثة(2):

الأول: النجاسة، كما هو الحال في الكلب والخنزير.

الثاني: طهارته مع عدم جواز الصلاة فيه؛ لأنه من غير المأكول؛ وذلك لعدم الدليل على نجاستها، وأمّا عدم جواز الصلاة فيه للدليل العام، وهو عدم جواز الصلاة في غير المأكول.الثالث: الطهارة وجواز الصلاة فيه، أمّا الطهارة فلعدم الدليل على النجاسة إلا فيما تحله الحياة، وأمّا الصلاة فلأن الأدلة الدالة على عدم جواز الصلاة في أجزاء غير المأكول منصرفة عنه، وإنما موردها ما كان كذلك بالأصالة لا بالعرض، ونظيره جواز الصلاة في شعر الإنسان مع أنه من أجزاء غير

ص: 298


1- وسائل الشيعة 24: 165.
2- الفقه 76: 66.

مأكول اللحم؛ وذلك لانصراف الدليل عن الإنسان.

وهذا هو الأقرب.

المطلب الثامن: في بيان موارد الحيوانات الجلالة

الموارد المذكورة من الجلال في الروايات ستة، وهي البعير والبقر والشاة والبط والدجاج والسمك، وإنما يسري الحكم إلى سائر الحيوانات لإطلاق بعض الأدلة وللمناط، فيشمل كل جلال، سواء كان حلالاً كالطير أم حراماً كالذئب، وفائدته في المحلل عدم جواز أكله ونجاسته، وفي المحرم نجاسته بعد التذكية.

واحتمل البعض الخصوصية في الستة، واحتمل آخرون التعميم للحيوانات المحللة فقط، وفي المحرمة يحكم الاستصحاب.

ويردهما الإطلاق والمناط.

المطلب التاسع: في سراية الجلل إلى نسل الجلال

ومنشؤ هذا البحث الروايات الدالة على سراية الحكم إلى نسل الموطوء، وفيه احتمالان:

الأول: لا يحرم نسله لعدم الدليل، حيث إنهما موضوعان.

الثاني: الحرمة لاستفادة المناط في الموطوء والاستصحاب.وفيهما نظر: أمّا المناط فلا قطع بعدم خصوصية الموطوء ليشمل الجلال، فيكون قياساً.

نعم، لو قطع بأن الدليل الوارد في الموطوء إنما هو لبيان الحكم الكلي بذكر مصداق له، فينطبق على المصداق الآخر لم يكن قياساً، لكن لا قطع

ص: 299

بذلك.

وأمّا الاستصحاب فلا يجري لتبدل الموضوع، فإن موضوع الحرمة الأم، وموضوع الحلية النسل، فهما موضوعان.

المطلب العاشر: في حكم اشتباه الجلال بغيره

لو اشتبه الجلال بغيره ففيه احتمالان:

الأول: القرعة، للدليل الدال على القرعة في اشتباه الموطوء بغيره، بضميمة فهم المناط، وهو فرز الحلال عن الحرام.

الثاني: إنه لا قطع بالمناط، فيكون من موارد العلم الإجمالي، فمع كون الشبهة غير محصورة لا يكون العلم منجزاً فيجوز الاقتحام، ومع كون الشبهة محصورة يجب الاجتناب عن الجميع.

وقد يقال بعدم جريان العلم الإجمالي في الماليات؛ لقصور أدلته عن ذلك!

فإن كان المقصود الأدلة الشرعية الواردة في العلم الإجمالي فالكلام تام، لكن الأدلة العقلية في العلم الإجمالي - من تنجز التكليف ووجوب الإطاعة - لا فرق بينها في الماليات وغيرها.

المطلب الحادي عشر: قابلية نجاسة الجلال للزوال

بما أن نجاسة الجلال عرضية فهي قابلة للزوال عبر الاستبراء، كما فيالروايات(1)، وهنا جهتان من البحث:

الجهة الأولى: في الستة المنصوصة، واختلفت الأقوال تبعاً لاختلاف

ص: 300


1- وسائل الشيعة 24: 166-168.

الروايات في مدة استبرائها، لكن اتفقت في البعير حيث يكون استبراؤه أربعين يوماً، وأمّا البقر فالأقوال كما يلي: عشرين يوماً، وثلاثين يوماً، وأربعين يوماً.

وفي الغنم: عشرين يوماً، وأربعة عشر يوماً، وعشرة أيام، وسبعة أيام، وخمسة أيام.

وفي البط: الأقوال على سبعة وستة وخمسة وثلاثة أيام.

وفي الدجاج: ثلاثة أيام ويوماً واحداً.

وفي السمك يوماً وليلة، وقول باليوم فقط، كما مرّ.

وكل الروايات الواردة في التحديدات المذكورة ضعيفة ما عدا رواية واحدة مفادها أربعين يوماً في البعير، وعشرين يوماً في البقر، وعشرة أيام في الغنم، وخمسة أيام في البط، وثلاثة أيام في الدجاج(1).

لكن ضعفها بعض(2) لورود النوفلي فيها، وقد مر البحث في وثاقته، وعلى فرض ضعفه إلا أن الرواية معتبرة لاعتماد المشهور عليها.وعلى فرض اعتبار جميع الروايات يمكن الجمع بينها بوجوب الأقل واستحباب الأكثر، والاختلاف في الأكثر إنما هو في درجات الاستحباب.

وعلى فرض عدم كونه جمعاً عرفياً فتتساقط الروايات ومقتضى

ص: 301


1- الكافي 6: 251؛ وسائل الشيعة 24: 166، وفيه: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين(علیه السلام): الدجاجة الجلالة لا يؤكل لحمها حتى تقيد ثلاثة أيام، والبطة الجلالة خمسة أيام، والشاة الجلالة عشرة أيام، والبقرة الجلالة عشرين يوماً، والناقة أربعين يوماً».
2- إيضاح الفوائد 4: 150.

استصحاب الجلل هو الأخذ بالأكثر.

الجهة الثانية: في غير المنصوص، وحيث لم يرد في الروايات فلابد من حبسه وتعليفه بالحلال حتى يزول عنه اسم الجلال، فإن الحكم تابع للموضوع.

وقد ذهب بعض(1) إلى أنه لو كان يشبه المنصوص لحقه حكمه، مثلاً: البقر الوحشي يشبه الأهلي.

وفيه نظر؛ لأنه قياس. نعم، قد يفهم العرف الأولوية، فلو كان الاستبراء في الدجاج ثلاثة أيام فلا يكون العصفور أكثر منه بطريق أولى.

المطلب الثاني عشر: في بقاء الجلل بعد الاستبراء

لو حبس حسب الفترة المذكور في الرواية لكن بقي اسم الجلال عليه عرفاً، أو لم تزل رائحته الكريهة مثلاً، فما هو الحكم؟

قال بعض متأخري المتأخرين(2): إن المدة المذكورة في الروايات مشروطة بزوال الاسم، ومع بقاء الاسم فالحكم تابع للموضوع، والتحديد المذكور غالبي.وقال آخرون(3): إن الأمر لا يرتبط بالاسم العرفي، وإنما تراعى المدة بشرط زوال الوصف، بأن تزول عنه الرائحة النتنة، وإلا لم تشمله الروايات.

والظاهر إن التقييد بالمدة لزوال الاسم غالباً، ولا يبعد انصراف الأدلة مع

ص: 302


1- فقه الصادق 24: 127.
2- الروضة البهية 7: 293؛ مسالك الأفهام 12: 28.
3- جواهر الكلام 36: 276.

عدم الزوال.

السبب الثاني : شرب لبن خنزيرة

السبب الثاني(1): شرب لبن خنزيرة

لو ارتضع الجدي أو العناق(2) من لبن الخنزيرة حرم في الجملة. وفي المقام صورتان:

الصورة الأولى: أن يرتضع إلى أن ينبت لحمه ويشتد عظمه، وحكم هذه الصورة محل اتفاق.

الصورة الثانية: أن يأكل دون الحد المذكور، والمشهور الكراهة إلا أن يستبرأ سبعة أيام(3).

واستدل على ذلك بروايات منها:

الأولى: موثقة حنان بن سدير(4) قال: «سئل أبو عبد الله(علیه السلام) وأنا حاضر عن جدي يرضع من خنزيرة حتى كبر وشب واشتد عظمه، ثم إن رجلاً استفحله في غنمه، فأخرج له نسل، فقال: أمّا ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربنه،وأمّا ما لم تعرفه فكله، فهو بمنزلة الجبن فلا تسأل عنه»(5). فتدل على الحرمة بالأولوية القطعية.

ص: 303


1- من أسباب الحرمة العرضية.
2- الجدي ما كان عمره ستة أشهر إلى سبعة أشهر لا أكثر، وأمّا العناق فما كان دون السنة، وذلك في الشاة.
3- شرائع الإسلام 4: 750؛ تحرير الأحكام 4: 633؛ كفاية الأحكام 2: 605.
4- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حنان... .
5- الكافي 6: 249؛ وسائل الشيعة 24: 161.

الثانية: موثقة(1) بشر بن مسلمة، عن أبي الحسن(علیه السلام): «في جدي يرضع من خنزيرة ثم ضرب في الغنم، قال: هو بمنزلة الجبن، فما عرفت أنه ضربه فلا تأكله، وما لم تعرفه فكله»(2).

الثالثة: موثقة(3) السكوني عن الصادق(علیه السلام): «أن أمير المؤمنين(علیه السلام) سئل عن حمل غذي بلبن خنزيرة، فقال: قيدوه وأعلفوه الكسب(4) والنوى والشعير والخبز إن كان استغنى عن اللبن، وإن لم يكن استغنى عن اللبن فيلقى على ضرع شاة سبعة أيام ثم يؤكل لحمه»(5).

وبما أن الرواية الأولى لا مفهوم لها؛ لكونها جواباً عن السؤال المقيد فلا تقيد الرواية الثانية، فلا وجه لتقييد الحكم باشتداد العظم.

ولا يخفى أن رواية السكوني مطلقة، فالاستبراء محلل مطلقاً، لكن المشهور، بل ربما الإجماع(6) على أنه لو اشتد لحمه وقوي عظمه حرم أبداً،ولا ينفعه الاستبراء، وأمّا لو لم يشتد فيكره حتى لو تغذى لمرة واحدة، ولدفع الكراهة يستبرأ سبعة أيام.

ص: 304


1- الكليني، عن حميد بن زياد، عن عبد الله بن أحمد النهيكي، عن ابن أبي عمير، عن بشر بن مسلمة، عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام)... .
2- الكافي 6: 250؛ وسائل الشيعة 24: 162.
3- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
4- الكسب بالضم بقية ما يُعصر من الحبوب ويستخرج دهنه، كالسمسم ونحوه.
5- الكافي 6: 250؛ تهذيب الأحكام 9: 44.
6- غنية النزوع: 398؛ الروضة البهية 7: 293؛ جواهر الكلام 36: 282.
فروع تتعلق بالمسألة

وهنا فروع:

الفرع الأول: لو شرب لبن الخنزيرة يوماً واللبن المحلل يوماً لفترة كان الاشتداد بسبب الاثنين، فيشمله إطلاق الرواية الأولى؛ لصدق الاشتداد المنسوب إليهما معاً. نعم، في الجلال لا يُحَرِّم الخلط بين الحلال والحرام للنص، وأمّا المقام فلا نص.

الفرع الثاني: هل الحكم بالحرمة خاص بالنسل الأول أم يشمل الطبقات اللاحقة؟ ظاهر الرواية الإطلاق.

وأما احتمال(1) الاختصاص بالنسل الأول؛ لأنه المورد المتيقن، وعدم القدر المتيقن من شرائط حجية الإطلاق.

ففيه تأمل، لما مرّ سابقاً من أن المراد من القدر المتيقن إنما هو القدر المتيقن في الخطاب لا الوجود.

الفرع الثالث: في النجاسة، وحيث لم يقم دليل عليها، ولا تلازم بين الحرمة والنجاسة، لم يمكن الحكم بها، وأمّا قوله(علیه السلام): «لا تقربنه» فيختص بالأكل خاصة بقرينة ما بعده.

الفرع الرابع: لا دليل على حرمة سائر الانتفاعات، فلو خاط بشعره لباساًجاز لبسه، بل الصلاة فيه.

وأمّا قابليته للتذكية فقد قال السيد الوالد في الفقه: «للأصل غير

ص: 305


1- الفقه 76: 77.

المعارض»(1).

ولكن لا حاجة إليه لشمول إطلاقات التذكية له. نعم، لو شك أحد وصلت النوبة إليه.

الفرع الخامس: الروايات الواردة في المقام تختص بالجدي والعناق، فهل يسري الحكم إلى غيرهما؟ فيه احتمالان:

الأول: أصالة الحلية مع عدم القطع بالمناط، والتعميم بحاجة إلى مناط قطعي.

الثاني: دعوى القطع بالمناط؛ لكنه ضعيف لعدم علمنا بالملاكات. نعم، الاحتياط حسن.

الفرع السادس: لو كانت المرضعة كلبة فيجري الاحتمالان السابقان.

الفرع السابع: لو تغذى بلبن المرأة الكافرة ففي صحيحة أحمد بن محمد بن عيسى عن أبي محمد(علیه السلام) قال: «فعل مكروه ولا بأس به»(2)، وهي مطلقة تشمل الكافرة أيضاً.والمراد كما قال البعض(3): إن الفعل مكروه لا اللحم، ولا بأس بأكل اللحم.

ص: 306


1- الفقه 76: 78، وفيه: «ثم الظاهر أن حرمة اللحم لا توجب عدم جواز الانتفاع به فيما لا يشترط بالطهارة، كما لا توجب عدم وقوع التذكية عليه للأصل فيهما من غير معارض».
2- الفقيه 3: 212؛ وسائل الشيعة 24: 163. الصدوق بأسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى قال: «كتبت إلى أبي محمد(علیه السلام) جعلت فداك من كل سوء، امرأة أرضعت عناقاً حتى فطمت وكبرت وضربها الفحل، ثم وضعت أيجوز أن يؤكل لحمها ولبنها؟ قال: فعل مكروه ولا بأس به».
3- الوافي 19: 77؛ جواهر الكلام 36: 284.
السبب الثالث : الوطء

السبب الثالث(1): الوطء

فلو وطأ إنسان بهيمة ترتبت عليه مجموعة من الأحكام الآتية:

البهيمة نوعان

فالبهيمة نوعان:

النوع الأول: ما كان الغرض الأصلي منه لحمه، كالشاة والبقر، فحكمها وجوب ذبحها ثم حرقها، وحرمة لبنها ونسلها، ولو كانت ملكاً للغير ضمن الواطئ قيمتها لمالكها، مضافاً إلى تعزير الواطئ دون الحد.

النوع الثاني: ما كانت منفعتها الأصلية في ظهرها لا لحمها كالفرس، فحكمها إبعادها إلى مدينة أخرى وبيعها فيها، ويغرم الواطئ قيمتها لصاحبها.

وفي المقام روايات نذكر بعضها:

الرواية الأولى: صحيحة(2) محمد بن عيسى عن الرجل(علیه السلام): «أنه سئل عن رجل نظر إلى راعٍ نزا على شاة، قال: إن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسّمها نصفين أبداً، حتى يقع السهم بها، فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها»(3).وأشكل على صحتها الشهيد في المسالك(4) بإشكالين:

الأول: الاشتراك بين محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، وبين محمد بن

ص: 307


1- من الأسباب العرضية لحرمة الحيوان المحلل.
2- محمد بن الحسن بإسناده، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عيسى... .
3- تهذيب الأحكام 9: 43؛ وسائل الشيعة 24: 169.
4- مسالك الأفهام 12: 31.

عيسى الأشعري القمي، والثاني معتبر، والأول ضعفه الشيخ الطوسي(1)، فتسقط الرواية عن الاعتبار.

لكن يرد عليه أنه وثقة النجاشي(2)، والمشهور تبعوه، وتضعيف الطوسي غير تام، وقد فصلنا البحث فيه في موضع آخر.

الثاني: إن المراد من (الرجل) في الروايات الإمام الكاظم(علیه السلام)، لكنهما لم يدركاه، فتكون الرواية مرسلة.

وفيه: إن الإرسال خلاف الأصل، ومع وجود احتمال الإسناد فالحكم بالإرسال خلاف ظاهر البناء العقلائي، وهنا يحتمل أن يكون المراد من (الرجل) الإمام الهادي أو العسكري‘، فلو قال: (قال زيد) كان ظاهره السماع مباشرة لا أنه يروي عنه بواسطة. وعلى فرض ضعف السند يجبره عمل المشهور.

ولا يخفى أن مقتضى القاعدة في الشبهة المحصورة وجوب الاجتناب عن الجميع، وفي غيرها جواز ارتكاب غير الأخير، لكن للنص المذكور يرفع اليد عن القاعدة.

الرواية الثانية: موثقة سماعة(3): «عن الرجل يأتي بهيمة(4) شاة أو بقرة أوناقة، فقال(علیه السلام): عليه أن يجلد حداً غير الحد، ثم ينفى من بلاده إلى غيره،

ص: 308


1- رجال الطوسي: 391.
2- فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي): 333.
3- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله(علیه السلام)... .
4- توجد كلمة (أو) في الكافي، ولا توجد في تهذيب الأحكام 10: 60.

وذكروا أن لحم تلك البهيمة محرم ولبنها»(1).

ويعود الفاعل في (يُنفى) إلى الفاعل لا البهيمة، وقد قال بعض بعوده إليها، لكن يرد عليه إشكالان:

الأول: إشكال أدبي، وهو لو عاد إلى البهيمة للزم أن يقول: (تُنفى).

والثاني: لم يقل أحد بإبعاد الشاة والبقر. نعم، في باب الحدود أيضاً لم يقل أحد بإبعاد الفاعل.

وأمّا قوله: (وذكروا...) فظاهره أنه كلام الإمام(علیه السلام)، أي: إن الأئمة السابقين قالوا كذلك، وإن احتمل أنه من كلام الراوي كما ذهب إليه البعض(2).

الرواية الثالثة: في الصحيحة الواردة عن عدة من الأئمة(علیه السلام)(3): «في الرجل يأتي البهيمة، فقالوا جميعاً: إن كانت البهيمة للفاعل ذبحت، فإذا ماتت أحرقت بالنار، ولم ينتفع بها.. وإن لم تكن البهيمة له قومت فأخذ ثمنها ودفع إلى صاحبها، وذبحت وأحرقت بالنار ولم ينتفع بها. فقلت: ما ذنب البهيمة؟ قال: لا ذنب لها، ولكن رسول الله(صلی الله علیه و آله) فعل هذا وأمر به لئلا يجتزئ الناس بالبهائم وينقطع النسل»(4).

ص: 309


1- الكافي 7: 204.
2- مرآة العقول 23: 312.
3- الشيخ الطوسي بأسناده، عن يونس، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، وعن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا(علیه السلام)، وعن صباح الحذاء، عن إسحاق بن عمار، عن أبي إبراهيم(علیه السلام): في الرجل يأتي البهيمة فقالوا جميعاً... .
4- التهذيب 10: 218؛ وسائل الشيعة 28: 357.

الرواية الرابعة: حسنة(1) سدير عن الباقر(علیه السلام) في الرجل يأتي البهيمة، قال: «يجلد دون الحد ويغرم قيمة البهيمة لصاحبها؛ لأنه أفسدها عليه، وتذبح وتحرق وتدفن إن كانت مما يؤكل لحمه، وإن كان(2) مما يركب ظهره أغرم قيمتها وجلد دون الحد، وأخرجت من المدينة التي فعل بها إلى بلاد آخر حيث لا يعرف كي لا يعير بها»(3).

فروع تتعلق بوطء البهيمة

وفي المقام فروع:

الفرع الأول: لا فرق بين كون الموطوء ذكراً أو أنثى؛ لإطلاق الدليل.

إن قلت: ورد في بعض الروايات الحكم بحرمة اللبن(4)، ومعناه كونه أنثى.

قلت: إنها لا تقيد المطلقات؛ لعدم تنافي المثبتات.

الفرع الثاني: الحكم المذكور يختص بكون الحيوان موطوءاً، فلو كان واطئاً لم يسرِ الحكم، وإن كان عمله محرماً.

ولا يمكن القياس، خاصة مع ثبوت الفرق بينهما في الأحكام، نظير حرمة أم وأخت وبنت الملوط به على اللائط دون العكس.

الفرع الثالث: لا فرق بين الجاهل والعالم، فلو لم يعلم أن وطأها حرام ترتبت الآثار، كما لا فرق بين الصغير والكبير والمختار والمكره، كلذلك

ص: 310


1- عن الشيخ الطوسي بأسناده، الحسن بن محبوب، عن إسحاق بن جرير، عن سدير، عن أبي جعفر(علیه السلام)... .
2- في الاستبصار 4: 223 «كانت»؛ وسائل الشيعة 28: 358.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 47.
4- الكافي 6: 259.

لإطلاق الدليل.

وقد يشكل بشمول حديث الرفع للصبي، فيرفع الأحكام.

وفيه: إن حديث الرفع لا يرفع الأحكام المذكورة؛ وذلك لجهتين:

الجهة الأولى: ما قيل من أنه يتكفل برفع الأحكام التكليفية فحسب، دون الأحكام الوضعية، كما لو أتلف الطفل مال الغير فيضمن، وفيه تأمل.

الجهة الثانية: إن حديث رفع القلم يرفع الأحكام المرتبطة بالصبي لا ما يرتبط بسائر الناس، فذبح الموطوء ليس من تكليف الصبي وإنما الحاكم أو الناس، كما لو قتل الصبي فهل لا يجب تغسيل المقتول وتكفينه؟

الفرع الرابع: المشهور(1) حرمة نسل الموطوء، لكن لا دليل خاص لهذا الحكم، وإنما ذهبوا إلى ذلك لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: المناط في شرب لبن الخنزيرة. لكنه غير معلوم، فيكون قياساً.

الوجه الثاني: النهي الوارد في بعض الروايات عن الانتفاع به كالرواية الثالثة، وهو شامل لكل الأنواع ومنها الانتفاع بالنسل.

وفيه: إنه منصرف عن نسله، بل الانتفاعات الخاصة به.

الوجه الثالث: لأنه أفسدها عليه كما في الرواية الخامسة(2)، وهو يشمل النسل، فلو كان حلالاً لم يكن إفساداً مطلقاً بما فيه النسل.وفيه نظر: فإن الظاهر منه إفساده بنفسه، وهو منصرف عن إفساد نسله.

ص: 311


1- إرشاد الأذهان 2: 112؛ مستند الشيعة 15: 121؛ جواهر الكلام 36: 284.
2- من لا يحضره الفقيه 4: 47.

لكن حيث أفتى المشهور بالحرمة فالاحتياط حسن.

الفرع الخامس: في معنى البهيمة وشمولها لمثل الطيور.

قال البعض: إن البهيمة تشمل كل حيوان، ولم يرتضه صاحب المسالك(1)، وقال: هي ذات أربع، سواء كان بحرياً أم برياً(2). وقال آخرون: إنها منصرفة إلى الأنعام الثلاثة والفرس والبغل والحمار(3)، وهو الأقرب عرفاً.

لكن قد يعمم إلى بقية الحيوانات لما في التعليل في الرواية الثالثة: «لئلا يجتزئ الناس بالبهائم وينقطع النسل» فالعلة تشمل جميع الحيوانات، وإنما اقتصر على ذكر البهائم لتعارفها. اللهم إلاّ لو تمّ التشكيك في كونها علة بل حكمة!

الفرع السادس: هل تجري الأحكام المذكورة في الحيوانات المحرمة اللحم كالكلب والقرد(4)، حيث لا تؤكل ولا يحمل على ظهرها.

ذهب البعض إلى الجريان لإطلاق البهيمة وشمولها لجميع الحيوانات، لكن قلنا: إنه منصرف عنها. نعم، قد يستدل بتعليل الرواية الرابعة.

وعلى فرض القول بالجريان فهل يجري عليه حكم الشاة أم الفرس؟

لا وجه لتعيين أحد المصداقين، فلابد من القول بالتخيير، وعلى كل تقدير يغرم قيمتها لصاحبها.الفرع السابع: هل يلزم الذبح أم يكفي الإفناء؟

ص: 312


1- مسالك الأفهام 12: 31.
2- مسالك الأفهام 12: 31.
3- جواهر الكلام 36: 287؛ الفقه 76: 83 .
4- الفقه 76: 84 .

قد يقال إنه حقيقة في فري الأوداج، لكنه قيل: بأن العرف يفهم لزوم موته وإفنائه بأي طريقة.

الفرع الثامن: هل للإحراق موضوعية أو أنه طريقي لإفناء الموطوء، كإطعام الكلاب أو إلقائه في التيزاب؟

فيه احتمالان:

الأول: إنه موضوعي للتعبد بالنص مع عدم العلم بعلة الإحراق حتى يعمم إلى سائر وسائل الإفناء، فلابد من مراعاة خصوص الإحراق.

الثاني وهو الأقرب: إنه طريقي حيث لا يريد الشارع بقاء الموطوء، كما يفهمه العرف، وربما يستشعر ذلك من بعض الروايات كقوله(علیه السلام): «وأحرقت بالنار ولم ينتفع بها» فالغرض عدم الانتفاع. ولكن الأحوط الاقتصار على النص.

الفرع التاسع: في حرمة البهمية التي يراد ظهرها احتمالان:

الأول وهو الأقرب: حرمة لحمها ولبنها، ويدل عليه خبر مسمع عن الصادق(علیه السلام): «أن أمير المؤمنين(علیه السلام) سئل عن البهيمة التي تنكح؟ قال: حرام لحمها وكذلك لبنها»(1).

الثاني: عدم الحرمة، ووجهه الإطلاق المقامي حيث لا يلزم تنبيه المشتري في المدينة الثانية على ذلك، حيث لم يتطرق إلى ذلك في الروايات،فعدم إشارة الروايات إلى لزوم التنبيه - مع كونه محل الابتلاء - يكشف عن عدم حرمة اللحم، وإلا وجب تنبيه المشتري حتى لا يقع في

ص: 313


1- الكافي 6: 259؛ وسائل الشيعة 24: 170.

المخالفة الواقعية، وفي نظير ذلك يفتي الفقهاء، كما في بيع الطعام النجس.

لكنه محل تأمل؛ لعدم كون أكل لحم الخيل متعارفاً، فلا يلزم التنبيه عليه، فإنه وإن كان احتمال الأكل وارداً لكنه غير عقلائي، ففي زمن صدور الروايات لم يكن متعارفاً أصلاً، وخاصة مع تحريم العامة لأكلها، ونظير ذلك بيع الطابوق النجس المستخدم للبناء عادة، حيث لا يلزم تنبيه المشتري، فإنه وإن احتمل أن يسجد عليه إلا أنه احتمال غير عقلائي، فلا يجب التنبيه.

الفرع العاشر: لو وطأ أو رأى من وطأ البهيمة فأخبر مالكها بذلك، فهل يلزم على المالك تصديقه وترتب الآثار عليه؟ وعلى فرض عدم تصديقه فهل على المخبر تكليف؟

والجواب: لو لم يحصل للمالك العلم بذلك لم يلزم عليه شيء(1)، وإلا فحجية العلم ذاتية.

كما أنه لا تكليف على المخبر؛ لأن إجراء الأحكام المرتبطة بالموطوء من وظيفة الحاكم الشرعي، الذي إن ثبت ذلك عنده أجبر المالك عليه، فالاحتمال بوجوب تطبيق الأحكام على غير المالك من باب النهي عن المنكر، أو من باب امتثال الحكم الشرعي بعيد جداً.

وإن قيل: إن الموطوء خرج عن ملك مالكه، فللمخبر أن يمتثل الحكمالشرعي.

قلنا: لا دليل على خروجه بذلك عن ملكه وإن لم ينتفع به، كما في ما لا

ص: 314


1- ألا يكفي في مثل ذلك قول الثقة؟ (المقرر).

مالية له ولازال ملكاً لمالكه، حيث إنه بين المالية والملكية عموم وخصوص من وجه، ولو شك استصحبت الملكية، كما أنه على فرض خروجه عن ملكه فلا زال حق الاختصاص باقياً.

وهنا فروع أخرى فصلها السيد الوالد في موسوعة الفقه(1)، ويتضح الحكم فيها مما مضى، ومن الروايات الواردة.

صور كون الواطئ مالكاً وعدمه والموطوء مما يراد لحمه وعدمه

قد يكون الواطئ مالكاً، وقد لا يكون مالكاً، كما أن الموطوء قد يكون مما يراد لحمه وقد يكون مما يراد ظهره، فالصور متعددة، وقد يختلف الحكم في بعض الصور.

الصورة الأولى: أن يكون الموطوء مما يراد لحمه والواطئ مالكاً

والحكم فيها وجوب تنفيذ الأحكام على المالك من دون حاجة إلى إذن الحاكم الشرعي؛ وذلك لأنه تكليف شرعي، ولا محذور فيه.

والظاهر عدم جواز التأخير، فإنه وإن لم يكن الأمر دالاً على الفور لكن المنصرف الفور العرفي، بل قد يستظهر من بعض الروايات الاستعجال؛ ولذا لو ترك الموطوء لسنة مثلاً ولم ينتفع به كان هنالك مجال للاعتراض عليه بأنه يسوّف الحكم الشرعي.كما هو الحال في الحدود، حيث إنه لو ثبت الزنا عند الحاكم أجرى الحد من دون تأخير كما يفهمه العرف.

ص: 315


1- الفقه 76: 87-88 .
الصورة الثانية: أن يكون الموطوء مما يراد لحمه والواطئ غير مالك

فهنا بالإضافة إلى التكليف العام يوجد تكليف خاص، وهو أن الواطئ يضمن قيمة البهيمة لمالكها؛ لأنه أتلف ماله، فتنطبق عليه القاعدة العامة: (من أتلف مال الغير فهو له ضامن)، وقد دلت الروايات الخاصة على ذلك، ومنها قوله(علیه السلام): «يغرم قيمة البهيمة لصاحبها؛ لأنه أفسدها عليه»(1)، ومنها: قوله(علیه السلام): «وإن لم تكن البهيمة له قومت وأخذ ثمنها ودفع إلى صاحبها»(2).

في غرامة القيمة

وفي غرامة القيمة فروع:

الأول: هل يضمن قيمة يوم التلف أو يوم الأداء، أو أعلى القيم أو غير ذلك؟

المسألة من صغريات ما يبحث في كتاب البيع، ففي المثلي يدفع المثل، وأمّا في القيمي فقد قال بعض: بأنه ضامن لقيمة يوم التلف، وقال آخرون: يضمن قيمة يوم الدفع، وأمّا في موارد الغصب فأعلى القيم على رأي البعض، وإن لم يكن له مستنداً.

وفي المقام: المختار - كما هو مقتضى القاعدة - أنه يضمن قيمة يومالدفع؛ لأن الثابت في ذمته البهيمة، فيلزم عليه أن يدفع مثلها وقت الأداء، فإن مختار السيد الوالد أن البهيمة من المثليات، ولو لم يكن لها مثل انتقل إلى القيمة حين تعذر المثل.

ص: 316


1- مرّ تخريجه في الحديث الرابع.
2- مرّ تخريجه في الحديث الثالث.

الفرع الثاني: هل الذبح والإحراق والدفن تكليف المالك؛ لأنه أحق بها ملكاً أو اختصاصاً، أو تكليف الواطئ؛ لكونه السبب ولا وجه لتحميل المالك الخسائر؟ فعلى الواطئ أن يقوم بذلك بنفسه أو يدفع ثمن ذلك، فإن من سبب خسارة مالية يتحمل الخسارة لا غيره، وعلى فرض عدم وجود خسارة مالية للقيام بتلك الأمور إلا أنها تصرف وقتاً وجهداً لا وجه لتوريط غير الفاعل، ولو لم يفعل الواطئ كان تكليف المالك وإلا فالحاكم.

الفرع الثالث: لو امتنع المالك عن الذبح ولم يمكن للواطئ جبره أو لم يجز، ولم يثبت عند الحاكم الشرعي ذلك، فهل يضمن الواطئ القيمة للمالك مع أن المالك ينتفع بها؟

فيه احتمالان:

الأول: عدم الغرامة؛ لأنها عوض، ومع بقاء المعوض والانتفاع به يستلزم الجمع بين العوض والمعوض، لكنه ضعيف.

الثاني وهو الأقوى: الضمان؛ لأن الواطئ أتلفه، والمالك إنما ينتفع بها لعدم إحراز الموضوع عنده، أو لفسقه ومخالفته للشرع، كما لو خنق شاة الغير فأكلها المالك الفاسق كان الخانق ضامناً؛ لأنه أتلف مال الغير، وأمّا انتفاع المالك فليس رافعاً للتلف.

وكما لو جعل عنب الغير خمراً فأخرجه من ملكه، ومع ذلك شربه المالكفهو ضامن؛ لأنه أتلفه، فإنه وإن كانت له قيمة عند غير المتدينين، لكنه يعتبر تالفاً عند الشرع. نعم، لو لم يحكم الشارع بالتلف كان المرجع العرف، ولا مجال للعرف مع التوسعة والتضييق الشرعيين، فالعرف إنما

ص: 317

يكون متبعاً إذا لم يحدد الشرع الموضوع، ومع تحديده لا مجال للعرف.

الصورة الثالثة: أن يكون الموطوء مما يراد ظهره والواطئ هو المالك

ففي كون الحكم كما في غير المالك من الإبعاد والبيع وجهان:

الوجه الأول: إن الحكم كذلك للمناط، فإنه وإن كان مورد الروايات تعدد المالك والواطئ لكن المناط واحد، كما يظهر من حسنة سدير(1)، هذا بالإضافة إلى الإجماع على اتحاد الحكم فيهما.

الوجه الثاني: لا دليل على اتحاد الحكم، والحسنة المذكورة في مورد التخالف، بل العلة فيها تدل على اختصاص الحكم بالواطئ غير المالك، وهي قوله: «كي لا يُعير بها» أي لا يُعير مالك البهيمة، فهذه العلة تدل على اختصاص الحكم بغير المالك؛ وذلك لوجهين:

الأول: ما ذكره في المستند(2) من أنه لابد من تعيير المالك الواطئ حتى يرتدع سائر الملاك، فهو مستحق للتعيير، وأمّا لو كان الواطئ غير المالك فلا وجه لتعيير المالك، فلابد من إبعادها، فمورد الرواية وتخصيص العلة دليل على اختصاص الحكم بغير المالك.

الثاني: قوله(علیه السلام): «أغرم قيمتها» لا يجري في المالك.والحاصل: إنه لا مناط ليشمل المالك الواطئ.

والأقرب الأول؛ وذلك لأنه لو لم تشمل حسنة سدير الواطئ المالك لم يكن هنالك دليل على إبعاد البهيمة وبيعها، فإن الدليل الوحيد على ذلك هو

ص: 318


1- مرّ تخريجه في الرواية الرابعة.
2- مستند الشيعة 15: 124.

حسنة سدير، ونتيجة ذلك التمسك بالعمومات الدالة على الذبح والحرق، ولم يلتزم أحد بذلك، ففهم الفقهاء دليل على أن الحكم - وهو إبعاد والبيع - أعم من المالك وغير المالك.

فروع في الصورة الثالثة

الفرع الأول: هل الحكم بالغرامة يشمل المالك؟

قيل: إن الظاهر ذلك فليست الغرامة لأجل إتلاف مال الغير فقط، بل هي نوع من العقوبة، فلابد أن يغرم المالك قيمتها أيضاً. وقيل باختصاص الغرامة بغير المالك؛ لظاهر الرواية، فحيث أتلف مال الغير فلابد من تعويض المالك.

الفرع الثاني: لو كان الواطئ مالكاً، فلمن يكون ثمن بيع البهيمة؟

قال البعض(1): إنه للمالك حيث لم يخرج بذلك عن ملكه، منتهى الأمر سقوط سلطنته عليها بحكم الشرع - وذلك مثل السفيه الذي لا يحق له التصرف في أمواله، فلو باعها الحاكم أو الولي دخل ثمنها في ملك السفيه - ومع كونه مالكاً فلابد من دخول الثمن في ملكه.

الفرع الثالث: لو أمر الحاكم المالك ببيع الموطوء في البلد الثاني فباعه في بلده، ففيه احتمالان: بطلان البيع، أو صحته مع حرمة عمله.ومنشؤهما كون الحكم تكليفياً أو وضعياً، وقد بحث في محله من الأصول أن الأمر المطلق هل يشمل التكليفي والوضعي معاً كالربا، أم يختص بالتكليفي كالبيع وقت النداء، إلا مع القرينة الخاصة على كونه وضعياً فحسب، كبيع المجهول حيث إنه باطل لا حرام؟

ص: 319


1- مستند الشيعة 15: 124-125.

ولعل الأقرب أنه تكليفي لا وضعي.

الصورة الرابعة: أن يكون الموطوء مما يراد ظهره والواطئ غير المالك

وهو مورد حسنة سدير(1)، ولا خلاف في الحكم المترتب عليه، إلا أنه وقع الخلاف في الثمن، فهل هو للمالك أو للواطئ أو يتصدق به؟

ووجه كونه للمالك أن البهيمة له - إلا أنه رفعت سلطنته عليها بحكم الشرع، فتباع وإن لم يرض به - فلابد من دفع ثمنها له، وهو الأقرب.

وقد أشكل جمع(2) على ذلك بأن المالك يأخذ في قبال دابته الغرامة من الواطئ، فلو أخذ الثمن أيضاً لزم الجمع بين العوض والمعوض.

لكن يرد عليه: إنه ليس من مصاديق الجمع بين العوض والمعوض، بل هنا عوضان: أحدهما عقوبة والآخر ثمن، وعلى فرض كونه منه فلا محذور فيه، فإن المحذور إنما هو في المعاوضات، حيث دل الدليل على عدم صحة الجمع بينهما فيها، وأمّا في المقام - حيث لا دليل - فلا إشكال.

والقول بأن الغرامة ثمن غير تام حيث لم يرد ذلك في الدليل وإنما الوارد (أغرم قيمتها).وقد اتضح من ذلك وجه القول بكونه للواطئ، وحاصله: أنه لا يكون للمالك لأنه جمع بين الثمن والمثمن، وإن ما دفعه الواطئ ثمن، فيشعر بانتقال المثمن إليه، واتضح أيضاً الإشكال فيه.

كما أنه لا وجه لكونه صدقة.

ص: 320


1- من لا يحضره الفقيه 4: 47.
2- مستند الشيعة 15: 125.
الصورة الخامسة: ما يقصد ظهرها ولحمها

البعير تارة يراد ظهره وتارة يراد لحمه، وهو يختلف باختلاف المناطق والأقوام، فعند بعض الأقوام في المناطق الصحراوية يراد ظهره، وفي غيرها يراد لحمه، فأيهما يلاحظ في الحكم؟

قال في المستند: «يحتمل ملاحظة الغالب فيها»(1)، كما في الربا في المعدود والمكيل حيث يقاس حسب البلدان.

لكن لا وجه له، فإن قوله(علیه السلام): «إن كانت مما يؤكل لحمه» تشمل الصورتين، فالبعير مما يؤكل لحمه وإن قصد ظهره غالباً، ولا دخل للغلبة وغيرها في موضوع الرواية.

والأقرب قتله وحرقه؛ لتعارض صدر الرواية ونهايتها في البعير فيتساقطان، فلابد من التمسك بالعموم الأولي وهو ذبحه وحرقه.

فيما لو اشتبه الموطوء بغيره

الحكم فيما لو اشتبه الموطوء بغيره أن يقسم القطيع إلى قسمين ثم يقرع بينهما، وتستمر القرعة إلى أن يقع السهم على الأخير فيطبق عليه الحكم، كمافي صحيحة محمد بن عيسى - والتي مرّ البحث فيها - حيث ورد فيها: «سئل عن رجل نظر إلى راعٍ نزا على شاة، قال: إن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسمها نصفين أبداً، حتى يقع السهم بها، فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها»(2).

ص: 321


1- مستند الشيعة 15: 125.
2- تهذيب الأحكام 9: 43؛ وسائل الشيعة 24: 169.

ثم إن مورد الرواية الشاة والراعي، فهل يسري الحكم إلى غير الراعي؟ وهل يمكن تعميم الحكم لسائر الحيوانات المأكولة أو التي يراد ظهرها ؟ ومع عدم إمكان السراية لابد من الرجوع إلى سائر الأدلة.

والجواب على ذلك أن من المسلّم عدم خصوصية للراعي، بل هو مورد السؤال.

لكن في غير الشاة مبحثان: الأول: المراد أكله، والثاني: المراد ظهره.

المبحث الأول: فيما يراد لحمه

فلو كان مما يراد لحمه فالحكم فيه نفس الحكم، بدليلين:

الأول: المناط القطعي، وقد فهمه غالب الفقهاء، بل كلهم.

الثاني: القرعة فإنها لكل أمر مشكل.

لكنه محل تأمل لجهات:

الجهة الأولى: إن مورد القرعة تزاحم الحقوق، كما ذهب إليه بعض الفقهاء، كما لو لم يعلم أنه لزيد أو لعمرو، وأمّا في غيره فالمجرى الأصول العملية، وما نحن فيه ليس من تزاحم الحقوق، بل من اشتباه الحلال بالحرام، فكما أنه لا مجال للقرعة في الإناءين المشتبهين؛ لأنه مورد العلم الإجماليفي الشبهة المحصورة وفي غيرها البراءة، كذلك ما نحن فيه. وهذا بحث مبنائي، والأقرب أنه مع جريان الأصول الأخرى يرتفع الإشكال والاشتباه فلا يبقى مورداً للقرعة فتلك الأصول واردة عليها.

الجهة الثانية: ما قيل: من أنها بحاجة إلى عمل الفقهاء لضعف دليلها، والفقهاء عملوا في موارد فيجبر، ولم يعملوا في موارد فلا يجبر.

ص: 322

لا يقال: بعد عملهم في الجملة يمكن القول بحجية القرعة مطلقاً.

لأنه يقال: الحجية قابلة للتفكيك، والفقهاء لم يعملوا عملاً مطلقاً حتى يجبر السند مطلقاً، بل العمل في الجملة، فيكون السند معتبراً في الجملة، ومثله كثير، كما في تعارض العامين من وجه، حيث يتساقط الدليلان في مورد التعارض مع حجيتهما في غيره، فلا يقال: إن الخبر لو كان معتبراً لزم حجيته في مورد التعارض، وإن لم يكن معتبراً لزم عدم حجيته في غيره، فإن الجواب هو التفكيك في الحجية، فدليل الحجية لا يشمل مورد التعارض بخلاف غيره.

والمقام كذلك، حيث إن عمل المشهور جابر، وعليه بناء العقلاء، فيكون حجة في مورد العمل دون غيره.

لا يقال: ذهب المشهور إلى القرعة في البعير والبقر فيما نحن فيه.

فإنه يقال: لم يكن ذلك للقرعة، وإنما لرواية محمد بن عيسى.

وفي الكل نظر، فإن بعض أدلة القرعة معتبر، كما أن التفكيك في الحجية وإن كان ممكناً لأنها أمر اعتباري إلا أن جابرية الشهرة لبناء العقلاء ولا تفكيك فيه في المصاديق، فتأمل.والحاصل: إن الحكم في الشاة للنص، وفي البعير والبقر للمناط القطعي بقرينة فهم الفقهاء.

المبحث الثاني: فيما يراد ظهره

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى التعميم، حيث لا فرق بين الشاة والبغل، وربما فهم المشهور المناط.

ص: 323

وهنالك قول آخر وهو الرجوع إلى الأصول العملية، ففي الشبهة المحصورة لابد من الاحتياط بتطبيق الحكم على كل الأطراف، وفي غير المحصورة لا تكليف؛ وذلك للتشكيك في المناط، فمع العلم باختلاف الحكم بين القسمين في بعض الموارد لا يمكن القطع باتحاد الحكم في المقام. هذا أولاً.

وثانياً: عدم جريان التعليل الوارد في الروايات، ففي حسنة سدير: «كي لا يعير بها».

وفصل جمع بأن هنالك صورتين في المشتبه:

الأولى: أن تكون الأطراف المشتبهة كلها ملكاً لشخص واحد، فتجري في حقه القواعد العامة للشبهة المحصورة وغيرها.

الثانية: أن تكون الأطراف المشتبهة ملكاً لشخصين، فهنا مورد القرعة لتزاحم الحقوق.

ويرد عليه أنه لا تكليف على أي واحد منهما في الشبهة المحصورة، إلا لو بحثنا المسألة من جهة تكليف الحاكم الشرعي، حيث يريد إخراج الدابة وبيعها، فيكون الطرفان محل ابتلائه.ولا مجال لهذين القولين بعد فهم المشهور المناط.

فروع في مسألة اشتباه الموطوء بغيره

وهنا فروع، وهي:

الفرع الأول: هل التنصيف دقي أو يكفي التنصيف العرفي؟

ذهب البعض إلى أن مقتضى الاقتصار على النص هو كون التنصيف

ص: 324

دقياً، ولو كان العدد فرداً في التقسيم الأول، أو وصل إلى الفرد في أثناء التقسيم كان مغتفراً.

لكن الأقرب أنه عرفي؛ لحمل الروايات على لسان القوم، فمفهوم النصف في العرف ليس النصف الدقي؛ وليس ذلك من جهة حجية العرف في المصاديق حتى يقال: إنه حجة في المفاهيم فقط، بل من باب توسعة العرف في مفهوم النصف، أي إن النصف عرفاً ليس مفهومه النصف الدقي، بل مفهوم النصف أعم حقيقة لا مجازاً.

الفرع الثاني: لو أقرع فضاع من أصابه السهم في القطيع، أقرع مرة ثانية للمناط أو الإطلاق.

الفرع الثالث: لا فرق بين أن تكون الشاة جزء القطيع فوطأها، أو كانت موطوءة فاشتراها فاختلطت بالقطيع، ثم علم أنها موطوءة؛ لإطلاق الرواية.

الفرع الرابع: لا فرق في كون القطيع نوعاً واحداً أو نوعين كالشاة والمعز، ولا يعلم أيهما الموطوء.

الفرع الخامس: هل يمكن التقسيم لأجل القرعة إلى ثلاثة أقسام أو أكثر؟مقتضى الجمود على النص الاقتصار على نصفين، لكن الظاهر بقرينة الفهم العرفي أنه من باب المثال، فمن لفظ الرواية يفهم عدم الفرق بين أطراف القسمة أو من باب المناط، ولا شك في المناط وإن كان الظاهر أنه مثال.

الفرع السادس: لو تبين بعد القرعة أنه غير الموطوء، فلو لم يذبح الأول لم تجرِ عليه الأحكام؛ لعدم الموضوعية في القرعة، وإنما هي طريق للحكم

ص: 325

بأنه الموطوء ظاهراً.

وإن ذبح من دون تذكية شرعية كان ميتة وأقرع ثانية، ولو ذبح على الطريقة الشرعية حلّ لحمه وأقرع مرة ثانية لإخراج الموطوء.

والحاصل: إن المستفاد من النص أن القرعة طريقية لا موضوعية.

الفرع السابع: لو تلف بعض القطيع قبل القرعة لم يرتفع الحكم الشرعي، وكان التالف طرف القرعة أيضاً، فلو خرجت القرعة في التالف كان هو الموطوء، وحلّ الباقي، فإن تلف البعض لا يخرجها عن دائرة التكليف بالقرعة؛ لاحتمال أن يكون هو الموطوء.

الفرع الثامن: لو كان هنالك قطيعان أو أكثر، وعلم بأن الموطوء في أحدها لم يلزم خلطها ثم التنصيف، فاللازم القرعة بينها حتى وإن اختلف العدد بين القطيعين كثيراً، ثم ينصف القطيع الذي خرجت القرعة باسمه.

السبب الرابع : لو شربت الشاة الخمر

السبب الرابع(1): لو شربت الشاة الخمر

ويترتب عليه حكمان على المشهور(2):الأول: حرمة الأعضاء الداخلية كالمعدة والقلب.

الثاني: وجوب غسل اللحم ثم يجوز أكله.

والمستند للحكمين المذكورين هو ما يلي:

الأول: خبر زيد الشحام، عن أبي عبد الله(علیه السلام): «في شاة تشرب(3) خمراً

ص: 326


1- من الحرمة العرضية في الجملة للحيوان المحلل اللحم.
2- تحرير الأحكام 4: 633؛ رياض المسائل 12: 173؛ مستند الشيعة 15: 126.
3- في تهذيب الأحكام 9: 43 «شربت».

حتى سكرت ثم ذبحت على تلك الحال، قال: لا يؤكل ما في بطنها»(1).

وليس المراد الخمر أو الأطعمة التي فيها، بل ما في أحشائها من القلب والرئة وأمثالهما.

الثاني: ما ورد في السرائر، حيث قال: «وروي أنه إذا شرب شيء من هذه الأجناس خمراً ثم ذبح جاز أكل لحمه بعد أن يغسل بالماء، ولا يجوز أكل شيء مما في بطنه ولا استعماله»(2).

ولم ترد في المجاميع التي بأيدينا، إلا أن ابن إدريس كانت بيده مجموعة من الأصول الأربعمائة، وقد نقل بعضها في مستطرفات السرائر.

هذا هو القول الأول في المسألة.

وأمّا القول الثاني فهو كراهة ما في بطنه، كما ذهب إليه ابن إدريس(3) في قول نادر؛ وذلك لضعف المستند، فإن خبر زيد الشحام ضعيف؛ لضعفالراوي عنه وهو أبو جميلة، وخبر السرائر مرسل، فلا يمكن استفادة الحكم الإلزامي منهما.

لكن يمكن اعتبار خبر زيد الشحام عبر طرق:

الطريق الأول: إن المشهور عملوا بهذه الرواية، فهو منجبر بعملهم على المبنى.

الطريق الثاني: إن راوي الخبر هو ابن فضال، فيمكن تصحيحه عبر

ص: 327


1- الكافي 6: 251؛ وسائل الشيعة 24: 160.
2- السرائر 3: 97.
3- السرائر 3: 97.

وجهين:

الأول: إنه من أصحاب الإجماع من الطبقة الثالثة، فأجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، والمبنى مرضي عند الكثيرين، فيحكم بكون المضمون صادراً عن المعصوم(علیه السلام).

الثاني: ما ورد عن الإمام العسكري(علیه السلام) حول كتب بني فضال التي ملأت بيوت الشيعة، حيث قال(علیه السلام): «خذوا ما رووا وذروا ما رأوا»(1)، فيدل على صدقهم ووثاقتهم في نقل الروايات مع عدم حجية آرائهم.

وارتضى المبنى المذكور الشيخ الأنصاري في كتاب الطهارة(2)، وصاحب الرياض(3) في المقام وغيرهما، لكن أشكل بعض المدققين على أصل المبنى لوجهين:

الوجه الأول: إن سند الرواية إلى العسكري(علیه السلام) غير معتبر، فلا يمكنالاستناد إليها في قبول روايات بني فضال.

الوجه الثاني: إن الرواية المذكورة تدل على وثاقتهم لا صحة كل ما يروونه ولو عن ضعيف.

لكن يبدو عدم تمامية الوجهين؛ فإن الشهرة جابرة فالسند معتبر، كما أن مفاد الأخذ بكتبهم هو جواز العمل بكل رواياتهم التي في كتبهم.

والحاصل: لو كان السند إلى بني فضال صحيحاً كانت الرواية معتبرة

ص: 328


1- خاتمة المستدرك 7: 56؛ الرسائل الرجالية 2: 156؛ رجال الخاقاني: 41.
2- كتاب الطهارة، للشيخ الأنصاري 1: 355.
3- رياض المسائل 12: 174.

وحجة.

نعم، هنالك كلام في كون الحسن بن علي بن فضال من أصحاب الإجماع، فإن الكشي(1) لم يجعله منهم بشكل قطعي، بل ردد الأمر بينه وبين الحسن بن محبوب حسب الخلاف بين الفقهاء، فلم يثبت الإجماع عليه، فالوجه السابق محل تأمل.

وقد أشكل البعض(2) على خبر زيد الشحام بإشكالات:

الإشكال الأول: اختصاصه بالشاة مع تعميم الفقهاء الحكم إلى كل محلل اللحم.

وجوابه واضح، حيث لم يخصص الحكم بالشاة في مرسلة ابن إدريس، هذا أولاً.

وثانياً: إن المفهوم عرفاً من ذكر الشاة أنه من باب المثال لا الاختصاص.

الإشكال الثاني: اختصاصه بالوصول إلى حد السكر، مع تعميم الفقهاءالحكم المذكور وإن شربت الشاة قليلاً من الخمر، أو شربت كثيراً ولم تسكر، أو شربت وذبحت قبل السكر.

وجوابه: إن قيد السكر لم يذكر في رواية ابن إدريس، فهما مثبتان ولا يقيد أحدهما الآخر.

الإشكال الثالث: إن الفقهاء أفتوا بغسل اللحم، ولم يرد ذلك في الرواية، فلا دليل عليه.

ص: 329


1- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) 2: 831 .
2- رياض المسائل 12: 173.

وجوابه: ذكر ذلك في مرسل ابن إدريس(1).

والظاهر أن المستشكل لم يطلع على رواية السرائر.

وقد ذكر صاحب المسالك(2) وجهاً اعتبارياً لوجوب الغسل، وهو أن اللحم لطيف يجذب الخمر، ولذلك لزم غسله.

وفيه نظر؛ فإن العلة المذكورة تجري في القلب والرئة وأمثالهما، ومع ذلك لا يجوز أكلها، هذا أولاً.

وثانياً: لا دليل على أن اللحم يجذب الخمر، بل الثابت أنه ليس كذلك، فالطعام الداخل إلى المعدة ينتقل إلى العروق ثم الكبد ويصبح دماً.

الإشكال الرابع: قال بعض الفقهاء: إن الحكم المذكور لما في البطن لا يشمل القلب وما أشبه، بل خاص بما يمر به الخمر كالمريء والمعدة وما أشبه، وادعوا الانصراف.

لكنه محل تأمل بقرينة فهم الفقهاء.

فرعان يتعلقان بالمسألة
الفرع الأول: وجه العلة في غسل اللحم

إن العلة في غسل اللحم هي التعبد كما ذهب إليه البعض(3)، وقال آخرون: إن العلة ملاقاة النجاسة(4).

ص: 330


1- السرائر 3: 97.
2- مسالك الأفهام 12: 33.
3- رياض المسائل 12: 175.
4- مختلف الشيعة 8 : 281.

وأجيب(1) عن العلة الثانية بجوابين:

الأول: لا ينجس الحيوان أصلاً، وعلى فرض نجاسته - كما هو المشهور - يطهر بزوال عين النجاسة، فليس سبب وجوب الغسل الملاقاة.

الثاني: إن الباطن لا ينجس بملاقاة النجاسة، وعليه فوجوب غسل اللحم ليس للملاقاة وإنما هو أمر تعبدي.

وكلاهما محل تأمل: أمّا أن الحيوان لا ينجس فهو خاص بالحيوان الحي لا الميت، فلو لاقى جلد الحيوان المذكى النجاسة تنجس، فإن الدليل خاص بظاهر الحيوان الحي. وأمّا الثاني فجوابه أنه بعد الذبح أصبح باطنه ظاهراً.

فالصحيح القول بكون العلة التعبد.

الفرع الثاني: لو شربت الشاة بولاً

لو شربت الشاة البول لم يحرم شيء منها لا ظاهراً ولا باطناً. نعم، لابد من غسل الأعضاء الداخلية التي مرّ بها البول؛ وذلك لرواية في سندها ضعف، لكن عمل بها المشهور، وهي خبر موسى بن أكيل، عن بعض أصحابه، عنالباقر(علیه السلام): «في شاة شربت بولاً ثم ذبحت، فقال: يغسل ما في جوفها، ثم لا بأس به»(2).

وهي حسب القاعدة من وجوب غسل الملاقي بشرط بقاء البول وإلا فلا.

ص: 331


1- رياض المسائل 12: 175.
2- الكافي 6: 251؛ وسائل الشيعة 24: 160.

الفصل الرابع: في حيوانات البر المحرّمة

اشارة

قد مرّ أن الأصل حلية كل الحيوانات البرّية إلاّ من استثني بالعمومات أو بالنص الخاص.

ثم إنه يقع البحث في عمومات التحريم، وهي:

الأول: المسوخ

المسوخ جمع مسخ(1)، وهي الحيوانات التي عذب جمع من الناس على صورتها.

الدليل على حرمة المسوخ

هناك عدة أدلة على حرمة المسوخ، وهي:

الدليل الأول: الإجماع(2)، ذكره كثيرون ولم يشكك فيه أحد.

الدليل الثاني: روايات مستفيضة صرحت بالحرمة أو عللت الحرمة بكونها من المسوخ.

منها: موثقة سماعة(3)، وهي كما رواه البرقي عن أبيه، عن الحسن بن

ص: 332


1- العين 4: 206؛ معجم مقاييس اللغة 5: 323؛ لسان العرب 3: 55.
2- الخلاف 6: 83؛ رياض المسائل 12: 158-159.
3- بل صحيحته قد بحثنا في ذلك في موضع آخر، وحاصله: ذهب العلامة إلى أنه واقفي، لكنه توفي في زمن الإمام الكاظم(علیه السلام)، وحصل الوقف بعد شهادته. نعم، كان بعض ذريته واقفياً، وربما يكون هذا سبب الاشتباه والله العالم (السيد الأستاذ).

محبوب، عن سماعة، عن الصادق(علیه السلام): «وحرم

الله ورسوله المسوخ جميعاً»(1).

ومنها: خبر الحسين بن خالد عن الرضا(علیه السلام): «أيحل أكل لحم الفيل؟ فقال: لا، فقلت: لِمَ؟ قال(علیه السلام): لأنه مثلة، وقد حرم الله لحوم الأمساخ ولحم ما مثل به في صورها»(2).

وهنالك روايات متعددة ذكرها في الوسائل(3).

مصاديق المسوخ

ورد في بعض الروايات(4) أن المسوخ سبعمائة حيوان، أربعمائة منها برية وثلاثمائة بحرية، لكن المصاديق المذكورة في الروايات قليلة(5)، وأمّا الباقي فعلى فرض صحة الرواية فهي مجهولة لنا.

ولا يخفى أن سند معظمها ضعيف؛ لكنه غير مضر بالحكم؛ لدخول الكثير منها في عناوين محرمة، كالحشرات والسباع، أو دل على حرمتها نص خاص كالكلب، هذا بالإضافة إلى عمل المشهور.

وهي: الضب، والفأرة، والقرد، والخنزير، والفيل، والكلب، والطاووس، والذئب، والأرنب، والوطواط، والجري، والعقرب، والدب، والوزغ، والزمير، والمارماهي، والوبر(6)، والورل(7)، والدعموس، والقنفذ،

ص: 333


1- تهذيب الأحكام 9: 16؛ وسائل الشيعة 24: 105.
2- وسائل الشيعة 24: 104.
3- وسائل الشيعة 24: 104-113.
4- الكافي 6: 243.
5- راجع الروايات في وسائل الشيعة 24: 104-112.
6- وهو حيوان أصغر من القرد وليس له ذيل.
7- وهو حيوان أكبر من الضب.

والعنكبوت،والبعوض، والقملة، وبنت وردان، والخنفساء، والهر، والرخم(1)، والحية، والسهيل، والزهرة(2)، والذر(3).

حرمة الأرنب

ويدل على حرمة الأرنب الإجماع(4) المسلّم بالإضافة إلى الروايات الخاصة(5)، وكذا ما دلّ على عدم صحة الصلاة في ثوب فيه شعره(6).

إلا أن هنالك رواية عن الإمام الصادق(علیه السلام) ظاهرها الكراهة(7)، لكن حملها الفقهاء(8) على التقية لموافقتها للعامة.

وفي خصوص الطاووس بحث خاص سيأتي.

الثاني: الحشرات

بمعنى كل حيوان يحفر الأرض ويسكنها كالحية والفأر، وإن لم يكن من الحشرات في مصطلحنا، وعبّر عنها بعض الفقهاء(9) بالحشار؛ لأنها

ص: 334


1- نوع من الطير.
2- وهما حيوانان بحريان لا الكوكبين المعروفين.
3- النملة الصغيرة.
4- الانتصار: 400؛ الخلاف 6: 78؛ مسالك الأفهام 12: 35؛ جواهر الكلام 36: 296.
5- وسائل الشيعة 24: 109.
6- وسائل الشيعة 4: 358.
7- وسائل الشيعة 24: 112، وفيه: الشيخ الطوسي بأسناده، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «كان رسول الله(صلی الله علیه و آله) عزوف النفس، وكان يكره الشيء ولا يحرّمه، فأتي بالأرنب فكرهها ولم يحرّمها».
8- وسائل الشيعة 24: 112.
9- مستند الشيعة 15: 103.

تحشر نفسها في الأرض، وإن لم يكن ذلك جمعاً لغوياً.

والحاصل: إن بين الحشرة لغة واصطلاحاً عموم من وجه، فالذباب حشرة اصطلاحاً لا لغة، وعكسه الحية.

أدلة حرمة الحشرات

وتدل على حرمتها أدلة:

الدليل الأول: الروايات وإن كان سندها ضعيفاً، لكن عمل بها المشهور، بل فوق الشهرة، ففي دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «أنه نهى عن الضب والقنفذ وغيره من حشرات الأرض»(1).

الدليل الثاني: الإجماع(2).

كما أن غالب الحشرات تدخل في عنوان آخر من عناوين الحرمة، كالضب والقنفذ الداخلان في المسوخ.

الثالث: السباع

فكل سبع حرام، وفي بعض الروايات(3) تحريم كل ما له ناب من فوق أو تحت، والنسبة بينهما محل خلاف، فذهب البعض(4) إلى التساوي، لكن ظاهر موثقة(5) سماعة تغايرهما، فعن الصادق(علیه السلام): «يا سماعة، السبع كله

ص: 335


1- دعائم الإسلام 2: 123.
2- جواهر الكلام 36: 294.
3- الكافي 6: 244.
4- مستند الشيعة 15: 99.
5- علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن سماعة بن مهران، قال...

حرام وإن كان سبعاً لا ناب له»(1)، فيكون السبع أعم من ذي ناب، وإن أولّه البعض بأن المراد ما لا ناب له عرضاً.

وقد يقال: إن ظاهره كل ما يفترس ويأكل اللحم وإن لم يكن من السباع، فالحية لا ناب لها لكنها تفترس وتأكل الحيوانات الأخرى، وكذلك الطيور الجارحة كالعقاب والبازي فهي من السباع ولا ناب لها، وقد ثبت في علم الحيوان أن الكثير من الحيوانات تأكل الأخرى مع أنها لا ناب لها، فلا يبعد أن يكون السبع أعم من ذي الناب.

والمهم في المقام حرمة كل سبع، سواء كان مساوياً لذي ناب أم أعم منه.

ويدل على حرمته: الإجماع(2) والروايات المستفيضة:

ومنها(3): صحيحة الحلبي عن الصادق(علیه السلام) قال: إن رسول الله(صلی الله علیه و آله) قال: «كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير حرام، وقال(علیه السلام): لا تأكل من السباع شيئاً»(4).

الرابع: الخبائث

فكل ما كان من الخبائث حرام، كالخنفساء والدود وأمثالهما.

وقد مرّ البحث فيها، وكانت الأقوال ثمانية، وقد مرّ أن الظاهر أنها ما كانتكذلك واقعاً وكشف عنه الشرع أو عرفه الناس.

ص: 336


1- الكافي 6: 247.
2- مستند الشيعة 15: 98.
3- علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن بن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
4- الكافي 6: 245؛ تهذيب الأحكام 9: 38؛ وسائل الشيعة 24: 114.
الخامس: ما كان فيه ضرر بالغ منهي عنه

ما فيه الضرر البالغ المنهي عنه، كالحيوان الذي يسبب التسمم أو العمى مثلاً، وقد مرّ بحثه.

فهذه خمسة عناوين عامة.

ص: 337

الفصل الخامس: في الطيور المحرمة والمحلّلة

اشارة

والأصل الأولي في الطيور - كسائر الأشياء - هو الحلية، وقد دلّ على حلية أو حرمة بعضها النص والفتوى كالدجاج والعقاب، وهنالك خلاف في بعضها كالغراب.

القواعد العامة في الطيور

وهنالك كليات وقواعد لتمييز الطيور المحرمة عن غيرها، وهي ثلاثة:

القاعدة الأولى: ما كان سبعاً

فكل طير سبع حرام، أمّا لو صاد أحياناً فلا يقال إنه سبع، والسبع(1) هو المفترس وهو في الطيور كل ما له مخلب يمزق سائر الحيوانات، ولا يخفى أن معظم الطيور لها مخلب لكنها لا تمزق كالدجاج، ولا فرق في ذلك بين أن يكون صياداً قوياً كالعقاب أًو ضعيفاً كالنسر.

ويدل على حرمته الإجماع(2) المسلّم، والنصوص المطلقة الواردة في السباع، بالإضافة إلى النصوص في خصوص سباع الطير، كصحيحة(3)

ص: 338


1- القاموس المحيط 3: 35؛ تاج العروس 11: 197.
2- الخلاف 6: 75؛ رياض المسائل 12: 158.
3- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .

الحلبي، عن الصادق(علیه السلام): قال: «كل ذي ناب من السباع ومخلبمن الطير حرام<(1).

إن قلت: هنالك بعض النصوص تثبت الكراهة كقوله(علیه السلام): «أمّا أكل لحمها فإنا نكرهه»(2)، أو قوله(علیه السلام): «لا يصلح أكل شيء من السباع»(3).

قلت: الكراهة في الروايات غير الكراهة المصطلحة اليوم، فهي أعم، حيث إنها بمعنى عدم الحب الشامل للحرام، وقوله: (لا يصلح) تارة يكون لأجل الحرمة، وتارة لأجل الكراهة، فلا تعارض.

إن قلت: ورد في صحيحة(4) محمد بن مسلم، عن الباقر(علیه السلام) حلية سباع الطير، حيث: «سئل عن سباع الطير والوحش(5) حتى ذكر له القنافذ والوطواط والحمير والبغال والخيل، فقال: ليس الحرام إلا ما حرّم الله في كتابه، وقد نهى رسول الله(صلی الله علیه و آله) يوم خيبر عن لحوم الحمير»(6)، فتدل على حلية ما ليس في القرآن، ولم ينهَ عنه النبي(صلی الله علیه و آله).

قلت: إنها محمولة على التقية لموافقتها للعامة، كمالك الذي نقل عنه أنّه حللّ جميع الحيوانات، واستثنى الخنزير الوارد في القرآن والحمار المنهي

ص: 339


1- الكافي 6: 244.
2- من لا يحضره الفقيه 1: 261.
3- تهذيب الأحكام 9: 43؛ وسائل الشيعة 24: 115.
4- الشيخ الطوسي بأسناده عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(علیه السلام)... .
5- أي: البر.
6- الاستبصار 4: 74؛ وسائل الشيعة 24: 123.

عنه، وإن أبيت فلابد من القول بأن حرمة السباع مما دلت عليهالروايات، فتدخل في ما حرم الله في كتابه لقوله تعالى: {وَمَآ

ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ}(1)، وقوله سبحانه: {أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ}(2). بل وردت رواية صحيحة(3) عن رسول الله في تحريمها، فعن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: إن رسول الله(صلی الله علیه و آله) قال: «كل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير حرام، وقال: لا تأكل من السباع شيئاً»(4).

وإن أبيت فلابد من الإعراض عن رواية الحليّة لمعارضتها الروايات المعتبرة الكثيرة.

والحاصل: إنه لا يمكن الاستناد إليها، إما للتقية أو لعدم الدلالة أو للمعارضة.

القاعدة الثانية: الدفيف والصفيف

كل طير صفيفه أكثر من دفيفه فهو حرام، ويحل ما كان بعكسه، ويدل على ذلك الإجماع(5)، بالإضافة إلى النصوص المعتبرة، كصحيحة(6) زرارة،

ص: 340


1- سورة الحشر، الآية: 17.
2- سورة النساء، الآية: 59.
3- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
4- الكافي 6: 245؛ وسائل الشيعة 24: 114.
5- كفاية الأحكام 2: 601؛ رياض المسائل 12: 164.
6- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن علي بن رئاب، عن زرارة... .

عن الباقر(علیه السلام) عما يؤكل من الطير، فقال: «كلْ ما دفَّ ولا تأكل ما صف»(1)، والمراد الغالب وإلا فلا يوجد طير لا يصف، ولا يدف.فرع: لو لم يكن سبعاً وتساوى صفيفه ودفيفه - وقد ذكره الفقهاء(2) وإن لم يكن له مصداق خارجاً - فلا بد من الرجوع إلى القاعدة الثالثة.

وأمّا القول باستصحاب الحرمة قبل التذكية فهو مسببي، وقد مرّ تفصيل البحث فيه.

القاعدة الثالثة: الحوصلة والقانصة والصيصية

يحرم كل طير لا يمتلك القانصة والحوصلة والصيصية، فلو امتلك أحدها حلّ، وربما ورد النص على حلية ما لا يمتلك الثلاثة، وهو استثناء، والكلام في القاعدة.

ويدل عليه الإجماع(3) بالإضافة إلى النصوص المعتبرة:

ومنها: خبر(4) ابن بكير عن الصادق(علیه السلام): «كُلْ من الطير ما كانت له قانصة أو صيصية أو حوصلة»(5)، وتستظهر حرمة الفاقد من (ما) الموصولة التي تفيد الشرط، كما ذكر ذلك بعض الفقهاء(6)، وهو المفهوم عرفاً، فإن

ص: 341


1- الكافي 6: 247؛ من لا يحضره الفقيه 3: 321؛ وسائل الشيعة 24: 152.
2- شرائع الإسلام 4: 751؛ تحرير الأحكام 4: 635؛ مجمع الفائدة 11: 180.
3- كفاية الأحكام 2: 601؛ كشف اللثام 9: 258؛ رياض المسائل 12: 163.
4- عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... والأقرب اعتبار سهل بن زياد.
5- الكافي 6: 248؛ تهذيب الأحكام 9: 17؛ وسائل الشيعة 24: 151؛ قال السيد الاستاذ: والأقرب كون الرواية موثقة لاعتبار سهل بن زياد على الأقوى، مضافاً إلى عمل المشهور بها.
6- مستند الشيعة 15: 79.

تمّ الظهور فبها، وإلا فلا تفيد حرمة الفاقد. نعم، تثبت حلية الواجد.ومنها: موثقة(1) سماعة عن الصادق(علیه السلام): «والحوصلة والقانصة يمتحن بها من الطير ما لا يعرف طيرانه، وكل طير مجهول»(2)، والفرق بين الجملتين أن المقصود من الجملة الأولى ما لا يطير أصلاً، ومن الثانية: الطير المجهول، بأن يكون جاهلاً بحقيقته، ويحتمل في الأولى أن يعرف الطير لكن لا يعرف كيف طيرانه، وفي الثانية لا يعرف الطير أصلاً، كما لو وجد طيراً مذبوحاً لا يعرفه.

ولا يخفى أن الفقهاء تطرقوا إلى الكلام عن الفرق بين القانصة والحوصلة، وأنهما شيئان أو شيء واحد، وهل يجتمعان في طير واحد أم لا؟ لكن الثابت أن (الحوصلة) مجمع الحبّ في وسط المريء - حيث تنقّع لتلين فيكون عملها كالمضغ في الحيوانات الأخرى - ثم بعد ذلك ينتقل الطعام إلى (القانصة) حيث يهضم - كعمل المعدة في سائر الحيوانات - .

كما أنه قد يتوهم نوعاً من التعارض بين الروايات حاول بعض الفقهاء حلها، لكن بما أن المسألة إجماعية فلا يؤثر ذلك في الفتوى.

وليعلم أن العلامات الثلاثة متلازمة مع الدفيف أو الصفيف، فمن يمتلك إحدى الثلاثة فدفيفه أكثر من صفيفه، وما كان صفيفه أكثر من دفيفه فلا يمتلك الثلاثة.

بعض الطيور المنصوصة

وبعد بيان القواعد العامة نتطرق إلى ذكر الطيور المنصوصة، التي وقع

ص: 342


1- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن سماعة بن مهران... .
2- الكافي 6: 247؛ تهذيب الأحكام 9: 16؛ وسائل الشيعة 24: 150-151.

الخلاف فيها:

الأول: الغراب

وهو أنواع:

منها: الغراب الكبير الذي يعيش في الجبال، ويتغذى على الجيف.

ومنها: الغراب الصغير ويسمى بالزاغ، وهو بحجم الحمام، ويعيش في المزارع، ويتغذى على الحبوب.

ومنها: ما يسمى بالأبقع وهو أكبر من الزاغ.

ومنها: ما يسمى بالعقعق ويكون في ريشه بياض وذيله طويل.

وفي حكم الغراب أقوال، منها: الحرمة مطلقاً، ومنها: الحلية مطلقاً، ومنها: الأقوال بالتفصيل.

دليل القول بحرمة الغراب

واستدل على الحرمة بروايات، منها: صحيحة(1) علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام) قال: «سألته عن الغراب الأبقع والأسود أيحل أكلهما، فقال: لا يحل أكل شيء من الغربان، زاغ ولا غيره»(2).

ومنها: الخبر الوارد في تحريم بيض الغراب(3)، وسيأتي الكلام في التلازم بين بيض الطير ولحمه.

ص: 343


1- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن العمركي بن علي، عن علي بن جعفر... .
2- الكافي 6: 245؛ وسائل الشيعة 24: 126.
3- الكافي 6: 252؛ وسائل الشيعة 24: 126-127، عن أبي إسماعيل قال: سألت أبا الحسن الرضا(علیه السلام)، عن بيض الغراب؟ قال: «لا تأكله».
دليل القول بحلية الغراب

واستدل للحلية بموثقة(1) زرارة عن أحدهما‘: «إن أكل الغراب ليس بحرام، إنما الحرام ما حرم الله في كتابه، ولكن الأنفس تتنزه من ذلك تقززاً»(2)، وهي صرحية في الحلية على كراهة.

وأشكل عليها صاحب الرياض(3) بأنها رواية شاذة مخالفة للإجماع فلابد من طرحها؛ وذلك لعدم اختصاص المحرمات بما في القرآن، بل الكثير منها مذكورة في السنة التي أمر القرآن باتباعها.

وفيه نظر لعدم كونها شاذة ولا مخالفة للإجماع، فإن تخصيص الكتاب بالسنة مما لا إشكال فيه، فقوله(علیه السلام): «إنما الحرام ما حرم الله في كتابه» مخصَّص بالسنة، كما هو الحال في قوله تعالى: {قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ}(4) المخصص بموارد وردت عبر الروايات. هذا أولاً.

وثانياً: ما في المستند(5) من أن كل المحرمات مذكورة في القرآن ولو في باطنه، لقوله تعالى: {تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ}(6)، ولا يمكن الوصول إلى

ص: 344


1- الشيخ الطوسي بأسناده، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان بن عثمان، عن زرارة، عن أحدهما... .
2- الاستبصار 4: 66؛ وسائل الشيعة 24: 125.
3- رياض المسائل 12: 161.
4- سورة الأنعام، الآية: 145.
5- مستند الشيعة 15: 84 .
6- سورة النحل، الآية: 89 .

الباطن إلا عبر السنة، فكل حرام وارد في السنة مذكور في القرآن.وفيه نظر، فإن الكلام وإن كان صحيحاً في حد نفسه لقوله تعالى: {وَلَا

رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ}(1) إلا أن الظاهر كون المراد مما حرم الله في كتابه هو ظاهر الكتاب لا باطنه.

والحاصل: إنه يلزم الجمع بين الموثقة المذكورة وصحيحة علي بن جعفر، فإن لم يمكن الجمع الدلالي فلابد من القول بتعارضهما، ومعه يلزم البحث عن المرجح، وإلا فالتساقط ثم الرجوع إلى القواعد العامة.

وجوه الجمع بين الروايات

وهنالك وجوه للجمع، هي:

الوجه الأول: حمل الموثقة على التقية، وأمّا الصحيحة فلا وجه لحملها على التقية، حيث لا تقية بين علي بن جعفر وأخيه(علیه السلام).

وفيه نظر: أولاً: إنه مع إمكان الجمع الدلالي لا تصل النوبة إلى التعارض والتمسك بالمرجحات، ومجرد موافقة العامة مع إمكان الجمع الدلالي لا يسوغ الحمل على التقية، وإلا فالكثير من الأحكام موافقة للعامة، حيث لم يحرفوها، كوجوب الحج وركعتي صلاة الصبح.

وثانياً: اختلف العامة في الغراب بين محلل ومحرم، فلا مورد للترجيح بمخالفة العامة؛ لأن كلا الروايتين مخالفتان لبعض العامة.

الوجه الثاني: الجمع الدلالي بحمل الظاهر في الحرمة على الكراهة، فإن الصحيحة ظاهرة في الحرمة، حيث يمكن حمل قوله(علیه السلام): «لا يحلأكل

ص: 345


1- سورة الأنعام، الآية: 59.

شيء من الغربان»(1) على إرادة الكراهة، وأمّا الموثقة فنص في الحلية، حيث لا يحتمل غير الحلية من قوله(علیه السلام): «ليس بحرام».

وفيه نظر؛ لأن (لا يحل) نص في الحرمة لا أنه ظاهر فيها، و(ليس بحرام) نص في الحلية، فيتعارضان ويتساقطان، فلابد من التمسك بالقواعد الأخرى، ولا مجال للتمسك بأصالة الحلّ، إذ لا يخلو الطير من فاقد للعلامات الثلاث - القانصة والحوصلة والصيصية - أو واجد لها أو لأحدها، كما لا يخلو طير من غلبة صفيفه أو دفيفه، نعم ليس الغراب من السباع حتى الكبير منه، فإنه آكل للجيف لا أنه مفترس وسبع.

واحتمل جمع بأن الغراب الكبير الآكل للجيف يصيد الطيور الصغيرة، فيكون سبعاً، وعليه لو انطبق عليه عنوان السبع فلا مناص عن القول بالحرمة. نعم لو فرض عدم إمكان العلم في طير في اشتماله على القاعدة الثانية أو الثالثة فهو من الشبهة الموضوعية فيكون المرجع أصالة الحلية.

الأقوال المفصلة وأدلتها

وهي بين القول بحلية الزاغ دون غيره، أو حرمة الأسود الساكن في الجبال والرمادي وحلية غيرهما، أو حرمة الأسود الكبير والأبقع وحلية الزاغ والعقعق.

ويمكن مراجعة تفصيل الأقوال المذكورة في المستند(2).

ص: 346


1- مسائل علي بن جعفر: 174؛ الكافي 6: 245.
2- مستند الشيعة 15: 83-84 .

وأمّا أدلتها فوجوه:

الوجه الأول: الجمع بين الأخبار، لكن الجموع المذكورة تبرعية لاشاهد عليها من الروايات.

الوجه الثاني: إن الغراب الكبير الآكل للجيف من الخبائث وهي محرمة بخلاف الزاغ والأبقع.

وفيه: إنه قد مرّ البحث في الخبائث وكان المختار أن المراد من الخبائث ما كان خبيثاً واقعاً كشف عنه الشارع أو علم به الإنسان، وحيث لا دليل في المقام، فلا يمكن الحكم على كون الغراب من الخبائث، ومجرد أكل الجيف ليس سبباً لكونه من الخبائث ولا دليلاً على الحرمة.

الوجه الثالث: الأنواع المحرمة من الغراب إنما هي من السباع.

وفيه: إن الغراب الأبقع والعقعق والزاغ ليسوا من السباع، وأمّا الكبير الآكل للجيف فلا يعلم أنه من السباع، وعلى فرض أنه من السباع فدليل الحلية على فرض ترجيحه يخصصه، اللهم إلاّ أن يقال: إن بين الدليلين عموماً من وجه، وعلى فرض ترجيح دليل الحرمة، فلابد من القول بحرمة كل أنواعه من دون اختصاص بالكبير الأسود.

نعم، مع القول بالتعارض والتساقط فلابد من الرجوع إلى القواعد العامة.

فتحصل أن الأقرب حلية الغراب بأنواعه مع القول بكراهته، لكن يجتنب عنه احتياطاً.

ص: 347

الثاني: الهدهد

انعقد الإجماع(1) على حليته، وأفتى المشهور بالحلية على كراهة(2).أمّا وجه الحلية فللعلائم العامة الدالة عليها، وأمّا وجه الكراهة فللنصوص، والتي ظاهر بعضها الحرمة، لكنها محمولة على الكراهة للإجماع على الحلية.

منها: صحيحة(3) علي بن جعفر: «سألت أخي موسى(علیه السلام) عن الهدد وقتله وذبحه، فقال: لا يؤذى ولا يذبح فنعم الطير هو»(4)، قيل: ظاهرها حرمة الذبح والإيذاء، لكن لا تلازم حرمة اللحم، ولا تدل حتى على كراهته، كما لو قال بحرمة ذبح الشاة المغصوب.

وفيه نظر، فإن الملازمة متحققة عرفاً، فيستفاد منه النهي عن الأكل، وإلا فلا موضوعية للذبح.

ومنها: خبر: «نهى رسول الله(صلی الله علیه و آله) عن قتل الهدهد والصرد والصوام والنحلة»(5).

والكلام فيه كالكلام في سابقه، ويضاف إليه ضعف السند.

والحاصل: إن الروايات لا تدل على الحرمة للإجماع، ولكنها تدل على

ص: 348


1- مستند الشيعة 15: 91.
2- المهذب 2: 429؛ المختصر النافع: 244؛ الروضة البهية 7: 281؛ كفاية الأحكام 2: 602.
3- الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن علي بن جعفر قال... .
4- الكافي 6: 224؛ وسائل الشيعة 23: 394.
5- الكافي 6: 224؛ وسائل الشيعة 24: 149.

الكراهة للتلازم العرفي.

الثالث: الخطاف

وقد ذهب بعضهم إلى الحرمة(1)، وبعضهم إلى الحلية مع الكراهة(2)،ومنشؤ الخلاف اختلاف الروايات، وجمع المشهور بينها بحمل الروايات الناهية على الكراهة.

والدليل على الحلية: العلامات العامة للحلية، بالإضافة إلى الروايات المعتبرة:

منها: موثقة(3) عمار الساباطي: «عن الرجل يصيب خطافاً في الصحراء أو يصيده أيأكله، فقال: هو مما يؤكل»(4).

لكن ذهب الشيخ الطوسي(5) إلى الحرمة بحمل العبارة على الاستنكار، بتقدير همزة الاستفهام الاستنكاري.

لكنه خلاف الظاهر، والأصل عدم التقدير.

ومنها: ما روي عن الصادق(علیه السلام): «خرء الخطاف لا بأس به، وهو مما يؤكل لحمه، لكن كره أكله لأنه استجار بك»(6).

ص: 349


1- النهاية: 577؛ السرائر 3: 104.
2- شرائع الإسلام 4: 751؛ إرشاد الأذهان 2: 111؛ مختلف الشيعة 8: 290.
3- الشيخ الطوسي بأسناده، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار بن موسى، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
4- الاستبصار 4: 66؛ وسائل الشيعة 24: 148.
5- الاستبصار 4: 67؛ تهذيب الأحكام 9: 21.
6- وسائل الشيعة 23: 393.

ومع التصريح بأنه مما يؤكل لحمه فلا حاجة إلى الاستدلال بطهارة خرئه بأن يقال قد ثبت نجاسة خرء الحيوان المحرم اللحم ذي الدم الدافق، فمع ثبوت طهارة خرء الخطاف - مع أن له دم دافق - تثبت حلية لحمه.

مضافاً إلى أنه محل تأمل؛ فإن القاعدة تامة إلا في الطيور، فإن فضلاتهاطاهرة حتى لو كانت محرمة اللحم ولها دم دافق، ويدل عليه قوله(علیه السلام): «كل شيء يطير فلا بأس ببوله وخرئه»(1)، فالدليل الدال على طهارة فضلات الخطاف لا يدل على حلية لحمه، هذا والبحث مبنائي.

واستدل للتحريم بروايات:

منها: صحيحة(2) جميل عن الصادق(علیه السلام): «لا تقتلهن ولا تؤذيهن فإنهن لا يؤذين شيئاً»(3).

وفيه: إنها تدل على الحلية؛ لأن جميل يسأل الإمام الصادق(علیه السلام) عن صيد الخطاف في الحرم المكي(4)، فالنهي إنما هو لأجل الحرم(5)، وعلى فرض الشك في أن الحكم بالحرمة هل هو لحرمة لحمه أو لمكانة الحرم يكون الأمر مجملاً.

ص: 350


1- الكافي 3: 58؛ وسائل الشيعة 3: 412.
2- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج... .
3- الكافي 6: 224؛ من لا يحضره الفقيه 2: 262؛ وسائل الشيعة 23: 392.
4- صدر الرواية: سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن قتل الخطاف أو إيذائهن في الحرم... .
5- أقول: لكن العلة (فإنهن لا يؤذين) تعمم الحكم، فبما أنها لا تؤذيك فلا تقتلها، وهذا لا يختص بالحرم المكي كما هو واضح، بالإضافة إلى أن خصوص المورد لا يخصص الوارد. (المقرر).

كما أن حرمة القتل يلازم حرمة اللحم عرفاً كما ذكرنا.

واستدل في الرياض(1) والمستند(2) على الحلية بأنه لو حرم نجس خرؤه،وكان سبباً للآذى، فقوله(علیه السلام): (لا يؤذين) دال على طهارة خرئه، فيدل على حلية لحمه.

وأجاب عنه في الفقه بأن إطلاق لا يؤذين شيئاً ليس من جهة فضلاته(3).

وقد استفاد بعض الفقهاء(4) من العلة المذكورة كراهة قتل كل طير يستجير بك، كما أنه لا خصوصية للاستجارة (بك) بل الحكم يعم فيما لو استجار (بك) أو (بغيرك).

وأمّا مع القول بالخصوصية في الخطاف والاستجارة بك فلا يمكن استفادة الكراهة.

الرابع: الحبارى

وقد قام الإجماع على حلية الحبارى(5)، بالإضافة إلى النص، وامتلاكه لعلائم الحلية العامة، لكن قيل: على كراهة(6).

ففي صحيحة(7) عبد الله بن سنان قال: «سأل أبي أبا عبد الله(علیه السلام) وأنا

ص: 351


1- رياض المسائل 12: 167.
2- مستند الشيعة 15: 89-90.
3- الفقه 76: 136-137.
4- الفقه 76: 140.
5- طير مهاجر يصاد عبر الباز والصقر.
6- النهاية: 577؛ تحرير الأحكام 4: 635؛ رياض المسائل 12: 163؛ مستند الشيعة 15: 91؛ جواهر الكلام 36: 313.
7- عنه، عن حماد، عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن سنان... .

أسمع ما تقول في الحبارى؟ قال: إن كانت له قانصة فكل»(1).

لكن لم نجد دليلاً على الكراهة، بل هنالك نص صحيح دال على عدمها، ولا يصح التمسك بقاعدة التسامح - بناءً على توسعتها - لإثبات الكراهة؛وذلك لوجود النص المذكور المخصص للقاعدة، وهو صحيحة(2) كردين المسمعي: «سألت أبا عبد الله عن الحبارى، قال: وددت أن عندي منه فآكل منه حتى أتملأ»(3).

الخامس: الشقراق

ومما قالوا بكراهته الشقراق(4)، ولا إشكال في حليته لعلائم الحلية العامة، لكن الكلام في كراهته، حيث أفتى بها بعض الفقهاء(5) لموثقة(6) عمار عن أبي عبد الله(علیه السلام): «أنه سئل عن الشقراق، فقال: كره قتله لحال الحيات، قال: كان النبي(صلی الله علیه و آله) يوماً يمشي وإذا شقراق قد انقض فاستخرج من خفه حية»(7)، وقد قلنا بالتلازم عرفاً بين كراهة القتل وكراهة اللحم.

ص: 352


1- تهذيب الأحكام 9: 15.
2- محمد بن الحسن بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن كردين المسمعي... وهو مسمع بن عبدالملك بن مسمع ويلقّب بكردين.
3- وسائل الشيعة 24: 158.
4- قيل: هو طائر أخضر في أجنحته سواد. راجع: حياة الحيوان 2: 56.
5- مسالك الأفهام 12: 47؛ مجمع الفائدة 11: 185.
6- الشيخ الطوسي بأسناده، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار بن موسى، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
7- تهذيب الأحكام 9: 21؛ وسائل الشيعة 23: 397.

واستفاد جمع(1) من التعليل المذكور كراهة قتل كل حيوان يقضي على الحيوانات المؤذية.

السادس: اللقلق

ومما وقع فيه الخلاف اللقلق، ومنشؤه الاختلاف في تحقق علائم الحلية عند أهل الخبرة، حتى قيل: «ربما تختلف حالاتها».

وفي الفقه: الظاهر امتلاكه لبعض العلائم(2)، وفي بعض الكتب الفقهية إنها لا تمتلك.

وحيث لا يصاد اللقلق كان الأمر مجهولاً، بل في بعض المناطق أن صيده وتخريب بيته شؤم. ومع الرجوع إلى علم الحيوان اليوم يسهل الاطلاع على العلائم.

السابع: النعامة

وقد وقع الخلاف في كونها طائراً، لكن الظاهر أنها طير عرفاً(3)، ولها علائم الطيور من الجناح والريش وتبيض، وأمّا كبر حجمها وعدم طيرانها فلا يخرجها عن فصيلة الطيور بعد أن اعتبرها العرف طيراً.

وقد قام الإجماع(4) على حليتها مع عدم امتلاكها لكل علائم الحلية، ولا ضير في ذلك بعد أن كانت مرجعية العلائم مشروطة بعدم النص والإجماع.

ص: 353


1- الفقه 76: 141.
2- الفقه 76: 145، وفيه: >فاللازم الرجوع إلى العلامة الثانية، والظاهر وجودها فيه، فهو حلال».
3- جواهر الكلام 36: 320-321.
4- جواهر الكلام 36: 322.

وخالف في ذلك الشيخ الصدوق مستدلاً بكونها من المسوخ(1)، ولا تضر مخالفته بالإجماع بعد عدم وجود حتى رواية واحدة علىكونها من المسوخ.

ومن أدلة الحليّة سيرة المتشرعة من دون نكير من أحد الفقهاء أو الأئمة(علیهم السلام).

وقد يستدل على ذلك أيضاً بروايات كفارة الإحرام الواردة في أكل المحرم بيض النعامة من دون نكير عليه إلا من جهة الإحرام، فتكون الحرمة عرضية لأجل الإحرام، فمع الحكم بحلية البيض يحكم بحلية الأصل لما سيأتي من التبعية.

كما في صحيحة أبي عبيدة(2) عن الإمام الباقر(علیه السلام)، قال: سألته عن رجل اشترى لرجل محرم بيض نعامة فأكله المحرم؟ قال: «على الذي اشتراه للمحرم فداء، وعلى المحرم فداء...»(3).

وفيه تأمل: لأن حرمة الأكل على المحرم ثابتة على كل حال - سواء كانت النعامة حلال أم حرام - فلا حاجة للتنبيه على سبب الحرمة بأنها أصلية أم عارضية بسبب الإحرام، فتأمل.

ص: 354


1- من لا يحضره الفقيه 3: 336، وفيه: «ولا يجوز أكل شيء من المسوخ، وهي: القردة والخنزير والكلب والفيل والذئب والفأرة والأرنب والضب والطاووس والنعامة...».
2- الكليني، عن العدة، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة... .
3- الكافي 4: 388؛ وسائل الشيعة 13: 56.
الثامن: الفاختة

وقد قالوا بكراهة(1) لحم الفاختة لشؤمها كما في الروايات(2)؛ ولأنها تلعن أهل الدار.وأجيب(3) بأن الشؤم لا يلازم الكراهة.

التاسع: الطاووس

وهو من الطيور التي يمتلك بعض العلامات العامة فدفيفه أكثر من صفيفه، إلاّ أنه ورد في الروايات كونه من المسوخ، فإن كانت الروايات معتبرة خصصت دليل الحلية.

لا يقال: بين الدليلين عموم من وجه.

لأنه يقال: دليل حرمة المسوخ هو المقدم لكونه آبياً عن التخصيص.

وروايات تحريمه وكونه من المسوخ وإن كانت ضعيفة سنداً إلاّ أن المشهور عملوا بها، وفي الرياض بلا خلاف(4)، فالأقوى حرمته.

ص: 355


1- المختصر النافع: 244؛ شرائع الإسلام 4: 751؛ اللمعة الدمشقية: 218.
2- الكافي 6: 551.
3- مجمع الفائدة 11: 183؛ كفاية الأحكام 2: 602؛ رياض المسائل 12: 168.
4- رياض المسائل 12: 166.

الفصل السادس: حكم بيض الطيور

اشارة

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: تبعية البيض للطير

استدل على تبعية البيض للطير بأدلة ثلاثة(1):

الدليل الأول: الإجماع(2).

الدليل الثاني: الظهور العرفي في إطلاق الحلية، فلو قال المولى: كذا حلال كان معناه حلية كل أجزائه المتصلة والمنفصلة، إلا ما خرج بدليل.

الدليل الثالث: الروايات المعمول بها.

ومنها: خبر ابن أبي يعفور، عن الصادق(علیه السلام): «إن البيض إذا كان مما يؤكل لحمه فلا بأس به وبأكله وهو حلال»(3).

ومنها: خبر داود بن فرقد، عن الصادق(علیه السلام): «كل شيء لحمه حلال فجميع ما كان منه من لبن أو بيض أو أنفحة فكل ذلك حلال طيب»(4).

ويدلان على حرمة بيض ما لا يؤكل لحمه، الأول بمفهوم الشرط،

ص: 356


1- مستند الشيعة 15: 95؛ مجمع الفائدة والبرهان 11: 246.
2- مستند الشيعة 15: 95.
3- الكافي 6: 325؛ وسائل الشيعة 23: 81.
4- الكافي 6: 325؛ وسائل الشيعة 25: 81.

والثاني بمفهوم الوصف إن قلنا بحجيته.

ثم إنه في حرمة البيض لا فرق بين حرمة الطير بالذات كالعقاب أو بالعرض كالجلال. لظهور دليل الحرمة العرضية في حرمة البيض أيضاً.

المسألة الثانية: اشتباه البيض

لو وجد بيض لا يعلم أنه لطير محلل أو محرم فمع عدم تساوي طرفيه - كبيض الدجاج - كان حلالاً، ومع التساوي كان حراماً، والظاهر التلازم بين العلائم المحللة وعدم تساوي الطرفين.

وادعى البعض تساوي طرفي بيض بعض الطيور المحللة، وعلى فرض ثبوته لا يضر الأمر بالعلامة المذكورة؛ لأنها واردة بالنسبة إلى البيض المجهول، فمع العلم بكون الطير محللاً كان بيضه حلالاً وإن تساوى طرفاه. والحاصل: إن العلامة في صورة الجهل، ومع العلم فلا مجال لها.

لكن قد يقال: وبناءً على صحة هذا الادعاء يحدث التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه، حيث إنه لو تساوى طرفا بيض طير محلل تعارض فيه دليل تبعية البيض للطير مع دليل حرمة ما تساوى طرفاه، وكذا التعارض فيما لو لم يتساو طرفا بيض طير محرم.

وهنا تتقدم التبعية لجهتين:

الأولى: فهم الفقهاء حيث جعلوا التبعية هو الأصل.

الثانية: صريح بعض روايات(1) أن علامة التساوي إنما هي في صورةالاشتباه، فمع العلم بحكم الطير لا تصل النوبة إلى العلامة المذكورة.

ص: 357


1- وسائل الشيعة 24: 155.
صور اشتباه البيض

ولا يخفى أن الصور في منشأ الاشتباه ثلاثة:

الأولى: أن يعلم أنه بيض اللقلق - مثلاً - لكن لا يعلم أنه حلال أو حرام، وهنا لابد من الفحص عن حكم لحمه، فلا تصل النوبة إلى علائم البيض.

الثانية: اختلاط البيض المحرم بالمحلل - سواء كانت الحرمة بالذات أو بالعرض - وهنا مورد العلم الإجمالي، فالمشهور وجوب الاجتناب؛ لأن الشبهة محصورة.

وقد مرّ الكلام فيه سابقاً، وقد يُناقش بما حاصله: إنه إنما تصل النوبة إلى العلم الإجمالي وجريان الأصل العملي إن لم يكن هنالك دليل آخر يتقدم عليه، وفي الماليات دليل الآخر هو الإسراف، وهو دليل اجتهادي.

لكن يمكن أن يقال: إن دليل الحرام يجري في مورد العلم الإجمالي - حيث يحكم العقل بلزوم الاحتياط في أطرافه امتثالاً لحكم المولى - وذلك الدليل يكون حاكماً على دليل الإسراف، مضافاً إلى أنه أخص من المدعى كما لو لم يكن مالكاً لها بل وجدها في أجمة فليس تركها من الإسراف حتى لو علم بحليتها، فتأمل.

الثالثة: الجهل بالطير، وهذا هو مورد الروايات(1)، كما لو دخل أجمة فوجد بيضاً لا يعلم لأي طائر هو، وهنا لو أمكن الفحص - بأن ينتظر حتىيعود الطائر مثلاً فيعرفه - وجب، بناءً على القول بوجوب الفحص في

ص: 358


1- الكافي 6: 248-249.

الشبهات الموضوعية، كما هو مختار جمع من الفقهاء(1)، وأمّا بناء على مختار جمع آخر من عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية كان الحكم العمل بمقتضى العلامة المذكورة؛ وذلك للروايات المعمول بها، ومنها: صحيحة(2) محمد بن مسلم، عن أحدهما‘: «إذا دخلت أجمة فوجدت بيضاً فلا تأكل منه، إلا ما اختلف طرفاه»(3).

المسألة الثالثة: النطفة والدم في البيض

النطفة في البيض ما لم تتبدل إلى الدم طاهرة وحلال؛ للسيرة القطعية وإطلاق الأدلة(4).

وأمّا حكم الدم في البيض، ففيه أقوال ثلاثة(5):

القول الأول: الحرمة مطلقاً؛ لإطلاق أدلة حرمة الدم ونجاسته، وعليه يكون منجساً لبقية البيض؛ لأنه سائل.

القول الثاني: الحلية مطلقاً؛ لانصراف الأدلة عن مثله، بعد عدموجود

ص: 359


1- فرائد الأصول 2: 442.
2- الشيخ الطوسي بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن العلاء، عن محمد بن مسلم... .
3- التهذيب 9: 15؛ وسائل الشيعة 24: 154.
4- وفيه: إن إطلاق دليل حلية البيض الشامل للنطفة معارض بإطلاق دليل حرمة النطفة ونجاستها الشامل لنطفة البيض، فيتعارضان بالعموم من وجه، فدليل الحلية يشمل جميع أجزاء البيض بما فيها النطفة، ودليل الحرمة يشمل جميع النطف بما فيها نطفة البيض، فيكون مورد التعارض نطفة البيض، وحيث تعارضا ووصل الأمر إلى التساقط، فلابد من الرجوع إلى الدليل الفوقاني، وهو حلية كل شيء (المقرر).
5- الفقه 76: 153.

إطلاق في أدلة نجاسة الدم، وأمّا قوله تعالى: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ}(1) فالمحرم منه هو الدم المسفوح، كما يظهر من قوله تعالى: {إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا}(2).

لا يقال: إن إطلاق الآية الأولى كافٍ في الحكم بحرمة مطلق الدم ولا تقيّده الآية الثانية، إذ هما مثبتان ولا تقييد في المثبتات!

لأنه يقال: إن الآية الثانية دلّت على الحصر - عبر النفي والاستثناء - فمفهومها عدم حرمة الدم غير المسفوح، وبذلك تُقيّد الآية الأولى، فتأمل.

ويؤيده حلية المتبقي في المذبوح لانصراف دليل الحرمة عنه، حيث إنه ليس من الدم المسفوح.

وبهذا القول أفتى بعض الفقهاء ورجحه السيد الوالد صناعة في موسوعة الفقه(3).

وذهب البعض إلى لزوم خلطه قبل الأكل احتياطاً ليستهلك، كما في دم الفم المستهلك، إذ لا دليل على نجاسة هذا الدم بعد عدم وجود إطلاق في أدلة نجاسته، ولعلّ دليل حرمة أكل الدم وشربه تشمله - حتى لو لم يكن نجساً إذ لا تلازم بين الحرمة والنجاسة - فبالاستهلاك يكون من السالبة بانتفاء الموضوع.

القول الثالث وربما هو المشهور: إنه لو كان الدم في غشاء ألقىمع

ص: 360


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- سورة الأنعام، الآية: 145.
3- الفقه 76: 153.

غشائه، ولا بأس بالباقي، حيث إن الغشاء مانع عن اختلاط الدم بالسائل، فلا يسري إلى البيض وإن كان مائعاً، وهذا هو الأقرب.

ص: 361

الفصل السابع: في حرمة الميتة

اشارة

وتفصيل البحث في كتاب الطهارة، لكن هنالك بعض الفروع التي ترتبط بالمقام، فلا يخلو التطرق إلى أصل البحث من فائدة.

والمراد من الميتة كل حيوان يموت من دون تذكية شرعية، سواء أمات حتف أنفه أم فقد شرطاً من شروط التذكية.

وقد ذكر بعض مصاديق الميتة في الآيات والروايات وكلمات الفقهاء، كالمتردية(1) والموقوذة(2)، والنطيحة(3)، والمنخنقة، والمصبورة(4)، والمجثمة(5).

فروع تتعلق بالمسألة

وهنا فروع:

الفرع الأول: في حكم اللحم المستورد

اللحم إن كان مستورداً من البلاد الإسلامية فهو حلال؛ لحلية ما في

ص: 362


1- أي: التي ماتت بسبب السقوط من شاهق.
2- أي: المضروبة بالحجر أو العصا حد الموت.
3- أي: التي ضربت بقرن حيوان آخر حتى ماتت.
4- أي: جرحت حتى ماتت.
5- أي: جعلت مرمى للسهام.

سوق المسلمين.وأمّا المستورد من بلاد الكفر فله صور:

الصورة الأولى: أن لا تكون عليه علامة الحلية، فهو حرام بلا إشكال لاشتراط الحلية بالتذكية، ومع الشك فالأصل عدمها، ونجس على الأصح إن كان ممّا له نفس سائلة لكونه ميتة لاتحاد غير المذكى والميتة شرعاً فلا يقال: إن استصحاب عدم التذكية مثبت كما مرّ.

الصورة الثانية: أن تكون عليه علامة الحلية كالكتابة وما أشبه، فلو أوجب الاطمئنان كان حجة؛ لأنه علم عرفي فتشمله أدلة حجية القطع. وأمّا مع عدم الاطمئنان فلا يحكم بطهارته، سواء أخذ من يد مسلم أم غير مسلم، فليست يده حجة؛ للعلم بسبق يد الكافر عليها.

نعم، لو أخبر العادلان بذبحه شرعاً قُبل لحجية قولهما، وكذا لو أخبر الثقة الواحد على اختلاف في المبنى.

الفرع الثاني: في حكم وجدان لحم لا يعلم أنه مذكى أو ميتة

لو وجد لحم لا يعلم أنه مذكى أو ميتة، ولم يسبقه يد مسلم، عرض على النار، فإن انبسط فهو ميتة، وإن انقبض فهو حلال ومذكى على المشهور(1)، بل قال في الدروس: «ويكاد أن يكون إجماعاً»(2)، وبه رواية معتبرة على الأقوى لتوثيق رجالها كلهم إلاّ إسماعيل بن عمر فلم يرد فيه توثيق خاص، لكن يمكن توثيقه بأنه من مشايخ البزنطي، كما يمكن القول باعتبارالرواية

ص: 363


1- كفاية الأحكام 2: 618؛ كشف اللثام 9: 312؛ رياض المسائل 12: 229.
2- الدروس الشرعية 3: 14.

لأن البزنطي ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، مضافاً إلى جبرها بعمل المشهور. وهي ما ورد في الكافي وغيره: عن شعيب، عن أبي عبد الله(علیه السلام): «في رجل دخل قرية فأصاب بها لحماً لم يدر أذكي هو أم ميت؟ قال: يطرحه على النار فكلّ ما انقبض فهو ذكي، وكلّ ما انبسط فهو ميت»(1).

ونسب الصدوق في من لا يحضر إلى الصادق(علیه السلام) أنه قال: «إذا وجدت لحماً ولم تعلم أذكي هو أم ميتة فألقِ قطعة منه على النار، فإن انقبض فهو ذكي، وإن استرخى على النار فهو ميتة»(2).

ومراسيله أقوى من مسانيده على ما ذهب إليه البعض(3).

فلا إشكال في أصل المسألة، وإنما الكلام في بعض صورها:

الصورة الأولى: إن بعض الفقهاء(4) عممّ الحكم إلى كل ما لم يُعلم أنه ذُكّي شرعاً، بأن لم يعلم أنه ذبح باتجاه القبلة أم لا مثلاً، فيكون مآل كلامه إلى أن العلامة المذكورة غيبية، حيث إنه من الناحية الطبيعية والفيزيائية لا يحدث فرق في اللحم، سواء ذبح على القبلة أم عكسها.

وفيه نظر؛ فالظاهر أن العلامة طبيعية، فإن الميت حتف أنفه حيث لم يخرج منه الدم انبسط لحمه على النار، وإن خرج الدم منه بالتذكية انقبض،

ص: 364


1- الكافي 6: 261؛ تهذيب الأحكام 9: 48؛ وسائل الشيعة 24: 188. وسندها: الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن إسماعيل بن عمر... .
2- من لا يحضره الفقيه 3: 325؛ وسائل الشيعة 24: 189.
3- الحبل المتين: 11؛ كتاب الصلاة، للكاظمي 2: 262.
4- مسالك الأفهام 12: 97؛ رياض المسائل 12: 231.

فالانبساط والانقباض علامة طبيعية ترتبط بقانون الفيزياء، لا أنها علامة غيبية تحصل بالإعجاز، فلو اشتبه أنه مات حتف أنفه - أي: الميتة العرفية - أم لا اختبر بالعلائم، وأمّا فاقد الشرائط الشرعية - أي: الميتة الشرعية لا العرفية - فلا مجال للاختبار المذكور، حيث إنه لا تعمم العلامة إلى كل ميتة، وعليه لو علم أنه إمّا ذبح باتجاه القبلة أو خلفها لم تنفع العلامة المذكورة.

الصورة الثانية: إن العلامة المذكورة طريقية، ولا موضوعية لها، وعليه لو انعكس الأمر، بأن ذبح بالشرائط الشرعية، ومع ذلك انبسط لحمه على النار لم يحرم، أو مات حتف أنفه ومع ذلك انقبض لم يحل، فالعلامة إنما تجري في صورة الجهل، لا العلم الوجداني ولا التنزيلي، أي: الظن الذي هو حجة شرعاً.

وهذا هو ظاهر قوله(علیه السلام): «إذا وجدت لحماً لا تعلم أذكي هو أم ميتة»، وقوله(علیه السلام): «لم يدر أذكي هو أم ميت».

الصورة الثالثة: ظاهر الروايات عدم شمول العلامة المذكورة للسمك، فإن السمك وإن كان نوعاً من اللحم لكن لا يطلق عليه اللحم عرفاً، أو كلمة اللحم المطلق منصرف عنه.

الصورة الرابعة: لو تحقق العلم أو الأمارة الشرعية، كيد المسلمين وسوقهم، لم تنفع العلامة المذكورة.

الصورة الخامسة: لزوم الفحص وعدمه قبل الاختبار بالعلامة المذكورة تابع للمبنى في الفحص في الشبهات الموضوعية.

ص: 365

الفرع الثالث: في اختلاط المذكى بالميتة

لو اختلط اللحم المذكى بالميتة ففيه ستة أقوال(1):

الأول: وجوب الاجتناب عن الاثنين بمقتضى العلم الإجمالي لو كانت الشبهة محصورة، وهذا هو الأقرب.

الثاني: وجوب الاجتناب عن القدر المعلوم وجواز التصرف في الباقي، ومبنى هذا القول عدم لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي، بل التخيير، فيجوز الاقتحام بمقدار لا تتحقق معه المخالفة القطعية، واختاره المحقق الأردبيلي(2) وصاحب المستند(3)، ومحل بحثه الأصول.

ولهذا القول مؤيدات:

المؤيد الأول: الاجتناب عنهما إسراف، وحرمة الإسراف دليل اجتهادي، وهو مقدم على الأصل العملي.

وهو محل تأمل؛ لأن دليل حرمة الميتة أيضاً اجتهادي، ولامتثاله يلزم الاجتناب عنهما، وقد مرّ أن الأقرب حكومة دليل الحرمة على دليل الإسراف.

المؤيد الثاني: إن الحكم بالقرعة لإخراج الموطوء من القطيع، حتى لو كانت أطرافه قليلة، مع أن مورد العلم الإجمالي يؤيد أن في مثل اللحوم لا مجال للاحتياط.

المؤيد الثالث: لزوم التقسيم في الأمور المالية لو اشتبهت، مع العلم

ص: 366


1- الفقه 76: 166.
2- مجمع الفائدة 11: 271.
3- مستند الشيعة 15: 152.

بمخالفة العلم الإجمالي؛ وذلك لأن العلم الإجمالي غير منجز فيالماليات، وفي المقام اللحم من الماليات فلابد من التخيير بينهما.

القول الثالث: القرعة لأنها لكل أمر مشكل، وقد مضى الكلام فيها.

القول الرابع: عرضهما على النار؛ وذلك للملاك في اللحم المشكوك كونه مذكى أو ميتة، فإنه وإن كان مورد الرواية هو اللحم الواحد المشتبه، لكن ملاكه جارٍ فيما نحن فيه.

لكنه محل تأمل؛ للفرق بين الموردين، فإن أصل التكليف مشكوك في مورد الرواية، بخلاف المقام حيث لا يعلم المكلف به، فمقتضى القاعدة الاحتياط بالاجتناب عنهما.

القول الخامس: التخيير بين القرعة والعرض على النار، فهو مقتضى الجمع بين الدليلين.

وفيه نظر؛ لعدم جريان دليل القرعة في موارد العلم الإجمالي إلاّ فيما فيه النص، وعدم تمامية الملاك في العلامة المذكورة، هذا مبنى، وأمّا بناءً على جريان الدليلين فإن دليل العرض على النار أخص من القرعة فيقدّم عليها، ومع فرض العموم من وجه بينهما فالمآل التعارض والتساقط لا التخيير.

القول السادس: التفصيل بين ما لو ماتت حتف أنفها فتعرض على النار، وبين ما لو لم تتم التذكية الشرعية - بأن فقد بعض الشرائط - فالقرعة.

ومبناه محل تأمل؛ لعدم الملاك في العلامة ولا مورد للقرعة؛ لعدم العمل بها في المقام.

فالمعتمد هو القول الأول كما عليه مشهور المتأخرين.

ص: 367

الفرع الرابع: في حكم بيع المختلط

لو اختلطت الميتة بالمذكى فهل يجوز بيعهما لمن يستحل الميتة كالنصارى؟

فيه أقوال ثلاثة(1): الجواز، وعدمه، وما اختاره العلامة(2) من أنه صورة بيع وواقعه استنقاذ المال، وهذه الأقوال هي:

القول الأول وهو المشهور: الجواز، لصحيحة الحلبي(3) عن الصادق(علیه السلام): «إذا اختلط الذكي والميتة باعه ممن يستحل الميتة ويأكل ثمنه»(4).

وصحيحته الأخرى(5) عن أبي عبد الله(علیه السلام): «أنه سئل عن رجل كانت له غنم وبقر، فكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة، ثم إن الميتة والذكي اختلطا فكيف يصنع به؟ قال: يبيعه ممن يستحل الميتة ويأكل ثمنه، فلا بأس به»(6).

وهو الحق بعد اعتبار صحة سندهما ووضوح دلالتهما وعمل المشهور بهما.

القول الثاني: وهو ما ذهب إليه ابن إدريس(7) من بطلان البيع لأدلة خمسة:

ص: 368


1- المهذب 2: 442؛ مختلف الشيعة 8 : 319.
2- مختلف الشيعة 8 : 319.
3- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبي المعزا، عن الحلبي... .
4- الكافي 6: 260؛ وسائل الشيعة 24: 187.
5- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي... .
6- الكافي 6: 260؛ وسائل الشيعة 24: 188.
7- السرائر 3: 113.

الدليل الأول: مقتضى القاعدة حرمة الانتفاع بالميتة مطلقاً منفرداً أو منضماً.

وهو محل تأمل؛ فليس ذلك مطلقاً، بل مع فرض المنفعة المحللة يجوز الانتفاع بها، كما لو جعلت سماداً أو دهنت السفينة بشحمها، وعلى فرض تمامية المبنى فإن الرواية تخصص القاعدة.

الدليل الثاني: إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه.

وفيه: إنه دليل عام، والخاص يتقدم عليه.

الدليل الثالث: إنه يشترط في صحة البيع تطابق قصد البائع والمشتري وهو مسلّم، فإن العقود تتبع القصود، فلو باعه بعشرة وقصد البائع دنانير لكن قصد المشتري دراهم بطلت المعاملة، وفي المقام البائع يقصد بيع المذكى منهما والمستحل يشتري الاثنين معاً، وحيث اختلف القصدان بطلت المعاملة.

وفيه نظر: حيث إن البائع يقصد بيعهما معاً، ولا إشكال حتى على فرض قصده أحدهما، فإن تبعية العقود للقصود تخصص بالنص الخاص، كما هو الحال في قصد النكاح المنقطع ونسيان ذكر المدة في العقد، حيث ينقلب إلى الدائم على المشهور(1)، مع أنه خلاف قصدهما، فإن التشريع بيد الشارع.

الدليل الرابع: إن الكافر مكلف بالفروع كما أنه مكلف بالأصول؛ لأن الحكم لا يختص بالمسلمين، بل يشمل كل بالغ عاقل، فكما يحرم عليه

ص: 369


1- الروضة البهية 5: 109؛ كفاية الأحكام 2: 169؛ رياض المسائل 10: 289.

أكل الميتة كذلك يحرم شراؤها، وهو قادر على الإتيان بالفروع؛ لقدرته علىمقدماتها، كسائر الواجبات التي لا يمكن الإتيان بها إلا بالإتيان بمقدماتها.

والجواب: إن قاعدة الإلزام حاكمة على ذلك، ولا منافاة بينها وبين العقاب الأخروي؛ لعدم الالتزام بالتكليف، فلو باع الكافر الخمر صح بيعه وحل ثمنه، وجاز للمسلم أخذ الثمن منه بشروطه، بخلاف بيع المسلم للخمر، هذا ولكن في جريان قاعدة الإلزام هنا إشكالاً، وذلك لأن مفادها إلزامهم، لا إلتزام المسلمين بما ألزم الكفار به أنفسهم، نعم بعد إلزامهم بما التزموا يكون دليل الإلزام حاكماً، فتأمل، فالأصح الجواب بورود النص الخاص.

الدليل الخامس: رواية الجعفريات عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «إنه سئل عن شاة مسلوخة وأخرى مذبوحة عمى الراعي أو على صاحبها، فلا يدرى الذكي من الميتة، قال(علیه السلام): يرمى بها جميعاً إلى الكلاب»(1).

والجواب: ضعف سندها أولاً.

وثانياً: إنها ليست في مقام بيان الحكم من كل الجهات، بل في مقام بيان عدم جواز أكلهما، فلا إطلاق لها من جهة البيع وعدمه، بخلاف صحيحتي الحلبي، حيث بينتا الحكم من جهة البيع، وعلى فرض الإطلاق فهما أقوى منها.

القول الثالث: ما اختاره العلامة الحلي(2)، حيث أراد الجمع بين الروايتين

ص: 370


1- مستدرك الوسائل 13: 73؛ النوادر: 207: «يرمى بهما...».
2- مختلف الشيعة 8 : 319-320.

وبعض وجوه ابن إدريس، فذهب إلى أنه صورة بيع وأمّا حقيقته فهو استنقاذ ماله بهذه الطريقة.ويرد عليه: أولاً عدم تمامية الأدلة التي ساقها ابن إدريس كما مرّ.

ثانياً: ظهور الروايتين(1) في البيع، ولا وجه لرفع اليد عنه.

وثالثاً: لا تلازم بين من يستحل وبين غير محترم المال حتى يستنقذ ماله، فالذمي يستحل وهو محترم المال، بل قد يكون المستحل من المسلمين، كالعامة الذين لا يرون اشتراط كون الذابح مسلماً، فلو اختلط لحم ذكاه مسلم بلحم ذكاه غير مسلم فيجوز بيعه للعامة، وليس استنقاذاً، بل قد يكون المستحل من الخاصة، كما لو اختلفا في شروط الذبح، كلزوم فري الأوداج الأربعة أو كفاية الاثنين، فلو قطع من يرى الأول اثنتين منها فحرمت عنده، ثم اختلط بالمذكى فوجب عليه الاجتناب عنهما، ومع ذلك يجوز له بيعهما ممن يرى الثاني، مع إخباره بالأمر، وليس ذلك من الاستنقاذ، فالحكم على الاستنقاذ خلاف الظاهر، وخلاف الكثير من المصاديق.

الفرع الخامس: في جواز بيع الميتة ممن يستحلها

هل يجوز بيع الميتة مع عدم الخلط ممن يستحلها؟ فيه أقوال(2):

القول الأول: الجواز لقاعدة الإلزام، وقد مرّ الإشكال في جريانها في أمثال المورد.

القول الثاني: عدم الجواز مطلقاً؛ لأن الكافر مكلف بالفروع فليس في

ص: 371


1- الكافي 6: 260.
2- الفقه 76: 175.

المبيع منفعة محللّة عقلائية، كما أن بيعه له إعانة على الإثم.

وقد يقال: إن المحرم هو التعاون على الإثم لا مجرد الإعانة، وخاصة لوكانت الواسطة فاعلاً مختاراً، كبيع العنب فيعمله خمراً، وقد ذكر تفصيله الشيخ الأعظم في المكاسب(1).

القول الثالث: التفصيل بين ميتة يملكها فيجوز بيعها لمن يستحل لقاعدة الإلزام، وبين ميتة لم يكن يملكها، بأن وجد الميتة في الصحراء، فلا يملكها حتى لو أخذها، بل له حق الاختصاص، فكيف يبيعها ولا بيع إلا في ملك؟

وفيه: لا وجه للتفصيل المذكور، حيث يجوز بيع حق الاختصاص، فإنه معاملة عقلائية(2). مضافاً إلى الإشكال في عدم ملكيته لها بالحيازة.

والأقرب هو الثاني.

ص: 372


1- كتاب المكاسب 1: 123.
2- وفيه: إنه خروج موضوعي عن البحث، فالكلام في بيع الميتة لا في بيع حق الاختصاص (المقرر).

الفصل الثامن: في محرمات الذبيحة

اشارة

يحرم من الذبيحة المحللة بعض الأجزاء، وقد اتفق الفقهاء على حرمة خمسة منها، واختلفوا في عشرة(1)، وإن كان المشهور(2) شهرة عظيمة - بالإضافة إلى النصوص - حرمة تسعة من العشرة.

والخمسة هي: الطحال، والقضيب، والبيضة، والدم، والفرث(3).

والتسعة هي: المثانة، والمرارة، والمشيمة(4)، والفرج(5)، والنخاع، والعلباء(6)، والغدد، وخرزة الدماغ(7) وسواد العين.

وأمّا العاشر فهو ذات الأشاجع(8)، وقد ذهب المشهور(9) إلى حرمتها، لكن لا دليل عليه.

وقبل الخوض في تفصيل المحرمات لابد من الإشارة إلى مطلبين:

ص: 373


1- مجمع الفائدة 11: 239.
2- المهذب 2: 441؛ مختلف الشيعة 8: 313؛ مسالك الأفهام 12: 61.
3- الفرث: هو ما في الأمعاء قبل أن يصير مدفوعاً.
4- المشيمة: هي الكيس الذي يحوي الجنين.
5- الشامل للقبل والدبر.
6- العلباء: هما عصبان من الرقبة إلى الذيل.
7- خرزة الدماغ: شيء مدور في المخ يشبه الغدة.
8- ذات الأشاجع: شيء يشبه الغدة في محل اتصال نعل الدابة بعظام أو غضاريف اليد.
9- مجمع الفائدة 11: 239؛ كشف اللثام 9: 277.

الأول: اختلفت روايات تحريم أعضاء الذبيحة في العدد بين العشرة والسبعة والثلاثة...(1) ولا منافاة بينها، حيث لا مفهوم للعدد كما أنها من المثبتات، كما هو الحال في سائر الموارد، كمبطلات الصلاة وأجزائها وشرائطها، والنجاسات، وذلك جارٍ في كل أبواب الفقه، بل في المسائل الأخلاقية والاجتماعية، فإن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، وربما يكون من أسباب ذلك مراعاة حال السامع، فيذكر ما هو محل ابتلائه عادة.

الثاني: إن بعض الروايات الواردة معتبرة، لكن أكثرها ضعيفة، إلا أن الشهرة العظيمة - بل التسالم - تجبر ضعفها، فتكون حجة.

ومنها: المعتبرة التي رواها البرقي في المحاسن عن أبيه، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن الإمام الكاظم(علیه السلام): «حرم من الشاة سبعة أشياء: الدم والخصيتان والقضيب والمثانة والطحال والغدد والمرارة»(2).

قيل: إن إبراهيم مشترك بين ثقة وضعيف، فلا يعتمد عليها، لكن الظاهر اتحاده، ووجهه ورود اسمه في بعض كتب الرجال مع ذكر عشيرته (الأسدي)(3)، وفي بعضها مع ذكر بلدته (الصنعاني(4)(5)، وهذا لا يفيد التعدد. نعم، ذكر أنه واقفي(6) لكن لا يضر بوثاقته.

ص: 374


1- راجع الروايات في وسائل الشيعة 24: 171-178.
2- المحاسن 2: 471.
3- فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي): 20.
4- نسبة إلى صنعاء لكن على غير قياس.
5- اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) 2: 705.
6- رجال الطوسي: 332.

ولا يخفى أن تمام الأربعة عشر وردت في الروايات المتضافرةالمنجبرة، وبناء العقلاء على اعتبار مثل ذلك، بالإضافة إلى عمل المشهور، فلا بحث في حرمتها.

معنى المشيمة وحكمها

وفي معنى المشيمة قولان، والصحيح هو الكيس الذي فيه الجنين، كما هو مشهور أهل اللغة(1)، وصرح به بعض الفقهاء(2)، لا القرين(3).

وأمّا القرين فمع ذبح الأم الحامل فحلال؛ لأصالة الحلية، لكن لو ولدت فخرج القرين كان حراماً؛ لحرمة الجزء المبان عن الحي.

معنى الفرج وحكمه

والظاهر أن كلمة الفرج كناية عن كل الأعضاء التناسليّة، حتى أنه يشمل القضيب، لكن حيث ذكر القضيب بالخصوص فلا يكون مراداً، فهو يطلق على القبل والدبر من الذكر والأنثى، ولا يخفى أن العرب لا يستخدمون الألفاظ الصريحة فيما يستقبح ذكره، بل يعبر عنه بالكناية، فحتى الفرج ليس اسم الموضع، بل بمعنى الشق في الجدار(4) ونحوه، وفي الآية الكريمة حول السماء: {وَمَا

لَهَا مِن فُرُوجٖ}(5).

ص: 375


1- الصحاح 5: 1963؛ معجم مقاييس اللغة 3: 236؛ لسان العرب 6: 154.
2- مختلف الشيعة 8 : 315؛ رياض المسائل 12: 185.
3- مجمع الفائدة 11: 243، وفيه: «والمشيمة: قرين الولد الذي يخرج معه...».
4- معجم مقاييس اللغة 4: 498.
5- سورة ق، الآية: 6.

وفي بعض الكتب الفقهية(1) يمكن المراد خصوص القبل، والذي يعبر عنه ب (الحيا)(2)؛ لأن سيرة المتشرعة عدم الاجتناب عن المخرج في مثل الدجاج.

وفيه: إن الاحتمال ضعيف، ولم نعلم بمثل هذه السيرة.

البيضتان

وحرمتها مسلّمة وقام الإجماع(3) عليها، وربما تكون علة التحريم أن أكثر مكوناتها المني.

والمراد خصوص البيضة، ولا يشمل الجلد الذي هو وعاء لها؛ لأن دليل الحرمة خاص بالأنثيين، والجلد حافظ لهما وليس منهما.

المرارة

وأمّا المرارة فلها جلد تشملها لكنها رقيقة جداً، فتعتبر عرفاً منها، فدليل تحريمها يشملها.

سائر الأعضاء

وقد ذكرت في الروايات(4) أشياء محرمة أخرى، لكن حيث قام الإجماع أو الشهرة على عدم الحرمة، بالإضافة إلى ضعف السند، لم يمكن الذهاب إلى حرمتها، وأقصى ما يمكن القول به هو الكراهة، ومنها: الرحم،

ص: 376


1- الحدائق الناضرة 3: 6؛ رياض المسائل 7: 365.
2- مختلف الشيعة 8 : 313؛ المهذب البارع 4: 216.
3- مختلف الشيعة 8 : 314؛ كشف اللثام 9: 277؛ رياض المسائل 12: 184.
4- وسائل الشيعة 24: 171.

والكليةوالعروق، وآذان القلب.

الرحم

ولا وجه للقول بتحريم الرحم بعد ضعف السند وإعراض المشهور، وإن قال البعض(1) بأنه داخل في المشيمة، لكنه غير تام؛ لأنهما شيئان، فالمشيمة مع الجنين وتخرج معه، والرحم موجود لكل أنثى، وهو محل تنمية الطفل، فلابد من القول بالكراهة، ولا يخفى أنه لولا إعراض المشهور لأمكن القول بالحرمة؛ لتعدد الروايات الواردة في تحريمه(2).

العروق

وأمّا العروق فهي التي يجري فيها الدم بشرط كونه عرقاً أصلياً لا صغارها، فإن اللحم يحتوي على عروق ناعمة يجري فيها الدم، فليس المراد من العروق الواردة في الروايات(3) المحرمة إلا تلك العروق الأصلية أو الكبيرة، ومع ذلك فما دل على حرمتها محمول على الكراهة، كما أنه ليس المراد من العروق الأعصاب. نعم، النخاع والعلباوان - وهما من الأعصاب - محرمان كما سبق.

الكلية

وأمّا الكلية ففيها روايتان ضعيفتان، بأن النبي(صلی الله علیه و آله) لم يكن يأكلها لقربها من المبال(4)؛ وذلك لأنها مركز تصفية سموم البدن ومنها تنتقل إلى المثانة،

ص: 377


1- مستند الشيعة 15: 136.
2- الخصال: 433؛ وسائل الشيعة 24: 173-174.
3- وسائل الشيعة 24: 171.
4- علل الشرائع 2: 562؛ وسائل الشيعة 24: 176.

ومع ذلك لم ينهَ النبي(صلی الله علیه و آله) عنها؛ ولذا ذهب المشهور(1) إلى الكراهة، لكن أضاف السيد الوالد في الفقه(2) بشرط عدم الإسراف، وإلا فيقدم الاقتضائي، وترفع الكراهة على تفصيل مذكور في محله.

فرع: حكم طبخ الحيوان الكامل

لو طبخ شاة كاملة فلا يحرم ماؤه، فإن حرمة الأعضاء لا تسري إلى حرمة الماء، كما هو سيرة المتشرعة من إلقاء العضو دون الماء؛ وذلك لانصراف دليل الحرمة عنه، حتى وإن ذابت الأجزاء المحرمة في الماء.

وأمّا لو طبخ العضو المحرم فقط فشُرب مائه فهو محل إشكال؛ لاحتوائه على أجزاء الحرام، بخلاف المجموع الذي لا يحتوي إلا على شيء قليل جداً منه.

ويشهد لذلك ما روي عن نهي الإمام علي(علیه السلام) القصابين عن بيع الطحال ثم إثبات الفرق بينهما بذوبان الطحال في الماء وصيرورته دماً دون الكبد(3).

ص: 378


1- الخلاف 6: 29؛ كشف اللثام 9: 281؛ رياض المسائل 12: 190.
2- الفقه 76: 187.
3- الكافي 6: 253؛ وسائل الشيعة 24: 171، وفيه: «قال له بعض القصابين: يا أمير المؤمنين ما الطحال والكبد إلاّ سواء! فقال له: كذبت يا لكع، ايتني بتورين من ماء، أنبّئك بخلاف ما بينهما، فأتي بكبد وطحال وتورين ماء، فقال: شقّوا الكبد من وسطه، والطحال من وسطه، ثم أمر فمرسا في الماء جميعاً، فابيضت الكبد ولم ينقص منها شيء، ولم يبيضّ الطحال، وخرج ما فيه كلّه، وصار دماً كلّه، حتى بقي جلد الطحال وعرقه، فقال: هذا خلاف ما بينهما، هذا لحم وهذا دم».
فرع: شوى الطحال مع الكبد

لو شوى الكبد مع الطحال في سفود، ثم تقاطر ماؤه على الخبز، فلو كان الطحال أعلى من الكبد حرم الكبد والجوذاب(1)،

ولو كان أسفل حلاّ، كما في موثقة عمار الساباطي(2)، وفي بعضها: لو تمزق الطحال فسال حرم الكبد والجوذاب وإلا لم يحرم(3).

ومقتضى الجمع بين الروايات أن علة حرمة الطحال أنه دم، فيحرم أكله وما سال عليه، ولو لم ينفذ إلى الكبد أو الخبز جاز أكله بعد غسله لزوال الحرام عنه، وأمّا لو نفذ فمشكل.

وأمّا لو طبخ الكبد مع الطحال في القدر فيحرم ما في القدر لنفوذ الدم في مائه.

وأمّا لو طبخ الحلال والحرام غير النجس كالجري والسمك ذات الفلس معاً، حرم الجميع لاختلاط أجزاء الحرام في مائه(4).

ص: 379


1- الجوذاب بالضم: خبز أو حنطة أو لبن وسكر وماء نارجيل علق عليها لحم في تنور حتى يطبخ.
2- الكافي 6: 262؛ وسائل الشيعة 24: 202، وفيه: الكليني، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدّق بن صدقة، عن عمار بن موسى، عن أبي عبد الله(علیه السلام): «... وسئل(علیه السلام) عن الطحال في سفود مع اللحم وتحته خبز وهو الجوذاب أيؤكل ما تحته؟ قال: نعم، يؤكل اللحم والجوذاب ويرمى بالطحال لأن الطحال في حجاب لا يسيل منه فإن كان الطحال مشقوقاً أو مثقوباً فلا تأكل ما يسيل عليه الطحال».
3- من لا يحضره الفقيه 3: 339؛ تهذيب الأحكام 9: 80؛ وسائل الشيعة 24: 202.
4- وهذا بخلاف طبخ رأس الذبيحة حيث لا يحرم، فإن الحرام فيه قليل جداً ومستهلك، كما مرّ (السيد الأستاذ).

ولكن أفتى بعض الفقهاء(1)

بأن المذبوح في البلاد الأجنبية حراموليس بنجس، أما الحرمة فلعدم العلم بالتذكية، وأمّا النجاسة فلأن الحكم بكونه ميتة أصل مثبت؛ لأنه أثر عقلي أو عادي لاستصحاب عدم التذكية، وعليه يجوز طبخه وشرب مائه دون لحمه.

وفيه: أنه ليس من الأصل المثبت، لما مرّ هذا أولاً.

وثانياً: حتى لو حكم بطهارته لم يجز شرب مائه؛ لاحتوائه على أجزاء الحرام كالدسومة، فكما لا يجوز أكل اللحم الحرام كذلك لا يجوز أكل أجزائه، فلو عصر اللحم لم يجز شرب مائه؟ ولا فرق في ذلك بين قبل الطبخ وبعده.

ص: 380


1- منية السائل: 177-178.

الفصل التاسع: في حكم أكل الطين

اشارة

أكل الطين حرام بجميع أنواعه إلا الموارد المستثناة.

ويدل عليه الإجماع(1) المحقق وقد استفيض نقله، بالإضافة إلى الأخبار المعتبرة:

منها: موثقة السكوني(2)، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه»(3).

ومنها: معتبرة(4) هشام بن سالم، عن أبي عبد الله(علیه السلام): «إن الله عز وجل خلق آدم من طين فحرم أكل الطين على ذريته»(5).

وفي سندها الحسن بن علي فظن البعض(6) أنه مجهول، لكن الأقرب ما قيل من أنه في هذا السند مشترك بين جماعة كلهم ثقات(7).

ص: 381


1- السرائر 1: 318؛ رياض المسائل 12: 196؛ مستند الشيعة 15: 159؛ جواهر الكلام 36: 355.
2- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني... .
3- الكافي 6: 266؛ وسائل الشيعة 24: 222.
4- الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
5- الكافي 6: 265؛ وسائل الشيعة 24: 221.
6- مجمع الفائدة 11: 234.
7- وهم الوشاء، وابن فضال، وابن يقطين، وابن النعمان، وابن بقّاح وابن عبد الله بن المغيرة.

وورد في بعض الروايات(1) أنه من مكائد الشيطان(2)، ومن أبوابه العظام(3)، ومن الوسواس(4)، ويورث النفاق(5)، وآكله ملعون(6)، وترتبت عليه آثار دنيوية أيضاً منها أنه يورث السقم وهيجان الداء ويوجب الحكة ويذهب بقوة الساقين والقدمين(7).

فروع تتعلق بمسألة أكل الطين

وهنا تذكر فروع تتعلق بهذه المسألة، وهي:

ص: 382


1- راجع الروايات في وسائل الشيعة 24: 220-225.
2- تهذيب الأحكام 9: 89 ، وفيه: عن أبي جعفر(علیه السلام): «... وأكبر مكائد الشيطان أكل الطين...».
3- وسائل الشيعة 24: 223 ، وفيه: عن كلثم بنت مسلم قالت: «ذكر الطين عند أبي الحسن(علیه السلام) فقال: أترين أنه ليس من مصائد الشيطان؟ ألا أنه لمن مصائده الكبار، وأبوابه العظام».
4- وسائل الشيعة 24: 223 ، وفيه: عن جعفر بن محمد، عن آبائه في وصية النبي(صلی الله علیه و آله) لعلي(علیه السلام): «يا علي ثلاثة من الوسواس: أكل الطين وتقليم الأظفار بالأسنان وأكل اللحية».
5- الكافي 6: 265 ، وفيه: ... عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «أكل الطين يورث النفاق».
6- وسائل الشيعة 24: 225 ، وفيه: قال أبو عبد الله(علیه السلام): «قال رسول الله(صلی الله علیه و آله): من أكل الطين فهو ملعون».
7- الكافي 6: 266 ، وفيه: عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «... وأكثر مصائد الشيطان أكل الطين، وهو يورث السقم في الجسم، ويهيج الداء، ومن أكل طيناً فضعف عن قوته التي كانت قبل أن يأكله، وضعف عن العمل الذي كان يعمله قبل أن يأكله حوسب على ما بين قوته وضعفه وعذب عليه». ووسائل الشيعة 24: 224 ، وفيه: عن أبي جعفر الباقر(علیه السلام) قال: «من أكل الطين فإنه تقع الحكة في جسده، وتورثه البواسير، ويهيج عليه داء السوء، ويذهب بالقوة من ساقيه وقدميه...».
الفرع الأول: في الطين والمدر والتراب

المذكور في الروايات الطين والمدر، ففي صحيحة(1) معمر بن خلاد، عن أبي الحسن(علیه السلام) قال: قلت له: «ما يروي الناس في أكل الطين وكراهيته، قال: إنما ذلك المبلول وذاك المدر»(2).

وفي شمول الحكم للتراب خلاف، والمشهور(3) الحرمة لأدلة ثلاثة:

الدليل الأول: استثناء طين قبر الحسين(علیه السلام)، فإن الاستثناء المذكور يشمل الطين والمدر والتراب من القبر الشريف، فيدل ذلك على أن المستثنى منه - وهو حرمة أكل الطين - أعم من التراب، وذلك ليطابق المستثنى المستثنى منه، وإلا كان من المنقطع، وهو خلاف الظاهر.

وفيه نظر؛ لقيام الدليل الخاص على جواز أكل تراب قبر الحسين(علیه السلام) كما سيأتي، ولم ينحصر في رواية الطين المذكورة.

الدليل الثاني: عموم التعليل، فإن الروايات المتطرقة لبيان أضرار الطين تجري في التراب أيضاً.

وفيه: إنها حكمة لا علة؛ ولذا يحرم القليل منه حتى مع عدم وجود هذه الأضرار، فلا يدور مدارها حكم الحرمة. ثم إن الفتوى بالحرمة عام حتى وإن لم يكن كثيره مضراً.

الدليل الثالث: إن الطين هو التراب المضاف إليه الماء، ولا حرمة فيالماء، فلابد وأن يكون منشؤ الحرمة التراب، ويؤيده حرمة المدر وهو

ص: 383


1- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن معمر بن خلاد... .
2- الكافي 6: 266؛ تهذيب الأحكام 9: 89.
3- مسالك الأفهام 12: 68؛ مجمع الفائدة والبرهان 11: 235؛ الفقه 76: 192.

التراب المتلاصق.

وأشكل عليه: بأنه قد يتولد الحرام من التركيب بين حلالين، كخلط ماء العنب بالعكر وهما محللان.

لكن الظاهر عدم خصوصية للطين، وإنما الحرمة لأجل التراب، وخاصة مع حرمة المدر، بل العرف يفهم من الطين الأعم.

فالأظهر حرمة التراب ولا يختص الحكم بالطين والمدر.

الفرع الثاني: أكل الطين الموجود في الفواكه وغيرها

الظاهر انصراف دليل الحرمة عن المقدار القليل من الطين أو التراب في الفواكه والخضر، وكذا التراب الموجود في العجاج، أو في الطعام، حيث لا يطلق عليه أكل الطين. ويتفرع عليه شرب ماء النهر المختلط بالتراب؛ وذلك لعدم صدق أكل الطين، بالإضافة إلى السيرة القائمة.

إن قلت: لا فرق في الضرر بين الموردين، فسواء أكل الطين أم شرب الماء المختلط به، فكلاهما مضران.

قلت: أولاً: لا يصدق عليه أكل الطين.

وثانياً: إن مصلحة التسهيل قد تقتضي الجواز، كما هو جارٍ في كثير من الفروع الفقهية.

الفرع الثالث: في سائر استعمالات الطين

لا إشكال في سائر استعمالات الطين، كما هو المتعارف من غسل الرأسأو البدن بنوع خاص منه، فالدليل خاص بالأكل، وفي بعض الروايات(1)

ص: 384


1- راجع وسائل الشيعة 2: 58-59.

النهي عن ذلك أو عن بعض أنواعه، لكنها محمولة على الكراهة أو على الإرشاد إلى بعض الأضرار.

حكم أكل تربة الإمام الحسين(علیه السلام)

يستثنى من حرمة أكل الطين أكل تربة سيد الشهداء(علیه السلام)، ويدل عليه الإجماع والروايات المتواترة، وتواترها يغنينا عن البحث في أسنادها.

منها: ما عن الصادق(علیه السلام): «الطين حرام كله كلحم الخنزير، ومن أكله ثم مات منه لم أصلِّ عليه، إلا طين القبر(1)، فإن فيه شفاء من كل داء، ومن أكله بشهوة لم يكن فيه شفاء»(2).

ومنها: ما عن سعد بن سعد قال: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن الطين، فقال: أكل الطين حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، إلا طين الحائر فإن فيه شفاء من كل داء، وأمناً من كل خوف»(3).

ومنها: ما عن الصادق(علیه السلام): «أكل الطين حرام على بني آدم ما خلا طين قبر الحسين(علیه السلام)، من أكله من وجع شفاه الله»(4).

ومنها: ما عن الصادق(علیه السلام): «من أكل من طين قبر الحسين(علیه السلام) غير مستشفٍ به فكأنما أكل من لحومنا»(5).

ص: 385


1- الألف واللام للعهد.
2- الكافي 6: 265؛ وسائل الشيعة 24: 226.
3- الكافي 6: 266؛ وسائل الشيعة 24: 226.
4- كامل الزيارات: 286؛ وسائل الشيعة 24: 228.
5- وسائل الشيعة 24: 229.
فروع تتعلق بمسألة أكل تربة الإمام الحسين(علیه السلام)

وهنا فروع كثيرة نذكر بعضها، وتفصيلها في موسوعة الفقه(1).

الفرع الأول: الأكل للتبرك

ذهب بعض الفقهاء إلى جواز أكل تربة الحسين(علیه السلام) للتبرك والأمن من الظالم، بينما ذهب آخرون إلى الحرمة(2).

والشيخ الطوسي(3) في كتبه لم يستثن التبرك من الحرمة، بل ذكر الاستشفاء فقط، إلا في المصباح حيث جوز الأكل لغير الاستشفاء(4)، بينما قال في الجواهر: «لم نقف له على حجة»(5).

واستدل السيد الوالد في الفقه(6) على الجواز بعدة من الروايات:

الرواية الأولى: خبر النوفلي قال: قلت لأبي الحسن(علیه السلام): «إني أفطرت يوم الفطر على طين وتمر، فقال(علیه السلام): جمعت بين بركة وسنة»(7).

وأشكل(8) عليه سنداً، ودلالة بعدم الإطلاق، حيث لا يعلم وجه أكل طين القبر، فربما كان مريضاً، فالعمل مع تقرير المعصوم(علیه السلام) يثبت أصل

ص: 386


1- الفقه 76: 209-212.
2- السرائر 1: 318؛ مسالك الأفهام 12: 69.
3- النهاية: 590.
4- مصباح المتهجد: 771، وفيه: «ويستحب صيام هذا العشر فإذا كان يوم عاشوراء أمسك عن الطعام والشراب إلى بعد العصر ، ثم يتناول شيئاً من التربة».
5- جواهر الكلام 36: 368.
6- الفقه 76: 200.
7- الكافي 4: 170؛ وسائل الشيعة 7: 445.
8- جواهر الكلام 11: 377؛ فقه الصادق 24: 173.

الجواز دون جهته.وفيه نظر؛ حيث لا تطلق البركة على الاستشفاء وإن صح ذلك لغة، فليس الاستناد إلى فعل الشخص، بل إلى قول المعصوم(علیه السلام)، فلا إشكال في الدلالة، ويبقى الإشكال السندي على حاله.

ويمكن الاستدلال على ذلك بسيرة المتشرعة على تناول التربة يوم الفطر، لكن اتصالها بزمن المعصوم غير معلوم، وربما يكون منشؤها كتاب الإقبال للسيد بن طاووس(1).

فمقتضى الاحتياط أن يخلطه بالماء حد الاستهلاك، حتى لا يصدق عليه أكل التراب، فيحوز على البركة ويدفع احتمال الحرمة.

الرواية الثانية: خبر الحسين بن أبي العلاء، عن الصادق(علیه السلام): «حنكوا أولادكم بتربة الحسين(علیه السلام)»(2)، والتحنيك مستلزم للأكل.

وأشكل عليه(3) بأن الطفل غير مكلف فلا يحرم عليه الأكل، بالإضافة إلى اختصاص الحرمة بالطين دون التراب على المبنى(4).

وأجيب: بأن إعطاء المضر حرام حتى للطفل، فيعلم من الرواية أنه غير مضر فهو جائز.

وفيه نظر؛ لعدم ترتب الضرر على القليل منه، كما أنه لا إشكال في إعطاء الحرام للطفل بشرط أن لا يكون لحم الخنزير وما أشبه.

ص: 387


1- إقبال الأعمال 1: 482.
2- كامل الزيارات: 466؛ وسائل الشيعة 14: 524.
3- الفقه 76: 200.
4- لكنا قلنا بعدم الفرق بينهما (السيد الأستاذ).

لكن الإنصاف أنّه ظاهر في حلية التربة وحسنها وبركتها ولو في هذهالصورة، أي: إن الطفل مستثنى، لا أنه من باب عدم التكليف عليه، وبعبارة أخرى: الموضوع متبدل.

لا يقال: إن التسامح في السنن يقتضي الاستحباب.

لأنه يقال: حيث إن أصل الحكم حرام فلا يمكن الاستثناء منه إلا بالدليل المعتبر.

الرواية الثالثة: ما دل على أن التربة أمان من كل خوف، فعن الإمام الكاظم(علیه السلام): «فإن فيه شفاء من كل داء، وأمناً من كل خوف»(1)، حيث تدل على جواز الأكل لغير غرض الاستشفاء.

وفيه: إن ظاهرها اصطحاب التربة لا الأكل، كما هو المتعارف عند المتدينين، ولا أقل من الإجمال، بل يستفاد من بعض الأخبار الاصطحاب، منها: خبر الحسن بن علي بن أبي المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): «إني رجل كثير العلل والأمراض، وما تركت دواءً تداويت به فما انتفعت بشيء منه، فقال لي: أين أنت عن طين قبر الحسين بن علي(علیه السلام)، فإن فيه شفاء من كل داء، وأمناً من كل خوف... قلت: قد عرفت - جعلت فداك - الشفاء من كل داء فكيف الأمن من كل خوف؟ فقال: إذا خفت سلطاناً أو غير سلطان فلا تخرجن من منزلك إلا ومعك من طين قبر الحسين(علیه السلام)»(2). فتكون قرينة على ما هو المفهوم عرفاً.

ص: 388


1- الكافي 6: 266؛ وسائل الشيعة 24: 227.
2- الأمالي، للشيخ الطوسي: 317.

الرواية الرابعة: ما ورد في دعاء التربة وآداب تناولها،كقوله(علیه السلام):«اللهم فاجعلها شفاءً من كل داء، وعزاً من كل ذل، وأمناً من كل خوف، وغنى من كل فقر»(1)، وقد استفيد منه جواز الأكل للتبرك.

وهو محل تأمل؛ لأن الرواية لا تتضمن جواز الأكل لذلك، بل مفادها ترتب تلك الآثار على الأكل للاستشفاء.

هذا مضافاً إلى ضعف أسناد تلك الروايات، وعدم انجبارها بعمل المشهور.

ولا يخفى الاتفاق على عدم جواز الأكل لغير التبرك والأمن، إلا لمن يرى اختصاص الحرمة بالطين دون التراب.

الفرع الثاني: في مقدار ما يؤكل من الطين

ذهب المشهور(2) إلى عدم جواز أكل طين القبر أكثر من الحمصة المتعارفة؛ وذلك لروايات، منجبرة سنداً بعمل المشهور.

منها: ما عن الصادق(علیه السلام): «إذا تناول التربة أحدكم فليأخذ بأطراف أصابعه، وقدره مثل الحمصة... ثم ليستعملها»(3).

وربما وجه المقطع الأول الاحترام؛ لأن التراب بجوار قبورهم اكتسب الحرمة من ذواتهم المقدسة، وأجيز للاستشفاء بمقدار الحمصة، والشاهد في المقطع الثاني.

ص: 389


1- مستدرك الوسائل 10: 338-339.
2- تحرير الأحكام 4: 640؛ الروضة البهية 7: 326؛ رياض المسائل 12: 197؛ مستند الشيعة 15: 165؛ جواهر الكلام 36: 358.
3- مكارم الأخلاق: 167؛ بحار الأنوار 98: 119.

وقد يقال: إن مفهوم اللقب ليس بحجة.لكنه غير وارد؛ لأنه في مقام التحديد لقوله(علیه السلام): «وقدره مثل الحمصة»(1).

ومنها: قوله(علیه السلام): «ولا تتناول منها أكثر من حمصة، فإن من تناول منها أكثر من ذلك فكأنما أكل لحومنا ودمائنا»(2). وحمل الألفاظ على المتعارف يقتضي الحمصة المتعارفة.

الفرع الثالث: حدود الطين الجائز أكله

في حدود الطين الجائز أكله من أطراف القبر الشريف وجوه عديدة(3)؛ وذلك لاختلاف الروايات في تحديده، فلابد من ملاحظتها سنداً ودلالة، ثم بيان وجه الجمع بينها:

الأول: تراب القبر الشريف وأطرافه المنسوب إليه بمقدار يصدق عليه ذلك عرفاً.

ولا يخفى أنه لا يراد أخذ المصداق من العرف حتى يقال إنه غير حجة، بل المراد المفهوم عرفاً من الطين أنه تراب القبر وأطرافه.

الثاني: إلى سبعين ذراعاً(4) من أطراف القبر، ففي الخبر عن الإمام الصادق(علیه السلام): «يؤخذ طين قبر الحسين(علیه السلام) من عند القبر على سبعين

ص: 390


1- وفيه: لم يظهر وجه لما ذكره السيد الأستاذ، فليس فيه حصر ولا تحديد، بل بيان لأحد المصاديق ولا مفهوم له. (المقرر).
2- وسائل الشيعة 24: 229.
3- جواهر الكلام 36: 364؛ الفقه 76: 205.
4- يقاس الذراع من المرفق إلى رؤوس الأصابع، وهو يساوي نصف متر تقريباً.

ذراعاً»(1).الثالث: إلى سبعين باعاً(2)، فعن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال: «يؤخذ طين قبر الحسين(علیه السلام) من عند القبر على سبعين باعاً في سبعين باعاً»(3).

الرابع: إلى الميل الشرعي(4)، لقوله(علیه السلام): «طين قبر الحسين(علیه السلام) فيه شفاء وإن أخذ على رأس ميل»(5).

الخامس: إلى أربعة أميال، لقوله(علیه السلام): «يستشفى بما بينه وبين القبر على رأس أربعة أميال»(6).

السادس: إلى فرسخ، فعن الإمام الصادق(علیه السلام): «حرم الحسين(علیه السلام) فرسخ في فرسخ من أربع جوانب القبر»(7).

السابع: إلى خمسة فراسخ(8)، فعن الإمام الصادق(علیه السلام): «حرم الحسين(علیه السلام) خمس فراسخ من أربع جوانبه»(9).

الثامن: إلى عشرة أميال، فعن الإمام الصادق(علیه السلام): «التربة من قبر

ص: 391


1- الكافي 4: 588؛ تهذيب الأحكام 6: 74؛ وسائل الشيعة 14: 511.
2- يقاس الباع بفتح اليدين كاملة، ويساوي أكثر من المتر بقليل.
3- كامل الزيارات: 471.
4- الميل الشرعي أقل من الكيلومتر، وهو غير الميل المصلطح اليوم، والذي هو أكثر من الكيلومتر.
5- كامل الزيارات: 462؛ وسائل الشيعة 14: 513.
6- كامل الزيارات: 470؛ وسائل الشيعة 24: 227.
7- كامل الزيارات: 272؛ وسائل الشيعة 14: 511.
8- والفرسخ: خمسة ونصف كيلومتر تقريباً.
9- كامل الزيارات: 272؛ وسائل الشيعة 14: 510.

الحسين بن علي(علیه السلام) عشرة أميال»(1).

وفي بعض الكتب الفقهية(2) أربعة فراسخ، وفي بعضها ثمانية فراسخ(3)،وكل ذلك نسب إلى الرواية دون ذكر النص.

وأمّا وجه الجمع بينها فهو:

أولاً: ما اختاره صاحب الرياض(4) - بعد ضعف أسنادها جميعاً، فلا يمكن تخصيص أكل الطين المحرم بها - من الأخذ بأخص الروايات، وهو سبعون ذراعاً، فإنه وإن ضعف سندها أيضاً لكن مقتضى العمل بالروايات ذلك، وإلا لم يبقَ مورد للتربة، فإنه لو أريد الأخذ من نفس القبر وأطرافه لانتهى منذ زمن بعيد، وظاهر الروايات أنه شفاء إلى يوم القيامة، فكيف يؤخذ منه لو خصصنا الحكم بالقبر فقط؟ فإن ذلك يستلزم عدم حصول الاستشفاء؛ لعدم وجود التربة، فتكون سالبة بانتفاء الموضوع، وهو خلاف ظاهر الروايات التي تدل على الاستمرار.

وأضاف أنه لا يلزم في الصدق العرفي أن يكون نفس التراب الذي كان يوم دفنه(علیه السلام)، فمن المعلوم تبدل تلك التربة بمرور الزمن، فيمكن أخذ التراب من خارج الحد المذكور، وجعله على القبر لفترة حتى يصدق عليه أنه تراب القبر فيستشفى به.

ص: 392


1- التهذيب 6: 72؛ وسائل الشيعة 14: 512.
2- مسالك الأفهام 12: 68.
3- رياض المسائل 12: 198.
4- رياض المسائل 12: 197.

الثاني: ما اختاره السيد الوالد في الفقه(1) من الأخذ بالأعم، وذلك للصدق العرفي، حيث يصدق (طين القبر) على كل تراب كربلاء؛ وذلك لاختلاف نسبة الأمكنة والأشياء إلى الأشخاص حسب جلالتهم، فتنسبالمدينة إلى أهم شخصية فيها دون سائر الأفراد، وكذلك الطين، فيصدق عرفاً أن التراب البعيد تربة كربلاء، وحيث يصدق تشمله الروايات المحللة.

والأظهر ما في الفقه من عدم التنافي بين الروايات، بل إنها مثبتات؛ ولذا ذهب جمع من الفقهاء منهم صاحب المسالك(2) إلى أن الاختلاف لبيان مراتب الفضل.

والحاصل: إن حدود طين القبر ما صدق عليه ذلك عرفاً.

الفرع الرابع: في جواز بيع تربة الحسين(علیه السلام)

يجوز بيع تربة الإمام الحسين(علیه السلام)، وأمّا مرفوعة يعقوب بن يزيد، عن الصادق(علیه السلام): «من باع طين قبر الحسين(علیه السلام) فإنه يبيع لحم الحسين(علیه السلام)»(3) الظاهرة في الحرمة فمرسلة، ولم يفتِ به الفقهاء، فلا يمكنها تخصيص أدلة جواز البيع، ومع القول بشمول التسامح للمكروهات يكون البيع مكروهاً.

نعم، الأولى أن يكون على نحو الهدية المعوضة.

الفرع الخامس: في لزوم إثبات كونه طين قبر الحسين(علیه السلام)

يلزم تحقق الحجة الشرعية لكونه من طين قبر الحسين(علیه السلام)؛ وذلك

ص: 393


1- الفقه 76: 207.
2- مسالك الأفهام 12: 68.
3- كامل الزيارات: 479؛ وسائل الشيعة 24: 228.

باطمئنانه أو إخبار الثقة الواحد، أو شهادة العادلين على اختلاف المباني، وإلا كان حراماً، ومع الشك وفقدان الأمارة الشرعية فأصل العدم الأزلي قاضٍ بحرمة الأكل، كما هو الحال في مثال المرأة القرشية وغيرها، والمذكورتفصيلاً في الكفاية فراجع(1).

وحتى مع عدم ارتضاء استصحاب العدم الأزلي لا يجوز الأكل؛ لأن الدليل العام هو حرمة أكل الطين، ولم يثبت استثناء محل الكلام.

الفرع السادس: في شمول الطين لقبر المعصومين وعدمه

هل الاستثناء خاص بقبر الإمام الحسين(علیه السلام) أم يشمل بقية قبور المعصومين(علیهم السلام)؟

من المسلّم أنه لا يشمل غير المعصومين(علیهم السلام) كأولادهم، وأمّا المعصومين(علیهم السلام) ففي جواز الاستشفاء بتربتهم احتمالان:

الاحتمال الأول: الجواز استناداً إلى روايتين:

الأولى: خبر أبي حمزة الثمالي، عن الصادق(علیه السلام): «وكذلك طين قبر جدي رسول الله(صلی الله علیه و آله)، وكذلك طين قبر الحسن وعلي ومحمد(2)، فخذ منها فإنها شفاء من كل سقم، وجنة مما يخاف، ولا يعدلها شيء من الأشياء التي يستشفى بها إلا الدعاء، وإنما يفسدها ما يخالطها من أوعيتها، وقلة اليقين لمن يعالج بها، فأما من أيقن بأنها شفاء له إذا تعالج كفته بإذن الله

ص: 394


1- كفاية الأصول: 223.
2- والظاهر أن المراد الإمامين السجاد والباقر‘؛ وذلك لأن مكان قبر أمير المؤمنين(علیه السلام) لم يكن معلوماً لعامة الناس إلى ذلك الوقت.

تعالى من غيرها»(1).

الثانية: خبر محمد بن مسلم بعد أن شرب ماءً أعطاه إياه الإمام(علیه السلام) فشوفي، حيث قال له الإمام الباقر(علیه السلام): «يا محمد، إن الشراب الذي شربته كانفيه من طين قبور آبائي، وهو أفضل ما نستشفي به»(2).

ويرد عليهما: أولاً: ضعف السند للإرسال وعدم الجبر، فلا يمكن تخصيص الحرام بهما.

وثانياً: ما ذكره العلامة المجلسي(3) من عدم التصريح بجواز الأكل، حيث المذكور في الرواية الأولى الأخذ، ولم تبين كيفيته؛ ولذا حمله على الاستحباب، وأمّا الرواية الثانية فهو شرب الماء المختلط بالتراب، ولا إشكال فيه كما سبق، فشأنه شأن ماء الفرات المختلط بالتراب عادة في وقت هيجان الماء.

الاحتمال الثاني: عدم الجواز للعمومات، ويؤيده ما روي عن الإمام الكاظم(علیه السلام): «لا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به، فإن كل تربة لنا محرمة إلا تربة جدي الحسين(علیه السلام)»(4)، لكنها ضعيفة السند، وقد صدرت في أجواء التقية في بغداد، حيث دفن الإمام(علیه السلام) في مقابر قريش.

ص: 395


1- مستدرك الوسائل 10: 332.
2- وسائل الشيعة 14: 526.
3- بحار الأنوار 57: 156.
4- وسائل الشيعة 14: 529.
حكم الطين الأرمني

وفي الطين الأرمني احتمالان(1):

الاحتمال الأول: الحرمة، لشمول عموم دليل حرمة الطين وعدمصلاحية أدلة الاستثناء المذكورة.

الاحتمال الثاني: الجواز لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: إنه ليس بطين أصلاً، بل مجرد اتحاد في الاسم؛ وذلك لعدم توفر خواص الطين فيه، مثل كون طبعه حاراً وحالة اللزوجية وما أشبه، فليس داخلاً في عموم الحرمة حتى يستثنى.

الوجه الثاني: انصراف الأدلة الدالة على حرمة الطين عنه؛ وذلك لأن الطين مضر، والأرمني منه نافع، وهو جزء من بعض الأدوية، بل يستفاد للعلاج مستقلاً.

الوجه الثالث: الروايات الدالة على جواز أكله، وهي:

الرواية الأولى: إن رجلاً شكا إلى الإمام الباقر(علیه السلام) الزحير(2) فقال له: «خذ من الطين الأرمني وأقله بنار لينة واستف(3) منه فإنه يسكن عنك»(4).

الرواية الثانية(5): ما عن الباقر(علیه السلام): «تأخذ جزءاً من خربق(6) أبيض،

ص: 396


1- مسالك الأفهام 12: 69؛ كشف اللثام 9: 288؛ المناهل: 669؛ الفقه 76: 213.
2- الزحير: استطلاق البطن، مرض معروف.
3- استففت الدواء: أخذته غير ملتوت ولا معجون.
4- وسائل الشيعة 24: 230.
5- وسندها كسند الرواية السابقة.
6- الخربق: نبات يجلو ويسخن وينفع الصرع... ويسهل الفضول اللزجة. القاموس المحيط3: 225.

وجزءاً من بزر القطونا، وجزءاً من صمغ عربي، وجزءاً من الطين الأرمني يغلى بنار لينة ويستف منه»(1).الرواية الثالثة: «سئل أبو عبد الله(علیه السلام) عن الطين الأرمني يؤخذ منه للكسير والمبطون أيحل أخذه؟ قال: لا بأس به أما إنه من طين قبر ذي القرنين، وطين قبر الحسين(علیه السلام) خير منه»(2).

وفي الأدلة الثلاثة نظر: أمّا الدليل الأول: فإنه لا يخرج عن حقيقة الطين بذلك، فالتراب أنواع حسب المناطق المختلفة، ويظهر ذلك في خواصه للزراعة وألوانه ومواصفاته، فالطين الأرمني طين حقيقة لكن له خواص.

أمّا الدليل الثاني: فقد مرّ أنه ليس حرمة الطين لضرره، وما ذكر في الروايات حكمة، ويشهد له إطلاق كلام الفقهاء وفهمهم، ودعوى الانصراف بلا وجه، فإن مجرد استفادة الأطباء منه للعلاج ليس وجهاً للانصراف، مضافاً إلى أن الكلام ملقى للعرف، وأكثرهم لا يعرف شيئاً عن الطين الأرمني، حتى يظهر الانصراف عندهم، ولا أقل من عدم الثبوت، فيكون العموم باقياً على حاله.

وأمّا الدليل الثالث: فالأسناد ضعيفة، والتخصيص بحاجة إلى دليل معتبر، هذا أولاً.

وثانياً: في دلالتها إشكال، فلم يتطرق إلى ذكر الأكل فيها، فقد يكون العلاج بالدلك، خاصة في الكسير، فليس ذلك مرضاً حتى يعالج بتناول

ص: 397


1- وسائل الشيعة 24: 230.
2- وسائل الشيعة 24: 230.

الدواء، بل عرضاً يعالج بالدلك عادة، وأمّا دعوى كون علاج المبطون الأكل فغير صحيحة، فإن علاجه قد يكون بالأكل، وقد يكون بالدلك أو الجلوسعلى مكان حار مثلاً. نعم، لا يبعد ذلك.

والحاصل: إن مقتضى القاعدة حرمة الطين الأرمني.

وهنالك وجه للجمع ذكره بعض الفقهاء(1)، وهو أن الروايات المجوزة إنما هي للمريض، كالزحير والكسير والمبطون، فهو لحال الضرورة، وقد قال تعالى: {فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ}(2).

وأشكل عليه بأنه لم يجعل الله الشفاء في الحرام؛ لروايتين تدلان على ذلك، إحداهما: عامية(3)، والأخرى مروية في عوالي اللئالي(4).

وأجاب في المسالك(5): أنه ليس حراماً في حالة الضرورة أصلاً، فينتفي الموضوع.

هذا بالإضافة إلى ضعف سندهما.

والاعتبار يؤيد ذلك، فإن الشفاء فعل الله - وإن كان العلاج بيد المريض - ولم يجعله في المحرمات، لكنه غير محرم على المضطر، فلا مانع من جعل الشفاء فيه.

وأشكل عليه أيضاً: بأنه ليس كل مريض مضطر.

ص: 398


1- إيضاح الفوائد 4: 153؛ مفتاح الكرامة 12: 154؛ جواهر الكلام 36: 369.
2- سورة البقرة، الآية: 173.
3- سنن البيهقي 10: 5، عن الرسول(صلی الله علیه و آله) وفيه: «ما جعل الله شفاءكم فيما حرّم عليكم».
4- عوالي اللئالي 2: 149. عن الرسول الله(صلی الله علیه و آله) قال: «لا شفاء في محرّم».
5- مسالك الأفهام 12: 69.

وقال السيد الوالد في الفقه(1): بأن الاضطرار موضوع رتب الشارع الحكم عليه ولم يعين حدوده، فالمرجع لمعرفة الحدود هو العرف، والعرف يرى الموارد مختلفة، فتارة يكون الحرام شديداً كلحم الخنزير، فلا يعتبر مثل وجع الرأس اضطراراً مجوزاً لأكله بخلاف الإشراف على الموت، وعليه لو استفيد من دليل الحرام شدة الحرمة فلا يكون المرض العادي اضطرار.

ويشهد لذلك جواز الإفطار للمريض الذي يمكنه الصوم لكنه مضر بحاله، بخلاف أكل لحم الخنزير الذي لا يجوز له في مثل ذلك المرض، بل حتى أشد منه، مع أن العلاج بترك الصوم وأكل اللحم بوصفة طبيب واحد ولمرض واحد، فيجوز الأول دون الثاني، مع أن الدليل فيهما - وهو الاضطرار - واحد؛ وليس ذلك إلا لاستفادة شدة الحرمة في الثاني دون الأول.

ولا يخفى أنه ليس العرف ملاكاً للحكم في ذلك، وإنما فهم الاضطرار منه، وإلا فإن شدة الحرمة وضعفها يؤخذ من الدليل.

والحاصل: إن أكل الطين الأرمني حرام ولم يستثن إلا للمريض الذي علاجه فيه ولا بديل عنه، إذ مع البديل لا يصدق الاضطرار.

ص: 399


1- الفقه 76: 214.

الفصل العاشر: في الأطعمة المضرّة

اشارة

قد مرّ أنّه لا إشكال في حرمة كل ما هو سبب لإتلاف النفس، أو قطع عضو، أو سقوط قوة، سواء كان من المأكول كالسموم القاتلة، أم غيره كالإلقاء من شاهق.

ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ}(1)، وقوله سبحانه: {وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ}(2)، بالإضافة إلى الروايات(3)، وضرورة الدين، والإجماع.

الضرر في غير النفس والعضو والقوة

أمّا الضرر الذي لا يصل إلى هذا الحد فقد استدل بعض الفقهاء(4) على حرمته بأدلة:

الدليل الأول: إن العقل مستقل بقبح الإضرار بالنفس، حتى لو لم يصل إلى الحد المذكور.

وفيه نظر: حيث لا نجد استقباح العقل لبعض المصاديق، بل قد

ص: 400


1- سورة البقرة، الآية: 195.
2- سورة النساء، الآية: 29.
3- وسائل الشيعة 25: 84.
4- رياض المسائل 12: 200؛ فقه الصادق 24: 98.

يستحسنه، كما لو كان في تحمل الضرر غرض عقلائي كالسفر للتجارة،خاصة في الأزمنة السابقة، أو كان لطاعة الله، كما صنع رسول الله(صلی الله علیه و آله)، حتى نزل قوله تعالى: {طه * مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ}(1) شفقة عليه، حيث لم يكن عمله خلاف العقل، بل العقل يستحسنه، ولو كان العقل مستقلاً بالقبح لم يمكن تخصيصه بالعبادة والسفر وما أشبه إلا بتبدل الموضوع.

الدليل الثاني: أدلة نفي الضرر، ومنها قوله(صلی الله علیه و آله): «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»(2)، وهو بمعنى النهي، ويشمل جميع الأضرار.

وفيه: إنه نفي بمعنى عدم تشريع الحكم الضرري في الإسلام، ولا وجه لرفع اليد عن الظاهر والقول بكونه مجازاً لإثبات حرمة كل فعل ضرري، هذا أولاً.

وثانياً: إن تشريعه إنما هو للامتنان على العباد برفع كل ما هو منشؤ للضرر، فلو كان رفع الضرر خلاف الامتنان فليس بمرفوع.

وبعبارة أخرى: إن علة الحكم هي الامتنان، فلو لم يتحقق في مورد لم يكن الحكم مجعولاً، فالنهي عن تحمل بعض الأضرار لغرض عقلائي أو للذة مشروعة خلاف الامتنان، وقد ذهب مشهور المتأخرين إلى عدم شمول (لا ضرر) لهذه الموارد، وذهب البعض إلى أنه منصرف عنها؛ ولذا لم يُحَرِّم الكثير من الأضرار، كالأكل الكثير وما أشبهه، وتفصيله في الأصول.

ص: 401


1- سورة طه، الآية: 1-2.
2- معاني الأخبار: 281؛ وسائل الشيعة 26: 14.

الدليل الثالث: التعليل المذكور في بعض الروايات(1)، والتي عللتالخمر والخنزير وما أشبه بالضرر، والعلة تعمم.

وفيه: إنها في مقام الحكمة لا العلة؛ ولذا لم يلتزم حتى فقيه واحد بعدم الحرمة فيما لو لم يكن مضراً، فهو سبب لجعل الحكم لا أن الحكم يدور مداره، مضافاً إلى ضعف معظم أسنادها.

وبعد رد أدلة التحريم استدل القائلون بالجواز بأدلة(2):

الدليل الأول: أصالة الإباحة، فكل شيء حلال ومباح حتى يرد دليل على الحرمة، ومن مصاديقه الأضرار، بل قام الإجماع على جواز بعض الموارد التي فيها الضرر كما مثلنا.

الدليل الثاني: قاعدة: (الناس مسلطون على أنفسهم) المستفادة من قوله تعالى: {ٱلنَّبِيُّ

أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ}(3)، والأولى أفعل التفضيل، بمعنى أن الإنسان مسلط على نفسه، لكن النبي أولى منه، فلو قام دليل على عدم جواز ضرر معين كان تخصيصاً، وأمّا غيره من سائر الأضرار فالإنسان مسلط على نفسه.

وبعد رد أدلة المانعين لم يبقَ مجال لتخصيص القاعدة المذكورة.

ثم إنه على فرض جريان قاعدة (لا ضرر) كان بينهما عموم من وجه، فإن الإنسان مسلط على نفسه بما يضره وما لا يضره، كما أن الضرر قد يكون على النفس، وقد يكون على الغير من النفس والمال، وموضع

ص: 402


1- الكافي 6: 242؛ وسائل الشيعة 24: 99.
2- الفقه 76: 217.
3- سورة الأحزاب، الآية: 6.

الاجتماع محل الشاهد، فيتعارضان ويتساقطان فنرجع إلى أصالة الإباحة.

والحاصل: إنه يجوز الإضرار بالنفس، سواء كان فيه غرض عقلائي أم لا،كأن يسافر فيؤدي إلى مرضه، أو يركض فتتورم قدماه، حيث لا دليل على الحرمة.

وأمّا السموم القاتلة أو المسببة لفقدان عضو أو قوة فهي محرمة، وأمّا غيرها من السموم فلا دليل على حرمتها، بل هنالك روايات(1) تدل على جواز استفادة السموم في بعض الأدوية، حتى وإن سبب الموت اتفاقاً؛ وذلك لأن الغرض هو العلاج، والكثير من العلاجات قد تكون قاتلة اتفاقاً، كما نشاهد في المستشفيات الحديثة، بل يجوز ذلك حتى لغير العلاج، كما لو فرض التلذذ بتناول القليل منه حتى وإن سبب مرضاً أو ما أشبه.

صور الاستثناء من عدم جواز إلقاء النفس في التهلكة

وبمناسبة الروايات الواردة في المقام استطرد السيد الوالد في الفقه(2)، وذكر موارد لجواز إلقاء النفس في التهلكة، وهي بين ما دليله واضح، وبين ما هو مشكل وبحاجة إلى دليل قاطع.

منها: ما لو كان هنالك أمر أهم - في نظر الشارع - كالجهاد والدفاع ومن ذلك المشي على الألغام إذا لم يمكن فتح الطريق إلا بذلك، فجوازه لأمر أهم هو الجهاد أو الدفاع.

ومنها: حفظ العرض، كما لو أرادوا سلب شرفها، فجواز قتلها لنفسها

ص: 403


1- وسائل الشيعة 25: 221.
2- الفقه 76: 218.

موقوف على استفادة أهمية حفظ العرض من الأدلة الشرعية.

ومنها: ما لو توجه ضرر كبير على المسلمين لا يمكنه دفعه إلا بإلقاءالنفس في التهلكة، كما لو انفجر مختبر نووي، ولا يمكن الوقوف أمام تشعشعاته القاتلة لملايين من الناس، إلا فيما لو دخل جمع إلى المختبر وأبطلوا مفعوله، مما يسبب موتهم.

ويعلم جواز هذه الموارد وأمثالها من ارتكاز المتشرعة، ومن مجموع الروايات.

ومن الموارد المشكلة ما يعرف اليوم بالقتل الرحيم، وذلك للمريض الذي يعاني آلاماً لا تُطاق، حيث لا دليل على تخصيص حرمة قتل النفس مع عدم إحراز الأهمية.

ولمعرفة القاعدة لابد من ضم الأدلة العامة بعضها إلى بعض، كأدلة العسر والحرج وما لا يُطاق، والأهم والمهم ودليل الجهاد، وأدلة الدفاع والمناط في قتل الغير، كالتترس بالمسلمين، فلابد من ملاحظة مجموع الأدلة ليرى إمكان التخصيص من عدمه.

ولا يخفى أن قاعدة الأهم والمهم تختلف عن مقولة: (الغاية تبرر الوسيلة)، فإن الأهم يقدم على المهم، لكن في مقولة الغاية لا تلاحظ الأهمية، بل المشتهيات النفسانية، كما لو أراد أن يصبح حاكماً ولو بالعدوان قتلاً وسرقة، مع عدم أهميته.

صور الاستثناء من عدم جواز إتلاف العضو

ثم إنه يُستثنى من عدم جواز إتلاف الأعضاء موارد، وهو بحث مهم في

ص: 404

عالم الطب اليوم، حيث كثر ذلك بالنسبة إلى الكلية والكبد، بل حتى العين والقلب، ويستلزم ذلك قطع العضو من إنسان ليركب على إنسانآخر، والبحث في المقام أعم من أن يصنع الإنسان ذلك لنفسه أو لغيره، سواء من الميت أم من الحي، وهنا صورتان:

الصورة الأولى: هبة عضو

وهو على أقسام:

القسم الأول: أن يهب في حال حياته عضواً من أعضائه التي تتوقف حياته عليه لغيره.

ولا إشكال في عدم جوازه؛ لأنه إهلاك للنفس، فتشمله أدلة حرمته.

هذا في صورة كون المعطي إنساناً محترماً، كالمسلم أو الذمي أو المعاهد، أمّا لو أعطى الكافر الحربي المهدور دمه قلبه مثلاً فيجوز.

إن قلت: لا تجوز المثلة حتى بالكافر الحربي، وقد نهى النبي(صلی الله علیه و آله) عن المثلة ولو بالكلب العقور(1)، كما نهى الإمام علي(علیه السلام) عن ذلك لابن ملجم(2).

وأجيب عنه: إنما يحرم ذلك لمحترم الدم، ولا دليل على حرمتها للكافر الحربي، والأدلة المذكورة ضعيفة سنداً، وعلى فرض الاعتبار - كنهج البلاغة - فالإشكال دلالي، حيث إن النهي للتنزيه لا التحريم، كما أنه لا

ص: 405


1- وسائل الشيعة 29: 128.
2- نهج البلاغة 3: 77، وفيه: «يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثل بالرجل، فإني سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله)يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور».

يعلم كونه مصداقاً للمثلة في بعض الصور.

وفيهما نظر: وهو إن النهي التنزيهي مجاز خلاف الظاهر، فلا يمكنالحمل عليه إلا مع القرائن المفقودة في المقام، وأمّا كونه ليس مثلة في بعض الصور فهو إشكال بالأخص، والكلام في الأعم، مضافاً إلى أن الارتكاز على حرمة المثلة حتى للحربي.

فينحصر دليل الجواز في الأهم والمهم، حيث تتوقف حياة إنسان محترم على ذلك، وهو أهم من حياة الكافر الحربي، فيستثنى من حرمة المثلة كسائر الموارد المستثناة، كالحرب التي تقطع فيها اليد والرجل وما أشبه، مع عدم جوازه بالنسبة إلى الأسير.

القسم الثاني: أن يهب عضواً يتوقف كماله عليه دون حياته، كالعين فلا يجوز في المسلم والذمي للقاعدة العامة في عدم جواز قطع العضو وإسقاط القوة، هذا في صورة الحياة، وأمّا بعد الوفاة فلا إشكال في ذلك بالنسبة إلى الذمي والمعاهد مع جريان قاعدة الإلزام.

وأمّا لو أوصى المسلم بذلك فقد ذهب بعض الفقهاء إلى بطلان الوصية(1)؛ لعدم حلية متعلقها، حيث إنه من المثلة، كما أن حرمته ميتاً كحرمته حياً(2)، وحيث لم يجز في حياته لم يجز بعد وفاته.

وفيه نظر، فإن الأهم رافع لحرمة المثلة، كما أن الحق قابل للإسقاط،

ص: 406


1- صراط النجاة 3: 271.
2- تهذيب الأحكام 1: 419 ، وفيه: عن أبي عبد الله(علیه السلام): «... قال رسول الله(صلی الله علیه و آله) حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً سوياً».

كحرمة ماله، دون الحكم كحرمة نفسه، فهل احترام الأعضاء بعد الموت حق أو حكم؟ قال البعض(1): إنه حق خاصة مع ترتب الغرض العقلائي عليه، لكنالظاهر أنه حكم، ومع ذلك يمكن القول بالجواز من باب الضرورة أو الأهم؛ لاحتياج الأحياء، وقد أوصى بذلك، فعقلائياً يكون أهم من حفظ العضو الميت، خاصة مع عدم اعتباره إهانة للميت عرفاً.

القسم الثالث: أن يهب عضواً لا تتوقف حياته وكماله عليه كالكلية، والظاهر جوازه؛ للأهم ولأصالة الحلية، ولا يعلم أنه مصداق المثلة حتى يحرم.

بل حتى لو فرض أنه مثلة فيرفع اليد عن حرمتها فيما لو توقف عليه إنقاذ حياة مسلم محترم النفس، لأقوائية ملاكه، فتأمل.

الصورة الثانية: بيع العضو

أمّا بيع الأعضاء حياً أو ميتاً ففيه احتمالان:

الاحتمال الأول: عدم الجواز؛ للأدلة الدالة على أن الحر لا يملك، فلا تملك أعضاؤه، فكيف يجوز له أن يبيعها؟ وإنما جاز الإهداء للأهم ولغيره من الأدلة كما مرّ.

الاحتمال الثاني: إنه مال عرفاً فيجوز بيعه، فالصغرى مأخوذة من العرف، والكبرى من الآية الكريمة(2)، فيجوز بيعه مع عدم ردع الشارع عنه.

وأمّا بيع الدم فإنما لم يجز بيعه سابقاً؛ لعدم المنفعة المحللة العقلائية فيه، لكن الآن له المنفعة، فيجوز خاصة مع كون الروايات المحرمة معللة بعدم النفع.

ص: 407


1- صراط النجاة 3: 271.
2- أي: قوله تعالى في سورة المائدة، الآية: 1 : {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}.

الفصل الحادي عشر: في حرمة الخمر

اشارة

وفي حكم الخمر مباحث متعددة نكتفي بما يرتبط بالمقام:

البحث الأول: في حرمة الخمر

لا إشكال في حرمة الخمر، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ}(1)، بالإضافة إلى متواتر الروايات، والإجماع المسلّم، بل هو من ضروريات الدين(2).

وربّما يتخيل أنها كانت حلالاً في أول البعثة ثم حُرّمت! لكنه غير صحيح، بل كان هنالك سكوت عن تحريمها، لا أن النبي(صلی الله علیه و آله) حللها ثم حرمها، فقد كان ينتظر أمر الله في النهي عنه؛ ولذا ورد في الأحاديث الشريفة أنه ما بعث نبي إلا بحرمة الخمر(3)، وكان ذلك من باب تدريجية الأحكام.

البحث الثاني: شرب الخمر للتداوي

إن الخمر حرام مطلقاً حتى للتداوي، ففي صحيحة عمر بن أذينة(4) عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنه قال: «إن الله عز وجل لم يجعل في شيء حرمدواءً

ص: 408


1- سورة المائدة، الآية: 90.
2- الانتصار: 421؛ مستند الشيعة 1: 216، و15: 171.
3- الكافي 1: 148؛ وسائل الشيعة 25: 296.
4- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة... .

ولا شفاءً»(1).

وأمّا ما يوضع في بعض الأدوية من الكحول المتخذ من الفواكه فإن كان مسكراً فهو حرام ونجس، دون الكحول الصناعي المتخذ من الأخشاب، والذي هو سُمّ، فهولا يؤكل وليس نجساً فامتزاج القليل منه في الأدوية غير ضارّ.

وأما الاضطرار إلى شرب الخمر للتداوي أو لغيره فسيأتي في البحث التاسع.

فرع: وكما يحرم شرب الخمر كذلك يحرم سقيه للغير حتى الطفل والكافر، كما يحرم تقديمه أيضاً، ولا يجري فيه قانون الإلزام؛ وذلك لأن المستفاد من الأدلة أن الشارع لا يريد تحقق ذلك في الخارج بالمعنى الاسم المصدري من أي أحد بقطع النظر عن الفاعل، كما لا يريد قتل محترم الدم حتى من المجنون؛ ولذا يجب على العاقل أن يمنعه، بخلاف شرب النجس حيث لا يلزم منعه؛ لعدم العلم بحرمته بالمعنى اسم المصدري، فتأمل.

البحث الثالث: في بيان المراد من الخمر

الخمر لغة بمعنى المسكر المتخذ من العنب(2)، وأمّا من غيره فيسمّى نبيذاً وفقاعاً وغير ذلك، ولكي لا يتوهم أن التحريم خاص بالعنب تواترت الروايات على حرمة كل مسكر، ومنها: صحيحة علي بن يقطين(3) عن

ص: 409


1- الكافي 6: 413؛ وسائل الشيعة 25: 342.
2- لسان العرب 4: 255.
3- الكليني، محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن أخيه الحسين بن علي بن يقطين، عن أبيه علي بن يقطين، عن أبي الحسن الماضي(علیه السلام)... .

الإمامالكاظم(علیه السلام): «إن الله عزّ وجل لم يحرم الخمر لاسمها ولكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(1).

وصحيحة الفضيل بن يسار(2) عن الإمام الصادق(علیه السلام)، عن رسول الله(صلی الله علیه و آله): «كل مسكر حرام، قلت: أصلحك الله كله، قال: نعم، الجرعة منه حرام»(3).

ويحتمل كون السؤال عن أنواع الخمر، لكن ظاهر الجواب عن مقداره.

البحث الرابع: ما أسكر كثيره فقليله حرام

كل ما أسكر كثيره فقليله حرام، لمتواتر الروايات، ومنها: صحيحة معاوية بن وهب(4) عن الإمام الصادق(علیه السلام)«كل مسكر حرام، فما أسكر كثيره فقليله حرام، قال: قلت: فقليل الحرام يحله كثير الماء، فرد بكفه مرتين لا لا»(5).

البحث الخامس: في وجوب التقيؤ وعدمه لو شرب عمداً أو سهواً

لو شرب الخمر عمداً أو سهواً فهل يجب عليه التقيؤ؟

يرى السيد الوالد ذلك في الفقه(6)، ولا دليل خاص في المسألة، لكن

ص: 410


1- الكافي 6: 412؛ وسائل الشيعة 25: 342.
2- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن الفضيل بن يسار... .
3- الكافي 6: 409؛ وسائل الشيعة 25: 325.
4- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن وهب... .
5- الكافي 6: 408؛ وسائل الشيعة 25: 337.
6- الفقه 76: 237.

المستفاد من مختلف أدلة حرمة الخمر أنها مبغوضة لله بذاتها شرباً وبقاءً؛ ولذالو لم يتقيأ زال عقله، وارتكب مختلف أنواع المعاصي، فإنما شرف الإنسان وفضله لعقله، وهو يزول بالسكر، فيسقط عن إنسانيته، وربما ذلك هو العلة الأصلية لتحريم الخمر، وقد ثبت في محله أن تنفيذ غرض المولى المعلوم لازم، وتركه موجب للعقاب، كما في مثال غرق ابن المولى.

هذا فيما لو كان بحدٍ يوجب بقاؤه الإسكار، وإلا انتفى الدليل المذكور، كما أنه ينتفي لو تناول شيئاً يوجب زوال سكره.

البحث السادس: المراد من المسكر هو المسكر النوعي

إن المراد من المسكر هو المسكر النوعي لا الشخصي، فلو لم يسكر شخص لطبيعة في بدنه أو لتعوده، أو لتناول ما يزيل سكره لم يكن ذلك سبباً للحلية، بل كان حراماً لشأنية الإسكار النوعي فيه.

البحث السابع: عدم اختصاص الحرمة بالشرب

لا تختص الحرمة بالشرب، فإدخاله إلى البدن حرام بأية طريقة، سواء بالمغذي أم التدهين؛ وذلك استظهاراً من الأدلة أنه مبغوض في كل الصور.

لا يقال: إن تعلق الحكم بالأعيان يوجب تقدير الفعل المقصود منها، فإن الحرمة تتعلق بالفعل لا بالذات فلابد من التقدير، وفي المقام حكم: (اجتنبوه) تعلق بالخمر والميسر والأنصاب في الآية(1)، فلابد من تقدير الشرب في الأول، واللعب في الثاني، والعبادة في الثالث.

ص: 411


1- سورة المائدة، الآية: 90: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ}.

فإنه يقال: المستفاد من الأدلة أن الخمر مبغوض في كل الصور فيحرم مطلقاً.

البحث الثامن: في حكم الفقاع

ذهب صاحب المستند(1) إلى أن حرمته ليس لأجل الإسكار، فهو حرام كماء العنب بعد الغليان، وعليه فماء الشعير الطبي حرام، كما يحرم طبخ الشعير في الماء، لكن المشهور(2) اشترطوا الإسكار، فلو لم يسكر لم يكن فقاعاً، كما أن ماء العنب إن لم يسكر لم يكن خمراً.

البحث التاسع: الاضطرار إلى شرب الخمر

وفي الاضطرار إلى شرب الخمر للعلاج - مثلاً - أقوال ثلاثة(3):

القول الأول: الجواز مطلقاً، واستدل له بأدلة ثلاثة(4):

الدليل الأول: عمومات أدلة الاضطرار، كموثقة أبي بصير(5) عن الإمام الصادق(علیه السلام) قال: «ليس شيء مما حرّم الله إلا وقد وأحله لمن اضطر إليه»(6)، وقال تعالى: {وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ

ص: 412


1- مستند الشيعة 15: 173.
2- جواهر الكلام 374.
3- الخلاف 6: 97؛ مختلف الشيعة 8 : 339؛ كشف اللثام 9: 321.
4- مسالك الأفهام 12: 127؛ مستند الشيعة 15: 21؛ جواهر الكلام 36: 444؛ فقه الصادق 24: 217.
5- الشيخ الطوسي بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن حسين، عن سماعة، عن أبي بصير. وحسين هنا هو الحسين بن عثمان الرواسي الثقة (السيد الأستاذ).
6- تهذيب الأحكام 3: 177؛ وسائل الشيعة 5: 483.

إِلَيۡهِۗ}(1)، والخمر داخل في المستثنى منه، فيدخل في المستثنى.

الدليل الثاني: الروايات العامة والخاصة، فمن الأول: أدلة (لا ضرر) ونفي الحرج، ومن موارده الاضطرار إلى شرب الخمر.

ومن الثاني: موثقة(2) عمار الساباطي عن الصادق(علیه السلام): «عن الرجل أصابه عطش حتى خاف على نفسه فأصاب خمراً، قال: يشرب منه قوته»(3)، وغيره(4).

ولو جاز في العطش جاز في المرض الموجب للموت والمنحصر علاجه في الخمر.

الدليل الثالث: إن مناط حلية لحم الخنزير والدم في حال الاضطرار بنص القرآن(5) جارٍ في الخمر، بل قد يستفاد من بعض الروايات أنه أسوأ من الخمر، كما ذكره بعض الفقهاء(6).

القول الثاني: عدم الجواز مطلقاً، واستدل له بجملة كبيرة من الروايات التي يمكن دعوى تواترها، وقد عقد في الوسائل باباً له(7)، وهي تخصص

ص: 413


1- سورة الأنعام، الآية: 119.
2- عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق، عن عمار، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
3- تهذيب الأحكام 9: 116؛ وسائل الشيعة 25: 378.
4- علل الشرائع 2: 478.
5- سورة البقرة، الآية: 173: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ}.
6- مختلف الشيعة 8 : 341؛ فقه الصادق 24: 217.
7- وسائل الشيعة 24: 232؛ 25: 279.

العمومات السابقة.ويرد عليه: إن الروايات المذكورة لا تدل على المدعى، فبعضها لا تدل على الحرمة لاحتوائها على كلمة (لا ينبغي)(1) الظاهر في الكراهة، ولا أقل من الإجمال.

ومورد بعضها صورة عدم انحصار العلاج في الخمر، فلا يصدق الاضطرار.

وطائفة منها خارجة عن الموضوع لكون المرض غير شديد، كريح البواسير(2)، فلم يبلغ المبتلى به حد الاضطرار المبيح لارتكاب المحرمات.

وطائفة منها على عكس المطلوب أدل؛ لتنظيرها بشحم الخنزير(3)، وحيث الحكم حليته عند الاضطرار فيدل على حليتها عنده.

وطائفة منها إنما تمنع العلاج بالخمر لكون ضررها أكثر من ضرر المرض الذي هو فيه(4)، ولا مناقشة فيه فإن العلاج بالحرام إنما يجوز مع تكفله برفع الاضطرار، وأمّا لو لم يرفع فلا يحل، وهو جارٍ في كل المحرمات، فلا خصوصية للخمر.

نعم، هنالك روايات(5) تحكم بالحرمة حتى مع الاضطرار، فتتعارض مع الروايات الدالة على الحلية، فلابد من الجمع بينهما بحمل الأولى على

ص: 414


1- وسائل الشيعة 25: 345.
2- وسائل الشيعة 25: 344.
3- وسائل الشيعة 25: 345.
4- وسائل الشيعة 25: 347.
5- وسائل الشيعة 25: 347.

الكراهة؛ لأن النهي ظاهر في الحرمة، وأمّا الجواز فنص على الحلية، فيرجحالنص على الظاهر، وهو جمع عرفي، كما يمكن الجمع باختلاف المورد، فالمجوز للاضطرار الشديد، والناهي للخفيف، لكنه تبرعي.

والحاصل: إن الاضطرار مبيح لشرب الخمر على كراهة، فيمكنه تحمل ذلك حتى الموت بخلاف سائر المحرمات.

القول الثالث: التفصيل بين الموت وغيره، ومن ذِكر الدليل للقولين السابقين يظهر الكلام فيه وفي رده، حيث استند إلى أدلة القول الأول للصورة الأولى، وأدلة القول الثاني للصورة الثانية، لكنه جمع تبرعي.

إن قلت: دلت روايات عديدة على أن الله لم يجعل الشفاء في الحرام(1).

قلت: أولاً: إنه غير محرم في صورة الاضطرار، فيخرج من الروايات موضوعاً.

وثانياً: لابد من حملها على الشفاء المطلق، فيمكن أن يبرأ من مرضه لكنه يبتلى بمرض آخر، فللخمر أضرار مادية ومعنوية، فتحل في الاضطرار لكن تبقى الأضرار لأنها وضعية، فلا يكون فيها الشفاء المطلق.

أو يقال: إن الله جعل لكل مرض دواء، وإنه أرحم من أن يخلق المرض ولم يخلق له دواء، فتارة يكون للمرض دواء واحد، وتارة له عدة أدوية، فتكون معنى تلك الروايات - بعد رفع اليد عن ظهورها لأجل الروايات الدالة على الحلية - أن الله لم يحصر الشفاء في الحرام، فلم يقدر لمرض علاجاً واحداً محرماً فقط، بل له بديل محلل.

ص: 415


1- وسائل الشيعة 25: 343.
البحث العاشر: العلاج بالخمر بغير الشرب

وكما لا يجوز العلاج بشرب الخمر للمضطر كذلك لا يجوز سائر أنواع الاستعمالات، كالتدليك والكحل والتقطير في العين والأذن وما أشبه؛ وذلك للعمومات والأخبار الخاصة في الكحل(1) بعد إلغاء الخصوصية.

فمن الأخبار العامة: ما في تحف العقول من قوله(علیه السلام): «وجميع التقلب فيه»(2)، وعمل المشهور يجبر إرساله، كما يمكن الاستناد إلى قوله تعالى: {فَٱجۡتَنِبُوهُ}(3)، فلو استعملها لم يجتنبها.

وفيه نظر: فإن الآية وإن كانت مطلقة لكن لابد من تقدير الفعل الملائم فيما لو تعلق التكليف بالأعيان الخارجية، فيتعلق الحكم بذلك الفعل، فظاهر الآية اجتناب شرب الخمر ولعب الميسر وعبادة الأنصاب، فلا تدل على غيره.

وأمّا الأخبار الخاصة بالاكتحال فمنها: صحيحة معاوية بن عمار(4)، عن الصادق(علیه السلام) قال: « سأل رجل أبا عبد الله(علیه السلام) عن الخمر يكتحل منها، فقال أبو عبد الله(علیه السلام): ما جعل الله في محرم شفاء»(5).

وظاهرها حرمة الاكتحال، فلا يقول أحد: إنه إرشاد وبيان للواقع

ص: 416


1- وسائل الشيعة 25: 349.
2- تحف العقول: 333؛ وسائل الشيعة 17: 85 .
3- سورة المائدة، الآية: 90.
4- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن الحسن الميثمي، عن معاوية بن عمار... .
5- الكافي 6: 414؛ وسائل الشيعة 25: 349.

الخارجي بعدم النفع فيه، وأمّا مع القول بكونه إرشاداً فلا يدل على المدعى،لكن المشهور(1) فهم النهي منه، وخاصة المتقدمين منهم، وفهمهم حجة لقربهم من عصر الأئمة(علیهم السلام)، فلا يعقل القول: إن أكثرهم لم يفهموا كلام المعصوم(علیه السلام).

وبعد استفادة الملاك منها أو إلغاء الخصوصية يعمم الحكم إلى غير الاكتحال، وربما تكون الحكمة من ذلك جذب البدن للخمر، فلا ينحصر الأمر بالمعدة.

البحث الحادي عشر: في حجية قول الخبير لو أخبر بشرب الخمر

لو أخبره الطبيب بضرورة شرب الخمر وإلا مات، لكنه اطمأن إلى عدمه أو العكس، فالحكم تابع لخوفه، أمّا خوف غيره فليس موضوعاً للحكم الشرعي، والمسألة سيّالة في غير المقام، كالخوف من ترتب الضرر على الصوم.

لكن السيد الوالد في الفقه(2) لم يرتض ذلك، وذهب إلى اعتبار قول الثقة من أهل الخبرة - وإن كان هنالك كلام في اعتبار الواحد أو اشتراط العدلين - فيكون محققاً لموضوع الحكم الشرعي أيضاً، فعلى هذا المبنى يكون تحقق أحد الخوفين موجباً لرفع الحرمة. ومع التعارض بأن خاف أحدهما دون الآخر فيرجح الرافع للحكم؛ لعدم المنافاة بينهما، فإن الخوف مثبت للحكم، وأمّا غيره فليس مثبتاً له، بل يثبت في حقه وجوب استمرار

ص: 417


1- السرائر 3: 126؛ مختلف الشيعة 8: 341.
2- الفقه 77: 43.

الصوم بأدلته.

نعم، لو خاف أحدهما وفند الأخر رأيه حصل التعارض، والمسألة مشكلة.

ص: 418

الفصل الثاني عشر: في حرمة الدم

اشارة

يحرم شرب الدم، ويدل عليه صريحاً قوله تعالى: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ}(1)، وهنالك آيات أخرى سنشير إليها إن شاء الله، وكذلك متواتر الروايات(2)، بالإضافة إلى الإجماع(3).

استثناءات من حرمة الدم

ويستثنى من الحكم المذكور الدم المتبقي في الذبيحة، فهو حلال، ويدل عليه:

أولاً: الإجماع، كما ذكره في المسالك والرياض(4).

ثانياً: يلزم من القول بحرمة المتبقي حرمة اللحم؛ لوجوده في العروق الصغيرة في جميع البدن، ولا تنفك عنه عادة.

وثالثاً: قوله تعالى: {قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا}(5)، والمتبقي ليس من المسفوح، مع

ص: 419


1- سورة المائدة، الآية: 3.
2- الكافي 6: 254.
3- مستند الشيعة 15: 132.
4- مسالك الأفهام 12: 78؛ رياض المسائل 12: 216.
5- سورة الأنعام، الآية: 145.

كون الآية في مقام الحصر.

دم القلب والكبد

ونسب إلى صاحب المسالك عدم جواز الدم في القلب والكبد(1)، لكن لا وجه له؛ لأن الأدلة الثلاثة إن تمت تشملهما، مضافاً إلى أنه يستلزم عدم جواز أكل الكبد؛ لأنه لا ينفك عن الدم فيه.

وكأن مقصوده حرمة العروق الكبار التي تحتوي على قطع الدم الكبيرة المتثخرة في القلب والكبد، وسيأتي بحثه بإذن الله.

ولا يخفى أن المراد من حلية المتبقي في الذبيحة هو الدم المخلوط باللحم، وأمّا ما يجمع من الأمعاء والأحشاء في كأس مثلاً فهو حرام؛ وذلك لعدم شمول أدلة الحلية له، فالإجماع دليل لبي يتمسك بالقدر المتيقن منه، كما أنه لا يستلزم حرمته حرمة أكل اللحم، ويبقى الدليل الأول وسيأتي بحثه.

تنبيه

ذهب البعض - كصاحب الرياض(2) - إلى حلية المتبقي، سواء أكانت الذبيحة حلالاً أم حراماً غير نجس؛ وذلك لعدم كونه مسفوحاً.

وفيه نظر؛ لحرمة جميع أجزاء الحيوان المحرم بما فيه الدم، فإن معنى

ص: 420


1- مسالك الأفهام 12: 78، وفيه: «وفي إلحاق ما يتخلف في القلب والكبد به وجهان، من مساواته له في المعنى، وعدم كونه مسفوحاً، ومن الاقتصار بالرخصة المخالفة للأصل على موردها. ولو قيل بتحريمه في كل ما لا نص فيه ولا اتفاق - وإن كان طاهراً - كان وجهاً؛ لعموم تحريم الدم، وكونه من الخبائث».
2- رياض المسائل 12: 217.

حرمة شيء حرمته وحرمة أجزائه.

حكم الدم في حيوان ليس له دم دافق

إن الدم المتواجد في الحيوان الذي ليس له دم دافق حلال، كالسمك والجراد الكبير، ويدل عليه:

أولاً: الإجماع(1).

وثانياً: قوله تعالى: {قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيۡتَةً أَوۡ دَمٗا مَّسۡفُوحًا}(2)، والآية في مقام الحصر، والدم المذكور ليس من المسفوح.

وأورد على الاستدلال بالآية إشكالات ثلاثة:

الإشكال الأول: ما في المستند(3)، من أن الآية المذكورة مكية، وآيات حرمة الدم(4) من دون تقييد بالمسفوح مدنية، وتكون نتيجة ضم بعضها إلى بعض تحريم المسفوح في ابتداء الأمر، ثم إطلاق الحرمة لتشمل غير المسفوح أيضاً.

وفيه نظر لجهتين:

الجهة الأولى: عدم تشخيص غالب الآيات المكية عن المدنية(5)، إلا ما

ص: 421


1- رياض المسائل 12: 217.
2- سورة الأنعام، الآية: 145.
3- مستند الشيعة 15: 140-141.
4- البقرة: 173؛ المائدة: 3؛ النحل: 115.
5- إلا ما كان معلوماً لسياقها، كآيات من سورة آل عمران المرتبطة بحرب بدر وأحد، أو المحاجة مع اليهود في سورة البقرة، ولكن الغالب غير معلوم (السيد الأستاذ).

ذكره بعض المفسرين من العامة وحتى ما ذكره الخاصة، فليس مستنداً إلى المعصوم(علیه السلام)، فلا يمكن الاعتماد على مثل ذلك.الجهة الثانية: مع دوران الأمر بين التخصيص والنسخ يقدم الأول، فالعام أو المطلق المتأخر يقيد أو يخصص ما سبقه، ولا ينسخه.

فلو قال المولى يوم أمس: أكرم زيداً العالم، وقال اليوم: لا تكرم العلماء، فيكون المفاد مع القول بالتخصيص لا تكرم العلماء إلا زيداً، ومع القول بالنسخ عدم إكرام كل عالم حتى زيد.

وقد ذكرت أدلته في الأصول فراجع(1)، ومنها: إن النسخ قليل جداً، والتخصيص كثير، فالظاهر العرفي ترجيح التخصيص.

وفي ما نحن فيه، على فرض ثبوت الآية المكية، يكون الدم المسفوح حراماً، ومفهوم الحصر أن غير المسفوح حلال، وهو حجة، والآية المدنية مطلقة، فالأول يخصص الثاني لا أنه ينسخه، فما ذكر في المستند محل إشكال.

الإشكال الثاني: ما ذكره في الرياض(2) من أن القول بالحصر يستلزم تخصيص الأكثر؛ لكثرة المحرمات وهو قبيح، فلابد من القول بالنسخ، أو بكون الحصر إضافياً لا حقيقياً، وعليه لا يمكن الاستدلال بمفهومها، وهو حلية كل شيء، ومنه الدم غير المسفوح، حيث لا مفهوم للحصر الإضافي.

وفيه نظر: فإن موضع الشاهد الاستدلال بالمفهوم، وهو حلية غير

ص: 422


1- كفاية الأصول: 450.
2- رياض المسائل 12: 217.

الموارد المذكورة في الآية، وهذا المفهوم الواسع يُخصص بمآت الموارد المحرمة، وليس من تخصيص الأكثر؛ لكون المحللات كثيرة جداً،ولا إشكال في تخصيصها، كما هو الحال في كل شيء لك حلال، حيث خصص بالمحرمات(1).

الإشكال الثالث: إنه يتعارض مفهوم الآية الدال على الحلية مع منطوق آية تحريم الخبائث الشامل لما نحن فيه فيتساقطان، فلابد من الرجوع إلى عمومات حرمة الدم.

وفيه نظر: فإن كون دم السمك من الخبائث أول الكلام، وعلى فرض ثبوته فلا يعارضه دليل سواء كان أخصاً مطلقاً أم من وجه؛ لأن دليل حرمة الخبيث غير قابل للتخصيص، هذا أولاً.

وثانياً: مرت الأقوال الثمانية في معنى الخبيث، وقد كان المختار أن الخبيث ما خبثه الشارع أو كان معلوم خباثته، وما نحن فيه لم يدل على خباثته شيء، إلا على وجه الدور، بأن نقول: هذا خبيث فحرمه الشارع، ولماذا حرمه الشارع لأنه خبيث.

حكم وقوع الدم في قدر ماء اللحم

ذكر بعض الفقهاء، منهم الشيخ المفيد(2) والشيخ الطوسي في النهاية(3):

ص: 423


1- وفيه نظر؛ لأن القول بالمفهوم يستلزم حجية المنطوق، وهو حصر المحرمات في أربعة فقط، ثم توسعة الدائرة لسائر المحرمات الواردة في الروايات وهو قبيح، فتأمل. إلا أن يقال بانفكاك الحجية بين المفهوم والمنطوق (المقرر).
2- المقنعة: 582.
3- النهاية في مجرد الفقه والفتوى: 588.

أنه لو وقع الدم في قدر ماء اللحم وهو يغلي لم يحرم، واستدل(1) على ذلك ببعض الروايات:منها: صحيحة سعيد الأعرج(2)، عن الصادق(علیه السلام): «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن قدر فيها جزور وقع فيها قدر أوقية من الدم أيؤكل؟ قال: نعم، فإن النار تأكل الدم»(3).

ومنها: خبر زكريا بن آدم: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم ومرق كثير، قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلاب، واللحم اغسله وكله، قلت: فإن قطر فيه الدم، قال: الدم تأكله النار إن شاء الله»(4).

ومنها: خبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام)، قال: «سألته عن قدر فيها ألف رطل ماء فطبخ فيها لحم، وقع فيها وقية دم هل يصلح أكله، قال: إذا طبخ فكل فلا بأس»(5).

لكن المشهور شهرة عظيمة - خصوصاً عند المتأخرين - عدم الحلية(6).

وأجيب عن الروايات بوجوه سبعة(7) المرضي منها هو الأول وهو:

ص: 424


1- الفقه 76: 251.
2- الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن النعمان، عن سعيد الأعرج... .
3- الكافي 6: 235؛ وسائل الشيعة 24: 197.
4- الكافي 6: 422؛ تهذيب الأحكام 1: 279؛ وسائل الشيعة 3: 470.
5- مسائل علي بن جعفر: 197؛ وسائل الشيعة 24: 197.
6- مختلف الشيعة 8: 329؛ كشف اللثام 9: 291؛ جواهر الكلام 36: 381-382.
7- الفقه 76: 250.

الوجه الأول: إن الصحيح من هذه الروايات معرض عنه، والضعيف لا يستدل به، فيكون مضمونه شاذاً.الوجه الثاني: إنها صدرت للتقية فلا يعمل بها.

وفيه نظر: فإنه إنما يحمل على التقية مع وجود المعارض، ولا معارض للروايات المذكورة، فلا وجه للحمل على التقية(1).

الوجه الثالث: ضعف السند، فقد ذهب العلامة في المختلف(2) إلى جهالة سعيد الأعرج.

وفيه نظر؛ لأن النجاشي وثقه(3)، بل وثقه العلامة في الخلاصة(4) أيضاً.

الوجه الرابع: إن المراد من الروايات وقوع الدم الطاهر في القدر كالمتخلف في الذبيحة.

وفيه نظر، فإن ملاحظة جواب الإمام(علیه السلام) يفيد بأن الدم الواقع نجس، وإلا لأجاب بكونه طاهراً لا بأن النار تأكله.

اللهم إلاّ أن يقال: بأن معنى أكل النار له هو استهلاكه بسبب الغليان، فتأمل.

الوجه الخامس: يمكن أن يكون السؤال عن اللحم، فيكون الجواب بالحلية بعد غسله.

وفيه نظر، فإن السؤال عن كل ما في القدر، كما أن التعليل ب (فإن النار تأكل الدم) لا يتلاءم مع المقام، مضافاً إلى التفريق بين الدم والخمر، ومع

ص: 425


1- وفيه: إن الحكم العام بالاجتناب للنجاسة كاف في صدور الحكم تقية بالحل. (المقرر).
2- مختلف الشيعة 8: 330.
3- فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال الكشي): 181.
4- خلاصة الأقوال: 158.

كون المراد ما ذكر لم يكن وجه للتفريق المذكور.الوجه السادس: يمكن أن يكون مورد السؤال القدر الذي يحتوي على قدر كر من ماء غير مضاف، فلا ينجس بوقوع الدم فيه، فيستهلك ولا ينجس، وشاهده ما في السؤال من كون الماء ألف رطل، والكر وإن كان (1200) رطلاً بالعراقي إلا أن من المتعارف ذكر العدد الصحيح دون ذكر الكسر، أو أن المراد الرطل الذي هو أكثر من الرطل العراقي، حيث يكون الألف منه كراً.

وفيه نظر؛ فإن بعض الروايات مطلقة وخاصة الصحيحة، كما أن حمل ألف كر على (1200) خلاف الظاهر، بالإضافة إلى التفريق بين الخمر والدم، ولو كان القدر كراً لم يكن فرق بينهما، مضافاً إلى أن التعليل بكون النار تأكل الدم، الظاهر في أن علة جواز الأكل الغليان، لا يناسب الكر، فإن التعليل المناسب عدم نجاسة الكر.

الوجه السابع: إنها معارضة لروايات كثيرة في نجاسة الدم، ومن الثابت أن كل نجس منجس، وحيث لم يعمل المشهور بالأول وعملوا بالثاني كان الترجيح معه.

وفيه نظر؛ لأن ما نحن فيه أخص منها، ولا تعارض بين الخاص والعام.

فروع تتعلق بالمسألة

الفرع الأول: بناء على جواز الأكل، فإن الدم الملقى قد يكون دم الحيوان نفسه، وهو مشمول للروايات قطعاً، وقد يكون دم إنسان كالطباخ مثلاً، وهو مشمول للروايات أيضاً، ولا وجه لدعوى الانصراف؛ لأن الفرض

ص: 426

المذكور كثير، وليس نادراً يخل بالظهور فيدعى الانصراف لأجل الندرة، وقد يكون دم نجس العين أو حرام اللحم، وهنا أيضاً لا وجه لدعوى الانصراف؛لأنه وإن كان نادراً إلا أن صرف الندرة غير موجب للانصراف، إلا إذا أخل بالظهور.

الفرع الثاني: إن مورد الروايات هو ماء اللحم، فهل يشمل الحكم سائر المائعات كاللبن أو الحساء - الشوربة - بلا لحم وأمثالهما؟ كما أن المورد هو الدم الملقى، فهل يشمل غير الدم كالبول واليد المتنجسة؟

قيل: إن المناط يعمم فإن النار تأكل الدم، ووجهه جعل النار من المطهرات، كما في قوله(علیه السلام): «إن الماء والنار طهراه»(1).

لكن المشهور لم يرتضِ المبنى، والمناط غير معلوم؛ لاختلاف الدم عن سائر النجاسات في الأحكام، كطهارة دم النفس غير السائلة، والمتبقي في الذبيحة، فللدم خصوصية، وله موارد واستثناءات بخلاف سائر النجاسات.

الفرع الثالث: ظاهر تعبير بعض الفقهاء اختصاص الحكم المذكور بما لو كان سقوط الدم في حال الفوران لا قبله، لكن الروايات مطلقة.

الفرع الرابع: إن الخلاف المذكور إنما هو في الماء، وأمّا اللحم فلا خلاف في جواز أكله بعد تطهيره، بشرط عدم نفوذ الماء النجس إلى أعماقه، وأمّا مع النفوذ فلا يكفي غسل ظاهره، ويمكن تطهيره بما ذكر في كتاب الطهارة من وضعه في الكر إلى أن ينفذ الماء إلى داخله. ولو شك في النفوذ فالأصل عدمه.

ص: 427


1- الكافي 3: 330.

الفصل الثالث عشر: في سقوط الحيوان في المائع المضاف

اشارة

يقع الكلام في حكم المائع المضاف لو سقط فيه حيوان، سواء خرج حياً أم مات فيه. وفي المسألة صورتان:

الصورة الأولى: خروجه حياً

فإن كان نجس العين وسقط في الماء المضاف وخرج حياً تنجس بلا إشكال.

لكن ورد في صحيحة سعيد الأعرج(1): «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الفأرة والكلب يقع في السمن والزيت ثم يخرج منه حياً، قال: لا بأس بأكله»(2).

وهذا المقطع من الخبر غير معمول به، فلا يعارض عمومات نجاسة الكلب وتنجس المائع المضاف بملاقاة النجاسة، كما أن الوارد في التهذيب(3) من دون (الكلب) خلافاً للكافي.

ولعدم طرحه لابد من تأويله بأن المراد من الكلب السبع، وكما في دعاء

ص: 428


1- الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن النعمان، عن سعيد الأعرج قال: سألت... .
2- الكافي 6: 261؛ وسائل الشيعة 24: 198.
3- تهذيب الأحكام 9: 86.

النبي(صلی الله علیه و آله): «سلط الله عليك كلباً من كلابه»(1)، فافترسه الأسد،وهو خلاف الظاهر.

ويمكن تأويل الزيت بأنه جامد، وإن كان الظاهر إطلاقه على المائع. وقد يقال بحمله على التقية.

وأمّا لو سقط غير نجس العين وخرج حياً فلا يتنجس.

الصورة الثانية: موته فيه

لو سقط الحيوان في الدهن ومات فيه فللحكم تفصيل حسب اختلاف الدهن، حيث له حالات ثلاثة: مائع وجامد فيه شيء من الذوبان، وجامد صلب كالحجر، كما أن الحيوان قد تكون ميتته طاهرة، وقد تكون نجسة.

أمّا الطاهرة فلا إشكال في عدم النجاسة، سواء كان صغيراً كالذباب، أو كبيراً كالسمكة المحرمة.

وأمّا النجسة - كالفأرة - فلو ماتت في المائع فلا إشكال في نجاسته؛ وذلك لملاقاة المضاف للنجس، ولا يجوز استعماله فيما يشترط فيه

ص: 429


1- بحار الأنوار 18: 241، وفيه: «روي أنه(صلی الله علیه و آله) لما تلا {وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ} قال رجل من قريش: كفرت برب النجم، فقال له النبي(صلی الله علیه و آله): سلط الله عليك كلباً من كلابه، يعني أسداً، فخرج مع أصحابه إلى الشام حتى إذا كانوا بها رأى أسداً، فجعلت فرائصه ترعد، فقيل له: من أي شيء ترعد وما نحن وأنت إلا سواء، فقال: إن محمداً دعا عليَّ، لا والله ما أظلت هذه السماء ذا لهجة أصدق من محمد، ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يده في فيه، ثم جاء القوم فحاطوه بأنفسهم وبمتاعهم ووسطوه بينهم وناموا جميعاً حوله، فجاءهم الأسد فهمس يستنشق رجلاً رجلاً حتى انتهى إليه فضغمه ضغمة كانت إياها، وقال بآخر رمق: ألم أقل إن محمداً أصدق الناس؟ ومات».

الطهارة، كالأكل وتنظيف جدران المسجد مثلاً، وأمّا فيما لا يشترط فيه الطهارة كالإضاءة فيجوز.

ولو سقط في دهن فيه شيء من الذوبان ألقيت الميتة والمقدار الملاقيلها؛ لعدم سراية النجاسة إلى غير هذا المقدار.

ولو سقط في الصلب فمع عدم الرطوبة لم ينجس شيء منه حتى ظاهره.

ويدل على التفصيل المذكور القواعد العامة في أبواب الطهارة والنجاسة، بالإضافة إلى روايات خاصة في خصوص المقام مذكورة في الوسائل(1) وسائر الكتب الفقهية، وبعضها معتبرة، وعمل بها المشهور، وهي مطابقة للقواعد العامة.

فروع تتعلق بالمسألة

وفي المسألة فروع كثيرة نذكر بعضها:

الفرع الأول: في طريقة تطهير الدهن النجس

نقل الشيخ الأنصاري عن العلامة(2) أنه لا طريق لتطهير المضاف النجس إلا بإفنائه، لكن يمكن تطهير الدهن النجس بإلقائه في كر حار وخلطه، ثم يجمع من سطح الماء بعد برده.

وفيه تأمل من جهات:

أولاً: إن الروايات التي أمرت بإلقائه أو الاستصباح(3) به ظاهرة في عدم

ص: 430


1- وسائل الشيعة 24: 194.
2- كتاب الطهارة، للشيخ الأنصاري 1: 306؛ الفقه 76: 262.
3- وسائل الشيعة 24: 194.

إمكان تطهيره، وإلا كان إلقاؤه إسرافاً، كما أن الاستصباح إسراف أيضاً؛ لكونه دهناً صالحاً للأكل بعد تطهيره، والاستصباح لا يكون إلا بالدهن غير المأكول.

وليست الطريقة المذكورة للتطهير نادرة؛ لكثرة البيوت التي فيها حوضكر، والحر شديد في الصيف، فيمكن إلقاء الدهن فيه، ومع ذلك لم يشر إليه في الروايات.

وثانياً: إن سائر المياه المضافة تستهلك، فينتفي الموضوع بتفرق أجزائها في الكر، بخلاف الدهن حيث لا ينتفي الموضوع حتى بعد تفرق أجزائه.

وثالثاً: إنه حتى مع تفرق الأجزاء لم يحرز ملاقاة الكر لوسط الأجزاء المتفرقة من الدهن، فيبقى نجساً.

الفرع الثاني: في بيان معنى الجمود وحده

وحيث لم يرد تفسير لذلك في الروايات فلا يوجد للشرع مصطلح خاص فيه، فيؤخذ مفهومه من العرف، وهو الشيء الذي لو أخذ منه مقدار لم يمتلئ مكانه فوراً، وإن كان قد يمتلئ بعد دقائق، وعبر عنه في الرياض(1) أنه لو انقلب الإناء لم يسقط ما فيه، ومآله إلى ما ذكرناه.

الفرع الثالث: كون الاستصباح تحت السماء دون السقف

اشترط المشهور(2) أن يكون الاستصباح تحت السماء دون السقف، لكن الروايات مطلقة، واستدلوا على ذلك بأدلة(3):

ص: 431


1- رياض المسائل 12: 221.
2- الخلاف 3: 187؛ مسالك الأفهام 3: 120؛ كشف اللثام 9: 299.
3- مستند الشيعة 14: 74؛ جواهر الكلام 6: 269.

الدليل الأول: الإجماع(1)، وفيه نظر؛ لعدم تحققه صغرى، لمخالفة مثل الشيخ الطوسي(2) وابن الجنيد(3) وجمع من المتأخرين(4)، وعلى فرضتحققه فهو مدركي، حيث إن الدليل الثاني هو العمدة في الفتوى المذكورة.

الدليل الثاني: إن الاستصباح تحت السقف موجب لتنجيسه.

وفيه نظر؛ لتحقق الاستحالة، فإن الدخان المتصاعد غير الدهن، فلا يكون منجساً، وعلى فرض تصاعد الأجزاء الصغيرة من الدهن فلا نهي عن تنجيس السقف، وعلى فرض ورود النهي فهو ظاهر في الإرشادية؛ للزومه تنجيس البيت بعد نزول المطر لتساقط الماء من السقف.

ونقل عن البعض إن تنجيس السقف حرام؛ لكونه إسرافاً، ولا وجه لذلك.

الفرع الرابع: في جواز بيع الدهن النجس

ويختلف الحكم بين النجس والمتنجس، كما أنه لو لم يكن فيه منفعة عقلائية محللة لم يجز بيعه؛ لما فصل في كتاب المكاسب(5)، وأمّا مع فرض المنفعة العقلائية فلا مانع من البيع، كالعذرة التي تؤخذ للتسميد. نعم، لا يجوز ما استثني حتى مع فرض المنفعة العقلائية، كالخمر التي تؤخذ للتخليل.

ص: 432


1- كشف اللثام 9: 299؛ مستند الشيعة 14: 72.
2- المبسوط 6: 283.
3- مختلف الشيعة 8: 332.
4- رياض المسائل 8: 47؛ مستند الشيعة 14: 74.
5- كتاب المكاسب 1: 65.
الفرع الخامس: في إعلام المشتري بالنجاسة

هل يلزم على البائع إعلام المشتري بنجاسة الدهن؟ فيه صور ثلاثة(1):

الأولى: فيما لو كان المشتري مؤمناً ملتزماً يرى نجاسته.

الثانية: فيما لو جاز أكله عند المشتري في دينه أو مذهبه أو فتوىمقلده(2).

الثالثة: فيما لو كان المشتري مسلماً غير ملتزم، فحتى مع نجاسته عنده لا يبالي.

فيجب الإعلام في الصورة الأولى للإجماع(3)، ولأن عدمه غش، ولعدم جواز تسبيب وقوع المسلم في الحرام، ولخصوص صحيحة معاوية بن وهب(4) عن الإمام الصادق(علیه السلام): «ويبينه لمن اشتراه ليستصبح به»(5).

لكن حرمة الغش إنما هي في صورة صدق الغش عليه، كما لو اشتراه ليستعمله فيما يشترط فيه الطهارة كالأكل، وأمّا مع العلم بأنه يريد أن يسكبه في السيارة مثلاً فلا يصدق الغش.

وأمّا الصورة الثانية ففيها احتمالان: من وجوب الإعلام للرواية المذكورة: «ويبينه لمن اشتراه» حيث إنه مطلق يشمل المقام، ومن عدم

ص: 433


1- كتاب المكاسب 1: 73؛ الفقه 76: 265.
2- كما لو تنجس الدهن بملامسة الكافر له، وكان المشتري ممن يرى طهارة الكافر اجتهاداً أو تقليداً.
3- مسالك الأفهام 12: 84؛ كفاية الأحكام 2: 616.
4- الشيخ الطوسي بأسناده عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن وهب... .
5- التهذيب 9: 85؛ وسائل الشيعة 24: 194.

الوجوب لانصرافها عن هذه الصورة، فظاهرها من يراه نجساً، كما أنه لا فائدة في الإعلام.

كما استدل(1) على الجواز بالإلزام، وآخرون بالمناط، حيث ورد (بيع ممنيستحل)(2) فيما لو اشتبه المذكى بالميتة.

وهو الأقرب حيث لا دليل على لزوم الإعلام.

وأمّا الصورة الثالثة: فالظاهر لزوم الإعلام؛ لإطلاق النص والفتوى وعدم الانصراف، وليس ذلك من التسبيب للحرام؛ لكون الواسطة فاعلاً مختاراً.

ص: 434


1- الفقه 76: 265.
2- الكافي 6: 260.

الفصل الرابع عشر: في حرمة الأبوال

اشارة

لو كان البول نجساً - كبول الحيوان المحرم اللحم - فلا إشكال في حرمته؛ لعدم جواز شرب النجس، إنّما الكلام في البول الطاهر، كبول الحيوان المحلل، وفيه أقوال ثلاثة: الحلية مطلقاً، والحرمة مطلقاً، والتفصيل بين بول البعير فيجوز وغيره فلا.

القول الأول: الحلية مطلقاً

استدل لها بأدلة أربعة(1):

الدليل الأول: الحصر في قوله تعالى: {قُل لَّآ أَجِدُ فِي مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٖ يَطۡعَمُهُۥٓ}(2). فكل شيء حلال إلا الموارد المذكورة في الآية، وخصصت بما دل على حرمة سائر المحرمات، ولا دليل على التخصيص في المقام، وكذا أصالة الحلية حيث لا دليل على حرمة البول.

وصحة الاستدلال بهما متوقفة على رد أدلة القائلين بالحرمة، وإلا تخصص الآية، والأمارة واردة على الأصل.

الدليل الثاني: ما ورد في رواية قرب الإسناد(3): عن النبي(صلی الله علیه و آله): «لابأس

ص: 435


1- مختلف الشيعة 8 : 336؛ الفقه 76: 276.
2- سورة الأنعام، الآية: 145.
3- عبد الله بن جعفر، عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن الإمام الصادق عن أبيه‘: أن النبي... .

ببول ما أكل لحمه»(1).

وفيه إشكالان: أمّا سنداً: فالراوي أبو البختري وهب بن وهب قاضي العامة، واتفق الرجاليون(2) على ضعفه جداً، وأمّا دلالة: فظاهرها الطهارة لا الحلية، ولا أقل من الإجمال.

الدليل الثالث: مفهوم التحديد في الروايات لمحرمات الذبيحة، كالدم والطحال حتى الفرث، ومع ذلك لم يذكر البول، ومفهوم ذلك حلية سائر الأشياء التي هي جزء من الذبيحة أو يتواجد فيها.

وفيه نظر؛ حيث لم تذكر المحرمات في رواية مجتمعة بالتحديد، وإنما تفرقت في روايات متعددة، فلا يفهم منها عدم حرمة غيرها، فيكون الأمر من قبيل مفهوم اللقب، وهو غير حجة، وحتى لو قلنا بحجيته فلا يكون حجة في المقام؛ لكثرة الروايات.

الدليل الرابع: الإجماع الذي ادعاه السيد المرتضى(3).

وهو ضعيف؛ لكثرة المخالفين، وربما يكون منشؤ إجماعاته احتمال ابتناء المسألة على أصل كان محل الاتفاق، فاستظهر أن فرعه محل اتفاق أيضاً. نعم، لو ادعاه جمع أيضاً أمكن حصول الاطمئنان؛ لكنه مفقود في المقام، وربما يكون مراده من الإجماع غير ما نقصده.

ص: 436


1- قرب الإسناد: 156؛ وسائل الشيعة 25: 114.
2- الفهرست: 173؛ رجال ابن الغضائري: 100؛ خلاصة الأقوال: 414.
3- الانتصار: 424.
القول الثاني: الحرمة مطلقاً

واستدل لها بأدلة أربعة(1):

الدليل الأول: إنه من الخبائث، وهو من المحرمات للآية الكريمة(2).

وهو محل تأمل؛ لما مرّ من الأقوال الثمانية في الخبيث، وكان المختار الخبيث الواقعي، فلا يمكن التمسك لحرمة البول بكونه من الخبائث؛ لأنه دور على المبنى؛ لأن الكشف عن خبثه متوقف على تحريمه، ولو كان تحريمه متوقفاً على خبثه صار دوراً.

اللهم إلاّ أن يقال: إن الكاشف عن الخبيث الواقعي هو الشرع أو العرف كما مرّ، والعرف يراه من الخبيث، فتأمل.

الدليل الثاني: خبر سماعة: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن شرب الرجل أبوال الإبل والبقر والغنم، تنعت له من الوجع، هل يجوز له أن يشرب؟ قال: نعم، لا بأس به»(3).

لكن لا يصح الاستدلال بها لأن السؤال عن مورد الوجع، فالجواب على خصوص السؤال، ولم تذكر فيها قاعدة عامة لتشمل مورد الاختيار، فيكون الجواز المذكور خاصاً بحالة المرض للمضطر، فلا إطلاق له.

وفيه نظر؛ فليس السؤال عن الاضطرار، بل مجرد الوجع الأعم منه، فالجواز مع الوجع من غير اضطرار دليل على جوازه في غيره؛ لأنه لا يسوغ

ص: 437


1- مختلف الشيعة 8 : 337؛ كشف اللثام 9: 290؛ الفقه 76: 277.
2- وهي: قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ}. الأعراف: 157.
3- طب الأئمة: 62؛ وسائل الشيعة 24: 115.

المحرمات، فلا إشكال في دلالة الرواية. نعم، قد يشكل على سندها معالإعراض، حيث ذهب المشهور(1) إلى الحرمة في البقر والغنم، بل كاد أن يكون إجماعاً.

الدليل الثالث: ما ذكره صاحب الرياض(2) من دلالة حرمة المثانة التي هي مجمع البول على حرمته بطريق أولى.

وفيه نظر؛ لعدم العلم بعلّة حرمتها، وعلى فرض كون العلّة أنها مجمعه فلا تلازم بين حرمتها وحرمته، وإلا فلابد من القول بحرمة الكلية أيضاً؛ لكونها مجمع البول أيضاً، فإن الكبد يرسل السموم إليها بعد التصفية ومنها إلى المثانة؛ ولذا يُشم منها رائحة البول، كما يلزم القول بحرمة الكبد لكونه مجمع الدم.

الدليل الرابع: موثقة(3) عمار الدالة على الحلية حال الاضطرار، ومفهومها عدم الجواز في الاختيار، وهي: عن الصادق(علیه السلام): «وسئل عن بول البقر يشربه الرجل، قال(علیه السلام): إذا كان محتاجاً إليه يتداوى به شربه، وكذلك بول الإبل والغنم»(4)، فإذا لم يكن محتاجاً ولم يتداوَ به لم يجز شربه.

وفيه نظر: يظهر من رد الاستدلال السابق، فإن الاحتياج إلى التداوي أعم

ص: 438


1- رياض المسائل 12: 224؛ جواهر الكلام 36: 391.
2- رياض المسائل 12: 223.
3- الشيخ الطوسي بإسناده، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن بن علي بن فضال، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار الساباطي... .
4- تهذيب الأحكام 1: 284؛ وسائل الشيعة 25: 114.

من الضرورة المبيحة للمحرمات.فإن قلت: إذا كان حلالاً فلماذا قيد بصورة الاحتياج؟

قلنا: ربما للتنزه، فلا يكون الشرط لغواً، وإنما هو لإثبات الكراهة في غير حالة الاحتياج والتداوي.

القول الثالث: التفصيل بين بول البعير وغيره

واستدل له بأدلة الحرمة بالإضافة إلى التخصيص الوارد في الإبل، ففي خبر الجعفري(1) عن الإمام الكاظم(علیه السلام): «أبوال الإبل خير من ألبانها، ويجعل الله الشفاء في ألبانها»(2)، ولا إشكال في جواز لبنها.

وأشكل عليه بضعف السند ببكر بن صالح الرازي الذي ضعفه النجاشي(3). لكنه غير وارد لعمل المشهور الجابر، بل كاد أن يكون إجماعاً، بل ذكره في الفقه(4)، بالإضافة إلى ما سبق من الروايتين: عن سماعة: «عن شرب الرجل أبوال الإبل والبقر والغنم، تنعت له من الوجع، هل يجوز له أن يشرب؟ قال: نعم، لا بأس به»(5). والمشهور عمل في خصوص الإبل.

ولا إشكال في التفكيك في الرواية الواحدة، فيكون المقطع المعمول به حجة دون غيره، كما بحث في محله.

ص: 439


1- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن بكر بن صالح، عن الجعفري... .
2- الكافي 6: 338؛ وسائل الشيعة 25: 114.
3- فهرس أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي): 109.
4- الفقه 76: 276.
5- تقدم تخريجه.

وكذا في رواية عمار المعتبرة(1).والحاصل: عدم استبعاد الحرمة مطلقاً للخباثة على الأقرب، إلاّ في بول الإبل للعلاج فإنّ إذن الشارع فيه يكشف عن عدم كونه خبيثاً واقعاً مع استلزامه تخطئة العرف في تصور خبثه، إلاّ أن الأحوط الاقتصار فيه على العلاج فقط، فتأمل.

ص: 440


1- تقدم تخريجها.

الفصل الخامس عشر: بحوث في حكم الألبان

اشارة

والكلام في بحوث متعددة، وهي: حكم لبن الحيوان المحلل والمحرم والمكروه، وكذا حكم لبن الإنسان:

البحث الأول: في حلية لبن حلال اللحم

لا إشكال ولا خلاف في حلية لبن حلال اللحم، للإجماع والسيرة والروايات المتواترة(1)، بل قد يدعى أنه من الضروريات(2).

واستفاد البعض(3) من الروايات الاستحباب؛ لكنها ناظرة إلى الفوائد، فظاهرها الأمر الإرشادي لا الحكم التكليفي، ولا تلازم بينها وبين الاستحباب.

إن قلت: لا إشكال في استحباب التأسي بالنبي(صلی الله علیه و آله)، وشرب اللبن منه.

قلت: الأمر بالتأسي إرشادي، فلذا يجب التأسي فيما كان واجباً ويستحب فيما كان مستحباً، ويباح فيما كان مباحاً، وعليه فلابد من معرفة الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة من دليل آخر، فإن العمل بما هو لا جهة

ص: 441


1- راجع الروايات في وسائل الشيعة 25: 109 و 112 و 58 و 45 وغيرها.
2- مسالك الأفهام 12: 92؛ مجمع الفائدة 11: 215؛ كشف اللثام 9: 289؛ رياض المسائل 12: 225.
3- جواهر الكلام 36: 395.

له ولا يثبت به أكثر من الجواز في الجملة، ولا يخفى أن الوجوب والاستحبابوالإباحة باعتبار المتأسى به، اللهم إلا أن يقال: إن الأمر بالتأسي مولوي لكن لا يمكن حمله على الوجوب لاستلزامه تخصيص الأكثر، وعليه فيكون التأسي بنفسه مستحب، ولا يثبت به وجوب أو استحباب أو إباحة الفعل، والكلام في نفس الفعل هذا، بالإضافة إلى أنه يمكن أن يقال: إن التأسي ينصرف إلى القضايا الشرعية لا العادية كالأكل والشرب، فتأمل.

البحث الثاني: في لبن الحيوان المحرم

يقع الكلام في بيان حكم لبن الحيوان المحرم، كالذئب، واستدل للحرمة بأدلة(1):

الدليل الأول: مرسلة داود بن فرقد، قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن الشاة والبقرة ربما درت من اللبن من غير أن يضربها الفحل، والدجاجة ربما باضت من غير أن يركبها الديك، قال: فقال: كل هذا حلال طيب لك، كل شيء يؤكل لحمه فجميع ما كان منه من لبن أو بيض أو أنفحة فكل ذلك حلال طيب»(2).

ومفهومه: كل شيء لا يؤكل لحمه فجميع ما كان منه ليس بحلال.

وأشكل(3) عليه بعدم المفهوم، حيث إنه من مفهوم الوصف، وليس

ص: 442


1- رياض المسائل 12: 146؛ الفقه 76: 280.
2- الكافي 6: 325؛ وسائل الشيعة 25: 81.
3- رياض المسائل 12: 147.

بحجة.

وفيه: أولاً: إن الوصف المذكور في قوة الشرط، فمعناه: كل شيء إذاكان يؤكل لحمه.

ثانياً: قد يكون للوصف مفهوم إذا كان الكلام بحيث لو لم يكن له مفهوم كان الوصف لغواً، والمقام منه.

نعم، الوصف على نحو العموم ليس بحجة، وإنما لا يكون الكلام لغواً لترتب فوائد أخرى على الوصف، لكن في المقام لا فائدة أصلاً، فلا بد من القول بالوصف، وإلا كان لغواً، وكلامهم(علیهم السلام) منزه عنه.

ثالثاً: إن الرواية في مقام التحديد، فيكون مفهومها حجة.

الدليل الثاني: ما ذكره في الرياض(1) من أن أصل اللبن دم، وهو حرام، فتستصحب حرمته للشك فيه، بخلاف الحيوان المحلل لليقين بطهارته بالأدلة التي مرّت.

وفيه نظر: لتبدل الموضوع حقيقة وعرفاً للاستحالة.

الدليل الثالث: ما ذكره في الرياض(2) أيضاً من أنه جزء الحيوان المحرم، وإذا حرم الكل حرم الجزء؛ لأن الكل إنما هو تجمع الأجزاء.

وأجيب عنه(3) بأن الكبرى تامة، لكن تطبيقها على المقام غير تام، فإن اللبن ليس جزءاً من الحيوان عرفاً.

ص: 443


1- رياض المسائل 12: 226.
2- رياض المسائل 12: 226.
3- فقه الصادق 24: 192.

وأجاب آخرون بأن الدليل قائم على حرمة اللحم في الحيوان المحرم، كما هو صريح بعض الروايات دون غيره، لكنه محل تأمل؛ لاستلزامهحلية العظم والمخ والكبد ونحوها، ولم يقل به أحد، كما أن بعض الروايات لم تقيده باللحم؛ لذا يحرم جميع أجزائه بلا استثناء.

والحاصل: إن عمدة الدليل على تحريم لبن الحيوان المحرم هو مرسلة داود بن فرقد، منضماً إلى الشهرة العظيمة؛ ولأجل ذلك احتاط البعض كالمحقق الأردبيلي(1)؛ لعدم تمامية الدليل على الحرمة، بعد عدم ارتضاء المبنى في المرسلة المجبورة.

البحث الثالث: في لبن الحيوان المكروه اللحم

أفتى البعض(2) بكراهة لبن حيوان مكروه اللحم كالحمار، واستدل على الكراهة بما يلي:

أولاً: الإجماع المنقول(3)، لكنه غير ثابت لتصريح البعض بعدم الكراهة(4).

وثانياً: ما ذكره صاحب الرياض(5) من الشهرة الفتوائية، لكنها ليست بحجة حتى عنده، وإنما استدل بها من باب التسامح في أدلة السنن، حيث يشمل حتى فتوى فقيه واحد بالاستحباب أو الكراهة.

ص: 444


1- مجمع الفائدة 11: 215-216.
2- كفاية الأحكام 2: 617؛ رياض المسائل 12: 225.
3- رياض المسائل 12: 225.
4- كشف اللثام 9: 289.
5- رياض المسائل 12: 226.

ويشكل عليه مبنى: بأن أدلة التسامح إنما هي في مورد المستحبات والثواب على العمل، وفيه بحث أنه هل يثبت الحكم بالاستحباب أو يثبتالثواب فقط؟ وهو كلام في محله، لكن لا فرق من حيث الثمرة العملية بينهما، هذا أولاً.

ثانياً: إن التسامح خاص بالمنقول عن المعصوم لا الفقيه. نعم، لو كان مستند كلام الفقيه رواية أمكن الأخذ به، وإن لم نجد تلك الرواية، لكن في المقام لا يعلم كون المستند رواية، بل ربما يكون استنباطاً من كراهة اللحم.

وثالثاً: خبر داود: «كل شيء يؤكل لحمه فجميع ما كان منه من لبن أو بيض أو أنفحة فكل ذلك حلال طيب»(1)، فإذا حرم ما لا يؤكل لحمه فلابد من كراهة ما كره لحمه.

وفيه: إنه لا يستفاد ذلك منه؛ لأنه في مقام بيان الحلية ومفهومه الحرمة، ولا يفهم الكراهة منه، بل المكروه داخل في الحلال.

فالأقوى إنه لا دليل على كراهة لبن حيوان مكروه اللحم، بل هنالك روايات صحيحة تدل على عدم الكراهة، منها: صحيحة(2) العيص بن القاسم، عن الصادق(علیه السلام) قال: «تغديت(3) معه فقال لي: أتدري ما هذا؟ قلت: لا، قال: هذا شيراز الأتن(4) اتخذناه لمريض لنا، فإن أحببت أن تأكل

ص: 445


1- مرّ تخريجه وسنده.
2- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن صفوان بن يحيى، عن العيص بن القاسم... .
3- في تهذيب الأحكام 9: 101: >تغذيت».
4- شيراز معرب شير باز، أي اللبن الذي جفف ماؤه.

منه فكل<(1).

وهو ظاهر في عدم الكراهة، فلو كان مكروهاً لم يوضع على المائدة، ولميقل(علیه السلام) فكل.

وصحيحته الأخرى(2) قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام) عن شرب ألبان الأتن، فقال: اشربها»(3).

والأمر بعد توهم الحظر يدل على الإباحة.

وقد استدل على عدم الكراهة(4) بإطلاق أخبار اللبن، وأنه من طعام المرسلين(5). وفيه نظر؛ لانصرافه عن مثل لبن الحمارة.

والحاصل: عدم كراهة لبن الحيوان المكروه اللحم.

البحث الرابع: في لبن الإنسان

وقد ذهب البعض(6) إلى حرمته لخباثته، ولأدلة حرمة لبن حرام اللحم والإنسان منه.

وفيهما نظر؛ حيث إنه من الطيبات، فليس من الأمور النسبية حتى يكون خبيثاً للكبير طيباً للصغير، وأمّا أدلة حرمة حيوان حرام اللحم فمنصرفة عنه.

واستدل على الجواز بأن إفرازات بدن الإنسان لو لم تثبت خباثتها أو

ص: 446


1- الكافي 6: 338؛ وسائل الشيعة 25: 114.
2- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن عيص بن القاسم... .
3- الكافي 6: 339؛ وسائل الشيعة 25: 116.
4- جواهر الكلام 36: 395-396.
5- الكافي 6: 336.
6- منتهى المطلب 2: 1017؛ مفتاح الكرامة 12: 156.

نجاستها فلا دليل على حرمتها، بل الدليل قائم على حليتها، كما في رواية تلك المرأة البذيئة اللسان التي طلبت من النبي(صلی الله علیه و آله) طعامه، فناولها فطلبتمما في فمه فأعطاها فأكلته فلم يسمع منها بعد ذلك كلام بذيء(1)، ولاشك أن كل شيء من النبي(صلی الله علیه و آله) طاهر يتبرك به، لكن الحكم في الشريعة عام للجميع، كما في جريان السنة في غسل النبي(صلی الله علیه و آله) بعد رحيله مع أنه طاهر مطهر(2) ولم يذكر أنه كان من خصائصه(صلی الله علیه و آله)، والشاهد حلية البزاق، ولا فرق بينه وبين اللبن، وكلاهما من إفرازات البدن.

لكنه محل تأمل، فالفرق واضح، كما أن اللقمة في الفم تختلف عن جمع البزاق في الإناء، وهو واضح.

والحاصل: إنه لا دليل على حرمة لبن الإنسان.

ص: 447


1- الكافي 6: 271، وفيه: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان، عن ابن مسكان، عن الحسن الصيقل قال: سمعت أبا عبد الله(علیه السلام) يقول: «مرت امرأة بذية برسول الله(صلی الله علیه و آله) وهو يأكل وهو جالس على الحضيض، فقالت: يا محمد، إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه، فقال لها رسول الله(صلی الله علیه و آله): إني عبد وأي عبد أعبد مني؟ قالت: فناولني لقمة من طعامك، فناولها فقالت: لا والله إلا الذي في فيك، فأخرج رسول الله(صلی الله علیه و آله) اللقمة من فيه فناولها فأكلتها. قال أبو عبد الله(علیه السلام): فما أصابها بذاء حتى فارقت الدنيا».
2- وسائل الشيعة 2: 477، وفيه: «... لما قبض رسول الله(صلی الله علیه و آله) سمعنا صوتا في البيت أن نبيكم طاهرٌ مطهر...» وفي 3: 290: «عن الحسن بن عبيدة قال: كتبت إلى الصادق(علیه السلام) هل اغتسل أمير المؤمنين(علیه السلام) حين غسل رسول الله(صلی الله علیه و آله) عند موته؟ فأجابه: النبي(صلی الله علیه و آله) طاهر مطهر ولكن أمير المؤمنين(علیه السلام) فعل وجرت به السنة».

الفصل السادس عشر: في عدم جواز التصرف في مال الغير

اشارة

من الواضح عدم جواز التصرف في مال الغير من دون إذنه، سواء كان مسلماً أم كافراً ذمياً أم معاهداً، ويدل على ذلك القرآن والسنة والإجماع والعقل في الجملة.

أمّا القرآن فقوله تعالى: {وَلَا

تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ}(1)، فلو أجاز لم يكن من الباطل، وكذا قوله تعالى: {فَإِن

طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓٔٗا مَّرِيٓٔٗا}(2)، فالشرط في الحلية طيب النفس، ومفهومها عدم جواز الأكل مع عدمه، والمورد وإن كان في مهر المرأة لكن يستفاد منه - بعد إلغاء الخصوصية - عدم جواز التصرف في مال الغير من دون إذنه.

وأمّا الروايات فمستفيضة، بل متواترة، ومنها: موثقة(3) سماعة، عن الصادق(علیه السلام)(4)، وصحيحة(5) زيد الشحام عن الصادق(علیه السلام)، عن النبي(صلی الله علیه و آله):

ص: 448


1- سورة البقرة، الآية: 188.
2- سورة النساء، الآية: 4.
3- عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن أخيه الحسن، عن زرعة بن محمد، عن سماعة... .
4- الكافي 7: 274؛ وسائل الشيعة 29: 10.
5- علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أسامة زيد الشحام، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .

«لايحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه»(1).

وأمّا بالعقل فيحكم بقبح التصرف في مال الغير بغير إذنه، حيث إنه من مصاديق الظلم، وحرمته من المستقلات العقلية، ومصداقية المقام للظلم واضحة.

الاستثناء من عدم جواز التصرف في مال الغير

ويستثنى من ذلك الأكل من بيوت من تضمنتهم الآية وحق المارة.

الاستثناء الأول: حلية الأكل من بيت من تضمنتهم الآية

فقد قال الله تعالى: {لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ إِخۡوَٰنِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَعۡمَٰمِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخۡوَٰلِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ

كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ}(2). فلو كان المراد جواز الأكل مع الإذن لم يختص بالمذكورين، بل شمل جميع الناس، فذكرهم بالخصوص دال على جواز الأكل من بيوتهم بلا استئذان.

وفي المسألة فروع ومباحث كثيرة نشير إلى ما يرتبط منها بالفقه، وتفصيلها في الكتب المفصلة، كالفقه والمسالك والرياض والمستند

ص: 449


1- الكافي 7: 273؛ وسائل الشيعة 29: 10.
2- سورة النور، الآية: 61.

والجواهر(1)وغيرها.

فروع تتعلق بالمسألة
الفرع الأول: اشتراط العلم بعدم كراهة المالك

ذهب بعض الفقهاء(2) إلى جواز الأكل من دون استئذان، بشرط العلم بعدم كراهة المالك، واستدل على ذلك بأدلة أربعة(3):

الدليل الأول: الإجماع، فإن الآية وإن كانت مطلقة لكن الإجماع قائم على استثناء هذه الصورة، ولم أرَ مَن يفتي بالجواز حتى مع الكراهة.

الدليل الثاني: انصراف الآية عن صورة عدم رضا المالك. نعم، لو لم يثبت الانصراف فالإطلاق محكم.

الدليل الثالث: إن التصرف في ملك الغير مع العلم بكراهته قبيح عقلاً فيحرم؛ لأن العقل لو أدرك قبح شيء كان ملاكاً للتحريم الشرعي؛ للملازمة العقلية بين حكم العقل وحكم الشرع، أو لجهات أخرى بحثت في الأصول.

لكنه محل تأمل؛ لأن المالك الحقيقي هو الله تعالى، ولا مدخلية لإجازة المالك الاعتباري مع إذن المالك الحقيقي، فلا قبح؛ ولذا جازت الغنيمة وأخذ الحقوق الواجبة قهراً.

ص: 450


1- الفقه 76: 293؛ مسالك الأفهام 12: 98؛ كفاية الأحكام 2: 620؛ رياض المسائل 12: 235؛ مستند الشيعة 15: 40؛ جواهر الكلام 36: 406.
2- المذهب البارع 4: 237.
3- رياض المسائل 12: 236.

الدليل الرابع: إن النسبة بين الآية وحرمة التصرف في ملك الغير من دون إذنه هي عموم من وجه، فالآية بإطلاقها تجيز الأكل، سواء كره أملا، وأدلة الحرمة تدل على حرمة التصرف، سواء كان طعاماً أم لا، ويجتمعان في أكل طعام الغير مع كراهته، فالآية تجيز الأكل، وأدلة الحرمة تنهى عنه فلا يدلان على شيء، فلا يبقى دليل على الجواز.

وأجيب: بأنه مع تعارض العامين من وجه لابد من مراجعة المرجحات السندية، وأحدها موافقة الكتاب، وفي المقام الكتاب بنفسه مرجح على العام الآخر، المانع من التصرف في مال الغير بغير إذنه.

ويرد عليه: إن دليل العام الآخر هو الكتاب أيضاً، كما مرّ، كقوله تعالى: {وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ}(1)، وكذا قوله تعالى: {فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا

فَكُلُوهُ}(2).

ويمكن الإجابة عن ذلك بأن أصل الإباحة هو المحكم بعد عدم دلالة العامين من وجه.

والحاصل: إن صور المسألة أربعة: العلم بالكراهة، والظن بها، والظن بالإذن، والشك به، والصورة الخارجة عن إطلاق الآية هي الصورة الأولى، وأمّا الصور الثلاثة فمحل خلاف، حيث لا إجماع فيها، ولم يحرز الانصراف.

الفرع الثاني: في دخول الدار من غير إذن

لا إشكال في جواز الأكل مع تحقق الإذن بدخول الدار، لكن هل يجوز

ص: 451


1- سورة البقرة، الآية: 188.
2- سورة النساء، الآية: 4.

دخول الدار من دون استئذان والأكل؟قال جمع - كابن إدريس(1) - لو دخل الدار من دون إذن المالك فعل محرماً وحرم الأكل، وقال آخرون: حرم الدخول دون الأكل.

واستدل للقول الأول بأدلة:

الدليل الأول: إن الدخول من دون إذن غير جائز، والنهي عن اللازم نهي عن ملزومه، فإن الأكل من دون الدخول غير ممكن.

وأجيب عنه أولاً: بعدم الملازمة بين حرمة اللازم وحرمة الملزوم؛ لذا ينفكان، وتفصيله في الأصول في مقدمة الواجب، كما أن الأمر باللازم ليس أمراً بالملزوم وبالعكس.

وثانياً: يمكن عكس المعادلة بأن نقول: إن الإجازة في الملزوم تستلزم الإجازة في اللازم، فحيث جاز الأكل جاز الدخول.

وفيه نظر؛ لحرمة التصرف في ملك الغير من دون الإذن بلا إشكال، فلابد من البحث عن حرمة ملزومه، والظاهر أن منشأ الخلط هو ملاحظة جواز دخول المنزل، والغفلة عن أن سببه العلم بالإذن أو الفحوى، وإلا فمع عدمهما لم يجز الدخول بلا شك.

الدليل الثاني: ما ذكره ابن العلامة في الإيضاح(2) من أن الأصل عدم جواز أكل مال الغير، لكن مع الإذن بالدخول يجوز الأكل بلا إشكال، ومع عدمه لا يعلم جواز الأكل، فيقتصر على المورد المتيقن خروجه عن

ص: 452


1- السرائر 3: 124.
2- إيضاح الفوائد 4: 162.

الأصل.وفيه نظر: إذ مع إطلاق الآية لا مجال للاقتصار على المورد المتيقن وجوداً، وقد مرّ أن المولى لو كان في مقام البيان، ولم يكن هنالك قدر متيقن في مقام التخاطب أخذ بإطلاق كلامه، وأمّا القدر المتيقن الخارجي فلا يضر بالإطلاق.

الدليل الثالث: إن الإذن بالدخول قرينة على الإذن بالأكل فجاز، ومع عدمه لا قرينة على جوازه.

وفيه نظر؛ لأن جواز الأكل في الآية مطلق يشمل جميع الصور، ولا حاجة إلى القرينة. نعم، مع العلم بكراهة الأكل لم يجز للإجماع والانصراف.

ويحتمل جواز الدخول إلا مع العلم بعدم الرضا للتلازم العرفي بين الحكم بجواز الأكل من بيوت هؤلاء وبين جواز الكون في بيوتهم أو الدخول إليها، لكنه محل إشكال، ولا ينبغي ترك الاحتياط.

الفرع الثالث: مباحث في مفردات الآية

المبحث الأول: إن الآية ذكرت الأعرج والأعمى والمريض مع أن الحكم عام للجميع، والسر في ذلك أن الجاهليين كانوا يتحرجون من الأكل مع هؤلاء، ويعزون السبب في ذلك أن الأعمى لا يرى الأطعمة اللذيذة فيحرم منها، والأعرج لا يستطيع الجلوس بارتياح فلا يمكنه الأكل، والمريض قد لا يشتهي الطعام، وكل ذلك مستلزم لظلم الشريك إياهم، ولأجل ذلك كان الناس يبتعدون عن المائدة التي يجلس عليها هؤلاء، كما

ص: 453

أن هؤلاء الأصناف أيضاً لم يكونوا يشاركون الناس في الموائد؛ لعلمهم بكراهة الناس.

المبحث الثاني: في المقصود من (بيوتكم) وجوه ثلاثة:الأول: ما قيل من أن المسألة أدبية، فكما يمكن للإنسان أن يأكل من بيته كذلك هؤلاء لا فرق بين الأمرين، وبناءً على هذا التفسير لا يمكن استفادة حكم شرعي من قوله (بيوتكم).

الثاني: كثيراً ما يكون الإنسان في بيته لكن الطعام ليس له، كبيت الأزواج والعيال، فالزوجة ليست مالكة للبيت والطعام، لكن يطلق على البيت التي تسكنه بيتها، وكذا قد يكون للرجل زوجات متعددة فيصدق عليها جميعاً (بيوتكم)، وهذا الوجه هو الظاهر من الآية.

الثالث: إن المراد بيوت الأولاد من باب «أنت ومالك لأبيك»(1)، لكنه خلاف ظاهر الآية، وإن كان الحكم شاملاً له لقيام أدلة أخرى.

المبحث الثالث: الآباء والأمهات كما تشمل الوالدين كذلك تشمل الأجداد والجدات؛ لأنهم آباء وأمهات حقيقة لا مجازاً، وإن ذهب البعض(2) إلى عدم الشمول، فيحرم الأكل من بيوتهم؛ لأنه تصرف في ملك الغير مع عدم الاستثناء.

لا يقال: الإتيان بالجمع يرشد إلى ذلك، وإلا فله أب واحد.

لأنه يقال: الآية ناظرة إلى المجموع لا إلى الفرد.

ص: 454


1- الكافي 5: 135؛ وسائل الشيعة 17: 265.
2- مسالك الأفهام 12: 98.

فالصحيح ما قلناه من إطلاق الأب والأم حقيقة على الجد والجدة، وعلى فرض كونه مجازاً فلا مناص عن القول بظهور الآية في الشمول حتى للآباء مع الواسطة.المبحث الرابع: فسر قوله تعالى: {أَوۡ

مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ} بالوكيل(1) الذي بيده مفتاح البيت، لمرسلة(2) ابن أبي عمير(3)، ومرسلة أخرى في تفسير القمي(4)، والأولى معتبرة، لكون مراسيله بحكم المسانيد بعد صحة السند إليه.

المبحث الخامس: الصديق هو الرفيق ومرجعه العرف.

وفي صحيحة(5) الحلبي عن الصادق(علیه السلام): «قلت: ما يعني بقوله {أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ}؟ قال: هو والله الرجل يدخل بيت صديقه فيأكل بغير إذنه»(6).

وقيل: بعدم ارتباط بين السؤال والجواب، لكن الربط واضح، فإن الظاهر أن السؤال ليس عن معنى الصديق، ولذا كان جواب الإمام(علیه السلام) ناظراً إلى اختصاص جواز الأكل من البيت، وإن لم تذكر الآية كلمة البيت في الصديق بخلاف سائر الطوائف، فلا يجوز الأكل إلا من بيته.

ص: 455


1- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 7: 344.
2- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عمن ذكره، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
3- الكافي 6: 277؛ وسائل الشيعة 24: 282.
4- تفسير القمي 2: 109؛ وسائل الشيعة 24: 283.
5- الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن مسكان، عن محمد الحلبي... .
6- الكافي 6: 277؛ تهذيب الأحكام 9: 95؛ وسائل الشيعة 24: 281.
الفرع الرابع: الفرق بين المأكول الذي يخشى فساده وعدمه

مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق بين المأكول الذي يخشى فساده وبينغيره. لكن قيل باختصاص(1)جواز الأكل بما يفسد من يومه دون مثل التمر.

واستدل على ذلك بروايتين(2):

الأولى: ما في فقه الرضا(علیه السلام): «ولا بأس للرجل أن يأكل من بيت أبيه وأخيه وأمه وأخته أو صديقه، ما لا يخشى عليه الفساد من يومه بغير إذنه، مثل البقول والفاكهة وأشباه ذلك»(3).

وفيه: أولاً عدم تمامية السند، حيث لم يعلم كون الكتاب للإمام(علیه السلام)، فقد قال البعض: إنه رسالة عملية لوالد الشيخ الصدوق، وقال آخرون: إنه كتاب التكليف للشلمغاني(4). نعم، لا يختلف ما فيه عن المشهور بين الشيعة، لكنه لا يدل على كونه للإمام(علیه السلام).

وثانياً: إن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، اللهم إلا أن يقال إنه من مفهوم الوصف، وقد مرّ نظيره.

الثانية: موثقة(5) زرارة عن الصادق(علیه السلام): «ليس عليك جناح فيما طعمت

ص: 456


1- راجع المسالك 12: 99.
2- الفقه 76: 298.
3- فقه الرضا(علیه السلام): 255؛ مستدرك الوسائل 16: 242.
4- فقه الرضا: 10-48.
5- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن القاسم بن عروة، عن عبد الله ابن بكير، عن زرارة... والأقرب هو وثاقة القاسم بن عروة لتوثيق الشيخ المفيد له في المسائل الصاغانية ولوجوه أخرى في وثاقته مذكورة في محلّها (السيد الأستاذ).

أو أكلت مما ملكت مفاتحه ما لم تفسد»(1)، ومفهومالغاية عدم جواز ما لا يفسد من يومه.

وفيه نظر: فليس المعنى ما لم يفسد الطعام، وإلا فهل يأكل العاقل الطعام الفاسد حتى يجوّز الإمام(علیه السلام) أكل الطعام ما لم يفسد، بل المعنى جواز الأكل من داره ما لم تفسد عليه الأمر.

ويدل على قول المشهور صحيحة(2) زرارة عن الباقر(علیه السلام): «عما يحل للرجل من بيت أخيه من الطعام، قال: المأدوم

والتمر»(3)، فمع أن التمر لا يفسد ليومه جاز أكله، فما ذكره المشهور الذي كاد أن يكون إجماعاً هو الحق.

الفرع الخامس: عدم الفرق بين أنواع المأكول

إن إطلاق الآية يقتضي عدم الفرق بين أنواع المأكول، سواء كان متعارفاً أم نفيساً. لكن بعض الفقهاء(4) خصص جواز الأكل بما يعتاد أكله دون نفائس الأطعمة التي تدخر غالباً، ولا تؤكل شائعاً، واستدل على ذلك بوجوه ثلاثة(5):

الأول: انصراف الآية إلى الشيء المتعارف.

الثاني: مراعاة القدر المتيقن؛ لحرمة التصرف في مال الغير من دون إذنه، والمقدار المتيقن من الجواز ما يعتاد أكله.

ص: 457


1- الكافي 6: 277؛ تهذيب الأحكام 9: 95؛ وسائل الشيعة 24: 282.
2- البرقي، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن زرارة... .
3- المحاسن 2: 416؛ وسائل الشيعة 24: 282.
4- مستند الشيعة 15: 43.
5- مستند الشيعة 15: 43؛ الفقه 76: 299؛ جواهر الكلام 36: 409.

الثالث: معتبرة(1) زرارة عن الصادق(علیه السلام): «في قول الله عز وجل: {أَوۡصَدِيقِكُمۡۚ} {أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ}، فقال(علیه السلام): هؤلاء الذين سمى الله عز وجل في هذه الآية تأكل بغير إذنهم من التمر والمأدوم، وكذلك تطعم المرأة من بيت زوجها بغير إذنه، وأمّا ما خلا ذلك من الطعام فلا»(2)، وليست النفائس من المأدوم.

لكن الوجوه المذكورة محل نظر فلا انصراف، نعم، مع تحقق العلم والاطمئنان بكراهة المالك أمكن القول بالانصراف، والظاهر حصول الخلط بين صورة العلم بالكراهة وعدمه، ففي الأول الانصراف محقق دون الثاني.

أمّا القدر المتيقن فالمخل منه بالإطلاق إنما هو في مقام التخاطب لا القدر المتيقن الوجودي.

وأمّا الخبر فهو وإن كان معتبراً سنده على الأقرب، إلاّ أنه لا دلالة له حيث إن المأدوم بمعنى الطعام الملائم للطبع، كما قاله بعض العلماء(3)، وذكرته كتب اللغة(4)، فالإدام: هو ما يؤكل مع الخبز كالمرق واللحم والدهن، أمّا المأدوم فمعناه الطعام الطيب، وكما أن المعتاد أكله طعام طيب

ص: 458


1- الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن صفوان، عن موسى بن بكر، عن زرارة... والأقرب وثاقة موسى بن بكر الواسطي لكونه من مشايخ ابن أبي عمير وصفوان، وقد وصف العلامة حديثه بالصحة، ولشهادة صفوان بعدم اختلاف الأصحاب في كتابه (السيد الأستاذ).
2- الكافي 6: 277؛ تهذيب الأحكام 9: 95؛ وسائل الشيعة 24: 281.
3- فقه الصادق 24: 206.
4- العين 8 : 88؛ لسان العرب 12: 9.

كذلك النفيس.

ويحتمل بدواً أن يكون المراد من المأدوم في الخبر الطعام المطبوخ الجاهز للأكل، فلا يشمل الحكم لمثل الحنطة يطحنها ثم يعجنها ثم يخبزها ليأكلها.

الفرع السادس: في تعدي الحكم من المأكول إلى غيره

يقع الكلام في تعدي الحكم من المأكول إلى المشروب والوضوء والكون في البيت. أمّا التعميم إلى الشرب فقريب؛ لإلغاء الخصوصية عرفاً، فمع الحكم بجواز الأكل يرى العرف أن الشرب أيضاً كذلك، وليس هذا من المناط - الذي هو فهم العلة - حيث يشترط فيه القطع بالعلة ثم التعميم، وإلا كان قياساً، بل من إلغاء الخصوصية، حيث يرى العرف أن المورد المذكور في الآية أو الرواية بعنوان المثال ولا خصوصية فيه.

وأمّا الوضوء والنوم ونحوهما من التصرفات فلا تدل الآية عليه، حيث لا مناط ولا إلغاء للخصوصية. نعم، يمكن التمسك بدليل آخر، كشاهد الحال للاطمئنان برضا المالك، لكن لا يرتبط بالاستدلال بالآية.

الفرع السابع: في حكم الطعام خارج البيت

تختص الآية بجواز الأكل من البيت، وأمّا حكم الطعام خارج البيت فيختلف باختلاف المصاديق، فتارة تلغى الخصوصية، كما لو كان الطعام في الدكان، وتارة لا تلغى، كما لو وضع الطعام أمانة عند أحد، فيبقى في عموم حرمة التصرف في مال الغير.

الفرع الثامن: في جواز حمل الطعام خارج البيت

تختص الحلية بالأكل، فلا يجوز حمل الطعام خارج البيت، إلا ما يعتبر

ص: 459

عرفاً أكلاً لا حملاً، كما لو أخذ طعاماً وتناوله وهو خارج من البيت.

الفرع التاسع: في جواز إطعام الغير وعدمه

لا دلالة للآية على جواز إطعام الغير كالفقير، لكن يستفاد من بعض الروايات جواز ذلك لمن ملك المفتاح والصديق والزوجة، كخبر جميل عن(1) الصادق(علیه السلام) قال: «للمرأة أن تأكل وأن تتصدق، وللصديق أن يأكل في منزل أخيه ويتصدق»(2)، والمراد يتصدق مما يأكل لا أن يتصدق بأموال صاحب البيت.

وكذا التقييد بعدم الإفساد في موثق زرارة، عن أحدهما‘: «ليس عليك جناح فيما طعمت أو أكلت مما ملكت مفاتحه ما لم تفسد»(3).

والتعميم إلى سائر الموارد موقوف على فهم التعليل أو إلغاء الخصوصية.

وقد يشكل على خصوص تصدق المرأة بروايات(4) مفادها عدم جواز تصدقها من مال زوجها، فيتعارضان ويتساقطان.

والجواب عن ذلك بكون خبر جميل أخص مطلقاً؛ لاختصاصه بالمأكول. مضافاً إلى التصريح بجواز تصدقها بالمأدوم في موثقة(5) بكير قال: «سألت أبا عبد الله(علیه السلام): ما يحلّ للمرأة أن تصدّق من بيت زوجها بغير

ص: 460


1- عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن جميل بن دراج... وقد مرّ أن الأقوى اعتبار سهل بن زياد.
2- الكافي 6: 277؛ وسائل الشيعة 24: 281.
3- مرّ تخريجه وسنده.
4- وسائل الشيعة 17: 270.
5- الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال عن ابن بكير... .

إذنه؟ قال: المأدوم»(1).

الفرع العاشر: عدم الفرق بين النسب والرضاع

لا فرق في الحكم بين النسب والرضاع؛ لإطلاق اللفظ عليهم، ويتفرع عليه عدم الفرق بين الأبويني والأبوي والأمي.

الاستثناء الثاني: حق المارة

أمّا الاستثناء الثاني فهو حق المارة، حيث يجوز الأكل من دون استئذان المالك، فيما لو عبر المار على أشجار فيها ثمار مع شروطه المقررة، وقد تطرق الفقهاء إلى ذكر هذه المسألة في بابين هنا، وفي البيع في مسألة بيع الثمر.

الأقوال في المسألة

وفي المقام قولان:

القول الأول: الجواز

وهو المشهور(2) بين القدماء، بل كاد أن يكون إجماعاً(3)، وأمّا المتأخرون فقد أشكل بعضهم على ذلك(4)، لكن مشهورهم أيضاً على الجواز.

واستدل على ذلك بروايات تخصص عدم جواز التصرف في ملك الغير من دون إذنه:

ص: 461


1- الكافي 6: 346؛ وسائل الشيعة 17: 271.
2- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 3: 371.
3- الخلاف 6: 98؛ مسالك الأفهام 12: 99.
4- مجمع الفائدة 11: 309؛ كفاية الأحكام 2: 621.

الرواية الأولى: مرسلة(1) ابن أبي عمير، عن الصادق(علیه السلام) قال: «سألته عن الرجل يمر بالنخل والسنبل والثمر، فيجوز له أن يأكل منها من غيرإذن صاحبها من ضرورة أو غير ضرورة، قال: لا بأس»(2). والأقرب أن مراسيله كمسانيده، فتكون معتبرة بالإضافة إلى عمل المشهور بها.

الرواية الثانية: صحيحة(3) عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله؛(علیه السلام) قال: «لا بأس بالرجل يمر على الثمرة ويأكل منها ولا يفسد، قد نهى رسول الله(صلی الله علیه و آله) أن تبنى الحيطان بالمدينة لمكان المارة، قال: وكان إذا بلغ نخله أمر بالحيطان فخرقت لمكان المارة»(4). وقد عبّر عنها في بعض الكتب الفقهية بالخبر(5)، لكن الحق صحتها لأن سندها في المحاسن صحيح، وإن كان في سندها في الكافي(6) إسماعيل بن مرار وهو مجهول.

الرواية الثالثة: خبر أبي الربيع، وهي بنفس النص السابق لكن بإضافة: «ولا يفسد ولا يحمل»(7).

الرواية الرابعة: مرسل يونس بن عبد الرحمن، عن الصادق(علیه السلام): «لا

ص: 462


1- الشيخ الطوسي بأسناده، عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
2- تهذيب الأحكام 7: 93؛ وسائل الشيعة 18: 226.
3- البرقي، عن أبيه، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن سنان... .
4- المحاسن: 528؛ وسائل الشيعة 18: 229.
5- فقه الصادق 18: 236.
6- الكافي 3: 569؛ وسائل الشيعة 9: 203. والسند علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن سنان.
7- الكافي 3: 569؛ وسائل الشيعة 9: 204.

بأس أن يأكل ولا يحمله ولا يفسده»(1). وهي معتبرة لعمل المشهور بها.

وهنالك روايات أخرى يمكن مراجعتها في الوسائل، باب جواز أكل المارمن الثمار(2).

وأشكل عليها بإشكالات(3):

الإشكال الأول: الإشكال السندي. لكن ظهر الجواب عنه.

الإشكال الثاني: ما مرّ من قبح التصرف في ملك الغير عقلاً وشرعاً، ولا يمكن تخصيص حكم العقل إلا بتبدل الموضوع.

والجواب: إن القبح ثابت ما لم يأذن مالك الملوك ومعه فلا، كما مرّ سابقاً.

الإشكال الثالث: إنه خلاف السيرة؛ لقيامها على منع الناس من التناول، ويشهد لذلك الجدران التي تبنى على البساتين ووضع الحراس.

والجواب: إن جواز الأكل إنما هو مع عدم العلم بكراهة المالك، وأمّا معه فلا يجوز كما سيأتي، وبناء الحائط ووضع الحارس علامة على الكراهة عرفاً، فيخرج عن الموضوع، كما أن دخول البستان تصرف في ملك الغير وهو غير جائز، وليس الكلام فيه وإنما في الثمار المتدلية الواقعة في الطريق، بل السيرة قائمة على العكس، وهو تناول الخارج إلى الطريق أو ما سقط منه على الأرض.

ص: 463


1- تهذيب الأحكام 6: 383؛ وسائل الشيعة 18: 227.
2- وسائل الشيعة 18: 226.
3- فقه الصادق 18: 238.

الإشكال الرابع: لو جاز لاستلزم تلف أموال الناس، فما من بستان وإلا وهو بجانب الطريق، فالإذن بجواز الأكل منه مستلزم لضياع الثمار وتلف أموال الناس، وهو مما لا يرضى به الشارع.

والجواب: ليس معنى حق المارة دخول البساتين وإتلاف الأموال، وإنماالأكل مما يلي الطريق، وهو غير مستلزم لما ذكر، ويشهد له فتوى المشهور بالجواز، ومع ذلك لم يسبب التلف والضياع.

والحاصل: تمامية هذا القول للروايات المعمول بها.

القول الثاني: عدم الجواز

والمنسوب إلى السيد المرتضى من المتقدمين(1)، ومال إليه صاحب المسالك(2) من المتأخرين، هو عدم الجواز من دون استئذان لأدلة ثلاثة:

الدليل الأول: القاعدة العامة من حرمة التصرف في مال الغير، ولم يثبت الاستثناء؛ لتضعيف الروايات المجوزة.

والجواب: إنه ثبت اعتبار الروايات التي تخصص القاعدة العامة.

الدليل الثاني: صحيحة(3) علي بن يقطين: «سألت أبا الحسن(علیه السلام) عن الرجل يمر بالثمرة من الزرع والنخل والكرم والشجر والمباطخ وغير ذلك من الثمر، أيحل له أن يتناول منه شيئاً ويأكل من غير إذن صاحبه؟ وكيف

ص: 464


1- رياض المسائل 8: 375؛ جواهر الكلام 24: 130.
2- مسالك الأفهام 12: 100.
3- الشيخ الطوسي بأسناده، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن أخيه الحسين بن علي يقطين، عن علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام)... .

حاله إن نهاه صاحب الثمرة أو أمره القيم أو ليس له؟ وكم الحد الذي يسعه أن يتناوله؟ قال(علیه السلام): لا يحل له أن يأخذ منه شيئاً»(1).

والجواب من وجوه:أولاً: إعراض المشهور عنها، بعد صحة سندها وفرض تمامية دلالتها.

ثانياً: إن الرواية المذكورة على الجواز أدل، حيث نفى الحلية عن الأخذ لا الأكل، كما هو رأي المشهور، وقد سأل السائل عن أمور ولم يجبه الإمام(علیه السلام) بشيء منها، وإنما حرم الأخذ، مما هو مشعر بجواز موارد السؤال.

ويظهر ذلك في الروايات المجوزة، حيث إنها كلها ذكرت الأكل، وأمّا الناهية فقد ذكرت الأخذ، ولا يخفى الفرق بينهما.

ثالثاً: على فرض شمول الأخذ للقطف والأكل والحمل وما أشبه فهي رواية عامة تخصص بروايات جواز الأكل.

ورابعاً: مع القول بكون الأخذ بمعنى الأكل فلابد من الجمع بين الروايات بحمل الناهية على الكراهة.

الدليل الثالث: صحيحة(2) مسعدة بن زياد، عن الصادق(علیه السلام): «وسئل عما يأكل الناس من الفاكهة والرطب مما هو لهم حلال، فقال: لا يأكل أحد إلا من ضرورة، ولا يفسد إذا كان عليها فناء محاط، ومن أجل أهل(3) الضرورة نهى رسول الله(صلی الله علیه و آله) أن يبنى على حدائق النخيل والثمار بناءً

ص: 465


1- الاستبصار 3: 90؛ وسائل الشيعة 18: 228.
2- عبد الله بن جعفر في (قرب الإسناد) عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمد(علیه السلام)... .
3- هكذا في المصدر الأصلي، لكن لا توجد كلمة (أهل) في وسائل الشيعة 18: 229.

لكي يأكل منها كل أحد»(1).

والجواب: أولاً: عدم الدلالة، فالفناء بمعنى الأرض الخالية، فيكون المعنى عدم كون الأشجار في الطريق، كما أن الجدار علامة على الكراهة.وثانياً: إن الرواية المذكور مطلقة تشمل المارة وغيرهم، والروايات المجوزة مقيدة بالمارة. فالأصح ما عليه المشهور.

وأما تضعيف السند بالإرسال فلا، وذلك لصحة السند في كتاب قرب الإسناد.

شروط حق المارة

ويظهر من مطاوي البحث أن لحق المارة شروطاً، فلا يجوز الأكل مع افتقاد أحدها.

الشرط الأول: كون المرور اتفاقياً

أن يكون مروره اتفاقياً، وأمّا لو كان الذهاب بقصد الأكل فلا يجوز؛ للإجماع(2) وللروايات(3) التي ذكرت المرور، والذهاب بقصد الأكل ليس مروراً. نعم، لو صدق المرور جاز، ولو كان له طريقان فاختار الطريق الذي فيه الثمار ليأكل منها فقد ذهب بعض الفقهاء(4) إلى عدم الإشكال فيه؛ لصدق المرور، وإن كان اختياره لأحد الطريقين لأجل الأكل، لكن المقصد الأصلي غير الأكل، والإجماع دليل لبي يتمسك بالقدر المتيقن منه.

ص: 466


1- قرب الإسناد: 80؛ وسائل الشيعة 9: 203-204.
2- رياض المسائل 8: 376؛ مستند الشيعة 15: 53؛ جواهر الكلام 36: 127-128.
3- وسائل الشيعة 9: 203.
4- فقه الصادق 24: 213.

فرع: لو كان أخذ الفاكهة من الشجرة مستلزماً للدخول في الملك الغير بخطوة أو خطوات قليلة لم يكن به بأس كما في المستند(1)؛ لشمولالروايات المجوزة له، لكنه خلاف الاحتياط.

الشرط الثاني: عدم جواز الحمل

اختصاص الحكم بالأكل، للنصوص الواردة(2)، فلا يجوز الحمل، ففي صريح بعض الروايات عدم جواز الحمل(3)، هذا بالإضافة إلى الإجماع على عدم جوازه (4).

الشرط الثالث: عدم الإفساد

عدم الإفساد، ويدل عليه مضافاً إلى الأدلة العامة، تصريح الروايات الدالة على جواز الأكل بعدم الإفساد، كصحيحة ابن سنان، وخبر أبي الربيع، ومرسل يونس(5).

فرع: قال بعض الفقهاء(6): إن الإكثار من الأكل من مصاديق الإفساد فلا يجوز، واستدل له بالإضافة إلى ذلك أنه إضرار للمالك وهو منفي، وقيام الإجماع والضرورة على عدم الجواز في بعض الصور، كما لو كان المالك

ص: 467


1- مستند الشيعة 15: 54.
2- وسائل الشيعة 9: 203.
3- وسائل الشيعة 18: 227، وفيه: ... عن محمد بن مروان قال: «قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): أمر بالثمرة فأكل منها، قال: كل ولا تحمل».
4- رياض المسائل 8: 376؛ مستند الشيعة 15: 53؛ جواهر الكلام 36: 127-128.
5- مرّ تخريجها.
6- مجمع الفائدة 8: 224؛ مستند الشيعة 15: 52-53.

فقيراً لا يملك إلا هذه الشجرة، والشارع يحمي الفقراء، فلا يعقل أن يجيز الأكل منه.

وفيه نظر؛ لأن المقصود من الإفساد هو التخريب، ككسر القفل أو البابأو الغصن، فلا يكون الإكثار من مصاديقه، وأمّا دليل الضرر فلا يرفع الحكم الذي جعل في مورد الضرر، كالخمس والزكاة، والإكثار وإن كان فيه الضرر لكن (لا ضرر) لا يرفعه(1).

وأمّا الإجماع والضرورة فلم يثبتا، كما أنه تهويل للموضوع، ودليل خطابي لا يمكنه مقاومة الحكم الشرعي، وإلا كان الأكل القليل أيضاً غير جائز في المثال المذكور، فيما لو مرّ على شجرته ألف إنسان، وكل واحد يأكل تمرة واحدة فقط، ومن هنا ذهب بعض الفقهاء إلى جواز الأكل إلى حد يترتب عليه الضرر، فلا يجوز بعده حتى تمرة واحدة.

كما أن القول بكون الشارع حافظاً لأموال الفقراء يراعي مصالحهم هو صحيح في الجملة، لكنه يلاحظ المصالح الأخرى أيضاً، ومن هنا لو مات الفقير مديوناً فلابد من تسديد ديونه من أصل التركة وإن استوعبتها، حتى وإن خلف أيتاماً فقراء، وعلى المسلمين تكفل الأيتام، وكذا المفلس يحجر عليه وتقسم أمواله مع حاجته إليها.

ص: 468


1- وقد يقال: إن الحكم بجواز الأكل إنما هو في مورد الضرر المتعارف فلا يرفع بلا ضرر، وأمّا الإكثار فهو ضرر غير متعارف، ولا يعلم جعل الحكم في مورده، فيرفعه لا ضرر، كما هو الحال في الصوم، فإن الصائم يتأذى بترك الأكل والشرب خاصة في الصيف، ومع ذلك لا يرفعه لا ضرر؛ لأن الحكم بهذا المقدار مجعول في مورد الضرر، بخلاف ما لو أضره كثيراً فيرفعه (المقرر).
الشرط الرابع: اختصاص جواز الأكل بالفواكه والتمر...

خصص بعض الفقهاء(1) جواز الأكل بالفواكه والتمر وما له سنبلةكالحنطة والشعير، دون مثل الرقي والبطيخ والخضار؛ وذلك لاختصاص الروايات بها.

وأشكل عليه(2): بأنه وإن كانت الثمرة منصرفة إلى الفاكهة عرفاًَ، لكن حيث أطلق الثمر في صحيحة علي بن يقطين(3) على مثل البطيخ عُمّم الحكم، كما أن الزرع يشمل مثل الخيار، حيث قال علي بن يقطين «عن الرجل يمرّ بالثمرة من الزرع والنخل والكرم والشجر والمباطخ وغير ذلك من الثمر»، فلا وجه للتخصيص بالفاكهة، ولا مجال للرجوع إلى العرف في المقام؛ لأن الرجوع إليهم إنما هو لمعرفة معاني الروايات، فلو عُمم المعنى في الرواية أو خصص أخذ بها دون ما هو متفاهم عرفاً.

إن قلت: إن التعميم المذكور إنما هو في كلام السائل دون الإمام(علیه السلام)، فلا يكون حجة.

قلنا: إن السائل من أهل اللسان، فيكون استعماله حجة.

إن قلت: إن كلام اللغوي ليس بحجة عند مشهور المتأخرين(4)، إلا مع العدد والعدالة أو الاطمئنان.

قلنا: إن أصل المبنى محل تأمل، بالإضافة إلى أن الاستشهاد بكلام علي

ص: 469


1- كشف اللثام 9: 317؛ مستند الشيعة 15: 51؛ جواهر الكلام 24: 132. 15.
2- فقه الصادق 24: 215.
3- الاستبصار 3: 90؛ وسائل الشيعة 18: 228.
4- درر الفوائد في الحاشية على الفرائد 1: 95.

بن يقطين ليس من باب كونه من أهل اللغة، وإنما لأنه من أهل اللسان، وكلامهم حجة في معرفة استعمالات العرب؛ لحصول العلم بكيفيةاستعمالهم للفظ في معناه.

لكن يرد هنا إشكال آخر وهو: إن إطلاق واحد من أهل اللسان على خلاف المتفاهم العرفي لا يصنع ظهوراً للروايات التي استعملت كلمة الثمرة؛ فلو وردت كلمة الثمرة في الروايات فهل تحمل على ما يفهمه العرف، أو يمكن حملها على ما أطلقه علي بن يقطين، مع احتمال اشتباهه، أو استعماله اللفظ في المعنى المجازي؟ لذا فالاستدلال بهذه الصحيحة لإدخال هذه الموارد في الحكم محل تأمل.

لكن يمكن إدخال مثل البطيخ والرقي والخيار واللوز والفستق، والتي ليست من الثمرة في الحكم من باب إلغاء الخصوصية، أو فهم المناط، حيث إن المالك أخذ من طريق الناس، فللناس الحق أن يأكلوا مما في طريقهم، وإنما لم تذكر هذه الموارد في الروايات لعدم زرعها في الطريق عادة.

والحاصل: عدم تمامية الشرط الرابع.

الشرط الخامس: كون الثمر على الشجر

اشترط بعض الفقهاء(1) أن يكون الثمر على الشجر، فلا يجوز أخذ الساقط على الأرض، لكن إشكاله واضح، فإن أخذ الساقط أولى من أخذ ما على الشجرة؛ لكونه معرضاً للتلف، ولا يستلزم التصرف في الأرض أو

ص: 470


1- مجمع الفائدة 8 : 225؛ رياض المسائل 8 : 378؛ مستند الشيعة 15: 55.

الشجرة التي هي ملك الغير، كما أن إطلاق الأدلة ينفي هذا الشرط بهذا المعنى.ولعل مرادهم من الشرط المذكور أخذ ما اقتطفه المالك وجمعه في صندوق - مثلاً - ليأخذه لنفسه، فإن أدلة الجواز منصرفة عن مثل هذا المورد، ولا بأس بالشرط المذكور بهذا المعنى.

الشرط السادس: عدم العلم بكراهة المالك أو الظن بها

اشترط بعض الفقهاء(1) عدم العلم والظن بكراهة المالك، وأمّا مع أحدهما فلا يجوز الأكل.

لكن لا دليل عليه، ولا وجه للقول بالانصراف، فإن قول الإمام(علیه السلام): «من غير إذن صاحبه» مطلق يشمل حتى صورة الكراهة بعد إذن مالك الملوك.

نعم، اشترطنا الشرط المذكور في الأكل من بيوت من تضمنتهم الآية(2) للإجماع، وهو مفقود في المقام.

وبناءً على الشرط المذكور قال بعض الفقهاء(3): إن بناء السور على الأشجار علامة كراهة المالك.

وفيه نظر، فإنه مع السور لا يجوز الدخول؛ لأنه تصرف في ملك الغير، وأمّا لو خرج الغصن خارج السور جاز الأكل لإطلاق الأدلة.

وأمّا ما كان يصنع النبي(صلی الله علیه و آله) من هدم الجدار(4) فلا يدل على جواز هدم

ص: 471


1- المصادر في الهامش السابق.
2- سورة النور، الآية: 61.
3- مستند الشيعة 15: 54؛ فقه الصادق 24: 215.
4- وسائل الشيعة 18: 229.

جدران بساتين الناس، فإنه(صلی الله علیه و آله) كان يصنع ذلك بمال نفسه، فلا يستفاد منه حكم إلزامي، فإن فعل المعصوم(علیه السلام) لا لسان له، وإنما يثبت أصل الجواز فيالجملة.

الشرط السابع: كون الثمرة ناضجة

اشترط بعض الفقهاء(1) نضج الثمرة فلا يجوز الأكل من الثمار التي لم تنضج.

وفيه نظر؛ لإطلاق الأدلة، وخاصة إن بعض الثمار مطلوبة حتى قبل أن تنضج كاللوز والعنب.

ص: 472


1- جواهر الكلام 14: 135؛ فقه الصادق 24: 216.

الفصل السابع عشر: مباحث في تناول المحرمات حال الاضطرار

اشارة

وقد تطرق في الشرائع(1) إلى مسألة جواز أكل المحرمات في حال الاضطرار، لكنه لا يختص بالأكل، بل يشمل فعل المحرمات أيضاً، فالحكم الأولي في الاضطرار الحلية والإباحة، فلابد من تعميم الكلام. فأما الاضطرار إلى الخمر فقد مرّ في الفصل الحادي عشر، فراجع.

وفي المقام مباحث:

المبحث الأول: في أدلة حلية المحرمات حال الاضطرار

تدل على حلية المحرمات في حال الاضطرار الأدلة الأربعة:

فمن الكتاب: قوله تعالى بعد ذكر المحرمات التي يحرم أكلها: {فَمَنِ

ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ}(2).

وقال سبحانه وتعالى: {فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ}(3).

وقال عز من قائل: {وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ وَقَدۡ

ص: 473


1- شرائع الإسلام 4: 757.
2- سورة البقرة، الآية: 173.
3- سورة المائدة، الآية: 3.

فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِۗ}(1).فهذه الآيات تدل على جواز اقتحام المحرم في حال الاضطرار، كما أن هنالك آيات يكون الاضطرار من مصاديقها، كقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ}(2)، ومن الواضح حصول الحرج إذا منع المضطر، فإن الحرج يرفع التكليف، وتفصيله في محله.

ومن السنة متواتر الروايات(3) التي تحل المأكولات وغيرها عند الاضطرار، وتفصيلها في الكتب الفقهية والروائية.

والإجماع قطعي، وقد ذكره الكثير من الفقهاء(4).

والعقل يحكم بتقديم الأهم والمهم، فإنه وإن كان المهم عدم اقتحام المحرمات لكن الأهم هو حفظ النفس.

المبحث الثاني: في معنى الاضطرار

يقع الكلام في بيان معنى الاضطرار، وحيث لم يحدد الشارع معنى خاصاً له فلابد من أخذ مفهومه من العرف.

وقد أشرنا فيما مضى أن الشارع إذا اخترع موضوعاً أخذت حدوده بحذافيرها منه كالصلاة، لكن الغالب استعماله اللفظ في نفس المعنى المتفاهم عرفاً. نعم، قد يوسع ويضيق في نفس المعنى العرفي.

ص: 474


1- سورة الأنعام، الآية: 119.
2- سورة الحج، الآية: 78.
3- وسائل الشيعة 24: 217.
4- مستند الشيعة 15: 19؛ جواهر الكلام 36: 424.

وأمّا في المقام فلم يوسع ولم يضيق في الموضوع، فيكون ما يفهمه العرف من الاضطرار هو مراد الشارع، إلا أنه ضيق ووسع في الحكم، كحرمةالقتل حتى مع الاضطرار دون أكل الميتة.

ويتحقق الاضطرار عرفاً بتلف النفس، أو العضو، أو القوة، أو الابتلاء بمرض عضال، كما يتحقق بالظن، بل بالخوف بالابتلاء بأحدها.

المبحث الثالث: في مصاديق الاضطرار
اشارة

ولمعرفة حدود المفهوم نتطرق إلى ذكر بعض المصاديق:

فمن موارد صدق الاضطرار أنه لو لم يأكل الميتة لم يستطع محاربة العدو أو الحيوان المفترس، فلا ينحصر الاضطرار فيما لو كان ترك الأكل يسبب الهلكة، بل يشمل حتى الضعف المسبب لغلبة العدو عليه.

ومنها: طول المرض الشديد، كما لو كان مريضاً فوصف له الدواء المحرم، بحيث لو تركه طال مرضه، كما ذكره بعض الفقهاء(1).

ومنها: خوف المرضعة على رضيعها دون نفسها.

سراية الاضطرار إلى غير المضطر

كما أن الاضطرار العرفي صادق حتى لو لم يرتبط بالنفس، بل بالغير، فتشمله أدلة رفع الحرمة، كما تراجع المرأة العقيم الطبيب المستلزم ذلك للكشف، ولو لم يرتضِ فقيه ذلك أو شك في كونه من المفهوم بل من المصداق الذي لا يكون المرجع فيه العرف أمكن الاستناد إلى المناط، فلو أخبرها الطبيب بأنها إن لم تتناول الحرام سبب ذلك عقمها - والذي هو فقد

ص: 475


1- مستند الشيعة 15: 20.

قوة - جاز لها أكل الحرام للحفاظ على تلك القوة، ولا فرق بينهوبين ما لو كانت عقيماً فأرادت إرجاع القوة، فالملاك واحد، فتأمل.

اختلاف موارد الاضطرار

وقد تختلف موارد الاضطرار، فيكون الشيء الواحد مصداقاً للاضطرار بالنسبة إلى حكم دون حكم آخر. مثلاً: الوضوء في البرد يسبب تشقق الجلد وجريان الدم، فيصدق الاضطرار المبيح للتيمم، دون ما لو كان ترك الزنا يسبب تشقق جلده وجريان دمه، ففي المثال الأول يتحقق الموضوع الرافع للحكم الشرعي دون الثاني، والعلة في ذلك هو الأهم والمهم المستفاد من الأدلة الشرعية.

إسقاط الجنين

ومن مصاديق الاضطرار المرأة الحامل التي يسبب الجنين الخطر على حياتها قطعاً أو خوفاً، فالأمر دائر بين موت الأم أو إسقاط الجنين، ويحتمل جواز الإسقاط من باب الدفاع، حيث لا يشترط في الهجوم القصد، فيدافع عن نفسه حتى وإن انجر الأمر إلى قتل المهاجم، فدمه هدر ولا دية عليه، وربما يستفاد ذلك من الأدلة الدالة على أهمية حفظ حياة الحي، وترجيحها على حياة الجنين؛ ولذا اختلفت ديتهما، كما لا قصاص في قتل الجنين، كما يمكن الاستناد إلى (لا ضرر) فإن بقاء الجنين ضرري.

فإن قلت: يعارضه ال (لا ضرر) من الجانب الآخر.

قلنا: لو تعارض الحكمان الثانويان قدم الأهم منهما، فيترجح ال (لا ضرر) من جانب الأم.

ص: 476

ومن المسائل المشكلة ما لو تزوجت الفتاة سراً أو زنت أو تعدىرجل عليها فحملت، وكان الحمل سبباً لفضيحتها بشدة أو قتلها، فيحتمل جواز الإسقاط مطلقاً. لكنه ضعيف.

ويحتمل المنع مطلقاً؛ لأصالة عدم الجواز، وعدم صدق الدفاع عن النفس، حيث إن الجنين ليس سبباً لقتلها وإنما الأقرباء مثلاً.

وقيل: إن بقاء الجنين سبب لقتلهما معاً، لكنه لا يجوز الإسقاط، كما لو قال الظالم للأول: اقتل الثاني وإلا قتلتكما، فلا يسوغ ذلك له القتل.

ومن أجل ذلك قيل: إنها تصبر حتى يحكم الله.

وقيل: بالتفصيل بجواز الإسقاط في صورة القتل دون الفضيحة؛ لعدم ترجيحها على الدم.

ويحتمل احتمالاً رابعاً: وهو التفصيل بين الزنا والزواج والتعدي، ففي الأول لا يجوز الإسقاط؛ لكونها هي التي أوقعت نفسها في الاضطرار، ولا يرفع بذلك الحكم، كما لو دخل أرضاً مغصوبة عمداً، فإن بقاءه حرام وخروجه حرام، فعليه أن يخرج، وقد فعل محرماً لسوء اختياره، وما بالاختيار لا ينافي الاختيار، وفي الثاني والثالث حيث لم تفعل محرماً كانت مضطرة للإسقاط، ولم يكن ذلك بسوء اختيارها.

والمسألة مشكلة جداً، ولذا أرجع بعض الفقهاء الحكم في ذلك إلى غيره.

فرع: لو علمت أنها لو تزوجت حملت فتضطر إلى الإسقاط وإلا قُتلت لم يجز لها الزواج، ومرجع هذه المسألة إلى عدم جواز الإقدام على عمل يضطره إلى ارتكاب الحرام، كما لو علم أنه لو سلك هذا الطريق اضطر إلى

ص: 477

شرب الخمر أو أكل الميتة؛ وذلك لأن حرمة المحرمات مطلقة، ويخرج منهاصورة الاضطرار القهري دون من اضطر بسوء اختياره، فلا يرفع عنه التكليف والعقاب، أمّا عدم عقاب المضطر فلحكم العقل بقبح عقابه، بل قد يستحيل تكليفه لعدم قدرته، وأمّا المضطر بسوء اختياره فلا إشكال في عقوبته عقلاً؛ ولذلك قيل: بحرمة كل عمل يقوده إلى الاضطرار إلى الحرام، إلا لو كان من الأهم، أو قام دليل خاص على الجواز.

ومن هنا تنشأ مسألة مشكلة وهي: ما لو أراد الحج وعلم باضطراره إلى التظليل نهاراً، فقد احتمل عدم جوازه حتى في حجة الإسلام؛ لعدم تحقق الاستطاعة، فإن من شروطها عدم ارتكاب المحرمات، ولو أحرم كذلك لم يصح؛ لأن النهي في العبادة موجب لفسادها؛ ولذا قال البعض(1): إنه يستفاد من الأدلة إجازة الشارع للتظليل في هذه الحالة، فليس من الاضطرار إلى الحرام، وإن لم نقل بذلك كان الأمر مشكلاً، ولزم الحكم بعدم جواز الذهاب إلى الحج.

وقد يقال: بأنه ليس حرام عليه أصلاً، أما قبل الإحرام فالتظليل جائز، وأما بعد الإحرام فهو مضطر إليه فليس بحرام عليه، وهذا يختلف عمّن يسافر إلى الصحراء مثلاً مع علمه باضطراره إلى أكل الميتة، إذ إنها محرّمة عليه قبل سفره فلا يجوز إيقاع نفسه في الاضطرار إلى الحرام.

المبحث الرابع: في بيان معنى الباغي والعادي
اشارة

يقع الكلام في بيان معنى الباغي والعادي، ومعنى الآية(2) عدم الإذنفيما

ص: 478


1- فقه الصادق 11: 42.
2- سورة البقرة، الآية: 173: {فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ}.

لو كان المضطر باغياً أو عادياً، وإنما لا إثم على غير الباغي والعادي.

ولمعرفة المعنى تارة نلاحظ ظاهر الآية، وتارة نلاحظ الروايات المفسّرة، ولو كان بينهما تنافٍ سقط الظاهر عن الحجية، وفي المقام لا منافاة؛ لأن الروايات المفسّرة ناظرة إلى بيان المصاديق.

والباغي من البغي بمعنى الظلم(1) وطلب الحرام، فتشمل الآية مَن يحمل مع نفسه الطعام المحرم إلى صحراء ليصبح مضطرا لأكله.

ومن أجلى مصاديقه ما ورد في مرسلة البزنطي(2): فيمن يشهر السيف بوجه إمام عادل وهم البغاة، كما فُسّر في صحيحة حماد(3) بباغي الصيد، والمقصود صيد اللهو؛ لأنه طلب الحرام، فمن ذهب لصيد اللهو ثم اضطر إلى أكل الحرام فعل محرماً.

والعادي(4) من العدوان بمعنى التعدي(5) عن المقدار المضطر إليه، فلوكان الاضطرار بمقدار لقمة واحدة فأكل أكثر كان عادياً، وفُسّر في مرسلة

ص: 479


1- العين 4: 453، مادة (بغي).
2- الكافي 6: 265؛ وسائل الشيعة 24: 216، وفيه: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عمن ذكره، عن أبي عبد الله(علیه السلام): «في قول الله تبارك وتعالى: {فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ}، قال: الباغي الذي يخرج على الإمام، والعادي الذي يقطع الطريق لا تحل له الميتة».
3- تهذيب الأحكام 9: 78؛ وسائل الشيعة 24: 215. الشيخ الطوسي بإسناده عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى الخثعمي، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله(علیه السلام)... .
4- ولا يخفى أن العادي من العدوان لا العود وإلا كان عائداً، وإنما سقط الياء لالتقاء الساكنين، كسقوط ياء القاضي لثقل الضمة أو الكسرة عليه، فينقلب ساكناً ثم يسقط (السيد الأستاذ).
5- معجم مقاييس اللغة 4: 249؛ لسان العرب 15: 33.

البزنطي بقاطع الطريق، كما فُسّر في رواية حماد بالسارق.

حكم الباغي والعادي

فالمستفاد من الآية أن الاضطرار عن بغي وعدوان غير محلّل للحرام، لكنه يجب عليه أن يقتحم بحكم العقل ومع ذلك يعاقب، كمن يدخل الأرض المغصوبة اختياراً، حيث يكون بقاؤه محرماً، وخروجه محرماً، فيحكم العقل باختيار الخروج لكونه أهم؛ ولأنه أخف الحرامين، ويترتب عليه جميع آثار الحرام، لكونه بسوء اختياره.

إن قلت: كيف يعقل أن يكون الشيء حراماً يطلب تركه، وواجباً يطلب فعله؟ فلو كانت المصلحة العقلية ملزمة للفعل فكيف ينهى الشارع عنه؟ ومن المعلوم ابتناء الأحكام الشرعية على المصالح والمفاسد، أليس هذا تناقضاً؟

قلت: ليس الفعل بنفسه حراماً، وإنما يُعاقب على المقدمات، وهو إلقاء نفسه في الاضطرار، إلاّ على مبنى جواز الاجتماع مع اختلاف الجهة، وبحثه في الأصول.

والحاصل: إنه لدفع الإشكال العقلي إما أن نقول بعدم جواز الاقتحام وإن أدى إلى الموت، ولا يكون حفظ النفس أهم في هذه الصورة، وإمّا أن نقول بأهمية حفظ النفس كما هو المستفاد من الأدلة، فلا مناص من القول بحرمة المقدمة دون الفعل.

ولو كان الاضطرار لأجل الحفاظ على الغير لا النفس، كالحامل الباغية أو العادية المشرف جنينها على الهلكة لو لم تقدم على أكل الحرام مثلاً،

ص: 480

لزمها الاقتحام وعليها العقاب على المبنيين؛ وذلك لأن حفظ الغير عن الهلكة أهم من تناول الحرام حتى على المبنى الأول.

توبة الباغي والعادي

ولو تاب الباغي والعادي ثم اضطرا إلى الحرام، فهل يحل لهما مطلقاً أو يحرم مطلقاً، أو يفصل بين كون الاضطرار قبل التوبة أو بعدها؟

أمّا الاحتمال الأول فلكونه ليس باغياً ولا عادياً، والحكم تابع للموضوع، فإن المشتق حقيقة في المتلبس، وهذا قد انقضى عنه المبدأ، فيكون الإثم مرفوعاً عنه، وهو الأقرب.

وأمّا الاحتمال الثاني فقد استدل له بقوله تعالى: {فَلَمَّا

رَأَوۡاْ بَأۡسَنَا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥ وَكَفَرۡنَا بِمَا كُنَّا بِهِۦ مُشۡرِكِينَ * فَلَمۡ يَكُ يَنفَعُهُمۡ إِيمَٰنُهُمۡ لَمَّا رَأَوۡاْ بَأۡسَنَاۖ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدۡ خَلَتۡ فِي عِبَادِهِۦۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡكَٰفِرُونَ}(1)، فمن يكون عادياً لا تقبل توبته، فيبقى على بغيه وعدوانه.

وفيه نظر أولاً: إن مفاد الآية عدم قبول التوبة عند الاضطرار، والمدعى عدم الجواز حتى مع حصول التوبة قبل الاضطرار.

ثانياً: ليس المراد من البأس الاضطرار، وإنما العذاب، فحين نزول العذاب لا تقبل التوبة كتوبة فرعون.

ثالثاً: إن حكم جواز الأكل وعدمه لا يرتبط بقبول التوبة وعدمه، بل يرتبط بصدق البغي والعدوان، وبعبارة أخرى: يترتب الإثم على الاقتحام إلاللمضطر غير الباغي والعادي، والتائب لا يصدق عليه الباغي. نعم، لو صدق

ص: 481


1- سورة غافر، الآية: 84-85 .

فلا يجوز الأكل، ومع الشك فلا يجوز أيضاً؛ لكونه داخلاً في عموم العام.

ومن هذا البيان يظهر وجه التفصيل.

الآثار التكوينية والوضعية للمضطر

إنما يرفع عن المضطر الحكم التكليفي، أمّا الوضعي والآثار التكوينية فلا، وعليه يتنجس فمه مع أكل النجس، وللمسألة فروع مختلفة منها: الاضطرار إلى الزنا، فلو كانت ذات بعل حرمت عليه مؤبداً. وتفصيل رفع الاضطرار للآثار الوضعية في مباحث حديث الرفع في الأصول.

المبحث الخامس: في اضطرار غيره

لو لم يضطر بنفسه لكن اضطر غيره(1) وجب عليه أن يرفع اضطراره، كما لو أشرف شخص على الموت من العطش، وكان عنده الماء وجب عليه أن يسقيه.

ويدل عليه أمور:

الدليل الأول: قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ}(2)، وإنقاذ المشرف على الموت من مصاديق البر.

إن قلت: إن حمل الآية على الوجوب موجب لتخصيص الأكثر؛ لكثرة موارد البر المستحب، فلابد من حمل البر في الآية على مطلق المحبوبية.قلت: إنما يقبح تخصيص الأكثر إذا استهجن عرفاً، مع أنه لا يعلم أن مصاديق البر المستحب أكثر من الواجب نوعاً لا فرداً.

ص: 482


1- بما أوجب الهلكة أو شبهها. (المقرر).
2- سورة المائدة، الآية: 2.

الدليل الثاني: ما دل على وجوب حفظ النفس المحترمة، وقد ثبت في محله أن مقدمة الواجب واجبة عقلاً، فسقي الماء لمثله إنقاذ له، وهو واجب شرعاً.

فرع: لو كان المتمكن يملك الماء الطاهر والنجس، فهل يجب عليه إعطاء الطاهر، أو يحق له إعطاء النجس الحرام في نفسه الجائز للمضطر؟ احتمالان:

الأول: جواز إعطاء الحرام؛ لعدم دلالة الدليل على أكثر من وجوب الإنقاذ، ولا دليل على التحصص بحصة معينة، فيبقى أصل الجواز، وهو ضعيف.

الثاني: عدم الجواز؛ لأن الحرام مبغوض للشارع، وقد أبيح للمضطر للأهم، ويرفع بذلك قبحه الفاعلي دون الفعلي، فيكون الفاعل معذوراً وإن كان الفعل قبيحاً، فيحكم العقل بوجوب ترك مبغوض المولى ما دام له بديل، وحتى مع القول برفع الاضطرار للحكم الشرعي إلا أنه لا يرفع المبغوضية؛ لأنها أمر تكويني ترتبط بخصوصية الشيء، كما لو أراد حيوان أو مجنون قتل محقون الدم حيث يجب منعه؛ لأن القتل مبغوض للمولى وإن كان القاتل غير مكلف، وعليه لابد من منع تحقق مبغوض المولى في الخارج، فتأمل.

المبحث السادس: في كون الاضطرار رافعاً للحرمة أو ملزماً

هل الاضطرار رافع للحرمة أو ملزم؟ فلو أشرف على الموت عطشاً هل يجب عليه شرب النجس، أو يجوز له الصبر حتى الموت؟ ونظيره الكلام فيالتقية حيث يجوز له سبّ الإمام(علیه السلام)، لكن هل يجب عليه ذلك، أو

ص: 483

يحق له ترك السب حتى يقتل؟

والجواب على ذلك أن الأمر منوط من جهة، بنتيجة الاضطرار، فإن كان الموت كان ملزماً، وإن كان مرضاً يجوز تحمله فليس بملزم، ونظيره في الصوم الضرري المجوز للإفطار، فلو كان الضرر كبيراً - كالعمى - وجب الإفطار، وأمّا لو كان غيره كان مخيراً.

ومن جهة أخرى: إن الأمر منوط بنفس العمل، فتارة يدل الدليل على جوازه حتى وإن أدى إلى الموت، كالسب في التقية حيث التخيير، كما تشهد له قضية عمار وياسر، وكذا مسألة التعدي على شرف المرأة، حيث يمكنها اختيار القتل، وتارة يجب اقتحام الحرام لحفظ النفس، كما هو الغالب في الأفعال المضطر إليها.

إن قلت: إن (لا ضرر) يشمل القسم الأول فيكون ملزماً.

قلت: (لا ضرر) رافع للحكم لا مثبت له، كما هو مشهور المتأخرين، وإنما يستفاد الوجوب من أدلة أخرى، وبعبارة أخرى: إن دليل (لا ضرر) دليل امتناني فيرفع الحكم، لا أنه يثبت حكماً قد يكون خلاف الامتنان، كإلزام المرأة اختيار التعدي على شرفها.

المبحث السابع: لو توهم الضرر فبان خلافه

لو أخطأ بأن ظن الهلكة فاقحتم الحرام فبان خلافه، كما لو ترك الصوم بتوهم الضرر فبان خلافه أو بالعكس، بأن صام ظاناً عدم الضرر فبان الضرر فلا إثم عليه؛ لأن الحكم معلق على خوف الضرر، وهو يجتمع حتى معالاحتمال الضعيف للضرر، فضلاً عن الظن.

ص: 484

وأمّا الحكم الوضعي - كما لو صام ظاناً عدم الضرر فأصابه العمى - فيحتمل البطلان؛ لعدم الأمر بالصوم وإن كان معذوراً، بل منقاداً، لكن حيث لا أمر بالصوم الضرري كان باطلاً ووجب عليه القضاء.

ويحتمل الصحة؛ لوجود الأمر بالصوم، وقد خرج منه صورة خوف الضرر، ولم يخرج منه مورد الضرر الواقعي، فعدم الوجوب لا يرتبط بالواقع، بل بالعلم أو الخوف. وهو الأصح.

المبحث الثامن: في صدق الاضطرار المبيح لاقتحام الحرام

يجوز اقتحام الحرام عند الاضطرار مع العلم بكون ارتكابه يدفع الضرر والاضطرار، أمّا لو علم أنه يموت، سواء أقدم على ارتكاب الحرام أم لا، لم يجز له ذلك؛ لأن رفع الحرمة إنما هو لحفظ النفس وشبهه، وهو مفقود على كل حال، كما لو كان مشرفاً على الهلكة للعطش، وكان عنده ماء نجس لو لم يشربه مات ولو شربه قتله الظالم.

نعم، لو كان اقتحام الحرام سبباً لتأخير الموت شهراً مثلاً، وإلا مات فوراً صدق الاضطرار المبيح.

وكذا لو دار الأمر بين الموت بألم أو الموت بلا ألم، فإن أدلة رفع العسر والحرج مبيحة للاقتحام.

والحاصل: إنما يجوز ارتكاب الحرام مع الاضطرار إذا كان سبباً لدفع الهلكة، أو تأخيرها أو التخفيف عن الألم الشديد أو ما أشبه ذلك.

المبحث التاسع: في جواز التلذذ بالحرام عند الاضطرار

هل يجوز التلذذ بالحرام عند الاضطرار، بأن يأكل اللحم الحرام مطبوخاً

ص: 485

مع نكهات تطيبه، أو يلزم الأكل مكرهاً بأن يأكله نيّاً من غير نكهة مثلاً؟

والجواب: لم يصدر من الشارع حكم خاص للالتذاذ وعدمه في المقام. نعم، للقلة والكثرة مدخلية، فلو كان أكل القليل من النيّ مستلزماً لدفع الاضطرار دون القليل من المطبوخ وجب أكله نيّاً.

والحاصل: إنما يباح بمقدار الاضطرار لا أكثر من ذلك.

المبحث العاشر: في جواز أخذ العوض من المضطر وعدمه

هل يجب تمكين المضطر مما يرفع اضطراره مجاناً أو يجوز أخذ العوض منه؟

الجواب: لا دليل على وجوب التبرع، فأصل الإنقاذ واجب، سواء كان مجاناً أم بعوض؛ ولذا لا يجب على الطبيب إجراء العملية الجراحية للمريض المضطر مجاناً.

وفي الإجحاف احتمالان:

الأول: جوازه، حيث لا دليل على أكثر من وجوب دفع الاضطرار، فيمكنه البيع بأي ثمن شاء، وهو وإن كان خلاف الإنصاف لكن لا دليل على حرمته.

الثاني: عدم الجواز، لاشتراط كون التجارة عن تراض، ولا تصدق في المقام، بل ربما يصدق أكل المال بالباطل؛ ولذا يجب الرجوع إلى القيمة المتعارفة.

المبحث الحادي عشر: في كون التقية مبيحة للمحرمات

ومن الاضطرار المبيح للمحرمات التقية، فيجوز عندها اقتحام ما حرم في

ص: 486

الدين ولم يحرم عند العامة، كتناول السمك المحرم بمقدار دفع الاضطرار.

ولا يخفى أن بين التقية والاضطرار عموماً من وجه، فقد تكون تقية من دون اضطرار، وقد يكون العكس، وقد يجتمعان، فللتقية عنوان مستقل مبيح.

وأمّا الدليل على جواز اقتحام المحرمات عند التقية فأمور(1):

الأول: الإجماع.

الثاني: الأدلة العامة كالعسر والحرج.

الثالث: الأدلة العامة للتقية، كقوله(علیه السلام): «تسعة أعشار الدين في التقية، لا دين لمن لا تقية له»(2)، وقوله(علیه السلام): «التقية ديني ودين آبائي»(3)، وقوله تعالى: {إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗۗ}(4)، والآية وإن كانت في مورد تولي الكافرين دون المؤمنين، لكن ملاكها عام، أو يعمم الحكم بعد إلغاء الخصوصية.

الرابع: المناط القطعي، فلو جاز النطق بكلمة الكفر في حال التقية لقوله تعالى: {إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ}(5) جاز في غيره بطريق أولى؛ لأن ارتكاب الحرام موجب للفسق، والكفر أسوأ منه قطعاً، ويشهد له إفطار الإمام الصادق(علیه السلام) في اليوم الأخير من شهر رمضان قائلاً: «أفطر يوماً من شهررمضان أحب إليَّ من أن يضرب عنقي»(6).

ص: 487


1- مستند الشيعة 15: 19؛ الفقه 77: 44.
2- المحاسن 1: 259؛ الكافي 2: 217؛ وسائل الشيعة 16: 215.
3- المحاسن 1: 255؛ وسائل الشيعة 16: 210.
4- سورة آل عمران، الآية: 28.
5- سورة النحل، الآية: 106.
6- الكافي 4: 83؛ وسائل الشيعة 10: 132.
حكم شرب المسكر تقية

واستثنى البعض(1) المسكر في صورة التقية، فحكم بعدم جواز شربه تقية حتى القتل، فلا تقية في الدماء والمسكر، واستدل له بجملة من الروايات المصرحة بعدم التقية في شرب المسكر، منها: صحيحة زرارة(2) عن الإمام الباقر(علیه السلام): «ثلاثة لا أتقي فيهن أحداً: شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج»(3).

ومنها: موثقة حنان(4) عن الإمام الصادق(علیه السلام) قال(علیه السلام): «معاذ الله عز وجل أن أكون أمرته بشرب مسكر، والله إنه لشيء ما اتقيت فيه سلطاناً ولا غيره»(5).

لكنها لا تدل على عدم التقية في المسكر؛ وذلك لثبوت التقية في المسح على الخف ومتعة الحج، فتكون قرينة على أنه ليس المقصود نفي التقية فيها، بل إن الإمام(علیه السلام) في مقام بيان قضية خارجية، وهي أن المقام خارج عن موضوع التقية، فالتقية إنما تكون في مخالفة رأي العامة الموجب لمعرفة كونه شيعياً فيتضرر، وأمّا مع اختلافهم في المسألة - كالمسح على الخفين والتكتف - أواتفاقهم على عدم الجواز - كما في المسكر - فلا موضوع للتقية.

ص: 488


1- الدر المنضود في أحكام الحدود 2: 340.
2- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة... .
3- الكافي 6: 415؛ وسائل الشيعة 25: 350.
4- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حنّان... .
5- الكافي 6: 410؛ وسائل الشيعة 25: 351.

والحاصل: إنه لو تحقق موضوع التقية، كما لو كان الإنسان في بلاد الكفر فلو علموا أنه مسلم لا يشرب الخمر قتلوه، جازت له التقية.

وفي خبر عمرو بن مروان قال: «قلت لأبي عبد الله(علیه السلام): إن هؤلاء ربما حضرت معهم العشاء فيجيئون بالنبيذ بعد ذلك، فإن أنا لم أشربه خفت أن يقولوا: فلاني، فكيف أصنع، فقال: اكسره بالماء، قلت: فإذا أنا كسرته بالماء أشربه؟ قال: لا»(1)، وإنما أمره بكسره دون شربه لأن الذي يأخذ الكأس ويكسره تنصرف عنه الأذهان، فيرون أنه لا محذور له من شربه، وبعبارة أخرى: يتظاهر بأنه لا مانع لديه من ذلك.

تقية الجاسوس في بلاد الكفر

ويتفرع على المقام ما يدخل في باب الأهم والمهم، كإرسال الجاسوس إلى بلاد الحرب، فلو لم يشاركهم كشفوه، فيجوز بمقدار ما يرفع به الضرورة.

المبحث الثاني عشر: صور التعدي على مال الغير

لو اضطر إلى شرب الماء وإلا هلك، ولم يجد لدفع الاضطرار إلا مال الغير، ففي المسألة صورتان: إمّا يكون المالك مضطراً، وإمّا لا.

الصورة الأولى: أن يكون المالك مضطراً

وهي أن يكون المالك مضطراً، فإن كان المالك محترم المال، وهو مضطر إلى ماله فلا يجوز للغير أن يأخذ ماله لينقذ نفسه، المستلزم لهلكة

ص: 489


1- الكافي 6: 410؛ وسائل الشيعة 25: 351.

المالك، فإن التصرف في مال الغير من دون إذنه حرام، وأخذه قهراً بغي وظلم، ولا دليل على جواز إنقاذ نفسه ولو بثمن هلكة المالك.

جواز الإيثار في صورة الهلكة

وهل يجوز للمالك أن يؤثر غيره على نفسه فيما لو هلك بالإيثار؟ وهل يجوز للآخذ أن يأخذه؟

أمّا الأخذ فجائز، حيث لا دليل على الحرمة، وأمّا الإيثار ففيه احتمالات:

الأول: الجواز لأنه إيثارٌ وهو ممدوح، قال تعالى: {وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ}(1)، فإطلاقها شامل للمقام.

الثاني: عدم الجواز، لقوله تعالى: {وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ}(2)، فلا يجوز إلقاء النفس في التهلكة حتى لو كان موجباً لإنقاذ الآخرين.

إن قلت: بينه وبين دليل الإيثار عموم من وجه، فلا وجه لتقدم دليل التهلكة عليه.

قلت: ليست النسبة كما ذكر، فإن دليل الإيثار لا يشمل المقام أصلاً؛ لأن قوله تعالى: (خصاصة) بمعنى الاحتياج، فلا يشمله، أو منصرف عنه(3).

الاحتمال الثالث: التفصيل بين أن يموت بالإيثار فلا يجوز، وبينأن

ص: 490


1- سورة الحشر، الآية: 9.
2- سورة البقرة، الآية: 195.
3- لا ينحصر دليل الإيثار بالآية الكريمة - {وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ} فهنالك أدلة مطلقة، فلا وجه لتقييد الإيثار بالخصاصة، وعلى فرض الانحصار فإنه من أجلى مصاديق الإيثار، فيؤثر حياة غيره على حياة نفسه وإن كان محتاجاً إلى حياته، وأمّا الانصراف فعهدته على مدعيه (المقرر).

يفقد قوة - كالكلية مثلاً - فيجوز.

وهو مشكل؛ لعدم العلم بشمول دليل الإنقاذ لمثل ذلك.

وإنما قلنا بعدم جواز الإيثار ما لم يكن هنالك عنوان أهم، وإلا كما لو كان أحدهما قائداً مما كان مقتله يؤدي إلى انهيار جيش الإسلام كله، والآخر جندي بسيط، فيحق للثاني، بل قد يجب عليه الإيثار لإنقاذ حياة الأول.

الاحتمال الرابع: ما ذكره بعض الفقهاء(1): من ملاحظة نسبة الضررين، فإن تساويا تخير وإلا أخذ بالأهم، كما لو آثر مات هو وإلا مات صاحبه فهنا يتخير، وأمّا لو كان أحدهما يموت والآخر يفقد كليته فهنا يؤخذ بالأهم.

ووجه التخيير عدم الفرق بين موت هذا أو ذاك، ولا خصوصية لأحدهما على الآخر، ونظيره ما إذا كان يملك الماء لنفر واحد وأمامه نفران يموتان عطشاً، حيث يخير بينهما.

وفيه نظر: فإن المثال مع الفارق؛ لأنه يجب عليه أن ينقذهما لملاك وجوب الإنقاذ فيهما، وحيث لا يستطيع يحصل التزاحم فيخير عقلاً، وأمّا في المقام فلا مجوز لإلقاء نفسه في الهلكة لإنقاذ الآخرين، وحتى لو كان إنقاذ الغير سبباً لفقده قوة من قواه فلا يعلم شمول دليل الإنقاذ لمثله.

فالمتعين هو الاحتمال الثاني.

وما ذكر إنما هو في صورة تساويهما ديناً، أمّا في المسلم والذمي، بل

ص: 491


1- مستند الشيعة 15: 24؛ رسائل فقهية: 125-126؛ الفقه 77: 49.

المخالف فلا يجوز للمؤمن أن يؤثرهما على نفسه؛ لأنهما وإن كانا محترميالدم والمال ويجب إنقاذهما، لكنهما لا يساويان المؤمن، ووجوب إنقاذهما إنما هو في نفسه لا في ما إذا سبب هلاك المنقذ المؤمن؛ ولذا لو غرق المسلم والكافر المحترم وجب إنقاذ الأول؛ لأقوائية ملاكه في صورة التزاحم، وأمّا التخيير فهو في صورة تساوي الملاكين، وكذا غرق المؤمن والمخالف.

الصورة الثانية: أن لا يكون المالك مضطراً

ولا إشكال في وجوب إنقاذ المضطر المحترم للإجماع والأدلة الخاصة.

إن قلت: إنه ينافي قاعدة السلطنة: (الناس مسلطون على أموالهم).

قلت: القاعدة لا تشمل المورد، حيث لا سلطة له على هذا المال وإن كان ملكاً له، فإنه يجب بحكم الشرع بذله للمشرف على الهلكة، وأدلة إنقاذ النفس تخصص القاعدة المذكورة.

وأمّا غير المحترم - كالكافر الحربي - فيجوز إنقاذه إلا مع المفسدة، كما لو كان إعطاؤه الماء سبباً لقوته مما يؤدي إلى قتل المسلمين(1).

أمّا جواز منعه الماء فلكونه غير محترم يجوز قتله، فيجوز منعه ليموت بنفسه(2).

وأمّا جواز الإعطاء فلسيرة الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسين‘ في

ص: 492


1- وقد يقال: إن سيرة الإمامين علي والحسين‘ - مع علمهما بترتب المفسدة - كاشفة عن جواز ذلك (المقرر).
2- لا ملازمة بين الأمرين، كما لا يجوز تعذيبه حد الموت (المقرر).

صفين وكربلاء، حيث لم يمنعا الماء عن أهل الشام وجيش الحر، مع كونهم بغاة حربيين. ومقتضى الأخلاق ذلك.

فروع تتعلق بالمسألة
الفرع الأول: في وجوب البذل لرفع اضطرار المضطر

يجب على المالك أن يبذل ما عنده ليرفع اضطرار المضطر، كما يجب على المضطر أن يقبل، وإلا كان من الإلقاء في التهلكة، فعدم البذل محرم والقبول واجب، كما يجب على المريض المشرف على الهلكة مراجعة الطبيب، وعلى الطبيب أن يعالجه كفاية أو عيناً، كما على الصيدلاني أن يعطي الدواء.

الفرع الثاني: فيما لو امتنع المالك عن البذل

لو امتنع المالك عن البذل - حيث يجب - حقّ للمضطر أن يستولي عليه بأي طريقة، ولو بالغلبة والاستيلاء، فإن ملاك وجوب إنقاذ النفس أقوى من ملاك حرمة التصرف في مال الغير، وكلما تزاحم ملاكان يرجح الأقوى.

الفرع الثالث: في جواز أخذ العوض وعدمه

في جواز أخذ العوض فيما يبذله المالك صور: فإمّا أن يكون المضطر قادراً على دفع الثمن حالاً أو مؤجلاً، أو لا يمكنه، فإن أمكنه ذلك وجب عليه، فليس مضطراً للأخذ مجاناً حتى يقال: إن الاضطرار رافع لوجوب دفع الثمن.

وإن لم يمكنه فقد ذهب جمع من الفقهاء(1) إلى سقوطه عنه؛ لأنه من تكليف ما لا يطاق، ولا يعقل أن يكلف الشارع الإنسان ما لا يستطيع أداءه

ص: 493


1- جواهر الكلام 36: 433؛ فقه الصادق 24: 228.

حالاً ومؤجلاً.ولكنه محل تأمل؛ فلا وجه لضياع حق المالك بعد إمكان أخذ حقه بطريق آخر، كالأخذ من بيت المال الذي وضع لمصالح المسلمين، كما يمكن للمالك أن يعتبره من الزكاة الذي في ذمته، وقد يكون المضطر من واجبي النفقة لشخص، فيمكن للمالك أن يطالب ذلك الشخص بثمن ما دفعه للمضطر. نعم، مع فقدان الطرق لا وجه للقول بالوجوب عليه.

الفرع الرابع: فيما لو طلب المالك أكثر من الثمن المتعارف

لو طلب المالك أكثر من ثمنه المتعارف - مع قدرة المضطر على أدائه حالاً أو مستقبلاً - فقد يطلب أكثر من القيمة المتعارفة في حال الاضطرار، وقد يجحف. وفيه احتمالات:

الأول: الجواز، ووجوب القبول على المضطر مطلقاً؛ لأن الاضطرار لا يخل بسلطنة المالك، فيصح البيع.

الثاني: لا حق للمالك إلا مقدار قيمة المثل، ولو اشتراه المضطر أكثر لم يجب عليه دفع الزيادة؛ لأن المالك ظالم في طلبه، فتقبله غير لازم على المضطر، فيرجع إلى قيمة المثل، وبعبارة أخرى: إن دليل حرمة الظلم حاكم على دليل السلطة؛ ولذا لا يحق لمالك العبد أن يضربه، أو مالك البئر أن يأخذ الماء بما يضر آبار الآخرين.

الثالث: التفصيل بين الزيادة المجحفة فلا يجب على المضطر الدفع وإلا وجب؛ وذلك لأن الإجحاف ضرر يرفعه دليله، وهو حاكم على دليل السلطنة، وأمّا الزيادة من دون إجحاف وإن كان ضرراً واقعاً لكنه ليس

ص: 494

بضرر عرفاً، فإن الغلاء عند الاضطرار متعارف، فيشمله دليل السلطنة دون دليل لا ضرر.وهذا الاحتمال هو الأقرب.

وربما يستأنس له بالاحتكار، حيث يجبره الحاكم على البيع، ولو أراد الإجحاف أجبر على المتعارف أو ما دون الإجحاف.

هذا فيما لو كان المالك باذلاً.

الضمان مع امتناع المالك

أمّا لو امتنع من البيع وأخذه المضطر قهراً ضمن قيمته؛ لأن جواز الأخذ لا ينافي الحكم الوضعي وهو الضمان، وعليه قيمة المثل، ولا يحق للمالك أخذ أكثر من ذلك، حتى لو كان يحق له أخذ الزيادة عند البذل بيعاً من دون إجحاف، وهذا كسائر الأموال التي تتلف، فلا يحق للمالك أن يأخذ من المتلف أكثر من قيمته، مع ثبوت الحق في ذلك عند البيع.

لكن ذهب بعض الفقهاء(1) إلى عدم لزوم العوض عند الأخذ قهراً؛ لأن الغاصب ضامن، والمضطر غير غاصب، بل أخذه بإذن الحاكم الشرعي، بل بإيجابه فلا يكون ضامناً، والأصل براءة الذمة.

وفيه نظر؛ لأن الاضطرار إنما هو في أصل الأخذ لا المجانية، كما مر، فتجري أدلة الضمان، كقوله(علیه السلام): «من أتلف مال الغير»(2)، سواء كان بسبب أم بغير سبب، كما أن الضمان لا ينحصر بالغصب، بل يشمل غيره، كمن أتلف مال الغير خطأ، أو انقلبت الظئر على الرضيع، فلا يرتبط الضمان

ص: 495


1- فقه الصادق 24: 228.
2- وسائل الشيعة 27: 327.

بالقصد. نعم، الحرمة تابعة للتعدي بلا مجوز شرعي.

الفرع الخامس: فيما لو قصد المالك المجانية

لو قصد المالك المجانية لم يستحق الثمن؛ لأنه أباح ماله، فلا تشمله أدلة الضمان، كما لو عرض ماله إلى التلف.

ولو قصد المالك البذل مجاناً، وقصد المضطر الأخذ بعوض لم يكن لقصد المضطر اعتبار؛ لأنه تصرف في ذمة الغير، فإن المالك مسلط على ذمته، فلا يمكن لغيره أن يدخل في ذمته ما لا يرضى به. كما هو الحال في الإبراء، حيث يرى السيد الوالد أنه من العقود، فلا يحق للدائن أن يبرئ ذمة المديون من دون رضاه؛ لأنه تصرف في ذمته، بالإضافة إلى أنه منِّة منه عليه قد لا يرتضيها، خلافاً لما هو المشهور من كونه إيقاعاً لا يتوقف على رضاه(1).

الفرع السادس: فيما لو اضطر إلى التصرّف في مال اليتيم والغائب

لو اضطر إلى التصرف في مال مَن له ولي كاليتيم، أو الغائب الذي وليه الحاكم، فهل يلزم استئذانه؟ فيه احتمالات:

الأول: إنه يلزم الاستئذان؛ لأن الاضطرار إلى التصرف لا ينافي ولاية الولي، فذاك حكم تكليفي، وهذا حكم وضعي، فلا يخل جواز التصرف بولايته.

الثاني: إنه لا يلزم الاستئذان؛ لعدم الفائدة فيه، فإن التصرف واجب وهو ضامن، فسواء أجاز أم لم يجز حق له التصرف. نعم، هو نوع احترام لادليل

ص: 496


1- شرائع الإسلام 2: 457؛ مختلف الشيعة 7: 162؛ مسالك الأفهام 6: 15.

على لزومه، وبعبارة أخرى: لا ولاية له على الامتناع فكيف يُستأذن؟ وهذا هو الأقرب.

الفرع السابع: فيما لو اضطر إلى أحد الحرامين

لو اضطر إلى أكل أحد الحرامين، فهل يفرق بين الحرام الذاتي والحرام العرضي؟ ثم إنه قد يتساوى الحرامان في الحرمة، وقد يكون عناوين الحرمة في أحدهما أكثر من الآخر، فالخنزير فيه عنوانان للحرمة: الخنزيرية والنجاسة، بخلاف السمك المحرم حيث فيه عنوان واحد، وكذا ميتة يملكها وميتة غيره، ففي الأول عنوان واحد، وفي الثاني عنوانان.

والحكم في ذلك أنه لو كان لأحدهما حكمان وللثاني حكم واحد رجح الثاني، ولو كان الحكم فيهما واحداً وله جهتان فالتخيير.

ففي لحم الخنزير والسمك المحرم الحكم واحد، ولكن في الأول له جهتان، وفي الثاني له جهة واحدة، وفي هذه الصورة لا يعلم ترجيح أحدهما على الآخر، فإن تعدد العلة لا يوجب تعدد المعلول.

اللهم إلا أن تفهم الأشدية بالقرينة الخارجية، كالدوران بين الخمر والماء المتنجس.

ولو كان لأحدهما حكمان وللآخر حكم واحد رجح الثاني، كمثال الميتة، فإن في أكل ميتة يملكها حرمة واحدة، وفي ميتة الغير حرمتان: كونه ميتة بالإضافة إلى التصرف في مال الغير، وهو مضطر إلى اقتحام الحرام الأول دون الثاني، فلا اضطرار لأكل مال الغير، فيبقى على حرمته.

والحاصل: إنه مع تعدد جهات الحرمة لابد من ملاحظة متعلق الحرمة،

ص: 497

فإن كان واحداً فلا أولوية لأحدهما، وإن كان أكثر فالاضطرار إنما هو لأحد المتعلقين، فلابد من اختيار غيره. إلا لو ثبت أهمية ذي الجهة الواحدة كالدوران بين خمره الذي له حق الاختصاص فيه وبين الماء المتنجس المغصوب، فتأمل.

الفرع الثامن: في ترجيح النجاسة العرضية على الذاتية وعدمه

لا دليل على ترجيح النجاسة العرضية على النجاسة الذاتية إلا أن تحرز الأهمية من الشارع، فلو اضطر إلى أحد اللحمين: الهرة وميتة الشاة كان مخيراً، كما هو قوله تعالى: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ} إلى قوله تعالى {فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ}(1)، حيث لم يفرق بين الموارد، وإطلاقه يشمل المقام.

اللهم إلا أن يقال: إن المولى في مقام بيان أصل الحلية عند الاضطرار لا في مقام بيان تفاصيل الاضطرار، ولابد من إحراز كون المولى في مقام البيان، وإلا أصبح مجملاً من تلك الجهة.

الفرع التاسع: لو اضطر المُحرم إلى أكل الميتة أو الصيد

لو دار أمر المُحْرِم المضطر إلى أكل الحرام بين ميتة الشاة وبين صيد الغزال مثلاً، فمقتضى القاعدة - بغض النظر عن الروايات - ترجيح الميتة على الصيد؛ لاجتماع عنواني الحرمة في الصيد؛ لأن الصيد بنفسه حرام، والمصيد ميتة، وهو غير مضطر إلى العنوان الأول، وأمّا الميتة ففيها عنوان واحد.

ص: 498


1- سورة المائدة، الآية: 3.

لكن الروايات المستفيضة رجحت الصيد، وفيها الصحاح، وقد عمل بها المشهور، فمنها: صحيحة(1) الحلبي، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «سألته عن المحرم يضطر فيجد الميتة والصيد أيهما يأكل؟ قال: يأكل من الصيد»(2).

وربما لا يعتبر كون الصيد ميتة في هذه الصورة، وفائدة ذلك أنه لو رفع الاضطرار جاز له بعد الإحرام ولغيره أن يأكل منه، وأمّا مع القول بكونه ميتة فلا يجوز.

نعم، هنالك رواية واحدة أو روايتان رجحت الميتة، وهي: موثقة(3) إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه‘: «أن علياً(علیه السلام) كان يقول: إذا اضطر المُحرم إلى الصيد والميتة فليأكل الميتة التي أحل الله له»(4).

لكن المشهور أعرضوا عنها، وقد حملت على التقية(5)؛ لأنها مطابقة لفتوى بعض العامة كما نقله الحر العاملي عن الشيخ الطوسي(6).

ولو دار الأمر بين حرامين علم من دليل خارجي أهمية اجتناب أحدهما، فلابد من اجتنابه وارتكاب الآخر، سواء كان له عنوانان أم عنوان واحد، كما في دوران الأمر بين أكل الميتة وبين أكل ذبيحة الكتابي المختلف في

ص: 499


1- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي... .
2- الكافي 4: 383؛ وسائل الشيعة 13: 85.
3- الشيخ الطوسي بإسناده، عن محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن عبد الجبار، عن إسحاق بن عمار... .
4- الاستبصار 2: 209 -210؛ وسائل الشيعة 13: 87.
5- الاستبصار 2: 210، وفيه: «فالوجه في هذا الخبر أحد شيئين، أحدهما: أن يكون محمولاً على ضرب من التقية؛ لأن ذلك مذهب بعض العامة».
6- وسائل الشيعة 13: 88.

حليته وحرمته، وإن كان المشهور الحرمة.

لكن حيث يفرض أن الميتة فيها الضرر الذي لا يجوز تحمله، وهو منشأ الحرمة، وذبيحة الكتابي لا ضرر فيها، ومنشأ حرمتها الاعتبار الشرعي - وإلا فلا فرق تكويناً بين ذبيحة المسلم وغيره - فيكون الثاني هو الأرجح، كما أنه يمكن القول بأرجحية الثاني من باب الاحتياط؛ لترجيح ما يحتمل حليته على ما لا يحتمل.

وهكذا الأمر في دوران الأمر بين لحم يشك أن ذابحه مسلم، وبين لحم الهرة فيرجح الأول، حيث يحتمل فيه الحلية، وإن كان الأصل حرمته، وحرمة الثاني مقطوع به، فترجح المخالفة الاحتمالية على المخالفة القطعية.

الفرع العاشر: في كون الاضطرار من نوعين

لو كان الاضطرار من نوعين، كما لو كان صائماً فاضطر إلى شرب الماء في النهار، فإن لم يشرب اضطر إلى شرب الخمر ليلاً، فالأول مباح في حد ذاته، وحرمته لأجل شهر رمضان، والثاني حرام في حد ذاته، فإن كان ارتكاز من المتشرعة أو دليل على أهمية اجتناب أحدهما رجح غيره، والظاهر أن شرب الخمر أسوأ من الإفطار حسب ارتكاز المتشرعة.

وإن لم تثبت الأهمية - كما لو دار الأمر بين الإفطار أو شرب النجس ليلاً - فهو مضطر إلى الجامع فترتفع حرمته، لكن تعيين المصداق باختياره، اللهم إلاّ أن يقال: بلزوم ترجيح المتأخر زماناً لعدم الاضطرار إلى الأسبق في حينه، فتأمل.

ولو دار الأمر بين ميتة يملكها وبين لحم حلال للغير، فإن كان باذلاً بلا

ص: 500

إجحاف وجب شراؤه لقدرته على دفع الاضطرار، فيجب مقدمة لإنقاذ النفس.

أمّا لو لم يبذل، أو كان باذلاً بإجحاف، مع القول بعدم وجوب الشراء ففيه احتمالات:

الأول: التخيير؛ لأن حرمة الميتة ذاتية وحرمة مال الغير عرضية، وقد مرّ عدم الفرق بين الحرمة الذاتية والعرضية، إلا لو فهمت الأهمية من دليل آخر.

الثاني: ترجيح الميتة؛ لأن في اقتحامها تعدياً على حق الله فقط، وفي اقتحام مال الغير تعدٍّ على حق الله وحق الناس، فإن كان هنالك اضطرار إلى التعدي إلى حق واحد فلا اضطرار إلى التعدي إلى الحق الثاني.

وفيه نظر: فإنه لم يثبت من الأدلة أرجحية اقتحام ذي الحق الواحد على ذي الحقين.

الثالث: ترجيح مال الغير لثبوت الضرر في الميتة فيرفع ب (لا ضرر) بخلافه.

وفيه نظر، فإن أكل الميتة وإن كان فيه ضرر على المضطر إلا أن التعدي على مال الغير فيه ضرر على المالك، ولا يجوز دفع الضرر عن نفسه بإضرار غيره، فهما نوعان من الضرر ولا فرق بينهما، وإن كان أحدهما بدنياً دون الهلكة والآخر مالياً، فالمرجح هو التخيير.

الفرع الحادي عشر: في دوران الأمر بين الاضطرار الفعلي أو في المستقبل

لو دار الأمر بين اضطراره فعلاً أو اضطرار غيره استقبالاً، كما لو كانا في

ص: 501

صحراء فاضطر إلى شرب الماء وإلا مات الآن، ولو شربه مات صاحبه بعد ساعة، لم يحق له البذل والإيثار؛ لأن إنقاذ النفس واجب. وفي عكسه قال البعض بجريان أدلة الإيثار، لولا الانصراف.

الفرع الثاني عشر: في حكم اضطرار شخصين

لو اضطر نفران وكان عند الثالث ماء، فهل يجب عليهما التسابق إليه أو يجوز الإيثار؟

والجواب: لا يجوز الإيثار؛ لأن ملاك إنقاذ النفس أقوى، أو أن أدلة الإيثار منصرفة.

وبعد الانتهاء من هذه المباحث تطرق الفقهاء إلى آداب الأكل والشرب، وقد ذكرها السيد الوالد في الفقه مفصلاً، فمن أراد التفصيل فليراجع(1).

تم بحمد الله تعالى كتاب الأطعمة والأشربة.

ولله الحمد أولاً وآخر

ص: 502


1- الفقه 77: 65 فصاعداً.

مصادر التحقيق

أجود التقريرات، تأليف: تقرير بحث الشيخ محمد حسين النائيني، الناشر: منشورات مصطفوي، قم، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: 1368ش.

اختيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشي، للشيخ أبي جعفر الطوسي، نشر: مؤسسة آل البيت(علیهم السلام)، قم، تاريخ الطبع: 1404ه.

إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، تأليف: العلامة الحلي، تحقيق: الشيخ فارس الحسون، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة: الأولى، التاريخ: 1410 ه ق.

الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، تأليف: الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الناشر: دار الكتب الإسلامية طهران، تاريخ النشر: 1363.

إقبال الأعمال، تأليف: السيد ابن طاووس، الطبعة: الأولى، 1414ه. ق، الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي.

الأمالي، تاليف: الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية، مؤسسة البعثة للطباعة والنشر والتوزيع، نشر: دار الثقافة، قم، الطبعة: الأولى، 1414 ه.

الانتصار، تأليف: السيد المرتضى، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، التاريخ: شوال 1415 ه.ق.

إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، تأليف: فخر المحققين، الطبعة:

ص: 503

الأولى، 1387 ه ق.

بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، تأليف: الشيخ محمد باقر المجلسي، الناشر: مؤسسة الوفاء بيروت، الطبعة الثانية المصححة، 1403 ه - 1983 م.

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول، تأليف: الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي، الناشر: أسرة آل الشيخ راضي، الطبعة: الأولى، 1425 ه. ق، 2004م.

تاج العروس، تأليف: الزبيدي، سنة الطبع: 1414 - 1994م، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية، المؤلف: العلاّمة الحلّي، الطبعة: الأُولى، 1420 ه .

تحف العقول عن آل الرسول، تأليف: الشيخ الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الثانية 1363 - ش 1404 - ق،

تفسير القمي، تأليف: علي بن إبراهيم القمي، الناشر: مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر قم.

تهذيب الأحكام، تأليف: الشيخ الطوسي، الطبعة: الثالثة، سنة الطبع: 1364 ش، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران.

جامع الرواة وإزاحة الاشتباهات عن الطرق والأسناد، تأليف: الشيخ محمد بن علي الأردبيلي الغروي الحائري، الناشر: مكتبة المحمدي.

جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، تأليف: الشيخ محمد حسن النجفي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة: الثالثة، 1367 ه ش.

ص: 504

الحبل المتين، تأليف: الشيخ بهاء الدين العاملي، الناشر: انتشارات بصيرتي، قم.

الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، تأليف: الشيخ يوسف البحراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

خاتمة مستدرك الوسائل، تأليف: الشيخ حسين النوري الطبرسي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة: الأولى رجب 1415 ه.

الخصال، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، 1403ه . ق.

خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، تأليف: العلامة الحلي، الطبعة: الأولى، 1417 ه ، الناشر: مؤسسة نشر الفقاهة.

الخلاف، تأليف: شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، التاريخ: جمادى الآخرة 1407 ه .ق.

الدر المنضود في أحكام الحدود، تقرير أبحاث السيد محمد رضا الگلپايگاني، الناشر: دار القرآن الكريم، قم المقدسة، الطبعة: الأولى، التاريخ: شوال المكرم 1412 ه ق.

درر الفوائد في الحاشية على الفرائد، تأليف: الآخوند الخراساني، الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، الطبعة الأولى، 1410 ه ، 1990 م، طهران.

الدروس الشرعية في فقه الإمامية، تأليف: الشهيد الأول، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، الطبعة: الثانية، التاريخ: 1417 ه.ق.

ص: 505

دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام، للقاضي النعمان، نشر: دار المعارف، القاهرة، سنة النشر: 1383 - 1963.

الرجال لابن الغضائري، تأليف: أحمد بن الحسين الغضائري، الناشر: دار الحديث، الطبعة: الأُولى، 1422 ق.

رجال الخاقاني، تأليف: الشيخ علي الخاقاني، تحقيق: السيد محمد صادق بحر العلوم، الناشر: مركز النشر، مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة: الثانية، تاريخ النشر: ذي القعدة 1404.

رجال الطوسي، تأليف: الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، 1415ه .

رسائل فقهية، للشيخ مرتضى الأنصاري، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، تحقيق: لجنة التحقيق، الطبعة: الأولى، ربيع الأول 1414.

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، للشهيد السعيد: زين الدين الجبعي العاملي (الشهيد الثاني)، الطبعة: الثانية، 1398.

روضة المتّقين في شرح من لا يحضر الفقيه، تأليف: الشيخ محمد تقي المجلسي.

رياض المسائل، تأليف: السيد علي الطباطبائي، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، الطبعة: الأولى، التاريخ: رمضان المبارك 1412 ه .

السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، تأليف: الشيخ ابن إدريس الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة: الثانية، التاريخ:1410 ه. ق.

شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، تأليف: المحقق الحلي، الناشر:

ص: 506

انتشارات استقلال، طهران، الطبعة: الثانية، 1409 ه .

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تأليف: إسماعيل بن حمّاد الجوهري، الناشر: دار العلم للملايين لبنان، الطبعة الاُولى. القاهرة 1376 ه - 1956م.

علل الشرائع، تأليف: الشيخ الصدوق، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف 1385 ه - 1966 م.

كتاب العين، لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، الناشر: مؤسسة دار الهجرة، الطبعة: الثانية، تاريخ النشر: 1409 ه .

عيون أخبار الرضا، تأليف: الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الناشر: مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1404 ه - 1984 م.

غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع، تأليف: السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي، الطبعة: الأولى، 1417 ه .

فتاوى ابن الجنيد، تأليف: الشيخ علي پناه الاشتهاردي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة الجماعة المدرسين بقم المقدسة.

فرائد الأصول، تأليف: الشيخ مرتضى الأنصاري، الطبعة: الأولى، 1419 ه. ق.

الفقه، موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي، تأليف: السيد محمد الشيرازي، الناشر: مؤسسة الرسول الأعظم’، بيروت، الطبعة: الأولى، 1417 ه - 1997م.

الفقه المنسوب للإمام الرضا(علیه السلام)، والمشتهر ب (فقه الرضا) تحقيق مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، المؤتمر العالمي للإمام الرضا(علیه السلام)، الطبعة: الأولى، شوّال 1406 ه..فقه الصادق، تأليف: السيد محمد صادق الحسيني الروحاني، الناشر: مدرسة

ص: 507

الإمام الصادق(علیه السلام)، الطبعة: الثالثة، رجب 1412.

فهرس أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي)، المؤلف: الشيخ أحمد بن علي النجاشي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

الفهرست، تأليف: الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، طبع ونشر: مؤسسة نشر الفقاهة، الطبعة: الأولى، 1417 ه .

القاموس المحيط، تأليف: الشيخ محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، الناشر: دار العلم للجميع، بيروت.

قرب الإسناد، تأليف: الشيخ عبد الله الحميري، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، قم، الطبعة: الأولى، 1413 ه .

الكافي، تأليف: محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، تهران، الطبعة: الثالثة، 1388ق.

الكافي في الفقه، تأليف: الشيخ أبي الصلاح الحلبي، الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) العامة، إصفهان.

كامل الزيارات، تأليف: الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه القمي، الطبعة: الأولى، التاريخ: عيد الغدير 1417.

كتاب الصلاة، للميرزا محمد حسين الغروي النائيني، تأليف: الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة: الأولى، التاريخ: 1411 ه . ق.

كتاب الصلاة، للشيخ مرتضى الأنصاري، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة: الأولى، جمادى الأول 1415.كتاب المكاسب، للشيخ مرتضى الأنصاري، إعداد: لجنة تحقيق تراث

ص: 508

الشيخ الأعظم، الناشر: مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة: الثالثة، ربيع الأول 1420 ه. ق.

كشف اللثام عن قواعد الأحكام، تأليف: الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسن الأصفهاني المعروف بالفاضل الهندي، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة: الأولى، 1416.

كفاية الفقه المشتهر ب- (كفاية الأحكام)، تأليف: الشيخ محمد باقر سبزواري، طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة: الأولى، التاريخ: 1423 ه.

كفاية الأصول، تأليف: الشيخ محمد كاظم الخراساني، تحقيق: مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث.

لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، نشر أدب الحوزة، قم - إيران، 1363 ق.

اللمعة الدمشقية، تأليف: الشهيد الأول، محمد بن جمال الدين مكي العاملي، الناشر: دار الفكر، قم، الطبعة: الأولى، 1411 ه . ق.

المبسوط في فقه الإمامية، تأليف: الشيخ محمد بن الحسن بن علي الطوسي، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، للشيخ أحمد الأردبيلي، منشورات: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة.

المحاسن، تأليف: الشيخ أبي جعفر أحمد بن محمد بن خالد البرقي، الناشر: دار الكتب الإسلامية.

المختصر النافع في فقه الإمامية، تأليف: الشيخ العلامة الحلي، منشورات: قمالدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة، الطبعة الثانية: طهران، 1402.

ص: 509

مختلف الشيعة، تأليف: الشيخ الحسن بن يوسف بن المطهر الأسدي (العلامة الحلي)، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، الطبعة: الأولى، 1412 ه .

مرآة العقول في شرح أخبار آل الرّسول، تأليف: الشيخ محمد باقر المجلسي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة: الثانية، 1404 ه ق.

مسائل علي بن جعفر، تحقيق وجمع مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، المؤتمر العالمي للإمام الرضا(علیه السلام)، الطبعة: الأولى، 1409 ه .

مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع إسلام، تأليف: زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، تحقيق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامية، الطبعة: الأولى 1413 ه . ق

مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تأليف: الشيخ ميرزا حسين النوري الطبرسي، تحقيق مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة: الأولى، 1408 ه - 1987 م.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، المؤلف: الشيخ أحمد بن محمد مهدي النراقي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، مشهد المقدسة، الطبعة: الأولى - ربيع الأول 1415 ه .

مصباح المتهجد، تأليف: الشيخ الطوسي، الطبعة: الأولى، 1411 ه - 1991 م، بيروت.

المعتبر في شرح المختصر، تأليف: المحقق الحلي، الناشر: مؤسسة سيد الشهداء(علیه السلام)، تاريخ الطبع: 1364ش.معجم مقاييس اللغة، تأليف: أحمد بن فارس بن زكريّا، مطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة: الأولى، 1399ه ، 1979م.

ص: 510

مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، تأليف: السيد محمد جواد الحسيني العاملي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة: الأولى، 1419 ه. ق.

المقنعة، تأليف: محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الملقب بالشيخ المفيد، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة: الثانية، التاريخ 1410 ه . ق.

ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، تأليف: الشيخ محمد باقر المجلسي، تحقيق: السيد مهدي الرّجائي، نشر: مكتبة آية الله المرعشي، قم، التاريخ: 1406 ه .

من لا يحضره الفقيه، تأليف: الشيخ الصدوق، محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي، الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية في قمّ المقدّسة، الطبعة الثانية.

المناهل، تأليف: السيد محمد بن علي الطباطبائي المجاهد، الناشر: مؤسسة آل البيت، قم، الطبعة: الأولى.

منتهى المطلب في تحقيق المذهب، للعلامة الحلي، الناشر: مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، الطبعة: الأولى، 1412 ق.

منتهى المقال في أحوال الرجال، تأليف: أبي علي الحائري الشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التّراث، قم، الطبعة: الأولى، 1416 ه .منهاج الفقاهة، تأليف: السيد محمد صادق الروحاني، الطبعة: الرابعة، تاريخ النشر: 1418 ه ق - 1376 ه ش.

منية السائل، مجموعة فتاوى هامة للسيد أبي القاسم الخوئي، تاريخ النشر:

ص: 511

1991 - 1412 ه.

المهذب، تأليف: الشيخ عبد العزيز بن البراج الطرابلسي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1406.

المهذب البارع في شرح المختصر النافع، تأليف: الشيخ أحمد بن محمد بن فهد الحلي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، التاريخ: رجب 1407 ه .

نقد الرجال، تأليف: السيد مصطفى بن الحسين الحسيني التفرشي، الناشر: مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، الطبعة: الأولى، شوال 1418 ه .

نهاية الأفكار، تأليف: تقرير بحث الشيخ ضياء الدين العراقي، الناشر: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة.

النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، تأليف: الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، الناشر: انتشارات قدس محمدي، قم.

الوافي، تأليف: الشيخ محمد محسن المشتهر بالفيض الكاشاني، الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي(علیه السلام) العامة، إصفهان، الطبعة: الأولى، 1406 ه ، ق.

وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تأليف: الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت(علیهم السلام) لإحياء التراث، قم المشرفة، الطبعة: الثانية 1414 ه. ق.

ص: 512

المحتويات

كتاب الصيد والذباحة

المقدمة 7

البحث الأول: في عنوان الكتاب 7

البحث الثاني: في ماهية التذكية 9

ثمرة البحث 12

البحث الثالث: في محل البحث 14

البحث الرابع: في أدلة جواز الصيد 14

البحث الخامس: في صيد الحيوانات النادرة 17

الفصل الأول: الصيد بالكلب 20

البحث الأول: الصيد بالكلب 20

أدلة حصول التذكية بكلب الصيد 20

عدم حصول التذكية بسائر الجوارح 21

تحقق الإعراض 22

عدم حصول التذكية بسباع الطيور 23

البحث الثاني: عدم الفرق بين أنواع كلب الصيد 24

البحث الثالث: موارد لا يعلم شمول الأدلة لها 25

صيد الحيوان المتولد من الكلب و غيره 27

البحث الرابع: شروط حلية صيد الكلب 28

الشرط الأول: أن يكون الكلب معلَّماً 28

شروط تحقق التعليم 29

الأول: أن يسترسل إذا أرسله 29

الثاني: أن ينزجر بزجره 29

الثالث: أن لا يأكل مما يمسكه 30

أدلة القول الأول 31

دليل القول الثاني 33

ص: 513

دليل القول بالتفصيل 34

اشتراط تكرار الاصطياد وعدمه 36

عدم اشتراط الملكة 37

القول بكفاية التعليم مرة 39

نسيان التعليم 40

فروع تتعلق بتعليم كلب الصيد 40

الشرط الثاني: تحقق شروط المرسل 41

القيد الأول: أن يكون المرسل مسلماً 41

أدلة القيد الأول 42

القيد الثاني: أن يرسله للاصطياد 44

أدلة القيد الثاني 44

فروع:بناء على اشتراط الإرسال 48

الشرط الثالث: التسمية 51

لزوم تجديد التسمية وعدمه 53

بيان وقت التسمية 54

فروع: تتعلق بالتسمية 55

ترك التسمية لاعتقاده عدم وجوبها 57

كفاية تسمية الغير 59

تعدد أسباب قتل الصيد 60

اشتراك كلبين في قتل الصيد 61

استناد الموت على السبب المحلل 62

سقوط الصيد من مرتفع 64

الصيد بمساعدة شيء آخر 66

الاعتبار في المرسل لا المعلم 67

الفصل الثاني: في المصيد 70

الشرط الأول: القصد 70

الفرع الأول: في تعيين المصيد 70

الفرع الثاني: لو لم يقصد الصيد 71

الفرع الثالث: قصد كبار القطيع 71

الفرع الرابع: لو قصد صيداً فصاد أكثر 72

ص: 514

الفرع الخامس: لو قصد الحيوان المحرم 72

الفرع السادس: لو أرسل الكلب ولم يشاهد صيداً 72

الشرط الثاني: إطلاق الصيد عليه 73

الفرع الأول: كون الحيوان ممتنعاً 73

الفرع الثاني: لو أصبح الأهلي وحشياً 74

الفرع الثالث: صيد الفراخ 74

الفرع الرابع: النهي عن الصيد ليلاً 74

الشرط الثالث: عدم تقطيع الصيد 75

الشرط الرابع: عدم إدراك تذكيته 80

الإسراع إلى التذكية 80

لو أدرك الصيد حيّاًً 82

في معنى الحياة المستقرة 85

فروع متعلقة بالإدراك 87

الفرع الأول: لو لم توجد السكين 88

الفرع الثاني: الصيد بالسهم 90

الفرع الثالث: إدراك الصيد مستقر الحياة 91

الشرط الخامس: العقر 92

تتمتان 94

التتمة الأولى: في طهارة موضع العض وعدمه 94

التتمة الثانية: في ملكية الصيد 95

الفرع الأول: في كيفية الحيازة 95

الفرع الثاني: لو وقع الصيد في شبكته ثم انفلت 97

الفرع الثالث: لو لم تكن آلة الصيد متعارفة 98

الفرع الرابع: لو قصد حيواناً فصاد آخر 99

الفرع الخامس: الإعراض عن الصيد بعد صيده 100

الفرع السادس: لو أمكن الصيد التحامل 102

الفرع السابع: في الصيد بالمغصوب 102

الفصل الثالث: الصيد بالآلات 106

تمهيد 106

اشتراط الخرق 107

ص: 515

الصيد بشيء ثقيل 110

الصيد بالأسلحة الحديثة 110

لو قطعت الحبالة بعض الصيد 115

رمي الصيد بأكبر منه 116

مسائل متفرقة 116

المسألة الأولى: لو وقع حياً وجبت تذكيته 116

المسألة الثانية: لو رماه الأول وقتله الثاني 116

المسألة الثالثة: لو رماه الأول ولم يخرج عن الامتناع 118

المسألة الرابعة: لو جنى أحدهما على صيد ثم جنى عليه الثاني 119

المسألة الخامسة: تحقق امتناع الحيوان بشيئين 124

المسألة السادسة: رمي الصيد بتوهم أنه حرام اللحم 126

المسألة السابعة: عدم توقف الحلية على قصد التملك 127

خاتمة: وفيها فروع 129

الفرع الأول: لو لم يقدر على التسمية 129

الفرع الثاني: في بيان حكم الصيد المجهول 130

الفرع الثالث: لو دخل السهم من طرف وخرج من آخر 131

الفرع الرابع: حكم الصيد مع الإكراه 132

الفرع الخامس: حكم الدم المتبقي في الصيد 132

الأصل العملي عند الشك في شرائط الصيد 132

الفصل الرابع: في مباحث الذباحة 137

البحث الأول: في الذابح وشرائطه 137

الشرط الأول: الإسلام 137

الأقوال في ذبيحة الكافر الكتابي 137

القول الأول: حرمة ذبيحته 137

القول الثاني: الحلية مطلقاً 138

القول الثالث: التفصيل بين سماع التسمية منه فيحل وإلا فلا 138

الطوائف الخمس عشرة الواردة في ذبائح أهل الكتاب 140

الطائفة الأولى: ما دل على عدم الجواز مطلقاً 140

الطائفة الثانية: ما دل على الحلية مطلقاً 140

الطائفة الثالثة: التفصيل بين سماع التسمية وعدمها 140

ص: 516

الطائفة الرابعة: التفصيل بين ما لو سمع أو أخبره المسلم بالتسمية وبين عدمهما 141

الطائفة الخامسة: الحلية سواء سمع التسمية أو لا 141

الطائفة السادسة: حلية ذبائحهم حتى لو ذكروا اسم المسيح 142

الطائفة السابعة: النهي عن أكلها لأن الاسم لا يؤمن عليه إلا المسلم 143

الطائفة الثامنة: جعل المدار على ذكر الله وعدمه 144

الطائفة التاسعة: التفصيل بين اليهود والنصارى وبين المجوس 144

الطائفة العاشرة: النهي عن ذبيحة المجوس ونصارى تغلب 144

الطائفة الحادية عشرة: الروايات الناهية عن ذبيحة نصارى العرب 145

الطائفة الثانية عشرة: ما ورد من النهي عن ذبحهم للأضحية 145

الطائفة الثالثة عشرة: ما دل على أكل النبي(صلی الله علیه و آله) ذبيحة اليهودية 145

الطائفة الرابعة عشرة: ما دل على جواز الأكل وقت الضرورة 146

الطائفة الخامسة عشرة: الحلية فيما لو كان الذابح على دين موسى وعيسى حقيقة 147

عدم اشتراط الإيمان 147

عدم كراهة ذبيحة أهل الخلاف 150

كفر المجبرة والمشبهة 151

ذبيحة النواصب 152

زواج المعصوم من الناصبية 153

الشرط الثاني: اشتراط العقل في الذابح 154

البحث الثاني: في آلة الذبح وشروطها 155

الذبح بالإستيل 156

الاضطرار إلى الذبح بغير الحديد 158

الذبح بالظفر والسن 159

البحث الثالث: في كيفية الذبح وشرائطه 161

الشرط الأول: قطع بعض أعضاء الرقبة 161

دليل لزوم قطع الحلقوم 162

أدلة لزوم الزيادة على قطع الحلق 162

الشرط الثاني: إسلام الذابح 166

الشرط الثالث: استقبال القبلة بالذبيحة 166

استقبال الذابح للقبلة وعدمه 170

الشرط الرابع: التسمية 171

ص: 517

مسألتان في شرط التسمية 172

المسألة الأولى: وجوب التسمية عند الذبح 172

فروع: تتعلق بالمسألة الأولى 173

الفرع الأول: في المراد من التسمية 173

الفرع الثاني: في كفاية القرآن أو الدعاء 173

الفرع الثالث: لا يلزم معرفة معنى الاسم 174

الفرع الرابع: اشتراط الاتصال 174

الفرع الخامس: التسمية بعنوان كونها على الذبيحة 174

الفرع السادس: خلط اسم الله مع غيره 175

الفرع السابع: رفع الصوت بالتسمية 175

المسألة الثانية: في نسيان التسمية 177

فروع: تتعلق بالمسألة الثانية 177

الفرع الأول: عدم الفرق بين أنواع النسيان 177

الفرع الثاني: في إلحاق الجهل والخطأ بالنسيان 177

مباحث في شرائط الذبح والنحر 178

المبحث الأول: في نحر غير الإبل 178

المبحث الثاني: في نحر الإبل 180

مناقشة المحقق الأردبيلي للأدلة المذكورة 181

المبحث الثالث: عدم اشتراط قطع الحلقوم في النحر 184

المبحث الرابع: في قطع رأس الذبيحة قبل البرد 185

المبحث الخامس: في سلخ الجلد أو قطع بعض الأعضاء قبل البرد 187

الشرط الخامس: حركة الذبيحة 190

أدلة القول الأول 191

أدلة القول الثاني 192

أدلة القول الثالث والرابع 193

القول المختار 196

الأقوال في زمان الحركة 197

فرع: في اشتراط اجتماع الحركات الثلاثة وعدمه 198

فرع: في كفاية صدور حركة أخرى غير ما ورد في الروايات 200

فرع: اشتراط صدور الحركة من الحي 200

ص: 518

فرع: عدم الحاجة لتكرار الحركة 201

فرع: إذا لم يتحرك وعلمنا بحياته 201

الفصل الخامس: في سوق المسلمين 203

فرع: في حلية اللحوم من كل الجهات 205

بيان المراد من سوق المسلمين 207

ملكية المنذور 208

الضمان مع التلف 211

فرع: لو جنى على الأضحية عمداً 212

الفصل السادس: في ذكاة السمك 214

البحث الأول: في كيفية تذكية السمك 214

البحث الثاني: في فروع تتعلق بكيفية التذكية 214

الفرع الأول: كفاية إخراج السمك بآية وسيلة 215

الفرع الثاني: في خروج السمك من الماء بنفسه 215

الفرع الثالث: في موت السمك في الشبك أو الحظيرة 216

البحث الثالث: عدم اشتراط الإسلام والتسمية والقبلة في تذكية السمك 218

البحث الرابع: مسائل متفرقة 219

المسألة الأولى: لو وجد سمكة في جوف أخرى 219

المسألة الثانية: في أكل السمك حياً 221

المسألة الثالثة: حكم ما لو قطع من السمك الحي 224

المسألة الرابعة: في تذكية السمك المحرم 225

الفصل السابع: في ذكاة الجراد 226

تنبيه 228

حكم صيد الدبا 229

المشكوك كونه دبا 229

عدم اشتراط البلوغ في صيد الجراد 229

فرع: في جواز أكل الجراد الميت الذي أخذه المميز 230

الفصل الثامن: في ذكاة الجنين 232

فرع: عدم لزوم شق بطن الأم فوراً 236

فرع: في ذبح الجنين في بطن أمه 237

الفصل التاسع: في الحيوانات القابلة للتذكية وعدمها 238

ص: 519

الفئة الأولى: الحيوانات النجسة بالعارض 238

الفئة الثانية: الأسماك المحرّمة 239

الفئة الثالثة: الكلب والخنزير 239

الفئة الرابعة: السباع 239

الفئة الخامسة: المسوخ 245

الفئة السادسة: الحشرات 248

كتاب الأطعمة والأشربة

تمهيد 255

تأصيل الأصل 255

موارد تخصيص الأصل الثانوي للأصل الأولي 257

المورد الأول: الخبائث 257

الأقوال في معنى الخبائث 258

القول الأول: المراد الخبيث الشرعي 258

القول الثاني: المراد الخبيث اللغوي 259

القول الثالث: المراد الخبيث العرفي 259

القول الرابع: المراد التنفر من جميع الجهات 259

القول الخامس: الخبيث ما تنفر منه أهالي البلاد 260

القول السادس: التقييد بنفوس العرب 260

القول السابع: الخبيث مجمل 260

القول الثامن: المراد الطيب والخبيث الواقعي 261

المورد الثاني: الأشياء المضرّة 262

أدلة حرمة الأشياء الضارّة 262

الدليل الأول: الإجماع 262

الدليل الثاني: استقلال العقل بحرمة الأشياء الضارة 263

الدليل الثالث: أدلة نفي الضرر شاملة للأشياء الضارة 264

الدليل الرابع: عموم التعليل 265

المورد الثالث: الطعام النجس أو المتنجس 266

الفصل الأول: في حكم الموجودات البحرية 268

القسم الأول: الموجودات البحرية غير السمك 268

أدلة حرمة الموجودات البحرية غير السمك 268

ص: 520

الدليل الأول: أصالة عدم التذكية 269

الدليل الثاني: العمومات الدالة على حرمة الميتة 270

الدليل الثالث: موثقة عمار الساباطي 271

الدليل الرابع: ما يدل على حرمة الموجودات البحرية إن لم تكن سمكاً ذات فلس 271

الدليل الخامس: الإجماع 272

القسم الثاني: السمك ذات الفلس 272

فرع: في سقوط الفلس 273

القسم الثالث: السمك غير ذات الفلس 273

روايات حرمة السمك غير ذات الفلس 274

الروايات الدالة على حلية السمك غير ذات الفلس 275

توجيه روايات الحلية 275

القسم الرابع: الروبيان 277

القسم الخامس: في خصوص الجري والمارماهي والزمير 278

القسم السادس: في السمك الجلاّل 279

البحث الأول: في معنى الجلال 279

البحث الثاني: الدليل على الحرمة 280

البحث الثالث: في مدة الاستبراء 281

البحث الرابع: في إعطاء الطعام وعدمه في مدة الاستبراء 281

البحث الخامس: اشتراط كون العلف طاهراً وعدمه 283

فرع: في بيض السمك 283

الفصل الثاني: في الحيوانات البريّة المحلّلة 285

النوع الأول: الأنعام الثلاثة 285

النوع الثاني: الفرس والحمار والبغل 286

درجات الكراهة 289

حكم لحم البقر والجاموس 290

النوع الثالث: سائر الحيوانات البرية غير المستثناة 291

الفصل الثالث: في أسباب الحرمة العرضية 292

السبب الأول: الجلل 292

مطالب في البهائم الجلالة 292

المطلب الأول: في بيان المراد من الجلال 292

ص: 521

المطلب الثاني: في مقدار أكل النجاسة 293

المطلب الثالث: في حرمة الجلال 295

المطلب الرابع: أكل الحيوان النجاسة وغيرها 296

المطلب الخامس: في نجاسة الجلال وعدمها 297

المطلب السادس: حكم ركوب الجلال 298

المطلب السابع: في حكم ما لا تحله الحياة من الجلال كالعظم والسن 298

المطلب الثامن: في بيان موارد الحيوانات الجلالة 299

المطلب التاسع: في سراية الجلل إلى نسل الجلال 299

المطلب العاشر: في حكم اشتباه الجلال بغيره 300

المطلب الحادي عشر: قابلية نجاسة الجلال للزوال 300

المطلب الثاني عشر: في بقاء الجلل بعد الاستبراء 302

السبب الثاني: شرب لبن خنزيرة 303

فروع تتعلق بالمسألة 305

السبب الثالث: الوطء 307

البهيمة نوعان 307

فروع تتعلق بوطء البهيمة 310

صور كون الواطئ مالكاً وعدمه والموطوء مما يراد لحمه وعدمه 315

الصورة الأولى: أن يكون الموطوء مما يراد لحمه والواطئ مالكاً 315

الصورة الثانية: أن يكون الموطوء مما يراد لحمه والواطئ غير مالك 316

في غرامة القيمة 316

الصورة الثالثة: أن يكون الموطوء مما يراد ظهره والواطئ هو المالك 318

فروع في الصورة الثالثة 319

الصورة الرابعة: أن يكون الموطوء مما يراد ظهره والواطئ غير المالك 320

الصورة الخامسة: ما يقصد ظهرها ولحمها 321

فيما لو اشتبه الموطوء بغيره 321

المبحث الأول: فيما يراد لحمه 322

المبحث الثاني: فيما يراد ظهره 323

فروع في مسألة اشتباه الموطوء بغيره 324

السبب الرابع: لو شربت الشاة الخمر 326

فرعان يتعلقان بالمسألة 330

ص: 522

الفرع الأول: وجه العلة في غسل اللحم 330

الفرع الثاني: لو شربت الشاة بولاً 331

الفصل الرابع: في حيوانات البر المحرّمة 332

الأول: المسوخ 332

الدليل على حرمة المسوخ 332

مصاديق المسوخ 333

حرمة الأرنب 334

الثاني: الحشرات 334

أدلة حرمة الحشرات 335

الثالث: السباع 335

الرابع: الخبائث 336

الخامس: ما كان فيه ضرر بالغ منهي عنه 337

الفصل الخامس: في الطيور المحرمة والمحلّلة 338

القواعد العامة في الطيور 338

القاعدة الأولى: ما كان سبعاً 338

القاعدة الثانية: الدفيف والصفيف 340

القاعدة الثالثة: الحوصلة والقانصة والصيصية 341

بعض الطيور المنصوصة 342

الأول: الغراب 343

دليل القول بحرمة الغراب 343

دليل القول بحلية الغراب 344

وجوه الجمع بين الروايات 345

الأقوال المفصلة وأدلتها 346

الثاني: الهدهد 348

الثالث: الخطاف 349

الرابع: الحبارى 351

الخامس: الشقراق 352

السادس: اللقلق 353

السابع: النعامة 353

الثامن: الفاختة 355

ص: 523

التاسع: الطاووس 355

الفصل السادس: حكم بيض الطيور 356

المسألة الأولى: تبعية البيض للطير 356

المسألة الثانية: اشتباه البيض 357

صور اشتباه البيض 358

المسألة الثالثة: النطفة والدم في البيض 359

الفصل السابع: في حرمة الميتة 362

فروع تتعلق بالمسألة 362

الفرع الأول: في حكم اللحم المستورد 362

الفرع الثاني: في حكم وجدان لحم لا يعلم أنه مذكى أو ميتة 363

الفرع الثالث: في اختلاط المذكى بالميتة 366

الفرع الرابع: في حكم بيع المختلط 368

الفرع الخامس: في جواز بيع الميتة ممن يستحلها 371

الفصل الثامن: في محرمات الذبيحة 373

معنى المشيمة وحكمها 375

معنى الفرج وحكمه 375

البيضتان 376

المرارة 376

سائر الأعضاء 376

الرحم 377

العروق 377

الكلية 377

فرع: حكم طبخ الحيوان الكامل 378

فرع: شوى الطحال مع الكبد 379

الفصل التاسع: في حكم أكل الطين 381

فروع تتعلق بمسألة أكل الطين 382

الفرع الأول: في الطين والمدر والتراب 383

الفرع الثاني: أكل الطين الموجود في الفواكه وغيرها 384

الفرع الثالث: في سائر استعمالات الطين 384

حكم أكل تربة الإمام الحسين(علیه السلام) 385

ص: 524

فروع تتعلق بمسألة أكل تربة الإمام الحسين(علیه السلام) 386

الفرع الأول: الأكل للتبرك 386

الفرع الثاني: في مقدار ما يؤكل من الطين 389

الفرع الثالث: حدود الطين الجائز أكله 390

الفرع الرابع: في جواز بيع تربة الحسين(علیه السلام) 393

الفرع الخامس: في لزوم إثبات كونه طين قبر الحسين(علیه السلام) 393

الفرع السادس: في شمول الطين لقبر المعصومين وعدمه 394

حكم الطين الأرمني 396

الفصل العاشر: في الأطعمة المضرّة 400

الضرر في غير النفس والعضو والقوة 400

صور الاستثناء من عدم جواز إلقاء النفس في التهلكة 403

صور الاستثناء من عدم جواز إتلاف العضو 404

الصورة الأولى: هبة عضو 405

الصورة الثانية: بيع العضو 407

الفصل الحادي عشر: في حرمة الخمر 408

البحث الأول: في حرمة الخمر 408

البحث الثاني: شرب الخمر للتداوي 408

البحث الثالث: في بيان المراد من الخمر 409

البحث الرابع: ما أسكر كثيره فقليله حرام 410

البحث الخامس: في وجوب التقيؤ وعدمه لو شرب عمداً أو سهواً 410

البحث السادس: المراد من المسكر هو المسكر النوعي 411

البحث السابع: عدم اختصاص الحرمة بالشرب 411

البحث الثامن: في حكم الفقاع 412

البحث التاسع: الاضطرار إلى شرب الخمر 412

البحث العاشر: العلاج بالخمر بغير الشرب 416

البحث الحادي عشر: في حجية قول الخبير لو أخبر بشرب الخمر 417

الفصل الثاني عشر: في حرمة الدم 419

استثناءات من حرمة الدم 419

دم القلب والكبد 420

تنبيه 420

ص: 525

حكم الدم في حيوان ليس له دم دافق 421

حكم وقوع الدم في قدر ماء اللحم 423

فروع تتعلق بالمسألة 426

الفصل الثالث عشر: في سقوط الحيوان في المائع المضاف 428

الصورة الأولى: خروجه حياً 428

الصورة الثانية: موته فيه 429

فروع تتعلق بالمسألة 430

الفرع الأول: في طريقة تطهير الدهن النجس 430

الفرع الثاني: في بيان معنى الجمود وحده 431

الفرع الثالث: كون الاستصباح تحت السماء دون السقف 431

الفرع الرابع: في جواز بيع الدهن النجس 432

الفرع الخامس: في إعلام المشتري بالنجاسة 433

الفصل الرابع عشر: في حرمة الأبوال 435

القول الأول: الحلية مطلقاً 435

القول الثاني: الحرمة مطلقاً 437

القول الثالث: التفصيل بين بول البعير وغيره 439

الفصل الخامس عشر: بحوث في حكم الألبان 441

البحث الأول: في حلية لبن حلال اللحم 441

البحث الثاني: في لبن الحيوان المحرم 442

البحث الثالث: في لبن الحيوان المكروه اللحم 444

البحث الرابع: في لبن الإنسان 446

الفصل السادس عشر: في عدم جواز التصرف في مال الغير 448

الاستثناء من عدم جواز التصرف في مال الغير 449

الاستثناء الأول: حلية الأكل من بيت من تضمنتهم الآية 449

فروع تتعلق بالمسألة 450

الفرع الأول: اشتراط العلم بعدم كراهة المالك 450

الفرع الثاني: في دخول الدار من غير إذن 451

الفرع الثالث: مباحث في مفردات الآية 453

الفرع الرابع: الفرق بين المأكول الذي يخشى فساده وعدمه 456

الفرع الخامس: عدم الفرق بين أنواع المأكول 457

ص: 526

الفرع السادس: في تعدي الحكم من المأكول إلى غيره 459

الفرع السابع: في حكم الطعام خارج البيت 459

الفرع الثامن: في جواز حمل الطعام خارج البيت 459

الفرع التاسع: في جواز إطعام الغير وعدمه 460

الفرع العاشر: عدم الفرق بين النسب والرضاع 461

الاستثناء الثاني: حق المارة 461

الأقوال في المسألة 461

القول الأول: الجواز 461

القول الثاني: عدم الجواز 464

شروط حق المارة 466

الشرط الأول: كون المرور اتفاقياً 466

الشرط الثاني: عدم جواز الحمل 467

الشرط الثالث: عدم الإفساد 467

الشرط الرابع: اختصاص جواز الأكل بالفواكه والتمر... 469

الشرط الخامس: كون الثمر على الشجر 470

الشرط السادس: عدم العلم بكراهة المالك أو الظن بها 471

الشرط السابع: كون الثمرة ناضجة 472

الفصل السابع عشر: مباحث في تناول المحرمات حال الاضطرار 473

المبحث الأول: في أدلة حلية المحرمات حال الاضطرار 473

المبحث الثاني: في معنى الاضطرار 474

المبحث الثالث: في مصاديق الاضطرار 475

سراية الاضطرار إلى غير المضطر 475

اختلاف موارد الاضطرار 476

إسقاط الجنين 476

المبحث الرابع: في بيان معنى الباغي والعادي 478

حكم الباغي والعادي 480

توبة الباغي والعادي 481

الآثار التكوينية والوضعية للمضطر 482

المبحث الخامس: في اضطرار غيره 482

المبحث السادس: في كون الاضطرار رافعاً للحرمة أو ملزماً 483

ص: 527

المبحث السابع: لو توهم الضرر فبان خلافه 484

المبحث الثامن: في صدق الاضطرار المبيح لاقتحام الحرام 485

المبحث التاسع: في جواز التلذذ بالحرام عند الاضطرار 485

المبحث العاشر: في جواز أخذ العوض من المضطر وعدمه 486

المبحث الحادي عشر: في كون التقية مبيحة للمحرمات 486

حكم شرب المسكر تقية 488

تقية الجاسوس في بلاد الكفر 489

المبحث الثاني عشر: صور التعدي على مال الغير 489

الصورة الأولى: أن يكون المالك مضطراً 489

جواز الإيثار في صورة الهلكة 490

الصورة الثانية: أن لا يكون المالك مضطراً 492

فروع تتعلق بالمسألة 493

الفرع الأول: في وجوب البذل لرفع اضطرار المضطر 493

الفرع الثاني: فيما لو امتنع المالك عن البذل 493

الفرع الثالث: في جواز أخذ العوض وعدمه 493

الفرع الرابع: فيما لو طلب المالك أكثر من الثمن المتعارف 494

الضمان مع امتناع المالك 495

الفرع الخامس: فيما لو قصد المالك المجانية 496

الفرع السادس: فيما لو اضطر إلى التصرّف في مال اليتيم والغائب 496

الفرع السابع: فيما لو اضطر إلى أحد الحرامين 497

الفرع الثامن: في ترجيح النجاسة العرضية على الذاتية وعدمه 498

الفرع التاسع: لو اضطر المُحرم إلى أكل الميتة أو الصيد 498

الفرع العاشر: في كون الاضطرار من نوعين 500

الفرع الحادي عشر: في دوران الأمر بين الاضطرار الفعلي أو في المستقبل 501

الفرع الثاني عشر: في حكم اضطرار شخصين 502

مصادر التحقيق 503

فهرس المحتويات 513

ص: 528

المجلد 2 : الغصب

هویة الکتاب

سرشناسه:حسینی شیرازی، سیدجعفر، ‫1349 -

عنوان و نام پديدآور:نبراس الاحکام/ تقریرا لابحاث السیدجعفر الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر:تهران: دلیل ما ‫، 1439 ق. = 2018 م. ‫= 1397 -

مشخصات ظاهری:3ج.

شابک:دوره ‫ 978-600-442-080-8 : ؛ ‫200000 ریال ‫: ج.1 ‫ 978-600-442-079-2 : ؛ ‫200000 ریال ‫: ‫ج.2 ‫ 978-600-442-181-2 : ؛ ‫ج.3 ‫: 978-964-204-665-2

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:جلد دوم این کتاب در سال 1398 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:ج.3. چاپ اول: 1443ق. = 1400. ( فیپا)

یادداشت:کتابنامه.

مندرجات:ج.1. الصید والذباحه، الاطعمه والاشربه.- ج.2. الغصب

موضوع:اصول فقه شیعه

* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

رده بندی کنگره:BP159/8 ‫ /ح525ن16 1397

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:5204455

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فاپا

ص: 1

اشارة

نبراس الأحکام - الغصب

السيّد جعفر الحسيني الشيرازي

السيّد جعفر الحسيني الشيرازي

إخراج: نهضة اللّه العظيمي

الطبعة الأولى - 1440ه- .ق

شابك:

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

ص: 3

ص: 4

الغصب

ص: 5

ص: 6

وقبل البحث في أحكام الغصب لا بد من معرفة معناه.

تمهيد في تعريف الغصب

وقد عرف بتعاريف(1) أوردت عليها إشكالات بعدم الاطّراد أو الانعكاس، ومن الفقهاء من(2) لم يتوقف على حدود التعاريف المذكورة لارتكاز المعنى في الأذهان، والتعاريف إنما هي لتوضيح ما هو المركوز، وخاصة في ما لم يرد من الشارع تحديد بخصوصه، حيث إن مقتضى القاعدة مراجعة العرف في كل مورد، وليس ذلك من أخذ المصداق من العرف تسامحاً حتى يرد عليه عدم حجيته في المصاديق، بل من باب معرفة تحقق المفهوم وانطباقه على المصداق.

ومنهم من ذكر(3) أن التعاريف المذكورة إنما هي شرح للاسم، وفي مثله ليس المراد الحد الدقيق حتى يذكر الجنس والفصل بحيث يكون مطرداً ومنعكساً، بل تقريب المعنى إلى الذهن، أو إشارة إلى ما هو المرتكز في الأذهان.ومنهم من ذهب(4) إلى عدم فائدة مرجوة لهذا البحث، نظراً لعدم ورود

ص: 7


1- التنقيح الرائع 4: 64؛ المهذّب البارع 4: 245؛ جواهر الكلام 37: 7.
2- جواهر الكلام 37: 13.
3- حاشية المكاسب، للآخوند: 35.
4- كتاب الغصب، للرشتي: 2.

كلمة (الغصب) في الروايات الواردة في المقام، فلا وجه لتحديد مفهومه، حيث لا ندور مداره في الاستنباط، فالملاك ملاحظة مدلول كل رواية رواية، كما عن النبي|: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»(1).

لكن وإن خلت غالب الأدلة من كلمة (الغصب) إلّا أنها وردت في بعض الروايات، كما في صحيحة أبي ولّاد عن الإمام الصادق(علیه السلام): «لأنك غاصب»(2)، فلا بد من معرفة مفهومه، لكن ليس من الضروري بيان تعريف جامع مانع، بل يكفي ما في الارتكاز العرفي.

وعلى كل حال فلا بأس بتعريفه، قال في الشرائع: «فالغصب هو الاستقلال بإثبات اليد على مال الغير عدواناً»(3).

ولا بد من البحث في كل مفردة مفردة من هذا التعريف لنرى مدخليتها في مفهومه.

أمّا (الاستقلال): فهو الاستبداد بالشيء(4)، فلو شارك المالك في ماله ولو بطريقة غير شرعية لم يكن غصباً، كما لو أزعج المالك من دون أنيستولي على ماله.

أمّا (إثبات اليد): فكما لو أراد بناء أرضه فمنعه الجار، فليس غصباً؛ لعدم إثبات اليد.

وخرج غير المال بقيد (المال)، كما لو سجن الحر فليس من الغصب،

ص: 8


1- الخلاف 3: 408؛ المبسوط 3: 59.
2- الكافي 5: 290-291؛ وسائل الشيعة 19: 119.
3- شرائع الإسلام 4: 761.
4- لسان العرب 11: 566.

بخلاف سجن العبد، ولا يخفى دقة التعبير بالمال دون الملك؛ لأن بعض أنواع الغصب استيلاء على مال الغير لا ملكه، كما لو آجر داره ثم غصبها، فحيث يكون البيت ملكه لم يكن غصباً للملك، وإنما للمنفعة التي هي مال الغير.

كما يخرج به البضع؛ لأنه ليس مالاً، إلّا أن تكون أمة للغير.

وأمّا قيد (الغير) فهو لإخراج مال نفسه في ما إذا لم يكن له حق التصرف كما في الرهن، فتصرف المالك فيه حرام لكنه ليس غصباً.

وبقيد (عدواناً) خرج تصرف الولي والوكيل والمستأجر حيث رضا الطرفين، أو ما يكون بأمر الشارع، كما في تصرف الدائن في مال المديون بعد الحجر عليه.

لكن يرد عليه عدم الاطراد والانعكاس.

1- أمّا (الاستقلال): فقد لا يكون الغاصب مستقلاً، كما لو دخل الدار عنوة وسكنها مع المالك، أو غصب شخصان شيئاً، فليس كل منهمامستقلاً في الغصب(1).

2- وقد نقض التعريف أيضاً: بما لو فتح باب القفص(2) عالماً عامداً

ص: 9


1- قد لا يكون المراد من الاستقلال الشراكة العرضية مع المالك أو مع غاصب آخر، بل المراد الطولية بأن لا يكون تصرفه في مال الغير مستنداً إلى إذن المالك، فلو أثبت يده على مال الغير بإذنه لم يكن غصباً. إن قلت: إن قيد (عدواناً) يخرج التصرف المستند إلى إذن المالك، فيكون قيد الاستقلال مستدركاً. قلت: قد يكون التصرف بإذن المالك ومع ذلك يكون عدوانياً، كما في المال المرهونة. والحاصل: إن قيد الاستقلال لإخراج التصرفات المستندة إلى إذن المالك (المقرر).
2- مسالك الأفهام 12: 148.

فطار الطير، فالتعريف لا يشمله؛ لعدم إثبات اليد، مع أنه غصب؛ لأنه ضامن.

لكنه غير تام؛ لحصول الخلط بين الضمان والحرمة وبين الغصب، فلا يصح ذكرها نقضاً، فالفعل المذكور وإن كان محرماً موجباً للضمان لكنه ليس بغصب، بل يدخل في إتلاف مال الغير الأعم من الغصب.

3- وأمّا خروج البضع(1) عن التعريف فهو من خلط الحرام بالغصب أيضاً، كما لو أرضعت أم الزوجة بلبن أبيها حفيدتها من ابنتها، حيث تحرم الزوجة على زوجها لقاعدة: (لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن) فالفعل وإن كان محرماً موجباً لضمان المهر لكنه ليس غصباً، فإن الضمان أعم من الغصب، كما لو أتلف مال الغير في النوم، أو توهم أنهمال نفسه فأتلفه، فالنقض المذكور غير وارد.

4- وأشكل في المسالك(2) على القيد الرابع: بتحقق الغصب مع عدم كونه مال الغير، كما في غصب مكان المصلي في الصف الأول، أو حجرة الطالب في المدرسة.

5- وأمّا قيد (العدوان) فأورد عليه نقضاً: بتحقق الغصب غير العدواني، كما لو جهل(3) كونه مال الغير وتصرف فيه، فليس ذلك من التعدي - فإن القصد مأخوذ في قيد العدوان - مع كونه غصباً.

لكنه غير وارد؛ لعدم صدق الغصب عليه؛ وذلك لعدم إمكان تخصيص

ص: 10


1- مسالك الأفهام 12: 146.
2- مسالك الأفهام 12: 147.
3- مسالك الأفهام 12: 148.

أدلة حرمة الغصب لشدتها، مضافاً إلى عدم صدق الغصب عليه عرفاً، كما لو جلس في دار ورثه من أبيه ثم تبين أنها كانت أمانة بيد الأب.

ولأجل ذلك عدل بعض الفقهاء من تعريف صاحب الشرائع إلى أن الغصب هو: «إثبات اليد على حق الغير بغير حق»(1).

وذهب بعضهم(2) إلى خروج التعدّي على الأرض عن صدق الغصب؛ وذلك لقيد (إثبات اليد)، فإن الأرض مما لا تثبت اليد عليها.

وفيه تأمل؛ لصدق الغصب لغة وعرفاً، فقيد إثبات اليد لا يغيّر المعنىاللغوي والعرفي، بل المقصود منه هو توضيح المعنى العرفي، كما أنه لا يقصد من (إثبات اليد) الأخذ باليد المادية، بل الاستيلاء، وهو في كل شيء بحسبه، فقد يكون باليد، وقد يكون بالرجل أو بالاعتبار، أو بالمستندات المسجلة في الدوائر الحكومية المسمى بالطابو؛ ولذا لا ندور مدار اللفظ بعد انطباق المعنى.

كما أن إيداع المال في الحساب البنكي من مصاديق القبض عرفاً، وإن منعه البعض، وضعفه واضح بشهادة العرف، وليس ذلك من التسامح في المصداق، بل من انطباق مفهوم القبض عليه.

وفي ما نحن فيه كلّما صدق الغصب ترتب الحكم، وكلّما لم يصدق لم يترتب من جهة الغصبية، وإن ترتب من جهة أخرى.

والحاصل: إن الغصب يشمل غصب مال الغير، سواء كان عيناً أم منفعة، كما يشمل

ص: 11


1- المهذّب البارع 4: 245؛ إيضاح الفوائد 2: 166.
2- التنقيح الرائع 4: 66.

غصب النفس في العبد، وفي شموله للحر بحث، كما يشمل غصب الحق غير المالي مع أنه ليس من غصب المال أو النفس.

قال في الشرائع: «ولا يكفي رفع يد المالك ما لم يثبت الغاصب يده، فلو منع غيره من إمساك دابته المرسلة فتلفت لم يضمن، وكذا لو منعه من القعود على بساطه، أو منعه من بيع متاعه فنقصت قيمته السوقية، أو تلفتعينه»(1).

فتحقق الغصب منوط بإثبات اليد ومع عدمه لم يتحقق، فلا يضمن؛ لأن دليل الضمان هو (على اليد) وحيث لا يد فلا ضمان.

وأشكل عليه في المسالك(2): بأن الضمان كما يتحقق بمباشرة التلف كذلك يتحقق بتسبيبه، كما لو حرّض المجنون أو الطفل غير المميز أو الحيوان على إتلاف مال الغير، فعدم الضمان على إطلاقه محل تأمل.

وقال الشهيد الأول(3): بأن الضمان متحقق في جميع الصور المذكورة، سواء تلفت العين أم نقصت القيمة.

وقال السيد الوالد في الفقه(4): مقتضى القاعدة تمامية كلام الشهيد الأول، وإن لم يتحقق عنوان الغصبية، فإن أدلة الضمان لا تنحصر بالغصب، كما لا تنحصر في (على اليد) حتى يقال لا يد هنا، فهنالك روايات عديدة وقد عمل بها المشهور، مضافاً إلى اعتبار بعضها، مثل: «لئلا يتوى حق امرئ مسلم»(5)، فهو نفي يتضمن النهي والضمان كما سيأتي، ومثل: «لا

ص: 12


1- شرائع الإسلام 4: 761.
2- مسالك الأفهام 12: 150.
3- الدروس الشرعيّة 3: 107.
4- الفقه 78: 18-19.
5- مستدرك الوسائل 17: 446.

يبطل حق مسلم»(1)، ومثل: «لاتبطل حقوق المسلمين»(2).

ووجه الاستدلال: أن النفي الوارد ليس لنفي الأمر التكويني؛ لضياع الكثير من الحقوق في الخارج، فصدق الكلام موقوف على عدم إرادة النفي منه، فيكون المراد التشريع، كما هو الحال في (لا ضرر)، وفي التشريع احتمالان: مجرد الحرمة أو الضمان، الذي هو أظهر الآثار، والأول مستلزم لضياع الحق عرفاً، فلا يبقى إلّا الثاني.

وبعبارة أخرى: بعد نفي المعنى الحقيقي للنفي يكون أقرب المجازات المدعوم بالظهور والفهم العرفي هو الضمان.

وأمّا رواية: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»(3)، فقد ذهب بعض الفقهاء(4) إلى عدم دلالتها على الضمان؛ وذلك لأن (على) دالة على استعلاء حكم اللّه وهو الحرمة، فيكون تكليفاً لا يستفاد منه الضمان، كما هو الحال في: «الإسلام يعلو... »(5)، فلا حكم فوق حكم الإسلام.

لكن احتمال كونه لبيان الحكم الوضعي وارد، بل هو الظاهر بعد عدم إرادة المعنى الحقيقي فإن الضمان هو أقرب المجازات بشهادة العرف؛ ولذا لو لم تكن هنالك حرمة شمله (على اليد)، كما لو أخذ مال الغير وتصرف فيه جاهلاً.

ص: 13


1- مستدرك الوسائل 17: 380.
2- الكافي 7: 198؛ وسائل الشيعة 20: 279.
3- المبسوط 3: 59؛ جامع أحاديث الشيعة 23: 1138.
4- فقه الصادق 16: 365.
5- من لا يحضره الفقيه 4: 334؛ وسائل الشيعة 26: 14.

وقد أراد بعض الفقهاء(1) إثبات الضمان من طرق أخرى، وذكر وجوهاً لاستبعاد احتمال إرادة التكليف، لكنها لا تخلو عن تأمل.

ومنها: ضرورة تقدير شيء ك- (يجب) على فرض إرادة الحكم التكليفي.

وفيه: ضرورة التقدير حتى على فرض إرادة الضمان، فالظهور العرفي هو المعين لإرادة الضمان من (على اليد)، فالضمان ثابت في الأمثلة المذكورة في الشرائع لا من باب الغصب، بل من باب تضييع حق الغير.

وارتضى صاحب الجواهر(2) ما في المسالك(3) من تحقق الضمان في صورة التلف دون نقص القيمة واستشهد لذلك - من باب التقريب إلى الذهن - بعدم ضمان منافع الحر.

وأشكل السيد الوالد(4) على التنظير المذكور بتحقق الضمان في عمل الحر، وإن كان ذلك مخالفاً للمشهور، لكنهم لم يستندوا حتى إلى رواية ضعيفة، بل هو مجرد استنباط من مجموع الأدلة التي تثبت الضمان في الماليات، وحيث إن الحر لا مالية له فلا يكون لعمله قيمة، لكنه محل نظر؛ فإن العرف قاضٍ بثبوت القيمة لعمله، وعليه يكون عمل الحر مشمولا ل- (لا يتوى) وإن لم يتضمن تلف المال، حيث يصدق عليه ضياعالحق، فيؤخذ الموضوع من العرف والحكم من الشرع.

بل يمكن الاستدلال بحديث (لا ضرر) (5) فإن عدم النفع في مورد يتوقع

ص: 14


1- فقه الصادق 16: 365.
2- جواهر الكلام 37: 15.
3- مسالك الأفهام 12: 150.
4- الفقه 78: 19.
5- الكافي 5: 293؛ وسائل الشيعة 18: 32.

منه النفع ضرر، وحيث كان عدم الضمان حكماً ضررياً كان مرفوعاً بحديث (لا ضرر) على الأقوى من رفعه للعدميات أيضاً.

وتفصيل الدليل على الضمان في ما ذكر في الشرائع من الأمثلة.

ويستفاد الضمان من ثلاثة أدلة:

الدليل الأول: التسبيب في التلف أو في تضييع الحق، فكما أن الضمان ثابت في مباشرة التلف كذلك في التسبيب.

الدليل الثاني: استفادة الملاك من باب الدية، فلو دعا شخصاً إلى بيته من دون إنذاره بوجود الكلب أو البئر، فعضه الكلب، أو سقط في البئر ضمن صاحب الدار، ووجه الضمان أنه تسبيب إلى الموت أو الجرح.

ومع عدم تمامية الملاك فإن ذكر هذا المورد وأشباهه إنما هو لدفع الاستيحاش عن الضمان، فليس ذكر الأشباه والنظائر من باب القياس، بل لبيان عدم الانفراد مما يرفع الاستيحاش.

الدليل الثالث: لا ضرر، ولا يرد عليه الإشكال المعروف من اختصاصه بنفي الحكم والمقام من إثباته، فإنه على بعض المباني يشملإثبات الحكم أيضاً، وإلّا فيرد الإشكال على مورد الرواية، حيث أمر النبي| بقلع الشجرة وهو من إثبات الحكم، وإن تخلص جمع من الإشكال المذكور بكون الأمر بقلعها حكم ولائي لا يرتبط بلا ضرر، لكن ظاهر التفريع إثبات الحكم حيث قال: «فإنه لا ضرر ولا ضرار»(1)، بمعنى أنه لدفع الضرر اقلعها.

وعن المحقق القمي أن الضمان في المقام على بيت المال(2).

ص: 15


1- الكافي 5: 292؛ وسائل الشيعة 25: 429.
2- الفقه 78: 21.

لكنه محل تأمل؛ لعدم شمول أدلة بيت المال لإضرار الناس بعضهم بعضاً، بل الأضرار العامة كالسيل والحرب وما أشبه.

وأمّا مقدار الضمان فالأقرب أنه في القيمي قيمة يوم الدفع؛ لأنه بالتلف تنتقل العين إلى الذمة - لظاهر أدلة الضمان - وحين الدفع حيث لا يتمكن من تسليم العين لتلفها انتقلت إلى البدل وهو القيمة حين الدفع.

ومع ارتفاع القيم وانخفاضها خلال السنة - مثلاً - ضمن الارتفاع إن كان للمالك من يشتريها لتحقق الضرر بعدم النفع وأمّا مع عدم المشتري أو عدم إمكان البيع فلا ضمان، وتفصيل الكلام في صحيحة أبي ولّاد المذكورة في المكاسب(1).

وأما في المثلي فدفع المثل مع قطع النظر عن ارتفاع أو انخفاض قيمةالعين إلّا لو أوجب ضرراً، وسيأتي بحثه.

قال في الشرائع: «أمّا لو قعد على بساط غيره أو ركب دابته ضمن»(2).

ويدل عليه تحقق مفهوم الغصب وهو الاستيلاء على مال الغير على وجه العدوان، أمّا على غير وجه العدوان بأن تخيل أنه له فلا يصدق الغصب، لكن الضمان متحقق لعدم اشتراط القصد في الضمان. فليس سبب الضمان الغصب فقط، بل هو أحد أسباب الضمان، وهنالك أسباب أخرى، كما مرّ.

ثم إنه قد ذهب بعض الفقهاء(3) إلى اشتراط النقل في تحقق مفهوم الغصب؛ وذلك لعدم تحقق القبض من دون نقل فلا يكون مجرد الجلوس

ص: 16


1- كتاب المكاسب 3: 245-247.
2- شرائع الإسلام 4: 761.
3- الجامع للشرائع: 349؛ جواهر الكلام 37: 17.

على البساط أو الدابة موجباً لتحقق الغصب.

واستدل(1) لذلك: باشتراط النقل في صدق القبض في البيع، كما في خبر عقبة بن خالد، عن الصادق(علیه السلام): «في رجل اشترى متاعاً من رجلٍ وأوجبه، غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه، قال: آتيك غداً إن شاء اللّه، فسرق المتاع، من مال من يكون؟ قال: من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد مالَهُ إليه»(2).وفيه نظر؛ لصدق القبض بمجرد الجلوس حتى في البيع، وأمّا النقل فهو شرط آخر لانتقال الضمان من البائع إلى المشتري، ولا يرتبط بصدق القبض. وفي ما نحن فيه مجرد الاستيلاء كافٍ في صدق الغصب والقبض.

ولا يخفى أن صدق الغصب وتحقق الضمان في الجلوس على بساط الغير إنما هو بشرط عدم إزالة المالك حرمة ماله، وإلّا فلا يصدق الغصب ولا ضمان فيه، كما لو فرش بساطه في وسط الشارع مما هو حق المارة.

ص: 17


1- جواهر الكلام 37: 18.
2- الكافي 5: 171؛ وسائل الشيعة 18: 24.

الفصل الأول: في بعض المصاديق

اشارة

يذكر فيه بعض المصاديق التي صار الكلام حول إمكان تحقق الغصب فيها، ومنها:

المصداق الأول: غصب العقار

اشارة

ثم قال في الشرائع: «ويصح غصب العقار»(1).

والمراد من الصحة الإمكان، بخلاف ما ذهب إليه بعض العامّة(2)، حيث قالوا بعدم إمكان تحقق الغصب؛ لعدم إمكان قبض الأرض.

لكنه ضعيفٌ؛ فإن الغصب متحقق في المنقول وغير المنقول ويدل عليه: صدق الغصب عرفاً(3)، والإجماع(4).

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: في كيفية غصب الأرض

قال في الشرائع: «بإثبات اليد عليه مستقلاً من دون إذن المالك»(5).

فلو لم يثبت يده وإنما منعه من التصرف أو لم يكن مستقلاً أو كان بإذن

ص: 18


1- شرائع الإسلام 4: 761.
2- تلخيص الخلاف 2: 166؛ تذكرة الفقهاء 2: 377.
3- تحرير الأحكام 4: 521؛ رياض المسائل 12: 255؛ جواهر الكلام 37: 18.
4- جواهر الكلام 37: 19.
5- شرائع الإسلام 4: 761.

المالك فليس من الغصب.

وذهب في القواعد إلى عدم لزوم الاستقلال فلو شارك المالك في داره كان غصباً، حيث قال: «ويتحقق إثبات اليد في المنقول بالنقل... والعقار بالدخول وإزعاج(1) المالك، فإن أزعج ولم يدخل أو دخل لا بقصد الاستيلاء ولم يزعج لم يضمن»(2).

وفيه إشكال، فمجرد الاستيلاء كافٍ في تحقق الغصب وإن لم يزعج المالك، كما لو كان المالك تاركاً لأرضه حيث لا إزعاج، وكذلك لو سجل الحاكم الظالم دار زيد باسم نفسه من دون أن يخرجه أو يزعجه، فلم يؤخذ الإزعاج في مفهوم الغصب(3).

كما لا مدخلية لقصد الاستيلاء في تحقق مفهوم الغصب، فلو دخل المسافر بيتاً لا بقصد الاستيلاء، بل بقصد الراحة كان غصباً، أو كان للدار بابان دخل من أحدهما وخرج من الآخر، حيث لم يقصد الاستيلاء وإنماالمرور.

نعم، الغالب تحقق الغصب مع قصد الاستيلاء، لكن ليس مفهوم الاستيلاء مقوماً للغصب.

وقد يقصد الغصب لكن لا يتحقق، كما لو قصد شخص ضعيف غصب أرض شخص قوي مع حضوره فدخلها قاصداً الاستيلاء لكن لا يتمكن، فهنا

ص: 19


1- أي: مزاحمة.
2- قواعد الأحكام 2: 222.
3- ليس المراد من الإزعاج المزاحمة الفعلية، حتى يشكل على القواعد بعدم المزاحمة في تارك الأرض، بل المزاحمة في ملكه مما هو ثبوتاً وشأناً إزعاج (المقرر).

قد تحقق الدخول والقصد لكن الغصب غير متحقق.

المسألة الثانية: في غصب بعض الدار

لو غصب بعض الدار(1) - كغرفة منها - ففي تحقق الغصب بمقدار المتصرف فيه، أو الكل، أقوال ثلاثة:

الأول: تحقق الغصب في مورد التصرف، دون الباقي، فيترتب الآثار على مقدار الغصب كالضمان.

الثاني: تحقق الغصب بالنسبة إلى الجميع؛ لكون التصرف في البعض موجباً لصدق غصب الكل.

الثالث: التفصيل بين المواضع المقصودة فيصدق الغصب دون غيرها، فلو قصد غصب الدار وجلس في الغرفة صدق غصب الكل، ولو قصد البعض - كقطعة من أرض كبيرة بناها لنفسه - لم يصدق غصب الكل.

وبعبارة أخرى: لو تصرف في البعض مع قصد التصرف في الكلصدق غصب الكل، ولو غصب البعض لا بنيّة الكل لم يصدق.

والأقوى رجوع المسألة إلى العرف؛ لأن البحث في صدق المفهوم، وهو يختلف بالنسبة إلى الأشياء، فقد يكون للشيء وحدة عرفية، كما لو تصرف في صفحة من الكتاب، فيصدق غصب الكل، وقد لا يكون كذلك كغصب قطعة من أرض كبيرة.

وكذلك لو سبب غصب البعض حرمان المالك من التصرف في الباقي، كما لو غصب غرفة من الدار وترك الباقي للمالك، لكنه ترك الدار حيث لا يمكنه السكنى مع الغاصب، فيعتبر ذلك غصباً للكل عند العرف، وكذلك

ص: 20


1- كتاب الغصب، للرشتي: 7؛ الفقه 78: 26.

في الأرض الكبيرة لو فرّ المالك خوفاً من الغاصب، فمع صدق الغصب على الكل تترتب الآثار.

وأمّا لو لم يصدق - كما هو الغالب مثل ما لو تعدّى على حدود الجار وبنى جدار بيته في أرضه - لم تترتب آثار الغصب على الكل، وإنما على المقدار المتصرف فيه.

والحاصل: مع هذه القيود الثلاثة لا يتحقق غصب الكل، وهي: أن يقصد غصب البعض، ولم يترك المالك الكل خوفاً ونحوه، ولم يصدق الاستيلاء على الكل عرفاً.

فتحصل: أن غصب الأرض ممكن، والغاصب يضمن المقدار الذي غصبه ولا مدخلية للقصد غالباً، والأمر منوط بالصدق العرفي.

المسألة الثالثة: اشتراك الغاصب مع المالك

لو دخل الغاصب الدار قهراً من دون أن يطرد المالك، فللمسألة صور: فإما أن يكونا قويين، أو ضعيفين، أو بالاختلاف.

فلو كان المالك قوياً والغاصب ضعيفاً بحيث أمكنه إخراجه، كان فعله حراماً، وأمّا في كونه غصباً فقد ذهب بعض الفقهاء إلى عدمه(1).

لكن الظاهر أنه محل تأمل؛ لأن قوة المالك وضعف الغاصب لا يرفع اسم الغصب في كثير من الصور، كما لو كان المالك قوياً واقعاً لكنه لا يعلم بقوته، بل يتصور الضعف، بأن أوهمه الغاصب بأنه من الظلمة، أو لكون المالك في السفر، أو لمصلحة لا يعمل قوّته كالحفاظ على ماء وجهه، أو عدم التنزل إلى مستوى الغاصب أو ما أشبه، فلا بد من ملاحظة صدق

ص: 21


1- جواهر الكلام 37: 20.

الغصب لترتب الأحكام.

ومنه يعلم حكم سائر الصور.

ثم إنه قد يكون الغصب على نحو الإشاعة بين المالك والغاصب، وقد يكون على نحو التعيين، وقد يكون على نحو الكلي في المعين، فيختلف الضمان باختلاف كيفية الغصب ومقداره. ولو شك ودار الأمر بين الأقل والأكثر فمقتضى الأصل العملي الأقل؛ لكون الشك في أصل التكليف باشتغال ذمة الغاصب بالأكثر فتجري البراءة.

ولا يعارضه أصالة الأقل في جهة المالك؛ لعدم ترتب الأثر على مقداراستفادة المالك؛ لأنه لا يضمن ملك نفسه. نعم، يتم التعارض في الغاصبين.

المسألة الرابعة: الغصب من المالك أو الغاصب

ثم إنه لا فرق بين أن يغصب من المالك أو من غاصب آخر، فلم يؤخذ في مفهوم الغصب الاستيلاء المباشر من مال المالك، فلو غصبه الأول من دون أن يدخل فيه، بأن سجل الدار باسم الثاني ومنحه له، كان كلاهما غاصباً، كما يحدث كثيراً للحكام الظلمة، حيث يغصب الحاكم الدار فيعطيه للموظف.

وتظهر الثمرة في تعاقب الأيدي، كما سيأتي.

المسألة الخامسة: ضمان الغاصب ما بيد المالك

ولو ترتّبت يد كل واحد من المالك والغاصب على جزء من المغصوب، كما لو استولى الأول على الجانب الأيمن من الشيء، والثاني على الجانب الأيسر، ففيه احتمالان(1).

ص: 22


1- كتاب الغصب: 6-7.

ولا بد من ذكر مقدمة، وهي: إن اليد علامة الملكية، فلو كان الشيء بيد اثنين وتنازعا فيه كانت يدهما مترتبة عليه، فيكون كلاهما ذا اليد، وفي هذه المسألة احتمالان:

الأول: أن يكون كل واحد منهما مالكاً للقسم الذي تحت يده؛ لأندليل اليد عام يشمل هذه الصورة أيضاً.

الثاني: أن يكون الشيء المتنازع عليه بينهما بالتنصيف بالإشاعة، أو بالكلي في المعين لترتب يدهما على الشيء، ولا يلزم في ثبوت اليد كون كل الشيء بيده، بل يكفي ترتبه على بعضه ليكون كله ملكه، وكذلك الحال في البينة للطرفين؛ فإن السبب يؤثّر أثره في ما لم يكن له معارض، وأمّا مع المعارضة فلا يمكن فعلية السببين المتعارضين معاً لاستحالته، حيث إنه من اجتماع الضدين أو النقيضين، فإن معنى الفعلية فيهما أن يكون كل الشيء لزيد دون عمرو، في حين أن كله لعمرو دون زيد، فلا بد من القول بالسببية الشأنية، بمعنى سببية البينة الأولى لولا المعارض وبالعكس، وكذلك في اليد، فهل الحكم القرعة، أو التنصيف لقاعدة العدل والإنصاف، أو يبحث عن حل آخر؟ وتفصيل الكلام في محلّه.

إذا اتّضحت المقدمة نقول في ما نحن فيه، لو تلف ما بيد المالك فهل يضمن الغاصب؟

يقول المحقق الرشتي(1): لو قلنا: إن ما بيد المالك خارج عن تصرف الغاصب لم يكن ضامناً لعدم الاستيلاء، ولو قلنا: إنه متصرف في الجميع - وإن ترتّبت يده على البعض - على نحو الإشاعة كان ضامناً بالنسبة، فلا بد

ص: 23


1- كتاب الغصب: 8.

من القرعة أو قاعدة العدل.لكنه محل تأمل؛ لأن مقوم الغصب الاستيلاء، فلا غصب مع عدمه، فاحتمال القرعة غير وارد أصلاً لعدم تحقق المشكل، وأمّا احتمال التنصيف فكذلك؛ لأنه إن اعتبر الغاصب للبعض مستولياً على البعض الآخر عرفاً كان ضامناً للجميع، وإلّا فلا وجه لضمانه ما لم يستولِ عليه.

المسألة السادسة: إسكان الغاصب غيره

قال في الشرائع: «وكذا(1) لو أسكن غيره»(2)، كما لو غصبت الدولة بيتاً وأسكنت الموظّف فيه.

وقال في الجواهر(3): إن أذن الغاصب للغير وكان جاهلاً لا يكون غاصباً لكنه ضامن؛ لاستيلائه على مال الغير، ويرجع إلى من غرّه، وإن لم يكن جاهلاً كان كلاهما غاصباً.

وكلامه تام في ثبوت الضمان وفي كون العالم غاصباً.

لكن قد يشكل عليه في نفي الغصب عن الجاهل، فإن الألفاظ وضعت للمعاني الحقيقية لا القصدية، فالغصب موضوع للاستيلاء على مال الغير لا توهم ذلك، فمن توهم كون الأرض للغير واستولى عليه فتبين أنها أرضه لم يكن غصباً، وإن كان تجرياً، وكذلك من جهل أنه للغير فأخذه كان غصباً، فلا مدخلية للعلم والجهل والذكر والنسيان والقصدوعدمه في تغيير واقع الأشياء.

ص: 24


1- أي: الغاصب ضامن.
2- شرائع الإسلام 4: 761.
3- جواهر الكلام 37: 23.

وفيه: أن الكبرى المذكورة صحيحة، لكنها لا تنطبق على ما نحن فيه؛ لما مرّ في تعريف الغصب فإنه مرتبط بعنوان قصدي وهو مفقود في الجاهل فلا يكون غاصباً، لكنه ضامن لتصرفه في مال الغير، ولا يشترط في الضمان العلم ولا القصد غالباً.

فتحصل: أن الاستيلاء على ملك الغير مشتركاً ومنفرداً غصب، ويكون الضمان بمقدار نسبة الغصب.

المسألة السابعة: في ضمان العين

قال في الشرائع: «فلو سكن الدار مع مالكها قهراً لم يضمن الأصل، وقال الشيخ: يضمن النصف، وفيه تردد منشؤه عدم الاستقلال من دون المالك»(1).

أقول: أمّا عدم ضمان الكل فلما سبق من عدم كونه غاصباً للكل، وأمّا ضمان البعض، فلما مرّ من أن الاستقلال ليس شرطاً لتحقق الغصب، فإنه مفهوم عرفي يتحقق بالاستيلاء على مال الغير، سواء كان مستقلاً أم لا، فالقول بعدم الضمان لعدم الاستقلال محل تأمل، وسيأتي البحث في مقدار الضمان.

المسألة الثامنة: في ضمان المنفعة
اشارة

وقال في الجواهر(2) في ضمان المنفعة: كل منفعة استفاد منها الغاصب أو لم يستفد لا بد له من دفع الضمان، إلّا أن يستوفيها المالك، فلا معنى للقول بضمان الغاصب.

ص: 25


1- شرائع الإسلام 4: 761؛ المبسوط 3: 73.
2- جواهر الكلام 37: 24.
وفي كلامه بحوث ثلاثة:

الأول: ثبوت الضمان على الغاصب في جميع المنافع حتى غير المستوفاة، كما لو غصب الدار ولم ينتفع منها لمدة سنة فعليه دفع بدل الإيجار.

لكن إطلاقه محل تأمل، فإنه لو لم يرد المالك استيفاء المنفعة - كما لو أهمل المالك أرضه الزراعية ولم يرد الانتفاع منها فغصبها - لم يكن وجه للضمان، حيث لا يعتبر منفعة عرفية؛ لأن ضمان الغاصب إمّا لمنفعة استوفاها، أو لمنع المالك من استيفاء المنفعة.

نعم، لو أراد المالك استيفاء المنفعة فالقول بالضمان لا يخلو من وجه؛ لتضييع حق المالك.

كما أنه لو استوفاها كان ضامناً؛ لأنه استفاد منفعة للمالك، ولا يصح ذلك مجاناً.

الثاني: عدم الضمان في ما لو استفاد المالك المنفعة، وهو تام في الجملة.لكن لا إطلاق له، ويمكن التنظير له بما ذكره الفقهاء(1) من ثبوت الضمان في ما لو غرّه فأهداه مال نفسه فأكله، ثم تبين له أنه ملكه، حيث يضمن الغار مع كون المالك هو الذي استفاد من عين ماله؛ لأن المغرور يرجع إلى من غرّه، كذلك الحال في ما إذا انتفع المالك بماله المغصوب.

إلّا أن أصل التنظير محل تأمل، حيث لا إطلاق في (المغرور يرجع إلى من غرّه)، فإن مقتضى عدم صحة الجمع بين العوض والمعوض عدم

ص: 26


1- قواعد الأحكام 2: 222؛ جامع المقاصد 6: 213؛ مفتاح الكرامة 18: 41.

الضمان.

نعم، لو أضرّه كان ضامناً بمقدار الضرر، بناء على إثبات الحكم ب- (لا ضرر)، كما لو أكل الشاة فوراً، بينما لو علم أنها له كان يأكلها خلال شهر.

المسألة التاسعة: الغصب من بعض الجهات

لو كان الغصب من بعض الجهات، كما لو غصب الدار لكن كان بإمكان المالك بيع الدار أو إيجاره، فإن استوفى الغاصب المنافع من تلك الجهة، أو منع انتفاع المالك ضمن، كما لو جلس الغاصب في الدار وبعد فترة باع المالك الدار، ضمن بدل الإيجار لتلك الفترة. وهذا واضح.

وأمّا لو لم يستوفِ من جهة من الجهات، كما لو حجر الغاصب على بيع الدار، وكان المالك جالساً فيها من دون إرادة بيعها، فلا يعلم صدقالغصب على هذا المنع، فلا ضمان. نعم، لو أراد بيع الدار فمنعه بحيث أضرّه - لانخفاض القيمة مثلاً - فالأقوى الضمان، كما سبق.

المسألة العاشرة: مقدار الضمان

ثم إن الشيخ الطوسي(1) ذهب إلى ضمان النصف في ما لو تفاوت مقدار تصرف المالك والغاصب، لكن الظاهر لزوم مراجعة أهل الخبرة في تشخيص مقدار الغصب ومن ثَمَّ الضمان، قيل: لا يلزم في مثل هذا المورد مراجعة أهل الاختصاص؛ لأنهم يرجعون إلى العرف أيضاً، فتأمل.

وتختلف الموارد في ذلك، فمثلاً: لو كان الغاصب شخصاً واحداً بينما المالك مع أهله عشرة أشخاص واستفاد كلهم من كل زوايا البيت، أو اتفقا

ص: 27


1- المبسوط 3: 73.

على أن يجلس أحدهما في الدار ليومين والآخر أربعة أيام، فلا يكون ذلك سبباً لضمان النصف، بل كل منهما بحسبه، وأمّا مثل خروج الغاصب من الدار لساعات من النهار - مثلاً - بينما المالك جالس في الدار طول النهار فلا يؤثّر في تفاوت الضمان، فلا تحسب الساعات، ولذا يضمن نصف العين والمنفعة.

كما أن التنصيف عرفي لا دقي، ولو شك أو اختلف العرف فلم يعلم أنه استفاد أكثر أو أقل فالأصل عدم الزيادة؛ لأنه شك في التكليف الزائد.

المسألة الحادية عشرة: في اختلاف مقدار غصب العين واستيفاء المنفعة

لو اختلف مقدار غصب العين واستيفاء المنفعة، كما لو غصب نصف البئر مشاعاً لكن كان نزحه للماء ضِعف نزح المالك كان لكل حكمه، حيث لا تلازم في مقدار الضمان، فمع غصب نصف العين يضمن بمقدار النصف في ما لو تلفت، وأمّا المنفعة فبمقدار الاستيفاء.

وقال في الدروس: «وكذا لو رفع متاعاً بين يدي المالك ككتاب، فإن قصد الغصب فهو غاصب، وإن قصد النظر إليه ففي كونه غاصباً الوجهان»(1).

ولا يخفى أنه مع إذن الفحوى لا إشكال في الجواز.

والكلام في ما لو أقدم على ذلك من دون العلم برضا المالك، فقد أشكل في الجواهر(2) على الدروس بتحقق الغصب؛ لأنه إمّا بالاستيلاء وإمّا بالاستقلال، وكلاهما متحقق في المقام، فلا وجه لقوله: (الوجهان).

ص: 28


1- الدروس الشرعيّة 3: 106.
2- جواهر الكلام 37: 27.

لكن قد يكون الشهيد ناظراً إلى عدم صدق الغصب في المثال، وإن كان تصرفاً في مال الغير من دون إذنه، فهو حرام لكنه ليس بغصب، كما ذكره السيد الوالد في الفقه(1).ونظيره ما لو أنار بيته فأضاء الطريق، حيث يجوز للمارّة المطالعة على ضوء النور، فلا يشترط رضاه؛ لأنه ليس تصرفاً في مال الغير عرفاً، كما أنه لا يحق له منع المارة في المكان العام.

ص: 29


1- الفقه 78: 44.

المصداق الثاني: غصب الدابّة

وفيه فروع:

الفرع الأول: قال في الشرائع: «وكذا لو مد بمقود دابة فقادها ضمن، ولا يضمن لو كان صاحبها راكباً لها»(1).

وأضاف العلامة في القواعد: «إلّا أن يكون المالك راكباً قادراً»(2)، فمجرد كونه راكباً لا يرفع اسم الغصب، أمّا لو أمكنه دفع آخذ المقود لم يكن غصباً.

والأقرب: إن الغصب يتحقق بالاستيلاء كما مرّ، فلا بد من ملاحظته، فلا فرق في ركوب صاحبها وعدمه، وأمّا لو لم تتحرك الدابة بأخذ المقود، أو كانت تسير بنفسها من دون تأثير أخذه لم يتحقق الاستيلاء.

وقد يتحقق الاستيلاء الناقص فيكون المالك وآخذ المقود مستوليين، فتتوارد العلتان فيضمن الغاصب بمقدار استيلائه، ولذا ذهب بعض الفقهاء

ص: 30


1- شرائع الإسلام 4: 761.
2- قواعد الأحكام 2: 223.

إلى ضمان النصف(1). وإن أنكره آخرون(2) حيث ذهبوا إلىكون الاستيلاء بين الإثبات التام أو نفيه.

لكن لا وجه لإنكارهم، حيث يمكن تبعض الاستيلاء، كما في نظائره من تداعي نفرين لشيء واحد بيدهما فيملكاه مشاعاً، وكذلك في الجناية فتتقسم الدية، فليكن الغصب كذلك.

الفرع الثاني: غصب الدابة الحامل غصب لولدها لثبوت يده عليهما.

وقد مرّ عدم اشتراط القصد بعد تحقق الاستيلاء العدواني، فلو لم يعلم أنها حامل كان غاصباً للحمل، فلو تلف الحمل كان ضامناً.

وأمّا مقدار الضمان: فعليه القيمة، ولتشخيص قميته تُقيّم الدابة الحامل والحائل فيدفع التفاوت، كما قاله العلامة في نظيره(3).

وفيه نظر؛ لما احتمله السيد الخوانساري في جامع المدارك(4) وهو الحق: من أنه قد يكون قيمة الحامل أقل من قيمة الحائل، فيكون إسقاط جنينها موجباً لارتفاع القيمة، وقد لا تتفاوت القيمة، فلا بد من ملاحظة أمرين:

الأول: قد يكون للجنين قيمة بمفرده، فلا وجه لملاحظة قيمة الدابّة حاملاً وحائلاً بالنسبة إلى الجنين.

الثاني: قيمة الدابة بوصف كونها حاملاً، فبغضّ النظر عن قيمة الجنين

ص: 31


1- راجع مفتاح الكرامة 18: 72؛ جواهر الكلام 37: 29.
2- راجع مفتاح الكرامة 18: 72؛ جواهر الكلام 37: 29.
3- تحرير الأحكام 4: 521.
4- جامع المدارك 5: 193.

فنفس وصف الحامل والحائل سبب لاختلاف قيمة الدابّة،فلا بد من القول بثبوت ضمانين: قيمة الجنين، وإذهاب وصف الأمة الحامل، وهذا لا يرتبط باختلاف القيمة السوقية، بل بإزالة وصف.

وبعبارة مختصرة: للدابّة بوصف كونها حاملاً قيمة وللجنين قيمة.

الفرع الثالث: ذهب العلامة في التحرير(1) إلى أنه لو غصب شاة فولدت مولوداً حيّاً ثم تلف، ضمن أعلى القيم من يوم الولادة إلى يوم التلف.

وتفصيل الكلام مبنىً في كتاب البيع من كون الضمان ليوم التلف أو يوم الغصب أو أعلى القيم أو يوم الأداء، لكن باختصار: الأظهر أنه يضمن قيمة يوم الأداء؛ وذلك لأن العين ما دامت باقية وجب أداؤها، فلا يكون في ذمته شيء غير العين، إلّا إذا سبب ضرراً للمالك فعليه جبره، وأمّا عند التلف فتنتقل العين إلى ذمته لا قيمتها، فيلزم عند الأداء إعطاء العين، وحيث تتعذر تنتقل إلى القيمة(2). ولا وجه لأعلى القيم إلّا أخذ الغاصب بأشق الأحوال، ولا دليل عليه.

الفرع الرابع: لو سبب الغاصب نمواً، كما لو حملت الدابّة عنده أوسمنت.

فقد ذهب السيد الوالد في الفقه(3) إلى أن الغاصب شريك المالك بقدر

ص: 32


1- تحرير الأحكام 4: 521-522.
2- وفيه: إنه عند التلف ينتقل شيء إلى ذمة المتلف وذلك الشيء إمّا العين وإمّا القيمة، أمّا العين فانتقالها لغو لكونها قيمية، فلا معنى ليقول المولى أدِّ الشاة؛ لأن الشاة تالفة، فلا بد من القول بانتقال القيمة إلى ذمته، فيقول المولى: أدِّ قيمة الشاة، فيثبت في ذمته قيمة يوم التلف، كما أن القول ببقاء عين الشاة في ذمته إلى يوم وقت الأداء غير عقلائي أيضاً، فلا معنى لأمر المولى بما لا يكون (المقرر).
3- الفقه 78: 50.

نمائه، فإنه وإن كان تصرفه في ملك الغير حراماً لكنه حكم تكليفي لا يمنع الحكم الوضعي، كما لو مزج لبنه بلبنه، فالشركة قهرية ومزجه حرام.

واستدل(1) لذلك بقوله تعالى: {وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}(2)، فسعي كل إنسان له، وهو غير منصرف عن المقام، حيث لا منافاة بين الحرمة التكليفية والملكية الوضعية.

ويؤيده معتبرة(3) هارون بن حمزة، قال: «سألت أبا عبد اللّه(علیه السلام) عن الرجل يشتري النخل ليقطعه للجذوع، فيغيب الرجل ويدع النخل كهيئته لم يقطع، فيقدم الرجل وقد حمل النخل، فقال: له الحمل يصنع به ما شاء، إلّا أن يكون صاحب النخل كان يسقيه ويقوم عليه»(4)، وللحديث إطلاق يشمل ما نحن فيه فيكون نتاج سعي الإنسان لنفسه، وإن كان في ملك الغير ومن دون رضاه.الفرع الخامس: يضمن حمل الدابّة المبتاعة بالبيع الفاسد وهنا ننقل كلام الفقهاء في نظير المسألة.

فقد قيل: بأن المشتري بالإضافة إلى ضمان الدابّة ضامن للحمل، فلو تلفا ضمن خسارتهما، لكن في المسالك(5) نفى ضمان الحمل.

ولمعرفة الصحيح لا بد من ملاحظة كون المقام مصداقاً لأيّ القاعدتين،

ص: 33


1- الفقه 78: 50.
2- سورة النجم، الآية: 39.
3- رجاله كلهم ثقاة، ومنهم يزيد بن إسحاق شعر وهو معتبر على الأقوى (السيد الأستاذ).
4- الكافي 5: 297.
5- مسالك الأفهام 12: 155.

وهما: قاعدة (ليس على الأمين إلّا اليمين)، وقاعدة (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده).

أمّا يد المشتري على الدابّة فليست أمانيّة، وهذا واضح.

وأمّا بالنسبة إلى الحمل فقد ذهب الدروس(1) إلى الضمان في ما لو كان الحمل جزء المبيع أو اشتراها بشرط الحمل، فتجري القاعدة الثانية.

وذكر صاحب الجواهر(2) وجهاً آخر للضمان وهو: إن الحمل باقٍ في ملك البائع؛ لأن المفروض بطلان البيع، ولم يأذن للمشتري بالتصرّف فيه، فيكون ضامناً، وإن كان معذوراً لتوهم صحة البيع.

ومقتضى القاعدة: ما ذهب إليه في الدروس إن كان الحمل جزء البيع أو شرطاً فيه، وإن لم يكن كذلك - حيث لا يعلمان بالحمل - فليست يدالمشتري يداً عدوانية - حيث لم يتعمد التصرف في مال الغير فقد توهم صحة البيع - فلا تشمله (على اليد) لانصرافها إلى اليد العدوانية عرفاً، وإن كانت مطلقة بدواً، فلا ضمان.

وقد مثل السيد الوالد في الفقه(3) بمثالين لليد غير العدوانيّة، التي لا تثبت الضمان مع الفساد، إحداهما: لعب القمار وخسر فدفع المال، فإن الآخذ وإن لم يملك المال إلّا أنه لا يضمنه، فإن يده ليست عدوانيّة، حيث أعطاه باختياره، سواء كان جاهلاً بالحكم الشرعي أم عالماً غير مبالٍ بالدين.

ثانيتهما: لو دفع أجر البغي، كان أصل الفعل وإعطاء المال وأخذه حراماً،

ص: 34


1- الدروس الشرعيّة 3: 108.
2- جواهر الكلام 37: 31.
3- الفقه 78: 52.

لكنها لا تضمن المال لو تصرفت فيه مع أنها لم تملكه؛ لعدم كون يدها عدوانيّة.

وفصّل المحقق الرشتي(1) بأن تسليط الغير على المال قسمان:

الأول: تسليطه من دون أن يكون مستحقا للسلطنة، كالعارية، فتكون اليد أمانيّة ولا ضمان فيها.

الثاني: تسليطه من جهة استحقاقه فيكون ضامناً، كالبيع.

وفي البيع الفاسد المتوهم صحته يكون التسليط من قبيل الثاني، فإن البائع سلطه بعنوان أنه حق المشتري وملكه، لا أنه ملك البائع، فلم يأذنالبائع بالتصرف في ملكه، فيكون ضامناً لعدم كون يده أمانيّة.

وفي المقام: الدابّة المبتاعة بالبيع الفاسد لم يكن تسليم البائع للحمل من جهة الأمانة، بل من جهة استحقاقه له، فلم يأذن له في التصرف في مِلكه، بل في ما مَلّكَه، فيكون ضامناً.

وهذا التفصيل لا بأس به في حد ذاته، لكن لم يدل عليه دليل، فلا يمكن الالتزام به؛ لأن الدليل قاعدة (على اليد)، فإن كانت مطلقة شملت الصورتين، سواء كان التسليط عن استحقاق أم لا، وإن لم تكن مطلقة لم تشمل الصورتين، فتأمّل.

المصداق الثالث: غصب الوقف

اشارة

قال في الدروس: «لو أثبت يده على مسجدٍ أو رباطٍ أو مدرسةٍ على وجه التغلّب ومنع المستحق فالظاهر ضمان العين والمنفعة»(2).

ص: 35


1- كتاب الغصب: 9.
2- الدروس الشرعيّة 3: 106.

فلو لم يمنع المستحق، كما لو غصب المسجد أو المدرسة وترك الناس يصلون فيه والطلاب يسكنون فيها، لم يكن ضامناً.

كما أنه لو لم يكن على وجه التغلب، بل على وجه الإحسان بأن غصبه ليهدمه ثم يبنيه لأهله لم يكن ضامناً أيضاً.

وقد تطرق صاحب الجواهر(1) إلى احتمالين:

الأول: لا معنى لضمان عين المسجد لعدم كونه ملكاً لأحد، بل هوتحرير، والضمان تابع للملكية، وإن فعل حرامين غصباً ومنعاً، أمّا المنفعة فإن كانت ملكاً فالضمان ثابتٌ وإلّا فلا.

لكن الفقهاء(2) فرقوا بين ملك المنفعة وملك الانتفاع بمعنى حق الانتفاع، فلو أجرّ الدار ملك منفعتها، لكن منفعة المسجد ليست ملكاً لأحد، بل للمسلمين حق الانتفاع، فلا يكون فيه ضمانٌ أيضاً.

الثاني: المسجد ملك لجميع المسلمين كالأراضي الخراجية والطرق العامة، وهذا الاحتمال وإن كان وارداً في المساجد بالاستصحاب؛ لأنها كانت ملكاً ثم وقفت، لكنه لا يرد في المشاعر كعرفات، فلم تكن ملكاً لأحد في يوم، بل كان محرراً ابتداءً، فمع غصبها ومنع الحجاج من الجلوس لا وجه للضمان؛ لعدم منعه عن شيء له مالية.

ومقتضى القاعدة ثبوت الضمان في الجملة، فلا فرق في الضمان بين الملك وغيره، بل الضمان يدور مدار اليد العدوانية، فيكون غصب المسجد ومنع الناس من مصاديق: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي».

ص: 36


1- جواهر الكلام 37: 32.
2- ملاذ الأخيار 6: 404، حاشية المكاسب، للإصفهاني 1: 32-36.

وبناءً على ذلك أشكل السيد الوالد في الفقه(1) على موارد لم يقولوا فيها بالضمان، كما لو حجر على أرض فمنعه الغاصب عن إحيائها فلا يكون ضامناً، وإن فعل حراماً، حيث لم يملك العين بالحجر، وإنّمامجرد حق الاختصاص، ووجه الإشكال هو ثبوت الضمان لقاعدة (على اليد).

فرع: مستحق بدل الضمان

ومستحق العوض في ما لم يكن المغصوب ملكاً لأحد هو بيت المال، حيث ثبت الضمان عيناً أو منفعة، لكن الفتوى بالضمان مع بقاء العين أو تلفها بآفة سماوية مشكل، فإن (على اليد) وإن كانت مطلقة لكن لم يفهم المشهور منها ذلك.

وللحاكم الشرعي حق تغريم الغاصب بالإضافة إلى ثبوت الضمان؛ وذلك لمعتبرة السكوني، حيث قال|: في من أكل حق المارة وحمل معه شيئاً: «فما أكل منه فلا شيء عليه، وما حمل فيعزّر ويغرّم قيمته مرّتين»(2).

أمّا التعزير فهو ثابتٌ في كل حرام وتفصيله في كتاب القضاء، وأمّا الغرامة فإحداهما للمالك والأخرى لبيت المال، فإنها وإن وردت في مورد خاص لكن لا خصوصية للمورد، أو يستفاد منه المناط أو إلغاء الخصوصية، و تفصيل بحثه في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتأمّل.

المصداق الرابع: غصب الحروفيه بحثان:

اشارة

ص: 37


1- الفقه 78: 9.
2- الكافي 7: 230؛ وسائل الشيعة 18: 226.
البحث الأول: في ضمان الدية لو مات

قال في الشرائع: «والحرّ لا يضمن بالغصب ولو كان صغيراً»(1).

وقد كان من المتعارف سابقاً سرقة الصغار ثم بيعهم، ومن المتعارف اليوم سجن الحر من دون سبب، فيحرم من العمل ومنافعه، فهل يضمن الفاعل؟

وقد ذكر الفقهاء هذه المسألة تبعاً لصاحب الشرائع في هذا الباب، وحقها أن تبحث في كتاب الديات.

وأمّا تفصيل الكلام: فلو مات الحر ميتة طبيعية بلا تسبيب من الغاصب لم يضمن الدية ولا منافعه الفائتة.

واستدل له(2):

أولاً: إن الضمان في الماليّات والحر ليس مالاً.

ثانياً: انتفاء موجبات الضمان، حيث إن سبب الضمان إمّا اليد أو الإتلاف، وهما منتفيان في المقام.

وثالثاً: عدم خلاف في عدم ضمان الحر، وهو أعم من الإجماع، حيث لم يتعرض المتقدمون لهذه المسألة، فيمكن اعتباره مؤيّداً.وأما لو مات بتقصير من الغاصب فالأقوى ضمانه.

ويمكن الاستدلال(3) ب-«على اليد ما أخذت حتى تؤدي» لإثبات

ص: 38


1- شرائع الإسلام 4: 762.
2- مسالك الأفهام 12: 157؛ جامع المقاصد 6: 220؛ رياض المسائل 12: 260؛ جواهر الكلام 37: 36.
3- جامع المدارك 5: 197؛ كتاب الغصب، للرشتي: 13.

الضمان، حيث جعل الغاصب يده على الحر، ولم تستخدم كلمة (الضمان) في الرواية حتى يقال باختصاصها بالماليّات، فإن (على) بمعنى (العهدة) فكما تشمل الماليّات تشمل غيرها.

فالنتيجة: أنه لو مات الحر بتقصير وجبت الدية، ولو مات من غير تقصير شمله دليل (على اليد) فيكون ضامناً لما مرّ من أن الغاصب ضامن حتى من دون تسبيب.

وأشكل عليه بإشكالين كما في جامع المدارك(1) والفقه(2).

الإشكال الأول: إنما يصدق (على اليد) إذا كان مترتباً على الملك، فلا يصدق على الاستيلاء على غير المملوك، والحرّ غير قابل للملكية.

وفيه نظر: نقضاً وحلاً.

أمّا نقضاً: في ما لو استولى على عين موقوفة خاصة في الأوقاف العامة، فقد صرح الفقهاء(3) بالضمان ل- (على اليد) مع أنها غير مملوكة،فإن الوقف(4) تحرير بمعنى إطلاق الملك، لا أنه ملك الموقوف عليهم.

وأمّا حلّا: إن الفهم العرفي - الذي هو حجة - قاضٍ بانطباق (على اليد) سواء ترتّبت اليد على الملك أم غيره، كطفل حر.

الإشكال الثاني: من شرائط الإطلاق تمامية مقدمات الحكمة، والتي منها عدم وجود قرينة على الخلاف، وفي المقام لا إطلاق ل- (ما) حتى يشمل

ص: 39


1- جامع المدارك 5: 197.
2- الفقه 78: 66-67.
3- الدروس الشرعيّة 3: 106؛ جواهر الكلام 37: 11؛ تحرير المجلة 2: 215.
4- قواعد الأحكام 2: 394؛ الدروس الشرعيّة 2: 277؛ الروضة البهية 3: 163.

الحرّ؛ وذلك بقرينة (حتى تؤدّي)، فإن الحرّ لا يُؤدّى، وإنّما الذي له قابلية الأداء هو المال والملك، حيث يؤدّى عيناً أو بدلاً إلى مالكه، وأمّا إطلاق سراح الحرّ السجين فليس أداءً، ومع موته فإعطاء الدية ليس بدلاً عن الميت حتى يطلق عليه الأداء، وإنما هي غرامة أو تعويض للورثة أو تطييب للخاطر أو ما أشبه ذلك.

وأُجيب عنه(1):

أولاً: إن الاستدلال أخص من المدعى، فإنه لو تحقق نقص في الحرّ - كما لو قطع يده أو جرحها - فما يدفع إليه أداء؛ ولذا عبّر عنه الفقهاء بالضمان، ومع صدق الأداء في نقص العضو أو الجرح يصدق في النفس أيضاً؛ لعدم القول بالفصل، فلو كان ضامناً كان ضامناً في كليهما، وإن لم يكن ضامناً لم يكن ضامناً في كليهما.وثانياً: يستفاد من سائر الروايات أن المؤدّى إليه هو المالك أو مَن يقوم مقامه، ولذا لو مات المغصوب منه وجب أداء العين إلى ورثته، وكذلك لو مات الحرّ في السجن صدق على الغاصب أنه ضامن للدية، ومع صدقه يصدق الأداء، كما لو مات المريض تحت العملية حيث يضمن الطبيب(2)، فالحرّ يُضْمَنْ، وكل ضمان يجب فيه الأداء فيصدق (حتى تؤدّي).

وأمّا القول بأن الأداء بمعنى أداء البدل - مِثلاً أو قيمةً - فلا دليل عليه، بل هو أعم من البدل أو التدارك، والدية تدارك لتطييب الخاطر أو للمنافع التي خسرها أولياء الدم أو لأيّ شيء آخر.

ص: 40


1- جامع المدارك 5: 197.
2- مع أنه لم يرتكب محرماً في ما لو لم يقصر.

وثالثاً: إن الرواية خاصة بأداء العين فلا تشمل البدل والقيمة، فإنها بمعنى (حتى تؤدّي ما أخذته) فأقصى ما تدل عليه هو إطلاق سراح الحرّ لا شيء آخر، كدفع البدل في صورة التلف، فلا يفهم منها دفع الدية في ما لو مات الحرّ. نعم، لو كان سبباً لموته وجبت الدية بمقتضى أدلتها.

وأمّا دفع البدل في الغصب فهو حكم مستفاد من الشرع بعد عدم إمكان إرجاع العين.

وفيه نظر؛ لأن العرف يفهم البدلية عند تلف العين من (ما) فلا حاجة إلى دليل آخر، فالرواية تشمل ضمان الحرّ؛ ولذا أفتى بعض الفقهاءبذلك، ومنهم الشيخ الطوسي في بعض كتبه(1)، وهو مقتضى القاعدة.

وأمّا قول الشرائع: «ولو كان صغيراً»، فلما ذهب إليه بعض الفقهاء من الضمان في ما لو كان الحرّ صغيراً، واستدلوا لذلك بوجوه(2):

الأول: خبر أبي البختري: وهب بن وهب، عن الصادق(علیه السلام)، قال أمير المؤمنين(علیه السلام): «مَن استعار عبداً مملوكاً لقوم فعيب فهو ضامن، ومَن استعار حرّاً صغيراً فعيب فهو ضامن»(3).

فإذا كان ضامناً في العارية فالضمان ثابت في الغصب بطريق أولى، ففي الأول الاستيلاء لم يكن ظلماً وعدواناً بخلاف الثاني.

لكنه محل تأمل؛ لضعف السند، بأبي البختري(4)، ولم يعمل بها فقيه

ص: 41


1- المبسوط 3: 105.
2- الأنوار اللوامع 13: 62؛ جواهر الكلام 37: 37.
3- الكافي 5: 302؛ وسائل الشيعة 19: 94.
4- راجع اختيار معرفة الرجال 2: 597؛ ورجال النجاشي: 430.

حتى يقال بالانجبار، فليست العارية مضمونة إلّا مع التقصير أو الشرط، ولو وجهنا الصدر بكون المراد العارية المضمونة فلا توجيه للذيل.

الثاني: مفهوم معتبرة السكوني، عن الصادق، عن أبيه‘: «أن رجلاً شرد له بعيران، فأخذهما رجل فقرنهما في حبلٍ، فاختنق أحدهما ومات، فرفع ذلك إلى علي(علیه السلام)، فلم يضمّنه، وقال: إنما أرادالإصلاح»(1).

ومفهومها ثبوت الضمان في من لم يرد الإصلاح، ومنه مَن غصب الصغير.

لكنه ضعيف؛ لدلالتها على عدم ضمان المصلح، ولا تدل على ضمان كل غير مصلح، فإن علّة عدم الضمان هو الإصلاح، فالمصلح غير ضامن، ولا يستفاد منه أن علّة الضمان هو عدم الإصلاح، لا بمفهوم الشرط ولا غيره. كما لو قال: إن جاء زيد فأكرمه، فمفهومه إن لم يجئ فلا تكرمه، وهذا لا يدل على عدم إكرام كل مَن لم يأتِ.

الثالث: إن عدم الضمان يُفضي إلى الاحتيال في قتل الأطفال(2)، حيث يفتح باباً لكل من أراد قتل طفل فيغصبه أولاً، وحيث لا ضمان فيُمكنه قتله بكل سهولةٍ.

وفيه: إنه مجرد استحسان وهو سارٍ في الكبير أيضاً، كما في الرياض(3).

الرابع: إن الغصب سبب التلف، فيكون ضامناً للدية، كمَن حفر بئراً في الطريق(4).

ص: 42


1- تهذيب الأحكام 10: 315؛ وسائل الشيعة 29: 274.
2- جواهر الكلام 37: 37.
3- رياض المسائل 12: 262.
4- تذكرة الفقهاء 2: 374؛ جواهر الكلام 37: 37.

الخامس(1): مَن أخذ طفلاً أو مجنوناً إلى مضيعة أو مسبعة ضمن الدية، والغاصب كذلك حيث لا فرق بين الأمرين.

وفيهما: أنه خروج موضوعي عن البحث، فلم ينفِ أحد الضمان في ما لو كان سبباً للتلف أو الغصب، بل الكلام في صورة عدم السببية، كما لو غصبه فمات بسبب الزلزال.

ومن أجل هذا ذهب صاحب الجواهر(2) إلى كون النزاع لفظياً، فمَن ذهب إلى الضمان ناظر إلى صورة التسبيب في التلف وعكسه في عكسه.

ولا يخفى أن الكلام لا يختص بالصغير، فالكبير أيضاً مشمول للأدلة، ولذا قال في شرح اللمعة: «لو كان في الكبير خبل، أو بلغ مرتبة الصغير لكبر أو مرض ففي إلحاقه به وجهان»(3).

وفي الترديد نظر؛ لأن موته إن كان بسبب الغاصب فضامن وإلّا فلا.

وأمّا الدليل على الضمان في صورة تسبيب الموت فمحل بحثه كتاب الديات، وقد اتفق الفقهاء على ذلك لإطلاق القاتل عليه، كما أن سببية القتل الموجب للضمان لا تنحصر بالعدوان، فلو لم يكن عدواناً وكان سبب القتل ضمن كما في الطبيب المعالج، إلّا لو طلب البراءة فلاضمان على رأي جمع(4). نعم، لو كان المباشر أقوى من السبب فهو بحث آخر، كما لو دفع مالاً لفاعل مختار ليقتله. كذلك في ما نحن فيه، فلو كان الغاصب

ص: 43


1- تذكرة الفقهاء 2: 376؛ جواهر الكلام 37: 37؛ الفقه 78: 66.
2- جواهر الكلام 37: 38.
3- الروضة البهيّة 7: 28.
4- شرائع الإسلام 4: 1020؛ تحرير الأحكام 5: 528؛ مسالك الأفهام 15: 327.

سبب قتل الكبير أو الصغير ضمن، ولو لم يكن عدواناً، كما لو رأى طفلاً في الشارع فأخذه ليسلمه إلى أهله فمات بتقصيره ضمن مع أنه ليس بغاصب.

إن قلت: قوله تعالى: {مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ}(1) آية عامة، فلا وجه لضمان الطبيب لكونه محسناً.

قلت: يمكن الجواب من وجوه:

الأول: الحسن إمّا فعلي أو فاعلي، والمراد من الآية إمّا مَن كان قصده حسناً وإن كان فعله قبيحاً، وإمّا مَن كان فعله حسناً وإن كان قصده قبيحاً، وإمّا مَن اجتمع فيه القصد والفعل الحسن، والقدر المسلم من الآية الصورة الثالثة، ولا يعلم شمولها للحسن الفاعلي مع القبح الفعلي، بل الشك متحقق في صدق المحسن عليه، فحتى لو قصد الإحسان لكن لا يطلق عليه المحسن، فجعله مصداقاً للآية تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية. وعليه فضمان الطبيب هو مقتضى القاعدة لا أنه تخصيص للآية، فتأمل.الثاني: في معنى السبيل احتمالات، منها: العقوبة، فمَن قصد حسناً لم يعاقب. نعم، يحتمل كون المراد الضمان أو الأعم منه مما يشمله، وعليه فلا يمكن رفع اليد عن أدلة الضمان للآية لعدم معلومية المراد من (السبيل).

وفيه تأمل؛ لأن (سبيل) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم، فلا وجه لتخصيصه بالعقوبة.

الثالث: تخصيص الآية بأدلة الضمان.

وفيه تأمل؛ لكون النسبة بينهما العموم من وجه، فمقتضى أدلة الضمان

ص: 44


1- سورة التوبة، الآية: 91.

كون السبب ضامناً سواء كان محسناً أم لا، ومقتضى الآية عدم السبيل سواء كان ضماناً أم عقاباً أم آثاراً وضعية أو تكليفية.

ومحل الاجتماع المحسن الذي هو سبب للجناية، فيتعارضان، فإن أمكن الجمع الدلالي وإلّا فترجح الآية على الرواية، وإن كان دليل الضمان آية أيضاً فلا يُعلم المراد من الآيتين فتكونان مجملتين من جهة الضمان، فالمرجع يكون الأصل وهو دال على عدم الضمان.

البحث الثاني: في ضمان منافع الحرّ

وأمّا منافع الحرّ فقد يستوفى بالاستخدام كما لو استأجره، وقد يستوفى بالغصب كما لو أجبره على عمل، وقد يمنع من استيفاء منافعه كما لو سجنه.

ففي الأول: يجب إعطاؤه أجرة عمله؛ لأنه منفعة متقوّمة بالمال، ويدلعليه الإجماع وبناء العقلاء، بل الضرورة.

وفي الثاني: يجب إعطاؤه أجرة المثل.

والثالث: محل الكلام والنقاش، فهل يضمن تلك المنافع غير المستوفاة أم لا؟

قال في الشرائع: «ولو حبس صانعاً لم يضمن أجرته ما لم ينتفع به»(1).

والمشهور الذي ادعي عليه الإجماع(2) أنه لا يضمن المنافع.

واستدل عليه بأدلة:

الأول: منافع الحرّ لا تدخل تحت اليد؛ وذلك تبعاً لنفسه، كما عليه

ص: 45


1- شرائع الإسلام 4: 762.
2- جواهر الكلام 37: 39.

المشهور(1)، فلا يشمله دليل اليد بطريق أولى، فإن العمل تابع للفرد، وحيث إن الأصل غير مشمول لدليل اليد فالفرع بطريق أولى، وذلك بخلاف العبد في نفسه وفي عمله.

الثاني: أسباب ضمان المنافع منحصرة في شيئين: الاستيفاء والإتلاف، والمقام خالٍ منهما، أمّا الأول فهو المفروض، وأمّا الثاني فإن الإتلاف فرع الوجود ولا منفعة في المقام، بل عدم انتفاع.

نعم، يمكن القول بترتب يده على المنفعة في صورة واحدة، وهي في ما لو ترتبت يده على العين، فتكون مترتبة على المنفعة بالتبع، كما لوغصب الدار فلم يستوفِ منافعها ومع ذلك يضمن أجرتها؛ لأنه أتلف المنفعة، لكن منافع الحر ليست كذلك، حيث لم يستوفها ولم تترتب يده على العين، فلا وجه للضمان في المقام؛ لعدم الاستيفاء ولا الإتلاف ولا التبعيّة، كما ذكره المحقق الرشتي(2).

وفي الدليلين تأمل؛ إذ حاصلهما عدم صدق (على اليد) على المنفعة غير المستوفاة، وقد قلنا: إن دليل الضمان لا ينحصر فيه، فعلى فرض عدم الصدق فهنالك أدلة أخرى، سوف تأتي إن شاء اللّه.

الثالث: الإجماع المدعى(3).

ومع أن القول بالضمان خلاف المشهور إلّا أنه مختار المحقق

ص: 46


1- غاية المرام 4: 83؛ جامع المقاصد 6: 222؛ مسالك الأفهام 12: 159؛ جواهر الكلام 37: 41.
2- كتاب الغصب: 13.
3- جواهر الكلام 37: 39.

الأردبيلي(1)، في ما إذا أراد العمل فمنع منه.

واستدل لذلك بأدلة:

الأول: لا ضرر، فالحابس أضرّ المحبوس بمنعه من العمل.

وقد ذكرنا في الأصول(2) أن المنع عن النفع في مورد يوجد فيه المقتضي له ضرر، وأن معنى لا ضرر نفي الحكم الضرري، وحيث إن عدم الضمان ضرري فيرتفع بدليل لا ضرر، هذا من جهة المبنى.وأمّا بناءً، فقد أشكل صاحب الجواهر(3) على الاستدلال بلا ضرر لإثبات ضمان منافع الحر بأنه يستلزم تأسيس فقه جديد، ومن المعلوم بداهة أن ما بأيدينا هو فقه أهل البيت^ وإن كان هنالك بعض الخلافات، لكن لا يخرج أصل الفقه عن فقههم^.

وأمّا الالتزام بما ذكر فيستلزم تغيير نسبة كبيرة من المسائل، فيكون الموجود غير فقههم^ وهو باطل بديهة، ووجه استلزام تأسيس فقه جديد هو ما ذكره بقوله: «ضرورة اقتضائها الضمان بالمنع عن العمل أو الانتفاع بماله»(4)، ونتيجة كلامه أنه لو منع شخصاً من العمل من دون حبس - كما لو هدده - كان ضامناً كما يضمن لو منعه من الانتفاع بماله.

وفيه نظر: فعلى فرض الالتزام بذلك فأين هو من تأسيس فقه جديد، بل قد دليل الدليل على الضمان، كما سنذكره؟

ص: 47


1- مجمع الفائدة والبرهان 10: 513.
2- نبراس الأصول 4: 370-371.
3- جواهر الكلام 37: 40.
4- جواهر الكلام 37: 40.

الثاني: الروايات الدالة على عدم ضياع حق المسلم ومنها: خبر بريد الكناسي عن الإمام الباقر(علیه السلام): «لا تبطل حقوق المسلمين بينهم»(1)، ومنها: «لئلا يتوى حق امرئ مسلم»(2)، وأمثالهما مع ضميمة رؤية العرف ضياع حقه، ويتحقق بذلك الكبرى والصغرى.الثالث(3): الصدق العرفي لفوات المنفعة، حيث يصدق ذلك على الممنوع عن العمل.

وبعبارة أخرى: لا ينحصر فوت المنفعة بما إذا كانت المنفعة موجودة فيفوتها، بل تشمل المنع عن حصولها، فالقول بعدم التلف لعدم وجود المنفعة أساساً وإن كان صحيحاً بالدقة العقليّة، إلّا أنه غير تامٍ بلحاظ الصدق العرفي، فيكون الحابس سبباً لفوات المنفعة فيكون ضامناً.

ولذا قال في الرياض(4): القول بالضمان لا يخلو عن وجه إن لم يكن إجماع، ومال إليه بعض المتأخرين(5).

والظاهر عدم تحقق الإجماع، فإن المتقدمين لم يتعرضوا لها، وقد استُفيد من بعض قدماء المتأخرين - كالعلامة - وجود احتمال آخر، حيث قال: «الأقوى عدم الضمان»(6)، والتعبير المذكور مشعر بعدم تحقق الإجماع.

ص: 48


1- الكافي 7: 198؛ وسائل الشيعة 20: 279.
2- مستدرك الوسائل 17: 446.
3- بلغة الفقيه3: 315.
4- رياض المسائل 12: 263.
5- كتاب الإجارة، للرشتي: 50 و 267.
6- تذكرة الفقهاء 2: 382.

نعم، شرط الضمان إرادة المحبوس العمل، وأنه لولا الحبس لعمل وأخذ المنفعة، وأمّا لو لم يردِ العمل - كالعاطل - فلا يصدق عليه الإضرار أو فوت المنفعة، بل يكون عمله مجرد ارتكاب معصية دون ضمان المنافع غير المراد استيفائها.فرع: ذكر السيد الوالد في الفقه(1): أنه لو كان للمحبوس عملان تختلف أجرتهما، فإن علم إرادته لأحدهما كانت الغرامة بحسبه، وإن لم يعلم كما في العامل الذي يقف في الشارع فإما يذهب للنجارة أو الحدادة حسب الطلب فهل يضمن الأكثر أو الأقل.

فيه احتمالات ثلاثة:

الأول: ضمان الأقل؛ لأنه المتيقن فتجري البراءة بالنسبة إلى الزائد، لكن الأصل أصيل حيث لا دليل، وسيأتي الدليل في الاحتمال الثالث.

الثاني: القرعة؛ لأنها لكل أمر مشكل، لكنها لا تجري في الماليات، بالإضافة إلى أنها بحاجة إلى عمل الفقهاء؛ لضعف أدلتها.

لكن توقفها على العمل محل تأمل؛ لأن العمل إن كان جابراً فهو جابر مطلقاً، لا في صورة دون صورة، وإلّا فغير جابر مطلقاً، وبعبارة أخرى: إن العمل إمّا يوجب قوة السند فيكون دليل القرعة معتبراً مطلقاً وإلّا فلا.

الثالث: قاعدة العدل والإنصاف، وقد دل الدليل على بعض مصاديقها - كدرهمي الودعي(2) - وقد استنبط من مجموع رواياتها قاعدة كلية في الماليّات.

ص: 49


1- الفقه 78: 73.
2- الفقه 54: 167.

واستدل في الشرائع لعدم ضمان منافع الحر بقوله: «لأنمنافعه في قبضته»(1)، وشبه ذلك بالثوب(2) على بدن المحبوس فتلفه غير مضمون؛ لأنه تحت قبضته، فكذلك يكون عمله.

ويظهر الإشكال عليه مما مرّ سابقاً، فإن بحبسه يصدق تفويت المنفعة عليه، وكذا الضرر وبطلان الحق، فلا مانع من جريان أدلة الضمان، فالقول بأن المنافع في قبضته غير مجدٍ لرفع الضمان.

فرع: لو كان الحبس مشروعاً، فلم يستطع أن يزاول عمله، كان هدراً، فلا يضمنه القاضي الشرعي والجهة المنفذة للحكم؛ لعدم كونه غصباً حتى يشمله بطلان الحق أو تضييع حق مسلم، كما أنه هو السبب في الإضرار حيث ارتكب جناية عقابها الحبس.

نعم، لو لم يكن الحبس منافياً لعمله، كما لو كان مترجماً - مثلاً - فلا حق لمنعه منه إن لم يكن هنالك أهم(3).

ولو منع من العمل بلا سبب ثبت الضمان.

قال في الشرائع: «لو استأجره في عمل فاعتقله ولم يستعمله ففيه تردد، والأقرب أن الأجرة لا تستقر لمثل ما قلناه»(4).

وقد ذهب جمع(5) إلى عدم الضمان وإن فعل حراماً، وآخرون(6)إلى

ص: 50


1- شرائع الإسلام 4: 762.
2- تذكرة الفقهاء 2: 382؛ الفقه 78: 71.
3- كما لو كان إعطاؤه القلم سبباً لانتحاره مثلاً.
4- شرائع الإسلام 4: 762.
5- شرائع الإسلام 4: 762؛ إرشاد الأذهان 1: 445؛ قواعد الأحكام 2: 223.
6- مجمع الفائدة والبرهان 10: 514؛ مسالك الأفهام 12: 159.

الضمان واستحقاق الأجرة، وثالث إلى التفصيل(1) بين كون مدة الإجارة معيّنة فحبسه فيها فيضمن، وبين كون الإجارة مطلقة من دون تعيين مدة فلا يضمن.

واستدل في المسالك للقول الأول: ب- «أن منافع الحر لا تضمن إلّا بالتفويت؛ لعدم دخول الحر تحت اليد؛ إذ ليس مالاً، ولم يحصل التفويت»(2)؛ وذلك لما ذكره في الشرائع(3): من أن المنافع في قبضته، فإن العمل في ذمته ولم يفوت لإمكان الإتيان به بعد الإفراج عنه، فلا يصدق عليه تفويت العمل، ومع الشك يُستصحب بقاء العمل في الذمة.

وهذا بخلاف تفويت العين أو المنفعة الخارجية، حيث لا يمكن أن تتجدد؛ لأن منفعة كل يوم ليومه، فيصدق عليه التفويت فيكون ضامناً.

نعم، لو فوت العمل في الذمة بأيّ سبب - كما لو استأجره لصيد طير معين فحبسه فطار - كان ضامناً لصدق التفويت، لكن لا تفويت في غالب الأعمال، فإن لم يقم بها اليوم وهو في الحبس فسيقوم بها في يوم غد.

واستدل للقول الثاني بدليلين:

الأول: ما عن الشهيد الأول: من أن «المنافع ملكها المستأجر وتلفهامستند إلى فعله»(4).

وقال في المسالك: «الحابس مالك لعمل المستأجَر بمجرد عقد

ص: 51


1- جامع المقاصد 6: 222.
2- مسالك الأفهام 12: 159.
3- شرائع الإسلام 4: 762.
4- جامع المقاصد 6: 222؛ مفتاح الكرامة 18: 83.

الإجارة، وقد أقدم على إتلاف ماله، فيجب عليه دفع الأجرة»(1).

الثاني: ما في مفتاح الكرامة(2): من أن المنفعة إمّا موجودة أو بحكم الموجودة وتفويتها موجب للضمان.

فمنفعة البيت موجودة، وتلفها بعدم سكناها، وأمّا عمل الإنسان فبحكم المنفعة الموجودة إذا كان مبذولاً، ويصدق على الغاصب والحابس تفويت المنفعة في الصورتين فيكون ضامناً.

وقد رتب الفقهاء على المنفعة المبذولة آثار الموجودة في مواضع.

منها: استحقاق الزوجة للنفقة والمهر بمجرد التمكين وإن لم يستمتع الزوج(3)، مع أن المنفعة غير موجودة بالدقّة العقليّة؛ لكنها في حكم الموجودة لكونها مبذولة.

ومنها: لو حجز موعداً من الطبيب وحان وقته فلم يدخل عليه استحق الطبيب الأجرة مع كون عمله مبذولاً؛ لأن المريض ملك المنفعة حين الحجز فأهدرها.واستدل للتفصيل كما رجحه في المسالك(4): أنه إن كانت مدّة الإجارة مطلقة لم يلزم الإتيان بالعمل في المدّة التي حبس فيها، بل العمل ثابت في ذمته خلال فترة الإجارة، ولا يخرج العمل عن الذمة بالاستصحاب، فلا ضمان.

ص: 52


1- مسالك الأفهام 12: 159.
2- مفتاح الكرامة 18: 83.
3- المبسوط 5: 274.
4- مسالك الأفهام 12: 159.

وأمّا إن كانت مدة الإجارة معينة فحبس فيها، فلا يلزم عليه العمل بعد تلك المدة؛ لاشتغال ذمته بالعمل فيها لا في ما بعدها، ولا معنى للاستصحاب؛ لعدم الشك، بل اليقين متحقق بعدم مشغولية ذمته في ما بعد تلك المدة، ومع ذلك يستحق الأجرة؛ لأنه فوت عمله.

وفيه نظر: فالفرق غير فارق، ولا تصل النوبة إلى الاستصحاب مع قيام الدليل على الضمان، حيث يصدق التفويت في الصورتين.

فالأقرب الضمان إن كان العمل مبذولاً، وإلّا فلا، لما مرّ من عدم صدق التفويت إذا لم يكن يريد العمل.

هذا تمام الكلام في الحرّ ومنافعه.

المصداق الخامس: غصب الخمر

اشارة

قد يكون الخمر للمسلم وقد يكون للذمي.

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: غصب الخمر من المسلم

وهنا يكون الحكم تابعاً لأحد المباني الثلاثة:

الأول: الخمر مال وقابل للتملك(1)، وعليه يكون ضامناً لشمول أدلة الضمان له ك- (على اليد) و (من أتلف مال الغير) ولم يدل دليل على التخصيص.

والدليل على المبنى المذكور أمور:

أولاً: إن الخمر عرفاً مال ولها منفعة محللة كصيرورته خلاً.

ص: 53


1- فقه الصادق 19: 423.

وثانياً: صحيحة جميل: «قلت لأبي عبد اللّه(علیه السلام) يكون لي على الرجل الدّراهم فيعطيني بها خمراً. فقال(علیه السلام): خذها ثم أفسدها»(1).

وهي كالصريح في أن الخمر مال وملك يسدد بها الدين، وإن لم يكن ملكاً فكيف يسدد دينه بها؟

وأشكل عليه(2): إنها معارضة بروايات كثيرة تدل على عدم جواز بيع الخمر.

وفيه: لا تعارض حيث لا تلازم بين البيع وتسديد الدين، فقد يكون الأول غير جائز بخلاف الثاني، فهما مسألتان قد تشتركان في حكم وقد تختلفان.وقد أوّلها الشيخ الطوسي(3) بأحد تأويلين:

الأول: المراد أخذ الخمر بنية صاحبها وجعلها خلاً، ثم تسديد الدين من الخل الذي هو مال وملك.

الثاني: المراد أخذها مجّاناً، ثم تسديد الدين بعد صيرورتها خلاً.

وهما خلاف الظاهر صار إليهما الشيخ لئلا تطرح الرواية، حيث ادعى الإجماع على عدم كونه مالاً.

ولكن بعد إثبات عدم تحقق الإجماع لم يبقَ للتوجيهين وجه، حيث إن ظاهر الرواية أخذ الخمر في مقابل دينه.

المبنى الثاني: الخمر مال غير قابل للتملك(4).

ص: 54


1- تهذيب الأحكام 9: 118؛ وسائل الشيعة 25: 371.
2- مستند الشيعة 14: 69؛ مصباح الفقيه 8: 293.
3- تهذيب الأحكام 9: 118.
4- فقه الصادق 19: 423.

ويكون حق الاختصاص ثابتاً لمَن بيده، ثبت له بالحيازة أو لكونه مالكاً للعنب.

ويدل على الحق المذكور:

أولاً: بناء العقلاء ولم يردع عنه الشارع، ومعناه الإمضاء كما في المعاملات.

ثانياً: سيرة المتشرّعة المتصلة بزمن المعصومين^، حيث كانوا يصنعون الخل ولا بد وأن يمر بمرحلة الخمرية، فسيرتهم قائمة على حق الاختصاص لمالك العنب في مرحلة الخمرية، فلا يجوز إتلافه.وعليه تشمله أدلة الضمان، حيث لا يحق التصرف في ما هو حق الغير، كما في تحجير الأرض أو حجز المكان للصلاة في المسجد.

المبنى الثالث: الخمر ليس مالاً ولا ملكاً(1).

وأمّا إمكان صيرورته خلاً فلا يكون سبباً لماليته وملكيته، فالماء في النهر قابل لأن يصبح ثلجاً، لكن هذه القابلية لا تصنع المالية والملكية، فإن الفعلية الخارجية هي التي تصنعهما.

إن قلت: شرب الذمي منفعة، فيكون سبباً لتولد المالية والملكية.

قلت: الذمي أيضاً يحرم عليه الشرب؛ لأنهم مكلّفون بالفروع كالأصول، لكن لا يجب على المسلم منعه بشروطه، فالمنفعة محرّمة.

وعليه: مقتضى القاعدة عدم الضمان؛ لأن الضمان بلحاظ مالية الشيء.

وبعد اتضاح المباني الثلاثة نقول: إن مقتضى القاعدة المبنى الأول، ويدل عليه ظهور صحيحة جميل السالفة.

ص: 55


1- فقه الصادق 19: 424.

واستدل أيضاً بصحيحة عبيد بن زرارة، عن الصادق(علیه السلام): «في الرجل إذا باع عصيراً، فحبسه السلطان حتى صار خمراً، فجعله صاحبه خلاً؟ فقال(علیه السلام): إذا تحوّل عن اسم الخمر فلا بأس به»(1).

ووجه الاستدلال أنه بعد أن صار خمراً وجب إرجاع الثمن إن قلنابخروجها عن الملكية، لكن الإمام(علیه السلام) لم يحكم بذلك، بل ظاهرها أن المشتري استلم الخمر.

لكنه لا يدل على المراد، فقد يكون من باب حق الاختصاص.

وقد يستفاد منها عدم ضمان البائع، حيث إن التلف قبل القبض من مال البائع، فلو خرج عن الملكية والمالية بصيرورته خمراً كان تالفاً، فلا بد وأن يرجع الثمن إلى المشتري، لا أن يسلم العين إليه.

وذهب صاحب مفتاح الكرامة(2) إلى أنه لو كانت الخمر باقية وجب إرجاعها لكونها محترمة للتخليل، ولو صارت خلاً وجب إرجاعه، فإنه وإن زالت الملكية لكن الأولوية باقية وهي من توابع الملكية، ولذا لا يجوز غصبه، ولو تلف لم يكن ضامناً.

وفيه تأمل، فبعد ثبوت حق الاختصاص تشمله أدلة اليد فيكون ضامناً.

وذهب المحقق الرشتي(3) إلى أنه لو غصب الخمر فإن كانت العين باقية وجب ردها، وإن تلفت فلا ضمان، واستدل لذلك بأن الغاصب لا يمكنه إرجاع العين لفرض تلفها، وأمّا البدل فلا يتحقق إلا في الأموال. كما لو

ص: 56


1- تهذيب الأحكام 9: 117؛ وسائل الشيعة 25: 371.
2- مفتاح الكرامة 18: 87.
3- كتاب الغصب: 26.

غصب حبة حنطة فيجب إرجاع عينها وإن تلفت فلا ضمان وإن فعل محرماً؛ لأن البدل إن كان قيمة فالمفروض أنه لا مالية له، وإن كان مثلاً فالمثل إنما هو باعتبار كونه بدلاً، ولم يثبت شرعاً وعرفاً المثليفي غير المتمول.

وفيه: أولاً: إن عدم الضمان ينافي الاحترام، والخمر المعد للتخليل محترمة.

إن قلت: دل الدليل على عدم مالية الخمر.

قلت: إنه في الخمر غير المحترمة، أمّا المحترمة فأدلة عدم المالية لا تجري فيه.

وثانياً: لا دليل على اختصاص البدلية بالمتمول، وما ذكره صرف ادعاء تثبت الأدلة العامّة خلافه، ففي مثال الحنطة فهو ضامن للعين أو المثل. نعم، لا يضمن القيمة لعدم الماليّة.

والحاصل: إن الخمر المحترمة ملك ومال وتجري فيه أدلة الضمان لولا الإجماع المدعى(1)، والظاهر عدم تحققه حيث ذهب جمع إلى خلافه، كصاحب المفاتيح(2) والمحقق الأردبيلي(3)، وعبّر العلامة بالأشهر(4)، ولا يكون حجة لعدم استناده إلى رواية.

ولو كان الخمر بيد المسلم ملكاً ومالاً فما بيد الذمي بطريق أولى.

ص: 57


1- مفتاح الكرامة 18: 86.
2- مفاتيح الشرائع 3: 171.
3- مجمع الفائدة والبرهان 10: 515.
4- مختلف الشيعة 6: 132.
المسألة الثانية: غصب الخمر من الكافر والمخالف
1- خمر الذمي

قال في الشرائع: «وتضمن إذا غصبت من ذمي متستراً»(1).

والدليل على قيد التستر - كما في الجواهر - إجماع الفرقة وأخبارها، وأمّا المتجاهر فلا ضمان قولاً واحداً(2)، حيث لا حرمة لخمره، فلا يكون الغاصب والمتلف ضامناً.

كما يدل على احترام المتستر أن من شرائط الذمة عدم التجاهر، فالمتجاهر خالف شروط الذمة، فيذهب احترام ماله، كما في الفقه(3).

وحيث إن الدليل على التستر لُبّي يُتمسك بالقدر المتقين، فلو شك في مورد كان الاحترام باقياً، كما لو ستر الخمر في بيته لكن كان التعامل علنياً. نعم، يلزم نهييه عن المنكر، لكن هذا المنكر لا يسبب رفع احترام مال الذمي.

وأمّا مصداق التجاهر والتستر فالشرب علناً تجاهر وفي البيت تستر، ووقع الخلاف في المعاملة، ومع الشك جرى الأصل، ولو اختلف ذميان في الخمر فترافعا إلى الحاكم فمجرد الترافع العلني لا ينافي التستر.

2- فقاع المخالف

وهكذا الحكم في المخالف فلو أراد العامي التجاهر بما يُحلله منبعض أنواع الخمر - كالفقاع - فلا يكون أقل من الكافر، فلا يمنع من شربه خفاءً لكن لا يحق له التجاهر، فليس معنى حليته عنده أن يجوز له فعل المنكر

ص: 58


1- شرائع الإسلام 4: 762.
2- جواهر الكلام 37: 44.
3- الفقه 48: 121.

علناً وإن كان عنده غير منكر، بل معناه عدم المنع عن شربه وبيعه بينهم خفاء حاله حال الكافر، فهو كافر واقعاً، يحكم بإسلامه ظاهراً تسهيلاً على المؤمنين، كما عليه جمع من الفقهاء(1).

ويجري الكلام أيضاً في ما يحرم بيعه شرعاً - كالسمك المحرم - فلا يجوز للمخالف بيعه علناً؛ ولذا كان الإمام علي(علیه السلام) ينهى عن بيع الجري والمارماهي(2)، وقد يعزر في ذلك، مع أنهم كانوا من العامة غالباً، حيث كانوا يعتقدون بكونه الحاكم لا أنه إمام مفترض الطاعة؛ ولذا خرجوا عليه، فليس معنى حليته في مذهبه أو دينه جواز التعامل عليه علنا.

وأمّا الدليل على الضمان، فهو:

أولاً: الإجماع المدعى(3).

وثانياً: قاعدة الإلزام، فالقول بجواز إتلافه وعدم ضمانه مخالف لهذه القاعدة.

وقد قال بعض الفقهاء(4): إن الملكيّة والماليّة أمر اعتباري بيد الشارعالمعتبِر، فينفي الملكية للمسلم بينما يثبتها للكافر بقاعدة الإلزام، فلو أتلفها المسلم ضمن، وهو مقتضى احترام ماله.

3- خمر الكافر المعاهد والمحايد

أمّا الخمر عند الكافر المعاهد فمحترمة في بلادهم، فإن مال المعاهد

ص: 59


1- مسالك الأفهام 3: 166؛ جواهر الكلام 22: 337.
2- الكافي 1: 346؛ وسائل الشيعة 24: 116.
3- مفتاح الكرامة 18: 86.
4- حاشية المكاسب، للآخوند الخراساني: 3؛ حاشية المكاسب، للإصفهاني 1: 16.

محترم، وتجري فيه قاعدة الإلزام أيضاً.

وأمّا الشق الرابع من الكافر، فقد نفى العلامة(1) وجوده وألحقه بالحربي، مدعياً عليه الإجماع، لكن السيد الوالد اعتبره محايداً(2)، فيجري فيه عمومات أدلة احترام مال الإنسان، وأمّا دعوى الإجماع، فمحل نظر.

فرع: الاختلاف في حقيقة المتلَف

لو اختلفا في كون المتلَف خمراً أو لا، فمع وجود الأصل فهو المحكم، كما لو كان ماء العنب فشك في صيرورته خمراً، فالاستصحاب قاضٍ ببقائه على حالته السابقة، وليس من الأصل المثبت؛ لأن أثره الضمان وهو أثر شرعي. ولو علم بكونه خمراً فالاستصحاب قاضٍ ببقائه، فلو كان محترماً ضمن، وإلّا فلا، وقد يختلف أثر الضمان في الصورتينفي ما لو اختلفت قيمة ماء العنب وغيره.

ومع عدم وجود الأصل - لعدم العلم بالحالة السابقة مثلاً - فالمرجع أهل الخبرة. هذا في ما اختلف في الموضوع.

ومع الاختلاف في الحكم - كما لو اختلفا في أصل الضمان - فالملاك رأي الحاكم الشرعي المترافع إليه، وإن كان الطرفان مجتهدين.

المسألة الثالثة: كيفية ضمان الخمر
اشارة

وأمّا كيفية ضمان الخمر فقد قال في الشرائع: «ويضمن الخمر بالقيمة

ص: 60


1- تحرير الأحكام 3: 482.
2- الفقه 33: 109، وفيه: «فإن الكافر على ثلاثة أقسام: محارب ومعاهد ومحايد، كالروم في أوائل زمن الرسول| الذين لم يكونوا محاربين للرسول ولا معاهدين له». والفقه 56: 271، وفيه: «وقد ذكرنا في بعض مباحث الفقه: أن أقسام الكافر أربعة: الحربي والذمي، والمعاهد، والمحايد». وأيضاً راجع الفقه 78: 84.

عند المستحل لا بالمثل»(1).

وفي المسألة ثلاثة احتمالات أو أقوال:

الأول: ما في الشرائع وهو المشهور، واستدل له بدليلين:

الدليل الأول: دعوى الشيخ الطوسي الإجماع عليه(2)، وكذا في المسالك(3)، وعبر في التذكرة ب- (عندنا)(4) الظاهر في الإجماع، وعبر المحقق الكركي ب- (لا بحث فيه)(5) وهو تعبير عن الإجماع أو عدم الخلاف.

الدليل الثاني: استحالة ثبوت الخمر في ذمة المسلم(6)؛ إذ المسلم لايملكها فكيف تدخل في ذمته حتى يفرغها؟ فإنما يدخل في الذمة ما يمكن أن يُملك، فيبدل إلى الملك الخارجي ثم يؤدّى إلى المضمون له.

وفيهما نظر: أمّا الأول: فلوجود المخالف، وربما منشأ دعواها عند المتأخرين كلام الشيخ في الخلاف(7). نعم، لا إشكال في تحقق الشهرة.

وأمّا الثاني: فلا تلازم بين إمكان الملكية وإمكان الثبوت في الذمة، فقد لا يكون مالكاً لشيء لكن يدخل في ذمته، وقد يؤدّي الضمان بما لا يكون ملكاً له كحق الاختصاص. فالمسلم وإن لم يملك الخمر لكن يتولد له حق

ص: 61


1- شرائع الإسلام 4: 762.
2- الخلاف 3: 415.
3- مسالك الأفهام 12: 161.
4- تذكرة الفقهاء 2: 379.
5- جامع المقاصد 6: 223.
6- جامع المقاصد 6: 223.
7- الخلاف 3: 415.

الاختصاص، كما لو اتخذها للتخليل فيمكنه أداؤها، ويؤدّيه صحيحة جميل(1) وقد مرّ ذكرها(2)، حيث سدد المديون دينه بالخمر.

الثاني: ثبوت المثل(3)، وهذا الاحتمال مطابق لمقتضى القاعدة لدلالة (حتى تؤدّي) عليه، وإمكان تأييده بموثقة ابن أبي عمير، حيث لا فرق بين مورد الرواية من تسديد الدين بالخمر وبين سائر أنواع الضمانات، فيعمم الحكم بعد إلغاء الخصوصية.

وهذا الاحتمال وإن كان غير بعيد إلّا أنه لا قائل به؛ ولذا قال السيد الوالدفي الفقه(4): إنه مقتضى الصناعة لكن التمسك بقول المشهور موافق للاحتياط.

الثالث: ما في جامع المدارك(5) من أن العين إن كانت موجودة أرجعها، وأمّا لو تلفت فلا يضمن أيّ شيء؛ وذلك لأن الضمان إمّا بالقيمة والخمر المتلَف لا قيمة له، فإن القيمة للماليّات والشارع نفى ماليّة الخمر، وإمّا بالمثل والمثل لا يكون إلّا في مورد له ماليّة، وإتلاف ما لا ماليّة له موجب للعصيان فقط إن كان عمداً، ونظّر لذلك بإتلاف حبة حنطة واحدة.

وفي كلا دعوييه نظر، فإنه وإن لم تكن للشيء مالية لكن الأولوية ثابتة لصاحبها، ولا فرق بين الأولوية والملكية، فالخمر المراد تخليلها وإن لم تكن ملكاً لكن الأولوية محققة فالضمان ثابت، وعدم الضمان في الحنطة

ص: 62


1- وسائل الشيعة 25: 371.
2- راجع الصفحة 53.
3- المهذب 1: 444.
4- الفقه 78: 86-87.
5- جامع المدارك 5: 200-201.

أيضاً محل تأمل، فلو أهدى كيلاً من الحنطة لألف إنسان مما ملك كل واحد منهم عُشر الحبة الواحدة، فجاء الغاصب وغصب الكيل، فهل يمكن الالتزام بعدم ضمانه لأيّ واحد منهم.

أو كان بيده الماء وهو واقف على نبع ماء معين، فأتلفه الغاصب، فهل يمكن القول بعدم ضمانه؛ لأن الماء عند النبع المعين لا ماليّة له؟!

وبعبارة أخرى: إن أدلة الضمان لا ترتبط بالماليّة، بل تجري في غيرهاأيضاً بشرط الملكية أو وجود حق اختصاص. نعم، لو لم يكن مالاً ولا ملكاً ولا حقاً فلا يشمله دليل (على اليد) لأنه ليس من إتلاف مال الغير.

والمحصل من الكلام: أنه لا يلزم أن يكون المتلف مالكاً للمثل حتى يؤدّيه، فيكفي حق الاختصاص، هذا أولاً.

وثانياً: لا دليل على عدم الانتقال إلى القيمة، فلو تلفت الحنطة وهي مثلية لكن افتقدت في السوق انتقل إلى القيمة.

وثالثاً: للخمر قيمة ثابتة إلّا أن الشارع نفى ماليتها للمسلم.

وبناءً عليه فإن مقتضى الصناعة ضمان الخمر المحترمة بالمثل، لكن المشهور شهرة عظيمة الضمان بالقيمة عند المستحل(1).

فرع: ضمان الخمر بين ذميين

وفي ضمان خمر الذمي احتمالان:

الاحتمال الأول: ما ذكره في الشرائع بقوله: «ويضمن الخمر بالقيمة عند المستحل لا بالمثل، ولو كان المتلف ذمياً على ذمي»(2).

ص: 63


1- مفتاح الكرامة 18: 88.
2- شرائع الإسلام 4: 762.

واستدل على كون الضمان بالقيمة لا المثل في ما لو كان الطرفان ذميين بما يلي:

أولاً: ما ذكره الشيخ الطوسي في الخلاف من إجماع الفرقةوأخبارهم(1).

وفيه: إن الإجماع مخدوش بوجود مخالفين، والأخبار مرسلة حيث لم تصلنا، وسيأتي الكلام فيه.

ثانياً: ما ذكره بعض الفقهاء من أنه: «يمتنع في شرع الإسلام الحكم باستحقاق الخمر»(2)، فلا يمكن أن يحكم الشارع باستحقاق المضمون له للخمر، ومع امتناع المثلي - لوجود العارض - ينتقل الضمان إلى القيمة، وهو مقتضى (على اليد).

وفيه: إنه مجرد استحسان، فلا دليل على الامتناع المذكور، بل الأشباه والنظائر قاضية بثبوت مثله في الشرع، كتوريث أخت المجوسي المتزوج منها سهمين: إرث الأخت والزوجة(3)، فلا مانع من حكم الشارع باستحقاق الذمي للخمر.

ثالثاً: ما في الجواهر(4): من أن شرط احترام خمر الذمي التستر، فلا حرمة مع التجاهر، وحكم الحاكم باستحقاق الذمي للخمر خلاف التستر.

وفيه: إن دليل التستر لبي لا إطلاق فيه، والقدر المتيقن منه عدمالتجاهر بالشرب والمعاملة؛ ولذا قال في مفتاح الكرامة: «لا يلزم من الحكم

ص: 64


1- الخلاف 3: 415.
2- مفتاح الكرامة 16: 628؛ جامع المقاصد 6: 223.
3- المبسوط 4: 120؛ تحرير الأحكام 5: 88؛ الدروس الشرعيّة 2: 382.
4- جواهر الكلام 37: 45.

باستحقاقها التظاهر بشربها والمعاملة عليها؛ لأن الذي عدّوه من نواقض العهد وتركه من شرط الذمة إظهار شرب الخمر في دار الإسلام لا مطلق البحث عنها»(1).

الاحتمال الثاني(2): ضمان المثل في ما لو أتلف الذمي أو المسلم خمر الذمي، أو أتلف المسلم أو الكافر خمر المسلم المحترمة؛ لأنه مقتضى القاعدة في المثليّات، وما ذكر للمنع محل تأمل، كما مرّ.

كما يدل عليه قاعدة الإلزام إن كانا ذميين، وأمّا لو كان أحدهما مسلماً فلا يعلم جريان القاعدة، إلّا أن مقتضى القاعدة جريانها إلّا في ما علم عدم شمول القاعدة له، وفي المقام لا دليل على عدم الشمول.

لكن على مبنيي صاحب الجواهر(3): من حرمة التظاهر وعدم تعلّق الخمر بذمة المسلم يفهم تخصيص قاعدة الإلزام ولزوم الرجوع إلى القيمة، كما ذكره السيد الوالد في الفقه(4)، وقد مرّت المناقشة فيهما، بالإضافة إلى أنه لا يشمل ما لو كان المتلف كافراً لكافر.

فتحصل: أن الطرفين لو كانا كافرين كان الضمان بالمثل، ولو كانالمتلف مسلماً فبناءً على تعلق الخمر في ذمته ضمن المثل، وإلّا فالقيمة.

ولو كان المتلِف كافراً والمتلَف منه مسلم ضمن المثل لتعلق الخمر بذمة الكافر، فلا وجه لانتقال القيمة إلى ذمته.

ص: 65


1- مفتاح الكرامة 18: 90.
2- مسالك الأفهام 12: 161.
3- جواهر الكلام 37: 45.
4- الفقه 78: 87.

الفصل الثاني: في تعاقب الأيدي على المغصوب

اشارة

لو تعاقبت الأيدي الغاصبة على المغصوب ففيه صور، فقد تكون العين باقية وقد تكون تالفة، ثم إنهم قد يعلمون بالغصب، وقد يجهلون، فهنا مسائل:

المسألة الأولى: ضمان الجميع

قال في الشرائع: «ولو تعاقبت الأيدي الغاصبة على المغصوب تخيّر المالك في إلزام أيهم شاء، أو إلزام الجميع بدلاً واحداً»(1).

1- أما مع تلف العين: فلا إشكال في أن للمالك الحق في إلزام الغاصب الأول أو من تلفت عنده. لكن الكلام في إلزام الأيادي المتوسطة، ومقتضى القاعدة ثبوت الضمان في كل الأيادي؛ وذلك لوجود سبب الضمان، وهو ثبوت يد كل واحدٍ واحدٍ منهم على مال الغير من غير إذنه، ولا دليل على انتفاء الضمان عنه مع انتقال المغصوب إلى غيره، بل إطلاقات الأدلة تشمل جميع الأيادي، ف-«على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»، ظاهر في كون الشيء في عهدة الآخذ، كماعبّر به بعض الفقهاء(2).

هذا، مضافاً إلى الإجماع الذي ادّعاه صاحب الجواهر في المقام(3).

ص: 66


1- شرائع الإسلام 4: 762.
2- جامع المدارك 5: 194.
3- جواهر الكلام 37: 33.

وأمّا لو كان بعضهم جاهلاً فعلى المشهور يجوز رجوع المالك إليه أيضاً(1).

لكن تردد المحقق الأردبيلي(2) في ذلك، فمال إلى عدم الجواز؛ لأن الجاهل ليس بغاصب وإلّا كان آثماً، ولا يعلم اندراجه في قوله|: «على اليد»، وعلى فرض الاندراج فإن الخبر غير معتبر.

وفيه نظر لجهات:

أمّا قوله: «وإلّا كان آثماً» ففيه: أنه لا تلازم بين الإثم والغصب، كما لو رهن عيناً ثم أخذها قهراً لم يكن غاصباً؛ لأنه ملكه وإن كان آثماً؛ لتعلق حق الغير به، وكما لو اضطر للغصب فإنه غصب لكن ليس إثماً.

وأمّا دعوى عدم الاندراج... ففيه: أن الحديث غير خاص باليد العدوانيّة، بل يشمل اليد من غير الحق الشرعي وإن لم يكن عدواناً فيشمله (على اليد) فقد لا يكون للإنسان حق واقعي في الشيء، لكن يجيزه الشارع لجهة ظاهرية، كما لو تصور أنه ملكه، أو يجيزه لجهة الاضطرار، وهذا لا يكون سبباً لتولد الحق للمضطر فقط، بل للطرفالآخر أيضاً الحق.

مضافاً إلى أنه إن لم يصدق الغصب فلا وجه لعدم صدق (على اليد)، فإن أسباب الضمان لا تنحصر في الغصب، كما لو أتلف مال الغير في النوم.

وأمّا ضعف السند ففيه: إن الرواية واردة في الكتب الفقهية للأصحاب كالشيخ الطوسي(3)، ولا فرق بين ورودها في كتبهم الروائية أو الفقهية من

ص: 67


1- مسالك الأفهام 12: 155-156.
2- مجمع الفائدة والبرهان 10: 518.
3- الخلاف 3: 228 و 4: 174؛ المبسوط3: 59 و 4: 132.

حيث الحجية، فما ذكره صاحب الوسائل(1) من عدم اعتماده على النبويّات في الكتب الفقهية خوفاً من كونها عاميّة، غير ظاهر الوجه، كما مرّ سابقاً.

وأمّا إشكال الإرسال ففيه: أنها مجبورة بعمل المشهور. مضافاً إلى عدم انحصار دليل الضمان بهذه الرواية، بل هنالك روايات أخرى أيضاً.

2- وأما مع وجود العين: فهل يحق للمالك الرجوع إلى كل واحدٍ واحد من الأيادي المتعاقبة، أو لا بد من مراجعة اليد الأخيرة التي بيدها العين على فرض وجودها؟

ظاهر كلمات الفقهاء(2) حق الرجوع إلى أيّ واحد منهم حتى لو كانت العين موجودة بيد الأخير، وتظهر الثمرة في ما لو كان الأخير قوياًلا يمكن أخذ العين منه فيحق للمالك الرجوع إلى أضعف الأيادي؛ وذلك لأن (على اليد) تثبت الضمان لكل يدٍ استولت على العين، ولم يدل دليل على خروجه عن عهدة الضمان بخروج العين من يده.

إن قلت: مع وجود العين بيد الأخير لا وجه لمطالبة البدل من سائر الأيادي.

قلنا: قد لا يستطيع أخذ العين ممن بيده فيأخذ بدلها ممن ترتبت يده عليها من باب بدل الحيلولة، ومع إمكان أخذ العين يحق له مطالبة البدل من سائر الأيادي؛ لأنها ضامنة، ومقتضى ضمانها لزوم إعطاء البدل مع عدم إمكان تسليمها للعين، وهذا لا ينافي إمكان استرجاع المالك للعين.

ص: 68


1- وسائل الشيعة 30: 542.
2- كشف الرموز 2: 380؛ المهذّب البارع 4: 248؛ مسالك الأفهام 12: 155؛ رياض المسائل 12: 260؛ جواهر الكلام 37: 33.

وقد استدل الوالد في الفقه على ذلك بأن دليل (على اليد): «أقوى في الدلالة من دليل رد نفس العين ما كانت موجودة»(1)؛ وذلك لأن انحصار حق المالك في أخذ العين مع وجودها منافٍ لإطلاق (على اليد) الدال على جواز الرجوع إلى كل يدٍ يدٍ بالعين أو البدل.

فروع تتعلق بالمسألة

الفرع الأول: لو أخذ البدل من الغاصب الأول، حق للأول الرجوع إلى الثاني وهكذا، إلى أن يستقر الضمان عند الأخير الذي بيده العين أو تلفت في يده، فاستقرار الضمان إنّما هو على مَن أتلف العين عالماًعامداً أو غرّ إن لم يكن عن علم وعمد، ويحق للثاني أخذ العين مع عدم ملكه له؛ لأنه دفع البدل للمالك، ومع أخذ العين يحق له مطالبة المالك بالبدل وتسليم العين له.

الفرع الثاني: بعد أن دفع الثاني البدل إلى المالك، فإن أخذ العين وجب عليه أن يرجعها إلى المالك؛ لأن للمالك حقين: حق في العين وحق في قيمتها، وقد أخذ المالك حقه الثاني لكن لم يسقط حقه في نفس العين، وليس المقام من قبيل البيع حتى يُلزم بنقل العين إلى الغير في صورة أخذ بدله، كما هو الحال في بدل الحيلولة، حيث يحق للمالك مطالبة العين بعد الإمكان، لكن عليه أن يُرجِع البدل الذي أخذه.

الفرع الثالث: لو أخذ المالك البدل من إحدى الأيادي، ثم جاء مَن بيده العين فأرجعها إلى المالك وجب على المالك إرجاع البدل؛ لعدم حقه في

ص: 69


1- الفقه 78: 58.

الجمع بين البدل والمبدل، ولا يجوز على مَن بيده العين أن يسلمها إلى اليد التي كانت قبله، بل يعطيها للمالك رأساً.

الفرع الرابع: لو أراد مَن بيده العين تسليمها إلى المالك لا يحق للمالك أن يطالب بالبدل من اليد الأولى، فإنه حيث وجد العين مبذولة لم تجرِ أدلة وجوب إعطاء البدل.

نعم، مع اختلاف الزمان يحق له مطالبة البدل، كما لو أراد مَن بيده العين تسلميها بعد شهر مثلاً، فلا بد وأن يكون البذل فورياً، كما هو الحال في بدل الحيلولة، حيث يحق له مطالبة البدل وإن أمكن إرجاعالعين لكن بعد فترة.

والحاصل: إن أدلة (على اليد) تدل على لزوم إعطاء العين مع الإمكان ومع عدمه فالبدل، وعدم الإمكان إمّا دائمي لتلف العين مثلاً، أو مؤقّت.

المسألة الثانية: براءة ذمة الجميع بالأداء

لو أخذ المالك البدل من مُتلف العين برئت ذمة الجميع، لكن لو طالب المالك السابق رجع إلى اللاحق، ويتسلسل إلى أن يستقر الضمان على المتلف.

وقد مرّ الدليل على جواز الرجوع إلى كل واحدٍ واحد.

وأمّا الدليل على براءة ذمة الجميع في ما لو أخذ البدل من المُتلف فهو: إن الغرامة بدل التالف، فلو أخذ المالك البدل لم يبق له حق؛ لأنه يستلزم الجمع بين العوض والمعوض أو الجمع بين عوضين، كما لا يحق للمتلف الرجوع إلى الأيدي السابقة؛ لأنه بدفع البدل ملك المبدل منه - وهو التالف - بمعاوضة قهريّة شرعيّة، وحيث ملكه يكون التلف في ملكه، فلا معنى للرجوع إلى غيره.

ص: 70

لا يقال: كيف يملك التالف فإنه من السالبة بانتفاء الموضوع؟

فإنه يقال: الاعتبار الشرعي خفيف المؤونة فلا محذور فيه، ولذا لو كان للتالف بقايا - كقِطَع الكوز المهشم - كانت له ولا حق للمالك فيها؛ لأنه أخذ بدلها، ولا يمكن الجمع بين العوض والمعوض فتكون القِطَعملكاً لليد الأخيرة، كذلك في ما لو لم يبقَ من التالف شيء، فإنه يملكها بالاعتبار الشرعي وتترتب عليه آثار الملكية.

كما أنه يحق للغير - في ما لو طالبه المالك بالبدل - الرجوع إلى المتلف؛ لأن هذا الغير دفع الغرامة فيملك التالف.

ولو كان السابق غارّاً للّاحق حق للمالك الرجوع إلى أيهما، فيرجع المُتلف إلى السابق؛ لأن المغرور يرجع إلى مَن غرّه.

إمكانية اشتغال الذمم بمال واحد

وقد أشكل(1) على إمكان ثبوت مالٍ واحدٍ في ذمم متعدّدة مع تعاقب الأيدي، فإن المظروف الواحد لا يمكن أن يكون في عدة ظروف في زمان واحد؛ ولأجل ذلك ذهب صاحب الجواهر(2) إلى اشتغال ذمة المتلف فقط دون غيره، وأمّا مراجعة المالك لغير المتلف فإنما هو صرف حكم شرعي لا لأجل اشتغال ذمتهم، ولا تبرأ ذمة المتلف برجوع المالك إلى غيره، بل كانت مشغولة للمغصوب منه فتشتغل لمن رجع المالك إليه.

وفيه تأمل: أولاً: لا استحالة في ذلك، فليس الأمر تكوينياً حتى يؤوّل إلى اجتماع النقيضين، بأن يكون الشيء موجوداً في مكان ومعدوماً فيه لأجل

ص: 71


1- جواهر الكلام 37: 34.
2- جواهر الكلام 37: 34.

وجوده في مكان آخر، بل الأمر اعتباري وهو خفيفالمؤونة، حيث إنه ليس ظرفاً واقعياً.

وثانياً: على فرض استحالة الإشكال العقلي حتى في الاعتباريات، يمكن القول باشتغال الذمم على سبيل البدل، فلا وجه للقول باشتغال ذمة المتلف فقط استناداً إلى «مَن اتلف مال الغير فهو له ضامن» حيث لا ينحصر الدليل فيه، فإن «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» تشمل الجميع.

نعم، أشكل في جامع المدارك(1) بأنه لم يحرز كون البدل المعطى بدل التالف، بل قد يكون غرامة، فلا يملك المعطي التالف، فلا وجه للرجوع إلى المتلف، ومع هذا الاحتمال يشكل رجوع السابق إلى اللاحق لولا الإجماع.

لكن ظاهر أدلة الضمان البدلية لا الغرامة.

المسألة الثالثة: أجرة البدل

لو كان يتأخّر وصول العين مع وجودها(2)، حق للمالك مطالبة البدل من كل واحدٍ منهم، إلى أن تصل العين بيده، ولباذل البدل أجرة بدله، ويكون استقرار الأجرة على مَن بيده العين؛ لاستقرار الضمان عيناً أو بدلاً عليه، فمع عدم أدائهما يجب عليه الأجرة.

وهل يحق لمعطي البدل تقسيم الأجرة على الجميع؟ الظاهر العدم؛لأنهم لم يتلفوا المنفعة الفعلية للعين، وإنما أتلفها الأخير، فلا وجه لضمانهم، إلّا أن يقال بأنهم السبب في تلف المنفعة فعليهم الأجرة، ويستقر

ص: 72


1- جامع المدارك 5: 196.
2- كما لو كان مَن بيده العين غائباً.

على الأخير.

هذا إذا لم نقل بملكيته للبدل؛ إذ لو ملك البدل لم يكن معنى لمطالبة دافع البدل الأجرة من الآخرين؛ لأنه قد خرج من ملكه فلا وجه لملكيته للمنفعة ليطالب بأجرتها، فتأمل.

المسألة الرابعة: ضمان النماء التالف

لو كان للعين نماء لا بفعل الغاصب، ثم تلف، ضمن؛ لأنه ملك للمغصوب منه، كما سيأتي تفصيله.

وهل يحق للمالك الرجوع إلى كل واحدٍ منهم حتى مع عدم تولد النماء في يده؟ احتمالان(1):

الأول: العدم؛ لأن اليد السابقة لم تترتب على النماء فلا وجه لضمانها.

الثاني: الضمان بمقتضى السببية، فلولا غصب الأصل بيد الأول لم يغصب النماء بيد الأخير.

وقد استدل بعض الفقهاء(2) بالأولوية، فمن يضمن العين يضمن المنفعة بطريق أولى.لكنه ضعيف، فلا أولوية في البين، فإنه إنما ضمن الأصل لترتب يده عليه، وأمّا المنفعة فلم تكن بيده حتى يضمنها.

ص: 73


1- جامع المقاصد 6: 273.
2- جامع المقاصد 6: 273.

الفصل الثالث: في موجبات الضمان

اشارة

فمن موجبات الضمان: المباشرة في التلف، والتسبيب فيه، وإثبات اليد العادية، والقبض بالعقد الفاسد أو بالإجارة الفاسدة أو السوم، ومحل الكلام هنا الأولين.

السبب الأول: المباشرة في الإتلاف

فلو أتلف مال الغير من دون مجوّز شرعي عمداً أو سهواً أو غفلة ضمن، ولا فرق في ذلك بين إتلاف العين والمنفعة.

ويدل عليه الكتاب كقوله تعالى: {فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡۚ}(1)، فإن المتلف معتدٍ، ولا يشترط في الاعتداء القصد، فإن للقصد وعدمه المدخلية في الحرمة وعدمها لا في الضمان، وقوله عز وجل: {وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ}(2)، وقوله سبحانه: {وَمَنۡ عَاقَبَ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبَ بِهِۦ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيۡهِ}(3).

كما أن الروايات(4) المختلفة المتواترة تدل على ضمان المتلف وإن لميكن غاصباً، قال في المسالك(5): الغصب وإن أوجب الضمان لكن أسباب

ص: 74


1- سورة البقرة، الآية: 194.
2- سورة الشورى، الآية: 40.
3- سورة الحج، الآية: 60.
4- المؤتلف من المختلف 2: 461؛ وسائل الشيعة 27: 327.
5- مسالك الأفهام 12: 162.

الضمان لا ينحصر فيه.

مضافاً إلى الإجماع - كما في الجواهر(1)- بل يمكن دعوى الضرورة على ذلك.

ويدخل في المباشرة الأفعال التوليدية، كالذبح بالسكين والإحراق بالنار، فهو من المباشرة لا التسبيب، وإن كان السكين والنار واسطة، فإنه وإن كان هنالك فرق بينهما وبين الإتلاف باليد بالدقة العقلية لكن لا فرق من الناحية العرفية، فكلها من المباشرة. وستأتي ضابطة التسبيب ويتضح عدم شمولها لذلك.

السبب الثاني: التسبيب في الإتلاف

اشارة

فلو صار سبباً لتلف مال الغير أو منفعته ضمن، كما لو حفر بئراً فسقط فيه، قال في الشرائع: «الثاني: التسبيب، وهو كل فعل يحصل التلف بسببه، كحفر البئر في غير الملك، وكطرح المعاثر في المسالك»(2).

وفيه بحوث:

البحث الأول: دليل ضمان السبب

وتدل على ذلك روايات متواترة في أبواب مختلفة يستنبط منها قاعدةكلية، وهي ضمان كل مَن سبّب تلف مال الغير، وهي طوائف:

الطائفة الأولى(3): لو حفر بئراً في غير ملكه، فسقط فيه إنسان أو حيوان

ص: 75


1- جواهر الكلام 37: 46.
2- شرائع الإسلام 4: 763.
3- الكافي 7: 349؛ وسائل الشيعة 29: 242، موثقة سماعة قال: «سألته عن الرجل يحفر البئر في داره، أو في أرضه، فقال: أما ما حفر في ملكه فليس عليه ضمان، وأما ما حفر في الطريق أو في غير ما يملكه فهو ضامن لما يسقط فيه».

فجرح أو مات، ضمن، وتفصيل الكلام فيه في باب الديات.

الطائفة الثانية(1): في ما يتلف بسبب الدابة، فلو كان صاحبها مقصراً ضمن، وإلّا فلا لعدم التسبيب.

الطائفة الثالثة(2): في البعير البخاتي الهائج، حيث قتل شخصاً فجاء أخ المقتول فقتله، فضمن(علیه السلام) صاحب البعير الدية، وأخ المقتول قيمة البعير.نعم، وردت رواية(3) أنه لا ضمان في المرة الأولى ولكن يضمن في المرة الثانية، فالتسبيب يختلف بين المرة الأولى والثانية.

الطائفة الرابعة(4): تدليس ولي المرأة على الخاطب، حيث يضمن المدلس المهر إن كان قد دخل بها؛ لأنه سبب الضرر.

ص: 76


1- الكافي 7: 351؛ وسائل الشيعة 29: 247، خبر العلاء بن الفضيل، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «أنه سئل عن رجل يسير على طريق من طرق المسلمين على دابته فتصيب برجلها، فقال: ليس عليه ما أصابت برجلها وعليه ما أصابت بيدها، وإذا وقفت فعليه ما أصابت بيدها ورجلها، وإن كان يسوقها فعليه ما أصابت بيدها ورجلها أيضاً».
2- الكافي 7: 351؛ وسائل الشيعة 29: 252، صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «... وسئل عن بُختي اغتلم فخرج من الدار فقتل رجلاً، فجاء أخو الرجل فضرب الفحل بالسيف فعقره، فقال: صاحب البختي ضامن للدية ويقبض ثمن بختيه، وعن الرجل ينفر بالرجل فيعقره وتعقر دابته رجل آخر فقال: هو ضامن لما كان من شيء».
3- الكافي 7: 353؛ وسائل الشيعة 29: 251، خبر مسمع، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «أن أمير المؤمنين(علیه السلام) كان إذا صال الفحل أول مرة لم يضمّن صاحبه، فإذا ثنّى ضمّن صاحبه».
4- الكافي 5: 406؛ وسائل الشيعة 21: 220-221، صحيحة محمد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّه(علیه السلام) عن الرجل يخطب إلى الرجل ابنته من مَهيرة، فأتاه بغيرها؟ قال: تزف إليه التي سميت له بمهر آخر من عند أبيها، والمهر الأول للتي دخل بها».

الطائفة الخامسة (1): ما ورد في من أخرج شيئاً من ملكه في الطريق العام، كعظم أو مسمار فجرح به المارة، فهو ضامن.

الطائفة السادسة(2): في ضمان شاهد الزور كذباً، بل حتى غير الزور، كشاهدين يشهدان على السارق وبعد قطع يده أقرا بالخطأ، حيثغرّمهما الإمام(علیه السلام) دية قطع اليد.

وشهود شهدوا بزنا المحصنة(3)، فجرى عليها الحد، ثم رجع أحدهم، فإن أقر بالكذب اقتص منه؛ لأنه سبب القتل، وإن أقر بالخطأ دفع ربع الدية.

وشاهدان شهدا بموت الزوج أو بتطليقه(4)، وبعد انقضاء العدة تزوجت، ثم حضر الزوج الأول وأقرّا بعدم الطلاق، حيث يضمنان مهر المثل للزوج

ص: 77


1- الكافي 7: 350؛ وسائل الشيعة 29: 245، معتبرة السكوني، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «قال رسول اللّه|: من أخرج ميزاباً أو كنيفاً أو أوتد وتداً أو أوثق دابةً أو حفر بئراً في طريق المسلمين فأصاب شيئاً فعطب فهو له ضامن».
2- الكافي 7: 384؛ وسائل الشيعة 27: 332، صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر(علیه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين(علیه السلام) في رجل شهد عليه رجلان بأنه سرق، فقطع يده، حتى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر فقالا: هذا السارق وليس الذي قطعت يده إنما شبّهنا ذلك بهذا! فقضى عليهما أن غرّمهما نصف الدية، ولم يجز شهادتهما على الآخر».
3- الكافي 7: 384؛ وسائل الشيعة 27: 329، خبر ابن محبوب عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزّنا، ثم رجع أحدهم بعدما قتل الرجل، قال: إن قال الرابع: أوهمت، ضرب الحد وأغرم الدية، وإن قال: تعمدت، قتل».
4- الكافي 7: 384؛ وسائل الشيعة 27: 330، موثقة إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «في شاهدين شهدا على امرأة بأن زوجها طلقها فتزوجت، ثم جاء زوجها فأنكر الطلاق، قال: يضربان الحد، ويضمنان الصّداق للزوج...» الحديث.

الثاني.

وغيرها من الأخبار.

ويستنبط من مجموعها عدم خصوصية الموارد، بل المسبب لذلك ضامن. هذا بالإضافة إلى الإجماع وربما الضرورة في بعض المصاديق.

البحث الثاني: ضابطة التسبيب

وأمّا معنى التسبيب فقد قال المحقق الخوانساري: «كل فعل يحصلبسببه التلف»(1)، أي: الفعل الذي يؤدّي إلى هذه النتيجة، سواء كان وجوديّاً كحفر البئر، أم عدميّاً كعدم حفظ الدابة.

وفسره العلامة ب- : «ما يحصل التلف عنده لكن بعلة أخرى»(2)، بشرط أن تكون العلة متوقعة(3)، وأمّا الصدفة فلا يعلم صدق التسبيب عليه.

وهذه العبارة أدق من الأولى؛ لأن الأولى تشمل الأفعال التوليدية، كالإلقاء في النار مع أنها ليست من التسبيب، بخلاف الثاني فإن الإلقاء في النار سبب للتلف لا أنه سبب لعلة أخرى.

وذكر الشهيد الأول في الدروس والعلامة في الإرشاد أن التسبيب: «إيجاد ملزوم العلة»(4)، وهي أكثر دقة واختصارا من التعريفين السابقين، فإن الإنسان لا يصنع العلة، فحفر البئر ليس علة القتل، بل العلة السقوط، والمسبب هو الذي أوجد ملزوم علة القتل لا العلة، بخلاف الأفعال

ص: 78


1- جامع المدارك 5: 204.
2- قواعد الأحكام 2: 221.
3- قواعد الأحكام 2: 221.
4- إرشاد الأذهان 1: 444؛ الدروس الشرعيّة 3: 107.

التوليدية فإن الإلقاء في النار علة التلف، وإن كانت النار هي المحرقة.

وقد أشكل صاحب الجواهر(1) بأن السببية لم ترد في الروايات فلا وجهلبحث مفادها.

والجواب عنه: بأنه عنوان جامع مصطاد من عشرات الروايات في أبواب مختلفة، فإنه وإن لم يدرِ الحكم مدار اللفظ لكنه مرآة للحكم الكلي وللموارد المشابهة، فلا بد من ملاحظة الروايات أو الكلي المستفاد منها، ليُرى انطباقها على المورد المبحوث عنه.

والحاصل: إنه لا مدخلية لكلمة التسبيب لكنها عنوان مشير، ولذلك نظائر كثيرة في الفقه.

وملخص الكلام: إن السبب الثاني للضمان هو التسبيب للتلف، ومفاده استناد التلف إلى الشخص من دون أن يكون فعلاً مباشراً أو فعلاً توليدياً.

ولو شك في كون الفعل تسبيباً أو شك في الاستناد فالأصل عدم الضمان للبراءة، ولو كان هنالك مورد أطلق عليه السبب عرفاً لكن لم يندرج في الأدلة لم يكن ضمان، إلّا مع ورود نص خاص، كما لو اجتمعوا على المقتول فقتله أحدهم وحرس العملية آخر، حيث حكم الشارع بفقأ عينه(2).ولو أعطاه مالاً ليذهب إلى ميدان الحرب ويجلب له شيئاً فقتل، فمع أنه

ص: 79


1- جواهر الكلام 37: 50.
2- الكافي 7: 288؛ وسائل الشيعة 29: 50، معتبرة السكوني، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «أن ثلاثة نفر رفعوا إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) واحد منهم أمسك رجلاً وأقبل آخر فقتله والآخر يراهم، فقضى في الرّؤية أن تُسمل عيناه، وفي الذي أمسك أن يسجن حتى يموت كما أمسكه، وقضى في الذي قتل أن يقتل».

قد يطلق عليه السبب عرفاً لكن لا ضمان عليه؛ لأنه فاعل مختار.

والحاصل: لو استند إليه القتل ضمن وإن لم يطلق عليه السبب، وبالعكس.

البحث الثالث: شروط ضمان السبب
اشارة

قد يستفاد من مجموع الأدلة أن للسبب الموجب للضمان شروطاً، فإيجاد ملزوم العلة وإن كان تسبيباً لكن ليس كل تسبيب موجباً للضمان، وهذه الشروط هي:

الشرط الأول(1): أن يكون في غير ملكه، فلو كان في ملك نفسه لم يكن ضامناً، كما لو حفر بئراً في بيته وسقط فيه الضيف غير المدعو، لم يكن ضامناً، حتى مَن جاز له الدخول كبيوت من تضمنته الآية(2)، ولا فرق في ذلك بين التصرف لأجل فائدة عقلائية أو للدواعي النفسانيةوتدل عليه الروايات(3)، وقد استدل له في جامع المدارك(4) بأن تصرف الملاك في أملاكهم مما رخص فيه الشارع، فكيف يشرع عليهم الضمان؟

ص: 80


1- كتاب الغصب، للرشتي: 31. جامع المدارك 5: 206.
2- سورة النور، الآية: 61: {لَّيۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجٞ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِيضِ حَرَجٞ وَلَا عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُواْ مِنۢ بُيُوتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ إِخۡوَٰنِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَعۡمَٰمِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ أَخۡوَٰلِكُمۡ أَوۡ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥٓ أَوۡ صَدِيقِكُمۡۚ لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُواْ جَمِيعًا أَوۡ أَشۡتَاتٗاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُيُوتٗا فَسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ تَحِيَّةٗ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةٗ طَيِّبَةٗۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ}.
3- الكافي 7: 349.
4- جامع المدارك 5: 206.

وبعبارة أخرى: ظاهر ترخيص الشارع له في عمله عدم تحمله للتوالي الفاسدة المترتبة عليه؛ للملازمة العرفية بين الإجازة وعدم التحمل، ومن التوالي الفاسدة الضمان.

وفيه نظر لجهتين:

الأولى: لا تلازم بين الحكم التكليفي والوضعي، والحكم بالضمان سارٍ في المباحات الأصلية، كما لو حفر بئراً في الصحراء، ومع ذلك هو ضامن، فمجرد ترخيص الشارع لا يوجب رفع الضمان، كما هو الحال بالنسبة إلى الطبيب المجاز، بل قد يجب عليه العلاج كما في الخطر المنحصر علاجه عنده، ومع ذلك لو أخطأ يكون ضامناً.

وكذلك في أكل المخمصة حيث رخص الشارع أكل مال الغير قهراً لإنقاذ نفسه ومع ذلك يضمن(1).

الثانية: هناك موارد أخرى - غير حفر البئر - قد أجازها الشارع ومع ذلك ضمنه، كنصب الميزاب(2) المؤدّي إلى جرح العابر.لكنه غير تام؛ لأن نصب الميزاب إنما هو في الطريق العام لا في ملك نفسه، فلا يصلح نقضاً للمقام.

والحاصل: إنه لا مدخلية للملك وغير الملك في الضمان وعدمه، فإطلاق الشرط الأول محل تأمل.

الشرط الثاني: أن لا يكون مباحاً شرعياً(3)، فلو كان كذلك لم يضمن إلّا

ص: 81


1- الدروس الشرعيّة 3: 77؛ جواهر الكلام 38: 168.
2- المقنع: 527؛ الخلاف 5: 290؛ مختلف الشيعة 9: 351.
3- كتاب الغصب، للرشتي: 31؛ جامع المدارك 5: 206.

على بعض الوجوه.

وفيه نظر؛ لأن المناط في التسبيب والضمان الاستناد، سواء كان عمله مباحاً أم لا، فلو حفر بئراً في صحراء كان عمله مباحاً ومع ذلك يضمن، فالمثال المذكور دال على أن الضمان لا يدور مدار الإباحة وعدمها.

وقد يقوم بعمل غير مباح لكن لا يستند إليه الإتلاف فلا وجه للضمان، كما لو غصب طعاماً ودعا إليه شخصاً فأكل منه فمات بسبب كثرة الأكل.

والحاصل: إن التسبيب هو سبب الضمان لا الإباحة وعدمها.

الشرط الثالث: أن لا يكون مقروناً بالغرض الصحيح العقلائي(1)، فلو كان مقروناً لم يضمن.

واستدل(2) لذلك بالأصل السالم عن معارضة الدليل الوارد، فإنالأصل عدم الضمان. هذا أولاً.

وثانياً: قاعدة الإحسان، فلا سبيل على المحسن، والغرض الصحيح العقلائي إحسان.

إن قلت: إن روايات الميزاب(3) تثبت الضمان مع أنها وضعت لغرض عقلائي صحيح.

قلت: إنها قضية خارجية تختص بتلك الأزمنة التي كان وضع الميزاب

ص: 82


1- كتاب الغصب، للرشتي: 31؛ جامع المدارك 5: 206.
2- كتاب الغصب، للرشتي: 31؛ جامع المدارك 5: 206.
3- الكافي 7: 350؛ وسائل الشيعة 29: 245، معتبرة السكوني، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «قال رسول اللّه|: من أخرج ميزاباً أو كنيفاً أو أوتد وتداً أو أوثق دابةً أو حفر بئراً في طريق المسلمين فأصاب شيئاً فعطب فهو له ضامن».

إيذاءً كثيراً للمارة لقصر الجدران، فكانت عدواناً عرفاً، بخلاف هذه الأزمنة.

وفيه نظر؛ وذلك لأن الأصل في الروايات القضية الحقيقية، بالإضافة إلى أن رواية تضمين النبي| صاحب الميزاب مروية عن الإمام الصادق(علیه السلام)، ولو كان الحكم خاصاً بزمنه| لأشار إليه الإمام(علیه السلام)، كما في نظائره، ومنها: ما ورد في كيفية ثوب الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) وأنها خاصة بذلك الزمن، وأن الإمام الصادق(علیه السلام) لا يلبس مثله خوف الاتهام، وسيأتي المهدي(علیه السلام) ويلبس مثله(1)، فالقول بكون روايات الميزاب خارجية محل نظرٍ، فيكونالشرط الثالث من اشتراط الضمان بعدم الغرض العقلائي محل تأمل. هذا أولاً.

وثانياً: عدم الضمان في روايات حفر البئر في ما لو كان في ملكه والضمان مع عدمه(2)، مع أن حفر البئر يكون لغرض عقلائي، سواء كان في الملك أم في غيره.

وثالثاً: إن الأصل غير مجدٍ بعد قيام الأدلة، والتي منها أدلة حفر البئر

ص: 83


1- الكافي 1: 411؛ وسائل الشيعة 5: 17، صحيحة حماد بن عثمان قال: «حضرت أبا عبد اللّه وقال له رجل: أصلحك اللّه ذكرت أن علي بن أبي طالب(علیه السلام) كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ونرى عليك اللباس الجديد، فقال له: إن علي بن أبي طالب(علیه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر عليه، ولو لبس مثل ذلك اليوم شهر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله، غير أن قائمنا أهل البيت^ إذا قام لبس ثياب علي(علیه السلام) وسار بسيرة علي(علیه السلام)».
2- الكافي 7: 349؛ وسائل الشيعة 29: 241، موثقة سماعة قال: «سألته عن الرجل يحفر البئر في داره أو في أرضه، فقال: أما ما حفر في ملكه فليس عليه ضمان، وأما ما حفر في الطريق أو في غير ما يملك فهو ضامن لما يسقط فيه».

والميزاب، فالروايات واردة على أصل عدم الضمان؛ لأنها تنفي موضوعه.

ورابعاً: تنقض قاعدة الإحسان بما لو حفر البئر في الطريق للنفع العام فهو محسن، ومع ذلك ضامن.

كما أن القاعدة لا ترتبط بما نحن فيه، فقد يكون له غرض صحيح عقلائي، كما لو حفر البئر في بيته لينتفع بها، فليس هذا مصداقاً للإحسانللآخرين. وفي كثير من موارد ثبوت الضمان يكون محسناً، وكذلك العكس، لكن حيث لا يستند إليه الفعل لم يضمن، بالإضافة إلى ما مرّ من أنها واردة في العقوبة، فإن المحسن لا عقوبة عليه، فلا ترتبط بالضمان؛ ولذا يكون الطبيب ضامناً(1) حتى وإن كان محسناً، وكذا الظئر(2) حتى المتبرعة إحساناً.

الشرط الرابع: أن يعد في العرف والعادة عدواناً(3)، وإن لم يكن حراماً شرعاً، فلو صار سبباً لتلف مال أو شخص، فإن كان عدواناً ولو عرفياً ضمن، وإلّا فلا، ومنه ما لو أوقف دابته في الطريق العام فأتلفت مال الغير، فإن كان طريقاً ضيّقاً مزدحماً كان عدواناً عرفاً، وإلّا فلا.

وفيه نظر: أولاً: لا دليل على الشرط المذكور، بل الدليل قائم على خلافه، كحفر البئر في الصحراء، حيث لم يكن عدواناً، بل إحساناً، وكرواية النخس(4) في قضاء علي(علیه السلام)، حيث ضمن المركوبة نصف الدية

ص: 84


1- شرائع الإسلام 4: 1019؛ تذكرة الفقهاء 2: 319.
2- السرائر 3: 365.
3- كتاب الغصب، للرشتي: 31؛ جامع المدارك 5: 207.
4- من لا يحضره الفقيه 4: 169؛ وسائل الشيعة 29: 240، خبر الأصبغ بن نباتة قال: «قضى أمير المؤمنين(علیه السلام) في جارية ركبت جارية فنخستها جارية أخرى، فقمصت المركوبة فصرعت الرّاكبة فماتت، فقضى بديتها نصفين بين النّاخسة والمنخوسة».

أو ثلثها(1) حسب اختلاف الروايتين مع عدم عدوانها ولاتقصيرها، ولولا الرواية لكان مقتضى القاعدة ثبوت كل الدية على الناخسة؛ لأنها السبب والفعل غير منسوب إلى المركوبة.

وثانياً: لا وجه للتفكيك بين العدوان الشرعي والعادي، فإن الموضوع يؤخذ من العرف، وأمّا الشارع فلا يتدخل فيه إلّا نادراً، وليس منه العدوان.

وثالثاً: ما ذكر من مثال الدابة فلم يرد في الرواية كون الطريق مزدحماً أو أنه أوقف الدابة فيها، بل الوارد في الدابة التي اغتلمت(2) فهاجت فأتلفت مال الغير فالمالك ضامن، سواء أوقفها في الطريق المزدحم أم لا.

والحاصل: إن الشروط الأربعة محل نظرٍ، فلا يدور الضمان وعدمه مدارها، بل المناط في الضمان نسبة إتلاف مال الغير إليه.

الشرط الخامس: قد اشترط العلامة(3) وجمع من الفقهاء في ثبوت الضمان بالسببية توقع العلة أو غالبية التلف(4)، فلو فعل شيئاً لم يتوقع منه

ص: 85


1- الإرشاد: 105؛ وسائل الشيعة 29: 240، وفيه: «أن علياً(علیه السلام) رفع إليه باليمن خبر جارية حملت جارية على عاتقها عبثاً ولعباً، فجاءت جارية أخرى فقرصت الحاملة - فقفرت لقرصها - فوقعت الراكبة فاندقت عنقها فهلكت، فقضى علي(علیه السلام) على القارصة بثلث الدية، وعلى القامصة بثلثها، وأسقط الثلث الباقي لركوب الواقصة عبثاً القامصة، فبلغ النبي| فأمضاه».
2- الكافي 7: 351.
3- قواعد الأحكام 2: 221، وفيه: «الثاني: التسبيب: وهو إيجاد ما يحصل التلف عنده، لكن بعلة أخرى إذا كان السبب مما يقصد لتوقع تلك العلة: كالحافر، وفاتح رأس الظرف، والمكره على الإتلاف».
4- تحرير الأحكام 4: 519؛ الأنوار اللوامع 13: 89؛ مفتاح الكرامة 18: 16؛ جواهر الكلام 37: 49.

التلف، أو كان التلف منه نادراً فالسبب ليس ضامناً، فمثلحفر البئر يتوقع فيه السقوط، لكن لو جعل الحواجز دون البئر مع كتابة التحذير مثلاً فلا يتوقع ذلك، فيثبت الضمان في الأول دون الثاني.

ووجه الشرط المذكور أن التسبيب أمر عرفي، فلا يصدق في النادر أو غير المتوقع.

لكنه محل تأمل؛ لما مرّ من الحكم لا يدور مدار كلمة السببية؛ لعدم ورودها في الأدلة، بل الملاك شمول الأدلة للمورد، فقد قام الدليل على الضمان في حفر البئر في غير ملكه، سواء توقع السقوط فيها أم لا، فيشمل ما إذا حفر البئر في طريق غير سالك لم يتوقع فيه السقوط.

ولو دعا شخصاً فجرحه كلبه الأهلي غير المتوقع منه أصلاً كان ضامناً(1)، مع أنه ليس سبباً عرفاً لشمول الدليل له.

إلّا أن يقال بانصراف الروايات عن الموارد غير المتوقعة.

والحاصل: إن كان دليل الشرط المذكور السببية ففيه نظر، وإن كان الانصراف فلا بأس به.

الشرط السادس: عدم قصد الإحسان.

مثلاً: لو قصد الإحسان في حفر البئر فقد يتمسك بإطلاق أدلة الضمان، وقد يتمسك بقاعدة الإحسان، وقد يُفصل بين التقصير وعدمه.

وقد يشكل على الاستدلال بقاعدة الإحسان بأن المنفي العقوبة، وهوغير الضمان أو لا أقل من الإجمال، فلا يمكن الاستدلال بها إلّا على الجامع - إن كان - وهو غير مجمل.

ص: 86


1- المبسوط 8: 80؛ تحرير الأحكام 5: 546.

لكن يرد عليه ما مرّ من أن (سبيل) نكرة في سياق النفي فتفيد العموم فلا إجمال، ولا وجه للتخصيص بالعقوبة، إلّا في ما ثبت الدليل فيه، ولا مخصص في المقام.

ومع ذلك الأرجح الثالث؛ لأن المقصّر ليس محسناً، لا أقل من انصراف {مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ}(1) عن المقصّر، فإنه وإن كان أصل عمله إحساناً لكن حيث قصّر في الأداء خرج عن الإحسان.

أو يقال: الحفر إحسان وعدم جعل المانع والتحذير خلاف الإحسان، فيكون له مدخلية في السقوط الموجب للضمان.

ويشهد لذلك ما ذكره العلامة(2) في ما لو ألقى قشر موز في الطريق فسقط بسببه المار وكسرت يده مثلاً، حيث فصّل بين ما إذا رآه فلا ضمان، وبين ما لو لم يره فعليه الضمان.

ووجهه بأن الفاعل في الصورة الثانية مقصّر فيصدق عليه التسبيب بالضرر بخلاف الصورة الأولى، فإنه وإن كان إطلاق كلامه محل تأمل، فقد يرى القشرة لكن لم يقصّر، لكن الشاهد في التفصيل بين المقصر وغيره.فالأصح في المقام أن المحسن لحفر البئر لو لم يكن مقصّراً فلا ضمان عليه؛ لعدم السببية، ولو قصّر كان ضامناً، وعليه بناء العقلاء وسيرتهم الخارجية.

والحاصل: إن الآية الكريمة منصرفة عن مورد التقصير.

ص: 87


1- سورة التوبة، الآية: 91.
2- قواعد الأحكام 3: 656.

ثم إن بعض الفقهاء(1) ذكر أن النسبة بين أدلة الضمان وقاعدة الإحسان هي الحكومة؛ لأن الثاني ناظر إلى الأول، فدليل الضمان يثبته في موارده، ومن مصاديق نفي السبيل الضمان فتكون القاعدة حاكمة.

وقد يقال: إنّ الحكومة ليست مجرد نظر، بل لا بد من التضييق أو التوسعة تعبداً في موضوع دليل المحكوم. فدليل الضمان يحكم بضمان الجاني، وقاعدة الإحسان لا تنفي الجناية تعبداً لتكون حاكمة، بل تنفي الحكم عنه فتكون مخصصة.

وفيه تأمل؛ لأن الحكومة أقسام، فمنها ما يرتبط بتضييق الموضوع أو توسعته، ومنها ما يرتبط بمسألة دليل الحاكم للمحكوم ولو لم يكن نظر، والتفصيل في الأصول.

وقد يقال: إن النسبة بين الدليلين التعارض على نحو العموم من وجه، فقد تكون جناية من دون إحسان، وقد يكون إحسان من دون جناية وقد يجتمعان، فيتعارضان والترجح مع القاعدة؛ لأنها من الكتاب قال تعالى:{مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ}(2)، وأدلة الضمان روايات.

إن قلت: من أدلة الضمان آيات كقوله تعالى: {وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ}(3)، وقوله سبحانه: {فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ}(4).

قلت: إنها منصرفة عن مورد عدم القصد، فإنه وإن كانت سيئة فعلية لكن

ص: 88


1- كتاب الغصب، للرشتي: 32 و 34.
2- سورة التوبة، الآية: 91.
3- سورة الشورى، الآية: 40.
4- سورة البقرة، الآية: 194.

ظاهر الآية اشتراط قصد الفاعل أيضاً، فلا يطلق عليه السيئة والعدوان ما لم يصاحبه قبح فاعلي.

وإن أبيت عن الانصراف فيتساقطان ويكون المرجع الأدلة العامة، أي: البراءة، فتأمل.

فرع: في حفر الخندق لمنع اللصوص

لو حفر خندقاً لمنع اللص من الوصول إلى داره، فسقط فيه اللص فكسرت يده أو مات، ففي جواز فعله وضمانه احتمالات ثلاثة:

الأول: الجواز(1) لقصده الدفاع عن نفسه وعرضه وماله، وقد أقدم اللص على فعل الحرام، فيكون دمه هدراً. فعن البزنطي، عن بعض أصحابه، عن الصادق(علیه السلام): «إذا قدرت على اللص فابدره وأنا شريكك في دمه»(2)، وإطلاقه يشمل المقام، والكلام في سنده مبني على اعتبارمراسيل أصحاب الإجماع الذين لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة.

الثاني(3): كما أن السرقة محرّمة كذلك إزهاق النفس المحترمة، ولا يعلم جواز هذا لمنع ذاك.

الثالث: التفصيل بين الحقير والخطير.

والأرجح حسب مقتضى الصناعة الأول لرواية البزنطي.

لكن من الثابت بالآيات والروايات، بل من الضروريات وجوب الحفاظ على النفس، فلا يكون مجرد قصد السرقة مجوزاً لذلك، إلّا أن يقال: إن

ص: 89


1- تحرير الأحكام 5: 427.
2- الكافي 7: 296؛ وسائل الشيعة 29: 239.
3- الفقه 78: 109.

الوجوب خاص بالنفس المحترمة، وليس السارق مصداقاً لها، فالمسألة لا تخلو عن إشكال في ما يكون الشيء حقيراً.

والأشكل منه ما لو سقط فيه غير اللص ممن كان عمله حلالاً كالمار، أو حراماً كمن أراد دخول الدار لأجل صيد الطير، فوجه الضمان أنه تسبيب، ووجه عدمه ملاك حفر البئر في البيت وهو الأقرب، والظاهر أن عليه بناء العقلاء.

البحث الرابع: اجتماع السبب مع المباشر
اشارة

لو اجتمع السبب والمباشر للإتلاف، كما لو حفر بئراً في غير ملكه وجاء آخر وألقى فيه شخصاً، فالسبب هو الحافر، والمباشر هو الدافع، والكلام في مقامات:

المقام الأول: في الضامن

فالمشهور(1) أن المباشر ضامن دون السبب إلّا أن يكون السبب أقوى.

واستدل له بأدلة، منها:

الدليل الأول: الإجماع المدعى(2)، بل أرسل إرسال المسلّمات(3).

الدليل الثاني: ما ذكره المحقق الأردبيلي(4)، وحاصله: إن الفعل لا ينسب إلى المقدّمات، بل يسند إلى المباشر دون السبب عقلاً ونقلاً.

ص: 90


1- انظر: شرائع الإسلام 4: 763؛ تلخيص الخلاف 3: 141؛ تذكرة الفقهاء 2: 375؛ كفاية الأحكام 2: 635؛ جامع المدارك 5: 207.
2- رياض المسائل 12: 266 و 14: 236؛ كشف اللثام 11: 279؛ جواهر الكلام 37: 54.
3- في الغصب والقصاص والديات، جواهر الكلام 37: 54.
4- مجمع الفائدة والبرهان 10: 501.

أمّا عقلاً: فلأنه لو كانت للنتيجة مقدمات متعددة فالعلة هي المقدمة الأخيرة، وأمّا المقدمات السابقة فهي معدّة، فلو دخل الحرم كانت الخطوة الأخيرة هي العلة، وكذا لو قتل شخصاً فلا ينسب القتل إلى صانع السلاح ومشتريه وما أشبه ذلك، فالقاتل هو المباشر دون المهيئ لتلك العلل البعيدة.

وأمّا نقلاً: فلأن الأحكام الشرعية تابعة للعناوين، فتترتب على مَن أتى بالمقدمة الأخيرة وهو المباشر.

الدليل الثالث: روايات الزبية(1)، وهي مؤيّدة للمدعى حيث حكم(علیه السلام)بالدية للواقعين فيها، ولم يجعل على مَن حفر البئر شيئاً مع أنه السبب، فيستفاد منها قاعدة كلية وهي عدم الضمان على السبب لو اجتمع معه المباشر.

وقد أشكل صاحب الرياض(2) بأنه لولا الإجماع لكان مقتضى القاعدة ضمان السبب أيضاً، فإن أدلة الضمان كما تشمل المباشر تشمل السبب، وأقوائية المباشر لا تخصصها، ولا تعارض فيثبت الضمان عليهما معاً.

ص: 91


1- الكافي 7: 286؛ وسائل الشيعة 29: 236، خبر مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «إن قوماً احتفروا زبية للأسد باليمن، فوقع فيها الأسد، فازدحم الناس عليها ينظرون إلى الأسد، فوقع رجل فتعلق بآخر، فتعلق الآخر بآخر، والآخر بآخر، فجرحهم الأسد، فمنهم من مات من جراحة الأسد، ومنهم من أخرج فمات، فتشاجروا في ذلك حتى أخذوا السيوف، فقال أمير المؤمنين(علیه السلام): هلموا أقضِ بينكم، فقضى أن للأول ربع الدية، والثاني ثلث الدية، والثالث نصف الدية، والرابع الدية كاملة، وجعل ذلك على قبائل الذين ازدحموا، فرضي بعض القوم وسخط بعض، فرفع ذلك إلى النبي| وأخبر بقضاء أمير المؤمنين(علیه السلام)، فأجازه».
2- رياض المسائل 12: 226 و 227.

وقد ارتضاه السيد الوالد في الفقه(1) لا على إطلاقه، حيث قيّده بأمرين:

الأول: أن يكونا فاعلين مختارين، كأن يحفر أحدهما البئر والآخريضع الحجر في الطريق ليتعثر المار فيسقط فيها، بحيث لو لم يكن الحجر لم يسقط.

الثاني: أن يطلق عليهما السبب عرفاً، وإلّا فلا ضمان، فلو حفر بئراً في الصحراء لا بقصد القتل، بل للإحياء - مثلاً - فجاء الثاني ووضع الحجر بقصد القتل، لم يكن الأول سبباً، بخلاف ما لو توافقا على القتل.

والحاصل: إنه قد تكون للنية مدخلية في إطلاق العنوان عرفاً.

الدليل الرابع: وقد أسند دعوى ضمان السبب بوجه آخر، وهو ثبوت العقاب عليه في مختلف أبواب القصاص والديات مع وجود المباشر، كما لو أصدر أمر القتل(2)، أو أخذ المقتول فقتله القاتل حيث يحبس مؤبّداً(3)،

ص: 92


1- الفقه 78: 113 و 115، وفيه: «أقول: لا إشكال في مثل الإحراق بالشمس والإلقاء في الماء والمسبعة وما أشبه، وإنما الإشكال في فاعلين مختارين أحدهما مقدم على الآخر، كما في حافر البئر ودافع غيره إنساناً فيها... نعم، لا يبعد الحكم بما ذكره الرياض في ما إذا كان كلاهما عرفاً سبباً، كما إذا حفر أحدهما بئراً والآخر ألقى إنساناً في البئر، وقد فعلا ذلك بقصد إهلاك ذلك الإنسان...».
2- الكافي 7: 285؛ وسائل الشيعة 29: 45، صحيحة زرارة، عن أبي جعفر(علیه السلام): «في رجل أمر رجلاً بقتل رجل فقتله؟ فقال: يقتل به الذي قتله ويحبس الآمر بقتله في السجن حتى يموت».
3- الكافي 7: 287؛ وسائل الشيعة 29: 49، صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين(علیه السلام) في رجلين أمسك أحدهما وقتل الآخر قال: يقتل القاتل ويحبس الآخر حتى يموت غمّاً كما كان حبسه عليه حتى مات غمّاً».

ولو حرس عملية القتل فقأت عينه(1).ففي هذه الأمثلة يقتص من القاتل، أمّا السبب فعليه العقوبة حتى لو كان ضعيفاً.

ولكنه محل تأمل؛ فإن الكلام في الضمان لا في الحكم التكليفي، ولا كلام في إطلاق السبب عليه، بل اشتراكه في القتل المترتب عليه تلك العقوبة.

والحاصل: إنه لا بأس بالوجه الأول لولا الإجماع.

المقام الثاني: في كيفية الضمان

وبناءً على الاشتراك يأتي الكلام في كيفية الضمان، كما ذكره صاحب الرياض(2).

فيحتمل التقسيم بينهما كل على قدر نسبته في الجريمة، ويحتمل ثبوت الضمان على كل منهما كاملاً كما في تعاقب الأيدي، فيحق للمجني عليه مطالبة المباشر، كما يحق له مطالبة السبب، لكن استقرار الضمان على المباشر.

لكن الأرجح الأول؛ لأنه من قبيل الأسباب الخارجية المجتمعة على مسبب واحد، فإن العلل المتعددة تصبح جزء العلة، فيقسم الحكم عليها، كما هو الحال في القصاص والديات.

ص: 93


1- الكافي 7: 288؛ وسائل الشيعة 29: 50، معتبرة السكوني، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «أن ثلاثة نفر رفعوا إلى أمير المؤمنين(علیه السلام) واحد منهم أمسك رجلاً، وأقبل آخر فقتله والآخر يراهم، فقضى في الرؤية أن تسمل عيناه، وفي الذي أمسك أن يسجن حتى يموت كما أمسكه، وقضى في الذي قتل أن يقتل».
2- رياض المسائل 12: 266.

بخلاف الغصب حيث إن المتلِف هو الأخير بخلاف من سبقه،فإنه ليس متلفاً ولا سبباً للتلف، وإنما ترتبت يده على المغصوب، فحكم الشارع بجواز الرجوع إليه، واستقرار الضمان على الأخير.

فالأقرب - بناءً على قول غير المشهور - ضمان السبب والمباشر بالتقسيم لا بالتعاقب.

المقام الثالث: استثناء المباشر الضعيف

واستثنى في التذكرة(1) ما لو كان المباشر ضعيفاً، وذكر له صورتين:

الأولى: الإكراه كما لو هدده بالقتل لو لم يتلف مال زيد، فالمكرِه هو الضامن، وذلك لنسبة الإتلاف إليه عرفاً.

الثانية: الغرور، فلو غصب طعاماً وناوله لشخص يجهل الغصب فأكله كان الغاصب ضامناً لا الآكل، فإنه الغارّ وينسب إليه الإتلاف عرفاً.

ويؤيده: روايات شهادة الزور في القتل والزنا والسرقة(2) المؤدّي إلى إجراء الحد، حيث لا يكون الحاكم ولا منفذ الحكم والمشترك في الرجم ضامناً مع كونه مباشراً، والضمان على السبب وهو الشاهد.

وقد مثل العلامة(3) لذلك بما لو ذبح شاة الغير فأطعمه المالك جاهلاً بكونه ماله، ضمنه دون المالك مع أنه الآكل؛ وذلك للغرور.

فإن قلت: إنه سلّطه على مال نفسه لا مال الغير.قلت: فإنه وإن سلّطه عليه وصيّره بين يديه إلّا أنه باعتقاد أنه ملك الغير،

ص: 94


1- تذكرة الفقهاء 2: 374.
2- وسائل الشيعة 27: 328 و 27: 332.
3- تحرير الأحكام 4: 537؛ تذكرة الفقهاء 2: 378.

وأنه مسلّط على إتلافه بغير عوض، فليس تسليمه تسليماً تاماً يتصرف فيه تصرف المُلّاك؛ فلذلك ضعف مباشرته بالغرور.

لكنه بحاجة إلى مزيد تأمل؛ حيث يمكن القول بالتفصيل بينما إذا أراد المالك أكل شاته فسبقه الغير فذبحها وأطعمه جاهلاً بكونها شاته فلا ضمان، وبين ما لو لم يرد ذلك.

إن قلت: إن استقرار الضمان على المتلِف فيكون المالك هو الضامن.

قلت: إن دليل المغرور يرجع إلى مَن غرّه(1) يثبت الضمان كاملاً على السبب، ولا يضره ضعف السند لعمل المشهور به فيكون معتبراً.

وقد ذهب المحقق الرشتي إلى أن الضمان يتعلق بكلا الطرفين مع الغرور والإكراه، منتهى الأمر استقراره على الغار والمكرِه، كتعاقب الأيدي في الغصب، واستثناء المغرور والمكرَه من الضمان في ظاهر كلمات الفقهاء محمول على الاستثناء المنقطع، فقولهم: المتلف ضامن إلّا إذا كان مكرَهاً أو مغروراً ليس استثناءً من الحكم بالضمان، وإنما لبيان حكم آخر، وهو عدم استقرار الضمان عليهما. قال: «استثناء المغرور والمكره من تقديم المباشر استثناء منقطع راجع إلى نفي استقرار الضمان عليهما لا إلى نفسالضمان»(2).

وفيه نظر: فإن الاستثناء المنقطع خلاف الأصل، بل إن الإتيان بالاستثناء المنقطع من دون وجهٍ قبيح، بل يؤتى به لجهة كما لو كان حكمهما واحداً، كقوله تعالى: {فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ ٭ إِلَّآ إِبۡلِيسَ}(3)، فمع أنه ليس

ص: 95


1- رياض المسائل 8: 415؛ مستند الشيعة 14: 296؛ جواهر الكلام 37: 145.
2- كتاب الغصب: 37.
3- سورة ص، الآية: 73-74.

منهم إلّا أن الحكم واحد، وكان مأموراً فيصح الاستثناء المنقطع، وكذا القول في: جاء القوم إلّا حماراً، حيث كان من المتوقع مجيء القوم بدوابهم في الأزمنة السابقة، فحيث جاءوا من دونها صح الإتيان بالاستثناء المنقطع، لكن اليوم لا يتوقع مثله فيقبح ذلك.

وما نحن فيه الظاهر كون الاستثناء متصلاً؛ لتحقق الرابطة بينهما؛ لقرب الضمان مع استقراره، وقرب المكرِه والمكرَه، حيث إن أحدهما سبب والآخر مباشر، وجعله استثناءً منقطعاً خلاف الظاهر لا يحمل عليه إلّا مع القرينة العقلية أو النقلية.

البحث الخامس: أقسام المباشر

اشارة

ثم إن المباشر على أربعة أقسام: فقد يكون مكرَهاً، وهو الذي يقوم بالعمل بإرادته لكن لأجل الإكراه؛ ولدفع الضرر عن نفسه.

وقد يكون ملجأ، وهو الذي لا قدرة له على الامتناع، كما لو ألقي من شاهق فسقط على آخر فقتله.وقد يكون مغروراً، كما لو قال للرامي: ذلك الشبح حيوان فارمه، فرماه فتبيّن أنه إنسان، وقد مرّ بعض الفروع فيه.

وقد يكون مضطراً، ومنشأ الاضطرار إمّا إنسان، كما لو أراد الفرار من الظالم، وإمّا غيره كما لو أراد الفرار من السيل ويختلف حكمهما.

والكلام في الثلاثة الأولى:

القسم الأول: المباشر المُلجأ

ومقتضى القاعدة ثبوت الضمان على السبب وهو الملجِئ؛ لأنه المتلف حيث ينسب إليه الفعل. نعم، في ما دل عليه النص الخاص يعمل به في مورده.

ص: 96

ومنه ما لو دفع شخصاً فسقط على آخر فأصيب، ففي المعتبرة عن الصادق(علیه السلام): «في رجل دفع رجلاً على رجل فقتله، فقال: الدية على الذي وقع على الرجل فقتله لأولياء المقتول. قال: ويرجع المدفوع بالدية على الذي دفعه»(1)، وموضع الشاهد رجوع أولياء المقتول إلى المدفوع، وتظهر الثمرة في ما لو فرّ الدافع مثلاً.

ولا يتعدى إلى سائر الموارد لأنه قياس، فيكون الضمان على المُلجِئ.

القسم الثاني: المباشر المكرَه

وهو ضامن ويدل عليه:أولاً: الإجماع المنقول، وادعى الجواهر(2) الإجماع المحصّل.

وثانياً: حديث الرفع(3)، ويتم على مبنى شموله للأحكام الوضعية أيضاً، كما عليه جمع من الفقهاء(4) منهم السيد الوالد(5).

وثالثاً: ما ذكره المحقق الرشتي(6)، من نسبة الإتلاف إلى المكرِه، وهو محقق لموضوع (من أتلف) عرفاً، حيث يؤخذ الموضوع من العرف، ومثّل

ص: 97


1- الكافي 7: 288؛ وسائل الشيعة 29: 238.
2- جواهر الكلام 37: 57.
3- كتاب الغصب، للرشتي: 38.
4- مصباح الفقاهة 2: 272؛ العروة الوثقى 6: 35؛ الفقه 9: 414.
5- إلّا في ما قام الدليل على عدم رفعه من الأحكام الوضعية أو التكليفية، كما لو هدد بقتله لو لم يقتل زيداً، فهنا حديث الرفع لا يرفع الحكم التكليفي بعدم جواز قتل الغير للدليل الخاص: كلا تقية في الدماء، وكذلك الحكم الوضعي كما لو وطأها مكرَها حيث تجب العدة (المقرر).
6- كتاب الغصب: 37.

لذلك بما لو أكرهه على ذبح شاة الغير فالمكرِه هو المتلف لا المباشر المكرَه، وكذلك لو أمر الحاكم ببناء المدينة حيث ينسب البناء إليه؛ لأنه السبب دون المباشر.

وفيه نظر؛ حيث ينسب العمل إليهما معاً، إلّا أن العرف يرى المكرَه معذوراً وهو بحث آخر، بل نسبة العمل إلى المباشر حقيقة وإلى السبب مجاز.

ورابعاً: ما ذكره أيضاً(1) من قاعدة الإحسان، فمَن أتلف مال الغير بقصد دفع الضرر الأعظم عن نفسه محسن؛ لكون عمله حسناً فتشملهالآية.

وفيه نظر من جهات:

الأولى: إن المتبادر من الإحسان هو الإحسان إلى الغير لا النفس، وعلى فرض شموله للنفس فالآية منصرفة عنه؛ ولذا أشكل على الشيخ في آية التعاون بأنها لا تشمل مَن يتعاون مع نفسه لعمل الحرام(2).

الثانية: إن الإتلاف ليس حسناً، بل قبيح لكن فاعله معذور.

وبعبارة أخرى: لا تلازم بين الحسن الفاعلي والحسن الفعلي، فقد يجتمعان، كمن يصلي قربة إلى اللّه، وقد يكون حسن فعلي لا فاعلي، كالتصدق للفقير بقصد الرياء، وكرفع الأذى عن الطريق للشهرة، وقد يكون حسن فاعلي لا فعلي، كقتل المؤمن في ساحة الحرب بظن أنه عدو.

فقوله: «فإن الإتلاف المقصود به دفع الضرر عن النفس أو المال حسن»(3) محل تأمل، فليس الإتلاف حسناً وإن كانت نية الفاعل حسنة، وليس

ص: 98


1- كتاب الغصب: 38.
2- كتاب المكاسب 1: 132 و 136.
3- كتاب الغصب: 38.

الكلام في كون النية موجبة للضمان أم لا، وإنما الفعل وهو ليس بحسن.

خامساً: ما ذكره أيضاً(1): من أن الضمان ينافي حكمة الإذن الشرعي،فقد أجاز الشارع الإقدام على العمل بحديث الرفع فكيف يشرع الضمان عليه؟

وفيه نظر: فإن المنافاة إنما هو بين الإحكام التكليفية؛ لاستحالة اجتماع الضدين، ولا منافاة بين الحكم التكليفي والوضعي، فالأول يرفع الحرمة والثاني يثبت الضمان، وإلّا لم يكن قابلاً للاستثناء؛ لأن التنافي إنما هو بحكم العقل وهو غير قابل للتخصيص، وأمّا المنافاة بحكم الشرع فلا دليل عليه.

وبعبارة أخرى: الحكمة من إذن الشارع هو رفع الضرر عن النفس، وهي تجتمع مع الحكم بالضمان، بل هو مقتضى حكم العقل؛ لأنه جمع بين الحقين، وقد ثبت في نظائره كأكل المخمصة(2)، وإنقاذ السفينة بإلقاء متاع الناس في البحر(3).

والحاصل: إن الأدلة المذكورة لعدم ضمان المكرَه وثبوت الضمان على المكرِه غير تامة إلّا الإجماع، وفي حديث الرفع الكلام مبنوي.

ثم إنه قد يدل نص خاص على خلاف القاعدة فيلزم التمسك به بعد فرض اعتباره، كما مرّ في الملجأ وكذا الظئر(4)، حيث فصل النص بينكون

ص: 99


1- كتاب الغصب: 38.
2- الدروس الشرعيّة 3: 77؛ الأقطاب الفقهية: 129؛ الروضة البهيّة 5: 452-453.
3- الخلاف 5: 275؛ شرائع الإسلام 4: 1028؛ إرشاد الأذهان 2: 197.
4- تهذيب الأحكام 10: 222؛ وسائل الشيعة 29: 265، خبر محمد بن مسلم قال: قال أبو جعفر(علیه السلام): «أيما ظِئر قوم قتلت صبيّاً لهم وهي نائمة فانقلبت عليه فقتلته فإن عليها الدية من مالها خاصة إن كانت إنما ظاءرت طلباً للعز والفخر، وإن كانت إنما ظاءرت من الفقر فإن الدية على عاقلتها».

عملها نابعاً عن فقرها وحاجتها فالضمان على عاقلتها، وبين ما لو كان عملها للفخر فالضمان عليها، مع أن القتل صدر خطأ وعن حركة غير إرادية في الصورتين، هذا بناءً على قبول النص لكن لم يفتِ به جمع من الفقهاء.

سادساً: ذهب صاحب الرياض(1) إلى أن مقتضى القاعدة في الإكراه - لولا الإجماع - هو ثبوت حق الرجوع إلى كليهما، واستقرار الضمان على المكرِه، وتبعه صاحب الجواهر(2)، بل ارتقى إلى أنه - لولا الإجماع - لكان الضمان على المكرَه، خاصة في ما لو كان النفع عائداً إليه، كما لو أكرهه على أكل الطعام، وأمّا المكرِه فقد ارتكب الحرام فقط.

وفيه نظر: بل مقتضى القاعدة ما ذهب إليه المجمعين، فالإجماع نابع عنها، فيكون معلوم الاستناد، أولاً: لحديث الرفع على المبنى، وثانياً: لكون السبب أقوى من المباشر، وكلما كان كذلك لم يكن الضمان على المباشر، كما هو المستفاد من مختلف الروايات، ولو كان الأمر كما ذكره صاحب الجواهر(3) لم يصح رفع اليد عن القاعدة لكون الإجماعمدركيّاً، فلا حجية فيه على مبنى كثير من الأصوليين(4).

ثم إن في الإكراه على التلف مسائل، منها:

المسألة الأولى: توهم الإكراه

لو توهم الإكراه، كما لو أكره الحاكم الأول على الإتلاف فتوهم الثاني أن

ص: 100


1- رياض المسائل 12: 266.
2- جواهر الكلام 37: 58.
3- جواهر الكلام 37: 58.
4- فوائد الأصول 1: 259.

الخطاب له فأتلف مال الغير، فالضمان عليه لا على الحاكم؛ لعدم تحقق الإكراه بالنسبة إليه، والحكم متعلق بالموضوع الواقعي لا التخيلي.

إن قلت: إن خوف الضرر مسوّغ لترك الصوم، وهذا دال على أن الشيء بوجوده الوهمي أيضاً منشأ للحكم حتى الاحتمال الضعيف.

قلنا: إنه تابع للنص الخاص، ولولاه لم يكن الوجود المتوهم رافعاً للحكم، أو يقال: إن موضوع الحكم في الصوم هو الخوف وهو يتحقق حتى مع عدم وجود ضرر واقعي، وليس كذلك ما نحن فيه، فالحكم يرتبط بالإكراه لا بتوهمه.

المسألة الثانية: الجهل بالإكراه

ولو انعكس الفرض بأن كان مكرَهاً واقعاً لكنه لم يعلم، كما لو أكرهه الحاكم فلم يلتفت، فأتلف المال لعداوة بينهما مثلاً، كان الضمان عليه دون الحاكم؛ لعدم صدق الإكراه عرفاً. بالإضافة إلى أنه لا يطلق علىالحاكم السبب.

المسألة الثالثة: سبب السبب

ولو كان الإكراه من سبب السبب فلا ضمان على المباشر، فهل الضمان على السبب الأول أو الثاني؟ مثلاً: لو أمر الحاكم وزيره بإتلاف المال، فأمر الوزير شخصاً بذلك بحيث لو لم يفعل لأضره ضرراً كبيراً ففعل، وكذلك لو تعددت الأسباب بشكل طولي، كان الحاكم هو الضامن، لأنه الأقوى.

ومع عدم كون السبب الأول أقوى فلا ضمان عليه، كما لو اقترح شخص على الحاكم مصادرة مال زيد، فإن المقترح ليس بأقوى من الحاكم، فلا ضمان عليه، بل ارتكب معصية.

ص: 101

والحاصل: إن الضمان تابع لاستناد الفعل ولا يسند إلّا إلى الأقوى.

المسألة الرابعة: إكراه المجنون والصبي

لو أكره الصبي والمجنون على إتلاف مال الغير فإن مباحثه ترتبط بغير هذا الكتاب، وإنما نذكرها هنا تبعاً للأعلام.

أمّا المجنون فلو هدّده إن لم يتلف، فأتلف قيل: إن الضمان على السبب؛ وذلك لعدم توفر القوة العاقلة فيه حتى يُميّز فهو بحكم الآلة.

ولا يخفى أن الجنون درجات، والحكم يختلف باختلافه شدة وضعفاً، فلو صدق الإكراه كان المكرِه ضامناً.

وأمّا الصبي فقد يكون مميزاً وقد لا يكون، والثاني بحكم الآلة.والتمييز أمر مشكك يختلف باختلاف مداركه تجاه الأشياء. فلو لم يكن مميزاً بالنسبة إلى ملك الغير، فلم يدرك عدم حقه في إتلافه فأكرهه على التلف فلا شك في كون المكرِه ضامناً، وفي إكراه المميز أيضاً الضمان على المكرِه.

وهنا يأتي الكلام في ما لا يريد الشارع تحققه في الخارج مع قطع النظر عن الفاعل - بنحو اسم المصدر - كالقتل، حيث يلزم منع الصبي وإن لم يكن مكلفاً، ولو فعل يتم تأديبه، وأمّا ما لا يعلم إرادة الشارع له كذلك فلا يلزم منع الصبي عنه، كما أفتى الفقهاء(1) بعدم لزوم منع الصبي عن أكل المتنجس، بل جواز إطعامه له.

وإتلاف مال الغير من قبيل الأول، فلا بد من منع الصبي حتى غير المميّز عنه، فلو علّمه السرقة فسرق من دون إكراهه كان الضمان على الطفل، فإنه وإن كان مأموراً لكنه اندفع من نفسه مع إمكانه الامتناع، ويكون الضمان في

ص: 102


1- مصباح الفقاهة 1: 217.

ماله في الأموال، وعلى العاقلة في الجرح والقتل؛ لكون عمد الصبي خطأ تحمّله العاقلة، فإنه مميّز ولا إكراه في البين.

ويحتمل كون الضمان على الآمر مطلقاً، أمّا مع الإكراه فواضح؛ لأنه كالبالغ، وأمّا مع عدم الإكراه فلرفع القلم عن الصبي.وهو محل تأمل؛ وذلك لشمول أدلة الضمان له وهو حكم وضعي، والمباشر أقوى.

وأمّا حديث رفع القلم فالمشهور(1) أنه قلم التكليف لا الوضع، ومع القول بكونه يشمل الوضع أيضاً فبين دليل الضمان ودليل رفع القلم عموم من وجه. فدليل الضمان يشمل الصبي وغيره، ودليل الرفع يشمل الضمان وغيره، ويتعارضان في ضمان الصبي، فالقائل برفع الضمان عن الصبي يتمسك بحكومة دليل الرفع على دليل الضمان؛ لأنه ناظر إليه، فدليل الضمان يثبت الأحكام وحديث الرفع ناظر إليها فيرفعها.

وقد يقال: إن في الحكومة نظر؛ إذ يحتمل أن تكون حكومة ظاهرية، فلا ترفع الحكم الواقعي.

لكن الأقرب تمامية الحكومة، وتنقيح الكلام في الأصول.

فتحصل أنه: إن لم يتم إكراه الصبي المميز كان هو الأقوى فيضمن في ماله أو عاقلته، ومع كون الآمر أقوى فالضمان عليه.

القسم الثالث: المباشر المغرور

وفيه مسائل متعددة، منها: تغرير المالك بإتلاف ماله، قال في الشرائع: «ولو غصب مأكولاً فأطعمه المالك، أو شاة فاستدعاه ذبحها مع جهل

ص: 103


1- مستند الشيعة 10: 336؛ بحر الفوائد 2: 31؛ شرح تبصرة المتعلمين 2: 184.

المالك ضمن الغاصب»(1).

وقال في القواعد: «وكذا لو أودعه المالك أو آجره إياه»(2) في ما لو أتلف. وقد أشرنا إلى هذه المسألة سابقاً، ولكن الآن نتعرض إلى بيان أدلتها.

وحاصل المسألة: إن الغاصب لو أرجع العين المغصوبة إلى مالكها لا بعنوان أنها ملكه، بل بعنوان آخر كما لو غصب طعاماً منه ثم دعاه للضيافة وأطعمه المغصوب، أو غصب شاة ثم طلب من مالكها - وهو قصاب - أن يذبحها فذبحها جاهلاً بأنها له مما قلّت قيمتها، فهل يضمن الغاصب أم لا باعتبار تحقق التلف أو نقصان القيمة بيد المالك؟

الظاهر أنه ضامن؛ لأن التلف الحاصل إنما هو بيد المالك مغروراً، فيكون الضمان على عهدة الغار؛ لأن المغرور يرجع إلى من غرّه، وقد غُرّ في تقديم ماله إليه؛ لأن تصرف الناس في ملكهم يختلف عن التصرف في ما يباح لهم - عادة - .

ويدل على ذلك أيضاً أن ظاهر: (حتى تؤدّي) الأداء الكامل بحيث يحق للمالك أن يتصرف فيه بجميع أنواع تصرفات المالك في ملكه، ولا يكون ذلك إلّا مع علمه بسلطنته الكاملة، وليس المقام كذلك، حيث ظاهره إباحة الأكل فقط، فلا يحق له البيع وما أشبه، فلا يكون إرجاعاًللسلطنة التامة، فلا يصدق (حتى تؤدّي).

ثم إن صاحب مفتاح الكرامة ذهب إلى عدم الضمان في ما لو أرجعه مع كامل السلطنة، لكن لا بعنوان أنه ملكه كما لو أهداه إياه؛ وذلك لجريان

ص: 104


1- شرائع الإسلام 4: 768.
2- قواعد الأحكام 2: 225.

(حتى تؤدّي) حيث أدّى العين والسلطنة التامة، قال: «لأنه قد تسلّمه تسلّماً تامّاً فسقط حقه، وزالت يد الغاصب عنه بالكليّة»(1).

وما ذكره تام، لكن لا بد من تقييد إطلاقه بما لو اتّحدت كيفية تصرفه في ماله وفي ما يهدى إليه، وأمّا لو كان يحتاط في التصرف في ماله دون ما أهدي إليه، كما هو عادة بعض الفقراء، فيجري فيه دليل الغرور.

وقد مثل السيد الوالد في الفقه(2) مثالاً لبيان أصل المطلب، وهو: إنه لو أشرفت السفينة على الغرق فاضطروا إلى إلقاء الأمتعة في البحر فلم يقبل أحد الركاب أن يلقي متاعه، فأعطاه آخر متاعه بعنوان أنه له فألقاه بيده، ولو علم أنه ملكه لم يلقه.

فهنا يحتمل عدم الضمان؛ لعدم احترام ماله؛ وذلك لقاعدة الأهم والمهم، فالأمر دائر بين تلف المال وتلف النفوس، وقد حكم الشارع بإنقاذ النفس ولو بإتلاف المال، فيجب إلقاء المال، فلو كان المُلقي غير المالك لم يكن هنالك ضمان، فكيف بما إذا ألقاه المالك بيده؟

والحاصل: إن الشارع جوّز الإتلاف مما يلازمه عرفاً عدم الضمان.إن قلت: إن الشارع ضمّن الآكل في المخمصة(3) مع أنه أكله بحكمه، فما هو الفرق بين المقامين؟

قلت: كلا الحكمين في المقامين حسب القواعد، أمّا في السفينة فالإتلاف بأمر الشارع، ومعناه عدم احترام ماله فلا ضمان، وأمّا في

ص: 105


1- مفتاح الكرامة 18: 103.
2- الفقه 78: 307.
3- الدروس الشرعيّة 3: 77؛ الأقطاب الفقهية: 129؛ الروضة البهيّة 5: 452-453.

المخمصة فلم يحكم الشارع بالإتلاف، بل أجاز تصرفاً معيّناً وهو الأكل فقط، وليس معناه عدم احترام ماله، كما لو دعا شخصاً للأكل فليس معناه عدم احترام ماله، فلا يجوز للضيف أن يتلفه كأن ينجسه، بل يحق له الأكل فقط، فلو نجسه ضمن؛ لأن الإباحة تصرف في الأكل لا في الإتلاف، فتجري فيه أدلة الضمان بخلاف السفينة(1).

ويدل على عدم الضمان أيضاً قوله تعالى: {مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ}(2)، فإن المُلقي محسن، وقد مرّ أنها مطلقة تشمل الضمان أيضاً.

وأمّا في المخمصة فإنقاذ النفس لا تشمله الآية، فإن ظاهر الإحسان هو إلى الغير، وعلى فرض الشمول فهي منصرفة عن مثله، ولذا الواسطة بين مالك الطعام والمشرف على الهلاك محسن غير ضامن.

فرع: إهداء المغصوب

ولو(3) أهدى الغاصب ما غصبه إلى شخص ثالث أو أباح له، فتصرف فيه، حق للمالك الرجوع إلى أيهما شاء، أمّا الغاصب فواضح، وأمّا الثالث فإن عدم علمه رافع للعقوبة لا للضمان.

ولو رجع المالك إلى الثالث حق له الرجوع إلى الغاصب مع أنه هو الذي أتلفه؛ لأنه مغرور، حيث قدّمه له على أنه مباح له من دون ضمان، فإن مقتضى

ص: 106


1- أقول: لا فارق بين المقامين، بل في كليهما أجاز الشارع نوعاً معيناً من التصرف، ففي المخمصة أجاز الإتلاف بالأكل، وفي السفينة أجاز الإتلاف بالإلقاء، وفي كليهما لم يجز نوعاً آخر من التصرف، ففي المخمصة لم يجز التنجيس، وفي السفينة لم يجز التمزيق، فلو مزق متاع غيره من دون أن يلقيه في البحر بما لم يحقق الغرض كان ضامناً (المقرر).
2- سورة التوبة، الآية: 91.
3- الفقه 78: 307.

الهبة عدمه، ولو علم بالغصبية أو لزوم إعطاء مال في مقابله لم يتصرف فيه.

فرع: الدس في ملك المالك

ولو(1) دسّ الغاصب ما غصبه في ملك المالك من دون علمه، كما يتعارف اليوم في الحسابات البنكية، لم يكن هنالك وجه للضمان لصدق (حتى تؤدّي)؛ لأنه أعاد العين والسلطنة الكاملة، وعلم المالك وعدم علمه لا يضر بالصدق، فإن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية لا العلميّة.

ويؤيّده رواية الزهري: عن السجاد(علیه السلام) في ولي الدم الممتنع عن استلام الدية فأمر الأمام(علیه السلام) القاتل بإلقائها في بيته وقت الصلاة(2)، كما مرّ سابقاً.ويشكل(3) عليه بأنه ليس من مصاديق الد

س؛ لعلمه بعدم كونه ماله عادة، فلا يكون إرجاعاً للسلطنة الكاملة، فالرواية دالة على براءة الذمة حتى لو علم بأنه ليس ماله، وإنما هدية مثلاً.

وأجيب عنه: أولاً: بأنه كان يعلم أنه دية.

وفيه: إن علمه بكونه دية خلاف الظاهر، فإنه لو كان يعلم بها ومع ذلك قبلها لما امتنع من أخذها من قبل، أو لأرجعها بعد الإلقاء(4).

ص: 107


1- الفقه 78: 308.
2- تهذيب الأحكام 8: 324؛ وسائل الشيعة 22: 399، معتبرة أبي بكر الحضرمي قال: «قلت لأبي عبد اللّه(علیه السلام): رجل قتل رجلاً متعمداً، قال: جزاؤه جهنم، قال: قلت له: هل له توبة؟ قال: نعم، يصوم شهرين متتابعين ويطعم ستين مسكيناً ويعتق رقبة ويؤدّي ديته، قال: قلت: لا يقبلون منه الدية؟ قال: يتزوج إليهم ثم يجعلها صلة يصلهم بها، قال: قلت: لا يقبلون منه ولا يزوجونه، قال: يصره صرراً يرمي بها في دارهم».
3- الفقه 78: 308.
4- وفيه نظر: حيث لا تلازم بين الأمرين، فكثيراً ما يمتنع الإنسان عن أخذ حقه، ولكن بعد الإصرار أو الإيصال قهراً - كالإلقاء - يقبله ولا يرجعه (المقرر).

وثانياً: إنه حكم ولائي.

وفيه: إنه أيضاً خلاف الظاهر؛ لأن الإمام(علیه السلام) في مقام بيان الحكم الشرعي.

فالوجه في سقوط الدية بذلك هو التهاتر القهري، فإن تصرف ولي الدم في المال المُلقى تصرف في مال الغير؛ لعلمه بأنه ليس له، فيكون ضامناً له، فيسقط حقه في الدية بالتهاتر، فتأمل.

البحث السادس: لو تصرف في ملكه فأضرّ بالغير

قال في الشرائع: «لو أرسل في ملكه ماءً فأغرق مال غيره، أو أجج ناراً فيه فأحرق لم يضمن ما لم يتجاوز قدر حاجته اختياراً، مع علمه أو غلبةظنه أن ذلك موجب للتعدي إلى الإضرار»(1).

والكلام في مقامين:

المقام الأول: لا يوجد ضرر على المالك في عدم تصرفه في ملكه، فقد يقال: بجواز تصرفه في ملكه وعدم ضمانه ضرر الغير، ولكن بشرطين:

الأول: أن لا يتجاوز قدر حاجته اختياراً، كما لو أشعل النار في التنور للخبز، فإن تجاوز حاجته ضمن.

الثاني: عدم العلم بالتعدي، فمع العلم أو الظن ضمن، كما لو أشعل النار في مهب الريح.

وأشكل السيد الوالد في الفقه(2) على إطلاق الشرط الأول، وجعل المناط في الضمان استناد التلف إليه عرفاً ولو كان بمقدار حاجته؛ لأنه من مصاديق: «مَن أتلف مال الغير» ولا مخصص، فلا فرق بين التعدي وعدمه،

ص: 108


1- شرائع الإسلام 4: 763.
2- الفقه 78: 140.

وبين التجاوز عن مقدار الحاجة وعدمه.

وكذلك الحال في الشرط الثاني حيث يحكم بالضمان حتى مع الشك، بل الوهم مع استناد التلف إليه عرفاً، فلا فرق بين العلم والظن والشك، بل الاحتمال.

نعم، قد يكون للعلم والجهل المدخليّة في الاستناد، فلا ننفي كلامهبشكل مطلق.

إن قلت: إن أدلة السلطنة تثبت سلطنة الإنسان على ملكه بشرط إذن الشارع له في التصرف مع عدم التفريط(1)، فلا بد من نفي الضمان عنه.

قلت: إن في المقام دليلين: دليل السلطنة حيث ينفي الضمان بالدلالة الالتزامية، ودليل الإتلاف حيث يثبت الضمان، والثاني حاكم على الأول.

إن قلت: لم يرد عندنا «مَن أتلف مال الغير فهو له ضامن» فلا يصح الاستدلال به ليكون حاكماً على دليل السلطنة. نعم، ورد عن طريق العامّة ولا يصح الاستناد به.

قلت: لا ينحصر الدليل فيه، ومفاده ثابت في الروايات(2). هذا أولاً.

وثانياً: وإن لم يرد هذا النص في المجاميع الروائية لكنه ورد في الكتب الفقهية(3) واستندوا إليه، فيجر ضعفه به، وقد مرّ عدم الفرق بين ورود الرواية في المجاميع الروائية والكتب الفقهية، بل ذكره في كتب الفقه والاستدلال به

ص: 109


1- لأن الشارع لم يأذن بجميع التصرفات، كارتكاب الحرام وإتلاف المال العظيم؛ لأنه من مصاديق الإسراف، كما لم يأذن بالتفريط كما لو أوجب تفريطه ضرر الغير (المقرر).
2- وسائل الشيعة 27: 327.
3- جواهر الكلام 28: 89 و 31: 130؛ حاشية المكاسب، للهمداني: 59؛ حاشية المكاسب، لليزدي 1: 99؛ منية الطالب 1: 263.

دليل اعتباره عندنا، ووروده عن طرقنا.

إن قلت: ورد في الروايات: «البئر جبار»(1)، وفسر في بعضالروايات الجبار الذي لا دية فيه ولا قود(2)، فلا ضمان.

قلت: إنه وإن كان مطلقاً لكن ورد أيضاً الضمان في حفر البئر في غير الملك(3)، وثبت أيضاً الضمان في مسبب التلف، فمقتضى الجمع بينها كون البئر جباراً في ما لو لم يسند التلف إليه.

أقول: إن لم يكن عدم تصرف المالك في ملكه ضرراً عليه ولا عدم نفع له فالأقوى عدم جواز تصرف المالك؛ وذلك لأن دليل لا ضرر حاكم على قاعدة السلطنة لكونه عنواناً ثانويّاً ناظراً، وكون قاعدة السلطنة عنواناً أوليّاً منظور إليه، ويترتّب على ذلك ضمان المالك مطلقاً لجريان دليل الضمان من غير معارض.

المقام الثاني: إن كان في عدم تصرف المالك ضرر عليه، أو عدم نفع - بما يرجع إلى الضرر أيّ في مورد يكون مقتضي النفع موجوداً لولا المانع - .

فقد يقال: بأنه يتعارض (لا ضرر) من الجانبين فيتساقطان فتجريقاعدة السلطنة من دون معارض.

ص: 110


1- الكافي 7: 377.
2- معاني الأخبار 2: 303؛ وسائل الشيعة 29: 272، معتبرة عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن آبائه قال: «قال رسول اللّه|: العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس، والجبار: الهدر الذي لا دية فيه ولا قود».
3- الكافي 7: 350؛ وسائل الشيعة 29: 141، خبر زرارة، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «قلت له: رجل حفر بئراً في غير ملكه فمر عليها رجل فوقع فيها، قال: فقال: عليه الضمان؛ لأن كل من حفر في غير ملكه كان عليه الضمان».

وأشكل عليه بإشكالات، منها:

الإشكال الأول: ما ذكره السيد الوالد في الفقه(1): بأن قاعدة السلطنة أيضاً تسقط للتعارض؛ وذلك لأن (الناس مسلطون) له عقد إيجابي وهو جواز التصرف في الملك، وله عقد سلبي يفهم بدلالة الاقتضاء وهو حق منع الغير في ما لو زاحم سلطنة المالك، وإلّا لم تكن سلطنة والعقد الإيجابي يجري في من يريد التصرف، والعقد السلبي يجري في الجار حيث أجيز له منعه، فيتعارضان ويتساقطان، فلا تجري قاعدة السلطنة أيضاً.

فإن قيل: إن صحة كلام المولى في العقد الإيجابي يغني عن دلالة الاقتضاء، فيكون الكلام ساكتاً عن العقد السلبي.

قلنا: سلّمنا عدم تمامية مفاد العقد السلبي بدلالة الاقتضاء، إلّا أن العرف يفهم من (الناس مسلطون) الشرطية، ومفادها: إن منع المالك مانع جاز له منعه.

وإن أبيت عن ذلك فيمكن إثبات العقد السلبي عن طريق ثالث، وهو إن (الناس مسلطون) مطلق يشمل الدفاع عن نفس السلطة، فمن مصاديق السلطنة على المال هو التسلط على منع الغير في ما لو أراد تقييدها.والحاصل: تتعارض سلطنة المالك في جواز التصرف مع سلطنة غيره في منعه عن التصرف فيتساقطان(2).

ص: 111


1- راجع الفقه 78: 151.
2- قد يقال بعدم التعارض؛ وذلك لصحة التفكيك بين الحكمين، فيحق للأول التصرف كما يحق للثاني منعه، كما هو الحال في موارد كثيرة، فإن التفكيك جارٍ في الفقه في مقام الإثبات من أوله إلى آخره، كما في الحكم بصحة البيع المعاطاتي للبائع دون المشتري على فرض اختلافهما تقليداً في ذلك، مع أن العقد الواحد لا يتبعض، وكما في الصلاة في موضع مشكوك تماماً عند الخروج من الوطن وقصراً عند الرجوع، مع قطع النظر عن المخالفة القطعية العملية للعلم الإجمالي، وكذا الحكم ببقاء نجاسة الثوب المتنجس بعد غسله بالماء المشكوك الكرية مع الحكم بطهارة الماء بعد الغسل (المقرر).

فلا بد من الرجوع إلى الأصول العامة، ومقتضى القاعدة جواز التصرف في الملك لأصالة الحلية، ويلزم تدارك ضرر الغير بأدلة الضمان، وهو مقتضى الجمع بين الأدلة.

الإشكال الثاني: ما ذكره المحقق النائيني(1)، من أن لا ضرر يستلزم حرمة تصرف المالك في ماله وهذه الحرمة لا يمكن رفعها ب-(لا ضرر) لأن نفي الحرمة تعني عدم جريان (لا ضرر) وهذا يقتضي أن يلزم من وجود القاعدة عدمها، فلا تعارض بين الضررين.

وفيه: أن لا ضرر كما ينفي الأحكام الضررية المحققة كذلك ينفي الأحكام الضررية المقدرة، فلا محذور في أن يشمل أحد أفراد لا ضرر حكماً ضررياً ناشئاً عن فرد آخر، لانحلال نفي الضرر إلى أفراد متعددة بعدد الأفراد الضررية، فتأمل.ثم إنه لا بد وأن يكون متعلّق السلطنة غير متعارف حتى يرفع بلا ضرر، وأمّا السلطنة المتعارَفة فلا يعلم رفعه، كما لو كان زرعه للأشجار في داره يمنع نور الشمس عن جاره، وبناء الدار يضر بالجار، وإقامة المجلس الأسبوعي يسبب ازدحام المنطقة، فإن (لا ضرر) منصرف عنه.

وقد ذكرنا تفصيل البحث في نبراس الأصول، فراجع(2).

ص: 112


1- منية الطالب 3: 428-429.
2- نبراس الأصول 4: 426-431.

البحث السابع: الإلقاء في المسبعة

اشارة

ثم إن من فروع مسألة التسبب وإيجابها للضمان ما ذكره في الشرائع، حيث قال: «لو ألقى صبياً في مسبعة، أو حيواناً يضعف عن الفرار ضمن لو قتله السبع»(1).

ومقتضى القاعدة أنه لو كان سبباً للتلف ضمن، سواء كان المُلقى كبيراً أم صغيراً حرا أم عبداً؛ لأن السبب موجب للضمان وهو أقوى من المباشر.

ولمعرفة كلمات الفقهاء وأقوالهم نقسم البحث إلى أقسام:

الأول: إلقاء الصغير

قال الشيخ في المبسوط(2): لو كان الصبي حراً فألقاه في المسبعة لم يضمن؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد.لكن نقل عنه المسالك القول بالضمان(3)، إلّا أن الأول هو المعروف عنه.

وفيه تأمل؛ لما مرّ من ترتب اليد على الحر، وعلى فرض التسليم فإن أدلة الضمان لا تنحصر في اليد، فمباشرة الإتلاف موجب للضمان أيضاً وكذلك السببية، فلو أتلف مال الغير من دون ترتب يده عليه - كما لو رمى حجراً فكسر كوزاً - ضمن، وما نحن فيه كذلك.

وقد تصدى المحقق الرشتي(4) للدفاع عن الشيخ بأن نظره إلى صورة ما لم تحصل به السببية.

ص: 113


1- شرائع الإسلام 4: 763.
2- المبسوط 3: 105؛ جواهر الكلام 37: 62.
3- المبسوط 7: 18؛ مسالك الأفهام 12: 168.
4- كتاب الغصب: 48.

وفيه نظر؛ لصراحة العلّة المذكورة في المبسوط من دون التطرق إلى صورة عدم التسبيب؛ ولذا أشكل عليه المشهور(1).

وعلى فرض كون مراده ذلك ففيه نظر أيضاً، فإن ملقي الصغير في المسبعة سبب للتلف، وهو أقوى من المباشر.

فرع: النقل إلى المضيعة

وقد تطرق العلامة إلى فرع آخر وهو: «لو نقل صبياً إلى مضيعة فاتفق سبع فافترسه فلا ضمان عليه، إحالة للهلاك على اختيار الحيوان ومباشرته، ولم يقصد الناقل بالنقل ذلك، وفيه إشكال. أمّا لو نقل إلى مسبعة فافترسهسبع وجب الضمان»(2).

ففرق بين المسبعة والمضيعة، حيث يتحقق قصد التلف في الأول بخلاف الثاني حيث يحصل اتفاقاً.

وفيه نظر: فقد مرّ سابقاً أن التسبيب أعم من القصد؛ ولذا يضمن النائم والظئر مع عدم القصد(3)، فلا مدخلية له في الضمان، بل الملاك صدق التسبيب وأقوائية المسبب.

وعليه كما يضمن في إلقاء الطفل في المسبعة كذلك يضمن في نقله إلى مضيعة، لكونه سبباً في الصورتين، بل في المضيعة الموت محقق للجوع والعطش والخوف وما أشبه مع ضعف احتمال الإنقاذ، فلا فرق بين هلاكه بها أو

ص: 114


1- جواهر الكلام 37: 62.
2- تذكرة الفقهاء 2: 376.
3- الجامع للشرائع: 583؛ مختلف الشيعة 9: 344؛ كتاب الغصب، للرشتي: 37؛ جامع المدارك 6: 189.

بالحيوان اتفاقاً، فالقول بعدم الضمان محل نظر؛ ولذا قال في جامع المقاصد: «فإن إلقاءه في المضيعة أقرب إلى توقع علة الهلاك من هذه الأخيرة»(1).

وأمّا قوله: «إحالة للهلاك» ففيه نظر أيضاً، حيث لا ينكر مباشرة الحيوان، وإنما الكلام في كون السبب أقوى؛ ولذا لو أرسل كلبه ليقتله كان ضامناً، فمباشرة الحيوان واختياره لا يسبب كون المباشر أقوى.وقد أفتى العلامة(2) بالضمان في ما لو دعا شخصاً إلى بيته فافترسه كلبه، مع عدم القصد والتوقع وإنما حصل ذلك اتفاقاً؛ وذلك لكون السبب أقوى من المباشر، وورد في ذلك النص(3) أيضاً.

فرع: الإلقاء في المخوفة

لو ألقاه في مخوفة فمات خوفاً ضمن وذلك للتسبيب.

وأما الاستدلال له بقضية خالد حيث أعطى الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) مالاً لروعة نسائهم وفزع صبيانهم(4).

ص: 115


1- جامع المقاصد 6: 224.
2- تحرير الأحكام 5: 546.
3- الكافي 7: 351؛ وسائل الشيعة 29: 254، خبر علي بن إبراهيم بأسناده، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «سألته قلت: جعلت فداك رجل دخل دار رجل فوثب كلب عليه في الدار فعقره؟ فقال: إن كان دعي فعلى أهل الدار أرش الخدش، وإن كان لم يدع فدخل فلا شيء عليهم».
4- أمالي الصدوق: 283؛ بحار الأنوار 21: 142، صحيحة محمد بن مسلم، عن الإمام الباقر(علیه السلام) قال: «بعث رسول اللّه| خالد بن الوليد إلى حي يقال لهم: بنو المصطلق من بني جذيمة، وكان بينهم وبينه وبين بني مخزوم إحنة في الجاهلية... قال: يا علي، أخبرني بما صنعت، فقال: يا رسول اللّه، عمدت فأعطيت لكل دم دية، ولكل جنين غرة، ولكل مالٍ مالاً، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم وحبلة رعاتهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لروعة نسائهم وفزع صبيانهم، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لما يعلمون ولما لا يعلمون...».

ففيه نظر؛ لأن الخوف لم يكن سبباً للتلف، ومجرد كونه حراماً لا يوجب الضمان، وما فعله علي(علیه السلام) لم يكن واجباً شرعياً وإنما قضية أخلاقية؛ ولذا دفع مالاً ليرضوا عن رسول اللّه.

الثاني: إلقاء الكبير في المسبعة

فقد ذهب المشهور إلى عدم الضمان(1)، لكن لا يمكن التسليم به بإطلاقه؛ لما مرّ من ثبوت الضمان على السبب، ولا شك في كون الملقي سبباً.

نعم، لو أمكنه الدفاع وإنقاذ نفسه فأهمل لم يضمن؛ لكون السبب أضعف، وربما نظر المشهور إلى هذه الصورة.

ولو شك في كون التلف بسبب تقصيره أم لا، فإن كانت هنالك قرائن موجبة للاطمينان على أحد الطرفين أخذ بها، وإلّا فالأصل عدم التسبيب وأثره عدم الضمان.

ويحتمل الانتقال إلى الأصل المسببي؛ وذلك لأن أصل التسبيب مسلّم وإنما الكلام في قوته وضعفه، فالشك في التسبيب الموجب للضمان، فإن كان قوياً ضمن وإلّا فلا، فيكون الشك بين المتباينين، فلا يجري الأصل في أحدهما، بل يتساقطان بالمعارضة، فتصل النوبة إلى الأصل المسببي وهو عدم الضمان.

البحث الثامن: الطريق إلى معرفة الأقوى

وبعد تمامية كون الضمان على مَن ينسب ويسند إليه الفعل، سواء كان مباشراً أم سبباً، وأنه لو اجتمع المباشر والسبب كان الضمان على الأقوى منهما، لا بد من معرفة كيفية تشخيص الأقوى عن الأضعف.

ص: 116


1- مسالك الأفهام 12: 168؛ مفتاح الكرامة 18: 55؛ جواهر الكلام 37: 63.

وحيث لا دليل خاص في المقام فلا بد من استنباطه من الأدلة العامة، ومنها: «من أتلف مال الغير» والإتلاف موضوع لم يتم تحديده من قبل الشارع، فيؤخذ من العرف، فمَن أسند إليه الفعل هو الأقوى عرفاً، وما يشخصه العرف تابع لارتكازه.

وقد تصدى المحقق الرشتي لبيان المرتكز العرفي في قالب قاعدة فقهية، ولا بأس به لكن لا ندور مداره، فلو اختلف ما ذكره مع الفهم العرفي كان الثاني هو الملاك.

قال: «ميزان قوّة المباشرة صدور الإتلاف مع القصد إلى كونه إتلافاً ومع الاختيار، فلو انتفى أحد الأمرين كانت المباشرة ضعيفة من غير فرق في حال النوم وغيره، فيضمن ولو مع السبب، وإلّا كان مناط الضعف اقتران الإتلاف بالإذن الشّرعي والرخصة الشرعيّة»(1).

فملاك القوة اجتماع قيود ثلاثة: هي المباشرة والقصد والاختيار، والظاهر تماميته وانطباقه على المرتكز العرف.

وأمّا ملاك الضعف فهو تحقق الإتلاف بالإذن الشرعي، فلو كان المباشر للإتلاف مأذوناً والسبب غير مأذون كان المباشر أضعف، وعكسه في عكسه.

لكنه محل تأمل لوجهين:الأول: تهافته مع ملاك الأقوى في عقد السلب، حيث إنه لو لم يكن مباشراً أو لم يكن قاصداً أو لم يكن مختاراً كان ضعيفاً، ففقدان أحد الثلاثة موجب للضعف، فأخذ ميزان الضعف شيئاً آخر تهافت.

ص: 117


1- كتاب الغصب: 37.

الثاني: عدم اطّراد ميزان الضعف، حيث قد يكون إذن شرعي ومع ذلك يثبت الضمان، كما في أكل المخمصة(1) وعلاج الطبيب(2)، فلو كان الأول جائعاً مما أجاز له الشرع الأكل من ملك الغير بلا إذنه، فجاء الثاني وقدّم له طعام الغير كان المباشر مأذوناً والسبب غير مأذون - فرضاً - فهنا تحقق الإتلاف من المباشر بإذن شرعي ومن السبب بلا إذن، ومع ذلك فالمباشر ضامن.

البحث التاسع: تساوي المباشر والسبب

لو تساوى المباشر والسبب(3) عرفاً كان مقتضى القاعدة ضمانهما؛ لاستناد الفعل إليهما، كما هو الحال في المباشرين كما لو رميا معاً، والسببين كما لو أرسلا كلب الصيد.

نعم، لو قام الدليل على ضمان أحدهما دون الأخر كان هو المتبع، كما لو حبسه أحدهما فقتله الآخر(4)، حيث فرّق الشارع في الحكمفحكم بحبس الأول وقصاص الثاني.

وأمّا لو قتلاه معذورين بظن كونه مهدور الدم، فلولا جعل الدية على المباشر كان مقتضى القاعدة جعلها عليهما؛ لعدم وجود أقوى في البين عرفاً، بل ينسب الفعل إليهما معا(5).

ص: 118


1- الدروس الشرعيّة 3: 77؛ الأقطاب الفقهية: 129؛ الروضة البهيّة 5: 452-453.
2- شرائع الإسلام 4: 1019؛ تذكرة الفقهاء 2: 319.
3- إرشاد الأذهان 2: 196؛ غاية المراد 4: 312؛ مجمع الفائدة والبرهان 13: 394.
4- الكافي 7: 287؛ وسائل الشيعة 29: 49، صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين(علیه السلام) في رجلين أمسك أحدهما وقتل الآخر، قال: يقتل القاتل، ويحبس الآخر حتى يموت غماً كما كان حبسه عليه حتى مات غماً».
5- وفيه نظر، فإن العرف يرى أن المباشر هو الأقوى والحابس أتى بالمقدمات فقط (المقرر).

لكن على مبنى المحقق الرشتي(1) حيث فسر الأقوى بالمباشرة مع القصد والاختيار فلا يحصل تساوٍ بين المباشر والسبب أبداً؛ لأن المباشرة أخذت قيداً في الأقوائية.

لكن أصل المبنى محل تأمل، فمع إسناد الفعل إليهما وعدم وجود الأقوى قسم الضمان عليهما؛ لأن دليله كما يشمل المباشر يشمل السبب أيضاً.

البحث العاشر: أقسام الضمان في السبب

ثم إن المحقق الرشتي قسّم أسباب الضمان إلى ثلاثة أقسام(2):

الأول: ما يحكم بالضمان بمجرد وجود السبب في الخارج كالغصب.الثاني: ما يحكم به بعد وجود العلة قبل تحقق المعلول.

والفرق بينهما أن في الأول لم يحدث تلف ولا سببية للتلف، وإنما مجرد غصب، فلو تلف اتفاقاً ضمن، والثاني تحققت السببية للتلف.

ولا يخفى أنه تعبير مسامحي ولا مشاحة فيه، فإن انفكاك المعلول عن العلة محال لكن المراد العلة العرفية، كما لو سقاه سمّاً يموت به بعد شهر، فبمجرد الشرب يضمن، ولو لم يحكم الشارع بالضمان من حين السقي لم يكن معنى للضمان على الساقي إن مات قبل المجني عليه؛ لأنه سالبة بانتفاء الموضوع، لكن مع حكمه بالضمان من اليوم الأول كان تقسيم إرث الساقي مراعى.

الثالث: ما يحكم به بعد التلف في الخارج، فلا ضمان قبل تحقق العلة

ص: 119


1- كتاب الغصب: 37.
2- كتاب الغصب: 40.

والمعلول.

وحاصل الثلاثة: أنه تارة يضمن بحصول سبب الضمان، وتارة بحصول سبب التلف، وتارة بحصول التلف.

ويشكل عليه:

أولاً: إن الضمان المذكور أخذ بمعنيين، فلا يصح أخذه في المقسم إلّا توسعاً ومجازاً، فالقسم الأول والثاني سبب للضمان التعليقي(1)، وأمّاالقسم الثالث فالضمان تنجيزي، ويظهر ذلك من خلال كلامه أيضاً.

وثانياً: تارة يكون الشيء سبباً للضمان، وتارة سبباً لسبب الضمان، وهو التلف، ولا يصح - فنياً - جعل مقسم واحد لهما.

البحث الحادي عشر: فك قيد دابة الغير

اشارة

وهنا فروع يظهر حكمها من مطاوي بيان القاعدة العامة للضمانات.

قال في الشرائع: «لو فك القيد عن الدابة فشردت، أو عن العبد المجنون فأبق، ضمن؛ لأنه فعل فعلاً يقصد به الإتلاف، وكذا لو فتح قفصاً عن طائر فطار مبادراً أو بعد مكث...»(2).

والدليل على الضمان هو السببية بالإضافة إلى الإجماع(3) المدعى، ولا كلام فيه.

ص: 120


1- فلو تلف المغصوب فهو ضامن في القسم الأول، ويظهر التعليق بوضوح في القسم الثاني في ما لو سقاه السم بما يقتله بعد شهر مثلاً، فمات فوراً في حادث سير، فلا ضمان على الساقي، فلا دية ولا قصاص وإنما فعل حراماً (المقرر).
2- شرائع الإسلام 4: 764.
3- جواهر الكلام 37: 66.

ثم إن هاهنا فروعاً:

الفرع الأول: لو أفسدت الدابة بعد إطلاقها

كما لو قتلت أو أتلفت زرعاً أو ما أشبه، فهل يضمن مَن أطلقه وفك قيده؟(1)

قال في التذكرة(2): ولو أفسد الطائر وغيره بخروجه ضمنه، وذلكلنسبة الفعل إليه، مع كون السبب أقوى من المباشر.

وأشكل على إطلاقه في الجواهر(3)؛ وذلك لأن المناط في الضمان نسبة الفعل إلى مَن أطلقه، بحيث يراه العرف سبباً، ويختلف ذلك باختلاف الموارد، فلو أطلق عبداً مجنوناً فسرق بعد مضي سنة، أو أطلق دابة فذهبت إلى الغابة وعادت بعد سنة وأتلفت زرعاً، فلا يعلم نسبة الفعل إليه عرفاً.

وفيه تأمل.

الفرع الثاني: تلفها بعد الإطلاق

ولو أطلق الدابة فتلفت هي، فلو كان ذلك لأجل إطلاقها ضمن لنسبة الفعل إليه، ولكن لو لم يكن لذلك، بل ماتت ميتة طبيعية لحلول أجلها، بحيث لو كانت في القيد لماتت أيضاً، فلا ضمان لعدم الإسناد.

الفرع الثالث: الإسراع في عمليّة الإطلاق

ولو سرّع في إطلاقه(4)، بحيث لو لم يفعل لهرب ولكن بعد ساعة مثلاً،

ص: 121


1- الدروس الشرعيّة 3: 108؛ جامع المقاصد 6: 217؛ جواهر الكلام 37: 66.
2- تذكرة الفقهاء 2: 375.
3- جواهر الكلام 37: 66.
4- الفقه 78: 159.

كما لو كانت الدابة تتحرك بشدة لتفك القيد فساعدها، بحيث كان الإطلاق حاصلاً على كل حال والفارق الوقت، احتمل عدم الضمان؛ لأن الفرار والفساد الحاصل منه متحقق على كل حال فلا وجه للضمان.

لكنه ضعيف، فلا اعتبار بالفرض، وإنما الملاك ما وقع في الخارج،فتعاقب الأسباب لا يكون سبباً لنفي الضمان عن السبب المتحقق، فلو كان شخص على وشك الموت فقتله، ضمنه، فلا يقال: إنه كان ميت لا محالة سواء قتله أم لا، فإن سبب الموت أحد شيئين: المرض المبتلى به أو القتل، فلو لم يحصل الثاني حصل الأول، وهذا لا يكون سبباً؛ لعدم صدق السببية عليه.

وكذا لو هجم عليه الأسد ليفترسه وقبل وصوله رماه بالسهم فقتله، ضمنه، ولا يحق له القول بأنه لو لم يقتله لقتله الأسد.

والحاصل: إن توارد الأسباب المتعاقبة لا يكون سبباً لانفصال النتيجة عن علتها، وعدم ترتب الأحكام على العلة.

وعليه لو أرادت الدابة الفرار فعجّل لهما الفرار، ضمن التلف المستند إليهما كما يضمنهما.

الفرع الرابع: الأجرة المترتبة على الإطلاق

ولو أطلق الدابة فارتكبت عملاً فيه أجرة - سواء كانت الأجرة(1) بضرر مالكها أو بنفعه - كما لو أطلق الأنثى فنزا عليها فحلٌ في ما لو كان يدفع الأجر في مثله كما في فحل الضراب لمالك الفحل، أو العكس بأن أطلق الفحل فنزا على أنثى حيث يوجب له الأجرة، ففي الصورة الأولى الأقوى

ص: 122


1- الفقه 78: 160.

عدم ضمان مالك الأنثى، حيث لم يكن ذلك بطلبه أو بسببه، فلايلزم عليه أجرة، فلا يحق لمالك الفحل أن يطالبه بالأجرة، كما لو اتفق ذلك في القرى والأرياف بين الحيوانات الأهلية، وإن لم يكن هنالك تعدٍّ، ونظيره في الأعمال التبرعية، لو قام متبرع بعمل للمالك كما لو كنس داره من دون طلب منه لم يستحق الأجرة عليه.

وهل يضمن المُطلِق المتعدي؟ يحتمل ذلك، ولكن الأقوى عدم الضمان، فإن ما قام به الفحل يشبه التبرع، فقد كان بإمكان مالكه المنع، حيث لم تكن الأنثى داخلة في ملكه حتى يدعي التعدي على ملكه وخروج الأمر عن اختياره، ومثله لا ضمان فيه.

نعم، لو طلب المتعدي الضراب ضمن، وأمّا بدونه فمجرد الإطلاق لا يكون سبباً للضمان.

وفي الصورة الثانية لو أطلق الأنثى فأتاها الفحل، أو أخرج الشياه من المربض فأكلت طعاماً كثيراً فزادت زيادة، سواء كانت متصلة أم منفصلة، فلا يضمن صاحب الدابة للمتعدي شيئاً.

الفرع الخامس: لو زادت بالإطلاق

والكلام في مالك الزّيادة الحاصلة بالإطلاق، فهل هو المالك أو المعتدي؟

وفيه صورتان:

الأولى: أن لا تكون الزيادة بفعل المعتدي، بأن كان عمله مجرد فك القيد فخرجت الدابة واعتلفت من الصحراء فسمنت، وفي هذه الصورة لاتنسب الزّيادة إلى المعتدي - وإن كان سبباً بالدقة العقلية حيث لو لم يفك القيد لم

ص: 123

تحصل الزّيادة - فإن العرف لا يرى ذلك سبباً، فلا وجه لملكيته لها.

الثانية: أن تكون الزّيادة بفعل المعتدي، كما لو ذهب بها إلى مرعاه وأعلفها من ملكه فحصلت الزّيادة، فهل يكون المعتدي شريكاً في الزيادة؟

يحتمل الشراكة بنسبة الزّيادة، وقد يستدل على ذلك بدليلين:

الأول: قوله تعالى: {وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}(1)، فإن فعل المعتدي وإن كان حراماً تكليفاً لكن لا تلازم بينه وبين الحكم الوضعي، فقد يكون العمل حلالاً أو حراماً وتترتب عليه أحكاماً وضعية، وفي المقام لا منافاة بين الحرمة وبين تملك المعتدي للزيادة، كما ذكروا(2) مثله في باب الشراكة القهرية، فلو خلط لبنه بلبن غيره، كان تصرفه في ملك الغير حراماً، ومع ذلك تحصل الشركة بينهما قهراً.

لكن الاستدلال بالآية بحاجة إلى مزيد تأمل، فليس مفاد الآية أن كل سعي سبب للملكية، فإن السعي أعم من إثباتها.

وبعبارة أخرى: إثبات أن طريق الوصول إلى الملكية هو السعي لا يلازم إيجاب الملكية بكل سعي، فإن إثبات الخاص لا يثبت العام فيمصداقه الآخر، إلّا إذا ثبت التساوي بين الأمرين.

الثاني: صحيحة هارون بن حمزة، عن الصادق(علیه السلام): «عن الرجل يشتري النخل يقطعه للجذوع، فيغيب الرجل فيدع النخل كهيئته لم يقطع، فيقدم الرجل وقد حمل النخل، فقال(علیه السلام): له الحمل يصنع به ما شاء إلّا أن يكون

ص: 124


1- سورة النجم، الآية: 39.
2- المبسوط 3: 78؛ تذكرة الفقهاء 2: 395؛ جواهر الكلام 37: 161.

صاحب النخل كان يسقيه ويقوم عليه»(1).

فهل الحمل في المستثنى للبائع أو هما شريكان؟ الرواية ساكتة عنه، فلا بد من استفادة الحكم من سائر الأدلة وهي تثبت الشراكة، حيث يكون لكل واحد سهمه.

وأكثر صراحةً منها ما ورد عن الصادق(علیه السلام): في الغاصب يعمل العمل أو يزيد الزّيادة في ما اغتصبه، قال: «ما عمل فزاد فهو له، وما زاد مما ليس من عمله فهو لصاحب الشيء، وما نقص فهو على الغاصب»(2).

ولا يخفى أن استفادة الحكم المذكور موقوف على فهم الملاك، فيكون عمله محترماً حتى لو كان غاصباً، فيثبت الحكم في ما نحن فيه بطريق أولى؛ لعدم التعدي وإنما هو مجرد فك القيد.

إلّا أن ضعف السند فيهما مانع عن الاستدلال بهما، فقد وردا فيدعائم الإسلام، وقد مرّ البحث في الكتاب والمؤلّف، ولا يعلم عمل المشهور حتى يقال بالجبر.

الفرع السادس: الإطلاق المأمور به

ولو كان فك القيد بأمر الشارع تجويزاً أو وجوباً، كما لو كان الدار مشرفاً على الانهدام مما يسبب موت المجنون أو الدابة، فأطلقهما، فالأقرب عدم الضمان لجهتين(3):

ص: 125


1- تهذيب الأحكام 7: 206؛ وسائل الشيعة 18: 230. وفي السند يزيد بن إسحاق شعر والأقوى وثاقته (السيد الأستاذ).
2- دعائم الإسلام 2: 486؛ مستدرك الوسائل 17: 94.
3- الفقه 78: 161.

الأولى: قوله تعالى: {مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ}(1) الشامل بإطلاقه لرفع العقوبة والضمان وكل شيء يثبت على المحسن لولا الآية.

الثانية: التلازم العرفي بين الإذن وعدم الضمان.

وفيه نظر؛ لثبوت موارد عديدة أجازها الشارع، بل أوجبها ومع ذلك أثبت الضمان، كأكل المخمصة وعلاج الطبيب(2)، وليس ذلك خلاف القاعدة للنص الخاص، بل لكونه إتلافاً لمال الغير الموجب للضمان.

نعم، قد يستحسن العرف عدم الضمان، لكنه ليس منشأ للحكم الشرعي، إلّا إذا كان بناء العقلاء وأمضاه الشارع، وهو مشكل، ويمكن القول باختلاف الموارد.

الفرع السابع: ترك الإطلاق المأمور به
اشارة

ولو لم يطلقه مع وجوب الإطلاق - كما في انهدام الدار على الدابة - كان عمله حراماً، وأمّا ضمان الدية فقد يقال بكونه سبباً للموت فيضمن، لكنه ضعيف لعدم نسبة الموت إليه.

نعم، قد يستند في إثبات الضمان بالملاك في ما ورد عن علي(علیه السلام): «أنه قضى في رجل استسقى قوماً فلم يسقوه وتركوه حتى مات عطشاً بينهم، وهم يجدون الماء، فضمّنهم ديته»(3).

لكنها ضعيفة سنداً، وجبرها بحاجة إلى عمل المشهور.

ص: 126


1- سورة التوبة، الآية: 91.
2- الدروس الشرعيّة 3: 77؛ الأقطاب الفقهية: 129؛ الروضة البهيّة 5: 452-453؛ شرائع الإسلام 4: 1019؛ تذكرة الفقهاء 2: 319.
3- دعائم الإسلام 2: 423؛ مستدرك الوسائل 18: 332.

هذا تمام الكلام في الفك عن الدابة والطائر والعبد المجنون.

ملحقات
المسألة الأولى: دلالة السارق

قال في الشرائع: «وكذا لو دلّ السارق»(1)، أي: لا ضمان على الدال، وإن فعل محرماً.

وكذا لو عكس بأن دلّه على مكان آمن لإيداع أمواله، فذهب فظهر أنهم لصوص، لم يضمن السبب لكون المباشر أقوى.

لكن يرد عليه ما ورد على سابقه. نعم، استقرار الضمان على المتلف.

واستثنى صاحب المسالك(2) من حكم المشهور بعدم الضمان ما لوكان مستأمناً فأخبر السارق، كان ضامناً، وليس وجه الاستثناء أنه سبب ليشكل عليه بكون المباشر أقوى؛ وإنما لأنه أمين، والتفريط في الأمانة موجب للضمان.

وعلى ما اخترناه فهو ضامن لوجهين: السببية والتفريط.

المسألة الثانية: فتح غطاء الإناء

لو فتح غطاء الإناء فأريق ما فيه من الدهن كان ضامناً؛ لأنه مباشر كما في الشرائع(3)، بخلاف ما لو لم يتوقع ذلك فسقط اتفاقاً بسبب هبوب الرياح، حيث قال: ففي الضمان تردد ولعل الأشبه أنه لا يضمن.

لكن الأقوى الضمان؛ لأن السبب أقوى، فتأمل.

ص: 127


1- شرائع الإسلام 4: 764.
2- مسالك الأفهام 12: 172.
3- شرائع الإسلام 4: 764.
المسألة الثالثة: تبخر ما في الإناء

ولو فتح الغطاء فتبخر ما فيه، قيل: إنه لا يضمن؛ لأن الريح والشمس كالمباشر، فيبطل حكم السبب، كما في الشرائع(1).

وفصّل العلامة في التذكرة(2) والشيخ في المبسوط(3) بين الشمس والريح؛ لأن قصد الإتلاف متحقق في الأول دون الثاني لحصوله اتفاقاً، فحيث لم يقصد الإتلاف لم يضمن.وقد مرّ أنه لا مدخلية للقصد والتوقع والعلم وعدمها في الضمان، بل الملاك صدق (مَن أتلف)، فلا وجه للتفصيل.

والصحيح ثبوت الضمان في كلا الصورتين، وإن كان المباشر أقوى، حيث يجري دليل الضمان فيهما على حد سواء على ما مرّ من التفصيل.

وهناك فروع أخر يظهر الحال فيها مما ذكر.

البحث الثاني عشر: الأصل عند الشك في الضمان

كلما شك في الضمان فالأصل عدمه؛ لأصالة البراءة حيث لا يعلم باشتغال الذمة.

فلو حفر بئراً عدواناً ثم وجد فيها دابة ميتة، ولم يعلم أنها سقطت حية فماتت ليضمن السبب، أو كانت ميتة فألقيت فيها فلا ضمان، فهنا حيث يشك في أصل السببية فالأصل عدم الضمان.

وأمّا لو وجد السبب وشك في وجود مباشر أقوى منه، أو شك في وجود

ص: 128


1- شرائع الإسلام 4: 764.
2- تذكرة الفقهاء 2: 374.
3- المبسوط 3: 90.

سبب آخر، كما لو علم بسقوط الدابة حيّة لكن يشك في وجود المباشر الأقوى، أو وجود سبب آخر أيضاً، كوضع حجر عند البئر لتعثر الدابة، فقد ذهب صاحب الجواهر إلى عدم الضمان أيضاً للأصل المذكور(1).

بيانه: لا شك في تقدم الاستصحاب على البراءة؛ لأنه علم تعبديفيكون وارداً أو حاكماً عليها، وأمّا لو لم يجرِ الاستصحاب جرت البراءة.

وبعبارة أخرى: إنما يجري الأصل المسببي إذا سقط الأصل السببي للتعارض، أو لكونه مثبتاً أو ما أشبه.

وفي المقام الأصل السببي - وهو عدم وجود المباشر الأقوى أو سبب آخر - مثبت؛ لأن لازم عدم وجودهما انحصار الضمان في السبب، وهو لازم عقلي، وبعد سقوط الأصل السببي يبقى الأصل المسببي - وهو البراءة - بلا منازع.

وفيه نظر: فإنه يكفي لإثبات الضمان شمول أدلة الضمان للسبب، من دون حاجة إلى الاستصحاب، وفي المقام لا شك في سببيته فيشمله الدليل، ولا دليل على رفع الضمان عنه.

ولو التزم بما ذكره صاحب الجواهر لأشكل الأمر في موارد عديدة:

كما لو مات بعد وصف الدواء خطأ له، فيشك أنه مات بسبب خطأ الطبيب أو بجلطة قلبية، ولو رماه فقتله فشك أنه قتل بسهمه فقط أو كان هنالك رامٍ آخر، أو شهدا بكونه قاتلاً ثم أقرا بالخطأ، فشك كون الشهود اثنين حتى يضمن كل واحد نصف الدية أو أربعة حتى يضمن ربع الدية. فلا وجه لعدم جريان أدلة ضمان السبب بمجرد احتمال وجود مباشر أو سبب آخر،

ص: 129


1- جواهر الكلام 37: 56.

لا لأجل الأصل حتى يقال بأنه مثبت، بل لإطلاق أدلة الضمان.

فمن حفر بئراً فسقطت فيه دابة كان ضامناً، وإن احتمل سقوطها بدفعدافع، فتأمل.

ثم تطرق صاحب الشرائع(1) إلى ذكر مصاديق متعددة، وبما أن الدليل هو ما ذكرناه فلا داعي لذكرها.

ثم تطرق(2) إلى قاعدة (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) وبما أن الشيخ الأعظم بحثها مستوعباً في المكاسب(3) ندع الكلام إلى محله.

ص: 130


1- شرائع الإسلام 4: 764.
2- شرائع الإسلام 4: 764.
3- كتاب المكاسب 3: 182.

الفصل الرابع: في وجوب رد العين المغصوبة

اشارة

لا إشكال في وجوب رد المغصوب ما دام باقياً.

واستدل له بالأدلة الأربعة:

فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ}(1)، والغاصب لو لم يرجع العين المغصوبة كان آكلاً للمال بالباطل، وهو منهي عنه، ولا يخفى أنه ليس المراد من الأكل خصوص التصرف في المال المغصوب، كما ادعاه بعض، بل يشمل حتى صورة منع المالك من التصرف في ملكه.

لكن لا إطلاق لهذا الدليل: حيث لا يشمل ما لو لم يكن المغصوب مالاً كبقايا الكوز المكسور، فقد مرّ عدم التلازم بين المالية والملكية كحبة حنطة المملوكة والتي لا تُقابل بالمال.

كما أنه قد لا يتصرف الغاصب في العين المغصوبة فلا يطلق عليه الأكل بالباطل، كما لو لم يتصرف الغاصب في الدار وإنما منع المالك من دخولها فقط.

فالآية المذكورة تدل على الحكم في الجملة.

وأما الروايات الدالة على الحكم المذكور فهي متواترة في مختلفالأبواب ومنها: «الغصب كلّه مردود»(2).

ص: 131


1- سورة البقرة، الآية: 188.
2- الكافي 1: 542؛ وسائل الشيعة 9: 524؛ تهذيب الأحكام 4: 130 وفيه: «المغصوب كلّه مردود».

والإجماع(1) قائم على وجوب إرجاع المغصوب إلى صاحبه، بل ادعى في الجواهر ضرورة المذهب(2)، وفي الفقه ضرورة الدين(3).

وأمّا العقل: فشاهد على القبح، فإن الغصب ظلم، والعقل يدرك قبحه ووجوب رفعه، وهو لا يتم إلّا برد العين المغصوبة إلى صاحبها.

المسألة الأولى: الغاصب المجنون والصبي

ولو كان الغاصب مجنوناً أو طفلاً توجه التكليف بالرد إلى الولي.

وأمّا الحكم الوضعي فيدل عليه أولاً: ما قيل: من أن (على) في «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» تفيد حكمين: تكليفي ووضعي، أمّا التكليفي فهو وجوب الإرجاع، وهو متوجه إلى الولي لعدم توجه التكليف إلى الصبي والمجنون. وأمّا الوضعي فهو بيان لثبوت الضمان في الذمة، وهو يشمل الصبي والمجنون، لإطلاق الدليل.

وأشكل عليه: بأنه يعارضه دليل الرفع - بناءً على شموله للحكم الوضعي - لأن النسبة بينهما عموم من وجه؛ لأن الرفع يشمل قلم التكليف والوضع، وعلى اليد يشمل الصغير والكبير، فيتعارضان فيالصبي الغاصب، فالأول ينفي الضمان عنه، والثاني يثبته فيتساقطان، فلا بد من الرجوع إلى الأدلة العامة، فإن دلّت على الضمان أخذ بها وإلّا كانت البراءة محكّمة.

وأجيب: بأن حديث رفع القلم حاكم على أدلة العناوين الأولية، فهو ناظر إليها، فلا وجه للتعارض، وإلّا لزم القول بالتعارض في سائر التكاليف،

ص: 132


1- الدروس الشرعيّة 3: 109؛ رياض المسائل 12: 268.
2- جواهر الكلام 37: 75.
3- الفقه 78: 180.

فالأمر بالصلاة يشمل الصغير والكبير، ورفع القلم يرفع التكليف والوضع فيتعارضان، ولا معنى لذلك؛ لأن الرفع ناظر إلى وجود أحكام تكليفية ووضعية فيرفعها، والحاكم مقدم على المحكوم دائماً، فدليل الرفع في المقام يثبت عدم الضمان.

أقول: لا إشكال في ضمان الصبي؛ لأن الرفع إنّما هو للمِنّة ورفع الضمان خلاف المِنّة للمتلَف منه ولا يعقل الامتنان على شخص بعدم الامتنان على الآخر، فلا يشمل صورة الضمانات، فحتى لو كان حاكماً فليست الحكومة مطلقة. كما في (لا ضرر) حيث يرفع الحكم، لكن لو وصل الأمر إلى الدم فلا يحق له الاقتحام لدفع الضرر عن نفسه.

وثانياً: ما أفاده المحقق الرشتي(1) بأنه إن كان متعلق (على) الفعل، دلّ على الوجوب في المحل القابل له، أي: مَن استجمع شرائط التكليف بالفعل.وإن كان متعلّقه (العين) كان معناه جعله في عهدته، فلا يختص بالمحل القابل فعلاً، ك- (عليه مال)، وبه يثبت الضمان على الصبي.

وفيه: إن المفاد المذكور لا يمكن استظهاره عرفاً من كلمة (على)، بل لو كان المتعلق عيناً كان مرجعه إلى التكليف أيضاً، فإن المراد من التكليف المتعلق بالذات هو الفعل المقصود منها، كما في قوله تعالى: {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ}(2)، أي: أكلها، و {حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمۡ أُمَّهَٰتُكُمۡ}(3)، أي: نكاحهن.

ص: 133


1- كتاب الغصب: 52.
2- سورة المائدة، الآية: 3.
3- سورة النساء، الآية: 23.

وفي المقام المراد من: (على اليد ما أخذت) هو رد ما أخذت، فسواء تعلقت بالذات أم بالفعل كان المراد الفعل، فالتفريق المذكور لإثبات الضمان على الصبي محل تأمل.

فرع: ولو رد الصبي أو المجنون العين المغصوبة، فلا إشكال في جواز تصرف المالك فيها(1)، فلا يقال: إن تصرفاتهما غير معتبرة شرعاً، فلا يحق للمالك التصرف في ما أخذه منهما؛ وذلك لأن تصرفه في ملكه ليس مقيداً بشيء.

لكن لو أتلف الصبي أو المجنون العين المغصوبة ثم أرادا رد المثل أو القيمة فلا يحق للمغصوب منه أخذهما؛ لاستقرار الضمان في ذمتهما بالتلف، ولا نفوذ لفعلهما في نقل ما في الذمة إلى البدل الخارجي - مِثلاًأو قيمة - لأنهما محجور عليهما من التصرف في الأموال.

ولو أخذه المالك لم يملكه؛ لعدم خروجه عن ملكهما، فإن تصرفاتهما غير نافذة، فيعود الأمر إلى الولي ويلزم استئذانه، فإن رضي به فبها، وإلّا طالبه المالك بغيره، ولو امتنع لزم مراجعة الحاكم الشرعي، فإن لم يمكن جاز له أخذ البدل المذكور، لا من باب حقه في تعيين ما في ذمتهما، بل من باب التقاص.

المسألة الثانية: الإسلام بعد الغصب

ولو غصب شيئاً في زمن الكفر ثم أسلم، ففي وجوب إعادة العين أو البدل احتمالات أربعة(2):

ص: 134


1- الفقه 78: 182.
2- الفقه 78: 182.

الأول: وجوب الرد مطلقاً، سواء بقيت العين أم تلفت؛ لقاعدة الغصب مردود كله، وإطلاق أدلتها يشمل المقام.

الثاني: عدم وجوب الرد مطلقاً؛ لأن الإسلام يجب ما قبله(1)، وهي تخصص عمومات التكاليف، ومنها: الأمر برد الغصب، ويؤيّده خبر العباس بن هلال، عن الرضا(علیه السلام): «لو أفضى إليه الحكم لأقر الناس على ما في أيديهم، ولم ينظر في شيء إلّا بما حدث في سلطانه. وذكر أن النبي| لم ينظر في حدث أحدثوه وهم مشركون، وأن منأسلم أقرّه على ما في يده»(2)، مع كثرة الإغارة في زمن الجاهلية، بل كانوا يفتخرون بها.

واستشهد البعض(3) بما رُوي من أن النبي| لم يسترجع ما باعه عقيل، وإنما سكن خارج مكة بعد الفتح قائلاً: «وهل أبقى عقيل لنا داراً، إنا أهل بيت لا نسترجع شيئاً يؤخذ منا ظلماً»(4).

وعلى فرض تماميته فهو من فعله| فلا يمكن الاستدلال به حيث إن العمل لا لسان له، فقد يكون لعدم إرادة الاسترجاع، لا لأجل عدم الحق فيه، فهي قضية أخلاقية، كما في عدم استرجاع أمير المؤمنين(علیه السلام) فدكاً حيث كانت مطالبتها - مضافاً إلى كونها حقاً - لإثبات الخلافة، وحين تحققت فلا داعي للاسترجاع، فمهمة النبي والوصي‘ هداية الناس وبيان الأحكام الشرعية، وأمّا إرجاع ما غصب منهما فهو متروك إليهما ككل ذي

ص: 135


1- الخلاف 5: 548؛ السرائر 1: 380.
2- تهذيب الأحكام 6: 295؛ وسائل الشيعة 27: 292.
3- الفقه 78: 183.
4- علل الشرائع 1: 155؛ مناقب آل أبي طالب 1: 232.

حق يمكنه ترك المطالبة بحقه وعدم استرجاع ما غُصب منه.

وأمّا رواية الإمام الرضا(علیه السلام) فغير معتبرة سنداً.

لكن يمكن الاطمئنان بفعل النبي| بعدم مطالبة الأموال المغصوبة في الجاهلية مع كثرتها، ولو كان لبان.

الثالث: التفصيل بين بقاء العين فيجب ردها، وبين التلف فلا يجب.أمّا الأول: فلأن قاعدة الجب ظاهرة في التكاليف لا الأمور الوضعية. نعم، في خصوص الدماء قام الدليل على عدم القصاص والدية، وقد بيّن ذلك رسول اللّه| في خطبته بعد فتح مكة(1)، وأمّا في غيره فلا، والملكية وزوالها أمر وضعي، فلا يشمله حديث الجبّ.

وأمّا الثاني: فالأمر بدفع البدل حكم تكليفي، تشمله قاعدة الجب.

وفي التفصيل المذكور نظر، فليس الكلام في الرد وعدمه، بل في مرحلة سابقة عليه، وهي اشتغال الذمة وهو أمر وضعي، ولا يخفى أن كل أمر وضعي مستلزم للتكليف وإلّا كان لغواً، فلا فرق بين بقاء العين وتلفها، حيث يحكم تكليفاً بوجوب الرد عيناً أو بدلاً، فلو لم يشمله حديث الجبّ كانت الذمة مشغولة فيجب الرد.

الرابع: التفصيل بين ما اعتبر غصباً شرعاً ولم يعتبر غصباً في دينهم أو مذهبهم، وبين ما كان غصباً عندهم أيضاً، حيث يجب الرد في الثاني دون الأول.

وتدل عليه قاعدة الإلزام، فبالإسلام لا تنتفي لوازمها، فلو أسلم الزوجان لم تجب عليهما إعادة العقد مثلاً، فإن لوازم صحة العقد عندهم مستمرة

ص: 136


1- بحار الأنوار 21: 132.

حتى بعد الإسلام، وكذا لو أسلموا بعد تقسيم الإرث على دينهم فإن التقسيم ماضٍ، ويستثنى من ذلك ما دل عليه النص كالزواجمن خمس زوجات، ولعلّه من باب التخصص لا التخصيص، فتأمل.

وما نحن فيه كذلك، فإن الغارة عند الجاهليين لم تكن غصباً، بل كانت جزءاً من دينهم، وتعتبر عندهم فضيلة ومن علامات الشجاعة والقوة، ومن الأسباب المملّكة - بخلاف السرقة حيث يعتبرونها رذيلة - فحين الإسلام تستمر لوازم عقيدته بالنسبة إلى ما ملكه بالغارة.

والأقرب: الأول، لقاعدة كل شيء مردود، وهي عامة، وتخصص بقاعدة الجبّ في ما علم أنه مصداقه، وأمّا مع الشك فإن إجمالها في المورد المشكوك لا يسري إلى العام، حيث إنه كلما شك في تخصيص العام كان العام جارياً، وليس ذلك من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فإنه إنما يكون في ما شك كونه من أفراد العام.

وفي ما نحن فيه: من المعلوم أنه غصب ولا يعلم شمول حديث الجبّ له للتشكيك في مفهومه أو مصداقه، فيجري دليل الغصب بلا محذور.

والكلام في المخالف المستبصر أيضاً كذلك.

المسألة الثالثة: اعتبار العنوان في رد المغصوب

هل يشترط في تحقق الرد وبراءة الذمة أن يكون الرد بعنوان أنه مغصوب، فلو رده بعنوان آخر - كالهدية - لم يكفِ(1)، فلو تصرف المالك فيه وأتلفه لم تبرأ ذمة الغاصب، وعليه ضمان البدل، أو لايشترط، بل

ص: 137


1- الفقه 78: 185.

يكفي أن يوصله إلى المغصوب منه بأيِّ عنوان كان، أو يفصّل بين ردّه بعنوان أنه ملكه من دون بيان كونه غصباً وبين ردّه بعنوان آخر كالهبة مثلاً؟ احتمالات.

والأقرب هو الأخير أما عدم كفاية الردّ بعنوان آخر فيدلّ عليه نفس الدليل الدال على وجوب الرد، كما ذكره المحقق الرشتي(1)، وأوضحه بمثالين: الضيافة والهبة، فلو غصب منه طعاماً فدعاه وأطعمه لم يكن رداً؛ لأن سلطنة المالك على ماله سلطنة تامة بخلاف سلطنة الضيف، فردّه إليه كأنّه ليس بردّ، وقبضه كأنّه ليس بقبض لنقصان السلطنة، وكذلك الحال في ما لو غصب منه ثم أهداه له، فإنه وإن كانت سلطنة الموهوب له على الهبة سلطنة تامة، لكن المالك يفرق في كثير من الأحيان بين ملكه وبين ما يوهب له، فيختلف تصرفه بينهما سعةً وضيقاً.

والحاصل: إن الدليل الدال على وجوب الرد دال عليه مع السلطنة التامة، بحيث يعلم المالك أنه ماله ومع عدمه فلا يكون مصداقاً للرد.

وأما كفايته لو ردّه بعنوان أنه ملكه - من دون بيان سبب وصوله إلى الغاصب - فهو لأجل أنه ردّ عرفاً وشرعاً مع إرجاع السلطنة التامة للمالك، فهو يتصرف فيه بعنوان أنه ملكه التام الذي رجع إليه.

إن قلت: ثبت في موارد أخرى كفاية مجرد الإيصال ومنها الزكاة،حيث يجوز إعطاؤها للمستحق لا بعنوانها. ففي خبر أبي بصير: قلت لأبي جعفر(علیه السلام): «الرجل من أصحابنا يستحيي أن يأخذ من الزكاة فأعطيه من الزكاة ولا أسمي له أنها من الزكاة؟ فقال(علیه السلام): أعطه ولا تسمّ ولا تذلّ

ص: 138


1- كتاب الغصب: 52.

المؤمن»(1)، وكذلك الحال في الخمس وزكاة الفطرة، ومنها: أداء الدين، حيث يكفي أداؤه بأيّ عنوان.

قلت: أمّا الأول فلا يرتبط بما نحن فيه، حيث إن محل الكلام في رد ملكه إليه، ولا يصدق الرد من دون اعتبار العنوان، وليس منه الزكاة والخمس، حيث الواجب إيصالها للمستحق ولا مدخلية للعنوان في الإيصال، وعلى فرض اشتراط العنوان فيها بنفسه فقد قام الدليل على عدم اللزوم.

وأمّا الثاني فهو أول الكلام، بل تعيين الكلي في المصداق الخارجي بحاجة إلى رضا الطرفين؛ لأن الحق يرتبط بهما، فلو سدّد دينه من دون إعلامه بذلك لم تبرأ ذمته؛ لعدم إحراز رضاه؛ لأن الرضا فرع العلم.

نعم، لو كان هنالك محذور من التصريح بذلك - كما لو سبّب فضحه - فيحتمل صحة الإرجاع من دون اعتبار العنوان بشرط إذن الحاكم الشرعي، هذا إن قلنا بولايته، كما يحتمل الصحة لقاعدة الأهم والمهم ولا ضابطة لها، بل اللازم ملاحظة الأدلة في كل مورد لتشخيص الأهم منبين الملاكات الشرعية.

المسألة الرابعة: امتناع الدائن عن استلام الدين

ولو(2) لم يقبل الدائن استلام الدين مع عدم إبراء المديون(3)، فلا إشكال في إيصاله إليه بأيّة طريقة؛ وذلك لرواية حول القاتل، حيث لم يرض أولياء الدم باستلام الدية، فأمرهم الإمام(علیه السلام) بجعله في أكياس وإلقائه في بيتهم

ص: 139


1- الكافي 3: 563؛ وسائل الشيعة 9: 315.
2- الفقه 78: 185.
3- أو مع إبرائه وقلنا بأن الإبراء عقد بحاجة إلى رضا الطرفين.

حين الصلاة(1)، ولا خصوصية للدية، فيتم تعميم الدليل بإلغاء الخصوصية، كما يمكن الاستدلال له بأن الدائن ممتنع وامتناعه ينافي سلطة المديون على ذمته فيقدّم دليل السلطة على دليل حق الدائن في التعيين، ولكن بعد مراجعة الحاكم الشرعي؛ لأنه ولي الممتنع.

المسألة الخامسة: الجمع بين البدل والمبدل منه

ولو غصب منه شاة فطبخها(2) وأرجعها للمالك فلم يرض به وجب رد البدل مِثلاً أو قيمةً، وكان المطبوخ للغاصب.

ويحتمل لزوم القبول مع أخذ التفاوت بين الشاة الحية والمطبوخة؛وذلك لملاك إيجاد العيب في متاع الغير حيث يضمن التفاوت.

لكنه ضعيف، فإنه في مورد العيب والمقام ليس منه وإنما من منع المالك عن سلطنته، كما أنه قد يكون التصرف موجباً لزيادة القيمة لثبوت أجرة الذابح والطبخ. كما يحتمل أخذ الأصل والبدل لكنه جمع بين البدل والمبدل منه. والأرجح تخيير المالك بين أخذ الأصل أو مطالبة البدل.

المسألة السادسة: حكم رد المغصوب مع التعسّر

لو تعسّر ردّ المغصوب كالخشبة تستدخل في البناء واللوح في السفينة،

ص: 140


1- تهذيب الأحكام 8: 324؛ وسائل الشيعة 22: 399، معتبرة أبي بكر الحضرمي قال: «قلت لأبي عبد اللّه(علیه السلام): رجل قتل رجلاً متعمداً، قال: جزاؤه جهنم، قال: قلت له: هل له توبة؟ قال: نعم، يصوم شهرين متتابعين ويطعم ستين مسكيناً ويعتق رقبة ويؤدي ديته، قال: قلت: لا يقبلون منه الدية؟ قال: يتزوج إليهم ثم يجعلها صلة يصلهم بها، قال: قلت: لا يقبلون منه ولا يزوجونه، قال: يصره صرراً يرمي بها في دارهم».
2- المبسوط 3: 85؛ جامع الخلاف والوفاق: 344.

ففي ذلك قولان:

القول الأول: أنه لا يلزم المالك أخذ القيمة، بل يحق له المطالبة بالعين.

وكذا الحكم في ما لو أوجب ضرراً كبيراً على الغاصب، كما لو كان إخراج الخشبة موجباً لهدم البناء كله، أو استلزم تمييز الحنطة من الشعير بذل مال كثير.

وهذا هو المشهور، بل كاد أن يكون إجماعاً(1)، وعليه مشهور العامة أيضاً كما يستفاد ذلك من بعض العبارات(2).

واستدل لذلك بأدلة:الدليل الأول(3): ما ورد من أن: «الحجر الغصيب في الدار رهن على خرابها»(4)، فلا مانع من هدم كل الدار إن توقف عليه إرجاع الحجر المغصوب.

لكنه محل إشكال، فلا يظهر من الحديث المذكور حكماً تكليفياً بوجوب إرجاع المغصوب حتى مع هدم الدار، بل الظاهر أنه لبيان حكم وضعي، مفاده أن الحجر المغصوب في الدار مستلزم لسلب البركة عنها، فتكون في معرض التلف؛ لأنه سبب لخرابها، إلّا إذا خرج من عهدته، كما لا يحق التصرف في العين المرهونة حتى يفك الدين، وأمّا كيفية الخروج عن العهدة فلم يتطرق له الحديث المذكور، فقد يكون بإرجاع العين أو البدل، وقد يكون بإرضاء صاحبه أو ما أشبه ذلك.

ص: 141


1- رياض المسائل 12: 267؛ جواهر الكلام 37: 75.
2- جواهر الكلام 37: 75.
3- جواهر الكلام 37: 75-77.
4- نهج البلاغة، الحكمة: 240.

والحديث مطلق يشمل ما لو كان المغصوب في بناء السطح، ولم يكن إخراجه مستلزماً لهدم الدار. فالدلالة غير تامة، ولا أقل من الإجمال.

الدليل الثاني: إن الأدلة الدالة على وجوب رد المغصوب(1)، كقوله(علیه السلام): «لأن الغصب كلّه مردود»(2)، تشمل بعمومها مورد الضررعلى الغاصب أو العسر، فقد تصرف في مال الغير عدواناً، وهو غير عاجز على الرد، فالقدرة محققة فيجب الرد.

وفيه تأمل، فإن الأدلة المذكورة منصرفة عن هذه الموارد، فإن الشارع في مقام بيان حكم كلي، وهو أصل وجوب إرجاع الغصب، فلا تشمل هذه المصاديق، بل في أصل الإطلاق تأمل؛ لأن شرطه كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة، وهنا لا يعلم كونه في مقام البيان حتى مع ترتب الضرر العظيم على الغاصب، والبحث في كون الانصراف وعدم الإطلاق مساوقين أو لا في محله من الأصول، فراجع.

ونظيره ما لو كان مديوناً واستلزم إرجاع الدين صرف مال كثير، حيث يشكل الفتوى بوجوب الإرجاع.

الدليل الثالث: عدم شمول أدلة الضرر والعسر للمقام؛ لإقدام الغاصب على عدم احترام مال نفسه - كما لو أقدم على شراء شيء بأضعاف قيمته عالماً بذلك - وحينئذٍ تجري أدلة وجوب رد الغصب بلا منازع.

وفيه تأمل، فقد يُقدم على نفس الضرر - كالمثال المذكور - فلا تشمله

ص: 142


1- جواهر الكلام 37: 75.
2- الكافي 1: 542؛ وسائل الشيعة 9: 524؛ تهذيب الأحكام 4: 130 وفيه: «المغصوب كلّه مردود».

أدلة الضرر، لكن المقام ليس منه، بل أقدام على ما يتخيل أنه نفع له، ويلزمه الضرر لو حكم الشارع بوجوب الإرجاع مطلقاً، وقد لا يعلم بذلك، وقد يتوهم إمكان إرضاء المغصوب منه.

وبعبارة أخرى: إنما أقدم على ارتكاب الحرام لا على الضرر، فتجريأدلة لا ضرر؛ لأن عدم جريانها إنما هو مع الإقدام، وهو منتف.

الدليل الرابع: رواية: «ليس لعرقٍ ظالمٍ حق»(1)، وتُقرأ إمّا بالوصف بحال المتعلق أو الإضافة.

فلو زرع في أرض الغير ظلماً لم يكن له حق فيه، بل يحق للمالك أن يأمره بقلعه وإن تضرر، وحيث لا خصوصية للعرق دلّ على عدم حرمة مال الظالم، ومن مصاديقه المقام.

وفيه إشكالان:

الأول: عدم فهم الإطلاق منه بحيث يشمل الضرر العظيم على الظالم، أو لا أقل من الانصراف بناءً على تغايرهما.

الثاني: منافاتها لحرمة الإسراف، وبعد التعارض إن أمكن الجمع الدلالي العرفي، وإلّا كان الترجيح مع الأقوى سنداً، وفي المقام الأقوى دليل حرمة الإسراف؛ لدلالة الكتاب والروايات المتواترة أو شبهها عليها، وأمّا الحديث المذكور فلا يعدو كونه معتبراً.

وقد يُستدل على الترجيح المذكور بلا ضرر، وقد مرّ الإشكال عليه بكونه في صورة عدم الإقدام، وقد أقدم في المقام، وأجيب بأنه أقدم على الغصب لا الضرر.

ص: 143


1- تهذيب الأحكام 6: 311؛ وسائل الشيعة 19: 157.

القول الثاني: عدم وجوب الردّ، بل يكتفى بالبدل.ومن مطاوي البحوث السابقة يظهر وجه الاستدلال له، وحاصله(1): لزوم الإسراف، وإتلاف الأموال الجليلة، وهو محرم، فلا بد من الجمع بين الدليلين بدفع البدل، وهو جمع عرفي.

بالإضافة إلى الآيات الكريمة، ومنها: {وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ}(2)، فهدم الدار ليس من المثل وإنما دفع البدل.

مثلاً: لو أضرّه بهدم حائطه ظلماً أو جهلاً ضمن مثله، ولا يحق للمالك مطالبة الأكثر. نعم، في الغصب كان فعله حراماً، ولو امتنع من الأخذ أعطاه للحاكم الشرعي؛ لأنه ولي الممتنع.

وبعد عدم حجية الشهرة الفتوائية يكون مقتضى القاعدة خلاف ما ذهب إليه المشهور، وقد رجحه السيد الوالد في الفقه(3).

ولا يخفى أن كل ما ذكر من لزوم الفرز إنما هو مع العلم والعمد. وأمّا مع الإكراه أو الجهل أو بفعل ثالث أو أجاز المالك ثم رجع، فإنه وإن لم يكن غصباً لكنه ملك الغير، فلا إشكال في عدم وجوب إرجاع العين؛ لعدم شمول أدلته، ومنه الإقدام حيث لم يتحقق، وأدلة وجوب الردّ منصرفة عنه حتى على المشهور. فإن أدلة (لا ضرر) حاكمة على دليل الردّ.

المسألة السابعة: في منافع المغصوب

وأمّا المنافع المستوفاة والتي هي غير قابلة للاسترجاع فاللازم دفع بدلها

ص: 144


1- الفقه 78: 194.
2- سورة الشورى، الآية: 40.
3- الفقه 78: 196-197.

للمالك، ولو تنزلت القيمة لمكان الانتفاع لزمه دفع التفاوت أيضاً، ولو عيب لزمه دفع التفاوت بين الصحيح والمعيب، كل ذلك ل- (لا ضرر)، بناءً على كونه مثبتاً للحكم، وأيضاً لأنه إتلاف أو تعييب مال الغير فيشمله أدلتها، وغير ذلك من الأدلة.

نعم، لو اعتبرت الأجرة بديلة عن تنزل قيمة الأصل عرفاً اُكتفي بها حيث لا يجمع بينهما.

ولو لم يكن للمغصوب أجرة فمقتضى القاعدة لزوم إرجاع مثله لينتفع منه المالك بقدره كما ذكره السيد الوالد(1)؛ وذلك لأنه لا خصوصية للأجرة، بل لأنها أقرب الأبدال، وحيث لا أجرة فيكون البدل نظيره، ولإطلاق قوله تعالى: {وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ}(2)، وقوله سبحانه: {وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ}(3).ولو لم يكن له مثل أدى الأقرب فالأقرب.

المسألة الثامنة: في فساد العين بالردّ

ولو استلزم إخراج المغصوب - بناءً على المشهور من وجوب الإرجاع

ص: 145


1- الفقه 78: 189، وفيه: «ولا يبعد أن يكون على الغاصب إعطاء مثل المغصوب لمثل تلك المدة إذا لم تكن للمغصوب أجرة، مثلاً: إذا غصب إبريقه ساعة وغصب الإبريق ساعة لا أجرة له، فإنه يجب عليه إعطاء إبريقه له ساعة أيضاً، وإذا لم يعطِ كان للمغصوب منه الحق في الأخذ؛ لأنه داخل في قوله تعالى: {وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ}، وقوله سبحانه: {فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡۚ}، وغيرهما من الآيات والروايات؛ إذ لا خصوصية للأجرة».
2- سورة الشورى، الآية: 40.
3- سورة النحل، الآية: 126.

مطلقاً أو في ما لم يكن إخراجه سبباً للضرر - فساده... .

فإن طلبه المالك وجب على الغاصب إرجاع العين، فإن تنزلت القيمة ضمن الأرش، وإن سقطت ماليته حق للمالك مطالبة القيمة أيضاً، كما ذهب إليه بعض الفقهاء ونسب إلى المشهور(1).

أمّا العين فلأنها ملكه ولا تخرج عنه بسقوط المالية، وأمّا القيمة فلأنه أذهب ماليته فيضمنها، وهو مقتضى الجمع بين دليل بقاء الملكية ودليل ضمان المالية.

لكنه محل إشكال؛ لاستلزامه الجمع بين العوض والمعوض، وظاهر الأدلة هو حق المالك في أحدهما وعليه بناء العقلاء، وما ذكر(2) من كونه مقتضى الجمع بين الأدلة خلاف الظاهر، ويؤيّده ما يُعطى في بدل الحيلولة، حيث لو أراد المالك أصل ماله بعد العثور عليه كان عليه إرجاع البدل.

وعليه فلا مجال للاستدلال بالاستصحاب لبقاء الملكية(3)، حيث لاشك في المقام بعد ظهور الأدلة الاجتهادية، وكذا لا مجال لرد المحقق الرشتي(4) على الاستصحاب بوجود المانع وهو تبدل الموضوع؛ وذلك لانتفاء الاستصحاب رأساً، حيث لا شك لاحق، فإن الموضوع لم يتبدل، بل هو هو إلّا أنه سقطت ماليته؛ ولذا لو أراد عين ماله حق له ذلك، ويبعد القول

ص: 146


1- مسالك الأفهام 12: 176؛ جواهر الكلام 37: 76.
2- جواهر الكلام 37: 77.
3- كفاية الأحكام 2: 639.
4- كتاب الغصب: 54.

بعدمه لتبدل الموضوع.

المسألة التاسعة: امتزاج مال المالك بمال الغاصب

لو امتزج مال المالك بمال الغاصب مما يصعب تمييزه كالحنطة بالشعير، حيث يتعسر على الغاصب أو استلزم الضرر عليه.

فقد ذكر الفقهاء في كتاب الشركة(1) أنه لو لم يمكن التمييز تحققت الشركة القهرية، لكن لو تعسر التمييز ففي الشرائع: «لو مزجه مزجاً يشق تميّزه، كمزج الحنطة بالشعير أو الدخن بالذرة، كلّف تميّزه وإعادته»(2).

ويرد عليه ما مرّ في تعسّر ردّ المغصوب في المسألة السادسة، فمقتضى القاعدة القول بالشركة، فلو نقصت القيمة بالخلط، كما لو كان سعر الحنطة دينارين وبخلطه بالشعير أصبح ديناراً، كان الضرر على الغاصب، ولو لم يُرِد الشركة رجع إلى الحاكم ليفسخها.

ومن فروع هذه المسألة: ما لو خاط ثوبه بخيط مغصوب، والحكم فيهكما في المسألة السابقة(3).

المسألة العاشرة: خياطة الجرح بالخيط المغصوب

اشارة

وأمّا لو خاط الجرح بخيط مغصوب فقد قال في الشرائع: «لو خاط بها جرح حيوان له حرمة لم ينتزع إلّا مع الأمن عليه، تلفاً وشيناً، وضمنها»(4).

ص: 147


1- الروضة البهيّة: 4: 197؛ رياض المسائل 9: 55؛ جامع المدارك 3: 120.
2- شرائع الإسلام 4: 764.
3- شرائع الإسلام 4: 764، وفيه: «ولو خاط ثوبه بخيوط مغصوبة، فإن أمكن نزعها، ألزم ذلك، وضمن ما يحدث من نقص. ولو خشي تلفها بانتزاعها لضعفها ضمن القيمة...».
4- شرائع الإسلام 4: 764.

والكلام فيها في فروع خمسة:

الفرع الأول: في الإنسان المحترم

فلو(1) كانت الخياطة واجبة - كما في المجروح المشرف على الموت مثلاً - ولم يتوفر إلّا الخيط المغصوب فلا إثم على الطبيب، بل لو تركه كان آثماً، كما لا ضمان عليه لما مضى من كونه محسناً، ولدلالة وجوب العلاج بالدلالة الالتزامية على عدم الضمان عرفاً، وقد مرّ البحث فيه نقضاً وإبراماً.

نعم، المريض يضمن الخيط، وعليه أن يؤدّي ثمنه؛ وذلك للجمع بين الحقين، فحيث أخذ المعوض فعليه دفع العوض.

لكن ذهب في المسالك(2) إلى ضمان الطبيب لترتب يده على ملك الغير، فيشمله: «على اليد ما أخذت»، وكذا «من أتلف مالالغير».

لكنه محل تأمل؛ للانصراف بالإضافة إلى حكومة دليل الإحسان.

هذا في ما لو كان الجريح غير الطبيب، وأمّا لو خاط جرح نفسه ضمن للجمع بين الحقين.

ولو لم ينحصر في المغصوب لكنه غصبه وخاط به جرح نفسه، ففي الجواهر(3) جواز إخراجه وإن أدّى إلى موته؛ لأن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال، وللإقدام على الضرر.

وفيه تأمل؛ لعدم الدليل على الأول إلّا كلام بعض الفقهاء ولا مستند له؛ ولعدم إقدامه على الضرر، بل على الغصب وليس هو منه، بل حتى إن أقدم

ص: 148


1- مسالك الأفهام 12: 178.
2- مسالك الأفهام 12: 178.
3- جواهر الكلام 37: 81.

عليه إلّا أنه ليس كل إقدام سبب؛ لعدم شمول الدليل كما مرّ في باب الأطعمة والأشربة في بحث الباغي والعادي إذا اضطر إلى أكل الميتة، حيث ذكرنا(1) جواز الأكل مع ثبوت الإثم عليه لتقصيره، وإن أفتى بعض الفقهاء بعدم الجواز حتى الموت(2).

الفرع الثاني: في الإنسان غير المحترم

فلو جُرح الكافر الحربي فخيط جرحه بخيط مغصوب فالمشهور(3)على أنه يحق للمالك مطالبة العين، وإن استلزم استرجاعها موته أو دخول الشين عليه؛ لعدم احترامه، وثبوت الحق للمالك دونه، فلا مجال للجمع بين الحقين.

لكن السيد الوالد لم يرتضِ ذلك(4)، فليس معنى نفي احترامه جواز تشويهه أو المثلة به، أو قطع أعضائه وما أشبه ذلك، بل جواز قتله بالطرق المعتادة، كما هو المستفاد من الأدلة لا أكثر من ذلك.

الفرع الثالث: في الحيوان المأكول المحترم

فلو اضطر إلى أن يخيط جرحه فخاطه بخيط مغصوب، ففيه صورتان:

الأولى: أن يكون الحيوان ملك الغاصب، فالمشهور(5) أنه يخرج الخيط وإن أدى إلى موته.

ص: 149


1- نبراس الأحكام، كتاب الأطعمة والأشربة: 480.
2- المؤتلف من المختلف 2: 473؛ السرائر 3: 113؛ مختلف الشيعة 8: 320.
3- تحرير الأحكام 4: 528؛ جامع المقاصد 6: 304؛ مفتاح الكرامة 18: 289.
4- الفقه 78: 206.
5- المبسوط 3: 87؛ تحرير الأحكام 4: 528؛ الدروس الشرعيّة 3: 109؛ مفتاح الكرامة 18: 289.

لكن إطلاقه محل تأمل؛ لحرمة الإسراف وهو مقدم على دليل رد المغصوب على ما مرّ تفصيله، بالإضافة إلى لا ضرر، وقد قلنا: إن إقدام الغاصب لا يستلزم انصرافه عن مثل هذه الموارد.

نعم، إن أمكن الجمع بين الحقين بأن يذبح الحيوان لأكله ومن ثَمّ يستخرج خيوطه لزم ذلك.

الثانية: أن لا يكون الحيوان ملك الغاصب، فقد قيل: إنّ الحكمكذلك.

لكن لا وجه له؛ لأنه تعدٍّ على مالك الحيوان ولا يتدارك بالذبح، فقد يسبب ضرراً عليه؛ لكون المذبوح أقل سعراً، أو لعدم حاجته للحم، وحتى لو لم يسبب ضرراً عليه فلا وجه لإجباره على ذبح ماله، مع أنه لم يُقدم على الغصب، حيث لا يعلم شمول أدلة وجوب رد المغصوب للمقام.

الفرع الرابع: في الحيوان غير المأكول المحترم

ويجري(1) فيه ما جرى في الثالث، وحيث لا تنحصر الاستفادة منه في الأكل فلا يشكل بعدم الانتفاع بالذبح؛ لإمكان الاستفادة من جلده أو تجفيفه للزينة مثلاً، فالملاك ملاحظة دليل الإسراف ولا ضرر، فإن لم يتم أحدهما جرى دليل رد الغصب فيذبح ليسترجع الخيط.

الفرع الخامس: الحيوان غير المحترم

والحيوان غير المحترم كالخنزير(2)، حيث لا يملك ولا منفعة محللة له، والحكم فيه لزوم إخراج الخيط المغصوب إن أراده المالك، وإن أدّى إلى موته.

ص: 150


1- مفتاح الكرامة 18: 289.
2- المبسوط 3: 87؛ تذكرة الفقهاء 2: 396.

لكن إطلاقه محل تأمل، فإنه وإن قال البعض(1) بجواز إيذاء الحيوان، لكن الظاهر أنه من مصاديق الظلم، ومجرد كونه غير محترم لايسوّغ إيذاءه أو قتله.

نعم، دل الدليل على كراهة قتل النمل(2)، وقام الدليل(3) - كالسيرة - على جواز قتل المؤذي، وربما ينصرف دليل الظلم عن بعض الحيوانات كالحشرات، وأمّا ما عدا ذلك فلا يعلم جواز قتله اعتباطاً، ومما يؤيّد ذلك لزوم القصر في ما إذا ذهب لصيد اللهو(4)، فإن القصر إمّا ناشئ عن الدليل، وإمّا لأجل كون الصيد كذلك محرماً كما هو الأقرب؛ لأن قتل الحيوان لا بسبب عقلائي ظلم(5)، وللجمع بين الحقين يضمن الغاصب البدل.

المسألة الحادية عشرة: حصول العيب في المغصوب

اشارة

قال في الشرائع: «لو حدث في المغصوب عيب، مثل تسويس التمر أو تخريق الثوب رده مع الأرش»(6).

ص: 151


1- مهذب الأحكام 4: 355.
2- وسائل الشيعة 11: 536، وفيه: علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر(علیه السلام) قال: «سألته عن قتل النملة أيصلح؟ قال: لا تقتلها إلّا أن يؤذيك».
3- كشف اللثام 5: 324 و 11: 275؛ جواهر الكلام 20: 172 و 43: 132.
4- مستند الشيعة 8: 263.
5- أقول: منتهى ما ذكره السيد الأستاذ حرمة قتل الحيوان بالعنوان الأولي، لكن إن ترتب عنوان آخر - كالإيذاء أو ما أشبه ذلك - فلا حرمة، والمقام من قبيل الثاني لترتب حق الغير، ولا وجه للجمع المذكور بعد ثبوت حق المالك في عين ماله، وضعف دليل حرمة قتل الحيوان غير المحترم (المقرر).
6- شرائع الإسلام 4: 765.

ولا فرق في ذلك بين حصول العيب بفعل الغاصب أو بغيره.وفي المسألة أقوال:

القول الأول: ما هو المشهور من رد العين وضمان الأرش، وهو التفاوت بين الصحيح والمعيب.

أمّا العين فلأنه ملكه ولا يخرج عنه بالتغيير فيها، وأمّا الأرش فللإجماع الذي ادعاه في الجواهر(1)، لكنه غير ثابت بالإضافة إلى معلومية مستنده؛ ولأنه اللازم العرفي لوجوب رد العين بأوصافها، فمع إذهاب الوصف يلزمه قيمته وهو التفاوت.

القول الثاني: التخيير بين ما عليه المشهور وبين أخذ البدل ل- (لا ضرر)، حيث إن الحكم عليه بانحصار حقه في أخذ العين قد يكون ضررياً، فيرتفع الانحصار فيثبت التخيير على بعض المباني، والقول بأخذ العين وبيعها إجبار للمالك على ما لا يرضاه.

لكنه أخص من المدعى، فهو تام في صورة الضرر وأمّا مع عدمه فلا.

إن قلت: يبيعه.

قلت: قد لا يحصل مشترٍ، فإجباره على أخذ الأصل مع التفاوت قد يكون فيه الضرر عليه، فتأمل.

القول الثالث: ما ذكره المحقق الرشتي(2) من أخذ العين والأرش وإن كان مستوعباً للقيمة.وهو تفصيل في القول الأول.

ص: 152


1- جواهر الكلام 37: 83.
2- كتاب الغصب، للرشتي: 55.

لكن مرّ أن أدلة رد المغصوب لا تشمل صورة الجمع بين العوض والمعوض.

فرع: في العيب الساري

قال في الشرائع: «ولو كان العيب غير مستقر كعفن الحنطة، قال الشيخ: يضمن قيمة المغصوب، ولو قيل برد العين مع أرش العيب الحاصل ثم كلما ازداد عيباً دفع أرش الزيادة كان حسناً»(1).

كما لو غصب حنطة وجعلها في مكان مرطوب فتعفنت قليلاً، ثم أرجعها فزاد العيب تدريجاً.

وفي المسألة أقوال ثلاثة:

الأول: ما اختاره الشيخ الطوسي(2).

الثاني: ما حسنه صاحب الشرائع، وربما هو المشهور(3).

الثالث: لجامع المقاصد(4) متردداً فيه، حيث فصّل بين إمكان منع السراية بسهولة، كما لو أمكن وضع اللحم في البراد مما يمنع سراية العيب فلم يفعل المالك، فلا يضمن الغاصب العيب الساري، وبين ما لم يمكنفعليه الضمان.

واستدل للقول الأول(5): بأنه لو ترك بحاله لفسد فهو كالتالف.

ص: 153


1- شرائع الإسلام 4: 765.
2- المبسوط 3: 82.
3- تذكرة الفقهاء 2: 390؛ إيضاح الفوائد 2: 180؛ مسالك الأفهام 12: 181؛ مجمع الفائدة والبرهان 10: 522؛ جواهر الكلام 37: 83.
4- جامع المقاصد 6: 268.
5- المبسوط 3: 82.

لكنه محل تأمل؛ فإن المعيوب غير التالف. نعم، مآله إلى التلف والفرق بينهما واضح.

واستدل للقول الثاني(1): بأنّ العين ملك المغصوب منه، ولا يخرج بالعيب عن ملكه فله الحق فيها، ويحق له مطالبة أرش العيب الحادث؛ لأنه أذهب الوصف فيضمنه، وأمّا العيب اللاحق فلا يضمنه؛ لعدم وجوده، فهو من ضمان ما لم يجب، ولا تشمله أدلة الضمان والأرش. نعم، لو تجدد العيب ضمنه لأنه السبب.

وأشكل عليه في الجواهر(2): بأن تقييم الأرش يختلف بين العيب الساري وغيره، فلو قومّه أهل الخبرة على النحو الأول فلا مجال لأخذ زيادة بعد السراية.

ولا بأس به، إلّا أنه لو لم يحتمل الزيادة فأخذ أرش العيب غير الساري فسرى حق له مطالبة الزيادة.

واستدل للقول الثالث(3): بأن الزيادة لا تُنسب عرفاً إلى الغاصب، بل هي بسبب إهمال المالك؛ ولذا لا ضمان في ما لو تحقق الفعلالاختياري بين السبب والتلف، حيث لا ينسب التلف إلى السبب، بل إلى الفعل، كما لو قطع إصبعه فأمكنه إيقاف النزيف فلم يفعل ومات، فلا يضمن إلّا الإصبع؛ وذلك لتخلل الفعل الاختياري، اللّهم إلّا إذا لم يمكنه ذلك، فيكون السبب ضامناً للنفس، وهو الأرجح.

ص: 154


1- جامع المقاصد 6: 266.
2- جواهر الكلام 37: 84.
3- جامع المقاصد 6: 268.

والحاصل: على الغاصب إرجاع العين وضمان الأرش الساري، وأمّا لو أدّى أرش العيب الموجود ثم سرى، فإن لم يكن بإهمال المالك ضمنه الغاصب ومع إهماله فلا ضمان.

المسألة الثانية عشرة: تفاوت القيمة

ولو تنزلت القيمة السوقية للمغصوب فهل يضمن الغاصب؟

قال في الشرائع: «ولو كان(1) بحاله رده، ولا يضمن تفاوت القيمة السوقية»(2).

أمّا الرد فواضح؛ لأنه عين ماله ولم يخرج عن ملكه بالغصب، أمّا التفاوت فالمشهور(3) عدم الضمان للإجماع(4)، ولعدم تغير شيء من العين والأوصاف، بل المتغير رغبة الناس حيث تنقص القيمة عند قلة الرغبة(5)، ولا يرتبط ذلك بالغاصب.لكن إطلاقه محل تأمل، فقد لا يقصد المغصوب منه البيع وسائر المعاملات، فلا مدخلية لانخفاض القيمة في غرضه، فيكون ما ذكره المشهور تاماً، حيث لا وجه لضمان التفاوت؛ لأن إثبات الضمان بحاجة إلى دليل وهو مفقود.

أمّا لو كان قاصداً للبيع فلم يتمكن منه بسبب الغصب كان الغاصب

ص: 155


1- أي: المغصوب.
2- شرائع الإسلام 4: 765.
3- مسالك الأفهام 12: 181.
4- جواهر الكلام 37: 85.
5- مسالك الأفهام 12: 181.

ضامناً؛ لصدق الإضرار، فيشمله دليل (لا ضرر) على المبنى.

وأمّا الإجماع فلم يثبت، بل مجرد شهرة مستندة، ومثلها ليس بحجة.

وقد ينقض كلامهم بموردين أفتوا بالضمان فيهما:

الأول: ما لو غصب الثلج في الصيف وأراد أداء مثله في الشتاء حيث أفتوا بضمان القيمة(1).

الثاني: ما لو غصب الماء في الصحراء وأراد أداء مثله عند النهر(2).

والقول بالفرق بسقوط القيمة رأساً فيهما وانخفاضها في المقام غير فارق، فالمتغير في المقامين رغبة الناس المؤثّرة في انعدام القيمة أو انخفاضها، فكما يضمن القيمة في المثالين مع عدم ورود نص خاص كذلك في المقام، حيث لم يتغير العين والوصف، ودليل (لا ضرر) مشترك.وينقض أيضاً بفتوى بعض الفقهاء(3) بضمان قيمة التنزل في ما لو لم يغصب وإنما منع من البيع مثلاً فتنزلت القيمة، فكيف يُفتي بعدم الضمان في المقام؟ ومجرد الفرق بينهما بكونه غصباً للحق أو منعاً عن التصرف في الحق غير فارقٍ.

والحاصل: إن مقتضى القاعدة في الضمان وعدمه ملاحظة تضرر المغصوب منه.

ص: 156


1- تذكرة الفقهاء 2: 384؛ إيضاح الفوائد 2: 177؛ الدروس الشرعيّة 3: 113؛ جامع المقاصد 6: 258.
2- قواعد الأحكام 2: 228؛ جامع المقاصد 6: 258.
3- نهج الفقاهة: 155.

الفصل الخامس: في المثلي والقيمي

اشارة

ولو لم يمكن أداء عين المغصوب للتلف أو للحيلولة، ضمن البدل مِثلاً أو قيمةً.

قال في الشرائع: «فإن تلف المغصوب ضمنه الغاصب بمثله إن كان مثلياً... وإن لم يكن مثلياً ضمن قيمته»(1).

ويتم الكلام ضمن مباحث: في الدليل الدال على تخصيص المثل في المثلي والقيمة في القيمي، وفي حقيقتهما، وفي كيفية التمييز بينهما، وفي ملاكهما.

البحث الأول: في الدليل

ويدل على ذلك:

أولاً: الإجماع المدعى، وقد أرسله البعض إرسال المسلّمات(2)، وقال بعض: إنه من مسلّمات الفقه(3).

وثانياً: الروايات الدالة على أداء القيمة في القيميّات، وهي متفرقة فيأبواب كتب الأخبار، وقد جمعها السيد الوالد في الفقه(4).

ص: 157


1- شرائع الإسلام 4: 765.
2- جامع المقاصد 6: 245؛ جواهر الكلام 37: 85.
3- جواهر الكلام 37: 85، وفيه: «بل هو من قطعيات الفقه»؛ الفقه 78: 218.
4- الفقه 78: 219-223.

فمنها: أداء قيمة الولد في ما لو استولد الجارية المغصوبة جاهلاً بالغصب(1).

ومنها: ما ورد في صحيحة أبي ولّاد من ضمان قيمة البغل(2).

ومنها: ما ورد في الشجر والزرع والبيت والبئر والنهر(3) من ضمان القيمة، وأشكل عليه بعدم دلالته على المقصود لإطلاق القيمة على المثل! وهو محل نظر، فلو أدّى المثل - كما لو أعطى شاة بدل الشاة التالفة - لم يطلق عليه أنه أدّى القيمة.

نعم، لم يرد في الروايات ضمان المثل في المثليّات.

وأمّا(4) الاستدلال بقوله تعالى: {وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَاۖ}(5)، وقولهسبحانه: {وَمَنۡ عَاقَبَ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبَ بِهِۦ}(6) فغيرُ تامٍ، حيث لا تدل على المراد؛ لأن المثل بمعنى النظير الشامل للأعم من المثل والقيمة، كما

ص: 158


1- تهذيب الأحكام 7: 82؛وسائل الشيعة 21: 205، خبر جميل بن دراج، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجيئ مستحق الجارية، قال: يأخذ الجارية المستحق ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه».
2- الكافي 5: 290؛ وسائل الشيعة 19: 120.
3- مستدرك الوسائل 17: 95، وعن أمير المؤمنين(علیه السلام): «أنه قضى في من قتل دابةً عبثاً، أو قطع شجراً، أو أفسد زرعاً، أو هدم بيتاً، أو عور بئراً أو نهراً، أن يغرم قيمة ما استهلك وأفسد، ويضرب جلدات نكالاً، وإن أخطأ ولم يتعمّد ذلك، فعليه الغرم ولا حبس عليه ولا أدب، وما أصاب من بهيمة فعليه ما نقص من ثمنها».
4- الفقه 78: 219.
5- سورة الشورى، الآية: 40.
6- سورة الحج، الآية: 60.

يشمل القصاص والدية.

وثالثاً(1): إن المعنى المفهوم عرفاً من أدلة رد المغصوب مثل: «الغصب كله مردود»، و: «على اليد» هو أداء العين أولاً ثم الأقرب فالأقرب، والأقرب في المثليّات المثل وفي القيميّات القيمة.

لكن إطلاقه محل تأمل؛ لأنه قد يكون الأقرب إلى المثلي القيمة، والأقرب إلى القيمي المثل، خصوصاً مع ملاحظة الضرر أو الحرج، فلو أتلف شاته وأبدله بالقيمة لم يرَ العرف أنه الأقرب، خاصة في ما لو كان ذلك يضره؛ لاستلزامه الذهاب إلى المربض وشراء شاة مما ليس من شأنه مثلاً، بل الأقرب أداء شاة مثلها.

نعم، ربما يكون الأقرب في المثليّات هو المثل غالباً، لكن قد يكون ذلك ضرراً على المغصوب منه، كما لو غصب منه الحنطة في الشتاء وأراد الأداء صيفاً مما يتلف في الحر، حيث يرى العرف أن القيمة أقرب ولو بمعونة دليل لا ضرر، فتأمل.

البحث الثاني: في المثلي

اشارة

وفيه مطالب:

المطلب الأول: في تعريف المثلي

والظاهر عدم تحديدهما في الروايات، فالأمر موكول إلى العرف، ويتبدل باختلاف الأعراف، فقد يكون الشيء مثليّاً في زمان قيميّاً في زمان آخر، مثلاً كانت الأقمشة يدويّة لم يكن لها مثل فكانت قيميّة، لكنها اليوم صناعة

ص: 159


1- الفقه 78: 218.

المعامل فتكون مثليّة.

واعتبر الفقهاء(1) البيت والأرض من القيميّات، لكن لا يبعد كونهما من المثليّات في الجملة في ما لو اتحدت جميع مواصفاتها وأسعارها، فالمرجع هو العرف.

ولا يخفى أن الأمر لا يدور مدار لفظ القيمي والمثلي، حيث لم يرد لفظهما في الروايات، بل الأمر يدور مدار الواقع.

وقد اختلف الفقهاء في تعريفهما:

1- فقال في الشرائع في تعريف المثلي: «وهو ما يتساوى قيمة أجزائه»(2)، فنصفه نصف القيمة، وربعه ربعها كالحنطة بخلاف الثوب والشاة.

2- وقال في التحرير: ما يتماثل أجزاؤه وتتفاوت صفاته(3).

وإنما ذكر التفاوت لعدم اتحاد المثلي في كل جزء جزء كحباتالحنطة.

3- وفي الدروس: المتساوي الأجزاء والمنفعة والمتقارب الصفات(4)، وقربه في المسالك(5).

4- وحيث إن الحنطة من المثليّات وتختلف في أنواعها قال بعض الفقهاء: ما تتساوى أجزاؤه في الحقيقة النوعية(6)، ويظهر ذلك في الرز

ص: 160


1- جواهر الكلام 37: 89؛ كتاب القضاء، للآشتياني: 307؛ حاشية المكاسب، للهمداني: 118.
2- شرائع الإسلام 4: 765.
3- تحرير الأحكام 4: 529.
4- الدروس الشرعيّة 3: 113.
5- مسالك الأفهام 12: 183.
6- غاية المراد 2: 398.

أيضاً، حيث يختلف أنواعه طعماً وشكلاً ورائحةً وحجماً وقيمةً، لكن النوع الواحد منه متساوي الأجزاء والخصوصيّات.

وحيث إن مراد الفقهاء بيان المرتكز العرفي فلا وجه للنقض والإبرام فيها، وإن كان تعريف الدروس أفضل.

وبعبارة أخرى: إن اختلاف الفقهاء في تعريفهما ليس لاختلافهم في معناهما، بل لبيان المعنى المرتكز في أذهانهم المأخوذ من أعرافهم؛ ولذا لم يعرفهما بعض الفقهاء أصلاً؛ وذلك لأن الموضوع الذي لم يحدده الشارع موكول إلى العرف قال تعالى: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ}(1)، ويستثنى من ذلك الموضوع المستنبط وما تصرف الشارع في موضوعه العرفي، والمقام من المستثنى منه، ولو خالف ما ذكره الفقهاء للمرتكز العرفي كان الثاني هو المناط.ولذا أحال المحقق الأردبيلي(2) الأمر إلى العرف وإن لم ينطبق تعريف الفقهاء عليه، فلو كان للفرس والثوب شبيه من كل الجهات أو غالبها كان مثليّاً لا قيميّاً.

وأشكل عليه في الجواهر(3): بأنه مخالف للإجماع أولاً، وثانياً: إن الكبرى تامة لكن تم تحديد الموضوع من الشارع في المقام فلا مجال للعرف.

ويظهر ذلك بمراجعة الأدلة، حيث حكم الشارع بالقيمة في الموارد التي

ص: 161


1- سورة إبراهيم، الآية: 4.
2- مجمع الفائدة والبرهان 10: 525.
3- جواهر الكلام 37: 88.

يراه العرف مثليّاً، ومنها: كل ما ورد في الروايات في ضمان الحيوان(1)، مع أن المحقق الأردبيلي(2) حكم بالمثلي في الحيوان إذا وجد له شبيه، ومنها: الأكل من المائدة الموضوعة في الطريق، حيث حكم الشارع بأنها تقوّم ثم تعطى القيمة لصاحبها إن وجد(3)، مع أن الطعام كثيراً ما يكون مثليّاً.

ومن هذين الموردين وموارد أخرى يفهم أن المثلي والقيمي الشرعيغير العرفي.

ثم إن صاحب الجواهر(4) يرى أن المراد من تساوي الأجزاء في المثلي المماثلة في ما له مدخلية في الماليّة، لا تساويها في كل شيء أو غالب الأشياء مطلقاً. فحبّات الحنطة تختلف طولاً وعرضاً ووزناً، لكن هذا لا مدخلية له في الماليّة، بخلاف أعضاء الحيوان حيث تختلف فيختلف ثمنها.

وأضاف الجواهر(5) قيداً آخر وهو: معلومية باطن الأشياء في المثلي بخلاف القيمي. فباطن الحنطة معلوم بخلاف الشاة، وبهذا يتم الفرق بينهما.

ص: 162


1- الكافي 7: 367.
2- مجمع الفائدة والبرهان 10: 526.
3- الكافي 6: 297؛ وسائل الشيعة 3: 493، معتبرة السكوني، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «أن أمير المؤمنين(علیه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وبيضها وجبنها وفيها سكين، فقال أمير المؤمنين(علیه السلام): يقوّم ما فيها ثم يؤكل؛ لأنه يفسد وليس له بقاء فإن جاء طالبها غرموا له الثمن...».
4- جواهر الكلام 37: 88.
5- جواهر الكلام 37: 88.

وأورد السيد الوالد عليه بإشكالات(1):

الأول: دعوى الإجماع محل تأمل؛ لعدم تطرق الكثير من الفقهاء إلى تعريف المثلي والقيمي، بالإضافة إلى أنه لا يعلم من تعريف بعض الفقهاء أنه أراد تعريفهما بحدودهما، أو بيان ما هو المرتكز العرفي في زمانه، فدعوى كون الحيوان قيميّاً بالإجماع(2) محل نظر، وبعد فرض ثبوته يكون لبّياً لا إطلاق له.

الثاني: تطرقت الروايات إلى بيان القيمة دون ذكر للمثل أصلاً، وهذايدل على أن المراد من القيمة غير ما هو المصطلح من تقابلها للمثل، بل المراد البدل الشامل للمثل والقيمة، لا أقل من الإجمال فلا يمكن التمسك بالروايات.

الثالث: ما تمسك به الجواهر(3) من كون الأرض والثوب قيميّان بالإجماع، مخدوش، بتصريح بعض الفقهاء بالخلاف، كما في جامع المقاصد(4).

الرابع: إن كان المراد من معلومية الباطن المعلومية بكل الخصوصيات فهو غير متحقق في القيمي والمثلي، وإن كان المراد الباطن المؤثّر في القيمة فهو معلوم فيهما على حد سواء.

وعليه: فالأظهر ما ذكره المحقق الأردبيلي(5) من عدم تحديد شرعي

ص: 163


1- الفقه 78: 227-228.
2- جواهر الكلام 37: 89.
3- جواهر الكلام 37: 89.
4- جامع المقاصد 6: 243.
5- مجمع الفائدة والبرهان 10: 525.

لهما، فيكون المرجع هو العرف كسائر المواضيع، وقد تختلف الأعراف باختلاف الأزمان والأماكن،كما هو الحال في المكيل والموزون في الرّبا.

وقد فصل المحقق الرشتي صفات الشيء التالف إلى ثلاثة أقسام(1)، بل هي أربعة:الأول: ما لا يؤثّر في الماليّة، ولا تختلف الأغراض بتفاوته، كأن تكون الحنطة من هذه المزرعة أو تلك، وهذا لا مدخليّة له في القيمي والمثلي، حيث لا يخصص شيء من المال بإزاء تلك الصفات، فلا ضمان لتلك الصفة.

الثاني: ما كان مؤثّراً في الماليّة، وتختلف الأغراض بلحاظه، كما هو شأن الكثير من الصفات، كحنطة خراسان وغيرها، وهذا مما يراعى في المثليّة والقيمية، ويضمنها المتلف.

الثالث: ما اختلفت الأغراض فيه، ولم يؤثّر في القيمة، كاللحم المذبوح بيد قصاب محتاط وغيره مما يتحد سعره في السّوق، لكن رغبة جمع من الناس في الأول، ومثل هذه الصفات لا بد من مراعاتها في المثليّة.

الرابع: ما لا مدخلية له عند عامة العقلاء، كأن تكون الحنطة من مزرعة زيد، لكن المغصوب منه لا يريد الأداء منها لعداوة بينهما مثلاً، أو لشبهة غير ملزمة في مزرعته، ومثله لا مدخليّة له في المثليّة؛ لأصالة عدم تعلق الخصوصية غير العقلائية في الذمة.

لكنه غير مرتبط بالمدعى، فليس الكلام في الخصوصية غير العقلائية، بل عدم اهتمام غالب العقلاء بتلك الخصوصية، أمّا مَن له غرض بها فقد يكون غرضه عقلائياً - كما في المثال المذكور - حيث لا يهتم به العقلاء،

ص: 164


1- كتاب الغصب: 57.

لكن الغرض عقلائي، وقد لا يكون غرضه عقلائياً، كما لوطالب الأداء من الحنطة المجعولة على اليسار لا اليمين.

ثم أضاف المحقق الرشتي(1): بأن اشتراط الأوصاف غير المعتبرة عقلائياً موجب للبطلان، كما لو اشترى الحنطة بشرط أن تكون من مزرعة فلان، فكما أن هذا الشرط غير معتبر في المماثلة كذلك لو اشترط في المعاملة كان لغواً.

لكنه محل تأمل؛ لعدم حرمة اشتراط شيء غير عقلائي، فيشمله عموم أدلة الشرط مع عدم انصرافها، وهذا بخلاف المقام حيث يضمن أداء المثل، ولا مدخليّة للوصف غير العقلائي في المثليّة، فلو أدّى من دون الوصف المذكور كان ممتثلاً، وأمّا بطلان شرط الوصف غير العقلائي فهو بحاجة إلى دليل - كمخالفة الكتاب - وهو مفقود، فإن الغرض الخاص غير العقلائي إلّا أنه لا يكون سبباً لتخصيص دليل: «المؤمنون عند شروطهم»(2).

المطلب الثاني: في تعذر المثل

ولو تعذر المثل في المثلي انتقل إلى القيمة اتفاقاً(3).

واستدل لذلك بأدلة:الأول: الإجماع(4).

ص: 165


1- كتاب الغصب: 57.
2- الاستبصار 3: 232؛ وسائل الشيعة 21: 276.
3- شرائع الإسلام 4: 765؛ كفاية الأحكام 1: 530؛ رياض المسائل 12: 265؛ جواهر الكلام 37: 94.
4- مفتاح الكرامة 18: 143؛ جواهر الكلام 37: 94.

الثاني(1): مقتضى كلمة (مردود) في قوله(علیه السلام): «الغصب كلّه مردود»(2) هو الرد بعينه، فإن لم يمكن فالمثل، وإلّا فالقيمة عند تعذر المثل.

الثالث: إنه مقتضى الجمع بين حق الغاصب والمغصوب منه، فإن التأخير إلى وجدان المثل تضييع لحق المالك - مع مطالبته - لإلزامه بالصبر، كما أن إجبار الغاصب بأداء المثل تكليف بما لا يطاق، وبتقرير آخر: إلزامهما صبراً أو أداءً ضرري أو حرجي.

الرابع: سيرة العقلاء مع عدم ردع الشارع.

الخامس: انقلاب المثلي إلى القيمي مع عدم وجوده لما عرف من كونه متساوي الأجزاء متوفر في السوق.

وقد يشكل: بأن مقتضى وجوب أداء الأقرب بعد فقد المثل هو شبيهه لا قيمته، فلو غصب شاة ولم يتوفر مثلها - بعد فرض كونها مثليّة خلافاً للمشهور - كان الأقرب شبيهها من فصيل آخر كالمعز، لا قيمتها.

ويؤيّده: النذر والوصية حيث إن فقد متعلقهما رجع إلى الأقرب، فلو نذر أو أوصى لحم شاة للفقراء فانعدمت وجب إعطاء لحم البعير مثلاً،وكذلك المقام.

والجواب عنه: بالفرق بينهما وبين المقام حيث الارتكاز هو الملاك فيهما، فإن غرض الناذر أو الموصي هو الأصل، وقد أشار إليه بالمصداق المعين، فلو لم يتوفر انتقل إلى مصداق آخر محقق للغرض، كما لو أوقف

ص: 166


1- كتاب الغصب، للرشتي: 62؛ الفقه 78: 232.
2- الكافي 1: 542؛ وسائل الشيعة 9: 524؛ تهذيب الأحكام 4: 130 وفيه: «المغصوب كلّه مردود».

أرضاً لإنارة المساجد بالشموع، حيث ينتقل إلى المصابيح الكهربائية، بخلاف المقام حيث لا ارتكاز، بل يجب تحقق (الرد) بما هو الأقرب، وليس شبيه المثل أقرب، بل القيمة.

هذا بالإضافة إلى التصريح ب- (القيمة) في الروايات(1)، بغض النظر عمّا سبق من بيان المراد من القيمة.

المطلب الثالث: في انتظار وجدان المثل

ولو لم يمكن تحصيل المثل إلّا بعد فترة وطلب المغصوب منه الانتظار، ففيه صورتان:

الأولى(2): أن يولّد ذلك ضرراً على الغاصب ولو بإبقاء ذمته مشغولاً، حيث يشعر بالحرج النفسي، فلا يُلزم الغاصب بالانتظار، ل- (لا ضرر) على المبنى، والقول بأنه أقدم على الضرر غير تامٍ؛ لما سبق.

وإن تضرر المالك مع الانتقال إلى القيمة تعارض الضرران فيتساقطان، فلا بد من ملاحظة سائر الأدلة ومنها: أصالة براءة ذمة المغصوب منه منوجوب قبول القيمة.

أو يقال بعدم جريان (لا ضرر) لأنه غير مثبت للتكليف، سواء قلنا بعدم جريانه أصلاً؛ لعدم كونه من موارده، أم لعدم جريانه لفرض التساقط.

الثانية(3): أن لا يولّد ذلك ضرراً على الغاصب، فالمالك مخيّر بين الصبر إلى أن يجد المثل وبين المطالبة بالقيمة، ولا يحق للغاصب إجبار المالك

ص: 167


1- الكافي 5: 290.
2- الفقه 78: 235.
3- الفقه 78: 234.

على قبول القيمة مع فرض كون المثل حقه الأصلي.

وقد يشكل: بأن المراد من «الغصب كلّه مردود» الإنشاء فيجب الرد فيجب القبول، ولا يحق له الامتناع عن الأخذ.

وفيه نظر: إنه لا ملازمة بين وجوب الأداء ووجوب القبول. والتفكيك في الأحكام كثير وكل يعمل بوظيفته، كما في حقوق الزوجين، حيث يجب على الزوجة التمكين ولا يجب على الزوج الوطء، كما يجب عليه أداء النفقة ولا يجب عليها القبول، هذا أولاً.

وثانياً: وجوب أداء القيمة مصادرة، فالمغصوب منه مكلَّف بالرد، لكن كون متعلقه رد القيمة أول الكلام. نعم، أصل الرد واجب.

وثالثاً: مقتضى الدليل أداء المثل، والانتقال إلى القيمة بحاجة إلى دليل مفقود في المقام.

المطلب الرابع: في تشخيص تعذر المثل
اشارة

ذهب بعض الفقهاء(1) إلى أن ملاك تعذر المثل في المثلي: عدم وجوده في البلد وحواليه.

لكن يشكل عليه بعدم الاطراد والانعكاس، فقد يتوفر في بلد بعيد مع إمكان إيصاله إلى وكيل المغصوب منه، أو نفسه مباشرة لوجوده فيه، كما قد يتوفر في نفس البلد لكن يمتنع مالكه من بيعه.

وذهب بعض الفقهاء(2) إلى أن المرجع في التعذر العرف، وهو جارٍ في

ص: 168


1- تذكرة الفقهاء 2: 383؛ مسالك الأفهام 12: 183؛ كفاية الأحكام 2: 640؛ حاشية المكاسب، للإصفهاني 1: 386؛ التنقيح في شرح المكاسب 36: 269.
2- جامع المقاصد 6: 245.

كل موضوع لم يحدده الشارع.

وأشكل عليه(1): بأن التعذر العرفي غير نافع في الانتقال إلى القيمة، بل الملاك الاستحالة العقلية، فعلى الغاصب إعادة المثل ما دام ممكناً، ومستنده قاعدة: (الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال وإن تضرر)، حيث أقدم على الضرر بنفسه.

وفيه: ما مضى من عدم الدليل على القاعدة المذكورة، وعدم الإقدام على الضرر، بل أقدم على الغصب.

والحاصل: مع كون تحصيل المثل عسراً أو حرجاً أو ضرراً فهومتعذر عرفاً، فتكليف الغاصب به مرفوع.

المطلب الخامس: في زمان الانتقال إلى القيمة

ثم إنه مع تعذر المثل ينتقل التكليف إلى أداء القيمة، لكن وقع الخلاف في ضمان قيمة يوم الغصب أو يوم التعذر أو يوم الأداء أو أعلى القيم أو غير ذلك، حيث تختلف القيمة زيادةً ونقصاناً.

ومقتضى القواعد - حيث لا نص خاص في المقام - ضمان قيمة يوم الأداء، ويدل عليه: أولاً: إنّ الثابت في ذمة الغاصب المثل، ولا دليل على انتقاله إلى شيء آخر مع انعدامه، فيستمر بقاؤه في ذمته إلى حين الأداء، ثم ينتقل إلى القيمة، فلا مدخليّة لارتفاع القيمة وانخفاضها في تلك الفترة.

وثانياً: ما في مفتاح الكرامة(2) - في معرض رده على القول بضمان قيمة يوم الإعواز؛ لأنه وقت انتقال ما في الذمة من المثل إلى القيمة - من أنه لو

ص: 169


1- جواهر الكلام 37: 96.
2- مفتاح الكرامة 18: 145.

اشتغلت الذمة بالقيمة عند الإعواز لم يكن وجه لرجوعه إلى المثل بعد وجوده، والتالي باطل - لحكم الفقهاء بلزوم دفع المثل عند توفره - فالمقدم مثله.

وفيه تأمل؛ حيث لا محذور من لزوم أداء المثل مع توفره قبل الانتقال إلى القيمة أو بعده(1).فالعمدة ما ذكرناه أولاً.

إن قلت: إن الحكم باشتغال ذمته بالمثل بعد تعذره لغو.

قلت: إن الحكم المذكور أمر اعتباري لا يلزم وجود متعلقه خارجاً إلّا عند الأداء، كما هو الحال في بيع الحنطة قبل زرعها، حيث تبقى ذمته مشغولة مع عدم وجودها خارجاً.

والحاصل: إن التعذر الخارجي لا ينافي ثبوت المثل في الذمة؛ لأنه أمر عقلائي اعتباري. فتحصل أن الضمان إنما هو بقيمة يوم الأداء.

وفصل بعض الفقهاء(2): بين ما لو كان المثل موجوداً ثم انعدم فالضمان بقيمة يوم الأداء، وبين ما لو كان منعدماً عند التلف فالضمان بقيمة يوم التلف؛ وذلك لأنه لو كان المثل موجوداً عند التلف فقد اشتغلت ذمته به، فلو انعدم بعد ذلك استصحب اشتغال ذمته به إلى حين الأداء، وحيث لا يمكن الأداء ينتقل إلى القيمة، وأمّا لو لم يكن موجوداً من الأول فلا ينتقل

ص: 170


1- وفيه نظر؛ فإنه تام ثبوتاً حيث لا محذور في ذلك، لكن إثباتاً الأمر بحاجة إلى دليل، فإن الشارع إن حكم بالقيمة عند التعذر استصحبت، حيث لا دليل على رجوع المثل إلى الذمة بعد توفره (المقرر).
2- تذكرة الفقهاء 2: 383؛ كفاية الأحكام 2: 640.

المعدوم إلى ذمته فلا مجال للاستصحاب، بل تثبت القيمة في ذمته حين التلف.

وفي الشق الثاني نظر؛ فإن تعذر المثل وعدمه مرتبط بكيفية التدارك لا باشتغال الذمة، فإن الذمة قد تشتغل بالمعدوم خارجاً، كما أنه لا فرق فياشتغال الذمة بين الشقين، فقد يكون موجوداً ثم ينعدم، وقد يكون معدوماً من أول الأمر، فالحكم باشتغال الذمة أمر اعتباري عقلائي، وهو متحقق في المقامين، ولا يكون الحكم بذلك لغواً، فإن مآله إلى لزوم أداء المثل عند توفره بعد الانعدام، أو لزوم أداء قيمة يوم الأداء.

وقد يستدل على ما اخترناه من ضمان قيمة يوم الأداء بالسيرة العقلائية التي لم يردع عنها الشارع، إلّا أن يترتب عليه ضرر على المالك، وهو بحث آخر.

فرع: لو تغيرت القيمة بعد حكم الحاكم

ولو حكم الحاكم بقيمة معينة، فتغيرت عند أدائها زيادة أو نقصاناً، لم يلزمه الحكم المذكور، بل المعتبر القيمة عند الأداء.

قال في الشرائع: «ولو أعوز فحكم الحاكم بالقيمة فزادت أو نقصت لم يلزم ما حكم به الحاكم، وحكم بالقيمة وقت تسليمها؛ لأن الثابت في الذمة ليس إلّا المثل»(1).

والقول بعدم إمكان نقض حكم الحاكم غير جارٍ في المقام، فإن الحكم المذكور ليس ولائيّاً يسبب انتقال ما في الذمة من المثل إلى القيمة، بل هو طريق إلى الواقع الذي قد يتغير.

ص: 171


1- شرائع الإسلام 4: 765.

وبعبارة أخرى: إن حكمه تابع لموضوع، يتغير بتغيره، كما لوحكم على الزوج بلزوم النفقة فطلقها حيث لا يلزمه النفقة؛ لتغير موضوع الحكم بها، فليس معناه عدم احترام حكمه، بل تغيره بتغير موضوعه، فتأمّل.

المطلب السادس: في وجود المثل بعد أداء القيمة

ولو(1) أدّى القيمة ثم وجد المثل، فلا يحق له مطالبته بعد إرجاعها؛ لأنها بدل حقيقي تبرأ ذمته بأدائها، فلا يمكن إلزامه به بعد فراغها.

وقد ينقض برجوع العين بعد أداء المثل أو القيمة، حيث يحق للمالك المطالبة بها بعد إرجاعهما، ولا فارق بين المقامين.

لكن الفرق واضح؛ لأن المدفوع مع تلف العين بدل حقيقي تبرأ الذمة بخلاف بدل الحيلولة، حيث يحق للمالك مطالبة المبدل منه بعد توفره؛ لعدم انقطاع المالك عن ملكه، وعدم براءة ذمة الغاصب على إطلاقه، بل بشرط عدم إمكان الوصول إلى العين؛ ولذا تبقى ذمته مشغولة في الجملة، وسيأتي بحثه في بدل الحيلولة.

نعم، لو اشتراه الغاصب وأعطاه ثمنه لم يحق له مطالبة العين بعد وجودها؛ لعدم كون المدفوع بدل الحيلولة، بل ثمن العين بعد انتقالها إليه.

المطلب السابع: في ملاحظة الخصوصيات في المثلي

ثم إنه هل للزمان والمكان وسائر الخصوصيات مدخلية في المثليّة بالإضافة إلى الأوصاف أم لا؟ كما لو غصب الماء في الصحراء وأراد الأداء عند النهر، أو غصب منه مالاً في بلده وأراد إرجاعه في بلد آخر، بحيث لا

ص: 172


1- تذكرة الفقهاء 2: 383؛ التنقيح في شرح المكاسب 36: 270.

يمكن للمالك نقله إلى بلده، وكما لو غصب الثلج صيفاً وأراد الأداء شتاءً، وكما لو غصب شيئاً حين كان مسموحاً وأراد الأداء حين حظرته الدولة، حيث إنه لا يرتبط بالزمان والمكان، بل بخصوصية قانونيّة.

وقد استدل(1) على مدخليتها في المثليّة بقوله تعالى: {فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡۚ}(2)، فمع التفاوت المذكور لا يكون الشيء مثله عرفاً.

واستدل(3) على عدم مدخليتها بوجوب رد المظلمة فوراً؛ لحرمة الغصب آناً فآناً، فالصبر إلى الزمان أو المكان المماثل استمرار للظلم والغصب.

ولا ضير في تضرر الغاصب - إن تضرر بذلك - لأنه أقدم على الضرر، أو لأنه يؤخذ بأشق الأحوال.

وأمّا لو تضرر المغصوب منه بذلك فعلى الغاصب أداء القيمة؛ لأنهمقتضى الجمع بين دليل الضرر المنفي ودليل وجوب الرد الفوري.

ولو عكس الأمر بأن غصب الثلج شتاءً أمكن إلزامه بالأداء صيفاً(4)؛ لوجوب الرد الفوري وإن تضرر بذلك؛ لأنه أقدم على الضرر.

لكن إطلاق القول المذكور محل تأمل؛ لمدخلية الزمان والمكان وبعض الخصوصيات في المثليّة، وأمّا تضرر الغاصب وأنه يؤخذ بأشق الأحوال فقد

ص: 173


1- الفقه 78: 240.
2- سورة البقرة، الآية: 194.
3- مفتاح الكرامة 18: 176؛ الفقه 78: 242.
4- تذكرة الفقهاء 2: 384؛ إيضاح الفوائد 2: 177؛ الدروس الشرعيّة 3: 113؛ مفتاح الكرامة 18: 177.

مرّ الجواب عنه.

نعم، لو تضرر المالك فهو مخيّر بين الانتظار وتحمل الضرر بشرط عدم تضرر الغاصب وبين أخذ القيمة.

المطلب الثامن: في تحول المثلي إلى القيمي أو العكس

ولو كان مثليّاً فأصبح قيميّاً أو بالعكس لوحظ فيه حالة وقت الأداء.

وهذا الفرع فرضي، بناء على تعريف المشهور بتساوي الأجزاء، حيث لا يمكن الانقلاب. وأمّا على التعريف بالعرفيّة فقد ينقلب.

هذا تمام الكلام في مباحث المثلي.

البحث الثالث: في القيميّ

اشارة

قال في الشرائع: «وإن لم يكن مثليّاً ضمن قيمته»(1)، لأنه الأقرب إلى المغصوب.وفي القيمي مطالب في تعريفه ودليل وجوب أدائه، واختلاف القيم زماناً ومكاناً.

المطلب الأول: في تعريف القيميّ

ومما ذكرناه في تعريف المثلي يُعرف تعريف القيميّ، ويجري فيه النقض والإبرام الذي جرى هناك ولكن لا بأس بتعريفه مختصراً.

فقد قيل: إن القيميّ ما لا يكون طريق إلى إحراز مساواة أفرادها في الخصوصيات والصفات.

فمثل الشاة لا طريق لإحراز تساوي صفات أفرادها فهي قيميّة بخلاف

ص: 174


1- شرائع الإسلام 4: 765.

الحنطة.

والمراد من مساواة الأفراد ما مرّ في تعريف المثلي من عدم إمكان كشف باطن الأشياء، بخلاف ظاهرها التي يمكن إحراز شبهها، فلا طريق لإحراز تساوي الصفات الباطنيّة.

وقد مرّ الإشكال عليه بعدم اشتراط المساواة في جميع الصفات، بل الصفات المؤثّرة في قيمة الشيء وفي رغبات الناس، وعليه لا يلزم التساوي في كل الصفات، فحبات الحنطة تختلف حجماً ووزناً لكن الاختلاف المذكور غير مؤثّر، بخلاف طعمها ودوامها وما أشبه التي تؤثّر في القيمة والرغبة.

وعليه: فما ذكر في تعريف المثلي غير طارد؛ إذ يمكن انطباقه على القيمي أيضاً؛ إذ يمكن إحراز مساواة الأفراد في الخصوصيات والصفاتالمطلوبة والمؤثّرة في الرغبة والقيمة.

وقيل: إن القيميّ لا يتساوى أجزاؤه(1) فتختلف قيمة كل جزء عن جزء آخر.

ولكن يشكل بعدم الدليل عليه، وإنما هو بيان الفقهاء لمرتكزاتهم العرفية، التي تختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، فلا ملاك محدد له حتى يلتزم به، فلا ندور مدار التعريف المذكور، وإنما الملاك في القيمي هو العرف.

المطلب الثاني: في اختلاف القيم زماناً
اشارة

ثم إنه قد تختلف القيمة باختلاف الزمان، فهل يضمن قيمة يوم الغصب، أو يوم التلف، أو يوم الأداء، أو أعلى القيم من الغصب إلى التلف، أو غير

ص: 175


1- تذكرة الفقهاء 2: 381.

ذلك؟

القول الأول: ضمان قيمة يوم الغصب

أمّا ضمان قيمة يوم الغصب(1)، فقد استدل له بأدلة، منها:

الدليل الأول: إن العين تدخل في ذمة الغاصب بمجرد الغصب(2)، وحيث إنه قيمي يضمن القيمة في ذمته.

لكنه غير تام، فليس المراد من الضمان ثبوت البدل في الذمة، بلالمراد أن المغصوب قبل الغصب كان في عهدة المالك وبعده في عهدة الغاصب، فمع وجود العين لا معنى للقول باشتغال الذمة بالبدل، بل عليه إرجاعها ما دامت موجودة، ولو تلفت أو عطبت كانت بعهدته، فهنا حكمان: منجّز، وهو وجوب رد العين، ومعلّق إنه لو تلف كان في ذمته.

الدليل الثاني(3): ما في صحيحة أبي ولّاد حيث سأله: «أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني؟ فقال(علیه السلام): نعم، قيمة بغل يوم خالفته»(4)، وهو يوم الغصب، فقبله لم يكن غصب، بل كرى.

لكنه لا يخلو عن إشكال، فإنه إنما يتم لو كان متعلق الظرف هو قوله: (قيمة) أي: (قيمة يوم المخالفة)، وأمّا مع احتمال تعلقه بفعل محذوف هو (يلزمك) المستفاد مما ورد في السؤال، أي: (يلزمك يوم خالفته قيمة بغل)

ص: 176


1- شرائع الإسلام 4: 765.
2- المبسوط 3: 60؛ إرشاد الأذهان 1: 446؛ مسالك الأفهام 12: 185؛ كفاية الأحكام 2: 641؛ مفتاح الكرامة 18: 148.
3- جواهر الكلام 37: 101؛ كتاب المكاسب 3: 244-245؛ كتاب المكاسب والبيع، للنائيني 1: 359.
4- الكافي 5: 291؛ وسائل الشيعة 25: 391.

فلا يدل على المطلوب؛ لسكوتها عن زمان الضمان، فالرواية مجملة.

هذا مضافاً إلى اختلاف التعبير في نفس الرواية في مقامات ثلاثة لا فارق بينها، وهي: (يوم خالفته) و (يوم اكترى) و (يوم ترده عليه) حيث قال(علیه السلام): «أو ياتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا»(1)، وقال(علیه السلام): في جواب السؤال فإن أصاب البغلكسر أو دبر أو غمز؟: «عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه»، فيشتد الإجمال، فلا يمكن الاستدلال بها على أنه يضمن قيمة يوم الغصب.

الدليل الثالث: ما ذكره المحقق الرشتي(2) فقد شبّه المقام ببدل الحيلولة حيث يضمن قيمة يوم الحيلولة؛ لحيلولته بين المالك وسلطنته على ملكه، فيضمن من حينها، وكذلك المقام حيث أذهب سلطنة المالك بالغصب، فيضمن من حينه وهو يوم الغصب.

وفيه نظر؛ لعدم تمامية دليل المشبّه به، فالضمان في بدل الحيلولة أيضاً حسب قيمة يوم الأداء.

القول الثاني: ضمان قيمة يوم التلف

وهو المشهور(3) من ضمان قيمة يوم التلف، واستدل له: باشتغال ذمة الغاصب بالبدل حين التلف(4)، وحيث إنه قيميّ تثبت قيمة يوم التلف في

ص: 177


1- الكافي 5: 291؛ وسائل الشيعة 25: 391.
2- كتاب الغصب: 65.
3- قواعد الأحكام 2: 95؛ تحرير الأحكام 4: 530؛ الدروس الشرعيّة 3: 113؛ جامع المقاصد 6: 246؛ مجمع الفائدة والبرهان 10: 527؛ مفتاح الكرامة 18: 147.
4- مفتاح الكرامة 18: 152؛ الفقه 78: 249.

ذمته، وما عدا ذلك من القيم السابقة أو اللاحقة على التلف فهي قيم فرضيّة لا اعتبار بها عند العقلاء.وأشكل عليه السيد الوالد في الفقه(1): بأنّه لا دليل على ثبوت القيمة في الذمة، بل الثابت فيها نفس الشيء حتى لو تلف فإنه مجرد اعتبار، ولا ضير في اشتغال الذمة بغير الموجود، فإن عالم الاعتبار غير مرتبط بعالم الخارج، وعليه لا معنى لضمان قيمة يوم التلف؛ لعدم ثبوتها في ذمته، بل نفس المغصوب ينتقل إلى الذمة، وهذا إشكال مبنوي.

القول الثالث والرابع: ضمان أعلى القيم

أعلى القيم من زمان الغصب إلى حين التلف، أو حين الأداء(2).

واستدل له(3): باشتغال الذمة بالقيمة صعوداً ولا يعلم بفراغها حين نزولها، فيستصحب.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الأولى: بناءً على ما اخترناه من عدم اشتغال الذمة بالقيمة، بل بنفس الشيء، فلا يكون ازدياد القيمة ونقصانها مؤثّراً.

والثانية: بناءً على اشتغال الذمة بالقيمة، فقد اشتغلت بقيمة يوم الغصب، ولا يعلم اشتغالها بالزيادة بعد ذلك، فيستصحب عدم الاشتغال.

نعم، يستثنى منه ما لو أوجب الضرر على المالك فقد يضمن أعلى القيم، كما لو أراد المالك بيعه حين زيادة القيمة. بناءً على كون (لاضرر)

ص: 178


1- الفقه 78: 249.
2- الخلاف 3: 415؛ الوسيلة: 276؛ اللمعة الدمشقية: 235؛ مختلف الشيعة 6: 116.
3- مفتاح الكرامة 18: 150.

مثبتاً للحكم، كما هو الأقوى.

المطلب الثالث: الضمان مع اختلاف القيم مكاناً
اشارة

لو اختلفت القيمة من مكان إلى مكان(1) حسب قانون العرض والطلب، أو لاختلاف الرغبات أو ما أشبه، فهل تلاحظ قيمة مكان الغصب أو التلف أو الأداء، أو أعلى القيم في الأمكنة التي مرّ عليها المغصوب لا مطلق الأمكنة.

والظاهر أن الملاك قيمة مكان الأداء؛ لما ذكر من الدليل في اختلاف القيم زماناً، فإن المثليّة في ذلك عرفاً.

إلّا أن يسبب ضرراً على المالك، فلا بد من ملاحظة (لا ضرر) بحيث لا يتضرر أحدهما.

وهنالك(2) قول آخر باتحاد ملاكه مع ملاك الزمان، فيضمن قيمة يوم الغصب ومكانه، أو قيمة يوم التلف ومكانه، أو قيمة يوم الأداء ومكانه، أو أعلى القيم زماناً ومكاناً، حسب اختلاف الأقوال.

ولا وجه لهذا القول؛ لأن الملاك في الزمان غير الملاك في المكان؛ لعدم كون دليل المسألتين واحداً، فإناطة مكان الغصب بزمان الغصب محل تأمل، فلا بد من مراجعة العرف.

تتمة

لو اختلفت القيمة بين مكانين لأسباب مختلفة، كأخذ الجمارك، مما يسبب الغلاء في مكان دون آخر، أو مدينة فقيرة وأخرى غنية أو ما أشبه ذلك

ص: 179


1- الفقه 78: 257.
2- كتاب الغصب، للرشتي: 71.

لم يكن ذلك مؤثّراً، فالملاك هو المثليّة العرفيّة إلّا مع الضرر الذي هو عنوان طارئ.

المطلب الرابع: الزّيادة في أداء الذهب والفضة

الذهب والفضّة مثليّان على المشهور(1)؛ لانطباق التعريف(2) عليهما، لكن لو اختلفت القيمة ففي الشرائع: «والذهب والفضة يضمنان بمثلهما، وقال الشيخ: يُضمنان بنقد البلد كما لو أتلف ما لا مثل له»(3).

بيان ذلك: إن لمادة الذهب قيمة معينة ولصورته - وهي صياغته - قيمة أخرى، فأداء المثل مع تفاوت الوزن مستلزم للرّبا. مثلاً: لو أتلف نقداً من الآثار القديمة التي قيمته أضعاف مضاعفة، أو أتلف قلادة، فأداء مثله ذهباً مستلزم لاختلاف الوزن(4).

قال الشيخ الطوسي(5): الذهب والفضة مثليان إن اتفق المضمون(6)والنقد(7) وزناً، أمّا لو اختلفا وتفاوتا وكان أحدهما أكثر قُوِّم بغير جنسه.

ص: 180


1- السرائر 2: 486؛ تحرير الأحكام 4: 530؛ إيضاح الفوائد 2: 179؛ الدروس الشرعيّة 3: 116؛ جامع المقاصد 6: 263.
2- سواء قلنا بأن الملاك تساوي الأجزاء أو العرفية.
3- شرائع الإسلام 4: 766.
4- وفي أصل المسألة نظر؛ لأنه إن توفر المثل بعينه مع الخصوصيات التي لها مدخلية في المثلية لم يكن ربا، فقلادة بقلادة ونقد بمثله، وإن لم يتوفر المثل انتقل إلى القيمة، فلو كان قيمة الذهب غير المصاغ ألفاً والقلادة ألفين أدى ألفين ثمن القلادة، وليس ذلك من الرّبا (المقرر).
5- المبسوط 3: 59 و61.
6- أي: ما أتلفه والذي عليه ضمانه.
7- أي: ما يؤديه بدلاً عن التالف.

لكن ذهب ابن إدريس(1) إلى عدم استلزامه للرّبا المعاملي؛ لاختصاصه بالبيع، والمقام ليس بيعاً، بل غرامة، فلا إشكال في أخذ الزيادة.

وبما أن المسألة تدخل في باب البيع فتفصيل الكلام موكول إلى محله، لكن نشير إليه باختصار.

ذهب المشهور(2) إلى عدم اختصاص الرّبا المعاملي بالبيع، بل يشمل المعاوضات وغيرها كالغرامات، بينما ذهب جمع(3) إلى اختصاصه بالمعاوضات، وذهب ابن إدريس(4) إلى اختصاصه بالبيع.

ومثّل المحقق الرشتي(5) لما ذهب إليه المشهور بأمثلة:

منها: ما لو أعطى ذهباً غير مصاغ وأخذ بوزنه ديناراً، ثم تبين وجود العيب في أحدهما لم يحق له مطالبة الأرش؛ لاستلزامه الرّبا، فإن القيمة وإن اتحدت بعد أخذ الأرش لكن اختلاف الوزن موجب للرّبا، مع أنهجبر نقص أو غرامة أو ما أشبه، وليس من ضمن المعاملة.

ومنها: ما لو اختلط صاع من حنطته الجيدة وسعرها دينار بصاع حنطة رديئة سعرها نصف دينار لغيره، ولم يمكن التمييز حصلت الشركة القهريّة، فتنصف بينهما وإن تضرر مالك الحنطة الجيدة، ولا يحق له أن يأخذ الثلثين، فإنه وإن صح التقسيم المذكور بملاحظة القيمة، لكن بملاحظة

ص: 181


1- السرائر 2: 486-487.
2- شرائع الإسلام 4: 766؛ كنز الفوائد 1: 590؛ الحدائق الناضرة 19: 275.
3- نهاية الإحكام 2: 562؛ الدروس الشرعيّة 3: 331؛ الأقطاب الفقهية: 123؛ الروضة البهيّة 4: 181.
4- السرائر2: 486.
5- كتاب الغصب: 72-73.

الوزن مستلزم للرّبا، أو يتم بيعها فيحق له أخذ ثلثي القيمة.

ومنها: ما لو كان له ثوب بقيمة دينار فأتلفه لم يجز مصالحته بدينارين؛ لاستلزامه الرّبا، فإما أن يصالحه بدينار أو بشيء آخر كالكتاب.

ومن الأمثلة المذكورة يظهر أن الرّبا جارٍ في غير المعاوضات، كالأرش والتقسيم ومصالحة ما في الذمة.

بينما ذهب جمع من الفقهاء كصاحب الجواهر والسيد الوالد(1) وحتى صاحب الشرائع في موضع(2) إلى أن الموارد المذكورة خارجة عن الرّبا موضوعاً.

قال في الجواهر: «قوة احتمال منع الرّبا في الغرامات»(3).

وقال في الشرائع: «ولو كان في المغصوب صنعة لها قيمة غالباً كانعلى الغاصب مثل الأصل وقيمة الصنعة(4)، وإن زاد على الأصل ربويّاً كان أو غير ربوي؛ لأن للصنعة قيمة تظهر لو أزيلت عدواناً، ولو من غير غصب»(5).

فتجوز عنده الزيادة؛ لأنه ليس معاوضة، بل غرامة.

ويدل على ذلك:

أولاً: إن حقيقة الرّبا المعاملي على المشهور بين الفقهاء - كالشيخ(6)

ص: 182


1- الفقه 78: 261.
2- شرائع الإسلام 4: 766.
3- جواهر الكلام 37: 109.
4- أي: قيمة الذهب وقيمة صياغته.
5- شرائع الإسلام 4: 766.
6- المبسوط 3: 61.

وابن إدريس(1) والعلامة في بعض كتبه(2) - هو: الزّيادة في أحد العوضين، وينطبق هذا التعريف على ما هو المرتكز عرفاً، فلا ربا إن لم يكن هنالك عوضان أو لم تكن زيادة. والغرامة وما أشبه ليس زيادة أصلاً فضلاً عن كونه في أحد العوضين، بل هي قيمة الشيء.

ثانياً: ما رُوي عن الإمام الرضا(علیه السلام) من سبب النهي عن الرّبا قال(علیه السلام): «لما فيه من فساد الأموال»(3).

وأداء قيمة الذهب وصياغته بعد الغصب والإتلاف ليس من فساد المال، بل عدمه فساد، فما ذكر في الحديث الشريف لا يشمل الغرامات.ثالثاً: قوله تعالى: {وَمَآ ءَاتَيۡتُم مِّن رِّبٗا لِّيَرۡبُوَاْ فِيٓ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ فَلَا يَرۡبُواْ عِندَ ٱللَّهِۖ}(4)، ومطالبة ثمن الذهب وصياغته من الغاصب، وكذلك مطالبة الغرامة ليس مصداقاً للرّبا في أموال الناس الذي يؤكل بالباطل ومن دون سبب، بل هو أخذ لحق المغصوب منه.

وأمّا ما ذكره المحقق الرشتي من الأمثلة فهو أول الكلام، فتقسيم الشراكة في المثال السابق ليس من المعاملة ولا من الغرامة، فلا يعلم شمول دليل الرّبا له.

نعم، ما ورد فيه نص خاص يتمسك به، كما أن الأرش في بيع الصرف ليس غرامة، بل تكميل للمعاوضة، نظير المعاوضة على متاع سالم قيمته

ص: 183


1- السرائر 2: 487.
2- تحرير الأحكام 4: 530-531؛ إرشاد الأذهان 1: 446؛ تذكرة الفقهاء 2: 384.
3- علل الشرائع 2: 483؛ وسائل الشيعة 18: 121.
4- سورة الروم، الآية: 39.

عشرة دنانير ثم يظهر معيباً، فيأخذ الفرق ديناراً فلا يدخل في الغرامة، بل تكميل للعوض الناقص، هذا بالإضافة إلى النص الخاص.

وتفصيل الكلام في باب البيع.

تتمة: قد لا يكون اختلاف القيمة في الذهب والفضة مع اتحاد الوزن لأجل الصياغة، بل لجهات أخرى، ككونه من الآثار أو لتنزل قيمة العملة في البلد، فيرغب الناس في شراء الذهب لقيمته الواقعية الثابتة، أو لأجل الجمرك، وعليه فلا بد من ملاحظة الزمان والمكان وسائر الخصوصيات، فيزداد لأجلها وزن المؤدّى عن المضمون وليس ذلك من الرّبا.

المطلب الخامس: الصنعة قيميّة
اشارة

ثم إنه لو أتلف الصنعة(1) - الصياغة مثلاً - دون العين، فضمانه للمثل أو القيمة تابع للموضوع عرفاً، والعرف قاضٍ - عادة - بكون الصياغة اليدويّة قيميّة، وأمّا الصياغة عبر الآلة وما أشبه فمثليّة؛ وذلك لعدم حصول التشابه في اليدوي عادة، بخلاف المصنوع بالقوالب والأجهزة.

وهنا فروع:

الفرع الأول: أداء غرامة الصنعة من الذهب

لو كان الذهب المصاغ قيميّاً عرفاً فأتلف صياغته دون عينه، حق له أداء القيمة من الذهب، فلا يتوهم استلزامه للرّبا فإن الغرامة - الذهب المدفوع - في مقابل الصنعة لا في مقابل الذهب، فلا يكون ربا لا حقيقةً ولا حكماً.

الفرع الثاني: لو طالب المالك إرجاع الصنعة

هل يحق للمالك رفض القيمة، ومطالبة إرجاع الصياغة؟

ص: 184


1- جواهر الكلام 37: 110؛ الفقه 78: 264.

ذهب صاحب الجواهر(1) إلى عدم حقه في ذلك؛ لأن الصنعة قيميّة، فحقه ينحصر في أخذ تفاوت القيمة بين المصاغ وغيره، وعليه فلا يحق له مطالبة المثل.

ولا ينقض بما لو حفر بئراً في ملك الغير من دون رضاه، حيث يحقللمالك مطالبته بإرجاعه كما كان، مع أنه قيميّ؛ وذلك للفرق بين المقامين، فإن حفر البئر نقل ملك الغير من مكان إلى مكان، فيطالب بإرجاعه إلى مكانه، فيكون ردّاً للمغصوب لا غرامة، بخلاف إيجاد صنعة أتلفها.

لكن فصل السيد الوالد(2) في المسألة بين ما لو كانت الصنعة شبيهة عرفاً بحيث يرى العرف أن القلادة السابقة واللاحقة شبيهان، فبمقتضى ملاحظة الأدلة الدالة على رد المغصوب يكون إعادة الصياغة إرجاعاً للمغصوب عرفاً، فيحق للمالك مطالبة الغاصب بإرجاعها.

نعم، لو لم يصدق ذلك عرفاً فلا يحق له إجباره، وهذا هو الأقوى.

الفرع الثالث: الصنعة المحرمة

لو أتلف صنعة محرّمة، كما لو صاغ الذهب صليباً أو صنع من الخشب صنماً، فلا يضمن الصنعة؛ للإجماع(3) المدعى أولاً.

ثانياً: لعدم الماليّة شرعاً - وإن كان مالاً عرفاً - لذا لم يمضِ الشارع المعاملة عليه، والضمان إنما يكون في الماليّات، والغصب لا يجعل ما ليس مالاً شرعاً مالاً حتى يضمنه.

ص: 185


1- جواهر الكلام 37: 110.
2- الفقه 78: 267.
3- كفاية الأحكام 2: 645؛ جواهر الكلام 37: 111.

ثالثاً: الملازمة العرفية بين وجوب الإتلاف شرعاً؛ لأنه من مراتب النهي عن المنكر، وبين عدم الضمان.ورابعاً(1): بعض الروايات الواردة في ذلك، فهي وإن كانت ضعيفة سنداً، لكنها تطابق فتوى المشهور، فإن كانت فتواهم مستندة إليها أصبحت معتبرة وإلّا فمؤيّدة.

منها: ما في دعائم الإسلام: «مَن تعدى على شيء مما لا يحل كسبه فأتلفه فلا شيء عليه فيه»(2).

وأمّا لو استلزم إتلاف الصورة المحرّمة إتلاف المادة المحلّلة كما لو أتلفها بالنّار، كان ضامناً لها دونها على ما اختاره العلامة، حيث قال: «وإذا كسرت الملاهي فلا ضمان، فإن أحرقت ضمن قيمة الرضاض»(3)-(4).

لكن أشكل على إطلاقه السيد الوالد(5) بأن النهي عن المنكر قد يستدعي إتلاف المادة فلا ضمان في هذه الصورة؛ لشمول أدلة النهي عن المنكر له.

فالضمان وعدمه تابع للتفصيل المذكور.

وأشكل بعض الفقهاء(6): بأن للصنعة قيمة عرفاً، فإتلافها عدوانيوجب

ص: 186


1- الفقه 78: 265.
2- دعائم الإسلام 2: 486.
3- الرضاض: الخشب المقطع، وهو فتاته.
4- ([4]) قواعد الأحكام 2: 226.
5- الفقه 78: 265.
6- جامع المقاصد 6: 247.

الضمان، ولا تلازم بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي، فيجب إتلافها مع ضمانها.

وفيه: أن القيمة مسلوبةً شرعاً فلا يكون مالاً، ولم يكن فعله تعدّياً، بل تعبداً، فلا وجه للضمان.

ص: 187

الفصل السادس: في إحداث العيب في المغصوب

اشارة

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: لو حدث عيب في العين المغصوبة، كما لو قطع أذن الفرس، ضمن الأرش، أي: التفاوت بين الصحيح والمعيب، ولا فرق في ذلك سواء كان بفعل الغاصب أم الأجنبي أم بآفة سماويّة. نعم، استقرار الضمان على الأجنبي في الصورة الثانية، وعلى الغاصب في الصورة الأولى والثالثة.

قال في الشرائع: «لو كان المغصوب دابة فجنى عليها الغاصب أو غيره، أو عابت من قبل اللّه سبحانه ردّها مع أرش النقصان، وتتساوى بهيمة القاضي وغيره في الأرش»(1).

والتساوي المذكور لرد ما ذهب إليه العامة(2) من أنه لو قطع ذيل بهيمة القاضي ضمن قيمتها كاملة؛ لأنها لا تليق بمقامه.

ويدل على الأرش: صحيحة أبي ولّاد المصرحة بالتفاوت بين الصحيحوالمعيب، وإطلاق الأدلة الشاملة للغصب، والإجماع.

ص: 188


1- شرائع الإسلام 4: 766.
2- مسالك الأفهام 12: 192؛ جواهر الكلام 37: 112، وفيه: «... خلافاً للمحكي عن مالك وأحمد في إحدى الروايتين من أن في قطع ذنب بهيمة القاضي تمام القيمة؛ لأنها لا تصلح له بعد ذلك».

ويدل على التساوي المذكور إطلاق الأدلة التي لم تفرق بين القاضي وغيره، وأنه مطابق لمقتضى القواعد حيث يلاحظ في الضمان قيمة العين المغصوبة لا غرض المالك.

فإن قلت: إنه يسبّب ضرراً على المالك.

قلت: إن ذلك الضرر ليس بمالي فلا يكون قابلاً للتدارك بالضمان، وهنا لا ضرر مالي مع أخذ الأرش، وأما الضرر الاجتماعي فيمكنه تداركه بأن يبيعه ويشتري بهيمة جديدة بثمنه مع الأرش(1).

ويمكن التنظير له بعدم الفرق بين وطء الأجنبي والابن للجارية شبهة، حيث يضمنان المهر فقط مع ثبوت الفرق بينهما؛ لأن الأجنبي لم يضر المالك إلّا بمقدار الاستبراء، وأمّا الابن فسبّب الحرمة الأبديّة، فيعلم من ذلك أنه لا مدخلية لغرض المالك في الضمان بعد عدم نقصان في العين.

اختلاف القيم لاختلاف الأغراض

المسألة الثانية: لو اختلفت قيمة المغصوب عند الناس لاختلاف أغراضهم، أو اختلفت قيمته بالنسبة إلى الأفراد، فالضمان على أيّ القيم؟

ولتوضيح المسألة نذكر بعض الأمثلة:

الأول: ورقة سعرها في السوق دينار لكن تسوى لزيد ألف دينار باعتباركتابة دين له فيها.

الثاني: لو دفع ألف دينار ليصنع له شيئاً قيمته مائة دينار باعتبار عدم رغبة الناس فيه، كما لو قطع رجله فصنع له رجلاً اصطناعية، أو كان عظيم الجثة

ص: 189


1- فهل يستلزم إمكان التخلص منه عدم تحمل الغاصب الضمان؟ وفيه نظر؛ فإن كل ضرر متوجه يمكن دفعه بشكل من الإشكال (المقرر).

يخاط له ملابس على قياسه لا تتوفر في السوق.

الثالث: لو رغب في شيء غير متعارف فدفع بإزائه مالاً كثيراً، مع كون قيمته أقل في السوق.

قال العلامة في التذكرة: «لو غصب شيئاً فتفاوت قيمته بالنسبة إلى أربابه، فالأقرب ضمان التفاوت أيضاً بالنسبة إلى ربه إن غصبه منه، وإن غصبه من غيره لم يضمن الزّيادة»(1).

ومثّل له في جامع المقاصد والجواهر: بما لو غصب حُجّة إنسان بدين أو ملك(2).

ويمكن الاستدلال لذلك:

أولاً: بقوله(علیه السلام): «لئلا يتوى حقُ امرئٍ مسلم»(3). فإتلاف الوثيقة مع عدم ضمانه له يساوي ضياع حقه، والجملة وإن كانت خبريّة لكنها بمثابة الإنشاء.

فإن قلت: قد مرّ عدم التلازم بين الحرمة التكليفية والحكم الوضعي.قلت: فإنه وإن كان ذلك تاماً في حدِّ نفسه إلّا أنه قد تكون ملازمة عرضية في بعض الموارد، ومنها ما نحن فيه، فنهي المولى عن تضييع حق المسلم، من دون تشريع الضمان يساوي تضييع حقه، فبالدلالة الالتزامية يستفاد الحكم الوضعي.

وثانياً: بدليل (لا ضرر) بناءً على كونه مثبتاً للحكم.

ص: 190


1- تذكرة الفقهاء 2: 391.
2- جامع المقاصد 6: 268؛ جواهر الكلام 37: 113.
3- عوالي اللئالي 1: 315؛ مستدرك الوسائل 17: 446.

وفي عكس المسألة: لو أتلف من شخص ثري مالاً لا قيمة له عنده، ضمن القيمة السوقيّة لا المقدار الذي يسوى عند المالك؛ وذلك لعموم أدلة الضمان، وعدم اهتمام المالك به لا يخصصها.

فالفرق بين المسألتين واضح، ففي المسألة الأولى المخصص دليل (لا ضرر) و (لئلا يتوى) وما أشبه، وفي الثانية لا مخصِّص.

الجناية على الحيوان

المسألة الثالثة: لو جنى على حرّ اختصت مباحثه بباب الديّات، وأمّا الجناية على البهيمة فقد تنقص قيمته، كما في غالب الجنايات، أو تزيد ونظيره ما رُوي في الجارية التي لم ينبت الشعر على عانتها(1)، وقد لاتؤثر في القيمة كما في شق أذن الشاة في غير الأضحية حيث الغرض منها اللحم.

فاللازم في الصورة الأولى إعطاء التفاوت بين الصحيح والمعيب.

إلّا أن هنالك رواية تنص على أنه لو أعمى الدابة فعليه ربع قيمتها(2)،

ص: 191


1- الكافي 5: 215؛ وسائل الشيعة 18: 97، «روي عن ابن أبي ليلي أنه قدّم إليه رجل خصماً له فقال: إن هذا باعني هذه الجارية فلم أجد على ركبها حين كشفتها شعرا وزعمك أنه لم يكن لها قط، قال: فقال له ابن أبي ليلي: إن الناس ليحتالون لهذا بالحيل حتى يذهبوا به فما الذي كرهت، قال: أيها القاضي إن كان عيبا فاقض لي به، قال: حتى أخرج إليك فإني أجد أذى في بطني ثم دخل وخرج من باب آخر، فأتى محمد ابن مسلم الثقفي فقال له: أيّ شيء تروون عن أبي جعفر(علیه السلام) في المرأة لا يكون على ركبها شعر أيكون ذلك عيباً؟ فقال له محمد بن مسلم: أما هذا نصّاً فلا أعرفه ولكن حدثني أبو جعفر، عن أبيه، عن آبائه^، عن النبي| أنه قال: كل ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب، فقال له ابن أبي ليلى: حسبك ثم رجع إلى القوم فقضى لهم بالعيب».
2- تهذيب الأحكام 10: 309؛ وسائل الشيعة 29: 355، خبر أبي العباس قال: قال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «من فقأ عين دابة فعليه ربع ثمنها».

لكن قد أعرض المشهور عنها، بل الإجماع قائم على خلافها إلّا من الشيخ الطوسي في بعض كتبه، حيث أفتى تارة بالرّبع(1) وتارة بالنّصف(2) تبعاً لرواية لم تصلنا.

فلا بد من حملها على التقية - لأجل عدم إسقاطها بالكلية - أو حملها على القضية الخارجية، بأن كان أرش النقص الوارد عليها يساوي ربع قيمتها خارجاً، فحكم به علي(علیه السلام)، وعليه فلا منافاة بين رواية الرّبع ورواية النّصف.

وفي الصورة الثانية ذهب المشهور إلى أن اللازم إرجاع الأصل والزيادة إلى المالك، ولا حق للغاصب فيها.ويحتمل أن يكون الغاصب شريكاً للمالك في الزيادة(3)، وقد يستدل له بقوله تعالى: {وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}(4)، فإن المالك لم يسعَ للزّيادة، بل هي سعي الغاصب، وكذلك رواية مشتري الشجرة التي تركها فسقاها البائع(5)،كما مر تفصيل الكلام فيه.

ويمكن التأمل فيه؛ لأن الآية لا تثبت أن كل سعي للسّاعي، بل هي في مقام بيان أنه ليس للإنسان شيء إلّا أن يسعى فيه.

ص: 192


1- النهاية: 781.
2- الخلاف 3: 397.
3- الفقه 78: 271-272.
4- النجم: 39.
5- الكافي 5: 297؛ وسائل الشيعة 18: 230، عن هارون بن حمزة قال: «سألت أبا عبد اللّه(علیه السلام) عن الرجل يشتري النخل ليقطعه للجذوع فيغيب الرجل ويدع النخل كهيئته لم يقطع فيقدم الرجل وقد حمل النخل، فقال: له الحمل يصنع به ما شاء إلّا أن يكون صاحب النخل كان يسقيه ويقوم عليه».

وأمّا رواية الشجرة فلم ترد في الغصب، كما أنه لم يكن تصرف، بل مجرد سقي، بالإضافة إلى كون البائع محسناً، فلا يمكن استفادة قاعدة عامة منها، خاصة مع عموم أدلة تبعية النماء للأصل، وعدم احترام عمل الغاصب.

وفي الصورة الثالثة لا ضمان، فإنه حيث لم تتغيّر القيمة لم يجرِ فيه دليل الأرش وغيره؛ لأنها في مقام بيان التفاوت بين الصحيح والمعيب ولم يتحقق.

نعم، فعله محرّم؛ لتصرفه في مال الغير من دون إذنه.

إصلاح العيب

المسألة الرابعة: لو أصلح الغاصب العيب بما رجعت القيمة إلى ما كانت لم يضمن؛ لتحقق الرد المأخوذ موضوعاً في الروايات، مثل: «الغصب كلّه مردود» وعدم شمول أدلة الأرش له.

ولكن لو كان إصلاحه بفعل اللّه - كما لو كسر رجل الدابة فانجبرت بنفسها - فالمشهور(1) أنه ضامن للأرش؛ لاشتغال ذمته به فيستصحب.

لكن قد يشكل بعدم الفرق بين المقامين، فوحدة المناط تقضي بالأرش أو عدمه فيهما.

والأقرب - إن لم يكن إجماع في المقام - الثاني.

ص: 193


1- الدروس الشرعيّة 3: 284؛ الروضة البهيّة 3: 496؛ كتاب المكاسب 5: 307.

الفصل السابع: في بدل الحيلولة

اشارة

وإنما سُمّي ببدل الحيلولة لحيلولة الغاصب بين المالك وملكه، وقد تطرق صاحب الشرائع إلى بعض أحكامه حيث قال: «وإذا تعذر تسليم المغصوب دفع الغاصب البدل، ويملكه المغصوب منه، ولا يملك الغاصب العين المغصوبة، ولو عادت كان لكل منهما الرجوع»(1).

وفيه مطالب:

المطلب الأول: وجوب دفع البدل

وأمّا وجوب دفع البدل فللإجماع(2) وعمومات الأدلة، كقوله تعالى: {وَجَزَٰٓؤُاْ

سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ}(3)، ولا ضرر - على المبنى - فإن صبر المالك إلى العثور على الضائع ضرر عليه يجبر بالبدل. بالإضافة إلى صدق التّلف عرفاً، فيشمله عمومات التّلف، ومنها: الروايات التي تشمل المقام بملاكها، كتوقيع العسكري(علیه السلام) حيث سئل عن: «رجل دفع إلى رجل وديعة فوضعها في منزل جاره فضاعت، فهل يجب عليه إذا خالف أمره وأخرجها منملكه؟(4)

ص: 194


1- شرائع الإسلام 4: 768.
2- مسالك الأفهام 12: 200-201؛ جواهر الكلام 37: 129-130.
3- سورة الشورى، الآية: 40.
4- حيث شرط عليه أن لا يخرجه عن ملكه.

فوقع(علیه السلام): هو ضامن لها إن شاء اللّه»(1).

ومعنى الضمان البدلية بدلالة الاقتضاء، حيث لا يوجد احتمال آخر، فإما أن يرجع العين وهو ممتنع، أو البدل ولا شق ثالث.

ويستفاد الملاك من قوله: (فضاعت).

وكرواية أبي جعفر(علیه السلام) حيث سئل عن: «العارية يستعيرها الإنسان فتهلك أو تسرق، فقال(علیه السلام): إذا كان أميناً فلا غرم عليه»(2).

وتدل على الغرم بمفهومها مع الإفراط أو التفريط، والغاصب متعدٍّ.

المطلب الثاني: في مالك البدل والمبدل منه

وأمّا ملكية المغصوب منه للبدل فتستفاد من الروايات السابقة أيضاً؛ للملازمة العرفية بين الضمان والملكية، بالإضافة إلى الإجماع وغيره.

وأمّا ملكية الغاصب للعين المغصوبة أو عدمها بعد أداء البدل ففيه قولان:

القول الأول: ما هو المشهور من عدم الملكية(3)، واستدل لذلك بأدلة:

الأول: استصحاب ملك المالك، كما في الجواهر(4) ومفتاحالكرامة(5) وغيرهما(6).

وسيأتي الكلام فيه عند بيان الدليل على القول الآخر.

ص: 195


1- الكافي 5: 239؛ وسائل الشيعة 19: 81.
2- الكافي 5: 238؛ وسائل الشيعة 19: 93.
3- مسالك الأفهام 12: 200؛ كفاية الأحكام 2: 649.
4- جواهر الكلام 37: 131.
5- مفتاح الكرامة 18: 185 و 213.
6- جامع المقاصد 6: 271؛ مجمع الفائدة والبرهان 10: 539.

الثاني: ما ذكره المحقق الرشتي(1)، من أنه بدل الحيلولة لا بدل العين. نعم، لو كان بدل العين أمكن القول بملكيته لها حتى لا يجمع بين العوض والمعوض.

وبعبارة أخرى: إن الغاصب منع المالك من إعمال سلطنته على ملكه فعليه جبره، فالبدل بدل السلطنة لا العين.

وفيه نظر: فليس الأمر كذلك، بل هو بدل العين؛ ولذا لو كانت العين مثليّة لزمه المثل وإلّا فالقيمة، والسلطنة غرامة لا ترتبط بهما.

الثالث: إنه كالتلف، وأدلة التلف تقضي بخروج التالف عن ملك المغصوب منه، وعدم ملكية الغاصب، فإن الملكية اعتبار ولا اعتبار، في ما هو لغو، حيث إنه سالبة بانتفاء الموضوع.

وينقض عليه: أولاً: بلزوم خروج ما هو كالتلف عن ملك المغصوب منه أيضاً، ولم يلتزموا به.

وثانياً: ليس التلف دقياً مع بقاء العين التالفة كقِطع الكوز المتناثرة، بل تبدل صورة، ولا مانع من اعتبار ملكية الغاصب له، فكذلك في بدلالحيلولة.

الرابع: إن ظاهر (حتى تؤدّي) بقاء العين في ملك المالك(2)، وعلى الغاصب أن يؤدّي العين حين القدرة.

ويضعّف: بعدم انحصار الأداء بالعين، بل يعم البدل؛ ولذا مع أدائه لم يلزم على الغاصب البحث عن المغصوب.

ص: 196


1- كتاب الغصب: 86.
2- جواهر الكلام 37: 131.

الخامس(1): بعد العثور على العين يكون النماء المنفصل للمالك، فيدل على بقاء ملكه، فإنه تابع للأصل، كما في نماء الحيوان فترة الخيار، حيث إنه للمشتري وإن فسخ بعد ذلك.

لكنه أول الكلام، حيث لم يقم عليه دليل إلّا القول بعدم الخلاف.

القول الثاني(2): ملكية الغاصب للعين بعد أداء بدل الحيلولة، واستدل له بأدلة:

الأول: لا ضرر - على المبنى - فإن عدم ملكيته للعين بعد أداء البدل ضرر منفي حتى بالنسبة إلى الغاصب.

وهو دليل في الجملة؛ لأنه قد يكون فعله إقداماً على الضرر - كما لو تعمد الحيلولة - فلا يشمله الدليل.

الثاني: إن عدم ملكيته للعين بعد أداء البدل ضياع حقه المنهي بقوله:«لئلا يتوى حق امرئ مسلم»(3).

لكنه ضعيف؛ لعدم الدليل على كونه حقه حتى يستدل بالرواية، فإنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

الثالث(4): إن بقاء العين على ملك المالك مستلزم للجمع بين العوض والمعوض وهو باطل، أمّا الصغرى فلظاهر الأدلة الدالة على ملكية المغصوب منه للبدل، وأنه بدل العين لا بدل زوال السلطنة كما مرّ فيتصرف

ص: 197


1- السرائر 2: 483.
2- الفقه 78: 278-279.
3- مستدرك الوسائل 17: 446.
4- مسالك الأفهام 12: 201.

فيه كما يشاء، فلو كانت العين ملكاً له أيضاً استلزم الجمع بين العوض والمعوض.

وأمّا الكبرى فيمكن دعوى الإجماع عليها، بل هي من المسلّمات فقهياً، ويمكن الاستدلال لها أيضاً بكون المعاملات عرفيّة أمضاها الشارع، وهم لا يسوّغون الجمع بين العوض والمعوض، وهو قانون عقلائي رائج لم يردع عنه الشارع، كما يمكن تأييد ذلك بجزئيّات كثيرة التي يطلب تفصيلها من مباحث المكاسب.

فالأقرب أن الغاصب يملك المبدل منه بعد أداء البدل.

المطلب الثالث: تعيين المالك

وتظهر الثمرة في النماء.

وتفصيله: إن النماء قبل أداء البدل ملك للمغصوب منه قطعاً، حيث لاوجه لخروج العين عن ملكه، فالنماء تابع له.

وأمّا بعد أداء البدل، فعلى ما اخترناه يكون النماء للغاصب.

لكن ذهب جمع إلى كونه للمالك، واستدل له صاحب الجواهر(1) بعدم براءة ذمة الغاصب، لا من العين ولا من النماء حتى بعد أداء البدل، للأصل، أي: الاستصحاب التنجيزي بالنسبة إلى العين، والتعليقي بالنسبة إلى النماء.

ويشكل عليه: بأنّه لا مجال للأصل بعد ثبوت كون العين ملك الغاصب، بل لا مجال له حتى وإن ثبت كونها ملك المالك، فهو بنفسه دليل الضمان، فالاستصحاب غير جارٍ على كل وجه؛ للورود بناء على الأول؛ ولعدم الشك

ص: 198


1- جواهر الكلام 37: 136.

بناء على الثاني، وعلى فرض الشك فلا مجال أيضاً للأصل؛ لأنه مسببي، فإن الشك في ضمانه مسبب عن الشك في كونه ملك المالك، ومع استصحاب ملكيته يكون ضامناً بلا حاجة لاستصحاب الضمان، فإن الاستصحاب السببي ينفي موضوع الاستصحاب المسببي.

المطلب الرابع: الحيلولة في الفترة القصيرة

ثم إنه لو أدّى البدل، فرجعت العين بعد فترة قصيرة، تبين عدم ملكيته للبدل، حيث لا يسمى بدلاً عرفاً، بل توهم للبدلية، فلا يخرج المبدل منهعن ملك المالك. وترتبط المدة الطويلة والقصيرة باختلاف الأشياء والحالات عرفاً.

ويظهر منه فرع آخر ذكره في مفتاح الكرامة(1) وهو: لو علم بعودته في الفترة القصيرة حق للمالك مطالبة البدل كما عن جامع المقاصد(2)؛ وذلك لإطلاق كلمات الفقهاء؛ ولأن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال.

ولكنه محل تأمل؛ لعدم حجية إطلاق كلماتهم، إضافة إلى عدم معلوميته، بل هي منصرفة عن المقام، وأمّا أن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال فقد مرّ الإشكال عليه.

واختار صاحب مفتاح الكرامة(3) عدم الحق في ذلك؛ لأن المستفاد من الأدلة أن بدل الحيلولة إنما هو عند تعذر الرد، ولا يصدق التعذر في الفترة القصيرة، فيلزم انتظار العين ولا ينتقل إلى البدل، وهو تام.

ص: 199


1- مفتاح الكرامة 18: 213-214.
2- جامع المقاصد 6: 271.
3- مفتاح الكرامة 18: 214.

لكن مقتضى القاعدة ضمان المنافع في تلك الفترة إن كان المالك بصدد الانتفاع بها لدليل (لا ضرر) الشامل لعدم النفع مع وجود المقتضي للنفع وكون المانع هو الحيلولة، ولصدق ضياع الحق فيشمله (لئلا يتوى)، ولصدق التلف عرفاً، كما مرّ في من غصب بيتاً وأغلق بابه، حيث يضمن العين والأجرة.

المطلب الخامس: تفاوت قيمة العين عند التلف

ولو(1) أدّى بدل الحيلولة ثم تلفت العين وقد زادت قيمتها أو نقصت عند التلف، فمع القول بملكية الغاصب بعد أداء البدل كان التالف من ملكه، ولا بحث فيه.

وأمّا مع القول بكونه باقياً على ملك المالك فالتلف مستند إلى الغاصب، وقد تردد بعض الفقهاء في الحكم(2)، واحتمل بعضهم(3) أن عليه أداء الزّيادة وله الحق في الاسترجاع مع النقيصة.

لكن المشهور أنه لا شيء على الغاصب.

وهو مشكل على مبناهم، فمع كونه ملك المالك كان على الغاصب جبره مع الزّيادة، وله أخذ الفارق مع النقص.

والكلام هو الكلام في ما لو لم تتلف العين ثم زادت قيمتها أو نقصت.

المطلب السادس: فوات المنفعة

لو فوّت الغاصب المنفعة أو فاتت كان ضامناً، وعليه أداء بدل الحيلولة

ص: 200


1- كتاب الغصب، للرشتي: 87 ؛ الفقه 78: 286.
2- جامع المقاصد 6: 261.
3- مسالك الأفهام 12: 201.

والأجرة معاً.

والأول في المنافع المستوفاة، كما لو كان المالك ساكناً في دارهفغصبها، والثاني في غير المستوفاة، كما لو لم يكن ساكناً.

قال في الشرائع: «وعلى الغاصب الأجرة إن كان مما له أجرة في العادة، من حين الغصب إلى حين دفع البدل»(1).

وتتضمن العبارة المذكورة أحكاماً ثلاثة، لا بد من الاستدلال عليها.

الأول: إن على الغاصب الأجرة، واستدل له بالإضافة إلى الإجماع(2): أن المنافع مال أتلفه الغاصب حيث لا ينحصر الإتلاف في العين، بل يشمل المنفعة، فتجري أدلة ضمان الغاصب في مورد المنفعة أيضاً، بالإضافة إلى الأدلة الخاصة كصحيحة أبي ولّاد.

وقد قيّدها بعض الفقهاء كالعلامة(3) بالمنافع المحللة، وأمّا المحرمة فلا ضمان فيها، حيث لا تجوز أجرتها، كما لو غصب جارية مغنّية كان مالكها يؤجرها للغناء، فحيث تحرم المنفعة لم تضمن، ولا فرق في ذلك بين الأجرة ابتداءً أو تفويت المنفعة.

والقيد المذكور تام حسب مقتضى الأدلة، سواء كان حراماً بالأصالة كالغناء، أم بالعرض كما لو نذر عدم الانتفاع بالجارية رعاية لصحتها، فغصبها، فلا يضمن الأجرة لحرمة استيفاء منفعتها بالنذر.

ولا بد من فعلية الحرمة، وإلّا فالحرمة التقديرية غير مانعة عنالضمان،

ص: 201


1- شرائع الإسلام 4: 768.
2- جواهر الكلام 37: 138.
3- قواعد الأحكام 2: 221.

كما في الجارية المغنّية عند الكافر، حيث لا يمنعه الشارع عن أخذ الأجرة عليها من الكفّار، وإن كان مكلفاً بالفروع، وذلك للإلزام، فلو غصبها مسلم أو غيره ضمن أجرتها.

ويجري الحكم المذكور في العامي أيضاً، وكذلك مع اختلاف التقليد فلو رأى الحلية اجتهاداً أو تقليداً فغصبه مَن يرى الحرمة اجتهاداً أو تقليداً ضمن الأجرة؛ لعدم كون الحرمة فعلية بحقه، حتى وإن كان محرّماً واقعاً.

الثاني: إنما يضمن إن كان مما له أجرة في العادة(1)، فلو لم يكن كذلك فلا ضمان، وإن كانت المنفعة محلّلة عقلائية كالمناظر الطبّية، ومثّل له في بعض الكتب الفقهية(2) بما لو غصب شاة فأرجعها لم يضمن المنفعة؛ لأنها لا تستأجر، وكذا لو غصب شجرة كان يستظل بها.

لكن أشكل السيد الوالد في الفقه(3) على ذلك بأنه قد فوّت منفعة عقلائية، فتشمله الأدلة العامة للضمانات؛ لأنه أتلف مال الغير وإن لم يتعارف إيجاره، فعدم تعارف الأجرة لا يخرجه عن كونه مالاً، وأمّا تشخيص مقدار الأجرة فحسب رأي أهل الخبرة وتخمينهم، وإن عجزوا فالمصالحة القهريّة.وأمّا لو لم يكن عقلائياً فلا يكون مالاً، فلا يتعلق به الضمان.

الثالث: إنه يتعلق به الأجرة من حين الغصب إلى حين دفع البدل، وقال

ص: 202


1- تذكرة الفقهاء 2: 381؛ مفتاح الكرامة 18: 157.
2- جواهر الكلام 37: 138 و 167.
3- الفقه 78: 296.

بعض الفقهاء(1) من حين الغصب إلى حين الرد.

والصحيح هو الأول؛ لأنه بدفع البدل يمكن للمغصوب منه الانتفاع به فلا فوت للمنافع حينئذٍ ليضمنها الغاصب.

ص: 203


1- المبسوط 3: 75؛ تحرير الأحكام 4: 546؛ اللمعة الدمشقية: 204.

الفصل الثامن: في إتلاف أحد المنضمّين

اشارة

لو أتلف أحد المنضمّين، كمصراعي الباب أو كفردتي الحذاء أو المفتاح والقفل، مما له قيمة مفرداً كثلاثة دراهم، وقيمة منضماً كخمسة دراهم، وقيمة للهيئة الاجتماعية كأربعة دراهم، فهل يضمن الثلاثة أو الخمسة أو السبعة. فالثلاثة قيمته منفرداً، والخمسة قيمته منفرداً مع نصف قيمة وصف الاجتماع، والسبعة قيمته منفرداً مع قيمة صفة الاجتماع كلّها، حيث إنه كما أتلف أحد المنضمّين كذلك أتلف صفة الاجتماع كلها.

والمشهور(1) على الثالث؛ لأنه فوّت على المالك المنفرد وقيد الاجتماع، فإن لوصف الاجتماع قيمة قد فوتها الغاصب فعليه الغرامة.

قال في الشرائع: «ولو غصب شيئين ينقص قيمة كل واحد منهما إذا انفرد عن صاحبه كالخفين، فتلف أحدهما، يضمن التالف بقيمته مجتمعاً، ورد الباقي وما نقص عن قيمته بالانفراد»(2).

وهو مطابق لما ذكر لكن عن طريق آخر. فمفاد ما ذكرناه ضمان قيمتهمنفرداً أي: ثلاثة، وقيمة الاجتماع، أي: أربعة.

ص: 204


1- المبسوط 3: 72؛ السرائر 2: 489؛ قواعد الأحكام 2: 230؛ جامع المقاصد 6: 269؛ مسالك الأفهام 12: 202؛ كفاية الأحكام 2: 648؛ مفتاح الكرامة 18: 206؛ جواهر الكلام 37: 140.
2- شرائع الإسلام 4: 768.

ومفاد ما ذكره في الشرائع ضمان قيمته منضمّاً، أي: خمسة، ومقدار النقص الحاصل للثاني، أي: اثنان، والنتيجة واحدة، لكن طريق الاستدلال مختلف.

والدليل عليه أنه أتلف شيئين: العين الواحدة ووصف الاجتماع، ومَن أتلف وصفاً ضمنه.

لكن ظاهر الشهيد(1) الضمان بقيمته مجتمعاً لا أكثر، أي: خمسة دراهم؛ لأنه لم يتلف غيره؛ ولأنه لم يحدث نقصاً في العين المتبقية، والنقص الحاصل إنما هو لاختلاف رغبات الناس، حيث لا يرغبون بشراء الفرد الواحد، وهو غير مضمون.

وقد ظهر جواب الأول مما سبق، فإنه أتلف وصف الاجتماع بالإضافة إلى العين، وأمّا جواب الثاني فإنه ليس مجرد نقص سوقي، بل إتلاف لوصف الاجتماع، فقد كان للمتبقي وصف الاجتماع مما زادت قيمته بسببه فيضمنه.

والحاصل: إن مقتضى القواعد أنه ضامن للعين ولوصف الاجتماع.

إن قلت: هناك تهافت بين الحكم المذكور بضمان قيمة الهيئة الاجتماعية، وبين عدم إجراء الحد على السارق، في ما لو كانت قيمةالفردة مع الهيئة الاجتماعية ربع دينار وبدونها أقل منه، فكيف يعتبر الأكثر في باب الضمان والأقل في باب الحد؟

قلت(2): إن الفرق بينهما واضح، حيث إن الملاك في الضمان الإتلاف

ص: 205


1- اللمعة الدمشقية: 204.
2- الفقه 78: 299.

وقد أتلف صفة الاجتماع، لكن الملاك في السرقة هو المسروق، وقد سرق أقل من ربع دينار وأتلف الهيئة الاجتماعية؛ ولذا لا يحسب من المسروق ما يتلف من كسر الأقفال والصناديق، كما أنه لو كانت قيمة الشاة ربع دينار فدخل المربض وذبحها مما صار سعرها أقل من الربع ثم سرقها لم يحد.

وهنا فروع:

الفرع الأول: عدم انتفاع المالك بالمتبقي

لو انتفت منفعة المتبقي بالكليّة؛ لعدم وجود فرد آخر في السوق مثلاً، فمقتضى (لا ضرر) ضمان كل القيمة، ويملك الغاصب المتبقي حتى لا يجمع بين العوض والمعوض.

الفرع الثاني: كيفية ضمان الغاصبين للفردتين

لو غصب كل واحد من الغاصبين فردة واحدة فتلفتا، فقد تتلفان معاً، وقد تتلفان بالتعاقب.

ومقتضى القاعدة في الصورة الأولى ضمان كل واحد منهما لنصفالقيمة مجتمعاً، أي: خمسة دراهم(1).

وأمّا في الصورة الثانية فقد احتمل أن الغاصب الأول يضمن سبعة دراهم والغاصب الثاني يضمن ثلاثة دراهم(2)؛ وذلك لأن الأول أتلف الهيئة الاجتماعية بالإضافة إلى الفردة الواحدة، والثاني لم يتلف الهيئة؛ لأنها قد تلفت من قبل.

ص: 206


1- تذكرة الفقهاء 2: 391؛ مسالك الأفهام 12: 203؛ الفقه 78: 298.
2- إيضاح الفوائد 2: 180؛ جامع المقاصد 6: 270؛ الفقه 78: 298.

ويحتمل ضمان كل واحد منهما لخمسة دراهم وهو الأقرب؛ لأنهما حين الغصب غصبا العين والهيئة الاجتماعية، وكما يضمنان العين يضمنان الوصف، فكلاهما شريكان في الضمان. فلو لم يباشرا الإتلاف عمداً، بل سرق منهما مثلاً كان التقسيم بينهما بالسويّة.

وأمّا لو كان الغاصب الأول هو المتلف كان استقرار ضمان الوصف عليه، فللمالك أن يأخذ من الغاصب الثاني خمسة دراهم، ويحق له الرجوع إلى الأول بدرهمين، كما مر في بحث تعاقب الأيدي.

بل يمكن القول بذلك أيضاً في ما لو لم يباشرا الإتلاف عمداً، فإنه حيث تلف الوصف في يد الأول كان استقرار الضمان عليه.

الفرع الثالث: اشتراط اتحاد المنضمين

هل يشترط في ضمان الهيئة الاجتماعية اتحاد المنضمين عرفاً كمصراعي الباب، وأمّا المجاورين فلا؟ مثلاً لو غصب البيت والمسجدمعاً ثم هدم المسجد مما سبّب تنزل قيمة البيت فهل يضمن التنزل أم لا؟ ذكر المحقق الرشتي(1) أنه لا ضمان؛ لعدم ملاحظة صفة الاجتماع عرفاً، والفارق بينهما أن في الوحدة العرفية يصدق إتلاف وصف الاجتماع مما هو مال للمالك فيضمنه، وأمّا في غيره فإن صفة الاجتماع ليست مالاً عرفاً، والضمان في الماليات، واختلاف القيمة مرتبط برغبات الناس، كما يمكن التمثيل لذلك بما لو أحدث فوضى في المدينة مما سبّب تنزل قيمة البيوت لم يضمن ذلك؛ لأنه لم يتعدَّ على الأموال، بل قلّت رغبة الناس في شراء البيوت.

ص: 207


1- كتاب الغصب: 90-91.

والظاهر أن ما ذكره تام.

الفرع الرابع: سقوط المتبقي عن القيمة

لو سقط المتبقي عن القيمة كاملاً، كما لو لم يكن للمفتاح قيمة من دون القفل، ضمن كل القيمة؛ لأنه أتلف أحدهما والمتبقي كالتالف؛ لأنه أذهب قيمته، ومع الأداء يملك الغاصب المتبقي لكي لا يجمع بين العوض والمعوض.

ص: 208

الفصل التاسع: في التغيير في العين

اشارة

وفيه بحوث:

البحث الأول: في نزو الدابة

اشارة

وفيه مسائل:

مالك النتاج

المسألة الأولى: قال في الشرائع: «ولو غصب فحلاً فأنزاه على الأنثى كان الولد لصاحب الأنثى، وإن كانت للغاصب»(1).

والاحتمالات ثلاثة: أن يكون تابعاً للفحل، أو الأنثى، أو يشتركان فيه.

ودليل مختار الشرائع الإجماع(2) على أن الولد تابع للأم في الحيوان، والسيرة على ذلك(3)، حيث لا يبحث عن أب الولد في ما لو حملت الأنثى.

وقد أشكل المحقق الكركي في جامع المقاصد(4): بعدم الفرق بينالمقام وبين الحب المزروع في الأرض المغصوبة، فلو كان النتاج لصاحب الحب - كما هو المشهور(5)- فلا بد وأن يكون الولد تابعاً للمني أيضاً.

ص: 209


1- شرائع الإسلام 4: 769.
2- جامع المقاصد 6: 322؛ مسالك الأفهام 12: 206؛ جواهر الكلام 37: 146.
3- جواهر الكلام 37: 146.
4- جامع المقاصد 6: 322.
5- المبسوط 3: 56؛ غنية النزوع: 280؛ شرائع الإسلام 4: 773؛ رياض المسائل 12: 290؛ جواهر الكلام 37: 198.

وأجاب عنه في مفتاح الكرامة(1): بتحقق الفرق وهو: أن المني غير مملوك بعد الانفصال، حيث لا قيمة له ولا منفعة محلّلة عقلائية له، بخلاف الحب هذا أولاً. وثانياً: إن الحب واجب الرد لمالكه بخلاف المني.

لكنه محل تأمل؛ لأن الملكية غير المالية، فلو لم تكن لشيء قيمة، أو لم تكن له فائدة أصلا لم يكن ذلك سبباً لعدم ملكيته، كما أن القول بعدم القيمة مشترك بين المني والحبة الواحدة، بل قد يُفرض للمني قيمة خصوصاً في مثل هذا الزمان.

وأمّا القول بعدم وجوب رد المني فليس ذلك لعدم ملكيته، بل لعدم إمكانه، فإنه تالف عرفاً، بخلاف الحب.

ويشكل على الإجماع بعدم تحققه لعدم تطرق الفقهاء للمسألة، بل قد يكون مستنداً، فلا حجية فيه.

ويشكل على السيرة: بعدم تحققها للزوم تكررها وإحراز اتصالها بالمعصوم(علیه السلام)،والمسألة من الموارد النادرة(2)، ولو شك في الدليل فالأصل عدمه.

والحاصل: إن ثبت الإجماع أو السيرة، وإلّا كان مقتضى القاعدة اشتراكهما في الولد، كما مرّ في زرع الحبّة في الأرض المغصوبة.

كيفية التقسيم

المسألة الثانية: أمّا كيفية التقسيم بينهما، فقد يوكّل إلى العرف، حيث لا

ص: 210


1- مفتاح الكرامة 18: 351.
2- ويرد عليه: بأنه وإن كانت المسألة نادرة في خصوص غصب الفحل ونزوه على الأنثى، إلّا أن الكبرى الكلية، وهي: إن تبعية الولد للأنثى من المسائل التي يكثر الابتلاء بها بين أرباب المواشي (المقرر).

نعلم مقدار الحق لكل منهما فيعينه العرف.

لكن قد يقال: إنه لا يرتبط بالعرف حتى يتم التقسيم برأيه، فإن العرف حجة في المفاهيم - فيؤخذ منه مفهوم الحق - دون المصاديق، فلا يحق له بيان مقدار الحق.

وربما كان المقصود الرجوع إلى أهل الخبرة، حيث يتم حسب رأيهم نسبة الشراكة بين صاحب الفحل وصاحب الأنثى في النماء، ويختلف ذلك باختلاف كيفية الشراكة.

ضمان الأجرة

المسألة الثالثة: بناءً على القول بتبعيّة الولد للأم فهل على الغاصب الأجرة؟ فإن نفس العمل له قيمة عرفاً، وهذا غير البحث في كون المني ملكاً ومالاً أم لا.ذهب الشيخ الطوسي(1) إلى أن صاحب الفحل لا يستحق الأجرة، بينما المشهور(2) - بل كاد أن يكون إجماعاً - أنه يستحقها.

واستدل(3) له بالروايات الناهية عن ذلك(4) فالعمل حرام فيكون ثمنه حراماً.

ص: 211


1- المبسوط 3: 96.
2- السرائر 2: 492؛ مختلف الشيعة 6: 128؛ الدروس الشرعيّة 3: 117؛ كفاية الأحكام 2: 650؛ جواهر الكلام 37: 146.
3- المبسوط 3: 96.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 170، وفيه: «ونهى رسول اللّه| عن عسيب الفحل وهو أجر الضراب»؛ الخصال: 417؛ وسائل الشيعة 17: 111.

لكن المشهور أعرض عنها، مع معارضتها لروايات(1) تدل على جواز الأجرة.

وقد يقال: تحمل الروايات الدالة على الجواز على التقيّة لمطابقتها للعامة.

وقد أجيب: بأنه لا مجال للحمل على التقيّة بعد إمكان الجمع الدلالي؛ لإمكان حمل الروايات الناهية على الكراهة، بل صرح في بعض الروايات أن النهي لأجل التعيير كما في خبر حنّان، عن الصادق(علیه السلام): «كلْ كسبه، فإنه لك حلال، والناس يكرهونه... لتعيير الناس بعضهمبعضاً»(2)، وهو كذلك حتى في يومنا هذا، حيث يرون العمل غير لائق.

لكن قد مرّ في بحث السمك أنه ليس الجمع الدلالي مقدماً على الحمل على التقيّة دائماً، بل قد يكون العكس، فلو حرم عند العامة وحل عندنا ففي التقيّة يحكم الإمام(علیه السلام) بعدم الجواز تقيّةً.

وإنما يقدم الجمع الدلالي على التقيّة لأنه عرفي، فلا تصل النوبة إلى المعالجات، أمّا لو لم يكن عرفياً - كما لو لم يكن للإمام طريق إلّا النهي - فلا وجه للجمع، فلا بد من الحمل على التقية.

والحاصل: إن الروايات التي استدل بها الشيخ الطوسي(3) إمّا أن تحمل على التقيّة أو على الكراهة، وقد أعرض المشهور عنها، فلا بد من القول بلزوم دفع الأجرة على العمل المذكور، كما هو المشهور(4).

ص: 212


1- الاستبصار 3: 59؛ وسائل الشيعة 17: 111، معتبرة معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّه(علیه السلام) عن كسب الحجام؟ فقال: لا بأس به، قلت: أجر التيوس؟ قال: إن كانت العرب لتتعاير به فلا بأس».
2- الكافي 5: 115؛ وسائل الشيعة 17: 111.
3- المبسوط 3: 96.
4- السرائر 2: 492؛ مختلف الشيعة 6: 128؛ الدروس الشرعيّة 3: 117؛ كفاية الأحكام 2: 650؛ جواهر الكلام 37: 146.
ضمان نقصان قيمة الفحل

المسألة الرابعة: ثم إنه لو نقص قيمة الفحل بأن ضعف بذلك ضمن، كما في الشرائع: «ولو نقص الفحل بالضراب ضمن الغاصب النقص، وعليه أجرة الضراب، وقال الشيخ في المبسوط: لا يضمن الأجرة، والأول أشبه؛ لأنها ليست عندنا محرّمة»(1).وقال العلامة في القواعد: «ولا يتداخل الأجرة والأرش»(2).

لكنه محل تأمل، حيث يشبه الجمع بين العوض والمعوض، فقد لوحظ في الأجرة أمثال النقص الوارد، فيكون النقص من ضمنها.

نعم، لو أضره ضرراً غير مترقب كان ضامناً، فإن الضراب شيء والنقص غير المتعارف شيء آخر. فالتداخل المذكور بين النقص والأجرة في ما لو كان النقص من طبيعة العمل، أمّا غير الطبيعي - غير المرتقب - فلا تداخل فيضمنه كما يضمن العين.

البحث الثاني: الاستعمال الموجب للنقص

ولو غصب شيئاً يؤجر(3) كالثوب(4)، ضمن أجرته فترة الغصب، سواء انتفع منه أم لا. ومع نقص العين فعليه ضمان النقص أيضاً.

وكذا لو غصب دابة سمينة، فضعفت عنده فعليه أجرة الدابة، وأرش

ص: 213


1- شرائع الإسلام 4: 769.
2- قواعد الأحكام 2: 238.
3- شرائع الإسلام 4: 769، وفيه: «ولو غصب ماله أجرة، وبقي في يده حتى نقص، كالثوب يخلق والدابة تهزل، لزمه الأجرة والأرش ولم يتداخلا، سواء كان النقصان بسبب الاستعمال أم لم يكن».
4- ثوب العروس ليلة الزفاف يؤجر في زماننا.

التفاوت بين الضعيف والسمين من غير تداخل، وللمسألة صورتان، يتحد حكمهما:

الصورة الأولى: لو استعمله فيضمن الأجرة بلا خلاف ولا إشكال؛ كما يضمن النقص لأنه كان سبباً له فيشمله (على اليد).وأمّا عدم التداخل فللأصل، بل قيل: إنه محال عقلاً؛ لاستحالة اجتماع علل متعددة على معلول واحد؛ ولذا وجه الفقهاء الموارد التي قالوا بالتداخل فيها كالوضوء بتوجيهات حتى يخرج عن مصاديق المحال العقلي، وإن كان الأقوى عدم الاستحالة في الأمور الاعتبارية، وإنّما الاستحالة في العلل التكوينية، فتأمل.

والحكم المذكور يشمل ما لو أصبح مجموع الضمان أكثر من قيمة المغصوب لطول مدّة الغصب، كما لو كانت قيمته ألف وأجرته يومياً عشرة، فغصبه مائتي يوم ونقصه بمائة فعليه ألفان ومائة.

الصورة الثانية: لو لم يستعمله فيضمنهما أيضاً، أما الأجرة فلأنّ المنفعة فاتت في يده فيشمله (على اليد)، وأمّا الأرش فلحصول العيب في يده، والأدلة قاضية بأن التلف مضمون إلّا من الأمين بشروطه.

ولو سبب نقصاً في العين فنقصت الأجرة، بأن هدم غرفة من البيت، فهل يضمن الأجرة الناقصة أو الكاملة بعد الفراغ عن ضمانه للأرش؟

الأقرب أنه يضمن الأجرة الكاملة، حيث فوّتها على المالك، فيضمنها لدليل (على اليد) وغيره؛ لأن عدوانه سبب نقص الأجرة.

البحث الثالث: إرجاع العين كما كانت بعد النقص

لو أمكن رد العين إلى حالتها الأصلية، كما لو أمكنه إرجاع القلادة

ص: 214

بوصفها بعد أن أذابها وطلبه المالك، احتمل عدم وجوبه على الغاصب، بل عليه الأرش لا أكثر حسب المستفاد من الأدلة.ويحتمل الوجوب، وهو الأقرب؛ لأن (حتى تؤدّي) كما يشمل الأرش يشمل إرجاعه إلى الصورة الأصلية، وهو أقرب من الأرش، وقد مرّ أن وجوب المثل لأنه أقرب إلى (تؤدّي) من القيمة.

ولو طلب المالك العين من دون الصفة لم يحق للغاصب إرجاعها؛ لأنه تصرف في مال الغير من دون رضاه.

ثم إنه لو أعادها إلى ما كانت عليه فعل حراماً؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وحينئذٍ يحتمل ثبوت الحق للمالك بمطالبة قيمة النقص الوارد، أي: قيمة الغرفة المهدّمة، مع إرجاع ما أعاده إليه؛ لأنه حين هدمها ضمن أرشها، وحين بناها لم يكن ما بنى ملكاً للمالك، فيحق له مطالبة ما له، ولا يحق إجباره على أخذ ما ليس له.

وبعبارة أخرى: حين هدمه استقر الضمان في ذمته، ولا دليل على براءة الذمة بالإعادة. نعم، لا يحق للمالك الجمع بين الأرش والبناء الجديد.

ويحتمل سقوط الأرش، لصدق (الأداء) عرفاً وإن لم يكن دقة كذلك، مضافاً إلى أن المثلي والقيمي أمران عرفيان، فالإرجاع المذكور إنّما هو مثل التالف، وإن كان حسب تعريفهم التالف - الغرفة - قيمي إلّا أنه يكفي لصدق الأداء.

البحث الرابع: التصرف الموجب لنقصان القيمة أو الوزن

ولو تصرف الغاصب في المغصوب، كما لو صاغ الذهب أو قطعالخشب أو أغلى الماء، مما سبب النقصان في الوزن أو في القيمة أو في

ص: 215

كليهما، فالصور أربعة:

الأولى: أن ينقص الوزن والقيمة، فإن كان النقصان بنسبة واحدة، بأن يصبح وزنه نصفاً وقيمته كذلك، والحكم واضح وهو الضمان مِثلاً أو قيمة.

وقد ذهب الشيخ الطوسي(1) إلى أنه لو نقص العصير بالغليان فتنزلت قيمته، لم يضمن الغاصب؛ لأنه نقص في الرّطوبة لا المادة.

ويشهد له أن المتبقي يصير مركزاً وتشتد حلاوته بخلاف غلي الدهن وما أشبه، وحيث لا قيمة للرّطوبة فلا ضمان.

لكن المشهور(2) ضمان النقص، واستدل له في مفتاح الكرامة(3) بعدم صدق (تؤدّي). بالإضافة إلى ذلك إنه لا دليل على حصر التبخير في الرّطوبة، بل تتبخر أجزاء من المادة أيضاً.

وعلى فرض ذلك فلا دليل على سلب القيمة عنه. نعم، الرطوبة عند النهر لا قيمة لها، وليس المقام كذلك.

ومع غض النظر عن هذه المباحث فإن العرف يرى نقص العين، فلا فرق بين العصير والدهن في ضمانه.الثانية: أن تنقص القيمة دون الوزن، كما لو أخذ قطعة من الذهب سعرها ألف وصاغها صياغة غير صحيحة، مما قلّت القيمة دون الوزن، فالظاهر ضمان التفاوت ل- (على اليد).

الثالثة: أن ينقص الوزن دون القيمة، كما لو أغلى ماء العنب حتى ذهب

ص: 216


1- المبسوط 3: 82؛ إيضاح الفوائد 2: 185؛ جواهر الكلام 37: 149.
2- مسالك الأفهام 12: 208؛ جواهر الكلام 37: 149.
3- مفتاح الكرامة 18: 249-250.

ثلثاه، وكانت قيمة الدبس تساوي قيمة ماء العنب، وفيه احتمالان:

الأول: لا حق للمالك في الأرش، فإنه إن لزمه ذلك جمع بين العوض والمعوض. وبعبارة أخرى: إن إعادة المغصوب بعد نقصان وزنه دون قيمته مصداق ل- (تؤدّي).

نعم، يحق للمالك أن يمتنع عن أخذ الدبس لعدم الانتفاع به، ويطالبه بإرجاع الوصف التالف، فيكون الدبس للغاصب وعليه المثل أو القيمة.

الثاني: أن يضمن الغاصب النقص، وعليه إعادة العين للمالك، وحيث إن عمله غير محترم فلا أجرة له، ولا يكون ذلك من الجمع بين العوض والمعوض، ففي المثال المذكور: إن ثلث ماء العنب يساوي ثلث قيمة الكل، وحيث غلى فأصبح دبساً تضاعفت قيمته إلى ثلاثة أضعاف، فصارت قيمته مساوية لكل ماء العنب، وهذه الإضافة بسبب عمل غير محترم للغاصب، فلا حق له فيها، ومن جهة أخرى عليه أن يضمن نقص ثلثي ماء العنب.

وهذا أقرب من الاحتمال الأول.والحاصل: في الفرض المذكور إن المتبقي ملك للمالك، وقد تضاعفت قيمته بسبب عمل غير محترم، وعلى الغاصب بالإضافة إلى إرجاع العين ضمان ما نقص، أي: الثلثين.

الرابعة: أن ينقص الوزن وتزيد القيمة، كما لو صنع الخشبة منضدة، ففي المسالك(1) وجوب الرد مع عدم الغرامة على الغاصب ولا حق له، واستدل له: إن الزيادة والنقصان يستندان إلى سبب واحد، أي: إن شيئاً واحداً سبب

ص: 217


1- مسالك الأفهام 12: 208.

نقصان العين وزيادة القيمة، فليست هنالك أسباب متعددة حتى يقال بعدم التداخل، فينجبر النقص بالزيادة.

وأشكل عليه في الجواهر(1) بلزوم الغرامة بمقدار نقصان الوزن، والقول بجبران النقصان بالزيادة محل تأمل، بل هو استحسان لدلالة الدليل على ضمان النقص، وأمّا الزّيادة فهدر لا تجبر النقص.

إلّا أن يقال: إن عمل الغاصب ليس هدراً، بل هو مما سعى فيه، المشمول للآية الكريمة: {وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}(2).

لكن مرّت المناقشة في ذلك، فالأقرب ما ذكره صاحب الجواهر.

هذا في المثلي، وأمّا في القيمي فلا يضمن قيمة النقص؛ لأنه أرجعها مع الزيادة.

البحث الخامس: التصرف الموجب لزيادة القيمة دون نقصان الوزن

ولو تصرف الغاصب بما سبّب زيادة القيمة من دون نقصان في الوزن، كما لو غصب العبد وعلّمه الصنعة، أو غصب قماشاً وخاطه بخيط المغصوب منه، أو نسج الغزل، أو طحن الطعام فما هو الحكم؟ احتمالان:

الاحتمال الأول: ما هو المشهور(3) من وجوب إعادة العين وهدر عمل الغاصب، فتكون الزيادة للمالك واستدل له:

ص: 218


1- جواهر الكلام 37: 148.
2- سورة النجم، الآية: 39.
3- تذكرة الفقهاء 2: 392؛ مسالك الأفهام 12: 204؛ تحرير الأحكام 4: 536؛ الدروس الشرعيّة 3: 111؛ مفتاح الكرامة 18: 201؛ جواهر الكلام 37: 150.

أولاً: بالإجماع، وفي الجواهر(1): بلا خلاف ولا إشكال.

وثانياً: إن عمل الغاصب غير محترم، والنتيجة إنما تكون للإنسان لو كان عمله محترماً، فلا بد وأن يكون للمالك حيث يدور الأمر بينهما، فنفي أحدهما يثبت الآخر؛ لأنه لا يبقى الملك من دون مالك، بالإضافة إلى أن الأصل للمغصوب منه فيكون نماؤه له، فإن النماء سواء كان بفعل اللّه أم المالك أم الحيوان أم شخص ثالث غير محترم يكون للمالك، إلّا إذا كان عمله محترماً فتكون الزيادة كلها أو بعضها له.

وثالثاً: ما في المسالك(2): إن الغاصب لا يستحق الزيادة لتعديهوالتعدي لا يسبب الملكية.

ورابعاً: ما استدل به من (لا حق لعرق ظالم)، ووجه الاستدلال: أنه لا حق للظالم في حاصل عمله، كما لا حق له في الأصل، فإن الرواية تنفي أي نوع من أنواع الحق له.

وأشكل(3) على الأدلة:

أمّا الأول: فمخدوش كبروياً؛ لأنه معلوم الاستناد حيث استندوا إلى الوجوه الثلاثة الأُخر، بناءً على عدم حجية الإجماع المستند، وصغروياً حيث لم يتحقق، بل ثبت الخلاف في نظائر المسألة مما يتحد ملاكه مع المقام، كما لو فعل الغاصب ما زادت به القيمة، مثلاً: غصب بيضاً ففرخه أو

ص: 219


1- جواهر الكلام 37: 150.
2- مسالك الأفهام 12: 209.
3- الفقه 78: 321-324.

بذراً فزرعه، فالمشهور(1) أن النتاج للمالك، لكن ذهب جمع(2) إلى أنه للغاصب ويضمن البيض والبذر للمالك مثلاً أو قيمةً.

أمّا الثاني: فإنّه لا دليل على هدر عمل الغاصب وإن فعل محرماً، حيث لا تلازم بين الحكم التكليفي والوضعي، فمجرد إثبات حرمة عمله لا تنفي الملكية عنه. نعم، لو لم يتم الدليل على ملكيته تثبت الملكية للمالك بأدلة تبعية النماء للأصل.وأمّا الثالث فقد ظهر جوابه من الثاني.

وأمّا الرابع: فالوارد في الحديث هو: «ليس لعرق ظالم حق»(3)، فلا يحتوي على (لا) النافية للجنس، كما أنها واردة في غاصب بنى على الأرض المغصوبة فلا حق له في تلك الأرض، وإن كان البناء له، وكلامنا ليس في تولد الحق في الحنطة المطحونة حتى تنطبق الرواية عليه، بل في الزيادة الحاصلة بفعل الطحن.

الاحتمال الثاني: للغاصب الحق في الزّيادة وإن كان فعله حراماً، كما لو غصب سفينة وصاد سمكاً، فإن حرمة فعله لا ينافي ملكيته للسمك، واستدل له بآية السعي التي مضت المناقشة فيها(4)، وكذلك بعض الروايات الواردة في المقام بنفسها أو بملاكها(5).

ص: 220


1- غنية النزوع: 280؛ شرائع الإسلام 4: 773؛ رياض المسائل 12: 290؛ جواهر الكلام 37: 198.
2- الخلاف 3: 420.
3- تهذيب الأحكام 6: 294.
4- راجع الصفحة 191.
5- الفقه 78: 324-326.

ومنها: عن مسمع قال: «قلت لأبي عبد اللّه(علیه السلام): إني كنت استودعت رجلاً مالاً فجحدنيه وحلف لي عليه، ثم جاء بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إياه، فقال: هذا مالك فخذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك واجعلني في حلّ، فأخذت المال منه وأبيت أن آخذ الرّبح، وأوقفت المال(1) الذي كنت استودعته، وأتيت حتى استطلع رأيك فما ترى؟ قال: فقال: خذ الرّبحوأعطه النصف وأحلّه، إن هذا الرجل تائب، واللّه يحب التوّابين»(2).

فمفادها احترام عمل الغاصب، وأنه كالمضاربة، ولو كان غير محترم لم يعطه شيئاً، وإنما أعطاه النصف لاحتمال أن تكون المضاربة آنذاك كذلك، كما هي الآن في بعض البلاد.

وقد يشكل عليه بأن ذلك من باب الأخلاق مع عدم حقه فيه.

لكنه خلاف الظاهر، إلّا أنه لا بد من المصير إليه، لضعف الرواية سنداً وإعراض المشهور عنها.

ومنها(3): ما مضى من رواية بائع النخل التي سقاها ورعاها، فإن ملاكها شامل للمقام.

ومنها(4): في من اشترى نخلاً للجذوع فتركها حتى حملت فقال(علیه السلام): «له الحمل يصنع به ما يشاء، إلّا أن يكون صاحب النخل كان يسقيه ويقوم

ص: 221


1- والمراد ظاهراً عدم التصرف ويحتمل الوقف لكنه خلاف الظاهر.
2- وسائل الشيعة 19: 89.
3- تهذيب الأحكام 7: 90؛ وسائل الشيعة 18: 231.
4- الكافي 5: 297؛ وسائل الشيعة 18: 230.

عليه».

ويرد عليها: أن يد البائع لم تكن عدوانيّة عكس الغاصب، فمَن يسقي ملك الغير محسن، والغاصب الساقي ليس محسناً؛ لأنه غصب وتعدٍ مقابل الإحسان(1)، فلا يمكن استفادة الملاك منها.ومنها: ما هي صريحة في كون الزّيادة للغاصب، فعن أبي جعفر(علیه السلام): «في الغاصب يعمل العمل ويزيد الزّيادة في ما اغتصبه، قال: ما عمل أو زاد فهو له، وما زاد مما ليس من عمله فهو لصاحب الشيء، وما نقص فهو على الغاصب»(2).

إلّا أن ضعف سنده وإعراض المشهور عنه كافٍ في عدم الاعتماد عليه.

فالأقرب القول الأول من كون الزّيادة للمالك، ولا دليل على ملكية الغاصب، بل عمله هدر.

البحث السادس: إزالة الصنعة بعد إيجادها

كما لو أوجد الغاصب صنعة مما زادت القيمة، ثم أزالها، وأرجع العين، كما لو صاغ السبيكة حلياً، ثم أرجعها سبيكة، ونظيره ما لو غصب شاة هزيلة فأعلفها فسمنت ثم ضعفت، ففي ضمانها قولان(3):

الأول: الضمان، واستدل له بأن الصنعة ليست عيناً حتى يقال ملكها الغاصب، كما في البذر الذي يزرعه في الأرض المغصوبة، بل صفة تابعة للأصل، فإن وصف العين تغير، ووصف المال تابع له، وحيث أعدمه

ص: 222


1- وفيه: إن غصبه تعدٍ ولكن سقيه ورعايته إحسان (المقرر).
2- مستدرك الوسائل 17: 94.
3- الفقه 78: 331-332.

الغاصب ضمنه، حيث لا فرق بينه وبين الوصف الموجود قبل الغصب، فإن دليل الضمان مشترك بينهما، وأمّا عمل الغاصب فهدرولا حرمة له.

الثاني: عدم الضمان، وهو مبنيّ على عدم هدر عمل الغاصب، واستدل له بآية السعي والروايات الشريفة، وقد مضى الكلام فيها.

فالأقرب هو القول الأول وهو المشهور.

اللّهم إلّا أن يقال بصدق (تؤدّي) عند إرجاع العين من دون الوصف المذكور(1).

وهنا فرعان:

الفرع الأول: يحق للمالك مطالبة عين ماله من دون الصنعة بأن يجبر الغاصب على إزالتها؛ وذلك للزوم رد المغصوب بوصفه(2).

إن قلت: إنه يستلزم الضرر على الغاصب وهو مرفوع.

قلت: حيث أقدم الغاصب على الضرر فلا يشمله الدليل، للانصراف.

لكن مرّ سابقاً أنه لم يقدم على الضرر، بل على النفع، فحين الغصب قصد المنفعة لا المضرّة، فلا يصدق عليه الإقدام على الضرر، فهو أمر قصديّ.

إلّا أن يقال: إن الإقدام على الضرر أمر واقعي، لكنه مشكل، حيث يشمل الجاهل أيضاً، فلو أقدم على الاستفادة من ملك الغير جاهلاً فهليشمله (لا ضرر) فيكون الضمان مرفوعاً عنه؟

ص: 223


1- لكن يشكل عليه بأن للأداء مصداقين: أداء الأصل وأداء الوصف الذي ملكه المغصوب منه، وقد صدق الأول دون الثاني، إلّا أن يقال: إن التفريق المذكور دقّي لا عرف (المقرر).
2- الفقه 78: 329.

ويمكن الاستدلال على لزوم إزالة الصنعة وإن تضرر بحكومة (على اليد) على (لا ضرر)، لكن المشهور لزوم النظر في الحكومة وهو مفقود في المقام(1).

ومقتضى القاعدة كون (لا ضرر) دليلاً واقعيّاً ثانويّاً فيتقدم على أدلة الأحكام الأولية، ف- (على اليد) محكوم ل- (لا ضرر).

فلا بد من التمسك بالانصراف، أي: إن أدلة (لا ضرر) منصرفة عن مثل المقام، وإلّا فإن غالب موارد رد المغصوب يكون موجباً للضرر على الغاصب خاصة إذا كان قد اتلفه.

وقد يقال: إن (لا ضرر) من جهة الغاصب يعارضه (لا ضرر) من جهة المالك فيتعارضان ويتساقطان، فيبقى (على اليد) سليماً.

لكنه أخص من المدّعى: فإن الموجبة الجزئية لا تكون دليلاً، حيث لا يتولد ضرر على المالك غالباً، خاصة مع ملاحظة ازدياد القيمة، بل يريد الأصل عناداً مع الغاصب.

الفرع الثاني: لو أزال الغاصب الصنعة بأمر المالك فلا يضمنها مع أنها للمالك؛ وذلك لأن الإزالة بأمر المالك وهذا واضح.لكن لو تنزلت القيمة بذلك فهل يضمن النقص؟

ذهب بعض الفقهاء إلى عدم الضمان، فكما لا يضمن الصنعة التي أزيلت بأمر المالك كذلك لا يضمن نقصان قيمة الأصل بذلك.

ص: 224


1- بأن ينظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم، كما في نظر (لا شك لكثير الشك) إلى (أدلة أحكام الشك)، فمع كونه شكاً يرفع الموضوع تنزيلاً لأجل رفع الحكم. وإن كان لزوم النظر محل كلام عند بعض الأصوليين (السيد الأستاذ).

بينما ذهب المشهور إلى الضمان للفرق بين المقامين، فإن المالك أذن بإرجاع ماله إلى ما كان عليه، ولم يأذن بالنقصان وإن كانا متلازمين في الفرض، فليس معنى إرادته زوال الصنعة إرادة نقص ماله، والغاصب تمكن من إزالة الصنعة ولم يتمكن من إرجاع القيمة السابقة فعليه الضمان.

البحث السابع: ضم مال المالك إلى مال الغاصب أو غيره

اشارة

وهنا مقامان:

المقام الأول: ضم الغاصب ماله إلى المغصوب

لو ضم الغاصب مال المالك إلى ماله، كما لو غصب ثوباً فصبغه بصبغه.

قال في الشرائع: «ولو صبغ الثوب كان له إزالة الصبغ بشرط ضمان الأرش إن نقص الثوب، ولصاحب الثوب إزالته أيضاً؛ لأنه في ملكه بغير حق، ولو أراد أحدهما ما لصاحبه بقيمته لم يجب على أحدهما إجابة الآخر»(1).وهنا فروع:

الفرع الأول: إمكان التفكيك، وفيه صورتان:

الأولى: أن يكون الثوب والصبغ للمغصوب منه، فإن زادت القيمة كانت للمالك ولا حق للغاصب فيها؛ لأن عمله هدر، ويحق للمالك مطالبة الغاصب بإرجاع الثوب والصبغ(2) إلى وصفه السابق، فإن نقصت القيمة بذلك كان ضامناً.

ص: 225


1- شرائع الإسلام 4: 769.
2- قد كان ذلك متعارفا في السابق حيث يصبغ ويمكن فرز الصبغ.

الثانية: أن يكون الثوب مغصوباً والصبغ للغاصب، فإن أمكنت الإزالة ولم يتلف أحدها ولم تنقص القيمة فلا كلام، ويحق للمالك مطالبة ماله بوصفه وإن تلف مال الغاصب؛ وذلك لأنه أزال احترام مال نفسه، فإن أوجب نقصاً في مال المالك ضمنه الغاصب.

فإن أرادا بقاء الصبغ حصلت الشركة بينهما، وللشراكة صور مختلفة:

الأولى: أن لا تزيد قيمة كل منهما مجتمعين عن قيمتهما منفردين، فتتحقق الشراكة بين الغاصب والمالك بالنسبة.

الثانية: أن تزيد قيمة الثوب دون الصبغ.

الثالثة: أن تزيد قيمة الصبغ لا الثوب.

الرابعة: أن يزيد قيمة المجموع.

قال العلامة(1): إن الفاضل بينهما، فليست الزّيادة لمجرد عملالغاصب فقط حتى يقال: إنه هدر، بل منشؤها ثلاثة: مال المالك والغاصب وعمله.

وأمّا كيفية تقسيم الزّيادة: فإن كانت النسبة متساوية فلا كلام، كما لو كان الثوب بعشرة والصبغ بعشرة والمجموع بثلاثين.

وإن كانت النسبة متفاوتة فقد يقال: إن المتّبع لتعيين مقدار سهم كل واحد منهما العرف، حيث إن الشارع أمر بإيصال الحق إلى أهله، وهو موضوع يؤخذ من العرف.

لكن يرد عليه: مبنىً، أن العرف حجة في المفاهيم لا المصاديق، وما نحن فيه ليس الشك في مفهوم الحق، بل في مقدار حق الغاصب، فلا يؤخذ من العرف.

ص: 226


1- قواعد الأحكام 2: 234.

ويمكن تقرير حجية العرف ببيان آخر، وهو: إن الشارع لو لم يردع عمّا عليه العقلاء فهو علامة الإمضاء، وفي المقام حيث يشخص العرف مقدار حق كل واحد منهما ولم يردع عنه الشارع كان حجة.

ولكن قد يرد عليه: إن الإمضاء إنما حجة في ما لو كان الموضوع متحققاً في زمن الشارع، وأمّا غير المتحقق في زمنه فعدم الرّدع لعدم وجوده لا يلازم الإمضاء.

ويجاب: بأنه إشكال مبنوي، فهل يمكن الالتزام بنظائره، كشمولهلسائر العمومات والإطلاقات الواردة من الشارع، ك- : {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(1)، فنخصصها بالعقود الموجودة في زمن الشارع.

والأقوى: أن المرجع في أمثال هذا أهل الخبرة، فإن تمكنوا من تشخيص مقدار حق كل واحد منهما فهو، وإلّا فالمرجع قاعدة العدل والإنصاف، فتأمل.

وزيادة قيمة أحدهما دون الآخر بأن بقي على ما عليه أو قلّ، فيمكن فرضها في بعض الأمور الانضمامية كخياطة الثوب، حيث تزيد قيمة الثوب وتنقص قيمة الخيط مثلاً.

قال الشيخ الطوسي(2): لو نقصت قيمة الصبغ وزادت قيمة الثوب فهو بينهما بالنسبة.

لكنه محل تأمل؛ فإن الصور متعددة، فلو زادت قيمة الثوب ونقصت قيمة صبغ الغاصب فهو الذي أضر بنفسه، ولو نقصت قيمة الثوب ضمن

ص: 227


1- سورة المائدة، الآية: 1.
2- المبسوط 3: 79.

الغاصب؛ لأنه تعدى على المالك وأضره.

ويمكن توجيه ما ذكره الشيخ: بأن هنالك قيمتين: وهما قيمة كل واحد منفرداً وقيمة المجموع، فقد يزيد قيمة أحدهما في حد نفسه وينقص قيمة الآخر، لكن الانضمام يوجب زيادة القيمة، مثلاً: الثوب بمائة فصار مائة وعشرة، والخيط بعشرة فصار خمسة، لكن المجموعمنضماً بمائتين، فالزيادة نتيجة الاثنين معاً، فلو نقصت قيمة مال المالك منفرداً وزادت منضماً أخذ نسبة من الربح للزّيادة الحاصلة، وعلى الغاصب جبر ما نقص بلحاظه منفرداً.

لكنه مجرد فرض خارجاً، فإن العرف يرى الشيء منضماً لا منفرداً، فتأمل.

الفرع الثاني: عدم إمكان التفكيك، كما في الصبغ في زماننا هذا، فهل يحق للمالك الامتناع عن أخذ ماله ومطالبة المثل أو القيمة؟

ذهب جمع(1) من الفقهاء إلى عدم حقه في ذلك، فإن الثوب ملكه ولم يخرج عنه بالصبغ، منتهى الأمر نقصت قيمته فيجبر بالأرش، أو زادت فيشترك مع الغاصب وتفك الشراكة بالبيع.

وذهب جمع(2) منهم إلى ثبوت الحق له؛ وذلك لأنه قد لا ينفعه الثوب بعد صبغه، فإنه وإن لم يخرج عن ملكه لكن لا يصدق عليه «حتى تؤدّي» في ما لو لم ينفعه ماله بعد التصرف المذكور، بل الأداء يكون بالبدل.

والظاهر لزوم التفصيل، فقد لا ينفعه المال فله مطالبة البدل ل- (لا ضرر)

ص: 228


1- تذكرة الفقهاء 2: 394؛ جامع المقاصد 6: 296؛ مفتاح الكرامة 18: 265.
2- المبسوط 3: 78؛ إرشاد الأذهان 1: 447؛ جامع المقاصد 6: 297.

على المبنى.ويمكن تقريره على المبنى الآخر بعدم لزوم أخذ ماله بدليل (لا ضرر)، ويضم إليه عدم صدق الأداء، فيصبح مصداق الأداء شيئاً أخر وهو البدل، لكنه مشكل.

وقد لا يكون كذلك وإنما يمتنع عن أخذه عناداً مثلاً، فلا يعلم شمول (لا ضرر) له.

لكن المسألة بحاجة إلى تأمل.

الفرع الثالث: صعوبة التفكيك، كما لو أمكنت الإزالة لكن بعد جهد من الغاصب، وقد سبب الصبغ تنزل قيمة الثوب، فهنا طريقان:

الأول: أن يؤدّي الغاصب الأرش بعد أداء العين مصبوغة.

الثاني: أن يزيل الصبغ ثم يؤدّي العين، وهي على نفس قيمته السابقة.

ويصدق على الاثنين (الأداء).

فلو اختلف المالك والغاصب في ذلك، فأراد المالك الأول والغاصب الثاني أو بالعكس، فقد ذهب جمع(1) من الفقهاء إلى أن الاختيار بيد الغاصب؛ وذلك لأن الغاصب مسلّط على ماله وهو الأرش وعمله وهو الإزالة، وقد وجب أحدهما عليه لا على التعيين، فعليه أن يختار، بينما حق المالك في الكلي وهو مطالبة الأداء وأمّا الكيفية فلا، فلا يحق له إجباره على أحد المصداقين.نظيره: ما لو أتلف دينار الغير فعليه أداء دينار من دنانيره العشرة باختياره؛ وذلك لزوال سلطنته على واحد منها لا على التعيين، ولم تزل سلطنته على

ص: 229


1- المبسوط 3: 77؛ غنية النزوع: 279؛ شرائع الإسلام 4: 769.

التعيين.

وبعبارة أخرى: إن زوال سلطته على الكلي لا يلازم زوال سلطته على الوصف بالتعيين.

وبعبارة ثالثة: إن سلطته زالت في الجملة، أمّا تعيين زوال السلطة على ماله أو عمله فيعود إليه، وكذلك في كل مثلي له أن يختار أحد المصاديق، ولا يحق للمالك جبره على مصداق دون آخر.

وفي إطلاقه نظر؛ لأن الغاصب أزال وصف مال المغصوب منه - كالبياض - فللمالك حق مطالبته، والأدلة - مثل: «الغصب كله مردود» و«حتى تؤدّي» - تقضي بذلك، فحيث أمكن إرجاع الوصف بنفسه فلا وجه للانتقال إلى البدل، كما هو الحال في العين، إلّا أن يرضى المالك.

والحاصل: لا يحق لأحدهما إجبار الآخر على الأرش، وكل واحد منهما لو أراد إرجاع الوصف فعلى الآخر القبول.

اللّهم إلّا مع وجود محذور في البين وهو عنوان ثانوي، كما لو لم يثق المالك بالغاصب، فتأمل.

تكملة

وهنالك صورة أخرى نذكرها تكملة للبحث وهي: لو ألقى الريح بالثوب في الصبغ، فالحكم مشترك مع الصور السابقة في أكثر المسائل،ويختلف في ما يختص بالغصب، فلو نقصت القيمة لم يكن هنالك ضمان(1)، وأمّا لو

ص: 230


1- ويمكن القول بالتفصيل في ما لو كان أحدهما مقصراً في ذلك، كما لو وضع ثوبه في مهب الريح عند صبغ الآخر مما ينسب إليه الفعل فيضمن، كما في نظيره من دخول الدابة في ملك الغير وإتلاف زرعه (المقرر).

زادت القيمة فيشتركان.

المقام الثاني: ضم مغصوبين من مالكين

ولو غصب من شخص ثوباً ومن آخر صبغاً، فصبغ الثوب به، فهنا ثلاث حالات:

الأولى: أن تنقص قيمتهما، فعلى الغاصب الضمان ويكون الثوب مشتركاً بينهما إن لم يمكن الإزالة.

الثانية: أن تنقص قيمة أحدهما، فيضمنه الغاصب له.

الثالثة: أن تزيد قيمة أحدهما أو كلاهما، فالزّيادة للمالك ولا شيء للغاصب.

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: لو أراد الغاصب إزالة صبغ نفسه، فقد يفقد الصبغ قيمته وقد لا يفقد.

أمّا الصورة الأولى: فالمشهور(1) عدم وجوب إجابة الغاصب وتسليم الثوب له أو لشخص ثالث؛ وذلك للأصل؛ فإن الإزالة مستلزمة لتسليمالثوب، والأصل عدم وجوب التسليم.

وفيه: إن فقد القيمة لا يستلزم زوال ملكية الغاصب؛ لما مرّ من عدم التلازم بين الملكيّة والماليّة، والواجب إيصال ملك كل مالك - وإن كان غاصباً - إليه، أو لا أقل من عدم إيجاد المانع من وصوله إلى ملكه، فلا تصل النوبة إلى الأصل المذكور، وحيث تتخالف إرادتهما فعلى الحاكم الشرعي أن يفصل بينهما.

ص: 231


1- تذكرة الفقهاء 2: 394؛ الدروس الشرعيّة 3: 111؛ مختلف الشيعة 6: 118.

وأمّا الصورة الثانية: فقد ذهب الشهيد الثاني(1) إلى عدم لزوم إجابة الغاصب أيضاً؛ وذلك للسبر والتقسيم، حيث إن الاحتمالات خمسة وهي:

أن يجبر المالك على بيع الثوب، أو يجبر الغاصب على بيع الصبغ للمالك أو لغيره، ولا وجه لهما.

أو يبقى الثوب عند المالك مع منعه من التصرف فيه؛ لتعلق حق الغاصب به، وهو منتفٍ لكونه موجباً لمزيد من الضرر عليهما وهو مرفوع حتى عن الغاصب؛ لأنه وإن كان أصل الضرر بتقصير منه لكن زيادته لم تكن منه.

أو يكون مال الغاصب هدراً، ولا وجه له لما مضى من عدم التلازم بين الحرمة التكليفية والحكم الوضعي.فلا يبقى إلّا الاحتمال الخامس: وهو أن يزيل المالك الصبغ بنفسه أو يسلمه إلى الغاصب أو الثالث ليزيله، منتهى الأمر أن الغاصب يضمن نفقة الإزالة؛ لأنه سبب الضرر.

ويشكل عليه: بأن ثبوت المحذور في الاحتمالات الأربعة لا ينفي المحذور عن الاحتمال الخامس، فهو ترجيح بلا مرجح، ومحذوره أنه خلاف سلطنة الإنسان، حيث يجبر على تسليم ماله للغير(2). هذا أولاً.

وثانياً: يمكن القول بالاحتمال السادس، وهو ثبوت الشراكة بينهما ولا محذور فيه، حيث لا فرق بين المقام وبين سائر صور الشراكة القهريّة إلّا في

ص: 232


1- مسالك الأفهام 12: 213.
2- فلأجل دفع المحذور هذا يمكن القول بوجوب الإزالة على المالك، إلّا أن يقال: إنه خلاف سلطنته على فعله أيضاً (المقرر).

التعدّي وعدمه، ولا خصوصية في التعدّي حتى يقال بعدم تحقق الشراكة لأجله، ومع الاختلاف فالفصل للحاكم الشرعي.

المسألة الثانية: لو أراد أحدهما شراء مال الآخر، قال في الشرائع: «لم يجب على أحدهما إجابة الآخر، وكذا لو وهب أحدهما صاحبه لم يجب على الموهوب له القبول»(1).

وهو مقتضى القاعدة؛ لأن الناس مسلّطون على أموالهم، فكما لا يحق لأحد أن يخرج شيئاً من ملك الآخر من دون رضاه، كذلك لا يحق له الإدخال.لكن ذهب العلامة في القواعد إلى أنه يحق: «لصاحب الثوب الامتناع من البيع لو طلبه الغاصب دون العكس»(2).

وربما يكون دليله أن الغاصب أبطل حقه في ماله.

وفيه نظر؛ لأن الإجبار على البيع خلاف السلطنة، والغصب يثبت الحرمة التكليفية لا زوال السلطنة.

المسألة الثالثة: لو زادت القيمة أو نقصت بعد الامتزاج بسبب السوق - لا بسبب الامتزاج والذي مضى بحثه - فمقتضى القاعدة بعد ثبوت الشراكة بينهما أن تراعى النسبة فقد تزداد حصة أحدهما من مال الشركة وقد تقلّ.

مثلاً: لو كان له لبن بألف وللآخر سكر بألف فخلطهما فصار قيمة المجموع ألفين، فلكل واحد منهما النصف، فلو نقصت قيمة السكر فأصبح

ص: 233


1- شرائع الإسلام 4: 770.
2- قواعد الأحكام 2: 234.

بخمسمائة - بسبب السوق - وصار المجموع ألفاً وخمسمائة كان لصاحب السكر من المجموع الثلث، مع ضمان الغاصب لنقص القيمة.

وكذلك لو زادت القيمة فتزيد النسبة، حاله حال كل الشركاء، حيث إن الزّيادة والنقصان لا يرتبطان بعمل الغاصب، بل بالقيمة السوقية.

فرع: لو خلط الدهن بغيرهوهنا حالتان:
الحالة الأولى: مزج الدهن بالدهن

ولو خلط الغاصب دهنه بدهن غيره ففيه صور ثلاثة: أن يتساويا، أو يكون أحدهما أجود، أو أردأ.

الصورة الأولى: خلطه بالمساوي

فلو خلطه بالمساوي اشتركا(1) بالنسبة حسب مقتضى القاعدة، واستدل له بأدلة أربع(2):

الأول: استصحاب ملكيتهما، على فرض الشك، لكن الأقوى عدم وجود الشك في الملكية، فبالمزج لا تخرج العين عن ملكية مالكها.

الثاني: حيث لا يمكن إعادة العين كلها فيدور الأمر بين إعادة جزئها من المال لمالكه مع أداء البدل للجزء الآخر، أو أداء البدل كاملاً، والأول أولى.

الثالث: الشراكة المذكورة مسألة عرفية، فلا يرى العرف الأداء من مال

ص: 234


1- المبسوط 3: 80 ؛ الدروس الشرعيّة 3: 110؛ مسالك الأفهام 12: 215؛ مجمع الفائدة والبرهان 10: 544.
2- مسالك الأفهام 12: 215؛ مفتاح الكرامة 18: 276؛ جواهر الكلام 37: 161؛ الفقه 78: 346.

آخر.

ولكنه بحاجة إلى الإمضاء، لكن لا يعلم الإمضاء في الغرامات وفسخ الشراكة وما أشبه، فتأمل.الرابع: الاحتمالات الواردة أربع: إمّا أن لا يملك الممتزج أحدهما وهو بديهيّ البطلان، وإمّا أن يكون كلّه للمالك دون الغاصب باعتبار تعدّيه، وهو باطل أيضاً؛ لأن التعدّي لا يزيل الملكية، وإمّا يملكه الغاصب ويؤدّي البدل للمالك ولا دليل عليه.

فلا يبقى إلّا الاحتمال الرابع وهو الشراكة بينهما.

لكن ذهب صاحب السرائر(1) إلى خلاف ذلك، وادعى أن المال كلّه للغاصب ويؤدّي البدل للمالك؛ وذلك لأن مال المالك قد تلف للاستهلاك عرفاً.

ويظهر ضعفه مما مضى، حيث لا وجه للقول باستهلاك مال المالك دون العكس، فهو ترجيح بلا مرجح(2).

كما ينقض أيضاً بسائر موارد الشركة القهريّة، كما لو امتزج خطأ أو بفعل الريح أو ما أشبه، فما هو الفرق غير التعدّي وهو غير فارقٍ؟

الصورة الثانية: الخلط بالأجود

ولو خلط الغاصب دهنه الأجود بدهن المالك الرديء ففي المسألة أقوال ثلاثة:

ص: 235


1- السرائر 2: 482.
2- ويمكن الذهاب إلى ما قاله في السرائر بتفصيل وهو: لو استهلك مال المالك - كما لو كان قليلاً جداً - فله البدل، ولو استهلك مال الغاصب فقد تلف بفعل نفسه (المقرر).

الأول: انتقال الضمان إلى البدل، فلا يؤدّي من الممتزج، بلعليه المثل أو القيمة، وهو قول الشيخ الطوسي حيث قال: «والصحيح: إن هذا كالمستهلك، فيسقط حقه من العين ويصير في ذمة الغاصب»(1).

وهو بالخيار بين أن يؤدّي البدل من دهن آخر، أو من العين الممتزجة لا على أنها ملك المالك، بل من جهة أنها ملكه.

ويظهر الإشكال عليه مما مضى:

فأولاً: مال المالك ليس مستهلكاً ولا كالمستهلك، بل عينه موجودة ممتزجة لكنها غير قابلة للتمييز. وإلّا فما هو الفرق بينه وبين اختيار الشريكين مُزج ماليهما أو بفعل ثالث أو بسبب الريح، فهل يمكن القول بالاستهلاك وخروجه عن ملكهما؟ وليست جهة الغاصبية فارقة بين المقامين.

وثانياً: لا وجه لترجيح القول باستهلاك مال المالك دون الغاصب.

وثالثاً: وينقض عليه قوله(2) بالشراكة والتقسيم بالنسبة في ما لو مزجه بالمساوي، فلو كانت العلّة الاستهلاك لم يكن فرق بين المزج بالمساوي والأردأ.

ورابعاً: الأداء من الممتزج ليس مثل مال المالك؛ لأنه ممتزج بالأجود،وقد ثبت في محله أن في المثلي لو أراد الضامن الأداء من الأفضل لم يلزم

ص: 236


1- المبسوط 3: 79.
2- المبسوط 3: 80، وفيه: «فإن خلطه بمثله فهو كالمستهلك والغاصب بالخيار بين أن يعطيه بكيله من عينه أو مثله من غيره، وفي الناس من قال هو شريكه فيه يملك مطالبته بقسمته يأخذ مثل كيله منه وهو أقرب؛ لأنه قدر على بعض عين ماله وبدل الباقي».

على المالك القبول.

الثاني(1): تحقق الشراكة بينهما بحسب الوزن.

ووجهه بعد رد القول الأول أن التقسيم حسب نسبة القيمة موجب للرّبا، فلا يبقى إلّا القول بالتقسيم حسب الوزن دفعاً؛ للمحذور المذكور.

وهو محل إشكال مبنىً وبناءً.

أمّا مبنىً: فإن الرّبا خاص بالمعاملات والقرض، بل ذهب بعض الفقهاء(2) إلى اختصاصها بالقرض وبالبيع من المعاملات فحسب، وعلى القولين ليس المقام من ذلك، بل فك للشراكة.

وأمّا بناءً: فلا وجه لظلم الغاصب، فإن التقسيم المذكور موجب لإعطاء المالك أكثر من حقه مما يظلم الغاصب، ولو كان الطريق منحصراً في ما ذكر لأمكن القول بأنه سبب الضرر لنفسه، فعليه أن يتحمل الضرر، لكنه لا ينحصر فيه بعد إمكان طريق آخر يمكنه من حقه أيضاً، وهو بيعه من ثالث وتقسيم القيمة بينهما.

الثالث(3): تحقق الشراكة بينهما بحسب القيمة.

وأشكل عليه: بأنه ما وجه ترجيح القيمة على الوزن مع أن المالكيملكهما معاً، فمثلاً: المالك كان له صاع من الدهن بقيمة مائة دينار، والآن يعطى له نصف صاع بمائة دينار، ولو أعطي بمقدار ما غصب منه وزناً لكانت قيمته مائتي دينار، فلم يرجح الأول على الثاني؟

ص: 237


1- تذكرة الفقهاء 2: 395؛ الدروس الشرعيّة 3: 110؛ جامع المقاصد 6: 302.
2- السرائر2: 486.
3- مفتاح الكرامة 18: 278.

وأجيب: بأن ترجيح القيمة على الوزن أسلوب العقلاء، فتحصل مبادلة قهريّة شرعيّة، فالتبديل إلى الأقل - مع عدم الرّبا، كما بين الوالد والولد - أسلوب عقلائي، وأمّا عكسه فخلاف طريقة العقلاء.

وفيه: إن الأمر يختلف عند العقلاء، فمنهم مَن يرجح القيمة على الوزن كالتجار عادة، ومنهم مَن يريد الوزن لا القيمة كما في الفقراء، حيث يريد إشباع عائلته بصاع من الطحين - مثلاً - وإن كان رديئاً، فإذا أعطي نصف صاع من الجيّد كان خلاف غرضه؛ ولذا رجح السيد الوالد في الفقه(1) التخيير، فالمالك مخيّر بين مطالبة العين بنسبة ماله وبين البدل؛ وذلك لشمول الأدلة لهما ك- (تؤدّي) و (مردود)، ولو لم يكن للمالك غرض في المال الممتزج فأجبر على ذلك لم يشمله الدليل، لكنه أخص من المدعى، فإنه يدور مدار غرضه.

كما يمكن إثبات المدعى ب- (لا ضرر) على المبنى، فإن الأقل وزناً ضرر على المالك، حيث لا يتمكن من إشباع أهله، ولكن يعارضه (لا ضرر) من جهة الغاصب، فلا يترجح أحدهما على الآخر، فلا بد منالانتقال إلى البدل، فتأمل.

الصورة الثالثة: الخلط بالأردأ

ويجري فيه ما مضى في الصورة الثانية، ويستثنى منه ما لو كانت الرداءة بحيث يعتبر مال المالك تالفاً عرفاً، فمقتضى القاعدة الانتقال إلى البدل.

لكن في القواعد(2) اختار تخيير المالك بين المثل وبين العين مع

ص: 238


1- الفقه 78: 348 و351.
2- قواعد الأحكام 2: 235.

الأرش، واستدل له بشمول الأدلة لهما على السواء.

أمّا العين مع الأرش فلعدم سقوط حقه بالكلّي، وليس الامتزاج من مسقطات الملك، وحيث نقصت قيمة العين فله الأرش. وأمّا المثل فقد لا يصدق (تؤدّي) على الممتزج.

واختار في المبسوط(1) ضمان المثل للاستهلاك.

ويظهر ضعفه مما مضى، فلا وجه للانتقال إلى المثل مع وجود عين ماله، اللّهم إلّا مع عدم تحقق غرض المالك في الممتزج، كما أن الاستهلاك غير متحقق.

هذا كله في ما لو مزجه بشيء من جنسه.

الحالة الثانية: مزج الدهن بغيره

ولو مزج الغاصب دهنه بشيرج الغير مثلاً فالأقوال ثلاثة، وتظهر أدلتهامن الفرع السابق.

الأول: ضمان المثل، قال في الشرائع: «أما لو خلطه بغير جنسه لكان مستهلكاً، وضمن المثل»(2)، أي: المغصوب تالف لبطلان فائدته وخاصيته.

ومرّ الجواب عنه بعدم الاستهلاك. نعم، تغيرّت الفائدة.

الثاني: ما قوّاه في التذكرة(3) وهو ثبوت الشراكة بينهما، مستدلاً له بعدم الفرق بين المزج غصباً أو قهراً أو برضا الطرفين، فلو كان متسهلكاً لكان في الجميع كذلك، وحيث لا استهلاك في سائر الموارد كذلك في المقام؛ لأن

ص: 239


1- المبسوط 3: 80.
2- شرائع الإسلام 4: 770.
3- تذكرة الفقهاء 2: 395.

العدوان ليس بفارق.

وهو مقتضى القاعدة إلّا إذا لم يكن للمالك غرض فيه، فعلى الغاصب جبر الضرر، والفارق بينه وبين الامتزاج رضاً أو قهراً بفعل الريح مثلاً هو أن الغاصب أقدم على ذلك، فيتحمل الضرر، بخلاف الصور الأخرى، حيث لا وجه لإجبار أحدهما على تحمل الضرر دون الآخر.

البحث الثامن: عود الصفة بعد زوالها

ولو كان في المغصوب صفة زالت بيد الغاصب ثم عادت، كما لو غصب عبداً يعرف صنعة فنسيها فنقصت قيمته، ثم تذكرها فعادت القيمة، فهنا مقامان:المقام الأول: في ما لو عادت عند الغاصب.

وفي ضمانها أقوال:

القول الأول: عدم الضمان وقد اختاره في الجواهر(1)، والفقه(2)، وربما عليه الأشهر(3)، وذلك لأدلة(4) بعضها تامة وهي:

الأول: صدق الأداء المأخوذ موضوعاً في الأدلة بمفهوم الغاية أو بصريح العبارة كما مضى، ولا يخل به زوال الصفة في الأثناء.

الثاني: عدم صدق (فوتها المغتصب) المأخوذ في أدلة الضمان، بعد عود

ص: 240


1- جواهر الكلام 37: 170.
2- الفقه 78: 360.
3- المبسوط 3: 82؛ تحرير الأحكام 4: 540؛ الدروس الشرعيّة 3: 112؛ جامع المقاصد 6: 291.
4- جواهر الكلام 37: 170؛ مفتاح الكرامة 18: 251؛ الفقه 78: 361.

الصفة الزائلة.

الثالث: الحكم بالأرش ضرر على الغاصب وهو مرفوع.

الرابع: قاعدة الظالم لا يُظلم، فالغاصب ظالم يعاقب بمقدار ظلمه لا أكثر منه، والقول بأداء الأرش لأجل الصفة العائدة ظلم عليه.

وفيه: إنه مع تمامية دليل القول الثاني لم يكن الأرش ظلماً، فلا بد من إثبات كونه ظلماً عرفاً وشرعاً حتى يتم هذا الدليل.

الخامس: الإجماع.

السادس: الأصل عدم الضمان.القول الثاني: ما اختاره العلامة حيث قال: «لم تجبر الثانية الأولى»(1) وذلك لدليلين(2):

الأول: إن الصفة الأولى مال أتلفه فتحقق الضرر فعليه الضمان، والثانية مال متجدد في ملك المالك ولا يرتبط بالوصف السابق، فكل نماء تابع للأصل ولمالكه.

الثاني: ثبوت الضمان بالزوال ويشك فيه بعد عوده فيستصحب.

ويرد على الأول أنه لا منافاة بين (حتى تؤدّي) و (تبعية النماء للأصل)، فلا شك في أن النماء المتجدد للمالك على كل الأقوال، سواء قلنا بالضمان أم عدمه، إنما الكلام في أن الزائل العائد هل هو نماء متجدّد موجب للضمان أم لا؟ ويحكم بعدمه صدق (حتى تؤدّي).

وعلى الثاني بعدم اكتمال الأركان فلا يقين سابق. نعم، حيث لا يعلم

ص: 241


1- راجع تذكرة الفقهاء 2: 387.
2- جامع المقاصد 6: 291؛ مفتاح الكرامة 18: 251؛ الفقه 78: 361.

بعود الصفة فيحكم ظاهراً بثبوت الضمان، وبعد العود يشك في عدمه ظاهراً أيضاً.

وبعبارة أخرى: الضمان متزلزل، كما في الجواهر(1).

وعلى فرض القول بالضمان التعبّدي للتمسك بإطلاق الأدلة نقول بصدق (حتى تؤدّي) فلا يبقى مجال للشك.القول الثالث(2): التفصيل بين كون العائد نفس الزائل كما لو نسي ثم تذكر فلا ضمان، وغيره كما لو هزل ثم سمن ففيه الضمان؛ وذلك لعدم كونه على الأول صفة جديدة، فيصدق (الأداء)، وأمّا على الثاني فلكون الزائل وقع مضموناً والعائد هبة من اللّه.

وفيه: إنه وإن كان هبة من اللّه دقة لكن إطلاق (تؤدّي) يشمله، فلا ضمان.

القول الرابع: تفصيل المحقق الرشتي(3) بين ما لو كانتا صفتين يمكن اجتماعهما ففيه الضمان، كما لو غصب شاة وزنها (40) فهزلت إلى (30) ثم سمنت إلى (40)، حيث يمكن اجتماع الوصفين فيصبح (50)، فلا يمكن القول بأن العائد نفس الزائل، فيضمن التالف، فإن الضمان إنما يرفع لو علم أن الوصف الجديد نفس السابق، كعود العبد الآبق وتذكّر المنسي.

وبين ما لو لم يمكن اجتماعهما، أو أمكن الاجتماع لكن لا تزيد

ص: 242


1- جواهر الكلام 37: 170 و 172.
2- انظر: المبسوط 3: 64؛ مسالك الأفهام 12: 220؛ مجمع الفائدة والبرهان 10: 545؛ جامع المقاصد 6: 291؛ الدروس الشرعيّة 3: 112.
3- كتاب الغصب: 114-115.

بالاجتماع القيمة، فلا ضمان.

وفيه نظر؛ لجريان نفس الدليل المذكور في الشق الأول، فإن العائد غير الزائل، وقد ضمن الزائل فلا وجه لزوال الضمان بعد فرض كونالعائد غيره.

وأمّا عدم الضمان مع عدم إمكان الاجتماع أيضاً فمحل تأمل؛ وذلك لأن العائد إمّا هو الزائل بنفسه فلا ضمان، أو شيء جديد فيضمن الزائل؛ لأنه لم يؤدّيه.

القول الخامس(1): التفصيل بين ما لو عاد بفعل الغاصب أو بفعل اللّه تعالى أو ثالث فلا ضمان على الأول؛ لأن عمل الغاصب ملك له، وقد عوّضه عمّا أتلفه منه، فإن التدارك لا ينحصر بالأرش، بل قد يكون بالبدل، حتى لو كان الوصف جديداً، كما لو نسي الصنعة فعلمه الغاصب من جديد، فلا فرق بين أداء الأرش أو إرجاع الوصف، وأمّا على الثاني والثالث فيضمن.

والأرجح هو القول الأول وهو عدم الضمان، سواء كان بفعل الغاصب أم غيره، أمكن الاجتماع أم لا، كان العائد نفس الزائل أم غيره، كل ذلك لصدق (تؤدّي).

المقام الثاني: في ما لو عادت الصفة بعد إرجاع العين إلى المالك كما لو أدّى الغاصب الأرش ثم ارتفع النقص في يد المالك، كما لو نسي العبد الصنعة عند الغاصب وبعد أداء العين والأرش للمالك تذكرها. قال في الجواهر: «لا يبعد أن يقال بكون التفاوت لو دفعه إليه متزلزلاً مراعىبعدم

ص: 243


1- الفقه 78: 361.

العود»(1).

وعليه، فاللازم على المالك إعادة الأرش إلى الغاصب، نظير البدل الحيلولة، كما مرّ.

وذلك لأن الغاصب أدّى الأرش مقابل الصنعة وقد عادت، ولا فرق في عودها بين أن يكون بيد الغاصب حيث يحكم بعدم الأرش، أو بيد المالك فعليه إعادة الأرش، وإلّا استلزم الجمع بين العوض والمعوض.

وقال السيد الوالد في الفقه(2): ويدل عليه أنه رد إلى المالك كل ما كان يملكه ولكن بالتدريج، ولا فرق بين الأداء دفعة أو تدريجاً.

نعم، لو عادت الصنعة بفعل المالك - بأن علمه المالك ما نسيه - فلا يصدق عرفاً أن الغاصب أداه كاملاً. وأمّا لو عادت بتذكر العبد من نفسه صدق عود الفائت كاملاً ولو تدريجاً.

فرع: استعداد الغاصب لرفع النقص بأن لم يؤدِّ الغاصب الأرش وإنما استعدّ لرفع النقص وإرجاع الصفة، كما لو أراد تعليم العبد مجدداً، فهل يلزم المالك بالقبول أو يمكنه مطالبة الأرش؟ وبعبارة أخرى: هل الغاصب مخيّر بين الأمرين؟

مقتضى القاعدة أنه لو لم يترتب ضرر على المالك كان الغاصب مخيّراً؛ لأن الأداء كما يحصل بالأرش يحصل بإرجاع الزائل، فكلاالصورتين مصداق لكلّي الرد.

إلّا إذا كان هنالك محذور، كما لو كان المالك يريد العبد للعمل، ولا

ص: 244


1- جواهر الكلام 37: 172.
2- الفقه 78: 363.

يمكنه الاستغناء عنه فترة التعلم، أو لا يطمئن إلى الغاصب، أو أيّ محذور آخر.

البحث التاسع: زيادة القيمة لأجل الصنعة المحرّمة

ولو كانت الصنعة محرّمة وكانت زيادة القيمة لأجلها، كما في الجارية المغنّية، فصار الغاصب سببا لنسيانها، فهنالك قولان كما في المسالك(1):

القول الأول: عدم الضمان لحرمتها، والمضمون إنما هو الزّيادة المحترمة شرعاً، بل يجوز إتلافها ابتداءً نهياً عن المنكر في بعض الصور، ولا فرق في النهي عن المنكر بين الغاصب وغيره. نعم، الغاصب فعل محرماً بالغصب.

واستدل له بعض الفقهاء(2) بعدم المالية شرعاً.

لكنه محل تأمل؛ لأن المالية للجارية لا للصنعة. نعم، لدى التحليل العقلي تكون الزّيادة مقابل معرفتها للغناء، لكن عرفاً كل المال في مقابل الجارية، وإنما ارتفعت قيمتها على غيرها لحسن غنائها.

القول الثاني: الضمان؛ وذلك لأن كل القيمة للأصل لا للصنعة، وإن كان ارتفاعها لأجلها؛ ولذا لو قتل عبداً مغنياً ضمن تمام القيمة.وبعبارة أخرى: التغني حرام لا القدرة على الغناء.

ولا يضر غرض المشتري - وهو الاستفادة من غناها وإن كان محرّماً - بالمعاملة بالقيمة المرتفعة؛ ولذا جاز بيع العنب لمَن يعمله خمراً مع العلم

ص: 245


1- مسالك الأفهام 12: 191.
2- الأنوار اللوامع 13: 74.

بذلك(1)، فإن غرض المشتري لا يرتبط بالبائع، فمقتضى القاعدة أن الغاصب لو سبب نسيان الغناء كان ضامناً.

إلّا أن يكون ذلك مقدمة للنهي عن المنكر، حيث يمكن شمول أدلته له على تأمل فلا ضمان - وإن كان غصبه محرماً - لأنه كان بأمر الشارع، وقد يكون الضمان على بيت المال، كما في تترس الكفار بالمسلمين(2).

واستثنى بعض الفقهاء(3) ما لو كان الغناء محلّلاً، كما في ليلة العرس، وهو خروج موضوعي عن البحث.

البحث العاشر: زيادة قيمة الجبر على الأرش

ثم إنه لو كان ثمن جبر النقص أكثر من الأرش، كما لو أخذ العبد سالماً فمرض وكان أرشه مائة وكلّف علاجه مائتين، ونظيره في باب الديّات لو كانت تكلفة العلاج أكثر من الدية، فهل يعطي الأرش والدية، كما قرره الشارع، أو يضمن الأكثر؟

وقد يستدل للأول: بأن دليل الدية والأرش الشامل بإطلاقه لكونالعلاج وإصلاح العيب أكثر أو أقل.

وقد يستدل للثاني بدليل لا ضرر على المبنى - من إثباته للحكم - .

ولا يعلم أن دليل الدية والأرش يثبت الضمان بشرط لا، بل إطلاقهما محل نظر؛ لأن المسألة مستحدثة، ولا يعلم أن المولى في مقام البيان من

ص: 246


1- كفاية الأحكام 1: 426؛ الحدائق الناضرة 18: 204؛ جواهر الكلام 22: 31؛ كتاب المكاسب 1: 129.
2- تحرير الأحكام 2: 143؛ جواهر الكلام 21: 71.
3- كتاب المكاسب 1: 313.

هذه الجهة. وعلى فرض الإطلاق فإن دليل (لا ضرر) أقوى فيتقدم.

إلّا أن يستفاد منهما تعيين الحد بحيث لا يزيد عليه، فيكون حاكماً على (لا ضرر) وتأتي المباحث السابقة من اشتراط النظر في الحكومة المفقود في المقام، أو كفاية واقع الحكومة لا فعليتها، فتأمل.

ص: 247

الفصل العاشر: في المقبوض بالبيع الفاسد

اشارة

والكلام في مقامين:

المقام الأول: الشراء من المالك

قال في الشرائع: «لا يملك المشتري ما يقبضه بالبيع الفاسد، ويضمنه وما يتجدد من منافعه، وما يزداد من قيمته لزيادة صفة فيه، فإن تلفت في يده ضمن العين بأعلى القيم من حين قبضه إلى حين تلفه إن لم يكن مثليّاً»(1).

وتتضمن العبارة أربع مسائل:

المسألة الأولى: عدم ملكية المشتري لما اشتراه بالبيع الفاسد.

ويدل عليه: أن الملكية متوقفة على أسباب خاصة من قبل الشارع، أو من قبل العقلاء مع إمضائه، ولا تتحقق بغيرها؛ لعدم إمكان حصول المعلول من دون علته، والبيع الفاسد ليس منها، لا شرعاً ولا عقلائيّاً، فلا سبب لانتقال المبيع إلى المشتري.

المسألة الثانية: ثبوت ضمان المشتري مع التلف.ويدل عليه: أولاً: عموم: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

ثانياً: قاعدة: (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده)، فلو كان البيع صحيحاً لزمه أداء البدل،

ص: 248


1- شرائع الإسلام 4: 771.

فكذلك البيع الفاسد، وتنقيحها في البيع.

ثالثاً: إنه قبضه مضموناً عليه، أي: أقدم على الضمان، لكن مستند هذا الأولان.

المسألة الثالثة: ضمان ما يتجدد من المنافع.

وفي ضمان ما يتجدد من منافعه - سواء استوفاها أم لا - قولان: فقد قيل: بعدم الضمان، وقد اختاره السيد الوالد في الفقه(1)، بل لا يضمن حتى زيادة القيمة.

وقد قيل: بالضمان، وقد اختاره في الجواهر(2).

ومن بيان أدلة القول الأول يظهر وجه أدلة القول الثاني، والإشكال عليها.

الدليل الأول(3): إن المشتري أقدم على تملك العين بعوض لكن المنافع أقدم عليها مجاناً، فلا ضمان عليه حسب قاعدة (ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده)، لأنه لا يضمن المنافع في البيع الصحيحفكذلك في الفاسد.

إن قلت: مع فساد البيع فإن المنافع تعود للبائع، وقد تصرف المشتري فيها فتشمله قاعدة (على اليد) وهو واضح مع الاستيفاء.

قلنا: إن قاعدة الغرور تخصصها، فإن المشتري مغرور فيرجع على مَن غرّه.

ويشكل عليه: بأن البائع لم يقصد الغرور.

ص: 249


1- الفقه 78: 374.
2- جواهر الكلام 37: 176.
3- الفقه 78: 374.

ويجاب عنه: بعدم اشتراط القصد في القاعدة، وقد تمسّك الفقهاء بقاعدة الغرور مع جهل الأطراف، فمن المسلّم فقهيّاً أن الجهل والعلم لا مدخليّة لهما في ذلك. نعم، للقصد مدخلية في الحكم التكليفي في ما لو كان حراماً.

لكن في أصل كون الغرور أخص من قاعدة اليد كلام، حيث إن الظاهر أن النسبة بينهما العموم من وجه، فلا يمكن التخصيص؛ وذلك لاختصاص الغرور في موارد، كما لو غرّه بأن المال ليس ماله فتركه فتلف، أو غرّه بأن العبد ليس عبده ففك قيده فهرب، حيث إنه غرور من دون يد.

ومع ذلك يمكن ترجيح الغرور على اليد للحكومة؛ لأنه ناظر إلى دليل الضمانات، بناءً على اشتراط النظر، والظاهر أنه تام.

وإلّا فلا بد من الترجيح السندي وحيث إن كلا الدليلين ضعيفان للإرسال ومنجبران بعمل المشهور فيتساقطان، فلا بد من الرجوع إلىالأصول العملية، وهي تثبت عدم الضمان بالاستصحاب أو البراءة.

وقد يشكل: بأن البائع جاهل أيضاً، حيث لم يكن يعلم بفساد البيع.

ويجاب: إنه لا يشترط العلم والجهل في الغرور، وقد تمسك بعض الفقهاء لذلك بإطلاق، دليله لكنه محل تأمل؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة.

فلا بد من التمسك بدليل آخر وهو أقوائيّة السبب من المباشر، فيكون استقرار الضمان عليه. ولو لم يتم دليل الغرور والسببية فالتمسك بالأصل وهو عدم الضمان، فتأمل.

المسألة الرابعة: الضمان بأعلى القيم.

ص: 250

فإن تلف في يده ضمن العين بأعلى القيم، من حين قبضه إلى حين تلفه إن لم يكن مثليّاً.

وهو محل تأمل، ففي المسالك(1): إنه لو فُسر الغصب بالاستيلاء على مال الغير بغير إذنه فقد تحقق الغصب في المقام فيضمن أعلى القيم، لكن لو فُسر بالعدوان فلا!

وفيه نظر مبنىً، حيث لا دليل على ضمان المغصوب بأعلى القيم، إلّا أخذ الغاصب بأشق الأحوال، وهو غير تام.

وبناءً، فإنه على التفسير الأول لم يتحقق الغصب؛ لكون الاستيلاءبإذنه.

فمقتضى القاعدة ضمان قيمة يوم التلف؛ لأنه وقت انتقال العين إلى القيمة، فلا معنى للقول بقيمة قبله أو بعده. نعم، لو كان مثليّاً انتقل المثل إلى ذمّته فيعطي البدل، سواء زادت القيمة أم نقصت.

وقد ذكر السيد الوالد(2) للمسألة صوراً أربع:

الأولى: أن يكونا جاهلين بفساد البيع، فلا غصب.

الثانية: أن يكونا عالمين ومع ذلك أقدما، فلا غصب أيضاً؛ لأن البائع أقدم على تسليم ماله إلى المشتري مع علمه ببطلان البيع وبأنّ المبيع لا زال ملكه.

الثالثة: جهل البائع مع علم المشتري وهنا يتحقق الغصب، فإنه وإن سلّمه البائع المتاع بطيب نفسه، لكن حيث يعلم المشتري أنه لا زال مال الغير فلا يجوز له التصرف فيه، فإن طيب نفسه متفرع على صحة المعاملة، ولو علم

ص: 251


1- مسالك الأفهام 12: 223.
2- الفقه 78: 376.

بالفساد لم يسلم فلا طيب واقعاً.

الرابعة: عكس الثالث، ولا يتحقق به الغصب؛ لأنه أقدم على تسليم ماله.

المقام الثاني: الشراء من الغاصب

لو باع الغاصب العين المغصوبة واستفاد المشتري من منافعها، فهنامسائل تتعلق بضمان المشتري للعين والمنافع، وضمان البائع للثمن واستقرار الضمان وغيرها.

قال في الشرائع: «لو اشترى من غاصب ضمن العين والمنافع، ولا يرجع إلى الغاصب إن كان عالماً، وللمالك الرجوع على أيهما شاء على الغاصب، رجع الغاصب على المشتري، وإن رجع على المشتري لم يرجع على الغاصب؛ لاستقرار التلف في يده، وإن كان المشتري جاهلاً بالغصب رجع على البائع بما دفع من الثمن»(1).

والعبارة تتضمن مسائل:

المسألة الأولى: إن المشتري ضامن للعين والمنافع، عالماً كان أو جاهلاً؛ لأنها ملك الغير وقد تصرف فيه من دون إذنه، وجهله غير رافع للضمان وإن كان رافعاً للتكليف، فإن الضمان لا يرتبط بالعلم والجهل.

المسألة الثانية: لو كان المشتري عالماً بالغصب ومع ذلك اشتراه واستوفى المنافع، فهل يحق له الرجوع إلى البائع الغاصب في العين والمنافع والثمن؟

أمّا الرجوع في العين والمنافع فلا يحق له؛ لأنه أتلف العين واستوفى

ص: 252


1- شرائع الإسلام 4: 771.

المنافع، وهو المباشر الأقوى، ولم يكن هنالك غرور؛ فلا وجه لضمان الغاصب، ولو رجع المالك إلى المشتري فلا يحق له الرجوعإلى الغاصب.

وأمّا الرجوع في الثمن ففيه صورتان:

الأولى: أن يكون الثمن تالفاً، وقد استدل على عدم الضمان بدليلين(1):

الأول: إنّه سلّطه على ماله وأذن له في إتلافه.

الثاني: الإجماع.

وكلاهما محل تأمل كما سيأتي.

الثانية: أن تكون العين باقية، وفيه قولان:

الأول: إنه يحق له ذلك وهو مختار المسالك(2)؛ لأنه لا زال على ملكه حيث لم يتحقق سبب لانتقال الملكية، وليس بمنزلة الهبة، فإن العقود تابعة للقصود، فلا وجه لبقاء الثمن بيد الغاصب، وعلى فرض الشك تستصحب ملكية المشتري.

الثاني: إنّه لا يحق للمشتري استرجاع الثمن، فإن الثمن الموجود بحكم التالف، واستدل له بالإجماع وبكون الإقدام على المعاملة مع علمه بالغصب بمنزلة هبة الثمن من دون عوض فهو تمليك للبائع، فلا يحق له مطالبة ملك الغير.وأشكل عليه السيد الوالد(3): بأنّ تسليط الثمن ليس مطلقاً، بل في مقابل المتاع، فالتسليط مقيد، وقد أفتى الفقهاء في أشباه المسألة بحقه في

ص: 253


1- مسالك الأفهام 12: 224؛ جواهر الكلام 37: 178.
2- مسالك الأفهام 12: 224.
3- الفقه 78: 378.

الاسترجاع وإن سلّمه برضاه، كما في القمار، حيث يسلطه على ماله ومع ذلك لا يملكه ويحق له الاسترجاع، وكذا معطي الرّبا يحق له الاسترجاع مع أنه في معنى الهبة، وكذا ثمن الغناء ونحو ذلك، والمقام كذلك، فإن المعاملة باطلة بحكم الشارع، فما أعطاه المشتري أصبح بلا عوض، وقد سلّطه مقيداً بالعوض، فلا يكون في معنى الهبة، فيحق له الاسترجاع، سواء كان موجوداً أم تالفاً، وحتى لو كان هبة فإنها عقد جائز يحق الاسترجاع بشروطه.

وأمّا الإجماع فمخدوش صغرىً، وعلى فرض تحققه فمعلوم الاستناد، وليس بحجة على المبنى.

وقد ذكر في الجواهر(1) وجهاً آخر لعدم حقه في الاسترجاع: بأن ذلك عقوبة له.

وفيه نظر؛ لأن العقوبة بحاجة إلى دليل شرعي.

ثم(2) إنه لا يحق للمشتري إعطاء العين للبائع - وإن استرد الثمن - لأنها أمانة شرعية بيده، فعليه أن يؤدّيها لمالكها.المسألة الثالثة: لو كان المشتري جاهلاً حق له مطالبة الثمن، أمّا على ما اخترناه فواضح لنفس الأدلة التي ذكرناها بطريق أولى، بالإضافة إلى دليل الغرور.

وأمّا على الرأي الآخر - من عدم حق المشتري العالم في الاسترداد - فهنا

ص: 254


1- جواهر الكلام 37: 178، وفيه: «... بل لا رجوع للمشتري على الغاصب مع علمه حتى بالثمن مع تلفه إجماعاً عقوبة له».
2- الفقه 78: 378-379.

له الحق؛ لأنه لم يسلّط البائع الغاصب على ماله مجّاناً، ولم يقصد الهبة.

فرع: لو زاد المشتري الجاهل في العين، كما لو صاغ الذهب، ففي الزّيادة احتمالان:

الأول: أن يصبح المشتري شريكاً للمالك في الزّيادة بالنسبة، كما هو الحال في الشراكة القهريّة، وهذا هو الأرجح، حيث لا يكون عمله هدراً.

الثاني: أن تكون الزّيادة للمالك؛ لأن النماء حصل في ملكه وهو تابع له، وأمّا عمل المشتري فيضمنه الغاصب للغرور.

وفيه نظر؛ لأن تبعية النماء للأصل ليس على إطلاقه، بل في ما لو كان بفعل اللّه تعالى، أو بفعل المالك، أو كان ممّن عمله هدر كالغاصب عالماً عامداً، وأمّا مَن لم يكن عمله هدراً فلا يعلم تبعيّة النماء للأصل؛ وذلك لأن دليله الإجماع وهو لبّي، وكذا بناء العقلاء ولا يعلم شموله للمقام.

ص: 255

الفصل الحادي عشر: في تبديل المغصوب

اشارة

وفيه بحوث:

البحث الأول: في زرع الحب ونحوه

اشارة

قال في الشرائع: «إذا غصب حباً فزرعه أو بيضاً فاستفرخه، قيل: الزرع والفرخ للغاصب، وقيل: للمغصوب منه وهو الأشبه»(1).

وفي المسألة أقوال:

القول الأول: أن يملكه الغاصب(2)، إلّا أنه ضامن للحبّ والبيض مِثلاً أو قيمة. واستدل له: بأن العين المغصوبة تلفت.

وقال الشيخ الطوسي في الخلاف(3): والقول بأن الزرع نفس الحب مكابرة، بل من المعلوم خلافه، فلا وجه لكونها ملك المغصوب منه.

وأمّا وجه ملكية الغاصب فلأنه من المباحات التي لا مالك لها، فيملكه كل من أخذه، كالمباحات الأصلية، ولأنه نتاج عمله وكل إنسان يملك عمله ونتاجه.القول الثاني: أن يملكه المغصوب منه، واستدل له بأدلة(4):

الأول: الإجماع أو عدم الخلاف.

لكن ذكرنا غير مرّة أن أمثال هذه الإجماعات محل نظر، صغرىً للخلاف المحقق، وكبرىً لكونه معلوم أو محتمل الاستناد ببعض الأدلة التي ذكرت في المقام، فلا بد من ملاحظتها والاعتبار بها، إلّا لو قلنا بحجية الإجماع حتى لو كان معلوم الاستناد.

الثاني: إن عنوان الملكية ينطبق على ذات الشيء(5) وإن تغيّرت صورته؛ وذلك لأنها أمر اعتباري، فلو تبدلت الصورة لم يسقط عن الملكية عند العقلاء، إلّا إذا كان تالفاً أو كالتالف، ويدل عليه أنه لو زرع الحب في الأرض المباحة كان الزرع له، فإن العرف قاضٍ بأن الزرع هو نفس البذر، وعليه: إن وجود المادة كافية في ثبوت الملكية وإن تكثرت أو تبدلت صورتها.

ويرد على ما في الخلاف: بأنّه لو لاحظنا الأمر بالدقّة العقلائية فإن المادة باقية بإضافات مع تغير الصورة، ولو لاحظناه بالاعتبار العرفي فهو هو فلا مكابرة.الثالث: مع الشك في بقاء الملكية يتم الاستصحاب(6).

ولا يشكل باشتراط بقاء الموضوع وليس بباق في المقام؛ لأن الزرع غير البذر. فإن الشرط هو اتحاد الموضوع لا إحراز بقائه، فلو شك في حياة زيد فالموضوع هو حياته أمس واليوم فتستصحب، مع أن الموضوع مشكوك.

ص: 256


1- شرائع الإسلام 4: 773.
2- الخلاف 3: 420؛ المبسوط 3: 105؛ الوسيلة: 276-277.
3- الخلاف 3: 420.
4- السرائر 2: 490؛ غنية النزوع: 280؛ تذكرة الفقهاء 2: 387؛ رياض المسائل 12: 290؛ جواهر الكلام 37: 198.
5- عنوان الملكية أمر اعتباري لا يدور حتى على الذات، ففي الانقلاب والاستحالة حيث يتبدل ذات الشيء تبقى الملكية (المقرر).
6- جواهر الكلام 37: 198.

وعليه: فمع الشك في تبدّل الذات نستصحب بقاءها، فتثبت الملكية، أي: نستصحب السبب فيترتب عليه المسبب التي هي الملكية وهي اعتبار شرعي.

والذي يدل على بقاء الملك بقطع النظر عن الأدلة الثلاثة، هو الحكم ببقائه في غير الغصب، فمن له حب زرعه في الأرض المباحة فتبدل إلى الزرع كان ملكاً له، وكذا في المقام.

ومما ذكر يظهر رد دليل القول الأول.

القول الثالث: القول بالاشتراك بين المالك والغاصب(1)، فإن الأصل من المالك والسعي من الغاصب، فأدلة الملكية تنطبق عليهما، فإن الفرع تابع للأصل والسعي للساعي فيشتركان، وقد مضت المناقشة فيها في المباحث السابقة.

نعم، لو كان جاهلاً لم يكن غاصباً، فلا يكون عمله هدراً شرعاً لمكانالجهل، فيمكن القول بالاشتراك، فتأمل.

البحث الثاني: في تبدل العصير المغصوب خمراً ثم خلّاً

قال في الشرائع: «لو غصب عصيراً فصار خمراً ثم صار خلاً كان للمالك، ولو نقصت قيمة الخل عن قيمة العصير ضمن الأرش»(2).

ومقتضى القاعدة أنه لو زاد كان للمالك.

ففي هذه المسألة أقوال(3).

ص: 257


1- الفقه 78: 388.
2- شرائع الإسلام 4: 773.
3- راجع الصفحة 52-64.

القول الأول: ما اختاره في الشرائع من بقاء ملكية المالك.

وأمّا المشهور(1) من عدم ملكية المسلم للخمر ابتداءً وخروجه عن ملكه في ما لو تحول عصيره خمراً فغير تام، حيث لم يقم عليه دليل غير الشهرة، وقد ذكرنا روايات(2) تدل على ملكيته لها.

نعم، يحرم شربها وبيعها، وعلى فرض دعوى الإجماع على عدم الملكية إلّا أنه لا ملازمة بين عدم الملكية وبين عدم حق الاختصاص، فقد يخرج عن ملكه ولكن يبقى حق الاختصاص، فحين أصبح عصيره خمراً فلا زال ملكه أو له حق الاختصاص، فيلزم إرجاعه له.

القول الثاني: ما اختاره صاحب الجواهر(3) - بعد تسليمه مبنىالمشهور- من خروجه عن ملك المالك بصيرورته خمراً، ولا دليل على رجوعه إلى ملكه بعد أن صار خلاً؛ لأن أسباب الملكية معيّنة وليس المقام من مواردها.

وأمّا الخل فإمّا أن يصبح من المباحات الأصلية فيكون لمن سبق، وأمّا يملكه الغاصب لترتب يده عليه، فيكون أولى من غيره.

ويظهر وجه التأمل فيه مما بيناه في القول الأول من عدم قبول المبنى أولاً، وعلى فرضه فإن حق الاختصاص باقٍ، فيلزم عليه إرجاع الخل وأداء الأرش. ولو لم ينفع المالك الخل حق له مطالبة البدل مِثلاً أو قيمةً؛ وذلك لعدم صدق (تؤدّي) و (مردود) في الفرض المذكور.

ثم إنه بناءً على القول الأول فعلى الغاصب إرجاعه إلى المالك في حال

ص: 258


1- المبسوط 2: 396.
2- وسائل الشيعة 25: 370-371.
3- جواهر الكلام 37: 200.

كونه خمراً، لكن قيده البعض(1) بما لو نوى المالك التخليل، وأمّا لو نوى الشرب فلا؛ لأنه إعانة على الإثم، ويأتي هنا الكلام في الإعانة والتعاون والفرق بينهما.

وهو تام لكنه خارج عن الكلام موضوعاً، فإن الكلام من حيث الملكية لا من حيث ترتب حرام آخر، فلو كان له وكيل لا يسلمه له وجب إعطاؤه للوكيل مثلاً؛ لأنه من آثار الملك.

ثم إنه لا دليل على لزوم إحراز إرادة المالك أن يجعله خلاً، فإن نيّةالتخليل لا ترتبط بالملكية أو الأولوية. نعم، لو أحرز إرادته الشرب فلا يجوز تسليمه من باب الإعانة.

وأمّا على القول الثاني حيث خرج عن ملكه حين صار خمراً فلا يجب على الغاصب إرجاعه، وإنما يجب عليه دفع بدل العصير الذي غصبه.

البحث الثالث: زرع الأرض المغصوبة

اشارة

قال في الشرائع: «ولو غصب أرضاً فزرعها أو غرسها فالزرع ونماؤه للزارع، وعليه أجرة الأرض، وإزالة زرعه وغرسه، وطم الحفر، وأرش الأرض إن نقصت، ولو بذل صاحب الأرض قمية الغرس لم يجب على الغاصب إجابته، وكذا لو بذل الغاصب لم يجب على صاحب الأرض قبوله ولو هبة»(2).

فهنا مسائل ثلاث:

ص: 259


1- مفتاح الكرامة 18: 254.
2- شرائع الإسلام 4: 773.
المسألة الأولى: في مالك الزرع

وفيه أقوال ثلاثة:

القول الأول: ما اختاره صاحب الشرائع فالزرع ونماؤه للغاصب، ودليله:

الأول: الإجماع، وقد ادعاه صاحب التنقيح الرائع(1)، وفي الجواهر(2)عدم الخلاف.

لكن الظاهر عدم تحقق الإجماع. نعم، ربما هو المشهور، ويدل عليه قول المسالك: الزرع للغاصب في أصح القولين(3).

بالإضافة إلى كونه مدركيّاً، وحجيته حسب المباني.

الثاني: الفرع تابع للأصل، وقد دلت عليه الأدلة الثلاثة.

القول الثاني ما اختاره ابن الجنيد(4)، وهو: إن مالك الأرض مخيّر بين أن يستملك الزرع ويؤدّي ثمنه للغاصب، وبين أن يطالبه بأجرة الأرض ويكون الزرع للغاصب.

واستدل له بحديث لم يرد في المجاميع التي بأيدينا؛ ولذا أشكل عليه بكونه عاميّاً، لكنه غير تام، حيث فقد الكثير من كتب الحديث بسبب الظالمين، كالأصول الأربعمائة التي لم تصلنا إلّا خمسة عشر منها، فإنه وإن نقل فقهاؤنا ومحدّثينا منها إلّا أنهم اختاروا بعضها لا كلها، فوجود الرواية في كتاب ابن الجنيد لا يلازم كونها عاميّة، بل مبنى فقهائنا العظام عدم

ص: 260


1- التنقيح الرائع 4: 77.
2- جواهر الكلام 37: 202.
3- مسالك الأفهام 12: 239.
4- مختلف الشيعة 6: 131؛ مسالك الأفهام 12: 239.

الاستدلال بروايات العامة في الكتب الفقهية، يبقى الإشكال في كونها مرسلة، وهي: عن النبي|: «مَن زرغ في أرض قوم بغير إذنهم فله نفقته، وليس له من الزرع شيء»(1).ويرد عليه: أولاً: إن الرواية تدل على التعيين: «فله نفقته وليس له من الزرع شيء» لا التخيير الذي ذهب إليه.

وثانياً: إرسالها مع إعراض الفقهاء عنها، فإن المشهور موافق لرأي صاحب الشرائع.

وحين سقطت عن الحجية يكون قوله خلاف القواعد العامّة؛ لأنه لا يحل مال امرئ إلّا بطيب نفسه، فمع كون الزرع للغاصب تبعاً للأصل مع عدم الدليل على انتقاله من ملكه إلى آخر، فكيف يجبر على بيعه؟

القول الثالث: اشتراك صاحب الأرض والزرع في النتاج كالمزارعة، وسهم كل واحد منهما يكون بالتعيين أو حسب المتعارف.

واستدل(2) له بجمع روايتين وهما:

الأولى: خبر عقبة بن خالد، عن الصادق(علیه السلام): «للزارع زرعه ولصاحب الأرض كراء أرضه»(3)، فإنه وإن كان السند مجهولاً لكن عمل به المشهور.

الثانية: موثقة محمد بن مسلم، عن الإمام الباقر(علیه السلام): «ويقوّم صاحب الدار الغرس والزرع قيمة عدل، فيعطيه الغارس»(4).

ص: 261


1- مختلف الشيعة 6: 132؛ كفاية الأحكام 2: 655؛ رياض المسائل 12: 291.
2- الفقه 78: 392-393.
3- تهذيب الأحكام 7: 206؛ وسائل الشيعة 19: 157.
4- الكافي 5: 297؛ وسائل الشيعة 19: 157.

ومقتضى الجمع بينهما القول بالتخيير بين الاثنين، ومعناه: أن يشتركا في الزرع، وكيفية التقسيم إمّا أن يأخذ مالك الأرض الزرع ويعطي ثمنه، أو يأخذ الغاصب الزرع ويعطي الكراء.

وفيه نظر: أولاً: إن مقتضى الجمع بين الروايتين يثبت قول ابن الجنيد، فإن الرواية الأولى: تثبت أن الزرع للغاصب وعليه كراء الأرض، والثانية: تثبت الزرع لمالك الأرض وعليه ثمن الزرع، فهو تعيين لأحد الوجهين المذكورين، ويكون الجمع بالتخيير بينهما، فلا شراكة، فإن معناها أن يشتركا في الزرع ويقسم بالمراضاة، أو بيد الحاكم الشرعي.

وثانياً: الإعراض عن الموثقة، فتسقط عن الحجية بخلاف الأولى، فإنه وإن كان سندها مجهولاً إلّا أن عمل المشهور جابر.

فمقتضى القاعدة القول الأول وهو الذي اختاره في الشرائع.

المسألة الثانية: في ما يجب على الغاصب

يلزم(1) على الغاصب دفع أجرة الأرض، وإزالة زرعه وغرسه، وطم الحفر، وأرش الأرض إن نقصت.

وهنا أربعة أحكام كلها حسب مقتضى القاعدة، فالغاصب ضامن لمنافع المغصوب وإن لم يستوفها، فكيف بما إذا استوفاها كما في المقام؟ كما مرت الأدلة على ذلك.ويدل(2) على وجوب إزالة الزرع والغرس:

أولاً: رواية عبد العزيز، عن الإمام الصادق(علیه السلام): «في من أخذ أرضاً بغير

ص: 262


1- جواهر الفقه: 110؛ غنية النزوع: 281؛ المختصر النافع: 249؛ شرائع الإسلام 4: 773.
2- جواهر الكلام 37: 205؛ جامع المدارك 5: 225؛ الفقه 78: 396.

حقها أو بنى فيها، قال(علیه السلام): يرفع بناؤه ويسلّم التربة إلى صاحبها، ليس لعرق ظالم حق»(1)، وقد عمل بها المشهور.

ثانياً: ما ورد من أن «الغصب كلّه مردود»، فإن المقصود من الرد هو الرد الكامل بأوصافه، فعليه إعادة الأرض بأوصافها، ومنها خلوها من ملك الغير.

ثالثاً: إبقاء الزرع استمرار للغصب؛ لاستمرار بقاء ملكه في أرض المالك.

ويدل على وجوب طم الحفر قوله: «الغصب كلّه مردود»، حيث استلم أرضاً مسطّحة فعليه إعادتها بوصفها.

ويدل على ضمان أرش النقص قوله: «حتى تؤدّي» فإن جبران النقص مع الأرش أداء.

فرع: لو كان جاهلاً بكون الأرض للغير، حيث تصورها من المباحات الأصلية، فزرعها لم تشمله أدلة الغصب؛ لعدم انطباق عنوان الغصب في صورة الجهل، وعلى فرض الانطباق فالأدلة منصرفة عنه، فمع تضرر الغاصب يكون (لا ضرر) حاكماً، فيشترك مع مالك الأرض.فإن قلت: خبر عبد العزيز يشمل الجاهل أيضاً، حيث إنه بنى بغير حق.

قلت: إنه منصرف عن مورد الجهل، وعلى فرض عدم الانصراف فدليل (لا ضرر) حاكم عليه.

المسألة الثالثة: لو بذل صاحب الأرض قيمة الغرس

ولو(2) بذل صاحب الأرض قيمة الغرس لم يجب على الغاصب إجابته؛ لأنه مالك فلا يجبر على بيع ملكه.

ص: 263


1- تهذيب الأحكام 6: 294.
2- تحرير الأحكام 3: 545؛ الحدائق الناضرة 18: 394؛ جواهر الكلام 37: 205.

وكذا لو بذل الغاصب غرسه لصاحب الأرض لم يلزم عليه قبوله شراء أو هدية؛ وذلك لأن (الناس مسلّطون) فلا يجوز إدخال شيء في ملكه من دون رضاه.

البحث الرابع: حفر البئر في الأرض المغصوبة

قال في الشرائع: «ولو حفر الغاصب في الأرض بئراً كان عليه طمّها، وهل له طمّها مع كراهية المالك؟ قيل: نعم، لتحفظها من درك التردي، ولو قيل للمالك منعه كان حسناً، والضمان يسقط عنه برضا المالك باستبقائها»(1).

أمّا أصل وجوب الطم فللأدلة العامّة الدالة على وجوب إرجاعالمغصوب بوصفه إلى مالكه. وأمّا لو لم يرد المالك الطم ففيه قولان:

الأول: يحق للغاصب الطم وإن لم يرضَ المالك به(2).

الثاني: لا يحق له ذلك وهو الأصح(3).

ويدل عليه: أنّ الطم تصرف في ملك الغير، فيشمله أدلة عدم جواز التصرف فيه، فلو لم يكن برضا المالك كان الغاصب مرتكباً للحرام مرة ثانية.

واستدل للقول الأول(4):

أولاً: بأنّ الحافر ضامن في ما لو سقط فيه إنسان أو دابة - كما مرّ - فيحق

ص: 264


1- شرائع الإسلام 4: 773.
2- المبسوط 3: 73؛ غنية النزوع: 281؛ جواهر الكلام 37: 206.
3- السرائر 2: 485؛ تحرير الأحكام 4: 546؛ الدروس الشرعيّة 3: 111؛ جامع المقاصد 6: 290.
4- المبسوط 3: 73؛ جواهر الكلام 37: 206.

له طمّه لرفع الضمان عن نفسه.

وفيه: إنه لا يمكن للدليل المذكور أن يخصص دليل عدم جواز التصرف في ملك الغير، حيث إنهما عامان، ولا منافاة بينهما، فيكون مقتضى الجمع عدم جواز الطم مع ضمان الحافر، كما اختاره في الجواهر(1)، ولا طريق له إلى رفع الضمان عن نفسه.

وقد يتأمل فيه، بأن دليل السببية يشمل المالك بعد منعه عن الطم، فينتقل الضمان من الحافر إليه؛ لأن بقاء البئر لا يكون مستنداً إلى الحافر،فيكون السبب الأقوى هو المالك.

ويؤيّده ضمان المالك لا العامل في ما لو حفر العامل بإذنه في أرضه.

ثانياً: بأن الضمان ثبت في ذمة الحافر والماضي لا ينقلب عما وقع عليه، وإبراء المالك ذمة الحافر لا يغير الماضي(2).

وفيه: لا ضمان عند الحفر وإنما يتولّد عند السقوط. نعم، الحافر أوجد السبب، ولا نريد القول بانقلاب السببية في الماضي، وإنما انتقال السببيّة من ذمة الحافر إلى ذمة المالك.

ثالثاً: الضمان لا يرتبط بالمالك، فلا يصح له الإبراء(3)، فالساقط في البئر يستحق الدية فكيف للمالك أن يُبرئ ذمة الحافر منها؟ فهل يحق للغريب أن يُبرئ ذمة الجاني؟

وفيه: إن الكلام ليس في مستحق الدية أو الغرامة، بل الكلام أنها كانت

ص: 265


1- جواهر الكلام 37: 207.
2- جواهر الكلام 37: 207.
3- جواهر الكلام 37: 207.

متعلقة بذمة الحافر فانتقلت إلى ذمة المالك، وذلك كمن يشتري أرضاً فيها بئر حيث كان ضمان الساقط فيها على البائع فانتقل إلى المشتري.

رابعاً: إنه من ضمان ما لم يجب(1)، فإنه قبل سقوط أحد في البئر يقوم المالك بإبراء ذمة الحافر.وفيه: بغض النظر عن المبنى في إبراء ما لم يجب نقول: إن المقام ليس منه، فالمالك لا يريد رفع الضمان عن الحافر، بل نقل السببيّة منه إليه.

وعليه: فمقتضى الأدلة هو القول الثاني.

وفي المسألة فرعان:

الفرع الأول: قال في المسالك: «ولو تعذر استيذان المالك - لغيبة ونحوها - جاز له طمّها؛ تحرزاً من الدرك المذكور»(2).

وفيه نظر؛ لعدم جواز التصرف في ملك الغير، ولا يجوّزه إمكان سقوط دابة وضمانها.

نعم، يمكنه مراجعة الحاكم الشرعي فهو ولي الغائب، ومع عدمه فعدول المؤمنين، ويشمل الغاصب نفسه أيضاً بعد التوبة؛ وذلك لوجوب حفظ النفس المحترمة.

الفرع الثاني: لو(3) طالب المالك الأجرة عوضاً عن الطم لم يجب على الغاصب القبول؛ لأن الدليل يقضي بأداء العين كما كانت، وتعيين المصداق بيد الغاصب، فلا يحق للمالك إجباره على مصداق معين. هذا،

ص: 266


1- جواهر الكلام 37: 207.
2- مسالك الأفهام 12: 241.
3- كتاب الغصب، للرشتي: 135؛ الفقه 78: 401.

إن لم يولّد ضرراً على المالك، كما لو خاف من دخول الغاصب أو عمّاله في أرضه للطم.

البحث الخامس: دخول الدابة في ملك الغير

اشارة

قال في الشرائع: «إذا حصلت دابة في دار لا تخرج إلّا بهدم، فإن كان حصولها بسبب من صاحب الدار ألزم الهدم والإخراج، ولا ضمان على صاحب الدابة، وإن كان من صاحب الدابة ضمن الهدم، وكذا إن لم يكن من أحدهما تفريط ضمن صاحب الدابة الهدم؛ لأنه لمصلحته»(1).

فالصور المذكورة ثلاثة، إمّا بتقصير من صاحب الدار أو صاحب الدابة، أو لا بتقصير منهما، ويضاف إليها صورتان هما: أن يكون ذلك بتقصيرهما أو بسبب شخص ثالث:

الصورة الأولى: كون دخول الدابة بسبب صاحب الدار

أن يكون دخول الدابة بسبب صاحب الدار، سواء أدخلها بنفسه أم بتفريط منه، فعليه إخراجها؛ لأنه سبب تقييد سلطنة مالك الدابة، حيث منعه من التصرف أو قيّد تصرفه، فبمقتضى قاعدة السلطنة وإيصال الحق إلى صاحبه عليه أن يتحمل مسؤولية الإخراج، وعليه تكلفة هدم الباب أو ما أشبه، حيث إنه السبب، فعليه الضمان وإن ترتب عليه ضرر.

ويتفرع عليه ما لو كان قيمة هدم الباب أو قلعه أكثر من قيمة الدابة، فهل له أن يطالب مالك الدابة بذبحها وإخراجها مقطعة أو يطالبه ببيعها؟

إن قلنا: إن (لا ضرر) يشمل حتى المقصر - في ما لو ترتب عليهضرر

ص: 267


1- شرائع الإسلام 4: 774.

كثير - فله ذلك، وأمّا على ما رجحناه سابقاً من عدم الشمول في ما لو أقدم بتقصير منه فلا يحق له ذلك.

وأمّا من يقول بالشمول في ما لو كان ضرراً كثيراً، فنتساءل عن الفارق بين الضرر الكثير والقليل، فلو شمل الكثير لشمل القليل أيضاً، فلو تساوى الضرران - فمن جهة: مالك الدار يريد ذبح الحيوان، ومن جهة: مالك الدابة يريد قلع الباب - لم يكن وجه لترجيح الثاني، فإن الأول وإن كان مقصراً إلّا أن القائل يرى شمول (لا ضرر) للمقصر أيضاً، وقد قلنا بعدم الفارق بين الضرر الكثير والقليل، ويبعد الالتزام بالانصراف في أحد الشقين دون الآخر.

لكن قال بعض الفقهاء(1) بتعارض الضررين في جانب القِلّة، ويبقى الضرر الزائد بلا معارض.

وفيه نظر؛ لأن دليل (لا ضرر) دليل واحد ومتعلقه واحد أيضاً، والكثرة والقلة لا تكون سبباً لتعدد (لا ضرر) والتفكيك بين درجات الضرر تفكيك دقّي.

فمقتضى القاعدة أن على صاحب الدار إخراج الدابة وإن تضرر كثيراً، إلّا إذا كان فاحشاً يثبت به الانصراف، لكنه غير معلوم.

الصورة الثانية: كون دخول الدابة بسبب صاحبها

أن يكون دخول الدابة بسبب صاحبها، وفيه احتمالات ثلاثة(2):

الأول: قلع الباب مع ضمان صاحب الدابة.

ص: 268


1- الدروس الشرعيّة 3: 110؛ الأنوار اللوامع 13: 92؛ جواهر الكلام 37: 212.
2- الفقه 78: 403.

الثاني: ذبح الدابة مع الانتفاع بلحمها أو جلدها.

الثالث: بيع الدابة لصاحب الدار.

ولا بد من ملاحظة مصلحة مالك الدار، فلا وجه لمراعاة مصلحة مالك الدابة مع تقصيره، ولو كان هنالك ضرر تحمله مالك الدابة.

كما لا وجه لإجبار مالك الدابة على بيعها، فإن أصل إخراجها واجب عليه، ولا يلازمه إكراهه على تعيين مصداق يسلبه السلطة على دابته.

كما أنه لو أراد مالك الدابة البيع لم يكره مالك الدار على ذلك. ولو انحصر الخيار في ذبح الدابة لزمه ذلك.

وأمّا وجه تخصيص(1) الذبح بما يؤكل لحمه فلا وجه له، حيث قد يستفاد من جلده أو ما أشبه ذلك.

الصورة الثالثة: كون الدخول بسببهما

أن(2) يكون كلاهما سبباً، كما لو استجاز صاحب الدار فأذن له، ومعه لا معنى لتحمل أحدهما الضرر، بل يقسم بينهما حسب مقتضى القاعدة، كما لو اشتركا في شيء يتضرران به، فإن سببيّة الضرر مستند إليهما معاً،فتخصيص الضرر بأحدهما بلا وجه.

فلو اتفقا على طريقة معيّنة لإخراج الدابة كانت الخسائر عليهما معاً، وإن اختلفا احتمل ترجيح أقل الضررين؛ لأن الضرر الأقل ثابت على كل حال، فلا يرفعه دليل (لا ضرر) ولا وجه لتحمل الزائد مع جريان (لا ضرر) فلا يمكن إجبار أحدهما على ذلك.

ص: 269


1- جواهر الكلام 37: 208.
2- جواهر الكلام 37: 208؛ الفقه 78: 404.

ويحتمل عدم الترجيح؛ لأن (لا ضرر) يشمل أحدهما على البدل - حيث لا يشملهما معاً؛ للزوم تحمل أحد الضررين قطعاً - والدليل واحد وكلاهما مصداق، والدليل لا يفكك بين مراتب الضرر، وعليه لا ترجيح لأقل الضررين.

وهو الظاهر؛ لأن دليل (لا ضرر) لا يشمل أحد الضررين، لا أنه لا يشمل المقدار المشترك ويشمل الزائد، اللّهم إلّا أن يقال بالانصراف عن الأقل، فيشمل الأكثر وينفيه.

ومع الاختلاف لا بد من مراجعة الحاكم الشرعي للفصل بينهما، وللحاكم حق الاقتراع لا لوجوبها عليه، بل لاختياره ذلك.

الصورة الرابعة: كون الدخول بسبب شخص ثالث

أن يكون السبب شخص ثالث فعليه الضمان(1)؛ لأنه سبب زوال سلطنتهما فعليه إرجاعها، فإن لم يمكن إلّا بقلع الباب أو ذبح الدابة، فإنكان الضرران متساويين واتفق المالكان على أحدهما فالحق لا يعدوهما، وعلى الثالث الامتثال، ولا يحق له إجبار المالكين على أحد المصاديق، وإلّا كان معناه سلبه سلطنة أخرى إضافة إلى ما سبق منه.

وإن لم يتساوَ الضرران واختار الطرفان الضرر الأقل فلا يحق للثالث الاعتراض، بل عليه الامتثال.

وأمّا لو أرادا اختيار الضرر الأكثر فقد يحتمل عدم حقهما في ذلك، فلا يجبر الثالث على تحمله؛ لجريان (لا ضرر) في حقه، فالأصل عدم ضمان الزيادة.

ص: 270


1- الفقه 78: 404.

ويحتمل ثبوت الحق لهما في ذلك لسلطتهما على مالهما، وعدم جريان (لا ضرر) بالنسبة إلى الثالث، حيث كان هو السبب، ولا يعلم انصراف الدليل عنه، والظاهر أنه الأرجح، فيكون كل الضرر على الثالث.

كما يحتمل حقهما في اختيار الضرر الأكثر، لكن تكون الزّيادة عليهما لا عليه.

الصورة الخامسة: كون الدخول بسبب سماوي

أن(1) لا يكون أحد سبباً لدخول الدابة في ملك الغير، بل دخلت بسبب عامل سماوي مثلاً، فقد قيل: إن صاحب الدابة هو الذي يتحمل الضرر؛ لأن خروجها لمصلحته، كما في الشرائع(2).وفيه نظر؛ إذ الدليل أخص من المدعى، حيث تختلف المصلحة، فقد يكون من مصلحة صاحب الدابة بقاؤها في ملك الغير.

وعلى فرض المصلحة، فلا يكون ذلك سبباً للضمان، فإن الضمان بحاجة إلى سبب وهو مفقود، فلا بد من تحملهما معاً للضرر، حيث لا ترجيح لأحدهما على الآخر.

البحث السادس: إدخال الدابة رأسها في قدر الغير

اشارة

وفي المسألة صور ثلاث:

الصورة الأولى: كون يد مالك الدابة عليها

أن تكون يد مالك الدابة عليها أو فرّط في حفظها، قال في الشرائع: «ولو

ص: 271


1- المبسوط 3: 94؛ مسالك الأفهام 12: 243.
2- شرائع الإسلام 4: 774.

أدخلت دابة رأسها في قدر، وافتقر إخراجها إلى كسر القدر، فإن كانت يد مالك الدابة عليها أو فرّط في حفظها ضمن»(1).

ويشكل عليه: أولاً: لا ينحصر الأمر في كسر القدر، بل يمكن ذبح الدابة ثم كسر رأسها وإخراجه من القدر، فلا وجه لتحميل الضرر على مالك القدر حتى لو ضمنه مالك الدابة مع كونه مقصراً. فما ذكره خاص بما لو كان الأمر منحصراً في كسر القدر، وليس كذلك عادة.

ثانياً: قد تكون يد مالك الدابة عليها ومع ذلك تدخل رأسها بلا اختياره ومن دون تفريط، وهنا أيضاً لا وجه للضمان حيث لا يعلم شمول أدلةالضمان للمقام، فمقتضى القاعدة رجوع المسألة إلى الصورة الثالثة.

وقد يقال: إنه لا بد من مراعاة التوازن بين قيمة الإناء وقيمة الدابة، ويرجح الأقل ضرراً، وإن كان في طرف مَن لم يكن مقصراً.

واستدل له بوجهين، كما مرّ:

الأول: تساقط (لا ضرر) في المقدار المتساوي بين الضررين، ويجري في الزائد بلا معارض، وهو حاكم على أدلة العناوين الأولية حتى بالنسبة إلى المقصر.

وفيه: بأن دليل (لا ضرر) دليل واحد لا يجزأ، فيشمل الأقل والأكثر في مرتبة واحدة فيتساقطان، لا أنه يجري في الأقل من الطرفين فيبقى الأكثر سليماً عن المعارض.

وقد رجحنا عدم جريان (لا ضرر) في حق المقصِّر، لا من باب إقدامه على الضرر حتى يقال بأنه لم يقدم عليه أو أقدم على النفع، بل من باب

ص: 272


1- شرائع الإسلام 4: 774.

انصراف الدليل عنه.

الثاني: الإسراف في ما لو رجح الضرر الأكثر.

وفيه: إن الإسراف من الأدلة الأولية فيتقدم عليه دليل (لا ضرر). هذا أولاً.

وثانياً: ما يحكم به الشارع من ضمان المقصِّر خارج موضوعاً عن الإسراف.

ولا يكون ذلك من الدور حتى يقال: إن عدم الإسراف متوقف علىحكم الشارع بالكسر، وحكمه بالكسر متوقف على عدم الإسراف، فإن الدليل العام الحاكم بضمان المعتدي مخرج له عن موضوع الإسراف(1).

الصورة الثانية: كون صاحب القدر مقصّراً

قال في الشرائع: «وإن لم يكن يده عليها وكان صاحب القدر مفرطاً، مثل أن يجعل قدره في الطريق، كسرت القدر عنها ولا ضمان في الكسر»(2).

ويرد عليه ما سبق:

أولاً: حتى وإن كانت يده عليها بشرط عدم الإفراط والتفريط، فإن الضمان مرتفع، فتخصيص الضمان بما لو كانت يده عليها لا وجه له.

وثانياً: في إطلاق المثال المذكور تأمل، فليس وضع القدر في الطريق تفريطاً دائماً، فقد يكون من المتعارف ذلك، كما في الأربعين في كربلاء

ص: 273


1- وفيه نظر؛ لأن الإسراف أمر عرفي، وفي المقام العرف يرى أن تحمل الضرر الأكثر مع إمكان تداركه بالضرر الأقل إسراف، فدليل الإسراف يحكم بحرمة الإقدام على تحمل الضرر الأكثر، ودليل ضمان المقصر يحكم بتحمل الضرر الأكثر فيتعارضان. نعم، يمكن القول بأنه من أدلة العناوين الثانوية فيتقدم عليه (المقرر).
2- شرائع الإسلام 4: 774.

المقدسة.

نعم، لو كان صاحب القدر مقصّراً فلا ضمان لكسر القدر.

الصورة الثالثة: عدم التفريط من أحدهما

قال في الشرائع: «وإن لم يكن من أحدهما تفريط، ولم يكن المالكمعها، وكانت القدر في ملك صاحبها، كسرت وضمن صاحب الدابة؛ لأن ذلك لمصلحته»(1).

ويرد عليه:

أولاً: لا تنحصر المصلحة في صاحب الدابة، بل الأمر في مصلحة الاثنين، فكل منهما يريد تخليص ماله.

ثانياً: على فرض اختصاص المصلحة بصاحب الدابة فليس ذلك من الأدلة الشرعيّة الموجبة للضمان.

ومقتضى القاعدة كون الضرر عليهما. فلو كان أحد الضررين أكثر رجح الأقل؛ لعدم وجه تحملهما الضرر الأكثر. ولا نتمسك لذلك بدليل (لا ضرر) حتى يقال: إنه يشمل الاثنين على حد سواء، بل الكلام في مرحلة الضمان، حيث الأمر دائر بين ضمانهما للأقل أو الأكثر، وهما غير ارتباطيين، والأصل عدم الأكثر.

وليس من الأصل المثبت حتى يقال: الأصل براءة الذمة من الأكثر فيلزم الأقل، فإن ضمان الأقل مسلّم والأصل يرفع الأكثر، فيكون الحكم بكسر القدر - حيث إنه أقل ضرراً - مثلاً حكماً شرعيّاً لا عقليّاً أو عاديّاً، فإنه حيث يحكم الشارع بضمان الأقل فإن لازمه الشرعي ذلك.

ص: 274


1- شرائع الإسلام 4: 774.

إلّا أن يقال: إن ترجيح الضرر الأقل وإجراء الأصل في الضررالأكثر إنما هو في ما لو كانا ضرر شخص واحد، وأما لو كانا ضرر شخصين فلا يقين في الضرر الأقل أيضاً، بل الأقل والأكثر هنا من المتباينين كما لو شككنا في أن زيداً مديون بعشرة أو عمراً مديون بعشرين، فلا محيص عن القرعة حينئذٍ مع تقسيم الضرر عليهما؛ إذ لا وجه لتخصيص الضرر على أحدهما مع عدم تقصيرهما، وقد يقال: بأنه لا مجال للقرعة هنا لأنها بحاجة إلى عمل، وهو مفقود في المقام، فإن اتفقا فهو وإلّا رجعوا إلى الحاكم الشرعي ليفصل بينهما بما يراه مناسباً ولو بالقرعة - لا للزومها عليها، بل لأن الفصل من ولايته فيختار ما هو الأفضل، والمسألة بحاجة إلى مزيد تأمل.

ولو تساوى الضرران، فإن اتفق الطرفان على أحدهما فلا كلام، وإن اختلفا فالحاكم الشرعي هو الفيصل.

البحث السابع: لو زرع السيل نخلاً في أرض الغير

هذا فرع ذكره السيد الوالد في الفقه(1) يشمله ملاك المسألة وهو: إنه لو جاء السيل بنخلة رجل فأثبتها في أرض الغير، أو هبت الريح فزرعت حبات الحنطة في أرضه ففي المسألة قولان:

القول الأول: يجب على صاحب النخل أو الحب أن يخلصه من ملك الغير، ولو ترتب عليه ضرر ضمنه.واستدل له بأنه مكلف بإخراج ملكه عن ملك الغير وإن لم يكن مقصراً، وحيث إنه مكلّف فعليه الضمان.

ص: 275


1- الفقه 78: 406-407.

لكنه مصادرة، حيث لم يُقم دليلاً على وجوب ذلك، فهنا ملكان اجتمعا قهراً، وحقان تزاحما، وفي مثله يكون الضمان والضرر عليهما معاً.

القول الثاني: إنه تكليف الاثنين والضرر عليهما.

وهنا مباحث متعددة في قاعدة (لا ضرر) والسلطنة والجمع بينهما فراجعها في الفقه(1). وقد ذكرنا شطراً منها في نبراس الأصول(2).

البحث الثامن: خوف سقوط الحائط

قال في الشرائع: «قال الشيخ في المبسوط: إذا خشي على حائط جاز أن يستند بجذع بغير إذن مالك الجذع، مدعياً للإجماع، وفي دعوى الإجماع نظر»(3).

وقال الشهيد الأول في الدروس: «وحينئذٍ الأقرب ضمان عينه وأجرته وإن انتفى الإثم»(4).

فالإجماع المذكور إنما يرفع الإثم لا الضمان، فيبقى تحت دليله.

وأمّا جامع المقاصد(5) حيث نفى الإجماع ولم يجد دليلاً معتبراً علىجواز التصرف المذكور، خصص المسألة بما لو خيف على نفس محترمة من سقوط الجدار عليها؛ لأن دليل حفظ النفس أقوى ملاكاً من دليل حرمة التصرف في مال الغير.

ص: 276


1- الفقه 78: 406-408.
2- نبراس الأصول 4: 426-431.
3- شرائع الإسلام 4: 774.
4- الدروس الشرعيّة 3: 109.
5- جامع المقاصد 6: 328.

والأقرب أن الإجماع المدعى محل نظر؛ لعدم بحث المسألة في الكتب السابقة وحتى المعاصرين للشيخ، ولا دليل خاص في المقام، فلا بد من ملاحظة الأدلة العامّة، وهنا دليلان:

الأول: إن الضرر والحرج رافع لحرمة التصرف في مال الغير في ما لو كان مالك الجدار يتضرر بسقوطه، أو يشعر بالحرج أو ما أشبه ذلك.

لكنه محل نظر؛ حيث إن شمول دليل الضرر والحرج للمقام معلوم العدم للانصراف، بل قد يكون فيه ضرر على الغير ولا يدل دليل لا ضرر على رفع الضرر عن النفس بإلقائه على الغير.

الثاني: قاعدة الأهم والمهم، ومعناه ثبوت الملاك لكلا المتزاحمين، فمع اكتشاف الأهمية في أحدهما يكون راجحاً بحكم العقل، كما في إنقاذ الغريقين في ما لو كان أحدهما وليّاً والآخر عصيّاً، فيختار الأهم مع عدم إمكان إنقاذهما، وأمّا لو تساوى الملاكان أو جهل الأهم فيتخيّر بينهما.

وفي المقام: فإن وجوب إنقاذ النفس المحترمة أهم بحكم العقل من حرمة التصرف في مال الغير.وقد ذكر السيد الوالد في الفقه(1) بأن قاعدة الأهم والمهم قاعدة عقليّة، فتكون في سلسلة العلل، فيشملها ما حكم به العقل حكم به الشرع.

لكن بيانه بحاجة إلى مزيد من التأمل.

ومن الأدلة على ذلك عشرات الموارد المتفرقة التي يطمئن منها أن الشارع قدم الأهم على المهم، كما في التقيّة في غير الدم، وزنا المرأة

ص: 277


1- الفقه 78: 416، وفيه: «وأما في الأهم والمهم، فلأنها قاعدة عقلائيّة مشمولة لقاعدة ما حكم به العقل حكم به الشرع، بعد كون الأمر في سلسلة العلل».

المضطرّة، والكذب في الإصلاح، والغيبة في المشورة، وغيرها.

البحث التاسع: نقل المغصوب إلى بلد آخر

قال في الشرائع: «إذا نقل المغصوب إلى غير بلد الغصب لزمه إعادته»(1).

ويدل عليه(2): إن الأداء المأخوذ في دليل «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» لا يتحقق إلّا بأداء نفس العين وبأوصافها، ومنها وصف المكان، فلو أداه في غير بلد الغصب كان أداء للعين دون الوصف، وكذا «الغصب كلّه مردود»، خاصة مع ملاحظة اختلاف الأغراض بينالأماكن.

وهو تام في ما لو لم يصدق الرد، أمّا لو صدق الرد، كما لو غصبه في السفر وأعاده في الحضر، ولم يكن للمالك غرض عقلائي في استرداده في السفر، وإنما مجرد عناد، لم يلزم الاستجابة له؛ لتحقق صدق الرد.

وقال في المسالك: «وإن أمكن إيصاله إلى مالكه بغيره تخير المالك بين أن يقبضه حيث يدفعه إليه، وبين أن يأمره برده إلى مكانه الأول»(3)؛ وذلك لأنه يمكنه أن يتنازل عن حقه.

وهنا فروع:

الفرع الأول: لو لم يكونا في مكان الغصب، فأراد الغاصب تأخير الأداء إلى الرجوع إلى مكانه ولكن المالك أراد أداءه فوراً في مكان تواجدهما، فالحق مع المالك، فلو لم يؤدّه كان استمراراً للغصب، فإن الأداء في مكان الغصب من حق المالك ويمكنه التنازل عنه لتعجيل الأداء.

ص: 278


1- شرائع الإسلام 4: 774.
2- جواهر الكلام 37: 221؛ الفقه 78: 419.
3- مسالك الأفهام 12: 247.

قيل: ولو امتنع الغاصب ثم أداه في الحضر حق للمالك الامتناع ومطالبته بالأداء حيثما طلبه سابقاً، فإنه حين طالبه المالك - وهو في السفر - لم يكن من حق الغاصب نقله إلى مكان آخر، فعدم أدائه حيث طلبه بمثابة غصب جديد، فكأنه غصبه في السفر.ففي المسالك: «وحيث يرضى المالك ببقائه دون المكان الأول ليس للغاصب الزّيادة عليه؛ لأنه تصرف في المغصوب بغير إذن المالك، فلو تجاوز به المأذون فللمالك إلزامه بإعادته؛ لتعديه في النقل كأصله»(1).

وأشكل عليه في الجواهر(2)، فراجع، والمسألة بحاجة إلى مزيد تأمّل.

الفرع الثاني(3): لو كان للغاصب محذور في الأداء في بلد الغصب، كما لو كان هارباً لا يمكنه الرجوع، ولا يمكنه إرساله بيد أمين، ارتفع عنه التكليف؛ لعدم القدرة على الأداء، لا مباشرة ولا بالتسبيب، وحينئذٍ يلزم ملاحظة حال المغصوب منه من حيث تحمل الضرر بالانتظار أو بتسليمه بدله فيكون نظير بدل الحيلولة.

ولو كان المحذور من المالك، كما لو تم تسليمه في بلد الغصب صادرته الدولة الجائرة منه فهنا يحق له المطالبة بتسليمه في بلد آخر، إلّا لو كان في ذلك ضرراً على الغاصب، وحينئذٍ الأقوى ترجيح ضرر المالك على ضرر الغاصب إلّا لو كان فاحشاً فيمكن القول بعدم تحمل الغاصب، لكن لا يبعد أنه يتحمل ذلك وإن كان فاحشاً، فتأمّل.

ص: 279


1- مسالك الأفهام 12: 248.
2- جواهر الكلام 37: 222.
3- الفقه 78: 420.

الفرع الثالث(1):لو مات مالك العين المغصوبة انتقل حقه إلى ورثته، فيحق لهم المطالبة بتسليمها في مكان الغصب، فإن الحقوقأيضاً تتوارث كالأعيان، كخيار الفسخ والحيوان وحق القصاص، إلّا في ما كان متقوّماً بشخص الميت كحق القسم، حيث إنه متقوّم بالزوج، فإنه لا يتوارث من باب السالبة بانتفاء الموضوع.

وفي المقام: الرضا الفعلي للوارث هو الملاك وذلك لانتقال الحق إليه، ولا اعتبار برضا المورث وعدمه بعد موته، فلو كان المورث يطالب العين المغصوبة في السفر حق للوارث مطالبته في مكان الغصب كالحضر.

نعم، لو أسقط المورث حقه لم يرثه الوارث، حيث لا يبقى حق حتى يورث، ولا يخفى الفرق بين الرضا والإسقاط، فمجرد الرضا غير مسقط، بل بحاجة إلى إظهار، فرضا المورث باستلامها في بلد آخر لا يسقط حق الوارث في مطالبته في بلد الغصب مثلاً.

وفي المقام فروع، كاختلاف الورثة مع إمكان تقسيم الحق كالقصاص، أو عدم إمكانه كاستلام العين المغصوبة في مكانين وما أشبه، محل بحثه كتاب الإرث.

الفرع الرابع: لو صدق الرد مع إرجاعه في غير مكان الغصب لم يحق للمالك إجبار الغاصب على أدائه في مكان الغصب، كما لو غصبه في الصحراء وأداه في بلده، لانصراف (مردود) و (تؤدّي)، إلّا إذا كان للمالك غرض عقلائي في المطالبة في مكان الغصب، كما لو غصب منه آلات حفر البئر في الصحراء وأرجعها في المدينة، حيث لا يصدق (تؤدّي)، وأمّا مع

ص: 280


1- الفقه 78: 422.

عدم الغرض العقلائي فالإرجاع في الصحراء ليسمصداقاً ل- (تؤدّي) بخلاف المدينة.

وأمّا لو أراد الغاصب إرجاعه إلى مكان الغصب دون مكان المطالبة مع وجود المغصوب في مكانها فليس ذلك من حقه؛ لأن الحق يرتبط بالمالك، فلا يحق له الامتناع عن التسليم.

البحث العاشر: نقل الحر بقوة

ذكر العلامة(1): أنه لو أخذ حراً صغيراً أو كبيراً بقوة ونقله إلى مكان آخر كان تعدّياً لا غصباً؛ لأن الغصب خاص بالملك والحر غير مملوك، فلو رضي الحر بالبقاء في المكان الذي نقله إليه لم يحق له إرجاعه بقوة؛ لأن الناس مسلّطون، وإرجاعه بقوة إزالة لسلطنته على نفسه مجدداً.

ولو أراد الحر الإرجاع لزمه، وعليه نفقته حيث إنه أضرّه.

واستدل في المسالك(2) على ذلك بأنه متعدٍّ فيكون ضامناً للنفقة.

وفيه نظر: فإن التعدّي يثبت الحرمة التكليفية لا الضمان، والضمان بحاجة إلى دليل، وليس التعدّي من الأدلة، فلا بد من بحث سائر العناوين ومنها: (لا ضرر) على المبنى، وإن لم يتم الدليل فيبقى الضمان مطلباً عرفيّاً عقلائيّاً بحاجة إلى دليل شرعي.

وقد يقال: بإمضاء الشارع ذلك!

وفيه: أن للإمضاء شروط هي معلومية وجود سيرة العقلاء في زمانالمعصوم(علیه السلام)، وكونه أمراً عاماً أو مبتلى به للكثيرين لا نادراً، وعدم ردع

ص: 281


1- تذكرة الفقهاء 2: 382.
2- مسالك الأفهام 12: 248.

الشارع، وعدم المحذور له في الردع، ولا يعلم تحقق كل هذه الشروط في ما نحن فيه.

وأشكل السيد الوالد(1) على إطلاق كلام العلامة الشامل للصغير بأنه محجور عليه لا يملك القرار بالرجوع أو البقاء، فلا بد من مراجعة وليه أو الحاكم مع عدم الولي، ويعمل بقراره.

ص: 282


1- الفقه 78: 423-424.

الفصل الثاني عشر: في إتلاف الآلات المحرمة

ذهب العلامة في القواعد: أنه لو كسر آلة اللهو لم يضمن، لكن لو حرقه ضمن قيمة الرضاض(1).

وتفصيل الكلام في المكاسب المحرمة، وإجماله: أنه قد يقال بوجوب إتلاف الآلات المحرمة، كآلة اللهو والصنم التي يحرم الانتفاع بها مطلقاً؛ لأن الكسر نهي عن المنكر، ولا ضمان فيها.

فإن قام الإجماع على ذلك فبها، وإلّا فالحكم بإطلاقه محل تأمل، حيث إنه قد يفرض منفعة محللة لبعضها، فآلات اللهو قد تتخذ لغير العزف، كالحفظ في المتحف الأثري، أو للزينة بشرط عدم محذور آخر يوجب حرمة التزيّن كما في الصليب، وعليه تكون الآلة مما ينتفع بها في الحلال والحرام، فلا وجه للحكم بإتلافها.

وعلى فرض كونه من مصاديق النهي عن المنكر، فقد يقال بعدم جواز النهي عن المنكر باليد إلّا بإذن الحاكم الشرعي، المتأخرين، فراجع في مظانه(2).وعلى فرض جواز الإتلاف فالقول بالضمان في الحرق دون الكسر بناءً

ص: 283


1- قواعد الأحكام 2: 226.
2- المراسم العلوية: 260؛ النهاية: 299؛ مختلف الشيعة 4: 459؛ مجمع الفائدة والبرهان 7: 539؛ جواهر الكلام 21: 352.

على وجود المنفعة المحلّلة في الرضاض، حيث ينتفع منه في النجارة مثلاً، فيكون مملوكاً ومحترماً محل تأمل؛ فإن الإحراق أيضاً من مصاديق النهي المأمور، فأدلة الضمانات لا تشمل ما كان بأمر الشارع للانصراف، وهو كذلك عرفاً، حيث إنه إذا امتثل العبد أمر مولاه واستلزم ذلك مؤونة لم يكن الضمان على العبد، هذا أولاً.

وثانياً: يشمله قوله تعالى: {مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ مِن سَبِيلٖۚ}(1)، وهو المحسن ثبوتاً لا توهماً، فلا بد من تحقق الإحسان الفعلي والفاعلي حتى يرفع عنه السبيل الشامل للضمانات، بمقتضى عموم (سبيل) الذي هو نكرة في سياق النفي.

نعم، لو توهم الإحسان لم يشمله الدليل وإن ادعاه البعض أيضاً، لكن لا وجه لذلك؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، لكن لو قلنا: إن المراد المحسن عرفاً لم يكن من التمسك بالعام.

وقد تطرق السيد الوالد في الفقه(2) إلى شواهد متعددة لذلك، ومنها(3): إحراق مسجد ضرار، حيث كان من الممكن الإبقاء على المادة وهدم الصورة، ومع ذلك أتلفت المادة أيضاً، ولم يرد جبره بالضمان، وكذاالأصنام التي هدمت ودفنت ولم يسلّم الرضاض لمالكها(4) وغيرها، التي يستفاد من مجموعها عدم الضمان في إتلاف الرضاض أيضاً.

ص: 284


1- سورة التوبة، الآية: 91.
2- الفقه 78: 426.
3- راجع بحار الأنوار 21: 263.
4- بحار الأنوار 38: 84.

كما أنه أشكل على العلامة أيضاً بأن ظاهر الأخبار عدم الضمان(1)، فتأمل.

نعم، لو كسره أولاً، بحيث خرج عن كونه آلة لهو أو صليب، لم يحق له حرقها، ولو فعل أمكن القول بالضمان.

ص: 285


1- الفقه 78: 425، وفيه: «وأما الضمان ففي إطلاقه نظر؛ إذ لا دليل على الضمان بعد كون ظاهر الأخبار عدم الضمان، حيث إن الإحراق والإتلاف والكسر ونحوها كلها من أقسام النهي عن المنكر؛ ولذا أتلف رسول اللّه| أصنام الكفار مع أن رضاضها لا شك في قيمتها».

الفصل الثالث عشر: في التنازع

اشارة

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الاختلاف في قيمة المغصوب

قال في الشرائع: «إذا تلف المغصوب واختلفا في القيمة فالقول قول المالك مع يمينه، وهو قول الأكثر، وقيل: القول قول الغاصب، وهو أشبه»(1).

ففي المسألة قولان:

الأول: يؤخذ بقول المالك مع يمينه، وهو قول الأكثر(2).

وأشكل(3) على نسبته إلى الأكثر في مفتاح الكرامة(4): بأن التتبع قادنا إلى أنه قول المفيد والعلامة لا غير.

واستدل له(5): أولاً: بأن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال، وقد مضىضعفه.

ص: 286


1- شرائع الإسلام 4: 775.
2- مسالك الأفهام 12: 249؛ جواهر الكلام 37: 223.
3- مفتاح الكرامة 18: 384.
4- فمن خصائص هذا الكتاب القيم أنه بحث كثيراً في الكتب الفقيهة حتى ذكر أسماء القائلين بالأقوال في المسائل الفقهية.
5- مفتاح الكرامة 18: 385؛ رياض المسائل 12: 293-294؛ جواهر الكلام 37: 223-224؛ الفقه 78: 456.

ثانياً: إن المالك أعرف بقيمة ماله من الغاصب.

وفيه نظر: فإن الأعرفية ليست من الأدلة الشرعيّة، بالإضافة إلى أن في كثير من الموارد لا يكون المالك أعرف، ودونك الواقع الخارجي، حيث لا يعرف المُلاك قيمة أثاث دورهم مثلاً، فالدليل أخص من المدعى.

وثالثاً: صحيحة أبي ولّاد: «قلت: فمن يعرف ذلك؟ قال(علیه السلام): أنت وهو، إمّا أن يحلف هو على القيمة فتلزمك، فإن رد اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك»(1).

والمفهوم منها أن القول قول المالك ابتداءً مع اليمين، فإن نكل انتقل إلى الغاصب.

وفيه نظر: حيث إنها لا تدل على المدعى، فإن ظاهرها كون الحق بينهما بأيّ صورة اتفقا، فالحق لا يعدوهما، فيكون الكلام في مورد التوافق بين الطرفين، وظاهره التخيير بين أحد الأمرين، إمّا أن يحلف هذا أو ذاك لا الترتيب.

ولذا المشهور شهرة عظيمة كادت أن تكون إجماعاً بين المتأخرين من بعد الشرائع لم يرتضوا هذا القول مع صحة الرواية.

وعلى فرض ظهورها في الترتب إلّا أنهم أعرضوا عن هذا المقطع منالرواية، مع عملهم بها في سائر المقاطع.

القول الثاني: يؤخذ بقول الغاصب مع يمينه وهو الأشبه(2).

ص: 287


1- الكافي 5: 290؛ وسائل الشيعة 25: 391.
2- الخلاف 3: 412؛ الدروس الشرعيّة 3: 117؛ مسالك الأفهام 12: 249؛ رياض المسائل 12: 293؛ جواهر الكلام 37: 223.

واستدل له(1): أولاً: بأنّ الغاصب منكر الزّيادة، والبيّنة على المدعي واليمين على من أنكر. والمفروض عدم البيّنة في المقام.

ثانياً: إن الأصل عدم ضمان الزّيادة.

ولا يخفى أن الصورة التي تطرق إليها الفقهاء هي ما هو الغالب من كون الغاصب مدّعياً للأقل، وأمّا لو انقلب الفرض - في صورة نادرة - بأن ادعى المالك الأقل، قيل: القول قوله بمقتضى انطباق الأدلة المذكورة، فإن الأصل عدم ضمان الزّيادة.

وفيه نظر؛ لأن الأصل إنما يجري في ما لو لم يقر بالزّيادة، وفي هذه الصورة الغاصب يقر بكونه مديوناً للمالك بالأكثر، فإن الإقرار دليل اجتهادي، ومعه لا تصل النوبة إلى الأصل.

وهكذا الكلام في عدم جريان الدليل الأول حيث الغاصب غير منكر، بل يقر فلا مجال للبيّنة(2).منتهى المراتب أن المالك يرى عدم حقه في الأكثر ويردّ إقرار المقر، وذلك كسائر موارد الإقرار، فلو أقرّ بأنه مديون لزيد وأنكره زيد لم يعلم شمول أدلة الإقرار له.

والحاصل: إنه لا تجري أدلة ترجيح قول المالك المدّعي للأقل على الغاصب، فالحاكم الشرعي يلزم الغاصب بأداء الأقل، وبما أن الغاصب

ص: 288


1- مسالك الأفهام 12: 249؛ كفاية الأحكام 2: 656؛ رياض المسائل 12: 293.
2- وهو محل تأمل، أما الأول فلأنّ المالك هو الذي يجري الأصل لا الغاصب، وقد ثبت في محله التفكيك بين الأحكام، وأما الثاني فلأنّ إقرار الغاصب بالأكثر غير ملزم للمالك، فإنه إقرار في حق الغير بخلاف البيّنة، حيث إنها إذا قامت شرعاً فيكون المالك ملزماً بالرضوخ لها (المقرر).

يعلم أنه مديون بالأكثر فلا بد له من التخلص منه بأيّ طريق كان، وإن لم يمكنه سلّمه للحاكم الشرعي، إلّا إذا كان إنكار المالك مساوقاً لإبراء الذمة، وليس كذلك دائماً، فإن الإنكار شيء والإبراء شيء آخر، حيث إنه إيقاع على المشهور(1) أو عقد، بناءً على رأي السيد الوالد(2)، فيكون تابعاً للقصد، ويظهر ذلك بوضوح في ما لو أنكر ديناً له على زيد وأدعى أن زيداً مشتبه في دعواه، ثم تذكر الدين حق له المطالبة؛ لأن الإنكار لم يكن إبراءً.

وهنا فرعان:

الفرع الأول: قال في الشرائع: «لو ادعى ما يعلم كذبه فيه - مثل أن يقول: ثمن الجارية حبة أو درهم - لم يقبل»(3).وإنما لم يقبل منه لعدم جريان أدلة ترجيح قول الغاصب، فلا يجري الأصل العملي مع العلم بكذبه وكذا اليمين؛ لأن العلم مقدّم على الدليل الاجتهادي.

ففي المسألة احتمالان(4):

الاحتمال الأول: سقوط قول الغاصب عن الاعتبار مطلقاً، فيكون القول قول المالك مع يمينه، فإن الحق لا يعدوهما.

ص: 289


1- الدروس الشرعيّة 3: 328؛ اللمعة الدمشقية: 101؛ مسالك الأفهام 6: 15؛ مفتاح الكرامة 22: 108.
2- الفقه 67: 129، وفيه: «... إذ مقتضى القاعدة اعتبار القبول في الجميع عيناً كان أو ديناً، كان بلفظ الهبة أو بلفظ الإسقاط أو الإبراء أو غير ذلك، وإن كان المشهور يقولون بعدم الاحتياج في لفظ الإبراء ونحوه إلى القبول».
3- شرائع الإسلام 4: 775.
4- كفاية الأحكام 2: 656؛ مفتاح الكرامة 18: 385.

واستدل له(1): بأن بناء العقلاء على قبول قول ذي اليد إنما هو في مورد الوثوق، أو لا أقل من الشك، والمنكر إنما يقبل قوله مع يمينه في الصورتين، أمّا مع العلم بكذبه فلا يوثق ببقية أقواله، ويؤيّده بعض الروايات المستفيضة في موارد أخر.

ومنها: عدم قبول الإمام علي(علیه السلام) لشهادة عادلين، حيث شهدا على سارق، ولما قطعت يده جاءا بشخص آخر وادعيا اشتباههما في الأول، فضمّنهما دية الأول، ولم يقبل شهادتهما على الثاني(2)، ولم يكن ذلك من باب عدم عدالتهما، بل لعدم الوثوق بهما.

لكنه محل تأمل، فليس مبنى قبول قول الغاصب بناء العقلاء حتى ندور مداره، بل ما دلّ على أن اليمين على مَن أنكر، وهو شاملللموردين.

كما أن الدليل أخص من المدعى، فقد يكذب أولاً ثم يطمئن بكلامه الثاني بعد توبته مثلاً، أو يبقى أمره مشكوكاً فيشمله الدليل.

وأمّا المؤيّد المذكور فلا يعلم وجه رد شهادتهما، فقد يكون لفسقهما، وقد يكون لدرء الحدود بالشبهات، وقد يكون لرد شهادة المشتبه، ولا جهة للعمل حتى يؤخذ به، فإن فعل المعصوم(علیه السلام) حجة في المقدار الذي يدل عليه.

وأمّا عدم ضمان الزائد فدليله الأصل لا بناء العقلاء، فكلّما شك في اشتغال الذمة كان الأصل البراءة، وهو مطلق يشمل الصورتين، إلّا أن يقال بالانصراف، لكن لا يعلم تحققه.

ص: 290


1- جامع المقاصد 6: 337؛ مفتاح الكرامة 18: 385.
2- الكافي 7: 384؛ وسائل الشيعة 27: 332.

والحاصل: إنه بناءً على مختار الشرائع(1) لو كذب المنكر مرة لم يسقط قوله عن الاعتبار كلياً، بل يؤخذ بقوله الثاني، فلو اعترف بأنه مديون لزيد بدرهم وشهد الشهود بأنه أكثر من ذلك، فصحح كلامه وقال مديون بعشرة أخذ بقوله، وإن ادعى زيد أنه مائة.

الاحتمال الثاني: رد كلام الغاصب ومطالبته بقيمة أخرى محتملة فيؤخذ بها.

وقد اختاره في شرح اللمعة(2) اطراداً لقاعدة (القول قول المنكر) حيثإنه إن سقط قوله في مورد فالدليل شامل لسائر الأقوال.

الفرع الثاني: ذكر في الجواهر(3): أنه لو ارتفعت القيمة السوقيّة واختلفا في كون التلف قبل الارتفاع أو بعده، ويأتي الكلام في حكم جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ أو أحدهما، حيث يستصحب عدم التلف إلى حين ارتفاع القيمة، وهو معارض لاستصحاب عدم ارتفاع القيمة إلى حين التلف، كما لو مات ابن وأب ولا يعلم زمان موتهما.

والمسألة مبنيّة على القول بضمان قيمة يوم التلف، إلّا أن الأقرب هو ضمان قيمة يوم الأداء، فلا يجري الفرع المذكور.

ولو شك في القيمة عند الأداء فالأصل عدم الزيادة.

المسألة الثانية: الاختلاف في زيادة صفة

اشارة

قال في الشرائع: «إذا تلف وادعى المالك صفة يزيد الثمن، كمعرفة

ص: 291


1- شرائع الإسلام 4: 775.
2- الروضة البهية 7: 59.
3- جواهر الكلام 37: 225.

صنعة، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن الأصل يشهد له»(1).

كما لو ادعى المالك أن الذهب المغصوب كان مصاغاً وأنكره الغاصب، ولم يكن هنالك طريق لمعرفة صدق أحدهما؛ لعدم وجود شهود في البين، وقد تلفت العين، فيحتمل ترجيح قول المالك، فيغرم الغاصب قيمة الصفة أيضاً، واستدل له بصحيحة أبي ولّاد: «يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين اكترى كذاوكذا»(2).

ومفادها أن القول قول المالك لا الغاصب، ولا فرق بين أن يدعي المالك زيادة الكراء وبين زيادة صفة تزيد بها القيمة.

وضعفه ظاهر؛ لأن صاحب البغل أقام شهوداً على دعوى الزّيادة، والبيّنة على المدعي، وهو خارج عن محل الكلام.

فمقتضى القاعدة كون الأصل عدم وجود الصفة فلا ضمان.

ويتفرع عليها فروع منها:

الفرع الأول: الاختلاف في نوع الصنعة

لو اتفقا في وجود أصل الصنعة واختلفا في نوعها(3)، كما لو غصب عبداً فمات وادعى المالك أنه كان يعرف الخياطة فتزيد قيمته مائة، وادعى الغاصب أنه كان يعرف النجارة فتزيد خمسيناً، فلا يجري الأصلان لتعارضهما.

وفي المقام مبنيان:

ص: 292


1- شرائع الإسلام 4: 775.
2- الكافي 5: 290؛ وسائل الشيعة 25: 391.
3- مفتاح الكرامة 18: 386؛ الفقه 78: 460.

المبنى الأول: إن الميزان في أمثال هذه الدعاوى المآل، ونتيجتها هنا زيادة المبلغ المضمون أو عدمها، والأصل عدم الزيادة.

المبنى الثاني: إن الميزان هو مصب الدعوى لا مآلها، وهو الأصح، فيكون تداعيا لا يرجح أحدهما على الآخر، بل يلاحظ ما في كتابالقضاء من القرعة أو قاعدة العدل والإنصاف أو غير ذلك، ولا يصل الأمر إلى أصل عدم الزّيادة؛ لكونه مسبباً لا تصل النوبة إليه مع وجود الطريق الشرعي في السبب.

الفرع الثاني: الاختلاف في تقدم الصفة وتأخرها

لو اختلفا في تقدم وتأخر الصفة(1)، ومآله إلى مقدار ضمان الأجرة، كما لو غصب عبداً وادعى المالك أنه من حين الغصب كان يعلم الصنعة، فيضمن أجرة الصنعة كل فترة الغصب، وادعى الغاصب أنه لم يكن يعلم ثم تعلم فيضمن بعض الفترة، وهنا اتفاق على أصل الصنعة ونوعها لكن الاختلاف في التقدم والتأخر، ويجري فيه أصالة عدم التقدم، حيث يشك إنه كان يعلم الصنعة في أول الأمر فالأصل عدمه، وهو من استصحاب العدم النّعتي، ولا معارض له، كما أنه ليس بمثبت؛ لأن لازمه عدم الضمان وهو حكم شرعي.

الفرع الثالث: الاختلاف في نوعية المغصوب

لو غصب كلباً فمات(2)، فادعى المالك كونه كلب صيد بألف دينار، وادعى الغاصب أنه كلب هراش لا قيمة له.

ص: 293


1- مفتاح الكرامة 18: 387؛ جواهر الكلام 37: 226؛ الفقه 78: 461.
2- الفقه 78: 461.

فقد احتمل أنه من قبيل التداعي فيلاحظ مصب الدعوى لا مآله، واحتمل أن الأصل ينفي كونه كلباً معلماً باستصحاب العدم النّعتي.إن قلت: إنه مثبت؛ لأن عدم الضمان نتيجة كونه كلب هراش لا عدم كونه معلّماً، فاستصحاب عدم كونه معلماً يثبت كونه هراشاً، فلا ضمان.

قلنا: لا نريد إثبات كونه هراشاً حتى يكون مثبتاً، بل نريد إثبات أنه لم يكن معلّماً فلا ضمان؛ لأن الضمان ثابت على المعلّم.

وبعبارة أخرى: هنالك عام يحكم بسلب القيمة عن الكلب واستثنى منه المعلّم، وكلّما شك أنه من الاستثناء أم لا جرى حكم العام عليه، ولا يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فتأمل.

الفرع الرابع: غصب خمر اتخذ للتخليل وتلفه

لو غصب خمراً اتخذه المالك للتخليل فتلف(1)، فادعى المالك أنه تلف عنده بعد أن صار خلّاً، وادعى الغاصب أنه تلف حين كان خمراً.

والفرق أنه لا ضمان بناءً على دعوى الغاصب؛ لأن المسلم لا يملك الخمر، فلا يملك ثمنه، بخلاف دعوى المالك.

وهنا بحثان مبنائي وبنائي:

أمّا الأول: فقد مضى أنه لا دليل على خروج الخمر عن ملك المسلم في ما لو كان قصده مشروعاً إلّا الإجماع، وهو لبّي لا يشمل إلّا الموارد المقطوعة، كاتخاذها للشرب دون التخليل، وعلى فرض خروجها عن الملك فإن حق الاختصاص باقٍ، وهو يعوّض بالمال عرفاً، ولم يردع عنهالشارع، بل عمومات الأدلة شاملة للمعاوضة على الحقوق، كحق القسم

ص: 294


1- جواهر الكلام 37: 226؛ الفقه 78: 461.

وما أشبه، ومنها: {أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ}(1).

وعلى فرض عدم الملكيّة والماليّة؛ لعدم المملوكية؛ ولعدم ثبوت حق الاختصاص، جرى استصحاب بقاء خمريته فلا ضمان.

نعم، يمكن دعوى عدم جريانه في بعض الصور، كما لو تلف بعد أشهر عند الغاصب، فإن الخمر يصبح خلاً خلال أربعين يوماً، لكنه مورث للظن عادة وليس بحجة، إلّا في ما عمل به العقلاء، فيكون ظناً معتبراً، فيكون القول قول المالك.

الفرع الخامس: الاختلاف في تعيّب المغصوب

لو ادعى الغاصب تحقق العيب عند المالك وأنكره المالك، فالقول قول أيٍّ منهما؟

كما لو غصب فرساً فمات، فادعى الغاصب أنه كان أعور حين الغصب، وادعى المالك أنه صار كذلك عند الغاصب، فأصل العيب مسلّم لكن الاختلاف في زمان حدوثه. والمسألة محلُ خلافٍ.

فلو كان الاستصحاب مطابقاً لأحدهما بلا معارض، ولم يكن من قبيل المتقدم والمتأخر أخذ به، وإلّا لم يجرِ ولو على بعض المباني.

بيانه: قد يكون من قبيل مجهولي التاريخ، بحيث جهل زمان العوروزمان الغصب، فاستصحاب عدم العور إلى زمان الغصب معارض باستصحاب عدم الغصب إلى حين العور، وعلى فرض عدم التعارض فهو مثبت؛ فإن لازمه إثبات العور بعد الغصب في الأول، وقبل الغصب في الثاني، وهو لازم عقلي.

ص: 295


1- سورة المائدة، الآية: 1.

ولو كان أحدهما معلوم التاريخ - كما لو علم وقت الغصب وجهل وقت العور - فالمباني مختلفة، حيث يرى بعض الفقهاء(1) استصحاب عدم العور إلى حين الغصب بلا معارض؛ لعدم جريان الاستصحاب في الطرف الآخر؛ لأنه معلوم.

وأشكل(2) عليه آخرون بإمكان جريانه في الطرف المعلوم أيضاً، حيث لا يراد استصحاب زمان الغصب لأنه معلوم، بل يستصحب وصف الغصب، أي: استصحاب عدم الغصب إلى حين العور.

وحتى لو قلنا بجريان الاستصحاب فهو مثبت.

وللمسألة فروع كثيرة تظهر أحكامها مما سبق.

المسألة الثالثة: لو باع الغاصب شيئاً ثم ملكه بسبب صحيح

قال في الشرائع: «إذا باع الغاصب شيئاً ثم انتقل إليه بسبب صحيح، فقال للمشتري: بعتك ما لا أملك وأقام بينة، هل تسمع بينته؟ قيل: لا؛ لأنه مكذب لها بمباشرة البيع، وقيل: إن اقتصر على لفظ البيع ولم يضمإليه من الألفاظ ما يتضمن ادعاء الملكية قبلت وإلّا ردّت»(3).

والسبب الصحيح كالإرث، كما لو باع مال أبيه ثم ورثه.

وأمّا أصل المسألة - وهي التي تبحث في كتاب البيع - وهي ما لو باع شيئاً ثم ادعى أنه لم يملكه حين البيع لم تسمع دعواه في حق غيره؛ لأنه قد انتقل إلى المشتري بظاهر الشرع، إلّا أن يقيم دليلاً شرعيّاً، بالإضافة إلى

ص: 296


1- مفتاح الكرامة 18: 191؛ جواهر الكلام 37: 227.
2- الفقه 78: 461-462.
3- شرائع الإسلام 4: 775.

جريان أصالة الصحة في بيعه، ولا وجه لرفع اليد عنها بعد ذلك(1).

وأمّا ما تطرق إليه صاحب الشرائع ففيه بحث مبنائي وبنائي:

أمّا البحث المبنائي فهو: لو باع الفضولي ثم انتقل المبيع إليه بسبب صحيح قهري - كالإرث - أو غير قهري - كالشراء - فهل الأمر بحاجة إلى إجازته، فإن لم يجزْ بطل، أو أن نفس الانتقال بمثابة الإجازة؟

فلو ذهبنا إلى الثاني انتفت المسألة التي نحن فيها من الأساس.

وأمّا على الأول كما ذهب إليه بعض الفقهاء(2) - حيث لا وجه شرعي لتصحيح البيع وإن ساعده الاعتبار، لكنه ليس بحجة - فيشك أنه هل كان واقعاً مِلْكه حين البيع، أو أنه يريد إبطال المعاملة بهذه الطريقة، فيأتيالكلام البنائي الذي ذكره في الشرائع من القولين.

ومقتضى القاعدة أنه مع البيّنة لا يصل الأمر إلى القولين المذكورين لحجيتها. ومع قطع النظر عن هذا فالقولان محل تأمل.

أمّا القول الأول: حيث يرى عدم سماع البيّنة؛ لأنه مكذّب لها بمباشرة البيع.

فيرد عليه: إنه لا اعتبار بالتكذيب، فإن مَن شهدت له البيّنة ألزم بلوازمها وإن كذبها، كما لو ادعى الزوجيّة فشهدت له البيّنة، ألزم بالنفقة وان كذبها بعد ذلك، فإن عمومات أدلة حجية البيّنة تشمله.

وأمّا القول الثاني: المفصل بين اقتصاره على لفظ البيع من دون ضم ما

ص: 297


1- وفيه نظر؛ لأن أصالة الصحة تحكم بصحة بيعه لا بكونه مالكاً حين البيع لصحة بيع غير المالك كالوكيل والولي، بل حتى الفضولي، بالإضافة إلى تعارضها مع أصالة الصحة حين الإنكار فيتساقطان (المقرر).
2- كتاب المكاسب 3: 435.

يدل على الملكية فتقبل البينة وإلّا ردت، فدليله هو أنه في الصورة الأولى لم يدعِ الملكية حتى ينافي قوله الثاني، بخلاف الصورة الثانية.

فيرد عليه: أولاً: أنّه لا معنى لرد البيّنة، فهي مرجحة على دعواه تصديقاً أو تكذيباً.

وثانياً: إن البائع وإن لم يدعِ الملكية إلّا أن حمل فعله على الصحة يدلّ على كونه ملكاً.

فمقتضى القاعدة أنه لو قلنا: إن الانتقال إليه بمثابة الإجازة صحت المعاملة، سواء ادعى ملكيته سابقاً أم لا.

ولو قلنا: إنه بحاجة إلى إجازة جديدة فإن أقام بيّنة على عدم ملكيتهقبلت، وإن لم يقم بيّنة لم يقبل دعواه الثاني، ويحمل بيعه السابق على الصحة.

فرع: لو باع شيئاً ثم اعترف أنه كان مغصوباً وصدقه المغصوب منه، لم تسمع دعواه؛ لكونه مدّعياً أيضاً، فالأمر بحاجة إلى البيّنة.

وأمّا المشتري فإن كذبهما كان منكراً وعليه اليمين، وإن أظهر عدم العلم حلف عليه.

ثم الإقرار المذكور وإن لم يسمع منه في العين إلّا أنّه إقرار بإتلاف مال المغصوب منه، فيغرم له بالأكثر من ثمن المثل والمسمى، كما في القواعد(1)، فلو باع ما قيمته ألف بمائة أو بالعكس ضمن للمالك ألف.

وأشكل عليه في الجواهر(2) بأن الصور متعددّة، فلو أجاز المغصوب منه غرم الثمن فقط، سواء كان أكثر أم أقل، كما في سائر البيوع الفضوليّة، حيث

ص: 298


1- قواعد الأحكام 2: 240.
2- جواهر الكلام 37: 230-231.

إن الإمضاء بمثابة النقل أو الكشف عن صحة البيع، فيكون الثمن للمالك.

ولو لم يأذن غرم القيمة فقط؛ لأنه أتلف مال الغير، فعليه ضمان القيمة في القيمي. وأمّا الزّيادة فيرجعها للمشتري ولا حق له فيه؛ لأنه أكل للمال بالباطل.لكن السيد الوالد في الفقه(1) لم يرتضِ إطلاق كلام الجواهر، فإن المغصوب منه إن كان جاهلاً بكونه مالكاً للمبيع كفاه إقرار البائع في جواز أخذ كل الثمن، وإن علم بكذب البائع لم يجزْ له أخذ المال إطلاقاً، وأمّا البائع فمع علمه بكونه غاصباً يكون ما ذكره الجواهر تامّاً.

ولو ادعى البائع أنه لم يغصبه وإنما باعه بالوكالة أو الولاية أو النيابة، فلا يحق له أن يرجع الزّيادة للمشتري؛ لأنها للمالك يرجعه إليه بأيّ طريقة كان.

أمّا بناءً على كلام الجواهر - في ما لو كان غاصباً ورد المالك المعاملة - فإن الزّيادة ليست للبائع؛ لأنه أكل للمال بالباطل، وليست للمشتري لصحة المعاملة بظاهر الشرع، وليست للمالك؛ لأنه رد المعاملة، فيحتمل كونها مجهول المالك، فهل هو للمغصوب منه، في ما لو كان مالكاً واقعاً وأجاز، أو للغاصب في ما لو لم يكن غاصباً وقد صحت المعاملة، أو للمشتري في ما لو كانت المعاملة باطلة فيعود أمره إلى الحاكم الشرعي؟ احتمالات، كما يحتمل جريان قاعدة العدل والإنصاف حيث إن المال لأحد الثلاثة قطعاً فيقسّم بينهم.

ص: 299


1- الفقه 78: 469.

المسألة الرابعة: الاختلاف في كيفية ردّ المغصوب

وفيه فروع:الفرع الأول: قال في الشرائع: «إذا مات العبد فقال الغاصب رددته قبل موته، وقال المالك: بعد موته، فالقول قول المالك مع يمينه، وقال في الخلاف: ولو عملنا في هذه بالقرعة كان جائزاً»(1).

ومقتضى القاعدة ثبوت الضمان بمجرد الغصب، فرفعه بحاجة إلى دليل شرعي هو البيّنة، فلا تصل النوبة إلى ما ذكره بعض الفقهاء من استصحاب الحياة إلى حين الرد فيسقط الضمان؛ لأنه معارض باستصحاب عدم الرد إلى حين الموت فينتج الضمان، كما هو الحال في كل مجهولي التاريخ، بل حتى في ما لو كان أحدهما معلوماً على بعض المباني، فالاستصحاب المذكور لرفع الضمان أو إثباته غير تام. نعم، بمجرد الغصب ثبت الضمان فيمكن استصحابه.

كما لا تصل النوبة إلى القرعة؛ لأنه مع جريان دليل الضمان ينتفي موضوع دليل القرعة، الذي هو المشكل.

ولو أقام الطرفان البيّنة قال بعض بالتساقط(2)، لكنه غير تام حيث لا تعارض، فإن البيّنة على المدعي ولا اعتبار ببيّنة المنكر، وهنا لا خلاف في أصل الضمان وإنما في سقوطه، فإن الموت إن كان متقدّماً لم يسقط، وإن كان الرد متقدماً سقط، والغاصب يدعي السقوط فترجح بينته ولا اعتبار ببينة المالك.

ص: 300


1- شرائع الإسلام 4: 775.
2- الدروس الشرعيّة 3: 117.

وعلى فرض كونه من باب التداعي فالوظيفة قاعدة العدل والإنصاف.

الفرع الثاني: لو اختلفا في أنه رد المغصوب أو بدله أو لا؟ أو اختلفا في رد بعضه، فالقول قول المالك لاستصحاب عدم الرد.

ولو ادعى الغاصب رجوع نفس العين إلى المالك، وادعى المالك أنه أرجع مثله لا عينه فالقول قول المالك مع يمينه، فيأمره الحاكم بإرجاع العين، فإن امتنع قال بعض الفقهاء(1): يحبس حتى يؤدّيها؛ لكونه ممتنعاً عن تسليم الحق المالي مع قدرته، وقال بعضهم: يحبس حتى يتم التحقيق(2)، وقال آخرون(3): يطالبه الحاكم بالبدل مِثلاً أو قيمةً، وهو الأرجح.

وذلك لأن أدلة حبس الممتنع عن أداء الحقوق المالية لا يشمل مثله، حيث إنه يدّعى الأداء ومستعد لأداء البدل أيضاً، فلا يصدق عليه الممتنع، وعلى فرض الصدق فالدليل منصرف عنه.

الفرع الثالث: لو أدى الغاصب العين(4)، فقال المالك: إنه ليس عينه، بل مثله. فهنا صورتان:الأولى: أن يكون قول المالك قبل استلام العين، وفي هذه الصورة القول قول المالك مع اليمين؛ لأنه منكر، والحاكم يلزم الغاصب بإعادة العين، وإلّا فيجري فيه حكم الامتناع الذي ذكرناه.

الثانية: أن يكون قول المالك بعد استلام العين، وفي هذه الصورة يحتمل

ص: 301


1- جواهر الكلام 37: 235.
2- الفقه 78: 473.
3- مفتاح الكرامة 18: 387-388.
4- الفقه 78: 474.

انقلاب القضية إلى التداعي، فليس المالك منكراً، بل مدعيّاً أخذ ما لم يكن له، فيتعارضان فيتقدم مَن أتى بالبينة أو حلف ونكل الآخر، وإن تعارضت البينتان أو حلفا معاً اكتفي بما اعطاه - إن لم يدّعِ المالك أن عينه أكثر قيمة منه - وذلك لأن ما أدّاه الغاصب إما العين وإما البدل ويكتفى بهذا البدل؛ لأنه لا طريق إلى إثبات العين، فتأمل.

الفرع الرابع(1): لو اختلفا في النوع فقال الغاصب: غصبت اللمعة مثلاً، وقال المالك: المكاسب، كان من التداعي، ويسقط إقرار الغاصب بإنكار المقر له، حيث لا تشمل أدلة الإقرار صورة إنكار المقر له، لكن من المسلم ثبوت كتاب في ذمة الغاصب دون العنوان، فلو تلف وكان قيميّاً ثبت في ذمته الأقل من القيمتين، بناءً على ملاحظة المآل في الاختلافات، وأمّا بناء على المصب فالقرعة.

المسألة الخامسة: الاختلاف في ما على المغصوب

قال في الشرائع: «إذا اختلفا في ما على العبد من ثوب أو خاتم فالقولقول الغاصب مع يمينه؛ لأن يده على الجميع»(2).

فلو غصب عبداً وحين تسليمه إلى مالكه اختلفا في خاتمه أو ثوبه، فقال المالك: غصبته وهما معه، وقال الغاصب: بل هما لي ألبستهما له بعد الغصب، وكذا لو غصب داراً ثم اختلفا في الأثاث، فالقول قول الغاصب لقاعدة اليد التي هي أمارة الملكية، فإن العبد تحت يد الغاصب وقد خرج هو عن القاعدة للعلم، فيبقى غيره تحتها.

ص: 302


1- الفقه 78: 474.
2- شرائع الإسلام 4: 775.

وأمّا سبق يد المالك فلا يحتج به؛ لعدم إحراز ترتّبها عليها، وعلى فرض الإحراز فإن أمارة الملك اليد الفعلية لا السابقة.

إن قلت: إن يده يد ضمان فكيف تدل على الملكية؟

قلت: هنا دليلان: الأول: «على اليد ما أخذت» والثاني: (اليد أمارة الملك) وكلّما علم أنه ليس ملكاً سقط دليل اليد فيه، وأمّا مع عدم العلم فلا تنافي بين الدليلين، فتكون يده يد ضمان بالنسبة إلى العين، وأمّا بالنسبة إلى غيره - كالخاتم - فاليد يد ملك، فإن إطلاق دليل اليد تشمله، ولا تنافي بينهما حتى يقال بالتعارض والبحث عن المرجح، فالأول يحكم بضمان العبد والثاني بملكية الخاتم.

سبحان ربك ربّ العزة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد للّه ربّ العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله الطّاهرين.

ص: 303

ص: 304

فهرس المصادر

اختيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشي، للشيخ أبي جعفر الطوسي، نشر: مؤسسة آل البيت^، قم، 1404ق.

إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، تأليف: العلامة الحلي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الأولى، 1410ق.

الاستبصار في ما اختلف من الأخبار، تأليف: الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران، 1363ش.

الأقطاب الفقهية على مذهب الإمامية، تأليف: محمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور، نشر: مكتبة السيد المرعشي النجفي، قم، الطبعة الأولى، 1410ق.

الأمالي، للشيخ الصدوق، أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الناشر: مركز الطباعة والنشر مؤسسة البعثة، 1417ق.

الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع، المؤلف: العلامة الشيخ حسين آل عصفور، الناشر: مكتبة أنوار الهدى، المطبعة: مهر، إصدار مجمع البحوث العلميّة.

ص: 305

إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، تأليف: فخر المحققين، الطبعة الأولى، 1387ق.

بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار^، تأليف: الشيخ محمد باقر المجلسي، الناشر: مؤسسة الوفاء، بيروت، الطبعة الثانية، 1403ق.

بحر الفوائد في شرح الفرائد، تأليف: محمد حسن الآشتياني، الطبعة الأولى، قم، 1403ق.

بلغة الفقيه، مجموعة بحوث ورسائل وقواعد فقهية، تصنيف: السيد محمد آل بحر العلوم، الناشر: منشورات مكتبة الصادق طهران ناصر خسرو، الطبعة الرابعة، 1403ق.

تحرير الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة، المؤلف: العلّامة الحلّي، الطبعة الأُولى، 1420ق.

تحرير المجلة، تأليف: الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، الناشر: المكتبة المرتضوية وبطبعتها الحيدرية، النجف الأشرف، 1359ق.

تذكرة الفقهاء (ط. ق)، تأليف: العلامة الحلي، الحسن بن يوسف، الناشر: المكتبة الرضوية لإحياء الآثار الجعفريّة.

تسهيل المسالك إلى المدارك في رؤوس القواعد الفقهية، تأليف: الملا حبيب اللّه الشريف الكاشاني، الناشر: مكتبة السيد المرعشيالنجفي،

ص: 306

المطبعة العلمية، قم، 1404ق.

تلخيص الخلاف وخلاصة الاختلاف، تأليف: الشيخ مفلح بن حسن بن رشيد الصيمري، الناشر: مكتبة السيد المرعشي النجفي العامة قم المقدسة، 1408ق.

التنقيح الرائع لمختصر الشرائع، تأليف: الشيخ مقداد بن عبد اللّه السيوري الحلي، الناشر: مكتبة السيد المرعشي،1404ق.

التنقيح في شرح المكاسب، كتاب البيع، تقرير أبحاث السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي.

تهذيب الأحكام، تأليف: الشيخ الطوسي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران، 1364ش.

جامع أحاديث الشيعة، تأليف: السيد حسين الطباطبائي البروجردي، المطبعة العلمية، قم، 1399ق.

جامع الخلاف والوفاق بين الإمامية وبين أئمة الحجاز والعراق، تأليف: علي بن محمد بن القمي السبزواري، الناشر: انتشارات زمينه سازان ظهور إمام عصر، 1379ش.

جامع المدارك في شرح المختصر النافع، تأليف: السيد أحمد الخوانساري، الناشر: مكتبة الصدوق، طهران، الطبعة الثانية، 1355ش.

جامع المقاصد في شرح القواعد، تأليف: الشيخ علي بن الحسين الكركي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، الطبعة

ص: 307

الأولى، قم، 1408ق.

الجامع للشرائع، تأليف: الشيخ يحيى بن سعيد الحلي الهذلي، الناشر: مؤسسة سيد الشهداء العلمية، 1405ق.

جواهر الفقه، تأليف: القاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي، الناشر: مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الأولى، 1411ق.

جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، تأليف: الشيخ محمد حسن النجفي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1367ق.

حاشية المختصر النافع، المؤلف: الشهيد الثاني زين الدّين بن علي العاملي، الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، 1422ق.

حاشية المكاسب، تأليف: الحاج ميرزا علي الإيرواني الغروي، الطبعة الثانية، 1379ش.

حاشية المكاسب، تأليف: السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، قم، 1378ق.

حاشية كتاب المكاسب، المؤلف: الشيخ رضا الهمداني، الطبعة الأولى، المطبعة ستاره، قم، 1420ق.

حاشية كتاب المكاسب، تأليف: الشيخ محمد حسين الإصفهاني، الطبعة الأولى، 1418ق.

ص: 308

حاشية كتاب المكاسب، تأليف: المولى محمد كاظم الآخوند الخراساني، الناشر: وزارة إرشاد إسلامي، الطبعة الأولى، 1406ق.

الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، تأليف: الشيخ يوسف البحراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

الخصال، للشيخ الصدوق، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، 1403ق.

خلاصة عبقات الأنوار، المؤلف: السيد حامد النقوي، الناشر: مؤسسة البعثة، قسم الدراسات الإسلامية، طهران، 1405ق.

الخلاف، تأليف: شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم 1407ق.

الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة، تأليف: الشهيد الأول، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، الطبعة الثانية، قم، 1417ق.

دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام، للقاضي النعمان، نشر: دار المعارف، القاهرة، 1383ق.

رسائل فقهية، للشيخ مرتضى الأنصاري، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الأولى، 1414ق.

الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقية، للشهيد السعيد: زين الدين

ص: 309

الجبعي العاملي (الشهيد الثاني)، الطبعة الثانية، 1398ق.رياض المسائل، تأليف: السيد علي الطباطبائي، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، الطبعة الأولى، قم، 1412ق.

السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، تأليف: الشيخ ابن إدريس الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، الطبعة الثانية، قم، 1410ق.

شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، تأليف: المحقق الحلي، الناشر: انتشارات استقلال، طهران، الطبعة الثانية، 1409ق.

شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار^، للقاضي النعمان، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

شرح تبصرة المتعلمين، تأليف: الشيخ ضياء الدين العراقي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، الطبعة الأولى، 1414ق.

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تأليف: إسماعيل بن حمّاد الجوهري، الناشر: دار العلم للملايين، لبنان، الطبعة الاُولى، 1376ق.

العروة الوثقى، تأليف: السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، مع تعليقات عدة من الفقهاء العظام، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الأولى، 1417ق.

علل الشرائع، تأليف: الشيخ الصدوق، منشورات المكتبة الحيدرية

ص: 310

ومطبعتها في النجف، 1385ق.عوالي اللئالي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة، للشيخ محمد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور، الطبعة الأولى، 1403ق.

غاية المراد في شرح نكت الإرشاد، تأليف: الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي، حاشية الإرشاد: للشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي، تحقيق ونشر: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، قم، 1414ق.

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام، تأليف: الشيخ المفلح الصُميري البحراني، الناشر: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1420ق.

الغدير في الكتاب والسنة والأدب، تأليف: الشيخ عبد الحسين الأميني النجفي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1397ق.

غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع، تأليف: السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي، الطبعة الأولى، 1417ق.

فقه الصادق(علیه السلام)، تأليف: السيد محمد صادق الحسيني الروحاني، الناشر: مدرسة الإمام الصادق(علیه السلام)، الطبعة الثالثة، 1412ق.

الفقه، موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي، تأليف: السيد محمد الشيرازي، الناشر: دار العلوم، بيروت، الطبعة الأولى، 1407ق.

فوائد الأصول، تأليف: الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، مع

ص: 311

تعليق: الشيخ ضياء الدين العراقي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، 1404ق.قواعد الأحكام، تأليف: العلامة الحلي، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الأولى، 1413ق.

الكافي، تأليف: الشيخ محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة الثالثة، 1388ق.

كتاب الإجارة، تأليف: ميرزا حبيب اللّه الرشتي، طبعة حجرية.

كتاب الغصب، تأليف: ميرزا حبيب اللّه الرشتي، طبعة حجرية.

كتاب القضاء، تأليف: الشيخ ميرزا محمد حسن الآشتياني، الناشر: منشورات دار الهجرة، قم، الطبعة الثانية، 1404ق.

كتاب المكاسب والبيع، تقرير أبحاث الميرزا النائيني، بقلم الشيخ محمد تقي الآملي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.

كتاب المكاسب، للشيخ مرتضى الأنصاري، الناشر: مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1420ق.

كشف الرموز في شرح المختصر النافع، تأليف: الفاضل الآبي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1408ق.

ص: 312

كشف اللّثام عن قواعد الأحكام، تأليف: الفاضل الهندي، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الأولى، 1416ق.كفاية الفقه المشتهر ب- (كفاية الأحكام)، تأليف: الشيخ محمد باقر السبزواري، طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، 1423ق.

كنز الفوائد في حل مشكلات القواعد، المؤلف: السيد عميد الدين عبد المطلّب بن محمد الأعرج، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، الطبعة الأولى، 1416ق.

لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، نشر أدب الحوزة، قم، 1363ق.

اللمعة الدمشقية، تأليف: الشهيد الأول، محمد بن جمال الدين مكي العاملي، الناشر: دار الفكر، قم، الطبعة الأولى، 1411ق.

مباحث الأصول، تقرير أبحاث السّيد محمد باقر الصدر، الطبعة الأولى، 1407ق.

المبسوط في فقه الإمامية، تأليف: الشيخ الطوسي، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، للشيخ أحمد

ص: 313

الأردبيلي، منشورات: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة.

المختصر النافع في فقه الإمامية، تأليف: العلامة الحلي، منشورات: قم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة، الطبعة الثانية، 1402ق.مختلف الشيعة، تأليف: العلامة الحلي، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، الطبعة الأولى، 1412ق.

المراسم العلوية في الأحكام النبوية، للشيخ أبي يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي، الناشر: المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت^، 1414ق.

مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، تأليف: زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، تحقيق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامية، الطبعة الأولى، 1413ق.

مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تأليف: الشيخ ميرزا حسين النوري الطبرسي، تحقيق مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1408ق.

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، المؤلف: الشيخ أحمد بن محمد مهدي النراقي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1415ق.

ص: 314

مصباح الفقاهة، تقرير أبحاث السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، الناشر: مكتبة الداوري، قم، الطبعة الأولى.

مصباح الفقيه، تأليف: الشيخ رضا الهمداني، نشر: المؤسسة الجعفرية لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1417ق.مفاتيح الشرائع، تأليف: محمد محسن الفيض الكاشاني، نشر: مجمع الذخائر الإسلامية، مطبعة الخيام، قم، 1401ق.

مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، تأليف: السيد محمد جواد الحسيني العاملي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الأولى، 1419ق.

مقابس الأنوار ونفايس الأسرار في أحكام النبي المختار وآله الأطهار^، المؤلف: الشيخ أسد اللّه الكاظمي.

المقنع، تأليف: الشيخ الصدوق، الناشر: مؤسسة الإمام الهادي(علیه السلام)، 1415ق.

ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، تأليف: الشيخ محمد باقر المجلسي، نشر: مكتبة السيد المرعشي، قم، 1406ق.

من لا يحضره الفقيه، تأليف: الشيخ الصدوق، الناشر: منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية في قمّ المقدّسة، الطبعة الثانية.

مناقب آل أبي طالب^، تأليف: الحافظ ابن شهرآشوب، الناشر: المكتبة والمطبعة الحيدرية في النجف الأشرف، 1376ق.

ص: 315

منتهى الدراية في توضيح الكفاية، تأليف: السيد محمد جعفر الجزائري المروج، الناشر: مؤسسة دار الكتاب (الجزائري) للطباعة والنشر، قم، الطبعة السادسة، 1415ق.

منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، تأليف: الحاج ميرزا حبيب اللّهالهاشمي الخوئي، منشورات دار الهجرة، الطبعة الرابعة، قم.

منية الطالب في شرح المكاسب، تقرير درس الميرزا محمد حسين النائيني، المقرر: الشيخ موسى بن محمد النجفي الخوانساري، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين قم المشرفة، الطبعة الأولى، 1418ق.

مهذب الأحكام، تأليف السيد عبدالأعلى السبزواري، الناشر: مؤسسة المنار، 1413ق.

المهذب البارع في شرح المختصر النافع، تأليف: الشيخ أحمد بن محمد بن فهد الحلي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1407ق.

المهذب، تأليف: الشيخ عبد العزيز بن البراج، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، 1406ق.

المؤتلف من المختلف بين أئمة السلف، تأليف: الشيخ فضل بن الحسن الطبرسي، نشر: مجمع البحوث الإسلامية (مشهد)، مطبعة سيد الشهداء(علیه السلام)، قم، الطبعة: الأولى، 1410ق.

ص: 316

النهاية في غريب الحديث والأثر، تأليف: ابن الأثير، الناشر: مؤسّسة إسماعيليان، قم.

النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، تأليف: الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، الناشر: انتشارات قدس محمدي، قم.نهج الفقاهة، تعليق على كتاب البيع من مكاسب، تأليف: السيد محسن الطباطبائي الحكيم، الناشر: انتشارات 22 بهمن، قم.

النّور الساطع في الفقه النافع، تأليف: الشيخ علي، نجل الشيخ محمد رضا، الناشر: مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1383ق.

هداية الأمة إلى أحكام الأئمة^، تأليف: الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي، الناشر: مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، الطبعة الأولى، 1412ق.

وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تأليف: الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم المشرفة، الطبعة الثانية، 1414ق.

الوسيلة إلى نيل الفضيلة، تأليف: الشيخ محمد بن علي الطوسي المعروف بابن حمزة، نشر: مكتبة السيد المرعشي النجفي، قم، 1408ق.

ص: 317

ص: 318

فهرس المحتويات

كتاب الغصب

تمهيد في تعريف الغصب 7

الفصل الأول: في بعض المصاديق 18

المصداق الأول: غصب العقار 18

المسألة الأولى: في كيفية غصب الأرض 18

المسألة الثانية: في غصب بعض الدار 20

المسألة الثالثة: اشتراك الغاصب مع المالك 21

المسألة الرابعة: الغصب من المالك أو الغاصب 22

المسألة الخامسة: ضمان الغاصب ما بيد المالك 22

المسألة السادسة: إسكان الغاصب غيره 24

المسألة السابعة: في ضمان العين 25

المسألة الثامنة: في ضمان المنفعة 25

المسألة التاسعة: الغصب من بعض الجهات 27

المسألة العاشرة: مقدار الضمان 27

المسألة الحادية عشرة: في اختلاف مقدار غصب العين واستيفاء المنفعة 28

المصداق الثاني: غصب الدابّة 29

المصداق الثالث: غصب الوقف 34

ص: 319

فرع: مستحق بدل الضمان 36

المصداق الرابع: غصب الحر 36

البحث الأول: في ضمان الدية لو مات 37

البحث الثاني: في ضمان منافع الحرّ 44

المصداق الخامس: غصب الخمر 52

المسألة الأولى: غصب الخمر من المسلم 52

المسألة الثانية: غصب الخمر من الكافر والمخالف 57

1- خمر الذمي 57

2- فقاع المخالف 57

3- خمر الكافر المعاهد والمحايد 58

فرع: الاختلاف في حقيقة المتلَف 59

المسألة الثالثة: كيفية ضمان الخمر 59

فرع: ضمان الخمر بين ذميين 62

الفصل الثاني: في تعاقب الأيدي على المغصوب 65

المسألة الأولى: ضمان الجميع 65

فروع تتعلق بالمسألة 68

المسألة الثانية: براءة ذمة الجميع بالأداء 69

إمكانية اشتغال الذمم بمال واحد 70

المسألة الثالثة: أجرة البدل 71

المسألة الرابعة: ضمان النماء التالف 72

الفصل الثالث: في موجبات الضمان 73

السبب الأول: المباشرة في الإتلاف 73

ص: 320

السبب الثاني: التسبيب في الإتلاف 74

البحث الأول: دليل ضمان السبب 74

البحث الثاني: ضابطة التسبيب 77

البحث الثالث: شروط ضمان السبب 79

فرع: في حفر الخندق لمنع اللصوص 88

البحث الرابع: اجتماع السبب مع المباشر 89

المقام الأول: في الضامن 89

المقام الثاني: في كيفية الضمان 92

المقام الثالث: استثناء المباشر الضعيف 93

البحث الخامس: أقسام المباشر 95

القسم الأول: المباشر المُلجأ 95

القسم الثاني: المباشر المكرَه 96

القسم الثالث: المباشر المغرور 102

البحث السادس: لو تصرف في ملكه فأضرّ بالغير 107

البحث السابع: الإلقاء في المسبعة 112

الأول: إلقاء الصغير 112

فرع: النقل إلى المضيعة 113

فرع: الإلقاء في المخوفة 114

الثاني: إلقاء الكبير في المسبعة 115

البحث الثامن: الطريق إلى معرفة الأقوى 115

البحث التاسع: تساوي المباشر والسبب 117

البحث العاشر: أقسام الضمان في السبب 118

ص: 321

البحث الحادي عشر: فك قيد دابة الغير 119

الفرع الأول: لو أفسدت الدابة بعد إطلاقها 120

الفرع الثاني: تلفها بعد الإطلاق 120

الفرع الثالث: الإسراع في عمليّة الإطلاق 120

الفرع الرابع: الأجرة المترتبة على الإطلاق 121

الفرع الخامس: لو زادت بالإطلاق 122

الفرع السادس: الإطلاق المأمور به 124

الفرع السابع: ترك الإطلاق المأمور به 125

ملحقات 126

المسألة الأولى: دلالة السارق 126

المسألة الثانية: فتح غطاء الإناء 126

المسألة الثالثة: تبخر ما في الإناء 127

البحث الثاني عشر: الأصل عند الشك في الضمان 127

الفصل الرابع: في وجوب رد العين المغصوبة 130

المسألة الأولى: الغاصب المجنون والصبي 131

المسألة الثانية: الإسلام بعد الغصب 133

المسألة الثالثة: اعتبار العنوان في رد المغصوب 136

المسألة الرابعة: امتناع الدائن عن استلام الدين 138

المسألة الخامسة: الجمع بين البدل والمبدل منه 139

المسألة السادسة: حكم رد المغصوب مع التعسّر 139

المسألة السابعة: في منافع المغصوب 143

المسألة الثامنة: في فساد العين بالردّ 144

ص: 322

المسألة التاسعة: امتزاج مال المالك بمال الغاصب 146

المسألة العاشرة: خياطة الجرح بالخيط المغصوب 146

الفرع الأول: في الإنسان المحترم 147

الفرع الثاني: في الإنسان غير المحترم 148

الفرع الثالث: في الحيوان المأكول المحترم 148

الفرع الرابع: في الحيوان غير المأكول المحترم 149

الفرع الخامس: الحيوان غير المحترم 149

المسألة الحادية عشرة: حصول العيب في المغصوب 150

فرع: في العيب الساري 152

المسألة الثانية عشرة: تفاوت القيمة 154

الفصل الخامس: في المثلي والقيمي 156

البحث الأول: في الدليل 156

البحث الثاني: في المثلي 158

المطلب الأول: في تعريف المثلي 158

المطلب الثاني: في تعذر المثل 164

المطلب الثالث: في انتظار وجدان المثل 166

المطلب الرابع: في تشخيص تعذر المثل 167

المطلب الخامس: في زمان الانتقال إلى القيمة 168

فرع: لو تغيرت القيمة بعد حكم الحاكم 170

المطلب السادس: في وجود المثل بعد أداء القيمة 171

المطلب السابع: في ملاحظة الخصوصيات في المثلي 171

المطلب الثامن: في تحول المثلي إلى القيمي أو العكس 173

ص: 323

البحث الثالث: في القيميّ 173

المطلب الأول: في تعريف القيميّ 173

المطلب الثاني: في اختلاف القيم زماناً 174

القول الأول: ضمان قيمة يوم الغصب 175

القول الثاني: ضمان قيمة يوم التلف 176

القول الثالث والرابع: ضمان أعلى القيم 177

المطلب الثالث: الضمان مع اختلاف القيم مكاناً 178

تتمة 178

المطلب الرابع: الزّيادة في أداء الذهب والفضة 179

المطلب الخامس: الصنعة قيميّة 183

الفرع الأول: أداء غرامة الصنعة من الذهب 183

الفرع الثاني: لو طالب المالك إرجاع الصنعة 183

الفرع الثالث: الصنعة المحرمة 184

الفصل السادس: في إحداث العيب في المغصوب 187

اختلاف القيم لاختلاف الأغراض 188

الجناية على الحيوان 190

إصلاح العيب 192

الفصل السابع: في بدل الحيلولة 193

المطلب الأول: وجوب دفع البدل 193

المطلب الثاني: في مالك البدل والمبدل منه 194

المطلب الثالث: تعيين المالك 197

المطلب الرابع: الحيلولة في الفترة القصيرة 198

ص: 324

المطلب الخامس: تفاوت قيمة العين عند التلف 199

المطلب السادس: فوات المنفعة 199

الفصل الثامن: في إتلاف أحد المنضمّين 203

الفرع الأول: عدم انتفاع المالك بالمتبقي 205

الفرع الثاني: كيفية ضمان الغاصبين للفردتين 205

الفرع الثالث: اشتراط اتحاد المنضمين 206

الفرع الرابع: سقوط المتبقي عن القيمة 207

الفصل التاسع: في التغيير في العين 208

البحث الأول: في نزو الدابة 208

مالك النتاج 208

كيفية التقسيم 209

ضمان الأجرة 210

ضمان نقصان قيمة الفحل 212

البحث الثاني: الاستعمال الموجب للنقص 212

البحث الثالث: إرجاع العين كما كانت بعد النقص 213

البحث الرابع: التصرف الموجب لنقصان القيمة أو الوزن 214

البحث الخامس: التصرف الموجب لزيادة القيمة دون نقصان الوزن 217

البحث السادس: إزالة الصنعة بعد إيجادها 221

البحث السابع: ضم مال المالك إلى مال الغاصب أو غيره 224

المقام الأول: ضم الغاصب ماله إلى المغصوب 224

المقام الثاني: ضم مغصوبين من مالكين 230

فرع: لو خلط الدهن بغيره 233

ص: 325

الحالة الأولى: مزج الدهن بالدهن 233

الصورة الأولى: خلطه بالمساوي 233

الصورة الثانية: الخلط بالأجود 234

الصورة الثالثة: الخلط بالأردأ 237

الحالة الثانية: مزج الدهن بغيره 238

البحث الثامن: عود الصفة بعد زوالها 239

البحث التاسع: زيادة القيمة لأجل الصنعة المحرّمة 244

البحث العاشر: زيادة قيمة الجبر على الأرش 245

الفصل العاشر: في المقبوض بالبيع الفاسد 247

المقام الأول: الشراء من المالك 247

المقام الثاني: الشراء من الغاصب 251

الفصل الحادي عشر: في تبديل المغصوب 255

البحث الأول: في زرع الحب ونحوه 255

البحث الثاني: في تبدل العصير المغصوب خمراً ثم خلّاً 257

البحث الثالث: زرع الأرض المغصوبة 259

المسألة الأولى: في مالك الزرع 260

المسألة الثانية: في ما يجب على الغاصب 262

المسألة الثالثة: لو بذل صاحب الأرض قيمة الغرس 263

البحث الرابع: حفر البئر في الأرض المغصوبة 264

البحث الخامس: دخول الدابة في ملك الغير 267

الصورة الأولى: كون دخول الدابة بسبب صاحب الدار 267

الصورة الثانية: كون دخول الدابة بسبب صاحبها 268

ص: 326

الصورة الثالثة: كون الدخول بسببهما 269

الصورة الرابعة: كون الدخول بسبب شخص ثالث 270

الصورة الخامسة: كون الدخول بسبب سماوي 271

البحث السادس: إدخال الدابة رأسها في قدر الغير 271

الصورة الأولى: كون يد مالك الدابة عليها 271

الصورة الثانية: كون صاحب القدر مقصّراً 273

الصورة الثالثة: عدم التفريط من أحدهما 274

البحث السابع: لو زرع السيل نخلاً في أرض الغير 275

البحث الثامن: خوف سقوط الحائط 276

البحث التاسع: نقل المغصوب إلى بلد آخر 278

البحث العاشر: نقل الحر بقوة 281

الفصل الثاني عشر: في إتلاف الآلات المحرمة 283

الفصل الثالث عشر: في التنازع 286

المسألة الأولى: الاختلاف في قيمة المغصوب 286

المسألة الثانية: الاختلاف في زيادة صفة 291

الفرع الأول: الاختلاف في نوع الصنعة 292

الفرع الثاني: الاختلاف في تقدم الصفة وتأخرها 293

الفرع الثالث: الاختلاف في نوعية المغصوب 293

الفرع الرابع: غصب خمر اتخذ للتخليل وتلفه 294

الفرع الخامس: الاختلاف في تعيّب المغصوب 295

المسألة الثالثة: لو باع الغاصب شيئاً ثم ملكه بسبب صحيح 296

المسألة الرابعة: الاختلاف في كيفية ردّ المغصوب 300

ص: 327

المسألة الخامسة: الاختلاف في ما على المغصوب 302

فهرس المصادر 305

فهرس المحتويات 319

ص: 328

المجلد 3 : الشفعه

هویة الکتاب

سرشناسه:حسینی شیرازی، سیدجعفر، 1349 -

عنوان و نام پديدآور: نبراس الاحکام/ تقریرا لابحاث السیدجعفر الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر:تهران: دلیل ما، 1439 ق.= 2018 م.= 1397 -

مشخصات ظاهری:3ج.

شابک:دوره 978-600-442-080-8 : ؛ 200000 ریال: ج.1 978-600-442-079-2 : ؛ 200000 ریال: ج.2 978-600-442-181-2 : ؛ ج.3 : 978-964-204-665-2

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:جلد دوم این کتاب در سال 1398 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:ج.3. چاپ اول: 1443ق. = 1400. ( فیپا)

یادداشت:کتابنامه.

مندرجات:ج.1. الصید والذباحه، الاطعمه والاشربه.- ج.2. الغصب

موضوع:اصول فقه شیعه

* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

رده بندی کنگره:BP159/8/ح525ن16 1397

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:5204455

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فاپا

ص: 1

اشارة

سرشناسه:حسینی شیرازی، سیدجعفر، 1349 -

عنوان و نام پديدآور:نبراس الاحکام/ تقریرا لابحاث السیدجعفر الحسینی الشیرازی.

مشخصات نشر:تهران: دلیل ما، 1439 ق.= 2018 م.= 1397 -

مشخصات ظاهری:3ج.

شابک:دوره 978-600-442-080-8 : ؛ 200000 ریال: ج.1 978-600-442-079-2 : ؛ 200000 ریال: ج.2 978-600-442-181-2 : ؛ ج.3 : 978-964-204-665-2

وضعیت فهرست نویسی:فاپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:جلد دوم این کتاب در سال 1398 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:ج.3. چاپ اول: 1443ق. = 1400. ( فیپا)

یادداشت:کتابنامه.

مندرجات:ج.1. الصید والذباحه، الاطعمه والاشربه.- ج.2. الغصب

موضوع:اصول فقه شیعه

* Islamic law, Shiites -- Interpretation and construction

رده بندی کنگره:BP159/8/ح525ن16 1397

رده بندی دیویی:297/312

شماره کتابشناسی ملی:5204455

اطلاعات رکورد کتابشناسی:فاپا

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين

ص: 3

ص: 4

الشفعه

ص: 5

ص: 6

بحوث تمهيدية

1- وجه تعقب كتاب الشفعة لكتاب الغصب

وإنّما بحثها صاحب الشرائع(1) في هذا المقام مع أن المفروض إلحاقها بباب البيع؛ لاختصاصها به، كما سيأتي: «تنبيهاً على أن ذلك كالمستثنى من حرمة أخذ مال الغير قهراً» - كما في الجواهر(2) - حيث لا يجوز أخذ مال الغير قهراً، ويستثنى من ذلك الشفعة، حيث يتم أخذ ماله بلا رضاه، كما سيأتي في تعريفه، مضافاً إلى أنها من الإيقاعات.

2- في معناها اللغوي والاصطلاحي

أمّا المعنى اللغوي: فالشفعة مأخوذة من الشفع في مقابل الوتر(3)، فمادة الشفع بمعنى إخراج الشيء عن الفردية إلى الزوجية، وإنّما سميت الشفاعة بالشفاعة لانضمام الشفيع إلى المذنب.

وفي الشفعة أيضاً كذلك، حيث يَضم الشريك الحصة المباعة إلىملكه.

وأمّا المعنى الفقهي: فقد عُرفت بتعاريف متعددة كلها من قبيل التعريف

ص: 7


1- شرائع الإسلام 4: 776.
2- جواهر الكلام 38: 359 (37: 237 ط ق).
3- العين 1: 260؛ الصحاح 3: 1238؛ معجم مقاييس اللغة 3: 201.

اللفظي أو من قبيل شرح الاسم، فما يورد عليها من النقض طرداً وعكساً لا وجه له.

فإن الغرض معرفة المعنى الإجمالي ليكون فارقاً بينها وبين غيرها، فلا يلزم الانطباق الكامل ليدخل كل الأفراد ويخرج كل الأغيار.

وأحسن التعاريف ما في الغنية ثم الشرائع.

قال في الغنية: «استحقاق الشريك المخصوص على المشتري تسليم المبيع بمثل ما بذل فيه أو قميته»(1).

وقيد (المخصوص) لدفع بعض موارد العكس والطرد كما سيأتي، فلا يشمل كل شريك، بل الشريك المخصوص.

وقيد (على المشتري) لإخراج البائع، حيث إنه إن لم يبعْ فلا يحق له الاستيلاء، وحيث باع خرج عن ملكه فلا يرتبط به.

إلّا أن الشريك يستحق على المشتري تسليم المبيع بمثل ما بذل فيه، وإن لم يكن له مثل أو كان البائع قد أخذ مثله فبالقيمة.

وقال في الشرائع: «استحقاق أحد الشريكين حصة شريكه بسببانتقالها بالبيع»(2).

وقيد ال-(استحقاق) لإخراج الفعلية.

وقيد (البيع) لإخراج المنتقل بالإرث أو المهر أو سائر المعاملات حيث

ص: 8


1- غنية النزوع: 232.
2- شرائع الإسلام 4: 776.

لا شفعة فيها.

3- حكمة تشريع الشفعة

وأمّا الحكمة من تشريع الشفعة فقد تكون لأجل الإرفاق بالشريك من دون تحميل الضرر على أحد، فإن البائع قد باع حصته واستوفى حقه، فلا يفرق عنده بين أن تكون بيد المشتري أو الشريك، والمشتري يتسلّم الثمن كاملاً فلا ضرر عليهما، والمتضرر هو الشريك حيث يدخل الغريب في ملكه، ولأجل دفع الضرر عنه شُرعت الشفعة، وغير خفي أن الحكم لا يدور مدار الحكمة فيحق الأخذ بالشفعة حتى مع عدمها.

4- الشفعة حكم

ثم إن الشفعة حكم لا حق، فلا يقبل الإسقاط، لكن لو اشترط عدم الأخذ بحقه لم يكن به بأس، فشرط عدم الشفعة باطل، أمّا شرط عدم الأخذ بها فصحيح.

ص: 9

فصل: في موارد ثبوت الشفعة

اشارة

ونذكر هنا عدة مسائل ترتبط بالبحث:

المسألة الأولى: ثبوت الشفعة في المنقول وغيره

اشارة

ثم إنّه قد وقع الخلاف بين الفقهاء في اختصاص متعلّق الشفعة بغير المنقول أو شمولها للمنقول أيضاً، كالعبد والثوب.

وقيل: إن مستند القولين اختلاف الروايات حيث يستفاد من بعضها الإطلاق ومن بعضها الاختصاص، ولا يخفى أن القولين مشهوران، وربما الأشهر عند القدماء الإطلاق، والأشهر عند المتأخرين الاختصاص.

ولا يمكن حمل إحدى الطائفتين على التقية؛ لذهاب العامة إلى القولين أيضاً، كما لا يمكن الجمع الدلالي بحمل الروايات الدالة على عدم الصحة في المنقول على الكراهة؛ لأنها آبية عن الجمع المذكور، حيث لم تتضمن النهي، بالإضافة إلى أنه لا قائل به.

فالتعارض محكم فلا بدّ من ملاحظة السند، والمعتبر منها يقوّي جانب الإطلاق، وأمّا المخصصة بغير المنقول فبين ما لا دلالة له وما لا سند له.وبيان ذلك بذكر القولين مع الأدلة.

القول الأوّل: شمول الشفعة للمنقول وغيره

ودليله الروايات، والمعتبرة منها ثلاثة وغيرها أكثر.

ص: 10

الرواية الأولى: صحيحة(1) عبد اللّه بن سنان: «قال: قلت لأبي عبد اللّه(علیه السلام): المملوك يكون بين شركاء فباع أحدهم نصيبه، فقال أحدهم: أنا أحق به أ له ذلك؟ قال: نعم، إذا كان واحداً»(2).

ولم يقل أحد بالتفصيل في المنقول بين المملوك وغيره.

الرواية الثانية: صحيحة الحلبي(3) بالنص السابق نفسه، إلّا أن في تتمتها: «قيل له في الحيوان شفعة؟ قال: لا»(4).

ولأجلها أسقطه بعض الفقهاء عن الاعتبار؛ لكونه خلاف الإجماع المركب، حيث قال: إن ثبتت الشفعة في المنقول فلا بدّ من ثبوته في العبد والحيوان، وإن لم تثبت فلا يثبت فيهما.

وقد أجاب الشيخ الطوسي(5) عن ذلك بأن المراد من النفي ما لو كانالشريك متعدداً.

ولا يرد عليه بكونه جمعاً تبرعياً؛ لورود التفصيل المذكور في بعض الروايات، فيكون قرينة على ذلك حيث يحتمل سقوطه عن ذيل صحيحة الحلبي.

ص: 11


1- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن عبد اللّه بن سنان... .
2- تهذيب الأحكام 7: 165؛ وسائل الشيعة 25: 403.
3- الشيخ الطوسي بإسناده عن أحمد بن محمّد، عن ابن أبي عمير، عن حماد، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) ... .
4- تهذيب الأحكام 7: 166؛ وسائل الشيعة 25: 402.
5- تهذيب الأحكام 7: 166.

ففي صحيحة(1) عبد اللّه بن سنان عن الصادق(علیه السلام): «لا شفعة في حيوان إلّا أن يكون الشريك فيه واحداً»(2).

الرواية الثالثة: مرسلة يونس الدالة على ثبوت الشفعة في غير المنقولات أيضاً، ففي الكافي عن الصادق(علیه السلام): «... الشفعة جائزة في كل شيء من حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشيء بين شريكين لا غيرهما، فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحق به من غيره، وإن زاد على الاثنين فلا شفعة لأحد منهم»(3).

ورواه الصدوق أيضاً إلّا أن فيه(4): «واجبة» بمعنى ثابتة.

ولا إشكال في دلالتها، ولا يضر إرسالها لكون المرسل من أصحاب الإجماع على المبنى، وقد عمل بها مشهور القدماء أيضاً.

القول الثاني: اختصاص الشفعة بغير المنقول

واستدل له بالأصل وبعض الروايات في المقام، وبعض الروايات الدالة على اختصاص الشفعة بما يقسّم.

1- أمّا الأصل فالمراد منه قاعدة السلطنة، فإن الأصل عدم التسلط على مال الغير إلّا بطيب نفسه، وقد خرج عنه الشفعة في غير المنقول بالإجماع، ويبقى المنقول في دائرة الأصل المذكور، حيث لا إجماع فيه.

2- وأمّا الروايات، فمنها: ما دل على عدم الشفعة في الحيوان، كصحيحة

ص: 12


1- الشيخ الصدوق بإسناده عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن عبد اللّه بن سنان... .
2- من لا يحضره الفقيه 3: 80؛ وسائل الشيعة 25: 404.
3- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 402.
4- من لا يحضره الفقيه 3: 79.

الحلبي(1)، حيث لا فرق بين الحيوان وغيره.

ومنها: ما عن جابر عن النبي|: «لا شفعة إلّا في ربع(2) أو حائط»(3).

ومنها: مرسلة الكليني: «وروي أيضاً: أن الشفعة لا تكون إلّا في الأرضين والدور فقط»(4).

3- وأمّا الروايات الدالة على اختصاص الشفعة بما يُقسم فيختص بغير المنقول، فسيأتي الكلام فيها.

وفي الأدلة المذكورة نظر.أمّا الأوّل: فإنه تصل النوبة إلى الأصل مع وجود الروايات التي تخصص القاعدة المذكورة.

وأمّا الثاني: فلأنّ الروايات بين ما لا دلالة له؛ لأنه من مفهوم اللقب أو الوصف، وما لا سند له.

أمّا الثالث: فسيأتي الكلام في أصل المطلب، هذا أوّلاً.

وثانياً: فإن ما يُقسّم أعم، فإن بعض المنقولات قابلة للتقسيم أيضاً، كما أن غير المنقول قد يُقسّم وقد لا يُقسّم، فالدليل لا يرتبط بالمدعى.

المسألة الثانية: ثبوت الشفعة في الشجر والبناء

اشارة

قال في الشرائع: «أمّا الشجر والنخل والأبنية فتثبت فيها الشفعة تبعاً

ص: 13


1- مرّت آنفاً.
2- أي: العرصة.
3- عوالي اللئالي 3: 476.
4- الكافي 5: 281، رواه آخر الحديث الثامن.

للأرض»(1).

وقد اختلف الفقهاء في ثبوت الشفعة في المنقولات أيضاً.

وفي المقام فروع:

الفرع الأوّل: حكم بيع الأرض

لو باع أرضاً كانت مشمولة للشفعة قطعاً على كل الأقوال، فلو كان عليها شيئاً ثابتاً أو غير ثابت فعلى القول بثبوت الشفعة في كل شيء فالحكم واضح، وأمّا على القول باختصاص الشفعة ببعض الأشياء -كالأراضي والأبنية - فهل الشجر والحائط يكون مشمولاً للحكم أم لا؟

يمكن أن يقال: إن الشجرة داخلة في البستان على كلا القولين، فتشملها أدلة الشفعة بلا خلاف فيه، بالإضافة إلى شمول النصوص المطلقة لها، كخبر الغنوي، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «سألته عن الشفعة في الدور أشيء واجب للشريك ويعرض على الجار فهو أحق بها من غيره؟ فقال: الشفعة في البيوع إذا كان شريكاً فهو أحق بها بالثمن»(2)، وخبر عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «قضى رسول اللّه| بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن، وقال لا ضرر ولا ضرار»(3)، وفي خبر آخر: «الشفعة في كل

ص: 14


1- شرائع الإسلام 4: 776.
2- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 396، محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن يزيد بن إسحاق شعر، عن هارون بن حمزة الغنوي، ولا يبعد اعتبار السند؛ لتوثيق العلامة ليزيد بن إسحاق، وباقي السند ثقاة (السيد الأستاذ).
3- الكافي 5: 280؛ وسائل الشيعة 25: 400.

مشترك ربع أو حائط»(1)، وعن الصادق(علیه السلام): «الشفعة في كل عقار، والعقار: النخل والأرضون والدور»(2).

وهذه الروايات قد عمل المشهور بها وذلك جابر لأسنادها.

ورجح صاحب الجواهر(3) عدم إطلاق دليل الشفعة للبناء الذي لايدخل تحت اسم المسكن والدار، فلو بنى حائطاً في بستان ليستظل به مثلاً لم تشمله الشفعة، فيدخل في القاعدة العامة، وهي عدم جواز التصرف في ملك الغير إلّا بطيب نفسه.

وبناءً على ما ذكره فإن الشفعة لا تشمل مفاتيح الأبواب حيث لا دليل عليها.

إلّا أن المشهور(4) ذهبوا إلى شمول أدلة الشفعة للشجر والمفتاح وسائر ما يكون عرفاً من متعلّقات وتوابع المسكن.

ثم قال في الجواهر: «والتبعية الجعلية في البيع لا تجدي، بل قد عرفت أن التبعية العرفية كذلك ما لم تدخل في المسمى على وجه تكون من أجزاء الدار عرفاً»(5).

وحاصله: إنه لو أطلق على الشيء المنزل أو المسكن أو جزؤهما فلا كلام؛ لأن المسكن مركب من أجزاء، وحيث إن الشفعة تشمل المركب فهي

ص: 15


1- عوالي اللئالي 3: 475.
2- مستدرك الوسائل 17: 101.
3- جواهر الكلام 38: 375 (37: 247 ط ق).
4- جواهر الكلام 38: 374 (37: 247 ط ق).
5- جواهر الكلام 38: 379 (37: 249 ط ق).

تشمل الأجزاء أيضاً، وأمّا لو لم يُطلق عليه ذلك فلا يمكن التمسك بالتبعية، حيث لا دليل على سراية الحكم من المتبوع إلى التابع، كما لو باع الشاة فإن تبعية ولدها لا يجعله ضمن المبيع، وفي كلمة واحدة، أوّلاً: نشك في أصل التبعية والإطلاق، وثانياً: على فرض التبعيةفلا دليل على سراية الحكم.

وأشكل عليه السيد الوالد في الفقه(1) بما حاصله: إنّه وإن صح عدم كفاية التبعية لسراية الحكم إلى التابع إلّا أنه لو فهم - عرفاً - من الأدلة أن الحكم شامل للتابع كما هو شامل للمتبوع كفى ذلك في الجريان، وإلّا لكان على الشارع بيان الاستثناء، فلو حكم بالشفعة في المسكن فهم العرف من نفس الدليل شمولها للشجر والمفتاح، وإن لم يعتبرا جزءاً له، وليس ذلك من باب شمول لفظ المسكن لهما، بل من باب التبعية، فإن فَهْم العرف من الدليل حجة، ولا يراد سراية الحكم من المتبوع إلى التابع حتى يشكل بعدم الدليل عليه، بل إن الحكم الوارد يفهم منه العرف شموله للتابع، أي: إن العرف يفهم عموم الحكم، ولو لم يكن ذلك مراداً للشارع لكان عليه البيان وإلّا كان من الإغراء بالجهل.

ويبدو للنظر عدم البعد في إطلاق اللفظ عليه؛ لأنه مركب اعتباري، وإلّا فما ذكره الجواهر تام إلّا أن يفهم العرف التعميم.

الفرع الثاني: حكم الحاجز بين الطابقين

إن أرض الطابق الثاني - والذي هو سقف للطابق الأوّل - لها حالات

ص: 16


1- الفقه 79: 23-24.

ثلاث: إمّا أن يشترك فيها مالكا الطابقين، وإمّا أن يملكهامالك الطابق الأوّل، ويكون لمالك الطابق الثاني حق الاستفادة منها، وإمّا العكس وهذه الصورة نادرة.

فلو باع مالك الطابق الأوّل طابقه، فهل يحق لمالك الطابق الثاني الأخذ بالشفعة في الحاجز بين الطابقين بناء على تعميم الشفعة لمثل ذلك؟

أمّا في الحالة الثانية والثالثة: فلو باع صاحب الحق طابقه، فالأقرب ثبوت الشفعة للمالك؛ لأنه شريك في الحق أيضاً، وذلك لأن الحق مما يباع فتشمله أدلة الشفعة، ويؤيده الخبر(1) في الأرض المحبوسة أو الموقوفة حيث يتكفل شريكان بناءها، فإن حق الاستفادة من الأرض قابل للبيع وتشمله الشفعة أيضاً، والحاصل كما أن الملك قابل للشفعة كذلك الحق.

وأمّا الحالة الأولى - بأن كانا شريكين في ملك الحاجز - فلو باع أحدهما فهل يحق للآخر أخذ الحاجز بالشفعة دون سائر البناء حيث لا يملكه؟ لا يبعد ثبوت الشفعة، وعليه فإن للمشتري خيار تبعض الصفقة، فتأمل.

الفرع الثالث: لو بيع البناء والغرس منفرداً

قال في الشرائع: «ولو أفرد بالبيع نزل على القولين»(2).فلو باع شجرة واحدة أو باع بناءً بلا أرض فثبوت الشفعة تابعة للقولين.

لكنه محل تأمل؛ لدخول البناء في بعض الإطلاقات، فلا يختص الحكم بالأرض، فحتى على القول بعدم الإطلاق تثبت في الدور وهو يشمل الدار،

ص: 17


1- مستدرك الوسائل 17: 106.
2- شرائع الإسلام 4: 776.

سواء أكانت مع الأرض أم بلا أرض.

ويستفاد ذلك من بعض الأخبار، كقوله: «قضى رسول اللّه| بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن»(1).

والعطف يقتضي المغايرة، فما ذكر صاحب مفتاح الكرامة(2) من أنّه من ذكر الخاص بعد العام، غير تام لكون النسبة بينهما العموم من وجه، فهنالك أرض بلا بناء وبناء بلا أرض.

نعم، لم ترد رواية في خصوص الشجرة والنخل، فإن موردها الحائط، ولا يطلق على الشجرة مفردة، وهنا يأتي ما ذكره من أن الحكم تابع للقولين.

المسألة الثالثة: في ثبوت الشفعة فيما لا ينقسم

اشارة

هل الشفعة ثابتة فيما لا يقبل القسمة، كالطريق الضيق وحجر الرحي وما أشبه؟ مما لو قُسّم لم يمكن الانتفاع به، فيه خلاف.

قال في الشرائع: «وفي ثبوتها في النهر والطريق والحمام وما تضرقسمته تردد، أشبهه أنها لا تثبت، ونعني بالضرر ألا ينتفع به بعد قسمته، فالمتضرر لا يجبر على القسمة، ولو كان الحمام أو الطريق أو النهر مما لا يبطل منفعته بعد القسمة أجبر الممتنع وثبتت الشفعة»(3).

وإنّما اقتصر صاحب الشرائع على الأمثلة الثلاثة لورودها في الروايات.

والمراد مما لا يقبل القسمة ورود الضرر المعتنى به بسبب القسمة.

ص: 18


1- الكافي 5: 280؛ وسائل الشيعة 25: 400.
2- مفتاح الكرامة 18: 413.
3- شرائع الإسلام 4: 776.

وفي المسألة قولان:

القول الأوّل: ثبوت الشفعة فيه؛ لإطلاق الأدلة حيث إنها تشمل ما يقبل القسمة وما لا يقبلها.

القول الثاني: عدمه، واستدل له بأدلة، منها:

الدليل الأوّل: أصالة(1) بقاء الملك على مالكه، فيستصحب بقاء ملكية المشتري بعد الأخذ بالشفعة.

وهو محل تأمل؛ حيث لا تصل النوبة إلى الأصل مع الإطلاقات.

الدليل الثاني(2): إن علة الشفعة هي دفع الضرر عن الشريك الذي لم يبعْ حصته، كما صرح بها في هذا الحديث: «قضى رسول اللّه| بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال: لا ضررولا ضرار»(3)، فإن الظاهر أن قوله|: «لا ضرر» إنّما هو سبب الشفعة، ولذا تعقب قوله: «قضى»... .

والعلة المذكورة منتفية فيما لا يقسّم، وحيث لا ضرر فلا شفعة.

وفيه نظر من جهتين:

أوّلاً: إن (لا ضرر) حكمة لا علة فلا يدور مداره الحكم، ويشهد له فيما لو لم يكن الشريك متضرراً من البيع حيث يحق له الأخذ بالشفعة، وكذا فيما لو كانوا شركاء ثلاثة وتضرروا حيث لا حق في الشفعة.

ص: 19


1- جواهر الكلام 38: 383 (37: 252 ط ق)؛ مسالك الأفهام 12: 266.
2- جامع المقاصد 6: 354.
3- الكافي 5: 280؛ وسائل الشيعة 25: 400.

وثانياً: إن الضرر قد يكون أشد فيما لا يقبل القسمة، فإنه إن أمكنت القسمة أمكن بها التخلص من الشركة الموجبة للضرر، وأمّا حيث لا طريق للتخلص من الشركة - فيما لا يقبل القسمة لسقوطه عن القيمة - لم يكن طريق للتخلص من ضرر الشراكة إلّا بالشفعة، فلو كانت العلة هي الضرر فهي ثابتة بنحو أشد فيما لا يقبل القسمة.

الدليل الثالث: الروايات الواردة في المقام.

منها: موثقة طلحة بن زيد(1)،

عن الصادق(علیه السلام)، عن أبيه: «أن رسولاللّه| قضى بالشفعة ما لم تؤرّف(2)، يعني: تقسّم»(3)، وقريب منها موثقة أبي العباس(4) عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) قال: «الشفعة لا تكون إلّا لشريك لم يقاسم»(5).

ومنها: خبر جابر: «إنّما جعل رسول اللّه| الشفعة في كل ما لم

ص: 20


1- الشيخ الطوسي بإسناده عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، والأقوى وثاقة طلحة لقول الشيخ الطوسي: «إلّا أن كتابه معتمد» [الفهرست: 149].
2- قال في الصحاح 4: 1330: «أرف: الأرفة: الحد، والجمع أرف، مثال غرفة وغرف، وهي معالم الحدود بين الأرضين». وقال في لسان العرب 9: 4: «أرف: الأُرْفةُ: الحَدُّ وفَصْلُ ما بين الدُّورِ والضِّياع... وأَرَّفَ الدارَ والأَرض: قسَمَها وحَدَّها».
3- تهذيب الأحكام 7: 167؛ وسائل الشيعة 25: 398.
4- الكليني عن حميد بن زياد، عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن أبان، عن أبي العباس وعبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن الصادق(علیه السلام).
5- الكافي 5: 282؛ وسائل الشيعة 25: 397.

يقسّم»(1).

ووجه الاستدلال به: إنّ (لم) تفيد نفي الماضي ولا تستعمل إلّا فيما أمكن المدخول؛ ولذا لا يقال: (السيف لم يقسّم) لعدم إمكان القسمة فيه، بل يقال: (السيف لا يقسّم) فإن الشيء غير القابل للقسمة لا يستخدم فيه (لم) بل (لا).

و(إنّما) تفيد الحصر، فيكون المعنى: إن الشفعة خاصة بما له قابلية القسمة.ومنها: مرسلة جميل: «الشفعة لكل شريك لم يقاسم»(2)، وهي مشعرة بالحصر.

ويرد على الاستدلال، أوّلاً: بأنه لا حصر في الروايات المذكورة إلّا في خبر جابر، وهو خبر عامي.

وثانياً: إن المقصود منه أن الشفعة ثابتة فيما إذا بقي الشريكان على الشراكة حتى باع أحدهما، بخلاف ما إذا فسخا الشراكة وأخذ كل واحد سهمه، ثم باع أحدهما ملكه حيث لا شفعة حينئذٍ، ويؤيد ذلك الروايات الصريحة أو الظاهرة في هذا المعنى، كصحيحة(3) ابن سنان عن الصادق(علیه السلام): «لا تكون الشفعة إلّا لشريكين ما لم يتقاسما»(4)، وموثقة

ص: 21


1- مستدرك الوسائل 17: 99.
2- الكافي 5: 280؛ وسائل الشيعة 25: 397.
3- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام) ... .
4- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 396.

السكوني - على الأصح - : «لا شفعة إلّا لشريك غير مقاسم»(1)، فالمعنى أنه لو قُسّم الشيء بين الشريكين انتفت الشفعة، فلا يرتبط بما يقبل القسمة وما لا يقبل.

الدليل الرابع: الروايات المصرّحة بعدم الشفعة في بعض الأشياء والتي يجمعها أنها غير قابلة للقسمة، كموثقة(2) السكوني عن الصادق(علیه السلام):«قال رسول اللّه|: لا شفعة في سفينة ولا في نهر ولا في طريق»(3).

وليس المراد مطلق النهر أو الطريق للإجماع على ثبوت الشفعة فيها فيما لو كان واسعاً فيتمّ تقييد النهر والطريق بغير الواسع للإجماع، ولا فرق بينهما وبين غيرهما مما لا يقبل القسمة بالإجماع المركب.

فتدل الرواية بضميمة الإجماعين على عدم الشفعة فيما لا يقبل القسمة.

وفيه تأمل: لأنه معارض بخبرين أحدهما صحيح والأخر حسن، وربما هو خبر واحد بسندين، فالصحيح منه ما روي عن منصور بن حازم(4): «عن دار فيها دور وطريقهم واحد في عرصة الدار، فباع بعضهم منزله من رجل هل لشركائه في الطريق أن يأخذوا بالشفعة؟ فقال: إن كان باع الدار وحوّل بابها إلى طريق غير ذلك فلا شفعة، وإن باع الطريق مع الدار فلهم

ص: 22


1- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 396.
2- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام)... .
3- الكافي 5: 282؛ وسائل الشيعة 25: 404.
4- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد اللّه(علیه السلام) ... .

الشفعة»(1).

فيتعارض الصحيح المثبت للشفعة في الطريق مع الموثقة النافية لهاعنها.

إن قلت: إن الصحيحة تثبت الشفعة للشركاء مع أنها خاصة بالشريكين عندنا؛ ولذا حملها الشيخ الطوسي(2) على التقية، فإن العامة يثبتونها بين الشركاء أيضاً.

قلت: إن الحمل المذكور مشكل؛ لورود القولين عن العامة أيضاً، فلا بدّ من التأويل بأن المراد الشريكان، وإلّا فلا بدّ من القول بالإعراض عن هذا المقطع، وهو غير ضار بحجية سائر الرواية، حيث قد يصدر بعض الرواية تقية، ثم يذهب من يتقى منه فيكون الباقي من دون تقية، كما هو الحال في كثير من الروايات المعتبرة، فقد عمل الفقهاء ببعضها حيث لا معارض له ولم يعملوا ببعضها لوجود المعارض، فالمعارض الأقوى لمقطع من الرواية لا يسبب سقوط الرواية عن الاعتبار بالكلية.

والحاصل: إن رواية السكوني تعارض صحيح منصور وحسنته(3)، فتسقط رواية السكوني عن الاعتبار؛ لأن صحيح منصور أقوى سنداً،وعلى فرض

ص: 23


1- الكافي 5: 280؛ الاستبصار 3: 117؛ وسائل الشيعة 25: 398.
2- الاستبصار 3: 117.
3- الاستبصار 3: 117، وفيه: أحمد بن محمّد، عن علي بن الحكم، عن الكاهلي، عن منصور بن حازم قال: «قلت لأبي عبد اللّه(علیه السلام) دار بين قوم اقتسموها وأخذ كل واحد منهم قطعة فبناها وتركوا بينهم ساحة فيها ممرهم فجاء رجل فاشترى نصيب بعضهم أله ذلك؟ قال: نعم، ولكن يسد بابه ويفتح بابا إلى الطريق أو ينزل من فوق البيت ويسد بابه، وإن أراد صاحب الطريق بيعه فإنهم أحق به، وإلّا فهو على طريقه يجيء ويجلس على ذلك الباب».

التكافؤ والتساقط تبقى الإطلاقات بحالها.

والنتيجة: إن الشفعة لا تختص بالأرض والبيت من غير المنقولات، وإنّما هي في كل شيء، المنقول وغير المنقول، وهي في كل شيء سواء قبل القسمة أم لا.

وهنا فروع:

الفرع الأوّل: جريان الشفعة في البئر

هل الشفعة تجري في البئر، وهي غير قابلة للقسمة، فيما لو باع أرضاً فيها بئر أم هي خاصة بالأرض فقط، فيحق للشريك الأخذ بالشفعة في الأرض، ويصبح شريكاً للمشتري في البئر؟

الأقوى أن البئر تابعة للأرض ويؤيده بعض الأخبار(1) فتجري فيها الشفعة.

نعم، لو قيل بعدم تابعيتها للأرض فلا بدّ من القول بعدم الشفعة فيها بناءً على عدم جريانها فيما لا يقسّم، بل بناء عليه يمكن القول بعدم الشفعة فيها حتى لو قلنا بتبعيتها؛ وذلك لأن مجرد التبعية لا تكون مخصصة للدليل العام.

نعم، ينتفي هذا الفرع عند القائل بجريان الشفعة فيما لا يقسّم أيضاً.

الفرع الثاني: ثبوت الشفعة في الأرض المقسومة بالاشتراك في الطريق ونحوه

قال في الشرائع: «وتثبت في الأرض المقسومة بالاشتراك في الطريق أو الشرب إذا بيع معها، ولو أفردت الأرض المقسومة بالبيع لم تثبت الشفعة

ص: 24


1- مستدرك الوسائل 17: 104.

في الأرض»(1).

فلو قُسّمت الأرض المشتركة وجُعل بينها طريقاً مشتركاً، وباع أحدهم سهمه، فإن باعه مع ما يملكه من الطريق كان للشريك حق الشفعة في الجميع حتى الأرض التي لم يكن شريكاً فيها؛ إذ المفروض فسخ الشركة وتقسيم الأرض.

وإن باعه من دون الطريق فلا حق للشريك في الشفعة.

واستدل على الشق الأوّل بالنص(2) والإجماع(3).

إلّا أن المحقق الكركي أشكل على الإجماع قائلاً: «لأن ضم غير المشفوع إلى المشفوع لا يوجب ثبوت الشفعة في غير المشفوع اتفاقاً»(4).ولذا لو باع شيئين في صفقة واحدة، وكان له شريك في أحدهما لم يكن للشريك حق الشفعة في الثاني، فإنه وإن كان البيع واحداً إلّا أن متعلّقه شيئان، وكذلك المقام، وعليه لا معنى للقول بثبوت الشفعة في الأرض المقسومة.

وأمّا النص الوارد في المقام فهو معارض بالروايات المستفيضة المعتبرة التي تنص على أنه: «لا شفعة إلّا لشريك غير مقاسم»(5)، فيتساقطان،

ص: 25


1- شرائع الإسلام 4: 777.
2- الكافي 5: 280؛ الاستبصار 3: 117؛ وسائل الشيعة 25: 398-399.
3- مسالك الأفهام 12: 269؛ جواهر الكلام 38: 392 (37: 258 ط ق).
4- جامع المقاصد 6: 351.
5- تهذيب الأحكام 7: 167؛ وسائل الشيعة 25: 398.

ويكون المرجع هو الأصل الأوّلي وهو عدم ثبوت الشفعة.

واستغرب صاحب المسالك(1) من ذلك حيث لا تعارض، فإن الروايات المذكورة عامة فيخصصها النص الوارد في المقام، فهو يثبت الشفعة في الشريك المقاسم في مورد واحد فقط.

ولا يخفى أن مورد النص والإجماع الطريق، إلّا أن الفقهاء ألحقوا الشرب أيضاً مع خلو النص عنه، وعدم ثبوت الإجماع فيه، إلّا أن عليه الشهرة العظيمة، فمقتضى القاعدة اختصاص الحكم بالطريق وعدم شموله للنهر والشرب، إلّا أن يفهم الملاك من النص ليشمل النهر أيضاً ولو بمعونة فهم المشهور.كما أن النص خاص بالبيت، إلّا أن الإجماع قائم على شمول الحكم للبستان أيضاً.

ولمعرفة الحق في المسألة لا بدّ من ملاحظة دلالة النص والإجماع.

أمّا النص فهنالك روايات فيها صحيحتان:

الأولى: صحيحة منصور بن حازم(2) قال: «سألت أبا عبد اللّه(علیه السلام) عن دار فيها دور وطريقهم واحد في عرصة الدار، فباع بعضهم منزله من رجل هل لشركائه في الطريق أن يأخذوا بالشفعة؟ فقال: إن كان باع الدار وحول بابها إلى طريق غير ذلك فلا شفعة لهم، وإن باع الطريق مع الدار فلهم

ص: 26


1- مسالك الأفهام 12: 272.
2- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، عن منصور بن حازم... .

الشفعة»(1).

إلّا أنها لا تدل على المطلوب، فهي مجملة لا تدل على ثبوت الشفعة في الدار، والقدر المسلم ثبوتها في الطريق.

الثانية: حسنة الكاهلي(2) عن منصور بن حازم قال: «قلت لأبي عبداللّه(علیه السلام): دار بين قوم اقتسموها فأخذ كل واحد منهم قطعة وبناها، وتركوا بينهم ساحة فيها ممرهم، فجاء رجل فاشترى نصيب بعضهم أله ذلك؟ قال: نعم، ولكن يسد بابه ويفتح باباً إلى الطريق، أو ينزل من فوق البيت ويسد

ص: 27


1- الكافي 5: 280؛ الاستبصار 3: 117.
2- الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن الكاهلي، والشيخ الطوسي بإسناده عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن محمّد بن زياد، عن الكاهلي. وعبد اللّه بن يحيى الكاهلي وهو حسن على المشهور وصحيح على الأصح؛ لتعبير النجاشي [رجال النجاشي: 221] عنه بأنه كان وجهاً عند أبي الحسن(علیه السلام)، ومثل هذ التعبير يدل على ما هو أعظم من الوثاقة، بل الصحة في أعلى درجاتها، ثم يتطرق النجاشي إلى رواية لا تدل على المطلوب إلّا أنها تكشف عن أهميته عند الإمام(علیه السلام)، حيث قال(علیه السلام) لعلي بن يقطين: «اضمن لي الكاهلي وعياله اضمن لك الجنة» [رجال النجاشي: 222] (السيد الأستاذ). أقول ربما يقال: إن الرواية المذكورة لا تدل حتى على الوثاقة، بل مجرد الأهمية؛ وذلك قد يكون لأسباب متعددة منها الوثاقة، ومنها قد يكون شيخاً لعشيرة يرعى جمعاً غفيراً من المستضعفين، فأراد الإمام(علیه السلام) أن لا يضيعوا فأمر علياً بضمانه، وامتثاله لأمر الإمام(علیه السلام) يوجب له الجنة، ومنها قد يكون التجأ إلى الإمام(علیه السلام) ومثله لا يرد الملتجئ وإن كان كافراً، ومنها لغير ذلك. وإن أبيت إلّا عن دلالته على الوثاقة فلا بدّ من القول بوثاقة عياله أيضاً. وهو بعيد (المقرر).

بابه، فإن أراد صاحب الطريق بيعه فإنهم أحق به، وإلّا فهو طريقه يجيء حتى يجلس على ذلك الباب»(1)، وفي التهذيب: «وإن أراد يجيء حتى يقعد على الباب المسدود الذي باعه لم يكن لهم أن يمنعوه»(2).

ويرد عليهما: أوّلاً: بعدم دلالتهما على المطلوب، أمّا الرواية الأولى فهي مجملة لا تدل على ثبوت الشفعة في الدار، والقدر المسلّم هو ثبوتهافي الطريق، وأمّا الرواية الثانية فإن دلالتها على أنه لو باع الطريق كان للشركاء حق الشفعة فيها، أمّا البيت فقد باعه من قبل وسد بابه في الطريق المشترك، ولا دلالة فيها على ثبوت حق الشفعة في الاثنين فيما لو باع البيت والطريق معاً.

وثانياً: ما ذكره الشيخ الطوسي(3) من أن الحكم عندنا ثبوت الشفعة في الشريكين دون الشركاء، فلا بدّ من حمل الروايتين على التقية؛ لاشتمالها على (الشركاء) و(القوم) ولا يطلق القوم على أقل من عشرة أشخاص.

فإن قلت: إن حمل بعض الرواية على التقية لا يوجب سقوط بعضه الآخر عن الحجية.

قلنا: إنّما يصح ذلك فيما لو اشتملت الرواية على حكمين فصاعداً، لكن في المقام الروايتان تتضمنان حكماً واحداً فقط، وهو في الأولى ثبوت الشفعة للشركاء في الأرض المقسومة التي لم يقسّم طريقها، وفي الثانية

ص: 28


1- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 399.
2- تهذيب الأحكام 7: 167.
3- الاستبصار 3: 117.

ثبوت الأحقية.

نعم، السؤال متضمن لقيود متعددة وتعدد القيود لا يوجب تعدد الحكم، فلا بدّ من العمل بالرواية أو الإعراض عنها، وحيث أراد بعضالفقهاء عدم الإعراض حمل الشركاء على الشريكين(1)، أو يقال: إنهما عامتان وروايات الشريكين خاصة فتخصصهما.

ويمكن أن يقال: إن الأدلة العامة تدل على حكمين، أحدهما: عدم الشفعة عما لا شركة فيه وهاتان الروايتان تخصصانها حيث تثبتان الشفعة في الدار التي لا شراكة فيها، كما احتمله السيد الوالد في الفقه(2)، والآخر: ثبوت الشفعة للشريكين فقط، وهاتان الروايتان تخصصانها، حيث تثبتان الشفعة للشركاء في البيت المقسّم مع الطريق المشترك.

والحاصل: إن مقتضى القاعدة أن يقال: إن هاتين الروايتين خصصتا حكمين عامين، هما: عدم الشفعة في غير الملك، وثبوت الشفعة للشريكين فقط.

إلّا أنه لم يذهب إلى ذلك أحد، فلا يمكن الالتزام به.

وقيل: إن جواب الإمام(علیه السلام) عام، وهو ملاك الحكم لا خصوص سؤال السائل.

لكنه ضعيف، فالجواب المذكور مبتنٍ على السؤال، ويتضمن التعريف ويحتمل العهد، وتمام الكلام فيه في صحيحة زرارة في الاستصحاب.

ص: 29


1- جامع المقاصد 6: 348-349.
2- الفقه 79: 46.

فتحصّل: أن الدليل الوحيد في المقام هو الإجماع، ويقتصر على المتيقن منه. فلو لم يكونا شريكين أصلاً لكن كان الطريق مشتركاً لم تشمله الروايتان، إلّا أن المشهور لم يفرقوا بين المسألتين لوحدة الملاك، فلو فهمناه فهو، وإلّا كان الحكم بذلك مشكلاً.

الفرع الثالث: الاشتراك في البيت وفي الطريق

لو اشترك نفران في بيت وثلاثة في الطريق، فباع أحدهم سهمه فهل للشريك في البيت حق الشفعة؟ وهل للشريك في الطريق حق الشفعة في البيت؟

احتمل في مفتاح الكرامة(1) - إن كان مورد كلامه هذا الفرع - احتمالين:

الاحتمال الأوّل: عدم الشفعة لا للشريك في الطريق؛ وذلك لأن الشركاء ثلاثة والشفعة خاصة بالشريكين، ولا للشريك في البيت؛ وذلك لأن الطريق داخل في مفهوم الدار عرفاً، فالطريق جزء من البيت، ففي الواقع هنالك شركاء ثلاثة في بعض البيت، والقدر المتيقن من ثبوت الشفعة تفرد الشريكين في المبيع، ومع الشك في شمول الدليل للمورد تصل النوبة إلى الأصل وهو عدم الشفعة.

الاحتمال الثاني: ثبوت الشفعة لجريان العلة في المقام، كما مرّفي خبر عقبة حيث علل الإمام(علیه السلام) الشفعة ب-(لا ضرر ولا ضرار)، هذا أوّلاً.

وثانياً: شمول إطلاق (لا شفعة إلّا لشريك غير مقاسم) للمقام، حيث

ص: 30


1- مفتاح الكرامة 18: 429.

منطوقه يثبت الشفعة للشريك غير المقاسم.

وقد مرّ الجواب عن العلة، وأمّا التمسك بالإطلاق المذكور فضعيف، فإن أدلة اختصاص الشفعة بالشريكين تخصصه، ولذا لا شفعة للشركاء وإن كانوا غير مقاسمين.

الفرع الرابع: لو بيعت حصتان في معاملتين

لو كانت الشركة في الطريق فقط دون الدار، فلو باع البيت في معاملة والطريق في معاملة أخرى، فلا شفعة في الدار؛ لأنه بيع مستقل لشيء لا شركة فيه، وأمّا في الطريق فإن كانا شريكين فقط ففيه الشفعة، وإن كانوا شركاء فلا شفعة فيه.

نعم، لو كانت معاملة واحدة بأن باع الدار مع الطريق، ففي ثبوت الشفعة في الدار وفي الطريق البحث السابق.

ولا يخفى أن الحكم المذكور خاص بالطريق والأرض، ولا يجري في سائر الأشياء، كما مثل له العلامة في التذكرة(1) بالبئر والعين، كما لو باع البستان غير المشترك مع وجود بئر أو عين مشتركة فيه حيث لا شفعة.

نعم، الشفعة ثابتة في النهر للإجماع - إن ثبت - ، كما مرّ الكلام فيه.ومن أمثلة المقام الجدار المشترك الفاصل بين البيتين، أو أساس الجدار، فلا شفعة في ذلك مع أن الأمثلة المذكورة لا تختلف عن البيت والأرض إلّا أن الحكم خلاف القاعدة، ولا مناط قطعيّ ليشملها.

ص: 31


1- تذكرة الفقهاء 12: 206.

والحاصل: لو باع أرضه مع حصته من البئر فلا حق للشفعة في الأرض وله حق الشفعة في البئر؛ لأنه باع شيئاً مشتركاً وإن كان منضماً إلى غير مشترك.

وهنا فروع أُخر تطلب من مظانها.

ص: 32

فصل: من شروط الشفعة

اشارة

فمضافاً إلى الشروط العامة هناك شروط أخرى منها:

الشرط الأوّل: الانتقال بالبيع

اشارة

من شرائط الشفعة أن يكون الانتقال بالبيع حصراً، فلو انتقل بغيره، كسائر العقود أو بالإيقاع أو ضماناً أو مهراً أو قهراً، فلا شفعة.

قال في الشرائع: «ويشترط انتقال الشقص بالبيع، فلو جعله صداقاً أو صدقة أو هبة أو صلحاً فلا شفعة»(1).

وفي المسألة قولان:

القول الأوّل: ما ذكره في الشرائع وهو المشهور المدعى عليه الإجماع(2).

واستدل له بأدلة:الدليل الأوّل: الأصل(3)، أي: قاعدة الناس مسلطون على أموالهم، استثني منه الشفعة في البيع، ولا دليل على استثناء غيره، لا أقل من سكوت الأخبار عنه.

ص: 33


1- شرائع الإسلام 4: 777.
2- تذكرة الفقهاء 12: 222؛ جامع المقاصد 6: 357؛ مسالك الأفهام 12: 273؛ الحدائق الناضرة 20: 299؛ جواهر الكلام 38: 404 (37: 266 ط ق).
3- الفقه 79: 53.

الثاني: الإجماع المدعى في السرائر(1) والتذكرة(2) وجامع المقاصد(3) وادعاه الشيخ الطوسي(4) في موارد خاصة كالمهر، وأمّا مخالفة مثل ابن الجنيد(5) فغير ضارة.

الثالث: الأخبار الدالة على اختصاصها بالبيع.

إلّا أنها لا تدل على المطلوب، بل تثبتها في البيع، وإثبات شيء لا ينفي ما عداه، فهو من مفهوم اللقب، وما فهم منه مفهوم الشرط غير تام.

منها: حسنة(6) الغنوي، قال(علیه السلام): «الشفعة في البيوع...»(7).

ومنها: صحيحة(8) أبي بصير عن الباقر(علیه السلام): «سألته عن رجل تزوج امرأةعلى بيت في دار وله في تلك الدار شركاء، قال: جائز له ولها ولا شفعة لأحد من الشركاء عليها»(9).

ص: 34


1- السرائر 2: 386.
2- تذكرة الفقهاء 12: 222.
3- جامع المقاصد 6: 358.
4- المبسوط 3: 111.
5- مختلف الشيعة 5: 339، وفيه: «وقال ابن الجنيد: إذا زال ملك الشريك عنه بهبة منه بعوض شرط يعوضه إياه أو غير عوض كان للشفيع شفعة فيه، فإن حبس ملكه أو أسكنه لم يكن للشفيع شفعة»؛ الدروس الشرعية 3: 358.
6- الكليني، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن يزيد بن إسحاق شعر، عن هارون بن أبي حمزة الغنوي... .
7- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 396.
8- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطية، عن أبي بصير... .
9- تهذيب الأحكام 7: 167؛ وسائل الشيعة 25: 407.

ولا فرق بين الصداق وسائر الأشياء؛ لعدم القول بالفصل.

لكنها مجملة، فإن نفي الشفعة قد يكون لعدم كونه بيعاً، وقد يكون لتعدد الشركاء، وإن قيل بإطلاق الشركاء على الشريكين مجازاً، إلّا أنه غير نافع في المقام لانتهائه إلى ثلاثة أحدهم المتزوج.

مضافاً إلى أن الرواية لا تثبت الشركة في البيت، بل الدار التي يملك كل واحد منهم بيتاً منها، فيكون نفي الشفعة إمّا لتقسيم البيوت وإمّا لعدم كونه بيعاً، فتكون الرواية مجملة أيضاً.

ومنها: مرسلة يونس بن عبد الرحمن، عن بعض رجاله، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «... إذا كان الشيء بين شريكين لا غيرهما فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحق به من غيره»(1).

ووجه الاستدلال - كما في فقه الصادق(علیه السلام)(2)- : أن مفهوم الشرط نافٍ للشفعة عن غير البيع، فهنا شرطان، وهما (بين الشريكين) و (باع)، وانتفاءأحدهما مستلزم لنفي الجزاء.

والكلام في اختصاص مفهوم الشرط بالشرط الواحد أو شموله للشرطين وترتب الجزاء عليهما وانتفائه بانتفاء أحدهما موكول إلى الأصول.

لكنه محل تأمل؛ حيث لا مفهوم للشرط الثاني، بل هو محقق للموضوع، حيث يظهر من الرواية أنه لو لم يكن بيع لم يكن انتقال أصلاً، فلا وجه

ص: 35


1- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 402.
2- فقه الصادق(علیه السلام) 18: 336.

للشفعة(1)، فلا مفهوم للرواية أصلاً حتى يُتمسك به لنفي الشفعة عن غير البيع؛ فإن الشرط قد يكون صفة لشيء موجود ك-(إن جاء زيد...) فزيد قد يتصف بالمجيئ وقد لا يتصف، وقد يكون محققاً لنفس الموضوع ك-(إن رزقت ولداً) حيث إن لم يرزق كان من السالبة بانتفاء الموضوع، والمفهوم للأوّل دون الثاني.

والحاصل: إنه لا دلالة في الروايات على اختصاص الشفعة بالبيع، وإنّما الدليل منحصر بالوجه الأوّل بالإضافة إلى الإجماع إن تم.

القول الثاني: ما عن ابن الجنيد(2) في ثبوتها في غير البيع فيالجملة، كالهبة المعوضة دون السكنى والعمرى، واستدل بدليلين:

الأوّل: عدم الدليل على التخصيص بالبيع.

وفيه نظر: حيث لا حاجة إلى عدم الدليل، بل لا بدّ من إقامة الدليل على التعميم حين يكون الأمر خلاف القاعدة.

الثاني: العلة الواردة في مرسلة يونس الشاملة لغير البيع أيضاً، حيث نقل عنه العلامة ما نصه: «... الحكمة الباعثة لإيجاب الشفعة في صورة توجيه البيع موجودة في غيره من عقود المعاملات، فلا اعتبار في خصوصية العقود

ص: 36


1- وإن كان نفي البيع أعم من عدم الانتقال أصلاً أو انتقاله بالهبة، هذا ما نفاه السيد الأستاذ في الدرس، لكن الظاهر أن النفي المذكور غير تام، فليس الشرط محققاً للموضوع، بل هو من قبيل نفي الصفة، فقد ينتقل بالبيع وقد ينتقل بغيره، ولا ظهور للرواية في الشرط المحقق للموضوع، فيثبت المفهوم (المقرر).
2- مختلف الشيعة 5: 339.

في ذلك في نظر الشرع، فإمّا أن يثبت الحكم في الجميع أو ينتفي عن الجميع، فإثباته عن البعض دون بعض ترجيح من غير مرجح»(1).

فالاستدلال بعموم العلة أو تنقيح المناط.

وفيه ما مضى من كونها حكمة، وأمّا المناط فغير قطعي وهو أشبه بالقياس.

فمقتضى القاعدة ما ذهب إليه المشهور.

ولا يخفى أن الشفعة جارية في كل أنواع البيوع، سواء أكان شخصياً أم كلياً في المعين أم مشاعاً، وأمّا ما روي بأنه: «لا شفعة إلّا فيمشاع»(2) النافي لغيره، فيرد عليه - مضافاً إلى ضعف السند - : أن الفرق بين المشاع والكلي في المعين اصطلاح فقهائي، وأمّا في العرف - المنزل عليه الرواية - فإن المشاع في مقابل المقسوم الشامل للكلي في المعين أيضاً.

مسألة: حكم الشفعة في الوقف

لو كان شريكاً مع الوقف، فلو باع أحدهما فهل للآخر حق الشفعة؟

قال في الشرائع: «ولو كانت الدار وقفاً وبعضها طلقاً، فبيع الطلق لم يكن للموقوف عليه شفعة ولو كان واحد؛ لأنه ليس مالكاً للرقبة على الخصوص وقال المرتضى: تثبت الشفعة»(3).

وفي المسألة صورتان:

ص: 37


1- مختلف الشيعة 5: 339.
2- مستدرك الوسائل 17: 99.
3- شرائع الإسلام 4: 777.

الأولى: أن يبيع مالك الطلق، فهل لصاحب الوقف حق الشفعة؟

الثانية: أن يبيع صاحب الوقف بمسوغ من مسوغات البيع، فهل لشريكه حق الشفعة؟

أمّا الصورة الأولى ففيها قولان: ما اختاره في الشرائع(1) من عدمثبوت الشفعة وهو الأشهر، وما ذهب إليه السيد المرتضى(2) من ثبوتها.

واستدل لثبوتها بأدلة ثلاثة:

الدليل الأوّل: شمول إطلاقات أدلة الشفعة له، حيث إن صاحب الوقف مالك(3).

وأشكل عليه أوّلاً: بأن المالك محجور عليه، فلا يحق له التصرف في الأموال، والأخذ بالشفعة نوع من أنواع التصرف.

وفيه: إنه مالك غير مقاسم فيشمله إطلاق الأدلة، وعليه أن يعمل في العين الموقوفة بأحكام الوقف، وأخذ الحصة بالشفعة ليس مخالفاً للوقف، وهذا شأن كل محجور عليه حيث يمكنه - مثلاً - من سكنى الدار والتصرف فيها بخلاف بيعها وإتلافها.

وثانياً: من شروط الشفعة أن تكون بين شريكين، والموقوف عليه قد يتعدد في المستقبل كالوقف الذري.

ص: 38


1- شرائع الإسلام 4: 777.
2- الانتصار: 457.
3- الدروس الشرعية 3: 358؛ رياض المسائل 12: 308؛ مفتاح الكرامة 18: 446؛ الفقه 79: 56.

وفيه: عدم كون الأمر التقديري والمستقبلي ملاكاً للحكم الفعلي، وإلّا كان جارياً في كل شريكين، حيث قد يتعدد الشركاء بموت أحد الشريكين.وثالثاً - وهو العمدة - : إن شرط الشفعة الشراكة في الملك وفي كون صاحب الوقف مالكاً أقوال:

منها: إن الوقف يبقى على ملك الواقف لكنه محجور عن التصرف فيه.

ومنها: إن الموقوف عليه هو المالك.

ومنها: التفصيل بين الوقف الخاص فهو ملك والعام فلا ملك.

ومنها: لا مالك للوقف الخاص والعام.

فبناءً على القول بعدم ملكية الوقف فلا شفعة.

إن قلت: إن المال مشترك فكيف يخلو من الشريك المالك.

قلت: إن العنوان هو المالك لا الشخص وملكية العنوان عقلائية، فتكون ممضاة بعدم الردع، أو لا مالك أصلاً - كما يقال: في المسجد - وحيث لم يملك الشخص فلا شفعة.

والحاصل: إن صاحب الوقف ليس مالكاً فلا يكون شريكاً فلا تشمله أدلة الشفعة.

نعم، لو قلنا بملكية صاحب الوقف شملته الأدلة، اللّهم إلّا أن يقال بانصراف النصوص إلى المشترك بين الفردين لا الفرد والجهة، والانصراف غير بعيد.الدليل الثاني: الإجماع، حيث ادعاه السيد المرتضى(1)، بل قال إنه

ص: 39


1- الانتصار: 457.

من متفردات الإمامية ولم يقل به أحد من العامة.

قال: «إن لإمام المسلمين وخلفائه المطالبة بشفعة الوقوف التي ينظرون فيها على المساكين أو على المساجد أو على مصالح المسلمين، وكذلك كل ناظر بحق في وقف من وصي وولي له أن يطالب بشفعته»(1).

وفيه: إنه لم يذهب إليه من قبله ومن بعده، وهو الوحيد المتفرد في ذلك، ونسب أيضاً إلى آخر لكن عبارته غير صريحة في ذلك.

فمن المعلوم عدم تحقق الإجماع، لا أقل من الشهرة العظيمة على عدم الشفعة، بل ادعى الشيخ الطوسي عدم الخلاف فيه(2).

الدليل الثالث: استفادة المناط وهو دفع الضرر، فقد احتج السيد المرتضى على العامّة بجريان الملاك بطريق أولى، قال: بل أولى لأن حقوق الفقراء ووجوه القربات أولى بالحفظ من الضرر(3).

وفيه: إنها حكمة لا علة، لا أقل من عدم العلم بكونها علة فيكون قياساً.وأمّا الصورة الثانية(4) فقد ذهب المشهور(5) إلى ثبوت الشفعة، لوجود المقتضي وهو إطلاق الأدلة، وانتفاء المانع وهو المقيدات.

ص: 40


1- الانتصار: 457.
2- المبسوط 3: 145.
3- راجع الانتصار: 457.
4- وهي: أن يبيع صاحب الوقف بمسوغ من مسوغات البيع، فهل لشريكه حق الشفعة؟
5- الدروس الشرعية 3: 359؛ مسالك الأفهام 12: 274؛ تحرير الأحكام 4: 559؛ جامع المقاصد 6: 359.

لكن صاحب الجواهر أشكل - بعد نقل عبارة المسالك(1) وجامع المقاصد(2)- بعدم تحقق المقتضي لتعدد الشركاء في الوقف عادة(3).

وهو غريب، فإن المفروض في الكلام تحقق سائر الشرائط، حيث لا تكرر الشروط في كل فرع، فالمراد من وجود المقتضي إنّما هو مع توفر سائر الشرائط.

الشرط الثاني: كونها بين اثنين

اشارة

من شرائط الشفعة أن تكون الشركة بين اثنين، فلو تجاوز ذلك فلا شفعة، هذا هو المشهور.

والأقوال في المسألة ثلاثة(4):الأوّل: ما هو المشهور، وهو ثبوت الشفعة إذا كانت الشركة بين اثنين.

الثاني: ثبوتها في الأرض حتى مع تعدد الشركاء، دون العبد.

الثالث: ثبوتها مطلقاً، وإن كثر الشركاء كما في الشركات الكبرى.

قال في الشرائع: «وهل يثبت لما زاد عن شفيع واحد؟ فيه أقوال، أحدها: نعم، وتثبت مطلقاً على عدد الرؤوس. والثاني: تثبت في الأرض مع الكثرة

ص: 41


1- مسالك الأفهام 12: 274، وفيه: «... فلا إشكال في ثبوت الشفعة لصاحب الطلق؛ لوجود المقتضي وانتفاء المانع».
2- جامع المقاصد 6: 359، وفيه: «فرع: لو بيع الوقف في صورة الجواز تثبت للآخر الشفعة».
3- جواهر الكلام 38: 409 (37: 269 ط ق).
4- مفتاح الكرامة 18: 459.

ولا تثبت في العبد إلّا للواحد، والثالث: لا تثبت في شيء مع الزيادة عن الواحد وهو أظهر»(1).

ومنشأ الأقوال اختلاف الروايات، فلا بدّ من تحقيقها وملاحظة وجه الجمع العرفي بينها، وإلّا فالترجيح وإلّا فالتساقط؛ للتعارض والرجوع إلى الأصل العام المنتهي إلى نفيها.

أمّا القول الأوّل، فقد استدل له(2) بمجموعة من الروايات وفيها الصحاح، بالإضافة إلى عمل المشهور، ومنها:

الرواية الأولى: صحيحة(3) عبد اللّه بن سنان، عن الصادق(علیه السلام) قال:«لا تكون الشفعة إلّا لشريكين ما لم يتقاسما، فإذا صاروا ثلاثة فليس لواحد منهم شفعة»(4).

وسندها تام ودلالتها واضحة صدراً ومنتهى(5).

لكن في المسالك(6) أشكل على الدلالة بعد إقراره بكون الإشكال خلاف الظاهر، وحاصله: أن صحيحة عبد اللّه بن سنان تعارض الروايات التي

ص: 42


1- شرائع الإسلام 4: 777.
2- مسالك الأفهام 12: 280؛ جواهر الكلام 38: 414 (37: 272 ط ق).
3- الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن، عن عبد اللّه بن سنان... .
4- الكافي 5: 281؛ تهذيب الأحكام 7: 164؛ وسائل الشيعة 25: 402.
5- الأفضل عدم التعبير عن نهاية الرواية ب-(الذيل) كما هو المتعارف، ولذا عبّرنا بالمنتهى (المقرر).
6- مسالك الأفهام 12: 282.

تمسّك بها غير المشهور، والترجيح مع الطائفة الثانية فلا بدّ من تأويل الصحيحة.

وحاصل تأويله: أن الصحيحة تنص على نفي الشفعة لشريكين ولا تنفيه بين الشريكين، فلو كانا شريكين فإن الشفعة لأحدهما لا لكليهما، حيث لا معنى لثبوتها للبائع، فلو كانوا ثلاثة وباع أحدهم ثبتت للشريكين.

قال: «... حيث إنه أثبت الشفعة للشريكين باللام المفيدة للاستحقاق أو ما في معناه، والمطلوب لا يتم إلّا إذا أريد ثبوتها بين الشريكين لا لهما»(1).ثم يشكل على نفسه بأن الاحتمال المذكور قد يتم في الصدر، أمّا المنتهى فصريح في نفي الشفعة عن الثلاثة، لكنه قابل للتوجيه أيضاً، حيث قد يكون المراد إثبات الشفعة للاثنين لا لواحد فقط، وإلّا فلا بدّ من القول بتعارض الصدر والمنتهى فتكون مجملة.

ثم يقول: إن التأويل المذكور خلاف الظاهر(2)، وإنّما صار إليه درءاً لطرح الرواية، وإلّا فلا بدّ من طرحها والتمسك بروايات غير المشهور لكثرة عددها وأصحية سندها.

واستغرب صاحب الجواهر(3) من التأويل المذكور، فإن الجمع إنّما يكون فيما لو كان عرفياً، وما ذكره خلاف ظاهر الرواية ولا يفهمه العرف، منتهى الأمر رد علمها إلى أهلها لمعارض أقوى.

ص: 43


1- مسالك الأفهام 12: 282.
2- مسالك الأفهام 12: 282.
3- جواهر الكلام 38: 420 (37: 275 ط ق).

لكن الرواية واضحة الدلالة على ما ذهب إليه المشهور، فقد استعمل الإمام(علیه السلام) (اللام) بدل (بين) لبيان الحكم الكلي، فلو باع الأوّل كان للثاني حق الشفعة وبالعكس، فتكون الشفعة ثابتة للشريكين.

ومعنى «فليس لواحد منهم» نفي الشفعة عن كلهم، وليس الواحد في قبل الاثنين حتى يثبت لهما.لكنه اختار في شرح اللمعة(1) ما هو المشهور.

الرواية الثانية: مرسلة يونس: «إذا كان الشيء بين شريكين لا غيرهما فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحق به من غيره، وإن زاد على الاثنين فلا شفعة لأحد منهم»(2).

وهي معتبرة على المبنى وعليها عمل المشهور، بل كاد أن يكون إجماعاً(3).

كما استدل على ذلك بالإجماع وبالأصل(4)، وقد خرج منه الشريكان ويبقى الأكثر تحت قاعدة السلطنة.

وأمّا القول الثاني: وهو لغير المشهور، منهم ابن الجنيد(5)، وقد استدل له بروايات:

ص: 44


1- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية 4: 397.
2- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 402.
3- مفتاح الكرامة 18: 457.
4- جواهر الكلام 38: 417 (37: 273-274 ط ق).
5- مسالك الأفهام 12: 281.

منها: معتبرة السكوني وطلحة بن زيد(1) عن الإمام الصادق عنآبائه عن أمير المؤمنين^: «الشفعة على عدد الرجال»(2).

لكنهما لا يعارضان الصحيحة والمرسلة للإعراض عنهما، وحتى لو فرض عدم الإعراض فالصحيحة أقوى سنداً فالترجيح لها، ويمكن حملها على قاعدة الإلزام، كما سيأتي.

الرواية الثانية: خبر عقبة بن خالد: «قضى رسول اللّه| بالشفعة بين الشركاء»(3).

وظاهره الثلاثة فما فوق وإن أطلق على الاثنين مجازاً.

وفي دلالته إشكال؛ إذ ليس المقصود البيع الواحد الذي فيه شركاء، بل ظاهره أن مجموع الشركاء لهم حق الشفعة في مجموع البيوع كما تقول: باع القوم أمتعتهم، أي: باع كل واحد متاعه، وأمّا من حيث الشريكين أو الشركاء في البيع الواحد فهو مجمل، يُرفع إجماله بالروايات التي تمسّك بها المشهور، وعلى فرض الدلالة فهو مرسل لا يعارض الصحيحة المعمول بها.

الرواية الثالثة والرابعة: صحيحة منصور بن حازم وحسنته في الشركاء في

ص: 45


1- الشيخ الطوسي بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمّد، عن البرقي، عن النوفلي، عن السكوني، عن جعفر(علیه السلام) عن أبيه عن آبائه عن علي^. ورواها الشيخ الصدوق بإسناده عن طلحة بن زيد وهو موثق كما مرّ، والطريق إليه صحيح، وكلا السندين معتبر كما مرّ.
2- تهذيب الأحكام 7: 166؛ وسائل الشيعة 25: 403.
3- الكافي 5: 280؛ تهذيب الأحكام 7: 164؛ وسائل الشيعة 25: 400.

الطريق كما مرّ.

إلّا أنهما معرض عنهما ومحمولان على التقية كما مرّ.وعلى فرض عدم مسقطية الإعراض وعدم الحمل على التقية فلا بدّ من القول بالتخصيص؛ فإن مفاد الصحيحة والمرسلة عدم الشفعة بين الشركاء، ومفاد الصحيحتين ثبوتها في الأرض والطريق المشترك بين الشركاء، وهو يقرب من القول الثاني.

والحاصل: إن مقتضى القاعدة عدم ثبوت الشفعة بين الشركاء.

وهنا فروع:

الفرع الأوّل: أن تكون الشركة قبل البيع

إن شرط الشريكين إنّما هو قبل البيع، أمّا تعدد الشركاء بعد البيع فلا يخل بالشفعة - كما في مفتاح الكرامة(1) - فلو باع أحد الشريكين سهمه لنفرين فأصبحوا شركاء حق للشريك الأوّل الأخذ بالشفعة، وكذا العكس فيما لو كانوا شركاء ثلاثة قبل البيع فأصبحوا شريكين بعد البيع، بأن باع اثنين سهمهما لواحد، حيث لا يحق الأخذ بالشفعة؛ وذلك لأن إطلاق الأدلة والمتبادر من فتوى الفقهاء لزوم تحقق الشرط قبل البيع، ويؤيده عدم فتوى أحد الفقهاء بكون البيع لنفرين من مسقطات الشفعة.

الفرع الثاني: كون الشفعة على عدد الرؤوس أو على قدر الأسهم

على القول بثبوت الشفعة بين الشركاء فهل تكون على عدد الرؤوس

ص: 46


1- مفتاح الكرامة 18: 462.

ليقسّم المباع بين الشركاء بالتساوي، أو على قدر السهامليقسّم بينهم بالنسبة؟

في المسألة احتمالان ذكرهما واستدل لهما في المسالك(1) من دون ترجيح دليل أحدهما على الآخر.

أمّا الاحتمال الأوّل: فقد استدل له أوّلاً بروايات الشفعة، ومنها: رواية طلحة والسكوني: «الشفعة على عدد الرجال»، حيث لم يقيد بالسهام، ولا وجه للقول بكون المراد على عدد الرجال بقدر سهامهم؛ للزوم التصريح به لو أريد، بالإضافة إلى ظهوره في التساوي بين الرجال، فلا يقال: إنها في مقام بيان أصل حكم الشفعة دون كيفية التقسيم.

وثانياً: في الشريكين إذا اختلفت نسبة سهمهما، فباع أحدهما حُق للثاني الأخذ بالشفعة في كل السهم المباع، ولو كان على قدر السهام للزم الأخذ بنسبة حقه، هذا مما لا شك فيه، كذلك المقام.

وفيه نظر: فإن وجه التشبيه - على فرض الأخذ به - إنّما يكون هكذا: إطلاق الأدلة في الشريكين يثبت حقه في كل المباع، وكذلك في المقام يثبت الحق للشريكين أو الشركاء الأخر في كل المباع، وأمّا كيفية التقسيم فهو قياس مع الفارق.

أمّا الاحتمال الثاني: فقد استدل له: بأن «المقتضي للشفعة هوالشركة، والمعلول يتزايد بتزايد علته وينقص بنقصها(2) إذا كانت قابلة للقوة

ص: 47


1- مسالك الأفهام 12: 283-284.
2- والتعبير المذكور عرفي مسامحي، والأصح التعبير بالأقوى والأضعف، فإن كانت العلة أقوى كان المعلول أقوى وإلّا فأضعف (السيد الأستاذ).

والضعف»(1).

فالشركة علة الشفعة فلو زادت زادت، ولو نقصت نقصت.

وفيه نظر: فإن الشركة في السهام المختلفة علة شيء واحد وهو ثبوت أصل الشفعة، وأمّا متعلّق الشفعة فزيادته ونقصانه لا يرتبط بقوة العلة وضعفها.

وبعبارة أخرى: إن إصل الشركة - سواء بنسبة قليلة أم كثيرة - موجب لتولد حق الشفعة، والمعلول لا قوة ولا ضعف فيه، بل إمّا هو موجود أو لا. نعم، متعلّقه إمّا قليل أو كثير، وهو أجنبي عن العلة. هذا، مضافاً إلى كونه مجرد استحسان، وأن قوة وضعف العلة المؤثرة في المعلول قوة وضعفاً مسألة تكوينية، والشفعة وأمثالها قضايا اعتبارية يلاحظ فيها الدليل، وهو يدل على أصل الشفعة دون كيفيتها، فيتمسّك بإطلاقها إن كان، وإلّا فيكون مجملاً لا على قدر السهام.

وعليه فمقتضى القاعدة تمامية الاحتمال الأوّل.

الفرع الثالث: عدم الفرق بين بيع كل الحصة وبعضها

لا فرق بين بيع الشريك كل حصته أو بعضها لإطلاق الأدلة، وعليه فيختلف الحكم باختلاف الصور، كما لو باع نصف سهمه ثم وهب النصف الآخر أو بالعكس أو في آن واحد.

أمّا الصورة الأولى فيحق للشريك الأخذ بالشفعة في المباع دون

ص: 48


1- مسالك الأفهام 12: 284.

الموهوب؛ لأن الشفعة في البيع دون الهبة.

وأمّا الصورة الثانية فلا حق للشفعة أصلاً؛ لأنهم أصبحوا شركاء بعد الهبة.

وأمّا في الصورة الثالثة فله حق الشفعة في المبيع؛ لكونهما شريكين قبل البيع، وإن أصبحوا شركاء بعد البيع والهبة؛ لما مضى من لزوم شركة اثنين فقط قبل البيع.

الفرع الرابع: لو باع أحدهم حصته لأحد الشركاء

لو كان الشركاء ثلاثة فباع أحدهم حصته لأحد الشركاء، فأصبحا شريكين لم تثبت الشفعة؛ لكون الملاك الاثنينية قبل البيع.

الفرع الخامس: في اختلاف الشركاء اجتهاداً وتقليداً

لو اختلف الشركاء اجتهاداً وتقليداً في مسألة شرط الاثنينية، فلا بدّ من مراجعة حاكم آخر ينفذ حكمه عليهما، كما هو الحال في نظائره الكثيرة في الفقه، والمسألة من الأبواب المهمة في القضاء؛ وذلك لأن ترجيح تقليد أو اجتهاد أحدهما بلا مرجح، وقد جعل القاضي لحلالمنازعات(1).

تتمة

لو كان البائع والمشتري عاميين يريان ثبوتها في الشركاء، فهل للمؤمن

ص: 49


1- لو أدى الاختلاف المذكور إلى النزاع والترافع كان ما ذكر تاماً، وإلّا أمكن القول بأن يعمل كل واحد على حسب وظيفته الشرعية، فيأخذ الشريك بالشفعة ويستولي قهراً على مال المشتري، فإن تمكن المشتري من تخليص ماله فعل وكان جائزاً له حسب ما يراه من بطلان الأخذ بالشفعة، وإلّا فإن استسلم فبها، وإلّا كان التنازع والرجوع إلى القاضي (المقرر).

التابع للمشهور حق الشفعة؟

المسألة تابعة لمدى دلالة قاعدة الإلزام.

وأمّا لو كان البائع عامياً والمشتري مؤمناً أشكل الأخذ بالشفعة.

كما أنّه يمكن أن تكون روايتا السكوني وطلحة لقاعدة الإلزام لا للتقية، كما في الفقه(1).

ص: 50


1- الفقه 79: 72.

فصل: في مبطلات الشفعة

اشارة

قال في الشرائع: «وتبطل الشفعة بعجز الشفيع عن الثمن وبالمماطلة، وكذا لو هرب، ولو ادعى غيبة الثمن أجّل ثلاثة أيام، فإن لم يحضره بطلت شفعته، فإن ذكر أن المال في بلد آخر أجِّل بمقدار وصوله إليه وزيادة ثلاثة أيام ما لم يتضرر المشتري»(1).

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: العجز عن دفع الثمن

وهو مبطل للشفعة، واستدل له بأربع أدلة(2): وهي الإجماع المدعى أو عدم الخلاف، وانصراف أدلة الشفعة إلى القادر، وأمّا غيره فيبقى في دائرة قاعدة: لا يحل مال امرئ إلّا بطيبة نفسه، وبدليل لا ضرر؛ حيث استدل الفقهاء على الخيار وعلى فوريته في العيب والغبن بلا ضرر، ومع جريانه فيهما جرى في المقام بلا فرق، وبصحيحة علي بن مهزيار(3)،قال: «سألت

ص: 51


1- شرائع الإسلام 4: 778.
2- جواهر الكلام 38: 426 (37: 280 ط ق)؛ الفقه 79: 74.
3- الشيخ الطوسي بإسناده عن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن محمّد بن الحسن الصفار، عن الهيثم بن أبي مسروق النهدي، عن علي بن مهزيار...، والنهدي حَسَن عند المشهور إلّا أن الأقوى كونه صحيحاً لكونه من مشايخ ابن أبي عمير (السيد الأستاذ).

أبا جعفر الثاني(علیه السلام) عن رجل طلب شفعة أرض فذهب على أن يحضر المال فلم ينض(1)، فكيف يصنع صاحب الأرض إذا أراد بيعها؟ أيبيعها أو ينتظر مجيء شريكه صاحب الشفعة؟ قال(علیه السلام): إن كان معه بالمصر فلينتظر به ثلاثة أيام، فإن أتاه بالمال وإلّا فليبع وبطلت شفعته في الأرض»(2).

فإن مفهومها نفي الشفعة عن غير القادر، أو يفهم ذلك بالمناط والأولوية، فمن لا مال له فلا شفعة له بطريق أولى، بل يفهم الحكم المذكور بعد ثلاثة أيام بمنطوقها.

وأشكل على ذلك صاحب الحدائق(3) بكون الرواية أجنبية عن المقام، فإن الشفعة إنّما تكون بعد البيع ومورد الرواية قبل البيع، فإن الشريك يعرض سهمه على شريكه قبل أن يبيع، فإن جاء بالثمن خلال ثلاثة أيام فهو أولى به.

لكنه غير وارد لقرائن وهي أوّلاً: إن طلب شفعة الأرض لا يشمل قبل البيع، حيث لا شفعة، فهو من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، فمعنىالرواية أن الشريك باع سهمه فأخذ الآخر أو يريد أن يأخذ بالشفعة.

وثانياً: بقرينة الشفعة يعلم أن المقصود من صاحب الأرض المشتري لا الشريك، فالمراد أن المشتري الذي أصبح صاحب الأرض إن أراد بيع أرضه فهل يحق له ذلك فوراً أم عليه انتظار الشريك ثلاثة أيام.

وثالثاً: قوله: «بطلت شفعته» غير متحقق فيما لو كان عاجزاً قبل البيع،

ص: 52


1- نضّ بمعنى تيسّر، راجع معجم مقاييس اللغة 5: 357.
2- تهذيب الأحكام 7: 167؛ وسائل الشيعة 25: 406.
3- الحدائق الناضرة 20: 308.

حيث لا بيع أصلاً فلا شفعة حتى تبطل، فالمعنى أنه قد تحقق البيع وتولد حق الشفعة، فإن لم يأت بالثمن بطلت.

هذا ما في الجواهر(1)، وأضاف في الفقه جواباً آخر، وهو أنه على فرض ظهور الرواية فيما ذكره صاحب الحدائق من كون المراد البطلان قبل البيع فنقول: يثبت البطلان بعده بطريق أولى أو للمناط(2).

ثم إن المحقق الأردبيلي(3) أشكل على تقييد الفقهاء الرواية بالضرر؛ فإن النص مطلق فيجب عليه الانتظار سواء كان هنالك ضرر أم لا، فلا بدّ من التمسّك بإطلاقها أو الإعراض عنها، ثم رجّح الأوّل لعدم تخصيص الأدلة بالضرر، كما يشاهد في موارد كثيرة في الفقه.

ويرد عليه: إن (لا ضرر) من الأحكام الثانوية التي تقدم على العناوينالأوّلية بالحكومة، وعليه فلا بدّ من العمل بإطلاق الرواية إلّا في مورد الضرر.

وأضاف في الحدائق(4) عدم وجود موارد كثيرة للضرر في الفقه إلّا فيما كان المورد ضررياً.

ثم إن طريق معرفة عجزه اعترافه به.

وأمّا الإعسار ففيه وجهان، اختار الشهيد الثاني أن أجودهما عدم بطلان

ص: 53


1- جواهر الكلام 38: 426 (37: 279 ط ق).
2- الفقه 79: 74.
3- مجمع الفائدة والبرهان 9: 21.
4- الحدائق الناضرة 20: 308.

الشفعة به(1)، فإن الفقير قد يمكنه تحصيل الثمن ولو بالقرض، فلا تبطل الشفعة بمجرد الإعسار، ولا بأس به.

ثم إن هنا فرعين:

الأوّل: لو أخذ بالشفعة ثم ادعى الإعسار لم يسمع منه إلّا ببينة، كما لو أخذ الأرض بالشفعة ثم تنزلت قيمتها مما يشتبه أنه يدعي الإعسار فراراً عن دفع الثمن، فيؤخذ منه الثمن قهراً إن أمكن، وإن لم يمكن حُق للمشتري إبطال الشفعة.

الثاني: لو ادعى اليسار ليأخذ بالشفعة، وعلم بعدم قدرته، قيل: لم ينفع ذلك في أخذه بالشفعة، وقيل: لو أخذ بها ولم يتمكن من تسديد الثمن ورضي المشتري بالصبر أو بأخذ رهن أو عوض فهو؛ لأن الحق لايعدوهما.

المسألة الثانية: المماطلة في الأداء

اشارة

ولا يخفى أن فورية الأخذ بالشفعة - كما سيأتي الكلام عنه - غير مماطلة الأداء، فلا بدّ من تنقيح موضوع المماطلة، ثم بيان دليل بطلانها بها.

قال في المسالك: «والمراد بالمماطل القادر على الأداء ولا يؤدّي»(2)؛ وذلك بأن يكون قد أخذ بالشفعة لكن يماطل في دفع الثمن، أمّا القادر المريد للأداء لكن يمنعه مانع فسيأتي حكمه، حيث يمهل ثلاثة أيام. وأمّا العاجز عن الأداء فلا شفعة له أصلاً.

وحيث لم تنقح العناوين الثلاثة عند البعض اضطربت آراؤهم.

ص: 54


1- مسالك الأفهام 12: 284.
2- مسالك الأفهام 12: 284.

والكلام في وجه بطلان شفعة المتمكن المماطل من دون مانع، فقد ادعى الجواهر على ذلك الاتفاق(1)، هذا أوّلاً.

وثانياً: إن حق الشفعة خلاف القاعدة فيتمسّك بما دل عليه الدليل، وهو يشمل المماطل في الآن الأوّل دون ما بعده.

لكنه محل تأمل؛ لأن إطلاق الدليل المخصص لقاعدة (لا يحل مال امرئ) مقدم على الأصل.وثالثاً: دليل (لا ضرر) فإن المماطلة ضرر، فتبطل الشفعة لرفع الضرر عن المشتري.

لكنه أخص من المدعى، فقد لا يكون ضرراً عليه كما في التأخير ساعة، وكما لو اشتراه نسيئة من البائع فمع المماطلة لا يترتب ضرر على المشتري(2).

ثم إنه لا وجه لانحصار رفع الضرر بإبطال الشفعة، بل يرفع الضرر بإثبات حق الفسخ أيضاً، والترجيح مع الثاني ليكتفى بأقل ما يوجب رفع الضرر، كما في إثبات حق الفسخ في خيار العيب والغبن، دون إبطال البيع.

والحاصل: إن مقتضى القاعدة ثبوت حق الفسخ للمشتري دون إبطال حق الشفعة بالمماطلة، فتأمل.

ص: 55


1- جواهر الكلام 38: 428 (37: 281 ط ق).
2- وفيه نظر: لما ذكر في (لا ضرر) أنه يرفع ما من شأنه الضرر بغض النظر عن المتضرر، ولذا فإن الضرر اليسير مرفوع وإن كان درهماً، سواء كان المتضرر فقيراً أم غنياً لا يعبأ بمثله (المقرر).

وهنا فروع:

الفرع الأوّل: حق إبطال شفعة المماطل على الفور أم التراخي؟

لو ماطل في الأداء، حق للمشتري إبطال الشفعة، فهل هذا الحق على الفور؟مقتضى القاعدة كونه فورياً، كما في خيار الغبن والعيب؛ فإن حق الفسخ خلاف الدليل العام من وجوب الوفاء، ففي الآن الأوّل يخصص الدليل العام، وأمّا بعده فيجري الدليل، وهو أمارة ولا مجال لاستصحاب الخاص لأنه أصل، كما أنه استصحاب مسببي. وإن أبيت إلّا التمسّك بالخاص فهو من التمسّك به في الشبهة المصداقية، فتكون النتيجة خروج ما خصص قطعاً ويبقى الباقي تحت دائرة العام، وفي المقام لو ماطل الشريك كان للمشتري الخيار، فإن صبر سقط خياره، وعليه أن يراجع الحاكم الشرعي لأخذ حقه من الشفيع.

إن قلت: حددت صحيحة ابن مهزيار المهلة بثلاثة أيام.

قلت: المقام يختلف عن مورد الصحيحة فإن موردها غير المماطل، وتعديته إلى المقام مع الفارق، إلّا أن يقال بالأولوية، فمن يريد الأداء ويمنعه مانع فلا حق له أكثر من ثلاثة أيام، فالمماطل لا حق له بطريق أولى(1).

ص: 56


1- وفيه نظر: فإن الكلام ليس فيما بعد الثلاثة، بل في الآن الثاني، فلا وجه للأولوية المذكورة بالنسبة إليه، فمن يريد الأداء مع وجود مانع قد يُمهل ثلاثة أيام، وأمّا المماطل فقد لا يمهل حتى ساعة واحدة (المقرر).

ثم ذكر في مفتاح الكرامة(1) أنه لو علم بمماطلته - كما لو كان دأبه ذلك - فلا يسقط حقه في الشفعة بالعلم المذكور، فإن المماطلة منالمسقطات لا العلم بها.

وبعبارة أخرى: إن الوجود الخارجي للشيء مانع لا العلم بتحققه مستقبلاً.

ثم إنه لا فرق بين المماطلة في كل الثمن أو بعضه لإطلاق الدليل، فكما يتحقق الضرر بالكل يتحقق بالبعض.

ثم إنّه لو كانت المماطلة بحق - كما لو منعه عن حقه مقابل منعه عن حقه على القول بجواز ذلك أو ماطل ليدفع الظالم عنه - فقد يقال: إن الأمر مرتهن بالضرر فيكون الحكم تابعاً له، إلّا أن يخرج عنه موضوعاً، وعليه لو صدق الضرر لم يفرق بين كون المماطلة بحق أو بباطل.

الفرع الثاني: الهارب وأمثاله ممن لا يستطيع الأخذ بالشفعة

يقع الكلام في الهارب وأمثاله ممن لا يستطيع دفع الثمن، فهل يسقط حقه فيها؟

وفيه تفصيل: فإن فرّ قبل الأخذ بالشفعة فلا شفعة له، ل-(لا ضرر).

أمّا لو أخذ بها ثم فرّ ولم يؤد الثمن حُق للمشتري أخذ الثمن قهراً تقاصاً، وإن لم يمكنه كان له الفسخ ل-(لا ضرر) إن لم يكن هنالك إجماع على البطلان رأساً.

ص: 57


1- مفتاح الكرامة 18: 466.

ثم ذكر العلامة في التذكرة(1) خلافاً للقواعد(2) والتحرير(3) أنالحاكم هو هو الذي يفسخ ولا يحق للمشتري الفسخ رأساً، ولم يستدل له، ولم نجد له دليلاً إلّا أن الحاكم ولي الممتنع والقاصر، والفار غائب فيعد قاصراً.

لكنه غير تام؛ لأن الفسخ من طرف المشتري وهو حاضر فلا ولاية عليه، وهو متضرر فله حق الفسخ ب-(لا ضرر) كما هو الحال في سائر موارد الفسخ، حيث لم يجعل الفقهاء حق الفسخ للحاكم، بل للمتضرر الحق من دون مراجعة الحاكم، والمقام غير مستثنى منها، وتقييد دليل الفسخ بلزوم مراجعة الحاكم قيد زائد ينفى بالأصل.

ثم أشكل السيد الوالد في الفقه(4) بوجه آخر، وهو: إن الفسخ ليس من شؤون القاضي العرفي إلّا إذا رجعوا إليه، فلا يكون من شأن القاضي الشرعي أيضاً، كما ذكر تفصيله في كتاب القضاء في مباحث صلاحيات القاضي الشرعي.

المسألة الثالثة: في غيبة الثمن

قال في الشرائع: «ولو ادعى غيبة الثمن أجّل ثلاثة أيام، فإن لم يحضره بطلت شفعته، فإن ذكر أن المال في بلد آخر أجّل بمقدار وصوله إليهوزيادة

ص: 58


1- تذكرة الفقهاء 12: 322.
2- قواعد الأحكام 2: 250.
3- تحرير الأحكام 4: 560.
4- الفقه 101: 161.

ثلاثة أيام ما لم يتضرر المشتري»(1).

قيل: في العبارة قصور إذ المراد بمقدار وصوله إليه ورجوعه عنه وزيادة الثلاثة(2).

وعلى أيّ حال، فإن الدليل على المهلة المذكورة صحيحة ابن مهزيار(3) حيث قال(علیه السلام): «وإن طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد آخر فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف وزيادة ثلاثة أيام إذا قدم»(4)، والدليل على تقييده بعدم ضرر المشتري هو حكومة (لا ضرر) على العناوين الأوّلية، فمع عدم الضرر فالمحكّم إطلاق الرواية.

والمهلة المذكورة مشروطة بعدم صدق المماطلة لما في الصحيحة بكون المال غير ميسور، أمّا مع كونه ميسوراً فهو من المماطلة التي مضى الكلام عنها.

ثم إذا كان بدء الآخذ بالشفعة في الفجر كانت المهلة ثلاثة أيام وليلتين. نعم، في الملفق - كما لو بدأت المهلة في وسط النهار حيث يلزمإكماله من اليوم الرابع - تدخل الليلة الثالثة أيضاً، والظاهر أن اليوم عرفاً هو النهار ولا يشمل الليل، وإن أطلق عليه، لكنه إطلاق توسعي مجازي. نعم، تدخل

ص: 59


1- شرائع الإسلام 4: 778.
2- راجع مسالك الأفهام 12: 285. لكن يمكن أن يقال: إن الضمير في (وصوله) عائد إلى (المال) وفي (إليه) عائد إلى الشفيع. نعم، لو عاد الضمير الأوّل إلى الشفيع والثاني إلى المال لكان القصور بيناً، لكن لا وجه لذلك (المقرر).
3- مرّ ذكر سندها.
4- تهذيب الأحكام 7: 167؛ وسائل الشيعة 25: 406.

الليالي المتوسطة حيث لا معنى لإخراجها منه.

وتفصيل الكلام في ذلك في العدة والحيض وإقامة المسافر.

ثم إنه لو كان المال في بلد آخر لم يلزم عليه المشي سريعاً، كما لا يكفي المشي البطيء الأقل من المتعارف، ولو انتظر الرفقة بحيث كان خروجه قبلهم خطراً حُسب من المهلة ولم يمكن مماطلة.

ولو استلزم تحصيل الرفقة دفع المال لهم ليعجلوا الذهاب لم يلزم، فإن ظاهر الدليل الذهاب والإياب المتعارف.

ثم إن وصل المال إليه لم يحق له تأخير الأداء إلى نهاية الثلاثة، فإن ظاهر التحديد كونها نهاية مدة حق الشفعة ليحق له الفسخ لا أن معناه جواز التأخير عمداً، فإن قوله(علیه السلام) (لم ينض) أي: لم يتيسر، فيمهل ثلاثة أيام ليتيسر فيلزم عليه الأداء متى تيسر، ومع عدمه دخل في المماطلة.

ص: 60

فصل: في من يحق له الشفعة

اشارة

قال في الشرائع: «وتثبت الشفعة للغائب والسفيه وكذا للمجنون والصبي...»(1).

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: في ثبوت الشفعة للغائب ونحوه

اشارة

ولا يختص الحكم بالغائب، فالحاضر الجاهل بالبيع أيضاً له حق الشفعة وإن مضت مدة مديدة، فمتى ما حضر الغائب أو علم الحاضر حُق له الأخذ بها.

واستدل له بالإجماع(2) المستفيض نقله، والروايات(3) ومنها معتبرة السكوني عن الصادق(علیه السلام) عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «... وللغائب شفعة»(4).

وهو مطلق يشمل جميع الصور إلّا فيما انصرف النص عنه.وأمّا الحاضر الجاهل فيشمله إطلاق أدلة الشفعة، بعد عدم شمول أدلة

ص: 61


1- شرائع الإسلام 4: 778.
2- الخلاف 3: 431؛ تذكرة الفقهاء 12: 283؛ مفتاح الكرامة 18: 484؛ جواهر الكلام 38: 434 (37: 286 ط ق).
3- مفتاح الكرامة 18: 484؛ جواهر الكلام 38: 435 (37: 286 ط ق).
4- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 401.

فورية الأخذ بالشفعة له.

نعم، قيد صاحب الجواهر الحكم في الغائب بما إذا لم يتمكن من الأخذ بنفسه أو وكيله، وإلّا فإن أخّر مع إمكان المطالبة كذلك بطلت شفعته(1).

فللغائب حق الشفعة إذا كان غير قادر على الأخذ بالشفعة إنشاءً أو عملاً بنفسه أو بوكيله لعدم علمه، أو لأيّ جهة أخرى، أمّا مع القدرة فالدليل منصرف عنه.

كما أن السيد الوالد(2) استثنى المدة الطويلة، فلو علم بعد نصف قرن - مثلاً - لم يكن له حق الشفعة؛ لانصراف الدليل عنه.

فإن تمّ الانصراف فبها، ومع الشك - حيث إن فهم الانصراف وجداني لا برهاني - شمله إطلاق الدليل، فلا فرق بين المدة الطويلة والقصيرة كما في الجواهر(3).

ثم إن الوكيل العام له حق الأخذ بالشفعة مع المصلحة، فإن مقتضى الوكالة العامة الأخذ بالحقوق أيضاً شريطة ملاحظة مصلحة الموكّل، مندون إلزام؛ فإن الوكالة العامة لا توجب عليه شيئاً وإنّما تجوز له ذلك(4).

لكنه على إطلاقه محل تأمل، فقد يشترط الموكّل العمل بالمصلحة وقد

ص: 62


1- جواهر الكلام 38: 435 (37: 286 ط ق).
2- الفقه 79: 87.
3- جواهر الكلام 38: 435 (37: 286 ط ق).
4- إن قبل الوكالة كان عليه مراعاة مصلحة الموكل فيلزم عليه الأخذ بالشفعة إن كانت مصلحة ملزمة وإلّا جاز (المقرر).

يُطلق، فالمنصرف منه العمل حسب المصلحة، وقد يصرح بالعمل وإن كانت مضرة، فقيد مصلحة الموكّل إنّما هو قيد غالبي.

ولو لم يأخذ الوكيل بالشفعة جوازاً أو عصياناً - على فرض الوجوب - لم يسقط حق الموكّل؛ لإطلاق الأدلة.

أمّا الوكيل في مجرد أخذ المال فعليه الأخذ وإن لم تكن مصلحة، بل كانت بضرر الموكّل، حيث إنه أقدم بنفسه على الضرر.

ثم إن الميزان فيها المصلحة الظاهرية، وإن كانت الألفاظ موضوعة للمعاني الحقيقية الواقعية لانصرافها إليها، حيث لا نص على المصلحة في الروايات، بل العنوان متصيّد من مختلف الأدلة فلا ندور مدارها، بل الملاك العرف، والعمل بالمصلحة عندهم هو المصلحة الظاهرية، فلو تنزلت القيمة بعد الشراء فتبين أنه خلاف المصلحة الواقعية لم يعتبر مخالفاً للمصلحة عرفاً؛ لأن اللفظ ملقى إليهم والملاك عندهم الظاهر. نعم، مع العلم بالمصلحة الواقعية كان ملزماً بها.

ثم قال العلامة في التحرير: «لو ترك هذا الوكيل الأخذ كان للغائبالمطالبة بها مع قدومه، سواء ترك الوكيل لمصلحة أو لا»(1).

فلو لم يأخذ الوكيل بالشفعة - لعدم علمه أو لعدم المصلحة أو لأيّ سبب آخر - فللموكّل عند قدومه حق الشفعة على كل التقادير، فإن حق الوكيل لا يكون سبباً لإسقاط حق الموكّل؛ لأن إطلاق دليل حق الغائب يشمل هذه الصورة أيضاً.

ص: 63


1- تحرير الأحكام 4: 561.

ثم إن للوكيل العام حق إسقاط الشفعة إن كان وكيلاً عاماً بما يشمل إسقاط الحقوق أيضاً، فلو أسقطها لم يبق للموكّل الحق. نعم، لو لم تكن وكالته كذلك كان إسقاطه لغواً.

ثم إن صاحب الجواهر قسّم الشفعة إلى قولي وعملي، فلو وصل خبر البيع إلى الغائب فلا قدرة له على الأخذ بالشفعة عملاً، حيث لا يمكنه التسليم والتسلم لكن له القدرة على الأخذ القولي، فهل يلزم عليه ذلك بحيث إن لم يأخذ سقط حقه؟

قال: «أمّا لو ترك الطلب، بمعنى إنشاء الأخذ قولاً بعد علمه بالحال، وعدم تمكنه من المسير والتوكيل في دفع الثمن، فلم أجد لهم تصريحاً فيه، ولكن ينساق من فحواه(1) عدم بطلان الشفعة؛ لعدم ثبوت الفوريةعلى الوجه المزبور، والأصل بقاؤها»(2).

فإن دليل فورية الشفعة لا يشمل الأخذ القولي، ولو شك يستصحب(3).

لكن يبدو للنظر أن أدلة الفور - كما ستأتي - تشمله أيضاً، فلو لم يأخذ قولاً سقط حقه؛ وذلك لأن حق الشفعة غير منحصر في الأخذ العملي، بل هو

ص: 64


1- أي: فحوى الدليل.
2- جواهر الكلام 38: 436 (37: 286-287 ط ق).
3- لا مجال للاستصحاب، فإنه أصل عملي وبعد شمول العام (لا يحل مال امرئ إلّا بطيبة نفسه) للآن الثاني لم يبق مجال للاستصحاب. وبعبارة أخرى: خرج من عدم جواز التصرف في مال الغير الآن الأوّل بدليل الشفعة، وأمّا الآن الثاني، حيث يشك أن الخاص شمله أم لا، كان دليل العام جارياً، فلا مجال للاستصحاب، كما مضى نظيره من السيد الأستاذ في غير موضع، فراجع (المقرر).

كسائر الحقوق في العقود، فكما أنه بالعقد ينتقل الملك وإن لم يتم التسليم والتسلم، كذلك في الإيقاع، فإن بمجرد الأخذ بالشفعة قولاً ينتقل الملك من المشتري إلى الشفيع، فلو لم يسلمه الثمن كان للمشتري حق الفسخ.

ولو أخذ بالشفعة قولاً فتضرر المشتري أبطلها ب-(لا ضرر) حتى يحضر، فإن حضر فله الأخذ بالشفعة عملاً، فإن الأخذ القولي لا يسبب سقوط حقه العملي.

وتظهر الثمرة في المدة المتخللة، فإنه مع الإبطال يكون النماء للمشتري ومعه عدمه فللشفيع.

وهنا فروع:

الفرع الأوّل: عدم اعتبار إشهاد الغائب حين الأخذ بالشفعة

لو أخذ الغائب بالشفعة لم يلزم عليه الإشهاد، كما لا يلزم في سائر العقود والإيقاعات إلّا في مثل الطلاق.

قال في الجواهر: «لا تسقط شفعته بترك الإشهاد وإن تمكن منه فضلاً عما لو عجز عنه، أو قدر على إشهاد مَن لا يُقبل قوله، أو على مَن لم يقدم معه، أو مَن يحتاج إلى التزكية»(1)؛ وذلك لعدم أخذ الشهود في دليل الشفعة.

الفرع الثاني: حكم المسجون والمريض العاجز

هل يُلحق المسجون أو المريض العاجز أو الحاضر الذي لا يعلم بالبيع

ص: 65


1- جواهر الكلام 38: 436 (37: 286 ط ق)

بالغائب في الحكم، فلا يسقط حقه في الشفعة بمرور الزمن، فله الحق بالأخذ بمجرد العلم والقدرة؟

قال في الجواهر: «وكذا المريض الذي لا يتمكن من المطالبة بنفسه ولا بوكيله، ونحوهما المحبوس ظلماً أو بحق يعجز عنه، أمّا إذا كان محبوساً بحق يقدر عليه فهو كالمطلق»(1).

وإنّما يسقط حقه لإمكان أخذه بالشفعة بالقدرة على المقدمة، حيث يمكنه الخروج من السجن بإعطاء الدين لكنه يماطل.وأشكل الوالد(2) على ذلك بأن سقوط حق الشفعة وعدمه لا يدور مدار الحبس بحق أو بظلم، وإنّما يدور مدار قدرته على إنقاذ نفسه أو عدمها، فمن حبس ظلماً وتمكن من إنقاذ نفسه لكنه أهمل ذلك سقط حقه في الشفعة، فإنه قادر ولو بالقدرة على المقدمة، ومَن لم يمكنه ذلك لم يسقط حقه، سواء حبس بحق أم بظلم.

وأمّا الدليل على إلحاق الحاضر غير المتمكن بالغائب في عدم سقوط حقه بعد عدم النص على ذلك أمور:

أوّلاً: شمول إطلاقات أدلة الشفعة له بعد انصراف أدلة الفور عنه.

ثانياً: شمول ملاك الغائب له؛ لعدم خصوصيته، وتخصيصه بالذكر في كلمات الفقهاء تبعاً للروايات؛ لأنه المورد الغالب، فالأمر يدور مدار عدم التمكن كما ذكره الفقهاء.

ص: 66


1- جواهر الكلام 38: 436-437 (37: 287 ط ق).
2- الفقه 79: 88 .

ثالثاً: المريض والمحبوس من مصاديق الغائب توسعة للّفظ.

لكنه خلاف الظاهر والتوسعة مجاز ولا قرينة عليها.

وقيل: إن إطلاق بعض الروايات تنفي الشفعة عنه، كصحيحة ابن مهزيار(1): «إن كان معه بالمصر فلينتظر به ثلاثة أيام، فإنأتاه بالمال وإلّا فليبع وبطلت شفعته في الأرض»(2)، فقوله(علیه السلام): «إن كان معه بمصر» مطلق يشمل الجاهل والمحبوس والمريض وغيرهم، وهو يخصص أدلة الشفعة.

وفيه نظر: فإنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، بل في مقام بيان حكم الحاضر المتمكن الذي ذهب ليحضر ماله، حيث يُمهل ثلاثة أيام، فالرواية غير ناظرة إلى غير المتمكن لمرض أو جهل، فلا تقيد الأدلة العامة.

الفرع الثالث: في ثبوت الشفعة للمغمى عليه

لا يسقط حق شفعة المغمى عليه، قال في الجواهر: «ينتظر إفاقته وإن تطاول الإغماء»(3).

ولا يقوم بذلك وليّه؛ إذ لا ولاية لأحد عليه، ولا وكيله بناءً على بطلان الوكالات بالإغماء، فينتظر إلى أن يفيق لشمول أدلة الشفعة له.

وقد يقال: إن قوله تعالى: {وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ}(4) يدل على ولاية الأب والجد عليه بعد خروج سائر الأرحام عن الولاية على الصبي

ص: 67


1- مرّ ذكر سندها.
2- تهذيب الأحكام 7: 167؛ وسائل الشيعة 25: 406.
3- جواهر الكلام 38: 438 (37: 288 ط ق).
4- سورة الأنفال، الآية: 75؛ سورة الأحزاب، الآية: 6.

فيخرجون عن الولاية على المغمى عليه بطريق أولى، وأيضاًللملاك في الصبي والمجنون، ولو فرض عدم ولايتهما عليه فالحاكم ولي عليه؛ لأنه وليّ الغائب والممتنع والقاصر ونحوهم، والمغمى عليه أحدهم.

لكن الالتزام بذلك مشكل؛ فإن الأولوية المذكورة في الآيتين فسّرت في الروايات الشريفة بالإمرة والخلافة في إحداهما، وبالإرث(1) في الأخرى على نحو المورد لا أحد المصاديق، لا أقل من الشك في إطلاقهما.

وأمّا شمول ملاك أدلة الصبي والمجنون للمغمى عليه فتابع للقطع به، وإلّا فهو أشبه بالقياس.

الفرع الرابع: في ثبوت الشفعة للسكران

هل الشفعة ثابتة للسكران فيما لو طال سكره؟ وهل أخذه بالشفعة في حال سكره معتبر؟

يمكن أن يقال: إن طول مدة السكر لا يسبب سقوط حقه في الشفعة؛ لنفس الدليل في الغائب والمريض، فإنه وإن كان سكره حراماً لكنه ليس مسوغاً لضياع حقه، حيث لا تلازم بين حرمة شيء وسقوط الحق عن شيء آخر.

وأمّا لو أخذ بالشفعة في حال سكره فإن كان مسلوب الإدراك فلااعتبار بأقواله وأفعاله، وما ورد من صحة عقد السكرى(2) أعرض عنه المشهور، بالإضافة إلى ضعف سنده، وعلى فرض الاعتبار فخاص بمورده.

ص: 68


1- راجع البرهان في تفسير القرآن 2: 721-722؛ و4: 412-413.
2- عوالي اللئالي 3: 313.

وإن كان غير مسلوب الإدراك، كالسكر الخفيف غير المانع عن الشعور والإدراك، فيصح الأخذ بالشفعة معه بشرط تحقق القصد منه.

المسألة الثانية: الإكراه على الأخذ بالشفعة

إن المكره لو أجبر على الأخذ بالشفعة فإن لم يقصد الألفاظ، بل نطقها لقلقة كان لفظه لغواً، وإن قصد اللفظ لكن كان منشؤه الإكراه والخوف بحيث لو لم يكن إكراه لم يأخذ شمله دليل رفع الإكراه.

ثم هل معناه إمكان الإبطال أو البطلان؟

قد يقال: إن الرفع إنّما هو رفع للإلزام في العقود، لا في الإيقاعات، وتفصيل البحث في المكاسب(1).

وأمّا الإكراه على عدم أخذ الشفعة، فحيث لم يتحقق الإنشاء ولو بسبب الإكراه فلا شفعة. نعم، لو ارتفع الإكراه حُق له الأخذ لنفس دليل الغائب.

المسألة الثالثة: في ثبوت الشفعة للسفيه

اشارة

أمّا السفيه فهو لغة(2) القليل العقل، وله مظاهر فقد يكون قليل العقل في كل الجوانب، وقد يكون في جانب واحد، وقد يكون عاقلاً في كل الموارد إلّا في التصرفات المالية.

والمراد منه في الفقه(3) من لا يحسن التصرف عقلائياً في أمواله، كلاً أو

ص: 69


1- راجع حاشية المكاسب، للإيرواني 1: 47؛ والمكاسب، للشيخ الأعظم 3: 308، وغيرهما.
2- الصحاح 6: 2234؛ معجم مقاييس اللغة 3: 79.
3- المختصر النافع: 141؛ تحرير الأحكام 2: 535.

غالباً، ومثله يحجر عليه فلا يحق له التصرف في أمواله فيتصرف الولي عنه.

وللسفيه حق الشفعة لإطلاق أدلتها، فليس السفه مانعاً عنه، لكنه ممنوع عن الأخذ بها، ويكون الأمر لوليه حسب الأدلة التي ذكرت في محلها(1).

واشترط المشهور(2) أن يكون تصرّف الولي حسب مصلحة المولى عليه، وهو الأصح، وأفتى جمع من الفقهاء(3) بكفاية عدم المفسدة، وعن المحقق النائيني(4) جوازه حتى مع المفسدة بشرط أن يقدم على مثله العقلاء، كما في بيع البيت بأقل من قيمته لذي رحم.وذهب في الجواهر(5) إلى احتمال الصحة من دون حاجة إلى الولي فيما لو رضي المشتري بالبقاء في ذمته أو إبرائها له وإن كان خلاف ظاهر الأصحاب.

لكنه محل تأمل؛ لظهور الأدلة في الحجر عليه في جميع تصرفاته المالية حتى فيما كانت لمصلحته. نعم، قد يقال: بأنه حيث لا يلزم مباشرة الولي للتصرف أمكنه التوكيل لمن يقوم بالعمل وإن كان السفيه نفسه؛ لعموم أدلة الوكالة، كما يحق للصبي أن يشتري بإذن أو وكالة الولي، وعليه السيرة في المعاملات، فتأمل.

ص: 70


1- جواهر الكلام 38: 439 (37: 289 ط ق).
2- قواعد الأحكام 3: 69؛ مستند الشيعة 16: 169.
3- مفتاح الكرامة 18: 477.
4- كتاب المكاسب والبيع 2: 331؛ منية الطالب 2: 226.
5- جواهر الكلام 38: 440 (37: 289 ط ق).
فرع: لو أصبح السفيه عاقلاً

لو لم يأخذ الولي بالشفعة فأصبح السفيه عاقلاً، فهل يمكنه الأخذ بالشفعة؟

فيه صور ثلاث:

الصورة الأولى: أن يكون الولي قد قصّر في مصلحة المولّى عليه، فظاهر الأمر أن تقصيره لا يوجب سقوط حق المولى عليه؛ لإطلاق أدلة الشفعة وعدم شمول أدلة الفور له، كما سيأتي تفصيله.

وأشكل عليه بأن ظاهر أدلة الشفعة ثبوتها من حين العقد، فلا يمكن القول بثبوتها من حين الكمال.وفيه: لا نقول بتولد حق الشفعة من حين الكمال، بل من حين العقد، وإنّما له الحق بالأخذ بها من حين الكمال.

الصورة الثانية: أن يكون عدم أخذه بالشفعة رعاية للمصلحة، ثم كمل المولى عليه وأراد الأخذ بالشفعة لمصلحة متولدة أو خلافاً للمصلحة، وفيه احتمالان:

الأوّل: سقوط حق المولى عليه كما ذكره العلامة في القواعد حيث قال: «وتثبت للصغير والمجنون ويتولى الأخذ عنهما الولي مع المصلحة، فلو ترك فلهما بعد الكمال المطالبة، إلّا أن يكون الترك أصلح»(1).

وهو الأقرب لشمول أدلة الفور له من دون انصراف.

الثاني: عدم سقوطه لإطلاق أدلة الشفعة(2).

ص: 71


1- قواعد الأحكام 2: 244.
2- مفتاح الكرامة 18: 477.

ويضعف بما ذكر من تقييد أدلتها بدليل الفور، وحيث كان عدم أخذ الولي لمصلحته شملته أدلة الفور من دون انصراف.

الصورة الثالثة: أن يسقط الولي حق الشفعة، لكن حيث يلزم أن تكون تصرفاته في إطار المصلحة يكون إسقاطه لغواً لا أثر له.

ووجه ذلك أن الأخذ بالشفعة إن كان مصلحة فلا حق له في إسقاطه، بل الإسقاط مفسدة، وإن كان مفسدة فهو ساقط تلقائياً، فيكون إسقاطه لغواً.

ولو قلنا ببقاء حق الشفعة للمولّى عليه حتى مع عدم أخذ الولي وعدم المصلحة، فلا وجه لإسقاطه أيضاً؛ لإمكان إرادة المولّى عليه الأخذ بها بعد الكمال.

فعلى كل التقادير لا وجه متصوّر لإسقاط الحق، فلا يحق للولي إسقاطه مطلقاً، سواء كان الأخذ بالشفعة لمصلحته أم بمفسدته(1).

المسألة الرابعة: في ثبوت الشفعة للصبي والمجنون

اشارة

يشترك الصبي والمجنون مع السفيه في غالب المسائل، وهنا فروع أخرى، ومنها:

الفرع الأوّل: لو تدارك الولي المفسدة

في جواز أخذ الولي بالشفعة فيما لو كان مفسدة يتداركها هو فتنقلب مصلحة، أو تخرج عن كونها مفسدة على المبنى بحيث لا يتضرر المولّى

ص: 72


1- قد يتصور وجه لإسقاط حق الشفعة، وذلك بأن يكون الإسقاط حسب مصلحة ملزمة للمولّى عليه بحيث لو تركه سبب ضرراً عليه، كما لو كان المشتري ظالماً يطالب بإسقاط حق الشفعة وإلّا أضر المولّى عليه (المقرر).

عليه، احتمالات، كما لو باع الشريك حصته بأضعاف قيمتها الحقيقية فأخذ الولي بالشفعة وتدارك الفارق من نفسه، والمسألة عامة في كل تصرفات الولي، وهذه الاحتمالات هي:الاحتمال الأوّل: الجواز؛ لعدم المفسدة، والمفسدة التقديرية غير ضارة، فإن الألفاظ وضعت للمعاني الحقيقية لا التقديرية، وبعبارة أخرى: ما فيه التدارك لا مفسدة فيه أصلاً، فهو سالبة بانتفاء الموضوع، فيكون جائزاً، وهذا هو الأقرب.

الاحتمال الثاني: عدم الجواز لكونها مفسدة وإن كانت متداركة، فيشملها إطلاق الدليل الدال على عدم جواز تصرف الولي فيما هو مفسدة، إلّا أن يقال بعدم إطلاقها؛ لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة أو انصرافها.

الاحتمال الثالث: التفصيل بين التدارك قبل الفعل أو حينه أو بعده مباشرة، فقد لا يطلق عليه المفسدة أصلاً، وبين التدارك بفصل بأن يسدد الثمن من مال المولّى عليه ثم يتداركه أو يضمنه في ذمته، فقد يطلق عليه المفسدة.

الفرع الثاني: في وجوب منع الضرر عن المولّى عليه وعدمه

لو كان الأخذ بالشفعة مصلحة وعدمه مفسدة، فهل يجب على الولي ذلك؟ وبعبارة أخرى: هل يجب على الولي منع الضرر عن المولّى عليه؟ والمسألة عامة في كل تصرفات الولي، فيه احتمالان:

الاحتمال الأوّل: ما ذكره في مفتاح الكرامة(1) من عدم الوجوب،فإن

ص: 73


1- مفتاح الكرامة 18: 478.

الولي ممنوع عن فعل المفسدة ويجوز له فعل المصلحة، لكن لا يجب عليه دفع المفسدة وذلك للأصل، ولذا ورد في تعبير الفقهاء (فللولي) دون (فعلى الولي)، ويشهد له أنه لم يصرح أحدهم بالوجوب.

اللّهم إلّا مع انطباق عنوان ثانوي، كما لو استلزم تركه تلف مال كثير يجب حفظه، فلا يختص ذلك بالولي.

الاحتمال الثاني: ما ذكره السيد الوالد في الفقه(1) من التفصيل بين كون الإهمال موجباً للمفسدة في أموال المولّى عليه فيجب على الولي دفعها، وبين ما لو كان إهماله موجباً لفوات مصلحة فلا يجب، حيث لا تلازم بين المصلحة والمفسدة فعلاً وتركاً، فمع كون الأخذ بالشفعة مصلحة، فإن كان تركه مفسدة وجب الأخذ، وإن لم يكن في تركه مفسدة، بل مجرد فوات المنفعة لم يجب.

وقد بحث في قاعدة (لا ضرر) أن عدم النفع ليس ضرراً وإن أطلق عليه الضرر توسعاً.

ويدل على ذلك وجوب تحصيل غرض المولى من نصب الولي وهو درء المفسدة عن أموال المولّى عليه.

والبحث في وجوب تحصيل غرض المولى موكول إلى الأصول.

الفرع الثالث: لو قصّر الولي في الأخذ بالشفعة

لو قصّر الولي في الأخذ بالشفعة مع كونه مصلحة أو تركه مفسدة لم

ص: 74


1- الفقه 79: 98-99.

يسقط حق المولّى عليه في الشفعة بعد كماله؛ لعدم شمول أدلة الفور لما كان صاحب الحق قاصراً لغيبة أو جنون أو صغر أو حبس أو ما أشبه، بعد شمول أدلة الشفعة له.

ثم إنه يحق للولي الأخذ بالشفعة بعد الإهمال، ولا يكون تأخيره سبباً لسقوطه؛ لثبوت الحق للمولّى عليه، وحق الولي تابع لحقه. نعم، لو سقط حق المولّى عليه سقطت ولايته.

أمّا لو كانت الفترة طويلة بحيث سببت ضرراً للمشتري فقد يقال بحكومة (لا ضرر) على إطلاق دليل الشفعة.

ولصاحب الجواهر(1) كلام مشعر بعدم سقوط الحق حتى مع الضرر، وربما كان قصده من ذلك خصوص ما لو أقدم المشتري على الضرر، حيث اشترى ما فيه حق القاصر، فلا يشمله دليل (لا ضرر).

لكنه محل تأمل؛ لأنه أقدم على النفع لا الضرر كما مضى الكلام فيه في كتاب الغصب فراجع، بالإضافة إلى كونه أخص من المدعى، فقد لا يعلم المشتري بذلك فلا يكون إقداماً على الضرر.

الفرع الرابع: إذا لم يأخذ الولي بالشفعة وجاء ولي جديد

لو لم يأخذ الولي بالشفعة لعدم المصلحة، ثم جاء ولي جديد، لم يكن لهحق الأخذ بالشفعة، بناءً على سقوط حق الشفعة من دون حاجة إلى الإسقاط؛ وذلك لعدم ثبوته للمولّى عليه. وأمّا لو لم يأخذه إهمالاً فالحق ثابت.

ص: 75


1- جواهر الكلام 38: 443 (37: 291 ط ق).

ولو شك في أنه كان إهمالاً أو لا فمقتضى حمل الفعل على الصحة عدم الإهمال، فإن الحمل على الصحة أعم من الفعل والترك، فإنه وإن وردت في الروايات كلمة الفعل ولا يطلق الفعل على الترك، إلّا أن الملاك واحد، أو الظهور العرفي يوسع دائرة الفعل ليشمل الترك أيضاً.

الفرع الخامس: لو أخذ بالشفعة ثم تجددت المفسدة

لو أخذ الولي بالشفعة تبعاً للمصلحة ثم تجددت المفسدة لم يكن فيه إشكال، حيث لا يطلق عليه العمل بالمفسدة. نعم، لو علم بذلك لم يصح، وهذا واضح.

لكن لو أخذ بالشفعة مفسدة ثم انقلبت مصلحة فمقتضى القاعدة البطلان؛ لبطلان تصرفه حين العمل، حيث لا ولاية له في مثل هذا التصرف، فإن حدودها المصلحة أو عدم المفسدة حسب المبنى، وتجدد المصلحة لا يصحح ما وقع باطلاً.

الفرع السادس: لو باع الأب أو الجد حصته المشتركة مع المولّى عليه

قال في الشرائع: «إذا باع الأب أو الجد عن اليتيم(1) شقصه(2) المشترك معه(3) جاز أن يشفعه(4) وترتفع التهمة؛ لأنه لا يزيد عن بيع ماله من

ص: 76


1- وجه التقييد باليتيم هو أن الولاية للجد بعد موت الأب خلافاً للمشهور من ولايتهما العرضية (السيد الأستاذ).
2- أي: حصة نفسه لا اليتيم.
3- أي: مع اليتيم.
4- أي: لليتيم.

نفسه»(1).

وحاصل المسألة بفرعيها أنه لو كان الولي - أباً أو جدّاً - شريكاً مع الصبي، فباع سهم نفسه أو سهم الصبي فهل له الأخذ بالشفعة لنفسه أو للصبي، فيه أقوال ثلاثة، ثالثها: التفصيل بين الأب والجد وبين الوصي.

القول الأوّل: ما اختاره في الشرائع وهو المشهور شهرة عظيمة(2)، من ثبوت حق الشفعة للولي سواء أكان الولي هو الشريك أم غيره؛ وذلك لإطلاق أدلة الشفعة والولاية.

وأضاف البعض(3) دليلاً آخر، وهو أن الرضا بالسبب - أي: البيع - كاشف عن الرضا بالمسبب - أي: الشفعة - ؛ فإن الرضا بالعقد رضا بالأحكام المترتبة عليه، ولا يمكن أن يكون السبب مسقطاً لمسببه، فإن العلة لا تنفي معلولها.وفيه نظر: فإنه وإن كان السبب تكويناً أو تشريعاً مستتبعاً للمسبب، لكن الرضا بالسبب لا يلازم الرضا بالمسبب، حيث قد يغفل الإنسان عن المسبب، وحتى لو قلنا إن البيع سبب للشفعة إلّا أن المسقط ليس البيع حتى يقال بعدم الإمكان المذكور، بل المسقط هو الرضا.

القول الثاني: عدم الحق وذلك لأدلة أربعة(4):

الدليل الأوّل: التهمة، فإن الولي يعمل كذلك ليستولي على حصة الصبي

ص: 77


1- شرائع الإسلام 4: 778.
2- جواهر الكلام 38: 448 (37: 294 ط ق).
3- مسالك الأفهام 12: 288.
4- جواهر الكلام 38: 450 (37: 295 ط ق).

لمصلحة نفسه، أو ليتخلص من حصة نفسه فيبيعها لثالث ثم يأخذ الشفعة للصبي.

ويرد عليه: أوّلاً: إنه أخص من المدعى، فقد لا تكون تهمة، كما لو شخّص أهل الخبرة أن البيع لمصلحة الصبي، أو باع بأرخص من ثمنه ثم أخذ بالشفعة للصبي.

وثانياً: إنه مؤتمن شرعاً، فما لم تثبت خيانته أو إهماله لم يمكن اتهامه، بل يحمل فعله على الصحة.

وثالثاً: النقض ببيع مال الصبي لنفسه، أو بيع ماله للصبي، حيث لم يفتِ أحد بالبطلان، والمقام لا يزيد عليه، بل يصح بطريق أولى.

ورابعاً: لا يرفع اليد عن إطلاق دليل الشفعة، حتى مع احتمال مراعاة مصلحة نفسه دون الصبي، فإن مثله لا يصلح للتقييد، فإنه بحاجة إلىدليل معتبر.

الدليل الثاني: إن حق الشفعة نوع من تسلط الصبي على الولي، مع أن الأدلة تدل على أنه موهوب له.

ويرد عليه - بعد اختصاصه بأحد فرعي المسألة - :

أوّلاً: انتفاء السلطة رأساً، فإن الصبي مسلط على المشتري لا الولي.

وثانياً: على فرض ثبوتها، فإن الولي هو القائم بها، فيكون هو المسلط لا الصبي.

وثالثاً: لا دليل على نفي سلطة الصبي على الولي، بل هو مجرد استحسان، وهل تنفى الشفعة للولد الكبير على أبيه لذلك؟ وأمّا قوله|:

ص: 78

«أنت ومالك لأبيك»(1) فحكم أخلاقي لا قانون مالي.

الدليل الثالث: مناط عدم قصاص الوالد لجنايته على الولد.

وفيه نظر: حيث لا مناط أصلاً، وعلى فرضه فهو مع الفارق؛ لأن السلطة متحققة في القصاص دون الشفعة.

الدليل الرابع - وهو عمدة الأدلة - : إن بيع الولي لحصته أو حصة الصبي دال على الرضا بالبيع وهو مسقط للشفعة.

ويرد عليه: أوّلاً: الإسقاط إنشاء وهو بحاجة إلى أسبابه، والرضا أمر قلبي لا يحصل الإنشاء به، بل هو من مقدمات صحة العقد والإيقاع.وثانياً: ليس معنى الرضا بالعقد الرضا بإسقاط حق الشفعة، فقد يرضى بالبيع ولا يرضى بالإسقاط، كما في خيار المجلس، حيث إن البيع لا يلازم إسقاط الخيار.

وثالثاً: الدليل المذكور إن كان تاماً فهو خاص بأحد فرعي المسألة، وهو ما لو باع حصة الصبي وأخذ بالشفعة لنفسه، وأمّا الفرع الثاني، وهو ما لو باع حصة نفسه، فليس الملاك في إسقاط حق شفعة الصبي الرضا وعدمه، بل المصلحة وعدمها، فإنه مع عدم المصلحة لا يسقط حق الطفل في الشفعة، بل لو أسقطه كان لغواً؛ لعدم حقه فيما هو خلاف مصلحة الصبي.

تتمة: في بيان المراد من المصلحة

تتمة ذكرها السيد الوالد في الفقه(2) في المراد من المصلحة، فقد

ص: 79


1- الكافي 5: 135؛ وسائل الشيعة 17: 265.
2- الفقه 79: 109.

تلاحظ المصلحة في خصوص المعاملة، وقد تلاحظ المصلحة الكلية، كما لو بيعت الحصة بضعف قيمتها حيث لا مصلحة في خصوصها، لكن الأخذ بالشفعة سبب لارتفاع قيمة المجموع بأضعاف، فقوله تعالى: {إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ}(1) كما يشمل خصوص المورد يشمل المصلحة العامة، فلا بدّ من ملاحظة الأمرين معاً، والأخذ بالمتحصلمنهما عند العرف والعقلاء.

المسألة الخامسة: في ثبوت حق الشفعة للكافر والمخالف

اشارة

قال في الشرائع: «وتثبت الشفعة للكافر على مثله، ولا تثبت له على المسلم ولو اشتراه من ذمي، وتثبت للمسلم على المسلم والكافر»(2).

وقد استدل على عدم ثبوت حق الشفعة للكافر في الجملة بوجوه(3)، منها:

الدليل الأوّل: الإجماع المحكي مستفيضاً.

الدليل الثاني: الروايات الواردة في المقام، منها: معتبرة السكوني، عن الصادق(علیه السلام): «ليس لليهودي والنصراني شفعة»(4).

ومنها: موثقة طلحة بن زيد: «ليس لليهودي ولا للنصراني شفعة»(5).

ومنها: خبر دعائم الإسلام: «الشفعة لليهود و النصارى فيما بينهم، وليس

ص: 80


1- سورة الإسراء، الآية: 34.
2- شرائع الإسلام 4: 778.
3- مسالك الأفهام 12: 278؛ جواهر الكلام 38: 447-448 (37: 293 ط ق).
4- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 401.
5- من لا يحضره الفقيه 3: 45؛ وسائل الشيعة 25: 401.

لأحد منهم على مسلم شفعة»(1).الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا}(2)، وقول النبي|: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(3).

حيث تدل الآية والحديث على أنه لم يجعل اللّه حكماً تشريعياً لسيطرة الكفار على المؤمنين.

ووجه الاستدلال بهما في المقام أنه لو كان للشريك الكافر حق الشفعة كان مسلطاً على المسلم ينتزع ملكه منه قهراً.

وفيه نظر لوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: إن المراد من السبيل والعلو السلطة والقهر، والمقام ليس من ذلك، بل من باب جعل حكم على مسلم يجب عليه الالتزام به، كما في اقتراض المسلم من الكافر، وإيجاره نفسه منه، والزواج من الذمية، فليس هنالك تشريع للسلطة على المسلم وقهره، بل حكم الشارع بوجوب إرجاع الدين والالتزام بعقد الإيجار ودفع النفقة.

والحاصل: إن الشفعة ليست سبيلاً ولا علواً موضوعاً.

لكن الجواب المذكور بهذا المقدار غير وافٍ؛ إذ يمكن اعتبار سائر الموارد المنفية بالآية والرواية كذلك، فإن سلطة الحاكم على المحكوم إنّما هي مجموعة من التكاليف التي جعلها الشارع على المحكوم.

ص: 81


1- دعائم الإسلام 2: 92.
2- سورة النساء، الآية: 141.
3- من لا يحضره الفقيه 4: 334؛ وسائل الشيعة 26: 14.

الوجه الثاني: إن المراد من السبيل والعلو عموم الولاية لشخص أو جمع على شخص أو جمع، كما في ولاية الزوج؛ ولذا لم يشرع زواج المسلمة من كافر، وكذا ولاية الأب؛ ولذا لم يشرع ولاية الأب الكافر على ابنه المسلم.

وأمّا خصوص مورد خاص، كما في تسلط المؤجر على الأجير، أو تسلط الزوجة الكافرة على الزوج المسلم في خصوص النفقة، فليس مصداقاً للسبيل والعلو.

وهذا الوجه أيضاً لا يخلو عن تأمل.

الوجه الثالث: إن السبيل والعلو المنفي إنّما هو فيما لو كانت السلطة مباشرة كما في الزوج والأب، حيث يعمل ولايته من دون مراجعة الحاكم، وأمّا في مثل الإجارة فلا يحق للكافر الإجبار مباشرة، بل عليه مراجعة الحاكم، فيكون السبيل والعلو للحاكم لا للكافر، وكذا في الزوجة الكافرة في مطالبة النفقة من الزوج المسلم، وكذا في المديون، ولذا لا يجوز التقاص إلّا بعد استئذان الحاكم الشرعي.

وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ لو أخذ الكافر بالشفعة لم يحق له الانتزاع من المشتري المسلم مباشرة، بل عليه مراجعة الحاكم الشرعي، فلا يصح الاستدلال بالآية والرواية لنفي شفعة الكافر.

ولا يخفى أن مدى دلالتهما وحدودها بحاجة إلى مزيد من البحثوالتنقيح.

ثم إن ما ذكره في الشرائع صوراً أربع، فلا بدّ من بيان الدليل عليها:

ص: 82

الصورة الأولى: أن يكونا(1) كافرين، فإن كان من دينهما الشفعة فهو، سواء أكانت دائرة الشفعة عندهم أوسع مما نقول كما في ثبوتها عندهم بين الشركاء أم أضيق كما في خصوص الأرض مثلاً، ويدل عليه قاعدة الإلزام.

ثم إنه لا يختص الحكم بالذمي، بل يشمل الحربي أيضاً كما في مفتاح الكرامة(2)، فليس معنى عدم احترام مال الحربي عدم ملكيته أو سقوط حقوقه المالية، بل معناه جواز استملاك المسلم لأمواله.

ووجه تخصيص الذكر في الروايات بالذمي ندرة تحقق الشفعة للحربي في البلاد الإسلامية، فاقتصر فيها على ما هو المتعارف.

الصورة الثانية: أن يكونا مسلمين، وفيه فروع مختلفة حسب اختلاف المذاهب والاجتهاد والتقليد.

فإن كانا يعتقدان بالشفعة أو عدمها فلا كلام. إنّما الكلام فيما لو اختلفا، كما لو كان المخالف يرى الشفعة بين الشركاء وينفيها المؤمن، ففيهاحتمالان:

الاحتمال الأوّل: إن الأمر تابع للحكم الواقعي حيث يشترك الكل فيه، حتى أن الكفار والمخالفين مكلفون بالفروع كتكليفهم بالأصول، وقد مرّ الكلام فيه فراجع، وفي المقام لو كان حكم الشارع ثبوت الشفعة فهي ثابتة حتى بحق مَن ينفيها.

ص: 83


1- أي: المشتري والشريك، ولا مدخلية للبائع في المسائل المذكورة، حيث يجوز له البيع لأيّ إنسان، سواء أكان البائع كافراً أم مسلماً والمشتري كافراً أم مسلماً، فينقطع ارتباطه بالمبيع بمجرد البيع (السيد الأستاذ).
2- مفتاح الكرامة 18: 473.

لكن هذا الاحتمال على إطلاقه محل تأمل، فإنه وإن ثبتت قاعدة الاشتراك في التكليف، إلّا أنها محكومة بقاعدة الإلزام، وهي ثانوية على تفصيل حاصله: أن الإلزام قد يكون من الطرفين فتجري في حقهما، وقد يتعارض الطرفان فيتساقطان ويبقى الدليل الواقعي على حاله، كما أنه لا تجري القاعدة في إلزام المؤمن بما يراه المخالف أو الكافر، حيث إن دلالتها إلزامهم لا إلزام أنفسكم، وفي ما نحن فيه لا تدل قاعدة الإلزام على إلزام المؤمن بالشفعة للمخالف.

الاحتمال الثاني: عدم جريانها وإن ثبتت واقعاً؛ وذلك لقاعدة الإلزام، ولا فرق بين كونه له أو عليه.

والأقوى في مفروض المسألة - وهي فيما كانت الشفعة في مذهب المخالف دون المؤمن - أنه لا شفعة على المؤمن ولا له.

أمّا عدم الشفعة عليه فلعدم جريان قانون الإلزام عليه، حيث لا دليل على إلزام المؤمن بما يراه المخالف، لا لمجرد الانصراف، بل لعدمشمول اللفظ له أصلاً.

وأمّا عدم الشفعة للمؤمن وإن كان يراها المخالف؛ فلأنّ خطاب نفي الشفعة موجّه للمؤمن على تفصيل يطلب من موضعه.

نعم، لو قلنا بقاعدة المقابلة بالمثل - كما في إرث العصبة - وكان المخالفون يأخذون بالشفعة فحينئذٍ يحق للمؤمن ذلك أيضاً.

ولو كانا غير مؤمنين واختلفا فيتعارض قانون الإلزام في حقهما ويتساقط، فيكون المرجع الحكم الواقعي، ولو جرى قانون الإلزام في أحدهما كان هو

ص: 84

المتبع.

ولو اختلف المؤمنان - اجتهاداً أو تقليداً - كان المرجع المجتهد الثالث ويكون حكمه نافذاً؛ لأن القاضي وضع لفض المنازعات وتفصيله في القضاء.

الصورة الثالثة: أن يكون الشريك مسلماً والمشتري كافراً، فهل يحق للمسلم الأخذ بالشفعة؟ فيه حالات ثلاث يعلم حكم بعضها مما سبق.

الحالة الأولى: أن يتفقا على ثبوت الشفعة فلا إشكال في ذلك؛ لأنه الحكم الواقعي شرعاً ويثبته الكافر في دينه أيضاً، فلا وجه لنفيه.

الحالة الثانية: أن يثبته المسلم وينفيه الكافر في دينه من أصله أو في خصوص المورد، فلا إشكال في ثبوت حق الشفعة للمسلم؛ لإطلاق أدلةالشفعة، وعدم جريان دليل الإلزام حيث لا يلزم المسلم بما يراه الكافر، بل يلزم الكافر بدينه، فإن الإلزام إقرار للكافر على ما هو عليه لا منع المسلم من أحكام شرعه لأجل دين الكافر، فلا مورد لقانون الإلزام، فاحتمال منع المسلم عن حقه ضعيف.

الحالة الثالثة: عكس الثانية، والأقرب عدم ثبوت حقه؛ لإطلاق أدلة عدم الشفعة وعدم جريان قانون الإلزام، فلا وجه لرفع اليد عن الحكم الأوّلي؛ وذلك لأن الحكم قد يتوجه إلى الكافر فيجري القانون ويترتب آثاره على المسلم، وقد يتوجه إلى المسلم فلا يجري، وفي المقام حكم الشفعة موجه للمسلم.

الصورة الرابعة: أن يكون الشريك كافراً والمشتري مسلماً، ولا يحق

ص: 85

للكافر الأخذ بالشفعة من المسلم للروايات التي مضى الكلام فيها، وفيها معتبرتان كما مرّ، وقد عمل المشهور شهرة عظيمة بها، بالإضافة إلى الإجماع المدّعى.

ثبوت الشفعة للمخالف

ثم إن صاحب الحدائق(1) ذهب إلى عدم ثبوت حق الشفعة للمخالف على المؤمن، لما في الرضوي: «لا شفعة ليهودي ولا نصراني ولامخالف»(2).

واستدل بها على كفرهم حيث قال: «فيه رد على من حكم بإسلام المخالفين من أصحابنا (رضوان اللّه عليهم) فإن الظاهر منهم - بناءً على حكمهم بإسلام المخالفين - هو ثبوت الشفعة لهم»(3).

وفيه نظر: للإعراض عنه، مع قطع النظر عن البحث السندي؛ فإن المشهور شهرة عظيمة جريان أحكام الإسلام على المخالفين، فالإعراض محقق.

المسألة السادسة: في ثبوت حق الشفعة للوصي

قال في الشرائع: «وهل ذلك للوصي؟ قال الشيخ: لا، لمكان التهمة، ولو قيل بالجواز كان أشبه»(4).

ص: 86


1- الحدائق الناضرة 20: 311.
2- فقه الرضا(علیه السلام): 264.
3- الحدائق الناضرة 20: 311.
4- شرائع الإسلام 4: 778.

والمشهور(1) أن للوصي حق الشفعة وادعي عليه الإجماع(2)، ولا فرق في ذلك بين صورتي المسألة بأن يأخذ لنفسه الشفعة من حصة الصبي، أو يأخذ الشفعة للصبي من حصة نفسه.

وخالف في ذلك الشيخ الطوسي في المبسوط(3) واستدل له بالتهمة،حيث يمكن أن يبيع حصة الصبي بثمن بخس ليأخذ الشفعة لنفسه.

ويرد عليه: أوّلاً: إن مفروض الكلام في البيع الجامع للشرائط، وقد مرّ أن الدليل المذكور أخص من المدعى، حيث تنتفي التهمة فيما لو كان أميناً.

وثانياً: إطلاقات وعمومات أدلة الشفعة وعدم ما يصلح لتقييدها، ومجرد احتمال التهمة - لو فرض - غير صالح لتقييدها.

وثالثاً: ما روي من: «أن الوالد يقوم بالشفعة لولده الصغير، والوصي لليتيم، والقاضي لمَن لا وصي له إذا كان ذلك من النظر إليه»(4)، وضعفه مجبور بعمل المشهور.

لكن الظاهر أن مورده الشفعة للصبي لا للوصي. إلّا أن يقال بعدم الفرق، فلو جاز بيع حصته ليأخذ الشفعة للصبي جاز عكسه لعدم الفرق بينهما، لكنه محل نظر.

وفي المسألة فروع:

ص: 87


1- مفتاح الكرامة 18: 474.
2- مختلف الشيعة 5: 361.
3- المبسوط 3: 158.
4- دعائم الإسلام 2: 92.

الفرع الأوّل: لو بلغ وادّعى أن الوصي عمل خلاف المصلحة لم تسمع دعواه؛ لأن فعل الوصي محمول على الصحة، بل عدم فعله أيضاً كذلك كما مرّ.

نعم، لو أثبت ذلك بطلت الشفعة؛ لأن دليل الوصاية كالولاية منحصربالمصلحة أو عدم المفسدة، فهي في حدود معينة فلا وصاية مع المفسدة. فالمأخوذ شفعة باقٍ على ملك المشتري، فيرجع إليه مع وجوده، وإن فقد أمكنه أخذ حصته تقاصاً، وكذا لو كان موجوداً لكنه لا يملك المال ليرجع الثمن.

الفرع الثاني: لو كانت حصة المشتري المأخوذة تقاصاً أكثر من القيمة لزم إرجاع الفارق إليه إن وجد، وإلّا فإلى الحاكم، وإن كانت الحصة أقل ضمنه الوصي؛ لما مضى من الأدلة في كتاب الغصب، ومنه: (من أتلف مال الغير) ول-(لا ضرر).

الفرع الثالث: لو تصرف الوصيان فأخذ أحدهما بالشفعة وأسقطها الآخر - بناء على جواز إسقاطه وقد مرّ الكلام فيه - ، وكان فعلهما مصلحة حيث قد تتعدد وجوه المصلحة، والأمر أوضح بناءً على اشتراط عدم المفسدة، فحينئذٍ...

إن سبق أحدهما كان نافذاً؛ وذلك لأن السابق أخذاً أو إسقاطاً لا يدع موضوعاً للّاحق.

وإن تقارنا فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر فيرجع إلى الأصل العام، وهو إمّا عدم جواز انتزاع مال الغير بغير رضاه، ونتيجته عدم الشفعة، وإمّا

ص: 88

ثبوت الشفعة في بيع كل شريك وهذا غير استصحاب الشفعة فإنها في مورد الشك، ونتيجته ثبوت الشفعة للوصي وللصبي.

المسألة السابعة: في ثبوت حق الشفعة للوكيل

والمراد به الوكيل المفوّض، لا الوكيل في خصوص البيع والشراء؛ فإن هذا لا حق له في الشفعة.

ويدل عليه إطلاقات أدلة الشفعة والوكالة، بل ادّعي عليه الإجماع.

وخالف الشيخ الطوسي في المبسوط(1) والعلامة في المختلف(2)، وذلك للتهمة، وقد مرّ الجواب عنه.

فرع: في كون الكافر وكيلاً للمسلم والعكس

لو كان الكافر وكيلاً للمسلم فهل له الأخذ بالشفعة وكالة من المشتري المسلم؟

ذهب بعض الفقهاء إلى عدم الجواز لكونه سبيلاً، وهو منفي بالآية الكريمة.

لكن ظهر ضعفه فيما سبق، حيث قلنا: إنّه ليس سبيلاً، وعلى فرضه فإن الوكيل يقوم بمجرد الإنشاء دون الاستيلاء قهراً، والسبيل إنّما هو في الاستيلاء الخارجي دون الإنشاء.

وإن أبيت فهل يمكن الالتزام في سائر الموارد بعدم الجواز للسبيل، كما لو بعث المسلم وكيله الكافر ليأخذ دَينه من المسلم المديون، أوبعثت

ص: 89


1- المبسوط 3: 142.
2- مختلف الشيعة 5: 361.

المحكمة شرطياً كافراً لجلب المسلم المحكوم؟

وعلى فرض التسليم نقول: إن الآية منصرفة عن مثل هذه الموارد التي يكون الحق فيها للمسلم وكان الكافر مجرد وسيط لإيصال الحق.

وقد أشكل(1) على الاستدلال بأن المراد من السبيل الحجة، كما فسرت في رواية(2)، حيث إن حُجة الإسلام غالبة دائماً.

لكنه غير تام؛ فإنه تفسير بالمصداق، فإن السبيل إمّا تكويني وإمّا تشريعي وإمّا بمعنى الحجة، والأوّل غير مراد قطعاً؛ لتحققه خارجاً حتى في زمن النبي|، ويبقى الآخران، وذكر الثالث في الرواية ليس حصراً فيه، بل بيان بعض المصاديق، ومثله كثير، ويؤيده خلوّها من أداة الحصر.

ولو كان المسلم وكيلاً للكافر لم يحق له الأخذ بالشفعة من المشتري المسلم، للروايات التي سبقت، والوكيل إنّما هو وكيل فيما يحق للموكّل، فلا شفعة أصلاً حتى يأخذها الوكيل، فهو من السالبة بانتفاء الموضوع.

المسألة الثامنة: حكم الشفعة فيما لو باع العامل في القراض شقصاً

اشارة

قال في الشرائع: «ولو ابتاع العامل في القراض شقصاً وصاحب المال شفيعه، فقد ملكه بالشراء لا بالشفعة، ولا اعتراض للعامل إن لم يكن ظهرفيه ربح، وله المطالبة بأجرة عمله»(3).

وأصل المسألة ترتبط بكتاب المضاربة، نكتفي منها بما يرتبط بالمقام في

ص: 90


1- الحدائق الناضرة 20: 310.
2- عيون أخبار الرضا(علیه السلام) 2: 204.
3- شرائع الإسلام 4: 778-779.

فرعين:

الفرع الأوّل: فيما لو اشترى العامل حصة الشريك بمال المالك

لو اشترى العامل في المضاربة حصة الشريك بمال المالك فلا شفعة للمالك؛ لأنه ملكه بالشراء.

لكن نسب إلى المحقق الكركي جريان الشفعة؛ وذلك لأن العلل الشرعية جعلية - أو معرّفات حسب تعبيره - لا حقيقية، ولا يمتنع اجتماع علتين على معلول واحد في الأمور الاعتبارية؛ لأنها بيد المعتبر وهي خفيف المؤونة، فيجعل الملكية بسببين، أي: بالشراء وبالشفعة، حيث لا إشكال في اجتماع سببين على مسبب اعتباري واحد، وإنّما الممتنع ذلك في الأمور التكوينية، حيث يصبح كل واحد منهما جزء العلة.

قال: «من أنه لا يمتنع أن يستحق الملك بالشراء ثم بالشفعة؛ إذ لا يمتنع اجتماع العلتين على معلول واحد؛ لأن علل الشرع معرّفات»(1).

ويرد عليه: أوّلاً: إنه تحصيل للحاصل، فإن الشفعة بعد البيع وقد ملكهبالبيع، فلا معنى للقول بملكيته مجدداً بالشفعة، وهذا أمر لا يرتبط بالاعتبار. نعم، لو تحقق السببان معاً في زمان واحد أمكن أن يكون كل واحد منهما جزءاً للسبب كما في التكوينيات.

ولو فرض عدم استحالته - حيث إن الاعتبار خفيف المؤونة - كان الاعتبار

ص: 91


1- جواهر الكلام 38: 452 (37: 296 ط ق). وفيه: «فما عن الكركي في بعض حواشيه المكتوبة بخطه على جامع المقاصد: من أنه لا يمتنع أن يستحق الملك بالشراء ثم بالشفعة...».

الثاني لغواً ينزّه عنه الشارع.

وثانياً: ولو سلمنا أنهما سببان معاً نقول الملكية اعتبار إمّا بيد الشارع أو بيد العرف ممضاة من قبل الشارع، ولا دليل على ذلك في المقام.

وثالثاً: ما في الجواهر من اختصاص روايات الشفعة بالبيع لغير الشريك(1).

لكنه محل تأمل؛ فإنه وإن كان صريح الروايات أن المشتري غير الشفيع، إلّا أنه من خصوص المورد ومثله لا يخصص الوارد.

والحاصل: إنه لا شفعة أصلاً، بل الحصة تملك بمجرد شراء العامل.

الفرع الثاني: لو اتفقا على كون ربح العامل من الأرض

لو كان الاتفاق على أن يكون ربح العامل من الأرض فهل لصاحب المال حق الشفعة؟ فيه صور متعددة:

الصورة الأولى: أن لا يظهر ربح أصلاً، فللعامل حق الأجرة بعدانتهاء المدة أو الفسخ، كما يظهر من عبارة الشرائع(2)، لكن المتأخرين(3)، بل المشهور أنه لا أجرة له؛ لأنّه أقدم على عدمها فلا احترام لعمله، بل له نسبة من الربح وهو منتفٍ، ولو كانت خسارة فالأمر أوضح، فإن لم يفرط العامل كان الضرر على صاحب المال.

الصورة الثانية: أن يظهر ربح، وفي هذه الصورة قولان في المضاربة:

ص: 92


1- جواهر الكلام 38: 453 (37: 297 ط ق).
2- شرائع الإسلام 4: 778.
3- مفتاح الكرامة 18: 489؛ الفقه 79: 117.

الأوّل: أن لا يستحق العامل شيئاً من العين، بل يأخذ حقه بعد بيع العين وصيرورتها نقداً، وفي المقام لو اشترى العامل حصة الشريك من الأرض لم يصبح شريكاً بنسبة ربحه في الأرض، وعليه فلا مجال للشفعة؛ لأن الأرض كلها لصاحب المال. نعم، لو بيعت الأرض أو فسخت المضاربة وجب على المالك إعطاء حقه إليه نقداً.

الثاني: أن يكون العامل شريكاً في العين بمجرد شرائها بنسبة سهمه في الربح، وفي هذه الصورة لا يحق للمالك الشفعة أيضاً، لما سبق من أن الشفعة إنّما هي في التملك بالبيع دون سائر المملكات كالإرث والهبة، والعامل في المقام لم يملكه بالبيع، بل بالربح.وأمّا ما ذكره الشرائع(1) في تتمة كلامه من حق العامل بالمطالبة بأجرة عمله، ففيه تفصيل، حاصله: إنه لو فسخت المضاربة فإن لم يظهر ربح فلا حق للعامل في الأجرة، ولو ظهر ربح وكان المبنى عدم حقه في العين لزم صاحب المال إعطاء ربحه إليه، وإن كان المبنى كون الربح في العين وفسخت بقي العامل شريكاً في العين، ولا يحق لصاحب المال إعطاء بدله إليه، كما لا يحق للعامل مطالبة البدل؛ لأنه شريك في العين، وفسخ المضاربة إنّما هو بعد ملكية العامل، ولا وجه لخروج حقه في العين عن ملكه بعد الفسخ.

نعم، لو فسخ قبل ظهور الربح ثم ربح كان العامل أجنبياً عن الربح، وأمكنه مطالبة الأجرة أو بدل الربح.

ص: 93


1- شرائع الإسلام 4: 779.

المسألة التاسعة: في حق الشفعة للحمل

قال العلامة في القواعد: «ولو بيع شقص في شركة حمل لم يكن لوليه الأخذ بالشفعة، إلّا بعد أن يولد حياً»(1).

توضيحه: أنه لو كانت الشركة مع جنين لم يكن لوليه الأخذ بالشفعة ما دام جنيناً، فإن ولد حيّاً حُق له ذلك، كما لو مات أب وورثه ولداه، وكان أحدهما جنيناً، فباع الثاني حصته لم يحق لولي الجنين الأخذ بالشفعة إلّابعد أن يولد حيّاً. وكذا لو كانا شريكين فمات أحدهما فورثه جنينه، فباع الآخر حصته.

ووجه ذلك أن الجنين ليس مالكاً والشفعة تابعة للملك، ويظهر ذلك بملاحظة الموارد المختلفة في الفقه.

ومنها: الإرث حيث تفرز حصة واحدة للجنين أو حصتين حسب الاحتمال، فإن ولد حيّاً أخذها وإلّا كان لسائر الورثة.

مثلاً: إن مات الرجل وكان وارثه زوجته وجنينها، ثم مات الجنين ورثت الزوجة الربع وكان الباقي للطبقة الثانية. مع أنه لو كان الجنين مالكاً ورثت الزوجة الثمن والباقي للجنين، فترثه أمه فيكون كل المال للزوجة.

وكذا في باب الوصية وغيرها من الموارد التي من مجموعها يستفاد عدم ملكية الجنين.

وفي ما نحن فيه لا يحق لولي الجنين الأخذ بالشفعة؛ لعدم كونه مالكاً إلّا بعد أن يولد حيّاً فيملك فيحق لوليه الأخذ بالشفعة.

ص: 94


1- قواعد الأحكام 2: 245.

لكنه محل نظر؛ لأنه حين الولادة لا شركة حتى يأخذ بالشفعة، فإن المالك الآخر قد باع حصته قبل ولادة الجنين فأصبحت ملكاً للمشتري من دون شريك ليكون شفيعاً، وهذا نظير ما لو باع أحد الشريكين حصته ثم وهب الآخر حصته للثالث، حيث لا حق للثالث في الشفعة؛ لأن ملكيته بعد البيع.إن قلت: حيث إن نسبة موت الأجنة قليلة فيظن بولادته حيّاً فيرتب عليه آثار الملكية.

قلنا: حتى لو علم قطعاً بولادته حيّاً لم ينفع؛ لأن المبنى عدم ملكية الجنين فلا معنى للشفعة، فلا مجال للبحث في حجية الظن أو الاستصحاب أو ما أشبه؛ لأنها سالبة بانتفاء الموضوع.

ص: 95

فصل: في الشركاء المتعددين

اشارة

وهنا مسائل متعددة بناءً على القول بثبوت الشفعة للشركاء، بل في الجواهر(1) أنّها لا تختص بالمبنى المذكور، بل يمكن فرض تعدد الشركاء حتى بناءً على اختصاص الشفعة بالشريكين، كما لو باع أحد الشريكين ومات الآخر قبل أن يأخذ بالشفعة فورثها جماعة، بناءً على توارث حق الشفعة كسائر الأموال والحقوق.

المسألة الأولى: لو أسقط أحدهم حقه في الأخذ بالشفعة

قال في الشرائع: «لو كان الشفعاء(2) أربعة، فباع أحدهما وعفا آخر، فللآخرين أخذ المبيع، ولو اقتصرا في الأخذ على حقهما لم يكن لهما؛ لأن الشفعة لإزالة الضرر، وبأخذ البعض يتأكد»(3).

وفي المسألة أقوال:

القول الأوّل: ما اختاره في الشرائع وحاصله: إن أخذ الشركاء بالشفعة جميعاً أو أسقطوها فلا كلام، ولكن إن أخذ بعضهم فاللازم أن يأخذ كلالحصص ولا يقتصر على حصته فقط؛ وذلك لأن تشريع الشفعة لرفع الضرر عن الشركاء،

ص: 96


1- جواهر الكلام 38: 461 (37: 303 ط ق).
2- أي: الشركاء.
3- شرائع الإسلام 4: 779.

ومع أخذ البعض شفعة لم يرفع الضرر عنهم، كما أنه قد يتضرر المشتري أيضاً، حيث لا ينفعه المتبقي له بعد الشفعة، كما قد يتضرر البائع أيضاً لتبعض الصفقة على المشتري الموجب لفسخه ورجوع بعض المبيع إليه.

وفيه نظر: أوّلاً: إنّه قد سبق أن الضرر حكمة لا علة لتشريع الشفعة؛ ولذا حتى لو لم يكن ضرر لأحدها جازت، وقد يكون ضرر ولا شفعة، كما في غير البيع.

وثانياً: ما ذكر من الإضرار على الأطراف غير تام في تمام الموارد أو بعضها، أمّا في الشريكين فإن أخذهما بنسبة الشفعة إقدام منهما على الضرر مع قدرتهما على أخذ الكل. نعم، لو سلب منهما حق أخذ الكل أمكن القول بالضرر في بعض الموارد، لكنهما مخيران بين الكل والبعض.

وأمّا في المشتري فقد يتضرر وقد لا يتضرر، كما لو كانت الأرض كبيرة جداً، بحيث لا يضره الأخذ بالنسبة، كما أنه لو أقدم على المعاملة مع علمه بالشفعة فقد أقدم على الضرر.

وأمّا في البائع فإن تبعض الصفقة منتفٍ؛ لعدم حق المشتري في الفسخ، لأنها لم تنشأ من البيع، بل من حكم آخر، فمثلاً: لو باع الأرضثم استولى على بعضها الحاكم الشرعي ليسدد دين المشتري لم يكن له حق الفسخ لتبعض الصفقة؛ لأنه لم يرتبط بالبائع، وحق الفسخ إنّما يكون فيما لو كان منشؤ التبعض البيع أو البائع.

وفي ما نحن فيه تم البيع كاملاً، فلو أخذ نصفه الشريك بالشفعة لم يرتبط الأمر بالبيع أو البائع، بل بحكم شرعي يضمن للشفيع الشفعة، وإن

ص: 97

كان إطلاق ما ذكرناه محل تأمل.

هذا بالإضافة إلى تولد إشكال عقلي من تشريع تبعض الصفقة، حيث يستلزم من وجود الشيء عدمه، فإن حكم الشارع بالشفعة مستلزم لتبعض الصفقة المستلزم للفسخ الموجب لانتفاء البيع فتنتفي الشفعة، فيستلزم جعل الشفعة رفعها، وما يستلزم المحال ولو في بعض الصور باطل، وفيه تأمل سيأتي بيانه(1).

وأشكل على هذا القول في الجواهر(2) بإشكالات أربعة:

الإشكال الأوّل: إن القول بتضرر المشتري غير مجدٍ؛ لأنه أقدم على الضرر بإقدامه على شراء ما هو مشترك، فلا يكون مشمولاً ل-(لا ضرر).

وفيه نظر: لأنه أخص من المدعى، فقد لا يعلم بأصل الشركة، أوبتعدد الشركاء أو يجهل حكم الشفعة، أو يرى عدم الشفعة للشركاء اجتهاداً أو تقليداً، بالإضافة إلى ما سبق من أنه أقدم على النفع لا الضرر، مضافاً إلى أن الضرر حكمة كما مرّ.

الإشكال الثاني: مركب من مقدمتين:

الأولى: إن الشفعة حق مالي قابل للتقسيط والانقسام، فإن الحقوق مالية وغير مالية، والمالية إمّا قابلة للتقسيط كالنفقة أو لا كالإرث(3) وغير المالي

ص: 98


1- في المسألة الثانية من فصل في كيفية الأخذ بالشفعة، الصفحة 127.
2- جواهر الكلام 38: 462 (37: 303 ط ق).
3- حيث لا يمكنه أن يجعل نفسه نصف وارث. نعم، بعد استلام الإرث يمكنه أن يتصرف فيه كما يشاء.

كالفراش، فللشفيع أن يقسط حقه برضى المشتري، فإن الحق لا يعدوهما، بالإضافة إلى شمول إطلاق أدلة الشفعة له.

الثانية: إن المستفاد من ظاهر رواية: «الشفعة على عدد الرجال»(1) أن لكل واحد من الشركاء حق الشفعة بنسبة حصته، ومعناه تقسيم الشفعة بينهم، ومقتضاه أنه لو أسقط أحدهم حقه لم تكن شفعة في حصته.

وفيه نظر: فإن الرواية مجملة، لوجود احتمال آخر في معناها، وهو إن الشفعة للجميع فلا يحق لأحد أن ينفرد بها، فلو سبق أحدهم إليها لم يسقط حق الباقين، وهذا المعنى هو الأقرب.الإشكال الثالث: إن إسقاط أحد الشركاء حقه في الشفعة موجب لاستقرار ملك المشتري بنسبته، فلا يمكن لسائر الشركاء أخذه.

وفيه نظر: حيث إنه مجرد دعوى، فلا دليل على استقرار الملك بذلك، بل يبقى متزلزلاً وإن أسقط البعض حقه بنسبة حصته وإنّما يستقر بأخذ جميعه بالشفعة.

الإشكال الرابع: الروايات التي ذكرها السيد المرتضى(2)، ومفادها استقرار ملك المشتري بإسقاط البعض، فتخصص أدلة الشفعة في الكل.

وفيه نظر: لأنها مرسلة لم يعمل بها المشهور، فلا يمكنها التخصيص والتقدم على (لا ضرر).

ص: 99


1- تهذيب الأحكام 7: 166؛ وسائل الشيعة 25: 403.
2- الانتصار: 451.

القول الثاني(1): ثبوت حق الشفعة للآخرين بنسبة حصصهم، ويظهر دليله من ثنايا كلمات الجواهر، وقد تمّ الإشكال عليها.

القول الثالث: سقوط حق شفعة الجميع بإسقاط أحدهم حقه، واستدل له: أوّلاً: بأنه حق واحد غير قابل للتقسيم، ينتقل من المورث إلى الورثة، فمع إسقاط أحدهم، يسقط حق الجميع وكأنه أسقطه المورث.

وأشكل عليه في المسالك(2) بعدم الدليل على كونه غير قابل للتقسيم،ولا دليل على أن إسقاط أحدهم موجب لإسقاط حق الآخرين، بل هو خلاف مقتضى السلطنة، بالإضافة إلى استصحاب بقاء الحق عند الشك.

وثانياً: ما يستفاد من كلام صاحب الحدائق(3) من أن أصل الشفعة خلاف قاعدة السلطنة، فكل ما شك في جريان الشفعة فيه شمله إطلاق دليله إن كان، وإلّا فأصل السلطنة، وفي المقام لو أسقط أحدهم حقه لم يعلم شمول إطلاق دليل الشفعة للآخرين(4).

القول الرابع: ثبوت الشفعة إلّا أن يسقطها الجميع، فلو أسقطه أحدهم لم

ص: 100


1- تذكرة الفقهاء 12: 285؛ مسالك الأفهام 12: 291؛ جواهر الكلام 38: 462-463 (37: 304 ط ق).
2- مسالك الأفهام 12: 292.
3- الحدائق الناضرة 20: 305.
4- وفيه تأمل: فإن حق الشفعة كان ثابتاً للجميع قبل إسقاط أحدهم فمع الشك يستصحب الحق، هذا أوّلاً. وثانياً: إن دليل السلطنة يشمل سلطنة الآخرين على حقهم في الشفعة، فكما يشمل حق المشتري في سلطنته على ما اشتراه كذلك يشمل حق الشركاء في الشفعة، ولا وجه للقول بعدم إطلاق دليلها في المقام (المقرر).

يسقط حتى حق نفسه، احتمله في المسالك أيضاً(1)؛ وذلك لأن حق الشفعة غير قابل للتبعيض، فمع الاختلاف يقدم جانب الإيجاب على السلب.

وفيه نظر: فإنه دعوى من غير دليل، بل الدليل قائم على تسلط كل إنسان على حقه أخذاً وعطاءً.

المسألة الثانية: لو كان بعض الشفعاء غائبين

قال في الشرائع: «ولو كان الشفعاء غُيّباً فالشفعة لهم، فإذا حضر واحد وطالب فإمّا أن يأخذ الجميع أو يترك؛ لأنه لا شفيع الآن غيره، ولو حضر آخر أخذ من الآخر النصف أو ترك، فإن حضر الثالث أخذ الثلث أو ترك، فإن حضر الرابع أخذ الربع أو ترك»(2).

ويرد عليه: أوّلاً: ما في المسالك(3): من أن لزوم أخذ الكل دون البعض إنّما هو لدفع الضرر على المشتري، وهو يجري في الشفيع الأوّل دون الثاني، فلا وجه لأخذه النصف من الأوّل، بل له الأخذ بمقدار حصته.

وثانياً: بناءً على القول بأن لكل واحد من الشركاء حق الشفعة بنسبة حصته فقط(4): إن أخذ الأوّل الكل إنّما هو لعدم تبعض الصفقة على المشتري، أو لدفع الضرر عنه، لكن ذلك لا يكون دليلاً على أخذ أحدهم

ص: 101


1- مسالك الأفهام 12: 292؛ جواهر الكلام 38: 464 (37: 305 ط ق).
2- شرائع الإسلام 4: 779.
3- مسالك الأفهام 12: 292-293.
4- معنى (الشفعة على عدد الرجال) أن لكل واحد من الشركاء حق الشفعة بنسبة حصته، ومعناه تقسيم الشفعة بينهم، ومقتضاه أنه لو أسقط أحدهم حقه لم تكن شفعة في حصته.

أكثر من حقه.

ثم بناءً على جواز أخذ الأوّل لكل الحصص في الشفعة، فقد ذكر في المسالك كلاماً(1) وتوضيحه بالمثال الآتي وهو: أنه لو كان الشفعاء ثلاثةفأخذ الأوّل كل الحصص، كان الثاني مخيراً بين أخذ نصفه منه وبين أخذ حقه فقط وهو الثلث، والثالث يمكنه أخذ الثلث من الأوّل؛ لأنه حقه كما يمكنه التنصيف حيث لا أولوية للأوّل بالاستفراد بالحصص، وهذا لا إشكال فيه، وإنّما المشكل في كلامه أنه يحق للثالث مطالبة الثاني بثلث ما عنده؛ لأن الحصص مشاعة، ثم يضيفها إلى ما عند الأوّل ليقتسماه نصفين.

فيكون فرض المسألة هكذا، لو اشترى المشتري ثمانية عشر حصة، فجاء الشفيع الأوّل وأخذها كلها، ثم اختار الثاني حقه فقط وهو ست حصص، والثالث يمكنه أخذ النصف من الأوّل أي: ست حصص، كما يمكنه أن يطالب الثاني بحصتين فيضيفها إلى ما بيد الأوّل، فيصير المجموع أربع عشرة حصة، ثم يقسّم بينهما نصفين فيملك كل واحد من الأوّل والثالث سبع حصص والثاني أربع حصص. ولا يحق للثاني مطالبة بقية حصته من الأوّل؛ لأنه أسقط حقه حين لم يطلب من الأوّل نصف المجموع، بل اكتفى بحصته وهي الست.

والوجه في ذلك: أن الثالث شريك في كل الحصص، ولم يسقط حقه فيما أخذه الثاني لفرض كونه مشاعاً، ولا يحق للثاني الرجوع إلى الأوّل لمكان العفو.

ص: 102


1- مسالك الأفهام 12: 292-293.

ويرد عليه: أوّلاً: إن الشفيع الثالث ليس شريكاً في الستحصص، بل له حق الشفعة وهو غير الشراكة، أي: يمكنه أخذها فيصير شريكاً، وحين أخذ الثاني ست حصص لم يعف عن حصته في الباقي - أي: اثني عشرة - حصة، بل يجمع كل حصصه في هذه الست.

وبعبارة أخرى: إنه يشترط إهمال حقه الموجود في الاثني عشر مقابل أخذ حقه من الست، فيكون عفوه مشروطاً ينتفي بانتفاء الشرط.

وثانياً: إن حق الشفيع الثالث هو ست، فلو أخذ من الثاني اثنان لم يكن هنالك وجه لضمهما إلى الاثني عشر، حيث لا حق للأوّل فيهما، كما لا وجه لمطالبة الثالث ستة سهام من الأوّل؛ لأن حقه لا يتجاوز الست، وقد أخذ سهمين من الثاني، كما أن الثاني قد وهب سهمين إلى الأوّل فلا يكون الثالث شريكاً فيها، فيكون حق الثالث ست، أربع منها من الأوّل واثنان من الثاني، ويكون حاصل التقسيم: ثمانية أسهم للأوّل، و أربعة سهام للثاني، وستة سهام للثالث.

فما ذكره من ضم الاثنين إلى الاثني عشر ثم تقسيمها بين الأوّل والثالث محل نظر.

المسألة الثالثة: حكم ما لو أخذ أحد الشركاء بالشفعة ثم حضر الآخر

اشارة

قال في الشرائع: «إذا حضر أحد الشركاء فأخذ بالشفعة وقاسم، ثم حضر الآخر فطالب فسخ القسمة وشارك الأوّل، وكذا لو رده الشفيع الأوّلبعيب ثم حضر الآخر كان له الأخذ؛ لأن الرد كالعفو»(1).

ص: 103


1- شرائع الإسلام 4: 779.

وتتضمن العبارة فرعين: الأوّل: في القسمة، والثاني: في الرد.

الفرع الأوّل: لو حضر الغائب بعد القسمة

والظاهر أن مراده من (قاسم) ميّز ما أخذ بالشفعة عن سائر المال، فمع غياب الشركاء لا يحل لأحدهم تقسيم المشاع لشراكتهم في كل جزء جزء. وليس معناه فرز السهام ثم بيع أحدهم سهمه، فإنه لو كان كذلك لم تكن هنالك شفعة أصلاً؛ لانتفاء الشركة، وقد مرّ أنه لا شفعة بعد التقسيم.

ويؤيد ذلك أن العلامة في القواعد ذكر نفس هذه المسألة حيث قال: «ولو حضر الثاني بعد أخذ الأوّل فأخذ النصف وقاسم، ثم حضر الآخر وطالب فسخت القسمة»(1).

وما ذكر في الشرائع واضح البرهان؛ لأنهم شركاء في كل جزء على نحو الإشاعة، وتعيين ما باعه المالك بحاجة إلى اتفاقهم جميعاً، فلو جاء الشفيع وقسّم مع البائع أو المشتري من دون إذن سائر الشركاء حق لهم إبطاله.

لكن في المسالك تفسير قوله: (قاسم) بغير ما ذكرناه، قال: «إذا حضرأحد الشركاء فأخذ بالشفعة فله مقاسمة وكلاء الغائبين؛ لأن الحق الآن مختص به، فإذا قدم الغائب فإن عفا استقرت القسمة، وإن أخذ فله فسخ القسمة والمشاركة؛ لأن حقه شائع في المأخوذ وفي باقي السهام»(2).

فيكون معنى (قاسم) تقسيم ما أخذه شفعة مع وكلاء الشركاء الغائبين،

ص: 104


1- قواعد الأحكام 2: 249.
2- مسالك الأفهام 12: 294.

بخلاف ما فسّرناه من تقسيم الشفيع مع المشتري أو البائع. فلو كانت الأرض لشركاء فباع أحدهم سهمه، وأخذ الآخر الحاضر بالشفعة ثم قسّمت الأرض مع وكلاء الآخرين، فيكون له ما أفرز من سهمه مع ما أخذه شفعة حتى يقرر الباقون.

لكن هذا التفسير خلاف ظاهر عبارة الشرائع، فإن ظاهر (قاسم) تحقق القسمة مع المشتري أو المالك لا وكلاء الشركاء الغائبين، وخاصة أنه لم يذكرهم في عبارته، بالإضافة إلى وضوح عبارة القواعد في القسمة بين الشريك الأوّل والثاني.

ويرد عليه: أنه لو قاسم الشفيع الأوّل وكلاء الغائبين فإن كانوا وكلاء كان عملهم كعمل الموكلين، فلا يحق لهم الفسخ فيما عينه الوكلاء من الحصص. نعم، لو ضم الشفيع الأوّل حصته إلى ما أخذه شفعة حُق للآخرين دعوى الشركة في مقدار حقهم من الشفعة، هذا إذا كانامنضمّين، وإن كانت الأرض مقسّمة بينهم وكان مال الشفعة مفرزاً أيضاً، كان مال الشفعة للشفيع الأوّل حتى يأتي سائر الشركاء فيشتركوا فيه إن أخذوا بالشفعة، ولا يحق لهم فسخ القسمة التي أجراها وكلاؤهم.

ولا يرد الإشكال المذكور على المعنى الذي رجّحناه وهو ظاهر عبارة الشرائع؛ فإن الشفيع الأوّل قسّم مال الشفعة بينه وبين البائع أو المشتري، ويحق لسائر الوكلاء إبطاله.

الفرع الثاني: فيما لو رد الشفيع الأوّل بعيب

وهو ما ذكره صاحب الشرائع بقوله: «وكذا لو رده الشفيع الأوّل

ص: 105

بعيب...»(1).

فلو كانت الأرض معيبة فباع أحد الشركاء، فأخذ الثاني بالشفعة وهو لا يعلم بالعيب، ثم علم به حُق له الفسخ، فإن خيار العيب لا يختص بالبيع، حيث يجري دليله في غيره من المعاملات والإيقاعات ومنها الشفعة، فترجع حصة الشفيع إلى المشتري، ولا يحق له الفسخ لعلمه أو رضاه بالعيب، فلو جاء الشفيع الثاني فهل يحق له الأخذ بالشفعة؟

احتمل بعض الفقهاء سقوط الشفعة لاختصاصها بالبيع، وفي المقام المشتري ملك بالبيع ابتداء ثم خرج عن ملكه بالشفعة ثم عاد إلى ملكه بخيار العيب وهو سبب جديد ليس بيعاً فلا تجري الشفعة فيه.قال العلامة: «ويحتمل سقوط حقه من المردود؛ لأن الأوّل لم يعف، بل رد بالعيب، فكان كما لو رجع إلى المشتري ببيع أو هبة»(2).

وفي ما احتمله العلامة إشكالان:

الأوّل: إن الرد بالعيب ليس إحداث ملك جديد، وإنّما يبطل ملكية الشفيع، يعني يرجع المملوك إلى ما كان عليه، فالفسخ جعل السبب كالعدم.

الثاني: انتقال المال من المشتري لا يبطل حق الشفيع، كما لو اشترى الحصة فأهداها لآخر فأمهرها لزوجته فورثها ورثتها، لم يبطل حق الشفعة؛ لسبقه على النقل والانتقال المتعاقب.

ص: 106


1- شرائع الإسلام 4: 779.
2- قواعد الأحكام 2: 249.

وفي المقام كذلك، فإن الشفيع الثاني تولّد له حق الشفعة بمجرد البيع، فلو فرض أن الشفيع الأوّل باعه أو أهداه لم يسقط حق الشفيع الثاني؛ لأن حقه قبل البيع والإهداء، وكذا الفسخ.

المسألة الرابعة: لو استغلها الأوّل ثم حضر الثاني

قال في الشرائع: «لو استغلها الأوّل ثم حضر الثاني شاركه في الشقص دون الغلة»(1).

وحاصله: إنه لو كان الثاني غائباً فأخذ الأوّل بالشفعة كان النماءالمتولد له؛ لأنه ملكه وإن كان متزلزلاً، كما هو الحال في سائر المعاملات المتزلزلة، فلو جاء الثاني وأخذ بالشفعة لم يشاركه في النماء السابق.

وأضاف السيد الوالد في الفقه(2): بأنه لا فرق في اختصاص ملكية النماء بالشفيع الأوّل بين كون النماء منفصلاً، كما لو أخذ الأرض شفعة فزرعها وحصد الزرع، أو متصلاً كما لو نمت الفسيلة أو سمنت الشاة، كل ذلك لحدوث النماء في ملك الشفيع الأوّل دون الثاني.

أمّا كيفية تمييز حق الأوّل عن الثاني في النماء المنفصل فواضح، وأمّا في المتصل فيقدر نصف الأصل قبل حدوث النماء، فلو كان ثمن الشاة ألفاً وأصبح بعد النماء عشرة آلاف شاركه بنسبة الواحد إلى العشرين، أي: خمسمأة، فإن التسعة آلاف ملك الشفيع الأوّل وينصف الألف بينهما.

وفي عكس المسألة، كما لو كانت الشاة سمينة فهزلت فنقصت قيمتها

ص: 107


1- شرائع الإسلام 4: 779.
2- الفقه 79: 139.

إلى النصف لم يحق للثاني مطالبة كل الشاة، باعتبار نصف سهمه من السمينة الموافق لكل ثمن الهزيلة؛ وذلك لأن الأوّل تصرف في ملكه ولا ضمان في مثله، وإنّما الضمان في التصرف في مال الغير. وكذا لو أوجد الشفيع الأوّل النقص فيها، كما لو قطع الأشجار.

وأضاف في مفتاح الكرامة أن الشفيع الأوّل لو أخذ الشفعة أصالة عننفسه ووكالة عن الثاني كان النماء بينهما(1)، وهو واضح.

المسألة الخامسة: لو لم يأخذ الحاضر بالشفعة حتى يحضر الغائب

قال في الشرائع: «ولو قال الحاضر: لا آخذ حتى يحضر الغائب لم تبطل شفعته؛ لأن التأخير لغرض لا يتضمن الترك، وفيه تردد»(2).

وحاصله بقاء حق شفعة الحاضر مع التأخير في أخذها، طلباً للمهلة ليحضر الغائب فيتفقان معاً.

ووجه التردد ما ذهب إليه جمع من الفقهاء(3) من الفورية، استثني منه المعذور، كالغائب وشبهه، والمقام ليس منه، فإن انتظار الشريك ليس عذراً مقبولاً.

كما لا يمكن دفع الضرر عن الشفيع(4) بإلقائه على المشتري(5)، فيبقى ملكه معلّقاً حتى يحضر الغائب.

ص: 108


1- مفتاح الكرامة 18: 489.
2- شرائع الإسلام 4: 779.
3- جامع الخلاف والوفاق: 283؛ تذكرة الفقهاء 12: 312؛ مفتاح الكرامة 18: 550.
4- حيث لا يمكنه دفع كل الثمن فينتظر الشريك ليقتسماه.
5- أقول: المشتري متضرر على كل حال لبقاء ملكيته معلّقة إلى أن يحضر الشفيع الثاني (المقرر).

بالإضافة إلى أصل عدم الشفعة، فإن مقتضى القاعدة الأوّلية عدم جواز التسلط على ملك الغير بلا رضاه، وبعبارة أخرى: كلما شك في عموم العام أو وجود المخصص استصحب عمومه.وأمّا وجه بقاء الحق فهو ضعف دليل الفور، فإن رواياته عامية، غير مجبورة، وربما مشهور القدماء(1) على عدم الفور، بالإضافة إلى عدم معلومية جبر الشهرة للروايات العامية، وكل ما استدل به محل إشكال كما سيأتي تفصيله، وعلى فرض التسليم فلا يعلم شموله للمقام، فالمرجع إطلاق أدلة الشفعة وعدم تمامية المقيد بالفور.

ويتفرع عليه: انتظار الشفيع الثاني لمجيء الثالث(2)، حيث يحتمل جريان نفس الملاك، والأقرب عدم تمامية الدليل على الفور في المقام وإن قلنا بتماميته في الفرع السابق.

المسألة السادسة: لو ظهر الشقص مستحقاً للغير بعد الأخذ بالشفعة

قال في الشرائع: «لو أخذ الحاضر ودفع الثمن ثم حضر الغائب فشاركه ودفع إليه النصف مما دفع إليه البائع، ثم خرج الشقص مستحقاً، كان دركه على المشتري دون الشفيع الأوّل؛ لأنه كالنائب عنه في الأخذ»(3).

ص: 109


1- السرائر 2: 388؛ ونسبه في مختلف الشيعة 5: 341 إلى ابن الجنيد.
2- والفرق بينهما أنه في الفرع السابق الشفيع الأوّل يطلب المهلة من المشتري، وفي الفرع الثاني، الأوّل يأخذ كل المبيع من المشتري، والثاني يطلب المهلة لحضور الثالث لأخذ حقهما من الأوّل.
3- شرائع الإسلام 4: 780.

وفي المسألة أقوال ثلاثة:القول الأوّل: ما في الشرائع وهو المشهور(1): من رجوع الشفيع الثاني إلى المشتري دون الشفيع الأوّل، فاللاحق لا يرجع إلى السابق وإن سلّمه الثمن، وإنّما كل الأيادي ترجع إلى المشتري في عرض واحد.

القول الثاني(2): رجوع اللاحق إلى السابق كما في الغصب.

القول الثالث: ما اعتمده العلامة(3) واستحسنه في المسالك(4) ورضيه المحقق الثاني(5): من التفصيل بين الثمن فكل لاحق يرجع إلى سابقه، وبين سائر الغرامات كالإجارة فالكل مخيّر بين أن يرجع إلى المشتري أو البائع.

واستدل للقول الأوّل(6): بأن الشركاء يستحقون الشفعة في عرض واحد، فالحاضر يأخذ بالشفعة لنفسه بمقدار حصته، وللآخرين نيابة عنهم بمقدار حصصهم، فكأن الشفيع الثاني أخذه من المشتري رأساً، فلا يستحقه على الشفيع الأوّل.

وفيه نظر لإشكالات ثلاثة ذكرها في المسالك(7):

ص: 110


1- مسالك الأفهام 12: 296؛ مفتاح الكرامة 18: 527؛ جواهر الكلام 38: 472 (37: 311 ط ق).
2- الفقه 79: 142.
3- تذكرة الفقهاء 12: 340-341.
4- مسالك الأفهام 12: 297.
5- جامع المقاصد 6: 391.
6- جواهر الكلام 38: 472 (37: 311 ط ق).
7- مسالك الأفهام 12: 296-297.

الأوّل: إن أخذ الشفيع الأوّل لا يجعل الثاني شريكاً في الشقص، بل عليه الأخذ إن شاء، ولو كان كالنائب لكان الثاني شريكاً في الشقص من دون حاجة إلى الأخذ مجدداً.

الثاني: إن الشفيع الأوّل يملك كل الشقص، ولذا يكون النماء ملكاً له، فإن أخذ الثاني بالشفعة أصبح شريكاً من حينه، فلا يشاركه في النماء السابق، فيدل على أن الثاني لم يستلم من المشتري رأساً وإنّما من الشفيع الأوّل.

الثالث: إن المشتري استلم الثمن من الشفيع الأوّل دون الثاني، فلا وجه لضمانه له، حيث لا دليل على لزوم إعطاء المال لمَن لم يأخذ منه شيئاً.

واستدل للقول الثاني(1): بترتب الأيدي مع عدم تحقق النيابة، وظاهر: «على اليد ما أخذت»(2) اليد المباشرة لا السابقة.

ونستدل للقول الثالث: بتماميّة دليل القول الثاني في الثمن فقط، فإن مال الشفيع الثاني لم يصل إلى المشتري حتى يطالبه به، فالضمان على الشفيع الأوّل حيث أخذ الثمن منه، وأمّا بالنسبة إلى سائر الغرامات فإن الشفيع الثاني حيث سكن الأرض - مثلاً - فعليه إعطاء الأجرة للمالكالأصلي، فإن جهله باستحقاقها لا يرفع الضمان، ولا وجه لرجوعه في ذلك إلى الشفيع الأوّل، فإنه لم يكن سبباً لسكناه حتى يستدل ب-(المغرور يرجع إلى من غرّه)، بل أخذها منه بحقه الشرعي، أي: الشفعة قهراً، ويكون الضمان على

ص: 111


1- الفقه 79: 142-143.
2- عوالي اللئالي 1: 389.

المسبب الأصلي، وهو الشريك الذي باعها ثم تبين استحقاقها.

ومن هذا البيان يظهر الإشكال على ما في الجواهر حيث قال: «ضرورة كون المفروض مع ملاحظة ملك كل منهم من الآخر حقيقة يكون كترتب المشترين بعضهم من بعض، من غير فرق بين الثمن وغيره، وإلّا كان كالنائب فيهما»(1).

فإن السابق إن كان نائباً فلا يرجع اللاحق إليه في الثمن والغرامة، وإن كان ليس بنائبٍ فيرجع فيهما إليه.

وهو ابتعاد عمّا يرتبط بالبحث، فإن وجه التفصيل لعدم الضمان عدم التسبيب كما بيناه.

ويظهر من ذلك الإشكال على كلام العلامة والشهيد حيث جعلاً قرار الغرامات - غير الثمن - على المشتري، فإن الحق كون القرار على البائع، فإن المشتري لم يكن سبباً، كما أوضحناه.

المسألة السابعة: فيما لو باع أحد الشركاء حصّته لشريكه

قال في الشرائع: «لو كانت الدار بين ثلاثة فباع أحدهم من شريكه استحق الشفعة الثالث دون المشتري؛ لأنه لا يستحق شيئاً على نفسه، وقيل: يكون بينهما، ولعله أقرب»(2).

بيانه: إنه لو باع أحد الشركاء الثلاثة حصّته للثاني فهل للثالث حق الشفعة عليه؟

ص: 112


1- جواهر الكلام 38: 473 (37: 312 ط ق).
2- شرائع الإسلام 4: 280.

في المسألة قولان(1):

الأوّل: ثبوت الشفعة للثالث، فيأخذ كل الحصة من الثاني.

الثاني: يحق للثالث أخذ نصف الشقص لا كله، فما اشتراه الثاني يقسّم بينه وبين الثالث.

واستدل للقول الأوّل بأدلة ثلاثة:

الدليل الأوّل: ما ذكره في الجواهر(2) من ظهور الأدلة في عدم حق الشفعة للمشتري، فتختص بالثالث، ومنها قول الصادق(علیه السلام): «الشفعة في البيوع إذا كان شريكاً فهو أحق بها من غيره بالثمن»(3). فكلمة «غيره» كالصريح في غير المشتري.وفيه نظر لوجوه:

الأوّل: فإنه وإن أمكن رجوع الضمير في «غيره» إلى المشتري، إلّا أن صدر الرواية (الشريك) ينطبق عليه؛ لأن المشتري شريكه أيضاً، فيتناقض الصدر مع التتمة، فتكون الرواية مجملة فلا يمكن الاستدلال بها على نفي الشفعة.

الثاني: خروج مورد البحث عن الرواية، فإن الظاهر أن ضمير «غيره» عائد إلى غير الشريك، فيكون المعنى أن الشريك أحق من غير الشريك،

ص: 113


1- الخلاف 3: 447؛ المبسوط 3: 138؛ مسالك الأفهام 12: 297.
2- جواهر الكلام 38: 474 (37: 313 ط ق).
3- تهذيب الأحكام 7: 164، والرواية مروية في الكافي من دون كلمة (من غيره) في كلام الإمام(علیه السلام).

والمشتري هو الشريك ولا يوجد غيره، فتنطبق الرواية على الشريكين فقط.

الثالث: يمكن دعوى انصرافها إلى مورد الغالب، وهو الشريكان، لا لبيان الضابطة العامة، فكلامه(علیه السلام) بيان للمصداق لا حصر للمورد.

الدليل الثاني: لو كان الشريك هو المشتري كان معناه ثبوت حق الشفعة له على نفسه، وهو غير معقول، فإنه قد اشتراه فملكه فكيف يعقل أن يتملك ملكه بالشفعة؟ فإنه تحصيل للحاصل، قال في المسالك: «لإن الشفعة للإنسان على نفسه غير معقولة؛ لامتناع أن يستحق الإنسان تملّك ملكه بها»(1)، وفي الجواهر: «لأنّه لا يعقل أن يستحق الإنسان شيئاً علىنفسه»(2).

ويمكن أن يقال: ليس المقصود شفعة المشتري على نفسه، بل حصر شفعة الشريك الثالث في نصف ما اشتراه الشريك الثاني، فتأمل.

الدليل الثالث(3): انصراف أدلة الشفعة عن المورد.

فإن ثبت الانصراف فهو، إلّا أن الظاهر عدم ثبوته.

القول الثاني: يكون الشقص بينهما(4)، وقد رجحه في الشرائع(5) واختاره العلامة(6) في بعض كتبه، وهو الأصح على تأمل.

ص: 114


1- مسالك الأفهام 12: 297.
2- جواهر الكلام 38: 474 (37: 313 ط ق).
3- الفقه 79: 148.
4- المبسوط 3: 138؛ مسالك الأفهام 12: 297.
5- شرائع الإسلام 4: 780.
6- تذكرة الفقهاء 12: 344.

واستدل(1) له أوّلاً: باشتراكهما في العلة الموجبة للاستحقاق، فلا فرق بين البيع للغريب أو للشريك، وعدم إمكان استحقاق تملك ملكه مدفوع بكون الأسباب الشرعية معرّفات، فيمكن اجتماع علتين منها على معلول واحد، فيكون الشريك مالكاً لنصف الشقص من جهتين: بالشراء وبالشفعة.

لكنه بهذا المقدار غير وافٍ بالمطلوب، فإنه وإن أمكن اجتماع علتينعلى معلول واحد في عرض واحد تكويناً وتشريعاً، حيث ينقلب كل واحد منهما إلى جزء العلة، إلّا أنهما في المقام ليسا عرضيين، فإن الشريك ملك الشقص بالشراء أوّلاً، وحق الشفعة ليس سبباً للملك وإنّما الأخذ بها سبب له، وهو متأخر عن الشراء، فلا تكون العلتان في عرض واحد حتى يكون كل واحد منهما جزء العلة، فيكون الأخذ بالشفعة موجباً لتحصيل الحاصل.

وثانياً(2): إن أخذ الشفعة سبب لشيئين، فإن كان أحدهما محالاً بقي الآخر على حاله، وهما: زوال ملك المشتري وحدوث ملك للشفيع، وفي المقام فإن الأخذ بها موجب لزوال الملك السابق وحدوث ملك جديد، فلا يكون طلباً للحاصل، ولا يرد عليه أنه لغو؛ لثبوت الأثر لذلك، وهو منع الشريك من تملك نصف ما اشتراه، فتكون فائدة ثبوت حق الشفعة عدم استملاك الشريك الثالث للكل.

لكنه لا يخلو من تأمل، وإن لم يمنع منه مانع عقلي، فيمكن التمسك بإطلاق أدلة الشفعة، فقول الشرائع: «لعله اقرب» هو الأقرب.

ص: 115


1- مسالك الأفهام 12: 297؛ جواهر الكلام 38: 475-476 (37: 314 ط ق).
2- مسالك الأفهام 12: 297.

المسألة الثامنة: لو باع شريكان لثلاثة صفقة

قال في الشرائع: «لو باع اثنان من ثلاثة صفقة فللشفيع أخذ الجميع، وأن يأخذ من اثنين ومن واحد؛ لأن هذه الصفقة بمنزلة عقود متعددة، ولوكان البائع واحداً من اثنين كان له أن يأخذ منهما ومن أحدهما، ولو باع اثنان من اثنين كان ذلك بمنزلة عقود أربعة، فللشفيع أن يأخذ الكل وأن يعفو، وأن يأخذ الرابع أو النصف أو ثلاثة الأرباع»(1).

والصور أربع، وقد ذكر اثنتين منهما، وبما أن أحكامها مختلفة في بعض مصاديقها فلا بدّ من بيان الصور الأربع، وهي:

الأولى: اتحاد البائع والمشتري، بأن يبيع أحد الشركاء إلى شخص واحد.

الثانية: وحدة البائع وتعدد المشتري، بأن يبيع أحد الشركاء لأكثر من مشترٍ.

الثالثة: وحدة المشتري وتعدد البائع، بأن يبيع شريكان لمشترٍ واحد.

الرابعة: تعددهما، بأن يبيع شريكان لمشتريين.

والقاعدة العامة الجارية في جميع الموارد لزوم عدم تبعض الصفقة على المشتري، فلو أخذ الشفيع نصف الحصة تبعضت الصفقة على المشتري، فعليه أن يأخذ الكل أو يترك الكل.

نعم ذهب السيد الوالد(2) إلى أن المستفاد من الأدلة جريان الشفعة حتى مع تبعض الصفقة، لكن بشرط رضا المشتري، فإن مقتضى الجمعبين

ص: 116


1- شرائع الإسلام 4: 780.
2- الفقه 79: 148.

إطلاق أدلة الشفعة، ودليل نفي تبعض الصفقة هو عدم الإشكال مع رضا المشتري.

وفي ما نحن فيه: الأصل أن لا تتبعض الصفقة على المشتري، فلو كان البيع واحداً تبعّضت الصفقة، أمّا البيع لنفرين فهو في الحقيقة بيعان، فمع أخذ الشفعة من أحدهما لا يكون هنالك تبعض للصفقة، وكذا لو باعا لمشترٍ واحد، فإن واقعه بيعان وإن كانا بلفظ واحد، فإن اللفظ لا يغير الواقع، كما في تزويج بنتين لزوجين بعقد واحد، حيث إنه نكاحان.

ولو باع حصّته في مرحلتين، كما لو باع نصف حصّته للمشتري ثم باع النصف الآخر له فهنا أيضاً معاملتان، فيحق للشريك أخذ أحدهما شفعة وليس ذلك من تبعض الصفقة.

هذا هو الأصل في المسألة ذكره في المسالك والجواهر والفقه(1)، وحاصله: ثبوت حق الشفعة ما لم يستلزم تبعض الصفقة، وأمّا ما استلزم التبعض فلا حق للشفعة فيه أصلاً، أو مع عدم رضا المشتري.

وأمّا صور المسألة، فمنها:

الصورة الأولى: وحدة البائع والمشتري، كما لو باع حصته أو بعضها لشخص واحد، أو باع بعضها ثم البعض الآخر لمشترٍ واحد.ويظهر الحكم فيه من القاعدة العامة التي ذكرناها، فلو باع الحصة صفقة واحدة لم يحق للشفيع أخذ بعض الحصة للتبعض، لكن لو باعه في

ص: 117


1- مسالك الأفهام 12: 299؛ جواهر الكلام 38: 478 (37: 316 ط ق)؛ الفقه 79: 148.

مرحلتين حُق للشفيع أخذ أحدهما، وليس من تبعض الصفقة؛ لكونها معاملتين.

مثال آخر: لو كانا شريكين في منزلين فباع الأوّل حصته من المنزلين لمشترٍ في معاملة واحدة، فهنا وإن كان العقد واحداً إلّا أنهما معاملتان في حقيقة الأمر؛ لتعدد متعلّق العقد، كما هو المشهور، فيحق للشريك أخذ أحدهما بالشفعة دون الآخر؛ لعدم تبعض الصفقة عرفاً.

نعم، لو استظهر كونه تبعضاً للصفقة - كما يبدو للنظر - لم يحق له ذلك.

الصورة الثانية: وحدة البائع وتعدد المشتري، وفيها فرضان:

الأوّل: أن يجري البيع دفعة واحدة، فللشفيع حق الشفعة على الجميع أو البعض، أمّا الجميع فواضح، وأمّا البعض فلكون المعاملة متعددة في واقعها، فيكون لكل واحدة منها شفعة خاصة، وأمّا سائر المشترين فليس لهم حق الشفعة؛ لتساوي الآخذ والمأخوذ منه، حيث لم يكونوا شركاء عند البيع.

الثاني: أن يجري عقوداً متعددة، ويأتي الكلام في ثبوت حق الشفعة له من عدمه.ولهذه الصورة - أي: الثانية - أربعة فروض كما في الشرائع، حيث قال: «ولو باع الشريك حصته من ثلاثة في عقود متعاقبة، فله أن يأخذ الكل، وأن يعفو، وأن يأخذ من البعض، فإن أخذ من الأوّل لم يشاركه الثاني والثالث، وكذا لو أخذ من الأوّل والثاني لم يشاركه الثالث، ولو عفا عن الأوّل وأخذ من الثاني شاركه الأوّل، وكذا لو أخذ من الثالث شاركه الأوّل والثاني

ص: 118

لاستقرار ملكهما بالعفو»(1).

الفرض الأوّل: أن يبيع الشريك حصته لثلاثة متعاقباً، فيأخذ الشريك الأصلي كل الحصة منهم، وحينئذٍ لا شفعة للنفر الأوّل على الآخرين؛ لأنها تابعة للملك، ولا ملك له بعد أخذه منه شفعة، هذا هو المشهور.

واحتمل العلامة(2) ثبوت الشفعة للأوّل؛ لأنه ملك ملكاً صحيحاً فأصبح شريكاً مع المالكين الأصليين، وحيث ملك يشمله إطلاق أدلة الشفعة، فيمكنه الأخذ شفعة من الثاني. فهنا دليلان:

الأوّل: إن الشريك الأصلي يمكنه انتزاع الحصة من المشتري الأوّل.

الثاني: إن المشتري الأوّل حيث أصبح شريكاً له حق الشفعة علىالمشتري الثاني، فإنه وإن سلب ملكه بحق الشفعة للشريك الأصلي، إلّا أنه يبقى حقه في الشفعة - كما لو باع أحد الشريكين ثم باع الشريك الآخر فلا يسقط حق شفعة الثاني، بعد ثبوت حق الشفعة له بالبيع الأوّل، ولا وجه لسقوطه ببيعه، ومع الشك يستصحب حق الشفعة - فالخروج عن الملك لا ينافي ثبوت حق الشفعة.

قال العلامة: «ويحتمل مشاركة الأوّل الشفيع في شفعة الثاني، ومشاركة الشفيع الأوّل والثاني في شفعة الثالث؛ لأنّه كان ملكاً صحيحاً حال شراء الثالث؛ ولهذا يستحق لو عفا عنه، فكذا إذا لم يعف؛ لأنه استحق الشفعة

ص: 119


1- شرائع الإسلام 4: 780، وفي بعض النسخ سقط من العبارة والصحيح ما نقلناه.
2- قواعد الأحكام 2: 247.

بالملك، لا بالعفو كما لو باع الشفيع قبل علمه»(1).

لكن صاحب الجواهر(2) والسيد الوالد(3) ضعفا الاحتمال المذكور، إلّا أنّه احتمال وارد لولا انصراف أدلة الشفعة عنه وهو غير بعيد، فمن تبطل شركته يسقط حقه في الشفعة للانصراف، أو لعدم الضرر إن كان الضرر ملاك الحكم بالشفعة.

الفرض الثاني: أن يترك كلها.

الفرض الثالث: أن يأخذ الشريك الأصلي من الأوّل، فلا يشاركهالثاني والثالث في الشفعة؛ لأن ملكهما متأخر عن ملكه.

الفرض الرابع: أن يأخذ الشريك الأصلي حقه في الشفعة من المشتري الثاني و الثالث، ويعفو عن المشتري الأوّل، فهل للأوّل حق الشفعة عليهما باعتبار ثبوت ملكه بعد العفو عنه؟

فيه احتمالان:

الاحتمال الأوّل: وهو الأقرب، أن له حق الشفعة لإطلاق دليلها، فإن الثاني حين اشترى كان الأوّل مالكاً، وتكون النتيجة تنصيف ما اشتراه الثاني بين الشريك الأصلي والمشتري الأوّل.

الاحتمال الثاني: لا حق للأوّل على الثاني؛ لتزلزل ملكه حين اشتراه، لثبوت حق الشفعة للشريك الأصلي، ولا يكون الملك المتزلزل سبباً

ص: 120


1- قواعد الأحكام 2: 247.
2- جواهر الكلام 38: 481 (37: 318 ط ق).
3- الفقه 79: 151.

لاستحقاق الشفعة.

وفيه نظر: فإنه مجرد استحسان، فإن الأوّل شريك بمجرد الشراء، وإن كان ملكه متزلزلاً إلّا أن إطلاقات أدلة الشفعة تشمله.

وفي المقام فروع أخر يظهر حكمها من خلال المسائل السابقة.

ص: 121

فصل: في كيفية الأخذ بالشفعة

اشارة

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في وقت ثبوت استحقاق الشفعة

اشارة

قال الشرائع: «ويستحق الشفيع الأخذ بالعقد وانقضاء الخيار؛ لأنه وقت اللزوم، وقيل: بنفس العقد وإن لم ينقض الخيار، بناءً على أن الانتقال يحصل بالعقد، وهو أشبه»(1).

فلو باع الحيوان فهل يستحق الشفعة بعد الثلاثة أو من حين العقد؟ وكذا لو كان له خيار العيب أو الشرط فهل يستحقها بعد انقضاء الخيار أو بمجرد العقد؟

ولا يخفى أن الخيار إمّا للبائع أو المشتري أو كليهما، فلا بدّ من بحث المسألة مع ملاحظة هذه الحيثية.

وقد استدل للقول الأوّل بأدلة ثلاثة(2):

الدليل الأوّل: فيما لو كان الخيار للبائع دون المشتري، فإن ملكالشريك لم ينتقل إلى المشتري حتى يؤخذ منه شفعة. نعم، لو كان الخيار للمشتري

ص: 122


1- شرائع الإسلام 4: 281.
2- جواهر الكلام 38: 485 (37: 320-321 ط ق).

حصل النقل فثبتت الشفعة.

وفيه إشكالان:

الأوّل: مبنائي، فإن الخيار لا يمنع من النقل والانتقال، سواء أكان للبائع أم للمشتري أم لكليهما، على ما هو المشهور شهرة عظيمة، وتظهر الثمرة في النماء.

الثاني: بنائي، فعلى كون الفرض عدم تحقق ملك المشتري ما دام الخيار إلّا أنه لا دليل على عدم الشفعة بعد إطلاق أدلتها، فإن أدلة الشفعة تحكم بثبوتها للشريك بمجرد البيع، سواء انتقل إلى المشتري فوراً أم ينتظر انقضاء الخيار، حيث لم تؤخذ ملكية المشتري في تلك الأدلة.

وتظهر الثمرة فيما لو أخذ بالشفعة فوراً، فإنه يملك بمجرد انقضاء الخيار رأساً من دون حاجة إلى أخذها مجدداً، ولذا قال في الجواهر: «إذ لعل تهيؤ ذلك له كافٍ في ثبوتها»(1)، ومن الثمار أنه لو أخذ بالشفعة ثم ندم لم يكن له رجوع.

الدليل الثاني: إن أخذ الشفيع بحقه موجب لإسقاط حق البائع في الخيار. نعم، لو كان الخيار للمشتري فقط لم يستلزم سقوط حق البائع، حيث لا يفرق عنده بين إرجاع ما اشتراه إلى البائع مع الفسخ أو إلىالشفيع، مع الشفعة.

وفيه نظر: فإن تعاقب المعاملات المتزلزلة لا يوجب سقوط الخيار، فالفاسخ يأخذ المتاع ممن بيده، وكل لاحق يرجع إلى سابقه.

ص: 123


1- جواهر الكلام 38: 485 (37: 321 ط ق).

الدليل الثالث: عدم الفائدة في الأخذ بالشفعة قبل انتهاء الخيار، فيكون تشريعها لغواً.

وفيه نظر لجهتين:

الأولى: تحقق الفائدة، فإن النماء يكون للمشتري لا البائع، ومع الأخذ بالشفعة يكون النماء للشفيع، ومع فسخه يرجع إليه الأصل دون النماء.

الثانية: حصول الخلط بين لغوية التشريع وعدم تحقق الفائدة للمتعاملين، والقبيح هو الأوّل دون الثاني، فلو لم ينتفع المتعاملان من بيع أصلاً لم يكن تشريعه لغواً.

وفي ما نحن فيه ليس أصل تشريع حكم الشفعة لغواً، فإن لم يستفد منه الشفيع في مورد لم يكن سبباً لنفي حق الشفعة.

واستدل للقول الثاني(1) بما يظهر من رد القول الأوّل: بمقتضى الجمع بين أدلة الخيار وبين أدلة الشفعة، فالأوّل قاضٍ بثبوت خيار البائع وإن أخذ الشفيع بالشفعة، والثاني قاضٍ بثبوت حق الشفعة وإن وجد خيار،وبالإطلاقين يحفظ الحقان، فلا وجه لسقوط الخيار ولا لنفي حق الشفعة.

ووجه عدم سقوط حق البائع في الخيار بعد الأخذ بالشفعة هو أنه حق متأخر فلا يسقط الحق المتقدم به. هذا فيما كان الخيار للبائع.

أمّا لو كان الخيار للمشتري، أي: باع الشريك بشرط الخيار للمشتري لستة أشهر مثلاً، ثم أخذ الشفيع بحق الشفعة فهل يبقى حق المشتري في الفسخ؟ فيه قولان:

ص: 124


1- جواهر الكلام 38: 486 (37: 321 ط ق).

القول الأوّل: لا حق له في الفسخ لسقوط خياره؛ لأنه سالبة بانتفاء الموضوع، واستدل له بدليلين:

الدليل الأوّل: إن الخيار تابع للملك وقد انتقل عنه.

وفيه نظر: لعدم كون الانتقال سبباً لسقوط الخيار، كما لو تصرف البائع في الثمن لم يسقط خيار المشتري مع تحقق الانتقال، وكما لو باع المشتري لشخص ثالث لم يسقط خيار البائع، وكما لو جعل الخيار للأجنبي ثم تحقق الانتقال لم يسقط خيار الأجنبي.

الدليل الثاني: لغوية الفسخ، حيث لا ينتفع المشتري به، فإنّه يأخذ الثمن على كل تقدير، إمّا من البائع أو من الشفيع.

وفيه نظر: فإن ثبوت الخيار لا يرتبط بالنفع، فيحق له الأخذ به وإن تضرر، كما يمكن فرض النفع له فيما لو لم يرد أخذ ثمنه من الشفيع، أو أراد استرجاع عين الثمن من البائع، كما لو كان الثمن داراً له، ولو شكفي الأمر فالاستصحاب قاضٍ ببقاء حقه في الفسخ.

والحاصل: إن الخيار لا يسقط بسبب الشفعة، سواء كان للبائع أم للمشتري أم للثالث؛ وذلك لإطلاق أدلة الخيار، وخروجه عن ملك أحدهما ليس سبباً لسقوطه؛ لأن حقه أسبق منه، كما لو باع الشيء مشروطاً بالخيار مدة سنة، ثم تعاقبت البيوع عليه فإن خياره باقٍ.

فرع: سقوط خيار العيب بالانتقال وعدمه

ومن الفروع في المقام سقوط خيار العيب بالانتقال وعدمه، وقد اختلف فيه حتى من ذهب إلى عدم سقوط الخيار بالانتقال.

ص: 125

فلو باعه معيباً فأخذه الشفيع، فهل يسقط خيار العيب للمشتري؟

فيه احتمالات ثلاث: سقوطه مع بقاء حق الأرش، وسقوطهما وثبوتهما معاً.

أمّا وجه سقوطهما معاً فلأنّ المشتري يأخذ الثمن كاملاً من الشفيع، وقد انتقل الملك عنه، فإنه وإن كان معيوباً إلّا أنه أصبح ملك الشفيع فلا تسلط له على فسخه، حيث لا تسلط له على إبطال الشفعة.

وأمّا عدم الأرش فلعدم تضرره، فإنه يأخذ الثمن الذي أعطاه للبائع من الشفيع، قال في الجواهر: «ولكن الأصل براءة الذمة منه هنا بعد أخذ الشفيع بالثمن الذي اشتراه، فلم يلحقه منه ضرر»(1).نعم، لو التفت الشفيع إلى العيب وأبطل الشفعة بخياره حُق للمشتري إرجاعه للبائع، لكن لو رضي الشفيع بالعيب أو كان عالماً به وأخذ بالشفعة لم يحق للمشتري الفسخ والأرش.

وأمّا وجه ثبوتهما معاً، وهو ما رجّحه السيد الوالد في الفقه(2) فهو ما يلي:

أمّا الخيار فلإطلاق أدلته، فلا فرق بين خيار العيب وسائر الخيارات، ولا وجه للتفريق بإثباتها دونه.

فإن قلت: إن دليل خيار العيب هو الضرر المنتفي في المقام، وهو السبب الفارق بينهما.

قلت: كما أن الضرر هو من أدلة خيار العيب كذلك هو من أدلة بعض

ص: 126


1- جواهر الكلام 38: 489 (37: 323 ط ق).
2- الفقه 79: 161.

الخيارات الأخر، فلا فرق، مع عدم انحصار دليل خيار العيب بالضرر، فله أدلة أخرى أيضاً، هذا مع قطع النظر عن أن الضرر ليس شخصياً، بل يلاحظ فيه أصل المعاملة، فلا يسقط خيار العيب حتى وإن لم يكن ضرر في مورد معين بلحاظ شخصه، ويضاف إليه أيضاً بأنه تضرر من المعاملة، وإن ارتفع الضرر بخروجه عن ملكه بالشفعة.

وأمّا الأرش فلا يسقط بالأصل؛ فإنه لا يعارض الدليل الاجتهادي.

إن قلت: إنه لم يتضرر.قلت: جبر ضرره بالشفعة لا يلازم سقوط حقه في الأرش، كما لو اشترى معيباً ثم باعه فرضي المشتري الثاني بالعيب، فإنه غير مسقط لحق المشتري الأوّل في أخذ الأرش من البائع، وكما لو زال العيب بنفسه بعد المعاملة. فمقتضى القاعدة كون الشفيع مخيراً بين الفسخ والأرش.

المسألة الثانية: حكم التبعيض في الشفعة

هل يصح التبعيض في الشفعة؟

ذهب المشهور(1) إلى عدم جواز التبعيض، قال في الشرائع: «وليس للشفيع تبعيض حقه، بل يأخذ الجميع أو يدع»(2).

واستدل له بخمسة أدلة(3):

ص: 127


1- المبسوط 3: 114؛ تذكرة الفقهاء 12: 334؛ مسالك الأفهام 12: 310؛ جامع المقاصد 6: 399؛ جواهر الكلام 38: 491 (37: 325 ط ق).
2- شرائع الإسلام 4: 781.
3- مسالك الأفهام 12: 310؛ جواهر الكلام 38: 492-493 (37: 325-326 ط ق).

الدليل الأوّل: ما في المسالك قال: «لأن حقه هو المجموع من حيث هو مجموع»(1).

أي: إن حق الشفيع شمولي لا يُجزأ، فإن بعض الحقوق قابلة للتجزئة وبعضها لا تقبل، ويمثل لهما بالمكاتبة، فقد تكون مشروطة وقد تكونمطلقة، ومثل له بالقصاص، فلو كسر سِنّه فلا يحق له القصاص بكسر بعض سِنّه.

وفيه نظر: حيث إن منشأ قابليته للتبعيض وعدمها أحد شيئين: إمّا كونه غير قابل للتبعيض في ذاته خارجاً، وحينئذٍ لا يعقل فيه التبعيض شرعاً، وإمّا كونه غير قابل للتبعيض شرعاً مع إمكانه عقلاً وخارجاً، وحينئذٍ لا بدّ من ملاحظة الدليل الشرعي فيه، ويعرف بتصريح الشارع أو إمضائه.

وما نحن فيه لا محذور للتبعيض في حق الشفعة عقلاً وخارجاً، ولم يصرّح الشارع بعدمه، بل العرف يرى التجزئة في الماليات وسكوت الشارع عنه إمضاؤه. هذا أوّلاً.

وثانياً: ينقض عليه بأن المشهور مع نفيهم للتبعيض في المقام ذهبوا إلى التبعيض فيما لو اشتركا في منزلين باع أحدهما حصتيه منهما، فيحق للشفيع أخذ إحداهما شفعة، فلو لم يكن قابلاً للتبعيض للزم الحكم بلزوم أخذهما أو تركهما.

وما مرّ من أنه معاملتان باعتبار تعدد المتعلّق لا يضرّ هنا؛ لأن التعدد في البضاعة لا يسبب تعدد المعاملة.

ص: 128


1- مسالك الأفهام 12: 310.

الدليل الثاني: إنه مستلزم لتبعض الصفقة على المشتري، وهو ضرر عليه.

قال في المسالك: «ولا يناسب بناء الأخذ الذي شرع لدفع الإضرارعلى الإضرار»(1)؛ فإن بناء الشفعة على دفع الضرر، فلا معنى لتشريعه في المورد الضرري.

وفيه نظر: أوّلاً: إنه أخص من المدعى، حيث قد لا يكون ضرراً على المشتري.

وثانياً: إن الضرر متدارك بالخيار، كما لو تبيّن بطلان نصف المعاملة، حيث يتدارك تبعض الصفقة بالخيار.

وما مرّ من الإشكال: بأن الخيار إن كان بمعنى إبطال الشفعة فلا وجه له؛ لأنه حق جعله الشارع للشريك، ولا دخل للمشتري فيه، وإن كان بمعنى إبطال البيع وإرجاعه للبائع كانت نتيجته إبطال الشفعة، فيستلزم من وجود حق الشفعة عدمه.

غير تام لدى التأمل؛ لأن الاستلزام المذكور إن كان تلقائياً أمكن القول بكون تشريعه محالاً، لأنه يستلزم من وجوده عدمه، لكن المشتري قد لا يأخذ بالخيار فلا يكون جعل حق الشفعة محالاً ولا لغواً؛ لثبوت الأثر له في بعض الصور، وهو كافٍ في نفي الاستحالة واللغوية.

الدليل الثالث: ما اختاره في الحدائق(2): من أن الشفعة على خلاف

ص: 129


1- مسالك الأفهام 12: 310.
2- الحدائق الناضرة 20: 316.

الأصل العقلي والنقلي؛ لأنه استيلاء على ملك الغير بلارضاه، ومورد أخبار الشفعة على كثرتها اعتبار المجموع، وأمّا التجزئة فليست مورداً لها، فيتمسك بالأصل العام في المورد المشكوك.

وفيه تأمل: أوّلاً: لا يصح القول بكونه أصلاً عقلياً ثم يستثنى منه، فإنه لو كان كذلك لم يعقل تخصيصه، وإنّما يحرم التصرف في مال الغير؛ لأنه مصداق الظلم القبيح عقلاً، والشفعة خروج موضوعي عنه؛ لأن مالك الملوك سبحانه أجاز ذلك، مع أنه يلزم إعطاء المشتري الثمن فلا يكون ظلماً.

وثانياً: يتمسك بإطلاق أخبار الشفعة، وإن كان موردها الأخذ بالكل، فكيف وكثير منها ساكتة عن هذه الجهة، ومع الإطلاق المذكور لا مجال للتمسك بالأصل العام.

الدليل الرابع(1): خبر الدعائم عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «إنه سئل عن البيع يقع على المشاع والمقسوم صفقة واحدة، هل للشفيع أن يأخذ المشاع بقيمته دون المقسوم؟ قال: لا، إنّما له الصفقة بكمالها، ما كان فيها من مشاع ومقسوم، فإن أراد أخذهما معاً، وإلا يسلمهما معاً»(2).

والعبرة بعموم الجواب وإن كان المورد خارجاً عن محل الكلام.وفيه: إنها مُعرض عنها في موردها حيث ذهب المشهور إلى ثبوت الشفعة في المشترك فقط، واستثني منه مورد واحد للنص، كما مرّ في

ص: 130


1- النجعة في شرح اللمعة 8: 183؛ الفقه 79: 165.
2- دعائم الإسلام 2: 91.

الأرض المقسومة مع كون الطريق مشتركاً.

ثم بناءً على المشهور من عدم صحة التبعيض، فما هو الحكم فيما لو أخذ الشفيع بالبعض؟ الأقوال فيه ثلاثة:

القول الأوّل: ما هو المشهور من بطلان حقه في الشفعة، فلا يمكنه أخذ الكل مجدداً.

القول الثاني: لو عفا عن الباقي بطلت شفعته، ولو لم يعفُ أمكنه أخذ الباقي مجدداً.

القول الثالث: إن أخذ البعض موجب لأخذ الكل تلقائياً.

وجه القول الأوّل: إن ما أخذه باطل لعدم صحة التبعيض، ولا يمكنه أخذ الباقي مجدداً لانتفاء الفور.

ووجه القول الثاني: إن أخذ النصف الثاني مجدداً لا ينافي الفور؛ لأنه عرفي، ولا يضر التأخير بهذا المقدار - وسياتي البحث في شرط الفور - . نعم، لو عفا لم يمكنه الأخذ مجدداً؛ لسقوط حقه ولا يعود الحق الساقط إلّا بدليل، وهو مفقود في المقام.

ووجه القول الثالث: إن أخذ البعض ملازم لأخذ الكل؛ لأنه حق واحد.وفيه نظر: حيث إن أخذ الكل مرتبط بقصده ولم يقصد ذلك، والعقود تابعة للقصود، مع أن الشارع لم يعتبر أخذ البعض ملازماً لأخذ الكل، كما اعتبر مثله في عتق بعض العبد الملازم لعتق كله، فلا دليل على انقلاب قصده البعض إلى الكل، كما ينقلب العقد المؤقت إلى الدائم مع عدم ذكر المدة.

ص: 131

والأرجح من الأقوال هو القول الثاني.

المسألة الثالثة: الثمن الذي يأخذ به الشفيع

اشارة

قال في الشرائع: «ويأخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد، وإن كانت قيمة الشقص أكثر أو أقل، ولا يلزمه ما يغرم المشتري من دلالة أو وكالة أو غير ذلك من المؤن. ولو زاد المشتري في الثمن بعد العقد وانقضاء الخيار لم تلحق الزيادة، بل كانت هبة، لا يجب على الشفيع دفعها...»(1).

والعبارة المذكورة تتضمن فروعاً كلها تتعلّق بالثمن لا بدّ من بيان أدلتها.

الفرع الأوّل: الأخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد

ويدل عليه: بالإضافة إلى الإجماع(2) صحيحة الغنوي عن الصادق(علیه السلام) قال: «سألته عن الشفعة في الدور أشيء واجب للشريك ويعرض علىالجار، وهو أحق بها من غيره؟ قال: الشفعة في البيوع إذا كان شريكاً فهو أحق بها من غيره بالثمن»(3)، وقد مرّ بيان صحة الخبر المذكور.

والإمام(علیه السلام) في الخبر المذكور أعرض عن السؤال وأجاب عن القاعدة الكلية المنطبقة على المقام.

الفرع الثاني: الأخذ بالثمن وإن كانت قيمة الشقص أقل أو أكثر

يؤخذ الثمن المتفق عليه في العقد وإن كانت قيمة الشقص أقل أو أكثر؛ لإطلاق النص والفتوى، ولا يخفى أن التمسك بإطلاق الفتوى بحاجة إلى

ص: 132


1- شرائع الإسلام 4: 781.
2- مفتاح الكرامة 18: 569؛ جواهر الكلام 38: 493 (37: 326 ط ق).
3- تهذيب الأحكام 7: 164.

مراجعة كلماتهم وملاحظة معقد الإجماع، وإلّا فلا يمكن التمسك بإطلاقها.

ويضاف إلى ذلك أصل عدم الزيادة فيما لو كان المبلغ أقل.

واستثنى السيد الوالد في الفقه(1) عن ذلك فيما لو كان البيع محاباتياً، سواء كان لمصلحة أم لا، فقد يُدعى انصراف النص والفتوى عن مثله، فنظر الفقهاء إلى المعاملات المتعارفة التي قد تزيد وتنقص قليلاً، وأمّا المحاباتية التي تزيد وتنقص كثيراً لجهة ما فلا.

وأمّا من ضعّف الدليل - خبراً وإجماعاً - فمقتضى القاعدة أن يذهبإلى لزوم القيمة السوقية، فإن أدلة الشفعة لم تتضمن القيمة، وما كان مالياً فهو من الإمضائيات، والعقلاء يرون فيها القيمة السوقية. نعم، لو رأى العقلاء لزوم دفع الثمن المعطى للبائع طابق فتوى المشهور، لكن عن طريق آخر.

الفرع الثالث: في حكم غرامة المشتري للدلال والوكيل

لا يلزم الشفيع ما يغرمه المشتري من دلالة أو وكالة أو غير ذلك من المؤون.

ويدل عليه: إنها من توابع الثمن لا نفسه، وقد دل النص والفتوى على الثمن لا غير، والأصل براءة الذمة.

لكن احتمل السيد الوالد في الفقه(2) لزوم دفع كل المؤون وهو الأقرب حسب القواعد، و لا تضر مخالفة المشهور؛ لكونها شهرة فتوائية،

ص: 133


1- الفقه 79: 170.
2- الفقه 79: 169.

وذلك لأن الثمن عرفاً هو الأعم، فإن القيمة تشمل المتفرقات أيضاً، وإن وقع العقد على الثمن دون التوابع، إلّا أن العرف يحسب التوابع من الثمن. نعم، مع الشك تجري البراءة؛ لكونه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وأمّا الاستدلال لذلك بدليل (لا ضرر) فيرد عليه الإشكال مبنىً بعدم كونه مثبتاً للحكم، وأمّا الإشكال بناءً بأنه أقدم على الضرر، فقد مضتالمناقشة فيه بأنه قد يكون جاهلاً بأصل الشركة، أو بالمؤون، أو بأنه أقدم على النفع فالدليل أخص من المدعى.

الفرع الرابع: في دفع الشفيع زيادة المشتري وعدمه

لو زاد المشتري من الثمن بعد العقد وانقضاء الخيار لم تلحق الزيادة بالثمن، بل كانت هبة، فلا يجب على الشفيع دفعها؛ وذلك لوجهين:

الأوّل: ما في دعائم الإسلام: عن الصادق(علیه السلام): «إذا وضع البائع عن المشتري بعد عقد الشراء ما يوضع مثله بين المتبائعين، وضع مثل ذلك من الشفيع، وإن كان الذي وضع ما لا يوضع مثله فإنّما هو هبة للمشتري، وليس يوضع ذلك عن الشفيع»(1). وهو مجبور بعمل المشهور.

ففي الصورة الأولى: الثمن المتفق عليه صوري، وما يقلل منه هو المقصود، فيوضع عن الشفيع، أمّا غير ذلك فهو هبة للمشتري، فلا يوضع عن الشفيع.

الثاني: صحيحة الغنوي التي مرّت، بالإضافة إلى الإجماع(2) من لزوم

ص: 134


1- دعائم الإسلام 2: 92.
2- مفتاح الكرامة 18: 579.

دفع الثمن، وهو ما قبل الوضع، وأمّا ما وضع منه فهو هبة أو إبراء أو ما اشبه ذلك، ولا يعتبر ضمن الثمن. وكذا في الزيادة بأن اشترى ألفاً ودفعمائة زيادة.

الفرع الخامس: كون زيادة الثمن في زمن الخيار

قال في الشرائع: «ولو كانت الزيادة في زمان الخيار، قال الشيخ(1): يلحق بالعقد؛ لأنّها بمنزلة ما يفعل في العقد، وهو يشكل على القول بانتقال الملك بالعقد، وكذا لو حطّ البائع من الثمن لم يلحق بالعقد»(2).

وأمّا ما ذكره الشيخ فهو مخالف للقواعد، وأمّا ما ذكره الشرائع فلا يبنى على القول بانتقال الملك بالعقد، بل هو تام حتى على مبنى انتقال الملك بانتهاء الخيار الذي هو قول شاذ؛ وذلك لأن الزيادة والنقيصة في فترة الخيار لا تعتبر من الثمن، بل هي هبة أو ما أشبه ذلك، والثمن هو المقدار الذي تعين بالعقد وإن لم ينتقل الملك بعد. نعم، يمكنه الفسخ ثم تغيير الثمن، وأمّا مجرد الزيادة والنقيصة من دون فسخ فليس مبطلاً للعقد ولا مغيّراً للثمن. فاللازم على الشفيع أداء الثمن المتفق عليه في العقد إن كانت الزيادة والنقيصة من دون إبطال العقد السابق.

الفرع السادس: في كون القيمة المتفق عليها أكثر من القيمة السوقية

ولو كانت القيمة المتفق عليها أكثر من القيمة السوقية جاز للشفيع أنيأخذ بالشفعة من دون ملاحظة المصلحة لنفسه أو للمشتري فيما لو كانا

ص: 135


1- المبسوط 3: 108.
2- شرائع الإسلام 4: 781.

كبيرين، أمّا لو كانا صغيرين فلولي الصغير أن يأخذ الشفعة له إذا كان لمصلحته، ولا يلزم مراعاة مصلحة المشتري الصغير؛ لعدم ثبوت حق له، فإن مطالبة الحق ممن عليه الحق جائز وإن كان بضرره كبيراً كان أو صغيراً، فلا يلزم في استيفاء الحق من الصغير مراعاة مصلحته؛ لأن جعل الحق مطلقٌ، سواء كان لمصلحة من عليه الحق أم بضرره، وهذا بخلاف الولاية، فإن الصغير هو ذو الحق فلا بدّ من أخذ حقه إن كانت مصلحة له؛ لأن الولاية مقيدة بحدود المصلحة.

نعم، لو جعله مصلحة بأن دفع فارق القيمة من نفسه جاز.

المسألة الرابعة: التقابض في الشفعة

اشارة

اتفقت كلمة الفقهاء في المعاملات على أنه لا أولوية لأحدهما على الآخر في التسلم أوّلاً، ولكن في الشفعة قولان(1):

القول الأوّل: على الشفيع أوّلاً أن يسلم الثمن ثم يستحق المبيع، وهو المشهور.

القول الثاني: حكم الشفعة كسائر المعاوضات، وهو الأقرب.

واستدل للأوّل بأدلة أربعة(2):الدليل الأوّل: إن طرفي المعاملة في المعاوضات مختاران في التعامل، فليس أحدهما أولى من الآخر في التسلم أوّلاً، بخلاف الشفعة حيث إنها

ص: 136


1- مسالك الأفهام 12: 312؛ مفتاح الكرامة 18: 546.
2- قواعد الأحكام 2: 251؛ مسالك الأفهام 12: 312؛ جامع المقاصد 6: 399؛ جواهر الكلام 38: 496 (37: 328 ط ق)؛ الفقه 79: 171.

قهرية على المشتري فيجبر ذلك بتسلمه الثمن أوّلاً.

وفيه: إنه نوع من الاستحسان ولا دليل عليه.

الدليل الثاني: المستفاد من صحيحة الغنوي لزوم إعطاء الثمن أوّلاً، حيث قال(علیه السلام): «فهو أحق بها من غيره بالثمن»(1).

فإن (الباء) في (بالثمن) بمعنى السببية، أي: إن الشفيع أحق من المشتري بسبب الثمن الذي دفعه إليه، وإنّما يكون أحق فيما لو دفع الثمن أوّلاً.

وفيه نظر: لأن ظاهر (الباء) هو المقابلة لا السببية، أي: إنه أحق بها في مقابل الثمن، ولا أقل من الشك فيكون مجملاً.

الدليل الثالث: أن المستفاد من الرواية أن الشفيع لا يملك المبيع بمجرد الأخذ بالشفعة(2)، وحيث لم يملك لا يكون هنالك وجه ملزمللمشتري بتسليم المبيع. نعم، حين دفعه للثمن يصبح مالكاً فعلى المشتري التسليم، والنتيجة إن على الشفيع أن يدفع الثمن أوّلاً.

ووجه ذلك ما استفيد من قوله(علیه السلام): «فهو أحق بها من غيره بالثمن»، ومفادها إنه إنّما تثبت له الأحقية بالثمن، وحيث لا ثمن فلا أحقية، فيستفاد منه مدخلية دفع الثمن في حصول الملك، أو في استحقاق الأخذ بالشفعة،

ص: 137


1- تهذيب الأحكام 7: 164.
2- لا يخفى أن في زمان تحقق الملك في الشفعة قولان: الأوّل: ما هو المشهور من أنه يملك بمجرد الأخذ بالشفعة كسائر العقود والإيقاعات، حيث يحصل النقل والانتقال للملك بالعقد، ولا يشترط فيه القبض، ويستثنى من ذلك بعض المعاملات التي لا يحصل فيها الملك بمجرد العقد، بل يشترط فيه القبض حتى يتم النقل كبيع الصرف، الثاني: ما ذكر في المتن (السيد الأستاذ).

ومن دونه يكون الأخذ لغواً.

وفيه نظر: لاعتماد المفاد المذكور على تفسير (الباء) بالسببية، وقد قلنا: إنها ليست للسببية بل للمقابلة، وأمّا زمان تسليم الثمن فلم يتطرق إليه في الحديث.

الدليل الرابع: الأصل(1) عدم حق الشفعة من دون إعطاء الثمن أوّلاً، فيقتصر على القدر المتيقن.

وفيه نظر: فإن إطلاق الأدلة لا يُبقي مجالاً للأصل، فإنّه يثبت حق الشفعة، وبإطلاقها تشمل ما لو سلم الثمن أوّلاً أو لم يسلم، فإن الحق ثابت له، والقدر المتيقن إنّما يخل بالإطلاق فيما لو كان في مقام التخاطب، أمّا القدر المتيقن الوجودي فغير ضارٍ.

ثم ذهب في الجواهر(2) إلى أن الشفعة ليست من المعاوضاتالمحتاجة إلى التقابض، بل من الحقوق كالخيار، فإنه وإن انتقل المال بسبب الأخذ بالخيار إلّا أنه ليس من مبادلة مال بمال، بل إبطال للمعاوضة. فما يدل على لزوم التقابض في المعاملات غير جارٍ في الشفعة.

ويؤيّد كونها حقاً كالخيار مما يستفاد منه لزوم تسديد الثمن أوّلاً مؤيّدان:

المؤيّد الأوّل: إنه لو أخذ الشفيع بالشفعة قبل أن يقبضه المشتري لم يلزم عليه أن يقبضه من البائع ليسلمه له؛ وذلك لأن الشفيع أخذه قهراً فعليه أن يستلمه من البائع، ولا دليل على تكليف المشتري بالقبض من البائع،

ص: 138


1- راجع جامع المقاصد 6: 399.
2- جواهر الكلام 38: 500 (37: 330 ط ق).

بخلاف المعاوضات، فلو اشترى شيئاً ولم يقبضه ثم باعه كان عليه أن يقبضه ليسلمه للمشتري الثاني. وهذا الفرق كاشف عن أن الشفعة حق، فلا يكون مصداقاً لأدلة اشتراط التقابض في المعاملات.

المؤيّد الثاني: ما ورد في الرواية من قوله: «أحق به من غيره». وكلمة (أحق) لا يطلق على المعاملات؛ ولذا فالمتّجه حصوله وإسقاطه بالفعل والقول على نحو الخيار.

فيحصل الأخذ بالشفعة بالأخذ العملي للمتاع بقصد الامتلاك، كما يحصل بالأخذ القولي، وكذا إسقاطها.

ويرد عليه إشكالات:الأوّل: الشفعة تختلف عن الخيار في جهات، منها: إن الأخذ بالخيار موجب لإبطال المعاملة السابقة، وإن ندم صاحب الخيار، فلا مجال للرجوع بعد فسخ العقد، بخلاف الشفعة، فإنه إن أخذ بها ثم لم يقبض الثمن حُق للمشتري إبطالها(1)، ومنها: إنه لو أعطى الثمن أمكنه الإقالة في الشفعة بخلاف الخيار، فلا يمكن قياس الشفعة بالخيار(2).

الثاني: حصول الخلط في المقام بين الرتبتين المتقدمة والمتأخرة، فالمعاوضة عقد في رتبة متقدمة ومما يترتب عليها وجوب التقابض لا أن

ص: 139


1- لصحيحة ابن مهزيار أو حسنته: «إذا لم يأتِ بالمال ثلاثة أيام باع وبطلت شفعته في الأرض» (السيد الأستاذ).
2- وفيه نظر: إذ ليس المراد التشبيه من كل الجهات، بل المراد فهم الملاك الحاكم على كليهما؛ لكونهما حقين لا معاملتين (المقرر).

قوامها التقابض، فلو تحققت المعاوضة حصل النقل والانتقال بالعقد، سواء تقابضا أم لا، وكذلك الخيار، ولا فرق بينهما من هذه الجهة، فلو أخذ بالخيار لزم التقابض وهذا القبض في مرتبة متأخرة عن المعاوضة وعن الخيار، بل يمكن القول بلزوم التقابض في آنٍ واحدٍ حتى في الخيار.

الثالث: إن الحصول والإسقاط بالفعل والقول متحقق في الخيار والمعاوضات والإيقاعات، وما أراد إثباته من الفرق بين الخيار وسائر المعاوضات غير تامٍ، فالبيع يحصل بالقول وبالمعاطاة والفسخ كذلك.الرابع: إن كلمة (الحق) تُطلق على الملك كما تطلق على الخيار، كما أنها تُطلق على الأخف منهما، كما لو سبق إلى الجلوس في المسجد فهو أحق به، فيصح إطلاق الحق على الخيارات والإيقاعات والمعاملات، فلا يمكن استظهار عدم كونه ملكاً أو لا يصير ملكاً، أو لا يكون إيقاعاً أو معاملة من كلمة الحق؛ لصحة إطلاقها على الجميع.

والحاصل: أن الأقرب هو أن الشفيع يستحق الشقص بمجرد أخذه بالشفعة، وحينئذٍ يلزم التقابض كسائر المعاملات، فإن رفض المشتري التسليم راجع الشفيع الحاكم الشرعي، وإن لم يأت الشفيع بالثمن إلى ثلاثة أيام بطلت شفعته ولا دليل على إلزام الشفيع بإعطاء الثمن أوّلاً، بل الأقوى لزوم التقابض.

فرع: في حصول الملك بمجرد التقابض أو بمجرد الأخذ بالشفعة

هل يتوقف الملك في الشفعة على التقابض أو يملك بمجرد الأخذ بها؟

فيه احتمالان:

ص: 140

الأوّل: ما رجحه في المسالك(1) من أنّه متوقف على القبض، وفي كونه ناقلاً أو كاشفاً احتمالان، كما في إجازة الفضولي.

الثاني: مقتضى القاعدة العامة عدم توقف الملك على القبض فيالمعاملات والإيقاعات، واستثناء فرد - كالصرف - بحاجة إلى دليل، وهو مفقود في الشفعة، ويكون القبض واجباً آخر، ومع عدم حصوله يحق له الفسخ.

وتظهر ثمرة القولين في أنه على الثاني تكون الثمار للشفيع إلى حصول القبض، وعلى الأوّل فالثمار للشفيع بناءً على الكشف، وللمشتري بناءً على النقل.

المسألة الخامسة: لو اشترى شقصاً وعرضاً صفقة

اشارة

قال في الشرائع: «ولو اشترى شقصاً وعرضاً في صفقة أخذ الشقص بحصته من الثمن، ولا يثبت بذلك للمشتري خيار»(2)، قال في الجواهر بعد ذكر كلام الشرائع: «لإقدامه»(3).

فلو كان يملك أراضي متعددة له شركاء في بعضها، فباع ما لا شريك له فيه وما له شريك فيه في صفقة واحدة، فللشريك حق الشفعة في خصوص المال المشترك بينهما دون غيره(4)؛ وذلك لإطلاق أدلة الشفعة الشامل لما

ص: 141


1- مسالك الأفهام 12: 313.
2- شرائع الإسلام 4: 781.
3- جواهر الكلام 38: 502 (37: 332 ط ق).
4- واستثني من ذلك ما مرّ سابقاً من بيع الدار والطريق للنص الخاص (السيد الأستاذ).

لو انحصر المبيع بالمال المشترك، أو كان معه ماله الخاص أيضاً في صفقة واحدة، مضافاً إلى عدم الخلاف، بل الإجماعبقسيمه كما في الجواهر(1).

ثم إنّه لا يحق للمشتري دعوى تبعّض الصفقة على البائع؛ وذلك لدليلين:

الأوّل: الإقدام - فيما لو علم المشتري بذلك - حيث أقدم على مثل هذه المعاملة الموجبة لتبعض الصفقة، كما لو أقدم على شراء المملوك وغيره فضولة حيث لو لم يجزِ المالك تبعضت الصفقة، ولا خيار له لعلمه بإمكان التبعض.

هذا فيما لو علم بالموضوع (اشتراك المبيع) والحكم (حكم الشفعة).

وقد مرّ بعض الكلام في ترتب اللوازم مع الجهل وعدمه، وفيه تفصيل يراجع في محله من القصاص والضمانات وغيرها.

الثاني: إنّما يكون تبعض الصفقة موجباً للخيار إذا كان منشؤه قبل البيع أو حينه، فيكون البائع هو السبب، كبيع ما يملك وما لا يملك، وأمّا بعد البيع فلا يوجب الخيار، كما لو اشترى شيئاً ثم حلّت رأس سنته الخمسية، حيث يخرج خمسه عن ملكه، فلا خيار له لتبعض الصفقة عليه بعد البيع.

وفي المقام، قبل البيع لا حق للشريك في الشفعة، وإنّما يتولد حقالشفعة بعد البيع، فمنشؤ التبعض بعد البيع فلا يشمله دليل خيار تبعض الصفقة، ولذا قال في الجواهر: «ولأن استحقاق الشفعة تجدد في ملك

ص: 142


1- جواهر الكلام 38: 502 (37: 332 ط ق).

المشتري، فلم يحصل شرط خيار تبعيض الصفقة، الذي هو كون التبعيض في العقد نفسه»(1)، وتفصيل الكلام فيه في مباحث الخيارات.

وعليه لا خيار للمشتري سواء كان عالماً أم جاهلاً، فلا وجه للقول بثبوت الخيار مع جهله، كما ذكره المحقق الاردبيلي(2). نعم، مع الغبن أو العيب فهو بحث آخر.

فرع: لو كان الانضمام دخيلاً في القيمة

لو اشترى المشترك وغيره، وكانت للهيئة الاجتماعية مدخلية في القيمة، فمع أخذ الشريك للشفعة تنخفض القيمة أو ترتفع، فما هو المقدار الذي يضمنه الشفيع للمشتري؟

فيه صور متعددة ذكر السيد الوالد ثلاثة منها(3):

الصورة الأولى: أن يكون الانفكاك بين الشقص والعرض موجباً لتقليل قيمة كل منهما. كما لو اشترى أرضا كبيرة، وكانت القيمة ترتفعمع اتحادها وتنخفض مع انفكاكها، وفيه احتمالات ثلاثة:

الأوّل: يضمن الشفيع ثمن ما يأخذه من المشتري، وهو الأقل.

الثاني: يقسّم الضرر بينهما؛ فإن منشأ الضرر هو الحكم الشرعي، ولا وجه لتحمل المشتري أو الشفيع له فيقسّم بينهما؛ لقاعدة العدل والإنصاف.

الثالث: يضمن الشفيع كل الضرر؛ لكونه سبب الضرر على المشتري،

ص: 143


1- جواهر الكلام 38: 502 (37: 332 ط ق).
2- مجمع الفائدة والبرهان 9: 29.
3- الفقه 79: 177-178.

وقاعدة (لا ضرر) واردة على قاعدة العدل.

ويشكل عليه بأن الضرر بحكم الشارع فلا وجه لتحمل الشفيع ذلك، فإنه أخذ بحقه المشروع.

والأرجح هو الاحتمال الثاني: للجمع بين دليلي الشفعة والعدل، مع عدم التنافي بينهما، فإن دليل الشفعة قاضٍ بالثمن، ودليل العدل قاضٍ بالتقسيم.

الصورة الثانية: أن يكون الانفكاك بين الشقص والعرض موجباً لزيادة قيمة العرض دون الشقص، كما لو كانت قيمة واجهة الأرض - والتي هي ملك طلق - مرتفعة، وقيمة خلفها - والتي يشتركان فيها - منخفضة، وحين ينضمان تقسّم القيمة على جميع الأرض، فيكون سبباً لانخفاض قيمة الواجهة، وارتفاع قيمة الخلف، وحين يأخذ الشفيع حقه ترتفع قيمة الواجهة مجدداً.وفي هذه الصورة على الشفيع أن يعطي قيمة الشقص فقط؛ لقيام الدليل على أن الشفيع أحق به من غيره بالثمن، فالأرض التي أخذها الشفيع قيمتها دينار مثلاً، ولو انضمت إلى الواجهة كانت قيمتها دينار ونصف، وحين الانفكاك ترجع إلى قيمتها الحقيقية، ولا وجه لإعطاء الشفيع القيمة الأعلى للمشتري، والتي تسبب الضرر عليه.

الصورة الثالثة: أن يكون الانفكاك سبباً لزيادة قيمة الشقص دون العرض، كما لو كانت واجهة الأرض مشتركة دون خلفها، فيأخذ الشفيع حصته من الواجهة ويبقى ما خلفها للمشتري، فهل للمشتري طلب الزيادة؟ فيه

ص: 144

احتمالان:

الأوّل: على الشفيع إعطاء الثمن لا الزيادة الحاصلة بعد الانفكاك.

الثاني: على الشفيع إعطاء الزيادة إلى المشتري، فإنه وإن كان ثمنه منضماً - هو الأقل - إلّا أنه مع الانفكاك ترتفع القيمة، فالقيمة الحقيقية هي الزائدة، وهذا هو الأرجح.

المسألة السادسة: لو كان الثمن مثلياً أو قيميّاً

قال في الشرائع: «ويدفع الشفيع مثل الثمن إن كان مثلياً، كالذهب والفضة، وإن لم يكن له مثل كالحيوان والثوب والجوهر قيل: تسقط لتعذر المثلية، ولرواية علي بن رئاب عن أبي عبد اللّه(علیه السلام). وقيل: يأخذهابقيمة العرض وقت العقد وهو أشبه»(1).

وهنا صورتان:

الصورة الأولى: لو كان الثمن مثلياً، فيجب على الشفيع أن يعطي المثل، ويدل عليه ثلاثة أدلة(2):

الدليل الأوّل: الإجماع القطعي، وقد نقل متواتراً، كما في الجواهر(3).

الدليل الثاني: الشفعة من المعاملات وهي إمضائيات فتؤخذ من العرف، والعرف يرى المثلية في المقام، ولم يردع عنه الشارع.

الدليل الثالث: إن المثل هو المستظهر من الروايات.

ص: 145


1- شرائع الإسلام 4: 781.
2- مسالك الأفهام 12: 314؛ جواهر الكلام 38: 503 (37: 333 ط ق).
3- جواهر الكلام 38: 503 (37: 333 ط ق).

فليس المراد من قوله(علیه السلام): «فهو أحق به من غيره بالثمن» عين ما أعطاه المشتري إلى البائع، بل المراد عرفاً مثل الثمن، والمماثلة عرفية، والخصوصيات المائزة بين العين والمثل إن لم تكن عرفية فلا اعتبار بها، ولذا قال في مفتاح الكرامة: «فالمراد المثل لمساواته لما دفعه المشتري في غالب الأوصاف والخواص»(1).وبعبارة الفقه: «وأمّا الأخبار، فقد تقدم قوله(علیه السلام) بالثمن، مما ظاهره أنّه بمثل الثمن، لكن حيث إن العرفية وظاهر الخبر المستفاد عند العرف منه ليس أكثر من المماثلة العرفية، فلا خصوصية لخصوصيات الثمن إذا لم تكن خصوصية عرفية، مثلاً: اشتراها بمائة دينار في دنانير فردية، فإنه يحق للشفيع أن يعطيه دنانير أمهات العشرة أو ما أشبه ذلك. نعم، إذا كان العرف يفرق بين القسمين لم يكن له التبديل، كما إذا كان الفرق بين الدنانير الذهبية والدراهم الفضية فيما لو كانتا رائجتين»(2).

الصورة الثانية: لو كان الثمن قيمياً، وفيه أقوال:

القول الأوّل: ثبوت الشفعة فيها بالقيمة، واختاره صاحب الشرائع وغالب المتأخرين(3).

القول الثاني: سقوط الشفعة، وهو المشهور بين المتقدمين(4).

ص: 146


1- مفتاح الكرامة 18: 570.
2- الفقه 79: 180-181.
3- شرائع الإسلام 4: 781؛ تذكرة الفقهاء 12: 257؛ مسالك الأفهام 12: 315.
4- الخلاف 3: 432؛ الوسيلة: 258؛ مختلف الشيعة 5: 337؛ جامع المقاصد 6: 405.

القول الثالث: إنه لو جاء بعين الثمن - كأن يأخذ الثمن من البائع بأيّ طريقة - فله حق الشفعة، وإلّا فلا شفعة، وهذا القول لأبي علي(1).أمّا القول الثالث فهو متروك ولا دليل عليه، فيبقى الكلام في القولين الأوّلين.

أمّا القول الأوّل(2) فاستدل له بدليلين ومؤيّدين:

الأوّل: الإطلاق اللفظي، من غير ثبوت مقيد، فيشمل ما لو كان الثمن قيمياً.

الثاني: الإطلاق المقامي، وحاصله: إنه كان من المتعارف في زمن التشريع المعاملات العينية، بتبديل بضاعة بأخرى، ولو كانت الشفعة خاصة بالمثلية لزم بيان التفصيل.

الثالث: إن العلة من الشفعة دفع الضرر، ولا فرق فيه بين المثلي والقيمي، لكن مضى أنها حكمة لا علة.

الرابع: ما في المقنعة(3) للشيخ المفيد، وقد قيل: بأن كتابه متن نصوص الروايات، ولا يضر إرساله بعد عمل المشهور، بل إن بعض الفقهاء ممن لا يعمل بالظن ويشترط القطع بالروايات أفتى بالشفعة في المقام.

وأمّا أدلة القول الثاني(4)، فهي:

ص: 147


1- مفتاح الكرامة 18: 573.
2- مفتاح الكرامة 18: 573.
3- المقنعة: 619.
4- مفتاح الكرامة 18: 573.

الدليل الأوّل: تعذر المثلية المعتبرة في الشفعة.

وفيه: إنه مصادرة، فاعتبار المثلية أوّل الكلام.

الدليل الثاني: أصالة عدم الشفعة في مورد الشك، فيتمسك بالأصل العام، وهو عدم جواز التصرف في حق الغير.

وفيه: إنه لا مجال للشك ثم التمسك بالأصل العام مع إطلاق دليل الشفعة.

الدليل الثالث: وهو عمدة الأدلة الروايات الواردة في المقام، وهي:

الرواية الأولى: «فهو أحق بها من غيره بالثمن»(1) ومعناه مثل الثمن لا قيمته.

وفيه: إن الثمن أعم من المثل والقيمة، ومن الواضح أنه ليس المراد من الثمن عين ما أعطي للبائع، فإنه أصبح ملكاً له، بل المراد شبيهه، وهو صادق على المثل في المثلي، وعلى القيمة في القيمي، وفي المسالك(2): أنه لا يراد المعنى الحقيقي، بل المعنى المجازي، ويؤخذ الأقرب إلى الذهن عرفاً مع تعددها واختلافها، وأقرب المجازات في المثلي المثل، وفي القيمي القيمة، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.بل ذهب السيد الوالد(3) إلى أنّه ليس معنى مجازياً أصلاً، فإن الثمن يطلق حقيقة على المثل وعلى القمية.

ص: 148


1- تهذيب الأحكام 7: 164.
2- مسالك الأفهام 12: 315.
3- الفقه 79: 183.

الرواية الثانية: في جواب مسألة حاصلها: أنه لو باع حصته من الدار في غياب الشريك، فهدم السيل الدار ثم حضر المسافر وأراد الأخذ بالشفعة بإعطاء ثمن الأرض دون البناء، فوقع(علیه السلام): «ليس له إلّا الشراء والبيع الأوّل إن شاء اللّه»(1)، فإن ظاهره مثل الثمن لا قيمته.

وفيه نظر: حيث لا يدل على المثلية فقط، بل يشمل القيمة أيضاً.

الرواية الثالثة - وهي العمدة - : صحيحة(2) علي بن رئاب، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «في رجل اشترى داراً برقيق ومتاع وبز(3) وجوهر(4)، قال: ليس لأحد فيها شفعة»(5).

ووجه نفي الشفعة عدم كون الثمن مثلياً.

وأشكل عليه بإشكالات منها:الإشكال الأوّل: ما في المسالك: من ضعف السند، قال: «أمّا الأوّل ففي طريقه الحسن بن سماعة(6)، وهو واقفي، والعجب من دعوى العلامة في

ص: 149


1- تهذيب الأحكام 7: 192؛ وسائل الشيعة 25: 405.
2- الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب... .
3- العين 7: 353، وفيه: «البز: ضرب من الثياب... والبزازة: حرفة البزاز، والبز أيضاً: ضرب من المتاع».
4- الأثمان المذكورة كلها قيمية.
5- تهذيب الأحكام 7: 167؛ وسائل الشيعة 25: 406.
6- والسند في تهذيب الأحكام: الحسن بن محمّد بن سماعة، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب... .

التحرير صحته مع ذلك»(1).

وفيه نظر: لأن الراوي هو الحسن بن محمّد بن سماعة، وهو وإن كان واقفياً لكن صرح النجاشي بوثاقته(2)، بالإضافة إلى روايتها بسند آخر صحيح بلا إشكال، وهو ما رواه الحميري في قرب الإسناد(3)، فقد يكون العلامة ناظراً إلى هذا السند، وإن كان السند الأوّل معتبراً أيضاً.

الإشكال الثاني(4): اضطراب النسخ، فقد رواه الفاضل الآبي في كشف الرموز بهذا النص: «من اشترى داراً - دراهم - برقيق...»(5)، فلا يصح التمسك بإحدى النسختين؛ لاحتمال الخطأ.

وقد مرّ الكلام في حكم شفعة الحيوان وما لا ينقسم، فقد يكون مفاد الرواية شراء الرقيق والبز والجوهر في مقابل الدراهم، فلا شفعة من هذهالحيثية (كونه حيواناً أو ما لا ينقسم) - وإن كان المختار ثبوت الشفعة فيها - فيخرج عن محل البحث من كون الثمن قيماً، فإن الثمن في النسخة المذكورة الدراهم.

وفيه نظر: لترجيح المجاميع المشهورة - كالتهذيب ومن لا يحضره الفقيه

ص: 150


1- مسالك الأفهام 12: 315.
2- فهرست أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي): 40.
3- قرب الإسناد: 165، والسند: الحميري عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب.
4- الفقه 79: 185.
5- كشف الرموز 2: 394.

وقرب الإسناد(1) - على كشف الرموز، فإنه كتاب فقهي متأخر عن تلك الكتب الروائية.

الإشكال الثالث(2): عدم دلالتها على المراد؛ لوجود احتمالات عديدة في نفي الشفعة، ولا ترجيح لأحدها على الآخر، منها: إن الثمن قيمي، ومنها: توهم ثبوت الشفعة للجار - كما يراه العامة - حيث لم يصرح بشراء الشقص أو وجود الشركة في الدار، بل السؤال عن شراء الدار، قال في المسالك: «نفي الشفعة أعم من كونه بسبب كون الثمن قيمياً أو غيره؛ إذ لم يذكر أن في الدار شريكاً، فجاز نفي الشفعة لذلك عن الجار وغيره»(3)، فهنا ظهوران:

الأوّل: إنّه اشترى كل الدار، لا شريك فيها.

الثاني: تعدد ذكر الثمن القيمي، والمستفاد من الأوّل السؤال عنشفعة الجار، كما عليه على العامة، والمستفاد من الثاني السؤال عن الشفعة فيما لو كان الثمن قيمياً، ولا يستظهر من جواب الإمام(علیه السلام) ترجيح أحد الظهورين وسبب نفي الشفعة، فتكون الرواية مجملة لا يمكن الاستدلال بها.

الإشكال الرابع: إن إطلاقات أدلة الشفعة تشمل الثمن القيمي والمثلي، والصحيحة المذكورة تخصصها في خصوص موردها، وهو الأربعة(4)

ص: 151


1- من لا يحضره الفقيه 3: 80؛ تهذيب الأحكام 7: 167؛ قرب الإسناد: 165.
2- مسالك الأفهام 12: 315؛ الفقه 79: 184.
3- مسالك الأفهام 12: 315.
4- أي: الرقيق والمتاع والبز والجوهر.

مجتمعاً.

وفيه نظر: إذ لا مجال للتمسك بخصوص المورد؛ فإن الرواية الخاصة تخصص المطلقات، ولا خصوصية للأربعة المذكورة، بل ظاهرها كون الثمن قيمياً سبب المنع، فترجح على المطلقات، بالإضافة إلى أنه خلاف الإجماع المركب.

الإشكال الخامس: الصحيحة المذكورة مطابقة لفتوى العامة فلا بدّ من حملها على التقية.

وفيه نظر: فللعامة في المسألة قولان، كلاهما كان رائجاً في زمن الإمام الصادق(علیه السلام)، فلا وجه لحملها على التقية بعد إمكان بيان الحكم الواقعي المطابق لأحد رأيي العامة، فإن التقية إنّما هي فيما لو اتفقت كلمةالعامة، أو كان الرائج في زمن الصدور هو الحكم المخالف للواقع ونحو ذلك.

بالإضافة إلى أن الحمل على التقية إنّما هو مع تعارض الروايات عندنا، وليس المقام كذلك فلا معارض للرواية الخاصة، وإنّما المشهور تمسكوا بالإطلاقات.

الإشكال السادس(1): إن الرواية مخالفة للشهرة القدمائية وإعراضهم مسقط لحجيتها.

إن قلت: إن شهرة المتأخرين على العكس من ذلك.

قلت: إن إعراض المتقدمين عنها مع كونها بيدهم يسقطها عن الاعتبار، وعمل المتأخرين لا يعيد إليها الاعتبار، خاصة أن المتقدمين أقرب إلى

ص: 152


1- الفقه 79: 186.

عصر الحضور، وكانت بيدهم المجاميع مما لم يصل بيدنا، والقول بأدقية المتأخرين غير معلوم، بل فهم المتقدمين للروايات أجود.

والحاصل: تمامية بعض هذه الإشكالات، فتكون النتيجة عدم تمامية دليل سقوط الشفعة في القيمي، فتشمله إطلاقات أدلتها.

المسألة السابعة: هل الشفعة فورية أم على التراخي

اشارة

قال في الشرائع: «وتبطل بترك المطالبة مع العلم وعدم العذر، وقيل: لاتبطل إلّا أن يصرح بالإسقاط ولو تطاولت المدة، والأوّل أظهر»(1).

وفي المسألة أقوال ثلاثة، ثالثها: التراخي ما لم يتضرر المشتري.

واستدل للقول بالفور بسبعة أدلة(2):

الدليل الأوّل(3): روايتان عن النبي| حيث قال: «الشفعة لمن واثبها»(4) من الوثوب بمعنى القفز، وظاهره السرعة والعجلة، وقال|: «الشفعة كحل العقال»(5)، تشبيه للشفعة بحل عقال الجمل حيث يتحقق سريعاً.

وفيه نظر سنداً ودلالة.

أمّا سنداً: فإنهما عاميتان، حيث لم ترويا في الكتب الخاصة، ومن

ص: 153


1- شرائع الإسلام 4: 788.
2- تذكرة الفقهاء 12: 312؛ مسالك الأفهام 12: 359؛ الفقه 79: 192.
3- مسالك الأفهام 12: 359؛ الفقه 79: 192.
4- نقله العلامة في تذكرة الفقهاء 12: 312؛ عن كتاب بدائع الصنائع 5: 17؛ والمغني 5: 478.
5- نقله في مسالك الأفهام 12: 359؛ عن سنن ابن ماجة 2: 835.

رواهما صرح بعاميتهما.

إن قلت: بعد ورودهما في كتب الأصحاب وعمل المشهور بهما يجبر ضعف سندهما.

قلت: إن عمل المشهور مع ورودهما في كتبنا ونسبتهما إلى الخاصة أو السكوت جابر لضعف السند، أمّا مع التصريح بعاميتهما فلا؛ ونظيرهتصريح كثير من الفقهاء باختصاص قاعدة التسامح بما في كتبنا، فلا تشمل روايات العامة الواردة في كتبهم، بل صرح العامة بأن الخبرين المذكورين ضعيفان حتى على مبناهم، كما في الجواهر(1).

وأمّا دلالة: فإن الروايتين المذكورتين لا تدلان على الفور، أمّا الأولى: فإن «واثبها» ليس بمعنى السرعة بل هو بمعنى الاستعلاء والقفز، فالمقصود أن الشفيع مستعلٍ على المشتري وإن لم يرضَ.

وأمّا الثانية: فليس المراد قصر المدة، وإنّما ظاهرها أن الشفعة تحل العقد كحلّ العقال. لا أقل من الإجمال في الروايتين، فلا يمكن الاستدلال بهما.

الدليل الثاني(2): حسنة ابن مهزيار، بل صحيحته، والتي مرّت من إمهال الشفيع ثلاثة أيام إذا لم يكن الثمن حاضراً(3)؛ إذ لو كانت على التراخي لم تبطل بعد الثلاثة - كما قرره في المسالك(4)- .

ص: 154


1- جواهر الكلام 38: 638 (37: 425 ط ق).
2- مسالك الأفهام 12: 359؛ الفقه 79: 192.
3- تهذيب الأحكام 7: 167؛ وسائل الشيعة 25: 406.
4- مسالك الأفهام 12: 359.

وفيه نظر: فإن موردها الإمهال بعد الأخذ بالشفعة، وقد اتفق القائلون بالفور والتراخي على الإمهال، والمقام في إهمال الشفعة، فهما مسألتان، هذا أوّلاً.وثانياً: إن الصحيحة على عكس المطلوب أدل، فإن القائل بالفور يرى الفور دون المدة المذكورة.

الدليل الثالث(1): قاعدة (لا ضرر) بل روايات الشفعة المصرحة بعدم الضرر، والتأخير موجب للضرر على المشتري.

وفيه نظر: فقد لا يكون التأخير ضرراً على المشتري، بل في المعاملات الخطيرة قد لا يعتبر التأخير لمدة شهر - مثلاً - ضرراً، إلّا أن تطول المدة. هذا أوّلاً.

وثانياً: مع علم المشتري وإقدامه على ذلك يكون قد أقدم على الضرر، والقاعدة لا تشمل موارد الإقدام، وقد مرّ الكلام في المبنى والبناء.

وثالثاً: إن الضرر المتدارك غير مشمول للقاعدة، فالشفيع يضمن قيمة الزرع - مثلاً - أو يشترك في البناء مع المشتري، فالمراد من نفي الضرر الضرر غير المتدارك، وهذا كلام مبنائي يبحث في محله وإن كان محل تأمل.

الدليل الرابع: ما ورد من قوله(علیه السلام): «للغائب شفعة»(2)، فإن تعليقالحكم

ص: 155


1- مسالك الأفهام 12: 359؛ الفقه 79: 192.
2- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 401؛ وورد في جواهر الكلام 38: 638 (37: 425 ط ق): «الغائب على شفعته».

- الشفعة - على الوصف - الغيبة - مشعر بالعلية، وأن الغيبة هي جهة بقاء الشفعة لا جهة التراخي، ولو كانت الشفعة على التراخي لكان الكلام المذكور لغواً، بل لزم القول بثبوت الشفعة سواء كان غائباً أم حاضراً.

وفيه: أن مفهوم اللقب غير حجة. هذا أوّلاً.

وثانياً: إن الحديث مطلق يشمل الغائب عالماً أو جاهلاً، متمكناً من الحضور أو لا، متمكناً من التوكيل أو لا، مع أن القائلين بالفور يرون لزوم التوكيل للغائب المتمكن وإلّا بطلت شفعته، فالحديث دال على التراخي بمقتضى إطلاقه.

وأمّا وجه اختصاصه بالغائب فلأن الحاضر غالباً إمّا يأخذ بالشفعة أو يسقطها، وحالة السكوت الطويل نادرة، بخلاف الغائب حيث يكون مثار السؤال عنه عادة، وعليه فلا فرق بين الغائب وغيره، ويؤيده ما عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «الشفعة للغائب والصغير كما هي لغيرهما، إذا قدم الغائب وبلغ الصغير»(1)، فتدل على عدم الفرق بين الغائب وغيره، واختصاصه بالغائب لخصوصية السؤال أو المورد، أو دفع توهم نفي الشفعة عنه.

الدليل الخامس: دعوى الشيخ في الخلاف الإجماع علىالفور(2).

وفيه: أنه موهون بدعوى السيد الإجماع على عكسه(3)، بالإضافة إلى أن غالب القدماء ذهبوا إلى التراخي، فيكون دعوى الإجماع على الفور موهونة

ص: 156


1- دعائم الإسلام 2: 89.
2- الخلاف 3: 430-431.
3- الانتصار: 454 ؛ الفقه 79: 194.

خارجاً أيضاً، ولذا قال ابن إدريس: «وهذا هو الأظهر بين الطائفة»(1)، بالإضافة إلى أنه محتمل الاستناد.

الدليل السادس: إنه مقتضى الأصل الأوّلي؛ إذ (لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيبة نفسه)، والقدر المتيقن من تخصيصه الشفعة على الفور، وأمّا غير ذلك فمشكوك يرجع فيه إلى الأصل.

وفيه: أن المعتمد إطلاقات أدلة الشفعة، بعد عدم تقييدها بالفور أو التراخي، فلا مجال للأصل الأوّلي.

وأمّا معارضة هذا الأصل بالاستصحاب فهو بحث مبنائي في تقدم عموم العام على استصحاب الخاص فيما لو شك في الزمان الثاني.

الدليل السابع: إن القول بالتراخي مذهب العامة والرشد في خلافهم.

وفيه: أن مورده صورة التعارض بين أحاديثنا، ولا يجري في قولينمستنبطين من العمومات، ويؤيده اتفاق العامة مع الخاصة في كثير من الأحكام، ولا يشملها الرشد في خلافهم، مضافاً إلى أن ذلك إنّما يجري فيما لو اتفق العامة على رأي، أمّا لو اختلفوا فلا، حيث يوافق أحد أقوالهم قول الخاصة، وقد نقل أنه في المقام للعامة أقوال عديدة، فللشافعي خمسة أقوال ولأبي حنيفة ثلاثة.

والحاصل: إن الأدلة السبعة التي سيقت للفور كلها محل إشكال.

فمقتضى القاعدة القول بالتراخي، واستدل له بالإطلاقات، وهي عمدة أدلتها.

ص: 157


1- السرائر 2: 388.

وأمّا سائر ما استدل به للتراخي، كالاستصحاب والأصل العقلائي بعدم مسقطية السكوت للحق، فهي محل تأمل، فإن الاستصحاب محكوم بجريان العام في المقام - على المبنى - ، والأصل المذكور إنّما يتم بعد ثبوت الحق، والكلام في أصل ثبوته في الآن الثاني.

نعم، لا بدّ من تقييد المطلقات بعدم الضرر على المشتري؛ لتقدم (لا ضرر) عليها فيتولد قول ثالث في المقام.

موارد مستثناة من القول بالفور

ثم إنّه بناءً على القول بالفور هنالك موارد مستثناة:

المورد الأوّل(1): ما لا ينافي الفور العرفي وإن نافاه دقّة، كما لوكان في طريقه للذهاب إلى الصلاة فسمع بالبيع، فإن الأخذ بالشفعة بعد إتمام الصلاة لا ينافي الفور.

واستدل(2) له بأن دليل الفور إن كان المطلقات فالمستفاد منها أن الفور عرفي، فإن الألفاظ تُحمل على الأمور المتعارفة دون غيرها، والفور الدقّي غير متعارف، فلو قيل للشفيع باع شريكك فالمتعارف أن يفكر ويستشير أوّلاً ثم يأخذ بالشفعة.

وإن كان دليل الفور الأصل العملي، فإن أدلة الاستصحاب والأصول العملية لا تشمل الفور الدقي.

المورد الثاني: الجهل بأصل البيع، أو بحقه في الشفعة، أو بجهة أخرى،

ص: 158


1- مسالك الأفهام 12: 361؛ الفقه 79: 199.
2- الفقه 79: 200.

كما لو أخبر بأن الشريك باع بثمن خطير لا يمكنه أن يؤدّيه فلم يأخذ بالشفعة، ثم تبين خلاف ذلك.

أمّا الجهل بأصل البيع فموضع اتفاق، وأمّا الجهل بحقه فإطلاقه محل تأمل، فإن الجهل عن تقصير ليس بعذر، وعن القصور ففيه احتمالان: من سقوط حقه؛ لأنه حكم وضعي وهو لا ينافي الجهل، ومن عدمه لانصراف أدلة الفور عنه.

وأمّا الجهل من جهة أخرى فلا بدّ من معرفة سبب الجهل، فإن كان حجة شرعية - كالبينة - فالعذر مقبول، وإلّا فلا.والحاصل: إن الضابط في ذلك أن الجهل بأصل البيع عذر مقبول سواء كان قاصراً أو مقصراً، وأمّا الجهل بالحكم فعذر مقبول للقاصر، وأمّا الجهل بغير ذلك فإن كان منشؤه حجة فعذر مقبول وإلّا فلا.

قال الشيخ في المبسوط: «وجملته أن الشفيع متى بلغته الشفعة فلم يأخذ لغرض صحيح ثم بان خلاف ذلك لم يسقط شفعته»(1)، فملاك الضابط المذكور الغرض الصحيح وإن كان عالماً، فيدخل الجهل فيه بطريق أولى.

وقال في المسالك: «... التأخير لغرض صحيح أو عذر مقبول لا يخل بالفورية المعتبرة»(2)، فيدخل فيه الجهل وغيره وجميع الأعذار، فالأوّل يرافق العلم غالباً، كما لو خاف الشفيع من الظالم فلم يأخذ بالشفعة، والثاني يشمل الجهل، وكل ذلك لانصراف دليل الفور عنه.

ص: 159


1- المبسوط 3: 153.
2- مسالك الأفهام 12: 336.

المورد الثالث: الغائب أو المحبوس وما أشبههما.

وقد مرّ الكلام في أن الغيبة قد تكون عذراً وقد لا تكون، وأن المحبوس قد يكون محبوساً بباطل، كما لو حبسه ظالم، فهو عذر، وقد يكون بحق يمكنه خلاص نفسه، كما لو حبس لعدم أداء الدين ويمكنه الأداء، فلا يعتبر عذراً.ثم إن المسالك(1) فرق بين الأعذار بين الحاضر والغائب، فإن كان حاضراً أمكنه الأخذ بالشفعة قولاً، ثم يسدد الثمن، فلو لم يفعل سقط حقه حيث لا يعتبر عذراً، وإن كان غائباً اعتبر عذراً حيث لا ينفع قوله أخذت بالشفعة.

وقيل: إن الشفعة متوقفة على القول مع إعطاء الثمن - من غير فرق بين كون الدفع جزء السبب أو شرط الأخذ بالشفعة - أمّا القول المجرد فلا ينفع، بل كلام الفقهاء كالصريح في عدم وجوب المبادرة إلى القول المذكور؛ لأن ما ذكر كونه عذراً لا يعتبر عذراً مع إمكان القول، حيث لا ينافيه حبس ولا غيره.

أقول: الأقرب ما في المسالك، فإن الإطلاقات لم تتعرض إلى الثمن، لا شرطاً ولا جزءاً، وعدم الدليل الخاص عليهما ينفيهما، فمقتضى القاعدة أن الشفعة لا تتوقف على دفع الثمن.

نعم، بعد الأخذ بالشفعة وانتقال الملك إليه يتولد التكليف بلزوم دفع الثمن، كما في دفع الثمن في البيع، حيث إن الدفع ليس جزءاً ولا شرطاً،

ص: 160


1- مسالك الأفهام 12: 319.

ولو لم يؤدهِ صح البيع ويتولد حق خيار التأخير.

المورد الرابع: لو أخبر المشتري الشفيع بالثمن، فرأى عدم استطاعته في الأخذ بالشفعة ثم تبين كذب المشتري، أو أخبره بذلكشخص ثالث، أو توهم الشفيع ذلك، أو أخبر الشفيع بأن المبيع نصف الشقص - مثلاً - لا جميعه، فرأى عدم الفائدة في أخذها ثم تبين أن المبيع كل الشقص.

واستدل على ذلك بدليلين:

الدليل الأوّل: ما في المسالك(1) بظهور الغرر(2) وقد نهى النبي| عن الغرر، والنهي المذكور وضعي يفيد البطلان بالإضافة إلى أنه تكليفي، وحيث إنه غرر فلا يسقط حقه في الشفعة.

وفيه إشكالان:

الأوّل: إنّه أخص من المدعى، فلو كان ذلك بسبب المشتري صدق الغرر، لكن لو توهم الشفيع ذلك فلا، وكذلك لو كان بسبب شخص ثالث حيث لا يرتبط الأمر بالمشتري.

الثاني: لا بدّ من التحقيق في حدود إطلاق نهي النبي| عن الغرر، فإن من شرائط الإطلاق كون المولى في مقام البيان من هذه الجهة، وإلّا فلا إطلاق، كما في حكم الأكل من موضع عض الكلب، فإن الآية(3)

ص: 161


1- مسالك الأفهام 12: 335.
2- والغرور - على الأقوى - بمعنى الجهالة التي يرافقها الخدعة (السيد الأستاذ).
3- سورة المائدة، الآية: 4، وهي قوله تعالى: {يَسَۡٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ}.

في مقام بيان حلية اللحم لا طهارة موضع العض. فالغرر الرافع للحكم لا يشمل موارد عديدة، منها: ما لو طمع في زوجة الغير فخدعه ليطلقها فطلقها فتزوج بها، فبالغرر المذكور لا يبطل الطلاق - وإن فعل محرماً - لعدم شمول الغرر المنهي عنه له.

ومنها: لو خدعه بقدوم ضيوف فاشترى الطعام لهم، فلم يحضروا فليس الغرر المذكور سبباً لفسخ المعاملة.

والحاصل: إن الغرر على الداعي للعقد أو الإيقاع غير مشمول للنهي عن الغرر.

ومنها: ما لو أراد حيازة أرض فغرره بكونها مملوكة فلم يأخذها، ثم تبين عدمه بعد أن حازها الغار، فلا إطلاق للنهي عن الغرر ليشمل ما لو ترك حقه بسبب الغرر.

وفي المقام: إن تأخير الشفيع في الأخذ بالشفعة لأجل الغرر موجب لسقوط حقه - بناء على الفور - ولا يشمله دليل النهي عن الغرر. وإن شك في الأمر فالانصراف محكّم، فتأمل.

ولتفصيل حدود الغرر حكماً وموضوعاً ينبغي مراجعة المكاسب.

الدليل الثاني: عدم شمول أدلة الفور للمقام لانصرافها عنه، فتشملهإطلاق أدلة الشفعة. ويتفرع على ذلك لزوم التحقيق على الشفيع. وفيه صور ثلاث:

الأولى: أن يخبره المشتري أو البائع، ولا يلزم التحقيق؛ لحمل قول المسلم على الصحة، خاصة فيما يرتبط بنفسه، فما جعله الشارع حجة لا

ص: 162

يلزم التحقيق فيه.

الثانية: أن يخبره الثقة، فكذلك بناءً على كفاية إخبار الثقة.

الثالثة: أن يخبره غير الثقة، أو توهم ذلك من دون إخبار أحد، وفي سقوط حقه في الشفعة - بناءً على الفور - احتمالان:

الأوّل: سقوط حق الشفعة لإطلاق أدلة الفور، وعدم انصرافها عمّا لو اعتمد على ما ليس بحجة شرعاً.

الثاني: بقاء حق الشفعة لإطلاق أدلتها.

ويظهر ضعف الاحتمال الثاني بما ذكر في الأوّل، فإن أدلة الفور قيدت الإطلاق ولا انصراف لها عن المورد.

ثم إن صاحب الجواهر(1) قيّد الحكم بعدم سقوط حق الشفعة بما لو كان عدم أخذه بها مستنداً إلى الخبر، أمّا لو لم يستند إليه بأن لم يكن يريد الأخذ بالشفعة من الأساس، ووافقه الخبر، فإنه يسقط حقه فيها، وهو تام لعدم انصراف أدلة الفور عنه.ثم إنه لو اختلف المشتري والشفيع في الاستناد فعلى المشتري البينة؛ لأنّه مدعٍ. ويدفع القول بالتداعي بأنه لا يعرف إلّا من قبله.

نعم، لو أقام المشتري الشهود على أن الشفيع لم يكن يريد الأخذ بالشفعة أصلاً رجح على دعوى الشفيع.

ثم إن هنالك قاعدة عامة وهي: إنه متى احتمل العذر لوجود الغرض المعتد به عند العقلاء، وأمكن استناد الترك إليه كفى في استصحاب بقائها.

ص: 163


1- جواهر الكلام 38: 572 (37: 379 ط ق).

لكن ليس الحكم ببقاء حق الشفعة لأجل استصحاب الشفعة، بل لجريان دليلها.

ثم إنّه لو مات الشفيع وجهل مستند تركه للأخذ بالشفعة استصحب بقاء الحق للورثة - بناءً على التوارث في مثله - لثبوت حق الشفعة بالبيع والشك في بقائه بسبب الشك في المستند، فإن كان لأجل الخبر فالحق باقٍ، وإن كان لعدم إرادة الأخذ فالحق ساقط، فيستصحب، وللمشتري حق تحليف الوارث على عدم العلم.

وكذلك لو غاب الشفيع ولم يعلم الوكيل مستند الترك.

فروع تترتب على القول بالفور

ثم إن هنا فروعاً تترتب على القول بفورية حق الأخذ بالشفعة، ومنها:

الفرع الأوّل: لزوم التوكيل للغائب وغيره

في لزوم التوكيل لمثل الغائب والمحبوس وعدمه، فلو لم يفعل بطلت الشفعة على الأوّل دون الثاني.

ذهب في المسالك(1) إلى أن العذر في التأخير على نوعين:

الأوّل: ما ينتظر زواله عن قرب، أي: انشغال يزول بسرعة، كالاشتغال بالصلاة والطعام ونحوهما، فلا يجب فيه التوكيل، بل ينتظر زوال العذر؛ لما مرّ من عدم منافاة هذا المقدار للفور العرفي.

الثاني: ما لا ينتظر زواله عن قرب كالسفر والحبس، فمع عدم التوكيل

ص: 164


1- مسالك الأفهام 12: 320.

يكون التأخير منافياً للفور.

ويمكن أن يقال: لو لم يرجع المسافر، لغرض عقلائي صحيح، ومع ذلك لم يوكّل أحداً للأخذ بالشفعة؛ لعدم القدرة عليه، لم يسقط حقه في الشفعة، حتى وإن أمكنه الرجوع من السفر؛ لأنه عذر ولا ينافي الفور.

ويشمله إطلاق موثقة السكوني: «للغائب الشفعة»(1)؛ فإن مقتضى الجمع بين دليل الفور ودليل ثبوت الشفعة للغائب هو لزوم الفور، إلّا فيما كان هنالك عذر عقلائي للتأخير.

الفرع الثاني: لو لم يملك الثمن نقداً وإنّما بضاعة

لو أمكنه دفع الثمن لكن لا يملك نقداً وإنّما يريد بيع بضاعة له حتىيمكنه ذلك، روعي في ذلك الفور العرفي، فلو كان يتأخر كثيراً؛ لعدم وجود مشترٍ - مثلاً - سقط حقه في الشفعة وإن كان معذوراً في عدم أخذه بالشفعة؛ لأن دليل الفور منصرف عن مثله.

ويؤيّده مهلة ثلاثة أيام الواردة في الرواية، وإن اختلف موردها عما نحن فيه.

الفرع الثالث: فيما لو ادعى العذر

لو تأخر في الأخذ بالشفعة ثم ادعى العذر في ذلك فالأقرب قبول دعواه لدليلين:

الأوّل: إطلاق دليل الشفعة شامل له، وقد خرج منه مورد لزوم الفور، وهو

ص: 165


1- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 401.

ما لو تأخر بلا عذر، وحيث لا نعلم أن له عذراً أم لا، ولا طريق لكشف صحة دعواه، فيكون شمول المطلق له معلوماً، ودخوله في المقيد غير معلوم، وليس هذا من باب التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ شمول المطلق له معلوم، بل القول بدخوله في المقيد يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

الثاني: أصالة الصحة في قول المسلم، ومفادها قبول قوله في العذر.

إن قلت: إنه أصل مثبت، فإن لازم صحة قوله هو ثبوت العذر.

قلت: إن أصالة الصحة أمارة، فتكون لوازمها حجة، وعلى فرض كونها أصلاً، فإن ثبوت العذر ليس لازم صحة قوله، بل مفادها، فإن أصالةالصحة تحكم بصحة قوله: (أنا معذور) فليس من المثبت.

إلّا إذا أثبت المشتري كذبه أو خطأه، فإن الشك موضوع الحمل على الصحة أو ظرفه، ومع قيام الدليل على عكسه لا مجال لأصالة الصحة، فإنه من السالبة بانتفاء الموضوع؛ لأن الدليل وارد عليه.

ولو لم يتمكن المشتري من إثبات ذلك، فهل يحل له مطالبة الشفيع بالحلف على كونه معذوراً؟

إن الحكم في ذلك متوقف على القول بإطلاق حق التحليف في مطلق المنازعات حتى لمن معه الأصل أو القاعدة، فإن مَن له الحق تارة يكون منكراً، فهو مشمول لقوله: «واليمين على من أنكر»(1)، إذا لم يكن للمدعي بينة، وتارة مَن له الحق يدعي العذر ويقبل قوله بأصالة الصحة، فلا وجه لتحليفه إلّا بناءً

ص: 166


1- وسائل الشيعة 27: 293.

على الإطلاق، وإلّا فالمسألة مشكلة، ومحل بحثها في القضاء.

وقد ذهب جمع من الفقهاء(1) إلى قبول دعوى الشفيع للعذر مطلقاً، سواء كان ممن لا يعرف إلّا من قبله أم لا، فإن حمل قول المسلم على الصحة مطلق يشمل الصورتين، إلّا إذا أثبت المشتري خلاف دعواه بالبينة مثلاً.

الفرع الرابع: لو قصّر الوكيل في أخذ الشفعة

لو لم يأخذ الوكيل بالشفعة تقصيراً أو قصوراً لم يعد تقصيراً من الموكّل إن لم يعلم بحاله، كما في المسالك(2).

نعم، لو كان التأخير عن العذر سبباً للضرر على المشتري سقط حق الشفعة؛ لتقدم نفي الضرر على العنوان الأوّلي.

وإن كان ذلك موجباً للضرر على الشفيع فيتعارض الضرران ويتساقطان، بمعنى عدم جريانهما، فيكون المرجع الدليل الأوّلي، وهو ثبوت حق الشفعة.

الفرع الخامس: في لزوم الإشهاد وعدمه

هل يلزم على الشفيع الإشهاد على عدم إمكان الأخذ بالشفعة بنفسه أو وكيله؟ فيه قولان:

القول الأوّل: عدم وجوب الإشهاد، وهو الأرجح واستدل(3) له بأدلة ثلاثة:

الأوّل: إن حق الشفعة ثابت بمجرد البيع ويستصحب الحق المذكور وإن

ص: 167


1- جواهر الكلام 38: 518 (37: 342 ط ق).
2- مسالك الأفهام 12: 320.
3- مسالك الأفهام 12: 320؛ جواهر الكلام 38: 518-519 (37: 343 ط ق).

لم يشهد.وأشكل(1) عليه بأن حق الفور ثابت في الآن الأوّل، والكلام في أصل ثبوت الحق في الآن الثاني، وحيث يشك فيه يكون عموم العام محكماً(2).

الثاني: إن الإشهاد لغو، فقد مضى قبول دعواه العذر للحمل على الصحة، فلو كان قوله حجة وإن لم يشهد كان وجوب الإشهاد لغواً.

الثالث: إطلاق أدلة الشفعة تشمل حتى صورة عدم الإشهاد، ويشك في شمول دليل الفور له.

القول الثاني: وجوب الإشهاد، فإن لم يشهد بطل حقه في الشفعة، واستدل(3) له بأدلة ثلاثة:

الأوّل: الإشهاد قائم مقام الطلب، فتركه كتركه.

وفيه: إنه أوّل الكلام، فبأيّ دليل أنه قائم مقامه؟!

الثاني: إن الترك أعم من أن يكون لعذر أو لا لعذر، ولا يعلم إلّا بالإشهاد.

وفيه: إنه لا ينحصر طريق العلم بالإشهاد، فقد يقر المشتري بذلك أو بالقرائن، فلا يكون ترك الإشهاد سبباً لضياع الحق مطلقاً، مضافاً إلى أنقوله: (الترك أعم) في مرحلة الثبوت، وأمّا في مرحلة الإثبات فأصالة الصحة جارية.

الثالث: الشفعة خلاف الأصل فيؤخذ بالقدر المتيقن منه، وهو صورة

ص: 168


1- جامع المقاصد 6: 438.
2- أقول: هذا هو معنى الاستصحاب، حيث يعلم بثبوت شيء في الآن الأوّل ويشك في أصل ثبوته في الآن الثاني فيستصحب (المقرر).
3- إيضاح الفوائد 2: 218؛ جواهر الكلام 38: 519 (37: 343 ط ق).

الإشهاد.

وفيه: إنه مع إطلاق أدلتها لا وجه للتمسك بالقدر المتيقن الوجودي.

فتحصل من جميع ذلك أن دليل الفور لا يشمل مَن لا يمكنه الحضور بنفسه ولا التوكيل، بل الروايات تثبت بقاء حقه مثل: «للغائب الشفعة».

وصرف ادّعاء عدم الإمكان كافٍ، ولا يلزم الإشهاد، وفي لزوم الحلف يلاحظ المبنى.

الفرع السادس: الاضطرار والإكراه من الأعذار

ثم إنّه من الأعذار الموجبة لعدم سقوط حق الشفيع في الشفعة مع التأخير: الإكراه على عدم الحضور، أو الاضطرار لكونه مبتلى بمسألة أهم - مثلاً - ، كمعالجة مريض أو ما أشبه، مما يعد اضطراراً عرفاً، وإن أمكنه الحضور حيث إن القدرة العقلية متحققة.

واستدل(1) لذلك بدليلين:الأوّل: إن أدلة الفور لا تشمل موارد العذر المقبولة عرفاً، أو أنها منصرفة عنها، ومع عدم جريانها يبقى الإطلاق على حاله.

الثاني: إن دليل الرفع يقتضي رفع الحكم بالفور عند الإكراه والاضطرار، فتثبت الشفعة بإطلاقات أدلتها.

ومن الأعذار منع القانون الوضعي عن الأخذ بالشفعة، فلو التزم المشتري

ص: 169


1- الفقه 79: 213-214.

به لم يسقط حق الشفيع في الشفعة، وإن طالت المدة وتضرر المشتري بذلك؛ لأن الضرر بسوء اختياره، فلا تشمله قاعدة نفي الضرر، ولو كان متشرعاً لم يلتزم بالقانون الوضعي الباطل.

نعم، لو لم يمتنع المشتري، لكن لم يأخذ الشفيع بحقه بملاحظة القانون الوضعي، لم يكن المشتري مُقدِماً على الضرر، وحينئذٍ فإن تغيّر القانون وأمكن الأخذ بالشفعة، فإن كان ضرراً على المشتري دون الشفيع لم يحق له الأخذ بها، وإن كان الأخذ ضرراً على المشتري وكان تركه ضرراً على الشفيع تعارض الضرران، فيكون المرجع عموم أدلة الشفعة.

الفرع السابع: في تسليم الشفيع الثمن وامتناع المشتري

لو أراد الشفيع تسليم الثمن فلم يتسلمه المشتري(1)، فإن كان تسليمه متعارفاً ومع ذلك امتنع المشتري سلّمه للحاكم الشرعي؛ لأنه وليالممتنع.

وإن كان تسليمه غير متعارف - كما لو أراد تسليم مال كثير له في صحراء يتعرض فيها للصوص - كان من حق المشتري الامتناع، ويبقى المال في ذمة الشفيع ديناً، وليس بقاؤه في ذمته خلاف سلطنته على ذمته، حيث يريد براءتها، فإنه يلزم ملاحظة دليل السلطنة مع دليل لزوم التسليم المنصرف إلى المتعارف، فتقيد الأوّل بالثاني(2).

ص: 170


1- على مبنى كون تسليم الثمن لازم حق الشفعة لا جزءاً من سببها، كما مر تفصيل الكلام فيه (السيد الأستاذ).
2- كما مرّ نظير الكلام في الغصب، فإذا غصب الثلج في الصيف ثم أراد إرجاع عينه في الشتاء حُق له الامتناع عن التسلم؛ لأنه لا يعتبر رداً، وإن كان عين ماله؛ وذلك لملاحظة خصوصيات الزمان والمكان وما أشبه ذلك في صدق الرد، وحينئذٍ يحق له مطالبة القيمة أو الانتظار للصيف (السيد الأستاذ).
الفرع الثامن: فيما لو اشغل المشتري الأرض بالزرع وغيره

قال في الشرائع: «إذا كانت الأرض مشغولة بزرعٍ يجب تبقيته، فالشفيع بالخيار بين الأخذ بالشفعة في الحال وبين الصبر حتى يحصد... وفي جواز التأخير مع بقاء الشفعة تردد»(1).

أي: ليس زرعاً عدوانياً فلا يحق للشفيع قلعه، كما لو كان الزرع بإذن الشفيع، بأن استأذن الشريك الشفيع في الزرع في سهمه فزرعه ثم باع الشريك الشقص مع الزرع، فإن حق الشفيع ثابت في الشقص دون الزرع، وبعد الأخذ بالشفعة لا يحق للشفيع إزالة الزرع؛ لأنّه زرع غير عدواني، بلزرع بإجازته. نعم، عليه الحق في الشقص، فعليه الصبر حتى يتم الحصاد ولا ينافي ذلك الفور.

وفي المسألة قولان:

القول الأوّل: إن الشفيع مخيّر بين الأخذ بالشفعة فوراً والصبر إلى حين الحصاد، وبين عدم الأخذ بالشفعة إلى حين الحصاد ثم الأخذ بها.

واستدل له بأدلة(2):

الدليل الأوّل: إن الزرع تصرف بحق، وله أمد ينتظر، فهو كالمنفعة المستوفاة للمشتري، فكما أنه حين اشترى الشقص كان يحق له التصرف وكانت المنافع له، وأن حق الشفيع لم يمنعه من التصرف وتملك المنافع،

ص: 171


1- شرائع الإسلام 4: 784.
2- مسالك الأفهام 12: 337؛ مفتاح الكرامة 18: 644؛ جواهر الكلام 38: 578 (37: 383-384 ط ق).

فإن الزرع في المدة القصيرة كذلك. بخلاف المدة الطويلة، كالبناء وزرع الأشجار، حيث لا مدة ينتظر فيها، فعليه إمّا الأخذ بالشفعة فوراً وإلّا سقط حقه.

وفيه نظر: أوّلاً: إن التشبيه المذكور قياس، فإن المشتري قبل الأخذ بالشفعة مالك للشقص، وكان يحق له التصرف فيه فتكون المنافع له، وبعد الأخذ بالشفعة صار ملكاً للشفيع، فلا حق للمالك السابق، أي: المشتري التصرف فيه.وإن شئت قلت: إن كان الزرع بحق والمنافع بعد الأخذ بالشفعة للمشتري فلا فرق بين المدة الطويلة والقصيرة، وإن لم تكن للمشتري فلا حق له في المدة القصيرة أيضاً.

وثانياً: نقضاً بما لو اشترى الشقص فأجره ثم أخذ الشفيع بالشفعة، حيث يحق له فسخ الإجارة، ولا فرق بين الزرع والإجارة.

لكن فرق في مفتاح الكرامة(1) بينهما بأن إجارة الشقص مانعة من انتفاع الشفيع بشقصه حيث يريد الأرض مثلاً، وإن استلم ثمن الإجارة، بخلاف الزرع حيث ينتهي أمره بسرعة ولا يمنع الشفيع من الانتفاع به، وبأنه يمكن فسخ الإجارة مع عدم تضرر أحد، حيث يستلم الشفيع الأرض ويسترجع المستأجر الثمن، بخلاف الزرع حيث يفسد بقلعه، فبينهما فرق، فلا يمكن نقض أحدهما بالآخر.

ص: 172


1- مفتاح الكرامة 18: 645.

لكنه غير تام، حيث لا فرق بينهما فيما لو كانت الإجارة قليلة المدة، ثم إن القول بعدم تضرر الأطراف بسبب فسخ الإجارة بخلاف الزرع غير تام؛ لما مرّ من عدم التضرر في الزرع أيضاً، حيث على الشفيع أداء الأرش للمشتري بسبب القلع.

الدليل الثاني: مع إلزام الشفيع بأخذ الشفعة فوراً يلزم عليه تسديدالثمن، وعليه الانتظار إلى الحصاد؛ وذلك مستلزم لعدم انتفاع الشفيع لا بالثمن ولا بالمثمن وانتفاع المشتري بكليهما، فلا بدّ من إلغاء الفور في الشفعة حتى يمكنه الانتفاع بالثمن إلى حين الحصاد، لينتفع كل منهما بما في يده.

قال الشرائع: «لأن له في ذلك غرضاً وهو الانتفاع بالمال، وتعذر الانتفاع بالأرض المشغولة»(1).

وفيه تأمل: فإنه مجرد استحسان، بل في الشرع موارد دلّ الدليل على اجتماع الانتفاعين لشخص واحد كما في النسيئة والسلم.

وفي ما نحن فيه كذلك، حيث دل الدليل على فورية الشفعة. هذا أوّلاً.

وثانياً: مرّ الكلام في اشتراط التقابض في المعاملات، فيحق لكل منهما أن يمتنع عن التسليم ما امتنع الآخر، وفي المقام بعد الأخذ بالشفعة حيث يمتنع المشتري من تسليم الأرض المزروعة يحق للشفيع الامتناع عن أداء الثمن حتى الحصاد وتسليم الأرض.

لكنه أخص من المدعى، حيث قد يُسلِّم المشتري الأرض مع بقاء الزرع عليها، ولا يحق للشفيع قلعه.

ص: 173


1- شرائع الإسلام 4: 784.

نعم، بناءً على ما سبق من أنّه يحق للشفيع قلع الزرع وأداء الأرشلا يتم الدليل المذكور.

الدليل الثالث: مرّ سابقاً من أن تأخير الأخذ بالشفعة لغرضٍ عذر مجوز لسقوط الفور، وعليه لا تسقط الشفعة، وفي المقام العذر في التأخير عقلائي؛ لحكمهم بأنه لا وجه لدفع الثمن من دون الانتفاع بالمثمن، وعليه يجوز للشفيع التأخير إلى حين الحصاد.

وفيه نظر: لأن الأعذار المذكورة لجواز التأخير مبنية على عدم العلم أو ما بحكمه كالسفر أو لثبوت دليل خاص، بخلاف المقام حيث لا جهل ولا دليل خاص، فدليل الفور شامل له وإن كان له غرض الانتفاع.

القول الثاني: يلزم الأخذ بالشفعة فوراً وإلّا سقط حقه.

واستدل(1) له بإطلاق أدلة الفور، وعدم إمكان الانتفاع ليس عذراً مجوزاً للتأخير لا شرعاً ولا عقلاً، كما لو باع الأرض في الشتاء فهل يحق للشفيع أن يقول: حيث لا يمكنني الانتفاع بها الآن أمكنني تأخير الشفعة إلى الصيف؟

ثم إنه لو أخذ بالشفعة فمقتضى الجمع بين الحقين المحترمين جواز أخذ الأرض وقلع الزرع مع أداء الأرش، حيث إنه تمسك بدليل الفور مع احترام ملكية الشفيع وزرع المشتري، ويكون من الجمع بين الأدلة من دون إسقاط دليل الفور.وفي المقام فروع أخرى يمكن معرفة حكمها مما سبق، فراجع الجواهر والفقه وغيرهما.

ص: 174


1- مسالك الأفهام 12: 337.

المسألة الثامنة: في أعذار المشتري

ثم إنّه قد يمتنع المشتري عن تسلّم الثمن إمّا تقصيراً أو قصوراً.

فإن كان مقصراً سقط دليل الفور، فتشمله إطلاقات أدلة الشفعة، ويبقى الثمن في ذمة الشفيع كسائر المديونين.

لكن قال بعض الفقهاء(1) بلزوم تسليمه إلى الحاكم الشرعي، ولا إشكال في جواز ذلك؛ لأن الحاكم ولي الممتنع، إنّما الكلام في وجوبه، فقد استدل على عدمه بأنّ قاعدة (الحاكم ولي الممتنع) لا تدل على أكثر من جواز الرجوع إليه، فإن ظاهرها ذلك بخلاف أدلة الولاية على الصغير والمجنون، حيث ظاهرها الوجوب، فلو كان مديناً لهما فكما يجب الإيصال إليهما فوراً كذلك يجب الإيصال إلى وليهما. والفارق بين الدليلين الظهور العرفي، وإن كان سياقهما واحداً.

فإن تمّ ما ذكر فهو، وإلّا يمكن إثبات المطلوب عبر سقوط دليل الفور، وكون الأصل عدم وجوب التسليم إلى الحاكم، وتمام الكلام في محله في البيع والحجر، فليراجع.وإن لم يكن مقصراً بأن كان مسافراً أو سجيناً حيث لا يمكنه استلام الثمن، فإن كان التأخير ضرراً على المشتري أمكنه مراجعة الحاكم الشرعي؛ لأنه ولي الغائب، وبعد التسليم إليه يتصرف فيه الحاكم لمصلحته كالتجارة أو ما أشبه، وإن لم يمكن مراجعته؛ لعدم وجوده أو لعدم كونه مبسوط اليد

ص: 175


1- الفقه 79: 208.

مثلاً، وكان الأخذ بالشفعة ضرراً على المشتري وعدمه ضرراً على الشفيع تساقط الضرران، ويبقى إطلاق أدلة الشفعة محكماً.

وإن لم يكن التأخير ضرراً على المشتري، كما لو كان قد اشتراه ديناً أو بالأقساط مثلاً، بقي الثمن في ذمة الشفيع، وتشعر عبارة التذكرة(1) والمبسوط(2) على لزوم مراجعة الحاكم الشرعي، لكن الأصل عدمه بعد عدم الدليل عليه. نعم، يحتمل جوازه من باب أنه ولي الغائب.

وهنا فروع عديدة تطلب من الفقه والجواهر.

المسألة التاسعة: عدم سقوط الشفعة بتقايل المتبايعين

اشارة

قال في الشرائع: «ولا تسقط الشفعة بتقايل المتبايعين»(3).

فلو باع ثم فسخت المعاملة لم يسقط حق شفعة الشفيع، واستدل لهبدليل واحد بعبارات متعددة.

ففي الشرائع: «لأن الاستحقاق حصل بالعقد فليس للمتبايعين إسقاطه»(4)، أي إن حق الشفيع ثبت بمجرد المعاملة، ولا دليل على سقوطه بمجرد الفسخ.

وفي مفتاح الكرامة: «لسبق حق الشفيع على حق البائع»(5)، أي إن حق الشفيع في الشفعة أسبق من حق البائع في الفسخ.

ص: 176


1- تذكرة الفقهاء 12: 321.
2- المبسوط 3: 156.
3- شرائع الإسلام 4: 782.
4- شرائع الإسلام 4: 782.
5- مفتاح الكرامة 18: 601.

لكن التعبير المذكور محل تأمل؛ لعدم ثبوت التقدم والتأخر بينهما، فإنهما يتولدان معاً بالعقد، ولأجل ذلك أكمل العبارة حيث قال: «من حيث إن الشفعة استحقت بالشراء والتقايل لاحق للعقد فتقدم الشفعة»(1).

وهذا أيضاً محل تأمل؛ فإنه قد لوحظ الحقان بميزانين، حيث لوحظت الشفعة حقاً، ولوحظ التقايل بالفعلية، لكنها في عرض واحد من حيث كونهما حقاً، وأمّا من حيث الإعمال فقد تتقدم الشفعة وقد تتأخر، فعبارة الشرائع أدق.

والحاصل: إنه لا منافاة بين حق الشفعة والتقايل فكل ذي حق يأخذبحقه، وهو مقتضى الجمع بين دليلهما.

ثم إن الدليل على حق الفسخ المذكور إنّما هو إطلاق أدلة الإقالة الشاملة لما كان هنالك حق شفعة أم لا.

وهنا فروع:

الفرع الأوّل: في بيان حقيقة الفسخ والإقالة لو أخذ الشفيع بالشفعة

ثم إنه لو أخذ الشفيع بالشفعة ففي حقيقة الفسخ والإقالة قولان:

القول الأوّل: ما ذكره في جامع القاصد(2) من الكشف عن بطلان الإقالة من الأصل لأسبقية حق الشفعة، وبناءً عليه تكون منافع العين للمشتري.

ووجهه في المسالك(3) - بما قد يؤوّل إلى القول الثاني وإن كان خلاف

ص: 177


1- مفتاح الكرامة 18: 601.
2- جامع المقاصد 6: 414.
3- مسالك الأفهام 12: 321.

ظاهر كلامه - بأن المراد ثبوت حقين للشفيع فإنه يبطل الإقالة أوّلاً فيعود الثمن إلى البائع، ثم يأخذ بالشفعة، ويكون نماء الثمن المتخلل بين الأخذ بالحقين للبائع.

وأشكل على التوجيه المذكور في الفقه(1) بأن الثابت للشفيع حق واحد فقط وهو حق الشفعة، ولا دليل على حقه في إبطال الإقالة. نعم،حين يأخذ بالشفعة تتحقق الإقالة آناً ما، فتعود العين إلى المشتري ليأخذها الشفيع، لا أن له حقين تتخلل الفترة بينهما ليبحث عن حكم النماء في تلك الفترة، وإلّا فهل يمكن للشفيع أن يأخذ بحقه في الإقالة دون حقه في الشفعة؟

القول الثاني: ما اختاره في المسالك ومفتاح الكرامة(2) من أن الأخذ بالشفعة يبطل الإقالة من حينه، فالعين ترجع إلى المشتري عند الأخذ بالشفعة، ثم إلى الشفيع، فنماء العين من حين الإقالة إلى حين الشفعة للبائع.

وهذا القول هو الصحيح الموافق للمشهور؛ لأن تأثير الفسخ في السابق خلاف الأصل، فإن الأصل - الموافق لظاهر الدليل الذي مفاده العلية - تأثير كل علّة من حينها، وبتعبير آخر: كان من الممكن حكم الشارع ببطلان الإقالة من الأصل، وأن الأخذ بالشفعة يكشف عن ذلك، لكنه خلاف الظاهر، وإن كان معقولاً في حد ذاته. نعم، لا يعقل تأثير المتأخر في المتقدم بأن يكون الأخذ بالشفعة سبباً لإبطال الإقالة من الأصل لا على نحو الكشف.

ص: 178


1- الفقه 79: 218.
2- مسالك الأفهام 12: 321؛ مفتاح الكرامة 18: 602.

ويؤيّد ذلك سائر الموارد في الفقه - لا على نحو القياس وإنّما لمعرفة الأشباه والنظائر التي تكشف للفقيه موارد الحكم - التي يكونالفسخ فيها مؤثراً من حينه.

منها: فسخ النكاح، وتظهر الثمرة في حرمة أم الزوجة أبداً، بخلاف ما لو كشف عن فسخه من أصله حيث لا نكاح أصلاً، فلا حرمة.

ومنها: في عيوب الزوج، كالعنين، حيث ينتظر سنة، ثم يحق لها الفسخ، وخلال السنة تكون محللة عليه وتجب نفقتها، مع أنه لو كان على نحو الكشف لم تحل له حتى يتبين أمره.

ومنها: في نكاح الصغير بإذن الولي، حيث يحق له الفسخ بعد البلوغ، ويبطل من حينه لا من أصله؛ ولذا يجري عليه جميع أحكام المصاهرة.

ومنها: في خيار الشرط، ثم فسخ في المدة المعينة، حيث يكون النماء للمشتري مما يدل على أن الفسخ من حينه لا من أصله.

الفرع الثاني: في بقاء الدرك على المشتري

قال في الشرائع: «والدرك باقٍ على المشتري»(1).

أي مع الإقالة يطلب الشفيع الشقص من المشتري، ولو لم يكن بيده لزمه مطالبته من البائع، وإن لم يمكن فعليه المثل أو القيمة.

ووجهه في الجواهر(2): بأن الشقص يعود إلى المشتري بمجرد فسخ الإقالة بسبب الأخذ بالشفعة، فيكون هو المطالب به، وهو المشهور وربمالا

ص: 179


1- شرائع الإسلام 4: 782.
2- جواهر الكلام 38: 528 (37: 349 ط ق).

خلاف فيه.

لكن احتمل في مفتاح الكرامة(1) عدم كون الدرك على المشتري، بل على البائع؛ لأن البائع حين قبوله الإقالة استرجع الشقص، فيكون قد أقدم على استحقاق الأخذ منه، مع التفاته إلى أن حق الشفعة لا يزول بالإقالة، فجعل نفسه ضامناً لإرجاعه إلى الشفيع عند الشفعة.

إن قلت: وهل يعقل أن يكون البائع هو الضامن في الشفعة.

قلت: نعم، حيث له نظائر في الفقه، كما لو أقر البائع بالبيع وأنكره المشتري، فهو إقرار منه بثبوت الشفعة للشفيع وحيث لا شاهد لزمه الالتزام بمفاد إقراره وإعطاء الشفيع حقه.

وكما لو اختلف البائع والمشتري في الثمن، بأن ادعى البائع أنه باعه بألف وادعى المشتري بخمسمائة، فهو من التداعي، فيحلفان، فلا يثبت شيء، ثم يأخذ الشفيع الشقص من المشتري ويعطيه الثمن الذي ادعاه المشتري، ويعطي بقية الثمن للبائع، كما ذهب إليه جمع من الفقهاء(2)، وإن كان فيه تاملاً؛ لعدم كونه من التداعي، بل البائع مدعٍ وعلى المشتري اليمين.

والحاصل: إن رجوع الشفيع إلى البائع ليس بمستغرب.ثم إن السيد الوالد في الفقه(3) ذكر كلاماً قد يستنبط منه عدم المنافاة

ص: 180


1- مفتاح الكرامة 18: 601.
2- قواعد الأحكام 2: 253.
3- الفقه 79: 223.

بين كلام الجواهر ومفتاح الكرامة، وإن النزاع بينهما أشبه بالنزاع اللفظي؛ حيث إن كلاً منهما ينظر إلى الأمر من جهة.

وحاصله: إن مقتضى القاعدة رجوع الملك إلى المشتري بسبب الأخذ بالشفعة، ومنه إلى الشفيع. هذا مفاد كلام الجواهر.

وأمّا مراد المفتاح فهو: إن الشقص يصبح ملك الشفيع بعد أخذه بالشفعة، وحيث يرى ملكه بيد البائع لم يلزمه أن يطلبه من المشتري، بل يمكنه أخذه ممن بيده وهو البائع. وعليه فالشفيع مخيّر بين أن يطلب حقه من المشتري باعتبار ترتب يده على ملكه، وبين أن يطلبه من البائع باعتبار وجود عينه في يده.

ثم إنه لو تلف الشقص بعد الأخذ بالشفعة أو نقص أو عيب، كان للشفيع مطالبة المشتري وإن لم يكن هو السبب، فإن رجع إليه رجع المشتري إلى السبب لأن استقرار الضمان عليه. هذا حسب ظاهر عبارة الشرائع حيث قال: «والدرك باقٍ على المشتري»(1).

لكنه محل تأمل؛ لأن المعاملة كانت صحيحة شرعاً، فأصبح المشتري مالكاً، والإقالة أيضاً صحيحة، فيكون تسليمه للشقص إلى لبائع بحكمالشارع، فمع الأخذ بالشفعة يدخل الشقص إلى ملك المشتري آناً ما ليعود إلى الشفيع، لكن لا دليل على كون ضمانه عليه؛ لعدم كون يده عدوانية ولم يتلفِ الشقص في يده، بل لم يستلم العين بيده أصلاً في بعض الصور، كما لو تمّ البيع من دون قبض ثم فسخ بالإقالة، فلا وجه لضمانه، بل الضمان

ص: 181


1- شرائع الإسلام 4: 782.

على البائع لدليل (على اليد ما أخذت) وغيره.

نعم، يصح إثبات كون الدرك على المشتري، بمعنى مطالبة الشفيع من المشتري أخذ الشقص من البائع ليسلمه إياه، كما يمكنه مطالبة البائع رأساً.

الفرع الثالث: فيما لو رضي الشفيع بالبيع ثم تقايلا

ثم قال في الشرائع: «نعم، لو رضي بالبيع ثم تقايلا لم يكن له شفعة؛ لأنها فسخ وليست بيعاً»(1).

فلو تمت المعاملة فرضي الشفيع، ثم فسخا فرجع الشقص إلى البائع فأصبح شريكاً مجدداً للشفيع لم يحق له الأخذ بالشفعة؛ لأن الإقالة ليست بيعاً.

نعم، لو باع المشتري الشقص للبائع تولد حق الشفعة مجدداً للشفيع.

لكن قد ذهب بعض العامة(2) إلى أن الإقالة بيع؛ لاتحاد الأثر وهورجوع الملك إلى مالكه، لكنه غير تام، حيث إنها ليست بيعاً شرعاً ولغة وعرفاً، واتحاد الأثر غير مجدٍ، إلّا أن تتحد جميع الآثار فيمكن القول بذلك، والإقالة ليست كذلك.

المسألة العاشرة: لو باع المشتري كان للشفيع فسخ البيع

ثم قال في الشرائع: «ولو باع المشتري كان للشفيع فسخ البيع والأخذ من المشتري الأوّل، وله أن يأخذ من الثاني»(3).

ص: 182


1- شرائع الإسلام 4: 782.
2- نقله في تذكرة الفقهاء 12: 231.
3- شرائع الإسلام 4: 782.

وفرض المسألة فيما لو تعاقبت البيوع على الشقص فاشتراه المشتري، ثم باعه للثاني وهو للثالث وهكذا، ثم علم الشفيع بذلك فيحق له إبطال البيع الأوّل، ويترتب عليه بطلان جميع البيوع اللاحقة، فيأخذ الشقص من الأوّل.

كما يحق له إجازة أحد البيوع فتبطل البيوع اللاحقة؛ وذلك لأنه بالبيع الأوّل تولّد له حق الشفعة فيمكنه أخذ الشفعة كما يمكنه الإمضاء، فلو أمضى كان معناه إبطال حقه في الشفعة فيصبح المشتري شريكه، فلو باع المشتري حق له أخذ الشفعة من الثاني، فيكون البيع الأوّل صحيحاً ويفسخ البيع الثاني بالشفعة وتظهر الثمرة في تفاوت القيم.

فلو كان ثمن البيع الأوّل عشرة والثاني عشرين والثالث ثلاثين، فمع الأخذ بالشفعة الأولى يعطي للمشتري عشرة، ولو أمضى البيع الأوّل أصبحشريكاً للمشتري الأوّل، فباع للثاني بعشرين، فلو أخذه شفعة لزمه إعطاء العشرين، ولذا يمكن للشفيع الأخذ بالشفعة في أرخص الأثمان، فتصح البيوع السابقة وتبطل اللاحقة.

وقيد الحكم المذكور في الفقه(1) - مع أن الفقهاء أطلقوا ذلك - بما لو كان المشتري في كل بيع شخصاً واحداً، فإنه لو كان أكثر من واحد حُق للشفيع إبطاله، لكن لو أمضاه صاروا شركاء فلا يكون له حق الشفعة في البيوع اللاحقة؛ لما سبق من عدمها عند تعدد الشركاء. إلّا أن يلتزم بثبوت حق الشفعة حتى عند تعدد الشركاء.

ص: 183


1- الفقه 79: 226.

وإنّما لم يقيد الفقهاء الفرع بالقيد المذكور لعدم لزوم بيان الشروط في كل فرع، فإن الفروع تكون مبنية على الشروط المفروغة المبحوث عنها سابقاً.

المسألة الحادية عشرة: الشفيع يأخذ من المشتري ودركه عليه

اشارة

قال في الشرائع: «والشفيع يأخذ من المشتري ودركه عليه، ولا يأخذ من البائع»(1).

أمّا الشق الأوّل: فقد مضى أن الشفعة لا تعني إبطال البيع، والنماء في الفترة المتخللة إنّما هو للمشتري، وبعد الأخذ بالشفعة ينتقل الشقص منالمشتري إلى الشفيع، ويكون البائع أجنبياً بالنسبة إلى الشفيع، ولو كان البيع باطلاً لم تتولد الشفعة أصلاً؛ لأنه لم يصبح ملكاً للمشتري حتى يأخذه شفعة.

فلو باع الشقص بمعاملة ربوية، أو باع فضولة ولم يجز المالك بطلت ولا شفعة، وعليه لا بدّ من كون البيع صحيحاً حتى يحق الأخذ بالشفعة.

وأمّا الشق الثاني: بكون درك الشقص على المشتري ففيه إشكال؛ إذ هنالك أربعة احتمالات كلها غير ملائمة للعبارة:

الاحتمال الأوّل: المقصود أن على المشتري تسليم الشقص إلى الشفيع.

وفيه: إنه لا يختص بالمشتري، فكل من بيده العين - كيفما وصلت بيده غصباً أو خطأ أو بيعاً باطلاً أو غيره - عليه أن يسلمها لمالكها، أي: الشفيع،

ص: 184


1- شرائع الإسلام 4: 782.

أو لا أقل من رفع المانع من وصول الملك إلى مالكه.

الاحتمال الثاني: المقصود أن يستلمه المشتري من البائع ويسلمه للشفيع، ويتصور فيما لو أخذ الشفيع بالشفعة ولمّا يستلم المشتري الشقص.

وفيه: إنه لا دليل عليه، بل صرّح في الشرائع(1) أنه ليس بواجب على المشتري.نعم، في العقود التي يجريها الإنسان يجب عليه الإقباض، فلو باع المشتري ما اشتراه قبل أن يقبضه وجب عليه أن يَقبضه ليُقبضه، ولا يحق له إحالة المشتري الثاني إلى البائع الأوّل، إذ الإقباض من لوازم البيع.

بخلاف المقام، فالشفعة إيقاع من دون رضا المشتري، فلا دليل على لزوم تسلمه من البائع ليسلمه للشفيع، والأصل براءة ذمته.

الاحتمال الثالث: المقصود الضمان، أي: ضمان المشتري للشقص الذي بيده.

وفيه: أوّلاً: لا فرق بين المشتري وغيره، فلو كان هنالك ضمان فهو ثابت على كل من بيده الشقص، سواء أكان مشترياً أم بائعاً أم شخصاً ثالثاً.

وثانياً: لم تكن يد المشتري عدوانية - على فرض ترتب يده عليه - حتى يقال بضمانه ولو انتقل إلى غيره، وحتى مع بقاء العين بيده لا معنى للضمان؛ لأن يد المشتري يد أمانية بعد الأخذ بالشفعة فلا ضمان فيها فيما لو تلفت من دون تقصير.

ص: 185


1- شرائع الإسلام 4: 782.

الاحتمال الرابع - وربما هو المراد - : إن الشفيع لو أخذ بالشفعة وسلّم الثمن للمشتري، فخرج الشقص مستحقاً، أي: تبين أن البائع لم يكن مالكاً، وظهر بطلان البيع لزم على الشفيع إرجاع العين لمالكها، وهو شريكه الواقعي، وهنا يلزم على المشتري - الذي قبضالثمن من الشفيع - إرجاع الثمن إلى الشفيع، ولا يحق له إحالة الشفيع إلى البائع؛ وذلك لأن المشتري قبض الثمن من الشفيع وهو لا يستحقه واقعاً، وإن توهم الاستحقاق، فترتبت يده عليه وهو ضامن له.

ولا يقال: إنه استلمه برضاه؛ لأنه يقال: إن الرضا بذلك كان في مقابل الشقص لا من دون مقابل حتى يكون هدية أو أمانة.

وهذا الكلام تام، لكن العبارة قاصرة عن إيصال هذا المفاد.

وهنا فروع:

الفرع الأوّل: كون الشقص بيد البائع ولم يسلمه للمشتري

لو كان الشقص بيد البائع ولم يسلّمه للمشتري أو سلمه لكن فسخ فرجع إليه، ثم أخذ الشفيع بالشفعة، واستلم الشقص من البائع كان قبضه منه كقبضه من المشتري.

بيانه: إن هنالك أحكاماً تترتب على البيع، وأحكاماً تترتب على القبض، فلو قبض الشفيع من البائع ترتبت أحكام القبض من المشتري؛ لأن مآله حقيقة إلى القبض عن ملك المشتري، حيث يصبح ملكه آناً ما، ثم يصير ملك الشفيع.

فلو اشترى الشقص ولم يسلم الثمن ولا استلم المثمن، ثم أخذ الشفيع

ص: 186

بالشفعة وقبض الشقص من البائع، وجب على المشتري تسليم الثمن للبائع ثم استلامه من الشفيع؛ وذلك لأن قبض الشفيع بحكمقبض المشتري فتترتب الأحكام، ومنها: لزوم دفع البدل للبائع.

وبعبارة أخرى: حين اشترى الشقص أصبح ملكه، وحين الأخذ بالشفعة انتقل من المشتري إلى الشفيع، وهنا كان على البائع تسليمه للمشتري لتترتب أحكام القبض، لكن الشفيع استلمه من البائع فتترتب عليه جميع أحكام قبض المشتري.

ولا وجه لإلزام المشتري بالاستلام من البائع ليسلمه للشفيع؛ لأنه لم يكن السبب في النقل والانتقال، بل السبب هو الشفيع، فعليه أن يستلمه من البائع مباشرة، ولا يحق للبائع الامتناع من التسليم للشفيع إلّا إذا لم يستلم الثمن من المشتري؛ لأنه يقبض العين بشرط أن يقبض الثمن.

الفرع الثاني: في عصيان البائع وعدم استلام الثمن

لو عصى البائع وأراد التسليم للمشتري فقط، فهل المشتري مكلف باستلامه ليسلمه للشفيع؟

فيه احتمالان:

الأوّل: ما رجح السيد الوالد في الفقه(1) من وجوب ذلك عليه؛ لأنه هو الذي يدخل الثمن في كيسه فيكون مكلفاً بإيصال المثمن.

الثاني: ما في الجواهر(2) من عدم الوجوب؛ لعدم تولّد تكليفنحوه؛

ص: 187


1- الفقه 79: 233.
2- جواهر الكلام 38: 539 (37: 356 ط ق).

وذلك لعدم قيام الدليل على وجوب تحصيل الشقص وإيصاله للشفيع.

وقد قام الدليل في المعاملات على ذلك بخلاف ما نحن فيه، حيث لم يكن للمشتري دور في النقل والانتقال، والبائع هو العاصي، فعلى الشفيع مراجعة الحاكم الشرعي أو البحث عن طريق آخر.

وهذا هو الأقرب؛ حيث لا يجب على المشتري تسلّم العين وإن امتنع البائع من تسليمه للشفيع، كما لا يلزم على الشفيع أن يسلّم الثمن للمشتري ما لم يستلم الشقص، لكن تبقى ذمته مشغولة للمشتري ويجب عليه إبراؤها عند استلام الشقص.

الفرع الثالث: ليس للشفيع فسخ البيع والأخذ من البائع

وليس للشفيع فسخ البيع، ولو نوى الفسخ والأخذ من البائع لم يصح، فإن حق الشفيع ثابت في الشفعة فحسب، ولا يحق له إبطال البيع؛ لأنه لم يكن طرف العقد، فلا وجه لتسلطه على فسخه بغير سبب شرعي يوجبه.

ثم بعد الأخذ بالشفعة ينتقل المبيع من المشتري إلى الشفيع.

وهنا فروع عديدة يعرف حكمها مما مضى.

ومن الفروع: ما لو أوقف المشتري الشقص؛ فإن الأخذ بالشفعة يبطل الوقف، وحين يبطل يبطل من أصله، وبما أن الفرع يرتبط بكتاب الوقففنوكل بحثه إلى محله.

المسألة الثانية عشرة: لو انهدم المبيع أو عاب

اشارة

قال في الشرائع: «ولو انهدم المبيع أو عاب فإن كان بغير فعل المشتري أو

ص: 188

بفعله قبل مطالبة الشفيع، فهو بالخيار بين الأخذ بكل الثمن أو الترك»(1).

وفي المسألة قولان:

القول الأوّل: ما هو المشهور(2) من أنّه لا ضمان على المشتري، سواء كان بفعله أم بآفة سماوية.

القول الثاني: المشتري ضامن إن كان بفعله(3)، وإلّا فلا ضمان عليه.

واستدل للقول الأوّل(4) بخمسة أدلة قد تكون متداخلة:

الدليل الأوّل: إن المشتري تصرف في ملكه تصرفاً سابقاً على ملك الشفيع فلا يكون مضموناً عليه، وملك الشفيع إنّما هو من حين الأخذ بالشفعة لا من الأصل حتى يقال: إنه تصرف في ملك الغير.الدليل الثاني: إن الفائت لا يقابل بشيء من الثمن فلا يستحق الشفيع في مقابله شيئاً، كما لو باع شيئاً بألف دينار وحدث فيه عيب قبل القبض، فإن المشتري بالخيار بين الفسخ والإمضاء بالثمن، ولا يحق له الأرش؛ لأن الفائت لم يكن في مقابله شيء من الثمن.

الدليل الثالث: حسنة أو صحيحة الغنوي السابقة: «فهو أحق بها من غيره بالثمن»(5)، فإن مفادها أن الشفيع أحق بالمتاع بنفس الثمن الذي أعطاه

ص: 189


1- شرائع الإسلام 4: 782.
2- مسالك الأفهام 12: 325؛ جواهر الكلام 38: 541 (37: 357 ط ق)؛ الفقه 79: 236.
3- مسالك الأفهام 12: 324.
4- جواهر الكلام 38: 541-542 (37: 358 ط ق).
5- تهذيب الأحكام 7: 164.

للبائع لا بثمن آخر، وهي مطلقة تشمل ما إذا عاب أو انهدم بفعل المشتري، أو بآفة سماوية أو لا، وحتى لو أورد العيب أجنبي، فإن على الشفيع أن يدفع كل الثمن ليكون أحق بالعين، ثم يطالب الأرش من الأجنبي.

الدليل الرابع(1): مرسلة ابن محبوب المنجبرة بعمل المشهور قال: «كتبت إلى الفقيه(علیه السلام) في رجل اشترى من رجل نصف دار مشاعاً غير مقسوم، وكان شريكه الذي له النصف الآخر غائباً، فلما قبضها، وتحول عنها تهدمت الدار، وجاء سيل جارف فهدمها وذهب بها، فجاء شريكه الغائب فطلب الشفعة من هذا، فأعطاه الشفعة على أن يعطيه ماله كملاًالذي نقد في ثمنها، فقال له: ضع عني قيمة البناء، فإن البناء قد تهدّم وذهب به السيل، ما الذي يجب في ذلك؟ فوقع(علیه السلام): ليس له إلّا الشراء والبيع الأوّل إن شاء اللّه»(2).

ووجه الاستدلال أن المشتري لا يضمن الهدم، وعلى الشفيع أن يدفع كل الثمن أو يترك الشفعة.

الدليل الخامس: أصالة عدم الضمان، حيث لا سبب له، فإن تصرف الإنسان في ملكه ليس من أدلة الضمان، فالأصل عدمه، فلا تشتغل ذمة المشتري بشيء.

لكن الأدلة المذكورة محل نظر:

أمّا الأوّل: فلأن المشتري إنّما تصرف في ملك نفسه المتعلّق به حق الغير، والقول بعدم الضمان تضييع لذلك الحق. نعم، لو لم يتعلّق بملكه

ص: 190


1- مفتاح الكرامة 18: 617؛ رياض المسائل 12: 330؛ الفقه 79: 236.
2- تهذيب الأحكام 7: 192؛ وسائل الشيعة 25: 405.

حق الغير لم يكن لتصرفات المالك ضمان.

وأمّا التنظير بالرهن لو تصرف الراهن في العين المرهونة حيث يضمن مع أن العين ملكه، ففيه إشكال؛ حيث لا معنى للضمان، فإنّه لو أدى الدين استرجعت عين الرهينة فلا ضمان، وإن لم يؤده استملكت الرهينة أو بيعت، فإن كان ثمنها مساوياً للدين فلا شيء، وإن كان أكثر لزمه إرجاع الزيادة، وإن كان أقل لزمه الفارق، سواء كان معيباً أم لا،فلا معنى للضمان هنا.

وبغض النظر عن المثال فإن أصل الإشكال تام؛ لأن الإنسان لا يضمن مال نفسه إلّا إذا تعلّق به حق الغير، حيث تشمله إطلاقات أدلة الضمان.

وأمّا الثاني: فإنه قد يكون في مقابل الفائت جزء من الثمن، كما لو هدمت الدار فإن جزء الثمن في مقابل الأرض وجزؤه في مقابل الدار، فالقول بعدم المقابلة بلا وجه. نعم، لو كان الهدم غير مؤثر في القيمة لم يكن ضمان وإن فرض كونه عصياناً؛ لأن الضمان في مورد تحقق الخسارة ولا خسارة حسب الفرض.

وأمّا سبب نقصان القيمة عند العيب فلمدخلية الأوصاف والأعيان في المتاع، وتحسب القيمة من حيث المجموع، فلا يمكن القول بإطلاق عدم مدخليتها في القيمة. نعم، قد لا تكون لها مدخلية، كما في حشيش الأرض بحيث إن قلعه لا يسبب نقصان الثمن.

وأمّا الثالث: فإن المنصرف من العبارة المذكورة أنه أحق بالثمن فيما لو سلم العين من دون زيادة أو نقصان، ولا إطلاق لها.

ص: 191

وأمّا الرابع: فإن مورد الرواية العيب الحادث بآفة سماوية، وهو الموافق لمفاد القول الثاني بالتفصيل. نعم، مع القول بعدم جبر الإرسال فلا فرق بين العيب السماوي وغيره.

وأمّا الخامس: فمع جريان أدلة الضمان لا مجال للتمسك بالأصل.فتحصل من ذلك: أن الأدلة المذكورة للقول الأوّل كلها محل نظر، فيتعين القول الثاني وهو التفصيل بين كون العيب بآفة سماوية أو بفعل المشتري، وقد ارتضاه الطوسي في بعض كتبه(1)، واختاره في جامع المقاصد(2)، ومال إليه في المسالك(3)، وقبله السيد الوالد في الفقه(4).

وهنا فروع:

الفرع الأوّل: حدوث العيب بفعل أجنبي

لو حدث العيب بفعل أجنبي عمداً أو سهواً(5) فلو كان ذلك بعد الأخذ بالشفعة لم يرتبط الأمر بالمشتري، وعلى الشفيع أن يعطي له كل الثمن. وأمّا لو كان ذلك قبل الأخذ بالشفعة ففيه احتمالان(6):

ص: 192


1- المبسوط 3: 116.
2- جامع المقاصد 6: 421.
3- مسالك الأفهام 12: 326.
4- الفقه 79: 238.
5- حيث لا فرق في الضمان بين العمد والسهو، فإن الحكم الوضعي يشملهما (السيد الأستاذ).
6- الفقه 79: 238.

الأوّل: على الشفيع أن يعطي حصته من الثمن، وعلى المشتري مطالبة الأجنبي بالفارق، فيكون الأجنبي مديوناً للمشتري؛ وذلك لأن العيب حصل في ملك المشتري.الثاني: على الشفيع أداء كل الثمن ثم مطالبة الفارق من الأجنبي؛ لتعلّق حق الشفيع في المعيب فيكون الأجنبي مديوناً للشفيع.

والأقرب هو الأوّل، فإنه لو لم يأخذ الشفيع بالشفعة لكان العيب وارداً على ملك المشتري، والشفيع يعطي المشتري ما يستلمه منه بحصته من الثمن بمقتضى إطلاقات أدلة الشفعة.

الفرع الثاني: لو لم يضر الهدم بالعين

لو لم يضر الهدم أو العيب بالعين أو صار سبباً لارتفاع القيمة، كقلع حشيش البستان، فلا ضمان على السبب، سواء المشتري أم الأجنبي؛ لأن الضمان إنّما هو فيما لو تلفت العين أو نقصت قيمته.

الفرع الثالث: لو نقصت القيمة السوقية أو زادت

لو نقصت أو زادت القيمة السوقية، فهل على الشفيع أداء الثمن أو القيمة السوقية؟

ففي الفقه(1): إن قوله(علیه السلام): «فهو أحق بغيره من الثمن» منصرف إلى ما لو ثبتت القيمة السوقية؛ لأن الاعتبار في الأمور المالية ليس بالحجم وإنّما بالواقع، والحجم واسطة للواقع.

ص: 193


1- الفقه 79: 239.

وهذه المسألة مستحدثة فلا بدّ من بحثها واستنباط حكمها من الإطلاقات الواردة في مختلف الأبواب، ويوكّل الحكم فيها إلى محله.

المسألة الثالثة عشرة: لو غرس المشتري أو بنى فطالب الشفيع بحقه

اشارة

قال في الشرائع: «لو غرس المشتري أو بنى فطالب الشفيع بحقه، فإن رضي المشتري بقلع غراسه أو بنائه فله ذلك»(1).

وللمسألة ثلاث صور: هي لو رضي المشتري بأخذ غرسه وبنائه، أو لم يرضَ بذلك، أو أعرض عنهما.

الصورة الأولى: لو أراد المشتري الإزالة

وقد قيّد صاحب المسالك(2) تصرف المشتري بما إذا لم يكن ظلماً، فلو قسّم المشتري الشقص مع الشفيع ثم زرع أو بنى حصته لم يكن تصرفه ظلماً، فلو علم الشفيع بذلك وأخذ بالشفعة لم يمنع المشتري من أخذ زرعه وبنائه إن أراد.

ولا بدّ من تصوير ذلك بما لا ينافي فورية الشفعة - على رأي المشهور - فإنه لو قسّمه معه مع علمه بذلك سقط حقه في الشفعة، فلا يتحقق مفروض المسألة.

ويمكن تصوير ذلك بوجوه عديدة أنهاها في المسالك(3) إلى عشرةتقريباً، ومنها: ما لو لم يخبر المشتري الشفيع بأنه اشتراه فيظنه وكيلاً لشريكه

ص: 194


1- شرائع الإسلام 4: 783.
2- مسالك الأفهام 12: 327.
3- مسالك الأفهام 12: 327.

- أي البائع - ثم رضي بالقسمة، وبعد مرور فترة يعلم بأنه قسّمه مع المشتري لا مع شريكه، وبذلك لا يسقط حقه في الشفعة، أو كان الشفيع غائباً والمشتري قسّمه مع وكيل الشفيع، حيث لا يسقط حق الموكل، أو جعل المشتري البائع وكيلاً عنه للتقسيم مع الشفيع، فهذه الصور لا يكون التقسيم منافياً للفور، وحاصلها جهل الشفيع بالبيع.

وأشكل على القيد المذكور بإشكالين:

الإشكال الأوّل: إنه لا وجه للقيد المذكور، فإن المشتري يملك الشقص بعد شرائه ولا يكون تصرفه ظلماً، وإن كان الملك متزلزلاً، كما في سائر الموارد كالهبة أو البيع بشرط الخيار، حيث يمكن التصرف، فإن التزلزل لا يمنع جواز التصرف.

لكنه غير وارد؛ لأن وجه القيد المذكور أنه لا يحق لأحد الشريكين التصرف في الملك المشاع إلّا بإذن الآخر، فلا بدّ من الاستئذان، فإن التصرف في المشاع من دون إذن الشريك غير جائز. نعم، لو كان الشريك متعنتاً قسّمه الحاكم قهراً.

الإشكال الثاني: إنه لا فرق بين الظالم وغيره، فما نحن فيه ليس بأسوء من الغصب، فلو غصب الأرض وزرعها أو بنى فيها، فقد مرّ الكلام أن الزرع والبناء ملك الغاصب، وإن فعل حراماً؛ لتصرفه في ملك الغير،فالحكم الوضعي ثابت حتى مع العصيان، فالقيد المذكور زائد؛ لعدم الاختلاف بين الظلم وغيره في الحكم الوضعي.

وهنا فرعان:

ص: 195

الفرع الأوّل: في استئذان الشفيع في الإزالة

علّق في الجواهر على ما في الشرائع (فله ذلك) بقوله: «من غير حاجة إلى استئذان الشفيع وإن صارت الأرض ملكاً له؛ إذ هو ملكه، وله إزالته عن المكان المزبور، بل هو كتفريغ المبيع للمشتري»(1).

فإنّه لا يجوز التصرف في ملك الغير إلّا بإذنه أو إذن الشارع، وقد أجاز الشارع الدخول في البيت المباع، حيث إن اللازم العرفي للأمر بإخلاء البيت من المتاع هو الإذن في الدخول، وكذلك المقام.

لكن أشكل عليه السيد الوالد(2) في المقيس والمقيس عليه.

أمّا المقيس: فإنه وإن كان ملكه إلّا أن الملكين إذا اختلطا لا يكون لأحدهما التصرف في ملك الآخر بغير إجازته.

ويضاف عليه: أنه لا منافاة بين الدليلين حيث يمكن العمل بهما معاً، فإن اللازم العرفي لدليل التفريغ هو جواز الدخول مع عدم إمكان الاستئذان، أو مع عدم قيام القرائن الحالية الدالة على الرضا، بل قد يشكلفي كونه لازماً عرفياً، مع العلم بتحقق الرضا عادة.

أمّا المقيس عليه: فكذلك، فلا دليل على حق البائع في التصرف في الدار المباعة التي سلّمها للمشتري ولو لأجل التفريغ. نعم، يجب عليه التفريغ كما يجب عليه الاستئذان، إلّا مع العلم برضا المشتري عادة.

ص: 196


1- جواهر الكلام 38: 553 (37: 366 ط ق).
2- الفقه 79: 247.
الفرع الثاني: لو أدى قلع الزرع أو هدم الدار لفساد الأرض
اشارة

لو كان قلع الزرع أو هدم الدار مستلزماً لفساد الأرض، فهل على المشتري ضمان إصلاحها. فيه قولان:

القول الأوّل: ما اختاره في الشرائع حيث قال: «ولا يجب إصلاح الأرض»(1).

واستدل له بدليلين(2):

الدليل الأوّل: إن العيب الحاصل في الأرض إنّما هو نتاج تصرف المشتري في ملك نفسه، فلا يضمنه لمَن يملكه من بعده، كما لو زرع الإنسان أرض نفسه ثم باعها، فوجد المشتري أن الزرع يضره فقطعه فاستلزم فساد الأرض.

لكنه محل تأمل؛ لما سبق من أنه وإن كان تصرفاً في ملك نفسه لكنه متعلّق حق الغير.الدليل الثاني: إن نقض البناء وقلع الشجر إنّما هو لمصلحة الشفيع لأجل تفريغ الشقص، وحين يكون لمصلحته فلا معنى للضمان له.

وفيه تأمل: لأنه مجرد استحسان، فلا بدّ من ملاحظة أدلة الضمان الشاملة لما كان بنفعه أيضاً، كما لو قطع شجر دار الغير ظناً منه أنه داره، فهو ضامن وإن كان ذلك لمصلحة صاحب الدار. نعم، لا يكون عدواناً مع جهله بذلك.

ص: 197


1- شرائع الإسلام 4: 783.
2- جواهر الكلام 38: 553-554 (37: 366 ط ق).

القول الثاني: ما في القواعد من احتمال وجوبه(1).

واستدل له بدليلين(2):

الدليل الأوّل: إنّه بتخليص ملك نفسه سبب نقصاً في ملك الشفيع، فعليه الضمان.

وفيه تأمل: لأن النقص المذكور إنّما حصل بحكم الشارع فلا معنى للضمان، فإن عدم الضمان اللازم العرفي للأمر به.

لا يقال: إن الحكم التكليفي لا ينافي الحكم الوضعي.

فإنّه يقال: لا يراد الاستدلال بالتلازم بحيث يكون الأمر التكليفي رافعاً للحكم الوضعي، بل المراد الاستدلال بالظهور العرفي، فإن أمر الشارع ظاهر عرفاً في عدم الضمان.الدليل الثاني: إن تشريع الشفعة إنّما هو لدفع الضرر عن الشفيع، كما ورد النص بذلك، فلو قلنا بعدم ضمان المشتري لزم تضرر الشفيع، حيث قد لا يأخذ بالشفعة، لما يرى من الأضرار الناتجة عن تخليص الأرض من البناء والزرع.

وفيه تأمل: لما سبق من كون دفع الضرر حكمة الشفعة، فلا يدور مدارها الحكم، كما لا مانع من اتخاذ الطرق الشرعية كي لا يتمكن الشريك من الأخذ بالشفعة، مع أن ذلك قد يكون ضرراً، فيمنعه من عليه، كما لو أخذها

ص: 198


1- قواعد الأحكام 2: 254.
2- جامع المقاصد 6: 423؛ مفتاح الكرامة 18: 634؛ جواهر الكلام 38: 554 (37: 366-367 ط ق).

من الشريك هبة معوضة لا بيعاً، حيث يسقط حق الشفيع في الشفعة لاختصاصها بالبيع.

وبعد عدم تمامية دليلي القولين تصل النوبة إلى الأصل وهو عدم الضمان.

الصورة الثانية: ما لو لم يردِ المشتري إزالة زرعه أو بنائه

قال جمع من الفقهاء(1): أجبر على الإزالة، واستدل له بدليلين:

الدليل الأوّل: لأنّه طريق خلاص ملك الشفيع.

لكنه مجرد دعوى، حيث لم يستدل على لزوم تخليص ملك الشفيع، فيكون أشبه بالمصادرة.الدليل الثاني: إن الدليل الدال على النقل والانتقال في العقود والإيقاعات يدل على لزوم تسليم العوضين من دون وجود مانع، حيث إن التسليم المتعارف - وهو الخالص من ملك المنتقل عنه - هو المنصرف من الدليل.

لا يقال: قد يتضرر المشتري بإزالة البناء أو قلع الشجر.

لأنه يقال: أوّلاً: إن الإزالة ضرر على المشتري والبقاء ضرر على الشفيع، فإن لم يمكن الجمع بين دليلي (لا ضرر) الشامل لهما تساقطا، وأمّا لو أمكن الجمع بينهما لزم الجمع، وفي المقام يمكن الجمع فيشملهما، وكيفية الجمع هو عبر جبران الضرر بأن يضمن الشفيع الأرش للمشتري.

ص: 199


1- جامع المقاصد 6: 423؛ مسالك الأفهام 12: 329؛ مفتاح الكرامة 18: 634.

وثانياً: إن دليل الشفعة أخص من دليل (لا ضرر).

وبعبارة أخرى: إن دليل الشفعة إنّما هو في مورد الضرر، وما كان كذلك لا يرفع ب-(لا ضرر) كالخمس والزكاة والجهاد.

والشفعة جعلت في مورد الضرر، حيث يُسلب ملك المشتري من دون رضاه. كما أن المشتري أقدم على الضرر، حيث بنى أو زرع فيما هو متعلّق حق الغير، فلا يشمله دليل (لا ضرر).

وفيه نظر: فإن أصل الشفعة جعل في مورد الضرر دون تفاصيلها، فيجري دليل (لا ضرر) في الثاني دون الأوّل، كما أن (لا ضرر) لا يجريفي أصل الخمس، أمّا في التفاصيل فيمكن جريانه، كما لو كان أداء الخمس بطريقة معينة ضررية دون طريقة أخرى، حيث ترفع الكيفية الضررية ب-(لا ضرر) وفي المقام أصل الشفعة لا ترفع ب-(لا ضرر) أمّا التفاصيل فيمكن رفعها به، فإزالة البناء والزرع من التفاصيل الضررية التي ترفع ب-(لا ضرر) وتجبر بالأرش.

ثم إنه قد مرّ في كتاب الغصب ما احتمله السيد الوالد من الشراكة بين الغاصب والمالك - خلافاً للمشهور - وبناءً عليه تثبت الشراكة بين المشتري والشفيع بطريق أولى، فيؤجر الدار - مثلاً - وتقسّم الأجرة بينهما بنسبة حق كل منهما في الشراكة حسب رأي أهل الخبرة، فتأمل.

الصورة الثالثة: في ما لو أعرض المشتري عن النماء والزرع

لو أعرض المشتري عن البناء والزرع فهل يُلزم برفعها بناءً على كون الإعراض مسقطاً للملك - لا مجرد الإباحة للغير مع بقاء الملك للمعرض -؟

ص: 200

فيه حالتان:

الأولى: أن يتملكها الشفيع، ولا كلام فيه؛ لأنه خرج عن ملك المشتري بالإعراض ودخل في ملك الشفيع بالتملك.

الثانية: أن لا يريدها الشفيع، وفي هذه الصورة يحق للشفيع إجبار المشتري برفعها؛ وذلك لأنه لا يحق للإنسان أن يترك ما يملكه في ملك الغير ولو بالإعراض، فإنه وإن لم يكن ملكه بعد الإعراض إلّا أنه هوالسبب في بقاء ما كان ملكه في ملك الغير فعليه الإفراغ.

المسألة الرابعة عشرة: ما يدخل في الشفعة تبعاً

قال في الشرائع: «وإذا زاد ما يدخل في الشفعة تبعا كالودي(1) المتباع مع الأرض فيصير نخلة أو الغرس من الشجر يعظم فالزيادة للشفيع، أمّا النماء المنفصل كسكنى الدار وثمرة النخل فهو للمشتري»(2).

إن النماء المتخلل بين البيع والأخذ بالشفعة إمّا منفصل أو متصل، أمّا المنفصل فلا كلام في أنه للمشتري لحدوثه في ملكه، فلا يلزم تسليمه للشفع أو إعطاء أجرته له، فإنه وإن كان متعلّق حق الغير لكن الغير ليس مالكاً له، بل له حق أن يملك، كما هو الحال في أموال المفلس، حيث إنها له وإن كانت متعلّق حق الديان، فيحق لهم أن يملكوها لا أنها ملك لهم، فالحكم الوضعي - وهو الملك - ثابت، لكن يتغير بعض الأحكام التكليفية كمنعه من البيع، والمقام كذلك، فللمشتري كل آثار الملك، ومنها: عدم

ص: 201


1- الودي على وزن الغني بمعنى فسيل النخل.
2- شرائع الإسلام 4: 783.

جواز أخذه منه قهراً، لكن هذا الأثر يرفع بالشفعة. فالنماء حاصل في ملك المشتري فهو له، وأمّا ملك الشفيع فيبدأ من حين الأخذ بالشفعة، فلا يشمل النماء الحاصل قبله.

وأمّا النماء المتصل - كما لو كان فسيلاً حين اشتراه المشتري وبعد أنأصبح نخلاً أخذ الشفيع بالشفعة - ففيه قولان:

القول الأوّل: إنه للشفيع، واستدل له بدليلين:

الدليل الأوّل: عدم الخلاف أو الإجماع.

لكنه محل تأمل: فأقصى ما يمكن القول به هو الشهرة الفتوائية، وليست بحجة وإنّما الحجة الشهرة الروائية.

الدليل الثاني: ما في الجواهر(1) أنّها تابعة للعين التي أخذها الشفيع.

وفيه: أنه مصادرة وتكرار المدعى.

القول الثاني: إنه للمشتري حيث لا يختلف حكمه عن النماء المنفصل.

واستدل له(2): بأن المشتري مالك للعين والزيادة حاصلة في ملكه، والمالك لشيء مالك لنمائه، وإن كان الملك متزلزلاً وتم فسخه، وفيه روايات متعددة.

ثم إن السيد الوالد(3) ذكر في المقام كلاماً يرجع إلى تشخيص الموضوع، قال: الزيادة قد تكون محسوسة كالفسيل يصبح نخلاً، فتكون

ص: 202


1- جواهر الكلام 38: 565 (37: 374 ط ق).
2- مسالك الأفهام 12: 330.
3- الفقه 79: 274.

الزيادة للمشتري، وقد لا تكون محسوسة كنمو الفسيل يوماًواحداً، حيث هي زيادة دقة لا عرفاً، فيكون سالبة بانتفاء الموضوع، فتكون الزيادة للشفيع.

وليس ذلك من باب الرجوع إلى العرف في تشخيص المصداق حتى لا يكون حجة، وإنّما لنفي الموضوع، أي: العرف لا يراه زيادة، ونفي الموضوع أو إثباته عرفاً حجة، وهو غير تشخيص المصداق.

المسألة الخامسة عشرة: فيما لو حمل النخل بعد الابتياع

قال في الشرائع: «ولو حمل النخل بعد الابتياع، وأخذ الشفيع قبل التأبير قال الشيخ(1): الطلع للشفيع؛ لأنّه بحكم السعف، والأشبه اختصاص هذا الحكم بالبيع»(2).

إذ الرواية(3) واردة في البيع وإلحاق الشفعة به قياس.

وحاصل المسألة: إنه لو اشترى بستاناً ثم أثمر طلعاً، فهل يعتبر الطلع نماءً منفصلاً ليكون للمشتري أم متصلاً ليكون للشفيع بناءً على الفرق بينهما؟فصّل جمع من الفقهاء(4) بين التأبير وعدمه، فإن أبّره المشتري فهو له،

ص: 203


1- المبسوط 3: 119.
2- شرائع الإسلام 4: 783.
3- تهذيب الأحكام 7: 87، وفيه: الحسن بن محمّد بن سماعة، عن غير واحد، عن أبان عثمان، عن يحيى بن أبي العلاء قال: قال أبو عبد اللّه(علیه السلام): «من باع نخلاً قد لقح فالثمرة للبائع إلّا أن يشترط المبتاع، قضى رسول اللّه| بذلك».
4- تذكرة الفقهاء 12: 275؛ مسالك الأفهام 12: 331.

وإلّا فللشفيع.

لكن آخرون(1) حكموا بكون الطلع للمشتري حتى قبل التأبير؛ لأنّه نماء حصل في ملكه، فلا فرق بين التأبير وغيره.

والأقرب أنه للمشتري؛ لأن الطلع ظهر ونما في ملكه من غير فرق بين التأبير وعدمه. نعم، لو كان الطلع في بدايته بحيث لا يعتبر طلعاً عرفاً، فهو للشفيع.

ثم إنّه لو كان الطلع للمشتري والنخل للشفيع فهل يؤمر المشتري بأخذ طلعه أو ينتظر ليصبح فاكهة في ملك الشفيع ثم يأخذه المشتري؟

ذهب جامع المقاصد(2) إلى لزوم تسعير النخل من دون الطلع ومع الطلع، ثم يعطي الشفيع زيادة القيمة للمشتري.

وفيه إشكالان:

الأوّل: إن إعطاء التفاوت المذكور إنّما هو فيما لم ترتفع القيمة بسبب الهيئة المجموعية، وأمّا مع لحاظ ارتفاعها كذلك - كما في مصراعي الباب والقفل والمفتاح - فلا بدّ من تقسيم الارتفاع بينهمابالنسبة حسب تشخيص أهل الخبرة.

الثاني: قد لا يريد المشتري بيع طلعه للشفيع فلا وجه لإجباره على ذلك.

فمقتضى القاعدة ما ذكرناه سابقاً من التوافق على القيمة أوّلاً، وإلّا فلا

ص: 204


1- مسالك الأفهام 12: 331.
2- جامع المقاصد 6: 428.

دليل على إجبار الشفيع على إعطاء القيمة، ولا دليل على إجبار المشتري على بيعها، فلا بدّ من أن يأخذ المشتري طلعه، وإن أبى أجبره الحاكم.

المسألة السادسة عشرة: فيما لو بان الثمن في البيع مستحقاً للغير

اشارة

قال في الشرائع: «ولو بان الثمن مستحقاً فإن كان الشراء بالعين فلا شفعة؛ لتحقق البطلان، وإن كان في الذمة تثبت الشفعة؛ لثبوت الابتياع»(1).

وحاصل المسألة: إنه لو اشترى الشقص وأدى الثمن من مال الغير فهل يصح الأخذ بالشفعة؟ فيه صورتان:

الأولى: أن يكون الثمن معيناً ولا يملكه المشتري، فالبيع باطل، فتكون الشفعة سالبة بانتفاء الموضوع، فإن المعاملة متقومة بالثمن والمثمن، فإن لم يملك أحدهما كان الثاني من دون مقابل، فلا يصير ملكاً للمشتري فلا موضوع للشفعة.الثانية: أن يكون الثمن كلياً في الذمة، لكن كان الأداء من مال الغير، كما هو الحال في بيع النسيئة، فالبيع صحيح ويصبح المثمن ملك المشتري، وعليه أداء الثمن مجدداً، فيصح الأخذ بالشفعة لتحقق موضوعها.

وهنا فروع:

الفرع الأوّل: فيما لو أجاز مالك الثمن البيع

ولو أجاز مالك الثمن البيع فهل يصح البيع فتصح الشفعة تبعاً أم لا؟

ذهب صاحب مفتاح الكرامة إلى الصحة(2).

ص: 205


1- شرائع الإسلام 4: 783.
2- مفتاح الكرامة 18: 649.

لكن المسألة ترتبط بالمبنى فلا بدّ من التفصيل ففيه صورتان:

الصورة الأولى: أن يجيز مالك الثمن المعاملة لنفسه، وفيه قولان:

الأوّل: الصحة؛ لأنه مصداق من مصاديق البيع الفضولي، فيملك الشقص، ويكون للشفيع حق الشفعة عليه.

الثاني: البطلان سواء أقلنا إنه ليس من مصاديقه أو أنه من مصاديقه؛ وذلك لأن العقود تابعة للقصود، والمشتري اشترى الشقص لنفسه بينما الإجازة تحول الشقص إلى مالك الثمن، فهو خلاف ما وقع عليه القصد، فيكون باطلاً؛ لأن ما وقع لم يقصد فتكون المعاملة باطلة.

الصورة الثانية: أن يجيز مالك الثمن المعاملة للفضولي بأن يكونالشقص للمشتري، وقد ذهب المشهور(1) إلى بطلانه؛ لاشتراط دخول المثمن في ملك مَن خرج الثمن من عنده، فلا يصح دخول المثمن في ملك شخص ثالث غير الذي خرج منه الثمن، كما لو أعطى الخباز الثمن ليعطي الخبز للفقير، إلّا على نحو الوكالة في الأخذ والهبة.

لكن ذهب جمع من الفقهاء(2) منهم السيد الوالد(3) إلى الصحة؛ لأنها معاملة عقلائية ولم يردع عنها الشارع.

وفي المقام مالك الثمن أجاز المعاملة للمشتري فأصبحت الأطراف ثلاثة، فعلى البطلان تكون الشفعة منتفية.

ص: 206


1- المبسوط 3: 126؛ تذكرة الفقهاء 12: 278؛ مسالك الأفهام 12: 332.
2- مفتاح الكرامة 18: 649.
3- الفقه 79: 279.
الفرع الثاني: فيما لو انتقل الثمن المستحق للغير للمشتري

لو انتقل الثمن المستحق للغير إلى المشتري، كما لو اشترى الابن الشقص بمال أبيه ثم ورثه منه، ففي حكم البيع ثم الشفعة أقوال ثلاثة(1):

القول الأوّل: بطلان البيع من الأساس، ولا يصح ما وقع باطلاً، وإن ملك العين فيما بعد، وهو قول شاذ.

القول الثاني: تصح المعاملة بمجرد انتقال العين إلى الفضوليفتصح الشفعة.

القول الثالث: إن صحتها متوقفة على الإجازة، فالعقد كان فضولياً متوقفاً على إجازة المالك، ثم أصبح الفضولي مالكاً فعليه الإجازة لتصحيح بيعه السابق وإلّا بطل.

وقد ذهب المشهور(2) إلى القول الثاني وهو الصحيح؛ إذ الإشكال في بيع الفضولي في عدم ملكيته وقد ارتفع بعد تملكه، فلا حاجة إلى رضاه مجدداً بعد تحقق الرضا منه عند العقد.

الفرع الثالث: لو كان الثمن مما لا يُملك أو لم يقدر المشتري على الأداء

ثم إن السيد الوالد(3) ذكر صورتين أخريين:

الأولى: لو كان البيع بما لا يملك، بأن اشترى الشقص بالخمر أو الخنزير، فلا شفعة لبطلان البيع.

ص: 207


1- الفقه 79: 279-280.
2- جواهر الكلام 38: 569 (37: 376 ط ق).
3- الفقه 79: 280.

الثانية: لو علم المشتري عدم قدرته على أداء الثمن إلى آخر عمره، وقد كانت المعاملة على نحو الكلي في الذمة فالمشهور على صحتها ويبقى مديناً إلى آخر عمره، فيؤدّي عنه وارثه من تركته ثم الحاكم الشرعي.وهنالك قول بالبطلان؛ لأن قوام المعاملة بالعوضين، وأحدهما منتفٍ بعينه وببدله.

لكنه غير تام، حيث لا يلزم وجود العوض في الخارج، بل يكفي وجوده على نحو الكلي في الذمة، وهو المصحح للمعاملة، وأمّا الحكم بوجوب الأداء بنفسه أو بوارثه أو بالحاكم فحكم آخر لا يرتبط بصحة العقد. بالإضافة إلى عدم تحقق العلم بعدم تمكن الأداء إلى آخر العمر غالباً.

نعم، لو قطع بعدم الإمكان أمكن القول بعدم تحقق الرضا من البائع فتبطل المعاملة(1).

المسألة السابعة عشرة: لو دفع الشفيع الثمن فبان مستحقاً

قال في الشرائع: «ولو دفع الشفيع الثمن فبان مستحقاً لم تبطل شفعته على التقديرين(2)»(3).

وذلك لصحة البيع والشفعة فيكون الشفيع مالكاً، وعليه أن يؤدّيالثمن

ص: 208


1- وفيه نظر: فإن الرضا الفعلي هو الشرط وقد تحقق، دون الرضا التقديري، وإلّا لزم القول ببطلان كثير من المعاملات، كما لو باع لزيد ثم تبين أنه وكيل لعمرو، ولو علم البائع أن المبيع ينتقل إلى عمرو لم يكن راضياً، وهكذا في موارد كثيرة (المقرر).
2- والمقصود من التقديرين: كون الثمن الذي أداه المشتري معيناً أو مطلقاً، أو كون الثمن الذي أداه الشفيع عيناً مستحقة أو كلياً، فأدى مما هو مستحق.
3- شرائع الإسلام 4: 783.

مجدداً.

لكن أشكل الشهيد في الدروس(1) على ذلك بأنه منافٍ للفور، فتبطل الشفعة.

ووجهه في المسالك(2) بكونه باطلاً على مبناه، وإلّا فعلى مبنى المشهور لا تبطل؛ لعدم منافاتها للفور.

وقد مرّ تفصيل الكلام في المبنيين، حيث ذهب الشهيد(3) إلى أن الشفعة تتحقق بالقول وأداء الثمن، وعليه يكون الأداء من مال الغير غير محقق للشفعة، فيكون الأداء مجدداً منافياً للفور فتبطل الشفعة.

بينما ذهب المشهور إلى أن الشفعة تتحقق بالقول فقط، وبعده يتولد التكليف بالأداء، فلو أدى من مال الغير فعليه الأداء مجدداً، ولا ينافي ذلك الفور؛ لتحقق الشفعة بالقول.

المسألة الثامنة عشرة: اعتبار العلم بالثمن في الأخذ بالشفعة

اشارة

قال في الشرائع: «إذا بلغه البيع فقال: أخذت بالشفعة فإن كان عالماً بالثمن صح، وإن كان جاهلاً لم يصح، وكذا لو قال: أخذت بالثمن بالغاً ما بلغ لم يصح مع الجهالة تفصياً من الغرر»(4).ولا يختص الأمر بالعلم بالثمن، فإن من شروط الأخذ بالشفعة العلم

ص: 209


1- الدروس الشرعية 3: 367.
2- مسالك الأفهام 12: 333.
3- الدروس الشرعية 3: 360.
4- شرائع الإسلام 4: 784.

بالثمن والمثمن وسائر الخصوصيات التي تراعى في المعاملات عادة، فلو أخذ بها مع الجهل بطل، ولو قال: أخذت بالشفعة مهما كان الثمن أو المبيع كان باطلاً.

واستدل لذلك بأدلة أربعة(1):

الدليل الأوّل: وهو العمدة: عموم نهي النبي| عن الغرر، وضعف سندها منجبر بعمل المشهور، والشفعة إيقاع لعدم اشتراط رضا المشتري بها؛ لكنها كالمعاملة للزوم أداء الثمن، فالجهل بخصوصياتها نوع من أنواع الغرر المنهي عنه.

إن قلت: لو أقدم على الغرر متقبلاً للضرر فما هو الوجه في البطلان؟

قلت: إن تحمّله غير رافع لموضوع الغرر، فإن الجهالة لا تتبدل إلى العلم، ولو كان بانياً على تحمل الغرر فلا يرتفع حكمه.

ولا يخفى أن ظاهر النهي المولوية إلّا في باب المعاملات، فإنه ظاهر في الإرشاد، أي: البطلان فقط، إلّا إذا قام دليل عليهما معاً كالربا.

وأشكل عليه بإشكالات:

الإشكال الأوّل: ما ذكره المحقق الأردبيلي(2): من أنه لا دليلعلى بطلان المعاملة الغررية من عقل ولا نقل إلّا أن يكون إجماعاً؛ ولذا نشاهد إقدام العقلاء على المعاملات المجهولة كاليانصيب وما أشبه.

وكأن إشكاله ينصب على إرسال الرواية وعدم ورودها في المجاميع

ص: 210


1- مسالك الأفهام 12: 335؛ جواهر الكلام 38: 573-575 (37: 380-382 ط ق).
2- مجمع الفائدة والبرهان 9: 38.

الروائية، الدال على أنها رواية عامية.

وفيه نظر: فقد ذكرنا فيما مضى مفصلاً أنه لا فرق بين الكتب الروائية والفقهية، فأيّ فرق بين أن يذكر الشيخ الطوسي الرواية في التهذيب أو المبسوط، بل يقوى كون الرواية من الخاصة فيما لو وردت في المصادر الفقهية موضع استدلال وفتوى، مع العلم بعدم اعتقادهم بروايات العامة وعدم اعتمادهم عليها، وعدم الفتوى على ضوئها، الكاشف عن أنها ليست عامية بل هي من مرويات الخاصة.

وأمّا المرسلة المذكورة فهي محل اعتماد الفقهاء في مختلف أبواب الفقه، وقد استدلوا بها وعمل المشهور موجب لجبر الضعف، بل هي متسالم عليها مما يوجب القطع بها.

بالإضافة إلى أن النهي عن الغرر مسألة إجماعية، إلّا أن يشكل عليه بمعلومية الاستناد.

الإشكال الثاني: ما في الجواهر: من «عدم ثبوت كونها معاوضةينافيها الغرر»(1).

فإن الشفعة إيقاع لا معاوضة، ولا يعلم منافاة الغرر لها، ومع الشك في اشتراط عدمه في الشفعة تجري أصالة عدم الاشتراط.

وفيه تأمل: لإطلاق الرواية وعدم اختصاصها بالمعاملة، فتشمل الإيقاعات أيضاً.

ص: 211


1- جواهر الكلام 38: 575 (37: 381 ط ق).

الإشكال الثالث(1): إن إطلاق أدلة الشفعة ترفع اشتراط عدم الغرر، وإن كان إطلاق (لا غرر) يشمل الإيقاعات أيضاً، ففي المقام إطلاقان: إطلاق أدلة الشفعة وإطلاق لا غرر، والأوّل أخص من الثاني؛ لجريان الثاني في سائر المعاملات.

وفيه نظر: حيث لا إطلاق لأدلة المعاملات والإيقاعات لنفي الشرائط العامة كالبلوغ والعقل ونفي الضرر والغرر، فهل يلتزم بعدم اشتراط العقل والبلوغ بالتمسك بإطلاق دليل الشفعة؟! وذلك لحكومة أدلة الشرائط العامة على إطلاقات أدلة العبادات والمعاملات.

وإن أبيت عن الحكومة في المقام، فنقول: إن قول الشارع: {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(2) مثلاً ليس في مقام البيان من جهة الشرائط العامة، بل في مقام بيانتقابله مع الربا، كذلك في المقام، فأدلة الشفعة ليست في مقام بيان اشتراط البلوغ والعقل ونفي الضرر والغرر فلا إطلاق لها، فيجري إطلاق نفي الغرر، فتأمل.

الدليل الثاني: ما في الجواهر(3): من أن الشفعة خلاف الأصل، والمتيقن منها بل الظاهر من الأدلة هو حال العلم، ولا يعلم جريان أدلة الشفعة في صورة الجهل، فالمرجع الإطلاقات الأوّلية الدالة على عدم حل مال الغير.

وفيه تأمل: لما مرّ من إطلاق أدلة الشفعة المخصصة للإطلاقات الأوّلية.

ص: 212


1- جواهر الكلام 38: 575 (37: 381 ط ق)؛ الفقه 79: 287.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
3- جواهر الكلام 38: 575 (37: 381 ط ق).

الدليل الثالث: ما في الجواهر(1) أيضاً: من أن قوله(علیه السلام): «فهو أحق بها من غيره بالثمن»(2) للعهد، أي: الثمن المعين الذي بيع الشقص به، وكذا قوله(علیه السلام): «ليس له إلّا الشراء والبيع الأوّل» الظاهر في لزوم العلم بالقيمة.

وفيه تأمل: لعدم دلالتهما على العلم، بل على لزوم دفع الثمن وإن كان جاهلاً بمقداره.الدليل الرابع(3): إن الشفعة متوقفة على القول وتسليم الثمن، على مبنى الشهيد الأوّل(4)، ولا يمكن تسليمه مع الجهل به.

وفيه نظر حتى المبنى المذكور، حيث يمكن تسليم الثمن من دون علم بمقداره، كما لو كان الثمن في كيس وهو يجهل مقداره، فيقول للمشتري خذ حقك منه، أو يعطيه الصك الأبيض ليكتب مقدار الثمن، بالإضافة إلى التأمل في أصل المبنى كما مرّ.

والحاصل: إن لزوم العلم ثابت بالدليل الأوّل، أمّا سائر الأدلة فغير ناهضة لإثبات الشرط المذكور.

وبناءً على الفور يلزم الشفيع التحقيق فوراً لتحصيل العلم بالخصوصيات.

فرع: في اختلاف المشتري والشفيع

لو اختلف المشتري والشفيع في العلم وعدمه فالأصل الجهل؛ لأن

ص: 213


1- جواهر الكلام 38: 575 (37: 381 ط ق).
2- تهذيب الأحكام 7: 164.
3- جواهر الكلام 38: 575 (37: 380 ط ق).
4- الدروس الشرعية 3: 360.

العلم حادث، ومع الشك فيه يستصحب الجهل، وقبل الاستصحاب يمكن التمسّك بأنه من مصاديق ما لا يعرف إلّا من قبله.

نعم، لو قام الدليل الشرعي - كالبينة - على العلم، كما لو شهدا على أن المشتري أخبره بالثمن ألزم الشفيع بذلك.ولو ادّعى الشفيع النسيان، فهل يستصحب العلم فيسقط حقه في الشفعة أو لا؛ لكونه مما لا يعرف إلّا من قبله، وهو وارد على الاستصحاب؛ لأنّه ينفي موضوعه وهو الشك، لحكم الشارع بتصديقه فيما لا يعرف إلّا من قبله؟

لكن لا بدّ من التحقيق في حدود القاعدة سعة وضيقاً، حيث لا تشمل موارد عديدة، كما لو ادعى الإكراه حين المعاملة، أو المزاح وهو ما لا يعرف إلّا من قبله؛ وذلك لجريان أصول عقلائية أخرى، كأصالة الجد وأصالة عدم النسيان فلا يبقى مجال لها.

المسألة التاسعة عشرة: لو طلب البائع الإقالة من الشفيع

قال في الشرائع: «إذا سأل البائع من الشفيع الإقالة فأقاله لم يصح؛ لأنها إنّما تصح من المتعاقدين»(1).

وفي المقام صورتان:

الصورة الأولى: لا تصح الإقالة بين البائع والشفيع؛ لعدم وجود معاملة بينهما، فلا معنى للإقالة. نعم، يصح إجراء معاملة جديدة بينهما، لكن لا

ص: 214


1- شرائع الإسلام 4: 784.

ربط له بمحل البحث، كما يصح أن يطلب البائع من الشفيع الإقالة بينه وبين المشتري، ثم يطلب من المشتري الإقالة له؛ لأن البيعبينهما، وليس من شروط الإقالة عدم تعاقب المعاملات.

الصورة الثانية: تصح الإقالة بين المشتري والشفيع بشرط الرضا، فإن فسخ أيّة معاملة أو إيقاع بحاجة إلى رضا الطرفين(1)؛ لأنّه تصرف في مال الغير وذمته، إلّا فيما صرّح الشارع بعدم لزوم الرضا كالشفعة، وأمّا إقالة الشفعة فلا دليل على صحتها من دون رضا.

وللمسالك(2) كلام يوهم عدم صحة الإقالة بين المشتري والشفيع، والظاهر أن مراده عدم صحة إبطالهما البيع؛ لعدم كون الشفيع طرفاً في المعاملة، فإنه وإن كان ظاهر كلامه في الشفعة لكن ظاهر دليله في البيع، فإن أراد الأوّل فغير تام، وإن أراد الثاني فهو تام، فراجع.

المسألة العشرون: لو بيع الشقص بالثمن المؤجل

اشارة

ولو بيع الشقص بالثمن المؤجل ثم أخذت الشفعة، فهل على الشفيع أداء الثمن معجلاً أو يجوز له أداؤه مؤجلاً، أو يحق له تأخير الشفعة إلى أن يحين وقت أداء الثمن للبائع؟ فيه أقوال ثلاثة(3):

ص: 215


1- إلّا فيما جعل الشارع له سبباً خاصاً للفسخ كالطلاق، حيث لا يحق للزوجين الفسخ إلّا في موارد خاصة كالتدليس والعيوب (السيد الأستاذ).
2- مسالك الأفهام 12: 338.
3- كشف الرموز 2: 396؛ المهذب البارع 4: 273؛ مسالك الأفهام 12: 338؛ جواهر الكلام 38: 582-583 (37: 386-387 ط ق).

القول الأوّل: ما هو المشهور من لزوم الأخذ بالشفعة فوراً،وأداء الثمن حسب الأجل المقرر بين البائع والمشتري.

القول الثاني: تخيير الشفيع بين الأخذ بالشفعة وأداء ثمنها فوراً، وبين عدم الأخذ بالشفعة إلى حين الأجل المقرر.

القول الثالث: تخيير الشفيع بين الأخذ بالشفعة وأداء ثمنها فوراً، وبين الأخذ بالشفعة فوراً وأداء ثمنها مؤجلاً، وبين تأخير الشفعة إلى حين الأجل.

قال في الشرائع: «إذا اشترى بثمن مؤجل، قال في المبسوط: للشفيع أخذه بالثمن عاجلاً، وله التأخير وأخذه بالثمن في محله، وفي النهاية: يأخذه عاجلاً ويكون الثمن عليه مؤجلاً، ويلزم كفيلاً بالمال إن لم يكن ملياً، وهو أشبه»(1).

ووجه الكفالة في الفقير أنه لو لم يمكنه أداء الثمن أدّاه الكفيل، بخلاف الثري حيث يجبره الحاكم على الأداء فلا حاجة إلى الكفيل.

واستدل للقول الأوّل: بأن دليل الفور يشمل المقام أيضاً، فلا وجه لتأخير الشفعة، وكون الثمن مؤجلاً لا ينافي الفورية.

وأمّا تأجيل الثمن فلأن ظاهر أدلة الشفعة أداء الشفيع الثمن إلى المشتري بمثل ما يؤدّيه المشتري إلى البائع، مع ملاحظة جميع الخصوصيات ككونه ذهباً أو فضة، وكونه مثلياً أو قيمياً، ومن ذلك كونهمعجلاً أو مؤجلاً؛ وذلك لمكان العهد في قوله(علیه السلام): «بالثمن»(2)، فإن الثمن في المقام مؤجل،

ص: 216


1- شرائع الإسلام 4: 785.
2- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 396.

والمعجل ليس كالمؤجل، وكذا قوله(علیه السلام): «ليس للشفيع إلّا الشراء والبيع الأوّل»(1)، وليس بين البائع والمشتري إلّا البيع المؤجل ثمنه.

لكن أشكل صاحب الجواهر(2) على مختار المشهور بإشكالات:

الإشكال الأوّل: إن ما ذهب إليه المشهور هنا منافٍ لما ذهبوا إليه سابقاً من لزوم أداء الثمن أوّلاً ثم تسلم الشقص(3)، خاصة في من يرى أن الثمن جزء مملك أو شرط كاشف.

وفيه تأمل: لأن مصب كلامهم هناك في البيع النقدي وإن لم يصرحوا به، إذ المعاملة تنصرف إلى النقد، كما هو الأصل في المعاملات، وأمّا النسيئة والسلم فلا بدّ من التصريح بهما، فلا منافاة بين الكلامين.

الإشكال الثاني: إن أدلة الشفعة تدل على لزوم دفع الثمن فوراً وهي مطلقة، من دون التطرق إلى كيفية المعاملة بين البائع والمشتري.

وفيه تأمل: إذ فهنالك فرق بين ثبوت حق الشفعة مطلقاً، بأيّ نحو من الأنحاء وقعت المعاملة، وبين كيفية أداء الثمن حيث لا إطلاق فيها، فقدظهر مما سبق أن قوله(علیه السلام): «أحق بها من غيره بالثمن» للعهد، أي: الثمن الذي كان بين البائع والمشتري مؤجلاً أو معجلاً، ولا إطلاق لكيفية أداء الثمن وأوصافه مع وجود العهد، وكذا في قوله(علیه السلام): «ليس للشفيع إلّا الشراء والبيع الأوّل».

ص: 217


1- تهذيب الأحكام 7: 192؛ وسائل الشيعة 25: 405.
2- جواهر الكلام 38: 584-585 (37: 388-389 ط ق).
3- وإن أشكلنا عليه بلزوم التقابض، فراجع (السيد الأستاذ).

الإشكال الثالث: إن رواية(1) علي بن مهزيار(2) السابقة تدل على الانتظار ثلاثة أيام فقط أو مع مراعاة الطريق لأداء الثمن، وإلّا فللمشتري الحق في إبطال الشفعة.

وفيه تأمل: فإن مقتضى الجمع بين الأدلة تخصيص الرواية بالمعاملة نقداً، فإنها وإن كانت مطلقة لكن الجمع بينها وبين رواية: (فهو أحق بها من غيره بالثمن) الدالة على كيفية أداء الثمن، يقتضي ذلك.

الإشكال الرابع: إن روايات الشفعة تدل على كونها بكيفية واحدة، بينما نتيجة كلام المشهور أن التملك بالشفعة على أنحاء، فتارة يكون ذلك معجلاً وتارة مؤجلاً.

وفيه تأمل: فإن الكيفية واحدة في الصورتين، واختلاف كيفية أداء الثمن لا يجعل أصل الشفعة - وهو حصول النقل والانتقال - بكيفيتين، وإنّما هو تكليف يتوجه للشفيع بعد الأخذ بالشفعة، وعلى فرض ذلك فلامحذور منه عقلاً ولا شرعاً بعد أن يكون ذلك مقتضى الجمع بين الأدلة.

الإشكال الخامس: لو تمّ ما ذكره المشهور - من كون (الثمن) للعهد - فجميع الخصوصيات التي كانت بين البائع والمشتري - من التسليم في مكان معين أو أخذ كفيل أو أداء رهن أو ما أشبه - يلزم مراعاتها بين المشتري والشفيع، ولا يمكن الالتزام بمثل ذلك.

وفيه تأمل: حيث لا مانع من الالتزام بذلك، فلو أخذ البائع رهناً من

ص: 218


1- وهي قوله(علیه السلام): «هو أحق بها من غيره بالثمن».
2- وقد مرّ اعتبارها وإن عبر عنها في الجواهر بالخبر (السيد الأستاذ).

المشتري حُق للمشتري أخذ الرهن من الشفيع، وكذا في سائر الخصوصيات لدلالة (بالثمن) على ذلك، أي: الثمن بخصوصياته.

الإشكال على لزوم أخذ الكفيل

ثم إن صاحب الجواهر(1) أشكل على لزوم أخذ الكفيل بإشكالات:

الإشكال الأوّل: إنّه قام الدليل على ثبوت حق الشفعة وتأخير الثمن فحسب، ولا دليل على لزوم أخذ الكفيل.

وأجيب عنه بأن الكفيل من باب الاستيثاق والضمان للمشتري حيث ينتزع منه ملكه، ولا ضمان على أداء الثمن عند حلول الأجل.

لكنه غير تام؛ فإنه تخصيص من غير مخصص حيث لا ينحصر الاستيثاق في الكفيل، فهنالك طرق أخرى كأخذ الرهن، بالإضافة إلى عدم قيام الدليل على لزومه، كما أنه يمكن حفظ حق المشتري منالضياع بثبوت حقه في الفسخ إن امتنع الشفيع عن أداء الثمن عند الأجل، كما هو الحال في سائر المعاملات.

الإشكال الثاني: ما مرّ في روايات الشفعة من أنّها جعلت إرفاقاً بالشفيع، ودفعاً للضرر عنه، فإجباره على الكفيل منافٍ لهما، خاصة إذا لم يجد من يكفله.

وفيه تأمل: فإنه أخص من المدعى، بالإضافة إلى لزوم مراعاة الإرفاق بالمشتري أيضاً، مضافاً إلى أنها حكمة لا علة ليدور مدارها الحكم.

ص: 219


1- جواهر الكلام 38: 585 (37: 388-389 ط ق).

الإشكال الثالث: إن الشفعة خلاف الأصل، والقدر المتيقن منه أداء الثمن حالاً، وأمّا مؤجلاً مع الكفالة فليس من القدر المتيقن فلا يشمله الدليل.

وفيه تأمل: لما مرّ من جريان إطلاقات أدلة الشفعة فلا مجال للأصل الأوّلي.

الإشكال الرابع: إنّه لا وجه لحصر الأمر في أداء الثمن مؤجلاً مع الكفالة كما ذهب إليه المشهور، وإنّما يحق للشفيع تعجيل الثمن من دون الكفالة. ولا يصح قياس المقام بالسلم والنسيئة والدين، حيث يمنع التعجيل مع عدم قبول الآخر؛ لأنها معاملة بين اثنين مع وجود أجل معين، وهنا إيقاع يؤخذ قهراً ولا أجل بين الشفيع والمشتري، وإنّما الأجل بين البائع والمشتري.وفيه تأمل: لما مرّ من العهد في قوله: (بالثمن) فلا بدّ من مراعاة الخصوصيات، بالإضافة إلى أن الشفعة وإن كانت إيقاعاّ إلّا أنها مبنية على المعاملة الأولى، فلا يحق للشفيع إجبار المشتري على استلام الثمن فوراً، خاصة فيما لو كان ضرراً عليه، كما لو كان وقت أخذ الضرائب منه، فإن الحق بينهما ولا يجوز لأحدهما إجبار الآخر على القبول في غير الأجل المحدد، كما في النسيئة والسف والدين المؤجل. نعم، لو كان الحق من طرف واحد - كالدية - أمكنه الإسقاط سواء قبل الجاني أم لا.

والحاصل: إن الشفعة في المقام فورية بناءً على تمامية أدلة الفور، والثمن بحسب الأجل، ولا لزوم للكفيل.

القول الثاني: ما اختاره في المبسوط(1) من أن الشفيع مخيّر بين الأخذ

ص: 220


1- المبسوط 3: 112؛ الخلاف 3: 434.

بالشفعة وأداء الثمن فوراً، أو يؤخرهما إلى حين الأجل.

واستدل(1) له باختلاف الذمم، وأن التأخير لا ينافي الفور؛ لمكان الغرض العقلائي.

والمراد باختلاف الذمم هو عدم لزوم اتحاد ما في الذمم المتعددة، فلو اقترض ديناراً بأجل فقد ثبت في ذمته الدينار مؤجلاً، فلو اشترى به خبزاً فقد ثبت في ذمته الدينار معجلاً، ففي ذمته أداء الدينار لهذا مؤجلاًولذاك معجلاً، ولا تنافي بينهما، وكذلك لو اشترى نسيئة بسنة ثم باعه نسيئة بسنيتن، وعليه لا يلزم تطابق الذمم، ففي المقام: الثابت بين البائع والمشتري معاملة مؤجلة الثمن، وبين المشتري والشفيع المعاملة(2) نقداً، فذمة المشتري مشغولة للبائع نسيئة، وذمة الشفيع مشغولة للمشتري نقداً، ولا محذور فيه، فإن اختلاف الذمم سبب لعدم لزوم اتحاد الذمة الثانية بالذمة الأولى.

ويرد عليه إشكالات:

الإشكال الأوّل: إن اختلاف الذمم لا يوجب تخصيص أدلة الفور، فلا منافاة بين الدليلين حتى تلاحظ النسبة بينهما، كما أن العذر العقلائي للتأخير لا يوجب رفع اليد عن الدليل، إلّا إذا تبين عدم الإطلاق أو سبب الانصراف. وإنّما يمضى عمل العقلاء فيما لم يدل نص على خلاف عملهم، وإلّا فلا؛ فإن عملهم لا يخصص العام، كما هو الحال في تعاطيهم

ص: 221


1- الخلاف 3: 434؛ مسالك الأفهام 12: 339.
2- بالمعنى الأعم.

بالربا وإجراء المعاملات المجهولة.

وفي المقام: إن لم يدل الدليل على الفور لكان تأخير العقلاء لوجود العذر ممضى من قبل الشارع، لكن لو قيل بتمامية دليل الفور لا يبقى موضوع لإمضاء عمل العقلاء.

الإشكال الثاني: إنه إلزام للشفيع بزيادة لا موجب لها، فإنالمشتري اشترى الشقص بثمن مؤجل، والشفيع يؤدّي الثمن معجلاً، فيأخذ المشتري الثمن بلا موجب ولا دليل عليه.

وأمّا القول الثالث فيُعلم دليله والإشكال عليه مما سبق.

المسألة الواحدة والعشرون: في توريث الشفعة

اشارة

في توريث الشفعة قولان:

قال في الشرائع: «قال المفيد والمرتضى(1) قدس اللّه روحهما: الشفعة تورث، وقال الشيخ(2) رحمه اللّه: لا تورث تعويلاً على رواية طلحة بن زيد وهو بتري، والأوّل أشبه تمسكاً بعموم الآية»(3).

ولا يخفى أن للشيخ فتويين في المسألة: ما ذُكر هنا، وما ذكره في بيع الخلاف(4) من أنها تورث، وهو المشهور، بل كاد أن يكون إجماعاً(5).

ص: 222


1- المقنعة: 619؛ الانتصار: 451.
2- النهاية: 425؛ الخلاف 3: 436.
3- شرائع الإسلام 4: 785.
4- الخلاف 3: 27.
5- جواهر الكلام 38: 589 (37: 391 ط ق).

واستدل للقول الأوّل - بالإرث - بأدلّة(1):

الدليل الأوّل: عمومات أدلة الإرث، كقوله تعالى: {إِن

تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ}(2)، وما تركه الميت لا يختص بالأعيان، بل يشمل الحقوقوما في ذمة الناس وغير ذلك؛ لأنها تركة بالمعنى الحقيقي، ولذا اتفق الفقهاء على توارث الخيارات مع أنّها من الحقوق، وكذلك حق القذف وما أشبه، فكل حق للميت يورث.

وعليه لا وجه لما ذكره المحقق الأردبيلي(3) من كون ظاهر الآية الأموال فلا تشمل حق الشفعة؛ لأن المال أحد مصاديق (ما ترك)، والحق مصداق آخر له، كما يشمله (خيراً) أيضاً، وبعد شمول اللفظ له عرفاً لا وجه لعدم التوارث، بالإضافة إلى فهم الفقهاء في سائر الموارد.

الدليل الثاني: ما في المسالك عن النبي|: «ما ترك الميت من حق فلوارثه»(4).

ولا إشكال في دلالتها، فهي إمّا نص على المطلوب أو في أعلى درجات الظهور، لكن الإشكال في إرسالها ففي هامش المسالك: «لم نجد بهذا اللفظ في الجوامع الحديثية للعامة والخاصة»(5)، فيحتمل حصول الاشتباه

ص: 223


1- جامع المقاصد 6: 447؛ مسالك الأفهام 12: 341؛ جواهر الكلام 38: 589 (37: 391 ط ق).
2- سورة البقرة، الآية: 180.
3- مجمع الفائدة والبرهان 9: 12.
4- مسالك الأفهام 12: 341.
5- مسالك الأفهام 12: 341، هامش رقم: (4).

عند الشهيد، أو الاشتباه في بعض نسخ المجاميع التي كانت بيده، كما يحتمل عدم الاشتباه وإنّما وردت في أحد المجاميع الروائية التي وصلت إليه، ثم فقدت كمدينة العلم.وأمّا جبرها بعمل المشهور فإن اكتفينا بتطابقها مع فتواهم فيتم، وإن اشترطنا استنادهم إليها فلم يستند إليها أحد قبل الشهيد. نعم، مضمونها مطابق لفتوى المشهور، وفي كفايته لجبر الضعف نظر، وبحثه في محله.

الدليل الثالث(1): إن الشفعة حق يتوارث عرفاً، ولم يردع عنه الشارع فهو إمضاء.

لكنه بحاجة إلى مزيد من التأمل، فلا بدّ من كون الفعل معاملة حتى يشمله الدليل الشرعي ك- : {أَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ}(2)، و{تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ}(3) فيؤخذ موضوعه من العرف، وذلك جارٍ في العقود والإيقاعات، أمّا الإرث فليس عقداً ولا إيقاعاً، بل هو حكم، ولا دليل على إمضاء الشارع لما يراه العرف من الأحكام.

والحاصل: إن كان مراد هذا الدليل أنه حق تركه الميت فتشمله أدلة الإرث فهو رجوع إلى الدليل الأوّل، وإن كان المراد إمضاء الشارع له لأنّه يتوارث عرفاً ففيه إشكال.

ص: 224


1- مفاتيح الشرائع 3: 82؛ الأنوار اللوامع 11: 489؛ تحرير المجلة 3: 191.
2- سورة البقرة، الآية: 275.
3- سورة النساء، الآية: 29.

واستدل للقول الثاني بعدة أدلة(1):

الدليل الأوّل: موثقة طلحة بن زيد(2) عن أمير المؤمنين(علیه السلام): «لا تورث الشفعة»(3).

ولا إشكال في السند والدلالة، أمّا الدلالة فواضحة، وأمّا السند فإنّه وإن كان طلحة عامياً: «إلّا أن كتابه معتمد» كما قال الشيخ الطوسي(4)، وهو دليل الوثاقة لا أقل من الحسن؛ للزوم صدق اللهجة في الاعتبار بغض النظر عن المذهب.

لكن المشهور شهرة عظيمة أعرضوا عنها(5)، بل كاد أن يكون إجماعاً، بل الشيخ بنفسه أفتى بخلافها في الخلاف(6)، فلا يمكن التمسك بها.

ووجهها بعض الفقهاء(7) بأن النفي المذكور في الرواية غالبي؛ لفوات الفور المشترط في الشفعة حين تقسيم الإرث، والذي يرافقه غالباً الكلام والمناقشة، بل النزاع عادة، فالمقصود عدم الإرث لفوت الفور.لكنه توجيه ضعيف، فإن ظهورها في عدم قابلية الشفعة للإرث واضح.

ص: 225


1- مسالك الأفهام 12: 341.
2- الشيخ الطوسي بإسناده عن ابن محبوب، عن محمّد بن يحيى الخثعمي، عن طلحة بن زيد، عن جعفر، عن أبيه، عن علي^... .
3- تهذيب الأحكام 7: 167؛ وسائل الشيعة 25: 407.
4- الفهرست: 149.
5- مفتاح الكرامة 18: 704.
6- الخلاف 3: 27.
7- مفتاح الكرامة 18: 705.

كما أن حملها على التقية(1) لكون مفادها مطابق لمذهب بعض العامة والرواي منهم ضعيف أيضاً؛ لأن الحمل على التقية إنّما هو في صورة تعارض الأخبار ولا معارض في المقام، ولذا تمسك المشهور بالعمومات، ومجرد مطابقة الرواية مع مذهب العامة لا يوجب حملها على التقية، فإن الكثير من الأحكام الشرعية متطابقة، فراجع التعادل والتراجيح.

الدليل الثاني: إن ملك الوارث متأخر عن الشراء فلا يستحق الشفعة، وقد مرّ سابقاً أنه لا بدّ وأن يكون الشفيع مالكاً حين المعاملة.

وفيه نظر: لأنّه ليس الكلام في تولّد حق الشفعة للوارث بالملك، وإنّما بالتوارث ممن له حق الشفعة، فليس الملك سبباً للشفعة وإنّما حق المورث انتقل إليه.

وهنا فروع:

الفرع الأوّل: في اختلاف الوارث والمورث في الاعتقاد بها

مثل أن يرى المورث عدم الشفعة، ويراها الوارث أو بالعكس، كما في الشركاء، أو ما لا يقبل القسمة، لاختلاف الاجتهاد والتقليد أو لاختلاف المذهب والدين، فهنا حالات مختلفة:منها: ما لو كان الوارث والمورّث من المخالفين أو الكفار فحكم الشفعة تابع لما يرونه، وذلك لقاعدة الإلزام.

ومنها: ما لو كان المشتري مسلماً والشفيع وورثته كفاراً، فإن لم يرَ

ص: 226


1- مفتاح الكرامة 18: 705.

المسلم الشفعة وهم يرونها فلا شفعة لهم؛ لما سبق من أن قاعدة الإلزام لا تلزم المسلم بما يراه الكافر أو المخالف، إلّا فيما لو ألزم الكافر أو المخالف بشيء وترتب عليه أثر، حيث يمكن للمسلم العمل بذلك الأثر، كما لو طلق زوجته ثلاثاً حيث يلزم بالانفصال، ويترتب عليه الأثر للمسلم من جواز التزويج بها، وهو نتيجة الحكم بالإلزام.

ومنها: العكس بأن لم يكن في دينهم الشفعة، وأرادوا العمل بديننا فلا بدّ من ملاحظة أدلة الإلزام وأنّها عزيمة أم رخصة، فإن دلّت على العزيمة ألزم بدينه شاء أم أبى، وإن دلت على الرخصة فله خياران، والمسألة مشكلة، فلا بدّ من مزيد التحقيق والتأمل في معنى (ألزموهم) فإن كان معناه إلزام الكافر بدينه الذي يعتقد به، سواء أراد العمل به أم لا، فيكون عزيمة، وإن كان معناه إلزام الكافر بما يريد العمل به فهو رخصة، وخاصة فيما لو كان راغباً للعمل بالحق.

والحاصل: يكون الإلزام حاكماً على سائر الأدلة مع كونه عزيمة، وأمّا لو كان رخصة أمكن جريان سائر الأدلة في المقام من دون الإلزام.

الفرع الثاني: في إرث الزوجة من شفعة الأرض

لو كان المبيع أرضاً فهل ترث الزوجة حق الشفعة؟ فيه قولان:

القول الأوّل: عدم الإرث؛ لأنها لا ترث من العقار، فكيف ترث من الفرع دون الأصل؟ خصوصاً مع ملاحظة حكمة منعها من الأرض الواردة في الروايات من أنها: «إنّما جعل للمرأة قيمة الخشب والطوب لئلّا تتزوج فتدخل عليهم من يفسد مواريثهم»(1)، فمع ثبوت حق الشفعة لها يكون

ص: 227


1- من لا يحضره الفقيه 4: 348؛ وسائل الشيعة 26: 209.

ذلك نقضاً للحكمة المذكورة.

وفيه: أنه استحسان لا يمكن تخصيص أدلة الإرث العامة به، فإنّه لا مانع من ثبوت الحق مع عدم الملك، كما في جعل الخيار للأجنبي فإنه لو فسخ لم يملك شيئاً، وإنّما الملك للمتعاقدين.

القول الثاني: إرثها لحق الشفعة؛ لإطلاق أدلتها، وعليه فإن أخذت بالشفعة ففي ملكيتها احتمالان:

الاحتمال الأوّل(1)- وهو الأصح - : إنها تملك، فإن الزوجة تمنع من الإرث وليس هذا إرثاً، فإن الشقص لا ينتقل إلى الميت ثم إلى الورثة حتى يقال: إنها لا ترث من الأرض، بل إلى الورثة رأساً فتملكه؛ لأنّه استملاك بالشفعة لا بالإرث.الاحتمال الثاني(2): إنّها لا تملك؛ وذلك لأن الحصة تنتقل إلى الميت آناً ما ومنه إلى الورثة، والزوجة تمنع من الأرض، فإنّها وإن كان لها حق الشفعة لكن لا تملك بعد الأخذ بها.

ويرد عليه: أوّلاً: أن الميت لا يملك لا بالاعتبار الشرعي ولا بالاعتبار العقلائي. نعم، قد يعتبره الشارع مالكاً لغرض، لكنه بحاجة إلى نص خاص، أو كان مقتضى الجمع بين الأدلة، وكلاهما مفقود في المقام.

وثانياً: استلزامه المحذور في بعض الصور، كما لو أخذت الزوجة بالشفعة دون سائر الورثة، فالأرض تصبح معلّقة لا تملكها الزوجة؛ لأنها لا

ص: 228


1- قواعد الأحكام 2: 258؛ الدروس الشرعية 3: 374؛ جامع المقاصد 6: 448.
2- مفتاح الكرامة 18: 705.

ترث العقار ولا يملكها سائر الورثة؛ لأنهم لم يأخذوا بالشفعة.

لكن يمكن لهذا القائل أن يجيب بأن الورثة يملكون ما أخذته الزوجة بالشفعة، حيث إنه يرجع إلى الميت آناً ما ومنه إلى ورثته.

ثم بناءً على عدم ملكية الزوجة، فلو أخذ الآخرون بالشفعة وصل الشقص إلى الميت ومنه إلى الورثة ويؤدى ثمنه من التركة وحينئذٍ تحرم الزوجة من الشقص ومن ثمنه من التركة.

الفرع الثالث: كيفية تقسيم الشقص على الورثة

حق الورثة في الشفعة هل يحسب على النصيب أو الرؤوس؟

مقتضى كون الحقوق كالأموال أن يقسّم مثله فكل واحد يأخذ نصيبه،فإن الشارع حكم بالسدس للأب إن كان ولد - مثلاً - ، ولا فرق في ذلك بين المال والحق، وعليه يكون للأب سدس حق الشفعة، ثم إن ذلك يقتضي بالملازمة العرفية ملكيته سدس الشقص، فإن سدس الحق ملازم عرفاً لسدس متعلّق الحق.

وإن أبيت عن ذلك فلا بدّ من تقسيم الشقص بالسوية، أو يرجع أمره إلى الحاكم الشرعي فيقسّمه كيف شاء.

الفرع الرابع: لو عفا أحد الوراث عن نصيبه

قال في الشرائع: «ولو عفا أحد الوراث عن نصيبه لم يسقط، وكان لمن لم يعفُ أن يأخذ الجميع، وفيه تردد ضعيف»(1).

ص: 229


1- شرائع الإسلام 4: 785.

فلو تعدد وراث الشفعة فإن أخذ الجميع بالشفعة أو تركها الجميع فلا كلام، وإنّما الكلام في عفو بعض دون بعض، وفيه حكمان:

الأوّل: عدم سقوط حق الشفعة مع عفو بعض الوراث.

الثاني: مَن لم يعفُ من الورثة يحق له أخذ كل الشقص.

أمّا الحكم الأوّل: فلإطلاق دليل الشفعة ودليل الإرث الشامل للمقام.

إن قلت: إن الحق واحد فكيف يقبل التبعض؟ فلو تمّ إسقاطه سقط كله وإلّا ثبت كله، فإنه بسيط لا يقبل التقسيم، كما هو الحال في بعض الحقوق كالقذف، حيث لا يمكن لذي الحق مطالبة إجراء نصف الحد،وكذا لورثته.

قلت: إن الحق وإن كان واحداً إلّا أنه قد يتعدد بتعدد الورثة وينقسم حسب السهام، ولا إشكال فيه عقلاً، ويقتضيه إطلاق الأدلة أيضاً، ولا دليل على عدم قبوله لذلك، مثله مثل المال، فإن الملكية وإن كانت واحدة إلّا أنها تتعدد بتعدد الورثة، وذلك باعتبار المعتبر، وكذلك الشفعة الواحدة، فدعوى كونها حقاً واحداً غير قابل للتقسيم بلا وجه، بل إطلاق أدلة الشفعة يدل على قابليتها للتقسيم. هذا أوّلاً.

وثانياً: على فرض كونها حقاً واحداً، إلّا أن من يمكنه الاستيفاء متعدد، أي: إن الحق الواحد يملكه أكثر من واحد وهو ممكن؛ لأنّه أمر اعتباري، ولا دليل على إلزامه بإعمال الحق كله، بل الحق الواحد يمكن الأخذ به في بعض الشقص دون بعضه.

وقد مرّ الكلام في نظيره، ومحذوره بتبعض حق المشتري مدفوع بتولد حق الخيار له، فللورثة حق واحد يُعمله كل واحد بقدر سهمه من دون

ص: 230

وجود محذور عقلي، بل إطلاق دليل الشفعة والإرث شامل له. كما هو الحال في حق الزوجة في القسم، فهو وإن كان حقاً واحداً إلّا أنه ذو أجزاء، فيمكن للزوجة أن تهب نصف متعلّق الحق.

وأمّا الحكم الثاني: فهل لمن لم يعفُ أن يأخذ الجميع؟

فيه خلاف، وقد مضى شبهه سابقاً في الشركاء، وقد ذهب فيالشرائع(1) إلى أن الوارث الذي لم يعفُ يأخذ نصيب من عفا، لكن في التذكرة(2) أن حق العافي للمشتري والوارث يأخذ بمقدار نصيبه من الشفعة فقط.

واستدل للأوّل: بأن عفوه إنّما يسقط استحقاق نفسه لا الشفعة عن مقدار حقه، لما عرفت من عدم تبعض الصفقة، فإن الشفعة غير قابلة للتبعيض، فلو أسقط أحد الورثة عن نفسه لم يسقط عن الآخر، فله أن يأخذ الجميع.

وحتى بناءً على تعدد الشفعة فإن مصدر الشفعة في المقام هو الميت، فهو حق واحد انتقل إلى الورثة، فلو عفا أحدهم لم تسقط؛ لأنها ليست إلّا شفعة واحدة وإن تكثر المستحق لها، وحاصله: إن مَن يسقط حقه إنّما أسقط حقه في الشفعة لا متعلّق حقه؛ لأن الشفعة واحدة.

ويظهر ضعفه مما سبق، فإن الشفعة الموروثة قابلة للتبعيض لإطلاق أدلة الشفعة والإرث، بمعنى تعدد الشفعة أو تقسيم الشفعة الواحدة، كما لا دليل على أن سهم العافي يضاف إلى سائر الورثة.

ثم إنّه لو أخذ بعض الورثة بالشفعة دون بعض فبناءً على المختار أخذ

ص: 231


1- شرائع الإسلام 4: 785.
2- تذكرة الفقهاء 12: 285.

الآخذ بقدر نصيبه، ويحق للمشتري الفسخ بخيار تبعضالصفقة.

إن قلت: الوارث العافي عن حقه سبب سقوط حق غيره؛ إذ بخيار تبعّض الصفقة يسقط حق سائر الورثة.

قلت: إنّه مقتضى الجمع بين الأدلة: دليل أخذ الشفعة بمقدار حقه ودليل خيار التبعّض، ونظيره لو أعتق سهمه من العبد أعتق العبد كاملاً، حيث إن عتق سهمه سبب لعتق سهام الآخرين.

واستدل للثاني(1): بأن الورثة لو عفوا كان الشقص للمشتري، فكذا إذا عفا أحدهم، بخلاف حد القذف فإنه وضع للزجر، فللّه تعالى فيه حق، فأمره يدور بين أخذه أو تركه جميعاً.

وهو تام لما قلناه من كونه مقتضى الجمع بين الأدلة. نعم، ما ذكره في القذف، محل تأمل.

الفرع الخامس: لو عفا أحد الورثة عن حقه ومات الآخر

لو عفا أحد الوارثين - مثلاً - عن حقه في الشفعة الموروثة، ثم مات الوارث الآخر، وورثه الأوّل كان له الأخذ بالشفعة من سهمه؛ لأنّه إنّما عفا عن سهم نفسه لا عن سهم الآخر، فهنالك حقان عفا الأوّل عن حقه، وليس معناه عفوه عن الثاني فيما لو ورثه.ويجري الخلاف السابق في أن له الحق في أخذ الكل بناءً على ما اختاره المحقق، أو أخذ سهم الوارث الميت فقط بناءً على مختار العلامة.

ص: 232


1- تذكرة الفقهاء 12: 285-286؛ جواهر الكلام 38: 596 (37: 396 ط ق).

ويجري نظير ذلك في القصاص أيضاً، فيما لو عفا الوارث الأوّل ثم مات الوارث الثاني وورثه الأوّل، حيث له حق القصاص؛ لأنّه عفا عن حصته لا عن حصة الثاني.

الفرع السادس: لو عفا عن حقه وعن الحق الذي سيرثه

لو عفا عن حقه وعن كل شفعة يرثها مستقبلاً، كما لو كان الأخ الثاني في فراش الموت فقال الأوّل: عفوت عن حقي وعن الحق الذي سأرثه، سقط حقه في نفسه دون الحق الذي سيرثه؛ لأنّه من إسقاط ما لم يجب وهو باطل، إلّا فيما دل الدليل عليه، كبراءة الطبيب.

ثم إن هنالك فروعاً في إرث الشفعة ذكرها العلامة في القواعد(1) وشرحها مفصلاً في مفتاح الكرامة(2)، ومنها:

لو لم يكن للميت وارث ورث الإمام شفعته، وليس ذلك حكماً ولائياً، بل حسب الإرث بمقتضى القواعد الشرعية.

ولو ماتت المرأة ولا وارث لها غير الزوج ورث نصفها بالفرض ونصفهابالرد.

ولو مات الزوج ولا وارث له غير الزوجة ورثت الزوجة ربعها بالفرض والباقي للإمام.

المسألة الثانية والعشرون: حال المفلس في الشفعة

اشارة

حال المفلس حال غيره في الشفعة يأخذ ويؤخذ منه.

ص: 233


1- قواعد الأحكام 2: 258-259.
2- مفتاح الكرامة 18: 708-712.

فللمفلس حق الشفعة لإطلاقات أدلتها، إلّا أنه محجور عليه، فلا يمكنه إعمال حقه بالأخذ بالشفعة وإن كان مالكاً؛ لأنّه نوع من التصرف في ماله، ويجب على الحاكم الأخذ بالشفعة إن كان بمصلحة الديان، كما لو باع الشريك سهمه بأقل من قيمته. وإنّما كان ذلك واجباً لأن الحاكم إنّما وضع لمصلحة المسلمين، فعليه مراعاة مصلحة الديان.

كما يحق لشريك المفلس الأخذ بالشفعة، فيما لو باع الحاكم سهم المفلس لأداء دينه؛ لإطلاقات أدلتها.

ويجري ذلك في كل مورد باع الحاكم شيئاً، كما في الجناية، حيث لا يؤدّي الجاني الدية فيقوم الحاكم ببيع أرضه المشتركة - مثلاً - لأداء دية جنايته، فلا فرق في الشفعة بين أن يكون البائع المالك أو الولي أو الحاكم أو غيرهم.

فرع: لو مات المفلس فباع شريكه شقصه

لو مات المفلس ثم باع شريكه سهمه فلمَن تكون الشفعة؟وللإجابة على السؤال لا بدّ من ملاحظة المبنى في تركة المفلس فهنالك قولان:

الأوّل: إن التركة تنتقل إلى الورثة.

الثاني: إنها تبقى في ملك الميت اعتباراً ولا محذور فيه إلّا اللغوية المنتفية في المقام؛ لمكان الغرض العقلائي فيه، وهو الانتقال إلى الديان من الميت.

وتظهر الثمرة في العين، فعلى الأوّل هي للورثة وعليهم أداء ديون الميت

ص: 234

من العين أو القيمة، وعلى الثاني فإن الحاكم الشرعي يبيع العين لأداء الديون.

وقد يشكل على ثبوت الشفعة للميت، وعلى فرض ثبوتها لا تنتقل إلى الورثة(1).

ولعلّ دليل الأوّل: الانصراف، فإن أدلة الشفعة تنصرف إلى الشريك الحي، ثم أشكل عليه بعدمه، حيث لا فرق بين الحي والميت في ذلك إلّا الغلبة، ومثله لا يسبب الانصراف، فإن قلة الوجود إذا كان منشأً للانصراف فهو بدوي يزول بالتأمل، بالإضافة إلى موارد كثيرة ثبتت ملكية الميت فيها، كما لو لم تقسّم التركة بعد، حيث يبقى الميت مالكاً إلى حين التقسيم؛ ولذا لو مات مسلم وكان من بين الورثة كافر فإن قسّمالإرث ثم أسلم لم يرث، وإن أسلم قبل التقسيم ورث؛ وذلك لأن التركة قبل التقسيم ملك للميت، وأمّا لو كان للميت وارثان، أحدهما كافر ثم أسلم لم يرث شيئاً؛ لأنّه بمجرد الموت تصل التركة إلى المسلم حيث لا قسمة، بخلاف ما لو كانوا ثلاثة، مسلمان وكافر فإن الكافر لو أسلم قبل التقسيم ورث.

وفي ما نحن فيه التركة للميت وله حق الشفعة لإطلاقات أدلتها من غير انصراف.

ولعل دليل الثاني: إن ما يملكه الميت بعد موته لا يرثه الوارث، كما لو جُني عليه بعد الموت بقطع رأسه فإن الدية للحاكم.

ص: 235


1- الفقه 79: 315.

لكن الإطلاقات لا تفرق في الملك بين كون الميت مالكاً قبل الموت أو بعده، وهو الأقرب، والمثال المذكور إنّما هو للنص الخاص.

ثم إنّه استدل في مفتاح الكرامة(1) على انتقال تركة المفلس إلى ورثته بثبوت آثار الملك لهم من موارد مختلفة، كما لو اختلف الديان فإن مرجعهم الورثة، فإن لم يرثوا شيئاً لم يكن وجه لذلك، بل كان المرجع الحاكم، والوارث كالأجنبي.

وكما لو ادعى الوارث وجود دائن آخر وأنكره سائر الديان، حيث يقبل قوله مع شاهد ويمين، ولو كان أجنبياً لم يكن وجه لذلك.وفي المصداقين المذكورين كلام، لكن أصل المطلب - وهو ملكية الوارث - تام.

فالمتحصل: إن الميت يملك حق الشفعة ومنه يصل إلى الورثة.

المسألة الثالثة والعشرون: في وصية المشتري بالشقص

اشارة

قال العلامة في القواعد: «ولو اشترى شقصاً مشفوعاً ووصى به ثم مات فللشفيع أخذه بالشفعة لسبق حقه، ويدفع الثمن إلى الورثة، وبطلت الوصية؛ لتعلقها بالعين لا البدل»(2).

فلو اشترى شقصاً وأوصى به، ثم مات كان حق الشفيع أسبق من الوصية، كما مرّ نظيره فيما لو اشترى ثم باع أو وقف حيث يبطل بيعه ووقفه بأخذ الشفيع بحقه، وكذلك الوصية، وحيث بطلت الوصية فعلى الشفيع أن يأخذ

ص: 236


1- مفتاح الكرامة 38: 712.
2- قواعد الأحكام 2: 259.

الشقص من الورثة ويدفع الثمن إليهم ليقسّم بينهم تقسيم الإرث.

ويمكن أن يقال: إنه وإن كان حق الشفعة أسبق فلا تنفذ الوصية في عين المال، لكن الملاك في رجوع الثمن إلى الورثة أو صرفه في مورد الوصية هو ارتكاز الموصي، كما هو الحال في النذر وأمثاله، حيث قد يكون الارتكاز على الأعم وتعيين الفرد باعتبار كونه أحد المصاديق.

ومع الشك في الارتكاز تستصحب ملكية الورثة، فإن الوصية حيث لمتنفذ في الأصل - أي: العين - فلا يعلم نفوذها في الفرع - أي: الثمن - .

ولو أشكل بأنه لا حالة سابقة للثمن فلا مجال للاستصحاب، قلنا الشك في شمول الوصية للثمن فيستصحب العدم، وبعبارة أخرى: إن الثمن ليس متعلّق الوصية فيكون للورثة، وليس ذلك من المثبت فإن لازمه الشرعي ثبوته للورثة لا العقلي أو العادي.

وهنا فرعان:

الفرع الأوّل: لو أوصى بشقص فباع الشريك

قال في القواعد: «ولو أوصى لإنسان بشقص فباع الشريك بعد الموت قبل القبول استحق الشفعة الورثة، ويحتمل الموصى له إن قلنا: إنه يملك بالموت»(1).

فلو أوصى أحد الشريكين بحصته لزيد، فنفوذها متوقف على قبوله وإلّا بطلت، فإن هذه الوصية هي من العقود، فلو مات الموصي ثم باع الشريك

ص: 237


1- قواعد الأحكام 2: 259.

الثاني حصته ثم قبل الموصى له الوصية، فهل الشفعة للورثة أو الموصى له؟

فيه احتمالان مبنيان على كون القبول كاشفاً أو ناقلاً.

فبناءً على النقل فإن العين تنتقل إلى الورثة، ومنهم إلى الموصى له، فيكون حق الشفعة للورثة، وأمّا الموصى له فتكون ملكيته بعد بيع شريكهفلا شفعة له.

وبناءً على الكشف فإن العين تدخل في ملك الموصى له بمجرد موت الموصي، فيكون حق الشفعة له.

وتظهر الثمرة فيما لو أخذ الورثة بالشفعة حيث يملكون ما باعه الشريك، وأمّا ما أوصاه الميت فهو للموصى له، فيصبح الورثة شركاء له.

وقد ذهب المشهور(1) إلى أن القبول كاشف.

ثم قال في القواعد: «فإذا قبل الوصية استحق المطالبة، لأنا تبينا أن الملك كان له، ولا يستحق المطالبة قبل القبول، ولا الوارث؛ لأنا لا نعلم أن الملك له قبل الرد، ويحتمل مطالبة الوارث؛ لأن الأصل عدم القبول وبقاء الحق»(2).

فلو أوصى بالشقص لزيد - مثلاً - ومات، ثم باع الشريك الآخر حصته، توقف الأمر في صحة الشفعة على القبول أو الرد، وأمّا قبله فالأخذ بالشفعة باطل، سواء أخذ بها الموصى له أم الورثة؛ وذلك لأن المالك مجهول، إذ مع القبول يكون المالك هو الموصى له بناءً على الكشف، ومع الرد تبطل

ص: 238


1- مفتاح الكرامة 18: 714.
2- قواعد الأحكام 2: 259.

الوصية ويكون المالك هو الوارث.

مع احتمال ثبوت حق الشفعة للوارث، فإن ردّ الموصى له صح أخذه،وإن قبل بطل؛ وذلك لأن الأصل عدم القبول، فيحق لهم الأخذ بالشفعة.

ويرد عليه: أوّلاً: في أصل كلامه، فإنه وإن جهل المالك إلّا أنه معلوم واقعاً، والجهل به لا ينافي الأخذ بالشفعة، وليس ذلك من التعليق المبطل للعقود والإيقاعات، بل صورة التعليق، كما لو أجرى معاملة لا يعلم بصحتها ثم تبين توفر الشروط فيها، فليس من شروط صحة المعاملة العلم بصحتها.

وفي المقام: إن أخذ الموصى له بالشفعة ثم قبل الوصية صح، حيث يتبين أنه كان مالكاً واقعاً، وإلّا كان باطلاً، وإن أخذ الورثة بالشفعة ثم رد الموصى له الوصية صحت شفعتهم وإلّا فلا؛ وذلك لأن الأمر مرتبط بالواقع لا العلم.

وثانياً: في فرع كلامه، فإن الاستصحاب الاستقبالي - حيث لا يعلم قبوله في المستقبل فيستصحب ذلك للحال - ليس بحجة؛ لعدم إحراز شمول أدلة الاستصحاب له(1).

بالإضافة إلى كونه مثبتاً، فإن استصحاب عدم قبوله ينفي الملك عنه ليثبته للورثة.وعلى فرض تمامية الاستصحاب إلّا أنه معارض، فالأصل عدم قبوله

ص: 239


1- وفيه تأمل: فليس مقصود العلامة الاستصحاب الاستقبالي، بل العدم الأزلي، حيث لم يقبل فيما مضى ولو قبل الوصية من باب العدم الأزلي (المقرر).

معارض بأصل عدم الرد، ولازم الأوّل ملكية الورثة، ولازم الثاني ملكية الموصى له(1). فكلا الأمرين - قبولاً ورداً - أمران وجوديان، فلو جرى الاستصحاب فيهما تعارضا، فلا يجريان من الأساس.

والحاصل: إن قلنا بكون الملك باقياً في عهدة الميت إلى أن يقرر الموصى له، لم يكن شفعة لأحد لا للوارث ولا للموصى له، لكنه خلاف المشهور بعدم ملكية الميت.

وإن قبل الموصى له الوصية ثبت حقه في الشفعة من حين الموت؛ لأن قبوله كاشف عن ملكيته بمجرد الموت.

وإن رد ثبت حق الورثة في الشفعة من حين الموت، بناءً على الكشف أيضاً.

وأمّا بناءً على النقل فحق الشفعة للورثة، فإن العين تنتقل إلى الورثة بمجرد الموت، فيكون بيع الشريك واقعاً في ملكهم، ولو قبل الموصى له كان قبوله ناقلاً فيصبح مالكاً من حينه.

وتظهر الثمرة في النماء المتخلل، فعلى الكشف يكون النماء للموصىله وعلى النقل للورثة، وأمّا بناءً على ملكية الميت فالنماء يكون له ثم يحتمل أن لا يصير إلى الورثة؛ لأنّه ملكه بعد موته، فلا بدّ من صرفه في شؤون الخير بثوابه.

ص: 240


1- وفيه تأمل: لأن الأثر الشرعي مرتب على القبول، فلو قبل الموصى له الوصية ملك، ولا يترتب أثر شرعي على الرد، فإن ملكية الورثة لا تتوقف على رده وإنّما على موت المورث (المقرر).
الفرع الثاني: في نسيان الموصى له قبول الوصية أو ردها

لو نسي الموصى إليه أنه قبل الوصية أو ردها، أو مات ولم يعلم ذلك - بناءً على عدم توارث هذا الحق - فعمومات دليل الإرث(1) تدل على أن الشفعة للوراث. نعم، خرج منها ما لو قبل الموصى إليه، وأمّا مع عدم العلم بقبوله فهو من الشك في الخاص، ومجراه عموم العام، وليس ذلك من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ وذلك للعلم بدخوله في دائرة العام والشك في تخصيصه، والأصل عدمه.

المسألة الرابعة والعشرون: لو باع الشفيع نصيبه بعد العلم بالشفعة

اشارة

قال في الشرائع: «إذا باع الشفيع نصيبه بعد العلم بالشفعة، قال الشيخ(2): سقطت شفعته؛ لأن الاستحقاق بسبب النصيب، أمّا لو باع قبل العلم لم تسقط؛ لأن الاستحقاق سابق على البيع، ولو قيل: ليس له الأخذفي الصورتين كان حسناً»(3).

إذا باع الشريك حصته وتولد حق الشفعة للآخر، ثم باع الشفيع حصته، فهل يسقط حقه في الشفعة أم لا؟

فيه صور ثلاث:

الصورة الأولى: أن يعلم الشفيع ببيع الشريك، مع القول بفورية الشفعة

ص: 241


1- كقوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ} [سورة البقرة، الآية: 180]، وفي الروايات: «من ترك مالاً فللوارث» [وسائل الشيعة 26: 251].
2- المبسوط 3: 123.
3- شرائع الإسلام 4: 785.

وتحقق شرائط الفور، ثم يبيع الشفيع، وفي هذه الصورة لا شك في سقوط حقه في الشفعة لمنافاة بيعه للفور.

الصورة الثانية: أن يعلم الشفيع ببيع الشريك مع عدم القول بالفور، أو بناءً على القول بالفور لكن لم تتحقق شرائطه، كما لو جهل بالثمن، ثم يبيع الشفيع حصته.

الصورة الثالثة: عدم علم الشفيع ببيع الشريك، فيبيع حصته.

وفي الصورتين الثانية والثالثة أقوال ثلاثة:

القول الأوّل: ما ذهب إليه في الشرائع من سقوط حق الشفيع.

واستدل له بأدلة ثلاث(1):

الدليل الأوّل: إن البيع بعد العلم يؤذن بالإعراض عنها، والإعراض من مسقطات حق الشفعة.ويرد عليه: أوّلاً: إنه اخص من المدعى، فإنه خاص بالصورة الثانية.

ثانياً: إن البيع لا يؤذن بالإعراض عن حق الشفعة، فقد يبيع الشفيع سهمه ومع ذلك يأخذ بالشفعة لغرضٍ، كقلّة ثمن الشقص المباع، ليربح ببيعها بثمنها الحقيقي.

ثالثاً: على فرض كون البيع مشعر بالإعراض لكن لا دليل على أن الإشعار من المسقطات.

الدليل الثاني: إنّما شرعت الشفعة لدفع الضرر عن الشفيع، فمع بيع سهمه تنتفي العلة.

ص: 242


1- جواهر الكلام 38: 600 (37: 398-399 ط ق).

وقد مرّ الجواب عنه بكونه حكمة لا علة، فلا يدور الحكم مداره.

الدليل الثالث: ما ورد في الروايات، ومنها: «لا شفعة إلّا لشريك غير مقاسم»(1) المعتبرة، وقد حصرت الشفعة في الشريك، وفي المقام لا يكون الشفيع شريكاً بعد بيعه؛ لخروجه عن ملكه، والرواية ظاهرة في لزوم وجود الشركة حال الشفعة وإلّا لثبت لغير الشريك.

وفيه نظر: فإن العلة المحدثة كافية في المقام، فإنه حين البيع كان شريكاً، ولا يشترط استمرارها إلى حين الأخذ بالشفعة، ولا دليل علىسقوط الحق الثابت، والغالب كون العلل في الشرع محدثة، فلو تحققت استمر المعلول على نحو تبادل العلل.

وبعبارة أخرى: إن الشركة جزء من سبب حدوث الشفعة، والجزء الآخر (غير مقاسم)، وهما علتا حدوثها لا دوامها، والروايات الواردة إنّما هي في مقام بيان موضوع استحقاق الشفعة لا بيان زمان الأخذ بها.

ومن هذا البيان يظهر دليل القول الثاني والثالث.

القول الثاني: عدم سقوط الشفعة في الصورة الثانية والثالثة، سواء كان عالماً أم جاهلاً، فقد استدل له بثبوت الشفعة بمجرد البيع ولا دليل على سقوطها، وبيعه لحصته ليس دليلاً على سقوطها، فإن سبب الشفعة هو بيع الشريك، وليس من أسبابها استمرار الشراكة، والسبب باقٍ وإن باع الشفيع حصته.

ص: 243


1- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 396.

وبعبارة أخرى: إن المقتضي للشفعة هو المعاملة بين الشريك والمشتري، وهي مستمرة فالشفعة مستمرة، بل ولو فسخا بقيت الشفعة لإطلاق الأدلة، ومعه لا مجال للاستصحاب الذي استند إليه في المسالك(1)، فإن أدلة الشفعة لفظية، ومعها لا تصل النوبة إلى الأصول العملية.نعم، لو شك في الأدلة اللفظية تم ذلك.

وهذا القول تام وهو الأرجح.ويظهر من ذلك دليل القول الثالث وهو التفصيل بين العلم وعدمه، فلو علم ببيع الشريك ثم باع الشفيع سهمه فهو إعراض عن الشفعة ويسقط حقه، وإلّا فلا.

ومن رد دليل القول الأوّل يظهر رده أيضاً، فإن البيع ليس دليل الإعراض، ولو فرض ذلك فليس ذلك مطلقاً.

وهنا فرعان:

الفرع الأوّل: لو نسي الشفيع أنه كان عالماً أو جاهلاً

بناءً على القول بالتفصيل: لو نسي الشفيع أنه كان عالماً أو جاهلاً، أو وقع الخلاف في علمه وجهله بينه وبين المشتري فهنا أصلان: أصل عدم العلم وأصل عدم سقوط حق الشفعة، وإن كان الأوّل مثبتاً إلّا أن الثاني جارٍ بلا محذور.

نعم، لو أقام المشتري البينة على العلم أخذ بها، وأمّا مع عدمها فيؤخذ

ص: 244


1- مسالك الأفهام 12: 344.

بقول الشفيع مع يمينه، ولو ادعى الجهل أو مات ووراثه جاهل حلف على عدم العلم.

الفرع الثاني: لو باع الشريك بخيار

لو باع الشريك بخيار، فالمشهور(1) أنّه يدخل في ملك المشتريمتزلزلاً(2)، فيكون للشفيع حق الشفعة، ثم لو باع الشفيع حصته وأخذ بالشفعة انتقلت حصة المشتري إلى الشفيع، فإن فسخ البائع رجعت الحصة إليه.

ولو أسقط الشفيع حقه في الشفعة تولّد للمشتري الأوّل حق الشفعة بالنسبة إلى المشتري من الشفيع.

فلو أسقط الشفيع حقه في الشفعة وأخذ المشتري الأوّل بالشفعة من المشتري الثاني، ثم فسخ البائع لم يكن للبائع حق الشفعة؛ وذلك لأنّه حين بيع الشفيع لم يكن شريكاً مالكاً، بل كان له مجرد حق الفسخ، فلا يحق له الأخذ بالشفعة من مشتري الشفيع.

المسألة الخامسة والعشرون: فيما لو باع شقصاً في مرض الموت

قال في الشرائع: «لو باع شقصاً في مرض الموت من وارث وحابى فيه، فإن خرج من الثلث صح، وكان للشريك أخذه بالشفعة، وإن لم يخرج صح

ص: 245


1- تحرير الأحكام 4: 590؛ جامع المقاصد 6: 359؛ مسالك الأفهام 12: 345؛ مفتاح الكرامة 18: 447؛ جواهر الكلام 38: 603 (37: 400-401 ط ق).
2- وهنالك قولان آخران: الأوّل: إنه يبقى في ملك البائع ما دام الخيار، والثاني: إنه يبقى في ملك البائع إن كان الخيار له، وإن كان الخيار للمشتري فيخرج من ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري، بل يظل عالقاً، وقد مضى تفصيل الأقوال (السيد الأستاذ).

منه ما قابل الثمن، وما يحتمله الثلث من المحاباة إن لم تجز الورثة، وقيل: يمضي في الجميع من الأصل، ويأخذه الشفيع بناءًعلى أن منجزات المريض ماضية من الأصل»(1).

ولا بدّ من بحث أصل المسألة في كتابي الإرث والوصية، وإنّما نذكر هنا ما يرتبط بالشفعة، وحاصلها: إنه لو مرض ومات في مرضه، ففي صحة جميع تصرفاته المالية أو صحتها إلى الثلث خلاف.

وفي ما نحن فيه: لو باع حصته من مال الشركة بقيمتها صح ولا إشكال فيه؛ لأنّه وإن أعطى العين في مرض موته لكنه أخذ الثمن، وكذلك لو باع كل ما يملك حيث لا يضر الورثة شيئاً.

لكن لو باع حصته محاباة، أي: أقل من قيمتها، فمع القول بكون منجزات المريض من أصل ماله صح ولا كلام فيه، وللشريك حق الشفعة، وإنّما الكلام فيما لو قلنا بكون منجزات المريض إلى حد الثلث. فلو باع حصته من الأرض التي سعرها ألف دينار بنصفه، فلا إشكال في نصف ما باعه؛ لأنّه قبض ثمنه، فيكون نصف المبيع مقابل الثمن، وأمّا النصف الثاني - حيث أعطي مجاناً - فهو نافذ إلى حد ثلثه من التركة، فإن كان بمقدار الثلث أو أقل منه صح كل البيع؛ لأنّه أخذ ثمن نصف المبيع ونصفه الثاني خرج من ثلثه، وللشفيع حق الشفعة.

وأمّا لو كان النصف الثاني أكثر من الثلث فلو أجاز الورثة فلا كلامفيه،

ص: 246


1- شرائع الإسلام 4: 786.

وأمّا مع عدم إجازتهم فيصح البيع في النصف الثاني بمقدار ثلث كل التركة ويبطل فيما زاد، فلو كان يملك أرضاً بألف دينار فقط فباعها بخمسمائة صح البيع في خمسة أسداسها وبطل في السدس؛ وذلك لأنّه يصح البيع في نصفها - أي: ثلاثة أسداس - حيث أخذ ثمنها، وله حق في ثلث الأرض - أي: سدسان - فالمجموع خمسة أسداس، وللشفيع حق الشفعة حيث لا يلزم في الشفعة بيع كل الحصة؛ لإطلاق أدلتها.

والثمن الذي يؤدّيه الشفيع فيما لو أخذ الخمسة أسداس فيه قولان:

الأوّل: أن عليه أداء كل الثمن، ففي المثال المذكور على الشفيع أداء خمسمائة دينار وإن بطل سدس المعاملة.

الثاني: يقسّم الثمن على المبيع فيعطي الشفيع ثمن خمسة أسداس فقط.

واستدل للقول الأوّل: إن الأصل لزوم البيع، وعلى المتبايعين أداء الكل ثمناً ومثمناً، وقد خرج بالدليل الخاص ما في المقام من عدم نفوذ السدس من جهة البائع، ولا وجه للقول بكون المشتري كذلك، فالأصل تبادل الكل بالكل، فلو استثني مورد بالدليل لا وجه لاستثناء المورد الآخر.

ويظهر ضعفه بما استدل به للقول الثاني: من أن مقتضى البيع مقابلة كل جزء من الثمن بكل جزء من المبيع، وهو أمر عقلائي، ولم يرد منالشارع حكم على خلافه فيكون ممضى، بل قد أيده الشارع في موارد، كما لو باع فتلف نصفه قبل التسليم، فإن للمشتري خيار تبعض الصفقة، أو نقص القيمة بمقدار التلف.

والمقام كذلك، حيث يسلم البائع خمسة أسداس ويستلم بمقداره من

ص: 247

الثمن.

قال في الجواهر: «ثم لا يخفى أنه لا فائدة في تخصيص المصنف الحكم بالوارث إلّا ما قيل: من التنبيه على خلاف العامة في المحاباة معه... لكن كان الأولى أن يقول: (وارث أو غيره) لا الاقتصار عليه خاصة»(1).

وقد يشكل باستلزام ما ذكر الربا أحياناً بناءً على نفوذ منجزات المريض إلى حد الثلث، كما لو باع المريض ألف كيلو حنطة جيدة قيمتها ألف دينار (وهي كل تركته) بألف كيلو حنطة رديئة قيمتها خمسمائة دينار على سبيل المحاباة، حيث أعطى ما قيمته أكثر مقابل ما قيمته أقل، ثم مات، حيث يصح خمسة أسداس المبيع، فإن نصف المعاملة - أي: خمسمائة كيلو من الحنطة الجيدة - يكون مقابل ألف كيلو من الحنطة الردئية لتساويهما في القيمة، وللميت حق الثلث أيضاً، أي: 3/3331 كيلو تقريباً، فيعطى للمشتري 3/8331 كيلو في مقابل ألفكيلو وهو ربا، هذا بناءً على القول المشهور، وكذلك الأمر بناءً على القول الثاني، فإنه على الورثة إعطاء 3/8331 كيلواً للمشتري ويأخذون منه 3/6662 كيلواً.

ولدفع الربا لا بدّ من المطابقة بين العوضين في المقدار مع إيصال قدر العوض والثلث للمشتري، وبعبارة أخرى: لا بدّ من إعطاء المشتري ما قيمته 3/8331، ويعطى له ما قيمته 3/1661، أي: يؤخذ منه ثلث الحنطة الجيدة ويرجع إليه ثلث الحنطة الرديئة، فيتطابق الوزن ويصل للمشتري خمسة أسداس حقه، ولم يتضرر الوارث، حيث لم يؤخذ من التركة أكثر من

ص: 248


1- جواهر الكلام 38: 606-607 (37: 403 ط ق).

الثلث، ويكون للمشتري خيار تبعض الصفقة.

وهنا أورد صاحب المسالك(1) إشكالاً بالدور، وأجاب عنه السيد الوالد بالجبر والمقابلة في الحساب فراجع الفقه(2).

المسألة السادسة والعشرون: فيما لو صالح الشفيع على ترك الشفعة

اشارة

قال في الشرائع: «إذا صالح الشفيع على ترك الشفعة صح وبطلت الشفعة؛ لأنّه حق مالي، فينفذ فيه الصلح»(3).

لا يخفى أن ما ذكر صورة من صور الصلح، وأضاف إليه في الجواهرصورتين(4)، وفي الفقه(5) صورة رابعة وهي:

الصورة الأولى: أن يصالح الشفيع على إسقاط حق الشفعة.

الصورة الثانية: أن يصالحه على إيجاد سبب إسقاط حق الشفعة.

الصورة الثالثة: أن يكون متعلّق الصلح عدم الأخذ بالشفعة، فيكون الحق باقياً لكنه لا يأخذ به.

الصورة الرابعة: أن يكون متعلّق الصلح تصديق معاملات المشتري ولازمه سقوط حق الشفعة، كما لو وقف المشتري ما اشتراه، فيصالح الشفيع على إمضاء ذلك مما يلزم منه سقوط حق الشفعة؛ لتقدمه على الوقف.

ص: 249


1- مسالك الأفهام 12: 346.
2- الفقه 79: 329-330.
3- شرائع الإسلام 4: 786.
4- جواهر الكلام 38: 609 (37: 405 ط ق).
5- الفقه 79: 332.

ويدل على كل ذلك إطلاقات أدلة الصلح.

وأشكل على ذلك بإشكالات(1) مما يلزم منها - إن تمت - بطلان الصلح، وعدم سقوط حق الشفعة.

الإشكال الأوّل: لا يمكن التمسك بإطلاق الحكم لإثبات موضوعه، فإن متعلّق الحكم في مرتبة متقدمة، ولا يمكن للمتأخر مرتبة إثباته، فهو باطل.وفي المقام تمّ التمسك ب-{خَيۡرٞۗ}(2) في الآية، و(جائز)(3) في أحاديث الصلح لإثبات كون الصلح على الشفعة صلحاً، فهو إثبات للموضوع عن طريق إطلاق الحكم، والحكم لا يتكفّل موضوعه.

وفيه نظر: حيث لا يراد ذلك، بل يُتمسك بإطلاق موضوع الصلح الشامل لكل أنواعه، ومن مصاديقه - عرفاً - الصلح على إسقاط حق الشفعة، فيشمله الحكم.

الإشكال الثاني: إن أدلة الصلح مجملة لا إطلاق لها، فلا يمكن التمسك بها لإسقاط حق الشفعة، بل لا بدّ من ملاحظة دليله لكل مورد؛ وذلك لعدم صحة الصلح في موارد كثيرة من دون وجود دليل خاص، مما يكشف عن عدم إطلاق دليله، ومنه الصلح على الطلاق والنكاح والوقف والعتق، حيث لا يصح الصلح عليها من دون إجراء صيغة العقد أو الإيقاع.

وفيه نظر: فإن روايات الصلح مطلقة ومقدمات الحكمة فيها تامة،

ص: 250


1- جواهر الكلام 38: 609 (37: 405 ط ق).
2- سورة النساء، الآية: 128.
3- الكافي 5: 259؛ وسائل الشيعة 18: 443.

ولا ينافي ذلك تقييدها بالموارد المذكورة، فكل عام ومطلق مخصص ومقيد، حتى اشتهر: (ما من عام إلّا وقد خص)، ولذا فهم الفقهاءالإطلاق وحكموا بصحة الصلح في كل الموارد إلّا ما استثني، كما لو لزمت صيغة معينة فيه بالإجماع كالطلاق والنكاح مثلاً. نعم، اختلفوا في اختصاص الصلح بالموارد المالية أو ثبوته للأعم.

ثم إن القياس مع الفارق، ففي الموارد المذكورة عقد أو إيقاع، والمقام إسقاط حق مالي، ولا شك في صحة الصلح على الماليات للدليل الخاص الشامل للمقام.

الإشكال الثالث(1): إنه ينافي الفور؛ لأن التوافق على الصلح موجب للتأخير، فيكون الصلح على إسقاط حق الشفعة صلحاً على ما قد حصل، فهو تحصيل للحاصل.

وفيه: إنه أخص من المدعى، فقد لا ينافي الفور، كما في موارد جواز التأخير التي مرّت، كتأخير الوكيل الذي لا يسقط حق الموكّل في الشفعة، أو عدم علم الشفيع بالثمن، فليس الصلح منافياً للفور دائماً.

الإشكال الرابع: إن اشتراط عدم الأخذ بالشفعة شرط مخالف للكتاب والسنة فيكون باطلاً.

لكنه ضعيف حيث لا يراد نفي حق الشفعة ليكون مخالفاً، وإنّما عدم الأخذ بالحق أو إسقاطه وهو لا يخالفهما. نعم، لو شرط عدم الشفعة أصلاً كان باطلاً؛ لأن الشارع جعل له الحق.

ص: 251


1- مسالك الأفهام 12: 348.

كما لو شرط عدم الإرث فإنه باطل، لكن لو شرط أن يتصدق بكل ما ورثه كان صحيحاً، فإن إبطال أصل الاستحقاق منافٍ للكتاب والسنة، وأمّا إسقاط الحق فهو جائز في نفسه، ويصبح لازماً في ضمن عقد الصلح.

ويؤيّده الحديث التالي، حيث سئل الإمام الكاظم(علیه السلام): «إن رجلاً من مواليك تزوج امرأة ثم طلقها فبانت منه، فأراد أن يراجعها فأبت عليه إلّا أن يجعل للّه عليه أن لا يطلقها ولا يتزوج عليها ذلك، ثم بدا له في التزويج بعد ذلك فكيف يصنع؟ قال: بئس ما صنع، وما كان يدريه ما يقع في قلبه في الليل والنهار، قل له فليف للمرأة بشرطها فإن رسول اللّه| قال: المؤمنون عند شروطهم»(1).

وهنا فرعان:

الفرع الأوّل: لو صالح على إسقاط حق ثم خالف

ولو صالح على إسقاط حقه أو عدم أخذه لكنه خالف وأخذ بالشفعة لم ينفذ؛ لأن الشرط يثبت الحكم الوضعي كما هو الظاهر في المعاملات، فلو شرط الوكالة في ضمن البيع لا يحق له عزله وإن كانت الوكالة جائزة في حد ذاتها، فلو خالف الشرط وعزله لم ينفذ.

الفرع الثاني: في نقل الحق أو إرثه أو إسقاطه بالصلح

هل يمكن نقل الحق أو إرثه أو إسقاطه بالصلح؟

وحيث إن الحكم لا يثبت موضوعه لم يمكن إثبات كونه صلحاً

ص: 252


1- الاستبصار 3: 233؛ وسائل الشيعة 21: 276.

بالتمسك بأدلة الصلح، فلا بدّ من مراجعة العرف، فإن رأى العرف أن الموارد الثلاثة من مصاديق الصلح جرى عليه حكمه.

نعم، قد يشكل عليه بأنه خلاف الكتاب والسنة؛ لأن ظاهرهما ثبوت حق الشفعة للشريك لا غيره، فنقله منه إلى غيره مخالف لهما. نعم، يصح ذلك بالوكالة.

المسألة السابعة والعشرون: لو ضمن الشفيع الدرك عن أحدهما أو شرط له الخيار أو كان وكيلاً لأحدهما

قال في الشرائع: «إذا تبايعا شقصاً فضمن الشفيع الدرك عن البائع أو عن المشتري، أو شرط المتبايعان الخيار للشفيع لم يسقط بذلك الشفعة، وكذا لو كان وكيلاً لأحدهما، وفيه تردد، لما فيه من أمارة الرضا بالبيع»(1).

وأضاف في القواعد موارد أُخر قال: «أو شهد على البيع، أو بارك لأحدهما في عقده، أو أذن للمشتري في الشراء، أو ضمن العهدة للمشتري، أو شرطا له الخيار فاختار الإمضاء»(2).الصورة الأولى: إذا تبايعا شقصاً فضمن الشفيع الدرك عن البائع أو عن المشتري.

وقد اختلف الفقهاء في سقوط حق شفعة الشفيع بذلك.

واستدل(3) للسقوط بأن عمله كاشف عن الرضا بالبيع، ومثله مسقط لحق

ص: 253


1- شرائع الإسلام 4: 786.
2- قواعد الأحكام 2: 257.
3- مختلف الشيعة 5: 352.

الشفعة؛ لأن مفاده عدم إرادة الأخذ بها.

وأشكل عليه(1): بأن الرضا بالبيع ليس إسقاطاً لحق الشفعة، كما لو رضي الدائن بإسقاط الدين، فإن مجرد الرضا القلبي ليس سبباً لتحقق العقد أو الإيقاع أو السقوط أو فسخ العقد أو ما أشبه، فإن كل ذلك بحاجة إلى إنشاء.

وفي المقام على فرض دلالة ذلك على الرضا بالبيع فإنه ليس سبباً لسقوط حقه في الشفعة ما لم يبرز ذلك. هذا أوّلاً.

وثانياً: ليس معنى الرضا بالبيع إسقاط حق الشفعة، بل قد يرضى بذلك ليأخذ بالشفعة، فيجعل البيع طريقاً لأخذ شقص شريكه بها؛ ولذا قال في المسالك: «لأن مطلق الرضا بالبيع لا يدل على إسقاط الشفعة، فإنّها مترتبة على صحته، فكيف يكون الرضا به إسقاطاً لها؟»(2).نعم، لو نافى ذلك الفور سقط حقه لا من باب الرضا بالبيع، بل من باب الخلل بشرط الفور بناءً عليه.

ولا يخفى أن المثال الذي مثّله في المسالك محل إشكال، حيث قال: «والحق أنه إن نافى الفورية حيث نعتبرها، بأن علم بمقدار الثمن فاشتغل بذلك بطلت للتراخي، لا من حيث الرضا بالبيع، وإن لم ينافِ، كما لو ضمن الثمن قبل علمه بمقداره - فإن العلم به غير معتبر في صحة الضمان - لم تبطل الشفعة؛ لعدم المقتضي للبطلان»(3).

ص: 254


1- مسالك الأفهام 12: 349؛ جواهر الكلام 38: 612 (37: 407 ط ق).
2- مسالك الأفهام 12: 349.
3- مسالك الأفهام 12: 349.

ووجه الإشكال: إن الضمان نوع من العقد شرعاً أو عرفاً(1)، ومع الجهل بالمبلغ يكون غرراً يشمله نهي النبي|.

الصورة الثانية: ما لو شرط المتبايعان الخيار للشفيع.

ولا بدّ من تقييده بصورة قبول الشفيع، وقد مرّ أن الملك ينتقل بمجرد البيع متزلزلاً، فيكون للشفيع حق الشفعة، فإن أمضى أو فسخ البيع بقي حقه في الشفعة إن لم ينافِ الفور؛ وذلك لأنّه إن أمضى ثبتت المعاملةفيكون له حق الشفعة، ورضاه بالبيع لا يلازم إسقاط حق الشفعة.

وإن فسخ فكذلك، لما مرّ من ثبوت حق الشفعة بمجرد البيع، سواء كان لازماً أم جائزاً، فسخ أم أقيل أم لا، منتهى الأمر أنه مع الإمضاء يلزم أداء الثمن للمشتري، والمشتري يؤدّيه إلى البائع، ومع الفسخ فإن المشتري لا يؤدّي شيئاً للبائع لفسخ المعاملة، وإنّما على الشفيع أداء الثمن للبائع.

الصورة الثالثة: ما لو كان الشفيع وكيلاً لأحدهما.

كما لو جعل المشتري الشفيع وكيلاً لشراء سهم شريكه، فإنه لا يسقط حق شفعة الشفيع بذلك.

وقد يشكل عليه بأن الشفيع متهم في الشراء، فقد يشتريه بأقل من سعره

ص: 255


1- والفرق بينهما أنه في الضمان الشرعي لا يطلب الدائن دينه من المديون، وإنّما يطالب الضامن والضامن يطالب المديون، وأمّا الضمان العرفي فالدائن يطالب المديون فإن لم يؤده طالب الضامن، وقد حكم بعض الفقهاء ببطلان الضمان العرفي، لكن بعض المتأخرين ذهبوا إلى صحته وإن لم يدل عليه دليل من الشرع؛ وذلك لأنه معاملة عرفية لم يردع عنها الشارع (السيد الأستاذ).

ليأخذ بالشفعة ثم يؤدّي الثمن القليل، كما مرّ نظير الاتهام المذكور فيما لو كان الولي شريكاً للصبي.

وفيه نظر: لما مرّ من عدم الاتهام في كثير من الموارد كما لو اشتراه بقيمته السوقية، أو كان وكيلاً للمشتري حيث لا تهمة أصلاً، فإنه وإن ساوم البائع على أقل القيم ليأخذ بالشفعة، إلّا أن البائع هو الذي رضي ببيع متاعه بأقل من قيمته السوقية، فهو فاعل مختار، فلا وجه للاتهام.

نعم، لو كان الشفيع وكيلاً للبائع فعليه أن يبيعه بالقيمة المتعارفة، وإلّا أمكنت التهمة لو باعه بالأقل دون ما لو باعه بالأكثر أو المساوي.ثم إنّه على فرض الاتهام فإن ذلك ليس سبباً لإبطال المعاملة. نعم، للموكّل حق الخيار للغبن إن ثبت ذلك.

لكن أشكل(1) عليه بأنه لا خيار للموكّل مع فرض كون الوكيل مفوضاً، فإن الوكيل كالأصيل.

والكلام فيه يرتبط بكتاب الوكالة، ولكن باختصار: إن تمّ بيع الوكيل في حدود وكالته فبها وإلّا كان فضولياً، ومع تصريح الموكّل بالبيع - ولو بأقل من القيمة - لم يكن هنالك خيار.

وأمّا الوكالة من دون تصريح بذلك فهنا دليلان:

أحدهما: يحكم بصحة البيع؛ لأنّه وكيل، وليس كالفضولي الموقوف على الإجازة فإذا لم يجزْ انكشف البطلان.

ص: 256


1- منية الطالب 3: 123.

ثانيهما: دليل الغبن الحاكم بثبوت حق الفسخ للمغبون، ولا تعارض بينهما، وكون الوكيل كالموكّل لا يخصص أدلة الغبن إلّا مع التصريح، حيث لا يجري دليل الغبن معه.

وقد يتأمل في ذلك بأن جريان دليل الغبن إنّما هو مع عدم إطلاق دليل الوكالة، بحيث لو علم الموكّل بالقيمة أبدى اعتراضه عليه، مما يكشف عن عدم سعة الوكالة لذلك فيكون فضولياً، والوكيل المفوض إنّما هو فيضمن الضوابط العقلائية.

نعم، لو لم ينصرف الأمر إلى ذلك فلا يكون له حق الخيار؛ لأن الوكيل كالأصيل.

والحاصل: إن التنافي ثابت بين الدليلين، حيث إنه إمّا وكيل مطلق ولو بالبيع بأقل من قيمته فلا حق للفسخ؛ لأنّه عمل بمقتضى الوكالة، وإن كان له حق الفسخ كان معناه أنه لم يكن وكيلاً بهذه السعة - وإن كان لفظه مطلقاً - فيكون فضولياً، فمع الرد لا بيع فلا شفعة.

وأمّا الصور التي ذكرها في القواعد فمقتضى القاعدة عدم سقوط حق الشفعة لا بالرضا بالبيع، ولا بالرضا بإسقاط حق الشفعة.

المسألة الثامنة والعشرون: إذا أخذ بالشفعة فوجد فيه عيباً سابقاً على العقد

اشارة

لو تبين وجود العيب في الشقص بعد الأخذ بالشفعة فهل للمشتري والشفيع حق الفسخ مطلقاً أو بشرط عدم التصرف؟

قال في الشرائع: «إذا أخذ بالشفعة فوجد فيه عيباً سابقاً على البيع، فإن كان الشفيع والمشتري عالمين فلا خيار لأحدهما، وإن كانا جاهلين فإن رده

ص: 257

الشفيع كان المشتري بالخيار بين الرد والأرش، وإن اختار الأخذ لم يكن للمشتري الفسخ؛ لخروج الشقص عن يده، قال الشيخ: وليس للمشتري المطالبة بالأرش، ولو قيل: له الأرش كان حسناً، وكذا لوعلم الشفيع بالعيب دون المشتري، ولو علم المشتري دون الشفيع كان للشفيع الرد»(1).

ففي المسألة صور أربع(2):

الصورة الأولى: أن يكون المشتري والشفيع عالمين بالعيب، فلا حق لهما لا في الفسخ ولا في الأرش؛ وذلك لإقدامهما على الضرر، فلا يشملهما دليل رفع الضرر، فإن المستفاد هو أن الخيار لجبران الضرر، ولا يجري ذلك مع العلم بالعيب والإقدام.

نعم، لو ظهر العيب أكثر مما أقدم عليه، أو ظهر عيب آخر غير ما أقدم عليه، كما لو ظن العبد أخرس فأقدم على شرائه فتبين أنه أعمى كان له الخيار؛ لعدم انصراف دليل رفع الضرر عنه، حيث إنه لم يقدم على شراء الأعمى، بل الأخرس، والأغراض مختلفة.

الصورة الثانية: أن يكونا جاهلين واتفقا على أن يرد الشفيع للمشتري والمشتري للبائع، فلا بحث، كما أنه لو اتفقا على أن لا يأخذا الأرش لا الشفيع من المشتري ولا المشتري من البائع فلا بحث أيضاً.

إنّما الكلام في الثمن الذي على الشفيع أن يؤدّيه إلى المشتري، فهل عليه أداؤه كاملاً أو ينقص منه بمقدار الأرش، بعد أن أدى المشتريإلى

ص: 258


1- شرائع الإسلام 4: 786.
2- الفقه 79: 344-351.

البائع الثمن الكامل؟ مثلاً: لو كان الثمن المتفق عليه للشقص السالم ألف دينار ولما ظهر العيب تبين أنه يسوى خمسمائة دينار، فهل على الشفيع أن يؤدّي إلى المشتري الألف أو الخمسمائة؟ - فيه احتمالان:

الأوّل: ما ذكره في الجواهر(1) من أن الأرش لا يرتبط بالثمن، بل هو حكم شرعي مستقل، فالثمن في المعاملة ألف دينار والأرش جبر لضرر لا أنّه ينقص من الثمن، فعلى الشفيع أن يؤدّي الثمن كاملاً أو يفسخ، وأمّا أن يقبل بالمعاملة ويقلل منه بمقدار الأرش فلا، فإن أدلة الشفعة تحكم بلزوم أداء ثمن المعاملة كاملاً وهو الألف.

والدليل على كون الأرش غير الثمن بأن الأرش لو كان جزء الثمن للزم فسخ ما يقابله قهراً، كما في التلف، فلو باع شيئاً فتلف نصفه انفسخ ما يقابله قهراً، وكذلك لو تبين كونه غير مملوك للبائع.

بخلاف خيار العيب، حيث لا ينفسخ ما يقابله بالعيب، بل المشتري مخير بين رد المعاملة أو القبول مع الأرش أو بلا أرش، مما يدل على أنه ليس في مقابل الصفة التالفة شيء من الثمن، بل الثمن كاملاً في قبال المعيب، فإنه لو كان في مقابله جزء من الثمن للزم الفسخ بمقدارهتلقائياً.

الثاني: إن على الشفيع أداء قيمة المعيب فقط، أي: الخمسمائة، فإنه وإن تمت المعاملة على الألف إلّا أن الثمن الحقيقي عرفاً هو المتبقي بعد نقص الأرش؛ إذ البائع أخذ مقدار الأرش زيادة على الثمن، والشارع لم يتصرف

ص: 259


1- جواهر الكلام 38: 615-616 (37: 409 ط ق).

فيما يراه العرف فيكون ممضى من قبله، ثم المشتري يأخذ الأرش من البائع أو يترك، وهذا الاحتمال موضع الاتفاق.

ويرد الاحتمال الأوّل أن الفسخ التلقائي للمقابلة المذكورة ليس قاعدة كلية، حيث لا دليل يثبت بشكل عام أنه كلما بطل جزء من الثمن بطل ما يقابله من المثمن، وإنّما هو تابع للدليل في كل مورد مورد، كما في خيار تبعض الصفقة أو تلف المبيع كلاً أو بعضاً، وهذه الموارد الجزئية لا تثبت قاعدة عامة إلّا إذا فهم الملاك.

وفي ما نحن فيه: قام الدليل على أن وصف الصحة يقابله جزء من الثمن وهو كذلك عرفاً؛ ولذا ترتفع القيمة بملاحظة وصف الصحة، ومع ذلك حكم الشارع بالتخيير بين الفسخ والأرش وعدمه.

والحاصل: إنه مع جهلهما، إن رد الشفيع كان المشتري مخيراً بين الرد إلى البائع أو القبول مع الأرش أو بدونه، وإن قبل الشفيع كان عليه أداء القيمة بعد نقص الأرش منه.

الصورة الثالثة: أن يكون المشتري جاهلاً بالعيب، ولكن الشفيععالم به حين أخذه بالشفعة.

وقد ذهب الشيخ الطوسي(1) إلى أنّه لا يحق للمشتري المطالبة بالأرش؛ لعدم تضرره واقعاً، حيث يأخذ ما أداه للبائع من الشفيع.

وقد يستدل له أوّلاً: بأن الأرش لاستدراك ظلامة المشتري، وقد قام

ص: 260


1- المبسوط 3: 125-126؛ مسالك الأفهام 12: 351؛ مفتاح الكرامة 18: 662.

الشفيع بأداء الثمن له، فلا وجه لمطالبته بالأرش.

وفيه نظر: حيث لا يختص الأرش باستدراك الظلامة؛ إذ لا ينحصر فيه الغرض، فهنالك أغراض عقلائية أخرى أيضاً، كتأديب البائع المخادع حتى يكف عن تغرير الناس، وقد يكون من الأغراض الربح لتغير القيمة السوقية، كما لو اشترى المعيب واستعدّ ثالث أن يؤدّي التفاوت، ومع ذلك لا يسقط حقه في مطالبة الأرش من البائع، بالإضافة إلى أنه حكمة لا علة فلا يدور الحكم مداره.

وثانياً: إن المشتري كالنائب والوكيل عن الشفيع بالشراء، كما لو اشترى الوكيل معيباً ورضي الموكل بذلك حيث لا يستحق الوكيل الأرش.

وفيه نظر: لأنهما معاملتان، والمشتري قد اشترى لنفسه لا للشفيع، ولذا تكون المنافع له، ويجري عليه جميع أحكام المشتري لا الوكيل.والحاصل: إن مقتضى القاعدة أنه لا حق للشفيع في الفسخ لعلمه بالعيب، ويحق للمشتري الفسخ والأرش.

الصورة الرابعة: أن يعلم المشتري بالعيب دون الشفيع، ولا حق للمشتري في الرد والارش؛ لأنّه عالم بالعيب، والخيار مختص بالجاهل، أمّا الشفيع فيحق له الإرجاع دون الأرش، أمّا الرد فللعموم أدلته، وأمّا الأرش فلا يستحقه على البائع؛ لأنّه لم يشتره منه فلا حق له عليه، ولا يستحقه على المشتري أيضاً؛ لأن الدليل دل على كون الشفعة بالثمن الأوّل، والثمن هو المتفق عليه بين البائع والمشتري من دون نقص الأرش؛ لمكان علم المشتري بالعيب.

وهنا فروع:

ص: 261

الفرع الأوّل: لو تصرّف الشفيع في المعيب

قد ذكر في باب خيار العيب أنه لو اشترى معيباً وتصرف فيه سقط خياره في الرد وله حق الأرش فقط.

وعليه: فلو أخذ بالشفعة جاهلاً بالعيب ثم تصرف بما يسقط معه الخيار كالوطء ثم علم بالعيب، فلا يحق له الفسخ، وأمّا الأرش فقد قيل بأنه يسقط أيضاً؛ وذلك لأنّه لا يستحق الشفيع الأرش من البائع حيث لم يشتره منه، وإنّما يستحق المشتري على البائع الأرش فإن أخذه منه أخذه الشفيع، وإن أسقطه عنه لم يستحق الشفيع على المشتري الأرش أيضاًللأصل.

وفيه تأمل: لأن عفو المشتري الأرش عن البائع لا يكون سبباً لكون الثمن ما هو المتفق عليه، بل الثمن هو المتبقي بعد نقص الأرش، فإن لم يرد المشتري استرجاع حقه كان ذلك باختياره، ولا يوجب كون القيمة الأكثر.

الفرع الثاني: لو تحقق العيب عند المشتري

لو لم يكن الشقص معيباً، ثم تحقق العيب عند المشتري لم يحق له الفسخ لحصول العيب في ملكه، وأمّا الشفيع فهل عليه أداء الثمن كاملاً، أو يمكنه أن ينقص منه بمقدار العيب؟

مقتضى القاعدة الثاني؛ لأن دليل خيار العيب عام يشمل كل العقود والإيقاعات ومنها الشفعة، فحيث أخذ الشفيع الشقص معيباً كان عليه أداء قيمة المعيب لا أكثر.

فإن قلت: إن روايات الشفعة تحكم بالثمن كما مرّ.

قلنا: إنه بعد نقص الأرش يكون هو الثمن للمعيب.

ص: 262

لكنه محل تأمل؛ لما مرّ من رواية السيل(1) الذي هدم الدار وأراد الشفيع أداء ثمن الأرض فقط، حيث حكم الإمام(علیه السلام) بثمن البيع الأوّل، أي: الأرض والدار، وملاكها جارٍ فيما نحن فيه. نعم، يحق للشفيع الفسخ.

الفرع الثالث: لو زال العيب في يد المشتري

ولو كان الشقص معيباً، فاشتراه جاهلاً بالعيب وأخذ أرشه، فزال العيب في يد المشتري ثم أخذه الشفيع بالشفعة، فهل على الشفيع أداء الثمن المتفق عليه في المعاملة، أو ينقص منه بمقدار الأرش.

مقتضى القاعدة أن عليه أداء الثمن كاملاً، فإنّه وإن قلنا سابقاً: إن أرش العيب الذي كان قبل البيع ينقص من أصل الثمن، لكن مرّ أن النماء المنفصل للمشتري وكذا المتصل على خلاف فيه، فعلى الشفيع أداء ثمن النماء المتصل بالإضافة إلى الثمن ناقصاً الأرش، فلو اشترى الشقص بألف واسترجع الأرش بمائة كان الثمن تسعمائة، وحين ارتفع العيب فإن وصف الصحة نماء متصل حصل في ملك المشتري، فعلى الشفيع أداء التسعمائة بالإضافة إلى قيمة وصف الصحة، فتأمل.

الفرع الرابع: لو فسخ الشفيع ورد الشقص إلى المشتري

ولو فسخ الشفيع بالعيب ورد الشقص إلى المشتري فهل يحق للمشتري رده إلى البائع؟

ذهب بعض الفقهاء إلى ثبوت الأرش فقط دون الفسخ؛ وذلك لأن

ص: 263


1- تهذيب الأحكام 7: 192؛ وسائل الشيعة 25: 405.

التصرف الناقل موجب لسقوط الفسخ، وإن رجع إليه العين بعد التصرف.

وفيه نظر: لأن التصرف الاختياري موجب لسقوط الفسخ، وفي المقاملم يتصرف المشتري وإنّما أخذ منه بالشفعة قهراً.

الفرع الخامس: لو رضي الشفيع بالعيب

لو علما بالعيب بعد الأخذ بالشفعة، لكن رضي الشفيع بالعيب من دون فسخ أو أرش فهل للمشتري حق الفسخ أو الأرش؟

ذهب بعض الفقهاء إلى العدم؛ لأن المشتري ليس بيده شيء حتى يفسخ، ولم يتضرر حتى يأخذ الأرش، فإنه وإن اشترى المعيب الذي قيمته تسعمائة بألف دينار مثلاً إلّا أنه استلم الثمن كاملاً فلم يتضرر، وفي الواقع الشفيع هو الذي تنازل عن حقه، وفي الجواهر: «والأصل فيه اللزوم»(1).

لكن احتمل السيد الوالد(2) في الفقه ثبوت حق الفسخ والأرش له؛ لتولدهما له حين الشراء، وجهله بهما لا ينفي ثبوت حقه، فإن حقه ثبت بالبيع ولا مدخلية للعلم والجهل في ذلك، ولا دليل على سقوط ذلك الحق.

فإن قلت: كيف يفسخ مع عدم وجود عين المال بيده.

قلت: مع فقد العين ينتقل إلى البدل، وتنازل الشفيع عن حقه لا يرتبط بمعاملة البائع والمشتري الثابت فيها الأرش.نعم، على المشتري أن يؤدّي الأرش إلى الشفيع فلم يستفد شيئاً؛ لأنّه كان على الشفيع أن يؤدّي الثمن باستثناء الأرش.

ص: 264


1- جواهر الكلام 38: 616 (37: 410 ط ق).
2- الفقه 79: 348.

والحاصل: إنه لو ردّ المشتري كان عليه أداء بدل العين للبائع واسترداد ثمنه، وإن طالب بالأرش أخذه من البائع وأداه للشفيع؛ لأنّه بعد أخذه يكون الثمن هو ما اتفق عليه باستثناء الأرش.

إن قلت: فما فائدة ذلك للمشتري حينئذٍ؟

قلت: قد يكون له غرض في الثمن الذي أداه إلى البائع فيسترجعه، كجوهرة ثمينة جعلها ثمناً للأرض، وحين أخذت الأرض منه شفعة استردها، وقد تكون هنالك أغراض عقلائية، كانخفاض قيمة الأرض، فيفسخ فيؤدّي بدلها ويسترجع ثمنه.

وأمّا بالنسبة إلى الأرش، فلو فرض عدم الفائدة للمشتري في أخذه فإن ذلك لا ينفي حقه فيه، فحق الفسخ ثابت وإن تضرر صاحب الحق به، كما لو ارتفعت قيمة المعيب، فعدم المنفعة المادية لا توجب زوال الحق.

الفرع السادس: فيما لو باعه وتبرأ من العيوب

لو باعه على البراءة من العيوب صح الشرط، ثم إن أخذه الشفيع مع علمه بالشرط لم يحق للمشتري الأرش أو الرد؛ لإقدامه على الشرط المذكور، و(المؤمنون عند شروطهم)، وأمّا الشفيع فقد ذهب العلامة فيالقواعد(1) إلى أنه كالمشتري لعلمه بشرط البراءة.

لكن أشكل عليه في الجواهر(2) بثبوت الحق له في ذلك؛ لأن الشرط إنّما هو بين البائع والمشتري ولا وجه لسرايته إلى الشفيع، بعد شمول إطلاقات

ص: 265


1- قواعد الأحكام 2: 256-257.
2- جواهر الكلام 38: 619 (37: 412 ط ق).

أدلة الخيار له.

وفيه تأمل: لما مرّ سابقاً من كون الثمن إنّما هو الثمن الأوّل، فيشمل جميع خصوصيات الثمن المتفق عليه بما فيه شرط البراءة.

هذا تمام الكلام في عيب المثمن.

الفرع السابع: العيب في الثمن

لو كان الثمن معيباً حق للبائع الفسخ، فلو أخذ الشفيع بالشفعة ثم علم البائع بالعيب فهل فسخه موجب لإبطال الشفعة؟ فيه احتمالات ثلاثة:

الأوّل: بطلان الشفعة ورجوع الشقص إلى البائع.

الثاني: صحة الشفعة لكن لا حق للشفيع في العين وإنّما على المشتري أن يدفع له بدل الشقص، وتظهر الثمرة في تفاوت القيمة عن الثمن.

الثالث: الترجيح مع الأسبق فلو فسخ البائع أوّلاً فلا شفعة، ولو أخذ الشفيع بالشفعة أوّلاً ثم فسخ أخذ البائع البدل من المشتري وكانت العينللشفيع.

المسألة التاسعة والعشرون: بيع الشقص بعوض معين فظهر عيب في الثمن

اشارة

قال في الشرائع: «إذا باع الشقص بعوض معيّن لا مثل له كالعبد، فان قلنا لا شفعة فلا بحث، وإن أوجبنا الشفعة بالقيمة فأخذ الشفيع وظهر في الثمن عيب كان للبائع رده، والمطالبة بقيمة الشقص إذا لم يحدث عنده ما يمنع الرد، ولا يرتجع الشقص؛ لأن الفسخ المتعقب للبيع الصحيح لا يبطل الشفعة»(1).

ص: 266


1- شرائع الإسلام 4: 787.

وإنّما قيّده بالمعين لأنّه لو كان كلياً لم يكن له حق الفسخ، بل يستبدل المعيب.

وأمّا التقييد ب-(لا مثل له) فلا وجه له، فإنّه لو كان معيناً فظهر العيب حُق له الفسخ حتى وإن كان له مثل، فليس الثمن كلياً حتى يستبدل.

وفي المسألة أقوال ثلاثة:

القول الأوّل: ما اختاره في الشرائع وهو المشهور(1): من تغليب حق الشفيع على حق البائع في العين، واستدل له بخمسة أدلة(2):الدليل الأوّل: إن حق الشفعة قبل حق الفسخ، والمتأخر لا يبطل الحق المتقدم، قال في المسالك: «لأن استحقاق الفسخ فرع دخول المبيع في ملك المشتري، المقتضي لصحة العقد، المقتضي لثبوت الشفعة بمجرد العقد»(3).

وحاصله: إن حق الشفعة أسبق، فبمجرد تحقق العقد يحصل شيئان معاً، وهما: انتقال العين إلى ملك المشتري، وحق الشفعة، وأمّا حق الفسخ فهو متأخر عن الانتقال؛ لأن انتقال المال سبب لتولد حق الفسخ للبائع فيما لو كان الثمن معيباً، فتكون الشفعة في مرتبة سبب حق الفسخ، ويكون حق الفسخ في مرتبة المسبب، وما هو في مرتبة السبب مقدم على ما هو في مرتبة المسبب؛ لتقدم رتبة العلة على المعلول.

ص: 267


1- جواهر الكلام 38: 620 (37: 412 ط ق).
2- مسالك الأفهام 12: 352؛ جواهر الكلام 38: 620 (37: 413 ط ق).
3- مسالك الأفهام 12: 352.

وفيه تأمل: لاتحاد العلة والمعلول في الزمان - وإن اختلفا في الرتبة - لأنها لا تنفك عنه، والملاك في الأسبقية هو الزمان، فيكون زمن تولد الخيار نفس زمن تولد الشفعة، فلا أسبقية لأحدهما على الآخر.

هذا بالإضافة إلى الإشكال على المبنى، فإن البيع هو علة لتولد الأمور الثلاثة معاً، وهي: النقل والشفعة والخيار، لا أن البيع علة النقل والنقل علة الخيار.

الدليل الثاني: عموم أدلة الشفعة للشريك، فيشمل صورة الفسخبالخيار.

وفيه تأمل: لإطلاق دليل العيب أيضاً، سواء كان هنالك شفعة أم لا، فالدليلان عامان من وجه يجتمعان في المقام فيتعارضان.

الدليل الثالث: الاستصحاب، حيث يتولد حق الشفعة بالبيع، فلو شك في سقوطه بسبب الفسخ بالعيب استصحب.

وفيه إشكال؛ لاستصحاب خيار العيب والفسخ أيضاً، فالاستصحابان متعارضان.

الدليل الرابع: مقتضى الجمع بين الدليلين هو الحكم بصحة الشفعة وأخذ البائع قيمة الثمن، وهو أولى من الطرح.

وفيه إشكال؛ لعدم انحصار الجمع بين الحقين في ذلك، فقد يجمع بين الدليلين بعكسه، بأن يأخذ الشفيع القيمة والبائع العين ولا ترجيح لأحدهما.

القول الثاني: ما رجحه العلامة(1) من تقديم حق البائع على الشفيع، فلو

ص: 268


1- تحرير الأحكام 4: 581.

فسخ استرجع البائع الشقص وبطلت الشفعة.

واستدل له بدليلين(1):

الدليل الأوّل: إن حق الفسخ أسبق من حق الشفعة؛ لأن العيبمقارن للعقد وهو سبب الفسخ والشفعة متأخرة عنه، ومن تقدم حقه زماناً مقدم على من تأخر.

وفيه تأمل: حيث إن الفسخ دائر مدار الخيار الذي منشؤه العيب لا العيب نفسه، وهو يتولد بمجرد تحقق العقد، فالعقد علة الخيار والشفعة معاً، فلا أسبقية.

نعم، نفس العيب كان قبل العقد ومعه وبعده لكنه ليس سبب الخيار وإنّما جزء السبب، فسبب خيار العيب هو العيب والعقد معاً، وبعبارة أخرى: العيب جزء علة الخيار وبالجزء لا يتولد المعلول.

الدليل الثاني: إن الشفيع منزل منزلة المشتري لو كان في ملكه، فلو لم يأخذ الشفيع بحقه كان للبائع الفسخ وأخذ العين من المشتري، وهكذا لو أخذ الشفيع بالشفعة حيث إنه يأخذ العين من المشتري، فكما يحق للبائع أخذ العين من المشتري يحق له أخذها من الشفيع.

وفيه نظر: لعدم الدليل على هذه المنزلة، فالتعدي منه إليه قياس.

القول الثالث - وهو مجرد احتمال وربما لا قائل له - : إن الحق لمن سبق، حيث لا وجه لتقدم أحدهما على الآخر؛ لأنهما حقان تولدا معاً، فلو

ص: 269


1- تحرير الأحكام 4: 581؛ مسالك الأفهام 12: 353.

سبق أحدهما لم يبقَ للثاني موضوع، كسائر الحقوق، مثل الأسبقية في الجلوس في المسجد أو الانتفاع بالوقف، وإنّما أفتى الفقهاء بها في تلك الموارد لأن حق كل واحد في عرض حق الآخر، والدليليشملهما معاً، فمن سبق سقط حق الآخر؛ لعدم بقاء موضوع له، والمقام من ذلك، فلو فسخ البائع أوّلاً لم يبقَ الملك بيد المشتري ليأخذ الشفيع بحقه، ولو سبق الشفيع كانت العين كالتالف، فلا حق للبائع فيها، بل له الأرش فقط، كما لا حق له في الرد ومطالبة القيمة للزوم تضرر المشتري، حيث قد يكون اشتراه بأقل من قيمته، فيكون أداء القيمة ضرراً عليه(1).

ويدل عليه ما ذكروه من تقدم خيار الشرط على الشفعة، ولا فرق بين الشرط والعيب حتى يتقدم حق الشفعة على العيب ويتأخر عن الشرط، مع عدم وجود نص خاص في المقام، فحكمهم بتقدم الشرط على الشفعة موجب لتقدم العيب عليها أيضاً.

وقد يوجه الفرق بين خيار الشرط وسائر الخيارات بأن الخيار على نوعين، فقد يهدم المعاملة من حينه، وقد يهدمها من أصلها.

وللتوضيح مثل له في الفقه(2) بعيوب النكاح، وتظهر الثمرة في ترتب أحكام المحرمات والمصاهرة والنفقة، فإن كان العيب موجباً للفسخ من أصله بطل أصل النكاح، فلا تترتب الأحكام وإلّا ترتبت.

ص: 270


1- وفيه نظر: لأن الدليل أخص من المدعى، فإن لم يدل دليل على عدم جواز ذلك لكان مقتضى القاعدة الحكم بجواز البدل إلّا فيما لو تضرر (المقرر).
2- الفقه 79: 355.

وفي المقام: الأخذ بخيار الشرط موجب لبطلان المعاملة منأصلها، فكأن لم يكن هنالك بيع أصلاً، فلا شفعة؛ لأنها تابعة له، بخلاف خيار العيب، فإن المعاملة صحيحة من أصلها وتبطل من حين الفسخ، فيكون حق الشفعة مقدماً.

لكن في التوجيه المذكور تأملاً؛ لعدم الفرق بين الشرط وسائر الخيارات، ولذا ذهب أغلب الفقهاء(1) إلى أن خيار الشرط موجب لفسخ العقد من حينه لا من أصله، ولذا يكون النماء للمشتري قبل الفسخ، فالتفريق بين الشرط والعيب في المقام بتقدم حق الشفعة على العيب دون الشرط لا وجه له.

والحاصل: إن الاحتمال الثالث هو المطابق للقواعد إن لم يثبت إجماع على القول الأوّل، ولم يثبت.

ثم الكلام في أمور:

الأمر الأوّل: لو رجعت العين إلى المشتري بعد الشفعة

ذكرنا أنه لو ظهر في الثمن المعيّن عيب ففسخ البائع فلا حق له في الشقص لسبق حق الشفيع، لكن ما هو الحكم لو عاد الشقص إلى المشتري؟

قال في الشرائع: «ولو عاد الشقص إلى المشتري بملك مستأنف،كالهبة أو الميراث، لم يملك رده على البائع، ولو طلبه البائع لم يجب على المشتري إجابته»(2).

ص: 271


1- تذكرة الفقهاء 11: 138؛ الدروس الشرعية 3: 243؛ مسالك الأفهام 3: 288؛ مفتاح الكرامة 14: 438؛ كتاب المكاسب 5: 38.
2- شرائع الإسلام 4: 787.

ووجه التقييد بملك مستأنف لإخراج ما لو بطلت الشفعة، حيث يعود حق البائع في العين؛ لأن الشفعة تكون كالعدم.

وفي المسألة قولان:

القول الأوّل(1): للبائع الحق في مطالبة العين؛ لأن حقه في العين بالأصالة، وإنّما انتقل إلى القيمة لتعذرها حيث تكون بيد الشفيع، فلو ارتفع التعذر برجوعها إلى المشتري لم يمنع البائع شيء من وصول حقه إليه، فإن علة الانتقال إلى البدل هو التعذر وقد انتفت، فلا وجه لإلزامه بالبدل.

ويؤيّده بدل الحيلولة، حيث يضمن البدل للحيلولة بين المالك وملكه(2)، فلو استرجعت العين حُق للمالك مطالبتها وإرجاع البدل.

القول الثاني: ما اختاره في الشرائع: من عدم لزوم رد العين، فيسقط حق البائع في العين وله الأرش أو البدل؛ وذلك لسبق حكمالشارع بوجوب أداء البدل مع تعذرها، كما في المسالك(3)، فمع أدائه تبرأ ذمة المشتري، ولا دليل على اشتغال ذمته مجدداً بالرجوع، ومع الشك يستصحب.

إن قلت: حكم الشارع بالبدل إنّما هو لتعذر العين وقد زال، فلا وجه لبقاء الحكم السابق مع انتفاء علته، ولا فرق بين المقام وبين بدل الحيلولة.

قلت: إن المبدل منه في الحيلولة لم يخرج عن ملك مالكه، والبدل ليس

ص: 272


1- المبسوط 3: 132.
2- وقد يستثنى من ذلك ما لو انقطعت العلقة بين المالك وملكه عرفاً، كما لو سقط في البحر ومرّت فترة طويلة، فإن الملك مجرد اعتبار، وفي مثله لا اعتبار للملكية (المقرر).
3- مسالك الأفهام 12: 353-354.

بدلاً عن العين وإنّما لأجل الحيلولة، ولذا كلما عثر عليه كان لمالكه.

بخلاف المقام فإن الأخذ بالشفعة موجب لخروج الملك عن يد المشتري، والقيمة التي يؤدّيها المشتري إنّما هي قيمة الذي هو بحكم التالف، ولا دليل على لزوم إرجاع العين حين رجوعها إليه.

ولو تم هذا الوجه تم ما ذكره صاحب الشرائع.

الأمر الثاني: ماذا يطالب البائع؟

ثم إنّه بعد أن فسخ البائع وأرجع الثمن المعيب إلى المشتري، ولم يمكنه استرجاع الشقص؛ لتقدم حق الشفيع فيه على المشهور، فهليطالب البائع المشتري بقيمة الشقص أو بدل الثمن؟

اختار في الشرائع والمسالك والجواهر(1) الأوّل، ورجح السيد الوالد الثاني(2).

استدل للقول الأوّل(3): بأن على المشتري أداء الشقص عند الفسخ، وحيث تعذر فعليه أداء بدله، وهو القيمة فيما لا مثل له، فإن مقتضى القاعدة أن الذمة مشتغلة بالعين فلا بدّ من أدائها، فإن تعذرت انتقل إلى بدلها.

واستدل للثاني: بقاعدة (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده) مثلاً: لا ضمان على المهدى إليه في

ص: 273


1- شرائع الإسلام 4: 787؛ مسالك الأفهام 12: 354؛ جواهر الكلام 38: 625 (37: 416 ط ق).
2- الفقه 79: 362.
3- جواهر الكلام 38: 625 (37: 416 ط ق).

الهدية الصحيحة، فكذا لو تبين فسادها لعدم توفرها على شرائط الصحة، ويثبت ضمان الثمن على المشتري في المعاملة الصحيحة فكذا لو تبين فسادها.

وفي المقام المشتري ضامن للعبد الصحيح في المعاملة، ولمّا ظهر العيب فيه كان عليه قيمته.

إلّا أن التطبيق المذكور محل تأمل؛ لأن القاعدة إنّما تجري في نفسالمعاملة لا في الثمن الصحيح والفاسد، وهي تثبت أصل الضمان لا متعلّقه الذي هو مقدار الضمان، وأمّا المقدار فيثبت بدليل آخر وهو ما ذكر في دليل القول الأوّل.

الأمر الثالث: لو تفاوتت القيمة

ثم إنّه بناءً على القول الأوّل(1) قد يتفاوت ما أداه الشفيع للمشتري، وما أداه المشتري للبائع، كما لو كانت قيمة الشقص خمسة دنانير وقيمة العبد عشرة، حيث يتضرر الشفيع؛ إذ أدى المشتري للبائع خمسة وأخذ من الشفيع عشرة، أو بالعكس حيث يتضرر المشتري. نعم، لو تساوت قيمة الشقص مع قيمة العبد فلا كلام.

قال في الشرائع: «ولو كانت قيمة الشقص والحال هذه أقل من قيمة العبد، هل يرجع الشفيع بالتفاوت؟ فيه تردد، والأشبه: لا؛ لأنّه الثمن الذي

ص: 274


1- ولا يظهر التفاوت على القول الثاني؛ لأن المشتري أخذ قيمة العبد من الشفيع وأداه للبائع، فينتفي الفرع المذكور (السيد الأستاذ).

اقتضاه العقد»(1).

ووجهه في المسالك(2): بأن ما يؤدّيه المشتري للبائع - وهو قيمة الشقص، أي: خمسة دنانير - ليس ثمناً، بل هو غرامة حيث أمره الشارع بأداء الشقص، فإن تعذر فقيمته، والثمن هو العبد وقيمته عشرة، وقد مرّأنه ليس للشفيع إلّا (البيع والشراء الأوّل) و (بالثمن).

وقال في الجواهر: «وإنّما هو شيء استحقه البائع على المشتري بالفسخ حال انتقال العين عن ملكه الحاصل بالسبب المزبور»(3).

وكذا الكلام في عكسه، كما لو كانت قيمة العبد أقل من الشقص، فيكون المشتري أخذ الأقل من الشفيع وأدى الأكثر للبائع، ومع ذلك لا يستحق شيئاً على البائع لنفس الدليل.

ثم هل على المشتري أداء قيمة الشقص يوم العقد أو الفسخ أو الأداء؟

مقتضى القاعدة أن يؤدّي قيمة يوم الأداء؛ وذلك لأن يوم العقد كان عليه أداء العبد لا القيمة، ويوم الفسخ عليه أداء الشقص لا القيمة، وأمّا حين الأداء - حيث يتعذر الشقص - فعليه أداء قيمته، اللّهم إلّا أن يقال: إن عليه أداء قيمة يوم الفسخ؛ لأنّه لو أمره الشارع بأداء الشقص استلزم التناقض في حكمه، فإنه يحكم بكون العين للشفيع من جهة، ومع ذلك يأمر المشتري بأدائه إلى البائع، وهذا هو الأرجح.

ص: 275


1- شرائع الإسلام 4: 787.
2- مسالك الأفهام 12: 354.
3- جواهر الكلام 38: 625 (37: 416 ط ق).

وأمّا الشفيع فهل عليه أداء قيمة العبد إلى المشتري يوم العقد أو يوم الأخذ بالشفعة أو يوم الأداء؟ مقتضى القاعدة أن عليه أداء قيمة يوم الأخذ بالشفعة؛ وذلك لأنّه عند البيع لم تشتغل ذمة الشفيع بشيء، وإنّما دخلت قيمة العبد في ذمته عند الأخذ بالشفعة.وهنالك قول آخر بلزوم أداء قيمة يوم البيع لكن يظهر ضعفه مما بيناه.

المسألة الثلاثون: لو بيع شقص الغائب بادعاء إذنه

اشارة

قال في الشرائع: «لو كانت داراً لحاضر وغائب، وحصة الغائب في يد آخر، فباع الحصة وادعى أن ذلك بإذن الغائب قال في الخلاف: ثبتت الشفعة، ولعل المنع أشبه؛ لأن الشفعة تابعة لثبوت البيع»(1).

في المسألة قولان:

القول الأوّل: ما اختاره الشيخ الطوسي(2) من ثبوت الشفعة.

واستدل له: بحجية قوله بالنسبة إلى ما في يده للسيرة، وإطلاق دليل ذي اليد، حيث لا يختص بادعاء الملكية، فإن الطريق إلى ثبوت إذن المالك إمّا العلم أو البينة أو دعوى ذي اليد، بخلاف دعوى الغير حيث لا تسمع إلّا بالبينة.

نعم، لو انكشف الخلاف - كما لو جاء مالك الحصة ونفى إذنه في ذلك - بطل؛ إذ لو انكشف خلاف الأحكام الظاهرية وجب ترتيب الأثر حسب الواقع.

ص: 276


1- شرائع الإسلام 4: 787.
2- المبسوط 3: 145.

ولا فرق بين دعوى ذي اليد وبين قيام شاهدين عادلين على إذن المالك ببيع الحصة، فكلاهما حكم ظاهري.ويدل على ثبوت حق الشفعة أن من بيده حصة الغائب يصح بيعه والشراء منه، وكذا إجارته وهبته، ولا وجه للتفكيك بينها وبين الشفعة.

القول الثاني: ما اختاره في الشرائع من عدم ثبوت الشفعة إلّا مع قول المالك، أو ثبوت إذنه بطريق شرعي، واستدل له بدليلين:

الدليل الأوّل: إن الشفعة تابعة لثبوت بيع الشريك ولم يثبت، فلا يترتب عليه الحكم، وفي الجواهر: «إن عنوان الشفعة - نصاً وفتوىً - تحقق صدق (باع الشريك) وهو غير متحقق هنا، فلا تثبت الشفعة على وجهٍ إن لم يبادر إليها تبطل بناء على الفور، وجواز أخذ المشتري منه لا يحقق الصدق المزبور، فليس للشفيع الأخذ لعدم تحقق عنوان ثبوت الشفعة، بخلاف جواز الشراء ظاهراً منه، فإنه لا عنوان له على الوجه المزبور»(1).

وفيه تأمل لأمرين:

الأوّل: كما أن موضوع الشفعة (بيع الشريك) كذلك موضوع البيع (إذن المالك) فإن إذن تحقق وإلّا فلا، وأصل العدم جارٍ في كليهما.

الثاني: إن موضوع الشفعة متحقق في المقام لجريان قاعدة ذي اليد، وسماع دعواه في الإذن؛ ولذا يجوز الشراء منه، وكذلك تثبت الشفعةلتحقق (بيع الشريك)، وإذا لم يكن قوله مسموعاً لزم بطلان بيعه.

ص: 277


1- جواهر الكلام 38: 629 (37: 419 ط ق).

الدليل الثاني: أن السيرة دليل لبّي، وهي عمدة الأدلة على صحة بيعه، والقدر المتيقن منها صحة التصرفات المنوطة بإذن المالك، وليست الشفعة منها.

وفيه تأمل: أوّلاً: لعدم انحصار الدليل بالسيرة، وإطلاقات أدلة ذي اليد ليست لبية.

ثانياً: إن سيرة المتشرعة على حجية قول من بيده المال مطلقاً، في أيّ نوع من أنواع التصرفات.

وثالثاً: الدليل أجنبي عن المقام، فإن ذي اليد يريد البيع وبعد البيع يخرج المال عن ملكية المالك، والتصرف القهري إنّما هو بين الشفيع والمشتري لا المالك.

والحاصل: إن مقتضى القاعدة تبعية الشفعة للبيع، فتصح حيث يصح.

ثم إنّه لجامع المقاصد(1) عبارة يظهر مقصوده بالدقة فيها، وحاصلها صورتان:

الأولى: إنه لا تثبت الشفعة للشريك بمجرد دعواه بيع شريكه؛ وذلك للزوم ثبوت البيع أوّلاً لتثبت الشفعة، ولا يثبت بمجرد الدعوى، فإنه إقرارعلى الغير، وهذا مما لا خلاف فيه.

الثانية: لو ادعى مَن بيده الشقص أنه اشتراه أو باعه كان للشريك حق الشفعة؛ لحجية قول ذي اليد، فكلامه مسموع ويحق للشريك الشفعة، ثم لو تبين كذب المدعي صار البيع فضولياً؛ لأن قبول قوله إنّما هو حكم

ص: 278


1- جامع المقاصد 6: 479-480.

ظاهري، كما لو تبين اشتباه البينة أو تعمدها الكذب. فلو رد المالك بطلت الشفعة؛ لأنّها فرع البيع، ولو أجاز فإن كانت الإجازة كاشفة صحت الشفعة، وإن كانت ناقلة بطلت، وعلى الشفيع أخذها مجدداً إن توفرت شروط الشفعة، وإلّا فلا يمكنه الأخذ.

فروع ثمانية

ثم إن هنا فروعاً ثمانية - بناءً على ثبوت الشفعة في المقام(1)- ذكر الخمسة الأولى صاحب الشرائع حيث قال: «فلو قضي بها وحضر الغائب فإن صدّقه فلا بحث، وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه وينتزع الشقص، وله أجرته من حين قبضه إلى حين رده، ويرجع بالأجرة على البائع إن شاء؛ لأنّه سبب الإتلاف، أو على الشفيع لأنّه المباشر للإتلاف، فإن رجع على مدعي الوكالة لم يرجع الوكيل على الشفيع، وإن رجع على الشفيع رجع الشفيع على الوكيل لأنّه غرّه، وفيه قول آخر. هذا أشبه»(2).الفرع الأوّل: لو أنكر المالك الوكالة فالقول قوله مع يمينه لأنّه منكر، فيؤخذ الشقص من الشفيع ويرجع إلى المالك؛ لأن الشفعة فرع البيع وبانتفائه تنتفي. نعم، لو أقام البائع البينة رجحت.

الفرع الثاني: يحق للمالك المطالبة بالأجرة؛ لأدلة الضمان، فإن مَن يملك شيئاً يملك منافعه، فلو استوفاها غيره من غير إذنه عمداً أو سهواً كان

ص: 279


1- فيما لو كان أحد الشريكين غائباً فباع الثاني شقصه مدعياً الوكالة، فأخذ الشفيع بالشفعة ثم حضر الغائب وأنكر الوكالة.
2- شرائع الإسلام 4: 787.

عليه الضمان، وبعد إبطال الشفعة تكون المنافع للمالك وله أجرتها.

الفرع الثالث: يحق للمالك مطالبة الأجرة من البائع أو الشفيع؛ وذلك لأن الأيادي المترتبة على الشقص ثلاثة: يد البائع والمشتري والشفيع، وقد مرّ الكلام في تعاقب الأيدي في كتاب الغصب، فيحق للمالك مطالبة البائع؛ لأنّه سبب الإتلاف والمشتري لترتب يده عليه، والشفيع لاستيفائه المنافع.

ولم يتطرق صاحب الشرائع إلى المشتري وذكره الجواهر(1) مطلقاً، لكن في الإطلاق نظر؛ حيث لا بدّ من تقييده بما لو ترتبت يد المشتري عليه ليشمله دليل (على اليد) وأمّا مع عدم قبضه - بأن أخذه الشفيع من البائع مباشرة - فلا، كما أنه تضمن المنافع من يوم القبض لا قبله.

الفرع الرابع: إن قرار الضمان على البائع، فلو رجع المالك إلىالبائع لم يحق له الرجوع إلى الشفيع؛ وذلك لأن البائع إمّا أن يكذب المالك أو يخطؤه، فمفاد دعواه أن تصرف الشفيع إنّما هو بحق، والمالك يأخذ الأجرة منه ظلماً، فلو كان الأمر كذلك فلا وجه لرجوع البائع إلى الشفيع، قال في المسالك: «لاعترافه(2) بأن المنافع حقه(3)، وأنّه(4) ظالم له في الرجوع عليه(5)، والمظلوم لا يرجع على غير ظالمه»(6).

ص: 280


1- جواهر الكلام 38: 632 (37: 421 ط ق).
2- أي: الوكيل.
3- أي: للشفيع.
4- أي: مالك الشقص.
5- أي: بأخذ الأجرة منه.
6- مسالك الأفهام 12: 357.

نعم، حيث لا طريق لإثبات حقه شرعاً فيجب عليه أداء الأجرة إلى المالك، وإمّا أن يعترف بكذبه دعوى الوكالة، وأنه باعه من دون إذن، ومفاد ذلك استحقاق المالك عليه الأجرة، فلا يحق له الرجوع إلى الشفيع؛ لأنه غرّه.

الفرع الخامس: لو رجع المالك إلى الشفيع حُق له الرجوع إلى البائع؛ لأن المغرور يرجع على مَن غرّه.

وقيّده في الجواهر(1) بقيدين:

الأوّل: ما لو كان الشفيع جاهلاً، وأمّا مع علمه بالبيع من دون الوكالة فلا؛ لعدم الغرور.الثاني: ما لو ادعى الشفيع صحة الوكالة وكذب المالك في إنكارها، فلا يحق له الرجوع إلى البائع؛ لأن أدائه الأجرة للمالك ظلم بإقراره، فلا وجه لرجوعه إلى البائع، فإن المظلوم لا يرجع إلى غير من ظلمه.

هذا وقد أفتى الشيخ الطوسي(2) بعكس ذلك، فلو رجع المالك إلى الشفيع لم يحق له الرجوع إلى البائع، ولو رجع إلى البائع حُق له الرجو ع إلى الشفيع؛ وذلك لاستقرار التلف في يده فعليه الضمان.

وفيه تأمل: لأن دليل (من أتلف) خصص بدليل (الغرور)، وإن لم تكن النسبة بينهما العموم المطلق أمكن القول بتخالفهما موضوعاً، فلا يتعارضان في مورد الاجتماع، كالسواد والحلاوة، فالشفيع ضامن بمقتضى الدليل

ص: 281


1- جواهر الكلام 38: 633 (37: 421 ط ق).
2- المبسوط 3: 146.

الأوّل، ومغرور يرجع إلى مَن غرّه بمقتضى الدليل الثاني، ولا منافاة بينهما.

الفرع السادس: لو كذب ذو اليد المدعي للوكالة نفسه بعد البيع وأنكر الوكالة لم يسمع كلامه.

وليس ذلك لأجل كونه إنكاراً بعد إقرار؛ إذ لم يكن قبول قوله - في دعواه الوكالة - لأجل إقراره، إذ هو إقرار على الغير، وليس بحجة، بل كان السماع لأجل كونه ذا اليد فلا ينفع إنكاره بعد ذلك.

الفرع السابع: لو باعه فضولة وأخبر المشتري بذلك، ثم ادعىالوكالة أمكن القول بأنه إنكار بعد الإقرار فلا يكون مسموعاً.

وهنالك وجه آخر وهو تصديقه في قوله لأنّه كان ذا اليد، وببيعه الفضولي لم يخرج عن يده، وإن سلم المبيع بيد المشتري، إلّا أنه يبقى ذا اليد شرعاً؛ لعدم صحة تسليمه، فإن معنى كونه ذا اليد أنه يحق له التصرف في الملك شرعاً، وإن لم تكن يده عليه. ولا يعلم أن المالك يجيز المعاملة لاحقاً حتى يحكم بخروجه عن يده من حين البيع، وحيث يشك فتستصحب اليد.

لكنه محل تأمل؛ لأن الإقرار دليل حاكم على اليد، كما لو أقر ببيع داره ثم أنكر؛ لأن إقراره أخرجه عن ملكه، فليس بذي يد فلا يقبل قوله، وحتى لو صدق عليه ذو اليد فإن الأدلة لا تشمله.

وتظهر الثمرة في أنه لو كان فضولياً لم يحق لهما التصرف بالتسليم والتسلم من دون إذن المالك بذلك حتى وإن أجاز المعاملة، كما لا يجوز للمشتري أداء الثمن إلى الفضولي، بل إلى المالك إن إذن، بخلاف ما لو كان كان وكيلاً.

ص: 282

الفرع الثامن: لو باع فضولة ثم انتقل إليه بإرث ونحوه ففيه أقوال:

الأوّل: فساد البيع بموت المالك؛ إذ صحته كانت متوقفة على إجازته، فهو سالبة بانتفاء الموضوع.الثاني: صحة البيع مع الإجازة ثانياً من المالك الجديد.

الثالث: صحة البيع مطلقاً لرضاه بالبيع من قبل.

والأقرب الثالث، وقد مضى الكلام في الأقوال المذكورة.

ص: 283

فصل: في مسقطات الشفعة

اشارة

يقع الكلام في مسقطات حق الشفعة، وهي:

المسقط الأوّل: التراخي

بناءً على القول بالفور، وقد مضى الكلام فيه.

المسقط الثاني: إسقاط الشفعة قبل البيع

قال في الشرائع: «ولو نزل عن الشفعة قبل البيع لم تبطل مع البيع؛ لأنه إسقاط ما لم يثبت، وفيه تردد»(1).

وفي المسألة قولان:

القول الأوّل(2): عدم سقوط حقه في الشفعة بذلك.

واستدل له(3): بأنه من إسقاط ما لم يجب، وحيث لا بيع فلا حق للشفعة، والمشهور أنه لا يصح ذلك إلّا بدليل خاص، كبراءة الطبيبوضمان إلقاء المتاع في البحر، وهو مفقود في المقام.

ص: 284


1- شرائع الإسلام 4: 788.
2- المبسوط 3: 140؛ جامع المقاصد 6: 440؛ مسالك الأفهام 12: 361.
3- كنز الفوائد في حل مشكلات القواعد 1: 698؛ جامع المقاصد 6: 440؛ الفقه 79: 378.

وأمّا كونه إسقاط ما لم يجب فلأنّ مفاد الأخبار ثبوت حق الشفعة بعد البيع فلا حق قبله حتى يسقط، كما في فاء التفريع من قوله(علیه السلام): «إذا كان الشيء بين شريكين لا غيرهما فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحق به من غيره»(1)، أي: بعد البيع يكون أحق بالعين من المشتري، وكذا غيره.

القول الثاني(2): سقوط حقه بذلك، واستدل له بأدلة(3):

الأوّل: الأصل(4)، فكلما شك في الشفعة فالأصل عدمها، فإن الأصل العام عدم جواز التصرف في مال الغير من دون إذنه، وقد خرج منه بالدليل الشفعة، والقدر المتيقن منها ما لو لم يسقط حقه قبل البيع، ولا يعلم خروج غيره فيتمسك بالأصل.

ص: 285


1- الكافي 5: 281؛ وسائل الشيعة 25: 402.
2- غاية المراد 2: 167؛ مجمع الفائدة والبرهان 9: 44؛ الدروس الشرعية 3: 368؛ الفقه 79: 379.
3- الفقه 79: 379.
4- مجمع الفائدة والبرهان 9: 44؛ جواهر الكلام 38: 645 (37: 429 ط ق).

وفيه تأمل: لما مرّ من أنه مع إطلاق أدلة الشفعة لا تصل النوبة إلى الأصل المخصص بها.الثاني(1): ما صرح به في الروايات من أن الشفعة إنّما شرعت لدفع الضرر، ولا ضرر في المقام، حيث عرض عليه البيع فأبى، فإن ندم أو تضرر فقد أقدم على الضرر.

وفيه تأمل: لما مرّ من أنه حكمة لا علة، فلا يدور الحكم مداره.

الثالث: ظهور الروايات في السقوط بذلك، منها: ما في النهاية - وهو يتضمن نص الأحاديث الشريفة - «ومتى عرض البائع الشيء على صاحب الشفعة بثمن معلوم فلم يرده، فباعه من غيره بذلك الثمن أو زائداً عليه لم يكن لصاحب الشفعة المطالبة بها»(2) لأنّه قبل البيع أسقط حق شفعته(3). نعم، لو عرضه على الشريك فامتنع لغلائه - مثلاً - فباعه أرخص بقي حق شفعته.

ومنها: خبر جابر عن النبي| قال: «لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع»(4)، فإن ظاهر يدع أنه لا يحق له الأخذ بالشفعة فيما بعد، وقد مضى عدم الفرق بين الكتب الفقهية والروائية في نقل الأحاديث، فلا يصح تضعيفها بالعامية؛ لعدم ورودها فيكتب الأخبار.

ومنها: ما نسب إلى النبي| في الكتب الفقهية أيضاً: «لا يحل أن يبيع حتى يستأذن شريكه، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به»(5)، ومفهومه: فإن باع وقد إذن فلا حق له.

ص: 286


1- الفقه 79: 380.
2- النهاية: 425.
3- وفيه نظر حيث لا تلازم بين عدم إرادة أخذ الشقص وبين سقوط الحق، خاصة مع اختلاف الزمانين، فلو لم يرد الإنسان أخذ المباحات التي يحق له تملكها بالأخذ فهل يسقط حقه بذلك؟ (المقرر).
4- تذكرة الفقهاء 12: 327.
5- غاية المراد 2: 167.

والحاصل: إن صريح الأولى وإشعار الثانية ومفهوم الثالثة تدل على سقوطها لو أسقطها قبل البيع.

وفيه نظر: فإنها روايات مرسلة وليست مشهورة ليجبر ضعفها، بالإضافة إلى معارضتها بما هو أقوى منها، كرواية القول الأوّل.

الرابع: ما في مجمع الفائدة والبرهان(1): إنّه وعد وقد دلت روايات عديدة على وجوب الوفاء بالوعد؛ لكنها محمولة على الاستحباب للإجماع، ولولا خوف خرق الإجماع لكان القول بوجوب الإيفاء متوجها، وهو دليل لبي، فلا يشمل المقام، للخلاف بين الفقهاء في وجوب الوفاء بالوعد في الشفعة لو أسقطه قبل البيع، فلا يكون المصداق مشمولاً للإجماع فيشمله ظهور روايات وجوب الوفاء بالوعد، فلا حق له في الأخذ بالشفعة.

وفيه نظر لأمور:أوّلاً: إن مفاد الوعد فعل شيء في المستقبل أو تركه، وليس المقام منه، وإنّما هو إسقاط للحق، وهنالك فرق واضح بين الإسقاط الذي هو إنشاء، وبين الوعد لعمل مستقبلي الذي هو إنشاء من نوع آخر، والكلام في الأوّل والدليل المذكور للثاني.

ثانياً: على فرض وجوبه فهو حكم تكليفي والكلام في الحكم الوضعي، ولا تلازم بينهما، وليس معنى وجوب الوفاء بالوعد ترتب الأحكام الوضعية عليه، كما لو وعده أن يهديه هدية، فلو لم يفِ به - على فرض وجوب الوفاء - لم يملكه الموعود له، منتهى الأمر أنه فعل حراماً، وفي المقام على فرض

ص: 287


1- مجمع الفائدة والبرهان 9: 44.

كونه وعداً بالإسقاط ولم يفِ به فهو مجرد حرام لكن لا يلازمه سقوط حقه.

ثالثاً: للإجماع المذكور - على فرض ثبوته - معقد، وهو (وجوب الوفاء بالوعد) ومثله مطلق يشمل المقام أيضاً.

ثم إنه قد أشار في الجواهر(1) إلى لزوم عدم الخلط بين أمرين في المقام.

الأوّل: «إنشاء إسقاطها قبل حصول متعلّقها، فلا ريب في أن الأصح عدم السقوط، بل لا يتصور تأثير الإنشاء قبل حصول متعلّقه مع فرض عدم دليل شرعي».والمعنى أن الحق لا يسقط لعدم تحقق الموضوع، بل هو محال؛ لأن السقوط عرض ومحال تحقق العرض من دون تحقق المعروض، فإن العرض بحاجة إلى الجوهر ليتعلق به، وفي المقام الإنشاء إيجاد ويستحيل انفكاك الإيجاد عن الوجود؛ لأنهما شيء واحد ينسب إلى الفاعل فيكون إيجاداً، وإلى القابل فيكون موجداً، والإيجاد من دون الوجود محال.

الثاني: «الإذن القابل للاستمرار فعلاً أو حكماً حتى يتم العقد على مقتضاه فالمتّجه حينئذٍ الصحة».

أي إذنه في البيع مع استمراره، فلا محذور في الصحة، ونتيجته رضاه بالبيع مما يستلزم سقوط حقه في الشفعة.

وفي كلا الأمرين تأمل.

أمّا الأوّل: لما أجيب في محله مفصلاً، وأن القائل بعدمه إنّما يقول بذلك لعدم الدليل عليه، وإلّا فلا محذور فيه، مما يكشف عن عدم استحالته، وأنه

ص: 288


1- جواهر الكلام 38: 647 (37: 430 ط ق).

ليس من انفكاك الإنشاء عن المنشأ؛ لأنّه اعتبار خفيف المؤونة، فالمولى يفرض حقاً وإن لم يكن موجوداً في الخارج، فلو أسقطه صاحب الحق - وهو في وعاء الفرض - اعتبره المولى ساقطاً عند وجوده.

وأمّا الثاني: فإن كان المراد بالإذن الإذن بالشفعة أو عدمه فلا معنى له، فإنه ليس محلاً لتعلّق الإذن، بل هو حق للشفيع، والإذن يتعلّق بفعلالآخر بأن يأذن أن يقوم بالعمل أو لا، ولا مدخلية له بالحق الشرعي الذي لا يرتبط بفعله.

وإن كان المراد الإذن بالبيع فإن الشريك له الحق في البيع إذن أو لم يأذن، وحتى لو أذن بالبيع فلا معنى لاستمراره بعد تحقق متعلّقه وهو البيع.

والحاصل: إن الأدلة المذكورة لا تنهض لإثبات المدعى؛ ولذا يبقى حقه في الشفعة بعد البيع. نعم، ربما يكون ذلك خلاف المروءة.

المسقط الثالث: لو بلغه البيع ولم يطالب بالشفعة

ومرجعه إلى المسقط الأوّل لكن ذكره في الشرائع مستقلاً وتبعه الفقهاء على ذلك.

قال: «ولو بلغه البيع بما يمكن إثباته به، كالتواتر أو شهادة شاهدي عدل، فلم يطالب وقال: لم أصدق، بطلت شفعته ولم يقبل عذره، ولو أخبره صبي أو فاسق لم تبطل وصدّق، وكذا لو أخبره واحد عدل لم تبطل شفعته وقبل عذره؛ لأن الواحد ليس حجة»(1).

ص: 289


1- شرائع الإسلام 4: 788.

ولكن الأقرب أن الملاك في الواقع علمه وجهله، فلو لم يطمئن إلى البيع - وإن تمت الحجة الشرعية كالتواتر - لم يكن وجه لسقوط شفعته؛ لإطلاقات أدلة الشفعة وعدم جريان أدلة الفور، فإنها لا تشملالمعذور.

نعم، لا بدّ من العمل بالظاهر - حيث لا طريق إلى الواقع - فلو تواتر بيع الشريك وادعى الشفيع عدم التصديق لم يقبل قوله، وحكم بسقوط حقه - وإن لم يسقط واقعاً - . وليس هذا من قبيل ما لا يعرف إلّا من قبله؛ لأن الظاهر حجة.

نعم، لو ثبت أنه شكّاك لا يُصدّق المتواتر، أو علمنا من طريق آخر أنه لم يُصدّق حصول البيع كان ذلك عذراً، ولا يسقط حقه في الشفعة.

ولا فرق في كون الجهل عذراً بين قيام الحجة الشرعية وعدمه؛ لجريان الأدلة التي ذكرناها سابقاً في معذروية عدم العلم.

ثم لو ادعى المشتري على الشفيع العلم بالبيع فأنكر، ففي إلزامه باليمين وجهان:

الأوّل: إن الشفيع أعرف بنية نفسه، وهذا مما لا يعرف إلّا من قبله، فيصدق من دون يمين.

الثاني: إنه عليه الحلف؛ وذلك لأنه منكر، ولا تجري قاعدة ما لا يعرف إلّا من قبله مع الدعوى عليه، فإنها تختص فيما لم يكن هنالك دعوى. كما لو ادعت انتهاء عدتها، حيث يقبل منها، إلّا أنه لو ادعى زوجها بقاءها في العدة ليرجع إليها فلا بدّ من يمينها؛ إذ دليل (لا يعرف إلّا من قبله) يخصَّص بأدلة باب الدعوى، فعليها اليمين.

ص: 290

وفي المقام: الظاهر أن النسبة بين الدليلين العموم من وجه، فيتعارضان في مورد الاجتماع، فإن لم يمكن الجمع الدلالي فالترجيح بالأقوى سنداً، ودليل (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) أقوى سنداً، بل قد يقال: إن (ما لا يعرف إلّا من قبله) دليل لبيّ، لكنه بحاجة إلى مزيد من التحقيق.

المسقط الرابع: جهل الشفيع والمشتري بالثمن

قال في الشرائع: «ولو جهلا قدر الثمن بطلت الشفعة؛ لتعذر تسليم الثمن»(1).

ويتصور جهل المشتري بما لو كان وكيله قد اشتراه، أو نسي الثمن.

وقد مرّ أن العلم بالثمن شرط صحة الشفعة أو شرط تملك العين، فلا يمكن الأخذ بها ما دام الشفيع جاهلاً بالثمن لأنّه غرر، والمشروط عدم عند عدم شرطه.

واستثنى في المسالك(2) من ذلك ما لو بذل الشفيع أكثر من الثمن قطعاً، واعتبر الزائد عن الثمن الواقعي تبرعاً، ورضي المشتري بذلك. فإن لم يرضَ بالتبرع بطلت؛ لعدم إمكان تسليم الثمن.لكن للسيد الوالد رأي آخر في الفقه(3) حاصله: إن تسليم الثمن مترتب على الأخذ بالشفعة لا أنه شرط في صحتها أو التملك.

كما لو أجريت المعاملة، حيث يتحقق النقل والانتقال ويترتب عليه

ص: 291


1- شرائع الإسلام 4: 788.
2- مسالك الأفهام 12: 364.
3- الفقه 79: 391.

تكليف في ذمة المتعاملين، وهو لزوم تسليم الثمن والمثمن، فلو تخلف أحد المتعاملين لم يبطل البيع وإنّما للآخر الخيار. وكذا في الشفعة، فبالأخذ بها يملك الشفيع ويثبت في ذمته الثمن للمشتري، والجهل بمقداره لا يسبب بطلانها؛ لأنّه تكليف آخر، فيلزم الرجوع في تعيينه إلى سائر القواعد، كما لو نسي الثمن في البيع، حيث يتم تعيينه بالقرعة أو قاعدة العدل والإنصاف، أو يرجع إلى ثمن المثل أو نحو ذلك.

ولا يشكل عليه بالغرر للجهل بالثمن حين الأخذ بالشفعة؛ لأنّه قد يحكم بثمن المثل، أو يعين مقداره الحاكم الشرعي، أو يقرع أوّلاً، وبذلك يتعيّن الثمن فيأخذ بالشفعة.

والحاصل: إنّه لا وجه للخلط بين الأخذ بالشفعة وبين تسليم الثمن.

المسقط الخامس: لو أخّر المطالبة توقعاً لوصول المبيع

قال في الشرائع: «ولو كان المبيع في بلد ناءٍ فأخّر المطالبة توقعاً للوصول بطلت الشفعة»(1).واستدل له في الجواهر(2) باستلزامه التراخي - بناءً على اشتراط الفور - ولا يعلم أنّه عذر حتى يتم تخصيص أدلة الفور. نعم، لو ثبت كونه عذراً فلا كلام.

فعلى الشفيع الأخذ بالشفعة بمجرد علمه بالبيع فيملك الشقص، فإن قلنا

ص: 292


1- شرائع الإسلام 4: 788.
2- جواهر الكلام 38: 655 (37: 436 ط ق).

بلزوم أداء الثمن أوّلاً فعليه ذلك، ثم بعد ذلك يتسلّم المثمن، وإن قلنا بالتقابض انتظر المثمن حتى يسلم الثمن.

تتمة: في مسائل متفرقة

المسألة الأولى: جواز الأخذ بالشفعة في غير بلد البيع

قال في التذكرة: «لا يجب الطلب في بلد المبايعة»(1).

أي: لا يلزم أن يكون الطلب في مدينة البيع، بل أين التقى الشفيع بالمشتري أمكنه الأخذ بالشفعة، فلو لم يأخذ بطل حقه بناءً على الفور.

لكن ليست الملاقاة شرطاً في الأخذ بالشفعة، فكلما سمع بالبيع أخذ بها وإن لم يكن المشتري موجوداً، وقد مرّ الكلام في حكم أخذ الشاهد، فراجع.

ثم إنّه بناءً على اشتراط الملاقاة فهل يجب على الشفيع أن يذهب إلى بلد المشتري أو يرسل وكيله لياخذ بالشفعة أو يمكنه الانتظار؟قد يقال(2): إنّه لو كان ذلك عذراً لم يجب الذهاب؛ لتخصيص أدلة الفور بالأعذار، وإلّا سقط حقه في الشفعة، ولكن الظاهر أنّه عذر، فالتأخير لا ينافي الفور(3).

ص: 293


1- تذكرة الفقهاء 12: 322.
2- مفتاح الكرامة 18: 686.
3- لكن قد يقال باختلاف الموارد، فإن كان الذهاب إلى المشتري أو إرسال الوكيل إليه عسراً أو مضراً بحاله كان التاخير عذراً لا يسقط حقه في الشفعة، وإلّا لم يعتبر عذراً (المقرر).
المسألة الثانية: لو بان الثمن مستحقاً

قال في الشرائع: «ولو بأن الثمن مستحقاً بطلت الشفعة لبطلان العقد»(1).

وذلك لأن الشفعة فرع البيع، فلو لم يكن بيع فلا شفعة؛ لأنّه سالبة بانتفاء الموضوع، فإنه وإن قلنا: إن المعاملات وضعت للأعم من الصحيح والباطل إلّا أن الآثار الشرعية تترتب على الصحيح منها فقط، وفي المقام الشفعة لا تترتب على اسم البيع وإنّما على البيع الصحيح.

وفي إطلاقه تأمل؛ حيث لا تبطل الشفعة في بعض الصور وإن كان الثمن مستحقاً؛ وذلك لأنّه تارة يكون العقد على الثمن الكلي وقد أداه من مال مغصوب فهنا لا يبطل البيع، ويبقى الثمن في ذمته، فيجب عليه تسليم مصداق آخر.وتارة يكون الثمن معيناً أو كلياً في المعين وتبين استحقاقه، فلو لم يجز المالك بطل البيع وتتبعه الشفعة، ولو أجاز المالك ففيه صورتان:

الأولى: فقد يجيز ذلك للمشتري فتصبح المعاملة ذات أطراف ثلاثة، حيث خرج الثمن من كيس المالك ودخل المثمن في كيس المشتري، ويرى بعض الفقهاء بطلانها - إلّا على نحو الوكالة - فتبطل الشفعة.

الثانية: وقد يجير ذلك لنفسه فيكون كالبيع الفضولي صحيحاً وتصح الشفعة.

وقد يشكل بأن ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع، حيث قصد المعاملة لنفسه فوقع للمالك، فلا بدّ من الحكم ببطلان البيع.

ص: 294


1- شرائع الإسلام 4: 788.

لكنه غير وارد؛ لأن الغاصب قصد أصل المعاملة، وكان الداعي أن يكون لنفسه، وتخلف الداعي لا يوجب بطلان المعاملة، وتفصيل الكلام في البيع.

المسألة الثالثة: لو تلف الثمن المعين

قال في الشرائع: «وكذا لو تلف الثمن المتعين قبل قبضه؛ لتحقق البطلان على تردد في هذا»(1).

فلو كان الثمن معيناً وتلف قبل تسليمه بطلت الشفعة؛ لأن العوضوالمعوض ركنان في البيع، فلو تلف أحدهما بطل؛ لأن التلف قبل القبض من مال مالكه.

وأمّا الشفعة ففيها أقوال ثلاثة:

القول الأوّل(2): البطلان؛ لأن سببها البيع وببطلانه تكون الشفعة سالبة بانتفاء الموضوع، فإن البيع هو عنوان الشفعة.

وفيه تأمل يظهر من بيان دليل القول الثاني.

القول الثاني(3): عدم البطلان؛ وذلك لأن حق الشفعة ثابت بالبيع، وتلف الثمن قبل القبض موجب لفسخ البيع من حينه لا من أصله، وقد مرّ بقاء الشفعة وإن فسخ ذو الخيار، وعليه فالشقص للشفيع وعليه أداء الثمن للبائع رأساً أو للمشتري. ويكون النماء بين البيع والتلف للمشتري.

ص: 295


1- شرائع الإسلام 4: 788.
2- المبسوط 3: 133؛ تذكرة الفقهاء 12: 222؛ جواهر الكلام 38: 657 (37: 437 ط ق).
3- مختلف الشيعة 5: 359؛ قواعد الأحكام 2: 256؛ مسالك الأفهام 12: 366.

القول الثالث: التفصيل بين الأخذ بالشفعة قبل تلف الثمن أو بعده، كما في الجواهر(1).

فعلى الأوّل: يملك الشفيع الشقص بالشفعة، فيتلف الثمن حين يكون الشقص ملكه، وأمّا الثمن فقد تلف قبل قبضه فتجري فيه قاعدة:(تلف المبيع قبل قبضه من مال مالكه) وبطلان البيع لا يكون سبباً لخروج الشقص عن ملك الشفيع.

وعلى الثاني: لا يبقى موضوع للشفعة وهو (بالثمن) الوارد في الروايات، حيث يبطل البيع بتلف الثمن ويرجع الشقص إلى البائع، ولا ثمن للبائع على المشتري، فكيف يأخذ الشقص من البائع؟

وفيه تأمل: أمّا الشق الأوّل فلا إشكال فيه، وأمّا الثاني فقد مرّ الكلام في أن الشفيع لا يؤدّي عين الثمن للمشتري؛ لأنّه بيد البائع، بل مثله أو قيمته، وهما المراد من (بالثمن) وذلك ممكن فيما لو تلف بعض الثمن في المقام، وحتى لو أخذ بالشفعة قبل التلف لم يمكنه أداء عين الثمن.

والحاصل: إن إطلاق أدلة الشفعة يشمل المقام، سواء أخذ بالشفعة قبل تلف الثمن أم بعده.

المسألة الرابعة: لو تلف المثمن

لو تلف المثمن - أي: الشقص - تلفاً حقيقياً أو حكمياً(2)، كما لو كان

ص: 296


1- جواهر الكلام 38: 658-659 (37: 438 ط ق).
2- الحقيقي: كما لو مات العبد، والحكمي: كما لو سقط المتاع في البحر ولم يمكن إخراجه (السيد الأستاذ).

عبداً - بناءً على جريان الشفعة فيه - فباع أحدهما حصته منه، وقبل تسليمه مات العبد فهل للشفيع حق الشفعة؟

للمسألة صورتان:الأولى: لو أخذ بالشفعة قبل التلف صح، وكان التلف من الشفيع لكونه في ملكه.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّه ما لم يقبض لم يذهب من كيسه، فإن التلف قبل القبض من مال مالكه، فلو لم يسلمه البائع بعد ذهب من كيسه، لا من الشفيع ولا من المشتري، ولو سلمه للمشتري ذهب من كيسه لا من البائع؛ لأنّه باع وسلم، ولا من الشفيع؛ لأنّه لم يقبضه، والتلف قبل القبض من مال مالكه وهو المشتري. هذا إن عممنا القاعدة لتشمل الشفعة.

الثانية: لو أخذ بالشفعة بعد التلف فهو سالبة بانتفاء الموضوع؛ فإن الأخذ بالشفعة إنّما هو لتملك مال الشركة وهو مفقود(1).

المسألة الخامسة: في الطرق الشرعية لإسقاط الشفعة

الكلام في الطرق الشرعية بين البائع والمشتري لإسقاط حق الشفيع موضوعاً وحكماً.

أمّا موضوعاً: فقد مثل له في الشرائع بأمثله:

قال: «أن يبيع بزيادة عن الثمن ويدفع بالثمن عوضاً قليلاً، فإن أخذ الشفيع لزمه الثمن الذي تضمنه العقد، وكذا لو باع بثمن زائد فقبض بعضاً

ص: 297


1- وفيه نظر: لأنه لو كان من حقه ذلك فإن كانت العين موجودة أخذها، وإن فقدت أخذ بدلها، كما مرّ نظير ذلك في بعض البحوث السابقة (المقرر).

وأبرأه من الباقي، وكذا لو نقل الشقص بغير البيع كالهبة أوالصلح»(1).

وأضاف في المسالك(2) أمثلة أخرى:

منها: ما لو باع بعضه بأضعاف القيمة وأهدى له البعض الآخر.

ومنها: ما لو أوكل الشريك في بيع حصته، حيث يرى بعض الفقهاء سقوط حقه في الشفعة لو كان الشريك وكيلاً في البيع، وإن كان فيه تأمل كما مرّ في البحوث السابقة.

ومنها: أن يبيع عشر الشقص - مثلاً - بتسعة أعشار الثمن، ثم يبيع تسعة أعشاره بعشر الثمن، فلا يتمكن الشريك الأوّل من الشفعة؛ لزيادة القيمة في الأوّل، وكثرة الشركاء في الثاني.

ومنها: لو كان الثمن مجهولاً فتبطل الشفعة؛ لأن شرطها معلومية الثمن، كأن يبيع حصته بمليون وخاتم مجهول الثمن، ثم يتلف الخاتم حتى لا تتعين القيمة، فيكون الثمن مجهولاً فيبطل حقه، ولكن قد مرّ الإشكال عليه سابقاً.

وأمّا حكماً: فهو جائز؛ لأنّه من تبديل الموضوع فيتغير به الحكم، ولا دليل على حرمته. نعم، قد يقال بكراهة ذلك، وقد يستدل لهبروايات(3) يستظهر منها ذلك، كقوله(علیه السلام): «ومن دخل مداخل السوء اتهم»(4)، والحيل الشرعية تجعل الإنسان في موضع التهمة. ولا يخفى أن الكراهة إنّما هي

ص: 298


1- شرائع الإسلام 4: 789.
2- مسالك الأفهام 12: 367.
3- الفقه 79: 400.
4- نهج البلاغة، الحكم: 349.

فيما لو جعلته موضعاً للتهمة، لا مطلقاً.

المسألة السادسة: لو ادعى المشتري نسيان الثمن

قال في الشرائع: «ولو ادعى عليه الابتياع فصدقه وقال: أنسيت الثمن، فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف بطلت الشفعة»(1).

وحاصله: إنّه لو ادعى المشتري نسيان الثمن قُبلت دعواه مع يمنيه، وبه تبطل الشفعة.

واستدل له في المسالك(2) بدليلين:

الدليل الأوّل: إنه لا يعلم إلّا من قبله، حيث لا طريق لمعرفة كونه ناسياً أم لا إلّا هو، ومثله يصدق.

الدليل الثاني: إن تكذيبه مستلزم لتخليده في السجن، كالمديون المماطل، فإن السجن جزاء الممتنع عن أداء الحقوق المالية، وفي المقام الحق المالي للشفيع متوقف على معرفة الثمن، فمع عدم تصديق نسيانه يسجن حتى يعترف بمقدار الثمن، وحيث إنه ناسٍ واقعاً يحبس إلى آخرعمره، وهذا مما لا يمكن الالتزام به.

وفيه تأمل: أوّلاً: مبنىً، حيث مرّ أن الجهل بالثمن لا يوجب سقوط حق الشفعة لإطلاق أدلتها.

بل يمكن تعيين الثمن بقيمة المثل ونحوه كما مرّ، بل لو كان الثمن مردداً بين الأقل والأكثر احتمل جريان أصالة عدم الزيادة، وليس من الأصل

ص: 299


1- شرائع الإسلام 4: 789.
2- مسالك الأفهام 12: 369.

المثبت؛ لأن ذمته لم تكن مشغولة بالزيادة قبل الأخذ بالشفعة، فيستصحب براءة ذمته منها بعدها، هذا إن صح الأخذ بالشفعة قبل تعيين الثمن. نعم، إن لزم تعيين الثمن أوّلاً فلا يجري الأصل للعلم بعدم انشغال الذمة بشيء فلا معنى لاستصحاب عدم انشغالها، وعدم انشغالها لا يلازم تعيين الثمن في الأقل أو الأكثر.

وثانياً: لا دليل على التخليد في الحبس فيما نحن فيه، فإنه خاص بالمديون المماطل، وفي المقام حتى لو كان يعلم بالثمن وامتنع لم يشمله دليله، فمَن يضيع حق الغير إمّا أن يغرم إن كان مالياً، أو يعزر إن كان من مورده.

بالإضافة إلى ضعف دليل التخليد في الحبس، فإن الرواية وردت في الوسائل هكذا: «لي الواجد بالدين يحل عرضه وعقوبته»(1)، من دون (حبسه) إلّا أنه حيث أفتى الفقهاء بالحبس فهو خاص بالموردالذي عملوا به، وهو الحق المالي الثابت في ذمته الممتنع عن أدائه، فلا يشمل المانع لحق الغير، فأصل الحكم بالحبس محل نظر، فكيف بالتخليد فيه. وعلى فرض إطلاق الدليل فهو منصرف عن مثل هذه الموارد.

إن قلت: نصت الرواية السابقة على أن الشفعة إنّما هي (بالثمن)، فكيف يتحقق (بالثمن) مع الجهل به؟

قلت: حين الجهل يصبح قيمة المثل هو مصداق (بالثمن)(2)، وإن أبيت

ص: 300


1- وسائل الشيعة 18: 333.
2- وذلك من باب الحكومة، فإن التعيين الشرعي للثمن في ظرف الجهالة بالقرعة أو بقيمة المثل هو مصداق للثمن، ولكنه بحكم الشرع لا بحسب اتفاق المتعاقدين (المقرر).

إلّا عن كون (بالثمن) للمعهود بين المتعاقدين فلا مناص عن تقييد الرواية بما لو كان الثمن معلوماً؛ وذلك كي لا يضيع حق الشفيع، وبعبارة أخرى: يتقدم إطلاق أدلة الشفعة على إطلاق (بالثمن).

ثم بناءً على لزوم اليمين، فإذا نكل، فإن قضينا بالنكول فهو، وإلّا رد اليمين إلى الشفيع، فلو كان يعلم بالثمن حلف عليه وثبتت شفعته، ولكن إن جهل الشفيع بالثمن وكان المشتري ناسياً ففيه احتمالان، كما في المسالك(1):

الأوّل: سقوط المرافعة؛ لعدم إثبات الحق حيث لا بينة للشفيعوالمشتري ممتنع عن اليمين.

الثاني: أن يحلف الشفيع لإثبات دعواه(2)، فإن حلف ثبت وحكم على المشتري بالسجن على تأمل مرّ الكلام فيه.

وإن لم يعلم الشفيع أن المشتري جاهل أو عالم فالدعوى ساقطة، فلا حق للشفعة. هذا كله إن لم نقل بقيمة المثل وإلّا كانت الشفعة بحسبها.

ثم قال في الشرائع: «أمّا لو قال: لم أكن أعلم كمية الثمن لم يكن جواباً صحيحاً، وكلف جواباً غيره، وقال الشيخ: ترد اليمين على الشفيع»(3).

وذلك لأن في قوله المذكور احتمالين:

ص: 301


1- مسالك الأفهام 12: 369.
2- أي: كذب المشتري.
3- شرائع الإسلام 4: 789.

الأوّل: أن يكون جاهلاً بالثمن في أصل البيع ومؤداه إلى بطلان البيع(1)، فكلامه غير مسموع لما سيأتي.

الثاني: أن يكون الثمن قيمياً - كخاتم - ولا يعلم قيمته، فالبيع صحيح وكلامه مسموع.

وحيث يوجد احتمالان فعليه البيان، فلو بيّن المراد وكان قيمياً يجهلثمنه فعليه الحلف، فتسقط الشفعة على المشهور.

ص: 302


1- لا وجه للحكم بالبطلان على إطلاقه، فقد يكون الوكيل هو طرف العقد فالمشتري جاهل بالثمن في أصل البيع والمعاملة صحيحة (المقرر).

فصل: في التنازع

اشارة

يقع البحث في هذا الفصل في بيان مسائل التنازع بين البائع والمشتري، أو بين البائع والشفيع، أو بين المشتري والشفيع، أو مع الأجنبي والكلام في مقامات ثلاث:

المقام الأوّل: اختلاف المشتري والشفيع

اشارة

لو اختلف المشتري والشفيع في الثمن فلا بدّ من تعيين المدعي والمنكر ليتضح الحكم.

ذهب المشهور(1) إلى أن المشتري منكر فالقول قوله مع يمينه، لكن ذهب ابن الجنيد(2) إلى أن الشفيع منكر وتبعه في المسالك(3)، ورجحه السيد الوالد(4)، وفصّل المحقق السبزواري في الكفاية(5) بأنّه لو كان قبل الأخذ بالشفعة فكالمشهور، وإن كان بعده فكالثاني.

ص: 303


1- المبسوط 3: 110؛ الكافي في الفقه: 362؛ تذكرة الفقهاء 12: 292؛ جواهر الكلام 38: 668 (37: 444 ط ق).
2- مختلف الشيعة 5: 347.
3- مسالك الأفهام 12: 371.
4- الفقه 79: 408.
5- كفاية الأحكام 1: 550.

واستدل للمشهور بأدلة(1):

الدليل الأوّل: لأنّه أعلم بالعقد، فيرجح قوله، أمّا الشفيع فهو أجنبي عنه، وإنّما له مجرد حق.

وفيه تأمل: أوّلاً: قد يكون الشفيع أعلم لحضوره في مجلس العقد دون المشتري، كما لو حضر وكيله، أو كان الشفيع وكيلاً عن المشتري في إجراء العقد.

ثانياً: على فرض كونه أعلم فلا دليل على ترجيح قوله، فلو جرى العقد بين البائع ووكيل المشتري ثم اختلف مع المشتري في الثمن فالقول قول المشتري إجماعاً؛ لأنّه منكر الزيادة مع أن البائع أعلم بالثمن لحضوره في العقد والمشتري غائب.

ثالثاً: ليس النزاع في أصل العقد حتى يسمع قول الأعلم به، فلا اختلاف في العقد ومنشأيته للشفعة، وكونه أعلم من غيره لا يؤثر في الشفعة، وإنّما الاختلاف في كمية الثمن الذي يؤدى للمشتري، والأصل مع مدعي الأقل وهو الشفيع(2).

الدليل الثاني: ما في الشرائع، حيث قال: «لأنّه الذي ينتزع الشيءمن يده»(3).

ص: 304


1- مسالك الأفهام 12: 370-371؛ جواهر الكلام 38: 668-669 (37: 444-445 ط ق).
2- الدليل المذكور ناظر إلى الأعلمية بالثمن باعتبار كونه أعلم بالعقد، فلا يرد عليه الوجه الثالث (المقرر).
3- شرائع الإسلام 4: 789.

فالمشتري بيده الشقص ويراد انتزاعه منه، فلا يرفع عنه يده إلّا بدليل.

وبعبارة أخرى: - وقد ذكره البعض دليلاً مستقلاً - بأنه ذو اليد فيكون قوله مسموعاً.

وفيه تأمل: أمّا كبرىً: فلا دليل على إزالة ملك المالك إلّا بما يدعيه، وحدود قاعدة اليد هو ملكية من بيده الشيء وسماع إقراره به، أمّا لو تعلّق حق الغير بما في يده فادعى أن ثمنه كذا فلا دليل على شمول القاعدة له، كالمفلس المحجور عليه لو ادعى أن متاعه المعروض للبيع بألف دينار وادعى الدائن أنّه خمسمائة، فإنه من التداعي.

وأمّا صغرىً: فإنه بمجرد الأخذ بالشفعة يصبح الشفيع مالكاً، فلا يكون المشتري ذا اليد، وإن كان الشقص بيده، وقاعدة ذي اليد إنّما تجري مع الجهل، فلو علم أنه غير مالك فلا تجري وإن كان بيده.

الدليل الثالث: إن المدعي هو من إذا ترك ترك، وهذه القاعدة تنطبق على الشفيع؛ لأنّه لو ترك الشقص ترك، وكما في المسالك: «وبأن المشتري لا دعوى له على الشفيع؛ إذ لا يدعي شيئاً في ذمته ولا تحت يده، وإنّما الشفيع يدعي استحقاق ملكه بالشفعة بالقدر الذي يعترف بهالشفيع والمشتري ينكره»(1).

ولكنه محل تأمل، أمّا كبرىً: فإن التعريف المذكور للمدعي أوّل الكلام، حيث لم تدل عليه رواية وإنّما هو من كلام الفقهاء، ولتفصيل الكلام في ذلك راجع الفقه.

ص: 305


1- مسالك الأفهام 12: 371.

وأمّا صغرىً: فالقاعدة تنطبق على المشتري، فإنه قبل الأخذ بالشفعة ليس الشفيع مطالباً بالأخذ بها، فلا ادعاء أصلاً(1)، وأمّا بعدها فلا خلاف بينهما في الأقل وإنّما المشتري يطالب بالزيادة، فلو سكت تُرك، وحيث لم يسكت ويطالب بالزيادة فهو مدعٍ.

من هذا البيان يظهر دليل التفصيل، فإن القول قول المشتري قبل الأخذ بالشفعة وقول الشفيع بعده؛ لأنّه وإن ترك كان عليه اليمين ببراءة ذمته من الزائد.

وفيه نظر: إذ مع عدم الأخذ بالشفعة فلا نزاع، وإنّما النزاع بعد الأخذ بها والاختلاف في الثمن، فالتفصيل المذكور خارج عن الموضوع.

الدليل الرابع: إن المشتري هو الغارم فالقول قوله، فلو كان المشتري قد اشتراه بالأكثر لتضرر بأخذ الأقل.وفيه نظر: أمّا كبرى: حيث لا دليل على كون الغارم هو المشتري ليكون منكراً إلّا الاستحسان، بل هو مخالف للأدلة.

وأمّا صغرى: فإن الشفيع أيضاً غارم حيث يؤدّي الأكثر إلى المشتري، فلا يعلم أيهما المتضرر إن أعطى الأقل تضرر المشتري، وإن أعطى الأكثر تضرر الشفيع، فكما يمكن أن يكون المشتري غارماً كذلك يمكن أن يكون الشفيع.

ص: 306


1- وفيه نظر: فإن النزاع متصور قبل الأخذ بالشفعة، فإن الشفيع يريد معرفة الثمن ليأخذ بالشفعة أو يترك، فيدعي أن الثمن هو الأقل والمشتري يدعي أنه الأكثر، فيحصل النزاع (المقرر).

وبعد ضعف الأدلة المذكورة لا يبقى للمشهور إلّا الإجماع المدعى والشهرة.

أمّا الأوّل فلم يثبت بالإضافة إلى استناده، والثاني ليس بحجة لكونها شهرة فتوائية.

ومن خلال المباحث السابقة يظهر دليل القول الآخر، وهو كون المشتري مدعياً للزيادة فعليه البينة، وإلّا حلف الشفيع.

ولو أقاما بينة قبلت بينة المدعي على المشهور ولا يتعارضان؛ لأن حجيتهما خاصة بباب التداعي، وليست من وظيفة المنكر إقامة البينة. فإطلاق قول الشرائع: «وإن أقام أحدهما بينة قضي له»(1)، محل إشكال.

ولو حلف المدعي لم يقبل منه لنفس العلة.

وهنا فرعان:

الفرع الأوّل: شهادة البائع للمشتري أو الشفيع

هل شهادة البائع لنفع المشتري أو الشفيع مسموعة؟

فيه أقوال ثلاثة(2)، ثالثها: التفصيل بين ما لو قبض الثمن فتسمع لنفع المشتري، وبين ما لو لم يقبض فتسمع لنفع الشفيع.

القول الأوّل: لا تسمع شهادة البائع مطلقاً، واستدل له بدليلين(3):

الدليل الأوّل: إن البائع متهم لأنه يجر النفع إلى نفسه، سواء شهد لنفع

ص: 307


1- شرائع الإسلام 4: 789.
2- مسالك الأفهام 12: 374-375؛ جواهر الكلام 38: 379 (37: 452 ط ق).
3- جامع المقاصد 6: 463؛ مسالك الأفهام 12: 374-375.

المشتري أم الشفيع، وشهادة المتهم مردودة.

ووجه جرّه النفع لنفسه - فيما لو شهد للمشتري - يظهر من خلال موارد عديدة:

منها: إنه لو شهد بنفع المشتري فيثبت الثمن الأكثر، فيلزم على المشتري أن يؤدّي الأكثر للبائع. وإن كان قد قبض الثمن فيتصور نفعه بما لو تبين كون الثمن مستحقاً، فعلى المشتري تسديده مجدداً، فسواء كان قد قبض البائع الثمن أم لا فهو ذو نفع.

ومنها: إنّه لو ثبت الثمن الأكثر فقد لا يأخذ الشفيع بالشفعة لكثرته، فتعود العين إلى البائع، فيما لو ظهر عيب أو غبن ففسخ، بخلاف ما لوأخذ الشفيع بالشفعة، حيث لا تعود العين إليه وإنّما بدلها، فبالشهادة لنفع المشتري ينفّر البائع الشفيع ليعود إليه العين بعد الفسخ.

ويتصور نفع البائع - فيما لو شهد للشفيع - في موارد أيضاً:

ومنها: لو ثبت كون الثمن هو الأكثر تبين غبن المشتري فيكون له حق الفسخ، فيشهد البائع لنفع الشفيع ليثبت أن الثمن هو الأقل فلا يثبت الغبن، فلا يحق للمشتري الفسخ.

ومنها: لو ظهرت العين معيبة وفيها الأرش، فمع كون الثمن هو الأكثر لزاد الأرش على البائع، فيشهد بالثمن الأقل ليؤدّي أرشاً أقل.

والحاصل: إن البائع متهم بأنه يشهد لأحدهما لينتفع فلا تقبل شهادته.

وفيه نظر: أمّا صغرىً: فقد يكون هنالك نفع للبائع في الصور المذكورة على رغم الإشكال في بعضها، إلّا أنه ليس الأمر كذلك دائماً، فقد لا ينتفع

ص: 308

البائع من الشهادة أبداً، كما لو كان يريد التخلص من المبيع ولم يكن هنالك عيب ولا غبن، ولم يكن قد قبض الثمن من المشتري فشهد بنفع الشفيع، فلا بدّ من القول بقبول شهادته لعدم التهمة. والحاصل: إن الدليل أخص من المدعى.

وأمّا كبرىً: فلا دليل على رد شهادة كل ذي نفع إن كان ثقة عادلاً، ولذا لم يفتِ بذلك الفقهاء في شهادة الزوج لزوجته أو الابن لأبيه أوبالعكس، بل إطلاق أدلة الشهادات جارية.

الدليل الثاني: ما عن الشيخ الطوسي(1): من أنّه شهادة على فعل نفسه؛ وذلك لأن مفاد اختلاف الشفيع والمشتري على الثمن هو اختلافهما فيما اتفق عليه البائع والمشتري، فشهادة البائع شهادة على فعل نفسه، والمنساق من إطلاق الأدلة عدم قبول شهادة الإنسان على فعل نفسه، بل إنّما تكون الشهادة على فعل الغير.

وفيه تأمل: فإن المهم في الشهادة عدالة الشاهد، وأن لا يتحد الشاهد مع المدعي، كما لو اختلف زيد وعمرو في أنه أيهما اشترى الكتاب، فشهد البائع أنه باعه لزيد، حيث تشمله أدلة الشاهد من غير انصراف، بل قد تكون شهادته أقوى من غيره؛ لأنّه بائع فيكون أعرف بمن اشترى منه. فدعوى انصراف أدلة الشهادات عن فعل الإنسان نفسه بلا وجه.

نعم، لو كان مدعياً وشهد على فعل نفسه لم يقبل؛ لإطلاق المدعي عليه دون الشاهد عرفاً، وأدلة الشهادات منصرفة عنه.

ص: 309


1- المبسوط 3: 110.

القول الثاني(1): شهادة البائع مسموعة وقد رجحه السيد الوالد(2).واستدل له بعموم أدلة الشهادات، ولا وجه لرد قول الثقة الذي هو حجة لمجرد التهمة المحتملة كما في مفتاح الكرامة(3).

نعم، يشترط أن يشهد للمدعي لأنّه عليه البينة، وأمّا لو شهد للمنكر فلا يسمع؛ لأن وظيفة المنكر اليمين لا إقامة البينة.

ومن ذلك يظهر دليل القول بالتفصيل؛ وذلك لأنّه لو كان قد قبض الثمن فشهادته بنفع المشتري مقبولة حيث لا تهمة أصلاً؛ لوصول حقه إليه، بل شهادته للمشتري متضمنة للضرر عليه؛ لتضمنه الإقرار على أنه لو كان فيه عيب أو نقص فعليه أن يؤدّي أرشاً أكثر، أو كان غبن فعليه الدرك الأكثر.

وأمّا قبل قبض الثمن فشهادته بنفع الشفيع مقبولة حيث الثمن الأقل، فتكون بضرر البائع، وشهادته بنفع المشتري غير مسموعة؛ لأنها شهادة لنفع نفسه.

وفيه نظر: لما ذكرناه في المبنى بالإضافة إلى أن الاحتمالات المذكورة مما لا يعتني بها العقلاء.

الفرع الثاني: لو اختلف المشتري والشفيع في الزرع ونحوه

لو كان في الشقص المأخوذ شفعة زرع أو بناء فاختلفا، فقال الشفيع: إنها كانت من قبل فتدخل في الشفعة، وقال المشتري: إنه أحدثها بعدالشراء،

ص: 310


1- قواعد الأحكام 2: 261؛ مفتاح الكرامة 18: 741.
2- الفقه 38: 412.
3- مفتاح الكرامة 18: 741-742.

كان القول قول المشتري؛ لأنّه ذو اليد، وكلامه مسموع من دون حاجة إلى بينة.

وللتوضيح: إن الأرض مال الشركة وفيها حق الشفعة، وأمّا الزرع والبناء فلم يثبت أنّهما ضمن مال الشركة فثبوت الشفعة فيهما بحاجة إلى دليل، والتمسك بدليل الشفعة تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وبعد عدم جريان دليل الشفعة فيهما يجري دليل اليد بلا إشكال، إلّا أن يقيم الشفيع البينة.

المقام الثاني: اختلاف البائع والمشتري

اشارة

إذا لم يكن الشفيع طرف النزاع - وإنّما كان النزاع بين البائع والمشتري - فما الذي يؤدّيه الشفيع للمشتري؟

قال في الشرائع: «ولو كان الاختلاف بين المتبايعين ولأحدهما بينة حكم بها، ولو كان لكل منهما بينة قال الشيخ: الحكم فيها بالقرعة، وفيه إشكال؛ لاختصاص القرعة بموضع اشتباه الحكم، ولا اشتباه مع الفتوى بأن القول قول البائع مع يمينه مع بقاء السلعة، فتكون البينة بينة المشتري»(1).

وللمسألة صور ثلاثة: إمّا أن يكون لهما بينة أو لأحدهما أو لا بينة لهما.ولتوضيح الحكم لا بدّ من تشخيص المدعي من المنكر أوّلاً، ثم ملاحظة الأدلة الخاصة في المقام.

فنقول: من الواضح أن المدعي هو البائع؛ لأنّه يطلب الزيادة، والمشتري منكر لها، فمقتضى القاعدة أن البينة على البائع، فإن لم تكن له بينة حلف

ص: 311


1- شرائع الإسلام 4: 789.

المشتري.

ولو أقام المشتري بينة أو أقاما بينة لم تسمع بينة المشتري لأنّه منكر، هذا حسب القواعد العامة.

لكن هنالك رواية خاصة في سندها سهل بن زياد، كما في الكافي(1)، والمشهور ضعفه(2)، لكن في التهذيب(3) سند آخر خال عن سهل، وهو الشيخ الطوسي بسنده عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، وطريقه إليه صحيح، وهو من أصحاب الإجماع، إلّا أنها مرسلة، لكن يمكن اعتبارها على مباني ثلاثة نرتضيها:

أوّلاً: اعتبار مشايخ الثلاثة الذين لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة.

ثانياً: اعتبار روايات أصحاب الإجماع.وثالثاً: اعتبار الضعيف المنجبر بعمل المشهور، وكل المباني تنطبق عليها، فعن أبي عبد اللّه(علیه السلام): «في الرجل يبيع الشيء فيقول المشتري هو بكذا وكذا بأقل مما قال البائع، قال: قال: القول قول البائع إذا كان الشيء قائماً بعينه مع يمينه»(4).

ص: 312


1- الكافي 5: 174، وفيه: عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد محمّد بن أبي نصر، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام)... .
2- فهرست أسماء مصنفي الشيعة: 185؛ الفهرست: 142؛ رجال ابن داود: 249؛ نقد الرجال 2: 81.
3- عنه، عن معاوية بن حكيم، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن رجل، عن أبي عبد اللّه(علیه السلام)... .
4- تهذيب الأحكام 7: 230.

ومفهومه أنه مع تلف العين ليس القول قول البائع، وبه أفتى صاحب الشرائع(1).

ويأتي هنا بحث في إقامتهما للبينة، حيث ذهب الكثير إلى أن البينة على المشتري؛ لأن مفاد القول قول البائع مع يمينه هو ذلك، فإن البينة على المدعي قاعدة عامة، وهنالك قاعدة أخرى هي: إن البينة لطرف الذي يكون القول قوله مع يمينه.

وبعبارة أخرى: إن البينة للخارج وإن كان منكراً، ولا تقبل بينة الداخل، لكن القول قوله مع يمينه.

مثلاً: لو اختلفا في طفل بيد أحدهما سمع قول مَن بيده الطفل مع اليمين، مع أنهما مدعيان، وعلى الثاني إقامة البينة، ولو أقاما بينة لم تسمع بينة الداخل؛ لأنّه ليس من وظيفته إقامة البينة. هذا ما ذكره جمع منالفقهاء(2).

وأمّا تطبيق القاعدة على المقام: فالبائع يدعي الزيادة والمشتري منكر، وحيث إن العين موجودة فالقول قول البائع، بمعنى أنه داخل، وأمّا المشتري فهو خارج وعليه البينة وإن كان منكراً. فلو أقاما البينة لم تسمع بينة البائع وإن كان مدعياً؛ لأن الداخل وظيفته اليمين لا البينة، والمشتري وإن كان منكراً إلّا أن عليه البينة.

وفيه تأمل: فإن قاعدة البينة على المدعي قاعدة كلية خصصت بما لو

ص: 313


1- شرائع الإسلام 4: 789.
2- الفقه 79: 453.

اختلف المتبايعان مع بقاء العين ليكون القول قول البائع مع يمينه إذا لم يكن للمشتري بينة، فلا بدّ من تخصيص القاعدة بهذا المقدار فقط، أمّا صورة وجود البينة للمشتري فالمخصص ساكت عنها، فتشملها القاعدة العامة، فإن العام المخصص يرفع اليد عنه في مورد الخاص فقط لا غيره.

وفي المقام: البائع مدعٍ فتسمع بينته دون المشتري عكس ما ذهب إليه في الشرائع.

وبعبارة أخرى: دل الدليل الخاص على سماع قول الداخل مع يمينه، لكن لم يدلْ على عدم سماع بينته.

نعم، في صورة واحدة تسمع بينة المشتري إن لم يكن للبائع بينة؛وذلك لأن البائع يدعي الزيادة فالقول قوله للنص الخاص، فوظيفة المشتري إقامة البينة، فإن أقامها لم تصل النوبة إلى يمين البائع، فمورد الرواية إذا لم يكن لهما بينة ليكون القول قول البائع، وفي غير هذا المورد لو أقام المشتري البينة سمعت، ولو أقاماها سمعت بينة البائع؛ لأن المشتري منكر تشمله القاعدة العامة.

وأمّا ما ذهب إليه الشيخ الطوسي من القرعة(1) فعلى مبناه صحيح؛ لأن مورد الرواية فقدان البينة، وحيث أقاما البينة تعارضا وتساقطا فتكون القرعة؛ لأنها لكل أمر مشكل. وأمّا على مبنى الشرائع فالبينة على المشتري فلا قرعة، وأمّا على المختار فتسمع بينة البائع فلا قرعة أيضاً.

ص: 314


1- المبسوط 3: 110.

والحاصل: لو لم يكن هنالك بينة كان القول قول البائع، ولو أقام المشتري البينة سمعت، ولو أقاما البينة سمعت بينة البائع؛ لأنّه مدعٍ.

ثم إنّه لو حكم الحاكم لأحدهما - على أيّ مبنى كان - فما هي وظيفة الشفيع؟

فإن حكم بنفع المشتري وثبت كون الثمن هو الأقل أعطى الشفيع الأقل وأخذ العين بالشفعة، وإن حكم بنفع البائع وثبت كون الثمن هو الأكثر أعطى الشفيع الأقل أيضاً؛ لإقرار المشتري بعدم استحقاقه أكثر منذلك، وأن البائع يأخذ الزيادة منه ظلماً أو بالحكم الظاهري، فلا معنى لإعطائه الزيادة للمشتري على ما رجحه جمع من الفقهاء منهم العلامة والشهيد الثاني(1).

وذهب(2) آخرون إلى لزوم إعطاء الأكثر لأنّه الثابت شرعاً.

لكن لا وجه له؛ لأن الثابت شرعاً هو حكم ظاهري، ولا يكون سبباً للعمل بخلاف الواقع لمَن يعلمه، كما لو رأى الهلال وشهد عند الحاكم لكن لم تكتمل الشهادة بشاهد آخر مثلاً، فحكم الحاكم بكونه من شهر رمضان، ومع ذلك يحرم على الشاهد الصيام؛ لأنّه يعلم بالواقع وحكم الحاكم ظاهري، وقد مضى بعض الأمثلة لذلك من الفقه، فراجع.

وقد استدل في الإيضاح(3) بدليل آخر على لزوم أداء الشفيع للمشتري ما أثبته الحاكم الشرعي بين المتبايعين، وهو: لزوم عدم التضاد بين الأحكام،

ص: 315


1- مسالك الأفهام 12: 375؛ تذكرة الفقهاء 12: 294؛ الفقه 79: 415.
2- جواهر الكلام 38: 686 (37: 456 ط ق).
3- إيضاح الفوائد 2: 224.

فلو أدى الأقل حسب إقرار المشتري لزم التضاد، فمن جهة يحكم الحاكم بكون الثمن بين المتبايعين هو الأكثر، ومن جهة على الشفيع أن يؤدّي الأقل، وهذا تضاد.

وأوضحه في مفتاح الكرامة(1) بأنّه دل الدليل على أنه لا يحكم فيقضية واحدة بحكمين مختلفين، وكما في الفصول(2) فإن القضية الواحدة لا تتحمل اجتهادين.

وفي المقام القضية الواحدة هي مقدار الثمن، فإن قلنا: إن على المشتري أن يؤدّي إلى البائع الأكثر حسب ادعائه، وإن على الشفيع أن يؤدّي إلى المشتري الأقل حسب إقراره صار حكمان في قضية واحدة.

وتفصيل البحث في مباحث الإجزاء، وله مصاديق كثيرة، وهي محل الابتلاء، كما لو قلّدا مَن يفتي بنشر الحرمة بخمسة عشر رضعة فتزوجا لأنهما ارتضعا عشرة رضعات، ثم مات المرجع فقلدا مَن يفتي بنشر الحرمة بعشرة، فالقضية الواحدة لا تتحمل اجتهادين بأن نقول: لم تنشر الحرمة أوّلاً ثم نشرت، وكذلك موارد كثيرة أخر في التقليد.

وفيه نظر لوجهين:

الأوّل: صغروياً بما في مفتاح الكرامة(3): من أنهما قضيتان لا قضية واحدة، إحداهما أن على المشتري أن يؤدّي إلى البائع الأكثر، والأخرى أن

ص: 316


1- مفتاح الكرامة 18: 748.
2- نقله عنه: أجود التقريرات 1: 205.
3- مفتاح الكرامة 18: 745.

على الشفيع أن يؤدّي للمشتري الأقل، وقد ثبتت الأولى بالبينة - مثلاً - والثانية بإقرار المشتري.

ولذا فكك الفقهاء كثيراً في جريان الأصول العملية لأنهما قضيتان،كما في وضع اليد النجسة في الماء المشكوك كريته، حيث يحكم بطهارة الماء ونجاسة اليد، مع أنه إن كان كراً كانا طاهرين، وإن كان قليلاً كانا نجسين، فيفكك بينهما باستصحاب نجاسة اليد وطهارة الماء.

الثاني: كبروياً: بأنه لا دليل على أنّه لا يحكم في قضية واحدة بحكمين مختلفين، حيث إنّها رواية عامية(1) خاصة مع ثبوت عدم صحة الأوّل، كما لو ادعى أنّه ملكه وأقام البينة فحكم له، ثم تبين بطلانها فيسترجع، بل دلت الآية الكريمة على ثبوت حكمين في قضية واحدة فيما لو ثبت عدم صحة الأولى حيث قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ ٭ فَإِنۡ عُثِرَ عَلَىٰٓ أَنَّهُمَا ٱسۡتَحَقَّآ إِثۡمٗا فََٔاخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَٱسۡتَحَقَّ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَوۡلَيَٰنِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَٰدَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَٰدَتِهِمَا وَمَا ٱعۡتَدَيۡنَآ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٭ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِٱلشَّهَٰدَةِ عَلَىٰ وَجۡهِهَآ أَوۡ يَخَافُوٓاْ أَن تُرَدَّ أَيۡمَٰنُۢ بَعۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡمَعُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ}(2)، وعليه لو ثبت خلاف الحكم الظاهري

ص: 317


1- راجع هامش جواهر الكلام 38: 685.
2- سورة المائدة، الآية: 106-108.

بالعلم أو القرينة الشرعية تبدل الحكم.

فرع: في اختلاف المتابعين في قيمة الثمن

لو كان الثمن قيمياً وحصل الخلاف بين المتبايعين في قيمته، فإن كان قد تلف أو كان بحكمه فالكلام كالكلام السابق، والمختار أن القول قول منكر الزيادة.

وإن كانت العين موجودة سئل عنها أهل الخبرة إن كان من موارد الرجوع إليهم، وعلى الشفيع أداء ما يعينه أهل الخبرة، سواء طابق مدعى البائع أم المشتري أم لا، فإنه عليه أداء القيمة الواقعية لا ما يدعيه أحدهما. فإن لم يكن هنالك خبير أو لم يعرف الخبير قيمته، فقد قال العلامة: «لو اختلفا في قيمة العوض المجعول ثمناً عُرض على المقومين، فإن تعذر قدم قول المشتري على إشكال»(1).

وقد أشكل عليه المحقق الكركي بإشكالين:

أوّلاً: قال: «لا معنى للاختلاف في القيمة مع وجود العين وإمكان استعلام قيمتها»(2)، فإن الاختلاف إنّما هو مع عدم إمكان تعيين القيمة، فلو اختلفا في قيمة كتاب مع وجود الخبير في تعيين أسعار الكتب لم يسمَّ اختلافاً.

وفيه تأمل: لأن المتبايعين لو اتفقا على القيمة فلا وجه لمراجعة الخبير؛ لأن الحق لا يعدوهما، وإنّما يراجع الخبير مع عدم العلم بالقيمةمن دون اختلاف أو مع الاختلاف، والثاني اختلافٌ حقيقةً وإن أمكن رفعه بسهولة.

ص: 318


1- قواعد الأحكام 2: 261.
2- جامع المقاصد 6: 465.

بالإضافة إلى أن الوصول إلى المقوّم قد يكون بحاجة إلى زمان ومؤونة، كما لو كان في بلد آخر، كما في مفتاح الكرامة(1).

ثانياً(2): لا فرق بين هذه المسألة وما سبقها، فلو اختلف المشتري مع الشفيع في الثمن النقد حكم العلامة بأن القول قول المشتري، لكنه أشكل فيما لو اختلفا في قيمة القيمي، مع أنّهما من وادٍ واحدٍ، فإمّا أن يكون القول قول المشتري، أو يكون القول قول البائع في كليهما.

إلّا أن البعض(3) وجه كلام العلامة بأن المشتري حيث انتزع منه الملك قهراً، فلا يقهر ثانياً بتقديم قول الشفيع عليه في تعيين القيمة.

وفيه نظر: فإنه لا يدفع الإشكال المذكور ويجري في المسألة السابقة أيضاً، حيث إن الثمن نقد، هذا أوّلاً.

ثانياً: إنّه مجرد استحسان، فلو دل الدليل على قهره أكثر من مرة اتّبع، وقد دل الدليل في المقام مرة لأدلة الشفعة، ومرة أخرى لدليل اليمين على من أنكر.

المقام الثالث: لو ادعى البيع لأجنبي فأنكر الأجنبي

اشارة

قال في الشرائع: «قال في الخلاف: إذا ادعى أنه باع نصيبه من أجنبي فأنكر الأجنبي، قضي بالشفعة للشريك بظاهر الإقرار، وفيه تردد، من حيث وقوف الشفعة على ثبوت الابتياع، ولعل الأوّل أشبه»(4).

ص: 319


1- مفتاح الكرامة 18: 752.
2- جامع المقاصد 6: 466.
3- كنز الفوائد في حل مشكلات القواعد 1: 705.
4- شرائع الإسلام 4: 789.

بيانه: إنه لو ادعى أحد الشريكين أنه باع حصته، لكن أنكره المشتري فهل لشريكه حق الشفعة؟ فيه قولان:

القول الأوّل: ما ذهب إليه الشيخ الطوسي في الخلاف(1) من ثبوت حق الشفعة.

واستدل(2) له بأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، وللبائع إقراران: إقرار في حق المشتري بالبيع له، فلو أنكره المشتري لم يثبت عليه آثار الشراء، كلزوم دفع الثمن، وإقرار آخر في حق الشفيع بأن له حق الشفعة ويمكنه أخذ الشقص. فلو ألغي أحد الإقرارين شرعاً فلا وجه لإلغاء الثاني، وليس الحكمان متلازمين حتى يقال بلزوم ثبوت البيع أوّلاً حتى تثبت الشفعة.

وبعبارة أخرى: إن الشفعة تابعة للبيع ثبوتاً، والطريق إلى معرفة الواقع هو الثبوت الشرعي للبيع بإقرار المتبايعين؛ لأن الحق لا يعدوهما، أو البينةأو إقرار أحدهما، لكن حيث أنكره المشتري فلا يمكن إثبات شيء على ذمته، فهو إقرار على النفس وعلى الغير، فيثبت ما كان على النفس ويترتب عليه آثاره ومنها الشفعة.

القول الثاني: ما ذهب إليه ابن إدريس وجمع من الفقهاء(3): من عدم ثبوت حق الشفعة.

ص: 320


1- الخلاف 3: 451.
2- مسالك الأفهام 12: 378؛ إيضاح الفوائد 2: 225؛ جواهر الكلام 38: 688 (37: 457 ط ق)؛ الفقه 79: 421.
3- السرائر 2: 394؛ جواهر الكلام 38: 689 (37: 458 ط ق).

واستدل له بأربع أدلة(1):

الدليل الأوّل: إن الشفعة لا تستحق إلّا بعد ثبوت البيع، ولم يقع البيع ظاهراً، ولم يحكم به الحاكم.

وفيه إشكالات ثلاث:

الأوّل: إن الشفعة متوقفة على البيع واقعاً لا على ثبوته، فلو باع ثم أنكر ظاهراً ثبتت الشفعة؛ وذلك لما بحث في الأصول من أن الآثار مرتبطة بالواقع لا الظاهر. نعم، لا طريق لإثباتها، فلو كان الشفيع يعلم بالبيع لكونه حاضراً في مجلس العقد مثلاً، والبائع مقر به، فلِمَ لا تثبت الشفعة؟

الثاني: سلمنا أن الشفعة ترتبط بثبوت البيع، إلّا أنّها في المقام ثابتة في حق البائع لإقراره، وهو من مثبتات الحقوق، وإن لم تثبت في حقالمشتري، ولا إشكال في التفكيك في الأحكام الظاهرية(2).

الثالث: إن عدم حكم الحاكم بالبيع أوّل الكلام، بل عليه الحكم بذلك، وترتيب كل آثار البيع من جهة البائع، ولا محذور في التفكيك.

الدليل الثاني: إن الشفيع يتلقى الشقص من المشتري وحيث ينكره فلا

ص: 321


1- جواهر الكلام 38: 689 (37: 458 ط ق).
2- ولا يخفى أن دليل «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» رواية مرسلة في عوالي اللئالي [1: 223]، والبحث في اعتبار الكتاب ومؤلفه في محله، إلّا أن كثرة استناد الفقهاء إليها في كتبهم الفقهية وفتواهم بها يجعلها معتبرة، فهي مرسلة مجبورة بعمل المشهور، بل كاد أن يكون إجماعاً، حتى أن صاحب الوسائل ذكرها في الوسائل [23: 184] قال: وروى جماعة من علمائنا في كتب الاستدلال عن النبي| أنه قال: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»، مع أنّه التزم عدم نقل النبويات الواردة في الكتب الفقهية لخوف كونها عامية! (السيد الأستاذ).

بدّ وأن يتلقاه من البائع، وهو خلاف الإجماع.

وفيه نظر: فقد مرّ أن المشتري لو امتنع عن الأداء أو كان غائباً أو لم يتسلّمه من البائع جاز للشفيع أن يتلقاه حيث وجده ولو عند البائع، كما هو الحال في كل مالك، فإنه يأخذ ملكه حيث وجده، والشفيع مالك بمجرد الأخذ بالشفعة.

الدليل الثالث: إن الأصل عدم ثبوت الشفعة لكون الناس مسلطون على أموالهم، وقد خرج منه بالدليل الخاص موارد الشفعة، وحيث يشك أن المقام منه يرجع إلى الأصل الأوّلي.

وفيه نظر: لتخصيص الأصل بإطلاقات أدلة الشفعة الشامل للمقام،وليست الشبهة مصداقية فلا مجال للتمسك بالأصل الأوّلي.

الدليل الرابع: إن الإقرار لا يُثبت الموضوع الخارجي المترتب عليه حكم شرعي، وإنّما هو حجة على المقر فحسب، وفي المقام الإقرار المذكور لا يثبت البيع المترتب عليه الشفعة، بل هو حجة على البائع، وأقصى ما يثبته أن عليه أداء الشقص إلى المشتري، وحيث يمتنع فيكون مجهول المالك.

وفيه نظر: أوّلاً: لو كان الإقرار حجة على المقر فلازمه ثبوت كل موضوع يترتب على الإقرار بالدلالة الالتزامية العرفية، فيترتب عليه أحكامه، فلو أقر أنّه أوقف أرضه مسجداً فهو إقرار بأنّه ليس ملكاً له، ويثبت به الموضوع الخارجي، وهو المسجدية وتترتب عليه أحكامه.

وفي المقام كذلك، فحيث يقر على أنه باع فيثبت عدم ملكيته له ووجوب تسليمه، ويثبت الموضوع الخارجي وهو البيع، ويترتب عليه أحكام البيع

ص: 322

ومنها الشفعة، لكن حيث ينكر المشتري ذلك يثبت البيع بالنسبة إلى البائع دون المشتري.

وثانياً: لو كان الحق بين نفرين ولم يخرج منهما واعترفا به ثبت الحق، فيكون الشقص إمّا ملكاً للبائع أو للشفيع، وأمّا المشتري المنكر فهو خارج عن الموضع.

ثم إنّه بعد ثبوت حق الشفعة يعطى الثمن للحاكم الشرعي لكونهمجهول المالك إن أقر البائع بأنّه أخذه من المشتري.

وأمّا إن لم يقر بذلك فعلى الشفيع أن يؤدّيه للبائع، على احتمال ذكره في المسالك(1) وذلك من باب التقاص، لكنه بحاجة إلى تأمل؛ فإن إقرار البائع مسموع على نفسه، وأمّا عدم استلامه للثمن فإقرار على الغير.

إلّا أن يوجه ذلك بأن المشتري حيث ينكر البيع فهو منكر لإعطاء ثمنه للبائع أيضاً، والبائع ينكر ذلك والحق لا يعدوهما، فيثبت عدم استلام البائع للثمن، فيكون الثمن الذي بيد الشفيع إمّا للمشتري أو لا، فإن كان للمشتري فلا بدّ وأن يصل إلى البائع، وإن لم يكن للمشتري فحيث يأخذ الشفيع الشقص من البائع يؤدّي الثمن إليه.

والحاصل: إنّه إمّا وقع البيع خارجاً أو لا، وفي كلا الصورتين على الشفيع أداء الثمن للبائع؛ لأنّه على الأوّل الثمن للمشتري وقد اعترف بأنه لم يسلم شيئاً للبائع، فلا بدّ من تسليمه للبائع، وعلى الثاني فالشفيع يستلم المبيع من البائع فيؤدّي إليه ثمنه، فأخذ البائع للثمن حق على كل حال.

ص: 323


1- مسالك الأفهام 12: 378.
من مسائل التنازع
المسألة الأولى: لو ادعى أن شريكه اشتراه بعده فأنكره
اشارة

قال في الشرائع: «إذا ادعى أن شريكه ابتاع بعده فأنكر، فالقول قول المنكر مع يمينه، فإن حلف أنّه لا يستحق عليه شفعة جاز، ولا يكلفاليمين بأنّه لم يشتر بعده»(1).

وفي المسألة فروع:

الفرع الأوّل: لو ادعى الشريك سبق شراكته

لو ادعى أحد الشريكين أن له حق الشفعة على شريكه؛ لأنّه سبقه في الشراء، وأنكر الثاني، فإن أقام بينة حكم له، وإلّا كان القول قول المنكر؛ وذلك للزوم إحراز شرط الشفعة وهو بيع الشريك، وهو مشكوك في المقام، لاحتمال بيع المالك لهما معاً أو للآخر قبله، والمشروط عدم عند عدم شرطه أو الشك فيه.

ولا يجري في المقام استصحاب عدم تأخر بيع المالك للثاني؛ لأنّه معارض باستصحاب عدم التقدم أو التقارن، بالإضافة إلى أنه أصل مثبت؛ لأن أصل عدم تأخره مثبت لتحقق شرط الشفعة وهي الشراكة، فتثبت الشفعة بالواسطة.

ولا فرق في ذلك بين أن يكونا مجهولي التاريخ، أو يكون أحدهما معلوم التاريخ؛ للشك في تحقق الشرط في الصورتين؛ وذلك لأنّه لو باع للأوّل في

ص: 324


1- شرائع الإسلام 4: 790.

الجمعة فإن باع للثاني قبله فللأوّل الشفعة، وأن تقارنا أو تأخر فلا شفعة.

وأمّا جريان استصحاب المجهول إلى ما بعد المعلوم فمحل خلاف،وله آثار كثيرة في الفقه، وهو موكول إلى مباحث أصول الفقه.

الفرع الثاني: في كيفية الحلف

هل يكفي حلف المنكر على أنه لا حق لشريكه في الشفعة، أم يلزم الحلف على عدم تأخر شرائه عنه؟ وبعبارة أخرى: هل يكفي الحلف على نفي الأعم مع كون دعواه الأخص أم لا(1)؟

واستدل له بأن الحلف على الأعم مشمول لقوله|: «واليمين على من أنكر»(2)؛ لأن نفي الأعم مستلزم لنفي الأخص، كما لو ادعى عدم وجود فرس في الدار ثم حلف على عدم وجود الحيوان فيه، بخلاف عكسه، فإن نفي الأخص ليس نفياً للأعم، والتفصيل في كتاب القضاء.

الفرع الثالث: لو ادعى الشريكان استحقاق الشفعة

قال في الشرائع: «ولو قال كل منهما: أنا أسبق فلي الشفعة فكل منهما مدعٍ، ومع عدم البينة يحلف كل واحد منهما لصاحبه ويثبت الدار بينهما»(3).

بيانه: لو اختلف المشتريان فادعى كل منهما أنّه الأسبق في الشراءليكون

ص: 325


1- قد يحلف بالأعم لو كان لشريكه حق الشفعة لكنه أسقطه مثلاً، فلو أقرّ بأنه اشتراه من بعده لكنه أسقط حقه أصبح مدعياً، وكان عليه الإثبات، وحيث لا يمكنه الإثبات؛ لعدم الشهود يحكم عليه، ولأجل ذلك يحلف على نفي الأعم.
2- وسائل الشيعة 27: 293.
3- شرائع الإسلام 4: 790.

له حق الشفعة، فهل هذه دعوى واحدة لتكون البينة على المدعي فقط أو دعويان؟

والصحيح أن كل واحد منهما يدعي أسبقيته في الشراء وينكر أسبقية الثاني فهنا دعويان، فإن أقاما البينة تساقطتا، وكذا لو حلفا، فتنتفي الشفعة؛ لعدم إمكان إثباتها.

نعم، لو لم يرد أحدهما الأخذ بالشفعة فلم يدع شيئاً صار منكراً لدعوى الثاني، فإنه وإن كان في المآل مدعياً لأسبقيته إلّا أنه لم يرفع دعواه للحاكم، وقد ثبت في القضاء أن الملاك في المدعي والمنكر مصب الادعاء لا مآله.

وأمّا في الصورة الأولى حيث كلاهما مدعيان، فقد اختلف الفقهاء(1) في حكمها، فإمّا أن يسمع بينة المتقدم فيحكم له وتسقط بينة المتأخر، أو تتساقط البينتان واليمينان فالقرعة، أو يحكم للذي يجلس عن يمين صاحبه احتمالات، والمشهور هو الثاني، فلا وجه للحكم بمجرد أسبقية أحدهما في إقامة البينة، وسائر الاحتمالات ضعيفة.

الفرع الرابع: لو كان لأحدهما بينة بالشراء

قال في الشرائع: «ولو كان لأحدهما بينة بالشراء مطلقاً لم يحكم بها؛إذ لا فائدة فيها»(2).

بيانه: لو تداعيا، لكن أقام أحدهما البينة على أنّه اشترى، ولم يعلم أنّه اشترى قبل صاحبه أو بعده أو معه لم تنفع البينة؛ لأن النزاع ليس في الشراء

ص: 326


1- جواهر الكلام 38: 694 (37: 461 ط ق).
2- شرائع الإسلام 4: 790.

من المالك الأصلي، وإنّما في الأسبقية ليثبت له حق الشفعة، أمّا في أصل الشراء فلا خلاف فتكون البينة لغواً.

الفرع الخامس: لو شهدت البينة لأحدهما بالتقدم

قال في الشرائع: «ولو شهدت لأحدهما بالتقدم على صاحبه قضي بها»(1).

بيانه: إنّه لو شهدت البينة على أن زيداً اشترى قبل عمرو قضي بها؛ لأنّه مدعٍ وقد أقام البينة، فيشمله البينة على المدعي، وعمرو وإن كان مدعياً أيضاً لكنه لم يقم البينة؛ لذا يحكم بالبينة لصالح زيد فله حق الشفعة، فيأخذ حصة عمرو.

لكن أشكل عليه بأمرين:

الأوّل: ثبوت شراء زيد قبل عمرو، وهو موضع الشهادة، لكنه لا ينفع لإثبات الشفعة؛ لأنّه أعم منها، حيث يمكن فقد سائر الشرائط، فإن مجرد الأسبقية لا تنفع لإثبات حق الشفعة بعد عدم العلم بتحقق سائرشروطها، أو رفع موانعها.

الثاني: يلزم على البينة الشهادة على محل النزاع، وهو ثبوت حق الشفعة لزيد لا ثبوت التقدم له.

وفيهما تأمل: لأن المفروض اتفاق الطرفين على تحقق شروط الشفعة، والاختلاف إنّما هو في التقدم والتأخر، حيث يدعي كل واحد منهما التقدم.

وعلى فرض الاختلاف في ثبوت الشفعة، بأن ادعى أحدهما ثبوت حق

ص: 327


1- شرائع الإسلام 4: 790.

الشفعة له وادعى الآخر عدم تحقق شروطها، فشهدت البينة بالأسبقية للأوّل، ثبتت له الشفعة، حيث يلزم على صاحبه إثبات فقد شروط الشفعة؛ لأنّه مدعٍ وإلّا حلف صاحبه، ولا يقال بأصالة عدم تحقق الشروط، فإنه لو صح البيع ترتبت الأحكام ومنها الشفعة، ومنكر الشروط بحاجة إلى الإثبات.

الفرع السادس: لو كان لهما بينتان بالشراء

قال في الشرائع: «ولو كان لهما بينتان بالابتياع مطلقاً أو تاريخ واحد فلا ترجيح»(1).

بيانه: لو أقام الطرفان البينة فلا بدّ من ملاحظة متعلّق شهادتهما، فلوكان متعلّقها أصل الشراء لم ينفع؛ لما مرّ في الفرع السابق، فليس النزاع في أصل الشراء حيث يتفقان عليه، والشهادة على موضع الاتفاق لغو، وإنّما دعوى كل واحد منهما حق الشفعة على صاحبه.

ولو شهدتا بالعقد في تاريخ واحد فلا ترجيح؛ وذلك لتصديقهما معاً، ومعناه أن البيع لم يتحقق في ملك الآخر، وشرط الشفعة شراء أحدهما حين يكون الآخر مالكاً، فحيث ملكا معاً لم يتحقق شرط الشرط.

ولايخفى المسامحة في عبارة صاحب الشرائع؛ إذ في الشق الأوّل لا بدّ من القول بلغوية البينة، وإن كان لازم اللغوية عدم العمل بهما، فإن كلمة الترجيح إنّما تستخدم فيما لو صلحت البينتان في حد نفسهما، أمّا مع

ص: 328


1- شرائع الإسلام 4: 790.

اللغوية فلا صلاحية، وكذلك في الشق الثاني - فيما لو اتحد تاريخ الشهادتين - لأنّه يؤدّي إلى قبول الشهادتين، ونتيجته عدم ثبوت حق الشفعة.

بل لو رجح أحدهما لم ينفع أيضاً؛ لأنّه يؤدّي إلى كون أحدهما معلوم التاريخ والآخر مجهولاً لرد شهادته - مثلاً - ، فلا يستصحب المجهول كما مضى.

الفرع السابع: لو شهدت بينة كل منها بالتقدم

قال في الشرائع: «ولو شهدت بينة كل واحد منهما بالتقدم، قيل:يُستعمل القرعة، وقيل: سقطتا وبقي الملك على الشركة»(1).

بيانه: لو شهدت البينتان بتقدم كل واحد منهما فالعمل بإحداهما ترجيح بلا مرجح، فلا بدّ من القول بالقرعة على قول(2)، أو سقوط البينتين على قول آخر(3)، فيبقى الملك على الشركة.

أمّا القول الأوّل: فقد ذهب جامع المقاصد(4) إلى القرعة، ورجحه جمع من الفقهاء(5)؛ وذلك لتعارض البينتين وتساقطهما، فإن شمول الدليل لإحداهما ليس بأولى من شموله للأخرى، وكلما تساوى الدليلان الشرعيان وتعارضا حكم العقل بتساقطهما، بغض النظر عن الأدلة الخاصة من الروايات.

ص: 329


1- شرائع الإسلام 4: 790.
2- المبسوط 3: 135؛ مسالك الأفهام 12: 380؛ جامع المقاصد 6: 469.
3- مسالك الأفهام 12: 381؛ قال في جواهر الكلام 38: 698 (37: 464 ط ق): «ولكن لم نجد القائل به منّا».
4- جامع المقاصد 6: 469.
5- جواهر الكلام 38: 699.

لكن قد يقال باليمين، فإن نكل أحدهما قُضي لصاحبه، إلّا أنّه غير تام، فإن ظاهر دليل لزوم إقامة البينة عدم وصول النوبة إلى اليمين مع وجودها.

والحاصل: إنّه لا وجه لترجيح إحدى البينتين كما لا مورد للقسم،فيكون الأمر مشكلاً، والقرعة لكل أمر مشكل.

لكنه محل تأمل من جهتين:

الأولى: لا وجه لنفي اليمين بعد تساقطهما ومؤداه عدم وجودهما، كما هو الحال في التمسك بالأصول العملية بعد تساقط الدليلين المتعارضين، ولا يقال بعدم وصول النوبة إلى الأصول لوجود الدليل وهو الروايات المتعارضة؛ لأنها ساقطة عن الحجية فهي كالعدم، وكما هو الحال فيما لو أقام بينة فاسقة، حيث يصل الدور إلى اليمين؛ لأن البينة غير مجدية حينئذٍ وذلك لاشتراط العدالة.

وفي المقام كذلك، فإن شرط حجية البينة عدم معارضتها، ومع المعارضة يكون وجودها كالعدم، فتصل النوبة إلى اليمين.

الثانية: ما قيل: من ضعف سند روايات القرعة(1)، وإنّما يعمل بها في المورد الذي عمل المشهور بها فيه، وليس المقام منه.

لا يقال: إن عمل المشهور يجبر ضعف السند والدلالة، فتصبح القرعة حجة في جميع الموارد.

فإنه يقال: إن ما ذكر تام فيما لو كان عملهم بنحو الموجبة الكلية، فيجبر ضعف السند بشكل مطلق، أمّا في القرعة فإن عملهم بنحوالموجبة

ص: 330


1- لكن قد يقال: بصحة بعض أسنادها، وتحقيق ذلك في محلّه (السيد الأستاذ).

الجزئية؛ فإنه وإن كانت الرواية عامة إلّا أنهم رفعوا اليد عن عمومها، فتكون مجبورة بنحو جزئي.

القول الثاني(1): بقاء الملك على الشركة؛ لأنهما دعويان، ولا يمكن إثبات إحداهما بعد تساقط البينتين مع عدم وصول النوبة إلى اليمين، ولا مجال للقرعة.

وفيه نظر يظهر من خلال رد القول الأوّل.

فالأرجح ما اختاره صاحب المسالك(2) من جريان اليمين فيؤمران بالحلف، فإن حلف أحدهما ثبت له الحق.

لا يقال: إن متعلّق الإنكار هو أسبقية الآخر، وثبوت عدم أسبقيته لا يثبت الحق للأوّل، وإنّما يثبت مجرد عدم الأسبقية، وإثبات الحق للأوّل متوقف على إثبات الأسبقية له.

وبعبارة واضحة: إن الأوّل مدعٍ لأسبقيته ومنكر لأسبقية الثاني، فلو لم يثبت دعواه لتعارضت البينتان ووصل الدور إلى اليمين، فإنه يحلف على عدم أسبقية الثاني فيسقط دعوى الثاني فقط، فكيف يثبت حق الشفعة للأوّل بمجرد سقوط دعوى أسبقية الثاني؟

فإنّه يقال: بعد اتفاق الطرفين على أسبقية أحدهما، فإن لازم حلفأحدهما على عدم أسبقية الآخر ثبوت الأسبقية له لاتفاقهما على عدم التقارن، وليس ذلك من الأصل المثبت؛ لأن البينة والقسم ليسا من الأصول

ص: 331


1- مسالك الأفهام 12: 381.
2- مسالك الأفهام 12: 381.

العملية حتى ينفى حجية لازمها، بل هما من الحجج الشرعية التي يثبت بها متعلّقه ولوازمه.

نعم، لو حلفا معاً تساقطا، فلا طريق لإثبات الشفعة لأحدهما فتستمر ملكيتهما، وكذا لو نكلا عن الحلف.

المسألة الثانية: لو اختلفا بين البيع والإرث
اشارة

قال في الشرائع: «إذا ادعى الابتياع وزعم الشريك أنه ورث، وأقاما بينة قال الشيخ: يقرع بينهما لتحقق التعارض»(1).

وقد مرّ سابقاً اختصاص الشفعة بالبيع دون غيره من الأسباب المملكة، فلو تنازع الطرفان في سبب الملكية فقال أحدهما: إن صاحبه اشتراه وقال الآخر، بل ورثه فمع فرض تشخيص المدعي تكون البينة عليه، ولا تسمع بينة الثاني، ومع فرض التداعي كانت وظيفة الطرفين إقامة البينة، فلو أقاماها سقطتا، وانتقل الأمر إلى القرعة. وفي المسألة قولان:

القول الأوّل: إن المدعي هو من يدعي الشفعة فتسمع بينته دون الآخر.

واستدل له بأدلة:الدليل الأوّل: ما ذكره الفقهاء كالشيخ الطوسي(2) وغيره من أنّه على مدعي الوراثة اليمين فيكون القول قوله، مما يكشف أنّه منكر، وليس الأمر من باب التداعي.

وفيه: إنّه أوّل الكلام فلا بدّ من التمسك بدليل آخر.

ص: 332


1- شرائع الإسلام 4: 790.
2- المبسوط 3: 129.

الدليل الثاني: انطباق قاعدة (المدعي إذا ترك ترك) على مدعي البيع والشفعة، فإنّه لو ترك دعواه انتهى النزاع بخلاف مدعي الإرث.

وفيه: ما مرّ سابقاً من عدم الدليل على القاعدة المذكورة، وإنّما هي مجرد قاعدة مصطيدة تنطبق على مواردها غالباً لا دائماً، وتفصيل الكلام في القضاء.

الدليل الثالث(1): إن مدعي البيع يطلب انتزاع ملك صاحبه بدعوى الشفعة، فيكون مدعياً دون مدعي الإرث، حيث ينكر ثبوت حق الانتزاع لصاحبه.

وفيه: ما مرّ من ملاحظة مصب الدعوى دون المآل، وفي المقام ليس المصب انتزاع الملك وعدمه وإنّما المصب البيع لا الإرث أو الإرث لا البيع. نعم، نتيجة ذلك أنّه لو ثبت البيع ثبتت الشفعة، ولو ثبت الإرث لمتثبت الشفعة.

الدليل الرابع(2): قد لا تتعارض البينتان، حيث تشهد بينة الإرث بظاهر الحال من ملكية المورث واستصحابها إلى موته فيكون إرثاً، بينما تشهد بينة البيع بعلمها بانتقاله إلى الوارث بالبيع قبل موت المورث، ولا منافاة بينهما، فإن الأولى عملت بالظاهر والثانية بالواقع، وهما في مرحلتين، وبذلك يثبت بينة البيع لا الإرث، ولذا قال في جامع المقاصد: «ولأنّه ربما لم يكن بين البينتين تعارض في بعض الصور؛ إذ بينة الإرث ربما عولت على أصالة بقاء الملك إلى حين الموت فانتقل بالإرث؛ لعدم علمها بصدور البيع، فإن

ص: 333


1- جواهر الكلام 38: 699-700 (37: 465 ط ق).
2- جامع المقاصد 6: 470؛ مسالك الأفهام 12: 382.

استنادها في ذلك إلى الاستصحاب كافٍ، فبينة الشراء مطلقة على أمر زائد لم يكن للأخرى علم به»(1).

وفيه: إنه يثبت به الحكم في بعض الموارد على نحو الموجبة الجزئية، لكن قد تدعي بينة الإرث العلم بعدم البيع فيحصل التعارض.

الدليل الخامس: تطبيق قاعدة بينة الداخل والخارج، فالأرض بيد الوارث فيكون بينته بينة الداخل، والشريك يدعي البيع ويريد انتزاعها منه فبينته بينة الخارج.

وفيه: ما مرّ من أن ترجيح بينة الخارج إنّما هو قاعدة مصطيدة منموارد مختلفة، لكن لم يدل عليها دليل، ومنشؤها إرجاع الخارج إلى كونه مدعياً، والداخل إلى كونه منكراً، لكن قد ينعكس الأمر خارجاً، فيكون الداخل مدعياً.

والحاصل: إنّه لا دليل لإثبات كون مدعي الشفعة مدعياً ومدعي الإرث منكراً، بل هو من مصاديق التداعي، فتتعارض البينتان وتتساقطا. فيأتي دور القرعة، كما ذهب إليها الشيخ الطوسي(2)؛ لأنها لكل أمر مشكل.

إلّا لو ضعّفنا دليلها واشترطنا في جريانها عمل الفقهاء، وحيث لم يتحقق الشرط في المقام فلا يمكن المصير إليها.

كما لا تجري قاعدة العدل؛ لأن أمر الشفعة بين النفي والإثبات، ولا تجري في نصف الأرض دون نصفها حيث لا تقبل الشفعة التبعيض، فإنّه

ص: 334


1- جامع المقاصد 6: 470.
2- المبسوط 3: 129.

وإن كانت النتيجة حقاً مالياً إلّا أن الشفعة إمّا تثبت فيعطى له كل الشقص، أو ينفى فلا يعطى له شيء(1)، فتصل النوبة إلى الأصول العملية،والأصل عدم ثبوت حق الشفعة، ولا يراد منه أصل عدم البيع؛ لأنّه يتعارض مع أصل عدم الإرث، بل المقصود أصل عدم تحقق شرط البيع، أو تجري أصالة البراءة في الحكم، حيث يشك في ثبوت حكم الشفعة فيكون الأصل عدمه.

هذا وقد يقال: بلزوم ملاحظة مصب الدعوى، وبه يختلف الأمر، فيصبح مدعي الإرث مدعياً تارة منكراً تارة أخرى، ولا بأس به.

مثلاً: لو قال مدعي الشفعة: إن صاحبه اشتراه، فقال الوارث: لم اشتر، كان مصب الدعوى الشراء وعدمه، فيظهر المدعي من المنكر، وأمّا لو قال: ورثت كان من التداعي.

فرع: لو صدق البائع الشفيع

قال العلامة في القواعد: «ولو صدّق البائع الشفيع لم تثبت»(2).

بيانه: إنّه لو صدّق مالك الأرض الشفيع بأن قال: بعت سهماً لزيد ثم بعت سهماً ثانياً لعمرو، لا أنني بعته لزيد وعمرو معاً، ثم مات عمرو فورثه ابنه، لم يؤخذ بقوله ولم تثبت الشفعة؛ وذلك لأنّه شهادة على فعل نفسه،

ص: 335


1- لا وجه لعدم جريان قاعدة العدل والإنصاف - بناءً على شمولية القاعدة لجميع الموارد المالية - فإن المقام من الموارد المالية، فيمكن التنصيف من حيث المآل فيأخذ مدعي البيع بالشفعة ثم يسلم له نصف الأرض؛ وذلك لأنه بعد أخذه بالشفعة المشكوكة يحصل الشك بأن الأرض هل هي للوارث إن لم تصح الشفعة، أو للشفيع إن صحت؟ فيكون من قبل المال المردد بين مالكين فيقسم بينهما (المقرر).
2- قواعد الأحكام 2: 262.

وهي غير مقبولة؛ ولأنه مورد التهمة، ولأنه إقرار على الغير.

وقد مرّت المناقشة في هذه الوجوه حيث قلنا: إنّه من باب الشهادة لا الإقرار فيقبل منه مع توفر شروطها، ومجرد التهمة لا تقيد إطلاق دليلالشهادة، كما أن دليل الشهادة شامل للشهادة على فعل النفس لو كان متعلّق حق الغير.

والحاصل: لا مانع من قبول قوله بعنوان أحد الشاهدين.

وقال في الجواهر: «وليست الشفعة من حقوق العقد التي يقبل فيها قول البائع باعتبار كونه إقراراً في حق نفسه، وإنّما الشفعة حق ثابت بالاستقلال للشريك بسبب البيع»(1).

بيانه: هنالك حقوق ترتبط بالعقد يقبل إقرار البائع فيها، كما لو قال: خطوت بعد العقد خطوات مما يستلزم سقوط خيار المجلس، أمّا لو قال: بعته لعمرو مما يستلزم ثبوت حق الشفعة لم يقبل إقراره؛ لأنها حكم شرعي مستقل للشريك، فيكون إقراراً على الغير ولا يرتبط بحقوق البائع.

ولا يخفى أنه لا بدّ من إضافة قيد ليتم الحكم المذكور في الجواهر، وهو الحقوق الثابتة للبائع لا مطلق الحقوق المتعلّقة بالعقد.

المسألة الثالثة: لو تنازعا في بطلان البيع

لو كان الثمن معيناً(2)، ثم ادعى بعضهم أنّه مغصوب، فلو ثبت بطل

ص: 336


1- جواهر الكلام 38: 701 (37: 466 ط ق).
2- بخلاف ما لو كان الثمن كلياً فأدى مصداقاً مغصوباً، حيث يبطل المصداق الذي أداه دون البيع، وعليه أن يؤدّي مصداقاً آخر.

البيع؛ لأنّه متقوم بالثمن والمثمن، وقد وقع البيع على الجزئيالشخصي.

وللتنازع المذكور صور ثلاث:

الأولى: أن يدعي المتبايعان ذلك وينكره الشفيع.

الثانية: أن يدعي الشفيع والمشتري ذلك وينكره البائع.

الثالثة: أن يدعي الشفيع والبائع ذلك وينكره المشتري.

أمّا الصورة الأولى فقد قال في الشرائع: «إذا تصادق البائع والمشتري أن الثمن غصب، وأنكر الشفيع فالقول قوله، ولا يمين عليه إلّا أن يُدّعى عليه العلم»(1).

وفي المسألة قولان:

القول الأوّل: ما في الشرائع من ترجيح قول الشفيع، واستدل(2) له بعدم نفوذ الإقرار على الغير، فإقرارهما نافذ في حق نفسيهما لا الشفيع فلا يثبت إلّا بالبينة.

ولا وجه لحلف الشفيع لعدم كونه منكراً حيث لا ادعاء عليه، بل دعواهما على بطلان البيع فقط. نعم، لو ادعيا علم الشفيع ببطلان البيع كان عليه اليمين.وقد يستدل بالاستصحاب(3) أيضاً، حيث ثبتت الشفعة له بظاهر الشرع فتستصحب.

ص: 337


1- شرائع الإسلام 4: 790.
2- الفقه 79: 444.
3- جواهر الكلام 38: 706 (37: 469 ط ق)؛ الفقه 79: 444.

ولكنه غير تام؛ لكونه مصداق قاعدة اليقين لا الاستصحاب، والأدلة لا تشملها، والكلام في محله.

القول الثاني(1): التفصيل بين ما لو أخبرا ببطلان البيع رأساً، وبين ما لو اعترفا بصحته ثم ادعيا بطلانه.

بيانه: تارة يخبر أحد الشريكين صاحبه بأنه باع الشقص بيعاً باطلاً لتبين كون الثمن مغصوباً، فهنا حيث لا علم بوقوع البيع إلّا عن طريق الشريك وبيانه، فلا إقرار بتحقق البيع أصلاً، بل إخبار بوقوعه باطلاً. وتارة يخبره بتحقق البيع ثم بعد ساعة يخبر ببطلانه، فهنا يتم الإقرار ثم ينفى.

ويمكن إرجاع هذا القول إلى القول الأوّل بأن يقال: إن مراد القائل بالقول الأوّل هو الشق الثاني من التفصيل المذكور، وعليه فلا منافاة بين القولين.

ثم إنّه بعد إقرارهما ببطلان البيع حُق للشفيع الأخذ بالشفعة؛ لعدم نفوذ إقرارهما في حقه، وفي أداء ثمنها احتمالان:الاحتمال الأوّل: ما رجحه السيد الوالد في الفقه(2) وهو الأقرب: من أن الشفيع يؤدّي الثمن للشريك لا المشتري.

أمّا وجه عدم أدائه للمشتري مع أنه لا بدّ من أداء ثمن الشفعة إلى المشتري هو إقراره بعدم استحقاقه للثمن، فلا وجه لإدائه له، وأمّا وجه أدائه للشريك هو أن الشفيع يقبض الشقص منه، فإن البائع يرجع الثمن المغصوب إلى صاحبه، وحيث يؤخذ منه الشقص قهراً بحكم الشرع أخذ

ص: 338


1- الفقه 79: 444.
2- الفقه 79: 445.

الثمن من الشفيع مقاصة لا بعنوان الشفعة.

الاحتمال الثاني: ما ذكره في المسالك وأيده في الجواهر(1) بزيادة شرط قد يكون مرجعه إلى الاحتمال الأوّل مع شيء من التفاوت، وهو: أداء الثمن إلى المشتري وهو يؤدّيه إلى البائع مقاصة.

وأشكل عليه في الجواهر(2) بأن المشتري لو رضي بذلك فلا بأس به، أمّا مع عدم رضاه فلا وجه لإجباره، فإنه مع بطلان البيع لا يكون المشتري مالكاً، ولا يأخذ الشفيع الشقص منه فبأيّ وجه يلزم على أخذ الثمن لإيصاله إلى البائع.

ثم إنّه قد يتفاوت الثمن مع قيمة الشقص، كما لو باعه بأقل أو بأكثرمن قيمته، فلا بدّ من ملاحظة قيمة الشقص بناءً على المقاصة، أو الثمن بناءً على ثبوت الشفعة، فهنا صورتان:

الأولى: أن يكون الثمن أكثر من القيمة، فعلى الشفيع أن يؤدّي الأكثر؛ لصحة البيع عنده بظاهر الشرع وقد أخذ الشقص شفعة، وأمّا البائع فلا يحق له أخذ الأكثر، وإنّما يأخذ الأقل مقاصة.

وأمّا حكم التفاوت فمحله الحاكم الشرعي؛ لأنّه مال لا يدعيه أحد كما في المسالك(3)، لكن أشكل عليه في الفقه(4) بعدم إطلاق القاعدة المذكورة

ص: 339


1- مسالك الأفهام 12: 386؛ جواهر الكلام 38: 706 (37: 469-470 ط ق).
2- جواهر الكلام 38: 706 (37: 470 ط ق).
3- مسالك الأفهام 12: 386.
4- الفقه 79: 445.

مع العلم الأجمالي بكونه لأحدهما، فلا تصل النوبة إلى الحاكم، فإنه محل للأموال العامة لا المعلوم مالكها تفصيلاً أو إجمالاً، فلا بدّ من تقسيمه بين الشفيع والبائع لقاعدة العدل والإنصاف؛ لأنّه إن صح البيع فالتفاوت للبائع، وإن لم يصح فللشفيع، فهو مردد بينهما فينصف.

الثانية: أن تكون القيمة أكثر من الثمن، فعلى الشفيع أداء الأقل حسب الثمن المتفق عليه، ولا يحق للبائع التقاص من الشفيع؛ لأن الشفعة ثبتت بالحكم الشرعي، ولا يحق إبطال حكم الحاكم وإن علم بطلانه، ودعوى البائع لا تثبت شيئاً في ذمة الشفيع، فتأمل.هذا كله في الصورة الأولى.

أمّا الصورة الثانية والثالثة: فهي بأن يتفق الشفيع مع المشتري أو مع البائع على غصبية الثمن، فلا يحق له الأخذ بالشفعة لإقراره ببطلان البيع.

ويفرق بين الصورتين من جهة أخرى، وهي: إنّه لو اتفق الشفيع مع المشتري فعلى المشتري أداء الثمن إلى مالكه، ولا يحق له مطالبة الثمن الذي يدّعى غصبيته من البائع؛ لأنّه منكر للغصبية فلا شيء عليه.

ولو اتفق الشفيع مع البائع على الغصب فعلى البائع أداء الثمن إلى مالكه المغصوب منه حسب كلام البائع كما عليه أداء الشقص إلى المشتري، ولا يحق له منعه منه؛ لأنّه إقرار في حق الغير.

المسألة الرابعة: فيما لو قال اشتريته لفلان

قال العلامة في القواعد: «فإن قال الخصم: اشتريته لفلان سئل، فإن صدق ثبتت الشفعة عليه... وإن كان المنسوب إليه غائباً انتزعه الحاكم

ص: 340

ودفعه إلى الشفيع إلى أن يحضر الغائب، ويكون على حجته إذا قدم»(1).

وحاصلها: إنّه إذا ادعى المشتري أنّه لم يشترِ الشقص لنفسه وإنّما اشتراه لزيد، فإن كان زيد حاضراً سأله الحاكم، فإن صدّقه ثبت للشفيعحق الشفعة، وإن كان غائباً فللشفيع حق الشفعة إلى أن يرجع الغائب. وفي المسألة أقوال ثلاثة:

القول الأوّل: ما ذكره العلامة(2) واستدل له بأمور:

الدليل الأوّل(3): إن الغائب إمّا مصدّق أو مكذّب، وعلى الأوّل يثبت الشراء له، ولا فرق في الشفعة بين أن يكون الشراء لنفسه أو لغيره، وعلى الثاني فإن البيع تام بظاهر الشرع، وتكذيب الوكالة لا يضر به؛ لعدم تقوّم البيع بالوكالة حين العقد، ودعوى المشتري الوكالة مع تكذيب الموكّل إقرار على الغير ولا يسمع.

وبناءً على هذا الدليل لا وجه للتفصيل المذكور بين الحاضر والغائب، فإن الشفعة ثابتة على كل حال، سواء صدق أم كذب، بخلاف المطلوب حيث إن مفهوم كلام العلامة عدم ثبوت الشفعة مع التكذيب.

الدليل الثاني(4): إن التأخير حتى حضور الغائب مستلزم لسقوط حق كل شفيع، حيث يمكن لكل مشترٍ أن يدعي الوكالة عن شخص غير موجود

ص: 341


1- قواعد الأحكام 2: 263.
2- قواعد الأحكام 2: 263.
3- تذكرة الفقهاء 12: 301؛ مفتاح الكرامة 18: 774.
4- تذكرة الفقهاء 12: 301.

للفرار عن الشفعة، فيحق له التصرف حتى يحضر فيضيع الحق.وفيه: إن هذا الدليل متقوم بمقدمتين:

الأولى: إن التأخير مسقط للشفعة.

الثانية: إن الحق يضيع بسبب التأخير.

أمّا الأولى فلا وجه لها؛ لما مرّ من التأمل في شرط الفور، بالإضافة إلى أنّه عذر فلا يسقط به الشفعة.

وأمّا الثانية: فإن إمكان الدعوى المذكورة متأتٍ في سائر المقامات، فلا يختص بما ذكر، حيث يمكن لكل مشترٍ أن يدعي كونه هبة معوضة مثلاً، فيسقط به الحق، فقد مرّ اختصاص الشفعة بالبيع دون غيره، بالإضافة إلى عدم التفات الكثير من المشترين إلى ذلك.

الدليل الثالث(1): إن انتظار الغائب مستلزم لضياع حق الشفيع؛ لتأخر شفعته إلى حضوره بخلاف الحاضر.

وفيه: أوّلاً: بالضرر في عكسه، فيما لو انتزعت الشفعة فحضر الغائب وأثبت عدم حق الشفعة، فيكون انتزاع ملك الغائب ضرراً عليه، فكما يمكن القول بالضرر على الشفيع في التأخير لاحتمال وجود الشفعة، كذلك يمكن القول بالضرر على المشتري في التعجيل لاحتمال عدم وجود الشفعة.

وثانياً: لا بدّ من إثبات الشفعة أوّلاً حتى يقال: إن تأخير الأخذ بهاموجب للضرر، وفي المقام أصل حق الشفعة غير ثابت، فلا معنى للقول بكون التأخير موجباً للضرر.

ص: 342


1- جامع المقاصد 6: 478.

وبعد رد الدليل الثاني والثالث وتمامية الدليل الأوّل تثبت الشفعة، وإمكان وجود عذر يبطل الشفعة منفي بإطلاقات أدلة الشفعة.

القول الثاني(1): عدم إمكان الأخذ بالشفعة ما دام الموكّل غائباً.

ويظهر دليله من خلال القول الأوّل وهو: إمكان وجود حجة يسقط بها الشفعة.

وقد ظهر ضعفه مما سبق من أن الإمكان المذكور لا يقيد إطلاقات أدلة الشفعة.

القول الثالث(2): التفصيل بين البيع الفضولي والبيع وكالة أو ولاية.

أمّا على الأوّل فالبيع الفضولي ليس ثابتاً حتى تثبت الشفعة لأنها فرعه، ويتوقف على حضور الغائب، فإن أجاز ثبت فثبتت، أمّا على كون الإجازة ناقلة فلا بحث؛ لتحققه من حينها فتثبت الشفعة، وأمّا بناءً على كونها كاشفة فيكشف عن صحة البيع من الأوّل، ولا يسقط حق الشفعة بالتأخير؛ لكونه عذراً.

وأمّا على الثاني فقد ذهب بعض الفقهاء(3) إلى ثبوت الشفعة لثبوتالبيع، وذهب بعض(4) إلى عدم ثبوت الوكالة حتى يحضر الغائب، حيث لا يثبت شيء بمجرد الدعوى، فلا يعلم كونه بيعاً فضولة أو وكالة وولاية،

ص: 343


1- تحرير الأحكام 4: 583.
2- الفقه 79: 450.
3- مجمع الفائدة والبرهان 9: 42.
4- الفقه 79: 450.

وحيث إن أصل البيع غير معلوم فلا شفعة لتوقفها عليه.

ويمكن الجمع بين الأقوال بهذا البيان: إنّه تارة يدّعى حين البيع أنّه فضولي أو وكيل فلا شفعة في الأوّل؛ لعدم ثبوت البيع، وعلى الثاني إن ثبتت الوكالة ثبتت الشفعة وإلّا فلا؛ لعدم العلم بثبوت البيع.

وتارة لم يدّعِ حين البيع أنه فضولي أو وكيل ثم ادعى ذلك، فتثبت الشفعة على كل تقدير؛ لما مضى من صحة البيع بظاهر الشرع، وعدم سماع دعواه بعد ذلك.

المسألة الخامسة: لو ادعى الشراء للمولّى عليه

لو ادعى الشراء للمولّى عليه، فهل يثبت للشريك حق الشفعة بإقراره؟

للمسألة صورتان:

الأولى: أن تكون دعوى الشراء وكونه للمولّى عليه في إقرار واحد.

الثانية: أن يدعي أوّلاً أن ما بيده للمولّى عليه ثم يدعي أنه اشتراه.

أمّا الصورة الأولى: فقد احتمل العلامة في القواعد فيها احتمالين، حيث قال: «وإن قال اشتريته للطفل وله عليه ولاية، احتملثبوت الشفعة؛ لأنّه يملك الشراء له فيملك إقراره فيه، والعدم لثبوت الملك للطفل»(1):

أمّا الاحتمال الأوّل: فهو إن من حق الولي الشراء لمصلحة الطفل، فله كل الحقوق المرتبطة بالشراء ومنها الإقرار، فتثبت الشفعة.

وأمّا الحكم بحقه في الشراء دون حقه في الإقرار به فهو تفكيك بين

ص: 344


1- قواعد الأحكام 2: 263.

اللازم والملزوم(1).

وأمّا الاحتمال الثاني: فهو إن الإقرار نافذ في حق نفسه لا غيره، فالإقرار بكون ما بيده للطفل إقرار على النفس فيسمع، وأمّا إقراره بالشراء له مما يستلزم الشفعة عليه فإقرار على الغير فلا يسمع.

والترجيح مع الأوّل، فإن المستند في المقام ليس الإقرار حتى يقال بعدم نفوذه في حق الغير، وإنّما المستند اليد وقول ذي اليد حجة، فيثبت كل ادعاء له فيما بيده.

ثم إن السيد الوالد في الفقه(2) ذكر أن قيد (وله عليه ولاية) مستغنى عنه، فإن ذا اليد لا تثبت ولايته بمجرد الدعوى، بل عليه البينة، إلّا أنّه إقراره على ما في يده حجة، فتثبت ملكية الطفل.وأمّا الصورة الثانية: فهي أن يقر أوّلاً أن ما بيده إنّما هو للطفل ثم يقر بأنه اشتراه له، وفي هذه الصورة قال العلامة: «فإن اعترف - بعد إقراره بالملكية للغائب أو للطفل - بالشراء لم تثبت الشفعة»(3).

واستدل(4) له: بأن الإقرار الأوّل على نفسه فيسمع، أمّا الثاني فعلى الغير فلا يسمع.

ص: 345


1- لكن لا مانع من التفكيك بين المتلازمين في الأحكام الشرعية، كما ثبت في الفقه والأصول وله أمثلة متعددة، فراجع (المقرر).
2- الفقه 79: 453.
3- قواعد الأحكام 2: 263.
4- إيضاح الفوائد 2: 229؛ جامع المقاصد 6: 479؛ مفتاح الكرامة 18: 778.

إن قلت: لا فرق بين الإقرارين، سواء كانا بصيغة واحدة أم بصيغتين، فإن اليد إن كانت حجة نفعت في الصورتين، فإن إطلاقات حجتيها تثبت صحة كل دعوى تتعلّق بما في اليد.

قلت: حجية اليد إنّما هي في ظرف الشك وعدم العلم، فيثبت كل دعوى بلحاظ أن صاحبها هو المالك، أمّا لو علم بأنه ليس مالكاً بإقراره فلا، كما لو اعترف أن ما بيده ملك لزيد ثم قال باعه زيد لعمرو فلا يثبت البيع؛ لأن إقراره في حق غيره، وقد علم أن ما بيده ليس له، فتأمل.

المسألة السادسة: لو أنكر المشتري شراكة الشفيع

لو أنكر المشتري شراكة الشفيع بأن أراد الشريك الأخذ بالشفعة فادعى المشتري أنه ليس مالكاً وإنّما غاصب فلا تثبت الشفعة؛ للزوم إثباتالشراكة أوّلاً.

قال العلامة في القواعد: «ولو أنكر المشتري ملكية الشفيع افتقر إلى بينة، وفي القضاء له باليد إشكال»(1).

واستدل(2) له بضعف دلالة اليد على الملكية؛ ولذا ترجح البينة عليها، فإن وجود الشيء باليد أعم من الملك، فقد يكون إجارة أو عارية أو غصباً، فيقتصر في حجية اليد على موردين:

الأوّل: عدم انتزاعه من ذي اليد بمجرّد الدعوى عليه.

ص: 346


1- قواعد الأحكام 2: 263.
2- كنز الفوائد 1: 709؛ إيضاح الفوائد 2: 228؛ جامع المقاصد 6: 481؛ مفتاح الكرامة 18: 782.

الثاني: عدم مطالبته بالبينة.

والحاصل: لا يثبت باليد انتزاع ملك الغير قهراً الذي هو يخالف الأصل.

وفيه تأمل: لأن دليل اليد مطلق يثبت به الملك فيثبت كل لوازمه، فيصح بيعه وإجارته، كما يرثه الوارث ولو أفلس باعه الحاكم، والحاصل: إن كل آثار الملك جارية.

نعم، عند تعارض الأدلة قد يكون بعضها أقوى من بعض فيرجح، وليس معنى ذلك عدم جريان أحكامه عند عدم التعارض.والحاصل: مَن يدعي أن ذا اليد غاصب عليه البينة، وإلّا ثبت حقه في الشفعة؛ لثبوت يده الدالة على ملكه، فإشكال العلامة محل تأمل.

نعم، يحق للمدعي مطالبته بالحلف، فإن القضية ترتبط به حيث يدّعي انتزاع ملكه منه.

المسألة السابعة: لو ادعى المشتري على أحد وارثي الشفعة العفو
اشارة

قال العلامة في القواعد: «ولو ادعى على أحد وارثي الشفعة العفو فشهد له الآخر لم يقبل، فإن عفا وأعاد الشهادة لم تقبل؛ لأنها ردت بالتهمة، ولو شهد ابتداء بعد العفو قبلت»(1).

بيانها: إنّه لو مات الشفيع فورثه اثنان، فادعى المشتري أن أحد الوارثين وهب حق شفعته، وشهد له الوارث الثاني منضماً إلى شاهد آخر أو يمين.

وهنا فروع:

ص: 347


1- قواعد الأحكام 2: 264.
الفرع الأوّل: أن يشهد أحد الوارثين على الآخر

وفيه صور ثلاث:

الصورة الأولى: أن يشهد على عفو أخيه من دون أن يعفو هو عن حقه، فترد شهادته؛ وذلك لأنّه متهم بجر النفع إلى نفسه، حيث ذهب المشهور - كما مرّ - أن كل حق الشفعة يصبح للوارث الآخر لو عفا الوارث الأوّل، وبعبارة أخرى: يصبح الوارث الثاني مدعياً لكل الشفعة لاشاهداً.

وفيه تأمل مبنىً: بشمول إطلاقات أدلة الشهادة للشاهد وإن كان منتفعاً بطريقة غير مباشرة، مع توفر شروط الشهادة فيه، هذا أوّلاً.

وثانياً: ما مرّ لا دليل على انتقال حق أحد الوراث إلى الآخر فيما لو عفا، ونظيره فيما لو أعرض أحد الوراث عن سهمه من التركة فيصبح مباحاً أصلياً، ولا دليل على انتقال حصته إلى الآخرين، فمقتضى القاعدة أن كل وارث له حق الشفعة بمقدار سهمه فقط.

وثالثاً: قد لا يكون هنالك نفع للوارث الشاهد أصلاً، كما لو كان فقيراً لا يمكنه الأخذ بالشفعة، فالدليل أخص من المدعى.

ثم إنّه لو ادعى المشتري عفو الوارثين فإن أقام بينة وإلّا حلفا على العدم، فإن حلفا ثبتت الشفعة، وإن نكلا فإن قضينا بالنكول فهو، وإلّا رد اليمين على المدعي، فإن حلف سقطت الشفعة، وإلّا ثبتت لعدم الدليل على سقوطها.

ولو حلف أحدهما ونكل الآخر ثبتت الشفعة للحالف، وأعيد يمين الثاني إلى المشتري بناءً على عدم القضاء بالنكول.

ص: 348

وقد يقال(1): بعدم رد اليمين إلى المشتري لكونه لغواً لا يترتب عليه أثر؛ وذلك لأن الوارث الثاني يستولي على كل الشفعة على المشهور،فلا ينتفع المشتري بشيء. نعم، بناءً على غير المشهور من تبعّض حق الشفعة ثبت النفع للمشتري، حيث إن حلفه موجب لبقاء نصف الشقص بيده، ويحق له إبطال النصف الآخر بتبعّض الصفقة.

وأشكل عليه بأن المشتري ذو نفع حتى على مبنى المشهور، حيث لا تنحصر الفائدة فيما ذكره، فمثلاً: لو لم يحلف المشتري ثبت حق الشفعة للوارثين، أمّا مَن حلف فلحلفه، وأمّا مَن نكل فلبقاء حقه في الشفعة بعد عدم حلف المشتري، فيأخذ المشتري الثمن منهما، ولو حلف المشتري صار كل الشفعة للوارث الأوّل، فيأخذ المشتري كل الثمن منه، وعليه فإن حلف المشتري وإن لم يسبب سقوط الشفعة إلّا أن فائدته تسهيل الأمر عليه في أخذ الثمن.

الصورة الثانية: أن يعفو الوارث عن حقه أوّلاً ثم يشهد على عفو أخيه، وهنا تقبل شهادته على القولين؛ لعدم التهمة بجر النفع إلى نفسه فلا تبطل الشهادة.

الصورة الثالثة: أن يشهد الوارث بعفو أخيه أوّلاً ثم يعفو عن حقه، ثم يشهد ثانية فترد شهادته أيضاً مع خلوها من التهمة؛ وذلك لأن الشهادة المردودة لا تقبل ثانية بالاستصحاب(2).

ص: 349


1- جامع المقاصد 6: 488.
2- جامع المقاصد 6: 487.

لكنه ضعيف؛ لتبدل الموضوع بغض النظر عن المبنى، فلو شهدغير البالغ ثم بلغ وشهد ردت الأولى وقبلت الثانية، ولا وجه لاستصحاب الرد بعد تبدل الموضوع، بالإضافة إلى تعدد الشهادة.

والمقام كذلك، فالشهادة الأولى ترد للتهمة - على المبنى - ، أمّا الثانية حيث لا نفع فيها فلا وجه لردها، فتشملها إطلاقات أدلة الشهادة.

الفرع الثاني: أن يشهد الأجنبي بعفو أحدهما

قال في القواعد: «وإن شهد أجنبي بعفو أحدهما، فإن حلف بعد عفو الآخر بطلت الشفعة، وإلّا أخذ الآخر الجميع»(1).

بيانه: لو قال أحد الوارثين: أسقطت حقي وادعى المشتري أن الثاني أيضاً أسقط حقه، فشهد له الأجنبي مع ضم القسم إليه؛ لعدم كفاية الشاهد الواحد بطلت الشفعة كاملاً، نصفه بإقرار صاحب الحق ونصفه الآخر بشاهد ويمين.

الفرع الثالث: أن يشهد المشتري بعفو أحدهما

لو ادعى المشتري بأن أحدهما أسقط حقه وشهد له شاهد مع اليمين بطل حقه بنسبته، وبقي حق الآخر لعدم الإقرار ولا بينة، فيصير كل الشفعة للآخر على المشهور، وتتبعّض الشفعة على غير المشهور، ويكون للمشتري خيار تبعض الصفقة، ولو شهد البائع بعفو الشفيع قبلت.لكن أشكل عليه في جامع المقاصد(2) بأنّه متهم لجر النفع إلى نفسه؛

ص: 350


1- قواعد الأحكام 2: 264.
2- جامع المقاصد 6: 490.

وذلك لأن البائع إمّا قد استلم الثمن من المشتري فلا نفع له في الشهادة، وإمّا لم يستلم فيكون إبطال الشفعة بنفعه، حيث يجب على المشتري إعطاء الثمن للبائع، وقد يكون مفلساً فيحق للبائع فسخه، وأمّا لو ثبتت الشفعة فالشفعاء يؤدون الثمن للمشتري، وهو يؤدّيه للبائع.

ويشكل عليه بأنه أخص من المدعى، فقد يكون المشتري ثرياً، بالإضافة إلى ما مرّ من عدم رد شهادة كل من يجر النفع إلى نفسه.

المسألة الثامنة: لو أنكر المشتري شرط الشفعة

ذكر السيد الوالد في الفقه(1) أنّه لو أنكر المشتري اتحاد الشريك أو إسلامه أو بلوغه أو عقله، مما يستلزم عدم حق الشفعة له كان على الشفيع إثبات الوحدة؛ لأن شرط الشفعة ذلك، فعليه إثبات تحقق الشرط ولو عن طريق اليد بأن كانت يده على كل الشقص.

أمّا لو أنكر إسلامه فيكفي في إثباته قوله وإقراره، أمّا لو كان الشفيع ميتاً وادعى الورثة إسلامه فعليهم الإثبات.

ثم إن اللازم ثبوت إسلامه حين البيع لتثبت الشفعة، أمّا بعده فلا ينفع، إلّا أن يدعي الإسلام من قبل فيقبل منه؛ لأنّه لا يعرف إلّا من قبله.أمّا لو أنكر بلوغه فعليه إثباته؛ لأن الأصل عدم البلوغ، إلّا أن يثبت شرعاً، كتحقق علائمه.

أمّا لو أنكر عقله فأصالة الصحة هي المثبتة له، كما أن عليه بناء العقلاء،

ص: 351


1- الفقه 79: 459.

والظاهر عدم اتحادهما، فإن أصالة الصحة في الأفعال، فلو كان عاقلاً حمل على الصحة، فليس معنى الحمل على الصحة ثبوت عقله، بل لازمه ذلك.

كما أن الجنون بحاجة إلى دليل، فإن وجود العقل طبق الأصل ولا يحتاج إلى إثبات، وفي المقام أخذه بالشفعة يحمل على الصحة.

ص: 352

خاتمة

اشارة

فيها مسائل:

المسألة الأولى: تحديد الشقص

قال العلامة في القواعد: «ويطالب مدعي الشفعة بالتحرير، بأن يحدد مكان الشقص ويذكر قدره وكميته الثمن»(1).

وفي جامع المقاصد(2) بيان المراد بأنه لا بدّ من ذكر ما يميز محل الشفعة من غيرها حتى يكون واضحاً للحاكم، لا ذكر كل الخصوصيات.

والمسألة من مفردات ما ذكر في القضاء من أن على المدعي تحديد محل الدعوى، وإلّا فلا يسمع منه مع الجهل به.

أمّا الشقص الحاضر فالحكم متيسر عليه؛ لأن حضوره يميزه عن غيره بأعلى أنواع التمييز، أمّا لو كان المال غائباً فلا بدّ من تمييزه بما يسهل الحكم عليه.

لكن قد يقال: إن إطلاقات أدلة المرافعات شاملة للمجمل أيضاً، كما لو ادعى أن شريكه باع حصته من إحدى الأراضي التي هم شركاء فيها،فلا وجه لعدم استماع دعواه بعد إمكان إحضار المدعى عليه وطرح الدعوى

ص: 353


1- قواعد الأحكام 2: 262.
2- جامع المقاصد 6: 476.

عليه، فأن أقر بها وإلّا فعلى المدعي البينة، فإن أقامها - ولو بشهادة إجمالية بأصل البيع دون الخصوصيات - أجبر الحاكم المدعى عليه على التمييز، وإلّا فعلى المنكر اليمين.

وبعبارة أخرى: تارة لا يمكن تحرير محل الدعوى أصلاً حتى للحاكم فالاستماع إلى الدعوى لغو، وتارة يمكن ذلك باستدعاء الشريك، فلا وجه لعدم الاستماع.

وقال في مفتاح الكرامة(1): ويطالب مدعي الشفعة بالتحرير، ودعواه مسموعة إن كان لها وجه صحيح، وإلّا لم يسمع لأنّه باطل.

كما لو ادعى الشفعة على الجار من دون أن يكون شريكاً للبائع.

المسألة الثانية: لو أخذ بالشفعة لم يحق له إبطالها

لو أخذ بالشفعة لم يحق له إبطالها إلّا أن يرضى المشتري فتكون إقالة، كما في سائر الحقوق، إلّا فيما جعل الشارع لفسخه طريقاً خاصاً كالنكاح، وفي المقام لو ندم الشفيع ففسخ ولم يرضَ المشتري لم يمكن إدخال الشقص في ملكه إلّا برضاه؛ لأن الشفعة إيقاع لازم.

المسألة الثالثة: لو لم يسلم المشتري الشقص للشفيع

لو لم يسلم المشتري الشقص للشفيع(2)، فان أمكن إجباره عبر الحاكم الشرعي فهو، وإن صبر فله ذلك، وإلّا ففيه احتمالان:

ص: 354


1- مفتاح الكرامة 18: 772.
2- تم بحث عكس المسألة سابقاً، وهو أن الشفيع لم يؤد الثمن فيكون للمشتري حق الفسخ إلى ثلاثة أيام في المدينة، ومع احتساب الطريق في غيرها.

الأوّل: التقاص؛ لأن الثمن الذي هو ملك المشتري بيد الشفيع فيأخذه تقاصاً. وفي التقاص لا يراعى الثمن وإنّما القيمة، فلو كانت قيمة الشقص أكثر من الثمن أخذ الشفيع الثمن وطالبه بالزيادة. ولو كان الثمن أكثر من قيمة الشقص لزم على الشفيع إرجاع التفاوت إلى المشتري، إلّا أن يقال بتضرر الشفيع فيستحق كل الثمن.

الثاني: فسخ الشفعة. لكن الفسخ مع عصيان أحد المتعاملين بحاجة إلى دليل، فهل أن مجرد عدم تسليم الشقص مسوّغ للفسخ؟

إلّا أن يقال بتحقق ملاك الرضا؛ لأن معنى عصيان المشتري هو عدم قبوله للشفعة مما تكون نتيجته الرضا بالفسخ، فتأمل.

ثم لو تمّ التقاص أو الفسخ بعد عصيان المشتري، ثم تمكن الشفيع من أخذ الشقص ولو بإجبار الحاكم، فقد يقال: إن له إبطال التقاص أو الفسخ؛ لأنّه أقدم عليهما اضطراراً، ولم تطب نفسه بذلك مطلقاً، وإنّما مقيداً بعدم إمكان استلام الشقص، وحيث أمكنه الوصول إلى حقه حُق لهالإبطال.

المسألة الرابعة: لو أوقف المشتري الشقص ثم أخذ الشفيع بالشفعة

لو أوقف المشتري الشقص ثم أخذ الشفيع بالشفعة بطل الوقف لأسبقية حق الشفعة كما مرّ، وأمّا الثمن فهل يملكه المشتري أو يلزم تبدليه إلى وقف، كما ذكر الفقهاء(1) أن الوقف لو هدم وصار طريقاً وجب تبديله إلى وقف آخر، حيث لا فرق بين خراب الوقف أو إبطاله؟

ص: 355


1- جامع المقاصد 9: 54.

احتمل بعض الفقهاء(1) عدم لزوم ذلك؛ لبطلان نفس الوقف في الشفعة؛ لأنّه لاحق على حق الشفعة، بخلاف الهدم حيث لا يبطل أصله، وإنّما يخرج عن حيز الانتفاع.

إن قلت: لا فرق بين الهدم والإبطال، فلا بدّ من وجود متعلّق للوقف، وحيث ينهدم المتعلّق يبطل الوقف.

قلت: الفرق بينهما واضح، فإن هدم الوقف - كالمسجد - لا يبطل أصل الوقف وإنّما يبطل استمراره، بخلاف الأخذ بالشفعة فإنه يبطله من أصله، فكأن لم يكن هنالك وقف أصلاً.انتهى والحمد للّه رب العالمين، في 5 صفر الخير 1442ه في كربلاء المقدّسة بجوار ضريح سيد الشهداء(علیه السلام).

وأهدي هذا الجهد المتواضع لسيدي ومولاي الإمام الحسين(علیه السلام) وعزيزته السيدة رقية، حيث يصادف إتمام التقرير ذكرى استشهادها.

واللّه الموفق المستعان

ص: 356


1- المهذب 2: 92-93؛ مسالك الأفهام 5: 346؛ الحدائق الناضرة 22: 218.

فهرس المصادر

* القرآن الكريم.

* نهج البلاغة.

أجود التقريرات، تقرير بحث الشيخ محمّد حسين النائيني، الناشر: منشورات مصطفوي، قم، الطبعة: الثانية، 1368ش.

الاحتجاج، تأليف: الشيخ أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، طبع في مطابع النعمان النجف الأشرف، 1386ه .

إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، تأليف: العلامة الحلي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة: الأولى، 1410ه .

الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، تأليف: الشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، الناشر: دار الكتب الإسلامية طهران، 1363ه .

الأصول العامة للفقه المقارن، تأليف: السيد محمّد تقي الحكيم، الناشر: مؤسسة آل البيت^، للطباعة والنشر، قم، الطبعة: الثانية، 1979م.

الانتصار، تأليف: السيد المرتضى، تحقيق ونشر: مؤسسة النشرالإسلامي، قم، 1415ه .

الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع، تأليف: الشيخ حسين آل

ص: 357

عصفور البحراني، إصدار مجمع البحوث العلمية.

إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، تأليف: فخر المحققين، الطبعة: الأولى، 1387ه .

بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، تأليف: الشيخ محمّد باقر المجلسي، الناشر: مؤسسة الوفاء بيروت، 1403ه .

تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية، تأليف: العلاّمة الحلّي، الطبعة: الأُولى، 1420ه .

تحرير المجلة، تأليف: الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء، مطبوعات مكتبة النجاح، طهران ومكتبة الفيروزآبادي قم، المكتبة المرتضوية وبطبعتها الحيدرية. النجف الأشرف، 1359ه .

تذكرة الفقهاء، تأليف: العلامة الحلي، تحقيق مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، 1414ه .

تهذيب الأحكام، تأليف: الشيخ الطوسي، الطبعة: الثالثة، 1364ش، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران.

جامع المدارك في شرح المختصر النافع، تأليف: السيد أحمد الخوانساري، الناشر: مكتبة الصدوق، طهران، الطبعة: الثانية، 1355ش.جامع المقاصد في شرح القواعد، تأليف: الشيخ علي بن الحسين الكركي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، الطبعة: الأولى، 1408ه .

ص: 358

جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، تأليف: الشيخ محمّد حسن النجفي، الطبعة: الأولى، 1433ه ، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، تأليف: الشيخ محمّد حسن النجفي، الطبعة: الثالثة، 1367ش، الناشر: دار الكتب الإسلامية.

حاشية المكاسب، تأليف: الشيخ ميرزا علي الإيرواني الغروي، الطبعة الثانية، مطبعة رشدية بطهران، 1379ش.

الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، تأليف: الشيخ يوسف البحراني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، تأليف: العلامة الحلي، الطبعة: الأولى، 1417ه ، الناشر: مؤسسة نشر الفقاهة.

الخلاف، تأليف: الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1407ه .

الدروس الشرعية في فقه الإمامية، تأليف: الشهيد الأوّل، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة: الثانية، 1417ه .

دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام، تأليف:القاضي نعمان، نشر: دار المعارف، القاهرة، 1383ه .

رجال ابن داود، تأليف: ابن داود الحلي، 1392ه .، الناشر: منشورات مطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، منشورات الرضي، قم.

رسائل فقهية، تأليف: الشيخ مرتضى الأنصاري، إعداد لجنة تحقيق

ص: 359

تراث الشيخ الأعظم، تحقيق: لجنة التحقيق، الطبعة: الأولى، 1414ه .

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، تأليف: الشهيد الثاني، الطبعة: الثانية، 1398ه .

رياض المسائل، تأليف: السيد علي الطباطبائي، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة: الأولى، 1412ه .

السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، تأليف: الشيخ ابن إدريس الحلي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة: الثانية، 1410ه .

شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، تأليف: المحقق الحلي، الناشر: انتشارات استقلال، طهران، الطبعة: الثانية، 1409ه .

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تأليف: إسماعيل بن حمّاد الجوهري، الناشر: دار العلم للملايين لبنان، 1376ه .

الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم، تأليف: الشيخ علي بن يونس العاملي النباطي البياضي، نشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثارالجعفرية، الطبعة الأولى: 1384ه .

عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، تأليف: الشيخ محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور، الطبعة الأولى: 1403ه .

العين، تأليف: الخليل بن أحمد الفراهيدي، الناشر: مؤسسة دار الهجرة، الطبعة: الثانية، 1409ه .

عيون أخبار الرضا(علیه السلام)، تأليف: الشيخ الصدوق، محمّد بن علي بن

ص: 360

الحسين بن بابويه القمي، الناشر: مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1404ه .

غاية المراد في شرح نكت الإرشاد، تأليف: الشهيد الأوّل محمّد بن مكي العاملي، حاشية الإرشاد، للشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي، تحقيق ونشر: مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية - قم، الطبعة: الأولى، 1414ه .

غاية المرام في شرح شرائع الإسلام، تأليف: الشيخ المفلح الصميري البحراني، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: 1420ه . الناشر: دار الهادي.

غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع، تأليف: السيد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي، الطبعة: الأولى، 1417ه .

فقه الصادق(علیه السلام)، تأليف: السيد محمّد صادق الحسيني الروحاني، الناشر: مدرسة الإمام الصادق(علیه السلام)، الطبعة: الثالثة، 1412ه .الفقه المنسوب للإمام الرضا(علیه السلام)، والمشتهر ب-(فقه الرضا) تحقيق مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، الطبعة: الأولى، 1406ه .

الفقه، موسوعة استدلالية في الفقه الإسلامي، تأليف: السيد محمّد الحسيني الشيرازي، الناشر: دار العلوم للتحقيق والنشر، الطبعة: الأولى، 1417ه ، بيروت.

فهرس أسماء مصنفي الشيعة (رجال النجاشي)، تأليف: الشيخ أحمد بن علي النجاشي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

الفهرست، تأليف: الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، طبع ونشر: مؤسسة نشر الفقاهة، الطبعة: الأولى، 1417ه .

ص: 361

قرب الإسناد، تأليف: الشيخ أبي العباس عبد اللّه الحميري، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، الطبعة: الأولى، 1413ه .

قواعد الأحكام، تأليف: الحسن بن يوسف بن المطهر (العلامة الحلي)، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة: الأولى، 1413ه .

الكافي، تأليف: الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، طهران، الطبعة: الثالثة، 1388ه .

كشف الرموز في شرح المختصر النافع، تأليف: الشيخ الحسن بن أبي طالب اليوسفي، الفاضل الآبي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم،1408ه .

كفاية الفقه المشتهر ب-(كفاية الأحكام)، تأليف: الشيخ محمّد باقر السبزواري، طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة: الأولى، التاريخ: 1423ه .

كنز الفوائد في حل مشكلات القواعد، تأليف: السيد عميد الدين عبد المطّلب بن محمّد الأعرج، التحقيق والناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة: الأولى، 1416ه .

لسان العرب، تأليف: محمّد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، نشر أدب الحوزة، قم، 1363ش.

المبسوط في فقه الإمامية، تأليف: الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي،

ص: 362

الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، تأليف: الشيخ أحمد الأردبيلي، منشورات: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم.

مختلف الشيعة، تأليف: الشيخ الحسن بن يوسف بن المطهر (العلامة الحلي)، تحقيق: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة: الأولى، 1412ه .

مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، تأليف: الشهيد الثاني، تحقيق ونشر: مؤسسة المعارف الإسلامية، قم، الطبعة: الأولى 1413ه .

مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تأليف: الشيخ حسين النوريالطبرسي، تحقيق مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، الطبعة: الأولى 1408ه .

مستند الشيعة في أحكام الشريعة، تأليف: الشيخ أحمد بن محمّد مهدي النراقي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، مشهد المقدسة، الطبعة: الأولى، 1415ه .

معجم مقاييس اللغة، تأليف: أحمد بن فارس بن زكريّا، مطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة: الأولى، 1399ه .

مفاتيح الشرائع، تأليف: محمّد محسن الفيض الكاشاني، الناشر: مجمع الذخائر الإسلامية، طبع: مطبعة الخيام، قم، 1401ه .

مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، تأليف: السيد محمّد جواد الحسيني العاملي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة: الأولى، 1419ه .

ص: 363

المقنع، تأليف: الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، الناشر: مؤسسة الإمام الهادي(علیه السلام)، 1415ه .

المقنعة، تأليف: الشيخ المفيد، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة: الثانية، 1410ه .

المكاسب والبيع، تقرير بحث الشيخ محمّد حسين النائيني، بقلم الشيخ محمّد تقي الآملي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم.المكاسب، تأليف: الشيخ مرتضى الأنصاري، إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الناشر: مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة: الثالثة، 1420ه .

من لا يحضره الفقيه، تأليف: الشيخ الصدوق، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة، الطبعة: الثانية.

منية الطالب في شرح المكاسب، تقرير بحث الشيخ محمّد حسين النائيني، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، الطبعة: الأولى، التاريخ: 1418ه .

المهذب البارع في شرح المختصر النافع، تأليف: الشيخ أحمد بن محمّد بن فهد الحلي، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1407ه .

النجعة في شرح اللمعة، تأليف: الشيخ محمّد تقي التستري، الناشر: مكتبة الصدوق، طهران، 1364ش، الطبعة: الأولى.

نقد الرجال، تأليف: السيد مصطفى بن الحسين الحسيني التفرشي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، الطبعة: الأولى،

ص: 364

1418ه .

النهاية في مجرد الفقه والفتاوى، تأليف: الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي، الناشر: انتشارات قدس محمّدي، قم.

وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تأليف: الشيخ محمّد بنالحسن الحر العاملي، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، قم، الطبعة: الثانية 1414ه .

الوسيلة إلى نيل الفضيلة، تأليف: الشيخ محمّد بن علي الطوسي المعروف بابن حمزة، نشر: مكتبة السيد المرعشي النجفي، قم، 1408ه .

ص: 365

ص: 366

فهرس المحتويات

كتاب الشفعة

بحوث تمهيدية 7

1- وجه تعقب كتاب الشفعة لكتاب الغصب 7

2- في معناها اللغوي والاصطلاحي 7

3- حكمة تشريع الشفعة 9

4- الشفعة حكم 9

فصل: في موارد ثبوت الشفعة 10

المسألة الأولى: ثبوت الشفعة في المنقول وغيره 10

القول الأوّل: شمول الشفعة للمنقول وغيره 10

القول الثاني: اختصاص الشفعة بغير المنقول 12

المسألة الثانية: ثبوت الشفعة في الشجر والبناء 13

الفرع الأوّل: حكم بيع الأرض 14

الفرع الثاني: حكم الحاجز بين الطابقين 16

الفرع الثالث: لو بيع البناء والغرس منفرداً 17

المسألة الثالثة: في ثبوت الشفعة فيما لا ينقسم 18

الفرع الأوّل: جريان الشفعة في البئر 24

الفرع الثاني: الشفعة في الأرض مع الاشتراك في الطريق 24

الفرع الثالث: الاشتراك في البيت وفي الطريق 30

ص: 367

الفرع الرابع: لو بيعت حصتان في معاملتين 31

فصل: من شروط الشفعة 33

الشرط الأوّل: الانتقال بالبيع 33

مسألة: حكم الشفعة في الوقف 37

الشرط الثاني: كونها بين اثنين 41

الفرع الأوّل: أن تكون الشركة قبل البيع 46

الفرع الثاني: كون الشفعة على عدد الرؤوس أو على قدر الأسهم 46

الفرع الثالث: عدم الفرق بين بيع كل الحصة وبعضها 48

الفرع الرابع: لو باع أحدهم حصته لأحد الشركاء 49

الفرع الخامس: في اختلاف الشركاء اجتهاداً وتقليداً 49

تتمة: لو كان البائع أو المشتري غير مؤمن 49

فصل: في مبطلات الشفعة 51

المسألة الأولى: العجز عن دفع الثمن 51

المسألة الثانية: المماطلة في الأداء 54

الفرع الأوّل: حق إبطال شفعة المماطل على الفور أم التراخي؟ 56

الفرع الثاني: الهارب وأمثاله ممن لا يستطيع الأخذ بالشفعة 57

المسألة الثالثة: في غيبة الثمن 58

فصل: في من يحق له الشفعة 61

المسألة الأولى: في ثبوت الشفعة للغائب ونحوه 61

الفرع الأوّل: عدم اعتبار إشهاد الغائب حين الأخذ بالشفعة 65

الفرع الثاني: حكم المسجون والمريض العاجز 65

ص: 368

الفرع الثالث: في ثبوت الشفعة للمغمى عليه 67

الفرع الرابع: في ثبوت الشفعة للسكران 68

المسألة الثانية: الإكراه على الأخذ بالشفعة 69

المسألة الثالثة: في ثبوت الشفعة للسفيه 69

فرع: لو أصبح السفيه عاقلاً 71

المسألة الرابعة: في ثبوت الشفعة للصبي والمجنون 72

الفرع الأوّل: لو تدارك الولي المفسدة 72

الفرع الثاني: في وجوب منع الضرر عن المولّى عليه وعدمه 73

الفرع الثالث: لو قصّر الولي في الأخذ بالشفعة 74

الفرع الرابع: إذا لم يأخذ الولي بالشفعة وجاء ولي جديد 75

الفرع الخامس: لو أخذ بالشفعة ثم تجددت المفسدة 76

الفرع السادس: لو باع الأب أو الجد حصته المشتركة مع المولّى عليه 76

تتمة: في بيان المراد من المصلحة 79

المسألة الخامسة: في ثبوت حق الشفعة للكافر والمخالف 80

ثبوت الشفعة للمخالف 86

المسألة السادسة: في ثبوت حق الشفعة للوصي 86

المسألة السابعة: في ثبوت حق الشفعة للوكيل 89

فرع: في كون الكافر وكيلاً للمسلم والعكس 89

المسألة الثامنة: حكم الشفعة فيما لو باع العامل في القراض شقصاً 90

الفرع الأوّل: فيما لو اشترى العامل حصة الشريك بمال المالك 91

الفرع الثاني: لو اتفقا على كون ربح العامل من الأرض 92

المسألة التاسعة: في حق الشفعة للحمل 94

ص: 369

فصل: في الشركاء المتعددين 96

المسألة الأولى: لو أسقط أحدهم حقه في الأخذ بالشفعة 96

المسألة الثانية: لو كان بعض الشفعاء غائبين 101

المسألة الثالثة: حكم ما لو أخذ أحد الشركاء بالشفعة ثم حضر الآخر 103

الفرع الأوّل: لو حضر الغائب بعد القسمة 104

الفرع الثاني: فيما لو رد الشفيع الأوّل بعيب 105

المسألة الرابعة: لو استغلها الأوّل ثم حضر الثاني 107

المسألة الخامسة: لو لم يأخذ الحاضر بالشفعة حتى يحضر الغائب 108

المسألة السادسة: لو ظهر الشقص مستحقاً للغير بعد الأخذ بالشفعة 109

المسألة السابعة: فيما لو باع أحد الشركاء حصّته لشريكه 112

المسألة الثامنة: لو باع شريكان لثلاثة صفقة 116

فصل: في كيفية الأخذ بالشفعة 122

المسألة الأولى: في وقت ثبوت استحقاق الشفعة 122

فرع: سقوط خيار العيب بالانتقال وعدمه 125

المسألة الثانية: حكم التبعيض في الشفعة 127

المسألة الثالثة: الثمن الذي يأخذ به الشفيع 132

الفرع الأوّل: الأخذ بالثمن الذي وقع عليه العقد 132

الفرع الثاني: الأخذ بالثمن وإن كانت قيمة الشقص أقل أو أكثر 132

الفرع الثالث: في حكم غرامة المشتري للدلال والوكيل 133

الفرع الرابع: في دفع الشفيع زيادة المشتري وعدمه 134

الفرع الخامس: كون زيادة الثمن في زمن الخيار 135

الفرع السادس: في كون القيمة المتفق عليها أكثر من القيمة السوقية 135

ص: 370

المسألة الرابعة: التقابض في الشفعة 136

فرع: في حصول الملك بمجرد التقابض أو بمجرد الأخذ بالشفعة 140

المسألة الخامسة: لو اشترى شقصاً وعرضاً صفقة 141

فرع: لو كان الانضمام دخيلاً في القيمة 143

المسألة السادسة: لو كان الثمن مثلياً أو قيميّاً 145

المسألة السابعة: هل الشفعة فورية أم على التراخي 153

موارد مستثناة من القول بالفور 158

فروع تترتب على القول بالفور 164

الفرع الأوّل: لزوم التوكيل للغائب وغيره 164

الفرع الثاني: لو لم يملك الثمن نقداً وإنّما بضاعة 165

الفرع الثالث: فيما لو ادعى العذر 165

الفرع الرابع: لو قصّر الوكيل في أخذ الشفعة 167

الفرع الخامس: في لزوم الإشهاد وعدمه 167

الفرع السادس: الاضطرار والإكراه من الأعذار 169

الفرع السابع: في تسليم الشفيع الثمن وامتناع المشتري 170

الفرع الثامن: فيما لو اشغل المشتري الأرض بالزرع وغيره 171

المسألة الثامنة: في أعذار المشتري 175

المسألة التاسعة: عدم سقوط الشفعة بتقايل المتبايعين 176

الفرع الأوّل: في بيان حقيقة الفسخ والإقالة لو أخذ الشفيع بالشفعة 177

الفرع الثاني: في بقاء الدرك على المشتري 179

الفرع الثالث: فيما لو رضي الشفيع بالبيع ثم تقايلا 182

المسألة العاشرة: لو باع المشتري كان للشفيع فسخ البيع 182

المسألة الحادية عشرة: الشفيع يأخذ من المشتري ودركه عليه 184

ص: 371

الفرع الأوّل: كون الشقص بيد البائع ولم يسلمه للمشتري 186

الفرع الثاني: في عصيان البائع وعدم استلام الثمن 187

الفرع الثالث: ليس للشفيع فسخ البيع والأخذ من البائع 188

المسألة الثانية عشرة: لو انهدم المبيع أو عاب 188

الفرع الأوّل: حدوث العيب بفعل أجنبي 192

الفرع الثاني: لو لم يضر الهدم بالعين 193

الفرع الثالث: لو نقصت القيمة السوقية أو زادت 193

المسألة الثالثة عشرة: لو غرس المشتري أو بنى فطالب الشفيع بحقه 194

الصورة الأولى: لو أراد المشتري الإزالة 194

الفرع الأوّل: في استئذان الشفيع في الإزالة 196

الفرع الثاني: لو أدى قلع الزرع أو هدم الدار لفساد الأرض 197

الصورة الثانية: ما لو لم يردِ المشتري إزالة زرعه أو بنائه 199

الصورة الثالثة: في ما لو أعرض المشتري عن النماء والزرع 200

المسألة الرابعة عشرة: ما يدخل في الشفعة تبعاً 201

المسألة الخامسة عشرة: فيما لو حمل النخل بعد الابتياع 203

المسألة السادسة عشرة: فيما لو بان الثمن في البيع مستحقاً للغير 205

الفرع الأوّل: فيما لو أجاز مالك الثمن البيع 205

الفرع الثاني: فيما لو انتقل الثمن المستحق للغير للمشتري 207

الفرع الثالث: الثمن الذي لا يُملك أو لم يُقدر على أدائه 207

المسألة السابعة عشرة: لو دفع الشفيع الثمن فبان مستحقاً 208

المسألة الثامنة عشرة: اعتبار العلم بالثمن في الأخذ بالشفعة 209

فرع: في اختلاف المشتري والشفيع 213

المسألة التاسعة عشرة: لو طلب البائع الإقالة من الشفيع 214

ص: 372

المسألة العشرون: لو بيع الشقص بالثمن المؤجل 215

الإشكال على لزوم أخذ الكفيل 219

المسألة الواحدة والعشرون: في توريث الشفعة 222

الفرع الأوّل: في اختلاف الوارث والمورث في الاعتقاد بها 226

الفرع الثاني: في إرث الزوجة من شفعة الأرض 227

الفرع الثالث: كيفية تقسيم الشقص على الورثة 229

الفرع الرابع: لو عفا أحد الوراث عن نصيبه 229

الفرع الخامس: لو عفا أحد الورثة عن حقه ومات الآخر 232

الفرع السادس: لو عفا عن حقه وعن الحق الذي سيرثه 233

المسألة الثانية والعشرون: حال المفلس في الشفعة 233

فرع: لو مات المفلس فباع شريكه شقصه 234

المسألة الثالثة والعشرون: في وصية المشتري بالشقص 236

الفرع الأوّل: لو أوصى بشقص فباع الشريك 237

الفرع الثاني: في نسيان الموصى له قبول الوصية أو ردها 241

المسألة الرابعة والعشرون: لو باع الشفيع نصيبه بعد العلم بالشفعة 241

الفرع الأوّل: لو نسي الشفيع أنه كان عالماً أو جاهلاً 244

الفرع الثاني: لو باع الشريك بخيار 245

المسألة الخامسة والعشرون: فيما لو باع شقصاً في مرض الموت 245

المسألة السادسة والعشرون: فيما لو صالح الشفيع على ترك الشفعة 249

الفرع الأوّل: لو صالح على إسقاط حق ثم خالف 252

الفرع الثاني: في نقل الحق أو إرثه أو إسقاطه بالصلح 252

المسألة السابعة والعشرون: لو ضمن الشفيع الدرك عن أحدهما أو شرط له الخيار أو كان وكيلاً لأحدهما 253

ص: 373

المسألة الثامنة والعشرون: لو وجد فيه عيباً سابقاً على العقد 257

الفرع الأوّل: لو تصرّف الشفيع في المعيب 262

الفرع الثاني: لو تحقق العيب عند المشتري 262

الفرع الثالث: لو زال العيب في يد المشتري 263

الفرع الرابع: لو فسخ الشفيع ورد الشقص إلى المشتري 263

الفرع الخامس: لو رضي الشفيع بالعيب 264

الفرع السادس: فيما لو باعه وتبرأ من العيوب 265

الفرع السابع: العيب في الثمن 266

المسألة التاسعة والعشرون: لو ظهر عيب في الثمن 266

الأمر الأوّل: لو رجعت العين إلى المشتري بعد الشفعة 271

الأمر الثاني: ماذا يطالب البائع؟ 273

الأمر الثالث: لو تفاوتت القيمة 274

المسألة الثلاثون: لو بيع شقص الغائب بادعاء إذنه 276

فروع ثمانية 279

فصل: في مسقطات الشفعة 284

المسقط الأوّل: التراخي 284

المسقط الثاني: إسقاط الشفعة قبل البيع 284

المسقط الثالث: لو بلغه البيع ولم يطالب بالشفعة 289

المسقط الرابع: جهل الشفيع والمشتري بالثمن 291

المسقط الخامس: لو أخّر المطالبة توقعاً لوصول المبيع 292

تتمة: في مسائل متفرقة 293

المسألة الأولى: جواز الأخذ بالشفعة في غير بلد البيع 293

ص: 374

المسألة الثانية: لو بان الثمن مستحقاً 294

المسألة الثالثة: لو تلف الثمن المعين 295

المسألة الرابعة: لو تلف المثمن 296

المسألة الخامسة: في الطرق الشرعية لإسقاط الشفعة 297

المسألة السادسة: لو ادعى المشتري نسيان الثمن 299

فصل: في التنازع 303

المقام الأوّل: اختلاف المشتري والشفيع 303

الفرع الأوّل: شهادة البائع للمشتري أو الشفيع 307

الفرع الثاني: لو اختلف المشتري والشفيع في الزرع ونحوه 310

المقام الثاني: اختلاف البائع والمشتري 311

فرع: في اختلاف المتابعين في قيمة الثمن 318

المقام الثالث: لو ادعى البيع لأجنبي فأنكر الأجنبي 319

من مسائل التنازع 324

المسألة الأولى: لو ادعى أن شريكه اشتراه بعده فأنكره 324

الفرع الأوّل: لو ادعى الشريك سبق شراكته 324

الفرع الثاني: في كيفية الحلف 325

الفرع الثالث: لو ادعى الشريكان استحقاق الشفعة 325

الفرع الرابع: لو كان لأحدهما بينة بالشراء 326

الفرع الخامس: لو شهدت البينة لأحدهما بالتقدم 327

الفرع السادس: لو كان لهما بينتان بالشراء 328

الفرع السابع: لو شهدت بينة كل منها بالتقدم 329

المسألة الثانية: لو اختلفا بين البيع والإرث 332

ص: 375

فرع: لو صدق البائع الشفيع 335

المسألة الثالثة: لو تنازعا في بطلان البيع 336

المسألة الرابعة: فيما لو قال اشتريته لفلان 340

المسألة الخامسة: لو ادعى الشراء للمولّى عليه 344

المسألة السادسة: لو أنكر المشتري شراكة الشفيع 346

المسألة السابعة: لو ادعى المشتري على أحد وارثي الشفعة العفو 347

الفرع الأوّل: أن يشهد أحد الوارثين على الآخر 348

الفرع الثاني: أن يشهد الأجنبي بعفو أحدهما 350

الفرع الثالث: أن يشهد المشتري بعفو أحدهما 350

المسألة الثامنة: لو أنكر المشتري شرط الشفعة 351

خاتمة: فيها مسائل 353

المسألة الأولى: تحديد الشقص 353

المسألة الثانية: لو أخذ بالشفعة لم يحق له إبطالها 354

المسألة الثالثة: لو لم يسلم المشتري الشقص للشفيع 354

المسألة الرابعة: لو أوقف المشتري الشقص ثم أخذ الشفيع بالشفعة 355

فهرس المصادر 357

فهرس المحتويات 367

ص: 376

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.