من وحي الأخلاق

هوية الکتاب

سلسلة: لنكن لهم زيناً

الحلقة الثالثة

من وحي الأخلاق

قراءةٌ ونظراتٌ في القواعدِ العامَّةٍ للتَّكامُلِ الأَخْلَاْقِي وتَطبيْقاتِها

تأليف : الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم : معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأُولىٰ: 1440ه-

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 1

اشارة

سلسلة: لنكن لهم زيناً

الحلقة الثالثة

من وحي الأخلاق

قراءةٌ ونظراتٌ في القواعدِ العامَّةٍ للتَّكامُلِ الأَخْلَاْقِي وتَطبيْقاتِها

المجموعة الأُولىٰ

تأليف

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأُولىٰ: 1440ه-

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

المجلد 1

مقدّمة المعهد:

لا يخفىٰ ما للأخلاق من أهمّية كبرىٰ في حياة الإنسان، فبها يستطيع أن يتواصل مع الآخرين إيجاباً وسلباً، ولا شكَّ أنَّ المعرفة تتدخَّل في هذا الجانب من الحياة لتضفي عليه أُطُراً واضحة للتعامل المنهجي مع الآخر.

فبالمعرفة وتطبيقها يستطيع المرء أن يشقَّ طريقه في هذه الحياة، ليكون عنصراً مؤثِّراً في المجموعة، بحيث يفتقده الناس إذا غاب، ويستأنسون به إذا حضر.

من هنا، نجد النصوص الدينية تُؤكِّد علىٰ ضرورة أن يعمل المرء علىٰ أن يزيد من معارفه العلمية، بشرط أن تكون ضمن الحدود الإنسانية والدِّينية، وأن يجعل من سلوكه لوحة مرسومة تُترجِم تلك المعارف الإنسانية والدِّينية.

من هنا، كان معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية أحد المؤسَّسات العلمية التي تهدف إلىٰ نشر المعارف الإلهيَّة، وإيصالها إلىٰ أكبر عدد ممكن من المتلهِّفين لارتشاف تلك المعارف.

وللتعريف العامِّ بالمعهد ونشاطاته نذكر النقاط التالية:

أوَّلاً: أنَّ المعهد مؤسَّسة علمية حوزوية تُدِّرس المناهجالدِّينية المعَدَّة لطُلّاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

ص: 3

ثانياً: أنَّ الموادَّ الدراسية تُعَدُّ علىٰ أيدي أساتذة متخصِّصين، وتُدرَّسُ من قِبَل أساتذة أكْفاء في حوزة النجف الأشرف.

ثالثاً: الدراسة في المعهد عن طريق الانترنيت وليست مباشرة، وهي لمدَّة ثلاث سنوات، والسنة الرابعة تطبيقية عملية.

رابعاً: أنَّ المعهد يساهم في نشر وترويج المعارف الإسلاميَّة وعلوم آل البيت عَلَيهم اَلسَلام ووصولها إلىٰ أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصِّص من المبرمجين والمصمِّمين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات علىٰ أجهزة الحاسوب والهواتف الذكيَّة.

خامساً: بالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد علىٰ عاتقه تأسيس جامعة متخصِّصة في هذا المجال، فتمَّ إنشاء جامعة أُمِّ البنين عَلَيهم اَلسَلام الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلاميَّة لإعداد مبلِّغات رساليّات قادرات علىٰ إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي.

سادساً: أنَّ المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلىٰ إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل علىٰ تقوية المحتوىٰ الإيجابي علىٰ شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجَّهاً لإيصال فكر أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام وتوجيهات المرجعية الدِّينية العليا إلىٰ نطاق واسع منالشرائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقّي العصري.

ص: 4

سابعاً: أنَّ المعهد يقوم بطباعة ونشر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات - صدر منها إلىٰ الآن ستَّة كُتُب في مختلف العناوين العقائدية والفقهية والأخلاقية - التي تهدف إلىٰ ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأُسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام الموروثة.

وبين يديك عزيزي القارئ، سلسلة من الكُتُب الأخلاقية، التي كتبها مؤلِّفها سماحة الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي، بأُسلوب واضح، تُمثِّل خُطُوات عملية لتنشئة جيل يتمحور سلوكه حول مرجعية القرآن الكريم وسُنَّة الرسول الأكرم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله وأهل بيته الطاهرين عَلَيهم اَلسَلام .

نسأل الله عَزَّ وَجَل أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنَّه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 5

ص: 6

مقدّمة المؤلِّف:

من الحقائق الوجدانية التي قُدِّر للإنسان أن يعيشها، هي أنَّه يضيع في زحمة التفاصيل، ويتعب ذهنه إذا أراد أنْ يجمع شتات أُمور كثيرة، فلا يتمكَّن من جمع المتفرِّقات إلَّا بعد عناء الذهن وشدِّ الأعصاب.

وحتَّىٰ يُخفِّف الإنسان من ثقل هذه الحقيقة، أخذ بالعمل علىٰ تذليل صعوباتها، فعمل علىٰ ضبط معارفه بالتخصُّص العلمي وإنشاء المعاهد العلمية، ولكنَّه وجد أنَّ التفاصيل ما زالت تملأ أرجاء الحياة، وما زالت زحمتها تُقلِق فكره.

فواصَلَ بحثه لتذليل تلك الصعوبات، فوجد أنَّ من أنجع الطُّرُق لمتابعة المعارف والعلوم وضبطها والاستفادة منها في الحياة العملية التطبيقية، هو (تقنين) و(تقعيد) المعارف، بأنْ يجمع المتشابه من المعارف تحت قاعدة عامَّة تنطبق علىٰ ذلك الشتات، بحيث يسهل بعدها الالتفات إلىٰ التفاصيل.

وقد ساعدت هذه العملية الإنسان كثيراً في مختلف مجالات الحياة، حتَّىٰ إنَّك لا تجد علماً لا يتضمَّن قواعد معرفية إلَّا ما ندر.

وقد أشار أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام إلىٰ أنَّ هذه الطريقة هي ما استفاد منها من إلقاء رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله إليه أُصول العلم وأبوابه، وذلك فيما روي

ص: 7

عنه عَلَيه اَلسَلام من قوله: «علَّمني رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله ألف باب من العلم، يُفتَح من كلِّ باب ألفُ باب...»(1)

وعلىٰ منوالها بيَّن الإمام الباقر عَلَيه اَلسَلام هذه الحقيقة لجابر حينما قال له: «يا جابر، لو كنّا نُفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نُفتيهم بآثار من رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، وأُصول علم عندنا، نتوارثها كابراً عن كابرٍ، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضَّتهم»(2)

وقد أخذ أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام علىٰ عاتقهم بيان المعارف الإسلاميَّة لأتباعهم من خلال هذه الطريقة في كثير من الأحيان، فأسَّسوا الكثير من القواعد المعرفية التي سهَّلت لأتباعهم معرفة مقاصد كلامهم وجمع شتاته.

ومن مؤشِّرات هذه الحقيقة هي ما روي عن الإمام الرضا عَلَيه اَلسَلام من قوله: «علينا إلقاء الأُصول إليكم، وعليكم التفرُّع»(3)

بالإضافة إلىٰ القواعد العامَّة في هذا الشأن من قبيل: «كلُّ شيء هو لك حلال حتَّىٰ تعلم أنَّه حرام بعينه فتدعه»(4)، و«كلُّ شيء نظيف حتَّىٰ تعلم أنَّه قذر»(5)، وغيرها كثير.

ولا يعني هذا الأمر سهولة تناول النصوص الدِّينية ويسرها للجميع، خصوصاً فيما يتعلَّق بالقواعد الأُصولية والفقهية، بل إنَّنفس القواعد هي منهج معرفي منضبط يحتاج إلىٰ تخصُّص معرفي علىٰ مستوىٰ عالٍ من الدقَّة والانضباط والمتابعة والصبر.

ص: 8


1- دلائل الإمامة للطبري الشيعي (ص 235/ ح 162/26).
2- بصائر الدرجات للصفّار (ص 320/ ج 6/ باب 14/ ح 4).
3- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلّي (ص 575).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 313/ باب النوادر/ ح 40).
5- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج 1/ ص 285/ ح 832/119).

علم الأخلاق، علم منهجي معرفي تطبيقي، له قواعده المتخصِّصة، والتي بذل الكثير من علمائنا الأفذاذ جهوداً مضنية يُشكَرون عليها من أجل جمع شتاتها ووضعها في قالب منضبط، فكانت الموسوعات الأخلاقية نافعة جدًّا في مجال تعديل السلوك وتقويمه وفق ما تريده السماء.

وعلىٰ هذا الأساس، جاءت الفكرة بكتابة بعض القواعد المعرفية الأخلاقية، التي تجمع تحتها تطبيقات عديدة، مختلفة فيما بينها، متفرِّقة في أبوابها، وربَّما لا يُلتَفت إلىٰ انضوائها تحت قاعدة واحدة، وسيكون جَمْعُها تحت عنوان واحد أشبه شيء بالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم.

وأصل التفكير بهذا الموضوع، هو الاستجابة لطلب الأخ العزيز الشيخ حسين الترابي - مدير معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية - بإعطاء درس منهجي في الأخلاق لطالبات جامعة أُمِّ البنين الحوزوية الإلكترونية، فعمدتُ إلىٰ كتابة هذه القواعد.

فكانت (ثلاثون قاعدة) لمنهج السنة الأُولىٰ في الجامعة، وهي ما ستجده في هذه الكتاب، الذي هو الحلقة الثالثة من سلسلة (لنكن لهم زيناً)، وكانت أيضاً (ثلاثون قاعدة) أُخرىٰ ستكون في الحلقة الرابعة من هذه السلسلة إنْ شاء الله تعالىٰ لمنهج السنةالثانية، والهدف - متوسِّلاً بالله تعالىٰ وبأهل بيت النبيِّ الأعظم عَلَيهم اَلسَلام بالتوفيق واللطف بي لتحقيقه - إيصالها إلىٰ (مائة قاعدة) ستتوالىٰ تباعاً بحوله وقوَّته عَزَّ وَجَل.

أسأل الله عَزَّ وَجَل أنْ يتقبَّلها بما هو أهله، وأنْ يُعطينا عليها ما هو لائق بكرمه وسعة جوده، وأنْ يتجاوز عن تقصيري الدائم ونقصي المستمرّ،

ص: 9

وأنْ يمنَّ علىٰ كلِّ من كانت له يد في إخراج هذا الكتاب إلىٰ النور بما يُنجيه من عقبات يوم المحشر، إنَّه وليُّ التوفيق.

حسين عبد الرضا الأسدي

مكَّة المكرمة

يوم المباهلة (1439ه)

الخامس من أيلول (2018م)

ص: 10

الإهداء

إلىٰ من كان كجدِّه المصطفىٰ صادقاً أميناً..

إلىٰ من أسَّس قواعد العلم وضَبَط مناهج المعرفة..

إلىٰ من نُسِبْنا إليه فتشرَّفْنا..

إلىٰ من كان زيناً، وأراد أنْ نكون له زيناً..

إليك يا مولاي..

يا جعفر بن محمّد الصادق..

يا بحر العلم الزاخر..

أُهدي لك جهداً، بالاعتذار مشفوعاً..

وبطلب الصفح عن التقصير مصحوباً..

من عبدكم.. ومحبِّكم..

والراجي قربكم.. وشفاعتكم..

* * *

ص: 11

ص: 12

(1)إنَّ الأخلاق هي الوجه المرئي من الدِّين

الدِّين بُني علىٰ ثلاث ركائز: أُصول وفروع وآداب سلوكية وأخلاق اجتماعية. والأُصول اعتقادات، والفروع أكثرها أعمال بين العبد وربِّه وإنْ كان لها آثار سلوكية. والذي يمكن رؤيته من الدِّين إنَّما هو السلوك الخارجي للفرد، فأنا لا أرىٰ صلاة الفرد، ولا أرىٰ صومه، بل ولا أرىٰ توحيده أو اعتقاده بالمعاد، إلَّا من خلال سلوكياته وتعاملاته مع الآخرين.

ولذلك كان للسوك الخارجي القدرة علىٰ حكاية ما في الداخل، فإذا دخلت مدينة أمكنك أنْ تعرف ديانتها واعتقادات أهلها من خلال ممارساتهم وسلوكياتهم الخارجية، فإذا سمعت الأذان أو رأيتهم يدفنون موتاهم باتِّجاه القبلة، عرفت أنَّهم مسلمون، أمَّا إذا رأيت الصلبان معلَّقة علىٰ قباب أماكن عبادتهم، أو رأيتهم يُحرقون موتاهم، جزمت بأنَّهم غير مسلمين، وهكذا ترىٰ أنَّ السلوك الخارجي يكشف عن الاعتقاد.

وهكذا لو رأيت أحدهم يُصلّي وهو يُسبِل يديه، عرفت أنَّه من شيعة أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام ، وإذا رأيته وهو يُكفِّر بيديه، عرفت أنَّه من أتباع غير مذهب أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام .

فالسلوك الخارجي له القدرة علىٰ حكاية المعتقد أو التوجُّه المذهبي، وإنْ لم تكن حكاية تامَّة، لكنَّه بالتالي هو الوجه الظاهرمن الاعتقاد العقائدي والفقهي.

ص: 13

بل إنَّ الدِّين يُصرِّح بأنَّ تلك الاعتقادات العقائدية والفقهية لا بدَّ أنْ تنعكس علىٰ أرض الواقع، أي علىٰ سلوك الفرد، وإلَّا، فإنَّ التفكيك بين الاعتقاد وبين العمل السلوكي المترتِّب عليه، يُعتَبر مرضاً فتّاكاً يُعبَّر عنه بالنفاق في بعض مراتبه. وهو علىٰ حدِّ تعبير القرآن الكريم: ]أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ[ (البقرة: 85).

وقد أشار أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام إلىٰ هذه الحقيقة بقوله: «واعلم أنَّ لكلِّ ظاهر باطناً علىٰ مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه، وقد قال الرسول الصادق صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: إنَّ الله يُحِبُّ العبد ويبغض عمله، ويُحِبُّ العمل ويبغض بدنه. واعلم أنَّ لكلِّ عملٍ نباتاً، وكلُّ نباتٍ لا غنىٰ به عن الماء، والمياه مختلفة، فما طاب سقيه طاب غرسه وحلَّت ثمرته، وما خبث سقيه خبث غرسه وأمرَّت ثمرته»(1)

فلذلك يقول القرآن الكريم في مجال التجلّي السلوكي للعبادة الحقَّة: ]وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ الْأَرضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً 63 وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً 64 وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً 65 إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً 66 وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً 67 وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً 68 يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً 69 إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَيُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً 70 وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَىٰ اللهِ مَتاباً 71 وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً 72 وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا

ص: 14


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 44 و45).

بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً 73 وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً 74 أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً 75 خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً76[ (الفرقان: 63 -76).

وفي تجلّي الصلاة سلوكياً يقول تعالىٰ: ]اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ 45[ (العنكبوت: 45).

ومن نفس هذا المنطلق، نرىٰ أنَّ أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام حدَّدوا بعض السلوكيات التي تكشف عن الفرد المؤمن بهم إيماناً راسخاً، يحكي التزامه المبدأ الحقَّ، وعدم زيغه عن الصراط الأقوم، ممَّا يعني ضرورة التزام الفرد المؤمن بهذه السلوكيات، تنفيذاً للأمر الذي جاء من أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام .

ومن تلك السلوكيات التي يلزم أنْ يتحلّىٰ بها شيعة أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام هي ما جاء في وصيَّة الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام لعبد الله بن جندب(1)، ونذكر منها بعض الفقرات، كالتالي:

«يا ابن جندب، من سرَّه أنْ يُزوِّجه الله الحور العين ويتوجَّه بالنور فليُدخِل علىٰ أخيه المؤمن السرور.يا ابن جندب، إنَّ للشيطان مصائد يصطاد بها، فتحاموا شباكه(2) ومصائده».

ص: 15


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 302 وما بعدها).
2- فتحاموا: اجتنبوها وتوقُّوها. الشباك جمع شَبَكة - بالتحريك -: شركة الصيّاد يعني حبائل الصيد. (من هامش المصدر).

قلت: يا ابن رسول الله، وما هي؟

قال: «أمَّا مصائده فصدٌّ عن برِّ الإخوان، وأمَّا شباكه فنوم عن قضاء الصلوات التي فرضها الله. أمَا إنَّه ما يُعبَد الله بمثل نقل الأقدام إلىٰ برِّ الإخوان وزيارتهم.

يا ابن جندب، الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله يوم بدر وأُحُد، وما عذَّب الله أُمَّةً إلَّا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم.

يا ابن جندب، بلِّغ معاشر شيعتنا وقل لهم: لا تذهبنَّ بكم المذاهب، فوَالله لا تُنال ولايتنا إلَّا بالورع والاجتهاد في الدنيا ومواساة الإخوان في الله، وليس من شيعتنا من يظلم الناس.

يا ابن جندب، إنَّما شيعتنا يُعرَفون بخصال شتّىٰ: بالسخاء والبذل للإخوان، وبأنْ يُصلُّوا الخمسين ليلاً ونهاراً، شيعتنا لا يهرون هرير الكلب، ولا يطمعون طمع الغراب، ولا يجاورون لنا عدوًّا، ولا يسألون لنا مبغضاً ولو ماتوا جوعاً، شيعتنا لا يأكلون الجرّي، ولا يمسحون علىٰ الخفَّين، ويحافظون علىٰ الزوال، ولا يشربون مسكراً.

ولا تكن فظًّا غليظاً يكره الناس قربك، ولا تكن واهناً يُحقِّرك من عرفك.

يا ابن جندب، إنَّ عيسىٰ بن مريم عَلَيه اَلسَلام قال لأصحابه: أرأيتم لو أنَّ أحدكم مرَّ بأخيه فرأىٰ ثوبه قد انكشف عن بعض عورته أكان كاشفاً عنها كلِّها أم يردُّ عليها ما انكشف منها؟ قالوا: بل نردُّ عليها، قال: كلَّا، بل تكشفون عنها كلِّها - فعرفوا أنَّه مثل ضربه لهم -، فقيل: يا روح الله، وكيف ذلك؟ قال: الرجل منكم يطَّلع علىٰ العورة من أخيه

ص: 16

فلا يسترها، بحقٍّ أقول لكم: إنَّكم لا تصيبون ما تريدون إلَّا بترك ما تشتهون، ولا تنالون ما تأملون إلَّا بالصبر علىٰ ما تكرهون، إيّاكم والنظرة فإنَّها تزرع في القلب الشهوة وكفىٰ بها لصاحبها فتنة، طوبىٰ لمن جعل بصره في قلبه ولم يجعل بصره في عينه، لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب وانظروا في عيوبكم كهيأة العبيد، إنَّما الناس رجلان: مبتلىٰ ومعافىٰ، فارحموا المبتلىٰ واحمدوا الله علىٰ العافية.

يا ابن جندب، صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأحسِن إلىٰ من أساء إليك، وسلِّم علىٰ من سبَّك، وأنصِف من خاصمك، واعفُ عمَّن ظلمك كما أنَّك تُحِبُّ أنْ يُعفىٰ عنك فاعتبر بعفو الله عنك، ألَا ترىٰ أنَّ شمسه أشرقت علىٰ الأبرار والفُجّار، وأنَّ مطره ينزل علىٰ الصالحين والخاطئين؟

يا ابن جندب، لا تتصدَّق علىٰ أعين الناس ليُزكّوك، فإنَّك إنْ فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تُطلِع عليها شمالك، فإنَّ الذي تتصدَّق له سرًّا يُجزيك علانيةً علىٰ رؤوس الأشهاد في اليوم الذي لا يضرُّك أنْ لا(1) يطَّلع الناسعلىٰ صدقتك. واخفض الصوت، إنَّ ربَّك الذي يعلم ما تسرُّون وما تُعلِنون قد علم ما تريدون قبل أن تسألوه، وإذا صُمْتَ فلا تغتب أحداً، ولا تلبسوا صيامكم بظلم، ولا تكن كالذي يصوم رئاء الناس، مغبرة وجوههم، شعثة رؤوسهم، يابسة أفواههم لكي يعلم الناس أنَّهم صيام.

* * *

ص: 17


1- هكذا في المصدر، والمناسب: «لا يضرّك أنْ يطَّلع الناس علىٰ صدقتك».

(2)رحلة الأخلاق المتعاكسة

إذا تأمَّلنا في السجايا الأخلاقية التي يتمُّ ترجمتها في النهاية إلىٰ سلوك عملي خارجي، نجد أنَّها في الحقيقة تمرُّ بمرحلتين متعاكستين بالنسبة للنفس الإنسانية، فالسلوك الخارجي هو انعكاس لشيء داخلي، وذلك الشيء الداخلي جاء من الخارج (في أغلب الأحيان)، وبيانه بالتالي:

عندما يُولَد الإنسان، فهو يُولَد خالي الوفاض من أيِّ سلوك فعلي، يُولَد وكما وصفه القرآن الكريم بقوله عزَّ من قائل: ]وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 78[ (النحل: 78).

فيخرج وهو لا يعلم أيَّ شيء، ولكن، بعد هذه المرحلة، تبدأ رحلته الاستكشافية في هذا العالم، ويبدأ يستورد من الخارج الكثير الكثير من المفاهيم الحياتية، عبر منافذ ثلاثة ذكرها القرآن الكريم: السمع، والبصر، والفؤاد، أو قل: العقل.

وعندما يتمُّ استيراد الصور من الخارج، تدخل في الذهن البشري وتُحفَظ فيه، لتتمَّ معالجتها فيما بعد عبر العديد من العمليات العقلية، تحليلاً ومقايسة بعضها من البعض الآخر، ودمج بعض الصور مع البعض الآخر لتخرج لنا صورٌ جديدة، وهكذا،وبعد أنْ يتمَّ إنتاج

ص: 18

مفاهيم في الذهن، ترجع تلك المفاهيم إلىٰ الخارج من خلال ترجمتها علىٰ شكل أفعال وأقوال.

لاحظوا طفلاً مثلاً، إذا كان أبوه يُعلِّمه الألفاظ الجميلة، والكلمات العفيفة، فإنَّه سيختزن تلك الصور في ذهنه، ويُرجِعها إلىٰ الخارج بنفس القالب الذي دخلت فيه أو ما يقرب منه كثيراً، ولكن إذا تمَّت تغذية الطفل بكلمات ساذجة وغير عفيفة، فإنَّ القالب الذي ستخرج فيه ألفاظه سيكون مشابهاً للقالب الذي دخلت فيه.

أمام هذه الحقيقة، علينا أنْ نلتفت إلىٰ التالي:

أوَّلاً: علينا أنْ نهتمَّ كثيراً بالواردات إلىٰ أذهاننا، سواء كانت من نوع الألفاظ أو المواقف أو الأفكار، لأنَّها - شئنا أم أبينا - ستنعكس في يوم ما علىٰ سلوكنا الخارجي.

روي أنَّه قال الإمام الحسن بن عليٍّ عَلَيهما اَلسَلام : «عجبت لمن يتفكَّر في مأكوله، كيف لا يتفكَّر في معقوله، فيُجنِّب بطنه ما يُؤذيه، ويُودِع صدره ما يُرديه»(1)

ثانياً: علينا أنْ نبتعد عن أماكن السوء، فإنَّ من شأنها أنْ تُوحي للنفس بما فيها من سوء، ولذلك ورد التحذير من التواجد في أماكن معيَّنة، والآيات والروايات في ذلك كثيرة، منها:

قال الله تبارك وتعالىٰ: ]وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذاسَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً 140[ (النساء: 140).

ص: 19


1- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 144 و145/ ح 375)؛ وفي المصدر: (ما يُزكّيه) بدل (ما يُرديه)، والأخيرة في بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 1/ ص 218).

وقال الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام في هذه الآية: «إنَّما عنىٰ بهذا الرجل يجحد الحقَّ ويكذب به ويقع في الأئمَّة، فقم من عنده ولا تقاعده كائناً من كان»(1)

وقال تعالىٰ: ]وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 68[ (الأنعام: 68).

وفيها يقول رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يُسَبُّ فيه إمام، أو يُغتاب فيه مسلم، إنَّ الله يقول في كتابه: ]وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا ...[ [الأنعام: 68]»(2)

ويقول الإمام عليٌّ عَلَيه اَلسَلام : «لا تجلسوا علىٰ مائدة يُشرَب عليها الخمر، فإنَّ العبد لا يدري متىٰ يُؤخَذ»(3)

وعنه عَلَيه اَلسَلام : «إيّاك والجلوس في الطرقات»(4)

وقال الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام : «لا ينبغي للمؤمن أنْ يجلس مجلساًيُعصىٰ الله فيه ولا يقدر علىٰ تغييره»(5)

وقال الإمام عليٌّ عَلَيه اَلسَلام : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقوم مكان ريبة»(6)

ص: 20


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 377/ باب مجالسة أهل المعاصي/ ح 8).
2- تفسير القمّي (ج 1/ ص 204).
3- الخصال للشيخ الصدوق (ص 619/ حديث أربعمائة).
4- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 72/ ص 465/ ح 6)، عن أمالي الشيخ الطوسي (ص 8/ ح 8/8).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 374/ باب مجالسة أهل المعاصي/ ح 1).
6- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 378/ باب مجالسة أهل المعاصي/ ح 10).

ثالثاً: إذا ما اضطررْنا إلىٰ استماع ما لا يليق بالمؤمن الاستماع إليه، أو أنْ نكون في مكان يوحي بالسيِّئ من المفاهيم، فعلينا أنْ نكون علىٰ قدْرٍ عالٍ من ضبط النفس، بحيث نُهمِل أيَّ شيء سلبي، ونحاول أنْ لا نجعله يستقرَّ في نفوسنا، بأنْ ننساه أو نتناساه. ونتمثَّل قانون (كن فيهم ولا تكن منهم).

رابعاً: إذا كان في الذهن بعضٌ من المفاهيم السلبية المخزونة من مواقف سابقة، فعلينا أنْ لا نستثيرها بالتذكُّر، أو بالذهاب إلىٰ أماكن تُذكِّرنا بها، فعلينا أنْ نضبط الخيال في هذا المجال حتَّىٰ لا يُجرجرنا إلىٰ ما لا تُحمَد عقباه.

وقد روي عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «اجتمع الحواريون إلىٰ عيسىٰ عَلَيه اَلسَلام ، فقالوا له: يا معلِّم الخير أرشدنا، فقال لهم: إنَّ موسىٰ كليم الله عَلَيه اَلسَلام أمركم أنْ لا تحلفوا بالله تبارك وتعالىٰ كاذبين، وأنا آمركم أنْ لا تحلفوا بالله كاذبين ولا صادقين، قالوا: يا روح الله زدنا، فقال: إنَّ موسىٰ نبيَّ الله عَلَيه اَلسَلام أمركم أنْ لا تزنوا، وأنا آمركم أنْ لا تُحدِّثوا أنفسكم بالزنا فضلاً عن أنْ تزنوا، فإنَّ من حدَّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق فأفسد التزاويقَ(1)الدخانُ وإنْ لم يحترق البيت»(2)

وعن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «صيام القلب عن الفكر في الآثام أفضل من صيام البطن عن الطعام»(3)

وعنه عَلَيه اَلسَلام : «فكرك في الطاعة يدعوك إلىٰ العمل بها، وفكرك في المعصية يحدوك علىٰ الوقوع فيها»(4)

ص: 21


1- التزويق: التزيين والتحسين. (القاموس). (من هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 542/ باب الزاني/ ح 7).
3- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 302).
4- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 357).

خامساً: يلزم الاهتمام بمنافذ الأخلاق الأصيلة، المتمثِّلة بالقرآن الكريم، وروايات المعصومين عَلَيهم اَلسَلام ، والتجربة الشخصية، وأخذ التجربة من الغير.

وفي هذا المجال أُلفت النظر إلىٰ ضرورة أمرين مهمَّين في مجال الاهتمام بمنافذ الأخلاق، وهما:

الأمر الأوَّل: ضرورة الأُستاذ المرشِد، الذي يرجع إليه طالب الأخلاق والسجايا الكريمة كلَّما احتاج إليه، وكلَّما رأىٰ من نفسه تقهقراً إلىٰ الوراء، فإنَّه وكما روي عن الإمام السجّاد عَلَيه اَلسَلام : «هلك من ليس له حكيم يُرشِده»(1)

وأفضل حكيم نسترشد به هو القرآن الكريم، وكلمات المعصومين عَلَيهم اَلسَلام ، فقد روي عن الرسول الأكرم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «إنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد»، قيل: فما جلاؤها؟ قال: «ذكر الله، وتلاوة القرآن»(2)وعن الإمام الباقر عَلَيه اَلسَلام : «إنَّ حديثنا يُحيي القلوب»(3)

وعن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «... وإنَّ الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنَّه حبل الله المتين وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره»(4)

وعن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «تذاكروا وتلاقوا وتحدَّثوا فإنَّ الحديث جلاء للقلوب، إنَّ القلوب لترين(5) كما يرين السيف جلاؤها الحديث»(6)

ص: 22


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 159).
2- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 237/ ح 662).
3- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 62/ ح 155).
4- نهج البلاغة (ج 2/ ص 95).
5- الرَّين: الدنس والوسخ. (من هامش المصدر).
6- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 41/ باب بذل العلم/ ح 8).

الأمر الثاني: إنَّ الإنسان وبعد أنْ يلجأ إلىٰ المرشد الخارجي (الذي هو القرآن والروايات الشريفة) عليه أنْ يُوجِد هو في داخله أُستاذاً داخلياً، لنُسمِّه (الوجدان) أو (الضمير) أو (الواعظ النفسي أو الباطني)، أي أنْ يكون هو مصدر موعظة نفسه، فالإنسان العاقل لا بدَّ أن يُفكِّر جيِّداً فيما يصدر منه من أقوال وأفعال، وأنْ يُحكِّم عقله، ليحبس نفسه علىٰ الفضائل، ويهجر الرذائل.

فعن الإمام زين العابدين عَلَيه اَلسَلام : «ابن آدم! إنَّك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همِّك»(1)

وعن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «واعلموا أنَّه من لم يُعَنْ علىٰ نفسه حتَّىٰ يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ»(2)وعن الإمام الصادق جعفر بن محمّد عَلَيهما اَلسَلام : «من لم يكن له واعظ من قلبه، وزاجر من نفسه، ولم يكن له قرين مرشد، استمكن عدوّه من عنقه»(3)

وقال الشاعر:

لن ترجع الأنفس عن غيِّها *** ما لم يكن منها لها زاجر(4)

ص: 23


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 280).
2- نهج البلاغة (ج 1/ ص 160).
3- أمالي الشيخ الصدوق (ص 526/ ح 711/2).
4- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (ج 7/ ص 457)، والبيت الشعري لأبي نواس.

(3)إنَّ الفضائل - وكذا الرذائل - مفاهيم مشكَّكة

بمعنىٰ: أنَّ الفضائل ليست ذات مرتبة واحدة، إمَّا أنْ يصل إليها الفرد فيتَّصف بها، وإمَّا أنْ لا يصل إليها فلا يتَّصف بها، كلَّا، بل إنَّ لها مراتب طولية متعدِّدة، تبدأ بنقطة معيَّنة، وتشتدُّ إلىٰ مراتب عالية جدًّا، فالصدق قد يكون في المواقف العادية فقط، ولكن إذا وقع الإنسان في موقف محرج، فربَّما يكذب، ولكن البعض تجده صادقاً في كلِّ أحواله وأقواله، فلا تجد للكذب عنده موضعاً ولو ذهب لأجله ما يُحِبُّ.

وهكذا بقيَّة الفضائل.

ونفس الكلام يُقال في الرذائل، فليست هي ذات مرتبة واحدة، بل هي ذات دَرَكات تسافلية متعدِّدة.

وهذا هو معنىٰ كونها مفاهيم مشكَّكة.

عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، قال: قلت له: أيّها العالم أخبرني أيُّ الأعمال أفضل عند الله؟ قال: «ما لا يقبل الله شيئاً إلَّا به»، قلت: وما هو؟ قال: «الإيمان بالله الذي لا إله إلَّا هو، أعلىٰ الأعمال درجةً وأشرفها منزلةً وأسناها حظًّا»، قال: قلت: ألَا تُخبرني عن الإيمان، أقول هو وعمل أم قول بلا عمل؟ فقال: «الإيمان عمل كلُّه والقول بعض ذلك العمل، بفرض من اللهبيِّن في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجَّته، يشهد له به الكتاب ويدعوه إليه»، قال: قلت: صفه لي جُعلت

ص: 24

فداك حتَّىٰ أفهمه، قال: «الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل، فمنه التامّ المنتهىٰ تمامه، ومنه الناقص البيِّن نقصانه، ومنه الراجح الزائد رجحانه...»(1)

ولذلك، كان أحد تفسيرات أبواب الجنَّة الثمانية وأبواب جهنَّم السبعة هو تفسيرها بمراتب الجنَّة ودَرَكات جهنَّم حسب أعمال الإنسان.

ويترتَّب علىٰ هذه القاعدة التالي:

أمَّا في جانب الفضائل، فعلينا أنْ نلتفت إلىٰ التالي:

أوَّلاً: أنَّ الفضائل مستمرَّة في مراتبها الكمالية إلىٰ ما لا نهاية، وهو ما يُشير إليه قوله تعالىٰ: ]وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ 99[ (الحجر: 99)، وقد فسَّروا اليقين بالموت، فيكون المعنىٰ: اعبد ربَّك ما دمت حيًّا(2)

ولو كان للفضائل سقف محدَّد، لأمكن أنْ يصل فردٌ ما إليها، وبالتالي تنقطع العبادة عندها، ولكنّا نجد أنَّ أعظم مخلوق خلقه الله تعالىٰ، وهو الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، علىٰ ما هو عليه من الكمال، كان يُتعِب نفسه بالعبادة، بحيث كان يُصلّي علىٰ أطراف أصابعه، ولمَّا عوتب علىٰ ذلك قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟»(3)

ص: 25


1- انظر الرواية بطولها في الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 33 - 37/ باب في أنَّ الإيمان مبثوث لجوارح البدن كلِّها/ ح 1).
2- تفسير شُبَّر (شرح ص 266).
3- روي عن أبي بصير، عن أبي جعفر عَلَيه اَلسَلام ، قال: «كان رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله، لِمَ تُتعِب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة ألَا أكون عبداً شكوراً؟»، قال: «وكان سول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله يقوم علىٰ أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه وتعالىٰ: ]طه 1 ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ 2[ [طه: 1 و2]». (الكافي للشيخ الكليني: ج 2/ ص 95/ باب الشكر/ ح 6).

وعليه، فلا يتصوَّرَنَّ أحدٌ أنَّه يمكن أنْ يصل إلىٰ مرحلة علمية معيَّنة، أو مرحلة كمالية معيَّنة، وبعدها يتوقَّف عن تحصيل الكمال، فإنَّه وكما قال تعالىٰ: ]نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ 76[ (يوسف: 76).

ثانياً: مهما وصل الإنسان إلىٰ مراتب كمالية عالية، فعليه أنْ ينظر إلىٰ حجمه الواقعي، وأنَّه (لا شيء) أمام الكمال اللّامتناهي لله تعالىٰ، بل هو (لا شيء) بالنسبة إلىٰ الكمالات التي وصل إليها أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام ، وبالتالي، فعليه أنْ لا يُعجب بنفسه، فإنَّ العُجْب من أشدّ الأمراض التي تفتك بالأعمال الصالحة.

يقول أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «وإيّاك والإعجابَ بنفسك والثقةَ بما يُعْجِبُك منها وحُبَّ الاطراء، فإنَّ ذلك من أوثق فُرَص الشيطان في نفسه، ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين»(1)

وقد روي أنَّه دخل الإمام أبو جعفر علىٰ أبيه زين العابدين عَلَيهما اَلسَلام ، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرَّ لونه من السهر، ورمصت(2) عيناه من البكاء، ودبرت [أي قرحت] جبهته وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيامفي الصلاة، فقال أبو جعفر عَلَيه اَلسَلام : «فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمةً له، وإذا هو يُفكِّر، فالتفت إليَّ بعد هنيهة من دخولي، فقال: يا بنيَّ، أعطني بعض تلك الصُّحُف التي فيها عبادة عليِّ بن أبي طالب عَلَيه اَلسَلام ، فأعطيته،

ص: 26


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 108).
2- في مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (هامش ص 318): (رَمَصَتْ عينه: سال منها الرَّمَص. والرَّمَص - بالتحريك -: وسخ أبيض يجتمع في موق العين).

فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثمّ تركها من يده تضجُّراً، وقال: من يقوىٰ علىٰ عبادة عليٍّ عَلَيه اَلسَلام ؟!»(1)

وباختصار: علينا دوماً أنْ ننظر إلىٰ من هم أكمل منّا، ونحاول أنْ نصل إليهم، ونتكامل معهم، ولا نعجب بأنفسنا مهما وصلنا إلىٰ مراحل كمالية عالية.

وأمَّا في جانب الرذائل، فعلينا أنْ نلتفت إلىٰ التالي:

أوَّلاً: أنَّ الذنوب في حقيقتها سقوط في الهاوية، في جهنَّم والعياذ بالله، وهو سقوط له دَرَكات عديدة، وحتَّىٰ يتخلَّص الفرد من الهاوية، عليه أنْ يترك جميع الذنوب وبجميع مراتبها، فالذنوب التي يعتبرها البعض صغيرة، قد تتجمَّع لتكون ركاماً هائلاً من الذنوب، التي قد تهوي بالفرد في وادي جهنَّم لسنوات طوال، وقد روي أنَّ رسول الله

ص: 27


1- الإرشاد للشيخ المفيد (ج 2/ ص 142)، ومن اللطيف ما روي عن داود الرقّي، قال: سمعت أبا عبد الله عَلَيه اَلسَلام يقول: «اتَّقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضاً، إنَّ عيسىٰ بن مريم كان من شرايعه السيح في البلاد، فخرج في بعض سيحه ومعه رجل من أصحابه قصير، وكان كثير اللزوم لعيسىٰ عَلَيه اَلسَلام ، فلمَّا انتهىٰ عيسىٰ إلىٰ البحر قال: بسم الله، بصحَّة يقين منه فمشىٰ علىٰ ظهر الماء، فقال الرجل القصير حين نظر إلىٰ عيسىٰ عَلَيه اَلسَلام جازه: بسم الله، بصحَّة يقين منه فمشىٰ علىٰ الماء ولحق بعيسىٰ عَلَيه اَلسَلام ، فدخله العُجب بنفسه، فقال: هذا عيسىٰ روح الله يمشي علىٰ الماء وأنا أمشي علىٰ الماء فما فضله عليَّ؟»، قال: «فرمس في الماء، فاستغاث بعيسىٰ، فتناوله من الماء، فأخرجه، ثمّ قال له: ما قلتَ يا قصير؟ قال: قلتُ: هذا روح الله يمشي علىٰ الماء وأنا أمشي علىٰ الماء فدخلني من ذلك عُجب، فقال له عيسىٰ: لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله فيه فمقتك الله علىٰ ما قلتَ، فتُبْ إلىٰ الله عَزَّ وَجَل ممَّا قلتَ»، قال: «فتاب الرجل وعاد إلىٰ مرتبته التي وضعه الله فيها، فاتَّقوا الله ولا يحسدنَّ بعضكم بعضاً». (الكافي للشيخ الكليني: ج 2/ ص 306 و307/ باب الحسد/ ح 3).

صَلَ الله عَلیهِ وَ آله نزل بأرض قرعاء (أي لا نبات فيها) فقال لأصحابه: «ائتوا بحطب»، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، قال: «فليأتِ كلُّ إنسان بما قدر عليه»، فجاؤوا به حتَّىٰ رموا بين يديه، بعضه علىٰ بعض، فقال رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «هكذا تجتمع الذنوب»، ثمّ قال: «إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنَّ لكلِّ شيء طالباً، ألَا وإنَّ طالبها يكتب ما قدَّموا وآثارهم، ]وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ12[ [يس: 12]»(1)

ثانياً: مهما سقط البعض في الرذائل، ومهما ابتعد عن سُلَّم الكمال، فعليه أنْ يعرف أنَّ باب التوبة مفتوح، وأنَّه تعالىٰ لن يغلقه بوجه عبد قصده مخلصاً، فطريق الرذائل وإنْ كان تنازلياً، بل هو عبارة عن سقوط في الهاوية، ولكن ذلك لا يمنع الفرد من أنْ يتشبَّث بحبل التوبة، وسُلَّم الرأفة والعطف والعفو الإلهي.

عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله عَلَيه اَلسَلام يقول: «إذا تاب العبد توبةً نصوحاً أحبَّه الله، فستر عليه في الدنيا والآخرة»، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: «يُنسي مَلَكيه ما كتبا عليه منالذنوب، ويُوحي إلىٰ جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلىٰ بقاع الأرض: اكتمي ما كان يعمل عليكِ من الذنوب، فيلقىٰ الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب»(2)

ص: 28


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 288/ باب الإصرار علىٰ الذنب/ ح 3).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 430 و431/ باب التوبة/ ح 1).

(4)غاية لا متناهية

من الواضح جدًّا أنَّ الإنسان موجود متناهٍ محدود، وأنَّ النقص يحيط به من كلِّ جوانب وجوده، لذلك احتاج بفطرته إلىٰ ما يُكمِّله، وحيث إنَّ الله تعالىٰ هو الكمال المطلق، وهو الغنيُّ الحميد، فقد كان طريق التكامل وسدُّ النقص المحيط بالإنسان منحصراً بقصده جلَّ وعلا، وحيث إنَّه تعالىٰ لا متناهي، كان الطريق إليه لا متناهياً أيضاً.

والنتيجة: أنَّ طريق التكامل غير متناهي.

وهذا يعني التالي:

أوَّلاً: علىٰ المؤمن أنْ لا يُقيِّد نفسه بسقف دون الكمال المطلق، فالتكامل ما دام نحو الله تعالىٰ، فلا بدَّ أنْ تكون همَّة المؤمن عالية جدًّا، بحيث يجعل هدفه أعلىٰ كمال يمكن أنْ يصل إليه، وقد رسم القرآن الكريم هذا الطريق بقوله تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ 6[ (الانشقاق: 6).

فطريق التكامل صعودي غير متناهي ]إِلىٰ رَبِّكَ[، وهو طريقُ ذات الشوكة ] كادِحٌ ... كَدْحاً[، والكدح هو السير بصعوبة وجهاد، إذ طبيعة الصعود تقتضي بذل مزيدٍ من الجهد،وفي نفس الوقت ستكون النتيجة متناسبة مع الجهد المبذول.

ص: 29

ثانياً: ومنه سنفهم السبب وراء الدعوة الشديدة والتأكيد المستمرّ من أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام علىٰ أنْ يكون شيعتهم الرأس في كلِّ شيء، فلم يرتضِ لنا أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام أبداً أنْ نكون ذيلاً في أيِّ مجال من مجالات الحياة.

وفي هذا المجال، روي عن عليِّ بن أبي زيد، عن أبيه، قال: كنت عند أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، فدخل عيسىٰ بن عبد الله القمّي، فرحَّب به وقرَّب من مجلسه، ثمّ قال: «يا عيسىٰ بن عبد الله ليس منّا - ولا كرامة - من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون وكان في ذلك المصر أحدٌ أورع منه»(1)

وروي عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد عَلَيه اَلسَلام أنَّ نفراً أتوه من الكوفة من شيعته يسمعون منه، ويأخذون عنه، فأقاموا بالمدينة ما أمكنهم المقام، وهم يختلفون إليه ويتردَّدون عليه ويسمعون منه ويأخذون عنه، فلمَّا حضرهم الانصراف وودَّعوه، قال له بعضهم: أوصنا يا بن رسول الله، فقال عَلَيه اَلسَلام : «أُوصيكم بتقوىٰ الله والعمل بطاعته واجتناب معاصيه، وأداء الأمانة لمن ائتمنكم، وحسن الصحابة لمن صحبتموه، وأنْ تكونوا لنا دعاة صامتين»، فقالوا: يا بن رسول الله، وكيف ندعو إليكم ونحن صُموت؟ قال: «تعملون ما أمرناكم به من العمل بطاعة الله، وتتناهون عمَّا نهيناكم عنه من ارتكاب محارم الله، وتُعامِلون الناس بالصدق والعدل، وتُؤدُّون الأمانة، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، ولا يطَّلع الناس منكم إلَّا علىٰ خير، فإذا رأوا ما أنتم عليهقالوا: هؤلاء الفلانية، رحم الله فلاناً، ما كان أحسن ما يُؤدِّب أصحابه، وعلموا فضل ما كان عندنا، فسارعوا إليه، أشهد علىٰ أبي محمّد

ص: 30


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 78/ باب الورع/ ح 10).

بن عليٍّ رضوان الله عليه ورحمته وبركاته، لقد سمعته يقول: كان أولياؤنا وشيعتنا فيما مضىٰ خيرَ من كانوا فيه، إنْ كان إمامُ مسجد في الحيِّ كان منهم، وإنْ كان مؤذنٌ في القبيلة كان منهم، وإنْ كان صاحبُ وديعة كان منهم، وإنْ كان صاحبُ أمانة كان منهم، وإنْ كان عالمٌ من الناس يقصدونه لدينهم ومصالح أُمورهم كان منهم، فكونوا أنتم كذلك، حبِّبونا إلىٰ الناس، ولا تُبغِّضونا إليهم»(1)

وفي الحقيقة، إنَّ هذا أمر أسَّس له القرآن الكريم بقوله تعالىٰ: ]وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً 74[ (الفرقان: 74).

وفي هذا المعنىٰ قال الشاعر:

ولا بدَّ أنْ أسعىٰ لأشرف رتبة *** وأمنع عن عيني لذيذ منامي

وأقتحم الخطب المهول بحيث أنْ *** أرىٰ الموت خلفي تارةً وأمامي

فإمَّا مقاماً يضرب المجد دونه *** سرادقه أو ناعياً لحمامي

إذا أنا لم أبلغ مقاماً أرومه *** فكم حسراتٍ في نفوس كرامِ

ثالثاً: حيث إنَّ طريق التكامل لا متناهي، وحيث إنَّ حياتنا متناهية، إذن، علينا أنْ نعمل علىٰ فتح حسابٍ جارٍ لأعمالنا الصالحة، كما يضع البعض حساباً جارياً في البنك، ليضيفأموالاً إلىٰ أمواله باستمرار، وقد فتح الإسلام لنا - بمنِّ الله تعالىٰ وكرمه وعطفه - باباً واسعاً لفتح (حسابٍ جارٍ) لأعمال صالحة تستمرُّ حتَّىٰ بعد وفاتنا، فينبغي للمؤمن أنْ يجعل تكامله مستمرًّا من خلال هذه الأعمال.

ص: 31


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1/ ص 56 و57).

ومن ذلك ما ورد عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلَّا من ثلاث: علم يُنتَفع به، أو صدقة تُجرىٰ له، أو ولد صالح يدعو له»(1)

وعن ميمون القدّاح، عن أبي جعفر عَلَيه اَلسَلام ، قال: «أيُّما عبد من عباد الله سَنَّ سُنَّة هدىٰ كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك من غير أنْ ينقص من أُجورهم شيء، وأيُّما عبد من عباد الله سَنَّ سُنَّة ضلال كان عليه مثل وزر من فعل ذلك من غير أنْ ينقص من أوزارهم شيء»(2)

رابعاً: ومن كلِّ ما تقدَّم، نفهم أنَّه لا بدَّ أنْ يستمرَّ المؤمن بتحصيل الكمالات ما دام حيًّا، ولا يتوقَّف عند نقطة معيَّنة، لأنَّ التوقُّف يعني التأخُّر، إذ القافلة تسير، ولا تنتظر من يبحث عن الراحة والدعة، ومن هنا روي عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام : «لا تدع قيام الليل، فإنَّ المغبون من غُبِنَ قيام الليل»(3)

وعنه عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «المغبون من غَبَنَ عمره ساعة بعدساعة»(4)

وعنه عَلَيه اَلسَلام أيضاً أنَّه قال: «من استوىٰ يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرّهما فهو ملعون، ومن لم يرَ الزيادة في نفسه فهو إلىٰ النقصان، ومن كان إلىٰ النقصان فالموت خير له من الحياة»(5)

فالقاعدة هنا: أنَّ التكامل طريق غير متناهي، لأنَّ الغاية غير متناهية، فلتكن لنا أُذُن واعية.

* * *

ص: 32


1- روضة الواعظين للفتّال النيسابوري (ص 11).
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 132).
3- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 342/ باب معنىٰ المغبون/ ح 1).
4- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 342/ باب معنىٰ المغبون/ ح 2).
5- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 342/ باب معنىٰ المغبون/ ح 3).

(5)الخير عادة والشرُّ لجاجة

يمكن القول: إنَّ الأخلاق علىٰ نوعين، فبعض الأخلاق والسجايا يستسيغها الإنسان منذ نعومة أظفاره، وكأنَّها وُلِدَت معه، فلا يجد من نفسه أيَّ تلكُّؤ من فعلها، ولا أيَّ صعوبة في الالتزام بها، وهو ما يمكن أنْ يُسمّيه البعض بالأخلاق الوراثية، أو الذاتية، وما شابه.

فهذه الصفات يفعلها الإنسان من دون تكلُّف أو عناء.

ولكن، هناك بعض الأخلاق التي لا يجد المؤمن نفسه توّاقةً لها، أو أنَّها تحتاج إلىٰ بذل جهد فكري أو عملي للتخلُّق بها، أو أنَّه لم يفعلها من قبل، وما شابه، وهذه تحتاج إلىٰ خطوات عديدة، حتَّىٰ يتمكَّن المؤمن من فعلها أوَّلاً، ثمّ تتحوَّل من صفة عابرة إلىٰ ملكة لا تنفكُّ عنه في العادة، وهذا الكلام يجري في إرادة الاتِّصاف بالفضائل، أو إرادة تخلية النفس وتخليصها من الرذائل.

والخطوات لتحصيل ذلك عديدة، نذكر منها التالي:

أوَّلاً: الاطِّلاع علىٰ

الثمرات العملية والنتائج التي تترتَّب علىٰ الفضائل والرذائل، وهذا الأمر ممكن جدًّا بمراجعة الكُتُب الأخلاقية والروائية.

وفائدة هذه الخطوة هو توفير التصوّرات الواضحة للثمراتالمترتِّبة علىٰ الفضائل والرذائل، ومن المعلوم أنَّ توفير التصوّرات

ص: 33

الواضحة هي أُولىٰ خطوات الفعل الإرادي للإنسان، فإذا كانت التصوّرات جاءت من مصدر معصوم - وهو القرآن الكريم والروايات الشريفة -، تحوَّل التصوّر الساذج إلىٰ قناعة نفسية بضرورة الاتِّصاف بالفضائل وترك الرذائل، الأمر الذي سيعقبه تولُّد الحُبِّ والشوق لفعل الأُولىٰ والهروب من الأُخرىٰ، وبعدها لن يبقَ أمام المؤمن إلَّا أن يُفعِّل إرادته ليصدر الفعل الحسن منه في الخارج.

ثانياً: أنْ يعمل المؤمن علىٰ التزام الصفات الأخلاقية دفعة واحدة أو ما يقرب من الدفعة، فإنْ لم يستطع، فليعمل بنظام (خطوة خطوة) بأنْ يختار المؤمن صفة أخلاقية معيَّنة، ويحمل نفسه علىٰ عملها للمرَّة الأُولىٰ، ثمّ يعمل علىٰ أنْ يُكرِّرها مرَّةً أُخرىٰ، وهكذا.

وهكذا الحال في الصفات اللّاأخلاقية، فيُصمِّم المؤمن علىٰ أنْ يتركها، فإنْ استطاع أنْ يتركها كلَّها دفعة واحدة فبها، وإلَّا فليعمل بنظام خطوة خطوة أيضاً.

يقول السيِّد الطباطبائي في إشارة إلىٰ ذلك: (إنَّ العمل الذي لم تعهد النفس وقوعه في الخارج يصعب انقيادها له، فإذا وقع لأوَّل مرَّة بدا كأنَّه انقلب من امتناع إلىٰ إمكان وعظم أمر وقوعه وأورث في النفس قلقاً واضطراباً، ثمّ إذا وقع ثانياً وثالثاً هان أمره وانكسر سورته والتحق بالعاديات التي لا يعبأ بأمرها، وإنَّ الخيرعادة كما أنَّ الشرَّ عادة)(1)

ثالثاً: أنْ يختار عملاً صالحاً معيَّناً، حتَّىٰ لو كان صغيراً في حجمه وكمِّه، ويلتزمه لمدَّة سنة كاملة، يداوم عليه كلَّ يوم، ثمّ يختار عملاً آخر ويداوم عليه

ص: 34


1- سُنَن النبيِّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله للسيِّد الطباطبائي (ص 37).

كذلك، وهكذا، فإنَّ التزامه ذلك وتكراره للعمل كلَّ يوم، سيجعل من أدائه سهلاً جدًّا، وربَّما لن يتمكَّن المؤمن من تركه أبداً، لتعوُّد نفسه عليه. وهكذا في الأفعال السيِّئة، فلو كان المؤمن يقع في معصية معيَّنة، أو فعلٍ ممَّا لا ينبغي صدوره منه، فيمكنه أنْ يتعاهد مع نفسه علىٰ تركه لمدَّة سنة كاملة، ويلتزم بذلك، وهكذا يختار عملاً ثانياً من هذا النوع، ويلتزم بتركه لمدَّة سنة، وبعدها، سيجد أنَّه بالتزامه هذا قد عصم نفسه من مواقعة الحرام أو ما لا ينبغي له من الأفعال والأقوال.

وقد أشارت بعض الروايات الشريفة إلىٰ هذه الحقيقة، فعن أبي عبد الله الصادق عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «إذا كان الرجل علىٰ عمل فليدُم عليه سنة، ثمّ يتحوَّل عنه إنْ شاء إلىٰ غيره، وذلك أنَّ ليلة القدر يكون فيها في عامه ذلك ما شاء الله أنْ يكون»(1)

وفي رواية أُخرىٰ عن أبي جعفر الباقر عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: أحبُّالأعمال إلىٰ الله عَزَّ وَجَل ما داوم [ما دام] عليه العبد وإنْ قلَّ»(2)

وفي رواية ثالثة عن أبي عبد الله الصادق عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «إيّاك أنْ تفرض علىٰ نفسك فريضة فتفارقها اثني عشر هلالاً»(3)

ص: 35


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 82/ باب استواء العمل والمداومة عليه/ ح 1)؛ وجاء في هامش المصدر: (يكون) خبر (إنَّ)، و(فيها) خبر (يكون)، الضمير راجع إلىٰ (الليلة). وقوله: (ما شاء الله أن يكون) اسم (يكون)، وقوله: (في عامه) متعلّق ب- (يكون) أو حال عن (الليلة)، والحاصل أنَّه إذا داوم سنة يصادف ليلة القدر التي يكون فيها ما شاء الله كونه من البركات والخيرات والمضاعفات، فيصير له هذا العمل مضاعفاً مقبولاً. ويحتمل أنْ يكون الكون بمعنىٰ التقدير، أو يُقدَّر مضاف في (ما شاء الله).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 82/ باب استواء العمل والمداومة عليه/ ح 2).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 83/ باب استواء العمل والمداومة عليه/ ح 6).

رابعاً: نُقِلَ عن أحد العلماء أنَّه أوصىٰ ذرّيته بأنْ يطالعوا جميع ما ورد من الأعمال الصالحة، واجبة كانت أو مستحبَّة، وأنْ يعملوا علىٰ فعل الأعمال الواجبة علىٰ الدوام، وأمَّا المستحبّات، فأوصاهم بأنْ يعملوا كلَّ الأعمال الصالحة، ولا يتركوا أيَّ عمل مطلقاً، ولو أنْ يفعلوه مرَّة واحدة في حياتهم.

وهذه الوصيَّة مستوحاة ممَّا روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام من أنَّه قال: «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أخفىٰ رضاه في طاعته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من طاعته، فربَّما وافق رضاه وأنت لا تعلم»(1)

خامساً: ينفع كثيراً في التعوُّد علىٰ الخير، أنْ يتذكَّر المؤمن، أنَّه لا بدَّ من الورود علىٰ الله تعالىٰ يوم القيامة، وهناكسينصب الله تعالىٰ الموازين الحقَّ، وسيبدأ الحساب علىٰ كلِّ ما صدر من المرء، وسيُوضَع كتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة، وسيكون الموقف مهولاً جدًّا، بحيث ]تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَىٰ النَّاسَ سُكارىٰ وَما هُمْ بِسُكارىٰ وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ 2[ (الحجّ: 2).

حينها، سيكون الإنسان محتاجاً إلىٰ أيِّ عمل صالح ولو كان بسيطاً، إذ لعلَّ عملاً صغيراً يُنقِذه من هول ذلك اليوم، وهذا يعني: أنَّ علىٰ المؤمن أنْ يسعىٰ جهده علىٰ التمثُّل بالأعمال الصالحة، ليجمع لنفسه رصيداً منها ينفعه في ذلك اليوم.

ص: 36


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 209 و210)، وتمام الحديث: «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أخفىٰ أربعة في أربعة: أخفىٰ رضاه في طاعته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من طاعته، فربَّما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفىٰ سخطه في معصيته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من معصيته، فربَّما وافق سخطه معصيته وأنت لا تعلم. وأخفىٰ إجابته في دعوته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من دعائه، فربَّما وافق إجابته وأنت لا تعلم. وأخفىٰ وليَّه في عباده، فلا تستصغرنَّ عبداً من عبيد الله، فربَّما يكون وليَّه وأنت لا تعلم».

وفي هذا المجال روي عن الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال لأبي ذرٍّ: «ولو كان لرجل عمل سبعين نبيًّا لاستقلَّ عمله من شدَّة ما يرىٰ يومئذٍ»(1)

وفي رواية أُخرىٰ عنه صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «لو أنَّ رجلاً جرَّ علىٰ وجهه من يوم وُلِدَ إلىٰ يوم يموت هرماً في طاعة الله عَزَّ وَجَل، لحقَّر ذلك يومَ القيامة، ولودَّ أنَّه يُرَدُّ إلىٰ الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب»(2)

فالقاعدة إذن: أنَّ الأخلاق والفضائل، إنْ لم تكن ذاتية، فإنَّ تحصيلها ليس ممتنعاً علىٰ المؤمن، بل إنَّ الله تعالىٰ جعل تحصيلها ممكناً جدًّا، ليس إلَّا لأنَّ الإنسان موجود يفعل بإرادته واختياره، وليس هو آلة عمياء صماء بكماء.وقد اختصرها أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام بقوله: «عوِّد نفسك السماح(3)، وتخيَّر لها من كلِّ خُلُق أحسنه، فإنَّ الخير عادة»(4)

* * *

ص: 37


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 533).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 15/ ص 788/ ح 43120).
3- السماح: الجود، أي صيِّر نفسك معتادة بالجود. (من هامش المصدر).
4- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 86).

(6)إنَّ الدنيا وسيلة لا هدف

اشارة

عندما نلاحظ مسيرة الإنسان في عالم الوجود، نجد أنَّه وبعد أنْ كان في كتم العدم، ووهب الله تعالىٰ له الوجود، مرَّ بعدَّة مراحل، هي: عالم الذرِّ (علىٰ اختلاف الآراء في ثبوته وفي تفسيره)، وعالم الأصلاب، فالأرحام، فالدنيا. وبقي علينا - نحن الذين ما زلنا أحياءً - أنْ نمرَّ بما لا مفرَّ منه، وهو الموت، وعالم البرزخ، والقبر، إلىٰ أنْ ننتهي إلىٰ عالم الآخرة.

الملاحظة المهمَّة هنا هي: أنَّ كلَّ المراحل التي مرَّ بها الإنسان هي من نوع (الجسر) و(الواسطة بين طرفين)، فأنت في عالم الأصلاب لا تخلد، وإنَّما تبقىٰ فيه فترة من الزمن، ثمّ تنتقل إلىٰ عالم الأرحام، وهكذا ما تبرح فيه إلَّا تسعة أشهر حتَّىٰ تنتقل إلىٰ الدنيا، وهكذا في الدنيا، حيث نبقىٰ فيها أيّاماً معدودة، تبدأ بالتناقص من اللحظة التي نُولَد فيها، لتكون أنفاسنا خطانا إلىٰ آجالنا وقبورنا، وهكذا القبر إنَّما هو قنطرة بين الدنيا والآخرة، ولا خلود ولا بقاء إلَّا في عالم القيامة.

وهذا أمر يشهد به الوجدان والبرهان.

إلَّا أنَّ المفارقة الغريبة في الإنسان، هي أنَّه في كثير من الأحيان يتناسىٰ أنَّه في هذه الدنيا يمرُّ بمرحلة انتقالية فقط،فيحسب أنَّه خالد فيها، وهنا، تبدأ واحدة من أعقد مشاكل الإنسان في هذه الحياة, وهي

ص: 38

التعامل مع الدنيا معاملة الخالد فيها، ونسيان أو تناسي كونها ممرًّا إلىٰ عالم البرزخ.

ولذلك تجد البعض يظلم غيره، ويأكل حقَّه، ويعتدي علىٰ الضعيف، ولا يُنفِق علىٰ عياله، وربَّما ترك الصلاة، وأباح لنفسه كلَّ محرَّم، وإذا حاولتَ أنْ تنهاه عن ذلك، لم ترَ منه إلَّا ما لا يسرُّ.

إنَّ الظالم، والعاصي، والمذنب، لو فكَّر في حقيقة أنَّ الدنيا مجرَّد ممرّ، لما انتهك حرمات الله تعالىٰ.

وحتَّىٰ نكون علىٰ بيِّنة من الأمر، نُذكِّر بالأُمور التالية:

الأمر الأوَّل:

من الحقائق الوجدانية أنَّه لا خلود في هذه الحياة، وأنَّ الموت هو قدرنا، وأنَّنا مهما طالت بنا الأيّام فإنَّها قصيرة جدًّا، ولنتذكَّر ما روي عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، قال: «عاش نوح عَلَيه اَلسَلام ألفيّ سنة وثلاثمائة سنة، منها ثمانمائة وخمسين(1) سنة قبل أن يُبعَث، وألف سنة إلَّا خمسين عاماً وهو في قومه يدعوهم، وخمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة ونضب الماء، فمصَّر الأمصار وأسكن ولده البلدان، ثمّ إنَّ مَلَك الموت جاءه وهو في الشمس فقال: السلام عليك، فردَّ عليه نوح عَلَيه اَلسَلام ، قال: ما جاء بك يا مَلَك الموت؟ قال: جئتك لأقبض روحك، قال: دعني أدخل من الشمس إلىٰ الظلِّ، فقال له: نعم، فتحوَّل، ثمّ قال: يا مَلَك الموت، كلُّ ما مرَّ بي منالدنيا مثل تحويلي (تحوُّلي) من الشمس إلىٰ الظلِّ، فامضِ لما أُمِرْتَ به، فقبض روحه عَلَيه اَلسَلام »(2)

ص: 39


1- كذا، والظاهر: (خمسون). (من هامش المصدر). وضبطها بالرفع في أمالي الشيخ الصدوق (ص 602/ ح 836/7).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 8/ ص 284/ ح 429).

الأمر الثاني:

إنَّ كون الدنيا قنطرة لا يعني أنْ لا يهتمَّ بها الإنسان، وخصوصاً المؤمن، فإنَّ الروايات وصفتها بالمزرعة للآخرة، وبالتالي، إذا أراد الفلّاح أنْ يحصد زرعه ويربح، عليه أنْ يهتمَّ بمزرعته، ويحافظ عليها، ويُنمّيها، بالطريق الصحيح للتنمية، ولذلك منعت الروايات الشريفة من أنْ يكون المؤمن كَلّاً علىٰ غيره، ومدحت من يعمل ويكدُّ علىٰ عياله، وجعلته كالمجاهد في سبيل الله.

فقد روي أنَّه أشرف علىٰ النبيِّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله وأصحابه رجل من قريش، من رأس تلٍّ، فقالوا: ما أجلد هذا الرجل! لو كان جلده في سبيل الله، فقال النبيُّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «أو ليس في سبيل الله إلَّا من قُتِلَ؟»، ثمّ قال: «من خرج في الأرض يطلب حلالاً يكفُّ به أهله فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالاً يكفُّ به نفسه فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان»(1)

وهذا ما عبَّرت عنه الروايات الشريفة بأنَّه ينبغي أنْ يتمَّ التعامل مع الدنيا علىٰ أنَّها عون للآخرة، فعن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «نعم العون علىٰ الآخرة الدنيا»(2)وعن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قال رجل لأبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام : والله إنّا لنطلب الدنيا ونُحِبُّ أنْ نؤتاها؟ فقال: «تُحِبُّ أنْ تصنع بها ماذا؟»، قال: أعود بها علىٰ نفسي وعيالي، وأصل بها، وأتصدَّق بها، وأحجّ، وأعتمر، فقال عَلَيه اَلسَلام : «ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة»(3)

ص: 40


1- المصنَّف لعبد الرزّاق الصنعاني (ج 5/ ص 271 و272).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 72/ باب الاستعانة بالدنيا علىٰ الآخرة/ ح صَلَ الله عَلیهِ وَ آله).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 72/ باب الاستعانة بالدنيا علىٰ الآخرة/ ح 10).

الأمر الثالث:

إنَّ كون الدنيا مجرَّد مزرعة يعني أنَّ ما يحدث فيها من بلاء أو مشاكل أو صعاب إنَّما هي في أغلب الأحيان - إنْ لم يكن كلَّها - صنيعة الإنسان نفسه، فالإنسان هو الذي يظلم أخاه، وهو الذي يحرمه من أخذ فرصته في الحياة، وهو الذي يقتل أخاه، والدنيا في هذا منه براء، فلا يصحُّ لعاقل أنْ يرمي سبب فشله أو سبب ظلمٍ ألمَّ به علىٰ الدنيا، فالدنيا في الحقيقة محايدة، وتقف علىٰ التلِّ، إلَّا أنَّ الإنسان هو من يفعل فيها ما يفعل.

وهو مفاد ما روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال: «لا تسبُّوا الدنيا فنعمتْ مطيَّة المؤمن، فعليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشرِّ، إنَّه إذا قال العبد: لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربِّه»(1)

وقال أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام وقد سمع رجلاً يذمُّ الدنيا: «أيّها الذامُّ للدنيا المغترُّ بغرورها، المخدوعُ بأباطيلها ثمّ تذمُّها، أتغترُّ بالدنيا ثمّ تذمُّها؟ أنتالمتجرِّم عليها أم هي المتجرِّمة عليك؟ متىٰ استهوتك أم متىٰ غرَّتك؟ أبمصارع آبائك من البلىٰ أم بمضاجع أُمَّهاتك تحت الثرىٰ؟... إنَّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنىٰ لمن تزوَّد منها، ودار موعظة لمن اتَّعظ بها، مسجد أحبّاء الله، ومصلّىٰ ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسَبوا فيها الرحمة، وربِحوا فيها الجنَّة، فمن ذا يذمُّها وقد آذنت ببينها، ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، فمثُلَتْ لهم ببلائها البلاء، وشوَّقتهم بسرورها إلىٰ السرور، راحت بعافية وابتكرت بفجيعة، ترغيباً وترهيباً، وتخويفاً وتحذيراً...»(2)

ص: 41


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 74/ ص 178).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 31 و32).

الأمر الرابع:

ممَّا تقدَّم نستنتج أنَّ حقيقة الدنيا تكمن في كونها وسيلة لغيرها، لا هدفاً مقصوداً بنفسه، والنجاح في هذه الحياة إنَّما يكون فيما إذا تعامل الإنسان معها تعامل الوسيلة، وإنَّ الفشل يكمن في اتِّخاذها هدفاً مقصوداً بذاته.

وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام في صفة الدنيا(1): «ما أصفُ من دار أوَّلها عناء، وآخرُها فناء، في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، من استغنىٰ فيها فُتِنَ، ومن افتقر فيها حزِن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته(2)، ومن أبصر بها بصَّرته، ومن أبصر إليها أعمته»(3)

وهنا علَّق الشريف الرضي رحمه الله تعالىٰ فقال: (وإذا تأمَّل المتأمِّل قوله عَلَيه اَلسَلام : «من أبصر بها بصَّرته» وجد تحته من المعنىٰ العجيب والغرض البعيد ما لا تُبلَغ غايته، ولا يُدرَك غورُه، ولاسيّما إذا

ص: 42


1- نهج البلاغة (ج 1/ ص 130 و131).
2- من جرىٰ معها في مطالبها، والقصد اهتمَّ بها وجدَّ في طلبها. وقوله: (فاتته) أي سبقته، فإنَّه كلَّما نال شيئاً فُتِحَت له أبواب الآمال فيها، فلا يكاد يقضي مطلوباً واحداً حتَّىٰ يهتف به ألف مطلوب. وقوله: (ومن قعد عنها وأتته) يريد به أنَّ من قوَّم اللذائذ الفانية بقيمتها الحقيقية وعلم أنَّ الوصول إليها إنَّما يكون بالعناء وفواتها يعقب الحسرة عليها، والتمتُّع بها لا يكاد يخلو من شوب الألم، فقد وافقته هذه الحياة وأراحته، فإنَّه لا يأسف علىٰ فائت منها، ولا يبطر لحاضر، ولا يعاني ألم الانتظار لمقتبل. (من هامش المصدر).
3- أبصر بها أي جعلها مرآة عبرة تجلو لقلبه آثار الجدِّ في عظائم الأعمال، وتُمثِّل له هياكل المجد الباقية ممَّا رفعته أيدي الكاملين، وتكشف له عواقب أهل الجهالة من المترفين، فقد صارت الدنيا له بصراً وحوادثها عبراً. وأمَّا من أبصر إليها واشتغل بها فإنَّه يُعمىٰ عن كلِّ خير فيها، ويلهو عن الباقيات بالزائلات، وبئس ما اختار لنفسه. (من هامش المصدر).

قرن إليه قوله: «ومن أبصر إليها أعمته»، فإنَّه يجد الفرق بين أبصر بها وأبصر إليها واضحاً نيِّراً وعجيباً باهراً).

إنَّ هذا الأساس الأخلاقي يُمثِّل قيمة سلوكية عظيمة، إذ من الواضح أنَّ اختلاف النظرة إلىٰ الدنيا يُؤدّي إلىٰ اختلاف السلوك المترتِّب علىٰ تلك النظرة، فسعي الذي يتَّخذ من الدنيا مقرًّا ثابتاً، ويحسب نفسه فيها خالداً، لا شكَّ في أنَّه يختلف اختلافاً جذرياً عمَّن يتَّخذ منها قنطرة تعبر به من جانب إلىٰ جانب.

ومن هنا، فقد ورد أنَّه جاء رجل إلىٰ أبي ذرٍّ فقال: يا أبا ذرٍّ، ما لنا نكره الموت؟ فقال: (لأنَّكم عمَّرتم الدنيا وأخربتمالآخرة، فتكرهون أنْ تُنقَلوا من عمران إلىٰ خراب)، فقال له: فكيف ترىٰ قدومنا علىٰ الله؟ فقال: (أمَّا المحسن منكم فكالغائب يقدم علىٰ أهله، وأمَّا المسيء منكم فكالآبق يرد علىٰ مولاه)، قال: فكيف ترىٰ حالنا عند الله؟ قال: (اعرضوا أعمالكم علىٰ الكتاب، إنَّ الله يقول: ]إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ 13 وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ 14[ [الانفطار: 13 و14])، قال: فقال الرجل: فأين رحمة الله؟ قال: ]رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 56[ [الأعراف: 56](1)

وهذا ما بيَّنه الإمام الحسين عَلَيه اَلسَلام في كلامه مع أصحابه يوم عاشوراء: «صبراً بني الكرام، فما الموت إلَّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرِّ إلىٰ الجنان الواسعة والنِّعَم الدائمة، فأيُّكم يكره أنْ ينتقل من سجن إلىٰ قصر، وهؤلاء أعداؤكم كمن ينتقل من قصر إلىٰ سجن

ص: 43


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 458/ باب محاسبة العمل/ ح 20).

وعذاب أليم. إنَّ أبي حدَّثني عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّ الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلىٰ جنّاتهم، وجسر هؤلاء إلىٰ جحيمهم، ما كَذِبْتُ ولا كُذِبْتُ»(1)

* * *

ص: 44


1- الاعتقادات في دين الإماميَّة للشيخ الصدوق (ص 52).

(7)لا إفراط ولا تفريط

التوازن، هو من أهمّ المناهج الحياتية عموماً، فأنت في كلِّ مفردة من مفردات حياتك لا بدَّ أنْ تكون متوازناً، في علاقاتك، في محبَّتك، في دراستك، في عملك، وحتَّىٰ في العلاقة مع الله تعالىٰ، لا بدَّ أنْ يعيش المؤمن التوازن بين الخوف والرجاء، الأمر الذي أشارت له الروايات في مناسبات عديدة، ومنها ما روي عن الإمام الصادق جعفر بن محمّد عَلَيهما اَلسَلام : «ارجُ الله رجاءً لا يجرؤك علىٰ معاصيه، وخفِ الله خوفاً لا يُؤيسك من رحمته»(1)

وما روي عن الحارث بن المغيرة أو أبيه، عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، قال: قلت له: ما كان في وصيَّة لقمان؟ قال: «كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أنْ قال لابنه: خف الله عَزَّ وَجَل خيفةً لو جئته ببرِّ الثقلين لعذَّبك، وارجُ الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك»، ثمّ قال أبو عبد الله عَلَيه اَلسَلام : «كان أبي يقول: إنَّه ليس من عبد مؤمن إلَّا [و]في قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وُزِنَ هذا لم يزد علىٰ هذا، ولو وُزِنَ هذا لم يزد علىٰ هذا»(2)

وكلامنا الآن ليس في مفردة خاصَّة، بل هو في قاعدة عامَّةتقول:

ص: 45


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 65/ ح 29/5).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 67/ باب الخوف والرجاء/ ح 1).

إنَّ الفضائل عادةً ما تكون وسطاً بين الإفراط والتفريط، فالفضيلة وسط بين رذيلتين. وهذا يبتني علىٰ ما تقدَّم الكلام فيه في قاعدة أنَّ الصفات الإنسانية هي من النوع المشكِّك، أي الذي له مراتب متعدِّدة، وهذا يعني فيما يعنيه: أنَّ الصفات الإنسانية في مقاطعها الممتدَّة، ليست كلُّها علىٰ مستوىٰ واحد، ففي بعض المقاطع تكون فضيلة، أمَّا إذا حصل إفراط أو تفريط فيها، فإنَّها تتحوَّل إلىٰ رذيلة.

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة نذكر التالي:

قالوا: إنَّ للإنسان قوىٰ ثلاثة، بها قوام استمرار حياته، وهي: القوَّة الغضبية، والشهوية، والعقلية.

أمَّا الغضبية، فهي القوَّة التي تدفع عن الإنسان المكاره والأضرار، فهي قوَّة طاردة لما فيه ضرر علىٰ النفس. (وتُسمّىٰ نفساً سبُعية، وهي مبدأ الغضب والإقدام علىٰ الأهوال والتسلُّط والترفُّع علىٰ الغير)(1)

وأمَّا الشهوية، فهي القوَّة التي تجذب للنفس ما ينفعها، (وتُسمّىٰ نفساً بهيمية، في مبدأ الشهوة وطلب الغذاء وشوق الالتذاذ بالمآكل والمشارب والمناكح)(2)

وأمَّا العقلية، فهي القوَّة المدرِكة، التي ميَّزت الإنسان عن بقيَّة موجودات هذه الأرض، وهي المسمّاة بالنفس الناطقة، أيالمدرِكة.

وهذه القوىٰ متضادَّة (علىٰ نحو الإفراط أو التفريط) من ناحيتين: ناحية التضادِّ بين فروع وأصناف القوَّة الواحدة، وناحية تضادِّ القوىٰ الثلاثة الرئيسية بعضها مع البعض الآخر، فقد تسيطر الشهوة علىٰ

ص: 46


1- شرح أُصول الكافي لمولىٰ محمّد صالح المازندراني (ج 1/ ص 212).
2- المصدر السابق.

العقل، بحيث لا تُعطي للعقل ما يستحقُّه، وقد يسيطر العقل علىٰ الشهوة بحيث لا يُعطيها حقَّها.

وقد تتوازن هذه القوىٰ بعضها مع البعض الآخر، وتصبح كفريق عمل واحد، كلٌّ يعمل ما عليه، ولا يتعدّىٰ علىٰ ما للآخر من حقٍّ.

وهذه الحالة الأخيرة هو ما يُسمّىٰ بالعدالة الكبرىٰ أو العدل الأخلاقي، وفيها يكون العقل هو الحاكم علىٰ بقيَّة قوىٰ النفس من دون أنْ ينتهك حقوقها أو يُجمِّدها عن العمل.

والحاصل: أنَّه إذا أُريد لهذه القوىٰ أنْ تخدم الإنسان فلا بدَّ أنْ تكون متوازنة، لا ميل فيها للإفراط ولا للتفريط(1)فإذا حصل ميل فيها لأحد طرفي الإفراط والتفريط، تحوَّلت تلك القوَّة من قوَّة كانت لتخدم الإنسان، إلىٰ قوَّة ضارَّة، أو قل: تحوَّلت من فضيلة إلىٰ رذيلة.

ص: 47


1- في شرح أُصول الكافي لمولىٰ محمّد صالح المازندراني (ج 1/ ص 212 و213)، قال ما نصُّه: (للإنسان قوىٰ ثلاثة متباينة هي مبادي لآثار مختلفة مع مشاركة الإرادة، وإذا غلبت أحدها علىٰ البواقي صارت البواقي مغلوبة أو مفقودة، وتلك القوىٰ أوَّلها قوَّة ناطقة، وتُسمّىٰ نفساً ملكية، وهي مبدأ الفكر في المعقولات والنظر في حقائق الأُمور. وثانيها القوَّة الغضبية، وتُسمّىٰ نفساً سبعية، وهي مبدأ الغضب والإقدام علىٰ الأهوال والتسلُّط والترفُّع علىٰ الغير. وثالثها القوَّة الشهوية، وتُسمّىٰ نفساً بهيمية في مبدأ الشهوة وطلب الغذاء وشوق الالتذاذ بالمآكل والمشارب والمناكح. وإذا تحرَّكت القوَّة الناطقة بالاعتدال في ذاتها واكتسب المعارف اليقينية حصلت فضيلة العلم والحكمة، وإذا تحرَّكت القوَّة الغضبية بالاعتدال وانقادت للقوَّة العاقلة فيما تعدُّه حظًّا ونصيباً لها ولم تتجاوز عن حِكَمها حصلت فضيلة الحلم والشجاعة، وإذا تحرَّكت القوَّة الشهوية بالاعتدال وانقادت للقوَّة العاقلة واقتصرت علىٰ ما تعدُّه العاقلة نصيباً لها ولم تخالفها في حكمها حصلت فضيلة العفَّة والسخاء، وإذا تركَّبت هذه الفضائل الثلاثة وتمازجت حصلت حالة متشابهة هي فضيلة العدالة).

والتفصيل بالتالي:

أمَّا القوَّة الغضبية، فقوامها القوَّة، والفضيلة والوسط فيها يُسمّىٰ (شجاعة)، وهو الإقدام حينما يكون الوقت مناسباً للإقدام، والإحجام حينما يكون الظرف مناسباً للإحجام، أمَّا إذا أحجم الفرد في وقت الإقدام، فهي صفة الجُبن، وأمَّا إذا لم يُحسن الفرد استعمال قوَّته، وتمادىٰ في أخذ حقوق الآخرين والاعتداء عليهم وسلب حقوقهم، صارت تهوُّراً، وكذا لو كان الفرد مغامراً من دون حساب النتائج، فهو تهوُّر لا شجاعة.

فنحن نلاحظ أنَّ (القوَّة) موجودة في كلِّ مقاطع القوَّة الغضبية، فالجبان والشجاع والمتهوِّر كلُّهم عندهم قوَّة، إلَّا أنَّ تلك القوَّة إنَّما تكون فضيلة فيما إذا كانت وسطاً بين الجبن والتهوُّر(1)

ص: 48


1- قال الشيخ محمّد مهدي النراقي في جامع السعادات (ج 1/ ص 88 و89) ما نصُّه: (وأمَّا فضيلة الشجاعة فقد عرفت أنَّها ملكة انقياد القوَّة الغضبية للعقل حتَّىٰ يكون تصرُّفها بحسب أمره ونهيه، ولا يكون للاتِّصاف بها وصدور آثارها داعٍ سوىٰ كونها كمالاً وفضيلةً، فالإقدام علىٰ الأُمور الهائلة، والخوص في الحروب العظيمة، وعدم المبالاة من الضرب والقطع والقتل لتحصيل الجاه والمال، أو الظفر بامرأة ذات جمال، أو للحذر من السلطان ومثله، أو للشهوة بين أبناء جنسه، ليست صادرة عن ملكة الشجاعة، بل منشؤها إمَّا رذيلة الشَّرَه أو الجبن، كما هو شأن عساكر الجائرين، وقاطعي الطُّرُق والسارقين، فمن كان أكثر خوضاً في الأهوال، وأشدّ جرأةً علىٰ الأبطال للوصول إلىٰ شيء من تلك الأغراض، فهو أكثر جبناً وحرصاً، لا أكثر شجاعةً ونجدةً. وقس علىٰ ذلك الوقوع في المهالك والأهوال، تعصُّباً عن الأقارب والأتباع، وربَّما كان باعثه تكرُّر ذلك منه مع حصول الغلبة، فاغترَّ بذلك ولم يبالِ بالإقدام اتِّكالاً علىٰ العادة الجارية. ومثله مثل رجل ذي سلاح لم يبالِ بالمحاربة مع طفل أعزل، فإنَّ عدم الحذر عنه ليس لشجاعته، بل لعجز الطفل. [ ومن هذا القبيل ما يصدر عن بعض الحيوانات من الصولة والإقدام، فإنَّه ليس صادراً عن ملكة الشجاعة، بل عن طبيعة القوَّة والغلبة. وبالجملة: الشجاع الواقعي ما كانت أفعاله صادرة عن إشارة العقل ولم يكن له باعث سوىٰ كونها جميلة، فربَّما كان الحذر عن بعض الأهوال من مقتضيات العقل فلا ينافي الشجاعة، وربَّما لم يكن الخوض في بعض الأخطار من موجباته فينافيها، ولذا قيل: عدم الفزع مع شدَّة الزلازل وتواتر الصواعق من علائم الجنون دون الشجاعة، وإيقاع النفس في الهلكات بلا داعٍ عقلي أو شرعي كتعرُّضه للسباع المؤذية، أو إلقاء نفسه من المواضع الشاهقة، أو في البحار والشطوط الغامرة من دون علم بالسباحة من أمارات القحة والحماقة).

فنفس القوَّة بما هي قوَّة، لا فضيلة فيها ما لم تُستَعمل استعمالاً صحيحاً، ومن هنا، جاء في الأدبيات الدِّينية، أنَّ قوَّة العضلات لوحدها من دون ضبط النفس لا تُمثِّل فضيلة، فقد روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه مرَّ بقوم فيهم رجل يرفع حجراً يقال له: حجر الأشدّاء، وهم يعجبون منه، فقال صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «ما هذا؟»، قالوا: رجليرفع حجراً يقال له: حجر الأشدّاء، فقال: «ألَا أُخبركم بما هو أشدّ منه؟ رجل سبَّه رجل فحلم عنه، فغلب نفسه، وغلب شيطانه، وغلب شيطان صاحبه»(1)

وأمَّا القوَّة الشهوية، فقوامها الرغبة، وهذه الرغبة إنَّما تكون فضيلة إذا اتَّصفت بالعفَّة، فهناك رغبة في تحصيل المال، وفي الزواج، وفي الجاه، وغيرها من الأُمور.

وهذه الرغبة إنْ ماتت في النفس، بحيث لم تتحرَّك لجلب النافع لها من هذه الأُمور، فهي عبارة أُخرىٰ عن (الرهبانية) التي رفضها الإسلام أشدَّ الرفض، فقد روي عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، قال: «جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلىٰ النبيِّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، فقالت: يا رسول الله، إنَّ عثمان يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج

ص: 49


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 11/ ص 289/ح 13050/10)، نقلاً عن الشيخ ورّام في تنبيه الخاطر.

رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله مغضباً يحمل نعليه حتَّىٰ جاء إلىٰ عثمان، فوجده يُصلّي، فانصرف عثمان حين رأىٰ رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، فقال له: «يا عثمان، لم يرسلني الله تعالىٰ بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفة السهلة السمحة، أصوم وأُصلّي وألمس أهلي، فمن أحبَّ فطرتي فليستنَّ بسُنَّتي، ومن سُنَّتي النكاح»(1)

أمَّا إذا زادت عن حدِّها المطلوب، وصار الفرد يطلب ما لا يشبعمعه ولا يقنع، حينها ستتحوَّل تلك الرغبة إلىٰ شَرَه، بحيث قد يصل الحال بأحدهم إلىٰ ما قاله الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغىٰ إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلَّا التراب، ويتوب الله علىٰ من تاب»(2)

فالفضيلة في الشهوة تكمن في اعتدالها بين الرهبانية والشَّرَه(3)

ص: 50


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 494/ باب كراهية الرهبانية وترك الباه/ ح 1)؛ وجاء في الهامش: (قال في النهاية: الرهبانية هي من رهبنة النصارىٰ، وأصلها من الرهبة الخوف، كانوا يترهَّبون بالتخلّي من اشتغال الدنيا وترك ملاذِّها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمُّد مشاقِّها حتَّىٰ إنَّ منهم من كان يُخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب، فنفاها النبيُّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله عن الإسلام، ونهىٰ المسلمين عنها).
2- روضة الواعظين للفتّال النيسابوري (ص 429).
3- قال الشيخ محمّد مهدي النراقي في جامع السعادات (ج 1/ ص 87 و88) ما نصُّه: (وأمَّا فضيلة العفَّة فقد عرفت أنَّها عبارة عن ملكة انقياد القوَّة الشهوية للعقل، حتَّىٰ يكون تصرُّفها مقصوراً علىٰ أمره ونهيه، فيقدم علىٰ ما فيه المصلحة وينزجر عمَّا يتضمَّن المفسدة بتجويزه، ولا يخالفه في أوامره ونواهيه، وينبغي أنْ يكون الباعث للاتِّصاف بتلك الملكة وصدور آثارها مجرَّد كونها فضيلةً وكمالاً للنفس وحصول السعادة الحقيقية بها، لا شيء آخر من دفع ضرٍّ، أو جلب نفع، أو اضطرار وإلجاء، فالإعراض عن اللذّات الدنيوية لتحصيل الأزيد من جنسها ليس عفَّةً، كما هو شأن بعض تاركي الدنيا للدنيا، وكذا الحال في تركها لخمود القوَّة وقصورها وضعف الآلة وفتورها، أو لحصول النفرة من كثرة تعاطيها، أو للحذر من حدوث الأمراض والأسقام، أو اطِّلاع الناس وتوبيخهم، أو لعدم درك تلك اللذّات كما هو شأن بعض أهالي الجبال والبوادي، إلىٰ غير ذلك).

وأمَّا العقل، فقوامه الإدراك، والتعقُّل، والتفكُّر، وحتَّىٰ يكون التعقُّل والتفكُّر فضيلة، لا بدَّ أنْ لا ينزل عن المستوىٰ المعتدل إلىٰ حدِّ الغباء والهبل والجنون، فإنَّ هذه المفردات لا تُمثِّل فضيلة للإنسان.

وكذلك لا بدَّ أنْ لا يُساء استعمال هذه القوَّة المدرِكة، بحيث تُؤدّي إلىٰ استغلال الآخرين أو الإضرار بهم أو خديعتهم والنصبوالاحتيال عليهم، فهذه المفردات ليست من العقل، وإنَّما هي (جربزة) أو (شيطنة) كما يُعبِّرون.

وفي ذلك ورد عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام أنَّ رجلاً سأله: ما العقل؟ قال: «ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسِبَ به الجنان»، فقال: فالذي كان في معاوية؟ قال: «تلك النكراء وتلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل وليست بعقل»(1)

فمثل أُولئك الذين استعملوا عقولهم في صناعة أسلحة مدمِّرة قتلت ملايين البشر، لم يكن عندهم إلَّا مثل الذي كان عند معاوية.

هذا ما يتعلَّق بالقوىٰ العامَّة لدىٰ الإنسان، ونفس الكلام يأتي في فروع تلك القوىٰ، فالحلم هو اعتدال بين الجُبن والغضب، والإخلاص هو اعتدال بين النفاق والرياء، والكرم وسط بين البخل والتبذير، والحياء وسط بين الوقاحة والخجل، والعدالة وسط بين الظلم والجور وبين التظلُّم اللّامسؤول، والحكمة وسط بين السفه والبله، وهكذا.

وهذه القاعدة وإنْ ناقش البعض في عموميتها لكلِّ الفضائل أو لكلِّ الأحوال، ولكن بالنتيجة هي قاعدة غالبية، وفهمها ينفع كثيراً في التكامل الأخلاقي، وفي ضبط النفس عن أنْ تميل إلىٰ طرف الإفراط أو التفريط.

ص: 51


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 195/ باب العقل/ ح 15).

مع ملاحظة أنَّ كون الفضيلة وسطاً بين رذيلتين، لا يعني أنَّ لها حدًّا منضبطاً جدًّا، بل هي في وسطها لها مراحل ومراتب، تطبيقاً للقاعدة المتقدِّمة في كون الفضائل مراتب مشكَّكة، فالكرمليس له مرتبة واحدة، بل له مراتب متعدِّدة تزيد وتنقص رغم كونه لم يصل إلىٰ حدِّ البخل أو الإسراف، وقس عليه ما سواه من الفضائل.

والقاعدة المهمَّة هي: الاعتدال بين الإفراط والتفريط.

* * *

ص: 52

(8)ارتدادية السلوك

اشارة

هناك قاعدة يذكرونها في علم الفيزياء تقول: لكلِّ فعلٍ ردُّ فعل، مساوٍ له بالقوَّة، ومعاكس له بالاتِّجاه.

وقد تمَّت البرهنة عليها فيزيائياً، وتمَّت الاستفادة منها في تطبيقات عديدة.

وفي الحقيقة، إنَّ سلوك الإنسان فيه هذه الخاصّية، فالفعل الصادر بإرادة الإنسان له امتداد معيَّن يسير فيه، حتَّىٰ إذا ما وصل إلىٰ مرحلة، ارتدَّ علىٰ صاحبه، تماماً كما إذا ربطتَ شيئاً بحبل مطّاطي، فإنَّك إذا رميت هذا الشيء، فإنَّه سيبتعد عنك إلىٰ أنْ يصل الحبل المطّاطي إلىٰ توتُّره النهائي، عندها سيعود عليك ذلك الشيء بقوَّة، بل (وهنا تبدأ القاعدة السلوكية تختلف عن القاعدة الفيزيائية) ربَّما ارتدَّ بقوَّة أكبر من القوَّة التي انطلق بها.

هذه قاعدة سلوكية مهمَّة، وهي: أنَّك مهما تفعل، فإنَّه سيرتدُّ عليك، وهذا يعني: أنَّه يمكنك أنْ تجعل نفسك ميزاناً في أفعالك، فما رضيته لنفسك افعله مع غيرك، وما لم ترضَه لها فلا ترضَه لغيرك، وهذا ما أشارت له روايات عديدة، فقد أوصىٰ أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام ولده الإمام الحسن عَلَيه اَلسَلام فقال له: «يا بنيَّ، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تُحِبُّ لنفسك،واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا

ص: 53

تُحِبُّ أنْ تُظلَم، وأحسن كما تُحِبُّ أنْ يُحسَن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك...»(1)

ولهذه القاعدة تطبيقات عديدة، نذكر منها التالي:

التطبيق الأوَّل: أنَّ الإنسان سيرىٰ نتيجة عمله، إنْ عاجلاً أو آجلاً، فكلُّ ما يصدر منه، ولو كان كلمة واحدة، فإنَّه سيرىٰ نتيجته مرتدَّة عليه وملتصقة به.

يقول تعالىٰ: ]وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَىٰ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً 49[ (الكهف: 49).

ويقول تعالىٰ: ]وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعىٰ 39 وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرىٰ 40 ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفىٰ 41[ (النجم: 39 - 41).

ويقول تعالىٰ: ]لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً 123 وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً 124[ (النساء: 123 - 124).

وروي عن رسول الله الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال: «كما لا يُجتنىٰ من الشوك العنب، كذلك لا ينزل الفجّار منازل الأبرار، فاسلكواأيَّ طريق شئتم، فأيُّ طريق سلكتم وردتم علىٰ أهله»(2)

التطبيق الثاني: أنَّ الإنسان إذا برَّ والديه، فإنَّ هذا العمل سيكون

ص: 54


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 45 و46).
2- الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 2/ ص 294/ ح 6408).

مقتضياً ليبرَّه أولادُه، والعكس بالعكس تماماً، وهو أمر أكَّدته الروايات الشريفة، فقد روي عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «برُّوا آباءكم يبرّكم أبناؤكم...»(1)

ولذلك كان عقوق الوالدين من الذنوب التي تُعجَّل عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة، فقد روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «ثلاثة من الذنوب تُعجَّل عقوبتها ولا تُؤخَّر إلىٰ الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي علىٰ الناس، وكفر الإحسان»(2)

التطبيق الثالث: أنَّ الإنسان إذا ترك عينيه تلتهم أعراض النساء، فإنَّ هذا سينعكس علىٰ نسائه، فقد روي عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «عفُّوا عن نساء الناس تعفُّ نساؤكم»(3)

وعن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، قال: «لمَّا أقام العالم الجدار أوحىٰ الله تبارك وتعالىٰ إلىٰ موسىٰ عَلَيه اَلسَلام : إنّي مجازي الأبناء بسعي الآباء إنْ خيراً فخير وإنْ شرًّا فشرٌّ، لا تزنوا فتزني نساؤكم، ومن وطئ فراش امرء مسلم وُطِئَ فراشه، كما تَدين تُدان»(4)

وعنه عَلَيه اَلسَلام ، قال: «أمَا يخشىٰ الذين ينظرون في أدبار النساءأنْ يبتلوا بذلك في نسائهم؟!»(5)

ص: 55


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 55/ ح 75).
2- أمالي الشيخ المفيد (ص 237/ ح 1).
3- الخصال للشيخ الصدوق (ص 55/ ح 75).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 553 و554/ باب أنَّ من عفَّ عن حرم الناس عُفَّ عن حرمه/ ح 1).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 553 و554/ باب أنَّ من عفَّ عن حرم الناس عُفَّ عن حرمه/ ح 2).

وروي أنَّه قال رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «تزوَّجوا إلىٰ آل فلان فإنَّهم عفُّوا فعفَّت نساؤهم، ولا تزوجوا إلىٰ آل فلان فإنَّهم بغوا فبغت نساؤهم»، وقال: «مكتوب في التوراة: أنا الله قاتل القاتلين، ومفقر الزانين، أيّها الناس لا تزنوا فتزني نساؤكم، كما تَدين تُدان»(1)

سؤال وجوابه:

نحن نعلم أنَّ الله تعالىٰ قد أخذ علىٰ نفسه أنْ لا يؤاخذ الإنسان بذنب غيره، فقد قال تعالىٰ: ]وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ[ (الأنعام: 164).

وقال تعالىٰ: ]مَنِ اهْتَدىٰ فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ[ (الإسراء: 15).

فما هو ذنب النساء إذن إذا فعل الرجال ذنباً حتَّىٰ يقعن في نفس الذنب؟

والجواب: يمكن أنْ نذكر جوابين هنا:

الجواب الأوَّل: أنَّ ما ورد في هذه الروايات هو من باب التحذير لا أكثر، بمعنىٰ أنَّها تُحذِّر الذي لا يحفظ عينيه وفرجه عن أعراض الناس، أنَّه ربَّما وقع هذا الشيء في عِرضه، وحيث إنَّالإنسان لا يرضىٰ هذا لنفسه ولعِرضه، فلا بدَّ أنْ لا يرضاه لغيره. ولذلك منع النبيُّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله من الزواج من (آل فلان)، وعلَّل منعه ذاك بأنَّهم «بغوا فبغت نساؤهم».

وهذا ما بيَّنه رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله ببيان رائع، بيَّن فيه أنَّ (عكس

ص: 56


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 553 و554/ باب أنَّ من عفَّ عن حرم الناس عُفَّ عن حرمه/ ح 4).

الحالة) علىٰ النفس، يُؤدّي إلىٰ الإنصاف في الفعل، فقد روي أنَّ فتىً شابًّا أتىٰ النبيَّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مَهْ مَهْ! فقال صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «ادنه»، فدنا منه قريباً، فجلس، قال صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «أتُحِبُّه لأُمِّك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «ولا الناس يُحِبُّونه لأُمَّهاتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لابنتك؟»، قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لبناتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لأُختك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «ولا الناس يُحِبُّونه لأخواتهم»، قال: «أفتُحِبُّه لعمَّتك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لعمّاتهم»، قال صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «أفتُحِبُّه لخالتك؟»، قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يُحِبُّونه لخالاتهم»، فوضع يده عليه وقال صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «اللّهمّ اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فَرْجه»، فلم يكن بعد ذلك الفتىٰ يلتفت إلىٰ شيء(1)

الجواب الثاني: أنَّ المقصود من ذلك ليس هي العلَّة التامَّة لوقوع الفجور من نسائهم، وإنَّما المقصود هو المقتضي، بمعنىٰ أنَّ فجور الرجال يُوفِّر الأجواء المناسبة لفجور النساء، فإنَّ هذه الأفعال الشائنة تنعكس علىٰ تصرُّفات نفس الفاجر، ممَّا يعني أنَّهقد يُوفِّر ظروفاً ملائمة تُؤدّي إلىٰ انجرار نسائه إلىٰ الفجور ولو بعد حين.

وبالنتيجة، فإنَّ هذا الفعل سيرتدُّ علىٰ فاعله ولو بعد حين.

التطبيق الرابع: الأكل الحرام، سواء كان المقصود من الحرام هو كونه مُكتسباً من الحرام (كما إذا سرق من الناس بالميزان، أو تجرَّأ علىٰ بيوتهم وأخذ منها شيئاً عنوة ومن دون استئذان) أو كان أكلاً لشيء

ص: 57


1- مسند أحمد بن حنبل (ج 5/ ص 256 و257).

محرَّم (كالميتة أو الخمر وما شابه)، فإنَّه سينعكس علىٰ الفاعل نفسه، بعذاب أُخروي وخزي في الدنيا. وقد يبين الأكل الحرام حتَّىٰ في الذرّية، بأنْ يكونوا عاقّين له، أو يفعلوا أفعالاً يذمُّونه لأجلها(1)، أو ربَّما ينقلب عليهم بالفقر وسوء الحال.

عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، قال: «كسب الحرام يبين في الذرّية»(2)

التطبيق الخامس: تتبُّع عورات المؤمنين:

هناك من الناس من أخذ علىٰ نفسه أنْ يعمل بوظيفة (رادار) أو (كاميرا مراقبة)، بحيث إنَّه يبقىٰ يتتبَّع الآخرين، ويستقصي عليهم أخطاءهم، ويكشف عوراتهم. وبغضِّ النظر عن السبب وراء هذا الفعل، وأنَّه من أجل تعنيف الآخرين بأخطائهم أو تعييرهم بها، أو أنَّه يعيش ضعفاً في شخصيته، بغضِّ النظر عن ذلك، فإنَّ الروايات تُحذِّر من ذلك، وتُهدِّد مثل هذا الشخص بأنَّتتبُّع عورات الآخرين سينعكس عليه في عاجل الدنيا قبل الآخرة، فقد روي أنَّ رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله صلّىٰ بالناس ثمّ انصرف مسرعاً حتَّىٰ وضع يده علىٰ باب المسجد، ثمّ نادىٰ بأعلىٰ صوته: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلىٰ قلبه، لا تتَّبعوا عورات المؤمنين فإنَّه من تتبَّع عورات المؤمنين تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته»(3)

وعنه صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال: «من اطَّلع في بيت جاره فنظر إلىٰ عورة رجل

ص: 58


1- ونفس السؤال المتقدِّم في التطبيق الثالث وجوابه يأتي هنا.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 124 و125/ باب المكاسب الحرام/ ح 4).
3- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 104/ باب عقاب من تتبَّع عثرة المؤمن/ ح 83).

أو شعر امرأة أو شيء من جسدها، كان حقًّا علىٰ الله أن يُدخِله النار مع المنافقين، الذين كانوا يبتغون عورات الناس في الدنيا، ولا يخرج من الدنيا حتَّىٰ يفضحه الله، ويبدي للناس عورته في الآخرة»(1)

إنَّ التطبيقات كثيرة في هذا المجال، نكتفي بهذا القدر، الذي يكفي موعظةً لمن كان له قلب أو ألقىٰ السمع وهو شهيد.

* * *

ص: 59


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 282).

(9)إزاحة الأوهام المحيطة بحياة الإنسان

الحقيقة، هي بداية أيِّ حركة، فمن دون حقيقة واقعية تكون الحركة عبثية وغير مجدية، لذلك، لا يحصل من يعيش أحلام اليقظة إلَّا علىٰ جرَّة سمن الراعي! فالحياة إنَّما هي لمن يعيشها بواقعها، وحقيقتها.

في طريق التكامل، هناك عدَّة أوهام تحيط بالإنسان، إنْ أعطاها الإنسان أكبر من حجمها وأكثر من قيمتها، شكَّلت في طريقه حجر عثرة تُدمي القدم وتكسر القلب، وإنْ تعامل معها علىٰ قَدْرها، استفاد منها، وأكملَ طريقه التكاملي بقوَّة قلب ورسوخ قدم.

وحتَّىٰ نكون علىٰ بيِّنة من الأمر، نذكر بعضاً من هذه الأوهام:

الوهم الأوَّل: وهم الخلود:

وأنَّ هذه الحياة هي حياة الخلود والبقاء، وهذا الوهم رغم وضوح كونه وهماً لا حقيقةً، إلَّا أنَّ التعامل مع الحياة في كثير من الأحيان يكون علىٰ أنَّها حياة الخلود.

يقول تعالىٰ: ]وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 64[ (العنكبوت: 64).وهذا الأمر ينجرُّ حتَّىٰ إلىٰ لذائذها، فهي وإن كانت لذائذ محلَّلة، ومباحة للمؤمن بشرط تحصيلها بالطريق الشرعي، لكن لذائذها مهما كانت فهي مشوبة بالألم أو الفقدان أو الخسارة، ويمكن لأيِّ فردٍ أنْ

ص: 60

ينظر إلىٰ لذائد الحياة ليرىٰ أنَّها لا تأتي بالمجّان أبداً، هذا إذا لم تأخذ وقت المرء وجهده وماله، وقد تُبعِده عن عياله، وقد تسلب النوم من عينيه، وقد يكون الحصول علىٰ لذَّة علىٰ حساب ترك لذَّة أُخرىٰ، وهكذا.

الوهم الثاني: وهم العشيرة:

لا شكَّ في أهمّية عشيرة الفرد، ولا شكَّ في أنَّ العشيرة تنفع الفرد في ساعات العسرة، وتُعطيه هيبة أمام الناس، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «وأكرِمْ عشيرتك، فإنَّهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول»(1)

ويقول عَلَيه اَلسَلام : «أيّها الناس، إنَّه لا يستغني الرجل - وإنْ كان ذا مال - عن عشيرته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطةً من ورائه، وألمُّهم لشعثه، وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به...، ألَا لا يعدلنَّ أحدُكم عن القرابة يرىٰ بها الخصاصة أنْ يسدَّها بالذي لا يزيده إنْ أمسكه، ولا يُنقِصه إنْ أهلكه. ومن يقبضْ يده عن عشيرته، فإنَّما تُقبض منه عنهم يدٌ واحدة، وتُقبَض منهم عنه أيدٍ كثيرة...»(2)

البعض يفتخر بأنَّه من العشيرة الفلانية، وهذا أمر لا مانع منه في حدِّ نفسه، لكن أنْ يكون الانتساب إلىٰ عشيرة معيَّنة مدعاةللتفاخر علىٰ الغير من غير عمل، أو أنْ يكون مدعاة لإهانة الآخرين، أو الاعتماد علىٰ العشيرة في الآخرة، فهذا وهم لا بدَّ أنْ نزيحه من الذهن تماماً.

يقول تعالىٰ: ]فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ 101[ (المؤمنون: 101).

ص: 61


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 57).
2- نهج البلاغة (ج 1/ ص 62).

ومن مناجاة أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «إلهي أُفكِّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليَّ بليَّتي»، ثمّ قال: «آهٍ إنْ أنا قرأت في الصُّحُف سيِّئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه! فيا له من مأخوذ لا تُنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته...»(1)

الإمام زين العابدين عَلَيه اَلسَلام يقول لطاووس اليماني: «هيهاتَ هيهاتَ يا طاووس، دع عنّي حديث أبي وأُمّي وجدّي، خلق الله الجنَّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيِّداً قرشياً، أمَا سمعت قوله تعالىٰ: ]فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ 101[؟ والله لا ينفعك غداً إلَّا تقدمة تُقدِّمها من عمل صالح»(2)

ص: 62


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 1/ ص 389).
2- في مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 291 و292): عن طاووس الفقيه، قال: رأيت الإمام زين العابدين عَلَيه اَلسَلام يطوف من العشاء إلىٰ السحر ويتعبَّد، فلمَّا لم يرَ أحداً رمق السماء بطرفه وقال: «إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتَّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدّي محمّد في عرصات القيامة»، ثمّ بكىٰ، وقال: «وعزَّتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرِّض، ولكن سوَّلت لي نفسي وأعانني علىٰ ذلك سترُك المرخىٰ به عليَّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من اعتصم إنْ قطعت حبلك عنّي، فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفِّين: جوزوا، وللمثقلين: حطُّوا، أمع المخفِّين أجوز أم مع المثقلين أحطُّ؟ ويلي كلَّما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أمَا آنَ لي أنْ أستحي من ربّي؟»، ثمّ بكىٰ، ثم أنشأ يقول: أتحرقني بالنار يا غاية المنىٰ **** فأين رجائي ثمّ أين محبَّتي أتيتُ بأعمالٍ قباح رديَّة *** وما في الورىٰ خلقٌ جنىٰ كجنايتي ثمّ بكىٰ وقال: «سبحانك تُعصىٰ كأنَّك لا ترىٰ، وتحلمُ كأنَّك لم تُعْصَ، تتودَّد إلىٰ خلقك بحسن الصنيع كأنَّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيِّدي الغنيُّ عنهم». Z [ ثمّ خرَّ إلىٰ الأرض ساجداً، فدنوت منه وشلتُ رأسه ووضعته علىٰ ركبتي وبكيت حتَّىٰ جرت دموعي علىٰ خدِّه، فاستوىٰ جالساً وقال: «من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟!». فقلت: أنا طاووس يا ابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أنْ نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون! أبوك الحسين بن عليٍّ، وأُمُّك فاطمة الزهراء، وجدُّك رسول الله. فالتفت إليَّ وقال: «هيهاتَ هيهاتَ يا طاووس، دع عنّي حديث أبي وأُمّي وجدّي، خلق الله الجنَّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيِّداً قرشياً، أمَا سمعت قوله تعالىٰ: ]فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ 101[ [المؤمنون: 101]، والله لا ينفعك غداً إلَّا تقدمة تُقدِّمها من عمل صالح».

الوهم الثالث: وهم الأولاد والزوجة:

لا شكَّ أنَّ الأولاد غنيمة في هذه الحياة، وأنَّهم يعينون أبويهما عند ملمّات الدهر، ولكن أنْ نجعل كلَّ همِّنا أولادَنا، ولو علىٰ حساب آخرتنا، فهذا هو الوهم الذي لا بدَّ أنْ نُفيق منه.

البعض يعمل ولو بالحرام، ولو بتركه للصلاة في وقتها،ولو علىٰ حساب دينه، وإذا سألته عن ذلك أجابك: لا بدَّ أنْ أكدَّ علىٰ عيالي!

فإذا أجابك بذلك فقل له: حفظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ.

في الآخرة، ستقف وحدك، لا عشيرة، ولا أولاد، ولا زوجة، ولن يُبرِّروا لك عملك، ولن يُعطوك من حسانتهم، ولن يأخذوا سيِّئاتك. إذن، علىٰ المرء أنْ يحافظ علىٰ نفسه ودينه وعلىٰ عياله كذلك، فإذن ليس من الصحيح أنْ تُضيِّع نفسك، ولا من الصحيح أنْ تُضيِّع عيالك، بل لا بدَّ من التوازن بين هذين المطلبين المهمَّين. وهو ما أوصىٰ به القرآن الكريم بقوله عزَّ من قائل: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ 6[ (التحريم: 6).

ص: 63

وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «لا تجعلنَّ أكثر شغلك بأهلك وولدك، فإنْ يكن أهلُك وولدُك أولياء الله فإنَّ الله لا يُضيِّع أولياءه، وإنْ يكونوا أعداءَ الله فما همُّك وشغلك بأعداء الله؟»(1)

بل لعلَّ بعض الأولاد يتحوَّل من صديق معين إلىٰ عدوٍّ مهين، يقول تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ[ (التغابن: 14)(2)، وذلك كما إذا تدخَّلوا فيمنع الأب عن عمل الخير، أو كانوا سبباً في إلجائه إلىٰ فعل الحرام، أو فعلوا ما يُسبِّب الأذىٰ علىٰ الوالدين، وما شابه هذه الأُمور.

الوهم الرابع: وهم المال:

يقضي العديد من الناس حياتهم في اكتساب المال، ولا إشكال في هذا في حدِّ نفسه، بل هو ممَّا يلزم علىٰ المؤمن، حتَّىٰ لا يقع في حاجة لئيم، وحتَّىٰ لا يكون كلّاً علىٰ غيره، وحتَّىٰ لا يدع أهله وعياله يتكفَّفون الناس، ولكن إذا لم يلتزم بحدود كسب المال، انقلب عليه المال وبالاً، وإذا فدىٰ صحَّته من أجل ماله، فسيفدي ماله من أجل صحَّته ولن يحصل عليها!

ص: 64


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 82).
2- في تفسير القمّي (ج 2/ ص 372) في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عَلَيه اَلسَلام في قوله: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ[، «وذلك أنَّ الرجل كان إذا أراد الهجرة إلىٰ رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله تعلَّق به ابنه وامرأته وقالوا: نُنشدك الله أنْ تذهب عنّا وتدعنا فنضبع [أي نجبن، وفي نسخة: نضيع] بعدك، فمنهم من يُطيع أهله فيُقيم، فحذَّرهم الله أبناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول: أمَا والله لئن لم تهاجروا معي ثمّ يجمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبداً، فلمَّا جمع الله بينه وبينهم أمره الله أنْ يُوفي ويُحسِن ويصلهم، فقال: ]وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 14[ [التغابن: 14]».

إنَّ خسارة المال وإنْ كانت مؤلمة، ولكنَّها ليست هي الخسارة الحقيقية، إنَّما الخسارة الحقيقية هي ما حكاه القرآن الكريم بقوله عزَّ من قائل: ]قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ 15[ (الزمر: 15).

ويقول تعالىٰ: ]وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ 9[ (الأعراف: 9).

فأنْ يخسر المرء أهله ونفسه، لهي خسارة لا يُعوِّضها مال الدنياكلُّه.

هذا فضلاً عن أنَّ الربح الحقيقي ليس هو في اكتناز أكبر كمٍّ ممكن من المال، فإنَّ الهمَّ بهذا الأمر قد يوصل الرجل إلىٰ أنْ يكون كما قال القرآن الكريم: ]وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلىٰ حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ 96[ (البقرة: 96).

وقد أنشد بعضهم(1):

النارُ آخر دينار نطقتُ به *** والهمُّ آخرُ هذا الدرهم الجاري

والمرء بينهما ما لم يكن ورِعاً *** معذَّبُ القلب بين الهمِّ والنار

بل إنَّ الربح الحقيقي هو ما قاله تعالىٰ: ]كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ 185[ (آل عمران: 185).

علينا أنْ نتذكَّر أنَّه مهما كان عندنا من أموال الدنيا، فليست هي بأعظم ممَّا أُوتي قارون، تلك التي قال القرآن الكريم عنها: ]وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ[ (القَصص: 76).

ص: 65


1- إعانة الطالبين للبكري الدمياطي (ج 2/ ص 171).

ولكنَّه عندما أخلد الأرض واتَّبع هواه وتغطرس وتجبَّر، كانت النتيجة هي: ]فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ 81[ (القَصص:81).

* * *

ص: 66

(10)الشعور العملي بالفقر الوجودي

يُطلَق الفقر ويُراد منه عدَّة معانٍ: منها الفقر بمعنىٰ عدم تملُّك المقتنيات، وبمعنىٰ شَرَه النفس في قبال القناعة، وهذان المعنيان ليسا هما محطَّ نظر هذه القاعدة.

إنَّما المقصود من الفقر هو معنىٰ آخر بيانه بالتالي:

فلسفياً قالوا: إنَّ الإنسان حقيقته الفقر، لأنَّه ممكن وحادث ومحتاج، فليس له من ذاته إلَّا الاحتياج، وهو وجود رابط لا حقيقة له من دون المستقلِّ، وهو محتاج إلىٰ علَّته حدوثاً وبقاءً، تماماً كالمصباح الكهربائي الذي يحتاج - لكي يضيء - إلىٰ التيّار الكهرباء حدوثاً وبقاءً، وإلَّا فليس له إلَّا الظلام.

وهذا المعنىٰ شامل لكلِّ مفردات حياة الإنسان، فهو في ذاته، وصفاته، وأفعاله، فقير، محتاج، إلىٰ من يُعطيه القوَّة والحول، وهو ما فُسِّرت به الحوقلة، حيث ورد عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر عَلَيهما اَلسَلام ، قال سألته عن معنىٰ: (لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله)، فقال: «معناه لا حول لنا عن معصية الله إلَّا بعون الله، ولا قوَّة لنا علىٰ طاعة الله إلَّا بتوفيق الله عَزَّ وَجَل»(1)

ص: 67


1- التوحيد للشيخ الصدوق (ص 242/ باب 35/ ح 3).

إنَّ من أهمّ المشاكل الروحية في طريق التكامل، هو إحساس الفرد بالاستغناء والاستقلالية، فيدَّعي مدَّعيات أكبر من حجمه، فيقول: ]إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلىٰ عِلْمٍ عِنْدِي[ (القَصص: 78).

بل قد يتصرَّف تصرُّفاً متناسباً مع ادِّعاء فرعون: ]ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي[ (القَصص: 38).

وبالتالي، فإنَّ إحساسه بالاستغناء عن الله تعالىٰ، سيجعله يعيش حالة من التعالي علىٰ العباد، والتناسي للأحكام الإلهيَّة، وقد يصل به الأمر إلىٰ اعتبار نفسه الكلّي المنحصر بفرد، فلا جاء أحد قبله، ولا يجيء أحد بعده، ويترتَّب عليه أنَّه سيعتبر نفسه فوق مستوىٰ الوعظ والإرشاد، فلا يقبل نصيحة، ولا يرضىٰ أنْ يُخطِّئه أحد، ولا يتقبَّل النقد، لأنَّه صار في موقع أعلائي.

والحقيقة، إنَّ من أهمّ مدارج الكمال، هو الإحساس بالفقر الوجودي إلىٰ الله تعالىٰ، فإنَّه عين الغنىٰ الحقيقي، أي إنَّه من نوع القوانين المتعاكسة إذا صحَّ التعبير، فالإنسان إذا أراد الغنىٰ، فعليه أنْ يعيش الفقر إلىٰ الله تعالىٰ، وهو مفاد ما روي عن الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام : «من أراد عزًّا بلا عشيرة، وغنىً بلا مال، وهيبةً بلا سلطان، فلينتقل من ذُلِّ معصية الله إلىٰ عزِّ طاعته»(1)

فالكمال كلُّ الكمال في الافتقار إلىٰ الله تعالىٰ، وهذه القاعدة لم تأتِ من فراغ، لأنَّها مبتنية علىٰ الحقيقة الواقعية التكوينية، إذ كلُّ ما يُمكن أنْ يجعل الإنسان مستغنياً هو في الحقيقة من الله تعالىٰ، فالعلم مثلاً هو كما يقول الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام : «ليس العلمبالتعلُّم إنَّما هو نور يقع في قلب

ص: 68


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 169/ ح 222).

من يريد الله تبارك وتعالىٰ أنْ يهديه، فإنْ أردت العلم فاطلب أوَّلاً من نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يُفهِمك»(1)

فالشعور بالعبودية والفقر، هو من أهمّ أسباب الحصول علىٰ العلم.

وكذا الأموال، فإنَّ الرزاق ليس هو إلَّا الله تعالىٰ، قال تعالىٰ: ]إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ 58[ (الذاريات: 58).

وروي أنَّه جاء في الوحي القديم: (يا بن آدم خلقتك من تراب ثمّ من نطفة فلم أعْي(2) بخلقك، أوَيعييني رغيف أسوقه إليك في حينه؟)(3)

وهكذا القوَّة العضلية، والجاه، والمنصب، وكلُّ شيء، فإنَّ المسبِّب الحقيقي له هو الله جَلَّ جَلالَه.

وكلُّ هذا هو تطبيق للحقيقة التي يذكرها القرآن الكريم: ]يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَىٰ اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ 15[ (فاطر: 15).

ومن هنا، روي عن ابن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد الله عَلَيه اَلسَلام يقول وهو رافع يده إلىٰ السماء: «ربِّ لا تكلني إلىٰ نفسي طرفة عين أبداً، لا أقلَّ من ذلك ولا أكثر»، قال: فما كان بأسرعمن أنْ تحدر الدموع من جوانب لحيته(4)

ص: 69


1- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 563).
2- قوله: (فلم أعي) هو أفعل من عيىٰ من باب تعب: عجز عنه. (المجمع). (من هامش المصدر).
3- عدَّة الداعي لابن فهد الحلّي (ص 83).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ص 581/باب دعوات موجزات لجميع الحوائج/ح 15).

وهذا هو ما ورد عن النبيِّ الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه افتخر به، فقال: «الفقر فخري وبه أفتخر»(1)

وهو المقصود ممَّا ورد من الدعاء: «اللّهمّ أغنني بالافتقار إليك، ولا تُفقرني بالاستغناء عنك»(2)

وإيّاه عنىٰ النبيُّ موسىٰ عَلَيه اَلسَلام كما حكاه القرآن الكريم بقوله تعالىٰ: ]رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ 24[ (القَصص: 24).

وبهذا ألمَّ الشاعر فقال:

ويعجبني فقري إليك ولم يكن *** لِيُعجبنَي، لولا محبَّتُك الفقرا

وإليه أشار الشاعر فيما نقله ابن فهد الحلّي في عدَّته(3):

يا من يرىٰ ما في الضمير ويسمعُ *** أنت المُعَدُّ لكلِّ ما يُتوقَّعُ

يا من يُرجّىٰ للشدائد كلِّها *** يا من إليه المشتكىٰ والمفزعُ

يا من خزائن ملكِه في قول (كُنْ) *** اُمنن فإنَّ الخير عندك أجمعُ

ما لي سوىٰ فقري إليك وسيلةٌ *** بالافتقار إليك فقري أدفعُ

ما لي سوىٰ قرعي لبابك حيلةٌ *** ولئن رُدِدْتُ فأيَّ باب أقرعُ

ومن الذي أدعو وأهتفُ باسمه *** إنْ كان فضلُك عن فقير يُمنَعُ

حاشا لمجدك أنْ تُقنِّط عاصياً *** والفضل أجزل والمواهب أوسعُ

إذا تبيَّنت هذه القاعدة، لا بدَّ من الالتفات إلىٰ التالي:

أوَّلاً: لا يعني الإحساس بالفقر الوجودي المشار إليه، أنْ يظهر الرجل

ص: 70


1- عدَّة الداعي لابن فهد الحلّي (ص 113).
2- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 69/ ص 31).
3- عدَّة الداعي لابن فهد الحلّي (ص 28 و29).

بمظهر الفقير المحتاج المسكين المستكين أمام الناس، فإنَّ هذا ممَّا لا ينبغي للمؤمن، فحتَّىٰ لو كان محتاجاً بالفعل، لكن عليه أنْ يكون كما يقول القرآن الكريم: ]يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ[ (البقرة: 273).

ومن هنا، وردت الروايات الشريفة بتأديب المؤمن بأنْ يُظهِر الغنىٰ وعدم الحاجة إلىٰ الناس مهما أمكنه، فقد روي عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام : «رحم الله عبداً عفَّ وتعفَّف وكفَّ عن المسألة، فإنَّه يتعجَّل الدنيَّة في الدنيا، ولا يُغني الناس عنه شيئاً...»(1)

وعن مفضَّل بن قيس بن رمّانة، قال: دخلت علىٰ أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، فذكرت له بعض حالي، فقال: «يا جارية، هاتِ ذلك الكيس، هذه أربعمائة دينار...، فخذها وتفرَّج بها»، قال: فقلت: لا والله، جعلت فداك ما هذا دهري(2)، ولكن أحببتُ أنْ تدعو الله عَزَّ وَجَل لي، قال: فقال: «إنّي سأفعل، ولكن إيّاك أنْ تُخبِر الناس بكلِّ حالك، فتهون عليهم»(3)

ومن هنا، كان من صفات شيعة أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام هو أنَّهميُظهِرون الغنىٰ وإن كانوا فقراء، حيث روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال في فضل الشيعة: «وإنَّ فقراءكم لأهل الغنىٰ(4)، وإنَّ أغنياءكم لأهل القناعة»(5)

ثانياً: أنَّ الإحساس بالفقر الوجودي المستغرق والضعف التامّ أمام الله تعالىٰ، لا يعني الجلوس عن طلب الرزق، وعن السعي لتحصيل

ص: 71


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 21 و22/ باب كراهية المسألة/ ح 6).
2- أي ليس هذا عادتي وهمَّتي، فإنَّ الدهر يقال للهمَّة والعادة. (من هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 21 و22/ باب كراهية المسألة/ ح 7).
4- أي غنىٰ النفس والاستغناء عن الخلق بتوكُّلهم علىٰ ربِّهم. (من هامش المصدر).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 8/ ص 214/ فضل الشيعة/ ح 259).

الغنىٰ المادّي مهما أمكن للإنسان، ولا يعني الاتِّكال والتواكل، حتَّىٰ إذا ما سألت أحدهم عن السبب الذي كان وراء عدم خروجه إلىٰ العمل والكدِّ علىٰ النفس والعيال، اعتذر بأنَّ الله تعالىٰ هو الرزّاق، وأنَّه سيُرسِل له رزقه، فإنَّ مثل هذا الفرد هو ممَّن لا يُستجاب دعاؤهم، حيث روي عن الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام : «أربعة لا يُستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللّهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟! ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟! ورجل كان له مال فأفسده فيقول: اللّهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد؟! ألم آمرك بالإصلاح؟!»، ثمّ قال: «]وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً 67[ [الفرقان: 67]، ورجل كان له مال فأدانه بغير بيِّنة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة؟!»(1)

ثالثاً: أنَّ الفقر الوجودي، في الوقت الذي يعني الطلبوالتعلُّق بالأسباب المادّية التي جعلها الله تعالىٰ في هذا العالم، هو يعني أيضاً ضرورة التمسُّك بالأسباب المعنوية والغيبية التي لها دور في التوفيق الإلهي والتسهيل لأُمور الدينا، أي إنَّ المطلوب هو التوازن بين التوسُّل بالأسباب المادّية وبالأسباب المعنوية، وهو أمر أشارت له رواية غاية في الكناية، حيث روي أنَّ الإمام الباقر عَلَيه اَلسَلام كان إذا أصابته حُمّىٰ استعمل الماء البارد، ونادىٰ: «يا فاطمة بنت محمّد»(2)، أي إنَّه في الوقت الذي

ص: 72


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 511/ باب من لا تُستجاب دعوته/ ح 2).
2- في الكافي للشيخ الكليني (ج 8/ ص 109): عن عليِّ بن أبي حمزة، عن أبي إبراهيم عَلَيه اَلسَلام ، قال: قال لي: «إنّي لموعوك [والوعك: الحمّىٰ (من هامش المصدر)] منذ سبعة أشهر، ولقد وعك ابني اثني عشر شهراً وهي تضاعف علينا، أشعرت [أشعرت علىٰ البناء للمجهول، أو علىٰ صيغة الخطاب المعلوم مع همزة الاستفهام، أي هل أحسست بذلك؟ [ ولعلَّ مراده عَلَيه اَلسَلام : أنَّ الحرارة قد تظهر آثارها في أعالي الجسد وقد تظهر في أسافلها. (من هامش المصدر)] أنَّها لا تأخذ في الجسد كلِّه ربَّما أخذت في أعلىٰ الجسد ولم تأخذ في أسفله، وربَّما أخذت في أسفله ولم تأخذ في أعلىٰ الجسد كلِّه؟»، قلت: جُعلت فداك، إنْ أذنت لي حدَّثتك بحديث عن أبي بصير، عن جدِّك، أنَّه كان إذا وعك استعان بالماء البارد، فيكون له ثوبان: ثوب في الماء البارد وثوب علىٰ جسده يراوح بينهما ثمّ ينادي حتَّىٰ يسمع صوته علىٰ باب الدار: يا فاطمة بنت محمّد، فقال: «صدقت»، قلت: جُعلت فداك، فما وجدتم للحمّىٰ عندكم دواء؟ فقال: «ما وجدنا لها عندنا دواء إلَّا الدعاء والماء البارد...».

استعمل العلاج الطبّي المتمثِّل بالماء البارد، هو استعان أيضاً بالأسباب الغيبية المتمثِّلة بالتوسُّل بالزهراء عَلَيهم اَلسَلام .

* * *

ص: 73

(11)التعاون على الفضيلة

في هذه الحياة، الكثير من الأُمور التي يحتاج إليها الإنسان، وكثرتها تمنعه من أنْ يقضيها كلَّها بنفسه ولوحده، ولذلك، بنىٰ حياته علىٰ الاجتماع مع غيره من أفراد نوعه، وتعاون معهم، لحلِّ الأزمات، وتسهيل أُموره، فكانت النتيجة أنَّ كلَّ واحدٍ من بني البشر صار يخدم غيره من موقعه، وهم يخدمونه من مواقعهم.

ولذلك استطاع الإنسان أنْ يتخطّىٰ المتوقَّع، عندما تعاون من أخيه الإنسان.

وكلَّما كانت الحاجة أهمّ، كلَّما احتاج إلىٰ التعاون مع غيره أكثر.

ونحن نعتقد أنَّ من أهمّ مشاريع الإنسان في هذه الحياة، هو مشروعه في تكامله الوجودي، وفي تنمية روحه، إلىٰ أنْ يبلغ أعلىٰ ما يمكن أنْ يصل إليه من مراتب الكمال.

وفي هذا الطريق، يمكن للإنسان أنْ ينفرد بنفسه، ليلتزم بعض الأوراد التي يذكرها علماء الأخلاق، فمثلاً يذكرون أنَّ السائر في طريق التكامل عليه أنْ ينفرد بنفسه، ليتفكَّر في خلقالسماوات والأرض، ليوقن بأنَّ لها منظِّماً وخالقاً أبدعها، وأنَّ عليه أنْ يتفكَّر في عظمة الله تعالىٰ، ليخرَّ خاشعاً له، وفي النِّعَم الإلهيَّة، ليشكرها حقَّ شكرها، وعليه

ص: 74

أنْ يلتزم السجود الطويل، وبعض الأذكار، كالذكر اليونسي: ]لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ 87[: (الأنبياء: 87).

وكلُّ هذا صحيح، ولكن الذي أُريد أنْ أُلفت النظر إليه، أنَّ الانفراد بالنفس ليس متاحاً للجميع، وقد يستلزم تعطيل بعض الأُمور الحياتية المهمَّة، لذلك، علىٰ المؤمن أنْ يختلط بغيره، واختلاطه بغيره لن يمنعه من الاستمرار في تكامله، لكن بشرط أنْ يخالط من يعاونه علىٰ ذلك، أي إنَّ عليه أنْ يبتعد عن الأماكن والأشخاص الذين يصدُّونه عن التكامل، وأنْ يكون اختياره دقيقاً للمجتمع الذي يتواجد فيه.

فإذا وجد من الإخوة المؤمنين من يساعدونه علىٰ التكامل، كان قد ربح ربحاً عظيماً.

إنَّ القاعدة هنا تقول: حتَّىٰ تستمرَّ في تكاملك، فإنَّك لا بدَّ أنْ تتعاون مع غيرك، من موقعكم، ليأخذ كلُّ واحدٍ منكم بيد صاحبه.

وبعبارة أوضح: إنَّ المجتمع كلَّما كان أقرب إلىٰ الصلاح بصورته الجماعية، كلَّما فتح أبواباً أكثر لتكامل أفراده، والعكس بالعكس تماماً.

ولذلك نجد أنَّ من المحرَّمات علىٰ المؤمن: التعرُّب بعد الهجرة، أي (أنْ ينتقل المكلَّف من بلد يتمكَّن فيه من تعلُّم ما يلزمه من المعارف الدِّينية والأحكام الشرعية، ويستطيع فيه أداء ماوجب عليه في الشريعة المقدَّسة، وترك ما حرم عليه فيها، إلىٰ بلد لا يستطيع فيه علىٰ ذلك كلّاً أو بعضاً)(1)

وهذه القاعدة هي ما يُمكن أنْ تُستفاد من العديد من الآيات والروايات الشريفة، ونذكر هنا عدَّة مؤشِّرات لذلك:

ص: 75


1- فقه الحضارة للسيِّد السيستاني (ص 135).

إنَّ القرآن الكريم يوصي المؤمنين بذلك بصريح العبارة، فيقول عزَّ من قائل: ]وَتَعاوَنُوا عَلَىٰ الْبِرِّ وَالتَّقْوىٰ وَلا تَعاوَنُوا عَلَىٰ الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ 2[ (المائدة: 2).

وسورة العصر مثلاً، صريحة في أنَّ التزام الحقِّ يأتي من التواصي بين المؤمنين، والتواصي هو عمل جماعي يصدر من الأفراد بعضهم مع البعض الآخر، فأنا أُوصيك بالحقِّ، وأنت توصيني بالحقِّ، والثالث يوصي الرابع، وهكذا.

وإنَّ أصل مبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يبتني علىٰ هذه القاعدة، أي التعاون علىٰ التكامل الجماعي. وقد روي عن النبيِّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال: «لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا علىٰ البرِّ والتقوىٰ، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزِعَت منهم البركات وسُلِّط بعضُهم علىٰ بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء»(1)

وفي إشارة أُخرىٰ لذلك، روي عن عبد العزيز القراطيسي، قال: قال لي أبو عبد الله عَلَيه اَلسَلام : «يا عبد العزيز، إنَّ الايمان عشردرجات بمنزلة السُّلَّم يُصعَد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنَّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد: لست علي شيء، حتَّىٰ ينتهي إلىٰ العاشر، فلا تُسقِط من هو دونك فيُسقِطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنَّ من كسر مؤمناً فعليه جبره»(2)

ص: 76


1- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج 6/ ص 181/ ح 373/22).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 44 و45/ باب آخر من درجات الإيمان/ ح 2).

فالرواية تدعو المؤمن إلىٰ أنْ يساعد أخاه المؤمن في صعوده في طريق التكامل.

علىٰ أنَّ هناك العديد من الأحكام الشرعية التعبُّدية، التي تكشف عن دور الجماعة في التأثير الإيجابي لرفع الجماعة كلِّها مراتب تكاملية، فضلاً عن تكامل نفس الفرد الذي يعمل علىٰ تحقيق تلك الأحكام التعبُّدية، مثل: صلاة الجماعة، والدعاء الجماعي، والتكافل الاجتماعي المتمثِّل بالصدقات الواجبة والمستحبَّة، والجلوس مع الإخوة المؤمنين، وقضاء حوائجهم، وغيرها.

عن ابن عبّاس، قال: قيل: يا رسول الله، أيُّ الجلساء خير؟ قال: «من ذكَّركم بالله رؤيته، وزادكم في علمكم منطقه، وذكركم بالآخرة عمله»(1)

وعن المفضَّل: ودَّعْنا أبا جعفر عَلَيه اَلسَلام ، فقال: «يا خيثمة، أبلغ موالينا منّا السلام، وقل لهم: إنّي أُوصيهم بتقوىٰ الله، وأنْ يعينغنيُّهم فقيرَهم، وقويُّهم ضعيفَهم، وحليمُهم جاهلَهم، وأنْ يشهد حيُّهم جنازة ميِّتهم، وأنْ يتلاقوا في بيوتهم، فإنَّ لقاء بعضهم بعضاً حياةٌ لأمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا أهلَ البيت»(2)

وعن صفوان الجمّال، عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، قال: «أيّما ثلاثة مؤمنين اجتمعوا عند أخٍ لهم، يأمنون بوائقه ولا يخافون غوائله ويرجون ما عنده، إنْ دعوا الله أجابهم، وإنْ سألوا أعطاهم، وإنْ استزادوا زادهم، وإنْ سكتوا ابتدأهم»(3)

ص: 77


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 157/ ح 262/14).
2- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 225/ ح 622).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 178/ باب زيارة الإخوان/ ح 14).

وعن صفوان الجمّال، قال: كنت جالساً مع أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام إذ دخل عليه رجل من أهل مكَّة يُقال له: ميمون، فشكا إليه تعذُّر الكراء عليه، فقال لي: «قم فأعن أخاك»، فقمت معه، فيسَّر الله كراه، فرجعت إلىٰ مجلسي، فقال أبو عبد الله عَلَيه اَلسَلام : «ما صنعت في حاجة أخيك؟»، فقلت: قضاها الله - بأبي أنت وأُمّي -، فقال: «أمَا إنَّك أنْ تعين أخاك المسلم أحبَّ إليَّ من طواف أُسبوع بالبيت مبتدئاً(1)..»(2)

* * *

ص: 78


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ هامش ص 198)؛ قوله: (مبتدئاً) إمَّا حال عن فاعل (قال) أي قال عَلَيه اَلسَلام ذلك مبتدئاً قبل أن أسأله عن أجر من قضىٰ حاجة أخيه، أو عن فاعل الطواف، أو هو علىٰ بناء اسم المفعول حالاً عن (الطواف)، وعلىٰ التقديرين الأخيرين لإخراج طواف الفريضة. وقيل: حال عن فاعل (تعين) أي تعين مبتدئاً [قبل أن يسألك الإعانة]. (من هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 198/ باب السعي في حاجة المؤمن/ ح 9).

(12)مُتْ باختيارك أو مُتْ بالإرادة تحيى بالطبيعة

لا شكَّ أنَّ الموت حقٌّ علىٰ كلِّ ذي نفس، ولا شكَّ أنَّ الموت فعل من أفعال الله تعالىٰ، فنحن لا نموت بإرادتنا، حتَّىٰ الذي ينتحر، فإنَّه يفعل المقدّمات للموت، أمَّا نفس الموت، وهو انفصال الروح عن البدن، فهو فعل الله تعالىٰ، حيث أوكل هذا الأمر لبعض ملائكته ليقوموا بإماتة ذوي النفوس.

وهذا أمر واضح.

إلَّا أنَّه وفي طريق التكامل الوجودي، تواجهنا توصية تحتاج إلىٰ تأمُّل دقيق لمعرفة معناها، وتلك التوصية تقول: موتوا قبل أنْ تموتوا(1)

وحتَّىٰ نفهم معنىٰ هذا التوصية جيِّداً، نقول:

1 - إنَّ الإنسان ليس جسداً فقط، وليس روحاً فقط، بل هو مركَّب من الروح والبدن، وهذا يترتَّب عليه الكثير من الأُمور المهمَّة، والتي أهمّها أنَّ من يريد الحصول علىٰ الراحة والسعادةفي الدنيا والآخرة فلا بدَّ أنْ يعتني بكلا جانبيّ وجوده: الروح والبدن. وليس هذا محلَّ

ص: 79


1- بغضِّ النظر عن كون هذه المقولة حديثاً لأحد المعصومين عَلَيهم اَلسَلام أو كلمة لبعض المتصوِّفة، أو حكمة لبعض الحكماء، فإنَّ المقصود هنا هو معناها المذكور في القاعدة بما يتناسب مع القواعد العامَّة للإسلام.

تفصيل هذا الأمر، إنَّما نريد القول: إنَّ الروح هي وجود مجرَّد، وهي مع البدن تُكوِّن الإنسان.

2 - هذه الدنيا، هي دنيا التسابق والتكامل، وهذا هو ما بنىٰ الله تعالىٰ عليه عالم الدنيا، فليس في عالم الدنيا سكون، بل هي حركة مستمرَّة، وهذا من سُنَن الله تعالىٰ التكوينية في دنيا الإنسان، وهذا ما تشير إليه الآية الشريفة: ]كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ 29[ (الرحمن: 29).

فمن الناس من يسير باتِّجاه الله تعالىٰ، ومنهم من يتراجع عن ما أراده الله تعالىٰ منه ليصير كالأنعام بل أضلّ. وعلىٰ كلِّ حالٍ، فالدنيا هي قاعة التسابق، والفرصة الوحيدة التي يمكن للبعض أنْ يسبق بها غيره.

3 - إنَّ كلَّ من يريد سلوك طريق - مادّي أو معنوي - فلا بدَّ له من أُمور مهمَّة يحتاجها في سيره، وروح الإنسان في الدنيا كي تتكامل فإنَّها تحتاج إلىٰ وسيلة وآلة، كما أنَّك تحتاج في سفرك إلىٰ مدينة من المُدَن إلىٰ طريق ووسيلة نقل وعلامات، كذلك الروح تحتاج في تكاملها إلىٰ هذه الأُمور، وكلامنا الآن في آلة الروح، فآلة الروح في عالم الطبيعة والدنيا هو البدن.

إذن، البدن ليس إلَّا آلة وأداة لتفعل الروح أفعالها.

4 - هذا البدن الذي هو آلة الروح، قد زوَّده الله تعالىٰ بالعديد من الأدوات و(الأسلحة) التي يستفيد منها في كشف العالم الخارجي والاستفادة منه، تلك الأدوات التي أشار لها تعالىٰ فيقوله: ]قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ 23[ (الملك: 23).

فأدوات البدن التي تنقل الحدث مباشرةً إلىٰ الروح هي ما يُعبَّر عنها بالحواسِّ الخمس.

ص: 80

وهذا يشير إلىٰ وجود علاقة حميمة وشديدة بين الروح والبدن هي علاقة الاستكمال، أي إنَّ الروح تستكمل بواسطة البدن في بعض أنواع الاستكمال، بل نجد أنَّ العلاقة بين الروح والبدن تتطوَّر حتَّىٰ تصل إلىٰ حدٍّ بحيث يُؤثِّر أحدهما علىٰ الآخر فسيولوجياً، وهذا ما نراه واضحاً عندما يصاب البدن بمرض ما فإنَّه يُؤثِّر سلباً علىٰ الروح والعكس بالعكس، فصحَّة البدن وقوَّته تنقلب بالفائدة علىٰ الروح حتَّىٰ قيل: إنَّ العقل السليم في الجسم السليم. ولذا تجد أنَّ الروح ترتاح نوع ارتياح إذا ارتاح البدن بالنوم والأكل مثلاً.

وهكذا لمَّا تُصاب الروح ببعض النوبات المرضية فإنَّها تُؤثِّر علىٰ البدن، فترىٰ الحسود لا يرتاح له جسد لما يتحمَّل من ألم الحسد، وهكذا الحزن والخوف، كلُّها تُؤثِّر علىٰ البدن. وعكسها صحيح، فالفرح يبعث النشاط في الروح، والغبطة تريح البدن، والأمن يعافيه، وهكذا فالعلاقة متبادلة بينهما هنا في عالم الدنيا والتكامل.

5 - وينبغي الالتفات إلىٰ أنَّ العلماء يُؤكِّدون علىٰ أنَّ الذي يرىٰ بالعين ويسمع بالأُذُن ويمسُّ بإصبعه ليس هو البدن، بل هي الروح، ولكنَّها تحتاج في هذا الإحساس إلىٰ آلة، فتستخدم البدن، فالذي يرىٰ هي الروح بواسطة العين، والذي يسمع هي الروح بواسطة الأُذُن، وهكذا بقيَّةالحواسِّ.

ومن هنا يتَّضح أنَّ البدن ليس هو الذي يتكامل، بل التكامل هو للروح، لكنَّها تحتاج إلىٰ وسيلة في بعض الكمالات فتستخدم البدن. ومن هنا يتَّضح معنىٰ الحديث الشريف: «نية المرء خير من عمله»(1)، باعتبار

ص: 81


1- في المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 260/ باب النيَّة/ ح 315): عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، قال: قال رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «نيَّة المرء خير من عمله، ونيَّة الفاجر شرٌّ من عمله، وكلُّ عامل يعمل بنيَّته».

أنَّ النيَّة هي فعل الروح، والعمل الجارحي هو فعل البدن، والبدن ليس له أيُّ قيمة من دون الروح، ولذا كان الفعل الروحي - الجانحي - الصادر من الجزء الأصيل في الإنسان - وهي الروح - أفضل من الفعل الجارحي الصادر من الجزء الفرعي من الإنسان - وهو البدن -.

6 - ومن الواضح أنَّ الإنسان في الدنيا لا يستطيع أنْ يستغني عن هذه الأدوات في حياته، بل ربَّما تتوقَّف الكثير من الأُمور الحياتية لو لم تكن هناك حواسٌّ أو بعضها، ولذا قيل: (من فَقَدَ حسًّا فَقَدْ فَقَدَ علماً).

وهذا يعني أنَّ البدن في حقيقته ما هو إلَّا سجن للروح المجرَّدة، تلك الروح علىٰ عظمتها، ولكنَّها في عالم الدنيا محتاجة في تكاملها إلىٰ البدن، وربَّما يكون هذا من معاني أنَّ الدنيا سجن المؤمن، حيث إنَّ روحه محدَّدة بحدود البدن وقابلياته القليلة.

7 - ومشروع الإنسان في هذه الدنيا - كما أشرنا - هو التكامل، ومعنىٰ التكامل هو الحصول علىٰ المراتب الكماليةالمتعالية بصورة مستمرَّة، أي مع عدم التوقُّف في التكامل، وهذا المعنىٰ هو ما تشير إليه بعض الأحاديث الشريفة، مثل ما روي عنه صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «إذا أتىٰ عليَّ يوم لا أزداد فيه علماً، فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم»(1)

وبعبارة أصرح: مشروع الإنسان في الدنيا هي محاولة الهروب من سجن البدن، حتَّىٰ تتحرَّر الروح، فتستغني عنه، فترىٰ بلا عين وتسمع بلا أُذُن، ولا تتقيَّد بالزمان والمكان.

ولكن مع الأسف، نجد أنَّ البعض قد جعل مشروعه في الدنيا هو تكامل البدن فقط، فتراه لا يُفكِّر إلَّا في راحة بدنه ولو علىٰ حساب

ص: 82


1- المعجم الأوسط للطبراني (ج 6/ ص 367).

دينه ومعتقداته. وفي الحقيقة، إنَّ للبدن حقًّا علىٰ الإنسان، باعتبار أنَّ البدن يحتاج في استمرار وجوده إلىٰ الأُمور المادّية من أكل وشرب وراحة بدنية ونوم وتوفير بعض الأُمور المهمَّة كالمسكن والملبس والمال و...، ولكن هذا لا يعني أنَّ الإنسان يعتبر هذه الأُمور هي الأساس من وجوده، بل الحقيقة أنَّ الإنسان لا بدَّ أنْ يعتني بهذه الأُمور بما يخدم هدفه الأصلي، وهو التكامل، وهذا ما دعا له أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام وصرَّح بأنَّ مشروع الإنسان ليس هو تكامل البدن فقط، فقال عَلَيه اَلسَلام في واحدة من روائعه في هذا المجال: «... فما خُلِقْتُ ليشغلني أكل الطيِّبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفها، أو المرسَلة شغلها تقمُّمها، تكترش من أعلافها وتلهو عمَّا يُراد بها...»(1)وفي هذا المجال يقول الشاعر:

يا خادم الجسم كم تشقىٰ بخدمته *** أتعبت نفسك فيما فيه خسرانُ

أقبل علىٰ الروح فاستكمل فضائلها *** فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ

8 - وهذا التكامل لا يقف عند حدٍّ(2)، بل من الممكن أنْ يستمرَّ ويستمرَّ ويستمرَّ إلىٰ أنْ يصل إلىٰ مقام لا يصل إليه حتَّىٰ مثل المَلَك

ص: 83


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 72).
2- ليس التكامل خاصًّا بالإنسان، بل هو عامٌّ لكلِّ مخلوق شاعر مكلَّف، مثل الجنِّ، فإنَّ التكامل يرفع من رتبة الموجود، ولذا فإنَّ إبليس رغم أنَّه من الجنِّ، لكنَّه كان مشمولاً بأمر السجود لآدم، رغم أنَّ الأمر كان بلسان: ]وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ...[ [البقرة: 34]، ولكن حيث إنَّ إبليس تكامل، فوصل إلىٰ مرتبة الملائكة، كما قال أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «... فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذا أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستَّة آلاف سنة لا يُدرىٰ أمن سنيِّ الدنيا أم سنيِّ الآخرة عن كبر ساعة واحدة. فمن ذا بعد إبليس يسلم علىٰ الله بمثل معصية؟ كلَّا...». (نهج البلاغة: ج 2/ ص 138 و139).

جبرائيل، حيث وصل الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، فكان قاب قوسين أو أدنىٰ. وهو ما دعت إليه الروايات الشريفة تعضدها الآيات الكريمة، مثل قوله تعالىٰ: ]وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً 114[ (طه: 114).

9 - وكلَّما ازداد تكامل الإنسان، كلَّما ازداد تحرُّره من البدن، إلىٰ أنْ يصل - كما قلنا - إلىٰ مرحلة يستغني بها عن البدن، فيرىٰ من غير عين، ويسمع من دون أُذُن. وهذا ما نراه صريحاً في الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله وأهل البيت عَلَيهم اَلسَلام ، فقد ورد أنَّ من خصائص الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه: كان لكلِّ عضو من أعضاء النبيِّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله معجزة...، ومعجزة عينيه أنَّه كان يرىٰ من خلفه كمايرىٰ من أمامه، ومعجزة أُذُنيه هي أنَّه كان يسمع الأصوات في النوم كما يسمع في اليقظة...(1)

10 - إنَّ الإنسان لمَّا يموت فإنَّه لا يعود بحاجة إلىٰ الحواسِّ الخمس أو إلىٰ البدن، لأنَّه بالموت الطبيعي فإنَّ روحه ستنفصل عن البدن - وهو معنىٰ الموت -، فإذا انفصلت عن البدن لم تعد بحاجة إليه ولم تعد في سجنه.

النتيجة:

من هذا نعلم أنَّ التوصية المتقدِّمة التي دعت الإنسان إلىٰ أنْ يموت قبل أن يموت كانت تقصد ما يلي:

أنَّ علىٰ الإنسان أنْ يتكامل في الدنيا بأنواع الكمالات المتاحة له، والتي هي غير متناهية، إلىٰ أنْ يصل إلىٰ مرحلة يستغني بها عن البدن، فلا يعود بحاجة إليه ولا إلىٰ آلاته الخمس ولا غيرها، وبهذا سيصبح الإنسان وهو في الدنيا قد صار كالميِّت في كونه لا يحتاج إلىٰ البدن وأدواته، فيموت في الدنيا (بالموت الاختياري

ص: 84


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 17/ ص 299)، عن الخرائج والجرائح لقطب الدِّين الراوندي (ص 221).

كما يُعبِّر الفلاسفة) قبل أنْ يموت الموت الطبيعي (أو الموت الاخترامي كما يُسمّيه الفلاسفة). وفي هذا فضيلة عظيمة للإنسان، لأنَّها تكشف عن جهادٍ مستمرٍّ وعمل دؤوب وسعي متواصل من أجل الحصول علىٰ الكمالات المتاحة لبني البشر.

وقد يكون المقصود منها هو أنْ يُميت الإنسان حواسَّه الظاهرية إلَّا من الحلال، فإنَّه بحبسها علىٰ الحلال يكون كأنَّه أماتها عن غيره، وهذا المعنىٰ أيضاً يدخل ضمن نظام التكاملاللّامتناهي.

وفي هذا المجال قال صدر الدِّين محمّد الشيرازي:

(... وإنَّما ينكشف لمن يكشف في هذه الدنيا من الأنبياء والأولياء بواسطة غلبة سلطان الآخرة علىٰ قلوبهم، لرفضهم استعمال هذه المشاعر والحواسِّ في مشتهياتها ولذّاتها، بموتهم الإرادي عن زخارف هذه الحياة الدنيا لنيل مآرب الحياة الأُخروي، كما قال رسول الثقلين عليه وآله الصلوات: «موتوا قبل أن تموتوا»، أي عطِّلوا هذه الحواسَّ عن الإحساس لينفتح منكم مشاعر إدراك الأُمور الآخرة قبل موتكم الطبيعي. وقال بعض الحكماء مشيراً إلىٰ هذا المعنىٰ: الناس يقولون: افتح عينك لترىٰ، وأنا أقول غمِّض عينك لترىٰ، وقال بعضهم أيضاً رامزاً إلىٰ هذا: من أراد أنْ يتنوَّر بيت قلبه فليَسدُد الروازن الخمس...)(1)

ويقول أفلاطون الإلهي: (مُتْ بالإرادة تحيىٰ بالطبيعة)(2)

* * *

ص: 85


1- المبدأ والمعاد لصدر المتألِّهين (ص 540).
2- شرح الأسماء الحسنىٰ للملَّا هادي السبزواري (ج 1/ ص 148 و149).

(13)تحمُّل مسؤولية الأمانة

في آنٍ ما، يحكي القرآن الكريم أنَّ الله تعالىٰ عرض (أمانة) ما، علىٰ أشياء هي من عظمة الجثَّة بمكان، وكان متوقَّعاً لتلك الأشياء أنْ تتحمَّل تلك الأمانة، إلَّا أنَّ المفاجأة جاءت علىٰ عكس المتوقَّع، حيث اعتذرت تلك الأشياء إلىٰ الله تبارك وتعالىٰ، بل وأظهرت خوفها وعدم قدرتها علىٰ ذلك.

في هذه الأثناء، برز موجود قد يحسب نفسه أقلّ قدرةً من تلك الأشياء، ورشَّح نفسه لتحمُّل الأمانة، فأذن الله تعالىٰ له بذلك، إلَّا أنَّه ظلم نفسه عندما لم يُؤدِها حقَّ أدائها، وعندما جهل قدرها.

هذه خلاصة حكاية نقلها لنا القرآن الكريم بقوله عزَّ من قائل: ]إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً 72[ (الأحزاب: 72).

ومن هنا، وحتَّىٰ يكون المؤمن علىٰ قدر المسؤولية، وحتَّىٰ لا يكون ظلوماً لنفسه جهولاً بقدرها وبقدر الأمانة، وحتَّىٰ يستمرَّ بتكامله الوجودي، عليه أنْ يُؤدّي تلك الأمانة علىٰ أحسن ما يكون الأداء، وأنْ يبذل جهده ما استطاع من أجل ذلك.

أمَّا ما هي تلك الأمانة؟في الحقيقة، اختلفت التفسيرات الواردة في معنىٰ هذه الأمانة،

ص: 86

ولكن يمكن القول: إنَّ المراد منها: (التكليف بالعبودية لله لكلِّ عبدٍ بحسب وسعه)(1)

فهي لوحة عامَّة تشمل كلَّ ما يدخل تحت عنوان العبودية المطلقة لله تعالىٰ، ويدخل ضمن هذه اللوحة العديد من المفردات التي ورد في التفاسير القرآنية أنَّها تأويل لتلك الأمانة.

أي إنَّ القاعدة هنا: أنَّ العبودية بكلِّ تجلّياتها هي الأمانة الإلهيَّة التي تحمَّلها الإنسان، ويدخل تحت هذه القاعدة العديد من المفردات التي يصدق عليها أنَّها (أمانة)، ومن تلك المفردات التالي:

أوَّلاً: الخلافة الإلهيَّة، أي الإمامة، فقد ورد في عدَّة روايات شريفة تفسير الأمانة بالإمامة، ورتَّبت بعض الروايات أنَّ الذي يدَّعي الإمامة وهو ليس لها بأهل فقد خان الأمانة، وأنَّ من يتَّخذ إماماً غير من نصَّبه الله تعالىٰ وجعله بأمره، فقد خان الأمانة أيضاً.

فعن الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال في قوله تعالىٰ: ]إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً 72[: «هي ولاية عليِّ بن أبي طالب عَلَيه اَلسَلام »(2)

وعن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسن عليَّ بنموسىٰ الرضا عَلَيه اَلسَلام عن قول الله عَزَّ وَجَل: ] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَىٰ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها[، فقال: «الأمانة: الولاية، من ادَّعاها بغير حقٍّ فقد كفر»(3)

ص: 87


1- التفسير الأصفىٰ للفيض الكاشاني (ج 2/ ص 1006).
2- بصائر الدرجات للصفّار (ص 96).
3- عيون أخبار الرضا عَلَيه اَلسَلام للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 273 و274).

ويدخل تحت هذه المفردة: معرفة إمام الزمان، فينبغي علىٰ المؤمن الذي يسعىٰ للتكامل الأخلاقي، أنْ يضع في جدوله اليومي وقتاً خاصًّا لمعرفة إمام زمانه، فإنَّ «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»(1)

ثانياً: الطاعة عموماً، أي التكاليف الشرعية التي افترضها الله تعالىٰ علىٰ الإنسان البالغ العاقل، فإنَّها واجبة علىٰ الإنسان دون غيره من الموجودات، والمؤمن لا يمكنه أنْ يتكامل أبداً وهو بعيد عن أداء ما افترضه الله تعالىٰ عليه، فإذا أراد زيادةً في التوفيق وكمالاً في الطريق، فعليه أنْ يلتزم النوافل والمستحبّات، فهذه الطاعات تُمثِّل أرقىٰ ما يمكن أنْ يصعد بالإنسان إلىٰ أعلىٰ هرم الكمال.

وفي ذلك روي عن النبيِّ الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله في الحديث القدسي: «قال الله تبارك وتعالىٰ: ... ما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتنفَّل لي حتَّىٰ أُحِبَّه، ومتىٰ أحببته كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيِّداً، إنْ دعاني أجبته، وإنْ سألنيأعطيته»(2)

ثالثاً: الصلاة، فقد روي أنَّه كان أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام إذا حضر وقت الصلاة تلوَّن وتزلزل، فقيل له: ما لك؟! فيقول: «جاء وقت أمانة عرضها الله تعالىٰ علىٰ السماوات والأرض والجبال فأبين أنْ يحملنها وحملها الإنسان في ضعفه»(3)

وفي الحقيقة، تُمثِّل الصلاة خير سُلَّم للكمال الوجودي، لأنَّها تُؤدّي

ص: 88


1- كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق (ص 409/ ما روي من حديث ذي القرنين/ ح 9).
2- التوحيد للشيخ الصدوق (ص 398 - 400/ باب أنَّ الله تعالىٰ لا يفعل بعباده إلَّا الأصلح لهم/ ح 1).
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 1/ ص 389).

فيما تُؤدّي إليه إلىٰ تزكية النفس وتطهيرها ممَّا يصيبها من الرَّين والخبث جراء مواقعة المعاصي وما لا ينبغي للمؤمن فعله، وفي ذلك روي عن الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «لو كان علىٰ باب أحدكم نهر فاغتسل منه [كلَّ] يوم خمس مرّات، هل كان يبقىٰ علىٰ جسده من الدَّرَن شيء؟! إنَّما مثل الصلاة مثل النهر الذي يُنقي الدَّرَن، كلَّما صلّىٰ صلاة كان كفّارة لذنوبه، إلَّا ذنبٍ أخرجه من الإيمان مقيم عليه»(1)

رابعاً: الأمانة المتعارفة، فإنَّها من أهمّ ما أوصت به الروايات الشريفة، وأكَّدت عليه تأكيداً شديداً، الأمر الذي لم يُجعَل فيها العذر لمن خانها أبداً، فقد روي عن أبي جعفر عَلَيه اَلسَلام ، قال: «ثلاث لم يجعل الله عَزَّ وَجَل لأحد فيهنَّ رخصة: أداء الأمانة إلىٰ البَرِّوالفاجر، والوفاء بالعهد للبَرِّ والفاجر، وبِرُّ الوالدين بَرَّين كانا أو فاجرين»(2)

بل جُعِلَ أداؤها من أهمّ صفات التشيُّع لأهل البيت عَلَيهم اَلسَلام ، ممَّا يعني أنَّ التكامل في طريقهم يقتضي أداء الأمانة إلىٰ أهلها، وما يستلزمه هذا الأداء من الحفاظ عليها وعدم التصرُّف بها أكثر من المأذون به، وتسليمها إلىٰ أهلها متىٰ شاؤوا، فقد روي عن جابر، عن أبي جعفر عَلَيه اَلسَلام ، قال: قال لي: «يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيُّع أنْ يقول بحبِّنا أهل البيت؟ فوَالله ما شيعتنا إلَّا من اتَّقىٰ الله وأطاعه، وما كانوا يُعرَفون يا جابر إلَّا بالتواضع والتخشُّع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبِرِّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين

ص: 89


1- الأُصول الستَّة عشر لعدَّة محدِّثين (ص 73)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 79/ ص 236/ ح 66).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 162/ باب البرِّ بالوالدين/ ح 15).

والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفِّ الألسن عن الناس إلَّا من خير، وكانوا أُمناء عشائرهم في الأشياء»(1)

ولذلك، كان النبيُّ الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله مؤدّياً للأمانة حتَّىٰ لأعدائه، والشاهد علىٰ ذلك أنَّه عندما هاجر صَلَ الله عَلیهِ وَ آله إلىٰ المدينة، فإنَّه ترك عليًّا عَلَيه اَلسَلام في مكَّة ليُؤدّي الأمانات ويردَّها إلىٰ أهلها، ممَّا يكشف عن أنَّ أهل مكَّة رغم أنَّهم كانوا علىٰ غير دينه صَلَ الله عَلیهِ وَ آله وكان يُكفِّرهم، فإنَّهم كانوا يأتمنونه علىٰ أموالهم، وهو صَلَ الله عَلیهِ وَ آله كان يُؤدّي الأمانة، فقد قال صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «لا تنظروا إلىٰ كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحجِّ والمعروف، وطنطنتهم بالليل، انظروا إلىٰ صدقالحديث وأداء الأمانة»(2)

هذه أهمّ المفردات التي ذكروها في التفاسير لمعنىٰ الأمانة، علىٰ أنَّه ذُكِرَت مفردات أُخرىٰ للأمانة(3)، كحفظ المرأة فَرْجها والرجل فَرْجه عن الفاحشة، والجوارح الخارجية عن فعل الحرام، والمرأة، واليتيم، وما ملكت اليمين، وصفة الاختيار التي تمتَّع بها الإنسان، والعقل الذي هو مناط التكليف والثواب والعقاب، ومعرفة الله تعالىٰ، وكلُّها تدخل تحت ذلك العموم المتقدِّم.

فالقاعدة هنا تقول: إنَّ علىٰ من أراد أنْ يكون في أعلىٰ علّيين، وأنْ يسابق المتَّقين في طريق الكمال، فعليه أنْ يتحمَّل تلك الأمانة الإلهيَّة العظيمة، وإلَّا فإنَّه لن يكون مرشَّحاً لنيل درجات القرب الإلهي.

* * *

ص: 90


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 74/ باب الطاعة والتقوىٰ/ ح 3).
2- أمالي الشيخ الصدوق (ص 379/ ح 481/6).
3- راجع: التبيان للشيخ الطوسي (ج 8/ ص 367 و368)؛ وتفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 8/ ص 186)؛ وتفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (ج 13/ ص 368 و369)؛ وغيرها من التفاسير.

(14)اعبد الله كما يريد هو!

لا شكَّ أنَّ طريق التكامل الذي يسعىٰ إليه المؤمن له هدف معيَّن، وهدفه ليس إلَّا الحصول علىٰ رضا الله تعالىٰ، وبالتالي، فالمؤمن يسعىٰ قَدْر إمكانه علىٰ أنْ لا يقترب إلىٰ أيِّ شيء من الممكن أنْ يكون سبباً للبُعد عن الله تعالىٰ، وأنْ يتمسَّك بأيِّ سبب يُؤدّي إلىٰ الحصول علىٰ رضا الباري تبارك تعالىٰ، ولذلك فهو يحاول أنْ يسير في طريق التكامل.

هذا هو المفروض.

وهذا المفروض يستلزم أمراً مهمًّا جدًّا قد يغفل البعض عنه، وهنا فقط نُلفت النظر له، وهو:

أنَّ التكامل والتقرُّب إلىٰ أيِّ إنسان، إنَّما يكون بالطريقة التي يُحِبُّها ذلك الإنسان، لا بما أراه أنا - الذي أُريد أنْ أتقرَّب إليه -، وهذا أمر واضح جدًّا، فلو كان ذلك الإنسان يُحِبُّ اللون الفلاني في ملابسه مثلاً، ولكنّي أنا كنت أُحِبُّ لوناً آخر، فليس من الصحيح عقلائياً إذا أردت أنْ أُهدي له ثوباً معيَّناً أنْ يكون باللون الذي أُحِبُّه أنا، بل لا بدَّ أنْ يكون باللون الذي يُحِبُّه هو.

وهكذا عندما نريد أنْ نتقرَّب إلىٰ الله تعالىٰ من خلال طريقالتكامل، الذي يعني التزام أعمال معيَّنة تُؤدّي إلىٰ تحصيل الرضا الإلهي،

ص: 91

إذ من الواضح أنَّ التقرُّب إليه تعالىٰ ليس تقرُّباً مكانياً، لأنَّه تعالىٰ لا مكان له، لأنَّه خالق المكان، وهو موجود وعالم بكلِّ مكانٍ، فلا مكان ولا زمان يحدُّه جلَّ وعلا، قال تعالىٰ: ]وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ 84[ (الزخرف: 84).

وقال تعالىٰ: ]يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 4[ (الحديد: 4).

فالتقرُّب إليه تعالىٰ هو تقرُّب معنوي من خلال التزام أعمال معيَّنة، من شأنها أنْ تزيد من فرصة فوز المؤمن برضا الله تعالىٰ.

وقد تلطَّف الله تعالىٰ بعباده، حينما وضَّح لهم المنهاج الأمثل في ذلك الطريق، من خلال تبليغهم منظومة متكاملة في العقائد والفقه والأخلاق، والتي وصلت إلينا من خلال القرآن الكريم، وأحاديث المعصومين عَلَيهم اَلسَلام ، بكلِّ وضوح وجلاء، فلا خفاء في طريق الحقِّ، ولا خفاء ولا إبهام في الباطل، قال تعالىٰ: ]إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً 3[ (الإنسان: 3)، وقال تعالىٰ: ]وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ 10[ (البلد: 10).

عن حمزة بن محمّد الطيّار، عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام في قول الله: ]وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ[ [التوبة: 115]، قال: «حتَّىٰ يعرفهم ما يُرضيه ومايُسخطه»، وقال: ]فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها 8[ [الشمس: 8]، قال: «بيَّن لها ما تأتي وما تترك»، وقال: ]إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً 3[ [الإنسان: 3]، قال: «عرَّفناه فإمَّا آخذٌ وإمَّا تاركٌ...»، وعن قوله تعالىٰ: ]وَأَمَّا ثَمُودُ

ص: 92

فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمىٰ عَلَىٰ الْهُدىٰ[ [فُصِّلت: 17]، قال: «نهاهم عن قتلهم، فاستحبُّوا العمىٰ علىٰ الهدىٰ وهم يعرفون»(1)

ومن هذا نعلم التالي:

أوَّلاً: أنَّ الطريق الأمثل لتحصيل الكمالات الأخلاقية هو التزام ما شرَّعه الله تعالىٰ وما ارتضاه من طريق للتكامل، ومصدره هو القرآن الكريم وروايات أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام .

وهذا أحد وأهمّ مفردات التسليم المطلوب من المؤمن، فإنَّ الروايات تبعاً لبعض الآيات الكريمة تُؤكِّد علىٰ أنَّ أهمّ شيء في الدِّين الإسلامي هو الاتِّباع المقرون بالتسليم والرضا القلبي وعدم الاعتراض وعدم طرح الاقتراحات اللّامسؤولة، فقد روي عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام : «لو أنَّ قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجُّوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثمّ قالوا لشيء صنعه الله تعالىٰ أو صنعه النبيُّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: ألَا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين»، ثمّ تلا هذه الآية: ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً65[ [النساء: 65]، ثمّ قال أبو عبد الله عَلَيه اَلسَلام : «وعليكم بالتسليم»(2)

ثانياً: ليس للإنسان أنْ يأتي بطريق يدَّعي أنَّه الطريق التكاملي إذا لم يكن مستنداً إلىٰ المصدرين السابقين، كمن يريد أنْ يتعبَّد لله تعالىٰ بأنْ

ص: 93


1- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 276/ باب البيان والتعريف ولزوم الحجَّة/ ح 389).
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 271/ باب 38/ ح 365).

يُصلّي صلاة الفجر أربع ركعات مثلاً، أو أنْ يجعل صلاة معيَّنة واجبة عليه، وما شابه هذه الأُمور.

وقد روي في ما حكاه الله تعالىٰ عن بداية الخلقة وأمر الله تعالىٰ للملائكة بالسجود لآدم: قال إبليس: يا ربِّ، اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدْكها مَلَك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل! قال الله تبارك وتعالىٰ: لا حاجة لي إلىٰ عبادتك، إنَّما أُريد أنْ أُعبد من حيث أُريد لا من حيث تُريد، فأبىٰ أنْ يسجد، فقال الله تعالىٰ: ]قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ 34 وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلىٰ يَوْمِ الدِّينِ 35[ [الحجر: 34 و35](1)

ولذلك نجد أنَّ أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام ما كانوا ينسبون شيئاً لأنفسهم، إنَّما كانوا ينسبون ما يأتون به إلىٰ رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، وبالتالي إلىٰ الله تعالىٰ، فقد روي عن قتيبة، قال: سأل رجل أبا عبد الله عَلَيه اَلسَلام عن مسألة، فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيتَ إنْ كان كذا وكذا ما يكون القول فيها؟ فقال له: «مَهْ، ما أجبتُك فيه من شيء فهو عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، لسنا من: أرأيتَ(2) في شيء»(3)

ثالثاً: لا بدَّ من رفض أيِّ منهج يعتمد علىٰ أُمور غير منضبطة، أو باطنية غير واضحة، أو من مآخذ ومصادر غير معصومة وغير مستندة إلىٰ الشريعة السمحاء. وذلك لأنَّ القاعدة الإسلاميَّة تقول ما قاله الإمام أبو عبد الله عَلَيه اَلسَلام : «حلال محمّد حلال أبداً إلىٰ يوم القيامة، وحرامه

ص: 94


1- تفسير القمّي (ج 1/ ص 42).
2- لمَّا كان مراده أخبرني عن رأيك الذي تختاره بالظنِّ والاجتهاد نهاه عَلَيه اَلسَلام عن هذا الظنِّ وبيَّن له أنَّهم لا يقولون شيئاً إلَّا بالجزم واليقين وبما وصل إليهم من سيِّد المرسلين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. (من هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 58/ باب البِّدَع والرأي والمقاييس/ ح 21).

حرام أبداً إلىٰ يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»، وقال: «قال عليٌّ عَلَيه اَلسَلام : ما أحد ابتدع بدعة إلَّا ترك بها سُنَّة»(1)

رابعاً: لا بدَّ من الدقَّة في اختيار المنهج الأخلاقي لمن يريد التكامل، فإنَّ السقطة هنا غير مغتفرة، وعاقبتها سيِّئة جدًّا، وقد يفيق المخطئ لكن بعد أنْ يقع في الحفرة.

وهذا يعني ضرورة الالتزام بمنهج منضبط في أيِّ مجالٍ من مجالات الحياة، وأنَّ السير من دون منهج ليس صحيحاً حتَّىٰ لو صادف بطريقة وبأُخرىٰ الوصول إلىٰ الحقيقة، وهذا ما يشير إليه ما روي عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سُنَّة، فننظر فيها [يعني نُعطي رأينا فيها]؟ فقال: «لا، أمَا إنَّك إنْ أصبت لم تُؤجَر، وإنْ أخطأتكذبت علىٰ الله عَزَّ وَجَل»(2)

والمنهج هو ما تقدَّمت الإشارة إليه، وهو منهج القرآن الكريم وأحاديث المعصومين عَلَيهم اَلسَلام .

* * *

ص: 95


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 58/ باب البِّدَع والرأي والمقاييس/ ح 19).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 56/ باب البِّدَع والرأي والمقاييس/ ح 11).

(15)الحذر من النِّعَم

اشارة

لا شكَّ أنَّ المرء يفرح إذا أنعم الله عليه نعمة مادّية أو معنوية، وهذا أمر لا بأس به، ولا شكَّ أنَّ النِّعَم وتتابعها تساعد الإنسان علىٰ ترتيب أُموره الحياتية، ولكن علىٰ المؤمن الذي يسير في طريق التكامل الأخلاقي أنْ ينظر إلىٰ النِّعَم بالنظرة الواقعية الإسلاميَّة، يعني أنْ يفهم المغزىٰ منها وفق الرؤية الإسلاميَّة العامَّة.

ووفق هذه النظرة علينا أنْ نتعامل مع النِّعَم بالتالي:

إنَّ النِّعَم الإلهيَّة في الوقت الذي تُدخِل السرور علىٰ قلب المؤمن، لكنَّها في الوقت نفسه تفرض عليه أنْ يُؤدّي حقَّها، وحقُّها هو شكر الله تعالىٰ وعدم استعمالها في الحرام إطلاقاً، فقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «أحسن الناس حالاً في النِّعَم من استدام حاضرها بالشكر، واسترجع فائتها بالصبر»(1)

وعنه عَلَيه اَلسَلام : «أقلُّ ما يلزمكم لله أنْ لا تستعينوا بنِعَمه علىٰ معاصيه»(2)

وروي عن الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «لا تدوم النِّعَم إلَّابعد ثلاث: معرفةٌ بما يلزم لله سبحانه فيها، وأداء شكرها، والتعب فيها»(3)

ص: 96


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 123).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 78).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 318).

هذا أوَّلاً.

وثانياً: أنَّ كثرة النِّعَم علىٰ الإنسان ليست دائماً علامة الحُبِّ الإلهي لهذا الفرد، وإنَّما هي في بعض الأحيان تكون علامة للنقمة الإلهيَّة، أو تكون وسيلة للابتعاد عنه جلَّ وعلا. وحتَّىٰ تتَّضح الصورة نذكر أشدَّ خطرين يمكن أنْ تمرَّ بهما النِّعَم:

الخطر الأوَّل: الاستدراج:

بمعنىٰ أنَّ الإنسان قد يكون مستحقًّا للعقوبة، وحتَّىٰ يوقع نفسها فيها فإنَّ الله تعالىٰ يُعطيه نِعَماً باستمرار، بحيث تتوالىٰ عليه النِّعَم، فيظنُّ حينها أنَّ الله تعالىٰ يُحِبُّه، رغم أنَّه يعمل في معاصيه، وبالتالي، ستكون الحجَّة آكد علىٰ هذا المذنب، لأنَّه رغم زيادة النِّعَم الإلهيَّة عليه، هو ما زال في المعصية غارقاً ولا يرعوي عنها.

فقد روي أنَّه سُئِلَ أبو عبد الله عَلَيه اَلسَلام عن الاستدراج، فقال: «هو العبد يذنب الذنب فيُملي له ويُجدِّد له عندها النِّعَم فتُلهيه عن الاستغفار من الذنوب، فهو مستدرَج من حيث لا يعلم»(1)

وهذه الحالة هي من أخطر ما يمكن أنْ تمرَّ فيه النِّعَم، وأشدّها سوءاً علىٰ الإنسان، ولشدَّة خطورتها نجد هناك تأكيداً شديداً في الآيات والروايات علىٰ أنْ يتمَّ التعامل مع النِّعَم الإلهيَّةبحذر دقيق، يقول تعالىٰ: ]وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ 178[ (آل عمران: 178).

وقال تعالىٰ: ]وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ 182 وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ 183[ (الأعراف: 182 و183).

ص: 97


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 452/ باب الاستدراج/ ح 2).

عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «يا ابن آدم، إذا رأيت ربَّك سبحانه يتابع عليك نِعَمه وأنت تعصيه فاحذره»(1)

وعنه عَلَيه اَلسَلام : «كم من مستدرَج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه، وما ابتلىٰ الله أحداً بمثل الاملاء له»(2)

الخطر الثاني: التكبُّر:

إنَّ ممَّا تكون النِّعَم المتتالية سبباً له في بعض الأحيان هو أنَّها ستكون مدعاةً للتكبُّر علىٰ من هو أقلّ نعمة، سواء كانت النعمة مالاً أو ولداً أو جاهاً أو عشيرةً وما شابه، وقد حكىٰ القرآن الكريم ذلك فيما حكاه عَزَّ وَجَل عن قارون: ]إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ فَبَغىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ 76 وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرضِ إِنَّ اللهَ لايُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 77 قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلىٰ عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ 78 فَخَرَجَ عَلىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ 79 ...[ (القَصص: 76 - 79).

إنَّها النتيجة التي سيحكيها كلُّ مترفٍ لا يؤمن بالله العظيم: ]أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً 34[ (الكهف: 34).

وأمَّا إذا أراد العبد أنْ يتخلَّص من خطر النعمة فعليه:

ص: 98


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 7).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 27 و28).

أوَّلاً: أنْ يلتزم شكر النعمة بأداء حقِّها لله تعالىٰ، وعدم الانجرار وراء المعاصي أو استعمال النِّعَم الإلهيَّة فيما يُغضِبه جلَّ وعلا.

فعن عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام : إنّي سألت الله عَزَّ وَجَل أنْ يرزقني مالاً فرزقني، وإنّي سألت الله أنْ يرزقني ولداً فرزقني ولداً، وسألته أنْ يرزقني داراً فرزقني، وقد خفت أنْ يكون ذلك استدراجاً، فقال: «أمَا - والله - مع الحمد فلا»(1)

ثانياً: أنْ يعيش القلق والإحساس بالخوف من توالي النِّعَم عليه، وليكن ملتزماً بالدعاء في أنْ لا يجعل الله تعالىٰ عليه النِّعَم نقمةً وعذاباً، فعن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام ، قال: «أيّها الناس، ليركم الله من النعمة وجلين كما يراكم من النقمة فَرِقين، إنَّه من وُسِّع عليه في ذات يده فلم يرَ ذلك استدراجاً فقد أمن مخوفاً، ومن ضُيِّق عليهفي ذات يده فلم يرَ ذلك اختباراً فقد ضيَّع مأمولاً»(2)

ثالثاً: أنْ تكون النعمة دافعة له للتواضع ولصلة من هو أقلّ منه، لا العكس، فإذا كنت غنيًّا فارفق بمن هو أقلّ منك مالاً، وإنْ كنت قويّ البنية مفتول العضلات فأعن الضعيف واعف عن المسيء ما استطعت.

وقد حفظ لنا التاريخ وثائق نورانية في كيفية التعامل مع النعمة، فقد روي أنَّه جاء رجل موسر إلىٰ رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله نقيُّ الثوب، فجلس إلىٰ رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، فجاء رجل معسر درن الثوب، فجلس إلىٰ جنب الموسر، فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه، فقال له رسوله الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله:

ص: 99


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 97/ باب الشكر/ ح 17).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 83 و84).

«أخفت أنْ يمسَّك من فقره شيء؟»، قال: لا، قال: «فخفت أنْ يصيبه من غناك شيء؟»، قال: لا، قال: «فخفت أنْ يوسخ ثيابك؟»، قال: لا، قال: «فما حملك علىٰ ما صنعت؟»، فقال: يا رسول الله، إنَّ لي قريناً يُزيِّن لي كلَّ قبيح ويُقبِّح لي كلَّ حسن(1)، وقد جعلت له نصف مالي، فقال رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله للمعسر: «أتقبل؟»، قال: لا، فقال له الرجل: ولِمَ؟ قال: «أخاف أنْ يدخلني ما دخلك»(2)

وقد حُكي أنَّ مالكاً الأشتر رضي الله عنه كان مجتازاً بسوق وعليهقميص خام وعمامة منه، فرآه بعض السوقة، فأزرىٰ بزيِّه، فرماه ببندقة تهاوناً به، فمضىٰ ولم يلتفت، فقيل له: ويلك تعرف لمن رميت؟ فقال: لا، فقيل له: هذا مالك صاحب أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام ، فارتعد الرجل ومضىٰ ليعتذر إليه، وقد دخل مسجداً وهو قائم يُصلّي، فلمَّا انفتل انكبَّ الرجل علىٰ قدميه يُقبِّلهما، فقال: ما هذا الأمر؟ فقال: أعتذر إليك ممَّا صنعت، فقال: لا بأس عليك، فوَالله ما دخلت المسجد إلَّا لأستغفرنَّ لك(3)

* * *

ص: 100


1- أي إنَّ لي شيطاناً يغويني ويجعل القبيح حسناً في نظري والحسن قبيحاً، وهذا الصادر منّي من جملة اغوائه. ويمكن أن يُراد به النفس الأمّارة التي طغت وبغت بالمال. (من هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 262 و263/ باب فضل فقراء المسلمين/ ح 11).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 42/ ص 157).

(16)التعاطي الإيجابي مع تزاحم الحياة

بأدنىٰ تأمُّل، يمكننا أنْ نكتشف أنَّ هذه الحياة هي حياة تزاحم، لأنَّ الفُرَص المتاحة فيها أقلّ بكثير من الرغبات لدىٰ كلِّ إنسان، وبالتالي حتَّىٰ يحصل الفرد علىٰ فرصته سيجد ألفاً غيره يريدون الحصول علىٰ نفس الفرصة. ولأنَّ كلَّ إنسان يُحِبُّ ذاته، فإنَّ رغباته وإحساسه باحتمال الخسارة عندما لا يُدرِك الفرصة قبل غيره تدفعه إلىٰ أنْ يُسرع بأقصىٰ ما عنده من قوَّة ليحصل علىٰ تلك الفرصة قبل غيره، والنتيجة أنَّنا سنعيش أشبه بحياة سباق سيّارات سريعة علىٰ حلبة صراع، الأمر الذي سيُؤدّي إلىٰ: التنافس، والاحتكاك، والتصادم، وقد تصل الحال إلىٰ محاولة تثبيط الآخر، أو تسقيطه، أو إبعاده عن حلبة السابق بدعاية مغرضة، أو إسقاط شخصيته، أو حتَّىٰ إزهاق روحه لو استلزم الأمر!

يُضاف إلىٰ ذلك كلِّه: أنَّ الحياة أقصر بكثير من أنْ تسع رغبات الإنسان، بل قد يصل الإنسان إلىٰ أقصىٰ نقطة في حياته، ولكنَّه ما زال متعلّقاً بالحياة أكثر من ذي قبل، وهو ما كان يُخافمنه علىٰ أُمَّة الإسلام.

وهذا ما أشارت له الروايات الشريفة، فقد روي عن الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال لابن مسعود: «يا ابن مسعود، قصِّر أملك، فإذا أصبحت فقل: (إنّي لا أُمسي)، وإذا أمسيت فقل: (إنّي لا أُصبح).

ص: 101

واعزم علىٰ مفارقة الدنيا، وأحبَّ لقاء الله ولا تكره لقاءه، فإنَّ الله يُحِبُّ لقاء من يُحِبُّ لقاءه ويكره لقاء من يكره لقاءه»(1)

وعن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «أيّها الناس، إنَّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتِّباع الهوىٰ، وطول الأمل. فأمَّا اتِّباع الهوىٰ فيصدُّ عن الحقِّ، وأمَّا طول الأمل فيُنسي الآخرة»(2)

أمام هذا الواقع، كيف يتمُّ التعاطي والتعامل مع هذا التزاحم والتضادِّ المستمرِّ، من مؤمن يريد أنْ يتكامل في طريق الخلود؟

هنا عدَّة نقاط لا بدَّ أنْ نلتفت إليها:

النقطة الأُولىٰ: ليس من الصحيح أنْ ينسحب المؤمن من مضمار السباق، ليكون متفرِّجاً فقط، لأنَّ التسابق في الحياة أمر واقعي لا مفرَّ منه، وهذا يعني أنَّ علىٰ المؤمن أنْ يشحذ همَّته ليدخل المضمار بكلِّ إرادة وعزم، وأنْ يعمل علىٰ أنْ يزيد من فرصته في الفوز، وهو ما تشير إليه بعض الروايات الشريفة، من قبيل ما روي عن الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام : «من استوىٰ يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرّهما فهو ملعون، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلىٰ النقصان أقرب، ومن كان إلىٰالنقصان أقرب فالموت خير له من الحياة»(3)

النقطة الثانية: علىٰ المؤمن أنْ يجعل هدفه من هذا السباق هي الحياة الأبدية، وليس شيئاً فانياً مؤقَّتاً، وقد حدَّدت لنا النصوص القرآنية ما يلزم علىٰ المؤمن جعله هدفاً لسباقه، فقال تعالىٰ: ]وَسارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ 133[ (آل عمران: 133).

ص: 102


1- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 452).
2- نهج البلاغة (ج 1/ ص 92 و93).
3- أمالي الشيخ الصدوق (ص 766/ ح 1030/4).

وقال تعالىٰ: ]إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ 22 عَلَىٰ الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ 23 تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ 24 يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ 25 خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ 26[ (المطفِّفين: 22 - 26).

ويقول أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «إنَّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإنَّ الآخرة قد أشرفت باطِّلاع، ألَا وإنَّ اليوم المضمار وغداً السباق، والسبقة الجنَّة، والغاية النار»(1)

النقطة الثالثة: لا يعني هذا عدم الاهتمام بالسباقات الدنيوية بقدرٍ معتدٍّ به، وهو أنْ لا يكون المؤمن كَلّاً علىٰ غيره ولا يكون بموضع الذلِّ والهوان، أي إنَّ علىٰ المؤمن أنْ يعيش القناعة من الدنيا، فيسعىٰ لتحصيل ما يمكنه منها من خلال الطُّرُق المحلَّلة، فإنْ حصل علىٰ شيء منها فبها، وإلَّا فإنَّه يرضىٰ بواقعه، ويبقىٰ مستمرًّا بسعيه وسباقه نحو الآخرة.

النقطة الرابعة: هناك عدَّة حلول طرحها الإسلام - وقد أيَّدها العقل - في كيفية التعامل مع حياة التزاحم، لتقليل حدَّةالتصادم قدر الإمكان، متمثِّلة ببعض القوانين الأخلاقية، ومنها التالي:

القانون الأوَّل: أنْ تجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين الناس، فتُحِبَّ لهم ما تُحِبُّ لنفسك، وتكره لهم ما تكره لها، وهو قانون لو تمَّ تفعيله، لخفَّت وطأة التصادم بشكل كبير جدًّا.

القانون الثاني: التعاون في طريق التكامل، علىٰ قاعدة: «وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق»، كما يقول الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام (2)

القانون الثالث: الزهد فيما لا يبقىٰ، إذ إنَّ هناك العديد من الأفراد

ص: 103


1- نهج البلاغة (ج 1/ ص 70 و71).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 45/ باب آخر من الإيمان/ ح 2).

ممَّن يتنافسون في الفاني، فلا تُتعِب نفسك معهم، وليكن سعيك لما يبقىٰ لك ولو كان قليلاً بنظرهم، وهذا ما أكَّده أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام في أكثر من كلمة، فقد قال عَلَيه اَلسَلام : «فلرُبَّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أُوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقىٰ لك جماله وينفىٰ عنك وباله، فالمال لا يبقىٰ لك ولا تبقىٰ له، واعلم أنَّك إنَّما خُلِقْتَ للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة...»(1)

وقال عَلَيه اَلسَلام عندما سأله رجلٌ أنْ يعظه، ناهياً إيّاه عن بعض التصرُّفات، ومنها: «لا تكن ممَّن يرجو الآخرة بغير العمل، ويُرجّي التوبة بطول الأمل، يقول في الدنيا بقول الزاهدين ويعمل فيها بعمل الراغبين، إنْ أُعطي منها لم يشبع وإنْ مُنِعَ منها لم يقنع...، إن استغنىٰ بطر وفتن وإن افتقر قنط ووهن، يقصر إذا عمل ويبالغ إذا سأل، إنْعرضت له شهوة أسلف المعصية وسوَّف التوبة، وإنْ عرته محنة انفرج عن شرائط الملَّة...، ينافس فيما يفنىٰ ويسامح فيما يبقىٰ، يرىٰ الغنم مغرماً والغرم مغنماً...»(2)

ويقول عَلَيه اَلسَلام في صفة المؤمن: «المؤمن يرغب فيما يبقىٰ ويزهد فيما يفنىٰ»(3)

القانون الرابع: الإيثار في مواضعه، وذلك فيما يمكن للفرد أنْ يُقدِّمه ممَّا لا يتركه هو أو أحداً ممَّن تجب نفقته عليه في حرج، فإنَّ ذلك من شأن المؤمن، وهو خُلُق من شأنه أنْ يفتح آفاقاً واسعة للتكامل، وهو أحد أهمّ الصفات التي يلزم علىٰ المؤمنين أنْ يتَّصفوا بها.

ص: 104


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 48 و49).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 38 و39).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 26).

وقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «لا تكمل المكارم إلَّا بالعفاف و الإيثار»(1)

القانون الخامس: التكافل الاجتماعي مع الفقير، تطبيقاً لقول أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «إنَّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلَّا بما مُتِّع به غنيٌّ(2)، والله تعالىٰ سائلهم عن ذلك»(3)

* * *

ص: 105


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 540).
2- منع غنيٌّ (ن. خ).
3- نهج البلاغة (ج 4/ ص 78).

(17)هوية الانتماء للدِّين

هناك ثلاثة أُمور يلزم علىٰ من يريد التكامل الوجودي أنْ يُنفِّذها بشكل دقيق:

الأمر الأوَّل: المعرفة النظرية بالدِّين، والتي تتمُّ من خلال استعمال منافذ المعرفة لدىٰ الإنسان (الحواسّ والعقل)، بالاعتماد علىٰ مصادر المعرفة في الإسلام، وهي (القرآن والسُّنَّة).

الأمر الثاني: مطابقة العمل للمعرفة، بأنْ يكون سلوك الفرد الفقهي مطابقاً لما يريده الإسلام منه من خلال المعرفة التي اكتسبها بالدِّين.

الأمر الثالث: الانتماء إلىٰ الدِّين، وهذا هو ما نريد تسليط الضوء عليه.

وحتَّىٰ يتَّضح المقصود من الانتماء، نطرح السؤال التالي:

هل يكفي أنْ يتعرَّف الإنسان علىٰ النظام الإسلامي في أنْ يكون مسلماً؟

الجواب: من الواضح أنَّ مجرَّد المعرفة لا تكفي، فإنَّ الإيمان ليس مجرَّد الأقوال باللسان فقط، وهذا أمر واضح.

فهل يكفي أنْ تكون أعمال الفرد مطابقة لنظام الإسلام ليكون مؤمناً؟

والجواب: أنَّ هذا أيضاً لا يكفي، فإنَّ هناك من الكفّار مَنْ

ص: 106

يتَّصفون بالعديد من الصفات المرغوب فيها في الإسلام، كالصدق والأمانة ومساعدة المحتاج وما شابه، ولكنَّنا نحسُّ بالوجدان أنَّنا لا نُسمّيهم مسلمين لمجرَّد مطابقة بعض أعمالهم للإسلام.

إذن ما هو الشيء الذي به يصحُّ انطباق عنوان (المؤمن) علىٰ الفرد؟

الجواب: إنَّه الانتماء.

ولكن ما هو الانتماء؟

الجواب: لنضرب مثالاً يُوضِّح الفكرة:

لو كان هناك مهندس معماري عبقري في مجاله، وعنده من النظريات الهندسية ما لم يأتِ به أحد قبله، فهل يمكن أنْ نحسبه علىٰ (نقابة المهندسين) مثلاً أو أنْ نعتبره (منتسباً) في دائرة معيَّنة لمجرَّد كونه مهندساً بارعاً؟ أم أنَّه لا بدَّ من الانتساب العملي للنقابة أو الدائرة، بأنْ تصدر له (هوية نقابة) أو (كتاب تنسيب)؟

من الواضح جدًّا أنَّه من دون صدور كتاب تنسيب يشهد له بأنَّه ضمن هذه النقابة أو الدائرة، فإنَّه يبقىٰ بلا انتساب ولا انتماء، رغم امتلاكه للمعرفة، ورغم تطبيقه تلك المعرفة في بناء عمارات ناطحات للسحاب.

ونفس الكلام يُقال في الانتساب إلىٰ الدِّين، فإنَّ مجرَّد المعرفة والعمل المطابق لا يكفي في تحقيق الانتساب، بل لا بدَّ من أمر إضافي هي (الهوية الإيمانية)، ليكون المؤمن فعلاً داخلاً (بصورة رسمية إذا صحَّ التعبير) في الدِّين، وبالتالي، يكون تكامله شاملاً لكل العناصرالمهمَّة فيه.

أمَّا كيف يكون الفرد منتمياً إلىٰ الدِّين؟ وكيف يحصل علىٰ (هوية) الانتماء؟

ص: 107

فهذا ما يُحدِّده الدِّين نفسه.

فقد رسم الدِّين لنا العديد من ممارسات التي تكشف عن الانتماء إلىٰ الدِّين، وعلىٰ من يريد التكامل الأخلاقي أنْ يضع تلك الممارسات في حيِّز التنفيذ، وهي عديدة، نذكر منها التالي:

أوَّلاً: ضرورة الإقرار اللساني والقلبي بالدِّين وما جاء به.

قال تعالىٰ: ]قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلىٰ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسىٰ وَعِيسَىٰ وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 136[ (البقرة: 136).

وورد: «قولوا: لا إله إلَّا الله تُفلحوا»(1)

ثانياً: ضرورة قصد القربة إلىٰ الله تعالىٰ في الأعمال العبادية، فإنَّ عقد القلب علىٰ أنْ يكون العمل بنيَّة التقرُّب إلىٰ الله تعالىٰ يُلوِّن العمل بلون آخر غير اللون الذي يكون فيه إذا صدر من دون نيَّة القربة.

ثالثاً: الاهتمام بأُمور المسلمين، وعدم غضِّ النظر عمَّا يُصلِح حالهم، فعن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «من أصبح لا يهتمُّ(2) بأُمور المسلمين فليسبمسلم»(3)

ص: 108


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 1/ ص 51).
2- في شرح أُصول الكافي لمولىٰ محمّد صالح المازندراني (ج 9/ ص 30): أي لا يعزم دفع الأذىٰ والكرب عنهم ولا يقصد إعانتهم في أمر الدنيا والآخرة وقضاء حوائجهم وإيصال الخير إليهم وإرشادهم إلىٰ مصالحهم.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 163/ باب الاهتمام بأُمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم/ ح 1)؛ وعلَّق المولىٰ محمّد صالح المازندراني في شرح أُصول الكافي (ج 9/ ص 29) بما نصُّه: أي ليس بكامل في الإسلام ولا يُعبأ بإسلامه، والمراد بأُمورهم أعمّ من الأُمور الدنيوية والأُخروية، ولو لم يقدر عليها فالعزم حسنة يُثاب به وكمال له.

وعنه 9: «من ردَّ عن قوم من المسلمين عادية [ماءً](1) أو ناراً، وجبت له الجنَّة»(2)

وعن المعلّىٰ بن خُنَيس، قال: سألت أبا عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، فقلت: ما حقُّ المؤمن علىٰ المؤمن؟ فقال: «إنّي عليك شفيق، أخاف أنْ تعلم ولا تعمل، وتُضيِّع ولا تتحفَّظ».

قال: قلت: لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله.

قال عَلَيه اَلسَلام : «للمؤمن علىٰ المؤمن سبع حقوق واجبات ليس منها حقٌّ إلَّا واجب علىٰ أخيه إنْ ضيَّع منها حقًّا أخرج من ولاية الله ويترك طاعته ولم يكن له فيها نصيب:

أيسرُ حقٍّ منها أنْ تُحِبَّ له ما تُحِبُّ لنفسك، وأنْ تكره له ما تكره لنفسك.

والثاني: أنْ تعينه بنفسك، ومالك، ولسانك، ويدك، ورجلك.والثالث: أنْ تتَّبع رضاه، وتجتنب سخطه، وتطيع أمره.

والرابع: أنْ تكون عينه ودليله ومرآته.

والخامس: أنْ لا تشبع ويجوع، وتروي ويظمأ، وتلبس ويعرىٰ.

والسادس: إنْ كان لك خادم وليس له خادم، ولك امرأة تقوم عليك وليس له امرأة تقوم عليه، أنْ تبعث خادمك يغسل ثيابه ويصنع طعامه ويُمهِّد فراشه.

والسابع: أنْ تبرَّ قسمه، وتعود مريضه، وتشهد جنازته، وإنْ

ص: 109


1- لفظة (ماء) ليست في أكثر النسخ، و(العادية) المتجاوز من الحدِّ، والتاء للمبالغة.
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 164/ باب الاهتمام بأُمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم/ ح 8).

كانت له حاجة فبادر إليها مبادرة، ولا تُكلِّفه أنْ يسألك، فإذا فعلت ذلك وصلت بولايتك ولايته وولايته بولايتك»(1)

وطبعاً، أكثر من يُطالب بهذا الأمر هم الذين بيدهم زمام الأُمور ومقاليد الإدارة والحكم، وقد كان أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام علىٰ مستوىٰ عالٍ جدًّا في هذا الجانب من الاهتمام بأُمور المسلمين، الأمر الذي بيَّنه عَلَيه اَلسَلام بعبارة غاية في الروعة، فقال عَلَيه اَلسَلام : «ولو شئت لاهتديت الطريقَ إلىٰ مصفىٰ هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القزِّ، ولكن هيهاتَ أنْ يغلبني هواي ويقودني جشعي إلىٰ تخيُّر الأطعمة، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أوَ أبيتُ مِبطاناً وحولي بطونٌ غرثىٰ وأكباد حرّىٰ؟ أوَ أكون كما قال القائل:

وحسبُك داءً أنْ تبيت ببطنةٍ *** وحولَك أكبادٌ تحنُّ إلىٰ القِدِّ

أأقنعُ من نفسي بأنْ يقال: أمير المؤمنين، ولا أُشاركهم في مكاره الدهر، أوْ أكون أُسوة لهم في جشوبة العيش؟!»(2)

رابعاً: الدفاع عن الإسلام والمسلمين ما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً، سواء كان الدفاع عنهم بالجهاد في سوح القتال، أو بردِّ الغيبة عنهم، وما شابه، فقد روي أنَّه نال رجل من عِرض رجل عند النبيِّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله فردَّ رجل من القوم عليه، فقال رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «من ردَّ عن عِرْض أخيه كان له حجاباً من النار»(3)

وروي أنَّه نظر أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام إلىٰ رجل يغتاب رجلاً عند

ص: 110


1- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 226/ ح 625).
2- نهج البلاغة (ج 3/ ص 71 و72).
3- أمالي الشيخ المفيد (ص 338).

الحسن ابنه عَلَيه اَلسَلام ، فقال: «يا بنيَّ، نَزِّهْ سمعك عن مثل هذا، فإنَّه نظر إلىٰ أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك»(1)

خامساً: صياغة السلوك الخارجي وفق المنظومة الكاشفة عن الانتماء، الأمر الذي حدَّدته بعض الروايات الشريفة، ومنها ما روي عن الإمام الحسن المجتبىٰ عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «... شيعة عليٍّ عَلَيه اَلسَلام هم الذين لا يبالون في سبيل الله أوقع الموت عليهم أو وقعوا علىٰ الموت، وشيعة عليٍّ عَلَيه اَلسَلام هم الذين يُؤثِرون إخوانهم علىٰ أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وهم الذين لا يراهم الله حيث نهاهم ولا يفقدهم من حيث أمرهم، وشيعة عليٍّ عَلَيه اَلسَلام هم الذين يقتدون بعليٍّ في إكرام إخوانهم المؤمنين»(2)وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عَلَيهما اَلسَلام أنَّه قال: «امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظُهم لها عند عدوِّنا، وإلىٰ أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها»(3)

وعنه عَلَيه اَلسَلام : «... فإنَّما شيعة عليٍّ من عفَّ بطنه وفرجه، واشتدَّ جهاده، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أُولئك فأُولئك شيعة جعفر»(4)

* * *

ص: 111


1- الاختصاص للشيخ المفيد (ص 225).
2- التفسير المنسوب للإمام العسكري عَلَيه اَلسَلام (ص 319).
3- الخصال للشيخ الصدوق (ص 103/ ح 62).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 233/ باب المؤمن وعلاماته وصفاته/ ح 9).

(18)الدقَّة في تفعيل الاختيار

خلق الله تعالىٰ الإنسان وجعله موجوداً مختاراً يفعل بإرادته، وليس هو كالآلة العمياء، وهذا أمر وجداني لا يمكن التشكيك فيه من عاقل.

ثمّ إنَّ السبب الرئيسي وراء كون الإنسان مسؤولاً عن أفعاله هو كونه مختاراً، وإلَّا - أي لو كان كالآلة - فلا يمكن أنْ يُحكَم عليه بكونه مسؤولاً عمَّا يصدر عنه من أفعال، ولكن الاختيار هو الذي كان وراء ذلك، وبالتالي، صحَّ عقاب المخطئ.

والطريق إلىٰ الله تعالىٰ لا بدَّ فيه من تفعيل الاختيار بصورة صحيحة، إذا ما جعلنا التالي في الحسبان:

أوَّلاً: أنَّ الإنسان في الوقت الذي جُهِّز بعقل هو أيضاً جُهِّز بشهوات، وكما أنَّ العقل يدفع الإنسان نحو فعل الصواب فإنَّ الشهوات تدفعه نحو إشباع نهمها بأيِّ طريق كان، وهذا يعني حدوث نزاعات كثيرة بين العقل والشهوات في مقام الفعل، أو قل: في مقام تفعيل الإرادة.

ثانياً: أنَّ الرغبات في الحياة أكثر من الفُرَص، وبالتالي قد تحدث تصادمات في مقام تحصيل الفرصة، وهو أمر يُؤدّي أيضاً إلىٰ حدوث تنازع في داخل النفس الإنسانية في مقام تفعيلالإرادة.

ص: 112

ثالثاً: قد تحصل نزاعات وخصومات بين الأفراد لسبب ولآخر، وبالتالي قد يعمل كلُّ فردٍ علىٰ أنْ يكون هو الطرف المنتصر، وهنا أيضاً يأتي دور تفعيل الإرادة في اختيار طريق ما.

رابعاً: قد يضطرُّ الفرد إلىٰ التضحية بأمر معيَّن، إمَّا لاضطراره إلىٰ ذلك (كمن يضطرُّ للتضحية بعضو من أعضاء بدنه ليحافظ علىٰ باقي بدنه)، أو لأنَّه بتضحيته بأمر ما يربح أمراً آخر، وهنا أيضاً يأتي دور الإرادة في الاختيار الصحيح.

وفي كلِّ هذه الحالات وغيرها تكون الكلمة الأخيرة للإرادة، وهي بيد الإنسان إلىٰ آخر لحظة.

وفي طريق التكامل الأخلاقي أيضاً يكون الدور الأهمّ هو لتلك الأداة الإنسانية: الإرادة.

ولذلك نجد في النصوص الدِّينية إشارات عديدة إلىٰ ضرورة أنْ يكون المؤمن قادراً علىٰ التحكُّم بإرادته، بحيث يجعلها تُوجِّهُ فعلَه نحو الكمال، وإلىٰ ضرورة ضبط الاختيار وعدم تركه من دون قيادة صحيحة.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، يلزم علىٰ المؤمن أنْ يضبط اختياره وإرادته وفق التالي:

أوَّلاً: اختيار طريق الهدىٰ مع المعرفة والتذكُّر، وعدم الميل إلىٰ طريق الضلال أبداً.

من دعاء لمولانا الإمام السجّاد عَلَيه اَلسَلام : «... وَمَنْ أَبْعَدُ غَوْراً فِيالْبَاطِلِ، وَأَشَدُّ إقْدَاماً عَلَىٰ السُّوءِ مِنّي حِينَ أَقِفُ بَيْنَ دَعْوَتِكَ وَدَعْوَةِ الشَّيْطَانِ، فَأَتَّبعُ دَعْوَتَهُ عَلَىٰ غَيْرِ عَمىٰ مِنّي فِي مَعْرِفَة بِهِ، وَلَا نِسْيَان مِنْ

ص: 113

حِفْظِي لَهُ، وَأَنَا حِينَئِذٍ مُوقِنٌ بِأَنَّ مُنْتَهَىٰ دَعْوَتِكَ إلَىٰ الْجَنَّةِ، وَمُنْتَهَىٰ دَعْوَتِهِ إلَىٰ النَّارِ...»(1)

فهذا النصُّ واضح جدًّا في أنَّ الإنسان عندما يقف في مفترق طُرُق تُؤدّي إلىٰ هداية أو ضلال، فإنَّه هو بإرادته يختار طريقاً معيَّناً، وبالتالي، ليس من الصحيح أنْ يرمي الفرد إثم جريمته أو معصيته علىٰ أمر خارج عن ذاته، فالفعل منك وإليك ولا غير.

ثانياً: اختيار الفعل الأكمل لو دار الأمر بين فعلين كلاهما فيه خير وكمال، وأنْ يكون كالطالب الذي يمتحن، الذي يعمل علىٰ اختيار الأسئلة التي يكون لجوابها درجة أكثر من غيره، ليحصل علىٰ تراكم للدرجات أكثر، أو كالتاجر الذي يبحث عن التجارة التي تدرُّ عليه المال أكثر، وهكذا المؤمن، عليه أنْ يختار من الأعمال ما تكون ثمرته أعظم وأنفع له، وإنْ كان العمل الآخر خيراً أيضاً.

وقد روي عن الإمام الباقر عَلَيه اَلسَلام في صفة النبيِّ الأكرم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه: ما ورد عليه أمران قطُّ كلاهما لله رضىٰ، إلَّا أخذ بأشدّهما(2)علىٰ بدنه»(3)

ولقد مُدِحَ عمّار بن ياسر لاتِّصافه بهذه الصفة أيضاً، كما روي

ص: 114


1- الصحيفة السجّادية (ص 82/ الدعاء رقم 16).
2- وعلَّق المولىٰ محمّد صالح المازندراني في شرح أُصول الكافي (ج 12/ ص 93 و94) بقوله: حملاً لنفسه القدسية علىٰ الرياضة، والانحراف عن الكسل والراحة، وطلباً للأفضل كما تقرَّر «أفضل الأعمال أحمزها»، وروي: «أفضل الأعمال ما أكرهت عليه نفسك»، وفيه تنبيه علىٰ أنَّه لا بدَّ من تذليل النفس المائلة إلىٰ الراحة بحمل الأشقّ من الطاعات عليها لتعتاد في الخيرات، ويسهل لها سلوك سبيل الطاعات، حتَّىٰ ترتقي إلىٰ غاية الكمالات وتدرك أرفع درجة المثوبات.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 8/ ص 130/ في زهد النبيِّ عَلَيه اَلسَلام .../ ح 100).

ذلك عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «ما خُيِّر عمّار بن ياسر بين أمرين إلَّا اختار أشدّهما»(1)

ثالثاً: إذا كان المؤمن مخيَّراً بين فعلين يرجع أثرهما لغيره، وكان الأمر بيده، فعليه أنْ يختار أهونهما علىٰ صاحبه وأرفقهما به، ولا يُحمِّله الأصعب وإنْ كان قادراً علىٰ تحمُّله. ومن ذلك مسألة استقصاء الحقِّ، فإذا كان لك حقٌّ علىٰ غيرك، فاعمل علىٰ أنْ تكون هيِّناً ليِّناً معه، رغم قدرتك علىٰ أخذ الأكثر، وليضع المؤمن في باله أنَّ لله تعالىٰ عليه حقوقاً كثيرة، وأنَّه يُحِبُّ أنْ يرأف به الباري جلَّ وعلا، وأنْ يُخفف عليه أثناء المطالبة.

فلو أساء إليك أحدهم، فيمكنك أخذ حقِّك، ولكن تذكَّر قوله تعالىٰ: ]وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَىٰ اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 40[ (الشورىٰ: 40)، حينها سيكون تفعيلك لاختيارك بشكل آخر.

روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال: «إذا أُوقف العباد نادىٰ منادٍ: ليقم من أجره علىٰ الله وليدخل الجنَّة»، قيل: من ذا الذيأجره علىٰ الله؟ قال: «العافون عن الناس، فقام كذا وكذا ألفاً فدخلوا الجنَّة بغير حساب»(2)

وهكذا لو كان لك حقٌّ علىٰ أخيك، فكن كما أراد الأئمَّة عَلَيهم اَلسَلام ، حيث روي أنَّ أبا عبد الله عَلَيه اَلسَلام قال لرجل شكاه بعض إخوانه: «ما لأخيك فلان يشكوك؟»، فقال: أيشكوني أنِ استقصيت حقّي؟! قال:

ص: 115


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 490/ ح 667/9).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 374/ ح 7009).

فجلس مغضباً ثمّ قال: «كأنَّك إذا استقصيت لم تُسئ! أرأيت ما حكىٰ الله تبارك وتعالىٰ: ]وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ 21[ [الرعد: 21]، أخافوا أنْ يجور عليهم الله؟! لا والله ما خافوا إلَّا الاستقصاء، فسمّاه الله سوء الحساب، فمن استقصىٰ فقد أساء»(1)

* * *

ص: 116


1- تفسير العيّاشي (ج 2/ ص 210).

(19)الإيمان بالكتاب كلِّه

إنَّ الدِّين الإسلامي عبارة عن منظومة متكاملة، تعالج مختلف المسائل الحياتية عقائدياً وفقهياً وأخلاقياً، وحتَّىٰ يكون المؤمن أهلاً لحمل هذا الدِّين عليه أنْ يلتزمه بكلِّ مفرداته، ولا يُبعِّض في التديُّن.

إلَّا أنَّ القرآن الكريم يحكي لنا عن حالة يُمكِن أنْ نُطلِق عليها حالة (الفصام في الشخصية الإسلاميَّة)، وهي حالة انتقائية قد يتَّخذها بعض من يدَّعي التديُّن، بأنْ يأخذ من الدِّين بعضاً ويترك بعضاً آخر، لسبب وآخر، فقد يأخذ ما يتماشىٰ مع مصلحته الشخصية ويترك ما يتعارض معها، وقد يأخذ ما يعتبره موافقاً لما يؤمن به من متبنّيات مُسبقة ويرفض ما لا يتوافق معها، وقد يأخذ ما يتوافق مع الحسِّ ويرفض ما لا يعتمد عليه، وقد يأخذ ما يتوافق مع أحكامه العرفية ويرفض ما دونها، وهكذا.

وفي الحقيقة، هذه حالة مَرَضية يلزم علىٰ المؤمن أنْ يقي نفسه منها ما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً، بل هي أمر لازم عليه ولا رخصة فيه.

ومن لا يلتزم بالدِّين كُلّاً واحداً، يكن ممَّن قال عنهم القرآن الكريم: ]أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ[ (البقرة: 85).

ولكن مع الالتفات إلىٰ أنَّ هذه الحالة ليست دائماً تُخرج الإنسان عن الإيمان إلىٰ الكفر، فقد تُخرجه كذلك (كما إذا كفر ببعض أُصول

ص: 117

الدِّين)، وقد تُخرجه إلىٰ الفسق (كما إذا ترك بعض الفروع مع الاعتراف بها)، وقد تُخرجه إلىٰ عمَّا لا ينبغي للمؤمن أنْ يخرج عنه، كما إذا ترك بعض الصفات الأخلاقية.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فإنَّ التبعيض في الالتزام بمفردات الدِّين ممَّا يلزم علىٰ من يريد التكامل الأخلاقي الابتعاد عنه، لأنَّ كلَّ مفردة من مفردات الدِّين - سواء كانت عقائدية أو فقهية أو سلوكية - لها نصيب في التكامل الأخلاقي، وترك أيِّ واحدةٍ منها يحرم المؤمن من فرصة للتكامل.

وحتَّىٰ نكون علىٰ بيِّنة من الأمر نذكر بعض الأُمور التي يحصل فيها (تبعيض) في التديُّن، الأمر الذي يعني ضرورة الحذر منها، ومن تلك الأُمور التالي:

الأمر الأوَّل: لا شكَّ أنَّ العلم شرف عظيم، وأنَّه كما قال رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «تعلَّموا العلم فإنَّ تعلُّمه حسنة، ومدراسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة...»(1)

ولكن العلم في الوقت الذي هو شرف، هو مسؤولية عظيمة أيضاً، ومن مسؤوليته العمل به وضرورة نشره لمن لا يعلم به، وإلَّا فسيكون وبالاً علىٰ الإنسان.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال:«ما أخذ الله ميثاقاً من أهل الجهل بطلب تبيان العلم، حتَّىٰ أخذ ميثاقاً من أهل العلم ببيان العلم للجُهّال، لأنَّ العلم كان قبل الجهل»(2)

ص: 118


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 522).
2- أمالي الشيخ المفيد (ص 66).

الأمر الثاني: أنَّ القرآن الكريم يُعطي حدًّا واضحاً للصلاة بقوله تعالىٰ: ]وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ[ (العنكبوت: 45)، فكمال الصلاة في نهيها عن الفحشاء والمنكر، وبالتالي، فعلىٰ المؤمن أنْ يجعل من صلاته حاجزاً دون أيِّ منكر أو معصية، وخَرْقُ هذا الحاجب بفعل ما لا يجوز، يعني أنَّ الصلاة لم تكن علىٰ الحال التي أرادها الله تعالىٰ لها، وبالتالي قد تنقلب من كونها (قربان كلِّ تقي)(1) إلىٰ ما ذكره النبيُّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله حيث روي أنَّه قال: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من الله إلَّا بُعداً»(2)

الأمر الثالث: أنَّ الله تعالىٰ فرض الصوم وجعله جُنَّة من النار، ولكن الصوم ليس الانقطاع عن الطعام والشراب فقط، كما يفعله البعض، وإنَّما هو طريق لاجتناب كلِّ معصية، ولفعل كلِّ طاعة، وقد بيَّنت ذلك مولاتنا الزهراء عَلَيهم اَلسَلام بما روي عنها أنَّها قالت: «ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه»(3)

الأمر الرابع: لا شكَّ أنَّ البشاشة والابتسامة من الأُمور التيتنبغي للمؤمن، فعن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «من تبسَّم في وجه أخيه كانت له حسنة»(4)

والذي ينبغي عليه أنْ يكون المؤمن هو ما قاله أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً»(5)

ص: 119


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 34).
2- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 79/ ص 198).
3- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1/ ص 268).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 205 و206/ باب في إلطاف المؤمن وإكرامه/ ح 1).
5- نهج البلاغة (ج 4/ ص 78 و79).

ولكن البعض مع الأسف، رغم التزامه بهذا الأمر مع أصدقائه وزملائه، إلَّا أنَّه إذا دخل إلىٰ بيته لم يرَ أهله منه إلَّا وجهاً عبوساً، ولساناً يقطر قمطريراً! ولعلَّه يصل إلىٰ ما روي عن الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «إنَّ الرجل ليُدرك بالحِلْم درجة الصائم القائم، وإنَّه ليُكتَب جبّاراً ولا يملك إلَّا أهل بيته»(1)

بينما المفروض أنْ يكون لأهل بيته النصيب الأوفر من هذا الخُلُق الطيِّب، وكما روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»(2)

وعنه صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «عيال الرجل أُسراؤه، وأحبّ العباد إلىٰ الله عَزَّ وَجَل أحسنهم صنعاً إلىٰ أُسرائه»(3)

الأمر الخامس: لا شكَّ أنَّ الكدَّ علىٰ العيال من الأُموراللازمة علىٰ المؤمن، وأنَّ «الكادّ علىٰ عياله كالمجاهد في سبيل الله»(4)

ولكن علىٰ المؤمن أنْ يكون كدُّه بالحدِّ الشرعي من جميع جهاته، والتي يمكن اختصارها بأنْ يكون اكتسابه للمال من حلال، وصرفه للمال في الحلال أيضاً، واختلال أحد هذين الأمرين يعني خللاً في الشخصية الإيمانية. وقد روي عن أبي جعفر عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «إنَّ الرجل إذا أصاب مالاً من حرام لم يُقبَل منه حجّ، ولا عمرة، ولا صلة رحم»(5)

ص: 120


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 129/ ح 5809).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 555/ ح 4908).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 555/ ح 4909).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ص 88/باب من كدَّ علىٰ عياله/ح 1)، عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام .
5- أمالي الشيخ الطوسي (ص 680/ ح 1447/26).

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فإنَّ القاعدة تقتضي أنْ يلتزم المؤمنُ الدِّينَ من جميع أطرافه، وأنْ يلتزم جميع حدوده، وأيُّ خلل معرفي أو تطبيقي فيه يُؤدّي إلىٰ تأخُّره في تحصيل الكمال، أو ربَّما تراجعه إلىٰ الوراء.

* * *

ص: 121

(20)كن محسناً

يواجه الإنسان في حياته الدنيا الكثير من مفرداتها الصعبة، والتي تتطلَّب منه موقفاً معيَّناً، وقد يكون له الحقُّ في الكثير من الخصومات فيها، فما هو التعامل الذي ينبغي أنْ يكون عليه المؤمن؟ وكيف يجعل من تعامله مع الناس مركباً من مراكب الكمال وسُلَّماً إليه؟

إنَّ القرآن الكريم يُعطي القاعدة الأخلاقية التربوية في ذلك، وهي قاعدة: (كن محسناً).

وخطاب القرآن في ذلك جاء بصيغتين:

الصيغة الأُولىٰ: بيان أنَّ التصرُّف الصحيح من المؤمن مع عموم الناس هو الإحسان، قال تعالىٰ: ]وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً[ (البقرة: 83)، التي ورد في تفسيرها عن أبي جعفر عَلَيه اَلسَلام : «قولوا للناس أحسن ما تُحِبُّون أنْ يُقال فيكم»(1)

الصيغة الثانية: بيان أنَّ علىٰ من يدَّعي أنَّه عبد لله تعالىٰ، أو من يريد أنْ يكون عبداً لله تعالىٰ، أنْ يتعامل وفق الأحسن، وليس مجرَّدالحسن، قال تعالىٰ: ]وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[ (الإسراء: 53).

ولهذه القاعدة تطبيقات عديدة، نذكر منها التالي:

التطبيق الأوَّل: الجدال، فعندما يحصل جدال ونقاش في قضيَّة

ص: 122


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 165/ باب الاهتمام بأُمور المسلمين.../ ح 10).

معيَّنة، سواء كانت علمية أو غيرها، فيما يتعلَّق بإثبات الحقِّ وما شابه، فليس المطلوب من المؤمن التعصُّب والتيبُّس، بل المطلوب هو تفعيل قاعدة (كن محسناً) من خلال ما رسمه الباري جلَّ وعلا بقوله: ]ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ[ (المؤمنون: 96)، وبقوله تعالىٰ: ]وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[ (العنكبوت: 46).

والنتيجة المرجوَّة من هذا التعامل حينها هو ما قاله تعالىٰ: ]وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34[ (فُصِّلت: 34).

التطبيق الثاني: عندما يتعرَّض المؤمن إلىٰ إساءة من غيره، فمن الواضح أنَّ الحقَّ يقول لك: خذ الصاع بالصاع والكيل بالكيل، ولكن الأفضل من ذلك هو أنْ تكون محسناً، تطبيقاً لقوله تعالىٰ: ]وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ 126[ (النحل: 126)، ولقوله تعالىٰ: ]وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَىٰ اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 40[ (الشورىٰ: 40).

وهذا هو ما دأب عليه أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام ، فكانوا كثيراً ما يعفون عمَّن أساء لهم.

قال الواقدي: كان هشام بن إسماعيل يؤذي عليَّ بن الحسين في إمارته، فلمَّا عُزِلَ أمر به الوليد أنْ يُوقَف للناس، فقال: ما أخاف إلَّا من عليِّ بن الحسين! وقد وقف عند دار مروان، وكان عليٌّ قد تقدَّم إلىٰ خاصَّته ألَّا يعرض له أحد منكم بكلمة، فلما مرَّ ناداه هشام: ]اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ[ [الأنعام: 124](1)

ص: 123


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ص 301)؛ تاريخ الطبري (ج 5/ص 217).

وزاد ابن فيّاض في الرواية في كتابه: إنَّ زين العابدين أنفذ إليه وقال: «انظر إلىٰ ما أعجزك من مال تُؤخَذ به فعندنا ما يسعك، فطب نفساً منّا ومن كلِّ من يطيعنا، فنادىٰ هشام: ]اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ[(1)

التطبيق الثالث: علىٰ المؤمن أنْ يتعامل مع والديه بالحسنىٰ، مهما كانت الحال التي عليها الوالدان، فإنَّ لهما الحقَّ علىٰ الولد بأنْ يكون محسناً لهما، لقوله تعالىٰ: ]وَإِنْ جاهَداكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً[ (لقمان: 15).

عن زكريا بن إبراهيم، قال: كنت نصرانياً، فأسلمت وحججت، فدخلت علىٰ أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، فقلت: إنّي كنت علىٰ النصرانية وإنّي أسلمت...، وإنَّ أبي وأُمّي علىٰ النصرانية وأهل بيتي، وأُمّي مكفوفة البصر، فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟ فقال: «يأكلون لحم الخنزير؟»، فقلت: لا، ولا يمسُّونه، فقال: «لا بأس،فانظر أمَّك فبرها، فإذا ماتت فلا تكلها إلىٰ غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها...»، فلمَّا قدمت الكوفة ألطفت لأُمّي وكنت أُطعمها وأفلي(2) ثوبها ورأسها وأخدمها، فقالت لي: يا بنيَّ، ما كنت تصنع بي هذا وأنت علىٰ ديني، فما الذي أرىٰ عنك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟ فقلت: رجل من ولد نبيِّنا أمرني بهذا، فقالت: هذا الرجل هو نبيٌّ؟ فقلت: لا ولكنَّه ابن نبيٍّ، فقالت: يا بنيَّ، إنَّ هذا نبيٌّ، إنَّ هذه وصايا الأنبياء، فقلت: يا أُمَّه، إنَّه ليس يكون بعد نبيِّنا نبيٌّ ولكنَّه ابنه، فقالت: يا بنيَّ دينك خير دين، اعرضه عليَّ،

ص: 124


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 301).
2- في القاموس: فلا رأسه يفليه كيفلوه: بحثه عن القُمَّل كفلاه. (من هامش المصدر).

فعرضته عليها، فدخلت في الإسلام، وعلَّمتها، فصلَّت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثمّ عرض لها عارض في الليل، فقالت: يا بنيَّ، أعد عليَّ ما علَّمتني، فأعدته عليها، فأقرَّت به وماتت، فلمَّا أصبحت كان المسلمون الذين غسَّلوها، وكنت أنا الذي صلَّيت عليها ونزلت في قبرها(1)

التطبيق الرابع: عندما تكون وليًّا أو قيِّماً علىٰ يتيم، فعليك أنْ تتعامل معه بكلِّ إحسان، إذ لا شكَّ أنَّ اليتيم يمرُّ بظروف نفسية صعبة جدًّا، قد تُؤدّي به إلىٰ أنْ يُسيء التصرُّف في بعض الأحيان، فالمطلوب حينها من المؤمن أنْ لا ينهره ولا يتعامل معه بقسوة، فالإحسان هنا مطلوب جدًّا جدًّا، قال تعالىٰ: ]فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ 9[ (الضحىٰ: 9).

وقد روي عن الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «إنَّ في الجنَّة داراً يقاللها: دار الفرح، لا يدخلها إلَّا من فرَّح يتامىٰ المؤمنين»(2)

التطبيق الخامس: عندما يأتيك سائل، فإنْ أعطيته فبها وإلَّا فردَّه بماء وجهه ردًّا جميلاً، فإنْ لم تُحسِن له بمالك فأحسِن له بقولك، وقد قال تعالىٰ: ]وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ 10[ (الضحىٰ: 10).

وقد كان من صفات نبيِّنا الأكرم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه ما سأله أحد حاجة إلَّا رجع بها أو بميسور من القول(3)

وفي نفس الوقت، عليك عندما تُقرِّر الإعطاء، أنْ تُعطي بإحسان أيضاً، ولا تُرفِق عطيَّتك بوابل من الكلام المؤذي للسائل، فإنَّ الله تبارك

ص: 125


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 160 و161/ باب البرِّ بالوالدين/ ح 11).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 170/ ح 6008).
3- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 82).

وتعالىٰ يقول: ]قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىٰ وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ 263[ (البقرة: 263).

وقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «ولبعضُ إمساكك عن أخيك مع لطف، خيرٌ من بذلٍ مع جَنَف»(1)

* * *

ص: 126


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 81)؛ والجنف: الجور، ربَّما كان الامساك مع حسن الخُلُق خير من البذل مع الجور. (من هامش المصدر).

(21)الحذر من آفات الفضائل

تحصيل الفضائل والكمالات هدف أسمىٰ للمؤمن في هذه الحياة، وهو في سعيه لذلك يواجه العديد من المشاكل والصعوبات، وسترافقه تلك المشاكل أنّىٰ كان في طريق التكامل. علىٰ أنَّه يُستفاد من الروايات الشريفة أنَّ الصعوبات تتزايد طردياً مع تحصيل الكمالات والفضائل، لذلك كان أكثر الناس بلاءً الأنبياء عَلَيهم اَلسَلام ، ثمّ الأمثل فالأمثل(1)

الملاحظة المهمَّة هنا، هي أنَّ هناك بعض المشاكل و(الفيروسات الأخلاقية) من النوع الذي يترافق مع الفضائل نفسها. وبعبارة أُخرىٰ أوضح: إنَّ الفضائل في الوقت الذي هي تزيد من كمال المؤمن، هي تُفرز في بعض الأحيان آفات ورذائل سلوكية، أي إنَّ هناك رذائل تنبع من نفس الفضائل، الأمر الذي يعني الحذر كلَّ الحذر من السماح لتلك الفضائل بأنْ تُفرز تلك الرذائل، وهذا من عجائب النفس الإنسانية، التي تُولِّد من الفضيلة رذيلة!وحتَّىٰ نكون علىٰ بيِّنة من هذا الأمر نذكر الأُمور التالية:

الأمر الأوَّل: لا شكَّ أنَّ العلم فضيلة، وأنَّ للعالم منزلة عند الله تعالىٰ، ولكن العلم في بعض الأحيان يكون سبباً للتحاسد والتكبُّر،

ص: 127


1- في الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 166/ ح 460): سُئِلَ النبيُّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: أيُّ الناس أشدّ بلاءً؟ قال: «الأنبياء، ثمّ الأوصياء، ثمّ الصالحون، ثمّ الأمثل فالأمثل».

وربَّما يصل الأمر إلىٰ محاولة تسقيط الآخر من أجل أنْ يُبرِز الشخص علمه.

لذلك، علىٰ من يسير في طريق تحصيل العلم أنْ يبقىٰ متشبِّثاً بجهله! أي أنْ يضع في حسبانه دوماً وأبداً أنَّه مهما كان عنده من المعلومات المخزونة في ذهنه فإنَّ هناك من هو أعلم منه، وأنَّه مهما اكتسب من المعارف فما لم يُقيِّدها بالعمل الصالح فإنَّها لن تنفعه، وحسبك بإبليس الذي ما كان يعوزه العلم ولكن علمه لم ينفعه حينما لم يتخلَّ عن تكبُّره، ومن هنا قال أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستَّة آلاف سنة لا يُدرىٰ أمن سنيِّ الدنيا أم سنيِّ الآخرة عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم علىٰ الله بمثل معصية؟!»(1)

الأمر الثاني: العبادة معراج للكمال، ولن ينال أحد كمالاً من دون العبادة، وكلَّما أكثرتَ من العبادة لله تعالىٰ كلَّما أسرعت في مركب الكمال، ولكنَّها قد تُفرز غروراً يُصيب العبد، الأمر الذي قد يجعله يعمل من أجل أنْ يسود الناس، ويحصل علىٰ التكريم والاحترام منهم، أي إنَّه قد يُشرِك في عبادته غير الله تعالىٰ، فيدبُّ إليه الرياء من طرفٍ خفيٍّ، وإذا به لا يحصل من عبادته إلَّا علىٰالتعب والنصب!

فعن سيِّد العابدين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «حقُّ الله الأكبر عليك أنْ تعبده ولا تُشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك علىٰ نفسه أنْ يكفيك أمر الدنيا والآخرة»(2)

ص: 128


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 138 و139).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 2/ص 618 و619/باب الحقوق/ح 3214).

وفي نفس الوقت روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «إنَّ أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر»، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله عَزَّ وَجَل يوم القيامة إذا جازىٰ العباد بأعمالهم: اذهبوا إلىٰ الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم ثواب أعمالكم؟»(1)

بل قد يصل الأمر ببعض العبّاد أنْ يمنَّ علىٰ الله تعالىٰ بعبادته! الأمر الذي حكاه القرآن الكريم بقوله عزَّ من قائل: ]يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 17[ (الحجرات: 17).

عن عليِّ بن سويد، عن أبي الحسن عَلَيه اَلسَلام ، قال: سألته عن العُجب(2) الذي يُفسِد العمل، فقال: «العُجب درجات: منها أنْ يُزيَّن للعبد سوءُ عمله فيراه حسناً، فيُعجبه ويحسب أنَّه يُحسن صنعاً، ومنها أنْ يؤمن العبد بربِّه فيمنَّ علىٰ الله عَزَّ وَجَل، ولله عليه فيهالمنُّ»(3)

الأمر الثالث: العطاء، والكرم، والبذل، والسخاء، صفات يُحِبُّها الله تعالىٰ، ويُحِبُّ أن يراها في عبده، ولكنَّها في بعض الأحيان تكون سبباً لرذيلة (المنِّ)، وحينها لن تنفع الإنسان، وسيبذل الإنسان ماله ويكون حسرةً عليه، فلا هو حصل علىٰ ماله، ولا هو حصل علىٰ ثواب بذله!

بل قد يتعوَّد الإنسان العطاء، ولكنَّه يصل إلىٰ مرحلة يستحيي

ص: 129


1- عدَّة الداعي لابن فهد الحلّي (ص 214).
2- العُجب: الزهو، ورجل معجب من هو بما يكون منه حسناً أو قبيحاً يزهو، وفي العبادة استعظام العمل الصالح واستكباره والابتهاج والإدلال به، وأنْ يرىٰ نفسه خارجاً عن حدِّ التقصير، وهذا هو العُجب المفسد للعبادة، لأنَّه حجاب للقلب عن الربِّ ومانع له عن رؤية منِّه ونِعَمه وتوفيقه. (من هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 313/ باب العُجب/ ح 3).

فيها من عدم العطاء حتَّىٰ لا يقع في حرج مع الناس بحيث تتحوَّل نيَّته إلىٰ إرضاء الناس لا القربة إلىٰ الله تعالىٰ.

الأمر الرابع: العقل نعمة عظيمة، بها صار الإنسان مَلِك الأرض وحاكمها، ولكن هذه القوَّة المدركة قد تُفرز سلوكيات تجعل الإنسان يستخدم عقله في الدمار الشامل، بحيث يتحوَّل العقل من مركب للعمران إلىٰ مدفع للخراب وقتل ملايين البشر!

الأمر الخامس: القدرة نعمة أيضاً، يمكن للإنسان أنْ يستعملها في صنع كمالات متعدِّدة، فيساعد بها الفقير، ويكدُّ بها علىٰ عياله، ويبني بها نفسه مادّياً ومعنوياً، ولكنَّها في الوقت نفسه قد تكون سبباً للتسلُّط علىٰ الضعاف، وللظلم، فرُبَّ رئيس وقائد ظلموا رعيَّتهم، ولم يعطوهم النصف من أنفسهم.

وهكذا يمكن أنْ نجد عشرات الأمثلة في ذلك.

والخلاصة التي يمكن قولها هنا هي التالي:

أوَّلاً: أنَّ تحصيل الفضائل علىٰ شرافته لا يعني العصمة منالخطأ، ولا يوجب الاطمئنان في حدِّ نفسه، لاحتمال أنْ تكون الفضائل منبعاً لرذائل من حيث لا يشعر المؤمن.

ثانياً: علىٰ المؤمن أنْ ينظر إلىٰ واقعه، ولا يخدع نفسه، ولا يُغالي في ذاته، فإنَّه مهما كان عالماً مثلاً فليتذكَّر: ]نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ 76[ (يوسف: 76).

وهكذا لو كان عند الإنسان قدرة معيَّنة، مالية كانت أو سلطوية أو ما شابه، فليتذكَّر ما روي عن أبي قتادة، قال: كنت عند أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، فدخل عليه زياد القندي، فقال له: «يا زياد، ولّيت لهؤلاء؟»،

ص: 130

قال: نعم يا بن رسول الله، لي مروءة وليس وراء ظهري مال، وإنَّما أُواسي إخواني من عمل السلطان، فقال: «يا زياد، أمَا إذا كنت فاعلاً ذلك، فإذا دعتك نفسك إلىٰ ظلم الناس عند القدرة علىٰ ذلك فاذكر قدرة الله عَزَّ وَجَل علىٰ عقوبتك، وذهاب ما أتيت إليهم عنهم، وبقاء ما أتيت إلىٰ نفسك عليك، والسلام»(1)

وهكذا في كلِّ صفة يكتسبها المؤمن عليه أنْ ينظر لها بقدرها وبحجمها لا أكثر.

ثالثاً: علىٰ المؤمن دوماً أنْ يتشبَّث بفقره الوجودي، وأنْ يتمثَّل دوماً قول موسىٰ بن عمران عَلَيه اَلسَلام : ]رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ 24[ (القَصص: 24).

وأنْ يُردِّد دوماً وأبداً: «ربِّ لا تكلني إلىٰ نفسي طرفة عين أبداً، لا أقلَّ من ذلك ولا أكثر»(2)

* * *

ص: 131


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 303/ ح 602/49).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ص 581/باب دعوات موجزات لجميع الحوائج/ح 15).

(22)كن عزيزاً

اشارة

العزَّة والذلَّة، صفتان متضادَّتان، تتجاذبان شخصية الإنسان، حسب المواقف الحياتية التي يمرُّ بها، والإنسان يمكنه أنْ يُعِزَّ نفسه، كما يمكنه أنْ يُذلَّها، إلَّا أنَّ المؤمن - وحتَّىٰ يكون في الوجهة الصحيحة للتكامل - عليه أنْ يلتزم عزَّة النفس ما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً، وأنْ لا يُدخِلها في ذلٍّ مهما أمكنه ذلك.

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة أكثر نذكر التالي:

أوَّلاً: أنَّ العزَّة أوَّلاً وبالذات هي لله تعالىٰ، فهو وحده العزيز المطلق، وكلُّ العزَّة له جلَّ وعلا، قال تعالىٰ: ]مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلّٰهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً[ (فاطر: 10).

ومن هنا، كان الإعزاز - وكذا الإذلال - بيده جلَّ وعلا، إذ كلُّ ما دونه فهو بالنسبة إليه ذليل فقير، وحيث إنَّه تعالىٰ هو الكمال المطلق، فبالتالي، من أراد العزَّ فلا بدَّ له من استجدائها منه جلَّ وعلا. قال تعالىٰ: ]قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 26[ (آل عمران: 26).

ولذا، فإنَّ كلَّ من يطلب العزَّ من غير الله تعالىٰ ومن غير طريقه جلَّ وعلا، فإنَّ نصيبه ليس سوىٰ الذلَّ والهوان، قالتعالىٰ: ]الَّذِينَ

ص: 132

يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلهِ جَمِيعاً 139[ (النساء: 139).

ثانياً: شاء الله تعالىٰ أنْ تكون العزَّة مقسَّمةً بينه وبين رسوله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله والمؤمنين، قال تعالىٰ: ]وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ[ (المنافقون: 8).

وهذه المشيئة استتبعها حثٌّ ديني بأنْ يكون المؤمن عزيزاً بعزِّ الله تعالىٰ، ولا يُذِلَّ نفسه، الأمر الذي كشفته الروايات الشريفة الدالَّة علىٰ هذا المعنىٰ، فعن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، قال: «إنَّ الله عَزَّ وَجَل فوَّض إلىٰ المؤمن أُموره كلَّها ولم يُفوِّض إليه أنْ يكون ذليلاً، أمَا تسمع قول الله عَزَّ وَجَل يقول: ]وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ[؟ فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً»، ثمّ قال: «إنَّ المؤمن أعزُّ من الجبل، إنَّ الجبل يستقلُّ منه بالمعاول والمؤمن لا يستقلُّ من دينه شيء»(1)

ثالثاً: وحتَّىٰ تكون عزيزاً بعزِّ الله تعالىٰ عليك أنْ تطلب طريق العزِّ الإلهي، الذي ذكرت الروايات الشريفة أنَّه يكون من خلال التالي:

أ - طاعة الله تعالىٰ، الأمر الذي بيَّنه الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله ببيان رائع فيما روي عنه أنَّه قال: «إنَّ الله تعالىٰ يقول كلَّ يوم: أنا ربُّكم العزيز، فمن أراد عزَّ الدارين فليطع العزيز»(2)

ومن نفس هذا المنطلق جاء الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام ليقول: «من أراد عزًّا بلا عشيرة، وغنىً بلا مال، وهيبةً بلا سلطان، فلينقل من ذلِّ معصية الله إلىٰ عزِّ طاعته»(3)

ص: 133


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 63/ باب كراهة التعرُّض لما لا يُطيق/ ح 1).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 15/ ص 784/ ح 43101).
3- الخصال للشيخ الصدوق (ص 169/ ح 222).

ب - اليأس من الناس، وعدم الطمع بما في أيديهم، فإنَّه يورث الإنسان عزًّا لا مثيل له، فإنَّ الحاجة إلىٰ الناس قد تستوجب إذلال النفس في بعض الأحيان، وقد أشار إلىٰ ذلك الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام بما روي عنه أنَّه قال: «لا يزال العزُّ قلقاً حتَّىٰ يأتي داراً قد استشعر أهلُها اليأس ممَّا في أيدي الناس، فيوطنها»(1)

ج - كظم الغيظ، رغم قدرة المؤمن علىٰ إظهار غيظه وتنفيذ ما تُمليه عليه قوَّته السبعية من الانتقام أو علىٰ الأقلّ أخذ الحقِّ بطريقة (العين بالعين)، فعن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام : «ما من عبد كظم غيظاً إلَّا زاده الله عَزَّ وَجَل عزًّا في الدنيا والآخرة، وقد قال الله عَزَّ وَجَل: ]وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 134[ [آل عمرن: 134]، وأثابه الله مكان غيظه ذلك»(2)

ويدخل ضمن هذا المعنىٰ: العفو عمَّن يتجاوز عليك، أو عمَّن يسيء إليك، وأنت تعفو عنه لا لشيء إلَّا تقرُّباً إلىٰ الله تعالىٰ، وفي ذلك روي عن رسول الله الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال: «من عفا عن مظلمة، أبدله الله بها عزًّا في الدنيا والآخرة»(3)

د - الصبر علىٰ المصيبة، فإنَّ هذه الحياة مليئة بالمصائب والابتلاءات، والمؤمن له منها النصيب الأوفر، وحتَّىٰ يواجهها بقوَّة عليه أنْ يزيد من قوَّة تحمُّله وصبره اتِّجاهها، وهذا سيُؤدّي فيما يُؤدّي إليه أنْ يهب الله تعالىٰ له عزًّا جزاءً لصبره علىٰ المصيبة أو البلاء، وفي ذلك

ص: 134


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 206).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 110/ باب كظم الغيظ/ ح 5).
3- أمالي الشيخ الطوسي (ص 182 و183/ ح 306/8).

روي عن أبي جعفر الباقر عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «من صبر علىٰ مصيبة زاده الله عزًّا علىٰ عزِّه، وأدخله جنَّته مع محمّد وأهل بيته»(1)

رابعاً: أنَّ العزَّ لا يكتمل بمجرَّد القيام بموجباته المتقدِّمة، وإنَّما علىٰ المؤمن أيضاً أنْ يبتعد عن موجبات ضدِّه (الذلّ)، فإنَّ له موجبات أيضاً إذا فعلها المؤمن أذلَّته ولم تنفعه تلك الموجبات للعزِّ، بمعنىٰ أنَّ تلك الموجبات للعزِّ تُعبِّر عن مقتضيات لتحصيل العزِّ من الله تعالىٰ، وحتَّىٰ يفعل المقتضي فعله لا بدَّ أنْ تُبعَد عنه الموانع من تأثيره، وتلك الموانع هي عبارة عن موجبات الذلِّ وأسبابه، وتلك الأسباب عديدة، منها:

أ - الطمع، فإنَّه يوجب الوقوع في الذلِّ، فإنَّ الطمع مركب أعمىٰ، لا يرىٰ إلَّا الوصول إلىٰ إشباع حاجته، ولو علىٰ حساب ذلِّ النفس، فمن كان طمّاعاً كان إلىٰ الذلِّ أقرب منه إلىٰ العزِّ. وقد روي عن الإمام الباقر عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «لا ذلَّ كذلِّ الطمع»(2)

ب - كشف الضرِّ والحاجة إلىٰ الناس، فإنَّها موجبة لأنْ يستخفَّ الناس بالفرد، ولذا كانت هناك توجيهات من الأئمَّة عَلَيهم اَلسَلام بأن يعمل المؤمن علىٰ إخفاء ضُرِّه ما استطاع، وفي ذلك روي عنأمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «رضي [ب]الذلِّ من كشف [عن] ضرِّه»(3)

وعن مفضَّل بن قيس، قال: دخلت علىٰ أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام فذكرت له بعض حالي، فقال: «يا جارية، هاتِ ذلك الكيس، هذه أربعمائة دينار...، فخذها وتفرَّج بها»، قال: فقلت: لا والله، جُعلت فداك ما هذا

ص: 135


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 198).
2- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 286).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 201).

دهري(1)، ولكن أحببتُ أنْ تدعو الله عَزَّ وَجَل لي، قال: فقال: «إنّي سأفعل، ولكن إيّاك أنْ تُخبر الناس بكلِّ حالك فتهون عليهم»(2)

ج - ظلم الناس، فإنَّه يُؤدّي إلىٰ الذلِّ بين يدي الله تعالىٰ، وعلىٰ رؤوس الأشهاد، وقد روي أنَّ رجلاً شكىٰ إلىٰ الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام من جاره، فقال له عَلَيه اَلسَلام : «اصبر عليه»، فقال: ينسبني الناس إلىٰ الذلِّ، فقال: «إنَّما الذليل من ظَلَمَ»(3)

ملاحظتان مهمَّتان:

الملاحظة الأُولىٰ: هناك بعض الأفعال والتصرُّفات لا بدَّ للمؤمن أنْ يربو بنفسه عنها، ولا يتناولها بفعله ولا بقوله، لأنَّها من موجبات إذلال النفس، ومنها ما روي عن الإمام الحسين عَلَيه اَلسَلام من أنَّه قال في آخر لحظات حياته: «ابعثوا إليَّ ثوباً لا يُرغَبفيه، أجعله تحت ثيابي، لئلَّا أُجرَّد»، فأُتي بتبّان، فقال: «لا، ذاك لباس من ضُرِبَت عليه بالذلَّة...»(4)

ومن ذلك أيضاً ما روي عن عبد الله جبلة الكناني، قال: استقبلني أبو الحسن الإمام الكاظم عَلَيه اَلسَلام وقد علَّقْتُ سمكة في يدي، فقال: «اقذفها، إنَّني لأكره للرجل السري أنْ يحمل الشيء الدنيّ بنفسه»، ثمّ قال: «إنَّكم قوم أعداؤكم كثيرة، عاداكم الخلق، يا معشر الشيعة إنَّكم قد عاداكم الخلق، فتزيَّنوا لهم بما قدرتم عليه»(5)

ص: 136


1- أي ليس هذا عادتي وهمَّتي، فإنَّ الدهر يقال للهمَّة والعادة. (من هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 21 و22/ باب كراهية المسألة/ ح 7).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 205).
4- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 45/ ص 54).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 480/ باب النوادر/ ح 12).

وهكذا علىٰ المؤمن أنْ يأنف عن معاقرة أيّ أمر من شأنه أنْ يُذِلَّه ولو بعد حين، كالكذب والسرقة والغيبة والنميمة وما شابه هذه الأُمور.

الملاحظة الثانية: صحيح أنَّ علىٰ المؤمن أنْ يتعزَّز ما أمكنه، ولكن هناك مقامين يكون العزُّ فيهما بالتذلُّل، وهما: التملُّق إلىٰ الله تعالىٰ، وإلىٰ الأُستاذ في طلب العلم، وقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «ليس من أخلاق المؤمن التملُّق... إلَّا في طلب العلم»(1)

* * *

ص: 137


1- الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 2/ ص 464/ ح 7671).

(23)اختيار الخليط

لا شكَّ ولا ريب أنَّ الإنسان اجتماعي في حياته العملية اليومية(1)، وبالتالي فإنَّه سوف يُقيم الكثير من العلاقات الاجتماعية، التي تقتضي عقد الجلسات والاجتماعات مختلفة المدىٰ، ومن ذلك نجد أنَّ الإنسان يحتاج بين الفينة والأُخرىٰ أنْ يجالس بعض الأصدقاء والأخلّاء. وهنا، تأتي القاعدة الأخلاقية التي تقضي علىٰ المؤمن أنْ يكون اختياره لجلسائه منسجماً مع هدفه المفترض، وهو تحصيل الكمال والقرب الإلهي، الأمر الذي يعني أنْ يكون جلساؤه ممَّن يساعدونه علىٰ ذلك، لا أنَّهم يقفون مانعاً من تحصيل الكمال.

وهذا يعني بصراحة: أنَّ علىٰ المؤمن أنْ يكون دقيقاً فيمن يختارهم ليكونوا خلّانه ومؤانسيه، وحتَّىٰ تتمَّ الصورة نذكر الأُمور التالية:

الأمر الأوَّل: أنَّ مجالسة الإخوان ومفاكهتهم من الأُمور التي تساعد المؤمن علىٰ تجاوز صعاب الحياة ونسيان أحزانها، بالترفيه عن نفسه معهم، وهذا أمر يحتاجه المؤمن بين فترةوأُخرىٰ، لئلَّا تنغلق عليه نفسه أو يملَّ قلبه.

ص: 138


1- بغضِّ النظر عن كونه كذلك بطبعه أو أنَّه مستخدم بطبعه.

ولذا روي عن الإمام الكاظم عَلَيه اَلسَلام : «اجتهدوا في أنْ يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات الذين يُعرِّفونكم عيوبكم، ويُخلِصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرَّم، وبهذه الساعة تقدرون علىٰ الثلاث ساعات»(1)

الأمر الثاني: أنَّ مجالسة الإخوان هي عمل من أعمال الفرد التي سيتمُّ حسابه عليها، ولذلك افترضت النصوص الدِّينية أنْ يجالس المؤمن عدَّة أصناف لا يُخاف منهم عليه، قد وضَّحت الروايات الشريفة تلك الأصناف، ومنها ما روي أنَّ لقمان الحكيم قال لابنه: يا بنيَّ، اختر المجالس علىٰ عينك، فإنْ رأيت قوماً يذكرون الله عَزَّ وَجَل فاجلس معهم، فإنْ تكن عالماً نفعك علمك، وإنْ تكن جاهلاً علَّموك، ولعلَّ الله أنْ يظلَّهم برحمته فيعمَّك معهم. وإذا رأيت قوماً لا يذكرون الله، فلا تجلس معهم، فإنْ تكن عالماً لم ينفعك علمك، وإنْ كنت جاهلاْ يزيدوك جهلاً، ولعلَّ الله أنْ يظلَّهم بعقوبة فيعمَّك معهم(2)

وعن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «قالت الحواريون لعيسىٰ: يا روح الله، من نجالس؟ قال: من يُذكِّركم اللهَ رؤيتُه، ويزيد في علمكم منطقُه، ويُرغِّبكم في الآخرة عملُه»(3)

وعنه صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «لا تجلسوا عند كلِّ عالم، إلَّا عالم يدعوكم من الخمس إلىٰ الخمس: من الشكِّ إلىٰ اليقين، ومن الكبر إلىٰ التواضع، ومن

ص: 139


1- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 409 و410).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 39/ باب مجالسة العلماء وصحبتهم/ ح 1).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 39/ باب مجالسة العلماء وصحبتهم/ ح 3).

الرياء إلىٰ الإخلاص، ومن العداوة إلىٰ النصيحة، ومن الرغبة إلىٰ الزهد»(1)

الأمر الثالث: أنَّ هناك العديد من الأصناف الذين نهت الروايات الشريفة عن مجالستهم، لأنَّ لهم تأثيراً سلبياً علىٰ القلب، بسبب أعمالهم التي يقومون بها، فعلىٰ المؤمن أنْ يكون مستعدًّا للتضحية بمجالستهم مقابل أنْ يربح قلبه وقربه من الله تعالىٰ.

ومن أُولئك التالي:

أوَّلاً: الأنذال: النذل هو الخسيس من الناس الذي تزدريه في خلقته وعقله، أي إنَّه المحتقر في جميع أحواله(2) ومن الواضح أنَّ الجلوس مع هكذا فرد يُؤدّي إلىٰ اكتساب بعض الخسَّة منه ولو بعد حين، وعلىٰ الأقلّ يلزم من مجالسته تعميم حكمه علىٰ من يجالسه، فإنَّ الناس تحكم علىٰ الشخص برفيقه ومن يُجالسه، وهذه حقيقة واقعية لا يمكن إنكارها.

ثانياً: غير المحارم من النساء، فإنَّ ذلك يسحب إلىٰ الحرام وعلىٰ الأقلّ إلىٰ الشبهة شيئاً فشيئاً. ونفس الأمر يُقال للنساء، فلا تجالس غير محارمها لنفس السبب، ولذا روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه نهىٰ عن محادثة النساء، يعني غير ذوات المحارم، وقال: «لا يخلونَّ رجل بامرأة، فما من رجل خلا بامرأة إلَّا كان الشيطان ثالثهما»(3)

فليحذر الذين يعملون في أماكن مختلطة، أو يُعاملون غير جنسهم

ص: 140


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 1/ ص 205).
2- تاج العروس للزبيدي (ج 15/ ص 728/ مادَّة نذل).
3- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 2/ ص 214/ ح 788).

في شراء أو معاملة رسمية وما شابه، فإنَّ الخروج عن الحدود الشرعية في التعامل ممَّا يُعمي القلب ويُقسّيه.

ثالثاً: مجالسة الأغنياء، وقد يستغرب البعض بادئ ذي بدء من عدِّ هذا العنوان من جملة من لا ينبغي مجالستهم، ولكن الروايات وضَّحت المقصود منه، والمغزىٰ الذي كان وراء النهي عن مجالستهم، وأنَّ المقصود هو نوع خاصٌّ من الأغنياء، لا كلّ غنيٍّ، فقد روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «إيّاكم ومجالسة الموتىٰ»، قيل: يا رسول الله، من الموتىٰ؟ قال: «كلُّ غنيٍّ أطغاه غناه»(1)

وقد جمع هذه الثلاثة ما روي عن رسول الله الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «ثلاثة مجالستهم تُميت القلب: مجالسة الأنذال، والحديث مع النساء، ومجالسة الأغنياء»(2)

رابعاً: مخالطة السَّفِلة (أو السِّفْلة)(3)، فقد روي عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «إيّاك ومخالطة السفلة فإنَّ السفلة لا يؤول إلىٰ خير»(4)أمَّا عن معنىٰ السفلة فقد قيل في معناه أحد المعاني التالية(5):

المعنىٰ الأوَّل: أنَّ السَّفِلة هو الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل له، فقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «إنْ كنت لا تبالي ما قلت وما قيل لك، فأنت سفلة»(6)

ص: 141


1- تنبيه الخواطر للشيخ ورّام (ج 2/ ص 32).
2- الخصال للشيخ الصدوق (ص 87).
3- قال الشيخ عليّ النمازي الشاهرودي في مستدرك سفينة البحار (ج 5/ ص 64): بكسر السين وسكون الفاء، أو بفتحها مع كسر العين.
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 158/ باب من تُكرَه معاملته ومخالطته/ ح 7).
5- المعاني الأربعة الأُولىٰ من هامش المصدر نقلاً عن كتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 165).
6- تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي (ج 6/ ص 295/ ح 821/28).

المعنىٰ الثاني: أنَّه من لم يسرّه الإحسان ولم تسُئْهُ الإساءة.

المعنىٰ الثالث: أنَّه من ادَّعىٰ الأمانة (أو الإمامة) وليس لها أهل.

المعنىٰ الرابع والخامس: من يضرب بالطنبور، ومن يشرب الخمر، فقد روي عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام أنَّه سُئِلَ عن السفلة، فقال: «من يشرب الخمر، ويضرب بالطنبور»(1)

المعنىٰ السادس: الذي يأكل في الأسواق، أي من لا يجلس في مجلس مناسب ومخصَّص للطعام، فقد روي أنَّه سُئِلَ الإمام أبو الحسن الكاظم عَلَيه اَلسَلام عن السفلة، فقال: «السفلة الذي يأكل في الأسواق»(2)

المعنىٰ السابع: من يلهو عن ذكر الله تعالىٰ ولا يذكره، ومن لا يخاف الله تعالىٰ في فعله وقوله، فقد روي أنَّه سُئِلَ الأمامالرضا عَلَيه اَلسَلام عن السفلة فقال: «من كان له شيء يُلهيه عن الله»(3)، وروي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام في حديث الأربعمائة: «احذروا السفلة، فإنَّ السفلة من لا يخاف الله عَزَّ وَجَل، فيهم قتلة الأنبياء وفيهم أعداؤنا»(4)

* * *

ص: 142


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 62/ ح 89).
2- مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلّي (ص 576).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 442).
4- الخصال للشيخ الصدوق (ص 635).

(24)كن مِنْ أو عند المنكسرة قلوبهم

أفضل ما في الوجود هو الإنسان، وأفضل ما في الإنسان مضغة فيه تُسمّىٰ القلب، وهي مركز المشاعر والأحاسيس وغيرها، وإنَّما سُمّي القلبُ قلباً لتقلُّبه وعدم استقراره، وإنَّ (مثل القلب مثل الريشة تُقلِّبها الرياح بفلاة)(1)، ولذلك فإنَّ للقلب حالات متعدِّدة، فقد يكون أزهراً يسطع كأنَّ فيه مصباحاً، وقد يكون منكوساً مقلوباً رأساً علىٰ عقب، وقد يكون رمادياً فلا هو أسود ولا هو أبيض، وقد روي في حالاته عن أبي جعفر عَلَيه اَلسَلام ، قال: «القلوب ثلاثة: قلب منكوس لا يعي شيئاً من الخير، وهو قلب الكافر، وقلب فيه نكتة سوداء، فالخير والشرُّ فيه يعتلجان(2)، فأيُّهما كانت منه غلب عليه، وقلب مفتوح فيه مصابيح تزهر، ولا يطفأ نوره إلىٰ يوم القيامة، وهو قلب المؤمن»(3)

ولكن تذكر بعض الروايات قلباً من نوع آخر، إنَّه قلب يُحِبُّه الله تعالىٰ، لذلك إذا أردْتَ أنْ تجد الله تعالىٰ، فلا تبحث عنه فيشرقٍ أو غربٍ، بل ستجده عند ذلك القلب، إنَّه القلب (المنكسر)، فقد روي

ص: 143


1- الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 2/ ص 529/ ح 8135).
2- الاعتلاج: المصارعة وما يشابهها. (من هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 422/ باب في ظلمة قلب المنافق وإنْ أعطىٰ اللسان، ونور قلب المؤمن وإنْ قصَّر به لسانه/ ح 3).

عن الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه سُئِلَ: أين الله؟ فقال صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «عند المنكسرة قلوبهم»(1)

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة نذكر الأُمور التالية:

الأمر الأوَّل: من الواضح في عقيدتنا أنَّ الله تعالىٰ ليس من سنخ الموجودات المادّية لكي يحتاج إلىٰ مكان أو يوجد في مكان، وإنَّما هو موجود مجرَّد لا يحتويه مكان، بل هو خالق المكان، وقد روي أنَّ أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أجاب يهودياً سأل عن مكان الله تعالىٰ فقال له: «إنَّ الله جلَّ وعزَّ أيَّنَ الأين فلا أين له، وجلَّ عن أنْ يحويه مكان، وهو في كلِّ مكان بغير مماسَّة ولا مجاورة، يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها من تدبيره، وإنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يُصدِّق ما ذكرته لك...، ألستم تجدون في بعض كتبكم أنَّ موسىٰ بن عمران عَلَيه اَلسَلام كان ذات يوم جالساً إذ جاءه مَلَك من المشرق، فقال له موسىٰ: من أين أقبلت؟ قال: من عند الله عَزَّ وَجَل، ثمّ جاءه مَلَك من المغرب، فقال له: من أين جئت؟ قال: من عند الله، وجاءه مَلَك آخر، فقال: قد جئتك من السماء السابعة من عند الله تعالىٰ، وجاءه مَلَك آخر، فقال: قد جئتك من الأرض السابعة السفلىٰ من عند الله عزَّ اسمه، فقال موسىٰ عَلَيه اَلسَلام : سبحان من لا يخلو منه مكان، ولا يكون إلىٰ مكان أقرب من مكان؟»(2)

ومعه، فيكون معنىٰ أنَّ الله تعالىٰ يكون عند القلب المنكسر هو الكون والقرب المعنوي لا المادّي.

ومن هذا القبيل ما روي في الحديث القدسي: «لا يسعنيأرضي ولا سمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن»(3)

ص: 144


1- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 120/ ح 282).
2- الإرشاد للشيخ المفيد (ج 1/ ص 201 و202).
3- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 4/ ص 7).

قال تعالىٰ: ]أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوىٰ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنىٰ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 7[ (المجادلة: 7).

الأمر الثاني: أنَّ معنىٰ القلب المنكسر هو القلب الذي يحسُّ بالفقر والحاجة والخضوع والانكسار لحالة من الحالات، فكأنَّه انكسر بسبب ذلك الإحساس، وهو توصيف مجازي للدلالة علىٰ وجود لين فيه أو هشاشة، بحيث يتأثَّر بسرعة، فكأنَّه زجاج رقيق، يُخاف عليه من الانكسار.

وإنَّما يكون القلب منكسراً إذا أحسَّ بالفقر الوجودي، بمعنىٰ: أنَّ الإنسان إذا التفت إلىٰ وجوده في هذه الحياة، وجد نفسه ضعيفاً جدًّا، بحيث إنَّه يخاف من مخلوقات لا تُرىٰ بالعين المجرَّدة أنْ تدخل إلىٰ جسمه عنوةً فتشلَّ حركته أو تطرحه أرضاً، وبالتالي، فهو بحاجة إلىٰ من يدافع عنه ويحميه ممَّا لا يستطيع أنْ يواجهه بالمباشرة، وإنْ كان صغيراً في حجمه!

وهكذا يجد الإنسان نفسه مفتقراً إلىٰ الكثير من الوسائط والآلات لكي يتمكَّن من قضاء حوائجه في هذه الحياة، فالحياة عموماً لا يمكن أنْ تستمرَّ لو فقد الناس - كلُّ الناس - مثلاً عيونهم! ويمكننا أنْ نتصوَّر الظلام الحالك الذي تعيشه البشرية لوفقدت هذه الآلة فقط!

وهكذا يجد الإنسان نفسه محتاجاً إلىٰ موجود لا يُلمَس، ولا يُرىٰ، إنَّه محتاج إلىٰ (الأُوكسجين) لكي يعيش، وهذا الأُوكسجين ليس متاحاً للإنسان، فهو لا يُصنَع في معامل تكفي للبشر كلِّهم، ولا يُشترىٰ في بورصة عالمية، إنَّه هبة من موجود أعلىٰ، كريم جواد.

ص: 145

كلُّ هذا وغيره، لو التفت إليه الإنسان لوجد نفسه ضعيفاً جدًّا جدًّا، ممَّا يُسبِّب له الانكسار والإحساس بالحاجة والفقر المدقع، وهنا، يتحوَّل ذلك القلب المنكسر إلىٰ التفكير باللجوء إلىٰ القادر علىٰ توفير كلِّ ما يحتاجه الإنسان في حياته، فيخشع ويذلُّ بين يدي الله تعالىٰ.

روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «إنَّ لله عباداً كسرت قلوبهم خشية الله...، يستَبِقون إليه بالأعمال الزاكية، لا يستكثرون له الكثير، ولا يرضون له القليل...»(1)

فإذا انكسر القلب من خشية الله تعالىٰ، كان له ما روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «طوبىٰ للمنكسرة قلوبهم من أجل الله»(2)

الأمر الثالث: أنَّ صفة انكسار القلب مرَّة تُؤخَذ بلحاظ المؤمن نفسه، فيكون المطلوب منه أنْ يستشعر ضعفه وفقره إلىٰ الباري جلَّ وعلا، فيعيش الخشوع والخضوع له جلَّ وعلا. كماتقدَّم في الأمر الثاني.

ومرَّة تُؤخَذ في إنسان آخر، انكسر قلبه لسبب ولآخر، وهنا، يكون المطلوب من المؤمن أنْ يقف إلىٰ جنب صاحب القلب المنكسر، ليواسيه، ويُخفِّف عنه، ليكون مع الذين انكسرت قلوبهم، وسيحصل علىٰ نفس النتيجة المرجوَّة، وهي القرب من الله تعالىٰ.

ومن أُولئك الذين انكسرت قلوبهم التالي:

أوَّلاً: عزيز قوم ذلَّ، وغنيُّ قوم افتقر، فإنَّ مثل هؤلاء يُمثِّلون مصداقاً واضحاً لمن انكسر قلبه بسبب تقلُّبات الدنيا وغدرها، وبالتالي،

ص: 146


1- كتاب الزهد للحسين بن سعيد الكوفي (ص 5)؛ وبحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج66/ ص 286).
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 313).

فعلىٰ المؤمن أنْ لا يُعيِّر أمثال هؤلاء، ولا يستهزئ بهم، بل يدعو الله تعالىٰ بالعافية، ويقف إلىٰ جنب أُولئك المنكوبين، قربةً لوجه الله تعالىٰ.

وهذا ما كان فعله رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله مع صفيَّة بنت حيي بن أخطب كبير اليهود بعد فتح خيبر، حيث إنَّه لم يجعلها كسائر الغنائم، بل خيَّرها بين العتق والزواج به، وبين الرجوع لأهلها، فاختارت الزواج به(1)

وقد نقل الحلبي في سيرته أنَّه لمَّا جيء ببنات كسرىٰ أُسارىٰ إلىٰ بلاد المسلمين، لم يرتضِ أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنْ يُنادىٰ عليهنَّ كبقيَّة السبايا، وانتهىٰ

ص: 147


1- في ذخائر العقبىٰ لأحمد بن عبد الله الطبري (ص 190): أنَّ رسول الله صلّىٰ الله عليه [وآله] قد افتتح خيبر وغنم أموالهم وجرت سهام الله في أموالهم، واصطفىٰ رسول الله صلّىٰ الله عليه [وآله] صفيَّة بنت حيّ بن أحطب فأعدَّها لنفسه، وخيَّرها بين اثنين أنْ يعتقها وتكون زوجته أو تلحق بأهلها، فاختارت أنْ يعتقها وتكون زوجته... وقد نُقِلَ في تفسير القمّي (ج 2/ ص 321 و322): في قوله تعالىٰ: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ[ [الحجرات: 11]، فإنَّها نزلت في صفيَّة بنت حيّ بن أخطب، وكانت زوجة رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، وذلك أنَّ عائشة وحفصة كانتا تؤذيانها وتشتمانها وتقولان لها: يا بنت اليهودية، فشكت ذلك إلىٰ رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، فقال لها: «ألَا تجيبنَّهما؟»، فقالت: بماذا يا رسول الله؟ قال: «قولي: أبي هارون نبيُّ الله، وعمّي موسىٰ كليم الله، وزوجي محمّد رسول الله، فما تنكران منّي؟»، فقالت لهما، فقالتا: هذا علَّمك رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، فأنزل الله في ذلك: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 11[، وقوله تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا[ [الحجرات: 13]، قال: الشعوب العجم، والقبائل العرب، وقوله: ]إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ[ وهو ردٌّ علىٰ من يفتخر بالأحساب والأنساب.

الحال بهنَّ بأنْ يتزوَّجن من سالم بن عمر ومحمّد بن أبي بكر، والإمام الحسين عَلَيه اَلسَلام ، وكانت زوجة الإمام الحسين هي أُمَّ الإمام زين العابدين عَلَيهما اَلسَلام (1)ثانياً: اليتيم، فإنَّه حتىٰ لو كان غنيًّا بماله، وحتَّىٰ لو كان له أعمام أو أخوال مثلاً يراعونه، ولكنَّهم مهما كانوا فليسوا كأبيه، وهو بالتالي يحسُّ بألم يعتصر قلبه لا يشعر به إلَّا من مرَّ باليُتم في صغره، وبالتالي، فعلىٰ المؤمن أنْ يعمل علىٰ إدخال السرور علىٰ قلب اليتيم مهما أمكنه ذلك.

ومن هنا روي عن الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «إنَّ في الجنَّة داراً يقال لها: (دار الفرح)، لا يدخلها إلَّا من فرَّح يتامىٰ المؤمنين»(2)

* * *

ص: 148


1- في السيرة الحلبية (ج 2/ ص 221 و222): ولمَّا جيء لعمر في زمن خلافته بسواري كسرىٰ وتاجه ومنطقته...، وجيء له بمال كثير من مال كسرىٰ وبنات كسرىٰ وكنَّ ثلاثاً وعليهنَّ الحلىٰ والحُلَل والجواهر ما يقصر اللسان عن وصفه...، ثمّ جيء ببنات المَلِك الثلاث فوقفن بين يديه، وأمر المنادي أنْ ينادي عليهنَّ وأنْ يزيل نقابهنَّ عن وجوههنَّ ليزيد المسلمون في ثمنهنَّ فامتنعن من كشف نقابهنَّ ووكزن المنادي في صدره، فغضب عمر وأراد أن يعلوهنَّ بالدُّرَّة وهنَّ يبكين، فقال له عليٌّ رضي الله تعالىٰ عنه: «مهلّاً...، فإنّي سمعت رسول الله صلّىٰ الله عليه [وآله] يقول: ارحموا عزيز قوم ذلَّ، وغنيَّ قوم افتقر»، فسكن غضبه، فقال له عليٌّ: «إنَّ بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهنَّ من بنات السوقة»، فقال له عمر: كيف الطريق إلىٰ العمل معهنَّ، فقال: «يُقوَّمن، ومهما بلغ ثمنهنَّ يقوم به من يختارهنَّ»، فقُوِّمن وأخذهنَّ عليٌّ [ عَلَيه اَلسَلام ] عنه، فدفع واحدة لعبد الله بن عمر، فجاء منها بولده سالم، وأُخرىٰ لمحمّد بن أبي بكر، فجاء منها بولده القاسم، والثالثة لولده الحسين، فجاء منها بولده عليّ الملقَّب بزين العابدين، وهؤلاء الثلاثة فاقوا أهل المدينة علماً وورعاً، وكان أهل المدينة قبل ذلك يرغبون عن التسرّي، فلمَّا نشأ هؤلاء الثلاثة فيهم رغبوا فيه...
2- الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 1/ ص 354/ ح 2322).

(25)تجمُّل المؤمن

هذه الحياة، رخيصة جدًّا بالقياس إلىٰ الآخرة، بل لا قيمة لها بالقياس إليها، ولذلك جاءت النصوص التربوية تدعو إلىٰ أنْ لا يتعلَّق المؤمن بها، وأنْ لا يتعامل معها إلَّا كجسر يوصله إلىٰ هدفه المعيَّن، ولذلك فهي مجرَّد مركب يوصلك إلىٰ هدفك في رحلتك نحو الله تعالىٰ، قال تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ 6[ (الانشقاق: 6).

وهذا أمر واضح جدًّا.

والذي يُراد التنبيه عليه هنا، هو أنَّ هذا التعامل مع الحياة لا يقتضي من المؤمن أنْ يظهر بمظهر البائس الفقير، بحيث يراه الرائي ويحسبه مشرَّداً! ليس مطلوباً منه أنْ يبقىٰ أشعثاً أغبراً، ليس ضرورياً أنْ يلبس المسوح ويتقمَّص الرهبنة.

كلَّا، فإنَّ الله تعالىٰ لم يحرم المؤمن من الحياة، ولم يجعلها خاصَّة بالكافرين، بل شرَّع للمؤمن أنْ يستفيد من الحياة وطيِّباتها، فإنَّه أحقّ بها من غيره، لأنَّه يتعامل معها كما يريد الله تعالىٰ، لا كما يريد الشيطان، قال تعالىٰ: ]قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 32[(الأعراف: 32).

ص: 149

عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، قال: «أبصر رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله رجلاً شعثاً شعرُ رأسه وسخةً ثيابه سيِّئةً حاله، فقال رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: من الدِّين المتعة وإظهار النعمة»(1)

وعنه صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «بئس العبد القاذورة(2)»(3)

ومن هنا، فعلىٰ المؤمن أنْ يظهر بمظهر محترم لائقٍ بعبدٍ انتسب إلىٰ ربٍّ عظيم جليل، وأنْ يتزيَّن بما حلَّ من الزينة، فإنَّ في ذلك سروراً لأخيه المؤمن، وكبتاً وغيظاً لعدوِّه، ومن هنا روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «ليتزيَّن أحدكم لأخيه المسلم كما يتزيَّن للغريب الذي يُحِبُّ أنْ يراه في أحسن الهيأة»(4)

وعن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، قال: «إنَّ الله عَزَّ وَجَل يُحِبُّ الجمال والتجمُّل ويبغض البؤس والتباؤس(5)»(6)

وقد ذُكِرَ في أحوال النبيِّ الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه إذا أراد أنْ يخرج لأصحابه هيَّأ نفسه ورتَّب ملابسه وصفَّف شعره(7)

ص: 150


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 438 و43صَلَ الله عَلیهِ وَ آله/ باب التجمُّل وإظهار النعمة/ ح 5).
2- القاذورة من الرجال الذي لا يبالي ما قال وما صنع. (من هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 438 و439/ باب التجمُّل وإظهار النعمة/ ح 6).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 439 و440/ باب التجمُّل وإظهار النعمة/ ح 10).
5- التباؤس: التفاقر، وأنْ يرىٰ تخشُّع الفقراء اخباتاً وتضرُّعاً. (من هامش المصدر).
6- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 439 و440/ باب التجمُّل وإظهار النعمة/ ح 14).
7- في تفسير القرطبي (ج 7/ ص 197): روىٰ مكحول، عن عائشة، قالت: كان نفر من أصحاب رسول الله صلّىٰ الله عليه [وآله] ينتظرونه علىٰ الباب، فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء، فجعل ينظر في الماء ويُسوّي لحيته وشعره. فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟ قال: «نعم، إذا خرج الرجل إلىٰ إخوانه فليُهيِّئ من نفسه، فإنَّ الله جميل يُحِبُّ الجمال». وفي كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 10/ ص 612 و613/ ح 30315): أنَّ النبيَّ صلّىٰ الله عليه [وآله] كان إذا قَدِمَ عليه الوفد لبس أحسن ثيابه وأمر أصحابه بذلك، قال الراوي: فرأيته وَفَدَ عليه وَفْد كندة وعليه حلَّة يمانية.

وفي هذا المجال عدَّة تطبيقات، نذكر منها التالي:

التطبيق الأوَّل: الملابس، فإنَّه ينبغي للمؤمن أنْ تكون ملابسه نظيفة مرتَّبة، وأنْ تكون متناسبة مع وضعه الاجتماعي والمادّي والعرفي، لا أنْ يلبس ملابس المشرَّدين بحجَّة الزهد في الدنيا، فالزهد لا يُراد به ذلك كما هو واضح لمن قرأ النصوص الدِّينية الواردة فيه، والتي تعتبر حقيقة الزهد في ترك الحرام.

روي أنَّه قال أبو عبد الله عَلَيه اَلسَلام لعبيد بن زياد: «إظهار النعمة أحبُّ إلىٰ الله من صيانتها، فإيّاك أنْ تتزيَّن إلَّا في أحسن زيِّ قومك»، قال: فما رُئي عبيد إلَّا في أحسن زيِّ قومه حتَّىٰ مات(1)

وعن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام يقول: «الثوب النقيِّ يكبت العدوَّ»(2)

وعن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «من اتَّخذ ثوباً فليُنظِّفه»(3)

وروي أنَّه مرَّ سفيان الثوري في المسجد الحرام فرأىٰ أبا عبد الله عَلَيه اَلسَلام وعليه ثياب كثيرة القيمة حسان، فقال: والله لآتينه ولأُوبِّخَنَّه! فدنا منه، فقال: يا ابن رسول الله، ما لبس رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله مثل هذا اللباس ولا عليٌّ عَلَيه اَلسَلام ولا أحد من آبائك، فقال له أبو عبد الله عَلَيه اَلسَلام : «كان رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله في زمان قَتْرٍ مُقتَّر، وكان يأخذ لقتره واقتداره وإنَّ الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها(4)، فأحقُّ أهلها بها أبرارها»، ثمّ تلا: «]قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ[ [الأعراف: 32]، ونحن أحقّ من أخذ منها ما أعطاه الله، غير أنّي يا

ص: 151


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 440 و441/ باب التجمُّل وإظهار النعمة/ ح 15).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 441/ باب اللباس/ ح 1).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 441/ باب اللباس/ ح 3).
4- العزالىٰ جمع العزلاء مثل الحمراء، وهو فم المزادة، فقوله: (أرخت) أي أرسلت، يريد شدَّة وقع المطر علىٰ التشبيه بنزوله من أفواه المزادة. (من هامش المصدر).

ثوري، ما ترىٰ عليَّ من ثوب إنَّما ألبسه للناس»، ثمّ اجتذب يد سفيان فجرَّها إليه، ثمّ رفع الثوب الأعلىٰ وأخرج ثوباً تحت ذلك علىٰ جلده غليظاً، فقال: «هذا ألبسه لنفسي، وما رأيتَه للناس»، ثمّ جذب ثوباً علىٰ سفيان أعلاه غليظ خشن وداخل ذلك ثوب ليِّن، فقال: «لبستَ هذا الأعلىٰ للناس، ولبست هذا لنفسك تسرُّها»(1)

التطبيق الثاني: الشعر، فإنَّه من أفضل زينة بني آدم، وقد روي عنه صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال: «الشعر الحسن من كسوة الله عَزَّ وَجَل فأكرموه(2)، ومن اتَّخذ شعراً فليُحسِن ولايته أو لِيجُزَّه»(3)

وروي أنَّه سُئِلَ أبو الحسن الرضا عَلَيه اَلسَلام عن قول الله عَزَّ وَجَل: ]خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ[ [الأعراف: 31]، قال: «من ذلك التمشُّط عند كلِّ صلاة»(4)ومن هنا، فالمؤمن يحترم شعر رأسه، ويقصُّه بما لا يجعله في موضع غيبة، وبشكل لا يخرج فيه عن الحدِّ العقلائي المتعارف، علماً أنَّ بعض الروايات نهت عن قصِّ الشعر بشكل معيَّن، وهو ما يُسمّىٰ بالقُنازع أو القزع، تشبيهاً له بقزع السحاب، أي قطعها، حيث روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «لا تحلقوا الصبيان القزع، والقزع أن يحلق موضعاً ويدع موضعاً»(5)

وروي أنَّ أبا عبد الله عَلَيه اَلسَلام كان يكره القزع في رؤوس الصبيان،

ص: 152


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 442 و443/ باب اللباس/ ح 8).
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1/ ص 125).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 129/ ح 326).
4- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 128/ ح 318).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 39 و40/ باب كراهية القنازع/ ح 1).

وذكر أنَّ القزع أنْ يحلق الرأس إلَّا قليلاً ويترك وسط الرأس يُسمّىٰ القزعة(1)، وأنَّه أُتي النبيُّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله بصبيٍّ يدعو له وله قنازع، فأبىٰ أنْ يدعو له، وأمر بحلق رأسه...(2)

التطبيق الثالث: الطيب، فإنَّه من الزينة التي يُستَحبُّ للمؤمن أنْ يدوم عليها، وقد روي عن أبي الحسن عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «لا ينبغي للرجل أنْ يدع الطيب في كلِّ يوم، فإنْ لم يقدر عليه فيوم ويوم لا، فإنْ لم يقدر ففي كلِّ جمعة ولا يدع»(3)

ولقد كان أهل البيت عَلَيهم اَلسَلام لا يدعون الطيب أبداً، بل روي أنَّه ما أنفقت في الطيب فليس بسرف(4)، وأنَّه كان رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله يُنفِق في الطيب أكثر ممَّا يُنفِق في الطعام(5)، وأنَّه كان يُعرَف موضعسجود أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام بطيب ريحه(6)

نعم، المرأة لا بدَّ أنْ تتحرَّز من إظهار طيبها لغير محارمها، لأنَّه يُمثِّل عورة لها، وقد يجعل من يشمُّ طيبها يرغب فيما لا يحلُّ منها، ومن هنا روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال: «أيّما امرأة استعطرت ثمّ خرجت فمرَّت علىٰ قوم ليجدوا ريحها فهي زانية»(7)

وفيما يتعلَّق بحدِّ طيب المرأة روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «طيب

ص: 153


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 39 و40/ باب كراهية القنازع/ ح 2).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 39 و40/ باب كراهية القنازع/ ح 3).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 510/ باب الطيب/ ح 4).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 512/ باب الطيب/ ح 16).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 512/ باب الطيب/ ح 18).
6- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 511/ باب الطيب/ ح 11).
7- الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي (ج 1/ ص 459/ ح 2971).

النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه، وطيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه»(1)

ومن هنا حكم بعض الفقهاء بعدم جواز تعطُّر المرأة وخروجها من بيتها إذا كان بقصد إيقاع الرجال في الحرام أو لزم منه افتتان الرجال.

* * *

ص: 154


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 512/ باب الطيب/ ح 17).

(26)لا تستوحشوا طريق الحقِّ

الإنسان - لأنَّه كائن اجتماعي - يأنس بغيره من أبناء جنسه، وكلَّما كثرت جهات الاشتراك بينك وبين الآخر، كلَّما كان الأُنس به أكثر.

والإنسان لذلك يكره الوحشة والوحدة، وهذا أمر وجداني.

والدِّين كان يعرف هذه الحقيقة في الإنسان، لذلك وردت بعض التشريعات التي تدفع الإنسان نحو الاختلاط بغيره، وتُبعِده عن الوحدة والتوحُّش ما أمكن، ومن ذلك التالي:

أوَّلاً: رجحان أنْ لا يبيت الرجل لوحده في البيت إلَّا أنْ يكون معه غيره.

ثانياً: رجحان أنْ لا يدخل الرجل في مكان مظلم إلَّا ومعه سراج.

ثالثاً: رجحان السفر مع رفيق، وأنْ لا يسافر الإنسان وحده.

ومن النصوص التي أشارت إلىٰ هذه الأُمور هي التالي:

عن ميمون، قال: نزلت علىٰ أبي جعفر عَلَيه اَلسَلام ، فقال: «يا ميمون، من يرقد معك بالليل؟ أمعك غلام؟»، قلت: لا، قال: «فلا تنم وحدك، فإنَّ أجرأ ما يكون الشيطان علىٰ الإنسان إذا كانوحده»(1)

ص: 155


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 533/ باب كراهية أنْ يبيت الإنسان وحده والخصال المنهيّ عنها لعلَّة مخوفة/ ح 1).

وعن سماعة بن مهران، قال: سألت أبا عبد الله عَلَيه اَلسَلام عن الرجل يبيت في بيت وحده، فقال: «إنّي لأكره ذلك، وإنْ اضطرَّ إلىٰ ذلك فلا بأس، ولكن يُكثِر ذكر الله في منامه ما استطاع»(1)

وعن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام ، قال: «إنَّ الشيطان أشدّ ما يهمُّ بالإنسان إذا كان وحده، فلا تبيتنَّ وحدك، ولا تسافرنَّ وحدك»(2)

وعن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه كره أنْ يدخل بيتاً مظلماً إلَّا بسراج(3)

وعن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «سَلْ عن الرفيق قبل الطريق»(4)

وعن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «الرفيق ثمّ الطريق»(5)

فالإنسان لا يألف الوحشة، ويستوحش من الوحدة، ولذلك، استوحش من القبر، وارتعب قلبه من تذكُّر وحشته ووحدته وضيقه، القبر الذي لهكلام في كلِّ يوم يقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود، أنا القبر، أنا روضة من رياض الجنَّة أو حفرة من حفر النار(6)

هذا أوَّلاً.

ص: 156


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 534/ باب كراهية أنْ يبيت الإنسان وحده والخصال المنهيّ عنها لعلَّة مخوفة/ ح 4).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 534/ باب كراهية أنْ يبيت الإنسان وحده والخصال المنهيّ عنها لعلَّة مخوفة/ ح 9.
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 6/ ص 534/ باب كراهية أنْ يبيت الإنسان وحده والخصال المنهيّ عنها لعلَّة مخوفة/ ح 6).
4- نهج البلاغة (ج 3/ ص 56).
5- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 357/ ح 15).
6- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 242/ باب ما ينطق به موضع القبر/ ح 4732)، والرواية عن الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام .

وثانياً: أنَّ طريق الحقِّ يعني التزام المبادئ ولو علىٰ حساب المصالح والمجاملات، قال تعالىٰ: ]لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 22[ (المجادلة: 22).

وهذا يعني، أنَّ المؤمن سوف يجد الكثير من الناس ممَّن يرغب عن هذا المبدأ، وأنَّ من يرغب فيه هم ثُلَّة قليلة، لذا، سيكون السائر في طريق الحقِّ قليل الصحبة ضئيل الرفاق، وهو أمر نبَّه عليه أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام من قبل، حينما قال: «أيّها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدىٰ لقلَّة أهله، فإنَّ الناس قد اجتمعوا علىٰ مائدة شبعها قصير وجوعها طويل»(1)

ص: 157


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 181)؛ وفي شرح أُصول الكافي لمولىٰ محمّد صالح المازندراني (ج 9/ ص 187): قال بعض الأفاضل: لمَّا كانت العادة أنْ يستوحش الناس من الوحدة وقلَّة الرفيق في طريق طويل صعب، نهىٰ عَلَيه اَلسَلام عن الاستيحاش في تلك الطريق، وكنّىٰ به عمَّا عساه يعرض لبعضهم من الوسوسة بأنَّهم ليسوا علىٰ حقٍّ لقلَّتهم وكثرة مخالفيهم، لأنَّ قلَّة العدد في الطريق مظنَّة الهلاك والسلامة مع الكثرة، فنبَّههم علىٰ أنَّهم في طريق الهدىٰ وإنْ كانوا قليلين، ثمّ نبَّه علىٰ قلَّة عدد أهل طريق الهدىٰ وهي اجتماع الناس علىٰ الدنيا، فقال: «فإنَّ الناس...» إلىٰ آخره، واستعار للدنيا المائدة بملاحظة تشبيهها في كونها مجتمع اللذّات، وكنّىٰ عن قصر مدَّتها بقصر شبعتها عن استعقاب الانهماك فيها للعذاب الطويل في الآخرة بطول جوعها، ولفظ الجوع مستعار للحاجة الطويلة بعد الموت إلىٰ المطاعم الحقيقية الباقية من الكمالات النفسانية، وهو بسبب الغفلة في الدنيا، فلذلك نسب الجوع إليها.

وهنا أُلفت النظر إلىٰ عدَّة ملاحظات:

الملاحظة الأُولىٰ: ليست الكثرة علامة الحقّانية، ولا هي ملاكها وأساسها، فإنَّ الحقَّ أمر ثابت واضح، ومن يلتزم به يكن علىٰ الحقِّ وإنْ كان لوحده، والقرآن يُنبِّه علىٰ أنَّ الكثرة قد تكون في الطريق الباطل، فيقول تعالىٰ: ]بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ 70[ (المؤمنون: 70).

وهذا الأمر يقتضي علىٰ المؤمن أنْ يصبر علىٰ الحقِّ وإنْ كان لوحده، وإنْ كان مُرًّا، فقد روي عن أبي جعفر عَلَيه اَلسَلام ، قال: «لمَّا حضرت أبي عليَّ بن الحسين عَلَيهما اَلسَلام الوفاة ضمَّني إلىٰ صدره وقال: يا بنيَّ، أُوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنَّ أباه أوصاه به. يا بنيَّ، اصبر علىٰ الحقِّ وإنْ كان مُرًّا»(1)

الملاحظة الثانية: أنَّ التزام طريق الحقِّ ليس مجّانياً، بل هو يحتاج إلىٰ تقديم تضحيات عديدة، ومن تلك التضحيات هو تحمُّل الكثرة المضادَّة، والترحيب بالقلَّة الموافقة. وليكن المؤمنكما كان بطل التوحيد نبيُّ الله إبراهيم الخليل حينما قال في ما نقله عنه القرآن الكريم: ]إِنِّي ذاهِبٌ إِلىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ 99[ (الصافّات: 99).

فعن سماعة بن مهران، قال: قال لي عبد صالح (صلوات الله عليه): «يا سماعة، أمنوا علىٰ فرشهم وأخافوني(2)، أمَا والله لقد كانت الدنيا وما فيها إلَّا واحد يعبد الله ولو كان معه غيره لأضافه الله عَزَّ وَجَل إليه

ص: 158


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 91/ باب الصبر/ ح 13).
2- أي بالإذاعة وترك التقيَّة، والضمير في (آمنوا) راجع إلىٰ المدَّعين للتشيُّع. (من هامش المصدر).

حيث يقول: ]إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 120[ [النحل: 120]، فغبر بذلك ما شاء الله(1)، ثمّ إنَّ الله آنسه بإسماعيل وإسحاق فصاروا ثلاثة، أمَا والله إنَّ المؤمن لقليل وإنَّ أهل الكفر لكثير، أتدري لِمَ ذاك؟»، فقلت: لا أدري جُعلت فداك، فقال: «صُيِّروا أُنساً للمؤمنين، يبثُّون إليهمما في صدورهم فيستريحون إلىٰ ذلك ويسكنون إليه»(2)

الملاحظة الثالثة: ليكن معلوماً للمؤمن أنَّ تحمُّل الوحدة أو قلَّة الرفاق في طريق الحقِّ لن يذهب عليه من دون أجر، بل إنَّ الله تعالىٰ وعد المؤمن بثواب عظيم إذا ثبت علىٰ الحقِّ، فقد روي عن حمّاد السمدري [أو السمندري]، قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمّد عَلَيهما اَلسَلام : إنّي أدخل بلاد الشرك، وإنَّ من عندنا يقول: إنْ متَّ ثَمَّ حُشِرْتَ معهم؟ قال: فقال لي: «يا حمّاد، إذا كنت ثَمَّ تذكر أمرنا وتدعو إليه؟»، قال: قلت: نعم، قال: «فإذا كنت في هذه المُدُن - مُدُن الإسلام - تذكر أمرنا

ص: 159


1- قوله: (وما فيها) الواو للحال و(ما) نافية. (ولو كان معه غيره) أي من أهل الإيمان. (لإضافة الله عَزَّ وَجَل إليه) لأنَّ الغرض ذكر أهل الإيمان التاركين للشرك حيث قال: ]وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[، فلو كان معه غيره لذكره معه. ]إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً[ لأنَّه كان علىٰ دين لم يكن عليه أحد غيره، فكان أُمَّةً واحدةً، وكان هذا بعد وفات لوط عَلَيه اَلسَلام . وقوله: ]قانِتاً لِلهِ[ أي مطيعاً له. ]حَنِيفاً[ أي مستقيماً علىٰ الطاعة وطريق الحقِّ وهو الإسلام. و قوله: (فغبر) في أكثر النسخ بالغين المعجمة والباء الموحَّدة، أي مكث أو مضىٰ وذهب، فعلىٰ الأوَّل فيه ضمير مستتر راجع إلىٰ إبراهيم، وعلىٰ الثاني فاعله (ما شاء الله)، وفي بعض النسخ: [فصبر]، فهو موافق للأوَّل، وفي بعضها بالعين المهملة، فهو موافق للثاني. (من هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 243 و244/ باب في قلَّة عدد المؤمنين/ ح 5).

وتدعو إليه؟»، قال: قلت: لا، فقال لي: «إنَّك إنْ مِتَّ ثَمَّ حُشِرْتَ أُمَّة وحدك، وسعىٰ نورك بين يديك»(1)

وهذا ما وصف به القرآن الكريم النبيَّ إبراهيم عَلَيه اَلسَلام بأنَّه كان لوحده أُمَّة، قال تعالىٰ: ]إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 120[ (النحل: 120).

الملاحظة الرابعة: علىٰ المؤمن أنْ يقطع وحشة القلَّة بنور الاتِّصال بالغيب، فعن الإمام عليِّ بن الحسين عَلَيهما اَلسَلام أنَّه قال: «لو مات من بين المشرق والمغرب، لما استوحشت بعد أنْ يكون القرآن معي»(2)إنَّ الله تعالىٰ يُبشِّر عباده بأنَّه معهم، فليتذكَّر المؤمن تلك الإشراقات الربّانية عليه في قوله تعالىٰ: ]إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا[ (الحجّ: 38)، وقوله تعالىٰ: ]وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا[ (الطور: 48)، وقوله تعالىٰ: ]وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ[ (الحديد: 4)، وغيرها من الآيات في هذا المعنىٰ.

الملاحظة الخامسة: ينبغي أنْ نلتفت إلىٰ أنَّ المؤمن وإنْ كان يعيش بين قلَّة مثله، إلَّا أنَّ الكثرة لا تعني إلَّا الوحشة الإيمانية، ممَّا يعني أنَّهم قد يُمثِّلون أُنساً للمؤمنين في هذه الحياة الموحشة، ويعني أيضاً أنَّ علىٰ المؤمن أنْ لا يقطع علاقته تماماً بالكثرة، فإنَّ الحياة بالتالي تجمع بين المؤمن وبين غيره، فعليه أنْ يتعايش مع الجميع بما لا يُؤثِّر علىٰ دينه.

ص: 160


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 45 و46/ ح 54/23).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 602/ كتاب فضل القرآن/ ح 13)؛ وفي شرح أُصول الكافي لمولىٰ محمّد صالح المازندراني (ج 11/ ص 21): أراد أنَّ من كان معه القرآن بالتلاوة والتدبُّر في آياته والتفكُّر فيما فيه من أسراره وأحكامه وقَصصه وحكاياته لا يستوحش من الوحدة ولا يهتمُّ بالانقطاع عن الخلق. والظاهر أنَّ المراد بالموت المعنىٰ المعروف مع احتمال أنْ يُراد به انقطاع الخلق كلُّهم عنه، إذ فيه موت نفوسهم بالضلالة والجهالة.

ومن ذلك من يُسمّيهم أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام بإخوان المكاشرة، فقد روي أنَّه قام رجل بالبصرة إلىٰ أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام ، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الإخوان، فقال: «الإخوان صنفان: إخوان الثقة، وإخوان المكاشرة(1)

فأمَّا إخوان الثقة فهم الكفُّ والجناح والأهل والمال، فإذاكنت من أخيك علىٰ حدِّ الثقة فابذل له مالك وبدنك وصافِ من صافاه(2)، وعاد من عاداه، واكتم سرَّه وعيبه، وأظهر منه الحسن، واعلم أيّها السائل أنَّهم أقلّ من الكبريت الأحمر.

وأمَّا إخوان المكاشرة فإنَّك تصيب لذَّتك منهم، فلا تقطعنَّ ذلك منهم ولا تطلبنَّ ما وراء ذلك من ضميرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان»(3)

وعن الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام ، قال: «الإخوان ثلاثة: فواحد كالغذاء الذي يُحتاج إليه كلَّ وقت فهو العاقل، والثاني في معنىٰ الداء وهو الأحمق(4)، والثالث في معنىٰ الدواء فهو اللبيب»(5)

* * *

ص: 161


1- الكشر: ظهور الأسنان في الضحك، وكاشره إذا ضحك في وجهه وباسط، والاسم الكشرة كالعشرة. (من هامش المصدر).
2- أي أخلص الودَّ لمن أخلص له الودَّ. (من هامش المصدر).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 248 و249/ باب في أنَّ المؤمن صنفان/ ح 3).
4- في نهج البلاغة (ج 4/ ص 11)، قال أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «يا بنيَّ إيّاك ومصادقة الأحمق، فإنَّه يريد أنْ ينفعك فيضرّك». وفيه أيضاً (ص 52): وقيل له عَلَيه اَلسَلام : صف لنا العاقل، فقال عَلَيه اَلسَلام : «هو الذي يضع الشيء مواضعه»، فقيل: فصف لنا الجاهل، فقال: «قد فعلت»، (يعني أنَّ الجاهل هو الذي لا يضع الشيء مواضعه، فكأنَّ ترك صفته صفة له إذ كان بخلاف وصف العاقل).
5- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 323).

(27)نفسك أحبّ الأنفس إليك!

اشارة

حُبُّ الخير للنفس ممَّا جُبِلَ عليه الإنسان، فهو لا يريد لها تلفاً طرفة عينٍ أبداً، وهو في هذا لم يخرج عن الطبيعة الإنسانية، ولم يرتكب جريمة تاريخية، فله كلُّ الحقِّ في ذلك، فنفس الإنسان أحبّ الأنفس إليه، ومن حقِّه أنْ يحافظ عليها.

ولكنَّه في مقام العمل قد يتعامل مع نفسه علىٰ أنَّها أبغض الأنفس إليه، وبالتالي، سيكون هذا التعامل عاملاً من عوامل تثبيطها عن هدفها الكمالي الأسمىٰ.

والقاعدة هنا تريد القول: عليك أيّها المؤمن أنْ تتعامل مع ذاتك ونفسك علىٰ أنَّها أحبّ الأنفس إليك، وأنْ يكون هذا التعامل واقعياً، لا خيالياً، وأنْ يكون مبتنياً علىٰ أساسات متينة تضمن لك النجاح والربح والوصول إلىٰ الهدف المنشود.

وحتَّىٰ تكون الصورة واضحة نشير هنا إلىٰ ثلاث نقاط يلزم علىٰ المؤمن أنْ يلتفت إليها في تعامله مع نفسه الحبيبة:

النقطة الأولى: لا تؤذِ نفسك بالمعصية:

كما أنَّ البدن يتأذّىٰ إذا أصابته بعض الأمراض والعلل أو الحوادث المادّية، كذلك الروح تتأذّىٰ إذا أصابتها بعض الأمراض

ص: 162

الروحية، وليس هناك من شيء يُؤلِمها كارتكاب المعصية، وبالتالي، فالذي يدَّعي أنَّه يُحِبُّ ذاته ونفسه، عليه أنْ يحافظ عليها من الآلام الروحية كما يحافظ علىٰ بدنه من الآلام المادّية.

وفي ذلك روي أنَّه قال أبو عبد الله عَلَيه اَلسَلام : «كتب رجل إلىٰ أبي ذرٍّ 2: يا أبا ذرٍّ، أطرفني بشيء من العلم. فكتب إليه: العلم كثير، ولكن إنْ قدرت أنْ لا تُسيء إلىٰ من تُحِبُّه فافعل. قال: فقال له الرجل: وهل رأيت أحداً يُسيء إلىٰ من يُحِبُّه؟ فقال له: نعم، نفسك أحبّ الأنفس إليك، فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها(1)

النقطة الثانية: لا تُشْقِ نفسك ليسعد غيرُك!

إذا كانت نفس المرء هي أحبّ الأنفس إليه، فالمفروض أنْ لا يُشْقِها لأجل سعادة غيره!

صحيحٌ أنَّ علىٰ المؤمن أنْ يلتزم نفقة عياله، وصحيحٌ أنَّ عليه أنْ يُوفِّر لهم الحياة الكريمة، من ملبس ومأكل ومسكن، وصحيحٌ أنَّه ينبغي له أنْ يجعلهم في مأمن من صروف الدهر وغدرات الزمن، ولكن ليس من الصحيح أنْ يُوفِّر هذه الأُمور بهلاك وشقاء نفسه، وحتَّىٰ نكون علىٰ بيِّنة أُلفت النظر إلىٰ التالي:

ص: 163


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 458/ باب محاسبة النفس/ ح 20)؛ وفي شرح أُصول الكافي لمولىٰ محمّد صالح المازندراني (ج 10/ ص 214): لعلَّ المراد به هو الزجر عن إساءة المحبوب الحقيقي وهو الله عَزَّ وَجَل بأنْ لا يقابل نعماه بالكفران ولا يُبدِّل طاعته بالعصيان، والتمثيل بالنفس لإيضاح ما استبعده السائل، وهذه كلمة وجيزة لأنَّ الوفاء بمضمونها متوقِّف علىٰ علم الأخلاق والشرائع كلِّها مع الأعمال القلبية والبدنية طرّها.

أوَّلاً: اسعَ واكسب ما استطعت، لكن بالحلال، فإنَّك إنْ كسبت شيئاً من حرام فلن يشفع لك أهلك وولدك ولا عشيرتك! فإنَّه ]كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ 38[ (المدَّثِّر: 38).

وفي صورة ينقلها لنا القرآن الكريم عن بعض ما يحدث في يوم القيامة، يقول عزَّ من قائل: ]وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 12 وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ 13[ (العنكبوت: 12 و13).

فأنت وحدك من ستتحمَّل تبعات عملك، فكن علىٰ حذر.

ثانياً: لا تكن بخيلاً، لا علىٰ نفسك، ولا علىٰ عيالك، وليكن نصب أعيننا قولُ أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «عجبتُ للبخيل! يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته الغنىٰ الذي إيّاه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويُحاسَب في الآخرة حساب الأغنياء»(1)

ثالثاً: لا تكن خازناً لغيرك، فعليك أنْ تنفع نفسك أوَّلاً، وأنْ تقيها من المصير المظلم، ثمّ تُفكِّر بغيرك، قال تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ6[ (التحريم: 6).

وقال أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام لابنه الحسن عَلَيه اَلسَلام : «يا بنيَّ، لا تُخَلِّفَنَّ وراءك شيئاً من الدنيا، فإنَّك تُخَلِّفه لأحد رجلين: إمَّا رجل عمل فیه

ص: 164


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 29 و30).

بطاعة الله، فسعد بما شقيت به، وإمَّا رجل عمل فيه بمعصية الله، فكنت عوناً له علىٰ معصيته، وليس أحد هذين حقيقاً أنْ تُؤثِره علىٰ نفسك»(1)

وضع في حساباتك ما روي عن الإمام زين العابدين عَلَيه اَلسَلام : «خلق الله الجنَّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيِّداً قرشياً، أمَا سمعت قوله تعالىٰ: ]فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ 101[ (المؤمنون: 101)، والله لا ينفعك غداً إلَّا تقدمةٌ تُقدِّمها من عمل صالح»(2)

النقطة الثالثة: لا تُهِنْ نفسك:

من الطبيعي جدًّا أنَّ الحرَّ - فضلاً عن المؤمن - لا يرضىٰ لنفسه بالإهانة والذلِّ، بل يريد لها العزَّ والسؤدد، وقد نلتفت إلىٰ بعض مفردات العزِّ وما يقابله من الهوان(3)، ولكن قد نغفل عن بعض الأُمور التي تُؤدّي إلىٰ المهانة من حيث لا نشعر، وقد أسعفتنا النصوص الدِّينية بمفردات علينا أنْ نلتفت إليها جيِّداً في هذا المجال، نذكر منها التالي:

أوَّلاً: إظهار العوز والفقر، فإنَّه يُذِلُّ النفس شاء المرء أم أبىٰ، وقد روي عن لقمان الحكيم أنَّه قال لابنه: يا بنيَّ، ذقت الصبر وأكلت لحاءالشجر، فلم أجد شيئاً هو أمرَّ من الفقر، فإنْ بُليتَ به يوماً فلا تُظهِر الناس عليه فيستهينوك ولا ينفعوك بشيء، ارجع إلىٰ الذي ابتلاك به، فهو أقدر علىٰ فرجك وسَلْه، من ذا الذي سأله فلم يُعطِه أو وثق به فلم يُنجِه؟!»(4)

ص: 165


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 96 و97).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 291 و292).
3- راجع: القاعدة (22): كُنْ عزيزاً.
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 22/ باب كراهية المسألة/ ح 8).

فعليك بأنْ تكون كما قال القرآن الكريم: ]يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ[ (البقرة: 273).

ثانياً: التصرُّف برعونة أو من دون حسابٍ جيِّدٍ للموقف، كما روي عن النبيِّ صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال في وصيَّته لأمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «يا عليُّ، ثمانية إنْ أُهينوا فلا يلوموا إلَّا أنفسهم»(1):

1 - «الذاهب إلىٰ مائدة لم يُدْعَ إليها»، أي إذا كانت المائدة مبذولة لأُناس مخصوصين بالدعوة، فإنَّ الذي يذهب من دون دعوة، إذا أُهين فلا يلومنَّ إلَّا نفسه.

2 - «والمتأمِّر علىٰ ربِّ البيت»، أي الذي يُصدِر أوامرَ علىٰ صاحب بيت هو جالس فيه، فالضيف ينبغي له أنْ يلتزم الأدب في بيت غيره.

3 - «وطالب الخير من أعدائه»، فما الذي تتوقَّعه من عدوِّك؟ هل تتوقَّع أنْ يُعطيك حاجتك بكلِّ احترام وحفظ للمقام؟!

4 - «وطالب الفضل من اللئام»، فاللئيم يخذل المرء وقد يُهينه بقصد أو بدون قصد، وقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «إيّاك أنْ تعتمد علىٰ اللئيم، فإنَّه يخذل من اعتمد عليه(2)،وبذل الوجه إلىٰ اللئام الموت الأكبر»(3)

5 - «والداخل بين اثنين في سرٍّ لهم لم يُدخِلاه فيه»، إذ لا شكَّ أنَّهما حينما لم يُدخِلاه في سرِّهما فهما لا يريدان أنْ يطَّلع عليه، فإذا دسَّ الفرد أنفه في ذلك لم يجد إلَّا ما لا يُحِبُّ.

ص: 166


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 410).
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 95).
3- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 195).

6 - «والمستخفُّ بالسلطان»، إذ لا توجد قيود أو حدود يمكن للسلطان الظالم أنْ يتوقَّف عندها، فلا يأمن الفرد إذا استهان بالسلطان من إهانة السلطان له، لذلك، علىٰ المؤمن أنْ يتحيَّن الفرصة المناسبة التي تحفظ عزَّة نفسه عند كلامه مع السلطان، وإذا كان الموقف يستلزم الوقوف ضدَّ السلطان بعزَّة نفس، فليقف المؤمن ولو كان ثمن وقفته تلك حياته.

7 - «والجالس في مجلس ليس له بأهل»، وهذا يمكن أنْ نُفسِّره بتفسيرين:

الأوَّل: أنْ يذهب الفرد إلىٰ أماكن مشبوهة أو يُصاحب أُناساً مشبوهين ويجلس معهم، فإنَّ أمثال تلك المجالس ممَّا يجرُّ الشكَّ إليه، وممَّا يجعله في موضع إهانة ولو بعد حين، ولذا فإنَّ «من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنَّ من أساء به الظنَّ»، كما يقول أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام (1)

الثاني: في الأعراف الاجتماعية هناك مجالس محدَّدة لأشخاص لهم نوع من الوجاهة مثلاً، وما دون تلك المجالسالمحدَّدة تكون للأصغر عمراً أو للأقلّ شأناً اجتماعياً وهكذا، فإذا جلس الفرد في مجلس هو أعلىٰ من شأنه الاجتماعي، فإنَّه يُعرِّض نفسه للإهانة، أو علىٰ الأقلّ سيُطلَب منه أنْ ينزل عن ذلك المجلس إلىٰ ما هو دونه، وهو نوع من الإهانة أيضاً، وإنْ كانت مخفَّفة، ولذلك وردت النصوص التربوية آمرةً المؤمن بأنْ يجلس في مجلس هو أقلّ من مستواه، حتَّىٰ يتمَّ رفعه إلىٰ مجلسه المناسب، وبالتالي سيكون في هذا إظهار لرفعته وإكراماً له، فعن أمير

ص: 167


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 41).

المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «لا تُسرعنَّ إلىٰ أرفع موضع في المجلس، فإنَّ الموضع الذي تُرفَع إليه خيرٌ من الموضع الذي تُحَطُّ عنه»(1)

وفي وصيَّة الإمام الكاظم عَلَيه اَلسَلام لهشام بن الحكم: «يا هشام، إنَّ أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام كان يقول: إنَّ من علامة العاقل أنْ يكون فيه ثلاث خصال: يُجيب إذا سُئِلَ، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء فهو أحمق. إنَّ أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام قال: لا يجلس في صدر المجلس إلَّا رجل فيه هذه الخصال الثلاث أو واحدة منهنَّ، فمن لم يكن فيه شيء منهنَّ فجلس فهو أحمق»(2)

8 - «والمقبل بالحديث علىٰ من لا يسمع منه»، فلا ترمِ حديثك إلَّا في موضع مناسب ووقت مناسب، وقد روي أنَّه قال الإمام الحسين بن عليٍّ عَلَيهما اَلسَلام يوماً لابن عبّاس: «لا تتكلَّمَنَّ فيما لايعنيك، فإنّي أخاف عليك الوزر، ولا تتكلَّمَنَّ فيما يعنيك حتَّىٰ ترىٰ للكلام موضعاً، فرُبَّ متكلِّم قد تكلَّم بالحقِّ فعِيْبَ»(3)

* * *

ص: 168


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 522).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 19/ كتاب العقل والجهل/ ح 12).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 127).

(28)احذر من إحباط العمل

اشارة

لا شكَّ أنَّ هدف المؤمن هي الآخرة، ولا شكَّ أنَّه يهدف منها إلىٰ الربح الأُخروي الخالد، وهذا أمر ليس مجّانياً، بل إنَّ له ثمناً علىٰ المؤمن أنْ يدفعه، حتَّىٰ يحصل علىٰ غايته، قال تعالىٰ: ]إِنَّ اللهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 111[ (التوبة: 111).

فالجنَّة ليست مجّانية، وإنَّما لها ثمن كما بيَّنت الآية الكريمة.

فالعمل هو ثمن الجنَّة، وكلَّما زاد المؤمن من أعماله الحسنة كلَّما اقترب من الحصول عليها، وهذا أمر واضح.

ولكن هناك حقيقة مُرَّة لا بدَّ أنْ نتجرَّع مرارة معرفتها، ونحذر من الوقوع في مصيدتها، وهي أنَّ العمل مهدَّد بأنْ يسقط من اليد في منتصف الطريق قبل أنْ يصل الفرد به إلىٰ ساحة المحشر، فلا يبقىٰ للفرد منه إلَّا التعب والنصب، الأمر الذي يُسمّيه الإسلام بالإحباط.

وقد بيَّنه الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله بقوله فيما روي عنه أنَّه قال: «من قال: (سبحان الله) غرس الله له بها شجرة في

ص: 169

الجنَّة، ومنقال: (الحمد لله) غرس الله له بها شجرة في الجنَّة، ومن قال: (لا إله إلَّا الله) غرس الله له بها شجرة في الجنَّة، ومن قال: (الله أكبر) غرس الله له بها شجرة في الجنَّة»، فقال رجل من قريش: يا رسول الله، إنَّ شجرنا في الجنَّة لكثير، قال: «نعم، ولكن إيّاكم أنْ تُرسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك أنَّ الله عَزَّ وَجَل يقول: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ 33[ (محمّد: 33)(1)

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة نذكر النقاط التالية:

النقطة الأولى: معنى الإحباط:

يأتي (الحبط) في اللغة علىٰ عدَّة معانٍ، وما يتناسب مع مقامنا هو التالي(2):

1 - حبِطت الدابَّة حبطاً، إذا أصابت مرعىً طيِّباً فأفرطت في الأكل حتَّىٰ تنتفخ فتموت.

فهي كناية عن بداية جيِّدة واستفادةٍ مرجوَّة، لكن يعقبها عدم حساب دقيق للنتائج، بحيث تأتي النتائج عكسية.

2 - أحبط ماء الرَّكيَّة (أي البئر)، إذا ذهب ذهاباً لا يعود كما كان.

وهي كناية عن خسران شيء نافع، بحيث يذهب عنه أصله.

3 - إذا عمل الرجل عملاً ثمّ أفسده قيل: حبط عمله.

4 - أحبط عن فلان: أعرض، يقال: قد تعلَّق به ثمّ أحبطعنه، إذا تركه وأعرض عنه.

وكلُّ هذه المعاني تشترك في أنَّ الفرد يبدأ عملاً لكنَّه يُفسِده أو يُبطِله أو يُضيِّعه بيده هو، بسبب عدم حساب النتائج بدقَّة، أو عدم الاهتمام به وما شابه.

والإحباط في الاصطلاح الإسلامي لم يخرج عن هذه المعاني اللغوية، فهو

ص: 170


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 704 و705/ ح 968/16).
2- تاج العروس للزبيدي (ج 10/ ص 213/ مادَّة حبط).

بمعنىٰ إبطال الأعمال الصالحة التي كان الفرد قد أتعب نفسه في إنجازها، بحيث لا يبقىٰ له من العمل إلَّا التعب، بل اللوم، وربَّما العقاب.

النقطة الثانية:

(هناك بحث بين علماء العقائد في صحَّة الإحباط... بالنسبة لثواب الأعمال الصالحة...، والمشهور بين المتكلِّمين الإماميَّة كما يقول العلامة المجلسي هو بطلان الإحباط...(1)، غاية الأمر أنَّهم يرون أنَّ تحقُّق الثواب مشروط أنْ يستمرَّ الإنسان علىٰ إيمانه في الدنيا إلىٰ النهاية...)(2)

وسواء ثبت الإحباط أو لا، وسواء كان معناه هو إلغاء العمل الصالح تماماً أو إلغاء ثوابه، فإنَّ علىٰ المؤمن أنْ يحذر من أنْ يقع في سببٍ يُؤدّي به إلىٰ إحباط عمله، ولو علىٰ نحو احتمال انتفاء ثواب العمل الصالح، فإنَّ الاحتياط العقلي يقتضي أنْ يُحيط المؤمن عمله الصالح بسور من الورع والتقوىٰ والابتعاد عنالحرام.

وبعبارة أُخرىٰ: إنَّ معنىٰ الإحباط هو أنْ يقوم العبد بعمل سيِّئة لها أثر في إبطال عمل صالح سابق أو إبطال ثوابه علىٰ الأقلّ، وحيث إنَّ المطلوب من المؤمن الابتعاد بل الهرب من الذنوب صغيرها وكبيرها وعلىٰ طول خطِّ وجوده في الحياة، فلا فرق حينها بين ثبوت الإحباط أو عدم ثبوته وبأيِّ معنىً كان.

النقطة الثالثة:

اشارة

إنَّ للإحباط أسباباً عديدة نذكر بعضاً مهمًّا منها، وهو التالي:

ص: 171


1- هناك خلاف في ذلك أشار إليه صاحب البحار في تحقيق له (ج 5/ ص 332 وما بعدها)، و(ج 68/ ص 197 وما بعدها).
2- تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (ج 2/ ص 109).
أوَّلاً: عدم الورع:

وهو أهمّها وأخطرها، فقد روي عن سليمان بن خالد، قال: سألت أبا عبد الله عَلَيه اَلسَلام عن قول الله عَزَّ وَجَل: ]وَقَدِمْنا إِلىٰ ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً 23[ [الفرقان: 23]، قال: «أمَا والله إنْ كانت أعمالهم أشدّ بياضاً من القباطي(1)، ولكن كانوا إذا عرض لهم الحرام لم يدعوه»(2)

وروي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال: «لأعلمنَّ أقواماً من أُمَّتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله هباءً منثوراً! أمَا إنَّهم إخوانكم من أهل جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنَّهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها»(3)

ثانياً: الرياء:

فإنَّه يُبطِل العمل كما صرَّح بذلك الفقهاء، ولذلك حذَّرت الروايات منه كثيراً، إلىٰ الحدِّ الذي اعتبرته الشرك الخفي.

عن النبيِّ الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «إنَّ المَلَك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فإذا صعد بحسناته يقول الله عَزَّ وَجَل: اجعلوها في سجّين(4)، إنَّه ليس إيّاي أراد بها»(5)

ص: 172


1- القباطي - بالفتح - الثياب البيض الرقاق المصرية، والقِبط - بالكسر - يقال لأهل مصر. (من هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 81/ باب اجتناب المحارم/ ح 5).
3- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 16/ ص 5/ ح 43685)؛ وميزان الحكمة للريشهري (ج 1/ ص 528/ مادَّة الحبط).
4- أي أثبتوا تلك الأعمال، أو التي تزعمون أنَّها حسنات في ديوان الفُجّار الذي هو في سجّين كما قال تعالىٰ: ]كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ 7[ [المطفِّفين: 7]. (من هامش المصدر).
5- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 294 و295/ باب الرياء/ ح 7).

وعنه صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «إنَّ المرائي يُنادىٰ يوم القيامة: يا فاجر! يا غادر! يا مرائي! ضلَّ عملك، وبطل أجرك، اذهب فخذ أجرك ممَّن كنت تعمل له»(1)

ثالثاً: عقوق الوالدين:

فإنَّه من الذنوب التي تُعجَّل عقوبتها، كما نصَّت الروايات الشريفة، وهو ممَّا يُؤدّي إلىٰ عدم قبول العمل إلَّا مع رضاهما.

وقد روي عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «من نظر إلىٰ أبويه نظر ماقت وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة»(2)

وعن أبي جعفر عَلَيه اَلسَلام ، قال: «إنَّ أبي نظر إلىٰ رجل ومعه ابنه يمشي، والابن متَّكئ علىٰ ذراع الأب»، قال: «فما كلَّمه أبي عَلَيه اَلسَلام مقتاً له حتَّىٰ فارق الدنيا»(3)

رابعاً: الغصب:

فإنَّه حرام واضح، والغاصب مغضوب عليه إلَّا إذا أرجع ما غصبه إلىٰ أهله، وإنَّ الغصب ممَّا يُؤدّي إلىٰ إحباط العمل، وقد روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال: «من اقتطع مال مؤمن غصباً بغير حقِّه، لم يزل الله عَزَّ وَجَل معرضاً عنه، ماقتاً لأعماله التي يعملها من البِرِّ والخير، لا يُثبِتها في حسناته حتَّىٰ يتوب ويردَّ المال الذي أخذه إلىٰ صاحبه»(4)

* * *

ص: 173


1- منية المريد للشهيد الثاني (ص 318).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 349/ باب العقوق/ ح 5).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 349/ باب العقوق/ ح 8).
4- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 273).

(29)كفِّر عن ذنوبك

اشارة

الذنب هو مخالفة قانون إلهي، يترتَّب عليه استحقاق العقوبة من الله تعالىٰ، والعقوبة هي بمستوىٰ لا يمكن أنْ يتحمَّله بدن الإنسان الضعيف، الأمر الذي بيَّنه أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام بقوله: «اعلموا أنَّه ليس لهذا الجلد الرقيق صبرٌ علىٰ النار، فارحموا نفوسكم، فإنَّكم قد جرَّبتموها في مصائب الدنيا. أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تُصيبه، والعثرة تُدميه، والرمضاء تُحرقه؟ فكيف إذا كان بين طابقين من نار، ضجيع حجر وقرين شيطان؟ أعلمتم أنَّ مالكاً إذا غضب علىٰ النار حطم بعضها بعضاً لغضبه، وإذا زجرها توثَّبت بين أبوابها جزعاً من زجرته...؟(1)».

ولكن هل مجرَّد ارتكاب المعصية يعني أنَّها كُتِبَت ورُفِعَت الأقلام وجفَّت الصُّحُف؟

كلَّا، فإنَّ الله تعالىٰ أبىٰ إلَّا أنْ يكون رحيماً بعباده، ففتح لهم نافذة واسعة يستطيعون من خلالها التكفير عن مخالفاتهم ومحوها، وحتَّىٰ تتَّضح الصورة نتكلَّم في نقطتين:

النقطة الأولى: معنى التكفير:

الكفر لغةً مأخوذ من التغطية، ولذا سُمّي الليل كافراً لأنَّه يستر

ص: 174


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 112 و113).

بظلمته كلَّ شيء، وسُمّي البحر كافراً أيضاً لأنَّه يستر ما فيه، وكذا السحاب المظلم لأنَّه يستر ما تحته، وسُمّي الزارع كافراً لستره البذر بالتراب، ومنه قوله تعالىٰ: ]كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ[ (الحديد: 20)، وكذلك القبر سُمّي كافراً لأنَّه يستر البدن(1)

وإنَّما سُمّي الكافر بالله تعالىٰ كافراً لأنَّه يُغطّي الحقيقة ويُلقي ظلاماً علىٰ فطرته التي تنادي به كلَّ صباح ومساء أنْ آمن بالله تعالىٰ، قال تعالىٰ: ]وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا[ (النمل: 14).

هذا كلُّه في المعنىٰ اللغوي.

والمقصود من التكفير في الذنوب لا يخرج كثيراً عن هذا المعنىٰ اللغوي، فالتكفير هنا هو بمعنىٰ: ستر الذنب وتغطيته، وقوله تعالىٰ: ]لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ[ (المائدة: 65)، أي سترناها حتَّىٰ تصير كأنْ لم تكن، أو يكون المعنىٰ: نُذهِبها ونُزيلها...(2)، أي سترناها عليهم، وغفرناها لهم(3)

فالتكفير باختصار إمَّا بمعنىٰ إلغاء وحذف الذنوب السابقة تماماً، وإمَّا إلغاء العقوبة المترتِّبة عليها. وهو علىٰ كلِّ حالٍ تجلٍّ واضح جدًّا للرحمة الإلهيَّة(4)

ص: 175


1- تاج العروس للزبيدي (ج 7/ ص 450/ مادَّة كفر).
2- المصدر السابق.
3- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 3/ ص 379).
4- في تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (ج 5/ ص 409): وأمَّا الفرق بين (تكفير السيِّئات) و(الغفران)، فقد قال بعض المفسِّرين بأنَّ الأُولىٰ إشارة إلىٰ الحجب من الدنيا، والثانية إلىٰ النجاة من الجزاء الأُخروي، ويرد احتمال آخر هنا وهو أنَّ (تكفير السيِّئات) تشير للآثار النفسية والاجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوىٰ، ولكن (الغفران) إشارة إلىٰ مسألة العفو الإلهي والخلاص من الجزاء...

النقطة الثانية: ما هي مكفِّرات الذنوب؟

اشارة

لقد وفَّرت لنا النصوص الدِّينية جهد البحث عن تلك المكفِّرات، وأرفدتنا بها بكلِّ وضوح، وهي كثيرة، والذي يمكن أنْ نراه فيها أنَّها علىٰ نوعين:

النوع الأوَّل: لا إرادي:
اشارة

أي إنَّ هناك بعض الأُمور التي تُعتَبر من مكفِّرات الذنوب، ولكنَّها تنزل علىٰ الإنسان وتتلبَّس به من دون إرادته، بل لعلَّه لا يعلم بأنَّها من مكفِّرات الذنوب، ولعلَّه يكره أنْ تنزل به، ولكنَّ الله تعالىٰ ومن باب اللطف بعباده والرحمة بهم، يُنزل تلك الأُمور عليهم ليغفر لهم، إذا ما صبروا ولم يخرجوا عن حدِّ الإيمان. ومن تلك الأُمور التالي:

أوَّلاً: العقوبة في الدنيا:

فقد روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «إنَّ المؤمن إذا قارف الذنوب وابتُلي بها ابتُلي بالفقر، فإنْ كان في ذلك كفّارة لذنوبه وإلَّا ابتُلي بالمرض، فإنْ كان في ذلك كفّارة لذنوبه وإلَّا ابتُلي بالخوف من السلطان يطلبه، فإنْ كان في ذلك كفّارة لذنوبه وإلَّا ضُيِّق عليه عند خروج نفسه، حتَّىٰ يلقاه وما له من ذنب يدَّعيه عليه، فيأمر بهإلىٰ الجنَّة. وإنَّ الكافر والمنافق ليُهوِّن عليهما خروج أنفسِهما حتَّىٰ يلقيان(1) الله حين يلقيانه، وما لهما عنده من حسنة يدَّعيانها عليه، فيأمر بهما إلىٰ النار»(2)

ثانياً: الأمراض في الدنيا:

ص: 176


1- هكذا في المصدر، والأصحّ: (يلقيا) بحذف النون، لتقدُّم (حتَّىٰ) علىٰ الفعل الذي هو من الأفعال الخمسة التي تُنصَب بحذف النون.
2- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 175).

فقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «إذا ابتلىٰ الله عبداً أسقط عنه من الذنوب بقدر علَّته»(1)

ولكن بشرط، وهو ما ذكره الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام فيما روي عنه: «من اشتكىٰ ليلة فقبلها بقبولها وأدّىٰ إلىٰ الله شكرها، كانت له كفّارة ستّين سنة»، قال الراوي أبو عبد الرحمن: قلت: وما معنىٰ قبلها بقبولها؟ قال: «صبر علىٰ ما كان فيها»(2)

ثالثاً: الهمُّ والحزن:

فإنَّها من مكدِّرات الخواطر بلا شكٍّ، وتذكر بعض الروايات أنَّها قد تكون بسبب صدور بعض الذنوب من العباد، فيكون تكفير تلك الذنوب بالهمِّ والحزن، وقد روي عن الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «ساعات الهموم ساعات الكفّارات، ولا يزال الهمُّ بالمؤمن حتَّىٰ يدعه وما له من ذنب»(3)وعنه صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «إنَّ من الذنوب ذنوباً لا يُكفِّرها صلاة ولا صوم!»، قيل: يا رسول الله، فما يُكفِّرها؟ قال: «الهموم في طلب المعيشة»(4)

رابعاً: استغفار الملائكة:

فقد روي عن الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال لأبي بصير: «يا أبا محمّد، إنَّ لله عَزَّ وَجَل ملائكة يُسقِطون الذنوب عن ظهور شيعتنا، كما يُسقِط الريح الورق في أوان سقوطه، وذلك قوله عَزَّ وَجَل: ]الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ

ص: 177


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1/ ص 218).
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 193).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 64/ ص 244).
4- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 56/ ح 141).

وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ 7[ [غافر: 7]، استغفارهم والله لكم...»(1)

خامساً: الموت:

فقد روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال: «الموت كفّارة لذنوب المؤمنين»(2)

سادساً: العذاب في البرزخ:

البرزخ هو القبر، وتُؤكِّد النصوص الدِّينية علىٰ أنَّ القبر إمَّا روضة من رياض الجنَّة أو حفرة من حُفَر النيران، أي إنَّه عبارة عن محكمة مصغَّرة عن الآخرة، وبالتالي فإنَّ المؤمن إذا كان عليه بعض الذنوب فإنَّه يأخذ جزاءها في البرزخ حتَّىٰ يقوم يومالقيامة سالماً من آثارها، وقد روي عن الإمام الرضا عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «]فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ 39[ [الرحمن: 39]، والمعنىٰ: أنَّ من اعتقد الحقَّ ثمّ أذنب ولم يتب في الدنيا عُذِّب عليه في البرزخ، ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يُسئَل عنه»(3)

النوع الثاني: إرادي:
اشارة

أي إنَّه لا بدَّ أنْ يقوم العبد ببعض الأفعال الحسنة التي يكون لها أثر في تكفير الذنوب، وعنوان هذه الأفعال هو: فعل الحسنات عموماً.

فإنَّها في الوقت الذي تزيد من رصيد المؤمن الإيجابي، تعمل

ص: 178


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 8/ ص 34/ مقامات الشيعة وفضائلهم.../ ح 6).
2- أمالي الشيخ المفيد (ص 283).
3- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 9/ ص 343 و344).

بعضها علىٰ تكفير الذنوب السابقة، وقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «إنَّ الله تعالىٰ يُكفِّر بكلِّ حسنة سيِّئة، قال الله عَزَّ وَجَل: ]إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرىٰ لِلذَّاكِرِينَ 114[ [هود: 114]»(1)

أمَّا ما هي تلك الحسنات؟ فهذا ما وضَّحته لنا النصوص الدِّينية، ونذكر منها التالي:

أوَّلاً: الصلاة:

وهذا أمر واضح من سياق قوله تعالىٰ: ]وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرىٰ لِلذَّاكِرِينَ 114[ (هود: 114).

وقد روي عن الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «لو كان علىٰ باب أحدكمنهر، فاغتسل منه كلَّ يوم خمس مرّات، هل كان يبقىٰ علىٰ جسده من الدَّرَن شيء؟! إنَّما مثل الصلاة مثل النهر الذي يُنقّي الدَّرَن، كلَّما صلّىٰ صلاة كان كفّارة لذنوبه، إلَّا ذنبٍ أخرجه من الإيمان مقيم عليه»(2)

ثانياً: حسن الخُلُق:

فقد روي عن أبي عبد الله عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «إنَّ حسن الخُلُق يُذيب الخطيئة كما تُذيب الشمس الجليد، وإنَّ سوء الخُلُق ليُفسِد العمل كما يُفسِد الخلُّ العسلَ»(3)

ثالثاً: كثرة السجود لله تعالىٰ:

فقد روي أنَّه جاء رجل إلىٰ رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله، فقال: يا رسول الله،

ص: 179


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 26).
2- الأُصول الستَّة عشر لعدَّة محدِّثين (ص 73).
3- كتاب الزهد للحسين بن سعيد الكوفي (ص 29 و30/ ح 73).

كثرت ذنوبي وضعف عملي؟ فقال رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله: «أكثِر السجود، فإنَّه يُحِطُّ الذنوب كما تُحِطُّ الريح ورق الشجر»(1)

رابعاً: إغاثة الملهوف:

فقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام : «من كفّارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب»(2)

خامساً: الحجُّ والعمرة:

فقد روي أنَّ رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله قال: «العمرة إلىٰ العمرة كفّارة ما بينهما، والحجَّة المتقبَّلة ثوابها الجنَّة، ومن الذنوب ذنوب لاتُغفَر إلَّا بعرفات»(3)

سادساً: الصلاة علىٰ محمّد وآله الطاهرين:

فقد روي عن الإمام الرضا عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «من لم يقدر علىٰ ما يُكفِّر به ذنوبه، فليُكثِر من الصلاة علىٰ محمّد وآله، فإنَّها تهدم الذنوب هدماً»(4)

* * *

ص: 180


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 589/ ح 814/11).
2- الدعوات لقطب الدِّين الراوندي (ص 223/ ح 615).
3- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1/ ص 294).
4- أمالي الشيخ الصدوق (ص 131/ ح 123/8).

(30)الاهتمام بحسن العاقبة

تعوَّدنا في المنتجات الصناعية أنْ نقرأ تاريخ نفادها، أي انتهاء مدَّة صلاحية استعمالها، سواء كانت طعاماً أو جهازاً معيَّناً أو حتَّىٰ عمارة مبنيَّة أو جسراً أو طائرةً، فلكلٍّ منها تاريخ نفاد.

في عالم أعمال الإنسان لا يوجد تاريخ نفاد، أي إنَّه لا يوجد عمل له مدَّة وينتهي من حيث النتائج، فقد ينتهي نفس الوجود الفيزيائي للعمل في غضون ثوانٍ، ولكن أثره يبقىٰ إلىٰ أنْ يرافق الإنسان في آخرة الخلود، فقد يتكلَّم الفرد بكلمة فتكون كما روي عن الرسول الأعظم صَلَ الله عَلیهِ وَ آله في موعظته لأبي ذرٍّ: «يا أبا ذرٍّ، إنَّ الرجل يتكلَّم بالكلمة من رضوان الله (جلَّ ثناؤه) فيكتب له بها رضوانه إلىٰ يوم القيامة، وإنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة في المجلس ليُضحِكهم بها فيهوي في جهنَّم ما بين السماء والأرض. يا أبا ذرٍّ، ويل للذي يُحدِّث فيكذب ليُضحِك القوم، ويل له، ويل له، ويل له»(1)

ولذلك يُؤكِّد القرآن علىٰ أنَّ الذي يرافق المرء في يوم القيامة إنَّما هي أعماله التي عملها في حياته هذه، فهي لا تفنىٰ وإنْ فنىٰ البدن.قال تعالىٰ: ]مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزىٰ إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ 160[ (الأنعام: 160).

ص: 181


1- أمالي الشيخ الطوسي (ص 536 و537).

وفي موقف مهول، يحكيه القرآن الكريم بقوله عزَّ من قائل: ]وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ 87 وَتَرَىٰ الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ 88 مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ 89 وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 90[ (النمل: 87 - 90).

وكما يمكن أنْ تُصاب الأطعمة بما يُفسِدها قبل وقت انتهاء صلاحيتها المتوقَّع، كذلك يمكن أنْ تُصاب الأعمال بما يُفسِدها، وبالتالي يُحوِّلها إلىٰ غير نتيجتها المتوقَّعة - كما تقدَّم الكلام حول هذا الأمر في قاعدة تجنُّب الإحباط -.

ومن هنا، فعلىٰ المؤمن أنْ يلتفت إلىٰ أمرين:

الأمر الأوَّل: ضرورة الجد في عمل الحسنة وترك السيِّئة.

الأمر الثاني: ضرورة المحافظة علىٰ الحسنات والابتعاد عن السيِّئات إلىٰ آخر العمر.

والأمر الثاني لا يقلُّ أهمّيةً ولا خطورةً عن الأمر الأوَّل.

ولذلك جاءت التوصيات الدِّينية بضرورة الاهتمام بالعاقبة والخاتمة الحسنة، فليس مهمًّا فقط فعل الحسنة، وإنَّما المهمُّ أيضاً المحافظة عليها إلىٰ أنْ تجيء معك يوم القيامة.ولذلك، نجد أنَّ هناك أُناساً بدؤوا حياتهم كأفضل ما يُرام، ولكنَّهم تعثَّروا في وسط الطريق أو في آخره، ولم يقوموا بعد عثرتهم، وحالهم حال ما نُقِلَ عن ابن مالك صاحب الألفية أنَّه قال:

عصيتُ هوىٰ نفسي صغيراً، فعندما *** دهتني الليالي بالمشيب وبالكبر

ص: 182

أطعتُ الهوىٰ! عكس القضيَّة ليتني *** خُلِقْتُ كبيراً ثمّ عُدْتُ إلىٰ الصغر(1)

وليس بعيداً عن الأذهان بلعم بن باعورا(2)، الذي كان يُتوقَّع أنْ يكون من القدوات الصالحة، ولكنَّه وكما نقل القرآن الكريم: ]وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ 175 وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَىٰ الْأَرضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنافَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 176[ (الأعراف: 175 و176).

ولا الشلمغاني(3) الذي كان يُتوقَّع منه أنْ يكون وجهاً مشرقاً من وجوه علماء الغيبة الصغرىٰ، ولكنَّه أخلد إلىٰ الأرض واتَّبع هواه

ص: 183


1- نُقِلَ أنَّ ابنه بدر الدِّين أجابه: أبي قال قولاً شاع في البدو والحضر *** وحثَّ علىٰ الاحسان كُلّاً وما اقتصر هنيئاً له، إذ لم يكن كابنه الذي *** أطاع الهوىٰ في الحالتين وما اعتذر
2- في تفسير القمّي (ج 1/ ص 248): عن أبي الحسن الرضا عَلَيه اَلسَلام أنَّه «أُعطي بلعم بن باعورا الاسم الأعظم، فكان يدعو به فيُستجاب له، فمال إلىٰ فرعون، فلمَّا مرَّ فرعون في طلب موسىٰ وأصحابه قال فرعون لبلعم: ادعو الله علىٰ موسىٰ وأصحابه ليحبسه علينا، فركب حمارته ليمرَّ في طلب موسىٰ وأصحابه، فامتنعت عليه حمارته، فأقبل يضربها، فأنطقها الله عَزَّ وَجَل، فقالت: ويلك علىٰ ما تضربني؟ أتريد أجيء معك لتدعو علىٰ موسىٰ نبيِّ الله وقوم مؤمنين؟ فلم يزل يضربها حتَّىٰ قتلها، وانسلخ الاسم الأعظم من لسانه. وفي تفسير جوامع الجامع للشيخ الطبرسي (ج 1/ ص 722): قيل: إنَّ بلعم طلب منه قومه أنْ يدعو علىٰ موسىٰ ومن معه، فأبىٰ وقال: كيف أدعو علىٰ من معه الملائكة؟! فألحُّوا عليه حتَّىٰ فعل، فخرج لسانه فوقع علىٰ صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب.
3- في كتاب رجال النجاشي (ص 378/ الرقم 1029): محمّد بن عليٍّ الشلمغاني أبو جعفر المعروف بابن أبي العزاقر، كان متقدِّماً في أصحابنا، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح علىٰ ترك المذهب والدخول في المذاهب الرديئة (الرديَّة)، حتَّىٰ خرجت فيه توقيعات، فأخذه السلطان وقتله وصلبه.

أيضاً.

وهكذا لو قلَّبت صفحات التاريخ لوجدت العشرات من أُولئك الذين انقلبوا علىٰ أعقابهم. وربَّما نجد عشرات الأمثلة من حياتنا اليومية.

أمام هذا الواقع، علينا أنْ نلتفت هنا إلىٰ عدَّة نقاط:

النقطة الأُولىٰ: علىٰ المؤمن أنْ يسعىٰ جهده لتكثير الأعمال الصالحة، وأنْ يُراعي كثيراً جانب (الورع) فيها، فيجتنب السيِّئات مهما حقرت أو صغرت، فإنَّ تراكم الحسنات من شأنه أنْ يُولِّد بعض الحصانة للمؤمن من الوقوع في وادٍ سحيق.

عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أخفىٰ أربعة في أربعة: أخفىٰ رضاه في طاعته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من طاعته، فربَّما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفىٰ سخطه في معصيته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من معصيته، فربَّما وافق سخطَه معصيتُه(1) وأنت لا تعلم. وأخفىٰ إجابته في دعوته، فلاتستصغرنَّ شيئاً من دعائه، فربَّما وافق إجابته وأنت لا تعلم. وأخفىٰ وليَّه في عباده، فلا تستصغرنَّ عبداً من عبيد الله، فربَّما يكون وليَّه وأنت لا تعلم»(2)

النقطة الثانية: أنَّ ملاك العمل ليس ببداية وقوعه، وإنَّما في عمله ثمّ الحفاظ عليه من أنْ يُحبط بعمل سيِّئ، وبالتالي، علىٰ المؤمن أنْ يكون حذراً جدًّا من خسرانه ما عمل من أعمال صالحة، ممَّا تَعِبَ في تحصيلها،

ص: 184


1- في كمال الدِّين للشيخ الصدوق (ص 296/ باب 26/ ح 4): «فربَّما وافق سخطه وأنت لا تعلم»، وهو أوضح ممَّا في الخصال.
2- الخصال للشيخ الصدوق (ص 209 و210).

وبذل جهده ووقته وربَّما راحته وماله من أجلها.

عن أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام أنَّه قال: «الدنيا كلُّها جهل إلَّا مواضع العلم، والعلم كلُّه حجَّة إلَّا ما عُمِلَ به، والعمل كلُّه رياء إلَّا ما كان مخلصاً، و الإخلاص علىٰ خطر حتَّىٰ ينظر العبد بما يُختَم له»(1)

وروي أنَّه قال عيسىٰ بن مريم عَلَيهما اَلسَلام : «يا معشر الحواريين، بحقٍّ أقول لكم: إنَّ الناس يقولون: إنَّ البناء بأساسه، وأنا لا أقول لكم كذلك»، قالوا: فماذا تقول يا روح الله؟ قال: «بحقٍّ أقول لكم: إنَّ آخر حجر يضعه العامل هو الأساس»(2)

النقطة الثالثة: علىٰ المؤمن أنْ يعيش الخوف، وما يستلزمه من الحذر، من الانقلاب علىٰ العقب، وأنْ يتحسَّس هذا الشعورعملياً، فلا يطمئن لنفسه أبداً، بل يبقىٰ متيقِّظاً لخدعها، علَّها تخدعه بشيء يحسب أنَّه حسن، ومن هنا روي عن رسول الله صَلَ الله عَلیهِ وَ آله أنَّه قال: «لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لا يتيقَّن الوصول إلىٰ رضوان الله، حتَّىٰ يكون وقت نزع روحه وظهور مَلَك الموت له»(3)

النقطة الرابعة: علىٰ المؤمن أنْ يلتفت إلىٰ أنَّ هناك مقتضيات لتحصيل حسن العاقبة، عليه أنْ يعمل علىٰ تحصيلها وتفعيلها في حياته اليومية، وقد أرفدتنا الروايات الشريفة بها، ومن ذلك ما روي أنَّه كتب الإمام الصادق عَلَيه اَلسَلام إلىٰ بعض الناس: «إنْ أردت أنْ يُختَم بخير عملُك حتَّىٰ تُقبَض وأنت في أفضل الأعمال: فعظِّم لله حقَّه أنْ لا تبذل نعماءه في

ص: 185


1- التوحيد للشيخ الصدوق (ص 371).
2- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 348).
3- التفسير المنسوب إلىٰ لإمام العسكري عَلَيه اَلسَلام (ص 239/ ح 117).

معاصيه، وأنْ تغتر بحلمه عنك، وأكرم كلَّ من وجدته يُذكَر منّا أو ينتحل مودَّتنا، ثمّ ليس عليك صادقاً كان أو كاذباً، إنَّما لك نيَّتك وعليه كذبه»(1)

وروي عن عليِّ بن يقطين أنَّه قال: استأذنت مولاي أبا إبراهيم موسىٰ بن جعفر عَلَيهما اَلسَلام في خدمة القوم فيما لا يثلم ديني، فقال: «لا، ولا نقطة قلم، إلَّا بإعزاز مؤمن، وفكِّه من أسره»، ثمّ قال عَلَيه اَلسَلام : «إنَّ خواتيم أعمالكم قضاءُ حوائج إخوانك، والإحسانُ إليهم ما قدرتم، وإلَّا، لم يُقبَل منكم عمل، حنُّوا علىٰ إخوانكم وارحموهم تلحقوا بنا»(2)وروي أنَّه نظر أمير المؤمنين عَلَيه اَلسَلام إلىٰ رجل أثَّر الخوف عليه، فقال: «ما بالك؟»، قال: إنّي أخاف الله، فقال: «يا عبد الله، خف ذنوبك، وخف عدل الله عليك في مظالم عباده، وأطعه فيما كلَّفك، ولا تعصه فيما يُصلِحك، ثمّ لا تخف الله بعد ذلك، فإنَّه لا يظلم أحداً، ولا يُعذِّبه فوق استحقاقه أبداً، إلَّا أنْ تخاف سوء العاقبة بأنْ تُغيِّر أو تُبدِّل، فإنْ أردت أنْ يُؤمِّنك اللهُ سوءَ العاقبة، فاعلم أنَّ ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره إيّاك وحلمه وعفوه عنك»(3)

وكما أنَّ هناك مقتضيات لحسن العاقبة، هناك موانع منها، أي إنَّ هناك أُموراً وأفعالاً تُؤدّي إلىٰ خسران المرء آخرته والختم بالعمل السيِّئ، وهذه يلزم المؤمن أنْ يبتعد عنها ما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً، قال تعالىٰ: ]وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا

ص: 186


1- عيون أخبار الرضا عَلَيه اَلسَلام للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 7/ح 8).
2- قضاء حقوق المؤمنين لابن طاهر الصوري (ص 34/ ح 48).
3- التفسير المنسوب إلىٰ الإمام العسكري عَلَيه اَلسَلام (ص 265).

كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ 86[ (الأعراف: 86).

وقال تعالىٰ: ]بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ 39[ (يونس: 39).

* * *

ص: 187

ص: 188

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ تحقيق: مؤسَّسة آل البيت عَلَيهم اَلسَلام / ط 2/ 1414ه/ دار المفيد/ بيروت.

3 - الأُصول الستَّة عشر: عدَّة محدِّثين/تحقيق: ضياء الدِّين المحمودي/ ط 1/ 1423ه/ دار الحديث.

4 - إعانة الطالبين: البكري الدمياطي/ ط 1/ 1418ه/ دار الفكر/ بيروت.

5 - الاعتقادات: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عصام عبد السيِّد/ ط2/ 1414ه/ دار المفيد/ بيروت.

6 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ تحقيق: قسم الدراسات/ ط 1/ 1417ه/ مؤسَّسة البعثة.

7 - الأمالي: الشيخ الطوسي/ تحقيق: مؤسَّسة البعثة/ ط 1/ 1414ه/ دار الثقافة/ قم.

8 - الأمالي: الشيخ المفيد/ تحقيق: الأُستادوليّ، عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ 1414ه/ دار المفيد/ بيروت.

9 - بحار الأنوار: العلاَّمة المجلسي/ الطبعة الثانية المصحَّحة/ 1403ه/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.

ص: 189

10 - بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ تحقيق: كوچه باغي/ 1404ه/ مطبعة الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.

11 - تاج العروس: الزبيدي/ 1414ه/ دار الفكر/ بيروت.

12 - تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي/ تحقيق: مصطفىٰ عبد القادر عطا/ ط 1/ 1417ه/ دار الكُتُب العلمية/ بيروت.

13 - التبيان: الشيخ الطوسي/ تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي/ ط 1/ 1409ه/ مكتب الإعلام الإسلامي.

14 - تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ 1404ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

15 - التفسير الأصفىٰ: الفيض الكاشاني/ ط 1/ 1418ه/ مكتب الإعلام الإسلامي.

16 - تفسير الإمام العسكري عَلَيه اَلسَلام : المنسوب إلىٰ الإمام العسكري عَلَيه اَلسَلام / الطبعة الأُولىٰ المحقَّقة/ 1409ه/ مدرسة الإمام المهدي ¨/ قم.

17 - تفسير الأمثل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

18 - تفسير العيّاشي: محمّد بن مسعود العيّاشي/ تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميَّة/ طهران.

19 - تفسير القرطبي: القرطبي/ تحقيق: البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

20 - تفسير القمّي: عليُّ بن إبراهيم القمّي/ تحقيق: طيِّبالجزائري/ ط 3/ 1404ه/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.

ص: 190

21 - تفسير شبَّر: السيِّد عبد الله شبَّر/ راجعه الدكتور حامد حنفي داود/ ط 3/ 1385ه.

22 - تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ تحقيق: لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ه/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

23 - تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

24 - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ تحقيق: حسن الخرسان/ ط3/ 1364ش/ مطبعة خورشيد/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

25 - التوحيد: الشيخ الصدوق/ تحقيق: هاشم الحسيني الطهراني/ جماعة المدرِّسين/ قم.

26 - جامع السعادات: محمّد مهدي النراقي/ تحقيق: محمّد كلانتر/ دار النعمان.

27 - الجامع الصغير: السيوطي/ ط 1/ 1401ه/ دار الفكر/ بيروت.

28 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ 1403ه/ جماعة المدرِّسين/ قم.

29 - دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ تحقيق: آصف فيضي/ 1383ه/ دار المعارف/ القاهرة.

30 - الدعوات: قطب الدِّين الراوندي/ ط 1/ 1407ه/مطبعة أمير/ مؤسَّسة الإمام المهدي ¨/ قم.

ص: 191

31 - ذخائر العقبىٰ: أحمد بن عبد الله الطبري/ 1356ه/ مكتبة القدسي/ القاهرة.

32 - رجال النجاشي: النجاشي/ ط 5/ 1416ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

33 - روضة الواعظين: الفتّال النيسابوري/ تحقيق: محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

34 - سُنَن النبيِّ: محمّد حسين الطباطبائي/ تحقيق: محمّد هادي الفقهي/ 1419ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

35 - السيرة الحلبية: الحلبي/ 1400ه/ دار المعرفة/ بيروت.

36 - شرح أُصول الكافي: المازندراني/ تحقيق: الشعراني/ ط 1/ 1421ه/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

37 - شرح الأسماء الحسنىٰ: الملّا هادى السبزواري/ منشورات مكتبة بصيرتي/ قم.

38 - الصحيفة السجّادية: تحقيق: محمّد باقر الأبطحي/ ط 1/ 1411ه/ مطبعة نمونة/ مؤسَّسة الإمام المهدي ¨، مؤسَّسة الأنصاريان/ قم.

39 - عدَّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ تحقيق: أحمد الموحِّدي القمّي/ مكتبة وجداني/ قم.

40 - عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ تحقيق: مجتبىٰ العراقي/ ط 1/ 1403ه/ مطبعة سيِّد الشهداء/ قم.

41 - عيون أخبار الرضا عَلَيه اَلسَلام : الشيخ الصدوق/ تحقيق: حسين الأعلمي/ 1404ه/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

ص: 192

42 - عيون الحِكَم والمواعظ: عليٌّ الليثي الواسطي/ تحقيق: حسين البيرجندي/ ط 1/ دار الحديث.

43 - فقه الحضارة: السيِّد السيستاني/ بقلم الدكتور محمّد حسين عليّ الصغير/ دار المؤرِّخ العربي/ بيروت.

44 - قضاء حقوق المؤمنين: الحسن بن طاهر الصوري/ تحقيق: حامد الخفّاف/ مؤسَّسة آل البيت عَلَيهم اَلسَلام .

45 - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط 5/ 1363ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

46 - كتاب الزهد: حسين بن سعيد الكوفي/ 1399ه/ مطبعة العلمية/ قم.

47 - كمال الدِّين: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ 1405ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

48 - كنز العُمّال: المتَّقي الهندي/ تحقيق: بكري حيّاني/ 1409ه/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.

49 - المبدأ والمعاد: صدر الدِّين الشيرازي/ قدَّمه وصحَّحه: السيِّد جلال الدِّين الآشتياني/ ط 3/ 1422ه/ مركز انتشارات دفتر تبليغات إسلامي.

50 - المحاسن: البرقي/ تحقيق: جلال الدِّين الحسيني المحدِّث/ 1370ه/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.51 - مستدرك الوسائل: الميرزا النوري/ الطبعة الأُولىٰ المحقَّقة/ 1408ه/ مؤسَّسة آل البيت عَلَيهم اَلسَلام /بيروت.

ص: 193

52 - مستدرك سفينة البحار: عليّ النمازي/ تحقيق: حسن بن عليّ النمازي/ 1418ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

53 - مستطرفات السرائر: ابن إدريس الحلّي/ ط 2/ 1411ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

54 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.

55 - مشكاة الأنوار: عليٌّ الطبرسي/ تحقيق: مهدي هوشمند/ ط 1/ 1418ه/ دار الحديث.

56 - المصنَّف:عبد الرزّاق الصنعاني/تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي.

57 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ 1379ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

58 - المعجم الأوسط: الطبراني/ 1415ه/ دار الحرمين.

59 - مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط 6/ 1392ه/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

60 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

61 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهرآشوب/ تحقيق: لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه/ المكتبة الحيدرية/ النجف.

62 - منية المريد: الشهيد الثاني/ تحقيق: رضا المختاري/ ط1/ 1409ه/ مكتب الإعلام الإسلامي.

63 - نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط 1/ 1412ه/ مطبعة النهضة/ دار الذخائر/ قم.

* * *

ص: 194

الفهرس

مقدّمة المعهد... 3

مقدّمة المؤلِّف... 7

الإهداء... 11

(1) إنَّ الأخلاق هي الوجه المرئي من الدِّين... 13

(2) رحلة الأخلاق المتعاكسة... 18

(3) إنَّ الفضائل - وكذا الرذائل - مفاهيم مشكَّكة... 24

(4) غاية لا متناهية... 29

(5) الخير عادة والشرُّ لجاجة... 33

(6) إنَّ الدنيا وسيلة لا هدف... 38

الأمر الأوَّل... 39

الأمر الثاني... 40

الأمر الثالث... 41

الأمر الرابع... 42

(7) لا إفراط ولا تفريط... 45

(8) ارتدادية السلوك... 53

سؤال وجوابه... 56

(9) إزاحة الأوهام المحيطة بحياة الإنسان... 60

الوهم الأوَّل: وهم الخلود... 60

ص: 195

الوهم الثاني: وهم العشيرة... 61

الوهم الثالث: وهم الأولاد والزوجة... 63

الوهم الرابع: وهم المال... 64

(10) الشعور العملي بالفقر الوجودي... 67

(11) التعاون علىٰ الفضيلة... 74

(12) مُتْ باختيارك (أو مُتْ بالإرادة تحيىٰ بالطبيعة)... 79

(13) تحمُّل مسؤولية الأمانة... 86

(14) اعبد الله كما يريد هو!... 91

(15) الحذر من النِّعَم... 96

الخطر الأوَّل: الاستدراج... 97

الخطر الثاني: التكبُّر... 98

(16) التعاطي الإيجابي مع تزاحم الحياة... 101

(17) هوية الانتماء للدِّين... 106

(18) الدقَّة في تفعيل الاختيار... 112

(19) الإيمان بالكتاب كلِّه... 117

(20) كن محسناً... 122

(21) الحذر من آفات الفضائل... 127

(22) كن عزيزاً... 132

ملاحظتان مهمَّتان... 136

(23) اختيار الخليط... 138

(24) كن مِنْ أو عند المنكسرة قلوبهم... 143

(25) تجمُّل المؤمن... 149

ص: 196

(26) لا تستوحشوا طريق الحقِّ... 155

(27) نفسك أحبّ الأنفس إليك!... 162

النقطة الأُولىٰ: لا تؤذِ نفسك بالمعصية... 162

النقطة الثانية: لا تُشْقِ نفسك ليسعد غيرُك!... 163

النقطة الثالثة: لا تُهِنْ نفسك... 165

(28) احذر من إحباط العمل... 169

النقطة الأولى: معنىٰ الإحباط... 170

النقطة الثانية... 171

النقطة الثالثة... 171

أوَّلاً: عدم الورع... 172

ثانياً: الرياء... 172

ثالثاً: عقوق الوالدين... 173

رابعاً: الغصب... 173

(29) كفِّر عن ذنوبك... 174

النقطة الأُولىٰ: معنىٰ التكفير... 174

النقطة الثانية: ما هي مكفِّرات الذنوب؟... 176

النوع الأوَّل: لا إرادي... 176

أوَّلاً: العقوبة في الدنيا... 176

ثانياً: الأمراض في الدنيا... 176

ثالثاً: الهمُّ والحزن... 177

رابعاً: استغفار الملائكة... 177

خامساً: الموت... 178

ص: 197

سادساً: العذاب في البرزخ... 178

النوع الثاني: إرادي... 178

أوَّلاً: الصلاة... 179

ثانياً: حسن الخُلُق... 179

ثالثاً: كثرة السجود لله تعالىٰ... 179

رابعاً: إغاثة الملهوف... 180

خامساً: الحجُّ والعمرة... 180

سادساً: الصلاة علىٰ محمّد وآله الطاهرين... 180

(30) الاهتمام بحسن العاقبة... 181

المصادر والمراجع... 189

الفهرس... 195

* * *

ص: 198

المجلد 2

هوية الکتاب

سلسلة: لنكن لهم زيناً

الحلقة الرابعة

من وحي الأخلاق

قراءةٌ ونظراتٌ في القواعدِ العامَّةٍ للتَّكامُلِ الأَخْلَاْقِي وتَطبيْقاتِها

المجموعة الثانية

تأليف

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأُولىٰ: 1440ه-

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 1

اشارة

سلسلة: لنكن لهم زيناً

الحلقة الرابعة

من وحي الأخلاق

قراءةٌ ونظراتٌ في القواعدِ العامَّةٍ للتَّكامُلِ الأَخْلَاْقِي وتَطبيْقاتِها

المجموعة الثانية

تأليف

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تقديم

معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية

الطبعة الأُولىٰ: 1440ه-

العدد: 1000 نسخة

جميع الحقوق محفوظة للمعهد

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المعهد:

لا يخفىٰ ما للأخلاق من أهمّية كبرىٰ في حياة الإنسان، فبها يستطيع أنْ يتواصل مع الآخرين إيجاباً وسلباً، ولا شكَّ أنَّ المعرفة تتدخَّل في هذا الجانب من الحياة لتُضفي عليه أُطُراً واضحة للتعامل المنهجي مع الآخر.

فبالمعرفة وتطبيقها يستطيع المرء أنْ يشقَّ طريقه في هذه الحياة، ليكون عنصراً مؤثِّراً في المجموعة، بحيث يفتقده الناس إذا غاب، ويستأنسون به إذا حضر.

من هنا، نجد النصوص الدِّينية تُؤكِّد علىٰ ضرورة أنْ يعمل المرء علىٰ أنْ يزيد من معارفه العلمية، بشرط أنْ تكون ضمن الحدود الإنسانية والدِّينية، وأنْ يجعل من سلوكه لوحة مرسومة تُترجِم تلك المعارف الإنسانية والدِّينية.

من هنا، كان معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية أحد المؤسَّسات العلمية التي تهدف إلىٰ نشر المعارف الإلهيَّة، وإيصالها إلىٰ أكبر عدد ممكن من المتلهِّفين لارتشاف تلك المعارف.

وللتعريف العامِّ بالمعهد ونشاطاته نذكر النقاط التالية:

أوَّلاً: أنَّ المعهد مؤسَّسة علمية حوزوية تُدِّرس المناهجالدِّينية المعَدَّة لطُلّاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

ص: 3

ثانياً: أنَّ الموادَّ الدراسية تُعَدُّ علىٰ أيدي أساتذة متخصِّصين، وتُدرَّسُ من قِبَل أساتذة أكْفاء في حوزة النجف الأشرف.

ثالثاً: الدراسة في المعهد عن طريق الانترنيت وليست مباشرة، وهي لمدَّة ثلاث سنوات، والسنة الرابعة تطبيقية عملية.

رابعاً: أنَّ المعهد يساهم في نشر وترويج المعارف الإسلاميَّة وعلوم آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ ووصولها إلىٰ أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصِّص من المبرمجين والمصمِّمين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات علىٰ أجهزة الحاسوب والهواتف الذكيَّة.

خامساً: بالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد علىٰ عاتقه تأسيس جامعة متخصِّصة في هذا المجال، فتمَّ إنشاء جامعة أُمِّ البنين عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلاميَّة لإعداد مبلِّغات رساليّات قادرات علىٰ إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي.

سادساً: أنَّ المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلىٰ إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل علىٰ تقوية المحتوىٰ الإيجابي علىٰ شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجَّهاً لإيصال فكر أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ وتوجيهات المرجعية الدِّينية العليا إلىٰ نطاق واسع منالشرائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقّي العصري.

ص: 4

سابعاً: أنَّ المعهد يقوم بطباعة ونشر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات - صدر منها إلىٰ الآن ستَّة كُتُب في مختلف العناوين العقائدية والفقهية والأخلاقية - التي تهدف إلىٰ ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأُسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ الموروثة.

وبين يديك عزيزي القارئ، سلسلة من الكُتُب الأخلاقية، التي كتبها مؤلِّفها سماحة الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي، بأُسلوب واضح، تُمثِّل خُطُوات عملية لتنشئة جيل يتمحور سلوكه حول مرجعية القرآن الكريم وسُنَّة الرسول الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل بيته الطاهرين عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ.

نسأل الله عزّ وَجل أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنَّه سميع مجيب.

إدارة المعهد

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المؤلِّف:

يسعىٰ الإنسان بطبيعته إلىٰ إقامة علاقات مختلفة من حيث مداها العمودي والأُفقي، مع خالقه وربِّه ومدبِّر أُموره، ومع بقيَّة أفراد بني نوعه البشري، حيث شعر بوجدانه أنَّه لا يستطيع أنْ يعيش منعزلاً عن الجميع.

ووجد أيضاً أنَّ تلك العلاقات مهما اختلفت وتنوَّعت، فإنَّها تحتاج إلىٰ تجذير في أعماق النفس، لتُعطي ثماراً يانعة، فعمل جهدَه علىٰ تقوية تلك العلاقات وسقيها بما يُقوّي جذورها ويُرسِّخها في أعماق النفوس أكثر.

واتَّخذ من أجل هذه الغاية العديد من الطُّرُق، ولكنَّه مهما استعمل من طُرُق في هذا الشأن، فإنَّه ومن دون أنْ يُقدِّمها بطريقة مقبولة لدىٰ الآخر، فإنَّها لن تُؤتي أُكُلَها، الأمر الذي يعني: أنَّ الطريقة التي تُقدِّم بها الطبق أهمُّ ممَّا تُقدِّمُه في الطبق في الكثير من الأحيان، لذلك كانت (دماثة الأخلاق) و(السلوكيات الحميدة) و(مكارم الصفات) أفضل طُرُق سقي شجرة العلاقات تلك.

هذا الكتاب، الذي هو الحلقة الرابعة من سلسلة (لنكن لهم زيناً) والكتاب الثاني من قواعد (من وحي الأخلاق) فيه ثلاثون قاعدة أُخرىٰ - بعد الثلاثين في المجموعة الأُولىٰ -، وستجد فيهاعزيزي القارئ إنْ

ص: 7

شاء الله تعالىٰ ما ينفع كثيراً في تقوية جذور العلاقة العمودية مع الله جل جلاله، ما يترتَّب عليها من تقوية أواصر العلاقات الأُفقية مع بني البشر، واللهَ تعالىٰ أسأل أنْ يتقبَّلها بقبوله الحسن، إنَّه وليُّ التوفيق.

حسين عبد الرضا الأسدي

النجف الأشرف

(7/ محرَّم الحرام/ 1440ه)

(17/ أيلول/ 2018م)

ص: 8

الإهداء

إلىٰ من لوىٰ عنق الدهر، وأخذ بزمامه..

إلىٰ من جعل من ظلام زنزانته دوحة غنّاء، بالذِّكر والدعاء..

إلىٰ من كظم غيظه حتَّىٰ قضىٰ..

إلىٰ من كان هادياً من العمىٰ رغم قيود الحديد وأغلال السجن..

إليك أنت يا باب الحوائج..

يا أبا إبراهيم..

يا موسىٰ بن جعفر..

من عبدٍ مسَّه الضرُّ..

وأنتم باب الله الذي منه يُؤتىٰ..

* * *

ص: 9

ص: 10

(31)تزكية النفس

اشارة

تُؤكِّد الكثير من الآيات الكريمة والروايات الشريفة علىٰ ضرورة أنْ يُزكّي المؤمن نفسه، قال تعالىٰ: ]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّىٰ 14[ (الأعلىٰ:14)، وقال تعالىٰ: ]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها 9 وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها 10[ (الشمس: 9 و10).

فما هو معنىٰ التزكية؟

وكيف يُزكّي المؤمن نفسه؟

هنا عدَّة نقاط:

النقطة الأولى:

يقول علماء الأخلاق: إنَّ التكامل الوجودي يمرُّ بثلاث مراحل:

الأُولىٰ: التخلية: بأنْ يتمَّ تنقية النفس من الرذائل.

الثانية: التحلية: بأنْ يتمَّ إشغال النفس بالفضائل.

الثالثة: التجلية: وهي من الجلاء بمعنىٰ الظهور والانكشاف والتبيين، وهي نتيجة المرتبتين السابقتين، بأنْ تتجلّىٰ الحقائق أمامعين العبد، فيعرف ربَّه ويعمل بما يريد(1)

ص: 11


1- قال الشهيد الثاني ; في شرح اللمعة (ج 1/ شرح ص 224 و225): إنَّ حركة النفس نحو درجاتها الإكمالية حركة اختيارية، تستحقُّ بها الفضل والثناء. [ والنفس في أُولىٰ مراتب كمالها تتخلّىٰ عن الرذائل كلِّها، لتتحلّىٰ في المرتبة الثانية بحليِّ الفضائل والكرامات، ثمّ تتجلّىٰ لها في المرتبة الثالثة الحقائق كلُّها علىٰ ما هي عليها، وبعد ذلك وفي نهاية المطاف تلتحق بالفوز الأوفىٰ، وهو الفناء في الذات، وهي السعادة الأبدية، وإنَّ كلَّ مرتبة مقدّمة للمرتبة التي بعدها، ولا بدَّ في تحقُّقها في هذه المرتبة من تحقُّق تلك المراتب وهي: (التخلية ثمّ التحلية ثمّ التجلية). هذه حركة النفس التصاعدية، وبإزائها حركة أُخرىٰ للنفس تُسمّىٰ (حركة تسافلية) تنتهي إلىٰ الإخلاد إلىٰ الأرض، والاختلاط مع الأرواح الشرّيرة، وبذلك تصبح منبعثة لمجامع السيِّئات، ومصدراً للمفاسد، ليكون شيطاناً في صورة إنسان. وفي هامش الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة لصدر الدِّين محمّد الشيرازي (ج 2/ هامش ص 21): التجلية فهو أنْ يُجلي الظاهر باستعمال ما ورد في النواميس الإلهيَّة، وأمَّا التخلية فهو أنْ يتخلّىٰ عن رذائل الأخلاق كالبخل والحسد والكبر وغيرها ويترك الشرور اللقلقية والقبقبية والذبذبية المشار إليها في الحديث النبوي حيث قال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «من وقىٰ شرَّ لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقىٰ الشرَّ كلَّه»، واللقلق هو اللسان، والقبقب البطن، والذبذب القضيب. وأمَّا التحلية فهو أنْ يتخلَّع بخلع الأسماء والصفات، ويتخلَّق بأخلاق الله، كما في الحديث النبوي: «تخلَّقوا بأخلاق الله». وأمَّا الفناء فله مراتب المحو والطمس والمحق، فالمحو فناء أفعال العبد في فعل الحقِّ تعالىٰ، والطمس فناء صفاته في صفته، والمحق فناء وجوده في وجوده.

وقد تُشبِّه هذه المراتب بمن يمرض بمرض بدني ويريد الشفاء، فإنَّ طريق الشفاء يكون أوَّلاً بإبعاد سبب المرض (من جراثيم ومكروبات وما شابه)، ثمّ إعطاء العلاج المناسب الذي يلزم المريض أنْ يستعمله بكلِّ دقَّة، فينتج عن ذلك رجوع البدن إلىٰ سابق عهده وتمام عافيته.

النقطة الثانية:

إنَّ التزكية مأخوذة من الفعل (زكا) أو (زكو)، وهو يأتي لغةً بعدَّة معانٍ(1)):

الأوَّل: الطهارة.

الثاني: النموُّ والزيادة.

ص: 12


1- انظر: تاج العروس للزبيدي (ج 19/ ص 494/ مادَّة زكو).

الثالث: الصلاح.

وهذه المعاني هي المقصودة في معنىٰ (تزكية النفس)، وهي تتلاءم مع المراتب الثلاثة لتكامل النفس.

أمَّا (الطهارة) فتعني تنقية الثوب أو البدن من الأدران - مادّية كانت أو معنوية -، وهو معنىٰ (التخلية) في النفس.

وأمَّا (النموُّ والزيادة) فيكون بأنْ يسمن البدن مثلاً، أو ينمو الغصن ويطول، أي بأنْ يأتي شيء جديد يزيد في كمال الموجود المُزكّىٰ، وهو يتلاءم مع (التحلية).

وأمَّا (الصلاح) فيعني أنْ يكون الموجود صالحاً لا خلل فيه، بأنْ يكون علىٰ أفضل ما يمكن أنْ يكون عليه، وهو يتلاءم مع (التجلية).

النقطة الثالثة:

إنَّ التزكية بهذا المعنىٰ ليست من الأُمور الثانوية، التي تُرِكَت لرغبة الفرد أو مزاجه، وإنَّما هو أساس المطلوب من المؤمن عموماً، فترك المحرَّمات (التخلية أو الطهارة) وفعلالواجبات (التحلية أو النموُّ) وبالتالي معرفة الحقِّ والسير وفق منهجه المنضبط (التجلية أو الصلاح) هو الإسلام لا غير.

وأيُّ تقصير في أيِّ مفردة من هذه المفردات يعني خللاً في المنظومة المعرفية والعملية للمؤمن.

ومنه يتَّضح:

أنَّ أثر هذه العملية التكاملية - إيجاباً - أو التسافلية - سلباً - إنَّما يرجع للفرد نفسه لا غير، قال تعالىٰ: ]وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلىٰ حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبىٰ إِنَّما تُنْذِرُ

ص: 13

الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّىٰ فَإِنَّما يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَىٰ اللهِ الْمَصِيرُ 18[ (فاطر: 18).

وبعبارة قرآنية أُخرىٰ: ]إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها[ (الإسراء: 7).

ومعنىٰ هذه الآيات: أنَّ من يتزكّىٰ ويُحسِن فإنَّه سيحصل علىٰ أثر إيجابي من الله تعالىٰ، وفي نفس الوقت فإنَّ من لا يتزكّىٰ ولا يُحسِن فإنَّما يسيء إلىٰ نفسه لا غير، علىٰ حدِّ قوله تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 23[ (يونس: 23).

النقطة الرابعة:

إنَّ المطلوب منّا هو أنْ نلتزم الحقَّ وأنْ نُزكّي أنفسنا قَدْر الإمكان، لا أنْ نتباهىٰ علىٰ غيرنا بذلك، ولا أنْ نصل إلىٰ حدٍّ نجزم فيه علىٰ الله تبارك وتعالىٰ بأنَّنا في الجنَّة!

فإنَّ التزكية الحقيقية والواقعية ليست متاحة لنا، وإنَّما هيفي علم الله جلَّ وعلا، إذ لعلَّ أمراً يحدث في منتصف الطريق يُؤدّي إلىٰ أنْ ينقلب الدواء سُمًّا، أو أنْ لا يُؤدّي إلىٰ أثره المطلوب بسبب تقصير وعدم انضباط في استعماله، وكذلك الأمر في التكامل الوجودي، فإنَّ هناك ألف عقبة وعقبة قبل أنْ تصل إلىٰ لحظة الحسم.

ولذا جاء التأكيد علىٰ طلب (حسن العاقبة) من الله تعالىٰ.

وفي إشارة إلىٰ هذا المعنىٰ، يقول الباري جلَّ وعلا: ]أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً 49[ (النساء: 49).

ص: 14

ويقول جلَّ وعلا: ]الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقىٰ32[ (النجم: 32).

ومن هنا، كانت واحدة من أهمّ صفات المتَّقين فيما قاله أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ هو أنَّهم: «خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ، لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَلَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ، إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَه، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، وَرَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي، اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ»(1)

وهذا يعني فيما يعنيه:أنَّ المؤمن لا يستغني بحال عن استمداد الغيب بالعون، فإنَّ الإنسان لا يمكنه أنْ يدفع عن نفسه ضرًّا ولا أنْ يجلب لها نفعاً إلَّا بالتوفيق واللطف والمدد الغيبي.

النقطة الخامسة:

اشارة

إنَّ للتزكية طُرُقاً عديدة ذكرتها النصوص الدِّينية، منها ما يُشير إلىٰ التخلية والتطهير، ومنها ما يُشير إلىٰ التحلية والنموِّ، ومنها ما يشير إلىٰ التجلية والتسامي في عالم التكامل.

أمَّا عن (التخلية) فتتلخَّص في:

أوَّلاً: أنَّ الوقاية خير من العلاج:

ص: 15


1- نهج البلاغة (ج 2/ ص 162 و163).

أي أنْ يبتعد المؤمن أوَّلاً عن أيِّ ذنب و(مرض)، ويربو بنفسه عن النزول بها إلىٰ حضيض الرذيلة والذنب!

فعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «اجتناب السيِّئات أولىٰ من اكتساب الحسنات»(1)

وعن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «توقّي الصرعة خير من سؤال الرجعة»(2)

ثانياً: استعجال التوبة لو وقع المؤمن في خطأ:

فحيث إنَّنا غير معصومين، فسيكون الوقوع في الخطأ وارداً جدًّا، ولكن المطلوب فيما لو حصل هذا التقهقر والتعثُّر أنْ نقوم بسرعة، لننفض عن أنفسنا دَرَن الذنوب باستعجال التوبة.روي عن الإمام الجواد عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «تأخيرُ التوبةِ اغترارٌ، وطولُ التسويفِ حيرةٌ»(3)

ويقول الإمام عليٌّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ، ويُرَجِّي التَّوْبَةَ بِطُولِ الأَمَلِ...، إِنْ عَرَضَتْ لَه شَهْوَةٌ أَسْلَفَ المَعْصِيَةَ وَسَوَّفَ التَّوْبَةَ»(4)

وعنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «إنْ قارفتَ سيِّئةً فعجِّل محوها بالتوبة»(5)

وعنهعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «مُسَوِّفُ نفسه بالتوبة، من هجومِ الأجلِ علىٰ أعظمِ الخطر»(6)

ص: 16


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 125).
2- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 187).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 456).
4- نهج البلاغة (ج 4/ ص 39).
5- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 81).
6- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 12/ ص 130/ ضمن الحديث 13707/13).

وفي وصيَّته عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لولده الإمام الحسن المجتبىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «... وَأَنَّكَ طَرِيدُ المَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْه هَارِبُه، وَلَا يَفُوتُه طَالِبُه، وَلَا بُدَّ أَنَّه مُدْرِكُه، فَكُنْ مِنْه عَلَىٰ حَذَرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَىٰ حَالٍ سَيِّئَةٍ، قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ، فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ...»(1)

وأمَّا عن التحلية، فهي تكون بالتزام الأعمال الصالحة التي شرَّعها الباري جلَّ وعلا، فهي بمثابة المطهِّرات للبدن من أيِّ دَرَن، وفي هذا المعنىٰ روي عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال:

«لو كان علىٰ باب أحدكم نهر، فاغتسل منه [كلَّ] يوم خمس مرّات، هل كان يبقىٰ علىٰ جسده من الدَّرَن شيء؟ إنَّما مَثَلالصلاة مَثَل النهر الذي يُنقّي الدَّرَن، كلَّما صلّىٰ صلاة كان كفّارة لذنوبه، إلَّا ذنبٍ أخرجه من الإيمان مقيم عليه»(2)

وأمَّا عن التجلية، فإنَّها إنَّما تحصل بالمعرفة، فإنَّ المؤمن بعد أنْ يحبس نفسه علىٰ ما يريده الله تعالىٰ، فستنكشف له الحقائق الكونية، حتَّىٰ أنَّه سيعيش وكأنَّه في الجنَّة يراها بأُمِّ عينيه، وهو ما يصل إليه المتَّقون التاركون للحرام والفاعلون للواجب، كما وصفهم أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله: «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنَّة كمن قد رآها فهم فيها منعَّمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذَّبون»(3)

* * *

ص: 17


1- نهج البلاغة (ج 3/ 49).
2- الأُصول الستَّة عشر لعدَّة محدِّثين (ص 73).
3- نهج البلاغة (ج 2/ ص 161).

(32)النيَّة أساس العمل

اشارة

تختلف نظرة الناس في المقوِّم للعمل، فالبعض يعتبر قوامه في كبر حجمه، والبعض يعتبر قوامه في مداه المكاني أو الزماني، وقد يعتبر البعض قوامه في تأثيره بالغير وتأثُّر الغير به، فالآراء مختلفة، وعلىٰ أساس ذلك القوام تختلف كيفية الفعل ونوعيته.

في الدِّين هناك نظرة شمولية للفعل، بعد الالتفات إلىٰ أنَّ الأعمال دينياً تنقسم إلىٰ قسمين: توصُّلية، وتعبُّدية.

أمَّا التوصُّلية، فهي الأعمال التي تُطلَب نتيجتها، ولا دخل لكيفية حصولها، كالتطهير من النجاسة مثلاً، فلو تنجَّس ثوبك بالدم فلا بدَّ أنْ تُطهِّره إذا أردت الصلاة به بالماء، فالمطلوب هو تطهير الثوب، لكن هل يلزم في التطهير كيفية خاصَّة؟ هل تلزم مثلاً نيَّة خاصَّة للتطهير؟ أو كيفية خاصَّة كأنْ يُوضَع في النهر أو الحوض أو الغسّالة أو ما شابه؟ هل يُشتَرط في التطهير أنْ يكون الشخص بالغاً؟ وهل يُشتَرط القصد في التطهير؟ أم يكفي أنْ يجري الماء عليه ولو من خلال نزول المطر؟ كلُّ هذه الجهات وغيرها ليست مهمَّة، فالمهمُّ هو أنْ يجري الماء علىٰ الثوب وتزول النجاسة.

أمَّا التعبُّدية، فهي الأفعال التي يُطلَب من المكلَّف حصولهابكيفية خاصَّة، أي عن نيَّة وقصد، فهذه الأُمور التعبُّدية قوامها النيَّة، أي نيَّة القربة إلىٰ الله تعالىٰ، ومن دون نيَّة خالصة لا يصحُّ العمل العبادي.

ص: 18

إذا تبيَّن هذا، نذكر عدَّة ملاحظات:

الملاحظة الأولى:

إنَّ (النيَّة) أو سمِّها: (الدافع نحو العمل) هي من أقوىٰ المحرِّكات الداخلية للإنسان نحو تنفيذ الفعل في الخارج، فإنَّ الإنسان إذا كان صاحب نيَّة وعزيمة قويَّة، فإنَّه سيعمل علىٰ تحريك عضلات بدنه مهما كان ضعيفاً، وكم من شخص فقير الحال، ضعيف البدن، لكنَّه بإرادته وصل إلىٰ ما لم يصل إليه أصحاب الأموال الطائلة والعضلات المفتولة!

وقد أشار الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إلىٰ هذه الحقيقة بقوله: «ما ضعف بدن عمَّا قويت عليه النيَّة»(1)

وهذا يعني: أنَّ أعظم كنز يمكن أنْ يستفيد منه المرء في الانطلاق نحو المجد، ونحو بلوغ الكمال، هي النيَّة الراسخة والعزيمة القويَّة، لا المال، ولا الجاه، ولا المناصب، ولا غيرها، وإنْ كانت هذه الأُمور تُساعد علىٰ ذلك في بعض الأحيان.

الملاحظة الثانية:

اعتبرت الروايات الشريفة أنَّ (نيَّة العبد) أمرٌ مهمٌّ جدًّا في أعماله أجمع، بل روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «نيَّة المرء خير منعمله»(2)

بمعنىٰ أنَّ نيَّة العبد هي من عمله الخيِّر (فتكون كلمة (خير) مصدراً لا أفعل تفضيل).

ص: 19


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 408/ ح 526/6).
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 260/ ح 315).

أو بمعنىٰ أنَّ نيَّة الخير أفضل من نفس العمل، (فتكون كلمة (خير) أفعل تفضيل)، وذلك لأنَّ العمل قد يُبتلىٰ ببعض الأُمور التي تُبطِله، كالرياء والعُجب، وقد لا يُوفَّق العبد للعمل، بينما النيَّة سالمة من هذه الأُمور.

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «إنَّ العبد المؤمن الفقير ليقول: يا ربِّ ارزقني حتَّىٰ أفعل كذا وكذا من البِرِّ ووجوه الخير، فإذا علم الله عزّ وَجل ذلك منه بصدق نيَّة، كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله، إنَّ الله واسع كريم»(1)

وعنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «من أتىٰ فراشه وهو ينوي أنْ يقوم يُصلّي من الليل، فغلبته عيناه حتَّىٰ أصبح، كُتِبَ له ما نوىٰ، وكان نومه صدقة عليه من ربِّه»(2)

بل ورد في بعض الروايات الشريفة، أنَّ النيَّة لها أثر حتَّىٰ في الخلود في يوم القيامة، فقد روي عن أبي هاشم، قال: سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن الخلود في الجنَّة والنار، فقال: «إنَّما خُلِّدَ أهل النار في النار لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو خُلِّدوا فيها أنْ يعصوا الله أبداً، وإنَّما خُلِّدَ أهل الجنَّة في الجنَّة لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْلو بقوا فيها أنْ يطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله تعالىٰ: «]قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ[ [الإسراء: 84]، أي علىٰ نيَّته»(3)

الملاحظة الثالثة:

إنَّ كون قوام الأعمال التعبُّدية هي النيَّة، يكشف عن أنَّ الفعل العبادي حقيقته بنيَّته، أي إنَّ المهمَّ فيه هي الجهة الداخلية لا الخارجية،

ص: 20


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 85/ باب النيَّة/ح 2).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 7/ ص 783).
3- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 2/ ص 330 و331/ ح 94).

فقد ترىٰ شخصاً صلاته خفيفة، لكن أركانها صحيحة، وقد يحكم البعض عليها بأنَّها غير مقبولة، قياساً بشخص آخر يطيل في ركوعها وسجودها، ولكن الله تعالىٰ حيث يعلم بالنيَّة الداخلية، قد يحكم علىٰ صلاة الثاني بالبطلان، لأنَّها ربَّما خلت من قصد القربة، بأنْ قُصِدَ بها الرياء مثلاً.

وهذا معناه، أنَّ العمل الفيزيائي (أي الخارجي) يتأثَّر بالعلل والدوافع الداخلية للفعل، وأهمّها النيَّة.

ولذلك ورد عن النبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «إنَّ المَلَك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فإذا صعد بحسناته، يقول الله عزّ وَجل: اجعلوها في سجّين! إنَّه ليس إيّاي أراد بها»(1)

الملاحظة الرابعة:

يمكن للنيَّة أنْ تتدخَّل في كلِّ ما يصدر من الإنسان من أفعال، سواء كانت توصُّلية أو تعبُّدية، وبالتالي، يمكن للإنسان أنْيستفيد حتَّىٰ من الأفعال التوصُّلية، أو تلك المباحات التي يفعلها بدافع الحاجة الفطرية أو الطبيعية، من خلال جَعْل الدافع نحو فعلها إلهياً، فيفتح لنفسه باباً جديداً لتحصيل الثواب الأُخروي.

فقد روي في وصيَّة الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لأبي ذرٍّ ; أنَّه قال له: «يا أبا ذرٍّ: ليكن لك في كلِّ شيء نيَّةٌ صالحةٌ، حتَّىٰ في النوم والأكل»(2)

إنَّ الروايات الشريفة قد دعتْ إلىٰ اتِّخاذ نيَّة الخير في كلِّ ما يصدر من الإنسان من أقوال وأفعال، لأنَّه بهذه الطريقة يتخلَّص من انطباق

ص: 21


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 294 و295/ باب الرياء/ ح 7).
2- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 464).

عنوان (الغافل) عليه، فقد روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «لا بدَّ للعبد من خالص النيَّة في كلِّ حركة وسكون، لأنَّه إذا لم يكن هذا المعنىٰ يكون غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله تعالىٰ فقال: ]إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً 44[ [الفرقان: 44]، وقال: ]أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ 179[ [الأعراف: 179]»(1)

من هذا كلِّه نعلم:

أنَّ من أهمّ الركائز التي يقوم عليها السلوك الأخلاقي والفضائل في الدِّين الإسلامي هي النيَّة الصالحة، الأمر الذي اختصره أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله: «النيَّة أساس العمل»(2)

* * *

ص: 22


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 67/ ص 210).
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 29).

(33)ثنائية الإرادة والقدرة على العمل

اشارة

إنَّ إنجازات الإنسان رهن بقوَّتين: الإرادة، والقدرة علىٰ الفعل.

الإرادة تعني ذلك الدافع الداخلي والحماس الذاتي نحو الفعل، تلك المشيئة المشتعلة نحو العمل، والرغبة في تحقيقه وإتمامه وإكماله.

وهذه الإرادة هي فرع الإحساس بالحاجة، فأنت عندما تحسُّ أنَّك بحاجة إلىٰ صديق صدوق، فهذا يعني وجود رغبة ودافع ومحفِّز داخلي علىٰ تحصيل ذلك الصديق، وهكذا عندما تحسُّ وتشعر بحاجتك إلىٰ التعلُّم، فإنَّ هذا يخلق في داخلك مشيئة قويَّة نحو تحصيل العلم من خلال طُرُقه المشروعة، فتذهب لتدرس أو تقرأ أو تسأل...، هذه هي الإرادة.

وأمَّا القدرة فهي تعني توفُّر الإمكانات والمؤهِّلات المادّية والمعنوية لتحقيق ما ترغب فيه وما انعقدت إرادتك عليه.

فالذي يريد أنْ يصبح طبيباً، لا بدَّ أنْ تكون عنده القدرة علىٰ الحفظ والتحمُّل والسهر، ولا بدَّ أنْ تكون صحَّته جيِّدة حتَّىٰ يستطيع الصبر علىٰ مرارة الدراسة.

والذي يريد أنْ يكون تاجراً، لا بدَّ أنْ يملك المؤهِّلات لذلك، فلا بدَّ أنْ يكون صاحب قلب قوي يخاطر بالتجارة ولا يهتمُّبالخسارة، ولا بدَّ أنْ يكون عنده قدر كافٍ من الإدارة الجيِّدة للأموال، ومن الورع الذي يحجزه عن ارتكاب المحرَّمات في تحصيل الثروة.

ص: 23

الإرادة تصنع الفرد:

الملاحظة الملفتة للنظر، هي أنَّنا نجد أنَّ امتلاك الفرد للإرادة القويَّة أهمّ بكثير من امتلاكه للقدرات والمؤهِّلات المادّية، فكثير من الناس رأيناهم وسمعنا بهم، كانوا لا يملكون ما نملكه من مؤهِّلات، ولكن إرادتهم القويَّة صنعت العجائب.

وقد أشار الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إلىٰ هذه الحقيقة بقوله: «ما ضعف بدن عمَّا قويت عليه النيَّة»(1)

إنَّ الإرادة القويَّة تتعدّىٰ المعهود، وتتجاوز علىٰ الطبيعة وأحكامها، فالإرادة القويَّة تدفع الجسد الضعيف إلىٰ فعل ما لا يفعله الجسد القوي الفاقد للإرادة القويَّة.

من هنا نجد تأكيد الروايات الشريفة علىٰ أنْ يكون للمؤمن دائماً نيَّة فعل الخير، فإنَّه إذا عوَّد نفسه علىٰ استحضار نيَّة فعل الخير وكانت إرادته صادقة في ذلك، فإنَّه وبلا شكٍّ سيكون فاعلاً للخير علىٰ نحو الدوام، لأنَّ ما يُحرِّكه نحو فعل الخير متوفِّر علىٰ نحو الدوام.

فعن أبي بصير، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «إنَّ العبد المؤمن الفقير ليقول: يا ربِّ ارزقني حتَّىٰ أفعل كذا وكذا من البِرِّ ووجوه الخير، فإذا علم الله عزّ وَجل ذلك منه بصدق نيَّة، كتب الله له منالأجر مثل ما يكتب له لو عمله، إنَّ الله واسع كريم»(2)

ومن هنا يمكن أنْ نفهم بعضاً من معنىٰ الحديث: «نيَّة المرء خير من عمله»(3)

ص: 24


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 408/ ح 526/6).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 85/ باب النيَّة/ ح 2).
3- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 260/ ح 315).

أمَّا إذا فقد الإنسان الإرادة القويَّة والنيَّة الصالحة، فإنَّه سيكون عاجزاً عن تحقيق ما يُحقِّقه الأطفال! وكم رأينا أُناساً يتساءلون عن علاج مناسب يساعدهم علىٰ قطع التدخين، ولم يعلموا أنَّ العلاج في داخلهم!

يُحكىٰ أنَّ شابًّا كان يبحث عن النجاح، فذهب إلىٰ أحد الحكماء ليساعده في إيجاد الطريق المناسب لذلك، ولمَّا وصل، أحضر الحكيم إناءً كبيراً من الماء وقال للشاب: ماذا ترىٰ؟ فطأطأ الشاب رأسه نحو الإناء وقال: ماء، وفي هذه اللحظة أخذ الحكيم برأس هذا الشابِّ وغطسه في الماء وقطع عليه الهواء، فما كان من الشابِّ إلَّا أنْ صبر قليلاً في البداية، ولمَّا طالت الفترة أخذ الشابُّ بتحريك كلِّ شيء في جسده ليُخلِّص نفسه، واستطاع بعد عناء أنْ يُخلِّص نفسه، فنظر بجنون نحو ذلك الحكيم: أتريد أنْ تقتلني؟ فقال له: اليوم علَّمتك أنَّ الإرادة هي أهمّ ما يصنع النجاح، فأنت لمَّا كانت عندك الإرادة القويَّة لإنقاذ نفسك عملت بكلِّ ما أُوتيت من قوَّة لتخليص نفسك، وقد نجحتَ في النهاية!

من هنا يمكن القول:

إنَّ بني البشر وإنْ كانوا متساوين حين الولادة، ولكن بعدذلك تبدأ الفروقات تظهر فيما بينهم، والذي يُؤدّي إلىٰ ظهور الفروقات ليس هو المنصب بحدِّ ذاته، ولا المال ولا النسب، بل إنَّما هي الإرادات المختلفة، فمن كانت له إرادة صلبة فإنَّه سيعانق النجوم، وإلَّا فسيبقىٰ بين الحُفَر.

وفي هذا دعوة صريحة إلىٰ أنْ لا ينظر الفرد منّا إلىٰ نفسه باستصغار

ص: 25

واستخفاف، فكلُّ واحدٍ منّا يملك الإرادة القويَّة التي يمكن أنْ تجعل منه رجلاً عظيماً يموت جسده ولكن لا يموت ذكره، فإنَّ الإنسان لا يموت عندما يُدفَن في المقابر، بل يموت عندما ينساه الناس، والإرادة هي التي تصنع الذِّكر الطيِّب، ولذا لا بدَّ أنْ يستغل الواحد منّا وقته في تنمية إرادته وتفعيلها.

ونقطة مهمَّة هنا، هي أنْ نبتعد عن أُولي العزائم الخائرة والنخرة، الذين رضوا بأنْ يكونوا مع الخوالف، ورضوا بأنْ يكونوا ذيولاً، ورضوا بعدم تطوير حالتهم، لأنَّهم عبارة عن دجاجات تُثبِّط من عزيمة النسور!

الإرادة تصنع الأمم:

والأُمم عموماً تحتاج في حياتها وتطوُّرها إلىٰ كلٍّ من الإرادة والقدرة، فأُمَّة تريد أنْ تكتب لنفسها الخلود لا بدَّ أنْ تريد ذلك، ولا بدَّ أنْ تعمل عليه، ولا تكتفي بالأحلام.

إنَّ الأُمَّة الفاشلة هي التي ترمي الفشل علىٰ عدم ملائمة الظروف، والحقيقة أنَّ الإنسان هو من يصنع الظروف، فإنَّ الناجحين هم من بحثوا عن الظروف التي تلائمهم، فلمَّا لم يجدوها صنعوها.والقرآن الكريم يذكر هذه المسألة صريحاً عندما يتحدَّث عن أُولئك الجبناء الذين كرهوا أنْ يجاهدوا مع رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فيقول عنهم:

]لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ 44 إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ 45 وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ

ص: 26

وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ 46 لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ 47[ (التوبة: 44 - 47).

فهم أصلاً لم تكن عندهم إرادة للخروج، ومع عدم الإرادة فلا فعل أصلاً.

إنَّ الأُمَم التي انهارت، استطاعت أنْ تقوم من جديد بعد أنْ امتلكت الإرادة الصلبة القويَّة، فاليابان خرجت مثقلة بالخسائر الفادحة جراء الحرب العالمية الثانية، ولا زالت إلىٰ اليوم تحت الاحتلال الأمريكي، ولكنَّها لمَّا امتلكت الإرادة الصلبة استطاعت أنْ تعانق السحاب، واليوم السلع اليابانية لا تحتاج إلىٰ دعاية أكثر من كونها يابانية.

والعرب لمَّا كانوا يمتلكون الإرادة القويَّة أصبحوا سادة الأُمَم، واستطاعوا أنْ يترأَّسوا العالم أجمع، ولقد كانت الجامعات العربية محطَّ أنظار الغرب، وقد حفظ لنا التاريخ هذه الرسالة:

(إلىٰ صاحب العظمة، خليفة المسلمين، هشام الثالث الجليلالمقام، من جورج الثاني ملك إنجلترا والنرويج والسويد.

بعد التعظيم والتوقير، فقد سمعنا عن الرقيِّ العظيم الذي تتمتَّع بفيضه الضافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل...، لتكون بداية حسنة لاقتفاء أثركم، لنشر العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة.

وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة (دوبانت) علىٰ رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز، لتتشرَّف بلثم أهداب العرش، والتماس

ص: 27

العطف، وتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وفي حماية الحاشية الكريمة.

وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرُّم بقبولها مع التعظيم والحُبِّ الخالص.

من خادمكم المطيع: جورج الثاني)(1)

أمَّا اليوم، حيث خارت العزائم، وانشغل العرب بالاستيراد، وبالتقليد للغرب في كلِّ شيء، بدأت الانتكاسة، فالبطالة تفتكبالشباب، والجهل يُخيِّم علىٰ العرب، والأُمّية باتت ظاهرة مرعبة في حياتنا، وانظروا إلىٰ أيِّ دولة عربية، وتصوَّروا حالها يوم تقطع الدُّوَل الغربية عنها إمداداتها!

فعلىٰ كلِّ مؤمن أنْ يحمل همَّ دولة الإسلام، وأنْ يعمل علىٰ الرجوع بها إلىٰ سابق عهدها، وذلك يكون بالإرادة القويَّة، والعمل الجادِّ، وبانتظار الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ بالطريقة الصحيحة للانتظار، والتي تعني فيما تعنيه: التمهيد لظهوره المبارك.

* * *

ص: 28


1- عن كتاب تاريخ سوريا للكاتب السوري نادر العطّار. ونُقِلَت هذه القصَّة في كتاب بحوث المؤتمر التربوي/ مؤتمر نحو بناء نظرية تربوية إسلاميَّة معاصرة (ج 1/ ص 201 و202/ عمّان/ المملكة الهاشمية الأُردنية/ تحرير: الدكتور فتحي حسن ملكاوي/ ذو الحجَّة 1411ه/ حزيران 1990م). وجاء في المصدر الأخير: وكانت هدية المَلِك جورج عبارة عن شمعدانين من الذهب الخالص، طول الواحد ثلاثة أذرع، مع أوان ذهبية أُخرىٰ للطعام، عددها (22) قطعة، نُقِشَت بأبدع وأروع النقوش السكسكونية، وكلُّها من صنع بلاد الإنجليز، وتُعتَبر من التُّحَف النادرة التي لا تُقدَّر بثمن.

(34)الدِّين لوحة واحدة متكاملة

اشارة

هل قرأتم كتاب لغة؟

هل رأيتم كيف أنَّه يُعطيكم تصوُّرات صحيحة لمعاني الألفاظ، ولكنَّها تصوُّرات مبعثرة، ونفس تلك الألفاظ عندما تجمعونها في جملة واحدة، فإنَّها ستُعطي معنىٰ آخر مرتَّباً، وعندما تكون تلك الجملة ضمن مقطوعة متكاملة فإنَّها سترسم لكم صورة لمعاني لم يمكنكم فهمها بقراءة كتاب اللغة فقط.

فاللفظ داخل النصِّ المتكامل له مفهوم يختلف عن معناه ضمن كتاب اللغة، والجملة وحدها تُعطي معنىٰ يختلف عنه لو ضممناها إلىٰ جُمَل أُخرىٰ معها، وهكذا فإنَّك لن تستطيع فهم الكتاب بمجرَّد أنْ تقرأ عنوانه أو تقرأ الفصل الأوَّل منه، وما لم تُكمِله عن آخره فإنَّ نظرتك له ستكون ناقصة.

هي لعبة كلعبة المكعَّبات، كلُّ واحدة من تلك المكعَّبات لها وجودها المستقلّ الخاصّ، ولكنَّها عندما تتركَّب بطريقة معيَّنة فإنَّها ستُعطي شكلاً جديداً متكاملاً ما كان لمكعَّب واحد أنْ يحكي ذلك الشكل الجديد.

وهكذا عندما نحاول أنْ نقرأ الدِّين، أو عندما نتعامل معه تعاملاً شخصياً، أو عندما نريد أنْ ننقل صورة عنه للآخرين، فإنَّهما لم يتمّ ذكر

ص: 29

اللوحة كاملة فإنَّ القراءة ستبقىٰ منقوصة، وبالتالي سيتولَّد في لاوعي الإنسان أو الإنسان الآخر صورة منقوصة عن الدِّين، وهذا من أُمَّهات المشاكل في تصوُّر الدِّين تصوُّراً صحيحاً، وفي التعامل معه تعاملاً منهجياً.

وإليكم بعض التصوُّرات المنقوصة عن الدِّين، والتي ينبغي لطالب الكمال أنْ يبتعد عنها، وأنْ يأخذ بكلِّ الخيوط التي تربط صورة دين الله تعالىٰ.

التصوُّر الأوَّل:

التركيز علىٰ أنَّ الله تعالىٰ ما دام هو غفوراً رحيماً غنيًّا مطلقاً، وهو لا يحتاج إلىٰ أنْ يُعذِّبنا، إذن، لا مانع من الوقوع في المعصية ما دام الله تعالىٰ كذلك.

وهذه نظرة إفراطية تناست الجانب الثاني من اللوحة، وهو جانب (شديد العقاب)، قال تعالىٰ: ]الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ 7[ (فاطر: 7).

وقال تعالىٰ: ]غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ 3[ (غافر: 3).

وقال تعالىٰ: ]اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 98[ (المائدة: 98).

التصوُّر الثاني:

إنَّ الدِّين عبارة عن طقوس عبادية تُؤدّىٰ في مكان العبادة(المسجد أو المكان المخصَّص في البيت)، وبالتالي فهو يدعو إلىٰ التزهُّد

ص: 30

والابتعاد عن ملاذِّ الدنيا، وأنَّ تلك الملاذّ تُؤدّي إلىٰ كدورة القلب والابتعاد عن الهدف.

وهذا تصوُّر ناقص جدًّا عن الدِّين، إذ الحقيقة كاملة هي أنَّ الدِّين عبارة عن منهج متكامل للحياة دنيوياً وأُخروياً، علىٰ المستوىٰ الفردي والجماعي، وعلىٰ مستوىٰ الشهادة والغيب. وهو علىٰ كلِّ حالٍ لا يحرم العبد من ممارسة حقِّه في التلذُّذ بالدنيا والاستفادة من زينتها.

ولذلك قال تعالىٰ لتكميل اللوحة: ]يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 31 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 32[ (الأعراف: 31 و32).

وأيضاً جاءت قواعد تعالج هذا الجانب، مثل قاعدة: «أترىٰ الله أحلَّ لك الطيِّبات وهو يكره أنْ تأخذها»(1))، وقاعدة: «ماأُحِبُّ أنَّ لي

ص: 31


1- في نهج البلاغة (ج 2/ ص 187 و188): من كلام له عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بالبصرة وقد دخل علىٰ العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه يعوده، فلمَّا رأىٰ سعة داره قال: «ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا. أمَا أنت إليها في الآخرة كنت أحوج، وبلىٰ إنْ شئت بلغت بها الآخرة، تُقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم، وتُطلِع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة»، فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد! قال: «وما له؟»، قال: لبس العباءة، وتخلّىٰ عن الدنيا. قال: «عليَّ به»، فلمَّا جاء قال: «يا عدي نفسه، لقد استهام بك الخبيث، أمَا رحمت أهلك وولدك. أترىٰ الله أحلَّ لك الطيِّبات وهو يكره أنْ تأخذها؟ أنت أهون علىٰ الله من ذلك»، قال: يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، قال: «ويحك إنّي لست كأنت، إنَّ الله فرض علىٰ أئمَّة العدل أنْ يُقدِّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيَّغ بالفقير فقره».

الدنيا وما فيها، وإنّي بِتُّ ليلة وليست لي زوجة»(1))، وقاعدة: «أخوك أعبد منك إذا كنت تتعبَّد وهو يعول بك»(2))، وقاعدة: «إنَّ لبدنك عليك حقًّا»(3)

التصوُّر الثالث:

إنَّ الدِّين يعمل علىٰ إقناع أتباعه بأنَّ خلاصهم الحقيقي إنَّما هو في الآخرة فقط، أمَّا الدنيا فلا يجوز للمؤمن أنْ يعمل لأجلها ولا أنْ يعمل

ص: 32


1- في الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 329/ باب كراهة العزبة/ ح 2 و3): عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «تزوَّجوا فإنَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قال: من أحبَّ أنْ يتَّبع سُنَّتي فإنَّ من سُنَّتي التزويج». وعن ابن القدّاح، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «جاء رجل إلىٰ أبي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فقال له: هل لك من زوجة؟، فقال: لا، فقال أبي: وما أُحِبُّ أنَّ لي الدنيا وما فيها وإنّي بتُّ ليلة وليست لي زوجة، ثمّ قال: الركعتان يُصلّيهما رجل متزوِّج أفضل من رجل أعزب يقوم ليله ويصوم نهاره، ثمّ أعطاه أبي سبعة دنانير، ثمّ قال له: تزوَّج بهذه، ثمّ قال أبي: قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: اتَّخذوا الأهل فإنَّه أرزق لكم».
2- في ميزان الحكمة للريشهري (ج 3/ ص 1800/ مادَّة العبادة)، نقلاً عن تنبيه الخواطر للشيخ ورّام (ج 1/ ص 39 و65) أنَّ السيِّد المسيح عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال لرجل: «ما تصنع؟»، قال: أتعبَّد، قال: «فمن يعود عليك؟»، قال: أخي، قال: «أخوك أعبد منك».
3- في كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (ج 8/ ص 440): كان زيد بن صوحان يقوم الليل، ويصوم النهار، وإذا كانت ليلة الجمعة أحياها، فإنْ كان ليكرهها إذا جاءت ممَّا كان يلقىٰ فيها، فبلغ سلمان ما كان يصنع، فأتاه، فقال: أين زيد؟ قالت امرأته: ليس هاهنا، قال: فإنّي أُقسم عليكِ لما صنعتِ طعاماً، ولبستِ محاسن ثيابكِ، ثمّ بعثتِ إلىٰ زيد، قال: فجاء زيد، فقرب الطعام، فقال سلمان: كُلْ يا زيد، قال: إنّي صائم، قال: كُلْ يا زيد لا ينقص - أو تنقص - دينك، إنَّ شرَّ السير الحقحقة، إنَّ لعينك عليك حقًّا، وإنَّ لبدنك عليك حقًّا، وإنَّ لزوجتك عليك حقًّا، كُلْ يا زيد، فأكل، وترك ما كان يصنع. بيان: الحقحقة: شدَّة السير، وشرُّ السير الحقحقة هو إشارة إلىٰ الرفق في العبادة، يعني عليك بالقصد في العبادة، ولا تحمل علىٰ نفسك فتسأم.

علىٰ دفع الظلم عن نفسه حتَّىٰ لو كان قادراً علىٰ ذلك، وبالتالي فلا يجوز العمل علىٰ التغيير، إذ إنَّ التغيير يعني الخروج عن هدف الدِّين في هذه الحياة، وقد نسبت مدرسة العامَّة ذلك إلىٰ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فقد رووا مثلاً أنَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قال: «من رأىٰ من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنَّه من خالف الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية»(1)

ورووا أيضاً: قال لنا رسول الله صلّىٰ الله عليه [وآله]: «إنَّكم سترون بعدي أثرة وأُموراً تُنكِرونها»، قال: قلنا: ما تأمرنا؟ قال: «أدُّوا إليهم حقَّهم وسلوا الله حقَّكم»(2)

ورووا: «فإنَّ من طاعة الله أنْ تُطيعوني، وإنَّ من طاعتي أنْ تُطيعوا أئمَّتكم، أطيعوا أئمَّتكم، فإنْ صلُّوا قعوداً فصلُّوا قعوداً»(3)

ورتَّبوا علىٰ ذلك عدم خلع الأمير ولو صار فاسقاً، بل قالوا بصريح العبارة: (لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرَّمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظهوتخويفه، وترك طاعته في شيء ممَّا يدعو إليه من معاصي الله)(4)

وقال التفتازاني: (ولا ينعزل الإمام بالفسق، أو بالخروج عن طاعة الله تعالىٰ، والجور (الظلم علىٰ عباد الله)، لأنَّه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمَّة والأُمراء بعد الخلفاء الراشدين، والسلف كانوا

ص: 33


1- مسند أحمد بن حنبل (ج 1/ ص 275).
2- مسند أحمد بن حنبل (ج 1/ ص 384).
3- مسند أحمد بن حنبل (ج 2/ ص 93).
4- أضواء علىٰ عقائد الشيعة الإماميَّة للشيخ جعفر السبحاني (ص 385)، نقلاً عن التمهيد للقاضي أبي بكر الباقلاني (ص 181).

ينقادون لهم، ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم، ولا يرون الخروج عليهم...)(1)

وهو تصوُّر مغلوط، ولم يأخذ بنظر الاعتبار قوله تعالىٰ: ]كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ 21[ (المجادلة: 21)، وقوله تعالىٰ: ]وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ 105[ (الأنبياء: 105)، وقوله تعالىٰ: ]وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ 5[ (القَصص: 5).

وما روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «إنَّما أُمرت أنْ أُقاتل الناس حتَّىٰ يقولوا: لا إله إلَّا الله، فإذا قالوا ذلك فقد عصموا منّي دماءهموأموالهم إلىٰ يوم يلقون ربَّهم فيحاسبهم»(2)

التصوُّر الرابع:

إنَّ إحدىٰ مقوِّمات الإمام التي لا تنفكُّ عنه هي القيام بالسيف، وبالتالي أسَّسوا إلىٰ (الزيدية) التي لا تقول بإمامة الإمام الباقر ومن بعده من الأئمَّة عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ.

ولكنَّه تصوُّر مغلوط منقوص أيضاً، إذ غضُّوا الطرف عن أنَّ

ص: 34


1- أضواء علىٰ عقائد الشيعة الإماميَّة للشيخ جعفر السبحاني (ص 386)، نقلاً عن العقيدة الطحاوية (ص 379 - 387)؛ شرح العقائد النسفية لأبي حفص عمرو بن محمّد النسفي والشرح لسعد الدِّين التفتازاني (ص 185 و186)، ولاحظ في هذا المجال مقالات الإسلاميّين للأشعري (ص 323)، وأُصول الدِّين لمحمّد بن عبد الكريم البزدوي إمام الماتريدية (ص 190).
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 2/ ص 402).

القيام بالسيف له شرائطه الموضوعية الخاصَّة، التي إنْ توفَّرت لقام الإمام وإنْ لم تتوفَّر لم يكن عليه، وأنَّ الذي أسَّس لهذه الفكرة هو الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حينما قال: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1)

التصوُّر الخامس:

إنَّ الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ هو رجل حرب وقتال، وإنَّ الناس لن يروا منه إلَّا السيف، وأنَّه لن يرحم أحداً أبداً.

وهذا تصوُّر مغلوط لا نريد الخوض في أسباب تشييعه بين شيعة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، بالتالي هو لا يتوافق مع الروايات التي تُؤكِّد أنَّه عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ يقبل توبة المخطئين، ولا يتناسب أصلاً مع القواعد العامَّة للإسلام التي

ص: 35


1- روضة الواعظين للفتّال النيسابوري (ص 156)؛ وفي هذا المجال روي في علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 211/ باب 159/ ح 2): عن أبي سعيد عقيصا، قال: قلت للحسن بن عليِّ بن أبي طالب: يا بن رسول الله، لِمَ داهنت معاوية وصالحته وقد علمتَ أنَّ الحقَّ لك دونه وأنَّ معاوية ضالٍّ باغٍ؟ فقال: «يا أبا سعيد، ألستُ حجَّة الله تعالىٰ ذكره علىٰ خلقه وإماماً عليهم [بعد] أبي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؟»، قلت: بلىٰ، قال: «ألستُ الذي قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟»، قلت: بلىٰ، قال: «فأنا إذن إمام لو قمت وأنا إمام إذ لو قعدت، يا أبا سعيد، علَّة مصالحتي لمعاوية علَّة مصالحة رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكَّة حين انصرف من الحديبية، أُولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل، يا أبا سعيد، إذا كنت إماماً من قِبَل الله تعالىٰ ذكره لم يجب أنْ يُسفَّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة وإنْ كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً، ألَا ترىٰ الخضر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لمَّا خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتَّىٰ أخبره فرضىٰ؟ هكذا أنا، سخطتم عليَّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما تُرِكَ من شيعتنا علىٰ وجه الأرض أحد إلَّا قُتِلَ».

ُفهَم منها أنَّ الله تعالىٰ يريد لعباده المخطئين أو يؤوبوا ما دامت الفرصة سانحة في هذه الحياة، وهو يخالف ما وُصِفَ به الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ بأنَّه كجدِّه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رحمة للعالمين(1)

والنتيجة من كلِّ هذا:

أنَّه لا بدَّ من ملاحظة صورة الدِّين كاملة، سواءً في دراسة الدِّين، أو في التعامل الشخصي مع الدِّين، أو في محاولة تقديم الدِّين إلىٰ الآخر، وعلىٰ الأقلّ عند تقديم صورة منه فلا بدَّ من التنبيه علىٰ أنَّها لا تُمثِّل الدِّين كلَّه، وإنَّما هي صورة من مجموعة صور له، وهي حلقة من دائرة أوسع.

فالدِّين ليس مجرَّد فكر أو أُصول أو فقه أو أخلاق أواجتماع أو...، إنَّما هو مجموع كلِّ هذه الأُمور, وعدم فهم هذه الحقيقة يُولِّد خطأً منهجياً في التعامل مع الدِّين.

* * *

ص: 36


1- جاء في كتاب الإمامة والتبصرة لابن بابويه القمّي (ص 105/ باب ذكر حديث اللوح) في سياق الحديث عنه عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ: «... ثمّ أكمل ذلك بابنه، رحمةً للعالمين، عليه كمال موسىٰ، وبهاء عيسىٰ وصبر أيّوب». وورد أيضاً في عيون أخبار الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ للشيخ الصدوق (ج 2/ ص 50).

(35)تراتبية السلوك الأقوم

اشارة

لا شكَّ أنَّ المؤمن يسعىٰ إلىٰ أنْ يكون الأفضل من خلال الطُّرُق التي رسمها الله تبارك وتعالىٰ للتفاضل، وبمطالعة النصوص التي منهجت خطَّ التكامل الوجودي، ومراجعة السلوك العامِّ لأئمَّة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، يمكن أنْ نقول التالي:

أنت، وحتَّىٰ تصل إلىٰ هدفك الكمالي الوجودي، بطريقة منهجية متكاملة، تكسب فيها رضا الله تعالىٰ من جهة، وقلوب الناس من جهة أُخرىٰ، الأمر الذي يُحقِّق النجاح في الحياة والفلاح في الآخرة، فعليك أنْ تلتزم ثلاثة أُمور مهمَّة استفيدت من النصوص، وهي تُمثِّل خطوطاً عامَّة يلزم من يدَّعي التشيُّع أنْ يلتزمها في حياته، وهي:

الأمر الأوَّل: النيَّة الصالحة:

بأنْ يعقد المؤمن قلبه علىٰ أنْ يكون من أهل الخير دوماً، وعلىٰ جميع المستويات - الفردية والجماعية، الشهودية والغيبية -، وبذلك ستتمُّ ترجمة العقل بصورة تُؤدّي إلىٰ توجيه بوصلة السلوك الإنساني باتِّجاه الخير فقط، بحيث يصل إلىٰ مرحلة ينعدم معها فعل الخطأ (والمعصية)، بل قد يصل إلىٰ مرحلة (عدمالتفكير بفعلها أبداً).

وهذا الأمر هو ما أشارت له الكثير من الروايات الشريفة، نذكر

ص: 37

منها علىٰ سبيل المثال ما روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «ولا بدَّ للعبد من خالص النيَّة في كلِّ حركة وسكون، لأنَّه إذا لم يكن هذا المعنىٰ يكون غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله تعالىٰ فقال: ]إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً 44[ [الفرقان: 44]، وقال: ]وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ 108[ [النحل: 108]»(1)

وفي وصيَّة الإمام الكاظم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لهشام بن الحكم: «وكما لا يقوم الجسد إلَّا بالنفس الحيَّة، فكذلك لا يقوم الدِّين إلَّا بالنيَّة الصادقة، ولا تثبت النيَّة الصادقة إلَّا بالعقل»(2)

الأمر الثاني: السلوك الحسن:

بمعنىٰ أنَّه وبعد تقييد النيَّة الداخلية بالصالح منها، يأتي دور تفعيل تلك النيَّة (أو قل: الدوافع الداخلية) علىٰ أرض الواقع، بأنْ يكون فعل الإنسان موافقاً للشريعة، وأنْ لا يخرج عن ذلك ما أُوتي إليه سبيلاً، ولذلك ترىٰ أنَّ النصوص التربوية والولائية قد حدَّدت شيعة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ بمن يكون سلوكه إسلاميًّا محضاً، ومن ذلك ما روي عن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «لا تذهب بكم المذاهب، فوَالله ما شيعتنا إلَّا من أطاع الله عزّ وَجل»(3)

وعن عمرو بن سعيد بن هلال الثقفي، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: قلت له: إنّي لا ألقاك إلَّا في السنين، فأخبرني بشيء آخذ به، فقال:

ص: 38


1- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 1/ ص 99/ ح 86/3)، عن مصباح الشريعة.
2- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 396).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 73/ باب الطاعة والتقوىٰ/ ح 1).

«أُوصيك بتقوىٰ الله و الورع والاجتهاد، واعلم أنَّه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه»(1)

وهذان الأمران واضحان، والأمر الذي نريد تسليط الضوء عليه أكثر هو:

الأمر الثالث: فنُّ إدارة السلوك

الأمر الثالث: فنُّ إدارة السلوك(2)):

وحتَّىٰ تتَّضح الفكرة نذكر التالي:

عادةً، يمكن تفسير الأفعال الفيزيائية التي تصدر من الإنسان بعدَّة تفسيرات فيما يتعلَّق بالمبادئ التي كانت وراء صدورها، فإذا صلّىٰ الإنسان مثلاً أمام الناس بصوت واضح، يمكن أنْ يُفسِّر البعض هذا التصرُّف منه بأنَّه رياء، ولكن يمكن أنْ يُفسِّره الآخر بأنَّه بنيَّة تعليم جاهل إلىٰ جنبه مثلاً.

عندما يلبس أحدهم ملابس رثَّة، قد يُفسِّره البعض بأنَّه بخل، وقد يُفسِّره البعض بأنَّه زهد في الدنيا أو مواساة للفقراء.

وعندما تذهب إلىٰ بيت أرملة لتُعطيها مبلغاً من المال، قد يُفسِّره البعض بنيَّة سوء، وقد يُفسِّره البعض بنيَّة الامتثال لأوامر أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ بمراعاة الأيتام والمحتاجين.وهكذا، فكلُّ فعل يصدر من الإنسان فله وجهان، ويمكن أنْ يُفسَّر بالإيجاب، كما يمكن أنْ يُفسَّر بالسلب.

والسرُّ وراء هذا الأمر: أنَّ الفعل عندما يصدر فإنَّه يتَّكئ علىٰ

ص: 39


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 76/ باب الورع/ ح 1).
2- اصطلاح استعمله الأُستاذ السيِّد جعفر الحكيم (أدامه الله تعالىٰ) في المعنىٰ المقصود هنا.

العديد من المبادئ، أو قل: الدوافع الداخلية التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجرَّدة، وبالتالي يبقىٰ باب الاحتمالات مفتوحاً للآخر في أنْ يُفسِّر الفعل بما يراه هو.

فكلُّ فعل إذن يحمل وجهين في داخله، وجهاً إيجابياً، وآخر سلبياً، واحتمال كونه صادراً عن أحدهما لا ينفي احتمال صدوره عن الآخر.

إذا اتَّضح هذا فنقول:

إنَّ أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ لا يريدون منّا أنْ نعمل الأعمال الصالحة فحسب، بل يريدون منّا أنْ نصوغ سلوكنا بحيث لا يُفهَم منه دوماً وأبداً إلَّا الوجه الإيجابي، وبحيث يندفع عنه الوجه السلبي تماماً، الأمر الذي أشارت له بعض الروايات الشريفة إشارة لطيفة جدًّا، بالتعبير بالتالي: «إنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّىٰ الأمانة وحسَّن خُلُقه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرُّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر»(1)

ص: 40


1- في الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 636/ باب ما يجب من المعاشرة/ ح 5): عن أبي أُسامة زيد الشحّام، قال: قال لي أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «اقرأ علىٰ من ترىٰ أنَّه يُطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأُوصيكم بتقوىٰ الله عزّ وَجل والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، أدُّوا الأمانة إلىٰ من ائتمنكم عليها بِرًّا أو فاجراً، فإنَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدُّوا حقوقهم، فإنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّىٰ الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرُّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان علىٰ غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره، وقيل: هذا أدب جعفر، فوَالله لحدَّثني أبي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّ الرجل كان يكون في القبيلة من شيعه عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فيكون زينها، آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان، إنَّه لآدانا للأمانة، وأصدقنا للحديث».

وحتَّىٰ تصل إلىٰ هذه المرتبة المتكاملة من السلوك، المرتبة التي لا يُفهَم معها إلَّا الوجه الإيجابي من سلوكك، بحيث لا يتَّهمك أحد في أيِّ فعل يصدر منك، عليك أنْ تلتزم التالي:

أوَّلاً: التزام السلوك الرفيع دوماً وأبداً.

فعن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإنَّ ذلك داعية»(1)

وعن أبي الحسن الأوَّل عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «كثيراً ما كنت أسمع أبي يقول: ليس من شيعتنا من لا تتحدَّث المخدَّرات بورعه في خدورهنَّ، وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم خلق لله(2)) أورع منه»(3)

ثانياً: الابتعاد عمَّا لا يتناسب مع الآخرة ومع القِيَم والمُثُل،أي الابتعاد عن السلوكيات التي تتناسب عكساً مع ذلك، وبعبارة أوضح: الابتعاد عن الأفعال التي يكون الوجه السلبي فيها أوضح من الوجه الإيجابي، كالتعلُّق بالأموال، وبالجنس، وبالسلطة، وما شابه.

فعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «إيّاك وكثرة الوله بالنساء، والإغراء باللذّات، فإنَّ الواله بالنساء ممتحن، والغري [أي الولع] باللذّات ممتهن»(4)

وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «إيّاكم وأبواب السلطان وحواشيها، فإنَّ

ص: 41


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 78/ باب الورع/ ح 14).
2- وفي نسخة: (فيهم من خلق الله...).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 79/ باب الورع/ ح 15).
4- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 99).

أقربكم من أبواب السلطان وحواشيها أبعدكم من الله تعالىٰ، ومن آثر السلطان علىٰ الله تعالىٰ أذهب الله عنه الورع وجعله حيراناً»(1)

ثالثاً: الابتعاد عن مواقع التهمة، كالدخول في أماكن الفساد، أو مرافقة الطالحين، أو السفر إلىٰ البلدان التي يكثر فيها الفساد، فإنَّ «من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنَّ من أساء به الظنَّ»(2)

وعن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمّد عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «من دخل موضعاً من مواضع التهمة فاتُّهِمَ، فلا يلومنَّ إلَّا نفسه»(3)

وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «وإيّاك ومواطن التهمة والمجلسالمظنون به السوء، فإنَّ قرين السوء يغرُّ جليسه»(4)

وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «أولىٰ الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة»(5)

وعن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «اتَّقوا مواضع الريب، ولا يقفنَّ أحدكم مع أُمِّه في الطريق، فإنَّه ليس كلُّ أحد يعرفها»(6)

هذا وقد استطاع أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ أنْ يُحقِّقوا هذه المرتبة من (فنِّ إدارة السلوك)، وعلىٰ مستوىٰ عالٍ جدًّا، إلىٰ الحدِّ الذي لم يستطع أعداؤهم إلَّا أنْ يمدحوهم، وإلَّا أنْ يذكروا فضائلهم، وما استطاعوا أنْ يجدوا مثلبة واحدة عليهم، ولا أنْ يُفسِّروا تصرُّفاتهم إلَّا بما هو

ص: 42


1- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق (ص 260).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 41).
3- أمالي الشيخ الصدوق (ص 586 و587/ ح 808/5).
4- أمالي الشيخ الطوسي (ص 7).
5- معاني الأخبار للشيخ الصدوق (ص 196).
6- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 72/ ص 91).

الحسن، اللّهمّ إلَّا قولة (عمرو بن العاص) في أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بأنَّ فيه دعابة!

وهل هذه مثلبة؟! بل ما هذه إلَّا منقبة عظيمة، وانظر إلىٰ أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كيف صاغ هذه القولة وكيف ردَّ عليه حينما قال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «عجباً لابن النابغة(1))، يزعم لأهل الشام أنَّ فيَّ دعابة، وإنّي امرؤ تلعابة(2))، أُعافس وأُمارس(3))، لقد قال باطلاً ونطق آثماً. أمَا وشرُّ القول الكذب، إنَّه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويَسألفيلحف(4))، ويُسئَل فيبخل، ويخون العهد، ويقطع الإل(5))، فإذا كان عند الحرب فأيُّ زاجر وآمر هو، ما لم تأخذ السيوف مآخذها(6))، فإذا كان ذلك كان أكبر أنْ يمنح القرم سبَّته(7))، أمَا والله إنّي ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنَّه ليمنعه من قول الحقِّ نسيان الآخرة، إنَّه لم يبايع معاوية حتَّىٰ شرط له أنْ يُؤتيه أتيَّة ويرضخ له علىٰ ترك الدِّين رضيخة(8)(9)

ص: 43


1- النابغة المشهورة فيما لا يليق بالنساء، من نبغ إذا ظهر.
2- الدعابة - بالضمِّ -: المزاح واللعب؛ وتلعابة - بالكسر -: كثير اللعب.
3- أُعافس أُعالج الناس وأُضاربهم مزاحاً، ويقال: المعافسة معالجة النساء بالمغازلة، والممارسة كالمعافسة.
4- فيلحف أي يلحُّ؛ ويسأل هاهنا مبنيٌّ للفاعل؛ ويسأل في الجملة بعدها للمفعول.
5- الإل - بالكسر -: القرابة، والمراد أنَّه يقطع الرحم.
6- أي إنَّه في الحرب زاجر وآمر عظيم أي محرِّض حاثٍّ ما لم تأخذ السيوف مأخذها، فعند ذلك يجبن، كما قال: فإذا كان ذلك... الخ.
7- السبة - بالضمِّ - الأُست، تقريع له بفعلته عندما نازل أمير المؤمنين في واقعة صفّين، فصال عليه وكاد يضرب عنقه، فكشف عورته، فالتفت أمير المؤمنين عنه وتركه.
8- الآتية: العطيَّة؛ ورضخ له أعطاه قليلاً؛ والمراد بالآتية والرضيخة ولاية مصر.
9- نهج البلاغة (ج 1/ ص 147 و148).

وقال عنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدَّة تواضع، وسهولة قياد، وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف علىٰ رأسه.

وقال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن، فلقد كان هشًّا بشًّا، ذا فكاهة، قال قيس: نعم، كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يمزح ويبتسم إلىٰ أصحابه، وأراك تُسِرُّ حسواً في ارتغاء(1))، وتعيبهبذلك! أمَا والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسَّه الطوىٰ، تلك هيبة التقوىٰ، وليس كما يهابك طغام أهل الشام(2))!

* * *

ص: 44


1- في المثل: (هو يسر حسوا في ارتغاء)، يُضرَب لمن يُظهِر أمراً وهو يريد غيره. (لسان العرب: ج 19/ ص 46). (من هامش المصدر).
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 1/ ص 25).

(36)القدوة الصالحة و الأسوة الحسنة

لا شكَّ أنَّ أسمىٰ هدف للقرآن الكريم وللدِّين القويم، هو بناء وتكامل الإنسان إلىٰ أعلىٰ حدٍّ ممكن له، وفي سبيل ذلك جعل الدِّين العديد من العوامل التي تساعد الإنسان علىٰ بلوغ أعلىٰ درجة من التكامل، منها: أنَّه جعل له عقلاً يُميِّز الحسن من القبيح، وأبقىٰ له دستوراً ثابتاً يعالج جميع مشاكل ومستحدثات الحياة، متمثِّلاً ذلك الدستور بالثقلين: كتاب الله تبارك وتعالىٰ، وعترة النبيِّ الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

هذا أوَّلاً.

وثانياً: أنَّ من طبيعة الإنسان أنَّه يتأثَّر بمن يعتبرهم القدوة له، في أيِّ جانب من جوانب الحياة، وهذا أمر نجده فطرياً عند الأطفال، حيث نجدهم يحاولون تقليد آبائهم في كلِّ ما يصدر منهم، ربَّما ليتقرَّبوا منهم، وربَّما لأنَّهم يعتبرون آباءهم النموذج الأروع في حياتهم، وربَّما لأنَّ طبيعة الإنسان تدعوهم إلىٰ ذلك. علىٰ كلِّ حالٍ، فإنَّ هذا أمر نجده طبيعياً جدًّا، وهو في الحقيقة من أساليب التربية العملية المهمَّة.

إنَّ الحاجة إلىٰ القدوة الحسنة أمر وجداني، يجده الإنسان فيقرارة نفسه، وليس هذا خاصًّا بالمسائل الروحية فقط، بل هو حتَّىٰ في المسائل المادّية كما هو واضح عند أدنىٰ تأمُّل، ولكن الحاجة إلىٰ القدوة والأُسوة

ص: 45

في المسائل الأخلاقية والروحية تكون أشدّ وآكد، لأنَّ غالبية المسائل الأخلاقية تكون مخالفة للأهواء والشهوات النفسانية، وتكثر فيها الشطحات والأخطاء، فتحتاج والحال هذه إلىٰ قدوة حسنة، يرسم لنا الطريق الصحيح للأخلاق الحسنة.

وفي هذا المجال، يُعطينا القرآن الكريم القدوة الحسنة، متمثِّلة بأفضل أهل الأرض، وهم الأنبياء والمرسَلون، وعلىٰ رأسهم بنبيِّ الأخلاق الأعظم محمّد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.

قال تعالىٰ: ]لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً 21[ (الأحزاب: 21).

وقال تعالىٰ: ]قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ[ (الممتحنة: 4).

وفي ضمن كلامه جلَّ وعلا عن بعض الأنبياء والمرسَلين، يقول جلَّ وعلا: ]أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰ اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرىٰ لِلْعالَمِينَ 90[ (الأنعام: 90).

إنَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ هو قدوة لنا ولجميع طبقات المجتمعات الإنسانية، وعلىٰ اختلاف مستوياتها، وفي جميع جوانب الحياة، وأحاديثه وأفعاله زاخرة بالقوانين الأخلاقية.

فمن جانب العبادة كان أعبد الناس، فقد روي عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عند عائشة ليلتها، فقالت: يارسول الله لِمَ تُتعِب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة، ألَا أكون عبداً شكوراً؟».

قال: «وكان سول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يقوم علىٰ أطراف أصابع رجليه،

ص: 46

فأنزل الله سبحانه وتعالىٰ: ]طه 1 ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ 2[ [طه: 1 و2]»(1)

ومع هذا لم يكن ليترك الدنيا مطلقاً، بل كان يأكل ويشرب ويُحِبُّ الطيب ويقارب النساء، والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة، وكان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أشدّ الناس حياءً، فقد كان أحيىٰ من العذراء في خدرها، وكان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لا يُسئَل شيئاً إلَّا أعطاه، وكان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ متواضعاً بحيث كان يأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، وكان يأكل علىٰ الحضيض، وينام علىٰ الحضيض، وكان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يحلب المعز بيده، ويلبس الصوف، ويُسلِّم علىٰ الصبيان (لتكون سُنَّة من بعده)، وكان إلىٰ جانب ذلك أشجع الناس، قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «لقد رأيتُني يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وهو أقربنا إلىٰ العدوِّ، وكان من أشدّ الناس يومئذٍ بأساً»(2))، وقالعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كنّا إذا احمرَّ البأس ولقي القومُ القومَ، اتَّقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلىٰ العدوِّ منه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ»(3)

وكان صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ خير الناس بأهله، وأرحمَهم بهم.

إنَّ الكلام عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وصفاته لا ينتهي، والقلم يقف عاجزاً خجلاً من التقصير بحقِّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، ويكلُّ وييأس من بلوغ حقيقة صفاته صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عندما يسمع القرآن الكريم ملعلعاً علىٰ الدهرويقول: ]وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ 4[ (القلم: 4).

وليكن معلوماً: أنَّه كما أنَّ القدوة الحسنة تدفع بالمقتدي بها نحو الفضائل، كذلك إذا كانت القدوة سيِّئة، فإنَّها تسحب الفرد إلىٰ الرذائل.

ص: 47


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 95/ باب الشكر/ ح 6).
2- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 18).
3- المصدر السابق.

وهذا يعني التالي:

أوَّلاً: أنَّ أهمّية مسألة اختيار القدوة والأُسوة تقتضي أنْ يكون البحث دقيقاً عمَّن يُراد الاقتداء به، فلا يخدعنَّ الفرد نفسه.

ثانياً: علينا أنْ نكون عوناً لأولادنا في اختيارهم للقدوة الحسنة، الأمر الذي يبدأ بنا نحن، بمعنىٰ أنْ نعمل علىٰ أنْ نكون نِعْمَ القدوة لهم، لأنَّنا أقرب الناس إليهم.

ثالثاً: أنَّ الفرد إذا تسنَّم منصباً اجتماعياً معيَّناً، فإنَّه في الوقت الذي يعتبره تشريفاً له، هو يُلقي عليه مسؤولية عظيمة بأنْ يكون علىٰ قدرها، ولذلك كان علىٰ نساء النبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مسؤولية عظيمة، لاقترابهنَّ من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، قال تعالىٰ: ]يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَىٰ اللهِ يَسِيراً 30 وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً 31[ (الأحزاب: 30 و31).

ومن هنا، فقد افترض الأئمَّة عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ علىٰ شيعتهم أنْ يكونوا الأفضل في كلِّ شيء، وأنْ يكونوا قدوات لغيرهم، خصوصاً من أبناء المذاهب الأُخرىٰ، حتَّىٰ ينقلوا صورة مشرفة عن علاقتهم بأهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، وهي مسؤولية عظيمة ملقاة علىٰ عاتق كلِّ من يدَّعي التشيُّع لهم عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ.

روي أنَّه قال الشقران مولىٰ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: خرج العطاء أيّام أبي جعفر وما لي شفيع، فبقيت علىٰ الباب متحيِّراً، وإذا أنا بجعفر الصادق، فقمت إليه، فقلت له: جعلني الله فداك، أنا مولاك الشقران، فرحَّب بي وذكرت له حاجتي، فنزل ودخل وخرج وأعطاني من كُمِّه فصبَّه في كُمّي، ثمّ قال: «يا شقران، إنَّ الحسن من كلِّ أحد حسن، وإنَّه منك

ص: 48

أحسن، لمكانك منّا، وإنَّ القبيح من كلِّ أحد قبيح، وإنَّه منك أقبح»، وعظه علىٰ جهة التعريض لأنَّه كان يشرب(1)

وعن أبي أُسامة زيد الشحّام، قال: قال لي أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «اقرأ علىٰ من ترىٰ أنَّه يُطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأُوصيكم بتقوىٰ الله عزّ وَجل والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، أدُّوا الأمانة إلىٰ من ائتمنكم عليها بِرًّا أو فاجراً، فإنَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كان يأمر بأداء الخيط والمِخْيط، صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدُّوا حقوقهم، فإنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصَدَق الحديث وأدّىٰ الأمانة وحسَّن خُلُقَه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرُّني ذلك ويدخلُ عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان علىٰ غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعارُه، وقيل: هذا أدب جعفر، فوَالله لحدَّثني أبي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: إنَّ الرجل كان يكون في القبيلة من شيعه عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فيكون زَينَها، آداهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهموودائعُهم، تسأل العشيرةَ عنه فتقول: مَنْ مثلُ فلان، إنَّه لآدانا للأمانة وأصدقنا للحديث»(2)

ص: 49


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 362).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 636/ باب ما يجب من المعاشرة/ ح 5).

* * *

(37)عدم هجران القرآن الكريم

هناك صورة ملفتة للنظر، يحكيها لنا القرآن الكريم معجَّلاً عن حادثة تقع يوم القيامة، خلاصتها التالي:

في مشهد مهول، حيث قاعة محكمة عظيمة، القاضي فيها حَكَمٌ عَدْل، وهو شاهد علىٰ كلِّ القضايا، فلا يحتاج إلىٰ شهودِ إثبات، وإنْ كان عنده من الشهود ممَّن وَثَّقوا الحقائق، وممَّن لا يكذبون ولا يُكذَّبون، فلا تُتاح الفرصة لمتَّهم أنْ يُنكِر، في تلك القاعة، حيث يجتمع الأوَّلون والآخرون، يقوم من بين الحضور، رجلٌ عظيم القدر، بل هو أعظم مَنْ خَلَقَ الله تعالىٰ، يقوم الرسول الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، ليشكو إلىٰ الله تعالىٰ صادحاً: ]وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً 30[ (الفرقان: 30).

إنَّها شكوىٰ بسبب أُناس هجروا القرآن الكريم، ولم يتعاهدوه، ولم يتواصلوا معه. سواء علىٰ مستوىٰ القراءة، أو الالتزام بأحكامه، أو السير علىٰ هَدْيه، وهكذا.

وإنَّما نقل الله تعالىٰ لنا تلك الصورة معجَّلاً هنا، لطفاً بنا، ليلفت أنظارنا إلىٰ ضرورة تدارك هذا الأمر قبل فوات الأوان.

وحتَّىٰ لا نكون ممَّن هجر القرآن، علينا أنْ نلتفت إلىٰالتالي:

أوَّلاً: أنَّ الروايات تُؤكِّد علىٰ أنَّ من حقِّ القرآن الكريم علىٰ

ص: 50

المسلمين، أنْ يتعاهدوه بالقراءة اليومية، بل هذا من الأُمور التي أُخِذَت علىٰ المؤمن أنْ يلتزمها يومياً، فقد روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «القرآن عهد الله إلىٰ خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أنْ ينظر في عهده وأنْ يقرأ منه في كلِّ يوم خمسين آية»(1)

وعنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلىٰ منزله أنْ لا ينام حتَّىٰ يقرأ سورة من القرآن، فتُكتَب له مكان كلِّ آية يقرؤها عشر حسنات، ويُمحىٰ عنه عشر سيِّئات»(2)

إنَّ قراءة القرآن الكريم في الوقت الذي تُؤدّي إلىٰ تحصيل الثواب العظيم الذي تذكره الروايات الشريفة، هي تفتح النفس علىٰ آفاق روحية عظيمة، فإنَّ في هذا القرآن الكريم الكثير من سلالم الكمال الإنساني، والتي تنفتح للقلب عندما يأنس بآيات ذلك الكتاب الكريم، يقول تعالىٰ: ]قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَىٰ النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 16[ (المائدة: 15 و16).

ويقول تعالىٰ: ]إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَالَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً 9[ (الإسراء: 9).

ثانياً: أنْ يجعل المؤمن في همِّه أنْ يتعلَّم القرآن الكريم، قراءةً، وتفسيراً لمعانيه، وعملاً بأحكامه وتشريعاته. فقد روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «ينبغي للمؤمن أنْ لا يموت حتَّىٰ يتعلَّم القرآن أو يكون في تعليمه»(3)

ص: 51


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 609/ باب في قراءته/ ح 1).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 611/ باب ثواب قراءة القرآن/ ح 2).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 607/ باب من يتعلَّم القرآن بمشقَّة/ ح 3).

وروي عن النبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «ما من مؤمن ذَكَر ولا أُنثىٰ حُرٍّ ولا مملوك إلَّا ولله عزّ وَجل عليه حقٌّ أنْ يتعلَّم من القرآن ويتفقَّه في دينه»، ثمّ تلا هذه الآية: ]وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ 79[ [آل عمران: 79](1)

وينبغي للمؤمن أنْ يُجهِد نفسه في تعلُّم القرآن منذ نعومة أظفاره، ليختلط بلحمه ودمه، وليثبت كأشدّ ما يكون الثبات، وقد روي أنَّ من قرأ القرآن قبل أنْ يحتلم فقد أُوتي الحكم صبياً(2)

ثالثاً: الاستبصار بهدي القرآن الكريم في المواقف الحرجة، والتي يحتار فيها اللُّب، ويرتبك العقل، فإنَّ في آياته الكريمة الكثير من القواعد الاجتماعية والنفسية التي تنفع الإنسان في إصلاح سلوكه، وفي العمل علىٰ مواجهة المشاكل الحياتية، وعلىٰ الصبر علىٰ نوائب الحياة.

يقول النبيُّ الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في بيان هديه العامّ: «أيُّها الناس، إنَّكم في دار هدنة، وأنتم علىٰ ظهر سفر، والسير بكم سريع، وقد رأيتمالليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلَّ جديد ويُقرِّبان كلَّ بعيد ويأتيان بكلِّ موعود، فأعدُّوا الجهاز لبعد المجاز»، قال: فقام المقداد بن لأسود الكندي فقال: يا رسول الله، وما دار الهدنة؟ فقال: «دار بلاغ وانقطاع، فإذا التبست عليكم الأُمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنَّه شافع مشفَّع وماحل مصدَّق، من جعله أمامه قاده إلىٰ الجنَّة، ومن جعله خلفه ساقه إلىٰ النار»(3)

ص: 52


1- تفسير القرطبي (ج 4/ ص 122 و123).
2- شُعَب الإيمان للبيهقي (ج 2/ ص 330/ ح 1949).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 598 و599/ باب في تمثُّل القرآن وشفاعته لأهله/ ح 2).

فإذا ضاقت عليك الدنيا، فتذكَّر قوله تعالىٰ: ]وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155 الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 156 أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157[ (البقرة: 155 - 157).

وإذا أتتك الدنيا، وحصلت علىٰ سلطان منها، فعليك أنْ تتذكَّر قوله تعالىٰ: ]تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 83[ (القَصص: 83).

وإذا صرت غنيًّا بأسرع من لمح البصر، وكان عندك من أموالها الشيء الكثير، فعليك أنْ تتذكَّر قوله تعالىٰ: ]وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ 77[ (القَصص: 77).

وإذا رأيت من نفسك ثِقلاً من وجود والديك في حياتك، أوأحسست بتثاقل في رعايتهما أو تحمُّلها، فافتح القرآن الكريم وطالع بتأمُّل قوله تعالىٰ: ]وَقَضىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً 23 وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً 24[ (الإسراء: 23 و24).

وإذا كنت وليًّا علىٰ يتيم، أو كان تحت عهدتك يتيمة، فضع نُصْبَ عينيك - ما كانوا معك - قوله تعالىٰ: ]وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً 34[ (الإسراء: 34)، وكذلك قوله تعالىٰ: ]فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ 9[ (الضحىٰ: 9).

ص: 53

وإذا جلست مع أصدقائك جلسة سمر، وحلىٰ الحديث، واسترسلت الألفاظ تجري علىٰ الألسنة، فلا بدَّ أنْ لا تتجاوز الحدود التي رسمها الباري جلَّ وعلا بقوله عزَّ من قائل: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 11 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ 12[ (الحجرات: 11 و12).

وأخيراً، إذا عملتَ عملاً صالحاً، ولم تجد من يمدحك عليه، أو لم تحصل علىٰ أجرك فيه، فاعلم أنَّ الأجر عند الله تعالىٰ لا يضيع إذا كان العمل خالصاً لوجهه الكريم، وحيث إنَّ الناس لايستطيعون أنْ يجازونا بأعمالنا، بل هم مثلُنا، محتاجون إلىٰ الله تعالىٰ في الحصول علىٰ الأجر والثواب، إذن، لماذا لا أتوجَّه إليه جلَّ وعلا هو لا غير، وأنْ أجعل أمامي دوماً وأبداً قوله تعالىٰ: ]وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرىٰ لِلذَّاكِرِينَ 114 وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 115[ (هود: 114 و115).

وقوله تعالىٰ: ]ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 120[ (التوبة: 120).

* * *

ص: 54

(38)الإغراء الوهمي

اشارة

بمطالعة سريعة في النصوص الدِّينية التي جاءت في مدح شيعة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، نجد أنَّ النفس ترتاح وتنشرح لما وعده الله تعالىٰ من ثواب عظيم مترتِّب علىٰ اتِّباع أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ قولاً وعملاً.

ومن ذلك ما ورد عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «اتَّقوا الله معاشر الشيعة فإنَّ الجنَّة لن تفوتكم وإنْ أبطأت بها عنكم قبائح أعمالكم فتنافسوا في درجاتها»(1)

وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «شكوت إلىٰ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حسد الناس إيّاي، فقال: يا عليُّ، إنَّ أوَّل أربعين يدخلون الجنَّة: أنا وأنت والحسن والحسين، وذرّيتنا خلف ظهورنا، وأحبّاؤنا خلف ذرّيتنا، وأشياعنا عن أيماننا وشمائلنا»(2)

ولكن هنا تنبيه مهمٌّ:

فإنَّه قد يتوهَّم البعض أنَّ أمثال هذه الأحاديث تُؤدّي إلىٰ تغرير الشيعة بمواقعة المعصية اعتماداً علىٰ تشيُّعهم لأهل البيتعَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، وبالتالي سيكون التشيُّع مدعاة لفعل المعصية ومخالفة القانون الإلهي!

ص: 55


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 8/ ص 352)؛ عن التفسير المنسوب إلىٰ الإمام العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ (ص 305 و306).
2- الإرشاد للشيخ المفيد (ج 1/ ص 43).

وطبعاً: هذا إشكال سيّال علىٰ كلِّ وعد للمطيع بالجنَّة.

والجواب أنْ يقال التالي:

إنَّ الإخبار بدخول المطيع الجنَّة يُفهَم علىٰ مستويين:

المستوىٰ الأوَّل:

أنَّ المطيع إنَّما يدخل الجنَّة بشرط أنْ يموت علىٰ الطاعة(1)) لا أنْ يفعل الطاعة فقط، وما دام يحتمل المطيع أنَّ عمله الصالح قد يُحبَط بعمل معصية ما قبيل موته، فلا تغرير في هذا الإخبار.

ومفاد هذا المستوىٰ هو ما عبَّرت عنه الأحاديث بالعيش بين الخوف والرجاء، وقد روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: قلت له: ما كان في وصيَّة لقمان؟ قال: «كان فيها الأعاجيب، وكان أعجب ما كان فيها أنْ قال لابنه: خف الله عزّ وَجل خيفة لو جئته ببِرِّ الثقلين لعذَّبك، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك»، ثمّ قالأبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كان أبي يقول: إنَّه ليس من عبد مؤمن إلَّا [و]في قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وُزِّن هذا لم يزد علىٰ هذا، ولو وُزِّن هذا لم يزد علىٰ هذا»(2)

ص: 56


1- وهو ما عبَّر عنه القرآن الكريم بالمجيء بالحسنة لا بفعلها، قال تعالىٰ: ]مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ 89[ (النمل: 89). عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: قال أبو جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: دخل أبو عبد الله الجدلي علىٰ أمير المؤمنين، فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «يا أبا عبد الله، ألَا أُخبرك بقول الله عزّ وَجل: ]مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ 89 وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 90[ [النمل: 89 و90]؟»، قال: بلىٰ يا أمير المؤمنين، جُعلت فداك، فقال: «الحسنة معرفه الولاية وحبُّنا أهل البيت، والسيِّئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت»، ثمّ قرأ عليه هذه الآية. (الكافي للشيخ الكليني: ج 1/ ص 185).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 67/ باب الخوف والرجاء/ ح 1).

المستوىٰ الثاني:

أنَّ الإخبار بدخول المطيع الجنَّة هو إخبار من نحو القضيَّة الخارجية، وهو لا يوجب الإغرار، أي إنَّ المقصود هو مخاطبة المطيع في الحقيقة والواقع والخارج، وليس كلُّ من عمل الطاعة انطبق عليه ذلك العنوان حقيقة في علم الله تعالىٰ، إذ المطيع لا يعلم أنَّه من أفراد المطيعين حقًّا أو لا، وهذا ما يدفعه نحو العمل الصالح مستمرًّا، خصوصاً مع وجود محبِطات العمل.

وهذا المعنىٰ هو ما عبر عنه الإمام الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في دعاء عرفة: «إلهي إنَّ اختلاف تدبيرك وسرعة طواء مقاديرك منعا عبادك العارفين بك عن السكون إلىٰ عطاء واليأس منك في بلاء»(1)

ومن هذا لا بدَّ أنْ نفهم التالي:

أوَّلاً: أنَّ ورود النصوص الدِّينية التي تُبشِّر الشيعة بعظيم فضلهم هي جاءت من باب التشجيع لهم، ليتحمَّلوا من أجل مبدئهم كلَّ صعوبات الحياة، فهي بمثابة الحوافز والدوافع التي تُنشِّط الالتزام بالمبدأ رغم وعورته في هذه الحياة.

ثانياً: وهي في نفس الوقت تفرض مسؤولية عظيمة علىٰكلِّ من يدَّعي التشيُّع، بأنْ يكون علىٰ قدر تلك المنَّة الإلهيَّة، وأنْ يلتزم شكر المنعم، وأنْ يبتعد عن كلِّ ما يُغضبه ويُسخطه، فهي في الحقيقة إنذار لهم بأنْ يُعطوا التشيَّع حقَّه من الطاعة وهجر المعصية.

ثالثاً: والذي يُؤكِّد ضرورة الحذر في هذا المجال، هي النصوص الدِّينية الواردة عن أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، والتي تُؤكِّد أنَّ التشيُّع طريق لطاعة

ص: 57


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 95/ ص 225).

الله تعالىٰ، ومن لا يلتزم هذا الطريق فهو ليس شيعياً في الواقع، فقد روي عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ من قوله لجابر:

«يا جابر، لا تذهبنَّ بك المذاهب، حسب الرجل أنْ يقول: أُحِبُّ عليًّا وأتولّاه ثمّ لا يكون مع ذلك فعّالاً، فلو قال: إنّي أُحِبُّ رسول الله، فرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ خير من عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، ثمّ لا يتَّبع سيرته ولا يعمل بسُنَّته، ما نفعه حبُّه إيّاه شيئاً، فاتَّقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبُّ العباد إلىٰ الله عزّ وَجل [وأكرمهم عليه] أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، والله ما يُتقرَّب إلىٰ الله تبارك وتعالىٰ إلَّا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا علىٰ الله لأحد من حجَّة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليٌّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوٌّ، وما تُنال ولايتنا إلَّا بالعمل والورع»(1)

* * *

ص: 58


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 74 و75/ باب الطاعة والتقوىٰ/ ح 3).

(39)التدافع بين المبادئ والمصالح

اشارة

هناك أمران جُبِلَ عليهما الإنسان:

الأمر الأوَّل: المبادئ:

تلك التي يُعبَّر عنها بالدِّين: أُصولاً وأحكاماً وأخلاقاً، فالإنسان فُطِرَ علىٰ حُبِّ التديُّن، أي الاعتقاد بوجود ربٍّ راعٍ للإنسان، فعن زرارة، عن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: سألته عن قول الله عزّ وَجل: ]حُنَفاءَ لِلهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ[ [الحجّ: 31]، قال: «الحنيفية من الفطرة التي فطر الله الناس عليها»، ]لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ[ [الروم: 30]، قال: «فطرهم علىٰ المعرفة به»(1)

وهو أمر لا يختلف فيه اثنان، بمعنىٰ أنَّ الإنسان قد صُمِّم بطريقة داخلية تضطرُّه إلىٰ الاعتقاد بضرورة وجود إله خلقه ويرعاه في كلِّ لحظة، ذلك الاعتقاد الذي يتفجَّر الإحساس به عند الوقوع في شدَّة لا حلَّ لها، فقد روي أنَّه قال رجل للإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: يا ابن رسول الله، دلَّني علىٰ الله ما هو؟ فقد أكثر عليَّ المجادلون وحيَّروني. فقال له: «يا عبد الله، هل ركبت سفينةقطُّ؟»، قال: نعم، قال: «فهل كُسِرَ بك حيث لا سفينة تُنجيك ولا سباحة تُغنيك؟»، قال: نعم، قال: «فهل تعلَّق قلبك

ص: 59


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 12 و13/ باب فطرة الخلق علىٰ التوحيد/ ح 3).

هنالك أنَّ شيئاً من الأشياء قادر علىٰ أنْ يُخلِّصك من ورطتك؟»، فقال: نعم، قال الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «فذلك الشيء هو الله القادر علىٰ الانجاء حيث لا منجي، وعلىٰ الإغاثة حيث لا مغيث»(1)

وإذا رجعت إلىٰ القران الكريم، فإنَّك ستجده يشير، بل ويُصرِّح بهذه الحقيقة, ذلك عندما اعتبر أنَّ التديُّن هي (فطرة الله التي فطر الناس عليها)، حيث يقول تعالىٰ: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 30[ (الروم: 30).

نعم، قد حصل في كثير من الأحيان خطأ في التطبيق، فاتُخِذَت الأصنام والشمس والقمر والبقر والفأر وغيرها أرباباً من دون الله تعالىٰ.

البعض اتَّخذ من الأعراف والتقاليد الاجتماعية مبادئ يلتزم بها، وهذا في حدِّ ذاته لا ضير فيه، إذ إنَّ الكثير من الأعراف الاجتماعية والتقاليد هي أُمور جيِّدة ولا تُعارض الدِّين، مثل التعاون والغيرة والحجاب واحترام الكبير وتعظيمه واحترام الجار.

ولكن ليس كلُّ الأعراف صحيحة، فإطلاق العيارات النارية قد يحرم، وإنْ كان عرفاً اجتماعياً اتَّخذه الجهلة، لكن لا ندري لأيَّة غاية! هل للحزن أو للفرح والأعراس أو للختان أو للقدوم منالحجِّ؟!

ومن الأعراف الخاطئة هو العرف السائد بإطعام الناس في الفواتح، والحال أنَّ السُّنَّة تقول بالعكس، فجعفر بن أبي طالب لمَّا استشهد أمر الرسول الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنْ يُصنَع لعياله طعام! واليوم نحن

ص: 60


1- التوحيد للشيخ الصدوق (ص 231).

نخالف هذه السُّنَّة! فقد روي أنَّه لمَّا جاء نعيُ جعفر بن أبي طالب قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لأهله: «اصنعوا طعاماً واحملوه إليهم ما كانوا في شغلهم ذلك، وكلوه معهم، فقد أتاهم ما يُشغِلهم عن أنْ يصنعوا لأنفسهم»(1)

ومن الأعراف الخاطئة هو العرف السائد بعدم كتابة الدَّين إلىٰ أجله، والحال أنَّنا لو كتبنا الديون إلىٰ أجلها لما حصلت الكثير من المشاكل أو علىٰ الأقلّ قلَّت وندرت.

ومن الأعراف الخاطئة اليوم أنَّ الشابَّ يضع علىٰ وجهه ما تضعه المرأة لزوجها!

والمرأة تلبس ما يلبسه الرجال لا بقصد التستُّر، وإنَّما بقصد الإثارة وإظهار الجمال!

أو التجاوز علىٰ الأملاك العامَّة، كمن يتجاوز متر أو مترين علىٰ شارع عامٍّ!

علىٰ كلِّ حالٍ، المبادئ وما يُسمّىٰ بالأعراف والتقاليد، هي أحد أمرين جُبِلَ عليهما الإنسان واضطرَّ إليهما.

الأمر الثاني: المصالح:

فالإنسان دائماً يسعىٰ نحو التميُّز والتأثير والنفوذ، فللإنسان مصالح معقَّدة ودائمة، وهو مستعدٌّ للقتال والدفاع والتضحية من أجل مصالحه.

وليس في هذا - في حدِّ نفسه - ضير، والإسلام كدين إنساني أقرَّ

ص: 61


1- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1/ ص 239).

مبدأ مراعاة المصالح، ولذا روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «سلوا الله الغنىٰ في الدنيا والعافية، وفي الآخرة المغفرة والجنَّة»(1)

وعنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «لا خير في من لا يُحِبُّ جمع المال من حلال يكفُّ به وجهه، ويقضي به دَينه، ويصل به رحمه»(2)

المبادئ والمصالح غير متناهية:

من الملاحظات الرئيسية في المبادئ والمصالح أنَّ كلًّا منهما غير متناهي.

فالمبادئ تتمثَّل في التقرُّب إلىٰ الله تعالىٰ، والتقرُّب إليه تعالىٰ لا نهاية له، يقول تعالىٰ: ]وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ 99[ (الحجر: 99)، أي الموت. ومنه تعرف ضحالة التفكير القائل بأنَّ اليقين مرتبة عبادية يصل إليها الإنسان تنقطع عندها العبادة.

فما دام تعالىٰ هو غير متناهي، فالتقرُّب إليه تعالىٰ غير متناهي أيضاً.والمصالح كذلك، هي غير متناهية، فالإنسان كلَّما حصل علىٰ مصلحة ما فإنَّه يسعىٰ إلىٰ أكبر منها، سواء كانت المصلحة هي الصحَّة أو المال أو الجاه أو السيطرة والنفوذ أو التأثير أو النساء أو الشهرة أو...

ومن هنا روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «لو كان لابن آدم وادٍ من مال لابتغىٰ إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغىٰ لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلَّا التراب، ويتوب الله علىٰ من تاب»(3)

وإلىٰ هنا لا توجد مشكلة معيَّنة.

ص: 62


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 71 و72/ باب الاستعانة بالدنيا علىٰ الآخرة/ ح 4).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 71 و72/ باب الاستعانة بالدنيا علىٰ الآخرة/ ح 5).
3- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 459/ ح 7432).

أين الاختبار والبلاء إذن؟

إنَّ نقطة الابتلاء تكمن في سعي الإنسان إلىٰ إشباع أعلىٰ رغباته ومصالحه، من دون أنْ يجرح مشاعر مبادئه واعتقاداته، ومن دون أنْ يتجاوز علىٰ الخطوط الحمراء للشريعة والعقيدة.

إنَّ الاختبار والابتلاء في هذه القضيَّة ناشئ من قانون قد جعله الله تعالىٰ في هذا الكون، وهو قانون التزاحم في هذه الحياة، بمعنىٰ: أنَّ الفُرَص المتاحة في هذا الكون أقلّ بكثير من طموحات الإنسان، ومحدودية الفُرَص تُؤدّي إلىٰ التنافس من أجل الظفر بالفرصة قبل الغير، والتنافس قد يُؤدّي في بعض الأحيان إلىٰ التنازل عن بعض المبادئ، وهنا تبدأ المشكلة.

المشكلة إذن هي في التنازل عن المبادئ من أجل المصالح.

فالذي يريد أنْ يصبح غنيًّا بالإكسبرس، سيضطرُّ بلا شكٍّ -إلَّا ما ندر - إلىٰ أنْ يرابي أو يسرق أو يأكل رشوة أو يغصب حقَّ يتيم أو يبخس بالميزان أو يبخل أو يغشَّ أو...

والذي يريد أن يصبح مشهوراً من دون مؤهِّلات، تراه يسرق فكر غيره، أو يأتي بغريب من الأمر ونادر من الدهر لا واقع له، أو يدَّعي مناصب ليس هو لها بأهل، كمن يدَّعي الاجتهاد والمرجعية من دون أنْ يكون له وجود في أجواء الحوزة والعلماء.

والذي يريد أنْ يُكتَب له النجاح من دون جهد، تراه يغشُّ في الامتحانات، ويُعطي رشوة لمدرِّس ضعيف النفس، ولو بصورة (مغلَّفة)، كمن يفتح دورة تقوية ليس لها من هدف إلَّا الحصول علىٰ المال، وفي المقابل تكون الأسئلة شبه مفتوحة للطالب! وبالتالي سيكون

ص: 63

عندنا طبيب أو مدرِّس أو مهندس فاشل، ولا أثر له سوىٰ السيِّئات والويلات علىٰ البلد والمجتمع.

فما هو الصحيح؟

هل الصحيح هو التضحيَّة بالمبادئ من أجل المصالح؟

أم التضحية ببعض المصالح لأجل المبادئ؟

لا نريد أنْ نستعجل بالحكم، حتَّىٰ لا يكون حكمنا من دون دليل، فلنرجع إذن إلىٰ أصدق كتاب عرفته البشرية، لنعرف ما هو الصحيح.

يقول تعالىٰ: ]لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍمِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 22[ (المجادلة: 22).

ويقول تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَىٰ الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَىٰ الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ 54[ (المائدة: 54).

فالقرآن الكريم يجعل الأولوية للمبادئ، لأنَّها هي ما تصنع الإنسان، وأمَّا المصالح فهي مؤقَّتة مهما كانت كبيرة، فالإنسان لا وجود له من دون مبادئ، حتَّىٰ لو كان يملك الدنيا، فإنَّ المصالح وملك الدنيا كلَّه قد يُضحّي به الإنسان من أجل حياته أو من أجل مبدئه!

وقد روي أنَّ بعض الوعّاظ دخل يوماً علىٰ هارون العبّاسي، فقال

ص: 64

له: عظني، فقال: يا أمير...، أتراك لو مُنِعْتَ شربةً من ماء عند عطشك، بِمَ كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي. فقال: يا أمير...، أتراها لو حُبِسَتْ عنك عند خروجها بِمَ كنت تشتريها؟ قال: بنصف الباقي! قال: فلا يغرنَّك ملك قيمته شربة ماء(1)

في المقابل، فإنَّ الإنسان يحسُّ بالغنىٰ إذا كان يملك مبادئ راسخة، فهو يتنازل عن ملك الدنيا ولا يتنازل عن مبادئه، وسيكون أغنىٰ الناس بها، وفي هذا المعنىٰ روي أنَّ رجلاً جاء إلىٰ سيِّدنا الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فشكا إليه الفقر، فقال: «ليس الأمر كماذكرت، وما أعرفك فقيراً»، قال: والله يا سيِّدي ما استبيت [أي لا أملك قوت ليلة واحدة]، وذكر من الفقر قطعة والصادق يُكذِّبه، إلىٰ أنْ قال له: «خبِّرني لو أُعطيت بالبراءة منّا مائة دينار، كنت تأخذ؟»، قال: لا! إلىٰ أنْ ذكر أُلوف دنانير والرجل يحلف أنَّه لا يفعل، فقال له: «من معه سلعة يُعطىٰ بها هذا المال لا يبيعها، هو فقير؟!»(2)

وهذا من الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إشارة إلىٰ ما تقدَّم من أنَّ المبادئ أغلىٰ من الدنيا وما فيها.

وقد روي عن محمّد بن الحسن بن شمون، قال: كتبت إلىٰ أبي محمّد الإمام الحسن العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أشكو الفقر، ثمّ قلت في نفسي: أليس قال أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «الفقر معنا خير من الغنىٰ مع غيرنا، والقتل معنا خير من الحياة مع غيرنا»؟ فرجع الجواب: «إنَّ الله يُمحِّص أولياءنا إذا تكاثفت ذنوبهم بالفقر، وقد يعفو عن كثير، وهو ممَّا حدَّثَتْك

ص: 65


1- عدَّة الداعي لابن فهد الحلّي (ص 226).
2- أمالي الشيخ الطوسي (ص 297 و298/ ح 584/31).

نفسُك: الفقر معنا خير من الغنىٰ مع غيرنا، ونحن كهف لمن التجأ إلينا، ونور لمن استضاء بنا، وعصمة لمن اعتصم بنا، من أحبَّنا كان معنا في السنام الأعلىٰ، ومن انحرف عنّا فإلىٰ النار»(1)

* * *

ص: 66


1- الخرائج والجرائح لقطب الدِّين الراوندي (ج 2/ص 739 و740/باب 15/ح 54).

(40)وجهٌ مشرق في الحياة

اشارة

مهما صعبت، فهناك وجه مشرق في هذه الحياة.

قاعدة حياتية مهمَّة، تجعل الإنسان يُغيِّر نظرته حول كثير من الأشياء، الأمر الذي يُؤدّي إلىٰ تغيير كثير من أحكامه تجاهها، وبالتالي سيقترب خطوة مهمَّة جدًّا من (الرضا) بالقضاء الإلهي، و(التسليم) لأمر الله جلَّ وعلا، الأمر الذي يعني خطوة مهمَّة من خطوات التكامل الأخلاقي.

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة في هذه القاعدة نلفت النظر إلىٰ النقاط التالية:

النقطة الأولى:

من الخطأ أنْ نستعجل الحكم علىٰ شيء ما بمجرَّد مقابلة وجه من وجوهه، أو من أوَّل نظرة له، فإنَّ الحكم حينها سيكون ناقصاً من دون أدنىٰ شكٍّ، فالعقل يحكم بأنَّ الحكم علىٰ شيء ما - سواء كان آلةً أو بيتاً أو إنساناً - لا بدَّ أنْ يسبقه معرفة بجميع جوانبه، حتَّىٰ يكون الحكم منصفاً.

ولذلك تجد أنَّ (القاضي) لا يحكم في قضيَّة ما إلَّا بعد أنْ يجمع القرائن ويستمع الشهود والمدَّعي والمدَّعىٰ عليه، وربَّما استشار بعض معاونيه، ويتريَّث برهة، ثمّ يُصدِر بعدها حكمه.

ص: 67

ويترتَّب علىٰ هذا، أنَّ شيئاً واحداً قد نختلف في الحكم عليه، لا لشيء سوىٰ اختلاف محطِّ النظر ووجهته في الحكم، وقد روي أنَّ النبيَّ عيسىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ مرَّ مع الحواريين علىٰ جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال عيسىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: ما أشدّ بياض أسنانه(1))!

فلاحظ كيف اختلف الحكم علىٰ تلك (الجيفة) باختلاف وجهات النظر.

النقطة الثانية:

في هذه الحياة، هناك من يعيش بالنظرة الإيجابية والتفكير الإيجابي، وهناك من يعيش بالنظرة السلبية والتفكير السلبي، وكيف ستكون النظرة التي تعيش بها فإنَّ حياتك ستكون كذلك.

إنَّ هذا الكون له وجهان، في كلِّ وجود من وجوداته: وجه مشرق وآخر مظلم، فنهار وليل، وخير وشرٌّ، وفرح وحزن، وشبع وجوع، وأمن وخوف، وعقل وجنون، وغنىٰ وفقر، وعلم وجهل، وهكذا كلُّ الوجود له وجهان: مشرق ومظلم.

يا ترىٰ، ما عسانا أنْ نفعل؟ وأين نُوجِّه أنظارنا؟ وأين نُوجِّه تركيزنا؟ وكيف نتعامل مع وجهي الوجود؟

لو رجعنا إلىٰ القرآن الكريم، لوجدنا في آياته إشارات واضحة، بل وصريحة لطريقة التعامل، فمهما مرَّت عليك من ظروف صعبة، فعليكأنْ تنظر إلىٰ الوجه المشرق فيها، ولذلك فإنَّه ورغم خسارة المسلمين عسكرياً يوم أُحُد،

ص: 68


1- تنبيه الخواطر للشيخ ورّام (ج 1/ ص 117)؛ بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج14/ ص 327).

إلَّا أنَّ القرآن الكريم أمرهم فقال: ]وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 139[ (آل عمران: 139).

فإنَّ الله تبارك وتعالىٰ ومن خلال هذه الآية (... حذَّر المسلمين من أنْ يعتريهم اليأس والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة، وأنْ يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر النهائي... أجل، لا يحسن بهم أنْ يشعروا بالوهن أو يتملكهم الحزن لما حدث، فالرجال الواعون هم الذين يستفيدون الدروس من الهزائم كما يستفيدونها من الانتصارات، وهم الذين يتعرَّفون - في ضوء النكسات - علىٰ نقاط الضعف في أنفسهم أو مخطَّطاتهم، ويقفون علىٰ مصدر الخطأ والهزيمة، ويسعون لتحقيق النصر النهائي بالقضاء علىٰ تلك الثغرات والنواقص...)(1)

وإلىٰ نفس المعنىٰ يُشير الإمام الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في دعائه يوم عرفة، حين يقول:

«إلهي إلىٰ من تكلني، إلىٰ قريب فيقطعني، أم إلىٰ بعيد فيتجهَّمني، أم إلىٰ المستضعِفِين لي، وأنت ربّي ومليك أمري، أشكو إليك غربتي وبعد داري، وهواني علىٰ من ملَّكته أمري. إلهي فلا تُحلِل عليَّ غضبك، فإنْ لم تكن غضبت عليَّ فلا أُبالي سواك، سبحانك غير أنَّ عافيتك أوسع لي، فاسألك يا ربِّ بنور وجهك الذي أشرقت له الأرض والسماوات، وكُشِفَت به الظلمات، وصَلُحَ به أمر الأوَّلين والآخرين، أنْ لا تُميتني علىٰ غضبك، ولاتنزل بي سخطك، لك العتبىٰ حتَّىٰ ترضىٰ قبل ذلك»(2)

فالإمام الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ مستعدٌّ لتحمُّل كلِّ صعوبات الحياة، ما دام

ص: 69


1- تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (ج 2/ ص 708 و709).
2- مصباح المتهجِّد للشيخ الطوسي (ص 68).

في مأمن من الغضب الإلهي، فإذا كان المرء داخلاً تحت دائرة الرضا الإلهي، فهذا يكفيه لمواجهة كلِّ صعوبات الحياة، وهذا الأمر هو ما ترجمته السيِّدة زينب عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ في مجلس ابن زياد، لمَّا قال ابن زياد لها: كيف رأيتِ صنع الله بأهل بيتكِ؟ فقالت: «ما رأيت إلَّا جميلاً، هؤلاء قوم كُتِبَ عليهم القتل فبرزوا إلىٰ مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجّ وتُخاصَم، فانظر لمن الفلج، هبلتك أُمُّك يا ابن مرجانة...»(1)

وهذا مولانا الإمام الكاظم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ رغم آلام السجن والغربة والابتعاد عن الأهل، حوَّل فترة قضاء السجن إلىٰ أفضل وقت للتفرُّغ للعبادة، وكان يقول: «اللّهمّ إنَّك تعلم أنّي كنت أسألك أنْ تُفرِّغني لعبادتك، اللّهمّ وقد فعلت، فلك الحمد»(2)

وقد روي أنَّه قال ابن عبّاس حينما أُصيب بالعمىٰ آخر حياته:

إنْ يأخذ الله من عينَيَّ

نورهما

ففي لساني وقلبي منهما نورقلبي ذكيٌّ وعقلي غير ذي

دخلٍ

وفي فمي صارم كالسيف مأثور(3))

النقطة الثالثة:

إنَّ الأمثلة علىٰ هذه الفكرة من النصوص الدِّينية والتاريخية كثيرة جدًّا، ولكن دعونا نلتفت قليلاً إلىٰ أمثلة من واقعنا المعاش:

هل رأيتَ ابنك الصغير يوماً يلعب في التراب أو الوحل، وقد اتَّسخت ملابسه كلُّها، بل وجسمه من أخمص قدميه إلىٰ أعلىٰ رأسه؟

ص: 70


1- مثير الأحزان لابن نما الحلّي (ص 71)؛ بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 45/ ص 115 و116) بتفاوت يسير.
2- الإرشاد للشيخ المفيد (ج 2/ ص 240).
3- سير أعلام النبلاء للذهبي (ج 3/ ص 357).

فهل تأذيت كثيراً من هذا الموقف وثارت ثائرتك عليه؟ ولكن لماذا نظرت إلىٰ هذا الوجه فقط من وساخة ملابسه وجسمه؟! ولو نظرت بعقلك إلىٰ قوَّة تركيز ولدك علىٰ كومة التراب أمامه أو بركة الوحل التي برك فيها، لو نظرت إليه وهو لا يرىٰ في الوجود غير نفسه وسط لعبته البديعة، ثمّ لو التفتَّ إلىٰ نفسك وأنَّك تفتقد التركيز في أكثر أعمالك وأوقاتك، لو نظرت بهذه النظرة، لعلمتَ أنَّ ابنك يستحقُّ التصفيق علىٰ ما أبداه من قوَّة تركيز في لعبته وعدم اهتمامه بالظروف مِنْ حوله ومحاربة كلِّ ما من شأنه أنْ يقف دون تحقيقه لهدفه!

وهل كسر ابنك يوماً إناءً زجاجياً باهض الثمن، حينما كان في نشوة انتصاره علىٰ ذبابة ضربها؟! وهل استرجعت الثمن منه بضربة علىٰ رأسه أو صفعة علىٰ خدِّه الناعم؟! إذا كنت قد فعلت ذلك، فهذا معناه أنَّك لم تنظر إلىٰ بهجة قلب ولدك وهو يحسب نفسه قد انتصر علىٰ عدوٍّ لدود يُهدِّد مصيره بالخطر وحياتهبالدمار! هكذا هو الطفل!

هل سمعت بما ورد أنَّه كان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يُؤتىٰ بالصبيِّ الصغير ليدعو له بالبركة، أو يُسمّيه، فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله، فربَّما بال الصبيُّ عليه، فيصيح بعض من رآه حين يبول، فيقول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «لا تزرموا(1)) بالصبيِّ»، فيدعه حتَّىٰ يقضي بوله، ثمّ يفرغ له من دعائه أو تسميته، ويبلغ سرور أهله فيه، ولا يرون أنَّه يتأذّىٰ ببول صبيِّهم، فإذا انصرفوا غَسل ثوبه بعده(2)

وجود عدوٍّ يقضُّ مضجعك، ويجعل ليلك مملّاً من الخوف، ربَّما

ص: 71


1- زرم البول: انقطع. ولا تزرموا: يعني لا تقطعوا بوله. (من هامش المصدر).
2- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 25/الفصل الثاني: نبذة من أحواله 9 وأخلاقه).

تعتبره أسوأ ما في الوجود، وأقبح ما يمكن أنْ يحدث لك، ولكنَّك لو نظرت إلىٰ ما سيستتبعه وجود العدوِّ من الثمرات المفيدة لك، لتمنَّيت أنْ لا تعيش يوماً بدون عدوٍّ!

فمثلاً، تجد أنَّ وجود العدوِّ يدفعك نحو الإعداد المستمرّ، يقول تعالىٰ: ]وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ 60[ (الأنفال: 60).

وما أحلىٰ قول أبي حيّان الأندلسي:

عداي لهم فضلٌ عليَّ ومنَّةٌ *** فلا أذهب الرحمن عنّي الأعاديا

هُمُ بحثوا عن زلَّتي فاجتنبتها *** وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا(1))

والفقر فيه وجه مظلم هو العوز في الدنيا، وربَّما حتَّىٰ الذلَّة فيبعض الأحيان، ولكن وجهه المشرق أكثر عزًّا من عزَّة المال! قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - لمَّا سُئِلَ عن الفقر -: «خزانة من خزائن الله»، قيل - ثانياً -: يا رسول الله، ما الفقر؟ فقال: «كرامة من الله»، قيل - ثالثاً -: ما الفقر؟ فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «شيء لا يُعطيه الله إلَّا نبيًّا مرسلاً أو مؤمناً كريماً علىٰ الله تعالىٰ»(2)

وقد نُسِبَ إلىٰ أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ:

دليلك أنَّ الفقر خير من الغنىٰ *** وأنَّ قليل المال خير من المثري

لقاؤك مخلوقاً عصىٰ الله بالغنىٰ *** ولم ترَ مخلوقاً عصىٰ الله بالفقر(3))

والنسيان، له وجهه المشرق أيضاً! رغم أنَّه يجعلك في بعض

ص: 72


1- الكنىٰ والألقاب للشيخ عبّاس القمّي (ج 1/ ص 59 و60).
2- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 69/ ص 47).
3- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 85).

الأحيان في موقف محرج جدًّا، ذلك عندما يلاقيك شخص ويصافحك بحرارة ويسأل عن أحوالك ويُعدِّد لك أسماء إخوتك وهو يناشدك عن أحوالهم، وأنت تماطل في الحديث معه وفي نفسك صراع وجدل حول هويَّة هذا المجهول الذي يعلم عنك كلَّ شيء وأنت لا تعلم عنه شيء!

ولكن رغم هذا فللنسيان فوائده ووجهه المشرق، وهذا ما يكشفه ويُوضِّحه هذا الحديث الشريف عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في توحيد المفضَّل، حيث يقول:

«... وأعظم من النعمة علىٰ الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان، فإنَّه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة، ولا انقضت له حسرة، ولا مات له حقد، ولا استمتع بشيء من متاع الدنيا معتذكُّر الآفات، ولا رجا غفلة من سلطان، ولا فترة من حاسد، أفلا ترىٰ كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان، وهما مختلفان متضادّان، وجعل له في كلٍّ منهما ضرب من المصلحة؟...»(1)

وحيث قد عرفت أنَّ لكلِّ ظلام نوراً، ولكلِّ شدَّة فرجاً، فلا تذهب بك المذاهب بعيداً ، فمهما كان للأشياء من وجوه الخير رغم ظلامها، ولكن لا نور للظلم أبداً! بل هو ظلمات بعضها فوق بعض.

فعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «وَاللهِ لأَنْ أَبِيتَ عَلَىٰ حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَىٰ اللهَ وَرَسُولَه يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَىٰ الْبِلَىٰ قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَىٰ حُلُولُهَا؟»(2)

ص: 73


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 3/ ص 81).
2- نهج البلاغة (ج 2/ ص 216 و217).

النقطة الرابعة:

لا يعني هذا أنْ يطلب المرء الوقوع في الصعاب من أجل أنْ ينظر لوجهها المشرق، كلَّا، فإنَّ النصوص الدِّينية أمرت المؤمن بأنْ يطلب العافية دوماً، حتَّىٰ يبتعد عن موضع قد لا يستطيع أنْ يتعامل معه تعاملاً صحيحاً، أو قل: إنَّ النصوص أمرت المؤمن بأنْ يطلب العافية من البلاء، لا أنْ يقع في البلاء ثمّ يطلب النجاح فيه، فلعلَّه لا يُوفَّق للخروج من أزمة البلاء بنجاح، ومن هنا روي عن النبيِّ الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «لا تتمنَّوا لقاء العدوِّ، فإنَّكم لا تدرون ما تُبتَلون به منهم، فإذا لقيتموهم فقولوا: اللّهمّ أنتربُّنا وربُّهم، وقلوبنا وقلوبهم بيدك، وإنَّما تغلبهم أنت، والزموا الأرض جلوساً، فإذا غشوكم فثوروا وكبِّروا»(1)

وعن الإمام الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «شكىٰ يوسف في السجن إلىٰ الله فقال: يا ربِّ، بماذا استحققت السجن؟ فأوحىٰ الله إليه: أنت اخترته حين قلت: ]رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ[ [يوسف: 33]! هلَّا قلت: العافية أحبُّ إليَّ ممَّا يدعونني إليه؟!»(2)

* * *

ص: 74


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 4/ ص 361/ ح 10907).
2- تفسير القمّي (ج 1/ ص 354).

(41)ثقافة الروح

اشارة

من الأُمور التي باتت من الواضحات اليوم هو أنَّ حقيقة الإنسان تتمثَّل في جزئين أساسيين، هما: الجسد والروح، فالإنسان ليس مجرَّد جسد، وإلَّا أصبح هو والحجر سواء، وليس هو مجرَّد روح، وإلَّا لأصبح ملاكاً يمشي علىٰ الأرض!

ومن الأُمور الواضحة أيضاً هو أنَّ كلّاً من الروح والجسد له آثاره الخاصَّة علىٰ سلوك الإنسان، فالجسد له تأثيراته الخاصَّة علىٰ سلوكيات الإنسان اليومية، وكذلك الروح...، وهذا نابع من نوع الثقافة التي يعيشها الجسد أو الروح، بمعنىٰ أنَّ الإنسان في كدحه اليومي في الحياة، تتكوَّن عنده مفاهيم واعتقادات متنوِّعة - باعتبار ما يرد عليه من الخارج من مؤثِّرات متنوِّعة - تُؤثِّر في سلوكه، وهي مرتبطة إمَّا بثقافة الجسد أو بثقافة الروح...، وهذا يُؤدّي إلىٰ أنْ يختلف الناس في ثقافاتهم الجسدية والروحية.

ما هو معنى هاتين الثقافتين؟

إنَّ ثقافة الجسد تعني فيما تعنيه أنْ يعتني الإنسان بجسده وما يرتبط به، فلا يلبس إلَّا النظيف والمرتَّب، ولا يأكل إلَّا الصحّي والنافع، ولا يُتعِب نفسه بأعمال شاقَّة تهلك الجسد، ولايقترب من المضرّات

ص: 75

بالجسد كالخمور والمخدِّرات والأكلات العفنة وغير المفيدة...، إنَّها تعني أنْ يجمع أكبر قدر ممكن من الأموال، وأنْ يبني أكبر بيت يمكنه أنْ يبنيه، وأنْ تكون عنده مناصب متعدِّدة يحكم بها الناس، و...

والخلاصة: أنَّ ثقافة الجسد تعني ثقافة الأخذ والتملُّك.

أمَّا ثقافة الروح فهي تعني الانتعاش الذي يحسُّ به الإنسان حين يُدخِل السرور علىٰ قلب صديق، والشعور الذي يغمره حين يمسح بيده علىٰ رأس يتيم، والغبطة التي يعيشها حين يرىٰ مؤمناً قد تعافىٰ من مرضه، إنَّها تعني الفرح بتقديم مساعدة لفقير، والحسرة علىٰ يتيم فقد أبويه!

إنَّها باختصار: ثقافة العطاء!

التدافع بين الثقافتين!

من الملاحظات المهمَّة التي تحكم هاتين الثقافتين هو أنَّ بينهما نوعاً من التدافع والتمانع!

ذلك لأنَّ ثقافة الجسد ترتبط بالجانب المادّي، وأمَّا ثقافة الروح فهي مرتبطة بالجانب المعنوي، والإنسان كثيراً ما يُقدِّم الملموس والمحسوس علىٰ المعنوي وغير المرئي!

إنَّ الإنسان كثيراً ما تتحكَّم فيه مقولة: ما لا أراه ولا أحسُّ به فهو غير موجود! وبالتالي فإنَّ سلوكياته ستتَّجه إلىٰ المادّيات أكثر من المعنويات، ولسان حاله يقول: ما عاقل من باع عاجلاً بدَين!

ولكن روحه لا تستسلم بسهولة، فهي تعمل وتجاهد علىٰ أنْيكون لثقافتها دور في سلوكيات الإنسان اليومية، وحيث إنَّها تعتمد المعنويات واللّامرئيات أكثر من الأُمور المرئية والمحسوسة، حينئذٍ تبدأ علامات التنافس والتدافع تظهر علىٰ سلوكيات الإنسان!

ص: 76

عوامل مساعدة لثقافة الروح:

في هذه المعركة، تتدخَّل عدَّة أُمور لتساعد علىٰ انتصار إحدىٰ الثقافتين علىٰ الأُخرىٰ، لكن لا بحدٍّ يقتل الثقافة الأُخرىٰ، كلَّا، فهذا ما لا يرضاه الدِّين ولا الإنسانية، فإنَّ كلّاً من الثقافتين لها آثارها الحميدة علىٰ البشرية، ولكنَّها أُمور تساعد علىٰ أنْ تُسيطر إحدىٰ الثقافتين علىٰ سلوكيات الثقافة الأُخرىٰ، وتلك العوامل كثيرة، نذكر منها:

العامل الأوَّل: التربية:

فالإنسان ابن تربيته، فمن يُربّيه أبواه علىٰ العطاء يصبح كريماً، ومن يُربّيه أبواه علىٰ الاعتداء يصبح جبّاراً،

وهذا أشهر من نار علىٰ عَلَم.

العامل الثاني: الثقافة العامَّة للمجتمع:

فإنَّ الإنسان يعيش في مجتمع له ثقافته الخاصَّة، ففي الغرب ربَّما يتحكَّم مبدأ (الاستحواذ) علىٰ جميع المبادئ الأُخرىٰ، ومن أجل الحصول علىٰ الفائدة المادّية فإنَّه تجوز كلُّ وسيلة، وتصبح مشروعة، وقد نقل أحدهم أنَّه درس في أمريكا بعض العلوم، وكان أحد الأمريكان يعمل في تدريس الإدارة فلا يتكلَّم عن الأخلاق، ولكنَّه مرَّة قال: الإخلاص أساس النجاح، فإذا استطعت أنْ تخدع الناس بأنَّك مخلص فأنت ناجح!

في بعض المجتمعات يعيش الناس علىٰ ثقافة احترام المتموِّل وابتذال الفقير، يعيشون علىٰ ثقافة حكاها لنا شاعر(1)) بقوله:

يمشي الفقير وكلُّ شيء ضدَّه *** والناس تغلق دونه أبوابها

ص: 77


1- تُنسَب هذه الأبيات إلىٰ الشافعي.

وتراه مبغوضاً وليس بمذنب *** ويرىٰ العداوة لا يرىٰ أسبابها

حتَّىٰ الكلاب إذا رأت ذاثروة *** خضعت لديه وحرَّكت أذنابها

وإذا رأت يوماً فقيراً عابراً *** نبحت عليه وكشَّرت أنيابها

وقال شاعر آخر:

كأنَّ مقلّاً حين يغدو لحاجة *** إلىٰ كلِّ من يلقىٰ من الناس مذنبُ

وكان بنو عمّي يقولون مرحباً *** فلمَّا رأوني معدَماً، مات مرحبُ!

فثقافة المجتمع علىٰ كلِّ حالٍ ستُلقي بظلالها علىٰ سلوك الفرد ضمن هذا المجتمع، وبالتالي سينعكس ذلك السلوك علىٰ ثقافة الروح.

العامل الثالث: المستوىٰ المادّي العامّ:

ففي الأحياء الفقيرة والشعبية تجد الأصالة العربية ما زالت قائمة، فالضيف يجد البيوت مفتَّحة أمامه وكلٌّ يدعوه ليُشرِّف بيته، ولكن في الأحياء الغنيَّة يتوجَّب عليه أنْ يبحث عن مطعم وفندق!

وطبعاً هذه ليست قاعدة عامَّة.

العامل الرابع: الوعي الدِّيني:فمن يفهم الدِّين علىٰ أنَّه مجرَّد طقوس تُتلىٰ في المساجد، ستتغلَّب ثقافة جسده علىٰ ثقافة روحه، لكن الذي يفهم من الدِّين مشروعاً إنسانياً يتدخَّل في كلِّ جزئيات الحياة، سترىٰ دينه يتحكَّم بجميع تصرُّفاته، فيُغلِّب جانب الثقافة الروحية.

ما الذي نراه اليوم في مجتمعنا؟

من الأُمور المؤسفة التي نعيشها اليوم هو أنَّنا نجد مجتمعاتنا تهوي في وادي الثقافة الجسدية تاركة الروح معلَّقة لا إلىٰ هؤلاء ولا إلىٰ هؤلاء!

ص: 78

إنَّ ثقافة الأخذ والتملُّك اليوم باتت كارثة تحيط بنا، ولا نعرف المخرج منها! تجد التاجر كلَّما كثرت أمواله كلَّما قلَّت عطاياه! ولا يحفظ من الكلمات إلَّا كلمة (الله يُعطيك)!

إنَّها ثقافة معاوية، التي تتجدَّد اليوم، فمعاوية في يوم من الأيّام قال لجلسائه: ألستم تعلمون كتاب الله؟ قالوا: بلىٰ، فتلا قوله تعالىٰ: ]وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ 21[ [الحجر: 21]، فقال: كيف تلومونني بعد هذا؟ فقام الأحنف فقال: ما نلومك علىٰ ما في خزائن الله، إنَّما نلومك علىٰ ما أنزل الله لنا من خزائنه فأغلقت عليه بابك! فسكت معاوية ولم يحر جواباً(1)

ومن الطرائف المنقولة، أنَّه في جمعية خيرية تعمل في جمع التبرُّعات، لاحظ الموظَّف المسؤول أنَّ محامياً شهيراً لم يتبرَّع قطُّللجمعية، فقرَّر الاتِّصال به وإقناعه بأنْ يتبرَّع للجمعية بجزء من ماله، قال الموظَّف للمحامي: عفواً ولكنّي اكتشفت من خلال السجلّات أنَّك لم تتبرَّع بأيِّ مبلغ خلال السنتين الماضيتين، فما رأيك أنْ تتبرَّع لنا ولو بجزء صغير من المال للجمعية؟ سكت المحامي برهة ثمّ قال: وهل أوضحت لك السجلّات أنَّ والدتي مريضة منذ سنوات مضت وقد فقدت إعانتها الحكومية؟! فقال له الموظَّف وهو يشعر بالحرج: عفواً سيِّدي، ولكنّي لم أكن أعلم! فقال له المحامي: وهل علمت أنَّ لي أخاً ضريراً ويتحرَّك علىٰ كرسي بعجلات ويحتاج من يعوله؟! مرَّة أُخرىٰ قال الموظَّف: لا، لم أكن أعلم، قاطعه المحامي قائلاً: وهل علمت أنَّه بالرغم من كلِّ ذلك فأنا لا أُعطيهم قرشاً واحداً؟! فكيف تريدني أنْ أتبرَّع لجمعيتكم من مالي(2))!

ص: 79


1- أعيان الشيعة للسيِّد محسن الأمين (ج 7/ ص 385).
2- موعد مع الحياة للدكتور خالد بن صالح المنيف (ص 70).

أين هذه الصور عن الصورة التي يريدها منّا القرآن الكريم عندما قال عزَّ من قائل: ]وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 9[ (الحشر: 9)؟

فقد روي أنَّه أُهدي لرجل من أصحاب النبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رأس شاة مشوي، فقال: إنَّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلىٰ هذا حقًّا، فبعث إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلىٰ واحد حتَّىٰ تداولوا بها سبعة أبيات حتَّىٰ رجعت إلىٰ الأوَّل، فنزل: ]وَيُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 9[(1)وقيل: نزلت في سبعة عطشوا في يوم أُحُد، فجئ بماء يكفي لأحدهم، فقال واحد منهم: ناول فلاناً، حتَّىٰ طيف علىٰ سبعتهم، وماتوا ولم يشرب أحد منهم، فأثنىٰ الله سبحانه عليهم...(2)

إنَّها النفس الكريمة، التي تجاوزت الحدود!

العطاء الحقيقي:

اشارة

قد يفهم البعض من الأمثلة التي ذكرناها أنَّ العطاء الروحي يتمثَّل بالعطاء المادّي، فيبقىٰ الفقير بعيداً عن ميدان العطاء!

كلَّا، إنَّ العطاء الحقيقي له مفردات كثيرة جدًّا، وهي رخيصة جدًّا بالمقياس المادّي، ولكنَّها كبيرة بالمقياس الروحي، وإليك بعضاً من هذه المفردات:

1 - العطاء لوجه الله تعالىٰ:

فهذا العطاء مهما كان بسيطاً ولكنَّه كبير عند الله تعالىٰ، وقد رأينا كيف أنَّ سورة الإنسان خلَّدت عطاء أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ رغم بساطته

ص: 80


1- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 330).
2- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 9/ ص 430).

المادّية، ولكن سبب تخليده كان ]إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً 9[ (الإنسان: 9).

2 - العطاء في السرِّ:

فإنَّ صدقة السرِّ التي لا يعلمها إلَّا الله تعالىٰ يكون جزاؤها علىٰ الله تعالىٰ، وأنت عندما تُعطي لا بدَّ أنْ يكون هدفك إرضاء الله تعالىٰ، وصدقة السرِّ تُطفئ غضب الربِّ. وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «... وحقُّ الصدقة أنْ تعلم أنَّها ذخركعند ربِّك عزّ وَجل، ووديعتك التي لا تحتاج إلىٰ الإشهاد عليها، وكنت بما تستودعه سرًّا أوثق منك بما تستودعه علانية، وتعلم أنَّها تدفع البلايا والأسقام عنك في الدنيا، وتدفع عنك النار في الآخرة»(1)

3 - الابتداء بالسلام:

فإنَّه من تواضع الروح الذي يعني تساميها عند الله تعالىٰ، فالمؤمن يبدأ بالسلام، والبادئ بالسلام بريء من الكبر كما روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ(2)

4 - المجازاة علىٰ الصنائع:

فإنَّها عطاء ما مثله عطاء، لأنَّها تُشجِّع صانع المعروف علىٰ الاستزادة منه، وما أجمل ما نُقِلَ من إنَّه: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حُجّاجاً، ففاتتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فرأوا في بعض الشعوب خباءً رثًّا وعجوزاً، فاستسقوها، فقالت: اطلبوا هذه الشويهة، ففعلوا، واستطعموها، فقالت: ليس إلَّا هي، فليقم أحدكم فليذبحها

ص: 81


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 452).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 9/ ص 117/ ح 25265).

حتَّىٰ أصنع لكم طعاماً، فذبحها أحدهم، ثمّ شوت لهم من لحمها وأكلوا وقيَّلوا عندها، فلمَّا نهضوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا انصرفنا وعدنا فالممي بنا فإنّا صانعون لكِ خيراً، ثمّ رحلوا، فلما جاء زوجها وعرف الحال أوجعها ضرباً، ثمّ مضت الأيّام فأضرَّ بها الحال، فرحلت حتَّىٰ اجتازت بالمدينة، فبصر بها الحسن عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فأمر لها بألف شاة وأعطاها ألف دينار، وبعث معها رسولاً إلىٰالحسين فأعطاها مثل ذلك، ثمّ بعثها إلىٰ عبد الله بن جعفر فأعطاها مثل ذلك(1)

5 - المشاركة في المشاريع الخيرية:

مهما كانت المشاركة صغيرة، فمن الممكن أنْ يتَّفق الشباب والمؤمنون علىٰ أنْ يضعوا كلَّ شهر مبلغ ألف دينار في صندوق خاصٍّ بالفقراء، من الممكن أنْ نتشارك في إقامة مأتم، من الممكن أنْ نتشارك في زيارة مريض أو جمع مال له، من الممكن أنْ نُقيم مجلس دعاء جماعي لمريض أو غائب، من الممكن أنْ نُصلّي لميِّت صلاة ليلة الدفن، أو نُصلّي له ركعتين، من الممكن أنْ نقوم بتوزيع كُتُب ومنشورات عن الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ مجّانية، وهكذا المشاريع أكثر من أنْ تُحصىٰ!

6 - من عطاء الروح مسامحة المسيء!

فإنَّه زكاة القدرة علىٰ أخذ الحقِّ منه، ومسامحته تعني أكبر قتلة يمكن أنْ يُقتَل بها المسيء، هذا إذا لم تُنعِش قلبه وينقلب لك صديقاً بعد أنْ كان عدوًّا، يقول تعالىٰ: ]وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34[ (فُصِّلت: 34).

ص: 82


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 182).

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «نزل رسول الله في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة علىٰ شفير وادٍ، فأقبل سيل، فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين والمسلمون قيام علىٰ شفير الوادي ينظرون متىٰ ينقطع السيل، فقال رجل منالمشركين لقومه: أنا أقتل محمّداً، فجاء فشدَّ علىٰ رسول الله بالسيف، ثمّ قال: من ينجيك منّي يا محمّد؟ فقال: ربّي وربُّك، فنسفه جبرئيل عن فرسه، فسقط عن ظهره، فقام رسول الله، فأخذ السيف وجلس علىٰ صدره، فقال: من ينجيك منّي يا غورث؟ فقال: جودك وكرمك، فتركه وقام. قال: والله لأنت خير منّي وأكرم»(1)

7 - التزام بعض المستحبّات والنوافل:

فلا يكتفي المؤمن بأداء ما عليه من خُمُس وزكاة، بل يلتزم صدقة يومية ولو كانت قليلة، فإنَّ إعطاء القليل خير من الحرمان. ولا يكتفي بصلاة الفرائض، بل يتعدّاها للنوافل، وليتذكَّر الحديث القدسي القائل: «... لا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتَّىٰ أُحِبَّه، فأكون أنا سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به وقلبه الذي يعقل به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته، وإذا استنصرني نصرته»(2)

8 - نيَّة الخير المستمرَّة:

فإنَّها تحكي عن مبدأ نفسي لفعل الخير علىٰ نحو الدوام، وهي عملُ خيرٍ لا تعب فيه، فاستمرَّ علىٰ نيَّة الخير - بمعنىٰ أنْ يكون عندك

ص: 83


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 8/ ص 127/ ح 97).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 229/ ح 1155).

عزم فعلي علىٰ فعل الخير كلَّما سنحت الفرصة -، فإنَّها من أفضل أعمال الخير، ولا تنسَ أنَّ الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال: «إنَّما خُلِّد أهل النار في النار لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لوخُلِّدوا فيها أنْ يعصوا الله أبداً، وإنَّما خُلِّد أهل الجنَّة في الجنَّة لأنَّ نيّاتهم كانت في الدنيا أنْ لو بقوا فيها أنْ يُطيعوا الله أبداً، فبالنيّات خُلِّد هؤلاء وهؤلاء»، ثمّ تلا قوله تعالىٰ: ]قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شاكِلَتِهِ[ [الإسراء: 84]، قال: «علىٰ نيَّته»(1)

* * *

ص: 84


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 85/ باب النيَّة/ ح 5).

(42)إحدى الحُسنيين

هناك حقيقة تُؤكِّد عليها النصوص الدِّينية، وهي: أنَّ الذي يلتزم بالدِّين عموماً فهو رابح علىٰ كلِّ حالٍ، وأمره يدور دوماً بين (إحدىٰ الحُسنيين)، ولهذه الحقيقة تجلّيات عديدة في النصوص، نذكر منها التالي:

أوَّلاً: قال تعالىٰ: ]قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَىٰ الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ 52[ (التوبة: 52).

فهذه الآية تُوضِّح أنَّ المسلمين رابحون علىٰ كلِّ حالٍ، إنْ ربحوا المعركة في الدنيا فهم رابحون، وإنْ خسروها واستشهدوا دخلوا الجنَّة، فهم رابحون أيضاً، أمَّا الطرف الآخر فهو خاسر علىٰ كلِّ حالٍ.

ثانياً: قال تعالىٰ: ]وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155 الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ 156 أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157[ (البقرة: 155 - 157).

فالآية واضحة جدًّا في أنَّ المؤمنين في الوقت الذي يقع عليهم البلاء، إذا ما واجههوه بالصبر والرضا بالقضاء، فإنَّالنتيجة هي في صالحهم أيضاً، فإنَّ النتيجة هي أنَّ ]عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ 157[.

ص: 85

ثالثاً: يقول تعالىٰ: ]ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 120[ (التوبة: 120).

فالآية تُوضِّح أنَّ كلَّ ما يواجهه المؤمنون من صعاب فإنَّ لهم به أجراً علىٰ الله تعالىٰ.

رابعاً: ورد في دعاء الإمام الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في يوم عرفه: «عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبِّك نصيباً...، ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك»(1)

فإنَّه يُوحي بأنَّ الربح كلَّ الربح في ما له ارتباط بالله تعالىٰ، وإلَّا فالخسارة هي واقعه.

والحاصل:

أنَّ المرتبط بالله سبحانه دوماً في حالة انتفاع وربح، سواء في الرخاء أو في الشدَّة، في الدنيا أو في الآخرة، فكلُّ مواقفه والأقدار التي يعيشها محسوبة له، يُعوَّض عليها بتفضُّل منه سبحانه علىٰ عبده، شريطة أنْ يكون شاكراً في الرخاء وصابراًفي البلاء، فمن كان ديدنه ومنواله ذلك فستكون صحيفة أعماله نقيَّة ناصعة تسرُّه عند لقاء ربِّه، وتُسعِده سعادة معنوية في هذا العالم أيضاً.

فابتلاؤه ما بين الموجِب للثواب وبين المُسقِط للعقاب، ورخاؤه الشاكر له مدعاة للتفضُّل والثواب.

ص: 86


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 95/ ص 226).

والعكس بالعكس، فلو كفر بالنعمة في الرخاء، وجزع في البلاء، فإنَّ صحيفته ستُملأ بما يسوؤه من حرمان وعقاب.

فالقانون إذن هو: أنَّ كلَّ شيء مع الله تعالىٰ يمكن قلبه إلىٰ ربح وفائدة رغم أنَّه في حسابنا البشري قد ينقسم إلىٰ الربح والخسارة، ولكنَّه في منطق الدِّين يُقلَب إلىٰ خير وغنيمة.

وبعبارة أُخرىٰ:

إنَّ الدِّين لا يتلخَّص عطاؤه للمؤمن بمقولة الخلاص في الآخرة، بل هو عطاء ممتدٌّ ومنبسط علىٰ جميع الأدوار التي يمرُّ بها الإنسان قبل يوم القيامة والجزاء، ففي هذا العالم تجد المؤمن في حال الابتلاء بالشرِّ ينعم بالراحة والطمأنينة والتسليم، أي إنَّه يكون ذا شخصية سويَّة رغم المحنة والألم إنْ صَبَرَ علىٰ ما حلَّ به طبعاً.

وكذلك في حال الابتلاء بالخير فإنَّه في نعمة، إنْ شَكَرَ وعظَّم ما حلَّ به من خير وفضل.

ثمّ يأتيه يوم القيامة ليُجزاه الجزاء الأوفىٰ والنعمة الكبرىٰ، وهي السعادة الخالدة والخالصة من المكدِّرات والمنغِّصات والآلام.والعكس بالعكس، فلو كفر النعمة وجزع في البليَّة فإنَّه سيكون خاسراً في جميع الأدوار، رغم تصوُّره وهماً أنَّه في نعمة الغنىٰ أو الصحَّة، فهو من الداخل لا يعيش حالة الارتباط بالخالق، وبذا يفقد أمنه وسكينته النفسيين، وما أعظمه من مفقود! وفي الآخرة سيُحاسَب حساباً عسيراً، وأمَّا في حال البلاء فهو خسران في الدنيا والآخرة كما هو واضح.

وممَّا تقدَّم ينبغي أنْ نلتفت إلىٰ التالي:

أوَّلاً: أنَّ هذه الحقيقة تُعطي دافعاً ذاتياً ومحفِّزاً واقعياً للتمسُّك

ص: 87

بالدِّين، ولتحمُّل ما يواجهه المؤمن في هذه الحياة من صعاب، فما دام كلُّه بعين الله تعالىٰ، إذن لا يُبالي المؤمن، سواء وقع علىٰ البلاء أو وقع البلاء عليه.

ثانياً: لا يعني هذا أبداً أنْ يتوقَّف المؤمن عن التغيير نحو الأفضل، فقد يتصوَّر البعض أنَّه ما دام الإنسان رابحاً مع الله سبحانه دوماً، وغانماً علىٰ كلِّ حالٍ، فليبقَ إذن علىٰ ما هو عليه، ولا يُغيِّر من وضعه السيِّئ شيئاً، كمن هو مولود في بيئة جاهلة فيبقىٰ علىٰ جهله، أو مريض فلا يعالج نفسه، أو فقير بفقر مدقع فيُعرض علىٰ العمل لتوفير اللقمة بعزَّة وكرامة، ويستمرئ كلَّ ما مرَّ بحجَّة إمكانية الصبر والاطمئنان وربط الأمر بالله تعالىٰ ليتحوَّل إلىٰ رابح ومستفيد.

ولكنَّه تصوُّر بعيد عن الصواب، وسلوك مجانب للعقل والدِّين، فما تمَّ استعراضه من قاعدة (إحدىٰ الحُسنيين) يُقصَد منه الابتلاءات التي تعرض علىٰ الإنسان من دون أنْ يكون رفعهاباختياره، فتأتي قضيَّة الصبر والتسليم و...

وأمَّا في حالة عروض بعض الابتلاءات السلبية عليه، وكان بإمكانه رفعها، وكان الدِّين والعقل يحثّانه علىٰ تغييرها، ولكنَّه بسوء اختياره وجزافية قراره بقي في جهله أو مرضه أو فقره، فهذا خروج عن نظام المستفيد بنظر الدِّين، وسيكون في عداد الخاسرين في جميع الأدوار التي سيمرُّ بها، ففي الدنيا مثلاً يعاني من المرض وفي الآخرة من العقاب لتعريض نفسه إلىٰ التلف وقد أُمِرَ بحفظها وصيانتها.

وهذا ما تشير إليه بعض النصوص، فقد روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «إنَّ نبيًّا من الأنبياء مرض فقال: لا أتداوىٰ حتَّىٰ يكون

ص: 88

الذي أمرضني هو الذي يشفيني، فأوحىٰ الله عزّ وَجل: لا أُشفيك حتَّىٰ تتداوىٰ، فإنَّ الشفاء منّي والدواء منّي، فجعل يتداوىٰ، فأتىٰ الشفاء»(1)

* * *

ص: 89


1- مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي (ص 362).

(43)مسؤولية الإنسان

اشارة

كلُّ شيء في الوجود قائم علىٰ أساس نظام دقيق متوازن، هو نظام المسؤولية، فما من شيء إلَّا وله مسؤولية يفترض به أنْ يُؤدّيها علىٰ أحسن وجه، وأيُّ تقصير أو تخلّي عن هذه المسؤولية فإنَّه سيُؤدّي إلىٰ خلل في النظام التكويني أو التشريعي.

فالجبال لها مسؤوليتها التي تُؤدّيها علىٰ أحسن وجه، تلك هي مسؤولية توطيد وتوتيد الأرض، وهذا ما يُعبِّر عنه تعالىٰ في القرآن الكريم بقوله عزَّ من قائل: ]وَالْجِبالَ أَوْتاداً 7[ (النبأ: 7)، وقال تعالىٰ: ]وَأَلْقىٰ فِي الْأَرضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 15[ (النحل: 15).

وقال أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ووتد بالصخور ميدان أرضه»(1)

لقد ذكرت الأبحاث العلمية - التي أشار لها القرآن الكريم بألفاظ موجزة في هذه الآيات وغيرها - أنَّ ما نراه من الجبال العظيمة التي تمتدُّ علىٰ شكل سلاسل جبلية طويلة ما هي إلَّا الجزء الأصغر من الجبال، والجزء الأعظم هو في باطن الأرض.

فالجبل يضرب بعروقه إلىٰ مسافات عميقة جدًّا تحت سطح

ص: 90


1- نهج البلاغة (ج 1/ ص 14).

الأرض، وهناك ستلتقي عروق الجبال فيما بينها مكوِّنة شبكة أشبه بالحصيرة الكونكريتية المستعملة في البناء! وهذا من شأنه أنْ يُوقِف مدَّ الزلازل لو حدثت في منطقة من المناطق، بمعنىٰ أنَّ أيَّ زلزال لو حدث علىٰ الأرض فمن شأنه أنْ يستمرَّ إلىٰ جميع أجزاء الكرة الأرضية، ولكن لأنَّ عروق الجبال تقف في وجهه، ترىٰ هذا الزلزال يتوقَّف عند حدٍّ محدودٍ! ولذلك تجد أنَّ الجبال لو تخلَّت عن هذه المسؤولية فإنَّ أيَّ زلزال يقع، فإنَّه سيُدمِّر جميع الكرة الأرضية.

ولعلَّ هذا هو ما سيحصل عندما يأمر الله تعالىٰ الجبال فتكون سراباً! وذلك عندما تحين نهاية العالم، ففي المرحلة الأُولىٰ يأمر الله تعالىٰ الجبال فتتخلّىٰ عن مسؤوليتها!

قال تعالىٰ: ]وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَىٰ الأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً 47[ (الكهف: 47).

وقال تعالىٰ: ]وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً 105 فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً 106 لا تَرىٰ فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً 107 يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً 108[ (طه: 105 - 108).

وقال تعالىٰ: ]وَتَرَىٰ الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ 88[ (النمل: 88).

وبعد هذه المرحلة، يحدث ذلك الزلزال الذي سيُدمِّر الأرض- كلَّ الأرض -!

قال تعالىٰ في سورة الزلزلة: ]إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرضُ زِلْزالَها 1

ص: 91

وَأَخْرَجَتِ الْأَرضُ أَثْقالَها 2 وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها 3 يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها 4 بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحىٰ لَها 5 ...[ (الزلزلة: 1 - 5).

فهذه الزلزلة التي ستحصل بأمر الله تعالىٰ سوف تُدمِّر كلَّ الأرض، لأنَّه لا يوجد ما يُوقِفها عن الاستمرار بتدميرها، ذلك أنَّ الذي يُوقِفها هو الجبال، ولكن الجبال قد زالت قبل ذلك(1))!

إذن، فالجبل لو تخلّىٰ عن مسؤوليته، فإنَّ هذا سيُؤدّي إلىٰ اختلال تكويني.

وهكذا النبات له مسؤولية عليه أنْ يقوم بها، فمن مسؤوليته مثلاً أنَّه يأخذ غاز ثاني أُوكسيدالكربون () الذي هو غاز سام بالنسبة للإنسان، يأخذه ويجود علينا بغاز الأُوكسجين، الذي عليه تدور حياة الإنسان. ولذلك تجد أنَّ نسيم الحدائق الغنّاء يُنعِش الروح ويُحسِّسها بالارتياح والطمأنينة، لما تُوفِّره من غاز مفيد، ولما تُخلِّص الجوَّ من الغاز السام! وتستطيع أنْ تتصوَّر الحالة السيِّئة التي سيمرُّ بها الإنسان علىٰ الأرض لو تخلّىٰ النبات عن مسؤوليته!

والحيوان له مسؤوليته أيضاً، فمن مسؤوليته ما ذكره القرآن الكريم حيث يقول عزَّ من قائل: ]وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ 5 وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ 6 وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلىٰ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّالْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ 7 وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ 8 وَعَلَىٰ اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ 9[ (النحل: 5 - 9).

ص: 92


1- هذا مجرَّد تحليل يمكن الاستفادة منه من آيات القرآن الكريم، وهذا بالطبع لا يعني أنَّ القدرة الإلهيَّة لا يمكنها تدمير الأرض بطريقة أُخرىٰ.

وحتَّىٰ لو تخلّىٰ الإنسان عن بعض فوائد الحيوانات - كحمل الأثقال والتنقُّل - ولكن تبقىٰ الحيوانات من أهمّ مصادر غذاء الإنسان.

والخلاصة من كلِّ هذا: أنَّ كلَّ شيء في الوجود فإنَّ عليه مسؤولية لا بدَّ أنْ يُؤدّيها علىٰ أحسن حال، وإلَّا لحدث اختلال في النظام وفساد كبير.

وهنا نسأل:

ما هي مسؤولية الإنسان؟! هذا الموجود الذي كرَّمه الله تعالىٰ علىٰ جميع المخلوقات(1))، هذا الإنسان الذي حرمته أعظم من حرمة الكعبة(2))، هذا الإنسان الذي قطرة دمه أغلىٰ من الدنيا كلِّها(3))! ما هيمسؤوليته؟

النظريات في مسؤولية الإنسان:

لقد اختلفت النظريات والحضارات الإنسانية في ذلك علىٰ مرِّ التاريخ، فهناك من قال بأنَّ مسؤولية الإنسان هي الاعتناء بروحه فقط، ليس هذا وحسب، بل مهمَّته تحطيم الجسم وعدم إعطائه أيَّ حقٍّ من

ص: 93


1- قال تعالىٰ: ]وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً 70[ (الإسراء: 70).
2- عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «المؤمن أعظم حرمة من الكعبة». (ألف حديث في المؤمن للشيخ هادي النجفي: ص 170، عن الخصال للشيخ الصدوق: ص 27). وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه نظر إلىٰ الكعبة فقال: «مرحباً بالبيت، ما أعظمك وأعظم حرمتك علىٰ الله، والله للمؤمن أعظم حرمة منك، لأنَّ الله حرَّم منك واحدة ومن المؤمن ثلاثة، ماله ودمه وأنْ يُظَنَّ به ظنَّ السوء). (ألف حديث في المؤمن للشيخ هادي النجفي: ص 170، عن مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي: ص 78، ونقل عنه في بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي: ج 64/ ص 71/ ح 39).
3- عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم». (الجامع الصغير لجلال الدِّين السيوطي: ج 2/ ص 403/ ح 7236).

حقوقه، تلك الحقوق التي يُسمّونها بالشهوات والنزوات الحيوانية. تلك هي نظرية (الرهبانية)، وبالتالي فمسؤولية الإنسان تنحصر بإقامة الشعائر الدِّينية بهذا الوجه من الرهبنة، وانعدام الاستفادة من هذه الحياة الدنيا.

وهناك نظرية تقول بأنَّ مسؤولية الإنسان هي أنْ يبني نفسه مادّياً، فيُشبِع رغباته بأيِّ طريقة وبأيَّة وسيلة، فأنت مطالب بجمع المال، أمَّا عن الطريقة فليست مهمَّة، فالربا والسرقة والغشُّ والتطاول علىٰ حقوق الآخرين علىٰ المستوىٰ الفردي أو الدولي، كلُّها طُرُق مشروعة من أجل بناء الذات! تلك هي النظرية الرأسمالية.

وكان ل-- (سيجموند فرويد) نظريته الخاصَّة وهي: أنَّ الإنسان مسؤوليته فقط إشباع الغريزة الجنسية بأيِّ وسيلة، وفسَّر كلَّ التصرُّفات الإنسانية علىٰ أساس الجنس، وبالتالي فمسؤوليةالإنسان منحصرة بالجانب المادّي وما يُشبِع نهمه اللّامتناهي.

مسؤولية المسلم في نظرية الدِّين:

ونحن كمسلمين، علينا أنْ نعرف مسؤوليتنا من خلال نظرياتنا الخاصَّة بنا، أعني بالرجوع إلىٰ مصادر علوم المسلمين عموماً، القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية والمعصومية.

وبرجوعنا إلىٰ هذه المصادر، نجد أنَّ أهمَّ مسؤولية للمسلم هي أنْ يكون مهتدياً وهادياً، متوازناً في ذلك بين الدنيا والآخرة، فلا إفراط ولا تفريط في كلا جانبي الحياة الدنيا والآخرة.

وهذه المسؤولية تختلف من شخص لآخر حسب وضعه، وهذا ما يُعبِّر عنه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بقوله فيما روي عنه: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم

ص: 94

مسؤول عن رعيَّته، فالإمام راعٍ وهو المسؤول عن رعيَّته، والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيَّتها، والخادم في مال سيِّده راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، والرجل في مال أبيه راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، وكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته»(1)

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فهناك ثلاث مراحل لهذا المسؤولية، نستفيد الأُولىٰ والثانية من آية قرآنية، هي قوله تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ 6[ (التحريم: 6).والثالثة من حديث نبوي شريف.

المرحلة الأُولىٰ: وقاية النفس وهدايتها:

وتتلخَّص هذه المرحلة بأنْ يكون الإنسان متَّقياً، وكيف يكون متَّقياً؟

إنَّها معادلة بسيطة نظرياً صعبة عملياً، إنَّها (الورع مع الاجتهاد لتنتج التقوىٰ).

إنَّ معنىٰ التقوىٰ مركَّب من أمرين:

أ - الورع، وهو الابتعاد عن المعاصي صغيرها وكبيرها، بل وعن الشبهات.

ب - الاجتهاد، وهو بذل الجهد في عمل الواجبات والطاعات.

ونتيجة هذين الأمرين هي التقوىٰ.

ص: 95


1- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 1/ ص 129).

وقد قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفَّة وسداد»(1)

المرحلة الثانية: وقاية الأهل وهدايتهم:

أمَّا كيف أهدي أهلي؟

فهذا ما ورد في رواية تُفسِّر الآية المتقدِّمة، حيث ورد أنَّها لمَّا نزلت قال الناس: «يا رسول الله، كيف نقي أنفسنا وأهلينا؟ قال: «اعملوا الخير، وذكِّروا به أهليكم، فأدِّبوهم علىٰ طاعة الله»، ثمّ قال أبو عبد الله [عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ]: «ألَا ترىٰ أنَّ الله يقول لنبيِّه: ] وَأْمُرْأَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها[ [طه: 132]»(2)

وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن قول الله تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ[ [التحريم: 6]، فقلت: هذه نفسي أقيها، فكيف أقي أهلي؟ فقال: «تأمرهم بما أمر الله به، وتنهاهم عمَّا نهاهم الله عنه، فإنْ أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإنْ عصوك كنت قد قضيت ما كان عليك»(3)

المرحلة الثالثة: هداية الناس:

ودفعهم نحو التزام الدِّين وما فيه خير الدنيا والآخرة لهم، وهي مسؤولية الجميع ممَّن يمكنه ذلك، فمن أُتيحت له فرصة الهداية - بعد أنْ كان مهتدياً في نفسه - فلا يُقصِّر فيها، فله فيها ما لا يعلمه إلَّا الله تعالىٰ.

ص: 96


1- نهج البلاغة (ج 3/ ص 70).
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (ج 1/ ص 82).
3- كتاب الزهد للحسين بن سعيد الكوفي (ص 17/ ح 36).

فعن مسمع بن عبد المَلِك، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: بعثني رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إلىٰ اليمن، وقال لي: يا عليُّ، لا تقاتلنَّ أحداً حتَّىٰ تدعوه إلىٰ الإسلام، وأيم الله لئن يهدي الله عزّ وَجل علىٰ يديك رجلاً خير لك ممَّا طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه»(1)

* * *

ص: 97


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 5/ ص 28/ باب وصيَّة رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في السرايا/ ح 4).

(44)الهرب من ثقافة النفاق

معادلة غير متوازنة:

اشارة

للقرآن الكريم أساليب متعدِّدة في عرض الحقائق، تبتني علىٰ الصراحة في بعض الأحيان، وعلىٰ التلميح أحياناً أُخرىٰ، وعلىٰ الكناية والأساليب البلاغية العميقة أحياناً كثيرة، وهو في ذلك يُعطي دروساً قيِّمة للحياة لمن يريد أنْ يستفيد منها، فالقرآن ليس لكلِّ أحد، إنَّما هو لمن يريد أنْ يستفيد منه: ]هُدىٰ لِلْمُتَّقِينَ 2[ (البقرة: 2).

ومن أساليب القرآن الكريم أنَّه يذكر العديد من السُّنَن التي تحكم الأفراد والمجتمعات، تلك السُّنَن التي إذا ما عرفها المسلم فسيكون عنده منهاج متكامل في كيفية التعامل مع المجتمعات والأفراد علىٰ اختلاف مشاربهم.

ومن تلك السُّنَن هي سُنَّة: ]لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ 13[ (الحشر: 13).

يُقرِّر القرآن الكريم سُنَّة تكوينية في المنافقين، أُولئك الأفراد الذين يخفون غير ما يُعلِنون، يضمرون العداوة للمؤمنين ويُظهِرون لهم أنَّهم يُحِبُّونهم، هذه السُّنَّة تقول: إنَّ المنافقين يخافون من المؤمنين أكثر من خوفهم من الله تعالىٰ، إنَّهم لا يخافون من الله تعالىٰ، ولذلك يضمرونالعداوة للدِّين، ولكنَّهم يخافون من الناس، ولذلك يُظهِرون الإيمان وحُبَّ الدِّين.

ص: 98

وهذا هو الأساس الذي يبتني عليه النفاق.

إنَّ هذا المعنىٰ واضح جدًّا ولا يحتاج إلىٰ بيان أكثر.

ولكن الذي يحتاج إلىٰ تأمُّل وتفكير هو أنْ نتساءل مع أنفسنا: نحن نُظهِر الإيمان ونُبطِنه إنْ شاء الله تعالىٰ، ولكن هل لنا أعمال تشبه أعمال المنافقين والعياذ بالله؟!

هل نحن نخاف من الناس أكثر من خوفنا من الله تعالىٰ؟!

فإنَّ للمنافقين صفات عديدة تتجلّىٰ من خلال مواقفهم، الأمر الذي كشفت الروايات الشريفة بعض حيثياته، فعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «ما زاد خشوع الجسد علىٰ ما في القلب فهو عندنا نفاق»(1)

وعن الإمام عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ورع المنافق لا يظهر إلَّا علىٰ لسانه»(2)

ثقافة النفاق:

والذي يهمُّنا هو أنْ نتعرَّف علىٰ بعض الأُمور التي تزرع النفاق في القلب، أو قل: تزرع الخوف من الناس في القلب أكثر من الخوف من الله تعالىٰ، فإنَّنا وللأسف نعيش اليوم ثقافة عالية الجودة في رسم هذا الخوف العلني من الناس والتقليل من الخشيةمن الله تعالىٰ، وهذا نجده في العديد من المفردات:

المفردة الأُولىٰ: التربية غير الصالحة:

فإنَّ بعضاً من الآباء والأُمَّهات - من حيث يشعرون أو لا

ص: 99


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 396/ باب صفة النفاق والمنافق/ ح 6)؛ وفي هامش المصدر: في قوله: (عندنا) إيماء إلىٰ أنَّه ليس بنفاق حقيقي، بل هو خصلة مذمومة شبيهة بالنفاق.
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 504).

يشعرون - يزرعون هذه الفكرة في قلوب أطفالهم، مثلاً الطفل يسمع أباه يقول: (ما كان مع الله فهو سهل، وما كان مع الناس فهو صعب).

فهو بهذه الكلمة قد يُوحي إلىٰ ولده أنَّ الأُمور التي تخالف رضا الله تعالىٰ هيِّنة إذا ما قيست بالأُمور التي تخالف رضا الناس!

في حين أنَّ الإسلام يعاكس هذه النظرة تماماً، حيث ورد أنَّه كتب رجل إلىٰ الحسين بن عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: يا سيِّدي، أخبرني بخير الدنيا والآخرة. فكتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمَّا بعد، فإنَّه من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أُمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلىٰ الناس، والسلام»(1)

علىٰ الآباء والأُمَّهات أنْ يزرعوا في قلوب أطفالهم حُبَّ الله تعالىٰ، وفي نفس الوقت أنْ يزرعوا الخوف والخشية من الله تعالىٰ، وأنَّه تعالىٰ وإنْ كان لا يظلم أحداً، ولا عداوة له مع أحد لذاته، ولكنَّه تعالىٰ شديد العقاب لمن يخالف أوامره، وهو تعالىٰ أحقّ بالخوف من غيره، فإنَّ غيره لا يملك من أمر نفسه شيئاً، فكيف يملك من أمر غيره شيئاً؟!

ولا بدَّ أنْ نُذكِّرهم بأنَّ التزام أوامر الله تعالىٰ لا تُقرِّب منأجل ولا تقطع من رزق، وأنَّ من يتَّق الله يجعل له مخرجاً وإن اجتمع الناس علىٰ خذلانه، ونُذكِّرهم بقول أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «من أصلح فيما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس» (2)

إنَّ من يشتري رضا الله تعالىٰ ولو بأنْ يسخط الناس عليه، فإنَّ

ص: 100


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 268)؛ الاختصاص للشيخ المفيد (ص 225).
2- المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص 29/ باب ثواب من أصلح فيما بينه وبين الله/ ح 13).

الأثر الذي يتركه هذا العمل هو أنَّ الله تعالىٰ سيقف هو دون هذا المؤمن ويدافع عنه ويكفيه أمر الناس، فرغم أنَّ أفعاله المخالفة للناس هي مدعاة لغضبهم وسخطهم، وإذا بالله تعالىٰ يرمي المحبَّة في قلوبهم لهذا المؤمن، يقول تعالىٰ: ]إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ 38[ (الحجّ: 38).

وهذا ما عبَّر عنه الإمام أبو عبد الله الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله: «من خاف الله أخاف الله منه كلَّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كلِّ شيء»(1)

أمَّا من يحاول أنْ يُرضي الناس ولو علىٰ حساب الدِّين والعقيدة، فإنَّ مصيره هو أنَّ الله تعالىٰ سيتركه وسيكله إلىٰ نفسه ليُدبِّر أُموره، وهل يستطيع ذلك وهو فقير في كلِّ شيء؟!

ولذا وجدنا أنَّ المعصومين عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ كثيراً ما كانوا يدعون الله تعالىٰ بأنْ لا يكلهم إلىٰ أنفسهم طرفة عين، لأنَّ هذا يُؤدّي إلىٰ الهلاك لا محالة.عن ابن أبي يعفور، قال: سمعت أبا عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يقول - وهو رافع يده إلىٰ السماء -: «ربِّ لا تكلني إلىٰ نفسي طرفة عين أبداً، لا أقلَّ من ذلك ولا أكثر»، قال: فما كان بأسرع من أنْ تحدر الدموع من جوانب لحيته...(2)

وروي عن الرسول الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في بيان كيفية الوصيَّة أنْ تقول: «... اللّهمّ يا عدَّتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدَّتي، ويا وليَّ نعمتي، إلهي وإله آبائي لا تكلني إلىٰ نفسي طرفة عين أبداً، فإنَّك إنْ تكلني إلىٰ نفسي طرفة عين أقرب من الشرِّ وأبعد من الخير...»(3)

ص: 101


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 68/ باب الخوف والرجاء/ح 3).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 581/ باب دعوات موجزات لجميع الحوائج/ ح 15).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 7/ ص 2/ باب الوصيَّة وما أُمِرَ بها/ ح 1).

وفي دعاء للإمام السجّاد عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يقول فيه: «... اللّهمّ لا طاقة لي بالجهد، ولا صبر لي علىٰ البلاء، ولا قوَّة لي علىٰ الفقر، فلا تحظر عليَّ رزقي، ولا تكلني إلىٰ خلقك، بل تفرَّد بحاجتي، وتولَّ كفايتي، وانظر إليَّ، وانظر لي في جميع أُموري، فإنَّك إنْ وكلتني إلىٰ نفسي عجزت عنها ولم أقم ما فيه مصلحتها، وإنْ وكلتني إلىٰ خلقك تجهَّموني، وإنْ ألجأتني إلىٰ قرابتي حرموني، وإنْ أعطوا أعطوا قليلاً نكداً، ومنُّوا عليَّ طويلاً، وذمُّوا كثيراً، فبفضلك اللّهمّ فأغنني، وبعظمتك فأنعشني، وبسعتك فابسط يدي، وبما عندك فاكفني...»(1)والخلاصة: أنَّه ينبغي للمؤمن أنْ يكون لله وفي الله.

المفردة الثانية: ضعف الوازع الدِّيني:

الوازع الدِّيني هو ذلك الإحساس النابع من الذات ولا يتأثَّر بالمؤثِّرات الخارجية، ذلك الإحساس الذي يُسمّيه القرآن الكريم (النفس اللوّامة)، أو كما يُسمّىٰ ب- (الضمير).

إنَّه عبارة عن محكمة داخلية تعمل في الإنسان، محاولةً هدايته إلىٰ الطريق القويم وجعله يلتزمه ولا يتنكَّب عنه.

إنَّ تلك المحكمة لها مقوِّماتها الخاصَّة، وهي تنمو في داخل الإنسان كلَّما أراد الإنسان ذلك، ولكنَّه إذا ما أهملها فإنَّها ستضمر شيئاً فشيئاً حتَّىٰ تموت.

إنَّ من أهمّ ما يُميت تلك المحكمة هي الذنوب، وكما يقول الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ما من عبد إلَّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج

ص: 102


1- الصحيفة السجّادية/ أبطحي (ص 120/ رقم 59، دعاؤه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عند الشدَّة والجهد وتعسُّر الأُمور).

في النكتة نكتة سوداء، فإنْ تاب ذهب تلك السواد، وإنْ تمادىٰ في الذنوب زاد ذلك السواد حتَّىٰ يُغطّي البياض، فإذا غطّىٰ البياض لم يرجع صاحبه إلىٰ خير أبداً، وهو قول الله عزّ وَجل: ]كَلَّا بَلْ رانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ 14[ [المطفِّفين: 14]»(1)

إنَّك لا تستطيع أنْ تُظهِر معصية الله تعالىٰ وأنت جالس في المسجد، حيث الناس ينظرون إليك، وحيث العيون تترقَّبك، وحيث إنَّ سمعتك طيِّبة بين الناس، ويظهر منك التديُّن، ولكن البعض مع الأسف عندما يخلو بنفسه تبدر منه بعض المعاصي، كمن يشاهدويسمع المحرَّمات من خلال التلفزيون أو الهاتف! أو كمن يتخلّىٰ عن الكثير من المبادئ الدِّينية عندما يذهب إلىٰ الكلّية أو إلىٰ بلد لا يعرفه فيه أحد.

لذلك وجب علىٰ كلِّ من يريد أنْ يصبح مؤمناً حقيقة أنْ يعتني بهذه المحكمة، وأنْ يُنمّيها في داخله.

وإنَّ من أهمّ ما تُعرَف به درجة تأثير تلك المحكمة هو أمران: الشهوة والغضب، فجرِّب نفسك عندهما لترىٰ هل تبقىٰ علىٰ إيمانك أم تزلُّ بك القدم؟!

إنَّ هابيل لما قرَّب قرباناً وتقبَّله الله تعالىٰ منه، توعَّده أخوه قابيل بالقتل، ولكن الوازع الدِّيني الذي كان عند هابيل منعه من أنْ يقابله بالمثل، وهو ما يحكيه لنا القرآن الكريم: ]وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ 27 لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ

ص: 103


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 273/ باب الذنوب/ ح 20).

الْعالَمِينَ28 إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ 29 فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ 30[ (المائدة: 27 - 30).

وكذلك النبيُّ يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، حيث يحكي لنا القرآن الكريم عفَّته العظيمة رغم تهيئة جميع الظروف الملائمة للفاحشة في السرِّ، ولكن الوازع الدِّيني هو الذي منعه من ارتكابها، يقول تعالىٰ: ]وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ23[ (يوسف: 23).

المفردة الثالثة: ضعفُ الإيمان بالغيب، والتأثُّرُ بالمادّيات:

إنَّنا اليوم نعيش ثقافة مادّية بحتة لم نشهدها من قبل، فالكلُّ يعتني بالمظاهر، والكلُّ يعتني بالكماليات من الأُمور، ولو علىٰ حساب الأساسيات، والكلُّ يتأثَّر بالموضة، والكلُّ يحاول اقتناء أكثر ما يستطيع من الأجهزة والآلات والسيّارات والبيوت و...

لا أُريد أنْ أُوحي إليكم أنَّ الاهتمام بهذه الأُمور أمر محرَّم وغير محبَّذ في حدِّ نفسه في الإسلام، كلَّا، ولكنّي أُريد الإشارة إلىٰ أنَّ هذه الأُمور قد أعْمت الكثيرين عن التفكير بالأُمور الأساسية في حياتهم الدنيوية والأُخروية، فالمرء من أجل أنْ يلحق بأصحابه في الثراء تجده يهمل مراعاة أولاده وزوجته وصحَّته وعلاقاته الاجتماعية وصلة أرحامه، بل ووطنه ودينه! وهنا تجده كثيراً ما يشكو ويتململ من عدم توفُّر الوقت الكافي لديه، وتجده مرهقاً طوال الوقت، وتجده مقصِّراً في أُموره طول الخطِّ، ومع ذلك كلِّه تجده يشكو من عدم إكماله أيَّ أمر بدأ به!

وهذا التكالب علىٰ الكماليات جعل الكثير من الناس يهملون

ص: 104

التفكير في علاقتهم مع الله تعالىٰ، وفي نفس الوقت جعلهم يتملَّقون للناس ويُظهِرون لهم الحُبَّ والوئام، ويجاملونهم ولو علىٰ حساب دينهم! وهنا تبدأ الطامَّة الكبرىٰ، حيث يبرز الخوف من الناس أكثر من الخوف من الله تعالىٰ.

أمام هذا الواقع، علينا أنْ نلتفت إلىٰ التالي:

أوَّلاً: أنْ نضع بعين الاعتبار أنَّ الله تعالىٰ هو مسبِّبالأسباب، وأنَّه لا شيء يكون في هذه الحياة من دون إذنه، فحريٌّ بالمؤمن أنْ يمتَّ إليه بصلة وثيقة، إذ هي صلة بالغنيِّ المطلق.

ثانياً: أنْ نضع في الحسبان أنَّ أيَّ إنسان فهو مثلنا في الفقر الوجودي المدقع، وهو مثلنا في احتياجه إلىٰ من يعينه في أصل وجوده واتِّصافه بأيِّ صفة في هذه الحياة، وبالتالي فإنَّ ضمَّ الفقير إلىٰ الفقير لا ينتج إلَّا فقيراً مركَّباً موغلاً في الفقر.

ثالثاً: وأنْ نضع في الحسبان أيضاً أنَّ هذه الحياة ما هي إلَّا معبر إلىٰ حياة أُخرىٰ، فليس لها من القيمة ما يستدعي أنْ يُذِلَّ المؤمن نفسه من أجل شيء من حطامها، فإنَّه مفارقه علىٰ كلِّ حالٍ، ولنتذكَّر: ]وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 64[ (العنكبوت: 64).

* * *

ص: 105

(45)مواجهة الفشل بالتفاؤل

في هذه الحياة لا شيء ثابت، وبالتالي، فإنَّ الضمانات فيه شبه مستحيلة.

لا يستطع أحد أنْ يثق بصحَّته، فالأمراض الفتّاكة أثبتت خبرتها في أنَّها لا يبدو منها أيُّ أثر حتَّىٰ تنشب أظفارها في كلِّ مفصل من مفاصل البدن، والواقع المشاهد خير شاهد.

والغنىٰ وكثرة المال كالزئبق، لا يمكن لأحد أنْ يُمسِكه من طرف، حتَّىٰ ينزلق من طرف آخر. ولذلك فالدنيا لا تبقىٰ تحت يد أحد أبداً، وإلَّا: «لو بقيت الدنيا علىٰ أحدكم لم تصل إلىٰ من هي في يده» كما يُروىٰ عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ(1)

والسلطة والكرسي أشبه بأسد رابض، يظنُّه الغافل حملاً وديعاً، وهو هو الأسد الذي إنْ ثار قلبها رأسهاً علىٰ عقب، فإنَّ «صاحب السلطان كراكب الأسد، يُغبَط بموقعه، وهو أعلم بموضعه»(2)

فهذا هو حال الحياة، الأمر الذي أبدع أمير البيان وفارس البلاغة بتصويره أروع تصوير - كما هي العادة - بقوله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ:«أوَلستم ترون أهل الدنيا يُصبِحون ويُمسون علىٰ أحوال شتّىٰ، فميِّت يُبكىٰ وآخر

ص: 106


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 417).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 63/ الحكمة رقم 263).

يُعزّىٰ، وصريع مبتلىٰ، وعائد يعود وآخر بنفسه يجود، وطالب للدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وعلىٰ أثر الماضي ما يمضي الباقي»(1)

ولكن رغم ذلك، فلا يعني أنَّ المَرْء يقف ينتظر التغيُّرات تعصف به من كلِّ جانب، وهو لا يُحرِّك يداً، بل المطلوب منه أنْ يقف كلَّما سقط، وأنْ يعمل علىٰ التغيير للأفضل ما دام في جسده رمق، وأنْ لا ييأس من النجاح مهما فشل، وهو أمر أشار له أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله:

«فلا تطمعوا في غير مقبل، ولا تيأسوا من مدبر، فإنَّ المدبر عسىٰ أنْ تنزل به إحدىٰ قائمتيه وتثبت الأُخرىٰ، فترجعا حتَّىٰ تثبتا جميعاً»(2)

فيُشبِّه الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ذلك بمن يتحرَّك في جادَّة فتزلُّ إحدىٰ قدميه، فيظنُّ الناس أنَّه سقط، ولا سبيل إلىٰ قيامه ثانيةً، إلَّا أنَّه سرعان ما يعتمد علىٰ قدمه الأُخرىٰ فينهض من سقطته ويجدُّ في الحركة ثانيةً.

وما يُراد الإشارة له هنا هو التالي:

في الحوادث الصعبة ينبغي مراعاة قاعدتين كلّيتين:

الأُولىٰ: عدم التفاؤل المفرط، وعدم الاستعجال في الأعمال، وعدم الاعتماد علىٰ شيء لم تتوفَّر مقدّماته، فإنَّ الاستعجال قديُؤدّي إلىٰ نتائج وخيمة، تماماً كما أنَّ قطف الثمرة قبل أوانها مفسدة لها، يقول أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه»(3)

ص: 107


1- نهج البلاغة (ج 1/ ص 192).
2- نهج البلاغة (ج 1/ ص 193 و194).
3- نهج البلاغة (ج 1/ ص 40).

الثانية: أنْ لا تدعو الهزيمة إلىٰ اليأس والقنوط، فإنَّ الإخفاق يتحوَّل إلىٰ نجاح بالتجارب، أضف إلىٰ ذلك فإنَّ الألطاف الإلهيَّة قد تشمل الإنسان وتُمهِّد له كلَّ أسباب النجاح ومقوِّمات النصر.

وينفع هنا كثيراً أنْ يطالع المؤمن في حياة الناجحين بعد الفشل، وفي حياة من استغلُّوا أوَّل فرصة لينهضوا من وحل السقوط، وينفضوا عن أجنحتهم تراب الخسارة، ليرتقوا في ما يُتاح لهم من أسباب النجاح والفلاح. تماماً كما قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كن لما لا ترجو أرجىٰ منك لما ترجو، فإنَّ موسىٰ بن عمران عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ خرج يقتبس لأهله ناراً فكلَّمه الله عزّ وَجل ورجع نبيًّا مرسَلاً، وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وخرجت سحرة فرعون يطلبون العزَّ لفرعون فرجعوا مؤمنين»(1)

ولقد نُقِلَ في سيرة الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه كان كثير التفاؤل بالخير في أحلك الظروف وأصعبها، ففي قضيَّة صلح الحديبية لمَّا صعبت الأُمور، إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «قد سهل عليكم أمركم...»(2)

فقد تفاءل الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ باسم (سهيل) لتسهيل الأُمور، وهكذا كان.إذن، مهما صعبت، وتلكَّأت، وضاقت، واختنقت، فإنَّ هناك منفذاً جعله الله تعالىٰ أوسع بكثير من كلِّ تلك الظروف الحالكة، فإنَّ العسر مهما كان، فإنَّ اليسر آتٍ بعده.

ومن هنا روي عن ابن عبّاس، قال: يقول الله تعالىٰ: «خلقت عسراً واحداً، وخلقت يسرين، فلن يغلب عسر يسرين»(3)

ص: 108


1- الكافي (ج 5/ ص 83 و84/ باب الرزق من حيث لا يُحتَسب/ ح 3).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 1/ ص 175).
3- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 10/ ص 390).

وروي أنَّه خرج النبيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يوما مسروراً فرحاً، وهو يضحك، ويقول: «لن يغلب عسر يسرين، ]فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً 5 إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً 6[ [الشرح: 5 و6]»(1)

* * *

ص: 109


1- المصدر السابق، وبعده: قال الفرّاء: إنَّ العرب تقول: إذا ذكرت نكرة، ثمّ أعدتها نكرة مثلها، صارتا اثنتين، كقولك: إذا كسبت درهماً فأنفق درهماً، فالثاني غير الأوَّل، فإذا أعدَّتها معرفةً فهي هي كقولك: إذا كسبت الدرهم فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأوَّل، ونحو هذا ما قال الزجّاج: إنَّه ذكر العسر مع الألف واللّام، ثمّ ثنّىٰ ذكره، فصار المعنىٰ إنَّ مع العسر يسرين.

(46)تقدمة لنفسك

يسعىٰ الآباء والأُمَّهات عموماً في هذه الحياة لأجل غايات كثيرة، علىٰ رأس قائمتها هدف توفير العيش الكريم لأولادهم، وهو هدف - بحقٍّ - عظيم جدًّا، فالأب الذي يعمل علىٰ أنْ لا يحتاج أولاده لغيره لهو أب كريم، والأُمُّ التي تعمل علىٰ أنْ يكون أولادها أعظم رجال وأعفّ نساء لهي من عُمّال الله تعالىٰ علىٰ الأرض، وعلىٰ عكس ذلك تماماً يقف من يجعل أهله يتكفَّفون من الناس مالاً لحاجة، أو نصيحة لموقف، أو ابتسامة شفّافة.

وهذا يعني التالي:

أوَّلاً: أنَّ من مفردات السعادة الحقيقية في هذه الحياة لكلٍّ من الآباء والأولاد، هو أنْ يكون الأب هو القيِّم علىٰ عياله، ولا يُحوجهم إلىٰ غيره، فإنَّ في هذا إحساساً بنشوة الانتصار علىٰ صعوبة الحياة وجشوبة العيش، ولهفة لرؤية العيال مسرورين بما يجلبه لهم أبوهم من تُحَف وهدايا، وقد روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «من سعادة المرء أنْ يكون القيِّم علىٰ عياله»(1)

وعنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «اليد العليا خير من اليد السفلىٰ، وابدأبمن تعول»(2)

ص: 110


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 168/ ح 3628).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 11/ باب كفاية العيال والتوسُّع عليهم/ ح 4).

بالإضافة إلىٰ أنَّ هذا سيكون باباً من أبواب تحصيل الرضا الإلهي، فقد روي عن أبي حمزة الثمالي، عن عليِّ بن الحسين عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ، قال: «أرضاكم عند الله أسبغكم علىٰ عياله»(1)

ثانياً: أنَّ تضييع العيال وإلقاءهم في الحاجة إلىٰ الغير، هو إثم علىٰ المستويين: المادّي والمعنوي. أمَّا من الجهة المادّية فباعتبار أنَّ الزوجة والأولاد هم واجبوا النفقة علىٰ الأب، فإذا لم يُوفِّر لهم كفايتهم كان مذنباً من هذه الجهة. وأمَّا من الجهة المعنوية، فإنَّ العيال إذا رأوا أباهم لا يُوفِّر لهم ما يحتاجون، وفي الوقت ذاته يرون أترابهم وجيرانهم وقد توفَّروا علىٰ ما يحتاجونه من كدِّ أبيهم، حينها سينظرون إلىٰ أبيهم علىٰ أنَّه رجل ضعيف لا قدرة له علىٰ توفير أبسط أساسيات الحياة، ممَّا يعني خسارة الأب أهمّ صفة في البيت، هي صفة (القدوة).

وقد روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «كفىٰ بالمرء إثماً أنْ يُضيِّع من يعول»(2)

وعن النبيِّ الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «ملعون ملعون من يُضيِّع من يعول»(3)بل قد يُسبِّب ذلك أنْ يتمنّىٰ العيال موت أبيهم! وعندها سوف يعيش الأب مع قوم لا يرون له قيمة في الحياة، وحسبك بهذا تعاسة في العيش.

روي عن أبي الحسن الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «ينبغي للرجل أنْ يُوسِّع علىٰ عياله كي لا يتمنَّوا موته»، وتلا هذه الآية: ]وَيُطْعِمُونَ

ص: 111


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 11/ باب كفاية العيال والتوسُّع عليهم/ ح 1).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 168/ ح 3629).
3- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 168/ ح 3630).

الطَّعامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً 8[ [الإنسان: 8]، قال: «الأسير عيال الرجل، ينبغي للرجل إذا زيد في النعمة أنْ يزيد أُسراءه في السعة عليهم...»(1)

ومنه قد نفهم بعض الحكمة من اعتبار الكادِّ علىٰ عياله كالمجاهد في سبيل الله تعالىٰ(2)

ثالثاً: في الوقت ذاته، يلزم علىٰ العيال أنْ يقفوا إلىٰ جنب أبيهم عندما تمرُّ به ضائقة مالية بسبب تلكُّؤ العمل أو فقدانه لصحَّته ممَّا يمنعه من العمل، أو بسبب فقدانه عمله لسبب ولآخر ممَّا يُؤدّي إلىٰ تأخُّره في توفير حاجاتهم فترة بحثه عن عمل جديد وما شابه.

إنَّ كلَّ ما تقدَّم صحيح، ولعلَّه واضح.

ولكن الذي يُراد التنبيه عليه والتركيز عليه هنا، هي حقيقة أُخرىٰ متعلّقة بالأب نفسه، وهي التالي:

صحيح أنَّك مطالب بأنْ تُوفِّر لعيالك العيش الكريم الرغيد،وصحيح أنَّك ستكسب بذلك أجراً لا يعلمه إلَّا الله تعالىٰ، ولكن هذا لا يعني أنْ تنسىٰ نفسك وتُهلِكها من أجلهم!

أبقِ لنفسك بقيَّة.

فنفسك أحبّ الأنفس عليك.

لا تستهلك صحَّتك تماماً من أجل بعض المال الذي لن يكفيك للعلاج في المستقبل.

ولا تصرف كلَّ ما يأتيك في الأُمور الدنيوية فقط، فإنَّ العيال قد

ص: 112


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 11/ باب كفاية العيال والتوسُّع عليهم/ ح 3).
2- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (ج 3/ ص 168/ ح 3631).

يصلون إلىٰ مرحلة تكون مطالبهم غير متناهية، وبالتالي قد يتسبَّب ذلك في أنْ يتناسىٰ الأب ما عليه من ضرورات أُخرىٰ، كتفقُّد الأبوين ومساعدتهم، وكتفقُّد الأقارب وإعانتهم، وكتقديم بعض ما ينفعه في قبره كصدقة جارية وما شابه.

ورائع ما بيَّنه أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في هذا الشأن بقوله لابنه الإمام الحسن عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «يا بنيَّ، لا تخلفنَّ وراءك شيئاً من الدنيا، فإنَّك تخلفه لأحد رجلين: إمَّا رجل عمل فيه بطاعة الله فسعد بما شقيت به، وإمَّا رجل عمل فيه بمعصية الله فكنت عوناً له علىٰ معصيته. وليس أحد هذين حقيقاً أنْ تُؤثِره علىٰ نفسك».

ويُروىٰ هذا الكلام علىٰ وجه آخر وهو: «أمَّا بعد، فإنَّ الذي في يدك من الدنيا قد كان له أهل قبلك، وهو صائر إلىٰ أهل بعدك، وإنَّما أنت جامع لأحد رجلين: رجل عمل فيما جمعته بطاعة الله فسعد بما شقيت به، أو رجل عمل فيه بمعصية الله فشقي بما جمعت له، وليس أحد هذين أهلاً أنْ تُؤثِره علىٰ نفسك، ولا أنْ تحمل له علىٰ ظهرك، فارج لمن مضىٰ رحمة الله ولمن بقي رزقالله»(1)

وطبعاً لا يعني هذا أبداً تضييع العيال، وإنَّما يعني أنْ توازن بين حاجة نفسك وحاجة غيرك، والمقصود هي الحاجة الأُخروية طبعاً، والتي لا تتعارض مع الحاجة الدنيوية.

ومن لطيف ما يُبيِّن هذه الحقيقة هو ما روي عن محمّد بن مسلم، قال: قال رجل لأبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: إنَّ لي ضيعة بالجبل أستغلُّها في كلِّ سنة ثلاثة آلاف درهم، فأنفق علىٰ عيالي منها ألفي درهم، وأتصدَّق منها

ص: 113


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 96 و97/ الحكمة رقم 416).

بألف درهم في كلِّ سنة، فقال أبو جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «إنْ كانت الألفان تكفيهم في جميع ما يحتاجون إليه لسنتهم فقد نظرت لنفسك، ووُفِّقت لرشدك، وأجريت نفسك في حياتك بمنزلة ما يُوصي به الحيُّ عند موته»(1)

وكذلك علىٰ الأُمِّ أنْ تنظر لنفسها في ذلك كما الأب.

إذن المطلوب هو: التوازن.

التوازن بين متطلِّبات الدنيا ومتطلِّبات الآخرة.

بين ما يحتاجه العيال، وما تحتاجه أنت في قبرك.

والحُرُّ تكفيه إشارة.

* * *

ص: 114


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 11/ باب كفاية العيال والتوسُّع عليهم/ ح 2).

(47)التسليم

اشارة

لا شكَّ أنَّ استسلام إنسان لإنسان مثله يُعتَبر من الصفات الرذيلة، والأُمور التي يحاول أنْ يبتعد عنها المرء مهما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً، وأنَّ الاستقلال في الرأي أو العمل هو من أحد مقوِّمات النجاح في الحياة، وهو إذا لم يستسلم لضغط أو قوَّة أو ظروف فإنَّه سيكون موضع تقدير وإكبار، هذا فضلاً عن الاستسلام في كيفية طريقة الحياة والفكر والعمل، فإنَّ الإنسان الآخر هو بالتالي إنسان، وليس هو أعلم بمصالحي منّي، وقد يجرُّ النار لقرصه، وغيرها من الاعتبارات.

هذا كلُّه صحيح إلىٰ حدٍّ ما.

ولكن إذا وصلت المسألة إلىٰ الله عزّ وَجل، وإلىٰ رسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل بيته عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، فإنَّ المسألة ستنعكس، وسيكون من الفخر أنْ تستسلم لأمرهم، ومن العقل أنْ تتَّبعهم بلا نقاش، وكلَّما زاد استسلام (أو قل: تسليم) المرء لهم، كلَّما زادت درجته الكمالية في الوجود عموماً والدِّين خصوصاً، لأنَّ الله تعالىٰ ورسوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ هم أعلم بمصالح الفرد من نفسه، وليس عندهم مصلحة شخصية ليُقدِّموها علىٰ مصلحة الفرد، فيكون اتِّباعهم والتسليم لأمرهم موضع اطمئنان ووثوق.

والملاحظة المهمَّة هنا هي أنَّ الروايات الشريفة لم تكتفِ بمجرَّد

ص: 115

الموالاة لأُولي الأمر والبراءة من عدوِّهم، فإنَّ هذه الأُمور أُمور ظاهرية جارحية عادةً، وربَّما يلتزمها الفرد وهو منكر لها في قلبه، وهذه الحالة لو كانت في أحد - لا سمح الله - فإنَّها ستُؤثِّر سلباً في قلبه، وربَّما ظهر أثرها يوماً من الأيّام في فلتات لسانه وعلىٰ تقاسيم وجهه، الأمر الذي يحكي عن قاعدة هشَّة وجذور عميقة للابتعاد عن الإيمان.

وحتَّىٰ تكتمل صورة الإيمان وتقوىٰ قاعدته لا بدَّ من أمر آخر يضاف إلىٰ الاعتراف والإقرار بإمامة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ والموالاة لهم والبراءة من عدوِّهم، ذلك الأمر هو (التسليم القلبي) لأمرهم.

إنَّها حالة الانصياع القلبي والطاعة الداخلية والرضا الباطني عن كلِّ ما يصدر عن الله تعالىٰ ورسوله الكريم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل البيت المعصومين عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ من قضاء أو حكم أو تشريع أو أيِّ شيء آخر.

ومن الطبيعي أنْ يترتَّب علىٰ هذه الحالة الالتزام التامّ الكامل بجميع مفردات الشريعة، من واجبات - بل ومستحبّات -، والابتعاد التامّ الكامل عن جميع نواهيها من محرَّمات - إنْ لم نقل: والمكروهات -.

التسليم عنصر ضروري في الدِّين:

وفي الحقيقة أنَّ التسليم القلبي والرضا النفسي أمر مطلوب في الدِّين عموماً، فهو مطلوب في قضاء الله تعالىٰ، وفي قضاءرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وفي أمر أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، وهذا الأمر ضروري جدًّا لكي يكتمل الإيمان بالدِّين عموماً.

ورد في سبب نزول قوله تعالىٰ: ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً 65[ [النساء: 65]، أنَّها نزلت في الزبير ورجل من

ص: 116

الأنصار، خاصمه إلىٰ النبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في شراج من الحرَّة(1))، كانا يسقيان بها النخل كلاهما، فقال النبيُّ للزبير: «أسق، ثمّ أرسل إلىٰ جارك»، فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله، لئن كان ابن عمَّتك! فتلوَّن وجه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، ثمّ قال للزبير: «أسق يا زبير، ثمّ احبس الماء، حتَّىٰ يرجع إلىٰ الجدر، واستوف حقَّك، ثمّ أرسل إلىٰ جارك»، وكان رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أشار إلىٰ الزبير برأي فيه السعة له ولخصمه، فلمَّا أحفظ رسول الله استوعب للزبير حقَّه في صريح الحكم، ويقال: إنَّ الرجل كان حاطب بن أبي بلتعة.

قال الراوي: ثمّ خرجا، فمرّا علىٰ المقداد، فقال: لمن كان القضاء يا أبا بلتعة؟ قال: قضىٰ لابن عمَّته - ولوىٰ شدقه -، ففطن لذلك يهودي كان مع المقداد، فقال: قاتل الله هؤلاء، يزعمون أنَّه رسول الله ثمّ يتَّهمونه في قضاء يقضي بينهم، وأيم الله! لقد أذنبنا مرَّة واحدة في حياة موسىٰ، فدعانا موسىٰ إلىٰ التوبة، فقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلنا، فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربِّنا، حتَّىٰ رضيعنّا! فقال ثابت بن قيس بن شماس: أمَا والله إنَّ الله ليعلم منّي الصدق، ولو أمرني محمّد أنْ أقتل نفسي لفعلت. فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة وليِّه شدقه هذه الآية(2)

وفي تفسير قوله تعالىٰ: ]وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ 47 وَإِذا دُعُوا إِلَىٰ اللهِ وَرَسُولِهِ

ص: 117


1- الشراج جمع الشرجة: وهي مسيل الماء من الحرَّة إلىٰ السهل. الحرَّة: أرض ذات حجارة نخرة سود، كأنَّها أُحرقت بالنار. (من المصدر).
2- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 3/ ص 121).

لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ 48 وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ 49 أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 50[ [النور: 47 - 50]، حكىٰ البلخي أنَّه كانت بين عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وعثمان منازعة في أرض اشتراها من عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فخرجت فيها أحجار، فأراد ردَّها بالعيب، فلم يأخذها، فقال: «بيني وبينك رسول اللهصَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ»، فقال الحَكَم بن أبي العاص: إنْ حاكمته إلىٰ ابن عمِّه حكم له، فلا تحاكمه إليه، ونزلت الآيات. وهو المروي عن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أو قريب منه(1)

ولذلك جاء التأكيد الشديد في النصوص الدِّينية علىٰ ضرورة عنصر التسليم في الدِّين، فعن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «لو أنَّ قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجُّوا البيت وصاموا شهر رمضان، ثمّ قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه النبيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: ألَا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين»، ثمّ تلا هذه الآية: ]فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْحَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً 65[ [النساء: 65]، ثمّ قال أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «فعليكم بالتسليم»(2)

وعن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «من سرَّه أنْ يستكمل الإيمان كلَّه فليقل: القول منّي في جميع الأشياء قول آل محمّد، فيما أسرُّوا وما أعلنوا، وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني»(3)

ص: 118


1- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 7/ ص 262).
2- تفسير نور الثقلين للشيخ الحويزي (ج 1/ ص 511).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 391/ باب التسليم وفضل المُسلِّمين/ ح 6).

نماذج راقية من التسليم:

اشارة

عند مطالعة التاريخ نجد هناك صفحات مشرقة لأُناس آمنوا بربِّهم إلىٰ الحدِّ الذي سلَّموا فيه أمرهم إليه ولم يناقشوه في أمر، وما كان لهم سوىٰ السمع والطاعة العمياء. والنماذج كثيرة، نختصر بذكر التالي:

1 - خزيمة ذو الشهادتين:

عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر بن محمّد عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ أنَّ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اشترىٰ فرساً من أعرابي، فأعجبه، فقام أقوام من المنافقين حسدوا رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ علىٰ ما أخذ منه، فقالوا للأعرابي: لو تبلَّغت به إلىٰ السوق بعته بأضعاف هذا، فدخل الأعرابي الشَّرَه، فقال: ألَا أرجع فأستقيله؟ فقالوا: لا ولكنَّه رجل صالح، فإذا جاءك بنقدك فقل: ما بعتك بهذا، فإنَّه سيردُّه عليك، فلمَّا جاء النبيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أخرج إليه النقد فقال: ما بعتك بهذا، فقال النبيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «والذي بعثني بالحقِّ لقد بعتني بهذا»، فقام خزيمة بن ثابت فقال: يا أعرابي، أشهد لقد بعت رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بهذا الثمن الذي قال، فقال الأعرابي: لقد بعته ومامعنا من أحد، فقال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لخزيمة: «كيف شهدت بهذا؟»، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأُمّي، تُخبِرنا عن الله وأخبار السماوات فنُصدِّقك ولا نُصدِّقك في ثمن هذا؟ فجعل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ شهادته شهادة رجلين، فهو ذو الشهادتين(1)

2 - محمّد بن أبي بكر ;:

عن ابن الطيّار، قال: ذُكِرَ محمّد بن أبي بكر عند أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فقال أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «رحمه الله وصلّىٰ الله عليه، قال لأمير

ص: 119


1- الاختصاص للشيخ المفيد (ص 64).

المؤمنينعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يوماً من الأيّام: ابسط يدك أُبايعك، فقال: أوَما فعلت؟ فقال: بلىٰ، فبسط يده، فقال: أشهد أنَّك إمام مفترض طاعتك، وأنَّ أبي في النار!»، فقال أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كانت النجابة من قِبَل أُمِّه أسماء بنت عميس لا من قِبَل أبيه»(1)

وعن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّ محمّد بن أبي بكر بايع عليًّا علىٰ البراءة من أبيه(2)

3 - الأصبغ بن نباتة:

كان من شرطة الخميس، وكان فاضلاً. عن أبي الجارود، عن الأصبغ بن نباتة، قال: قلت للأصبغ: ما كان منزلة هذا الرجل فيكم؟ فقال: ما أدري ما تقول، إلَّا أنَّ سيوفنا كانت علىٰ عواتقنا، ومن أومأ إليه ضربناه(3)

4 - سعيد بن عبد الله الحنفي:

روي أنَّ سعيد بن عبد الله الحنفي تقدَّم أمام الحسين، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل، كلَّما أخذ الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يميناً وشمالاً قام بين يديه، فما زال يُرمىٰ به حتَّىٰ سقط إلىٰ الأرض وهو يقول: اللّهمّ العنهم لعن عاد وثمود، اللّهمّ أبلغ نبيَّك السلام عنّي، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإنّي أردت بذلك نصرة ذرّية نبيِّك، ثمّ مات رضوان الله عليه، فوُجِدَ به ثلاثة عشر سهماً سوىٰ ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح(4)

ص: 120


1- الاختصاص للشيخ المفيد (ص 69 و70).
2- الاختصاص للشيخ المفيد (ص 70).
3- الاختصاص للشيخ المفيد (ص 65).
4- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 45/ ص 21).

وفي رواية: أنَّه لمَّا سقط قال: يا سيّدي يا بن رسول الله، هل وفيت؟ فاستعبر الحسين باكياً، وقال: «نعم رحمك الله، وأنت أمامي في الجنَّة»(1)

5 - كليب تسليم:

عن زيد الشحّام، عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: قلت له: إنَّ عندنا رجلاً يقال له: كليب، لا يجيء عنكم شيء إلَّا قال: أنا أُسلِّم، فسمَّيناه: كليب تسليم، قال: فترحَّم عليه، ثمّ قال: «أتدرون ما التسليم؟»، فسكتنا، فقال: «هو والله الإخبات، قول الله عزّ وَجل: ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلىٰ رَبِّهِمْ[ [هود: 23]»(2)

6 - هارون المكّي:عن مأمون الرقّي، قال: كنت عند سيّدي الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إذ دخل سهل بن حسن الخراساني، فسلَّم عليه، ثمّ جلس، فقال له: يا ابن رسول الله، لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أنْ يكون لك حقٌّ تقعد عنه وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟ فقال له عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «اجلس يا خراساني، رعىٰ الله حقَّك»، ثمّ قال: «يا حنيفة أسجري التنّور»، فسجرته حتَّىٰ صار كالجمرة وابيضَّ علوُّه، ثمّ قال: «يا خراساني، قم فاجلس في التنور»، فقال الخراساني: يا سيّدي يا ابن رسول الله، لا تُعذِّبني بالنار، أقلني أقالك الله، قال: «قد أقلتك»، فبينما نحن كذلك إذ أقبل هارون المكّي ونعله في سبّابته، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، فقال له الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ألق النعل من

ص: 121


1- المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة للسيِّد شرف الدِّين (ص 341).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 391/ باب التسليم وفضل المُسلِّمين/ ح 3).

يديك واجلس في التنّور»، فألقىٰ النعل من سبّابته، ثمّ جلس في التنّور، وأقبل الإمام يُحدِّث الخراساني حديث خراسان حتَّىٰ كأنَّه شاهد لها، ثمّ قال: «قم يا خراساني وانظر ما في التنّور»، قال: فقمت إليه، فرأيته متربِّعاً، فخرج إلينا وسلَّم علينا، فقال الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «كم تجد في خراسان مثل هذا؟»، فقلت: والله ولا واحد، فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «لا والله ولا واحد، أمَا إنّا لا نخرج في زمان لا نجد خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت»(1)

7 - عبد الله بن أبي يعفور:

عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: واللهلو فلقت رمّانة بنصفين، فقلت: هذا حرام، وهذا حلال، لشهدت أنَّ الذي قلت حلال حلال، وأنَّ الذي قلت حرام حرام، فقال: «رحمك الله، رحمك الله»(2)

8 - عليُّ بن جعفر:

عن محمّد بن الحسن بن عمّار، قال: كنت عند عليِّ بن جعفر بن محمّد جالساً بالمدينة - وكنت أقمت عنده سنتين، أكتب عنه ما سمع من أخيه، يعني أبا الحسن عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ -، إذ دخل عليه أبو جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ المسجد - مسجد الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ -، فوثب عليُّ بن جعفر بلا حذاء ولا رداء، فقبَّل يده وعظَّمه، فقال له أبو جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «يا عمّ، اجلس رحمك الله»، فقال: يا سيّدي، كيف أجلس وأنت قائم؟! فلمَّا

ص: 122


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 362 و363)؛ ومدينة المعاجز للسيِّد هاشم البحراني (ج 6/ ص 114 - 116/ ح 1891/321).
2- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 518 و519/ ح 462).

رجع عليُّ بن جعفر إلىٰ مجلسه جعل أصحابه يُوبِّخونه ويقولون: أنت عمُّ أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟! فقال: اسكتوا، إذا كان الله عزّ وَجل - وقبض علىٰ لحيته- لم يُؤهِّل هذه الشيبة وأهَّل هذا الفتىٰ ووضعه حيث وضعه أُنْكِرُ فضله؟! نعوذ بالله ممَّا تقولون! بل أنا له عبد(1)

9- الشيخ أبو سهل النوبختي:

قال ابن نوح: وسمعت جماعة من أصحابنا بمصر يذكرون أنَّ أبا سهل النوبختي سُئِلَ، فقيل له: كيف صار هذا الأمر إلىٰ الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: هم أعلم ومااختاروه، ولكن أنا رجل ألقي الخصوم وأُناظرهم، ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجَّة (علىٰ مكانه) لعلّي كنت أدلُّ علىٰ مكانه، وأبو القاسم فلو كانت الحجَّة تحت ذيله وقُرِّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه - أو كما قال -(2)

* * *

ص: 123


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 1/ ص 322/ باب الإشارة والنصِّ علىٰ أبي جعفر الثاني عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ/ ح 12).
2- الغيبة للشيخ الطوسي (ص 391/ ح 358).

(48)لا تكن (أسفل سافلين)

اشارة

من الواضح أنَّ القرآن الكريم يعتبر الإنسان موجوداً كريماً عظيماً، بل هو من أكرم ما خلق الله تعالىٰ، ولقد أكرمه الله تعالىٰ في قرآنه وتشريعه، قال تعالىٰ: ]وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً 70[ (الإسراء: 70).

ولكن هناك إشارات، بل وتصريحات بأنَّ هذا الإنسان العظيم قد يتنازل عن عظمته ليكون في صفِّ ]أَسْفَلَ سافِلِينَ[، الأمر الذي يعني تقهقره عن الكمال الوجودي.

ففي إشارة سريعة مختصرة يقول الله تبارك وتعالىٰ: ]لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ 4 ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ 5[ (التين: 4 و5).

والذي يهمُّنا هنا هو معرفة التسافل إلىٰ ]أَسْفَلَ سافِلِينَ[؟

فما هو معناه؟ وما هو سبب التسافل ذاك؟

في الجواب نقول:

يمكن تفسير ]أَسْفَلَ سافِلِينَ[ بعدَّة تفسيرات محتملة:

التفسير الأوَّل:

إنَّ الإنسان بروحه كان في أحسن تقويم عندما كان في عالم الأرواح، قبل أنْ تنزل الأرواح إلىٰ سجن البدن، فصارت حينها في]أَسْفَلَ سافِلِينَ[.

ص: 124

وهذا التفسير مبنيٌّ علىٰ ما دلَّت عليه الروايات العديدة من أنَّ الأرواح خُلِقَت قبل الأبدان بعدَّة آلاف من السنين، كما روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «إنَّ الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام...»(1)

ولكنَّه علىٰ كلِّ حالٍ ليس من تكليف الإنسان، ولا يلزم منه مؤاخذته، لأنَّه خارج عن إرادته.

نعم، هو يشير إلىٰ أنَّ علىٰ الإنسان أنْ يعمل قدر إمكانه علىٰ أنْ لا يترك روحه حبيسة بدنه، وأنْ يُغذّيها بما يجعلها تستغني شيئاً فشيئاً عن البدن، حتَّىٰ إذا ما جاءه الموت استقبله برحابة صدر ولهفة، لأنَّه يعرف أنَّ الموت هو أفضل فرصة يمكن أنْ يحصل عليها من أجل التحرُّر من سجن البدن.

ولعلَّ هذا هو أحد تفسيرات ما ورد من أنَّ الدنيا سجن المؤمن.

ومن هنا روي أنَّه قيل للإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: صف لنا الموت؟ قال: «للمؤمن كأطيب ريح يشمُّه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كلُّه عنه...»(2)

وعن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله»(3)

التفسير الثاني:

إنَّ الإنسان وإنْ بدأ حياته بالضعف، ولكنَّه يقوىٰ عوده ويشتدّ إلىٰ أنْ يصبح بدنه أقوىٰ ما يكون في مرحلة الشباب، فيكون حينها في

ص: 125


1- بصائر الدرجات لمحمّد بن الحسن الصفّار (ص 106 و107/ باب 15/ ح 1).
2- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 298).
3- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 1/ص 275 و276/الفصل العاشر ح 102).

أحسن تقويم، ولكنَّه بعد هذه المرحلة يرجع بالتنازل في بدنه ليضعف ويضعف إلىٰ أنْ يصل إلىٰ ]أَسْفَلَ سافِلِينَ[ بهذا المعنىٰ.

قال تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرحامِ ما نَشاءُ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً[ (الحجّ: 5).

فأحسن تقويم يكون في مرحلة الشباب والقوَّة، و]أَسْفَلَ سافِلِينَ[ يكون في مرحلة الضعف والوهن.

وهذا المعنىٰ وإنْ صحَّ، ولكنَّه لا يدخل تحت تكليف الإنسان أيضاً، لأنَّه يجري وفق قانون تكويني خارج عن إرادة الإنسان.

نعم، الإنسان مطالب في هذه المرحلة بأنْ يستغلَّ شبابه وقوَّته البدنية كثيراً، قبل أنْ يهجم عليه القوس.

وقد روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «إنَّ أحبَّ الخلائق إلىٰ الله عزّ وَجل شابٌّ حَدَث السنِّ في صورة حسنة، جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته يقول: هذا عبدي حقًّا»(1)

التفسير الثالث:

إنَّ الإنسان إذا ما بقي علىٰ ما أراده الله تعالىٰ من الفطرة التي فطره عليها، وابتعد عن الذنوب، فإنَّه حينها سيكون في أحسن تقويم، إلَّا أنَّه قد يتنازل عن تقويمه ذاك إذا ما قارف الذنوب وواقعها.

ص: 126


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 15/ ص 785/ ح 43103).

قال الشيخ غلام رضا الفيّاضي: (الظاهر وبقرينة ]إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ 6[ [التين: 6] أنَّ الله تعالىٰ خلق الإنسان وزوَّده بكلِّ الإمكانات التي يستطيع بها أنْ يكون أفضل من الملائكة، إلَّا أنَّه باختياره السيِّئ صار كافراً ومشركاً، فرددناه بسبب سوء اختياره هذا إلىٰ أسفل سافلين)(1)

وهذا المعنىٰ هو المطلوب، وهو الذي يفرض علىٰ الإنسان المسؤولية، وهو الذي دار عليه التكليف الإلهي، وبالتالي الثواب والعقاب.

وقريب من هذا المعنىٰ ما فُسِّر به ]أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ 4[ (التين: 4)، بأنَّ الإنسان أُعطي (العقل) الذي ميَّزه عن الحيوانات والجمادات، وبالتالي يكون معنىٰ ]أَسْفَلَ سافِلِينَ[ هو تخلّي الإنسان عن أحكام عقله، واتِّباعه لشهواته، بحيث يتنازل عن مرتبة الإنسانية بذاك، ليكون وكما قال القرآن الكريم: ]أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً 44[ (الفرقان: 44).فكونه ]كَالْأَنْعامِ[ لأنَّه يتصرَّف كما تتصرَّف الأنعام، تتحكَّم فيه شهواته لا عقله، وإنَّما كان ]أَضَلُّ سَبِيلاً[ لأنَّ الحيوان عندما يتصرَّف وفق غرائزه فهذا بحسب طبيعته التكوينية، أمَّا الإنسان إذا تصرَّف كذلك فهو يتخلّىٰ بإرادته عن عقله وما يقتضيه من سلوك عملي خاصٍّ.

وبعبارة أُخرىٰ: (لأنَّ البهائم والأنعام لا تملك هذه الاستعدادات

ص: 127


1- علم النفس الفلسفي للسيِّد جعفر الحكيم محاضرات الأُستاذ الشيخ غلام رضا الفياضي (ص 277/ الدرس 43).

والإمكانات، إلَّا أنَّهم بما لديهم من عقل سالم وعين باصرة وأُذُن سامعة، بإمكانهم أنْ يبلغوا كلَّ مراتب الرقيِّ والتكامل، إلَّا أنَّهم نتيجةً لاتِّباعهم هواهم ورغبتهم بكلِّ هذه التوافه من الأُمور تركوا هذه الاستعدادات جانباً...، وكان شقاؤهم كبيراً لهذا السبب)(1)

وإلىٰ هذا المعنىٰ أيضاً يُشير ما روي عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ، فقلت: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فقال: «قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: إنَّ الله عزّ وَجل ركَّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركَّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركَّب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم»(2)

* * *

ص: 128


1- تفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي (ج 5/ ص 301 و302).
2- علل الشرائع للشيخ الصدوق (ج 1/ ص 4 و5/ باب 6/ ح 1).

(49)أدب العتاب

اشارة

من الأُمور الواقعية في هذه الحياة، أنَّ هناك الكثير من المشاكل التي تقع بين الأفراد، وبالتالي قد يترتَّب عليه نوع من انقطاع التواصل الذي قد يطول وقد يقصر، وممَّا يترتَّب عليه أيضاً أنَّ (الأحباب) سيقع فيما بينهم نوع من (العتاب) لما وقع من سوء تفاهم، ربَّما لتصحيح الموقف، وربَّما لتوضيح الأمر الذي وقع، وربَّما وربَّما.

المهمُّ أنَّ العتاب أمر لا بدَّ منه في بعض الأحيان، وهذا أمر أشارت له التربويات الدِّينية، فقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «العتاب حياة المودَّة»(1)

هذا وقد وردت العديد من الأدبيات لصيغة العتاب في الروايات الشريفة.

ولكن دعونا اليوم نتابع تلك الأدبيات ضمن آية قرآنية كريمة، تحكي كيفية عتاب النبيِّ يوسف (علىٰ نبيِّنا وآله وعليه السلام) لإخوته، فبعد أنْ كشف لهم الحقيقة، وعرَّفهم بنفسه، وجرىٰ ما جرىٰ، واعتذروا منه، وجاء أبواه وكلُّ إخوته إليه،وأخذ يُعدِّد نِعَم الله تعالىٰ عليه، قال: ]وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ[ (يوسف: 100).

ص: 129


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 39).

لاحظوا أنَّ النبيَّ يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لم يقل: وقد أخرجني من البئر، وإنَّما قال: وقد أخرجني من السجن.

فقد يتساءل البعض: لماذا لم يذكر النعمة عليه بإخراجه من البئر، وذكر نعمة إخراجه من السجن، رغم أنَّ وضعه في البئر كان أخطر بكثير من وضعه في السجن؟

هنا يمكن أنْ نستفيد العديد من الآداب في مقام العتاب، وخلاصتها - بالنظر إلىٰ هذه الآية - هي التالي:

أوَّلاً: أنَّه لو ذكر النعمة عليه بإخراجه من البئر لكان تذكيراً لإخوته بجرمهم الكبير، ممَّا قد يُسبِّب لهم الإحراج أمام الناس، وبالتالي، ليس من الكرم أنْ يفعل المؤمن ذلك، خصوصاً وأنَّه قدَّم لهم عفوه عنهم، حينما قال لهم: ]قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 92[ (يوسف: 92).

وهذا يعني أنَّك لو عاتبت أحداً، فحاول قدر الإمكان أنْ لا تُذكِّره بمواقفه السلبية معك، فإنَّه قد يُؤدّي إلىٰ عكس المطلوب، ولذا روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «الإفراط في الملامة يشبُّ نيران اللجاجة»(1)

ثانياً: أنَّه لم يذكر خروجه من البئر، لأنَّ نتيجة إخراجه كانت أنَّه صار عبداً بِيعَ بثمن بخس، ولكنَّه عندما أُخرج من السجن صار مَلِكاً يُسمَع كلامه ويُطاع رأيه، وبالتالي فالتذكير بالنِّعَم أولىٰ من التذكيربالبلاء، وهذا يعني أنَّه أراد فيما أراد أنْ يُخفِّف علىٰ إخوته بأنَّ ما جرىٰ عليه لم يكن سلبياً في كلِّ جوانبه، وإنَّما كان له جانب إيجابي ولو بعد حين.

ص: 130


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 22).

إنَّ هذا يعني أنَّ عليك عندما تعاتب أخاً لك، أنْ تُبقي شيئاً من الودِّ معه، وأنْ تجعل ما جرىٰ بينكما سبباً لتقوية العلاقة وتوثيق أواصر المحبَّة، ومن هنا كان من صفات المؤمن أنَّه لا يعاتب كثيراً، وكان يعمل علىٰ إيجاد أيِّ عذر يعتذر به عن أخيه، وقد روي أنَّ أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال في وصف أخٍ له: «وكان لا يلوم أحداً علىٰ ما يجد العذر في مثله حتَّىٰ يسمع اعتذاره»(1)

وقريب منه ما قيل: إنَّه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عندما خرج من السجن، وصار في بيت العزيز، وقع في شدَّة من إغراء زوجة العزيز، بحيث تمنّىٰ الدخول إلىٰ السجن علىٰ أنْ يقع في مصيدتها ومصيدة بقيَّة النساء، ولذلك: ]قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ 33[ (يوسف: 33).

ولكنَّه عندما خرج من السجن، صار مَلِكاً، واستطاع قبيل خروجه أنْ يُثبِت براءته، بل وأنْ ينتزعَ الاعتراف الرسمي من امرأة العزيز ببراءته: ]قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ 51[(يوسف: 51).

وهو بهذا يُوحي إلىٰ إخوته بأنَّ النعمة التي وقع فيها في خروجه من السجن أعظم من النعمة في خروجه من البئر، فكان ذلك منه من باب الكرم وطيب الخُلُق.

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فمن طبع المؤمن أنَّه ليِّن في أُموره كلِّها، وإنْ كان

ص: 131


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 70). وجاء في الهامش: أي كان لا يلوم في فعل يصحُّ في مثله الاعتذار إلَّا بعد سماع العذر.

صلداً في دينه كجبل أو أشدّ صلابة، بالتالي نحن نعيش في هذه الحياة بين أُناس ليسوا معصومين - كما نحن -، فالوقوع في الخطأ قدرنا، وإنْ لم نستطع تجاوز الخطأ بطريقة لبقة، لربَّما استمرَّت المشاكل إلىٰ نهاية العمر، وهذا من شأنه أنْ يجعل من الحياة غابة لا تُطاق.

تنبيه:

نقل الرازي في تفسيره عن الواحدي أنَّه قال: (النعمة في إخراجه من السجن أعظم لأنَّ دخوله في السجن كان بسبب ذنب همَّ به)(1)

وهو يُشير إلىٰ قوله تعالىٰ: ]وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأىٰ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ 24[ (يوسف: 24)، وكأنَّه فهم أنَّ النبيَّ يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ كان قد همَّ بالمعصية ولكنَّه تراجع فيما بعد، فاعتبر أنَّ همَّه بها ذنب.

وهذا غير مقبول في عقيدتنا أصلاً، لأنَّه خلاف عصمة الأنبياء عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُالتي دلَّ الدليل القطعي عليها - كما هو مبحوث في محلِّه من علم الكلام -. والآية واضحة في أنَّه أصلاً لم يهمّ بها، والتقدير: (ولقد همَّت به هي، ولولا أنْ رأىٰ برهان ربِّه لهمَّ بها، ولكنَّه رأىٰ برهان ربِّه فلم يهمّ بها أصلاً).

وقد يكون الرازي قد التفت إلىٰ هذا، فعلَّق علىٰ قول الواحدي بقوله: (وهذا ينبغي أنْ يُحمَل علىٰ ميل الطبع ورغبة النفس، وهذا وإنْ كان في محلِّ العفو في حقِّ غيره إلَّا أنَّه ربَّما كان سبباً للمؤاخذة في حقِّه، لأنَّ حسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين).

* * *

ص: 132


1- تفسير الرازي (ج 18/ ص 214).

(50)كيف تتعامل مع (المدح)؟

اشارة

لا أحد يُحِبُّ أنْ يُذَمَّ، ولا أحد يكره أنْ يُمدَح.

وهذا من طبائع الإنسان التي جُبِلَ عليها.

ولا مشكلة في أصل هذا الأمر، إنَّما قد تنشأ المشكلة من جهة أُخرىٰ.

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة الأدبية والأخلاقية لمسألة (المدح) نذكر نقطتين:

النقطة الأولى: كيف ومتى تمدح غيرك؟

اشارة

إنَّ العلاقات الاجتماعية تقتضي فيما تقتضيه أنْ يكون هناك أُسلوب جميل للتواصل بين الأفراد، وهذا يتضمَّن أنْ تمدح الآخر عندما يفعل فعلاً حسناً، إذ لا شكَّ أنَّ مدحه عند فعل الخير يُشجِّعه أكثر لتكرار الخير مرَّة ثانية وثالثة وعاشرة، ولكن لا بدَّ أنْ تلتفت إلىٰ ضرورة ضبط (مدحك للآخرين) ضمن حدود معيَّنة، أهمّها التالي:

الحدُّ الأوَّل: أنْ لا يتعدّىٰ المدحُ الحقيقةَ:

فإنَّ الكذب حرام، خصوصاً إذا أدّىٰ إلىٰ اغترار الآخر بالكذب.فعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «إيّاك أنْ تثني علىٰ أحد بما ليس فيه، فإنَّ فعله يُصدق عن وصفه ويُكذِّبك»(1)

بل إنَّ مدح الآخر بما ليس فيه، هو استهزاء به في الحقيقة، لذلك

ص: 133


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 99).

علىٰ الآخر أنْ يوقف هذه الاستهزاء، حتَّىٰ لا يستمرَّ المادح بذلك، ولذا روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «مادحك بما ليس فيك مستهزئ بك، فإنْ لم تنفعه [تسعفه] بنوالك، بالغ في ذمِّك وهجائك»(1)

بل إنَّ الذي يتجرَّأ ويكذب ويمدحك بما ليس فيك، سوف لن يتورَّع عن ذمِّك بما ليس فيك كذلك، فقد روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «من مدحك بما ليس فيك فهو خليق بأنْ يذمَّك بما ليس فيك»(2)

الحدُّ الثاني: أنْ لا يصل إلىٰ حدِّ التملُّق:

فإنَّه ليس من الصحيح شرعاً وعقلاً أنْ يُذِلَّ المرء نفسه لأجل الآخر، فعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «كثرة الثناء مَلَق، يُحدِث الزهو ويُدني من الغِرَّة»(3)

الحدُّ الثالث: أنْ لا يمدح غير المستحقِّ:

فإنَّه تغرير بالآخر، وكذب، وبالتالي يدخل المادح في متاهة العمل السيِّئ.

فمن كلام أبي محمّد الحسن العسكري عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، قال: «من مدحغير المستحقِّ، فقد قام مقام المتَّهم»(4)

النقطة الثانية: كيف تتعامل إذا مدحك أحد؟

في الحقيقة، هذه مسألة مهمَّة جدًّا، ولها آثار جانبية عديدة، فقد يستغرق الفرد في مدح غيره له حتَّىٰ يتناسىٰ نفسه، وقد يستمرئ الكذب

ص: 134


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 489).
2- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 440).
3- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 389).
4- أعلام الدِّين في صفات المؤمنين للديلمي (ص 313).

في ذلك، وقد يصل إلىٰ استمراء أيِّ وصف يمدح فيه، تماماً كما كان السلاطين فيما سلف وما هو معاش.

فقد نقلوا أنَّ ابن هاني الأندلسي قال في وصف المعزِّ لدين الله:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار *** فاحكم فأنت الواحد القهار

فكأنَّما أنت النبيُّ محمّد *** وكأنَّما أنصارك الأنصار(1))

لذلك وردت العديد من النصوص التربوية التي بيَّنت الحدود التي يلزم علىٰ الفرد (الممدوح) أنْ يلتفت إليها، فمن تلك النصوص ما روي عن المولىٰ أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في وصف المتَّقين: «إذا زُكّي أحدهم خاف ممَّا يقال له، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم بي من نفسي. اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ممَّا يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون»(2)

والذي يمكن استفادته من هذه الكلمة في المقام هو التالي:أوَّلاً: علىٰ المؤمن أنْ لا يُزكّي نفسه، وأنْ يترك التزكية إلىٰ الله تعالىٰ، فهو الذي يُزكّي الأنفس واقعاً وحقيقةً، قال تعالىٰ: ]أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً 49[ (النساء: 49).

وقال تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 21[ (النور: 21).

ص: 135


1- البليغ في المعاني والبيان والبديع للشيخ أحمد أمين الشيرازي (ص 267).
2- نهج البلاغة (ج 2/ ص 162 و163).

فعلىٰ المؤمن أنْ يقول إذا مدحه أحدهم: (أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم بي من نفسي).

وعليه أنْ يترك تزكية نفسه ما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً، خصوصاً إذا استلزم مدحه لنفسه وتزكيته لها أنْ يذكر مثالب الآخرين من أجل أنْ يُظهِر تزكية نفسه، وليتذكَّر ما روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «من روىٰ علىٰ مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروءته، ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلىٰ ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان»(1)

ثانياً: إنَّ كونك متَّصفاً بصفة معيَّنة توجب مدح الآخرين لك، هي هبة من الله تعالىٰ، وليس من عند نفسك، ولا يعني حصولك عليها أنَّك وصلت القمَّة في الكمال، فقدر الإنسان أنْ يعيش في نقص الإمكان والحاجة مهما كان، وبالتالي، فيلزم علىٰ الفرد المؤمن أنْ لا يرضىٰ بالحال التي هو فيها، ولا يجعل منمدح الآخرين له حجَّة ليتوقَّف فيها عن اكتساب المعالي والكمالات.

ومن هنا، فعليه أنْ يتوسَّل إلىٰ الله تعالىٰ وأنْ يدعوه دوماً: (واجعلني أفضل ممَّا يظنون).

وعليه أنْ يعيش الخوف من أنْ يتسبَّب له المدح في أمر سلبي يمنعه من الاستمرار في تكامله الواقعي مع الله تعالىٰ.

ثالثاً: علىٰ المؤمن أنْ لا يخدع نفسه بمدح الآخرين له، عليه أنْ ينظر إلىٰ واقعه الذي يعرفه هو دون غيره، عليه أنْ يتذكَّر عيوبه التي لو اطَّلع عليها المادح لذمَّه! عليه أنْ يستغفر ربَّه ويقول: (واغفر لي ما لا يعلمون).

ص: 136


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 358/ باب الرواية علىٰ المؤمن/ ح 1).

كذلك عليه أنْ ينتبه جيِّداً إلىٰ خطورة المدح مهما كان، فإنَّه قد يُؤدّي إلىٰ (سكر المدح) أو (التكبُّر) أو (الغرور) أو (العُجب) وما شابه، وبالتالي، فعليه أنْ لا ينسىٰ الاستغفار في كلِّ مرَّة يمدحه فيها أحد. (اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون)، وأنْ يُردِّد (واغفر لي ما لا يعلمون).

عليه أنْ ينظر في ضعفه المدقع، فإنَّه في الحقيقة أضعف من (ذبابة)!

قال تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ 73[ (الحجّ: 73).

* * *

ص: 137

(51)أسباب غير متوقّعة!

اشارة

في قانون الغيب، هناك آثار تترتَّب علىٰ عللها المعلومة، بحيث يمكن للمرء أنْ يتوقَّع الأثر من معرفته بالعلَّة، ولكن هناك آثاراً تترتَّب علىٰ أسباب غير متوقّعة، لا لشيء إلَّا لأنَّ قانون السماء يختلف!

وبعبارة أُخرىٰ أكثر وضوحاً: نحن نعلم أنَّ هناك آثاراً تترتَّب علىٰ شيء معيَّن، فإذا أردنا تحصيل الأثر، ذهبنا إلىٰ سببه، لنُحقِّقه، فيتحقَّق الأثر.

ولكن هناك آثاراً تترتَّب علىٰ أسباب غير متوقّعة، آثاراً هي أشبه بالضدِّ من أسبابها، وقانون السماء بيَّنها في تعاليمه، لأنَّ الإنسان قد لا يُدركها من تلقاء نفسه.

وحتَّىٰ تتَّضح الصورة لنأخذ بعض الأمثلة علىٰ ذلك:

المثال الأوَّل: النعمة والوجل:

نحن في العادة نطمئنُّ كثيراً إذا حصلت لنا نعمة معيَّنة، كالصحَّة، والغنىٰ، والجاه، والقدرة، وما شابه، ونقلق كثيراً إذا وقعنا في بلاء - أجارنا الله وإيّاكم من البلاء -، كالمرض والفقر والضعف وما شابه.هذا ما نعرفه في قانونا.

ولكن في قانون السماء، الأمر يختلف كثيراً، فإنَّ النصوص الدِّينية تُؤكِّد علىٰ ضرورة الحذر من النعمة تماماً كالحذر من البلاء أو أشدّ، فعن

ص: 138

أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في بيان ذلك: «أَيُّهَا النَّاسُ لِيَرَكُمُ اللَّه مِنَ النِّعْمَةِ وَجِلِينَ، كَمَا يَرَاكُمْ مِنَ النِّقْمَةِ فَرِقِينَ».

وفي مقام بيان العلَّة في ذلك يُكمِل عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قوله: «إِنَّه مَنْ وُسِّعَ عَلَيْه فِي ذَاتِ يَدِه فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجاً فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفاً، وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْه فِي ذَاتِ يَدِه فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اخْتِبَاراً فَقَدْ ضَيَّعَ مَأْمُولًا»(1)

إنَّ النعمة في الحقيقة هي أحد أسباب الاستدراج الخفيَّة، ولو لم ينتبه المرء لها فلربَّما وقع في حفرة الاستدراج ولات حين مندمِ، الأمر الذي يعني ضرورة التعامل بحذر مع النِّعَم الإلهيَّة عموماً، وهنا تكمن ضرورة الوجل من النعمة.

أمَّا البلاء، فهو وإنْ كان بنظرنا القاصر أمراً يستحقُّ المناحة والعويل، ولكنَّه في قانون السماء قد يكون سبباً لتحصيل الكثير من الأجر من فيض الله تعالىٰ ومننه علىٰ عباده إذا ما صبروا علىٰ بلائه، وبالتالي، فإنَّ من لا يتعامل مع البلاء علىٰ أنَّه من أسباب تحصيل الثواب، فقد ضيَّع المأمول من جود الله تعالىٰ، وهذه خسارة كبيرة في يوم تشخص فيه الأبصار.

المثال الثاني: الجمال والعفاف:

إنَّ جمال الوجه ورشاقة القوم قد يكون مدعاةً عند بعضالنساء -وكذا الرجال - إلىٰ استغلاله فيما نعلم، باستغلال الآخر، أي في إغوائه، أو تحصيل بعض متاع الدنيا، وما شابه.

إلَّا أنَّه وفي قانون السماء، فإنَّ الجمال يلزم أنْ يكون سبباً للعفاف، إنْ في المرأة، وإنْ في الرجل، ولا شاهد أوضح من عفاف النبيِّ يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، الذي

ص: 139


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 83 و84/ الحكمة رقم 358).

فضَّل السجن علىٰ أنْ يستغلَّ جماله في ما لا يحلُّ، قال تعالىٰ حكايةً عنه: ]قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ 33[ (يوسف: 33).

المثال الثالث: الحاجة والعطاء!

في قانوننا: إذا احتاج أحدنا أو أملق، فإنَّه يحاول الحصول علىٰ مال جديد، ويُقلِّل من مصروفاته، ويقبض يده قليلاً، ليُحدِث التوازن، وهي نظرية صحيحة وفق القانون الاقتصادي عند الناس. ولا مانع من استعمالها لإحداث التوازن، لكن المقصود منها طبعاً الحدّ الوسط بين الإقتار والإسراف، قال تعالىٰ في ضمن صفات عباد الرحمن: ]وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً 67[ (الفرقان: 67).

وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ما أعال من اقتصد»(1)

ولكنَّ في قانون السماء أمرين:

الأوَّل: أنَّ من يتيقَّن بالخلف من الله تعالىٰ، سوف لن يتوقَّف عن الإنفاق، لأنَّه يعتمد علىٰ ركن وثيق، تماماً كما روي أنَّ رجلاً سأل النبيَّ (صلىٰ الله عليه [وآله])، فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتىٰقومه، فقال: يا قوم، أسلموا، فإنَّ محمداً يُعطي عطاء رجل لا يخاف الفاقة(2)

وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «من أيقن بالخلف جاد بالعطيَّة»(3)

الثاني: إنَّ العطاء، والإنفاق، والسخاء، لهو - وعلىٰ عكس المتوقّع - من أعظم أسباب تحصيل المال!

ص: 140


1- نهج البلاغة (ج 4/ ص 34/ الحكمة رقم 140).
2- مسند أحمد بن حنبل (ج 3/ ص 259).
3- نهج البلاغة (ج 4/ ص 34/ الحكمة رقم 138).

لذا روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «إنّي لأملق أحياناً فأُتاجر الله بالصدقة»(1)

وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «استنزلوا الرزق بالصدقة»(2)

وروي أنَّه قال أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لمحمّد ابنه: «يا بنيَّ، كم فضل معك من تلك النفقة؟»، قال: أربعون ديناراً، قال: «اخرج فتصدَّقْ بها»، قال: إنَّه لم يبقَ معي غيرها، قال: «تصدَّقْ بها فإنَّ الله عزّ وَجل يخلفها، أمَا علمت أنَّ لكلِّ شيء مفتاحاً، ومفتاح الرزق الصدقة، فتصدَّقْ بها»، ففعل، فما لبث أبو عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عشرة أيّام حتَّىٰ جاءه من موضعٍ أربعة آلاف دينار، فقال: «يا بنيَّ، أعطينا لله أربعين ديناراً، فأعطانا الله أربعة آلاف دينار»(3)

المثال الرابع: القدرة والعفو:

واضحٌ جدًّا أنَّ من يقدر علىٰ عدوِّه فإنَّه لن يرعوي عن أخذ حقِّه منه كأسرع من لمح البصر، فهذا هو قانون البشر!

ولكن، في قانون السماء، فإنَّ القدرة هي من أهمّ أسباب العفو!

فهذا الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يوم أعطاه الله تعالىٰ القدرة علىٰ ألدّ أعدائه في مكَّة المكرَّمة، أطلق عليهم كلمته المشهورة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(4)

ص: 141


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 75/ ص 206). وأملق الرجل أنفق ماله حتَّىٰ قلَّ. (من هامش المصدر).
2- نهج البلاغة (ج 4/ ص 34/ الحكمة رقم 137).
3- الكافي للشيخ الكليني (ج 4/ ص 9 و10/ باب في أنَّ الصدقة تزيد في المال/ ح 3).
4- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ ص 513/ باب في أقلّ ما يجب فيه الزكاة من الحرث/ ح 2)، حيث ورد: «وإنَّ أهل مكَّة دخلها رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عنوةً، فكانوا أُسراء في يده فأعتقهم، وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء».

وروي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «نزل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة علىٰ شفير وادٍ، فأقبل سيل، فحال بينه وبين أصحابه، فرآه رجل من المشركين، والمسلمون قيام علىٰ شفير الوادي ينتظرون متىٰ ينقطع السيل. فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمّداً. فجاء وشدَّ علىٰ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بالسيف، ثمّ قال: من يُنجيك منّي يا محمّد؟ فقال: ربّي وربُّك! فنسفه(1)) جبرئيل عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن فرسه، فسقط علىٰ ظهره، فقام رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأخذ السيف وجلس علىٰ صدره وقال: من يُنجيك منّي يا غورث، فقال: جودك وكرمك يا محمّد، فتركه، فقام وهو يقول:والله لأنت خير منّي وأكرم(2)

المثال الخامس: الجاه والخدمة:

ما نراه اليوم وأمس، أنَّ الواحد منّا إذا كانت له وجاهة بين

ص: 142


1- نسف البناء: قلعه من أصله. (من هامش المصدر).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 8/ ص 127/ ح 97). وجاء في الهامش: رواه الواقدي في تفسير قوله تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَىٰ اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 11[ [المائدة: 11]: إنَّ رسول الله غزا جمعاً من بني ذبيان ومحارب بذي أمر، فتحصَّنوا برؤوس الجبال، ونزل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بحيث يراهم، فذهب لحاجته، فأصابه مطر، فبلَّ ثوبه، فنشره علىٰ شجرة واضطجع تحته، والأعراب ينظرون إليه، فجاء سيِّدهم دعثور بن الحرث حتَّىٰ وقف علىٰ رأسه بالسيف مشهوراً، فقال: يا محمّد من يمنعك منّي اليوم؟ فقال: «الله!»، فدفع جبرئيل عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في صدره ووقع السيف من يده، فأخذه رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وقام علىٰ رأسه، وقال: «من يمنعك منّي اليوم؟»، فقال: لا أحد، وأنا أشهد أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمّداً رسول الله، فنزلت الآية. وروىٰ ابن شهر آشوب عن الثمالي نحواً من ذلك، وقال في آخره: فسُئِلَ بعد انصرافه عن حاله، فقال: نظرت إلىٰ رجل طويل أبيض دفع في صدري، فعرفت أنَّه مَلَك. ويقال: إنَّه أسلم وجعل يدعو قومه إلىٰ الإسلام.

الناس، بسبب كبر سنِّه أو كثرة ماله أو زعامة قومه وما شابه، فإنَّه سيكون مخدوماً للناس، وسيقوم الجميع بقضاء أيِّ حاجة يريدها.

إلَّا أنَّه وفي قانون السماء، فإنَّ (كبير القوم خادمهم)، فإنَّ الجاه في الحقيقة مسؤولية قبل أنْ يكون تشريفاً!

وقد روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «إنَّ الله ليسأل العبد في جاهه، كما يسأل في ماله، فيقول: يا عبدي رزقتك جاهاً، فهلأغثت مظلوماً، أو أعنت ملهوفاً؟»(1)

والخلاصة هي التالي:

أوَّلاً: علينا أنْ نتفحَّص بدقَّة عن الأسباب الغيبية التي بثَّتْها النصوص الدِّينية بين ثناياها، علَّنا نحصل منها علىٰ سبب يكون له آثار كبيرة جدًّا علىٰ حياتنا.

فربَّما كلمة خير بسيطة في نظرنا، تكون سبباً لهداية إنسان، أو إنقاذ حياته، فيكون من ورائها خير كثير، تماماً كما نقل القرآن الكريم كلمة واحدة عن السيِّدة آسيا بنت مزاحم، وكيف كانت سبباً في إنقاذ وليِّ الله النبيِّ موسىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: ]وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 9[ (القَصص: 9).

فهذه الكلمة سبب غيبي جعله الله تعالىٰ من حيث لا تعلم آسيا.

ثانياً: علينا أنْ لا نستصغر أيَّ عمل ورد النصُّ به، سواء ورد النصُّ بوجوبه أو استحبابه، إذ لعلَّه يُمثِّل باباً غيبياً لكثير من الخير، أو ورد بحرمته أو كراهته، إذ لعلَّه يُمثِّل باباً غيبياً لكثير من البلاء، تماماً كما

ص: 143


1- عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 1/ ص 372/ ح 84).

روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه قال: «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أخفىٰ أربعة في أربعة: أخفىٰ رضاه في طاعته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من طاعته، فربَّما وافق رضاه وأنت لا تعلم. وأخفىٰ سخطه في معصيته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من معصيته، فربَّما وافق سخطه وأنت لا تعلم. وأخفىٰ إجابته في دعوته، فلاتستصغرنَّ شيئاً من دعائه، فربَّما وافق إجابته وأنت لا تعلم. وأخفىٰ وليَّه في عباده، فلا تستصغرنَّ عبداً من عبيد الله، فربَّما يكون وليّه وأنت لا تعلم»(1)

* * *

ص: 144


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 209 و210/ ح 31).

(52)الإلزام الذاتي

اشارة

كقانون جاء لتنظيم الحياة الدنيوية والأُخروية، يقتضي الإسلام أنْ يكون فيه نوع من الإلزام لأتباعه، يجعلهم يلتزمون قوانينه ويُنفِّذونها عملياً.

وكأيِّ قانونٍ، فإنَّ إلزام أتباعه يحتاج إلىٰ آلية معيَّنة، علىٰ أساسها يتمُّ الإلزام، وتكون هي المقياس في ما يستحقُّه الأتباع من ثواب أو عقاب.

وقد كان بإمكان الدِّين أنْ يستعمل أعلىٰ درجات الإلزام من خلال آلية (الجبر) وسلب الإرادة، علىٰ طريقة (كن فيكون).

ولكن الواقع هو أنَّ الدِّين لم يستعمل هذا الأُسلوب، بل صرَّح بقوله: ]لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ[، الذي فُسِّر بنفي الإكراه التكويني، أي بنفي سلب الإرادة، وجعل الإنسان كالآلة العمياء، يُنفِّذ ما يُراد منه من دون أنْ يكون لإرادته دخل، بل إنَّ الدِّين ترك للاختيار الإنساني هامشاً كبيراً في التزام الدِّين، فما كان من الدِّين هو البيان، والذي يُراد من الفرد هو تفعيل اختياره وفق ذلك البيان، ومن هنا عطف القرآن علىٰ ذلك قوله: ] قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَبِالْعُرْوَةِ الْوُثْقىٰ لاَ انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 256[ (البقرة: 256)(1)

ص: 145


1- قال السيِّد الطباطبائي في تفسير الميزان (ج 2/ ص 342 و343): وفي قوله تعالىٰ: ]لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ[ [البقرة: 256]، نفىٰ الدِّين الإجباري، لما أنَّ الدِّين وهو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أُخرىٰ عملية يجمعها أنَّها اعتقادات، والاعتقاد والإيمان من الأُمور القلبية التي [ لا يحكم فيها الإكراه والإجبار، فإنَّ الإكراه إنَّما يُؤثِّر في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية المادّية، وأمَّا الاعتقاد القلبي فله علل وأسباب أُخرىٰ قلبية من سنخ الاعتقاد والإدراك، ومن المحال أنْ ينتج الجهل علماً، أو تُولِّد المقدّمات غير العلمية تصديقاً علمياً، فقوله: ]لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ[ إنْ كان قضيَّة إخبارية حاكية عن حال التكوين أنتج حكماً دينياً بنفي الإكراه علىٰ الدِّين والاعتقاد، وإنْ كان حكماً إنشائياً تشريعياً كما يشهد به ما عقَّبه تعالىٰ من قوله: ]قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[، كان نهياً عن الحمل علىٰ الاعتقاد والإيمان كرهاً، وهو نهي متَّك علىٰ حقيقة تكوينية، وهي التي مرَّ بيانها أنَّ الإكراه إنَّما يعمل ويُؤثِّر في مرحلة الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية.

كما أنَّنا نجد أنَّ (الدولة) وما يتفرَّع عليها من (مدرسة) و(قانون وضعي) وما شابه، لم تكن هي الملزِم للمسلمين في التزام الدِّين، إذ إنَّ الدولة وإنْ كان عندها نوع من الإلزام لمن يعيش في كنفها، إلَّا أنَّ الدِّين لم يجعل (الدولة) جزءاً من أجزاء بنائه التي لا تنفكُّ عنه، بل إنَّ بناء الدولة أمر ثانوي، إنْ أمكن تكوينها وبناؤها بما لا يتقاطع مع الدِّين فبها، وإلَّا فإنَّ قيمتها أزهد من (عفطة عنز)(1)

وعلىٰ كلِّ حالٍ، فإنَّ الدولة مهما كانت قويَّة في عسكرها وتنظيمها، وهكذا ما يلحق بها من (أعراف) و(تقاليد)، بل و(أُسرة)، لن تستطيع أنْ تُلزم الفرد كُرهاً، ولا أنْ تسلب إرادته جبراً، لذلك يمكن للفرد أنْ يخرج معارضاً كلَّ الأعراف والتقاليدالقبلية والعشائرية، بل والأُسرية، ويمكن أنْ تحكم عليه الدولة بالإعدام، ولكنَّه لا يُغيِّر موقفه تجاهها.

إذن، ما هو الملزم للأتباع عموماً لكي يلتزموا المبدأ؟

إنَّه ليس إلَّا (العقل العملي)، أو قل: الوازع الدِّيني، أو الحافز الداخلي، أو المحرِّك الذاتي، ما شئت فعبِّر.

ص: 146


1- نهج البلاغة (ج 1/ ص 36).

إنَّه شيء في داخل الإنسان، يجعله يخالف كلَّ نزواته، وشهواته، من أجل أنْ يحافظ علىٰ دينه.

إنَّه ذلك الدافع الذي يجعل المؤمن ملتزماً بما يمليه عليه الدِّين ولو من دون مراقب خارجي.

هو ما أشارت له الكثير من النصوص الدِّينية، ومنها:

قوله تعالىٰ: ]كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ 38[ (المدَّثِّر: 38).

وقوله تعالىٰ: ]وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعىٰ 39[ (النجم: 39).

وقوله تعالىٰ: ]إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ 12[ (الملك: 12).

وقوله تعالىٰ: ]إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ[ (الرعد: 11).

ومن النصوص أيضاً ما في خطبة الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في استقبال شهر رمضان: «أيُّها الناس، إنَّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكُّوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخفِّفوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أنَّ الله تعالىٰ ذكره أقسم بعزَّته أنْ لا يُعذِّب المصلّين والساجدين، وأنْ لا يُروِّعهم بالنار يوم يقوم الناسلربِّ العالمين»(1)

أدوات الدِّين:

نعم، الدِّين عمل علىٰ توفير الأجواء المناسبة لذلك الحافز الذاتي، من خلال عدَّة خطوات لم تكن إقامة الدولة أهمّها خصوصاً في زمن الغيبة - وإنْ كان لا يتعارض معها -، وأهمّ الأدوات ثلاثة، هي:

ص: 147


1- أمالي الشيخ الصدوق (ص 154).

أوَّلاً: توفير الصورة الواضحة والقناعات اللازمة للفعل، إذ إنَّ الفعل الاختياري يتوقَّف علىٰ مقدّمات داخلية عديدة، أهمّها التصوُّر الصحيح للفعل المراد إصداره، مع توفير القناعة العلمية القطعية بجدواه وبضرورة إيجاده (في الفعل)، أو بعدم ذلك (في جانب الترك).

ثانياً: استعمال لغة إقناع قويَّة وحسن البيان في تلك القناعات، فكان أُسلوبا (الترهيب والترغيب) أهمّ الأساليب التي استعملها الدِّين، لما لهما من وقع عملي في التزام الفرد بالدِّين.

ثالثاً: توليد أجواء عامَّة وأعراف اجتماعية تساعد علىٰ التزام الدِّين من خلال أوَّل خطوة وهي: توفير جوٍّ أُسري خالٍ من التناقضات العملية، شفّافٍ في التعامل مع الدِّين، يتَّصف القدوات من أفراده بالصدق والإخلاص تجاه الدِّين.

ومن خلال تقنين تشريعات إلزامية بعدم الخروج عن الحدود العامَّة للدِّين عموماً.وأمَّا تدخُّل الدولة إجرائياً - لو كانت الدولة إسلاميَّة -، فهو للحدِّ الخارجي من الخروقات العملية من بعض الشواذ.

وكلُّ هذه العوامل هي مجرَّد محفِّزات، وإلَّا فالفعل الصادر هو منك وإليك، تسوقه الإرادة، ويُوجِّهه العقل، لا غير.

الخطوات التشريعية لتلك الأدوات:

وقد اعتمد الفكر الدِّيني لتوفير تلك الأدوات عدَّة خطوات، أهمّها:

أوَّلاً: طرح شخصية عالية التأثير كرمز يُقتدىٰ به، في كلِّ ما تطرحه من بيانات قولية وفعلية، فكان الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فقال

ص: 148

تعالىٰ: ]لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً 21[ (الأحزاب: 21).

ثانياً: طرح شخصيات استثنائية أُخرىٰ لتكمل مسيرة الشخصية الأُولىٰ في لزوم الاقتداء بها، وهم الأنبياء عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ عموماً، فقال تعالىٰ بعد أنْ ذكر عدَّة أنبياء: ]أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰ اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرىٰ لِلْعالَمِينَ 90[ (الأنعام: 90). وهكذا أئمَّة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ الذين أمر النبيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ باتِّباعهم وطاعتهم.

ثالثاً: بيان أنَّ مهمَّة الرُّسُل ليست إلَّا البلاغ التشريعي لا الإلزام والجبر التكويني، وبالتالي فالمسؤولية أوَّلاً وأخيراً ترجع إلىٰ الفرد نفسه، قال تعالىٰ: ]وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَىٰ الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ35[ (النحل: 35).

وقال تعالىٰ: ]قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَىٰ الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ 54[ (النور: 54).

وقال تعالىٰ: ]وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَىٰ الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ 18[ (العنكبوت: 18).

وقال تعالىٰ: ]فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ[ (الشورىٰ: 48).

رابعاً: توفير البيانات الشاملة لكلِّ مفاصل الحياة، مع ربط بيانها بأهل التخصُّص في الدِّين.

فعن النبيِّ الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «يا أيُّها الناس، والله ما من شيء

ص: 149

يُقرِّبكم من الجنَّة ويباعدكم من النار، إلَّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يُقرِّبكم من النار ويباعدكم من الجنَّة، إلَّا وقد نهيتكم عنه...»(1)

وقال تعالىٰ: ]وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ 43[ (النحل: 43).

النتائج:

ومن كلِّ ذلك يتبيَّن:

أوَّلاً: لا شكَّ أنَّ البعض يلتزم بالدِّين خوفاً من العقاب، والبعض يلتزمه طمعاً في الثواب.وهناك من لا يرجو ثواباً ولا يخشىٰ عقاباً أُخروياً، ولكنَّه يخشىٰ من مخالفة الدِّين أمام الأعين وبين الناس، فكان (الحياء الاجتماعي) هو المانع من فعل الكثير من الأخطاء الشرعية والأخلاقية عند جمع غفير من الناس.

الدِّين لم يعترض علىٰ هذا، إذ بالتالي ستكون النتيجة إيجابية، وهذا هو المطلوب.

وفي الحقيقة هو أمرٌ عَمِلَ علىٰ توفيره الدِّين من خلال توفير الأعراف العامَّة الإسلاميَّة.

وإليه أشار الإمام زين العابدين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في دعائه المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي: «فلو اطَّلع اليوم علىٰ ذنبي غيرك ما فعلتُه، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبتُه»(2)

ص: 150


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 74/ باب الطاعة والتقوىٰ/ ح 2).
2- الصحيفة السجّادية/ أبطحي (ص 217).

ثانياً: أنَّ الدِّين وضع يده علىٰ كلِّ الخيارات التي من شأنها دفع الفرد إلىٰ التزام الدِّين، فكان له حضور في الأُسرة، والمدرسة، والعرف، والدولة، من خلال تشريعاته التي غطَّت جميع هذه المفردات.

فإنَّه ومن خلال التشريعات الدقيقة في بناء الأُسرة، استطاع أنْ يخلق جوًّا عامًّا من خلال تعارف الأُسَر المتديِّنة علىٰ أعراف معيَّنة، ممَّا أدّىٰ إلىٰ توفير قناعات معيَّنة، ووضع كوابح قويَّة أمام من يريد خرق تلك الأعراف الأُسرية التي تحوَّلت فيما بعد إلىٰ أعراف عامَّة.نعم، في كلِّ ذلك، لم يدخل الدِّين بطريقة الفرض المادّي والجبر التكويني، وإنَّما دخل عن طريق الإقناع التامّ، إلىٰ أنْ نمت تلك القناعات فولَّدت تلك الأعراف التي نعيشها اليوم.

ثالثاً: لا مفرَّ من المسؤولية الشخصية في الحفاظ علىٰ تلك الأعراف التي خلقها الدِّين، فكلُّ واحدٍ منّا مسؤول عن الحفاظ علىٰ تلك الأعراف العامَّة في داخل الأُسرة والمدرسة والعرف العامِّ.

فينبغي رصد أيِّ تحرُّكات مشبوهة تريد سلب الهويَّة المؤمنة من المؤمنين عموماً، واستبدالها بهويَّة مستوردة ليس لها شأن سوىٰ إبعادهم عن الهدف الأسمىٰ لوجودهم، فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته(1)

* * *

ص: 151


1- في عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي (ج 1/ ص 129/ الفصل الثامن/ ح 3): عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته، فالإمام راعٍ وهو المسؤول عن رعيَّته، والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيَّتها، والخادم في مال سيِّده راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، والرجل في مال أبيه راعٍ وهو مسؤول عن رعيَّته، وكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته».

(53)كيف تقوّي نفسك على التزام العمل؟

اشارة

وجداناً، فإنَّ الإنسان عادةً ما يتثاقل من بعض الأعمال، خصوصاً ما لا يرىٰ نتيجته وأثره في العاجل، لأنَّه يميل إلىٰ ما يرىٰ نتيجته ولو كانت نتيجة بسيطة، أكثر من ميله إلىٰ ما لا يرىٰ نتيجته أو كانت نتيجته معنوية.

وحيث إنَّنا نعلم أنَّ دنيانا هي دار عمل بلا رؤية الثواب والأجر في العادة، فقد نجد تثاقلاً من أنفسنا من ناحية العمل.

فكيف نقوّي أنفسنا علىٰ العمل ولو كان ثقيلاً؟

هنا عدَّة خطوات عملية تنفع في ذلك:

الخطوة الأولى: الخطوة الأولى!

لم تتكرَّر الكلمة سهواً، نعم، فالخطوة الأُولىٰ للعمل هي الخطوة الأُولىٰ، أي أنْ تبدأ بخطوة أُولىٰ نحوه، ولو كانت صعبة، ولو كانت ثقيلة، المهمُّ أنْ تبدأ، فكما قيل: إنَّ رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.

وهناك إشارات تشجيعية لهذه الخطوة، حيث اعتبرت بعض النصوص أنَّ تقديم خطوة بسيطة من العبد، سيقابله توفيق بحجم أكبر من تلك الخطوة من الله تعالىٰ، فقد روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في حديث قدسي أنَّ الله تعالىٰ قال: «من اقترب إليَّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً، ومن اقترب إليَّ ذراعاً

ص: 152

اقتربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً...»(1)

الخطوة الثانية: تكرار العمل:

حاول أنْ تُكرِّر العمل الثقيل، إذ بلا شكٍّ أنَّ ثقله لن يدوم، لأنَّ النفس من طبيعتها أنَّها تتماهىٰ مع ما تتعوَّد عليه شيئاً فشئياً، وهذا ما أشارت له الروايات في أكثر من مناسبة، فعن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «اعلم أنَّ أوَّل الوقت أبداً أفضل، فعجِّل بالخير ما استطعت، وأحبُّ الأعمال إلىٰ الله عزّ وَجل ما داوم العبد عليه وإنْ قلَّ»(2)

وهكذا عليك أنْ تستمرَّ بالعمل وتُكرِّره ما استطعت في مناسباته المؤقَّتة له - إنْ كان مؤقَّتاً - إلىٰ أنْ يتحوَّل إلىٰ (عادة)، فإنَّ «الخير عادة» كما روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ(3)

الخطوة الثالثة: تحمُّل المعارضة!

من أهمّ ما نعيشه في هذه الحياة هي حقيقة وواقعية (المعارضة) و(الضدِّ).

فلست ترىٰ شيئاً إلَّا وله معارضوه، حتَّىٰ الأنبياء عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ لم يسلموا من الضدِّ، قال تعالىٰ: ]وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّاشَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ 112[ (الأنعام: 112).

ص: 153


1- مسند أحمد بن حنبل (ج 5/ ص 169).
2- الكافي للشيخ الكليني (ج 3/ص 274 و275/باب المواقيت أوَّلها آخرها أفضلها/ح 8).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 86).

وقال تعالىٰ: ]وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفىٰ بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً 31[ (الفرقان: 31).

وأنت، عندما تبدأ بعمل الخير، فإنَّك لن تُعدَم المعارض، والمستهزئ، والمثبِّط، ومن يُقلِّل من شأن عملك، وقد تُرمىٰ حتَّىٰ بالجنون، وبالساذج، وبالمتخلِّف!

إلَّا أنَّ صاحب المبدأ عليه أنْ يستمرَّ ويستمرَّ، خصوصاً إذا تلقّىٰ بعض المغريات التي تُمثِّل حاجزاً عن الاستمرار بالفعل.

علىٰ أيِّ واحدٍ منّا أنْ يتذكَّر قول رسوله الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عندما بدأ خطوته الأُولىٰ في نشر الإسلام، وعارضه أكثر قريش، وفي خطوة عملية منهم لثنيه عن مبدئه، أغروه بمال وجاه، فقال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ما اشتهر علىٰ الألسن وذاع بين الناس.

فقد روي في تفسير قوله تعالىٰ: ]وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ 4[ (ص: 4)، أنَّها نزلت بمكَّة، لمَّا أظهر رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الدعوة بمكَّة اجتمعت قريش إلىٰ أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنَّ ابن أخيك قد سفَّه أحلامنا وسبَّ آلهتنا وأفسد شبابنا وفرَّق جماعتنا، فإنْ كان الذي يحمله علىٰ ذلك العدم جمعنا له مالاً حتَّىٰ يكون أغنىٰ رجل في قريش، ونُملِّكه علينا، فأخبر أبو طالب رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بذلك، فقال: «لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما أردتُه، ولكن يُعطونيكلمة يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم ويكونون ملوكاً في الجنَّة»، فقال لهم أبو طالب ذلك، فقالوا: نعم وعشر كلمات، فقال لهم رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «تشهدون أنْ لا إله إلَّا الله، وأني رسول الله»، فقالوا: نَدَعُ ثلاثمائة وستّين إلها ونعبد إلهاً واحداً...(1)

ص: 154


1- تفسير القمّي (ج 2/ ص 228 و22 صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ).

الخطوة الرابعة: معرفة النتائج:

فإنَّ هذه المعرفة لا شكَّ ستُولِّد الدوافع القويَّة لإنجاز العمل، حتَّىٰ وإنْ كانت النتائج مستقبلية، ويكون العارف بنتائج العمل حينها كالفلّاح الذي يبذر بذوره في أرض خالية، ويبقىٰ يرويها بالماء ربَّما لعدَّة أيّام أو أشهر، وقد يراه غير العارف ويتعجَّب ويستغرب من رميه ماءه وبذله جهده علىٰ لا شيء! ولكن الفلّاح يبذل ما يبذل وهو مرتاح أشدّ الارتياح، لأنَّه ينتظر النتيجة المرجوَّة، التي يعرفها يقيناً.

وهكذا المؤمن، إذا اطَّلع علىٰ ما وعده الله تعالىٰ من جزاء يعجز العقل عن إدراكه اليوم، فإنَّ هذا من شأنه أنْ يُولِّد عند الفرد دافعاً، بل دوافع قويَّة جدًّا لا تخمد ولا تهدأ دون إتمام العمل وإنْ ثقل.

ويتمُّ ذلك طبعاً بمطالعة النصوص الدِّينية الواردة في هذا المجال، وهي أكثر من أنْ تُذكَر.

الخطوة الخامسة: اتِّخاذ القدوة:

إذ لا شكَّ أنَّ للقدوة تأثيراً مباشراً علىٰ النفس، وهو أمرصار واضحاً جدًّا، ولذلك أكَّدت عليه الكثير من البحوث الاجتماعية والنفسية، فضلاً عن إرشاد الدِّين له في نصوصه الكثيرة.

قال تعالىٰ: ]لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً 21[ (الأحزاب: 21).

وقال تعالىٰ: ]قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ[ (الممتحنة: 4).

وفي ضمن كلامه جلَّ وعلا عن بعض الأنبياء والمرسَلين، يقول

ص: 155

جلا وعلا: ]أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَىٰ اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرىٰ لِلْعالَمِينَ 90[ (الأنعام: 90).

* * *

ص: 156

(54)المكر السيِّئ، إلى أين؟!

في هذه الحياة، يحتاج بنو البشر لبعضهم البعض، إمَّا لأنَّ طبعهم هذا، وإمَّا لأنَّ الحاجات المتكثِّرة تمنع الفرد الواحد من القيام بها كلّها، فاحتاج لغيره.

ومن هذه الحقيقة نشأ نظام: التعارف، والتعايش، وتبادل الخدمات والمنافع، والتخصُّص العلمي والفنّي، والمعاملات، و...

ولأجل حفظ الحقوق، كانت الدواوين، وسجلّات الصادر والوارد، والقيود، والأختام، والتواقيع، و...

ولأجل حماية هذه الطبيعة من المتمرِّدين، كانت الدولة، والعسكر، ونظام العقوبات، والسجن، وسلطة المراقبة، و...

فهي منظومة متكاملة، حيث احتاج البشر إلىٰ التواصل فيما بينهم.

ولم تكن السماء بعيدة عن هذه الطبيعة، كيف وهي التي نظَّمت الكون وفقها؟ فلذلك تدخَّلت وأعطت تشريعات تنظيمية مهمَّة، ومنها:

- ]يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 13[ (الحجرات: 13).- ]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى

ص: 157

فَاكْتُبُوهُ... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ... وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلىٰ أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنىٰ أَلَّا تَرْتابُوا... وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ...[ (البقرة: 282).

- ]وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا[ (البقرة: 275).

- ]وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ 1 الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَىٰ النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ 2 وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ 3[ (المطفِّفين: 1 - 3).

وغيرها من القوانين التنظيمية في هذا المجال.

المفارقة هنا، هي أنَّ البعض يحاول أنْ يتجاوز جميع الحدود القانونية، سماوية كانت أو أرضية، ليمكر بأخيه الإنسان، بأنْ يغشَّه في معاملة، أو يخدعه في بيع، أو يأكل عليه حقَّه، أو يغمط ما ليس له أو...

وهذا واقع يمكنك أنْ تجده أمام عينيك كثيراً، والأمثلة أكثر من أنْ تُذكَر.

أمام هذا الواقع وتلك الحقيقة، ينبغي أنْ نلتفت إلىٰ التالي:

أوَّلاً: صحيح أنَّه يمكن التحايل علىٰ القانون الأرضي، باختفاء وابتعاد عن أعين السلطة، أو رشوة لصاحب منصب، أو جاه يمنع غيره من الوصول إليه، أو... إلَّا أنَّه لا مهرب من قانون السماء، ولا مناص من الوقوف في محكمة قاضيها غنيّ قويّ عدل مطلق، وهو من العلم بحيث لا يمكن لأحد أنْ يُخفي عليه ما تضمره نفسه فضلاً عمَّا يفعله، كيف لا وهو خالق الجميع؟ إذن هو يعلم الجميع، قال تعالىٰ: ]هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَفِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوىٰ عَلَىٰ الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ 4[ (الحديد: 4).

ص: 158

وفي تلك المحكمة، لا مجال للتهرُّب أو الإنكار، لأنَّه ]وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً 13 اقْرَأْ كِتابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً 14[ (الإسراء: 13 و14).

ثانياً: هناك قانون غيبي ترعاه يد السماء، خلاصته: ]إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ 38[ (الحجّ: 38).

ولقد أثبت هذا القانون جدواه في كلِّ مناسباته، ففرعون يوم أراد إهلاك أتباع النبيِّ موسىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، واغترَّ كثيراً بقوَّته وضعفهم، جاءت اليد الغيبية لتفعل به ما لم يكن في الحسبان!

إنَّها اليد الغيبية، تلك التي قال تعالىٰ عنها: ]قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَىٰ اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ 26[ (النحل: 26).

ونُسِبَ لأمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قوله: «من حفر لأخيه المؤمن بئراً، أوقعه الله تعالىٰ فيه»(1)

وفي أمثال العرب: من حفر لأخيه جُبًّا، وقع فيه منكبًّا»(2)

نعم، هذا القانون يسير وفق حكمة متقنة، تنظر إلىٰ الواقع، وتضع بصمتها ولو بعد حين.

فقد يحتال عليك البشر ليوقعوك، ويتصوَّرون أنَّهم نجحوا،وما علموا أنَّ يد الغيب ترعىٰ المؤمن من حيث لا يرونها، وسيتفاجأ الماكرون كما تفاجأ إخوة يوسف بعبدٍ باعوه بثمن بخس، فإذا به صار مَلِكاً يُطاع!

ص: 159


1- عيون الحِكَم والمواعظ لعليِّ بن محمّد الليثي الواسطي (ص 438).
2- تفسير الكشّاف للزمخشري (ج 2/ شرح ص 407).

وهذا يعني: أنْ لا يفقد المؤمن صبره، ولا ييأس من رحمة ربِّه، ولا يستعجل النتائج، فإنَّ الله تعالىٰ يُمهِل ولا يُهمِل.

ثالثاً: هناك قانون غيبي يقول: ]وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 216[ (البقرة: 216)، و]فَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً 19[ (النساء: 19).

وهو قانون يعمل دوماً وبشكلٍ عامٍّ وتامٍّ، فإنَّ المؤمن وإنْ وقع في شدَّة أو ضيق في هذه الحياة، لكنَّه للذي هو خير له بلا أدنىٰ شكٍّ.

قد يتأخَّر عليك الفتح والظفر، لكنَّه آتٍ لا محالة.

وهل هناك من ضيق يقع فيه المؤمن أكثر ممَّا وقع فيه الإمام الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؟

ولكن الذي لم يكن في حسبان الأعداء، هو ما آل إليه ذلك التراب الذي حمل جسد الحسين قبل أنْ يُدفَن فيه، في مستقبل تنبَّأت به السيِّدة الحوراء عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ حينما قالت لابن أخيها عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وقد رأته يجود بنفسه: (ما لي أراك تجود بنفسك يا بقيَّة جدّي وأبي وإخوتي؟).

فقال عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «وكيف لا أجزع ولا أهلع، وقد أرىٰ سيّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مصرَّعين بدمائهم مرمَّلينبالعراء، مسلَّبين لا يُكفَّنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنَّهم أهل بيت من الديلم والخزر؟!».

فقالت عَلَيْهِا اَلسَّلاَمُ: (لا يُجزعنَّك ما ترىٰ، فوَالله إنَّ ذلك لعهد من رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إلىٰ جدِّك وأبيك وعمِّك، ولقد أخذ الله ميثاق أُناس من هذه الأُمَّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل

ص: 160

السماوات أنَّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرِّقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرَّجة، وينصبون لهذا الطفِّ عَلَماً لقبر أبيك سيِّد الشهداء عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لا يُدرَس أثره، ولا يعفو رسمه، علىٰ كرور الليالي والأيّام، وليجتهدنَّ أئمَّة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلَّا ظهوراً وأمره إلَّا علوًّا)(1)

والحاصل من كلِّ ما سبق، هي حقيقة نطق بها القرآن صادحاً بقوله عزَّ من قائل: ]وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ[ (فاطر: 43).

* * *

ص: 161


1- بحار الأنوار للعلَّامة المجلسي (ج 28/ ص 57).

(55)مدخل طبيعي

اشارة

إنَّ من أهمّ الأساليب البلاغية التي اعتمدها القرآن الكريم في إيصال المضامين التي يريدها هو أُسلوب ضَرْب المَثَل، حيث يأتي المَثَل ليكون قاعدة تنضوي تحتها الكثير من المفردات، وبالتأمُّل والتدبُّر يمكن استخراج الكثير من الكنوز المخبأة داخل المَثَل القرآني: ]أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفالُها 24[ (محمّد: 24).

ومن الأمثال التي ضربها الباري جلَّ وعلا في كتابه العزيز، هو قوله تعالىٰ: ]وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ189[ (البقرة: 189).

هذه الآية تُمثِّل قاعدة عامَّة لمفردات كثيرة، ضربها القرآن مَثَلاً بأقلّ لفظ وأروع بيان.

عليكم أنْ تأتوا البيوت من مداخلها الطبيعية، الظاهرة للجميع، حتَّىٰ لا تُوجَّه لكم أيّ تهمة.

هذا ظاهر المَثَل، وله تطبيقات عديدة، نذكر منها التالي:

التطبيق الأوَّل:

أنَّ للوصول إلىٰ رضا الله تعالىٰ طريقاً واضحاً غير مخفي، رسمهالقرآن الكريم بكلِّ وضوح حينما قال: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا

ص: 162

الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَىٰ اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً59[ (النساء: 59).

وهذا يكون عبر الاتِّباع العملي والقولي بكلِّ تأكيد، قال تعالىٰ: ]قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ 31[ (آل عمران: 31).

فمن أراد وصولاً إلىٰ الله تعالىٰ من غير هذا الطريق، فلا مصير له إلَّا مصير إبليس يوم قال لربِّ العزَّة والجلال: يا ربِّ، اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبُدْكها مَلَك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل! قال الله تبارك وتعالىٰ: لا حاجة لي إلىٰ عبادتك، إنَّما أُريد أنْ أُعبد من حيث أُريد لا من حيث تريد، فأبىٰ أنْ يسجد، فقال الله تعالىٰ: ]قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ 34 وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلىٰ يَوْمِ الدِّينِ 35[ (الحجر: 34 و35)(1)

التطبيق الثاني:

إنَّ الوصول إلىٰ مرادات السماء ليس متاحاً للجميع، بل إنَّه يحتاج إلىٰ لياقة خاصَّة لم يحصل عليها إلَّا من اختاره الله تعالىٰ، لذلك كان الأنبياء، ثمّ كان الأوصياء.

وأمَّا في زمنٍ لم يكن فيه النبيُّ، ولم يظهر فيه الوصيُّ - بسبب الغيبة -، فلم ينفتح طريق الوصول إلىٰ مرادات السماء للجميع، بل بقي مغلقاً إلَّا علىٰ من عنده القدرة علىٰ ولوجه، فكانت له ضوابطه النظامية،ومناهجه القويمة، لذلك كان هناك المتخصِّصون في (الفقه)، الذين يبذلون من الوقت والجهد ما لا يستطيع بذل عُشر معشاره أغلب الناس.

ص: 163


1- تفسير القمّي (ج 1/ ص 42).

إنَّ الولوج إلىٰ علم الفقه لا بدَّ أنْ يكون من (بابه)، وبالتالي، فحاله حال أيِّ علم من العلوم، فإنَّ الفقه له متخصِّصوه، يلزم الرجوع إليهم لمعرفة أحكام المواقف والأحداث التي يمرُّ بها المؤمن يومياً.

وهو تطبيق لقاعدة عقلائية قبل أنْ تكون شرعية ذكرها عزّ وَجل بقوله: ]فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ 43[ (النحل: 43).

التطبيق الثالث:

إنَّ للحصول علىٰ (قلب فتاة) تريد أنْ تملك وجدانها ووجودها باباً يلجه العقلاء، ففي كلِّ عرف ودين هناك باب واضح لا غشَّ فيه ولا غَبَش، يلجه من يريد الوصول إلىٰ قلب امرأة.

أمَّا من يريد الدخول من النافذة، أمَّا من يخدع الريحانة بباقة ورد أو قارورة عطر، أمَّا من يُخفي نفسه عن العالم، فهو لصٌّ خبيث، هو ذئب بشري يبحث من الشاة عن غِرَّتها!

لا تنخدعي يا فتاة، إيّاكِ أنْ تهبي نفسكِ لكلِّ من هبَّ ودبَّ.

فكّري بأبيكِ وأخيكِ، الذينِ يعتبران صون عِرضكِ وشرفكِ أهمّ من حياتهما!

لا تبيعي نفسكِ بثمن بخس، فأنتِ أغلىٰ ممَّا تتوقَّعين.

لاحظوا كيف منع القرآن الكريم من اتِّخاذ العلاقات السرّية بينالرجل والمرأة فيما لا يحلُّ طبعاً، قال تعالىٰ في مقام تنظيم هذه العلاقة: ]فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ[ (النساء: 25)، أي لا يتَّخذها صديقة(1) والأخدان:

ص: 164


1- تفسير القمّي (ج 1/ ص 136).

الأخلّاء في السرِّ(1) لأنَّ الرجل منهم كان يتَّخذ صديقة فيزني بها، والمرأة تتَّخذ صديقاً فتزني به. وروي عن ابن عبّاس أنَّه قال: كان قوم في الجاهلية يُحرِّمون ما ظهر من الزنا، ويستحلُّون ما خفي منه، فنهىٰ الله عن الزنا سرًّا وجهراً. فعلىٰ هذا يكون المراد بقوله: ]غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ[ غير زانيات لا سرًّا ولا جهراً(2)

علىٰ (الريحانة) إذن أنْ تنتبه جيِّداً، وعليها أنْ تقول لمن يريد منها (صورةً) أو (لقاءً عابراً): هذا باب بيتنا، اطرقه كما الناس!

التطبيق الرابع:

إنَّ للحصول علىٰ العلم باباً واضحاً يعرفه الجميع، فهناك المعاهد العلمية التي أخذت علىٰ عاتقها إعطاء العلم في أيِّ تخصُّص كان من خلال مناهج محدَّدة وتدرُّج منضبط، لا لبس فيها ولا خداع.

ولكن من يريد الحصول علىٰ شهادة بحفنة من المال، أو بغشٍّ وخداع، فهو لم يأتِ العلم من بابه، وستكون النتائج كارثية ولو بعد حين.

علىٰ أنَّ العلم الإلهي، في الوقت الذي يحتاج إلىٰ المنهجيةالمنضبطة، هو يحتاج إلىٰ عنصر غيبي أشار له الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بقوله لعنوان البصري: «ليس العلم بالتعلُّم إنَّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالىٰ أنْ يهديه، فإنْ أردت العلم فاطلب أوَّلاً من نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يُفهمك»(3)

* * *

ص: 165


1- تفسير جوامع الجامع للشيخ الطبرسي (ج 1/ ص 390).
2- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 3/ ص 64).
3- مشكاة الأنوار لعليٍّ الطبرسي (ص 563).

(56)وعد إلهي

اشارة

يحتاج المؤمن في سيره التكاملي إلىٰ حوافز ودوافع تساعده في تجاوز العقبات اللّامتناهية في هذه الحياة، إذ إنَّ من أجلىٰ الحقائق في النصوص الدِّينية هو أنَّ المؤمن لن يخلو من بلاء، فعن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال: «ما أفلت المؤمن من واحدة من ثلاث، ولربَّما اجتمعت الثلاث عليه: إمَّا بغض من يكون معه في الدار يغلق عليه بابه يُؤذيه، أو جار يُؤذيه، أو من في طريقه إلىٰ حوائجه يُؤذيه، ولو أنَّ مؤمناً علىٰ قُلَّة جبل لبعث الله عزّ وَجل إليه شيطاناً يُؤذيه، ويجعل الله له من إيمانه أُنساً لا يستوحش معه إلىٰ أحد»(1)

وبالتالي، احتاج المؤمن ليتجاوز البلاء إلىٰ محفِّزات.

ومن بين أهمّ الحوافز وأعظمها، هو أنَّ الله تعالىٰ تعامل مع المؤمن تعاملاً لطيفاً جدًّا، بحيث قطع علىٰ نفسه وعداً، بل وعوداً للمؤمن، لو اطَّلع عليها المؤمن فسيكون ثابتاً وصابراً ومحتسباً في البلاء، لأنَّه يُؤمِّل خيراً من ربِّه.

من المعلوم أنَّنا لو سمعنا وعداً من إنسان محترم، فإنَّنا سنستبعد جدًّا أنَّه يخالف وعده، فكيف إذا كان الوعد صادراً منالغنيِّ القويِّ الحكيم بالمطلق؟!

ص: 166


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 249 و250/ باب ما أخذه الله علىٰ المؤمن من الصبر علىٰ ما يلحقه فيما ابتلي به/ ح 3).

فهو وعد صدر ممَّن لا يمنعه مانع من تنفيذ وعده، اللّهمّ إلَّا أنْ تقتضي الحكمة تأجيل تنفيذه لمصلحة العبد.

فلأنَّه قويٌّ مطلق، فلا موجود يمنعه من تنفيذ وعده.

ولأنَّه غنيٌّ مطلق، فلا بخل في ساحته، ولا يفعل إلَّا ما فيه غنىٰ لغيره.

ولأنَّه حكيم مطلق، فهو قد يُؤجِّل تنفيذ وعده لوقته المناسب.

إذا فهمنا هذه الحقيقة، فعلينا أنْ نكون مطمئنّين جدًّا في خطواتنا، خصوصاً إذا سمعنا الوعود الإلهيَّة، والتي منها التالي:

الوعد الأوَّل:

الوعد العامُّ للإنسانية بأنَّ الأرض لم يُكتَب لها أنْ تعيش في الظلام إلىٰ آخر الدهر، بل لا بدَّ من يوم ترجع فيه إلىٰ الصالحين، ليملأها نور العدل والقسط.

قال تعالىٰ: ]وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ 55[ (النور: 55).

وقال تعالىٰ: ]وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ 5[ (القَصص: 5).

وهذا الوعد لا شكَّ يُولِّد الأمل في نفوس المظلومينوالمحرومين بأنَّ هناك يوماً سيكون الأمر بيدهم إذا كانوا علىٰ الحقِّ.

ص: 167

وقد أكَّدت النصوص الدِّينية هذا الوعد، فقد روي عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنّا عند أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الرضاعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فجرىٰ ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: «نعم»، قلنا له: فنخاف أنْ يبدو لله في القائم، فقال: «إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يُخلِف الميعاد»(1)

الوعد الثاني:

إنَّنا نعلم علم اليقين، بأنَّنا مجرَّد عبيد بمعنىٰ الكلمة لله تعالىٰ، فلا نستحقُّ عليه أيَّ شيء، فلو عملنا كلَّ الأعمال ولم يُعطِنا، ولو رمانا في النار،، بل لو أفنانا، فلا يحقُّ لنا أنْ ننبس ببنت شفة!

ولكنَّه جلَّ وعلا، وَعَدَ - ووعده الحقُّ - بأنَّه سيُعطينا علىٰ التزامنا بما يريده جلَّ وعلا من الثواب الشيء العظيم، وهو وعد الغنيِّ المطلق.

قال تعالىٰ: ]وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً 122[ (النساء: 122).

بل تعامل معنا تعاملاً أشبه بتعامل أحدنا مع الآخر! فاعتبر أنَّ العمل من العبد هو قرض له علىٰ الله المالك!قال تعالىٰ: ]مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 245[ (البقرة: 245).

وهذا يُعطي اطمئناناً للعبد بأنَّ ما يعمله سيكون في عين ربِّه جلَّ وعلا.

ص: 168


1- الغيبة للنعماني (ص 314 و315/ باب 18/ ح 10).

وأيضاً، سيُخفِّف وطأة استهزاء البعض من الفارغين بما يقوم به المؤمنون من طقوس وشعائر.

حتَّىٰ لو كنتَ أو كنتِ في الجامعة، قد تسمعان استهزاءً ونبزاً بألقاب من قبيل: الرجعي، والمتخلِّف، وربَّما الإسلامي، لا تقلقوا، فإنَّ الوعد الإلهي سيكون بثواب عظيم جدًّا لا يعلمه إلَّا هو.

قال تعالىٰ: ]وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ 10[ (الأنعام: 10).

الوعد الثالث:

الوعد بالدفاع عن المؤمن، قال تعالىٰ: ]إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ 38[ (الحجّ: 38).

وهذا الوعد يدفع المؤمن دوماً إلىٰ أنْ يعيش باطمئنان إذا ما عمل وفق القانون الإلهي، فما عليه إلَّا أنْ يعمل بما يريده الله تعالىٰ، أمَّا إذا أراد أحدهم الكيد به، فإنَّه سيكون في راحة من ردِّه، لأنَّ الله تعالىٰ وَعَدَ بأنَّه هو من يدافع عنه، لكن، ولو بعد حين.

وبعد هذا، فلا تنخدعنَّ بوعد غير وعد الله تعالىٰ، فإنَّ إبليس سيُظهِر شماتته بمن يتَّبعه في يوم يقوم فيه الأشهاد، قال تعالىٰ:]وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ 22[ (إبراهيم: 22).

ص: 169

فلا وعد يستحقُّ الاطمئنان والركون إليه إلَّا وعد الله تعالىٰ، قال تعالىٰ: ]وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ[ (الحجّ 47).

وقال تعالىٰ: ]يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ 5[ (فاطر: 5).

ص: 170

* * *

(57)فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ

من الأُمور التي أكَّدتها النصوص الدِّينية، هو أنَّ الدنيا دار عمل، ولا جزاء - عادةً - فيها، بل هي مجرَّد قاعة امتحان، وما رأينا أحداً حصل علىٰ شهادة تخرُّجه في نفس قاعة الامتحان، بل لا بدَّ من الانتظار إلىٰ أنْ يحين وقت التخرُّج والانتقال إلىٰ مكان آخر يحصل من خلاله علىٰ ثمرة دراسته ونجاحه في الاختبار.

وهكذا الدنيا، هي دار امتحان فقط، والجزاء سيكون في يوم القيامة.

ورغم أنَّ هذا الأمر هو وعد إلهي، والله تعالىٰ لا يخلف الميعاد، ولكن مع ذلك فإنَّ القرآن الكريم وفي أكثر من مناسبة يُؤكِّد هذا الأمر، وبأساليب متنوِّعة، ومن الأساليب التي استعملها لدفع المؤمن نحو العمل رغم أنَّه لا يرىٰ جزاءه، هي قاعدة: أنَّ الله تعالىٰ يعلم كلَّ عمل يقوم به المؤمن، تلك التي عبَّر عنها القرآن بقوله عزَّ من قائل: ]وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوىٰ وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ 197[ (البقرة: 197).

وبقوله تعالىٰ: ]وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَيَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ 270[ (البقرة: 270).

ص: 171

إنَّ هذه الآيات وأمثالها، تشير إلىٰ عدَّة نكات ملكوتية، ومنها:

أوَّلاً: لاحظوا أنَّ كلمة ]مِنْ خَيْرٍ[ و]مِنْ نَفَقَةٍ[ جاءت نكرة، والكلمة إذا كانت نكرة فهي عامَّة، ممَّا يعني أنَّ القاعدة تشمل كلَّ عمل يصدر من الإنسان، ولو كان بعين العامل له صغيراً جدًّا، وهو ما صرَّح به قوله تعالىٰ في ما حكاه عن لقمان الحكيم: ]يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ 16[ (لقمان: 16).

وهذا يعني أنَّ علينا أنْ لا نستقلَّ أيَّ عمل من أعمال الخير، فإنَّها تجتمع وتأتي حيث يحتاج المؤمن إلىٰ أيِّ حسنة ولو كانت صغيرة جدًّا، فلعلَّ كلمة بسيطة ترفع درجتك إلىٰ أعلىٰ علّيين، الأمر الذي أشار له أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بعبارة بليغة يقول فيها: «إنَّ الله تبارك وتعالىٰ أخفىٰ رضاه في طاعته، فلا تستصغرنَّ شيئاً من طاعته، فربَّما وافق رضاه وأنت لا تعلم»(1)

ثانياً: أنَّ الله تعالىٰ في هذه الآية جعل العلم فرع العمل، فقال تعالىٰ: ]وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ[ ليُشير إلىٰ حقيقة واقعية، وهي أنَّ الجزاء لا يكون من دون عمل، ولأنَّ الله تعالىٰ عالم بكلِّ شيء، فهو تعالىٰ سيُجازي من يعمل عملاً صالحاً.

ونفس الكلام في الآية الأُخرىٰ، حيث يقول تعالىٰ: ]وَماأَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ[.

قال الشيخ الطوسي:

(قوله تعالىٰ: ]وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ[ معناه: وما

ص: 172


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 209).

تفعلوا من خير يُجازكم الله العالم به، لأنَّ الله عالم علىٰ كلِّ حالٍ، إلَّا أنَّه جعل ]يَعْلَمْهُ[ في موضع (يُجازيه) للمبالغة في صفة العدل، لأنَّه يعاملكم معاملة من يعلمه إذا ظهر منكم، فيُجازي به، وذلك تأكيد أنَّ الجزاء لا يكون إلَّا بالفعل دون ما يعلم أنَّه يكون منهم قبل أنْ يفعلوه)(1)

ثالثاً: ما دام الله تعالىٰ عالماً بكلِّ عمل خير يفعله المؤمن، إذن، فلا مشكلة في عمل الخير في السرِّ، فإنَّ الذي تعمل له في السرِّ، سيُجازيك في العلن!

وقد روي في وصيَّة الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لابن جندب أنَّه قال له: «يا ابن جندب، لا تتصدَّق علىٰ أعين الناس ليزكُّوك، فإنَّك إنْ فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تُطلِع عليها شمالك، فإنَّ الذي تتصدَّق له سرًّا يُجزيك علانيةً علىٰ رؤوس الأشهاد، في اليوم الذي لا يضرُّك أنْ لا(2)) يطَّلع الناس علىٰ صدقتك»(3)

وحينها فلا داعي أصلاً لأحسب حساباً مهمًّا للناس، فإنَّهم إنْ اطَّلعوا علىٰ عملي فلن يُعطوني أيَّ جزاء، وإنْ لم يطَّلعوا عليه لميمنعوا عنّي جزاء وعطاء الله تعالىٰ، فهم مثلي في الفقر إلىٰ الغنيِّ المطلق.

وحتَّىٰ لو تصوَّر الناس أنَّك لا تعمل الخير، فهذا ليس بالأمر المهمِّ ما دام الله تعالىٰ يعلم بك، وهكذا كان من نواليهم.

فقد جاء في سيرة الإمام زين العابدين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنَّه كان عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ليخرج

ص: 173


1- تفسير التبيان للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 165).
2- هكذا في المصدر، والمناسب هو حذف حرف (لا).
3- تحف العقول لابن شعبة الحرّاني (ص 305).

في الليلة الظلماء فيحمل الجراب علىٰ ظهره وفيه الصُّرَر من الدنانير والدراهم، وربَّما حمل علىٰ ظهره الطعام أو الحطب حتَّىٰ يأتي باباً باباً فيقرعه، ثمّ يناول من يخرج إليه، وكان يُغطّي وجهه إذا ناول فقيراً لئلَّا يعرفه، فلمَّا تُوفّي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فقدوا ذلك، فعلموا أنَّه كان عليَّ بن الحسين عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ، ولمَّا وُضِعَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ علىٰ المغتسل نظروا إلىٰ ظهره وعليه مثل رُكَب الإبل ممَّا كان يحمل علىٰ ظهره إلىٰ منازل الفقراء والمساكين...(1)

وعن محمّد بن إسحاق أنَّه كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون [من] أين معاشهم، فلمَّا مات عليُّ بن الحسين فقدوا ما كانوا يُؤتَون به بالليل(2)

وهذا الأمر من أقوىٰ الدوافع التي ستكون وراء تحقُّق صفة مهمَّة في قبول الأعمال، وهي صفة (الإخلاص) وصفة (لوجه الله تعالىٰ).

بل حتَّىٰ لو سرق أحدهم عملك أمام الناس، كما لو نسبلنفسه عملاً أنت قمت به، فإنَّه لن يضيع عند الله تعالىٰ كما هو واضح، وقد نقل لي أحد الأصدقاء أنَّ جدَّه لأُمِّه كتب كتاباً، ولم يكن عنده ما يطبعه به، فسرقه أحدهم من دون أنْ يشعر وطبعه باسمه، ولمَّا أُخبر بذلك قال: الحمد لله، المهمُّ أنْ يُنشَر العلم، والله هو المجازي!

* * *

ص: 174


1- الخصال للشيخ الصدوق (ص 517/ ذكر ثلاث وعشرين خصلة من الخصال المحمودة التي وُصِفَ بها عليُّ بن الحسين زين العابدين عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ/ ح 4).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 292).

(58)ثنائية الصبر والتقوى

من قواعد الحياة: أنْ لا شيء يأتي فيها بالمجّان، فلكلِّ شيء ثمنه، قلَّ أو كثر.

نفسك أيضاً لها ثمن، وثمنها ليس بخساً، بل هو عظيم جدًّا، لا يوازيه شيء إلَّا الجنَّة، ولذلك فإنَّ الله تعالىٰ عندما عقد معاملة بيع وشراء مع المؤمنين، جعل مقابل أنفسهم الجنَّةَ لا غير، قال تعالىٰ: ]إِنَّ اللهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ[ (التوبة: 111).

وهكذا، كلُّ شيء تريد الحصول عليه، فلا بدَّ له من ثمن.

نعم، ليس من الضروري أنْ يكون الثمن مالاً أو عيناً، بل قد يكون أمراً معنوياً، فأنت قد تعمل من أجل الحصول علىٰ الشهرة، والجاه، والتصفيق الحارِّ، وقد تحصل عليه، فتكون قد استوفيت أجرك.

أنْ تكون محسناً، وتحصل علىٰ أجر المحسنين، الذي هو رضا ربِّ العالمين وجنّات عدن، كما قال تعالىٰ: ]فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ 85[ (المائدة: 85).

بل إنَّ جزاءهم لم ينحصر بالآخرة، وإنَّما لهم أجر حتَّىٰ في الدنيا، قال جلَّ وعلا: ]فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِوَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ 148[ (آل عمران: 148).

ص: 175

بل إنَّ ثوابهم غير منحصر بشيء ما، وإنَّما هو علىٰ حدِّ ما قاله تعالىٰ: ]لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ 34[ (الزمر: 34).

هذا فضلاً عن أنَّ المحسن سيكون قريباً جدًّا من الرحمة الإلهيَّة الخاصَّة: ]إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 56[ (الأعراف: 56).

فأنْ تكون محسناً، فله ثمنه أيضاً، ولن تحصل عليه بالمجّان.

فما هو ثمنه؟

إنَّ ثمنه أمران:

الأمر الأوَّل: التقوىٰ.

الأمر الثاني: الصبر.

ففي مقام بيان مدخلية التقوىٰ في كون الفرد من المحسنين، يقول تعالىٰ: ]وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ 69[ (العنكبوت: 69)، فإنَّ الجهاد في الله تعالىٰ يعني في بعض مراتبه، بل إنَّ أهمّ مراتبه هي التقوىٰ، بما تعنيه من فعل الواجبات وترك المحرَّمات.

وفي مقام بيان مدخلية الصبر في كون الفرد كذلك، يقول تعالىٰ: ]وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 115[ (هود: 115)، والارتباط هنا واضح جدًّا بين الصبر وبين ثبوت أجر المحسنين.

وفي الحقيقة، فإنَّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين هذين الأمرين،حتَّىٰ كأنَّك تراهما واحداً، فإنَّ التقوىٰ - بما تعنيه هذه الكلمة من ضرورة حبس النفس علىٰ ما أحلَّه الله تعالىٰ، والتعالي بها عن معاقرة ما حرَّمه جلَّ وعلا - لا يمكن أنْ تتحقَّق من دون توطين النفس وصبرها علىٰ أنْ لا تخالف تلك الحدود، أي إنَّها تحتاج إلىٰ صبر شديد لمقاومة إغراءات النفس وتسويلات إبليس، فإنَّ النفس من طبعها أنْ تميل نحو الانفلات

ص: 176

وعدم الانضباط، ]بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ 5[ (القيامة: 5)، خصوصاً في ما يتعلَّق بالرغبات الملائمة لطبعها.

ولذلك؛ فقد قرن الله تعالىٰ بينهما في ما حكاه جلَّ وعلا عن المآل الذي آل إليه النبيُّ يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بعد الظلم والأذىٰ، بعد أنْ ألقاه إخوته في الجُبِّ وباعوه عبداً وسجنوه في مصر رغماً، إلَّا أنَّ تقواه وصبره أثمرا ولو بعد حين، قال عزَّ من قائل حكايةً عن تعجُّب إخوة يوسف عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لمَّا اكتشفوا أنَّ المَلِك هو أخوهم: ]قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 90[ (يوسف: 90).

إنَّ توفُّر عنصريّ (الصبر) و(التقوىٰ) له من الآثار الشيء الكثير، فمنها:

أنَّه سيكون حاجز صدٍّ ضدَّ كيد الكائدين، قال تعالىٰ: ]إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ 120[ (آل عمران: 120).

ومنها: أنَّه سيكون مدعاة للعون الغيبي الإلهي من حيث لا يشعرالآخر، قال تعالىٰ فيما حكاه عن وقعة بدر الكبرىٰ: ]إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ 124 بَلىٰ إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ 125[ (آل عمران: 124 و125).

ومنها: أنَّه سيجعل المؤمن يتجاوز كلَّ الأذىٰ الذي ينحدر إليه كالسيل من المنحرفين، فإنَّ توفُّر هذين العنصرين سيُولِّد في النفس قوَّة تحمُّل لا يتصوَّرها الفاقد لهما، قال تعالىٰ: ]لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ

ص: 177

مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىٰ كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ 186[ (آل عمران: 186).

إذا تبيَّن هذا الأمر فينبغي أنْ نلتفت إلىٰ التالي:

أوَّلاً: ضرورة أنْ يعمل المؤمن علىٰ تحصيل هاتين الصفتين ما أُوتي إلىٰ ذلك سبيلاً، وهذا ما يحتاج إلىٰ مداومة العمل، وعدم الملل، والتزام التوسُّل بالله تعالىٰ ليعينه علىٰ ما هو فيه.

مع الانتباه إلىٰ أنَّ التوفُّر علىٰ هذين العنصرين في موقف أو موقفين، لا يعني التحصُّن طول العمر، فهما كحال بقيَّة الصفات، يمكن أنْ تأتي، ويمكن أنْ تذهب، يمكن أنْ تكون مستقرَّة، ويمكن أنْ تكون متزلزلة، وما لم يستمرّ المؤمن بالجهاد فيهما، وتفعيلهما في كلِّ مواقف الحياة، فإنَّ انسلالهما من بين يديه أمر ممكن جدًّا.

لذلك احتاج المؤمن إلىٰ مداومة الصبر والتقوىٰ، وإلىٰتوسُّل دائم بالله تعالىٰ ليهب له استقرارهما في نفسه.

ثانياً: أنَّ أكثر ما يحتاج المؤمن إلىٰ هذين العنصرين هو في وقت تفتح الدنيا له ذراعيها، ويرىٰ أنَّها تُقبِل إليه، فإنَّ عليه أنْ يضبط نفسه جيِّداً بالتقوىٰ ويصبر علىٰ مغرياتها حتَّىٰ لا يقع فريسة لها، فتقتله كما قتلت الكثيرين من قبله.

فالمال مصيدة، والجمال أُخرىٰ، والجاه ثالثة، والقوَّة رابعة، وهناك ألف مصيدة ومصيدة غير ما ذُكِرَ، ولو لم يلجأ المؤمن إلىٰ ربِّه، ويتحصَّن بالصبر والتقوىٰ، فإنَّ وقوعه في الحفرة سيكون وشيكاً جدًّا.

* * *

ص: 178

(59)لن يرضوا عنك

صار من الواضحات أنَّ القرآن الكريم يجري مجرىٰ المثل في الكثير من موارده وآياته، فهو يذكر مثالاً، ويريد منّا أنْ نعتبر به، بل يريد منّا أنْ نجعله قاعدة تندرج تحتها الكثير من المفردات.

ومن هذا القبيل قوله تعالىٰ: ]وَلَنْ تَرْضىٰ عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصارىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَىٰ اللهِ هُوَ الْهُدىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ120[ (البقرة: 120).

إنَّ هذه الآية تشير إلىٰ أمرين:

الأوَّل: أنَّ اليهود والنصارىٰ لن يرضوا عن الرسول الأكرم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، لأنَّه خالف ملَّتهم وعقيدتهم، وبالتالي سلوكهم. وهذا هو منطوق الآية.

الثاني: أنَّهم إنَّما يرضون عنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فيما إذا ترك عقيدته وتبع عقيدتهم وملَّتهم، وهذا هو مضمون الآية وما يُفهَم منها.

وأنت إذا لاحظت هذا المعنىٰ، لوجدته يُمثِّل قاعدة عامَّة تشمل كلَّ من يخالفك في الرأي، إذ لا شكَّ أنَّ الآخر - سواء كان يرىٰ نفسه علىٰ حقٍّ أو علىٰ باطل وكان معانداً - يأمل أنْ تكون مثله، إمَّا:

لهدايتك - فيما إذا كان يعتقد أنَّه علىٰ الحقِّ وأنت علىٰ الباطل -.

ص: 179

أو ليتوزَّع اللوم علىٰ أكبر مساحة ممكنة - فيما لو كان شاكًّا متردِّداً في ما هو عليه ويخاف من النقد لو انكشف بطلان ما هو عليه -.

أو ربَّما لأجل الحسد، كما يذكر القرآن الكريم هذا المعنىٰ حيث يقول عزَّ من قائل: ]وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ[ (البقرة: 109).

وقد أشار القرآن الكريم إلىٰ أنَّ الأطراف الأُخرىٰ تعمل علىٰ إبقاء المؤمن بعيداً عن خطِّ الاستقامة، وأنْ يتقهقر إلىٰ الوراء حيث ]أَسْفَلَ سافِلِينَ[، وفي مقام تقديمهم للمرغِّبات في ذلك، قالوا للمؤمنين: لا عليكم، فقط اتِّبعونا، ونحن سنحمل كلَّ خطاياكم أمام ربِّكم! قال تعالىٰ: ]وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ[، فردَّ عليهم القرآن مباشرةً: ]وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ 12 وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ 13[ (العنكبوت:12 و13).

أمام هذا الواقع، لا بدَّ من الالتفات إلىٰ التالي:

أوَّلاً: أنَّ الحقَّ والباطل أُمور واقعية منضبطة تماماً، فيكون ملاك العقيدة وبالتالي السلوك هي موافقة الحقِّ والابتعاد عن الباطل، ويكون ذلك بالرجوع إلىٰ أهل الخبرة في الدِّين، ممَّن استمرُّوا علىٰ خطِّ الحقِّ، خطّ أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ.وأمَّا رضا الناس، فإنَّما هي ثمرة عرضية، إنْ حصلت فبها ونعمت، وإلَّا فكما قال الشاعر الحمداني(1)):

ص: 180


1- البداية والنهاية لابن كثير (ج 11/ ص 316)، والأبيات للشاعر أبي فراس الحمداني.

فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضىٰ والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب

ثانياً: أنَّ تحصيل رضا الناس في كلِّ مفردات الحياة أمر ربَّما يكون متعذِّراً علىٰ أيِّ إنسان، ذلك لأنَّك لا تجد شخصاً يوافقك الرأي في كلِّ مفردات سلوكك وعقيدتك، وبالتالي فالبحث عن الموافقة التامَّة من الآخرين ضرب من الخيال.

وهذا ما صوَّرته بعض المرويات، فقد روي أنَّ موسىٰ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال: يا ربِّ، احبس عنّي ألسنة بني آدم، فإنَّهم يذمُّوني، وقد آذوني - كما قال الله تبارك وتعالىٰ عنهم: ]يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسىٰ فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً 69[ (الأحزاب: 69) -، قيل: فأوحىٰ الله جل جلاله إليه: يا موسىٰ، هذا شيء ما فعلته مع نفسي، أفتريد أنْ أعمله معك؟! فقال: قد رضيت أنْ يكون لي أُسوة بك(1)

وقد روي أنَّ لقمان الحكيم قال لولده في وصيَّته:

لا تُعلِّق قلبك برضا الناس ومدحهم وذمِّهم، فإنَّ ذلك لا يحصل، ولو بالغ الإنسان في تحصيله بغاية قدرته، فقال له ولدهما معناه: أُحِبُّ أنْ أرىٰ لذلك مثلاً أو فعالاً أو مقالاً، فقال له: أخرج أنا وأنت، فخرجا ومعهما بهيم، فركبه لقمان وترك ولده يمشي خلفه، فاجتازا علىٰ قوم، فقالوا: هذا شيخ قاسي القلب، قليل الرحمة، يركب هو الدابَّة، وهو أقوىٰ من هذا الصبيِّ، ويترك هذا الصبيَّ يمشي وراءه، إنَّ هذا بئس التدبير.

ص: 181


1- فتح الأبواب للسيِّد ابن طاووس (ص 309).

فقال لولده: سمعت قولهم وإنكارهم لركوبي ومشيك؟ فقال: نعم، فقال: اركب أنت يا ولدي حتَّىٰ أمشي أنا، فركب ولده ومشىٰ لقمان، فاجتازا علىٰ جماعة أُخرىٰ، فقالوا: هذا بئس الوالد، وهذا بئس الولد، أمَّا أبوه، فإنَّه ما أدَّب هذا الصبيَّ حتَّىٰ ركب الدابَّة وترك والده يمشي وراءه، والوالد أحقّ بالاحترام والركوب، وأمَّا الولد، فإنَّه قد عقَّ والده بهذه الحال، فكلاهما أساء في الفعال.

فقال لقمان لولده: سمعت؟ فقال: نعم، فقال: نركب معاً الدابَّة، فركبا معاً، فاجتازا علىٰ جماعة، فقالوا: ما في قلب هذين الراكبين رحمة، ولا عندهم من الله خير، يركبان معاً الدابَّة، يقطعان ظهرها، ويُحمِّلانها ما لا تطيق، لو كان قد ركب واحد، ومشىٰ واحد، كان أصلح وأجود.

فقال: سمعت؟ قال: نعم، فقال: هات حتَّىٰ نترك الدابَّة تمشي خالية من ركوبنا، فساقا الدابَّة بين أيديهما وهما يمشيان، فاجتازا علىٰ جماعة، فقالوا: هذا عجيب من هذين الشخصين، يتركان دابَّة فارغة تمشي بغير راكب، ويمشيان، وذمّوهما علىٰ ذلك كما ذمّوهما علىٰ كلِّ ما كان.

فقال لولده: ترىٰ في تحصيل رضاهم حيلة لمحتال؟! فلا تلتفت إليهم، واشتغل برضىٰ الله جل جلاله، ففيه شغل شاغل، وسعادةوإقبال في الدنيا ويوم الحساب والسؤال(1)

ثالثاً: ومن هذا يتبيَّن: أنَّ المهمَّ هو تحصيل رضا الله عزّ وَجل، لأنَّ المصير النهائي للإنسان متوقِّف علىٰ ذلك، ومن يبحث عن رضا غير الله تعالىٰ، فلن يجد إلَّا ما لا يسرُّه.

وقد روي أنَّه قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «من طلب مرضاة الناس بما

ص: 182


1- فتح الأبواب للسيِّد ابن طاووس (ص 307 - 309).

يُسخِط الله كان حامده من الناس ذامًّا، ومن آثر طاعة الله بغضب الناس كفاه الله عداوة كلِّ عدوٍّ، وحسد كلِّ حاسد، وبغي كلِّ باغٍ، وكان اللهعزّ وَجل له ناصراً وظهيراً»(1)

وروي أنَّه كتب رجل إلىٰ الحسين بن عليٍّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «يا سيّدي، أخبرني بخير الدنيا والآخرة، فكتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمَّا بعد، فإنَّه من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله أُمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكله الله إلىٰ الناس، والسلام»(2)

* * *

ص: 183


1- الكافي للشيخ الكليني (ج 2/ ص 372 و373/ باب من أطاع المخلوق في معصية الخالق/ ح 2).
2- أمالي الشيخ الصدوق (ص 268/ ح 293/14).

(60)نفس سامية

اشارة

أصبح من نافلة القول التذكير بأنَّ الحياة لم ولن تصفو للمؤمن، فهو فيها بين بلاء الحاجة، وبلاء المحن، وبلاء الفتن.

بين نوازع النفس، وتسويلات الشيطان.

بين ظالم يريد الفتك به، وبين قلَّة حيلة اليد.

بين كونه إنساناً ذا لحم ودم، وله مشاعر، وله أحاسيس، فيريد أنْ يعيش في الحياة كما الناس، وبين كونه مؤمناً لا يريد أنْ يخسر من الآخرة أيَّ شيء ولو أُعطي الدنيا كلَّها ذهبةً واحدةً.

لذلك فإنَّ «أعظم الناس هَمًّا: المؤمن» والسبب أنَّه «يهتمُّ بأمر دنياه وأمر آخرته» كما روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ(1)

وحتَّىٰ يستطيع أنْ يعيش بهناء، فقد احتاج - بعد العون الإلهي - إلىٰ أنْ يتَّصف بالعديد من الصفات النفسية، التي تُخفِّف عليه وطأة الظلم ومرارة الحرمان، كالصبر، والتقوىٰ، وعدم اليأس، وغيرها.

ومن أهمّ تلك الصفات التي احتاجها، هي صفة (العفو).

إنَّ احتياجه إلىٰ هذه الصفة له مبرّراته العقلائية، والتي منها التالي:أوَّلاً: أنَّ عفوه عن غيره سيكون مفتاحاً للوصول إلىٰ العفو الإلهي، وهذا هدف يسعىٰ إليه المؤمن بلا أدنىٰ شكٍّ.

ص: 184


1- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 1/ ص 144/ ح 702).

قال تعالىٰ: ]إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً 149[ (النساء: 149).

وقد روي عن النبيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «إذا كان يوم القيامة نادىٰ منادٍ: من كان أجره علىٰ الله، فليدخل الجنَّة، فيقال: من ذا الذي أجره علىٰ الله؟ فيقال: العافون عن الناس، فيدخلون الجنَّة بغير حساب»(1)

ثانياً: أنَّ عفوه عن الناس يعني أنَّه سيتناسىٰ تجاوزهم عليه حتَّىٰ ينساه تماماً، وبالتالي فلن يغلي في قلبه الإحساس بظلمهم، وسيطمئنُّ قلبه وتستقرُّ نفسه، لأنَّه لن يُفكِّر بالانتقام ولا بالعتاب.

ومن هنا روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنَّه قال: «تعافوا تسقط الضغائن بينكم»(2)

ثالثاً: أنَّ من أهداف المؤمن هو إصلاح غيره، والإصلاح له آليّات عملية كثيرة، ومنها العفو.

ومن هنا حثَّت الرواياتُ المؤمنَ علىٰ العفو، فقد روي أنَّه شكا رجل إلىٰ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ خدمه، فقال له: «اعفُ عنهم تستصلح به قلوبهم»، فقال: يا رسول الله، إنَّهم يتفاوتون في سوء الأدب، فقال: «اعفُ عنهم»، ففعل(3)

أسوة حسنة:

وأنت إذا تابعت حياة العظماء، وجدت أنَّ العفو يتصدَّر سلوكهم اتِّجاه أعدائهم، وأيّ عفو هو؟!

ص: 185


1- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي (ج 9/ ص 58).
2- كنز العُمّال للمتَّقي الهندي (ج 3/ ص 373/ ح 7004).
3- مستدرك الوسائل للميرزا النوري (ج 9/ ص 6 و7/ باب استحباب العفو/ ح 10041/8).

هو عفو يعجب منه العدوُّ ويمدحه قبل الصديق.

فهذا مولانا الإمام زين العابدين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يعفو عن ظالمه أيّ عفو!

قال الواقدي: كان هشام بن إسماعيل يُؤذي عليَّ بن الحسين في إمارته، فلمَّا عُزِلَ أمر به الوليد أنْ يُوقَف للناس، فقال: ما أخاف إلَّا من عليِّ بن الحسين! وقد وقف عند دار مروان، وكان عليٌّ قد تقدَّم إلىٰ خاصَّته ألَّا يعرض له أحد منكم بكلمة، فلمَّا مر ناداه هشام: ]اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ[ (الأنعام: 124)(1)

وزاد ابن فيّاض في الرواية في كتابه: أنَّ زين العابدين أنفذ إليه وقال: «انظر إلىٰ ما أعجزك من مال تُؤخَذ به فعندنا ما يسعك، فطب نفساً منّا ومن كلِّ من يُطيعنا»، فنادىٰ هشام: ]اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ[(2)

يونس بن عبد الرحمن، عَلَم من أعلام أصحاب الإمام الكاظم والرضاعَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ، كان شديد التعلُّق بأهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، ويظهر من بعض الروايات أنَّه كان مأموراً بعدم إظهار كلِّ علمه، لأنَّ الناس لا يتحمَّلونه، ولقد كان الكثير من الناس يقعون فيه، بقصد أو بدون قصد، وكان في بعضالأحيان يتأذّىٰ، فيجيء إلىٰ الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فيطمئنّه بما هو أهله.

فقد روي عن يونس بن عبد الرحمن، قال، قال العبد الصالح [أي الإمام الكاظم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ]: «يا يونس، ارفق بهم، فإنَّ كلامك يدقُّ عليهم»، قال: قلت: إنَّهم يقولون لي: زنديق، قال لي: «وما يضرُّك أنْ يكون في يدك لؤلؤة، يقول الناس: هي حصاة، وما كان ينفعك أنْ يكون في

ص: 186


1- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 301)؛ وتاريخ الطبري (ج 5/ ص 217).
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص 301).

يدك حصاة فيقول الناس: لؤلؤة؟»(1)

وعن أبي جعفر البصري، وكان ثقةً فاضلاً صالحاً، قال: دخلت مع يونس بن عبد الرحمن علىٰ الإمام الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، فشكىٰ إليه ما يلقىٰ من أصحابه من الوقيعة، فقال الإمام الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «دارِهم، فإنَّ عقولهم لا تبلغ»(2)

هذا الرجل العظيم، الذي أرجع الإمام الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أصحابه إليه، حينما سأله محمّد بن عيسىٰ، وحدَّث الحسن بن عليِّ بن يقطين بذلك أيضاً، قال: قلت لأبي الحسن الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: جُعلت فداك، إنّي لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلِّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: «نعم»(3)

هذا الرجل العظيم كان مثلاً للعفو عن الذين تحدَّثوا عليه، وكان السبب في عفوه عنهم ليس إلَّا أنْ يكون الشخص من محبّي أمير المؤمنينعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، حيث روي أنَّه قيل له: إنَّ كثيراً من هذهالعصابة يقعون فيك ويذكرونك بغير الجميل، فقال: «أُشهدكم: أنَّ كلَّ من له في أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ نصيبٌ فهو في حلٍّ ممَّا قال!»(4)

فهل سمعت أُذُنٌ واعية؟!

* * *

ص: 187


1- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 782 و783/ ح 928).
2- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 782 و783/ ح 929).
3- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 784/ ح 935).
4- اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي (ج 2/ ص 782 و783/ ح 930).

ص: 188

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.

2 - اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مطبعة بعثت/ مؤسَّسة آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ/ 1404ه/ قم.

3 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ تحقيق: مؤسَّسة آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ/ ط 2/ 1414ه/ دار المفيد/ بيروت.

4 - الأُصول الستَّة عشر: عدَّة محدِّثين/تحقيق: ضياء الدِّين المحمودي/ ط 1/ 1423ه/ دار الحديث.

5 - أضواء علىٰ عقائد الشيعة الإماميَّة: الشيخ السبحاني/ ط 1/ 1421ه/ مؤسَّسة الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ/ قم.

6 - أعلام الدِّين: الحسن بن محمّد الديلمي/ مؤسَّسة آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ/ قم.

7 - أعيان الشيعة: السيِّد محسن الأمين/ تحقيق: حسن الأمين/ دار التعارف/ بيروت.

8 - ألف حديث في المؤمن: الشيخ هادي النجفي/ط 1/ 1416ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.

9 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ تحقيق: قسم الدراسات/ ط 1/ 1417ه/ مؤسَّسة البعثة.

ص: 189

10 - الأمالي: الشيخ الطوسي/ تحقيق: مؤسَّسة البعثة/ ط 1/ 1414ه/ دار الثقافة/ قم.

11 - الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط 1/ 1404ه/ مدرسة الإمام الهادي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ/ قم.

12 - بحار الأنوار: العلاَّمة المجلسي/ الطبعة الثانية المصحَّحة/ 1403ه/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.

13 - البداية والنهاية: ابن كثير/ تحقيق: عليّ شيري/ ط 1/ 1408ه/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

14 - بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ تحقيق: كوچه باغي/ 1404ه/ مطبعة الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.

15 - البليغ في المعاني والبيان والبديع: الشيخ أحمد أمين الشيرازي/ ط1/ 1422ه/مطبعة مؤسَّسة النشر الإسلامي/ انتشارات فروغ قرآن.

16 - تاج العروس: الزبيدي/ 1414ه/ دار الفكر/ بيروت.

17 - تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط2/ 1404ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

18 - تفسير الأمثل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

19 - تفسير التبيان: الشيخ الطوسي/ تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي/ ط 1/ 1409ه/ مكتب الإعلام الإسلامي.

20 - تفسير القرطبي: القرطبي/ تحقيق: البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

21 - تفسير القمّي: عليُّ بن إبراهيم القمّي/ تحقيق: طيّبالجزائري/ ط 3/ 1404ه/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.

ص: 190

22 - التفسير الكبير: الفخر الرازي/ ط 3.

23 - تفسير الكشّاف: الزمخشري/ 1385ه/ شركة مكتبة ومطبعة مصطفىٰ البابي الحلبي وأولاده/ مصر.

24 - تفسير الميزان: السيِّد الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية/ قم.

25 - تفسير جوامع الجامع: الطبرسي/ ط 1/ 1418ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

26 - تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ تحقيق: لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ه/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

27 - تفسير نور الثقلين: الحويزي/ تحقيق: هاشم الرسولي المحلّاتي/ ط4/ 1412ه/ مؤسَّسة إسماعيليان/ قم.

28 - تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

29 - التوحيد: الشيخ الصدوق/ تحقيق: هاشم الحسيني الطهراني/ جماعة المدرِّسين/ قم.

30 - ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد مهدي الخرسان/ ط 2/ 1368ش/ مطبعة أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

31 - الجامع الصغير: السيوطي/ط 1/1401ه/دار الفكر/بيروت.

32 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة: صدر الدِّينمحمّد الشيرازي/ ط 3 / 1981م/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

33 - الخرائج والجرائح: قطب الدِّين الراوندي/ الطبعة الأُولىٰ كاملة محقَّقة/ 1409ه/ مؤسَّسة الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ/ قم.

ص: 191

34 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ 1403ه/ جماعة المدرِّسين/ قم.

35 - دعائم الإسلام: القاضي النعمان المغربي/ تحقيق: آصف فيضي/ 1383ه/ دار المعارف/ القاهرة.

36 - الدعوات: قطب الدِّين الراوندي/ ط 1/ 1407ه/ مطبعة أمير/ مؤسَّسة الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ/ قم.

37 - الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: الشهيد الثاني/ تحقيق: السيِّد محمّد كلانتر/ ط 1 و2/ 1386 و1398ه/ منشورات جامعة النجف الدِّينية.

38 - روضة الواعظين: الفتّال النيسابوري/ تحقيق: محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

39 - سير أعلام النبلاء: الذهبي/ ت حسين الأسد/ ط 9/ 1413ه/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.

40 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط 1/ 1378ه/ دار إحياء الكُتُب العربية/ بيروت.

41 - شعب الإيمان: أبو بكر البيهقي/ ط 1/ 1423ه/ مكتبة الرشد.

42 - الصحيفة السجّادية: تحقيق: الأبطحي/ ط 1/ 1411ه/ مطبعة نمونة/ مؤسَّسة الإمام المهدي عَجَّلَ اَللَّهُ تَعَالِيَ فَرَجَهُ اَلشَّرِيفْ، مؤسَّسة الأنصاريان/ قم.43 - عدَّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ تحقيق: أحمد الموحّدي القمّي/ مكتبة وجداني/ قم.

44 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.

ص: 192

45 - علم النفس الفلسفي: محاضرات الأُستاذ المحقِّق الشيخ غلام رضا الفيّاضي/ الكتاب الأوَّل/ تأليف: السيِّد جعفر الحكيم/ط 1/ 1434ه- -2013م/مطبعة الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع.

46 - عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ تحقيق: مجتبىٰ العراقي/ ط1/ 1403ه/ مطبعة سيِّد الشهداء عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ/ قم.

47 - عيون أخبار الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: الشيخ الصدوق/ تحقيق: حسين الأعلمي/ 1404ه/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

48 - عيون الحِكَم والمواعظ: عليٌّ الليثي الواسطي/ تحقيق: حسين البيرجندي/ ط 1/ دار الحديث.

49 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني، عليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411ه/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.

50 - الغيبة: النعماني/ تحقيق: فارس حسّون كريم/ ط 1/ 1422ه/ مطبعة مهر/ أنوار الهدىٰ.

51 - فتح الأبواب: ابن طاووس/ ط 1/ 1409ه/ مؤسَّسة آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ لإحياء التراث/ بيروت.

52 - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: علي أكبر الغفّاري/ ط 5/1363ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

53 - كتاب الزهد: حسين بن سعيد الكوفي/ 1399ه/ المطبعة العلمية/ قم.

54 - كتاب بحوث المؤتمر التربوي: مؤتمر نحو بناء نظرية تربوية إسلاميَّة معاصرة/ عمان/ المملكة الهاشمية الأُردنية/ تحرير: الدكتور فتحي حسن ملكاوي/ 1411ه- - 1990م.

ص: 193

55 - كنز العُمّال: المتَّقي الهندي/ تحقيق: بكري حيّاني/ 1409ه/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.

56 - الكنىٰ والألقاب: الشيخ عبّاس القمّي/ مكتبة الصدر/ طهران.

57 - مثير الأحزان: ابن نما الحلّي/ 1369ه/ المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.

58 - المجالس الفاخرة: السيِّد شرف الدِّين/ تحقيق: محمود بدري/ ط1/ 1421ه/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.

59 - المحاسن: البرقي/ تحقيق: جلال الدِّين الحسيني المحدِّث/ 1370ه/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

60 - مدينة المعاجز: هاشم البحراني/ تحقيق: عزَّة الله المولائي الهمداني/ ط 1/ 1413ه/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.

61 - مستدرك الوسائل: الميرزا النوري/ الطبعة الأُولىٰ المحقَّقة/ 1408ه/ مؤسَّسة آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ/بيروت.

62 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.

63 - مشكاة الأنوار: عليٌّ الطبرسي/ تحقيق: مهدي هوشمند/ ط1/ 1418ه/ دار الحديث.

64 - مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1411ه/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.

65 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ 1379ه/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

66 - مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط 6/ 1392ه/ منشورات الشريف الرضي/ قم.

ص: 194

67 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفّاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.

68 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ تحقيق: لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه/ المكتبة الحيدرية/ النجف.

69 - موعد مع الحياة: خالد بن صالح المنيف/الطبعة الثالثة.

70 - نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط 1/ 1412ه/ مطبعة النهضة/ دار الذخائر/ قم.

* * *

ص: 195

ص: 196

الفهرس

مقدّمة المعهد... 3

مقدّمة المؤلِّف... 7

الإهداء... 9

(31) تزكية النفس... 11

النقطة الأُولىٰ... 11

النقطة الثانية... 12

النقطة الثالثة... 13

النقطة الرابعة... 14

النقطة الخامسة... 15

أوَّلاً: أنَّ الوقاية خير من العلاج... 15

ثانياً: استعجال التوبة لو وقع المؤمن في خطأ... 16

(32) النيَّة أساس العمل... 18

الملاحظة الأُولىٰ... 19

الملاحظة الثانية... 19

الملاحظة الثالثة... 20

الملاحظة الرابعة... 21

(33) ثنائية الإرادة والقدرة علىٰ العمل... 23

الإرادة تصنع الفرد... 24

ص: 197

الإرادة تصنع الأُمَم... 26

(34) الدِّين لوحة واحدة متكاملة... 29

التصوُّر الأوَّل... 30

التصوُّر الثاني... 30

التصوُّر الثالث... 32

التصوُّر الرابع... 34

التصوُّر الخامس... 35

(35) تراتبية السلوك الأقوم... 37

الأمر الأوَّل: النيَّة الصالحة... 37

الأمر الثاني: السلوك الحسن... 38

الأمر الثالث: فنُّ إدارة السلوك... 39

(36) القدوة الصالحة و الأُسوة الحسنة... 45

(37) عدم هجران القرآن الكريم... 50

(38) الإغراء الوهمي... 55

المستوىٰ الأوَّل... 56

المستوىٰ الثاني... 57

(39) التدافع بين المبادئ والمصالح... 59

الأمر الأوَّل: المبادئ... 59

الأمر الثاني: المصالح... 61

المبادئ والمصالح غير متناهية... 62

(40) وجهٌ مشرق في الحياة... 67

النقطة الأُولىٰ... 67

ص: 198

النقطة الثانية... 68

النقطة الثالثة... 70

النقطة الرابعة... 74

(41) ثقافة الروح... 75

ما هو معنى هاتين الثقافتين؟... 75

التدافع بين الثقافتين!... 76

عوامل مساعدة لثقافة الروح... 77

العامل الأوَّل: التربية... 77

العامل الثاني: الثقافة العامَّة للمجتمع... 77

العامل الثالث: المستوىٰ المادّي العامّ... 78

العامل الرابع: الوعي الدِّيني... 78

ما الذي نراه اليوم في مجتمعنا؟... 78

العطاء الحقيقي... 80

1 - العطاء لوجه الله تعالىٰ... 80

2 - العطاء في السرِّ... 81

3 - الابتداء بالسلام... 81

4 - المجازاة علىٰ الصنائع... 81

5 - المشاركة في المشاريع الخيرية... 82

6 - من عطاء الروح مسامحة المسيء!... 82

7 - التزام بعض المستحبّات والنوافل... 83

8 - نيَّة الخير المستمرَّة... 83

(42) إحدىٰ الحُسنيين... 85

ص: 199

(43) مسؤولية الإنسان... 90

النظريات في مسؤولية الإنسان... 93

مسؤولية المسلم في نظرية الدِّين... 94

المرحلة الأُولىٰ: وقاية النفس وهدايتها... 95

المرحلة الثانية: وقاية الأهل وهدايتهم... 96

المرحلة الثالثة: هداية الناس... 96

(44) الهرب من ثقافة النفاق... 98

معادلة غير متوازنة... 98

ثقافة النفاق... 99

المفردة الأُولىٰ: التربية غير الصالحة... 99

المفردة الثانية: ضعف الوازع الدِّيني... 102

المفردة الثالثة: ضعفُ الإيمان بالغيب، والتأثُّر بالمادّيات... 104

(45) مواجهة الفشل بالتفاؤل... 106

(46) تقدمة لنفسك... 110

(47) التسليم... 115

التسليم عنصر ضروري في الدِّين... 116

نماذج راقية من التسليم... 119

1 - خزيمة ذو الشهادتين... 119

2 - محمّد بن أبي بكر ;... 119

3 - الأصبغ بن نباتة... 120

4 - سعيد بن عبد الله الحنفي... 120

5 - كليب تسليم... 121

ص: 200

6 - هارون المكّي. 121

7 - عبد الله بن أبي يعفور... 122

8 - عليُّ بن جعفر... 122

9 - الشيخ أبو سهل النوبختي... 123

(48) لا تكن (أسفل سافلين)... 124

التفسير الأوَّل... 124

التفسير الثاني... 125

التفسير الثالث... 126

(49) أدب العتاب... 129

تنبيه... 132

(50) كيف تتعامل مع (المدح)؟... 133

النقطة الأُولىٰ: كيف ومتىٰ تمدح غيرك؟... 133

الحدُّ الأوَّل: أنْ لا يتعدّىٰ المدحُ الحقيقةَ... 133

الحدُّ الثاني: أنْ لا يصل إلىٰ حدِّ التملُّق... 134

الحدُّ الثالث: أنْ لا يمدح غير المستحقِّ... 134

النقطة الثانية: كيف تتعامل إذا مدحك أحد؟... 134

(51) أسباب غير متوقّعة!... 138

المثال الأوَّل: النعمة والوجل... 138

المثال الثاني: الجمال والعفاف... 139

المثال الثالث: الحاجة والعطاء!... 140

المثال الرابع: القدرة والعفو... 141

المثال الخامس: الجاه والخدمة... 142

ص: 201

(52) الإلزام الذاتي... 145

أدوات الدِّين... 147

الخطوات التشريعية لتلك الأدوات... 148

النتائج... 150

(53) كيف تقوّي نفسك علىٰ التزام العمل؟... 152

الخطوة الأُولىٰ: الخطوة الأُولىٰ!... 152

الخطوة الثانية: تكرار العمل.... 153

الخطوة الثالثة: تحمُّل المعارضة!... 153

الخطوة الرابعة: معرفة النتائج... 155

الخطوة الخامسة: اتِّخاذ القدوة... 155

(54) المكر السيِّئ، إلىٰ أين؟!... 157

(55) مدخل طبيعي... 162

التطبيق الأوَّل... 162

التطبيق الثاني... 163

التطبيق الثالث... 164

التطبيق الرابع... 165

(56) وعد إلهي... 166

الوعد الأوَّل... 167

الوعد الثاني... 168

الوعد الثالث... 169

(57) فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ... 171

(58) ثنائية الصبر والتقوىٰ... 175

ص: 202

(59) لن يرضوا عنك... 179

(60) نفس سامية... 184

أُسوة حسنة... 185

المصادر والمراجع... 189

الفهرس... 197

* * *

ص: 203

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.