دروس تربوية في كتاب آداب المتعلمين
للشيخ المحقق نصير الدين الطوسي (قُدس سرُّه)
محمد بن محمد بن الحسن
المعروف بالخواجة.
(597- 672 ه)
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
ص: 1
كربلاء المقدسة
ص.ب (233)
هاتف: ٣٢٢٦٠٠، داخلي: ١٧٥-١٦٣
الكتاب: دروس تربوية في كتاب آداب المتعلمين للشيخ المحقق نصير الدين الطوسي (قدس سره).
تأليف: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.
الناشر : قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة معهد تراث الأنبياء للدراسات
الحوزوية الإلكترونية.
لجنة المناهج:
الدكتور جبار محارب عبدالله الفريجي
الدكتور صباح خيري راضي العرداوي
الدكتور حيدر حسن ديوان الاسدي
المراجعة العلمية واللغوية: لجنة الإشراف العلمي في معهد تراث الانبياء للدراسات الحوزوية
الإلكترونية الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.
المطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر.
الطبعة: الأولى.
عدد النسخ: ٥٠٠ .
ربيع الأول ١٤٤٢ه_ - تشرين الأول ٢٠٢٠م
ص: 2
إلى كافل اليتيم العظيم...
إلى والد الوصي أبي الأئمة المعصومين...
إلى سيد البطحاء، والمحامي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ...
إلى من موته هدّ ركن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حيث كان له الحامي والمدافع...
وإليكِ أنتِ يا مِنْ كنتِ أماً لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ...يا من كنتِ تفضّلينه على كل أولادك...
يا من كفّنك رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بقميصه
إليكما، يا كافلا رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ
ووالدا أمير المؤمنينعَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ
أهدي لكما جهداً متواضعاً...
راجياً القبول من الله عز وجل.
ص: 3
ص: 4
مقدمة المعهد
معهد تراث الأنبياء، مؤسَّسة علمية حوزوية تُدِّرس المناهج الدِّينية المعَدَّة لطُلّاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.
الدراسة فيه عن طريق الانترنيت وليست مباشرة.
يساهم المعهد في نشر وترويج المعارف الإسلاميَّة وعلوم آل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ ووصولها إلىٰ أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصِّص من المبرمجين والمصمِّمين في مجال برمجة وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات علىٰ أجهزة الحاسوب والهواتف الذكيَّة.
وبالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد علىٰ عاتقه تأسيس جامعة متخصِّصة في هذا المجال، فتمَّ إنشاء جامعة أُمِّ البنين$ الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلاميَّة لإعداد مبلِّغات رساليّات قادرات علىٰ إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في العمل التبليغي، بالإضافة إلى فتح التخصصات العقائدية والفقهية والقرآنية.
على أنَّ المعهد لم يُهمِل الجانب الإعلامي، فبادر إلىٰ إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل علىٰ تقوية المحتوىٰ الإيجابي علىٰ شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجَّهاً لإيصال فكر أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ وتوجيهات المرجعية الدِّينية العليا إلىٰ نطاق واسع من الشرائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقّي العصري.
ص: 5
والمعهد يقوم بطباعة ونشر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، ضمن سلسلة من الإصدارات - صدر منها إلىٰ الآن (23) إصداراً في مختلف العناوين العقائدية والفقهية والأخلاقية - التي تهدف إلىٰ ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأُسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ
الموروثة.
ومن ضمن ما يهدف المعهد إلى طباعته، هي المناهج المعدّة لطلبته (سواء في المعهد أو في جامعة أم البنين عليها السلام)، وهذا الكتاب هو أحد دروس مرحلة المقدمات/ المرحلة الثانية في معهدنا، حيث عمل فيه المؤلف على الاستفادة من كلمات المحقق الخواجة نصير الدين الطوسي قدس سرُّه في آداب طلبة العلم، مستفيداً من آيات القرآن الكريم وكلمات أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ
نسأل الله عز وجل أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنَّه سميع مجيب.
إدارة المعهد
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم الأبدي على أعدائهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين.
يخطئ كثيراً من يُقلّل من شأن علماء المذهب الحق، أو يستصغر الجهود التي بذلوها فيما خطته أيديهم من معارف استقوها من مصادر التشريع الإسلامي، خصوصاً إذا التفتنا إلى الصعوبات التي كانت تحيط بهم في حياتهم العامة فضلاً عن حياتهم الخاصة المتعلقة بطلب العلم وتبويب المعارف وجمع المصادر.نعيش اليوم تطوراً تكنلوجياً شمل جميع مناحي الحياة، ومنها الحياة العلمية، حيث إن الأجهزة الكمبيوترية واللوحية سهلت عملية الكتابة والتعديل والتشذيب بطريقة مريحة جداً بل ومجانية، وجميع المعلومات محفوظة في سحابة إلكترونية، فضلاً عن اختصارها للوقت من جهة البحث ونسخ النصوص وضبطها، والحصول على المصادر بالمجّان.
أما لو رجعنا إلى القرون الأولى التي عاش فيها علماؤنا، وصولاً إلى فترات ليست بعيدة نسبياً عن زمننا، وربما عاش بعضنا فترة منها، لوجدنا أن طلب العلم كان من الصعوبة بمكان، فالكتب لم تكن متاحة ومتوفرة بسهولة، ولا بهذه الكثرة، وكان بعض العلماء يتجشم عناء السفر بعيداً متحملاً صعوبات السفر ومخاطر الطريق من أجل الحصول على كتاب لا توجد منه إلا نسخة فريدة عند شخص معين، ولربما كان ذلك
ص: 7
الشخص صعب المزاج ثقيل الدم!
أما اقتناء الكتاب وتملّكه، فهذه قصة شجية، تحكي معاناة عالم يقلل من طعام بطنه كثيراً ليوفر قرشاً إضافياً يُمكّنه من شراء الكتاب!
والكلام طويل الذيل في بيان صعوبات التعلم والكتابة في تلك العصور.
إلا أنه ورغم كل ذلك، فقد أبدع علماؤنا في جمع وترتيب وتبويب وشرح وتهذيب والاستفادة من النصوص الدينية، وأورثونا كتباً فريدة من نوعها، لم يجرؤ الزمان على رميها في خانة النسيان، بل بقيت –بضبطها ومنهجيتها العلمية وإخلاص مؤلفيها- عصية على الإهمال، يشهد لذلك تصدرها قائمة المصادر في أي بحث علمي ديني، فكتب الشيخ الكليني، والصدوق، والطوسي، والمفيد، والعلامة، والمحقق، وأمثالهم، كانت وما زالت مرجعاً علمياً لكل طالب علم.
ولا شك أن للطف الإلهي، وإخلاص كاتبيها، وجدِّهم المستمر، وسعيهم الحثيث، أثراً في خلودها.
ومن بين أولئك العلماء الأفذاذ، يبرز المحقق الخواجة نصير الدين الطوسي كعلم في رأسه نار، أغنى الحوزات العلمية بالعديد من الكتب العلمية في مختلف جوانب المعرفة، والتي كانت ولا زالت محط نظر طلبة العلوم الدينية، ينهلون منها معارف أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ، بأسلوب علمي رصين، رغم ما أحاط به من ظروف صعبة تكاد تجعل الفرد يُسْلم قياده لملوك زمانه، أو لعله ينكص فيلتحف بيته منتظراً ساعة موته، إلا أن تلك الظروف لم تثن المحقق الطوسي قدس سرُّه عن أن يشمّر عن ساعد الجد، وأن يحول صعوبة تلك الظروف إلى مركب يرفع شراعه عالياً في عباب بحر متلاطم من الفتن المظلمة، واستطاع بذكائه الوقّاد وإخلاصه لدين الله تعالى أن يبذر بذور المعرفة، وأن يرويها بجده وسعيه، ما أنبتت لنا قطافاً ما زلنا ننتهل منه ونرتوي من نميره.
ص: 8
وكتاب (آداب المتعلمين) هو واحد من تلك الثمار الهنيئة، الذي قد سطر فيه المؤلف قدس سرُّه الكثير من الآداب المهمة لطالب العلم، والتي ينبغي أن يضعها أي طالب علم منهاجاً يومياً في حياته العلمية، وهو بحقٍّ كتاب منهجي علمي أخلاقي توعوي.
وقد بيّن قدس سرُّه الهدف من تأليفه فقال: «فكثير من طُلاّب العلم لا يتيسَرُ لهم التحصيلُ - وإنِ اجتهدوا - ولا ينتفعُونَ من ثمراته - وإنِ اشتغلوا - لأنّهم أخْطأوا طريقَه، وتركُوا شرائطَه، وكل مَنْ أخطأ الطريقَ، ضَلّ فلا ينالُ المقْصُودَ؛ فأردتُ أنْ اُبَينَ طريقَ التعلم، على سَبيل الاخْتِصارِ، على ما رَأيْتُ في الكُتّابِ وسَمعتُ من أساتيذي اُولي العلم، والله الموفّقُ، والمعينُ.»
وفي هذه السطور، لا أدعي أني شرحت الكتاب، كيف وأنى لي أن أخوض عباب ما خطته يمين المحقق الخواجة قدس سرُّه، إنما هي إفادات من كلماته، عشت كثيراً منها في حوزة النجف الأشرف.أملي أن ينصحني الإخوة الأعزاء ببيان الهفوات المتوقعة، وأن يعذروني على ما لم أتقصد الخطأ فيه.
ورجائي من ربي جل في علاه القبول والمنّ والجود، وأن يحشرنا وإياكم تحت راية النبي الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وعترته الطيبة الطاهرة، إنه سميع مجيب.
حسين عبد الرضا الأسدي
النجف الأشرف /الجمعة
الثالث من ذي الحجة الحرام 1441 ه-
24 تموز 2020م
ص: 9
ص: 10
المحقق الطوسي: هو الشيخ أبو جعفر نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن، معروف بطلبه للعلم وإتقانه للعديد من أصناف العلوم، يكفي أنّ أحد تلامذته هو العلامة الحلي (رحمه الله تعالى) [ت 726 ه] وقد وصفه العلامة الحلي كما ينقل ذلك الشيخ المجلسي في نقل إجازته لبني زهرة: «وكان هذا الشيخ أفضل أهل عصره في العلوم العقلية والنقلية، وله مصنَّفات كثيرة في العلوم الحكمية والأحكام الشرعية على مذهب الإمامية، وكان أشرف من شاهدناه في الأخلاق (نوّر الله ضريحه)، قرأت عليه إلهياتالشفاء لأبي علي بن سينا، وبعض التذكرة في الهيأة تصنيفه (رحمه الله تعالى) - أي قرأ عليه من كتاب التذكرة الذي هو مصنّفه أي الشيخ الطوسي -، ثم أدركه الموت المحتوم (قدس الله روحه)».(1)
ولادته:
ولد الشيخ في إحدى ضواحي قم في موضع يسمّى جهرود(2)
أو طوس ولذلك سمي ب(الطوسي) واشتهر ب(الخواجة) أو (الخاجة) وهي كلمة فارسية أو تركية تطلق للتعظيم وهي تقارب معنى السيد أو المعظم.
كانت بدايات دراسة المحقق الطوسي عند والده الوجيه الذي كان من فضلاء الطائفة أخذ عنه الفقه والحديث ودرس عدة علوم كالمنطق والفلسفة والفلك والهيئة
ص: 11
وغيرها.
هاجر إلى نيسابور بوصية من والده كما تذكر الكتب التي أرّخت له (رحمه الله تعالى) حيث كانت حاضرة علمية تزخر بالعلماء والمحدثين والأساتذة الكبار في ذلك العصر، ثم هاجر إلى الري وبغداد والموصل، كما هاجر إلى أغستان غرب إيران، وعاد إلى طوس مسقط رأسه.
كان قدس سرُّه يهاجر من بلد إلى بلد تحصيلاً للعلم وحبّاً بالمعرفة. وكان قدس سرُّه غزيراً في إنتاجه العلمي، فقد عُدّ له: (186) عنوان كتاب، منها (60) عنواناً في الهندسة والحساب والجبر والمنطق، و(40) في الفلسفة والحكمة، وما يقارب ال(20) كتاباً في العقائد والكلام.(1)
من أشهر مؤلفاته:
1/ كتاب شرح الإشارات وتنبيهات لابن سينا.
2/كتاب جواهر الفرائض وهو كتاب فقهي في الإرث ويُقال: هو الأثر الفقهي الوحيد مما حفظ من تراث المحقق الطوسي.
3/كتاب آداب المتعلمين الذي نحن بصدد دراسته إن شاء الله تعالى.
4/ تجريد الاعتقاد، كتاب تلخيص المحصل للفخر الرازي - نقد وتنقيح، وهو من أشهر كتبه الكلامية، وهو على قسمين:
القسم الأول: فلسفة.
القسم الثاني: علم الكلام.
وهذا ترتيب فني باعتبار أن الفلسفة الإسلامية تبدأ البحث في الوجود وتقسيمات
ص: 12
الوجود وما يتبعه إلى أن تصل إلى إثبات واجب الوجود، فيُثبت واجب الوجود وصفاته أولاً ثم يُنتقل إلى علم الكلام.ولقد كان الشيخ المحقق (رحمه الله تعالى) ذائع الصيت في علوم الفلسفة والرياضيات، لذلك أرسل زعيم الإسماعيلية إلى الحاكم - في وقته - ناصر الدين، وأمره أن يبعث له المحقق الطوسي.
فارتحل الشيخ (رحمه الله تعالى) إلى قلاع الإسماعيلية مُكرهاً واستقر في قلعة اسمها (الموت) وكانت قلعة عظيمة محصنة. وبقي هناك ما يقارب (28) عاماً. وتوفي سنة (672 ه) ودفن عند مرقد الإمامين الجوادين3 ببغداد، (رحمة الله ورضوانه عليه).
بيان حقيقة صلة المحقق (رحمه الله تعالى) بالمغول:
إنّ من أبرز ما يواجهنا في حياة الشيخ (رحمه الله تعالى) هي علاقته بالمغول بقيادة هولاكو خان، حيث إنّ علاقته بهم دفعت البعض إلى أن يتهمه بالعمالة لهم، وبأنه كان سببًا في إسقاط الدولة الإسلامية في ذلك الوقت.
وحتّى تتَّضح الحقيقة نحتاج أن نعرف شيئاً من هذه الأحداث(1).
يذكر التاريخ أن المغول كان عندهم أطماع توسُّعية، وبدأوا التوسع من الأناضول - تركيا - حتّى وصلوا إلى قلاع الإسماعيلية، واستطاعوا تدميرها، وكانت أكثر من مائة قلعة، وكان المغول يميلون إلى البطش بأعدائهم وسحق من يقف أمامهم.
بعض الممالك والدول استسلموا لهم
وبعد معارك عديدة خاضها الإسماعيليون، أعلن سيدهم استسلامه أمام هولاكو
ص: 13
سنة (654ه).
والمحقق الطوسي كان موجوداً في قلاع الإسماعيلية، حينما سقطت في أيدي هولاكو، ومن هنا بدأت علاقة المحقق الطوسي بالمغول.
كان الخليفة العباسي في ذلك الوقت هو المستعصم، وأراد منه هولاكو أن يستسلم، وكانت علامة استسلامه هو أن يبعث كتيبة من عسكره لمشاركة المغول في حرب الإسماعيليين.
عزم المستعصم ووزيره مؤيد الدين العلقمي أن يبعثا تلك الكتيبة، ولكن (الدواتدار الصغير) رفض هذا الأمر، وهو من الشخصيات المهمة الموجودة في قصر الخلافة، فقرَّر أن يبعث هدية لهولاكو، فغضب هولاكو من ذلك، وبعد أن انتهى من إسقاط الدولة الإسماعيلية توجه إلى بغداد، وكان المستعصم ضعيف الرأي، قليل الخبرة بأمور المملكة، وحقائق الأمور، مطموعاً فيه، لا مهابة له في النفوس، لا يُحسن شيئاً سوى استماع الأغاني، والتفرُّج على المساخرة، حتّى ذكر المؤرخون أنه عندما وصلت الجيوش المغولية إلى بغداد ووصلت قرب قصره، دخلت سهامهم إلى القصر وهو مشغول ببعض الجواري اللواتي كُنَّ يرقصْن عنده، فاخترقت السهام الستائر، وأصاب سهم منها جارية تدعى (عرفة)، فقتلها بين يدي المعتصم، ففزع الخليفة من ذلك، وغضب غضباً شديداً، ولمّا سألوه ماذا نفعل لنتَّقي خطر السهام القادمة إلينا؟ بماذا تأمر؟ قال: كثّفوا الستائر!
والنتيجة سقطت الدولة، وكان المحقق الطوسي ضمن الذين استصحبهم المغول معهم وجاءوا بهم من قلاع الإسماعيلية إلى بغداد.وينقل أن المغول كانوا يقدِّرون بعض العلماء، ويحترمون المحقق الطوسي لأنه عُرف بمعرفته العامة بعلم الفلك والنجوم. وكان المغول يعتقدون بهذه العلوم، فرأوا
ص: 14
أن المحقق الطوسي ينفعهم في هذا المجال، فاصطحبوه معهم.
ويذكر أن البعض أراد أن يوقع بالشيخ بطريقة أو بأخرى، لكنه(رحمه الله تعالى)كان فطناً ذكياً، فلم يستطيعوا أن يغلبوه، ينقل أنّ أحد وزراء هولاكو كان على خلاف مع المحقق، ويريد أن يوقع به، فلمّا توفَّت أم هولاكو، أتى إليه وزيره قائلاً: إنّ الملائكة سيأتون لمساءلة والدتك، فمن يجيب عنها؟ وطلب منه أن يرسل إلى الطوسي ليتولّى هذا الأمر، فأمر هولاكو بذلك، فقال له المحقق: لا مانع عندي، ولكن إذا متَّ أنت من سيدخل القبر معك ويجيب عنك! أدخِل الوزير مع والدتك، وسأدخل أنا معك!(1)
جهود المحقق (رحمه الله تعالى) وأدواره في هذه الفترة:
يمكن أن نُجمل ما قام به المحقق الطوسي من أدوار مهمة بهذه الفترة في ثلاثة:
الدور الأول: الحفاظ على التراث العلمي للمسلمين من كتب ومكتبات للشيعة والسنة.
إذ إنّ المحقق اقترح على هولاكو أن يبني مرصداً للنظر في النجوم والفلك في مدينة مراغة، وقام ببناء قبة مكتبة جمع فيها عشرات الآلاف من الكتب نُهبت من بغداد والشام والجزيرة. حتّى ينقل أنه جمع فيها ما يزيد على (400 ألف) مجلد. وكان المحقق يقول لهم: هذه علوم نجوم وتنجيم لنحفظها بهذه الطريقة ونستفيد منها، فوافق هولاكو على ذلك.
يذكر أن البعض جاء لهولاكو وقال له: ما الفائدة من علم النجوم؟ فإذا خضنا حرباً فإمّا ننتصر وإمّا ننهزم، وهكذا علم النجوم يخبرنا إمّا بالنصر أو الهزيمة، فلماذا تصرف عليه الأموال، وتبني له مكتبة؟ فأرسل إلى المحقق وأخبره بذلك، فقال له المحقق: نعم ما تقوله صحيح، ولكني سأوضح لك فائدة هذه العلوم، ثم أمر أحدهم
ص: 15
أن يصعد فوق القبة ويرمي طشتاً ضخماً من نحاس، وبدون علم الحاضرين، ولمّا فعل، فزع الحاضرون فزعاً شديداً، ولكن هولاكو والمحقق لم يفزعا، لأنهما يعلمان بالأمر مسبقاً، فقال له المحقق: هذه فائدة علم النجوم، ما كان كان، ولكننا لعلْمنا بما سيكون لم نفزع، فاقتنع هولاكو، وأبقى المكتبة.
وبهذه الطريقة حافظ المحقق على العلم والعلماء.
الدور الثاني: المحافظة على الأوقاف ودور العبادة والمشاهد.
باعتبار أن المغول ليسوا مسلمين، فلم يكن عندهم اهتمام بهذه الأبنية، فالمحقق قدس سرُّه طلب من هولاكو أن يفوِّض إليه أمور هذه الأوقاف، وأن لا يعمل فيها شيئاً إلّا بمراجعته. وبما أن هولاكو محتاج للمحقق ولعلمه بالنجوم، فقد وافق على طلبه. فحافظ المحقق على المساجد والمدارس والأوقاف ومن فيها، وهذا دور يُحفظ للمحقق قدس سرُّه.
ويذكر في هذا المورد أيضاً أنه عمل دار حكمة ورتَّب فيها دار فلاسفة ورتَّب لكل واحد من الطلبة في اليوم والليلة ثلاثة دراهم، ودار طب، وللطبيب فيها يومياً درهمان، ومدرسة للفقهاء ولكل فقيه درهم في اليوم، ودار حديث، لكل محدِّث نصف درهم.
الدور الثالث:
أنه أقنع هولاكو ومن معه من زعماء المغول أنهم إذا أرادوا الاستمرار في حكم المسلمين، فلابد أن يبدؤوا بتعليم أولادهم عادات المسلمين وطريقة حياتهم، فوافق هولاكو، فعيَّن المحقق تلميذه أبا الثناء الشيرازي مدرِّساً لأولاد هولاكو. وكانت نتيجة هذا أن (منكو خان) أحد أولاد هولاكو أعلن قناعته بالإسلام بشكل محدود. والابن الآخر لهولاكو الذي هو (تكو دار) أعلن إسلامه مطلقاً وسمّى نفسه أحمد أمام جيشه، فأسلم أكثر الجنود -لأن الناس على دين ملوكهم- لذلك تجد -بعد فترة قصيرة- أن
ص: 16
أحد حكّام المغول الذي هو الشاه محمد خدا بنده أعلن تشيّعه في إيران أمام المغول، وهذا من الأدوار الضخمة المحفوظة للمحقق قدس سرُّه.
ص: 17
أسئلة:
س1/ما هي أهم مؤلفات المحقق قدس سرُّه؟
س2/ كيف كانت هجرة المحقق قدس سرُّه في طلب العلم.
س3/ بيّن باختصار: الأدوار الثلاثة التي تُلخّص جهود المحقق قدس سرُّه في فترة المغول.
ص: 18
قال الشيخ: (بسم الله الرحمن الرحيم).
تعوّد الباحثون والمؤلفون وكُتّاب المقالات أن يبدؤوا بالبسملة، وهذا أدب إسلامي مطلوب، فقد ورد في الحديث: «كل أمر ذي بال لم يذكر بسم الله فيه فهو أبتر»(1).
ماذا تعني البسملة؟
الباء نحوياً: حرف جر.
أمّا بلاغياً: فالبعض يقول إنها تفيد الابتداء، أي أن يبتدئ الإنسان عمله باسم الله.
والبعض يقول إنّها تفيد الاستعانة، وهذا المعنى أوقعُ في النفس وأقوى تأثيراً فيها، حيث يستعين الإنسان بالله تعالى عند ابتداء عمله.
وسواءً استفدنا المعنى الأول أو الثاني مع ضميمة الحديث إليه، تكون النتيجة: أنّ الإنسان في البدء بأي عمل، لابد أن يستعين بالله جل جلاله، وهذه إشارة إلى ضرورة توسل العبد بالله جل جلاله في عمله، وخصوصاً في طلب العلم، فإنه لابد لطالب العلم أن يستعين بالله جل جلاله، وكل إنسان لابد أن يستعين بالله تعالى، وهذا يبتني على أساس يرجع إلى حقيقة الإنسان.
ما هي حقيقة الإنسان في وجوده؟
في المعقول يقولون: إن الوجود ينقسم إلى: واجب وممكن.
ص: 19
الواجب: هو الله جل جلاله، أي الذي لا يطرأ عليه العدم، فهو الوجود المطلق، وجوده ذاتي (من ذاته)، لم يُفَض عليه من الخارج.
الوجود الممكن: كل ما عدا الله تعالى، وهو ما يطلق عليه (العالَم)، ويُقصد به كل المخلوقات من إنسان وغيره، وحقيقته الفقر والاحتياج، فحقيقة الإنسان حدوثاً وبقاءً هو الفقر، أي إنه في أصل وجوده وفي استمرار وجوده مفتقر ومحتاج لا يستغني عن غيره.
فهو وجود رابط وليس مستقلاً، وبالتالي لا يستغني هذا الفقير عمَّن يُغني فقره ويُتمّم نقصه الوجودي، ويفيض عليه الوجود والعطاء آناً بعد آن، ولو فُرض انقطاع الفيض عنه ولو للحظة لَتحوّل إلى عدم.
وبهذا الاعتبار لابد للإنسان من غنيٍّ مطلق، ولا غني حقيقةً سوى الله جل جلاله، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَىٰ اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾(1)لذا ينقل في سيرة رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عن أم سلمة تلك المرأة العظيمة أنها افتقدت رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ذات ليلة، فوجدته ساجداً في زاوية من زوايا الدار وهو يدعو الله جل جلاله ويقول: «ربي لا تكلني إلى نفسي»(2).
ص: 20
ومثله ما حكاه القرآن الكريم عن النبي موسى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عندما خرج من مصر ووصل مديَن ووجد امرأتين تذودان لا تستطيعان أن تستقيا، فسقى لهما، يقول تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌQ فَسَقىٰ لَهُما﴾ وبعد أن سقى لهما، ماذا فعل؟ يقول تعالى: ﴿ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَىٰ الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾(1)
مع أنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ الموصوف بقوته وشدة سطوته، بحيث إنه قال تعالى: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسىٰ فَقَضىٰ عَلَيْهِ﴾(2).
فوكزةٌ واحدة منه كافية للقضاء على رجل، مع هذا فإنه يستشعر فقره إلى الله تعالى، ويصرِّح به في دعائه استعطافاً له تعالى واستجلاباً لرحمته.
هذه حقيقة الإنسان، فمهما كان قوياً، شجاعاً، عالماً، بل وإن كان ذهنه خزانة لأنواع العلوم، فإنه لولا حفظ الله تعالى ورعايته له، فإنه لن يصل لشيء أبداً، فربما خلل بسيط في ذاكرته يفقده كل ما كسبه من علوم.
كل عالم الإمكان فقير إلى بارئه مفيض الوجود، في أصل وجوده وفي استمرار وجوده، فضلاً عن صفاته كأنْ يكون عالماً أو عبقرياً وما شابه ذلك.
ولذلك كل الكُتّاب والمؤلفين المسلمين يبدؤون كتبهم ورسائلهم باسم الله جل جلاله.
قال المحقق قدس سرُّه:
«الحمد لله على آلائه، وأشكره على نعمائه، والصلاة على سيد أنبيائه، خير أوصيائه.
ص: 21
وبعدُ.. فكثير من طُلّاب العلم لا يتيسَّرُ لهم التحصيل - وإن اجتهدوا - ولا ينتفعون من ثمراته - وإن اشتغلوا - لأنهم أخطأوا طريقه، وتركوا شرائطه، وكل مَن أخطأ الطريق، ضلَّ فلا ينالُ المقصود».بيان ما يريده المحقق من كلامه:
قالوا في المعقول:
قالوا في المعقول: إن لكل معلول علة(1)،
ولكل مسبب سببًا، فهذا حكم عقلي لا يختلف فيه اثنان. فإن نظام العلة والمعلول يدركه الإنسان بفطرته.
ونتكلم الآن في عالم الإمكان (الممكنات):
العلة غالباً لا تكون بسيطة، وإنما تكون مركَّبة، فمثلاً وجود النبات في الأرض،
ص: 22
يتوقف على عدة علل: وجود البذور، والتربة، والماء، والهواء، وضوء الشمس المناسب، والحرارة اللازمة، وعامل طبيعي أو إنساني يبذر البذور ويوصل لها الماء.
ولابد أيضاً من عدم وجود موانع تمنع الإنبات كملوحة التربة، أو وجود حشرات وحشائش تضر بالبذور.
هذه العوامل بمجموعها، وبضم بعضها إلى بعض، هي علة لوجود النبات وتحققه.
وبعض أجزاء هذه العلل يسمى المقتضي، وبعضها يسمّى الشرط، ولابد أيضاً من انعدام المانع.
ومثال ذلك أيضاً:
لو أردنا أن نحرق ورقة، فلابد من وجود المقتضي، وتحقق الشرط وانعدام المانع، أي لابد من وجود النار ومماسة النار للورقة وانعدام الرطوبة في الورقة.
المقتضي = النار.
الشرط = المماسة.
المانع = الرطوبة.
فباجتماع المقتضي والشرط ورفع المانع ينتج احتراق الورقة بالنار.هكذا قالوا في المعقول، وهو أمر بديهي.
وهذا يعني: أنه في بعض الأحيان، يكون المقتضي موجوداً والشرط موجوداً، ولكن لا نحصل على النتيجة المطلوبة، والسبب هو وجود مانع أو عدة موانع.
وقد نرفع المانع، ولكن الشرط مفقود، فهنا أيضاً لا تتحقق النتيجة المطلوبة.
هذه هي طبيعة العلل المركبة في عالمنا.
ص: 23
وهكذا في تحصيل العلم، فإن أحد مقتضياته هو طلبه والسعي إليه، ولكن ربما يطلبه أحدنا ولسنوات عديدة من عمره، ومع هذا لا يصير عالماً، ولا يتمكَّن من تأليف كتاب واحد مثلاً، ولا يقدِّم أي خدمة لدينه.
في هذه الحالة توفَّر المقتضي وهو السعي وطلب العلم، ولكن ربما بعض الشروط لم تتحقق، أو ربما توجد موانع تعترض الطريق.
في رواية عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في وصيَّته لعنوان البصري: «ليس العلم بالتعلُّم، إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه...»(1).
وهذا معناه: أنه ليس كل من طلب العلم حصل على ثمرته.
وعليه لابد أن نتعرف على الطريق الصحيح الذي يوفِّر المقتضيات والشروط ويرفع الموانع حتّى نصل إلى النتيجة المرجوَّة التي هي تحصيل العلم.
هذا ما ربّما أراد بيانه المحقق الطوسي - والله العالم - وعبَّر عنه بقوله: (أخطأ الطريق)، أي: لم تتوفَّر المقتضيات والشروط ولم تُرفع الموانع ليحصل العلم.
ولذا قال الشيخ قدس سرُّه: «فكثير من طُلّاب العلم لا يتيسَّر لهم التحصيل - وإن اجتهدوا - ولا ينتفعونَ من ثمراته - وإن اشتغلوا - لأنهم أخطأوا طريقه، وتركوا شرائطه»، ونضيف لها: «أو لم يرفعوا موانعه».
والنتيجة من هذا هي ما أشار إليه بقوله: «وكل من أخطأ الطريق ضلَّ، فلا ينالُ المقصود».
وتفريعاً على ما تقدم، قال الشيخ المحقق: «فأردتُ أن أُبين طريق التعلم، على سبيل
ص: 24
الاختصار، على ما رأيتُ في الكُتّاب(1)
وسمعتُ من أساتيذي أولي العلم، والله الموفق والمعين، فأُبيّن المقصود في فصول شتّى».
ص: 25
أسئلة:
س1/لماذا اعتاد الباحثون والمؤلفون على ابتداء كلامهم بالبسملة؟
س2/ عرّف كلاً من: واجب الوجود، ممكن الوجود.
س3/ كيف يخطئ طالب العلم الطريق فيما بيّنه المحقق قدس سرُّه.
ص: 26
روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: «أعز العز العلم، لأن به معرفة المعاد والمعاش، وأذل الذل الجهل، لأن صاحبه أصم، أبكم، أعمى، حيران»(1).
قال المحقق الطوسي قدس سرُّه: «الفصل الأول: في ماهية العلم وفضله:
اعلم أنه قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «طلب العلم فريضة على كُل مسلم ومسلمة»(2).والمراد من العلم -هاهنا: علمُ الحال، أي: المحتاج إليه في الحال، الموصِلُ إلى النفع في المآل كما يقال: «أفضل العلم علمُ الحال، وأفضل العمل حفظُ المآل».
فيفرضُ على الطالب ما يُصلحُ حاله».
يشير الشيخ قدس سرُّه في هذا المقطع إلى الأمر التالي:
لا شك أنّ للعلم فروعاً كثيرة يصعب إحصاؤها، خصوصاً في عصرنا الحالي، وكل فرع يتفرع إلى عشرات الفروع، وربما تصل الاختصاصات إلى الآلاف.
مثلاً: علم الطب الآن تعددت فيه الاختصاصات، وفي كل تخصص صارت تخصصات فرعية، فتخصص القلب مثلاً تجد فيه أكثر من أربعة أو خمسة أو عشرة فروع، فالعلوم كثيرة وتفرعاتها أكثر، يصعب إحصاؤها، وبالتالي ففرض وإيجاب طلب العلم في مثل ما ورد عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بقوله: «طلب العلم فريضة» يعني أنه واجب.
ص: 27
وهذا الوجوب لا يقصد منه تحصيل كل العلوم وبكل فروعها، فإنه من الصعوبة بمكان بل هو ربما من المستحيل وقوعاً. (ليس مستحيلاً عقلاً بل هو مستحيل وقوعاً)، إذ لم نشاهد شخصاً يعرف كل العلوم وكل التخصصات، فالبشر العادي - غير المعصوم المرتبط بالسماء - لا يمكنه تحصيل كل العلوم.
إذن فكيف نوفق بين قول الرسول الكريم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بأنّ طلب العلم فريضة، وبين كثرة العلوم واتِّساعها؟
إن التوفيق يكون بالتالي:
بما أن الإنسان لا يستطيع تحصيل كل العلوم بفروعها المتكثرة، فإن العقل يحكم بضرورة تحصيل ما تتوقف عليه أمور المعاش في الحياة الدنيا، وما يخلّص الإنسان من الضرر المحتمل من مخالفة الأمر الإلهي في الآخرة.
فعلى الإنسان إذاً تحصيل ما يقيم به ظهره، ويقضي به حوائجه، إذ لا ينبغي لطالب العلم أن يُفقر نفسه ويذلّها، ولا ينبغي له أن يمدّ يده للغير، وإلّا فإنه سيعطي صورة سيئة عن طلاب العلم.
بعض الناس يتصورون أن طلاب العلم مجرد أناس يعيشون على موائد غيرهم، يُسقون ويُطعمون بالمجّان، لذا فلابد لطالب العلم من وسيلة ومصدر رزق كافٍ لسدّ احتياجاته، وإغنائه عمّا في أيدي الناس. فإن العلم عز وشرف في الدنيا والآخرة.
نعم لابد أن لا يتنافى تحصيل الرزق ووسيلة المعاش مع تحصيل العلم، لابد أن لا يتعارض طلب الرزق المادي مع طلب الرزق المعنوي.
وبالتوكل على الله، والاستعانة به والسعي الجاد لتحصيل ذلك، يستطيع أن يجمع طالب العلم بين الأمرين بإذنه تعالى.
ص: 28
ولنا في رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل بيته عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ أسوة حسنة، فلم ينقل عنهم أنهم سألوا الناس شيئاً، أو قبلوا المساعدة المادية من أحد، بل كانوا يعيشون بكدِّهم وعمل أيديهم عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ.
ينقل أن السيد المسيح عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال لرجل: ما تصنع؟ قال: أتعبد، قال: فمن يعود عليك؟ قال: أخي، قال: أخوك أعبد منك(1).فالنبي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ هنا يصحح صورة خاطئة عن العبادة، وكذلك طلب العلم فإنه عبادة لا يترك تحصيل المعاش من أجلها.
روي عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ليس منّا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه»(2).
فلابد لطالب العلم أن يعيش التوازن، فلا يترك طلب العلم، ولا يظهر بمظهر غير لائق أمام الناس.
فالعقل يحكم بتحصيل ما يقيم به الإنسان ظهره، وتحصيل المسائل الفقهية الابتلائية التي تخلّصه من الضرر المحتمل في الآخرة فيما لو خالف الأمر الإلهي.
فشخص يريد أن يكون طبيباً مثلاً، نقول له: جزاك الله خيراً، هذا علْم مطلوب تُنقذ به أرواح الناس، وتخفف آلامهم ولك الأجر إن شاء الله تعالى، وسيتجلّى فيك اسم من أسماء الله جل جلاله وهو (الشافي)، ولكن كونك طبيباً لا يعني أن تترك مسائلك الفقهية الابتلائية التي تخلّصك من مسؤوليتك الشرعية أمام الله تعالى، فبعض الأطباء وإن كان
ص: 29
حاذقاً في مجال عمله، ولكنه يرتكب أنواع المحرمات: كملامسة المريضة الأجنبية، بلا اضطرار لذلك، وذلك بسبب جهله بأمور دينه.
وكذلك الهندسة عمل محترم يحتاجه المجتمع، ولكن لابد للمهندس أن لا يغفل أمور دينه، ولا يتهاون في تعلم ما ينجيه يوم الدين.
وهكذا كل عمل وكل صنعة، لا ينبغي للعاقل الانشغال بها إلى الحد الذي ينسيه آخرته والعمل لها.
هذا ما ربما أراد الشيخ قدس سرُّه الإشارة إليه.
فكأن كلام المحقق هو جواب إشكال مقدر، وأن المراد من العلم هو المحتاج إليه في الحال، أي في الدنيا، فالآن تحتاج ما يكفيك مؤونتك، ويغنيك عمّا في أيدي الناس.
وأيضًا الموصل إلى النفع في المآل، أي ما يدفع الضرر عنك وينفعك في الآخرة، وكما يقال: أفضل العلم علم الحال، وأفضل العمل حفظ المآل.
بعض العلماء يقول: لا يجوز إعطاء الخمس لطالب العلم وإن كان فقيراً، لأنه هو من أفقر نفسه. وإلّا فإن العمل لا يتعارض مع طلب العلم.
شرف العلم:
قال المحقق قدس سرُّه:
«وشرف العلم لا يخفى على أحد، إذ العلم هو المختص بالإنسانية، لأن جميع الخصال - سوى العلم - يشترك فيها الإنسانُ وسائر الحيوانات، كالشجاعة والقوة والشفقة، وغيرها. وبه أظهرَ الله تعالى فضلَ آدم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ على الملائكة، وأمرَهُم بالسجود له».
ص: 30
لتبيان هذا المقطع نقول التالي:
أولاً: المفاهيم المتصورة قسمان:
1 - مفاهيم عدمية.
2 - مفاهيم وجودية.
ولا شك أن الوجود أفضل من العدم.
ثانياً: والوجود أيضاً قسمان:
1 - وجود جامد لا حياة فيه.
2 - وجود حي فيه حياة ينمو.
ولا شك أن الوجود الحي أفضل من الوجود الجامد.
ثالثاً: والوجود الحي أيضاً قسمان:
1 - وجود حي حساس مثل الإنسان.
2 - وجود حي غير حساس مثل النبات.
ولا شك أن الوجود الحي الحساس أفضل من الوجود الحي غير الحساس.
رابعاً: الوجود الحساس ينقسم أيضاً إلى قسمين:
1 - وجود حساس عاقل كالإنسان.
2 - وجود حساس غير عاقل كالحيوان.
ولا شك أن العاقل أفضل من غير العاقل.
خامساً: الوجودات العاقلة أيضاً قسمان:
1 - وجود عالِم.
ص: 31
ب - وجود غير عالِم.
وبلا شك أن الوجود العالِم أفضل من غير العالِم.
والنتيجة:
أن أفضل الموجودات هو الوجود الحي الحساس العاقل العالِم.
وبهذا يتبيَّن أن العلم فضيلة وشرف، وهذا أمر وجداني لا يحتاج إلى استدلال عليه.وهو ما أشار إليه المحقق قدس سرُّه بقوله: «وشرف العلم لا يخفى على أحد، إذ العلم هو المختص بالإنسانية، لأن جميع الخصال - سوى العلم - يشترك فيها الإنسان وسائر الحيوانات: كالشجاعة والقوة والشفقة، وغيرها».
فضلاً عن النبات وفضلاً عن الجماد فكلاهما جسم ويشغل حيِّزًا من الفراغ.
«وبه أظهر الله تعالى فضل آدم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ على الملائكة، وأمرَهم بالسجود له»، وهذا شاهد آخر على فضل العلم يستشهد به. أي إن الله تعالى يفضل العلماء حتّى على الملائكة، فهو سبحانه علَّم آدم الأسماء، ولم يعلّمها الملائكة، ولمّا صار آدم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عالِماً بالأسماء كلّها صار أفضل من الملائكة، فأُمروا بالسجود له.
هناك رأي يقول: إن السجود كان لله تعالى، وإنما جُعل آدم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قبلةً للملائكة، إكراماً وإجلالاً له.
ورأيٌ يقول: إن السجود لآدم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ظاهراً، ولكن في حقيقته وواقعه هو عبادة لله، لأنه طاعة لأمره تعالى، فإن عبادته تعالى من حيث يريد هو، لا من حيث يريد غيره.
أمّا عن تلك الأسماء فذكرت الروايات أمرين:
ص: 32
الأمر الأول:
إن الله تعالى علَّم آدم أسماء الأشياء من الجبال والأشجار والماء والتراب وكل المسمَّيات. فلمّا سُئل الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ عن معنى الأسماء، ذكر في جوابه عدَّة مسمّيات وأشار إلى السجادة التي يجلس عليها وقال: «وحتّى هذا البساط»(1).
علماً أن الملائكة كانت ترى الأشياء ولا تعرف أسماءها، فقد يرى الإنسان جهازاً أو نوعاً من الطعام ولا يعرف اسمه، والرواية تقول: إن الله تعالى علَّم آدم الأسماء الدالة على تلك المعاني.
الأمر الثاني:
في رواية أخرى عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يقول: «إن الله جل جلاله علَّم آدم أسماء حججه كلّها ثم عرضهم - وهم أرواح - على الملائكة»(2).ما يفيده مضمون الروايات أن الحجج الطاهرين موجودون قبل خلق الخلق.
ص: 33
وقد روي عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين»(1).
ولا تعارض بين الروايتين، إذ من الممكن أن يكون الله تعالى علَّم آدم الأسماء كلَّها، ومن بينها أحلى الأسماء وأشرفها، كما ورد في الزيارة الجامعة: «وأسماؤكم في الأسماء... فما أحلى أسماءكم»(2).
ص: 34
أسئلة:
س1/بين هذه العبارة: (أن أفضل الموجودات هو الوجود الحي الحساس العاقل العالِم).
س2/اذكر روايتين عن النبي الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في فضل العلم.
س3/ما هو معنى (الأسماء) في قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها)؟
ص: 35
ص: 36
روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «تعلَّموا العلم فإنّ تعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، وسالك بطالبه سبيل الجنة، وهو أنيس في الوحشة، وصاحب في الوحدة، ودليل على السراء والضراء، وسلاح على الأعداء، وزين للأخلاء، يرفع الله به أقواماً يجعلهم في الخير أئمة يقتدى بهم، ترمق أعمالهم، وتقتبس آثارهم، وترغب الملائكة في خلتهم، يمسحونهم في صلاتهم بأجنحتهم، ويستغفر لهم كل شيء حتّى حيتان البحور وهوامها، وسباع البر وأنعامها، لأن العلم حياة القلوب، ونور الأبصار من العمى، وقوة الأبدان من الضعف، ينزل الله حامله منازل الأخيار، ويمنحه مجالس الأبرار في الدنيا والآخرة، بالعلم يطاع الله ويعبد، وبالعلم يعرف الله ويؤخذ، وبالعلم توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، والعلم إمام العمل والعمل تابعه، يلهمه الله السعداء ويحرمه الأشقياء»(1).
قال المحقق الطوسي قدس سرُّه: «وأيضاً: هو الوسيلةُ إلى السعادة الأبدية، إنْ وقعَ العملُ على مُقتضاه».
الشيخ في بداية آدابه التي ذكرها للمتعلمين، ذكر أن العلم هو شرف وفضيلة، وهذا أمر وجداني تقدم الكلام عنه. ثم عطف الشيخ على هذا الأمر: أن العلم سبب مهم من أسباب السعادة، بشرط أن يقع العمل على مقتضاه.
ص: 37
وفي هذا المقطع نشير إلى نقطتين:
الأولى:
كل الحضارات البشرية رفعت شعار (من يرد السعادة فعليه أن يلتحق بنا).
(وكلٌ يدَّعي وصلاً بليلى).
واختلفت الحضارات في ما هو سبب السعادة، وفي الطريق المؤدي إليها، ولكنهم مهما اختلفوا فإنهم لا يختلفون في أنه لا سعادة ولا حضارة ولا تقدم بدون العلم.
ولقد قيل: إن من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معاً، فعليه بالعلم.
الثانية:
أشار المحقق قدس سرُّه إلى نقطة مفصلية في المقام، وبيانها:
أنّ العلم وإنْ كان فضيلة وشرفاً، وهو من أهم طرق السعادة، ولكنه إنما يكون كذلك بشرط، وليس مطلقاً.
العلم لوحده ليس هو الفضيلة، ليس هو سبيل السعادة، إنما هناك شرط لابد من تحققه لنحصل على ثمرة العلم.
وذلك الشرط هو: أن يقع العمل على مقتضى العلم.وبعبارة أخرى: أن يتحول العلم من كونه مجرد تصورات ومعلومات مخزونة في الذهن، إلى سلوك عملي ظاهري موافق لذلك العلم المخزون في الذهن.
وإلّا، فالعلم كنظريات مخزونة في الذهن، لا قيمة لها ما لم تنزل إلى أرض الواقع، وإن عملاً لا يوافق العلم، لهو أشبه بالجهل، بل هو جهل واقعاً، ومثله مثل الطبيب الذي يبيِّن أضرار التدخين للناس وهو يدخن! فما فائدة علمه بأضرار التدخين، إن لم
ص: 38
يجنبه علمه تلك الأضرار؟! أو الشخص الذي يعلم أن الغيبة حرام، وأنها أدام كلاب النار، ومع هذا يغتاب الناس، فما فائدة علمه بحرمة الغيبة، إن لم يخلصه من العذاب الأبدي؟!
إذن العلم إنما يكون فضيلة وشرفاً وطريقاً إلى السعادة إذا وقع العمل على مقتضاه، أي إذا طابق عملُه علمَه.
وحقاً ما قيل:
لو كان للعلم من غير التقى شرفٌ
لكان أشرف خلق الله إبليس
حكم تحصيل العلم:
قال المحقق قدس سرُّه:
«فالعلمُ الذي يُفرضُ على المكلَّف بعينه يجبُ تحصيله، وجبره عليه إن لم يحصل».
الواجبات نوعان:
النوع الأول: الواجب العيني مثل الصلاة، حيث تجب على كل فرد فرد.
فالأحكام الخاصة بالصلاة يجب تعلمها على المكلف، وكما يقول المحقق: يُجبر المكلف على تعلمها.
وهذا الإجبار شرعي وليس تكوينيًا.
النوع الثاني: هي الواجبات الكفائية، مثل تغسيل الميت، وردّ السلام، فهي واجبة على كل المسلمين، لكن لو قام بها أحدهم سقط الوجوب عن الجميع.
وكذلك الجهاد واجب وجوباً كفائيًا، فإذا تصدّى له مجموعة يُكتفى بها لصد العدو، يسقط التكليف عن البقية.
ص: 39
إذن العلم نوعان:
1. علم عيني يجب على كل فرد أن يتعلمه.
2. وعلم كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
في الروايات حديث عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وحديث آخر يقاربه بالمعنى عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.مضمون الحديثين واحد وهو: «لو أُتيت بشاب من الشيعة وهو غير متفقه في دينه لأوجعته ضرباً»(1).
وفي هذا المعنى قال الشيخ المحقق قدس سرُّه:
«فالعلم الذي يُفرَضُ على المكلَّف بعينه يجبُ تحصيله، وجبرُه عليه إن لم يُحصل، والذي يكون الاحتياج إليه في الأحيان، فرض على سبيل الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يكن في البلد من يقوم به، اشتركوا - جميعاً - بتحصيله، بالوجوب».
قيل: «إن علمَ ما نفعُ على نفسه، في جميع الأحوال، بمنزلة الطعام، لابد لكل أحدٍ من ذلك، وعلمُ ما نفع في الأحيان، بمنزلة الدواء، يحتاج إليه في بعض الأوقات، وعلمُ النجوم بمنزلة المرض، فتعلمه حرام لأنه يضر ولا ينفع، إلّا قدر ما يُعرف به القِبلة، وأوقات الصلاة وغير ذلك، فإنه ليس بحرام».
الشيخ يشير إلى أن علم النجوم بمنزلة المرض، ولهذا يجب الابتعاد عنه وفي تحصيله حرمة.
ص: 40
وهذا الكلام ليس على إطلاقه، فعلم النجوم يأتي بمعنيين:
المعنى الأول: مراقبة النجوم والأفلاك وحركتها لمعرفة وقت الصلاة أو لمعرفة اتجاه القبلة، أو لتوقع حدوث الظواهر الكونية، وهذا لا مشكلة فيه في حدِّ نفسه.
المعنى الثاني: الاعتقاد بأن للنجوم والكواكب تأثيراً في شؤون الكون والناس، إمّا أنها تؤثر على نحو الشراكة مع الله جل جلاله، وهذا يستلزم الشرك، وإمّا أنها تؤثر على نحو الاستقلال، أي إن الله تعالى رفع يده وفوَّض الأمر إلى الكواكب، وهذا أيضاً يؤدي إلى الشرك.
فعلم النجوم المحرم هو العلم الذي يُسند الآثار الكونية إلى الكواكب على نحو الشراكة أو التفويض.
ولذلك قال المحقق: «وعلمُ النجوم بمنزلة المرض، فتعلمه حرام لأنه يضر ولا ينفع، إلّا قدر ما يُعرف به القبلة، وأوقات الصلاة وغير ذلك، فإنه ليس بحرام».
تفسير العلم
قال المحقق قدس سرُّه: «وأمّا تفسير العلم: فهو صفة يتجلّى بها - لمن قامت هي(1)
به - المذكور، فينبغي لطالب العلم أن لا يغفل عن نفسه، وما ينفعها، وما يضرها، في أولاها وأُخراها فيستجلب ما ينفعها، ويجتنب عمّا يضرها لئلا يكون عقله وعلمه حجةً عليه فتزداد عقوبته».أشار الشيخ إلى أمور مهمة، تتبين بالتالي:
أولاً: أن النفس عادة تخادع الإنسان، فتصوّر له ما يضره على أنه نافع، أو بالعكس، بأن تصور ما ينفعه على أنه ضار ويجب تركه، فيكون مصداقاً للأخسرين أعمالاً، كما قال
ص: 41
تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً 103 الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ (الكهف: 103-104).
ثانياً: إذا كانت النفس الإنسانية في بعض مراتبها بهذا المستوى من الانحطاط، بحيث تخدع صاحبها، فعلى الإنسان أن ينتبه ولا يهمل نفسه، ويراقبها باستمرار، ويحذر خديعتها.
ثالثاً: أن العلم بدون عمل يكون حجة على الإنسان وهذا ما أشارت له الروايات الشريفة.
عن مسعدة بن زياد، قال: سمعت جعفر بن محمد صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وقد سُئل عن قوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ﴾ [الأنعام: 149]، فقال: «إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلمت حتّى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجة البالغة»(1).
هذه الرواية واردة في تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ﴾.
وقد يسأل سائل: لماذا هذا التركيز على العمل؟
إن ذلك لأجل ما روي عن علي أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال: «قال رجل: يا رسول الله، ما ينفي عني حجة الجهل؟ قال: العلم، قال: فما ينفي عني حجة العلم؟ قال: العمل»(2).
وفي حديثٍ آخر عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «كل علم وبال على صاحبه يوم القيامة، إلّا من عمل به»(3).
نسأل الله تعالى أن نكون ممن علم فعمل.
ص: 42
أسئلة:
س1/ كيف ربط المحقق قدس سرُّه بين العلم والسعادة؟
س2/ما هو حكم العلم؟
س3/ ما هو دور العمل في العلم؟
ص: 43
ص: 44
عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لامرأة يتزوجها أو لدنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه»(1).
قال المحقق الطوسي قدس سرُّه:
«الفصل الثاني: في النية: لابد لطالب العلم من النية في تعلم العلم، إذ النية هي الأصل في جميع الأفعال، لقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».
فينبغي أن ينوي المتعلم بطلب العلم: رضا الله تعالى، وإزالة الجهل عن نفسه وعن سائر الجُهال، وإحياء الدين، وإبقاءَ الإسلام والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، من نفسه ومتعلقاته، ومن الغير بقدر الإمكان».
نوضح المطلب من خلال نقاط:
أولاً: الأفعال على قسمين:
1 - أفعال جارحية، بدنية، خارجية.
2 - أفعال جانحية، نفسية، داخلية.
الأفعال الجارحية: هي الأفعال التي تصدر عن البدن، والتي من الممكن أن نسمعها أو نراها، كالتلفظ بألفاظ الصلاة، وحركاتها من قيام وقعود وركوع وسجود.
ص: 45
الأفعال الجانحية: هي الأفعال التي تصدر عن النفس، والتي لا يمكننا أن نراها أو نسمعها، كالتفكر والشعور.
ثانياً: قُسِّمت الأحكام الفقهية في الرسالة العملية إلى قسمين رئيسيين:
1 - العبادات.
2 - المعاملات.
والمعاملات تُقسم إلى عقود وإيقاعات.والفرق بين العقد والإيقاع: أن العقد يتقوَّم بالإيجاب والقبول من طرفين، كعقد البيع، وعقد الزواج، حيث إنه لابد من إيجاب من طرف، وقبول من الطرف الآخر.
أمّا الإيقاع فإنه يتقوَّم بطرف واحد، ولا يحتاج إلى قبول من الطرف الآخر، كالطلاق والوقف والإعتاق.
أمّا الفرق بين العبادات والمعاملات فهو: أن المعاملات بقسميها (العقود والإيقاعات) لا تحتاج إلى نية القربة لله تعالى، أي إنها تقع صحيحة ولو من دون نية التقرب لله تعالى، بينما العبادات وإن كانت في الغالب أفعالاً جارحية، ولكن شرط صحَّتها وقبولها عند الله جل جلاله هو قصد القربة الذي هو فعل جانحي قلبي.
ولا يضر بقصد التقرب أن يهدف المؤمن من وراء عمله الفوز بالجنة، أو النجاة من النار، أو يأتي بالعمل تعبداً لله وحباً له، فالمهم أن يقصد التقرب لله تعالى، لتقع عبادته صحيحة ومقبولة.
ولذلك قد يصلّي رجلان صلاة تامة الأجزاء والشرائط ظاهراً، أي نفس الصلاة من حيث الهيأة الخارجية، ومع هذا نحكم بصحة الصلاة الأولى، وببطلان الثانية. والسبب في ذلك: أن المصلي الأول نوى القربة لله تعالى، والثاني لم ينوِ القربة، كأن تكون
ص: 46
صلاته رياءً مثلاً.
إذن الصلاتان متشابهتان من حيث الأفعال الجارحية، ومختلفتان في فعل جانحي وهي النية.
مثال آخر: شخصان يصليان لأجل أن يراهما غيرهما، ومع هذا نحكم بصحة الصلاة الأولى وبطلان الثانية. وما ذلك إلّا لأن المصلي الأول صلّى بنية القربة إلى الله تعالى، وكانت نيته تعليم غيره ذاك قربة لله تعالى أيضاً. ولكن الآخر صلّاها رياءً. كما في القصة المعروفة أن الإمامين الحسن والحسين ݟ مرّا على شيخ يتوضّأ ولا يُحسن، فأخذا بالتنازع، يقول كل واحد منهما: أنت لا تحسن الوضوء، فقالا: أيها الشيخ كن حكماً بيننا، يتوضّأ كل واحد منّا سوية، ثم قالا: أيّنا يحسن؟ قال: كلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن، وقد تعلم الآن منكما وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أُمّة جدّكما(1).
وخلاصة القول: أن النية أمر أساسي يحدد قيمة العمل، وأن النية روح العمل، فعمل بلا نية صالحة هو عمل ميت لا حياة فيه ولا قيمة له.
وطلب العلم عبادة، والعبادة تشترط فيها النية، فلابد لطالب العلم أن يحدّد نيته وهدفه من طلب العلم.
وقد أشار الشيخ إلى مطلب آخر، وقال:
إنه ينبغي أن ينوي المتعلم لطلب العلم.
والسؤال هنا:
ما هو المقصود من النية في هذا البحث - بحث طلب العلم -؟
ص: 47
والجواب:أن المقصود هو تحديد الدافع الذي جعل الإنسان يتحرك لطلب العلم، فما هو الدافع الذي جعل طالب العلم يترك لذة النوم والراحة؟ وربما ترك البعض أمواله وأولاده ووطنه من أجل تحصيل العلم، ما هو الهدف من هذه التضحيات الكبيرة؟
ويشير المحقق قدس سرُّه إلى بعض الدوافع التي من شأنها أن تجعل طلب العلم عبادة تُقرّب الطالب إلى الله تعالى، فقال: ينبغي أن ينوي المتعلم من طلب العلم:
1 - تحصيل رضا الله تعالى: فإنه لا شك في أن الله تعالى يرضى لعباده العلم، وقد مدحهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّما يَخْشَىٰ اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ﴾(1)، ولذلك فإن الطالب إذا قصد من تحصيله العلم إخراجَ نفسه من ظلمات الجهل إلى نور العلم، فإن في هذا - بلا شك - رضا لله جل جلاله.
2 - استنقاذ الناس من الجهالة: فهو عمل عظيم، وكان من أولى مهام الأنبياء عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ هو تعليم الناس وإرشادهم. وقال تعالى: ﴿وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾(2)
3 - إحياء الدين: وهذا هدف عظيم لا يناله إلّا ذو حظ عظيم، وقد ورد في الدعاء: «واجعلني ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بي غيري»(3).
وفي هذا الصدد روي أن هشام بن الحكم كان في الكوفة وسمع أن عمرو بن عبيد المعتزلي يفتي الناس في مسجد البصرة، ولمّا التقى هشام بالإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ سأله عن
ص: 48
ذهابه للبصرة، وحديثه مع عمرو بن عبيد، وكان من أدب هشام أن لا يتكلم بين يدي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إجلالاً له، فقال: سيدي لساني لا يعمل بين يديك. فقال له الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «إذا أمرتكم بشيء فاصنعوا»، أي إن الطاعة أولى من الأدب في هذا المقام. فقال هشام: بلغني أن عمرو بن عبيد يجلس في مسجد البصرة ويفتي الناس فثقل عليّ ذلك، فشددت الرحال ودخلت البصرة يوم جمعة، ثم بدأ هشام يقص للإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ محاججته عمرو بن عبيد، في الإمامة، والتي بدأها بسؤال ألَك عين؟ ألَك أُذن؟... إلى أن أثبت له ضرورة الإمامة، والإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يفرح ويستبشر ويهنّئ هشاماً بأن الذي تحدث به موجود في صحف إبراهيم وموسى3(1).
ص: 49
فبعض الطلاب لا يكون هدفه طلب العلم لنفسه فقط، وإنما هدفه الحفاظ على الدين والدفاع عنه.
وهذا هدف كبير على طالب العلم أن يضعه في حساباته، ففي يوم ما لابد أن يتحمل الطالب مسؤولية الدفاع عن دينه ومعتقداته، ولو ضِمن جماعة صغيرة، أو جلسة عائلية. فقد تثار شبهة مثلاً، وتقع عليه مسؤولية دفعها، وإيضاح بطلانها، وهكذا.
4 - ومن الأهداف والدوافع الإلهية لطالب العلم أيضاً هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لنفسه أولاً، فالإنسان الجاهل عرضة لأن يقع في المنكرات، فيطلب العلم حفاظاً على نفسه منها.
وثانياً للحفاظ على من يتعلق به من الناس الأقرب فالأقرب، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾.(1)
ص: 50
قال المحقق الطوسي قدس سرُّه:
«فينبغي لطالب العلم أنْ: يصبِرَ في المشاقّ، ويجتهد بقدَر الوُسْع، فلا يصرِفَ عُمُرَه في الدنيا الحقيرة، ولا يُذِلَ نفسه بالطَمَع، ويجتنب الحقد، والحسد، ويحترزَ عن التكبر».
وهذه الدوافع التي ذكرها الشيخ غير متيسرة لكل أحد، ولا سهلة المنال، بل تتطلب همّة عالية، وجهداً استثنائياً، وقد يتطلَّب الأمر مفارقة الأحبة والاغتراب عن الوطن، وقطْع بعض العلاقات كالعلاقة مع البطّالين الذين يضيّعون أوقاتهم بما لا ينفعهم في دين أو دنيا.
كما أن طلب العلم لا يتناسب مع الكسل، إذ لابد من المذاكرة المستمرة، ولا ينسجم مع الطمع في الدنيا لأنه يتطلب التضحية والإيثار، هذا بالإضافة إلى أن على طالب العلم أن يطهّر نفسه من رذائل الصفات كالظلم والرياء والتكبر والحقد والحسد وغيرها، مما يستدعي جهاداً مع النفس كبيراً.
كما أن عليه أن يتحلّى بمكارم الأخلاق من الإخلاص والتواضع ومحبة الناس ومداراتهم، والرحمة والكرم.
وعليه، فلا بد أن يضع طالب العلم تلك الأهداف نصب عينيه، ولابد أن لا يغفل عن سمو أهدافه.
فإذا اجتمعت لطالب العلم هذه الصفات، وكان الدافع إلهياً، ووطَّن نفسه على
ص: 51
مشاق الطريق وتحمل صعوبته، فسينتج التالي:
1 - الإحساس بلذّة العلم رغم التعب الشديد.
2 - الحافز على المتابعة المستمرة وعدم الاكتفاء من العلم(1).
3 - الصبر على المشاقّ.
4 - الإخلاص والرضا بالقضاء الإلهي.
والمراد من الإخلاص أن يقصد من عمله رضا الله تعالى دون سواه، فلا يهمّه رضا الناس أو عدم رضاهم مادام هو يُرضي الله تعالى.
في مضمون حديث الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «إن كل عمل لا تحب أنْ يمدحك الناس عليه، فهو عمل خالص»(2).
نقل لي أحد الأخوة عن جدّه لأمِّه يقول: إن جدّه ألَّف كتاباً ولم يتمكن من طباعته بسبب تكاليف الطباعة، فأخذه أحد سراق العلم وطبعه باسمه، فوصل الكلام لهذا الشيخ بأن كتابه قد سُرق وطُبع باسم غيره، فقال: الحمد لله، المهم أنّ الكتاب طُبع ونُشر ما فيه من العلم!
ص: 52
وهذا هو المطلوب من الطالب الحقيقي المخلص، أنْ لا يعمل من أجل إعلاء اسمه، بل من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، ولا يسعى خدمة لنفسه ومشتهياتها، بل كل سعيه خدمة لدينه ومجتمعه.
ولذلك يقول المحقق قدس سرُّه: «فينبغي لطالب العلم أن: يصبِر في المشاقّ، ويجتهد بقدَر الوُسع، فلا يصرِفَ عُمُره في الدنيا الحقيرة، ولا يذل نفسه بالطَمَع، ويجتنب الحقد، والحسد، ويحترزَ عن التَكَبُّر».
ص: 53
أسئلة:
س1/ما الفرق بين العبادات والمعاملات، وبين العقود والإيقاعات؟
س2/ما هي الدوافع لطلب العلم بإخلاص؟
س3/ما هي نتائج الصبر على طلب العلم بإخلاص؟
ص: 54
عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال: «خذ من كل علم أحسنه، فإنه النحل يأكل من كل زهر أزينه فتولد منه جوهران نفيسان: أحدهما فيه شفاء للناس والآخر يستضاء به»(1).
قال المحقق الطوسي قدس سرُّه:
«ينبغي لطالب العلم أن يختار من كل علمٍ أحسنه، وما يحتاجُ إليه في أُمور دينه في الحال، ثُم ما يحتاجُ إليه في المآل، ويُقدّم علمَ التوحيد، ويَعرِفَ الله تعالى بالدليل».
حتّى يتبيَّن هذا الأمر، نُقدِّم هذه المقدمة:
من المعلوم أنّ عمر الإنسان لا يتَّسع لطموحاته كلها، فعمره محدود، لكن طموحاته ورغباته لا حدود لها، فلو أن شخصاً كان رئيساً لعشيرة مثلاً، لرغب أن يكون رئيس قبيلة، وإذا أصبح رئيس قبيلة، لرغب أن يكون رئيس دولة... وهكذا لو ملك ما ملك من المال، فإنه يرغب في المزيد.
روي عن النبي الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه قال: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب، ويتوب الله على من تاب»(2).
وكذلك العلم، كلَّما حاز الطالب على قدر منه، كلَّما ازداد شعوره بأنَّ ما يجهله أكبر بكثير مما يعلمه، بل إنَّ ما يعلمه لا يقاس بما لا يعلمه؛ وذلك أنه عندما يحصل على قدر من العلم تنفتح له نافذة، والنافذة تنفتح على نوافذ، والنوافذ تنفتح على نوافذ أخرى...
ص: 55
وهكذا إلى ما لا نهاية، ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾(1)
إذن، عمر الإنسان لا يتَّسع لطموحاته.
هذه هي الحقيقة التي نعيشها في حياتنا.
وعليه، فإن العقل يحكم بأن على الإنسان أنْ يقدم الأشياء الأعظم نفعاً والأكثر أهمية على غيرها، فيقدم ما مِن شأنه الدوام على ما مِن شأنه الزوال، هذا هو حكم العقل فينا، وطلب العلم داخل تحت هذا الحكم أيضاً، فالعلوم اليوم لا يتيسَّر إحصاؤها -فضلاً عن تعلّمها وإتقانها والوصول إلى الغاية فيها، ولا يمكن ذلك للإنسان العادي، فعمره لا يتَّسع، وإمكاناته لا تطيق، لا يستطيع شخص أن يكون عالماً بالفقه والطب والهندسة والفلك والنحو والفلسفة والرياضيات و...إذن على الإنسان أن يختار من العلوم الأكثر نفعاً له والأدوم، وما يدفع به الضرر عن نفسه.
وعليه، فلابد لطالب العلم أن يرتب أولوياته، ويصرف أوقاته في الأَوْلى فالأَوْلى، ولا يضيع عمره العزيز فيما لا يضر جهله ولا ينفع تعلمه.
مع الأسف البعض يقع في هذه المصيدة بحجة أنه يطلب العلم، فيشغل نفسه بعلوم لا يضره جهلها، يحشو ذهنه بمعلومات لا ينتفع بها في دين أو دنيا.
ينقل عن أحد علماء الأحياء أنه قضى (20) سنة من عمره في دراسة حياة النمل! فهل هذا العلم يبني حضارة أو ينشئ مجتمعاً صالحاً؟!(2)
ص: 56
ولذلك ورد عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: عَلَّامَةٌ. فَقَالَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: ومَا الْعَلَّامَةُ؟ فَقَالُوا لَه: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ ووَقَائِعِهَا وأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ والأَشْعَارِ الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: ذَاكَ عِلْمٌ لَا يَضُرُّ مَنْ جَهِلَه ولَا يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَه. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إِنَّمَا الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ، ومَا خَلَاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ»(1).
فإذن، على طالب العلم أن يهتم بالعلوم التي تنفعه في هدفه.
العلوم المهمة لطالب العلم
إن أهم علم على الإطلاق هو علم التوحيد أو علم الكلام أو العقائد.
يقول أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه، وكَمَالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه، وكَمَالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه»(2).
مع الأسف قد نجد بعض الطلبة يهتم بباقي العلوم أكثر من علم التوحيد، فاليوم الاختلاف والنزاع بين المذاهب ليس اختلافاً فرعياً -كالتكتُّف في الصلاة أو في قول آمين فيها- وإنما هذا الاختلاف فرع خلاف أساسي أسبق منه في أصول الدين، وهو الخلاف في الإمامة، والإمامة ترجع إلى النبوة، والنبوة ترجع إلى صفات الله جل جلاله، أي إلى التوحيد، فالأساس الذي يقسّم الناس إلى مذاهب وإلى أديان هو أصول الدين، أمّا الخلافات الفرعية فهي نتائج وثمرات الخلاف في أصول الدين.فأهم العلوم على الإطلاق هو علم التوحيد.
ثم علم فروع الدين، لأن السلوك يتوقف عليه، فلابد من معرفة المسائل الابتلائية
ص: 57
التي تنظم سلوك الإنسان وعلاقته مع الله تعالى، ومع أخيه الإنسان.
ثم يدرس العلوم الأخرى ويهتم بها: الأهم فالأهم.
وأشار الشيخ في نهاية هذه الفقرة إلى أن علم التوحيد يمتاز عن غيره بشيء، وهو أنه لا يقبل الظن بل لابد فيه من الجزم واليقين، وأن علم التوحيد له تأثير في الحال وفي المآل، كما بيَّن الشيخ المحقق ذلك في بداية الفصل، فسلوك الموحّد في الحياة يختلف عن سلوك غيره، ومصيره في المآل يختلف عن مصير غيره.
فينبغي لطالب العلم أن يقدم علم التوحيد ويعرف الله تعالى بدليل قطعي.
ثم قال الشيخ قدس سرُّه: «ويختار العتيق دونَ المحدَثات، قالوا: (عليكم بالعتيق، وإياكم والمحدَثات)».
بيان ذلك:
في الدين عنصران: عنصر ثابت، وعنصر متغيِّر.
أصول الدين وفروع الدين والسلوكيات الأخلاقية أكثرها من النوع الثابت، فالتوحيد عقيدة ثابتة مذ وجد الإنسان على الأرض، تؤكّد أنه ليس لله شريك لا في العبادة ولا في الخالقية ولا الرازقية ولا التدبير.
والنبوة أيضاً هو منصب إلهي يوحى بموجبه لرجال يختارهم الله تعالى لإبلاغ رسالته ويؤيدهم بمعجزة تُثبت صدقهم، وهي كذلك بالنسبة لجميع الأنبياء وفي مختلف العصور.
وهكذا فروع الدين، فالصلاة واجبة منذ شُرِّع الإسلام، والصوم والحج واجبات، وسيظلّ هذا الوجوب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وكذلك ما تحكم به الفطرة الإنسانية من الثوابت الأخلاقية كحسن الصدق
ص: 58
والعدل والأمانة، وقبح الكذب والظلم والخيانة.
هذه أمور ثابتة غير قابلة للتغير والتبدل، ولكن هذا لا يعني جمود الدين وعدم مواكبته لمتطلبات العصر الحديث واحتياجات الإنسان المستحدثة، فديننا دين العلم والتقدم والحضارة.
إذن كيف نوفق هذا الكلام مع ما يذكره المحقق في اختيار العتيق القديم؟
الجواب والله العالم:
أن المحقق عنى بقوله (العتيق): الأمور الضرورية المُسلَّمة غير المختلف فيها، أي على طالب العلم أن يبدأ فيها لتكون له قاعدة رصينة ينطلق منها إلى التفرعات العلمية الكثيرة، وبهذا يكون عندنا تلاؤم واضح بين عنصر الثبات في الشريعة وبين عنصر التغير.
فالمقصود من العتيق: العنصر الثابت البديهي غير المختلف فيه.
فعلى طالب العلم في بداية مسيرته العلمية، أن يبني معتقداته، ويقيم مبتنياته وسلوكياته على قواعد وأُسس رصينة، تُمكِّنه من الصمود أمام الاختبارات والشبهات والانحرافات.ورد عن الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: «الْمُؤْمِنُ أَصْلَبُ مِنَ الْجَبَلِ، الْجَبَلُ يُسْتَقَلُّ مِنْه، والْمُؤْمِنُ لَا يُسْتَقَلُّ مِنْ دِينِه شَيْءٌ»(1).
أمّا إذا كان أساسه ضعيفاً مهزوزاً فإنه لن يصمد طويلاً أمام التحديات المختلفة.
ومع الأسف البعض من الناس وصلوا إلى ما وصلوا إليه من العلم، ولكن بسبب أساسهم الضعيف غير الرصين، انحرفوا وفشلوا فشلاً ذريعاً حين تعرَّضوا للاختبار،
ص: 59
فبعض أصحاب الأئمة المؤتمنين عندهم عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ إلى الحدّ الذي جعلوهم وكلاء لهم، كعلي بن حمزة البطائني الذي كان من ثقات الإمام الكاظم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وأحد وكلائه، ولكن حين توفي الإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ وترك عنده أموالاً كثيرة، لم يتحمل هذا الاختبار، فأنكر إمامة الإمام الرضا عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، وادَّعى أن الإمام الكاظم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لم يمت، بل غاب، وعليه فتكون هذه الأموال له!
ولو كان يعتقد بإمامتهم عن أساس رصين ونفس عفيفة طاهرة، لما باع دينه من أجل دنيا دنية.
والشلمغاني كان مرشحاً ليكون سفيراً للإمام المهديf، وكان على قدر عالٍ من العلم، فانقلب على عقبيه حينما صارت السفارة إلى الحسين بن الروح.
وعلى هذا، فلابد لطالب العلم أن ينطلق من أرض صلبة قوية، كي لا يرتدّ على عقبيه فيكون ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً﴾ (النحل: 92)، ويكون منطلقه منطلقاً صحيحاً موفقاً بإذن الله تعالى.
قال الشيخ المحقق قدس سرُّه: «ويختارُ المُتونَ، كما قيل: (عليكم بالمُتُونِ)».
وهذه المسألة لن يعيشها إلّا من قضى عمره في طلب الحواشي، حتّى قيل (من طلب الحواشي ما حوا شيئاً).
فالعلماء لما كتبوا كتبهم وضعوا فيها عصارة أفكارهم وما جادت به عقولهم الثرة الغنية، فعلى الطالب أن يستفيد من المتون ويتقنها، فإذا انتهى من كتاب، انتقل إلى كتاب آخر وهكذا، وطبيعة العلم طبيعة تراكمية حيث تتجمع المعلومات وتتراكم في ذهن الطالب. نعم، يمكنه أن يستفيد من الحواشي في مراحل متقدمة عندما يتقن المتون ويجد الوقت الكافي لمطالعتها.
ص: 60
أسئلة:
س1/ لماذا لزم طالب العلم اختيار بعض العلوم دون بعض؟
س2/ بين: ما هي العلوم المهمة لطالب العلم؟
س3/ما هو معنى (العتيق) في كلام المحقق قدس سرُّه؟
ص: 61
ص: 62
عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: «إنما المستحفظون لدين الله هم الذين أقاموا الدين ونصروه وحاطوه من جميع جوانبه وحفظوه على عباد الله ورعوه»(1).
قال المحقق قدس سرُّه: «وأمّا اختيارُ الأُستاذ، فينبغي أن يختارَ الأعلَمَ، والأورَعَ، والأسَن».
يمكن أن يُستفاد من كلام المحقق قدس سرُّه عدة أمور نذكرها فيما يأتي:
أولاً: عن زيد الشحام، عن أبي جعفر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في قول الله جل جلاله: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلىٰ طَعامِهِ﴾(2)،
قال: قلت: ما طعامه؟ قال: «علمه الذي يأخذه ممن يأخذه»(3).يشير الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أن للمعلم أثراً في أعماق نفس الطالب، ويظهر ذلك الأثر واضحاً على اعتقادات الطالب وقناعاته وسلوكه، فصفات المعلم تسري إلى نفس الطالب واعتقاده وسلوكه من حيث يشعر أو لا يشعر، ومن هنا أكَّد المحقق قدس سرُّه على طالب العلم أن يختار مِن المعلّمين مَن يتَّصف بالورع -بل بشدة الورع- وأن يكون أعلم الأساتذة وأسنّهم، أي أكبرهم سنّاً...
ثانياً: على طالب العلم أن يختار مِن المعلّمين مَن أثّر فيه علمُه، وحوّله إلى سلوك عملي.
ص: 63
أي يختار المعلم العامل بعلمه، أمّا إذا كان عمل المعلم لا يوافق علمه، فهذا معناه أنه لم يستفد من علمه شيئاً، ومن لم يستفد من علمه، كيف ينفع به الآخرين؟! كما روي في وصية ذي القرنين: لا تتعلم العلم ممن لم ينتفع به، فإنّ مَن لم ينفعه علمه لا ينفعك(1).
ثالثاً: على طالب العلم أن يدرك أن غذاء البدن الطعام، وأن غذاء الروح والعقل هي المعلومات التي يودعها في ذهنه، ولذا فإن على طالب العلم أن يتفكر جيداً في علومه، ويتثبت قبل تحصيله العلم، وكما يقول الإمام الحسن عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «عجب لمن يتفكر في مأكوله، كيف لا يتفكَّر في معقوله، فيجنب بطنه ما يؤذيه، ويودّع صدره ما يزكيه»(2).
عندما تدخل المعلومات غير الصحيحة إلى الذهن تكون أشبه بالفايروس الذي يصيب برنامج الحاسوب الحديث، فيؤدي إلى تشويش البيانات، وإظهار نتائج غير دقيقة.
كذلك النفس إذا دخلها هذا الفايروس، فربما يسير الطالب في الاتِّجاه الخاطئ فيُضل الطريق، ويظن أنه على جادة الصواب، ولا يكتشف خطأه إلّا بعد مضيّ فترة طويلة ليرى نفسه أنه كان يسير في حفرة، ويدور في حلقة مفرغة!
أحياناً يدرس الإنسان لسنوات عديدة ويصل إلى مراحل دراسية عالية وإذا به ينقلب على عقبيه، والسبب هو وجود خلل ما في المقدمات، وإلّا لو كانت المقدمات كلها صحيحة لكانت النتائج حتماً صحيحة.
يقولون في المنطق: إن النتيجة تتبع أخس المقدمات.
ص: 64
فعلى الطالب أن يبدأ بخطوات صحيحة وعلمية رصينة، ومن أولى هذه الخطوات هو الاختيار الصائب للمعلم، فيختار المعلم الورع المستقيم الكفوء من الناحية العلمية، الذي يفهم المطالب جيداً، وينقلها لطلابه بأمانة عالية، وأن يكون كبير السن، لأنه غالباً ما يكون أكثر خبرة، وإن كان بعض الشباب له خبرة فائقة أيضاً، فإذا توفرت هذه الصفات في المعلم صار الطالب أقرب للوصول إلى الهدف.
ثم قال الشيخ قدس سرُّه: «وينبغي أن يُشاوِرَ في طلب أيّ علمٍ يُرادُ في المشي إلى تحصيله».يشير المحقق قدس سرُّه في هذا المقطع إلى التثبّت في طلب العلم، أي إن العلم يمتاز بمجموعة من الخصائص منها: أنه شيء غير قار، أي غير ثابت، بل متحرك قابل للانفلات، كالزئبق غالي الثمن، يصعب إمساكه والسيطرة عليه.
ولما كان كذلك، فلابد أن نوجد له ظرفاً يتَّصف بالثبات، لنتمكن بواسطته من تثبيت العلم والاحتفاظ به.
أشار المحقق - هنا - إلى بعض الأمور التي من شأنها أن تثبت العلم، وسيبين فيما بعد الآثار السلبية المترتبة على عدم الالتزام بها.
1/المشاورة:
أن يشاور في طلب أي علم يُراد تحصيله، بأن يسأل طلبة العلم الذين سبقوه عن الكتاب الذي يريد دراسته، وعن الوقت اللازم لدراسته.
2/التأنّي:
حيث قال المحقق قدس سرُّه: (وإذا وصلَ المتعلِّمُ إلى بلادٍ يُريدُ أنْ يتعلَّمَ فيها، فليكُن أن لا يعجَلَ في الاختلاط مع العلماء، وأن يصبرَ شهرين، حتّى كان اختياره للأُستاذ لم يُؤَد إلى تركه والرجوع إلى الآخر، فلا يُبارك له).
ص: 65
إن العلم ليس متاحاً للجميع، فقد يتطلب تحصيله أن يهاجر الطالب من بلده ويتغرب ويبتعد عن أهله ووطنه.
اليوم والحمد لله أصبح العلم هو من يطرق الأبواب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والإذاعات وغيرها من الوسائل التي تجعله في متناول يد الطالب.
ولكن مهما تطورت الوسائل العلمية، يبقى الجو الروحي للحوزة والحضور الحي في الدرس له أثره المنقطع النظير، وخصوصاً حوزة النجف الأشرف فإن لها روحانية خاصة، لذلك نلاحظ أن العلماء في كل مكان، يتمنّون الحضور في حوزة النجف الأشرف والدراسة فيها، فإذا قيل في سيرة أحد العلماء أنه درس أو حضر البحث الخارج في النجف الأشرف، فإن هذا يُعدّ له ميزة يمتاز بها عن غيره، ولذا رأينا بعض العلماء والفضلاء مستقرين في بلدانهم ولكن بمجرد سقوط النظام جاؤوا إلى النجف الأشرف.
فطالب النجف الأشرف له شخصية متميِّزة عن غيره، مع احترامنا وإجلالنا لكل طلبة العلوم، وبأي مكان.
فالمحقق قدس سرُّه يشير إلى أن الطالب الذي يأتي من بلدان بعيدة، عليه أن يتأنّى ولا يعجل في الاختلاط مع العلماء، وأن يصبر شهرين، وهذه المدة كافية - في تقدير الشيخ قدس سرُّه - للتأني في القرار، فإذا كان اختياره للأستاذ عن تأنٍ وروية لم يضطر إلى تركه والرجوع إلى الآخر، فلا يُبارك له.
فعليه أن يصبر قليلاً حتّى يتبيَّن له من هو الأستاذ الأعلم والأورع.
قال المحقق قدس سرُّه: «فينبغي أن يَثْبُتَ ويصبِرَ على أُستاذٍ، وعلى كتابٍ، حتّى لا يكون - بتركه - أبْتَرَ».
ص: 66
من أهم الأمور التي تضيع العلم هو الانتقال من كتاب إلى كتاب آخر قبل إتمامه، والتحول من مرحلة إلى مرحلة لاحقة قبل إكمال سابقتها، فالمعلومات مترابطة، والتنقل بين الكتب والمراحل يضيع الكثير منها، بالإضافة لإضاعة الوقت والجهد.
فإذا بدأ الطالب بقراءة كتاب، فعليه أن يتمه من الغلاف إلى الغلاف حتّى تتم فائدته.ثم قال المحقق قدس سرُّه: «وعلى فن، حتّى لا يشتغلَ بفن آخرَ قبْلَ أن يصيرَ ماهراً فيه».
وهذه التفاتة رائعة من المحقق: إتقان فن أو علم معين أفضل من المعرفة الانتقائية.
فالطالب لابد أن يصبر على علم من العلوم حتّى يتقنه وينتقل إلى آخر، مع ملاحظة أن العلوم تتداخل وتتكامل فيما بينها، بمعنى أن بعضها يقع مقدمة لبعض.
مثلاً: الذي يريد أن يتخصص بعلم التوحيد، فإ
نه يحتاج إلى علم النحو والبلاغة والمنطق والفلسفة وتفسير القرآن الكريم.
فهذه العلوم مترابطة مع بعضها، وهي بمجموعها توصل إلى إتقان علم التوحيد.
عندما نقول: إن عليك أن تبدأ بأحد العلوم، لا يعني أن تدرس النحو مثلاً، وتترك بقية العلوم، بل عليك أن تتدرَّج في أخذك للعلم، فتأخذه مرتباً متدرجاً حسب مرحلتك.
ينقل عن الشيخ البهائي أنه قال: «غلبتُ كل ذي فنون، وغلبني ذو فن واحد» أي إن المتخصص بعلم واحد يغلب من له عدة علوم، لأن اتقان فن واحد خيرٌ من عدة فنون غير متقنة.
ثم قال المحقق قدس سرُّه: «وعلى بَلَدٍ، حتّى لا يَنْتَقِلَ إلى بلدٍ آخر، من غير ضرورة».
أي أنْ يصبر على بلد معين للدراسة، فإن عدم ذلك كله يفرق الأمور المقربة
ص: 67
للتحصيل ويشغل القلب ويضيع الأوقات، لذا قال قدس سرُّه: «فإنّ ذلك كلَه يُفرِّقُ الأُمورَ المقربة إلى التحصيل، ويُشغل القلب، ويُضيّعُ الأوقات».
ثم قال قدس سرُّه: «وأمّا اختيار الشريك، فينبغي أن يختار المُجد، والورِعَ وصاحب الطبعِ المستقيم، ويفرّ ويحترزُ من الكسلانِ، والمُعطَلِ، ومِكثارِ الكلام، والمُفسِدِ، والفتّان».... وقيل:
فاعتَبِرِ الأرضَ بأسمائها *** واعتَبِرِ الصاحبَ بالصاحبِ».
من الأمور المثبتة للعلم أيضاً المباحثة والنقاش خارج حلقة الدرس، فإن لذلك الأثر الكبير في تثبيت المعلومة، وهذا يقتضي اختيار الزميل بكل دقة، كما بيَّنه الشيخ قدس سرُّه.
ص: 68
أسئلة:
س1/ كيف يتم اختيار الأستاذ بطريقة صحيحة؟
س2/ما هي أساليب تثبيت العلم؟
س3/ما هي صفات الشريك في طلب العلم؟
ص: 69
ص: 70
عن رسول الله الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قال: «ثلاثة لا يستخف بحقهم إلّا منافق بيّن النفاق: ذو الشيبة في الإسلام، والإمام المقسط، ومعلّم الخير»(1).
قال المحقق قدس سرُّه:
«وينبغي أن يُعظّم العلم وأهله بالقلب غاية التعظيم.
قيل: الحرمةُ خير من الطاعة، حتّى لم يأخذ الكتاب، ولم يُطالع، ولم يقرأ الدرس، إلّا مع الطهارة».
في هذا المقطع يكمل المحقق قدس سرُّه ما ينبغي لطالب العلم في طلبه للعلم وفي علاقته مع أستاذه وفي علاقته مع أصل العلم.
فيشير إلى أمرين في هذا المجال:
الأمر الأول: حق العلم:
يشير المحقق إلى ضرورة أن ينتبه طالب العلم إلى أنّ للعلم حقوقاً لابد من مراعاتها، وخلاصة تلك الحقوق هي التالي:
الحق الأول: أخذ العلم بالطريقة الصحيحة:
البعض يسأل ويقول: لماذا لا أجد تأثيراً للعلم في سلوكي رغم السنوات الطويلة التي قضيتها في طلب العلم؟!
ص: 71
يبدو أن الجواب هو: أن هناك طريقة خاصة لأخذ العلم، والطالب إذا لم يضبط طريقة أخذ العلم قد لا يصل إلى الهدف. وطريقة أخذ العلم ذكرها رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عبر خمس مراحل(1):
المرحلة الأولى: الإنصات:
أي أن يسكت الطالب ويوجّه نفسه إلى الأستاذ.
المرحلة الثانية: الاستماع:بمعنى أن يوجّه نفسه لفهم ما يسمع، وهذا فرق بين السماع والاستماع، فالسماع هو مجرد دخول الصوت إلى الأذن، وأما الاستماع فإنه توجيه النفس للصوت وفهم ووعي ما يسمع.
المرحلة الثالثة: الحفظ:
والحفظ يحتاج إلى آليات ومن أهمها:
1 - كتابة العلم.
2 - تكرار القراءة والاستماع.
يُنقل في أحوال بعض العلماء أنه كان كل يوم يراجع آخر عشرين درساً حتّى يصل إلى درسه الفعلي. ويعيد المراجعة في اليوم الثاني، وهكذا حتّى يراجع كل درس عشرين مرة.
3 - توجيه النفس.
ص: 72
المرحلة الرابعة: العمل بالعلم:
إذا تحول العلم إلى سلوك عملي فإنه لا يُنسى، ومثاله الواضح هو التعليم التطبيقي، أي تطبيق ما يراد تعليمه عملياً، حيث يكون أسرع في التعلم، وأثبت للمعلومة.
فتطبيق العلم من أسرع الطرق لحفظه.
المرحلة الخامسة: نشر العلم:
من يُرد أن يكون عالماً فعليه بنشر العلم، فكل شيء يقل على الإنفاق إلّا العلم، فإنه كلما أنفقتَ منه ازداد.
الحق الثاني للعلم: التواضع للمعلِّم وللمتعلِّم:
أمّا عن التواضع للمعلم فهذا الأمر واضح جداً.
ورد عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: «ليس من أخلاق المؤمن التملق... إلّا في طلب العلم»(1).
إن العلم يحتاج إلى أن يذهب الإنسان ويطلبه من أهله، فالعلم يتطلب التواضع.
وكذلك عندما يصبح طالب العلم عالماً، فعليه أن يكون متواضعاً، كما ورد في بعض الروايات عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «لا تكُونُوا عُلَماءَ جبَّارِين، فَيَذْهَبَ بَاْطِلُكُم بِحَقِّكُم»(2).
فالتواضع للمعلِّم وللمتعلِّم من حقوق العلم. ولذا فإنك لا تجد طالب علم قد نفعه علمه وفيه شيء من كبر.
إن بعض طلبة العلم يتحرج من دخول الدرس بعد أستاذه، ويحرص على الحضور
ص: 73
قبله، إجلالاً وتواضعاً لمعلمه.
الأمر الثاني: تعظيم أهل العلم:
وهذا أيضاً ما أكّدت عليه الروايات كثيراً، كما روي عن الإمام زين العابدين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ في رسالته المسماة برسالة الحقوق، يقول: «وَحَقُّ سَائِسِكَ بِالْعِلْمِ التَّعْظِيمُ لَهُ وَالتَّوْقِيرُ لِمَجْلِسِهِ، وحُسْنُ الاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ وَالإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَأَنْ لا تَرْفَعَ عَلَيْهِ صَوْتَكَ، وَلا تُجِيبَ أَحَداً يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يَكُونَ هُو الَّذِي يُجِيبُ، ولا تُحَدِّثَ فِي مَجْلِسِهِ أَحَداً، ولا تَغْتَابَ عِنْدَهُ أَحَداً، وأَنْ تَدْفَعَ عَنْهُ إِذَا ذُكِرَ عِنْدَكَ بِسُوءٍ، وأَنْ تَسْتُرَ عُيُوبَهُ وَتُظْهِرَ مَنَاقِبَهُ وَلا تُجَالِسَ لَهُ عَدُوّاً، ولا تُعَادِيَ لَهُ وَلِيّاً، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ شَهِدَتْ لَكَ مَلائِكَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنَّكَ قَصَدْتَهُ، وَتَعَلَّمْتَ عِلْمَهُ لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ اسْمُهُ لا لِلنَّاسِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله»(1).
وحتى تتضح المسألة، نذكر الآداب التي ينبغي مراعاتها مع العالم الأستاذ بنقاط:
1 - إكرام العالم والأستاذ:
فقد ورد عن النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «من أكرم فقيهاً مسلماً، لقي الله يوم القيامة، وهو عنه راض، ومن أهان فقيهاً مسلماً، لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان»(2).
وفي حديث آخر عنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «من أكرم عالماً فقد أكرمني، ومن أكرمني فقد أكرم الله، ومن أكرم الله فمصيره إلى الجنة»(3).
فبعض الناس يتجرأ على العالم ويتلفظ بألفاظ غير لائقة، ويحاول أن يخطّئ العالم ويعلّق سلبًا على تصرفاته.
ص: 74
أتذكر في بداية دخولي إلى الحوزة نصحني أحد الإخوة قائلاً: لا تتكلم على أي عالم من العلماء، أو فقيه من الفقهاء، لأن له حرمة، وهذه الحرمة تأتي من إخلاصه لله تعالى ولو لليلة واحدة!
ولهذا لابد أن نعظّم العالم ونحترمه، لأن إكرام العالم إكرام الله، والذي يهين الفقيه يستهين بأمر الله جل جلاله.
2 - عدم الاستخفاف به:
فربما يهفو الأستاذ هفوة علمية، وربما ينكشف مطلب ما للطالب ولا ينكشف للأستاذ، فعلى كل حال الأستاذ ليس معصوماً، فمن الممكن أن تخفى عليه أوضح الواضحات، فلا يصح أن يُحتقر الأستاذ لمثل هذا السبب.
عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «من احتقر صاحب العلم فقد احتقرني، ومن احتقرني فهو كافر»(1).في حديث آخر لأمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «لا يستخف بالعلم وأهله إلّا أحمق جاهل»(2).
وبعض الأحاديث تذكر سبب لزوم عدم الاستخفاف بالعالم، فعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: «لا تحقرن عبداً آتاه الله علماً، فإن الله تعالى يحقّره حين آتاه إياه»(3).
3 - غض الصوت عنده.
في الرواية عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه قال: «من غض صوته عند العلماء جاء يوم القيامة مع الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى من أصحابي، ولا خير في التملق والتواضع إلّا ما
ص: 75
كان في الله جل جلاله في طلب العلم»(1).
4 – متابعته.
قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «اعْلَمُوا أَنَّ صُحْبَةَ الْعَالِمِ واتِّبَاعَه دِينٌ يُدَانُ اللَّه بِه، وطَاعَتَه مَكْسَبَةٌ لِلْحَسَنَاتِ مَمْحَاةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وذَخِيرَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ورِفْعَةٌ فِيهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ، وجَمِيلٌ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ»(2).
5 – خدمته.
شرف للطالب أن يخدم أستاذه، كما ورد عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: إذا رأيت عالماً فكن له خادماً»(3).
6 - ترك مماراته ومناقشته نقاشاً طويلاً ومجادلته إلى حد الإيذاء:
في وصية الإمام الكاظم عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ لهشام بن الحكم قال له: «عظِّم العالِم لعلمه ودَعْ منازعته»(4).
هذه أهم الآداب التي ينبغي مراعاتها مع الأستاذ.أسئلة:
س1/كيف يتم أخذ العلم بالطريقة الصحيحة؟
س2/ ما هي أهم الآداب التي تلزم مع الأستاذ؟
س3/وضح: كيف يتم الاستخفاف بالأستاذ؟
ص: 76
عن النبي الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قال: «من كتب عني علماً أو حديثاً، لم يزل يُكتب له الأجر ما بقي ذلك العلم والحديث»(1).
قال المحقق قدس سرُّه:
«وينبغي أن يُجوّدَ كتابةَ الكتاب، ولا يُقرمِطَ ويترك الحاشية، إلّا عند الضرورة، لأنه إنْ عاش نَدِمَ، وإنْ مات شُتِمَ».
يرى المحقق قدس سرُّه أن على طالب العلم أن يضع في حسبانه أن العلم هو نوع موجود غير قار - إن صح التعبير - يعني أنه موجود لا يثبت ولا يستقر، بل يتحرك ويزول –كما تقدم؛ لذا وجب على طالب العلم أن يقيّده، حتّى لا يفرّ منه، وتقييدُه يكون بالكتابة، حتّى يمكن الرجوع إليه والاستفادة منه.
في الأثر: إن ما كُتب قر، وما حُفظ فر.
وورد عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «قيدوا العلم بالكتاب»(2).
ورد عنهم عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ أيضاً: «اكتبوا، فإنكم لن تحفظوا حتّى تكتبوا».
وورد: «أنّ على طالب العلم أن يكتب العلم لأنه سيحتاجه يوماً ما»(3).
ص: 77
وقبل أن نذكر حيثيات الكتابة لا بد من إشارة مهمة، وهي:
أن على طالب العلم أن يجعل في حسبانه ومن أهدافه أن يترك صدقة جارية بعد موته، وأن يترك علماً ينتفع به. فنحن نلاحظ أن علماءنا -ومنهم المحقق الطوسي توفي (672ه) ونحن اليوم في سنة (1439ه)(1)
أي ما يقارب (800) سنة وكتابه التجريد يُدرَّس إلى الآن، وهكذا كتاب آداب المتعلمين.
أي بركة هذه في عمره وفي عمله! هنيئاً له، ورحمة الله عليه.
والشيخ الكليني عاش في عصر الغيبة الصغرى، والشيخ المفيد أدرك نهايات الغيبة الصغرى، وإلى الآن كتبهم تُدرس وتُقرأ.
لذا فأن العلماء باقون ما بقي الدهر.(2).
روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَه أَجْرُهَا وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ »(3).
وفي حديث آخر لرسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بفضل الكتابة أنه قال: «المؤمن إذا مات، وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة يوم القيامة ستراً فيما بينه وبين النار، وأعطاه
ص: 78
الله جل جلاله بكل حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات»(1).
قال: «وعلى طالب العلم أن يجوّد خطَّه» وكما جاء: «الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً»(2).
و «لا يُقِرْمَط» والقرمطة هي التقارب بين الحروف والكلمات بحيث لا تتميز الكلمات عن بعضها.
ويترك الحاشية إلّا عند الضرورة، حتّى لا يتلف الكتاب، وإذا كتب في الحواشي يكتب بشكل واضح ومرتب.
ويكمل العبارة: «فإن عاش ندم وإن مات شتم».ثم قال قدس سرُّه: «وينبغي أن يستمع العلم بالتعظيم والحرمة، لا بالاستهزاء، ولا يختارُ نوعاً من العلم بنفسه، بل يُفوضُ أمره إلى أُستاذه، لأن الأُستاذ قد حصل له التجارب في ذلك عند التحصيل، وعرفَ ما ينبغي، لكل واحدٍ، وما يليقُ بطبيعته».
أي: لأن الأستاذ بحكم تجربته وخبرته يستطيع أن يرشد الطالب لما ينفعه من العلوم.
قال قدس سرُّه: «وينبغي لطالب العلم أن لا يجلس قريباً من الأُستاذ عند السبق، بغير (عذر إلّا للضرورة)، بل ينبغي أن يكون بينه وبين الأُستاذ قَدَرُ القوسِ، لأنه أقربُ إلى التعظيم».
هذه من آداب الطالب مع أستاذه(3)،
وهي تدخل ضمن مفهوم (التعظيم) الذي يلزم على طالب العلم أن يهتمّ به كثيراً مع أستاذه، وهي أمور كثيرة، ذكر منها المحقق قدس سرُّه
ص: 79
في هذا المقطع أمرين:
الأمر الأول:
أن على طالب العلم إذا وصل إلى مكان الدرس قبل غيره من زملائه، أن لا يجلس قريباً من الأستاذ، اللهم إلّا إذا كان له عذر معين، أو ضرورة، كما لو كان سمعه ثقيلاً فيحتاج إلى الجلوس قريباً من الأستاذ قبل غيره من زملائه ليتمكن من استماع الدرس بصورة أوضح، أو غيره من الأعذار.
الأمر الثاني:
أن يعمل على أن تكون هناك مسافة بينه وبين أستاذه، ولا أقل من (قدر قوس)، والقوس هو ما ترمى به السهام، وقدره يعني المسافة بين طرفيه، والتي قد تُقدّر بذراع. ولا يهمنا الاختلاف الذي ذكره أهل اللغة في ما هو المقصود من قدر القوس(1)، بعد أن كان المقصود هو ترك مسافة فيما بين الطالب والأستاذ لإبراز تعظيم الطالب لأستاذه، والذي قد يكون بقدر ذراع، وقد يكون بأكثر من هذا المقدار، وهذا تابع لتقدير الطالب، وسعة المكان، ومنزلة الأستاذ(2).
ص: 80
قال قدس سرُّه: «وينبغي لطالب العلم أن يحترِزَ عن الأخلاق الذميمة، فإنها كلاب معنوية»، وقال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة»(1).
المقصود من الملائكة هي المعارف الإلهية أي العلم، والبيت هو القلب، فبيت المعارف هو قلب الإنسان، والصورة هو التمثال.
فإذا كان هذا القلب فيه كلب أو تمثال بمعنى أن فيه شيئاً من الصفات الذميمة، فلا تدخله المعارف.
ولكي يتَّضح المطلب نشير إلى نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: الاحتراز عن الأخلاق الذميمة.
أن الاحتراز عن الأخلاق الذميمة مطلوب من الجميع على حد سواء، وليس فقط من طالب العلم، نعم هو في حق طالب العلم أشد وآكد؛ لأن طالب العلم سيكون واجهة دينية، وتراه الناس ممثِّلاً ومرآة للدين.
ص: 81
وللدين وعاء، ووعاؤه حسن الخلق، كما ورد: «الخلق وعاء الدين»(1).
وروي عن الشقران مولى رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قال: خرج العطاء أيام أبي جعفر وما لي شفيع، فبقيت على الباب متحيراً، وإذا أنا بجعفر الصادق، فقمت إليه فقلت له: جعلني الله فداك، أنا مولاك الشقران، فرحب بي وذكرت له حاجتي فنزل ودخل وخرج وأعطاني من كمّه فصبّه في كمي ثم قال: «يا شقران، إن الحسن من كل أحد حسن، وإن منك أحسن؛ لمكانك منا، وإن القبيح من كل أحد قبيح، وإنه منك أقبح».
وعظه على جهة التعريض لأنه كان يشرب(2).
وورد عنه عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أيضاً: «كونوا زيناً لنا، ولا تكونوا شيناً علينا»(3).
فطالب العلم يمثل الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ويمثل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وأهل بيته الأطهار عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ. فلابد له من أن يتحلّى بالصفات الحميدة، ويجاهد نفسه ليتخلص من الصفات الذميمة، بل ويبتعد عن كل ما لا يليق به، وإلّا فإنه لا يستحقّ عنوان طالب علم.
والأخطر من ذلك، والأعظم مسؤولية أمام الله تعالى، حينما يصبح طالب العلم عاملاً من عوامل انحراف الناس وابتعادهم عن دين الله القويم، لأنه بصفاته الذميمة وسوء أخلاقه يعكس صورة مشوّهة عن الدين وأهله، فيقطع الطريق إلى الله تعالى.
روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالِمَ مُحِبّاً لِدُنْيَاه فَاتَّهِمُوه عَلَى دِينِكُمْ،
ص: 82
فَإِنَّ كُلَّ مُحِبٍّ لِشَيْءٍ يَحُوطُ مَا أَحَبَّ».
وقَالَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «أَوْحَى اللَّه إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: لَا تَجْعَلْ بَيْنِي وبَيْنَكَ عَالِماً مَفْتُوناً بِالدُّنْيَا، فَيَصُدَّكَ عَنْ طَرِيقِ مَحَبَّتِي، فَإِنَّ أُولَئِكَ قُطَّاعُ طَرِيقِ عِبَادِيَ الْمُرِيدِينَ، إِنَّ أَدْنَى مَا أَنَا صَانِعٌ بِهِمْ أَنْ أَنْزِعَ حَلَاوَةَ مُنَاجَاتِي عَنْ قُلُوبِهِمْ»(1).
النقطة الثانية: الاحتراز من تمدد الصفات الذميمة.
أن الصفات الذميمة لها نوعُ تمدّد سرطاني، فليس السيء وجودها في النفس وحسب، بل الأسوأ هو امتدادها إلى الأعمال الصالحة بحيث تؤثر فيها وتبطلها، وهو ما يسمى في الاصطلاح القرآني ب(الإحباط).
قال تعالى فيمن يريد الدنيا وزينتها: ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (هود: 15-16).
إذن على طالب بالعلم أن يحذر أشد الحذر من مساوئ الأخلاق المهلكات، والوقاية دوماً خيرٌ من العلاج.
وإذا حدث وأصيب بإحدى هذه الصفات الذميمة، فعليه المبادرة إلى التخلص منها، وإزالتها من صفحة النفس سريعاً من قبل أن تستحكم فيها ويمتد تأثيرها إلى الصفات الحسنة والأعمال الصالحة فتمحوها وتبطلها، وحينها ستكون الخسارة فادحة لا تقدر بثمن!
العلماء يصوّرون الخلق السيئ ويمثّلونه بالشوكة النابتة في طريق الإنسان، فإنه يسهل عليه التخلص منها ما دامت صغيرة وضعيفة، ولكن إذا قويت وامتدت جذورها
ص: 83
في الأرض فإنه يصعب اقتلاعها.
النقطة الثالثة: ارتباط الأخلاق بعضها مع البعض.
أن الأخلاق عموماً -سواء كانت الحسنة أو السيئة- مرتبطٌ بعضها مع البعض الآخر، بحيث تشكل شبكة متكاملة، يصعب الإفلات منها فيما لو قويت واستحكمت وأحاطت بالإنسان وسلوكه.
قال تعالى: ﴿بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ (البقرة: 81).وكمثال لما يصيب بعض طلبة العلم: لو أراد الطالب أن يناقش مسألة علمية، قد يدخل بنية حسنة، ولكن قد يتحول النقاش إلى المراء وحب الظهور والغلبة، وإثبات رأيه - حقاً كان أم باطلاً -، أو يؤلف كتاباً فيداخله العجب وحب الشهرة والاعتداد بالرأي، وهكذا في كل مجال يكون العمل عرضة للإحباط، ويكون صاحبه عرضة للهلاك والسقوط.
ص: 84
أسئلة:
س1/وضح أهم آداب الكتابة.
س2/وضح أهم آداب الطالب مع أستاذه.
س3/ما هي الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يحترز منها؟
ص: 85
ص: 86
عن رسول الله الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه قال: «منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا، فأمّا طالب العلم فيزداد رضى الرحمن، وأمّا طالب الدنيا فيتمادى في الطغيان»(1).
قال المحقق الطوسي قدس سرُّه: (الفصل الرابع: في الجد والمواظبة والهمة:
ثم لابد لطالب العلم من الجد، والمواظبة والملازمة، قيل: (من طلب شيئاً وجدَ وجَدَ، ومن قَرَعَ باباً ولَجَ وَلَجَ)، وقيل: (بقدر ما تتعنّى تنالُ ما تتمنّى). وقيل: (يحتاجُ في التعلم إلى جدّ الثلاثة: المتعلّم، والأستاذ، والأب - إن كان في الحياة -).
إن من أهم سنن وأنظمة هذا العالم هو أنه مبني على أنه لا شيء فيه يُعطى بالمجان بل لكل شيء ثمن، وطبعاً الثمن يختلف باختلاف المطلوب، فإذا أراد الإنسان أن يصبح غنياً مثلاً، فعليه أن يتقن صناعة أو مهارة معينة، وعليه أن يبذل غاية جهده، ويضحي براحته، ويصرف أوقاته في سبيل كسب المال، فالغنى لا يتحقق إلّا بتحقق أسبابه.
وكذا لو أراد الشخص أن تكون له أسرة، عليه أن يبذل المال والجهد والوقت، فالأسرة والأولاد لا تحصل بالمجان.وحتّى الجنة لا تحصل بالمجان! قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (التوبة: 111).
وعن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: « أَلَا حُرٌّ يَدَعُ هَذِه اللُّمَاظَةَ(2)
لأَهْلِهَا؟! إِنَّه لَيْسَ لأَنْفُسِكُمْ
ص: 87
ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ، فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا»(1).
فالجنة تحتاج لثمن، وهو النفس.
وهكذا، كل شيء فله سبب أو أسباب يجب الأخذ بها لكي يتحقق.
وهذه سنة لله في خلقه لأنه «أَبَى اللهُ أَنْ يُجْرِيَ الأَشْيَاءَ إِلَّا بِأَسْبَابٍ»(2).
والعلم مشمول بهذه السنة العامة، فهو لا يحصل بالمجّان، وإنما له ثمنه الخاص، وقطعاً كلّما كان الشيء ثميناً نفيساً، كلّما غلى ثمنه وارتفع سعره.
وهنا أشار المصنف قدس سرُّه إلى بعض المفردات المترتبة بعضها على البعض الآخر، وهي: الجِد والمواظبة والهمة.
وعلينا أن نوضحها مفردة مفردة.
ص: 88
1/الجِد:
هو الاجتهاد في الأمور، يعني بذل الجهد والطاقة، ويتضمن هذا البذل معنى السرعة والنشاط والاهتمام.
فطلب العلم يحتاج إلى بذل الجهد، والسرعة، لأن العمر يمر سريعاً، ولو قسنا سعة العلم بالنسبة إلى مدة أعمارنا، لرأينا بوضوح أن العمر لا يكفي لتحصيل أي علم إلّا إذا بذلنا قصارى جهودنا، ونظّمنا أوقاتنا تنظيماً جيداً، بحيث نحرص على الوقت أكثر من حرصنا على أموالنا من الضياع، ففي هذه الحالة قد نحصل على بعض العلم.ومن هنا قيل: اعط العلم كُلَّك، يعطك بعضه(1).
وقيل: العلم لا يعطيك بعضه حتّى تعطيه كُلَّك(2).
إذن، الجد يعني الاجتهاد مع العجلة، وهو نقيض الهزل، أو هو المعبر عنه في القرآن الكريم ب(القوة)، قال تعالى: ﴿يا يَحْيىٰ خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ﴾ (مريم: 12)، يعني بجِدٍّ وحزمٍ واهتمامٍ.
فالجِدُّ يتضمن ثلاثة أمور:
1 - بذل الجهد والطاقة.
2 - التعجل والاهتمام.
3 - من غير هزل.
ولذلك ورد عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: «على المتعلم أن يُدْأب نفسه في طلب العلم، ولا يمل من تعلمه، ولا يستكثر ما علم»(3).
ص: 89
يذكرون في أحوال الشيخ صاحب الجواهر قدس سرُّه أنه استمر في كتابة كتابه (جواهر الكلام) حتّى ليلة وفاة ولده.
2/المواظبة:
قال قدس سرُّه: «ولابد لطالب العلم من المواظبة على الدرس، والتكرار في أول الليل وآخره، فإن ما بين العشائين، ووقتَ السحر، وقت مبارك، وقيل: (من أسهر نفسه بالليل فقد فرحَ قلبه بالنهار)، ويغتنم أيام الحداثة، وعنفوان الشباب».
المواظبة: مأخوذة من الفعل وظب، ووظب على الشيء وظوباً، يعني: دام عليه، والمواظبة هي المداومة على الشيء وملازمته وتعهده.
وهنا سؤال: لماذا طلب العلم يحتاج للمواظبة والملازمة؟
والجواب: لأن العلم لكي يثبت يحتاج إلى الملازمة والمداومة، أمّا الذي لا يداوم على طلب العلم، فإنك لا تجد المعلومات تثبت عنده، ولذا لا يمكن أن يكون ناجحاً في ما يطلب.
والمواظبة تقتضي عدة أمور، منها:
1 - كتابة العلم.
2 - المباحثة مع الزميل.
3 - تكرار الدروس، فإن التكرار من شأنه أن يثبّت المعلومة ويرسّخها في الذهن.
ومن هنا نجد أن الدراسة الحوزوية هي من نوع الدراسة التوسّعية، بمعنى أن الطالب مثلاً عندما يأخذ النحو يدرس كتاب الأجرومية، ثم يدرس كتاب قطر الندى، فيرى نفس المنهجية، ولكن بشكل أوسع، ثم تتسع أكثر في الألفية لابن الناظم أو لابن عقيل، وهكذا تتكرر المعلومات وتتوسع كلما انتقل الطالب إلى مرحلة دراسية أعلى.
ص: 90
وكذلك في علم أصول الفقه، نرى مثلاً الحلقة الأولى للسيد الشهيد(رحمه الله تعالى)تكون المعلومة فيها مبسطة ومختصرة، ولكن في الحلقة الثانية نفس المعلومة تتشعب وتتوسع، وفي البحث الخارج تزداد تشعباً وعمقاً واتِّساعاً. وبفضل هذه المنهجية الحكيمة ترسخ المعلومة وتثبت.
ولذا قال المصنف قدس سرُّه: «لابد لطالب العلم من المواظبة والتكرار في أول الليل وآخره، وسيأتي أن ما بين العشائين والسحر وقت مبارك أيضاً».
وقيل: «من أسهر نفسه في الليل، فقد فرّح قلبه بالنهار» هذا إذا كان الطالب يستوعب في سهره ما يقرأ، وإلّا فالنوم أفضل له، ليأخذ قسطه من الراحة، ويستعيد نشاطه لمذاكرة درسه في اليوم التالي.
ولابد لطالب العلم أن يغتنم أيام الحداثة وعنفوان الشباب، إذ من الواضح أن الشاب أقدر على السهر والجهد والاجتهاد. ولكن لا يعني ذلك أن يصل إلى حد الإرهاق، فطلب العلم وإن كان يتطلب الجد والمواظبة، إلّا أنه ينبغي أن يكون برفق.
عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق،(1)
ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المَنبت(2)
الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى»(3)،(4).
ص: 91
وإلّا قد تكون النتيجة عكسية.
وبعبارة أخرى: أن لجسمك عليك حقاً، فلابد أن تراعي ذلك الحق.
وطالب العلم إنسان متوازن في كل أموره، ومنها: أنه يوازن بين راحة بدنه وراحة عقله، يقرأ، ويدأب على القراءة، ولكن إذا رأى أنه قد أجهد نفسه إلى الحد الذي بدأ لا يفهم المطالب جيداً، أو لا يفهمها نهائياً، فهنا عليه أن يترك القراءة، ويأخذ قسطاً منالراحة، وأفضل طريقة - لكي لا يتعب الذهن - هو تنظيم وقت الدراسة بحيث يحدد لها الوقت اللازم مسبقاً، حتى يحصل على العلم بدون تعب وإرهاق بإذن الله تعالى.
3/ الهمة في طلب العلم.
عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «إِنَّ الأَشْيَاءَ لَمَّا ازْدَوَجَتْ، ازْدَوَجَ الْكَسَلُ والْعَجْزُ فَنتجَا بَيْنَهُمَا الْفَقْرَ»(1).
قال المحقق قدس سرُّه: «ولابد لطالب العلم من الهمة العالية في العلم، فإن المرء يطير بهمَّته كالطير يطير بجناحيه. فلابد أن تكون همَّته على حفظ جميع الكتب ليُحصل البعض. فأمّا إذا كانت له همة، ولم يكن له جِد، أو كان له جد ولم تكُن له همَّة عالية، لا يحصل له إلّا القليل من العلم».
الهمة
هذه الكلمة - الهمة - تتضمن عدة معاني:
أولاً: أن الهمة هي قوة نفسية تدفع الإنسان لطلب معالي الأمور، وترك سفاسفها، أو هي فعل نفسي جانحي داخلي يدفع الإنسان لطلب معالي الأمور، وقد روي عن
ص: 92
رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «إن الله جل جلاله...يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها»(1).
ولا شك أن العلم هو من أعلى الأمور وأشرفها.
ثانياً: العزم على فعل هذا الأمر - الذي هو من معالي الأمور - حقيقة، وليس مجرد تصور وتمنّي، ليس مجرد حلم من أحلام اليقظة، بأن يحلم الإنسان أن يكون عالماً.
ثالثاً: أن يكون للقلب اعتناء واهتمام بهذا الشيء الذي تحركت نحوه الهمة، فالهمة تستبطن انشغال القلب واهتمامه بذلك الأمر، يعني ليس أمراً ثانوياً عابراً.
فإذا توفرت هذه الأمور الثلاثة، أنتجت بمجموعها ما يسمى ب(الهمة).
فهِمّةُ الطالب هي ما يدفعه للقراءة والمذاكرة، والصبر على المشاق وتخطي العقبات.
كما أن على طالب العلم أن يرفع من مستوى همته وطموحه، حتى إذا لم يحقق طموحه، فلابد أنه يحقق مستوى دون الطموح بقليل، أمّا لو كان مستوى طموحه من الأساس منخفضاً، فإنه لا يحقق شيئاً في الغالب.
قيل: إن أحدهم وقت احتضاره سأل ابنه: من قدوتك في الحياة؟ فأجاب: أنت يا أبي. فقال الأب: إذن خسرت، لأني اتَّخذت من الإمام علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قدوة لي طوال حياتي، ولم أصل إلّا إلى ما وصلت إليه، فكيف بك، إذا كنتُ أنا قدوتك؟!
والمتحصل: يجب أن تكون همة الطالب عالية في تحصيل العديد من العلوم وإتقانها، وأن لا يكتفي بالسهل اليسير منها.
روي عن الرسول الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه قال: «ذر الناس يعملون: فإن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة وأوسطها، وفوقها
ص: 93
عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس»(1).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كَانَ نَزَلَ عَلَى رَجُلٍ بِالطَّائِفِ قَبْلَ الإِسْلَامِ، فَأَكْرَمَه، فَلَمَّا أَنْ بَعَثَ اللَّه مُحَمَّداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إِلَى النَّاسِ، قِيلَ لِلرَّجُلِ: أتَدْرِي مَنِ الَّذِي أَرْسَلَه اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَى النَّاسِ؟ قَالَ: لَا. قَالُوا لَه: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه يَتِيمُ أَبِي طَالِبٍ وهُوَ الَّذِي كَانَ نَزَلَ بِكَ بِالطَّائِفِ يَوْمَ كَذَا وكَذَا فَأَكْرَمْتَه. قَالَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: فَقَدِمَ الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَسَلَّمَ عَلَيْه وأَسْلَمَ، ثُمَّ قَالَ لَه: أتَعْرِفُنِي يَا رَسُولَ اللَّه. قَالَ: ومَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا رَبُّ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلْتَ بِه بِالطَّائِفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ كَذَا وكَذَا فَأَكْرَمْتُكَ. فَقَالَ لَه رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَرْحَباً بِكَ، سَلْ حَاجَتَكَ. فَقَالَ: أَسْأَلُكَ مِائَتَيْ شَاةٍ بِرُعَاتِهَا. فَأَمَرَ لَه رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِمَا سَأَلَ.
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لأَصْحَابِه: مَا كَانَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ أَنْ يَسْأَلَنِي سُؤَالَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؟! فَقَالُوا: ومَا سَأَلَتْ عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى؟
فَقَالَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إِنَّ اللَّه عَزَّ ذِكْرُه أَوْحَى إِلَى مُوسَى أَنِ احْمِلْ عِظَامَ يُوسُفَ مِنْ مِصْرَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بِالشَّامِ. فَسَأَلَ مُوسَى عَنْ قَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ. فَجَاءَه شَيْخٌ فَقَالَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَعْرِفُ قَبْرَه فَفُلَانَةُ. فَأَرْسَلَ مُوسَى عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا جَاءَتْه قَالَ: تَعْلَمِينَ مَوْضِعَ قَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَدُلِّينِي عَلَيْه ولَكِ مَا سَأَلْتِ. قَالَ: لَا أَدُلُّكَ عَلَيْه إِلَّا بِحُكْمِي. قَالَ: فَلَكِ الْجَنَّةُ. قَالَتْ: لَا، إِلَّا بِحُكْمِي عَلَيْكَ! فَأَوْحَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ إِلَى مُوسَى: لَا يَكْبُرُ عَلَيْكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا حُكْمَهَا. فَقَالَ لَهَا مُوسَى: فَلَكِ حُكْمُكِ. قَالَتْ: فَإِنَّ حُكْمِي أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فِي دَرَجَتِكَ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْجَنَّةِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: مَا كَانَ عَلَى هَذَا لَوْ سَأَلَنِي مَا سَأَلَتْ عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ»(2).
ص: 94
وهكذا طالب العلم، عليه أن يتوكل على الله، ويعقد العزم على نيل المراتب العلمية العالية، ولا يقنع بالقليل منها، بل يكون نظره دوماً للأعلى، و: على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
قال المحقق قدس سرُّه:
«وينبغي أن يبعث نفسه على التحصيل والجِد والمواظبة، بالتأمل في فضائل العلوم ودقائقها وحقائقها، فإن العلم يبقى، وغيره يفنى، فإنه حياة أبدية، قيل: (العالِمونَ (لا يموتون) وإن ماتوا فهم أحياء)، وكفى بلذَّة العلم داعياً - للعاقل - إلى تحصيله».
في هذا المقطع يبين المصنف (رحمه الله تعالى)بعض فضائل العلوم التي تدفع الطالب للجد والمواظبة في طلب العلم. ويدعو أيضاً إلى التأمل في العلم والتفكر فيه، وهو ما أشارت له بعض النصوص الدينية، ومنها ما روي عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «من أكثر الفكر فيما تعلم أتقن علمه، وتفهم ما لم يكن يفهم»(1).قال المحقق قدس سرُّه:
«وقد يتولّد الكسل من كثرة البلغم والرطوبات. وطريق تقليله تقليل الطعام، وذلك لأن النسيان من كثرة البلغم من كثرة شرب الماء، وكثرة شرب الماء من كثرة الأكل، والخبز اليابس يقطع البلغم والرطوبة.
وكذا أكل الزبيب، ولا يكثر الأكل منه، حتى لا يحتاج إلى شرب الماء، فيزيد البلغم، والسواك يقلل البلغم، ويزيد في الحفظ، والفصاحة، وكذا القيء يقلل البلغم والرطوبات.
وطريق تقليل الأكل: التأمل في منافع قلة الأكل، وهي الصحة، والعفة، وغيرهما.
ص: 95
والتأمل في مضار كثرة الأكل، وهي: الأمراض وكلالة الطبع، وقلة الفطنة، وقيل: (البِطنةُ تُذهب الفِطنةَ)، وينبغي أن يأكُلَ الأطعمة الدسمة، ويُقدم - في الأكل - الألطف، والأشهى، وأن لا يسعى في الأكل والنوم إلّا لغرض الطاعات، كالصلاة والصوم وغيرهما».
بعد أن أنهى المحقق قدس سرُّه المبادئ الأساسية لطالب العلم، وأنه يحتاج إلى الجِد والمواظبة والهمة العالية، عطف الكلام على أن عدو هذه الأمور - أي الجِد والمواظبة والهمة - هو الكسل، لذلك أخذ يبين الأسباب التي تؤدي إلى الكسل، والأمور التي تعالج الكسل، وقد نستغرب من بعض العبارات، لأنها تعابير قديمة، لا نستعملها في الوقت الحاضر، ولذا سأذكر ما تفضل به المصنف قدس سرُّه في نقطتين لتكون العبارة مأنوسة:
النقطة الأولى: تعريف الكسل:
الكسل: هو التثاقل عن الأمر، والفتور عنه، فإذا تثاقل الشخص عن أمر من الأمور اتَّصف بأنه كسل عنه، ويقال امرأة مكسال، يعني لا تكاد تبرح مكانها(1)،
وبتعبير أدق يقال: إن الكسل هو التثاقل عما لا ينبغي التثاقل فيه، فبعض الأمور يحسن التثاقل فيها، كنقل المعلومة أو الخبر قبل الوثوق من صحته ودقته، فيكون التثاقل في مثل هذا بمعنى التأني والتثبت، ولكن بعض الأمور يكون التثاقل فيها والتكاسل أمراً مذموماً، وهو الكسل.
وللكسل أسباب عديدة، منها: فقدان الهمة العالية، وعدم تحديد الهدف، والميل إلى الراحة، والتواكل، وعدم تحديد جدول منضبط لإنجاز العمل، وغيرها.
ص: 96
النقطة الثانية: طرق مقاومة الكسل وعلاجه:
أولاً: هناك بعض الأطعمة تزيد من حيوية الجسم وتبعث فيه الطاقة - كما يقول المختصون - مثل: العدس والمكسّرات والسمسم والتفاح والماء والنعناع والبيض وغيرها.
وفي المقابل هناك أطعمة تؤدي إلى الكسل مثل: الحلويات والمشروبات الغازية والدهون.وبما أن طبائع الناس مختلفة من شخص لآخر، فلابد لطالب العلم أن يعرف ما يناسبه من الأطعمة مما يزيد في حيويته ونشاطه، وما لا يناسبه وما يسبب له الكسل والخمول ليبتعد عنه، ويختلف ذلك باختلاف الطبع والعمر وقوة وسلامة الجسم.(1)
ثانياً: على طالب العلم أن يبتعد عن مقدمات الكسل، ومنها النوم الزائد عن الحاجة، ويقتصر على ما يرفع به حاجته إلى الراحة والاستجمام.
ومن الأسباب المؤدية إلى نوم الكسل هو الإرهاق والإعياء الذي يحدث بسبب التعب الزائد، والسهر أكثر مما يتحمل.
وكذا الإكثار من بعض الأطعمة الدسمة وغيرها.
ثالثاً: الابتعاد عن مجالسة البطالين، فبعض الناس لا عمل له سوى قتل وهدر الوقت، فعلى طالب العلم أن يحذر من هؤلاء، لأنهم يهدرون أوقاتهم وأوقات الآخرين.
ولكن هذا لا يعني الانعزال عن المجتمع، بل ينبغي لطالب العلم أن يتواصل مع أبناء مجتمعه، وأن يكون له حضوره المتميز فيما بينهم، لأن هذا من صميم عمله، وهو إرشاد الناس ومعاونتهم وقضاء حوائجهم، ولكن بالحدّ الذي لا يؤدي إلى ضياع وقته
ص: 97
وهدر طاقته.
كما لا بأس بمجالسة الإخوان والأصحاب ومفاكهتهم بما يرضي الله تعالى بالطرفة الزكية أو الذكية، وكل ذلك بحدود اللياقة وحفظ الموقع.
عن أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «خالِطوا الناس مخالطةَ إن متُّم معها بكَوا عليكم، وإن عشتُم حَنُّوا إليكم»(1).
رابعاً: التوسل بالله تعالى، والاستعانة به في أن يُبعد عنه أسباب الكسل، وأن ينشّطه لعبادته، وتأدية دوره على أتمّ وجه، وأن يملأ له وقته بكل ما هو نافع. ودعاء مكارم الأخلاق نافع جداً في هذا الأمر.
وإذا وجد الطالب من نفسه تقاعساً وتكاسلاً وخلوداً إلى الراحة والدعة، فعليه أن يعالج ذلك عاجلاً، ويهرب من أسباب الكسل سريعاً، ليستعيد نشاطه وحيويته بإذن الله تعالى، فيجد في نفسه قوة تمكِّنه من تأدية دوره المقدس، فعن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النية»(2).
ص: 98
أسئلة:
س1/ما هو محل الكتابة من العلم؟
س2/ ما هو معنى الجد؟
س3/ماذا تقتضي المواظبة؟
س4/ماذا تتضمن الهمة؟
س5/ لخص طرق مقاومة الكسل.
ص: 99
ص: 100
روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه قال: «كونوا دراة، ولا تكونوا رواة، حديث تعرفون فقهه خير من ألف تروونه»(1).
قال المحقق قدس سرُّه:
«الفصل الخامس: في بداية السبق وقَدَرِه وترتيبه:
ينبغي أن تكون بداية السَبق يوم الأربعاء، كما قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «ما من شيء بُدِيَ في يوم الأربعاء إلّا وقد تم».
قيل: كل عملٍ من أعمال الخير لابد أن يوقع يوم الأربعاء، وهذا لأن يوم الأربعاء يوم خُلِقَ فيه النور، وهو يوم نحس في حق الكفار، فيكون مباركاً للمؤمنين».
السبق: بمعنى الدرس.
قال: ينبغي أن تكون بداية السبق يوم الأربعاء.
من الثابت روائياً وفقهياً أن للزمان والمكان أثراً تكويناً وتشريعاً، يختلف باختلاف الموارد، مثلاً: قد يستحب إيقاع الصلاة في مكان معين كأن تصلي عند أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، في الرواية الصلاة عنده عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بمائتي ألف(2)،
أو في مسجد السهلة، وقد ورد عن الإمام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال لأبي بصير: «يا أبا محمد، أمَا إنّي لو كنت بالقرب منكم ما صلَّيتُ
ص: 101
صلاة إلّا فيه»(1).فالصلاة نفسها، لكن ازداد أجرها لعظمة المكان، ونفس هذه الصلاة قد تقع في مكان تُكره فيه، فيقل أجرها، كالصلاة في الحمام مثلاً، وقد تحرم كصلاة الغاصب في المكان المغصوب.
الدعاء يستجاب تحت قبة الإمام الحسين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.
وكذلك الزمان، الدعاء في شهر رمضان مستجاب، وعند نزول المطر تفتح أبواب السماء، ويستحب السفر في أوقات مخصوصة، وبعض الأخبار تذكر استحباب تناول بعض الأطعمة في أوقات معينة.
إذن للزمان والمكان -حسب الروايات الشريفة- مدخلية في توقي الضرر، أو جلب البركة، أو زيادة الأجر.
ولهذا جرت العادة أن يبدأ الدرس يوم الأربعاء، لما ورد من استحباب البدء بالأمور المهمة في يوم الأربعاء، والبعض يبدأ يوم الأحد.
وهذا ما ذكره المحقق عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «ما من شيء بدأ يوم الأربعاء إلّا وقد تمّ»(2).
وهنا ملاحظة:
قد يسأل شخص عن مثل هذه الروايات هل هي معتبرة؟ وهل صحيحة السند؟
والذي يبدو أن مثل هكذا روايات لا يترتب عليها أثر شرعي إلزامي، فيتم التعامل معها وفق قاعدة التسامح في أدلة السنن، فالروايات الواردة في الآداب والأخلاق
ص: 102
والأمور الاجتماعية والأسرية لا تحتاج للتدقيق في سندها، كالروايات الواردة في كتاب مكارم الأخلاق، فيمكننا التعامل معها وفق قاعدة التسامح في أدلة السنن.
أمّا الروايات التي من الممكن أن يستنبط منها حكم شرعي –إلزامي أو غير إلزامي، فإنها تخضع للبحث والتحليل والتدقيق ودراسة السند وغيره لما لها من أثر في الأحكام الشرعية.
ومن هنا أشار المحقق إلى أنه: «قيل: كل عملٍ من أعمال الخير لابد أن يوقَعَ يوم الأربعاء، وهذا لأن يوم الأربعاء يوم خُلِقَ فيه النور، وهو يوم نحس في حق الكُفّار، فيكون مباركاً للمؤمنين».
وقد روي هذا الأمر في بعض الروايات وأنه تعالى خلق النور في يوم الأربعاء(1).
وهو يوم نحس في حق الكفار، ورد في بعض الروايات أن العذاب الذي نزل على بعض الأقوام كان نزوله يوم الأربعاء، وقد فسر بأنه يوم النحس المستمر(2)،
فإذا كان يوم نحس للكفار، فيكون مباركاً للمؤمنين.المقدار اللازم للدرس
قال المحقق قدس سرُّه:
«وأمّا قَدَرُ السَبقِ في الابتداء: فينبغي أن يكونَ قَدَرُ السبقِ للمبتدئ قدرَ ما يُمكنُ ضبطُه بالإعادة مرَّتين، بالرفق والتدريج، فأمّا إذا طال السبق في الابتداء، واحتاجَ إلى الإعادة عشر مرّاتٍ، فهو في الانتهاء - أيضاً - كذلك، لأنه يعتاد ذلك، ولا يتركُ تلك
ص: 103
العادة إلّا بجهدٍ كثير، وقد قيل: (الدرس حرف، والتكرارُ ألْف)).
أي إنه لابد أن يكون إعطاء الدروس للمبتدئ بالتدريج وبصورة سَلِسَة ويسيرة، بحيث لو أعادها مرَّتين لحفظها.
وطبعاً هذه المسألة تختلف باختلاف قابلية الشخص واستعداده لتلقّي العلم، لكن كمعدل متوسط هو ما ذكره المحقق قدس سرُّه.
صحيح أن المحقق ذكر أنه ينبغي لطالب العلم أن يتسابق مع عمره في طلب العلم، لكن هذا لا يعني أن يأخذ العلم بسرعة، بحيث لا يفهم ما يتلقى من دروس.
ثم إنه ينبغي أن يبتدئ بشيء يكون أقرب إلى فهمه، والأساتذة كانوا يختارون للمبتدئ صغار المتون المبسوطة؛ لأنها أقرب إلى الفهم والضبط، مثلاً في دراسة النحو تبتدئ بالأجرومية، ومن ثم قطر الندى، ثم الألفية وهكذا في كل مادة علمية تتدرج حتّى تبلغ المستوى المطلوب.
وينبغي على المتعلم أيضاً أن يكتب الهوامش مع الدرس للإيضاح وتثبيت المعلومة.
كما لابد من حسن الخط، وأفضل طريقة للكتابة طريقة (المسودة والمبيضّة)؛ لأنه عادة ما تكون الكتابة أثناء الدرس بشكل سريع، فيكون الخط ليس بالشكل المطلوب.
ص: 104
أسئلة:
س1/هل للزمان والمكان أثر في التشريع؟
س2/في أي يوم ينبغي أن يكون بدء الدرس، ولماذا؟
س3/هل من ضرورة لتصحيح روايات الآداب؟
ص: 105
ص: 106
عن الامام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) أنه قال: «خبر تدريه خير من ألف ترويه».(1)
قال المحقق رحمه الله تعالى:
«وينبغي أنْ يجتهدَ في الفهم عن الاُستاذ، أو بالتأملِ، والتفكرِ، وكثرة التكْرار، فإنّه إذا قَلَ السبقُ وكَثُرَ التكْرار والتأمل يُدْركُ ويُفْهمُ.
وقيل: «حِفْظُ حرفينِ خَيْر من سماع وَرَقين»«وفَهمُ حرفينِ خَيْر من حِفْظ وِقْرين» وإذا تَهاوَنَ في الفَهمِ، ولم يجتَهدْ مرّةً أو مرّتينِ، يَعْتادُ ذلِكَ، فلا يَفهمُ الكلامَ اليسير.
فينبغي أنْ لا يَتَهاوَنَ، بل يَجْتَهدَ، ويَدْعُوَ الله تعالى، ويَتَضَرَعَ إليه، فإنَه يُجيبُ مَنْ دَعاه، ولا يُخَيبُ مَنْ رَجاه».
ليس مهماً كم تقرأ، بل المهم كم تفهم، وكم تحفظ عن فهم، وكم تغير سلوكك بناءً على ما تعلمته.
ولهذا ينبغي على المتعلم التأني كثيراً في طلب العلم، فلا ينتقل إلى مرحلة لاحقة إلا إذا أتقن سابقتها؛ لأن كل مرحلة تعتبر أساساً لما يتبعها من مراحل.
ولو انتقل الطالب إلى مرحلة أخرى قبل إتقان السابقة، فسيكون من البعيد جداً عليه أن يتمكن من إتقان المرحلة الجديدة، كما أنه من الصعب عليه أن يرجع للمرحلة
ص: 107
السابقة لإتقانها.
بالإضافة إلى ما يترتب على ذلك من إضاعة للوقت والجهد.
ومن الأمور التي تساعد على هذا الأمر وهو فهم المادة قبل الانتقال عنها هو:
أن يكون لدى طالب العلم منهجية معينة للقراءة والمذاكرة، وسنذكرها - باختصار - في ستة نقاط هي:
1- أن يكون طالب العلم متوكلاً على الله تعالى، متفائلاً بالخير، واثقاً من نفسه، فلا يوحي لنفسه بالضعف عن تحصيل العلم وإتقانه.
2- عمل ملخّصات تتضمن الفكرة أو الأفكار الأساسية للموضوع.
فإن بعض الكتب تعرض المطلب في صفحة كاملة أو أكثر مع التوضيحات الإضافية، فعلى الطالب أن يختصر المطلب ويأخذ خلاصته وفكرته الأساسية، بعدما يفهمه جيداً، ثم يصيغه بعبارة واضحة مفهومة بالنسبة إليه لتسهل عليه مراجعته.
3- لا بأس أن يؤشر الطالب على بعض المطالب، كأن يضع خطاً أو علامة على الأمور المهمة في الدرس.
4- كتابة التوضيحات.
5- أن يضع لنفسه أسئلة على المطلب العلمي الذي درسه، ثم يجيب عنها؛ ليختبر فهمه ويتأكد من وضوحها في ذهنه.
6- كما أن على الطالب أن لا يحضر الدرس وهو متعب مشوش الذهن، فإن هذا يؤثر سلباً على قدرته على تلقّي الدرس وفهمه.
ص: 108
قال المحقق رحمه الله تعالى:
«ولابُدَ لطالب العلم من المطارحَة والمناظَرةِ، فينبغي أنْ يكونَ بالإنصافِ، والتأنّي، والتأملِ، فيحترز عن الشَغَبِ والغَضَبِ، فإنَ المناظرةَ والمذاكرةَ مشاوَرة، والمشاوَرةُ إنّما تكونُ لاستخراج الصوابِ، وذلك إنّما يحصل بالتأمل والإنْصافِ، ولا يحصل ذلك بالغَضَب، والشَغَبِ.
وفائدة المطارحة والمُناظرة أقوى من فائدة مجرّد التكرار، لأنّ فيه تكرارا مع زيادةٍ.
قيل: (مُطارحةُ ساعةٍ خير من تكرار شَهرٍ) لكن إذا كانَ مَعَ مُنْصِفٍ، سليم الطبْع.
وإيّاك والمذاكرة مع مُتَعنتٍ، غير مُسْتَقيمِ الطبع، فإنّ الطبيعةَ مُسْتَرِقَة(78) والأخلاقَ متعدّيَة، والمجاورة مؤثرة.»
شروط المباحثة:
يشير المحقق في هذا القول إلى ما يسمى بالمباحثة، بمعنى أن يجتمع اثنان من طلاب العلم ليقرأ أحدهما الدرس ويستخرج منه أسئلة والآخر يستمع ويجيب، وتستمر المناقشة بينهما حتى تتضح المادة لديهما غاية الوضوح.
وللمباحثة والمطارحة شروط لا بد من توفرها، لتعطي ثمارها المرجوة، نذكر منها:
1- أن تكون بنية القربة إلى الله عز وجل، فإن النية روح العمل وسبب بقائه، والعمل بلا نية صالحة هو عمل ميت لا روح فيه، فكيف ترتجى ثمرته؟!
ص: 109
2- أن يكون الهدف منها الفهم الجيد الصحيح، وليس المراء وإثبات الرأي وإظهار الغلبة على الآخر، وهذا أيضاً مردُّه إلى النية الصالحة.
3- أن يوطّن طالب العلم نفسه على الاعتراف بخطئه وأن يستمع لمُباحثه كما لو كان أستاذه، وهذا من ثمرات التواضع.
4- الانضباط من حيث الوقت والحضور والكتابة، وهذا من الآداب المهمة في طلب العلم.
ص: 110
أسئلة:
س1/ما هي المنهجية العلمية للقراءة؟
س2/ ما هو معنى المباحثة في العلم؟
س3/ ما هي شروك إنتاج المباحثة؟
ص: 111
ص: 112
عن الامام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ انه قال: «القُلوبُ تَربٌ، والعِلمُ غَرسُها، والمُذاكَرَةُ ماؤُها، فَإِذَا انقَطَعَ عَنِ التَّربِ ماؤُها جَفَّ غَرسُها».(1)
قال المحقق رحمه الله تعالى: «وينبغي لطالب العلمِ أنْ يكونَ متأملا - في جميع الأوقات - في دقائِق العلُومِ، ويَعْتادَ ذلكَ، فإنّما يُدْرِكُ الدقائقَ بالتأمل، ولهذا قيل: (تأمَلْ تُدْرِكْ).
ولابُدَ من التأمل قَبْلَ الكلامِ، حتّى يكونَ صَوابا، فإنَ الكلامَ كالسَهمِ، فلابُدّ من تقويمه بالتأملِ قبلَ الكلام، حتّى يكونَ ذِكره مُصيباً.
في (اُصول الفقه): هذا أصْل كبير، وهو: أنْ يكونَ كلامُ الفقيه لمُناظِره بالتأمل.»
في هذا المقطع يشير المحقق رحمه الله تعالى إلى ضرورة توفّر طالب العلم على مبدأ التأمل في المطالب العلمية.
والتأمل: هو التفكر والتركيز على أمر واحد بحيث لا ينصرف الذهن إلى غيره.
اي إن التأمل يتحقق بوجود أمرين:
الأول: هو إعمال القوة الفكرية في مطلب علمي محدد.
الثاني: حصر الذهن في ذلك المطلب بحيث لا ينتقل عنه إلى غيره.
ص: 113
وثمرة ذلك: أن يزداد المتأمل فهماً للمطلب العلمي، حتى يحيط به من كل جوانبه.
ولا يخفى أن التأمل يحتاج إلى فكر صاف هادئ.
لذا على طالب العلم أن يبتعد عن المشوّشات والمُلهيات التي تقلل الانتباه و تضعف قوة التركيز.
ومما يدل على شرافة التأمل وأهميته هو كونه عبادة فضلى مارسها أولياء الله تعالى من أنبياء وصالحين.
حتى ورد: «تفكر ساعة خير من عبادة ليلة كاملة، أو من عبادة سنة»(1) حسب اختلاف مراتب التفكر.
وللتأمل شروط خاصة، خلاصتها:
1- تحديد الموضوع الذي يراد التأمل فيه.
2- اختيار الوقت والمكان المناسبين للتأمل بعيداً عما يشغل الذهن عادة، كوقت العمل أو حين الاجتماع بالعائلة.
3- الابتعاد عن الملهيات الفكرية والمادية التي من شأنها تشويش الفكر.
ص: 114
قال المحقق رحمه الله تعالى:
«ويكون مُسْتفيدا في جميع الأحْوالِ والأوْقاتِ، ومن جميع الأشْخاصِ. قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «الحكمة ضالّةُ المؤمِنِ أينما وَجَدَها أخذها». وقيل: «خُذْ ما صَفا، ودَعْ ما كَدر». وليسَ لِصحيحِ البَدَنِ والعَقْلِ عُذْر في تَرْك التعَلمِ.»
في هذا المقطع يشير المحقق رحمه الله تعالى إلى:
1/أنه ينبغي لطالب العلم أن يضع في اعتباره أن كل الأوقات والأحوال والأماكن هي فرص مناسبة لطلب العلم.
2/ أن القاعدة في طلب العلم هي: انظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال.
3/ أن الإنسان إذا كان صحيح البدن والعقل فهو ليس معذوراً في ترك التعلم، ولذلك ورد التأكيد الشديد على الشباب في أن يتفقهوا في دينهم. ففي الحديث عن الامام الباقر (صلوات الله وسلامه عليه) قال: لو أتيت بشاب من الشيعة غير متفقه في دينه لأوجعته ضرباً.(1)
ص: 115
ص: 116
عن رسول الله الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه قال: أجوع الناس طالب العلم، وأشبعهم الذي لا يبتغيه.(1)
قال المحقق رحمه الله تعالى: «وللمتعلّم أنْ يشتغلَ بِالشكر، باللسانِ، والأرْكانِ: بأنْ يرى الفَهمَ والعلمَ من الله، ويُراعيَ الفُقراءَ بالمالَ وغيره. ويَطْلُبَ من الله التوفيقَ والهدايةَ، فإنّ الله تعالى هادٍ لمن اسْتَهداه. ﴿وَمَنْ يَتَوَكَلْ عَلَى الله فَهوَ حَسْبُه﴾ ويهديه إلى صراطٍ مُسْتقيم».
في هذا المجال نشير إلى نقطتين:
الأولى: دوافع الشكر.
ما هي دوافع شكر الله تعالى، أي لماذا يجب علينا أن نشكر الله سبحانه؟
إن لشكره تعالى عدة أسباب منها:
1- أن الله تعالى أنعم على الإنسان بالعقل مما جعله يستطيع التفكير والتأمل والاستنتاج الذي ميّزه عن الحيوان وبقية الموجودات، فهذا العقل يستلزم الشكر.
2- أن العقل يحكم بضرورة شكر المنعم، ولا منعم حقيقة غير الله تعالى. إذن شكره تعالى واجب عقلي وأخلاقي.
3- أن الله تعالى خصّ طالب العلم بنعمة دون سائر عباده، وهي نعمة التوفيق
ص: 117
لطلب العلم، ويسّر له السبيل إلى ذلك بما منحه من قوة الفكر وسلامة الذاكرة ووجود الأساتذة والكتب والرزق الذي يقوى به على تحصيل العلم، وغيرها كثير مما يفوق حد الحصر.
4- أن شكره لله تعالى يستتبع الكثير من النعم وفقاً للقانون الإلهي القائل ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾(1)،
فمن أراد أن يزداد علماً وهدايةً فعليه أن يكون عبدًا شكورًا.الثانية: كيفية الشكر؟
للشكر مرتبتان:
1- الشكر اللساني: وهذا أمر واضح بيّن، وهو قول: الحمد لله، الشكر لله، وهذا الشكر نفسه يفتقر الى شكر.
2- الشكر الفعلي أو العملي: وهذا يكون بطاعة الله عز وجل بالائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه.
بالإضافة إلى الالتزام بأفعال هي في حقيقتها من ثمرات العلم المباركة، ومنها:
- قضاء حاجة المحتاجين، سواء كانت حاجتهم للعلم او المال.
- التذلل لله عز وجل، وطلب التوفيق منه دائماً الى طلب العلم والعمل به، وأن ينسب هذا الفهم لله عز وجل إذ لولاه لم يتوفق لهذا العلم، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال الشيخ رحمه الله تعالى:
وينبغي لطالب العلم أنْ يكونَ ذا همَةٍ عاليةٍ: لا يطمعُ في أموال الناس. قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «إيّاكَ والطَمَعَ فإنَه فَقْر حاضِر» ولا يَبْخَلُ بما عندَه من المال، بَلْ يُنْفِقُ على نفسه
ص: 118
وعلى غيره، قال النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «الناسُ كلهم في الفَقْرِ مَخافَة الفقرِ»، وكانوا في الزمان الأوّل يتعلّمونَ الحِرْفَةَ، ثُمَ يتعلّمونَ العِلْمَ، حتّى لا يطمعُوا في أموال الناس، وفي الحكمة: (مَن استغْنى بِمال الناس، افْتَقَرَ). والعالِمُ إذا كانَ طامِعا، لا تَبْقى له حُرْمة العِلمِ، فلا يقول بالحقَ.
في الحقيقة أن الطمع يجرجر حتى العالم ليوقعه ويجعله يتخلى عن موقعه العلمي ويتناساه ولا يقول الحق، لذا أكّد المحقق (رحمه الله تعالى) على ضرورة أن يتحلى طالب العلم بالقناعة، وأن يبتعد عن الطمع.
ص: 119
ص: 120
قال المصنف (رحمه الله): «وينبغي لطالب العِلْمِ أنْ يُعِدَ وَيُقَدرَ لنفسه تقديرا في التكرار، فإنّه لا يستقر قلبه حتّى يَبْلُغَ ذلك المبْلَغ.
وينبغي أنْ يُكَررَ سبق الأمْسِ خمسَ مرّاتٍ، وسبق اليوم. الذي قبل الأمْسِ أرْبَعَ مرّاتٍ، وسبق الذي قبلَه ثلاثا، والذي قبلَه اثْنتينِ، والذي قبلَه واحدةً. فهذا أدْعى إلى الحفظ وينبغي أنْ لا يعتادَ المخافتةَ في التكرار، لأنّ الدرسَ والتكرارَ لابُدّ أنْ يكونا بقوّةٍ ونِشاطٍ. ولا يشتغلُ في حال نُعاسٍ، أو غَضَبٍ، أو جُوعٍ، أو عَطَشٍ، ونحو ذلك، ولا يَجْهرُ جَهرا، ولا يُجْهدُ نَفْسَه لئِلاّ يَتَنَفّرَ و ينقطع عن التكرار. فخَيْرُ الاُمُورِ أوْسَطُها»
وحتى تتم الفائدة نذكر هنا بعض النصائح للمراجعة الصحيحة وهي:1- تحديد جدول زمني للمراجعة: فإن هذا أنفع لضبط الوقت، ومعرفة الوقت اللازم لكل مادة، فلا يكون وقت المراجعة مفتوحًا وغير محدد.
2- صنع مذكرات خاصة بالمراجعة: وذلك لاختصار المادة المراد مراجعتها وتثبيت المطالب الأساسية فيها.
3- الاستعانة بأستاذه أو زميله في ما يجده غير واضح من المطالب، فعند المراجعة يتأمل الطالب ويدقق في الدرس ولذا فإنه غالبا ما يكتشف أن بعض المطالب تحتاج إلى إيضاح، فعليه أن يراجع أستاذه أو يباحث زميله لتتضح له المطالب جيداً.
4- اختيار الزمان والمكان (الزمكان) المناسبين، وذلك لكي يكون أبعد عن المشوشات التي تشتت الذهن وتضعف الانتباه.
ص: 121
5- وضع خطوط أو علامات توضيحية على بعض المسائل لأهميتها، او لبيان العلاقة في ما بينها، كأن يكون بعضها سبباً لبعض، وما شابه ذلك.
وأن يضع عند المراجعة بعض الأسئلة للدرس فإنها تساعد في ترسيخ المعلومة أكثر وتكشف عن فهم الطالب للدرس.
ومن آداب المراجعة: أن لا تقرأ بصوت خافت جدًا لأنه يؤدي الى النعاس وتشتت الذهن، وفي المقابل أن لا يجهر بصوته ويجهد نفسه وإنما يختار الأمر الوسط.
وعلى الطالب المداومة في طلب العلم، ومن الحكم المذكورة في ذلك وصية لقمان الحكيم لابنه: يا بني اجعل في أيامك ولياليك وساعاتك نصيبا لك في طلب العلم، فإنك لن تجد له تضييعا مثل تركه.(1)
وعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قال: «منهومان لا يشبع طالبهما (أو لا يشبعان): طالب علم وطالب دنيا».(2)
إن عدم قناعة طالب العلم وطمعه في طلب العلم أمر محمود، إذ هو في الاتجاه العمودي الذي يتكامل فيه بازدياد، وأما طالب الدنيا فهو أيضًا لا يشبع، فعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه قال: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغىٰ إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلَّا التراب، ويتوب الله علىٰ من تاب»(3).
وروى الحسن بن علي بن فضال، عن ميسر قال: قال الصادق جعفر بن محمد3: «إن فيما نزل به الوحي من السماء: لو أن لابن آدم واديين يسيلان ذهبًا وفضة، لابتغى إليهما ثالثاً».(4)
ص: 122
أسئلة:
س1/يتحقق التأمل بأمرين، ما هما؟
س2/ما هي دوافع شكر طالب العلم بالخصوص لله تعالى؟
س3/للشكر مرتبتان، ما هما؟
س4/ كيف تكون المراجعة مثمرة؟
ص: 123
ص: 124
عن رسول الله الأعظم صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنه قال: «من طلب العلم تكفل الله برزقه».(1)
وفي حديث آخر: «من تفقه في دين الله كفاه الله همه، ورزقه من حيث لا يحتسب».(2)
قال المحقق رحمه الله تعالى: «لابُدَ لطالب العلم من التوكلِ في طلب العلمِ، ولا يهتمّ لأُمور الرِزْق، ولا يشغل قلبَه بذلك ويصبر، لأنَ طلبَ العلم أمْر عظيم، وفي تَعَب تحصيله أجْر قوِيّ، وهو أفضلُ من قراءة القرآن عند أكثر العلماء، فمن صَبَر على ذلك وَجَدَ لذّته تفوق سائر لذّات الدُنيا.
ولذا كانَ محمّد بنُ الحسن - إذا سَهرَ اللياليَ وانحلَ له المشكلاتُ- يقول: (أَيْنَ أبناءُ المُلوكِ من هذه اللذّاتِ).
وينبغي أنْ لا يشتغل بشيٍء، ولا يُعْرِضَ عن الفقه، والتفسير، والحديث، وعلم القرآن.»
عندما نتابع الروايات الواردة في فضل العلم، نجد أنها أشارت الى أن لطلب العلم فضائل كثيرة منها:
-- أن طلب العلم من أسباب محبة الله عز وجل.
-- وأن الملائكة تخدم طالب العلم وتضع له أجنحتها، رضىً به وتواضعاً له.
ص: 125
-- وأن كل شيء يستغفر لطالب العلم حتى الحيتان في البحر.
-- وأن طلب العلم من أسباب غفران الذنوب.-- وأن طلب العلم من أسهل الطرق إلى الجنة (رغم صعوبة طلب العلم).
-- وأن طالب العلم تكفّل الله عز وجل برزقه.
ولكن لا يُتوهم أن معنى هذا أن يعيش الطالب كَلاً وعالةً على غيره، بحجة أن الله عز وجل قد تكفل برزقه، فليست هذه دعوة للتواكل والتكاسل عن طلب الرزق وان يكون طالب العلم ثقيلًا على غيره.
اذن فما معنى ان الله تعالى قد تكفل برزق طالب العلم؟
في البداية نقول:
الظاهر أن هذا يرجع إلى مسألة اللطف الإلهي، حيث إن هناك بحثًا في علم الكلام في أن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده، واللطف قسمان: لطف محصل ولطف مقرب، وكلامنا في اللطف المقرب، ومعناه:
أن الله عز وجل يقدم تسهيلات -مما يسمى في الأدبيات الإسلامية بالتوفيق والتسديد الإلهي- بالمجان لعبد من عبيده، لأنه عمل أحد الأعمال الصالحة التي أهّلته ليستحق تلك العطية المجانية.
وهي مسألة عقلائية، فربُّ العمل قد يكافئ أحد موظفيه دون الآخرين لأنه أبدع في عمله، من باب تشجيعه وتحفيزه، وهذا التكريم ليس لازمًا على صاحب العمل، لكنه بهذا العمل يقرب ذلك الموظف إليه ويدفعه نحو العمل بجد أكثر، أي إن هذا الحافز لا يجعل الموظف يترك العمل متكلًا على الحوافز تلك، وانما يدفعه إلى مزيد من العمل، والحال نفسه يُقال مع رب العباد جل جلاله، فيزيد من عمر الإنسان مثلًا لو
ص: 126
وصل رحمه، وإذا رأى بعض عباده صادقين في نياتهم وينذرون عمرهم لخدمة المجتمع، فقد يهيئ لهم بعض التسهيلات، بأن يرزق أحدهم من حيث لا يحتسب، وبهذا يكون قد تكفل رزق طالب العلم المُجدّ، كأن يُسبب له بابًا للرزق بطريقة سهلة، ليتوجه بعده فقط إلى طلب العلم، وهذا يتوقف على كون الطالب مخلصًا في عمله.
ومنه نخلص إلى أن هناك توجيهين لروايات كفالة الله تعالى لرزق طالب العلم، وهما:
الأول: الظاهر والله العالم أن معناه هو أن الله تعالى يهب الرزق لطالب العلم بأدنى الأسباب وأيسرها فلا يشقى بتحصيل رزقه، وهذا لطف خاص منه تعالى، وهو المعبر عنه باللطف المقرب، ذلك أن للأعمال آثاراً ونتائج، فإن كان العمل مرضياً لله تعالى كانت نتائجه طيبة مباركة، وإلا فلا، وبما أن طلب العلم عمل يرتضيه الله عز وجل، فقد كان من نتائجه تيسير الرزق وتقريبه لطالب العلم.
الثاني: قد يكون المراد من الرزق الأعم من الرزق المادي والمعنوي، فليست الأرزاق منحصرة بالماديات فقط، بل الأرزاق المعنوية تفوق المادية قيمة وسعة وفضلاً، كالعلم النافع والهداية والقرب لله عز وجل و محبة المؤمنين والوجاهة الاجتماعية والسمعة الطيبة وغيرها كثير، فالشيخ الأنصاري قدس سرُّه الذي تُدرس كتبه إلى الآن لم يكن يملك بيتًا، فقد نُقل أنه تبرع أحد الصالحين له بمبلغ من المال لشراء بيت له، ولكن -وبتوفيق إلهي- قام الشيخ (رحمه الله) بشراء مسجد بدلًا من البيت، ليكون مكانًا للتدريس إلى اليوم، حيث يُعرف بمسجد الشيخ الأنصاري في النجف الأشرف، وبهذا توفيق لسيل جارٍ من الحسنات لا ينقطع.
ثم إن على طالب العلم أن يصبر على طلب العلم، إذ له به أجر عظيم.
ص: 127
موعظة:
على طالب العلم أن لا ينسى قدر نفسه وسط لذة طلب العلم ونشوته، وعليه أن يتذكر أنه مهما حاز من علوم ومعارف، فإن هناك من هو أعلم منه وأكثر تواضعًا منه. عليه أن يكون كمولاه الإمام الباقر عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ حينما أجاب النصراني الذي سأله فقال له: هل أنت من علماء هذه الأمة، فقال: أنا لستُ من جُهّالها.(1)
ص: 128
ص: 129
ص: 130
قال الشيخ رحمه الله: «الفصل السابع: في وقت التحصيل
قيل: (وَقْتُ الطلبِ: من المَهدِ إلى اللحْدِ).
وأفضل أوقاته: شَرْخُ الشباب ووقتُ السَحَرِ، وما بين العشائين.
وينبغي أنْ يستغرق جميع أوقاته.»
روي أنه في حكم لقمان الحكيم أنه قال: يا بني، إن كان بينك وبين العلم بحر من نار يحرقك وبحر من ماء يغرقك، فأنفذهما إلى العلم حتى تقتبسه وتعلمه، فإن تعلم العلم دليل الإنسان، وعز الإنسان، ومنار الإيمان، ودعائم الأركان، ورضا الرحمن.(1)
ص: 131
ص: 132
قال المحقق رحمه الله تعالى: «فإذا مَلَ من علمٍ اشتغلَ بعلمٍ آخر.
وكانَ محمّدُ بنُ الحسنِ لا ينامُ الليلَ، وكانَ يضَعُ عندَه دفاتِرَ، فكانَ إذا مَلَ من نوعٍ ينظُر في نوعٍ آخَر.
وكان يَضَعُ عندَه الماء، ويُزيلُ نومَه بالماءِ، وكانَ يقولُ: (النَوْمُ من الحَرارة).»
هنا توصية قيمة جداً من المحقق (رحمه الله تعالى) وهي: أن من طبع الانسان أنه يملُّ الشيء إذا ألِفَه واستمر عليه، ولو كان من ألذّ الملذات، وهو ما يمكن التعبير عنه بإدبار القلب عنه، فقد ورد عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أنه قال: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ إِقْبَالًا وإِدْبَاراً - فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَاحْمِلُوهَا عَلَى النَّوَافِلِ - وإِذَا أَدْبَرَتْ فَاقْتَصِرُوا بِهَا عَلَى الْفَرَائِضِ»(1)وقال صلوات الله عليه: «إِنَّ هَذِه الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الأَبْدَانُ - فَابْتَغُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكَمِ»(2)
ولذا ينصحنا المحقق رحمه الله تعالى انه إذا بدأنا بدراسة علم من العلوم وأحسسْنا بالملل منه علينا أن نتركه ونتحول إلى علم آخر ثم نعود إليه، حتى تتنوع المادة فإن من شأن التنوع أن يبعد الملل ويقلله ويعيد للطالب رغبته ونشاطه بإذن الله تعالى.
ص: 133
أسئلة:
س1/ما هي فضائل طلب العلم؟
س2/ما هو معنى اللطف المقرب؟
س3/ما هو توجيه روايات كالة رزق طالب العلم؟
ص: 134
عن الامام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: آفة الدين العجب والحسد والفخر.(1)الفصل الثامن: في الشَفَقةِ والنَصيحة
قال المحقق رحمه الله تعالى: «ينبغي أنْ يكونَ صاحبُ العِلْم مُشفقاً، ناصحاً، غير حاسِدٍ، فالحَسَدُ يَضُر ولا ينفع، بل يسعى بنيّة تحصيل الكمال، وينبغي أنْ تكونَ همَةُ المُعَلم أنْ يصيرَ المتعلّم في قرنِه عالماً ويُشْفِقَ على تلاميذه... بحيث فاق علماء العالم».
الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، فلا يمكنه العيش منفرداً، ولذا فإنه مذ وُجد على وجه البسيطة لا يعيش إلا ضمن جماعته. لأن هذا ما تقتضيه جبلته وفطرته.
بالإضافة إلى أن ضروريات الحياة تقتضي ذلك، فأبناء المجتمع الواحد يكمّل بعضهم بعضًا في سد متطلبات الحياة وضروراتها.
والآن ما دمتُ أعيش في مجتمع فلا يمكنني الاستغناء عنه بأي حال من الأحوال.
إذن كيف أحقق أمنياتي وطموحاتي؟ وأفراد المجتمع أيضًا لهم أمنياتهم وطموحاتهم التي يسعون لتحقيقها، فيقع التزاحم والتنافس بيننا !
يبدو أن الحل هو: أن نفكر بطريقة (ننجو معًا) لا بطريقة (أنا، ومِنْ بعدي الطوفان)!
نعم، باب التنافس مفتوح، وهو حق مشروع، بل من الراجح شرعًا وعقلًا أن
ص: 135
يتنافس الناس لنيل العلوم والفضائل وكل ما هو حسن جميل؛ ولكن مع توفّر النية الطيبة الحسنة، نية أن ينال الجميع ما يطلبون، وأن نحب لغيرنا ما نحب لأنفسنا، وقد جعل رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ هذه النية الطيبة مقترنة بإيمان المؤمن، حيث ورد عنه صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».(1)
فإذا توفرت لدينا هذه النية الانسانية الراقية فإننا حتمًا سنندفع لمساعدة الآخرين والأخذ بأيديهم وتقديم العون وكل ما من شأنه أن ينفعهم، فنجاحهم وتفوقهم يسعدنا ويفرحنا كما لو كان نجاحنا وتفوقنا.
يقول المصنف رحمه الله: «ينبغي أن يكون صاحب العلم مشفقًا».
الشفقة تعني: حرص الناصح على صلاح المنصوح، أي رقة ورحمة له وخوف من حلول المكروه به، وهو خُلُق رفيع يليق بصاحب العلم.
ثم ينهى رحمه الله في كلامه إلى ضرورة الابتعاد عن الحسد، والحسد هو تمني زوال نعمة الغير، وتقابله الغبطة وهي الرغبة في أن يعطيه الله تعالى مثل نعمة الآخر، كأن ترى عالمًا ورعًا تقيًا فترغب أن تكون مثله، وتسأل الله تعالى أن يرزقك مثل ذلك.
وعلى المعلم أن يشفق على تلاميذه وأن يسعى إلى أن يجعل الواحد منهم أعلم أهل زمانه.
وقد قال بعض أهل العلم: إن المعلم الناجح حقًا هو من يخرّج طالبًا أنجح منه.
ص: 136
قال رحمه الله تعالى: «وينبغي لطالب العلم أنْ لا يُنازعَ أحَدا، ولا يُخاصِمَه، لأنّه يُضَيّعُ أوقاتَه. فالُمحْسِنُ سيُجْزَى بإحْسانِه، والمُسيُء ستكفِيه مَساءتُه.
قيلَ: «عليكَ أنْ تشتغلَ بمصالح نَفْسك، لا بِقَهرِ عَدُوكَ، فإذا قُمْتَ بمصالحِ نَفْسِكَ تَضمَنَ ذلك قَهرَ عَدُوكَ».
وإيّاك والمعاداةَ، فإنّها تفضحُكَ، وتُضَيّعُ أوقاتَكَ. وعليكَ بِالتحملِ، لا سيّما من السُفَهاء.»
عبارة المصنف رحمه الله واضحة، والمنازعة المنهي عنها هنا هي المراء أي الجدال بما لا فائدة فيه، كأن يناقش الطالب غيره لأجل التفوق و إظهار الغلبة عليه، اما إذا كان النقاش من أجل الاستفهام وتبادل الآراء فهو بلا شك أمر مفيد بل ضروري جدًا لطالب العلم، حيث يعلّمه تقبّل رأي الآخر، ولو كان مخالفًا له، كما يعلّمه فن الحوار، وينمّي قدرته في التعبير عن رأيه بدقة، ويرسخ المادة العلمية في ذهنه.
أما كيف يطمئن الطالب أن نقاشه وجداله مع الآخرين هل كان جدلًا بالتي هي احسن أو لا؟
فنقول: إن للنقاش المثمر النافع علامات منها:
1/الهدوء، لا الغضب.
2/الاستماع للآخر حتى ينتهي.
3- الخضوع والإذعان والتسليم للحق لو ظهر.
ص: 137
أسئلة:
س1/بين: أن الإنسان كائن اجتماعي.
س2/ما هو معنى الشفقة؟
س3/ما هي علامات النقاش المثمر؟
ص: 138
عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه انه قال: «لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءاً، وأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مُحْتَمَلًا».(1)
قال المحقق رحمه الله تعالى:
«وإيّاك أنْ تَظُنَ بالمؤمِنِ سُوءًا، فإنَه منشأُ العَداوة. ولا يحل ذلك لقوله صلى الله عليه واله: ظنوا بالمؤمنين خيراً.»
لم يكتب لبني البشر في هذه الحياة وحسب نظامها الطبيعي أن يعطوا القدرة على معرفة ما وراء المادة، لذلك نحن لا نعرف من بعضنا البعض إلا الظاهر، وبالتالي قد تخفى علينا أمور كثيرة لو اطلعنا عليها لصحّحنا أو لغيّرنا نظرتنا اتجاه بعض الأشياء أو الأشخاص أو الأفعال.
إذا رأيتُ شخصاً دخل إلى بيت مشبوه، فأنا بحسب الظاهر أقول: هذا الشخص دخل إلى بيت مشبوه، إذاً، هو أيضاً مشبوه، ولعلي لو اطلعت على باطنه لوجدته قد دخل عليهم ليعظهم وليأمرهم بالمعروف ولينهاهم عن المنكر!
هذا قدرنا في الحياة.
روي أنه كان للإمام زين العابدين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ابن عم يأتيه بالليل متنكرًا فيناوله شيئًا من الدنانير فيقول الرجل: لكن علي بن الحسين لا يواصلني، لا جزاه الله عني خيرًا! فيسمع
ص: 139
ذلك ويحتمل ويصبر عليه ولا يعرّفه بنفسه، فلما مات علي عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فقدها، فحينئذ علم أنه هو كان، فجاء إلى قبره وبكى عليه.(1)
وهذا معناه: أن نعمل قدر الإمكان على حمل فعل المؤمن على الصحة، وأن لا نحكم عليه بحكم سيء أو ننسب إليه السوء، ما دمنا نستطيع بشكل من الأشكال أن نحمل فعله على الصحة.
في الحديث عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه: لَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ الْقَضَاءُ عَلَى الثِّقَةِ بِالظَّنِّ.(2)
فإذا كان هذا الانسان مؤمنًا ثقة، فليس من الصحيح أن أحكم عليه بشيء غير يقيني، فلابد أن أحاول أن أحمله على محمل حسن، فإن لم تجد له محملاً فقل عسى أن يكون له عذر وأنا لا اعرفه.
لذلك يقول المحقق رحمه الله: ينبغي لطالب العلم أن لا يشغل نفسه بالظن السيء، عليه أن يبتعد عن الظن السيء لأنه يترتب عليه آثار سيئة.
ثم قال: وإنّما يَنْشَأُ ذَلِكَ من خُبْثِ النِيّةِوهنا نقطتان:
الأولى: آثار سوء الظن؟
إن لسوء الظن آثاراً عديدة، منها:
1/ أنه يورث ظن الخيانة حتى لمن لا يخون، أي إنه يورث انعدام الثقة، فيتولد إحساس بأن الناس جميعًا ليسوا محلًا للثقة، فأُخوّن من لا يخون وأُكذّب الصادق، وهذا
ص: 140
يؤدي إلى قطع الروابط بين المجتمع.
2/ أنه يترك المرء بلا خليل ولا صديق، لأنه كلما يريد أن يصادق شخصًا ما، فإنه يظن به سوءاً، فيخاف منه ويسحب نفسه، وبالنتيجة سيكون وحيداً لا صديق له.
3/أنه يورث الغيبة، إذ بما أنه يظن بالناس سوءاً، فسوف يتكلم عنهم ولو بعد حين.
4/ أنه يورث العداوة.
الثانية: أسباب الظن السيء؟
أشار الشيخ إلى سبب من أسباب الظن السيء وهو:
1/خبث النية وسوء السريرة.
وهناك أسباب أخرى منها:
2/ بعض التصرفات اللا واعية أو اللا مقصودة من الشخص، كأن يدخل في موضع يشك فيه، أي في موضع ريبة، أو يصاحب شخصًا سيئاً.
في الحديث عن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه انه كان يقول: «مَنْ وَضَعَ نَفْسَه مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ، فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِه الظَّنَّ».(1)
فينبغي الابتعاد عن مثل هذه الأماكن، على الأقل من باب (رحم الله من جب الغيبة عن نفسه).
3/ الإسراع بالحكم من دون تروٍ ولا سؤال ولا استفسار وتأكد.
ولذا روي عن أبي عبد الله عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: «اتَّقوا مواضع الريب، ولا يقفنَّ أحدكم مع
ص: 141
أُمِّه في الطريق، فإنَّه ليس كلُّ أحد يعرفها»(1).
4/ ما ورد عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «صحبة الاشرار توجب سوء الظن بالأخيار».(2)
ص: 142
الفصل التاسع: في الاستفادة.
قال المحقق (رحمه الله تعالى): فينبغي لطالب العلم أنْ يكونَ مستفيدا في كل وَقْتٍ، حتّى يَحصلَ له الفضْلُ. وطريق الاستفادة: أنْ يكون مَعَه - في كُلّ وَقْتٍ - مَحْبَرة، حتّى يكتبَ ما يسمع من الفوائد
الشيخ رحمه الله تعالى هنا يشير إلى قضية خلاصتها: أن على طالب العلم أن يستفيد من جميع أوقاته وأن لا يضيعها في الترهات.
فهنا نذكر أمرين مهمين، هما:
الأمر الأول: ما هي عوامل تضييع الوقت؟
الجواب: نذكر عدة عوامل هي:
1/ عدم وجود خطة عن: ماذا أدرس؟ وكيف أدرس؟ وما هو الوقت الذي أبدأ به الدرس؟
2/عدم تحديد الهدف.
3/التكاسل والتأجيل، وهو من أهم عوامل تضيع العمر وليس وقت دراسة العلم فقط، فإذا كان الطالب مجدًا فعليه أن لا ينتقل من عمل الى آخر من دون إنهاء الأول حتى ينفذ مشاريعه بالتسلسل.
4/ النسيان، وعلاجه أن يجعل همه الدراسة، وينفع أن يضع مفكرة خاصة بالأمور
ص: 143
المهمة كي لا ينساها.
5/ مقاطعات الآخرين وأشغالهم.
6/ عدم الاستمرار بالتنظيم.
الأمر الثاني: نصائح للاستفادة من الوقت.
روي عن الامام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ أنه قال: «الْقَلْبُ يَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابَةِ».(1)
هناك أمور إذا التزمها طالب العلم الديني بل كل مثقف وكل طالب علم في أي جانب من جوانب المعرفة فإن التزامها يعني استغلال أكبر وقت ممكن في النافع، والنصائح كثيرة نذكر منها التالي:1/تنظيم جدول مرنٍ: فإذا تم تنظيم الجدول، سيكتشف الشخص أن هناك وقتًا كثيرًا غير مملوء، يمكنه أن يستفيد منه في أكثر من مورد، وقد قالوا في علم إدارة الوقت بأنه: يلزم أن يكون الجدول مرٍناً، يعني في استعداد دائم للطوارئ التي تحصل، والتي قد تضطر الفرد إلى تغيير بعض مواعيد جدوله.
2/ الاستفادة من الاوقات القصيرة الضائعة: فإذا تم تجميع هذه الأوقات ستوفر بالتراكم وقتًا ممتازًا يمكن الاستفادة منه.
3/استغلال أوقات الانتظار: إذ يمكن لك أن تقرأ فيها أو تطالع فيها كتابًا أو بحثًا ما.
ونُقل أن الشهيد الأول في الأيام التي تفرغ فيها لكتابة (اللمعة الدمشقية) كان يعيش مراقبًا في بيته من قبل السلطة، ولذلك فقد كان يتكتم في الكتابة.
4/ اصطحاب دفتر وقلم دوماً: تقيد به خاطرة معينة مثلًا، فالعلم يفر ولا يقيد
ص: 144
إلا بالكتابة، ينقل أن بعض العلماء ذهب إلى كربلاء مشياً على الأقدام وكتب أحد كتبه المهمة أثناء مشيه!
5/الاهتمام بالصحة جيداً: لأنه إذا كان صحيح البدن فإنه يستطيع أن يفكر جيدًا ويكتب ويدرس...
قال المحقق رحمه الله تعالى: فينبغي لطالب العلم أنْ يكونَ مستفيدا في كل وَقْتٍ، حتّى يَحصلَ له الفضْلُ. وطريق الاستفادة: أنْ يكون مَعَه - في كُلّ وَقْتٍ - مَحْبَرة، حتّى يكتبَ ما يسمع من الفوائد
وقال في موضع: وينبغي أنْ يستصحبَ دفترا على كُلّ حالٍ لِيُطالعه. وقيل: «من لم يكن الدفْتَرُ في كُمه لم تثبت الحكمةُ في قلبه). وينبغي أنْ يكونَ في الدفْتَرِ بياض، ويَسْتَصْحِبَ المحبَرَةَ ليكتبَ ما يسمعُ. كما قال النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لهلال بن يَسار - حينَ قَرَرَ له العلمَ والحكمةَ -: «هلْ معك محبرة».
وقال رحمه الله تعالى: قيلَ: «ما حُفِظَ فَرَ، وما كُتِبَ قَرَ»، وقيل: «العلمُ ما يُؤْخَذُ من أفواه الرجال». لاِنّهم يحفَظونَ أحْسَنَ ما يَسْمعونَ، ويقولونَ أحْسَنَ ما يحفَظونَ. ووصّى شَخْص ابْنَه بأنْ يحْفَظَ كلَ يومٍ شِقْصًا من العِلم، فإنّه يَسير، وعن قَرِيْبٍ يَصِيْرُ كَثيراً، والعُمُرُ قصير، والعلمُ كثير، فينبغي أنْ لا يُضيّعَ الطالبُ له الأوقاتَ، والساعاتِ، ويغتَنِمَ اللياليَ والخَلواتِ، قيل: «الليلُ طَوِيْل فلا تُقَصرْه بمنامِكَ، والنهارُ مُضي فلا تكَدّرْه بآثامِكَ».
ص: 145
ص: 146
قال قدس سره:
وينبغي لطالبِ العلم أنْ يَغْتَنِمَ الشُيوخَ، ويَسْتَفِيْدَ منهم، ولا يتحسَرُ لِكُل ما فاتَ، بل يَغْتَنِمُ ما حَصَلَ له في الحالِ والاستِقْبال.
الحياة ثلاث لحظات، وهي:لحظة مضت وهي من الماضي، وهذه لمَ الحسرة عليها؟
إنه لا داعي للحسرة على شيء فات وانتهى، نعم الحسرة على عمر ذهب سدىً أو على ذنب صدر في الماضي هذا شيء جيد.
لحظة المستقبل:
والمستقبل مجهول بالنسبة إليّ فلا داعي من الخوف منه بتوقع المكروه مثلًا، ولكن لا بد ان يكون للإنسان نية خير للمستقبل.
اللحظة التي أنت فيها:
والدنيا إنما هي اللحظة التي أنت فيها، فعليك أن تعمل فيها بجد.
ص: 147
ص: 148
قال رحمه الله تعالى:
«ولابُدَ لطالبِ العلم من تحمل المشاق والمَذَلّةِ في طلب العلم والَتمَلقُ مذموم إلا في طلب العلم، فإنّه لابُدَ له من تملق الاُستاذ والشركاء وغيرهم، للاستفادة منهم. وقيل: (العِلْمُ عِز لا ذُلَ فيه، ولا يُدْرَكُ إلا بذُل لا عِزَ فيه.»
والعبارة واضحة المغزى.
ص: 149
أسئلة:
س1/ما هي آثار سوء الظن؟
س2/ما هي أسباب سوء الظن؟
س3/ما هي عوامل تضييع الوقت؟
س4/ كيف يمكنك الاستفادة من الوقت تماماً؟
س5/الحياة ثلاث لحظات، وضح ذلك.
ص: 150
عن الامام الكاظم صلوات الله وسلامه عليه انه قال: «ان المسيح عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ قال للحواريين: ان صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس يحقرها لكم ويصغرها في أعينكم فتجتمع وتكثر فتحيط بكم».(1)
قال المحقق رحمه الله تعالى: الفصل العاشر، في الورع في التعلم.
رُويَ حديث في هذا البابِ عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قال: «مَنْ لم يَتَوَرَعْ في تعلّمه، ابْتلاه الله بأحَدِ ثلاثةِ أشْياء: إمّا يُميتُه في شَبابه. أوْ يُوقِعُه في الرساتيق(2). أوْ يبتليه بخدمة السُلْطان».
فمهما كانَ طالبُ العِلمُ أوْرَعَ، كانَ علمُه أنْفَعَ، والتعلمُ له أيْسَرَ، وفوائدُه أَكْثَرَ.
ومن الوَرَع: أنْ يحترزَ عن الشبع، وكثرةِ النَوْمِ، وكثرةِ الكلام فيما لا يَنْفَعُ. وأنْ يَحْتَرِزَ عن أكْلِ طعام السُوْقِ، إنْ أمْكَنَ، لأنَ طعامَ السوقِ أقربُ إلى النجاسة والخباثة وأبْعَدُ عن ذكر الله تعالى، وأقْرَبُ إلى الغَفْلة. ولاِنَ أبْصارَ الفُقَراءِ تَقَعُ عليه، ولا يقدرونَ على الشراء، فيتأذّون بذلك، فتذهبُ بركَتُه.
وينبغي أنْ يحترزَ عن الغِيْبَةِ. وعن مُجالسة المِكْثار، فإنّ مَنْ يُكْثر الكلامَ يَسْرِقُ عُمُرَكَ، ويُضيّعُ أوْقاتَكَ.
ص: 151
ومن الوَرَع: أنْ يجتنبَ من أهل الفَسادِ والتَعْطيلِ، فإنَ المجاورةَ مؤثّرة، لا مَحالةَ. وأنْ يَجْلسَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلةَ، في حالِ التكرار والمطالعة، ويكونَ مستنّا بسُنّة النبيّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ويَغْتَنِمَ دعوةَ أهلِ الخَيْرِ، ويحترز عن دَعْوة المظلوم، ويطلب الهمَةَ والاستدعاء (من الصالحين).
إن طالب العلم مهما تهاون في خلق من الأخلاق، فإنه لا ينبغي ولا يجوز له أن يتهاون بصفة الورع.
الورع: هو الابتعاد عن المحرمات، وهذا المعنى من الورع لا يُعذر فيه مسلم، فكل من يدّعي الايمان يلزمه أن يبتعد عن المحرمات، وإلا لخرج من حدّ الإيمان إلى حد الفسق، فطالب العلم أولى الناس بالاتصاف بهذه الصفة، وهذه هي المرتبة الأولى للورع.
وهذا المعنى من الورع استعير للكفّ عن المكروهات أيضاً فيقال: إنه يتورع عن فعل المكروهات، وهذه المرتبة هي المرتبة الثانية للورع.
وهناك مرتبة ثالثة له هي: مرتبة ترك بعض المباحات مما يدخل تحت عنوان لا ينبغي، مثل: الأكل في الطرقات، والضحك بصوت عالٍ، وما شابه.والمرتبتان الأخيرتان وإنْ لم يكن فيهما إلزام، لكنهما على كل حال تعطيان نتائج وثمرات للروح لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الالتزام بترك المكروهات وترك بعض المباحات فعلاً وفكراً.
وحيث إن طالب العلم يسعى للحصول إلى أعلى درجات الكمال، فينبغي له -قبل غيره- أن يسعى للوصول إلى أعلى هذه المراتب من الورع، وليس من المناسب له أن يكتفي بالابتعاد عن المحرمات فقط مما قد يفعله الكثير من عامة الناس.
ص: 152
روي أنَّه قال الشقران مولىٰ رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: خرج العطاء أيّام أبي جعفر وما لي شفيع، فبقيت علىٰ الباب متحيِّراً، وإذا أنا بجعفر الصادق، فقمت إليه، فقلت له: جعلني الله فداك، أنا مولاك الشقران، فرحَّب بي وذكرت له حاجتي، فنزل ودخل وخرج وأعطاني من كُمِّه فصبَّه في كُمّي، ثمّ قال: «يا شقران، إنَّ الحسن من كلِّ أحد حسن، وإنَّه منك أحسن، لمكانك منّا، وإنَّ القبيح من كلِّ أحد قبيح، وإنَّه منك أقبح»، وعظه علىٰ جهة التعريض لأنَّه كان يشرب(1).
فقد كان هذا الكلام من الإمام (سلام الله عليه) تعريضًا به لأنه كان يشرب الخمر، ولكنه لم يطرده وإنما أشار اليه، وهذا نفس أسلوب خطاب القران الكريم لنساء النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، قال تعالى ﴿يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَىٰ اللهِ يَسِيراً. وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً﴾ [الأحزاب 30 – 31].
وعلى نفس النهج نقول: إن طالب العلم عليه مسؤولية أكبر، وان من أهم صفات طالب العلم هو الورع.
وقد ذكر المصنف (رحمه الله تعالى) أن من الورع الاحتراز عن الشبع، فما هو السبب في ذلك؟
يمكن ان نحصل الجواب من خلال:
1/ ما ذكرته بعض الروايات بأنه يورث الثقل والظلمة في القلب وما شابه ذلك.(2)
ص: 153
2/ قد يكون بمعنى أنه عندما يبقى جائعًا لأنه يبقى متعلقًا بالله عز وجل.
3/وأنه إذا بقي جائعاً يتذكر الفقراء، وتذكره للفقراء يجعله يعطف عليهم، وبالتالي سيتمثل بصفات أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.
قال الشيخ (رحمه الله): وينبغي أنْ يحترزَ عن الغِيْبَةِ.لعل المراد منها المرتبة الثانية
علمًا أن الغيبة فيها مرتبتان:
المرتبة الأولى: فاعل الغيبة، وهو مرتكب للحرام بلا شك.
المرتبة الثانية: مستمع الغيبة، فيقول العلماء: إذا كان غير راض ويعترض بقلبه أو بلسانه لا يحصل على الحرام.
ص: 154
أسئلة:
س1/ ما هي مراتب الورع؟
س2/لماذا كان الاحتراز ن الشبع من الورع؟
س3/ما هما مرتبتا الغيبة؟
ص: 155
ص: 156
عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يَقُولُ: لَا تَسْتَكْثِرُوا كَثِيرَ الْخَيْرِ ولَا تَسْتَقِلُّوا قَلِيلَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ قَلِيلَ الذُّنُوبِ يَجْتَمِعُ حَتَّى يَكُونَ كَثِيراً، وخَافُوا اللَّه فِي السِّرِّ حَتَّى تُعْطُوا مِنْ أَنْفُسِكُمُ النَّصَفَ.(1)
قال المحقق رحمه الله تعالى:
فينبغي أنْ لا يَتَهاوَنَ برعايةِ الاَدابِ والسُنَنِ، فإنَ «مَنْ تَهاوَنَ بالاَداب، حُرِمَ السُنَنَ، ومَنْ تهاوَنَ بالسُنَنِ حُرِمَ الفرائضَ، ومَنْ تَهاوَنَ بالفرائض حُرِمَ الاَخِرَةَ»، وقال بعضهم: هذا حديث عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
يشير (رحمة الله تعالى عليه) في هذا المقطع إلى أنه ينبغي لطالب العلم أن يراعي جميع الآداب والسنن المستحبة التي وردت في الشريعة المقدسة، وذلك لما لها من تأثير في قلبه، يؤدي به إلى حفظه للعلم وإلى صعوده في مراتب الكمال.
نُقل أن أحد العلماء أوصى ذريته: بأن لا يتركوا مستحباً ورد في الشريعة إلا ويفعلونه ولو مرة واحدة في عمرهم.
فافعل أي مستحب في الشريعة ولو مرة واحدة في عمرك، لعل رضا الله عز وجل يكون في هذا الفعل المستحب، حتى وإن كان استحبابه غير ثابت، فإنه يمكنك أن تأتي بها برجاء المطلوبية، بمعنى: أنه لو جد رواية دلت على ترتب ثواب على فعل معين، ولكنها كانت رواية ضعيفة السند، فيمكنه أن يأتي به برجاء أن يكون قد ورد
ص: 157
في الشريعة، أي لا يؤتى به على نحو التشريع؛ كي لا يلزم الكذب على الرسول صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لو صادف عدم صحة الرواية الوارد هو فيها.
فهناك حديث لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يقول: إن الله اخفى أربعة في أربع، ومنها أخفى رضاه في طاعته، فلا تتركن طاعة لعلها توافق رضا الله وانت لا تعلم.(1)
ومما يشير إليه قول المحقق (رحمة الله تعالى عليه) هي قضية جداً مهمة، وهي:
أن هناك ارتباطًا بين مفردات الاسلام، فالواجب ليس بعيداً عن المستحب، والمستحب ليس بعيداً عن الأمور التي تدخل ضمن المروءة والآداب العامة، فهناك ارتباط فيما بينها، وحتى تحافظ على المرتبة اللازمة، عليك أن تحافظ على قدر معين من المراتب المستحبة، والعكس بالعكس أيضاً، فتبتعد عن الآداب السيئة غير المرغوب بها في المجتمع، حتى لا تصل إلى فعل المكروهات وبالتالي تبتعد عن الحرام، ولذا قيل: من تهاون بالآداب حرم السنن.
قال المحقق رحمه الله تعالى: «وينبغي أنْ يُكْثِرَ الصَلاة» ويُصلّيَ صلاةَ الخاشعينَ، فإنّ ذلِكَ عَوْن على التحصيل والتعلّم.
ما هي صلاة الخاشعين؟
فسّرت الروايات الشريفة الخشوع في الصلاة، فعن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لما سئل عن
ص: 158
الخشوع قال: التَّواضُعُ فِي الصَّلاةِ، وأن يُقبِلَ العَبدُ بِقَلبِهِ كُلِّهِ عَلى رَبِّهِ عزّوجلّ.(1)
وفي رواية أخرى عن الامام الصادق (صلوات الله وسلامه عليه) في قَولِهِ تَعالى: ﴿الَّذينَ هُم في صَلاتِهِم خاشِعونَ﴾ -: الخُشوعُ غَضُّ البَصَرِ فِي الصَّلاةِ.(2)وفي حديث أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أبصَرَ رَجُلاً يَعبَثُ بِلِحيَتِهِ في صَلاتِهِ فَقالَ: إنَّهُ لَو خَشَعَ قَلبُهُ لَخَشَعَت جَوارِحُهُ.(3)
من هذه الاحاديث الثلاثة ننتهي إلى نتيجة هي:
أن المقصود من الخشوع في الصلاة هو معنى مركب من الحفاظ على الجوارح من أن تعمل عملاً غير صلاتي، ومن المحافظة على الجوانح من أن تبتعد عن التوجه نحو الله عز وجل.
والإنسان إذا خشع في صلاته لله سبحانه وتعالى، فسيُجلّل بنور لا يعلمه إلا الله عز وجل.
ص: 159
ص: 160
قال رحمة الله عليه:
وينبغي أنْ يستصحبَ دفترا على كُلّ حالٍ لِيُطالعه. وقيل: «من لم يكن الدفْتَرُ في كُمه لم تثبت الحكمةُ في قلبه». وينبغي أنْ يكونَ في الدفْتَرِ بياض، ويَسْتَصْحِبَ المحبَرَةَ ليكتبَ ما يسمعُ.
كما قال النبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لهلال بن يَسار - حينَ قَرَرَ له العلمَ والحكمةَ -: «هلْ معك محبرة».
وهذا ما تحدثنا عنه في عنوان (الاستفادة من الوقت).
ص: 161
أسئلة:
س1/ما هي أهمية فعل المستحبات لطالب العلم؟
س2/بين الترابط بين مفردات الإسلام.
س3/بين معنى صلاة الخاشعين.
ص: 162
روي عن رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ انه قال: «ثلاثة يزدن في الحفظ ويذهبن بالبلغم: قراءة القرآن والعسل واللبان».(1)
وفي رواية أخرى قال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «ثلاثة يذهبن النسيان ويحدثن الذكر: قراءة القرآن والسواك، والصيام».(2)
وفي رواية ثالثة قال صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «حفظ الغلام كالوسم على الحجر وحفظ الرجل بعدما يكبر كالكتابة على الماء».
قال المحقق رحمه الله تعالى:
وأقوى أسْباب الحفظ:
1 - الجِد.
2 - والمُواظَبَةُ.
3 - وتقليلُ الغذاء.
4 - وصلاةُ الليلِ، بالخُضوع والخُشوع.
5 - وقراءةُ القُرآن من أسْباب الحفظ.
قيلَ: «ليسَ شيء أزْيدَ للحفظ من قراءة القرآن لا سيّما آية الكرسيّ».
ص: 163
وقراءةُ القرآن نَظَرا أفضلُ، لقوله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «أفْضَلُ أعمال اُمّتي قراءة القرآن نظراً».
6 - وتكثيرُ الصلاةِ على النبيّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ
7 - والسِواكُ.
8 - وشرب العَسَل.
9 - وأكل الكُنْدُر(1) مع السُكَر.
10 - وأكل إحْدى وعِشْرين زَبيبة حَمْراء - كلّ يوم - على الرِيْق يُورِثُ الحِفْظ، ويَشْفي كثيرا من الأمراض والأسقام.
11 - وكلّ ما يُقلّل البَلْغَمَ والرطوباتِ يزيدُ في الحِفظ. وكلّ ما يزيدُ في البلغم يُورث النسيانإن من أعظم النعم على الإنسان في هذه الحياة هي نعمة الحفظ، ويكفي لمعرفة أهمية الحفظ والذاكرة وعظم النعمة فيها أن ننظر لرجل فَقَدَ ذاكرته، لنرى كيف صارت الدنيا عنده عبارة عن مجموعة مجهولات، فلا يهتدي لبيته، ولا يعرف زوجته ولا ولده، وستتحول الدنيا في عينيه إلى مجموعة من الخطوط المتشابكة المتقاطعة التي لا حدّ للجهل فيها.
ولكن رغم ذلك تأتي روايات أهل البيت عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ لتقول: إن هناك نعمة أعظم من نعمة الحفظ للإنسان، وهي ما قاله الامام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «... وأعظم من النعمة علىٰ الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان، فإنَّه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة، ولا انقضت له حسرة، ولا مات له حقد، ولا استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكُّر الآفات، ولا رجا غفلة من سلطان، ولا فترة من حاسد، أفلا ترىٰ كيف جعل في الإنسان الحفظ
ص: 164
والنسيان، وهما مختلفان متضادّان، وجعل له في كلٍّ منهما ضرب من المصلحة؟...»(1).
فالنسيان نعمة عظيمة على الإنسان، لولاها لبقي حزيناً ومهموماً طول حياته، والإمام عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ يقول: «هذه النعمة أعظم من نعمة الحفظ».
ورغم أن هذه النعمة عظيمة، ولكن لها ضريبتها، ولها مردوداتها على حياة الانسان!
فالنسيان في الوقت الذي هو نعمة من هذه الناحية، هو آفة العلم من ناحية اخرى، إذ العلم من الموجودات الانسيابية –كالزئبق- لا يمكنك أن تمسكه بسهولة، بل تحتاج إلى خبرة وقدرة ودقة وتكرار.
وحتى يعمل الانسان على إمساك أكبر قدر ممكن من هذا الموجود الزئبقي، عليه أن يقوّي ذاكرته، فإذا قوّى ذاكرته أمكنه أن يمسك بشيءٍ من العلم.
وبالمتابعة، نجد أن هناك قدرًا معتدًا به من الروايات تتكلم عن أسباب النسيان وعن أسباب الحفظ، ومن هنا عقد المحقق (رحمه الله تعالى) هذا الفصل ليبين ما هي الأمور التي تساعد على الحفظ وما هي الأمور التي تؤدي إلى النسيان، ليتمسك طالب العلم بالأولى وليعمل على اجتناب الثانية.
أما أسباب الحفظ فهي:
1/الجد: هو نقيض الهزل أي الاجتهاد في الأمور.
2/ المواظبة: أي المداومة والمثابرة على الشيء والملازمة له.
3/ تقليل الغذاء: لأن الانسان عندما يشبع فسوف يشعر بالنعاس، وإذا شعر بذلك سيخلد إلى النوم، فلا يطلب العلم، فعندما يقلّل الغذاء فإنه لا يُصاب بالغثيان أو النعاس.
ص: 165
4/صلاة الليل بالخشوع والخضوع.
5/قراءة القرآن، كما ورد هذا في الحديث الشريف.
6/الكندر: هو علك البستك.ثم قال رحمه الله تعالى:
وأمّا ما يُورِثُ النِسْيانَ:
1 - فالمَعاصي.
2 - وكثرة الهموم والأحْزان في اُمور الدّنيا
3 - وكثرة الاشتغال والعلائق.
وقد ذكرنا أنّه لا ينبغي للعاقل أنْ يهتمَ باُمور الدنيا لأنّه يضرّ، ولا ينفعُ. وهموم الدنيا لا تخلو عن الظُلمة في القلب، وهموم الاَخرة لا تخلو عن النور في القلب، وتحصيل العلوم ينفي الهمَ والحُزْنَ.
4 - وأكل الكُزْبُرة
5 - والتفّاح الحامِض.
6 - والنظر إلى المَصْلُوب.
7 - وقراءة لَوْح القُبور.
8 - والمُرُور بَيْنَ قطار الجمل.
9 - وإلقاء القَمْل الحيّ على الأرض.
10 - والحِجامة على نُقْرَة القَفا.
كل ذلك يُورِثُ النِسْيانَ.
ص: 166
انتقل المحقق قدس سرُّه إلى مطلب آخر وهو: ما يورث النسيان، وأول شيء ذكره هي المعاصي، إذ إن الروايات الشريفة رتبت على الذنوب الكثير من الآثار، وواحد من هذه الآثار هو النسيان.
شكا رجل إلى وكيع بن الجراح سوء الحفظ فقال: استعينوا على الحفظ بترك المعاصي، فأنشأ يقول:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي
وذلك أن حفظ المرء فضل *** وفضل المرء لم يدركه عاصي.(1)
ص: 167
ص: 168
في ما يجلب الرزقَ، وما يمنع الرزقَ وما يزيد في العُمُر، وما ينقصه.
القوانين التي تحكم العالم نوعان:
1/ القوانين التكوينية: هي الأنظمة العامة التي جعلها الله تعالى لتنظيم العالم، وهي خارجة عن قدرة الانسان، ولذا لا يسأل عنها الانسان، مثل: قانون الموت، قانون الحياة، قانون الجاذبية، قانون أن النار محرقة، أن الماء يروي العطشان وما شابه.
2/ القوانين التشريعية: الأحكام التكليفية الإلزامية وغير الإلزامية، وهي: الواجب والمستحب والحرام والمكروه والمباح، والإنسان مسؤول عليها ومكلف بها.
وهناك ارتباط واضح شديد بين القوانين التكوينية والقوانين التشريعية، طرداً وعكساً، إيجاباً وسلباً، فكلما ازداد التزام المرء بالأحكام الشرعية، كلما انقادت إليه القوانين التكوينية، لذلك كان دعاء الانبياء مستجابًا، والنبي صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قال للقمر انشق، فانشق، على غرار ما ورد في الحديث القدسي عن الرب العلي أنه يقول: «عبدي أطعني أجعلك مثلي أنا حي لا أموت ، أجعلك حيا لا تموت، أنا غني لا أفتقر أجعلك غنيا لا تفتقر، أنا مهما أشأ يكن أجعلك مهما تشأ يكن»(1).
والعكس بالعكس، فكلما قل ارتباط الانسان بالأحكام التكليفية، كلما ابتعد عن السيطرة على قوانين أنظمة العالم.
ص: 169
هذا الارتباط أشارت إليه العديد من الآيات والروايات، منها:
قوله تعالى:﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَىٰ الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً﴾ [الجن 16] والتي فسرت بولاية أمير المؤمنين عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فِي قَوْلِه تَعَالَى: ﴿وأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً﴾ قَالَ: يَعْنِي لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى وَلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ والأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِه عَلَيْهِم اَلسَّلاَمُ وقَبِلُوا طَاعَتَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ ونَهْيِهِمْ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً. يَقُولُ: لأَشْرَبْنَا قُلُوبَهُمُ الإِيمَانَ والطَّرِيقَةُ هِيَ الإِيمَانُ بِوَلَايَةِ عَلِيٍّ والأَوْصِيَاءِ.(1)
ويقول تعالى ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً﴾ [نوح 10 – 12].
ويقول تعالى ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم 7]في رواية عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه: «ما زالت نعمة ولا نضارة عيش إلا بذنوب اجترحوا، إن الله ليس بظلام للعبيد».(2)
وفي رواية عن الامام الصادق عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: «من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار».(3)
والرزق من الأمور التكوينية، إن الإنسان يسعى في طلب الرزق، ولكن الإنسان إذا ما التزم بالأحكام الشرعية فإن الله تعالى سيسهّل له أمر رزقه، وطالب العلم اذا التزم بهذه الأحكام، فسوف لن يشغل قلبه وفكره بطلب العيش، فالنفس إذا احرزت رزقها
ص: 170
اطمأنت.
قال المحقق رحمه الله تعالى:
«ثمَ لابُدَ لطالب العلم من القُوْت ومعرفة ما يزيد فيه، وما يزيدُ في العمر وينقص، والصحّة، ليكونَ فارِغَ البال في طَلَب العلم.
وفي كلّ ذلكَ صَنّفوا كُتُبًا. فأوردتُ البعضَ هاهنا على الاختصار:
قال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «لا يزيدُ الرزق، ولا يرُدّ القَدَرَ إلا الدُعاء، ولا يزيدُ العُمُرَ إلا البرَ (فإنَ الرجُلَ ليحرم الرزق بالذنب يُصيبُه».»
1 - فيثبتُ بهذا الحديثِ أنَ ارتكابَ الذَنْبِ سَبَبُ حِرْمان الرزق، خصوصًا الكذبُ، [فإنّه] يُورث الفقر، وقد وَرَدَ فيه حديث خاص لذلك.
2 - وكذا الصُبْحة [أي النوم بين الطلوعين] تمنع الرزق.
3 - وكذا كثرة النوم.
4 - ثمَ النوم عُرْيانا.
5 - والبولُ عُرْيانا.
6 – والأكْل جُنُبا.
7 - ومتّكئا على جَنْبٍ.
8 - والتَهاوُن بِسقاط المائدة.
9 - وحَرْق قشر البَصَل والثوم.
10 - وكَنْس البيت في الليل.
11 - وترك القُمامة في البيت.
ص: 171
12 - والمشي قدّامَ المشايخ.
13 - ونداء الأبَويْنِ باسْمهما.
14 - والخلال بكلّ خَشَبَةٍ.
15 - وغسل اليدينِ بالطين والترابِ.
16 - والجلوس على العتبة.
17 - و الاتّكاء على أحَدِ زوجي الباب.
18 - والتَوَضؤِ في المَبْرَز [محلّ البِراز - يعني الغائط - وهو مجمعه.]
19 - وخياطة الثوب على بدنه.
20 - وتجفيف الوجه بالثوب.
21 - وترك بيت العنكبوت في البيت.
22 - والتهاوُنُ بالصلاة.
23 - وإسْراع الخروج من المسجد.
24 - والإبكار في الذهاب إلى السوق.
25 - والإبطاءُ في الرجوع منه.
26 - وشراء كسرات الخبز من الفُقراء والسائلين.
27 - ودعاء الشرّ على الوالِدَيْنِ
28 - وترك تخمير الأواني. [التخمير: الستر، والمراد عدم تغطية الأواني بل تركها مكشوفة]
29 - وإطْفاء السراج بالنَفَس.
ص: 172
كل ذلك يُورِثُ الفقر، عُرِفَ بالاَثار.
30 - وكذا الكِتابةُ بقَلَمٍ مَعْقودٍ. [المراد بالقلم ما هو من عود القصب، إذا كانت معه واحدة من العُقَد التي فيه.]
31 - والامْتشاط بمشط متكَسّرٍ.
32 - وترك الدعاء للوالدَيْن.
33 - والتَعَممُ قاعدا.
34 - والتَسَرْوُلُ قائما.
35 - والبُخْلُ.36 - والتقتير.
37 - والإسراف.
38 - والكَسَل، والتواني.
39 – والسؤال.
40 - والتهاوُنُ في الاُمور.
ص: 173
ص: 174
1 - وقال رسول الله صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «اسْتنزلوا الرزق بالصَدَقةِ».
2 – والشكر
3 - والبُكُور مُبارَك، يزيدُ في جميع النِعَم خصوصا في الرزق.
4 - و(حُسْنُ الخطّ من مفاتيح الرزق).
5 - وبسط الوجه.
6 - وطيب الكلام يزيد في الرزق.
وعن الحسن بن عليّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ:
7 - «تركُ الزِنا
8 - وكنسُ الفِنَا
9 - وغسلُ الإنَاء مَجْلبة للغِنى».
10 - وأقوى الأسباب الجالبة للرزق: إقامة الصلاةِ بالتعظيم والخشوع.
11 - وقراءة سورة (الواقعة) خصوصًا بالليل، ووقت العشاء. (وسورة (يَسَ) و ﴿تَبَارَكَ الَذِي بِيَدِه الْمُلْكُ﴾ وقت الصُبْح).
12 - وحضور المسجد قبل الأذان.
13 - والمُداومة على الطهارة.
14 - وأداء سُنَة الفجْر، والوتر، في البيت.
ص: 175
15 - وأنْ لا يتكلّم بكلام الدُنيا بعد الوِتر.
16 - ولا يُكثر مجالسة النِساء، إلاّ عند الحاجة.
17 - وأنْ لا يتكلّم بكلامٍ لغْوٍ (غير مفيد لدينه ودنياه). قيل: (مَنِ اشْتَغَلَ بما لا يعنيه، يفوته ما يعنيه).
ص: 176
وممّا يَزيدُ في العُمُر:
1 - تَرْكُ الأذى.
2 - وتوقير الشيوخ.
3 - وصلة الرحم.
4 - وأنْ يحترز عن قطع الأشجار الرطبة، إلا عند الضرورة.
5 - وإسباغ الوضوء.
6 - وحفظ الصحّة.
ولابُدّ أنْ يتعلّمَ شيئا من الطِبّ، ويتبرّك بالاَثار الواردة في الطبّ، التي جمعها الشيخ الإمام أبو العباس المستغفري، في كتابه المسمَى (طبّ النبيّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) يجدُه مَنْ يَطلبُه.
والحمد لله أولًا وآخرًا.
ص: 177
أسئلة:
س1/بيّن النعمة في الحفظ.
س2/ بيّن النعمة في النسيان.
س3/ما هي أهم أسباب الحفظ؟
س4/في العالم نوعان من القوانين، بينهما، وبيّن الارتباط بينهما.
ص: 178
ص: 179
ص: 180
الأمالي الشيخ الصدوق ت قسم الدراسات ط 1/ 1417ه- / مؤسسة البعثة. الأمالي الشيخ الطوسي / ت مؤسسة البعثة ط 1 / 1414ه- / دار الثقافة/ قم. الأمالي: الشيخ المفيد ت الأستادولي، علي أكبر الغفاري/ ط 2/ 1414ه/ دار
المفيد بيروت.
بحار الأنوار العلامة المجلسي / ط 2 المصححة / 1403ه- / مؤسسة الوفاء/
بيروت.
تاج العروس الزبيدي / 1414ه/ دار الفكر/ بيروت. تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني ت عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404ه- / مؤسسة النشر الإسلامي قم.
تفسير الإمام العسكري - المنسوب إلى الإمام العسكري / تحقيق : مدرسة الإمام المهدي / الطبعة: الأولى محققة / سنة الطبع : ربيع الأول 1409 / المطبعة: مهر - قم المقدسة/ الناشر: مدرسة الإمام المهدي - قم المقدسة/ برعاية: السيد محمد باقر الموحد الأبطحي.
تفسير العياشي: العياشي / ت هاشم الرسولي المحلاتي/ المكتبة العلمية الإسلامية
طهران.
تفسير العياشي: محمد بن مسعود العياشي / تحقيق : الحاج السيد هاشم الرسولي
ص: 181
المحلاتي / الناشر : المكتبة العلمية الإسلامية – طهران.
تفسير القمي: علي بن إبراهيم /القمّي / ت طيّب الجزائري / ط 3 / 1404ه- /
مؤسسة دار الكتاب/ قم.
تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام: ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/
1368ش / مط حيدري / دار الكتب الإسلامية/ طهران.
الجامع الصغير : السيوطي ط 1 / 1401ه/ دار الفكر/ بيروت. الخصال: الشيخ الصدوق ت علي أكبر الغفاري / 1403ه- / جماعة المدرسين/
دعائم الإسلام القاضي النعمان المغربي ت آصف فيضي/ 1383ه/ دار المعارف/ القاهرة.
الدعوات: قطب الدين الراوندي ط 1 / 1407ه- / مط أمير مؤسسة الإمام المهدي / قم.
دلائل الإمامة : الطبري (الشيعي) / 1 / 1413ه- / مؤسسة البعثة/ قم.
ربيع الأبرار ونصوص الأخبار الزمخشري :تحقيق عبد الأمير مهنا الطبعة:
الأولى سنة الطبع : 1412 - 1992 م / الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
بيروت.
—
روضة الواعظين الفتال النيسابوري ت محمّد مهدي الخرسان منشورات
الشريف الرضي/ قم.
:الصحاح الجوهري ت أحمد عبد الغفور العطار / ط 4/ 1407ه/ دار العلم
للملايين بيروت.
ص: 182
علل الشرائع الشيخ الصدوق ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه- منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها النجف الأشرف.
العلم والحكمة في الكتاب والسنة محمد الريشهري / تحقيق: مؤسسة دار الحديث الثقافية الطبعة: الأولى :المطبعة دار الحديث الناشر: مؤسسة دار الحديث الثقافية - قم - ایران.
عمدة القاري العيني / المطبعة: بيروت - دار إحياء التراث العربي الناشر: دار إحياء التراث العربي
عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي / تحقيق تقديم: السيد شهاب الدين النجفي المرعشي / تحقيق: الحاج آقا مجتبى العراقي / الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1403 - 1983 م / المطبعة: سيد الشهداء - قم.
عيون الحكم والمواعظ عليّ الليثي الواسطي / ت حسين البيرجندي/ ط 1/ دار
الحديث.
قصص الأنبياء: قطب الدين الراوندي / تحقيق الميرزا غلام رضا عرفانيان اليزدي الخراساني الطبعة الأولى سنة الطبع : 1418 - 1376 ش/ المطبعة: مؤسسة الهادي/ الناشر: الهادي. الكافي: الشيخ الكليني / ت عليّ أكبر الغفاري ط 5 / 1363ش/ مط حيدري/
دار الكتب الإسلامية/ طهران.
كمال الدين الشيخ الصدوق ت علي أكبر الغفاري 1405ه- / مؤسسة النشر الإسلامي قم.
كنز العمال: المتقي الهندي ت بكري حياني/ 1409ه- / مؤسسة الرسالة/
ص: 183
بيروت.
كنز الفوائد: أبو الفتح الكراجكي ط 2 1369ش/ مط غدير / مكتبة المصطفوي قم.
لسان العرب: ابن منظور / سنة الطبع : محرم 1405 / الناشر: نشر أدب الحوزة. المبسوط : الشيخ الطوسي / تحقيق : تصحيح وتعليق السيد محمد تقي الكشفي/ سنة الطبع : 1387 / المطبعة: المطبعة الحيدرية - طهران الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء آثار الجعفرية
مجمع الزوائد: الهيثمي / 1408ه- دار الكتب العلمية بيروت. المحاسن البرقي ت جلال الدين الحسيني المحدث/ 1370ه/ دار الكتب
الإسلامية طهران. مستدركات أعيان الشيعة حسن الأمين سنة الطبع: 1408 - 1987 م /
المطبعة دار التعارف للمطبوعات الناشر : دار التعارف للمطبوعات. مستطرفات السرائر : ابن إدريس الحلّي ط 2 1411ه- / مؤسسة النشر 2/
الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين/ قم.
مسند الشهاب: محمد بن سلامة القضاعي تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي/ الطبعة: الأولى / سنة الطبع : 1405 - 1985 م / الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت مشارق أنوار اليقين الحافظ رجب البرسي / تحقيق : السيد علي عاشور / الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1419 : 1419 - 1999 م / الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان.
مشكاة الأنوار: علي الطبرسي ت مهدي هوشمند/ ط 1/ 1418ه/ دار
ص: 184
الحديث.
المصباح (جنة الأمان الواقية وجنة الايمان الباقية الشيخ إبراهيم الكفعمي/ الطبعة: الثالثة الناشر : مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيرو
مصباح المتهجد الشيخ الطوسي / ط 1 / 1411ه- / مؤسسة فقه الشيعة/ بيروت. من لا يحضره الفقيه الشيخ الصدوق/ تحقيق : تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري :الطبعة الثانية الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة.
مناقب آل أبي طالب ابن شهر آشوب / ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه- /
المكتبة الحيدرية النجف.
منهاج الصالحين: السيد السيستاني.
المنهج الجديد في تعليم الفلسفة : الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
منية المريد الشهيد الثاني ت رضا المختاري ط 1 1409ه- / مكتب الإعلام
الإسلامي. موسوعة العقائد الإسلامية: محمد الريشهري / الطبعة الثالثة: 1386 / تحقيق: مركز بحوث دار الحديث- قم/ دار الحديث.
ميزان الحكمة محمّد الريشهري/ ط 1/ دار الحديث.
عد انتعالى
نزهة الناظر : الحلواني / ت مدرسة الإمام المهدي / ط 1 / 1408ه- / مدرسة
عم اتعالى
الإمام المهدي قم.
نقد الرجال: التفرشي تحقيق: مؤسسة آل البيت عالم السلام لإحياء التراث الطبعة: الأولى سنة الطبع: شوال 1418 المطبعة: ستارة - قم/ الناشر: مؤسسة آل
ص: 185
البيت الا لإحياء التراث - قم.
نهج
البلاغة: الشريف الرضي ضبط نصّه الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387ه- / بيروت.
ص: 186
ص: 187
ص: 188
الإهداء...3
مقدمة المعهد...5
المقدمة...7
نبذة عن حياة المحقق الطوسي قدس سره...11
آداب الافتتاح...19
ماهية العلم وفضله...27
العلم سعادة...37
ضرورة النية الخالصة في طلب العلم...45
الصبر والمجاهدة في طلب العلم...51
اختيار العلوم...55
اختيار الأستاذ...63
تعظيم العلم وأهله...71
آداب الكتابة...77
ما ينبغي أن يحترز منه طالب العلم...81
الجد والمواظبة والهمة في طلب العلم...87
زمن الابتداء بالدرس...101
الاجتهاد في الفهم والتأمل والتفكر...107
أهمية المباحثة...109
التأمل في العلوم...113
الاستفادة من جميع الأوقات والأشخاص...115
ضرورة اشتغال المتعلم بالشكر...117
أهمية المراجعة...121
طالب العلم والتوكل...125
وقت التحصيل...131
علاج الملل...133
المعلم وضرورة الإخلاص والنصح...135
ص: 189
الابتعاد عن المنازعة...137
حسن الظن بالمؤمنين...139
الاستفادة من الوقت...143
اغتنام وجود ذوي الخبرة...147
تحمل المشاق في طلب العلم...149
ضرورة الورع لطالب العلم...151
عدم التهاون بالآداب...157
ضرورة اصطحاب الدفتر على كل حال...161
تنمية الحفظ والذاكرة...163
ما يجلب وما يمنع الرزق...169
ما يزيد في الرزق...175
ما يزيدُ في العُمر...177
المصادر...181
ص: 190