قصص الأبرار من بحار الأنوار

هویة الکتاب

قِصَصِ الاَبْرَارِ مِنْ بِحاَرِ الاَنْوارِ

العَتَبَةُ العبّاسيَّةُ المُقَدَّسَةُ

قِسْم الشُؤُونِ الفِكْرِيَة وَالثِّقَافِيَة

شعبة الإعلام

وِحْدَةُ الدِّرَاسَاتِ وَ النَّشَرَاتِ

كربلاء المقدسة

ص.ب (233)

هاتف: 322600، داخلي : 175-163

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

الكتاب قصص الأبرار من بحار الأنوار.

الكاتب : السيد مرتضى الحسيني.

الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العبّاسية المقدسة / شعبة الاعلام/ وحدة الدراسات والنشرات.

التصميم و الاخراج الطباعي : علاء سعيد الاسدي - محمّد قاسم النصراوي.

التدقيق اللغوي: مصطفى كامل محمود.

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر - التابع للعتبة العبّاسية المقدسة.

الطبعة: الأولى

عدد النسخ: 2000

جمادى الآخرة 1434 - آيار 2013

محرّر: محمّد رادمرد

ص: 1

اشارة

العَتَبَةُ العبّاسيَّةُ المُقَدَّسَةُ

قِسْم الشُؤُونِ الفِكْرِيَة وَالثِّقَافِيَة

قِصَصِ الاَبْرَارِ مِنْ بِحاَرِ الاَنْوارِ

تأليف: السيد مرتضى الحسيني

وِحْدَةُ الدِّرَاسَاتِ وَ النَّشَرَاتِ

ص: 2

قَالَ اللّهُ تَعَالَي

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

المقدمة

الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على مبلّغ الإسلام الأوّل وخاتم الرُسل النبي الأكرم محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعلى آله الطاهرين الهداة المهديين (عَلَيهِم السَّلَامُ).

تبليغ الإسلام وبيان مبادئه وأحكامه وتعاليمه من الواجبات المهمة التي أكّد عليها القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة وأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).

قال تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّن دَعَا إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا» (1) وروي عن الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «عالمٌ يُنتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد» (2)، كما روي أيضاً عن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «الراوية لحديثنا يشدُّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد»(3).

في الوقت الّذي تحتفظ النظرية الإسلامية بدور هام لعملية التبليغ في الهداية، فإنّها تؤكّد من جانب آخر على ضرورة توفّر مجموعة عناصر في عملية التبليغ لكي تحقّق العملية نجاحها.

ومن العناصر المهمة في نجاح التبليغ والمبلّغ هي :

المحتوى الصحيح، والعنصر الأدبي والأخلاقي، وقوّة الاستدلال، والإخلاص، والعنصر القصصي والحكاياتي.

ص: 5


1- فصلت: 33.
2- الكافي : ج 1 ص 33.
3- نفس المصدر.

والتعبير القصصي له أهمية قصوى في توصيل الفكرة والتعامل معها بصورة واضحة وشفافة وهي سهلة الفهم سَلِسَة المعاني، لذلك نجد إنّ القرآن الكريم قد اهتمّ بهذا الجانب من جوانب التبليغ الديني حتّى أنزل سورة كاملة باسم «القصص».

فهكذا ينبغي الالتفات والتفكير الجدي في هذا الجانب، فالقصة لا تُروى لأجل الترفيه والتسلية وتقضية الوقت وما إلى ذلك، بل إنّ القصة هدف وغاية وأُنشودة وأُسلوب فنّي وعلمي لتوصيل الأفكار والمبادئ.

ومن خلال تجاربي التبليغيّة أحسستُ وجود فراغ للعنصر القصصي والحكايات والحوادث التاريخية الواقعية منها والبنّاءة التي حدثت في زمن الأنبياء والرسل وخاتم الرسل (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأهل بيته الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ) وأصحابهم الميامين.

وعلى هذا غصت في البحار وسبحت في أنواره، واستخرجت منه حسب معرفتي بعض الّذي فيه من الجواهر والدُرر، وصغتها في كتابي هذا ليسهل على المبلّغ حملها في رحله وترحاله التبليغي.

وفي الختام أُقدّم جزيل شكري وجميل ثنائي لقرّتَي عيني وثمرتَي فؤادي ابنتَي «أُم حوراء» و«أُم محمّد» على جهودهما في هذا السفر المتواضع سائلا العليّ القدير أن يوفّقها لمزيد من الخير والسداد والأجر والثواب والحمد للّه ربّ العالمين.

السيّد مرتضى الحسيني الميلاني

ص: 6

مقدمة الطبعة الرابعة

أثر القصة في عملية التغيير الإنساني

بغض النظر عمّا للقصة من دور في الانفتاح على الفكرة المراد تمريرها وما يترتب على ذلك من الانسيابيّة في طرحها والسهولة في معالجة مواقع الانغلاق فيها.

أقول : بغض النظر عن هذه الثمرات الموجودة من القصة وغيرها.

فإنّ للقصة دورها الرائد وميدانها الفاعل في صياغة الإنسان والمساهمة الفاعلة في عملية التغيير الإنساني.

وقبل ذكر مفاصل القوة في القصة، وقبل التطرق لبيان الدور الرائد لها في عملية التغيير، نرى لزاماً علينا التعرض لهدفية التغيير الإنساني سواء على صعيد الفرد أو المجتمع، إذ من خلالها يمكن التعرف بشكل أكبر على ضرورة فرض القصة كواقع عملي يتحرك على جميع المستويات ويمكننا هذا من إعطاء القصة دوراً أكبر، وموقعها اللّائق في مجالات التخاطب كافة وبمختلف صورها.

التغيير في الإنسان هدف

سعت الشرائع السماوية إلى رفع مستوى الإنسانية وانتشالها من حضيض الجهل إلى مدارج العلم والكمال ومن عتمة الظلمات إلى إشراقة الأنوار، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ الهدف الرئيسي الّذي تتوخّاه السماء هو التغيير الجذري في الإنسان، وذلك ما يعبّر عنه

ص: 7

القرآن الكريم: «هُوَ الّذي يُنَزِلُ عَلَى عَبْدِهِ ءَايَتِ بَيِّنَتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللّه بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ»(1).

وقال تعالى : «الر كِتَبُ أَنزَلْنَهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»(2).

وغيرها من الآيات القرآنية.

وهذا لا يعني سلب الإختيار عن الإنسان وفرض التغيير عليه بالجبر والإكراه، فلا يوجد هناك توهم بأنّ القرآن صريح في إن التغيير يرجع أولا وأخيراً إلى الإنسان ذاته، حيث يقول تعالى في كتابه الكريم : «إِنَّ اللّه لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»(3).

وهناك في القرآن آيات فيها دلالة واضحة على أن عملية التغيير هي هدف إلهي سماوي، وإن كان لا ينفك عن اختيارية الإنسان وحرّيته في الانتخاب، وهذا عين ما نطق به الحديث الشريف: «من أراد عِزّاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فليخرج من ذلِّ معصية اللّه إلى عزّ طاعته». حيث إنه صريح بارتباط التغيير بإرادة الإنسان.

بعد هذا نذكر بعض النقاط المهمّة لمساهمة القصة في عملية التغيير الإنساني:

1. للقصة أثر بالغ في خلق روح المقاومة والصحوة والصبر تجاه تحدّيات العصر ومصاعب الزمن، إذ قال تعالى : «تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ»(4).

2. تُعدُّ القصة من أبرز العوامل وأيسر السبل للاتعاظ والتذكير في وجدان

ص: 8


1- الحديد: 9.
2- ابراهیم: 1.
3- الرعد: 11.
4- هود: 49.

الإنسان، قال تعالى: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ»(1).

وهكذا يقول أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في نهج البلاغة حينما يتكلم عن الأمم السالفة: «فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أُمورهم حين وقعت الفرقة، وتشتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة وتشعبوا مختلفين وتفرقوا متحاربين قد خلع اللّه عنهم لباس كرامته وسَلَبهم غضارة نعمته، وبقي قصص اخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين»(2).

رُبَّ ذكرى أنجت من لظى، ورُبَّ موعظة لاقت قلباً طاهراً فتمركزت فيه وأدت الغرض.

3. وتفيد القصة في وضع النقاط على الحروف وبيان المفردات اللّازمة والمصاديق الجزئية لعملية المعروف ومنجزاته والمنكر وتبعاته إذ الحديث في عالم الكليات وعلى مستوى المفاهيم، وإن كان مفيداً في حد ذاته، ولكن لم ينزل إلى أرض الواقع. فلذا كان للقصة هذا الدور المهم والفاعل.

4. وتفيد القصة الهادفة أيضاً في انتشال الإنسان من عالم الغفلة وايقاظ المجتمع من حالة السبات والنوم الروحي والمعنوي عنده حيث قال تعالى : «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَفِلِينَ»(3).

5. وأخيراً يجب أن تكون القصة هادفة وصادقة حتّى يمكن لها أن تُزيل الأوهام والأدران من النفوس، وتُرشد النّاس وتهديهم إلى مافيه خير وصلاح الدنيا والآخرة.

ص: 9


1- هود 120.
2- نهج البلاغة خ 192 القاصعة.
3- یوسف: 3.

وكذلك يجب أن لا تكون القصة هدفاً تجارياً أو إنحرافياً فيها إساءة للأنبياء والصلحاء، كما نرى ما يقوم به تجار القصص ونسّاجي الخيال الّذين دسّوا في الكثير من كتبهم القصص الخيالية والانحرافية، والخرافات التافهة والأقوال الباطلة التي لا تليق بمقام الأنبياء والأوصياء والصلحاء، وذلك من أجل أهداف مادية أو سياسية أو شخصية وغير ذلك...

علينا أن ننتخب لمنابرنا ومجالسنا وأحاديثنا أحسن وأصدق القصص لتربية الفرد والمجتمع. «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَفِلِينَ»(1).

إشارة أخيرة

طلب الكثير من الأخوة المبلّغين وغيرهم في إعادة طباعة كتابنا هذا بعد أن نفذت الطبعة الأولى، والموسوم ب«قصص الأبرار» لما لمسوا فيه من أثر طيب في النفوس، وسهولة إيصال الفكرة الهادفة إلى المستمعين عبر أدوات التبليغ الديني.

ونحن إذ نشكر لهم هذا اللّطف وحسن ظنهم، نستجيب لأمرهم، وبعد زيادة وتنقيح وحذف وإضافة في العناوين، أُقدم لهم ولكل أعزائي القرّاء كتابي هذا في طبعته الرابع المزيّدة المنقحة سائلا المولى العلي القدير القبول والتوفيق.

المؤلف

ص: 10


1- يوسف : 3.

باب العلم

قهر الناصبيّ

عن أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد حمل إليه رجل هدية فقال له: أيّما أحبّ إليك أن أردّ عليك بدلها عشرين ضعفاً عشرين ألف درهم أو أفتح لك باباً من العلم تقهر فلان الناصبيّ في قريتك، تنقذ به ضعفاء أهل قريتك؟ إن أحسنت الاختيار جمعت لك الأمرين، وان أسأت الاختيار خيّرتك لتأخذ أيّهما شئت». فقال : يا ابن رسول اللّه فثوابي في قهري ذلك الناصب واستنقاذي لأُولئك الضعفاء من يده قدره عشرون ألف درهم؟ قال : بل أكثر من الدنيا عشرين ألف ألف مرّة. فقال: یا ابن رسول اللّه فكيف أختار الأدون بل أختار الأفضل الكلمة التي أقهر بها عدوّ اللّه وأذوده (1) عن أولياء اللّه. فقال الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): قد أحسنت الاختيار وعلّمه الكلمة وأعطاه عشرين ألف درهم، فذهب فأفحم الرجل فاتصل خبره به، فقال له إذ حضره: «يا عبداللّه ما ربح أحد مثل ربحك ولا أكتسب أحد من الأودّاء ما اكتسبت، اكتسبت مودّة اللّه أوّلا، ومودّة محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و عليّ ثانياً، ومودة الطيبين من آلهما ثالثاً، ومودّة ملائكة اللّه رابعاً، ومودّة إخوانك المؤمنين خامساً، فاكتسبت بعدد كلّ مؤمن وكافر ما هو أفضل من الدنيا ألف مرّة فهنيئاً لك هنيئاً» (2).

ص: 11


1- أي أدفعه واطرده.
2- البحار : ج 2 ص 8.

الركون إلى الدنيا

عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان لموسى بن عمران (عَلَيهِ السَّلَامُ) جليس من أصحابه قد وعى علماً كثيراً، فاستأذن موسى في زيارة أقارب له، فقال له موسى: إنّ لصلة القرابة لحقّاً، ولكن إيّاك أن تركن إلى الدنيا فإنَّ اللّه قد حمّلك علماً فلا تضيّعه وتركن إلى غيره، فقال الرجل: لا يكون إلا خيراً، ومضى نحو أقاربه فطالت غيبته، فسأل موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) عنه فلم يخبره أحد بحاله، فسأل جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) عنه، فقال له: أخبرني عن جليسي فلان أَلك به علم ؟ قال : نعم، هوذا على الباب قد مسخ قرداً، في عنقه سلسلة، ففزع موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى ربه وقام إلى مصلّاه يدعو اللّه، ويقول : ياربّ صاحبي وجليسي، فأوحى اللّه إليه ياموسى لو دعوتني حتّى ينقطع ترقوتاك(1) ما استجبت لك فيه إني كنت حمّلته علمًا فضيّعه وركن إلى غيره(2).

لا أدري نصف العلم

وروي عن القاسم بن محمّد بن أبي بكر أحد فقهاء المدينة المتّفق على علمه وفقهه بين المسلمين أنّه سئل عن شيء فقال : لا أحسنه، فقال السائل : إنّي جئت إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم : لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، واللّه ما أحسنه. فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي ألزمها فقال : فواللّه ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم. فقال القاسم: واللّه لأن يقطع لساني أحبّ إليّ أن أتكلّم بما لا علم لي به(3).

قياس أبي حنيفة

في رواية عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال لأبي حنيفة لما دخل عليه: «من أنت»؟ قال: أبو

ص: 12


1- الترقوة: مقدم الحلق في أعلى الصدر حيث يترقّى فيه النفس.
2- البحار: ج 2 ص 40.
3- البحار: ج 2 ص 123.

حنيفة قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «مفتي أهل العراق»؟ قال: نعم. أهل العراق ؟ قال : نعم. قال: «بما تفتيهم»؟ قال: بكتاب اللّه قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «وانّك لعالم بكتاب اللّه ناسخه و منسوخه ومحكمه ومتشابهه»؟ قال: نعم. قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فأخبرني عن قول اللّه» (عزّوجلّ) : «وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا عَامِنِينَ»(1) «أيُّ موضع هو» ؟ قال أبو حنيفة: هو ما بين مكّة والمدينة. فالتفت أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى جلسائه وقال: «نشدتكم باللّه هل تسيرون مكّة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل وعلى أموالكم من السرق؟ فقالوا: اللّهم نعم. فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ويحك يا أبا حنيفة إنّ اللّه لا يقول إلّا حقاً».

«أخبرني عن قول اللّه» : «وَمَن دَخَلَهُ كَانَ عَامِنَا»(2) «أي موضع هو» ؟ قال : ذلك بيت اللّه الحرام، فالتفت أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى جلسائه وقال: «نشدتكم باللّه هل تعلمون أنَّ عبداللّه بن زبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل»؟ قالوا: اللّهم نعم، فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : « ويحك يا أبا حنيفة إن اللّه لا يقول إلّا حقاً». فقال أبو حنيفة: ليس لي علم بكتاب اللّه إنّما أنا صاحب قياس.

فقال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فانظر في قياسك إن كنت مقيساً أيُّما أعظم عند اللّه القتل أو الزنا»؟ قال: بل القتل. قال: «فكيف رضي في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلاّ بأربعة»؟ ثم قال له: «الصلاة أفضل أم الصيام» ؟ قال : بل الصلاة أفضل. قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب اللّه تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة».

ثمّ قال له: «البول أقذر أم المنيُّ» ؟ قال : البول أقذر، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المنيّ، وقد أوجب اللّه تعالى الغسل من المني دون البول»، قال:

ص: 13


1- سبأ: 18.
2- آل عمران: 97.

إنّما أنا صاحب رأي، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فما ترى في رجل كان له عبدٌ فتزوَّج وزوّج عبدَه في ليلة واحدة، فدخلا بإمرأتيهما في ليلة واحدة، ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد فولدتا غلامين فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك وأيهما المملوك ؟ وأيهما الوارث وأيهما الموروث» ؟ قال : إنّما أنا صاحب حدود. قال: «فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح، وأقطع قطع يد رجل كيف يقام عليهما الحدّ»؟ قال: إنّما أنا رجلُ عالم بمباعث الأنبياء. قال : «فأخبرني عن قول اللّه تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون : «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»(1) «ولعلّ منك شكّ»؟ قال: نعم، قال: «فكذلك من اللّه شكّ إذ قال : لعلّه»؟

قال أبو حنيفة : لا علم لي قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «تزعم أنّك تفتي بكتاب اللّه ولست ممّن ورثه، وتزعم أنّك صاحب قياس وأوَّل من قاس إبليس ولم يبن دين الاسلام على القياس، وتزعم أنّك صاحب رأي وكان الرأي من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) صواباً ومن دونه خطاً لأنَّ اللّه تعالى قال: أُحكم بينهم بما أراك اللّه، ولم يقل ذلك لغيره، وتزعم أنك صاحب حدود ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك، وتزعم أنك عالم بمباعث الأنبياء ولَخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك لو لا أن يقال دخل على ابن رسول اللّه فلم يسأله عن شيء ما سألتك عن شيء فقس إن كنت مقيساً، قال: لا تكلّمت بالرأي والقياس في دين اللّه بعد هذا المجلس. قال: كلاً إِنَّ حبّ الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك»(2).

غرائب العلوم في حروف الهجاء

قال موسی بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن آبائه عن أبيه الحسين بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «جاء يهوديّ إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعنده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له: ما الفائدة في حروف

ص: 14


1- طه : 44.
2- البحار: ج 2 ص 287.

الهجاء؟ فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أجبه، وقال : اللّهم وفقه وسدّده، فقال علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ما من حرف إلّا وهو اسم من أسماء اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثمّ قال: امّا الألف فاللّه الّذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، وأمّا الباء فباق بعد فناء خلقه، وأمّا التاء فالتوّاب يقبل التوبة عن،عباده، وامّا الثاء فالثابت الكائن يثبت اللّه الّذين آمنوا بالقول الثابت، وأمّا الجيم فجلَّ ثناؤه وتقدَّست أسماؤه، وأمّا الحاء فحقٌّ حيّ حليم، وأمّا الخاء فخبير بما يعمل العباد، وأمّا الدال فديّان يوم الدين، وأمّا الذال فذو الجلال والإكرام، وأمّا الراء فرؤوف بعباده، وأمّا الزاي فزين المعبودين، وأمّا السين فالسميع البصير، وأمّا الشين فالشاكر لعباده المؤمنين، وأمّا الصاد فصادق في وعده ووعيده وأمّا الضاد فالضارّ النافع، وأمّا الطاء فالطاهر المطهّر، وأمّا الظاء فالظاهر المظهر لآياته، وأمّا العين فعالم بعباده، وأمّا الغين فغياث المستغيثين، وأمّا الفاء ففالق الحب والنوى، وامّا القاف فقادر على جميع خلقه، وأمّا الكاف فالكافي الّذي لم يكن له كفواً أحد ولم يلد ولم يولد، أمّا اللّام فلطيف بعباده، أّما الميم فمالك الملك، وأمّا النون فنور السماوات والأرض من نور عرشه، وأمّا الواو فواحدٌ صمد لم يلد ولم يولد، أمّا الهاء فهادي لخلقه، أما اللام ألف فلا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأمّا الياء فيد اللّه باسطة على خلقه»، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «هذا هو القول الّذي رضي اللّه (رَحمهُ اللّه) لنفسه من جميع خلقه فأسلم اليهوديّ»(1).

أبو بكر واليهودي

روي أنّ بعض أحبار اليهود جاء إلى أبي بكر فقال له: أنت خليفة رسول اللّه على الأُمّة؟ فقال: نعم، فقال: إنّا نجد في التوراة أنَّ خلفاء الأنبياء أعلم أُممهم، فخبرني عن اللّه أين هو في السماء هو أم في الأرض؟ فقال له أبو بكر في السماء على العرش، قال اليهوديُّ: فأرى الأرض خالية منه، فأراه على هذا القول في مكان دون مكان.

ص: 15


1- البحار : ج 2 ص 319.

فقال له أبو بكر : هذا كلام الزنادقة، أُعزب عنّي وإلّا قتلتك، فولّى الرجل متعجّباً يستهزئ بالإسلام فاستقبله أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له : «يايهوديّ قد عرفت ما سألت عنه وما أُجبت به، وإنا نقول: إنّ اللّه (عزّوجلّ) أيّن الأين فلا أين له وجلّ من أن يحويه مكان، وهو في كل مكان بغير مماسّة ولا مجاورة، يحيط علماً بما فيها، ولا يخلو شيء من تدبيره تعالى، واني مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدّق بما ذكرته لك فإن عرفته أتؤمن به» ؟ قال اليهودي: نعم.

قال: «ألستم تجدون في بعض كتبكم أنّ موسى بن عمران كان ذات يوم جالساً، إذ جاءه ملك من المشرق فقال له: من أين جئت ؟ قال : من عند اللّه (عزّوجلّ)، ثم جاءه ملك منالمغرب فقال له: من أين جئت؟ قال: من عند اللّه (عزّوجلّ)، ثم جاءه ملك آخر، فقال له: من أين جئت؟ قال : قد جئتك من السماء السابعة من عند اللّه (عزّوجلّ)، وجاءه ملك آخر فقال: من أين جئت ؟ قال : قد جئتك من الأرض السابعة السفلى من عند اللّه (عزّوجلّ)».

فقال موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : سبحان من لا يخلو منه مكان ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان فقال اليهوديّ: أشهد أنّ هذا هو الحق المبين، وانك أحق بمقام نبيك ممّن إستولى عليه»(1).

الأعرابي وأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)

إِنَّ اعرابيّاً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: ياأمير المؤمنين أتقول: إنّ اللّه واحد ؟ قال : فحمل الناس عليه وقالوا يا أعرابيّ أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم (2) القلب ؟ فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «دعوه فإنّ الّذي يريده الأعرابيّ هو الّذي نريده من القوم».

ص: 16


1- البحار: ج 3 ص 309.
2- تقسم الشيء: فرقه. تقسمته الهموم أي وزعت خواطره.

ثمّ قال: «يا أعرابي إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام، فوجهان منها لا يجوزان على اللّه (عزّوجلّ)، ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنّه كفر من قال إنّه ثالث ثلاثة وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك. واما الوجهان اللّذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا وقول القائل: إنّه (عزّوجلّ) لا أحديّ المعنى يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربّنا (عزّوجلّ)»(1).

أول من عبد الأصنام

عن بريد بن معاوية قال: سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول في مسجد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «إنّ إبليس اللّعين هو أول من صوّر صورة على مثال آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليفتن به الناس ويضلّهم عن عبادة اللّه تعالى، وكان ودّ في ولد قابيل وكان خليفة قابيل على ولده وعلى من بحضرتهم في سفح الجبل يعظّمونه ويسوّدونه.

فلمّا أن مات ودّ جزع عليه إخوته وخلف عليهم ابناً يقال له: «سواع» فلم يغن غناء أبيه منهم فأتاهم إبليس في صورة شيخ فقال: قد بلغني ما أصبتم به من موت ودّ عظيمكم، فهل لكم في إن أُصوّر لكم على مثال ودّ صورة تستريحون إليها وتأنسون بها ؟ :قالوا افعل. فعمد الخبيث إلى الآنك (2) فأذابه حتّى صار مثل الماء، ثمّ صوّر لهم صورة مثال ودّ في بيته فتدافعوا على الصورة يلثمونها ويضعون خدودهم عليها ويسجدون لها، وأحبّ سواع أن يكون التعظيم والسجود له، فوثب على صورة ودّ فحكّها حتّى لم يدع منها شيئاً وهمّوا بقتل سواع، فوعظهم وقال : أنا أقوم لكم بما كان يقوم به ود، وانا ابنه،

ص: 17


1- البحار : ج 3 ص 206.
2- الآنك بالمدّ وضمّ النون، جمع آنكة: الأسرب أو أبيضه أو سوده أو خالصه.

فإن قتلتموني لم يكن لكم،رئيس، فمالوا إلى سواع بالطاعة والتعظيم فلم يلبث سواع أن مات، وخلف إبناً يقال له: «يغوث» فجزعوا على سواع فأتاهم إبليس وقال: أنا الّذي صوّرت لكم صورة ودّ، فهل لكم أن أجعل لكم مثال سواع على وجه لا يستطيع أحد أن يغيّره.

قالوا: فافعل، فعمد إلى عود فنجره ونصبه لهم في منزل سواع، وانّما سمّي ذلك العود خلافاً لأنّ إبليس عمل صورة سواع على خلاف صورة ود، قال: فسجدوا له وعظّموه، وقالوا ليغوث ما نأمنك على هذا الصنم أن تكيده كما كاد أبوك مثال ودّ فوضعوا على البيت حرّاساً وحجاباً، ثم كانوا يأتون الصنم في يوم واحد ويعظّمونه أشدّ ما كانوا يعظّمون سواعاً، فلمّا رأى ذلك يغوث قتل الحرس والحجّاب ليلا، وجعل الصنم رميماً، فلمّا بلغهم ذلك أقبلوا ليقتلوه فتوارى منهم إلى أن طلبوه ورأسوه وعظّموه ثم مات وخلف إبناً يقال له: «يعوق».

فأتاهم إبليس فقال : قد بلغني موت يغوث، وأنا جاعل لكم مثاله في شيء لا يقدر أحد أن يغيّره قالوا فافعل فعمد الخبيث إلى حَجر أبيض فنقره بالحديد حتّى صوّر لهم مثال يغوث فعظّموه أشدّ ممّا مضى، وبنوا عليه بيتاً من حجر، وتبايعوا أن لا يفتحوا باب ذلك البيت إلّا في رأس كلّ سنة، وسمّيت البيعة يومئذ لأنهم تبايعوا وتعاقدوا عليه، فاشتدّ ذلك على يعوق فعمد إلى ريطة وخلق فألقاها في الحائر، ثم رماها بالنار ليلا فأصبح القوم وقد احترق البيت والصنم والحرس وأرفض الصنم ملقى فجزعوا وهمّوا بقتل يعوق فقال لهم: إن قتلتم رئيسكم فسدت أُموركم، فكفّوا فلم يلبث أن مات يعوق وخلف إبناً يقال له : «نسر».

فأتاهم إبليس فقال: بلغني موت عظيمكم فأنا جاعل لكم مثال يعوق في شيء لا يبلى فقالوا : إفعل فعمد إلى الذهب وأوقد عليه النار حتّى صار كالماء، وعمل تمثالا من

ص: 18

الطين على صورة يعوق ثمّ أفرغ الذهب فيه، ثم نصبه لهم في ديرهم واشتد ذلك على نسر، ولم يقدر على دخول تلك الدير فانحاز عنهم في فرقة قليلة من إخوته يعبدون نسراً والآخرون يعبدون الصنم حتّى مات نسر، وظهرت نبوّة إدريس فبلغه حال القوم وأنّهم يعبدون جسماً على مثال يعوق، وأنّ نسراً كان يعبد من دون اللّه، فسار إليهم بمن معه حتّى نزل مدينة نسر وهم فيها فهزمهم وقتل من قتل، وهرب من هرب فتفرّقوا في البلاد، وأمر بالصنم فحمل وألقى في البحر، فاتخذت كلّ فرقة منهم صنما، وسمّوها بأسمائها فلم يزالوا بعد ذلك قرناً بعد قرن لا يعرفون إلّا تلك الأسماء.

ثم ظهرت نبوة نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) فدعاهم إلى عبادة اللّه وحده، وترك ما كانوا يعبدون من الأصنام، فقال بعضهم : «وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ ءالهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدَاً وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسَرًا»(1) .(2).

ص: 19


1- نوح: 23.
2- البحار: ج 3 ص 250.

ص: 20

باب البداء والنسخ

الصدقة تدفع البلاء

عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبداللّه الصادق جعفر بن محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: إنّ عيسى روح اللّه مرّ بقوم مجلبين فقال: «ما لهؤلاء» ؟ قيل : ياروح اللّه انّ فلانة بنت فلان تهدى إلى فلان بن فلان في ليلتها هذه.

«قال يجلبون اليوم ويبكون غد». فقال قائل منهم ولم يارسول اللّه؟ قال: لأنّ صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه، فقال القائلون بمقالته: صدق اللّه وصدق رسوله، وقال أهل النفاق ما أقرب غداً. فلمّا أصبحوا جاؤوا فوجدوها على حالها لم يحدث بها شيء.

فقالوا: ياروح اللّه إنّ التي أخبرتنا أمس أنها ميتة لم تمت، فقال عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يفعل اللّه ما يشاء، فاذهبوا بنا إليها» فذهبوا يتسابقون حتّى قرعوا الباب فخرج زوجها فقال له عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «استأذن لي على صاحبتك»، قال: فدخل عليها فأخبرها انّ روح اللّه وكلمته بالباب مع عدّة، قال: فتخدّرت، فدخل عليها فقال لها : «ما صنعت ليلتك هذه» ؟ قالت: لم أصنع شيئاً إلّا وقد كنت أصنعه فيما مضى انّه كان يعترينا سائل في كلّ ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها، وأنّه جاءني في ليلتي هذه وأنا مشغولة بأمري وأهلي في مشاغل فهتف فلم يجبه أحد، ثمّ هتف فلم يجب، حتّى هتف مراراً فلمّا سمعت مقالته قمت متنكرة حتّى نلته كما كنا ننيله، فقال لها : تنحي عن مجلسك، فإذا تحت ثيابها أفعيٌّ مثل جذعة عاضّ على ذنبه، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «بما صنعت صرف عنك هذا»(1).

ص: 21


1- البحار: ج 4 ص 94.

قصة اخرى

عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : مرّ يهودي بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : السام عليك لك. فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): عليك، فقال أصحابه: إنّما سلّم عليك بالموت فقال: الموت عليك فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): وكذلك رددت.

ثم قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): ان هذا اليهودي يعضّه أسود في قفاه فيقتله. قال: فذهب اليهودي فاحتطب حطباً كثيراً فاحتمله ثم لم يلبث ان انصرف. فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ضعه فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود، فقال: يايهودي ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت عملا إلّا حطبي هذا حملته فجئت به، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدّقت بواحدة على مسكين. فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): بها دفع اللّه عنه، وقال: إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الانسان(1).

يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت

عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ اللّه (عزّوجلّ) عرض على آدم أسماء الأنبياء وأعمّارهم، قال: فمر بآدم اسم داود النبي فإذا عمره في العالم أربعون سنة، فقال آدم ياربّ ما أقل عمر داود وما أكثر عمري ! ياربّ إن أنا زدت داود من عمري ثلاثين سنة أتثبت ذلك له؟ قال: نعم يا آدم قال : فإنّي قد زدته من عمري ثلاثين سنة فانفذ ذلك له وأثبتها له عندك واطرحها من عمري. قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فأثبت اللّه عزّوجل لداود في عمره ثلاثين سنة، وكانت له عند اللّه مثبتة، فذلك قول اللّه (عزّوجلّ) «يَمْحُوا اللّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(2) قال : فمحا اللّه ما كان عنده مثبتاً لآدم وأثبت لداود ما لم يكن عنده مثبتاً. قال: فمضى عمر آدم فهبط ملك الموت لقبض روحه فقال له آدم:

ص: 22


1- البحار : ج 4 ص 121.
2- الرعد: 39.

ياملك الموت انه قد بقي من عمري ثلاثون سنة! فقال له ملك الموت: يا آدم ألم تجعلها لابنك داود النبي وطرحتها من عمرك حين عرض عليك أسماء الأنبياء من ذرّيتك، وقد عرضت عليك أعمّارهم وأنت يومئذ بوادي الدخيا؟ قال: فقال له آدم ما أذكر هذا. قال : فقال له ملك الموت يا آدم لا تجحد، ألم تسأل اللّه (عزّوجلّ) أن يثبتها لداود ويمحوها من عمرك؟ فأثبتها لداود في الزبور ومحاها من عمرك في الذكر. قال آدم: حتّى أعلم ذلك. قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : وكان آدم صادقاً لم يذكر ولم يجحد فمن ذلك اليوم أمر اللّه تبارك وتعالى العباد أن يكتبوا بينهم إذا تداينوا وتعاملوا إلى أجل مسمی لنسیان آدم وجحوده ما جعل على نفسه» (1).

رحمة الأولياء مقبولة

عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «بينا داود على نبينا وآله وعليه السلام جالس وعنده شابٌ رثّ الهيئة يكثر الجلوس عنده ويطيل الصمت إذ أتاه ملك الموت فسلّم عليه وأحدّ ملك الموت النظر إلى الشاب (2) فقال داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) نظرت إلى هذا؟ فقال: نعم إنّي أُمرت بقبض روحه إلى سبعة أيّام في هذا الموضع فرحمه داود فقال: ياشاب هل لك امرأة؟ قال: لا وما تزوّجت قط، قال :داود: فأت فلاناً رجلا كان عظيم القدر في بني إسرائيل فقل له: إنّ داود يأمرك أن تزوّجني ابنتك، وتدخلها اللّيلة وخذ من النفقة ما تحتاج إليه وكن عندها، فإذا مضت سبعة أيّام فوافني في هذا الموضع. فمضى الشابّ برسالة داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) فزوَّجه الرجل ابنته وادخلوها عليه وأقام عندها سبعة أيّام ثم وافى داود يوم الثامن، فقال له :داود كيف رأيت ما كنت فيه؟ قال: ما كنت في نعمة وسرور قطّ أعظم ممّا كنت فيه.

ص: 23


1- البحار : ج 4 ص 102.
2- أي بالغ في النظر إليه.

قال :داود اجلس فجلس وداود ينتظر أن يقبض روحه فلمّا طال قال: انصرف إلى منزلك فكن مع أهلك فإذا كان يوم الثامن فوافني ههنا. فمضى الشاب، ثمّ وافاه يوم الثامن وجلس عنده، ثمّ انصرف أُسبوعاً آخر ثم أتاه وجلس فجاء ملك الموت فقال داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ألست حدثتني بأنّك أُمرت بقبض روح هذا الشابّ إلى سبعة أيّام قال: بلى، فقال : قد مضت ثمانية وثمانية وثمانية، قال ياداود إنّ اللّه تعالى رحمه برحمتك له فأخر في أجله ثلاثين سنة»(1).

الديصاني وهشام بن الحكم

انّ عبداللّه الديصاني أتى هشام بن الحكم فقال له: ألك رب؟ فقال: بلى، قال: قادر؟ قال : نعم قادر قاهر، قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلها في البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا ؟ فقال هشام النظرة. فقال له : قد أنظرتك حولان ثم خرج عنه فركب هشام إلى أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فاستأذن عليه فأُذن له فقال: يابن رسول اللّه أتاني عبداللّه الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إلّا على اللّه وعليك، فقال له أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «عمّا ذا سألك» ؟ فقال : قال لي : كيت وكيت فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا هشام كم حواسك» ؟ قال : خمس فقال: أيها أصغر ؟ فقال : الناظر قال : «وكم قدر الناظر» ؟ قال : مثل العدسة أو أقلّ منها، فقال: «ياهشام فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى». فقال : أرى سماءً وأرضاً ودوراً وقصوراً وتراباً وجبالا وأنهاراً، فقال له أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ الّذي قدر أن يدخل الّذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة. فانكبّ هشام عليه وقبّل يديه ورأسه ورجليه وقال:

حسبي یابن رسول اللّه فانصرف إلى منزله.

وغدا عليه الديصاني فقال له : يا هشام إنّي جئتك مسلّماً ولم أجئك متقاضياً للجواب

ص: 24


1- البحار : ج 4 ص 111.

فقال له هشام: ان كنت جئت متقاضياً فهاك الجواب: فخرج عنه الديصاني، فأُخبر أنّ هشام دخل على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فعلّمه الجواب، فمضى عبداللّه الديصاني حتّى أتى باب أبي عبداللّه فاستأذن عليه فأذن له، فلمّا قعد قال له: يا جعفر بن محمّد دلّني على معبودي، فقال له أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ما اسمك» ؟ فخرج عنه ولم يخبره باسمه، فقال له أصحابه: كيف لم تخبره باسمك، قال: لو كنت قلت له: عبداللّه كان يقول : من هذا الّذي أنت له عبد! فقالوا له: عد إليه فقل له يدلّك على معبودك ولا يسألك عن إسمك فرجع إليه فقال له: ياجعفر دلّني على معبوي ولا تسألني عن إسمي. فقال له أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «اجلس»، وإذا غلام له صغير في كفّه بيضة يلعب بها، فقال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ناولني يا غلام البيضة، فناوله إيّاها، فقال له أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلدٌ غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة، ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهب المائعة هي على حالها لم يخرج منها مصلح فيخبر عن إصلاحها، ولا دخل فيها مفسد فيخبر فسادها،عن لا تدري للذكر خلقت أم للأُنثى يتفلّق عن مثل ألوان الطواويس أترى لها مدبّراً»؟ :قال : فأطرق ملياً ثمّ قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّك إمام وحجة من اللّه على خلقه وأنا تائب مما كنت فيه (1).

تغيير القبلة

قال الامام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «وذلك أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لمّا كان بمكّة أمره اللّه تعالى أن يتوجّه نحو البيت المقدس في صلاته ويجعل الكعبة بينه وبينها إذا أمكن وإذا لم يتمكّن استقبل البيت المقدس كيف كان، فكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يفعل ذلك طول مقامه بها ثلاثة عشر سنة، فلمّا كان بالمدينة وكان متعبّداً باستقبال بيت المقدس استقبله وانحرف عن

ص: 25


1- البحار : ج 4 ص 140.

الكعبة سبعة عشر شهراً أو ستّة عشر شهراً، وجعل قوم من مردة اليهود (1) يقولون: واللّه ما درى محمّد كيف صلّى حتّى صار يتوجّه إلى قبلتنا ويأخذ في صلاته بهدانا ونسكنا، فاشتدّ ذلك على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لما اتّصل به عنهم وكره قبلتهم وأحبّ الكعبة، فجاءه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا جبرئيل لوددت لو صرفني اللّه تعالى عن بيت المقدس إلى الكعبة فقد تأذَّيت بما يتّصل بي من قبل اليهود من قبلتهم، فقال جبرئيل: فاسأل ربك أن يحوّلك إليها فإنه لا يردّك عن طلبتك ولا يخيبك من بغيتك، فلمّا استتم دعاؤه صعد جبرئيل ثم عاد من ساعته فقال: اقرء يا محمّد «قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» (2) فقالت اليهود عند ذلك: «مَا وَلَّهُمْ عَن قِبْلَتهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا»(3) فأجابهم اللّه أحسن جواب فقال «قُل للّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ». وهو يملكها، وتكليفه التحول إلى جانب كتحويله لكم إلى جانب آخر «يَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» هو مصلحتهم وتؤدّيهم طاعتهم إلى جنات النعيم». (4)

أبو حنيفة وموسى الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ)

روي أنّه دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبداللّه بن مسلم فقال له: يا أبا حنيفة إنّ ههنا جعفر بن محمّد من علماء آل محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ) فاذهب بنا إليه نقتبس منه علماً. فلمّا أتيا إذا هما بجماعة من شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم عليه، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث فقام الناس له هيبةً له، فالتفت أبو حنيفة فقال: يابن مسلم من هذا؟ قال: هذا موسى ابنه، قال: واللّه لاُجبّهنّه بين يدي شيعته. قال مه لن تقدر على ذلك، قال: واللّه

ص: 26


1- جمع المارد وهو العاصي العاتي.
2- البقرة: 144.
3- البقرة: 142.
4- البحار : ج 4 ص 105.

لأفعلنّه. ثم التفت إلى موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : يا غلام أين يضع الغريب حاجته في بلدتكم هذه؟ قال: يتوارى خلف الجدار ويتوقّى أعين الجار وشطوط الأنهار ومسقط الثمار ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها فحينئذ يضع حيث شاء».

ثم قال : ياغلام ممّن المعصية ؟ قال : «ياشيخ لا تخلو من ثلاث: إمّا تكون من اللّه وليس من العبد شيء فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله، وإمّا أن تكون من العبد ومن اللّه واللّه أقوى الشريكين فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه، وإمّا أن تكون من العبد وليس من اللّه شيء فإن شاء عفى وإن شاء عاقب».

قال: فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنما ألقم فوه الحجر، قال: فقلت له: ألم أقل لك لا تتعرّض لأولاد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(1).

إذا جاء أجلهم لا يستأخرون

عن ابن حيان التيمي عن أبيه وكان مع علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوم صفّين وفيما بعد ذلك قال: بينما علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) يعبّي الكتائب الكتائب يوم صفين، ومعاوية مستقبله على فرس له يتأكّل تحته تأكلا، وعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) على فرس رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) المرتجز، وبيده حربة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو متقلّد سيفه ذا الفقار، فقال رجل من أصحابه احترس يا أمير المؤمنين فإنّا نخشى أن يغتالك هذا الملعون.

فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : « لئن قلت ذاك إنّه غير مأمون على دينه، وإنّه لأشقى القاسطين وألعن الخارجين على الأئمّة المهتدين ولكن كفى بالأجل حارساً ليس أحد من الناس إلّا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه من أن يتردّى في بئر أو يقع عليه حائط أو يصيبه سوء، فإذا حان أجله خلّوا بينه وبين ما يصيبه، فكذلك أنا إذا حان أجلي انبعث أشقاها فخضب هذه من

ص: 27


1- البحار : ج 5 ص 27.

هذه وأشار إلى لحيته ورأسه عهداً معهوداً، ووعداً غير مكذوب»(1).

أوّل ما خلق اللّه

وعن محمّد بن سنان عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن أوّل ما خلق اللّه (عزّوجلّ)، قال : «إن أول ما خلق اللّه (عزّوجلّ) ما خلق منه كلّ شيء»، قلت: جعلت فداك وما هو ؟ قال : «الماء».

قال: «إنّ اللّه تبارك وتعالى خلق الماء،بحرين، أحدهما عذب والآخر ملح فلمّا خلقهما نظر إلى العذب فقال : يا بحر فقال لبيّك وسعديك، قال : فيك بركتي ورحمتي، ومنك أخلق أهل طاعتي وجنتي. ثم نظر إلى الآخر فقال: يا بحر، فلم يجب، فأعاد عليه ثلاث مرّات فلم يجب. فقال: عليك لعنتي، ومنك أخلق أهل معصيتي ومن أسكنته ناري، ثم أمرهما أن يمتزجا فامتزجا، قال: فمن ثم يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن»(2).

الملائكة كتاب الأعمال

عن إسحاق بن عمّار قال : لما كثر مالي أجلست على بابي بوّاباً يردّ عنّي فقراء الشيعة، فخرجت إلى مكّة في تلك السنة، فسلمت على أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فردّ عليّ بوجه قاطب مزوّر (3)، فقلت له : جعلت فداك ما الّذي غيّر حالي عندك؟ قال: «تغيّرك على المؤمنين»، فقلت: جعلت فداك واللّه إني لأعلم أنّهم على دين اللّه، ولكن خشيت الشهرة على نفسي.

فقال: «يا إسحاق أما علمت أنّ المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أنزل اللّه بين إبهاميهما مائة رحمة تسعة وتسعين لأشدّهما حبّاً، فإذا اعتنقا غمرتهما الرحمة فإذا لبثا لا يريدان بذلك إلا وجه اللّه تعالى قيل لهما: غفر لكما، فإذا جلسا يتسائلان قالت الحفظة بعضها

ص: 28


1- البحار: ج 5 ص 113.
2- البحار : ج 5 ص 240.
3- قطب الرجل زوى وقبض ما بين عينيه وعبس.

البعض: اعتزلوا بنا عنهما فإنّ لهما سرّاً وقد ستره اللّه عليهما».

قال: قلت: جعلت فداك، فلا تسمع الحفظة قولها ولا تكتبه، وقد قال تعالى : «ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»(1)؟ قال: فنكس رأسه طويلا ثم رفعه وقد فاضت دموعه على لحيته، وقال: «إن كانت الحفظة لا تسمعه ولا تكتبه فقد سمعه عالم السرّ وأخفى، يا إسحاق خف اللّه كأنّك تراه فإن كنت لا تراه فإنّه يراك، فان شككت أنّه يراك فقد كفرت وإن أيقنت أنّه يراك ثم بارزته بالمعصية فقد جعلته أهون الناظرين إليك»(2).

ص: 29


1- ق: 18.
2- البحار: ج 5 ص 323.

ص: 30

باب في الموت والحشر

حبُّ لقاء اللّه

عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن آبائه عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لمّا أراد اللّه تبارك وتعالى قبض روح إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أهبط اللّه ملك الموت فقال: السلام عليك يا إبراهيم، قال: وعليك السلام ياملك الموت أداع أم ناع ؟ قال : بل داع يا إبراهيم فأجب، قال إبراهيم: فهل رأيت خلیلا یمیت خلیله؟ قال: فرجع ملك الموت حتّى وقف بين يدي اللّه جل جلاله فقال : إلهي قد سمعت ما قال خليلك إبراهيم، فقال اللّه جل جلاله يا ملك الموت إذهب إليه وقل له : هل رأيت حبيباً يكره لقاء حبيبه ؟ أنّ الحبيب يحب لقاء حبیبه»(1).

عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : إن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) اشتكى عينه، فعاده رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فإذا هو يصيح، فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أجزعاً أم وجعاً ؟ فقال : يارسول اللّه ما وجعت وجعاً قط أشدّ منه فقال : يا علي انّ ملك الموت إذا نزل لقبض روح الكافر نزل معه سفّود من نار فنزع روحه به فتصیح جهنّم فاستوى علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) جالساً فقال: يارسول اللّه أعد عليّ حديثك فقد أنساني وجعي ما قلت، ثمّ قال: هل يصيب ذلك أحداً من أُمتك؟ قال: نعم. حاكم جائر، وأكل مال اليتيم، وشاهد زور»(2).

شدّة سكرات الموت

عن الحسن بن علي (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: دخل علي بن محمّد عليه السلام على مريض من أصحابه

ص: 31


1- البحار : ج 6 ص 127.
2- البحار : ج 6 ص 170.

وهو يبكي ويجزع من الموت فقال له: يا عبد اللّه تخاف من الموت لأنك لا تعرفه، أرأيتك إذا اتسخت وتقدّرت وتأذّيت من كثرة القذر والوسخ عليك، وأصابك قروح وجرب وعلمت إنّ الغسل في حمام يزيل ذلك كله اما تريد أن تدخله فتغسل ذلك عنك؟ أو تكره أن تدخله فيبقى ذلك عليك؟ قال: بلى يابن رسول اللّه، قال: فذلك الموت هو ذلك الحمام، وهو آخر ما بقي عليك من تمحيص ذنوبك وتنقيتك من سيّئاتك، فإذا أنت وردت عليه وجاورته فقد نجوت من كلّ غم وهم وأذىً ووصلت إلى كلّ سرور وفرح فسكن الرجل ونشط واستسلم وغمض عين نفسه ومضى لسبيله»(1).

الاستخفاف بالصلاة

عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «أُقعد رجلٌ من الأخيار في قبره، فقيل له: انا جالدوك مائة جلدة من عذاب اللّه، فقال: لا أُطيقها، فلم يزالوا به حتّى انتهوا إلى جلدة واحدة، :فقالوا ليس منها بدّ، قال فيما تجلدونيها؟ قالوا: نجلدك لأنك صلّيت يوماً بغير وضوء، ومررت على ضعيف فلم تنصره قال فجلدوه جلدة من عذاب اللّه (عزّوجلّ) فامتلأ قبره ناراً»(2).

الشاب والخوف من اللّه

عن عباية بن ربعيّ، قال: انّ شابّاً من الأنصار كان يأتي عبداللّه بن العبّاس وكان عبداللّه يكرمه ويدينه، فقيل له : إنّك تكرم هذا الشاب وتدينه وهو شابٌ سوء، يأتي القبور فينبشها باللّيالي، فقال عبد اللّه بن العبّاس: إذا كان ذلك فأعلموني، قال: فخرج الشابّ في بعض اللّيالي يتخلّل القبور، فأُعلم عبد اللّه بن العبّاس بذلك، فخرج لينظر ما يكون من أمره، ووقف ناحية ينظر إليه من حيث لا يراه الشابّ قال: فدخل قبراً

ص: 32


1- البحار : ج 6 ص 156.
2- البحار: ج 6 ص 221.

قد حفر، ثم اضطجع في اللحد، ونادى بأعلى صوته : ياويحي إذا دخلت لحدي وحدي ونطقت الأرض من تحتي فقالت: لا مرحباً بك ولا أهلا قد كنت أبغضك وأنت على ظهري، فكيف وقد صرت في بطني ؟ بل ويحي إذا نظرت إلى الأنبياء وقوفاً والملائكة صفوفاً، فمن عدلك غداً من يخلّصني؟ ومن المظلومين من يستنقذني؟ ومن عذاب النار من يجيرني؟ عصيت من ليست بأهل أن يعصى عاهدت ربّي مرّة بعد أخرى فلم يجد عندي صدقاً ولا وفاءً، وجعل يردّد هذا الكلام ويبكي، فلمّا خرج من القبر التزمه ابن عبّاس وعانقه ثمّ قال له : نعم النبّاش، نعم النبّاش ما أنبشك للذنوب والخطايا، ثم

تفرّقا (1).

كيف وجدت طعم الموت

عن أبي جعف (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: إنّ فتية من أولاد ملوك بني إسرائيل كانوا متعبّدين، وكانت العبادة في أولاد ملوك بني إسرائيل، وأنّهم خرجوا يسيرون في البلاد ليعتبروا، فمرّوا بقبر على ظهر الطريق قد سفى عليه السافي ليس يتبين منه إلّا رسمه، فقالوا: لو دعونا اللّه الساعة فينشر لنا صاحب هذا القبر فساء لناه كيف وجد طعم الموت؟ فدعوا اللّه، وكان دعاؤهم الّذي دعوا اللّه به أنت إلهنا ياربنا، ليس لنا إله غيرك، والبديع الدائم غير الغافل، الحي الّذي لا يموت، لك في كلّ يوم شأن تعلم كلّ شيء بغير تعليم، أُنشر لنا هذا الميّت بقدرتك، قال: فخرج من ذلك القبر رجل أبيض الرأس واللّحية ينفض رأسه من التراب فزعاً، شاخصاً بصره إلى السماء فقال لهم: ما يوقفكم على قبري؟ فقالوا: دعوناك لنسألك كيف وجدت طعم الموت ؟ فقال لهم : لقد سكنت في قبري تسعة وتسعين سنة ما ذهب عنّي ألم الموت وكربه، ولا خرج مرارة طعم الموت من حلقي فقالوا له: مت يوم مت وأنت على ما نرى أبيض الرأس واللحية؟ فقال: لا ولكن لما

ص: 33


1- البحار : ج6 ص 131.

سمعت الصيحة (أُخرج ) اجتمعت تربة عظامي إلى روحي، فبقيت فيه فخرجت فزعاً، شاخصاً بصري مهطعاً إلى صوت الداعي فابيضّ لذلك رأسي ولحيتي». (1)

أحوال البرزخ والقبر وعذابه

عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُم أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، جاء عليٌّ إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا أبا الحسن ما لك؟ قال: أُمّي ماتت، قال: فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : وأُمّي واللّه ثم بكى، وقال: وااُمّاه، ثمّ قال لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : هذا قميصي فكّفنها فيه، وهذا ردائي فكفّنها فيه، فإذا فرغتم فأذنوني، فلمّا أُخرجت صلّى عليها النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) صلاة لم يصلّ قبلها ولا بعدها على أحد مثلها، ثمّ نزل على قبرها فاضطجع فيه، ثم قال لها: يافاطمة، قالت: لبّيك يارسول اللّه، فقال: فهل وجدت ما وعد ربّك حقاً؟ قالت: نعم فجزاك اللّه خير جزاء، وطالت مناجاته في القبر فلمّا خرج قيل: يارسول اللّه لقد صنعت بها شيئاً في تكفينك إيّاها ثيابك، ودخولك في قبرها، وطول مناجاتك، وطول صلاتك ما رأيناك صنعته بأحد قبلها.

قال: أمّا تكفيني إيّاها فإني لمّا قلت لها يعرض الناس يوم يحشرون من قبورهم، فصاحت وقالت واسوأتاه فلبستها ثيابي، وسألت اللّه في صلاتي عليها أن لا يبلي أكفانها حتّى تدخل الجنّة، فأجابني إلى ذلك، وأما دخولي في قبرها فإني قلتُ لها يوماً: ان الميت إذا أُدخل قبره وانصرف الناس عنه دخل ملكان منكر ونكير فيسألانه، فقالت: واغوثاه باللّه فما زلت أسأل ربّي في قبرها حتّى فتح لها باب من قبرها إلى الجنّة فصار روضة من رياض الجنة» (2).

ص: 34


1- البحار : ج 6 ص 171.
2- البحار: ج 6 ص 232.

الحسرة والندم

عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن جابر بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : إذا حمل عدوّ اللّه إلى قبره نادى حملته: ألا تسمعون يا اخوتاه، إني أشكو إليكم ما وقع فيه أخوكم الشقيّ، إنّ عدوّ اللّه خدعني فأوردني ثمّ لم يصدرني. وأقسم لي إنّه ناصح فغشّني، وأشكو إليكم دنياً غرّتني حتّى إذا اطمأننت إليها صرعتني، وأشكو إليكم أخلاء الهوى منوني (1) ثم تبرؤوا منّي وخذلوني، وأشكو إليكم أولاداً حميت عنهم وآثرتهم على نفسي فأكلوا مالي وأسلموني، وأشكو إليكم مالا منعت فيه حق اللّه فكان وباله علي وكان نفعه لغيري وأشكو إليكم داراً أنفقت عليها حريبتي وصار سكانها غيري، وأشكو إليكم طول الثوى في قبري ينادي:

أنا بيت الدود، أنا بيت الظلمة والوحشة والضيق، يا إخوتاه فاحبسوني ما استطعتم واحذروا مثل ما لقيت فإنّي قد بشّرت بالنار والذل والصغار وغضب العزيز الجبّار، واحسرتاه على ما فرّطت في جنب اللّه وياطول عولتاه فما لي من شفيع يطاع ولا صديق يرحمني، فلو انّ لي كرّة فأكون من المؤمنين» (2).

إثبات الحشر وكيفيّته

عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لمّا رأى إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ملكوت السماوات والأرض، التفت فرأى رجلا يزني فدعا عليه فمات، ثم رأى آخر فدعا عليه فمات، حتّى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا، فأوحى اللّه (عزّوجلّ) إليه : يا إبراهيم دعوتك مجابةٌ، فلا تدعو على عبادي فإنّي لو شئت لم أخلقهم، إني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف:

عبداً يعبدني لا يشرك بي شيئاً فأُثيبه، وعبداً يعبد غيري فلن يفوتني، وعبداً يعبد

ص: 35


1- أي ابتلوني.
2- البحار : ج 6 ص 258.

غيري فأُخرج من صلبه من يعبدني.

ثم التفت فرأى جيفة على ساحل البحر بعضها في الماء وبعضها في البر، تجيء سباع البحر فتأكل ما في الماء ثم ترجع فيشتمل بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضاً، وتجيء سباع البر فتأكل منها فيشتمل بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضاً، فعند ذلك تعجب إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ممّا رأى، وقال: يارب أرني كيف تحيي الموتى؟ هذه أُمم يأكل بعضها بعضاً، قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي يعني حتّى أرى هذا كما رأيت الأشياء كلّها.

قال: خذ أربعة من الطير فقطّعهنّ وأخلطهنّ كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السباع التي أكل بعضها بعضاً، فخلط، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهنّ يأتينك سعياً، فلمّا دعاهنّ أجبنه، وكانت الجبال عشرة، قال : وكانت الطيور الديك والحمامة، والطاووس، والغراب» (1).

بخت نصر وبني إسرائيل

عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في خبر طويل يذكر فيه قصة بخت نصرة: «انّه لمّا قتل ما قتل من بني إسرائيل خرج إرميا على حمار ومعه تين قد تزوّده وشيء من عصير، فنظر إلى سباع البرّ وسباع البحر وسباع الجوّ تأكل تلك الجيف، ففكر في نفسه ساعة ثمّ قال: أنّى يحيي اللّه هؤلاء وقد أكلهم السباع ؟ فأماته اللّه مكانه وهو قول اللّه تبارك وتعالى: «أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةُ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِ هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّه مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ»(2) أي أحياه، فلمّا رحم اللّه بني إسرائيل وأهلك بخت نصر ردّ بني إسرائيل إلى الدنيا، وكان عزير لمّا سلط اللّه بخت نصر على بني إسرائيل هرب ودخل في عين

ص: 36


1- البحار : ج 1 ص 41.
2- البقرة: 259.

وغاب فيها وبقى إرميا ميّتاً مائة سنة ثمّ أحياه اللّه، فأوّل ما أحيا منه عينيه في مثل غرقئ البيض فنظر، فأوحى اللّه تعالى إليه كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً، ثمّ نظر إلى الشمس قد إرتفعت، فقال: أو بعض يوم، فقال اللّه تبارك وتعالى: «بَل لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهُ»(1) أي لم يتغير «وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِرُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا». (2)

فجعل ينظر إلى العظام البالية المنفطرة تجتمع إليه وإلى اللّحم الّذي قد أكلته السباع يتألف إلى العظام من ههنا وههنا ويلتزق بها حتّى قام وقام حماره فقال : «أَعْلَمُ أَنَّ اللّه علَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ»(3)(4)».

جيران اللّه

عن الباقر عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الخلائق في صعيد واحد، ونادى مناد من عند اللّه يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم يقول: أين أهل الصبر؟ قال: فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة، فيقولون لهم: ما كان صبركم هذا الّذي صبرتم ؟ فيقولون: صبّرنا أنفسنا على طاعة اللّه، وصبّرناها عن معصيته، قال: فينادي مناد من عند اللّه ; صدق عبادي خلّوا سبيلهم ليدخلوا الجنّة بغير حساب، قال: ثمّ ينادي مناد آخر يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم فيقول: أين أهل الفضل ؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم الملائكة فيقولون: ما فضلكم هذا الّذي نودیتم به؟

ص: 37


1- و 2 و 3 البقرة: 259.
2- البقرة : 259.
3- البقرة : 259.
4- البحار : ج 7 ص 34.

فيقولون: كنا يجهل علينا في الدنيا فنحتمل ويساء إلينا فنعفوا، قال: فينادي مناد من عند اللّه تعالى؛ صدق عبادي خلوا سبيلهم ليدخلوا الجنّة بغير حساب.

قال: ثمّ ينادي مناد من اللّه (عزّوجلّ) يسمع آخرهم كما يسمع أولهم فيقول : أين جيران اللّه جلّ جلاله في داره؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم : ما كان عملكم في دار الدنيا فصرتم به اليوم جيران اللّه تعالى في داره؟

فيقولون: كنا نتحابّ في اللّه (عزّوجلّ)، ونتباذل في اللّه ونتوازر في اللّه قال فينادي مناد من عند اللّه تعالى صدق عبادي خلّوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار اللّه في الجنّة بغير حساب، قال : فينطلقون إلى الجنّة بغير حساب. ثم قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فهؤلاء جيران اللّه في داره يخاف الناس ولا يخافون ويحاسب الناس ولا يحاسبون»(1).

الحسنات يذهبن السيئات

عن عبدالرحمن بن سمرة قال: كنا عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يوماً فقال: «إني رأيت البارحة عجائب»، قال: فقلنا : يارسول اللّه وما رأيت ؟ حدّثنا به فداك أنفسنا وأهلونا وأولادنا، فقال: «رأيت رجلا من أُمّتي وقد أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه بِرّه بو فمنعه منه، ورأيت رجلا من أُمّتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فمنعه منه، ورأيت رجلا من أُمّتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر اللّه (عزّوجلّ) فنجّاه من بينهم، ورأيت رجلا من أُمّتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فمنعته منهم، ورأيت رجلا من أُمّتي يلهث عطشاً كلّما ورد حوضاً منع فجاءه صيام شهر رمضان فسقاه وأرواه، ورأيت رجلا من أُمّتي والنبيون حلقاً حلقاً كلّما أتى حلقة طرد فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأجلسه إلى جنبي، ورأيت رجلا من أُمّتي بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة

ص: 38


1- البحار: ج 7 ص 171.

وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن تحته ظلمة مستنقعاً في الظلمة، فجاءه حجّه وعمرته فأخرجاه من الظّلمة وأدخلاه النور.

ورأيت رجلا من أُمّتي يكلّم المؤمنين فلا يكلّمونه فجاءته صلته للرحم فقال: يا معشر المؤمنين كلّموه فانّه كان واصلا لرحمه، فكلّمه المؤمنون وصافحوه وكان معهم، ورأيت رجلا من أُمّتي يتّقي وهج النيران وشررها بيده ووجهه فجاءته صدقته فكانت ظلا على رأسه وستراً على وجهه، ورأيت رجلا من أُمّتي قد أخذته الزبانية من كلّ مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فخلّصاه من بينهم وجعلاه مع ملائكة الرحمة، ورأيت رجلا من أُمّتي جاثياً على ركبتيه، بينه وبين رحمة اللّه حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذه بيده فأدخله في رحمة اللّه، ورأيت رجلا من أُمّتي قد هوت صحيفته قبل شماله فجاءه خوفه من اللّه (عزّوجلّ) فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه، ورأيت رجلا من أُمّتي قد خفّت موازينه فجاءه أفراطه فثقلوا موازينه، ورأيت رجلا من أُمّتي قائماً على شفير جهنّم فجاءه رجاءه من اللّه (عزّوجلّ) فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلا من أُمّتي قد هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية اللّه فاستخرجته من ذلك، ورأيت رجلا من أُمّتي على الصراط يرتعد كما ترتعد السعفة في يوم ريح عاصف فجاءه حسن ظنه باللّه فسكن رعدته ومضى على الصراط، ورأيت رجلا من أُمّتي على الصراط يزحف أحياناً ويحبو أحياناً ويتعلّق أحياناً فجاءته صلاته عليّ فأقامته على قدميه ومضى على الصراط، ورأيت رجلا من أُمّتي انتهى إلى أبواب الجنّة كلّما انتهى إلى باب أغلق دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا اللّه صادقاً بها ففتحت له الأبواب ودخل الجنة» (1).

ص: 39


1- البحار : ج 7 ص 290.

منافخ النار

عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : قلت له: يابن رسول اللّه خوّفني فإن قلبي قد قسا، فقال: «يا أبا محمّد إستعدّ للحياة الطويلة، فانّ جبرئيل جاء إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو قاطب وقد كان قبل ذلك يجيء وهو متبسم، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا جبرئيل جئتني اليوم قاطباً، فقال: يامحمّد قد وضعت منافخ النار، فقال: وما منافخ النار ياجبرئيل؟

فقال : يا محمّد إنّ اللّه (عزّوجلّ) أمر بالنار فنفخ عليها ألف عام حتّى ابيضّت، ثمّ نفخ عليها ألف عام حتّى احمرّت، ثمّ نفخ عليها ألف عام حتّى اسودّت، فهي سوداء مظلمة، لو أنّ قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها، ولو ان حلقة واحدة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الدنيا لذابت الدنيا من حرّها، ولو أنّ سربالا من سرابيل أهل النار علق بين السماء والأرض لمات أهل الدنيا من ريحه.

قال : فبكى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وبكى جبرئيل، فبعث اللّه إليهما ملكاً فقال لهما: انّ ربكما يقرؤكما السلام ويقول : قد آمنتكما ان تذنبا ذنباً أُعذّبكما عليه، فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فما صالا رأى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جبرئيل متبسما بعد ذلك.

ثم قال: إن أهل النار يعظّمون النار، وإن أهل الجنّة يعظمون الجنّة والنعيم، وإن جهنم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاماً، فإذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد وأُعيدوا في در کها، فهذه حالهم وهو قول اللّه : «كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ» (1) ثم تبدّل جلودهم غير الجلود التي كانت عليهم.

قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : حسبك» ؟ قلت : حسبك ؟ قلت: حسبي حسبي (2).

ص: 40


1- الحج: 22.
2- البحار: ج 8 ص 280.

أبواب جهنم وبكاء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

المذكور أنه لما نزلت هذه الآية على النبي : «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَبٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومُ»(1) بكى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بكاءً شديداً وبكت صحابته لبكائه، ولم يدروا ما نزل به جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولم يستطع أحد من صحابته أن يكلّمه، وكان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذا رأى فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) فرح بها، فانطلق بعض أصحابه إلى باب بيتها فوجد بين يديها شعيراً وهي تطحنه وتقول : «وَمَا عِندَ اللّه خَيْرُ وَأَبْقَى» (2) فسلّم عليها وأخبرها بخبر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وبكائه، فنهضت والتفّت بشملة لها خلقة قد خيطت إثنا عشر مكاناً بسعف النخل، فلمّا خرجت نظر سلمان الفارسي إلى الشملة وبكى وقال: واحزناه إنّ قيصر وكسرى لفي السّندس والحرير، وإبنة محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في إثني عشر مكاناً، فلمّا دخلت فاطمة على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قالت: «يارسول اللّه إنّ سلمان تعجّب من لباسي، فوالذي بعثك بالحقّ ما لي ولعليّ منذ خمس سنين إلّا مسك (3) كبش تعلق عليها بالنّهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وان مرفقتنا لمن أُدم، حشوها ليف»، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «يا سلمان ان ابنتي لفي الخيل السوابق».

ثم قالت: «يا أبت فديتك ما الّذي أبكاك»؟ فذكر لها ما نزل به جبرئيل من الآيتين المتقدّمتين، قال: فسقطت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) على وجهها وهي تقول: «الويل ثم الويل لمن دخل النار»، فسمع سلمان فقال : ياليتني كنت كبشاً لأهلي فأكلوا لحمي ومزقوا جلدي ولم أسمع بذكر النار، فقال أبو ذر ياليت أُمي كانت عاقراً ولم تلدني ولم أسمع بذكر النار، وقال عمّار: ياليتني كنت طائراً في القفار ولم يكن علي حساب ولا عقاب ولم أسمع بذكر النار، وقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا ليت السباع مزقت لحمي، وليت أُمّي لم تلدني ولم أسمع

ص: 41


1- الحجر: 43 - 44.
2- القصص: 60.
3- الجلد.

بذكر النار، ثم وضع علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يده على رأسه وجعل يبكي ويقول: وابعد سفراه، واقلّة زاداه في سفر القيامة يذهبون وفي النار يتردّدون وبكلاليب النار يتخطّفون، مرضى لا يعاد سقيمهم، وجرحى لا يداوى جريحهم، وأسرى لا يفكّ أسيرهم، من النار يأكلون، ومنها يشربون، وبين أطباقها يتقلبون، وبعد لبس القطن والكتان مقطّعات النار يلبسون، وبعد معانقة الأزواج مع الشياطين مقرّنون»(1).

باب بني أُميّة

جاء في الخصال للقطّان، عن ابن زكريا، عن ابن حبيب، عن محمّد بن محمّد بن عبیداللّه عن علي بن الحكم عن أبان بن عثمان، عن محمّد بن الفضيل الزرقي، عن أبي عبداللّه، عن أبيه، عن جد (عَلَيهِ السَّلَامُ)ه قال : «إنّ للنار سبعة أبواب باب يدخل منه فرعون وهامان وقارون، وباب يدخل منه المشركون والكفّار ممن لم يؤمن باللّه طرفة عين، وباب يدخل منه بنو أُميّة هو لهم خاصة لا يزاحمهم فيه أحد، وهو باب لظى، وهو باب سقر، وهو باب الهاوية تهوي بهم سبعين خريفاً، فكلّما هوى بهم سبعين خريفاً فصار بهم فورة قذف بهم في أعلاها سبعين خريفاً، ثمّ هوى بهم كذلك سبعين خريفاً، فلا يزالون هكذا أبداً خالدين مخلّدين، وباب يدخل فيه مبغضونا ومحاربونا وخاذلونا، وإنّه لأعظم الأبواب وأشدّها حرّاً».

قال محمّد بن الفضيل الزرقي : فقلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : الباب الّذي ذكرت عن أبيك عن جدّك (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه يدخل منه بنو أُميّة، يدخله من مات منهم السلام على الشرك أو ممّن أدرك منهم الإسلام فقال: «لا أمّ لك! ألم تسمعه يقول: وباب يدخل منه المشركون والكفّار، فهذا الباب يدخل فيه كلّ مشرك وكلّ كافر لا يؤمن بيوم الحساب، وهذا الباب الآخر الّذي يدخل منه بنو أُميّة إنّه هو لأبي سفيان ومعاوية وآل مروان خاصّة

ص: 42


1- البحار: ج 8 ص 303.

يدخلون من ذلك الباب فتحطمّهم النار حطماً لا تسمع لهم فيها واعية ولا يحيون فيها ولا يموتون» (1).

أشقى الأشقياء

عن أبي عبد اللّه، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ)، عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «خرجت ذات يوم إلى ظهر الكوفة وبين يديَّ قنبر، فإذا إبليس قد أقبل فقلت: بئس الشيخ أنت، فقال: لِمَ تقول هذا ياأمير المؤمنين؟ فواللّه لأُحدّثنّك بحديث عنّي عن اللّه (عزّوجلّ) ما بيننا ثالث: إنّه لمّا هبطت بخطيئتي إلى السماء الرابعة ناديت: إلهي وسيدي ما أحسبك خلقت من هو أشقى منّي، فأوحى اللّه تعالى إليّ؛ بلى قد خلقت من هو أشقى منك، فانطلق إلى مالك يريكه، فانطلقت إلى مالك فقلت : السلام يقرء عليك السلام ويقول: أرني من هو أشقى منّي، فانطلق بي مالك إلى النار، فرفع الطبق الأعلى، فخرجت نار سوداء ظننت انّها قد أكلتني وأكلت مالكاً فقال لها: اهدئي فهدأت ثم انطلق بي إلى الطبق الثاني فخرجت نار هي أشدّ من أشدّ من تلك سواداً وأشد حمى، فقال لها: إخمدي، فخمدت، إلى ان انطلق بي إلى السابع وكل نار تخرج من طبق هي أشد من الأُولى، فخرجت نار ظننت إنها قد أكلتني وأكلت مالكاً وجميع ما خلقه اللّه (عزّوجلّ) فوضعت يدي على عيني وقلت: مرها يا مالك تخمد وإلّا خمدت، فقال: إنك لن تخمد إلى الوقت المعلوم، فأمرها فخمدت،

فرأيت رجلين في أعناقهما سلاسل النيران معلّقين بها إلى فوق وعلى رؤوسهما قوم معهم مقامع النيران يقمعونهما بها، فقلت: يامالك من هذان؟ فقال: أو ما قرأت على ساق العرش وكنت قبل قرأته قبل أن يخلق اللّه الدنيا بألفي عام: «لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه أيدته ونصرته بعليّ» فقال: هذان عدّوا أولئك وظالماهم» (2).

ص: 43


1- البحار : ج 31 ص 518.
2- البحار: ج 8 ص 315.

النساء المعذبات

عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «دخلت أنا وفاطمة على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فوجدته يبكي بكاء شديداً، فقلت: فداك أبي وأُمي يارسول اللّه ما الّذي أبكاك؟

فقال: ياعلي ليلة أُسري بي إلى السماء رأيت نساء من أُمّتي في عذاب شديد، فأنكرت شأنهنّ فبكيت لما رأيت من شدّة عذابهنّ.

ورأيت امرأة معلّقة بشعرها يغلي دماغ رأسها، ورأيت امرأة معلّقة بلسانها والحميم يصبّ في حلقها، ورأيت امرأة معلّقة بثديها، ورأيت امرأة تأكل لحم جسدها والنار توقد من تحتها.

ورأيت امرأة قد شدّ رجلاها إلى يديها وقد سلّط عليها الحيّات والعقارب، ورأيت امرأة صمّاء عمياء خرساء في تابوت من نار يخرج دماغ رأسها من منخرها، وبدنها متقطّع من الجذام والبرص.

ورأيت امرأة معلّقة برجليها في تنوّر من نار، ورأيت امرأة تقطّع لحم جسدها من مقدّمها ومؤخّرها بمقاريض من نار، ورأيت امرأة يحرق وجهها ويداها وهي تأكل أمعاءها، ورأيت امرأة رأسها رأس خنزير وبدنها بدن،الحمار، وعليها ألف ألف لون من العذاب.

ورأيت امرأة على صورة الكلب، والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها، والملائكة يضربون رأسها وبدنها بمقامع من نار. فقالت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) : حبيبي وقرّة عيني أخبرني ما كان عملهنّ وسيرتهنّ حتّى وضع اللّه عليهنّ هذا العذاب؟

فقال: يا بنتي أمّا المعلّقة بشعرها; فإنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال، واما المعلّقة بلسانها; فإنّها كانت تؤذي زوجها واما المعلقة بثديها فانها كانت تمتنع من فراش زوجها.

ص: 44

وأمّا المعلقة برجليها; فإنها كانت تخرج من بيتها بغير إذن زوجها، وأمّا التي كانت تأكل لحم جسدها; فإنّها كانت تزيّن بدنها للناس وأمّا التي شدّت يداها إلى رجليها وسلّط عليها الحيّات والعقارب; فإنّها كانت قذرة الوضوء قذرة الثياب وكانت لا تغتسل من الجنابة والحيض ولا تتنظف، وكانت تستهين بالصلاة، وأمّا العمياء الصمّاء الخرساء; فانها كانت تلد من الزنا فتعلّقه في عنق زوجها.

وأما التي تقرض لحمها بالمقاريض; فإنّها تعرض نفسها على الرجال، وأما التي كانت تحرق وجهها وبدنها وهي تأكل أمعاء ها; فإنها كانت قوّادة، واما التي كان رأسها رأس خنزير وبدنها بدن الحمارة فإنها كانت نمامة كذابة، واما التي كانت على صورة الكلب والنار تدخل في دبرها وتخرج من فيها; فإنها كانت قينة نواحة حاسدة. ثم قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ويل لامرأة أغضبت زوجها، وطوبى لامرأة رضي عنها زوجها»(1).

قصّة القاضي من بني إسرائيل

عن الثمالي، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «كان قاض في بني إسرائيل وكان يقضي بالحقّ فيهم، فلمّا حضرته الوفاة قال لامرأته : إذا متّ فاغسليني وكفّنيني وغطّي وجهي وضعيني على سريرتي، فإنّك لا ترينّ سوءًا إن شاء اللّه تعالى، فلمّا مات فعلت ما كان أمرها به، ثم مكثت بعد ذلك حيناً، ثمّ إنّها كشفت عن وجهه فإذا دودة تقرض من منخره ! ففزعت من ذلك، فلمّا كان بالليل أتاها في منامها يعني رأته في النوم فقال لها : فزعت مما رأيت؟ قالت أجل قال واللّه ما هو إلا في أخيك، وذلك أنه أتاني ومعه خصم له فلمّا جلسا قلت اللّهم اجعل الحقّ له، فلمّا اختصما كان الحق له ففرحت فأصابني ما رأيت لموضع هواي مع موافقة الحقّ له»(2).

ص: 45


1- البحار : ج 8 ص 309.
2- البحار: ج 14 ص 489.

ص: 46

باب في المناظرات والإحتجاج

الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مجلس معاوية

روي عن الشّعبّي وأبي مخنف ويزيد بن أبي حبيب المصري أنّهم قالوا: لم يكن في الإسلام يوم في مشاجرة قوم اجتمعوا في محفل أكثر ضجيجاً ولا أعلى كلاماً ولا أشدّ مبالغة في قول، من يوم اجتمع فيه عند معاوية بن أبي سفيان، عمرو بن عثمان بن عفّان، وعمرو بن العاص، وعتبة بن أبي سفيان، والوليد بن عتبة بن أبي معيط والمغيرة بن شعبة، وقد تواطؤوا على أمر واحد.

فقال عمرو بن العاص لمعاوية: ألا تبعث إلى الحسن بن علي فتحضره، فقد أحيا سيرة أبيه، وخفقت النعال خلفه إن أمر فأُطيع، وإن قال فصدق، وهذان يرفعان به إلى ما هو أعظم منهما، فلو بعثت إليه فقصرنا به وبأبيه، وسببناه وسببنا أباه، وصعرنا بقدره وقدر أبيه، وقعدنا لذلك حتّى صدق لك فيه. فقال لهم معاوية: إنّي أخاف أن يقلّدكم قلائد يبقى عليكم عارها حتّى تدخلكم،قبوركم، واللّه ما رأيته قط إلّا كرهت جنابه، وهبت عتابه، وإنّي إن بعثت إليه لأنصفته منكم، قال عمرو بن العاص : أتخاف أن يتسامى باطله على حقنا، ومرضه على صحتنا؟ قال: لا، قال: فابعث إذا إليه.

فقال عتبة: هذا رأي لا أعرفه واللّه ما تستطيعون أن تلقوه بأكثر ولا أعظم ممّا في أنفسكم عليه، ولا يلقاكم إلّا بأعظم مما في نفسه عليكم، وإنّه لمن أهل بيت خصم جدل.

فبعثوا إلى الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا أتاه الرسول قال له: يدعوك معاوية، قال: «ومن

ص: 47

عنده»؟ قال الرسول عنده فلان وفلان، وسمّى كلاًّ منهم باسمه، فقال الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ما لهم، خرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، ثمّ قال: يا جارية أبلغيني ثيابي، ثمّ قال : اللّهم إنّي أدرأ بك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم، وأستعين بك عليهم فاكفنيهم بما شئت وأنّى شئت، من حولك وقوتك يا أرحم الرّاحمين. وقال للرّسول هذا كلام الفرج».

فلمّا أتى معاوية رحّب به وحيّاه وصافحه، فقال الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ الّذي حييت به سلامة، والمصافحة أمنة»، فقال معاوية : أجل إنّ هؤلاء بعثوا إليك وعصوني ليقرّروك أنّ عثمان قتل مظلوماً وأنّ أباك قتله، فاسمع منهم ثمّ أجبهم بمثل ما يكلّمونك ولا يمنعك مكاني من جوابهم.

فقال الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «سبحان اللّه البيت بيتك، والإذن فيه إليك، واللّه لئن أجبتَهم إلى ما أرادوا إنّي لأستحيي لك من الفحش، ولئن كانوا غلبوك إنّي لأستحيي لك من الضعف فبأيهما تقرُّ؟ ومن أيهما تعتذر ؟ أما إنّي لو علمت بمكانهم واجتماعهم لجئت بعدّتهم من بني هاشم، ومع وحدتي هم أوحش منّي من جمعهم، فإنّ اللّه عزّ وجلّ لوليّي اليوم وفيما بعد اليوم، فليقولوا فأسمع، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم».

فتكلّم عمرو بن عثمان بن عفّان فقال: ما سمعت كاليوم، أن بقي من بني عبد المطّلب على وجه الأرض من أحد بعد قتل الخليفة عثمان بن عفّان، وكان [من] ابن اُختهم، والفاضل في الإسلام منزلة، والخاص برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، أثرة، فبئس كرامة اللّه حتّى سفكوا دمه اعتداء وطلباً للفتنة وحسداً ونفاسة، وطلب ما ليسوا بآهلين لذلك، مع سوابقه ومنزلته من اللّه ومن رسوله ومن الإسلام فيا ذُلّاه أن يكون حسن وسائر بني عبد المطّلب قتلة عثمان أحياء يمشون على مناكب الأرض وعثمان مضرَّج بدمه، مع أنّه لنا فيكم تسعة عشر دماً بقتلى بني أُميّة ببدر.

ص: 48

ثمّ تكلّم عمرو بن العاص، فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: إي يا ابن أبي تراب! بعثنا إليك لنقرِّرك أنّ أباك سمَّ أبا بكر الصّدّيق، واشترك في قتل عمر الفاروق، وقتل عثمان ذا النّورين مظلوماً، فادّعى ما ليس له بحقّ، ووقع فيه وذكر الفتنة وعيّره بشأنها ثمّ قال: إنّكم يا بني عبد المطّلب لم يكن اللّه ليعطيكم الملك فترتكبون فيه ما لا يحلّ لكم، ثمّ أنت يا حسن تحدّث نفسك بأنك كائن أمير المؤمنين وليس عندك عقل ذلك، ولا رأيه، فكيف وقد سُلبته، وتُركت أحمق في قريش وذلك لسوء عمل أبيك، وإنّما دعوناك لنسبك وأباك، ثمّ أنت لا تستطيع أن تعتّب علينا، ولا أن تكذّبنا في شيء به، فإن كنت ترى أنا كذبناك في شيء وتقوّلنا عليك بالباطل، وادّعينا خلاف الحق فتكلّم، وإلّا فاعلم أنّك وأباك من شر خلق اللّه أما أبوك فقد كفانا اللّه قتله وتفرّد به، فأمّا أنت فإنّك في أيدينا نتخيّر فيك، واللّه أن لو قتلناك، ما كان في قتلك إثم عند اللّه، ولا عيب عند النّاس.

ثمّ تكلّم عتبة بن أبي سفيان، فكان أوّل ما ابتدأ به أن قال: يا حسن إنّ أباك كان شرّ قريش لقريش; أقطعُه لأرحامها، وأسفكه لدمائها، وإنّك لمن قتلة عثمان، وإنّ في الحقّ أن نقتلك به، وإنّ عليك القود في كتاب اللّه عزّ وجلّ وإنا قاتلوك به، فأما أبوك فقد تفرّد اللّه بقتله،فكفاناه، وأمّا رجاؤك للخلافة فلست منها لا في قدحة زندك، ولا في رجحة ميزانك.

ثمّ تكلّم الوليد بن عقبة بن أبي معيط بنحو من كلام أصحابه، وقال: يا معاشر بني هاشم كنتم أوّل من دبّ بعيب عثمان، وجمع النّاس عليه، حتّى قتلتموه حرصاً على الملك، وقطيعة للرّحم، واستهلاك الأُمّة وسفك دمائها، حرصاً على الملك، وطلباً للدُّنيا الخسيسة وحبّاً لها، وكان عثمان خالكم، فنعم الخال كان لكم، وكان صهركم، فكان نعم الصهر لكم قد كنتم أوّل من حسده، وطعن عليه ثمّ وليتم قتله، فكيف رأيتم صنع اللّه بكم

ص: 49

ثمّ تكلّم المغيرة بن شعبة، وكان كلامه وقوله كلّه وقوعاً في عليّ،(عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم قال: يا حسن إنّ عثمان قتل مظلوماً، فلم يكن لأبيك في ذلك عذر بريء، ولا اعتذار مذنب، غير أنّا يا حسن قد ظننّا لأبيك في ضمه قتلته، وإيوائه لهم وذبّه عنهم أنّه بقتله راض، وكان واللّه طويل السيف واللّسان يقتل الحيّ ويعيب الميت وبنو أُميّة خير لبني هاشم من بني هاشم لبني أُميّة، ومعاوية خير لك يا حسن منك لمعاوية.

وقد كان أبوك ناصب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حياته، وأجاب عليه قبل موته وأراد قتله، فعلم ذلك من أمره رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثم كره أن يبايع أبا بكر حتّى أُتي به قوداً، ثمّ دسّ إليه فسقاه سمّاً فقتله، ثمّ نازع عمر حتّى هم أن يضرب رقبته، فعمل في قتله، ثمّ طعن على عثمان حتّى قتله، كلّ هؤلاء قد شرك في دمهم، فأيّ منزلة له من اللّه يا حسن، وقد جعل اللّه السلطان لوليّ المقتول في كتابه المنزل، فمعاوية وليُّ المقتول بغير حق، فكان من الحقّ لو قتلناك وأخاك، واللّه ما دم عليّ بخطر من دم،عثمان، وما كان اللّه ليجمع فيكم يا بني عبد المطّلب الملك والنبوّة ثم سكت.

فتكلّم أبو محمّد الحسن بن عليّ صلوات اللّه عليهما فقال: «الحمد للّه الّذي أوّلكم بأوّلنا، وآخركم بآخرنا، وصلى اللّه على سيّدنا محمّد النبي وآله وسلّم، ثمّ قال: اسمعوا منّي مقالتي وأعيروني فهمكم، وبك أبدأ يا معاوية. ثمّ قال لمعاوية: إنّه لعمر اللّه يا أزرق ما شتمني غيرك، وما هؤلاء شتموني ولا سبّني غيرك وما هؤلاء سبوني، ولكن شتمتني وسببتني، فحشاً منك، وسوء رأي، وبغياً وعدواناً وحسداً علينا، وعداوةً لمحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قديماً وحديثاً. وانه واللّه لو كنت أنا وهؤلاء يا أزرق! مثاورين في مسجد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وحولنا المهاجرون والأنصار، ما قدروا أن يتكلموا بمثل ما تكلّموا به، ولا استقبلوني بما استقبلوني به فاسمعوا منّي أيها الملأ المخيّمون المعاونون عليّ ولا تكتموا حقّاً علمتموه ولا تصدّقوا بباطل نطقت به، وسأبدأ بك يا معاوية فلا

ص: 50

أقول فيك إلّا دون ما فيك.

أنشدكم باللّه! هل تعلمون أنّ الرّجل الّذي شتمتموه صلّى القبلتين كلتيهما وأنت تراهما جميعاً ضلالة تعبد اللات والعزّى؟ وبايع البيعتين كلتيهما بيعة الرّضوان وبيعة الفتح، وأنت يا معاوية بالأولى كافر، وبالأُخرى ناكث؟

ثمّ قال : أنشدكم باللّه ! هل تعلمون أنّما أقول حقاً إنّه لقيكم مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يوم بدر ومعه راية النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومعك يا معاوية راية المشركين تعبد اللات والعزّى وترى حرب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والمؤمنين فرضاً واجباً، ولقيكم يوم أحد ومعه راية النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومعك يا معاوية راية المشركين، ولقيكم يوم الأحزاب ومعه راية النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومعك يا معاوية راية المشركين، كلّ ذلك يفلج اللّه حجّته ويُحقُّ دعوته، ويصدّق أُحدوثته، وينصر رايته، وكلّ ذلك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يُرى عنه راضياً في المواطن كلّها.

ثم أنشدكم باللّه ! هل تعلمون أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حاصر بني قريظة وبني النضير ثمّ بعث عمر بن الخطّاب ومعه راية المهاجرين، وسعد بن معاذ ومعه راية الأنصار، فأما سعد بن معاذ فجُرح وحمل جريحاً، وأمّا عمر فرجع وهو يحبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): لأُعطينّ الرّاية غداً رجلا يحبُّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله كرّار غير فرّار، ثمّ لا يرجع حتّى يفتح اللّه عليه، فتعرّض لها أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار، وعليُّ يومئذ أرمد شديد الرّمد فدعاه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فتفل في عينيه فبرأ من الرمد فأعطاه الرّاية فمضى ولم يثن حتّى فتح اللّه [عليه ]بمنّه وطوله، وأنت يومئذ بمكّة عدوٌّ للّه ورسوله، فهل يسوّى بين رجل نصح اللّه ولرسوله، ورجل عادى اللّه ورسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟!

ثمّ أُقسم باللّه ما أسلم قلبك بعد، ولكنَّ اللّسان خائف، فهو يتكلّم بما ليس في

ص: 51

القلب [ثمّ ] أنشدكم باللّه أتعلمون أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) استخلفه على المدينة في غزوة تبوك ولا سخطه ذلك ولا كرهه وتكلّم فيه المنافقون، فقال: لا تخلفني يا رسول اللّه فإنّي لم أتخلّف عنك في غزوة قطّ، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أنت وصيّي وخليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسى، ثم أخذ بيد علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم قال : أيّها الناس من تولّاني فقد تولّى اللّه، ومن تولّى علياً فقد تولاني، ومن أطاعني فقد أطاع اللّه، ومن أطاع عليّاً فقد أطاعني، ومن أحبّني فقد أحبّ اللّه ومن أحبّ عليّاً فقد أحبّني].

ثمّ قال : [ أنشدكم باللّه ! أتعلمون أنّ رسول اللّه قال في حجة الوداع: أيها النّاس إنّي قد تركت فيكم ما لم تضلّوا بعده; كتاب اللّه فأحلوا حلاله وحرموا حرامه واعملوا،بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا بما أنزل اللّه من الكتاب، وأحبّوا أهل بيتي وعترتي ووالوا من والاهم وانصروهم على من عاداهم، وإنهما لم يزالا فيكم حتّى يردا علي الحوض يوم القيامة.

ثم دعا وهو على المنبر عليّاً فاجتذبه بيده فقال: اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، اللّهم من عادى عليّاً فلا تجعل له في الأرض مقعداً ولا في السّماء مصعداً واجعله في أسفل درك من النار.

أنشدكم باللّه! أتعلمون أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال له: أنت الذائد عن حوضي يوم القيامة; تذود عنه كما يذود أحدكم الغريبة من وسط إبله.

أنشدكم باللّه ! أتعلمون أنه دخل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في مرضه الّذي توفّي فيه، فبكا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال عليُّ: ما يبكيك يا رسول اللّه ؟ فقال : يبكيني أنّي أعلم أنّ لك في قلوب رجال من أُمّتي ضغائن لا يبدونها حتّى أتولّى عنك.

أنشدكم باللّه! أتعلمون أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حين حضرته الوفاة، واجتمع أهل بيته

ص: 52

قال: اللّهمّ هؤلاء أهلي وعترتي اللّهمّ وال من والاهم وانصرهم على من عاداهم، وقال: إنّما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من دخل فيها نجا ومن تخلّف عنها غرق.

أنشدكم باللّه ! أتعلمون أنّ أصحاب رسول اللّه قد سلّموا عليه بالولاية في عهد رسول اللّه وحياته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

أنشدكم باللّه ! أتعلمون أنّ عليّاً أوّل من حرّم الشّهوات كلّها على نفسه من أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأنزل اللّه عزّ وجلّ «يَأَيُّهَا الّذين ءَامَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّه لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه عَلَلَا طَيْبًا وَاتَّقُوا اللّه الّذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ»(1).

وكان عنده علم المنايا، وعلم القضايا، وفصل الخطاب، ورسوخ العلم، ومنزل القرآن، وكان في رهط لا نعلمهم يتمّون عشرة، نبّأهم اللّه أنّهم به مؤمنون، وأنتم في رهط قريب من عدّة أُولئك لعنوا على لسان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأشهد لكم وأشهد عليكم أنّكم لعناء اللّه على لسان نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )كلكم أهل البيت.

وأنشدكم باللّه ! هل تعلمون أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعث إليك لتكتب لبني خزيمة حين أصابهم خالد بن الوليد فانصرف إليه الرّسول فقال : هو يأكل فأعاد الرسول إليك ثلاث مرّات، كلّ ذلك ينصرف الرّسول ويقول: هو يأكل، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : اللّهم لا تشبع بطنه، فهي واللّه في نهمتك وأكلك إلى يوم القيامة.

ثمّ قال : أنشدكم باللّه ! هل تعلمون أنّما أقول حقّاً إنّك يا معاوية كنت تسوق بأبيك على جمل أحمر، ويقوده أخوك هذا القاعد، وهذا یوم الأحزاب، فلعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )الراكب والقائد والسائق، فكان أبوك الراكب وأنت يا أزرق السائق وأخوك هذا القاعد

ص: 53


1- المائدة : 87.

القائد ؟

ثم أنشدكم باللّه هل تعلمون أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعن أبا سفيان في سبعة مواطن; أوّلهنَّ; حين خرج من مكّة إلى المدينة وأبو سفيان جاء من الشام، فوقع فيه أبو سفيان فسبّه وأوعده وهمّ أن يبطش به، ثمّ صرفه اللّه عزّ وجلّ عنه.

والثاني; يوم العير، حيث طردها أبو سفيان ليحرزها من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والثالث; يوم أحد، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : اللّه مولانا ولا مولى لكم وقال أبو سفيان: لنا العزّى ولا لكم العزّى، فلعنه اللّه وملائكته ورسوله والمؤمنون أجمعون.

والرابع; يوم حنين، يوم جاء أبو سفيان بجمع قريش وهوازن وجاء عيينة بغطفان واليهود فردّهم اللّه عزّ وجلّ بغيظهم لم ينالوا خيراً هذا قول اللّه عزّ وجلّ له في سورتين في كلتيهما يسمّى أبا سفيان وأصحابه كفّاراً، وأنت يا معاوية يومئذ مشرك على رأي أبيك بمكّة، وعلي يومئذ مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعلى رأيه ودينه.

والخامس; قول اللّه عزّ وجلّ «وَالهَدْيَ مَعَكُونًا أَن يَبْلُغَ يَحِلَّهُ»(1) وصددت أنت وأبوك ومشركو قريش رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فلعنه اللّه لعنة شملته وذريته إلى يوم القيامة.

والسادس; يوم الأحزاب، يوم جاء أبو سفيان بجمع قريش وجاء عُيينة ابن حصن بن بدر بغطفان، فلعن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) القادة والأتباع والساقة إلى يوم القيامة. فقيل: يا رسول اللّه أما في الأتباع مؤمن؟ فقال: لا تصيب اللّعنة مؤمناً من الأتباع، وأما القادة فليس فيهم مؤمن ولا مجيب ولا ناجٍ.

والسّابع; يوم الثّنية، يوم شدَّ على رسول اللّه اثنا عشر رجلا، سبعة منهم من بني اُميّة وخمسة من سائر،قريش، فلعن اللّه تبارك وتعالى ورسوله من حلّ الثنيّة غير النبي

ص: 54


1- الفتح: 25.

وسائقه وقائده

ثم أنشدكم باللّه هل تعلمون أنّ أبا سفيان دخل على عثمان حين بويع في مسجد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : يا ابن أخي هل علينا من عين ؟ فقال: لا، فقال أبو سفيان تداولوا الخلافة فتيان بني أُميّة، فوالذي نفس أبي سفيان بيده ما من جنّة ولا نار.

وأنشدكم باللّه أتعلمون أنّ أبا سفيان أخذ بيد الحسين حين بويع عثمان وقال: يا ابن أخي أخرج معي إلى بقيع الغرقد فخرج حتّى إذا توسّط القبور اجتره فصاح بأعلى صوته : يا أهل القبور الّذي كنتم تقاتلونا عليه، صار بأيدينا وأنتم رميم، فقال الحسين بن عليّ : قبح اللّه شيبتك، وقبّح وجهك، ثمّ نَتَرَيَدَه وتركه، فلولا النعمان بن بشير أخذ بیده وردّه إلى المدينة لهلك.

فهذا لك يا معاوية، فهل تستطيع أن تردّ علينا شيئاً.

ومن لعنتك يا معاوية أنّ أباك أبا سفيان كان يهمُّ أن يسلم فبعثت إليه بشعر معروف مروّي في قريش عندهم تنهاه عن الإسلام وتصدُّه. ومنها أن عمر بن الخطّاب ولّاك الشام فخنت به، ووّلاك عثمان فتربّصت به ريب المنون، ثمّ أعظم من ذلك أنك قاتلت عليّاً صلوات اللّه عليه وآله، وقد عرفت سوابقه وفضله وعلمه، على أمر هو أولى به منك، ومن غيرك عند اللّه وعند النّاس، ولا دنيّة بل أوطأت النّاس عشوة وأرقت دماء خلق من خلق اللّه بخدعك وكيدك وتمويهك فعل من لا يؤمن بالمعاد، ولا يخشى العقاب، فلمّا بلغ الكتاب أجله صرت إلى شرّ مثوى، وعلي إلى خير منقلب واللّه لك بالمرصاد.

فهذا لك يا معاوية خاصّة، وما أمسكت عنه من مساويك وعيوبك، فقد كرهت به التطويل.

وأما أنت يا عمرو بن عثمان، فلم تكن حقيقاً لحمقك أن تتبع هذه الأُمور فإنّما مَثَلك

ص: 55

مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: استمسكي فإنّي أُريد أن أنزل عنك، فقالت لها النخلة: ما شعرت بوقوعك فكيف يشقّ علي نزولك ؟ وإنّي واللّه ما شعرت أنك تحسن أن تعادي لي فيشق عليَّ ذلك، وإنّي لمجيبك في الّذي قلت.

إنّ سبّك عليّاً أبنقص في حسبه ؟ أو تباعده من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أو بسوء بسوء بلاء في الإسلام؟ أو بجور في حكم، أو رغبة في الدّنيا ؟ فإن قلت واحدة منها فقد كذبت، وأمّا قولك إنّ لكم فينا تسعة عشر دماً بقتلى مشركي بني أُميّة ببدر، فإنّ اللّه ورسوله قتلهم، ولعمري ليقتلنَّ من بني هاشم تسعة عشر وثلاثة بعد تسعة عشر ثمّ يقتل من بني اُمية تسعة عشر وتسعة عشر في موطن واحد سوى ما قتل من بني أُميّة لا يحصى عددهم إلاّ اللّه.

إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : إذا بلغ ولد الوزع ثلاثين رجلا أخذوا مال اللّه بينهم دُوَلا، وعباده خَوَلا، وكتابه دَغَلا فإذا بلغوا ثلاثمائة وعشراً حقّت عليهم اللعنة ولهم، فإذا بلغوا أربعمائة وخمسة وسبعين كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة، فأقبل الحكم بن أبي العاص وهم في ذلك الذكر والكلام، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : اخفضوا أصواتكم فإنّ الوزع يسمع، وذلك حين رآهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومن يملك بعده منهم أمر هذه الأُمّة يعني في المنام فساءه ذلك وشقّ عليه فأنزل اللّه عزّ وجلّ في كتابه «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ»(1) فأشهد لكم وأشهد عليكم ما سلطانكم بعد قتل علّي إلّا ألف شهر التي أجلّها اللّه عزّ وجلّ في كتابه.

وأمّا أنت يا عمرو بن العاص الشانئ اللعين الأبتر، فإنّما أنت كلب، أوّل أمرك أُمّك لبغيّة، وإنّك ولدت على فراش مشترك، فتحاكمت فيك رجال قريش منهم أبو سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، وعثمان بن الحارث والنضر بن الحارث بن كلدة

ص: 56


1- القدر: 3.

والعاص بن وائل كلّهم يزعم أنّك ابنه، فغلبهم عليك من بين قريش ألأمهم حسباً، وأخبثهم منصباً، وأعظمهم بغية.

ثمّ قمت قمت خطيباً وقلت أنا شانئ محمّد، وقال العاص بن وائل: إنّ محمّداً رجل أبتر لا ولد له، فلو قد مات انقطع ذكره، فأنزل اللّه تبارك وتعالى «إِن شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ»(1) فكانت أُمّك تمشي إلى عبد قيس لطلب البغية، تأتيهم في دورهم ورحالهم وبطون اوديتهم، ثمّ كنت في كلّ مشهد يشهد رسول اللّه عدوّه أشدّهم له عداوة وأشدهم له تكذيباً.

ثمّ كنت في أصحاب السّفينة الّذين أتوا النجاشي، والمهرج الخارج إلى الحبشة في الاشاطة بدم جعفر بن أبي طالب وسائر المهاجرين إلى النجاشي، فحاق المكر السيّئ بك، وجعل جدّك الأسفل وأبطل أمنيّتك، وخيّب سعيك، وأكذب أُحدوثتك وجعل كلمة الّذين كفروا السفلى، وكلمة اللّه هي العليا.

وأما قولك في عثمان، فأنت يا قليل الحياء والدين ألهبت عليه ناراً ثم هربت إلى فلسطين تتربّص به الدّوائر، فلمّا أتتك [خبر] قتله حبست نفسك على معاوية فبعته دينك يا خبيث بدنيا غيرك، ولسنا نلومك على بغضنا، ولا نعاتبك على حبّنا وأنت عدوّ لبني هاشم في الجاهليّة والإسلام، وقد هجوت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بسبعين بيتاً من شعر، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : اللّهم إنّي لا أحسن الشعر ولا ينبغي لي أن أقوله، فالعن عمرو بن العاص بكلّ بيت [ألف ] لعنة.

ثمّ أنت يا عمرو المؤثر دنيا غيرك على دينك، أهديت إلى النجاشي الهدايا، ورحلت إليه رحلتك الثانية، ولم تنهك الأُولى عن الثانية، كلّ ذلك ترجع مغلولا حسيراً تريد

ص: 57


1- الكوثر : 3.

بذلك هلاك جعفر وأصحابه، فلمّا أخطأك ما رجوت وأمّلت أحلت على صاحبك عمّارة بن الوليد.

وأمّا أنت يا وليد بن عقبة، فواللّه ما ألومك أن تبغض عليّاً، وقد جلدك في الخمر ثمانين، وقتل أباك صبراً بيده يوم بدر، أم كيف تسبّه فقد سمّاه اللّه مؤمناً في عشر آيات من القرآن، وسماك فاسقاً، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : «أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقَاً لَّا يَسْتَوُونَ»(1) وقوله : «إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»(2)، وما أنت وذكر قريش وإنّما أنت ابن عليج من أهل صفورية يقال له: ذكوان.

وأمّا زعمك أنّا قتلنا عثمان، فواللّه ما استطاع طلحة والزّبير وعائشة أن يقولوا ذلك لعليّ بن أبي طالب، فكيف تقوله أنت؟ ولو سألت أُمّك من أبوك إذ تركت ذكوان فألصقتك بعقبة بن أبي معيط اكتست بذلك عند نفسها سناء ورفعة مع ما أعد اللّه لك ولأبيك وأمك من العار والخزي في الدنيا والآخرة، وما اللّه بظلّام للعبيد.

ثمّ أنت يا وليد واللّه أكبر في الميلاد ممّن تدّعي له النسب، فكيف تسبّ عليّاً؟ ولو اشتغلت بنفسك لبيّنت نسبك إلى أبيك لا إلى من تدّعي له، ولقد قالت لك أُمّك : يا بني أبوك واللّه ألأم وأخبث من عقبة.

وأمّا أنت يا عتبة بن أبي سفيان فواللّه ما أنت بحصيف فأُجاوبك، ولا عاقل فأُعاتبك، وما عندك خير يرجى ولا شرّ يخشى، وما كنت ولو سببت عليّاً لأغار به عليك، لأنّك عندي لست بكفو لعبد عبد علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأردّ عليك وأُعاتبك، ولكنّ اللّه عزّ وجلّ لك ولأبيك وأُمّك وأخيك بالمرصاد، فأنت ذريّة آبائك الّذين ذكرهم

ص: 58


1- السجدة: 18.
2- الحجرات: 6.

اللّه في القرآن فقال: «عَامِلَةً نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيةٌ (4) تُسْقَى مِنْ عَيْن، ءَانِيَةٍ (5) لَّيْسَ هُمْ طَعَامُ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوع»(1).

وأمّا وعيدك إيّاي بقتلي، فهلّا قتلت الّذي وجدته على فراشك مع حليلتك وقد غلبك على فرجها وشركك في ولدها حتّى ألصق بك ولداً ليس لك، ويلاً لك لو شغلت نفسك بطلب ثأرك منه كنت جديراً، وبذلك حريّاً، إذ تسومني القتل وتوعدني به ولا ألومك أن تسبّ علياً وقد قتل أخاك مبارزة، واشترك هو وحمزة بن عبد المطّلب في قتل جدّك حتّى أصلاهما [ اللّه ] على أيديهما نار جهنّم وأذاقهما العذاب الأليم [ ونفي عمّك بأمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ] وأما رجائي الخلافة، فلعمر اللّه لئن رجوتها فإنّ لي فيها لملتمساً، وما أنت بنظير أخيك ولا خليفة أبيك، لأنّ أخاك أكثر تمرّداً على اللّه، وأشدّ طلباً لإراقة دماء المسلمين، وطلب ما ليس له بأهل، يخادع الناس ويمكرهم ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين. وأما قولك: إنّ علياً كان شر قريش لقريش، فواللّه ما حقّر مرحوماً، ولا قتل مظلوماً.

وأمّا أنت يا مغيرة بن شعبة فإنّك للّه عدوّ، ولكتابه،نابذ، ولنبيه مكذّب، وأنت الزاني وقد وجب عليك الرّجم، وشهد عليك العدول البررة الأتقياء فأُخر رجمك، ودفع الحق بالباطل، والصدق بالأغاليط، وذلك لما أعد اللّه لك من العذاب الأليم والخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أخزى.

وأنت ضربت فاطمة بنت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى أدميتها وألقت ما في بطنها استذلالا منك لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ومخالفة منك لأمره، وانتهاكاً لحرمته، وقد قال لها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أنت سيّدة نساء أهل الجنّة، واللّه مصيرك إلى النار، وجاعل وبال ما نطقت به عليك.

ص: 59


1- الغاشية 3.

فبأي الثلاثة سببت عليّاً أنقصاً من حسبه، أم بعداً من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، أم سوء بلاء في الإسلام، أم جوراً في حكم، أم رغبة في الدّنيا، إن قلت بها فقد كذبت وكذّبك الناس.

أتزعم أنّ عليّاً قتل عثمان مظلوماً؟ فعليّ واللّه أتقى وأنقى من لائمه في ذلك، ولعمري إن كان عليّاً قتل عثمان مظلوماً، فواللّه ما أنت من ذلك في شيء، فما نصرته حيّاً ولا تعصبت له ميتاً، وما زالت الطائف دارك، تتببع البغايا وتحيي أمر الجاهلية، وتميت الإسلام حتّى كان في أمس [ما كان]

وأمّا اعتراضك في بني هاشم وبني أُميّة فهو ادعاؤك إلى معاوية، وأمّا قولك في شأن الإمارة، وقول أصحابك في الملك الّذي ملكتموه، فقد ملك فرعون مصر أربعمائة سنة، وموسى وهارون (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) نبيّان مرسلان يلقيان ما يلقيان وهو ملك اللّه يعطيه البر والفاجر، وقال اللّه عزّ وجلّ: «وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَعُ إِلَى حِينٍ»(1) وقال : «وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَرْنَهَا تَدْمِيرًا»(2).

ثم قام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فنفض ثيابه، وهو يقول: «الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَتِ» هم واللّه يا معاوية أنت وأصحابك هؤلاء وشيعتك، «وَالطَّيِّبَتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَتِ أُولَبِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ»(3) هم عليّ بن أبي طالب وأصحابه وشيعته».

ثم خرج وهو يقول : «ذق وبال ما كسبت يداك، وما جنيت، وما قد أعدّ اللّه لك ولهم من الخزي في الحياة الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة».

فقال معاوية لأصحابه وأنتم فذوقوا وبال ما قد جنيتم، فقال له الوليد بن عقبة:

ص: 60


1- الأنبیاء: 111.
2- الاسراء: 16.
3- النور: 26.

واللّه ما ذقنا إلّا كما ذقت ولا اجترأ إلا عليك فقال معاوية : ألم أقل لكم إنّكم لن تنتصفوا من الرّجل؟ فهل أطعتموني أوّل مرّة أو انتصرتم من الرّجل إذ فضحكم، واللّه ما قام حتّى أظلم علىّ البيت، وهممت أن أسطو به فليس فيكم خير اليوم ولا بعد اليوم.

قال: وسمع مروان بن الحكم بما لقي معاوية وأصحابه المذكورون من الحسن بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأتاهم فوجدهم عند معاوية في البيت فسألهم ما الّذي بلغني عن الحسن وزَعَله؟ قالوا: قد كان ذلك، فقال لهم :مروان فهلاً أحضرتموني ذلك فواللّه لأسبنّه ولأسبّنَّ أباه وأهل البيت سبّاً تغنّي به الإماء والعبيد، فقال معاوية والقوم: لم يفتك شيء، وهم يعلمون من مروان بذر لسان وفحش فقال مروان: فأرسل إليه يا معاوية: فأرسل معاوية إلى الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلمّا جاءه الرسول، قال له الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ما يريد هذا الطاغية منّي ؟ واللّه لئن أعاد الكلام لأوقرنّ مسامعه ما يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة».

فأقبل الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا أن جاءهم وجدهم بالمجلس، على حالتهم الّتي تركهم فيها، غير أنّ مروان قد حضر معهم في هذا الوقت فمشى الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى جلس على السرير مع معاوية وعمرو بن العاص، ثمّ قال الحسن لمعاوية: «لِمَ أرسلت إلي»؟ قال: لست أنا أرسلت إليك ولكن مروان الّذي أرسل إليك.

فقال مروان: أنت يا حسن السبّاب رجال قريش ؟ فقال: «وما الّذي أردت»؟ فقال: واللّه لأسبنّك وأباك وأهل بيتك سبّاً تغنّي به الإماء والعبيد، فقال الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أما أنت يا مروان، فلست أنا سببتك ولا سببت أباك، ولكنّ اللّه عزّ وجلّ لعنك ولعن أباك وأهل بيتك وذريتك، وما خرج من صلب أبيك إلى يوم القيامة على لسان نبيّه محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

ص: 61

واللّه يا مروان ما تنكر أنت ولا أحد ممن حضر هذه اللعنة من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للكل ولأبيك من قبلك، وما زادك اللّه يا مروان بما خوّفك إلا طغياناً كبيراً، صدق اللّه وصدق رسوله، يقول: «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ وَتُخَوَفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَنَا كَبِيرًا». (1)

وأنت يا مروان وذريتك الشجرة الملعونة في القرآن عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ))، فوثب معاوية فوضع يده على فم الحسن وقال : يا أبا محمّد ما كنت فحاشاً، فنفض الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثوبه وقام وخرج فتفرّق القوم عن المجلس بغيظ وحزن وسواد الوجوه (2).

عصمة الأنبياء

روى تميم القرشيّ، عن أبيه عن حمدان بن سليمان عن علي بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له المأمون: يابن رسول اللّه أليس من قولك إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: «بلی»، قال : فما معنى قول اللّه : «وَعَصَى عَادَمُ رَبَّهُ فَغَوى» (3) ؟ فقال : «إنّ اللّه تبارك وتعالى قال لآدم: « يَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنّة وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا نَقَرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ» (4) وأشار لهما إلى شجرة الحنطة «فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ»(5) ولم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة ولا ممّا كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجرة وإنّما أكلا من غيرها لمّا أن وسوس الشيطان إليهما وقال : «مَا نَهَنكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ»(6) وإنّما نهاكما أن تقربا غيرها، ولم ينهكما عن الأكل منها «إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَلِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ

ص: 62


1- الاسراء: 60.
2- البحار : ج 44 ص 70.
3- طه 121.
4- البقرة: 35.
5- البقرة : 35.
6- الأعراف: 20.

النَّصِحِينَ»(1) ولم يكن آدم وحوّا شاهدا قبل ذلك من يحلف باللّه كاذباً «فَدَلَّهُمَا يغُرُورٍ» (2) فأكلا منها ثقةً بيمينه باللّه، وكان ذلك من آدم قبل النبوّة، ولم يكن ذلك بذنب كبير إستحقّ به دخول النّار وإنّما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم، فلمّا إجتباه اللّه وجعله نبياً كان معصوماً لا يذنب صغيرة ولا كبيرة، قال اللّه (عزّوجلّ) : «وَعَصَى عَادَمُ رَبَّهُ فَغَوى»(3) «ثُمَّ اجْنَبَهُ رَبُّهُ، فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى» (4) وقال (عزّوجلّ) : «إِنَّ اللّه اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَعَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَلَمِينَ»(5)».

فقال له المأمون : فما معنى قول اللّه (عزّوجلّ) : «فلمّا ءاتَهُمَا صَلِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا ءَاتَهُمَا» ؟ (6) فقال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ حوّا ولدت لآدم خمسمائة بطن في كلّ بطن ذكراً وأنثى وإن آدم وحوّا عاهدا اللّه (عزّوجلّ) و دعواه وقالا : «لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَلِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّكِرِينَ»(7) فلمّا آتاهما صالحاً من النسل خلقاً سوياً بريّاً من الزّمانة والعاهة كان ما آتاهما صنفين; صنفاً ذكراناً وصنفاً أناثاً، فجعل الصنفان اللّه تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما، ولم يشكراه كشكر أبويهما له عزّ وجل قال اللّه تعالى: «فَتَعَلَى اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ»(8)».

فقال المأمون: أشهد أنك ابن رسول اللّه حقّاً، فأخبرني عن قول اللّه (عزّوجلّ) في إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبَا قَالَ هَذَا رَبِي»(9).

ص: 63


1- الأعراف: 20 – 21.
2- الأعراف: 22.
3- طه: 121.
4- طه 122.
5- آل عمران: 33.
6- الأعراف: 190.
7- الأعراف: 189.
8- الأعراف: 190.
9- الأنعام: 76.

فقال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقع إلى ثلاثة أصناف: صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشمس، وذلك حين خرج من السرب الّذي أُخفي فيه، فلمّا جنّ عليه الليل فرأى الزهرة فقال : «هَذَا رَبِّي» على الانكار والاستخبار «فلمّا أَفَلَ» الكوكب «لَا أُحِبُّ الْأَفِلِينَ»(1) لأنّ الأُفول من صفات الحدث لا من صفات القدم «فلمّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغَا قَالَ هَذَا رَبّي» على الانكار والاستخبار «فلمّا أَفَلَ قَالَ لَبِن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ»(2) يقول: لو لم يهدني ربّي لكنت من القوم الضالين «فلمّا» أصبح و«رَءَا الشَّمْسَ بَازِعَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذا أَكْبَر» (3) من الزهرة والقمر على الانكار والاستخبار لا على الاخبار والاقرار «فَلَمَّا أَفَلَتْ» قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزّهرة والقمر والشمس : «قَالَ يَقَومِ إِنِّي بَرِىءُ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (4) وإنّما أراد إبراهيم بما قال أن يبينّ لهم بطلان دينهم ويثبت عندهم أنّ العبادة لا تحقّ لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس وإنّما تحقّ العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض، وكان ما إحتج به على قومه بما ألهمه اللّه (عزّوجلّ) وآتاه كما قال (عزّوجلّ) : «وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ»(5)».

فقال المأمون للّه درّك يابن رسول اللّه، فأخبرني عن قول إبراهيم: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلبي» (6) قال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ

ص: 64


1- الأنعام: 76.
2- الانعام: 77.
3- الأنعام: 78.
4- الأنعام 78-79.
5- الأنعام: 83.
6- البقرة: 260.

اللّه تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أنّي متّخذٌ من عبادي خليلا، إن سألني إحياء الموتى أجبته. فوقع في نفس إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه ذلك الخليل فقال : «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئنَّ قَلْبِي» على الخَلَّة «قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيَا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ» فأخذ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) نسراً وبطاً وطاووساً وديكاً فقطعهنَّ وخلطهنَّ ثم جعل على كل جبل من الجبال التي حوله وكانت عشرة منهنَّ جزءًا، وجعل مناقيرهنَّ بين أصابعه، ثم دعاهنَّ بأسمائهنَّ، ووضع عنده حبّاً وماءً، فتطائرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتّى استوت الأبدان وجاء كلّ بدن حتّى انضم إلى رقبته ورأسه، فخلّى إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن مناقيرهنَّ فطرن، ثم وقعن فشربن من ذلك الماء، والتقطن من ذلك الحبّ وقلن: يانبيَّ اللّه أحييتنا، أحياك اللّه. فقال إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : بل اللّه يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير».

قال المأمون بارك اللّه فيك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول اللّه : «فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ»(1).

قال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنَّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء. «فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَئِلَانِ هَذَا مِن شِيعَيْهِ، وَهَذَا مِنْ عَدُوهُ فَاسْتَغَتَهُ الّذي مِن شِيعَيْهِ عَلَى الّذي مِنْ عَدُوِّهِ» (2) فقضى موسى على العدو بحكم اللّه تعالى ذكره «فَوَكَزَهُ» فمات «قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَنِ» يعني الإقتتال الّذي كان وقع بين الرجلين من عمل الشيطان لا ما فعله موسی (عَلَيهِ السَّلَامُ) من قتله «إِنَّهُ» يعني الشيطان «عَدُوٌّ مُّضِلَّ».

ص: 65


1- القصص: 15.
2- القصص: 15.

قال مأمون: فما معنى قول موسى «قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي»(1) ؟ قال : «يقول: إنّي وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة «فَأَغْفِرْ لي» أي استرني من أعدائك لئلّا يظفروا بي فيقتلوني «فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (2) «قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى» من القوّة حتّى قتلت رجلا بوكزة «فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ»(3) بل أُجاهد في سبيلك بهذه القوة حتّى ترضى «فَأَصْبَحَ» - موسى «فِي الْمَدِينَةِ خَائِفَا يَتَرَقَبُ فَإِذَا الّذي اسْتَنصَرَهُ، بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ»(4) على آخر. «قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ»(5) قاتلت رجلا بالأمس وتقاتل هذا اليوم لأُؤدّبنّك وأراد أن يبطش به «فلمّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا». وهو من شيعته «قَالَ يَمُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ»(6)».

قال المأمون: جزاك اللّه خيراً يا أبا الحسن، فما معنى قول موسى لفرعون : «قَالَ فَعَلْتُهَا إِذَا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ» ؟

قال الرّضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ فرعون قال لموسى لمّا أتاه «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَفِرِينَ» (7) «قَالَ» موسى: «فَعَلْتُهَا إِذَا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ»(8) عن الطريق بوقوعي إلى مدينة من مدائنك «فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ

ص: 66


1- القصص: 16.
2- القصص: 16.
3- القصص: 17.
4- القصص: 18.
5- القصص: 18.
6- القصص: 19.
7- الشعراء: 19.
8- الشعراء: 20.

الْمُرْسَلِينَ»(1) وقد قال اللّه (عزّوجلّ) و لنبيه محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمَا فَئَاوَى»(2) يقول: ألم ل يجدك وحيداً فآوى إليك النّاس ؟ «وَوَجَدَكَ ضَالًا»(3) يعني عند قومك «فَهَدَى» أي هداهم إلى معرفتك «وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى»(4) يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجاباً».

قال المأمون : بارك اللّه فيك يابن رسول اللّه، فما معنى قول اللّه (عزّوجلّ) : «وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَيْنَا وَكَلَّمَهُ, رَبُّهُ, قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي» (5) الآية... كيف يجوز أن يكون كليم اللّه موسی بن عمران (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يعلم أنّ اللّه تعالى ذكره لا تجوز عليه الرّؤية حتّى يسأله هذا السؤال؟

فقال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ كليم اللّه موسی بن عمران (عَلَيهِ السَّلَامُ) علم أنّ اللّه تعالى أعزّ من أن يرى بالأبصار، ولكنّه لمّا كلّمه اللّه (عزّوجلّ) وقرّبه نجيّاً رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ اللّه (عزّوجلّ) (عزّوجلّ) كلّمه وقرّبه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتّى نسمع كلامه كما سمعت. وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفاً، ثم اختار منهم سبعة آلاف، ثم اختار منهم سبعمائة، ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربّه، فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى الطور وسأل اللّه تبارك وتعالى أن يكلّمه ويسمعهم کلامه، فكلّمه اللّه تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لأنّ اللّه (عزّوجلّ) أحدثه في الشجرة وجعله منبعثاً منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه،

ص: 67


1- الشعراء: 21.
2- الضحى: 6.
3- الضحي: 7.
4- الضحى : 8.
5- الأعراف: 143.

فقالوا: «لَن نُّؤْمِنَ لَكَ»(1) بأنّ هذا الّذي سمعناه كلام اللّه «حتّى نَرَى اللّه جَهْرَةً»(2) فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث اللّه (عزّوجلّ) عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا، فقال موسى: ياربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادّعيت من مناجات اللّه إياك؟ فأحياهم اللّه وبعثهم معه، فقالوا : إنّك لو سألت اللّه أن يريك تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو نعرفه حقّ معرفته فقال موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ياقوم إنّ اللّه لا يُرى بالأبصار ولا كيفيّة له وإنّما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتّى تسأله، فقال موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ): ياربّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى اللّه جلّ جلاله إليه؛ ياموسى سلني ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ»(3) وهو يهوي «فَسَوْفَ تَرَانِي فلمّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ» بآية من آياته «جَعَلَهُ دَكَّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَا فلمّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ» يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» (4) منهم بأنّك لا تُرى».

فقال المأمون : اللّه درّك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول اللّه عزّ وجل: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ »(5).

فقال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها كما همّت، لكنّه كان معصوماً والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه، ولقد حدّثني أبي عن أبيه الصّادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه

ص: 68


1- البقرة: 55.
2- البقرة: 55.
3- الأعراف: 143.
4- الأعراف: 143.
5- يوسف : 24.

قال: همّت بأن تفعل وهم بأن لا يفعل».

فقال المأمون للّه درّك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول اللّه : «وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ»(1).

قال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ذاك يونس بن متى (عَلَيهِ السَّلَامُ) «ذَهَبَ مُغَضِبًا» - لقومه. «فَظَنَّ» بمعنى إستيقن «لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ» أن لن نضيّق عليه رزقه، ومنه قول اللّه (عزّوجلّ): «وَأَمَّا إِذَا مَا ابْنَلَنَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ»(2) ضيّق وقتر «فَنَادَى فِي الظُّلُمَتِ» ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت «أَن لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّلِمِينَ»(3) بتركي مثل هذه العبادة الّتي قد فرّغتني لها في بطن الحوت فاستجاب اللّه له وقال (عزّوجلّ) : «فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(4)».

فقال المأمون: للّه درّك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول اللّه (عزّوجلّ) : «حتّى إِذَا اسْتَيْسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَ هُمْ نَصْرُنَا»(5).

قال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يقول (عزّوجلّ) : حتّى إذا استيأس الرّسل من قومهم وظنّ قومهم أنّ الرّسل قد كذبوا جاء الرّسل نصرنا».

فقال المأمون للّه درّك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول اللّه (عزّوجلّ): «لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ»(6).

ص: 69


1- الأنبياء: 87.
2- الفجر : 16.
3- الأنبياء: 87.
4- الصافات: 143 144.
5- يوسف: 110.
6- الفتح: 2.

قال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لم يكن أحدٌ عند مشركي أهل مكّة أعظم ذنباً من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لأنهم كانوا يعبدون من دون اللّه ثلاثمائة وستّين صنماً، فلمّا جاءهم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالدّعوة إلى كلمة الاخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا: «أَجَعَلَ الاَلهَةَ إِلَيْهَا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٍ عُجَابٌ (5) وَأَنطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى وَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا أخْتِلَقُ»(1) فلمّا فتح اللّه (عزّوجلّ) (عزّوجلّ) على نبيّه مكّة قال له: يا محمّد «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ» مكّة «فتحا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَرَ»(2) عند مشركي أهل مكّة بدعائك إلى توحيد اللّه فيما تقدّم وما تأخّر لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكّة ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم».

فقال المأمون للّه درّك يا أبا الحسن، فأخبرني عن قول اللّه (عزّوجلّ): «عَفَا اللّه عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ»(3).

قال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «هذا ممّا نزل بإيّاك أعني واسمعي ياجارة، خاطب اللّه (عزّوجلّ) بذلك نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأراد به أُمّته، فكذلك قوله (عزّوجلّ): «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَسِرِينَ»(4) وقوله (عزّوجلّ): «وَلَوْلَا أَن ثَبِّتْنَكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا»(5)»

قال: صدقت يابن رسول اللّه، فأخبرني عن قول اللّه (عزّوجلّ): «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكَ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّه وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ

ص: 70


1- ص: 5-7.
2- الفتح: 1-2.
3- التوبة : 43.
4- الزمر : 65.
5- الاسراء: 74.

وَتَخشَى النَّاسَ وَاللّه أَحَقُّ أَن تَخْشَهُ»(1).

قال الرّضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبيّ في أمر أراده، فرأى امرأته تغتسل فقال لها : سبحان الّذي خلقك. وإنّما أراد بذلك تنزيه اللّه تبارك وتعالى عن قول من زعم أنّ الملائكة بنات اللّه، فقال اللّه (عزّوجلّ): «أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَتَبِكَةِ إِنَاثا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا» (2) فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لمّا رآها تغتسل: سبحان الّذي خلقك أن يتّخذ ولداً يحتاج إلى هذا التّطهير والاغتسال. فلمّا عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجئ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقوله لها: سبحان الّذي خلقك، فلم يعلم زيد ما أراد بذلك، وظنّ أنّه قال ذلك لما أعجبه من حسنها، فجاء إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال له: يارسول اللّه إنّ امرأتي في خلقها سوء وإنّي أُريد طلاقها، فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أمسك عليك زوجك واتق اللّه» وقد كان اللّه (عزّوجلّ) عرّفه عدد أزواجه، وأنَّ تلك المرأة منهنّ فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد وخشي النّاس أن يقولوا: إنّ محمّداً يقول لمولاه: إنّ امرأتك ستكون لي زوجة فيعيبونه بذلك، فأنزل اللّه (عزّوجلّ): «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِ» يعني بالاسلام «وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ» يعني بالعتق «أَمْسِكَ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّه وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ وَتَخشَى النَّاسَ وَاللّه أَحَقُّ أَن تَخْشَهُ». ثمَّ أنّ زيد بن حارثة طلّقها واعتدّت منه فزوجها اللّه (عزّوجلّ) من نبيّه محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأنزل بذلك قرآناً فقال (عزّوجلّ): «فلمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللّه مَفْعُولًا»(3) ثمَّ علم (عزّوجلّ) أنّ المنافقين سيعيبونه بتزويجها فأنزل: «مَّا كَانَ عَلَى النّبي مِن حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّه لَهُ»(4)».

ص: 71


1- الأحزاب: 37.
2- الاسراء: 40.
3- الأحزاب : 37.
4- الأحزاب: 38.

فقال المأمون : لقد شفيت صدري يابن رسول اللّه وأوضحت لي ما كان ملتبساً عليّ فجزاك اللّه عن أنبيائه وعن الإسلام خيراً.

قال علي بن محمّد بن الجهم: فقام المأمون إلى الصلاة، وأخذ بيد محمّد بن جعفر بن محمّد وكان حاضر المجلس، وتبعتهما، فقال له المأمون كيف رأيت ابن أخيك؟ فقال: عالم، ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم.

فقال المأمون : إنّ ابن أخيك من أهل بيت النبي الّذين قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فيهم: «ألا إنّ أبرار عترتي وأطائب أُرومتي أحلم النّاس صغاراً وأعلم الناس كباراً لا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلال».

وإنصرف الرّضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى منزله فلمّا كان من الغد غدوت عليه وأعلمته ما كان من قول المأمون وجواب عمّه محمّد بن جعفر له ضحك (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم قال: «يابن الجهم لا يغرّنك ما سمعته منه فإنّه سيغتالني واللّه ينتقم لي منه»(1).

شفاء الشابَ اليهودي

قال الحسن بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لما كاعت اليهود عن هذا التمنّي وقطع اللّه معاذيرهم قالت طائفة منهم وهم بحضرة الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقد كاعوا وعجزوا: يامحمّد; فأنت والمؤمنون المخلصون لك مجاب دعائكم ؟ وعلي أخوك ووصيّك أفضلهم وسيدهم؟ قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : بلى.

قالوا: يا محمّد فإن كان هذا كما زعمت فقل لعلي يدعو اللّه لابن رئيسنا هذا فقد كان من الشباب جميلا نبيلا وسيماً قسمياً لحقه برص وجذام وقد صار حمى لا يقرب ومهجوراً لا يعاشر، يناول الخبز على أسنّة الرماح. فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أيتوني به، فأُتي

ص: 72


1- البحار : ج 11 ص 78 ص 84.

به فنظر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأصحابه منه إلى منظر فظيع سمج قبيح كريه.

فقال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا أبا الحسن أُدع اللّه له بالعافية، فإنّ اللّه يجيبك فيه، فدعا له، فلمّا كان بعد فراغه عن دعائه إذا الفتى قد زال عنه كل مكروه وعاد إلى أفضل ما كان عليه من النبل والجمال والوسامة والحسن في المنظر.

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للفتی : یافتى آمن بالذي أغاثك من بلائك. قال الفتى: قد آمنت وحسن إيمانه فقال أبوه يا محمّد ظلمتني وذهبت منّي بابني، يا ليته كان أجذم أبرص كما كان ولم يدخل في دينك فإن ذلك كان أحبّ إلي.

قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : لكن اللّه (عزّوجلّ) قد خلّصه من هذه الآفة وأوجب له نعيم الجنّة. قال أبوه: يامحمّد ما كان هذا لك ولا لصاحبك، إنما جاء وقت عافيته فعوفي، فإن كان صاحبك هذا _ يعني علياً - مجاباً في الخير فهو أيضاً مجاب في الشر، فقل له يدعو عليّ بالجذام والبرص، فإني أعلم انه لا يصيبني ليتبيّن لهؤلاء الضعفاء الّذين قد اغتروا بك انّ زواله عن ابني لم يكن بدعائه.

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا يهودي اتّق اللّه وتهنأ بعافية اللّه إياك، ولا تتعرّض للبلاء ولما لا تطيقه، وقابل النعمة بالشكر، فإنّ من كفرها سلبها، ومن شكرها امترى مزيدها، فقال اليهودي : من شكر نعم اللّه تكذيب عدوّ اللّه المفتري عليه، وإنما أُريد بهذا أن أُعرِّف ولدي إنه ليس مما قلت له وادّعيته قليل ولا كثير، وأنّ الّذي أصابه من خير لم يكن بدعاء علي صاحبك.

فتبسّم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )وقال: يايهودي هبك قلت: انّ عافية ابنك لم يكن بدعاء علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وانّما صادف دعاؤه وقت مجي عافيته، أرأيت لو دعا علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عليك بهذا البلاء الّذي اقترحته فأصابك أتقول : انّ ما أصابني لم يكن بدعائه ولكنه صادف دعاؤه وقت

ص: 73

بلائي؟ قال: لا أقول هذا لأن هذا احتجاج منّي على عدوّ اللّه في دين اللّه واحتجاج منه عليّ، واللّه أحكم من أن يجيب إلى مثل هذا فيكون قد فتن عباده ودعاهم إلى تصديق الكاذبين.

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : فهذا في دعاء علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لابنك كهو في دعائه عليك لا يفعل اللّه تعالى ما يلبس به على عباده دينه ويصدّق به الكاذب عليه، فتحيّر اليهودي لما بطلت عليه شبهته وقال : يا محمّد ليفعل عليّ هذا بي إن كنت صادقاً.

فقال الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ): يا أبا حسن قد أبى الكافر إلّا عتوّاً وتمرّداً وطغياناً، فادع عليه بما اقترح وقل: اللّهم ابتله ببلاء ابنه من قبل، فقالها، فأصاب اليهودي داء ذلك الغلام مثل ما كان فيه الغلام من الجذام والبرص، واستولى عليه الألم والبلاء، وجعل يصرخ ويستغيث ويقول: يا محمّد قد عرفت صدقك فأقلني، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): لو علم اللّه صدقك لنجّاك، ولكنه عالم بأنك لا تخرج عن هذا الحال إلّا إزددت كفراً، ولو علم إنّه إن نجاك آمنت به الجاد عليك بالنجاة فإنّه الجواد الكريم.

ثم قال : فبقى اليهودي في ذلك الداء والبرص أربعين سنة آية للناظرين وعبرة للمعتبرين وعلامة وحجة بيّنة لمحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) باقية للغابرين وعبرة للمتكبرين، وبقى ابنه كذلك معافى صحيح الأعضاء والجوارح ثمانين سنة عبرة للمعتبرين، وترغيباً للكافرين في الايمان، وتزهيداً لهم في الكفر والعصيان الخ»(1).

إسلام عبد اللّه بن سلام

قال الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): قال علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) : وذلك ان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لما آمن به عبداللّه بن سلام بعد مسائله التي سألها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و جوابه إياه عنها قال له:

ص: 74


1- البحار: ج 9 ص 323.

يا محمّد بقيت واحدة وهي المسألة الكبرى والغرض الأقصى، من الّذي يخلفك بعدك ويقضي ديونك وينجز عداتك ويؤدي أماناتك ويوضح عن آياتك وبيناتك؟

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أُولئك أصحابي قعود فأمض إليهم فسيدّلك النور الساطع في دائرة غرة ولي عهدي وصفحة خديه وسينطق طومارك بأنه هو الوصي وستشهد جوارحك بذلك. فصار عبداللّه بن سلام إلى القوم فرأى علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) يسطع من وجهه نور يبهر نور الشمس، ونطق طوماره وأعضاء بدنه كلّ يقول: يابن سلام هذا علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) المالئ جنان اللّه بمحبّيه و نيرانه بشانئيه الباث دين اللّه في أقطار الأرض وآفاقها، والنافي الكفر عن نواحيها وأرجائها، فتمسّك بولايته تكن سعيداً وأثبت على التسليم له تكن رشيداً.

فقال عبداللّه بن سلام: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عبده ورسوله المصطفى، وأمينه المرتضى، وأميره على جميع الورى، وأشهد أنّ علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) أخوه وصفيه ووصيه القائم بأمره المنجز لعداته، المؤدي لأماناته الموضح لآياته وبيناته، الدافع للأباطيل بدلائله ومعجزاته، وأشهد إنكما اللذان بشر بكما موسى ومن قبله من الأنبياء ودلّ عليكما المختارون من الأصفياء، ثم قال لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : قد تمت الحجج وانزاحت العلل وانقطعت المعاذير فلا عذر لي إن تأخرت عنك ولا خير فيّ ان تركت التعصب لك.

ثم قال : يارسول اللّه إن اليهود قوم،بهت وانهم إن سمعوا بإسلامي وقعوا في فاخبأني عندك، وإذا جاؤوك فسلهم عني لتسمع قولهم في قبل أن يعلموا بإسلامي وبعده لتعلم أحوالهم، فخبأه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في بيته ثم دعا قوماً من اليهود فحضروه وعرض عليهم أمره فأبوا، فقال: بمن ترضون حكماً بيني وبينكم؟ قالوا: بعبداللّه بن سلام. قال: وأيّ رجل هو ؟ قالوا رئيسنا وابن رئيسنا وسيدنا وابن سيدنا، وعالمنا وابن عالمنا،

ص: 75

وورعنا وابن،ورعنا وزاهدنا وابن زاهدنا

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أرأيتم إن آمن بي أتؤمنون؟ قالوا: قد أعاذه اللّه من من ذلك، ثم أعادها وأعادوها، فقال: أُخرج عليهم يا عبد اللّه وأظهر ما قد أظهره اللّه لك من أمر محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فخرج عليهم وهو يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له وأشهد ان محمّداً عبده ورسوله المذكور في التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وسائر كتب اللّه المدلول فيها عليه وعلى أخيه علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ). فلمّا سمعوه يقول ذلك قالوا: يا محمّد سفيهنا وابن سفيهنا، وشرنا وابن شرنا، وفاسقنا وابن فاسقنا، وجاهلنا وابن جاهلنا، كان غائباً عنا فكرهنا أن نغتابه، الخ»(1).

إحتجاج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على اليهود

عن ابن عبّاس (رضیَ اللّهُ عنهُ) قال: خرج من المدينة أربعون رجلا من اليهود قالوا: إنطلقوا بنا إلى هذا الكاهن الكذاب حتّى نوّبخه في وجهه ونكذبه فإنه يقول : انا رسول اللّه رب العالمين، فكيف يكون رسولا و آدم خيرٌ منه ونوح خيرٌ منه، وذكروا الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): لعبد اللّه بن سلام : «التوراة بيني وبينكم فرضيت اليهود بالتوراة»، فقالت اليهود: آدم خيرٌ منك لأن اللّه تعالى خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «آدم أبي وقد أُعطيت أنا أفضل مما أُعطي آدم» فقالت اليهود: ما ذلك؟ قال: «ان المنادي ينادي كل يوم خمس مرات: أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمّداً رسول اللّه، ولم يقل: آدم رسول اللّه، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة وليس بيد آدم»، فقالت اليهود: صدقت يا محمّد، وهو مكتوب في التوراة قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): هذه واحدة.

قالت اليهود: موسى خيرٌ منك، قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ولم ذلك»؟ قالوا: لأن اللّه (عزّوجلّ)

ص: 76


1- البحار: ج 9 ص 326.

كلّمه بأربعة آلاف كلمة ولم يكلمك بشيء، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لقد أُعطيت أنا أفضل من ذلك»؟ فقالوا: وما ذاك ؟ قال قوله تعالى : «سُبْحَنَ الّذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ، لَيْلًا مِّن الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الّذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ»(1) وحمّلت على جناح جبرئيل حتّى انتهت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة المأوى حتّى تعلّقت بساق العرش، فنوديت من ساق العرش إني أنا اللّه لا إله إلّا أنا السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرؤوف الرحيم، فرأيته بقلبي وما رأيته بعيني، فهذا أفضل من ذلك»، فقالت اليهود: صدقت يا محمّد، وهو مكتوب في التوراة. قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «هذا إثنان».

قالوا: نوح خير منك، قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ولم ذلك»؟ قالوا: لأنه ركب السفينة فجرت على الجوديّ، قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لقد أُعطيت أنا أفضل من ذلك»، قالوا: وما ذلك؟ قال: «إن اللّه (عزّوجلّ) أعطاني نهراً في السماء مجراه تحت العرش، عليه ألف ألف قصر، لبنة من ذهب ولبنة من فضّة حشيشها الزعفران ورضراضها الدرّ والياقوت، وأرضها المسك الأبيض، فذلك خيرٌ لي ولأُمتي، وذلك قوله تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ»(2)» قالوا: صدقت يا محمّد، وهو مكتوب في التوراة، هذا خيرٌ من ذاك، قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «هذه ثلاثة».

قالوا: إبراهيم خيرٌ منك، قال: «ولم ذلك»؟ قالوا: لأن اللّه تعالى اتّخذه خليلا، قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «إن كان إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) خليله فأنا خليله فأنا حبيبه محمّد»، قالوا: ولم سميت محمّداً؟ قال: «سماني اللّه محمّداً وشقّ اسمي من اسمه هو المحمود وأنا محمّد وأُمتي الحامدون». قالت اليهود: صدقت يا محمّد، هذا خيرٌ من ذاك. قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «هذه أربعة».

ص: 77


1- الإسراء: 1.
2- الكوثر: 1.

قالت اليهود عيسى خيرٌ منك، قال : «ولم ذاك»؟ قالوا: لأن عيسى بن مريم كان ذات يوم بعقبة بيت المقدس فجاءته الشياطين ليحملوه فأمر اللّه (عزّوجلّ) جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن إضرب بجناحك الأيمن وجوه الشياطين وألقهم في النار، فضرب بأجنحته وجوههم وألقاهم في النار، قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك»، قالوا: وما هو؟ قال: «أقبلت يوم بدر من قتال المشركين وأنا جائع شديد الجوع، فلمّا وردت المدينة إستقبلتني امرأة يهودية وعلى رأسها جفنة، وفي الجفنة جدي مشويّ وفي كمّها شيء من سكّر، فقالت: الحمد للّه الّذي منحك السلامة، وأعطاك النصر والظفر على الأعداء وإني قد كنت نذرت اللّه نذراً إن أقبلت سالماً غانماً من غزاة بدر لأذبحن هذا الجدي ولأشوينّه ولأحملنّه إليك لتأكله»، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «فنزلت عن بغلتي الشهباء، وضربت بيدي إلى الجدي لآكله فاستنطق اللّه تعالى الجدي فاستوى على أربع قوائم وقال: يا محمّد لا تأكلني فانّي مسموم» قالوا: صدقت يا محمّد، هذا خيرٌ من ذلك، قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «هذه خمسة».

قالوا: بقيت واحدة ثم نقوم من عندك، قال: «هاتوه»، قالوا: سليمان خير منك، قال: «ولم ذاك»؟ قالوا: لأن اللّه تعالى (عزّوجلّ) سخّر له الشياطين والانس والجنّ والرياح والسباع، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «فقد سخّر اللّه لي البراق، وهو خيرٌ من الدنيا بحذافيرها، وهي دابّة من دوابّ الجنّة، وجهها مثل وجه آدميّ، وحوافرها مثل حوافر الخيل، وذنبها مثل ذنب البقر، فوق الحمار ودون البغل، سرجه من ياقوتة حمراء، وركابه من درّة بيضاء، مزمومة بسبعين ألف زمام من ذهب عليه جناحان مكلّلان بالدرّ والجوهر والياقوت والزبرجد، مكتوبٌ بين عينيه : لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، محمّد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )». قالت اليهود: صدقت يا محمّد وهو مكتوب في التوراة هذا خيرٌ من ذاك، يا محمّد نشهد ان لا إله إلا اللّه وإنك رسول اللّه.

فقال لهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «لقد أقام نوح في قومه ودعاهم ألف سنة إلّا خمسين عاماً،

ص: 78

ثم وصفهم اللّه (عزّوجلّ) فقللهم فقال: «وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ»(1) ولقد تبعني في سنّي القليل وعمري اليسير ما لم يتّبع نوحاً في طول عمره وكبر سنه، وإن في الجنّة عشرين ومائة صفّ، أُمّتي منها ثمانون صفّاً، وإن اللّه (عزّوجلّ) جعل كتابي المهيمن على كتبهم، الناسخ لها، ولقد جئت بتحليل ما حرّموا وتحريم بعض ما أحلّوا، من ذلك إن موسى جاء بتحريم صيد الحيتان يوم السبت حتّى ان اللّه تعالى قال لمن اعتدى منهم : «كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئينَ»(2) فكانوا، ولقد جئت بتحليل صيدها حتّى صار صيدها حلالا، قال اللّه (عزّوجلّ): «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ»(3) وجئت بتحليل الشحوم كلها وكنتم لا تأكلونها، ثم ان اللّه صلّى علي في كتابه، قال اللّه (عزّوجلّ): «إِنَّ اللّه وَمَلَيْكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيَّ يَأَيُّهَا الّذين ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلَّمُوا تَسْلِيمًا»(4) ثم وصفني اللّه تعالى بالرأفة والرحمة وذكر في كتابه : «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوكَ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمُ»(5) وأنزل اللّه (عزّوجلّ) أَلَّا يكلموني حتّى يتصدّقوا بصدقة وما كان ذلك لنبيّ قطّ، قال اللّه عزّ وجلّ: «يَاأَيُّهَا الّذين ءَامَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَى نَجْوَنَكُمْ صَدَقَةً»(6) ثم وضعها عنهم بعد أن افترضها عليهم برحمته»(7).

ص: 79


1- هود: 40.
2- البقرة: 65.
3- المائدة : 96.
4- الأحزاب: 56.
5- التوبة : 128.
6- المجادلة: 12.
7- البحار: ج 9 ص 289.

الحجّاج ويحيى بن يعمر

قال الشعبي: كنت بواسط، وكان أضحى، فحضرت صلاة العيد مع الحجّاج فخطب خطبة بليغة، فلمّا انصرف جاءني رسوله فأتيته فوجدته جالساً مستوفزاً، قال: يا شعبيّ هذا وم أضحى وقد أردت ان أُضحيّ فيه برجل من أهل العراق، وأحببت أن تستمع قوله، فتعلم إني قد أصبت الرأي فيما أفعل به، فقلت: أيها الأمير أو ترى أن تستنَّ بسنّة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وتضحّي بما أمر أن يضحى به وتفعل مثل فعله وتدع ما ردت أن تفعله به في هذا اليوم العظيم إلى غيره ؟

فقال : يا شعبي إنك إذا سمعت ما يقول صوّبت رأيي فيه، لكذبه على اللّه وعلى رسوله وإدخال الشبهة في الاسلام، قلت: أفيرى الأمير أن يعفيني من ذلك؟ قال: لابد منه، ثمّ أمر بنطع فبسط، وبالسّيّاف فأحضر، وقال: أحضروا الشيخ، فأتوا به فإذا هو يحيى بن يعمر، فاغتممت غمّاً شديداً وقلت في نفسي: وأي شيء يقوله يحيى ممّا يوجب قتله.

فقال له الحجّاج: أنت تزعم أنّك زعيم العراق؟ قال يحيى: أنا فقيه من فقهاء،العراق، قال : فمن أيّ فقهك ؟ زعمت أن الحسن والحسين من ذريّة رسول اللّه ! قال ما أنا زاعم ذلك، بل قائله بحق، قال: وبأي حق قلته؟ قال: بكتاب اللّه (عزّوجلّ)، فنظر إليّ الحجّاج وقال: اسمع ما يقول، فإنّ هذا مما لم أكن سمعته عنه، أتعرف أنت في كتاب اللّه (عزّوجلّ) أنّ الحسن والحسين من ذرية محمّد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )؟ فجعلت أُفكّر في ذلك، فلم أجد في القرآن شيئاً يدل على ذلك، وفكّر الحجّاج مليّاً ثمّ قال ليحيى: لعلك تريد قول اللّه تعالى: «فَمَنْ حَاجَكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَ كَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللّه عَلَى الْكَذِبِينَ»(1)

ص: 80


1- آل عمران: 61.

وأنَّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خرج للمباهلة ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين.

قال الشعبيّ : فكأنّها أُهدي إلى قلبي سروراً وقلت في نفسي: قد خلص يحيى، وكان الحجّاج حافظاً للقرآن، فقال له يحيى: واللّه إنّها لحجّة في ذلك بليغة، ولكن ليس منها أحتج لما قلت فاصفرَّ وجه الحجّاج وأطرق مليّاً ثمَّ رفع رأسه إلى يحيى وقال له: إن أنت جئت من كتاب اللّه بغيرها في ذلك فلك عشرة آلاف درهم، وإن لم تأت بها فأنا في حلّ من دمك، قال: نعم.

قال الشعبيّ: فغمّني قوله، وقلت: أما كان في الّذي نزع به الحجّاج ما يحتجّ به يحيى ويرضيه بأنّه قد عرفه وسبقه إليه ويتخلّص منه حتّى ردّ عليه وأفحمه؟ فإن جاءه بعد هذا بشيء لم آمن أن يدخل عليه فيه من القول ما يبطل به حجّته لئلا يقال أنه قد علم ما قد جهله هو.

فقال يحيى للحجاج : قول اللّه تعالى: «وَمِن ذُرِّيَّتِهِ، دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ» من عنى بذلك؟ قال الحجّاج : إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ). قال : فداود وسليمان من ذريّته؟ قال: نعم.

قال يحيى: ومن نصّ اللّه عليه بعد هذا أنّه من ذريّته؟ فقرأ الحجّاج : «وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَرُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»(1).

قال يحيى: ومن؟ قال : «وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى»(2) قال يحيى: ومن أين كان عيسى من ذريّة إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولا أب له ؟ قال : من أُمّه مريم (عَلَيهَا السَّلَامُ).

قال يحيى: فمن أقرب مريم من إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أم فاطمة من محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعيسى من إبراهيم، والحسن والحسين (عَلَيهِم السَّلَامُ) من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )؟ قال الشعبيّ : فكأنّما ألقمه حجراً.

ص: 81


1- الأنعام: 84.
2- الأنعام: 85.

فقال: أطلقوه قبّحه اللّه، وأدفعوا إليه عشرة ألف درهم لا بارك اللّه له فيها، ثم أقبل على فقال: قد كان رأيك صواباً ولكنا أبيناه، ودعا بجزور فنحره وقام فدعا بالطعام فأكل وأكلنا معه، وما تكلّم بكلمة حتّى انصرفنا ولم يزل مما احتج به يحيى بن يعمر واجماً.

بيان: قال الجوهريّ: استوفز في قعدته : إذا قعد قعوداً منتصباً غير مطمئن وفي القاموس: وجم كوعد وجماً ووجوماً، سكت على غيظ والشيء: كرهه(1).

أبو حنيفة ومؤمن الطاق

قال أبو حنيفة لأبي جعفر مؤمن الطاق ما تقول في الطلاق الثلاث؟ قال: أعلى خلاف الكتاب والسنّة؟ قال: نعم، قال أبو جعفر : لا يجوز ذلك، قال أبو حنيفة: ولِمَ لا يجوز ذلك؟ قال: لأنّ التزويج عقدٌ عقد بالطاعة فلا يحلّ بالمعصية، وإذا لم يجز التزويج بجهة المعصية لم يجز الطلاق بجهة المعصية، وفي إجازة ذلك طعن على اللّه (عزّوجلّ) فيما أمر به وعلى رسوله فيما سنَّ، لأنه إذا كان العمل بخلافها فلا معنى لهما، وفي قولنا من شذّ عنهما ردّ إليهما وهو صاغر.

قال أبو حنيفة: قد جوّز العلماء ذلك، قال أبو جعفر : ليس العلماء الّذين جوّزوا للعبد العمل بالمعصية، واستعمال سنّة الشيطان في دين اللّه، ولا عالم أكبر من الكتاب والسنّة، فلم تجوّزون للعبد الجمع بين ما فرق اللّه من الطلاق الثلاث في وقت واحد ولا تجوّزون له الجمع بين ما فرّق اللّه من الصلوات الخمس ؟ وفي تجويز ذلك تعطيل الكتاب وهدم السنة، وقد قال اللّه جل وعزّ: «وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ»(2).

ص: 82


1- البحار: ج 10 ص 147.
2- الطلاق: 1.

ما تقول يا أبا حنيفة في رجل قال : إنّه طالق امرأته على سنّة الشيطان؟! أيجوز له ذلك الطلاق ؟ قال أبو حنيفة فقد خالف السنّة، وبانت منه امرأته وعصى ربّه، قال أبو جعفر: فهو كما قلنا إذا خالف سنّه اللّه عمل بسنّة الشيطان ومن أمضى بسنّته فهو على ملّته ليس له في دين نصيب، قال أبو حنيفة: هذا عمر بن الخطّاب وهو من أفضل أئمة المسلمين قال: إنّ اللّه جلّ ثناؤه جعل لكم في الطلاق أناة فاستعجلتموه وأجزنا لكم ما استعجلتموه.

قال أبو جعفر : إنّ عمر كان لا يعرف أحكام الدين، قال أبو حنيفة: وكيف ذلك؟ قال أبو جعفر ما أقول فيه ما تنكره، أمّا أوّل ذلك فإنّه قال: لا يصلي الجنب حتّى يجد الماء ولو سنة ! والأمة على خلاف ذلك، وأتاه أبو كيف العائذي فقال : يا أمير المؤمنين إني غبت فقدمت وقد تزوجت امرأتي، فقال: إن كان قد دخل بها فهو أحق بها، وإن لم يكن دخل بها فأنت أولى بها، وهذا حكم لا يعرف، والأمة على خلافه(1).

معنى الواحد إلى المائة

عن ابن عبّاس: أنّ أخوين يهوديّين سألا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن واحد لا ثاني له، وعن ثان لا ثالث له إلى مائة متّصلة نجدها في التوراة والانجيل وهي في القرآن تتلونه، فتبسم أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال: «أما الواحد فاللّه ربنا الواحد القهار لا شريك له.

وأما الاثنين فآدم وحواء لأنّهما أوّل اثنين وأمّا الثلاثة: فجبرئيل وميكائيل وإسرافيل، لأنهم رأس الملائكة على الوحي، وأما الأربعة: فالتوراة والانجيل والزبور والفرقان.

وأما الخمسة: فالصلاة أنزلها اللّه على نبينا وعلى أمته ولم ينزلها على نبيّ كان قبله ولا

ص: 83


1- البحار : ج 10 ص 230.

على أُمّة كانت قبلنا وأنتم تجدونه في التوراة، وأما السّتة: فخلق اللّه السماوات والأرض في ستّة أيّام.

وأما السبعة: فسبع سماوات طباقاً، وأما الثمانية: ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية، وأما التسعة: فآيات موسى التسع، وأمّا العشرة : فتلك عشرة كاملة. وأما الأحد عشر: فقول يوسف لأبيه: إني رأيت أحد عشر كوكباً، وأما الإثنا عشر: فالسنة إثنا عشر شهراً، وأما الثلاثة عشر : قول يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأبيه: والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين، فالأحد عشر إخوته والشمس أبوه والقمر أُمّه.

وأما الأربعة عشر : فأربعة عشر قنديلا من النور معلّقة بين السّماء السابعة والحجب تسرج بنور اللّه إلى يوم القيامة، وأمّا الخمسة عشر : فأُنزلت الكتب جملة منسوخة من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدنيا بخمسة عشر ليلة مضت من شهر رمضان.

وأّما السّتّة عشر : فستّة عشر صفاً من الملائكة حافّين من حول العرش، وأمّا السبعة عشر : فسبعة عشر إسماً من أسماء اللّه مكتوبة بين الجنّة والنار، لولا ذلك لزفرت زفرة أحرقت من في السماوات والأرض، وأما الثمانية عشر : فثمانية عشر حجاباً من نور معلّقة بين العرش والكرسيّ، لولا ذلك لذابت الصمّ الشوامخ واحترقت السماوات والأرض وما بينهما من نور العرش، وأما التسعة عشر: فتسعة عشر ملكاً خزنة جهنّم، وأمّا العشرون: فأنزل الزبور على داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) في عشرين يوماً خلون من شهر رمضان، وأمّا الأحد والعشرون: فألان اللّه لداود فيها الحديد، وأما في اثنين وعشرين: فاستوت سفينة نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأمّا ثلاثة وعشرون ففيه میلاد عیسی (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونزول المائدة على بني إسرائيل، وأمّا في أربع وعشرين: فردّ اللّه على يعقوب بصره.

وأمّا خمسة وعشرون: فكلّم اللّه موسى تكليماً بوادي المقدّس، كلمه خمسة وعشرين

ص: 84

يوماً، وأما ستّة وعشرون: فمقام إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في النار أقام فيها حيث صارت برداً وسلاماً.

وأما سبعة وعشرون: فرفع اللّه إدريس مكاناً عليّاً وهو ابن سبع وعشرين سنة. وأما ثمانية وعشرون : فمكث يونس في بطن الحوت، وأما الثلاثون: «وَوَعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً»(1).

وأما الأربعون: تمام ميعاده «وَأَتْمَمْنَهَا بِعَشْرر»(2).

وأمّا الخمسون: خمسين ألف سنة.

وأما الستون كفارة الافطار «فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا»(3).

وأمّا السبعون سبعون رجلا لميقاتنا.

وأما الثمانون: «فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَنِينَ جَلْدَةً»(4).

وأمّا التسعون فتسع وتسعون نعجة.

وأما المائة : «فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ»(5).

فلما سمعا ذلك أسلما، فقتل أحدهما في الجمل، والآخر في صفّين(6).

الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) والشامي

عن محمّد بن قيس، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «بينما أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الرهبة والناس

ص: 85


1- الأعراف: 142.
2- الأعراف: 142.
3- المجادلة: 4.
4- النور : 4.
5- النور : 2.
6- البحار: ج 10 ص 86.

عليه متراكمون فمن بين مستفت ومن بين مستعد إذ قام إليه رجل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته فنظر إليه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعينيه هاتيك العظيمتين ثم قال: وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته من أنت؟ فقال: أنا رجل من رعيّتك وأهل بلادك، قال: «ما أنت من رعيّتي ولا من أهل بلادي، ولو سلّمت علىَّ يوماً واحداً ما خفيت علىّ»، فقال : الأمان يا أمير المؤمنين فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : هل أحدثت في مصري هذا حدثاً منذ دخلته؟ قال: لا، قال: فلعلّك من رجال الحرب؟ قال: نعم، قال: «إذا وضعت الحرب أوزارها فلا بأس، قال: أنا رجل بعثني إليك معاوية متغفّلا لك أسألك عن شيء بعث فيه ابن الأصفر وقال له : إن كنت أحق بهذا الأمر والخليفة بعد محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأجبني عمّا أسألك فإنّك إذا فعلت ذلك اتّبعتك وبعثت إليك بالجائزة فلم يكن عنده جواب وقد أقلقه ذلك فبعثني إليك لأسألك عنها.

فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : قاتل اللّه ابن آكلة الأكباد ما أضلّه وأعماه ومن معه، واللّه لقد أعتق جارية فما أحسن أن يتزوج بها، حكم اللّه بيني وبين هذه الأُمة، قطعوا رحمي وأضاعوا أيّامي ودفعوا حقّي وصفّروا عظيم منزلتي وأجمعوا علىّ منازعتي، علي بالحسن والحسين ومحمّد فأحضروا، فقال: ياشاميّ هذان ابنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وهذا ابني فاسأل أيّهم أحببت فقال: أسأل ذا الوفرة - يعني الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) - وكان صبيّاً، فقال له الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): سلني عمّا بدا لك، فقال الشاميّ: كم بين الحق والباطل؟ وكم بين السماء والأرض؟ وكم بين المشرق والمغرب؟ وما قوس وقزح؟ وما العين التي تأوي إليها أرواح المشركين؟ وما العين التي تأوي إليها أرواح المؤمنين؟ وما المؤنّث وما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض؟

فقال الحسن بن علي(عَلَيهِ السَّلَامُ): بين الحق والباطل أربع أصابع، فما رأيته بعينك فهو الحق، وقد تسمع بأُذنيك باطلا كثيراً، قال الشامي: صدقت، قال: وبين السماء والأرض دعوة

ص: 86

المظلوم ومدّ البصر فمن قال لك غير هذا فكذبه قال: صدقت يابن رسول اللّه، قال: «وبين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس تنظر إليها حين تطلع من مشرقها وحين تغيب في مغربها قال الشامي: صدقت فما قوس وقزح ؟ قال : ويحك لا تقل قوس وقزح فإنّ قزح إسم شيطان، وهو قوس اللّه وعلامة الخصب وأمان لأهل الأرض من الغرق. وأما العين التي تأوي إليها أرواح المشركين فهي عين يقال لها برهوت، وأمّا العين التي تأوي إليها أرواح المؤمنين فهي عين يقال لها سلمى، وأما المؤنّث فهو الّذي لا يدرى أذكر هو أو أُنثى ؟ فإنّه ينتظر به فإن كان ذكراً احتلم وإن كانت أنثى حاضت وبدا ثديها وإلا قيل له : بُل على الحائط فإن أصاب بوله الحائط فهو ذكر وإن انتكص بوله كما ينتكص بول البعير فهي امرأة.

وأمّا عشرة أشياء بعضها أشد من بعض فأشد شيء خلقه اللّه أمة الحجر، وأشد من الحجر الحديد يقطع به الحجر، وأشد من الحديد النار تذيب الحديد، وأشد من النار الماء يطفى به النار، وأشد من الماء السحاب يحمل الماء، وأشد من السحاب الريح يحمل السحاب، وأشد من الريح الملك الّذي يرسلها، وأشد من الملك ملك الموت الّذي يميت الملك، وأشد من ملك الموت الموت الّذي يميت ملك الموت، وأشد من الموت أمر اللّه رب العالمين الّذي يميت الموت. فقال الشامي: أشهد أنك ابن رسول اللّه حقاً وأنّ عليّاً أولى بالأمر من معاوية، ثم كتب هذه الجوابات وذهب بها إلى معاوية، فبعثها معاوية إلى ابن الأصفر، فكتب إليه ابن الأصفر يا معاوية لم تكلّمني بغير كلامك وتجيبني بغير جوابك؟ أقسم بالمسيح ما هذا جوابك وما هو إلا من معدن النبوة وموضع الرسالة، وأما أنت فلو سألتني درهماً ما أعطيتك»(1).

ص: 87


1- البحار: ج 10 ص 129 باب 9.

مناظرات الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع النصراني

حدّثني أبي عن إسماعيل بن أبان عن عمرو بن عبداللّه الثقفي قال : أخرج هشام بن عبدالملك أبا جعفر محمّد بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) من المدينة إلى الشام وكان ينزله معه فكان يقعد مع الناس في مجالسهم فبينا هو قاعد وعنده جماعة من الناس يسألونه إذ نظر إلى النصارى يدخلون في جبل هناك فقال : «ما لهؤلاء القوم ؟ ألهم عيد اليوم»؟ قالوا: لا يابن رسول اللّه، ولكنّهم يأتون عالماً لهم في هذا الجبل في كل سنة في هذا اليوم فيخرجونه ويسألونه عما يريدون وعما يكون في عامهم، قال أبو جعفر: «وله علم»؟ فقالوا: من أعلم الناس، قد أدرك أصحاب الحواريّين من أصحاب عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «فهلمَّ أن نذهب إليه»، فقالوا: ذلك إليك يابن رسول اللّه، قال : فقنّع أبو جعفر رأسه بثوبه ومضى هو وأصحابه فاختلطوا بالناس حتّى أتوا الجبل، قال : فقعد أبو جعفر وسط النصارى هو وأصحابه فأخرج النصارى بساطاً ثم وضعوا الوسائد ثم دخلوا فأخرجوا ثم ربطوا عينيه فقلب عينيه كأنّهما عينا أفعى ثم قصد نحو أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له : أمنّا أنت أو من الأُمّة المرحومة؟ فقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): من الأُمّة المرحومة». قال: أفمن علمائهم أنت أو من جهالهم؟ قال: «لست من جهّالهم». قال النصراني: أسألك أو تسألني؟ قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «سلني»، فقال: يامعشر النصارى رجل من أُمّة محمّد يقول سلني إنّ هذا لعالم بالمسائل.

ثم قال : يا عبد اللّه أخبرني عن ساعة ما هي من اللّيل ولا هي من النهار أيّ ساعة هي؟ قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس»، قال النصراني: فإذا لم يكن من ساعات الليل ولا من ساعات النهار فمن أي الساعات هي؟ فقال أبو جعفر من ساعات الجنّة وفيها تفيق،مرضانا»، فقال النصراني: أصبت. فأسألك أو تسألني؟ قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) «سلني»، قال: يا معاشر النصارى إنَّ هذا المليّ بالمسائل،

ص: 88

أخبرني عن أهل الجنّة كيف صاروا يأكلون ولا يتغوّطون، أعطني مثله في الدنيا، فقال أبو جعفر(عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هو هذا الجنين في بطن أُمّه يأكل ممّا تأكل أُمّه ولا يتغوّط»، قال النصرانيّ: أصبت، ألم تقل ما أنا من علمائهم ؟ قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّما قلت لك : ما أنا من جهّالهم»، قال النصرانيّ: فأسألك أو تسألني ؟ قال : يا معشر النصارى واللّه لأسألنّه يرتطم فيها كما يرتطم الحمار في الوحل، فقال: «إسأل»، قال: أخبرني عن رجل دنا من امرأته فحملت بابنين جميعاً، حملتهما في ساعة واحدة، وماتا في ساعة واحدة، ودفنا في ساعة واحدة في قبر،واحد فعاش أحدهما خمسين ومائة سنة وعاش الآخر خمسين سنة مَن هما؟ قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «هما عزير وعزرة، كان حمل أُمّهما ما وصفت ووضعتهما على ما وصفت، وعاش عزرة وعزير فعاش عزرة وعزير ثلاثين سنة ثم أمات اللّه عزيراً مائة سنة وبقي عزرة يحيا ثم بعث اللّه عزيراً فعاش مع عزرة عشرين سنة»، قال النصراني: يا معشر النصارى ما رأيت أحداً قطّ أعلم من هذا الرجل لا تسألوني عن حرف وهذا بالشام، ردّوني فردوه إلى كهفه ورجع النصارى مع أبي جعفر(عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).

أبناء الرسول من فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)

روى السيّد المرتضى (رضیَ اللّهُ عنهُ) في كتاب الفصول عن شيخه المفيد (رَحمهُ اللّه) أنه قال: روي أنّه لمّا سار المأمون إلى خراسان وكان معه الرضا علي بن موسى (عَلَيهما السَّلَامُ) فبينا هما يسيران إذ قال له المأمون: يا أبا الحسن إنّي فكرت في شيء فنتج لي الفكر الصواب فيه: فكرت في أمرنا وأمركم ونسبنا ونسبكم فوجدت الفضيلة فيه واحدة ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولا على الهوى والعصبية، فقال له أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إنّ لهذا الكلام جواباً إن شئت ذكرته لك، وإن شئت أمسكت»، فقال له المأمون: إنّي لم أقله إلّا لأعلم ما عندك فيه، قال له الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أُنشدك اللّه يا أمير المؤمنين لو أنّ اللّه بعث نبيّه محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )فخرج علينا

ص: 89


1- البحار: ج 10 ص 149.

من وراء أكمة من هذه الآكام يخطب إليك ابنتك كنت مزوجّه إياها» ؟ فقال : ياسبحان اللّه وهل يرغب أحد عن رسول اللّه ؟ فقال له الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أفتراه كان يحلّ له أن يخطب إليّ»؟ قال: فسكت المأمون هنيئة ثم قال: أنتم واللّه أمس برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رحماً.

قال الشيخ: وإنّما المعنى في هذا الكلام أنّ ولد عبّاس يحلون لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كما تحلّ له البعداء في النسب منه، وأن ولد أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) من فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) ومن أُمامة بنت زينب إبنة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يحر من عليه لأنهنّ من ولده في الحقيقة، فالولد ألصق بالوالد وأقرب وأحرز للفضل من ولد العمّ بلا ارتياب بين أهل الدين، وكيف يصح مع ذلك أن يتساووا في الفضل بقرابة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟ فنبهه الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) على هذا المعنى وأوضحه له (1).

هشام وعمرو بن عبيد

عن يونس بن يعقوب قال: كان عند أبي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) جماعة من أصحابه فيهم هشام بن الحكم، حمران بن أعين، ومؤمن الطاق وهشام بن سالم، والطيّار وجماعة من أصحابه فيهم هشام بن الحكم وهو شابّ، فقال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ياهشام»، قال: لبيّك يا بن رسول اللّه، قال: «ألا تحدّثني كيف صنعت بعمرو بن عبيد ؟ وكيف سألته» ؟ قال هشام: جعلت فداك يابن رسول اللّه إنّي أُجلّك واستحييك ولا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا هشام إذا أمرتكم بشيء فافعلوه»، قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة وعظم ذلك عليّ، فخرجت إليه ودخلت البصرة في يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة وإذا أنا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء متزر بها من صوف وشملة مرتدّ بها والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ثمّ قعدت في آخر القوم على ركبتي ثمّ قلت: أيها العالم

ص: 90


1- البحار : ج 10 ص 349.

أنا رجل غريب تأذن لي فأسألك عن مسألة؟ قال: فقال: نعم قلت له: ألك عين؟ قال: يابني أي شيء هذا من السؤال؟ فقلت: هكذا مسألتي، فقال: يابني سل وإن كانت مسألتك حمقاً قال: فقلت: أجبني فيها، قال: فقال لي: سل.

فقلت : ألك عين ؟ قال : نعم، قال :قلت فما ترى بها ؟ قال : الألوان والأشخاص، قال : فقلت : ألك أنف؟ قال: نعم، قال: قلت: فما تصنع بها ؟ قال : أتشمم بها الرائحة، :قال: قلت: ألك فم؟ قال: نعم، قال: قلت: وما تصنع به؟ قال: أعرف به طعم الأشياء، قال: قلت: ألك لسان؟ قال: نعم، قلت: وما تصنع به؟ قال: أتكلم به، قال: قلت: ألك أذن؟ قال: نعم، قلت : وما تصنع بها ؟ قال : أسمع بها الأصوات، قال: قلت: ألك يد؟ قال: نعم، قلت : وما تصنع بها ؟ قال : أبطش بها وأعرف بها اللين من الخشن، قال: قلت : ألك رجلان؟ قال: نعم، قلت: ما تصنع بهما؟ قال: أنتقل بهما من مكان إلى مكان، قال : قلت : ألك قلب؟ قال : نعم قلت وما تصنع به؟ قال: أُميّز به كلّ ما ورد على هذه الجوارح قال: قلت: أفليس في هذه الجوارح غنىً عن القلب؟ قال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة ؟ قال : يابني إنّ الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته أو لمسته ردّته إلى القلب فتقنّ اليقين ويبطل الشك، قال: قلت: إنّما أقام اللّه القلب لشكّ الجوارح؟ قال: نعم، قال: قلت: فلابد من القلب وإلّا لم يستقم الجوارح؟ قال: نعم.

قال: قلت: يا أبا مروان إنّ اللّه تعالى ذكره لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحّح لها الصحيح ويتقن ما شكّ فيه ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم لا يقيم لهم إماماً يردّون إليهم شكّهم وحيرتهم ويقيم لك إماماً لجوارحك تُردّ إليه حيرتك وشكّك ؟ قال : فسكت ولم يقل شيئاً. قال: ثم التفت إلي فقال: أنت هشام؟ فقلت: لا، فقال لي : أجالسته ؟ فقلت: لا، فقال: فمن أين أنت؟ قلت: من أهل

ص: 91

الكوفة، قال: فأنت إذاً هو، قال : ثمّ ضمّني إليه وأقعدني في مجلسه وما نطق حتّى قمت، فضحك أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم قال : «ياهشام من علمك هذا»؟ قال: يابن رسول اللّه جرى على لساني، قال: «ياهشام هذا واللّه مكتوب في مصحف إبراهيم وموسى»(1).

الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) والمأمون

عن الرّيان بن الصلت قال: حضر الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) مجلس المأمون بمرو وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَبَ الّذين اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»(2).

فقالت العلماء : أراد اللّه (عزّوجلّ) بذلك الأمة كلّها.

فقال المأمون : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لا أقول كما قالوا، ولكنّي أقول : أراد اللّه (عزّوجلّ) بذلك العترة الطاهرة.

فقال المأمون وكيف عنى العترة من دون الأُمّة؟

فقال له الرضا: «إنّه لو أراد الأُمّة لكانت بأجمعها في الجنّة لقول اللّه (عزّوجلّ) : «فَمِنْهُم ظَالِمُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّه ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ»(3) ثمّ جمعهم كلّهم في الجنّة فقال: «جَنَّتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبِ» (4) فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم».

فقال المأمون من العترة الطاهرة؟ فقال الرضا: «الّذين وصفهم اللّه في كتابه فقال

ص: 92


1- البحار: ج 23 ص 6.
2- فاطر: 32.
3- فاطر: 32.
4- فاطر: 32.

جلّ وعزّ: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» (1) وهم الّذين قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «إني مخلف فيكم الثقلين؛ كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيها الناس لا تعلّموهم فانّهم أعلم منكم.

قالت العلماء: أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة أهم الآل أم غير الآل؟

فقال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ): «هم الآل».

فقالت العلماء: فهذا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يؤثر عنه أنه قال: «أُمّتي آلي» وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفاض الّذي لا يمكن دفعه: «آل محمّد أُمته»، فقال أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أخبروني هل تحرم الصدقة على الآل»؟ قالوا: نعم، قال: «فتحرم على الأُمّة»؟ قالوا: لا، قال: «هذا فرق ما بين الآل والأمة، ويحكم أين يذهب بكم، أضربتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون، أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين دون سائرهم».

قالوا: ومن أين ياأبا الحسن؟ قال: «من قول اللّه (عزّوجلّ) : «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَبَ فَمِنْهُم مُّهْتَدِ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَسِقُونَ»(2) فصارت وراثة النبوّة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين، أما علمتم أنّ نوحاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين سأل ربّه «فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَكِيمِينَ» (3) وذلك أنّ اللّه (عزّوجلّ) وعده أن ينجّيه وأهله فقال له ربّه (عزّوجلّ) : «قَالَ يَنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلُ غَيْرُ

ص: 93


1- الأحزاب: 33.
2- الحديد: 26.
3- هود: 45.

صَلِحٍ فَلَا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَهِلِينَ»(1).

فقال المأمون: هل فضّل اللّه العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ اللّه (عزّوجلّ) أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه». فقال له المأمون: أين ذلك من کتاب اللّه؟

قال له الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «في قوله (عزّوجلّ) : «إِنَّ اللّه اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَلَمِينَ (33) ذُرِّيَّةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضِ»(2) وقال (عزّوجلّ) في موضع آخر : «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ، فَقَدْ آتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَهُم مُلكًا عَظِيمًا»(3). ثمّ ردّ المخاطبة في أثر هذا إلى سائر المؤمنين فقال : «يَأَيُّهَا الّذين ءَامَنُوا أَطِيعُواْ اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ»(4) يعني الّذين قرنهم بالكتاب والحكمة وحسدوا عليهم فقوله (عزّوجلّ) : «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ، فَقَدْ وَآتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَهُم مُلْكًا عَظِيمًا»(5) يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين، فالملك ههنا هو الطاعة لهم»(6).

يحيى البرمكي وهشام بن الحكم

روي أنّ يحيى بن خالد البرمكي سأل هشام بن الحكم بمحضر من الرشيد. فقال: أخبرني يا هشام، هل يكون الحقّ في جهتين مختلفتين ؟ قال هشام الظاهر لا.

ص: 94


1- هود: 46.
2- آل عمران: 33 و 34.
3- النساء : 54.
4- النساء : 59.
5- النساء: 54.
6- البحار: ج 25 ص 220.

قال: فأخبرني عن رجلين اختصما في حكم في الدين، وتنازعا واختلفا، هل يخلو من أن يكونا محقّين، أو مبطلين، أو أن يكون أحدهما محقّاً والآخر مبطلا؟

فقال هشام لا يخلو من ذلك.

قال له يحيى بن خالد: فأخبرني عن علي والعبّاس لما اختصما إلى أبي بكر في الميراث، أيّهما كان المحق ومن المبطل ؟ إذ كنت لا تقول أنهما كانا محقّين ولا مبطلين!

قال هشام فنظرت، فإذا انّني إن قلت إنّ علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان مبطلا كفرتُ وخرجتُ من مذهبي، وإن قلت أنّ العبّاس كان مبطلا ضرب الرشيد عنقي، ووردت عليّ مسألة لم أكن سُئلتُ عنها قبل ذلك الوقت، ولا أعددت لها جواباً، فذكرت قول أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا هشام لا تزال مؤيّداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك»، فعلمتُ أنّي لا أُخذل، وعنّ لي الجواب في الحال.

فقلت له: لم يكن لأحدهما خطأ حقيقة، وكانا جميعاً محقين، ولهذا نظير قد نطق به القرآن في قصّة داود (عَلَيهِ السَّلَامُ)، يقول اللّه : «وَهَلْ أَتَاكَ نَبوا الْخَصْمِ إِذْ سَوَرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفَّ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ»(1)، فأيّ الملكين كان مخطئاً وأيّهما كان مصيباً ؟ أم تقول : أنهما كانا مخطئين، فجوابك في ذلك جوابي.

فقال يحيى: لستُ أقول: إنّ الملكين أخطئا، بل أقول: إنّهما أصابا، وذلك أنّهما لم يختصما في الحقيقة ولم يختلفا في الحكم، وإنّهما أظهرا ذلك لينبّها داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه.

قال هشام: قلت له: كذلك علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والعبّاس لم يختلفا في الحكم ولم يختصما في الحقيقة، وإنّهما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على خطئه، ويدلاه على أنّ لهما

ص: 95


1- ص: 21.

في الميراث حقاً، ولم يكونا في ريب من أمرها، وإنّما كان ذلك منهما على حدّ ما كان من الملكين، فاستحسن الرشيد ذلك الجواب.

ثم اعلم أنّ بعض الأصحاب ذكر أنّ أبا بكر ناقض روايته التي رواها في الميراث، حيث دفع سيف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و بغلته وعمامته وغير ذلك إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقد نازعه العبّاس فيها، فحكم بها لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ). إما لأنّ ابن العمّ إذا كان أبوه عمّ الميت من الأب والأُمّ أولى من العمّ الّذي كان عمّ الميّت من جانب الأب فقط، لأنّ المتقرّب إلى الميّت بسببين أولى من المتقرّب إليه بسبب واحد. وإما لعدم توريث العمّ مع،البنت، كما هو مذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)(1).

احتجاج أبي قحافة

روي أنّ أبا قحافة كان بالطائف لمّا قُبض رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وبويع لأبي بكر، فكتب إلى أبيه كتاباً عنوانه : من خليفة رسول اللّه إلى أبي قحافة أما بعد، فانّ الناس قد تراضوا بي، فأنا اليوم خليفة اللّه، فلو قدمت علينا لكان أحسن بك.

فلما قرأ أبو قحافة الكتاب قال للرسول : ما منعهم من علي ؟

قال الرسول: هو حدث السن، وقد أكثر القتل في قريش وغيرها، وأبو بكر أسنّ منه.

قال أبو قحافة: إن كان الأمر في ذلك بالسنّ فأنا أحق من أبي بكر، لقد ظلموا علياً حقه، ولقد بايع له النبي وأمرنا ببيعته.

ثم كتب إليه: من أبي قحافة إلى أبي بكر أما بعد، فقد أتاني كتابك، فوجدته كتاب أحمق ينقض بعضه بعضاً، مرّةً تقول خليفة اللّه ومرّة تقول: خليفة رسول اللّه، ومرّة

ص: 96


1- البحار: ج 29 ص 69.

تراضى بي الناس، وهو أمر ملتبس، فلا تدخلنّ في أمر يصعب عليك الخروج منه غداً، ويكون عقباك منه إلى الندامة، وملامة النفس اللوّامة، لدى الحساب يوم القيامة، فإنّ للأُمور مداخل ومخارج، وأنت تعرف مَن هو أولى منك بها، فراقب اللّه كأنّك تراه، ولا تدعن صاحبها فانّ تركها اليوم أخف وأسلم لك(1).

قصة اليهوديين مع أبي بكر

جاء في إرشاد القلوب بحذف الأسانيد أيضاً مرفوعاً إلى ابن عبّاس، قال: قدم يهوديّان أخوان من رؤوس اليهود فقالا: يا قوم إنّ نبينا حدّثنا أنه يظهر بتهامة رجل يسفه أحلام اليهود، ويطعن في دينهم، ونحن نخاف أن يزيلنا عمّا كانت عليه آباؤنا، فأيكم هذا النبي؟ فإن كان المبشّر به داود آمنّا به واتّبعناه، وإن كان يورد الكلام على إبلاغه ويورد الشعر ويقهرنا جاهدناه بأنفسنا وأموالنا، فأيكم هذا النبي؟ فقال لمهاجرون والأنصار: إنّ نبيّنا قبض

فقالا: الحمد اللّه، فأيّكم وصيّه ؟ فما بعث اللّه نبيّاً إلى قوم إلا وله وصيّ يؤدّي من بعده ويحكم ما أمره به ربّه، فأومأ المهاجرون والأنصار إلى أبي بكر. فقالوا: هذا وصيّه. فقالا لأبي بكر: إنا نلقي عليك من المسائل ما يُلقى على الأوصياء، ونسألك عما يُسأل الأوصياء عنه، فقال أبو بكر ألقيا، سأخبركما عنه إن شاء اللّه تعالى.

فقال له أحدهما : ما أنا وأنت عند اللّه؟ وما نفس في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة ؟ وما قبر سار بصاحبه؟ ومن أين تطلع الشمس وأين تغرب؟ وأين سقطت الشمس ولم تسقط مرّة أخرى في ذلك الموضع ؟ وأين تكون الجنّة؟ وأين تكون النار؟ وربّك يحمل أو يُحمل ؟ وأين يكون وجه ربّك؟ وما إثنان شاهدان؟ وما إثنان غائبان؟ وما

ص: 97


1- البحار : ج 29 ص 95.

إثنان متباغضان؟ وما الواحد؟ وما الإثنان؟ وما الثلاثة؟ وما الأربعة؟ وما الخمسة؟ وما الستة؟ وما السبعة ؟ وما الثمانية ؟ وما التسعة ؟ وما العشرة ؟ وما الإحدى عشر؟ وما الإثنى عشر ؟ وما العشرون؟ وما الثلاثون؟ وما الأربعون؟ وما الخمسون؟ وما الستون؟ وما السبعون؟ وما الثمانون؟ وما التسعون؟ وما المائة؟!

قال ابن عبّاس: فبقي أبو بكر لا يردّ جواباً، وتخوّفنا أن يرتد القوم عن الإسلام، فأتيت منزل علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقلت له: ياعلي إن رؤوساً من رؤساء اليهود قد قدموا المدينة، وألقوا على أبي بكر مسائل، وقد بقي لا يردّ جواباً. فتبسّم علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ضاحكاً، ثمّ قال: «هو الّذي وعدني به رسول اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)». وأخذ يمشي أمامي فما أخطأت مشيتُه مشية رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى قعد في الموضع الّذي كان يقعد فيه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ). ثمّ التفت إلى اليهوديين.

فقال : يا يهوديّان ادنوا منّي وألقيا علي ما ألقيتها على الشيخ.

فقالا: من أنت؟

فقال: «أنا علي بن أبي طالب، أخو النبي، وزوج فاطمة، وأبو الحسن والحسين، ووصيّه في خلافته كلّها، وصاحب كلّ نفيسة وغزاة، وموضع سر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )».

فقال اليهودي : ما أنا وأنت عند اللّه ؟

قال: «أنا مؤمن منذ عرفت نفسي، وأنت كافر منذ عرفت نفسك، وما أدري ما يحدث اللّه بك يايهودي بعد ذلك».

قال اليهودي : فما نفسٌ في نفس ليس بينهما رحم ولا قرابة ؟

قال: «يونس بن متى في بطن الحوت».

ص: 98

قال : فما قبرٌ سار بصاحبه ؟

قال: «يونس، حين طاف به الحوت في سبعة أبحر».

قال له: فالشمس من أين تطلع؟

قال: «من قرن الشيطان».

قال: فأين تغرب؟

قال: «في عين حمئة وقال لي حبيبي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : لا تصلِّ في إقبالها ولا في إدبارها حتّى تصير في مقدار رمح أو رمحين».

قال: فأين سقطت الشمس ولم تسقط مرّة أُخرى في ذلك الموضع ؟

قال: «البحر، حين فرّقه اللّه تعالى لقوم موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)».

قال له : ربّك يُحمل أو يَحمل ؟

قال: «ربّي يحمل كلّ شيء ولا يحمله شيء».

قال : فكيف قوله : «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَذٍ ثَمَنيَةٌ»(1).

قال: «يايهوديّ ألم تعلم أنّ اللّه له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وكلّ شيء على الثرى، والثرى على القدرة، والقدرة عند ربّي».

قال: فأين تكون الجنّة؟ وأين تكون النار؟

قال: «الجنّة في السماء، والنار في الأرض».

قال: فأين يكون وجه ربّك؟

ص: 99


1- سورة الحاقّة: الآية 17.

فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لابن عبّاس: «ائتني بنار وحطب فأضرمها»، وقال: «يايهودي، فأين وجه هذه النار» ؟

فقال : لا أقفلها على وجه.

قال: كذلك ربي «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه»(1).

قال : فما إثنان شاهدان؟

قال: «السماء والأرض لا يغيبان».

قال : فما إثنان غائبان؟

قال: «الموت والحياة لا نقف عليهما».

قال : فما إثنان متباغضان؟

قال: «الليل والنهار».

قال: فما نصف الشيء؟

قال: «المؤمن».

قال: فما لا شيء.

قال: «يهودي مثلك كافر لا يعرف ربه».

قال : فما الواحد؟

قال: «اللّه (عزّوجلّ)».

قال : فما الإثنان ؟

ص: 100


1- سورة البقرة: الآية 115.

قال: «آدم وحوا».

قال: فما الثلاثة؟

قال: كذبت النصارى على اللّه (عزّوجلّ)، قالوا عيسى بن مريم ابن اللّه، واللّه لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً».

قال: فما الأربعة؟

قال : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان (العظيم).

قال: فما الخمسة ؟

قال: خمس صلوات مفترضات.

قال: فما الستّة ؟

قال: «خلق اللّه السماوات والأرض في ستّة أيّام ثم استوى على العرش».

قال : فما السبعة؟

قال: «سبعة أبواب النار متطابقات».

قال: فما الثمانية؟

قال: «ثمانية أبواب الجنّة».

قال : فما التسعة؟

قال: «تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ»(1).

قال: فما العشرة؟

ص: 101


1- سورة النمل: الآية 48.

قال: «عشرة أيّام من العشر».

قال: فما الأحد عشر ؟

قال: قول يوسف لأبيه : «إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِين»(1).

قال : فما الإثنا عشر ؟

قال: «شهور السنة».

قال: فما العشرون ؟

قال: «بيع يوسف بعشرین درهماً».

قال: فما الثلاثون؟

قال: «ثلاثون ليلة من شهر رمضان صیامه فرض واجب على كلّ مؤمن إلّا من كان مريضاً أو على سفر».

قال: فما الأربعون؟

قال: «كان ميقات موسى ثلاثين ليلة قضاها، والعشر كانت تمامها».

قال: فما الخمسون؟

قال: «دعا نوح قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً».

قال: فما الستون؟

ص: 102


1- سورة يوسف : الآية 4.

قال: قال اللّه: «فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا» أو «فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ»(1).

قال: فما السبعون؟

قال: «اختار موسی قومه سبعين رجلا لميقات ربّه».

قال: فما الثمانون؟

قال: «قرية بالجزيرة يقال لها: ثمانون، منها قعد نوح في السفينة واستوت على الجودي وأغرق اللّه القوم».

قال: فما التسعون؟

قال: «الفلك المشحون اتخذ يوماً فيها بيتاً للبهائم».

قال : فما المائة ؟

قال: «كانت لداود (عَلَيهِ السَّلَامُ) ستون سنة فوهب له آدم،أربعين، فلمّا حضر آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) الوفاة جحده فجحد ذرّيته».

فقال: ياشاب صف لي محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )كأنّي أنظر إليه حتّى أُؤمن به الساعة؟

فبكى علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم قال: «يايهودي هيجت أحزاني، كان حبيبي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) صَلْتَ الجبين، مقرون،الحاجبين، أدعج العينين سهل الخدّين، أقنى الأنف، دقيق المسرية، كثّ اللحية، برّاق الثنايا، كأنّ عنقه إبريق فضّة، كان له شعرات من لبته إلى سرته متفرقة كأنّها قضيب كافور، لم يكن بالطويل الذاهب ولا بالقصير النزر كان إذا مشى مع الناس غمرهم كان إذا مشى كأنه ينقلع من صخرة أو ينحدر من صبب، كان مبدول الكعبين، لطيف القدمين دقيق الخصر، عمامته السحاب سيفه ذو الفقار بغلته الدلدل حماره

ص: 103


1- سورة المجادلة: الآية 4.

اليعفور، ناقته العضباء فرسه المبدول قضيبه الممشوق، كان أشفق الناس على الناس، وأرأف الناس بالناس كان بين كتفيه خاتم النبوّة مكتوب على الخاتم سطران، أوّل سطر : لا إله إلّا اللّه والثاني: محمّد رسول اللّه، هذه صفته يايهوديّ».

فقال اليهوديّان: نشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه، وأنك وصيّ محمّد حقّاً.

وأسلما وحسن إسلامهما، ولزما أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فكانا معه حتّى كان من أمر الجمل ما كان، فخرجا معه إلى البصرة، فقُتل أحدهما في وقعة الجمل، وبقي الآخر حتّى خرج معه إلى الصفين فقتل(1).

قصة اليهود الثلاثة

عن أبي إسحاق الثعلبي المتوفّى سنة 427 في كتابه العرائس: 232 - 239 في قصّة مفصّلة، نذكر منها صدرها ويكشف منه استمرار خبطهم وجهلهم.

قال: لما ولي... عمر بن الخطّاب الخلافة أتاه من أحبار اليهود فقالوا: يا عمر أنت ولي الأمر بعد محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وصاحبه، وإنا نريد أن نسألك عن خصال إن أخبرتنا بها علمنا أنّ الإسلام حق وأنّ محمّداً كان نبياً، وإن لم تخبرنا به علمنا أنّ الإسلام باطل وأنّ محمّداً لم يكن نبيّاً. فقال : سلوا عما بدا لكم قالوا: أخبرنا... قال : فنكس عمر رأسه في الأرض، ثمّ قال: لا عيب بعمر إذا سئل عما لا يعلم أن يقول : لا أعلم، وأن يُسئل عما لا يعلم. فوثبت اليهود وقالوا نشهد أن محمّداً لم يكن نبياً وأنّ الإسلام باطل.

فوثب سلمان الفارسي وقال لليهود قفوا قليلا... ثمّ توجّه نحو علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه حتّى دخل عليه، فقال : يا أبا الحسن أغث الإسلام. فقال : «وما ذاك» ؟...

ص: 104


1- البحار : ج 30 ص 86.

فأخبره الخبر، فأقبل يرفل في بردة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فلمّا نظر إليه عمر وثب قائماً فاعتنقه، وقال : يا أبا الحسن أنت لكلّ معضلة وشدّة تُدعى.

فدعا علي كرم اللّه وجهه اليهود، فقال: «سلوا عما بدا لكم فإنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) علّمني ألف باب من العلم فتشعّب لي من كلّ باب ألف باب»، فسألوه عنه، فقال علي كرّم اللّه وجهه: «إنّ لي عليكم شريطة إذا أخبرتكم كما في توراتكم دخلتم في ديننا وآمنتم» ؟

فقالوا: نعم.

فقال: «سلوا عن خصلة.. خصلة».

قالوا: أخبرنا عن أقفال السماوات ما هي؟

قال: «أقفال السماوات، الشرك باللّه، لأنّ العبد والأمة إذا كانا مشركين لم يرتفع لهما عمل».

:قالوا فأخبرنا عن مفاتيح السماوات ما هي؟

قال: «شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمّداً عبده ورسوله». فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويقولون : صدق الفتى.

قالوا: فأخبرنا بقبر سار بصاحبه؟

فقال: «ذلك الحوت الّذي التقم يونس بن متّى فسار به في البحار السبع [كذا]».

فقالوا: أخبرنا عمّن أنذر قومه لا هو من الجنّ ولا هو من الإنس؟

قال: «هي نملة سليمان بن داود قالت «يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَنُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ»(1).

ص: 105


1- النمل: 18.

قالوا: فأخبرنا عن خمسة مشوا على الأرض ولم يُخلقوا في الأرحام؟

قال: «ذلكم آدم وحواء، وناقة صالح، وكبش إبراهيم، وعصى موسى».

قالوا: فأخبرنا ما يقول الدرّاج في صياحه ؟

قال : يقول: «الرحمن على العرش استوى».

قالوا: فأخبرنا ما يقول الديك في صراخه؟

قال : يقول : «اذكروا اللّه ياغافلين».

:قالوا أخبرنا ما يقول الفرس في صهيله ؟

قال: «يقول إذا مشى المؤمنون إلى الكافرين إلى الجهاد. اللّهمّ انصر عبادك المؤمنين على الكافرين».

قالوا: فأخبرنا ما يقول الحمار في نهيقه؟

قال: يقول: «لعن اللّه العشّار... وينهق في أعين الشياطين».

قالوا: فأخبرنا ما يقول الضفدع في نقيقه؟

قال : يقول : «سبحان ربي المعبود المسبّح في لجج البحار».

قالوا: فأخبرنا ما يقول القنبر في صفيره؟

قال: «يقول: اللّهم العن مبغضي محمّد وآل محمّد».

وكان اليهود ثلاثة نفر، قال إثنان منهم : نشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه، ووثب الحبر الثالث فقال : ياعلي لقد وقع في قلوب أصحابي ما وقع من الإيمان والتصديق، وقد بقي خصلة واحدة أسألك عنها؟

ص: 106

فقال: «سل عمّا بدا لك».

فقال : أخبرني عن قوم في أوّل الزمان ماتوا ثلاثمائة وتسع سنين ثمّ أحياهم اللّه فما كان من قصّتهم؟

قال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يايهودي هؤلاء أصحاب، وقد أنزل اللّه على نبينا قرآناً فيه قصتهم، وإن شئت قرأت عليك قصتهم».

فقال اليهودي: ما أكثر ما قد سمعنا قراءتكم، إن كنت عالماً فأخبرني بأسمائهم، وأسماء آبائهم وأسماء مدينتهم، واسم ملكهم، واسم كلبهم واسم جبلهم، واسم كهفهم؟ وقصّتهم من أوّلها إلى آخرها؟ فاحتبى علي ببردة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثم قال: وأورد قصّة أصحاب الكهف بطولها، ونقلها شيخنا الأميني طاب ثراه في غديره 6/ 148-155.

أسقف نجران

جاء عن طريق العامة كما أورده الحافظ العاصمي في كتابه زين الفتى في شرح سورة هل أتى ( خطي) وحكاه عنه في الغدير 242/6، 243:

قدم أُسقف نجران على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في صدر خلافته فقال : يا أمير المؤمنين إنّ أرضنا باردة... إلى أن قال: فقال له الأسقف ياعمر، أتقرؤون في كتابكم: وجنة عرضها كعرض السماء والأرض، فأين تكون النار؟ فسكت عمر وقال لعلي: أجبه أنت.

فقال له علي: «أنا أُجيبك يا أُسقف، أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل»؟ فقال الأسقف: ما كنت أرى أن أحداً ليجيبني عن هذه المسألة. من هذا الفتى يا عمر ؟

ص: 107

فقال علي بن أبي طالب «ختن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وابن عمّه، وهو أبو الحسن والحسين».

فقال الأُسقف: فأخبرني يا عمر عن بقعة من الأرض طلع فيها الشمس مرّة واحدة ثمّ لم تطلع قبلها ولا بعدها ؟

فقال عمر سل الفتى، فسأله.

فقال: «أنا أُجيبك، هو البحر حيث انفلق لبني إسرائيل ووقعت فيه الشمس مرّة واحدة لم تقع قبلها ولا بعدها».

فقال الأُسقف : أخبرني عن شيء في أيدي الناس شُبّه بثمار الجنّة؟

فقال عمر: سل،الفتى فسأله.

فقال علي: «أنا أُجيبك هو القرآن يجتمع عليه أهل الدنيا فيأخذون منه حاجتهم فلا ينقص منه شيء فكذلك ثمار الجنّة».

فقال الأُسقف : صدقت.

قال: أخبرني هل للسماوات من قفل ؟

فقال علي: «قفل السماوات الشرك باللّه».

فقال الأسقف وما مفتاح ذلك القفل ؟

قال: «شهادة أن لا إله إلّا اللّه لا يحجبها شيء دون العرش».

فقال: صدقت.

فقال : أخبرني عن أوّل دم وقع على وجه الأرض؟

ص: 108

فقال علي: «أما نحن فلا نقول كما يقولون دم الخشّاف، ولكن أوّل دم وقع على وجه الأرض مشيمة حوّاء حيث ولدت هابيل بن آدم».

قال صدقت وبقيت مسألة واحدة.

أخبرني : أين اللّه، فغضب عمر.

فقال علي: «أنا أجيبك، وسل عمّا شئت، كنا عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذ أتاه ملك فسلّم، فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : من أين أُرسلت؟ فقال: من السماء السابعة من عند ربّي، ثمّ أتاه آخر فسأله، فقال: أُرسلت من الأرض السابعة من عند ربّي، فجاء ثالث من الشرق، ورابع من المغرب فسألهما فأجابا كذلك، فاللّه (عزّوجلّ) ههنا وههنا، في السماء إله وفي الأرض إلهُ» (1).

رسالة ملك الروم

أيضاً ما أخرجه أحمد بن حنبل إمام الحنابلة في الفضائل بإسناده عن ابن المسيّب قال : كان عمر بن الخطاب يقول : أعوذ باللّه من معضلة ليس لها أبو الحسن.

قال ابن المسيب : ولهذا القول سبب وهو : انّ ملك الروم كتب إلى عمر يسأله عن مسائل فعرضها على الصحابة فلم يجد عندهم جواباً، فعرضها على أمير المؤمنين فأجاب عنها في أسرع وقت بأحسن جواب، وذكر الكتاب بطوله، ثمّ قال : فقرأ علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) الكتاب وكتب في الحال خلفه:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم أمّا بعد، فقد وقفت على كتابك أيها الملك، وأنا أُجيبك بعون اللّه وقوته وبركته وبركة نبيّنا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :

ص: 109


1- البحار: ج 30 ص 115.

أمّا الشيء الّذي لم يخلقه اللّه تعالى، فالقرآن لأنّه كلامه وصفته، وكذا كتب اللّه المنزلة، والحق سبحانه قديم وكذا صفاته.

وأمّا الّذي لا يعلمه اللّه، فقولكم له ولد وصاحبة وشريك، ما اتّخذ اللّه من ولد وما كان معه من إله لم يلد ولم يولد.

وأما الّذي ليس عند اللّه، فالظلم، وما ربّك بظلّام للعبيد.

وأما الّذي كلّه فم، فالنار، تأكل ما يُلقى فيها.

وأما الّذي كلّه رجل، فالماء.

وأما الّذي كلّه عين فالشمس.

وأما الّذي كلّه جناح، فالريح.

وأما الّذي لا عشيرة له، فآدم.

وأما الّذي لم يحمل بهم رحم فعصى موسى، وكبش إبراهيم، وآدم وحوّاء.

وأمّا الّذي يتنفّس من غير روح، فالصبح، لقوله تعالى: «وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَس»(1).

وأما الناقوس، فإنّه يقول: طقاً طقاً حقّاً حقّاً مهلا مهلا، عدلا عدلا، صدقاً صدقاً، إنّ الدنيا قد غرّتنا واستهوتنا تمضي الدنيا قرناً قرناً، ما من يوم يمضي عنّا إلاّ أوهى منّا ركناً، إنّ الموتى [كذا] قد أخبرنا انا نرحل فاستوطنًا.

وأمّ ا الظاعن، فطور سيناء لما عصت بنو إسرائيل وكان بينه وبين الأرض المقدّسة أيّام فقلع اللّه منه قطعة وجعل لها جناحين من نور فنتقه عليهم، فذلك قوله: «وَإِذْ

ص: 110


1- التكوير: 18.

نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعُ بِهِمْ»(1) وقال لبني إسرائيل: إن لم تؤمنوا وإلّا أوقعته عليكم، فلمّا تابوا ردّه إلى مكانه.

وأمّا المكان الّذي لم تطلع عليه الشمس إلا مرّة واحدة، فأرض البحر لما فلقه اللّه لموسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) قام الماء أمثال الجبال ويبست الأرض بطلوع الشمس عليها، ثم عاد ماء البحر إلى مكانه.

وأمّا الشجرة التي يسير الراكب في ظلها مائة عام فشجرة طوبى، وهي سدرة المنتهى في السماء السابعة إليها ينتهي أعمال بني آدم وهي من أشجار الجنّة، ليس في الجنّة قصر ولا بيت إلا وفيه غصن من أغصانها، ومثلها في الدنيا الشمس أصلها واحد وضوئها في كلّ مكان.

وأمّا الشجرة التي نبتت من غير ماء، فشجرة يونس، وكان ذلك معجزة له، لقوله تعالى: «وَأَنْبَتَنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينِ»(2).

وأمّا غذاء أهل الجنّة، فمثلهم في الدنيا الجنين في بطن أمه، فإنّه يغتدي من سرّتها ولا يبول ولا يتغوط.

وأمّا الألوان في القصعة الواحدة، فمثلها في الدنيا البيضة فيها لونان; أبيض وأصفر ولا يختلطان.

وأمّا الجارية التي تخرج من التفاحة، فمثلها في الدنيا الدودة تخرج من التفاحة ولا تتغيّر.

وأما الجارية التي تكون بين إثنين، فالنخلة التي تكون في الدنيا لمؤمن مثلي ولكافر

ص: 111


1- الأعراف: 171.
2- الصافات: 146.

مثلك، وهي لي في الآخرة دونك، لأنّها في الجنّة وأنت لا تدخلها.

وأمّا مفاتيح الجنّة، فلا إله إلا اللّه، محمّد رسول اللّه».

قال ابن المسيب فلمّا قرأ قيصر الكتاب قال: ما خرج هذا الكلام إلّا من بيت النبوّة. ثمّ سأل عن المجيب فقيل له : هذا جواب ابن عم محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فكتب إليه:

«سلام عليك، أما بعد، قد وقفت على جوابك، وعلمت أنّك من أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، وأنت موصوف بالشجاعة والعلم، وأُؤثر أن تكشف لي عن مذهبكم، والروح التي ذكرها اللّه في كتابكم في قوله: «وَيَسْتَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّی»(1)».

فكتب إليه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)

«أمّا بعد، فالروح نكتة لطيفة، ولمعة شريفة من صنعة بارئها، وقدرة مُنشئها، أخرجها من خزائن ملكه وأسكنها في ملكه، فهي عنده لك سبب، وله عندك وديعة، فإذا أخذت ما لك عنده أخذ ماله عندك، والسلام».

وقد نصّ على القصّة بطولها الحافظ العاصمي في زين الفتى في شرح سورة هل أتى، وتذكرة خواص الأُمّة، لسبط ابن الجوزي الحنفي (2).

الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) والمعتصم

عن زُرقان صاحب ابن أبي داود وصديقه بشدّة قال: رجع ابن أبي داود ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ فقلت له في ذلك، فقال : وددت اليوم أنّي قدمتُ منذ عشرين سنة، قال: قلت له: ولم ذاك؟ قال: لما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمّد بن علي بن

ص: 112


1- الإسراء: 85.
2- البحار : ج 30 ص 118.

موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين، قال: قلت له وكيف كان ذلك؟ قال: إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة تطهيره باقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمّد بن عليّ فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع ؟ قال : قلت : من الكرسوع.

قال: وما الحجّة في ذلك ؟ قال : قلت : لأنّ اليد هي الأصابع والكفّ إلى الكرسوع، لقول اللّه في التيمم : «فَأَمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم»(1) واتّفق معي ذلك قوم.

وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق، قال: وما الدليل على ذلك؟ قالوا: لأنّ اللّه لما قال: «وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ» (2) في الغسل دلّ ذلك على أنّ حدّ اليد هو المرفق.

قال: فالتفتُ إلى محمّد بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: «قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين» قال: دعني ممّا تكلّموا به أي شيء عندك؟ قال: أعفني عن هذا يا أمير المؤمنين، قال: أقسمت عليك باللّه لمّا أخبرت بما عندك فيه.

فقال: «أمّا إذا أقسمت عليّ باللّه إنّي أقول: إنّهم أخطأوا فيه السنة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع، فيترك الكفّ»، قال: وما الحجّة في ذلك؟ قال: «قول رسول اللّه : السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال اللّه تبارك وتعالى: «وَأَنَّ الْمَسَجِدَ للّه» يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها «فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللّه أَحَدًا»(3) وما كان اللّه لم يقطع».

قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون

ص: 113


1- المائدة : 6.
2- المائدة : 6.
3- الجن: 18.

الكفّ.

قال ابن أبي داود: قامت قيامتي وتمنّيت أني لم أكُ حيّاً، قال زرقان: قال ابن أبي داود صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت: إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة، وأنا أكلّمه بما أعلم أنّي أدخل به النار، قال: وما هو ؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيّته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر مجلسه أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثمّ يترك أقاويلهم كلّهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بامامته، ويدّعون أنه أولى منه بمقامه ثمّ يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟

قال: فتغيّر لونه وانتبه لما نبّهته له وقال : جزاك اللّه عن نصيحتك خيراً قال: فأمر اليوم الرابع فلاناً من كتاب وزرائه بأن يدعوه إلى منزله فدعاه فأبى أن يجيبه وقال: قد علمت أني لا أحضر مجالسكم، فقال: إنّي إنّما أدعوك إلى الطعام وأحبّ أن تطأ ثيابي و تدخل منزلي فأتبرك بذلك، فقد أحبّ فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقاءك، فصار إليه، فلمّا طعم منها أحسّ السمّ فدعا بدابته فسأله ربّ المنزل أن يقيم قال: خروجي من دارك خير لك، فلم يزل يومه ذلك وليله في خلفه حتّى قبض (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).

الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويحيى بن أكثم

عن الرّيان بن شبيب قال : لما أراد المأمون أن يزوّج ابنته أمّ الفضل أبا جعفر محمّد الأمر بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بلّغ ذلك العبّاسيّين فغلظ عليهم، واستنكروه منه، وخافوا أن ينتهي معه إلى ما انتهى مع الرّضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه، فقالوا: ننشدك اللّه يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الّذي عزمت عليه من تزويج

ص: 114


1- البحار: ج 50 ص 5.

ابن الرّضا، فإنّا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملكناه اللّه عزّ وجلّ، وينزع منّا عزّاً قد ألبسناه اللّه، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرّضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما عملت فكفانا اللّه المهمّ من ذلك، فاللّه اللّه أن تردّنا إلى غم قد انحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرّضا واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.

فقال لهم المأمون: أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم، وأمّا ما كان يفعله من قبلي بهم، فقد كان قاطعاً للرّحم، وأعوذ باللّه من ذلك، واللّه ما ندمت على ما كان منّي من استخلاف الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى، وكان أمر اللّه قدراً مقدوراً.

وأما أبو جعفر محمّد بن عليّ فقد اخترته لتبريزه على كافّة أهل الفضل في العلم والفضل، مع صغر سنّه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للنّاس ما قد عرفته منه، فيعلمون أنّ الرّأي ما رأيت فيه فقالوا له : إنّ هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنّه صبي لا معرفة له ولا فقه فأمهله ليتأدّب ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك، فقال لهم: ويحكم إنّي أعرف بهذا الفتى منكم، وإنّ أهل هذا البيت علمهم من اللّه تعالى وموادّه وإلهامه، لم تزل آباؤه أغنياء في علم الدّين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبيّن لكم به ما وصفت لكم من حاله.

قالوا: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا،بامتحانه فخلّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة، فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره، وظهر للخاصّة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه، فقال لهم المأمون شأنكم وذلك متى أردتم.

ص: 115

فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم، وهو يومئذ قاضي الزمان على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك، وعادوا إلى المأمون وسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك.

فاجتمعوا في اليوم الّذي اتّفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم، وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ويجعل له فيه مسورتان، ففعل ذلك وخرج أبو جعفر، وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر فجلس بين المسورتين، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه، وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فقال يحيى بن أكثم للمأمون يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟ فقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «سل إن شئت». قال يحيى : ما تقول جعلت فداك محرم قتل صيداً؟ فقال أبو جعفر ش(عَلَيهِ السَّلَامُ) : «قتله في حلّ أو حرم، عالماً كان المحرم أو جاهلا، قتله عمداً أو خطأ، حرّاً كان المحرم أو عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أو معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها من صغار الصّيد أم من كبارها مصرۀاً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان قتله للصۀيد أم في النهار، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجۀ كان محرماً»؟

فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره، فقال المأمون : الحمد للّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثمّ نظر إلى أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل على أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له: أتخطب يا أبا جعفر ؟ فقال: «نعم يا أمير المؤمنين»، فقال له المأمون: أخطب لنفسك جعلت فداك، قد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجك أُمّ الفضل ابنتي وإن رغم قوم لذلك، فلمّا تفرّق الناس وبقي من الخاصّة من بقي، قال المأمون لأبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إن رأيت

ص: 116

جعلت فداك أن تذكر الفقه الّذي فصّلته من وجوه من قتل المحرم لنعلمه ونستفيده.

فقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «نعم إنّ المحرم إذا قتل صيداً في الحلّ وكان الصّيد من ذوات الطير، وكان من كبارها، فعليه شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، وإذا قتل فرخاً في الحلّ فعليه حمل قد فطم من اللّبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، وإن كان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة.

وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى، وإن كان إحرامه بالعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد عليه المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ والكفّارة على الحرّ في نفسه، وعلى السيد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه، وهي على الكبير واجبة والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الآخرة والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة.

فقال المأمون أحسنت يا أبا جعفر أحسن اللّه إليك فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك، فقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليحيى: «أسألك» ؟ قال : ذلك إليك جعلت فداك فإن عرفت الجواب ما تسألني عنه وإلا استفدته منك.

فقال له أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أخبرني عن رجل نظر إلى إمرأة في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النّهار حلّت له، فلمّا زالت الشمس حرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر حلّت له، فلمّا غربت الشمس حرمت عليه، فلمّا دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلمّا كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه، فلمّا طلع الفجر حلّت له، ما حال هذه المرأة وبماذا حلّت له وحرمت عليه» ؟

ص: 117

فقال له يحيى بن أكثم : لا واللّه لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه.

فقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هذه أُمّة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أوّل النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلمّا كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له، فلمّا كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له، فلمّا كان نصف الليل طلّقها واحدة فحرمت عليه، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له.

قال: فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل فيكم من يجيب هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو يعرف القول فيما تقدّم من السؤال؟ قالوا: لا واللّه إنّ أمير المؤمنين أعلم وما رأى، فقال : ويحكم إنّ أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال.

أما علمتم أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحداً في سنه غيره، وبايع الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وهما إبنا دون الستّ سنين، ولم يبايع صبيّاً غيرهما، أولا تعلمون ما اختصّ اللّه به هؤلاء القوم وإنّهم ذريّة بعضها من بعض يجري لآخرهم بما يجري لأوّلهم، فقالوا: صدقت يا أمير المؤمنين، ثمّ نهض القوم»(1).

كعب الأحبار وعمر بن الخطّاب

عن عبيد بن كثير معنعناً عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «شهدت أبي عند

ص: 118


1- البحار: ج 50 ص 74.

عمر الخطاب وعنده كعب الأحبار وكان رجلا قد قرأ التوراة وكتب الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فقال له عمر: يا كعب من كان أعلم بني إسرائيل بعد موسی بن عمران (عَلَيهِ السَّلَامُ) ؟ قال: كان أعلم بني إسرائيل بعد موسى بن عمران یوشع بن نون، وكان وصيّ موسى بن عمران،بعده، وكذلك كلّ نبيّ خلا من بعد موسى بن عمران كان له وصيٌّ يقوم في أُمّته من بعده. فقال له عمر : فمن وصيُّ نبيّنا وعالمنا ؟ أبو بكر ؟ قال: وعليٌّ ساكت لا يتكلّم، فقال كعب مهلا، فإنّ السكوت عن هذا أفضل، كان أبو بكر رجلا خطا بالصلاح فقدّمه المسلمون لصلاحه ولم يكن بوصيّ، فإنّ موسى [بن عمران] لمّا توفّي أوصى إلى يوشع بن نون فقبله طائفة من بني إسرائيل وأنكرت فضله طائفة، وهي التي ذكر اللّه تعالى في القرآن «فَئَامَنَت طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَاءيلَ وَكَفَرَت طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الّذين ءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَهِرِينَ»(1)، وكذلك الأنبياء السالفة والاُمم الخالية لم يكن نبيّ إلّا وقد كان له وصي يحسده قومه ويدفعون فضله فقال: ويحك يا كعب فمن ترى وصيّ نبيّنا ؟

قال كعب: معروف في جميع كتب الأنبياء والكتب المنزلة من السماء: «عليّ أخو النبي العربي يعينه على أمره ويوازره على من ناواه [و] له زوجة مباركة[و] له منها ابنان يقتلها أُمّته من بعده، ويحسدون وصيّه كما حسدت الأُمم أوصياء أنبيائها، فيدفعونه عن حقّه، ويقتلون من ولده بعده كحسد الأُمم الماضية»، وقال: فأفحم عندها :وقال يا كعب لئن صدقت في كتاب اللّه المنزل قليلا فقد كذبت كثيراً!

فقال كعب: واللّه ما كذبت في كتاب اللّه قط، ولكن سألتني عن أمر لم يكن لي بدٌّ من تفسيره والجواب فيه، فإنّي لأعلم أنّ أعلم هذه الأمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد نبيّها لأني لم أسأله عن شيء إلّا وجدت عنده كلمة تصدّقه به التوراة وجميع كتب الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فقال له عمر : أُسكت يا ابن اليهودي فواللّه إنّك لكثير التخرّص بكذب.

ص: 119


1- الصف: 14.

فقال كعب واللّه ما علمت أني كذبت في شيء من كتاب اللّه منذ جرى اللّه عليّ الحكم، ولئن شئت لأُلقين عليك شيئاً من علم التوراة فإن فهمته فأنت أعلم منه، وإن فهم فهو أعلم منك، فقال له عمر : هات بعض هناتك.

فقال كعب: أخبرني عن قول اللّه : «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»(1) فأين كانت الأرض؟ وأين كانت السماء ؟ وأين كان جميع خلقه ؟ فقال له عمر ومن يعلم غيب اللّه منّا إلّا ما سمعه رجل من نبيّنا قال: ولكن إخال (2) أبا حسن لو سئل عن ذلك لشرحه بمثل ما قرأناه في التوراة، فقال له عمر فدونك إذا اختلف المجلس، قال: فلمّا دخل عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) على عمر وأصحابه أرادوا إسقاط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فقال كعب: يا أبا الحسن أخبرني عن قول اللّه تعالى في كتابه : «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» (3) قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) : نعم، كان عرشه على الماء حين لا أرض مدحيّة، ولا سماء مبنيّة ولا صوت يسمع ولا عين تنبع، ولا ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، ولا نجم يسري، ولا قمر يجري ولا شمس تضيء، وعرشه على الماء، غير متوحّش إلى أحد من خلقه، يمجّد نفسه ويقدّسها كما شاء أن يكون كان، ثم بدا له أن يخلق الخلق، فضرب بأمواج البحور فثار منها مثل الدّخان كأعظم ما يكون من خلق اللّه، فبنا بها سماءً رتقاً، ثمّ دحا الأرض من موضع الكعبة وهي وسط الأرض فطبقت إلى البحار.

ثمّ فتقها بالبنيان وجعلها سبعاً بعد إذا كانت واحدة، ثم استوى إلى السماء وهي دخان من ذلك الماء الّذي أنشأه من تلك البحور، فجعلها سبعاً طباقاً بكلمته التي لا

ص: 120


1- هود 7.
2- إخال: أظن.
3- هود: 7.

يعلمها غيره، وجعل في كل سماء ساكناً من الملائكة خلقهم معصومين من نور من بحور عذبة وهو بحر الرحمة، وجعل طعامهم التسبيح والتهليل والتقديس، فلمّا قضى أمره وخلقه استوى على ملكه فمدح كما ينبغي له أن يحمد، ثمّ قدّر ملكه فجعل في كل سماء شهباً معلّقة كواكب كتعليق القناديل من المساجد لا يحصيها غيره تبارك وتعالى، والنجم من نجوم السماء كأكبر مدينة في الأرض.

ثمّ خلق الشمس والقمر فجعلهما،شمسین فلو تركهما تبارك وتعالى كما كان ابتدأهما في أوّل مرّة لم يعرف خلقة اللّيل من النّهار، ولا عرف الشهر ولا السنة، ولا عرف الشتاء من الصيف، ولا عرف الربيع من الخريف ولا علم أصحاب الدّين متى يحلّ دينهم ولا علم العامل متى يتصرّف في معيشته ومتى يسكن لراحة بدنه، فكان اللّه تبارك وتعالى لرأفته بعباده نظر لهم فبعث جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى إحدى الشمسين فمسح بها جناحه فأذهب عنها الشعاع والنور وترك فيها الضوء، فذلك قوله: «وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْتَهُ تَفْصِيلًا»(1) جعلهما يجريان في الفلك، والفلك بحر فيما بين السماء والأرض مستطيل في السماء، استطالته ثلاثة فراسخ يجري في غمرة الشمس والقمر، كلّ واحد منهما على عجلة يقودهما ثلاثمائة ملك بيد كلّ ملك منها عروة يجرونها في غمرة ذلك البحر، لهم زجل بالتهليل والتسبيح والتقديس، لو برز واحد منهما من غمر ذلك البحر لاحترق كلّ شيء على وجه الأرض حتّى الجبال والصخور وما خلق اللّه من شيء، فلمّا خلق اللّه السماوات والأرض والليل والنهار والنجوم والفلك وجعل الأرضين على ظهر حوت أثقلها فاضطربت فأثبتها بالجبال، فلمّا استكمل خلق ما في السماوات والأرض يومئذ خالية ليس فيها أحد، قال للملائكة : «إِنِّي جَاعِلُ فِي

ص: 121


1- الإسراء: 12.

الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(1).

فبعث اللّه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخذ من أديم الأرض قبضة فعجنه بالماء العذب والمالح وركّب فيه الطبائع قبل أن ينفخ فيه الروح، فخلقه من أديم الأرض فلذلك سمّي «آدم» لأنّه لما عجن بالماء استأدم فطرحه في الجبل كالجبل العظيم، وكان إبليس يومئذ خازناً على السماء الخامسة يدخل في منخر آدم ثمّ يخرج من دبره، ثم يضرب بيده على بطنه فيقول : لأيّ أمر خلقت؟ لئن جعلت فوقي لا أطعتك، وإن جعلت أسفل مني لا أعينك! فمكث في الجنّة ألف سنة ما بين خلقه إلى أن ينفخ فيه الروح فخلقه من ماء وطين، ونور وظلمة، وريح ونور من نور اللّه.

فأما النور فيورثه الإيمان، وأما الظلمة فيورثه الكفر والضلالة، وأما الطين فيورثه الرعدة والضعف والاقشعرار عند إصابة الماء، فينعت به على أربع الطبائع: على الدم، والبلغم، والمرار، والريح، فذلك قوله تبارك وتعالى: «أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَنُ أَنَّا خَلَقْتَهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا»(2).

قال: فقال كعب يا عمر باللّه أتعلم كعلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟ فقال: لا، فقال كعب عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وصيّ الأنبياء، ومحمّد خاتم الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وعليّ خاتم الأوصياء، وليس على الأرض اليوم منفوسة إلّا [ و ] عليّ بن أبي طالب أعلم منه، واللّه ما ذكر من خلق الإنس والجنّ والسماء والأرض والملائكة شيئاً إلّا وقد قرأته في التوراة كما قرأ، قال: فما رئي عمر غضب قطّ مثل غضبه ذلك اليوم»(3).

ص: 122


1- البقرة: 30.
2- مریم: 67.
3- البحار : ج 57 ص 90.

الهندي والإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن الربيع صاحب المنصور، قال: حضر أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) المجلس المنصور، يوماً وعنده رجل من الهند يقرأ كتب الطبّ، فجعل أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ينصت لقراءته، فلمّا فرغ الهندي قال له يا أبا عبد اللّه أتريد تما معي شيئاً ؟ قال : «لا، فإنّ معي ما هو خير ممّا معك». قال: وما هو ؟ قال: «أُداوي الحارّ بالبارد والبارد بالحارّ، والرطب باليابس، واليابس بالرطب، وأردّ الأمر كله إلى اللّه، وأستعمل ما قاله رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «واعلم أنّ المعدة بيت الداء، وإنّ الحمية هي الدواء»، وأُعوّد البدن ما إعتاد».

فقال الهندي وهل الطبّ إلا هذا ؟ فقال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أفتراني من كتب الطبّ أخذت»؟ قال: نعم، قال: «لا واللّه ما أخذت إلّا عن اللّه سبحانه، فأخبرني أنا أعلم بالطب أم أنت» ؟ قال الهندي: لا، بل أنا. قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فأسألك شيئاً»، قال: سل.

قال [الصادق] (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أخبرني ياهندي لِمَ كان في الرأس شؤون» ؟ قال : لا أعلم، قال : «فلِمَ جعل الشعر عليه من فوق» ؟ قال: لا أعلم، قال: «فلم خلت الجبهة من الشعر»؟ قال: لا أعلم، قال: «فلِمَ كان لها تخاطيط وأسارير» ؟ قال : لا أعلم، قال: «فلِمَ كان الحاجبان [ من] فوق العينين» ؟ قال : لا أعلم، قال : «فلِمَ جعل العينان كاللوزتين» ؟ :قال : لا أعلم، قال: «فلِمَ جعل الأنف بينهما» ؟ قال : لا أعلم، قال: «فلم كان ثقب الأنف في أسفله»؟ قال: لا أعلم، قال : «فلِمَ جعلت الشفّة والشارب من فوق الفم»؟ قال : لا أعلم. قال : «فلِمَ احتدّ السنّ وعرض الضرس وطال الناب»؟ قال: لا أعلم، قال: «فلِمَ جعلت اللحية للرجال» ؟ قال : لا أعلم، قال : «فلِمَ خلت الكفّان من الشعر»؟ قال : لا أعلم، قال: «فلم خلا الظفر والشعر من الحياة» ؟ قال: لا أعلم، قال: «فلم كان القلب كحبّ الصنوبر»؟ قال: لا أعلم، قال : «فلِمَ كان الرئة قطعتين وجعل حركتها في موضعها» ؟ قال : لا أعلم. قال : «فلِمَ كانت الكبد حدباء»؟ قال: لا أعلم، قال: «فلِمَ

ص: 123

كانت الكلية كحبّ اللوبيا»؟ قال : لا أعلم، قال: «فلِمَ جعل طيّ الركبة إلى خلف»؟ قال : لا أعلم، قال: «فلِمَ انخصرت القدم»؟ قال: لا أعلم.

فقال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لكنّي أعلم. قال: فأجب. فقال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «كان في الرأس شؤون لأنّ المجوّف إذا كان بلا فصل أسرع إليه الصداع، فإذا جعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد. وجعل الشعر من فوقه ليوصل بوصوله الأدهان إلى الدماغ، ويخرج بأطرافه البخار منه، ويردّ الحرّ والبرد والواردين عليه. وخلت الجبهة من الشعر لأنّها مصبّ النور إلى العينين. وجعل فيها التخاطيط والأسارير ليحبس العرق الوارد من الرأس عن العين قدر ما يميطه الإنسان عن نفسه كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه. وجعل الحاجبان من فوق العينين ليردّا عليهما من النور قدر الكفاية.

ألا ترى ياهندي أنّ من غلبه النور جعل يده على عينيه ليردّ عليهما قدر كفايتهما منه. وجعل الأنف في ما بينهما ليقسّم النور قسمين إلى كلّ عين سواء. وكانت العين كاللوزة ليجري فيها الميل بالدواء ويخرج منها الداء، ولو كانت مربعة أو مدوّرة ما جرى فيها الميل وما وصل إليها دواء ولا خرج منها داء. وجعل ثقب الأنف في أسفله لينزل منه الأدواء المنحدرة من الدماغ، ويصعد فيها الاراييح إلى المشام، ولو كان في أعلاه لما نزل داء ولا وجد رائحة. وجعل الشارب والشفة فوق الفم لحبس ما ينزل من الدماغ عن الفم، لئلا یتنغّص على الإنسان طعامه وشرابه فيميطه عن نفسه. وجعلت اللحية للرجال ليستغني بها عن الكشف في المنظر ويعلم بها الذكر من الأُنثى. وجعل السنّ حاداً لأنّ يقع العضّ، وجعل الضرس عريضاً. لأنّ به يقع الطحن والمضغ، وكان الناب طويلا ليشدّ الأضراس والأسنان كالأُسطوانة في البناء.

وخلا الكفّان من الشعر لأنّ بهما يقع اللمس، فلو كان بهما شعر ما درى الإنسان ما يقابله ويلمسه. وخلا الشعر والظفر من الحياة لأنّ طولهما سمج يقبح وقصهما حسن،

ص: 124

فلو كان فيهما حياة لألم الإنسان لقصّها. وكان القلب كحب الصنوبر لأنه منكّس، فجعل رأسه دقيقاً ليدخل في الرئة فيتروّح عنه ببردها لئلّا يشيط الدماغ بحرّه. وجعلت الرئة قطعتين ليدخل بين مضاغطها فتروّح عنه بحركتها. وكانت الكبد حدباء لتثقل المعدة وتقع جميعها عليها فتعصرها فيخرج ما فيها من البخار.

وجعلت الكلية كحبّ اللوبيا لأنّ عليها مصبّ المنيّ نقطة بعد نقطة، فلو كانت مربّعة أو مدوّرة لاحتبست النقطة الأُولى الثانية، فلا يلتذّ بخروجها الحيّ، إذ المنيّ ينزل من فقار الظهر إلى الكلية فهي كالدودة تنقبض وتنبسط، ترميه أوّلا فأوّلا إلى المثانة كالبندقة من القوس، وجعل طيّ الركبة إلى خلف لأنّ الإنسان يمشي إلى ما بين يديه فتعتدل،الحركات ولولا ذلك لسقط في المشي. وجعلت القدم متخصّرة لأنّ الشيء إذا وقع على الأرض جميعه ثقُل ثِقل حجر الرحاء إذا كان على حرفه دفعه الصبي، وإذا وقع على وجهه صعب ثقله على الرجل».

فقال الهندي : من أين لك هذا العلم : فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أخذته عن آبائي(عَلَيهِم السَّلَامُ) عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ربّ العالمين جلّ جلاله الّذي خلق الأجساد والأرواح». فقال الهندي: صدقت، وأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه وعبده. وأنك أعلم أهل زمانك (1).

بطلان القياس

عن ابن أبي ليلى قال دخلت على أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومعي النعمان، فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «من الّذي معك» ؟ فقلت : جعلت فداك هذا رجل من أهل الكوفة له نظر ونفاذ رأي يقال له النعمان. قال: «فلعلّ هذا الّذي يقيس الأشياء برأيه»، فقلت: نعم

ص: 125


1- البحار: ج 61 ص 307.

قال: «یا نعمان هل تحسن أن تقيس رأسك» ؟ فقال : لا، فقال: «ما أراك تحسن شيئاً، ولا فرضك إلّا من عند غيرك، فهل عرفت كلمة أوّلها كفر وآخرها إيمان»؟ قال: لا، قال: «فهل عرفت ما الملوحة في العينين والمرارة في الأُذنين، والبرودة في المنخرين، والعذوبة في الشفتين»؟ قال: لا.

قال ابن أبي ليلى : فقلت: جعلت فداك، فسّر لنا جميع ما وصفت. قال: «حدّثني أبي عن آبائه عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أنّ اللّه تبارك وتعالى خلق عيني ابن آدم من شحمتين فجعل فيهما الملوحة، ولولا ذلك لذابتا، فالملوحة تلفظ ما يقع في العين من القذى. وجعل المرارة في الأُذنين حجاباً من الدماغ، فليس من دابّة تقع فيه إلا التمست الخروج، ولولا ذلك لوصلت إلى الدماغ. وجعلت العذوبة في الشفتين منّا من اللّه (عزّوجلّ) على ابن آدم يجد بذلك عذوبة الريق وطعم الطعام والشراب. وجعل البرودة في المنخرين لئلّا تدع في الرأس شيئاً إلا أخرجته».

قلت: فما الكلمة التي أوّلها كفر وآخرها إيمان؟ قال: «قول الرجل: «لا إله إلّا اللّه» أوّلها كفر وآخرها إيمان». ثمّ قال: يانعمان، إيّاك والقياس، فقد حدّثني أبي عن آبائه عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: «من قاس شيئاً بشيء قرنه اللّه (عزّوجلّ) مع إبليس في النار فإنّه أوّل من قاس على ربّه» فدع الرأي والقياس، فإنّ الدين لم يوضع بالقياس وبالرأي»(1).

ص: 126


1- البحار: ج 61 ص 312.

باب أحوال الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) وقصصهم

الأسماء الخمسة على ساق العرش

عن ابن عبدوس عن ابن قتيبة عن حمدان بن سليمان عن الهرويّ قال: قلت للرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يابن رسول اللّه أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحوّاء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها; فمنهم من يروي أنّها الحنطة، ومنهم من يروي أنها العنب، ومنهم من يروي أنّها شجرة الحسد، فقال: «كلّ ذلك حقّ». قلت : فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال: «يا أبا الصلت إنّ شجر الجنّة تحمل أنواعاً فكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجر الدنيا، وإنّ آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) لمّا أكرمه اللّه تعالى ذكره بإسجاد ملائكته له وبإدخاله الجنّة قال في نفسه : هل خلق اللّه بشراً أفضل منّي ؟ فعلم اللّه (عزّوجلّ) ما وقع في نفسه فناداه إرفع رأسك يا آدم فانظر إلى ساق عرشي فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوباً «لا إله إلا اللّه محمّد رسول اللّه، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وزوجه فاطمة سيّدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة.

فقال آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ياربّ من هؤلاء ؟ فقال (عزّوجلّ) : من ذرّيتك وهم خير منك ومن جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنّة والنار ولا السماء والأرض، فإيّاك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأُخرجك عن جواري. فنظر إليهم بعين الحسد وتمنّى منزلتهم فتسلّط الشّيطان عليه حتّى أكل من الشجرة التي نهى عنها، وتسلّط على حوّاء لنظرها إلى فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) بعين الحسد حتّى أكلت من الشجرة كما أكل آدم، فأخرجهما اللّه (عزّوجلّ) عن

ص: 127

جنّته وأهبطهما عن جواره إلى الأرض» (1).

بكاء آدم

عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقي على الصفًا أربعين صباحاً ساجداً يبكي على الجنّة وعلى خروجه من جوار اللّه (عزّوجلّ) فنزل عليه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : يا آدم ما لك تبكي ؟ قال : ياجبرئيل ما لي لا أبكي وقد أخرجني اللّه من جواره وأهبطني إلى الدّنيا، قال: يا آدم تب إليه، قال: وكيف أتوب؟ فأنزل اللّه عليه قبّة من نور في موضع البيت فسطع نورها في جبال مكّة فهو الحرم، فأمر اللّه جبرئيل أن يضع عليه الأعلام، قال: قم يا آدم فخرج به يوم التروية وأمره أن يغتسل ويحرم، وأُخرج من الجنّة أوّل يوم من ذي القعدة فلمّا كان يوم الثامن من ذي الحجة أخرجه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى منى فبات بها، فلمّا أصبح أخرجه إلى عرفات، وقد كان علّمه حين أخرجه من مكّة الإحرام وأمره بالتّلبية، فلمّا زالت الشمس يوم العرفة قطع التلبية وأمره أن يغتسل فلمّا صلّى العصر وقفه بعرفات وعلّمه الكلمات».

توبة آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) والمشاعر الحرام

الكلمات الّتي تلقّى بها ربّه: «سبحانك اللّهم وبحمدك لا إله إلّا أنت عملت سوءًا وظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرّحيم سبحانك اللّهم وبحمدك لا إله إلّا أنت عملت سوءًا وظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنّك أنت خير الغافرين سبحانك اللّهم وبحمدك لا إله إلّا أنت عملت سوءًا وظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنك أنت التواب الرّحيم» فبقي إلى أن غابت الشمس رافعاً يديه إلى السماء يتضرّع ويبكي إلى اللّه، فلمّا غابت الشمس ردّه إلى المشعر فبات بها، فلمّا

ص: 128


1- البحار: ج 11 ص 164.

أصبح قام على المشعر الحرام فدعا اللّه تعالى بكلمات وتاب عليه، ثمّ أفضى إلى منى، وأمره جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يحلق الشعر الّذي عليه فحلقه، ثم ردّه إلى مكّة فأتى به عند الجمرة الأُولى فعرض إبليس له عندها فقال: يا آدم أين تريد ؟ فأمره جبرئيل أن يرميه بسبع حصيات وأن يكبّر مع كل حصاة تكبيرة ففعل، ثم ذهب فعرض له إبليس عند الجمرة الثانية فأمره أن يرميه بسبع حصيات فرمى وكبّر مع كلّ حصاة تكبيرة، ثم مضى به فعرض له إبليس عند الجمرة الثالثة وأمره أن يرميه بسبع حصيات فرمى وكبّر مع كلّ حصاة تكبيرة، فذهب إبليس

وقال له جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّك لن تراه بعد هذا أبداً»، فانطلق به إلى البيت الحرام وأمره أن يطوف به سبع مرّات ففعل، فقال له: «إنّ اللّه قد قبل توبتك وحلّت لك زوجتك»، فقال: فلمّا قضى آدم حجّه لقيته الملائكة بالأبطح فقالوا يا آدم برّ حجك، أما إنّا قد حججنا قبلك هذا البيت بألفي عام(1).

بدء نسل آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : جعلت فداك إنّ النّاس يزعمون أنّ آدم زوّج إبنته من إبنه، فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «قد قال الناس ذلك، ولكن يا سليمان أما علمت أن رسول اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : لو علمت أنّ آدم زوّج ابنته من ابنه لزّوجت زينب من القاسم وما كنت لأرغب عن دين آدم» ؟

فقلت : جعلت فداك إنّهم يزعمون أنّ قابيل إنّما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أُختهما، فقال له: «ياسليمان تقول هذا؟ أما تستحي أن تروي هذا على نبيّ اللّه آدم»؟ فقلت: جعلت فداك ففيم قتل قابيل هابيل ؟ فقال : «في الوصيّة».

ص: 129


1- البحار : ج 11 ص178.

ثمّ قال لي: «يا سليمان إنَّ اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصيّة واسم اللّه الأعظم إلى هابيل وكان قابيل أكبر منه، فبلغ ذلك قابيل فغضب، فقال: أنا أولى بالكرامة والوصيّة، فأمرهما أن يقرّبا قرباناً بوحي من اللّه إليه ففعلا، فقبل اللّه قربان هابیل فحسده قابیل فقتله».

فقلت له: جعلت فداك فممن تناسل ولد آدم؟ هل كانت أنثى غير حوّاء؟ وهل كان ذكر غير آدم؟ فقال: «يا سليمان إنّ اللّه تبارك وتعالى رزق آدم من حوّاء قابيل، وكان ذكر ولده من بعده هابيل فلمّا أدرك قابيل ما يدرك الرّجال أظهر اللّه له جنّية وأوحى إلى آدم أن يزوجها قابيل، ففعل ذلك آدم ورضي بها قابيل وقنع، فلمّا أدرك هابيل ما يدرك الرجال أظهر اللّه له حوراء، وأوحى اللّه إلى آدم أن يزوّجها من هابيل ففعل ذلك، فقتل هابيل والحوراء حامل، فولدت حوراء غلاماً فسماه آدم هبة اللّه.

فأوحى اللّه إلى آدم: أن ادفع إليه الوصيّة وإسم اللّه الأعظم، وولدت حوّاء غلاماً فسماه آدم شيث بن آدم فلمّا أدرك ما يدرك الرجال أهبط اللّه له حوراء وأوحى اللّه إلى آدم أن يزوجها من شيث بن آدم ففعل، فولدت الحوراء جارية فسماها آدم حورة، فلمّا أدركت الجارية زوّج آدم حورة بنت شيث من هبة اللّه بن هابيل فنسل آدم منهما، فمات هبة اللّه بن هابيل فأوحى اللّه إلى آدم أن إدفع الوصيّة وإسم اللّه الأعظم وما أظهرتك عليه من علم النبوّة وما علمتك من الأسماء إلى شيث بن آدم فهذا حديثهم يا سليمان»(1).

أول خليفة بعد آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ)

بالإسناد عن الصدّوق عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : لما علم آدم بقتل هابيل جزع عليه جزعاً شديداً، فشكا ذلك إلى اللّه تعالى، فأوحى اللّه تعالى إليه إنّي واهب لك ذكراً

ص: 130


1- البحار ج 11 ص 245.

يكون خلفاً من هابيل، فولدته حوّاء، فلمّا كان يوم السابع سمّاه آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) شيئاً، فأوحى اللّه تعالى إليه:

يا آدم إنّما هذا الغلام هبة منّي إليك فسمّه هبة اللّه فسماه آدم به، فلمّا جاء وفاة آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أوحى اللّه تعالى إليه : إنّي متوفّيك فأوص إلى خير ولدك وهو هبتي الّذي وهبته لك فأوص إليه وسلّم إليه ما علّمتك من الأسماء فإنّي أحبّ أن لا يخلو الأرض من عالم يعلم علمي ويقضي بحكمي أجعله حجّةً لي على خلقي، فجمع آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولده جميعاً من الرّجال والنساء ثم قال لهم:

ياولدي إنّ اللّه تعالى أوحى إلي إنّي متوفّيك وأمرني أن أُوصي إلى خير ولدي وإنّه هبة اللّه، وإنّ اللّه إختاره لي ولكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا أمره فإنّه وصيّي وخليفتي عليكم، فقالوا جميعاً: نسمع له ونطيع أمره ولا نخالفه. قال: وأمر آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بتابوت ثمّ جعل فيه علمه والأسماء والوصيّة ثمّ دفعه إلى هبة اللّه فقال له: أُنظر إذا أنا متّ ياهبة اللّه فاغسلني وكفّني وصلّ عليّ وأدخلني حفرتي، وإذا حضرت وفاتك وأحسست بذلك من نفسك فالتمس خير ولدك وأكثرهم لك صحبة وأفضلهم فأوص إليه بما أوصيت به إليك ولا تدع الأرض بغير عالم منّا أهل البيت.

يابني إنّ اللّه تعالى أهبطني إلى الأرض وجعلني خليفةً فيها وحجّةً له على خلقه، وجعلتك حجّة اللّه في أرضه من بعدي فلا تخرجنَّ من الدّنيا حتّى تجعل اللّه حجّة على خلقه ووصيّاً من بعدك وسلّم إليه التابوت وما فيه كما سلّمت إليك، وأعلمه أنّه سيكون من ذريتي رجلٌ نبيٌّ إسمه نوح يكون في نبوّته الطوفان والغرق فأوص وصيّك أن يحتفظ بالتابوت وبما فيه فإذا حضرته وفاته فمُره أن يوصي إلى خير ولده، وليضع كلّ وصيّ وصيّته في التابوت وليوص بذلك بعضهم إلى بعض فمن أدرك منهم نبوّة نوح فليركب معه وليحمل التابوت وما فيه إلى فلكه ولا يتخلّف عنه واحد واحذر ياهبة اللّه وأنتم

ص: 131

ياولدي الملعون قابيل.

فلمّا كان اليوم الّذي أخبره اللّه أنه متوفيه تهيّأ آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) للموت وأذعن به فهبط ملك الموت فقال :آدم أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له وأشهد أنّي عبداللّه وخليفته في أرضه ابتدأني بإحسانه وأسجد لي ملائكته وعلّمني الأسماء كلّها ثم أسكنني جنّته، ولم يكن جعلها لي دار قرار ولا منزل استيطان وإنّما خلقني لأسكن الأرض للّذي أراد من التقدير والتدبير. وقد كان نزل جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) بكفن آدم من الجنّة والحنوط والمسحاة معه.

قال: ونزل مع جبرئيل سبعون ألف ملك ليحضروا جنازة آدم، فغسله هبة اللّه وجبرئيل وكفّنه وحنّطه، ثم قال جبرئيل لهبة اللّه : تقدّم فصلّ على أبيك وكبر عليه خمساً وسبعين تكبيرة، فحفرت الملائكة ثمّ أدخلوه حفرته، فقام هبة اللّه في ولد أبيه بطاعة اللّه تعالى فلمّا حضرته وفاته أوصى إلى ابنه قينان وسلّم إليه التابوت، فقام قينان في أخوته وولد أبيه بطاعة اللّه تعالى وتقدّس، فلمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يرد، وسلّم إليه التابوت وجميع ما فيه وتقدّم إليه في نبوّة نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا حضرت وفاة يرد أوصى إلى ابنه أُخنوخ وهو إدريس وسلّم إليه التابوت وجميع ما فيه والوصية، فقام أخنوخ به فلمّا قرب أجله أوحى اللّه تعالى إليه إنّي رافعك إلى السماء فأوص إلى ابنك خرقاسيل ففعل، فقام خرقاسيل بوصيّة أخنوخ، فلمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) وسلّم إليه التابوت فلم يزل التابوت عند نوح حتّى حمله معه في سفينته فلمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه سام وسلّم إليه التابوت وجمع ما فيه»(1).

قصة نبي اللّه إدريس (عَلَيهِ السَّلَامُ)

أبي وابن الوليد وابن المتوكّل جميعاً، عن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن أبي

ص: 132


1- البحار: ج 11 ص 264.

جعفر محمّد بن علي الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان بدء نبوّة إدريس أنه كان في زمانه ملك جبّار (1) وإنّه ركب ذات يوم في بعض نزهه فمرّ بأرض خضرة نضرة لعبد مؤمن من الرافضة(2) فأعجبته فسأل وزراءه لمن هذه الأرض؟ قالوا: لعبد من عبيد الملك فلان الرافضي، فدعا به فقال له: أُمتعني بأرضك هذه، فقال له عيالي أحوج إليها منك، قال: فسمني بها أثمن لك قال لا أمتعك ولا أسومك، دع عنك ذكرها، فغضب الملك عند ذلك وأسف وانصرف إلى أهله وهو مغموم مفكّر في أمره، وكانت له إمرأة من الأزارقة (3) وكان بها معجباً يشاورها في الأمر إذا نزل به، فلمّا استقر في مجلسه بعث إليها ليشاورها في أمر صاحب الأرض، فخرجت إليه فرأت في وجهه الغضب فقالت له: أيّها الملك ما الّذي دهاك (4) حتّى بدا الغضب في وجهك قبل فعلك، فأخبرها بخبر الأرض وما كان من قوله لصاحبها ومن قول صاحبها له، فقالت: أيّها الملك إنّما يغتم ويأسف من لا يقدر على التغيير والانتقام وإن كنت تكره أن تقتله بغير حجّة فأنا أكفيك أمره وأصيّر أرضه بيدك بحجّة لك فيها العذر عند أهل مملكتك قال: وما هي؟

قالت ابعث إليه أقواماً من أصحابي أزارقة حتّى يأتوك به فيشهدوا عليه عندك إنّه قد برئ من دينك، فيجوز لك قتله وأخذ أرضه، قال: فافعلي ذلك، قال: فكان لها أصحاب من الأزارقة على دينها يرون قتل الرافضة من المؤمنين، فبعثت إلى قوم منهم فأتوهم، فأمرتهم أن يشهدوا على فلان الرافضي عند الملك أنه قد برئ من دين فشهدوا عليه أنّه قد برئ من دين الملك، فقتله واستخلص أرضه، فغضب اللّه للمؤمن عند ذلك.

ص: 133


1- كان اسمه (بیوراسب».
2- أي من الّذين رفضوا الشرك والمعاصي وتركوا مذهب السلطان.
3- اي كانت بصفة الازارقة، والازارقة فرقة من الخوارج.
4- الداهية: الأمر العظيم.

فأوحى اللّه إلى إدريس (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن انت عبدي هذا الجبّار فقل له: أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلماً حتّى استخلصت أرضه خالصةً لك فأحوجت عياله من بعده وأجعتهم ؟ أما وعزّتي لأنتقمنّ له منك في الآجل ولأسلبنَّك ملكك في العاجل ولأخربن مدينتك ولأذلّنّ عزّك ولأطعمنَّ الكلاب لحم إمرأتك فقد غرّك يا مبتلي حلمي عنك.

فأتاه إدريس (عَلَيهِ السَّلَامُ) برسالة ربّه وهو في مجلسه وحوله أصحابه فقال: أيها الجبار إنّي رسول اللّه إليكم وهو يقول لك: أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن حتّى استخلصت أرضه خالصة لك وأحوجت عياله من بعده وأجعتهم؟ أما وعزّتي لأنتقمن له منك في الآجل، ولأسلبنّك ملكك في الآجل، ولأسلبنّك ملكك في العاجل، ولأخربنَّ مدينتك، ولأذلّنّ عزّك، ولأطعمن الكلاب لحم إمرأتك.

فقال الجبّار : أُخرج عني يا إدريس فلن تسبقني بنفسك، ثم أرسل إلى امرأته بما جاء به إدريس فقالت : لا يهولنّك رسالة إله إدريس أنا أرسل إليه من يقتله فتبطل رسالة إلهه وكلّ ما جاءك به، قال : فافعلي.

وكان لإدريس أصحاب من الرّافضة مؤمنون يجتمعون إليه في مجلس فيأنسون به ويأنس بهم، فأخبرهم إدريس بما كان من وحي اللّه (عزّوجلّ) إليه ورسالته إلى الجبار وما كان من تبليغ رسالة اللّه إلى الجبّار فأشفقوا على إدريس وأصحابه وخافوا عليه القتل، وبعثت امرأة الجبّار إلى إدريس أربعين رجلا من الأزارقة ليقتلوه، فأتوه في مجلسه الّذي كان يجتمع إليه فيه أصحابه فلم يجدوه فانصرفوا وقد رآهم أصحاب إدريس فحسّوا أنهم أتوا إدريس ليقتلوه فتفرقوا في طلبه فلقوهُ، فقالوا له خُذ حذرك يا إدريس فإنّ الجبّار،قاتلك، قد بعث اليوم أربعين رجلا من الأزارقة ليقتلوك فاخرج من هذه القرية.

فتنحّى إدريس عن القرية من يومه ذلك ومعه نفر من أصحابه، فلمّا كان في السّحر

ص: 134

ناجى إدريس ربّه فقال : ياربّ بعثتني إلى الجبّار فبلّغت رسالتك وقد توعّدني هذا الجبّار بالقتل بل هو قاتلي إن ظفر بي، فأوحى اللّه إليه أن تنحّ عنه وأخرج من قريته وخلّني وإياه فوعزّتي لأنفذَّن فيه أمري ولأصدّقنّ قولك فيه وما أرسلتك به إليه.

فقال إدريس: ياربّ إنّ لي حاجة قال اللّه : سلها تعطها قال: أسألك أن لا تمطر السماء على أهل هذه القرية وما حولها وما حوت عليه حتّى أسألك ذلك، قال اللّه (عزّوجلّ) : ياإدريس إذا تخرّب القرية ويشتد جهد أهلها ويجوعون، فقال إدريس: وإن خربت وجهدوا وجاعوا، قال اللّه: فإنّي قد أعطيتك ما سألت ولن أمطر السماء عليهم حتّى تسألني ذلك وأنا أحقّ من وفى بعهده.

فأخبر إدريس أصحابه بما سأل اللّه (عزّوجلّ) من حبس المطر عنهم وبما أوحى اللّه إليه ووعده أن لا يمطر السّماء عليهم حتّى أسأله ذلك، فأخرجوا أيّها المؤمنون من هذه القرية إلى غيرها من القرى، فخرجوا منها وعدتهم يومئذ عشرون رجلا فتفرقوا في القرى وشاع خبر إدريس في القرى بما سأل اللّه تعالى وتنحى إدريس إلى كهف في الجبل شاهق فلجأ إليه ووكّل اللّه (عزّوجلّ) به ملكاً يأتيه بطعامه عند كل مساء وكان يصوم النّهار فيأتيه الملك بطعامه عند كلّ مساء، وسلب اللّه (عزّوجلّ) عند ذلك ملك الجبّار وقتله وأخرب مدينته وأطعم الكلاب لحم إمرأته غضباً للمؤمن وظهر في المدينة جبّار آخر عاص.

فمكثوا بذلك بعد خروج إدريس من القرية عشرين سنة لم تمطر السماء قطرة من مائها عليهم فجهد القوم واشتدّت حالهم وصاروا يمتارون الأطعمة (1) من القرى من بعد، فلمّا جهدوا مشى بعضهم إلى بعض فقالوا : إنّ الّذي نزل بنا مما ترون بسؤال إدريس ربّه أن لا يمطر السماء علينا حتّى يسأله هو وقد خفي إدريس عنا ولا علم لنا بموضعه واللّه أرحم بنا منه فأجمع أمرهم أن يتوبوا إلى اللّه ويدعوه ويفزعوا إليه ويسألوه أن

ص: 135


1- أي يجمعون الأطعمة.

يمطر السّماء عليهم وعلى ما حوت قريتهم، فقاموا على الرماد ولبسوا المسوح وحثوا على رؤسهم التّراب (1) ورجعوا إلى اللّه بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرّع إليه.

وأوحى اللّه (عزّوجلّ) إليه : يا إدريس أهل قريتك قد عجّوا إليّ بالتوبة والاستغفار والبكاء والتضرَّع وأنا اللّه الرحمن الرحيم أقبل التوبة وأعفو عن السّيئة وقد رحمتهم ولم يمنعني إجابتهم إلى ما سألوني من المطر إلّا مناظرتك فيما سألتني أن لا أمطر السماء عليهم حتّى تسألني فاسألني يا إدريس حتّى أغيثهم وأمطر السّماء عليهم.

قال إدريس : اللّهم إنّي لا أسألك ذلك، قال اللّه (عزّوجلّ) : ألم تسألني يا إدريس فسلني، قال إدريس : اللّهم إنّي لا أسألك.

فأوحى اللّه (عزّوجلّ) إلى الملك الّذي أمره أن يأتي إدريس بطعامه كلّ مساء أن احبس عن إدريس طعامه ولا تأته به، فلمّا أمسى إدريس في ليلة ذلك اليوم فلم يؤت بطعامه حزن وجاع،فصبر، فلمّا كان في اليوم الثاني فلم يؤت بطعامه اشتد حزنه وجوعه، فلمّا كانت الليلة من اليوم الثالث فلم يؤت بطعامه اشتد جهده وجوعه وحزنه وقلّ صبره فنادى ربه : ياربّ حبست عنّي رزقي من قبل أن تقبض روحي ؟

فأوحى اللّه (عزّوجلّ) إليه : يا إدريس جزعت أن حبست عنك طعامك ثلاثة أيّام ولياليها ولم تجزع ولم تنكر جوع أهل قريتك وجهدهم منذ عشرين سنة ؟ ثم سألتك عن جهدهم ورحمتي إيّاهم أن تسألني أن أمطر السماء عليهم فلم تسألني وبخلت عليهم بمسألتك إياي فأذقتك الجوع فقلّ عند ذلك صبرك وظهر جزعك، فاهبط من موضعك فاطلب المعاش لنفسك فقد وكلتك في طلبه إلى حيلك.

فهبط إدريس من موضعه إلى غيره يطلب أكلة من جوع فلمّا دخل القرية نظر إلى

ص: 136


1- حثا التراب: صبّه.

دخان في بعض منازلها فأقبل نحوه فهجم على عجوز كبيرة وهي ترقّق قرصتين لها على مقلاة (1) فقال لها : أيتها المرأة أطعميني فإني مجهود من الجوع.

فقالت له: يا عبد اللّه ما تركت لنا دعوة إدريس فضلا نطعمه أحداً وحلفت أنها ما تملك شيئاً غيره فاطلب المعاش من غير أهل هذه القرية، قال لها: أطعميني ما أُمسك به روحي وتحملني به رجلي إلى أن أطلب.

قالت: إنّهما قرصتان واحدة لي والأُخرى لابني فإن أطعمتك قوتي متُّ وإن أطعمتك قوت ابني مات وما هنا فضل أطعمكاه، فقال لها: إنّ ابنك صغير يجزيه نصف قرصة فيحيى بها ويجزيني النصف الآخر فأحيى به وفي ذلك بلغة لي وله.

فأكلت المرأة قرصها وكسرت القرص الآخر بين إدريس وبين ابنها، فلمّا رأى إبنها إدريس يأكل من قرصه اضطرب حتّى مات قالت أُمّه ياعبداللّه قتلت علي ابني جزعاً على قوته؟

قال إدريس : فأنا أحييه بإذن اللّه تعالى فلا تجزعي، ثم أخذ إدريس بعضدي الصبيّ ثم قال: أيتها الروح الخارجة من بدن هذا الغلام بإذن اللّه إرجعي إلى بدنه بإذن اللّه وأنا إدريس النبي، فرجعت روح الغلام إليه بإذن اللّه فلمّا سمعت المرأة كلام إدريس وقوله: أنا إدريس ونظرت إلى ابنها قد عاش بعد الموت قالت: أشهد أنك إدريس النبي وخرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية : ابشروا بالفرج فقد دخل إدريس قريتكم ومضى إدريس حتّى جلس على موضع مدينة الجبّار الأوّل وهي على تلّ فاجتمع إليه أناس من أهل قريته فقالوا له: يا إدريس أما رحمتنا في هذه العشرين سنة التي جهدنا فيها ومتنا الجوع والجهد فيها ؟ فادع اللّه لنا أن يمطر السماء علينا.

ص: 137


1- المقلاة: وعاء يقلى فيه الطعام.

قال: لا، حتّى يأتيني جبّاركم هذا وجميع أهل قريتكم مشاة حفاة فيسألوني ذلك، فبلغ الجبار قوله فبعث إليه أربعين رجلا يأتوه بإدريس فأتوه فقالوا له: إنّ الجبّار بعث إليك، لتذهب إليه، فدعا عليهم فماتوا، فبلغ الجبار ذلك فبعث إليه خمسمائة رجل ليأتوه به، فقالوا له : يا إدريس إنّ الجبار بعثنا إليك لنذهب بك إليه، فقال لهم إدريس: أُنظروا إلى مصارع أصحابكم فقالوا له: يا إدريس قتلتنا بالجوع منذ عشرين سنة ثم تريد أن تدعوا علينا بالموت أما لك رحمة؟ فقال: ما أنا بذاهب إليه، ولا أنا بسائل اللّه أن يمطر السماء عليكم حتّى يأتيني جبّاركم ماشياً حافياً وأهل قريتكم، فانطلقوا إلى الجبّار فأخبروه بقول إدريس واسألوه أن يمضي معهم وجميع أهل قريتهم إلى إدريس حفاة مشاة، فأتوه حتّى وقفوا بين يديه خاضعين له طالبين إليه أن يسأل اللّه لهم أن يمطر السماء عليهم فقال لهم :إدريس أما الآن فنعم، فسأل اللّه تعالى إدريس عند ذلك أن يمطر السماء عليهم وعلى قريتهم ونواحيها، فأظلّتهم سحابة من السماء وأرعدت وأبرقت وهطلت (1) عليهم من ساعتهم حتّى ظنوا أنّها الغرق فلمّا رجعوا إلى منازلهم حتّى أهمتهم أنفسهم من الماء(2).

ونستفيد من هذه القصة عدة أمور منها:

1. ظلم الملوك والجبابرة وفتكهم برعاياهم.

2 اظهار حيل النساء ومكرهن.

3. استجابة الدعاء من أدريس النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

4. الإحساس بآلام المستضعفين، والرحمة الإلهية.

ص: 138


1- هطل المطر : نزل متتابعاً متفرقاً عظيم القطر.
2- البحار: ج 11 ص 271.

5. التمسك بالقول والعمل به.

6. احياء الاموات وأخذ الشهادة منهم باذن اللّه.

7. اذلال الجبابرة والمتكبرين باذن اللّه تعالى.

قصة نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبناء السفينة

قال اللّه تعالى: «فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ أَصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَأَسْلُكَ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ»(1).

وردت قصة نوح النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في القرآن الكريم وفي سور متعددة وآيات متعددة من اليوم الأول الّذي بعثه اللّه تعالى نبياً إلى قومه، وإلى أن توفاه اللّه.

واجه نوح النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) الكثير من الآلام والمحن والاستهزاء والسخرية من قومه واستمرت مئات السنوات، ولم يؤمن به أحد سوى جماعة قليلة، قليلة من حيث العدد ولكنها كثيرة وقوية من حيث العقيدة والايمان والاستقامة.

وبعد أن مكث نوح النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قومه مئات السنين في سبيل هدايتهم وانقاذهم من براثن الشرك والكفر، وهدايتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، ولكن مع الأسف لم يهتدوا ولم يؤمنوا به الّا مجموعة صغيرة، وكان كل من يمرّ به يستهزء به ويؤذيه، عند ذلك وبعد أن يأس من هدايتهم توجه إلى اللّه تعالى ودعاه ليعينه على قومه، «قَالَ رَبِّ أَنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ»(2)، بعد ذلك نزل الوحي الإلهي، من أجل انقاذ نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) واصحابه القلّة وهلاك المشركين المعاندين حيث أمرُه اللّه أن يصنع السفينة لتكن ملجأً لنجاة المؤمنين

ص: 139


1- المؤمنون: 27.
2- المؤمنون: 26.

الّذين آمنوا به، قال تعالى: «فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَن أَصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا»(1) اي يا نوح إصنع السفينة في هذه الصحراء اليابسة التي لا يوجد فيها ماء ولا زرع، وسوف تكون تحت حمايتنا وأعيننا فاعمل باطمئنان وراحة بال ولا تخف من أيّ شيء.

وعبارة «وحينا» تكشف لنا أن نوحاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) تعلم صنع السفينة بالو. الهي، حيث لم توجد أي سفينة قبل هذا ولم يصنعها أحد قبل نوح.

وعندما أخذ نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) يصنع السفينة كان قومه يمرون عليه ويسخرون منه ويستهزئون به ويقولون: یا نوح، يبدو أن دعوى النبوة لم تنفع وصرت نجاراً آخر الأمر.

ومنهم من يقول: حسناً تُصنع السفينة، فينبغي أن تصنع لها بحراً، أرأيت إنساناً عاقلا يصنع السفينة على اليابسة.

ومنهم من يقول: واهاً لهذه السفينة العظيمة، كان بإمكانك أن تصنع أصغر منها حتى تتمكن من سحبها إلى البحر.

كانوا يقولون مثل هذا وغيره ويقهقهون عالياً، وكانوا يجتمعون عليه ويتفرجون على عمله.....

ولكن نوحاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يواصل عمله بجدية فائقة واستقامة غير محدودة، لأنه كان مؤمناً بعمله وواثقاً بربه أنه سينقذه من هؤلاء الجهلة الفسقة، الّذين عميت قلوبهم، وكان احياناً يرفع رأسه وينظر إليهم ويقول لقومه الّذين يسخرون منه: «قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ»(2) اي سوف نسخر منكم في ذلك اليوم الّذي يأتي فيه الطوفان بأمر من اللّه وأنتم لا تعرفون ما تصنعون، ولا ملجأ اليكم وسوف

ص: 140


1- المؤمنون: 27.
2- هود: 38.

تغرقون جميعاً ويسخر منكم المؤمنين ويضحكون عليكم.

«فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ» (1) تُشير هذه الآية المباركة إلى إنه بالرغم من مضايقات الناس لنوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو للمؤمنين، والآلام الكثيرة التي تصيبهم، كل هذا سوف يزول ويذهب، وسوف يفتخر المؤمن ويبقى مرفوع الرأس في تحمل هذه الشدائد، وكذلك مهما يكن ذلك سوف ينتهي ويزول.

أما عذاب الكافرين والمنافقين والمنحرفين سوف يبقى دائماً ويعذب صاحبه على ما ارتكب من خلاف....

السفينة

لا شكّ أن سفينة نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم تكن سفينة عادية ولم تنتهِ بسهولة مع وسائل ذلك الزمان وآلاته القديمة والضعيفة، إذ كانت سفينة نوح كبيرة تحمل بالإضافة إلى المؤمنين الصادقين زوجين اثنين من كل نوع من الحيوانات، وتحمل متاعاً وطعاماً كثيراً ليعيش منه الحيوانات والمؤمنون في السفينة حال الطوفان.

فإن مثل هذا الاستيعاب يعني أنه كان يوماً لم يسبق له مثيل، وهذه السفينة ستجري في البحر بسعة العالم، وينبغي أن تمرّ سالمةً عبر أمواج كالجبال فلا تتحطم بها.

وروي أن طول السفينة، كان الفاً ومئتي ذراع، وعرضها كان ستمائة ذراع كل ذراع يعادل نصف متر مربع تقريباً.

وقد ابتليت النساء بالعقم وعدم الإنجاب اربعين عاماً حتّى يكبر الأطفال، ولا يبقى طفل يتضرر بالطوفان ويغرق وكل من يبقى من الرجال والنساء على الأرض كبار ومكلفين ومتمكنين من معرفة الاحكام الشرعية والإلهية، وفي نفس الوقت يكون

ص: 141


1- هود: 39.

عدم الانجاب مقدمة لعذابهم وعقابهم أيضاً.

وبعد أن أكمل نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) بناء السفينة واقترب موعد نزول العذاب، أخذ يعد القلّة من المؤمنين الّذين آمنوا به وبرسالته ويهيّئهم لركوب السفينة، وكان ينتظر أمر اللّه تعالى «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا أحْمِلْ فِيهَا مِن كُل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ»(1).

كانت العلامة بين نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) وربه لحلول الطوفان أن يفور التنور، ليلتفت نوح وأصحابه إلى ذلك ويركبوا السفينة مع وسائلهم واسبابهم.

واختلف المفسّرون في معنى التنور وكيفيّة فورانه، والمهم فيه هو أن الماء أخذ يفور من تحت الأرض ويرتفع شيئاً فشيئاً، وبما ان التنور بمعناه الحقيقي يوضع عادةً في مكان يابس ومحلا للنار، فأول ما ظهر الماء ظهر من التنور، حيث انتبه إليه الجميع ورأوا فوران التنور في بيوتهم، علم نوح وأصحابه القلّة من المؤمنين باقتراب العذاب وأخذوا يركبون السفينة.

ولكن بقية الناس، غضوا أجفانهم وصمّوا آذانهم كعادتهم، حتّى أنهم لم يسمحوا لأنفسهم بالتفكير في هذا الأمر، حيث استحوذ عليهم الشيطان وانساهم ذكر اللّه، وكانت نهايتهم الغرق والعذاب الشديد بما کسبت ایدیهم...

كم كان عدد الّذين آمنوا بنوح والّذين ركبوا معه في السفينة؟ يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ»(2) والقليل هنا كما ورد عن الروايات القائلة أنه استجاب لنوح خلال هذه الفترة الطويلة ثمانون شخصاً فقط، وروي غير ذلك....

ويدل هذا على ما كان عليه هذا النبي العظيم نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الصبر والاستقامة

ص: 142


1- هود: 40.
2- هود: 40.

والتحمل، في درجة قصوى، بحيث لو قسمنا المدة التي بلّغ بها نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) على الّذين آمنوا خلال هذه المدة نرى في كل عشر سنوات يؤمن به شخص واحد....

جمع نوح ذويه وأصحابه المؤمنين بسرعة، وادخلهم السفينة وقال لهم: اركبوا فيها وتوكَّلوا على اللّه... «وَقَالَ أرْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللّه مَجْراهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ» (1). وذلك لكي يعلّهم أنه ينبغي أن تكونوا دائماً وفي جميع الحالات في ذكر اللّه تعالى وتستمدوا العون من اسمه وذكره.

وأخيراً كانت اللّحظة الحاسمة، ودقت ساعة الصفر، إذ صدر الأمر الإلهي، فتلبدت السماء بالغيوم التي كانت كأنها قطع الليل المظلم، وتتابعت أصوات الرعد وومضات البرق في السماء كلها، شرع المطر من السماء وتفجرت الأرض عيوناً، واتصلت مياه السماء بمياه الأرض، فلم يبقَ جبل ولا وادٍ ولا تلعة إلاّغرق وأصبح تحت الماء....

وفي هذا الأثناء التفت نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى ابنه كنعان واقفاً في معزل خاف عليه من الغرق، ناداه أن اركب معنا يا ولدي ولا تكن مع الكافرين فيصيبك ما يصيبهم من الغرق والهلاك، ولكن الولد اللجوج العاصي لربه ولأبيه لم يوافق وقال : «قَالَ سَئاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ» ظنّاً منه حسب فكره القصير أنه ينجو من غضب اللّه، فأجابه والده نوح ناصحاً له آخر مرة قائلا: «قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّه إِلَّا مَن رَّحِم وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ»(2).

وأصبح ابن نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) عبرة لمن اعتبر، فاعتبروا يا أولي الأبصار، ولا تفوتكم الفرص.

ص: 143


1- هود: 41.
2- هود: 40 43.

دروس تربوية في قصة نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ)

نستفيد من قصة نوح كثيراً من الدروس التربوية والعبر، نشير إلى قسم منها باختصار وهي:

1. تطهير الأرض، إن اللّه تبارك وتعالى رحيم ودود، وحكيم، ومن حكمته أن يطهر الأرض من كل فاسق وفاجر وكافر حتّى يسود العالم الأمان والراحة والاستقرار الاجتماعي.

2. لماذا كان عقاب قوم نوح بالطوفان؟

نستفيد من الآيات القرآنية ومن الأحاديث والروايات إن هناك تناسباً بين الذنوب وعقاب اللّه، هذا التناسب كان من قبل ولا يزال قائماً.

فلاحظوا بدقة أنه:

كان فرعون يرى قدرته وعظمته تتجلى في نهر النيل، لما فيه من بركات وخيرات كثيرة، لكن الطريف إن هلاك فرعون ونهايته كانت في النيل.

وكان نمرود يعتمد على جيشه العظيم، وانهزم هو وجيشه مقابل جيش ضعيف من الحشرات...

وكان قوم نوح أهل زراعة وأنعام، وكانوا يعتمدون على المطر في كل خيراتهم، وكانت نهايتهم بالمطر ايضاً.

ومن هنا يتضح جلياً كم هو حساب اللّه وعذابه في غاية الدقة يباد الطغاة في اسلحتهم الحديثة المتطورة في كل زمان ومكان.

وفي عصرنا هذا نرى كيف اعتمد الغرب على اسلحته المتطورة في استعمّار الشعوب

ص: 144

واستثمار خيراتهم أبيدوا في الحرب العالمية الأولى والثانية وسوف يبيدوا بأسلحتهم الحديثة المتطورة أيضاً...

3. وكذلك نستفيد من قصة نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه على الانسان أن لا ينسى ذكر اللّه تبارك وتعالى في كل مكان وعلى أي حال من الأحوال، وينبغي أن يستمد العون من ذاته القدسية في كل حركة وتوقف، لأن كل عمل بدون ذكر اسم اللّه فهو أبتر ومقطوع.

وذلك عندما أمر نوح أصحابه أن يركبوا في السفينة قال لهم: «وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللّه مَجرِنَهَا وَمُرْسَاهَا».

4. الملاجئ الجوفاء الخاوية:

من الطبيعي أن كل واحد في حياته يلتجئ إلى أمر ما، فجماعة يلتجئون إلى الثروة والمال، وجماعة إلى المقام والمنصب، وآخرون يلجأون إلى القدرة الجسمية، وآخرون إلى أفكارهم وعلومهم... ولكن كما أثبته لنا التأريخ والآيات الكريمة في القرآن وقصصه، لا أحد من هؤلاء يستطيع أن يقاوم أقل مقاومة أمام أمر اللّه وقدرته، حيث يكون مَثلُهُ أمام أمر اللّه كمثل بيت العنبكوت إذ يتهاوى أمام هبوب الرياح الشديدة.

ومثال ذلك، ابن نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) لغفلته وغروره بقدرته وشجاعته سيصعد الجبل ويحتمي به من غضب اللّه، تهاون أمام قدرة اللّه.

وإذا أردت أن تهرب من اللّه عليك أن تلجأ إليه... «إني هارب منك إليك» (1).

5. سفينة النجاة:

لا يمكن الخلاص من أي طوفان وأي عذاب وأي حساب، دون الركوب في

ص: 145


1- جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي.

سفينة النجاة....

وليس شرطاً أن تكون سفينة النجاة من الخشب والحديد، بل يمكن أن تكون سفينة معنوية تهب الحياة الطيبة والطمأنينة للنفس، وتقاوم أمواج طوفان الانحراف الفكري والعقائدي، وتوصل أتباعها إلى ساحل النجاة، وهي سفينة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، حيث قال رسول اللّه : «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق» أو «من تخلف عنها هلك» (1).

وهكذا تكون عاقبة الصبر والاستقامة والتحمل عند مواجهة المشاكل.

وهكذا تكون عاقبة الّذين اساءوا السوء وكفروا باللّه وطغوا. وتكبروا.... «فأصْير إِنَّ الْعَقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ».

قصّة شدّاد وإرم ذات العماد

عن منصور عن أبي وائل قال: إنّ رجلا يقال له عبداللّه بن قلّابة خرج في طلب إبل له قد شردت فبينا هو في صحاري عدن في تلك الفلوات إذ هو قد وقع على مدينة عليها حصن، حول ذلك الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال فلمّا دنا منها ظنّ أنّ فيها من يسأله عن إبله، فلم ير داخلا ولا خارجاً، فنزل عن ناقته وعقلها وسلّ سيفه ودخل من باب الحصن.

فإذا هو ببابين عظيمين لم ير في الدنيا أعظم منهما ولا أطول، وإذا خشبها من أطيب عود وعليها نجومٌ من ياقوت أصفر وياقوت أحمر ضوؤها قد ملأ المكان، فلمّا رأى ذلك أعجبه، ففتح أحد البابين ودخل، فإذا هو بمدينة لم ير الراؤون مثلها قط، وإذا هو بقصور كلّ قصر منها معلّق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت، وفوق كلّ قصر منها

ص: 146


1- معجم الكبير للطبراني : ص 30، وابن المغازلي والخوارزمي : إحقاق الحق ج 9 ص 280.

غرف، وفوق الغرف غرف مبنية بالذّهب والفضّة واللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعلى كلّ باب من أبواب تلك القصور مصاريع مثل مصاريع باب المدينة من عود طيب قد نضدت عليه اليواقيت وقد فرشت تلك القصور باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران، فلمّا رأى ذلك ولم ير هناك أحداً أفزعه ذلك، ونظر إلى الأزّقة وإذا في كلّ زقاق منها أشجار قد أثمرت تحتها أنهار تجري.

فقال: هذه الجنّة التي وصف اللّه (عزّوجلّ) لعباده في الدنيا، فالحمد للّه الّذي أدخلني الجنّة، فحمل من لؤلؤها وبنادقها بنادق المسك والزعفران ولم يستطع أن يقلع من زبر جدها ولا من ياقوتها لأنّه كان مثبتاً في أبوابها وجدرانها، وكان اللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران بمنزلة الرمل في تلك القصور والغرف كلّها، فأخذ منها ما أراد وخرج حتّى أتى ناقته وركبها.

ثم سار يقفو أثره حتّى رجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وأعلم الناس أمره، وباع بعض ذلك اللؤلؤ، وكان قد اصفرّ وتغيّر من طول ما مرّ عليه من الليالي والأيام، فشاع خبره وبلغ معاوية بن أبي سفيان فأرسل رسولا إلى صاحب صنعاء وكتب بإشخاصه، فشخص حتّى قدم على معاوية فخلا به وسأله عمّا عاين فقص عليه أمر المدينة وما رأى فيها وعرض عليه ما حمله منها من اللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران فقال : واللّه ما أعطى سليمان بن داود مثل هذه المدينة.

فبعث معاوية إلى كعب الأحبار فدعاه فقال له: يا أبا إسحاق هل بلغك أنّ في الدنيا مدينة مبنيّة بالذهب والفضّة وعمدها زبرجد ویاقوت و حصی قصورها وغرفها اللؤلؤ وأنهارها في الأزقة تجري تحت الأشجار ؟ قال كعب أمّا هذه المدينة صاحبها شداد بن عاد الّذي بناها، وأما المدينة فهي إرم ذات العماد، وهي التي وصفها اللّه (عزّوجلّ) في كتابه المنزل على نبيه محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وذكر أنّه لم يخلق مثلها في البلاد، قال معاوية : حدّثنا بحديثها.

ص: 147

فقال: إنّ عاد الأُولى وليس بعاد قوم هود كان له ابنان سمّى أحدهما شديداً والآخر شدّاداً، فهلك عاد وبقيا وملكا وتجبّرا وأطاعهما النّاس في الشرق والغرب، فمات شديد وبقي شدّاد، فملك وحده لم ينازعه أحد وكان مولعاً بقراءة الكتب وكان كلّما سمعبذكر الجنّة وما فيها من البنيان والياقوت والزبرجد واللؤلؤ رغب أن يفعل مثل ذلك في الدنيا عتوّاً على اللّه (عزّوجلّ)، فجعل على صنعتها مائة رجل تحت كلّ واحد منهم ألف من الأعوان، فقال: انطلقوا إلى أطيب فلاة في الأرض وأوسعها فاعملوا لي فيها مدينة من ذهب وفضّة وياقوت وزبرجد ولؤلؤ، واصنعوا تحت تلك المدينة أعمدة من زبرجد وعلى المدينة قصوراً وعلى القصور غرفاً وفوق الغرف غرفاً واغرسوا تحت القصور في أزقتها أصناف الثمار كلّها، وأجروا فيها الأنهار حتّى تكون تحت أشجارها، فإنّي أرى في الكتاب صفة الجنّة وأنا أحبّ أن أجعل مثلها في الدنيا، قالوا له: كيف نقدر على ما وصفت لنا من الجواهر والذهب والفضّة حتّى يمكننا أن نبني مدينة كما وصفت؟

قال شدّاد : ألا تعلمون أنّ ملك الدنيا بيدي؟ قالوا: بلى، قال: فانطلقوا إلى كلّ معدن من معادن الجواهر والذهب والفضّة فوكلوا بها حتّى تجمعوا ما تحتاجون إليه وخذوا جميع ما تجدونه في أيدي الناس من الذهب والفضة، فكتبوا إلى كلّ ملك في الشرق والغرب فجعلوا يجمعون أنواع الجواهر عشر سنين فبنوا له هذه المدينة في مدة ثلاث مائة سنة، وعمّر شدّاد تسعمائة سنة، فلمّا أتوه وأخبروه بفراغهم منها، قال: فانطلقوا فاجعلوا عليها حصناً واجعلوا حول الحصن ألف قصر عند كلّ قصر ألف علم، يكون في كلّ قصر من تلك القصور وزير من وزرائي فرجعوا وعملوا ذلك كلّه ثم أتوه فأخبروه بالفراغ منها كما أمرهم، فأمر الناس بالتجهيز إلى إرم ذات العماد فأقاموا في جهازهم إليها عشر سنين.

ثم سار الملك يريد إرم فلمّا كان في المدينة على مسيرة يوم وليلة بعث اللّه (عزّوجلّ) عليه

ص: 148

وعلى جميع من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم فلم يدخل إرم هو ومن كان معه، فهذه صفة إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وإنّي لأجد في الكتب أنّ رجلا يدخلها ويرى ما فيها ثم يخرج فيحدث الناس بما يرى فلا يصدق وسيدخلها أهل الدين في آخر الزمان(1).

قصة النبي هود (عَلَيهِ السَّلَامُ)

قال تعالى: «وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَنقَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُم مِّنْ إِلَيْهِ غَيْرُهُ وإن أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ»(2).

جميع هؤلاء الانبياء كانوا ذوي هدف واحد ومنطق واحد، وجميعهم قاموا ونهضوا لإنقاذ البشرية من كل أنواع الأسر، وكانت دعوتهم إلى التوحيد بجميع ابعاده.

وكان شعار الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) جميعاً، الإيمان والإخلاص والجد والمثابرة، والاستقامة في سبيل اللّه، والصبر على الأذى في جنب اللّه.

وكان عكس ذلك يصدر من أقوامهم وعشيرتهم المخالفين لهم، الخشونة مقرونة بأنواع القهر والضغوط، والعصيان....

ومن هؤلاء الأنبياء كان هود النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ)،ومن قبله نوح النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

وكان أول دعوة هود هي دعوة الأنبياء جميعاً، وهي توحيد اللّه، ونفي الشرك عنه، حيث قال لقومه : «يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللّه مَا لَكُم مِّنْ إِلَيْهِ غَيْرُهُ».

وقال لهم: «يا قومي هذه الأصنام التي تعبدونها من دون اللّه لا تنفع ولا تضر، ولا هي منشأ الخير أو الشر، ولا يصدر منها أي عمل، ولا قيمة لها إطلاقاً.

ص: 149


1- البحار: ج 11 ص 367.
2- هود: 50.

وقال لهم ايضاً : يا قومي لا تتصوروا أن دعوتي لكم هي من أجل المادة، فأنا لا أريد منكم أي أجر.. «يَقَوْمِ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِى إِلَّا عَلَى الّذي فَطَرَنِي»(1).

فأنا وأنتم مدينون اللّه تعالى الّذي خلقنا وفطرنا ووهبنا الروح والسعادة والحياة.

فأنا أطلب أجري من اللّه وحده، فإن كل خطوة أخطوها لسعادتكم، وأفعل ذلك طاعةً لأمر اللّه تعالى».

ظل هود (عَلَيهِ السَّلَامُ) يبلّغ في قومه ويرشدهم ويهديهم إلى طريق الحق، طريق الإيمان بالواحد القهار، ولكن مع الأسف لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا به، بل طالبوه على أن يأتي لهم ببينة ومعجزة حيث قالوا: «يَهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةِ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي وَءالهَيْنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ»(2).

وهل إثبات قول الأنبياء يحتاج إلى دليل وبيّنة ؟ وهل الإدعاء العقلي والمنطقي يحتاج إلى معجزة؟ لأن الإنسان العاقل والباحث عن الحقيقة يتقبل الكلام الحق والمنطقي من أي شخص كان.

كان هود (عَلَيهِ السَّلَامُ) يستعمل جميع الوسائل المشوّقة والممكنة لإيقاض روح الحق في قومه المضلّين، فيبيّن لهم المنافع المادية والأجر المادي، والأرباح الكثيرة ويقول لهم : «وَيَقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ»(3)، فإذا فعلتم هذا وتبتم إلى اللّه وآمنتم به: «يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا»(4).

لئلّا تتهدد مزارعكم وغاباتكم بقلة الماء، ولأجل أن تظل خضراء ومثمرة دائماً،

ص: 150


1- هود: 51.
2- هود: 53.
3- هود: 52.
4- هود: 52.

عليكم أن تبتعدوا عن الذنوب والتوجه إلى اللّه، وليزيدكم قوة إلى قوتكم حتّى تتمكنوا من العمل أكثر فأكثر...

فلا تتصوروا أن الإيمان والتقوى يضعفان من قوتكم أبداً، بل إن قواكم الجسمية ستزداد بالاستفادة من القوة المعنوية.

وعلى هذا ستقدرون على عمّارة المجتمع، وتكونوا مجتمعاً كبيراً، وأُمّة ذات قدرة عالية تتمتع بالاقتصاد الجيد والحرية والاستقلال....

لقد نسبوا الجنون إلى هود (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهذا ليس جديد، فالتاريخ القديم والمعاصر مليء بنسبة الجنون إلى الرجال والنساء العلماء العاملين، والثائرين على الخرافات والعادات السيئة، والأنبياء الّذين يبلغون رسالات اللّه.

على كل حال فان هود (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يرد قومه بكلام عنيف وينهاهم عن المنكر وعن عبادة الاصنام، ويقف موقف الشجاع الصابر أمام هذه الكثرة من الجهلة عبدة الأصنام، وتغلب عليهم وكسّر أصنامهم، بصبره واستقامته وإيمانه.

هذا مع إن قوم هود (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانوا قوماً ذوي أبدان طوال ضخمين وأقوياء، فشبهت أجسمهم بالنخل، ولهذا السبب كانت لديهم عمّارات عالية عظيمة.

وكذلك أنكر قوم هود (عَلَيهِ السَّلَامُ) آيات اللّه، ونبوة الأنبياء، وعصوا اللّه ورُسله، وارتكبوا الذنوب، وتركوا طاعة اللّه، واتبعوا كل جبار عنيد.

فأي ذنب أعظم من هذه الذنوب ترك الإيمان، ومخالفة الأنبياء، وجعل الرقاب تحت طاعة كلّ جبّار عنيد.

الجبار : يُطلق على كل من يضرب ويقتل ويدمر، ولا يتبع أمر العقل، بل يتبع أهواءه

ص: 151

الشيطانية ونفسه الأمارة بالسوء.

والعنيد: هو من يخالف الحق والحقيقة أكثر مما ينبغي، ولا يرضخ للحق أبداً.

هاتان الصفتان من صفاة الطواغيت والمستكبرين في كل عصر وزمان الّذين لا تكون آذانهم صاغية لكلام الحق أبداً، ويؤذون ويحاربون ويعاملون بشدة وقساوة كل من يعترض عليهم وعلى أفعالهم.

على كل حال فإن ( عاد ) قوم هود (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانوا يعيشون في نعيم وترف، وغافلين عن الحقائق وعما يريده اللّه تعالى منهم، واصبحوا يعيشون في نعيم وترف، واتبعوا أمر كلّ جبار عنيد، وأقروا عبادة الأوثان، وكفروا باللّه العزيز القهّار.

وبعد ذلك كانت النتيجة الهلاك والنسيان، عندما أرسل اللّه تعالى عليهم الريح الصرصر، يعني الباردة في يوم نحس مستمر، فأهلكت قوم عاد ومن كان بحضرتهم، وغمرهم طوفان شديد لمدة سبع ليال وثمانية أيّام حسوماً.

وسلّط اللّه تعالى على قصورهم فدمرها، وجعل أجسادهم كأوراق الخريف صفراء ذبلة...

والمؤمنين كان هود (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد أبعدهم عن هؤلاء ونجّاهم من الطوفان، وأصبح مصيرهم درساً كبيراً ذا عبرة لكل جبار عنيد، ولكل الجبابرة والأنانيّين.

وروي: إنّ عاداً كانت بلادهم في البادية من الشقوق(1) إلى الأجفر أربعة منازل، وكان لهم زرع ونخل كثير ولهم أعمّار طويلة وأجسام طويلة، فعبدوا الأصنام وبعث اللّه إليهم هوداً يدعوهم إلى الإسلام وخلع الأنداد فأبوا ولم يؤمنوا بهود وآذوه، فكفّ

ص: 152


1- هو منزل بطريق مكّة بعد واقعة من الكوفة وبعدها تلقاء مكّة بطان وقبر العبادي وهو لبنى سلامة من بني أسد و الشقوق أيضاً من مياه ضبّة بأرض اليمامة.

السماء عنهم سبع سنين حتّى قحطوا، وكان هود زرّاعاً وكان يسقي الزرع فجاء قوم إلى بابه يريدونه فخرجت عليهم امرأته شمطاء عوراء فقالت: من أنتم؟

فقالوا: نحن من بلاد كذا وكذا أجدبت بلادنا فجئنا إلى هود نسأله أن يدعو اللّه لنا حتى تمطر وتخصب بلادنا.

فقالت: لو استجيب لهود لدعا لنفسه فقد احترق زرعه لقلّة الماء، قالوا: فأين هو ؟ قالت: هو في موضع كذا وكذا فجاؤوا إليه.

فقالوا: يانبي اللّه قد أجدبت بلادنا ولم نمطر فاسأل اللّه أن تخصب بلادنا ونمطر. فتهيّأ للصلاة وصلّى ودعا لهم فقال لهم: «ارجعوا فقد أُمطرتم فأُخصبت بلادكم»، فقالوا: يا نبيّ اللّه إنا رأينا عجباً قال: «وما رأيتم» ؟ قالوا : رأينا في منزلك امرأة شمطاء عوراء قالت لنا: من أنتم؟ ومن تريدون؟ قلنا جئنا إلى نبيّ اللّه هود ليدعو اللّه لنا فنمطر، فقالت: لو كان هود داعياً لدعا لنفسه فإن زرعه قد احترق.

فقال هود: «ذاك امرأتي وأنا أدعو اللّه لها بطول البقاء»، فقالوا: فكيف ذلك؟ قال: «لأنّه ما خلق اللّه مؤمناً إلا وله عدوّ يؤذيه وهي عدوّتي فلئن يكون عدوّي ممّن أملكه خير من أن يكون عدوّي ممّن يملكني»، فبقي هود في قومه يدعوهم إلى اللّه وينهاهم عن عبادة الأصنام حتّى تخصب بلادهم وأنزل اللّه عليهم المطر وهو قوله : «وَيَقَوْمِ و اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوتِكُمْ وَلَا نَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ»(1).

فقالوا كما حكى اللّه (عزّوجلّ) : «يَهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي وَءالهَيْنَا عَن قَوْلِكَ

ص: 153


1- هود: 52.

وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ»(1) فلمّا لم يؤمنوا أرسل اللّه عليهم الريح الصرصر يعني الباردة هو قوله في سورة القمر : «كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُدْرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍ» (2) وحكى في سورة الحاقة : «وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيجٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَنِيَةَ أيّام حُسُومًا»(3).

ملاحظات

1. التوحيد أساس دعوة الأنبياء:

بدأ الأنبياء جميعاً دعوتهم بتبليغ توحيد اللّه، ونفي الشرك، ونفي عبادة الأصنام، وفي الواقع ان أي إصلاح في المجتمعات الإنسانية، ووحدة المجتمع، والتعاون والإيثار، لا تتحقق إلا بالدعوة والتبليغ وكل هذه الأمور تستسقي من منبعٍ واحدٍ وهو التوحيد، توحيد المعبود الّذي لا إله الّا هو.

أما الشرك، فهو أساس كل فرقة وتعارض وتضاد وأنانية، وغير ذلك، فكل هذه الأمور والتصرفات السيئة لها ارتباط وثيق بالشرك، وهذا غير خاف على أحد.

الّذين يطلبون القدرة والتسلط على رقاب الناس وهم في صراع دائم مع أبناء جلدتهم، وينظرون إلى مصالحهم المادية فقط، فهذا نوع آخر من الشرك.

من هنا جاءت دعوة الأنبياء من أجل الإصلاح والتوحيد، وإصلاح المجتمع وسوقه نحو التوحيد، ثم توحيد الكلمة، ثم توحيد العمل وتوحيد المجتمع.

ص: 154


1- هود: 53.
2- القمر : 18 - 19.
3- الحاقة : 6-7.

2. طلب المادة والأجر:

إن قائد الحق، والزعيم الواقعي لا يطلب أجراً ولا نفعاً مقابل جهاده وعمله وتبليغه، لأن طلب المادة يؤي به إلى الاتهام،والتذلل وطلب المادة بالنسبة للمبلغ والمصلح سوف يكون له غلّاً يقيد به رجلاه ويداه وقفلا على لسانه وفكره، وتكون المادة أكبر همه.

والمادة أفضل الطرق لدخول المنحرفين والمنافقين منها للتضليل والتخريب والتشويه، ومهما يكن الزعيم أو القائد أو المبلغ نقيّاً وصافياً ومخلصاً، فهو إنسان، ومن الممكن أن ينزلق ويكون همه المادة.

لذلك نرى بعض الآيات القرآنية تعلن على لسان الأنبياء والرسل بكل صراحة في بداية دعوتهم، انهم لا يحتاجون إلى المادة ولا يريدون أجراً على عملهم، بل إن عملهم لوجه اللّه وأجرهم على اللّه «يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِى إِلَّا عَلَى الّذي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ»(1).

ويجب على جميع القادة ولاسيما القادة الروحانيين ورجال الدين أن يكونوا حذرين وأقوياء النفوس والآراء، حتّى لا ينزلقون في الماديات الدنيوية.

3. الذنب والاستغفار منه:

وكذلك نرى أيضاً في وصايا اللّه تبارك وتعالى على لسان نبيه الأكرم وآياته المجيدة في القرآن اهتمام بالغ في جعل العلاقة بين المسائل المادية والمعنوية، وجعل الاستغفار من الذنب والتوبه إلى اللّه أساس العمل والتبليغ وزيادة القوة والإرادة.

ونلمس هذه الحقيقة في ما جاء في هذه الآيات المباركة من سورة نوح على لسان

ص: 155


1- هود: 51.

النبي العظيم والمبلغ الصبور نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حيث تقول الآية: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَرًا»(1).

وأيضاً روي عن الربيع بن صبيح قال: كنت عند الإمام الحسن بن عليّ (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فجاء رجل وشكا له من الجدب والقحط، فقال له الامام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «استغفر اللّه»، فجاءه آخر فشكا له من الفقر، فقال له أيضاً: «استغفر اللّه»، فجاءه ثالث وقال له: ادعُ لي أن يرزقني اللّه ولداً، فقال الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «استغفر اللّه».

يقول الربيع بن صبيح فتعجبت وقلت له: ما من أحد يأتيك ويشكو إليك أمره ويطلب النعمة إلاّ أمرته بالاستغفار والتوبه إلى اللّه.

فأجابه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إن ما قلته لم يكن من نفسي، وانما استفدت ذلك من كلام اللّه الّذي يحكيه على لسان نبيه نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثم تلا الآية المتقدمة «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ»(2).

إذا دققنا النظر أكثر نجد إن هناك علاقة متقاربة بين المسائل المادية والمعنوية ولا يمكن الانفكاك عن بعضهما، ولكن يشترط فيهما النزاهة والإخلاص والإيمان حتّى يمكن الاستثمار منهما بالشكل الصحيح والعمل الناجح.

لقد شاهدنا في مواجهات المسلمين المجاهدين الثائرين ضد الكفار والاستعمّار في عصرنا هذا، أن الاعتقادات الإسلامية والقوى الأخلاقية والمعنوية استطاعت أن تنتصر وتقف أمام أحدث الاسلحة المعاصرة وأقوى الجيوش والقدرات الاستعمّارية، وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدل على أثر العقائد الدينية الإيجابية والمعنوية العالية في

ص: 156


1- نوح: 10 12.
2- تفسير الأمثل : ج 6 ص 524 عن مجمع البيان ج 1 ص 361.

المسائل الاجتماعية والسياسية والمادية.

بالاستغفار يزداد الإنسان قوة إلى قوته ويمدده اللّه تعالى بأموال وبنين... «وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوتِكُمْ» و «وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَلٍ وَبَنِينَ» إنها القوى المادية تضاف إلى القوة المعنوية بهما ينتصر الحق على الباطل.

قصة صالح (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقومه

عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر محمّد بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سأل جبرئيل؛ كيف كان مهلك قوم صالح؟

فقال: يا محمّد إنّ صالحاً بُعِثَ إلى قومه وهو ابن ست عشر سنة، فلبث فيهم حتّى بلغ عشرين ومائة سنة لا يجيبونه إلى خير قال وكان لهم سبعون صنما يعبدونها من دون اللّه فلمّا رأى ذلك منهم قال : ياقوم إنّي قد بعثت إليكم وأنا ابن ستّ عشر سنة وقد بلغت عشرين ومائة سنة وأنا أعرض عليكم أمرين : إن شئتم فاسألوني حتّى أسأل إلهي فيجيبكم فيما تسألوني وإن شئتم سألت آلهتكم فإن أجابتني بالذي أسألها خرجت عنكم فقد شنأتكم وشنأتموني فقالوا: قد أنصفت ياصالح فاتعدوا اليوم يخرجون فيه. قال فخرجوا بأصنامهم إلى ظهرهم ثمّ قرّبوا طعامهم وشرابهم فأكلوا وشربوا فلمّا أن فرغوا دعوه.

فقالوا: ياصالح سل. فدعا صالح كبير أصنامهم فقال: ما إسم هذا؟ فأخبروه بإسمه فناداه بإسمه فلم يجب، فقال صالح ما له لا يجيب؟ فقالوا له: أُدع غيره فدعاها كلّها بأسمائها فلم يجبه واحد منهم، فقال : ياقوم قد ترون قد دعوت أصنامكم فلم يجبني واحد منهم فاسألوني حتّى أدعو إلهي فيجيبكم الساعة، فأقبلوا على أصنامهم فقالوا لها : ما بالكن لا تجبن صالحاً ؟ فلم تجب فقالوا: ياصالح تنح عنا ودعنا وأصنامنا قليلا.

ص: 157

قال فرموا بتلك البسط الّتي بسطوها وبتلك الآنية وتمرّغوا في التراب (1) وقالوا لها : لئن لم تجبن صالحاً اليوم فنفضحنَّ ثمّ دعوه فقالوا: يا صالح تعال فسلها، فعاد فسألها فلم تجبه، فقالوا: إنّما أراد صالح أن تجيبه وتكلّمه بالجواب قال: فقال: ياقوم هو ذا ترون قد ذهب النهار ولا أرى آلهتكم تجيبني فاسألوني حتّى أدعوا إلهي فيجيبكم الساعة، قال: فانتدب له سبعون رجلا من كبرائهم وعظمائهم والمنظور إليهم منهم، فقالوا: ياصالح نحن نسألك، قال: فكلّ هؤلاء يرضون بكم؟ قالوا: نعم فإن أجابوك هؤلاء أجبناك.

قالوا: ياصالح نحن نسألك فإن أجابك ربّك اتّبعناك وأجبناك وتابعك جميع أهل قريتنا، فقال لهم صالح: سلوني ما شئتم فقالوا: انطلق بنا إلى هذا الجبل وجبل قريب منه حتّى نسألك عنده، قال: فانطلق وانطلقوا معه فلمّا انتهوا إلى الجبل.

قالوا: ياصالح إسأل ربّك أن يخرج لنا الساعة من هذا الجبل ناقة حمراء شقراء وبراء عشراء وفي رواية محمّد بن نصر : حمراء شعراء بين جنبيها ميل قال : قد سألتموني شيئاً يعظم عليّ ويهون على ربّي، فسأل اللّه ذلك فانصدع الجبل صدعاً (2) كادت تطير منه العقول لمّا سمعوا صوته، قال : واضطرب الجبل كما تضطرب المرأة عند المخاض، ثمّ لم يفجأهم إلا ورأسها قد طلع عليهم من ذلك الصدع فما استتمت رقبتها حتّى اجترت ثم خرج سائر جسدها ثم استوت على الأرض قائمةً، فلمّا رأوا ذلك قالوا: يا صالح ما أسرع ما أجابك ربّك فسله أن يخرج لنا فصيلها، قال: فسأل اللّه تعالى ذلك، فرمت به فدبّ حولها، فقال: ياقوم أبقي شيءٌ؟ قالوا: لا، انطلق بنا إلى قومنا نخبرهم ما رأينا ويؤمنوا بك، قال: فرجعوا فلم يبلغ السبعون الرجل إليهم حتّى ارتدّ منهم أربعة وستون رجلا : وقالوا سحرٌ، وثبت الستة وقالوا الحق ما رأينا قال فكثر كلام القوم

ص: 158


1- تمرغ في التراب: تقلب.
2- أي انشق الجبل شقاً.

ورجعوا مكذّبين إلّا الستّة ثمّ ارتاب من الستّة واحد، فكان فيمن عقرها»(1).

ولادة نبي اللّه إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن صفوان عن ابن مسكان قال: قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ آزر أبا إبراهيم كان منجماً لنمرود بن كنعان فقال له: إنّي أرى في حساب النجوم أنّ هذا الزمان يحدث رجلا فينسخ هذا الدين ويدعوا إلى دين آخر، فقال له نمرود في أي بلاد يكون؟ قال: في هذه البلاد، وكان منزل نمرود بكوثى ربی (2) فقال له :نمرود قد خرج إلى الدنيا ؟ قال :آزر لا، قال: فينبغي أن يفرّق بين الرجال والنساء، ففرّق بين الرجال والنساء، وحملت أم إبراهيم بإبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولم يبيّن حملها، فلمّا حانت ولادتها قالت: يا آزر قد اعتللت وأريد أن أعتزل عنك، وكان في ذلك الزمان المرأة إذا اعتلت اعتزلت عن زوجها.

فخرجت واعتزلت في غار ووضعت بإبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهيّأته وقمّطته ورجعت إلى منزلها وسدّت باب الغار بالحجارة، فأجرى اللّه لإبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) لبناً من إبهامه وكانت تأتيه أُمّه، ووكّل نمرود بكلّ امرأة حامل فكان يذبح كلّ ولد ذكر، فهربت أُم إبراهيم بإبراهيم من الذبح، وكان يشبّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الغار يوماً كما يشبّ غيره في الشهر حتّى أتى له في الغار ثلاث عشرة سنة.

فلما كان بعد ذلك زارته أُمّه فلمّا أرادت أن تفارقه تشبّث بها فقال : يا أمّي أخرجيني فقالت له: يابني إنّ الملك إن علم إنّك ولدت في هذا الزمان قتلك، فلمّا خرجت أُمّه خرج من الغار وقد غابت الشمس نظر إلى الزهرة في السماء فقال : «هَذَا رَبِّي» فلمّا

ص: 159


1- البحار: ج 11 ص 377.
2- کوثی کطوبی ورَبى كهدى قال :یاقوت وكوثى العراق كوثيان: أحدهما الطريق والآخر كوثى ربي وبها مشهد إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) و بها مولده وهما من أرض بابل وبها طرح إبراهيم في النار وهما ناحيتان.

غابت الزهرة فقال : لو كان هذا ربي ما تحرك ولا برح ثم قال: «لَا أُحِبُّ الْأَفِلِينَ»(1) والآفل: الغائب فلمّا نظر إلى المشرق رأى وقد طلع القمر قال: «هَذَا رَبّي» هذا أكبر وأحسن فلمّا تحرّك وزال قال : «لَئن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ»(2) فلمّا أصبح وطلعت الشمس ورأى ضوءها وقد أضائت الشمس الدنيا لطلوعها قال: «هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ»(3) وأحسن، فلمّا تحرّكت وزالت كشط اللّه عن السماوات حتّى أرى العرش ومن عليه وأراه اللّه ملكوت السماوات والأرض فعند ذلك قال: «إنّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ»(4).

فجاء إلى أُمّه وأدخلته دارها وجعلته بين أولادها، فلمّا أدخلت أُمّ إبراهيم إبراهيم دارها نظر إليه آزر فقال: من هذا الّذي قد بقي في سلطان الملك والملك يقتل أولاد الناس؟

قالت: هذا ابنك ولدته وقت كذا وكذا حين اعتزلت، فقال: ويحك إن علم الملك هذا زالت منزلتنا عنده، وكان آزر صاحب أمر نمرود ووزيره وكان يتخذ الأصنام له وللناس ويدفعها إلى ولده فيبيعونها وكان على دار الأصنام.

فقالت أمّ إبراهيم لآزر : لا عليك إن لم يشعر الملك به بقي لنا ولدنا وإن شعر به كفيتك الاحتجاج عنه، وكان آزر كلّما نظر إلى إبراهيم أحبّه حبا شديداً وكان يدفع إليه الأصنام ليبيعها كما يبيع إخوته فكان يعلّق في أعناقها الخيوط ويجرّها على الأرض

ص: 160


1- الأنعام: 76.
2- الأنعام: 77.
3- الأنعام: 78.
4- الأنعام: 79.

ويقول: من يشتري ما لا يضره ولا ينفعه ؟ ويغرقها في الماء والحمأة ويقول لها: إشربي وتكلّمي. فذكرا إخوته ذلك لأبيه فنهاه فلم ينته فحبسه في منزله ولم يدعه يخرج. «وَحَاجَهُ قَوْمُهُ قَالَ» إبراهيم «أَتُحَاجُّوَنِي فِي اللّه وَقَدْ هَدَيْنِ» أَي يبيّن لي «وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم باللّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَنَا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»(1) أي أنا أحق بالأمن حيث أعبد اللّه أو أنتم الّذين تعبدون الأصنام»(2).

نبي اللّه إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكسر الأصنام

وقال الطبرسي: قيل : إنّما قال ذلك في سرّ من قومه ولم يسمع ذلك إلّا رجل منهم فأفشاه، وقالوا: كان لهم في كلّ سنة مجمع وعيد إذا رجعوا منه دخلوا على الأصنام فسجدوا لها فقالوا لإبراهيم: ألا تخرج معنا ؟ فخرج فلمّا كان ببعض الطريق قال : «أشتكي رجلي وانصرف» «فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا» أي جعل أصنامهم قطعاً قطعاً «إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ» في الخلقة أو في التعظيم تركه على حاله قالوا: جعل يكسرهنّ بفأس في يده حتّى لم يبق إلا الصنم الكبير علّق الفأس في عنقه وخرج «لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ». أي إلى إبراهيم فينبّههم على جهلهم أو إلى الكبير فيسألونه وهو لا ينطق فيعلمون جهل من اتّخذه إلهاً.

فلمّا رجع قومه من عيدهم فوجدوا أصنامهم مكسّرة «قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِئَالِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ» من موصولة أي الّذي فعل هذا بآلهتنا فإنّه ظالم لنفسه لأنّه يقتل إذا علم،به، وقيل : إنّهم قالوا: من فعل هذا استفهاماً وأنكروا عليه بقولهم: إنّه لمن

ص: 161


1- الأنعام: 81.
2- البحار: ج 12 ص 29.

الظالمين «قَالُوا سَمِعْنَا فَتَىً». أي قال الرجل الّذي سمع من إبراهيم قوله: «لَأَكِيدَنَّ أَصْنَمَكُم» للقوم ما سمعه منه فقالوا : «سَمِعْنَا فَتَىً يَذْكُرُهُمْ» بسوء وقيل: إنّهم قالوا: سمعنا فتىً يعيب آلهتنا ويقول : إنّها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع فهو الّذي كسرها «عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ» أي بحيث يراه الناس ويكون بمشهد منهم «لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُون» عليه بما قاله فيكون ذلك حجّة عليه بما فعل، كرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة أو لعلهم يحضرون عقابه «فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ» أي فرجع بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض : «أَنتُمُ الظَّلِمُونَ» حيث تعبدون ما لا يقدر الدفاع عن نفسه.

وقيل : معناه : فرجعوا إلى عقولهم وتدبّروا في ذلك إذ علموا صدق إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيما قاله وحاروا عن جوابه فأنطقهم اللّه تعالى بالحقّ «فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ». هذا الرجل في سؤاله، وهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها «ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ» إِذ تحيّروا وعلموا أنّها لا تنطق.

وقال البيضاويّ: أي انقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا بالمراجعة شبّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء مستعلياً على أعلاه.

قال الطبرسيّ: «قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ» يا إبراهيم «مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ». فكيف نسألهم؟ فأجابهم إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد اعترافهم بالحجّة «أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا». إن عبدتموه «وَلَا يَضُرُّكُمْ». إن تركتموه لأنها لو قدرت لدفعت عن أنفسها «أُفٍ لَكُمْ» تضجّر منه على إصرارهم بالباطل البيّن.

«قَالُوا حَرِّقُوهُ» أي لمّا سمعوا منه هذا القول قال بعضهم لبعض : «حَرِّقُوهُ» بالنار «وَانصُرُوا الهَتَكُمْ» أي وادفعوا عنها وعظّموها «إِن كُنتُمْ فَعِلِينَ» أي إن كنتم ناصريها، قيل : إنّ الّذي أثار بتحريق إبراهيم بالنار رجل من أكراد فارس فخسف

ص: 162

اللّه به الأرض فهو يتخلخل فيها إلى يوم القيامة.

وقال وهب: إنّما قاله،نمرود، وفي الكلام حذف قال السدّيّ: فجمعوا الحطب حتى أنّ الرجل ليمرض فيوصي بكذا وكذا فيشترى به حطب، وحتى أنّ المرأة لتغزل فتشتري به حطباً، حتّى بلغوا من ذلك ما أرادوا، فلمّا أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار لم يدروا كيف يلقونه، فجاء إبليس فدهم على المنجنيق وهو أوّل منجنيق صنعت فوضعوه فيها ثم رموه.

«قُلْنَا يَا نَارُ» أي لمّا جمعوا الحطب وألقوه في النار قلنا للنَّارِ «كُونِي بَرْدًا وَسَلَما عَلَى إِبْرَاهِيمَ»(1) و هذا مثل، فإنّ النار جماد لا يصح خطابه، والمراد: إنا جعلنا النار برداً عليه وسلاما لا يصيبه من أذاها شيء، وقيل: يجوز أن يتكلّم اللّه سبحانه بذلك ويكون ذلك صلاحاً للملائكة ولطفاً لهم.

وقال الرازي: اختلفوا في أن النار كيف بردت على ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ اللّه تعالى أزال عنها ما فيها من الحرّ والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق، وثانيها؛ أنّه سبحانه خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه كما يفعل بخزنة جهنّم في الآخرة، كما أنّه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحمائة، وبدن السمندر بحيث لا يضره المكث في النّار، وثالثها أنّه خلق بينه وبين النار حائلا يمنع من وصول النار إليه، قال المحققون والأوّل أولى لأنّ ظاهر قوله : «يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَمًا» أنّ نفس النار صارت باردة (2).

ص: 163


1- الآيات المذكورة أعلاه من سورة الأنبياء: 58 – 69.
2- البحار: ج 12 ص 22.

نبي اللّه إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) والعابد

كان على عهد إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) رجل يقال له: ماريا بن أوس قد أتت عليه ستّمائة سنة وستّون سنة، وكان يكون في غيضة (1) له بينه وبين النّاس خليج من ماء غمر، وكان يخرج إلى النّاس في كلّ ثلاث سنين فيقيم في الصحراء في محراب له يصلّي فيه، فخرج ذات يوم فيما كان يخرج فإذا هو بغنم كان عليها الدهن فأعجب بها وفيها شاب كان وجهه شقّة قمر.

فقال: يافتي لمن هذا الغنم؟ قال: «لإبراهيم خليل الرحمن». قال: فمن أنت؟ قال: «أنا ابنه إسحاق». فقال ماريا في نفسه: اللّهم أرني عبدك وخليلك حتّى أراه قبل الموت، ثم رجع إلى مكانه ورفع إسحاق ابنه خبره إلى أبيه فأخبره بخبره، فكان إبراهيم يتعاهد ذلك المكان الّذي هو فيه ويصلّي فيه، فسأله إبراهيم عن اسمه وما أتى عليه من السنين فخبّره، فقال: «أين تسكن ؟ فقال : في غيضه، فقال إبراهيم: «إنّي أحب أن آتي موضعك فأنظر إليه وكيف عيشك فيها»، قال: إنّي أيبس من الثمار الرطب ما يكفيني إلى قابل لا تقدر أن تصل إلى ذلك الموضع فإنّه خليج وماء غمر، فقال له إبراهيم: «فما لك فيه معبر»؟ قال: لا، قال: «فكيف تعبر»؟ قال: أمشي على الماء، قال إبراهيم: «لعلّ الّذي سخر لك الماء يسخّره لي».

قال: فانطلق وبدأ ماريا فوضع رجله في الماء وقال بسم اللّه قال إبراهيم: «بسم اللّه»، فالتفت ماريا وإذا إبراهيم يمشي كما يمشي هو فتعجب من ذلك، فدخل الغيضة، فأقام معه إبراهيم ثلاثة أيّام لا يعلمه من هو، ثم قال له: «ياماريا ما أحسن موضعك، هل لك أن تدعو اللّه أن يجمع بيننا في هذا الموضع»، فقال: ما كنت لأفعل، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «ولم»؟ قال: لأنّي دعوته بدعوة منذ ثلاث سنين فلم يجبني فيها، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «وما الّذي

ص: 164


1- الغيظة: الأجمة مجتمع الشجر في مغيض الماء.

دعوته» ؟ فقصّ عليه خبر الغنم وإسحاق، فقال إبراهيم: «فإنّ اللّه قد استجاب منك، أنا إبراهيم»، فقام وعانقه فكانت أوّل معانقة(1).

إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وطول العمر

عن محمّد بن القاسم وغيره عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ سارة قالت لإبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يا إبراهيم قد كبرت، فلو دعوت اللّه أن يرزقك ولداً تقر أعيننا به فإنّ اللّه قد اتّخذك خليلا وهو مجيب لدعوتك إن شاء، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فسأل إبراهيم ربّه أن يرزقه غلاماً علياً، فأوحى اللّه (عزّوجلّ) إليه : أني واهب لك غلاماً عليماً ثم أبلوك بالطاعة لي، قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فمكث إبراهيم بعد البشارة ثلاث سنين ثمّ جاءته البشارة من اللّه (عزّوجلّ).

وإنّ سارة قد قالت لإبراهيم: إنّك قد كبرت وقرب أجلك فلو دعوت اللّه (عزّوجلّ) أن ينسي في أجلك (2) وأن يمدّ لك في العمر فتعيش معنا وتقرّ أعيننا، قال: فسأل إبراهيم ربه ذلك، قال: فأوحى اللّه (عزّوجلّ) إليه سل من زيادة العمر ما أحببت تعطه، قال: فأخبر إبراهيم سارة بذلك.

فقالت له : سل أن لا يميتك حتّى تكون أنت الّذي تسأله الموت، قال: فسأل إبراهيم ربه ذلك، فأوحى اللّه (عزّوجلّ) إليه ذلك لك، قال: فأخبر إبراهيم سارة بما أوحى اللّه (عزّوجلّ) إليه في ذلك، فقالت سارة لإبراهيم: أُشكر اللّه وأعمل طعاماً وأدع عليه الفقراء وأهل الحاجة، قال: ففعل ذلك إبراهيم ودعا إليه الناس فكان فيمن أتى رجل كبير ضعيف مكفوف (3)معه قائد له فأجلسه على مائدته قال فمدّ الأعمى يده فتناول لقمة وأقبل بها نحو فيه، فجعلت تذهب يميناً وشمالا من ضعفه، ثمّ أهوى بيده إلى جبهته فتناول قائده يده

ص: 165


1- البحار : ج 12 ص 9.
2- أي يؤخر في أجلك.
3- كف بصره: عمي.

فجاء بها إلى فمه، ثمّ تناول المكفوف لقمة فضرب بها عينه، قال: وإبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ينظر إلى المكفوف وإلى ما يصنع، قال: فتعجّب إبراهيم من ذلك وسأل قائده عن ذلك، فقال له القائد هذا الّذي ترى من الضعف.

فقال إبراهيم في نفسه : أليس إذا كبرت أصير مثل هذا؟ ثمّ إنّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) سأل اللّه (عزّوجلّ) حيث رأى من الشيخ ما رأى فقال: اللّهم توفّني في الأجل الّذي كتبت لي، فلا حاجة لي في الزيادة في العمر بعد الّذي رأيت» (1).

أحوال أولاد إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأزواجه وبناء البيت

عن هشام، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان نازلا في بادية الشام، فلمّا ولد له من هاجر إسماعيلر(عَلَيهِ السَّلَامُ) اغتمت سارة من ذلك غماً شديداً لأنه لم يكن له منها ولد، وكانت تؤذي إبراهيم في هاجر فتغمّه فشكا إبراهيم ذلك إلى اللّه (عزّوجلّ) فأوحى اللّه إليه: إنّما مثل المرأة مثل الضلع العوجاء إن تركتها استمتعت بها وإن أقمتها كسرتها، ثمّ أمره أن يخرج إسماعيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأُمّه عنها، فقال : ياربّ إلى أيّ مكان؟ قال: إلى حرمي وأمني وأوّل بقعة خلقتها من الأرض وهي مكّة، فأنزل اللّه عليه جبرئيل بالبراق فحمل هاجر وإسماعيل وإبراهيم (عَلَيهِمَا السَّلَامُ).

وكان إبراهيم لا يمرّ بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع إلّا وقال: ياجبرئيل إلى ههنا إلى ههنا فيقول :جبرئيل: لا، إمض إمض، حتّى وافى به مكّة فوضعه في موضع البيت، وقد كان إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) عاهد سارة أن لا ينزل حتّى يرجع إليها، فلمّا نزلوا في ذلك المكان كان فيه،شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساءً كان معها فاستظّلوا تحته فلمّا سرحهم إبراهيم ووضعهم وأراد الانصراف عنهم إلى سارة.

ص: 166


1- البحار: ج 12 ص 79.

قالت له :هاجر يا إبراهيم لم تدعنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟ فقال إبراهيم الّذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم، ثم انصرف عنهم فلمّا بلغ كدى وهو جبل بذي طوى التفت إليهم إبراهيم فقال: «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْنِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَوَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ». (1)

ثم مضى وبقيت هاجر فلمّا ارتفع النهار عطش إسماعيل وطلب الماء، فقامت هاجر في الوادي في موضع المسعى فنادت: هل في الوادي من أنيس؟ فغاب إسماعيل عنها فصعدت على الصفا ولمع لها السراب في الوادي وظنت أنه ماء فنزلت في بطن الوادي،وسعت، فلمّا بلغت المسعى غاب عنها إسماعيل ثم لمع لها السراب في ناحية الصفا فهبطت إلى الوادي تطلب الماء فلمّا غاب عنها إسماعيل عادت حتّى بلغت الصفا فنظرت حتى فعلت ذلك سبع مرّات، فلمّا كان في الشوط السابع وهي على المروة نظرت إلى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه قعدت حتّى جمعت حوله رملا فإنّه كان سائلا فزمّته بما جعلته حوله فلذلك سميت زمزم.

وكان جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات، فلمّا ظهر الماء بمكّة عكفت الطير والوحش على الماء فنظرت جرهم إلى تعكّف الطير على ذلك المكان واتبعوها حتّى نظروا إلى إمرأة وصبي نازلين في ذلك الموضع قد استظلاً بشجرة وقد ظهر الماء لهما، فقالوا لهاجر: من أنت؟ وما شأنك وشأن هذا الصبي ؟ قالت أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن، وهذا ابنه، أمره اللّه أن ينزلنا ههنا، فقالوا لها : فتأذنين لنا أن نكون بالقرب منكم ؟ قالت لهم : حتّى يأتي إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا زارهم إبراهيم يوم الثالث قالت هاجر: يا خليل اللّه إنّ ههنا قوم من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتّى يكونوا بالقرب منا أفتأذن لهم في ذلك؟ فقال

ص: 167


1- إبراهيم: 37.

إبراهيم: نعم فأذنت هاجر الجرهم، فنزلوا بالقرب منهم وضربوا خيامهم فأنست هاجر وإسماعيل بهم، فلمّا زارهم إبراهيم في المرّة الثالثة نظر إلى كثرة الناس حولهم فسر بذلك سروراً شديداً.

فلما ترعرع إسماعيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كلّ واحد منهم شاة وشاتين، وكانت هاجر وإسماعيل يعيشان بها، فلمّا بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر اللّه إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يبني البيت، فقال: يارب في أية بقعة؟ قال: في البقعة التي أُنزلت على آدم القبة فأضاء لها الحرم، فلم تزل القبة التي أنزلها اللّه على آدم قائمة حتّى كان أيّام الطوفان أيّام نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا غرقت الدنيا رفع اللّه تلك القبة، وغرقت الدنيا إلّا موضع البيت فسميت البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق.

فلما أمر اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أيّ مكان يبنيه، فبعث اللّه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فخطّ له موضع البيت، فأنزل اللّه عليه القواعد من الجنّة، وكان الحجر الّذي أنزله اللّه على آدم أشد بياضاً من الثلج فلمّا مسته أيدي الكفّار إسود، فبنى إبراهيم البيت ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى، فرفعه في السماء تسعة أذرع، ثمّ دلّه على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم ووضعه في موضعه الّذي هو فيه الآن، وجعل له بابين باباً إلى المشرق، وباباً إلى المغرب، والباب الّذي إلى المغرب يسمّى المستجار، ثم ألقى عليه الشجر والأذخر، وعلّقت هاجر على بابه كساءً كان معها وكانوا يكونون تحته، فلمّا بناه وفرغ منه حج إبراهيم وإسماعيل ونزل عليهما جبرئيل يوم التروية لثمان من ذي الحجة، فقال : يا إبراهيم قم فارتو من الماء لأنه لم يكن بمنى وعرفات ماء، فسمّيت التروية لذلك، ثم أخرجه إلى منى فبات بها، ففعل به ما فعل بآدم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال إبراهيم لمّا فرغ من بناء البيت «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ءَامَنَا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم باللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»(1)

ص: 168


1- البقرة: 126.

قال: من ثمرات القلوب أي حبّبهم إلى الناس لينتابوا إليهم ويعودوا إليه»(1).

نبي اللّه لوط (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقومه

قوله تعالى: «وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى»(2) إلى قوله: «بِعِجَلٍ حَنِيذٍ»(3) فإنّه لما ألقى نمرود إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في النار فجلعها اللّه عليه برداً وسلاماً بقي إبراهيم مع نمرود، وخاف نمرود من إبراهيم فقال : يا إبراهيم أخرج عن بلادي ولا تساكني فيها، وكان إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد تزوّج بسارة وهي بنت خاله، وقد كانت آمنت به، وآمن به لوط وكان غلاماً، وقد كان إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) عنده غنيمات كان معاشه منها.

فخرج إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) من بلاد،نمرود، ومعه سارة في صندوق، وذلك أنّه كان شديد الغيرة، فلمّا أراد أن يخرج من بلاد نمرود منعوه، وأرادوا أن يأخذوا منه غنيماته، وقالوا له: هذا كسبته في سلطان الملك وبلاده وأنت مخالف له فقال لهم إبراهيم: «بيني وبينكم قاضي الملك سندوم»، فصاروا إليه فقالوا : إنّ هذا مخالف لدين الملك، وما معه كسبه في بلاد الملك، ولا ندعه يخرج معه شيئاً، فقال :سندوم صدقوا، خلّ عما في يديك، فقال إبراهيم له: «إنّك إن لم تقض بالحقّ متّ الساعة»، قال: وما الحق؟ قال: «قل لهم: يردّوا عليّ عمري الّذي أفنيته في كسب ما معي حتّى أردّ عليهم»، فقال سندوم: يجب أن تردّوا عمره، فخلّوا عنه وعمّا كان في يده.

فخرج إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكتب نمرود في الدنيا أن لا تدعوه يسكن العمران فمرّ ببعض عمّال نمرود وكان كلّ من مرّ به يأخذ عشر ما معه وكانت سارة مع إبراهيم في الصندوق، فأخذ عشر ما كان مع إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم جاء إلى الصندوق فقال له: لابدّ من

ص: 169


1- البحار : ج 12 ص 97.
2- هود: 69.
3- أي : بعجل مشوي نضيج.

أن أفتحه.

فقال إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «عدّه ما شئت وخذ عشرة» فقال: لابدّ من فتحه، ففتحه فلمّا نظر إلى سارة وتعجّب من جمالها، فقال لابراهيم: «ما هذه المرأة التي هي معك» ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هي أُختي» وإنّما عنى أُخته في الدّين قال له العاشر: لست أدعك تبرح حتّى أُعلم الملك بحالها وحالك.

فبعث رسولا إلى الملك فأعرضها فحملت إليه فهمَّ بها ومدّ يده إليها، فقالت له: أعوذ باللّه منك، فجفّت يده والتصقت بصدره وأصابته من ذلك شدّة، فقال : ياسارة ما هذا الّذي أصابني منك؟ فقالت: لما هممت به، فقال: قد هممت لك بالخير، فأدعي اللّه أن يردّني ما كنت، فقالت: اللّهم إن كان صادقاً فردّه كما كان، فرجع إلى ما كان، وكانت على رأسه جارية، فقال: ياسارة خذي هذه الجارية تخدمك، وهي هاجر أُمّ إسماعيل (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فحمل إبراهيم سارة وهاجر فنزلوا البادية على ممرّ اليمن والشام وجميع الدنيا، فكان يمرّ به الناس فيدعوهم إلى الاسلام وقد كان شاع خبره في الدنيا أنّ الملك ألقاه في النار فلم يحترق، وكانوا يقولون له: لا تخالف دين الملك فإنّ الملك يقتل من خالفه، وكان إبراهيم كل من مر به يضيفه وكان على سبعة فراسخ منه بلاد عامرة كثير الشجر والنبات والخير وكان الطريق عليها، وكان كلّ من يمرّ بتلك البلاد يتناول من ثمارهم وزروعهم، فجزعوا من ذلك فجاءهم إبليس في صورة شيخ فقال لهم: أدلكم على ما إن فعلتموه لم يمرّ بكم أحد ؟ فقالوا: ما هو ؟

فقال: من مرّ بكم فانكحوه في دبره وإسلبوه ثيابه، ثمّ تصوّر لهم إبليس في صورة أمرد(1) أحسن ما يكون من الشباب، فجاءهم فوثبوا عليه ففجروا به كما أمرهم

ص: 170


1- أمرد: أملس.

فاستطابوه، فكانوا يفعلونه بالرجال، فاستغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء.

فشكا الناس ذلك إلى إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فبعث إليهم لوط يحذّرهم وينذرهم، فلمّا نظروا إلى لوط قالوا: من أنت؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أنا ابن خال إبراهيم الّذي ألقاه الملك في النار فلم يحترق، وجعلها اللّه عليها برداً وسلاماً، وهو بالقرب منكم فاتقوا اللّه ولا تفعلوا هذا فإنّ اللّه يهلككم، فلم يجسروا عليه وخافوه وكفّوا عنه».

وكان لوط كلّما مر به رجل يريدونه بسوء خلّصه من أيديهم، وتزوّج لوط فيهم وولد له بنات، فلمّا طال ذلك على لوط (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولم يقبلوا منه قالوا له: «قَالُوا لَمَن لَّمْ تَنتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ»(1) أي لنرجمنك ولنخر جنّك فدعا عليهم لوط (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فبينا إبراهيم قاعد في موضعه الّذي كان فيه وقد كان أضاف قوماً وخرجوا ولم يكن عنده شيء، فنظر إلى أربعة نفر قد وقفوا عليه لا يشبهون الناس فقالوا سلاماً، فقال إبراهيم سلام، فجاء إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى سارة فقال لها : قد جاءني أضياف لا يشبهون الناس»، فقالت: «ما عندنا إلا هذا العجل، فذبحه وشوّاه وحمله إليهم، وذلك قول اللّه : «وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّارَءَا أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» وجاءت سارة في جماعة معها فقالت لهم : ما لكم تمتنعون من طعام خليل اللّه ؟ ف«قَالُوا» الإبراهيم: «لَا تَوْجَل» أي لا تخف «إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ».

ففزعت سارة وضحكت أي حاضت وقد كان ارتفع حيضها منذ دهر طويل فقال اللّه (عزّوجلّ) : «فَبَشَّرْنَهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ» فوضعت يدها على وجهها «قَالَتْ يَوَيْلَىَ ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزُ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٍ عَجِيبُ» فقال لها جبرئيل:

ص: 171


1- الشعراء: 167.

«أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّه رَحْمَتُ اللّه وَبَرَكَتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فلمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى» بإسحاق أقبل يجادل كما قال اللّه: «يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إبْراهِيمَ لَعَلِيمُ أوَّاهٌ مُنِيبٌ»(1).

فقال إبراهيم الجبرئيل: «بماذا أُرسلت»؟ قال: «بهلاك قوم لوط»، فقال إبراهيم: «إنّ فيها لوطاً»، قال جبرئيل : «نحن أعلم بمن فيها لننجيّته وأهله إلّا إمرأته كانت من الغابرين»، قال إبراهيم: «ياجبرئيل إن كان في المدينة مائة رجل من المؤمنين يهلكهم اللّه؟ قال: «لا»، قال : «فإن كان فيهم خمسين» ؟ قال : «لا»، قال : «فإن كان فيهم عشرة ؟ قال: «لا»، قال : وإن كان فيهم واحد» ؟ قال : «لا»، وهو قوله : «فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»(2).

فقال إبراهيم: «ياجبرئيل راجع ربّك فيهم»، فأوحى اللّه كلمح البصر : «يَإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ ءَاتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ» فخرجوا من عند إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) فوقفوا على لوط في ذلك الوقت وهو يسقي زرعه فقال لهم لوط: «من أنتم» ؟

قالوا: «نحن أبناء السبيل أضفنا الليلة»، فقال لهم: «ياقوم إنّ أهل هذه القرية قوم سوء لعنهم اللّه وأهلكهم ينكحون الرجال ويأخذون الأموال»، فقالوا: «فقد أبطأنا فأضفنا»، فجاء لوط إلى أهله وكانت منهم فقال لها: «إنّه قد أتاني أضياف في هذه الليلة فاكتمي عليهم حتّى أعفو عنك إلى هذا الوقت»، قالت أفعل، وكانت العلامة بينها وبين قومها إذا كان عند لوط أضياف بالنهار تدخن فوق السطح، وإذا كان باللّيل توقد النّار، فلمّا دخل جبرئيل والملائكة معه بيت لوط (عَلَيهِ السَّلَامُ) وثبت إمرأته على السطح

ص: 172


1- الآيات أعلاه من سورة هود: 69 75.
2- الذاريات: 36.

فأوقدت ناراً، فعلموا أهل القرية وأقبلوا إليه من كل ناحية كما حكى اللّه (عزّوجلّ) : «وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ» أي يسرعون ويعدون، فلمّا صاروا إلى باب البيت قالوا: «أَوَلَم نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ». فقال لهم كما حكى اللّه: «هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللّه وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنكُم رَجُلٌ رَّشِيدٌ».

قال: عنى به أزواجهم، وذلك أنّ النبي هو أبو أُمّته فدعاهم إلى الحلال ولم يكن يدعوهم إلى الحرام فقال: أزواجكم هنّ أطهر لكم «قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقِّ وَإِنَّكَ لَنَعْلَمُ مَا نُرِيدُ». فقال لوط لما آيس : «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ».

فقال لوط: من أنتم؟ قال جبرئيل : «أنا جبرئيل»، فقال لوط: «بماذا أُمرت»؟ قال: «بهلاكهم»، قال: «الساعة» ؟ فقال جبرئيل: «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ». فكسروا الباب ودخلوا البيت فضرب جبرئيل بجناحه على وجوههم فطمسها وهو قول اللّه (عزّوجلّ) : «وَلَقَدْ رَوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ، فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرٍ»(1) فلمّا رأوا ذلك علموا أنه قد أتاهم العذاب، فقال جبرئيل للوط: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعِ مِنَ الَّيلِ» وأخرج من بينهم أنت وولدك «وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَمْرَأَنَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا الَّيْلِ مَا أَصَابَهُمْ»(2).

وكان في قوم لوط رجل عالم، فقال لهم: ياقوم قد جاءكم العذاب الّذي كان يعدكم لوط، فاحرسوه ولا تدعوه يخرج من بينكم فإنّه ما دام فيكم لا يأتيكم العذاب، فاجتمعوا حول داره يحرسونه، فقال جبرئيل: «يالوط أُخرج من بينهم»، فقال: «كيف أخرج وقد إجتمعوا حول داري»؟ فوضع بين يديه عموداً من نور فقال له: «إتّبع هذا العمود لا يلتفت منكم أحد»، فخرجوا من القرية من تحت الأرض، فالتفتت امرأته

ص: 173


1- القمر : 37.
2- الآيات أعلاه من سورة هود: 69 - 81.

فأرسل اللّه عليها صخرة فقتلها، فلمّا طلع الفجر سارت الملائكة الأربعة كلّ واحد في طرف من قريتهم فقلعوها من سبع أرضين إلى تخوم الأرض ثمّ رفعوها في الهواء حتّى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصراخ الديك ثمّ قلّبوها عليهم وأمطرهم اللّه حجارة من سجّيل منضود مسوّمة عند ربّك وما هي من الظالمين ببعيد (1).

قصة ذي القرنين والعابد

عن وهب قال: وجدت في بعض كتب اللّه (عزّوجلّ) ; أنّ ذا القرنين لما فرغ من عمل السد انطلق على وجهه، فبينا هو يسير وجنوده، إذ مرّ على شيخ يصلّي فوقف عليه بجنوده حتّى إنصرف من صلاته، فقال له ذو القرنين : كيف لم يروّعك ما حضرك من جنودي؟ قال : كنت أُناجي من هو أكثر جنوداً منك وأعزّ سلطاناً وأشد قوّةً، ولو صرفت وجهي إليك لم أدرك حاجتي قبله، فقال له ذو القرنين: هل لك في أن تنطلق معي فأواسيك بنفسي واستعين بك على بعض أمري ؟ قال : نعم إن ضمنت لي أربع خصال: نعيماً لا يزول وصحةً لا سقم فيها، وشباباً لا هرم فيه، وحياةً لا موت فيها، فقال له ذو القرنين: وأيّ مخلوق يقدر على هذه الخصال ؟ فقال الشيخ: فإنّي مع من يقدر عليه ويملكها وإيّاك.

ثمّ مرّ برجل عالم فقال لذي القرنين: أخبرني عن شيئين منذ خلقهما اللّه (عزّوجلّ) قائمين وعن شيئين جاريين وشيئين مختلفين، وشيئين متباغضين، فقال له ذو القرنين : أمّا الشيئان القائمان؛ فالسماوات والأرض، وأمّا الشيئان الجاريان؛ فالشمس والقمر، وأمّا الشيئان المختلفان؛ فالليل والنهار وأمّا الشيئان المتباغضان؛ فالموت والحياة، فقال: انطلق فإنّك عالم، فانطلق ذو القرنين يسير في البلاد حتّى مر بشيخ يقلّب جماجم الموتى فوقف عليه بجنوده فقال له: أخبرني أيّها الشيخ لأي شيء تقلب هذه الجماجم؟ قال: لأعرف الشريف من الوضيع، والغني من الفقير فما عرفت، وإنّي لأقلّبها منذ عشرين

ص: 174


1- البحار : ج 12 ص 153.

سنة، فانطلق ذو القرنين وتركه، فقال: ما عنيت بهذا أحداً غيري.

فبينا هو يسير إذا وقع إلى الأُمّة العالمة من قوم موسى الّذين يهدون بالحقّ وبه يعدلون، فلمّا رآهم قال لهم: أيّها القوم أخبروني بخبركم فإنّي قد درت الأرض شرقها وغربها وبرّها وبحرها وسهلها وجبلها ونورها وظلمتها فلم ألق مثلكم، فأخبروني ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم؟ قالوا: فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت ولا يخرج ذكره من قلوبنا قال: فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟ قالوا: ليس فينا لص ولا ظنين وليس فينا إلا أمين.

قال: فما بالكم ليس عليكم أُمراء؟ قالوا: لا نتظالم قال : فما بالكم ليس بينكم

حكّام؟ قالوا: لا نختصم قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا لا نتكاثر قال : فما بالكم لا تتفاضلون ولا تتفاوتون؟ قالوا من قبل أنا متواسون متراحمون، قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من قبل ألفة بين قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال : فما بالكم لا تستبون ولا تقتلون؟ قالوا: من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم وسسنا (1) أنفسنا بالحلم، قال: فما بالكم كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة؟ قالوا: من قبل أنّا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضاً.

قال: فأخبروني لِمَ ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا: من قبل أنّا نقسّم بالسّوية، قال: فما بالكم ليس فيكم فظّ (2) ولا غليظ ؟ قالوا من قبل الذل والتواضع، قال: فلِمَ جعلكم اللّه (عزّوجلّ) أطول الناس أعمّاراً؟ قالوا من قبل أنا نتعاطي الحق ونحكم بالعدل، قال : فما بالكم لا تقحطون؟ قالوا من قبل أنا لا نغفل عن الاستغفار، قال: فما بالكم

ص: 175


1- ساس الدواب: قام عليها وراضها. ساس القوم: دبرهم وتولى امرهم.
2- الفظ: الغليظ السيء الخلق الخشن الكلام.

لا تحزنون؟ قالوا: من قبل أنّا وطّنا أنفسنا (1) على البلاء فعزّينا أنفسنا، قال: فما بالكم لا يصيبكم الآفات؟ قالوا: من قبل أنا لا نتوكّل على غير اللّه (عزّوجلّ) ولا نستمطر بالأنواء والنجوم.

قال: فحدّثوني أيها القوم هكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟ قالوا: وجدنا آباءنا يرحمون مسكينهم، ويواسون فقيرهم ويعفون عمّن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، ويستغفرون لمسيئهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدّون أمانتهم ويصدقون ولا يكذبون، فأصلح اللّه لهم بذلك أمرهم فأقام عندهم ذو القرنين حتّى قبض وكان له خمسمائة عام (2).

إسلام ذي القرنين

عن عبداللّه بن سليمان وكان قارئاً للكتب :قال قرأت في بعض كتب اللّه (عزّوجلّ) أنّ ذا القرنين كان رجلا من أهل الاسكندرية وأمه عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره يقال له: الاسكندروس، وكان له أدب وخلق وعفّة من وقت ما كان فيه غلاماً إلى أن بلغ رجلاً، وكان رأى في المنام كأنه دنا من الشمس حتّى أخذ بقرنيها شرقها وغربها فلمّا قصّ رؤياه على قومه سمّوه ذا القرنين، فلمّا رأى هذه الرؤيا بعدت همته وعلا صوته وعزّ في قومه وكان أوّل ما أجمع عليه أمره أن قال أسلمت اللّه (عزّوجلّ)، ثم دعا قومه إلى الإسلام فأسلموا هيبة له، ثمّ أمرهم أن يبنوا له مسجداً فأجابوه إلى ذلك فأمر أن يجعل طوله أربعمائة ذراع وعرضه مأتي ذراع وعرض حائطه اثنين وعشرين ذراعاً وعلوّه إلى السماء مائة ذراع.

فقالوا له : ياذا القرنين كيف لك بخشب يبلغ ما بين الحائطين ؟ فقال لهم : إذا فرغتم

ص: 176


1- وطن نفسه على الأمر وللأمر: هيّأها لفعله وحمله عليه.
2- البحار : ج 12 ص 175.

من بنيان الحائطين فاكبسوه بالتراب حتّى يستوي الكبس مع حيطان المسجد، فإذا فرغتم من ذلك فرضتم على كل رجل من المؤمنين على قدره من الذهب والفضّة، ثم قطعتموه مثل قلامة الظفر (1) وخلطتموه مع ذلك الكبس وعملتم له خشباً من نحاس وصفائح تذيبون ذلك وأنتم متمكنون من العمل كيف شئتم على أرض مستوية، فإذا فرغتم من ذلك دعوتم المساكين لنقل ذلك التراب فيسارعون فيه من أجل ما فيه من الذهب والفضة.

فبنوا المسجد وأخرج المساكين ذلك التراب، وقد استقلّ (2) السقف بما فيه واستغنى المساكين، فجنّدهم أربعة أجناد في كلّ جند عشرة آلاف ثمّ نشرهم في البلاد وحدث نفسه بالسير، فاجتمع إليه قومه فقالوا له: ياذا القرنين ننشدك باللّه لا تؤثر علينا بنفسك غيرنا فنحن أحق برؤيتك، وفينا كان مسقط رأسك، وبيننا نشأت وربّيت، وهذه أموالنا وأنفسنا وأنت الحاكم فيها، وهذه أُمّك عجوز كبيرة وهي أعظم خلق اللّه عليك حقا فليس ينبغي عليك أن تعصيها ولا تخالفها، فقال لهم : واللّه إنّ القول لقولكم وإنّ الرأي لرأيكم ولكنّي بمنزلة المأخوذ بقلبه وسمعه وبصره يُقاد ويُدفع من خلفه لا يدري أن يؤخذ به ولا ما يراد به ولكن هلمّوا معشر قومي فادخلوا هذا المسجد واسلموا عن آخركم ولا تخالفوا عليّ فتهلكوا (3).

رؤيا نبي اللّه يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ)

قال الطبرسي (رَحمهُ اللّه) : يعقوب هو إسرائيل اللّه ومعناه: عبداللّه الخالص ابن إسحاق نبي اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه، وفي الحديث أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : الكريم ابن الكريم بن الكريم

ص: 177


1- قلامة الظفر : ما سقط من طرفه.
2- أي رفع.
3- البحار : ج 12 ص 183.

بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وعن ابن عبّاس أنّ يوسف رأى في المنام ليلة الجمعة ليلة القدر أحد عشر كوكباً نزلت من السماء فسجدت له، ورأى الشمس والقمر نزلا من السماء فسجداله وهو ابن إثنتي عشر سنة فقصها على أبيه فقال له : «لَا تَقْصُصُ». وقيل إنّه كان بين رؤياه وبين مصير أبيه وإخوته إلى مصير أربعون سنة وقيل ثمانون سنة.

قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ». أي كما أراك هذه الرؤيا _يَجْنَبِيكَ رَبُّكَ». أي يصطفيك ويختارك للنبوّة «وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ» أي من تعبير الرؤيا «لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ» كان ليعقوب إثنا عشر ولداً وقيل: أسماءهم روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولاوي ويهودا وريالون ويشجر وأمهم ليابنت ليان وهي إبنة خالة يعقوب، ثم توفيت ليّا فتزوّج يعقوب أُختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين.

وولد له من سريتين له اسم إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة بنين: دار ويقنالي وحاد وأشر.

«قَالَ قَابِلُ مِنْهُم» أي روبيل أو غيره «فِي غَيبَتِ الْجُبِّ» أي في قعر البئر وهو بئر بيت المقدس، وقيل : بأرض الأردن، وقيل: بين مدين ومصر، وقال الحسن: جعل يوسف في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان في البلاء إلى أن وصل إليه أبو ثمانين سنة ولبث بعد الاجتماع ثلاثاً وعشرين سنة ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة.

رمي يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ) في البئر

وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله: «وَجَاءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمِ كَذِب» قال: «إنّهم ذبحوا جدياً على قميصه. وقال علي بن إبراهيم: ورجع إخوته وقالوا: نعمد إلى قميصه فنلطخه بالدم فنقول لأبينا : إنّ الذئب أكله، فلمّا فعلوا ذلك قال

ص: 178

لهم لاوي: ياقوم ألسنا بني يعقوب إسرائيل اللّه ابن إسحاق نبيّ اللّه بن إبراهيم خليل اللّه ؟ أفتظنّون أنّ اللّه يكتم هذا الخبر عن أنبيائه ؟ فقالوا: وما الحيلة؟ قال: نقوم ونغتسل ونصلّي جماعة ونتضرع إلى اللّه تبارك وتعالى أن يكتم ذلك عن أبينا فإنّه جواد كريم، فقاموا وإغتسلوا، وكان في سنة إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنهم لا يصلّون جماعةً حتّى يبلغوا أحد عشر رجلا فيكون واحد منهم إمام عشرة يصلّون خلفه فقالوا: كيف نصنع وليس لنا إمام؟ فقال لاوي: نجعل اللّه إمامنا فصلوا وبكوا وتضرعوا وقالوا: ياربّ أكتم علينا هذا، ثم جاءوا إلى أبيهم عشاء يبكون ومعهم القميص قد لطخوه بالدم «قَالُوا يَتَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ» أي نعدو (1) وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب إلى قوله «عَلَى مَا تَصِفُونَ».

قال يعقوب: «ما كان أشدّ غضب ذلك الذئب على يوسف وأشفقه على قميصه حيث أكل يوسف ولم يمزق قميصه» ؟ قال : فحملوا يوسف إلى مصر وباعوه من عزيز مصر فقال العزيز لإمرأته: «أَكْرِمِي مَثْوَاَهُ» أي مكانه «عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا» ولم يكن له ولدٌ، فأكرموه وربّوه فلمّا بلغ أشدّه هوته امرأة العزيز وكانت لا تنظر إلى يوسف امرأة إلّا هوته ولا رجل إلّا أحبّه وكان وجهه مثل القمر ليلة البدر، فراودته امرأة العزيز وهو قوله: «وَرَوَادَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَفْسِهِ وَعَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّه إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» فما زالت تخدعه حتى كان كما قال اللّه تعالى: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، وَهَمَ بِهَا لَوْلَا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ».

قال أبو عبداللّه: «لما همّت به وهم بها قامت إلى صنم في بيتها فألقت عليه ملاءة لها، فقال لها يوسف: «ما تعملين» ؟ فقالت : ألقي على هذا الصنم ثوباً لا يرانا فإنّي أستحي منه، فقال يوسف: «أنت تستحيين من صنم لا يسمع ولا يبصر ولا أستحيي أنا من

ص: 179


1- أي ننتصل ونترامى.

ربّي» ؟! فوثب وعدا وعدت من خلفه وأدركهما العزيز على هذه الحالة وهو قول اللّه : «وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرِ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ».

فبادرت امرأة العزيز فقالت للعزيز: «مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

فقال يوسف للعزيز: «قَالَ هِيَ رَوَدَتْنِي عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا» وأهم اللّه يوسف أن قال للملك: «سل هذا الصبي في المهد فإنّه يشهد أنّها راودتني عن نفسي». فقال العزيز للصبيّ، فأنطق اللّه الصبي في المهد ليوسف حتّى قال : «إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلِ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَذِبِينَ (26) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّدِقِينَ». فلمّا رأى العزيز قميص يوسف قد تخرّق من دبر قال لامرأته : «إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» ثم قال ليوسف: «أعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِعِينَ»(1).

وشاع الخبر بمصر وجعلت النساء يتحدّثن بحديثها وهو قوله: «وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ». فبلغ ذلك امرأة العزيز فبعثت إلى كلّ امرأة رئيسة فجمعتهنّ في منزلها وهيّأت لهنّ مجلساً ودفعت إلى كلّ إمرأة أُترجة وسكّيناً فقالت: أقطعن، ثمّ قالت ليوسف: أُخرج عليهنّ، وكان في بيت، فخرج يوسف عليهنّ فلمّا نظرن إليه أقبلن يقطعن أيديهن، وقلن كما حكى اللّه (عزّوجلّ) : «فلمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَا». أي أُترجة وءاتَتْ» وأعطت «كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فلمّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ» إلى قوله: «إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكَ كَرِيمٌ».

فقالت امرأة العزيز: «فَذَلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَنِي فِيهِ» في حبّه «وَلَقَدْ رَوَدتُّهُ عَن

ص: 180


1- يوسف: 29.

نَفْسِهِ» أي دعوته «فَأَسْتَعْصَمَ» أي إمتنع ثمّ قالت: «وَلَئِن لَمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَا مِنَ الصَّغِرِينَ». فما أمسى يوسف في ذلك البيت حتّى بعثت إليه كل امرأة رأته تدعوه إلى نفسها فضجر يوسف في ذلك البيت فقال : «رَبِّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنُ مِنَ الْجَهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ, فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ»(1) أي حيلتهنَّ «أَصْبُ إِلَيْهِنَّ» أي أميل إليهنّ، وأمرت امرأة العزيز بحبسه فحبس في السجن».

تفسير المنام لصاحبيه

قال علي بن إبراهيم ووكّل الملك بيوسف رجلين يحفظانه، فلمّا دخلوا السجن قالوا له: ما صناعتك؟ قال: «أُعبّر الرؤيا»، فرأى أحد الموكّلين في نومه كما قال اللّه : «أَعْصِرُ خَمْرًا» قال :يوسف: «تخرج من السجن وتصير على شراب الملك وترتفع منزلتك عنده»، وقال الآخر : «إِنِّي أَرَني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْرًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ». ولم يكن رأى ذلك، فقال له يوسف: «أنت يقتلك الملك ويصلبك وتأكل الطير من دماغك»، فجحد ذلك الرجل وقال: إنّي لم أر ذلك، فقال يوسف كما حكى اللّه (عزّوجلّ) : «يَاصَحِي السّجْنِ أَمَا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَأْسِهِ، قُضِيَ

الْأَمْرُ الّذي فِيهِ تَسْنَفْتِيَانِ».

فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله : «إِنَّا نَرَبِّكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ». قال: «كان يقوم على المريض، ويلتمس المحتاج، ويوسّع على المحبوس، فلمّا أراد من رأى في نومه أن يعصر خمراً الخروج من الحبس قال له يوسف: «اذكُرنِي عِندَ رَبِّكَ»، فكان كما قال اللّه (عزّوجلّ) : «فَأَنسَهُ الشَّيْطَنُ ذِكْرَ رَبِّهِ»».

ص: 181


1- الآيات المذكورة من سورة يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ).

أخبرنا شعيب العقرقوفيّ (1) عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ يوسف أتاه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له يا يوسف إنّ ربّ العالمين يقرؤك السلام ويقول لك: من جعلك أحسن خلقة؟ قال فصاح ووضع خدّه على الأرض ثمّ قال: أنت ياربّ ثمّ قال له: ويقول لك: من حبّبك إلى أبيك دون إخوتك؟ قال: فصاح ووضع خدّه على الأرض وقال: أنت يارب قال: ويقول لك من أخرجك من الجبّ بعد أن طرحت فيها وأيقنت بالهلكة؟ قال: فصاح ووضع خدّه على الأرض ثم قال : أنت ياربّ، قال : فإنّ ربّك قد جعل لك عقوبة في استغاثتك بغيره فالبث في السجن بضع سنين، قال: فلمّا انقضت المدة وأذن اللّه له في دعاء الفرج وضع خدّه على الأرض ثمّ قال: «اللّهم إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي عندك فإنّي أتوجه إليك بوجه آبائي الصالحين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويقعوب ففرج اللّه عنه».

رؤيا الملك

قال علي بن إبراهيم ثمّ إنّ الملك رأى رؤيا فقال لوزرائه: إنّي رأيت في نومي سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف أي مهازيل ورأيت سبع سنبلات خضر وأُخر يابسات ثم قال : «يَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءيَيَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءَيَا تَعْبُرُونَ». فلم يعرفوا تأويل ذلك، فذكر الّذي كان على رأس الملك رؤياه التي رآها وذكر يوسف بعد سبع سنين وهو قوله: «وَقَالَ الّذي نَجَا مِنْهُمَا وَاذَكَرَ بَعْدَ أُمّة» أي بعد حين «أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ» فجاء إلى يوسف فقال : «أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعُ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنُبُلَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَت». فقال يوسف: «تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً» - أي ولياً (2) «فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا نَأْكُلُونَ» أي لا تدوسوه فإنّه

ص: 182


1- عقرقوف : قرية قديمة بالقرب من بغداد.
2- أي متوالية.

يفسد في طول سبع سنين فإذا كان في سنبله لا يفسد «ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعُ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ» أي سبع سنين مجاعة شديدة يأكلن ما قدّمتم لهنّ في سبع سنين الماضية.

«ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» أي يمطرون بعد سني المجاعة والدليل على ذلك قوله: «وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً تَجَاجًا»(1).

قصة بنيامين مع أخيه يوسف

خرج أُخوة يوسف وخرج معهم بنيامين وكان لا يؤاكلهم ولا يجالسهم ولا يكلّمهم، فلمّا وافوا مصر دخلوا على يوسف وسلّموا، فنظر يوسف إلى أخيه فعرفه فجلس منهم بالبعيد، فقال يوسف: «أنت أخوهم» ؟ قال : نعم، قال: «فلِمَ لا تجلس معهم»؟ قال: لأنهم أخرجوا أخي من أبي وأُمّي ثم رجعوا ولم يردّوه وزعموا أنّ الذئب أكله، فاليت على نفسي أن لا أجتمع معهم على أمر ما دمت حياً، قال: «فهل تزوّجت»؟ قال : بلى، قال: «فوُلِد لك ولد» ؟ قال : بلى، قال: «كم ولد لك وما سمّيتهم»؟ قال: ثلاثة بنين وسمّيت واحداً منهم الذئب وواحداً القميص وواحداً الدم، قال: «وكيف اخترت هذه الأسماء»؟ قال: لئلاً أنسى أخي، كلّما دعوت واحداً من ولدي ذكرت أخي، قال يوسف لهم: «أخرجوا»، وحبس بنيامين، فلمّا خرجوا من عنده قال يوسف لأخيه: «أنا أَخُوكَ يوسف فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» ثمّ قال له: «أنا أحبّ أن تكون عندي»، فقال: لا يدعوني إخوتي، فإنّ أبي أخذ عليهم عهد اللّه وميثاقه أن يردّوني إليه، قال: «فأنا أحتال بحيلة فلا تنكر إذا رأيت شيئاً ولا تخبرهم» فقال : لا، «فلمّا جَهَزَهُم بِجَهَازِهِمْ» وأعطاهم وأحسن إليهم قال لبعض قوّامه : «إجعلوا هذا الصاع في رحل هذا»، وكان الصاع الّذي يكيلون به من ذهب، فجعلوه في رحله من حيث لم يقفوا عليه إخوته، فلمّا ارتحلوا بعث إليهم يوسف وحبسهم ثم أمر منادياً ينادي: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ

ص: 183


1- النبأ: 14.

إِنَّكُمْ لَسَرِقُونَ». فقال إخوة يوسف : «مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ، حَمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمُ» أي كفيل فقال إخوة يوسف ليوسف : «تَاللّه لَقَدْ عَلِمْتُم مَا جِئْنَا لِنَفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَرِقِينَ» قال يوسف : «فَمَا جَزَاؤُهُ إن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ» فاحبسه «فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ». فتشبّثوا بأخيه وحبسوه وهو قوله: «كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ» أي إحتلنا له «مَا كَانَ ليَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللّه نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلَّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» فسئل الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن قوله : «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَرِقُونَ». قال: «ما سرق وما كذب يوسف فإنّما عنى سرقتم يوسف من أبيه».

قال إخوة يوسف: «يَأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبَا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» فلمّا رأى يوسف ذلك «قَالَ مَعَاذَ اللّه أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ» ولم يقل إلّا من سرق متاعنا «إِنَّا إِذَا لَظَلِمُونَ». فلمّا آيسوا وأرادوا الإنصراف إلى أبيهم قال لهم لاوي بن يعقوب: «أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَد أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقَا مِّنَ اللّه» في هذا «وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ» فارجعوا أنتم إلى أبيكم أما أنا فلا أرجع إليه «حتّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّه لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَكِمِينَ». ثم قال لهم : «ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ أَبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبلْنَا فِيهَا» أي أهل القرية وأهل العير «وَإِنَّا لَصَدِقُونَ». قال : فرجع إخوة يوسف إلى أبيهم وتخلّف يهودا(1).

رجوع يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى أبيه يعقوب (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: قلت له : أخبرني عن يعقوب

ص: 184


1- بحار الأنوار: ج 12 ص 240.

حين قال لولده : «أَذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ». أكان علم أنه حي وقد فارقه منذ عشرين سنة وذهبت عيناه عليه من البكاء، قال: «نعم، علم أنه حي حتّى أنّه دعا ربّه في السحر أن يهبط عليه ملك الموت فهبط عليه ملك الموت بأطيب رائحة وأحسن صورة فقال له: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت أليس سألت اللّه أن ينزلني عليك؟ قال: نعم، قال: ما حاجتك يا يعقوب ؟ قال له: أخبرني عن الأرواح تقبضها جملة أو تفاريقاً؟ قال: تقبضها أعواني متفرّقة وتعرض عليّ مجتمعة، قال يعقوب: فاسألك بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب هل عرض عليك في الأرواح روح يوسف؟ فقال: لا، فعند ذلك علم أنه حيّ، فقال لولده: «أَذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَأْیْئَسُوا مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لَا يَأْيْئسُ مِن رَّوْحِ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكَفِرُونَ» (1) وكتب عزيز مصر إلى يعقوب:

أما بعد فهذا ابنك اشتريته بثمن بخس دراهم وهو يوسف واتّخذته عبداً وهذا ابنك بنيامين قد سرق وأخذته فقد وجدت متاعي عنده واتخذته عبداً فكتب إليه يعقوب (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

«بسم اللّه الرحمن الرحيم: من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللّه، أمّا بعد فقد فهمت كتابك تذكر فيه إنّك اشتريت ابني واتّخذته عبداً وإنّ البلاء موكّل ببني آدم... وإنّه كان لي ولد لم يكن في الدنيا أحد أحبّ إلي منه وكان قرّة عيني وثمرة فؤادي فأخرجوه إخوته ثمّ رجعوا إلىّ وزعموا أنّ الذئب أكله فاحدودب لذلك ظهري وذهب من كثرة البكاء عليه بصري وكان له أخ من أُمّه كنت آنس به فخرج مع إخوته إلىّ ما قبلك ليمتاروا لنا طعاماً فرجعوا إلى وذكروا أنه سرق صواع الملك وقد حبسته وإنّا أهل بيت لا يليق بنا السرق ولا الفاحشة وأنا أسألك بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إلّا مننت عليّ به وتقرّبت إلى اللّه ورددته إليّ». فلمّا ورد الكتاب إلى يوسف أخذه ووضعه على وجهه وقبله وبكى بكاءً شديداً ثم نظر إلى إخوته فقال لهم: «قَالَ هَلْ

ص: 185


1- يوسف : 87.

عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ»، «قَالُوا أَعِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخى قَدْ مَنَّ اللّه عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللّه لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ».

فقالوا كما حكى اللّه (عزّوجلّ) : «لَقَدْ َءاثَرَكَ اللّه عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» أي لا تخليط «يَغْفِرُ اللّه لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» قال: «فلمّا ولّى الرسول إلى الملك بكتاب يعقوب رفع يعقوب يده إلى السماء فقال: «ياحسن الصحبة ياكريم المعونة ياخير إله إئتني بروح منك وفرج من عندك» فهبط جبرئيل عليه فقال له: يا يعقوب ألا أُعلّمك دعوات يردّ اللّه عليك بصرك وابنيك؟ قال: نعم، قال: قل: يا من لم يعلم أحد كيف هو إلا هو، يامن سدّ السماء بالهواء وكبس الأرض على الماء واختار لنفسه أحسن الأسماء ائتني بروح منك وفرج من عندك» قال: فما انفجر عمود الصبح حتّى أُتي بالقميص فطرح عليه ورد اللّه عليه بصره وولده».

قال علي بن إبراهيم: ثم رحل يعقوب وأهله من البادية بعد ما رجع إليه بنوه بالقميص فألقوه على وجهه فارتد بصيراً فقال لهم: «ألم أقل لكم إنّي أعلم من اللّه ما لا تعلمون» ؟ قالوا له: يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنّا كنّا خاطئين، فقال لهم: «سوف استغفر لكم ربّي إنّه هو الغفور الرحيم». قال: أخّرهم إلى السحر لأنّ الدعاء والاستغفار مستجاب فيه، فلمّا وافى يعقوب وأهله وولده مصر قعد يوسف على سريره ووضع تاج الملك على رأسه، فلمّا دخل أبوه لم يقم له فخروا كلّهم له سجداً فقال يوسف: «وَقَالَ يَابَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءيَاى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَارَتِي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَن نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ»(1).

ص: 186


1- الآيات أعلاه من سورة يوسف : 6 إلى 100.

زواج يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ) الكلام من زليخا

عن ابن المغيرة عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «استأذنت زليخا على يوسف فقيل لها: يا زليخا إنّا نكره أن نقدم بك عليه لما كان منك إليه، قالت: إنّي لا أخاف من يخاف اللّه، فلمّا دخلت قال لها : يازليخا ما لي أراك قد تغيّر لونك؟ قالت: الحمد للّه الّذي جعل الملوك بمعصيتهم عبيداً وجعل العبيد بطاعتهم ملوكاً، قال لها : يازليخا ما الّذي دعاك إلى ما كان منك؟ قالت: حسن وجهك يايوسف فقال: كيف لو رأيت نبياً يقال له محمّد يكون في آخر الزمان أحسن مني وجهاً وأحسن مني خلقاً وأسمح منّي كفّاً؟ قالت: صدقت، قال: وكيف علمت أنّي صدقت ؟ قالت : لأنّك حين ذكرته وقع حبّه في قلبي، فأوحى اللّه (عزّوجلّ) إلى يوسف: أنها قد صدقت وإني قد أحببتها لحبها محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأمره اللّه تبارك وتعالى أن يتزوّجها» (1).

نبي اللّه أيوب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وصبره على البلاء

عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سألته عن بليّة أيوب (عَلَيهِ السَّلَامُ) التي ابتلي بها في الدنيا لأيّ علّة كانت؟ قال: «لنعمة أنعم اللّه عليه بها في الدنيا وأدّى شكرها، وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس عن دون العرش، فلمّا صعد ورأى شكر نعمة أيوب حسده إبليس فقال : ياربّ إنّ أيّوب لم يؤد إليك شكر هذه النّعمة إلا بما أعطيته من الدنيا ولو حرمته دنياه ما أدى إليك شكر نعمة أبداً، فسلّطني على دنياه حتّى تعلم أنّه لا يؤدّي إليك شكر نعمة أبداً، فقيل له: قد سلطتك على ماله وولده.

قال: فانحدر إبليس فلم يبق له مالا ولا ولداً إلا أعطبه (2)، فازداد أيوب اللّه شكراً وحمداً، فقال: سلّطني على زرعه ياربّ قال: قد فعلت فجاء مع شياطينه فنفخ فيه

ص: 187


1- البحار : ج 12 ص 218 281.
2- أى أهلكه.

فاحترق، فازداد أيوب اللّه شكراً وحمداً، فقال: ياربّ سلّطني على غنمه، فسلّطه على غنمه فأهلكها، فازداد أيوب اللّه شكراً وحمداً، فقال: ياربّ سلّطني على بدنه، فسلّطه على بدنه ما خلا عقله وعينيه فنفخ فيه إبليس فصار قرحةً واحدة من قرنه إلى قدمه، فبقي في ذلك دهراً طويلا يحمد اللّه ويشكره حتّى وقع في بدنه الدود وكانت تخرج من بدنه فيردّها ويقول لها: إرجعي إلى موضعك الّذي خلقك اللّه منه، ونتن حتّى أخرجه أهل قريته من القرية وألقوه على المزبلة خارج القرية، وكانت امرأته رحمة بنت يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلّى اللّه عليهم وعليها أجمعين تتصدّق من الناس وتأتيه بما تجده.

قال: فلمّا طال عليه البلاء ورأى إبليس صبره، أتى أصحاباً له كانوا رهباناً في الجبال وقال لهم: مروا بنا إلى هذا العبد المبتلى فنسأله عن بليته، فركبوا بغالا شهباً وجاؤوا فلمّا دنوا منه نفرت بغالهم من نتن ريحه، فقرنوا بعضاً إلى بعض ثم مشوا إليه، وكان فيهم شاب حدث السن فقعدوا إليه فقالوا: يا أيوب لو أخبرتنا بذنبك لعلّ اللّه كان يهلكنا إذا سألناه وما نرى ابتلاءك بهذا البلاء الّذي لم يبتل به أحد إلا من أمر كنت تستره.

فقال أيّوب: وعزّة ربّي إنّه ليعلم أنّي ما أكلت طعاماً إلا ويتيم أو ضعيف يأكل معي، وما عرض لي أمران كلاهما طاعة اللّه إلا أخذت بأشدّهما على بدني، فقال الشاب: سوأة لكم عمدتم إلى نبي اللّه فعيّر تموه حتّى أظهر من عبادة ربه ما كان يسترها؟ فقال أيوب : ياربّ لو جلست مجلس الحكم منك لأدليت بحجّتي، فبعث اللّه إليه غمامة فقال: يا أيوب أدلني بحجّتك فقد أقعدتك مقعد الحكم وها أنا ذا قريب ولم أزل، فقال: ياربّ إنك لتعلم أنه لم يعرض لي أمران قط كلاهما لك طاعة إلا أخذت بأشدّهما على نفسي، ألم أحمدك ؟ ألم أشكرك ؟ ألم أسبّحك؟ قال: فنودي من الغمامة بعشرة آلاف لسان: ياأيوب من صيّرك تعبد اللّه والناس عنه غافلون ؟ وتحمده وتسبّحه وتكبّره والناس عنه غافلون ؟ أتمنّ على اللّه بما اللّه المنّ فيه عليك؟

ص: 188

قال: فأخذ أيوب التراب فوضعه في فيه، ثم قال: لك العتبى ياربّ، أنت الّذي فعلت ذلك بي، قال: فأنزل اللّه عليه ملكاً فركض برجله فخرج الماء فغسله بذلك الماء فعاد أحسن ما كان وأطرأ وأنبت اللّه عليه روضة خضراء وردّ عليه أهله وماله وولده وزرعه وقعد معه الملك يحدّثه ويؤنسه فأقبلت امرأته ومعها الكسر (1) فلمّا انتهت إلى الموضع إذا الموضع متغيّر وإذا رجلان جالسان فبكت وصاحت وقالت: يا أيوب ما دهاك؟ فناداها أيوب فأقبلت فلمّا رأته وقد ردّ اللّه عليه بدنه ونعمته سجدت اللّه شكراً.

ثمّ قال : «وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ, وَمَثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَبِ»(2) قال : فردّ اللّه عليه أهله الّذين ماتوا قبل البلية وردّ عليه أهله الّذين ماتوا بعد ما أصابهم البلاء، كلّهم أحياهم اللّه تعالى له فعاشوا معه، وسئل أيوب بعد ما عافاه اللّه: أي شيء كان أشد عليك مما مرّ عليك ؟ قال : شماتة الأعداء، قال : فأمطر اللّه عليه في داره فراش الذهب، وكان يجمعه فإذا ذهب الريح منه بشيء عدا خلفه فردّه فقال له جبرئيل: ما تشبع ياأيوب ؟ قال: ومن يشبع من رزق ربّه» (3)؟!

بكاء نبي اللّه شُعيب (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن أنس قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «بکی شعیب (عَلَيهِ السَّلَامُ) من حبّ اللّه (عزّوجلّ) حتّى عمي فردّ اللّه عليه بصره، ثم بكى حتّى عمي فردّ اللّه عليه بصره، ثم بكى حتّى عمي فرد اللّه عليه بصره، فلمّا كانت الرابعة أوحى اللّه إليه : ياشعيب إلى متى يكون هذا؟ أبداً منك؟ إن يكن هذا خوفاً من النار فقد آجرتك، وإن يكن شوقاً إلى الجنّة فقد أبحتك، فقال: إلهي وسيّدي أنت تعلم أنّي ما بكيت خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنتك ولكن عقد حبّك

ص: 189


1- الكسر : الجزء من العضو أو جزء من العظم مع ما عليه من اللحم.
2- ص: 43.
3- البحار : ج 12 ص 342.

على قلبي فلست أصبر أو أراك، فأوحى اللّه جلّ جلاله إليه : أما إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران (1).

عذاب قوم شعيب (عَلَيهِ السَّلَامُ)

بالإسناد إلى الصدوق بإسناده إلى وهب قال: إنّ شعيباً النبي وأيوب وبلعم بن باعوراء كانوا من ولد رهط آمنوا لإبراهيم يوم أحرق فنجا، وهاجروا معه إلى الشام فزوجهم بنات لوط، فكل نبي كان قبل بني إسرائيل وبعد إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) من نسل أُولئك الرهط، فبعث اللّه شعيباً إلى أهل مدين، ولم يكونوا فصيلة شعيب ولا قبيلته التي كان منها، ولكنّهم كانوا أُمّة من الأُمم بعث إليهم شعيب، وكان عليهم ملك جبار ولا يطيقه أحد من ملوك عصره، وكانوا ينقصون المكيال والميزان ويبخسون الناس أشياءهم مع کفر هم باللّه وتكذيبهم لنبيه وعتوهم، وكانوا يستوفون إذا اكتالوا لأنفسهم أو وزنوا له، فكانوا في سعة من العيش، فأمرهم الملك باحتكار الطعام ونقص مكائيلهم وموازينهم، ووعظهم شعيب فأرسل إليه الملك : ما تقول فيما صنعت؟ أراض أنت أم ساخط ؟ فقال شعیب: «أوحى اللّه تعالى إلى أنّ الملك إذا صنع مثل ما صنعت يقال له : ملك فاجر»، فكذبه الملك وأخرجه وقومه من مدينته، قال اللّه حكاية عنهم :«لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالّذين ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا»(2) فزادهم شعيب في الوعظ «قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا أَوْ أَن تَفْعَلَ فِي أَمْوَلِنَا مَا نَشَاؤُا»(3).

فآذوه بالنفي من بلادهم فسلّط اللّه عليهم الحرّ والغيم حتّى أنضجهم اللّه فلبثوا

ص: 190


1- البحار : ج 12 ص 380.
2- الأعراف: 88.
3- هود: 87.

فيه تسعة أيّام وصار ماؤهم حميماً لا يستطيعون شربه فانطلقوا إلى غيضة لهم (1)وهو قوله تعالى: «أَصْحَبُ لَئَيْكَة» (2) فرفع اللّه لهم سحابة سوداء فاجتمعوا في ظلّها فأرسل اللّه عليهم ناراً منها فأحرقتهم فلم ينج منهم أحداً وذلك قوله تعالى : «فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَومِ الظُّلَّةِ»(3) وإنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذا ذكر عنده شعیب قال: «ذلك خطيب الأنبياء يوم القيامة» فلمّا أصاب قومه ما أصابهم لحق شعيب والّذين آمنوا معه بمكّة فلم يزالوا بها حتى ماتوا.

والرواية الصحيحة أنّ شعيباً (عَلَيهِ السَّلَامُ) صار منها إلى مدين فأقام بها وبها لقيه موسى بن عمران(عَلَيهِ السَّلَامُ)(4).

ولادة نبي اللّه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأحواله

عن العلاء عن محمّد، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «إنّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) لمّا حملت أُمّه به لم يظهر حملها إلّا عند وضعه وكان فرعون قد وكّل نساءً بني إسرائيل نساءً من القبط تحفظهنّ، وذلك أنّه لما كان بلغه عن بني إسرائيل أنّهم يقولون: إنّه يولد فينا رجل يقال له موسى بن عمران يكون هلاك فرعون وأصحابه على يديه، فقال فرعون عند ذلك : لأقتلنّ ذكور أولادهم حتّى لا يكون ما يريدون وفرّق بين الرجال والنساء، وحبس الرجال في المحابس، فلمّا وضعت أمّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) بموسى نظرت وحزنت واغتمّت وبكت وقالت: يذبح الساعة، فعطف اللّه قلب الموكلة بها عليها فقالت لأُمّ موسى: ما لك قد إصفرّ لونك ؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي فقالت لا تخافي. وكان موسى لا يراه

ص: 191


1- مجتمع الشجر في مغيض الماء والمغيض: مجتمع الماء.
2- الشعراء: 176.
3- الشعراء: 189.
4- البحار : ج 12 ص 384.

أحد إلا أحبّه، وهو قول اللّه (عزّوجلّ) : «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِني»(1) فأحبّته القبطيّة الموكلة به، وأنزل اللّه على أُمّ موسى التابوت ونوديت: ضعه في التابوت فاقذفيه في اليمّ وهو البحر ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين، فوضعته في التابوت وأطبقت عليه وألقته في النيل.

وكان لفرعون قصر على شطّ النيل متنزّه فنظر من قصره ومعه آسية امرأته إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج وتضربه الرياح حتّى جاءت به على باب قصر فرعون، فأمر فرعون بأخذه، فأُخذ التابوت ورفع إليه، فلمّا فتحه وجد فيه صبياً فقال: هذا إسرائيليّ، فألقى اللّه في قلب فرعون لموسى محبّة شديدة وكذلك في قلب آسية، وأراد أن يقتله فقالت آسية : «لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا» وهم لا يشعرون أنّه موسى ولم يكن لفرعون ولد فقال : التمسوا له ظئراً (2) تربيه، فجاؤوا بعّة نساء قد قتل أولادهنّ فلم يشرب لبن أحد من النساء وهو قول اللّه: «وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ».

وبلغ أُمّه أنّ فرعون قد أخذه فحزنت وبكت كما قال اللّه: «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَنُبْدِى بِهِ» يعني كادت أن تخبرهم بخبره أو تموت ثم ضبطت نفسها فكانت كما قال : «لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ثمّ قالت لأُخت موسى: «قُصِّيهِ»، أي اتّبعيه، فجاءت أُخته إليه فبصرت به عن جنب أي عن بعد وهم لا يشعرون، فلمّا لم يقبل موسى بأخذ ثدي أحد من النساء اغتم فرعون غماً شديداً فقالت أُخته: «هَلْ أَدُلُكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَصِحُونَ» فقالوا: نعم، فجاءت بأُمّه فلمّا أخذته في حجرها وألقمته ثديها التقمه وشرب، ففرح فرعون وأهله وأكرموا أُمّه فقالوا لها: ربّيه لنا، فإنا نفعل بك ونفعل، وذلك قول

ص: 192


1- طه: 39.
2- الظئر : المرضعة.

اللّه: «فَرَدَدْنَهُ إِلَى أُمّه كَى تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ».

وكان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل كلّ ما يلدون ويربّي موسى ويكرمه ولا يعلم أنّ هلاكه على يده، فلمّا درج (1) موسى كان يوماً عند فرعون فعطس موسى فقال: الحمد اللّه ربّ العالمين، فأنكر فرعون ذلك عليه ولطمه وقال: ما هذا الّذي تقول ؟ فوثب موسى على لحيته فهلبها أي قلعها فهم فرعون بقتله، فقالت امرأته: غلام حدث لا يدري ما يقول وقد لطمته بلطمتك إياه، فقال فرعون: بل يدري، فقالت له: ضع بين يديك تمراً وجمراً فإنْ ميّز بينهما فهو الّذي تقول، فوضع بين يديه تمراً وجمراً فقال له: كل، فمد يده إلى التمر فجاء جبرئيل فصرفها إلى الجمر في فيه فاحترق لسانه فصاح وبكى، فقالت آسية لفرعون ألم أقل لك أنه لا يعقل؟ فعفى عنه.

قال: فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتّى بلغ مبلغ الرجال وكان ينكر عليه ما يتكلّم به موسى من التوحيد حتّى همّ به فخرج موسى من عنده ودخل المدينة فإذا رجلان يقتتلان؛ أحدهما يقول بقول موسى والآخر يقول بقول فرعون، فاستغاثه الّذي هو من شيعته، فجاء موسى فوكز صاحب فرعون فقضى عليه وتوارى في المدينة، فلمّا كان من الغد جاء آخر فتشبّث بذلك الرجل الّذي يقول بقول موسى فاستغاث بموسى فلمّا نظر صاحبه إلى موسى قال له: «أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمسِ» فخلّى صاحبه وهرب، وكان خازن فرعون مؤمناً بموسى قد كتم إيمانه ستّمائة سنة وهو الّذي قال اللّه: «وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنُ مِنْ عَالِ فِرْعَوْنَ یَکْتُمُ إِيمَنَهُ أَنَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللّه»(2) وبلغ فرعون خبر قتل موسى الرجل فطلبه ليقتله فبعث

ص: 193


1- درج: مشى.
2- غافر : 28.

المؤمن إلى موسى: «إِنَّ الْمَلَا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَأَخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّصِحِينَ». فخرج منها كما حكى اللّه «خَائِفَاً يَتَرَقَبُ». قال : يلتفت يمنة ويسرة ويقول: «رَبِّ نَجَّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». ومرّ نحو مدين وكان بينه وبين مدين مسيرة ثلاثة أيّام، فلمّا بلغ باب مدين رأى بئراً يستقي الناس منها لأغنامهم ودوابهم فقعد ناحية، ولم يكن أكل منذ ثلاثة أيّام شيئاً، فنظر إلى جاريتين في ناحية ومعهما غنيمات لا تدنوان من البئر فقال لهما: «ما لكما لا تستقيان»؟ فقالتا كما حكى اللّه : «حتّى يُصْدِرَ الرِعَاءُ وَأَبُونَ شَيْخٌ كَبِيرُ» فرحمها موسى ودنا من البئر فقال لمن على البئر : استقي لي دلواً ولكم دلواً، وكان الدلو يمدّه عشرة رجال، فاستقى وحده دلواً لمن على البئر ودلواً لبنتي شعيب وسقى أغنامهما «ثُمَّ تَوَلَّى إلَى الظَّلَّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى مِنْ خَيْرِ فَقِيرٌ» وكان شديد الجوع».

وقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إن موسى كليم اللّه حيث سقى لهما ثمّ تولّى إلى الظلّ فقال: «رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» واللّه ما سأل اللّه إلّا خبزاً يأكل لأنّه كان يأكل بقلة الأرض ولقد رأوا خضرة البقل من صفاق بطنه (1) من هزاله، فلمّا رجعتا ابنتا شعيب إلى شعيب قال لهما : أسرعتها الرجوع فأخبرتاه بقصة موسى ولم تعرفاه.

فقال شعيب لواحدة منهما : «إذهبي إليه فادعيه لنجزيه أجر ما سقى لنا، فجاءت إليه كما حكى اللّه : «تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءِ». فقالت له : «إِن أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا». فقام موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) معها فمشت أمامه فسفقتها الرياح فبان عجزها فقال لها موسى: تأخّري ودلّيني على الطريق بحصات تلقيها أمامي أتبعها فأنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء، فلمّا دخل على شعيب قصَّ عليه قصتهّ فقال له شعيب: «لا تَخَفْ نَجَوتَ مِن الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» قالت إحدى بنات شعیب: «يَا أَبَتِ اسْتَعْجِرُهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَئَجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» فقال لها شعيب أما قوته فقد عرفته بسقي الدلو

ص: 194


1- الصِفاق ككِتاب: الجلد الّذي يمسك البطن.

وحده فبم عرفت أمانته؟ فقالت: إنّه قال لي: تأخّري عنّي ودلّيني على الطريق فأنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنَّه ليس من القوم الّذين ينظرون في أعجاز النّساء فهذه أمانته، فقال له شعيب «قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللّه مِنَ الصَّلِحِينَ».

فقال له :موسی «ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَى» أَي لا سبيل عليّ إن عملت عشر سنين أو ثماني سنين فقال موسى: «وَاللّه عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ»»(1)(2).

تواضع موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : «إنّ موسى بن عمران حبس عنه الوحي ثلاثين صباحاً، فصعد على جبل بالشام يقال له أريحا فقال: «ياربّ لِمَ حبست عنّي وحيك وكلامك ؟ ألذنب أذنبته فها أنا بين يديك فاقتصّ لنفسك رضاها، وإن كنت إنّما حبست عنّي وحيك وكلامك لذنوب بني إسرائيل فعفوك القديم»، فأوحى اللّه إليه «أن ياموسى تدري لِمَ خصصتك بوحيي وكلامي من بين خلقي»؟ فقال: «لا أعلمه ياربّ»، قال: «ياموسى إنّني اطلعت على خلقي اطّلاعة فلم أر في خلقي شيئاً أشدّ تواضعاً منك، فمن ثمّ خصصتك بوحيي وكلامي من بين خلقي»، قال : وكان موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا صلّى لم ينفتل حتّى يلصق خده الأيمن بالأرض، وخدّه الأيسر بالأرض(3).

ص: 195


1- الآيات أعلاه من سورة القصص: 9-28.
2- البحار : ج 13 ص 25.
3- البحار: ج 75 ص 122.

نبي اللّه موسى وقومه

«وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ» قال: كان فرعون يعبد الأصنام ثمّ إدَّعى بعد ذلك الربوبية فقال فرعون : «سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ» قوله : «قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا». قال الّذين آمنوا لموسى: أُوذينا من قبل مجيئك ياموسى بقتل أولادنا ومن بعد ما جئتنا لما حبسهم فرعون لإيمانهم بموسى، فقال موسى: «قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» ومعنى ( يَنظُرَ) أي يرى كيف تعملون وقوله : «وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ» يعني السنين الجدبة لمّا أنزل اللّه عليهم الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم.

وأما قوله: «فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ» قال: الحسنة ههنا الصحة والسلامة والأمن و السعة «وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» قال : السيئة ههنا الجوع والخوف والمرض «يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ» أي يتشأمّوا بموسى ومن معه وأمّا قوله: «وَقَالُوا مَهمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ» إلى قوله «فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ»(1) فإنه لمّا سجد السحرة وآمن به الناس قال هامان لفرعون: إنّ الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل دينه فاحبسه، فحبس كلّ من آمن به من بني إسرائيل، فجاء إليه موسى فقال له : «خلّ عن بني إسرائيل» فلم يفعل، فأنزل اللّه عليهم في تلك السنة الطوفان فخرّب دورهم ومساكنهم حتّى خرجوا إلى البرية وضربوا فيها الخيام، فقال فرعون الموسى : أُدع ربّك حتّى يكفّ عنا الطوفان حتّى أُخلّي عن بني إسرائيل وأصحابك، فدعا موسى ربّه فكفّ عنهم الطوفان، وهم فرعون أن يخلّي عن

ص: 196


1- الآيات أعلاه من سورة الأعراف: 127 - 133.

بني إسرائيل فقال له هامان: إن خلّيت عن بني إسرائيل غلبك موسى وأزال ملكك، فقبل منه ولم يخلّ عن بني إسرائيل، فأنزل اللّه عليهم في السنة الثانية الجراد فجردت كلّ شيء : كان لهم من النبت والشجر، حتّى كانت تجرّد شعرهم ولحيتهم فجزع فرعون من ذلك جزعاً شديداً وقال: ياموسى أدع ربّك أن يكفّ الجراد عنا حتّى أُخلّي عن بني إسرائيل وأصحابك، فدعا موسى ربّه فكفّ عنهم الجراد، فلم يدعه هامان أن يخلّي عن بني إسرائيل، فأنزل اللّه عليهم في السنة الثالثة القمّل (1) فذهبت زروعهم وأصابتهم المجاعة.

فقال فرعون لموسى: إن رفعت عنّا القمّل كففت عن بني إسرائيل، فدعا موسى ربه حتّى ذهب،القمل، وقال: أوّل ما خلق اللّه القمل في ذلك الزمان، فلم يخلّ عن بني إسرائيل، فأرسل اللّه عليهم بعد ذلك الضفادع فكانت تكون في طعامهم وشرابهم ويقال: إنّها كانت تخرج من أدبارهم وآذانهم وآنافهم، فجزعوا من ذلك جزعاً شديداً.

فجاؤوا إلى موسى فقالوا: أِدع اللّه أن يذهب عنا الضفادع، فإنّا نؤمن بك ونرسل

معك بني إسرائيل، فدعا إسرائيل، فدعا موسى ربّه فرفع اللّه عنهم ذلك، فلمّا أبوا أن يخلّوا عن بني إسرائيل حوّل اللّه ماء النيل دماً، فكان القبطي يراه دماً والإسرائيلي يراه ماءً فإذا شربه الاسرائيلي كان ماءً، وإذا شربه القبطي كان دماً، فكان القبطي يقول للإسرائيلي: خذ الماء في فمك وصبّه في فمي فكان إذا صبّه في فم القبطي تحوّل دماً.

فجزعوا من ذلك جزعاً شديداً فقالوا لموسى: لئن رفع اللّه عنا الدم لنرسلنَّ معك بني إسرائيل، فلمّا رفع اللّه عنهم الدم غدروا ولم يخلّوا عن بني إسرائيل، فأرسل اللّه عليهم الرجز وهو الثلج ولم يروه قبل ذلك فماتوا فيه وجزعوا وأصابهم ما لم يعهدوه قبله، فقالوا ياموسى اُدع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك

ص: 197


1- أى السوس.

ولنرسلنَّ معك بني إسرائيل، فدعا ربّه فكشف عنهم الثلج وخلّى عن بني إسرائيل فلما خلّى عنهم اجتمعوا إلى موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وخرج موسى من مصر واجتمع عليه من كان هرب من فرعون وبلغ فرعون ذلك فقال له هامان: قد نهيتك أن تخلّي عن بني إسرائيل فقد اجتمعوا إليه فجزع فرعون وبعث في المدائن حاشرين وخرج في طلب موسى (1).

غرق فرعون وجنوده

في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في قوله «وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا» إلى قوله: «وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ»(2) فإنّ بني إسرائيل : قالوا: ياموسى أُدع اللّه أن يجعل لنا ممّا نحن فيه فرجاً، فدعا فأوحى اللّه إليه: أن أسر بهم، قال: «ياربّ البحر أمامهم»، قال: «إمض فإنّي آمره أن يعطيك وينفرج لك»، فخرج موسى ببني إسرائيل واتبعهم فرعون حتّى إذا كاد أن يلحقهم ونظروا إليه قد أظلّهم، قال موسى للبحر: «إنفرج لي»، قال ما كنت لأفعل، وقال بنو إسرائيل لموسى (عَلَيهِ السَّلَامُ): غررتنا وأهلكتنا، فليتك تركتنا يستعبدنا آل فرعون ولم نخرج الآن نقتل قتلة، قال: «قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ». (3)

واشتدّ على موسى ما كان يصنع به عامة قومه وقالوا يا موسى إنّا لمدركون، زعمت أنّ البحر ينفرج لنا حتّى نمضي ونذهب وقد رهقنا (4) فرعون وقومه هم هؤلاء نراهم قد دنوا منّا، فدعا موسى ربّه، فأوحى اللّه إليه : «أَنِ اضْرِب بَعَصَاكَ الْبَحْرَ»(5) فضربه فانفلق البحر، فمضى موسى وأصحابه حتّى قطعوا البحر وأدركهم آل فرعون، فلمّا نزلوا

ص: 198


1- البحار: ج 13 ص 110.
2- یونس: 90.
3- الشعراء: 62.
4- أي لحقنا ودنا منا.
5- الشعراء: 63.

إلى البحر قالوا لفرعون ما تعجب مما ترى؟ قال أنا فعلت فمروا وامضوا فيه، فلمّا توسّط فرعون ومن معه أمر اللّه البحر فأطبق عليهم فأغرقهم أجمعين، فلمّا أدرك فرعون الغرق قال : «ءَامَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَاءِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ»(1) يقول اللّه (عزّوجلّ): : ءالْئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»(2) يقول: كنت من العاصين «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ» قال : إنّ قوم فرعون ذهبوا أجمعين في البحر فلم ير منهم أحد، هووا في البحر إلى النار.

وأمّا فرعون فنبذه اللّه وحده فألقاه بالساحل لينظروا إليه وليعرفوه ليكون لمن خلفه آية، ولئلا يشك أحد في هلاكه وإنهم كانوا اتَّخذوه ربّاً فأراهم اللّه إياه جيفة ملقاة بالساحل ليكون لمن خلفه عبرة وعظة، يقول اللّه: «وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ ءَايَاتِنَا لَغَفِلُونَ». (3)

وقوله : «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ» (4) فإنّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) أخبر بني إسرائيل أنّ اللّه قد غرق فرعون فلم يصدّقوه فأمر اللّه البحر فلفظ به على ساحل البحر حتّى رأوه ميّتاً»(5).

عصا موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وسحرة فرعون

عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لمّا بعث اللّه موسى إلى فرعون أتى بابه فاستأذن عليه ولم يؤذن له، فضرب بعصاه الباب فاصطكّت الأبواب مفتّحة ثم دخل على فرعون فأخبره أنّه رسول من ربّ العالمين وسأله أن يرسل معه بني إسرائيل، فقال له فرعون كما حكى اللّه : «قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ

ص: 199


1- یونس: 90.
2- یونس: 91.
3- یونس: 92.
4- يونس: 92.
5- لبحار : ج 13 ص 116.

فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ» أي قتلت رجلا «وَأَنتَ مِنَ الْكَفِرين». يعني كفرت نعمتي.

فقال موسى كما حكى اللّه : «فَعَلْتُهَا إِذَا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَرَرْتُ مِنكُمْ» إلى قوله : «أَن عَبَدتَ بَنِي إِسْرَاءِيلَ» فقال فرعون : «وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ» وإِنما سأله عن كيفية اللّه، فقال موسى: «رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُوقِنِينَ»

فقال فرعون متعجباً لأصحابه : «أَلَا تَسْتَمِعُونَ» أسأله عن الكيفية فيجيبني عن الخلق.

فقال موسى: «رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ»» ثم قال لموسى: «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» قال موسى: «أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ».

قال فرعون: «فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعبَانٌ مُّبِينٌ» فلم يبق أحد من جلساء فرعون إلّا هرب ودخل فرعون من الرعب ما لم يملك نفسه.

فقال فرعون: ياموسى أُنشدك اللّه والرضاع إلا ما كففتها عنّي، فكفّها، ثمّ نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، فلمّا أخذ موسى العصا رجعت إلى فرعون نفسه وهمّ بتصديقه فقام إليه هامان فقال له بينما أنت إله تعبد إذ صرت تابعاً لعبد.

ثمّ قال فرعون للملأ الّذي حوله: «إِنَّ هَذَا لَسَحِرُ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ، فَمَاذَا تَأْمُرُونَ» إلى قوله : «لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ». كان فرعون وهامان قد تعلّما السحر وإنّما غلبا الناس بالسحر وادّعى فرعون الربوبية بالسحر، فلمّا أصبح بعث في المدائن حاشرين، مدائن مصر كلها، وجمعوا ألف ساحر واختاروا من الألف مائة ومن المائة ثمانين، فقال السحرة لفرعون: قد علمت أنه ليس في الدنيا أسحر منا، فإن غلبنا موسى فما يكون لنا عندك ؟ قال: «وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ». عندي، أشارككم في ملكي، قالوا: فإن غلبنا موسى وأبطل سحرنا علمنا أنّ ما جاء به ليس من

ص: 200

قبل السحر ولا من قبل الحيلة آمنا به وصدّقناه، فقال فرعون : إن غلبكم موسى صدّقته أنا أيضاً معكم ولكن أجمعوا كيدكم، أي حيلتكم.

قال: وكان موعدهم يوم عيد لهم. فلمّا ارتفع النّهار من ذلك اليوم وجمع فرعون الخلق،والسحرة وكانت له قبّة طولها في السماء ثمانون ذراعاً وقد كانت لبست الحديد الفولاد،وكانت إذا وقعت الشمس عليها لم يقدر أحد أن ينظر إليها من لمع الحديد ووهج الشمس، وجاء فرعون وهامان وقعدا عليها ينظران، وأقبل موسى ينظر إلى السماء، فقال السحرة لفرعون: إنا نرى رجلا ينظر إلى السماء ولم يبلغ سحرنا السماء وضمنت السحرة من في الأرض فقالوا لموسى: إمّا أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين.

قال لهم موسى: «أَلْقُوا مَا أَنتُم مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ» فأقبلت تضطرب مثل الحيّات وهاجت فقالوا: «بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَلِبُونَ»، «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى» فنودي : «لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى»(1) فألقى موسى العصا فذابت في الأرض مثل الرصاص ثمّ طلع رأسها وفتحت فاها ووضعت شدقها العليا على رأس قبة فرعون ثمّ دارت والتقمت عصي السحرة وحبالها وغلب كلّهم وانهزم الناس حين رأوها وعظمها وهولها مما لم ترَ العين ولا وصف الواصفون مثله قبل فقتل في الهزيمة من وطء الناس بعضهم بعضاً عشرة آلاف رجل وامرأة وصبي ودارت على قبة فرعون، قال: فأحدث فرعون وهامان في ثيابهما وشاب رأسهما وغشي عليهما من الفزع. ومر موسى في الهزيمة الناس فناداه اللّه خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى، فرجع موسى ولفّ على يده عباءة كانت عليه ثمّ أدخل يده في فمها فإذا هي عصا كما كانت.

وكان كما قال اللّه : «فَأَلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا» لمّا رأوا ذلك «قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ

ص: 201


1- طه: 68-69.

وَمُوسَى». فغضب فرعون عند ذلك غضباً شديداً وقال: «ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لكَبِيرُكُم» يعني موسى «الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِعَنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَفٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» فقالوا له كما حكى اللّه (عزّوجلّ) : «لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أن يغفِرَ لَنَا رَبَّنَا خَطَيَانا أَن كُنَّا أَوّلَ الْمُؤْمِنِينَ».

فحبس فرعون من آمن بموسى في السجن حتّى أنزل اللّه عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فأطلق عنهم فأوحى اللّه إلى موسى: «أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ»(1) فخرج موسى ببني إسرائيل ليقطع بهم البحر وجمع فرعون أصحابه وبعث في المدائن حاشرين»(2).

نبي اللّه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) والخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ)

حدّثني محمّد بن علي بن بلال عن يونس قال: اختلف يونس وهشام ابن إبراهيم في العالم الّذي أتاه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) أيّهما كان أعلم ؟ وهل يجوز أن يكون على موسى حجّة في وقته، وهو حجّة اللّه على خلقه؟

فقال قاسم الصيقل : فكتبوا إلى أبي الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يسألونه عن ذلك فكتب في الجواب: «أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر، إما جالساً وإما متكئاً، فسلّم عليه موسى فأنكر السلام إذ كان بأرض ليس بها سلام، فقال: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران قال: أنت موسى بن عمران الّذي كلّمه اللّه تكلياً؟ قال: نعم قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلّمني مما علمت رشداً، قال: إنّي وكلتُ بأمر لا تطيقه ووكلت بأمر لا أُطيقه، ثمّ حدّثه العالم بما يصيب آل محمّد من البلاء حتّى اشتدّ بكائها، ثم حدثه عن فضل آل محمّد حتّى جعل موسى يقول: ياليتني كنت من آل محمّد وحتى

ص: 202


1- الآيات أعلاه من سورة الشعراء: 18-52.
2- البحار : ج 13 ص 120.

ذكر فلاناً وفلاناً ومبعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى قومه وما يلقى منهم ومن تكذيبهم إياه وذكر له تأويل هذه الآية: «وَنُقَلِبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ»(1).

حين أخذ الميثاق عليهم، فقال موسى: «هَلْ أَتَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا»، فقال الخضر: «إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَوْ تُحِطْ بِهِ خُبْرَاً».

فقال موسى: «سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللّه صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا». قال الخضر : «فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْتَلْنِي عَن شَيْءٍ حتّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا». يقول: لا تسألني عن شيء أفعله ولا تنكره على حتّى أخبرك أنا بخبره، قال: نعم.

فمروا ثلاثتهم حتّى انتهوا إلى ساحل البحر وقد شحنت(2) سفينة وهي تريد أن تعبر، فقال أرباب السفينة: نحمل هؤلاء الثلاثة نفر فإنّهم قوم صالحون، فحملوهم فلمّا جنحت السفينة (3) في البحر قام الخضر إلى جوانب السفينة فكسّرها وحشاها بالخرق والطين، فغضب موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) غضباً شديداً وقال للخضر : «أَخَرَقْنَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا»(4).

فقال له الخضر : «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا». قال موسى: «لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقنِي مِنْ أَمْرِى عُسْرًا» فخرجوا من السفينة فنظر الخضر إلى غلام يلعب بين الصبيان حسن الوجه كأنه قطعة قمر وفي أذنيه درّتان، فتأمله الخضر ثم أخذه وقتله،

ص: 203


1- الأنعام: 110.
2- أي ملئت.
3- بلغت ماءً رقيقاً فلصقت بالأرض.
4- العجيب، المنكر.

فوثب موسى إلى الخضر وجلد به الأرض(1).

فقال : «أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةٌ بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا»، فقال الخضر : «أَلَمْ أَقُل لَكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا»، قال موسى : «إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبَنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِي عُذرا».

فانطلقا حتّى إذا أتيا بالعشيّ قرية تسمّى الناصرة وإليها تنسب النصارى ولم يضيفوا أحداً قط ولم يطعموا غريباً، فاستطعموهم فلم يطعموهم ولم يضيّفوهم، فنظر الخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى حائط قد زال لينهدم فوضع الخضر يده عليه وقال: قم بإذن اللّه فقام،

فقال موسی (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لم ينبغ أن تقيم الجدار حتّى يطعمونا ويؤوونا».

وهو قوله: «لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا».

فقال له الخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا». أمّا السفينة الّتي فعلت بها ما فعلت فإنّها كانت لقوم مساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراء السفينة ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً كذا نزلت وإذا كانت السفينة معيوبة لم يأخذ منها شيئاً «وَأَمَّا الْعُلَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ» وطبع كافراً كذا نزلت فنظرت إلى جبينه وعليه مكتوب: طبع كافراً «فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طغْيَنَا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَوَةً وَأَقْرَبَ رُحْمَا». فأبدل اللّه والديه بنتاً ولدت سبعين نبيّاً (2).

«وَأَمَّا الْجِدَارُ» : الّذي أقمته «فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَينِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ، كَنْزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا» إلى قوله: «ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَلَيْهِ

ص: 204


1- صرعه.
2- كان منها ومن نسلها سبعون نبياً من أنبياء بني إسرائيل.

صَبْراً»(1)(2).

موسى والخضر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) والصياد

عن عبدالملك بن سليمان قال: وجد في ذخيرة أحد حواريّ المسيح رقّ فيه مكتوب بالقلم السريانيّ منقول من التوراة: إنّه لما شاجر موسى والخضر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في قصّة السفينة والغلام والجدار ورجع موسى إلى قومه سأله أخوه هارون (عَلَيهِ السَّلَامُ) عمّا استعمله الخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وشاهده من عجائب البحر، قال: «بينا أنا والخضر على شاطي البحر إذ سقط بين أيدينا طائر أخذ في منقاره قطرةً ورمى بها نحو المشرق، وأخذ ثانية ورماها في المغرب، وأخذ ثالثة ورمى بها نحو السماء، ورابعة رماها إلى الأرض، ثمّ أخذ خامسة وعاد ألقاها في البحر، فبهتنا لذلك، فسألت الخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن ذلك فلم يجب، وإذا نحن بصيّاد يصطاد فنظر إلينا وقال مالي أراكما في فكر وتعجّب من الطائر ؟ قلنا: هو ذلك، قال: أنا رجل صيّاد قد علمت وأنتما نبيّان ما تعلمان قلنا ما نعلم إلا ما علّمنا اللّه، قال: هذا طائر في البحر يسمّى مسلم لأنه إذا صاح يقول في صياحه: مسلم، فأشار برمي الماء من منقاره إلى السماء والأرض والمشرق والمغرب إلى أنه يبعث نبي بعدكما تملك أمته المشرق والمغرب ويصعد إلى السماء ويدفن في الأرض وأمّا رميه الماء في البحر يقول : إنّ علم العالم عند علمه مثل هذه القطرة، وورث علمه وصيّه وابن عمه، فسكن ما كنا فيه من المشاجرة واستقلّ كلّ واحد منا علمه بعد أن كنا معجبين بأنفسنا، ثمّ غاب الصيّاد عنّا فعلمنا أنّه ملك بعثه اللّه تعالى إلينا ليعرّفنا حيث ادعينا الكمال» (3).

ص: 205


1- الآيات أعلاه من سورة الكهف: 66-82.
2- البحار : ج 13 ص 278.
3- البحار : ج 13 ص 312.

مؤمن آل فرعون

بالإسناد إلى أبي محمّد العسكري، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ)، عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان حزبيل مؤمن آل فرعون يدعو قوم فرعون إلى توحيد اللّه ونبوّة موسى وتفضيل محمّد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على جميع رسل اللّه وخلقه، وتفضيل علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) والخيار من الأئمّة على سائر أوصياء النبيين وإلى البرائة من ربوبيّة فرعون، فوشى به الواشون إلى فرعون وقالوا: إن حزبيل يدعو إلى مخالفتك، ويعين أعدائك على مضادّتك، فقال لهم فرعون: ابن عمّي وخليفتي على ملكي وولي عهدي إن فعل ما قلتم فقد استحق أشدّ العذاب على كفره نعمتي فإن كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم أشد العذاب لإيثاركم الدخول في مكانه. فجاء بحزبيل وجاء بهم فكاشفوه وقالوا: أنت تجحد ربوبية فرعون الملك وتكفر نعماءه.

فقال :حزبيل: أيّها الملك هل جرّبت علي كذباً قط ؟ قال: لا، قال: فسلهم من ربّهم ؟ :فقالوا فرعون، قال: ومن خالقكم؟ قالوا فرعون هذا، قال : ومن رازقكم الكافل لمعايشكم والدافع عنكم مكارهكم؟ قالوا: فرعون هذا.

قال حزبيل: أيّها الملك فأُشهدك وكلّ من حضرك أنّ ربّهم هو ربّي وخالقهم هو خالقي ورازقهم هو رازقي ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي، لا ربّ لي ولا خالق لي ولا رازق غير ربّهم وخالقهم ورازقهم، وأشهدك ومن حضرك أنّ كلّ ربّ وخالق ورازق سوى ربّهم وخالقهم ورازقهم فأنا بري منه ومن ربوبيته وكافر بإلهيته. يقول حزبيل هذا وهو يعني أنّ ربّهم هو اللّه ربّي.

ولم يقل: إنّ الّذي قالوا إنّه ربّهم هو ربّي، وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره وتوهّموا أنّه يقول: فرعون ربّي وخالقي ورازقي، فقال لهم فرعون: يارجال السّوء وياطلاب الفساد في ملكي ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمّي وهو عضدي أنتم

ص: 206

المستحقون لعذابي لإرادتكم فساد أمري وإهلاك ابن عمّي والفتّ في عضدي، ثمّ أمر بالأوتاد فجعل في ساق كلّ واحد منهم وتداً وفي صدره وتداً وأمر أصحاب أمشاط الحديد فشقوا بها لحومهم من أبدانهم فذلك ما قال اللّه تعالى: «فَوقَاهُ اللّه» يعني حزبيل «سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا» لما وشوا به إلى فرعون ليهلكوه «وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ»(1) وهم الّذين وشوا بحزبيل إليه لمّا أوتد فيهم الأوتاد ومشّط عن أبدانهم لحومها بالأمشاط»(2).

قصة ماشطة آل فرعون وامرأة حزبيل

قال الثعلبيّ : قالت الرواة كان حزبيل من أصحاب فرعون نجّاراً وهو الّذي نجر التابوت لأُمّ موسى حين قذفته في البحر، وقيل: إنّه كان خازناً لفرعون مائة سنة، وكان مؤمناً مخلصاً يكتم إيمانه إلى أن ظهر موسى على السحرة، فأظهر حزبيل إيماناً فأُخذ يومئذ وقتل مع السحرة صلباً، وأما امرأة حزبيل فإنّها كانت ماشطة بنات فرعون وكانت مؤمنة. وروي عن ابن عبّاس أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : «لمّا أُسري بي مرّت بي رائحة طيّبة فقلت لجبرئيل: ما هذه الرائحة ؟ قال هذه ماشطة آل فرعون وأولادها كانت

تمشطها فوقعت المشطة من يدها فقالت بسم اللّه فقالت بنت فرعون: أبي؟ فقالت: لا، بل ربّي وربّك وربّ أبيك، فقالت: لأخبرنّ بذلك أبي، فقالت: نعم، فأخبرته، فدعا بها وبولدها وقال: من ربّك؟ فقالت: إنّ ربّي وربّك اللّه، فأمر بتنوّر من نحاس فأُحمي فدعا بها وبولدها فقالت: إنّ لي إليك حاجة، قال: وما هي ؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها. قال : ذاك لك لما لك علينا من حقّ، فأمر بأولادها فأُلقوا واحداً واحداً في التنور حتّى كان آخر ولدها وكان صبياً مرضعاً، فقال: اصبري يا أُمّاه إنّك على الحقّ

ص: 207


1- غافر: 45.
2- البحار : ج 13 ص 160.

فأُلقيت في التنور مع ولدها»(1).

قصة امرأة فرعون آسية وإيمانها باللّه

وأمّا امرأة فرعون آسية فكانت من بني إسرائيل وكانت مؤمنة مخلصة، وكانت تعبد اللّه سراً، وكانت على ذلك إلى أن قتل فرعون امرأة حزبيل فعاينت حينئذ الملائكة يعرجون بروحها لما أراد اللّه تعالى بها من الخير فزادت يقيناً وإخلاصاً وتصديقاً، فبينا هي كذلك إذ دخل عليها فرعون يخبرها بما صنع بها، فقالت: الويل لك يافرعون ما أجرأك على اللّه جلّ وعلا ؟

فقال لها: لعلّك قد اعتراك الجنون الّذي اعترى صاحبتك.

فقالت ما اعتراني جنون لكن آمنت باللّه تعالى ربّي وربّك وربّ العالمين، فدعا فرعون أمها فقال لها: إن ابنتك أخذها الجنون، فأقسم لتذوقنَّ الموت أو لتكفرنّ بإله موسى، فخلت بها أُمّها فسألتها موافقة فيما أراد، فأبت وقالت: أما أن أكفر باللّه فلا واللّه لا أفعل ذلك أبداً.

فأمر بها فرعون حتّى مدّت بين أربعة أوتاد ثم لا زالت تعذب حتّى ماتت، كما قال اللّه سبحانه: «وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ»(2).

وعن ابن عبّاس قال: أخذ فرعون امرأته آسية حين تبين له إسلامها يعذّبها لتدخل في دينه فمرّ بها موسى وهو يعذبها فشكت إليه بإصبعها، فدعا اللّه موسی أن يخفّف عنها فلم تجد للعذاب مساً، وإنها ماتت من عذاب فرعون لها، فقالت وهي في

ص: 208


1- البحار : ج 13 ص 163.
2- الفجر : 10.

العذاب «رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتَاً فِي الْجَنَّةِ»(1) وأوحى اللّه إليها : أن إرفعي رأسك، ففعلت، فأُريت البيت في الجنّة بني لها من درّ فضحكت، فقال فرعون: أُنظروا إلى الجنون الّذي بها، تضحك وهي في العذاب (2).

عبادة العجل

عن علي بن سالم عن أبيه قال: قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أخبرني عن هارون لِمَ قال لموسى: «يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي» (3) ولم يقل : يابن أبي؟ فقال: «إنّ العداوات بين الأُخوة أكثرها تكون إذا كانوا بني علّات، ومتى كانوا بني أُمّ قلَّت العداوة بينهم إلّا أن ينزغ الشيطان بينهم فيطيعوه، فقال هارون لأخيه موسى: يا أخي الّذي ولدته أُمّي ولم تلدني غير أُمّه لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ولم يقل يابن أبي لأن بني الأب إذا كانت أُمّهاتهم شتّى لم تستبعد العداوة بينهم إلا من عصمه اللّه منهم، وإنما تستبعد العداوة بين بني أُمّ واحدة»، قال: قلت له : فلم أخذ برأسه يجره إليه وبلحيته ولم يكن له في اتخاذهم العجل وعبادتهم له ذنب؟

فقال: إنَّما فعل ذلك به لأنه لم يفارقهم لمّا فعلوا ذلك ولم يلحق بموسى، وكان إذا فارقهم ينزل بهم العذاب ألا ترى أنّه قال له موسى ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألا تتّبعن أفعصيت أمري؟ قال هارون: لو فعلت ذلك لتفرّقوا، وإنّي خشيت أن تقول لي : فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي(4).

فاقتلوا بعضكم بعضاً : «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ، يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم

ص: 209


1- التحريم: 11.
2- البحار : ج 13 ص 164.
3- طه: 94.
4- البحار : ج 13 ص 219.

بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ»(1).

فإنّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) لمّا خرج إلى الميقات ورجع إلى قومه، وقد عبدوا العجل قال لهم: «ياقوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم»، فقالوا: فكيف نقتل أنفسنا ؟

فقال لهم موسى: «اغدوا كلّ واحد منكم إلى بيت المقدّس ومعه سكّين أو حديدة أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني إسرائيل فكونوا أنتم متلّثمين لا يعرف أحد صاحبه فاقتلوا بعضكم بعضاً».

فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممّا كانوا عبدوا العجل إلى بيت المقدس، فلمّا صلّى بهم موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وصعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضاً حتّى نزل جبرئيل فقال: «قل لهم :ياموسى ارفعوا القتل فقد تاب اللّه عليكم، فقتل منهم عشرة آلاف وأنزل اللّه : «ذَلِكُمْ خَيْرُ لَكُمْ عِندَ بَارِئكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التّوَّابُ الرَّحِيمُ»(2).

وقوله: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتّى نَرَى اللّه جَهْرَةً»(3) فهم السبعون الّذين اختارهم موسى ليسمعوا كلام اللّه، فلمّا سمعوا الكلام قالوا: لن نؤمن لك حتّى اللّه جهرة، فبعث اللّه عليهم صاعقة فاحترقوا ثمّ أحياهم اللّه بعد ذلك، وبعثهم نری أنبياء»(4).

قصة ذبح البقرة

عن ابن أبي عمير، عن بعض رجاله عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ رجلا من خيار

ص: 210


1- البقرة: 54.
2- البقرة: 54.
3- البقرة: 55.
4- البحار : ج 13 ص 222.

بني إسرائيل وعلمائهم خطب امرأة منهم فأنعمت،له وخطبها ابن عمّ لذلك الرجل وكان فاسقاً رديئاً فلم ينعموا له، فحسد ابن عمه الّذي أنعموا له فقعد له فقتله غيلة ثمّ حمله إلى موسى فقال : يانبي اللّه هذا ابن عمّي فقد قتل، فقال موسی (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «من قتله» ؟ قال: لا أدري، وكان القتل في بني إسرائيل عظيماً جدّاً، فعظم ذلك على موسى فاجتمع إليه بنو إسرائيل فقالوا: ما ترى يانبيّ اللّه ؟ وكان في بني إسرائيل رجل له بقرة وكان له ابن باز وكان عند ابنه سلعة فجاء قوم يطلبون سلعته وكان مفتاح بيته تحت رأس أبيه وكان نائماً وكره ابنه أن ينبّهه وينغّص عليه نومه فانصرف القوم فلم يشتروا سلعته، فلمّا انتبه أبوه قال له: يابني ماذا صنعت في سلعتك ؟ قال : هي قائمة لم أبعها لأنّ المفتاح كان تحت رأسك فكرهت أن أُنبّهك وأُنغّص عليك نومك.

قال له أبوه: قد جعلت هذه البقرة لك عوضاً عمّا فاتك من ربح سلعتك، وشكر اللّه لابنه ما فعل بأبيه، وأمر موسى بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة بعينها، فلمّا اجتمعوا إلى موسى وبكوا وضجوا قال لهم موسى: «إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً». فتعجبوا وقالوا «أَنَتَّخِذُنَا هُزُوًا» نأتيك بقتيل فتقول: «اذبحوا بقرة» فقال لهم موسى: «أَعُوذُ باللّه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَهِلِينَ» فعلموا أنهم قد أخطؤوا فقالوا: «أَدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ، يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضُ وَلَا بِكْرُ». والفارض الّتي قد ضربها الفحل ولم تحمل والبكر الّتي لم يضربها الفحل.

فقالوا: «ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ، يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا» أي شديدة الصفرة «تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» إليها «أَدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللّه لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ، يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولُ تُثِيرُ الْأَرْضَ» أي تذلل «وَلَا تَسْقِي الخَرَثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا» أي لا نقطة فيها إلّا الصفرة «قَالُوا الئَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ» هي بقرة فلان فذهبوا ليشتروها، فقال: لا أبيعها إلا بملأ

ص: 211

جلدها ذهباً، فرجعوا إلى موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخبروه، فقال لهم موسى: «لابدّ لكممن ذبحها بعينها» ، فاشتروها بملأ جلدها ذهباً فذبحوها ثم قالوا: يانبيّ اللّه ما تأمرنا؟ فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليه قل لهم : اضربوه ببعضها وقولوا من قتلك ؟

فأخذوا الذنب فضربوه به وقالوا: من قتلك يافلان؟

فقال: فلان بن فلان ابن عمّي الّذي جاء به وهو قوله : «فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللّه الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»»(1)(2).

صادق الوعد

عن السمنديّ، عن الصادق عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «إنّ أفضل الصدقة صدقة،اللسان، تحقن به الدماء، وتدفع به الكريهة، وتجرّ المنفعة إلى أخيك المسلم»، ثم قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): إنّ عابد بني إسرائيل الّذي كان أعبدهم كان يسعى في حوائج الناس عند الملك، وإنّه لقى إسماعيل بن حزقيل فقال : لا تبرح حتّى أرجع إليك يا إسماعيل، فسها عنه عند الملك، فبقي إسماعيل إلى الحول هناك، فأنبت اللّه لإسماعيل عشباً فكان يأكل منه، وأجرى له عيناً وأظلّه بغمام، فخرج الملك بعد ذلك إلى التنزه ومعه العابد فرأى إسماعيل فقال : إنّك لههنا يا إسماعيل ؟!

فقال له : قلت لا تبرح فلم أبرح فسمّي صادق الوعد.

قال: وكان جبّار مع الملك فقال : أيّها الملك كذب هذا العبد قد مررت بهذه البرية فلم أره ههنا.

فقال له إسماعيل : إن كنت كاذباً فنزع اللّه صالح ما أعطاك، قال: فتناثرت أسنان

ص: 212


1- الآيات أعلاه من سورة البقرة: 67-73.
2- البحار: ج 13 ص 259.

الجبار، فقال الجبار: إنّي كذبت على هذا العبد الصالح فاطلب أن يدعو اللّه أن يردّ عليّ أسناني فإنّي شيخ كبير، فطلب إليه الملك فقال: إنّي أفعل، قال: الساعة؟ قال: لا، وأخّره إلى السحر، ثم دعا ثمّ قال: يا فضل إنّ أفضل ما دعوتم اللّه بالأسحار، قال اللّه تعالى «وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»(1)(2).

لقمان والحكمة

عن حماد قال: سألت أبا عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن لقمان وحكمته التي ذكرها اللّه عزّ وجلّ فقال: «أما واللّه ما أُوتي لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال، ولكنّه كان رجلا قوّيّاً في أمر اللّه متورّعاً في اللّه، ساكتاً، سكيناً، عميق النظر، طويل الفكر، حديد النظر، مستغن بالعبر، لم ينم نهاراً قطّ ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدّة تستّره وعمق نظره وتحفّظه في أمره، ولم يضحك من شيء قطّ مخافة الإثم، ولم يغضب قطّ، ولم يمازح إنساناً قطّ، ولم يفرح لشيء إن أتاه من أمر الدنيا، ولا حزن منها على شيء قط، وقد نكح من النساء وولد له الأولاد الكثير وقدّم أكثرهم إفراطاً (3) فما بكى على موت أحد منهم، ولم يمر برجلين يختصمان أو يقتتلان إلّا أصلح بينهما، ولم يمض عنهما حتّى تحاجزا، ولم يسمع قولا قط من أحد استحسنه إلا سأل عن تفسيره وعمّن أخذه، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين فيرثي للقضاة مما ابتلوا به، ويرحم الملوك والسلاطين لغرتهم باللّه وطمأنينتهم في ذلك، ويعتبر ويتعلّم ما يغلب به نفسه، ويجاهد به هواه، ويحترز به من الشيطان، وكان يداوي قلبه بالتفكّر، ويداري نفسه بالعبر، وكان لا يظعن إلّا فيما يعنيه،

ص: 213


1- الذاريات: 18.
2- البحار : ج 13 ص389.
3- من أفرط فلان ولداً أي مات له ولد صغير قبل أن يبلغ.

فبذلك أُوتي الحكمة ومنح العصمة، وإنّ اللّه تبارك وتعالى أمر طوائف من الملائكة حين انتصف النهار وهدأت العيون بالقائلة (1) فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم فقالوا: يالقمان هل لك أن يجعلك اللّه خليفة في الأرض تحكم بين الناس؟ فقال لقمان: إن أمرني ربّي بذلك فالسمع والطاعة، لأنه إن فعل بي ذلك أعانني عليه وعلّمني وعصمني، وإن هو خيّرني قبلت العافية.

فقالت الملائكة بالقمان لِمَ؟ قال: لأنّ الحكم بين النّاس بأشدّ المنازل من الدين، وأكثر فتناً وبلاء ما يخذل ولا يعان ويغشاه الظلم من كلّ مكان، وصاحبه منه بين أمرين: إن أصاب فيه الحق فبالحريّ أن يسلم، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة، ومن يكن في الدنيا ذليلا وضعيفاً كان أهون عليه في المعاد من أن يكون فيه حكماً سرياً شريفاً، ومن اختار الدنيا على الآخرة يخسر هما كلتيهما، تزول هذه ولا تدرك تلك.

قال: فتعجّب الملائكة من حكمته واستحسن الرحمن منطقه، فلمّا أمسى وأخذ مضجعه من الليل أنزل اللّه عليه الحكمة فغشاه بها من قرنه إلى قدمه وهو نائم، وغطاه بالحكمة غطاءً، فاستيقظ وهو أحكم الناس في زمانه، وخرج على الناس ينطق بالحكمة» (2).

من هو لقمان

لقد ورد اسم لقمان في القرآن الكريم، وسميت سورة من القرآن باسمه، ولا يوجد في القرآن دليل صريح على أنه كان نبياً أم لا، كما أن أسلوب القرآن في شأن لقمان يوحي بأنه لم يكن نبياً، لأنه يلاحظ في القرآن أن الكلام في شأن الأنبياء عادة يدور حول الرسالة والدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك.

ص: 214


1- منتصف النهار ومنها القيلولة.
2- البحار : ج 13 ص 409.

والذي ورد في حق لقمان هو جملة مواعظ مع ولده، وإن كانت تتمتع بصفة العمومية، وهذا دليل على أنه كان رجلا حكيماً وحسب.

وفي حديث عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، قال : «حقاً أقول: لم يكن لقمان نبيّاً، ولكن كان عبداً كثير التفكر، حسن اليقين، أحبّ اللّه فأحبه ومَنَّ عليه بالحكمة».

وجاء في بعض التواريخ : أن لقمان كان عبداً اسوداً من سودان مصر، وكان له إلى جانب وجهه غير الحسن قلب مضيء وروح صافية، وكان يصدق في القول من البداية، ولا يمزج الأمانة بالخيانة، ولم يكن يتدخل فيما لا يعنيه.

وجاء في بعض الروايات: أنّ شخصاً سأل لقمان: ألم تكن ترعى معنا؟

قال: نعم.

فقال الرجل : فمن أين أتاك كلّ هذا العلم والحكمة؟

قال : قدر اللّه وأداء الامانة، وصدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني.

حِكَم لقمان

ومن حكم لقمان كان يقول لابنه : يا بني إن الدنيا بحر عميق، وقد هلك فيها عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الإيمان باللّه واجعل شراعها التوكل على اللّه، واجعل زادك فيها تقوى اللّه، فإن نجوت فبرحمة اللّه، وإن هلكت فبذنوبك.

وقال أيضاً: يا بني، سافر بسيفك، وخفّك، وعمامتك، وخبائك، وسقاتك، وخيوطك، ومخرزك، وتزود معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك، وكن لأصحابك موافقاً، إلا في معصية اللّه (عزّوجلّ).

يا بنيّ : إذا سافرت مع قوم فاكثر استشارتهم في أمرك وأمورهم.

ص: 215

واكثر التبسم في وجوههم.

وكن كرياً على زادك بينهم.

وإذا دعوك فأجبهم، وإذا استعانوا بك فأعنهم.

واستعمل طول الصمت، وكثرة الصلاة، وسخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد.

يا بنيّ : إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخّرها لشيء، صلّها واسترح منها فإنّها دين.

وروي عن لقمان أيضاً هذه القصة وهي أن مولاه دعاه عندما كان عبداً فقال: اذبح شاة، فأتني باطيب مضغتين منها، فذبح شاة، وأتاه بالقلب واللسان.

وبعد عدّة أيّام أمره أن يذبح شاة، ويأتيه بأخبث أضغانها، فذبح شاة وأتاه بالقلب واللسان، فتعجب وسأله عن ذلك فقال : إن القلب واللسان اذا طهرا فهما أطيب من كل شيء، وإذا خبثا كانا أخبث من كل شيء (1).

وقد اهتم لقمان الحكيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالمسائل الأخلاقية الحسنة وطريقة الارتباط بالناس، والابتعاد عن المسائل المذمومة والسيئة، حيث يقول في وصيته لابنه: «يَابُنَىّ أَقِمِ الصَّلوةَ وَأمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمور».

«وَلَا تُصَعِّر خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللّه لَا يُحِبُّ كُلَّ مُختَالٍ فَخُورٍ».

«وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَأَغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ».

نقاط مهمة وجوهرية لها ارتباط وثيق في سعادة الانسان والمجتمع إذا التزم بها وعمل بها نابعة من صميم الإنسان الحرّ المؤمن المتقي.

ص: 216


1- تفسير البيضاوي والثعلبي.

العمل بالاعتقادات الدينية، والنظام الاجتماعي، والارادة القوية والحكمة المتعالية والصبر والتحمل، والخلق الجميل، والابتعاد عن التكبر والخيال والفخر والغرور والعجب، والكلام بصوت عال، كل هذا وغيره أشار لها لقمان الحكيم في وصاياه إلى ابنه، وهي في الواقع لنا جميعاً... فتأمل.

قصة إشمويل (عَلَيهِ السَّلَامُ) الاوطالوت و جالوت

عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ بني إسرائيل بعد موسى عملوا بالمعاصي، وغيّروا دين اللّه، وعتوا عن أمر ربّهم، وكان فيهم نبيّ يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه، وروي أرميا النبي، فسلّط اللّه عليهم جالوت، وهو من القبط فأذلهم، وقتل رجالهم، وأخرجهم من ديارهم، وأخذ أموالهم، واستعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيهم وقالوا: سل اللّه أن يبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل اللّه، وكانت النبوّة في بني إسرائيل في بيت والملك والسلطان في بيت آخر لم يجمع اللّه لهم النبوّة والملك في بيت واحد، فمن ذلك قالوا: «ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا تُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه»(1).

فقال لهم نبيهم : «هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّه وَقَدْ أَخْرِجْنَا مِن دِيَرِنَا وَأَبْنَابِنَا»(2) وكان كما قال اللّه تبارك وتعالى: «فلمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ»(3) فقال لهم نبيهم : «إِنَّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا» (4) فغضبوا من ذلك وقالوا: «أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ» (5) وكانت النبوّة

ص: 217


1- البقرة: 246.
2- البقرة: 246.
3- البقرة: 246.
4- البقرة: 247.
5- البقرة: 247.

في ولد لاوي والملك في ولد يوسف، وكان طالوت من ولد ابن يامن أخ يوسف لأُمّه، لم يكن من بيت النبوّة ولا من بيت المملكة.

فقال لهم نبيّهم : «إِنَّ اللّه اصْطَفَهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّه يُؤْتِي مُلْكَهُ, مَن يَشَاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ». (1)

وكان أعظمهم جسماً، وكان شجاعاً قوياً، وكان أعلمهم إلّا أنّه كان فقيراً فعابوه بالفقر فقالوا: «وَلَمْ يُوْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ».

فقال لهم نبيّهم: «إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةُ مِمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَرُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَيكَةُ»(2).

وكان التابوت الّذي أنزله اللّه على موسى فوضعته فيه أُمّه وألقته في اليم، فكان في بني إسرائيل يتبركون به، فلمّا حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوّة وأودعه يوشع وصيّه، فلم يزل التابوت بينهم حتّى استخفوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف ما دام التابوت عندهم، فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفّوا بالتابوت رفعه اللّه عنهم، فلمّا سألوا النبي وبعث اللّه إليهم طالوت ملكاً يقاتل معهم ردّ اللّه عليهم التابوت كما قال اللّه : «إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ عَالُ مُوسَى وَعَالُ هَرُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائكَةُ. قال البقيّة: ذرية الأنبياء وقوله: «فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ» فإنّ التابوت كان يوضع بين يدي العدو وبين المسلمين فتخرج منه ريح طيبة لها وجه كوجه الانسان.

ص: 218


1- البقرة: 247.
2- البقرة : 248.

فأوحى اللّه إلى نبيّهم إنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وهو رجل من ولد لاوي بن يعقوب (عَلَيهِ السَّلَامُ) اسمه داود بن إيشا، وكان إيشا راعياً، وكان له عشرة بنين أصغرهم،داود، فلمّا بعث طالوت إلى بني إسرائيل وجمعهم لحرب جالوت بعث إلى إيشا أن أحضر وأحضر ولدك، فلمّا حضروا دعا واحداً واحداً من ولده فألبسه الدرع درع موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) فمنهم من طال عليه، ومنهم من قصر عنه، فقال لإيشا : هل خلّفت من ولدك أحداً؟ قال: نعم، أصغرهم تركته في الغنم راعياً، فبعث إليه فجاء به، فلمّا دعي أقبل ومعه مقلاع.

قال: فناداه ثلاث صخرات في طريقه فقالت ياداود خذنا، فأخذها في محلاته، وكان شديد البطش قويّاً في بدنه شجاعاً، فلمّا جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى فاستوى عليه ففصل طالوت بالجنود.

وقال لهم نبيّهم : يابني إسرائيل إنّ اللّه مبتليكم بنهر في هذه المفازة فمن شرب منه فليس من حزب اللّه ومن لم يشرب فهو من حزب اللّه إلّا من اغترف غرفة بيده، فلمّا وردوا النهر أطلق اللّه لهم أن يغرف كلّ واحد منهم غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم، فالّذين شربوا منه كانوا ستين ألفاً، وهذا امتحان امتحنوا به كما قال اللّه».

وروي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال : «القليل الّذين لم يشربوا ولم يغترفوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا، فلمّا جاوزوا النهر ونظروا إلى جنود جالوت قال الّذين شربوا:«لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ» (1) وقال الّذين لم يشربوا : «رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ»(2).

ص: 219


1- البقرة : 249.
2- البقرة: 250.

فجاء داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) فوقف بحِذاء (1) جالوت، وكان جالوت على الفيل، وعلى رأسه التاج، وفي جبهته ياقوتة يلمع نورها وجنوده بين يديه فأخذ داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) من تلك الأحجار حجراً فرمى به في ميمنة جالوت فمرّ في الهواء فوقع عليهم فانهزموا، وأخذ حجراً فرمى به في ميسرة جالوت فوقع عليهم فانهزموا، ورمى جالوت بحجر فصكّت (2) الياقوتة في جبهته ووصلت إلى دماغه ووقع إلى الأرض ميتاً وهو قوله: «فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّه وَقَتَلَ دَاوُردُ جَالُوت»»(3)(4).

قضاء داود (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن أبان بن عثمان، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «في كتاب علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه القضاء، فقال: كيف أقضي بما لم ترَ عيني ولم تسمع أُذني ؟ فقال: إقض بينهم بالبينات وأضفهم إلى إسمي يحلفون به، وقال: إنّ داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: يارب أرني الحق كما هو عندك حتّى أقضي به.

فقال: إنّك لا تطيق ذلك، فألح على ربّه حتّى فعل، فجاءه رجل يستعدي على رجل فقال : إنّ هذا أخذ مالي.

فأوحى اللّه إلى داود: إنّ هذا المستعدي قتل أبا هذا وأخذ ماله، فأمر داود بالمستعدي فقتل، فأخذ ماله فدفعه إلى المستعدي عليه قال فعجب النّاس وتحدّثوا حتّى بلغ داود ودخل عليه من ذلك ما كره، فدعا ربه أن يرفع ذلك ففعل، ثم أوحى اللّه إليه أن أُحكم

ص: 220


1- أي بمحاذات جالوت.
2- صكه: ضربه شدیدا.
3- البقرة: 251.
4- البحار : ج 13 ص 439.

بينهم بالبينات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به»(1).

عبادة داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) وتسبيح الضفدعة

عن زرارة، عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «قال داود النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لأعبدنّ اللّه اليوم عبادة ولأقرأن قراءة لم أفعل مثلها قطّ، فدخل محرابه ففعل، فلمّا فرغ من صلاته إذا هو بضفدع في المحراب فقال له : ياداود أعجبك اليوم ما فعلت من عبادتك وقراءتك؟ فقال: نعم، فقال: لا يعجبنك، فإنّي أُسبّح اللّه في كلّ ليلة ألف تسبيحة يتشعّب لي مع كل تسبيحة ثلاثة آلاف،تحميدة، وإنّي لأكون في قعر الماء فيصوّت الطير في الهواء فأحسبه جائعاً فأطفو له على الماء ليأكلني وما لي ذنب»(2).

قصّة داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأُوريا

عن أبي الصلت الهروي قال: سأل الرّضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) علي بن محمّد بن الجهم فقال: ما يقول من قبلكم في داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) ؟ فقال : يقولون : إنّ داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان في محرابه يصلّي إذ تصوّر له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور فقطع داود صلاته، وقام ليأخذ الطير، فخرج الطير إلى الدار فخرج في أثره، فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه، فسقط الطير في دار أوريا بن حنّان، فاطّلع داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أثر الطير، فإذا بإمرأة اوريا تغتسل، فلمّا نظر إليها هواها، وكان قد خرج أُوريا في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه أن قدّم أوريا أمام الحرب، فقدّم فظفر أوريا بالمشركين، فصعب ذلك على داود، فكتب إليه ثانيه أن قدّمه أمام التابوت، فقدّم فقتل أوريا وتزوّج داود بامرأته

قال: فضرب (عَلَيهِ السَّلَامُ) بيده على جبهته وقال: «إنا للّه وإنا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيّاً

ص: 221


1- البحار : ج 14 ص 10.
2- البحار : ج 14 ص 16.

من أنبياء اللّه إلى التّهاون بصلاته حين خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثمّ بالقتل».

فقال : يابن رسول اللّه فما كانت خطيئته ؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ويحك إنّ داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) إنّما ظنّ أنّ ما خلق اللّه خلقاً هو أعلم منه، فبعث اللّه عزّوجل إليه الملكين فتسوّرا المحراب فقالا: «خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بالحقّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعُ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ»(1).

فعجل داود على المدعى عليه فقال: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ»(2) ولم يسأل المدّعي البيّنة على ذلك، ولم يقبل على المدّعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة حكم، لا ما ذهبتم إليه ألا تسمع اللّه يقول: «يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بالحقّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّه إِنَّ الّذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ»(3)؟

فقال : يابن رسول اللّه فما قصته مع أُوريا ؟

قال الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ المرأة في أيّام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعد أبداً، وأوّل من أباح اللّه (عزّوجلّ) أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داود (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فتزوج بامرأة أُوريا لمّا قتل وانقضت عدّتها منه، فذلك الّذي شقّ على أُوريا»(4).

قصة سليمان بن داود (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن ابن عمّارة، عن أبيه عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «إنّ داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) أراد أن يستخلف سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأنّ اللّه عزّ وجلّ أوحى إليه يأمره بذلك، فلمّا أخبر بني إسرائيل ضجّوا من

ص: 222


1- ص: 22 - 23.
2- ص: 24.
3- ص: 26.
4- البحار: ج 14 ص 23.

ذلك وقالوا: يستخلف علينا حدثاً (1) وفينا من هو أكبر منه ؟ فدعا أسباط بني إسرائيل فقال لهم قد بلغتني مقالتكم فأروني عصيّكم، فأي عصا أثمرت فصاحبها ولي الأمر بعدي، فقالوا: رضينا، وقال : ليكتب كلّ واحد منكم اسمه على عصاه، فكتبوا، ثمّ جاء سليمان بعصاه فكتب عليها اسمه، ثمّ أُدخلت بيتاً وأُغلق الباب وحرسه رؤوس أسباط بني إسرائيل.

فلمّا أصبح صلّى بهم الغداة، ثمّ أقبل ففتح الباب فأخرج عصيهم وقد أورقت عصا سليمان وقد أثمرت، فسلّموا ذلك لداود فاختبره بحضرة بني إسرائيل فقال له: يابني أيّ شيء أبرد ؟ قال : عفو اللّه عن الناس، وعفو الناس بعضهم عن بعض، قال: يابني فأيّ شيء أحلى ؟ قال : المحبّة، وهي روح اللّه في عباده، فافترّ (2) داود ضاحكاً، فسار به في بني إسرائيل فقال: هذا خليفتي فيكم من بعدي ثمّ أخفى سليمان بعد ذلك أمره، وتزوّج بامرأة، واستتر من شيعته ما شاء اللّه أن يستتر، ثمّ إنّ امرأته قالت له ذات يوم: بأبي أنت وأُمّي ما أكمل خصالك وأطيب ريحك ولا أعلم لك خصلة أكرهها إلا أنك في مؤونة أبي، فلو دخلت السوق فتعرّضت لرزق اللّه رجوت أن لا يخيّبك، فقال لها سليمان: إنّي واللّه ما عملت عملا قط ولا أحسنه، فدخل السوق فجال يومه ذلك ثم رجع فلم يصب شيئاً.

فقال لها: ما أصبت شيئاً، قالت: لا عليك إن لم يكن اليوم كان غداً، فلمّا كان من الغد خرج إلى السوق فجال فيه فلم يقدر على شيء ورجع فأخبرها فقالت: يكون غداً إن شاء اللّه.

فلمّا كان في اليوم الثالث مضى حتّى انتهى إلى ساحل البحر فإذا هو بصياد فقال له :

ص: 223


1- الحدث: الشاب.
2- افتر الرجل: ضحك ضحكاً حسناً.

هل لك أن أُعينك وتعطينا شيئاً؟ قال: نعم، فأعانه، فلمّا فرغ أعطاه الصيّاد سمكتين، فأخذهما وحمد اللّه عزّ وجلّ، ثمّ إنّه شقّ بطن إحداهما فإذا هو بخاتم في بطنها، فأخذه فصيّره في ثوبه وحمد اللّه، وأصلح السمكتين وجاء بهما إلى منزله وفرحت امرأته بذلك وقالت له: إنّي أُريد أن تدعو أبوي حتّى يعلما أنك قد كسبت، فدعاهما فأكلا معه، فلمّا فرغوا قال لهم : هل تعرفوني؟ قالوا: لا واللّه، إلا أنا لم نر خيراً منك(1).

فأخرج خاتمه فلبسه فخرّ عليه الطير والريح، وغشيه الملك، وحمل الجارية وأبويها إلى بلاد إصطخر، واجتمعت إليه الشيعة واستبشروا به، ففرّج اللّه عنهم مما كانوا فيه من حيرة غيبته.

فلمّا حضرته الوفاة أوصى إلى آصف بن برخيا بإذن اللّه تعالى ذكره، فلم يزل بينهم يختلف إليه الشيعة ويأخذون عنه معالم دينهم، ثمّ غيّب اللّه آصف غيبة طال أمدها، ثمّ ظهر لهم فبقي بين قومه ما شاء اللّه، ثم إنّه ودّعهم فقالوا له: أين الملتقى؟ قال: على الصراط، وغاب عنهم ما شاء اللّه، واشتدت البلوى على بني ما شاء اللّه، واشتدّت البلوى على بني إسرائيل بغيبته وتسلّط عليهم بخت نصر»(2).

حكمة سليمان النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

روي أنّ سليمان بن داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) مرّ في موكبه والطير تظلّه والجنّ والإنس عن يمينه وعن شماله بعابد من عبّاد بني إسرائيل فقال: واللّه يابن داود لقد آتاك اللّه ملكاً عظيماً، فسمعه سليمان، فقال: «التسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطي ابن داود، إنّ ما أُعطي ابن داود يذهب وإنّ التسبيحة تبقى»(3).

ص: 224


1- في المصدر : إلا إنا لم نرَ إلا خيراً منك .
2- البحار : ج 14 ص 67.
3- البحار : ج 14 ص 83.

النملة وسليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن داود بن سليمان الغازيّ قال: سمعت علي بن موسى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ) في قوله : «فَتَبَسَّمَ ضَاحِكَا مِّن قَوْلِهَا»(1).

قال: «لمّا قالت النملة : «يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَنُ وَجُنُودُهُ»(2) حملت الريح صوت النملة إلى سليمان وهو مارّ في الهواء والريح قد حملته فوقف وقال: عليّ بالنملة، فلمّا أُتي بها قال سليمان يا أيتها النملة أما علمت أنّي نبيّ اللّه وإنّي لا أظلم أحداً؟

قالت النّملة: بلى، قال سليمان: فلِمَ حذرتنيهم ظلمي ؟ وقلت: «يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ» ؟

قالت النملة : خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيبعدوا عن اللّه تعالى ذكره.

ثمّ قالت النّملة : أنت أكبر أم أبوك داود ؟ قال سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ): بل أبي داود.

قالت: فلِمَ زيد في حروف إسمك حرف على حروف أبيك داود؟

قال سليمان: ما لي بهذا علم قالت لأنّ أباك داود داوی جرحه بودّ فسمّي داود، وأنت ياسليمان أرجو أن تلحق بأبيك.

ثمّ قالت النملة : هل تدري لمَ سخرت لك الريح من بين سائر المملكة؟

قال سليمان: ما لي بهذا علم.

ص: 225


1- النمل: 19.
2- النمل: 18.

قالت النملة: يعني عزّ وجلّ بذلك: لو سخّرت لك جميع المملكة كما سخّرت لك هذه الريح لكان زوالها من يدك كزوال الريح، فحينئذ تبسّم ضاحكاً من قولها»(1).

قصة كرسي بلقيس

كان سليمان إذا قعد على كرسيّه جاءت جميع الطير التي سخّرها اللّه لسليمان فتظلّ الكرسيّ بجميع من عليه من الشمس، فغاب عنه الهدهد من بين الطير، فوقعت الشمس من موضعه في حجر سليمان، فرفع رأسه وقال كما حكى اللّه : «مَالِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَا أَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَنٍ مُّبِينٍ»(2) أي بحجّة قويّة، فلم يمكث إلا قليلا إذ جاء الهدهد فقال له سليمان: «أين كنت» ؟ قال : «أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ، وَجِئْتُكَ مِن سَبَا بِنَا يَقِينِ»(3) أي بخبر صحيح «إِنِّي وَجَدتُ امْرَأَةَ تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ»(4)، وهذا ممّا لفظه، عام ومعناه خاصّ، لأنّها لم تؤت أشياء كثيرة منها الذكر واللحية ثمّ قال : «وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللّه وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ»(5) ثم قال الهدهد: «أَلَّا يَسْجُدُوا للّه الّذي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ»(6) أي المطر وفي «وَالْأَرْضِ» النبات.

ثم قال سليمان: «سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَذِبِينَ (27) أَذْهَب بَكِتَابِى هَذَا فَأَلْقِهْ

ص: 226


1- البحار : ج 14 ص 92.
2- النمل: 20.
3- النمل: 22.
4- النمل: 23.
5- النمل: 24.
6- النمل: 25.

إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ»(1)

فقال الهدهد: إنّها في عرش عظيم أي سرير فقال سليمان: «ألق الكتاب على قبّتها»، فجاء الهدهد فألقى الكتاب في حجرها فارتاعت من ذلك، وجمعت جنودها وقالت لهم كما حكى اللّه : «يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنْ أُلْقِيَ إِلَى كِتَبُ كَرِيم»(2) أي مختوم «إِنَّهُ مِن سُلَيْمَنَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَىَ وَأتُونِي مُسْلِمِينَ»(3) أي لا تتكبّروا علي، ثم قالت: «يَأَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونِي فِي أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْ حتّى تَشْهَدُون»(4) قالوا لها كما حكى اللّه : «نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ»(5) فقالت لهم : «إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً»(6).

فقال اللّه عزّ وجلّ : «وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» ثمّ قالت: إن كان هذا نبيّاً من عند اللّه كما يدّعي فلا طاقة لنا به، فإنّ اللّه لا يُغلب، ولكن سأبعث إليه بهديّة فإن كان ملكاً يميل إلى الدنيا قبلها، وعلمت أنه لا يقدر علينا، فبعثت إليه حقّاً فيه جوهرة عظيمة وقالت للرسول قل له: يثقب هذه الجوهرة بلا حديد ولا،نار، فأتاه الرسول بذلك، فأمر سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعض جنوده من الديدان فأخذ خيطاً في فمه ثمّ ثقبها وأخرج الخيط من الجانب الآخر، وقال سليمان لرسولها : «فَمَا ءَاتَيْنِ اللّه خَيْرٌ مِّمَّا ءَاتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ نَفْرَحُونَ (36) أَرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا»(7) أي لا طاقة «وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً

ص: 227


1- النمل: 27.
2- النمل: 29.
3- النمل: 30-31.
4- النمل: 32.
5- النمل: 33.
6- النمل: 34.
7- النمل: 36-37.

وَهُمْ صَغِرُونَ»(1) فرجع إليها الرسول وأخبرها بذلك وبقوّة سليمان فعلمت أنه لا محيص لها فارتحلت وخرجت نحو سليمان.

فلمّا أخبر اللّه سليمان بإقبالها نحوه قال للجنّ والشياطين : «أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِتٌ مِّنَ الجنَّ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ، قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أمِينُ»(2) قال سليمان: «أُريد أسرع من ذلك».

فقال آصف بن برخيا : «أَنَا ءَائِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ»(3) فدعا اللّه باسمه الأعظم فخرج السرير من تحت كرستي سليمان بن داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال سليمان: «نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا». أي غيّروه «نَنظُرْ أَتَهْتدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الّذين لَا يَهْتَدُونَ (41) فلمّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُو» (4) وكان سليمان قد أمر أن يتّخذ لها بيت من قوارير ووضعه على الماء ثم قيل لها «ادْخُلِي الصَّرْحَ» فظنّت أنّه ماء فرفعت ثوبها وأبدت ساقيها فإذا عليها شعر فقيل لها : «إِنَّهُ صَرْحُ مُمَرَدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَنَ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ»(5). فتزوجها سليمان، وهي بلقيس بنت الشرح الجيبريّة (6).

وفاة سليمان بن داود (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن أبيه موسى بن جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن أبيه جعفر بن محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ سليمان بن داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال ذات يوم لأصحابه: إنّ اللّه تبارك وتعالى قد وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، سخّر لي

ص: 228


1- النمل: 37.
2- النمل: 38-39.
3- النمل: 40.
4- النمل: 41 - 42.
5- النمل: 44.
6- البحار: ج 14 ص 110.

الريح والإنس والجن والطير والوحوش، وعلّمني منطق الطير، وأتاني من كلّ شيء، ومع جميع ما أُوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلى الليل، وقد أحببت أن أدخل قصري في غد فأصعد أعلاه وأنظر إلى ممالكي، فلا تأذنوا لأحد عليّ لئلا يرد علي ما ينغّص على يومي، قالوا: نعم، فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده وصعد إلى أعلى موضع من قصره، ووقف متّكأ على عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراً بما أوتي فرحاً بما أعطي إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا،قصره، فلمّا بصر به سلیمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال له : من أدخلك إلى هذا القصر وقد أردت أن أخلو فيه اليوم؟ فبإذن من دخلت؟

فقال الشابّ : أدخلني هذا القصر ربّه وبإذنه دخلت.

فقال: ربّه أحقّ به منّي فمن أنت؟ قال: أنا ملك الموت.

قال: وفيما جئت؟ قال: جئت لأقبض روحك.

قال: امض لما أُمرت به فهذا يوم سروري، وأبى اللّه عزّ وجلّ أن يكون لي سرور دون لقائه، فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه، فبقی سلیمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) متّكئاً على عصاه وهو ميت ما شاء اللّه، والناس ينظرون إليه وهم يقدرون أنه حيّ، فافتتنوا فيه واختلفوا، فمنهم من قال: إنّ سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد بقي متّكئاً على عصاه هذه الأيام الكثيرة ولم يتعب ولم ينم ولم يأكل ولم يشرب، إنّه لربّنا الّذي يجب علينا أن نعبده.

فقال المؤمنون: إنّ سليمان هو عبد اللّه ونبيه يدبّر اللّه أمره بما شاء، فلمّا اختلفوا بعث اللّه الأرضة فدبت في عصاه، فلمّا أكلت جوفها انكسرت العصا وخرّ سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) من قصره على وجهه، فشكرت الجنّ للأرضة صنيعها. وذلك قوله اللّه : «فلمّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فلمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الحِنُّ أَن لَوْ كَانُوا

ص: 229

يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ»(1).

وعن محمّد بن يوسف التميمي عن الصادق عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عاش سليمان بن داود سبعمائة سنة واثنى عشر سنة» (2).

قصة قوم سبأ

«لَقَدْ كَانَ لِسَبَا فِي مَسْكَنِهِمْءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينِ وَشِمَالٍ»(3).

عن الشيخ القمي في تفسيره قال : فإنّ بحراً كان من اليمن وكان سليمان أمر جنوده أن يجرّوا لهم خليجاً من البحر العذب إلى بلاد الهند ففعلوا ذلك، وعقدوا له عقدةً عظيمة من الصخر والكلس (4) حتّى يفيض على بلادهم، وجعلوا للخليج مجاري، وكانوا إذا أرادوا أن يرسلوا منه الماء أرسلوه بقدر ما يحتاجون إليه، وكانت لهم جنّتان عن يمين وشمال عن مسيرة عشرة أيّام فيمن يمرّ لا تقع عليه الشمس من التفافها، فلمّا عملوا بالمعاصي وعتوا عن أمر ربهم ونهاهم الصالحون فلم ينتهوا، بعث اللّه على ذلك السدّ الجرذ وهي الفأرة الكبيرة، فكانت تقلع الصخرة التي لا يستقلها الرجل وترمي بها، فلمّا رأى ذلك قوم منهم هربوا وتركوا البلاد، فما زال الجرذ تقلع الحجر حتّى خرّبوا ذلك السدّ، فلم يشعروا حتّى غشيهم السيل وخرّب بلادهم وقلع أشجارهم وهو قوله: «لَقَدْ كَانَ لِسَبَ فِي مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينِ وَشِمَالِ كُلُوا مِن رِزْقِ رَبِّكُمْ واشْكُرُوا لَه، بلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبُّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ» أي العظيم

ص: 230


1- سبأ: 14.
2- ج 14 ص 140.
3- سبأ: 15.
4- الكلس بالفارسيّة: آهك.

الشديد. «وَبَدَّلْنَهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُل خَمْطٍ»(1) وهو أُمّ غيلان «وَأَثْلٍ» ما هو نوع من الطرفاء(2) «وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَهُم بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِي إِلَّا الكَفُور (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَرَكْنَا فِيهَا». قال : مكّة «فَقَالُوا رَبَّنَا بَعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ»(3)(4).

قصّة أصحاب الرّس

عن الحسن بن راشد عن يعقوب بن إبراهيم قال: سأل رجل أبا الحسن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن أصحاب الرّس الّذين ذكرهم اللّه من هم وممّن هم وأيّ قوم كانوا؟ فقال: «كانا رسين; أما أحدهما فليس الّذي ذكره اللّه في كتابه كان أهله أهل بدو وأصحاب شاة،وغنم، فبعث اللّه تعالى إليهم صالح النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) رسولا فقتلوه، وبعث إليهم رسولا آخر فقتلوه، ثمّ بعث إليهم رسولا آخر وعضده بِوَليّ فقتلوا الرسول، وجاهد الولي حتّى أفحمهم، وكانوا يقولون: إلهنا في البحر، وكانوا على شفيره، وأما الّذين ذكرهم اللّه في كتابه فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرّس، وكان فيهم أنبياء كثيرة»، فسأله رجل: وأين الرّس؟

فقال: «هو نهر بمنقطع آذربايجان، هو بين حدّ أرمينية وآذربايجان، وكانوا يعبدون الصلبان، فبعث اللّه إليهم ثلاثين نبيّاً في مشهد واحد فقتلوهم جميعاً، فبعث اللّه إليهم نبيّاً وبعث معه وليّاً فجاهدهم، وبعث اللّه ميكائيل في أوان وقوع الحبّ والزرع فأنضب

ص: 231


1- سبأ: 16.
2- بالفارسيّة: گز.
3- سبأ: 19.
4- ج 14 ص 143.

ماءهم فلم يدع عيناً ولا نهراً ولا ماءً لهم إلا أيبسه، وأمر ملك الموت فأمات مواشيهم، وأمر اللّه الأرض فابتعلت ما كان لهم من تبر أو فضة أو آنية فهو لقائمنا (عَلَيهِ السَّلَامُ) لك إذا قام، فماتوا كلّهم جوعاً وعطشاً، فلم يبق منهم باقية، وبقى منهم قوم مخلصون، فدعوا اللّه أن ينجيهم بزرع وماشية وماء ويجعله قليلا لئلا يطغوا فأجابهم اللّه إلى ذلك لما علم من صدق نياتهم. ثم عاد القوم إلى منازلهم فوجدوها قد صارت أعلاها أسفلها، وأطلق اللّه لهم نهرهم وزادهم فيه على ما سألوا، فقاموا على الظاهر والباطن في طاعة اللّه حتّى مضى أولئك القوم، وحدث بعد ذلك نسل أطاعوا اللّه في الظاهر ونافقوه في الباطن، وعصوا بأشياء شتّى فبعث اللّه من أسرع فيهم القتل، فبقيت شرذمة منهم فسلّط اللّه عليهم الطاعون فلم يبق منهم أحداً، وبقي نهرهم ومنازلهم مائتي عام لا يسكنها أحد، ثم أتى اللّه تعالى بقوم بعد ذلك فنزلوها وكانوا صالحين، ثمّ أحدث قوم منهم فاحشة واشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء فسلّط اللّه عليهم صاعقة فلم يبق منهم باقية» (1).

قصّة شعيا (عَلَيهِ السَّلَامُ)

بالإسناد إلى الصدوق :قال كان في بني إسرائيل ملك في زمان شعيا وهم متابعون مطيعون اللّه، ثمّ إنّهم ابتدعوا البدع فأتاهم ملك بابل، وكان نبيّهم يخبرهم بغضب اللّه عليهم، فلمّا نظروا إلى ما لا قبل لهم من الجنود تابوا وتضرعوا، فأوحى اللّه تعالى إلى شعيا إنّي قبلت توبتهم لصلاح،آبائهم وملكهم كان قرحة بساقه وكان عبداً صالحاً، فأوحى اللّه تعالى إلى شعيا (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن مر ملك بني إسرائيل فليوص وصيته وليستخلف على بني إسرائيل من أهل بيته فإنّي قابضه يوم كذا، فليعهد عهده، فأخبره شعيا (عَلَيهِ السَّلَامُ) برسالته تعالى عزّ وعلا، فلمّا قال له ذلك أقبل على التضرع والدعاء والبكاء فقال: اللّهم ابتدأتني بالخير من أوّل يوم وسبّبته لي وأنت فيما أستقبل رجائي وثقتي فلك الحمد بلا عمل

ص: 232


1- ج 14 ص 153.

صالح سلف منّي، وأنت أعلم مني بنفسي، أسألك أن تؤخّر عنّي الموت وتنسى (1) لي في عمري وتستعملني بما تحب وترضى، فأوحى اللّه إلى شعيا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّي رحمت تضرعه واستجبت دعوته، وقد زدت في عمره خمس عشرة سنة، فمره فليداوي قرحته بماء التين فإنّي قد جعلته شفاءً مما فيه، وإنّي قد كفيته وبني إسرائيل مؤونة عدوّهم»، فلمّا أصبحوا وجدوا جنود ملك بابل مصروعين في عسكرهم موتى لم يفلت منهم أحد إلا ملكهم وخمسة نفر، فلمّا نظروا إلى أصحابهم وما أصابهم فرّوا منهزمين إلى أرض بابل، وثبت بنوا إسرائيل متوازرين على الخير، فلمّا مات ملكهم ابتدعوا البدع ودعا كلّ إلى نفسه، وشعيا يأمرهم وينهاهم فلا يقبلون حتّى أهلكهم اللّه.

وسُئل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن شعيا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: «هو الّذي بشر بي وبأخي عيسى بن مریم (عَلَيهَا السَّلَامُ)»(2).

(عَلَيهِ السَّلَامُ)حياة زكريا ويحيى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)

سأل سعد بن عبد اللّه القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن تأويل «كهيعص»(3).

قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هذه الحروف من أنباء الغيب أطلع اللّه عليها عبده زكريا ثم قصّها على محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وذلك أنّ زكريا سأل ربه أن يعلّمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فعلّمه إياها، فكان زكريا (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا ذكر محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعليّاً وفاطمة والحسن (عَلَيهِم السَّلَامُ) سرّي عنه همّه وانجلى كربه، وإذا ذكر الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) خنقته العبرة ووقعت عليه البهرة، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذات يوم: إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم سليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه اللّه عن قصته فقال: (كهيعص) فالكاف اسم كربلاء،

ص: 233


1- أي تؤخر.
2- ج 14 ص 161.
3- مریم: 1.

والهاء هلاك العترة، والياء: يزيد وهو ظالم الحسين والعين: عطشه، والصاد: صبره، فلمّا سمع ذلك زكريا (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام، ومنع فيهنّ الناس من الدخول عليه وأقبل على البكاء والنحيب وكان يرثيه: إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده؟ إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه؟

إلهي أتلبس علياً وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟

إلهي أتحلّ كربة هذه المصيبة بساحتهما؟

ثمّ كان يقول: إلهي ارزقني ولداً تقرُّ به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه فافتّني بحبّه ثمّ أفجعني به كما تفجع محمّداً حبيبك بولده فرزقه اللّه يحيى وفجعه به، وكان حمل يحيى (عَلَيهِ السَّلَامُ)ستة أشهر وحمل الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كذلك»(1).

قتل وذبح يحيى (عَلَيهِ السَّلَامُ)

آخر أن عيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعث يحيى بن زكريا (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في إثني عشر من الحواريّين يعلّمون الناس وينهاهم عن نكاح ابنة الأُخت، قال: وكان لملكهم بنت أُخت تعجبه، وكان يريد أن يتزوّجها، فلمّا بلغ أُمّها أن يحيى (عَلَيهِ السَّلَامُ) نهى عن مثل هذا النكاح أدخلت بنتها على الملك مزيّنة، فلمّا رآها سألها عن حاجتها قالت حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريّا، فقال سلي غير هذا، فقالت : لا أسألك غير هذا، فلمّا أبت عليه دعا بطشت و دعا بیحیی (عَلَيهِ السَّلَامُ) فذبحه، فبدرت (2) قطرة من دمه فوقعت على الأرض، فلم تزل تعلو حتّى بعث اللّه بخت نصر عليهم، فجاءته عجوز من بني إسرائيل فدلته على ذلك الدم، فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتّى يسكن، فقتل عليها سبعين ألفاً

ص: 234


1- ج 14 ص 178.
2- أي أسرعت و سبقت.

في سنة واحدة حتّى سكن (1).

حياة مريم (عَلَيهَا السَّلَامُ) وولادتها وبعض أحوالها

«إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»(2).

فإنّ اللّه تبارك وتعالى أوحى إلى عمران: «إنّي واهب لك ذكراً يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللّه»، فبشّر عمران زوجته بذلك، فحملت فقالت : «رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا» للمحراب وكانوا إذا نذروا نذراً محرّراً جعلوا ولدهم للمحراب، «فلمّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَى»(3) وأنت وعدتني ذكراً «وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيدُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّحِيمِ»(4) فوهب اللّه لمریم عیسی (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا بلغت مريم صارت في المحراب، وأرخت على نفسها ستراً، وكان لا يراها أحد، وكان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول لها: «أنى لَكِ هَذَا» فتقول: «هُوَ مِنْ عِندِ اللّه إِنَّ اللّه يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» (5) «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَيْكَةُ يَمَرْيَمُ إِنَّ اللّه اصْطَفَكِ وَطَهَرَكِ وَأَصْطَفَنَكِ عَلَى نِسَاء الْعَلَمِينَ»(6)، قال: اصطفاها مرّتين: الأُولى: اختارها، والثانية: فإنّها حملت من غير فحل، قوله: «وَمَا

ص: 235


1- ج 14 ص 182.
2- آل عمران: 35.
3- آل عمران: 36.
4- عمران : 36.
5- آل عمران: 37
6- آل عمران: 42.

كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ». (1)

قال : لما وُلدت اختصموا آل عمران فيها وكلّهم قالوا: نحن نكفلها، فخرجوا وضربوا بالسهام، فخرج سهم زكريا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فكفلها زكريا (عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).

ولادة عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)

«وَاذْكُرْ فِي الْكِتَبِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيَّا»(3). قال: خرجت إلى النخلة اليابسة «فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا». قال : في محرابها «فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا»يعني جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) «فَتَمَثَلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيَّا» فقال لها جبرئيل : «قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيَّا». فأنكرت ذلك لأنه لم يكن في العادة أن تحمل المرأة من غير فحل «قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَمُ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرُ وَلَمْ أَلُكُ بَغِيًا» ولم يعلم جبرئيل أيضاً كيفية القدرة فقال لها: «قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَى هَیِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ عَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيَا».

قال : فنفخ في جيبها فحملت بعیسی (عَلَيهِ السَّلَامُ)،باللیل فوضعته بالغداة، وكان حملها تسع ساعات، جعل اللّه الشهور لها ساعات، ثمّ ناداها جبرئيل «وَهُزَى إِلَيْكِ يجذع النَّخْلَةِ» فلمّا بلغت النخلة أخذها المخاض فوضعت بعيسى، فلمّا نظرت إليه. «قَالَتْ يَلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيَا مَنسِيّا»، ماذا أقول لخالي ؟ وماذا أقول لبني إسرائيل؟ فنادها عيسى من تحتها: «أَلَا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» أي نهراً «وَهُزَى إِلَيْكِ بجذع النَّخْلَةِ تُسَاقِط عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيّا» أي طيّباً، وكانت النخلة قد يبست منذ دهر طويل، فمدّت يدها إلى النخلة فأورقت وأثمرت وسقط عليها الرطب الطري وطابت نفسها،

ص: 236


1- آل عمران: 44.
2- ج 14 ص 199.
3- مريم: 16.

فقال لها عيسى قمطيني وسوّيني ثمّ افعلي كذا وكذا، فقمطته وسوّته، وقال لها عيسى: «فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيّنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا» وصمتاً، كذا نزلت «فَلَنْ أُكَلَّمَ الْيَوْمَ إِنِسيّاً» ففقدوها في المحراب فخرجوا في طلبها، وخرج خالها زكريا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأقبلت وهو في صدرها وأقبلن مؤمنات بني إسرائيل يبزقن في وجهها، فلم تكلّمهنّ حتّى دخلت في محرابها، فجاء إليها بنو إسرائيل وزكريا فقالوا لها: «يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِنْتِ شَيْئًا فَرِيَّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمّك بَغِيًّا».

ومعنى قولهم : يا أُخت هارون أنّ هارون كان رجلا فاسقاً زانياً فشبّهوها به من أين هذا البلاء الّذي جئت به والعار الّذي ألزمته بني إسرائيل؟ فأشارت إلى عيسى في المهد فقالوا لها: «كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيَّا». فأنطق اللّه عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : «إِنِّي عَبْدُ اللّه ءاتَنِيَ الْكِتَبَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَنِي بِالصَّلَوةِ وَالزَّكَوْةِ مَا دُمْتُ حَيَّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَى يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الّذي فِيهِ يَمْتَرُونَ»(1) أي يتخاصمون(2).

تواضع عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن محمّد بن سنان رفعه قال : قال عیسی بن مریم (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة فاقضوها لي». قالوا: قضيت حاجتك ياروح اللّه، فقام فغسل أقدامهم، فقالوا: كنا نحن أحق بهذا ياروح اللّه، فقال: «إن أحق الناس بالخدمة العالم، إنما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم»، ثم قال عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) «بالتواضع تعمر

ص: 237


1- مريم: 16 35.
2- ج 14 ص 208.

الحكمة لا بالتكبّر كذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل»(1).

عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومعجزة إحياء الموتى

عن أبان بن تغلب قال: سئل أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : هل كان عيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أحيا أحداً بعد موته حتّى كان له أكل ورزق ومدة وولد؟

فقال: «نعم، إنه كان له صديق مواخ له في اللّه، وكان عيسى يمر به فينزل عليه، وإنّ عیسی 22 غاب عنه حيناً، ثمّ مرّ به ليسلّم عليه فخرجت إليه أُمّه فسألها عنه فقالت أُمّه : مات يارسول اللّه، فقال لها: أتحبين أن تريه؟ قالت: نعم.

قال لها : إذا كان غداً أتيتك حتّى أحييه لك بإذن اللّه، فلمّا كان من الغد أتاها فقال لهاانطلقي معي إلى قبره فانطلقا حتّى أتيا قبره، فوقف عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم دعا اللّه ثم دعا اللّه فانفرج القبر وخرج ابنها حيّاً، فلمّا رأته أُمّه ورآها بكيا فرحمهما عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له: أتحب أن تبقى مع أُمّك في الدنيا ؟

قال: يارسول اللّه بأكل ورزق ومدّة، أو بغير مدّة ولا رزق ولا أكل؟ فقال له عیسی (عَلَيهِ السَّلَامُ) بل برزق وأكل ومدة تعمر عشرين سنة وتزوّج ويولد لك، قال: فنعم أذن، فدفعه عيسى إلى أُمّه فعاش عشرين سنة وتزوّج وولد له»(2).

ما جرى بين عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وإبليس

عن بريد القصراني قال: قال لي أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «صعد عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) على الجبل بالشام يقال له أريحا، فأتاه إبليس في صورة ملك فلسطين فقال له: ياروح اللّه أحييت الموتى وأبرأت الأكمه والأبرص، فاطرح نفسك عن الجبل، فقال عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إنّ ذلك أذن لي

ص: 238


1- البحار : ج 2 ص 62.
2- ج 14 ص 233.

فيه وهذا لم يؤذن لي فيه» (1).

حواري عيسى

عن علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه قال: قلت للرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لِمَ سمّي الحواريّون الحواريّين؟

قال: «أمّا عند الناس فإنّهم سموا حواريين لأنهم كانوا قصارين يخلّصون الثياب من الوسخ بالغسل، وهو اسم مشتق من الخبز الحواريّ (2)، وأما عندنا فسمّي الحواريّون حواريّين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم ومخلصين لغيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ والتذكير».

:قال : فقلت له : فلِمَ سمّي النصارى نصارى؟

قال: «لأنّهم من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلتها مريم وعيسى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) بعد رجوعهما من مصر»(3).

قصة عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع المؤدب

عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لما ولد عيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان ابن يوم كأنّه ابن شهرين فلمّا كان ابن سبعة أشهر أخذت والدته بيده وجاءت به إلى الكتّاب وأقعدته بين يدي المؤدّب، فقال له المؤدِّب : قل : بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) بسم اللّه الرحمن الرحيم، فقال له المؤدِّب: قل : أبجد.

فرفع عيسى رأسه فقال وهل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدرّة ليضربه، فقال: يامؤدِّب

ص: 239


1- ج 14 ص 271.
2- الخبز الحواريّ : الّذي نخل مرّة بعد مرّة.
3- ج 13 ص 272.

لا تضربني، إن كنت تدري وإلّا فاسألني حتّى أفسّر لك، فقال عيسى: أمّا الألف: آلاء اللّه والباء بهجة اللّه والجيم جمال اللّه، والدال: دين اللّه.

«هوّز» الهاء : هول جهنّم والواو ويل لأهل النار، والزاء: زفير جهنّم.

«حطّي»: حطّت الخطايا عن المستغفرين.

«کلمن»: كلام اللّه لا مبدل لكلماته.

«سعفص»: صاع بصاع والجزاء بالجزاء.

«قرشت»: قرشهم.فحشرهم

فقال المؤدّب : أيتها المرأة خذي بيد ابنك فقد علم ولا حاجة له في المؤدّب » (1).

مرور عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) على قبر يعذب صاحبه

عن إبراهيم بن محمّد، عن الصادق جعفر بن محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، عن أبيه، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : مر عيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقبر يعذّب صاحبه، ثمّ مر به من قابل فإذا هو ليس يعذب، فقال: يارب مررت بهذا القبر عام أوّل فكان صاحبه يعذب، ثمّ مررت به العام فإذا هو ليس يعذب، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه : ياروح اللّه إنّه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً فغفرت له بما عمل ابنه».

وقال عيسي بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ)ليحيى بن زكريا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إذا قيل فيك ما فيك فاعلم أنه ذنب ذكرته فاستغفر اللّه منه، وإن قيل ما ليس فيك فاعلم أنها حسنة كتبت لك لم تتعب فيها» (2).

ص: 240


1- ج 14 ص 286.
2- ج 14 ص 287.

رفع عيسى إلى السماء

عن حمران بن أعين عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : إنّ عيسى وعد أصحابه ليلة رفعه اللّه إليه فاجتمعوا إليه عند المساء وهم إثنا عشر رجلا فأدخلهم بيتاً، ثم خرج عليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه من الماء.

فقال: إنّ اللّه أوحى إلىّ أنّه رافعي إليه الساعة ومطهّري من اليهود، فأيكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي؟

فقال شابّ منهم: أنا ياروح اللّه، قال: فأنت هوذا.

فقال لهم عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ): أما إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، فقال

له رجل منهم: أنا هو يانبي اللّه ؟

فقال له عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ): أتحسّ بذلك في نفسك فلتكن هو.

ثم قال لهم عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أما إنّكم ستفترقون بعدي على ثلاث فرق: فرقتين مفتريتين على اللّه في النار، وفرقة تتبع شمعون صادقة على اللّه في الجنّة، ثمّ رفع اللّه عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه»، ثم قال أبو جعفر(عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم، فأخذوا الرجل الّذي قال له عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، وأخذوا الشاب الّذي ألقي عليه شبح عيسى فقتل وصلب، وكفر الّذي قال له عيسى: تكفر قبل أن تصبح اثنتي عشرة كفرة» (1).

قصّة بخت نصر

بالإسناد إلى وهب بن منّبه قال: كان بخت نصّر منذ ملك يتوقّع فساد بني إسرائيل، ويعلم أنه لا يطيقهم إلاّ بمعصيتهم، فلم يزل يأتيه العيون بأخبارهم حتّى تغيّرت

ص: 241


1- ج 14 ص 336.

حالهم وفشت فيهم المعاصي وقتلوا أنبياءهم وذلك قوله تعالى جلّ ذكره: «وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَاءِيلَ فِي الْكِتَبِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا»(1) يعني بخت نصر وجنوده أقبلوا فنزلوا بساحتهم، فلمّا رأوا ذلك فزعوا إلى ربّهم وتابوا وثابروا على الخير وأخذوا على أيدي سفهائهم وأنكروا المنكر وأظهروا المعروف، فردّ اللّه لهم الكرّة على بخت نصّر وانصرفوا بعد ما فتحوا المدينة، وكان سبب انصرافهم أنّ سهماً وقع في جبين فرس بخت نصر فجمع به حتّى أخرجه من باب المدينة، ثمّ إنّ بني إسرائيل تغيّروا فما برحوا حتّى كرّ عليهم، وذلك قوله تعالى : «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُئُوا وُجُوهَكُمْ».

فأخبرهم أرميا (عَلَيهِ السَّلَامُ) »أنّ بخت نصر يتهيّأ للمسير إليكم، وقد غضب اللّه عليكم، وأنّ اللّه تعالى جلّت عظمته يستتيبكم لصلاح آبائكم ويقول: هل وجدتم أحداً عصاني فسعد بمعصيتي ؟ أم هل علمتم أحداً أطاعني فشقي بطاعتي»؟

فلما بلّغهم ذلك نبيّهم كذّبوه وقالوا: لقد أعظمت الفرية على اللّه، تزعم أنّ اللّه معطّل مساجده من عبادته فقيدوه وسجنوه، فأقبل بخت نصر وحاصرهم سبعة أشهر حتّى أكلوا خلاهم وشربوا أبوالهم، ثمّ بطش بهم بطش الجبّارين بالقتل والصلب والإحراق وجذع الأُنوف ونزع الألسن والأنياب ووقف النّساء، فقيل له: إنّ صاحباً كان يحذرهم بما أصابهم فاتهموه وسجنوه، فأمر بخت نصر فأُخرج من السجن فقال له : أكنت تحذّر هؤلاء؟

قال: «نعم»، قال: وأنى علمت ذلك؟ قال: «أرسلني اللّه به إليهم»، قال: فكذّبوك وضربوك؟ قال: «نعم».

ص: 242


1- الإسراء: 4.

قال: لبئس القوم قوم ضربوا نبيّهم وكذّبوا رسالة ربّهم، فهل لك أن تلحق بي فأكرمك وأن أحببت أن تقيم في بلادك آمنتك؟

قال أرميا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّي لم أزل في أمان اللّه منذ كنت لم أخرج منه، ولو أنّ بني إسرائيل لم يخرجوا من أمانه لم يخافوك».

فأقام أرميا (عَلَيهِ السَّلَامُ) مكانه بأرض إيليا (1) وهي حينئذ خراب قد هدم بعضها، فلمّا سمع به من بقي من بني إسرائيل اجتمعوا إليه فقالوا عرفنا أنّك نبينا فانصح لنا، فأمرهم أن يقيموا معه فقالوا: ننطلق إلى ملك مصر نستجير، فقال أرميا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ ذمّة اللّه أوفى الذمم»، فانطلقوا إلى مصر وتركوا أرميا، فقال لهم الملك أنتم في ذمتي، فسمع ذلك بخت نصّر فأرسل إلىّ ملك مصر : ابعث بهم إلي مصفّدين وإلّا آذنتك بالحرب (2).

يونس في بطن الحوت

عن ابن أبي عمير، عن جميل قال : قال لي أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ما ردّ اللّه العذاب إلاّ عن قوم يونس، وكان يونس يدعوهم إلى الإسلام فيأبون ذلك، فهم أن يدعو عليهم، وكان فيهم رجلان عابد وعالم، وكان اسم أحدهما مليخا والآخر اسمه،روبيل، فكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم، وكان العالم ينهاه، ويقول: لا تدعُ عليهم فإنّ اللّه يستجيب لك ولا يحبّ هلاك عباده، فقبل قول العابد ولم يقبل من العالم فدعا عليهم فأوحى اللّه إليه يأتيهم العذاب في سنة كذا وكذا، في شهر كذا وكذا، في يوم كذا وكذا، فلمّا قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد وبقي العالم فيها.

فلما كان في ذلك اليوم نزل العذاب، فقال العالم لهم: ياقوم افزعوا إلى اللّه فلعله

ص: 243


1- اسم مدينة بيت المقدّس.
2- البحار : ج 14 ص 364.

يرحمكم ويردّ العذاب عنكم، فقالوا: كيف نصنع ؟ قال : اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة وفرّقوا بين النساء والأولاد وبين الإبل،وأولادها، وبين البقر وأولادها، وبين الغنم وأولادها، ثم ابكوا وادعوا، فذهبوا وفعلوا ذلك وضجّوا وبكوا فرحمهم اللّه وصرف عنهم العذاب، وفرّق العذاب على الجبال، وقد كان نزل وقرب منهم، فأقبل يونس لينظر كيف أهلكهم اللّه، فرأى الزارعون يزرعون في أرضهم، قال لهم: ما فعل قوم یونس ؟ فقالوا له ولم يعرفوه إنّ يونس دعا عليهم فاستجاب اللّه له ونزل العذاب عليهم، فاجتمعوا وبكوا فدعوا فرحمهم اللّه وصرف ذلك عنهم، وفرّق العذاب على الجبال فهم إذا يطلبون يونس ليؤمنوا به، فغضب يونس ومرّ على وجهه مغاضباً اللّه، حتّى انتهى إلى ساحل البحر، فإذا سفينة قد شحنت، وأرادوا أن يدفعوا فسألهم يونس أن يحملوه فحملوه، فلمّا توسطوا البحر بعث اللّه حوتاً عظيماً فحبس عليهم السفينة من قدامها،

فنظر إليه يونس ففزع منه وصار إلى مؤخّر السفينة، فدار إليه الحوت وفتح فاه، فخرج أهل السفينة فقالوا: فينا،عاص، فتساهموا فخرج سهم يونس وهو قول اللّه (عزّوجلّ) : «فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»(1) فأخرجوه فألقوه في البحر فالتقمته الحوت ومرّ به في الماء.

«فَنَادَى فِي الظُّلُمَتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ»(2) فاستجاب اللّه له، وأمر الحوت فلفظه على ساحل البحر، وقد ذهب جلده ولحمه، وأنبت اللّه عليه شجرة من يقطين وهي الدبّاء، فأظلّته من الشمس فسكن، ثمّ أمر اللّه الشجرة فتنحت عنه ووقعت الشمس عليه فجزع فأوحى اللّه إليه : يايونس لم ترحم مائة ألف أو يزيدون وأنت تجزع من ألم ساعة؟

فقال: ياربّ عفوك عفوك، فردّ اللّه بدنه ورجع إلى قومه وآمنوا به وهو قوله:

ص: 244


1- الصافات: 141.
2- الأنبياء: 87.

«فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَتَعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ»(1).

وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «لبث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيّام، ونادى في الظلمات ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر»(2).

متى ولقاء داود وسليمان (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) معه

علي بن الحكم، عمّن رفعه إلى أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : إنّ داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: يارب أخبرني بقريني في الجنّة ونظيري في منازلي، فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليه : إنّ ذلك متى أبا يونس.

قال : فاستأذن اللّه في زيارته فأذن له، فخرج هو وسليمان ابنه (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) حتّى أتيا موضعه، فإذا هما ببيت من سعف، فقيل لهما: هو في السوق، فسألا عنه فقيل لهما : اطلباه في الحطّابين، فسألا عنه فقال لها جماعة من الناس نحن ننتظره الآن يجي، فجلسا ينتظرانه، إذا أقبل وعلى رأسه وقر من حطب، فقام إليه الناس فألقى عنه الحطب وحمد اللّه وقال: من يشتري طيّباً بطيب؟ فساومه واحد وزاده آخر حتّى باعه من بعضهم.

قال: فسلّما عليه فقال: انطلقا بنا إلى المنزل، واشترى طعاماً بما كان معه، ثمّ طحنه وعجنه في نقير له، ثمّ أجّج ناراً وأوقدها، ثمّ جعل العجين في تلك النار وجلس معهما يتحدّث، ثمّ قام وقد نضجت خبيزته، فوضعها في النقير وفلقها وذرّ عليها ملحاً، ووضع إلى جنبه مطهرة ملأ ماء، وجلس على ركبتيه، وأخذ لقمة فلمّا رفعها إلى فيه قال:

ص: 245


1- یونس: 98.
2- البحار: ج 14 ص 380.

بسم اللّه، فلمّا از دردها (1) قال: الحمد للّه.

ثمّ فعل ذلك بأُخرى وأُخرى، ثمّ أخذ الماء فشرب منه فذكر اسم اللّه، فلمّا وضعه قال: الحمد اللّه، ياربّ من الّذي أنعمت عليه وأوليته مثل ما أوليتني؟ قد صححت بصري وسمعي وبدني وقوّيتني حتّى ذهبت إلى الشجر لم أُغرسه ولم أهتمّ لحفظه، جعلته لي رزقاً وسقت إليّ من اشتراه منّي فاشتريت بثمنه طعاماً لم أزرعه، وسخّرت لي النار فأنضجته، وجعلتني أكله بشهوة أقوى به على طاعتك فلك الحمد، قال: ثم بكى، قال :داود يابني قم فانصرف بنا، فإنّي لم أر عبداً قط أشكر اللّه من هذا»(2).

أصحاب الكهف والرقيم

«أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءَايَتِنَا عَجَبًا»(3).

يقول : قد آتيناك من الآيات ما هو أعجب منه، وهم فتية كانوا في الفترة بين عيسى بن مريم (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)و محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وأمّا الرقيم فهما لوحان من نحاس مرقوم أي مكتوب فيهما أمر الفتية وأمر إسلامهم وما أراد منهم دقيانوس الملك وكيف كان أمرهم وحالهم.

عن أبي بصير، عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «كان سبب نزول سورة الكهف أنّ قريشاً بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران النضر بن حارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط والعاص بن وائل السهمي، ليتعلّموا من اليهود والنصارى مسائل يسألونها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: اسألوه عن ثلاث مسائل فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق، ثمّ سلوه عن مسألة واحدة فإذا ادّعى علمها فهو كاذب، قالوا: وما هذه المسائل؟

ص: 246


1- أي بلعها.
2- البحار: ج 14 ص 402.
3- الكهف: 9.

قالوا: اسألوه عن فتية كانوا في الزمن الأوّل فخرجوا وغابوا وناموا، كم بقوا في نومهم حتّى انتبهوا؟ وكم كان عددهم؟ وأي شيء كان معهم من غيرهم؟ وما كان قصّتهم؟ واسألوه عن موسى حين أمره اللّه أن يتّبع العالم ويتعلّم منه، من هو؟ وكيف تبعه؟ وما كان قصّته معه ؟ واسألوه عن طائف طاف من مغرب الشمس ومطلعها حتّى بلغ سد يأجوج ومأجوج، من هو ؟ وكيف كان قصته؟

ثمّ أملوا عليهم أخبار هذه الثلاث المسائل وقالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، وإن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه، قالوا: فما المسألة الرابعة؟ :قالوا: اسألوه متى تقوم الساعة ؟ فإن ادّعى علمها فهو كاذب، فإنّ قيام الساعة لا يعلمها إلا اللّه.

فرجعوا إلى مكّة، واجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إنّ ابن أخيك يزعم أنّ خبر السماء يأتيه ونحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق، وإن لم يخبرنا علمنا أنّه كاذب، فقال أبو طالب سلوا عما بدا لكم.

فسألوه عن الثلاث المسائل، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : غدا أخبر كم ولم يستثن (1) فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً، حتّى اغتمّ النبي، وشكّ أصحابه الّذين كانوا آمنوا به، وفرحت قريش واستهزؤوا، وحزن أبو طالب، فلمّا كان بعد أربعين يوماً نزل عليه جبرئيل بسورة الكهف، فقال رسول اللّه : يا جبرئيل لقد أبطأت فقال : إنا لا نقدر أن ننزل إلا بإذن اللّه فأنزل «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ...» ثمّ قصّ قصّتهم فقال : «إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَاءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيْئَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا»(2).

فقال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عات

ص: 247


1- أي لم يقل: إن شاء اللّه.
2- الكهف: 10.

وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمَن لَم يجبه يقتله، وكان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون اللّه عزّ وجلّ، ووكّل الملك بباب المدينة حرساً، ولم يدع أحداً يخرج حتّى يسجد الأصنام، وخرج هؤلاء بعلة الصيد، وذلك أنهم مروا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، وكان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب وخرج معهم، فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلّة الصيد هرباً من دين الملك، فلمّا أمسوا دخلوا ذلك الكهف والكلب معهم فألقى اللّه عليهم النعاس كما قال اللّه: «فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا»(1).

فناموا حتّى أهلك اللّه ذلك الملك وأهل مملكته وذهب ذلك الزمان وجاء زمان آخر وقوم آخرون ثمّ انتبهوا، فقالوا بعضهم لبعض : كم نمنا ههنا ؟ فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت فقالوا: نمنا يوماً أو بعض يوم، ثمّ قالوا لواحد منهم: خذ هذا الورق وادخل المدينة متنكراً لا يعرفوك فاشتر لنا طعاماً، فإنّهم إن علموا بنا وعرفونا قتلونا أو ردّونا في دينهم، فجاء ذلك الرجل فرأى المدينة بخلاف الّذي عهدها، ورأى قوماً بخلاف أُولئك لم يعرفهم ولم يعرفوا لغته ولم يعرف لغتهم.

فقالوا له: من أنت؟ ومن أين جئت؟ فأخبرهم، فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه والرجل معهم حتّى وقفوا على باب الكهف، وأقبلوا يتطلعون فيه، فقال بعضهم : هؤلاء ثلاثة ورابعهم كلبهم وقال بعضهم هم خمسة وسادسهم كلبهم، وقال بعضهم : هم سبعة وثامنهم كلبهم، وحجبهم اللّه بحجاب من الرعب، فلم يكن أحد يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم، وإنه لما دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكونوا أصحاب دقيانوس شعروا بهم، فأخبرهم صاحبهم أنهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل وأنّهم آية للناس، فبكوا وسألوا اللّه تعالى أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما

ص: 248


1- الكهف: 11.

كانوا، ثمّ قال الملك: ينبغي أن نبني ههنا مسجداً ونزوره، فإنّ هؤلاء قوم مؤمنون، فلهم في كلّ سنة نقلتين ينامون ستة أشهر على جنوبهم اليمنى وستة أشهر على جنوبهم اليسرى، والكلب معهم قد بسط ذراعيه بفناء الكهف»(1).

قتل أصحاب الأخدود

كان سببهم أنّ الّذي هيّج الحبشة على غزوة اليمن ذا نواس، وهو آخر من ملك من حمير، تهود واجتمعت معه حِمْيَر على اليهودية، وسمّى نفسه يوسف، وأقام على ذلك حيناً من الدهر، ثمّ أخبر أنّ بنجران بقايا قوم على دين النصرانية، وكانوا على دين عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعلى حكم الإنجيل، ورأس ذلك الدين عبد اللّه بن بريامن حمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ويدخلهم فيها، فسار حتّى قدم نجران، فجمع من كان بها على دين النصرانية، ثمّ عرض عليهم دين اليهوديّة والدخول فيها، فأبوا عليه، فجادلهم وعرض عليهم وحَرص الحرص كلّه فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها واختاروا القتل، فخدَّ لهم خدوداً، وجمع فيها الحطب وأشعل فيه النار، فمنهم من أُحرق بالنار، ومنهم من قتل بالسيف، ومثل بهم كل مثلة، فبلغ عدد من قتل وأُحرق بالنار عشرين ألفاً، وأفلت رجل منهم يدعى دوس على فرس له وركضه واتبعوه حتّى أعجزهم في الرمل، ورجع ذو نواس إلى ضيعة في جنوده فقال اللّه : «قُتِلَ أَصْحَبُ الْأَخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُوَ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا باللّه الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الّذين فَتَنوا المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَت» أي أحرقوهم «ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَهُمْ عَذَابُ الحَريق»(2)(3).

ص: 249


1- البحار: ج 14 ص 422.
2- البروج: 4 10.
3- البحار: ج 14 ص 438.

قصّة جرجيس (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن ابن عبّاس (رضیَ اللّهُ عنهُ) قال: بعث اللّه جرجيس (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى ملك بالشام يقال له : داذانة يعبد صنماً فقال له: «أيها الملك اقبل نصيحتي لا ينبغي للخلق أن يعبدوا غير اللّه تعالى ولا يرغبوا إلا إليه»، فقال له الملك: من أي أرض أنت؟

قال: «من الروم قاطنين بفلسطين»، فأمر بحبسه، ثمّ مشط جسده بأمشاط من حديد حتّى تساقط لحمه، ونضح جسده بالخلّ(1)، ودلكه بالمسوح الخشنة، ثم أمر بالمكاوي (2) من حديد تحمى فيكوى بها جسده، ولمّا لم يقتل أمر بأوتاد من حديد فضربوها في فخذيه وركبتيه وتحت قدميه، فلمّا رأى أنّ ذلك لم يقتله أمر بأوتاد طوال من حديد فوقذت في رأسه فسال منها دماغه، وأمر بالرصاص فأُذيب وصبّ على أثر ذلك، ثم أمر بسارية (3) من حجارة كانت في السجن لم ينقلها إلا ثمانية عشر رجلا فوضعت على بطنه، فلمّا أظلم الليل وتفرّق عنه الناس رآه أهل السجن وقد جاءه ملك فقال له :

«يا جرجيس إنّ اللّه تعالى جلّت عظمته يقول : اصبر وابشر ولا تخف إنّ اللّه معك يخلّصك، وإنّهم يقتلونك أربع مرات في كلّ ذلك أرفع عنك الألم والأذى»، فلمّا أصبح الملك دعاه فجلده بالسياط على الظهر والبطن، ثمّ ردّه إلى السجن، ثمّ كتب إلى أهل مملكته أن يبعثوا إليه بكلّ،ساحر، فبعثوا بساحر استعمل كلّ ما قدر عليه من السحر فلم يعمل فيه، ثمّ عمل إلى سمّ فسقاه فقال جرجيس: «بسم اللّه الّذي يضلّ عند صدقه كذب الفجرة وسحر السحرة» فلم يضره، فقال الساحر: لو أنّي سقيت بهذا أهل الأرض لنزعت قواهم وشوّهت خلقهم وعميت أبصارهم فأنت ياجرجيس

ص: 250


1- أي بلّ جسده بالخل.
2- جمع المكواة: حديدة يكوى بها
3- الاُسطوانة.

النور المضي والسراج المنير والحقّ اليقين أشهد أنّ إلهك حقّ وما دونه باطل، آمنت به وصدّقت رسله وإليه أتوب بما فعلت. فقتله الملك، ثمّ أعاد جرجيس (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى السجن، وعذّبه بألوان العذاب ثمّ قطّعه أقطاعاً وألقاها في جبّ ثمّ خلا الملك الملعون وأصحابه على طعام له وشراب(1).

«للقصة تتمة، لمن يريد فليراجع المصدر».

عدد الأنبياء وكتبهم

اعتقادنا في عدد الأنبياء أنّهم مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرون ألف نبيّ، ومأة ألف وصيّ وأربعون وعشرون ألف وصيّ، لكلّ نبيّ منهم وصيّ أوصى إليه بأمر اللّه تعالى، ونعتقد فيهم أنهم جاءوا بالحقّ من عند الحقّ، وأنّ قولهم قول اللّه تعالى، وأمرهم أمر اللّه تعالى وطاعتهم طاعة اللّه، ومعصيتهم معصية اللّه، وأنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) لم ينطقوا إلّا عن اللّه تعالى عن وحيه، وأنَّ سادة الأنبياء خمسة الّذين عليهم دارت الرحى، وهم أصحاب الشرائع من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدّمه وهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ) وهم أُولوا العزم صلوات اللّه عليهم وإنّ محمّداً سيّدهم وأفضلهم جاء بالحقّ وصدق المرسلين.

والكتب التي أُنزلت على الأنبياء مأة كتاب وأربعة كتب: خمسون صحيفة على آدم، وثلاثون صحيفة على إدريس، وعلى إبراهيم عشرون، وعلى موسى التوراة، وعلى داود الزبور، وعلى عيسى الانجيل، وعلى محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الفرقان (2).

ص: 251


1- البحار : ج 14 ص 445.
2- البحار : ج 11 ص 28، 43.

صفات الأنبياء الخمسة

سأل الشامي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن خمسة من الأنبياء تكلّموا بالعربيّة، فقال: «هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )».

وسأله; من ولد من الأنبياء مختوناً؟ فقال: «خلق اللّه آدم مختونا، وولد شيث مختوناً، وإدريس ونوح وسام بن نوح وإبراهيم وداود وسليمان ولوط وإسماعيل وموسى وعيسى ومحمّد صلوات اللّه عليهم».

وسأله عن ستّة لم يركضوا في رحم.

فقال: «آدم وحوّا وكبش إبراهيم وعصا موسى وناقة صالح والخفّاش الّذي عمله عيسى بن مريم وطار بإذن اللّه (عزّوجلّ).

وسأله عن ستّة من الأنبياء لهم إسمان، فقال: «يوشع بن نون وهو ذا الكفل ويعقوب وهو إسرائيل والخضر وهو تاليا ويونس وهو ذا النون وعيسى وهو المسيح ومحمّد وهو أحمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )»(1).

معنى النبوّة

عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن إسماعيل بن مرار قال: كتب الحسن بن العبّاس المعروفي إلى الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : جعلت فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والامام؟

قال: فكتب أو قال: «الفرق بين الرسول والنبي والامام، أنّ الرسول الّذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربّما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ).

والنبي ربّما يسمع الكلام وربّما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الّذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص»(2).

ص: 252


1- البحار : ج 11 ص 36.
2- البحار : ج 11 ص 41.

فضل مسجد السهلة

عن أحمد بن محمّد عن أحمد بن داود عن عبداللّه بن أبان قال: دخلنا على أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فسألنا : أفيكم أحد عنده علم عمّي زيد بن علي ؟ فقال رجل من القوم: أنا عندي علم من علم عمّك، كنّا عنده ذات ليلة في دار معاوية بن إسحاق الأنصاري إذ قال: انطلقوا بنا نصلّي في مسجد السهلة، فقال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «وفعل»؟ فقال: لا، جاءه أمرٌ فشغله عن الذهاب فقال: «أما واللّه لو أعاذ اللّه به حولا لأعاذه، أما علمت أنه موضع بيت إدريس النبي الّذي كان يخيط فيه، ومنه سار إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى اليمن بالعمالقة، ومنه سار داود إلى جالوت، وإنّ فيه لصخرة خضراء فيها مثل كل نبي، ومن تحت تلك الصخرة أُخذت طينة كل نبي وإنّه لمناخ الراكب، قيل: مَن الرّاكب؟ قال: «الخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ)»(1).

فضل مسجد الكوفة

عن أحمد بن محمّد عن يعقوب بن عبد اللّه عن إسماعيل بن زيد عن الكاهليّ عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : مسجد الكوفة صلّى فيه سبعون نبيّاً وسبعون وصيّاً أنا أحدهم»(2).

عن علي بن إبراهيم عن صالح بن السنديّ عن جعفر بن بشير عن أبي عبدالرحمن الحذّاء عن أبي أُسامة عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: مسجد كوفان صلّى فيه ألف نبيّ وسبعون نبياً، وفيه عصا موسى وشجرة يقطين وخاتم سليمان، ومنه فار التنّور ونجرت السفينة [اي صنعت السفينة ] وهي سدّة بابل ومجمع الأنبياء»(3).

ص: 253


1- البحار: ج 11 ص 57.
2- البحار : ج 11 ص 58.
3- البحار : ج 11 ص 58.

ص: 254

باب في أحوال النبي محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

عبد المطّلب وابنه عبد اللّه

قال الراوي: إنّ عبد المطّلب كان ذات يوم نائماً في الحجر إذ أتاه آت فقال له: احفر طيبة، قال: فقلت له : وما طيبة ؟ فغاب عني إلى غد فنمت في مكاني فأتى الهاتف فقال احفر برّة، فقلت: وما برّة؟ فغاب عنّي، فنمت في اليوم الثالث فأتى وقال: احفر مضنونة، فقلت: وما مضنونة؟ فغاب عني وأتاني في اليوم الرابع وقال: احفر زمزم فقلت: وما زمزم؟

قال: لا تنزف أبداً ولا تذمّ تسقي الحجيج الأعظم عند قرية النمل، فلمّا دلّه على الموضع أخذ عبدالمطّلب معوله وولده الحارث ولم يكن له يومئذ ولد غيره، فلمّا ظهر له البناء وعلمت قريش بذلك قالوا له: هذا بئر زمزم، بئر أبينا إسماعيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونحن فيه شركاء، قال: لا أفعل، لأنّه أمر خصصت به دونكم، فحفر زمزم، وما كان بمكّة من يحسده ولا يضادّه إلّا رجل واحد وهو عديّ بن نوفل، وكان أيضاً صاحب منعة وبسطة وطول يد وكان المشار إليه قبل قدوم عبد المطّلب، فلمّا قدم عبد المطّلب إلى مكّة وسوّده أهل مكّة عليهم كبر ذلك على عديّ بن نوفل، إذ مال الناس إلى عبدالمطّلب وكبر ذلك عليه، فلمّا كان بعض الأيام تناسبا وتقاولا ووقع الخصام، فقال عديّ بن نوفل لعبد المطّلب: أمسك عليك ما أعطيناك ولا يغرنّك ما خوّلناك، فإنّما أنت غلام من غلمان قومك، ليس لك ولد ولا مساعد فبم تستطيل علينا؟ ولقد كنت في يثرب وحيداً حتّى جاء بك عمّك إلينا وقدم بك علينا فصار لك كلام. فغضب عبدالمطّلب لذلك

ص: 255

وقال له: ياويلك تعيّرني بقلة الولد اللّه عليّ عهد وميثاق لازم لإن رزقني اللّه عشرة أولاد ذكوراً وزاد عليهم لأنحرنّ أحدهم إكراماً وإجلالا لحقّه وطلباً بثاري بالوفاء، اللّهم فكثّر لي العيال ولا تشمت بي أحداً إنّك أنت الفرد الصمد، ولا أعاين بمثل قولك أبداً، ثمّ مضى وأخذ في خطبة النساء والتزويج حرصاً على الأولاد، ثم تزوّج بستّ نساء فرزق منهنّ عشرة أولاد، وكلّ امرأة تزوّجها هي كانت ذات حسن وجمال وعزّ في قومها منهنّ: منعة بنت حباب الكلابيّة، والطائفية، والطليقيّة بنت عيدق اسمها سمراء، وهاجرة الخزاعيّة، وسعدى بنت حبيب الكلابيّة، وهالة بنت وهب، وفاطمة بنت عمرو المخزوميّة، وأمّا فاطمة فولدت له ولدين؛ أحدهما عبد مناف، ويقال له : أبو طالب، والآخر عبداللّه أبو رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وكان عبد اللّه أصغر أولاده، وكان في وجهه نور رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فأولاد عبدالمطّلب: الحارث، وأبو لهب، والعبّاس، وضرار، وحمزة، والمقوم، والجمل، والزبير، وأبو طالب، وعبداللّه، وكان عبدالمطّلب قائماً مجتهداً في خدمة الكعبة، وكان عبدالمطّلب نائماً في بعض الليالي قريباً من حائط الكعبة فرأى رؤيا فانتبه فزعاً مرعوباً فقام يجر أذياله ويجرّ ردائه إلى أن وقف على جماعته وهو يرتعد فزعاً فقالوا له: ما وراءك يا أبا الحارث؟ إنا نراك مرعوباً طائشاً.

فقال: إني رأيت كأن قد خرج من ظهري سلسلة بيضاء مضيئة يكاد ضوئها يخطف الأبصار، لها أربعة أطراف، طرف منها قد بلغ المشرق، وطرف منها قد بلغ المغرب، و طرف منها قد غاص تحت الثرى، وطرف منها قد بلغ عنان السماء، فنظرت وإذا رأيت تحتها شخصين عظيمين فقلت لأحدهما: من أنت؟ فقال: أنا نوح نبيّ ربّ العالمين، وقلت للآخر: من أنت؟ قال : أنا إبراهيم الخليل جئنا نستظل بهذه الشجرة، فطوبى لمن استظلّ بها، والويل لمن تنحّى عنها، فانتبهت لذلك فزعاً مرعوباً، فقال له الكهنة: يا أبا الحارث هذه بشارة لك وخير يصل إليك ليس لأحد فيها شيء، وإن صدقت رؤياك

ص: 256

ليخرجنّ من ظهرك من يدعو أهل المشرق والمغرب ويكون رحمة لقوم وعذاباً على قوم. فانصرف عبد المطّلب فرحاً مسروراً، وقال في نفسه : ليت شعري من يقبض النور من ولدي، وكان يخرج كلّ يوم إلى الصيد وحده، فأخذه ذات يوم العطش، فنظر إلى ماء صاف في حجر معيّن، فشرب منه فوجده أبرد من الثلج وأحلى من العسل، وأقبل من وقته وغشى زوجته فاطمة بنت عمرو فحملت بعبد اللّه أبي رسول اللّه، فانتقل النور الّذي كان في وجهه إلى زوجته فاطمة، فما مرّت بها الليالي والأيام حتّى ولدت عبداللّه أبا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فانتقل النور إليه، فلمّا ولدته سطع النور في غرّته حتّى لحق عنان السماء، فلمّا نظر إليه عبدالمطّلب فرح فرحاً شديداً، ولم يخف مولده على الكهنة والأحبار، فأمّا الكهنة فعظم أمره عليهم لإبطال كهانتهم، فلمّا كملت لعبد المطّلب عشرة أولاد ذكوراً وولد له الحارث فصاروا أحد عشر ولداً ذكراً فذكر نذره الّذي نذر، والعهد الّذي عاهد; لئن بلغت أولادي أحد عشر ولداً ذكوراً لأقربن أحدهم لوجه اللّه تعالى، فجمع عبدالمطّلب أولاده بين يديه ثمّ قال لهم: يا أولادي إنّكم كنتم تعلمون أنكم عندي بمنزلة واحدة، وأنتم الحدقة من العين والروح بين الجنبين، ولو أن أحدكم أصابته شوكة لساءني ذلك، ولكن حق اللّه أوجب من حقكم، وقد عاهدته ونذرت له متى رزقني اللّه أحد عشر ولداً ذكراً لأنحرنّ أحدهم قرباناً، وقد أعطاني ما سألته، وبقي الآن ما عاهدته، وقد جمعتكم لأشاوركم فما أنتم قائلون؟

فجعل بعضهم ينظر إلى بعض وهم سكوت لا يتكلّمون، فأوّل من تكلّم منهم عبداللّه، وكان أصغر أولاده، فقال: يا أبت أنت الحاكم علينا ونحن أولادك وفي طوع يدك وحقّ اللّه أوجب من حقّنا، وكان لعبد اللّه في ذلك اليوم إحدى عشر سنة، فلمّا سمع أبوه كلامه بكى بكاءً شديداً ثمّ قال لهم: يا أولادي ما الّذي تقولون؟ فقالوا له: سمعنا وأطعنا فافعل ما بدا لك، ثمّ قال لهم: اذهبوا ودعوا أُمّهاتكم وداعَ من لا يرجع

ص: 257

أبداً، ثمّ إنّ عبدالمطّلب بات تلك الليلة مهموماً مغموماً ولم يغمض عيناً حتّى طلع الفجر، ثمّ لبس أفخر أثوابه، فأخذ بيده خنجراً ماضياً ليذبح به بعض أولاده، وخرج يناديهم واحداً واحداً، فأقبلوا إليه مسرعين فلم يتأخّر غير عبداللّه، فخرج إليه بنفسه حتّى ورد منزل فاطمة زوجته فأخذ بیده، فتعلّقت به أُمّه وهو يريد أباه وهو يقول: يا أُمّاه اتركيني أمضي مع أبي ليفعل بي ما يريد، فتركته وشقّت جيبها وصرخت وقالت: لفعلك يا أبا الحارث فعل لم يفعله أحد غيرك، فكيف تطيب نفسك بذبح ولدك ؟ وإن كان ولابد من ذلك فخلّ عبداللّه لأنّه طفل صغير، وارحمه لأجل صغره ولأجل هذا النور الّذي في غرّته. فلم يكترث بكلامها(1) ثم جذبه من يدها، فأطلقته أُمّه فمشي وراء أبيه وجملة أولاده إلى الكعبة، وكان يدعو اللّه ويقول: ياربّ وأنت تعلم أنّي نذرت نذراً لأُقربنّ لوجهك واحداً من أولادي الذكور فاختر منهم من أحببت، فاجعله في الكبار ولا تجعله في الصغار، ثم دعا بصاحب الجرائد فقدها فقذفها وكتب على كلّ واحدة اسم ولد، ثم دعا بصاحب القداح وهي الأزلام التي ذكرها اللّه وكانوا يقتسمون بها في الجاهلية فأخذ الجرائد من يده وساق أولاد عبدالمطّلب وقصد الكعبة فتطاولت بهم الأعناق وفاضت العبرات، فبينما هم في ذلك وإذا بصاحب القداح قد خرج من الكعبة وهو قابض على عبداللّه وقال: يا عبد المطّلب هذا ولدك قد خرج عليه السهم، فلمّا سمع كلامه خرّ مغشياً عليه ووقع إلى الأرض، وخرج بقيّة أولاده وهم يبكون على أخيهم، وكان أشدّهم عليه حزناً أبو طالب لأنه شقيقه من أمّه، ثمّ لما أفاق عبد المطّلب سمع البكاء من الرجال والنساء من كل ناحية، فنظر وإذا فاطمة أُمّ عبداللّه وهي تحثو التراب على وجهها، فلمّا نظر إليها لم يجد صبراً، وقبض على يد ولده وأراد أن يذبحه، فتعلقت به سادات قريش وبنو عبد مناف فصاح بهم صيحة منكرة وقال: ياويلكم لستم أشفق

ص: 258


1- أي لم يعبأ به ولا يباليه.

على ولدي مني ولكن أمضي حكم ربي.

ثم ساق ولده عبد اللّه إلى المنحر، فلمّا وصل المنحر عقل رجليه، فلمّا رأته أُمّه أنه لا محالة عازم على ذبحه مضت مسرعة إلى قومها، فبينما عبد المطّلب كذلك إذا أتاه عشرة رجال في أيديهم السيوف وحالوا بينه وبين ولده فقال لهم: ما شأنكم؟ قالوا له: لا ندعك تذبح ابن أُختنا ولو قتلتنا عن آخرنا، ولقد كلّفت هذه المرأة بما لا تطيق، ونحن أخواله من بني مخزوم، فبينما هم كذلك إذ أقبل إليهم رجل من كبار قومه يقال له عكرمة بن عامر فأشار بيده إلى الناس أن اسكتوا ثم قال : يا أبا الحارث أعلم أنك قد أصبحت سيّد الأبطح، فلو فعلت هذا بولدك لصار سنّة بعدك يلزمك عارها وهذا لا يليق بك، فقال: أترى يا عكرمة أغضب ربّي ؟ قال: إني أدلك على ما فيه الصلاح: إنّ معنا في بلادنا كاهنة عارفة تحدّث بما يكون في ضمائر الناس، وذلك أنّ لها صاحباً من الجنّ يخبرها بذلك، فأخذ عبدالمطّلب ولده وأقبل إلى منزله وأخذ أُهبّة (1) السفر إلى الكاهنة، فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام خرج عبد المطّلب في قومه إلى الكاهنة، فتقدّم عبدالمطّلب إليها فسألها عن أمره، فقالت بعد يوماً وربّ البنية، وناصب الجبال المرسية، وساطح الأرض المدحية، إنّ هذا الفتى الّذي ذكرتموه سوف يعلو ذكره، ويعظم أمره، وإنّي سأرشدكم إلى خلاصه، فكم الديّة عندكم؟ قالوا عشرة من الإبل قالت ارجعوا إلى بلدكم واستقسموا بالأزلام على عشرة من الإبل وعلى ولدكم، فإن خرج عليه السهم فزيدوا عشرة أُخرى وارموا عليها بالسهام، فإن خرج عليه دونها فزيدوا عشرة أُخرى هكذا إلى المائة، فإن لم تخرج على الإبل إذبحوا ولدكم، ففرح القوم ورجعوا إلى مكّة، وضربوا السهام على العشرة الأُولى من الإبل وعلى عبداللّه فوقع السهم على عبداللّه، وكذلك في العشرة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة في كل

ص: 259


1- اُهبة: العدّة.

مرّة يقع السهم على عبد اللّه، ثم زاد على الإبل العشرة الأخيرة فصارت مائة، ثمّ أمر صاحب القداح أن يضربها فضربها وخرج السهم على الإبل، فنزع الناس عبداللّه من يد أبيه وأقبلت أُمّه وهي تعثر في أذيالها فأخذت ولدها وقبلته وضمته إلى صدرها ثمّ قالت: «الحمد للّه الّذي لم يبتلني بذبحك، ولم يشمت بي الأعداء وأهل العناد، فبينما هم كذلك إذ سمعوا هاتفاً من داخل الكعبة وهو يقول: «قد قبل منكم الفداء وقد قرب خروج المصطفى فقالت قريش : بخّ بخّ لك يا أبا الحارث، هتفت بك وبابنك الهواتف، وهم الناس بذبح الإبل.

فقال عبدالمطّلب مهلا أُراجع ربّي مرّة أُخرى، فإنّ هذه القداح تصيب وتخطئ، وقد خرجت على ولدي تسع مرّات متواليات، وهذه مرّة واحدة، فلا أدري ما يكون في الثانية، اُتركوني أُعاود ربّي مرّة واحدة، فقالوا له: افعل ما تريد، ثمّ إنّه استقبل الكعبة وقال: «اللّهم سامع الدعاء، وسابغ النعم، ومعدن الجود والكرم، فإن كنت يا مولاي عليّ بولدي هبةً منك فاظهر لنا برهانه مرّة ثانية» ثم أمر صاحب القداح أن يضربها فضربها، فخرج السهم على الإبل، فأخذت فاطمة ولدها وذهبت به إلى بيتها وأتى إليها الناس من كلّ جانب ومكان سحيق وفج عميق يهنّؤونها بمنّة اللّه عليها، ثم أمر عبد المطّلب أن تنحر الإبل فنحرت عن آخرها وتناهبها الناس، وقال لهم : لا تمنعوا منها الوحوش والطير، وانصرف، فجرت سنّة في الدية مائة من الإبل إلى هذا الزمان.

ومضى عبد المطّلب وأولاده، فلمّا رأته الكهنة والأحبار وقد تخلّص خاب أملهم، فقال بعضهم لبعض : تعالوا نسع في هلاكه من حيث لا يشعر به أحد، فعزم القوم على ذلك فصنعوا طعاماً، ووضعوا فيه سمّاً، وأرسلوه مع ووضعوا فيه سماً، وأرسلوه مع نساء متبرقعات إلى بيت عبد المطّلب وهنّ خافيات أنفسهنّ بحيث لا تعلم إحداهنّ، فقرعوا الباب فخرجت إليهم فاطمة ورحبّت بهنّ وقالت من أين أنتنّ ؟ قلن لها : نحن من قرابتك من بني

ص: 260

عبد مناف، دخل علينا السرور لخلاص ابنك، فأخذت فاطمة منهنّ الطعام وأقبلت إلى عبدالمطّلب، فذكرت له الخبر فقال: هلموا إلى ما خصّكم به قرابتكم، فقاموا وأرادوا الأكل منه وإذا بالطعام قد نطق بلسان فصيح وقال: لا تأكلوا منّي فإنّي مسموم. وكان هذا من دلائل نور رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

فامتنعوا من أكله، وخرجوا يقتفون النساء فلم يروا لهنّ أثراً، فعلموا أنّه مكيدة من الأعداء، فحفروا للطعام حفيرة ووضعوه فيها.

فلما لحقّ عبداللّه ملاحق الرجال تطاولت إليه الخطّاب، وبذلوا في طلبه الجزيل من المال كلّ ذلك رغبة في نور رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، و لم يكن في زمانه أجمل ولا أبهى ولا أكمل منه، وكان إذا مرّ بهم ليلا تضيئ من نوره الظلم فسموه أهل مكّة مصباح الحرم، وإذا مرّ بهم في النهار يشمّون منه رائحة المسك الأذفر والكافور والعنبر، وأقام عبدالمطّلب وابنه عبداللّه بمكّة حتّى تزوّج عبداللّه بآمنة بنت وهب.

قال أبو الحسن البكري: ولمّا تزوّج عبداللّه بآمنة أقامت معه زماناً، والنور في وجهه لم يزل حتّى نفذت مشيئة اللّه وقدرته، وأراد أن يخرج خيرة خلقه محمّداً رسول اللّه، وأن يشرق به الأرض وينوّرها بعد ظلامها ويطهرها بعد تنجيسها، أمر اللّه تعالى جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن ينادي في جنّة المأوى أنّ اللّه قد تمّت كلمته ومشيّته، وأن الّذي وعده من ظهور البشير النذير السراج المنير الّذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعوا إلى اللّه، وهو صاحب الأمانة والصيانة سيظهر نوره في البلاد، ويكون رحمة على العباد، ومن أحبّه بشِّر بالشرف والحباء (1)، ومن أبغضه بسوء القضاء، وهو الّذي عرض عليكم من قبل أن يخلق آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، الّذي يسمّى في السماء أحمد، وفي الأرض محمّد، وفي الجنّة أبا القاسم، فأجابته الملائكة بالتسبيح والتهليل والتقديس والتكبير اللّه ربّ العالمين، وفتحت أبواب

ص: 261


1- الحباء: العطاء.

الجنان، وغلّقت أبواب النيران، وأشرفت الحور العين، وسبّحت الأطيار على رؤوس الأشجار.

فلمّا فرغ جبريل من أهل السماوات أمره اللّه أن ينزل في مائة ألف من الملائكة إلى أقطار الأرض وإلى جبل قاف وإلى خازن السحاب وجملة ما خلق اللّه يبشرهم بخروج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثم نزل إلى الأرض السابعة فأخبرهم بخبره، ومن أراد أن به خيراً ألهمه محبته ومن أراد به شرّاً ألهمه بغضه، وزلزلت الشياطين وصفدت (1) وطردت عن الأماكن التي كانوا يسترقون فيها السمع، ورجموا بالشهب.

قال صاحب الحديث : ولمّا كانت ليلة الجمعة عشيّة عرفة، وكان عبداللّه قد خرج هو وإخوته،وأبوه، فبينما هم سائرون وإذا بنهر عظيم فيه ماء زلال ولم يكن قبل ذلك اليوم هناك ماء، فبقى عبد المطّلب وأولاده متعجّبين، فبينما عبد اللّه كذلك إذ نودي، ياعبداللّه اشرب من هذا النهر، فشرب منه وإذا هو أبرد من الثلج وأحلى من العسل وأزكى من المسك، فنهض مسرعاً والتفت إلى إخوته فلم يروا للنهر أثراً فتعجّبوا منه، ثمّ إنّ عبداللّه مضى مسرعاً إلى منزله فقال لآمنة: قومي فتطهّري وتطيّبي وتعطّري فعسى اللّه أن يستودعك هذا النور، فقامت وفعلت ما أمرها، ثمّ جاءت إليه فغشيها تلك الليلة المباركة، فحملت برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فانتقل النور من وجه عبد اللّه في ساعته إلى آمنة، قالت آمنة: لمّا دنى منّي ومسّني أضاء منه نور ساطع وضياء لامع فأنارت منه السماء والأرض فأدهشني ما رأيت، وكانت آمنة بعد ذلك يرى النور في وجهها كأنّه المرآة المضيئة (2).

نصرة الملائكة لعبد اللّه

روي أنّ عبداللّه بن عبدالمطّلب لما ترعرع ركب يوماً ليصيد، وقد نزل بالبطحاء

ص: 262


1- صفده: أوثقه وقيده بالحديد.
2- البحار: ج 15 ص 74.

قوم من اليهود، قدموا ليهلكوا والد محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليطفؤا نور اللّه، فنظروا إلى عبد اللّه فرأوا حلية أُبوّة النبوّة فيه، فقصدوه وكانوا ثمانين نفراً بالسيوف والسكاكين، وكان وهب بن عبد مناف بن زهرة والد آمنة أُمّ محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في ذلك الصوب يصيد، وقد رأى عبداللّه وقد صف به اليهود ليقتلوه، فقصد أن يدفعهم عنه وإذا بكثير من الملائكة معهم الأسلحة طردوا عنه اليهود، فعجب من ذلك وانصرف ودخل على عبدالمطّلب وقال: أزوّج بنتي آمنة من عبداللّه، وعقد فولدت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(1).

عبد المطّلب وأبرهة

عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبداللّه جعفر بن محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ)، عن أبيه، عن جدّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لمّا قصد أبرهة بن الصباح ملك الحبشة لهدم البيت، تسرّعت الحبشة فأغاروا عليها فأخذوا سرحاً (2) لعبد المطّلب بن هاشم فجاء عبدالمطّلب فاستأذن عليه، فأذن له، وهو في قبّة ديباج على سرير له فسلّم عليه، فردّ أبرهة السلام، وجعل ينظر في وجهه فراقه حسنه وجماله وهيبته فقال له هل كان في آبائك مثل هذا النور الّذي أراه لك والجمال؟ قال: نعم أيّها الملك، كلّ آبائي كان لهم هذا الجمال والنور والبهاء، فقال له ابرهة: لقد فقتم فخراً وشرفاً ويحق لك أن تكون سيّد قومك، ثمّ قال الملك لعبدالمطّلب: فيم جئت ؟ فقد بلغني سخاؤك وكرمك فسلني ما شئت فقال له عبد المطّلب: إنّ أصحابك غدوا على سرح لي فذهبوا به فمرهم بردّه عليّ، قال: فتغيظ الحبشيّ من ذلك، وقال: لقد سقطت من عيني جئتني تسألني في سرحك وأنا قد جئت لهدم شرفك وشرف قومك ومكرمتكم التي تتميزون بها من كل جيل وهو البيت الّذي يحج إليه من كلّ صقع في الأرض.

ص: 263


1- البحار : ج 15 ص 111.
2- السرح: الماشية.

فقال له عبد المطّلب: لست بربّ البيت الّذي قصدت لهدمه، وأنا ربّ سرحي الّذي أخذه أصحابك فجئت أسألك فيما أنا ربّه وللبيت ربّ هو أمنع له من الخلق كلّهم وأولى به منهم، فقال الملك : ردّوا عليه،سرحه، وانصرف إلى مكّة وأتبعه الملك بالفيل الأعظم مع الجيش لهدم البيت فكانوا إذا حملوه على دخول الحرم أناخ وإذا تركوه رجع مهرولا.

فقال عبدالمطّلب لغلمانه ادعوا إليّ ابني، فجيء بالعبّاس، فقال: ليس هذا أُريد، أُدعوا إلي ابني، فجيء بأبي طالب، فقال: ليس هذا أريد، أُدعوا إليّ ابني، فجيء بعبد اللّه أب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فلمّا أقبل إليه قال : إذهب يابني حتّى تصعد أبا قبيس ثم اضرب ببصرك ناحية البحر فانظر أيّ شيء يجيء من هناك وخبّرني به.

فصعد عبد اللّه أبا قبيس فما لبث أن جاء بطير أبابيل مثل السّيل، فصار إلى البيت فطاف سبعاً ثمّ صار إلى الصفا والمروة فطاف بهما سبعاً، فجاء عبداللّه إلى أبيه فأخبره الخبر فقال: أُنظر يابنيّ ما يكون من أمرها بعد فأخبرني به، فنظرها فإذا هي قد أخذت نحو عسكر الحبشة، فأخبر عبد المطّلب بذلك فخرج عبد المطّلب وهو يقول: يا أهل مكّة أُخرجوا إلى العسكر فخذوا غنائمكم، قال: فأتوا العسكر وهم أمثال الخشب النخرة، وليس من الطير إلّا ما معه ثلاثة أحجار في منقاره ويديه يقتل بكلّ حصاة واحدة من القوم، فلمّا أتوا على جميعهم انصرف الطير فلم ير قبل ذلك ولا بعده، فلمّا هلك القوم بأجمعهم جاء عبد المطّلب إلى البيت فتعلّق بأستاره وقرأ شعاراً»(1).

إسلام اليهودي

عن الحسن بن عبداللّه، عن آبائه عن جدّه الحسن بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِم السَّلَامُ) في حديث طويل قال: «جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فسأله أعلمهم عن أشياء

ص: 264


1- البحار: ج 15 ص 130.

فأجابه فأسلم، وأخرج رقاً أبيض(1) فيه جميع ما قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وقال: يارسول اللّه والذي بعثك بالحقّ نبياً ما استنسختها إلا من الألواح التي كتب اللّه (عزّوجلّ) لموسى بن عمران (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ولقد قرأت في التوراة فضلك حتّى شككت فيه، يا محمّد ولقد كنت أمحو اسمك منذ أربعين سنة من التوراة، وكلّما محوته وجدته مثبتاً فيها، ولقد قرأت في التوراة أنّ هذه المسائل لا يخرجها غيرك، وإنّ في الساعة التي تردّ عليك فيها هذه المسائل يكون جبرئيل عن يمينك وميكائيل عن يسارك ووصيّك بين يديك، فقال رسول اللّه : صدقت هذا جبرائيل عن يميني وميكائيل عن يساري، ووصيّي علي بن أبي طالب بين يدي، فآمن اليهودي وحسن إسلامه»(2).

النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وبحيراء الراهب

عن أبان بن عثمان قال : لما بلغ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، أراد أبو طالب يخرج إلى الشام في عِيْر قريش فجاء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وتشبّث بالزمام وقال : «ياعمّ على من تخلّفني؟ لا على أُمّ ولا على أب، وقد كانت أُمّه توفّيت، فرق له أبو طالب ورحمه وأخرجه معه، وكانوا إذا ساروا تسير على رأس رسول اللّه الغمامة تظللّه من الشمس، فمروا في طريقهم برجل يقال له: بحيراء، فلمّا رأى الغمامة تسير معهم نزل من صومعته فأخذ لقريش طعاماً وبعث إليهم يسألهم أن يأتوه فأتوه، وخلّفوا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في الرحل، فنظر بحيراء إلى الغمامة قائمة، فقال لهم: هل بقي منكم أحد لم يأتني ؟ فقالوا: ما بقي منا إلا غلام حدث خلّفناه في الرحل، فقال: لا ينبغي أن يتخلّف عن طعامي أحد منكم، فبعثوا إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فلمّا أقبل أقبلت الغمامة، فلمّا نظر إليه بحيراء قال: من هذا الغلام؟ قالوا: ابن هذا، وأشاروا إلى أبي طالب فقال له بحيراء: هذا ابنك ؟ فقال أبو طالب: هذا ابن

ص: 265


1- الرقّ: جلد رقيق يكتب فيه.
2- البحار:ج 15 ص 181.

أخي، قال: ما فعل أبوه؟

قال: توفّي وهو حمل، فقال بحيراء لأبي طالب: ردّ هذا الغلام في بلاده فإنّه إن علمت منه اليهود ما أعلم منه،قتلوه، فإنّ لهذا شأناً من الشأن هذا نبيّ هذه الأُمّة، هذا نبي السيف (1).

الوقائع التي وقعت عند ولادته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد اللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان إبليس لعنه اللّه يخترق السماوات السبع، فلمّا ولد عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) حجب عن ثلاث سماوات وكان يخترق أربع سماوات، فلمّا ولد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حجب عن السبع كلّها، ورميت الشياطين بالنجوم، وقالت قريش هذا قيام الساعة الّذي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه.

وقال عمرو بن أُميّة، وكان من أزجر أهل الجاهلية: انظروا هذه النجوم التي يهتدى بها ويعرف بها أزمان الشتاء والصيف فإن كان رمي بها فهو هلاك كلّ شيء، وإن كانت ثبتت ورمي بغيرها فهو أمر حدث، وأصبحت الأصنام كلّها صبيحة ولد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليس منها صنم إلّا وهو منكبّ على وجهه وارتجس في تلك الليلة أيوان كسرى وسقطت منه أربعة عشر شرفة، وغاضت بحيرة ساوة وفاض وادي السماوة، وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى المؤبذان في تلك الليلة في المنام إبلا صعاباً تقود خيلا عراباً (2) وقد قطعت دجلة وانسربت في بلادهم، وانقصم طاق الملك كسرى من وسطه وانخرقت عليه دجلة العوراء، وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ثم استطار حتّى بلغ المشرق، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوساً، والملك مخرساً لا يتكلّم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة، وبطل سحر السحرة، ولم تبق كاهنة في العرب

ص: 266


1- البحار: ج 15 ص 200.
2- خيل عراب: كرائم سالمة من الهجنة.

إلّا حجبت عن صاحبها وعظمت قريش في العرب وسمّوا آل اللّه عزّ وجلّ، قال أبو عبداللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إنّما سمّوا آل اللّه لأنهم في بيت اللّه الحرام.

وقالت آمنة: إنّ ابني واللّه سقط فأتّقى الأرض بيده، ثمّ رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثمّ خرج منّي نور أضاء له كلّ شيء، وسمعت في الضّوء قائلا يقول: إنّك قد ولدت سيّد الناس، فسمّيته محمّداً، وأتي به عبد المطّلب لينظر إليه وقد بلغه ما قالت أُمّه فأخذه فوضعه في حجره، ثمّ قال : الحمد للّه الّذي أعطاني هذا الغلام الطيّب الأردان، قد ساد في المهد على الغلمان.

ثمّ عوّذه بأركان الكعبة وقال فيه أشعاراً، قال: وصاح إبليس لعنه اللّه في أبالسته فاجتمعوا إليه فقالوا: ما الّذي أفزعك ياسيّدنا؟

فقال لهم: ويلكم لقد أنكرت السماء والأرض منذ الليلة، لقد حدث في الأرض حدث عظيم ما حدث مثله منذ رفع عيسى بن مريم (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، فأخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الّذي قد حدث، فافترقوا ثم اجتمعوا إليه فقالوا: ما وجدنا شيئاً، فقال إبليس لعنه اللّه : أنا لهذا الأمر، ثمّ انغمس في الدنيا فجالها حتّى انتهى إلى الحرم، فوجد الحرم محفوظاً بالملائكة، فذهب ليدخل فصاحوا به، فرجع ثمّ صار مثل الصّر وهو العصفور فدخل من قبل،حرى، فقال له جبرئيل : وراك لعنك اللّه.

فقال له: حرف أسألك عنه ياجبرئيل ما هذا الحدث الّذي حدث منذ الليلة في الأرض؟

فقال له : ولد محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

فقال له هل لي فيه نصيب؟ قال: لا.

ص: 267

قال: ففي أُمته؟ قال: نعم. قال: رضيت»(1).

إخبار رجل يهودي ولادة محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ونبوته إلى قريش

عن سريع البارقي قال: سمعت جعفر بن محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يقول: «لمّا وُلد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وُلِد ليلا، فأتى رجل من أهل الكتاب إلى الملأ من قريش وهم مجتمعون، هشام بن المغيرة والوليد بن مغيرة وعتبة وشيبة فقال: أولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا، وما ذاك؟

قال: لقد ولد فيكم الليلة أو بفلسطين مولود اسمه أحمد به شامة، يكون هلاك أهل الكتاب على يديه فسألوا فأخبروا فطلبوه، فقالوا: لقد ولد فينا غلام، فقال: قبل أن أنبئكم أو بعد؟ قالوا: قبل، قال: فانطلقوا معي أنظر إليه، فأتوا أُمّه أنظر إليه، فأتوا أُمّه وهو معهم، فأخبرتهم كيف سقط وما رأت من النور، قال اليهودي فأخرجيه، فنظر إليه ونظر إلى الشّامة فخرَّ مغشياً عليه، فأدخلته أمه، فلمّا أفاق قالوا له : ويلك ما لك؟

قال : ذهبت نبوّة بني إسرائيل إلى يوم القيامة، هذا واللّه مبيرهم، ففرحت قريش بذلك، فلمّا رأى فرحهم قال : واللّه ليسطون بكم سطوة يتحدّث بها أهل الشرق وأهل الغرب»(2).

قصة حليمة السعدية

روي أنه لما ولد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قدمت حليمة بنت أبي ذؤيب في نسوة من بني سعد بن بكر تلتمس الرضعاء بمكّة قالت فخرجت معهنّ على أتان، ومعي زوجي، ومعنا شارف لنا ما بيّض بقطرة من لبن، ومعنا ولد ما نجد في ثديي ما نعللّه به، وما نام ليلتا

جوعاً، فلمّا قدمنا مكّة لم تبق منا امرأة إلّا عرض عليها محمّد فكرهناه، فقلنا : يتيم،

ص: 268


1- البحار : ج 15 ص 257.
2- البحار : ج 15 ص 260.

وإنّما يكرم الظئر (1) الوالد، فكل صواحبي أخذن رضيعاً ولم آخذ شيئاً، فلمّا لم أجد غيره رجعت إليه فأخذته فأتيت به الرحل (2) فأمسيت وأقبل ثدياي باللّبن حتّى أرويته وأرويت ولدي أيضاً، وقام زوجي إلى شارفنا تلك يلمسها بيده فإذا هي حافل، فحلبها وأرواني من لبنها وروى الغلمان، فقال: ياحليمة لقد أصبنا نسمة مباركة فبتنا بخير ورجعنا، فركبت أتاني (3) ثم حملت محمّداً معي فوالذي نفس حليمة بيده لقد طفت بالركب حتّى أنّ النسوة يقلن : يا حليمة امسكي، علينا أهذه أتانك التي خرجت عليها قلت: نعم، ما شأنها؟ قلن : حملت غلاماً مباركاً ويزيدنا اللّه كلّ يوم وليلة خيراً والبلاد قحط والرعاة يسرحون ثم يريحون فتروح أغنام بني سعد جياعاً وتروح غنمي شباعاً بطاناً حفلاء فتحلب وتشرب (4).

معجزاته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

قالت حليمة السعدية: كانت في بني سعد شجرة يابسة ما حملت قطّ، فنزلنا يوماً عندها ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حجري، فما قمت حتّى اخضرّت وأثمرت ببركة منه، وما أعلم أنّي جلست موضعاً قط إلا كان له أثر، إمّا نبات وإمّا خصب، ولقد دخلت على امرأة من بني سعد يقال لها : أُمّ مسكين، وكانت سيئة الحال، فحملته فأدخلته منزلها فإذا هي قد أُخصبت وحسن حالها، فكانت تجي كلّ يوم فتقبّل رأسه(5).

ص: 269


1- الظئر : المرضعة.
2- الرحل : المنزل والمأوى.
3- الأتان: الحمارة.
4- البحار : ج 15 ص 331.
5- البحار : ج 15 ص 340.

قصّة إيمان الطبيب الراهب

عن أبي جعفر محمّد الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لمّا أتى على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اثنان وعشرون شهراً من يوم ولادته رمدت عيناه فقال عبد المطّلب لأبي طالب : اذهب بابن أخيك إلى عرّاف الجحفة، وكان بها راهب طبيب في صومعته، فحمله غلام له في سفط هندي حتّى أتى به الراهب، فوضعه تحت الصومعة ثمّ ناداه أبو طالب ياراهب، فأشرف عليه فنظر حول الصومعة إلى نور ساطع وسمع حفيف أجنحة الملائكة، فقال له: من أنت؟

قال : أبو طالب بن عبد المطّلب، جئتك بابن أخي لتداوي عينه.

فقال: وأين هو ؟ قال : في السفط قد غطّيته من الشمس، قال: اكشف عنه فكشف عنه، فإذا هو بنور ساطع في وجهه قد أذعر الراهب.

فقال له: غطّه فغطّاه، ثمّ أدخل الراهب رأسه في صومعته فقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنك رسول اللّه حقّاً حقّاً، وأنّك الّذي بشّر به في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، فأشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسوله، ثمّ أخرج رأسه وقال: يابني انطلق به فليس عليه بأس، فقال له أبو طالب : ويلك ياراهب لقد سمعت منك قولا عظيماً.

فقال: يابني شأن ابن أخيك أعظم ممّا سمعت منّي، وأنت معينه على ذلك ومانعه ممّن يريد قتله من قريش قال فأتى أبو طالب عبد المطّلب فأخبره بذلك، فقال له عبدالمطّلب أُسكت يابنيّ لا يسمع هذا الكلام منك أحد، فواللّه لا يموت محمّد حتّى يسود العرب والعجم»(1).

ص: 270


1- البحار : ج 15 ص 358.

تجارة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لخديجة (عَلَيهَا السَّلَامُ)

عن محمّد بن إسحاق قال كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إيَّاه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلمّا بلغها عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من صدق حديثه وعظيم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، وعرضت عليه أن يخرج في مالها تاجراً إلى الشام وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجّار مع غلام لها يقال له: ميسرة فقبله منها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وخرج في مالها ذلك ومعه غلامها ميسرة حتّى قدم الشام، فنزل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في ظلّ شجرة قريبة من صومعة رجل راهب فاطّلع الراهب إلى ميسرة فقال : من هذا الرجل الّذي نزل تحت هذه الشجرة؟

فقال ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلّا نبي، ثمّ باع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سلعته الّتي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري، ثمّ أقبل قافلا إلى مكّة ومعه ميسرة، وكان ميسرة فيما يزعمون قال: إذا كانت الهاجرة (1) واشتدّ الحرّ نزل ملكان يظلّانه من الشمس وهو يسير على بعيرة. فلمّا قدم مكّة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف أو قريباً، وحدّثها ميسرة عن قول الراهب وعمّا كان يرى من إظلال الملكين فبعثت إلى رسول اللّه فقالت له فيما يزعمون:

يا بن عمّ قد رغبت فيك لقرابتك منّي، وشرفك في قومك وسطتك (2) فيهم وأمانتك عندهم وحسن خلقك وصدق حديثك. ثمّ عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة امرأة حازمة لبيبة، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالا، وكلّ قومها قد كان حريصاً على ذلك لو يقدر عليه، فلمّا قالت لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ما قالت ذكر ذلك

ص: 271


1- الهاجرة : أي نصف النهار في القيظ أو من عند زوال الشمس إلى العصر.
2- أي شرفك وسامي منزلتك.

لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة بن عبد المطّلب حتّى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(1).

زواج خديجة من النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

قال أبو الحسن البكري: خطب خديجة عقبة والصلت وأبو جهل وأبو سفيان وخديجة لا ترغب في واحد منهم، وكان قد تولّع قلبها بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لما سمعت من الأخبار، فكانت تقول: سعدت من تكون لمحمّد قرينة، ولجّ بها الشوق، فبعثت إلى عمها فقالت له: ياعمّ أريد أن أتزوّج وما أدري بمن يكون، وقد أكثر علي الناس وقلبي لا يقبل منهم أحداً، فقال لها عمها ياخديجة ألا أعلمك بحديث غريب وأمر عجيب؟

قالت: وما هو ياعمّ ؟

قال: عندي كتاب من عهد عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فيه طلاسم وعزائم أعزم بها على ماء وتأخذينه وتغسلين به، ثم أكتب كتاباً فيه كلمات من الزبور وكلمات من الإنجيل فتضعيه تحت رأسك عند النوم وأنت على فراشك ملتفّة بثيابك، فإنّ الّذي يكون زوجك يأتيك في منامك حتّى تعرفيه باسمه وكنيته، فقالت: افعل ياعم. قال: حبّاً وكرامة، وكتب الكتاب وأعطاها إيّاه وفعلت ما أمرها به ونامت فرأت كأن قد جاء إليها رجل لا بالطويل الشاهق ولا بالقصير، معتدل القامة، تظلّه الغمامة، بين كتفيه علامة، راكب على فرس من نور، وكان خروجه من دار أبي طالب، فلمّا رأته خديجة ضمّته إلى صدرها وأجلسته في حجرها، ولم تنم باقي ليلتها إلى أن أقبلت إلى عمها ورقة وقالت أنعمت صباحاً ياعم، قال : وأنت لقيت نجاحاً، قالت: رأيت رجلا صفته كذا وكذا، قال: فإنّ الّذي رأيته متوّج بتاج الكرامة الشفيع في العصاة يوم القيامة، سيد

ص: 272


1- البحار : ج 16 ص 8.

العرب والعجم محمّد بن عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأنشدت خديجة شعراً لم تفرغ من شعرها إلاّ وقد طُرِق الباب، فقالت لجاريتها انزلي وانظري من بالباب، فنزلت الجارية وإذا أولاد عبدالمطّلب بالباب، فرجعت إلى خديجة وقالت: ياسيدتي إنّ بالباب سادات العرب أولاد عبدالمطّلب، فرمقت خديجة رمق الهوى (1) وقالت: افتحي لهم الباب فإنّي أرجو أن يكونوا قد أتوني بحبيبي محمّد...

فقالت لهم خديجة من وراء الحجاب: يا سادات مكّة فلعل لكم حاجة فتقضى، فإنّ حوائجكم مقضيّة، فقال أبو طالب.

جئناك في أمر ابن أخي محمّد، فلمّا سمعت ذلك غاب رشدها عن الوجود وقالت شعراً في حبّها للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

ثمّ قالت بعد ذلك : ياسيدي أين محمّد حتّى نسمع ما يقول؟

قال العبّاس (رضیَ اللّهُ عنهُ) : أنا آتيكم به، فنهض وسار يطلبه من الأبطح، فوجده فقال له: سر معي إلى دار خديجة بنت خويلد تكون أميناً على أموالها، تسير بها حيث شئت، قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أُريد الشام»، قال ذلك إليك، فسار النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والعبّاس إلى بيت خديجة، وكان من عادته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذا أراد زيارة قوم سبقه النور إلى بيتهم، فسبقه النور إلى بيت خديجة، فقالت لعبدها ميسرة : كيف غفلت عن الخيمة حتّى عبرت الشمس إلى المجلس ؟

قال: لست بغافل عنها، وخرج فلم يجد تغيّر وتد ولا طنب، ونظر إلى العبّاس فوجده قد أقبل هو والنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) معه، فرجع وقال لها يامولاتي هذا الّذي رأيته من أنوار محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فجاءت خديجة لتنظر إلى محمّد، فلمّا دخل المجلس نهض أعمامه إجلالا له، وأجلسوه في أوساطهم، فلمّا استقر بهم الجلوس قدمت لهم خديجة الطعام فأكلوا، ثمّ

ص: 273


1- رمق: أطال النظر.

قالت خديجة: ياسيّدي أنست بك الديار وأضاءت بك الأقدار وأشرقت من طلعتك الأنوار، أترضى أن تكون أميناً على أموالي تسير بها حيث شئت ؟ قال : «نعم رضیت»، ثم قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أريد الشام»، قالت: ذلك إليك، وإنّي قد جعلت لمن يسير على أموالي مائة وقية من الذهب الأحمر ومائة وقيّة من الفضّة البيضاء وجملين وراحلتين، فهل أنت راضٍ ؟ فقال أبو طالب (رضیَ اللّهُ عنهُ) : رضي ورضينا وأنت ياخديجة محتاجة إليه لأنّه من حين خلق ما وقف له العرب على صبوة، وأنّه مكين أمين، قالت خديجة: تحسن ياسيدي تشدّ على الجمل وترفع عليه الأحمال، قال: «نعم»، قالت: يا ميسرة ائتني ببعير حتّى أنظر كيف يشدّ عليه محمّد.

فخرج ميسرة وأتى ببعير شديد المراس، قوي الباس، لم يجسر أحد من الرعاة أن يخرجه من بين الإبل لشدّة بأسه فأدناه ليركبه، فهدر وشقشق (1) واحمرّت عيناه، فقال له :العبّاس: ما كان عندك أهون من هذا البعير، تريد أن تمتحن به ابن أخينا ؟ فعند ذلك قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «دعه ياعمّ»، فلمّا سمع البعير كلام البشير النذير برك على قدمي النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وجعل يمرّغ وجهه على قدمي النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ونطق بكلام فصيح وقال: من مثلي وقد لمس ظهري سيّد المرسلين؟

فقلن النسوة اللّاتي كّن عند خديجة : ما هذا إلّا سحر عظيم قد أحكمه هذا اليتيم، قالت لهم خديجة: ليس هذا سحراً، وإنّما هو آيات بيِّنات وكرامات ظاهرات، فأخرجت خديجة للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثوبين من قباطي مصر وجبة وبردة وعمامة، فلبس النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الثياب وخرج كأنّه البدر في تمامه، فلمّا نظرت إليه قالت:

اُوتيت من شرف الجمال فنوناً***ولقد فتنت بها القلوب فتوناً

ص: 274


1- هدر البعير: ردّد صوته في حنجرته، شقشق: هدر وأخرج شقشقته والشقشقة شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج.

ثمّ إنّ القوم ساروا إلى أن بعدوا عن مكّة، فنزلوا بواد يقال له واد الأمواه، لأنه مجتمع السيول وأنهار الشام، فنزل به القوم وحطّوا رحالهم، وإذا بالسحاب قد اجتمع، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «ما أخوفني على أهل هذا الوادي أن يدهمهم (1) السيل فيذهب بجميع،أموالهم والرأي عندي أن نستند إلى هذا الجبل»، قال له العبّاس: نعم ما رأيت يابن أخي، فأمر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )أن ينادي في القافلة أن ينقلوا رحالهم إلى نحو الجبل مخافة السيل، ففعلوا إلا رجلا من بني جمح يقال له: مصعب، وكان له مال كثير فأبى أن يتغيّر من مكانه وقال : ياقوم ما أضعف قلوبكم؟ تنهزمون عن شيء لم تروه ولم تعاينوه؟ فما استتمّ كلامه إلّا وقد ترادفت السحاب والبرق ونزل السيل وامتلأ الوادي من الحافة إلى الحافّة، وأصبح الجمحي وأمواله كأنّه لم يكن، وأقام القوم في ذلك المكان أربعة أيّام والسيل يزداد، فقال ميسرة: ياسيّدي هذه السيّول لا تنقطع إلى شهر، ولا تقطعه السفار، وإن أقمنا هاهنا أضر بنا المقام ويفرغ الزاد والرأي عندي أن نرجع إلى مكّة، فلم يجبه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى ذلك.

ثمّ نام فرأى في منامه ملكاً يقول له: يا محمّد لا تحزن، إذا كان غداة غد مُر قومك بالرحيل، وقف على شفير الوادي، فإذا رأيت الطير الأبيض قد خطّ بجناحه فاتّبع الخط وأنت تقول : بسم اللّه وباللّه، وأمر قومك أن يقولوا هذه الكلمة، فمن قالها سلم، ومن حاد عنها غرق، فاستيقظ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو فرح مسرور، ثمّ أمر ميسرة أن ينادي في الناس بالرحيل، فرحلوا وشدّ ميسرة رحاله فقال الناس : ياميسرة وكيف نسير وهذا الماء لا تقطعه إلاّ السفن؟ فقال: أما أنا فإنّ محمّداً،أمرني وأنا لا أُخالفه، فقال القوم: ونحن أيضاً لا نخالفه فبادر القوم، وتقدّم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقف على شفير الوادي، وإذا بالطير الأبيض قد أقبل من ذروة الجبل وخطّ بجناحه خطاً أبيض يلمع، فشمّر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أذياله

ص: 275


1- أي غشيهم.

واقتحم الماء وهو يقول : بسم اللّه وباللّه، فلم يصل الماء إلى نصف ساقه.

ونادى: «أيّها الناس لا يدخل أحد منكم الماء حتّى يقول هذه الكلمة، فمن قالها سلم، ومن حاد عنها هلك»، فاقتحم القوم الماء وهم يقولون الكلمة، ولم يتأخّر من القوم سوى رجلين؛ أحدهما من بني جمح والآخر من بني عدي، فقال العدويّ: بسم اللّه وباللّه وقال الجمحي بسم اللآت والعزّى، فغرق الجمحي: وأمواله، وسلم العدوي وأمواله.

فقال القوم للعدويّ : ما بال صاحبك غرق ؟ قال : إنّه قد عوج لسانه وخالف قول النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فغرق، فاغتم أبو جهل لعنه اللّه وقومه وقالوا: ما هذا إلا سحر عظيم، فقال له بعض أصحابه : يابن هشام ما هذا بسحر، ولكن واللّه ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أفضل من محمّد، فلم يرد جواباً.

وساروا حتّى نزلوا على بئر، وكان تنزل عليه العرب في طريق الشام، فقال أبو جهل: واللّه لأجد في نفسي غبنة (1) عظيمة إن ردّ محمّد من سفره هذا سالماً، ولقد عزمت على قتله، وكيف لي بالحيلة في قتله وهو ينظر من ورائه كما ينظر من أمامه، ولكن أفعل فسوف تنظرون، ثمّ عمد إلى الرمل والحصى وملأ حجره وكبس(2) به البئر، فقال أصحابه ولِمَ تفعل ذلك؟ فقال: أُريد دفن البئر حتّى إذا جاء ركب بني هاشم وقد أجهدهم العطش فيموتوا عن آخرهم فتبادر القوم بالرمل والحصى ولم يتركوا للبئر أثراً.

فقال أبو جهل لعنه اللّه : الآن قد بلغت مرادي، ثم التفت إلى عبد له اسمه فلاح وقال له: خذ هذه الراحلة وهذه القربة والزاد واختف تحت الجبل، فإذا جاء ركب بني

ص: 276


1- حرقة.
2- كبس البئر: سواها ودفنها.

هاشم يقدمهم محمّد وقد أجهدهم العطش والتعب ولم يجدوا للبئر أثراً فيموتوا فأتني بخبرهم، فإذا أتيتني وبشرتني بموتهم أعتقتك وزوّجتك بمن تريد من أهل مكّة، فقال: حبّاً وكرامة.

ثم سار أبو جهل وتأخّر العبد كما أمره مولاه، وإذا بركب بني هاشم قد أقبل يتقدمهم محمّد، فتبادر القوم إلى البئر فلم يجدوا له أثراً، فضاقت صدورهم وأيقنوا بالهلاك، فلاذوا بمحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال لهم: «هل هنا موضع يعرف بالماء»؟ قالوا: نعم بئر قد ردمت (1) بالرمل والحصي، فمشى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى وقف على شفير البئر فرفع طرفه عبد إلى السماء ونادى: «يا عظيم الأسماء، ياباسط الأرض، ويارافع السماء، قد أضر بنا الظماء فاسقنا بالماء»، فإذا بالحجارة والرمل قد تصلصلت (2) وعين الماء قد نبعت وتفجّرت، وجرى الماء من تحت أقدامه، فسقى القوم،دوّابهم، وملؤوا قربهم، وساروا، وسار العبد إلى مولاه وقال: ما وراءك يا فلاح ؟ قال : واللّه ما أفلح من عادى محمّداً، وحدّثهم بما عاين منه فامتلى أبو جهل غيظاً، وقال للعبد غيب وجهك عنّي، فلا أفلحت أبداً.

ثم سار حتّى وصل وادياً من أودية الشام يقال له: ذبيان، وكان كثير الأشجار إذ خرج من ذلك الوادي ثعبان عظيم كأنّه النخلة السحوق ففتح فاه وزفر وخرج من عينيه الشرار فجفلت منه ناقة أبي جهل ولعبت بيديها ورجليها ورمته فكسرت أضلاعه فغشي عليه، فلمّا أفاق قال لعبيده : تأخّروا إلى جانب الطريق فإذا جاء ركب بني هاشم يتقدّمهم محمّد قدّموه علينا حتّى إذا رأت ناقته الثعبان فعسى أن ترميه إلى الأرض فيموت، ففعل العبيد ما أمرهم به، وإذا بركب بني هاشم قد أقبل يتقدمهم محمّد، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يابن هشام أراكم قد نزلتم وليس هو وقت نزولكم»؟ فقال له: يا محمّد، واللّه

ص: 277


1- أي سدّت.
2- تصلصل: صوت.

قد استحييت أن نقدّم عليك وأنت سيّد أهل الصفا وأعلى حسباً ونسباً فتقدّم، فلعن اللّه من يبغضك، ففرح العبّاس بذلك، وأراد العبّاس أن يتقدّم فنهاه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال: «ارفق ياعمّ فما تقديمهم لنا إلّا لمكيدة لنا»، ثم إنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) تقدّم أمامهم ودخل إلى ذلك الشعب وإذا بالثعبان قد ظهر فجفلت منه ناقة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فرعق بها النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال : «ويحك كيف تخافين وعليك خاتم الرسل وإمام البشر».

ثم التفت إلى الثعبان وقال له: «ارجع من حيث أتيت وإياك أن تتعرّض لأحد من الركب»، فنطق الثعبان بقدرة اللّه تعالى وقال: السلام عليك يا محمّد، السلام عليك يا أحمد، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «السلام على من اتّبع الهدى وخشي عواقب الردى وأطاع الملك الأعلى»، فعندها قال: يا محمّد ما أنا من هوام الأرض وإنّما أنا ملك من ملوك الجن واسمي الهام بن الهيم وقد آمنت على يد أبيك إبراهيم الخليل وسألته الشفاعة فقال: هي لولد يظهر من نسلي يقال له محمّد، ووعدني أن أجتمع بك في هذا المكان، وقد طال بي الانتظار، وقد شاهدت المسيح عيسى بن مريم (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) ليلة عرج به السماء وهو يوصي الحواريين باتباعك والدخول في ملّتك، والآن قد جمع اللّه شملي بك فلا تنسني من الشفاعة ياسيد المرسلين، فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «لك ذلك عليّ، فعد من حيث جئت ولا تتعرّض لأحد من الركب»، فغاب الثعبان، فلمّا نظر القوم إلى كلامه عجبوا من ذلك، وازداد أعمام النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقيناً وفرحاً، وازداد الحسود غيظاً وحسداً فأنشأ العبّاس يقول:

يا قاصداً نحو الحطيم وزمزم***بلّغ فضائل أحمد المتكرّم

واشرح لهم ما عاينت عيناك من***فضل لأحمد والسحاب الأركم

قل وأت بالآيات في السيل الّذي***ملأ الفجاج بسيله المتراكم

ونجى الّذي لم يخط قول محمّد***وهو الّذي أخطا بوسط جهنّم

والبئر لمّا أن أضر بنا الظماء***فدعا الحبيب إلى الإله المنعم

ص: 278

فاضت عيوناً ثمّ سالت أنهراً***وغدا الحسود بحسرة وتغمغم

وبعد ذلك أخذ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يواصل مسيره مع عمه العبّاس وأبو جهل وبقية الأصحاب، وظهرت للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في سفره هذا معاجز كثيرة يطول المقام في شرحها (1).

وبعد الرجوع من السفر قصد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) منزل خديجة، فوجدها وهي تقول: متى يصل محمّد حتّى أُمتّع بالنظر إليه؟ وهي تقوم وتقعد، وإذا بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد قرع الباب، قالت الجارية: من بالباب؟ قال: «أنا محمّد، قد جئت أُبشّر خديجة بقدوم أموالها وسلأُمّتها»، فلمّا سمعت خديجة كلام رسول اللّه انحدرت إلى وسط الدار، ووقفت بالحجاب وفتحت الجارية،الباب فقال : «السلام عليكم يا أهل البيت»، فقالت خديجة: هنيئاً لك السلامة ياقرّة عيني، قال: «وأنت يهنئك سلامة أموالك»، قالت خديجة: تهنئني سلامتك أنت يا قرّة العين، فواللّه أنت عندي خير من جميع الأموال والأهل ثمّ قالت شعراً:

جاء الحبيب الّذي أهواه من سفر***والشمس قد أثرت في وجهه أثراً

عجبت للشمس من تقبيل وجنته(2)***والشمس لا ينبغي أن تدرك القمر (3)

رواية أخرى حول زواج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

روي عن جابر قال: كان سبب تزويج خديجة محمّداً أنّ أبا طالب قال: يا محمّد إنّي أُريد أن أُزوّجك ولا مال لي أساعدك به، وإنّ خديجة قرابتنا وتخرج كلّ سنة قريشاً من مالها مع غلمانها يتّجر لها ويأخذ وقر بعير (4) مما أتى به فهل لك أن تخرج ؟ قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) :

ص: 279


1- راجع البحار: ج 16 ص 20.
2- غرّته.
3- البحار: ج 16 ص 20.
4- أي حمل بعير.

«نعم».

فخرج أبو طالب إليها، وقال لها ذلك، ففرحت وقالت لغلامها ميسرة: أنت وهذا المال كله بحكم محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فلمّا رجع ميسرة حدّث أنه ما مرّ بشجرة ولا مدرة إلّا قالت: السّلام عليك يارسول اللّه.

وقال: جاء بحير الراهب وخدمنا لمّا رأى الغمامة على رأسه تسير حيثما سار تظلّه بالنهار، وربحا في ذلك السفر ربحاً كثيراً، فلمّا انصرفا قال ميسرة: لو تقدّمت يامحمّد إلى مكّة وبشّرت خديجة بما قد ربحنا لكان أنفع لك، فتقدّم محمّد على راحلته، فكانت خديجة في ذلك اليوم جالسة على غرفة مع نسوة فظهر لها محمّد راكباً، فنظرت خديجة إلى غمامة عالية على رأسه تسير بسيره، ورأت ملكين عن يمينه وعن شماله في يد كلّ واحد سيف مسلول يجيئان في الهواء معه.

فقالت: إنّ لهذا الراكب لشأناً عظيماً ليته جاء إلى داري، فإذا هو محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قاصد لدارها، فنزلت حافية إلى باب الدار، وكانت إذا أرادت التحوّل من مكان إلى مكان حوّلت الجواري السرير الّذي كانت عليه، فلمّا دنت منه قالت: يامحمّد أُخرج واحضرني عمّك أبا طالب الساعة، وقد بعثت إلى عمّها أن زوّجني من محمّد إذا دخل عليك، فلمّا حضر أبو طالب قالت: أُخرجا إلى عمّي ليزوّجني من محمّد فقد قلت له في ذلك، فدخلا على عمّها وخطب أبو طالب الخطبة المعروفة وعقد النكاح، فلمّا قام محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليذهب مع أبي طالب قالت خديجة إلى بيتك، فبيتي بيتك وأنا جاريتك.

تزوّج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بخديجة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وتوفيت خديجة بعد أبي طالب بثلاثة أيّام. (1)

ص: 280


1- البحار: ج 16 ص 3.

بركة الإثنا عشر درهماً

عن أبان الأحمر عن الصادق جعفر بن محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: جاء رجل إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقد بلى ثوبه، فحمل إليه اثني عشر درهماً، فقال: ياعلي خذ هذه الدراهم فاشتر لى ثوباً ألبسه

قال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فجئت إلى السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً، وجئت به إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فنظر إليه فقال : ياعلي غير هذا أحبّ إليّ، أترى صاحبه يقيلنا ؟ فقلت : لا أدري فقال: انظر فجئت إلى صاحبه فقلت: إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد كره هذا، يريد ثوباً دونه فأقلنا فيه، فردّ عليّ الدراهم وجئت بها إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فمشى معي إلى السوق ليبتاع قميصاً، فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي، فقال لها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ما شأنك؟

قالت: يارسول اللّه إنّ أهل بيتي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت فلا أجسر أن أرجع إليهم، فأعطاها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أربعة دراهم وقال: ارجعي إلى أهلك، ومضى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى السوق فاشترى قميصاً بأربع دراهم، ولبسه وحمد اللّه، وخرج فرأى رجلا عرياناً يقول : من كساني كساه اللّه من ثياب الجنّة، فخلع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قميصه الّذي اشتراه وكساه السائل، ثم رجع إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر، فلبسه وحمد اللّه ورجع إلى منزله، وإذا الجارية قاعدة على الطريق فقال لها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ما لك لا تأتين أهلك؟

قالت: يارسول اللّه إنّي قد أبطأت عليهم وأخاف أن يضربوني، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : مرّي بين يدي ودلّيني على أهلك، فجاء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى وقف على باب دارهم، ثمّ قال: السلام عليكم يا أهل الدار، فلم يجيبوه، فأعاد السلام فلم يجيبوه فأعاد السلام فقالوا: عليك السلام يارسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته فقال لهم: ما لكم تركتم إجابتي

ص: 281

في أوّل السلام والثاني؟ قالوا: يارسول اللّه سمعنا سلامك فأحببنا أن تستكثر منه، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : إنّ هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها، فقالوا: يارسول اللّه هي حرّة لممشاك، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : الحمد للّه، ما رأيت اثنى عشر درهماً أعظم بركة من هذه، كسى به عريانين وأُعتق بها نسمة» (1).

دعاء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

عن عبداللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في بيت أُمّ سلمة في ليلتها، ففقدته من الفراش فدخلها في ذلك ما يدخل النساء، فقامت تطلبه في جوانب البيت حتّى انتهت إليه وهو في جانب من البيت قائم رافع يديه يبكي وهو يقول: «اللّهم لا تنزع منّي صالح ما أعطيتني أبداً، اللّهم لا تشمت بي عدوّاً ولا حاسداً أبداً، اللّهم ولا تردني في سوء استنقذتني منه أبداً، اللّهم ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً».

قال: «فانصرفت أُمّ سلمة تبكي، حتّى انصرف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لبكائها فقال لها: ما يبكيك ياأُمّ سلمة ؟ فقالت: بأبي أنت وأُمّي يارسول اللّه ولم لا أبكي وأنت بالمكان الّذي أنت به من اللّه، قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، تسأله أن لا يشمت بك عدوّاً أبداً، وأن لا يردّك في سوء استنقذك منه أبداً وأن لا ينزع منك صالحاً أعطاك أبداً وأن لا يكلك إلى نفسك طرفة عين أبداً ؟ فقال : يا أُمّ سلمة وما يؤمنني؟ وإنّما وكل اللّه يونس بن متى إلى نفسه طرفة عين وكان منه ما كان» (2).

ص: 282


1- البحار: ج 16 ص 214.
2- البحار: ج 16 ص 217.

الجنّة لا يدخلها العجائز

قالت عجوز من الأنصار للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أُدع لي بالجنّة، فقال: «إنّ الجنّة لا يدخلها العجز»، فبكت المرأة، فضحك النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال: أما سمعت قول اللّه: «إِنَّا أَنشَأْنَهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْتَهُنَّ أَبْكَارًا»(1).

وقال للعجوز الأشجعية : «يا أشجعيّة لا تدخل العجوز الجنّة»، فرآها بلال باكية فوصفها للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : والأسود كذلك، فجلسا يبكيان فرآهما العبّاس فذكرهما له فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): والشيخ كذلك، ثم دعاهم وطيّب قلوبهم وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ينشئهم اللّه كأحسن ما كانوا»، وذكر انّهم يدخلون الجنّة شبّاناً منوّرين وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : إن أهل الجنّة جرد مرد مكحّلون» (2).

فضل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على الملائكة والأنبياء

عن أبي ذر الغفاري (رضیَ اللّهُ عنهُ) قال : سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول: «افتخر إسرافيل على جبرائيل فقال: أنا خير منك، قال: ولم أنت خير منّي ؟ قال: لأني صاحب الثمانية حملة العرش، وأنا صاحب النفخة في الصور، وأنا أقرب الملائكة إلى اللّه تعالى.

قال جبرئيل: أنا خير منك، فقال: بما أنت خير منّي؟

قا:ل لأنّي أمين اللّه على وحيه وأنا رسوله إلى الأنبياء والمرسلين، وأنا صاحب الخسوف والقذوف، وما أهلك اللّه أُمّة من الأُمم إلا على يدي. فاختصما إلى اللّه فأوحى إليهما: اسكتا، فوعزّتي وجلالي لقد خلقت من هو خير منكما.

:قالا ياربّ أو تخلق خيراً منا ونحن خلقنا من نور ؟

ص: 283


1- الواقعة: 35-36.
2- البحار : ج 16 ص 295.

قال اللّه تعالى: نعم، وأوحى إلى حجب القدرة انكشفي فانشكفت، فإذا على ساق العرش الأيمن مكتوب: «لا إله إلّا اللّه محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين خير خلق اللّه».

فقال جبرئيل: «ياربّ فإنّي أسألك بحقهم عليك إلّا جعلتني خادمهم، قال اللّه تعالى: قد جعلت فجبرئيل من أهل البيت وإنّه لخادمنا» (1).

عن معمّر بن راشد قال : سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: وأيضاً: أتى يهودي النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقام بين يديه يحدّ النظر (2) إليه، فقال : يايهودي حاجتك؟ قال: أنت أفضل أم موسى بن عمران الّذي كلّمه اللّه وأنزل عليه التوراة والعصا وفلق له البحر وأظلّه بالغمام ؟

فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللّه: إنه يكره للعبد أن يزكّي نفسه، ولكنّي أقول: إنّ آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: «اللّهم إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما غفرت لي» فغفرها اللّه له، وإنّ نوحاً لمّا ركب في السفينة وخاف الغرق قال: «اللّهم إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما أنجيتني من الغرق» فنجاه اللّه عنه، وإنّ إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما أُلقي في النار قال: «اللّهم إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما أنجيتني منها» فجعلها اللّه عليه برداً وسلاماً، وإنّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) لما ألقى عصاه وأوجس في نفسه خيفة قال: «اللّهم إنّي أسألك بحقّ محمّد وآل محمّد لما أمنتني» فقال اللّه : «قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى»(3).

يايهودي إنّ موسى لو أدركني ثمّ لم يؤمن بي وبنبوّتي ما نفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته النبوّة، يايهوديّ ومن ذريتي المهدي، إذا خرج نزل عيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ) لنصرته وقدّمه

ص: 284


1- البحار: ج 16 ص 364.
2- أحد إليه النظر: بالغ في النظر إليه.
3- طه : 68.

وصلى خلفه»(1).

منزلة مُحبّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

عن موسى بن عبداللّه بن الحسن عن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «جاء رجل من الأنصار إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : يارسول اللّه ما أستطيع فراقك وإنّي لأدخل منزلي فأذكرك فأترك صنيعتي، وأقبل حتّى أنظر إليك حبّاً لك، فذكرت إذا كان يوم القيامة وأُدخلت الجنّة فرفعت في أعلى عليّين، فكيف لي بك يا نبي اللّه ؟

فنزل: «وَمَن يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ فَأُوْلَبِكَ مَعَ الّذين أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّنَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَبِكَ رَفِيقًا»(2) فدعا النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الرجل فقرأها عليه وبشّره بذلك»(3).

عن أبي هارون مولى آل جعدة قال: كنت جليساً لأبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالمدينة ففقدني أياماً، ثمّ إنّي جئت إليه فقال لي: «لم أرك منذ أيّام يا أبا هارون»؟ فقلت : وُلِد لي غلام، فقال: «بارك اللّه لك فيه فما سمّيته» ؟ قلت: سمّيته محمّداً، فأقبل بخدّه نحو الأرض وهو يقول: «محمّد محمّد محمّد»، حتّى كاد يلصق خدّه بالأرض، ثمّ قال: بنفسي وبولدي وبأهلي وبأبويّ وبأهل الأرض كلّهم جميعاً الفداء لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، لا تسبّه ولا تضربه ولا تسيئ إليه، واعلم أنّه ليس في الأرض دار فيها اسم محمّد إلا وهي تقدّس كلّ يوم» (4).

إسلام حمزة عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

قال علي بن برهان الدين الحلبي الشافعي وممّا وقع له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من الأذية ما كان سبباً

ص: 285


1- البحار : ج 16 ص 366.
2- النساء : 69.
3- البحار : ج 17 ص 14.
4- البحار: ج 17 ص 30.

لإسلام عمه حمزة (رضیَ اللّهُ عنهُ)، وهو ما حدث به ابن إسحاق عن رجل من أسلم أنّ أبا جهل مرّ برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عند الصفا، وقيل: عند الحجون، فآذاه وشتمه، ونال منه ما نكرهه، وقيل : إنّه صبّ التراب على رأسه، وقيل: ألقى عليه فرثاً ووطىء برجله على عاتقه، فلم یکلمه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و مولاة لعبد اللّه بن جُدعان في مسكن لها تسمع ذلك وتبصره، ثمّ انصرف رسول اللّه إلى نادي قريش فجلس معهم.

فلم يلبث حمزة أن أقبل متوشّحاً بسيفه راجعاً من قنصه أي من صيده وكان من عادته إذا رجع من قنصه لا يدخل إلى أهله إلّا بعد أن يطوف بالبيت، فمرّ على تلك المولاة فأخبرته الخبر، وقيل : أخبرته مولاة أُخته صفيّة قالت له: إنّه صبّ التراب على رأسه، وألقى عليه،فرثاً ووطىء برجله على عاتقه، وعلى إلقاء الفرث عليه اقتصر أبو حيان، فقال لها حمزة أنت رأيت هذا الّذي تقولين؟ قالت : نعم.

فاحتمل حمزة الغضب ودخل المسجد، فرأى أبا جهل جالساً في القوم فأقبل نحوه حتّى قام على رأسه ورفع القوس فضربه فشجّه شجّة منكرة، ثمّ قال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول؟ فردّ عليّ ذلك إن استطعت، وفي لفظ: إنّ حمزة لما قام على رأس أبي جهل بالقوس صار أبو جهل يتضرع إليه ويقول: سفّه عقولنا، وسبّ آلهتنا، وخالف آباءنا، فقال: ومن أسفه منكم ؟ تعبدون الحجارة من دون اللّه أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه.

فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقالوا ما نراك إلّا قد صبأت، فقال حمزة: ما يمنعني وقد استبان لي منه أنا أشهد أنه رسول اللّه وأنّ الّذي يقوله حق، واللّه لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين، فقال لهم أبو جهل: دعوا أبا يعلى فانّي واللّه قد أسمعت ابن أخيه شيئاً قبيحاً. وتمّ حمزة على إسلامه، فقال لنفسه لمّا رجع إلى بيته : أنت سيّد قريش اتبعت هذا الصابي وتركت دين آبائك؟ الموت خير لك مما

ص: 286

صنعت؟ ثمّ قال: اللّهم إن كان رشداً فاجعل تصديقه في قلبي، وإلّا فاجعل لي ممّا وقعت فيه مخرجاً، فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتّى أصبح. فغدا إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : يابن أخي إنّي وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري أرشد هو أم غيّ شديد، فأقبل عليه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فذكّره ووعظّه وخوّفه وبشّره، فألقى اللّه في قلبه الإيمان بما قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال : أشهد أنك لصادق، فأظهر يابن أخي دينك. وقد قال ابن عبّاس : في ذلك نزل «أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ»(1) يعني حمزة «كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَتِ لَيْسَ بِخَارِجَ مِنْهَا»، يعني أبا جهل، وستر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اسلامه سروراً كثيراً لأنّه كان أعزّ فتى في قريش، وأشدّهم شكيمة، ومن ثمّ لمّا عرفت قريش أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد عزّ كفّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه، وأقبلوا على بعض أصحابه بالأذيّة سيّما المستضعفين منهم الّذين لا جوار لهم انتهى(2).

الوليد بن المغيرة وعناده لقبول الحقّ

كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا يكفّ عن عيب آلهة المشركين، ويقرأ عليهم القرآن فيقولون: هذا شعر محمّد، ويقول بعضهم : بل هو كهانة ويقول بعضهم: بل هو خطب، وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً، وكان من حكّام العرب يتحاكمون إليه في الأُمور وينشدونه الأشعار فما اختاره من الشعر كان مختاراً، وكان له بنون لا يبرحون من مكّة، وكان له عبيد عشرة عند كلّ عبد ألف دينار يتّجر بها، وملك القنطار في ذلك الزمان، والقنطار جلد ثور مملوّ ذهباً، وكان من المستهزئين برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وكان عمّ أبي جهل بن هشام فقال له: يا أبا عبد شمس ما هذا الّذي يقول محمّد أسحر أم كهانة أم خطب؟

ص: 287


1- الأنعام: 122.
2- البحار: ج 73 ص 285.

فقال : دعوني أسمع كلامه، فدنا من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو جالس في الحجر فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك، قال: «ما هو بشعر، ولكنّه كلام اللّه الّذي به بعث أنبيائه ورسله»، فقال: اتل عليّ منه، فقرأ عليه رسول اللّه : «بسمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:»، فلمّا سمع الرحمن استهزأ، فقال: تدعو إلى رجل باليمامة يسمّى الرحمن؟ قال: «لا، ولكنّي أدعو اللّه وهو الرحمن الرحيم»، ثمّ افتتح سورة حم السجدة فلمّا بلغ إلى قوله : «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صاَعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ» : فلمّا سمعه فلمّا سمعه اقشعر جلده وقامت كل شعرة في رأسه ولحيته، ثمّ قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش

فقالت قريش : يا أبا الحكم صبا (1) أبو عبد شمس إلى دين محمّد، أما تراه لم يرجع إلينا وقد قبل قوله ومضى إلى منزله، فاغتمت قريش من ذلك غماً شديداً، وغدا عليه أبو جهل فقال : ياعمّ نكست برؤوسنا وفضحتنا، قال: وما ذاك يابن أخ ؟ قال : صبوت إلى دين محمّد، قال: ما صبوت، وإنّي على دين قومي وآبائي، ولكني سمعت كلاماً صعباً تقشعر منه الجلود، قال أبو جهل أشعر هو ؟ قال: ما هو بشعر، قال: فخطب هي؟ قال: لا، إنّ الخطب كلام متصل، وهذا كلام منثور ولا يشبه بعضه بعضاً، له طلاوة، قال: فكهانة هي؟ قال: لا، قال: فما هو ؟ قال : دعني أفكر فيه، فلمّا كان من الغد قالوا: يا أبا عبد شمس ما تقول؟ قال: قولوا: هو سحر، فإنه آخذ بقلوب الناس، فأنزل اللّه تعالى فيه : «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَدتُ له تمهيدًا (14) ثُم يَطْمَعُ أَن أَزِيدَ (15) كَلَّا انَّهُ كَانَ لِأياتِنا عَنیدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ, فَكَرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُيلَ كَيْفَ قَدَرَ (19) ثُمَّ قِيلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَر (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)فَقَالَ إن هذا الَّا سِحرٌ يُؤثَر (24) إن هَذَا إِلَّا قَولُ البَشَر (25) سَأَصْلِيهِ سَقَرَ(26) وَمَا أَدْرَيكَ مَا سَقَرُ (27) لَا

ص: 288


1- أي مال وحنّ إليه.

تُبقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ»(1)(2).

الهجرة إلى الحبشة

روي عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى أرض النجاشي، ونحن ثمانون رجلا، ومعنا جعفر بن أبي طالب، وبعث قريش خلفنا عمّارة بن الوليد وعمرو بن العاص مع هدايا فأتوه بها، فقبلها وسجدوا له وقالوا: إنّ قوماً منا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك فابعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلّم أحد منكم، أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى النجاشي، فقال عمرو وعمّارة : إنّهم لا يسجدون لك، فلمّا انتهينا إليه زبرنا (3) الرهبان أن اسجدوا للملك، فقال لهم:جعفر : لا نسجد إلّا اللّه.

فقال النجاشي: وما ذلك؟ قال: إنّ اللّه بعث فينا رسوله، وهو الّذي بشّر به عيسى، اسمه أحمد فأمرنا أن نعبد اللّه ولا نشرك به شيئاً، وأن نقيم الصلاة، وأن نؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر.

فأعجب النجاشي قوله، فلمّا رأى ذلك عمرو قال: أصلح اللّه الملك، إنّهم يخالفونك في ابن مريم فقال النجاشي: ما يقول صاحبك في ابن مريم ؟ قال : يقول فيه: قول اللّه؛ هو روح اللّه وكلمته، أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر، فتناول النجاشي عوداً من الأرض، فقال : يا معشر القسّيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مریم ما يزن (4)هذا، ثمّ قال النجاشي لجعفر: أتقرأ شيئاً مما جاء به محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: نعم، قال له: اقرأ، وأمر الرهبان أن ينظروا في كتبهم.

ص: 289


1- المدثر : 11 - 30.
2- البحار : ج 17 ص 211.
3- أي زجرنا.
4- زنه بكذا: اتّهمه وفي نسخة: ما يزيد هذا.

فقرأ جعفر : «كهيعص»(1) إلى آخر قصة عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) فكانوا يبكون.

ثم قال النجاشي: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، وأنه الّذي بشّر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتّى أحمل نعليه، اذهبوا أنتم سيوم أي آمنون وأمر لنا بطعام وكسوة، وقال: ردّوا على هذين هديتهما، وكان عمرو قصيراً وعمّارة جميلا وشربا في البحر الخمر، فقال عمّارة لعمرو : قل لامرأتك تقبّلني، وكانت معه، فلم يفعل عمرو، فرمي به عمّارة في البحر، فناشده حتّى خلّاة، فحقد عليه عمرو، فقال للنجاشي : إذا خرجت خلف عمّارة في أهلك، فنفخ في إحليله فطار (2) مع الوحش (3).

صحيفة قريش

اجتمعت قريش في دار الندوة، وكتبوا صحيفة بينهم أن لا يؤاكلوا بني هاشم ولا يكلّموهم ولا يبايعوهم ولا يزوّجوهم ولا يتزوّجوا إليهم، ولا يحضروا معهم حتّى يدفعوا إليهم محمّداً فيقتلونه، وإنّهم يد واحدة على محمّد يقتلونه غيلةً أو صراحاً، فلمّا بلغ ذلك أبا طالب جمع بني هاشم ودخلوا الشعب، وكانوا أربعين رجلا، فحلف لهم أبو طالب بالكعبة والحرم والركن والمقام إن شاكت محمّداً شوكة لأثبنّ عليكم يابني هاشم، وحصن الشعب، وكان يحرسه بالليل والنهار، فإذا جاء الليل يقوم بالسيف عليه ورسول اللّه مضطجع، ثمّ يقيمه ويضجعه في موضع آخر فلا يزال الليل كله هكذا، ويوكّل ولده وولد أخيه به يحرسونه بالنهار فأصابهم الجهد، وكان من دخل مكّة من العرب لا يجسر أن يبيع من بني هاشم شيئاً ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله.

ص: 290


1- مریم: 1.
2- في نسخة فصار.
3- البحار : ج 18 ص 420.

وكان أبو جهل والعاص بن وائل السهمي والنضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط يخرجون إلى الطرقات التي تدخل مكّة، فمن رأوه معه ميرة (1) نهوه أن يبيع من بني هاشم شيئاً، ويحذرون إن باع شيئاً منهم أن ينهبوا ماله، وكانت خديجة (رضیَ اللّهُ عنهُ) لها مال كثير فأنفقته على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في الشعب، ولم يدخل في حلف الصحيفة مطعم بن عديّ بن نوفل بن عبدالمطّلب بن عبد مناف وقال : هذا ظلم، وختموا الصحيفة بأربعين خاتماً، ختمها كلّ رجل من رؤساء قريش بخاتمه وعلّقوها في الكعبة وتابعهم على ذلك أبو لهب.

وكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يخرج في كلّ موسم، فيدور على قبائل العرب فيقول لهم: «تمنعون لي جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربّكم، وثوابكم الجنّة على اللّه»، وأبو لهب في أثره فيقول: لا تقبلوا منه فإنّه ابن أخي وهو كذّاب ساحر، فلم يزل هذا حالهم وبقوا في الشعب أربع سنين لا يأمنون إلا من موسم إلى موسم، ولا يشترون ولا يبيعون إلاّ في الموسم، وكان يقوم بمكّة موسمان في كلّ سنة؛ موسم العمرة في رجب، وموسم الحج في ذي الحجّة، فكان إذا اجتمعت المواسم تخرج بنو هاشم من الشعب فيشترون ويبيعون، ثم لا يجسر أحد منهم أن يخرج إلى الموسم الثاني، وأصابهم الجهد، وجاعوا، وبعثت قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمّداً حتّى نقتله ونملكك علينا، فقال أبو طالب قصيدته اللامية يقول فيها :

ألم تعلموا أنّ ابننا لا مكذّب***لدينا ولا يعني بقول الأباطل

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه***شمال اليتامى عصمة للأرامل

يطوف به الهلّاك من آل هاشم***فهم عنده في نعمة وفواضل

ص: 291


1- الميرة: الطعام.

كذبتم وبيت اللّه يبزى محمّداً (1)***ولمّا نطاعن دونه ونقاتل

ونسلّمه حتّى نصرّع دونه***ونذهل عن أبنائنا والحلائل

لعمري لقد كلّت وجداً بأحمد***وأحببته حبّ الحبيب المواصل

فلمّا سمعوا هذه القصيدة آيسوا منه، وكان أبو العاص بن الربيع وهو ختن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يأتي بالعير بالليل عليها البرُّ والتمر إلى باب الشعب، ثمّ يصيح بها فتدخل الشعب فيأكله بنو هاشم، وقد قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لقد صاهرنا أبو العاص فأحمدنا صهره، لقد كان يعمد إلى العير ونحن في الحصار فيرسلها في الشعب ليلا» ولمّا أتى على رسول اللّه في الشعب أربع سنين بعث اللّه على صحيفتهم القاطعة دابة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة وظلم وتركت «باسمك اللّهم» ونزل جبرئيل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأخبره بذلك، فأخبر رسول اللّه أبا طالب، فقام أبو طالب ولبس ثيابه ثم مشى حتّى دخل المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه، فلمّا أبصروه قالوا قد ضجر أبو طالب وجاء الآن ليسلّم ابن أخيه، فدنا منهم وسلّم عليهم فقاموا إليه وعظموه وقالوا: قد علمنا يا أبا طالب أنك أردت مواصلتنا والرجوع إلى جماعتنا وأن تسلّم ابن أخيك إلينا، قال: واللّه ما جئت لهذا، ولكنّ ابن أخي أخبرني ولم يكذّبني أنّ اللّه تعالى أخبره أنه بعث على صحيفتكم القاطعة دابة الأرض فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم اللّه، فابعثوا إلى صحيفتكم، فإن كان حقاً فاتقوا اللّه وارجعوا عما أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرحم، وإن كان باطلا دفعته إليكم فإن شئتم قتلتموه، وإن شئتم استحييتموه، فبعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة وعليها أربعون خاتماً، فلمّا أتوا بها نظر كلّ رجل منهم إلى خاتمه، ثمّ فكّوها فإذا ليس فيها حرف واحد إلا «باسمك اللّهمّ».

ص: 292


1- يبزى يقهر ويغلب أراد لا يبزى فحذف «لا» من جواب القسم وهي مرادة.

فقال لهم أبو طالب: ياقوم اتقوا اللّه وكفّوا عما أنتم عليه فتفرّق القوم ولم يتكلّم أحد ورجع أبو طالب إلى الشعب(1).

هجرة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى المدينة

من معجزاته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه لمّا كانت الليلة التي خرج فيها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى الغار كانت قريش اختارت من كلّ بطن منهم رجلا ليقتلوا محمّداً.

فاختارت خمسة عشر رجلا من خمسة عشر بطناً، كان فيهم أبو لهب من بطن بني هاشم ليتفرّق دمه في بطون قريش، فلا يمكّن بني هاشم أن يأخذوا بطناً واحداً فيرضون عند ذلك بالدية، فيعطون عشر ديات فقال النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأصحابه: «لا يخرج الليلة أحد من داره»، فلمّا نام الرسول قصدوا جميعاً إلى باب عبد المطّلب، فقال لهم أبو لهب ياقوم إنّ في هذه الدار نساء بني هاشم وبناتهم ولا نأمن أن تقع يد خاطئة إذا وقعت الصيحة عليهن فيبقى ذلك علينا مسبّة وعاراً إلى آخر الدهر في العرب، ولكن اقعدوا بنا جميعاً على الباب نحرس محمّداً في مرقده، فإذا طلع الفجر تواثبنا إلى الدار فضربناه ضربة رجل واحد وخرجنا، فإلى أن تجتمع الناس وقد أضاء الصبح فيزول عنا العار عند ذلك، فقعدوا بالباب يحرسونه.

قال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فدعاني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : «إنّ قريشاً دبّرت كيت وكيت في قتلي، فنم على فراشي حتّى أخرج أنا من مكّة، فقد أمرني اللّه بذلك، فقلت له: السمع والطاعة فنمت على فراشه، وفتح رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الباب وخرج عليهم وهم جميعاً جلوس ينتظرون الفجر وهو يقول: «وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَهُمْ

ص: 293


1- البحار: ج 19 ص 1.

فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ»(1) ومضى وهم لا يرونه، فرأى أبا بكر قد خرج في الليل يتجسّس من خبره، وقد كان وقف على تدبير قريش من جهتهم، فأخرجه معه إلى الغار، فلمّا طلع الفجر تواثبوا إلى الدار وهم يظنّون أنّي محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فوثبت في وجوههم وصحت بهم، فقالوا: علي؟ قلت: نعم، قالوا: وأين محمّد؟ قلت خرج من بلدكم، قالوا: إلى أين خرج؟ قلت : اللّه أعلم فتركوني وخرجوا.

فاستقبلهم أبو كرز الخزاعيّ، وكان عالماً بقصص الآثار فقالوا: ياأبا كرز اليوم نحبّ أن تساعدنا في قصص أثر محمّد، فقد خرج عن البلد، فوقف على باب الدار فنظر إلى أثر رجل محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : هذه أثر قدم محمّد وهي واللّه أُخت القدم التي في المقام، ومضى به على أثره حتّى إذا صار إلى الموضع الّذي لقيه فيه أبو بكر، قال: هنا قد صار مع محمّد آخر وهذه قدمه، أما أن تكون قدم أبي قحافة أو قدم ابنه».

فمضى على ذلك إلى باب الغار، فانقطع عنه الأثر، وقد بعث اللّه قبجة (2) فباضت على باب الغار وبعث اللّه العنكبوت فنسجت على باب الغار، فقال: ما جاز محمّد هذا الموضع ولا من معه إما أن يكونا صعدا إلى السماء، أو نزلا في الأرض، فإنّ باب هذا الغار كما ترون عليه نسج العنكبوت، والقبجة حاضنة على بيضها بباب الغار، فلم يدخلوا الغار وتفرّقوا في الجبل يطلبونه، فلم يزالوا إلى أن يمسوا في الطلب فيئسوا وانصرفوا، ووافى ابن الأُريقط بأغنام يرعاها إلى باب الغار وقت الليل يريد مكّة بالغنم، فدعاه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال : «أفيك مساعدة لنا» ؟ قال : إي واللّه، فواللّه ما جعل اللّه هذه القبجة على باب الغار حاضنة لبيضها، ولا نسج العنكبوت عليه إلّا وأنت صادق، فأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه.

ص: 294


1- یس: 9.
2- القبح: طائر يشبه الحجل.

فقال: «الحمد للّه على هدايتك، فصر الآن إلى علي فعرّفه موضعنا، ومرّ بالغنم إلى أهلها إذا نام الناس، ومرّ إلى عبد أبي بكر»، فصار ابن الأُريقط إلى مكّة وفعل ما أمره رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأتى علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعبد أبي بكر، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أعدّ لنا يا أبا الحسن زاداً وراحلة وابعثها إلينا، وأصلح ما نحتاج إليه واحمل والدتك وفاطمة وألحقنا بهما إلى يثرب»، وقال أبو بكر لعبده مثله، ففعلا ذلك فأردف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ابن الأُريقط، وأبو بكر عبده.

وأنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لما خرج وهؤلاء أصبحوا من تلك الليلة التي خرجوا فيها على حيّ سراقة بن جعشم، فلمّا نظر سراقة إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : اتّخذ يداً عند قريش، وركب فرسه وقصد محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): قالوا قد لحق بنا هذا الشيطان فقال: «إنّ اللّه سيكفينا أمره»، فلمّا قرب قال: «اللّهم خذه»، فارتطم فرسه في الأرض، فصاح: يامحمّد خلّص فرسي، لا سعيت لك في مكروه أبداً، وعلم أن ذلك بدعاء محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال: «اللّهم إن كان صادقاً فخلّصه» فوثب الفرس، فقال: يا أبا القاسم ستمرّ برعائي وعبيدي فخذ سوطي، فكلّ من تمرّ به فخذ ما شئت فقد حكمتك في مالي، فقال: «لا حاجة لي في مالك»، قال: فسلني حاجة ؟ قال : «ردّ عنا من يطلبنا من قريش»، فانصرف سراقة فاستقبله جماعة من قريش في الطلب فقال لهم: انصرفوا عن هذا الطريق فلم يمرّ فيه أحد، وأنا أكفيكم هذا الطريق فعليكم بطريق اليمن والطائف.

معجزة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في الشاة

ومن المعاجز الأُخرى: أنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سار حتّى نزل بخيمة أُمّ معبد فطلبوا عندها قرى (1) فقالت : ما يحضرني شيء، فنظر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى شاة في ناحية الخيمة قد تخلّفت من الغنم لضرّها، فقال: «أتأذنيني في حلبها» ؟ قالت نعم ولا خير فيها، فمسح يده على

ص: 295


1- القرى: ما يقدّم للضيف.

ظهرها فصارت من أسمن ما يكون من الغنم، ثم مسح يده على ظهرها فأرخت ضرعاً عجيباً ودرت لبناً كثيراً، فقال: «يا أُمّ معبد هاتي العسّ»(1) فشربوا جميعاً حتّى رووا، فلاّ رأت أمّ معبد ذلك قالت: ياحسن الوجه إنّ لي ولداً له سبع سنين وهو سنين وهو كقطعة لحم لا يتكلّم ولا يقوم فأتته به، فأخذ تمرة وقد بقيت في الوعاء ومضغها وجعلها في فيه فنهض في الحال، ومشى وتكلّم، وجعل نواها في الأرض فصارت في الحال نخلة وقد تهدّل الرطب منها وكان كذلك صيفاً وشتاءً، وأشار من الجوانب فصار ما حوالها مراعي ورحل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

ولمّا توفي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم ترطب تلك النخلة وكانت خضراء، فلمّا قتل علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) لم تخضر بعد وكانت باقية، فلمّا قتل الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) سال منها الدم فيبست، فلمّا انصرف أبو معبد ورأى ذلك فسأل عن سببه قالت : مرّ بي رجل من قريش من حاله وقصته كذا وكذا، قال: ياأُمّ معبد إنّ هذا الرجل هو صاحب أهل المدينة الّذي هم ينتظرونه، واللّه ما أشكّ الآن أنّه صادق في قوله : إنّي رسول اللّه، فليس هذا إلا من فعل اللّه، ثمّ قصد إلى رسول اللّه فآمن هو وأهله(2).

بناء أوّل مسجد في المدينة المنورة

عن سعيد بن المسيب قال: سألت علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)؛ و ابن كم كان علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوم أسلم ؟ فقال: «أو كان كافراً قطّ ؟ إنّما كان لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حيث بعث اللّه (عزّوجلّ) رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عشر سنين، ولم يكن يومئذ كافراً، ولقد آمن باللّه تبارك وتعالى وبرسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وسبق الناس كلّهم إلى الإيمان باللّه وبرسوله وإلى الصلاة بثلاث سنين، وكانت أوّل صلاة صلاها مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الظهر ركعتين، وكذلك فرضها اللّه تبارك وتعالى على

ص: 296


1- العُس: القدح.
2- البحار: ج 19 ص 72.

من أسلم بمكّة ركعتين ركعتين، وكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يصلّيها بمكّة ركعتين، ويصلّيها علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) معه بمكّة ركعتين مدّة عشر سنين حتّى هاجر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى المدينة وخلّف عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أُمور لم يكن يقوم بها أحد غيره.

وكان خروج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من مكّة في أوّل يوم من ربيع الأوّل، وذلك يوم الخميس من سنة ثلاث عشرة من المبعث، وقدم المدينة لاثني عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول مع زوال الشمس، فنزل بقباء فصلّى الظهر ركعتين والعصر ركعتين، ثم لم يزل مقيماً ينتظر عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) يصلّي الخمس صلوات ركعتين ركعتين، وكان نازلا على عمرو بن عوف، فأقام عندهم بضعة عشر يوماً يقولون له: أتقيم عندنا فنتّخذ لك مسجداً؟ فيقول: لا، إنّي انتظر علي بن أبي طالب وقد أمرته أن يلحقني، ولست مستوطناً منزلا حتّى يقدم علي وما أسرعه إن شاء اللّه. لمّا قدم علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في بيت عمرو بن عوف فنزل معه، ثمّ إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لمّا قدم علي تحوّل من قبا إلى بني سالم بن عوف وعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) معه يوم الجمعة مع طلوع الشمس فخطّ لهم مسجداً ونصب قبلته وصلّى بهم فيه الجمعة ركعتين وخطب خطبتين.

ثم راح من يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها وعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) معه لا يفارقه قد يمشي بمشيه، وليس يمرّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بطن من بطون الأنصار إلّا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم فيقول لهم: خلّوا سبيل الناقة فإنّها مأمورة، فانطلقت به او رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) واضع لها زمامها حتّى انتهت إلى الموضع الّذي ترى وأشار بيده إلى باب مسجد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الّذي يصلّي عنده بالجنائز فوقفت عنده وبركت ووضعت جرانها على الأرض، فنزل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وأقبل أبو أيوب مبادراً حتّى احتمل رحله فأدخله منزله، ونزل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعلىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) معه حتّى بنى له مسجده وبنيت له مساكنه ومنزل علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 297

فتحوّلا إلى منازلهما»(1).

أبي عامر الراهب ومسجد ضرار

قال الطبرسي في قوله تعالى: «وَالّذين اتَّخَذُوا مَسْجِدًا صِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ...»(2).

قال المفسرون: إنّ بني عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد قباء وبعثوا إلى رسول اللّه أن يأتيهم، فأتاهم فصلّى فيه، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا: نبني مسجداً نصلّي فيه ولا نحضر جماعة محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وكانوا اثني عشر رجلا، وقيل خمسة عشر رجلا، منهم ثغلبة بن حاطب و معتب بن قشير ونبتل بن الحارث فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء، فلمّا فرغوا منه أتوا رسول اللّه وهو متجهّز إلى تبوك فقالوا: يارسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إنا قد بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه وتدعوا بالبركة فقال: «إنّي على السفر ولو قدمنا لاتيناكم إن شاء اللّه فصلّينا لكم فيه».

فلما انصرف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من تبوك نزلت عليه الآيات في شأن المسجد، «ضِرَارًا» أي مضارّة بأهل مسجد قباء أو مسجد الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليقلّ الجمع فيه «وَكُفْرًا» أي ولإقامة الكفر فيه «وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ» أي لاختلاف الكلمة وإبطال الأُلفة وتفريق الناس عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) «وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ» وهو أبو عامر الراهب وكان من قصّته: أنّه كان قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح، فلمّا قدم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) المدينة حزب عليه الأحزاب ثم هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف، فلمّا أسلم أهل الطائف لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصّر، وهو أبو حنظلة

ص: 298


1- البحار : ج 19 ص 115.
2- التوبة : 107.

غسيل الملائكة الّذي قتل مع النبي(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يوم أُحد وكان جنباً فغسلته الملائكة، وسمّى رسول اللّه أبا عامر الفاسق، وكان قد أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا وابنوا مسجداً فإنّي أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود وأُخرج محمّداً من المدينة، فكان هؤلاء المنافقون يتوقّعون أن يجيئهم أبو عامر، فمات قبل أبو عامر، فمات قبل أن يبلغ ملك الروم «وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى» أي يحلفون كاذبين ما أردنا ببناء هذا المسجد إلّا الفعلة الحسنى من التوسعة على أهل الضعف والعلّة من المسلمين، فأطلع اللّه نبيه على خبث سريرتهم فقال : «وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَذِبُونَ».

فوجّه رسول اللّه عند قدومه من تبوك عاصم بن عوف العجلاني ومالك بن الدّخشم، وكان مالك من بني عمرو بن عوف فقال لهما: «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه». وروي أنه بعث عمّار بن ياسر أنه بعث عمّار بن ياسر ووحشيّاً فحرّقاه وأمر بأن يتّخذ كناسة تلقى فيه الجيف، ثم نهى اللّه نبيه أن يقوم في هذا المسجد فقال : «لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا». أي لا تصلّ ثم أقسم فقال : «لَمَسْجِدُ». أي واللّه لمسجد «أُسَسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ»(1).

نزول سورة براءة

عن حريز عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس، فنزل جبرئيل فقال : لا يبلّغ عنك إلا علي، فدعا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) العليلا فأمره أن يركب ناقته العضباء، وأمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة ويقرأه على الناس بمكّة، فقال أبو بكر : أسخطة؟ فقال: لا، إلا أنّه أُنزل عليه؛ أنه لا يبلّغ إلا رجل منك.

ص: 299


1- البحار: ج 21 ص 252.

فلما قدم علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) مكّة، وكان يوم النحر بعد الظهر، وهو يوم الحج الأكبر، قام: ثمّ قال: إنّي رسول رسول اللّه إليكم فقرأ عليهم : «بَرَاءَةٌ مِّنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى الّذين عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ»(1).

عشرين من ذي الحجّة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشر من شهر ربيع الآخر وقال: لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة ولا مشرك، ألا ومن كان له عهد عند رسول اللّه فمدّته إلى هذه الأربعة الأشهر»(2).

قصّة المباهلة

قدم على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وفد نجران فيهم بضعة عشر رجلا من أشرافهم وثلاثة نفر يتولّون أُمورهم؛ العاقب وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الّذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره واسمه عبد المسيح، والسيّد وهو ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة الأُسقف وهو حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم وله فيهم شرف ومنزلة، وكانت ملوك الروم قد بنوا له الكنانيس وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم من علمه فلمّا وجّهوا إلى رسول اللّه جلس أبو حارثة على بغلة وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز أو بشر بن علقمة يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة فقال كرز: تعس الأبعد، يعني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

وقال أبو حارثة بل أنت تعست، قال له: ولِمَ يا أخ ؟ فقال: واللّه إنّه للنبي الّذي كنّا ننتظره، فقال :كرز فما يمنعك أن تتبعه ؟ فقال : ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا وموّلونا وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كرز حتّى أسلم.

ص: 300


1- التوبة : 1 - 2.
2- البحار : ج 21 ص 273.

فلما قدم على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، أسلم، قال : فقدموا على رسول اللّه وقت العصر وفي لباسهم الديباج وثياب الحبرة على هيئة لم يقدم بها أحد من العرب، فقال أبو بكر بأبي أنت وأمي يارسول اللّه لو لبست حلّتك التي أهداها لك قيصر فرأوك فيها، قال : ثم أتوا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فسلّموا عليه فلم يرد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ولم يكلّمهم، فانطلقوا يتتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وكانا معرفة لهم فوجدوهما في مجلس من المهاجرين فقالوا: إن نبيّكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه وسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا ولم يكلّمنا، فما الرأي ؟

فقالا لعلي بن أبي طالب: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ قال: «أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ثم يعودون إليه»، ففعلوا ذلك فسلّموا فردّ سلامهم ثمّ قال: «والذي بعثني بالحقّ لقد أتوني المرّة الأُولى وإنّ إبليس لمعهم»، ثمّ ساءلوه ودار سوه يومهم، وقال الاُسقف: ما تقول في السيد المسيح يا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟ قال : «هو عبداللّه ورسوله»، قال بل هو كذا وكذا، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): بل هو كذا وكذا، فترادًا فنزل على رسول اللّه من صدر سورة آل عمران نحو من سبعين آية يتبع بعضها بعضاً وفيما أنزل اللّه «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّه كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ، مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59)الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللّه عَلَى الْكَذِبِينَ»(1) فقالوا للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : نباهلك غداً، وقال أبو حارثة لأصحابه: انظروا فإن كان محمّد غدا يباهلكم بولده وأهل بيته فاحذروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه وأتباعه فباهلوه.

قال أبان عن الحسن البصري: غدا رسول اللّه آخذاً بيد الحسن والحسين تتبعه

ص: 301


1- آل عمران: 59- 61.

فاطمة وبين يديه علي، وغدا العاقب والسيد بابنين على أحدهما درتان كأنها بيضتا حمام فحقوا بأبي حارثة، فقال أبو حارثة : من هؤلاء معه؟ قالوا: هذا ابن عمّه زوج ابنته، وهذان ابنا ابنته، وهذه بنته أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه، وتقدم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فجثا على ركبتيه، فقال أبو حارثة جثا واللّه كما جثا الأنبياء للمباهلة، فكع ولم يقدم على المباهلة، فقال له السيّد: اُدن يا أبا حارثة للمباهلة، فقال: لا، إنّي لأرى رجلا جريئاً على المباهلة، وأنا أخاف أن يكون صادقاً فلا يحول واللّه علينا الحول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء، قال: وكان نزل العذاب من السماء لو باهلوه، فقالوا: يا أبا القاسم إنا لا نباهلك ولكن نصالحك، فصالحهم رسول اللّه على ألفي حلّة من حلل الأواقي، قيمة كلّ حلّة أربعون درهماً جياداً، وكتب لهم بذلك كتاباً، وقال لأبي حارثة الأسقف: «لكأنني بك قد ذهبت إلى رحلك وأنت وسنان (1) فجعلت مقدّمه مؤخّره»، فلمّا رجع قام يرحل راحلته فجعل رحله مقلوباً فقال: أشهد أن محمّداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) (2).

مرض الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ووفاته

ثمّ كان مما أكد النبي اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الأمير المؤمنين من الفضل وتخصّصه منه بجليل رتبته ما تلا حجّة الوداع من الأُمور المجدّدة لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، والأحداث التي اتّفقت بقضاء اللّه وقدره، وذلك أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) تحقق من دنوّ أجله ما كان قدّم الذكر به لأُمّته، فجعل (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )يقوم مقاماً بعد مقام في المسلمين يحذرهم الفتنة بعده، والخلاف عليه، ويؤكّد وصايتهم بالتمسك بسنّته والإجماع عليها، والوفاق، ويحثهم على الاقتداء بعترته، والطاعة لهم، والنصرة والحراسة والاعتصام بهم في الدين ويزجرهم عن الاختلاف والارتداد، وكان فيما ذكره من ذلك ما جاءت به الرواية على اتفاق واجتماع قوله:

ص: 302


1- أي في حال أخذ النوم والنعاس.
2- البحار: ج 21 ص 336.

«يا أيها الناس إنّي فرطكم، وأنتم واردون عليّ الحوض، ألا وإنّي سائلكم عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتّى يلقياني، وسألت ربّي ذلك فأعطانيه، ألا وإني قد تركتهما فيكم كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي فلا تسبقوهم فتفرّقوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم.

أيّها الناس لا ألفينكم بعدي ترجعون كفّاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض، فتلقوني في كتيبة مجرّ السيل الجرّار، ألا وإنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيّي، يقاتل بعدي على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله».

فكان يقوم مجلساً بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه.

ثمّ إنّه عقد لأُسامة بن زيد بن حارثة الإمرة، وأمره وندبه أن يخرج بجمهور الأُمّة إلى حيث أُصيب أبوه من بلاد الروم، واجتمع رأيه على إخراج جماعة من مقدّمي المهاجرين والأنصار في معسكره، حتّى لا يبقى في المدينة عند وفاته من يختلف في الرياسة، ويطمع في التقدّم على الناس بالإمارة، ويستتبّ الأمر لمن استخلفه من بعده ولا ينازعه في حقّه منازع، فعقد له الإمرة على ما ذكرناه، وجدّ في إخراجهم، وأمر أُسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف، وحثّ الناس على الخروج إليه والمسير معه، وحذّرهم من التلوّم والإبطاء عنه، فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفّي فيها.

فلمّا أحسّ بالمرض الّذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب واتّبعه جماعة من الناس وتوجّه إلى البقيع، فقال للذي اتبعه: «إنّني قد أُمرت بالاستغفار لأهل البقيع»، فانطلقوا معه حتّى وقف بين أظهرهم، وقال:

«السلام عليكم أهل القبور، ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها» ثم استغفر لأهل البقيع طويلا، وأقبل على أمير

ص: 303

المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: «إنّ جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يعرض علي القرآن كلّ سنة مرة، وقد عرضه عليّ العام مرّتين، ولا أراه إلا لحضور أجلي» ثمّ قال: «يا علي إنّي خيرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنّة، فاخترت لقاء ربي والجنّة، فإذا أنا متّ فاستر عورتي فإنّه لا يراها أحد إلاّ أكمه».

ثم عاد إلى منزله فمكث ثلاثة أيّام موعوكاً، ثم خرج إلى المسجد معصوب الرأس معتمداً على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بيمنى يديه، وعلى الفضل بن عبّاس باليد الأخرى، حتّى صعد المنبر فجلس عليه ثمّ قال:

«معاشر الناس؛ وقد حان منّي خفوق من بين أظهركم، فمن كان له عندي عدّة فليأتني أعطه إيّاها، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به، معاشر الناس ليس بين اللّه وبين أحد شيء يعطيه به خيراً، أو يصرف عنه به شراً إلّا العمل، أيها الناس لا يدّعي مدّع ولا يتمنّى متمنّ، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً لا ينجي إلّا عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت اللّهم هل بلّغت».

ثمّ نزل فصلّى بالناس صلاة خفيفة، ثم دخل بيته، وكان إذ ذاك في بيت أُمّ سلمة (رضیَ اللّهُ عنهُ)، فأقام به يوماً أو يومين، فجاءت عائشة إليها تسألها أن تنقله إلى بيتها لتتولّى تعليله، وسألت أزواج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في ذلك فأذن لها، فانتقل إلى البيت الّذي أسكنه عائشة، واستمرّ به المرض فيه أيّاماً وثقل، فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مغمور بالمرض، فنادى الصلاة يرحمكم اللّه، فأُوذن رسول اللّه بنداءه، فقال: «يصلّى بالناس بعضهم، فإنّي مشغول بنفسي»، فقالت عائشة : مروا أبا بكر، وقالت حفصة: مروا عمر.

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حين سمع كلامهما ورأى حرص كلّ واحد منهما على التنويه بأبيها وافتتانها بذلك ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حيّ : «اكففن فإنّكنّ صويحبات يوسف» ثمّ قام

ص: 304

مبادراً خوفاً من تقدّم أحد الرجلين، وقد كان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمرهما بالخروج مع أُسامة ولم يك عنده أنّهما قد تخلفا، فلمّا سمع من عائشة وحفصة ما سمع علم أنّهما متأخّران عن أمره، فبدر لكفّ الفتنة وإزالة الشبهة.

فقام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وإنّه لا يستقلّ على الأرض من الضعف، فأخذ بيده علي بن أبي طالب والفضل بن العبّاس، فاعتمد عليهما ورجلاه يخطّان الأرض من الضعف، فلمّا خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب، فأومأ إليه بيده أن تأخّر عنه، فتأخر أبو بكر، وقام رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مقامه، فكبّر وابتدأ الصلاة التي كان ابتدأها أبو بكر، ولم يبن على ما مضى من فعاله، فلمّا سلّم انصرف إلى منزله، واستدعى أبا بكر وعمر وجماعة من حضر المسجد من المسلمين ثمّ قال: «ألم آمر أن تنفذوا جيش أُسامة»؟ فقالوا: بلى يارسول اللّه، قال: «فلم تأخّرتم عن أمري»؟ قال أبو بكر: إني كنت قد خرجت ثم رجعت لأُجدّد بك عهداً، وقال عمر: يارسول اللّه إنّي لم أخرج لأنّني لم أُحبّ أن أسأل عنك الركب.

فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «نفّذوا جيش أُسامة نفّذوا جيش أسامة» يكرّرها ثلاث مرّات، ثمّ أُغمي عليه من التعب الّذي لحقه والأسف، فمكث هنيئة مغمى عليه، وبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وولده ونساء المسلمين وجميع من حضر من المسلمين، فأفاق رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فنظر إليهم ثمّ قال : «ايتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده أبداً» ثمّ أُغمي عليه، فقام بعض من حضر يلتمس دواةً وكتفاً، فقال له عمر : «إرجع فإنّه يهجر» فرجع وندم من حضر على ما كان منهم من التضجيع في إحضار الدواة والكتف وتلاوموا بينهم وقالوا: إنا للّه وإنا إليه راجعون، لقد أشفقنا من خلاف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

فلمّا أفاق (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال بعضهم : ألا نأتيك بدواة وكتف يارسول اللّه؟ فقال: «أبعد الّذي قلتم؟ لا، ولكنّي أُوصيكم بأهل بيتي خيراً» وأعرض بوجهه عن القوم، فنهضوا، وبقي عنده العبّاس والفضل بن العبّاس وعلي بن أبي طالب وأهل بيته خاصّة، فقال

ص: 305

له العبّاس: يارسول اللّه إن يكن هذا الأمر فينا مستقرّاً من بعدك فبشرنا، وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا، فقال: «أنتم المستضعفون من بعدي»، وأصمت، فنهض القوم وهم يبكون، قد يئسوا من النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

فلمّا خرجوا من عنده قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «ردّوا عليّ أخي وعمّي العبّاس»، فأنفذوا من دعاهما فحضرا، فلمّا استقرّ بهما المجلس قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ياعمّ رسول اللّه تقبّل وصيتي، وتنجز عدتي، وتقضي ديني» ؟ فقال العبّاس: يارسول اللّه عمّك شيخ كبير، ذو عيال كثير، وأنت تباري الريح سخاءً وكرماً، وعليك وعد لا ينهض به عمّك، فأقبل على علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يا أخي تقبل وصيّتي، وتنجز عدتي، وتقضي عنّي ديني وتقوم بأمر أهلي من بعدي» ؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «نعم يارسول اللّه»، فقال له : «ادن منّي»، فدنا منه، فضمّه إليه، ثمّ نزع خاتمه من يده فقال له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «خذ هذا فضعه في يدك»، ودعا بسيفه ودرعه وجميع لأُمّته فدفع ذلك إليه، والتمس عصابة كان يشدّها على بطنه إذا لبس سلاحه وخرج إلى الحرب فجي بها إليه فدفعها إلى أمير المؤمنين وقال له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «امض على اسم اللّه إلى منزلك».

فلمّا كان من الغد حجب الناس عنه، وثقل في مرضه، وكان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يفارقه إلّا لضرورة، فقام في بعض شؤونه، فأفاق رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إفاقة فافتقد عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال وأزواجه حوله: «ادعوا لي أخي وصاحبي» وعاوده الضعف فأصمت.

فقالت عائشة : ادعوا له أبا بكر، فدعي ودخل عليه وقعد عند رأسه، فلمّا فتح عينه نظر إليه فأعرض عنه بوجهه، فقام أبو بكر فقال : لو كان له إليّ حاجة لأفضى بها إليّ، فلمّا خرج أعاد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) القول ثانية وقال: «ادعوا لي أخي وصاحبي» فقالت حفصة: ادعوا له عمر، فدعي، فلمّا حضر ورآه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أعرض عنه فانصرف، ثمّ قال: «ادعوا لي أخي وصاحبي» فقالت أمّ سلمة رضي اللّه عنها: ادعوا له عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإنّه لا يريد

ص: 306

غيره، فدعي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا دنا منه أومأ إليه، فأكبّ عليه فناجاه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) طويلا، ثمّ قام فجلس ناحية حتّى أُغفي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فلمّا أُخفي خرج، فقال له الناس: ما الّذي أوعز إليك يا أبا الحسن ؟ فقال :

«علّمني ألف باب من العلم، فتح لي كلّ باب ألف باب، وأوصاني بما أنا قائم به ان شاء اللّه تعالى»، ثمّ ثقل وحضره الموت وأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حاضر عنده، فلمّا قرب خروج نفسه قال له: «ضع ياعلي رأسي في حجرك، فقد جاء أمر اللّه تعالى، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثمّ وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري، وصلّ عليّ أوّل الناس، ولا تفارقني حتّى تواريني في رمسي، واستعن باللّه تعالى». فأخذ علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) رأسه فوضعه في حجره، فأُغمي عليه، فأكبّت فاطمة تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول:

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه***ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ففتح رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عينه وقال بصوت ضئيل : «يابنية هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي»: «وَمَا محمّد إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ»(1) فبكت طويلا فأومأ إليها بالدنوّ منه، فدنت منه فأسرّ إليها شيئاً تهلل وجهها له، ثمّ قبض اللّه ويد أمير المؤمنين اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه فيها، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها، ثمّ وجّهه وغمضه ومدّ عليه إزاره، واشتغل بالنظر في أمره. فجاءت الرواية أنه قيل لفاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) : ما الّذي أسر إليك رسول اللّه فسرى عنك به ما كنت عليه من الحزن والقلق بوفاته؟ قالت: «إنّه أخبرني أنني أوّل أهل بيته لحوقاً به، وأنّه لن تطول المدة لي بعده حتّى أدركه، فسرى ذلك عنّي»(2).

ضيوف اللّه يوم القيامة

ص: 307


1- آل عمران: 144.
2- البحار : ج 22 ص 465.

عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا كان يوم القيامة يُدعى النبي محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللّه فيكسى حلّة،ورديَّة، ثم يقام عن يمين العرش، ثمّ يدعى بعلي أمير المؤمنين فيكسى حلّة ورديّة، فيقام عن يمين النبي، ثمّ يدعى بإسماعيل فيكسى حلة بيضاء، فيقام عن يسار إبراهيم، ثمّ يدعى بالحسن فيكسى حلّة وردية، فيقام عن يمين أمير المؤمنين، ثم يدعى بالحسين فيكسى حلّة وردية، فيقام عن يمين،الحسن ثم يدعى بالأئمّة فيكسون حللا ورديّة، فيقام كلّ واحد عن يمين صاحبه، ثم يدعى بالشيعة فيقومون أمامهم، ثمّ يدعى بفاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) ونسائها من ذريّتها. وشيعتها فيدخلون الجنّة بغير حساب، ثم ينادي منادي من بطنان العرش (1) من قبل ربّ العزّة والاُفق الأعلى: نعم الأب أبوك يامحمّد وهو إبراهيم، ونعم الأخ أخوك وهو علي بن أبي طالب، ونعم السبطان سبطاك وهو الحسن والحسين ونعم الجنين جنينك وهو محسن، ونعم الأئمّة الراشدون ذريتك وهو فلان وفلان، ونعم الشيعة شيعتك، ألا أنّ محمّداً ووصيه وسبطيه والأئمّة من ذريته هم الفائزون، ثم يؤمر بهم إلى الجنّة وذلك قوله : «فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجنّة فَقَدْ فَازَ»(2)(3).

ص: 308


1- أي من وسطه وقيل: من أصله.
2- سورة آل عمران الآية 185.
3- البحار: ج 12 ص 6.

باب غزوات النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

تعداد الغزوات والسرايا

روى أهل السير: إنّ جميع ما غزى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بنفسه ستّ وعشرون غزوة على هذا النسق: الأبواء بواط العشيرة بدر الأُولى بدر الكبرى السويق ذي أمر أُحد نجران بنو سليم الأسد بنو النضير ذات الرقاع بدر الآخرة دومة الجندل الخندق بنو قريظة بنو لحيان بنو قرد بنو المصطلق الحديبية خيبر الفتح حنين الطائف تبوك ويلحق بها بنو قينقاع قاتل في تسع وهي؛ بدر الكبرى وأحد والخندق وبني قريظة وبني المصطلق وبني لحيان وخيبر والفتح وحنين والطائف.

وأمّا سراياه فستّ وثلاثون: أوّلها، سريّة حمزة لقى أبا جهل بسيف البحر في ثلاثين من المهاجرين وفي ذي القعدة بعث سعد بن أبي وقاص في طلب عير ثمّ عبيدة بن الحارث بعد سبعة أشهر في ستين من المهاجرين نحو الجحفة إلى أبي سفيان فتراموا بالأحياء.

عن ابن إسحاق : وغزى في ربيع الآخر إلى قريش وبني ضمرة وكرز بن جابر الفهري حتّى بلغ بواط السنة الثانية في صفر غزا ودّان حتّى بلغ الأبواء، وفي ربيع الآخر غزوة العشيرة من بطن ينبع ووادع فيها بني مدلج وضمرة، وأغار كرز بن جابر الفهريّ على سرح المدينة، فاستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وخرج حتّى بلغ وادي سَفَوان بدر الأولى، وحامل لوائه علي، ثمّ بعث في آخر رجب عبداللّه بن جحش في أصحابه ليرصد قريشاً، فقتل واقد بن عبداللّه التميميّ عمرو بن الجموح الحضرميّ، وهرب الحكم بن كيسان وعثمان بن عبدالدار وأخوه واستأمن الباقون واستاقوا العير

ص: 309

إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال: «واللّه ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام»، وذلك تحت النخلة، فسمّي غزوة النخلة فنزل : «يَسْتَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ»(1) فأخذ العير وفدى الأسيرين ثمّ غزى بدر الكبرى(2).

غزوة بدر الكبرى

«كمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بالحقّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا نَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ»(3).

وكان سبب ذلك أنّ عيراً لقريش خرجت إلى الشام فيها خزائنهم، فأمر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أصحابه بالخروج ليأخذوها، فأخبرهم أنّ اللّه تعالى قد وعده إحدى الطائفتين إمّا العير أو قريش إن أظفر بهم، فخرج في ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا، فلمّا قارب بدراً كان أبو سفيان في العير، فلمّا بلغه أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد خرج يتعرّض العير خاف خوفاً شديداً ومضى إلى الشام، فلمّا وافى النقرة (4) اكترى ضمضم بن عمرو الخزاعي بعشرة دنانير، وأعطاه قلوصا، وقال له امض إلى قريش وأخبرهم أنّ محمّداً والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم فأدركوا العير، وأوصاه أن يخرم ناقته ويقطع أُذنها حتّى يسيل الدم، ويشقّ ثوبه من قبل ودبر، فإذا دخل مكّة ولّى وجهه إلى ذنب البعير وصاح بأعلى صوته وقال:

يا آل غالب يا آل غالب، اللطيمة اللطيمة، العير العير، أدركوا أدركوا وما أراكم تدركون، فإنّ محمّداً والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم، فخرج

ص: 310


1- البقرة: 217.
2- البحار : ج 19 ص 172.
3- الأنفال : 5-6.
4- النقرة : كل أرض متصوبة في هبط.

ضمضم يبادر إلى مكّة.

ورأت عاتكة بنت عبدالمطّلب قبل قدوم ضمضم في منامها بثلاثة أيّام كأنّ راكباً قد دخل مكّة ينادي: يا آل غدر يا آل غدر اغدوا إلى مصارعكم صبح ثالثة، ثمّ وافى بجمله على أبي قبيس، فأخذ حجراً فدهده من الجبل فما ترك داراً من دور قريش إلّا أصابه منه فلذة، وكان وادي مكّة قد سال من أسفله دماً، فانتبهت ذعرة فأخبرت العبّاس بذلك، فأخبر العبّاس عتبة بن ربيعة فقال عتبة: هذه مصيبة تحدث في قريش، وفشت الرؤيا في قريش وبلغ ذاك أبا جهل فقال: ما رأت عاتكة هذه الرؤيا، وهذه نبيّة ثانية في بني عبدالمطّلب، واللات والعزّى لننتظرنّ ثلاثة أيّام، فان كان ما رأت حقاً فهو كما رأت، وإن كان غير ذلك لنكتبنّ بيننا كتاباً أنّه ما من أهل بيت من العرب أكذب رجالا ولا نساء من بني هاشم.

فلمّا مضى يوم قال أبو جهل: هذا يوم قد مضى، فلمّا كان اليوم الثاني قال أبو جهل: هذا يومان قد مضيا، فلمّا كان اليوم الثالث وافى ضمضم ينادي في الوادي: ياآل غالب يا آل غالب، اللطيمة اللطيمة، العِيْر العِيْر، أدركوا وما أراكم تدركون، فإنّ محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم التي فيها خزائنكم، فتصايح الناس بمكّة وتهيّأوا للخروج، وقام سهيل بن عمرو وصفوان بن أُميّة وأبو البختري بن هشام ومنبّه ونبيه ابنا الحجّاج ونوفل بن خويلد، فقال:

يا معشر قريش، واللّه ما أصابكم مصيبة أعظم من هذه، أن يطمع محمّد والصباة من أهل يثرب أن يتعرّضوا لعيركم التي فيها خزائنكم، فواللّه ما قرشيّ ولا قرشيّة إلاّ ولها في هذا العير نشرة فصاعداً، وإنّه لمن الذلّ والصغار أن يطمع محمّد في أموالكم، ويفرّق بينكم وبين متجركم فاخرجوا، وأخرج صفوان بن أُميّة خمسمائة دينار وجهّز بها، وأخرج سهيل بن عمرو، وما بقي أحد من عظماء قريش إلّا أخرجوا مالا وحملوا

ص: 311

وقوداً وخرجوا على الصعب والذلول لا يملكون أنفسهم كما قال اللّه تبارك وتعالى: «خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا»(1).

وخرج معهم العبّاس بن عبدالمطّلب ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب، وأخرجوا معهم القينات يشربون الخمور ويضربون بالدفوف، وخرج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فلمّا كان بقرب بدر على ليلة منها بعث بسيس بن الزغبا وعديّ بن عمرو ليتجسّسان خبر العير، فأتيا ماء بدر وأناخا راحلتيهما، واستعذبا من الماء، وسمعا جاريتين قد تشبّثت إحداهما بالأُخرى وتطالبها بدرهم كان لها عليها، فقالت: عير قريش نزلت أمس في موضع كذا وكذا وهي تنزل غداً ههنا، وأنا أعمل لهم وأقضيك، فرجعا إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأخبراه بما سمعا.

فأقبل أبو سفيان بالعير، فلمّا شارف بدراً تقدّم العير وأقبل وحده حتّى انتهى إلى ماء بدر، وكان بها رجل من جهينة يقال له كسب الجهنيّ فقال له: ياكسب هل لك علم بمحمّد وأصحابه؟ قال: لا، قال: واللّات والعزّى لئن كتمتنا أمر محمّد لا تزال قريش لك معادية آخر الدهر، فإنّه ليس أحد من قريش إلا وله شيء في هذا العير فلا تكتمني، فقال : واللّه ما لي علم بمحمّد، وما بال محمّد وأصحابه بالتّجار إلا أني رأيت في هذا اليوم راكبين أقبلا فاستعذبا من الماء وأناخا راحلتيهما ورجعا، فلا أدري من هما، فجاء أبو سفيان إلى موضع مناخ إبلهما، ففتّ أبعار الإبل بيده فوجد فيها النوى فقال: هذه علائف يثرب، هؤلاء واللّه عيون محمّد، فرجع مسرعاً وأمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر وتركوا الطريق ومرّوا مسرعين.

ونزل جبرئيل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأخبره أنّ العير قد أفلتت، وأن قريشاً قد أقبلت لمنع عيرها، وأمره بالقتال ووعده النصر، وكان نازلا بالصفراء فأحبّ أن يبلوا الأنصار

ص: 312


1- الأنفال: 47.

لأنّهم إنّما وعدوه أن ينصروه، وكان في الدار، فأخبرهم أنّ العير قد جازت، وأن قريش قد أقبلت لتمنع عيرها، وأنّ اللّه قد أمرني بمحاربتهم، فجزع أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من ذلك وخافوا خوفاً شديداً.

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أشيروا عليّ»، فقام أبو بكر فقال: يارسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إنّها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت ولا ذلّت منذ عزّت، ولم نخرج على هيئة الحرب، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): اجلس، فجلس.

فقال: «أشيروا عليّ»، فقام عمر فقال مثل مقالة أبي بكر، فقال: «اجلس»، ثم قام المقداد فقال : يارسول اللّه إنّها قريش وخيلاؤها، وقد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللّه واللّه لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضنا معك، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى : «فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَتِلَا إِنَّا هَهُنَا قَعِدُونَ»(1) ولكنّا نقول : إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فجزاه النبي خيراً ثم جلس.

ثمّ قال: «أشيروا عليّ»، فقام سعد بن معاذ فقال : بأبي أنت وأُمي يارسول اللّه كأنّك أردتنا؟ قال: «نعم»، قال: فلعلّك خرجت على أمر قد أُمرت بغيره؟ قال: «نعم»، قال: بأبي أنت وأُمّي يارسول اللّه إنّا قد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللّه، فمرنا بما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك منه ما شئت، والذي أخذت منه أحبّ إلي من الّذي تركت واللّه لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك. فجزاه خيراً، ثم قال: بأبي أنت وأُمّي يارسول اللّه، واللّه ما خضت هذا الطريق قطّ، وما لي به علم، وقد خلّفنا بالمدينة قوماً ليس نحن بأشدّ جهازاً لك منهم، ولو علموا أنه الحرب لما تخلّفوا، ولكن نعد لك الرواحل ونلقي عدوّنا، فإنا صبّر عند اللقاء، أنجاد في

ص: 313


1- المائدة : 24.

الحرب، وإنا لنرجوا أن يقرّ اللّه عينك بنا، فإن يك ما تحبّ فهو ذاك، وإن يك غير ذلك قعدت على راحلتك فلحقت بقومنا

فقال رسول اللّه: «أو يحدث اللّه غير ذلك، كأنّي بمصرع فلان ههنا، وبمصرع فلان ههنا، وبمصرح أبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومنبه ونبيه ابني الحجّاج، فانّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه الميعاد»، فنزل جبرئيل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بهذه الآية : «كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بالحقّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا نَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّه إِحْدَى الطَّابِفَنَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّه أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَتِهِ، وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَفِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ»(1)(2).

فأمر رسول اللّه بالرحيل حتّى نزل عشاء على ماء بدر، وهي العدوة الشاميّة، وأقبلت قريش فنزلت بالعدوة اليمانيّة، وبعثت عبيدها تستعذب من الماء، فأخذوهم أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وحبسوهم، فقالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيد قريش، قالوا: فأين العير؟ قالوا: لا علم لنا بالعير، فأقبلوا يضربونهم، وكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يصلّي فانفتل من صلاته فقال: «إن صدّقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم عليّ بهم، فأتوا بهم».

فقال لهم: «من أنتم»؟ قالوا: يا محمّد نحن عبيد قريش، قال: «كم القوم»؟ قالوا: لا علم لنا بعددهم، قال: «كم ينحرون في كلّ يوم جزوراً»؟ قالوا: تسعة إلى عشرة، فقال رسول اللّه: «تسعمائة إلى ألف»، قال: «فمن فيهم من بني هاشم»؟ قالوا: العبّاس

ص: 314


1- الأنفال: 5.
2- لأنفال : 8.

بن عبدالمطّلب ونوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب، فأمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فحبسوهم، وبلغ قريشاً ذلك فخافوا خوفاً شديداً، ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختري بن هشام فقال له: أما ترى هذا البغي ؟ واللّه ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغياً وعدواناً، واللّه ما أفلح قوم قط بغوا، ولوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهب كله ولم نسر هذا المسير، فقال له أبو البختريّ: إنّك سيّد من سادات قريش، فتحمّل العير التي أصابها محمّد وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرمي فإنّه حليفك، فقال عتبة : أنت عليّ بذلك وما على أحد منا خلاف إلا ابن الحنظلية يعني أبا جهل فسّر إليه وأعلمه أنّي قد تحمّلت العير التي قد أصابها محمّد ودم ابن الحضرميّ.

فقال أبو البختريّ: فقصدت خباه، وإذا هو قد أخرج درعاً له فقلت له: إنّ أبا الوليد بعثني إليك برسالة، فغضب ثمّ قال: أما وجد عتبة رسولا غيرك؟ فقلت: أما واللّه لو غيره أرسلني ما جئت، ولكن أبا الوليد سيّد العشيرة، فغضب غضبة أخرى فقال : تقول سيّد العشيرة؟ فقلت : أنا أقوله وقريش كلّها تقوله إنّه قد تحمّل العير ودم ابن الحضرمي، فقال : إنّ عتبة أطول الناس لساناً، وأبلغه في الكلام، ويتعصب لمحمّد، فإنّه من بني عبد مناف، وابنه معه ويريد أن يخدر الناس لا واللات والعزى حتّى نقحم عليهم بيثرب ونأخذهم أُسارى، فندخلهم مكّة، وتتسامع العرب بذلك، ولا يكون بيننا وبين متجرنا أحد نكرهه.

وبلغ أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كثرة،قريش، ففزعوا فزعاً شديداً، وشكوا وبكوا واستغاثوا، فأنزل اللّه على رسوله إ«ِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللّه إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَينَ بِهِ، قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ اللّه النصر إلَّا مِنْ عِندِ اللّه إنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمُ»(1) فلمّا أمسى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وجنّه الليل

ص: 315


1- الأنفال: 9 - 10.

ألقى اللّه على أصحابه النعاس حتّى ناموا، وأنزل اللّه تبارك وتعالى عليهم السماء، وكان نزول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في موضع لا يثبت فيه القدم، فأنزل اللّه عليهم السماء، ولبّد الأرض حتى ثبتت أقدامهم، وهو قول اللّه تبارك وتعالى: «إِذْ يُغَشِيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنزِلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهَّرَكُم بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ»(1).

وذلك أنّ بعض أصحاب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) احتلم «وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ»(2)وكان المطر على قريش مثل العزالي، وعلى أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رذاذاً بقدر ما لبّد الأرض، وخافت قريش خوفاً شديداً، فأقبلوا يتحارسون يخافون البيات، فبعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عمّار بن ياسر وعبداللّه بن مسعود فقال: ادخلا في القوم وائتونا بأخبارهم، فكانا يجولان بعسكرهم لا يرون إلا خائفاً ذعراً إذا صهل الفرس وثبت على جحفلته، فسمعوا منبه بن الحجّاج يقول:

لا يترك الجوع لنا مبيتا***لابد أن نموت أو نميتا (3)

لمّا رجع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى المدينة من بدر لم يقم بالمدينة إلّا سبع ليالٍ حتّى غزا بنفسه، يريد بني سليم حتّى بلغ ماء من مياههم يقال له : الكُدر، فأقام عليه ثلاث ليال ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً، فأقام بها بقيّة شوّال وذا القعدة وفادى في إقامته جلّ أسارى بدر من قريش.

غزوة السويق

ثمّ كانت غزوة السويق، وذلك أنّ أبا سفيان نذر أن لا يمسّ رأسه من جنابة حتّى يغزو محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فخرج في مائة راكب من قريش ليبرّ يمينه، حتّى إذا كان على بريد من

ص: 316


1- الأنفال: 11.
2- الأنفال: 11.
3- البحار : ج 19 ص 244.

المدينة أتى بني النضير ليلاً فضرب على حيّ بن أخطب بابه فأبى أن يفتح له، فانصرف عنه إلى سلّام بن مشكم وكان سيّد بني النضير فاستأذن عليه فأذن له وسارّه(1). خرج في عقب ليلته حتّى أتى أصحابه وبعث رجالا من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية يقال لها : العريض، فوجدوا رجلا من الأنصار وحليفاً له فقتلوهما، ثم انصرفوا ونذر (2) بهم الناس، فخرج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في طلبهم حتّى بلغ قرقرة الكُدر ورجع، وقد فاته أبو سفيان، ورأوا زاداً من أزواد القوم قد طرحوها يتخفّفون منها للنجاة، (وكان فيها السويق فسمّيت غزوة السويق ووافقوا السوق وكانت لهم تجارات) فقال المسلمون حين رجع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بهم: يارسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنطمع بأن تكون لنا غزوة؟ فقال: «نعم». ثمّ كانت غزوة ذي أمر بعد مقامه بالمدينة بقيّة ذي الحجّة والمحرّم مرجعه من غزوة السويق، وذلك لما بلغه أنّ جمعاً من غطفان قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة، عليهم رجل يقال له: دعثور بن الحارب بن محارب، فخرج في أربعمائة رجل وخمسين رجلا، ومعهم أفراس، وهرب منه الأعراب فوق ذرى الجبال، ونزل هذا أمر وعسكر به، وأصابهم مطر كثير، فذهب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لحاجة فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه، وقد جعل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وادي أمر بينه وبين أصحابه، ثمّ نزع ثيابه فنشرها لتجفّ، وألقاها على شجرة، ثم اضطجع تحتها، والأعراب ينظرون إلى كلّ ما يفعل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : فقالت الأعراب لدُعثور وكان سيّدهم وأشجعهم قد أمكنك محمّد، وقد انفرد من بين أصحابه، حيث إن غوث بأصحابه لم يغث حتّى تقتله، فاختار سيفاً من سيوفهم صارماً ثم أقبل مشتملا على السيف حتّى قام على رأس رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالسيف مشهوراً فقال: يا محمّد من يمنعك منّي اليوم؟ قال: «اللّه»، ودفع جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول اللّه، وقام على رأسه فقال: من يمنعك منّي ؟ قال : لا أحد، وأنا أشهد أن

ص: 317


1- سارّه: أي كلمه بسر.
2- أي علموا واستعدّوا لهم.

لا إله إلّا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه، واللّه لا أُكثّر عليك جمعاً، أبداً، فأعطاه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سیفه ثم أدبر، ثم أقبل بوجهه ثمّ قال: واللّه لأنت خير منّي، قال رسول اللّه: «أنا أحق بذلك»، فأتى قومه فقيل له أينما كنت تقول وقد أمكنك والسيف في يدك؟ قال: قد كان واللّه ذلك ولكنّي نظرت إلى رجل أبيض طويل دفع في صدري فوقعت لظهري فعرفت أنّه مَلَك وشهدت أنّ محمّداً رسول اللّه، واللّه لا أُكثر عليه، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام، ونزلت هذه الآية : ي«َأَيُّهَا الّذين ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمُ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ»(1).

غزوة القردة

كانت غزوة القردة،- والقردة ماء من مياه نجد- بعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) زيد بن حارثة بعد رجوعه من بدر إلى المدينة بستّة أشهر فأصابوا عيراً لقريش على القردة، فيها أبو سفيان ومعه فضّة كثيرة، وذلك لأن قريشاً قد خافت طريقها التي كانت تسلك إلى الشام حين كان من وقعة بدر، فسلكوا طريق العراق واستأجروا رجلا من بكر بن وائل يقال له فرات بن حيّان يدلّهم على الطريق فأصاب زيد بن حارثة تلك العير وأعجزته الرجال هرباً.

غزوة بني قينقاع

كانت غزوة بني قينقاع يوم السبت للنصف من شوّال على رأس عشرين شهراً من الهجرة، وذلك أنّ رسول اللّه جمعهم وإياه سوق بني قينقاع، فقال لليهود: «احذروا من اللّه مثل ما نزل بقريش من قوارع،اللّه، فأسلموا فأنّكم قد عرفتم نعتي وصفتي في كتابكم»، فقالوا: يامحمّد لا يغرنّك أنّك لقيت قومك فأصبت منهم، فإنّا واللّه لو

ص: 318


1- المائدة : 11.

حاربناك لعلمت أنا خلافهم، فكادت تقع بينهم المشاجرة ونزلت فيهم: «قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقاَتِلُ فِي سَبِيلِ اللّه وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِثْلَيْهِمْ رَأَى الْعَيْنِ وَاللّه يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَر»(1) وروي أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) محاصرهم ستّة أيّام حتّى نزلوا على حكمه فقام عبداللّه بن أُبي فقال: يارسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مواليّ وحلفائي وقد منعوني من الأسود والأحمر ثلاثمائة دارع وأربعمائة حاسر (2) تحصدهم في غداة واحدة إنّي واللّه لا آمن وأخشى الدوائر، وكانوا حلفاء الخزرج دون الأوس، فلم يزل يطلب فيهم حتّى وهبهم له، فلمّا رأوا ما نزل بهم من الذلّ خرجوا من المدينة ونزلوا،أذرعات، ونزلت في عبداللّه بن أبي وناس من بني الخزرج : «يَا أَيُّهَا الّذين ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ»(3) إلى قوله: «ِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ»(4)(5).

سيف ذو الفقار

عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لمّا كان يوم أُحد انهزم أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، حتّى لم يبق معه إلّا علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأبو دُجانة سمّاك بن خرشة، فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا أبا دُجانة أما ترى قومك ؟ قال : بلى، قال: إلحق بقومك، قال: ما على هذا بايعت اللّه ورسوله، قال: أنت في حلّ قال: واللّه لا تتحدّث قريش بأنّي خذلتك وضررت حتّى أذوق ما تذوق، فجزاه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خيراً.

وكان علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) كلّما حملت طائفة على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) استقبلهم وردّهم، حتّى أكثر

ص: 319


1- آل عمران 13.
2- الحاسر: الّذي لا درع له.
3- المائدة : 51.
4- المائدة : 52.
5- البحار: ج 20 ص 2.

فيهم القتل والجراحات حتّى انكسر سيفه، فجاء إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : يارسول اللّه إنّ الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي، فأعطاه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سيفه ذا الفقار، فما زال يدفع به عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى أثِر وانكسر، فنزل عليه جبرئيل وقال : يا محمّد إنّ هذه لهي المواساة من علي لك، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : إنّه منّي وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما، وسمعوا دويّاً من السماء : لا سيف إلّا ذو الفقار ولا فتى إلّا علي»(1).

غزوة أُحد

ثمّ كانت غزوة أُحد على رأس سنة من بدر، ورئيس المشركين يومئذ أبو سفيان بن حرب، وكان أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يومئذ سبعمائة، والمشركون ألفين، وخرج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعد أن استشار أصحابه وكان رأيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يقاتل الرجال على أفواه السكك، ويرمي الضعفاء من فوق البيوت، فأبوا إلا الخروج إليهم، فلمّا صار على الطريق قالوا: نرجع، فقال: «ما كان لنبي إذا قصد قوماً أن يرجع عنهم»، وكانوا ألف رجل، فلمّا كانوا في بعض الطريق انخزل عنهم عبداللّه بن أُبيّ بثلث الناس وقال: واللّه ما ندري على ما نقتل أنفسنا والقوم قومه؟ وهمّت بنو حارثة وبنو سلمة بالرجوع ثمّ عصمهم وهو قوله: «إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا»(2)، وأصبح رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) متهيئاً للقتال، وجعل على راية المهاجرين علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعلى راية الأنصار سعد بن عبادة، وقعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في راية الأنصار، ثم مرّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على الرماة وكانوا خمسين رجلا وعليهم عبداللّه بن جبير فوعظهم وذكّرهم وقال: «اتّقوا اللّه واصبروا وإن رأيتمونا يخطفنا المشركون فلا تبرحوا مكانكم حتّى أرسل إليكم» وأقامهم عند رأس الشعب، وكانت الهزيمة على المشركين، وحسّهم المسلمون بالسيوف حسّاً، فقال أصحاب عبداللّه بن جبير: الغنيمة

ص: 320


1- البحار : ج 20 ص 70.
2- آل عمران: 122.

ظهر أصحابكم(1) فما تنتظرون؟

فقال عبداللّه : أنسيتم قول رسول اللّه، أما أنا فلا أبرح موقفي الّذي عهد إليّ فيه رسول اللّه ما عهد، فتركوا أمره وعصوه بعد ما رأوا ما يحبّون، وأقبلوا على الغنائم، فخرج كمين المشركين عليهم خالد بن الوليد فانتهى إلى عبداللّه بن جبير فقتله، ثم أتى الناس من أدبارهم ووضع في المسلمين السلاح فانهزموا، وصاح إبليس لعنه اللّه: قتل محمّد، ورسول اللّه يدعوهم في أخراهم: «أيها الناس إنّي رسول اللّه، إنّ اللّه قد وعدني النصر فإلى أين الفرار:»؟ فيسمعون الصوت ولا يلوون على شيء، وذهبت صيحة إبليس حتّى دخلت بيوت المدينة، فصاحت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)، ولم تبق هاشميّة ولا قرشيّة إّلا وضعت يدها على رأسها، وخرجت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) تصرخ.

قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : انهزم الناس عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فغضب غضباً شديداً، وكان إذا غضب انحدر من وجهه وجبهته مثل اللؤلؤ من العرق، فنظر فإذا علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى جنبه فقال : ما لك لم تلحق ببني أبيك ؟ فقال علي : يارسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أكفر بعد إيمان ؟ إنّ لي بك أُسوة، فقال: أمّا لا فاكفني هؤلاء، فحمل عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فضرب أوّل من لقي منهم، جبرئیل (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إنّ هذه هي المواساة يا محمّد، قال: «إنّه منّي وأنا منه» قال: جبرئيل: وأنا منكما.

وثاب إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جماعة من أصحابه، وأُصيب من المسلمين سبعون رجلا، منهم أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطّلب وعبد اللّه بن جحش ومصعب بن عمير وشماس بن عثمان بن الشّريد والباقون من الأنصار.

قال: وأقبل يومئذ أُبي بن خلف وهو على فرس له وهو يقول: هذا ابن أبي كبشة بوء

ص: 321


1- ظهر أصحابكم أي غلبوا عليها.

بذنبك لا نجوت إن نجوت ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بين الحارث بن الصمة وسهل بن حنيف يعتمد عليهما، فحمل عليه فوقاه مصعب بن عمير بنفسه فطعن مصعباً فقتله، فأخذ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عنزة كانت في يد سهل بن حنيف ثمّ طعن أُبيّاً في جرّبان الدرع فاعتنق فرسه فانتهى إلى عسكره وهو يخور خوار الثور، فقال أبو سفيان: ويلك ما أجزعك؟ إنما هو خدش ليس بشيء، فقال: ويلك يابن حرب أتدري من طعنني؟ إنّما طعنني محمّد، وهو قال لي بمكّة: إنّي سأقتلك، فعلمت أنه قاتلي واللّه لو أنّ ما بي كان بجميع أهل الحجاز لقضت عليهم، فلم يزل يخور الملعون حتّى صار إلى النار».

وفي كتاب أبان بن عثمان: إنّه لما انتهت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) وصفيّة (رضیَ اللّهُ عنهُ) إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ونظرت إليه، قال لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أمّا عمّتي فاحبسها عنّي وأمّا فاطمة فدعها»، فلمّا دنت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ورأته قد شجّ في وجهه وأدمي فوه إدماء، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: «اشتدّ غضب اللّه على من أدمى وجه رسول اللّه»، وكان يتناول في يده رسول اللّه ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شيء.

قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «واللّه لو سقط منه شيء على الأرض لنزل العذاب».

وكان وحشي يقول: قال لي جبير بن مطعم وكنت عبداً له: إن عليّاً قتل عمّي يوم بدر يعني طعيمة فإن قتلت محمّداً فأنت حرّ، وإن قتلت عمّ محمّد فأنت حرّ، وإن قتلت ابن عم محمّد فأنت حرّ، فخرجت بحربة لي مع قريش إلى أُحد أُريد العتق لا أُريد غيره، ولا أطمع في محمّد، وقلت: لعلّي أُصيب من عليّ أو حمزة غرّة فأزرقه وكنت لا أُخطئ في رمي الحراب، تعلّمته من الحبشة في أرضها، وكان حمزة يحمل حملاته ثم يرجع إلى موقفه.

قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «وزرقه وحشي فوق الثدي فسقط، وشدّوا عليه فقتلوه،

ص: 322

فأخذ وحشي الكبد فشدّ بها إلى هند بنت عتبة، فأخذتها فطرحتها في فيها فصارت مثل الداغصة فلفظتها

ثمّ ولّى أبو سفيان إلى أصحابه وقال: اتّخذوا الليل جملاً وانصرفوا.

ثم دعا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عليها فقال: «اتّبعهم فانظر أين يريدون، فإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنّهم يريدون المدينة، وإن كانوا ركبوا الإبل وساقوا الخيل فهم متوجّهون إلى مكّة»، وقيل: إنّه بعث لذلك سعد بن أبي وقّاص فرجع فقال: رأيت خيلهم تضرب بأذنابها مجنونة مدبرة، ورأيت القوم قد تجمّلوا سائرين، فطابت أنفس المسلمين بذهاب العدوِّ، فانتشروا يتّبعون قتلاهم، فلم يجدوا قتيلا إلّا وقد مثلوا به إلّا حنظلة بن أبي عامر، كان أبوه مع المشركين فترك له، ووجدوا حمزة قد شق بطنه وجدع أنفه وقطعت أذناه وأخذ كبده، فلمّا انتهى إليه رسول اللّه خنقته العبرة وقال: «لأُمثلنّ بسبعين من قريش»، فأنزل اللّه سبحانه: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُم لَهُوَ خَيْرُ لِلصَّابِرِينَ»(1).

فقال: بل أصبر.

قال : وانصرف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى المدينة حين دفن القتلى، فمرّ بدور بني الأشهل وبني،ظفر، فسمع بكاء النوائح على قتلاهنّ، فترقرقت عينا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )وبكى، ثمّ قال : لكنّ حمزة لا بواكي له اليوم، فلمّا سمعها سعد بن معاذ وأسيد بن حضير قالا : لا تبكينّ امرأة حميمها حتّى تأتي فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) فتُسعدها، فلمّا سمع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الواعية على حمزة وهو عند فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) على باب المسجد قال ارجعن رحمكن اللّه فقد آسيتنّ بأنفسكن» (2).

ص: 323


1- النحل: 126.
2- البحار: ج 20 ص 93.

غزوة حمراء الأسد

قال ابن الأثير في ذكر غزوة حمراء الأسد: وظفر في طريقه بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص وبأبي غرّة الجمحي، وكان أبو غرّة أسر يوم بدر فأطلقه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، لأنّه شكى إليه فقراً وكثرة العيال، فأخذ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عليه العهود أن لا يقاتله ولا يعين على قتاله، فخرج معهم يوم أُحد وحرّض على المسلمين، فلمّا أُتي به رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: يا محمّد امنن عليّ، قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين» وأمر به فقتله، وأماّ معاوية وهو الّذي جدع أنف حمزة، ومثّل به مع من مثّل به، وكان قد أخطأ الطريق، فلمّا أصبح أتى دار عثمان بن عفّان فلمّا رآه قال عثمان : أهلكتني وأهلكت نفسك.

فقال: أنت أقربهم منّي رحماً، وقد جئتك لتجيرني، فأدخله عثمان داره وصيّره في ناحية منها، ثمّ خرج إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليأخذ له منه أماناً، فسمع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول: «إنّ معاوية في المدينة وقد أصبح بها فاطلبوه»، فقال بعضهم: ما كان ليعدو منزل عثمان فاطلبوه، فدخلوا منزل عثمان فأشارت أُمّ كلثوم إلى الموضع الّذي صيّره فيه، فاستخرجوا من تحت حمارة لهم، فانطلقوا به إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال عثمان حين رآه : والذي بعثك بالحقّ ما جئت إلا لأطلب له الأمان فهبه لي، فوهبه له وأجّله ثلاثة أيّام، وأقسم لئن وجد بعدها يمشي في أرض المدينة وما حولها ليقتلنّه، فخرج عثمان فجهّزه واشترى له بعيراً، ثمّ قال له ارتحل، وسار رسول اللّه إلى حمراء الأسد، وأقام معاوية إلى اليوم الثالث ليعرف أخبار النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ويأتي بها قريشاً، فلمّا كان في اليوم الرابع قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «إنّ معاوية أصبح قريباً لم يبعد فاطلبوه»، فأصابوه وقد أخطأ الطريق، فأدركوه، وكان اللذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة وعمّار بن ياسر فوجداه بالحماء فضربه زيد

ص: 324

بالسيف، فقال عمّار: إنّ لي فيه حقاً، فرماه،بسهم فقتلاه ثم انصرفا إلى المدينة بخبره (1).

غزوة الرجيع

قال الكازروني: روى ابن إسحاق عن أشياخه أنّ قوماً من المشركين قدموا على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقالوا : إنّ فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقّهوننا ويقرؤننا القرآن، ويعلّموننا شرائع الإسلام، فبعث معهم عشرة، منهم عاصم بن ثابت، ومرثد بن أبي مرثد وعبداللّه بن طارق وخبيب بن عديّ، وزيد بن الدثنة، وخالد بن أبي البكير، ومعقب بن عبيد، وأمر عليهم مرثداً، فخرجوا حتّى إذا كانوا بالرجيع وهو ماء لهذيل غدروا بالقوم، واستصرخوا عليهم هذيلا، فخرج بنو لحيان فلم يرع القوم إلاّ رجال بأيديهم السيوف، فأخذ أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سيوفهم فقالوا لهم: إنّا واللّه ما نريد قتالكم إنّما نريد أن نصيب بكم من أهل مكّة، ولكم العهد والميثاق أن لا نقتلكم، فأما عاصم ومرثد وخالد ومعقب فقالوا: واللّه لا نقبل من مشرك عهداً، فقاتلوهم حتى قتلوا، وأمّا زيد وخبيب وابن طارق فاستأمروا، وأمّا عاصم بن ثابت فإنّه نثر كنانته وفيها سبعة أسهم فقتل بكل سهم رجلاً من عظماء المشركين ثمّ قال: «اللّهم إنّي حميت دينك صدر النهار فارحم لحمي آخر النهار» ثمّ أحاط به المشركون فقتلوه، وأرادوا رأس عاصم ليبيعوه إلى سلافة بنت سعد وكانت نذرت أن تشرب في قحفه الخمر، لأنّه قتل ابنيها يوم أُحد فحمته الدبر، فقالوا امهلوه حتّى يمسي فتذهب عنه، فبعث اللّه الوادي فاحتمله فسمّي حمى الدبر، وخرجوا بالنفر الثلاثة، حتّى إذا كانوا بمرّ الظهران انتزع عبداللّه بن طارق يده منهم وأخذ سيفه واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتّى قتلوه فقبر بمرّ الظهران وقدموا بخبيب وزيد مكّة، فابتاع حجير بن أبي أهاب خبيباً لابن أخته عقبة بن الحارث ليقتله بأبيه، وابتاع صفوان بن أُميّة زيداً ليقتله

ص: 325


1- البحار : ج 20 ص 144.

بأبيه، فحبسوهما حتّى خرجت الأشهر الحرم ثمّ أخرجوهما إلى التنعيم فقتلوهما، وقال قائل لزيد عند قتله : أتحبّ أنّ الآن في أهلك وأنّ محمّداً مكانك؟ فقال: واللّه ما أحبّ أنّ محمّداً يشاك بشوكة وإنّي جالس في أهلي فقال أبو سفيان: واللّه ما رأيت من قوم قط أشدّ حبّاً لصاحبهم من أصحاب محمّد`. (1)

غزوة بني النضير

قال الكازروني: كانت غزوة بني نضير في ربيع الأول، وكانت منازلهم بناحية الفرع وما والاها بقرية يقال لها،زهرة وإنّهم لمّا نقضوا العهد وعاقدوا المشركين على حرب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خرج (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يوم السبت، وصلّى في مسجد قبا، ومعه نفر من أصحابه، ثم أتى بني النضير فكلّمهم أن يعينوه في ديّة رجلين كان قد آمنهما فقتلهما عمرو بن أُميّة وهو لا يعلم، فقالوا نفعل، وهموا بالغدر به فقال عمرو بن الحجاش : أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة، فقال سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فواللّه لنخبرن بما هممتم، فجاء جبرئيل فأخبره (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فخرج راجعاً إلى المدينة ثم دعا علياً وقال: «لا تبرح من مکانك، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنّي فقل : توجّه إلى المدينة»، ففعل ذلك، ثمّ لحقوا به فبعث النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) محمّد بن مسلمة إليه وأمرهم بالجلاء وقال: «لا تساكنوني وقد هممتم بما هممتم به، وقد أجلتكم عشراً»، فأرسل إليهم ابن أُبيّ: لا تخرجوا فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم، يدخلون حصونكم فيموتون من آخرهم ويمدكم قريظة وحلفاؤهم من غطفان، فطمع حيي بن أخطب فيما قال ابن أبي، فخرج إليهم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فصلّى العصر بفضاء بني النضير وعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يحمل رايته، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فلمّا رأوا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللّهم قاموا على حصونهم معهم النبل والحجارة، فاعتزلتهم قريظة، وخفرهم ابن أُبي فحاصر هم رسول اللّه وقطع نخلهم، وكانت النخلة من نخيلهم من

ص: 326


1- البحار : ج 20 ص 151.

ثمن وصيف وأحبّ إليهم من وصيف فقالوا: نحن نخرج من بلادك، فأجلاهم عن المدينة، وولّى إخراجهم محمّد بن مسلمة، وحملوا النساء والصبيان وتحمّلوا على ستمائة بعير، وقال لهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «اخرجوا ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلّا الحلقة» وهي السلاح، فقبض رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الأموال والحلقة فوجد من الحلقة خمسين درعاً وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفاً، وكانت غنائم بني النضير صفيا لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خالصة، لم يخمسها ولم يسهم منها لأحد، وقد أعطى ناساً منها (1).

غزوة ذات الرقاع

قال الكازروني في حوادث السنة الخامسة : وفيها كانت غزاة ذات الرقاع، وكان سببها أنّ قادماً قدم المدينة بجلب (2) له، فأخبر أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّ أنهاراً وثعلبة قد جمعوا لهم الجموع، فبلغ ذلك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فخرج ليلة السبت لعشر خلون من المحرم في أربعمائة وقيل : في سبعمائة، فمضى حتّى أتى محالهم بذات الرقاع، وهي جبل، فلم يجد إلّا نسوة فأخذهنّ وفيهنّ جارية وضيئة، وهربت الأعراب إلى رؤوس الجبال، وخاف المسلمون أن يغيروا عليهم، فصلى بهم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) صلاة الخوف، وكان أوّل ما صلّاها، وانصرف راجعاً إلى المدينة، فابتاع من جابر بن عبداللّه جملا بأوقية وشرط له ظهره إلى المدينة، وسأله عن دين أبيه فأخبره، فقال : إذا قربت المدينة وأردت أن تجدّ (3) نخلك فآذني، واستغفر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في تلك الليلة خمساً وعشرين مرّة(4).

ص: 327


1- البحار : ج 20 ص 164.
2- الجلب: ما يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد من خيل وإبل وغنم ومتاع وسبي ليباع.
3- جدّ الشيء: قطعه.
4- البحار : ج 20 ص 178.

غزوة عسفان

قال ابن الأثير: في جمادى الأولى من السنة السادسة خرج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى بني لحيان يطلب بأصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه، وأظهر أنّه يريد الشام ليصيب من القوم غرّة، وأسرع السير حتّى نزل على منازل بني لحيان بين أثح وعسفان، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال، فلمّا أخطأه ما أراد منهم خرج في مائتي راكب حتّى نزل عسفان تخويفاً لأهل مكّة، وأرسل فارسين من الصحابة حتّى بلغا كراع الغميم ثم عاد (1).

غزوة الأحزاب وبني قريظة

«يَاأَيُّهَا الّذين ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقَكُمْ وَمِن أَسْفَلَ مِنكُمْ»(2).

فإنّها نزلت في قصّة الأحزاب من قريش والعرب الّذين تحزّبوا على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، قال : وذلك أن قريشاً قد تجمّعت في سنة خمس من الهجرة، وساروا في العرب و جلبوا واستنفروهم لحرب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فوافوا في عشرة آلاف، ومعهم كنانة وسليم وفزارة، وكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حين أجلى بني النضير وهم بطن من اليهود من المدينة، وكان رئيسهم حيي بن أخطب، وهم يهود من بني هارون (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا أجلاهم من المدينة صاروا إلى خيبر، وخرج حيي بن أخطب إلى قريش بمكّة وقال لهم : إنّ محمّداً قد وتركم ووترنا، وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا وأجلى بني عمّنا بني قينقاع، فسيروا في الأرض وأجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتّى نسير إليهم، فإنّه قد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة، وبينهم وبين محمّد عهد وميثاق، وأنا أحملهم على نقض

ص: 328


1- البحار: ج 20 ص 179.
2- الأحزاب: 9 - 10.

العهد بينهم وبين محمّد، ويكونون معنا عليهم فتأتونه أنتم من فوق وهم من أسفل، وكان موضع بني قريظة من المدينة على قدر ميلين، وهو الموضع الّذي يسمّى ببئر بني المطلب، فلم يزل يسير معهم حيي بن أخطب في قبائل العرب حتّى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش وكنانة، والأقرع بن حابس في قومه، وعبّاس بن مرداس في بني سليم، فبلغ ذلك رسول اللّه واستشار أصحابه، وكانوا سبعمائة رجل، فقال سلمان: يارسول اللّه إنّ القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة، قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «فما نصنع»؟ قال: نحفر خندقاً يكون بيننا وبينهم حجاباً فيمكنك معهم في المطاولة ولا يمكنهم أن يأتونا من كلّ وجه، فإنّا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدوّنا نحفر الخنادق، فيكون الحرب من مواضع معروفة، فنزل جبرئيل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : أشار بصواب، فأمر رسول اللّه بحفره من ناحية أحد إلى راتج، وجعل على كل عشرين خطوة وثلاثين خطوة قوماً من المهاجرين والأنصار يحفرونه، فأمر فحملت المساحي والمعاول، وبدأ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأخذ معولا فحفر في موضع المهاجرين بنفسه، وأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ينقل التراب من الحفرة حتّى عرق رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعي وقال: «لا عيش إلّا عيش الآخرة اللّهم اغفر للأنصار والمهاجرين»، فلمّا نظر الناس إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يحفر اجتهدوا في الحفر ونقلوا التراب.

فلمّا كان في اليوم الثاني بكّروا إلى الحفر وقعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في مسجد الفتح، فبينا المهاجرون والأنصار يحفرون إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه فبعثوا جابر بن عبداللّه الأنصاري إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يعلمه ذلك، فقال جابر: فجئت إلى المسجد ورسول اللّه مستلقى على قفاه ورداؤه تحت رأسه وقد شدّ على بطنه حجراً، فقلت: يارسول اللّه إنّه قد عرض لنا جبل لا تعمل المعاول فيه، فقام مسرعاً حتّى جاءه، ثم دعا بماء في إناء وغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه، ثم شرب ومج ذلك الماء في فيه، ثمّ

ص: 329

صبّه على ذلك الحجر، ثمّ أخذ معولا فضرب ضربة فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور الشام، ثمّ ضرب أخرى فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور المدائن، ثمّ ضرب أُخرى فبرقت برقة أُخرى فنظرنا فيها إلى قصور،اليمن، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أمّا إنه سيفتح اللّه عليكم هذه المواطن التي برقت فيها البرق»، ثمّ إنهال علينا الجبل كما ينهال الرمل.

فقال جابر: فعلمت أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مقوي أي جائع لما رأيت على بطنه الحجر، فقلت: يارسول اللّه هل لك في الغداء؟ قال: «ما عندك ياجابر»؟

فقلت عناق وصاع من شعير، فقال: «تقدّم وأصلح ما عندك».

قال جابر: فجئت إلى أهلي فأمرتها فطحنت الشعير، وذبحت العنز وسلختها، وأمرتها أن تخبز وتطبخ وتشوّي، فلمّا فرغت من ذلك جئت إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقلت : بأبي وأُمّي أنت يارسول اللّه قد فرغنا فاحضر مع من أحببت، فقام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى شفير الخندق ثمّ قال: «يا معشر المهاجرين والأنصار أجيبوا جابراً»، وكان في الخندق سبعمائة رجل، فخرجوا كلّهم، ثمّ لم يمرّ بأحد من المهاجرين والأنصار إلّا قال: أجيبوا جابراً، قال جابر : فتقدّمت وقلت لأهلي: قد واللّه أتاك رسول اللّه بما لا قبل لك به، فقالت: أعلمته أنت ما عندنا؟ قال: نعم، قالت: هو أعلم بما أتى قال جابر: فدخل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فنظر في القدر ثمّ قال: «اغرفي وأبقي»، ثمّ نظر في التنوّر، ثمّ قال: «أخرجي وأبقي»، ثم دعا بصحفة فترد فيها وغرف فقال : «ياجابر أدخل علىّ عشرة»، فأدخلت عشرة، فأكلوا حتّى نهلوا وما يرى في القصعة إلّا آثار أصابعهم، ثمّ أدخلت عشرة أُخرى فأكلوا حتّى نهلوا، قال جابر : فأقبلت أُدخل عشرة عشرة فيأكلون حتّى أكلوا كلّهم.

قال: وحفر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الخندق، وجعل له ثمانية أبواب، وجعل على كلّ باب رجلا من المهاجرين ورجلا من الأنصار مع جماعة يحفظونه، وقدمت قريش وكنانة

ص: 330

وسليم وهلال فنزلوا الزغابة، ففرغ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيّام، وأقبلت قريش ومعهم حيي بن أخطب، فلمّا نزلوا العقيق جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في جوف الليل، وكانوا في حصنهم قد تمسّكوا بعهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فندقّ باب الحصن فسمع كعب بن أسيد قرع الباب، فقال: من أنت؟ قال : حيي بن أخطب، هذه قريش في قادتها قد نزلت بالعقيق مع حلفائهم من كنانة، وهذه فزارة مع قادتها قد نزلت الزغابة، وهذه سليم قد نزلوا حصن بني ذبيان، ولا يفلت محمّد وأصحابه من هذا الجمع أبداً، فافتح الباب وانقض العهد بينك وبين محمّد، فقال :كعب لست بفاتح لك الباب، ارجع من حيث جئت، فقال حيي حيي: ما يمنعك من فتح الباب إلاّ خشيشتك التي في التنور تخاف أن أُشاركك فيها، فافتح فإنّك آمن من ذلك، فقال له كعب: لعنك اللّه لقد دخلت عليّ من باب دقيق، ثمّ قال : افتحوا له الباب، ففتحواله، فقال: ويلك ياكعب انقض العهد بينك وبين محمّد ولا تردّ رأيي، فإنّ محمّداً لا يفلت من هذا الجمع أبداً، فإن فاتك هذا الوقت لا تدرك مثله أبداً، قال: واجتمع كل من كان في الحصن من رؤساء اليهود، فقال لهم كعب: ما ترون؟ قالوا: أنت سيّدنا والمطاع فينا وصاحب عهدنا وعقدنا فإن نقضت نقضنا معك.

وقال قد وقع الأمر، فتجهزوا وتهيّأوا للقتال، وبلغ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ذلك، فغمّه غمّاً شديداً وفزع أصحابه، ورجع حيي بن أخطب إلى أبي سفيان وقريش فأخبرهم بنقض بني قريظة العهد بينهم وبين رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ففرحت قريش بذلك.

وأقبلت قريش، فلمّا نظروا إلى الخندق :قالوا هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك، فقيل لهم: هذا من تدبير الفارسيّ الّذي معه، فوافى عمرو بن عبد ود وهبيرة بن وهب وضرار بن الخطاب إلى الخندق، وكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد صفّ أصحابه بين يديه، فصاحوا بخيلهم حتّى طفروا الخندق إلى جانب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فصاروا أصحاب

ص: 331

رسول اللّه كلّهم خلف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وقدموا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بين أيديهم، وقال رجل من المهاجرين لرجل بجنبه من إخوانه: أما ترى هذا الشيطان عمرو ؟ ألا واللّه ما يفلت من يديه أحد، فهلموا ندفع إليه محمّداً ليقتله ونلحق نحن بقومنا.

وركّز عمرو بن عبد ود رمحه في الأرض وأقبل يجول جولة ويرتجز ويقول: هل من مبارز؟ فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «من لهذا الكلب» ؟ فلم يجبه أحد، فقام إليه علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : «أنا له يارسول اللّه»، فقال: «يا علي هذا عمرو بن عبد ود فارس يليل»، قال: «أنا علي بن أبي طالب»، فقال له رسول اللّه: «أُدن منّي»، فدنا منه، فعمّمه بيده ودفع إليه سيفه ذا الفقار، وقال له : «إذهب وقاتل بهذا، اللّهمّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته» فمرّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) يهرول في مشيته وهو يقول:

لا تعجلنّ فقد أتاك***مجیب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة***والصدق منجي كلّ فائز

إلى آخر الأبيات...

فقال له عمرو: من أنت؟ قال: «أنا علي بن أبي طالب ابن عمّ رسول اللّه وختنه»، فقال: واللّه إنّ أباك كان لي صديقاً ونديماً، وإنّي أكره أن أقتلك، ما أمن ابن عمّك حين بعثك إلي أن اختطفك برمحي هذا فاتركك شائلا بين السماء والأرض لا حيّ ولا ميّت؟ فقال له أمير المؤمنين: «قد علم ابن عمّي أنّك إن قتلتني دخلت الجنّة وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنّة».

فقال عمرو: كلتاهما لك ياعلي تلك إذا قسمة ضيزى (1) فقال علي : «دع هذا ياعمرو، إنّي سمعت منك وأنت متعلق بأستار الكعبة تقول:

ص: 332


1- أي ناقصة جائرة.

لا يعرض عليّ أحد في الحرب ثلاث خصال إلّا أجبته إلى واحدة منها، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحد»،ة قال هات ياعلي؟ قال: «تشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه»، قال: نحّ عنّي هذا قال: فالثانية: «أن ترجع وتردّ هذا الجيش عن رسول اللّه، فإن يك صادقاً فأنتم أعلى به عيناً، وإن يك كاذباً كفتكم ذوبان(1)العرب أمره»، فقال : إذاً تتحدّث نساء قريش بذلك وينشد الشعراء في أشعارها أنّي جبنت ورجعت على عقبي من الحرب وخذلت قوماً رأسوني عليهم فقال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فالثالثة؛ أن تنزل إليّ، فإنّك راكب وأنا راجل حتّى أُنابذك»، فوثب عن فرسه وعرقبه (2) وقال: هذه خصلة ما ظننت أنّ أحداً من العرب يسومني عليها، ثم بدأ فضرب أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالسيف على رأسه، فاتقاه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالدرقة فقطعها، وثبت السيف على رأسه، فقال له علي : «يا عمرو أما كفاك أنّي بارزتك وأنت فارس العرب حتّى استعنت عليّ بظهير» ؟ فالتفت عمرو إلى خلفه، فضربه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) مسرعاً على ساقيه فأطنّهما (3) جميعاً، وارتفعت بينهما عجاجة، فقال المنافقون: قتل علي بن أبي طالب، ثم انكشفت العجاجة، ونظروا فإذا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) على صدره، قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه، ثم أخذ رأسه وأقبل إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو، وسيفه يقطر منه الدم وهو يقول والرأس بيده:

أنا علي بن عبدالمطّلب***الموت خير للفتى من الهرب (4)

صفية بنت عبد المطّلب

عن أبي الزبير، عن أبيه، عن صفية بنت عبدالمطّلب أنها قالت: كنّا مع حسان بن

ص: 333


1- ذوبان العرب: صعاليكهم ولصوصهم.
2- عرقبه: قطع عرقوبه والعرقوب عصب غليظ فوق العقب.
3- فقطعها.
4- البحار: ج 20 ص 216.

ثابت في حصن فارع، والنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالخندق، فإذا يهودي يطوف بالحصن، فخفنا أن يدلّ على عورتنا (1) فقلت لحسّان : لو نزلت إلى هذا اليهودي، فإني أخاف أن يدلّ على عورتنا، قال : يابنت عبدالمطّلب لقد علمت ما أنا بصاحب هذا، قالت: فتحزمّت (2) ثم نزلت وأخذت عموداً وقتلته به، ثمّ قلت لحسان: أُخرج فاسلبه، قال: لا حاجة لي في سلبه(3).

غزوة بني المصطلق

كانت بعد غزوة بني قريظة غزوة بني المصطلق من خزاعة، ورأسهم الحارث بن أبي ضرار، وقد تهيأ للمسير إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وهي غزوة المريسيع، وهو ماء، وقعت شعبان سنة خمس وقيل : في شعبان سنة ستّ واللّه أعلم، قالت جويرية بنت الحارث زوجة الرسول: أتانا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ونحن على المريسيع فأسمع أبي وهو يقول: أتانا ما لا قبل لنا به، قالت: وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة، فلمّا أن أسلمت وتزوّجني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعرفت أنه رعب من اللّه عزّ وجلّ يلقيه في قلوب المشركين، قالت: ورأيت قبل قدوم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتّى وقع في حجري، فكرهت أن أُخبر بها أحداً من الناس، فلمّا سبينا رجوت الرؤيا، فاعتقني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وتزوّجني، وأمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أصحابه أن يحملوا عليهم حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، وقتل عشرة منهم، وأُسر سائرهم، وكان شعار المسلمين يومئذ: «يا منصور أمت» وسبى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الرجال والنساء والذراري والنعم والشاء، فلمّا بلغ الناس أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) تزوّج جويرية بنت الحارث قالوا أصهار رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأرسلوا ما

ص: 334


1- العورة: الخلل في ثغر البلاد وغيره يخاف منه.
2- أي شددت وسطي بالحزام.
3- البحار : ج 20 ص 245.

كان في أيديهم من بني المصطلق فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها (1).

قصة الافك

قال الطبرسي في قوله تعالى : «إِنَّ الّذين جَاءُ و بِالْإِفْكِ»(2).

روى سعيد بن المسيّب عن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، وذلك بعد ما أُنزل الحجاب، فخرجت مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى فرغ من غزوه وقفل، وروي أنها كانت غزوة بني المصطلق من خزاعة.

قالت: ودنونا من المدينة، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتّى جاوزت الجيش، فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري فإذا بعقد من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الّذين كانوا يرحلونني فحملوا هودجي على بعيري الّذي كنت أركب وهم يحسبون أنّي فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافاً ولم يهبلهنّ اللّحم وإنما يأكلن العلفة من الطعام، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي وجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فدنوت من منزلي الّذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة إذ غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعطّل السلمي قد عرّس (3) من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني فخمرت وجهي بجلبابي، واللّه ما كلّمني بكلمة حتّى أناخ راحلته فركبتها، فانطلق يقود الراحلة حتّى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في حرّ الظهيرة.

ص: 335


1- البحار: ج 20 ص 290.
2- النور: 11.
3- عرس القوم: نزلوا من السفر للاستراحة ثمّ يرتحلون.

فهلك من هلك فيّ، وكان الّذي تولى كبره منهم عبد اللّه بن أبي سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمتها شهراً، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يربّيني في وجعي، غير أني لا أعرف من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللطف الّذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنّما يدخل ويسلّم ويقول: «كيف تيكم»؟ فذلك يحزنني ولا أشعر بالشرّ حتّى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أُمّ مسطح قبل المصانع وهو متبرّزنا ولا نخرج إلّا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن يتخذ الكنف، وأمرنا أمر العرب الأُوّل في التنزّه، وكنّا نتأذّى بالكنف أن نتّخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأُمّ مسطح وأُمّها بنت صخر بن عام خالة أبي، فعثرت أُمّ مسطح في مرطها فقالت: تعس (1) مسطح، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبّين رجلا قد شهد بدراً ؟ قالت أي هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً إلى مرضي، فلمّا رجعت إلى منزلي دخل علي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثم قال: «كيف تيكم» ؟ قلت له : تأذن لي أن آتي أبويّ؟ قالت : وأنا أريد أتيقن الخبر من قبله، فأذن لي رسول اللّه، فجئت أبوي، وقلت لأُمّي : يا أُمّه ماذا يتحدّث الناس ؟ فقالت : أي بنيّة هوّني عليك، فواللّه لعلّ ما كانت امرأة قط وصبيّة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها قلت سبحان اللّه أو قد تحدّث الناس بهذا ؟ قالت: نعم.

فمكثت تلك الليلة حتّى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم حتّى أصبحت، ودعا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أُسامة بن زيد و علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين استلبث (2) الوحي يستشيرهما في فراق أهله، فأمّا أُسامة فأشار على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالذي علم من بر اءة أهله بالذي يعلم في نفسه من الودّ، فقال: يارسول اللّه هم أهلك أهلك ولا نعلم إلّا خيراً، وأمّا

ص: 336


1- المرط بالكسر اكسية من صوف أو خز يؤتزر بها والتعس الهلاك.
2- أي تأخّر.

علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: «لم يضيّق اللّه عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدّقك»، فدعا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بريرة فقال : «يا بريرة هل رأيت شيئاً يريبك من عائشة» ؟ قالت بريرة: والذي بعثك بالحقّ ان رأيت عليها أمراً قطّ أغمصه عليها أكثر من أنّها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها قالت: وأنا واللّه أعلم أنّي بريئة وما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحي يتلى ولكنّي كنت أرجو أن يرى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رؤيا يبرئني اللّه بها، فأنزل اللّه على نبيّه وأخذه ما كان يأخذه من برحاء الوحي حتّى أنّه لينحدر عنه مثل الجمان من العرق وهو في اليوم الشاتي من القول الّذي أنزل عليه، فلمّا ستري عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : أبشري يا عائشة أما واللّه فقد برأك اللّه، فقالت أُمّي : قومي إليه فقلت : واللّه لا أقوم إليه ولا أحمد إلّا اللّه وهو الّذي برأني، فأنزل اللّه تعالى: «إِنَّ الّذين جَاءُ و بِالْإِفْكِ»(1).

هرقل ومحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

روي أنّ هرقل بعث رجلا من غسّان وأمره أن يأتيه بخبر محمّد وقال له: احفظ من أمره ثلاثاً: أُنظر على أي شيء تجده جالساً، ومن على يمينه، وإن استطعت أن تنظر إلى خاتم النبوّة فافعل.

فخرج الغسّاني حتّى أتى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فوجده جالساً على الأرض، ووجد علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن يمينه، وجعل رجليه في ماء يفور، فقال: من هذا على يمينه؟ قيل: ابن عمّه، فكتب ذلك، ونسي الغسّاني الثالثة، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «تعال أُنظر إلى ما أمرك به صاحبك»، فنظر إلى خاتم النبوّة، فانصرف الرجل إلى هرقل، قال: ما صنعت؟ قال: وجدته جالساً على الأرض والماء يفور تحت قدميه، ووجدت عليّاً ابن عمه عن يمينه، وأنسيت ما قلت لي في الخاتم فدعاني فقال: «هلمّ إلى ما أمرك به صاحبك» فنظرت إلى

ص: 337


1- البحار : ج 20 ص310.

خاتم النبوّة، فقال هرقل : هذا الّذي بشّر به عيسى بن مريم، إنّه يركب البعير فاتّبعوه وصدّقوه، ثمّ قال للرسول : أُخرج إلى أخي فأعرض عليه فإنّه شريكي في الملك، فقلت له فما طاب نفسه عن ذهاب ملكه (1).

قيصر ومحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

روي أنّ دحية الكلبيّ قال: بعثني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بكتاب إلى قيصر، فأرسل إلى الأسقف، فأخبره بمحمّد وكتابه فقال : هذا النبي الّذي كنّا ننتظره، بشّرنا به عیسی بن مريم، وقال الأسقف : أما أنا فمصدّقه ومتّبعه.

فقال قيصر : أمّا أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي، ثمّ قال قيصر : التمسوالي من قومه ههنا أحداً أسأله عنه، وكان أبو سفيان وجماعة من قريش دخلوا الشام تجّاراً فأحضرهم وقال: ليدن منّي أقربكم نسباً به، فأتاه أبو سفيان فقال: أنا سائل عن هذا الرجل الّذي يقول : إنّه نبي، ثم قال لأصحابه: إن كذب فكذبوه، قال أبو سفيان: لولا حيائي أن يأثر أصحابي عنّي الكذب لأخبرته بخلاف ما هو عليه.

فقال: كيف نسبه فيكم؟ قلت ذو نسب :قال هل قال هذا القول منكم أحد؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتّبعوه أو ضعفاؤهم؟ قلت: ضعفاؤهم، قال: فهل يزيدون أو ينقصون؟ قلت: يزيدون، قال : يرتدّ أحد منهم سخطاً لدينه؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر ؟ قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت نعم قال كيف حربكم وحربه؟ قلت: ذو سجال مرّة له ومرّة عليه، قال : هذه آية النبوّة، قال: فما يأمركم؟ قلت: يأمرنا أن نعبد اللّه وحده ولا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصوم والعفاف والصدق وأداء الأمانة

ص: 338


1- البحار : ج 20 ص 378.

والوفاء بالعهد، قال: هذه صفة نبيّ، وقد كنت أعلم أنّه يخرج، ولم أظنّ أنّه منكم، فإنّه يوشك أن يملك ما تحت قدميّ هاتين، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشّمت لقاءه، ولو كنت عنده لقبّلت قدميه، وإن النصارى اجتمعوا على الأُسقف ليقتلوه فقال : اذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه سلامي وأخبره أني أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه، وأنّ النصارى أنكروا ذلك عليّ، ثم خرج إليهم فقتلوه(1).

المقوقس ومحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

بَعْثِ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس.

أمّا المقوقس فإنّه لمّا وصل إليه حاطب أكرمه، وأخذ كتاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وكتب في جوابه: قد علمت أن نبيّاً قد بقي، وقد أكرمت رسولك، وأهدي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أربع جوارة؛ منهنّ مارية أُمّ إبراهيم وأُختها سيرين، وحماراً يقال له: يعفور، وبغلة يقال لها الدلدل ولم يسلم، فقبل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هديته وقال: «ظنّ الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه»، واصطفى مارية لنفسه، وأمّا سيرين فوهبها لحسّان بن وهب، وأمّا الحمار فهلك منصرفه من حجّة الوداع، وأما البغلة فبقيت إلى زمان معاوية(2).

كسرى ومحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

روي عن محمّد بن إسحاق قال : قال بعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عبداللّه بن حذافة بن قيس إلى كسرى بن هرمز ملك فارس وكتب :

«بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمّد رسول اللّه إلى كسری عظیم فارس، سلام علی من اتّبع الهدى وآمن باللّه ورسوله، وشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له وأنّ محمّداً

ص: 339


1- البحار: ج 20 ص 378.
2- البحار : ج 20 ص 382.

عبده ورسوله، وأدعوك بداعية اللّه (عزّوجلّ)، فإنّي أنا رسول اللّه إلى الناس كافة لأُنذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين، فأسلم تسلم فإن أبيت فإنّ إثم المجوس عليك».

فلمّا قرأ كتاب رسول اللّه شققه وقال : يكتب إليّ بهذا الكتاب وهو عبدي؟ فبلغني أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «مزّق اللّه ملكه» حين بلغه أنه شقق كتابه، ثمّ كتب كسرى إلى باذان وهو على اليمن؛ أن ابعث إلى هذا الرجل الّذي بالحجاز من عندك رجلين فليأتياني به، فبعث باذان قهرمانه وهو بانوبه وكان كاتباً حاسباً وبعث معه برجل من الفرس يقال له خرخسك، فكتب معهما إلى رسول اللّه يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال بانوبه: ويلك أُنظر ما الرجل، وكلّمه وأتني بخبره، فخرجا حتّى قدما المدينة على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وكلّمه بانوبة وقال : إنّ ملك الملوك كسرى كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتبت فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكفّ عنك به، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرّب بلادك، وكانا قد دخلا على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما، وقال : «ويلكما من أمركما بهذا» ؟ قالا : أمرنا بهذا ربنا، یعنیان،کسری فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «لكن ربّي أمرني باعفاء لحيتي وقصّ شاربي»، ثمّ قال لهما رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «ارجعا حتّى تأتياني غداً» وأتى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الخبر من السماء أنّ اللّه عزّ وجلّ قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه فقتله في شهر كذا وكذا لكذا وكذا من الليل.

فلما أتيا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال لهما : «إنّ ربّي قد قتل ربّكما ليلة كذا وكذا من شهر كذا وكذا بعد ما مضى من الليل كذا وكذا سلط عليه شيرويه فقتله»، فقالا: هل تدري ما تقول ؟! إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا، فنكتب بها عنك ونخبر الملك؟ قال: نعم، أخبراه ذلك عنّي، وقولا له: إنّ ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى وينتهي

ص: 340

إلى منتهى الخفّ والحافر وقولا له إنّك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملّكتك على قومك».

ثمّ أعطى خرخسك منطقة فيها ذهب وفضّة كان أهداها له بعض الملوك، فخرجا من عنده حتّى قدما على باذان وأخبراه الخبر، فقال : واللّه ما هذا بكلام ملك، وإنّي لأرى الرجل نبيّاً كما يقول، ولننظر ما قد قال فلئن كان ما قد قال حقاً ما فيه كلام أنّه نبيّ مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا، فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: امّا بعد فإنّي قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلّا غضباً لفارس لما كان استحلّ من قتل أشرافهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وأُنظر الرجل الّذي كان كسرى كتب إليك فيه فلا تهجه حتّى يأتيك أمري فيه، فلمّا انتهى كتاب شيرويه باذان قال: إنّ هذا الرجل لرسول، فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس من كان منهم باليمن (1).

غزوة خيبر

قال الطبرسي (رَحمهُ اللّه) : لمّا قدم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) المدينة من الحديبيّة مكث بها عشرين ليلة، ثم خرج منها غادياً إلى خيبر، وذكر ابن إسحاق باسناده عن أبي مروان الأسلميّ عن أبيه عن جدّه قال :

خرجنا مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى خيبر، حتّى إذا كنا قريباً منها وأشرفنا عليها قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : قفوا فوقف الناس، فقال: «اللّهم ربّ السماوات السبع وما أظللن، وربّ الأرضين السبع وما أقللن، وربّ الشياطين وما أظللن، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرّ هذه القرية وشرّ أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم اللّه الرحمن الرحيم». وعن سلمة بن الأكوع قال : خرجنا مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى خيبر

ص: 341


1- البحار : ج 20 ص389.

فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع : ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ وكان عامر رجلا شاعراً فجعل يقول :

لا همّ لولا أنت ما اهتدينا***ولا تصدّقنا ولا صلّينا

فاغفر فداء لك ما اقتنينا***ثبّت الأقدام إن لاقينا

وأنزلن سكينةً علينا***إنّا إذا صيح بنا أنينا

وبالصياح عوّلوا علينا

فقال رسول اللّه: «من هذا السائق» ؟ قالوا عامر قال: «يرحمه اللّه» قال عمر وهو على جمل: وجبت يارسول اللّه، لولا امتعتنا به، وذلك أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ما استغفر لرجل قطّ يخصّه إلّا استشهد، قالوا: فلمّا جدّ الحرب وتصافّ القوم خرج يهوديّ وهو يقول:

قد علمت خيبر أنّي مرحبٌ***شاكي السلاح بطل مجرب

إذ الحروب أقبلت تلهب

فبرز إليه عامر وهو يقول:

قد علمت خيبر أنّي عامر***شاكي السلاح بطلٌ مغامرٌ

فاختلفا ضربتين، فوقع سيف اليهودي في ترس،عامر، وكان سيف عامر فيه قصر، فتناول به ساق اليهودي ليضر به فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه، قال سلمة : فإذا نفر من أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقولون : بطل عمل عامر قتل نفسه، قال: فأتيت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأنا أبكي فقلت: قالوا إنّ عامراً بطل عمله، فقال: «من قال ذلك»؟ قلت: نفر من أصحابك، فقال: «كذب أُولئك بل أُوتي من الأجر مرّتين»، قال : فحاصر ناهم حتّى إذا أصابتنا مخمصة شديدة، ثمّ إنّ اللّه فتحها علينا. وذلك أنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أعطى اللواء عمر بن الخطاب، ونهض من نهض معه من الناس، فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه، فرجعوا إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يحبنه أصحابه ويجبنهم،

ص: 342

وكان رسول اللّه أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، فقال حين أفاق من وجعه: «ما فعل الناس بخيبر» ؟ فأُخبر، فقال: «لأعطين الراية غداً رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله كرّاراً غير فرّار لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يديه».

وروي عن سعد بن سهل أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال يوم خيبر : «لأُعطين هذه الراية غداً رجلا يفتح اللّه على يديه يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله» قال : فبات الناس يدركون بجملتهم أيهم يعطاها، فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كلّهم يرجون أن يعطاها، فقال: «أين علي بن أبي طالب»؟ فقالوا: يارسول اللّه هو يشتكي عينيه، قال: «فأرسلوا إليه» فأُتي به فبصق رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يارسول اللّه أُقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا»؟ قال: «انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ اللّه، فواللّه لئن يهدي اللّه بك رجلا واحداً خير من أن يكون لك حمر النعم»، قال سلمة: فبرز مرحب وهو يقول :

قد علمت خيبر أنّي مرحب (الأبيات).

فبرز له علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يقول:

أنا الّذي سمتني أُمّي حيدرة***كليث غابات كريه المنظره

أو فيهم بالصاع كيل السندرة

فضرب مرحباً ففلق رأسه فقتله، وكان الفتح على يده، أورده مسلم في الصحيح : خرجنا مع علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين بعثه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) باب الحصن فتترّس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتّى فتح اللّه عليه، ثمّ ألقاه من يده،

ص: 343

فلقد رأيتني في سبعة نفر أنا منهم نجهد على أن نقلّب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلّبه.

وبإسناده عن ليث بن أبي سليم عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «حدّثني جابر بن عبداللّه : أنّ عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) حمل الباب يوم خيبر حتّى صعد المسلمون عليه فاقتحموها ففتحوها، وإنّه حرّك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلاً».

ثمّ لم يزل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يفتح الحصون حصناً فحصناً، ويحوز الأموال حتّى انتهوا إلى حصن الوطيح والسلالم، وكان آخر حصون خيبر افتتح، وحاصرهم رسول اللّه بضع عشر ليلة (1).

وعن حذيفة بن اليمان قال لمّا خرج جعفر بن أبي طالب من أرض حبشة إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، و قدم جعفر والنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بأرض خيبر، فأتاه بالفرع من الغالية والقطيفة، فقال عليه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : لأدفعنّ هذه القطيفة إلى رجل يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله»، فمدّ أصحاب النبي أعناقهم إليها، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أين علي» ؟ فوثب عمّار بن ياسر فدعا علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا جاء قال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «ياعلي خذ هذه القطيفة إليك» فأخذها علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأمهل حتّى قدم المدينة فانطلق إلى البقيع وهو سوق المدينة فأمر صائغاً ففصل القطيفة سلكاً سلكاً، فباع الذهب وكان ألف مثقال، ففرّقه علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في فقراء المهاجرين والأنصار، ثم رجع إلى منزله ولم يترك من الذهب قليلا ولا كثيراً، فلقيه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من غد في نفر من أصحابه فيهم حذيفة وعمّار فقال : يا عليّ إنّك أخذت بالأمس ألف مثقال، فاجعل غدائي اليوم وأصحابي هؤلاء عندك ولم يكن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) يرجع يومئذ إلى شيء من العروض: ذهب أو فضّة.

فقال حياءً منه وتكرماً: «نعم يارسول اللّه، وفي الرحب والسعة ادخل يانبيّ اللّه

ص: 344


1- البحار: ج 21 ص 1.

أنت ومن معك»، قال : فدخل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثم قال لنا: «ادخلوا»، قال حذيفة: وكنّا خمسة نفر : أنا وعمّار وسلمان وأبو ذر والمقداد، فدخلنا ودخل علي على فاطمة يبتغي عندها شيئاً من زاد، فوجد في وسط البيت جفنة من ثريد تفور وعليها عراق كثير، وكأنّ رائحتها المسك، فحملها علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى وضعها بين يدي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هو من حضر معه، فأكلنا منها حتّى تملأنا، ولا ينقص منها قليل ولا كثير، وقام النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى دخل على فاطمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) وقال: «أنّى لك هذا الطعام يافاطمة» فردّت عليه ونحن نسمع قولها، فقالت: «هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب»، فخرج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلينا مستعبراً وهو يقول: «الحمد للّه الّذي لم يمتني حتّى رأيت لابنتي ما رأى زكريا لمريم، كان إذا دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً فيقول لها : يامريم أنّى لك هذا؟ فتقول هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب»(1).

غزوة مؤتة

عن محمّد بن شهاب الزهري قال: لما قدم جعفر بن أبي طالب من بلاد الحبشة بعثه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى مؤتة، واستعمل على الجيش معه زيد بن حارثة وعبداللّه بن رواحة، فمضى الناس معهم حتّى كانوا بنحو البلقاء، فلقيهم جموع هرقل من الروم والعرب، فانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها واقتتلوا قتالا شديداً، وكان اللواء يومئذ مع زيد بن حارثة فقاتل به حتّى شاط في رماح القوم، ثم أخذه جعفر فقاتل به قتالا شديداً ثم اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها وقاتل حتّى قتل، قال: وكان جعفر أوّل رجل من المسلمين عقر فرسه في الإسلام، ثمّ أخذ اللواء عبداللّه بن رواحة فقتل، ثمّ أخذ اللواء خالد بن الوليد فناوش القوم وراوغهم حتّى انحاز بالمسلمين منهزماً، ونجا بهم من الروم، وأنفذ رجلا يقال له: عبدالرحمن بن سمرة إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

ص: 345


1- البحار : ج 21 ص 19.

بالخبر، قال عبدالرحمن فسرت إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فلمّا وصلت إلى المسجد قال لي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «على رسلك يا عبدالرحمن» ثمّ قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أخذ اللواء زيد فقاتل به فقتل رحم اللّه زيداً، ثمّ أخذ اللواء جعفر وقاتل وقتل رحم اللّه جعفراً، ثم أخذ اللواء عبداللّه بن رواحة وقاتل فقتل فرحم اللّه عبداللّه» قال: فبكى أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهم حوله، فقال لهم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «وما يبكيكم»؟ فقالوا: وما لنا لا نبكي وقد ذهب خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل منّا، فقال لهم : «لا تبكوا فإنّما مثل أُمّتي مثل حديقة قام عليها صاحبها فأصلح رواكبها وبني مساكنها وحلق سعفها فأطعمت عاماً فوجاً ثمّ عاماً فوجاً ثمّ عاماً فوجاً فلعل آخرها طعماً أن يكون أجودها قنواناً وأطولها شمراخاً، والذي بعثني بالحقّ نبياً ليجدن عيسى بن مريم في أُمّتي خلفاً من حواريه» قال: وقال كعب بن مالك،يرثي جعفر بن أبي طالب والمستشهدين معه:

هدت العيون ودمع عينك يهملُ***سحّاً كما وكف الضباب المخضلُ

وكأنّ ما بين الجوانح والحشا***ممّا تأوّبني شهاب مدخلُ

وجداً على النفر الّذين تتابعوا***يوماً بمؤتة أُسندوا لم ينقلوا

فتغيّر القمر المنير لفقدهم***والشمس قد كسفت و كادت تأفلُ(1)

وعن العبّاس بن موسى بن جعفر قال: سألت أبي (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن المأتم (2) فقال: «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لمّا انتهى إليه قتل جعفر بن أبي طالب دخل على أسماء بنت عميس امرأة جعفر فقال: أين بنيَّ؟ فدعت بهم وهم ثلاثة؛ عبد اللّه وعون ومحمّد، فمسح رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رؤوسهم، فقالت : إنّك تمسح رؤوسهم كأنّهم أيتام، فعجب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من عقلها، فقال: «يا أسماء ألم تعلمي أن جعفراً رضوان اللّه عليه استشهد» فبكت، فقال لها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «لا تبكي فإنّ اللّه أخبرني أنّ له جناحين في الجنّة من ياقوت أحمر» فقالت:

ص: 346


1- البحار: ج 21 ص 50.
2- المأتم : مجتمع الناس عموماً وقد غلب على مجتمعهم في حزن والجمع المآتم.

يارسول اللّه، لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر لا ينسى فضله، فعجب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من عقلها، ثمّ قال: «ابعثوا إلى أهل جعفر طعاماً فجرت السنّة»(1).

غزوة ذات السلاسل

قال الطبرسي : قيل: بعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سريّة إلى حيّ مِن كنانة، فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد النقباء فتأخّر فقال المنافقون: قتلوا جميعاً، رجوعهم، فأخبر اللّه تعالى عنه بقوله: «وَالْعَدِيتِ ضَبْحًا»(2) عن مقاتل، وقيل: نزلت السورة لمّا بعث النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عليّاً إلى ذات السلاسل فأوقع بهم، وذلك بعد أن بعث إليهم مراراً غيره من الصحابة، فرجع كلّ منهم إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وهو المروي عن أبي عبداللّه في حديث طويل قال : وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنّه أُسر منهم وقتل وسبي وشدّ أُساراهم في الحبال مكتّفين كأنّهم في السلاسل، ولمّا نزلت السورة خرج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى الناس فصلّى بها الغداة وقرأ فيها : «وَالْعَدِيتِ»، فلمّا فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه السورة لم نعرفها، فقال رسول اللّه: «نعم إنّ علياً قد ظفر بأعداء اللّه، وبشّرني بذلك جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) في هذه الليلة»، فقدم علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد أيّام بالأُسارى والغنائم. «وَالْعَدِيَتِ ضَبْحًا» قيل : هي الخيل في الغزو تعدو في سبيل اللّه، عن ابن عبّاس وأكثر المفسّرين قالوا: أقسم بالخيل العادية لغزو الكفّار وهي تضبح ضبحاً، وضبحها صوت أجوافها إذا عدت ليس بصهيل ولا حمحمة ولكنّه صوت نفس.

«فَالْمُورِبَتِ قَدْحًا» هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة والأرض المخصبة، «فَالْمُغِيرَاتِ صُبحاً» يريد الخيل تغير بفرسانها على العدوّ وقت الصبح، «فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا». يقال: ثار الغبار أو الدخان وأثرته أي هيجته والهاء في «به»

ص: 347


1- البحار : ج 21 ص 55.
2- العاديات: 1.

عائد إلى معلوم يعني بالمكان أو بالوادي «فَوَسَطنَ بِهِ جَمْعًا» (1) أي صرن بعدوهن أو بذلك المكان وسط جمع العدوّ (2).

وروي أنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لمّا بعث سريّة ذات السلاسل وعقد الراية وسار بها أبو بكر حتى إذا صار بها بقرب المشركين اتّصل خبرهم فتحرّزوا ولم يصل المسلمون إليهم، فأخذ الراية عمر وخرج مع السريّة فاتّصل بهم خبرهم فتحرّزوا ولم يصل المسلمون إليهم، فأخذ الراية عمرو بن العاص فخرج في السريّة فانهزموا، فأخذ الراية علي وضمّ إليه أبا بكر وعمر وعمرو بن العاص ومن كان معه في تلك السرية، وكان المشركون قد أقاموا رقباء على جبالهم ينظرون إلى كلّ عسكر يخرج إليهم من المدينة على الجادة فيأخذون حذرهم واستعدادهم، فلمّا خرج علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ترك الجادّة وأخذ بالسرية في الأودية بين الجبال، فلمّا رأى عمرو بن العاص وقد فعل علي ذلك علم أنّه سيظفر بهم بهم فحسده، فقال لأبي بكر وعمر ووجوه السرية:

إن عليّاً رجل غرّ (3) لا خيرة له بهذه المسالك ونحن أعرف بها منه، وهذا الطريق الّذي توجّه فيه كثير السباع، وسيلقى الناس من معرّتها أشدّ ما يحاذرونه من العدو، فسألوه أن يرجع عنه إلى الجادّة، فعرفوا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: قال: «من كان طائعاً للّه ولرسوله منكم فليتبعني، ومن أراد الخلاف على اللّه ورسوله فلينصرف عنّي»، فسكتوا وساروا معه، فكان يسير بهم بين الجبال في الليل ويكمن في الأدوية بالنهار، وصارت السّباع التي فيها كالسنانير إلى أن كبس المشركين وهم غارون آمنون وقت الصبح، فظفر بالرجال والذراري والأموال فحاز ذلك كله، وشدّ الرجال في الحبال

ص: 348


1- العاديات:2 -5.
2- البحار: ج 21 ص 66.
3- أي شاب لا خبرة له بالحرب أو بغير.

کالسلاسل، فلذلك سمّيت غزاة ذات السلاسل، فلمّا كانت الصبيحة التي أغار فيها أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) على العدوّ ومن المدينة إلى هناك خمس مراحل خرج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فصلى بالناس وقرأ «والعاديات» في الركعة الأُولى، وقال: «هذه سورة أنزلها اللّه عليّ في هذا الوقت يخبرني فيها بإغارة علي على العدو، وجعل حسده لعلي حسداً له» فقال : «إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ، لَكَنُودُ»، والكنود: الحسود، وهو عمرو بن العاص ههنا إذ هو كان يحبّ الخير وهو في الحياة حين أظهر الخوف من السباع، ثمّ هدّده اللّه (1).

فتح مكّة

«يَأَيُّهَا الّذين ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ»(2).

نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، ولفظ الآية عام ومعناه خاص، وكان سبب ذلك، أنّ حاطب بن أبي بلتعة كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة، وكان عياله بمكّة، وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) علم هل يريد أن يغزو مكّة.

فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك، فكتب إليهم حاطب أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يريد ذلك، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمّى صفيّة، فوضعته في قرونها، ومرّت، فنزل جبرئيل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأخبره بذلك، فبعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمير المؤمنين والزبير بن العوّام في طلبها، فلحقوها، فقال أمير المؤمنين: «أين الكتاب» ؟ فقالت : ما معي شيء، ففتّشوها فلم يجدوا معها شيئاً، فقال الزبير : ما نرى معها شيئاً ؟ فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «واللّه ما كذَّبنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ولا كذب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولا كذّب جبرئيل على اللّه جلّ ثناؤه، واللّه لتظهرنّ الكتاب أو لأردنّ رأسك إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )»، فقالت: تنحّيا

ص: 349


1- البحار : ج 21 ص 76.
2- الممتحنة: 1.

حتّى أُخرجه، فأخرجت الكتاب من قرونها، فأخذه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجاء به إلى رسول اللّه، فقال رسول اللّه : «يا حاطب ما هذا» ؟ فقال حاطب : واللّه يارسول اللّه ما نافقت ولا غيّرت ولا بدّلت، وإنّي أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول اللّه حقاً، ولكنّ أهلي وعيالي كتبوا إلي بحسن صنيع قريش إليهم، فأحببت أن أُجازي قريشاً بحسن معاشرتهم، فأنزل اللّه جلّ ثناؤه على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يَا أَيُّهَا الّذين ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلقُونَ إليهم بِالْمَوَدَّةِ» إلى قوله : «لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَولدكم يَومَ القِيَامَةِ يَفصِلُ بَينَكُم وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرُ»(1).

وروي أيضاً أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خرج قاصداً مكّة في عشرة آلاف من المسلمين، فلم يشعر أهل مكّة حتّى نزل تحت العقبة، وكان أبو سفيان وعكرمة بن أبي جهل خرجا إلى العقبة يتجسّسان خبراً، ونظرا إلى النيران فاستعظما، فلمّا يعلما لمن النيران، وكان العبّاس قد خرج من مكّة مستقبلا إلى المدينة فردّه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، معه، والصحيح أنّه منذ يوم بدر كان بالمدينة، فلمّا نزل تحت العقبة ركب العبّاس بغلة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وصار إلى العقبة طمعاً أن يجد من أهل مكّة من ينذرهم إذ سمع كلام أبي سفيان يقول لعكرمة: ما هذه النيران؟ فقال العبّاس: يا أبا سفيان نعم هذا رسول اللّه قال أبو سفيان: ما ترى أن أصنع ؟ قال : تركب خلفي فأصير بك إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فآخذ لك الأمان، قال: وتراه يؤمنني؟ قال: نعم فإنّه إذا سألته شيئاً لم يردّني.

فركب أبو سفيان خلفه وانصرف عكرمة إلى مكّة، فصار إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال العبّاس: هذا أبو سفيان صار معي إليك فتؤمنه بسببي، إليك فتؤمنه بسببي، فقال: «أسلم تسلم يا أبا سفيان»، فقال: يا أبا القاسم ما أكرمك وأحلمك؟ قال: «أسلم تسلم»، قال: ما أكرمك وأحلمك ؟ قال: «أسلم تسلم»، فوكزه العبّاس وقال : ويلك إن قالها الرابعة ولم تسلم

ص: 350


1- البحار : ج 21 ص 112.

قتلك، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : خذه ياعمّ إلى خيمتك، وكانت قريبة.

فلمّا جلس في الخيمة ندم على مجيئه مع العبّاس وقال في نفسه: من فعل بنفسه مثل ما فعلت أنا ؟ جئت فأعطيت بيدي، ولو كنت انصرفت إلى مكّة فجمعت الأحابيش وغيرهم فلعلّي كنت أهزمه، فناداه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من خيمته فقال: «إذاً كان اللّه يخزيك» فجاءه العبّاس فقال : يريد أبو سفيان أن يجيئك يارسول اللّه، قال: «هاته»، فلمّا دخل قال : «ألم يأن أن تسلم» ؟ فقال له العبّاس : قل وإلا فيقتلك، قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول اللّه، فضحك (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال: «ردّه إلى عندك»، فقال العبّاس: إنّ أبا سفيان يحبّ الشرف فشرّفه، فقال: «من دخل داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن».

فلما صلّى بالناس الغداة فقال للعبّاس: «خذه إلى رأس العقبة فأقعده هناك ليراه الناس جنود اللّه ويراها» فقال أبو سفيان ما أعظم ملك ابن أخيك ؟ قال العبّاس: يا أبا سفيان هي نبوّة، قال: نعم، ثمّ قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «تقدّم إلى مكّة فأعلمهم بالأمان»، فلمّا دخلها قالت هند: اقتلوا هذا الشيخ الضالّ، فدخل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مكّة، وكان وقت الظهر، فأمر بلالا فصعد على ظهر الكعبة فأذّن، فما بقي صنم بمكّة إلّا سقط على وجهه، فلمّا سمع وجوه قريش الأذان قال بعضهم في نفسه: الدخول في بطن الأرض أهون من سماع هذا، وقال آخر : الحمد للّه الّذي لم يعش والدي إلى هذا اليوم.

فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : « يا فلان قد قلت في نفسك كذا ويافلان قلت في نفسك كذا» فقال أبو سفيان: أنت تعلم أني لم أقل شيئاً، قال: «اللّهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون» (1).

غزوة حنين

«وَيَومَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ

ص: 351


1- البحار: ج 21 ص 118.

عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُدبِرِينَ»(1).

كان سبب غزات حنين، أنّه لمّا خرج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى فتح مكّة أظهر أنّه يريد هوازن، وبلغ الخبر هوازن، فتهيّؤا وجمعوا الجموع،والسلاح، واجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النضري فرأسوه عليهم، وخرجوا وساقوا معهم أموالهم ونساءهم وذراريهم ومرّوا حتّى نزلوا بأوطاس، وكان دريد بن الصمة الجشمي في القوم، وكان رئيس جشم، وكان شيخاً كبيراً قد ذهب بصره فلمس الأرض بيده فقال: في أيّ واد أنتم؟ قالوا: بوادي أوطاس، قال : نعم مجال خيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير ونهيق الحمار وخوار البقر وثغاء الشاة وبكاء الصبي، فقالوا: إن مالك بن عوف ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وذراريهم ليقاتل كلّ امرئ عن نفسه وماله وأهله، فقال دريد راعي ضأن وربّ الكعبة ما له وللحرب؟ ثمّ قال: ادعوا لي مالكاً فلمّا جاءه قال له: يامالك ما فعلت؟ قال: سقت مع الناس أموالهم ونساءهم ليجعل كل رجل أهله وماله وراء ظهره فيكون أشدّ لحربه.

فقال : يامالك إنّك أصبحت رئيس قوم، وانّك تقاتل رجلا كريماً، وهذا اليوم لما بعده، ولم تصنع في تقدمه بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ويحك وهل يلوي المنهزم على شيء؟ أردد بيضة هوازن إلى عليا بلادهم وممتنع محالّهم، وألق الرجال على متون الخيل فإنه لا ينفعك إلا رجل بسيفه وفرسه، فإن كان لك لَحق بك من ورائك، وإن كانت عليك لا تكون قد فضحت في أهلك وعيالك فقال له مالك: إنّك قد كبرت وذهب علمك وعقلك، فلم يقبل من دريد.

وبلغ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اجتماع هوازن بأوطاس، فجمع القبائل ورغّبهم في الجهاد ووعدهم النصر وأنّ اللّه قد وعده أن يغنمه أموالهم ونساءهم وذراريهم فرغب الناس

ص: 352


1- التوبة : 25.

وخرجوا على راياتهم، وعقد اللواء الأكبر ودفعه إلى أمير المؤمنين وكلّ من دخل مكّة براية أمره أن يحملها وخرج في إثني عشر ألف رجل، عشرة آلاف ممّن كانوا معه.

فمضوا حتّى كان من القوم على مسيرة بعض ليلة، قال: وقال مالك بن عوف لقومه : ليصيّر كلّ رجل منكم أهله وماله خلف ظهره واكسروا جفون سيوفكم وامكثوا شعاب هذا الوادي وفي الشجر فإذا كان في غلس (1) الفجر فاحملوا حملة رجل واحد وهدّوا القوم فإنّ محمّداً لم يلق أحداً يحسن الحرب، قال: فلمّا صلّى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الغداة انحدر في وادي حنين وهو واد له انحدار بعيد وكانت بنو سليم على مقدّمته فخرج عليه كتائب هوازن من كلّ ناحية فانهزمت بنو سليم وإنهزم من وراءهم ولم يبق أحد إلاّ انهزم، وبقي أمير المؤمنين يقاتلهم في نفر قليل ومرّ المنهزمون برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا يلوون على شيء، وكان العبّاس آخذاً بلجام بغلة رسول اللّه عن يمينه وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطّلب عن يساره فأقبل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ينادي: «يا معشر الأنصار أين؟ إليَّ أنا رسول اللّه». فلم يلو أحد عليه، وكانت نسيبة بنت كعب المازنية تحثو في وجوه المنهزمين التراب وتقول : إلى أين تفرّون ؟ عن اللّه وعن رسوله، ومرّ بها عمر فقالت له : ويلك ما هذا الّذي صنعت؟ فقال لها هذا أمر اللّه، فلمّا رأى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الهزيمة ركض نحو علي ببغلته فرآه قد شهر سيفه فقال : «يا عبّاس اصعد هذا الظرب وناد: يا أصحاب البقرة ويا أصحاب الشجرة إلى أين تفرّون ؟ هذا رسول اللّه»، ثم رفع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يده فقال: «اللّهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان» فنزل عليه جبرئيل فقال: «يارسول اللّه دعوت بما دعا به موسى حيث فلق له البحر ونجّاه من فرعون»، ثم قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الأبي سفيان بن الحارث : «ناولني كفّاً من حصى»، فناوله فرماه في وجوه المشركين، ثمّ قال: «شاهت الوجوه» ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللّهم إن تهلك هذه العصابة لم

ص: 353


1- غلس الفجر» الظلمة.

تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد» فلمّا سمعت الأنصار نداء العبّاس عطفوا وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون لبّيك، ومروا برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) واستحيوا أن يرجعوا إليه، ولحقوا بالراية، فقال رسول اللّه للعبّاس: «من هؤلاء يا أبا الفضل»؟ فقال: يارسول اللّه هؤلاء الأنصار، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «الآن حمى الوطيس» أي التنور، والمراد اشتدّت الحرب، ونزل النصر من السماء وانهزمت،هوازن وكانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجوّ، وتفرّقوا في كلّ وجه، وغنم اللّه رسوله أموالهم ونساءهم وذراريهم، وهو قول اللّه تعالى : «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْن»(1) عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «قال رجل من بني نضر بن معاوية يقال له شجرة بن ربيعة للمؤمنين وهو أسير في أيديهم: أين الخيل البلق والرجال عليهم الثياب البيض؟ فإنّما كان قتلنا بأيديهم، وما كنّا نراكم فيهم إلّا كهيئة الشامة، قالوا: تلك الملائكة»(2).

غزوة الطائف وأوطاس

لمّا فضّ اللّه تعالى جمع المشركين بحنين تفرّقوا فرقتين، فأخذت الأعراب ومن تبعهم إلى أوطاس، وأخذت ثقيف ومن تبعها إلى الطائف، فبعث النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أبا عامر الأشعريّ إلى أوطاس في جماعة منهم أبو موسى الأشعري، وبعث أبا سفيان صخراً إلى الطائف، فأمّا أبو عامر فإنّه تقدّم بالراية وقاتل حتّى قتل دونها، فقال المسلمون لأبي موسى: أنت ابن عمّ الأمير وقد قتل فخذ الراية حتّى نقاتل،دونها، فأخذها أبو موسى فقاتل والمسلمون حتّى فتح اللّه عليهم، وأما أبو سفيان فإنّه لقيته ثقيف فضربوه على وجهه فانهزم ورجع إلى النبي، فقال: بعثتني مع قوم لا يرفع بهم الدلاء من هذيل والأعراب فما أغنوا عنّي شيئاً، فسكت النبي عنه.

ص: 354


1- التوبة : 25.
2- البحار: ج 21 ص 147.

ثم سار بنفسه إلى الطائف فحاصرهم أياماً، وأنفذ أمير المؤمنين في خيل، وأمره أن يطأ ما وجد ويكسر كلّ صنم وجده، فخرج حتّى لقيته خيل خثعم في جمع كثير، فبرز لهم رجل من القوم يقال له شهاب من الصبح فقال: هل من مبارز ؟ فقال أمير المؤمنين : «من له» ؟ فلم يقم إليه أحد، فقام إليه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فوثب أبو العاص بن الربيع زوج بنت النبي فقال: تكفّاه أيها الأمير، فقال: «لا، ولكن إن قتلت فأنت على الناس»، فبرز إليه أمير المؤمنين وهو يقول:

إنّ على كلّ رئيس حقّا***أن يروي الصعدة أو يدقّا

ثمّ ضربه وقتله، ومضى في تلك الخيل حتّى كسر الأصنام، وعاد إلى رسول اللّه وهو محاصر أهل الطائف، فلمّا رآه النبي كبّر للفتح، وأخذ بيده فخلا به وناجاه طويلا، فروى عبدالرحمن بن سيّابة عن جابر بن عبداللّه الأنصاري أنّ رسول اللّه لما خلى بعلي يوم الطائف أتاه عمر بن الخطّاب فقال : أتناجيه دوننا؟ وتخلو به دوننا؟ فقال: «ياعمر ما أنا انتجيته بل اللّه انتجاه، قال : فأعرض عمر، وهو يقول: هذا كما قلت لنا يوم الحديبيّة : لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء اللّه آمنين فلم ندخله وصددنا عنه، فناداه النبي: «لم أقل لكم أنكم تدخلونه في ذلك العام»، ثمّ خرج من حصن الطائف نافع بن غيلان بن معتب في خيل من ثقيف فلقيه أمير المؤمنين ببطن وجّ فقتله، وانهزم المشركون ولحق القوم من الرعب، فنزل منهم جماعة إلى النبي فأسلموا، وكان حصار النبي للطائف تسعة عشر يوماً (1).

غزوة تبوك

ثمّ كانت غزاة تبوك، فأوحى اللّه عزّ اسمه إلى نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أن يسير إليها بنفسه ويستنفر الناس للخروج معه، وأعلمه أنه لا يحتاج فيها إلى حرب، ولا يمنى بقتال عدوّ، وإنّ

ص: 355


1- البحار : ج 21 ص 162.

الأُمور تنقاد له بغير سيف، وتعيده بامتحان أصحابه بالخروج معه واختبارهم ليتميّزوا بذلك وتظهر به سرائرهم، فاستنفرهم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى بلاد الروم، وقد أينعت ثمارهم، واشتدّ القيظ عليهم فأبطأ أكثرهم عن طاعته رغبةً في العاجل وحرصاً على المعيشة وإصلاحها، وخوفاً من شدّة القيظ وبعد الشقة ولقاء العدوّ، ثمّ نهض بعضهم على استثقال للنهوض وتخلّف آخرون، ولمّا أراد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الخروج استخلف أمير المؤمنين في أهله وولده وأزواجه ومهاجره.

وقال له: «ياعلي إنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك»، وذلك أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) علم من خبث نيّات الأعراب وكثير من أهل مكّة ومن حولها ممن غزاهم وسفك دماءهم فأشفق أن يطلبوا المدينة عند نأيه عنها (1) وحصوله ببلاد الروم أو نحوها، فمتى لم يكن فيها من يقوم مقامه لم يؤمن من معرّتهم (2) وإيقاع الفساد في دار هجرته والتخطّي إلى ما يشين أهله ومخلّفيه، و علم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه لا يقوم مقامه في إرهاب العدوّ وحراسة دار الهجرة وحياطة من فيها إلّا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فاستخلفه استخلافاً ظاهراً، ونصّ عليه بالإمامة من بعده نصّاً جليّاً، وذلك فيما تظاهرت به الرواة أنّ أهل النفاق لما علموا باستخلاف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) علياً على المدينة حسدوه لذلك، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، وعلموا أنّها تتحرّس به ولا يكون فيها للعدوّ،مطمع، فأرجفوا (3) به وقالوا: لم يستخلفه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إكراماً له وإجلالا ومودّة وإنّما خلّفه استثقالا له، فلمّا بلغ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ارجاف المنافقين به أراد تكذيبهم، فلحق بالنبي، فقال : «يارسول اللّه إنّ المنافقين يزعمون أنك خلّفتني استثقالا ومقتاً»، فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «ارجع يا أخي إلى مكانك، فإنّ المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي، أما ترضى أن تكون

ص: 356


1- أي بعده عنها.
2- المعرّة: المساءة والأذى.
3- أرجف: خاص في الأخبار السيئة قصد أن يهيج الناس.

منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»؟ فتضمن هذا القول من رسول اللّه نصّه عليه بالإمامة، وهذه فضيلة لم يشرك فيها أحد من الخلق أمير المؤمنين(1).

وفي كتاب دلائل النبوّة للشيخ أبي بكر أحمد البيهقي: أخبرنا أبو عبداللّه الحافظ وذكر الإسناد مرفوعاً إلى أبي الأسود عن عروة :قال لما رجع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قافلا من تبوك إلى المدينة حتّى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه، فتأمّروا (2) أن يطرحوه من عقبة في الطريق أرادوا أن يسلكوها معه فأُخبر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خبرهم، فقال: «من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم»، فأخذ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) العقبة، وأخذ الناس بطن الوادي إلّا النفر الّذين أرادوا المكر به، استعدوا وتلثّموا، وأمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر فمشيا معه مشياً، وأمر عمّار أن يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة بسوقها، فبينا هم يسيرون إذ سمعوا ركزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وأمر حذيفة أن يردّهم، فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم وضربهم ضرباً بالمحجن، وأبصر القوم وهم متلثّمون، فرعبهم حين أبصروا حذيفة، وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعوا حتّى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتّى أدرك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فلمّا أدركه قال: «اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت ياعمّار»، فأسرعوا فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط أو الركب أحداً» ؟ فقال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان، وكان ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثّمون، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «هل علمتم ما شأن الركب وما أرادوا» ؟ قالوا : لا يارسول اللّه، قال : «فإنّهم مكروا ليسيروا معي حتّى إذا أظلمت بي العقبة طرحوني منها»، قالوا: أفلا تأمر بهم يارسول اللّه إذا جاؤك الناس

ص: 357


1- البحار: ج 21 ص 207.
2- أي تشاوروا.

فتضرب أعناقهم؟ قال: «أكره أن يتحدّث الناس ويقولون: إنّ محمّداً قد وضع يده في أصحابه، فسمّاهم لهما»، ثمّ قال: «اكتماهم» (1).

وكان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في غزوة تبوك قد ظهر منه معجزات شتّى:

فمنها : أنّه لما وصل إلى وادي القرى وقد أمسى بالحجر قال: «انّها ستهبّ الليلة شديدة فلا يقومنّ منكم أحد إلّا مع صاحبه، ومن كان له بعير فليوثقه بعقاله»، فهاجت ريح شديدة أفزعت الناس، فلم يقم أحد إلّا مع صاحبه، إلّا رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وآخر لطلب بعير له، فأما الخارج لحاجته فقد خنق في مذهبه، وأمّا الّذي خرج في طلب البعير فاحتملته الريح فطرحته في جبل طيئ، ثم دعا للذي أُصيب في مذهبه فعاد إليه، وأما الّذي وقع بجبل طيّئ فإن طيئاً أهدته للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حين قدم المدينة.

ومنها : أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «إنّكم ستأتون غداً إن شاء اللّه عين تبوك، وإنكم لن تأتوها إلاّ حين يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمسّ من مائها شيئاً حتّى آتي»، قال معاذ: فجئناها وقد سبق إليها رجلان من المنافقين، والعين مثل الشراك تبضّ بشيء يسير من الماء، فسألهما هل مسستها من ماءها شيئاً؟ فقالا : نعم، فقال لهما ما شاء أن يقول، ثمّ أمر فغرفوا من العين قليلا قليلا حتّى اجتمع شيء، ثمّ غسل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيه فجاءت العين بماء كثير، فاستقى الناس وكفاهم (2).

غزوة عمرو بن معدي كرب

لمّا عاد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معدي كرب، فقال له

ص: 358


1- البحار : ج 21 ص 247.
2- البحار : ج 21 ص 249.

النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أسلم يا عمرو يؤمنك اللّه من الفزع الأكبر»، قال : يا محمّد وما الفزع الأكبر ؟

فإنّي لا أفزع فقال: «يا عمرو إنّه ليس كما تظنّ وتحسب إنّ الناس يصاح بهم صيحة واحدة فلا يبقى ميت إلّا نشر، ولا حيّ إلّا مات إلّا ما شاء اللّه، ثمّ يصاح بهم صيحة أُخرى فينشر من مات، ويصفّون جميعاً، وتنشقّ السماء، وتهدّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّاً، وترمي النار بمثل الجبال شرراً، فلا يبقى ذو روح إلّا انخلع قلبه، وذكر ذنبه وشغل بنفسه إلّا من شاء اللّه، فأين أنت ياعمرو من هذا»، قال: ألا إنّي أسمع أمراً عظيماً. فآمن باللّه ورسوله، وآمن من معه من قومه ناس ورجعوا إلى قومهم، ثمّ إنّ عمرو بن معدي كرب نظر إلى أُبي بن عثعث الخثعمي فأخذ برقبته، ثمّ جاء به إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : أعدني على هذا الفاجر الّذي قتل والدي، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أهدر (1) الإسلام ما كان في الجاهلية»، فانصرف عمرو مرتدّاً، فأغار على قوم من بني الحارث بن كعب ومضى إلى قومه، فاستدعى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأمرّه على المهاجرين وأنفذه إلى بني زبيد، وأرسل خالد بن الوليد في الأعراب، وأمره أن يعمد الجعفي فإذا التقيا فأمير الناس أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فسار أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) واستعمل على مقدّمته خالد بن سعيد بن العاص، واستعمل خالد على مقدّمته أبا موسى الأشعري، فأما جعفيّ فإنّها لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين؛ فذهبت فرقة إلى اليمن، وانضمّت الفرقة الأُخرى إلى بني زبيد، فبلغ ذلك أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فكتب إلى خالد بن الوليد : «أن قف حيث أدركك رسولي»، فلم يقف، فكتب إلى خالد بن سعيد بن العاص : «تعرّض له حتّى تحبسه» فاعترض له خالد حتّى حبسه، وأدركه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فعنّفه على خلافه، ثم سار حتّى لقى بني زبيد بواد يقال له : كثر، فلمّا رآه بنو زبيد قالوا لعمرو : كيف أنت يا أبا ثور إذا لقيك هذا

ص: 359


1- أبطله وأباحه.

الغلام القرشي فأخذ منك الأتاوه ؟ فقال : سيعلم إن لقيني، قال: وخرج عمرو فقال: من يبارز؟ فنهض إليه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقام إليه خالد بن سعيد وقال له: دعني يا أبا الحسن بأبي أنت وأمي أبارزه

فقال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إن كنت ترى أنّ لي عليك طاعة فقف مكانك»، فوقف، ثم برز إليه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فصاح به صيحة فانهزم،عمرو، وقتل أخوه وابن أخيه وأخذت امرأته ركانة بنت سلامة، وسبي منهم نسوان وانصرف أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وخلف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم، ويؤمن من عاد إليه من هرابهم مسلماً، فرجع عمرو بن معدي كرب واستأذن على خالد بن سعيد فأذن له فعاد إلى الإسلام(1).

وقوله تعالى: «لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ»(2).

نزل في ثابت بن قيس بن شماس، وكان في أُذنه وقر، وكان إذا دخل المسجد تفسّحوا له حتّى يقعد عند النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فيسمع ما يقول، فدخل المسجد يوماً والناس قد فرغوا من الصلاة وأخذوا مكانهم، فجعل يتخطّأ رقاب الناس يقول: تفسّحوا تفسّحوا حتّى انتهى إلى رجل فقال له أصبت مجلساً فاجلس فجلس خلفه مغضباً، فلمّا انجلت الظلمة قال : من هذا؟ قال الرجل: أنا فلان فقال ثابت ابن فلانة، ذكر أُمّاً له كان يعيّر بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه حياءً، فنزلت الآية عن ابن عبّاس.

وقوله: «وَلَا يَغْتَب بَعْضُكُم بَعْضًا»(3) نزلت في رجلين من أصحاب رسول اللّه اغتابا رفيقهما وهو سلمان، بعثاه إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليأتي لهما بطعام، فبعثه إلى أُسامة بن

ص: 360


1- البحار: ج 21 ص 356.
2- الحجرات: 11.
3- الحجرات: 12.

زيد، وكان خازن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على رحله فقال: ما عندي شيء، فعاد إليهما فقالا: بخل أُسامة، وقالا لسلمان لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، ثم انطلقا يتجسّسان هل عند أُسامة ما أمر لهما به رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لهما: «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما» ؟ قالا : يارسول اللّه ما تناولنا يومنا هذا لحماً، قال: «ظللتم تأكلون لحم سلمان وأُسامة» فنزلت الآية(1).

ص: 361


1- البحار: ج 22 ص 54.

ص: 362

باب في أحوال الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفضائله

ولادة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن سعيد بن جبير قال: قال يزيد بن قعنب كنت جالساً مع العبّاس بن عبدالمطّلب وفريق من عبدالعزّى بإزاء بيت اللّه الحرام إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أُمّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكانت حاملة به لتسعة أشهر، وقد أخذها،الطلق فقالت ربّ إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل، وإنّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الّذي بنى هذا البيت، وبحقّ المولود الّذي في بطني لمّا يسّرت عليّ ولادتي.

قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا، والتزق الحائط، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر اللّه (عزّوجلّ)، ثم خرجت بعد الرابع وبيدها أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثم قالت : إنّي فضّلت على من تقدّمني من النساء، لأن آسية بنت مزاحم عبدت اللّه (عزوجلّ) سراً في موضع لا يحبّ أن يعبد اللّه فيه إلا اضطراراً، وإن مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتّى أكلت منها رطباً جنيّاً، وإني دخلت بيت اللّه الحرام فأكلت من ثمار الجنّة وأرزاقها، فلمّا أردت أن أخرج هتف بي هاتف : يا فاطمة سمّيه عليّاً، فهو علي، واللّه العلي الأعلى يقول: إنّي شققت إسمه من إسمي وأدّبته بأدبي، ووقفته على غامض علمي، وهو الّذي يكسر الأصنام في بيتي، وهو الّذي يؤذن فوق ظهر بيتي، ويقدّسني ويمجدّني، فطوبى لمن أحبّه وأطاعه وويل لمن أبغضه وعصاه (1).

ص: 363


1- البحار : ج 35 ص 8.

جواب الجاهل

كان إبراهيم بن المهديّ شديد الانحراف عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فحدّث المأمون يوماً قال: رأيت عليّاً في النوم فمشيت معه حتّى جئنا قنطرة، فذهب يتقدّمني لعبورها فأمسكته وقلت له: إنّما أنت رجل تدعي هذا الأمر بامرأة، ونحن أحق به منك، فما رأيته بليغاً في الجواب ! قال: وأيّ شيء قال لك؟ قال: ما زادني على أن قال: «سلاماً سلاما»، فقال المأمون قد واللّه أجابك أبلغ جواب قال: كيف؟ قال: عرّفك أنك جاهل لا تجاب، قال اللّه عزّ وجلّ : «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا»(1).

وعن أبي منصور الثعالبيّ في كتاب الاقتباس من كلام ربّ النّاس أنه رأى المتوكّل في منامه عليّاً بين نار موقدة، ففرح بذلك لنصبه، فاستفتى معبّراً، فقال المعبّر : ينبغي أن يكون هذا الّذي رآه أمير المؤمنين نبياً أو وصيّاً، قال: من أين قلت هذا؟ قال: من قوله تعالى: «أَنْ بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا»(2)(3).

رمّانة الجنّة

بالإسناد يرفعه إلى صعصعة بن صوحان قال: أمطرت المدينة مطراً، ثمّ صحت فخرج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى صحرائها ومعه أبو بكر، فلمّا خرجا فإذا بعلي مقبل، فلمّا رآه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «مرحباً بالحبيب القريب، ثم قرأ هذه الآية: «وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ»(4) أنت يا عليّ منهم»، ثمّ رفع رأسه إلى السّماء وأومأ بيده إلى الهواء، وإذا برمّانة تهوي عليه من السماء، أشدّ بياضاً من الثّلج، وأحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك، فأخذها

ص: 364


1- الفرقان: 63.
2- النمل: 8.
3- البحار : ج 39 ص 86.
4- الحج: 24.

رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فمصها حتّى روي، ثم ناولها عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) فمصّها، ثم التفت إلى أبي بكر وقال: «يا أبا بكر لولا أنّ طعام الجنّة لا يأكله إلا نبي أو وصيّ نبي كنا أطعمناك منها»(1).

أصحاب الكهف

روي عن شريك بن عبد اللّه، وهو يومئذ قاض، أنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعث عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأبا بكر وعمر إلى أصحاب الكهف فقال: «ائتوهم فأبلغوهم منّي السّلام»، فلمّا خرجوا من عنده قال أبو بكر لعليّ : أتدري أين هم؟ فقال: «ما كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعثنا إلى مكان إلّا هدانا اللّه له»، فلمّا أوقفهم على باب الكهف، قال: «يا أبا بكر سلّم فإنك أسنّنا»، فسلّم فلم يجب، ثمّ قال: «يا أبا حفص سلّم فإنّك أسنّ منّي»، فسلّم فلم يجب، قال: فسلّم علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فردّوا السّلام وحيّوه، وأبلغهم سلام رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فردّوا عليه، فقال أبو بكر: سلهم ما لهم سلّمنا عليهم فلم يجيبوا ؟ قال : «سلهم أنت» ؟ فسألهم فلم يكلّموه سألهم عمر فلم يكلّموه، فقالا : يا أبا الحسن سلهم أنت، فقال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ صاحبيّ هذان سألاني أن أسألكم لم رددتم عليّ ولم تردّوا عليهما»؟ قالوا: إنّا لا نكلّم إلّا نبياً أو وصيّ نبيّ(2).

الشيخ اليهودي وعدل علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

جاء في إرشاد القلوب: بالإسناد إلى أبي حمزة الثماليّ عن أبي إسحاق السبيعيّ قال : دخلت المسجد الأعظم بالكوفة، فإذا أنا بشيخ أبيض الرّأس واللّحية لا أعرفه، مستنداً إلى أُسطوانة وهو يبكي ودموعه تسيل على خدّيه، فقلت: يا شيخ ما يبكيك؟ فقال

ص: 365


1- البحار : ج 39 ص 127 عن كتاب الروضة والفضائل.
2- البحار: ج 39 ص 136 عن كتاب الخرائج.

لي: أتى عليّ نيّف ومائة سنة لم أر فيها عدلا وحقّاً ولا علماً ظاهراً إلّا ساعتين من ليل وساعتين من نهار، وأنا أبكي لذلك، فقلت: وما تلك الساعة واللّيلة واليوم الّذي رأيت فيه العدل ؟ قال : إنّي رجل من اليهود، وكان لي ضيعة بناحية سوراء، وكان لنا جار في الضيعة من أهل الكوفة يقال له الحارث الأعور الهمداني، وكان رجلا مصاب العين، وكان لي صديقاً وخليطاً، وإنّي دخلت الكوفة يوماً من الأيام ومعي طعام على أحمرة لي أريد بيعها بالكوفة، فبينما أنا أسوق الأحمرة وقد صرت في مسبخة الكوفة، وذلك بعد عشاء الآخرة، فافتقدت،حميري، فكأنّ الأرض ابتلعتها أو السّماء تناولتها، وكأنّ الجنّ اختطفتها، وطلبتها يميناً وشمالا فلم أجدها، فأتيت منزل الحارث الهمداني من ساعتي أشكو إليه ما أصابني، وأخبرته بالخبر، فقال: انطلق بنا إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى نخبره، فانطلقنا إليه فأخبره الخبر، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) للحارث: «انصرف إلى منزلك وخلّني واليهوديّ، فأنا ضامن لحميره وطعامه حتّى أردّها له» فمضى الحارث إلى منزله، وأخذ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بيدي حتّى أتينا الموضع الّذي افتقدت حميري وطعامي، فحوّل وجهه عنّي وحرّك شفتيه ولسانه بكلام لم أفهمه، ثمّ رفع رأسه فسمعته يقول: «واللّه ما على هذا بايعتموني يا معشر الجنّ وايم اللّه لئن لم تردّوا على اليهودي حميره وطعامه لأنقضنّ عهدكم، ولأُجاهدنّكم في اللّه حقّ جهاده»، قال: فواللّه ما فرغ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) من کلامه حتّى رأيت حميري وطعامي بين يدي، ثمّ قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «اختر يا يهودي إحدى الخصلتين؛ إمّا أن تسوق حميرك وأحثّها عليك أو أسوقها أنا وتحثّها عليّ أنت»، قال: قلت: بل أسوقها وأنا أقوى على حثّها، وتقدّم أنت يا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أمامها إلى الرحبة، فقال: «يا يهوديّ إنّ عليك بقيّة من اللّيل فاحفظ حميرك حتّى تصبح، وحطّ أنت عنها أو أحطّ أنا عنها وتحفظ أنت»، فقلت: يا أمير المؤمنين أنا قويّ على حطّها وأنت على حفظها حتّى يطلع الفجر، فقال أمير المؤمنين: «خلّني وإيَّاها ونم أنت حتّى

ص: 366

يطلع الفجر»، فلمّا طلع الفجر انتبهت فقال: «قم، قد طلع الفجر فاحفظ حميرك وليس عليك بأس، ولا تغفل عنها حتّى أعود إليك إن شاء اللّه تعالى».

ثم انطلق أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فصلّى بالناس الصبح، فلمّا طلعت الشمس أتاني وقال: «افتح برك على بركة اللّه تعالى وسعّر طعامك»، ففعلت، ثمّ قال : اختر منّي خصلة من خصلتين: إمّا أن أبيع أنا وتستوفي أنت الثّمن، أو تبيع أنت وأستوفي أنا لك الثمن، فقلت: بل أبيع أنا وتستوفي أنت الثّمن، فقال: «افعل»، فلمّا فرغت من بيعي سلّم إليّ الثّمن، وقال لي: «لك حاجة» ؟ فقلت : نعم، أُريد أدخل السوق في شراء حوائج، قال: «فانطلق حتّى أُعينك فإنّك ذمّي»، فلم يزل معي حتّى فرغت من حوائجي، ثمّ ودّعني، فقلت عند الفراغ : أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمّداً عبده ورسوله، وأشهد أنّك عالم هذه الأُمّة وخليفة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على الجنّ والإنس، فجزاك اللّه عن الإسلام خير الجزاء، ثمّ انطلقت إلى ضيعتي فأقمت بها شهوراً ونحو ذلك، فاشتقت إلى رؤيته فقدمت وسألت عنه فقيل : قد قتل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فاسترجعت وصلّيت عليه صلاة كثيرة وقلت عند فراقي: ذهب العلم، وكان أوّل عدل رأيته منه تلك اللّيلة وآخر عدل رأيته منه في ذلك اليوم، فمالي لا أبكي؟ وكان هذا من دلائله (1).

في حبّ علي وبُغض علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن أحمد قال: سمعت الشافعي يقول : سمعت مالك بن أنس يقول: قال أنس بن مالك: ما كنا نعرف الرجل لغير أبيه إلّا ببغض عليّ بن أبي طالب.

عن أنس في خبر طويل كان الرجل من بعد يوم خيبر يحمل ولده على عاتقه ثمّ يقف على طريق عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإذا نظر إليه أومأ بإصبعه : يا بني تحبّ هذا الرجل؟ فإن قال:

ص: 367


1- البحار : ج 39 ص 189.

نعم قبله، وإن قال: لا، خرق به الأرض وقال له: إلحق بأُمّك.

وعن الهرويّ في الغريبين: قال عبادة بن الصامت: كنا نسبر أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالب فإذا رأينا أحدهم لا يحبّه علمنا أنّه لغير رشده.

وعن الطبريّ في الولاية بإسناد له عن الأصبغ بن نباتة، قال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لا يحبّني ثلاثة : ولد زنا و منافق ورجل حملت به أُمّه في بعض حيضها » (1).

وقيل : انّه كان لأبي دلف ولد فتحادث أصحابه في حبّ علي وبغضه، فروى بعضهم عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنه قال: «يا عليّ لا يحبّك إلّا مؤمن تقّي ولا يبغضك إلّا ولد زنية أو حيضة»، فقال ولد أبي دلف: ما تقولون في الأمير هل يؤتي في أهله؟ فقالوا: لا، فقال: واللّه إنّي لأشدّ الناس بغضاً لعليّ بن أبي طالب، فخرج أبوه وهم في التشاجر، فقال: واللّه إنّ هذا الخبر لحق، واللّه إنّه لولد زنية وحيضة معاً ! إنّي كنت مريضاً في دار أخي حمى ثلاث، فدخلت عليّ جارية لقضاء حاجة، فدعتني نفسي إليها! فأبت وقالت: إنّي حائض، فكابرتها على نفسها فوطئتها، فحملت بهذا الولد، فهو لزنية وحيضة معاً !

وحكى والدي (رَحمهُ اللّه) قال: اجتزت يوماً في بعض دروب بغداد مع أصحابي فأصابني عطش، فقلت لبعض أصحابي : اطلب ماء من بعض الدروب، فمضى يطلب الماء، ووقفت أنا وباقي أصحابي ننتظر الماء، وصبيّان يلعبان أحدهما يقول: الإمام هو عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، والآخر يقول : إنّه أبو بكر، فقلت: صدق النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يا عليّ ما يحبّك إلّا مؤمن ولا يبغضك إلّا ولد حيضة» فخرجت المرأة بالماء فقالت : باللّه عليك يا سيّدي أسمعني ما قلت فقلت : حديث رويته عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا حاجة إلى ذكره، فكرّرت السؤال فرويته لها، فقالت: واللّه يا سيدي إنّه لخبر صدق، إنّ هذين ولداي: الّذي يحبّ

ص: 368


1- البحار : ج 39 ص 263.

عليّاً ولد طهر، والّذي يبغضه حملته في الحيض، جاء والده إليّ فكابرني على نفسي حالة الحيض، فنال منّي، فحملت بهذا الّذي يبغض عليّاً (1).

السابّ علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن ابن عبّاس أنّه مرّ بمجلس من مجالس قريش وهم يسبون عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال لقائده : ما يقول هؤلاء ؟ قال : يسبّون عليّاً، قال: قربني إليهم، فلمّا أن وقف عليهم قال : أيكم السابّ اللّه؟ قالوا: سبحان اللّه ومن يسبّ اللّه فقد أشرك باللّه، قال: فأيكم السابّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟ قالوا: ومن يسبّ رسول اللّه فقد كفر، قال: فأيكم السابّ عليّ بن أبي طالب؟ قالوا: قد كان ذلك، قال: فأشهد باللّه وأشهد اللّه لقد سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول: «من سبّ عليّاً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ اللّه عزّ وجلّ» ثمّ مضى، فقال لقائده : فهل قالوا شيئاً حين قلت لهم ما قلت؟ قال: ما قالوا شيئاً، قال: كيف رأيت وجوههم؟ قال:

نظروا إليك بأعين محمرّة***نظر التيوس إلى شفار الجازر

قال: زدني فداك أبوك، قال:

خزر الحواجب ناكسو أذقانهم***نظر الذليل إلى العزيز القاهر

قال: زدني فداك أبوك، قال : ما عندي غير هذا، قال: لكن عندي:

أحياؤهم خزيٌ على أمواتهم***والميّتون فضيحة للغابر (2)

أربعة من أهل الجنّة

عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «الجنّة مشتاقة إلى أربعة من أُمّتي»،

ص: 369


1- البحار: ج 39 ص 287.
2- البحار : ج 39 ص 311.

فهبت أن أسأله من هم، فأتيت أبا بكر فقلت له: إنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: إن الجنّة تشتاق إلى أربعة من أُمّتي، فاسأله من هم؟ فقال: أخاف أن لا أكون منهم فيعيّرني به بنو تيم، فأتيت عمر فقلت له مثل ذلك، فقال : أخاف أن لا أكون منهم فيعيّرني به بنو عديّ، فأتيت عثمان فقلت له مثل ذلك، فقال : أخاف أن لا أكون منهم فيعيّرني به بنو أُميّة، فأتيت عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو في ناضح له فقلت له : إن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : إنّ الجنّة مشتاقة إلى أربعة من أُمّتي، فاسأله من هم؟ فقال: واللّه لأسألنه، فإن كنت منهم لأحمدنّ اللّه عزّ وجلّ، وإن لم أكن منهم لأسألنّ اللّه أن يجعلني منهم وأودّهم، فجاء وجئت معه إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فدخلنا على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ورأسه في حجر دحية الكلبيّ، فلمّا رآه دحية قام إليه وسلّم عليه وقال: خذ برأس ابن عمّك يا أمير المؤمنين فأنت أحق به [منّي]، فاستيقظ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ورأسه في حجر علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال له : «يا أبا الحسن ما جئتنا إلا في حاجة»، قال: «بأبي وأُمّي يا رسول اللّه دخلت ورأسك في حجر دحية الكلبيّ، فقام إلي وسلّم عليّ وقال: خذ برأس ابن عمّك إليك فأنت أحقّ به منّي يا أمير المؤمنين». فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «فهل عرفته»؟ فقال: «هو دحية الكلبيّ»، فقال له: «ذاك جبرئيل»، فقال له: «بأبي وأُمّي يا رسول اللّه أعلمني أنس أنّك قلت: إنّ الجنّة مشتاقة إلى أربعة من أُمّتي فمن هم» ؟ فأوماً إليه بيده فقال: «أنت واللّه أوّلهم، أنت واللّه أوّلهم، أنت واللّه أوّلهم، ثلاثاً»، فقال له: «بأبي واُمّي فمن الثلاثة» ؟ فقال له : «المقداد وسلمان وأبوذر » (1).

سعد بن أبي وقاص والرجلين

عن عبد اللّه بن شريك، عن الحارث بن ثعلبة قال: قدم رجلان يريدان مكّة والمدينة في الهلال أو قبل الهلال، فوجد الناس ناهضين إلى الحجّ، قال : فخرجنا معهم فإذا نحن بركب فيهم رجل كأنّه أميرهم، فانتبذ منهم فقال : كونا عراقيّين؟ قلنا نحن عراقیّان

ص: 370


1- البحار : ج 40 ص 11.

قال: كونوا كوفيّين؟ قلنا: نحن كوفيون، قال ممّن أنتما ؟ قلنا: من بني كنانة، قال: من أيّ بني كنانة ؟ قلنا: من بني مالك بن كنانة، قال: رحبٌ على رحب وقربٌ على قرب، أنشدكما بكلّ كتاب منزل ونبيّ مرسل أسمعتها علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) يسبّني أو يقول: إنّه معاديّ أو مقاتلى؟ قلنا : من أنت؟ قال: أنا سعد بن أبي وقّاص، قلنا: ولكن سمعناه يقول: «اتّقوا فتنة الخنيس كثير»، ولكن سمعتماه يضييء باسمي؟ قال: لا، قال: اللّه أكبر اللّه أكبر، قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين إن أنا قاتلته بعد أربع سمعتهنّ من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إلي من الدّنيا وما فيها أُعمّر فيها عمر نوح، قلنا: سمّهنّ، قال ما ذكرتهنّ إلا وأنا أريد أن أسمّيهنَّ، بعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) براءة لينبذ إلى المشركين، فلمّا سار ليلة أو بعض ليلة بعث علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) نحوه فقال: «اقبض براءة منه واردده إليّ»، فمضى إليه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقبض براءة منه وردّه إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فلمّا مثل بين يديه بكى وقال: «يا رسول اللّه أحدث فيّ شيء أم نزل في قرآن»؟ فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «لم ينزل فيك،قرآن، لكن جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) جاءني عن اللّه عزّ وجلّ فقال: لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك، وعليّ منّي وأنا من عليّ، ولا يؤدّي عنّي إلّا عليّ».

قلنا له: وما الثانية؟ قال: كنّا في مسجد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وآل عليّ وآل أبي بكر وآل عمر وأعمامه قال فنودي فينا :ليلا اخرجوا من المسجد إلّا آل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وآل علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال فخرجنا نجرٌ،قلاعنا، فلمّا أصبحنا أتاه عمه حمزة فقال: يا رسول اللّه أخرجتنا وأسكنت هذا الغلام، ونحن عمومتك ومشيخة أهلك، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ما أنا أخرجتكم ولا أنا أسكنته ولكنّ اللّه عزّ وجلّ أمرني بذلك»، قلنا له: فما الثالثة؟ قال: بعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) برايته إلى خيبر مع أبي بكر فردّها، فبعث بها مع عمر فردّها، فغضب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال: «لأُعطينّ الراية غداً رجلا يحبّه اللّه ورسوله، ويحبّ اللّه ورسوله، كرّاراً غير فرّار، لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يديه»، قال: فلمّا أصبحت جثونا

ص: 371

على الركب، فلم نره يدعو أحداً منا، ثمّ نادى: «أين عليّ بن أبي طالب»؟ فجيء به وهو،أرمد فتفل في عينه وأعطاه الراية، ففتح اللّه على يده.

قلنا له: فما الرابعة؟ قال : إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خرج غازياً إلى تبوك واستخلف عليّاً على الناس، فحسدته قريش وقالوا: إنّما خلّفه لكراهية صحبته، قال: فانطلق في أثره حتّى لحقه، فأخذ بغرز ناقته ثمّ قال: «إنّي لتابعك»، قال: ما شأنك؟ فبكى وقال: «إنّ قريشاً تزعم أنّك إنّما خلّفتني لبغضك لي وكراهيتك صحبتي»، قال: فأمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مناديه فنادى في الناس، ثمّ قال: «أيها الناس أفيكم أحدٌ إلّا وله من أهله خاصّة؟ قالوا: أجل، قال: «فإنّ عليّ بن أبي طالب خاصة أهلي وحبيبي إلى قلبي»، ثم أقبل على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي» ؟ فقال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «رضيت عن اللّه ورسوله».

ثمّ قال سعد: هذه أربعة وإن شئتها حدّثتكما بخامسة، قلنا : قد شئنا ذلك، قال: كنّا مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في حجّة الوداع، فلمّا عاد نزل غدير خمّ وأمر مناديه فنادى في النّاس: «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» (1).

إغاثة الملهوف

عن علي بن أسباط، عن ابن دأب (2)، قال : ذكر الكوفيّون أنّ سعيد بن قيس الهمداني رآه يوماً في فناء حائط، فقال يا أمير المؤمنين بهذه الساعة؟ قال: «ما خرجت إلا لأعين مظلوماً أو أُغيث ملهوفاً»، فبينا هو كذلك إذ أتته امرأة قد خلع قلبها لا تدري أين تأخذ من الدنيا، حتّى وقفت عليه فقالت: يا أمير المؤمنين ظلمني زوجي وتعدّى عليّ وحلف

ص: 372


1- البحار: ج 40 ص 39.
2- ابن دأب: كان من أهل الحجاز معاصراً لموسى الهادي العبّاسي ومن المقرّبين إليه.

ليضربني، فاذهب معي إليه، فطأطأ رأسه ثمّ رفعه وهو يقول: «حتّى يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع وأين منزلك» ؟ قالت : في موضع كذا وكذا، فانطلق معها حتّى انتهت إلى منزلها، فقالت: هذا منزلي

قال: فسلّم، فخرج شاب عليه إزار ملوّنة، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «اتّق اللّه فقد أخفت زوجتك» فقال : وما أنت وذاك واللّه لأُحرّقنّها بالنّار لكلامك، قال: وكان إذا ذهب إلى مكان أخذ الدرّة بيده والسيف معلّق تحت يده فمن حلّ عليه حكم بالدرّة ضربه، ومن حل عليه حكم بالسيف عاجله، فلم يعلم الشاب إلّا وقد أصلت السيف وقال له: «آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر وتردّ المعروف؟ تب وإلّا قتلتك»، قال: وأقبل الناس من السكك يسألون عن أمير المؤمنين حتّى وقفوا عليه قال فأسقط في يده الشاّب وقال: يا أمير المؤمنين أُعف عنّي عفا اللّه عنك واللّه لأكوننّ أرضاً تطأني، فأمرها بالدخول إلى منزلها وانكفأ وهو يقول: «لا خير في كثير من نجواهم إلّا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين النّاس» الحمد للّه الّذي أصلح بي بين مرأة وزوجها، يقول اللّه تبارك وتعالى: «لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَنَهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَجِ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»(1)(2).

تفسير الأذان

فسّر الامام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) كلمات الأذان تفسيراً عقائدياً رائعاً وعميقاً، ونحن هنا نختصر قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) في تفسيره للأذان، نسأل اللّه (عزّوجلّ) أن نعتبر ونكون أهلا لذلك.

روي عن عيّاش بن يزيد بن الحسن عن أبيه، عن موسى بن جعفر عن آبائه عن الامام الحسين بن علي (عَلَيهِم السَّلَامُ) إنه قال:

ص: 373


1- النساء: 114.
2- البحار: ج 40 ص 113.

«كنا جلوساً في المسجد، إذ صعد المؤذّن المنارة، فقال: «اللّه أكبر اللّه أكبر» فبكى أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبكينا ببكائه.

فلما فرغ المؤذِّن قال: أتدرون ما يقول المؤذّن ؟ قلنا : اللّه ووصيه أعلم، فقال: لو تعلمون ما يقول لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً، فلقوله : اللّه أكبر معان كثيرة منها :

أنّ قول المؤذِّن: «اللّه أكبر» يقع على قدمه، وأزليّته، وأبديته، وعلمه، وقوّته، وقدرته، وحلمه، وكرمه، وجوده، وعطائه، وكبريائه.

فإذا قال المؤذّن:

أولا: «اللّه أكبر» فانّه يقول: اللّه الّذي له الخلق والأمر، وبمشيّته كان الخلق، ومنه كان كلّ شيء للخلق، وإليه يرجع الخلق، وهو الأول قبل كلّ شيء لم يزل، والآخر بعد كلّ شيء لا يزال، فهو الباقي وكلّ شيء دونه فان.

ثانياً: «اللّه أكبر» : أي العلم الخبير، علم ما كان وما يكون، قبل أن يكون.

ثالثاً: «اللّه أكبر»: أي القادر على كلّ شيء، يقدر على ما يشاء، القوي لقدرته، المقتدر على خلقه القويّ لذاته، وقدرته قائمة على الأشياء كلّها، إذا قضى أمراً فانّما يقول له كن فيكون.

رابعاً: «اللّه أكبر» على معنى حلمه وكرمه، يحلم كأنه لا يعلم، ويصفح كأنه لا يرى، ويستر كأنه لا يُعصى، ولا يعجل بالعقوبة كرماً وصفحاً وحلماً.

وأما قوله: «أشهد أن لا إله الّا اللّه» فاعلام بأنَّ الشهادة لا تجوز إلّا بمعرفة من القلب، كأنّه يقول : أعلم أنه لا معبود إلّا اللّه (عزّوجلّ)، وأنَّ كلَّ معبود باطل سوى اللّه (عزّوجلّ) وأشهد أنّه لا ملجأ من اللّه إلّا اليه...

ص: 374

وقوله في الثانية: أشهد أن لا إله إلّا اللّه» معناه : أشهد أن لا هادي إلّا اللّه، ولا دليل إلّا اللّه وأشهد اللّه بأنّي أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد سكّان السماوات وسكّان الأرض وما فيهن من الملائكة والناس أجمعين... بأني أشهد أن لا خالق إلّا اللّه، ولا رازق، ولا معبود.... إلّا اللّه، له الخلق والأمر وبيده الخير كلّه، تبارك اللّه ربّ العالمين.

وأما قوله: «أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه» يقول : أُشهد اللّهَ أنّي أشهد أن لا إله إلّا هو، وأنَّ محمّداً عبده ورسوله ونبيّه وصفيه ونجيبه أرسله إلى كافة الناس أجمعين بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون، وأُشهد من في السماوات والأرض من النبيين والمرسلين والملائكة والناس أجمعين أنّي أشهد أن محمّداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سيد

الأولين والآخرين.

وفي المرة الثانية: «أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه» يقول : أُشهد أن لا حاجة لأحد إلى أحد إلّا إلى اللّه الواحد القهار الغنيّ عن عباده والخلائق أجمعين، وأنه أرسل محمّداً إلى الناس بشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللّه باذنه وسراجاً منيراً، فمن انكره وجحده ولم يؤمن به، أدخله اللّه (عزّوجلّ) نار جهنم خالداً مخلّداً لا ينفكُّ عنها أبداً.

وأمّا قوله: «حيَّ على الصلاة» أي هلموا إلى خير أعمالكم ودعوة ربكم، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم واطفاء ناركم التي أوقدتموها على ظهوركم...

الثانية: «حيَّ على الصلاة» أي: قوموا إلى مناجات ربّكم وعرض حاجاتكم على ربكم، وتوسّلوا إليه بكلامه، وتشفعوا به، واكثروا الذكر والقنوت والركوع والسجود والخضوع والخشوع، وارفعوا إليه حوائجكم فقد أذن لنا في ذلك.

وأمّا قوله: «حيَّ على الفلاح» أنّه يقول : أقبلوا إلى بقاء لا فناء معه، ونجاة لا هلاك معها، وتعالوا إلى حياة لا ممات معها، وإلى نعيم لا نفاد له، وإلى ملك لا زوال عنه، وإلى

ص: 375

سرور لا حزن معه، وإلى أُنس لا وحشة معه... واعجلوا إلى سرور الدنيا والعقبى،ونجاة الآخرة والأولى.

وقوله الثانية: «حيَّ على الفلاح» فانّه يقول: سابقوا إلى ما دعوتكم اليه، وإلى جزيل الكرامة، وعظيم المنّة، والفوز العظيم نعيم الأبد، في جوار محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وامّا قوله: «اللّه أكبر» فإنّه يقول: اللّه أعلى وأجلُّ من أن يعلم أحد من خلقه ما عنده من الكرامة لعبد أجابه وأعطاه وأطاع أمره، وعرفه وعبده... وخافه ورجاه واشتاق اليه.

والثانية: «اللّه أكبر» فانّه يقول: اللّه أكبر وأعلى وأجلّ من أن يعلم أحد مبلغ كراماته لأوليائه، عقوبته لأعدائه، ومبلغ عفوه وغفرانه ونعمته لمن أجابه وأجاب رسوله.

وأمّا قوله : « لا إله إلّا اللّه» معناه : للّه الحجة البالغة عليهم بالرسول والرسالة، والبيان والدعوة...، فمن أجابه فله النور والكرامة، ومن أنكره فانّ اللّه غنيٌّ عن العالمين، وهو أسرع الحاسبين.

ومعنى: «قد قامت الصلاة» في الاقامة أي حان وقت الزيارة والمناجاة، وقضاء الحوائج، ودرك المنى، والوصول إلى اللّه (عزّوجلّ) و إلى كرامته وغفرانه وعفوه ورضوانه».

ملاحظة:

وأما تركه (عَلَيهِ السَّلَامُ) التفسير : «حيَّ على خير العمل» إنه كان تقيةً، كما قال الصدوق (رحمه اللّه)، أو يمكن أن يكون لترك المؤذن هذا الفصل لأنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يفسّر ما يقوله المؤذن، فتأمل.

ص: 376

وتفسير: «حيَّ على خير العمل» كما رواه الامام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند ماسئل عن معنى «حيّ على خير العمل» قال: «خير العمل الولاية، وبرُّ فاطمة ووِلدِها (عَلَيهِم السَّلَامُ)».

وتأويل خير العمل بالولاية لا ينافي كونه من فصول أذان الصلاة، لأنها من أعظم شرائط صحّتها وقبولها.

والصلاة التي هي خير العمل هي ما كانت مقرونة بالولاية، وبرُّ فاطمة وولدها صلوات اللّه عليهم أجميعن.

عن ابي حمزة الثمالي، عن أبي الربيع قال : قال الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيها أجاب به عن مسائل نافع: «لمّا أسري بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى بيت المقدس حشر اللّه الأوّلين والآخرين من النبيين والمرسلين، ثم أمر جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأذن شفعاً، وقال في أذانه: «حيّ على خير العمل» ثمّ تقدّم محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وصلّى بالقوم»(1).

صوت الناقوس

وإنّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قد فسّر صوت الناقوس، وذكره صاحب مصباح الواعظ وجمهور أصحابنا عن الحارث بن الأعور، وزيد وصعصعة ابني صوحان، والبراء بن سبرة، والأصبغ بن نباتة، وجابر بن شرحبيل ومحمود بن الكوّاء أنّه قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يقول: «سبحان اللّه حقّاً حقّاً، إنّ المولى صمد يبقى يحلم عنّا رفقاً رفقاً، لولا حكمة كنّا نشقى حقّاً حقّاً صدقاً صدقاً، إنّ المولى يسائلنا ويوافقنا ويحاسبنا يا مولانا لا تهلكنا وتداركنا، واستخدمنا واستخلصنا حلمك عنّا قد جرّأنا يا مولانا عفوك عنا، إنّ الدّنيا قد غرّتنا، واشتغلتنا واستهوتنا واستلهتنا واستغوتنا، يا ابن الدّنيا جمعاً جمعاً، يا ابن الدنيا مهلا مهلا، يا ابن الدنيا دقّاً دقّاً، وزناً وزناً، تفنى الدنيا قرناً قرناً، ما من يوم يمضي عنّا، إلاّ

ص: 377


1- الاحتجاج، والفقيه : ج 4 ص 258، والكافي: ج 8 ص 120، وتفسير القمي ص 610.

تهوي منّا ركناً، قد ضيّعنا داراً تبقى واستوطنّا داراً تفنى، تفنى الدنيا قرناً قرناً قرناً قرناً، كلاً موتاً كلّاً موتاً كلاً موتاً، كلاً دفناً كلاً فيها موتاً، نقلا نقلا دفناً دفناً، يا ابن الدّنيا مهلا مهلا، زن ما يأتي وزناً وزناً، لولا جهلي ما إن كانت عندي الدنيا إلا سجناً خيراً خيراً، شرّاً شرّاً، شيئاً شيئاً، حزناً حزناً، ماذا من ذاكم ذا أم ذا هذا اسنا، ترجو تنجو تخشى تردى، عجّل قبل الموت الوزنا ما من يوم يمضي عنّا إلّا أوهن منا ركناً إنّ المولى قد أنذرنا، إنا نحشر غرلاً بهماً».

قال : ثمّ انقطع صوت الناقوس، فسمع الديرانيّ ذلك وأسلم وقال: إنّي وجدت في الكتاب أنّ في آخر الأنبياء من يفسّر ما يقول الناقوس(1).

الاحتيال على عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن الواقديّ وإسحاق الطبريّ أنّ عمير بن وائل الثقفيّ أمره حنظلة بن أبي سفيان أن يدّعي على علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمانين مثقالا من الذهب وديعاً عند محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأنه هرب من مكّة وأنت وكيله، فإن طلب بيّنة الشهود فنحن معشر قريش نشهد عليه، وأعطوه على ذلك مائة مثقال من الذهب منها قلادة عشرة مثاقيل لهند فجاء وادّعى على عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فاعتبر الودائع كلّها ورأى عليها أسامي أصحابها، ولم يكن لما ذكره عمير خبر، فنصح له نصحاً كثيراً، فقال: إنّ لي من يشهد بذلك وهو أبو جهل وعكرمة وعقبة بن أبي معيط وأبو سفيان وحنظلة، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «مكيدة تعود إلى من دبّرها»، ثمّ أمر الشهود أن يقعدوا في الكعبة، ثمّ قال لعمير : «يا أخا ثقيف أخبرني الآن حين دفعت وديعتك هذه إلى الرسول اللّه أي الأوقات كان»؟ قال: ضحوة نهار، فأخذها بيده ودفعها إلى عبده، ثمّ استدعى بأبي جهل وسأله عن ذلك قال : ما يلزمني ذلك، ثمّ استدعى بأبي سفيان وسأله فقال : دفعه عند غروب الشّمس، وأخذها من يده وتركها في كمه، ثم استدعى

ص: 378


1- البحار : ج 40 ص 172.

حنظلة وسأله عن ذلك فقال : كان عند وقت وقوف الشمس في كبد السّماء، وتركها بين يديه إلى وقت إنصرافه، ثمّ استدعى بعقبة وسأله عن ذلك فقال: تسلّمها بيده وأنفذها في الحال إلى داره، وكان وقت العصر، ثم استدعى بعكرمة وسأله عن ذلك فقال: كان بزوغ الشمس، أخذها فأنفذها من ساعته إلى بيت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ).

ثم أقبل على عمير وقال له: «أراك قد اصفر لونك وتغيّرت أحوالك»، قال: أقول الحقّ ولا يفلح غادر، وبيت اللّه ما كان لي عند محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وديعة، وإنهما حملاني على ذلك، وهذه دنانيرهم وعقد هند عليها اسمها مكتوب، ثمّ قال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ائتوني بالسيف الّذي في زاوية الدّار»، فأخذه وقال: «أتعرفون هذا السيف»؟ فقالوا: هذا لحنظلة، فقال أبو سفيان: هذا مسروق، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إن كنت صادقاً في قولك فما فعل عبدك مهلع الأسود»؟ قال: مضى إلى الطائف في حاجة لنا، فقال: «هيهات أن تعود تراه أبعث إليه أحضره إن كنت صادقا»، فسكت أبو سفيان ثمّ قام في عشرة عبيد لسادات قريش فنبشوا بقعة عرّفها فإذا فيها العبد مهلع قتيل، فأمرهم بإخراجه فأخرجوه وحملوه إلى الكعبة، فسأله النّاس عن سبب قتله، فقال: «إنّ أبا سفيان وولده ضمنوا له رشوة عتقه وحثاه علىّ قتلي، فكمن لي في الطريق ووثب عليّ ليقتلني، فضربت رأسه وأخذت سيفه، فلمّا بطلت حيلتهم أرادوا الحيلة الثانية بعمير»، فقال عمير : أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(1).

الأخوة العشرة

روي أن تسعة إخوة أو عشرة في حي من أحياء العرب كانت لهم أُخت واحدة، فقالوا لها: كلّ ما يرزقنا اللّه نطرحه بين يديك، فلا ترغبي في التزويج فحميّتنا لا تحمل ذلك، فوافقتهم في ذلك ورضيت به وقعدت في خدمتهم وهم يكرمونها، فحاضت

ص: 379


1- البحار: ج 40 ص 219.

يوماً، فلمّا طهرت أرادت،الاغتسال، وخرجت إلى عين ماء كان بقرب حيّهم، فخرجت من الماء علقة فدخلت في جوفها، وقد جلست في الماء، فمضت عليها الأيّام والعلقة تكبر حتّى علت بطنها، وظنّ الإخوة أنها حبلى وقد خانت، فأرادوا قتلها، فقال بعضهم: نرفع أمرها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فإنّه يتولّى ذلك، فأخرجوها إلى حضرته، وقالوا فيها ما ظنّوا بها، فاستحضر (عَلَيهِ السَّلَامُ) طشتاً مملوءاً بالحماة وأمرها أن تقعد عليه، فلمّا أحسّت العلقة برائحة الحماة نزلت من جوفها، فقالوا: يا عليّ أنت ربّنا العليّ، فإنّك تعلم الغيب فزبرهم وقال: «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أخبرنا بذلك عن اللّه بأنّ هذه الحادثة تقع في هذا اليوم في هذا الشهر في هذه الساعة» (1).

نزاع إمرأتين في طفل

روى أنّ امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل، ادّعته كلّ واحدة منهما ولداً لها بغير بيّنة، ولم ينازعهما فيه غيرهما، فالتبس الحكم في ذلك على عمر، وفزع فيه إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فاستدعى المرأتين ووعظهما وخوّفهما، فأقامتا على التّنازع والاختلاف، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند تماديهما في النزاع: «ائتوني بمنشار»، فقالت المرأتان: وما تصنع؟ فقال: «أقده نصفين لكلّ واحدة منكما نصفه»، فسكت إحداهما، وقالت الأُخرى: اللّه اللّه يا أبا الحسن، إن كان لابدّ من ذلك فقد سمحت به،لها فقال: «اللّه أكبر هذا ابنك دونها، ولو كان ابنها لرقّت عليه وأشفقت»، فاعترفت المرأة الأُخرى أنّ الحق مع صاحبتها، والولد لها دونها، فسري عن عمر، ودعا لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بما فرّج عنه في القضاء (2).

مات الدين وعاش الدين

ورووا أنّ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) دخل ذات يوم المسجد، فوجد شابّاً حدثاً يبكي وحوله

ص: 380


1- البحار: ج 40 ص 242.
2- البحار : ج 40 ص 252.

قوم، فسأل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عنه، فقال: إنّ شريحاً قضى عليّ قضيّة لم ينصفني فيها، فقال: «وما شأنك»؟ قال: إنّ هؤلاء النفر وأومأ إلى نفر حضور أخرجوا أبي معهم في سفر، فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عنه، فقالوا مات، فسألتهم عن ماله الّذي استصحبه، فقالوا: ما نعرف له مالا فاستحلفهم شريح، وتقدّم إلي بترك التعرّض لهم، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لقنبر : «اجمع القوم وادع لي شرطة الخميس»، ثمّ جلس ودعا النفر والحدث معهم، ثمّ سأله عما قال فأعاد الدّعوى وجعل يبكي ويقول: أنا واللّه أتّهمهم على أبي يا أمير المؤمنين، فإنّهم احتالوا عليه حتّى أخرجوه معهم، وطمعوا في ماله، فسأل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) القوم، فقالوا كما قالوا لشريح: مات الرجل ولا نعرف له مالا، فنظر في وجوههم ثمّ قال: «ماذا تظنّون؟ أتظنّون أنّي لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى ؟ إنّي إذاً لقليل العلم».

ثمّ أمر بهم أن يفرّقوا، ففرّقوا في المسجد، وأُقيم كلّ رجل منهم إلى جانب أُسطوانة من أساطين المسجد، ثم دعا عبيد اللّه بن أبي رافع كاتبه يومئذ فقال له: «اجلس»، ثمّ دعا أحداً منهم،فقال له: «أخبرني ولا ترفع صوتك في أيّ يوم خرجتم من منازلكم وأبو هذا الغلام معكم» ؟ فقال : في يوم كذا وكذا، فقال لعبيد اللّه: أُكتب، ثمّ قال له: «في أي شهر كان»؟ قال: في شهر كذا، قال: «أُكتب»، ثمّ قال: «في أيّ سنة»؟ قال: في سنة كذا، فكتب عبيد اللّه ذلك، قال: «فبأيّ مرض مات»؟ قال: بمرض كذا، قال: «في أيّ منزل مات»؟ قال: في موضع كذا قال «من غسّله وكفّنه»؟ قال: فلان، قال: «فبم كفنتموه»؟ قال بكذا قال فمن صلى عليه؟ قال فلان قال: «فمن أدخله القبر»؟ قال: فلان وعبيد اللّه بن أبي رافع يكتب ذلك كلّه.

فلمّا انتهى إقراره إلى دفنه كبر أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) تكبيرة سمعها أهل المسجد، ثمّ أمر بالرجل فردّ إلى مكانه، ودعا بآخر من القوم فأجلسه بالقرب منه، ثمّ سأله عما

ص: 381

سأل الأوّل عنه، فأجاب بما خالف الأوّل في الكلام كلّه، وعبيد اللّه بن أبي رافع يكتب ذلك، فلمّا فرغ من سؤاله كبّر تكبيرة سمعها أهل المسجد، ثم أمر بالرجلين جميعاً أن يخرجا من المسجد نحو السجن فيوقف بهما على بابه ثم دعا بالثالث فسأله عما سأل الرجلين، فحكى خلاف ما قالا، وأثبت ذلك عنه، ثمّ كبّر وأمر بإخراجه نحو صاحبيه، ودعا برابع القوم فاضطرب قوله وتلجلج فوعظه وخوّفه، فاعترف أنه وأصحابه قتلوا الرجل وأخذوا ماله، وأنّهم دفنوه في موضع كذا وكذا بالقرب من الكوفة، فكبّر أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأمر به إلى السجن، واستدعى بواحد من القوم وقال له: «زعمت أنّ الرجل مات حتف أنفه وقد قتلته، اصدقني عن حالك وإلا نكلت بك، فقد وضح الحقّ في قصّتكم»، فاعترف من قتل الرّجل بما اعترف به صاحبه، ثم دعى الباقين فاعترفوا عنده بالقتل، وسقطوا في أيديهم واتفقت كلمتهم على قتل الرجل وأخذ ماله، فأمر من مضى معهم إلى موضع المال الّذي دفنوه فاستخرجوه منه وسلّموه إلى الغلام ابن الرجل المقتول.

ثمّ قال له: «ما الّذي تريد»؟ قد عرفت ما صنع القوم بأبيك، قال: أُريد أن يكون القضاء بيني وبينهم بين يدي اللّه عزّ وجلّ، وقد عفوت عن دمائهم في الدنيا، فدراً أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حدّ القتل وأنهكهم عقوبة، فقال شريح يا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كيف هذا الحكم؟ فقال له : «إنّ داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) مرّ بغلمان يلعبون وينادون بواحد منهم يا «مات الدين» قال: والغلام يجيبهم، فدنا داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) منهم فقال له: يا غلام ما اسمك؟ فقال: اسمي «مات الدين»، قال له :داود من سماك بهذا الاسم؟ قال: أمي، فقال :داود: أين أُمّك؟ قال: في منزلها، قال :داود انطلق بنا إلى أُمّك، فانطلق به إليها فاستخرجها من منزلها، فخرجت، فقال لها يا أُمّة اللّه ما اسم ابنك هذا ؟ قالت اسمه «مات الدين»، قال لها داود (عَلَيهِ السَّلَامُ): ومن سمّاه بهذا الاسم ؟ قالت: أبوه، قال لها وما كان سبب ذلك؟ قالت: إنّه خرج في سفر

ص: 382

له ومعه قوم وأنا حامل بهذا الغلام فانصرف القوم ولم ينصرف زوجي، فسألتهم عنه قالوا: مات، فسألتهم عن ماله فقالوا: ما ترك مالا، فقلت: ما أوصاكم بوصيّة؟ قالوا: نعم يزعم أنّك حبلى، فإن ولدت جارية أو غلاماً فسمّيه «مات الدين»، فسمّيته كما وصى، ولم أُحبّ خلافه، فقال لها داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فهل تعرفين القوم؟ قالت: نعم، قال: انطلقي مع هؤلاء يعني قوماً بين يديه فاستخرجيهم من منازلهم، فلمّا حضروا حكم فيهم بهذه الحكومة، فثبت عليهم الدم واستخرج منهم المال، ثمّ قال لها : يا أُمّة اللّه سمّي ابنك هذا بعاش الدين»(1).

حكم عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحكم النبي دانيال (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «أُتي عمر بن الخطاب بجارية قد شهدوا عليها أنها،بغت وكان من قصّتها أنها كانت يتيمة عند رجل، وكان الرجل كثيراً ما يغيب عن أهله، فشبّت اليتيمة فتخوّفت المرأة أن يتزوّجها زوجها، فدعت بنسوة حتّى أمسكنها فأخذت عذرتها بإصبعها، فلمّا قدم زوجها من غيبته رمت المرأة اليتيمة بالفاحشة، فأقامت البيّنة من جاراتها اللاتي ساعدنها على ذلك، فرفع ذلك إلى عمر، فلم يدر كيف يقضي فيها، ثمّ قال للرّجل : ائت عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) واذهب بنا إليه.

فأتوا عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقصوا عليه القصّة، فقال لامرأة الرجل: ألك بيّنة أو برهان؟ قالت : لي شهود، هؤلاء جاراتي يشهدون عليها بما أقول، وأحضرتهنّ، فأخرج علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) السيف من غمده فطرح بين يديه، وأمر بكل واحدة منهنّ فأدخلت بيتاً، ثمّ دعا امرأة الرجل فأدارها بكلّ وجه فأبت أن تزول عن قولها، فردّها إلى البيت الّذي كانت فيه، ودعا إحدى الشهود وجثا على ركبتيه، ثم قال: تعرفيني؟ أنا علي بن أبي طالب، وهذا سيفي، وقد قالت امرأة الرجل ما قالت ورجعت إلى الحق فأعطيتها الأمان، وإن لم تصدّقيني

ص: 383


1- البحار : ج 40 ص 259.

لأمكننّ السيف منك، فالتفتت إلى عمر فقالت يا أمير المؤمنين الإمان على الصدق.

فقال لها علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): فاصدقي، فقالت : لا،واللّه إنها رأت جمالاً وهيئة فخافت فساد زوجها، فسقتها المسكر ودعتنا فأمسكناها، فافتضتها بإصبعها، فقال علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): اللّه أكبر، أنا أوّل من فرّق بين الشهود إلا دانيال النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وألزمهنّ عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بحدّ القاذف، وألزمهنّ جميعاً العقر، وجعل عقرها أربع مائة درهم، وأمر المرأة أن تنفى من الرجل ويطلّقها زوجها، وزوّجه الجارية وساق عنه عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ).

فقال عمر: يا أبا الحسن فحدّثنا بحديث دانيال (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال : إنّ دانيال كان يتيماً لا أُمّ له ولا أب وإنّ امرأة من بني إسرائيل عجوزاً كبيرة ضمّته فربّته، وإن ملكاً من ملوك بني إسرائيل كان له قاضيان وكان لهما صديق، وكان رجلاً صالحاً، وكانت له امرأة ذات هيئة جميلة، وكان يأتي الملك فيحدّثه، فاحتاج الملك إلى رجل يبعثه في بعض أموره، فقال للقاضيين: اختارا رجلاً أُرسله في بعض أُموري، فقالا: فلان، فوجّهه الملك، فقال الرجل للقاضيين : أوصيكما بامرأتي خيراً، فقالا : نعم، فخرج الرجل، فكان القاضيان يأتيان باب الصديق فعشقا امرأته فراوداها عن نفسها فأبت، فقالا لها: واللّه لئن لم تفعلي لنشهدنّ عليك عند الملك بالزنا، ثمّ ليرجمنّك.

فقالت: افعلا ما أحببتها فأتيا الملك فأخبراه وشهدا عنده أنها بغت فدخل الملك من ذلك أمر عظيم، واشتدّ بها غمه، وكان بها معجباً، فقال لهما : إنّ قولكما مقبول، ولكن ارجموها بعد ثلاثة أيّام، ونادى في البلد الّذي هو فيه : احضروا قتل فلانة العابدة فإنّها قد بغت وإنّ القاضيين قد شهدا عليها بذلك، وأكثر الناس في ذلك، وقال الملك لوزيره: ما عندك في هذا من حيلة ؟ فقال : ما عندي في ذلك من شيء، فخرج الوزير يوم الثالث وهو آخر أيّامها فإذا هو بغلمان عراة يلعبون وفيهم دانيال وهو لا يعرفه.

ص: 384

فقال :دانیال يا معشر الصبيان تعالوا حتّى أكون أنا الملك، وتكون أنت يا فلان العابدة، ويكون فلان وفلان القاضيين الشاهدين عليها، ثمّ جمع تراباً وجعل سيفاً من قصب، وقال للصبيان: خذوا بيد هذا فنحّوه إلى مكان كذا وكذا، وخذوا بيد هذا فنحّوه إلى مكان كذا وكذا، ثم دعا بأحدهما فقال له : قل حقاً فإنّك إن لم تقل حقاً قتلتك، بم تشهد ؟ والوزير قائم يسمع وينظر، فقال : أشهد أنّها بغت، قال: متى؟ قال: يوم كذا وكذا]قال: مع من؟ قال: مع فلان بن فلان قال: وأين؟ قال: موضع كذا وكذا قال: ردّوه إلى مكانه وهاتوا الآخر، فردّوه إلى مكانه وجاؤوا بالآخر، فقال له : بم تشهد ؟ قال: أشهد أنها بغت قال: متى ؟ قال: يوم كذا وكذا، قال: مع من؟ قال: مع فلان بن فلان، قال: وأين؟ قال: موضع كذا وكذا، فخالف صاحبه، فقال دانیال: اللّه اکبر شهدا بزور، يا فلان ناد في الناس أنما شهدا على فلانة بزور فاحضروا قتلهما، فذهب الوزير إلى الملك مبادراً فأخبره الخبر، فبعث الملك إلى القاضيين فاختلفا كما اختلف الغلامان، فنادى الملك في الناس وأمر بقتلها»(1).

من أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً

عن عليّ ابن ابراهيم عن أبيه قال: أخبرني بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال:: «أُتي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) برجل وجد في خربة وبيده سكّين ملطّخة بالدم، وإذا رجل مذبوح يتشحّط في دمه، فقال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما تقول؟ قال: يا أمير المؤمنين أنا قتلته، قال: اذهبوا به فأقيدوه به فلمّا ذهبوا به ليقتلوه به أقبل رجل مسرع فقال: لا تعجّلوا وردّوه إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فردّوه، فقال : واللّه يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه أنا قتلته، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) للأوّل : ما حملك على إقرارك على نفسك؟ فقال: يا أمير المؤمنين وما كنت أن استطيع أن أقول وقد شهد عليّ أمثال هؤلاء الرجال، وأخذوني

ص: 385


1- البحار : ج 40 ص 309.

وبيدي سكّين ملطّخة بالدم، والرجل يتشحّط في دمه، وأنا قائم عليه، وخفت الضرب،فأقررت، وأنا رجل كنت ذبحت بجنب هذه الخربة شاة وأخذني البول، فدخلت الخربة فرأيت الرجل يتشحط في دمه، فقمت متعجباً، فدخل عليّ هؤلاء فأخذوني، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) خذوا هذين فاذهبوا بهما إلى الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقولوا له : ما الحكم فيهما؟ قال: فذهبوا إلى الحسن وقصّوا عليه قصتهما، فقال الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) : قولوا لأمير المؤمنين: إنّ هذا إن كان ذبح ذلك فقد أحيا هذا وقد قال اللّه عزّ وجلّ: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(1) يخلّي عنهما، ويخرج دية المذبوح من بيت المال»(2).

صدقة عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)

كتاب أبي بكر الشيرازي بإسناده عن مقاتل، عن مجاهد، عن ابن عبّاس في قوله: «رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّه وَإِقَامِ الصَّلَوَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَوةُ يَخَافُونَ يَوْمًا نَتَقَلَبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللّه أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللّه يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(3) قال: هو واللّه أمير المؤمنين، ثمّ قال بعد كلام: وذلك أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أعطى عليّاً يوماً ثلاثمائة دينار أُهديت إليه، قال على: «فأخذتها وقلت: واللّه لأتصدقنّ الليلة من هذه الدنانير صدقة يقبلها اللّه منّي، فلمّا صلّيت العشاء الآخرة مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أخذت مائة دينار وخرجت من المسجد، فاستقبلتني امرأة فأعطيتها الدنانير فأصبح الناس بالغد يقولون : تصدّق علي الليلة بمائة دينار على امرأة فاجرة، فاغتممت غماً شديداً، فلمّا صليت الليلة القابلة صلاة العتمة أخذت مائة دينار وخرجت من المسجد وقلت: واللّه لأتصدقنّ الليلة بصدقة يتقبلها ربي مني، فلقيت رجلا فتصدقت

ص: 386


1- المائدة : 35.
2- البحار : ج 40 ص 315.
3- النور: 38 و 37.

عليه بالدنانير، فأصبح أهل المدينة يقولون: تصدّق علي البارحة بمائة دينار على رجل سارق، فاغتممت غماً شديداً وقلت: واللّه لأتصدّقنّ اللّيلة صدقة يتقبلها اللّه منّي، فصليت العشاء الآخرة مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثم خرجت من المسجد ومعي مائة دينار فلقيت رجلا فأعطيته إياها، فلمّا أصبحت قال أهل المدينة: تصدّق على البارحة بمائة دينار على رجل غني، فاغتممت غمّاً شديداً.

فأتيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فخبّرته، فقال لي: يا علي هذا جبرئيل يقول لك: إنّ اللّه عزّ وجلّ قد قبل صدقاتك، وزكّى عملك ; إنّ المائة دينار التي تصدّقت بها أوّل ليلة وقعت في يدي امرأة فاسدة، فرجعت إلى منزلها وتابت إلى اللّه عزّ وجلّ من الفساد، وجعلت تلك الدنانير رأس مالها، وهي في طلب بعل تتزوّج به، وإنّ الصدقة الثانية وقعت في يدي سارق فرجع إلى منزله وتاب إلى اللّه من سرقته، وجعل الدنانير رأس ماله يتجر بها، وإنّ الصدقة الثالثة وقعت في يدي رجل غنيّ لم يزكّ ماله منذ سنين، فرجع إلى منزله ووبّخ نفسه وقال : شحّاً عليك يا نفس، هذا عليّ بن أبي طالب تصدّق عليّ بمائة دينار ولا مال له، وأنا فقد أوجب اللّه على مالي الزكاة لأعوام كثيرة لم أُزكّه، فحسب ماله وزگاه، وأخرج زكّاة ماله كذا وكذا ديناراً، فأنزل اللّه فيك «رِجَالُ تُلْهِيهِمْ تِجَارةٌ»(1).

الانفاق في سبيل اللّه

عن خالد بن ربعي قال: إن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) دخل مكّة في بعض حوائجه، فوجد أعرابيّاً متعلّقاً بأستار الكعبة وهو يقول: يا صاحب البيت البيت بيتك والضيف ضيفك، ولكلّ ضيف من ضيفه قرى فاجعل قراي منك الليلة المغفرة، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأصحابه : «أما تسمعون كلام الأعرابيّ»؟ قالوا: نعم، فقال: «اللّه أكرم من يردّ ضيفه»، فلمّا كانت الليلة الثانية وجده متعلّقاً بذلك الركن وهو يقول: يا عزيزاً في

ص: 387


1- البحار : ج 41 ص 28.

عزّك، فلا أعزّ منك في عزّك، أعزّني بعزّ عزّك في عزّ لا يعلم أحد كيف هو، أتوجّه إليك وأتوسل إليك، بحق محمّد وآل محمّد عليك أعطني ما لا يعطيني أحد غيرك، واصرف عني ما لا يصرفه أحد غيرك، قال: فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لأصحابه: «هذا واللّه الاسم الأكبر بالسريانيّة، أخبرني به حبيبي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سأله الجنّة فأعطاه، وسأله صرف النّار وقد صرفها عنه.

قال : فلمّا كانت اللّيلة الثالثة وجده وهو متعلّق بذلك الركن وهو يقول: «يا من لا يحويه مكان ولا يخلو منه مكان بلا كيفيّة كان ارزق الأعرابي أربعة آلاف درهم»، قال: فتقدّم إليه أمير المؤمنينر(عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : يا أعرابي سألت ربّك القرى فقراك، وسألته الجنّة فأعطاك، وسألته أن يصرف عنك النار وقد صرفها عنك، وفي هذه اللّيلة تسأله أربعة آلاف درهم» ؟ قال الأعرابيّ : من أنت؟ قال: «أنا عليّ بن أبي طالب»، قال الأعرابيّ: أنت واللّه بغيتي وبك أنزلت حاجتي، قال: «سل يا أعرابيّ»، قال: أريد ألف درهم للصّداق، وألف درهم أقضي به ديني، وألف درهم أشتري به داراً، وألف درهم أتعيش منه، قال: «أنصفت يا أعرابيّ، فإذا خرجت من مكّة فاسأل عن داري بمدينة الرسول».

فأقام الأعرابي بمكّة أُسبوعاً، وخرج في طلب أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى مدينة الرسول، ونادى من يدلّني على دار أمير المؤمنين عليّ ؟ فقال الحسين بن عليّ من بين الصبيان: «أنا أدلّك على دار أمير المؤمنين، وأنا ابنه الحسين بن عليّ»، فقال الأعرابيّ: من أبوك؟ قال: «أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب»، قال: من أُمّك؟ قال: «فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين»، قال: من جدّك؟ قال: «رسول اللّه محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب»، قال: من جدّتك ؟ قال : «خديجة بنت خويلد»، قال: من أخوك ؟ قال : «أبو محمّد الحسن بن عليّ»، قال : لقد أخذت الدّنيا،بطرفيها امش إلى أمير المؤمنين وقل له: إنّ الأعرابي صاحب الضمان بمكّة على الباب قال: فدخل الحسين بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: «يا أبة أعرابيّ بالباب،

ص: 388

يزعم أنه صاحب الضّمان بمكّة»، قال: فقال : «يا فاطمة عندك شيء يأكله الأعرابي»؟ قالت: «اللّهمّ لا»، قال: فتلبّس أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وخرج وقال: «ادعوا لي أبا عبد اللّه سلمان الفارسيّ»، قال: فدخل إليه سلمان الفارسيّ فقال : يا أبا عبداللّه أعرض الحديقة التي غرسها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لي على التجار، قال: فدخل سلمان إلى السّوق وعرض الحديقة، فباعها باثني عشر ألف درهم، وأحضر المال وأحضر الأعرابيّ، فأعطاه أربعة آلاف درهم وأربعين درهماً نفقة، ووقع الخبر إلى سؤال المدينة فاجتمعوا، ومضى رجل من الأنصار إلى فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) فأخبرها بذلك، فقالت : «آجرك اللّه في ممشاك»، فجلس علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) والدراهم مصبوبة بين يديه حتّى اجتمع إليه أصحابه، فقبض قبضة قبضة، وجعل يعطي رجلا رجلا حتّى لم يبق معه درهم واحد.

فلما أتى المنزل قالت له فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) : «يا ابن عمّ بعت الحائط الّذي غرسه لك والدي»؟ قال: «نعم، بخير منه عاجلا وآجلا» قالت: «فأين الثمن»؟ قال: «دفعته إلى أعين استحييت أن أُذلّها بذل المسألة قبل أن تسألني»، قالت فاطمة: «أنا جائعة وابناي جائعان، ولا أشك إلا وأنك مثلنا في الجوع، لم يكن لنا منه درهم»؟ وأخذت بطرف ثوب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا فاطمة خلّيني»، فقالت: «لا واللّه أو يحكم بيني وبينك أبي»، فهبط جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال: «يا محمّد السلام يقرؤك السلام ويقول : اقرأ عليّاً منّي السلام وقل لفاطمة : ليس لك أن تضربي على يديه»، فلمّا أتى رسول اللّه اللّه منزل علي وجد فاطمة ملازمة لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال لها : «يا بنيّة ما لك ملازمة لعليّ» ؟ قالت: «يا أبة باع الحائط الّذي غرسته باثني عشر ألف درهم، لم يحبس لنا منه درهماً نشتري به طعاماً»، فقال: «يا بنيّة إن جبرئيل يقرؤني من ربّي السلام ويقول : اقرأ عليّاً من ربّه السلام، وأمرني أن أقول لك: ليس لك أن تضربي على يديه»، قالت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) : «فإنّي أستغفر اللّه ولا أعود أبداً».

ص: 389

قالت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) : فخرج أبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في ناحية، وزوجي في ناحية، فما لبث أن أتى أبي ومعه سبعة دراهم سود هجريّة، فقال : يا فاطمة أين ابن عمي؟ فقلت له: خرج، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : هاك هذه الدراهم، فإذا جاء ابن عمّي فقولي له يبتاع لكم به طعاماً، فما لبثت إلا يسيراً حتّى جاء علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: رجع ابن عمّي فإنّي أجد رائحة طيبة؟ قالت: نعم، وقد دفع إلي شيئاً تبتاع به لنا طعاماً، قال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): هاتيه، فدفعت إليه سبعة دراهم سوداً هجرية، فقال: بسم اللّه والحمد اللّه كثيراً طيباً، وهذا من رزق اللّه عزّ وجلّ، ثمّ قال: يا حسن قم معي فأتيا السوق فإذا هما برجل واقف وهو يقول: من يقرض المليّ الوفي ؟ قال : يا بني نعطيه ؟ قال : اي واللّه يا أبة، فأعطاه علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) الدراهم، فقال الحسن: يا أبتاه أعطيه الدّراهم كلّها ؟ قال : نعم يا بني إنّ الّذي يعطي القليل قادر على أن يعطي الكثير».

قال: فمضى عليّ بباب رجل يستقرض منه شيئاً، فلقيه أعرابي ومعه ناقة فقال: يا عليّ اشتر منّي هذه الناقة، قال: «ليس معي ثمنها:، قال : فإنّي أنظرك به إلى القبض، قال: «بكم يا أعرابيّ»؟ قال : بمائة درهم، قال عليّ: «خذها يا حسن فأخذها»، فمضى عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلقيه أعرابيّ آخر، المثال واحد والثياب مختلفة، فقال: يا عليّ تبيع الناقة؟ قال علي: «وما تصنع بها»؟ قال : أغزو عليها أوّل غزوة يغزوها ابن عمّك، قال: «إن قبلتها فهي لك بلا ثمن»، قال: معي ثمنها وبالثمن أشتريها، فبكم اشتريتها؟ قال: «بمائة درهم»، قال الأعرابي : فلك سبعون ومائة درهم.

قال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): «خذ السبعين والمائة وسلّم الناقة، والمائة للأعرابي الّذي باعنا الناقة، والسبعين لنا نبتاع بها شيئا»، فأخذ الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) الدراهم وسلّم الناقة، قال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فمضيت أطلب الأعرابيّ الّذي ابتعت منه النّاقة لأُعطيه ثمنها، فرأيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جالساً في مكان لم أره فيه قبل ذلك ولا بعده على قارعة الطريق، فلمّا نظر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى

ص: 390

تبسّم ضاحكاً حتّى بدت نواجده، قال علي: أضحك اللّه سنّك وبشّرك بيومك، فقال: يا أبا الحسن إنّك تطلب الأعرابي الّذي باعك الناقة لتوفيه الثمن؟ فقلت: إي واللّه، فداك أبي وأُمّي، فقال: يا أبا الحسن الّذي باعك الناقة جبرئيل والذي اشتراها منك ميكائيل، والناقة من نوق الجنّة، والدراهم من عند ربّ العالمين عزّ وجلّ، فأنفقها في خير ولا تخف إقتاراً» (1).

علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) واليتامى

نظر علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى امرأة على كتفها قربة ماء فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها وسألها عن حالها فقالت: بعث علي بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل، وترك عليّ صبياناً يتامى، وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس، فانصرف (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبات ليله قلقاً، فلمّا أصبح حمل زنبيلا فيه طعام، فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك، فقال : «من يحمل وزري عنّي يوم القيامة» ؟ فأتى وقرع الباب، فقالت: من هذا؟ قال: «أنا ذلك العبد الّذي حمل معك القربة، فافتحي فإنّ معي شيئاً للصبيان»، فقالت: رضي اللّه عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب، فدخل وقال: «إنّي أحببت اکتساب الثواب، فاختاري بين أن تعجنين وتخبزين وبين أن تعلّلين الصبيان لأخبز أنا»، فقالت: أنا بالخبز أصبر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان، فعلّلهم حتّى أفرغ من الخبز، قال: فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى اللّحم فطبخه، وجعل يلقّم الصبيان من اللّحم والتمر وغيره، فكلّما ناول الصبيان ذلك شيئاً قال له: «يا بنيّ اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ ممّا أمر في أمرك»، فلمّا اختمر العجين قالت: يا عبد اللّه اسجر التنّور، فبادر لسجره، فلمّا أشعله ولفح في وجهه جعل يقول: «ذق يا عليّ هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى»، فرأته امرأة تعرفه فقالت: ويحك هذا أمير المؤمنين، قال:

ص: 391


1- البحار : ج 41 ص 44.

فبادرت المرأة وهي تقول: واحيائي منك يا أمير المؤمنين، فقال: «بل واحيائي منك يا أمة اللّه فيما قصرت في أمرك»(1).

عدالة علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

من كلام له (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «واللّه لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً وأُجرّ في الأغلال مصفداً أحبّ إليّ من [ أن] ألقى اللّه ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها ويطول في الثرى حلولها، واللّه لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتّى استماحني من بركم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الألوان من فقرهم كأنّهم سوّدت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكّداً وكرّر علىّ القول مردّداً، فأصغيت إليه سمعي، فظنّ أنّي أبيعه ديني وأتّبع قياده مفارقاً طريقتي، فأحميت له حديدة ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجّ ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها

فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرّني إلى نار سجرها جبّارها لغضبه ؟ أتئنّ من الأذى ولا أئنّ من لظى؟ وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها ومعجونة شنئتها كأنها عجنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة ؟ فذلك كله محرّم علينا أهل البيت، فقال: لا ذا ولا ذلك ولكنّها هديّة، فقلت: هبلتك الهبول أعن دين اللّه أتيتني لتخدعني أمختبط أم ذو جنّة أم تهجر؟ واللّه لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى، نعوذ باللّه من سبات العقل وقبح الزلل وبه نستعين (2).

ص: 392


1- البحار : ج 41 ص 52.
2- البحار : ج 41 ص 162.

ردّ الشمس

ممّا أظهره اللّه تعالى من الأعلام الباهرة على يد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) ما استفاضت به الأخبار ورواه علماء السير والآثار ونظمت فيه الشعراء الأشعار رجوع الشمس له (عَلَيهِ السَّلَامُ) مرتين في حياة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مرّة، وبعد وفاته أُخرى، وكان من حديث رجوعها عليه المرّة الأُولى ما روته أسماء بنت عميس وأُمّ سلمة زوجة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وجابر بن عبد اللّه الأنصاري وأبو سعيد الخدريّ في جماعة من الصحابة أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان ذات يوم في منزله وعليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بين يديه إذ جاءه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) يناجيه عن اللّه سبحانه، فلمّا تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلم يرفع رأسه عنه حتّى غربت الشمس، فاصطبر أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) لذلك إلى صلاة العصر، فصلّى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) جالساً يؤمئ بركوعه وسجوده إيماءً.

فلمّا أفاق رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من غشيته قال لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أفاتتك صلاة العصر»؟ قال: «لم أستطع أن أُصلّيها قائماً لمكانك يا رسول اللّه والحال الّتي كنت عليها في استماع الوحي»، فقال له: «أُدع اللّه حتّى يردّ عليك الشمس لتصلّيها قائماً في وقتها كما فاتتك، فإنّ اللّه تعالى يجيبك لطاعتك اللّه ورسوله»، فسأل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ردّ الشمس، فردت حتّى صارت في موضعها من السماء وقت صلاة العصر، فصلّى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) صلاة العصر في وقتها ثمّ غربت، فقالت أسماء: أمَ واللّه لقد سمعنا لها عند غروبها صريراً كصرير المنشار في الخشب.

وكان رجوعها بعد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أنّه لمّا أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم،ورحالهم، فصلى (عَلَيهِ السَّلَامُ) بنفسه في طائفة معه العصر فلم يفرغ الناس من عبورهم حتّى غربت الشمس وفاتت الصلاة كثيراً منهم، وفات الجمهور فضل الاجتماع معه، فتكلّموا في ذلك، فلمّا سمع كلامهم فيه سأل اللّه تعالى أن يردّ

ص: 393

الشمس عليه لتجتمع كافّة أصحابه على صلاة العصر في وقتها، فأجابه اللّه تعالى في ردّها عليه، وكانت في الأُفق على الحال التي تكون عليه وقت العصر، فلمّا سلّم القوم غابت الشمس، فسمع لها وجيب شديد هال الناس ذلك، فأكثروا من التسبيح والتهليل والاستغفار والحمد للّه على النعمة التي ظهرت فيهم، وسار خبر ذلك في الآفاق، وانتشر ذكره في الناس (1).

الأعرابيّ والثمانون ناقة

روي عن عليّ بن حمزة، عن علي بن الحسين، عن أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ينادي: من كان له عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عدّة أو دين فليأتني، فكان كلّ من أتاه يطلب ديناً أو عدّة يرفع مصلّاه فيجد ذلك كذلك تحته فيدفعه إليه، فقال الثاني للأوّل: ذهب هذا بشرف الدنيا في هذا،دوننا، فما الحيلة ؟ فقال : لعلّك لو ناديت كما نادى هو كنت تجد ذلك كما يجد هو، وإذا كان إنّما تقضي عن رسول اللّه، فنادى أبو بكر كذلك، فعرف أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) الحال فقال : أما إنّه سيندم على ما فعل، فلمّا كان من الغد أتاه أعرابيّ وهو جالس في جماعة من المهاجرين والأنصار فقال: أيكم وصيّ رسول اللّه ؟ فأُشير إلى أبي بكر، فقال: أنت وصيّ رسول اللّه وخليفته؟ قال: نعم، فما تشاء؟ قال: فهلم الثمانين الناقة التي ضمن لي رسول اللّه، قال : وما هذه النوق ؟ قال : ضمن لي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثمانين ناقة حمراء كحل العيون، فقال لعمر : كيف نصنع الآن ؟ قال : إنّ الأعراب جهّال فاسأله : ألك شهود بما تقول ؟ فطلبهم منه، قال : ومثلي يطلب الشهود على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بما يتضمّنه ؟ واللّه ما أنت بوصيّ رسول اللّه وخليفته.

فقام إليه سلمان وقال يا أعرابي اتبعني أدلّك على وصيّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فتبعه الأعرابي حتّى انتهى إلى عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : أنت وصيّ رسول اللّه؟ قال: نعم فما تشاء؟ قال:

ص: 394


1- البحار : ج 41 ص 171.

إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ضمن لي ثمانين ناقة حمراء كحل العيون فهلمها، فقال له عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أسلمت أنت وأهل بيتك ؟ فانكبّ الأعرابي على يديه يقبلها وهو يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنك وصيّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وخليفته، فبهذا وقع الشّرط بيني وبينه وقد أسلمنا جميعاً، فقال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): يا حسن انطلق أنت وسلمان مع هذا الأعرابي إلى وادي فلان فناد: يا صالح يا صالح، فإذا أجابك فقل : إنّ أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: هلم الثمانين الناقة التي ضمنها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لهذا الأعرابيّ، قال سلمان: فمضينا إلى الوادي فنادى الحسن فأجابه: لبيّك يا ابن رسول اللّه، فأدّى إليه رسالة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : السمع والطاعة فلم يلبث إذا خرج إلينا زمام ناقة من الأرض، فأخذ الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) الزمام فناوله الأعرابي فقال: خذ وجعلت النّوق يخرج حتّى تمّ الثّمانون على الصّفة»(1).

الولد العاقّ

روي عن جماعة يسندون الحديث إلى الحسين بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كنت مع عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الطواف في ليلة ديجوجة قليلة النور وقد خلا الطواف ونام الزوّار وهدأت العيون إذ سمع مستغيثاً مستجيراً مترحماً بصوت حزين من قلب موجع وهو يقول:

يا من يجيب دعا المضطر في الظلم***يا كاشف الضرّ والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا***يدعو وعينك يا قيوم لم تنم

هب لي بجودك فضل العفو عن جرمي***يا من أشار إليه الخلق في الحرم

إن كان عفوك لا يلقاه ذو سرف***فمن يجود على العاصين بالنعم؟

قال الحسين بن عليّ صلوات اللّه عليهما: فقال لي أبي يا أبا عبد اللّه أسمعت المنادي لذنبه المستغيث ربّه؟ فقلت نعم قد سمعته فقال: اعتبره عسى أن تراه، فما زلت أختبط في طخياء الظلام وأتخلّل بين النيام فلمّا صرت بين الركن والمقام بدا لي شخص

ص: 395


1- البحار: ج 41 ص 192.

منتصب فتأمّلته فإذا هو قائم، فقلت: السّلام عليك أيها العبد المقرّ المستقيل المستغفر المستجير، أجب باللّه ابن عم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فأسرع في سجوده وقعوده وسلّم فلم يتكلّم حتّى أشار بيده بأن تقدّمني، فتقدّمته فأتيت به أمير المؤمنين فقلت: دونك ها هو، فنظر إليه فإذا هو شابّ حسن الوجه نقيّ الثياب، فقال له : ممّن الرجل ؟ فقال له: من بعض العرب، فقال له: ما حالك ومم بكاؤك واستغاثتك؟

فقال: ما حال من أُخذ بالعقوق فهو في ضيق ارتهنه المصاب وغمره الاكتئاب، فإن تاب فدعاؤه لا يستجاب، فقال له عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ولِمَ ذاك ؟ فقال: إنّي كنت ملتهياً في العرب باللعب والطرب، أُديم العصيان في رجب وشعبان، وما أُراقب الرحمن، وكان لي والد شفيق رفيق يحذّرني مصارع الحدثان، ويخوّفني العقاب بالنيران، ويقول: كم ضجّ منك النهار والظلام واللّيالي والأيّام والشهور والأعوام والملائكة الكرام، وكان إذا ألحّ عليّ بالوعظ زجرته وانتهرته ووثبت عليه وضربته، فعمدت يوماً إلى شيء من الورق وكانت في الخباء، فذهبت لآخذها وأصرفها فيما كنت عليه فما نعني عن أخذها، فأوجعته ضرباً ولوّيت يده وأخذتها ومضيت، فأومأ بيده إلى ركبته يريد النهوض من مكانه ذلك فلم يطق يحرّكها من شدّة الوجع والألم، ثمّ حلف باللّه ليقدمنّ إلى بيت اللّه الحرام فيستعدي اللّه عليّ.

فصام أسابيع وصلّى ركعات ودعا وخرج متوجّهاً على عيرانة يقطع بالسير عرض الفلاة ويطوي الأودية ويعلو الجبال حتّى قدم مكّة يوم الحج الأكبر، فنزل عن راحلته وأقبل إلى بيت اللّه الحرام، فسعى وطاف به و تعلّق بأستاره وابتهل بدعائه وقال: فوالذي سمك السماء وأنبع الماء ما استتمّ دعاءه حتّى نزل بي ما ترى ثمّ كشف عن يمينه فإذا بجانبه قد شلّ، فأنا منذ ثلاث سنين أطلب إليه أن يدعو لي في الموضع الّذي دعا به عليّ فلم يجبني، حتّى إذا كان العام أنعم علي فخرجت به على ناقة عشراء أُجدّ السير

ص: 396

حثيثاً رجاء العافية، حتّى إذا كنّا على الأراك وحطمة وادي السياك نفر طائر في اللّيل فنفرت منها الناقة التي كان عليها، فألقته إلى قرار الوادي، فارفضّ بين الحجرين فقبرته هناك، وأعظم من ذلك أنّي لا أعرف إلا المأخوذ بدعوة أبيه، فقال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أتاك الغوث أتاك الغوث، ألا أُعلّمك دعاء علّمنيه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وفيه اسم اللّه الأكبر الأعظم الأكبر الّذي يجيب به من دعاه، ويعطي به من سأله، ويفرج به الهمّ، ويكشف به الكرب، ويذهب به الغمّ، ويبرئ به السقم، ويجبر به الكسير، ويغني به الفقير، ويقضي به الدين ويردّ به العين ويغفر به الذنوب ويستر به العيوب ؟ إلى آخر ما ذكره (عَلَيهِ السَّلَامُ) في فضله».

قال الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فكان سروري بفائدة الدعاء أشدّ من سرور الرجل بعافيته، ثمّ ذكر الدعاء على ما سيأتي في كتابه، ثمّ قال للفتى : إذا كانت الليلة العاشرة فادع وائتني من غد بالخبر»، قال الحسين بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «وأخذ الفتى الكتاب ومضى، فلمّا كان من غد ما أصبحنا حسناً حتّى أتى الفتى إلينا سليماً معافى والكتاب بيده وهو يقول: هذا واللّه الاسم الأعظم استجيب لي وربّ الكعبة، قال له عليّ صلوات اللّه عليه: حدّثني، قال: لمّا هدأت العيون بالرقاد واستحلك جلباب اللّيل رفعت يدي بالكتاب ودعوت اللّه بحقه مراراً، فأُجبت في الثانية: حسبك فقد دعوت اللّه باسمه الأعظم، ثم اضطجعت فرأيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في منامي وقد مسح يده الشّريفة علي وهو يقول: احتفظ باللّه العظيم فإنّك على خير فانتبهت معافى كما ترى فجزاك اللّه خيراً » (1).

الحاج الّذي لم يحجّ

نقل ابن الجوزيّ وكان حنبليّ المذهب في كتاب تذكرة الخواص: كان عبد اللّه بن المبارك يحجّ سنة ويغزو سنة، وداوم عليه على ذلك خمسين سنة، فخرج في بعض

ص: 397


1- البحار: ج 41 ص 224.

سنيّ الحجّ وأخذ معه خمسمائة دينار إلى موقف الجمال بالكوفة ليشتري جمالا للحجّ، فرأى امرأة علويّة على بعض المزابل تنتف ريش بطّة ميّتة، قال: فتقدمت إليها فقلت: ولم تفعلين هذا؟ فقالت : يا عبد اللّه لا تسأل عما لا يعنيك، قال: فوقع في خاطري من كلامها شيء، فألححت عليها فقالت يا عبد اللّه قد ألجأتني إلى كشف سري إليك، أنا إمرأة علوية ولي أربع بنات يتامى، مات أبوهنّ من قريب، وهذا اليوم الرابع ما أكلنا شيئاً، وقد حلّت لنا الميتة، فأخذت هذه البطة أصلحها وأحملها إلى بناتي يأكلنها، قال: فقلت في نفسي: ويحك يا ابن المبارك أين أنت عن هذه؟ فقلت: افتحي حجرك، ففتحت فصببت الدنانير في طرف إزارها وهي مطرقة لا تلتفت قال: ومضيت إلى المنزل ونزع اللّه من قلبي شهوة الحجّ في ذلك العام، ثمّ تجهزت إلى بلادي فأقمت حتّى حجّ الناس وعادوا فخرجت أتلقى جيراني وأصحابي، فجعل كلّ من أقول له : قبل اللّه حجّك وشكر سعيك، يقول لي: وأنت قبل اللّه حجّك وشكر سعيك، إنا قد اجتمعنا بك في مكان كذا وكذا، وأكثر الناس عليّ في القول، فبت متفكّراً فرأيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في المنام وهو يقول لي: «يا عبد اللّه لا تعجب فإنّك أغثت ملهوفة من ولدي، فسألت اللّه أن يخلق على صورتك ملكاً يحجّ عنك كل عام إلى يوم القيامة، فإن شئت أن تحجّ وإن شئت لا تحجّ» (1).

العلوية والرجل المجوسي

ونقل ابن الجوزيّ في كتابه قال: قرأت في الملتقط وهو كتاب لجدّه أبي الفرج بن الجوزيّ قال: كان ببلخ رجل من العلويّين نازلا بها، وله زوجة وبنات فتوفّي، قالت المرأة: فخرجت بالبنات إلى سمرقند خوفاً من شماتة الأعداء، واتّفق وصولي في شدّة البرد، فأدخلت البنات مسجداً، فمضيت لأحتال في القوت، فرأيت الناس مجتمعين

ص: 398


1- البحار : ج 42 ص 11.

علی،شیخ، فسألت عنه فقالوا: هذا شيخ البلد، فشرحت له حالي.

فقال: أقيمي عندي البينة أنك علويّة، ولم يلتفت إلي، فيئست منه وعُدت إلى المسجد، فرأيت في طريقي شيخاً جالساً على دكّة وحوله جماعة، فقلت: من هذا ؟ فقالوا ضامن البلد، وهو مجوسيّ، فقلت: عسى أن يكون عنده فرج، فحدّثته حديثي وما جرى لي مع الشّيخ فصاح بخادم له فخرج فقال: قل لسيدتك : تلبس ثيابها، فدخل، فخرجت امرأة ومعها جواز، فقال لها : اذهبي مع هذه المرأة إلى المسجد الفلانيّ واحملي بناتها إلى الدّار، فجاءت معي وحملت البنات، وقد أفرد لنا داراً في داره، وأدخلنا الحمّام وكسانا ثياباً فاخرة، وجاءنا بألوان الأطعمة، وبتنا بأطيب ليلة، فلمّا كان نصف اللّيل رأى شيخ البلد المسلم في منامه كأنّ القيامة قد قامت، واللواء على رأس محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وإذا قصر من الزمرّد الأخضر فقال : لمن هذا؟ فقيل [له]: لرجل مسلم موحّد، فتقدّم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأعرض عنه فقال : يا رسول اللّه تعرض عنّي وأنا رجل مسلم ؟

فقال له: «أقم البيّنة عندي أنك مسلم» ! فتحيّر الرجل، فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «نسيت ما قلت للعلويّة؟ وهذا القصر للشيخ الّذي هي في داره»، فانتبه الرجل وهو يلطم،ويبكي وبعث غلمانه في البلد وخرج بنفسه يدور على العلوية، فأُخبر أنها في دار المجوسي، فجاء إليه فقال: أين العلوية؟ قال: عندي، قال: أُريدها، قال: ما إلى هذا سبيل قال : هذه ألف دينار وسلّمهنّ إلي قال لا واللّه ولا مائة ألف دينار، فلمّا ألح عليه قال له: المنام الّذي رأيته أنت رأيته أنا أيضاً، والقصر الّذي رأيته لي خلق، وأنت تُدلّ عليّ بإسلامك، واللّه ما نمت ولا أحد في داري إلا وقد أسلمنا كلّنا على يد العلوية، وعاد من بركاتها علينا، ورأيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال لي : القصر لك ولأهلك بما فعلت مع العلوية، وأنتم من أهل الجنّة، خلقكم اللّه مؤمنين في العدم(1).

ص: 399


1- البحار : ج 42 ص 12.

قد أُجيبت الدّعوة

ونقل أيضاً في كتابه عن أبي الدنيا أنّ رجلا أتى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في منامه وهو يقول: «امض إلى فلان المجوسيّ وقل له: قد أُجيبت الدعوة»، فامتنع الرجل من أداء الرسالة لئلا يظنّ المجوسيّ أنّه يتعرّض له، وكان الرّجل في الدنيا واسعة، فرأى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثانياً وثالثاً، فأصبح فأتى المجوسيّ وقال له في خلوة من الناس: أنا رسول رسول اللّه إليك وهو يقول لك: «قد أجبت (1) الدّعوة»، فقال له: أتعرفني؟ فقال: نعم، فقال : إنّي أُنكر دين الإسلام ونبوة محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال : أنا أعرف هذا، وهو الّذي أرسلني إليك مرّة ومرّة،ومرّة فقال : أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ودعا أهله وأصحابه وقال لهم: كنت على ضلال وقد رجعت إلى الحق فأسلموا، فمن أسلم فما في يده له، ومن أبى فلينزع عمالي عنده، فأسلم القوم وأهله، وكانت ابنته مزوّجة من ابنه، ففرّق بينهما، ثمّ قال لي: أتدري ما الدّعوة؟ فقلت: لا واللّه، وأنا أريد أن أسألك عنها الساعة، فقال: لما زوّجت ابنتي صنعت طعاماً ودعوت الناس فأجابوا، وكان إلى جانبنا قوم أشراف فقراء لا مال لهم، فأمرت غلماني أن يبسطوا لي حصيراً في وسط الدّار، فسمعت صبية تقول لأمها : يا أماه قد آذانا هذا المجوسي برائحة طعامه، فأرسلت إليهنّ بطعام كثير وكسوة ودنانير للجميع، فلمّا نظروا إلى ذلك قالت الصبية للباقيات: واللّه ما نأكل حتّى ندعو له، فرفعن أيديهن وقلن : حشرك اللّه مع جدنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأمّن بعضهن، فتلك الدّعوة التي أُجيبت (2).

ص: 400


1- في المصدر: أجيبت.
2- لبحار : ج 42 ص 14.

المرأة العمياء وحبّ عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)

روى عليّ بن محمّد بن مخلّد الجعفيّ معنعناً معنعناً عن الأعمش قال: خرجت حاجّاً إلى مكّة، فلمّا انصرفت بعيداً رأيت عمياء على ظهر الطريق تقول: بحقّ محمّد وآله ردّ عليّ بصري، قال: فتعجّبت من قولها وقلت لها : أي حقّ لمحمّد وآله على اللّه ؟ إنّما الحقّ له عليهم، فقالت: مه يا لكع واللّه ما ارتضى هو حتّى حلف بحقهم، فلو لم يكن لهم عليه حقاً ما حلف به، قال: قلت: وأي موضع حلف؟ قالت : قوله : «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَهِم يَعْمَهُونَ»(1) والعمر في كلام العرب الحياة، قال : فقضيت حجتي ثم رجعت فإذا بها مبصرة في موضعها وهي تقول: أيها الناس أحبّوا عليّاً فحبه ينجيكم من النار، قال: فسلّمت عليها، وقلت: ألست العمياء بالأمس تقولين: بحقّ محمّد وآله ردّ عليَّ بصري ؟ قالت: بلى، قلتُ: حدّثيني بقصّتك، قالت: واللّه ما جزتني حتّى وقف علي رجل فقال لي: «إن رأيت محمّداً وآله تعرفينه»؟ قلت: لا ولكن بالدّلالة الّتي جاءتنا، قالت: فبينا هو يخاطبني إذ أتاني رجل آخر متوكئاً على رجلين فقال : «ما قيامك معها» ؟ قال: «إنّها تسأل ربّها بحق محمّد وآله أن يردّ عليها بصرها فادع اللّه لها»، قال : فدعا ربه ومسح على عيني بيده فأبصرت فقلت: من أنتم؟ فقال: «أنا محمّد وهذا عليّ، قد ردّ اللّه عليك بصرك اقعدي في موضعك هذا حتّى يرجع الناس وأعلميهم أنّ حبّ عليّ ينجيهم من النار»(2).

زواج خولة الحنفية من عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن دعبل الخزاعي قال: حدّثنا الرضا عن أبيه عن جدّه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال : كنت عند [أبي ] الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ دخل عليه جماعة من الشيعة وفيهم جابر بن يزيد، فقالوا: هل رضي أبوك عليّ بإمامة الأوّل والثاني؟ قال: اللّهم لا، قالوا فلم نكح من سبيهم خولة الحنفيّة إذا لم يرض

ص: 401


1- الحجر : 72.
2- البحار : ج 42 ص 44.

بإمامتهم ؟ فقال الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) امض يا جابر بن يزيد إلى منزل جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ فقل له : إنّ محمّد بن عليّ يدعوك، قال جابر بن يزيد فأتيت منزله وطرقت عليه الباب فناداني جابر بن عبد اللّه الأنصاري من داخل الدار اصبر يا جابر بن يزيد، فقلت في نفسي: : أين علم جابر الأنصاريّ أنّي جابر بن يزيد ولا يعرف الدلائل إلّا الأئمّة من آل محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ) ؟ واللّه لأسألنه إذا خرج إلي، فلمّا خرج قلت له: من أين علمت أنّي جابر وأنا على الباب وأنت داخل الدار ؟ قال : خبّرني مولاي الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) البارحة أنّك تسأله عن الحنفيّة في هذا اليوم وأنا أبعثه إليك يا جابر بكرة غد وأدعوك، فقلت: صدقت، قال : سر بنا، فسرنا جميعاً حتّى أتينا المسجد، فلمّا بصر مولاي الباقر(عَلَيهِ السَّلَامُ) بنا ونظر إلينا قال للجماعة: «قوموا إلى الشيخ فاسألوه حتّى ينبّئكم بما سمع ورأى»، فقالوا: يا جابر هل راض إمامك عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) بإمامة من تقدّم ؟ قال : اللّهم لا، قالوا: فلم نكح من سبيهم إذ لم يرض بإمامتهم؟

قال :جابر آه آه لقد ظننت أنّي أموت ولا أسأل عن هذا، إذ سألتموني فاسمعوا،وعوا حضرت السبي وقد أدخلت الحنفية فيمن أدخل، فلمّا نظرت إلى جميع الناس عدلت إلى تربة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فرنّت وزفرت زفرة وأعلنت بالبكاء والنحيب ثم نادت : السّلام عليك يا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعلى أهل بيتك من بعدك، هؤلاء أمّتك سبينا (1) سبي النوب والديلم، واللّه ما كان لنا إليهم من ذنب إلّا الميل إلى أهل بيتك، فجعلت الحسنة سيّئة والسيئة حسنة فسبينا، ثمّ انعطفت إلى الناس وقالت: لم سبيتمونا وقد أقررنا بشهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟ قالوا منعتمونا الزكاة، قالت: هب الرجال منعوكم، فما بال النسوان؟ فسكت المتكلّم كأنما أُلقم حجراً، ثم ذهب إليها

ص: 402


1- في المصدر : سبتنا

طلحة وخالد يرميان في التزويج إليها ثوبين (1) فقالت: لست بعريانة فتكسوني، قيل: إنهما يريدان أن يتزايدا عليك فأيّها زاد على صاحبه أخذك من السبي، قالت: هيهات واللّه لا يكون ذلك أبداً، ولا يملكني ولا يكون لي ببعل إلا من يخبرني بالكلام الّذي قلته ساعة خرجت من بطن أُمّي، فسكت الناس ينظر بعضهم إلى بعض، وورد عليهم من ذلك الكلام ما أبهر عقولهم وأخرس ألسنتهم، وبقي القوم في دهشة من أمرها، فقال أبو بكر: ما لكم ينظر بعضكم إلى بعض؟ قال الزبير: لقولها الّذي سمعت، قال أبو بكر : ما هذا الأمر الّذي أحصر أفهامكم، إنّها جارية من سادات قومها ولم يكن لها عادة بما لقيت ورأت، فلا شكّ أنها داخلها الفرغ وتقول ما لا تحصيل له، فقالت: رميت بكلامك غير مرميّ، واللّه ما داخلني فزع ولا جزع، وواللّه ما قلت إلّا حقاً ولا نطقت إلّا فصلا، ولابد أن يكون كذلك وحقّ صاحب هذا البيّنة ما كذبت، ثم سكتت، وأخذ طلحة وخالد ثوبيهما وهي قد جلست ناحية من القوم، فدخل عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فذكروا له حالها، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هي صادقة فيما قالت وكان حالتها وقصّتها كيت وكيت في حال ولادتها»، وقال: «إنّ كلّ ما تكلّمت به في حال خروجها من بطن أُمّها هو كذا وكذا، وكلّ ذلك مكتوب على لوح معها»، فرمت باللّوح إليهم لمّا سمعت كلامه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقرؤوها على ما حكى عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) لا يزيد حرفاً ولا ينقص، فقال أبو بكر: خذها يا أبا الحسن بارك اللّه لك فيها.

فوثب سلمان فقال : واللّه ما لأحد هاهنا منّة على أمير المؤمنين، بل اللّه المنّة ولرسوله ولأمير المؤمنين، واللّه ما أخذها إلّا بمعجزه الباهرة وعلمه القاهر وفضله الّذي يعجز عنه كلّ ذي فضل، ثمّ قال المقداد: ما بال أقوام قد أوضح اللّه لهم الطريق للهداية فتركوه وأخذوا طريق العمى؟ وما من قوم إلّا وتبيّن لهم فيه دلائل أمير المؤمنين، وقال أبو ذرّ:

ص: 403


1- في المصدر: ورميا عليها ثوبيهما

واعجباً لمن يعاند الحقّ! وما من وقت إلّا وينظر إلى بيانه أيّها الناس قد تبيّن لكم فضل أهل الفضل، ثمّ قال: يا فلان أتمنّ على أهل الحق بحقّهم وهم بما في يديك أحقّ وأولى؟ وقال عمّار: أُناشدكم باللّه أمّا سلّمنا على أمير المؤمنين هذا عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) في حياة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بإمرة المؤمنين؟ فزجره عمر عن الكلام فقام أبو بكر، فبعث عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) خولة إلى بيت أسماء بنت عميس، قال لها : «خذي هذه المرأة وأكرمي مثواها»، فلم تزل خولة عند أسماء بنت عميس إلى أن قدم أخوها فتزوّجها علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فكان الدليل على علم أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفساد ما يورده القوم من سبيهم وإنّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) تزوّجها نكاحاً، فقالت الجماعة: يا جابر أنقذك اللّه من حرّ النار كما أنقذتنا من حرارة الشك(1).

عقيل (رضیَ اللّهُ عنهُ) ومعاوية

قال عبد الحميد بن أبي الحديد: رووا أنّ عقيلا (رَحمهُ اللّه) قدم على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فوجده جالساً في صحن المسجد بالكوفة فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، قال: «وعليك السلام يا أبا يزيد»، ثمّ التفت إلى الحسن ابنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: «قم فأنزل عمّك»، فقام فأنزله، ثمّ عاد إليه فقال : «اذهب فاشتر لعمّك قميصاً جديداً ورداءً جديداً وإزاراً جديداً ونعلا جديداً»، فذهب فاشترى له، فغدا عقيل على أمير المؤمنين في الثياب، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: «وعليك السلام يا أبا يزيد، يخرج عطائي فأدفعه إليك»، فلمّا ارتحل عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى معاوية فنصب له كراسّيه وأجلس جلساءه حوله، فلمّا ورد عليه أمر له بمائة ألف فقبضها، ثمّ غدا عليه يوماً بعد ذلك وجلساء معاوية حوله، فقال : يا أبا يزيد أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك فقد وردت عليهما، قال: أُخبرك.

مررت واللّه بعسكر أخي فإذا ليل كليل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ونهار كنهار رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )،

ص: 404


1- البحار : ج 42 ص 84.

إلّا أنّ رسول اللّه ليس في القوم، ما رأيت إلّا مصلّياً ولا سمعت إلّا قارئاً، ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممن نفر ناقة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليلة العقبة. قال: من هذا عن يمينك يا معاوية ؟ قال : هذا عمرو بن العاص، قال: هذا الّذي اختصم فيه ستّة نفر فغلب عليه جزار،قریش فمن الآخر ؟ قال الضحّاك بن قيس الفهريّ، قال: أما واللّه لقد كان أبوه جيّد الأخذ لعسب التيوس، فمن هذا الآخر؟ قال: أبو موسى الأشعريّ، قال: هذا ابن السرّاقة ! فلمّا رأى معاوية أنّه قد أغضب جلساءه علم أنه إن استخبره عن نفسه قال فيه سوءاً، فأحبّ أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السوء فيذهب بذلك غضب جلسائه، قال: يا أبا يزيد فما تقول فيّ؟ قال: دعني من هذا، قال: لتقولنّ، قال: أتعرف حمامة ؟ قال : ومن حمامة يا أبا يزيد ؟ قال قد أخبرتك، ثمّ قال: فمضى، فأرسل معاوية إلى النسّابة فدعاه، قال : من حمامة ؟ قال : ولي الأمان؟ قال: نعم، قال: حمامة جدّتك أُمّ أبي سفيان، كانت بغياً في الجاهليّة صاحبة راية، قال معاوية لجلسائه: قد ساويتكم وزدت عليكم فلا تغضبوا!

وقال معاوية يوماً وعنده عمرو بن العاص وقد أقبل عقيل : لأضحكنّك من عقيل، فلمّا سلّم قال معاوية: مرحباً برجل عمّهُ أبو لهب، فقال عقيل : وأهلا بمن عمّته حمّالة الحطب في جيدها حبل من مسد، لأنّ امرأة أبي لهب أُمّ جميل بنت حرب ابن أُمّية، قال معاوية : يا أبا يزيد ما ظنّك بعمك أبي لهب ؟ قال : إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشاً عمّتك حمالة الحطب، أفناكح في النار خير أم منكوح ؟! قال: كلاهما شرٌّ واللّه(1).

العفو عند المقدرة

حكي أنّ مالك بن الأشتر(رضیَ اللّهُ عنهُ) كان مجتازاً بسوق وعليه قميص خام وعمامته منه، فرآه بعض السوقة فأزرى بزیّه فرماه ببابه تهاوناً به فمضى ولم يلتفت، فقيل له: ويلك

ص: 405


1- البحار : ج 42 ص 112.

تعرف لمن رميت؟ فقال: لا، فقيل له هذا مالك صاحب أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فارتعد الرجل ومضى ليعتذر إليه، وقد دخل مسجداً وهو قائم يصلي، فلمّا انفتل انكبّ الرّجل على قدميه يقبّلهما، فقال: ما هذا الأمر ؟ فقال : أعتذر إليك ممّا صنعت، فقال: لا بأس عليك فواللّه ما دخلت المسجد إلا لأستغفرنّ لك (1).

مقتل أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

من الأخبار الواردة بسبب قتله (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكيف جرى الأمر في ذلك ما رواه جماعة من أهل السير منهم أبو مخنف وإسماعيل بن راشد أبو هاشم الرفاعيّ وأبو عمرو الثقفيّ وغيرهم أنّ نفراً من الخوارج اجتمعوا بمكّة، فتذاكروا الأُمراء فعابوهم وعابوا أعمالهم، وذكروا أهل النهروان وترحّموا عليهم، فقال بعضهم لبعض : لو أنّا شرينا أنفسنا اللّه فأتينا أئمة الضلال فطلبنا غرّتهم وأرحنا منهم العباد والبلاد وثأرنا بإخواننا الشهداء بالنّهروان، فتعاهدوا عند انقضاء الحجّ على ذلك.

فقال عبد الرحمن بن ملجم لعنه اللّه : أنا أكفيكم عليّاً، وقال البرك بن عبيد اللّه التميميّ: أنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو بن بكر التيميّ : أنا أكفيكم عمرو بن العاص، وتعاقدوا على ذلك وتوافقوا على الوفاء، واتعدوا شهر رمضان في ليلة تسع عشرة منه، ثمّ تفرّقوا فأقبل ابن ملجم لعنه اللّه وكان عداده في كندة حتّى قدم الكوفة، فلقي بها أصحابه فكتمهم أمره مخافة أن ينتشر منه شيء، فهو في ذلك إذ زار رجلا من أصحابه ذات يوم من تيم الرباب فصادف عنده قطامة بنت الأخضر التيمية، وكان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قتل أباها وأخاها بالنّهروان وكانت من أجمل نساء أهل زمانها، فلمّا رآها ابن ملجم شغف بها واشتدّ إعجابه بها، وسأل في نكاحها وخطبها، فقالت له: ما الّذي سمّي لي من الصداق ؟ فقال لها احتكمي ما بدا لك فقالت له : أنا محتكمة عليك ثلاثة

ص: 406


1- البحار: ج 42 ص 157.

آلاف درهم ووصيفاً وخادماً وقتل علي بن أبي طالب.

فقال لها: لك جميع ما سألت، فأما قتل علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأنى لي بذلك؟ فقالت: تلتمس غرته، فإن أنت قتلته شفيت نفسي وهنأك العيش معي، وإن أنت قتلت فما عند اللّه خير لك من الدنيا، فقال: أما واللّه ما أقدمني هذا المصر وقد كنت هارباً منه لا آمن مع أهله إلا ما سألتني من قتل علي بن أبي طالب، فلك ما سألت، قالت: فأنا طالبة لك بعض من يساعدك على ذلك ويقويك.

ثم بعثت إلى وردان بن مجالد من تيم الرباب فخبّرته الخبر، وسألته معونة ابن ملجم لعنه اللّه، فتحمّل ذلك لها، وخرج ابن ملجم فأتى رجلا من أشجع يقال له شبيب بن بجرة، فقال : يا شبيب هل لك في شرف الدّنيا والآخرة؟ قال : وما ذاك ؟ قال : تساعدني على قتل عليّ بن أبي طالب، وكان شبيب على رأي الخوارج.

فقال له يا ابن ملجم هبلتك الهبول لقد جئت شيئاً إدّاً، وكيف تقدر على ذلك؟ فقال له ابن ملجم نكمن له في المسجد الأعظم فإذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به، فإن نحن قتلناه شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا، فلم يزل به حتّى أجابه، فأقبل منه حتّى دخلا المسجد الأعظم على قطامة وهي معتكفة في المسجد الأعظم قد ضربت عليها قبة، فقالا لها: قد اجتمع رأينا على قتل هذا الرجل، فقالت لهما: إذا أردتما ذلك فائتياني في هذا الموضع فانصرفا من عندها، فلبثا أياماً ثمّ أتياها ومعهما الآخر ليلة الأربعاء لتسعة عشرة [ ليلة ] خلت من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، فدعت لهم بحرير فعصبت به صدورهم، وتقلدوا أسيافهم، ومضوا وجلسوا مقابل السدة التي كان يخرج منها أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى الصلاة، وقد كانوا قبل ذلك ألقوا إلى الأشعث بن قيس ما في نفوسهم من العزيمة على قتل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وواطأهم على ذلك وحضر الأشعث بن قيس في تلك الليلة لمعونتهم على ما اجتمعوا عليه، وكان حجر بن عديّ في تلك اللّيلة بائتاً

ص: 407

في المسجد، فسمع الأشعث يقول: يا ابن ملجم النجاء النجاء لحاجتك فقد فضحك الصبح فأحسّ حجر بما أراد الأشعث، فقال له : قتلته يا أعور! وخرج مبادراً ليمضي إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليخبره الخبر ويحذره من القوم، وخالفه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الطريق فدخل المسجد، فسبقه ابن ملجم فضربه بالسيف، وأقبل حجر والناس يقولون: قتل أمير المؤمنين(1).

قصص في فضل النجف الأشرف

وروي عن القاضي بن بدر الهمداني الكوفي، وكان رجلا صالحاً، قال: كنت في جامع الكوفة ذات ليلة، وكانت ليلة مطيرة، فدق باب مسلم جماعة ففتح لهم وذكر بعضهم أنّ معهم جنازة فأدخلوها وجعلوها على الصفة التي تجاه مسلم بن عقيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمّ إنّ أحدهم نعس فرأى في منامه قائلا يقول لآخر ما تبصره حتّى نبصر هل لنا معه طريق، فانتبه وحكى لهم المنام فقال: خذوه عجلا، فأخذوه ومضوا به في الحال إلى المشهد الشريف.

وروي عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه كان إذا أراد الخلوة بنفسه أتى إلى طرف الغري، فبينما هو ذات يوم ذات يوم هناك مشرف على النجف، فإذا رجل قد أقبل من البرية راكب على ناقة وقدامه جنازة فحين رأى علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قصده حتّى وصل إليه فسلّم عليه فردّ عليه السلام وقال: «من أين»؟ قال: من اليمن قال: «وما هذه الجنازة التي معك»؟ قال: جنازة أبي لأدفنه في هذه الأرض، فقال علي: «لمَ لا دفنته في أرضكم»؟ قال: أوصى بذلك، وقال: إنّه يدفن هناك رجل يدعى في شفاعته مثل ربيعة ومضر، فقال له (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أتعرف ذلك الرجل» ؟ قال : لا، قال : «أنا واللّه ذلك الرجل، أنا واللّه ذلك الرجل، أنا واللّه ذلك الرجل فادفن»، فقام ودفنه.

ص: 408


1- البحار: ج 42 ص 228.

روی سيّد علي بن عبدالحميد في كتاب الغيبة باسناده إلى الفضل بن شاذان من أصل كتابه باسناده إلى الأصبغ بن نباتة قال: خرج أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى ظهر الكوفة فلحقناه فقال: «سلوني قبل أن تفقدوني، فقد ملئت الجوانح مني علماً، كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكتّ ابتديت»، ثمّ مسح بيده على بطنه وقال: «أعلاه علم وأسفله ثفل»، ثمّ مرّ حتّى أتى الغريّين فلحقناه وهو مستلقي على الأرض بجسده ليس تحته ثوب، فقال له قنبر : يا أمير المؤمنين ألا أبسط تحتك ثوبي؟ قال: «لا، هل هي إلّا تربة مؤمن ومن أحمته في مجلسه»، فقال الأصبغ : تربة المؤمن قد عرفناها كانت أو تكون فما من أحمته بمجلسه؟ فقال: «يابن نباتة لو كشف لكم لألفيتم أرواح المؤمنين في هذه حلقاً حلقاً يتزاورون ويتحدثون إنّ في هذا الظهر روح كلّ مؤمن، وبوادي برهوت روح كلّ كافر»، ثمّ ركب بغلة وانتهى إلى المسجد فنظر إليه وكان بخزف ودنان وطين فقال : «ويل لمن هدمك وويل لمن يستهدمك، وويل لبانيك بالمطبوخ، المغيّر قبلة نوح، وطوبى لمن شهد هدمه مع القائم من أهل بيتي أُولئك خير الأُمّة مع أبرار العترة».

أيضاً ذكر حسن بن الحسين بن طحال المقدادي إنّ زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورد إلى الكوفة ودخل مسجدها وبه أبو حمزة الثمالي وكان من زهّاد أهل الكوفة ومشايخها فصلّى ركعتين، قال أبو حمزة: فما سمعت أطيب من لهجته فدنوت لأسمع ما يقول، فسمعته يقول: «إلهي إن كان قد عصيتك فانّي قد أطعتك في أحبّ الأشياء إليك الإقرار بوحدانيتك منّاً منك عليّ لا منّاً منّي عليك، والدعاء معروف».

ثمّ نهض، قال أبو حمزة: فتبعته إلى مناخ الكوفة فوجدت عبداً أسوداً معه نجيب وناقة، فقلت: يا أسود من الرجل ؟ فقال : «أو تخفى عليك شمائله هو علي بن الحسين»، قال أبو حمزة: فأكببت على قدميه أُقبّلهما فرفع رأسي بيده وقال: «لا يا أبا حمزة إنّما يكون السجود اللّه (رَحمهُ اللّه)»، فقلت: یابن رسول اللّه ما أقدمك إلينا ؟ قال: «ما رأيت، ولو علم

ص: 409

الناس ما فيه من الفضل لأتوه ولو حبواً هل لك أن تزور معي قبر جدّي علي بن أبي طالب»؟ قلت: أجل فسرت في ظلّ ناقته يحدّثني حتّى أتينا الغريّين وهي بقعة بيضاء تلمع نوراً، فنزل عن ناقته ومرغ خديه عليها وقال: «يا أبا حمزة هذا قبر جدّي علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)» ثمّ زاره بزيارة أوّلها : «السلام على اسم اللّه الرضي، ونور وجهه المضيء»، ثمّ ودّعه ومضى إلى المدينة ورجعت أنا إلى الكوفة (1).

التسليم بإمرة المؤمنين

قال حذيفة: وإنّي أقبلت يوماً لبعض أموري إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مهجّراً رجاء أن ألقاه خالياً، فلمّا صرت بالباب فإذا أنا بالشملة قد سدلت على الباب، فرفعتها وهممت بالدخول، وكذلك كنّا نصنع، فإذا أنا بدحية قاعد عند رسول اللّه والنبي قائم ورأسه في حجر دحية فلمّا رأيته انصرفت فلقيني علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بعض الطريق فقال: «يابن اليمان من أين أقبلت» ؟ قلت من عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، قال: «وماذا صنعت عنده» ؟ قلت أردت الدخول عليه في كذا وكذا فذكرت الأمر الّذي جئت له فلم يتهيّأ لي ذلك، قال: «ولِمَ»؟ قلت: كان عنده دحية الكلبي، وسألت علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) معونتي على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في ذلك، قال: «فارجع معي» فرجعت معه.

فلمّا صرنا إلى باب الدار جلست بالباب ورفع علي الشملة ودخل وسلّم فسمعت دحية يقول: وعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته، ثمّ قال: اجلس فخذ رأس أخيك وابن عمك من حجري فأنت أولى الناس به، فجلس عليّ وأخذ رأس رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فجعله في حجره وخرج دحية من البيت فقال علي: «ادخل يا حذيفة» فدخلت وجلست فما كان بأسرع أن انتبه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فضحك في وجه علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم قال: «يا أبا الحسنِ مِنْ حجر مَنْ أخذت رأسي»؟ فقال: «من حجر دحية الكلبي»، فقال:

ص: 410


1- البحار: ج 100 ص 232.

«ذلك جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فما قلت له حين دخلت» ؟ «وما قال لك» ؟ قال: «دخلت فسلّمت فقال لي: وعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته»، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : « ياعلي سلّمت عليك ملائكة اللّه وسكّان سماواته بإمرة المؤمنين من قبل أن يسلّم عليك أهل الأرض، يا علي إن جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فعل ذلك من أمر اللّه تعالى، وقد أوحى إليّ عن ربي (عزّوجلّ) من قبل دخولك أن أفرض ذلك على الناس، وأنا فاعل ذلك إن شاء اللّه تعالى».

فلما كان من الغد بعثني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى ناحية فدك في حاجة فلبثت أيّاماً، فقدمت فوجدت الناس يتحدّثون أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمر الناس أن يسلّموا على علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بإمرة المؤمنين، وأنّ جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) أتاه بذلك عن اللّه، فقلت : صدق رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأنا قد سمعت جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) يسلّم على علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بإمرة المؤمنين، وحدثتهم الحديث، فسمعني عمر بن الخطاب وأنا أُحدّث الناس في المسجد، فقال لي : أنت رأيت جبرئيل وسمعته ؟ اتق القول، فقد قلت قولا عظيماً أو قد خولط بك، فقلت : نعم أنا سمعت ذلك ورأيته، فأرغم اللّه أنف من رغم فقال : يا أبا عبداللّه لقد رأيت وسمعت عجباً (1).

بريدة ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «إنّ النطفة تثبت في الرحم أربعين يوماً نطفة، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً، ثمّ مضغة أربعين يوماً، ثمّ بعده عظماً، ثمّ يكسى لحماً، ثمّ يلبس اللّه فوقه جلداً، ثمّ ينبت عليه شعراً، ثمّ يبعث اللّه (عزّوجلّ) إليه ملك الأرحام ويقال له: اكتب أجله وعمله ورزقه وشقيّاً يكون أو سعيداً، فيقول الملك : ياربّ أنى لي بعلم ذلك؟ فيقال له: «استمل ذلك من قرّاء اللوح المحفوظ، فيستميله منهم»، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «وإنّ من كتب أجله وعمله ورزقه وسعادة خاتمته علي بن أبي طالب، كتبوا من عمله أنّه لا

ص: 411


1- البحار : ج 28 ص 86 وروي عن : كشف اليقين ص 75 76 كتاب المعرفة، لعباد بن يعقوب بإسناده عن بريدة بن الحصيب.

يعمل ذنباً أبداً إلى أن يموت»، قال: وذلك قول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يوم شكاه بريدة، وذاك أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعث جيشاً ذات يوم لقراة أمر عليهم علياً صلوات اللّه عليه، وما بعث جيشاً قطّ فيهم علي إلّا جعله أميرهم، فلمّا غنموا رغب علي في أن يشتري من جملة الغنائم جارية، فجعل ثمنها في جملة الغنائم، فكايده فيها حاطب بن أبي بلتعة وبريدة الأسلميّ وزايداه، فلمّا نظر إليهما يكايدانه نظر إليهما إلى أن بلغت قيمتها قيمة عدل يومها، فأخذها بذلك، فلمّا رجعا إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) تواطئا على أن يقول ذلك بريدة الرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فوقف بريدة قدّام رسول اللّه فقال : يارسول ألم تر إلى ابن أبي طالب أخذ جارية من المغنم دون المسلمين ؟ فأعرض عنه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثم جاء عن يمينه فقالها فأعرض عنه رسول اللّه، فجاء عن يساره فقالها فأعرض عنه رسول اللّه، وجاء من خلفه فقالها فأعرض عنه، ثم عاد إلى بين يديه فقالها فغضب رسول اللّه غضباً لم ير قبله ولا بعده غضب مثله، وتغيّر لونه وانفتحت أوداجه وارتعدت فرائصه وقال: «يابريدة مالك آذيت رسول اللّه منذ اليوم؟ إني سمعت اللّه (عزّوجلّ) يقول : «إِنَّ الّذين يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينَا (57) وَالّذين يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانَا وَإِثْمًا مُّبِينًا»»(1).

قال بريدة: يارسول اللّه ما علمتني قصدتك بأذى، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أو تظنّ يابريدة أنّه لا يؤذيني إلّا من قصد ذات نفسي؟ أما علمت أن عليّاً منّي وأنا منه، وأنّ من آذى عليّاً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه، ومن آذى اللّه فحقّ على اللّه أن يؤذيه بأليم عذابه في نار جهنّم ؟ يابريدة أنت أعلم أم اللّه ؟ أنت أعلم أم قرّاء اللوح المحفوظ ؟ أنت أعلم أم ملك الأرحام» ؟ قال بريدة: بل اللّه أعلم وقرّاء اللوح المحفوظ أعلم وملك الأرحام أعلم، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «فأنت أعلم يابريدة أم حفظة علي بن أبي طالب»؟

ص: 412


1- الأحزاب: 56 58.

قال: بل حفظة علي بن أبي طالب، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «فكيف تخطئه وتلومه وتوبّخه وتشنّع عليه في فعله، وهذا جبرئيل أخبرني عن حفظة علي أنهم ما كتبوا عليه قطّ خطيئة منذ ولد، وهذا ملك الأرحام حدّثني أنهم كتبوا قبل أن يولد حين استحكم في بطن أُمّه أنّه لا يكون منه خطيئة أبداً، وهؤلاء قرّاء اللوح المحفوظ أخبروني ليلة أُسري بي أنّهم وجدوا في اللوح المحفوظ «علي المعصوم من كلّ خطأ وزلّة» فكيف تخطئة أنت يابريدة وقد صوّبه ربّ العالمين والملائكة المقرّبون؟ يابريدة لا تعرّض لعلي بخلاف الحسن الجميل فإنّه أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وسيّد الصالحين وفارس المسلمين وقائد الغرّ المحجّلين وقسيم الجنّة والنار يقول: هذا لي وهذا لك» (1).

خالد وأبي زاهر الأسدي

روى البخاري أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعث خالداً في سريّة، فأغار على حيّ أبي زاهر الأسدي، وفي رواية الطبري أنّه أمر بكتفهم ثمّ عرضهم على السيف، فقتل منهم من قتل فأتوا بالكتاب الّذي أمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أماناً له ولقومه إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قالوا جميعاً: إنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «اللّهمّ إني أبرأ إليك ممّا صنع خالد. وفي رواية الخدري: اللّهم إنّي أبرأ من خالد ثلاثاً» ثمّ قال: «أمّا متاعكم فقد ذهب فاقتسمه المسلمون ولكنّي أردّ عليكم مثل متاعكم»، ثمّ إنّه قدم على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثلاث رزم من متاع اليمن فقال: «ياعلي فاقض ذمّة اللّه وذمّة رسوله» ودفع إليه الرزم الثلاث، فأمر علي بنسخة ما أُصيب لهم فكتبوا، فقال: «خذوا هذه الرزمة فقوّموها بما أُصيب لكم» فقالوا: سبحان اللّه هذا أكبر مما أُصيب لنا ! فقال: «خذوا هذه الثانية فاكسوا عيالكم وخدمكم ليفرحوا بقدر ما حزنوا، وخذوا الثالثة بما علمتم وما لا تعلموا لترضوا عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )»، فلمّا قدم علي على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أخبره بالذي منه، فضحك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى بدت نواجذه وقال: «أدّى

ص: 413


1- البحار: ج 38 ص 66.

اللّه عن ذمّتك كما أدّيت عن ذمّتي»، ونحو ذلك روي أيضاً في بني جذيمة.

الحميري:

من ذا الّذي أوصى إليه محمّد***يقضي العداة فأنفذ الأقضاء

وقد ولّاه في ردّ الودائع لما هاجر إلى المدينة واستخلف علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) في آله وماله فأمره أن يؤدّي عنه كلّ دين وكلّ وديعة وأوصى إليه بقضاء ديونه (1).

ص: 414


1- البحار : ج 38 ص 73.

باب قصص من أصحاب الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

تخّلف الأصحاب عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن سلمان قال : لمّا فرغ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) من تغسيل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وتكفينه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة وحسناً وحسيناً (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فتقدّم وصففنا خلفه وصلّى عليه، وعائشة في الحجرة لا تعلم، قد أخذ جبرئيل ببصرها، ثم قال سلمان بعد ذكر بيعة أبي بكر وما جرى فيها: فلمّا كان الليل حمل على (عَلَيهِ السَّلَامُ) فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) على حمار وأخذ بيد ابنيه حسن وحسين فلم يدع أحداً من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلّا أتاه في منزله، وذكّره حقّه، ودعاه إلى نصرته، فما استجاب له من جميعهم إلّا أربعة وعشرون رجلا، فأمرهم أن يصبحوا بكرةً محلّقين رؤوسهم مع سلاحهم قد بايعوه على الموت، فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة قلت لسلمان مَن الأربعة؟ قال: أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوّام، ثمّ أتاهم من الليل الثاني فناشدهم فقالوا: نصبّحك بكرةً، فما منهم أحد وفى غيرنا، ثمّ ليلة الثالثة فما وفى غيرنا، فلمّا رأى علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) غدرهم وقلّة وفائهم لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلّفه ويجمعه (1).

سلمان وأبو ذر

عن عبد العظيم الحسني عن أبي جعفر الثاني، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: «دعا سلمان أبا ذر رحمة اللّه عليهما إلى منزله فقدم إليه،رغيفين، فأخذ أبو ذر الرغيفين يقلّبهما، فقال له سلمان: يا أبا ذر لأي شيء تقلّب هذين الرغيفين ؟ قال : خفت أن لا يكونا نضيجين،

ص: 415


1- البحار: ج 22 ص 328.

فغضب سلمان من ذلك غضباً شديداً، ثمّ قال: ما أجرأك حيث تقلب هذين الرغيفين ؟ فو اللّه لقد عمل في هذا الخبز الماء الّذي تحت العرش، وعملت فيه الملائكة حتّى ألقوه إلى الريح، وعملت فيه الريح حتّى ألقته إلى السحاب، وعمل فيه السحاب حتّى أمطره إلى الأرض، وعمل فيه الرعد والبرق والملائكة حتّى وضعوه مواضعه، وعملت فيه الأرض والخشب والحديد والبهائم والنار والحطب والملح، وما لا أُحصيه أكثر، فكيف لك أن تقوم بهذا الشكر، فقال أبو ذر إلى اللّه أتوب واستغفر اللّه مما أحدثت، وإليك أعتذر مما کرهت.

قال: ودعا سلمان أبا ذر رحمة اللّه عليهما ذات يوم إلى ضيافة فقدم إليه من جرابه كسراً يابسة وبلّها من ركوته، فقال أبو ذر ما أطيب هذا الخبز لو كان معه ملح فقام سلمان وخرج فرهن ركوته بملح وحمله إليه، فجعل أبو ذر يأكل ذلك الخبز ويذرّ عليه ذلك الملح ويقول : الحمد للّه الّذي رزقنا هذه القناعة فقال سلمان: لو كانت قناعة لم تكن ركوتي مرهونة»(1).

صوم الدهر وختم القرآن كل يوم

عن أبي بصير قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يحدث عن أبيه عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يوماً لأصحابه : أيّكم يصوم الدهر؟ فقال سلمان رحمة اللّه عليه: أنا يارسول اللّه، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : فأيّكم يحيي الليل؟ قال سلمان: أنا يارسول اللّه، قال: فأيكم يختم القرآن في كلّ يوم ؟ فقال سلمان: أنا يارسول اللّه، فغضب بعض أصحابه فقال : يارسول اللّه إنّ سلمان رجل من الفرس يريد أن يفتخر علينا معاشر قريش، قلت: أيكم يصوم الدهر ؟ فقال : أنا، وهو أكثر أيّامه يأكل، وقلت : أيكم يحيي الليل؟ فقال: أنا، وهو أكثر ليلته نائم، وقلت: أيكم يختم القرآن في كل يوم ؟ فقال :

ص: 416


1- البحار : ج 22 ص 320.

أنا وهو أكثر نهاره صامت، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): مه يافلان، أنى لك بمثل لقمان الحكيم، سله فإنّه ينبّئك، فقال الرجل :السلمان: يا أبا عبداللّه أليس زعمت أنك تصوم الدهر ؟ فقال: نعم، فقال: رأيتك في أكثر نهارك تأكل، فقال: ليس حيث تذهب، إنّي أصوم الثلاثة في الشهر، وقال اللّه (عزّوجلّ) : «مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا»(1)، وأصل شعبان بشهر رمضان، فذلك صوم الدهر، فقال: أليس زعمت أنك تحيي الليل؟ فقال: نعم فقال : أنت أكثر ليلتك نائم، فقال: ليس حيث تذهب، ولكنّي سمعت سمعت حبيبي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول : من بات على طهر فكأنّها أحيى الليل كلّه، فأنا أبيت على طهر، فقال: أليس زعمت أنك تختم القرآن في كلّ يوم؟ قال: نعم، قال: فأنت أكثر أيّامك صامت، فقال: ليس حيث تذهب، ولكنّي سمعت حبيبي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول لعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا أبا الحسن مثلك في أُمّتي مثل قل هو اللّه أحد، فمن قرأها مرّة قرأ ثلث القرآن، ومن قرأها مرّتين فقد قرأ ثلثي القرآن، ومن قرأها ثلاثاً فقد ختم القرآن، فمن أحبّك بلسانه فقد كمل له ثلث الإيمان ومن أحبّك بلسانه وقلبه فقد كمل له ثلثا الإيمان، ومن أحبّك بلسانه وقلبه ونصرك بيده فقد استكمل الإيمان، والذي بعثني بالحقّ ياعلي لو أحبّك أهل الأرض كمحبّة أهل السماء لك لما عذب أحد بالنار وأنا أقرأ قل هو اللّه أحد في كلّ يوم ثلاث مرات، فقام وكأنه قد ُألقم حجراً»(2).

سلمان الفارسي (رضیَ اللّهُ عنهُ)

الأصبغ قال : سأل ابن الكوّا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال : «عن أيّ أصحاب رسول اللّه تسألني» ؟ قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن أبي ذر الغفاري، قال: «سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول : ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء ذا لهجة أصدق

ص: 417


1- الأنعام: 160.
2- البحار : ج 22 ص 317.

من أبي ذرّ»، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن سلمان الفارسيّ: قال: «بخّ بخّ سلمان منا أهل البيت، ومن لكم بمثل لقمان الحكيم ؟ عَلِمَ علم الأوّل وعلم الآخر»، قال: يا أمير المؤمنين فأخبرني عن عمّار بن ياسر، قال : «ذلك امرؤ حرّم اللّه لحمه ودمه على النار، وأن تمسّ شيئاً منهما»، قال : يا أمير المؤمنين فأخبرني عن حذيفة بن اليمان، قال: «ذلك امرؤ علم أسماء المنافقين إن تسألوه عن حدود اللّه تجدوه بها عارفاً عالماً»، قال: يا أمير المؤمنين فأخبرني عن نفسك، قال: «كنت إذا سألت أُعطيت، وإذا سكت ابتديت»(1).

حكمة سلمان (رضیَ اللّهُ عنهُ)

عن حفص بن البختري عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: «وقع بين سلمان الفارسي (رَحمهُ اللّه) و بين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل: من أنت یا سلمان؟ فقال سلمان : أمّا أوّلي وأوّلك فنطفة قذرة، وأمّا آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة ووضعت الموازين فمن ثقل ميزانه فهو الكريم، ومن خفّ ميزانه فهو اللئيم» (2).

بيت سلمان (رضیَ اللّهُ عنهُ)

قال ابن أبي الحديد: سلمان رجل من فارس من رامهرمز، وقيل: بل من إصفهان من قرية يقال لها: جي، وهو معدود من موالي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وكنيته أبو عبداللّه، وكان إذا قيل له: ابن من أنت ؟ يقول : أنا سلمان بن الإسلام أنا من بني آدم، وقد روي أنّه تداوله بضعة عشر ربّاً عن واحد إلى آخر حتّى أفضى إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وروى أبو عمر بن عبدالبرّ في الاستيعاب : أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اشتراه من أربابه وهم قوم يهود، على أن يغرس لهم من النخل كذا وكذا، ويعمل فيها حتّى يدرك، فغرس رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ذلك

ص: 418


1- البحار: ج 22 ص 329.
2- البحار : ج 22 ص 355.

النخل كلّه بيده إلّا نخلة واحدة غرسها عمر بن الخطّاب، فأطعم النخل كلّه إلّا تلك النخلة، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «من غرسها» ؟ فقيل : عمر، فقلعها وغرسها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بیده،فأطعمت، قال أبو عمر: وكان سلمان يسفّ الخوص وهو أمير على المدائن، ويبيعه ويأكل منه، ويقول: لا أُحبّ أن آكل إلا من عمل يدي، وكان تعلّم سفّ الخوص من المدينة، وأوّل مشاهدهُ الخندق، وقد روي أنه شهد بدراً واُحداً ولم يفته بعد ذلك مشهد.

قال: وكان سلمان خيّراً فاضلا حَبْراً عالماً زاهداً متقشّفاً.

وعن الحسن البصريّ قال : كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان إذا خرج عطاؤه تصدّق به ويأكل من عمل يده، وكانت له عباءة يفرش بعضها، ويلبس بعضها، وقد ذكر ابن وهب وابن نافع أنّ سلمان لم يكن له بيت إنّما كان يستظّل بالجدران والشجر، وإنّ رجلا قال له : ألا أبنى لك بيتاً تسكن فيه ؟ قال : لا حاجة لي في ذلك، فما زال به الرجل حتّى قال له: أنا أعرف البيت الّذي يوافقك، قال: فصفه لي؟ قال: أبني لك بيتاً إذا أنت قمت فيه أصاب رأسك سقفه، وإن أنت مددت فيه رجليك أصابهما الجدار، قال: نعم، فبنى له(1).

إسلام أبي ذرّ (رضیَ اللّهُ عنهُ)

عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) لرجل من أصحابه: «ألا أُخبرك كيف كان سبب إسلام سلمان وأبي ذرّ رحمة اللّه عليهما» ؟ فقال الرجل وأخطأ أما إسلام سلمان فقد علمت فأخبرني كيف كان سبب إسلام أبي ذرّ ؟ فقال أبو عبداللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إنّ أبا ذر رحمة اللّه عليه كان في بطن مرّ يرعى غنماً له إذ جاء ذئب عن يمين غنمه فهشّ أبو ذرّ بعصاه عليه، فجاء الذئب عن يسار غنمه فهشّ أبو ذرّ بعصاه عليه، ثمّ قال:

ص: 419


1- البحار: ج 22 ص390.

واللّه ما رأيت ذئباً أخبث منك ولا شرّاً، فقال الذئب شرّ واللّه منّي أهل مكّة؛ بعث اللّه إليهم نبيّاً فكذّبوه وشتموه. فوقع كلام الذئب في أُذن أبي ذرّ، فقال لأُخته: هلمّي مزودي وإداوتي وعصاي، ثمّ خرج يركض حتّى دخل مكّة فإذا هو بحلقة مجتمعين، فجلس إليه فإذا هم يشتمون النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ويسبّونه كما قال الذئب فقال أبو ذرّ: هذا واللّه ما أخبرني به الذئب، فما زالت هذه حالتهم، حتّى إذا كان آخر النهار وأقبل أبو طالب قال بعضهم لبعض: كفّوا فقد جاء عمّه، فلمّا دنا منهم أكرموه وعظموه، فلم يزل أبو طالب متكلّمهم وخطيبهم إلى أن تفرّقوا، فلمّا قام أبو طالب تبعته فالتفت إلي فقال: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبي المبعوث فيكم، قال: وما حاجتك إليه؟ فقال له أبو ذرّ: أُؤمن به وأُصدّقه ولا يأمرني بشيء إلا أطعته، فقال أبو طالب: تشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه؟ قال: فقلت : نعم أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه، قال: فقال : إذا كان غداً في هذه الساعة فأتني.

قال: فلمّا كان من الغد جاء أبو ذرّ فإذا الحلقة مجتمعون وإذا هم يسبّون النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ويشتمونه كما قال الذئب فجلس معهم حتّى أقبل أبو طالب فقال بعضهم لبعض: كفّوا فقد جاء عمّه، فكفّوا فجاء أبو طالب فجلس فما زال متكلّمهم وخطيبهم إلى أن قام، فلمّا قام تبعه أبو ذر فالتفت إليه أبو طالب فقال ما حاجتك؟ فقال: هذا النبي المبعوث فيكم، قال: وما حاجتك إليه ؟ قال : فقال له: أُؤمن به وأُصدّقه، ولا يأمرني ء بشيء إلّا أطعته قال تشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه، قال: قلت: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه قال فرفعني إلى بيت فيه علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا دخلت سلّمت فردّ عليّ السلام، ثمّ قال: ما حاجتك؟ قلت: هذا النبي المبعوث فيكم قال: وما حاجتك إليه؟ قلت: أؤمن به وأصدقه، ولا يأمرني بشيء إلّا أطعته، قال: تشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه قال: قلت: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمّداً

ص: 420

رسول اللّه قال فرفعني إلى بيت فيه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وإذا هو نور في نور، فلمّا دخلت سلّمت فردّ عليّ السلام ثمّ قال : ما حاجتك؟ قلت: هذا النبي المبعوث فيكم، قال: وما حاجتك إليه؟ قلت: أُؤمن به وأُصدّقه، ولا يأمرني بشيء إلّا أطعته، قال: تشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً رسول اللّه ؟ قلت: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له وأنّ محمّداً رسول اللّه، فقال : أنا رسول اللّه يا أبا ذرّ، انطلق إلى بلادك فإنك تجد ابن عمّ قد مات فخذ ماله، وكن بها حتّى يظهر أمري، قال أبو ذرّ : فانطلقت إلى بلادي فإذا ابن عمّ لي قد مات، وخلّف مالا كثيراً في ذلك الوقت الّذي أخبرني فيه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فاحتويت على ماله وبقيت ببلادي حتّى ظهر أمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأتيته» (1).

أبوذرّ وغنمه

«حدّثني أبي، عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) أن رسول اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان من خيار أصحابه عنده أبو ذرّ الغفاري، فجاءه ذات يوم فقال: يارسول اللّه إنّ لي غنيمات قدر ستّين شاة، فأكره أن أبدو فيها وأُفارق حضرتك وخدمتك، وأكره أن أكّلها إلى راع فيظلمها ويسيء رعايتها، فكيف أصنع ؟ فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ابد فيها، فبدا فيها، فلمّا كان في اليوم السابع جاء إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا أبا ذرّ، قال : لبيّك يارسول اللّه، قال: ما فعلت غنيماتك؟ قال: يارسول اللّه إنّ لها قصّة عجيبة قال: وما هي؟ قال: يارسول اللّه بينا أنا في صلاتي إذا عدا الذئب على غنمي، فقلت يارب صلاتي، وياربّ غنمي، فآثرت صلاتي على غنمي، وأخطر الشيطان ببالي : يا أبا ذر أين أنت إن عدت الذئاب على غنمك وأنت تصلّي فأهلكتها وما يبقى لك في الدنيا ما تتعيّش به؟ فقلت للشيطان: يبقى لي توحيد اللّه تعالى، والإيمان برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وموالاة أخيه سيد الخلق بعده علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وموالاة الأئمّة الهادين الطاهرين من ولده، ومعاداة أعدائهم، وكلّ ما فات بعد ذلك

ص: 421


1- البحار: ج 22 ص 421.

سهل، فأقبلت على صلاتي، فجاء ذئب فأخذ حملا فذهب به وأنا أحسّ به، إذ أقبل على الذئب أسد فقطّعه نصفين واستنقذ الحمل وردّه إلى القطيع، ثمّ ناداني: يا أبا ذرّ أقبل على صلاتك، فإنّ اللّه قد وكّلني بغنمك إلى أن تصلّي، فأقبلت على صلاتي وقد غشيني من التعجب ما لا يعلمه إلّا اللّه تعالى حتّى فرغت منها، فجاءني الأسد وقال لي: امض إلى محمّد فأخبره أنّ اللّه تعالى قد أكرم صاحبك الحافظ لشريعتك، ووكّل أسداً بغنمه يحفظها، فعجب من حول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : صدقت يا أبا ذر، ولقد آمنت به أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين، فقال بعض المنافقين: هذا لمواطاة بين محمّد وأبي ذرّ، يريد أن يخدعنا بغروره، واتّفق منهم عشرون رجلا :وقالوا: نذهب إلى غنمه وننظر إليها، وننظر إليه إذا صلّى هل يأتي الأسد فيحفظ غنمه، فيتبيّن بذلك كذبه، فذهبوا ونظروا وأبو ذرّ قائم يصلي والأسد يطوف حول غنمه ويرعاها، ويردّ إلى القطيع ما شذّ عنه منها، حتّى إذا فرغ من صلاته ناداه الأسد: هاك قطيعك مسلّماً وافر العدد سالماً، ثمّ ناداهم الأسد: معاشر المنافقين أنكرتم لولي محمّد وعلي وآلهما الطيّبين والمتوسّل إلى اللّه بهم أن يسخّرني اللّه ربّي لحفظ غنمه، والذي أكرم محمّداً وآله الطيبين الطاهرين لقد جعلني اللّه طوع يد أبي ذرّ حتّى لو أمرني بافتراسكم وهلاككم لأهلكتكم، والذي لا يحلف بأعظم منه لو سأل اللّه بمحمّد وآله الطيّبين أن يحوّل البحار دهن زنبق وبان، والجبال مسكاً وعنبراً وكافوراً، وقضبان الأشجار قضب الزمرد والزبرجد لما منعه اللّه ذلك، فلمّا جاء أبو ذرّ إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال له رسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا أبا ذرّ إنّك أحسنت طاعة اللّه فسخّر اللّه لك من يطيعك في كفّ العوادي عنك، فأنت من أفاضل من مدحه (عزوجلّ) بأنّه يقيم الصلاة» (1).

ص: 422


1- البحار: ج 22 ص 393.

أبو ذرّ وهدية عثمان

عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «أرسل عثمان إلى أبي ذرّ موليين له، ومعها مائتا دينار، فقال لهما : انطلقا إلى أبي ذرّ فقولا له: إنّ عثمان يقرئك السلام، ويقول لك: هذه مائتا دينار فاستعن بها على ما نابك، فقال أبو ذر هل أعطى أحداً من المسلمين مثل ما أعطاني ؟ قالا: لا، قال: إنّما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسع المسلمين، قالا له : إنّه يقول: هذا من صلب مالي وباللّه الّذي لا إله إلّا هو ما خالطها حرام، ولا بعثت بها إليك إلّا من حلال، فقال: لا حاجة لي فيها، وقد أصبحت يومي هذا وأنا من أغنى الناس، فقالا له : عافاك اللّه وأصلحك ما نرى في بيتك قليلا ولا كثيراً مما تستمتع به، فقال: بلى تحت هذا الأكاف الّذي ترون رغيفاً شعير قد أتى عليهما أيّام، فما أصنع بهذه الدنانير لا واللّه حتّى يعلم اللّه أني لا أقدر على قليل ولا كثير، وقد أصبحت غنيّاً بولاية علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعترته الهادين المهديين الراضين المرضيين، الّذين يهدون بالحقّ وبه يعدلون، وكذلك سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول: «فإنّه لقبيح بالشيخ أن يكون كذاباً»، فردّاها عليه وأعلاه أنّي لا حاجة لي فيها ولا فيما عنده حتّى ألقى اللّه ربّي فيكون هو الحاكم فيما بيني وبينه» (1).

وفاة أبي ذرّ الغفاري

عن حلام بن دل الغفاري وكانت له صحبة قال مكث أبو ذرّ (رَحمهُ اللّه) بالربذة حتّى مات، فلمّا حضرته الوفاة قال لامرأته : اذبحي شاة من غنمك واصنعيها، فإذا نضجت فاقعدي على قارعة الطريق فأوّل ركب ترينهم قولي يا عباد اللّه المسلمين، هذا أبو ذرّ صاحب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد قضى نحبه ولقي ربّه، فأعينوني عليه وأجيبوه، فإنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أخبرني: «أنّي أموت في أرض غربة، وأنه يلي غسلي ودفني والصلاة عليّ رجال

ص: 423


1- البحار : ج 22 ص 398.

من أُمّته صالحون».

وعن محمّد بن علقمة بن الأسود النخعي قال: خرجت في رهط أُريد الحجّ منهم: مالك بن الحارث الأشتر حتّى قدمنا الربذة، فإذا امرأة على قارعة الطريق تقول : ياعباد اللّه المسلمين هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قد هلك غريباً ليس لي أحد يعينني عليه، :قال فنظر بعضنا إلى بعض، وحمدنا اللّه على ما ساق إلينا، واسترجعنا على عظم المصيبة، ثمّ أقبلنا معها فجهّزناه وتنافسنا في كفنه حتّى خرج من بيننا بالسواء، ثمّ تعاونّا على غسله حتّى فرغنا منه، ثمّ قدّمنا مالك الأشتر فصلّى بنا عليه، ثمّ دفناه، فقام الأشتر على قبره، ثمّ قال: اللّهمّ هذا أبو ذرّ صاحب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عبدك في العابدين، وجاهد فيك المشركين، لم يغيّر ولم يبدّل، لكنّه رأى منكراً فغيّره بلسانه وقلبه حتّى جفي ونفي وحرم واحتقر، ثمّ مات وحيداً وغريباً، اللّهم فاقصم من حرمه، ونفاه من مهاجره وحرم رسولك (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : فرفعنا أيدينا جميعاً وقلنا: آمين، ثمّ قدّمت الشاة التي صنعت فقالت: إنّه قد أقسم عليكم ألا تبرحوا حتّى تتغدّوا فتغدينا وارتحلنا (1).

ص: 424


1- البحار: ج 22 ص 399.

باب في أحوال فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)

ولادة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)

روي إن فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) ولدت بعد ما أظهر اللّه نبوة أبيها (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بخمس سنين، وقريش تبني البيت، وروي أنها ولدت عليها السلام في جميدى الآخرة يوم العشرين منه، سنة خمس وأربعين من مولد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )... قيل : بينا النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جالس بالأبطح ومعه عمّار بن ياسر والمنذر بن الضحضاح وأبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والعبّاس بن عبدالمطّلب وحمزة بن عبدالمطّلب، إذ هبط عليه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) في صورته العظمى قد نشر أجنحته حتّى أخذت من المشرق إلى المغرب فناداه :

«يا محمّد العلي الأعلى يقرأ عليك السلام، وهو يأمرك أن تعتزل عن خديجة أربعين صباحاً، فشق ذلك على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و كان لها محبّاً وبها وامقا»(1).

قال: فأقام النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل حتّى إذا كان في آخر أيّامه تلك بعث إلى خديجة بعمّار بن ياسر وقال: «قل لها ياخديجة لا تظنّي أن انقطاعي عنك ولا قلى (2) ولكن ربيّ عزّ وجلّ أمرني بذلك لتنفذ أمره فلا تظنّي ياخديجة إلّا خيراً، فإنّ اللّه (عزّوجلّ) ليباهي بك كرام ملائكته كلّ يوم مراراً، فإذ جنّك الليل فأجيفي(3) الباب وخذي مضجعك من فراشك فإنّي في منزل فاطمة بنت أسد»، فجعلت خديجة تحزن

ص: 425


1- المحبّ.
2- ولا غضب.
3- أجفت الباب: رددته.

في كلّ يوم مراراً لفقد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فلمّا كان في كمال الأربعين هبط جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : «يا محمّد العليّ الأعلى يقرؤك السلام وهو يأمرك أن تتأهب لتحيّته وتحفته»، قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يا جبرئيل وما تحفة ربّ العالمين؟ وما تحيّته» ؟

قال: «لا علم لي»، قال: فبينا النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطّى بمنديل،سندس، أو قال: استبرق، فوضعه بين يدي النبي، وأقبل جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال: «يا محمّد يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام»، فقال علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمن يرد إلى الإفطار، فلمّا كان في تلك الليلة أقعدني النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على باب المنزل وقال : يابن أبي طالب إنه طعام محرم إلّا عليَّ، قال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فجلست على الباب وخلا النبي اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالطعام وكشف الطبق فإذا عذق (1) من رطب وعنقود من عنب، فأكل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) منه شبعاً، وشرب من الماء ريّاً، ومدّيده للغسل فأفاض الماء عليه جبرئيل، وغسل يده ميكائيل، وتمندله إسرافيل، وارتفع فاضل الطعام مع الإناء إلى السماء، ثمّ قام النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليصلّي فأقبل عليه جبرئيل وقال:

الصلاة محرّمة عليك في وقتك حتّى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها، فإنّ اللّه (عزّوجلّ) آلى(2) على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذريّة طيّبة، فوثب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى منزل خديجة»، قالت خديجة وكنت قد ألفت الوحدة، فكان إذا جنّتني اللّيل غطّيت رأسي، وأسجفت (3) ستري، وغلقت بابي، وصلّيت وردي(4)، وأطفأت مصباحي، وآويت إلى فراشي، فلمّا كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا المنتبهة إذ جاء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقرع الباب، فناديت من هذا الّذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟

ص: 426


1- العِذق: عنقود العنب والرطب.
2- حَلَفَ.
3- اسجفت الستر : أرسلته.
4- الورد: الصلاة.

قالت خديجة : فنادى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: «افتحي ياخديجة فإنّي محمّد»، قالت خديجة: فقمت فرحةً مستبشرة بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وفتحت الباب ودخل النبي المنزل، وكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلّي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه، فلمّا كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء ولم يتأهب بالصلاة غير أنّه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني، وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة،وبعلها، فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما تباعد عني النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى حسست بثقل فاطمة في بطني.

وعن المفضّل بن عمر قال: قلت لأبي عبداللّه جعفر بن محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : كيف كانت ولادة فاطمة؟ قال: «نعم، إنّ خديجة رضوان اللّه عليها لمّا تزوّج بها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هجرتها نسوة مكّة، فكنّ لا يدخلن عليها ولا يسلّمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة من ذلك، فلمّا حملت بفاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) صارت تحدّثها في بطنها وتصبّرها، وكانت خديجة تكتم ذلك على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فدخل يوماً وسمع خديجة تحدّث فاطمة فقال لها:

ياخديجة من يحدّثك ؟ قالت: الجنين الّذي في بطني يحدّثني ويؤنسني، فقال لها : هذا جبرئيل يبشّرني أنها أُنثى، وأنها النسمة الطاهرة الميمونة، وأنّ اللّه تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة في الأُمّة، يجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه، فلم تزل خديجة رضي اللّه عنها على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجّهت إلى نساء قريش ونساء بني هاشم يجئن ويلين منها ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها؛ عصيتينا ولم تقبلي قولنا، وتزوجت محمّداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له، فلسنا نجي ولا نلي من أمرك شيئاً.

فاغتمت خديجة لذلك، فبينا هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة طوال كأنهن

ص: 427

من نساء بني هاشم، ففزعت منهنّ فقالت لها :إحداهنّ لا تحزني ياخديجة، فإنا رسل ربّك إليك ونحن أخواتك أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنّة، وهذه مريم بنت عمران وهذه صفوراء بنت شعيب بعثنا اللّه إليك لنلي من أمرك ما تلي النساء من النساء، فجلست واحدة عن يمينها والأُخرى عن يسارها والثالثة من بين يديها والرابعة من خلفها.

فوضعت خديجة فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) طاهرة مطهرة، فلمّا سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتّى دخل بيوتات مكّة، ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها فغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضاً من اللبن، وأطيب رائحة من المسك والعنبر فلّفتها بواحدة، وقنعتها بالأخرى، ثمّ استنطقتها فنطقت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) بشهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ أبي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سيد الأنبياء، وأنّ بعلي سيّد الأوصياء، وأنّ ولدي سيّد الأسباط، ثمّ سلّمت عليهنَّ وسمّت كلّ واحدة منهنّ باسمها وضحكن إليها وتباشرنّ الحور العين وبشر أهل الجنّة بعضهم بعضاً بولادة فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)، وحدث في السماء نورٌ زاهرٌ لم تره الملائكة قبل ذلك اليوم، فلذلك سمّيت الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)، وقالت: خذيها ياخديجة طاهرة مطهرة زكيّة ميمونة، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها خديجة (عَلَيهَا السَّلَامُ) فرحة مستبشرة، فألقمتها،ثديها، فشربت فدرّ عليها، وكانت لنا السلام تنمي في كل يوم كما ينمي الصبي في شهر، وفي شهر كما ينمي الصبي في سنة (صلّى اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها )»(1).

الجفنة من طعام الجنّة

روي عن جابر بن عبد اللّه قال: إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أقام أيّاماً ولم يطعم طعاماً حتّى شقّ ذلك عليه، فطاف في ديار أزواجه فلم يصب عند إحداهنّ شيئاً، فأتى فاطمة فقال:

ص: 428


1- البحار : ج 16 ص 78.

«يا بنيّة هل عندك شيء آكله، فإنّي جايع» ؟ قالت: «لا واللّه بنفسي وأخي»، فلمّا خرج عنها بعثت جارية لها رغيفين وبضعة لحم فأخذته تحت جفنة وغطت عليها وقالت: «واللّه لأُوثرنّ بها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على نفسي وغيري، وكانوا محتاجين إلى شبعة طعام»، فبعثت حسناً أو حسيناً إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فرجع إليها فقالت: «قد أتانا اللّه بشيء فخبأته لك»، فقال: «هلمّي عليّ يا بنيّة»، فكشفت الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلمّا نظرت إليه: بهتت وعرفت أنّه من عند اللّه فحمدت اللّه وصلت على نبيه أبيها وقدّمته إليه، فلما رآه حمد اللّه وقال : «من أين لك هذا» ؟ قالت: «هو من عند اللّه إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب». فبعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى علي فدعاه وأحضره، وأكل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين وجميع أزواج النبي حتّى شبعوا، قالت فاطمة: «وبقيت الجفنة كما هي، فأوسعت منها على جميع جيراني جعل اللّه فيها بركة وخيراً كثيراً»(1).

وعن أبو بكر بن شيبة في أماليه والدَّيلمي في فردوسه أنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة».

وعن حلية أبي نعيم: روى جابر بن سمرة عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في خبر: «أمّا إنّها سيّدة نساء يوم القيامة».

تاريخ البلاذري إنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال لفاطمة: «أنت أسرع أهلي لحاقاً بي» فوجمت، فقال لها: «أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة فتبسّمت» (2).

نطفة فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)

أبو بكر محمّد بن عبد اللّه الشافعيّ وابن شهاب الزهري وابن المسيّب ومن

ص: 429


1- البحار : ج 43 ص 27.
2- البحار : ج 43 ص 34.

أصحابنا أبو عبيدة الحذاء،وغيره عن الصّادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) «يكثر تقبيل فاطمة فأنكرت عليه بعض نسائه فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : إنّه لمّا عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنّة فناولني من رطبها فأكلتها في رواية : فناولني منها تفّاحة فأكلتها فتحوّل ذلك نطفة في صلبي، فلمّا هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسيّة، فكلّما اشتقت إلى رائحة الجنّة شممت رائحة ابنتي»(1).

من مسند أحمد عن عائشة قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها مشية رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال : مرحباً يا بنتي، ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثمّ أسرّ إليها حديثاً فبكت، قلت: استخصّك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بحديثه ثم تبكين، ثمّ أسرّ إليها حديثاً فضحكت فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عمّا قال، فقالت: «ما كنت لأُفشي سرّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )»، حتّى قبض رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سألتها، فقالت: «أسرّ إلي، فقال: إنّ جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان يعارضني بالقرآن في كلّ عام مرّة وإنّه عارضني به العام مرّتين ولا أراه إلّا قد حضر أجلي، وإّنك أوّل أهل بيتي لحوقاً بي، ونعم السّلف أنا لك، فبكيت لذلك، فقال: ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الأُمّة ونساء المؤمنين؟ قالت: فضحكت لذلك»(2).

عقد فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)

عن حمزة بن حمران عن الصادق عن أبيه (عَلَيهِم السَّلَامُ) عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: صلّى بنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) صلاة العصر فلمّا انفتل جلس في قبلته والنّاس حوله، فبينا هم كذلك إذا أقبل إليه شيخ من مهاجرة العرب عليه سمل قد تهلّل وأخلق وهو لا يكاد يتمالك كبراً وضعفاً، فأقبل عليه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يستحثّه الخبر، فقال الشيخ: يا نبيّ

ص: 430


1- البحار : ج 43 ص 42.
2- البحار : ج 43 ص 51.

اللّه أنا جائع الكبد فأطمعني، وعاري الجسد فاكسني، وفقير فارشني

فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «ما أجد لك شيئاً، ولكنّ الدال على الخير كفاعله، انطلق إلى منزل من يحبّ اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله، يؤثر اللّه على نفسه»، انطلق إلى حجرة فاطمة، وكان بيتها ملاصق بيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الّذي ينفرد به لنفسه من ازواجه، وقال: «يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة»، فانطلق الأعرابيّ مع بلال، فلمّا وقف على باب فاطمة نادى بأعلى صوته: «السّلام عليكم يا أهل بيت النبوه ومختلف الملائكة ومهبط جبرئيل الرّوح الأمين بالتنزيل من عند ربّ العالمين»، فقالت فاطمة : «وعليك السلام، فمن أنت يا هذا»؟ قال شيخ من العرب أقبلت على أبيك سيّد البشر مهاجراً من شقّة، وأنا يا بنت محمّد عاري الجسد جائع الكبد فواسيني يرحمك اللّه، وكان لفاطمة وعلي في تلك الحال ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثلاثاً ما طعموا فيها طعاماً، وقد علم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ذلك من شأنهما. فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ كان ينام عليه الحسن والحسين فقالت: «خذ هذا أيّها الطارق فعسى اللّه أن يرتاح لك ما هو خير منه»، قال الأعرابيّ: يا بنت محمّد شكوت إليك الجوع فناولتيني جلد كبش ما أنا صانع به مع ما أجد من السّغب. :قال فعمدت لمّا سمعت هذا من قوله إلى عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمّها حمزة بن عبد المطّلب، فقطعته من عنقها ونبذته إلى الأعرابيّ فقالت: «خذه وبعه فعسى اللّه أن يعوّضك به ما هو خير منه»، فأخذ الأعرابيّ العقد وانطلق إلى مسجد رسول اللّه، والنبي اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جالس في أصحابه، فقال: يا رسول اللّه أعطتني فاطمة [بنت محمّد ]هذا العقد فقالت: «بعه فعسى اللّه أن يصنع لك». قال: فبكى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال: «وكيف لا يصنع اللّه لك وقد أعطتكه فاطمة بنت محمّد سيّدة نساء بنات آدم». فقام عمّار بن ياسر رحمة اللّه عليه فقال : يا رسول اللّه أتأذن لي بشراء هذا العقد ؟ قال: «اشتره یا عمّار، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذّبهم اللّه بالنّار، فقال عمّار بكم العقد يا أعرابيّ؟ قال: بشبعة

ص: 431

من الخبز واللّحم وبردة يمانيّة أستربها عورتي وأُصلي فيها لربّي، ودينار يبلّغني إلى أهلي، وكان عمّار قد باع سهمه الّذي نفله رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من خيبر ولم يبق منه شيئاً، فقال: لك عشرون ديناراً ومأتا درهم هجرية وبردة يمانيّة وراحلتي تبلغك أهلك وشبعك من خبز البرّ واللّحم. فقال الأعرابيّ : ما أسخاك بالمال أيّها الرجل، وانطلق به عمّار فوفّاه ما ضمن له. وعاد الأعرابيّ إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أشبعت واكتسيت»؟ قال الأعرابيّ: نعم، واستغنيت بأبي أنت وأُمّي، قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «فاجز فاطمة بصنيعها»، فقال الأعرابيّ : اللّهم إنّك إله ما استحدّثناك، ولا إله لنا نعبده سواك وأنت رازقنا على كلّ الجهات، اللّهم أعط فاطمة ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت. فأمّن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على دعائه وأقبل على أصحابه فقال:

«إنّ اللّه قد أعطى فاطمة في الدّنيا ذلك؛ أنا أبوها وما أحد من العالمين مثلي، وعليّ بعلها ولو لا علىّ ما كان لفاطمة كفو أبداً، وأعطاها الحسن والحسين وما للعالمين مثلهما سيّدا شباب أسباط الأنبياء وسيّدا شباب أهل الجنّة، وكان بازائه مقداد وعمّار وسلمان» فقال: «وأزيدكم»؟ قالوا نعم يا رسول اللّه. قال: أتاني الرّوح يعني جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّها إذا هي قبضت ودفنت يسألها الملكان في قبرها من ربّك؟ فتقول: اللّه ربي، فيقولان: فمن نبيّك ؟ فتقول: أبي، فيقولان: فمن وليّك ؟ فتقول : هذا القائم على شفير قبري عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ألا وأزيدكم من فضلها : إن اللّه قد وكّل بها رعيلاً من الملائكة يحفظونها من بين يديها ومن خلفها وعن يمينها وعن شمالها، وهم معها في حياتها وعند قبرها وعند موتها، يكثرون الصلاة عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها. فمن زارني بعد وفاتي فكأنّها زارني في حياتي، ومن زار فاطمة فكأنّما زارني ومن زار علي بن أبي طالب فكأنّما زار فاطمة، ومن زار الحسن والحسين فكأنّها زار عليّاً، ومن زار ذرّيتهما فكأنّما زارهما». فعمد عمّار إلى العقد، فطيّبه بالمسك ولفّه في بردة،يمانيّة، وكان له عبد اسمه سهم ابتاعه من ذلك

ص: 432

السّهم الّذي أصابه به بخيبر، فدفع العقد إلى المملوك وقال له: خذ هذا العقد فادفعه إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأنت له، فأخذ المملوك العقد فأتى به رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأخبره بقول عمّار، فقال النبي : «انطلق إلى فاطمة فادفع اليها العقد وأنت لها»، فجاء المملوك بالعقد وأخبرها بقول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فأخذت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) العقد وأعتقت المملوك، فضحك الغلام فقالت: «ما يضحكك يا غلام»؟ فقال : أضحكني عظم بركة هذا العقد، أشبع جائعاً وكسي عرياناً وأغنى فقيراً وأعتق عبداً ورجع إلى ربّه»(1).

الايثار والثقة باللّه وحسن الظن

روی عبید بن كثیر معنعناً عن أبي سعيد الخدري قال: أصبح عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذات يوم ساغباً، فقال: «يا فاطمة هل عندك شيء تغذّينيه»؟ قالت: «لا واّلذي أكرم أبي بالنبوّة وأكرمك بالوصيّة ما أصبح الغداة عندي شيء، وما كان شيء أُطعمناه مذ يومين إلا شيء كنت أُؤثرك به على نفسي وعلى ابني هذين الحسن والحسين»، فقال عليّ: «يا فاطمة ألا كنت أعلمتيني فأبغيكم شيئاً» ؟ فقالت : «يا أبا الحسن إنّي لأستحيي من إلهي أن أُكلّف نفسك ما لا تقدر عليه» فخرج عليّ بن أبي طالب من عند فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) واثقاً باللّه بحسن الظنّ فاستقرض ديناراً، فبينا الدينار في يد عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) يريد أن يبتاع لعياله ما يصلحهم، فتعرّض له المقداد بن الأسود في يوم شديد الحرّ قد لوحته الشمس من فوقه وآذته من تحته، فلمّا رآه عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنكر شأنه.

فقال: «يا مقداد ما أزعجك هذه الساعة من رحلك»؟ قال: يا أبا الحسن خلّ سبيلي ولا تسألني عمّا ورائي، فقال: «يا أخي إنّه لا يسعني أن تجاوزني حتّى أعلم علمك»، فقال : يا أبا الحسن رغبة إلى اللّه وإليك أن تخلّي سبيلي ولا تكشفني عن حالي، فقال له : «يا أخي إنّه لا يسعك أن تكتمني حالك»، فقال : يا أبا الحسن أمّا إذا أبيت فوالذي

ص: 433


1- البحار : ج 43 ص 56.

أكرم محمّداً بالنبوّة وأكرمك بالوصيّة ما أزعجني من رحلي إلّا الجهد، وقد تركت عيالي يتضاغون جوعاً، فلمّا سمعت بكاء العيال لم تحملني الأرض فخرجت مهموماً راكب رأسي، هذه حالي وقصّتي فانهملت عينا عليّ بالبكاء حتّى بلّت دمعته لحيته، فقال له: «أحلف بالّذي حلف ما أزعجني إلّا الّذي أزعجك من رحلك، فقد استقرضت ديناراً فقد آثرتك على نفسي»، فدفع الدّينار إليه ورجع حتّى دخل مسجد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فصلّى فيه الظهر والعصر والمغرب، فلمّا قضى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) المغرب مرّ بعليّ بن أبي طالب وهو في الصفّ الأول فغمزه برجله، فقام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) متعقّباً خلف رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى لحقه على باب من أبواب المسجد، فسلّم عليه فردّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) [السلام] فقال: «يا أبا الحسن هل عندك شيء نتعشّاه فنميل معك»؟ فمكث مطرقاً لا يحير جواباً حياءً من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وهو يعلم ما كان من أمر الدّينار ومن أين أخذه وأين وجّهه، وقد كان أوحى اللّه تعالى إلى نبيه محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يتعشّى اللّيلة عند عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا نظر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى سكوته، فقال: «يا أبا الحسن ما لك لا تقول: لا، فأنصرف أو تقول: نعم، فأمضي معك»؟

فقال حياءً وتكرّماً «فاذهب بنا»، فأخذ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يد[ي] عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فانطلقا حتّى دخلا على فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) وهي في مصلّاها قد قضت صلاتها وخلفها جفنة تفور دخاناً، فلمّا سمعت كلام رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في رحلها خرجت من مصلاها فسلّمت عليه، وكانت أعزّ النّاس عليه، فردّ (عَلَيهَا السَّلَامُ) ومسح بيده على رأسها وقال لها : «يا بنتاه كيف أمسيت؟ رحمك اللّه تعالى عشّينا غفر اللّه لك وقد فعل»، فأخذت الجفنة فوضعتها بين يدي النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و عليّ بن أبي طالب، فلمّا نظر عليّ بن أبي طالب إلى طعام وشمّ ريحه رمى فاطمة ببصره رمياً شحيحاً، قالت له فاطمة: «سبحان اللّه ما أشحّ نظرك وأشدّه ! هل أذنبت فيما بيني وبينك ذنباً استوجبت به السخطة»؟ قال:

ص: 434

«وأيّ ذنب أعظم من ذنب أصبتيه، أليس عهدي إليك اليوم الماضي وأنت تحلفين باللّه مجتهدة ما طعمت طعاماً مذ يومين»؟ قال: فنظرت إلى السماء فقالت: «إلهي يعلم في سمائه ويعلم في أرضه أنّي لم أقل إلّا حقاً، فقال لها : «يا فاطمة أنّى لك هذا الطعام الّذي لم أنظر إلى مثل لونه قطّ ولم أشمَّ مثل ريحه قط وما أكل أطيب منه».

قال: فوضع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كفّه الطيبة المباركة بين كتفي علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فغمزها، ثمّ قال: «يا علي هذا بدل دينارك وهذا جزاء دينارك من عند اللّه و «اللّه يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(1) ثم استعبر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) باكياً ثم قال : الحمد للّه الّذي [هو] أبى لكم أن تخرجا من الدنيا حتّى يجزيكما، ويجريك يا على مجرى زكريّا ويجري فاطمة مجرى مريم بنت عمران «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا» (2)(3).

إجازة البنت في الزواج

عن جوير بن سعد عن الضحاك بن مزاحم قال سمعت عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)يقول: «أتاني أبو بكر وعمر فقالا : لو أتيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فذكرت له فاطمة، قال: فأتيته، فلمّا رآني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ضحك، ثم قال : ما جاء بك يا أبا الحسن، حاجتك؟ قال: فذكرت له قرابتي وقدمي في الإسلام ونصرتي له وجهادي، فقال: يا عليّ صدقت فأنت أفضل مما، تذكر، فقلت: يا رسول اللّه فاطمة تزوّجنيها، فقال : يا علي إنه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتّى أخرج إليك.

فدخل عليها، فقامت فأخذت رداءه ونزعت نعليه وأتته بالوضوء فوضّأته بيدها وغسلت رجليه ثمّ قعدت فقال لها يا فاطمة فقالت لبّيك لبيّك، حاجتك يا رسول

ص: 435


1- آل عمران: 33.
2- آل عمران: 33.
3- البحار : ج 43 ص 59.

اللّه ؟ قال : إنّ عليّ بن أبي طالب من قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه، وإنّي قد سألت ربي أن يزوّجك خير خلقه وأحبّهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين؟ فسكتت ولم تول وجهها، ولم ير فيه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، كراهة فقام وهو يقول: اللّه أكبر سكوتها إقرارها.

فأتاه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : يا محمّد زوّجها عليّ بن أبي طالب، فإنّ اللّه قد رضيها له ورضيه لها، قال عليّ: فزوّجني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثم أتاني فأخذ بيدي فقال: قم بسم اللّه، وقل على بركة وما شاء اللّه لا قوّة إلّا باللّه توكلت على اللّه، ثمّ جاءني حتّى أقعدني عندها (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمّ قال : اللّهم إنّهما أحبّ خلقك إلي، فأحبّهما وبارك في ذرّيّتها، واجعل عليهما منك،حافظاً، وإنّي أعيذهما بك وذرّيّتهما من الشيطان الرّجيم»(1).

زواج فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) ومهرها

عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لمّا زوّج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عليّاً فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) دخل عليها وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ فواللّه لو كان في أهل بيتي خير منه زوّجتك، وما أنا زوّجتك ولكنّ اللّه زوّجك وأصدق عنك الخمس مادامت السماوات والأرض.

قال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ): «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : قم فبع الدرع، فقمت فبعته وأخذت الثّمن، ودخلت على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فسكبت الدراهم في حجره، فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته، ثمّ قبض قبضة ودعا بلالا فأعطاه فقال : ابتع لفاطمة طيباً، ثمّ قبض رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من الدّراهم بكلتا يديه فأعطاه أبا بكر :وقال: ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت وأردفه بعمّار بن ياسر وبعدة من أصحابه. فحضروا السوق فكانوا يعترضون الشيء ممّا يصلح، فلا يشترونه حتّى يعرضوه على أبي بكر فإن استصلحه

ص: 436


1- البحار : ج 43 ص 93.

اشتروه، فكان ممّا اشتروه; قميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبريّة، وسرير مزمّل بشريط وفراشين من خيش مصر حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من جز الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها أذخر، وستر من صوف، وحصير هجري، ورحى لليد، ومخضب من نحاس، وسقاء من أدم، وقعب للبن، وشنّ للماء، ومطبرة مزفّتة وجرّة خضراء، وكيزان خزف حتّى إذا استكمل الشّراء حمل أبو بكر بعض المتاع، وحمل أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الّذين كانوا معه الباقي.

فلمّا عرض المتاع على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جعل يقلبه ويقول : بارك اللّه لأهل البيت.

قال عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فأقمت بعد ذلك شهراً أصلّي مع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأرجع إلى منزلي، ولا أذكر شيئاً من أمر فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)، ثم قلن أزواج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ألا نطلب لك من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) دخول فاطمة عليك؟ فقلت: افعلن فدخلن عليه، فقالت أُمّ أيمن: يا رسول اللّه لو أنّ خديجة باقية لقرّت عينها بزفاف فاطمة، وإنّ عليّاً يريد أهله، فقرّ عين فاطمة ببعلها واجمع شملها وقرّ عيوننا بذلك، فقال : فما بال عليّ لا يطلب منّي زوجته؟ فقد كنّا نتوقّع ذلك منه، قال علي: فقلت: الحياء يمنعني يا رسول اللّه.

فالتفت إلى النّساء فقال: من هاهنا ؟ فقالت أم سلمة: أنا أمّ سلمة: وهذه زينب وهذه فلانة وفلانة، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : هيّؤوا لابنتي وابن عمّي في حجري بيتاً، فقالت أمّ سلمة : في أيّ حجرة يا رسول اللّه ؟ فقال رسول اللّه : في حجرتك، وأمر نساءه أن يزيّنَّ ويصلحن من شأنها.

قالت أُمّ سلمة : فسألت فاطمة : هل عندك طيب ادّخرتيه لنفسك؟ قالت: «نعم»، فأتت بقارورة فسكبت منها في راحتي فشممت منها رائحة ما شممت مثلها قطّ، فقلت ما هذا؟ فقالت: «كان دحية الكلبي يدخل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فيقول لي: يا

ص: 437

فاطمة هات الوسادة فاطرحيها لعمّك، فأطرح له الوسادة فيجلس عليها، فإذا نهض سقط من بين ثيابه شيء فيأمرني بجمعه»، فسأل علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن ذلك فقال : «هو عنبر يسقط من أجنحة جبرئيل».

قال عليّ: ثمّ قال لي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا علي اصنع لأهلك طعاماً فاضلا، ثمّ قال: من عندنا اللّحم والخبز، وعليك التمر والسّمن، فاشتريت تمراً وسمناً فحسر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن ذراعه وجعل يشدخ التمر في السمن حتّى اتخذه حيساً، وبعث إلينا كبشاً سميناً فذبح، وخبز لنا خبز كثير.

ثم قال لي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أُدع لمن أحببت فأتيت المسجد وهو مشحّن بالصحابة، فاستحييت أن أشخص قوماً وأدع قوماً، ثمّ صعدت على ربوة هناك وناديت: أجيبوا إلى وليمة فاطمة، فأقبل النّاس إرسالا، فاستحييت من كثرة الناس وقلة الطعام، فعلم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ما تداخلني فقال : يا عليّ إنّي سأدعوا اللّه بالبركة، قال عليّ: فأكل القوم عن آخرهم طعامي، وشربوا،شرابي، ودعوا لي بالبركة وصدروا، وهم أكثر من أربعة آلاف رجل، ولم ينقص من الطعام شيء.

ثم دعا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالصّحاف فملئت ووجّه بها إلى منازل أزواجه، ثمّ أخذ صحفة وجعل فيها طعاماً وقال: «هذا الفاطمة،وبعلها»، حتّى إذا انصرفت الشمّس للغروب قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يا أُمّ سلمة هلمي فاطمة»، فانطلقت فأتت بها وهي تسحب أذيالها وقد تصبّبت عرقاً حياءً من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فعثرت فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أقالك اللّه العثرة في الدّنيا والآخرة»، فلمّا وقفت بين يديه كشف الرداء عن وجهها حتّى رآها عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثم أخذ يدها فوضعها في يد عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال: «بارك اللّه في ابنة رسول اللّه، يا علي نعم الزّوجة فاطمة ويا فاطمة نعم البعل عليّ، انطلقا إلى منزلكما ولا تحدثا أمراً حتّى آتيكما».

ص: 438

قال علىّ: «فأخذت بيد فاطمة وانطلقت بها حتّى جلست في جانب الصّفة، وجلست في جانبها وهي مطرقة إلى الأرض حياءً منّي، وأنا مطرق إلى الأرض حياءً منها.

ثم جاء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : من هاهنا ؟ فقلنا : أُدخل يا رسول اللّه مرحباً بك زائراً و داخلا فدخل فأجلس فاطمة من جانبه ثمّ قال: يا فاطمة ايتيني بماء، فقامت إلى قعب في البيت فملأته ماء ثمّ أتته به، فأخذ جرعة فتمضمض بها ثمّ مجّها في القعب ثمّ صبّ منها على رأسها، ثمّ قال : أقبلي، فلمّا أقبلت نضح منه بين ثدييها، ثمّ قال: أدبري، فأدبرت فنضح منه بين كتفيها، ثمّ قال : اللّهمّ هذه ابنتي وأحبّ الخلق إلى اللّهم وهذا أخي وأحبّ الخلق إليّ، اللّهمّ اجعله لك وليّاً وبك حفيّاً، وبارك له في أهله، ثمّ قال: يا عليّ ادخل بأهلك بارك اللّه لك ورحمة اللّه وبركاته عليكم إنّه حميد مجيد»(1).

وفاة فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)

عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قبضت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) في جمادى الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه سنة إحدى عشر من الهجرة، وكان سبب وفاتها أنّ قنفذاً مولى عمر لكزها بنعل السيف بأمره، فأسقطت محسناً، ومرضت من ذلك مرضاً شديداً، ولم تدع أحداً ممن آذاها يدخل عليها، وكان الرجلان من أصحاب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سألا أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أن يشفع لهما إليها، فسألها أمير المؤمنين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فلمّا دخلا عليها قالا لها: كيف أنت يا بنت رسول اللّه ؟ قالت : بخير بحمد اللّه، ثمّ قالت لهما : هل سمعتها النبي يقول : فاطمة بضعة منّي فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه ؟ قالا: بلى، قالت: فواللّه لقد،آذيتماني، قال: فخرجا من عندها (عَلَيهَا السَّلَامُ) وهي ساخطة عليهما».

ص: 439


1- البحار : ج 43 ص 94.

قال محمّد بن همام: وروي أنّها قبضت لعشر بقين من جمادى الآخرة، وقد كمل عمرها يوم قبضت ثمانية عشر سنة وخمساً وثمانين يوماً بعد وفاة أبيها، فغسلها أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ولم يحضرها غيره والحسن والحسين وزينب وأمّ كلثوم وفضة جاريتها وأسماء بنت عميس، وأخرجها إلى البقيع في الليل، ومعه الحسن والحسين وصلّى عليها، ولم يعلم بها ولا حضر وفاتها، ولا صلّى عليها أحد من سائر الناس غيرهم، ودفنها بالروضة وعمي موضع قبرها. وأصبح البقيع ليلة دفنت وفيه أربعون قبراً جدداً، وإنّ المسلمين لما علموا وفاتها جاؤوا إلى البقيع، فوجدوا فيه أربعين قبراً، فأشكل عليهم قبرها من سائر القبور، فضجّ الناس ولام بعضهم بعضاً وقالوا: لم يخلف نبيكم فيكم إلّا بنتا واحدة تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها والصّلاة عليها، ولا تعرفوا قبرها. ثمّ قال ولاة الأمر منهم: هاتم من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور حتّى نجدها فنصلّي عليها ونزور قبرها، فبلغ ذلك أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه فخزج مغضباً قد احمرت عيناه ودرّت أوداجه وعليه قباه الأصفر الّذي كان يلبسه في كلّ كريهة، وهو متوكّأ على سيفه ذي الفقار، حتّى ورد البقيع، فسار إلى النّاس النّذير وقالوا: هذا عليّ بن أبي طالب قد أقبل كما ترونه يقسم باللّه لئن حوّل من هذه القبور حجر ليضعنَّ السَّيف على غابر الآخر. فتلقاه عمر ومن معه من أصحابه وقال له: ما لك يا أبا الحسن واللّه لننبشن قبرها ولنصلّين عليها، فضرب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) بيده إلى جوامع ثوبه فهزّه، ثمّ ضرب به الأرض وقال له: «يا ابن السّوداء أمّا حقّي فقد تركته مخافة أن يرتدّ الناس عن دينهم، وأما قبر فاطمة فوالذي نفس عليّ بيده لئن رمت وأصحابك شيئاً من ذلك لأسقينّ الأرض من دمائكم، فإن شئت فأعرض يا عمر»، فتلقاه أبو بكر فقال : يا أبا الحسن بحقّ رسول اللّه وبحقّ من فوق العرش إلّا خلّيت عنه فإنّا غير فاعلين شيئاً تكرهه، فقال: فخلّى عنه

ص: 440

وتفرّق النّاس، ولم يعودوا إلى ذلك(1).

فضل فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) عند اللّه

وعن أبي ذر رحمة اللّه عليه قال: رأيت سلمان وبلالا يقبلان إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذ انكبّ سلمان على قدم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقبّلها فزجره النبي عن ذلك، ثمّ قال له: «ياسلمان لا تصنع بي ما تصنع الأعاجم بملوكها، أنا عبد من عبيد اللّه، آكل مما يأكل العبد وأقعد كما يقعد العبد».

فقال سلمان : يامولاي سألتك باللّه إلّا أخبرتني بفضل فاطمة القيامة، قال: يوم فأقبل النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ضاحكاً مستبشراً ثمّ قال : «والذي نفسي بيده إنّها الجارية التي تجوز في عرصة القيامة على ناقة رأسها من خشية اللّه وعيناها من نور اللّه وحطامها من جلال اللّه، وعنقها من بهاء اللّه وسنامها من رضوان اللّه وذنبها من قدس اللّه، وقوائمها من مجد اللّه، إن مشت سبّحت، وإن رغت قدّست عليها هودج من نور فيه جارية إنسيّة حورية عزيزة جمعت فخلقت وصنعت ومثلت من ثلاث أصناف، فأوّلها من أذفر، وأوسطها من العنبر الأشهب، وآخرها من الزعفران الأحمر، عجنت بماء الحيوان، لو تفلت تفلة في سبعة أبحر مالحة لعذبت ولو أخرجت ظفر خنصرها إلى دار الدنيا يغذّي الشمس والقمر، جبرئيل عن يمينها وميكائيل عن شمالها وعلي أمامها والحسن والحسين وراءها، واللّه يكلأها ويحفظها، فيجوزون في عرصة القيامة فإذا النداء من قبل اللّه جل جلاله:

«معاشر الخلائق غضّوا أبصاركم ونكّسوا رؤوسكم هذه فاطمة بنت محمّد نبيّكم زوجة علي إمامكم أمّ الحسن والحسين» فتجوز الصراط وعليها ريطتان بيضاوان فإذا

ص: 441


1- البحار: ج 43 ص 170.

دخلت الجنّة ونظرت إلى ما أعدّ اللّه لها من الكرامة قرأت: بسم اللّه الرحمن الرحيم «وَقَالُوا الْحَمْدُ للّه الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنْ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورُ (34) الّذي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ، لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبُ»(1).

قال: فيوحي اللّه (عزّوجلّ) إليهاز يا فاطمة سليني أُعطك وتمنّي عليّ أُرضك فتقول: إلهي أنت المنى وفوق المنى أسألك أن لا تعذّب محبّي ومحبّي عترتي بالنّار، فيوحي اللّه إليها : يافاطمة وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والارض بألفي عام أن لا أُعذّب محبّيك ومحبّي عترتك بالنار»(2).

فعلت فداها أبوها

عن محمّد بن قيس قال : كان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذا قدم من سفر بدأ بفاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) فدخل عليها فأطال عندها المكث، فخرج مرّة في سفر فصنعت فاطمة مسكتين(3) من ورق وقلادة وقرطين وستراً لباب البيت، لقدوم أبيها وزوجها (عَلَيهَا السَّلَامُ)، فلمّا قدم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) دخل عليها فوقف أصحابه على الباب لا يدرون يقفون أو ينصرفون لطول مكثه عندها.

فخرج عليهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و وقد عرف الغضب في وجهه حتّى جلس عند المنبر، فظنّت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) أنه إنّما فعل ذلك رسول اللّه لما رأى من المسكتين والقلادة والقرطين والستر، فنزعت قلادتها وقرطيها ومسكتيها ونزعت الستر فبعثت به إلى رسول

ص: 442


1- فاطر: 34-35.
2- ج 27 ص 139 عن كنز جامع الفوائد: ص 253 و 254.
3- المسكة محركة السوار والخلخال إذا كان من قرن أو عاج، ولذلك قيدها بالورق وهو الفضّة، أي كان سوارها من فضّة لا من غيرها، والقلادة معروف والقرط ما يعلّق على شحمة الأُذن من درّة ونحوها.

اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقالت للرسول : قل له: «تقرأ عليك ابنتك السلام وتقول : اجعل هذا في سبيل اللّه»، فلمّا أتاه قال: «فعلت فداها أبوها ثلاث مرّات، ليست الدنيا من محمّد ولا من آل محمّد ولو كانت الدنيا تعدل عند اللّه من الخير جناح بعوضة ما سقي فيها كافراً شربة ماء»، ثمّ قام فدخل عليها (1).

ص: 443


1- البحار: ج 73 ص 86.

ص: 444

باب في أحوال الإمام الحسن

ولادة الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)

برّة ابنة أُميّة الخزاعي قالت لمّا حملت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) بالحسن خرج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في بعض وجوهه فقال لها: «إنّك ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل، فلا ترضعيه حتّى أصير إليك»، قالت: فدخلت على فاطمة حين ولدت الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) وله ثلاث ما أرضعته، فقلت لها أعطينيه حتّى أُرضعه، فقالت: «كلاً»، ثمّ أدركتها رقّة الأُمّهات فأرضعته، فلمّا جاء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال لها: «ماذا صنعت» ؟ قالت: أدركني عليه رقة الأُمّهات فأرضعته، فقال: «أبى اللّه عزّ وجلّ إلّا ما أراد».

فلمّا حملت بالحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال لها : «يا فاطمة إنّك ستلدين غلاماً قد هنّأني به جبرئيل فلا ترضعيه حتّى أجيء إليك ولو أقمت شهرا»، قالت: أفعل ذلك، وخرج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في بعض وجوهه، فولدت فاطمة الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فما أرضعته حتّى جاء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال لها: «ماذا صنعت» ؟ قالت: «ما أرضعته»، فأخذه فجعل لسانه في فمه، فجعل الحسين يمصّ حتّى قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «إيهاً حسين إيهاً حسين»، ثمّ قال: «أبى اللّه إلاّ ما يريد، هي فيك وفي ولدك، يعني الإمامة»(1).

الحسن والحسين ابنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

عن عامر الشعبيّ أنّه قال: بعث إلىّ الحجّاج ذات ليلة، فخشيت فقمت فتوضّأت

ص: 445


1- البحار : ج 43 ص 254.

وأوصيت ثم دخلت عليه، فنظرت فإذا نطع منشور والسيف مسلول، فسلّمت عليه فردّ عليّ السّلام فقال: لا تخف فقد أمنتك اللّيلة وغداً إلى الظهر، وأجلسني عنده، ثمّ أشار فأتي برجل مقيد بالكبول والأغلال فوضعوه بين يديه، فقال: إن هذا الشيخ يقول: إنّ الحسن والحسين كانا ابني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ليأتينّي بحجّة من القرآن وإلا لأضربنّ عنقه، فقلت: يجب أن تحلّ قيده، فإنّه إذا احتجّ فإنّه لا محالة يذهب، وإن لم يحتج فإنّ السيف لا يقطع هذا الحديد، فحلّوا قيوده وكبوله، فنظرت فإذا هو سعيد بن جبير فحزنت بذلك وقلت: كيف يجد حجّة على ذلك من القرآن فقال له الحجّاج: ائتني بحجّة من القرآن على ما ادّعيت وإلا أضرب عنقك، فقال له: انتظر، فسكت ساعة ثمّ قال له مثل ذلك، فقال : انتظر.

فسكت ساعة ثمّ قال له مثل ذلك فقال: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم ثمّ قال: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ، دَاوُدَ وَسُلَيْمَنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَرُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»(1) ثم سكت وقال للحجاج فقرأ «وَزَكَرِيَّا اقرأ ما بعده وَيَحْيَى وَعِيسَى» فقال سعيد: كيف يليق هاهنا عيسى؟ قال: إنّه كان من ذريته، قال: إن كان عيسى من ذرية إبراهيم ولم يكن له أب بل كان ابن ابنته فنسب إليه من بعده، فالحسن والحسين أولى أن ينسبا إلى رسول اللّه اللّه مع قربهما منه، فأمر له بعشرة آلاف دينار، وأمر بأن يحملوها معه إلى داره، وأذن له في الرّجوع.

قال الشّعبي : فلمّا أصبحت قلت في نفسي : قد وجب عليّ أن آتي هذا الشيخ فأتعلّم منه معاني القرآن، لأنّي كنت أظنّ أنّي أعرفها فإذا أنا لا أعرفها، فأتيته فإذا هو في المسجد وتلك الدنانير بين يديه يفرّقها عشراً عشراً ويتصدق بها، ثمّ قال: هذا كلّه ببركة الحسن

ص: 446


1- الأنعام: 84.

والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، لئن كنّا أغممنا واحداً لقد أفرحنا ألفاً ألفاً و أرضينا اللّه و رسوله اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(1).

العجوز وكرم الحسنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)

أبو جعفر المدائنيّ في حديث طويل : خرج الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر حجّاجاً ففاتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا فرأوا في بعض الشعوب خباءً رثّاً وعجوزاً فاستسقوها، فقالت: اطلبوا هذه الشويهة، ففعلوا واستطعموها، فقالت : ليس إلّا هي، فليقم أحدكم فليذبحها حتّى أصنع لكم طعاماً، فذبحها أحدهم ثمّ شوّت لهم من لحمها، فأكلوا وقيّلوا عندها، فلمّا نهضوا قالوا لها: «نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا انصرفنا وعُدنا فألممي بنا فإنّا صانعون بك خيراً، ثم رحلوا».

فلمّا جاء زوجها وعرف الحال أوجعها ضرباً، ثمّ مضت الأيّام فأضرت بها الحال، فرحلت حتّى اجتازت بالمدينة، فبصر بها الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأمر لها بألف شاة، وأعطاها ألف دينار، وبعث معها رسولا إلى الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأعطاها مثل ذلك، ثم بعثها إلى عبد اللّه بن جعفر فأعطاها مثل ذلك (2).

قصّة شهادة الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) ودفنه

وروی عیسی بن مهران قال: حدّثني عثمان بن عمر قال: حدّثنا ابن عون عن عمر بن إسحاق قال: كنت مع الحسن والحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في الدار فدخل الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) المخرج ثمّ خرج فقال: «لقد سقيت السمّ مراراً ما سقيته مثل هذه المرّة لقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت أقلّبها بعود معي».

ص: 447


1- البحار : ج 43 ص 229.
2- البحار : ج 43 ص 341.

فقال له الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ومن سقاكه» ؟ قال : «وما تريد منه ؟ أتريد قتله إن يكن هو هو،فاللّه أشدّ نقمة منك، وإن لم يكن هو فما أحبّ أن يؤخذ بي بريء».

وروى عبد اللّه بن إبراهيم عن زياد المخارقي قال : لمّا حضرت الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) الوفاة استدعى الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال : يا أخي إنّي مفارقك، ولاحق بربّي وقد سقيت السم ورميت بكبدي في الطست، وإنّي لعارف بمن سقاني السمّ ومن أين دهيت، وأنا أُخاصمه إلى اللّه عزّ وجلّ، فبحقي عليك إنّ تكلّمت في ذلك بشيء، وانتظر ما يُحدث اللّه عزّ وجلّ فيّ، فإذا قضيت نحبي فغمّضني وغسلني وكفّنّي وأدخلني على سريري إلى قبر جدّي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لأُجدّد به عهداً ثمّ ردّني إلى قبر جدّتي فاطمة [بنت أسد] رضي اللّه عنها، فادفني هناك، وستعلم يا ابن أمّ إنّ القوم يظنون أنكم تريدون دفني عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فيجلبون في ذلك، ويمنعونكم منه، باللّه أُقسم عليك أن تهرق في أمري محجمة دم»، ثم وصى إليه بأهله وولده وتركاته، وما كان وصى إليه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حين استخلفه وأهلهّ بمقامه، ودلّ شيعته على استخلافه، ونصبه لهم علماً من بعده.

فلمّا مضى لسبيله غسله الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكفّنه وحمله على سريره، ولم يشكّ مروان ومن معه من بني أُميّة أنهم سيدفنونه عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فتجمّعوا ولبسوا السلاح، فلمّا توجّه به الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى قبر جده رسول اللّه اللّه ليجدّد به عهداً أقبلوا إليه في جمعهم، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول : ما لي ولكم؟ تريدون أن تدخلوا بيتي من ولكم؟ تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أُحبّ، وجعل مروان يقول : «يا ربّ هيجا هي خير من دعة» أيدفن عثمان في أقصى المدينة ويدفن الحسن مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟ لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف، وكادت الفتنة أن تقع بين بني هاشم، وبين بني أُميّة.

فبادر ابن عبّاس (رَحمهُ اللّه) إلى مروان فقال له ارجع یا مروان من حيث جئت فإنا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، لكنا نريد أن نجدّد به عهداً بزيارته ثمّ نردّه إلى جدته

ص: 448

فاطمة، فندفنه عندها بوصيّته بذلك، ولو كان أوصى بدفنه مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لعلمت أنّك أقصر باعاً من ردّنا عن ذلك، لكنّه كان أعلم باللّه وبرسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدماً كما طرق ذلك غيره، ودخل بيته بغير إذنه.

ثمّ أقبل على عائشة وقال لها : واسوأتاه يوماً على بغل ويوماً على جمل؟ تريدين أن تطفئي نور اللّه وتقاتلي أولياء اللّه ارجعي فقد كفيت الّذي تخافين وبلغت ما تحبّين واللّه منتصر لأهل هذا البيت ولو بعد حين.

وقال الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «واللّه لولا عهد الحسن إلي بحقن الدماء وأن لا أُهريق في أمره محجمة دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف اللّه منكم مآخذها، وقد نقضتم العهد بيننا و بينكم وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا، ومضوا بالحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) فدفنوه بالبقيع عند جدته فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف رضي اللّه عنها » (1).

ص: 449


1- البحار: ج 44 ص 156.

ص: 450

باب في أحوال الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)

الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والغلام

روي عن الحسين بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «صح عندي قول النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أفضل الأعمال بعد الصلاة إدخال السرور في قلب المؤمن بما لا إثم فيه، فإنّي رأيت غلاماً يؤاكل كلباً، فقلت له في ذلك، فقال: يا ابن رسول اللّه إنّي مغموم أطلب سروراً بسروره لأنّ صاحبي يهودي أُريد أُفارقه»، فأتى الحسين إلى صاحبه بمائتي دينار ثمناً له، فقال اليهوديّ: الغلام فداء الخُطاك، وهذا البستان،له، ورددت عليك المال، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «وأنا قد وهبت لك المال»، قال: قبلت المال ووهبته للغلام، فقال الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أعتقت الغلام ووهبته له جميعاً»، فقالت امرأته قد أسلمت ووهبت زوجي مهري، فقال اليهوديّ: وأنا أيضاً أسلمت وأعطيتها هذه الدّار (1).

الأعرابيّ والأسئلة الثلاثة

في أسانيد أخطب خوارزم أورده في كتاب له في مقتل آل الرّسول أنّ أعرابيّاً جاء إلى الحسين بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: يا ابن رسول اللّه قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائه، فقلت في نفسي: أسأل أكرم الناس، وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

فقال الحسين : «يا أخا العرب أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال، وإن أجبت عن الكلّ

ص: 451


1- البحار : ج 44 ص 194.

أعطيتك الكلّ.

فقال الأعرابيّ: يا ابن رسول اللّه أمثلك يسأل عن مثلي، وأنت من أهل العلم والشرف؟ فقال الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : بلی، سمعت جدي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) [ يقول]: المعروف بقدر المعرفة، فقال الأعرابيّ : سل عمّا بدا لك، فإن أجبت وإلّا تعلّمت منك، ولا قوّة إلّا باللّه.

فقال الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أيّ الأعمال أفضل» ؟ فقال الأعرابيّ: الإيمان باللّه، فقال الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «فما النجاة من المهلكة» ؟ فقال الأعرابيّ : الثقة باللّه، فقال الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فما يزين الرّجل»؟ فقال الأعرابيّ: علم معه حلم، فقال: «فإن أخطأه ذلك»؟ فقال: مالٌ معه مروءة، فقال: «فإن أخطأه ذلك» ؟ فقال : فقر معه صبر، فقال الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فإن أخطأه ذلك ؟ فقال الأعرابيّ : فصاعقة تنزل من السماء وتحرقه فإنّه أهل لذلك.

فضحك الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ورمى بصرّة إليه فيه ألف دينار، وأعطاه خاتمه، وفيه فصّ قيمته مائتا درهم، وقال: «يا أعرابيّ أعط الذّهب إلى غرمائك، واصرف الخاتم في نفقتك»، فأخذ الأعرابيّ وقال : «اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ»(1) الآية (2).

إخبار رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الشهادة الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)

روى الأوزاعيّ، عن عبد اللّه بن شدّاد عن أُمّ الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقالت: يا رسول اللّه رأيت اللّيلة حُلُماً منكراً، قال: «وما هو» ؟ قالت : إنّه شدید، قال: «وما هو»؟ قالت: رأيت كأنّ قطعة من جسدك قد قطعت ووضعت في حجري، فقال رسول اللّه: «خيراً رأيت تلد فاطمة غلاماً فيكون في حجرك».

فولدت فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قالت وكان في حجري كما قال رسول اللّه،

ص: 452


1- الأنعام: 124.
2- البحار : ج 44 ص 196.

فدخلت به يوماً على النبي فوضعته في حجر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثم حانت منّي التفاتة، فإذا عينا رسول اللّه تهرقان بالدموع، فقلت: بأبي أنت وأُمّي يا رسول اللّه ما لك؟ قال: «أتاني جبرئيل فأخبرني أن أُمّتي تقتل ابني هذا، وأتاني بتربة حمراء من تربته»

وروي بإسناد آخر عن أُمّ سلمة رضي اللّه عنها أنها قالت خرج رسول اللّه من عندنا ذات ليلة فغاب عنا طويلا، ثمّ جاءنا وهو أشعث أغبر، ويده مضمومة، فقلت له : يا رسول اللّه ما لي أراك شعثاً مغبراً؟ فقال: «أُسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له كربلا فأُريت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي، فلم أزل ألقط دماءهم، فما هو في يدي وسطها إليّ»، فقال: «خذيها فاحفظي بها»، فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر، فوضعته في قارورة وشددت رأسها واحتفظت بها.

فلما خرج الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) من مكّة متوجّهاً نحو العراق كنت أُخرج تلك القارورة في كلّ يوم وليلة وأشمها وأنظر إليها ثمّ أبكي لمصابه، فلمّا كان [في] اليوم العاشر من المحرّم وهو اليوم الّذي قتل فيه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، أخرجتها في أوّل النهار هي بحالها ثم عدت إليها آخر النهار فإذا هي دم عبيط فصحت في بيتي وبكيت وكظمت غيظي مخافة أن يسمع أعداؤهم بالمدينة فيتسرعوا بالشماتة، فلم أزل حافظة للوقت واليوم حتّى جاء الناعي ينعاه فحقق ما رأيت(1).

البكاء على الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) واعتراض العالم

ورأيت في بعض مؤلّفات أصحابنا أنه حكي عن السيد علي الحسيني قال: كنت مجاوراً في مشهد مولاي علي بن موسى الرّضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع جماعة من المؤمنين، فلمّا كان اليوم العاشر من شهر عاشورا ابتدأ رجل من أصحابنا يقرأ مقتل الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فوردت رواية عن الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «من ذرفت عيناه على مصاب الحسين ولو مثل جناح البعوضة

ص: 453


1- البحار : ج 44 ص 238.

غفر اللّه له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر».

وكان في المجلس معنا جاهل مركّب يدّعي العلم، ولا يعرفه، فقال: ليس هذا بصحيح، والعقل لا يعتقده، وكثر البحث بيننا، وافترقنا عن ذلك المجلس، وهو مصرٌ على العناد في تكذيب الحديث، فنام ذلك الرّجل تلك اللّيلة، فرأى في منامه كأنّ القيامة قد قامت وحشر الناس في صعيد صفصف لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وقد نصبت الموازين، وامتد الصراط، ووضع الحساب، ونشرت الكتب، وأسعرت النيران، وزخرفت الجنان، واشتدّ الحرّ عليه، وإذا هو قد عطش عطشاً شديداً وبقي يطلب الماء فلا يجده

فالتفت يميناً وشمالا وإذا هو بحوض عظيم الطول والعرض، قال: قلت في نفسي : هذا هو الكوثر فإذا فيه ماء أبرد من الثلج وأحلى من العذب، وإذا عند الحوض رجلان وامرأة أنوارهم تشرق على الخلائق، ومع ذلك لبسهم السواد ذلك لبسهم السواد وهم باكون محزونون، فقلت: من هؤلاء؟ فقيل لي : هذا محمّد المصطفى، وهذا الإمام عليّ المرتضى، وهذه الطاهرة فاطمة الزهراء فقلت: ما لي أراهم لابسين السواد وباكين ومحزونين ؟ فقيل لي : أليس هذا يوم عاشورا، يوم مقتل الحسين؟ فهم محزونون لأجل ذلك.

:قال فدنوت إلى سيّدة النساء فاطمة وقلت لها يا بنت رسول اللّه إنّي عطشان فنظرت إلي شزراً وقالت لي: «أنت الّذي تنكر فضل البكاء على مصاب ولدي الحسين ومهجة قلبي وقرّة عيني الشهيد المقتول ظلماً وعدواناً؟ لعن اللّه قاتليه وظالميه ومانعيه من شرب الماء»، قال الرّجل: فانتبهت من نومي فزعاً مرعوباً واستغفرت اللّه كثيراً، وندمت على ما كان منّي وأتيت إلى أصحابي الّذين كنت معهم، وخبّرت برؤياي، وتبت إلى اللّه عزّ وجلّ(1).

ص: 454


1- البحار : ج 44 ص 293.

عمر بن سعد وقتل الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)

وجدت في بعض مؤلفات المعاصرين أنّه لما جمع ابن زياد لعنه اللّه قومه لحرب الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كانوا سبعين ألف فارس فقال ابن زياد: أيّها النّاس من منكم يتولّى قتل الحسين وله ولاية أيّ بلد شاء؟ فلم يجبه أحد فاستدعى بعمر بن سعد لعنه اللّه وقال له: يا عمر أُريد أن تتولّى حرب الحسين بنفسك، فقال له: اعفني من ذلك، فقال ابن زياد: قد أعفيتك يا عمر، فاردد علينا عهدنا الّذي كتبنا إليك بولاية الرّيّ، فقال :عمر أمهلنا اللّيلة، فقال له: قد أمهلتك.

فانصرف عمر بن سعد إلى منزله، وجعل يستشير قومه وإخوانه، ومن يثق به من أصحابه، فلم يُشر عليه أحد بذلك، وكان عند عمر بن سعد رجل من أهل الخير يقال له : كامل، وكان صديقاً لأبيه من قبله، فقال له : يا عمر ما لي أراك بهيئة وحركة، فما الّذي أنت عازم عليه ؟ وكان كامل كإسمه ذا رأي وعقل ودين كامل.

فقال له ابن سعد لعنه اللّه : إنّي قد ولّيت أمر هذا الجيش في حرب الحسين وإنّما قتله عندي وأهل بيته كأُكلة آكل أو كشربة ماء، وإذا قتلته خرجت إلى ملك الريّ، فقال له :كامل: أُفٍّ لك يا عمر بن سعد تريد أن تقتل الحسين بن بنت رسول اللّه ؟ أُفٍّ لك ولدينك يا عمر أسفهت الحق وضللت الهدى، أما تعلم إلى حرب من تخرج؟ ولمن تقاتل؟ إنا للّه وإنا إليه راجعون.

واللّه لو أُعطيت الدّنيا وما فيها على قتل رجل واحد من أُمّة محمّد لما فعلت، فكيف تريد تقتل الحسين بن بنت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وما الّذي تقول غداً لرسول اللّه إذا وردت عليه وقد قتلت ولده وقرّة عينه وثمرة فؤاده وابن سيّدة نساء العالمين وابن سيّد الوصيين؟ وهو سيّد شباب أهل الجنّة من الخلق أجمعين، وإنّه في زماننا هذا بمنزلة جده في زمانه، وطاعته فرض علينا كطاعته، وإنّه باب الجنّة والنار فاختر لنفسك ما أنت مختار، وإنّي

ص: 455

أُشهد باللّه إن حاربته أو قتلته أو أعنت عليه أو على قتله لا تلبث في الدنيا بعده إلّا قليلا.

فقال له عمر بن سعد: فبالموت تخوّفني وإنّي إذا فرغت من قتله أكون أميراً على سبعين ألف،فارس، وأتولّى ملك الريّ، فقال له :كامل: إنّي أحدّثك بحديث صحيح أرجو لك النجاة إن وفقت لقبوله.

اعلم أنّي سافرت مع أبيك سعد إلى الشّام فانقطعت بي مطيّتي عن أصحابي وتهت وعطشت فلاح لي دير راهب فملت إليه، ونزلت عن فرسي، وأتيت إلى باب الدّير لأشرب ماء فأشرف عليّ راهب من ذلك الدّير، وقال : ما تريد ؟ فقلت له: إنّي عطشان، فقال لي: أنت من أُمّة هذا النبي الّذين يقتل بعضهم بعضاً على حبّ الدّنيا مكالبة؟ ويتنافسون فيها على حطامها ؟ فقلت له: أنا من الأُمّة المرحومة أُمّة محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

فقال : إنّكم أشر اُمّة، فالويل لكم يوم القيامة وقد غدرتم إلى عترة نبيّكم وتسبون نساءه وتنهبون أمواله، فقلت له : يا راهب نحن نفعل ذلك ؟ قال : نعم، وإنّكم إذا فعلتم ذلك عجّت السماوات والأرضون، والبحار، والجبال، والبراري، والقفار، والوحوش والأطيار باللّعنة على قاتله، ثم لا يلبث قاتله في الدّنيا إلّا قليلا، ثمّ يظهر رجل يطلب بثأره، فلا يدع أحداً شرك في دمه إلا قتله وعجّل اللّه بروحه إلى النار.

ثمّ قال الراهب: إنّي لأرى لك قرابة من قاتل هذا الابن الطيّب، واللّه إنّي لو أدركت أيّامه لوقيته بنفسي من حرّ السّيوف، فقلت : يا راهب إنّي أُعيذ نفسي أن أكون ممّن يقاتل ابن بنت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال : إن لم تكن أنت فرجل قريب منك، وإنّ قاتله عليه نصف عذاب أهل النار، وإنّ عذابه أشدّ من عذاب فرعون وهامان، ثمّ ردم الباب في وجهي ودخل يعبد اللّه تعالى، وأبى أن يسقيني الماء.

قال :كامل: فركبت فرسي ولحقت أصحابي، فقال لي أبوك سعد: ما بطّأك عنّا يا

ص: 456

كامل ؟ فحدّثته بما سمعته من الرّاهب، فقال لي: صدقت.

ثمّ إنّ سعداً أخبرني أنه نزل بدير هذا الراهب مرّة من قبلي فأخبره أنه هو الرّجل الّذي يقتل ابن بنت رسول اللّه، فخاف أبوك سعد من ذلك وخشي أن تكون أنت فاعله فأبعدك عنه وأقصاك، فاحذر يا عمر أن تخرج عليه، يكون عليك نصف عذاب أهل النار، قال: فبلغ الخبر ابن زياد لعنه اللّه، فاستدعى بكامل وقطع لسانه فعاش يوماً أو بعض يوم ومات رحمه اللّه (1).

ص: 457


1- البحار : ج 44 ص 305.

ص: 458

باب قصص من معاجز الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)

الغيبة الكبرى

أمّا الأبواب المرضيّون والسفراء الممدوحون في زمن الغيبة فأوّلهم الشيخ الموثوق به أبو عمرو عثمان بن سعيد العمرّي، نصبه أولا أبو الحسن علي بن محمّد العسكريّ، ثمّ ابنه أبو محمّد الحسن بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فتولى القيام بأُمورهما حال حياتها، ثمّ بعد ذلك قام بأمر صاحب الزّمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكانت توقيعاته وجوابات المسائل تخرج على يديه.

فلمّا مضى لسبيله قام ابنه أبو جعفر محمّد بن عثمان مقامه وناب منابه في جميع ذلك، فلمّا مضى قام بذلك أبو القاسم الحسين بن روح من بني نوبخت، فلمّا مضى قام مقامه أبو الحسن علي بن محمّد السّمريّ، ولم يقم أحد منهم بذلك إلا بنص عليه من قبل صاحب الزّمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونصب صاحبه الّذي تقدّم عليه، فلم تقبل الشيعة قولهم إلا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل واحد منهم من قبل صاحب الأمر (عَلَيهِ السَّلَامُ) تدلّ على صدق مقالتهم وصحّة نيابتهم.

فلمّا حان رحيل أبي الحسن السّمريّ عن الدنيا وقرب أجله، قيل له: إلى من توصي؟ أخرج توقيعا إليهم نسخة «بسم اللّه الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السّمريّ أعظم اللّه أجر إخوانك فيك، فإنّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام، فاجمع أمرك، ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التّامة فلا ظهور إلّا بعد إذن اللّه تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر، ولا

ص: 459

حول ولا قوة إلّا باللّه العليّ العظيم».

قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده فلمّا كان اليوم السادس عُدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيّك من بعدك؟ فقال: اللّه أمر هو بالغه وقضى، فهذا آخر كلام سمع منه رضي اللّه عنه وأرضاه(1).

قصّة عليّ بن مهزيار والحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)

حدّثنا أبو الحسن علي بن موسى بن أحمد بن إبراهيم بن محمّد بن عبد اللّه بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال : وجدت في كتاب أبي (رضیَ اللّهُ عنهُ) : حدّثنا محمّد بن أحمد الطوال، عن أبيه، عن الحسن بن عليّ الطبريّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن مهزيار، قال: سمعت أبي يقول : سمعت جدّي عليّ بن مهزيار يقول: كنت نائماً في مرقدي إذ رأيت فيما يرى النائم قائلا يقول لي: حجّ في هذه السنة فإنّك تلقى صاحب زمانك.

قال علي بن مهزيار: فانتبهت فرحاً مسروراً فما زلت في صلاتي حتّى انفجر عمود الصبح، وفرغت من صلاتي وخرجت أسأل عن الحاج، فوجدت رفقة تريد الخروج، فبادرت مع أوّل من خرج، فما زلت كذلك حتّى خرجوا وخرجت بخروجهم أريد الكوفة، فلمّا وافيتها نزلت عن راحلتي وسلّمت متاعي إلى ثقات إخواني، وخرجت أسأل عن آل أبي محمّد (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فما زلت كذلك فلم أجد أثراً ولا سمعت خبراً، وخرجت في أوّل من خرج أُريد المدينة.

فلما دخلتها لم أتمالك أن نزلت عن راحلتي، وسلّمت رحلي إلى ثقات إخواني، وخرجت أسأل عن الخبر وأقفو الأثر فلا خبراً سمعت ولا أثراً وجدت، فلم أزل

ص: 460


1- البحار : ج 51 ص 362.

كذلك إلى أن نفر الناس إلى مكّة، وخرجت مع من خرج حتّى وافيت مكّة، ونزلت واستوثقت من رحلي، وخرجت أسأل عن آل أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلم أسمع خبراً ولا وجدت أثراً.

فما زلت بين الأياس والرّجاء متفكّراً في أمري، وعاتباً على نفسي وقد جنّ اللّيل، وأردت أن يخلو لي وجه الكعبة لأطوف بها وأسأل اللّه أن يعرّفني أملي فيها، فبينا أنا كذلك وقد خلالي وجه الكعبة إذ قمت إلى الطواف فإذا أنا بفتى مليح الوجه، طيّب الرّوح متردّ ببردة متّشح بأُخرى، وقد عطف بردائه على عاتقه، فحركته فالتفت إليّ فقال: ممّن الرّجل ؟ فقلت : من الأهواز.

فقال: أتعرف بها ابن الخضيب؟ فقلت: رحمه اللّه دعي فأجاب، فقال: رحمه اللّه، فلقد كان بالنهار صائماً وبالليل قائماً، وللقرآن تالياً، ولنا موالياً.

أتعرف بها عليّ بن مهزيار؟ فقلت: أنا علي بن مهزیار، فقال: أهلا وسهلا بك يا أبا الحسن أتعرف الضريحين؟ قلت نعم قال: ومن هما؟ قلت: محمّد وموسى، قال: وما فعلت العلامة التي بينك وبين أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ؟ فقلت: معي، قال: أخرجها إليّ، فأخرجت إليه خاتماً حسناً على فصه محمّد وعلي فلمّا رآه بكى بكاء طويلا وهو يقول: رحمك اللّه يا أبا محمّد فلقد كنت إماماً عادلا ابن أئمة أبا إمام أسكنك اللّه الفردوس الأعلى مع آبائك.

قال: يا أبا الحسن صر إلى رحلك، وكن على أُهبة السفر، حتّى إذا ذهب الثلث من اللّيل وبقي الثلثان، فالحق بنا فإنّك ترى مُناك.

قال ابن مهزیار: فانصرفت إلى رحلي أُطيل الفكر حتّى إذا هجم الوقت فقمت إلى رحلي فأصلحته، وقدّمت راحلتي فحملتها، وصرت في متنها حتّى لحقت الشعب،

ص: 461

فإذا أنا بالفتى هناك يقول : أهلا وسهلا يا أبا الحسن، طوبى لك فقد أذن لك، فسار وسرت بسيره حتّى جاز بي عرفات ومنى، وصرت في أسفل ذروة الطائف، فقال لي: يا أبا الحسن انزل وخُذ في أُهبة الصلاة، فنزل ونزلت حتّى إذا فرغ من صلاته وفرغت، ثمّ قال لي: خُذ في صلاة الفجر وأوجز، فأوجزت فيها، وسلّم وعفّر وجهه في التراب، ثمّ ركب وأمرني بالرّكوب، ثم سار وسرت بسيره حتّى علا الذّروة.

فقال: المح، هل ترى شيئاً؟ فلمحت فرأيت بقعة نزهة كثيرة العشب والكلاء، فقلت: يا سيّدي أرى بقعة كثيرة العشب والكلاء، فقال لي: هل في أعلاها شيء؟ فلمحت فإذا أنا بكثيب رمل فوقه بيت من شعر يتوقّد نوراً، فقال لي: هل رأيت شيئاً؟ فقلت: أرى كذا وكذا، فقال لي: يا ابن مهزیار طب نفساً وقرّ عيناً، فإنّ هناك أمل كلّ مؤمل، ثمّ قال لي: انطلق بنا، فسار وسرت حتّى صار في أسفل الذّروة، ثمّ قال لي: انزل فهاهنا يذلّ كلّ صعب، فنزل ونزلت حتّى قال لي: يا ابن مهزیار خلّ عن زمام الرّاحلة، فقلت: على من أخلّفها وليس هاهنا أحد ؟ فقال : إنّ هذا حرم لا يدخله إلاّ وليّ، ولا يخرج منه إلا وليّ، فخلّيت عن الرّاحلة، وسار وسرت معه، فلمّا دنا من الخبأ سبقني وقال لي: هناك، إلى أن يؤذن لك، فما كان إلا هنيئة فخرج إلي وهو يقول: طوبى لك فقد أُعطيت سؤلك.

قال: فدخلت عليه صلوات اللّه عليه وهو جالس على نمط عليه نطع أدم أحمر، متكئ على مسورة أدم، فسلّمت فردّ عليّ السّلام ولمحته فرأيت وجهاً مثل فلقة قمر لا بالخرق ولا بالنزق، ولا بالطويل الشامخ، ولا بالقصير اللاصق، ممدود القامة صلت الجبين، أزجّ الحاجبين، أدعج العينين، أقنى الأنف، سهل الخدين على خده الأيمن خال.

فلمّا أنا بصرت به حار عقلي في نعته وصفته فقال لي: «يا ابن مهزیار كيف خلّفت إخوانك بالعراق» ؟ قلت: في ضنك عيش،وهناة قد تواترت عليهم سيوف

ص: 462

بني الشيصبان فقال: «قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون كأنّي بالقوم وقد قتلوا في ديارهم وأخذهم أمر ربّهم ليلا ونهاراً»، فقلت: متى يكون ذلك يا ابن رسول اللّه؟ فقال: «إذا حيل بينكم وبين سبيل الكعبة بأقوام لا خلاق لهم واللّه ورسوله منهم براء، وظهرت الحمرة في السماء ثلاثاً فيها أعمدة كأعمدة اللجين تتلألأ نوراً، ويخرج الشروسيّ من أُرمنية وآذربيجان يريد وراء الرّيّ الجبل الأسود، المتلاحم بالجبل الأحمر، لزيق جبال طالقان فتكون بينه وبين المروزيّ وقعة صيلمانيّة، يشيب فيها الصغير ويهرم منها الكبير ويظهر القتل بينهما.

فعندها توقّعوا خروجه إلى الزّوراء، فلا يلبث بها حتّى يوافي ماهان، ثمّ يوافي واسط العراق فيقيم بها سنة أو دونها ثم يخرج إلى كوفان فتكون بينهم وقعة من النّجف إلى الحيرة إلى الغريّ وقعة شديدة تذهل منها العقول، فعندها يكون بوار الفئتين وعلى اللّه حصاد الباقين ثم تلا بسم اللّه الرحمن الرحيم: «أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْس»(1) فقلت : سيّدي يا ابن رسول اللّه ما الأمر؟ قال: «نحن أمر اللّه عزّ وجلّ وجنوده»، قلت: سيدي يا ابن رسول اللّه حان الوقت؟ قال: «واقتربت الساعة وانشقّ القمر» (2).

شفاء المرضى ببركة الحجّة

وأنا أذكر من ذلك قصّتين قرب عهدهما من زماني وحدّثني بهما جماعة من ثقاتإخواني، كان في البلاد الحليّة شخص يقال له : إسماعيل بن الحسن الهرقليّ من قرية يقال لها هرقل، مات في زماني وما رأيته، حكى لي ولده شمس الدّين، قال: حكى لي والدي أنه خرج فيه وهو شابّ على فخذه الأيسر تُوثَة مقدار قبضة الإنسان، وكانت في كلّ

ص: 463


1- يونس : 24.
2- البحار: ج 52 ص 42.

ربيع تتشقق ويخرج منها دم وقيح، ويقطعه ألمها عن كثير من أشغاله، وكان مقيماً بهرقل، فحضر إلى الحلّة يوماً ودخل إلى مجلس السعيد رضي الدّين علي بن طاووس (رَحمهُ اللّه) وشكا إليه ما يجده، وقال: أُريد أن أُداويها فأحضر له أطبّاء الحلّة وأراهم الموضع فقالوا: هذه التّوثة فوق العِرق الأكحل، وعلاجها خطر، ومتى قطعت خيف أن ينقطع العرق فيموت.

فقال له السعيد رضيّ الدّين قدّس اللّه روحه أنا متوجه إلى بغداد وربّما كان أطباؤها أعرف وأحذق من هؤلاء، فأصحبني فأصعد معه وأحضر الأطباء، فقالوا كما قال أولئك فضاق صدره، فقال له السّعيد: إنّ الشرع قد فسح لك في الصّلاة في هذه الثّياب، وعليك الاجتهاد في الاحتراس، ولا تغرّر بنفسك، فاللّه تعالى قد نهى عن ذلك ورسوله.

فقال له والدي: إذا كان الأمر هكذا وقد حصلتُ في بغداد فأتوجه إلى زيارة المشهد الشريف بسر من رأى على مشرفه السّلام، ثمّ أنحدر إلى أهلي فحسّن له ذلك، فترك ثيابه ونفقته عند السعيد رضيّ الدّين وتوجّه.

قال: فلمّا دخلت المشهد وزرت الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ) نزلت السّرداب واستغثت باللّه تعالى و بالإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وقضيت بعض الليل في السّرداب، وبقيت في المشهد إلى الخميس، ثمّ مضيت إلى دجلة، واغتسلت ولبست ثوباً نظيفاً وملأت إبريقاً كان معي وصعدت أُريد المشهد، فرأيت أربعة فرسان خارجين من باب السّور، وكان حول المشهد قوم من الشرفاء يرعون أغنامهم، فحسبتهم منهم، فالتقينا فرأيت شابين أحدهما عبد مخطوط وكل واحد منهم متقلّد بسيف وشيخاً منقّباً بيده رمح والآخر متقلّد بسيف وعليه فرجيّة ملوّنة فوق السّيف، وهو متحنّك بعذبته.

ص: 464

فوقف الشيخ صاحب الرّمح يمين الطريق، ووضع كعب رمحه في الأرض ووقف الشّابّان عن يسار الطريق وبقي صاحب الفرجيّة على الطريق مقابل والدي ثمّ سلّموا عليه فردّ (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فقال له صاحب الفرجيّة: «أنت غداً تروح إلى أهلك»؟ فقال له : نعم، فقال له: «تقدّم حتّى أبصر ما يوجعك»، قال: فكرهت ملامستهم وقلت: أهل البادية ما يكادون يحترزون من النجاسة وأنا قد خرجت من الماء وقميصي مبلول.

ثمّ إنّي مع ذلك تقدّمت إليه فلزمني بيدي ومدّني إليه وجعل يلمس جانبي من كتفي إلى أن أصابت يده التوثة فعصرها بيده فأوجعني، ثم استوى في سرج فرسه كما كان، فقال لي الشّيخ: «أفلحت يا إسماعيل»! فتعجّبت من معرفته باسمي، فقلت: أفلحنا وأفلحتم إن شاء اللّه.

قال: فقال : هذا هو الإمام قال : فتقدمت إليه فاحتضنته وقبلت فخذه، ثمّ إنّه ساق وأنا أمشي معه محتضنه، فقال: «ارجع»، فقلت: لا أُفارقك أبداً، فقال: «المصلحة رجوعك»، فأعدت عليه مثل القول الأول، فقال الشيخ : يا إسماعيل ما تستحيي ؟ يقول لك الإمام مرّتين: ارجع وتخالفه فجهني بهذا القول، فوقفت، فتقدّم خطوات والتفت إليّ وقال: «إذا وصلت ببغداد فلابدّ أن يطلبك أبو جعفر – يعني الخليفة المستنصر- فإذا حضرت عنده وأعطاك شيئاً فلا تأخذه، وقل لولدنا الرّضي ليكتب لك إلى علي بن عوض فانّني أوصيه يعطيك الّذي تريد».

ثمّ سار وأصحابه معه، فلم أزل قائماً أبصرهم حتّى بعدوا، وحصل عندي أسف المفارقته، فقعدتُ إلى الأرض ساعة، ثمّ مشيت إلى المشهد، فاجتمع القوّام حولي وقالوا: نرى وجهك متغيّراً أوجعك شيء؟ قلت: لا، قالوا: خاصمك أحد؟ قلت: لا، ليس عندي ممّا تقولون خبر، لكن أسألكم هل عرفتم الفرسان الّذين كانوا عندكم؟ قالوا: هم من الشرفاء أرباب الغنم، فقلت: بل هو الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقالوا: الإمام هو الشيخ أو

ص: 465

صاحب الفرجيّة ؟ فقلت: هو صاحب الفرجيّة، فقالوا أريته المرض الّذي فيك؟ فقلت: هو قبضه بيده، وأوجعني، ثمّ كشفت رجلي فلم أر لذلك المرض أثراً، فتداخلني الشك من الدّهش، فأخرجت رجلي الأُخرى فلم أرَ شيئاً، فانطبق النّاس عليّ ومزّقوا قميصي، فأدخلني القوّام خزانة ومنعوا الناس عنّي، وكان ناظر بين النهرين بالمشهد فسمع الضجّة وسأل عن الخبر فعرّفوه، فجاء إلى الخزانة وسألني عن اسمي وسألني: منذ كم خرجت من بغداد؟ فعرفته أنّي خرجت في أوّل الأسبوع، فمشى عنّي، وبتّ في المشهد، وصليت الصبح، وخرجت وخرج الناس معي إلى أن بعدت عن المشهد ورجعوا عنّي.

ووصلت إلى أواني فبتّ بها، وبكّرت منها أُريد،بغداد، فرأيت الناس مزدحمين على القنطرة العتيقة يسألون كلّ من ورد عليهم عن اسمه ونسبه وأين كان، فسألوني عن اسمي ومن أين جئت، فعرفتهم فاجتمعوا عليَّ ومزّقوا ثيابي ولم يبق لي في روحي حكم.

وكان ناظر بين النهرين كتب إلى بغداد وعرّفهم الحال، ثمّ حملوني إلى بغداد، وازدحم النّاس عليّ وكادوا يقتلونني من كثرة الزّحام، وكان الوزير القمّيّ قد طلب السّعيد رضيّ الدّين وتقدّم أن يعرّفه صحّة هذا الخبر.

قال: فخرج رضيّ الدّين ومعه جماعة فوافينا باب النّوبيّ فردّ أصحابه النّاس عنّى، فلمّا رآني قال: أعنك يقولون؟ قلت: نعم، فنزل عن دابّته وكشف فخذي فلم ير شيئاً، فغشي عليه ساعة وأخذ بيدي وأدخلني على الوزير، وهو يبكي ويقول: يا مولانا هذا أخي وأقرب الناس إلى قلبي.

فسألني الوزير عن القصّة، فحكيت له، فأحضر الأطبّاء الّذين أشرفوا عليها وأمرهم بمداواتها، فقالوا: ما دواؤها إلّا القطع بالحديد ومتى قطعها مات، فقال لهم

ص: 466

الوزير: فبتقدير أن يقطع ولا يموت في كم تبرأ ؟ فقالوا في شهرين، ويبقي في مكانها حفيرة بيضاء لا ينبت فيها شعر، فسألهم الوزير: متى رأيتموه؟ قالوا: منذ عشرة أيّام، فكشف الوزير عن الفخذ الّذي كان فيه الألم وهي مثل أُختها ليس فيها أثر أصلا.

فصاح أحد الحكماء: هذا عمل المسيح، فقال الوزير حيث لم يكن عملكم فنحن نعرف من عملها.

ثمّ إنّه أُحضر عند الخليفة المستنصر فسأله عن القصّة فعرفه بها كما جرى فتقدّم له بألف دينار، فلمّا حضرت قال: خذ هذه فأنفقها، فقال: ما أجسر آخذ منه حبّة واحدة، فقال الخليفة: ممّن تخاف؟ فقال: من الّذي فعل معي هذا قال: لا تأخذ من أبي جعفر شيئاً، فبكى الخليفة، وتكدّر وخرج من عنده ولم يأخذ شيئاً.

قال عليّ بن عيسى عفى اللّه عنه : كنت في بعض الأيام أحكي هذه القصّة لجماعة عندي، وكان هذا شمس الدين محمّد ولده عندي وأنا لا أعرفه، فلمّا انقضت الحكاية قال : أنا ولده لصلبه، فعجبت من هذا الاتفاق وقلت له : هل رأيت فخذه وهي مريضة ؟ فقال: لا، لأنّي أصبو عن ذلك، ولكنّي رأيتها بعدما صلحت ولا أثر فيها وقد نبت في موضعها شعر.

وسألت السيّد صفيّ الدين محمّد بن محمّد بن بشير العلوي الموسويّ ونجم الدين حيدر بن الأيسر رحمهما اللّه تعالى، وكانا من أعيان النّاس وسراتهم وذوي الهيئات منهم، وكانا صديقين لي وعزيزين عندي فأخبراني بصحة القصّة وأنهما رأياها في حال مرضها وحال صحّتها.

وحكى لي ولده هذا أنّه كان بعد ذلك شديد الحزن لفراقه (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى أنه جاء إلى بغداد وأقام بها في فصل الشتاء، وكان أكثر الأيّام يزور سامراء ويعود إلى بغداد، فزارها في تلك

ص: 467

السّنة أربعين مرّة طمعاً أن يعود له الوقت الّذي مضى، أو يقضى له الحظّ بما قضى، ومن الّذي أعطاه دهره الرّضا، أو ساعده بمطالبه صرف القضاء، فمات (رَحمهُ اللّه) بحسرته وانتقل إلى الآخرة بغصته واللّه يتولّاه وإيانا برحمته بمنّه وكرامته.

وحكى لي السيد باقي بن عطوة الحسنيّ أنّ أباه عطوة كان آدر، وكان زيديّ المذهب، وكان ينكر على بنيه الميل إلى مذهب الإماميّة ويقول: لا أُصدّقكم ولا أقول بمذهبكم، حتّى يجيء صاحبكم، يعني المهديّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيبرؤني من هذا المرض، وتكرّر هذا القول منه.

فبينا نحن مجتمعون عند وقت العشاء الآخرة إذا أبونا يصيح ويستغيث بنا فأتيناه سراعاً فقال: الحقوا صاحبكم فالسّاعة خرج من عندي، فخرجنا فلم نر أحداً، فعدنا إليه وسألناه فقال: إنّه دخل إلي شخص وقال: «يا عطوة»، فقلت: من أنت؟ فقال: «أنا صاحب بنيك قد جئت لأُبرئك ممّا بك»، ثمّ مدّ يده فعصر قروتي ومشى، ومددت يدي فلم أر لها أثراً.

قال لي ولده: وبقي مثل الغزال ليس به قرَوة واشتهرت هذه القصّة وسألت عنها غير ابنه فأخبر عنها فأقرّ بها.

والأخبار عنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في هذا الباب كثيرة وأنه رآه جماعة قد انقطعوا في طريق الحجاز وغيرها، فخلّصهم وأوصلهم إلى حيث أرادوا، ولولا التطويل لذكرت منها جملة، ولكن هذا القدر الّذي قرب عهده من زماني كاف(1).

قصّة أبو راجح الحمامي والحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)

روى السيّد علي بن عبد الحميد في كتاب السلطان المفرّج عن أهل الإيمان عند

ص: 468


1- البحار: ج 52 ص 61.

ذكر من رأى القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال : فمن ذلك ما اشتهر وذاع، وملأ البقاع، وشهد بالعيان أبناء الزّمان، وهو قصّة أبو راجح الحمامي بالحلّة، وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل، وأهل الصدق الأفاضل.

منهم الشيخ الزاهد العابد المحقّق شمس الدّين محمّد بن قارون سلّمه اللّه تعالى قال: كان الحاكم بالحلّة شخصاً يدعى مرجان الصغير، فرفع إليه أن أبا راجح هذا يسبّ الصحابة، فأحضره وأمر بضربه، فضرب ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه، حتّى أنه ضرب على وجهه فسقطت ثناياه، وأخرج لسانه فجعل فيه مسلّة من الحديد، وخرج أنفه، ووضع فيه شركة من الشعر، وشدّ فيها حبلا، وسلّمه إلى جماعة من أصحابه، وأمرهم أن يدوروا به أزقة الحلّة، والضرب يأخذ من جميع جوانبه، حتّى سقط إلى الأرض وعاين الهلاك.

فأُخبر الحاكم بذلك، فأمر بقتله، فقال الحاضرون: إنّه شيخ كبير، وقد حصل له ما يكفيه، وهو ميّت لما به، فاتركه وهو يموت حتف أنفه، ولا تتقلّد بدمه، وبالغوا في ذلك حتّى أمر بتخليته، وقد انتفخ وجهه ولسانه فنقله أهله في الموت ولم يشكّ أحد أنه يموت من ليلته، فلمّا كان من الغد غدا عليه النّاس فإذا هو قائم يصلي على أتمّ حالة، وقد عادت ثناياه الّتي سقطت كما كانت واندملت جراحاته ولم يبق لها أثر، والشجّة قد زالت من وجهه.

فعجب النّاس من حاله وساءلوه عن أمره، فقال: إنّي لمّا عاينت الموت ولم يبق لي لسان أسأل اللّه تعالى به فكنت أسأله بقلبي، واستغثت إلى سيدي ومولاي صاحب الزّمان (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا جنّ على اللّيل فإذا بالدّار قد امتلأت نوراً وإذا بمولاي صاحب الزّمان قد أمرّ يده الشريفة على وجهي وقال لي: «أُخرج وكدّ على عيالك، فقد عافاك اللّه تعالى»، فأصبحت كما ترون.

ص: 469

وحكى الشيخ شمس الدين محمّد بن قارون المذكور قال: وأُقسم باللّه تعالى إنّ هذا أبو راجح كان ضعيفاً جداً، ضعيف التركيب، أصفر اللّون، شين الوجه، مقرّض اللّحية، وكنت دائماً أدخل الحمام الّذي هو فيه، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل، فلمّا أصبحت كنت ممّن دخل عليه، فرأيته وقد اشتدّت قوّته وانتصبت قامته، وطالت لحيته، واحمرّ وجهه وعاد كأنّه ابن عشرين سنة، ولم يزل على ذلك حتّى أدركته الوفاة.

ولمّا شاع هذا الخبر وذاع طلبه الحاكم وأحضره عنده، وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة وهو الآن على ضدّها كما وصفناه، ولم ير بجراحاته أثراً، وثناياه قد عادت، فداخل الحاكم في ذلك رعب عظيم، وكان يجلس في مقام الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الحلة، ويعطي ظهره القبلة الشريفة، فصار بعد ذلك يجلس ويستقبلها وعاد يتلطّف بأهل الحلّة، ويتجاوز عن مسيئهم، ويحسن إلى محسنهم ولم ينفعه ذلك، بل لم يلبث في ذلك إلّا قليلا حتّى مات(1).

قصّة الرمانة

ومنها ما أخبرني به بعض الأفاضل الكرام، والثقات الأعلام، قال: أخبرني بعض من أثق به، يرويه عمّن يثق به، ويطريه أنه قال : لمّا كان بلدة البحرين تحت ولاية الإفرنج، جعلوا واليها رجلا من المسلمين ليكون أدعى إلى تعميرها وأصلح بحال أهلها، وكان هذا الوالي من النواصب، وله وزير أشدّ نصباً منه، يظهر العداوة لأهل البحرين لحبهم الأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، ويحتال في إهلاكهم وإضرارهم بكلّ حيلة.

فلمّا كان في بعض الأيام دخل الوزير على الوالي وبيده رمانة، فأعطاها الوالي فإذا

ص: 470


1- البحار: ج 52 ص 70.

كان مكتوباً عليها «لا إله اللّه محمّد رسول اللّه أبوبكر وعمر وعثمان وعليّ خلفاء رسول اللّه» فتأمل الوالي فرأى الكتابة من أصل الرّمانة، بحيث لا يحتمل عنده أن يكون من صناعة بشر، فتعجب من ذلك وقال للوزير : هذه آية بيّنة، وحجّة قويّة على إبطال مذهب الرافضة، فما رأيك في أهل البحرين.

فقال له : أصلحك اللّه إنّ هؤلاء جماعة متعصّبون، ينكرون البراهين، وينبغي لك أن تحضرهم وتريهم هذه الرمانة، فإن قبلوا ورجعوا إلى مذهبنا كان لك الثواب الجزيل بذلك، وإن أبوا إلا المقام على ضلالتهم فخيّرهم بين ثلاث، إمّا أن يؤدّوا الجزية وهم صاغرون، أو يأتوا بجواب عن هذه الآية البينة التي لا محيص لهم عنها، أو تقتل رجالهم وتسبى نساءهم وأولادهم، وتأخذ بالغنيمة أموالهم.

فاستحسن الوالي رأيه، وأرسل إلى العلماء والأفاضل الأخيار، والنجباء والسّادة الأبرار من أهل البحرين، وأحضرهم وأراهم الرُّمانة، وأخبرهم بما رأى فيهم إن لم يأتوا بجواب شاف: من القتل والأسر وأخذ الأموال أو أخذ الجزية على وجه الصّغار كالكفّار، فتحيّروا في أمرها، ولم يقدروا على جواب، وتغيّرت وجوههم وارتعدت فرائصهم، فقال كبراؤهم: أمهلنا أيّها الأمير ثلاثة أيّام لعلنا نأتيك بجواب ترتضيه، وإلّا فاحكم فينا ما شئت، فأمهلهم، فخرجوا من عنده خائفين مرعوبين متحيّرين.

فاجتمعوا في مجلس وأجالوا الرأي في ذلك، فاتفق رأيهم على أن يختاروا من صلحاء البحرين وزهّادهم عشرة، ففعلوا، ثمّ اختاروا من العشرة ثلاثة، فقالوا لأحدهم: أُخرج اللّيلة إلى الصّحراء واعبد اللّه فيها، واستغث بإمام زماننا، وحجّة اللّه علينا، لعلّه يبيّن لك ما هو المخرج من هذه الداهية الدّهماء.

فخرج وبات طول ليلته متعبّداً خاشعاً داعياً باكياً يدعو اللّه، ويستغيث بالإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 471

، حتّى أصبح ولم ير شيئاً، فأتاهم وأخبرهم فبعثوا في الليلة الثانية الثاني منهم، فرجع كصاحبه ولم يأتهم بخبر، فازداد قلقهم وجزعهم.

فأحضروا الثالث، وكان تقيّاً فاضلا اسمه محمّد بن عيسى، فخرج اللّيلة الثالثة حافياً حاسر الرأس إلى الصحراء، وكانت ليلة مظلمة فدعا وبكي، وتوسّل إلى اللّه تعالى في خلاص هؤلاء المؤمنين وكشف هذه البليّة عنهم، واستغاث بصاحب الزّمان.

فلما كان آخر اللّيل، إذا هو برجل يخاطبه ويقول: «يا محمّد بن عيسى ما لي أراك على هذه الحالة، ولماذا خرجت إلى هذه البريّة» ؟ فقال له: أيّها الرّجل دعني فإنّي خرجت لأمر عظيم وخطب جسيم، لا أذكره إلّا لإمامي ولا أشكوه إلا إلى من يقدر على كشفه عنّي.

فقال: «يا محمّد بن عيسى أنا صاحب الأمر فاذكر حاجتك»، فقال: إن كنت هو فأنت تعلم قصتي ولا تحتاج إلى أن أشرحها لك، فقال له: «نعم، خرجت لما دهمكم من أمر الرّمانة، وما كتب عليها وما أودعكم الأمير به»، فقال: فلمّا سمعت ذلك توجّهت إليه وقلت له: نعم يا مولاي، قد تعلم ما أصابنا وأنت إمامنا وملاذنا والقادر على كشفه عنا.

فقال صلوات اللّه عليه: «يا محمّد بن عيسى إنّ الوزير لعنه اللّه في داره شجرة رمّان، فلمّا حملت تلك الشجرة صنع شيئاً من الطيّن على هيئة الرمانة، وجعلها نصفين، وكتب في داخل كلّ نصف بعض تلك الكتابة، ثمّ وضعهما على الرمانة، وشدّهما عليه وهي صغيرة فأثّر فيها، وصارت هكذا.

فإذا مضيتم غداً إلى الوالي فقل له : جئتك بالجواب، ولكنّي لا أُبديه إلّا في دار الوزير، فإذا مضيتم إلى داره فانظر عن يمينك ترى فيها غرفة فقل للوالي : لا أُجيبك إلاّ في تلك الغرفة، وسيأبى الوزير عن ذلك، وأنت بالغ في ذلك ولا ترض إلّا بصعودها،

ص: 472

فإذا صعد فاصعد معه، ولا تتركه وحده يتقدّم عليك، فإذا دخلت الغرفة رأيت كوّة فيها كيس أبيض، فانهض إليه وخذه فترى فيه تلك الطينة التي عملها لهذه الحيلة، ثمّ ضعها أمام الوالي وضع الرّمانة فيها لينكشف له جليّة الحال.

وأيضاً يا محمّد بن عيسى قل للوالي: إنّ لنا معجزة أخرى: وهي أنّ هذه الرّمانة ليس فيها إلا الرّماد والدّخان، وإن أردت صحّة ذلك فأمر الوزير بكسرها، فإذا كسرها طار الرّماد والدّخان على وجهه ولحيته».

فلما سمع محمّد بن عيسى ذلك من الإمام، فرح فرحاً شديداً وقبّل بين يدي الإمام صلوات اللّه عليه، وانصرف إلى أهله بالبشارة والسرور.

فلمّا أصبحوا مضوا إلى الوالي ففعل محمّد بن عيسى كلّ ما أمره الإمام وظهر كلّ ما أخبره، فالتفت الوالي إلى محمّد بن عيسى وقال له : من أخبرك بهذا؟ فقال: إمام زماننا، وحجّة اللّه علينا، فقال: ومن إمامكم ؟ فأخبره بالأئمّة واحداً بعد واحد إلى أن انتهى إلى صاحب الأمر صلوات اللّه عليهم.

فقال الوالي: مدّ يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأنّ الخليفة بعده بلا فصل أمير المؤمنين عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثم أقر بالأئمّة إلى آخرهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) وحسن إيمانه، وأمر بقتل الوزير، واعتذر إلى أهل البحرين، وأحسن إليهم وأكرمهم.

قال: وهذه القصّة مشهورة عند أهل البحرين وقبر محمّد بن عيسى عندهم معروف يزوره الناس (1).

الشهادة الثالثة

قال الشيخ العالم العامل الشيخ أبي إسحاق: قد كنت مقيماً في دمشق الشام منذ

ص: 473


1- البحار : ج 52 ص 178.

سنين، مشتغلا بطلب العلم عند الشيخ الفاضل الشيخ عبد الرحيم الحنفيّ وفّقه اللّه لنور الهداية في علمي الأُصول والعربيةّ، وعند الشيخ زين الدين علي المغربي الأُندلسي المالكي في علم القراءة، لأنه كان عالماً فاضلا عارفاً بالقراءات السبع، وكان له معرفة في أغلب العلوم من الصرف والنحو، والمنطق، والمعاني والبيان، والأصولين، وكان ليّن الطبع لم يكن عنده معاندة في البحث ولا في المذهب لحسن ذاته.

فكان إذا جرى ذكر الشيعة يقول : قال علماء الإمامية، بخلاف من المدرّسين، فإنّهم كانوا يقولون عند ذكر الشيعة: قال علماء الرّافضة، فاختصصت به وتركت التردّد إلى غيره، فأقمنا على ذلك برهة من الزّمان أقرأ عليه في العلوم المذكورة.

فاتّفق أنّه عزم على السفر من دمشق الشام يريد الديار المصرية، فلكثرة المحبّة التي كانت بيننا عزّ على مفارقته وهو أيضاً كذلك، فآل الأمر إلى أنه هداه اللّه صمّم العزم على صحبتي له إلى مصر، وكان عنده جماعة من الغرباء مثلي، يقرؤون عليه فصحبه أكثرهم.

فسرنا في صحبته إلى أن وصلنا مدينة بلاد مصر المعروفة بالفاخرة، وهي أكبر من مدائن مصر كلّها، فأقام بالمسجد الأزهر مدة يدرس، فتسامع فضلاء مصر بقدومه، فوردوا كلّهم لزيارته وللانتفاع بعلومه، فأقام في قاهرة مصر مدة تسعة أشهر، ونحن معه على أحسن حال، وإذا بقافلة قد وردت من الأندلس، ومع رجل منها كتاب من والد شيخنا الفاضل المذكور يعرفه فيه بمرض شديد قد عرض له، وأنه يتمنى الاجتماع به قبل الممات، ويحثّه فيه على عدم التأخير.

فرقّ الشيخ من كتاب أبيه وبكى، وصمّم العزم على المسير إلى جزيرة الأندلس، فعزم بعض التلامذة على صحبته، ومن الجملة،أنا، لأنه هداه اللّه قد كان أحبّني محبّة

ص: 474

شديدة، وحسّن لي المسير معه، فسافرت إلى الأندلس في صحبته، فحيث وصلنا إلى أوّل قرية من الجزيرة المذكورة، عرضت لي حمى منعتني عن الحركة.

فحيث رآني الشيخ على تلك الحالة رقّ لي وبكى، وقال: يعزّ علي مفارقتك، فأعطى خطيب تلك القرية الّتي وصلنا إليها عشرة دراهم، وأمره أن يتعاهدني حتّى يكون منّي أحد الأمرين، وإن منّ اللّه بالعافية أتّبعه إلى بلده، هكذا عهد إلي بذلك، وفّقه اللّه بنور الهداية إلى طريق الحقّ المستقيم، ثمّ مضى إلى بلد الأندلس، ومسافة الطريق من ساحل البحر إلى بلده خمسة أيّام.

فبقيت في تلك القرية ثلاثة أيّام لا أستطيع الحركة لشدّة ما أصابني من الحمّى، ففي آخر اليوم الثالث فارقتني الحمّى، وخرجت أدور في سكك تلك القرية، فرأيت قفلا قد وصل من جبال قريبة من شاطئ البحر الغربي يجلبون الصوف والسمن والأمتعة، فسألت عن حالهم فقيل : إن هؤلاء يجيئون من جهة قريبة من أرض البربر، وهي قريبة من جزائر الرافضة.

فحيث سمعت ذلك منهم ارتحت إليهم، وجذبني باعث الشوق إلى أرضهم، فقيل لي : إنّ المسافة خمسة وعشرون يوماً، منها يومان بغير عمّارة ولا ماء، وبعد ذلك فالقرى متصلة، فاكتريت معهم من رجل حماراً بمبلغ ثلاثة دراهم، لقطع عمّارة فيها، فلمّا قطعنا معهم تلك المسافة التي لا تلك المسافة، ووصلنا أرضهم العامرة، تمشيت راجلا، وتنقّلت على اختياري من قرية إلى أُخرى [إلى] أن وصلت إلى أوّل تلك الأماكن، فقيل لي: إنّ جزيرة الروافض قد بقي بينك وبينها ثلاثة أيّام، فمضيت ولم أتأخّر. فوصلت إلى جزيرة ذات أسوار أربعة، ولها أبراج محكمات شاهقات، وتلك الجزيرة بحصونها راكبة على شاطئ البحر، فدخلت من باب كبيرة يقال لها باب البربر، فدُرت في سككها أسأل عن مسجد البلد، فهُديت عليها، ودخلت إليه فرأيته جامعاً كبيراً معظماً واقعاً على

ص: 475

البحر من الجانب الغربيّ من البلد، فجلست في جانب المسجد لأستريح وإذا بالمؤذّن يؤذّن للظهر، ونادى بحيّ على خير العمل، ولمّا فرغ دعا بتعجيل الفرج للإمام صاحب الزّمان (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأخذتني العبرة بالبكاء، فدخلت جماعة بعد جماعة إلى المسجد، وشرعوا في الوضوء، على عين ماء تحت شجرة في الجانب الشرقيّ من المسجد، وأنا أنظر إليهم فرحاً مسروراً لما رأيته من وضوئهم المنقول عن أئمة الهدى (عَلَيهِم السَّلَامُ).

فلما فرغوا من وضوئهم وإذا برجل قد برز من بينهم بهيُّ الصورة، عليه السكينة والوقار، فتقدّم إلى المحراب، وأقام الصلاة، فاعتدلت الصفوف وراءه وصلّى بهم إماماً وهم به مأمومون صلاة كاملة بأركانها المنقولة عن أئمتنا (عَلَيهِم السَّلَامُ)، على الوجه المرضيّ فرضاً ونفلا، وكذا التعقيب والتسبيح، ومن شدّة ما لقيته من وعثاء السفر، وتعبي في الطريق لم يمكنّي أن أصلّي معهم الظهر.

فلمّا فرغوا ورأوني أنكروا عليّ عدم اقتدائي بهم، فتوجهوا نحوي بأجمعهم وسألوني عن حالي ومن أين أصلي وما مذهبي، فشرحت لهم أحوالي وأنّي عراقيّ الأصل، وأمّا مذهبي فإنّني رجل مسلم أقول أشهد أن لا إله اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الأديان كلّها ولو كره المشركون.

فقالوا لي: لم تنفعك هاتان الشهادتان إلّا لحقن دمك في دار الدنيا، لمَ لا تقول الشهادة الأُخرى لتدخل الجنّة بغير حساب؟ فقلت لهم: وما تلك الشهادة الأُخرى؟ اهدوني إليها يرحمكم اللّه، فقال لي إمامهم : الشهادة الثالثة هي أن تشهد أن أمير المؤمنين، ويعسوب المتقين، وقائد الغر المحجّلين عليّ بن أبي طالب والأئمّة الأحد عشر من ولده أوصياء رسول اللّه، وخلفاؤه من بعده بلا فاصلة، قد أوجب اللّه عزّ وجلّ طاعتهم على عباده، وجعلهم أولياء أمره ونهيه وحججاً على خلقه في أرضه وأماناً لبريّته، لأنّ الصادق الأمين محمّداً رسول ربّ العالمين (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) له أخبر بهم عن اللّه تعالى مشافهة من نداء

ص: 476

اللّه عزّ وجلّ له (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ليلة معراجه إلى السماوات السبع، وقد صار من ربّه كقاب قوسين أو أدنى، وسمّاهم له واحداً بعد واحد صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

فلمّا سمعت مقالتهم هذه حمدت اللّه سبحانه على ذلك، وحصل عندي أكمل السرور، وذهب عنّي تعصّب الطّريق من الفرح، وعرّفتهم أنّي على مذهبهم، فتوجّهوا إليّ توجّه إشفاق، وعيّنوالي مكاناً في زوايا المسجد، وما زالوا يتعاهدوني بالعزّة والإکرام مدة إقامتي عندهم، وصار إمام مسجدهم لا يفارقني ليلا ولا نهاراً(1).

الدّعاء في الشّدة

في كتاب الكلم الطيّب والغيث الصيّب للسيّد الأيّد المتبحّر السيّد علي خان شارح الصحيفة ما لفظه: رأيت بخط بعض أصحابي من السّادات الأجلّاء الصّلحاء الثقات ما صورته :

سمعت في رجب سنة ثلاث وتسعين وألف الأخ العالم العامل، جامع الكمالات الإنسيّة، والصفات القدسيّة، الأمير إسماعيل بن حسين بيك بن عليّ بن سليمان الحائري الأنصاريّ أنار اللّه تعالى برهانه يقول: سمعت الشيخ الصّالح التّقي المتورّع الشيخ الحاج عليّاً المكّي قال: إنّي ابتليت بضيق وشدّة ومناقضة خصوم، حتّى خفت على نفسي القتل والهلاك، فوجدت الدّعاء المسطور بعد في جيبي من غير أن يعطينيه أحد، فتعجبت من ذلك، وكنت متحيّراً، فرأيت في المنام أنّ قائلا في زيِّ الصّلحاء والزّهاد يقول لي: «إنّا أعطيناك الدّعاء الفلاني فادعُ به تنجَ من الضّيق والشدّة»، ولم يتبيّن لي من القائل، فزاد تعجّبي، فرأيت مرة أُخرى الحجّة المنتظر (عَلَيهِ السَّلَامُ)فقال: «أُدع بالدعاء الّذي أعطيتكه، وعلّم من أردت»، قال: وقد جرّبته مراراً عديدة، فرأيت فرجاً قريباً، وبعد

ص: 477


1- البحار : ج 52 ص 161.

مدّة ضاع منّي الدّعاء برهة من الزّمان، وكنت متأسّفاً على فواته، مستغفراً من سوء العمل، فجاءني شخص وقال لي : إنّ هذا الدّعاء قد سقط منك في المكان الفلاني، وما كان في بالي أن رحت إلى ذلك المكان، فأخذت الدّعاء، وسجدت اللّه شكراً وهو: «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ربِّ أسألك مدداً روحانيّاً تقوّي به قُوى الكليّة والجزئيّة، حتّى أقهر عبادي نفسي كلّ نفس قاهرة، فتنقبض لي إشارة رقائقها انقباضاً تسقط به قواها حتّى لا يبقى في الكون ذو روح إلا ونار قهري قد أحرقت ظهوره، یا شدید یا شدید، یا ذا البطش الشديد يا قهّار، أسألك بما أودعته عزرائيل من أسمائك القهريّة، فانفعلت له النفوس بالقهر، أن تودعني هذا السرّ في هذه السّاعة حتّى اُليّن به كلّ صعب، وأذلّل به كلّ منيع، بقوتك يا ذا القوّة المتين».

تقرأ ذلك سحراً ثلاثاً إن أمكن وفي الصبح ثلاثاً، وفي المساء ثلاثاً، فإذا اشتدّت الأمر على من يقرأه يقول بعد قراءته ثلاثين مرة: يا رحمن يا رحيم يا أرحم الرّاحمين، أسألك اللطف بما جرت به المقادير (1).

بناء مسجد جمكران

جاء في تاريخ قم تأليف الشيخ الفاضل الحسن بن محمّد بن الحسن القمّي من کتاب مونس الحزين في معرفة الحقّ واليقين من مصنّفات أبي جعفر محمّد بن بابويه القمّي، ما لفظه بالعربيّة :

باب ذكر بناء مسجد جمكران، بأمر الإمام المهديّ عليه صلوات اللّه الرّحمن وعلى آبائه المغفرة، سبب بناء المسجد المقدس في جمكران بأمر الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) على ما أخبر به الشيخ العفيف الصّالح حسن بن مثلة الجمكرانيّ قال: كنت ليلة الثلاثا السّابع عشر من شهر

ص: 478


1- البحار : ج 53 ص 225.

رمضان المبارك سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة نائماً في بيتي، فلمّا مضى نصف من اللّيل فإذا بجماعة من الناس على باب بيتي فأيقظوني، وقالوا قم وأجب الإمام المهديّ صاحب الزّمان فإنّه يدعوك.

قال: فقمت وتعبّأت وتهيّأت، فقلت: دعوني حتّى ألبس قميصى فإذا بنداء من جانب الباب «هو ما كان قميصك» فتركته وأخذت سراويلي فنودي: «ليس ذلك منك، فخذ سراويلك» فألقيته وأخذت سراويلي ولبسته، فقمت إلى مفتاح الباب أطلبه فنودي: «الباب مفتوح».

فلمّا جئت إلى الباب، رأيت قوماً من الأكابر، فسلّمت عليهم، فردّوا ورحّبوا بي، وذهبوا بي إلى موضع هو المسجد الآن، فلمّا أُمعنت النظر رأيت أريكة فرشت عليها فراش حسان، وعليها وسائد حسان، ورأيت فتى في زيّ ابن ثلاثين متّكئاً عليها، وبين یدیه شیخ، وبيده كتاب يقرؤه عليه، وحوله أكثر من ستّين رجلا يصلّون في تلك البقعة، وعلى بعضهم ثياب بيض، وعلى بعضهم ثياب خضر.

وكان ذلك الشيخ هو الخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأجلسني ذلك الشيخ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ودعاني الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) باسمي، وقال: «اذهب إلى حسن بن مسلم، وقل له: إنّك تعمر هذه الأرض منذ سنين وتزرعها، ونحن نخرّبها، زرعت خمس سنين، والعام أيضاً أنت على حالك من الزراعة والعمّارة ولا رخصة لك في العود إليها، وعليك ردّ ما انتفعت به من غلّات هذه الأرض ليبني فيها مسجد، وقل لحسن بن مسلم : إنّ هذه أرض شريفة قد اختارها اللّه تعالى من غيرها من الأراضي وشرفها، وأنت قد أضفتها إلى أرضك، وقد جزاك اللّه بموت ولدين لك شابين، فلم تنتبه عن غفلتك، فإن لم تفعل ذلك لأصابك من نقمة اللّه من حيث لا تشعر».

ص: 479

قال حسن بن مثلة [قلت] يا سيّدي لابد لي في ذلك من علامة، فإنّ القوم لا يقبلون ما لا علامة ولا حجّة عليه، ولا يصدّقون قولي قال: «إنا سنعلم هناك فاذهب وبلّغ رسالتنا، واذهب إلى السيد أبي الحسن وقل له: يجيء ويحضره ويطالبه بما أخذ من منافع تلك السنين، ويعطيه النّاس حتّى يبنوا المسجد، ويتمّ ما نقص منه من غلّة رهق ملكنا بناحية أردهال ويتمّ المسجد، وقد وقفنا نصف رهق على هذا المسجد، ليجلب غلّته كلّ عام، ويصرف إلى عمّارته.

وقل للناس: ليرغبوا إلى هذا الموضع ويعزّروه ويصلّوا هنا أربع ركعات للتحيّة في كلّ ركعة يقرأ سورة الحمد مرّة، وسورة الإخلاص سبع مرات ويسبح في الرّكوع والسجود سبع مرّات، وركعتان للإمام صاحب الزّمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) هكذا: يقرأ الفاتحة فإذا وصل إلى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» كرّره مائة مرّة ثمّ يقرؤها إلى آخرها وهكذا يصنع في الركعة الثانية، ويسبّح في الركوع والسجود سبع مرات، فإذا أتمّ الصلاة يهلل ويسبّح تسبيح فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) فاذا فرغ من التسبيح يسجد ويصلّي على النبي وآله مائة مرّة»، ثمّ قال(عَلَيهِ السَّلَامُ): «ما هذه الحكاية لفظة، فمن صلاها فكأنّها (صلاها) في البيت العتيق».

قال حسن بن مثلة: قلت في نفسي كأنّ هذا موضع أنت تزعم أنّما هذا المسجد للإمام صاحب الزّمان مشيراً إلى ذلك الفتى المتكئ على الوسائد فأشار ذلك الفتى إليّ أن اذهب.

فرجعت فلمّا سرت بعض الطريق دعاني ثانية، وقال: «إنّ في قطيع جعفر الكاشاني الراعي معزاً يجب أن تشتريه فإن أعطاك أهل القرية الثمن تشتريه وإلّا فتعطي من مالك، وتجيء به إلى هذا الموضع، وتذبحه الليلة الآتية ثمّ تنفق يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر رمضان المبارك لحم ذلك المعز على المرضى، ومن به علّة شديدة، فإنّ اللّه يشفي

ص: 480

جميعهم، وذلك المعز أبلق، كثير الشعر، وعليه سبع علامات سود وبيض: ثلاث على جانب وأربع على جانب، سود وبيض كالدراهم».

فذهبت فأرجعوني ثالثة، وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «تقيم بهذا المكان سبعين يوماً أو سبعاً فإن حملت على السبع انطبق على ليلة القدر، وهو الثالث والعشرون وإن حملت على السبعين انطبق على الخامس والعشرين من ذي القعدة، وكلاهما يوم مبارك».

قال حسن بن مثلة: فعُدت حتّى وصلت إلى داري، ولم أزل الليل متفكّراً حتّى اسفر الصّبح فأديت الفريضة، وجئت إلى عليّ بن المنذر، فقصصت عليه الحال، فجاء معي حتّى بلغت المكان الّذي ذهبوا بي إليه البارحة، فقال: واللّه إنّ العلامة التي قال لي الإمام واحد منها أنّ هذه السلاسل والأوتاد هاهنا.

فذهبنا إلى السيد الشريف أبي الحسن الرّضا، فلمّا وصلنا إلى باب داره رأينا خدّامه وغلمانه :يقولون : إنّ السيّد أبا الحسن الرّضا ينتظرك من سحر، أنت من جمكران!؟ قلت: نعم، فدخلت عليه الساعة، وسلّمت عليه وخضعت فأحسن في الجواب وأكرمني ومكن لي في مجلسه، وسبقني قبل أن أُحدّثه وقال: يا حسن بن مثلة إنّي كنت نائماً فرأيت شخصاً يقول لي: إنّ رجلا من جمكران يقال له حسن بن مثلة يأتيك بالغدوّ، ولتصدّقنّ ما يقول: واعتمد على قوله، فإنّ قوله قولنا، فلا تردّنّ عليه قوله، فانتبهت من رقدتي، وكنت أنتظرك الآن.

فقصّ عليه الحسن بن مثلة القصص مشروحاً فأمر بالخيول لتسرج، وتخرّجوا فركبوا، فلمّا قربوا من القرية رأوا جعفر الرّاعي وله قطيع على جانب الطّريق فدخل حسن بن مثلة بين القطيع، وكان ذلك المعز خلف القطيع فأقبل المعز عادياً إلى الحسن بن مثلة فأخذه الحسن ليعطي ثمنه الرّاعي ويأتي به فأقسم جعفر الراعي أنّي ما رأيت

ص: 481

هذا المعز قطّ، ولم يكن في قطيعي إلّا أّني رأيته، وكلّما أُريد أن آخذه لا يمكنني، والآن جاء إليكم، فأتوا بالمعز كما أمر به السيّد إلى ذلك الموضع وذبحوه.

وجاء السيد أبو الحسن الرّضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى ذلك الموضع، وأحضروا الحسن بن مسلم واستردّوا منه الغلات وجاؤا بغلّات رهق، وسقّفوا المسجد بالجذوع وذهب السيّد أبو الحسن الرّضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالسلاسل والأوتاد وأودعها في بيته فكان يأتي المرضى والأعلّاء ويمسّون أبدانهم بالسلاسل فيشفيهم اللّه تعالى عاجلا ويصحّون.

قال أبو الحسن محمّد بن حيدر: سمعت بالاستفاضة أنّ السيد أبا الحسن الرّضا في المحلّة المدعوّة بموسويان من بلدة قم، فمرض بعد وفاته ولد له، فدخل بيته وفتح الصندوق الّذي فيه السلاسل والأوتاد، فلم يجدها (1).

الشيخ محمّد حسن السريرة ممّن رأى الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)

حدّث الشيخ الفاضل العالم الثقة الشيخ باقر الكاظميّ المجاور في النجف الأشرف آل الشيخ طالب نجل العالم العابد الشيخ هادي الكاظميّ قال : كان في النجف الأشرف رجل مؤمن يسمّى الشيخ محمّد حسن السريرة، وكان في سلك أهل العلم ذانيّة صادقة، وكان معه مرض السعال، إذا سعل يخرج من صدره مع الأخلاط دم، وكان مع ذلك في غاية الفقر والاحتياج لا يملك قوت يومه، وكان يخرج في أغلب أوقاته إلى البادية إلى الأعراب الّذين في أطراف النجف الأشرف، ليحصل له قوت ولو شعير، وما كان يتيسر ذلك على وجه يكفيه، مع شدّة رجائه، وكان مع ذلك قد تعلّق قلبه بتزويج امرأة من أهل النجف وكان يطلبها من أهلها، وما أجابوه إلى ذلك لقلة ذات يده، وكان في همّ وغمّ شديد من جهة ابتلائه بذلك.

ص: 482


1- البحار: ج 53 ص 230.

فلمّا اشتدّ به الفقر والمرض، وأيس من تزويج البنت، عزم على ما هو معروف عند أهل النجف من أنّه من أصابه أمر فواظب الرّواح إلى مسجد الكوفة أربعين ليلة الأربعاء، فلابدّ أن يرى صاحب الأمر (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من حيث لا يعلم ويقضي له مراده.

قال الشيخ باقر (قدّس سِرُّه) : قال الشيخ محمّد : فواظبت على ذلك أربعين ليلة بالأربعاء، فلمّا كانت اللّيلة الأخيرة، وكانت ليلة شتاء مظلمة، وقد هبت ريح عاصفة، فيها قليل من المطر، وأنا جالس في الدّكة الّتي هي داخلة في باب المسجد، وكانت الدّكة الشرقية المقابلة للباب الأوّل تكون على الطرف الأيسر، عند دخول المسجد، ولا أتمكّن الدّخول في المسجد من جهة سعال الدّم، ولا يمكن قذفه في المسجد، وليس معي شيء أتّقي فيه عن البرد، وقد ضاق صدري، واشتدّ عليّ همّي وغمّي، وضاقت الدّنيا في عيني، وأُفكّر أنّ اللّيالي قد انقضت، وهذه آخرها، وما رأيت أحداً ولا ظهر لي شيء، وقد تعبت هذا التعب العظيم، وتحمّلت المشاقّ والخوف في أربعين ليلة، أجيء فيها من النجف إلى مسجد الكوفة ويكون لي الأياس من ذلك.

فبينما أنا أُفكّر في ذلك، وليس في المسجد أحد أبداً وقد أوقدت ناراً لأسخن عليها قهوة جئت بها من النجف، لا أتمكّن من تركها لتعوّدي بها، وكانت قليلة جدّاً إذا بشخص من جهة الباب الأوّل متوجّهاً إليّ، فلمّا نظرته من بعيد تكدّرت وقلت في نفسي: هذا أعرابيّ من أطراف المسجد، قد جاء إليّ ليشرب من القهوة وأبقى بلا قهوة في هذا اللّيل المظلم، ويزيد عليّ همّي وغمّي.

فبينما أنا أُفكّر إذا به قد وصل إليّ وسلّم علي باسمي، وجلس في مقابلي فتعجّبت من معرفته باسمي، وظننته من الّذين أخرج إليهم في بعض الأوقات من أطراف النجف الأشرف، فصرت أسأله من أيّ العرب يكون؟ قال: «من بعض العرب»، فصرت أذكر له الطوائف التي في أطراف النجف، فيقول: «لا لا»، وكلّما ذكرت له طائفة، قال: «لا،

ص: 483

لست منها».

فأغضبني وقلت له : أجل أنت من طُريطرة، مستهزئاً، وهو لفظ بلا معنى، فتبسّم من قولي ذلك، وقال: «لا عليك من أينما كنت ما الّذي جاء بك إلى هنا»؟ فقلت : وأنت ما عليك السؤال عن هذه الأُمور؟ فقال: «ما ضرّك لو أخبرتني»، فتعجّبت من حسن أخلاقه وعذوبة منطقه، فمال قلبي إليه، وصار كلّما تكلّم ازداد حبي له، فعملت له السبيل من التتن، وأعطيته، فقال: «أنت اشرب، فأنا ما أشرب»، وصببت له في الفنجان قهوة وأعطيته، فأخذه وشرب شيئاً قليلا منه، ثمّ ناولني الباقي وقال: «أنت اشربه»، فأخذته وشربته، ولم ألتفت إلى عدم شربه تمام الفنجان، ولكن يزداد حبّي له آناً فاناً.

فقلت له: يا أخي أنت قد أرسلك اللّه إليّ في هذه اللّيلة تأنسني، أفلا تروح معي إلى أن نجلس في حضرة مسلم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ونتحدّث ؟ فقال: «أروح معك، فحدّث حديثك».

فقلت له: أحكي لك الواقع، أنا في غاية الفقر والحاجة، مذ شعرت على نفسي، ومع ذلك معي سعال أتنخّع الدّم، وأقذفه من صدري منذ سنين، ولا أعرف علاجه، وما عندي زوجة، وقد علّق قلبي بامرأة من أهل محلّتنا في النجف الأشرف، ومن جهة قلّة ما في اليد ما تيسّر لي أخذها.

وقد غرّني هؤلاء الملائيّة وقالوا لي : اقصد في حوائجك صاحب الزّمان وبت أربعين ليلة الأربعاء في مسجد الكوفة، فإنّك تراه، ويقضي لك حاجتك، وهذه آخر ليلة من الأربعين، وما رأيت فيها شيئاً، وقد تحمّلت هذه المشاق في هذه اللّيالي، فهذا الّذي جاء بي هنا، وهذه حوائجي.

فقال لي وأنا غافل غير ملتفت : «أما صدرك فقد برأ، وأما الامرأة فتأخذها عن قريب، وأمّا فقرك فيبقى على حاله حتّى تموت»، وأنا غير ملتفت إلى هذا البيان أبداً.

ص: 484

فقلت : ألا تروح إلى حضرة مسلم؟ قال: «قم»، فقمت وتوجّه أمامي، فلمّا وردنا أرض المسجد فقال: «ألا تصلّي صلاة تحيّة المسجد»؟ فقلت: أفعل، فوقف هو قريباً من الشاخص الموضوع في المسجد، وأنا خلفه بفاصلة، فأحرمت الصلاة وصرت أقرأ الفاتحة.

فبينما أنا أقرأ وإذا يقرأ الفاتحة قراءة ما سمعت أحداً يقرأ مثلها أبداً، فمن حسن قراءته قلت في نفسي : لعلّه هذا هو صاحب الزّمان، وذكرت بعض كلمات له تدلّ على ذلك، ثم نظرت إليه بعدما خطر في قلبي ذلك، وهو في الصّلاة، وإذا به قد أحاطه نور عظیم منعني من تشخيص شخصه الشريف، وهو مع ذلك يصلّي وأنا أسمع قراءته، وقد ارتعدت فرائصي، ولا أستطيع قطع الصّلاة خوفاً منه، فأكملتها على أيّ وجه كان، وقد علا النور من وجه الأرض، فصرت أندبه وأبكي وأتضجّر وأعتذر من سوء أدبي معه في باب المسجد، وقلت له : أنت صادق الوعد، وقد وعدتني الرّواح معي إلى مسلم.

فبينما أنا أُكلّم النور، وإذا بالنور قد توجّه إلى جهة مسلم، فتبعته فدخل النور الحضرة، وصار في جوّ القبة، ولم يزل على ذلك، ولم أزل أندبه وأبكي حتّى إذا طلع الفجر، عرج النور.

فلمّا كان الصباح التفتّ إلى قوله أمّا صدرك فقد برأ، وإذا أنا صحيح الصدر، وليس معي سعال أبداً، وما مضى أُسبوع إلّا وسهّل اللّه عليّ أخذ البنت من حيث لا أحتسب، وبقي فقري على ما كان كما أخبر صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى آبائه الطّاهرين (1).

ص: 485


1- البحار: ج 53 ص 240. :

ص: 486

باب قصص المعمّرين

قصّة الخضر وموسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)

هذا الخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ) موجود قبل زماننا من عهد موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) عند أكثر الأُمّة وإلى وقتنا هذا باتّفاق أهل السير، لا يُعرف مستقرّه، ولا يعرف أحد له أصحاباً إلّا ما جاء به القرآن من قّصته مع موسى، وما يذكره بعض الناس أنه يظهر أحياناً، ويظنّ من يراه أنه بعض الزّهاد، فإذا فارق مكانه توهّمه المسمّى بالخضر ولم يكن عرفه بعينه في الحال ولا ظنّه فيها، بل اعتقد أنّه بعض أهل الزّمان.

وقد كان من غيبة موسى بن عمران عن وطنه وهربه من فرعون ورهطه ما نطق به القرآن، ولم يظفر به أحد مدّة من الزّمان ولا عرفه بعينه، حتّى بعثه اللّه نبيّاً ودعا إليه فعرفه الوليّ والعدوّ.

وكان من قصّة يوسف بن يعقوب ما جاء به سورة في القرآن وتضمّنت استتار خبره عن أبيه، وهو نبيّ اللّه يأتيه الوحي صباحاً ومساءً يخفى عليه خبر ولده، وعن ولده أيضاً حتّى أنهم كانوا يدخلون عليه ويعاملونه ولا يعرفونه وحتّى مضت على ذلك السنون والأزمان، ثمّ كشف اللّه أمره وظهر خبره وجمع بينه وبين أبيه وإخوته، وإن لم يكن ذلك في عادتنا اليوم ولا سمعنا بمثله.

وكان من قصة يونس بن متّى نبيّ اللّه مع قومه، وفراره منهم حين تطاول خلافهم له واستخفافهم بجفوته وغيبته عنهم وعن كلّ أحد حتّى لم يعلم أحد من الخلق

ص: 487

مستقرّه، وستره اللّه في جوف السمكة وأمسك عليه رمقه لضرب من المصلحة إلى أن انقضت تلك المدّة وردّه اللّه إلى قومه، وجمع بينهم وبينه، وهذا أيضاً خارج عن عادتنا، وبعيد من تعارفنا، وقد نطق به القرآن، وأجمع عليه أهل الإسلام، ومثل ما حكيناه أيضاً قصّة أصحاب الكهف، وقد نطق بها القرآن وتضمّن شرح حالهم واستتارهم عن قومهم فراراً بدينهم، ولولا ما نطق القرآن به لكان مخالفونا يجحدونه دفعاً لغيبة صاحب الزّمان وإلحاقهم،به لكن أخبر اللّه تعالى أنّهم بقوا ثلاثمائة سنة مثل ذلك مستترين خائفين، ثمّ أحياهم اللّه فعادوا إلى قومهم وقصّتهم مشهورة في ذلك.

وقد كان من أمر صاحب الحمار الّذي نزل بقصّته القرآن، وأهل الكتاب يزعمون أنه كان نبيّاً، فأماته اللّه مائة عام ثمّ بعثه، وبقي طعامه وشرابه لم يتغيّر، وكان ذلك خارقاً للعادة، وإذا كان ما ذكرناه معروفاً كائناً كيف يمكن مع ذلك إنكار غيبة صاحب الزّمان؟

اللّهمّ إلّا أن يكون المخالف دهريّاً معطّلا ينكر جميع ذلك ويحيله، فلا نكلّم معه في الغيبة، بل ينتقل معه إلى الكلام في أصل التوحيد، وأنّ ذلك مقدور وإنّما نكلّم في ذلك من أقرّ بالإسلام، وجوّز ذلك مقدوراً اللّه، فنبيّن لهم نظائره في العادات.

وأمثال ما قلناه كثيرة مما رواه أصحاب السّير والتواريخ من ملوك فرس وغيبتهم عن أصحابهم مدّة لا يعرفون خبره ثمّ عودهم وظهورهم لضرب من التدبير، وإن لم ينطق به القرآن فهو مذكور في التواريخ، وكذلك جماعة من حكماء الروم والهند قد كانت لهم غيبات وأحوال خارجة عن العادات لا نذكرها لأن المخالف ربّما جحدها على عادتهم جحد الأخبار وهو مذكور في التواريخ.

فإن قيل: ادّعاؤكم طول عمر صاحبكم أمر خارق للعادات مع بقائه على قولكم

ص: 488

كامل العقل تامّ القوّة والشّباب لأنه على قولكم له في هذا الوقت الّذي هو سنة سبع وأربعين وأربعمائة مائة وإحدى وتسعون سنة لأنّ مولده على قولكم سنّة ستّ وخمسين ومائتين ولم تجر العادة بأن يبقى أحد من البشر هذه المدّة فكيف انتقضت العادة فيه، ولا يجوز انتقاضها إلّا على يد الأنبياء.

قلنا : الجواب عن ذلك أن لا نسلّم أنّ ذلك خارق لجميع العادات، بل العادات فيما تقدّم قد جرت بمثلها وأكثر من ذلك وقد ذكرنا بعضها كقصّة الخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقصّة أصحاب الكهف وغير ذلك، وقد أخبر اللّه عن نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً وأصحاب السّير يقولون أنّه عاش أكثر من ذلك، وإنّما دعا قومه إلى اللّه هذه المدة المذكورة بعد أن مضت عليه ستون من عمره، وروى أصحاب الأخبار أن سلمان الفارسيّ لقي عيسى بن مريم وبقي إلى زمان نبيّنا (عَلَيهِ السَّلَامُ) وخبره مشهور وأخبار المعمّرين من العجم والعرب معروفة مذكورة في الكتب والتواريخ. وروى أصحاب الحديث أنّ الدّجال موجود وأنه كان في عصر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأنه باق إلى الوقت الّذي يخرج فيه، وهو عدوّ،اللّه، فإذا جاز ذلك في عدوّ اللّه لضرب من المصلحة فكيف لا يجوز مثله في وليّ اللّه إنّ هذا من العناد (1).

قصّة علي بن عثمان المغربي (أبو الدنيا )

قال أبو محمّد العلويّ: فحدّثنا هذا الشيخ أعني عليّ بن عثمان المغربيّ بدو خروجه من بلده من حضرموت وذكر أنّ أباه خرج هو وعمّه وأخرجا به معهما يريدون الحجّ وزيارة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فخرجوا من بلادهم من حضرموت وساروا أيّاماً ثمّ أخطأوا الطريق وتاهوا عن المحجّة، فأقاموا تائهين ثلاثة أيّام وثلاثة ليال على غير محجّة، فبينا هم كذلك إذ وقعوا في جبال رمل يقال له: رمل عالج يتّصل برمل إرم ذات العماد، فبينا نحن

ص: 489


1- البحار : ج 51 ص 203.

كذلك إذ نظرنا إلى أثر قدم طويل فجعلنا نسير على أثرها، فأشرفنا على واد وإذا برجلين قاعدين على بئر أو على عين.

قال: فلمّا نظر إلينا قام أحدهما فأخذ دلواً فأدلاه، فاستقى فيه من تلك العين أو البئر واستقبلنا، فجاء إلى أبي فناوله الدلو، فقال أبي : قد أمسينا ننيخ على هذا الماء ونفطر إن شاء اللّه، فصار إلى عمّي فقال: «أشرب»، فردّ عليه كما ردّ عليه أبي، فناولني فقال لي: «أشرب»، فشربت، فقال لي : «هنيئاً لك فإنّك ستلقى عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخبره أيّها الغلام بخبرنا وقل له: الخضر وإلياس يقرئانك [السلام] وستعمّر حتّى تلقى المهديّ وعيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فإذا لقيتهما فاقرئها السّلام»، ثمّ قالا: «ما يكون هذان منك»؟ فقلت أبي وعمّي، فقالا: «أمّا عمّك فلا يبلغ مكّة، وأمّا أنت وأبوك فستبلغان ويموت أبوك فتعمّر أنت، ولستم تلحقون النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لأنّه قد قرب أجله»، ثم مثلا.

فواللّه ما أدري أين مرّا، أفي السّماء أو في الأرض، فنظرنا وإذا لا أثر ولا عين ولا ماء، فسرنا متعجبّين من ذلك إلى أن رجعنا إلى نجران، فاعتل عمّي ومات بها، وأتممت أنا وأبي حجّنا، ووصلنا إلى المدينة، فاعتلّ بها أبي ومات وأوصى إلى عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأخذني، وكنت معه أيّام أبي بكر وعمر وعثمان وخلافته حتّى قتله ابن ملجم لعنه اللّه، وذكر أنّه لمّا حوصر عثمان بن عفّان في داره دعاني فدفع إلي كتاباً ونجيباً وأمرني بالخروج إلى عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكان غائباً بينبع في ماله وضياعه، فأخذت الكتاب وصرت إلى موضع يقال له: جدار أبي عباية سمعت قرآناً فإذا عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) يسير مقبلا من ينبع وهو يقول : «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ»(1).

فلمّا نظر إليّ قال: «أبا الدّنيا ما وراك» ؟ قلت: هذا كتاب أمير المؤمنين، فأخذه فقرأه فإذا فيه

ص: 490


1- المؤمنون: 115.

فإن كنت مأكولا فكن أنتأكلي ***وإلّا فأدركني ولمّا أمزّق

فلمّا قرأه قال: «سر»، فدخل إلى المدينة ساعة قتل عثمان بن عفّان، فمال إلى حديقة بني النجّار، وعلم النّاس بمكانه، فجاؤوا إليه ركضاً، وقد كانوا عازمين على أن يبايعوا طلحة بن عبيد اللّه، فلمّا نظروا إليه ارفضّوا إليه ارفضاض الغنم شدّ عليها السبع، فبايعه طلحة ثمّ الزبير ثم بايع المهاجرون والأنصار.

فأقمت معه أخدمه، فحضرت معه الجمل وصفّين، وكنت بين الصفّين واقفاً عن يمينه إذ سقط سوطه من يده فأكببت آخذه وأرفعه إليه، وكان لجام دابّته حديداً مزججاً فرفع الفرس رأسه فشجّني هذه الشجّة التي في صدغي، فدعاني أمير المؤمنين فتفل فيها وأخذ حفنة من تراب فتركه عليها فواللّه ما وجدت لها ألماً ولا وجعاً، ثمّ أقمت معه حتّى قُتل صلوات اللّه عليه وصحبت الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى ضرب بساباط المدائن، ثم بقيت معه بالمدينة أخدمه وأخدم الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى مات الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) مسموماً، سمّته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكنديّ لعنها اللّه دسّاً من معاوية، ثم خرجت مع الحسين بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى حضر كربلاء وقتل (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وخرجت هارباً من بني أُميّة، وأنا مقيم بالمغرب أنتظر خروج المهديّ وعيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ).

قصّة الربيع بن الضبع الفزاري

حدّثنا أحمد بن يحيى المكتب قال: حدّثنا أبو الطّيب أحمد بن محمّد الورّاق قال: حدّثنا محمّد بن الحسن بن دريد الأزدي العمانيّ بجميع أخباره وكتبه الّتي صنّفها ووجدنا في أخباره أنّه قال: لمّا وفد الناس على عبد الملك بن مروان قدم فيمن قدم عليه الربيع بن الضبع الفزاريّ، وكان أحد المعمّرين ومعه ابن ابنه وهب بن عبد اللّه بن الربيع شيخاً فانياً قد سقط حاجباه على عينيه وقد عصبهما، فلمّا رآه الآذن وكانوا يأذنون للناس على أسنانهم قال له: أدخل أيّها الشيخ فدخل يدبّ على العصاء يقيم بها صلبه

ص: 491

ولحيته على ركبتيه.

قال: فلمّا رآه عبد الملك رق له وقال له: اجلس أيها الشيخ، فقال: يا أمير المؤمنين أيجلس الشيخ وجدّه على الباب، فقال: أنت إذاً من ولد الربيع بن ضبع، قال: نعم، أنا وهب بن عبد اللّه بن الربيع.

قال للآذن : ارجع فأدخل الربيع، فخرج الآذن فلم يعرفه حتّى نادى: أين الربيع؟ قال: ها أناذا، فقام يهرول في مشيته، فلمّا دخل على عبد الملك سلّم، فقال عبد الملك: وأبيكم إنّه لأشبّ الرجلين يا ربيع أخبرني عما أدركت من العمر والمدى ورأيت من الخطوب الماضية، قال: أنا الّذي أقول:

ها أناذا آمل الخلود وقد***أدرك عمري ومولدي حجراً

أمّا امرء القيس قد سمعت به***هيهات هيهات طال ذاعمرا

قال عبد الملك: قد رويت هذا من شعرك وأنا صبي، قال: وأنا القائل:

إذا عاش الفتى مائتي عاماً فقد ذهب اللّذاذة والغناء قال عبد الملك: وقد رويت هذا من شعرك أيضاً وأنا غلام، وأبيك يا ربيع لقد طلبك جدّ غير عاثر ففصّل لي عمرك؟

فقال: عشت مائتي سنة من الفترة بين عيسى ومحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعشرين ومائة سنة في الجاهليّة وستين سنة في الإسلام.

قال : أخبرني عن الفتية من قريش المتواطئ الأسماء، قال: سل عن أيهم شئت، قال: أخبرني عن عبد اللّه بن عبّاس قال: فهم وعلم وعطاء وحلم ومقرى ضخم، قال: فأخبرني عن عبد اللّه بن عمر قال : حلم وعلم وطول وكظم وبعد من الظلم.

قال: فأخبرني عن عبد اللّه بن جعفر قال: ريحانة طيب ريحها لين مسّها قليل على

ص: 492

المسلمين ضررها. قال: فأخبرني عن عبد اللّه بن الزبير قال: جبل وعر ينحدر منه الصخر، قال اللّه درّك ما أخبرك بهم، قال: قرب جواري وكثر استخباري.

ثم ذكر الصدوق (رحمه الله) قصّة شدّاد بن عاد كما نقلنا عنه في كتاب النبوّة، ثمّ قال:

وعاش أوس بن ربيعة بن كعب بن أُميّة مائتي وأربع عشرة سنة فقال في ذلك :

لقدعُمّرت حتّى ملّ أهلي***ثوابي عندهم وسئمت عمري

وحقّ لمن أتى مائتان عام***عليه وأربع من بعد عشر

يملّ من الثواء وصبح ليل***يغاديه وليل بعد يسري

فأبلى شلوتي وتركت شلوي***وباح بما أُجنّ ضمير صدري

وعاش سيف بن وهب بن جذيمة الطائي مائتي سنة فقال:

ألا إنّني كاهب ذاهب***فلا تحسبوا أنّني كاذب

لست شبابي فأفنيته***وأدركني القدر الغالب

وخصم دفعت و مولى نفعت***حتّى يثوب له ثائب

وعاش عبيد بن الأبرص ثلاثمائة سنة فقال:

فنيت وأفناني الزّمان وأصبحت***لداتي بنوانعش وزهر الفراقد

ثم أخذه النعمان بن منذر يوم بؤسه فقتله (1).

فائدة القلاقل الأربعة

وروى السيّد علي بن عبد الحميد في كتاب الأنوار المضيئة قال: روى الجدّ السعيد عبد الحميد يرفعه إلى الرئيس أبي الحسن الكاتب البصري، وكان من الأدباء، قال:

ص: 493


1- البحار: ج 51 ص 231.

في سنة اثنين وتسعين وثلاثمائة أسنت البرّ سنين عدّة، وبعثت السماء درّها في أكناف البصرة، فتسامع العرب بذلك فوردوها من الأقطار البعيدة على اختلاف لغاتهم، فخرجت مع جماعة نتصفّح أحوالهم ونلتمس فائدة ربما وجدناها عند أحدهم، فارتفع لنا بيت عال فقصدناه، فوجدنا في كسره شيخاً جالساً قد سقط حاجباه على عينيه كبراً، وحوله جماعة من عبيده وأصحابه، فسلّمنا عليه فردّ التحيّة وأحسن التلقية، فقال له رجل منا : هذا السيّد وأشار إلي هو الناظر في معاملة الدرب، وهو من الفصحاء وأولاد العرب، وكذلك الجماعة ما منهم إلّا من ينسب إلى قبيلة ويختصّ بسداد وفصاحة، وقد خرج وخرجنا معه حين وردتهم نلتمس الفائدة المستطرفة من أحدكم، وحين شاهدناك رجونا ما نبغيه عندك لعلوّ سنّك.

فقال الشيخ: واللّه يا بني أخي حيّاكم اللّه، إنّ الدّنيا شغلتنا عما تبغونه منّي، فإن أردتم الفائدة فاطلبوها عند أبي وها بيته، وأشار إلى خباء كبير بازائه، فقصدنا البيت فوجدنا فيه شيخاً متضجّعاً، وحوله من الخدم والأمر أو فى مما شاهدناه أوّلا، فسلّمنا عليه وأخبرناه بخبر ابنه، فقال: يا بني أخي حياكم اللّه، إنّ الّذي شغل ابني عما التمستموه منه و الّذي شغلني عما هذه سبيله، ولكن الفائدة تجدونها عند والدي وها هو بيته، وأشار إلى بيت منيف فقلنا فيما بيننا: حسبنا من الفوائد مشاهدة والد هذا الشيخ الفاني، فإن كانت منه فائدة فهي ربح لم نحتسب.

فقصدنا ذلك الخباء فوجدنا حوله عدداً كثيراً من الإماء والعبيد، فحين رأونا تسرّعوا إلينا وبدؤا بالسلام علينا وقالوا ما تبغون حيّاكم اللّه ؟ فقلنا: نبغي السلام على سيدكم وطلب الفائدة من عنده، فقالوا: الفوائد كلّها عند سيّدنا، ودخل منهم من يستأذن، ثمّ خرج بالاذن لنا، فدخلنا فإذا سرير في صدر البيت وعليه محادّ من جانبيه، و وسادة في أوّله، وعلى الوسادة رأس شيخ قد بلي وطار شعره، فجهرنا بالسّلام فأحسن

ص: 494

الردّ، وقال قائلنا مثل ما قال لولده، وأعلمناه أنّه أرشدنا إليك وبشّرنا بالفائدة منك.

ففتح الشيخ عينين قد غارتا في أم رأسه وقال للخدم: أجلسوني، ثمّ قال لنا : يا بني أخي لأحدّثنّكم بخبر تحفظونه عنّي : كان والدي لا يعيش له ولد ويحبّ أن تكون له عاقبة، فولدت له على كبر، ففرح بي وابتهج بموردي، ثمّ قضى ولي سبع سنين، سنين، فكفّلني عمّي بعده، وكان مثله في الحذر عليّ، فدخل بي يوماً على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال له: يا رسول اللّه إنّ هذا ابن أخي وقد مضى أبوه لسبيله، وأنا كفيل بتربيته، وإنّني أنفس به على الموت، فعلّمني عودة أعوّذه بها ليسلم ببركتها.

فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أين أنت عن ذات القلاقل» ؟ فقال : يا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وما ذات القلاقل ؟ قال: «أن تعوّذه فتقرأ عليه سورة الجحد وسورة الإخلاص، وسورة الفلق، وسورة الناس»، وأنا إلى اليوم أتعوّذ بها كل غداة فما أُصبت، ولا أُصيب لي مال، ولا مرضت ولا افتقرت، وقد انتهى بي السنّ إلى ما ترون فحافظوا عليها واستكثروا من التعوّذ بها، ثم انصرفنا من عنده، (1).

ص: 495


1- البحار: ج 51 ص 258.

ص: 496

باب فضائل الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)

قصة المَلَك فطرس

عن الأزهر البطيخيّ عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «إنّ اللّه عرض ولاية أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقبلها الملائكة وأباها ملك يقال له فطرس فكسر اللّه،جناحه، فلمّا ولد الحسين بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) بعث اللّه جبرئيل في سبعين ألف ملك إلى محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يهنّئهم بولادته، فمرّ بفطرس، فقال له فطرس : يا جبرئيل إلى أين تذهب؟ قال: بعثني اللّه إلى محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أُهنّئهم بمولود ولد في هذه الليلة.

فقال له فطرس: احملني معك وسل محمّداً يدعولي، فقال له جبرئيل: اركب جناحي، فركب جناحه فأتى محمّداً فدخل عليه وهنّاه فقال له: يارسول اللّه إنّ فطرس بيني وبينه أُخوّة، وسألني أن أسألك أن تدعو اللّه له أن يردّ عليه جناحه.

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الفطرس : أتفعل ؟ قال: نعم، فعرض عليه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الولاية أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقبلها، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): شأنك بالمهد فتمسّح به وتمرّغ فيه.

قال : فمضى فطرس إلى مهد الحسين بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يدعو له، قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : فنظرت إلى ريشه وإنّه ليطلع ويجري منه الدمّ ويطول حتّى لحق بجناحه الآخر، وعرج مع جبرئيل إلى السماء وصار إلى موضعه»(1).

ص: 497


1- ج 26 ص 340 عن بصائر الدرجات.

حبّ الرسول وآله

قام ثوبان مولى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : بأبي أنت وأُمّي يارسول اللّه متى قيام الساعة؟ فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «ما أعددت لها إذ تسأل عنها» ؟ قال : يارسول اللّه ما أعددت لها كثير عمل، إلّا إنّي أحبّ اللّه ورسوله، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «وإلى ماذا بلغ حبّك لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )» ؟ قال: والذي بعثك بالحقّ نبياً إن في قلبي من محبّتك ما لو قطّعت بالسيوف، ونشرت بالمناشير، وقرضت بالمقاريض، وأُحرقت بالنيران، وطحنت بأرحاء الحجارة كان أحبّ إليّ وأسهل عليّ من أن أجد لك في قلبي غشّاً أو غلاً أو بغضاً لأحد من أهل بيتك أو أصحابك.

وأحبّ الخلق إلي بعدك أحبّهم لك، وأبغضهم إليّ من لا يحبّك ويبغضك أو يبغض أحداً من أصحابك، يارسول اللّه هذا ما عندي من حبّك وحب من يحبّك وبغض من يبغضك أو يبغض أحداً ممّن تحبّه، فإن قبل هذا منّي فقد سعدت، وإن أُريد منّي عمل غيره فما أعلم لي عملا أعتمده وأعتدّ به غير هذا، أُحبّكم جميعاً أنت وأصحابك وإن كنت لا أُطيقهم في أعمالهم.

فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أبشر فإنّ المرء يوم القيامة مع من أحبّه، ياثوبان لو كان عليك من الذنوب ملأ ما بين الثرى إلى العرش لانحسرت وزالت عنك بهذه المولاة أسرع من انحدار الظلّ عن الصخرة الملساء المستوية إذا طلعت عليه الشمس ومن انحسار الشمس إذا غابت عنها الشمس» (1).

حب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليس فيه رخصة

وعن سلمان الفارسي (رضیَ اللّهُ عنهُ)(2) قال : كنا عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إذ جاء أعرابي من بني

ص: 498


1- ج 27 ص 100.
2- عن كتاب المختصر للحسن بن سليمان.

عامر فوقف وسلّم فقال : يارسول اللّه جاء منك رسول يدعونا إلى الإسلام فأسلمنا، ثمّ إلى الصلاة والصيام والجهاد فرأيناه حسناً، ثمّ نهيتنا عن الزنا والسرقة والغيبة والمنكر فانتهينا، فقال لنا رسولك علينا أن نحبّ صهرك عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فما السر في ذلك وما نراه عبادة ؟ !

قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «الخمس خصال: أوّلها: أني كنت يوم بدر جالساً بعد أن غزونا إذ هبط جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال : إن اللّه يقرئك السلام ويقول : باهيت اليوم بعلي ملائكتي وهو يجول بين الصفوف، ويقول: اللّه أكبر والملائكة تكبّر معه، وعزتي وجلالي لا أُلهم حبّه إلاّ من أُحبّه، ولا أُلهم بغضه إلّا من أُبغضه.

والثانية: أنّي كنت يوم أُحد جالساً، وقد فرغنا من جهاز عمّي حمزة إذ أتاني جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال: يا محمّد إنّ اللّه يقول: فرضت الصلاة ووضعتها عن المريض، وفرضت الصوم ووضعته عن المريض والمسافر، وفرضت الحجّ ووضعته عن المقلّ المدقع (1)، وفرضت الزكاة ووضعتها عمّن لا يملك النصاب، وجعلت حبّ علي بن أبي طالب ليس فيه رخصة.

الثالثة: أنه ما أنزل اللّه كتاباً ولا خلق خلقاً إلّا جعل له سّيداً، فالقرآن سيد الكتب المنزلة، وجبرئيل سيّد الملائكة أو قال: إسرافيل وأنا سيّد الأنبياء، وعلي سيّد الأوصياء، ولكلّ أمر سيّد، وحبّي وحبّ عليّ بن أبي طالب سيّد ما تقرّب به المتقربون من طاعة ربهّم.

الرابعة : أنّ اللّه تعالى ألقى في روعي أنّ حبّ علي شجرة طوبى التي غرسها اللّه تعالى بیده.

ص: 499


1- المقل: الفقير المدقع الملصق بالتراب.

الخامسة : أنّ جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : إذا كان يوم القيامة نصب لك منبر عن يمين العرش والنبيون كلّهم عن يسار العرش وبين يديه، ونصب لعليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) كرسي إلى جانبك إكراماً له، فمن هذه خصائصه يجب عليكم أن تحبّوه، فقال الأعرابيّ : سمعاً وطاعة» (1).

لا تقبل الأعمال إلّا بالولاية

عن عقبة بن خالد عن ميسرة قال : كنت عند أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعنده في الفسطاط نحو من خمسين رجلا، فجلس بعد سكوت منا طويل فقال: «ما لكم؟ لعلكم ترون أنّي نبي اللّه ؟ واللّه ما أنا كذلك، ولكن لي قرابة من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وولادة.

فمن وصلنا وصله اللّه، ومن أحبّنا أحبّه اللّه (عزّوجلّ)، ومن حرمنا حرمه اللّه، أفتدرون أيّ البقاع أفضل عند اللّه منزلة ؟ فلم يتكلّم أحد منّا، فكان هو الرادّ على نفسه قال : ذلك مكّة الحرام التي رضيها اللّه لنفسه حرماً وجعل بيته فيها».

ثمّ قال: «أتدرون أيّ البقاع أفضل فيها عند اللّه حرمة»؟ فلم يتكلّم أحد منا، فكان هو الرادّ على نفسه فقال : ذلك المسجد الحرام».

ثمّ قال: : «أتدرون أيّ بقعة في المسجد الحرام أفضل عند اللّه حرمة»؟ فلم يتكلّم أحد منّا، فكان هو الراد على نفسه فقال : ذاك بين الركن والمقام وباب الكعبة، وذلك حطيم إسماعيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) ذاك الّذي كان يذود فيه غنيماته ويصلّي فيه، وواللّه لو أنّ عبداً صفّ قدميه في ذلك المكان قام الليل مصليّاً حتّى يجيئه النهار، وصام النهار حتّى يجيئه الليل ولم يعرف حقنا وحرمتنا أهل البيت لم يقبل اللّه منه شيئاً أبداً» (2).

ص: 500


1- ج 27 ص 128.
2- ج 27 ص 177.

المرأة السوداء

وجاء في الكافي: عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن الحسن بن علي عن زكريfا المؤمن، عن ابن مسكان عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، قال: «إنّ رجلا أتى بامرأته إلى عمر، فقال: إنّ امرأتي هذه سوداء وأنا أسود وإنها ولدت غلاماً أبيض.

فقال لمن بحضرته: ما ترون؟

قالوا:نرى أن ترجمها فإنّها سوداء وزوجها أسود وولدها أبيض.

قال: فجاء أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقد وجه بها لتُرجم فقال: ما حالكما؟ فحدّثناه.

فقال للأسود: أتتّهم امرأتك ؟

فقال: لا.

قال: فأتيتها وهي طامث؟

قال: قد قالت لي في ليلة من الليالي: إنّي طامث فظننت أنها تتّقي البرد فوقعت علیها.

فقال للمرأة: هل أتاك وأنت طامث؟

قالت: نعم،سله قد حرّجت عليه وأبيت.

قال : فانطلقا فإنّه إبنكما، وإنّما غلب الدم النطفة فابيضّ، ولو قد تحرّك اسود. فلمّا أينع أسودّ» (1).

رجل لا يخاف اللّه وهو من أهل الجنّة

جاء في مشارق الأنوار: قال: إن رجلا حضر مجلس أبي بكر فادّعى أنّه لا يخاف اللّه،

ص: 501


1- البحار : ج 30 ص108.

ولا يرجو الجنّة، ولا يخشى النار، ولا يركع ولا يسجد، ويأكل الميتة والدم، ويشهد بما لا يرى ويحبّ الفتنة، ويكره الحقّ، ويصدّق اليهود والنصارى، وأنّ عنده ما ليس عند اللّه، وله ما ليس اللّه، وانّي أحمد النبي، وانّي عليّ، وأنا ربّكم، فقال له عمر ازددت كفراً على كفرك.

فقال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هوّن عليك يا عمر ! فإنّ هذا رجل من أولياء اللّه، لا يرجو الجنّة ولكن يرجو اللّه، ولا يخاف النار ولكن يخاف ربّه، ولا يخاف اللّه من ظلم ولكن يخاف عدله، لأنه حَكَمٌ عدلٌ، ولا يركع ولا يسجد في صلاة الجنازة، ويأكل الجراد والسمك، ويحبّ الأهل والولد، ويشهد بالجنة والنار ولم يرهما، ويكره الموت وهو الحقّ، ويصدّق اليهود والنصارى في تكذيب بعضها بعضاً، وله ما ليس اللّه، لأنّ له ولداً وليس للّه ولد، وعنده ما ليس عند اللّه، فإنّه يظلم نفسه وليس عند اللّه ظلم، وقوله: أنا أحمد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).. أي أنا أحمده على تبليغ الرسالة عن ربه، وقوله: أنا عليّ . يعني عليّ في قولي، وقوله أنا ربّكم.. أي ربُّ كمّ، بمعنى لي كم أرفعها وأضعها، ففرح عمر، وقام وقبل رأس أمير المؤمنين، وقال: لا بقيتُ بعدك يا أبا الحسن (1).

المرأة تلد لستة أشهر

عن محمّد بن العبّاس عن أحمد بن هوزة عن النهاوندي، عن عبداللّه بن حمّاد، عن نصر بن يحيى، عن المقتبس بن عبدالرحمن، عن أبيه عن جده، قال: كان رجل من أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مع عمر بن الخطاب فأرسله في جيش، فغاب ستّة أشهر قدم، وكان مع أهله ستة أشهر، فعلقت منه، فجاءت بولد الستة أشهر فأنكره، فجاء بها إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين ! كنت في البعث الّذي وجهتني فيه، وتعلم أنّي قدمت ستة أشهر، وكنت مع أهلي وقد جاءت بغلام وهو ذا، وتزعم أنه مني، فقال لها عمر:

ص: 502


1- البحار : ج 30 ص 109.

ماذا تقولين أيتها المرأة؟ فقالت: واللّه ما غشيني رجل غيره، وما فجرت، وإنّه لابنه، وكان اسم الرجل : الهيثم.

فقال لها عمر : أحقّ ما يقول زوجك؟

قالت: قد صدق يا أمير المؤمنين ! فأمر بها عمر أن ترجم، فحفر لها حفيرة ثمّ أدخلها فيه، فبلغ ذلك علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فجاء مسرعاً حتّى أدركها وأخذ بيدها فسلّها من الحفيرة.

ثمّ قال لعمر: «أربع على نفسك إنها قد صدقت، إنّ اللّه (عزّوجلّ) يقول في كتابه: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَثُونَ شَهْرًا»(1) وقال في الرضاع:

«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ»(2) فالحمل والرضاع ثلاثون شهراً، وهذا الحسين ولد لستة أشهر.

فعندها قال عمر : لولا علي لهلك عمر (3).

الصلاة الخالصة

قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ, قَلْبُ»(4) الآية... تأويله حديث لطيف وخبر طريف، وهو ما نقله ابن شهر آشوب في كتابه مرفوعاً عن رجاله عن ابن عبّاس أنّه قال : أهدى رجل إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ناقتين عظيمتين سمينتين، فقال للصحابة: «هل فيكم أحد يصلّي ركعتين بوضوئها وقيامها وركوعها وسجودهما وخشوعها ولم يهتمّ فيهما بشيء من أُمور الدنيا، ولا يحدّث قلبه بفكر الدنيا؟ أُهدي إليه إحدى هاتين

ص: 503


1- سورة الأحقاف: الآية 15.
2- سورة البقرة: الآية 232.
3- البحار : ج 30 ص 110.
4- سورة ق : الآية 37.

الناقتين»، فقالها مرّة ومرّتين وثلاثاً فلم يجبه أحد من أصحابه، فقام إليه أمير المؤمنين فقال: «أنا يارسول اللّه، أصلّي الركعتين أُكبّر التكبيرة الأُولى إلى أن أُسلّم منها لا أحدّث نفسي بشيء من أمور الدنيا»، فقال: «صلّ ياعلي صلّى اللّه عليك»، قال: فكبّر أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ودخل في الصلاة، فلمّا سلّم من الركعتين هبط جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال: «يا محمّد إنّ اللّه يقرؤك السلام ويقول لك: أعطه إحدى الناقتين»، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أنا شارطته أن يصلّي ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء من أُمور الدنيا أن أُعطيه إحدى الناقتين، وإنّه جلس في التشهد فتفكر في نفسه أيّهما يأخذ»! فقال جبرئيل : «يا محمّد إنّ اللّه يقرؤك السلام ويقول لك: تفكّر أيهما يأخذ، أسمنهما فينحرها فيتصدّق بها لوجه اللّه تعالى فكان تفكّره اللّه تعالى لا لنفسه ولا للدنيا»، فبكى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأعطاه كلتيهما، فنحرهما وتصدّق بهما، فأنزل اللّه تعالى فيه هذه الآية، يعني به أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه خاطب نفسه في صلاته اللّه تعالى، لم يتفكّر فيهما بشيء من أُمور الدنيا (1).

إسلام الراهب

عن عبداللّه بن أبي عن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) «أنّه لما فتحت خيبر قالوا له: إنّ بها حبراً قد مضى له من العمر مائة سنة، وعنده علم التوراة، فأُحضر بين يديه، وقال له: أصدقني بصورة ذكري في التوراة وإلّا ضربت عنقك، قال : فانهملت عيناه بالدموع، وقال له: إن صدقّتك قتلني قومي، وإن كذّبتك قتلتني قال له: قل وأنت في أمان اللّه وأماني، قال له الحبر: أريد الخلوة بك، قال له: أُريد أن تقول جهراً، قال: إنّ في سفر من أسفار التوراة اسمك ونعتك وأتباعك، وأنّك تخرج من جبل فاران، وينادى بك باسمك على كلّ منبر، فرأيت في علامتك بين كتفيك خاتماً تختم به النبوّة، أي لا نبيّ بعدك، ومن ولدك أحد عشر سبطاً يخرجون من ابن عمّك، واسمه علي، ويبلغ ملكك المشرق والمغرب،

ص: 504


1- البحار: ج 36 ص 161.

وتفتح خيبر وتقلع،بابها، ثمّ تعبر الجيش على الكفّ والزند، فإن كان فيك هذه الصفات آمنت بك وأسلمت على يدك».

قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «أيّها الحبر أمّا الشامة فهي لي وأمّا العلامة فهي لناصري علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)»، قال : فالتفت إليه الحبر وإلى عليّ وقال: «أنت قاتل مرحب الأعظم»، قال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): بل الأحقر، أنا جدلته بقوّة اللّه وحوله، وأنا معبّر الجيش على زندي وكفّي، فعند ذلك قال: مدّ يدك فأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأن محمّداً رسول اللّه، وأنّك معجزه، وأنّه يخرج منك أحد عشر نقيباً، فاكتب لي عهداً لقومي فإنّهم كنقباء بني إسرائيل أبناء داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) فكتب له بذلك عهداً» (1).

ما بين الإيمان واليقين

عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن نعمان قال: كنت عند الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ دخل عليه رجل من العرب متلثّماً أسمر شديد السمرة، فسلّم فردّ عليه الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال: يابن رسول اللّه مسألة فقال: «هات»، قال: كم بين الإيمان واليقين؟ قال: «أربع أصابع»، قال : كيف؟ قال: «الإيمان ما سمعناه واليقين ما رأيناه، وبين السمع والبصر أربع أصابع»، قال: فكم بين السماء والأرض؟ قال : «دعوة مستجابة»، قال: فكم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة يوم للشمس»، قال: فما عزّ المرء؟ قال: «استغناؤه عن الناس»، قال : فما أقبح شيء؟ قال: «الفسق في الشيخ قبيح والحدّة في السلطان قبيحة، والكذب في ذي الحسب قبيح، والبخل في ذي الغناء، والحرص في العالم»، قال: صدقت يابن رسول اللّه، فأخبرني عن عدد الأئمّة بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، «قال: إثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل»، قال: فسمّهم لي، قال: فأطرق الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم رفع رأسه فقال: «نعم، أُخبرك يا أخا العرب، إنّ الإمام والخليفة بعد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أبي أمير المؤمنين علي بن

ص: 505


1- البحار : ج 36 ص 212 رقم 14.

أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) والحسن وأنا وتسعة من ولدي منهم علي ابني، وبعده محمّد ابنه، وبعده جعفر ابنه وبعده موسى ابنه وبعده علي ابنه، وبعده محمّد ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده الحسن ابنه، وبعده الخلف المهدي هو التاسع من ولدي يقوم بالدين في آخر الزّمان». قال : فقام الأعرابيّ وهو يقول:

مسح النبي جبينه***فله بريق في الخدود

أبواه من أعلا قريش***وجده خير الجدود (1)

معجزة الرجل الشامي

عن عليّ بن خالد، وكان زيديّاً قال كنت في العسكر فبلغني أنّ هناك رجلا محبوساً اُتی به من ناحية الشام مكبولا، وقالوا: إنّه تنبّأ، قال عليّ : فداريت القوّادين والحجبة، حتّى وصلت إليه، فإذا رجل له فهم. فقلت له : يا هذا ما قصّتك وما أمرك؟ فقال لي: كنت رجلا بالشام أعبد اللّه في الموضع الّذي يقال له : موضع رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فبينا أنا في عبادتي إذ أتاني شخص فقال: «قم بنا»، قال: فقمت معه، قال: فبينا أنا معه إذا أنا في مسجد الكوفة، فقال لي: «تعرف هذا المسجد»؟ قلت: نعم، هذا مسجد الكوفة، قال : فصلّى وصلّيت معه، فبينا أنا معه إذا أنا في مسجد المدينة، قال: فصلّى وصلّيت معه، وصلّى على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ودعا له، فبينا أنا معه إذا أنا بمكّة، فلم أزل معه حتّى قضى مناسكه وقضيت مناسكي معه، قال: فبينا أنا معه إذا أنا بموضعي الّذي كنت أعبد اللّه فيه بالشام، قال: ومضى الرّجل.

قال: فلمّا كان عام قابل في أيّام الموسم إذا أنا به، وفعل بي مثل فعلته الأُولى، فلمّا فرغنا من مناسكنا وردّني إلى الشام وهمّ بمفارقتي قلت له: سألتك بحقّ الّذي أقدرك على ما رأيت إلّا أخبرتني من أنت قال: فأطرق طويلا ثمّ نظر إلي فقال: «أنا محمّد بن

ص: 506


1- البحار : ج 36 ص 384.

عليّ بن موسى». فتراقى الخبر حتّى انتهى الخبر إلى محمّد بن عبد الملك الزيّات، قال: فبعث إليّ فأخذني وكبلني في الحديد، وحملني إلى العراق وحبسني كما ترى.

قال: قلت له: أرفع قصّتك إلى محمّد بن عبد الملك، فقال: ومن لي يأتيه بالقصّة؟ قال: فأتيته بقرطاس ودواة، فكتب قصته إلى محمّد بن عبد الملك، فذكر في قصّته ما كان،قال فوقّع في القصّة : قل للذي أخرجك في ليلة من الشام إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى المدينة، ومن المدينة إلى المكان أن يخرجك من حبسك.

قال عليٌّ: فغمّني أمره ورققت له، وأمرته بالعزاء، قال: ثم بكّرت عليه يوماً فإذا الجند، وصاحب الحرس، وصاحب السّجن وخلق عظيم يتفحّصون حاله، قال: فقلت ما هذا؟ قالوا: المحمول من الشام الّذي تنبّأ افتقد البارحة لا ندري خسف به الأرض، أو اختطفه الطير في الهواء؟ وكان علي بن خالد هذا زيديّاً فقال بالامامة بعد ذلك وحسن اعتقاده (1).

قصّة يونس النقّاش والفصّ

عن الفحّام، قال: حدّثني المنصوري، عن عمّ أبيه وحدّثني عمّي، عن كافور الخادم بهذا الحديث قال: كان في الموضع مجاور الإمام من أهل الصنايع صنوف من الناس، وكان الموضع كالقرية، وكان يونس النقّاش يغشى سيّدنا الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويخدمه.

فجاءه يوماً يرعد فقال : يا سيّدي أوصيك بأهلي،خيراً، قال: «وما الخبر»؟ قال: عزمت على الرّحيل، قال: ولم يا يونس»؟ وهو (عَلَيهِ السَّلَامُ) متبسّم، قال: قال موسى ابن بغا وجّه إليّ بفصّ ليس له قيمة أقبلت أن أُنقّشه فكسرته باثنين وموعده غداً، وهو موسى بن بغا، إمّا ألف سوط أو القتل، قال: «إمض إلى منزلك إلى غد فما يكون إلّا خيراً».

ص: 507


1- البحار : ج 50 ص 38.

فلمّا كان من الغد وافى بكرة يرعد، فقال : قد جاء الرسول يلتمس الفصّ، قال: «إمض إليه فما ترى إلّا خيراً»، قال : وما أقول له يا سيدي؟ قال: فتبسّم وقال: «إمض إليه واسمع ما يخبرك به، فلن يكون إلّا خيراً».

قال: فمضى وعاد يضحك قال: قال لي يا سيّدي: الجواري اختصمن فيمكنك أن تجعله فصين حتّى نغنيك، فقال سيدنا الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «اللّهم لك الحمد إذ جعلتنا ممّن يحمدك حقّاً، فأيش قلت له» ؟ قال : قلت له : أمهلني حتّى أتأمّل أمره كيف أعمله، فقال: «أصبت» (1).

سبب تشيّع عبد الرحمن

حدّث جماعة من أهل إصفهان منهم أبو العبّاس أحمد بن النّضر وأبو جعفر محمّد بن علويّة قالوا: كان بإصفهان رجل يقال له عبد الرّحمن، وكان شيعيّاً، قيل له ما السبب الّذي أوجب عليك القول بإمامة عليّ النقيّ دون غيره من أهل الزّمان؟ قال: شاهدت ما أوجب عليّ، وذلك أني كنت رجلا فقيراً، وكان لي لسان وجرأة، فأخرجني أهل إصفهان سنة من السنين مع قوم آخرين إلى باب المتوكّل متظلّمين.

فكنّا بباب المتوكّل يوماً إذا خرج الأمر بإحضار عليّ بن محمّد بن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقلت لبعض من حضر: من هذا الرجل الّذي قد أمر باحضاره؟ فقيل : هذا رجل علويّ تقول الرافضة بإمامته، ثمّ قال: ويقدّر أنّ المتوكّل يحضره للقتل، فقلت: لا أبرح من ههنا حتّى أنظر إلى هذا الرجل، أي رجل هو ؟ قال : فأقبل راكباً على فرس، وقد قام الناس يمنة الطريق ويسرتها صفّين ينظرون إليه، فلمّا رأيته وقع حبّه في قلبي، فجعلت أدعو في نفسي بأن يدفع اللّه عنه شر المتوكّل، فأقبل يسير بين الناس وهو ينظر إلى عرف دابته، لا

ص: 508


1- البحار : ج 50 ص 125.

ينظر يمنة ولا يسرة، وأنا دائم الدّعاء، فلمّا صار إليّ أقبل بوجهه إليّ وقال: «استجاب اللّه دعاءك، وطوّل عمرك، وكثّر مالك وولدك»، قال : فارتعدت ووقعت بين أصحابي، فسألوني وهم يقولون: ما شأنك؟ فقلت : خير، ولم أُخبر بذلك.

فانصرفنا بعد ذلك إلى إصفهان، ففتح اللّه عليّ وجوهاً من المال، حتّى أنا اليوم أغلق بابي على ما قيمته ألف ألف درهم سوى مالي خارج داري، ورزقت عشرة من الأولاد، وقد بلغت الآن من عمري نيّفاً وسبعين سنة وأنا أقول بإمامة الرجل على الّذي علم ما في قلبي، واستجاب اللّه دعاءه فيّ ولي(1).

سبب تشيّع وزير المتوكّل

روى أبو القاسم البغداديّ عن زرارة قال: أراد المتوكّل أن يمشي عليّ بن محمّد بن الرّضاء (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوم السّلام، فقال له وزيره: إنّ في هذا شناعة عليك وسوء قالة فلا تفعل، قال: لابدّ من هذا، قال: فإن لم يكن بدّ من هذا، فتقدّم بأن يمشي القوّاد والأشراف كلّهم، حتّى لا يظنّ الناس أنك قصدته بهذا دون غيره، ففعل ومشى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكان الصّيف فواض الدّهليز وقد عرق.

قال: فلقيته فأجلسته في الدهليز ومسحت وجهه بمنديل وقلت ابن عمّك لم يقصدك بهذا دون غيرك، فلا تجد عليه في قلبك، فقال: إيهاً عنك «تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام، ذلك وعد غير مكذوب» قال زرارة: وكان عندي معلّم يتشيّع، وكنت كثيراً أُمازحه بالرافضيّ، فانصرفت إلى منزلي وقت العشاء وقلت: تعال يا رافضي حتّى أُحدّثك بشيء اليوم من إمامكم قال لي: وما سمعت ؟ فأخبرته بما قال فقال : أقول لك فاقبل نصيحتي، قلت: هاتها، قال: إن كان عليّ بن محمّد قال بما قلت فاحترز، واخزن كلّ ما

ص: 509


1- البحار : ج 50 ص 141.

تملكه، فإنّ المتوكّل يموت أو يُقتل بعد ثلاثة أيّام، فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يدي فخرج.

فلما خلوت بنفسي تفكّرت وقلت ما يضرني أن آخذ بالحزم، فإن كان من هذا شيء كنت قد أخذت بالحزم، وإن لم يكن لم يضرّني ذلك، قال: فركبت إلى دار المتوكّل فأخرجت كلّ ما كان لي فيها، وفرّقت كلّ ما كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم، ولم أترك في داري إلا حصراً أقعد عليه.

فلما كانت اللّيلة الرابعة قُتل المتوكّل وسلمت أنا ومالي وتشيّعت عند ذلك، فصرت إليه، ولزمت خدمته، وسألته أن يدعوني وتواليته حق الولاية(1).

شفاء المتوكّل من مرضه

عن عليّ بن محمّد، عن إبراهيم بن محمّد الطاهريّ، قال: مرض المتوكّل من خراج خرج به، فأشرف منه على التلف، فلم يجسر أحد أن يمسّه بحديدة، فنذرت أُمّه إن عوفي أن يحمل إلى أبي الحسن علي بن محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) مالا جليلا من مالها.

وقال له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى هذا الرّجل - يعني أبا الحسن - فسألته، فإنّه ربّما كان عنده صفة شيء يفرّج اللّه به عنك قال : ابعثوا إليه، فمضى الرّسول ورجع فقال: خذوا كُسب الغنم فديّفوه بماء ورد، وضعوه على الخراج فإنّه نافع بإذن اللّه.

فجعل من بحضرة المتوكّل يهزأ من قوله، فقال لهم الفتح : وما يضرّ من تجربة ما قال، فواللّه إنّي لأرجو الصلاح به، فأُحضر الكسب، وديّف بماء الورد ووضع على الخراج، فانفتح وخرج ما كان فيه، وبشّرت أُمّ المتوكّل بعافيته فحملت إلى أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) عشرة آلاف دينار تحت ختمها، فاستقلّ المتوكّل من علّته.

ص: 510


1- البحار : ج 50 ص 147.

فلمّا كان بعد أيّام سعى البطحائي بأبي الحس (عَلَيهِ السَّلَامُ)ن إلى المتوكّل فقال: عنده سلاح وأموال، فتقدّم المتوكّل إلى سعيد الحاجب أن يهجم ليلاً عليه، ويأخذ ما يجد عنده من الأموال والسلاح ويحمل إليه، فقال إبراهيم بن محمّد قال لي سعيد الحاجب: صرت إلى دار أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) باللّيل، ومعي سلّم، فصعدت منه إلى السطح، ونزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة، فلم أدر كيف أصل إلى الدّار، فناداني أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الدّار : «يا سعيد مكانك حتّى يأتوك بشمعة»، فلم ألبث أن أتوني بشمعة، فنزلت فوجدت عليه جبّة من صوف وقلنسوة منها وسجادته على حصير بين يديه وهو مُقبل على القبلة، فقال لي: «دونك بالبيوت». فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة مختومة بخاتم أُمّ المتوكّل وكيساً مختوماً معها، فقال أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): «دونك المصلى» فرفعت فوجدت سيفاً في جفن غير ملبوس، فأخذت ذلك وصرت إليه.

فلمّا نظر إلى خاتم أُمّه على البدرة بعث إليها، فخرجت إليه، فسألها عن البدرة، فأخبرني بعض خدم الخاصّة أنها قالت له: كنت نذرت في علّتك إن عوفيت أن أحمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار، فحملتها إليه، وهذا خاتمك على الكيس ما حرّكها.

وفتح الكيس الآخر، وكان فيه أربع مائة دينار، فأمر أن يضمّ إلى البدرة بدرة أخرى وقال لي : احمل ذلك إلى أبي الحسن واردد عليه السيف والكيس بما فيه، فحملت ذلك إليه واستحييت منه، وقلت: يا سيّدي عزّ علي بدخول دارك بغير إذنك، ولكنّي مأمور،به فقال لي: «وَسَيَعْلَمُ الّذين ظَلَمُوا أَى مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ»(1)(2).

الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وخان الصعاليك

كان سبب شخوص أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المدينة إلى سرّ من رأى أن عبد اللّه بن محمّد

ص: 511


1- البحار : ج 50 ص 198.
2- الشعراء: 227.

كان يتولى الحرب والصلاة في مدينة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فسعى بأبي الحسن إلى المتوكّل، وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) سعايته به، فكتب إلى المتوكّل يذكر تحامل عبد اللّه بن محمّد عليه وكذبه فيما سعی به فتقدّم المتوكّل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر على جميل من الفعل والقول، فخرجت نسخة الكتاب وهي: بسم اللّه الرّحمن الرحيم أمّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك راعٍ لقرابتك، موجب لحقك، مؤثر من الأمور فيك وفي أهل بيتك، ما يصلح اللّه به حالك وحالهم، ويثبت به [من] عزّك وعزّهم، ويدخل الأمن عليك وعليهم يبتغي بذلك رضا ربّه، وأداء ما فرض عليه فيك وفيهم.

فقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد اللّه بن محمّد عما كان يتولّى من الحرب والصّلاة بمدينة الرّسول، إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك، واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الّذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيتك في برك وقولك وأنك لم تؤهّل نفسك لما قرفت بطلبه، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمّد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك، والانتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرّب إلى اللّه وإلى أمير المؤمنين بذلك، وأمير المؤمنين مشتاق إليك، يحبّ إحداث العهد بك، والنظر إلى وجهك.

فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت، شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة، ترحل إذا شئت، وتنزل إذا شئت وتسير كيف شئت فإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند يرحلون برحيلك، يسيرون بمسيرك، فالأمر في ذلك إليك، وقد تقدّمنا إليه بطاعتك.

فاستخر اللّه حتّى توافي أمير المؤمنين، فما أحد من أخوته وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة ولا أحمد له أثرة ولا هو لهم أنظر، وعليهم أشفق، وبهم أبرّ، وإليهم

ص: 512

أسكن منه إليك، والسّلام عليك ورحمة اللّه وبركاته.

وكتب إبراهيم بن العبّاس في جمادي الأخرى سنة ثلاث وأربعين ومائتين.

فلمّا وصل الكتاب إلى أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) تجهّز للرّحيل، وخرج معه يحيى بن هرثمة حتّى وصل سرّ من رأى، فلمّا وصل إليها تقدّم المتوكّل بأن يحجب عنه في يومه، فنزل في خان يقال له: خان الصّعاليك، وأقام به يومه، ثمّ تقدّم المتوكّل بافراد دار له، فانتقل إليها.

عن صالح بن سعيد، قال: دخلت على أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوم وروده فقلت له: جعلت فداك في كلّ الأمور أرادوا إطفاء نورك، والتقصير بك، حتّى أنزلوك هذا المكان الأشنع خان الصّعاليك.

فقال: «ههنا أنت يابن سعيد»؟ ثمّ أومأ بيده فإذا أنا بروضات أنيقات وأنهار جاريات، وجنّات فيها خيرات عطرات، وولدان كأنّهنّ اللّؤلؤ المكنون، فحار بصري، وكثر عجبي، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) لي : «حيث كنّا فهذا لنا يا ابن،سعيد لسنا في خان الصعاليك».

وأقام أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) مدّة مقامه بسر من رأى مكرّماً في ظاهر حاله، يجتهد المتوكّل في إيقاع حيلة به، فلا يتمكّن من ذلك، وله معه أحاديث يطول بذكرها الكتاب، فيها آيات له،وبيّنات إن عمدنا لا يراد ذلك خرجنا عن الغرض فيما نحوناه.

وتوفّي أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، ودفن في داره بسرّ من رأى، وخلّف من الولد أبا محمّد الحسن ابنه وهو الإمام بعده، والحسين ومحمّد وجعفر، وابنته عائشة، وكان مقامه في سر من رأى إلى أن قبض عشر سنين وأشهراً، وتوفّي وسنّه يومئذ على ما قدّمناه إحدى وأربعين سنة (1).

ص: 513


1- البحار : ج 50 ص 200.

قصة زينب الكذّابة

عن أبو الهلقام وعبد اللّه بن جعفر الحميريّ والصقر الجبليّ وأبو شعيب الحنّاط وعلي بن مهزيار، قالوا: كانت زينب الكذّابة تزعم أنّها ابنة عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فأحضرها المتوكّل وقال : أذكري نسبك فقالت : أنا زينب ابنة علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأنها كانت حملت إلى الشام، فوقعت إلى بادية من بني كلب فأقامت بين ظهرانيّهم.

فقال لها المتوكّل : إنّ زينب بنت عليّ قديمة، وأنت شابة؟ فقال: لحقتني دعوة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بأن يردّ شبابي في كل خمسين سنة، فدعا المتوكّل وجوه آل أبي طالب، فقال : كيف يعلم كذبها ؟ فقال الفتح: لا يخبرك بهذا إلا ابن الرّضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأمر باحضاره وسأله، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ في ولد عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) علامة، قال : وما هي ؟ قال : «لا تعرض لهم السباع، فألقها إلى السّباع فإن لم تعرض لها فهي صادقة»، فقالت : يا أمير المؤمنين اللّه اللّه في فإنّما أراد قتلي، وركبت الحمار وجعلت تنادي: ألا إنني زينب الكذّابة.

وفي رواية أنّه عرض عليها ذلك فامتنعت، فطرحت للسبّاع فأكلتها.

قال عليّ بن مهزیار : فقال عليّ بن الجهم: جرّب هذا على قائله، فأُجيعت السباع ثلاثة أيّام، ثم دعا بالامام (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأخرجت السّباع، فلمّا رأته لاذت وتبصبصت بآذانها، فلم يلتفت الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) إليها، وصعد السقف وجلس عند المتوكّل ثم نزل من عنده، والسّباع تلوذ به، وتبصبص حتّى خرج (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال: قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : حُرّم لحوم أولادي على السّباع»(1).

المشعبذ الهندي ومجلس المتوكّل

عن محمّد بن الحسن الجهنيّ قال: حضر مجلس المتوكّل مشعبذ هنديّ، فلعب عنده

ص: 514


1- البحار : ج 50 ص 204.

بالحُقِّ، فأعجبه فقال له المتوكّل : يا هنديّ السّاعة يحضر مجلسنا رجل شريف، فإذا حضر فالعب عنده بما يخجله.

قال: فلمّا حضر أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) المجلس، لعب الهنديّ فلم يلتفت إليه، فقال له: يا شريف ما يعجبك لعبي؟ كأنّك جائع، ثمّ أشار إلى صورة مدوّرة في البساط على شكل الرغيف، وقال: يا رغيف مرّ إلى هذا الشريف، فارتفعت الصورة، فوضع أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) يده على صورة سبع في البساط وقال: «قم فخذ هذا»، فصارت الصورة سبع وابتلع الهندي، وعاد إلى مكانه في البساط، فسقط المتوكّل لوجهه، وهرب من كان قائماً.

الوشاية بالامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

قال المسعوديّ في مروج الذّهب : سُعي إلى المتوكّل بعلي بن محمّد الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنّه عازم على الوثوب بالدّولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا داره ليلا، فلم يجدوا فيها شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرّمل،والحصا، وهو متوجّه إلى اللّه تعالى يتلو آيات من القرآن.

فحمل على حاله تلك إلى المتوكّل، وقالوا له: لم نجد في بيته شيئاً، ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة، وكان المتوكّل جالساً في مجلس الشرب، فدخل عليه والكأس في يد المتوكّل.

فلمّا رآه ها به وعظمه وأجلسه إلى جانبه، وناوله الكأس التي كانت في يده، فقال: «واللّه ما يخامر لحمي ودمي قطّ، فاعفني فأعفاه»، فقال: أنشدني شعراً فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّي قليل الرواية للشعر»، فقال: لابد، فأنشده (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو جالس عنده:

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم***غُلب الرّجال فلم تنفعهم القلل

ص: 515

واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم***وأسكنوا حفراً يا بئسما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد دفنهم***أين الأساور والتّيجان والحُلل

أين الوجوه التي كانت منعّمة***من دونها تضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم***تلك الوجوه عليها الدود تقتتل

قد طال ما أكلوا دهراً وقد شربوا***وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أُكلوا

فبكى المتوكّل حتّى بلّت لحيته دموع عينيه، وبكى الحاضرون، ودفع إلى عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) أربعة آلاف دينار، ثمّ ردّه إلى منزله مكرّماً(1).

توبة الحسين بن الحسن

رويت عن مشايخ قم أنّ الحسين بن الحسن بن جعفر بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصّادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان بقم يشرب الخمر علانية، فقصد يوماً لحاجة باب أحمد بن إسحاق الأشعري، وكان وكيلا في الأوقاف بقم، فلم يأذن له، ورجع إلى بيته مهموماً.

فتوجّه أحمد بن إسحاق إلى الحجّ، فلمّا بلغ سرّ من رأى استأذن على أبي محمّد الحسن العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلم يأذن له، فبكى أحمد لذلك طويلا وتضرّع حتّى أذن له.

فلمّا دخل قال: يا ابن رسول اللّه لم منعتني الدخول عليك، وأنا من شيعتك ومواليك ؟ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لأنّك طردت ابن عمّنا عن بابك»، فبكى أحمد، وحلف باللّه أنّه لم يمنعه من الدخول عليه إلّا لأن يتوب من شرب الخمر، قال : «صدقت، ولكن لابدّ عن إكرامهم واحترامهم على كلّ حال، وأن لا تحقّرهم ولا تستهين بهم، لانتسابهم إلينا، فتكون من الخاسرين».

فلمّا رجع أحمد إلى قم أتاه أشرافهم، وكان الحسين معهم، فلمّا رآه أحمد وثب إليه

ص: 516


1- البحار : ج 50 ص 211.

واستقبله وأكرمه وأجلسه في صدر المجلس، فاستغرب الحسين ذلك منه واستبدعه، وسأله عن سببه فذكر له ما جرى بينه وبين العسكريّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ذلك.

فلما سمع ذلك ندم من أفعاله القبيحة وتاب منها، ورجع إلى بيته وأهرق الخمور وكسر آلاتها، وصار من الأتقياء المتورّعين، والصّلحاء المتعبّدين، وكان ملازماً للمساجد معتكفاً فيها، حتّى أدركه الموت، ودفن قريباً من مزار فاطمة رضي اللّه عنهما (1).

قصة أبو الأديان مع الإمام الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)

قال أبو الحسن عليّ بن محمّد بن حبّاب: حدّثنا أبو الأديان قال: كنت أخدم الحسن بن عليّ بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت إليه في علّته التي توفّي فيها صلوات اللّه عليه، فكتب معي كتباً وقال: «تمضي بها إلى المدائن، فإنّك ستغيب خمسة عشر يوماً فتدخل إلى سرّ من رأى يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري، وتجدني على المغتسل»، قال أبو الأديان فقلت : يا سيّدي فإذا كان ذلك فمن؟ قال: «من طالبك بجوابات كتبي، فهو القائم بعدي»، فقلت: زدني، فقال: «من يصلّي علي فهو القائم بعدي»، فقلت: زدني، فقال: _من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي».

ثمّ منعتني هيبته أن أسأله ما في الهميان، وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها، ودخلت سر من رأى يوم الخامس عشر كما قال لي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا أنا بجعفر بن على أخيه بباب الدار والشيعة حوله يعزّونه ويهنّؤونه.

فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد حالت الإمامة، لأنّي كنت أعرفه بشرب النبيذ، ويقامر في الجوسق، ويلعب بالطنبور، فتقدّمت فعزّيت وهنيت فلم يسألني عن

ص: 517


1- البحار : ج 50 ص 323.

شيء ثم خرج عقيد فقال : يا سيّدي قد كفّن أخوك فقم للصلاة عليه فدخل جعفر بن عليّ والشيعة من حوله يقدمهم السّمان والحسن بن عليّ قتيل المعتصم المعروف بسلمة.

فلمّا صرنا بالدار إذا نحن بالحسن بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) على نعشه مكفّناً، فتقدّم جعفر بن عليّ ليصلّي على أخيه فلمّا همّ بالتكبير خرج صبيّ بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ رداء جعفر بن عليّ وقال: «تأخّر يا عمّ فأنا أحق بالصلاة على أبي» فتأخّر جعفر، وقد اربدّ وجهه، فتقدّم الصبيّ فصلّى عليه، ودفن إلى جانب قبر أبيه.

ثمّ قال: «يا بصريّ هات جوابات الكتب الّتي معك»، فدفعتها إليه، وقلت في نفسي: هذه اثنتان بقي الهميان ثم خرجت إلى جعفر بن عليّ وهو يزفر، فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي من الصّبي؟ ليقيم عليه الحجّة، فقال: واللّه ما رأيت قط ولا عرفته.

فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن عليّ فعرفوا موته، فقالوا: فمن؟ فأشار الناس إلى جعفر بن عليّ فسلّموا عليه وعزّوه وهنّؤوه، وقالوا: معنا كتب ومال، فتقول : ممّن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: يريدون منّا أن نعلم الغيب.

قال : فخرج الخادم فقال معكم كتب فلان وفلان و هميان فيه ألف دينار، عشرة دنانير منها مطليّة فدفعوا الكتب والمال، وقالوا: الّذي وجّه بك لأجل ذلك هو الإمام.

فدخل جعفر بن عليّ على المعتمد وكشف له ذلك، فوجّه المعتمد خدمه فقبضوا على صقيل الجارية، وطالبوها بالصبيّ فأنكرته وادّعت حملا بها لتغطّي على حال الصبي فسلّمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موت عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزّنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم

ص: 518

والحمد للّه ربّ العالمين لا شريك له (1).

قصة زواج ام المهدي (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)

عن محمّد بن بحر بن سهل الشيباني قال : قال بشر بن سليمان النخّاس وهو من وُلد أبي أيوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن وأبي محمّد وجارهما بسر من رأى أتاني کافور الخادم فقال: مولانا أبو الحسن علي بن محمّد العسكري يدعوك إليه، فأتيته، فلمّا جلست بين يديه قال لي: «يا بشر إنّك من ولد الأنصار، وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، وأنتم ثقاتنا أهل البيت وإنّي مزكّيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بسرّ أطلعك عليه، وأُنفذك في ابتياع أمة»، فكتب كتاباً لطيفاً بخطّ رومي ولغة رومية، وطبع عليه خاتمه، وأخرج شقّة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً، فقال: «خُذها وتوجّه بها إلى بغداد، واحضر معبر الفرات ضحوة يوم كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السّبايا وترى الجواري فيها ستجد طوايف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العبّاس وشرذمة من فتيان العرب، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخاس عامّة نهارك إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرين صفيقين تمتنع من العرض ولمس المعترض والانقياد لمن يحاول لمسها، وتسمع صرخة روميّة من وراء ستر رقيق فاعلم أنها تقول واهتك ستراه، فيقول بعض المبتاعين: علي ثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول له بالعربية: لو برزت في زيّ سليمان بن داود و علی شبه ملکه ما بدت لي فيك رغبة فاشفق على مالك، فيقول النحاس: فما الحيلة؟ ولابد من بيعك، فتقول الجارية وما العجلة، ولابدّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى وفائه وأمانته.

فعند ذلك قُم إلى عمر بن يزيد النخاس وقل له: إنّ معك كتاباً ملطفة لبعض

ص: 519


1- البحار : ج 50 ص 332.

الأشراف كتبه بلغة روميّة وخط رومي، ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه تناولها لتتأمّل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك».

قال بشر بن سليمان: فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في أمر الجارية، فلمّا نظرت في الكتاب بكت بكاءً شديداً وقالت لعمر بن يزيد: بعني من صاحب هذا الكتاب، وحلفت بالمحرّجة والمغلّظة أنّه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت أشاحه في ثمنها حتّى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الدنانير، فاستوفاه وتسلّمت الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى الحجيرة الّتي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتّى أخرجت كتاب مولانا (عَلَيهِ السَّلَامُ)من جيبها وهي تلثمه وتطبّقه على جفنها وتضعه على خدّها وتمسحه على بدنها، فقلت تعجباً منها : تلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه؟ فقالت: أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمّي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح شمعون أنبئك بالعجب:

إنّ جدّي قيصر أراد أن يزوّجني من ابن أخيه، وأنا من بنات ثلاثة عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريّين من القسّيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الأخطار منهم سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقوّاد العسكر ونقباء الجيوش وملوك العشاير أربعة آلاف، وأبرز من بهي ملكه عرشاً مساغاً من أصناف الجوهر، ورفعه فوق أربعين مرقاة، فلمّا صعد ابن أخيه، وأحدقت الصلب، وقامت الأساقفة عرّفاً، ونشرت أسفار الانجيل، تسافلت الصلب من الأعلى فلصقت الأرض، وتفوّضت أعمدة العرش فانهارت إلى القرار وخرّ الصاعد من العرش مغشيّاً عليه، فتغيّرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدّي: أيها الملك اعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالّة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني، فتطير جدّي من

ص: 520

ذلك تطيّراً شديداً، وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة، وارفعوا الصّلبان، واحضروا أخا هذا المدبّر العاهر المنكوس جدّه لأزوّجه هذه الصبية فيدفع نحوسه عنكم بسعوده، ولمّا فعلوا ذلك حدث على الثاني مثل ما حدث على الأوّل، وتفرّق الناس، وقام جدي قيصر مغتمّاً، فدخل منزل النساء، وأُرخيت الستور، وأُريت في تلك اللّيلة كأنّ المسيح وشمعون وعدة من الحواريّين قد اجتمعوا في قصر جدّي، ونصبوا فيه منبراً من نور يباري السّماء علوّاً وارتفاعاً في الموضع الّذي كان نصب جدّي وفيه عرشه، ودخل عليه محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وختنه ووصيّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعدّة من أبنائه.

فتقدّم المسيح إليه فاعتنقه، فيقول له محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يا روح اللّه إني جئتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكة لابني هذا»، وأومأ بيده إلى أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابن صاحب هذا الكتاب، فنظر المسيح إلى شمعون وقال له: «قد أتاك الشّرف فصل رحمك برحم آل محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )»، قال : قد فعلت فصعد ذلك المنبر فخطب محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وزوّجني من ابنه، وشهد المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ) وشهد أبناء محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والحواريون.

فلما استيقظت أشفقت أن أقرّ هذه الرّؤيا على أبي وجدّي مخافة القتل، فكنت أُسرها ولا أُبديها لهم، وضرب صدري بمحبّة أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتّى امتنعت من الطّعام والشّراب، فضعفت نفسي، ودقّ شخصي، ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي في مداين الرّوم طبيب إلا أحضره جدّي وسأله عن دوائي، فلمّا برح به اليأس قال: يا قرّة عيني هل يخطر ببالك شهوة فاُزوّدكها في هذه الدّنيا؟ فقلت: يا جدّي أرى أبواب الفرج على مغلقة، فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أُسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال، وتصدّقت عليهم، ومنّيتهم الخلاص رجوت أن يهب المسيح وأُمّه عافية، فلمّا فعل ذلك تجلّدت في إظهار الصّحة من بدني قليلا، وتناولت يسيراً من الطّعام، فسرّ بذلك، وأقبل على إكرام الأُسارى وإعزازهم، فأريت أيضاً بعد أربع عشرة ليلة

ص: 521

كأنّ سيّدة نساء العالمين فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) قد زارتني، ومعها مريم بنت عمران وألف من وصايف الجنان، فتقول لي مريم: هذه سيّدة النساء (عَلَيهَا السَّلَامُ) أم زوجك أبي محمّد، فأتعلّق بها وأبكي، وأشكو إليها امتناع أبي محمّد من زيارتي، فقالت سيدة النساء (عَلَيهَا السَّلَامُ) : «إنّ إبني أبا محمّد لا يزورك وأنت مشركة باللّه على مذهب النصارى، وهذه أختي مريم بنت عمران تبرأ إلى اللّه من دينك، فإن ملت إلى رضى اللّه تعالى ورضى المسيح ومريم (عَلَيهَا السَّلَامُ) وزيارة أبي محمّد إيّاك فقولي: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ أبي محمّداً رسول اللّه»، فلمّا تكلمت بهذه الكلمة ضمتني إلى صدرها سيدة نساء العالمين وطيب نفسي وقالت: «الآن توقّعي زيارة أبي محمّد، وإنّي منفذته إليك»، فانتبهت وأنا أنول وأتوقع لقاء أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا كان في اللّيلة القابلة رأيت أبا محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكأنّي أقول له: جفوتني يا حبيبي بعد أن أتلف نفسي معالجة حبّك، فقال: «ما كان تأخّري عنك إلّا لشركك، فقد أسلمت وأنا زائرك في كلّ ليلة إلى أن يجمع اللّه شملنا في العيان»، فما قطع عنّي زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية، قال بشر : فقلت لها وكيف وقعت في الأسارى؟ فقالت: أخبرني أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليلة من اللّيالي «أنّ جدّك سيسيّر جيشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا وكذا ثم يتبعهم، فعليك باللّحاق بهم متنكّرة في زيّ الخدم مع عدّة من الوصايف من طريق كذا»، ففعلت ذلك، فوقعت علينا طلائع المسلمين حتّى كان من أمري ما رأيت وشاهدت، وما شعر بأنّي ابنة ملك الرّوم إلى هذه الغاية أحد سواك، وذلك باطّلاعي إيّاك عليه، ولقد سألني الشيخ الّذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته وقلت: نرجس، فقال: إسم الجواري.

قلت: العجب أنّك روميّة ولسانك عربيّ؟ قالت : نعم من ولوع جدّي وحمله إياي على تعلّم الآداب أن أوعز إلي امرأة ترجمانة له في الاختلاف إليّ، وكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربيّة حتّى استمرّ لساني عليها واستقام، قال بشر : فلمّا انكفأت بها إلى

ص: 522

سرّ من رأى دخلت على مولاي أبي الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال: «كيف أراك اللّه عزّ الإسلام وذل النصرانية وشرف محمّد وأهل بيته (عَلَيهِم السَّلَامُ)» ؟ قالت: كيف أصف لك يابن رسول اللّه ما أنت أعلم به منّي، قال: «فإنّي أُحبّ أن أُكرمك، فأيّما أحبّ إليك عشرة آلاف دينار أم بشرى لك بشرف الأبد»؟ قالت: بشرى بولد لي قال لها: «أبشري بولد يملك الدّنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلما وجوراً»، قالت: ممّن؟ قال: «ممّن خطبك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) له ليلة كذا في شهر كذا من سنة كذا بالرّومية»، قال لها : «ممّن زوّجك المسيح (عَلَيهِ السَّلَامُ) ووصيّه» ؟ قالت من ابنك أبي محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال: «هل تعرفينه»؟ قالت : وهل خلت ليلة لم يزرني فيها منذ اللّيلة الّتي أسلمت على يد سيدة النساء (عَلَيهَا السَّلَامُ) ؟ قال: فقال مولانا : «يا كافور أُدع أُختي حكيمة»، فلمّا دخلت قال لها: «هاهية» فاعتنقتها طويلا وسرّت بها كثيراً، فقال لها أبو الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يا بنت رسول اللّه خذيها إلى منزلك وعلّميها الفرائض والسنن، فإنّها زوجة أبي محمّد وأُمّ القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ)»(1).

قصّة ولادة الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن موسى بن محمّد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر، قال: حدّثتني حكيمة بنت محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) قالت بعث إلي أبو محمّد الحسن بن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: «يا عمّة اجعلي إفطارك اللّيلة عندنا، فإنّها ليلة النصف من شعبان، فإنّ اللّه تبارك وتعالى سيظهر في هذه اللّيلة الحجّة، وهو حجّته في أرضه»، قالت: فقلت له ومن أُمّه ؟ قال لي: «نرجس»، قلت له : واللّه جعلني فداك ما بها أثر ؟ فقال : هو ما أقول لك»، قالت: فجئت فلمّا سلّمت وجلست جاءت تنزع خفّي وقالت لي: يا سيّدتي كيف أمسيت؟ فقلت: بل أنت سيّدتي وسيّدة أهلي قالت: فأنكرت قولي وقالت ما هذا يا عمّة؟ قالت: فقلت

ص: 523


1- البحار: ج 51 ص 6.

لها : يا بنيّة إنّ اللّه تبارك وتعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيّداً في الدنيا والآخرة، قالت: فجلست واستحيت، فلمّا أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة وأفطرت وأخذت مضجعي فرقدت، فلمّا أن كان في جوف اللّيل قمت إلى الصلاة ففرغت من صلاتي، وهي نائمة ليس بها حادث، ثم جلست معقّبة، ثم اضطجعت، ثمّ انتبهت فزعة، وهي راقدة، ثمّ قامت فصلّت.

قالت حكيمة: فدخلتني الشكوك، فصاح بي أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) من المجلس فقال: «لا تعجلي يا عمّة فإنّ الأمر قد قرب»، قالت فقرأت الم السّجدة ويس، فبينما أنا كذلك إذا انتبهت فزعة فوثبت إليها فقلت : اسم اللّه عليك، ثمّ قلت لها: تحّسين شيئاً؟ قالت: نعم يا عمّة، فقلت لها اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك.

قالت حكيمة ثمّ أخذتني فترة وأخذتها فطرة (1)، فانتبهت بحسّ سيّدي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به (عَلَيهِ السَّلَامُ) ساجداً يتلقّى الأرض بمساجده، فضممته إليّ، فإذا أنا به نظيف منظّف، فصاح بي أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هلمّي إليّ ابني يا عمّة»، فجئت به إليه، فوضع يديه تحت أليتيه وظهره، ووضع قدميه على صدره، ثمّ أدلى لسانه في فيه، وأمرّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله، ثمّ قال: «تكلّم يا بني»، فقال: «أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ثمّ صلّى على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعلى الأئمّة إلى أن وقف على أبيه، ثمّ أحجم.

قال أبو محمّد (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا عمّة اذهبي به إلى أُمّه ليسلّم عليها وائتني به»، فذهبت به فسلّم عليها، ورددته ووضعته في المجلس ثمّ قال: «يا عمّة إذا كان يوم السابع فائتينا».

قالت حكيمة : فلمّا أصبحت جئت لأسلّم على أبي محمّد، فكشفت الستر لأفتقد

ص: 524


1- الفترة: سكون المفاصل وهدوؤها قبل غلبة النوم، والمراد بالفطرة انشقاق البطن بالولود وطلوعه منه.

سيّدي فلم أره، فقلت :له جعلت فداك ما فعل سيّدي ؟ فقال: «يا عمّة استودعناه الّذي استودعته أُمّ موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)».

قالت حكيمة: فلمّا كان في اليوم السابع جئت وسلّمت وجلست، فقال: «هلمّي إليّ ابني»، فجئت بسيّدي في الخرقة، ففعل به كفعلته الأُولى، ثمّ أدلى لسانه في فيه كأنّه يغذيه لبناً أو عسلا ثمّ قال: «تكلّم يا بني»، فقال : أشهد أن لا إله إلّا اللّه وثنّى بالصلاة على محمّد وعلى أمير المؤمنين والأئمّة صلوات اللّه عليهم أجمعين حتّى وقف على أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم تلا هذه الآية «وَنُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الّذين اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَبِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَرِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ هُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَمَنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ». (1)

قال موسى: فسألت عقبة الخادم عن هذا، فقال: صدقت حكيمة (2).

كان مولده (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليلة النّصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وأُمّه أُمّ ولد يقال لها : نرجس، وكان سنّه عند وفاة أبيه خمس سنين آتاه اللّه فيه الحكمة وفصل الخطاب وجعله آيةً للعالمين وآتاه الحكمة كما آتاها يحيى صبيّاً وجعله إماماً كما جعل عيسى بن مريم في المهد نبيّاً وله قبل قيامه غيبتان إحداهما أطول من الأخرى جاءت بذلك الأخبار فأما القصرى منها فمنذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته وعدم السفراء بالوفاة وأمّا الطّولى فهي بعد الأولى وفي آخرها يقوم بالسّيف (3).

المهدي من ولد الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)

في تصريح النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بأن المهدي من ولد الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن أبي هارون العبديّ،

ص: 525


1- القصص: 5.
2- البحار : ج 51 ص 2.
3- البحار: ج 51 ص 23.

قال: أتيت أبا سعيد الخدريّ فقلت له : هل شهدت بدراً؟ قال: نعم، فقلت: ألا تحدّثني شيء مما سمعته من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في عليّ وفضله ؟ فقال : بلى أُخبرك، إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) مرض مرضة نقه منها، فدخلت عليه فاطمة تعوده، وأنا جالس عن يمين النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فلمّا رأت ما برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من الضعف خنقتها العبرة حتّى بدت دموعها على خدّها، فقال لها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «ما يبكيك يا فاطمة»؟ قالت: «أخشى الضيعة يا رسول اللّه»، فقال : «يا فاطمة أما علمت أنّ اللّه تعالى اطّلع إلى الأرض اطّلاعة فاختار منهم أباك فبعثه نبيّاً، ثمّ اطّلع ثانية فاختار منهم بعلك، فأوحى إلي فأنكحته واتّخذته وصيّاً، أما علمت أنك بكرامة اللّه إيّاك زوجك أغزرهم علماً وأكثرهم حلماً وأقدمهم سلماً» فاستبشرت، فأراد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أن يزيدها مزيد الخير كلّه الّذي قسمه اللّه لمحمّد وآل محمّد، فقال لها: «يا فاطمة، ولعليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثمانية أضراس يعني مناقب: إيمان باللّه ورسوله وحكمته وزوجته وسبطاه الحسن والحسين وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، يا فاطمة إنا أهل بيت أُعطينا ست خصال لم يعطها أحد من الأولين ولا يدركها أحد من الآخرين غيرنا، نبينا خير الأنبياء وهو أبوك، ووصينا خير الأوصياء وهو بعلك، وشهيدنا خير الشهداء وهو حمزة عمّ أبيك، ومنّا سبطا هذه الأُمّة وهما ابناك، ومنّا مهديّ الأُمّة الّذي يصلّى عیسی خلفه»، ثمّ ضرب على منكب الحسين فقال : «من هذا مهديّ الأُمّة»، قال: «هكذا أخرجه الدارقطني صاحب الجرح والتعديل»(1).

قصّة أحمد بن أبي روح

روي عن أحمد بن أبي روح قال وجّهت إلي امرأة من أهل دينور فأتيتها، فقالت: يابن أبي روح أنت أوثق من في ناحيتنا ديناً وورعاً، وإنّي أُريد أن أودعك أمانة أجعلها في رقبتك تؤدّيها وتقوم بها، فقلت: أفعل إن شاء اللّه تعالى، فقالت: هذه دراهم في هذا

ص: 526


1- البحار: ج 51 ص 91.

الكيس المختوم، لا تحلّه ولا تنظر فيه حتّى تؤدّيه إلى من يخبرك بما فيه، وهذا قرطي يساوي عشرة دنانير، وفيه ثلاث حبّات يساوي عشرة دنانير، ولي إلى صاحب الزّمان حاجة أُريد أن يخبرني بها قبل أن أسأله عنها، فقلت: وما الحاجة؟ قالت: عشرة دنانير استقرضتها أُمّي في عرسي لا أدري ممّن استقرضتها ولا أدري إلى من أدفعها، فإن أخبرك بها فادفعها إلى من يأمرك بها.

قال [فقلت في نفسي]: وكيف أقول لجعفر بن عليّ ؟ فقلت: هذه المحنة بيني وبين جعفر بن عليّ، فحملت المال وخرجت حتّى دخلت،بغداد، فأتيت حاجز بن يزيد الوشّاء فسلّمت عليه وجلست قال: ألك حاجة؟ قلت: هذا مال دُفع إليّ لا أدفعه إليك حتّى تخبرني كم هو، ومن دفعه إليّ ؟ فإن أخبرتني دفعته إليك، قال: يا أحمد بن أبي روح توجه به إلى سرّ من رأى، فقلت: لا إله إلّا اللّه لَهَذا أجلّ شيء أردته، فخرجت ووافيت سر ّمن رأى فقلت: أبدأ بجعفر، ثمّ تفكّرت فقلت: أبدأ بهم فإن كانت المحنة من عندهم وإلّا مضيت إلى جعفر، فدنوت من دار أبي محمّد فخرج إليّ خادم فقال: أنت أحمد بن أبي روح؟ قلت نعم قال : هذه الرقعة اقرأها، فإذا فيها مكتوب: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يابن أبي روح أودعتك عاتكة بنت الديراني كيساً فيه ألف درهم بزعمك، وهو خلاف ما تظنّ وقد أديت فيه الأمانة، ولم تفتح الكيس ولم تدر ما فيه، وفيه ألف درهم وخمسون ديناراً، ومعك قرط زعمت المرأة أنه يساوي عشرة دنانير، صدقت مع الفصّين اللّذين فيه، وفيه ثلاث حبات لؤلؤ شراؤها عشرة دنانير وتساوي أكثر، فادفع ذلك إلى خادمتنا إلى فلانة فإنّا قد وهبناه لها، وصر إلى بغداد وادفع المال إلى الحاجز، وخُذ منه ما يعطيك لنفقتك إلى منزلك، وأمّا عشرة دنانير التي زعمت أنّ أمّها استقرضتها في عرسها وهي لا تدري من صاحبها، بل هي تعلم لمن، هي لكلثوم بنت أحمد، وهي ناصبيّة، فتحرّجت أن تعطيها وأحبّت أن تقسمها في أخواتها فاستأذنتنا في

ص: 527

ذلك، فلتفرّقها في ضعفاء أخواتها.

ولا تعودنّ يا ابن أبي روح إلى القول بجعفر والمحنة له، وارجع إلى منزلك فإنّ عمّك قد مات، وقد رزقك اللّه أهله وماله، فرجعت إلى بغداد، وناولت الكيس حاجزاً فوزنه فإذا فيه ألف درهم وخمسون ديناراً فناولني ثلاثين ديناراً وقال: أُمرت بدفعها إليك لنفقتك، فأخذتها وانصرفت إلى الموضع الّذي نزلت فيه وقد جاءني من يخبرني أنّ عمي قد مات، وأهلي يأمروني بالانصراف إليهم فرجعت فإذا هو قد مات وورثت منه ثلاثة آلاف دينار ومائة ألف درهم.

قصَّة أحمد الدينوري السّراج

روينا باسنادنا إلى الشيخ أبي جعفر محمّد بن جرير الطبريّ باسناده يرفعه إلى أحمد الدينوريّ السّراج المكنّى بأبي العبّاس الملقّب بآستاره قال: انصرفت من اردبيل إلى دينور أُريد أن أحجّ، وذلك بعد مضيّ أبي محمّد الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) بسنة أو سنتين، وكان الناس في حيرة، فاستبشر أهل دينور بموافاتي، واجتمع الشيعة عندي فقالوا اجتمع عندنا ستّة عشر ألف دينار من مال الموالي، ونحتاج أن نحملها معك وتسلّمها بحيث يجب تسليمها.

قال: فقلت: يا قوم هذه حيرة ولا نعرف الباب في هذا الوقت، قال: فقالوا: إنّما اخترناك لحمل هذا المال لما نعرف من ثقتك وكرمك، فاعمل على أن لا تخرجه من يديك إلّا بحجة.

قال: فحمل إلي ذلك المال في صرر باسم رجل رجل فحملت ذلك المال وخرجت، فلمّا وافيت قرميسين كان أحمد بن الحسن بن الحسن مقيماً بها، فصرت إليه مسلّماً، فلمّا لقيني استبشر بي، ثمّ أعطاني ألف دينار في كيس وتخوت ثياب ألوان معكمة لم أعرف

528

ص: 528

ما فيها، ثمّ قال لي : احمل هذا معك ولا تخرجه عن يدك إلّا بحجة، قال: فقبضت المال والتّخوت بما فيها من الثياب.

فلما وردت بغداد لم يكن لي همّة غير البحث عمّن أُشير إليه بالنيابة، فقيل لي : إنّ هاهنا رجلا يُعرف بالباقطانيّ يدّعي بالنيابة، وآخر يعرف باسحاق الأحمر يدعي النيابة، وآخر يعرف بأبي جعفر العمري يدّعي بالنيابة، قال: فبدأت بالباقطاني وصرت إليه، فوجدته شيخاً مهيباً له مروءة ظاهرة، وفرس عربي، وغلمان كثير، ويجتمع الناس [ عنده] يتناظرون.

قال : فدخلت إليه وسلّمت عليه فرحّب وقرّب وسرّ وبر، قال: فأطلت القعود إلى أن خرج أكثر الناس، قال: فسألني عن ديني، فعرفته أني رجل من أهل دينور، وافيت ومعي شيء من المال أحتاج أن أُسلّمه، فقال لي: احمله، قال: فقلت: أُريد حجّة، قال: تعود إلي في غد، قال: فعدت إليه من الغد فلم يأت بحجة، وعُدت إليه في اليوم الثالث فلم يأت بحجّة.

قال: فصرت إلى أبي جعفر العمريّ فوجدته شيخاً متواضعاً، عليه مبطنة بيضاء قاعد على لبد في بيت صغير ليس له غلمان ولا من المروءة والفرس ما وجدت لغيره، قال: فسلّمت فردّ الجواب وأدناني وبسط منّي ثمّ سألني عن حالي، فعرّفته أنّي وافيت من الجبل وحملت مالا، قال: فقال : إن أحببت أن يصل هذا الشيء إلى من يجب أن يصل إليه تخرج إلى سرّ من رأى، وتسأل دار ابن الرّضا وعن فلان بن فلان الوكيل وكانت دار ابن الرّضا عامرة بأهلها فإنّك تجد هناك ما تريد.

قال: فخرجت من عنده ومضيت نحو سرّ من رأى وصرت إلى دار ابن الرّضا وسألت عن الوكيل فذكر البوّاب أنه مشتغل في الدار وأنه يخرج آنفاً، فقعدت على

ص: 529

الباب أنتظر خروجه فخرج بعد ساعة فقمت وسلّمت عليه وأخذ بيدي إلى بيت كان له، وسألني عن حالي وما وردت له فعرفته أنّي حملت شيئاً من المال من ناحية الجبل وأحتاج أن أسلّمه بحجة.

قال: فقال: نعم، ثمّ قدّم إلي طعاماً وقال لي : تغدّ بهذا واسترح، فإنّك تعبت فإنّ بيننا وبين صلاة الأُولى ساعة فانّي أحمل إليك ما تريد قال: فأكلت ونمت فلمّا كان وقت الصلاة نهضت وصلّيت وذهبت إلى المشرعة فاغتسلت ونضّرت انصرفت إلى بيت الرجل وسكنت إلى أن مضى من اللّيل ربعه فجاءني بعد أن مضى من مضى من الليل ربعه ومعه درج فيه :

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، وافى أحمد بن محمّد الدينوريّ وحمل ستّة عشر ألف دينار في كذا وكذا صرّة: فيها صرّة فلان بن فلان كذا وكذا ديناراً إلى أن عدد الصرر كلّها وصرّة فلان بن فلان الذراع ستّة عشر ديناراً».

قال: فوسوس إليّ الشيطان فقلت: إنّ سيّدي أعلم بهذا منّي، فما زلت أقرأ ذكره صرة صرّة وذكر صاحبها حتّى أتيت عليها عند آخرها ثم ذكر : «قد حمل من قرميسين من عند أحمد بن الحسن المادرائي أخي الصوّاف كيس فيه ألف دينار، وكذا وكذا تختاً من الثياب منها ثوب فلان وثوب لونه كذا» حتّى نسب الثياب إلى آخرها بأنسابها وألوانها.

قال: فحمدت اللّه وشكرته على ما منّ به عليّ من إزالة الشك عن قلبي فأمر بتسليم جميع ما حملت إلى حيث يأمرني أبو جعفر العمريّ، قال: فانصرفت إلى بغداد وصرفت إلى أبي جعفر العمري، قال: وكان خروجي وانصرافي في ثلاثة أيّام.

قال: فلمّا بصر بي أبو جعفر (قدّس سِرُّه) قال : لم لم تخرج ؟ فقلت: يا سيّدي من سرّ من رأى،انصرفت قال: فأنا أُحدّث أبا جعفر بهذا إذا وردت رقعة إلى أبي جعفر العمريّ من

ص: 530

مولانا صاحب الأمر صلوات اللّه عليه ومعها درج مثل الدّرج الّذي كان معي فيه ذكر المال والثياب، وأمر أن يسلّم جميع ذلك إلى أبي جعفر محمّد بن أحمد بن جعفر القطان القمّي، فلبس أبو جعفر العمريّ ثيابه وقال لي: احمل ما معك إلى منزل محمّد بن أحمد بن جعفر القطّان القمّي، قال: فحملت المال والثياب إلى منزل محمّد بن أحمد بن جعفر القطّان وسلّمتها إليه وخرجت إلى الحجّ.

فلمّا رجعت إلى دينور اجتمع عندي النّاس فأخرجت الدرج الّذي أخرجه وكيل مولانا صلوات اللّه عليه إليّ وقرأته على القوم، فلمّا سمع بذكر الصرة باسم الذراع سقط مغشياً عليه، وما زلنا نعلّله حتّى أفاق، فلمّا أفاق سجد شكراً للّه عزّ وجلّ وقال: الحمد للّه الّذي منّ علينا بالهداية، الآن علمت أنّ الأرض لا تخلو من حجّة، هذه الصرة دفعها واللّه إليّ هذا الذراع لم يقف على ذلك إلّا اللّه عزّ وجلّ.

قال: فخرجت ولقيت بعد ذلك أبا الحسن المادرائيّ وعرفته الخبر وقرأت عليه الدرج، فقال: يا سبحان اللّه ما شككت في شيء فلا تشكّ في أنّ اللّه عزّ وجلّ لا يخلي أرضه من حجّته.

دعاء الفرج

وباسنادنا إلى الشيخ أبي جعفر [محمّد] بن جرير الطبري في كتابه قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن هارون بن موسى التلّعكبري قال: حدّثني أبو الحسين بن أبي البغل الكاتب قال : تقلّدت عملاً من أبي منصور بن صالحان، وجرى بيني وبينه ما أوجبت استتاري، فطلبني وأخافني، فمكثت مستتراً خائفاً، ثمّ قصدت مقابر قريش ليلة الجمعة واعتمدت المبيت هناك للدعاء والمسألة، وكانت ليلة ريح ومطر، فسألت أبا جعفر القيم أن يغلّق الأبواب، وأن يجتهد في خلوة الموضع لأخلو بما أريده من الدّعاء والمسألة وأمن

ص: 531

من دخول إنسان ممّا لم آمنه وخفت من لقائي له، ففعل وقفل الأبواب، وانتصف اللّيل وورد من الرّيح والمطر ما قطع النّاس عن الموضع، ومكثت أدعو وأزور وأصلّي.

فبينا أنا كذلك إذ سمعت وطئاً عند مولانا موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وإذا دخل رجل يزور، فسلّم على آدم وأُولي العزم (عَلَيهِم السَّلَامُ) ثم الأئمّة واحداً واحداً إلى أن انتهى إلى صاحب الزّمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلم يذكره، فعجبت من ذلك وقلت : لعلّه نسي أو لم يعرف؟ أو هذا مذهب لهذا الرّجل.

فلما فرغ من زيارته صلّى ركعتين وأقبل إلي عند مولانا أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فزار مثل تلك الزيارة وذلك السّلام، وصلّى ركعتين، وأنا خائف منه إذ لم أعرفه ورأيته شابّاً تامّاً من الرّجال عليه ثياب بيض وعمامة محنّك وذؤابة ورداء على كتفه مسبل، فقال: «يا أبا الحسين بن أبي البغل أين أنت عن دعاء الفرج» ؟ فقلت : وما هو يا سيدي؟ فقال: «تصلّي ركعتين وتقول :

«يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لم يؤاخذ بالجريرة، ولم يهتك الستر، يا عظيم المنّ، يا كريم الصفح، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرّحمة، يا منتهى كلّ نجوى، ويا غاية كلّ شكوى، يا عون كلّ مستعين، يا مبتدئاً بالنعم قبل،استحقاقها يا ربّاه عشر مرات يا سيّداه عشر مرّات أسألك بحقّ هذه الأسماء، وبحق محمّد وآله الطاهرين (عَلَيهِم السَّلَامُ) إلّا ما كشفت كربي ونفّست همّي وفرّجت غمّي وأصلحت حالي».

وتدعو بعد ذلك ما شئت وتسأل حاجتك، ثمّ تضع خدّك الأيمن على الأرض وتقول مائة مرّة في سجودك : «يا محمّد يا عليّ، يا عليّ يا محمّد، اكفياني فانّكما كافياي، وانصراني فانّكما ناصراي» وتضع خدّك الأيسر على الأرض وتقول مائة مرّة: أدركني

ص: 532

وتكرّرها كثيراً وتقول: «الغوث الغوث الغوث» حتّى ينقطع النفس، وترفع رأسك، فإنّ اللّه بكرمه يقضي حاجتك إن شاء اللّه».

فلما شغلت بالصلاة والدعاء خرج، فلمّا فرغت خرجت إلى أبي جعفر لأسأله عن الرّجل وكيف دخل، فرأيت الأبواب على حالها مغلقة مقفّلة، فعجبت من ذلك وقلت: لعلّه باب هاهنا ولم أعلم، فانتهيت إلى أبي جعفر القيم فخرج إلى عندي من بيت الزيت، فسألته عن الرّجل ودخوله فقال : الأبواب مقفّلة كما ترى ما فتحتها، فحدّثته بالحديث فقال: هذا مولانا صاحب الزّمان صلوات اللّه عليه وقد شاهدته مراراً في مثل هذه اللّيلة عند خلوّها من الناس.

فتأسّفت على ما فاتني منه، وخرجت عند قرب الفجر، وقصدت الكرخ إلى الموضع الّذي كنت مستتراً فيه، فما أضحى النهار إلا وأصحاب ابن الصالحان يلتمسون لقائي، ويسألون عنّي أصدقائي، ومعهم أمان من الوزير، ورقعة بخطه فيها كلّ جميل، فحضرته مع ثقة من أصدقائي عنده، فقام والتزمني وعاملني بما لم أعهده منه، وقال: انتهت بك الحال إلى أن تشكوني إلى صاحب الزّمان صلوات اللّه عليه ؟ فقلت : قد كان منّي دعاء ومسألة، فقال : ويحك رأيت البارحة مولاي صاحب الزّمان صلوات اللّه عليه في النوم يعني ليلة الجمعة، وهو يأمرني بكلّ جميل، ويجفو عليّ في ذلك جفوة خفتها.

فقلت : لا إله إلّا اللّه أشهد أنهم الحقّ ومنتهى الحقّ، رأيت البارحة مولانا في اليقظة وقال لي كذا وكذا وشرحت ما رأيته في المشهد، فعجب من ذلك وجرت منه أمور عظام حِسان في هذا المعنى وبلغت منه غاية ما لم أظنّه ببركة مولانا صاحب الزّمان صلوات اللّه عليه(1).

ص: 533


1- البحار: ج 51 ص 295.

الابن الّذي أكبر سنّاً من أبيه

عن الأصبغ بن نباتة أنّ عبد اللّه بن أبي بكر اليشكري قام إلى أمير المؤمنين سلام اللّه عليه فقال: يا أمير المؤمنين إنّ أبا المعتمر تكلّم آنفاً بكلام لا يحتمله قلبي، فقال: «وما ذاك»؟ قال: يزعم أنك حدّثته أنك سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول: «إنا قد رأينا أو سمعنا برجل أكبر سنّاً من أبيه» ؟ فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فهذا الّذي كَبُر عليك»؟ قال: نعم، فهل تؤمن أنت بهذا وتعرفه؟ فقال: «نعم، ويلك يا ابن الكوّاء افقه عنّي أُخبرك عن ذلك، إنّ عزيراً خرج من أهله وامرأته في شهرها وله يومئذ خمسون سنة، فلمّا ابتلاه اللّه عزّ وجلّ بذنبه أماته مائة عام ثمّ بعثه، فرجع إلى أهله وهو ابن خمسين سنة، فاستقبله ابنه وهو ابن مائة سنة وردّ اللّه عُزيراً [إلى] الّذي كان به» فقال: ما تريد؟ فقال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «سل عمّا بدالك»، قال: نعم إنّ أناساً من أصحابك يزعمون أنهم يردّون بعد الموت، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «نعم تكلّم بما سمعت ولا ترد في الكلام، فما قلت لهم»؟ قال: قلت: لا أُؤمن بشيء مما قلتم قال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ويلك إنّ اللّه عزّ وجلّ ابتلى قوماً بما كان من ذنوبهم فأماتهم قبل آجالهم التي سمّيت لهم ثمّ ردّهم إلى الدنيا ليستوفوا أرزاقهم، ثمّ أماتهم بعد ذلك.

وأيضاً مثلهم يا ابن الكوّاء الملأ من بني إسرائيل حيث يقول اللّه عزّ وجلّ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذين خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّه مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ»(1) وقوله أيضاً في عزير حيث أخبر اللّه عزّ وجلّ فقال : «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةُ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِ، هَذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّه»(2) وأخذه بذلك

ص: 534


1- البقرة : 243.
2- البقرة: 259.

الذنب «مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» وردّه إلى الدّنيا ف«قَالَ كَمْ لَبِثْتَ» فَ«قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ»».

الأئمّة إثنا عشر

وروى الشيخ حسن بن سليمان في كتاب المحتضر ممّا رواه من كتاب السيّد الجليل حسن بن كبش ممّا أخذه من كتاب المقتضى بإسناده عن سلمان الفارسيّ قال: دخلت على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، يوماً، فلمّا نظر إلي قال: «يا سلمان إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يبعث نبيّاً ولا رسولا إلّا جعل له اثنى عشر نقيباً»، قال: قلت: يا رسول اللّه لقد عرفت هذا من أهل الكتابين، قال: «يا سلمان فهل علمت مَن نقبائي الاثني عشر الّذين اختارهم اللّه للامامة من بعدي»؟ فقلت: اللّه ورسوله أعلم.

قال: «يا سلمان خلقني اللّه من صفوة نوره ودعاني فأطعته، وخلق من نوري عليّاً فدعاه فأطاعه وخلق من نوري ونور عليّ فاطمة فدعاها فأطاعته، وخلق مني ومن عليّ وفاطمة الحسن والحسين فدعاهما فأطاعا، فسمّانا اللّه عزّ وجلّ بخمسة أسماء من أسمائه: فاللّه المحمود وأنا محمّد، واللّه العلي وهذا عليّ، واللّه فاطر وهذه فاطمة، واللّه ذو الاحسان وهذا الحسن واللّه المحسن وهذا الحسين، ثمّ خلق منا ومن نور الحسين تسعة أئمّة فدعاهم فأطاعوا قبل أن يخلق اللّه عزّ وجلّ سماء مبنيّة وأرضاً مدحيّة، أو هواء أو ماء أو ملكاً أو بشراً، وكنّا بعلمه أنواراً نسبّحه ونسمع له ونطيع».

فقال سلمان: قلت: يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي ما لمن عرف هؤلاء؟ فقال: «يا سلمان من عرفهم حقّ معرفتهم واقتدى بهم فوإلى وليّهم، وتبرّأ من عدوّهم فهو واللّه منّا، يرد حيث نرد ويسكن» حيث نسكن قلت يا رسول اللّه فهل يكون إيمان بهم بغير معرفة بأسمائهم وأنسابهم ؟ فقال : «لا يا سلمان»، قلت: يا رسول اللّه فأنّى لي بهم؟ قال:

ص: 535

«قد عرفت إلى الحسين»، قال: «ثمّ سيّد العابدين علي بن الحسين، ثم ابنه محمّد بن علي باقر علم الأوّلين والآخرين من النبيين والمرسلين، ثمّ جعفر بن محمّد لسان اللّه الصّادق، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم غيظه صبراً في اللّه، ثمّ علي بن موسى الرضا لأمر اللّه، ثمّ محمّد بن عليّ المختار من خلق اللّه، ثمّ عليّ بن محمّد الهادي إلى اللّه، ثمّ الحسن بن عليّ الصامت الأمين على دين اللّه، ثمّ [محمّد] سماه باسمه ابن الحسن المهديّ الناطق القائم بحق اللّه»، قال سلمان فبكيت ثمّ قلت: يا رسول اللّه فأنّى سلمان لإدراكهم؟ قال: «يا سلمان إنّك مدركهم وأمثالك ومن تولّاهم حقيقة المعرفة»، قال سلمان: فشكرت اللّه كثيراً ثمّ قلت: يا رسول اللّه إنّي مؤجّل إلى عهدهم؟ قال: «يا سلمان اقرأ «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا »(1)».

قال سلمان: فاشتدّ بكائي وشوقي وقلت يا رسول اللّه بعهد منك؟ فقال: «إي والّذي أرسل محمّداً إنّه لبعهد مني ولعلي وفاطمة والحسن والحسين، وتسعة أئمّة، وكلّ من هو منا من هو منا ومظلوم فينا إي واللّه يا سلمان، ثمّ ليحضرنّ إبليس وجنوده وكلّ من محض الإيمان [محضاً] ومحض الكفر محضاً حتّى يؤخذ بالقصاص والأوتار والثارات، ولا يظلم ربّك أحداً، ونحن تأويل هذه الآية «وَنُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الّذين اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ»(2)».

قال سلمان فقمت من بين يدي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وما يبالي سلمان متى لقي الموت أو

ص: 536


1- الاسراء: 5.
2- القصص: 6.

لقیه(1).

كيفية خلق السماء والأرض

عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال خرج هشام بن عبد الملك حاجّاً ومعه الأبرش الكلبيّ، فلقيا أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في المسجد الحرام، فقال هشام للأبرش: تعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا الّذي تزعم الشيعة أنّه نبيّ من كثرة علمه ! فقال الأبرش: لأسألنّه عن مسألة لا يجيبني فيها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ ! فقال هشام [للأبرش]: وددت أنّك فعلت ذلك. فلقي الأبرش أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : يا أبا عبد اللّه أخبرني عن قول اللّه عزّ وجلّ : «أَوَلَمْ يَرَ الّذين كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا»(2) فما كان رتقها، وما كان فتقهما ؟ فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا أبرش هو كما وصف نفسه، وكان عرشه على الماء والماء على الهواء، والهواء لا يحدّ، ولم يكن يومئذ خلق غيرهما، والماء يومئذ عذب فرات، فلمّا أراد أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربت الماء حتّى صار موجاً، ثم أزيد فصار زبداً واحداً، فجمعه في موضع البيت ثمّ جعله جبلا من زبد، ثم دحى الأرض من تحته، فقال اللّه تعالى : «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَةَ مُبَارَكًا»(3) ثمّ مكث الربّ تبارك وتعالى ما شاء، فلمّا أراد أن يخلق السماء أمر الرياح فضربت البحور حتّى أزبدتها، فخرج من ذلك الموج والزبد من وسطه دخان ساطع من غير نار، فخلق منه السماء، فجعل فيها البروج والنجوم ومنازل الشمس والقمر، وأجراها في الفلك وكانت السماء خضراء على لون الماء العذب الأخضر، وكانت الأرض خضراء على لون الماء، وكانتا مرتوقتين ليس لهما أبواب ولم يكن للأرض أبواب وهو النبت، ولم تمطر

ص: 537


1- البحار : ج 53 ص 142.
2- الأنساء: 30.
3- آل عمران: 96.

السماء عليها فتنبت، ففتق السماء بالمطر، وفتق الأرض بالنبات، وذلك قوله عزّ وجلّ: «أَوَلَمْ يَرَ الّذين كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا»» فقال الأبرش: [والله] ما حدّثني بمثل هذا الحديث أحد قط أعد عليّ، فأعاد عليه، وكان الأبرش ملحداً، فقال : [ و ] أنا أشهد أنّك ابن نبيّ ثلاث مرّات (1).

أوّل يوم خلق اللّه

في خبر ابن سلام قال: أخبرني عن أوّل يوم خلق اللّه عزّ وجل، قال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يوم الأحد»، قال: ولم سمّي يوم الأحد ؟ قال: «لأنه واحد محدود، قال: فالاثنين؟ قال: هو اليوم الثاني من الدنيا قال فالثلثا ؟ قال : الثالث من الدنيا، قال: فالأربعاء؟ قال: اليوم الرابع من الدنيا، قال: فالخميس؟ قال: هو يوم الخامس من الدنيا، وهو يوم أنيس، لعن فيه إبليس ورفع فيه إدريس، قال: فالجمعة ؟ قال : هو يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود، ويوم شاهد و مشهود :قال فالسبت؟ قال يوم،مسبوت و قوله عزّ وجلّ في القرآن: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أيّام»(2) فمن الأحد إلى الجمعة ستة أيّام والسّبت معطّل»(3).

النّهار خُلق قبل أم اللّيل؟!

نقلاً من تفسير العيّاشيّ بإسناده عن الأشعث بن حاتم، قال: كنت بخراسان حيث اجتمع الرّضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) والفضل بن سهل والمأمون في الأيوان الحيري بمرو فوضعت المائدة، فقال الرّضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة فقال: النهار خلق قبلُ أم الليل؟ فما عندكم»؟ [قال: ] فأرادوا الكلام ولم يكن عندهم في ذلك شيء، فقال

ص: 538


1- البحار: ج 57 ص 72.
2- ق: 38.
3- البحار: ج 57 ص 76.

الفضل للرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أخبرنا بها أصلحك اللّه قال: «نعم، من القرآن أم من الحساب»؟ قال له الفضل: من جهة الحساب، فقال: «قد علمت يا فضل أنّ طالع الدنيا السرطان والكواكب في مواضع شرفها، فزحل في الميزان والمشتري في السرطان، والشمس في الحمل والقمر في الثور، وذلك يدلّ على كينونة الشمس في الحمل من العاشر من الطالع في وسط السماء، فالنهار خلق قبل الليل وأمّا في القرآن فهو في قوله تعالى: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ»(1) أي قد سبقه النهار»(2).

دعاء العلوي لأُمّ المتوكّل

روى ابن الجوزي في كتابه عن جده أبي الفرج باسناده إلى ابن الخصيب قال: كنت كاتباً للسيّدة أُمّ المتوكّل، فبينا أنا في الديوان إذا بخادم صغير قد خرج من عندها، ومعه كيس فيه ألف دينار، فقال: تقول لك السيّدة: فرّق هذا على أهل الاستحقاق، فهو من أطيب مالي واكتب لي أسماء الّذين تفرّقه عليهم، حتّى إذا جاءني من هذا الوجه شيء صرفته إليهم.

قال: فمضيت إلى منزلي وجمعت أصحابي وسألتهم عن المستحقّين، فسمّوا لي أشخاصاً، ففرّقت عليهم ثلاث مائة دينار، وبقي الباقي بين يدي إلى نصف الليل، وإذا أنا بطارق يطرق الباب، فسألته من أنت؟ فقال: فلان العلوي وكان جاري، فأذنت له فدخل، فقلت له: ما الّذي جاء بك في هذه الساعة؟ قال: طرقني طارق من ولد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ولم يكن عندي ما أُطعمه، فأعطيته ديناراً فأخذه وشكر لي وانصرف.

فخرجت زوجتي وهي تبكي وتقول: أما تستحيي ؟ يقصدك مثل هذا الرجل فتعطيه ديناراً وقد عرفت استحقاقه؟ فأعطه الجميع، فوقع كلامها في قلبي، فقمت خلفه

ص: 539


1- يس: 40.
2- البحار: ج 57 ص 227.

وناولته الكيس فأخذه وانصرف، فلمّا عدت إلى الدار ندمت وقلت: الساعة يصل الخبر إلى المتوكّل، وهو يمقت العلويين، فيقتلني، فقالت لي زوجتي: لا تخف، وتوكّل على اللّه وعلى جدّهم. فبينا نحن كذلك إذ طرق الباب والمشاعيل بأيدي الخدم وهم يقولون: أجب السيّدة، فقمت مرعوباً، وكلّما مشيت قليلا تواترت الرسل، فوقفت عند ستر السيّدة، فسمعت قائلا :يقول : يا أحمد جزاك اللّه خيراً، وجزى زوجتك، كنت الساعة نائمة فجاءني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): وقال : «جزاك اللّه خيراً، وجزى زوجة ابن الخصيب خيراً»، فما معنى هذا ؟

فحدّثتها الحديث، وهي تبكي، فأخرجت دنانير وكسوة، وقالت: هذا للعلوي وهذا لزوجتك، وهذا لك، وكان ذلك يساوي مائة الف درهم، فأخذت المال وجعلت طريقي على باب العلوي، وطرقت الباب، فقال من داخل المنزل هات ما عندك يا أحمد وخرج وهو يبكي، فسألت عن بكائه، فقال: لمّا دخلت منزلي قالت لي زوجتي: ما هذا الّذي معك؟ فعرّفتها، فقالت لي : قم بنا نصلّي وندعو للسيّدة وأحمد وزوجته، فصلّينا ودعونا، ثمّ نمت فرأيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في المنام وهو يقول: «قد شكرتهم على ما فعلوا معك، الساعة يأتوك بشيء فاقبله منهم»(1).

صلاة ودعاء الفرج

عن عبيد اللّه بن صالح قال : حدّثني صاحب الفضل بن ربيع قال: كنت ذات ليلة في فراشي مع بعض جواريّ، فلمّا كان في نصف الليل سمعت حركة باب المقصورة، فراعني ذلك، فقالت الجارية: لعلّ هذا من الريح، فلم يمض إلّا يسير حتّى رأيت باب البيت الّذي كنت فيه قد فتح، وإذا هو مسرور الكبير قد دخل عليّ، فقال لي: أجب، ولم يسلّم عليّ، فيئست من نفسي وقلت: هذا مسرور ودخل بلا إذن ولم يسلّم، ما هو إلاّ

ص: 540


1- البحار: ج 96 ص 231.

القتل، وكنت جنباً، فلم أجسر أن أسأله إنظاري حتّى أغتسل، فقالت لي الجارية لما رأت تحيّري وتبلدّي: ثق باللّه (عزّوجلّ)، وانهض.

فنهضت ولبست ثيابي وخرجت معه حتّى أتيت الدار فسلّمت على أمير المؤمنين وهو في مرقده، فردّ عليّ السلام فسقطت فقال: تداخلك رعب؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فتركني ساعة حتّى سكنت، ثمّ قال لي: صر إلى حبسنا فأخرج موسى بن جعفر بن محمّد، وادفع إليه ثلاثين ألف درهم واخلع عليه خمس خلع، واحمله على ثلاثة مراكب وخيّره بين المقام معنا والرحيل عنا إلى أي بلد أراد وأحبّ.

فقلت يا أمير المؤمنين تأمر بإطلاق موسى بن جعفر ؟ فكرّرت ذلك عليه ثلاث مرات، فقال: نعم، ويلك أتريد أن أنكث العهد ؟ فقلت: يا أمير المؤمنين وما العهد؟ قال: بينا أنا في مرقدي هذا إذ ساورني أسود ما رأيت من السواد ان أعظم منه، فقعد على صدري، وقبض على حلقي، وقال لي حبست موسى بن جعفر ظالماً له؟ فقلت: فأنا أطلقه وأهب له واخلع عليه، فأخذ علي عهد اللّه (عزّوجلّ) وميثاقه، وقام عن صدري وقد كادت نفسي تخرج.

فخرجت من عنده ووافيت موسى بن جعفر (عَلَيهما السَّلَامُ) وهو في حبسه، فرأيته قائماً يصلّي، فجلست حتّى سلّم، ثمّ أبلغته سلام أمير المؤمنين، وأعلمته بالذي أمرني به في أمره، وأنّي قد أحضرت ما وصله به، فقال: «إن كنت أُمرت بشيء غير هذا فافعله»، فقلت: لا وحق جدّك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ما أمرت إلا بهذا، فقال لي: «لا حاجة لي في الخلع والحملان والمال إذا كانت فيه حقوق الأُمّة»، فقلت: ناشدتك باللّه أن تردّه فيغتاظ، فقال: «اعمل به ما أحببت»، وأخذت بيده (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأخرجته من السجن.

ثم قلت له: يابن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أخبرني بالسبب الّذي نلت به هذه الكرامة من هذا

ص: 541

الرجل، فقد وجب حقّي عليك لبشارتي إيّاك، ولما أجراه اللّه على يدي من هذا الأمر، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : رأيت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ليلة الأربعاء في النوم فقال لي: ياموسى أنت محبوس مظلوم، فكرّر ذلك علي ثلاثاً، ثم قال: «وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَنَعُ إِلَى حِينٍ»(1) «أصبح غداً صائماً وأتبعه بصيام الخميس والجمعة، فإذا كان وقت الإفطار، فصلّ اثنتي عشر ركعة تقرأ في كلّ ركعة الحمد واثنتى عشرة مرّة قل هو اللّه أحد، فإذا صلّيت منها أربع ركعات فاسجد ثم قل: ياسابق الفوت، ياسامع كلّ صوت يامحيي العظام وهي رميم بعد الموت، أسألك باسمك العظيم الأعظم أن تصلّي على محمّد عبدك ورسولك وعلى أهل بيته الطيبين وأن تعجّل لي الفرج مما أنا فيه ففعلت فكان الّذي رأيت» (2).

ص: 542


1- سورة الأنبياء، الآية : 111.
2- البحار : ج 91 ص 342.

باب قصص متفرقة من هنا وهناك

قصة ميزاب العبّاس عمّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

في يوم من الأيام، دخل العبّاس (عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )) على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال: يارسول اللّه قد علمت ما بيني وبينك من القرابة والرحم الماسة، وأنا ممّن يدين اللّه بطاعتك، فاسأل اللّه تعالى أن يجعل لي باباً إلى المسجد أتشرّف بها على من سواي، فقال له (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «ياعمّ ليس إلى ذلك سبيل». فقال: فميزاباً يكون من داري إلى المسجد أتشرف به على القريب والبعيد. فسكت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وكان كثير الحياء لا يدري ما يعيد من الجواب خوفاً من اللّه تعالى وحياءً من عمه العبّاس فهبط جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الحال على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقد علم اللّه سبحانه ما في نفسه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من ذلك فقال : «يا محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إنّ اللّه يأمرك أن تجيب سؤال عمّك، وأمرك أن تنصب له ميزاباً إلى المسجد كما أراد، فقد علمت ما في نفسك وقد أجبتك إلى ذلك كرامة لك ونعمة منّي عليك وعلى عمّك العبّاس»، فكبّر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال: «أبى اللّه إلّا إكرامكم يابني هاشم وتفضيلكم على الخلق أجمعين»، ثم قام ومعه

جماعة من الصحابة والعبّاس بين يديه حتّى صار على سطح دار العبّاس، فنصب له ميزاباً إلى المسجد وقال: «معاشر المسلمين إنّ اللّه قد شرف عمّي العبّاس بهذا الميزاب، فلا تؤذونني في عمّي، فإنّه بقية الآباء والأجداد، فلعن اللّه من آذاني في عمّي وبخسه حقّه أو أعان عليه».

ولم يزل الميزاب على حاله مدّة أيّام النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وخلافة أبي بكر وثلاث سنين من خلافة عمر بن الخطّاب، فلمّا كان في بعض الأيام وَعَكَ العبّاس ومرض مرضاً شديداً،

ص: 543

وصعدت الجارية تغسل قميصه، فجرى الماء من الميزاب إلى صحن المسجد، فنال بعض الماء ثوب الرجل، فغضب غضباً شديداً وقال لغلامه اصعد واقلع الميزاب، فصعد الغلام فقلعه ورمى به إلى سطح العبّاس وقال : واللّه لئن ردّه أحد إلى مكانه لأضر بنّ عنقه، فشقّ ذلك على العبّاس، ودعا بولديه عبداللّه وعبيد اللّه ونهض يمشي متوكّئا عليهما وهو يرتعد من شدّة المرض وسار حتّى دخل على أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا نظر إليه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) انزعج لذلك، وقال: «ياعمّ ما جاء بك وأنت على هذه الحالة»؟ فقصّ عليه القصّة وما فعل معه عمر من قلع الميزاب وتهدّده من يعيده إلى مكانه، وقال له: يابن أخي إنّه كان لي عينان أنظر بهما، فمضت إحداهما وهي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وبقيت الأُخرى وهي أنت ياعلي، وما أظنّ أن أُظلم ويزول ما شرفني به رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و أنت لي، فانظر في أمري، فقال له : «ياعمّ ارجع إلى بيتك، فسترى منّي ما يسرّك إن شاء اللّه تعالى».

ثمّ نادى: «يا قنبر عليّ بذي الفقار»، فتقلّده ثم خرج إلى المسجد والناس حوله وقال: «ياقنبر اصعد فردّ الميزاب إلى مكانه»، فصعد قنبر فردّه إلى موضعه، وقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): «وحق صاحب هذا القبر والمنبر لئن قلعه قالع لأضربن عنقه وعنق الآمر له بذلك، ولأصلبنّهما في الشمس حتّى يتقدّدا»، فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب، فنهض ودخل المسجد ونظر إلى الميزاب، فقال: لا يغضب أحداً أبا الحسن فيما فعله، ونكفّر عن اليمين، فلمّا كان من الغداة مضى أمير المؤمنين إلى عمّه العبّاس، فقال له: «كيف أصبحت ياعمّ» ؟ قال : بأفضل النعم ما دمت لي يابن أخي. فقال له: «ياعمّ طب نفساً وقرّ عيناً، فواللّه لو خاصمني أهل الأرض في الميزاب لخصمتهم، ثمّ لقتلتهم بحول اللّه وقوّته، ولا ينالك ضيم ياعمّ»، فقام العبّاس فقبل ما بين عينيه، وقال: يابن أخي ما خاب من أنت ناصره (1).

ص: 544


1- البحار : ج 30 ص 363.

القيّم والتوكّل على اللّه

وفي سنة إحدى وخمس مائة بيع الخبز بالمشهد الشريف الغروي، كلّ رطل بقيراط، بقي أربعين يوماً، فمضى القوّام من الضر على وجوههم إلى القرى، وكان من القوّام رجل يقال له أبو البقاء بن سويقه، وكان له من العمر مائة وعشر سنين، فلم يبق من القوّام،سواه، فأضرّ به الحال فقالت له زوجته وبناته هلكنا امض كما مضى القوّام فلعل اللّه تعالى يفتح شيئاً نعيش به فعزم على المضيّ فدخل إلى القبة الشريفة صلوات اللّه على صاحبها وزار وصلّى، وجلس عند رأسه الشريف وقال :

يا أمير المؤمنين لي في خدمتك مائة سنة ما فارقتك ما رأيت الحلّة وما رأيت السكون، وقد أضر بي وبأطفالي الجوع، وها أنا مفارقك ويعزّ علي فراقك، استودعك هذا فراق بيني وبينك بيني وبينك، ثم خرج ومضى مع المكارية حتّى يعبر إلى الوقف وسوراء، وفي صحبته وهبان السلمي وأبو كردان وجماعة من المكارية طلعوا من المشهد بليل، وأقبلوا إلى أبي هبيش قال بعضهم لبعض هذا وقت كثير، فنزلوا ونزل أبو البقاء معهم، فنام فرأى في منامه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يقول له: «يا أبا البقاء فارقتني بعد طول هذه المدّة؟ عُد إلى حيث كنت»، فانتبه باكياً فقيل له: ما يبكيك؟ فقص عليهم المنام ورجع، فحيث رأينه بناته صرخن في وجهه، فقص عليهنّ القصّة وطلع، وأخذ مفتاح القبة من الخازن أبي عبد اللّه بن شهريار القمّي، وقعد على عادته بقي ثلاثة أيّام، ففي اليوم الثالث أقبل رجل وبين كتفيه مخلاة كهيئة المشاة إلى طريق مكّة، فحلّها وأخرج منها ثياباً لبسها، ودخل إلى القبة الشريفة وزار وصلّى، ودفع إليّ ديناراً وقال: ائت بطعام نتغدى.

فمضى القيّم أبو البقاء وأتى بخبز ولبن وتمر، فقال له : ما يوافق لي هذا ولكن امض به إلى أولادك يأكلونه، وخذ هذا الدينار الآخر واشتر لنا به دجاجاً وخبزاً، فأخذت له بذلك، فلمّا كان وقت صلاة الظهر صلّى الظهرين وأتى إلى داره والرّجل معه، فأحضر

ص: 545

الطعام وأكلا، وغسل الرجل يديه وقال لي : ائتني بأوزان الذهب، فطلع القيم أبو البقاء إلى زيد بن واقصة وهو صائغ على باب دار التقيّ بن أُسامة العلوي النسّابة فأخذ منه الصينية وفيها أوزان الذهب وأوزان الفضّة، فجمع الرجل جميع الأوزان فوضعها في الكفّة حتّى الشعير والأرز وحبّة الشبه وأخرج كيساً مملوءاً ذهباً، وترك منه بحذاء الأوزان وصبّه في حجر القيم ونهض، وشدّ ما تخلّف معه ومد مداسه، فقال له القيم: يا سيّدي ما أصنع بهذا ؟ قال له: هو لك، الّذي قال لك: «إرجع إلى حيث كنت» قال لي: «أعطه هذه الأوزان» ولو جئت بأكثر من هذه الأوزان لأعطيتك، فوقع القيّم مغشّياً عليه، ومضى الرّجل، فزوّج القيم بناته وعمّر داره وحسنت حاله(1).

خصال الليل والنهار

عن عبداللّه بن مغفّل، قال : قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «إنّ عيسى بن مريم (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «يا معشر الحواريين الصلاة جامعة. فخرج الحواريّون في هيئة العبادة، قد تضمّرت البطون، وغارت العيون، واصفرّت الألوان، فسار بهم عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى فلاة من الأرض، فقام على رأس جرثومة فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ أنشأ يتلو عليهم من آيات اللّه وحكمته فقال: يا معشر الحواريين اسمعوا ما أقول لكم : إنّي لأجد في كتاب اللّه المنزل الّذي أنزله اللّه في الإنجيل أشياء معلومة فاعملوا بها، قالوا: ياروح اللّه وما هي؟ قال: خلق الليل لثلاث خصال، وخلق النهار لسبع خصال، فمن مضى عليه الليل والنهار وهو في غير هذه الخصال خاصمه الليل والنهار يوم القيامة فخصماه، خلق الليل لتسكن فيه العروق الفاترة التي أتعبتها في نهارك، وتستغفر لذنبك الّذي كسبته بالنهار ثمّ لا تعود فيه، وتقنت فيه قنوت الصابرين فثلث تنام وثلث تقوم، وثلث تضرع إلى ربّك، فهذا ما خلق له الليل وخلق النهار لتؤدّي فيه الصلاة المفروضة التي عنها تسأل وبها تخاطب.

ص: 546


1- البحار : ج 42 ص 321.

وتبرّ والديك، وأن تضرب في الأرض تبتغي المعيشة، معيشة يومك، وأن تعودوا فيه وليّاً للّه كيما يتغمدّكم اللّه برحمته، وأن تشيعوا فيه جنازة كيما تنقبلوا مغفوراً لكم، وأن تأمروا بمعروف، وأن تنهوا عن منكر، فهو ذروة الإيمان وقوام الدين، وأن تجاهدوا في سبيل اللّه تزاحموا إبراهيم خليل الرحمن في قبته ومن مضى عليه الليل والنهار وهو في غير هذه الخصال خاصمه الليل والنهار يوم القيامة فخصماه عند مليك مقتدر» (1).

كَذِبَ المنجّمون

عن عبداللّه بن عوف الأحمر، قال : لما أراد أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) المسير إلى النهروان أتاه منجم، فقال له: يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ولم ذاك» ؟ لأنّك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك أذىً وضرّ شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك ظفرت وظهرت أصبت كلّما طلبت فقال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «تدري ما في بطن هذه الدابة أذكر أم أنثى» ؟ قال : إن حسبت علمت.

قال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «من صدّقك على هذا القول فقد كذّب بالقرآن قال اللّه تعالى: «إِنَّ اللّه عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسُ بِأَتِي أَرْضِ تَمُوتُ إِنَّ اللّه عَلِيمٌ خَبِير» (2) ما كان محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يدّعي ما ادّعيت أتزعم أنّك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء والساعة التي من سار فيها حاق به الضرّ ؟! من صدّقك بهذا استغنى بقولك عن الاستعانة باللّه (عزّوجلّ) في ذلك الوجه، وأحوج إلى الرغبة إليك في دفع المكروه عنه، وينبغي له أن يوليك الحمد دون ربّه (عزّ.جلّ) فمن آمن لك بهذا فقد اتّخذك من دون اللّه نداً وضدّاً». ثمّ

ص: 547


1- البحار: ج 58 ص 207.
2- لقمان: 34.

قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «اللّهم لا طير إلّا طيرك ولا ضير إلّاضيرك، ولا خير إلّا خيرك، ولا إله غيرك، بل نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي نهيت عنها».

علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وسرسفيل المنجّم

عن قيس بن سعد، قال: كنت كثيراً أساير أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذا سار إلى وجه من الوجوه، فلمّا قصد أهل النهروان وصرنا بالمدائن، وكنت يومئذ مسائراً له إذ خرج إليه قوم من أهل المدائن من دهاقينهم معهم براذين قد جاؤوا بها هدية إليه فقبلها، وكان فيمن تلقّاه دهقان من دهاقين المدائن يدعى «سرسفيل»، وكانت الفرس تحكم برأيه فيما مضى وترجع إلى قوله فيما سلف، فلمّا بصر بأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال له: يا أمير المؤمنين لترجع عما قصدت قال : «ولم ذاك يادهقان» ؟ قال : يا أمير المؤمنين، تناحست النجوم الطوالع، فنحس أصحاب السعود، وسعد أصحاب النحوس، ولزم الحكيم في مثل هذا اليوم الاستخفاء والجلوس، وإن يومك هذا يوم مميت، قد اقترن فيه كوكبان قتالان، وشرف فيه بهرام في برج الميزان، واتقدت من برجك النيران، وليس الحرب لك بمكان، فتبسم أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثم قال: «أيّها الدهقان المنبىء بالأخبار، والمحذّر من الأقدار، ما نزل البارحة في آخر الميزان؟ وأيّ نجم حلّ في السرطان؟» قال: سأنظر ذلك، وأستخرج من كمّه أُسطر لاباً وتقويماً، قال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أنت مسيّر الجاريات»؟ قال: لا، قال: «فأنت تقضي على الثابتات؟ قال: لا، قال: «فأخبرني عن طول الأسد وتباعده من المطالع والمراجع، وما الزهرة من التوابع والجوامع» ؟ قال : لا علم لي بذلك. قال «فما بين السراري إلى الدراري ؟ وما بين الساعات إلى المعجزات؟ وكم قدر شعاع المبدرات؟ وكم تحصل الفجر في الغدوات»؟ قال : لا علم لي بذلك، قال: «فهل علمت يادهقان أنّ الملك اليوم انتقل من بيت إلى بيت بالصين وانقلب برج ماجين واحترق دور بالزنج وطفح جبّ سرانديب وتهدّم حصن الأندلس، وهاج نمل الشيخ،

ص: 548

وانهزم مراق الهندي، وقد ديّان اليهود بإيلة، وهدم بطريق الروم بروميّة، وعمي راهب عموريّة، وسقطت شرفات القسطنطنيّة، أفعالم أنت بهذه الحوادث وما الّذي أحدثها شرقيّها أو غربيّها من الفلك» ؟ قال : لا علم لي بذلك، قال : «وبأي الكواكب تقضي في أعلى القطب ؟ وبأيّها تنحس من تنحّس»؟ قال : لا علم لي بذلك، قال: «فهل علمت أنه سعد اليوم إثنان وسبعون عالماً، في كلّ عالم سبعون عالماً، منهم في البر، ومنهم في البحر، وبعض في الجبال، وبعض في الغياض، وبعض في العمران، وما الّذي أسعدهم»؟ قال: لا علم لي بذلك، قال: «يادهقان أظنّك حكمت على اقتران المشتري وزحل لمّا استنارا لك في الغسق، وظهر تلألؤ شعاع المريخ وتشريقه في السحر، وقد سار فاتّصل جرمه بجرم تربيع القمر، وذلك دليل على استحقاق الف الف من البشر كلّهم يولدون اليوم واللّيلة ويموت مثلهم وأشار بيده إلى جاسوس في عسكره لمعاوية فقال: ويموت هذا، فإنّه منهم»، فلمّا قال ذلك ظنّ الرجل أنه قال خذوه، فأخذه شيء بقلبه، وتكسرت نفسه في صدره، فمات لوقته.

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يادهقان ألم أرك غير التقدير في غاية التصوير»؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، قال: «يادهقان، أنا مخبرك أنّي وصحبي هؤلاء لا شرقيّون ولا غربيّون، إنما نحن ناشئة القطب، وما زعمت أنّ البارحة انقدح من برجي النيران فقد كان يجب أن تحكم معه لي، لأنّ نوره وضياءه عندي فلهبه ذاهب عنّي يادهقان هذه قضيّة عيص، فاحسبها وولّدها إن كنت عالماً بالأكوار والأدوار.

قال : لو علمت ذلك لعلمت أنك تحصي عقود القصب في هذه الأجمة»، ومضى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فهزم أهل النهروان وقتلهم وعاد بالغنيمة والظفر. فقال الدهقان: ليس هذا العلم بما في أيدي أهل زماننا هذا علم مادته من السماء (1).

ص: 549


1- البحار: ج 58 ص 219.

المنجّمة بوران والمعتصم

إن من المذكورين بعلم النجوم بوران بنت الحسن بن سهل، وجدت في مجموع عتيق أنّ بوران كانت في المنزلة العليا بأصناف العلم لا سيّما في النجوم فإنّها برعت فيه وبلغت أقصى نهايته، وكانت ترفع الأُصطرلاب كلّ وقت وتنظر إلى مولد المعتصم، فعثرت ما يقطع عليه، سببه خشب، فقالت لوالدها الحسن: انصرف إلى أمير المؤمنين وعرّفه أنّ الجارية فلانة قد نظرت إلى المولد ورفعت الأُصطرلاب فدلّ الحساب واللّه أعلم أنّ قطعاً يلحق أمير المؤمنين من خشب في الساعة الفلانية من يوم بعينه. قال الحسن: ياقرة العين ياسيّدة الحرائر إن أمير المؤمنين قد تغيّر علينا وربّما أصغى إلى شيخك بخلاف ما يقتضيه وجه المشهورة والنصيحة. قالت: يا أبه وما عليك من نصيحة إمامك، لأنه خطر بروح لا عوض منها، فإن قبلها وإلا كنت قد أديت المفروض عليك. قال: فانصرف الحسن إلى المعتصم، وعرّفه ما قالت بوران قال المعتصم : أيها الحسن أحسن اللّه جزاءها وجزائك، انصرف إليها وخصها عنّي بالسلام واسألها ثانياً، واحضر عندي اليوم الّذي عيّنت عليه ولازمني حتّى ينصرم اليوم ويذهب فلست أشاركك في هذه المشهورة والتدبير أحداً من البشر.

قال: فلمّا كان صباح ذلك اليوم دخل عليه الحسن، فأمر المعتصم حتّى خرج كلّ من في المجلس وخلا إليه وأشار عليه أن ينتقل عن المجلس السقفي إلى مجلس ابن ارخى لا يوجد فيه وزن درهم واحد من الخشب وما زال الحسن يحدّثه والمعتصم يمازحه وينشّطه حتّى أظهر النهار وضربت نوبة الصلاة، فقام المعتصم ليتوضأ، فقال الحسن : لا تخرج أمير المؤمنين عن هذا المجلس، ويكون الوضوء والصلاة وكل ما تريده فيه،حتّى ينصرم اليوم، فجاء خادم ومعه المشط والسواك، فقال الحسن للخادم : امتشط بالمشط واستك بالسواك. فامتنع وقال: كيف أتناول آلة أمير المؤمنين؟ قال المعتصم:

ص: 550

ويلك، امتثل قول الحسن ولا تخالف. ففعل، فسقطت ثناياه وانتفخ دماغه وخرّ مغشّياً عليه، ورفع ميّتاً، وقام الحسن ليخرج، فاستدعاه المعتصم واحتضنه، ولم يفارقه حتّى قبل عينيه، وردّ على بوران أملاكاً وضياعاً، وكان ابن الزيات حلّها عنها، وذكر مثله برواية أُخرى(1).

لا تعادوا الأيّام فتعاديكم

عن الصقر بن أبي دلف الكرخي، قال: لمّا حمل المتوكّل سيدنا أبا الحسن العسكري (عَلَيهِ السَّلَامُ) جئت أسأل عن خبره، قال : فنظر إليّ الزراقي، وكان حاجباً للمتوكّل، فأمر أن أدخل إليه، فأُدخلت إليه فقال : ياصقر ما شأنك؟ فقلت: خير أيّها الأُستاذ، فقال: اقعد، فأخذني ما تقدّم وما تأخّر، وقلت: أخطأت في المجيىء، قال: فوحى الناس عنه، ثمّ قال لي: ما شأنك وفيم جئت؟ قلت لخبر ما، فقال: لعلّك تسأل عن خبر مولاك ؟ فقلت له : ومن مولاي ؟ مولاي أمير المؤمنين فقال: اسكت مولاك [مولاك ] هو الحق، فلا تحتشمني فإنّي على مذهبك فقلت: الحمد للّه، قال: أتحب أن تراه؟ قلت: نعم، قال : اجلس حتّى يخرج صاحب البريد من عنده، قال: فجلست فلمّا خرج، قال لغلام له: خذ بيد الصقر وأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس، وخلّ بينه وبينه، قال: فأدخلني إلى الحجرة، وأومأ إلى بيت فدخلت فإذا هو (عَلَيهِ السَّلَامُ) جالس على صدر حصير وبحذائه قبر محفور، قال: فسلمت عليه فردّ عليّ، ثمّ أمرني بالجلوس.

ثمّ قال لي: «ياصقر ما أتى بك»؟ قلت: سيدي جئت أتعرّف خبرك. قال : ثمّ نظرت إلى القبر فبكيت فنظر إليّ فقال : «ياصقر لا عليك، لن يصلوا إلينا بسوء الآن». فقلت: الحمد للّه، ثمّ قلت ياسيدي حديث يروى عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لا أعرف معناه، قال: «وما هو» ؟ فقلت: قوله « لا تعادوا الأيّام تعاديكم» ما معناه؟ فقال: «نعم، الأيّام نحن

ص: 551


1- البحار: ج 58 ص 302.

ما قامت السماوات والأرض، فالسبت اسم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، والأحد كناية عن أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والإثنين الحسن والحسين والثلاثاء علي بن الحسين ومحمّد بن علي وجعفر بن محمّد، والأربعاء موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمّد بن علي وأنا، والخميس ابني الحسن بن علي، والجمعة ابن ابني، وإليه تجتمع عصابة الحقّ، وهو الّذي يملؤها قسطاً وعدلا كما ملئت ظلما وجوراً. فهذا معنى الأيام، فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة»، ثمّ قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ودّع واخرج فلا آمن عليك» (1).

يوم النيروز

عن معلّی بن خنيس قال: دخلت على الصادق جعفر بن محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) يوم النيروز، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أتعرف هذا اليوم»؟ قلت: جعلت فداك، هذا يوم تعظّمه العجم وتتهادى فيه. فقال أبو عبداللّه الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «والبيت العتيق الّذي بمكّة ما هذا إلا لأمر قديم أفسّره لك حتّى تفهمه». قلت: ياسيدي إن علم هذا من عندك أحب إلي من أن يعيش أمواتي وتموت أعدائي فقال: يا معلّى إنّ يوم النيروز هو اليوم الّذي أخذ اللّه فيه مواثيق العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن يؤمنوا برسله وحججه، وأن يؤمنوا بالأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وهو أوّل يوم طلعت فيه الشمس وهبّت به الرياح وخلقت فيه زهرة الأرض. وهو اليوم الّذي استوت فيه سفينة نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) على الجودي، وهو اليوم الّذي أحيى اللّه فيه الّذين خرجوا من ديارهم وهم أُلوف حذر الموت، فقال لهم اللّه: موتوا ثمّ أحياهم. وهو اليوم الّذي نزل فيه جبرئيل على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وهو اليوم الّذي حمل فيه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)على منكبه حتّى رمى أصنام قريش من فوق البيت الحرام فهشّمها، وكذلك إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ).

وهو اليوم الّذي أمر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أصحابه أن يبايعوا علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) بإمرة المؤمنين، وهو

ص: 552


1- البحار: ج 59 ص 20.

اليوم الّذي وجه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) علياً إلى وادي الجنّ يأخذ عليهم البيعة له، وهو اليوم الّذي بويع لأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فيه البيعة الثانية، وهو اليوم الّذي ظفر فيه بأهل النهروان وقتل ذا الثدية، وهو اليوم الّذي يظهر فيه قائمنا وولاة الأمر، وهو اليوم الّذي يظهر فيه قائمنا بالدجال فيصلبه على كناسة الكوفة، وما من يوم نيروز إلّا ونحن نتوقّع فيه الفرج. لأّنه من أيّامنا وأيّام شيعتنا حفظته العجم وضيّعتموه أنتم.

وقال: إنّ نبيّاً من الأنبياء سأل ربّه كيف يحيي هؤلاء القوم الّذين خرجوا فأوحى اللّه إليه أن يصبّ الماء عليهم في مضاجعهم في هذا اليوم وهو أوّل يوم من سنة الفرس فعاشوا وهم ثلاثون الفاً، فصار صبّ الماء في النيروز سنّة» (1).

قصّة أصحاب الرسّ

عن أبي الصلت الهروي، عن علي بن موسى الرضا عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: «أتى علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) قبل مقتله بثلاثة أيّام رجل من أشراف تميم يقال له «عمرو» فقال له: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن أصحاب الرسّ في أيّ عصر كانوا؟ وأين كانت منازلهم؟ ومن كان ملكهم؟ وهل بعث اللّه (عزّوجلّ) إليهم رسولا أم لا؟ وبماذا أُهلكوا؟ فإنّي أجد في كتاب اللّه (عزّوجلّ) ذكرهم ولا أجد خبرهم. فقال له علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : لقد سألت عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك ولا يحدّثك به أحد بعدي إلّا عني، وما في كتاب اللّه (عزّوجلّ) آية إلّا وأنا أعرف تفسيرها، وفي أّي مكان نزلت من سهل أو جبل، وفي أي وقت من ليل أو نهار، وإنّ ههنا لعلماً جماً وأشار إلى صدره ولكن طلّابه يسير، وعن قليل يندمون لو قد فقدوني.

كان من قّصتهم يا أخا تميم أنهم كانوا قوماً يعبدون شجرة صنوبر يقال لها «شاه درخت» كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها «وشناب» كانت أنبطت

ص: 553


1- البحار: ج 59 ص 92.

لنوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد الطوفان، وإنّما سمّوا أصحاب الرس لأنهم رسوا نبيّهم في الأرض، وذلك بعد سليمان بن داود (عَلَيهما السَّلَامُ)، وكانت لهم اثنتا عشرة قرية على شاطىء نهر يقال له «الرسّ» من بلاد المشرق، وبهم سمّي ذلك النهر، ولم يكن يومئذ في الأرض نهر أغزر منه، ولا أعذب منه، ولا قرىً أكثر ولا أعمر منها، تسمّى إحداهنّ« أبان» والثانية «آذر» والثالثة «دي» والرابعة «بهمن» والخامسة «إسفندار» والسادسة «فروردين» والسابعة «أُردي بهشت» والثامنة «أُرداد« والتاسعة «مرداد» والعاشرة «تير» والحادية عشر «مهر» والثانية عشر «شهريور» وكانت أعظم مدائنهم «اسفندار» وهي التي ينزلها ملكهم، وكان يسمّى تركوز بن غابور بن یارش بن سازن بن نمرود بن كنعان فرعون إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ).

وبها العين والصنوبرة وقد غرسوا في كلّ قرية منها حبة من طلع تلك الصنوبرة، وأجروا إليها نهراً من العين التي عند الصنوبرة فنبتت الحبّة وصارت شجرة عظيمة، وحرموا ماء العين والأنهار فلا يشربون منها ولا أنعامهم، ومن فعل ذلك قتلوه، ويقولون: هو حياة آلهتنا فلا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتها، ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرس الّذي عليه،قراهم، وقد جعلوا في كلّ شهر من السنة في كلّ قرية عيداً يجتمع إليه أهلها، فيضربون على الشجرة التي بها كلّة من حرير فيها من أنواع الصور، ثمّ يأتون بشاة وبقر، فيذبحونها قرباناً للشجرة، ويشعلون فيها النيران بالحطب، فإذا سطع دخان تلك الذبائح وقتارها في الهواء وحال بينهم وبين النظر إلى السماء خرّوا للشجرة سجّداً، ويبكون ويتضرعون إليها أن ترضى عنهم، فكان الشيطان يحيىء فيحرّك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبي:

أنّي قد رضيت عنكم عبادي فطيبوا نفساً وقروا عيناً، فيرفعون رؤوسهم عند ذلك، ويشربون الخمر ويضربون بالمعازف ويأخذون الدستبند، فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم، ثمّ ينصرفون. وإنّما سمّت العجم شهورها بأبان ماه و آذر ماه وغيرهما اشتقاقاً

ص: 554

من أسماء تلك القرى، لقول أهلها بعض البعض : هذا عيد شهر كذا وعيد شهر كذا، حتّى إذا كان عيد قريتهم العظمى اجتمع إليهم صغيرهم وكبيرهم، فضربوا عند الصنوبرة والعين سرادقاً من ديباج عليه من أنواع الصور له اثنا عشر باباً، كل باب لأهل قرية منهم، ويسجدون للصنوبرة خارجاً من السرادق ويقربون لها الذبائح أضعاف ما قرّبوا للشجرة في قراهم، فيجيىء إبليس عند ذلك فيحرّك الصنوبرة تحريكاً شديداً، فيتكلّم من جوفها كلاماً جهوريّاً، ويعدهم ويمنيهم بأكثر مما وعدتهم ومنتهم الشياطين كلّها، فيرفعون رؤوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون ولا يتكلمون من الشرب والعزف، فيكونون على ذلك اثني عشر يوماً ولياليها بعدد أعيادهم سائر السنة، ثمّ ينصرفون.

فلما طال كفرهم باللّه (عزّوجلّ) وعبادتهم غيره بعث اللّه (عزّوجلّ) إليهم نبياً من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب، فلبث فيهم زماناً طويلا يدعوهم إلى عبادة اللّه (عزّوجلّ) ومعرفة ربوبيته فلا يتّبعونه، فلمّا رأى شدّة تماديهم في الغي والضلال وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرشد والنجاح، وحضر عيد قريتهم العظمى قال: ياربّ إنّ عبادك أبوا إلا تكذيبي، والكفر بك، وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضر، فأيبس شجرهم أجمع، وأرهم قدرتك وسلطانك، فأصبح القوم وقد يبس شجرهم كلّها، فهالهم ذلك، وقطع بهم وصاروا فرقتين؛ فرقة قالت: سحر آلهتكم هذا الرجل الّذي زعم أنه رسول ربّ السماء والأرض ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى إلهه وفرقة قالت: لا، بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويقع فيها ويدعوكم إلى عبادة غيرها، فحجبت حسنها وبهاءها لكي تغضبوا لها فتنتصروا منه. فأجمع رأيهم على قتله، فاتّخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه، ثمّ أرسلوها في قرار العين إلى أعلى الماء واحدة فوق الأُخرى مثل البرانج ونزحوا ما فيها من الماء، ثمّ حفروا في قرارها بئراً ضيّقة المدخل عميقة،

ص: 555

وأرسلوا فيها نبيّهم، وألقموا فاها صخرة عظيمة، ثمّ أخرجوا الأنابيب من الماء وقالوا: نرجو الآن أن ترضى عنّا آلهتنا إذا رأت أنّا قد قتلنا من كان يقع فيها، ويصدّ عن عبادتها، ودفناه تحت كبيرها، يتشفّى منه فيعود لنا نورها ونضرتها كما كان. فبقوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيّهم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يقول:

سيّدي قد ترى ضيق مكاني، وشدّة كربي فارحم ضعف ركني، وقلّة حيلتي، وعجّل بقبض روحي، ولا تؤخّر إجابة دعوتي، حتّى مات (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال اللّه جل جلاله لجبرائيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يا جبرئيل أيظنّ عبادي هؤلاء الّذين غرّهم حلمي، وأمنوا مكري وعبدوا غيري وقتلوا رسولي أن يقوموا لغضبي أو يخرجوا من سلطاني؟ كيف وأنا المنتقم ممّن عصاني، ولم يخش عقابي، وإنّي حلفت بعزّتي وجلالي لأجعلنّهم عبرة ونكالا للعالمين، فلم يرعهم وهم في عيدهم ذلك إلّا بريح عاصف شديدة الحمرة، فتحيّروا فيها وذعروا منها، وتضامّ بعضهم إلى بعض، ثمّ صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقد، وأظلّتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبة جمراً يلتهب، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص في النار. فتعوّذ باللّه تعالى ذكره من غضبه ونزول نقمته ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العلي العظيم»(1).

قصّة هاروت وماروت

عن محمّد بن قيس، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: سأله عطا ونحن بمكّة عن هاروت وماروت، فقال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ الملائكة كانوا ينزلون من السماء إلى الأرض في كلّ يوم وليلة، يحفظون أعمال أوساط أهل الأرض من ولد آدم والجنّ، فيكتبون أعمالهم ويعرجون بها إلى السماء، قال: فضجّ أهل السماء من معاصي أهل أوساط الأرض، فتوامزوا فيما بينهم مما يسمعون ويرون من افترائهم الكذب على اللّه تبارك وتعالى

ص: 556


1- البحار: ج 59 ص 109.

وجرأتهم عليه، ونزّهوا اللّه مما يقول فيه خلقه ويصفون، فقالت طائفة من الملائكة: ياربّنا ما تغضب ممّا يعمل خلقك في أرضك، وما يصفون فيك الكذب، ويقولون الزور، ويرتكبون المعاصي، وقد نهيتهم عنها، ثمّ أنت تحلم عنهم وهم في قبضتك وقدرتك وخلال عافيتك».

قال أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «فأحبّ اللّه أن يري الملائكة القدرة ونافذ أمره في جميع خلقه، ويعرف الملائكة ما منّ به عليهم مما عدله عنهم من صنع خلقه، وما طبعهم عليه من الطاعة، وعصمهم به من الذنوب، قال: فأوحى اللّه إلى الملائكة أن انتدبوا منكم ملكين حتّى أهبطهما إلى الأرض، ثمّ أجعل فيهما من طبائع المطعم والمشرب والشهوة والحرص والأمل مثل ما جعلته في ولد آدم، ثمّ أختبر هما في الطاعة لي. قال: فندبوا لذلك هاروت وماروت، وكانا أشدّ الملائكة قولا في العيب لولد آدم واستئثار غضب اللّه عليهم. قال: فأوحى اللّه إليهما أن إهبطا إلى الأرض، فقد جعلت فيكما من طبائع المطعم والمشرب والشهوة والحرص والأمل مثل ما جعلت في ولد آدم.

قال: ثم أوحى اللّه إليها أُنظرا أن لا تشركا بي شيئاً، ولا تقتلا النفس التي حرّم اللّه، ولا تزنيا ولا تشربا الخمر قال : ثمّ كشط عن السماوات السبع ليريهما،قدرته ثمّ أهبطهما إلى الأرض في صورة البشر ولباسهم، فهبطا ناحية بابل، فرفع لهما بناء مشرف فأقبلا نحوه، فإذا بحضرته امرأة جميلة حسناء مزيّنة معطّره [مسفرة] مقبلة نحوهما، قال: فلمّا نظرا إليها وناطقاها وتأملاها وقعت في قلوبهما موقعاً شديداً لموضع الشهوة التي جعلت فيهما، فرجعا إليها رجوع فتنة وخذلان وراوداها عن نفسها. فقالت لها: إنّ لي ديناً أدين به، وليس أقدر في ديني على أن أجيبكما إلى ما تريدان إلا أن تدخلا في ديني الّذي أُدين به، فقالا لها وما دينك؟

قالت: لي إله من عبده وسجد له كان لي السبيل إلى أن أُجيبه إلى كلّ ما سألني، فقالا

ص: 557

لها: وما إلهك ؟ قالت : إلهي هذا الصنم، قال: فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقال: هاتان خصلتان ممّا نُهينا عنهما: الشرك، والزنا، لأنا إن سجدنا لهذا الصنم وعبدناه أشركنا باللّه، وإنّما نشرك باللّه لنصل إلى الزنا، وهو ذا نحن نطلب الزنا فليس تعطى إلّا بالشرك. :قال فائتمرا بينهما، فغلبتهما الشهوة التي جعلت فيهما فقالا له:ا نجيبك إلى ما سألت، فقالت: فدونكما، فاشربا هذه الخمر فإنّه قربان لكما وبه تصلان إلى ما تريدان.

فائتمرا بينهما فقالا : هذه ثلاث خصال، مما نهانا ربنا عنها الشرك، والزنا، وشرب الخمر. وإنّما ندخل في شرب الخمر والشرك حتّى نصل إلى الزنا، فائتمرا بينهما، فقالا: ما أعظم البليّة بك ! قد أجبناك إلى ما سألت قالت فدونكما فاشربا من هذه الخمر، واعبدا هذا الصنم، واسجدا له، فشربا الخمر وعبدا الصنم، ثمّ راوداها عن نفسها، فلمّا تهيأت لهما وتهيأ لها دخل عليهما سائل يسأل [هذه] فلمّا أن رآهما ورأياه ذعرا منه، فقال لهما : إنّكما نابان ذعران، قد خلوتما بهذه المرأة المعطرة الحسناء، إنكما لرجلا سوء، وخرج عنهما.

فقالت لهما: لا وإلهي ما تصلان الآن إلي وقد اطلع هذا الرجل على حالكما وعرف مكانكما، ويخرج الآن ويخبر بخبركما، ولكن بادرا إلى هذا الرجل فاقتلاه قبل أن يفضحكما ويفضحني ثمّ دونكما، فاقضيا حاجتكما وأنتها مطمئنان آمنان، قال: فقاما إلى الرجل فأدركاه فقتلاه ثم رجعا إليها، فلم يرياها وبدت لهما سوآتها، ونزع عنهما ریاشها، وأُسقطا في أيديهما قال : فأوحى اللّه إليهما أن أهبطتكما إلى الأرض مع خلقي ساعة من النهار فعصيتماني بأربع من معاصي كلّها قد نهيتكما عنها، وتقدمت إليكما فيها فلم تراقباني ولم تستحييا منّي، وقد كنتما أشدّ من نقم على أهل الأرض المعاصي واستجرّ أسفي وغضبي عليهم لما جعلت فيكما من طبع خلقي وعصمتي إياكما من المعاصي، فكيف رأيتها موضع خذلاني فيكما ؟ اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة.

فقال أحدهما لصاحبه: نتمتّع من شهواتنا في الدنيا إذ صرنا إليها إلى أن نصير إلى

ص: 558

عذاب الآخرة، فقال الآخر: إنّ عذاب الدنيا له مدّة وانقطاع، وعذاب الآخرة دائم لا انقطاع له، فلسنا نختار عذاب الآخرة الدائم الشديد على عذاب الدنيا المنقطع الفاني. قال : فاختارا عذاب الدنيا، فكانا يعلمان الناس السحر في أرض بابل، ثمّ لما علما الناس السحر رفعا من الأرض إلى الهواء، فهما معذبان منكسان معلقان في الهواء إلى يوم القيامة»(1).

أوّل قطرة، وأوّل عين فاضا، وأوّل شجرة على وجه الأرض

عن داود بن سليمان الكسائي، عن أبي الطفيل قال: سأل في أوّل خلافة عمر يهودي من أولاد هارون أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : عن أوّل قطرة قطرت على وجه الأرض، وأوّل عين فاضت على وجه الأرض، وأوّل شجر اهتزّ على وجه الأرض. فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ياهاروني أمّا أنتم فتقولون أوّل قطرة قطرت على وجه الأرض حيث قتل أحد ابني آدم صاحبه وليس كذلك، ولكنّه حيث طمثت حوّاء، وذلك قبل أن تلد ابنيها، وأمّا أنتم فتقولون أوّل عين فاضت على وجه الأرض العين التي ببيت المقدس، وليس هو كذلك، ولكنّها عين الحياة التي وقف عليها موسى وفتاه ومعهما النون المالح فسقط فيها فحيي، وهذا الماء لا يصيب ميّتاً إلا حيي، وأمّا أنتم فتقولون : أوّل شجر اهتز على وجه الأرض الشجرة التي كانت منها سفينة نوح، وليس كذلك، ولكنّها النخلة التي هبطت من الجنّة وهي العجوة، ومنها تفرّع كلّ ما ترى من أنواع النخل»، فقال: صدقت واللّه الّذي لا إله إلاّ هو، إنّي لأجد هذا في كتاب أبي هارون (عَلَيهِ السَّلَامُ) كتابة يده وإملاء عمّي موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ).

وعن محمّد بن سماعة، عن إبراهيم بن أبي يحيى المدني، عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) مثله، إلّا أنّه قال: «قال اليهودي: أخبرني عن أوّل شجرة نبتت على وجه الأرض، وعن أوّل عين نبعت على وجه الأرض، وعن أوّل حجر وضع على وجه الأرض، فقال أمير

ص: 559


1- البحار: ج 59 ص 316.

المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أمّا أوّل شجرة نبتت على وجه الأرض فإنّ اليهود يزعمون أنها الزيتونة وكذبوا، وإنما هي النخلة من العجوة هبط بها آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) معه من الجنّة فغرسها وأصل النخلة كلّه منها. وأمّا أوّل عين نبعت على وجه الأرض فإنّ اليهود يزعمون أنها العين التي ببيت المقدس وتحت الحجر وكذبوا هي عين الحياة التي ما انتهى إليها أحد إلّا حيي، وكان الخضر على مقدّمة ذي القرنين فطلب عين الحياة فوجدها الخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وشرب منها ولم يجدها ذو القرنين. وأما أوّل حجر وضع على وجه الأرض فإنّ اليهود يزعمون أنه الحجر الّذي ببيت المقدس وكذبوا، إنّما هو الحجر الأسود هبط به آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) معه من الجنّة فوضعه في الركن والناس يستلمونه وكان أشد بياضاً من الثلج فاسود من خطايا بني آدم»(1).

تفاخر خلق اللّه

عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «ما خلق اللّه (عزّوجلّ) خلقاً إلّا وقد أمر عليه آخر يغلبه به، وذلك أنّ اللّه تبارك وتعالى لمّا خلق السحاب فخرت وزخرت وقالت أيّ شيء يغلبني ؟ فخلق اللّه (عزّوجلّ) الفلك، فأدارها بها وذلّلها. ثمّ إنّ الأرض فخرت وقالت: أيّ شيء يغلبني ؟ فخلق الجبال فأثبتها في ظهرها أوتاداً منعها من أن تميد بما عليها، فذلّت واستقرت.

ثمّ إنّ الجبال فخرت على الأرض فشمخت واستطالت وقالت: أي شيء يغلبني؟ فخلق اللّه الحديد فقطعها، فقرّت الجبال وذلّت. ثمّ إنّ الحديد فخر على الجبال وقال: أيّ شيء يغلبني؟ فخلق اللّه النار فأذابت الحديد، فذل الحديد. ثمّ إنّ النار زفرت وشهقت وفخرت وقالت: أيّ شيء يغلبني ؟ فخلق الماء فأطفأها، فذلّت. ثمّ إنّ الماء فخر وزخر وقال: أي شيء يغلبني ؟ فخلق الريح فحركت أمواجه وأثارت ما في قعره وحبسته

ص: 560


1- البحار: ج 60 ص 39.

عن مجاريه، فذلّ الماء. ثمّ إنّ الريح فخرت وعصفت وأرخت أذيالها وقالت: أيّ شيء يغلبني ؟ فخلق الإنسان فاحتال واتّخذ ما يستتر به من الريح وغيرها، فذلّت الريح. ثمّ إنّ الإنسان طغى وقال: من أشدّ منّي قوّة؟ فخلق الموت فقهره، فذل الإنسان. ثمّ إنّ الموت فخر في نفسه فقال اللّه جلّ جلاله : لا تفخر، فإنّي أذبحك بين الفريقين: أهل الجنّة والنار، ثم لا أحييك أبداً، فذل وخاف»(1).

أشدّ ما خلق اللّه

عن محمّد بن قيس، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) في ما سأل رسول معاوية لأسئلة ملك الروم الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «وأما عشرة أشياء بعضها أشدّ من بعض، فأشدّ شيء خلقه اللّه الحجر، وأشدّ من الحجر الحديد يقطع به الحجر، وأشدّ من الحديد النار تذيب الحديد، وأشدّ من النار الماء يطفىء النار، وأشدّ من الماء السحاب يحمل الماء، وأشدّ من السحاب الريح يحمل السحاب، وأشدّ من الريح الملك الّذي يرسلها، وأشدّ من الملك ملك الموت الّذي يميت الملك، وأشدّ من ملك الموت الموت الّذي يميت ملك الموت، وأشدّ من الموت أمر [اللّه] ربّ العالمين الّذي يميت الموت» (2).

في فضل مدينة قم

عن أبي الأكراد علي بن ميمون الصائغ :قال روي بأسانيد عن الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه ذكر كوفة وقال: «ستخلو كوفة من المؤمنين ويأزر عنها العلم كما تأزر الحيّة في جحرها، ثمّ ظهر العلم ببلدة يقال لها قم، وتصير معدناً للعلم والفضل حتّى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين حتّى المخدّرات في الحجال، وذلك عند قرب ظهور قائمنا، فجعل اللّه قم وأهله قائمين مقام الحجّة، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها ولم يبق في الأرض

ص: 561


1- البحار: ج 60 ص 198.
2- البحار: ج 60 ص 199.

حجّة، فيفيض العلم منه إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب، فيتمّ حجّة اللّه على الخلق حتّى لا يبقى أحد على الأرض لم يبلغ إليه الدين والعلم، ثمّ يظهر القائم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويسير سبباً لنقمة اللّه وسخطه على العباد، لأنّ اللّه لا ينتقم من العباد إلّا بعد إنكارهم حجّة»(1).

أيضاً فضل مدينة قم

وروي عن عدة من أهل الري أنّهم دخلوا على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقالوا: نحن من أهل الري فقال: «مرحباً بإخواننا من أهل قم»! فقالوا: نحن من أهل الريّ فأعاد الكلام، قالوا ذلك مراراً وأجابهم بمثل ما أجاب به أوّلا، فقال: «إنّ اللّه حرماً وهو مكّة، وإنّ للرسول حرماً وهو المدينة، وإنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة فمن زارها وجبت له الجنّة». قال الراوي: وكان هذا الكلام منه قبل أن يولد الكاظم(عَلَيهِ السَّلَامُ)(2).

قصّة أنس بن مالك

عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، قال: لمّا حمل المأمون أبا هدية مولى أنس إلى خراسان بلغني ذلك، فخرجت في لقائه، فصادفني في بعض المنازل، فرأيت رجلا طويلا حفيف العارضين، منحنياً من الكبر، وقد اجتمع عليه الناس، فقلت له: حدّثني رحمك اللّه فإنّي أتيتك من بلد بعيد أسمع منك، فلم يحدّثني من الزحمة التي كانت عليه، ثم رحل فتبعته إلى المرحلة الأُخرى، فلمّا نزل أتيته فقلت له: حدّثني رحمك اللّه تعالى قال: أنت صاحبي بالأمس؟ قلت: نعم، قال : إذا واللّه لا أُحدثك إلا قائماً لما بدا مني إليك، لأنّي سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول : «من كان عنده علم فكتمه ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من نار»، ثمّ قام قائماً وقال: كنت رأيت مولاي أنس بن مالك وهو معصّب بعصابة بيضاء، فقلت:

ص: 562


1- البحار: ج 60 ص 213.
2- البحار: ج 60 ص 216.

وما هذه العصابة ؟ قال : هذه دعوة علي بن أبي طالب فقلت وكيف؟ فقال: أُهدي إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) طائر، ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في بيت أُمّ سلمة رضي اللّه عنها، وأنا حينئذ أحجب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فأصلحته أُمّ سلمة رضي اللّه عنها، وأتت به رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وقالت أمّ سلمة: الزم الباب لينال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) منه، فلزمت الباب وقدّمته إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فلمّا وضعته بين يديه رفع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يديه وقال: «اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر»، فسمعت دعوة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و أحببت أن يكون رجلا من قومي، فأتى علي بن أبي طالب فقلت: إنّ رسول اللّه عنك مشغول، فانصرف، ثم دعا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثانية وقال: «اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر»، فأتى علي بن أبي طالب، فقلت: إنّ رسول اللّه عنك مشغول، فانصرف، ثمّ رفع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رأسه ودعا ثالثة وقال: «يارب ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر»، فأتى علي فقلت: رسول اللّه عنك مشغول.

فقال: «وما يشغل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عني ؟ ! ودفعني فدخل، فلمّا رآه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قبّل ما بين عينيه وقال: «يا أخي من الّذي حبسك عني، وقد دعوت اللّه ثلاثاً أن يأتيني بأحبّ خلقه إليه يأكل معي من هذا الطائر»؟ فقال: «يارسول اللّه قد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردّني أنس»، فقال: «لم رددت علياً»؟ فقلت: يارسول اللّه إني سمعت دعوتك فأحببت أن يكون رجلا من الأنصار فأفتخر به إلى الأبد، فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «اللّهم ارم أنساً بوضح لا يستره من الناس»، فظهر علي هذا الّذي ترى، وهي دعوة علي(1).

حمل العذراء

عن وهب القرشي عن جعفر عن أبيه (عَلَيهِما السَّلَامُ) «أنّ رجلا أتى علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : إنّ امرأتي هذه جارية حدثة، وهي عذراء، وهي حامل في تسعة أشهر، ولا أعلم إلا خيراً،

ص: 563


1- البحار: ج 60 ص 300.

وأنا شيخ كبير ما اخترعتها، وإنّها لعلى حالها. فقال له علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : نشدتك باللّه، هل كنت تهريق على فرجها؟ قال: نعم، فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): إنّ لكلّ فرج ثقبتين: ثقب يدخل فيه ماء الرجل، وثقب يخرج منه البول، وأفواه الرحم تحت ثقب الّذي يدخل منه ماء الرجل، فإذا دخل الماء في فم واحدة من أفواه الرحم حملت المرأة بولد واحد، وإذا دخل في إثنين حملت بإثنين، وإذا دخل من ثلاثة حملت بثلاثة، وإذا دخل من أربعة حملت بأربعة وليس هناك غير ذلك، وقد ألحقت بك ولدها فشقّ عنها القوابل، فجاءت بغلام فعاش»(1).

الظبية وإسلام المنافق

عن أبي عبداللّه جعفر بن محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «حدّثني أبي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليهم أجمعين قال: مرّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بظبية مربوطة بطُنُب،فسطاط، فلمّا رأت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أطلق اللّه (عزّوجلّ) لها من لسانها فكلّمته، فقالت: يارسول اللّه إنّي أُمّ خشفين عطشانين، وهذا ضرعي قد امتلأ لبناً، فخلّني حتّى أنطلق فأُرضعهما ثم أعود، فتربطني كما كنت، فقال لها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : كيف وأنت ربيطة قوم وصيدهم؟ قالت: بلى يارسول اللّه أنا أجيىء فتربطني كما كنت، أنت بيدك، فأخذ عليها موثقاً من اللّه لتعودنّ، وخلّى سبيلها، فلم تلبث إلا يسيراً حتّى رجعت قد فرغت ما في ضرعها، فربطها نبي اللّه كما كانت، ثمّ سأل: لمن هذا الصيد؟ قالوا: يارسول اللّه هذه لبني فلان، فأتاهم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وكان الّذي إقتنصها منهم نفاقه منافقاً فرجع عن وحسن إسلامه، فكلّمه النبي ليشتريها منه قال : بلى أُخلّي سبيلها فداك أبي وأُمّي يانبي اللّه، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : لو أن البهائم يعلمون من الموت ما تعلمون أنتم ما أكلتم منها سميناً»(2).

ص: 564


1- البحار: ج 60 ص 367.
2- البحار: ج 64 ص 26.

حقوق الحيوان

عن الحسين بن أبي غندر عن أبيه عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان رجل شيخ ناسك يعبد اللّه في بني إسرائيل، فبينا هو يصلّي وهو في عبادته إذ بصر بغلامين صبيين قد أخذا ديكاً وهما ينتفان ريشه، فأقبل على ما فيه من العبادة ولم ينههما عن ذلك، فأوحى اللّه إلى الأرض: أن تسخي بعبدي، فساخت به الأرض، فهو يهوي في الدرّ دون أبد الآبدين ودهر الداهرين».

بيان: الدرّ دون لم أجده في كتب اللغة، وكأنّه اسم طبقة من طبقات الأرض أو طبقات جهنّم ويدلّ على عدم جواز الإضرار بالحيوانات بغير مصلحة، ووجوب نهي الصبيان عن مثله، وفيه مبالغة عظيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1).

دعاء النملة

وروى الدارقطنيّ والحاكم عن أبي هريرة أنّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «لا تقتلوا النملة، فإنّ سلیمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) خرج ذات يوم يستسقي فإذا هو بنملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها تقول: «اللّهمّ إنّا خلق من خلقك لا غنى لنا عن فضلك، اللّهمّ لا تؤاخذنا بذنوب عبادك الخاطئين واسقنا مطراً تنبت لنا به شجراً وتطعمنا به ثمراً» فقال سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) لقومه : ارجعوا فقد كفينا وسقيتم بغيركم».

نبي اللّه سليمان والقبّرة

عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «قال علي بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : القنزعة التي هي على رأس القبّرة من مسحة سليمان بن داود (عَلَيهما السَّلَامُ)، وذلك أنّ الذكر أراد أن يسفد أُنثاه، فامتنعت عليه، فقال لها: لا تمتنعي ما أريد إلّا أن

ص: 565


1- البحار: ج 64 ص 223.

يخرج اللّه (عزّوجلّ) منّي نسمة يذكر ربّه، فأجابته إلى ما طلب فلمّا أرادت أن تبيض قال لها : أين تريدين أن تبيضين ؟ فقالت له: لا أدري أُنحّيه عن الطريق، فقال لها: إنّي خائف أن يمرّ بك مارّ الطريق، ولكنّي أرى لك أن تبيضي قرب الطريق، فمن رآك قربه توهم أنّك تعرضين للقط الحبّ من الطريق، فأجابته إلى ذلك، وباضت وحضنت حتّى أشرفت على النقاب فبينما هما كذلك إذ طلع سليمان بن داود (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في جنوده والطير تظلّه، فقالت له: هذا سليمان قد طلع علينا في جنوده، ولا آمن أن يحطمنا ويحطم بيضنا، فقال لها: إنّ سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) لرجل رحيم بنا، فهل عندك شيء هيأته لفراخك إذا نقبن؟ قالت: نعم عندي جرادة خبّأتها منك، أنتظر بها فراخي إذا نقبن، فهل عندك أنت شيء؟ قال: نعم عندي تمرة خبّأتها منك لفراخنا، فقالت: خذ أنت تمرتك وآخذ أنا جرادتي ونعرض لسليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) فنهديها له فانّه رجل يحبّ الهديّة، فأخذ التمرة في منقاره، وأخذت هي الجرادة في رجليها، ثمّ تعرّضا لسليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا رآهما وهو على عرشه بسط يديه لهما، فأقبلا، فوقع الذكر على اليمنى ووقعت الأُنثى على اليسرى، فسألهما عن حالهما، فأخبراه فقبل هدّيتهما وجنّب جنوده عن بيضهما، فمسح على رأسهما ودعا لهما بالبركة، فحدثت القنزعة على رأسهما من مسحة سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ)»(1).

الاستهزاء بخلق اللّه

وحكى القزويني أنّ رجلا رأى خنفساء فقال: ما يريد اللّه من خلق هذه؟ أحسن شكلها أو طيب ريحها ؟ فابتلاه اللّه بقرحة عجز عنها الأطبّاء حتّى ترك علاجها، فسمع يوماً صوت طبيب من الطرقيّين وهو ينادي في الدرب فقال: هاتوه حتّى ينظر في أمري، فقالوا: ما تصنع بطريقي، وقد عجز عنك حذّاق الأطباء؟ فقال: لابدّ لي منه، فلمّا أحضروه ورأى القرحة إستدعى بخنفساء، فضحك الحاضرون، فتذكّر العليل القول

ص: 566


1- البحار: ج 64 ص 300.

الذي سبق منه، فقال : احضر واله ما طلب فانّ الرجل على بصيرة، فأحرقها وذرّ رمادها على قرحته، فبريء بإذن اللّه تعالى، فقال للحاضرين: إنّ اللّه تعالى أراد أن يعرفني أخس المخلوقات أعزّ الأدوية (1).

تقسيم الأرزاق

قال الدميري: الثعلب معروف، والأُنثى ثعلبة، والجمع ثعالب وأثعل، وروي عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «شرّ السّباع هذه الأثعل» يعني الثعالب.

ومن حيلته في طلب الرزق أنّه يتماوت وينفخ بطنه ويرفع قوائمه حتّى يظنّ أنه مات، فإذا قرب منه حيوان وثب عليه وصاده، وحيلته هذه لا تتم في كلب الصيد، وقيل للثعلب: ما لك تعدو أكثر من الكلب ؟ فقال : أعدو لنفسي والكلب يعدو لغيره.

قال الجاحظ: ومن العجب في قسمة الأرزاق أنّ الذئب يصيد الثعلب فيأكله، والثعلب يصيد القنفذ ويأكله، والقنفذ يصيد الأفعي ويأكلها، والأفعي تصيد الصغور وتأكله، والصغور يصيد الجراد ويأكله، والجراد يلتمس فراخ الزنابير ويأكلها، والزنبور يصيد النحلة والنحلة يصيد الذبابة ويأكلها والذبابة تصيد البعوضة وتأكلها، والعنكبوت يصيد الذبابة ويأكلها، والذئب يطلب أولاد الثعلب، فإذا ولد وضع أوراق العنصل على باب وجاره ليهرب الذئب منها (2).

ابرهة وهدم الكعبة

ولمّا كان في أوّل المحرّم سنة أثنين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين، وكان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حملا في بطن أُمّه حضر ابرهة ملك الحبشة يريد هدم الكعبة، ومعه جيش

ص: 567


1- البحار: ج 64 ص 313.
2- البحار: ج 65 ص 76.

عظيم، ومعه فِيْلَه محمود، وكان قوياً عظيماً، وإثنا عشر فيلا غيره، وقيل: ثمانية، وساق الحديث كما مرّ في كتاب أحوال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى أن قال: ثمّ قام عبدالمطّلب فأخذ بحلقة

باب الكعبة ودعا اللّه تعالى، ثمّ قال:

لا همّ إنّ المرء يمنع رحله فامنع حلالك

وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك

لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك

ثمّ أرسل حلقة الباب وإنطلق هو ومن معه من قريش إلى الجبال، وابرهة متهيّاً لدخولها وهدمها، وقدّم فيله محموداً أمام جيشه، فلمّا وجّه الفيل إلى مكّة أقبل نفيل بن حبيب فأخذ بإذن الفيل وقال : ابرك محموداً وارجع راشداً فانك في بلد اللّه الحرام، ثمّ أرسل أذنه، فبرك الفيل وضربوه بالحديد حتّى أدموه ليقوم، فأبى، فوجهوه إلى اليمن، فقام يهرول، فوجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، فعند ذلك أرسل اللّه عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فتساقطوا بكلّ طريق وهلكوا على كلّ منهل، وأصيب ابرهة حتّى تساقط أنملة أنملة، حتّى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر حتّى انصدع صدره عن قلبه وإنفلت وزيره وطائر يحلق فوقه، حتّى بلغ النجاشي فقص عليه القصّة، فلمّا إنتهى وقع عليه الحجر فخر ميتاً بإذن اللّه بين يديه (1).

شوب اللبن بالماء

وروى البيهقي أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «لا تشوبوا اللبن بالماء، فانّ رجلا كان فيمن كان قبلكم يبيع اللبن ويشوبه بالماء، فاشترى قرداً وركب البحر، حتّى إذا لحج فيه ألهم اللّه تعالى القرد صرّة الدنانير فأخذها وصعد الدقل، ففتح الصرّة وصاحبها ينظر إليه، فأخذ ديناراً ورمى به في البحر وديناراً في السفينة حتّى قسّمها نصفين، فألقى ثمن الماء في

ص: 568


1- البحار: ج 65 ص 232.

البحر، وثمن اللبن في السفينة» (1).

عنقاء المغرب

قال القزويني: إنّها أعظم الطير جنّة وأكبرها خلقة تختطف الفيل كما تختطف الحدأة الفأرة، وكانت في قديم الزّمان بين الناس فتأذّوا منها إلى أن سلب يوماً عروساً بحليها، فدعا عليها حنظلة النبي، فذهب اللّه بها إلى بعض جزائر البحر المحيط وراء خط الاستواء وهي جزيرة لا يصل إليه الناس، وفيها حيوان كثير كالفيل والكركدن والجاموس والببر والسباع وجوارح الطير، وعند طيران عنقاء مغرب يسمع لأجنحتها دويّ كدويّ الرعد العاصف والسيل، وتعيش ألفي سنة وتتزاوج إذا مضى لها خمسمائة سنة، فإذا كان وقت بيضها ظهر بها ألم شديد ثمّ أطال في وصفها.

وذكر أرسطاطاليس في النعوت أنّ العنقاء قد تصاد فيصنع من مخاليبها أقداح عظام للشرب، قال: وكيفية صيدها أنّهم يوقفون،ثورين، ويجعلون بينهما عجلة، ويثقلونها بالحجارة العظام ويتخذون بين يدي العجلة بيتاً يختبأ فيه رجل معه،نار فتنزل العنقاء على الثورين لتخطفهما، فإذا نشبت أظفارها في الثورين أو أحدهما لم تقدر على اقتلاعهما لما عليهما من الحجارة الثقيلة ولم تقدر على الاستقلال لتخلص بمخاليبها، فيخرج الرجل بالنار فيحرق أجنحتها، قال: والعنقاء لها بطن كبطن الثور وعظام كعظام السبع، وهي من أعظم سباع الطير (2).

كلام اللّه مع خلقه

عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : أتاه ابن الكوّا فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني

ص: 569


1- البحار: ج 65 ص 239.
2- البحار: ج 65 ص.

عن اللّه تبارك وتعالى، هل كلّم أحداً من ولد آدم قبل موسى؟ فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ): «قد كلّم اللّه جميع خلقه برهم وفاجرهم، وردّوا عليه الجواب»، فثقل ذلك على ابن الكوّا ولم يعرفه، فقال له كيف كان ذلك يا أمير المؤمنين؟

فقال له: «أو ما تقرأ كتاب اللّه إذ يقول لنبيّك: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى»(1) فأسمعهم كلامه وردوا عليه الجواب، كما تسمع في قول اللّه يابن الكوّا «قالوا: بلى» فقال: إنّي أنا اللّه لا إله إلا أنا وأنا الرحمان، فأقروا له بالطاعة والربوبية، وميّز الرسل والأنبياء والأوصياء، وأمر الخلق بطاعتهم، فأقروا بذلك في الميثاق، فقالت الملائكة: شهدنا عليكم يابني آدم أن تقولوايوم القيامة : إنّا كنّا عن هذا غافلين (2).

الفقير الغنيّ

عن أبي الحسن الثالث، عن آبائه عن موسى بن جعفر (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، قال : إن رجلا جاء إلى سيّدنا الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) فشكى إليه الفقر، فقال: «ليس الأمر كما ذكرت، وما أعرفك فقيراً»، قال : واللّه ياسيّدي ما استنبت، وذكر من الفقر،قطعة، والصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) يكذّبه، إلى أن قال: «خبّرني لو أعطيت بالبراءة منّا مائة دينار كنت تأخذ»؟ قال: لا، إلى أن ذكر أُلوف دنانير، والرجل يحلف أنه لا يفعل، فقال له: «من معه سلعة يعطى هذا المال لا يبيعها، هو فقير» ؟ (3).

حسن العاقبة

روي عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يسير في بعض مسيره، فقال

ص: 570


1- الأعراف: 171.
2- البحار: ج 67 ص 101.
3- البحار: ج 67 ص 147.

لأصحابه: يطلع عليكم من بعض هذه الفجاج شخص ليس له عهد بإبليس منذ ثلاثة أيّام فما لبثوا أن أقبل أعرابي قد يبس جلده على عظمه وغارت عيناه في رأسه، واخضرت شفتاه من أكل البقل، فسأل عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في أوّل الرفاق حتّى لقيه، فقال له: اعرض عليّ الإسلام فقال :قل أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّي محمّد رسول اللّه، قال: أقررت قال: تصلّي الخمس، وتصوم شهر رمضان، قال: أقررت قال: تحج البيت الحرام، وتؤدّي الزكاة وتغتسل من الجنابة قال: أقررت فتخلّف بعير الأعرابيّ، ووقف النبي فسأل عنه، فرجع الناس في طلبه فوجوده في آخر العسكر قد سقط خفّ بعيره في حفرة من حفر الجرذان فسقط فاندقّت عنق الأعرابيّ وعنق البعير، وهما ميتان، فأمر النبي فضربت خيمة فغسل فيه، ثم دخل النبي فكفّنه، فسمعوا للنبي حركة فخرج وجبينه يترشّح عرقاً وقال: إنّ هذا الأعرابيّ مات وهو جائع، وهو تمن آمن ولم يلبس إيمانه بظلم، فابتدره الحور العين بثمار الجنّة يحشون بها شدقه هذه تقول : يارسول اللّه اجعلني في أزواجه، وهذه تقول: يارسول اللّه اجعلني في أزواجه»(1).

أدخله في الإسلام وأخرجه منه

إنّ رجلا كان له جار، وكان نصرانياً، فدعاه إلى الإسلام وزيّنه له فأجابه، فأتاه سحيراً فقرع عليه الباب فقال له: من هذا؟ قال: أنا فلان، قال: وما حاجتك؟ قال: توضأ والبس ثوبيك ومرّ بنا إلى الصلاة، قال: فتوضأ ولبس ثوبيه وخرج معه، قال: فصليا ما شاء اللّه، ثمّ صلّيا الفجر، ثمّ مكثا حتّى أصبحا، فقام الّذي كان نصرانيّاً يريد منزله، قال: فقال له الرجل: أين تذهب؟ النهار،قصير، والذي بينك وبين الظهر قليل قال: فجلست معه إلى صلاة الظهر ثم قال: وما بين الظهر والعصر قليل، فاحتبسه حتّى صلى العصر، قال : ثمّ قام وأراد أن ينصرف إلى منزله، فقال له: إنّ هذا آخر النهار، وأقل

ص: 571


1- البحار: ج 68 ص 282.

من أوّله فاحتبسه حتّى صلّى المغرب، ثمّ أراد أن ينصرف إلى منزله، فقال له: إنّما بقيت صلاة واحدة، قال: فمكث حتّى صلى العشاء الآخرة، ثمّ تفرّقا. فلمّا كان سحيراً غدا،عليه فضرب عليه الباب فقال: من هذا؟ فقال: أنا،فلان قال : وما حاجتك؟ قال: توضأ والبس ثوبيك واخرج بنا فصل، قال: اطلب لهذا الدين من هو أفرغ منّي وأنا إنسان مسكين وعلي عيال، فقال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أدخله في شيء أخرجه منه»، أو قال: «أدخله في مثل ذه وأخرجه من مثل هذا»(1).

صفات أولياء اللّه

عن عمرو بن شمر قال: جاء العلا بن شريك برجل من جعفي، قال: خرجت مع جابر لمّا طلبه هشام حتّى انتهى إلى السواد، قال: فبينا نحن قعود وراعي قريب مّنا إذ ثغت نعجة من شاته إلى حمل، فضحك جابر، فقلت له ما يضحكك يا أبا محمّد ؟ قال : إنّ هذه النعجة دعت حملها فلم يحيىء، فقالت له: تنحّ عن ذلك الموضع فانّ الذئب عام أوّل أخذ أخاك منه، فقلت: لأعلمنّ حقيّة هذا أو كذبه، فجئت إلى الراعي فقلت: ياراعي تبيعني هذا الحمل؟ قال: فقال: لا، فقلت: ولم؟ قال: لأنّ أُمّه أفره شاة في الغنم وأغزرها درّة، وكان الذئب أخذ حملا لها منذ عام الأوّل من ذلك الموضع فما رجع لبنها حتّى وضعت هذا فدرّت، فقلت: صدق، ثمّ أقبلت، فلمّا صرت على جسر الكوفة نظر إلى رجل معه خاتم ياقوت فقال له: يافلان خاتمك هذا البرّاق أرنيه، قال: فخلعه فأعطاه، فلمّا صار في يده رمى به في الفرات قال الآخر ما صنعت؟ قال: تحبّ أن تأخذه؟ قال: نعم، قال: فقال بيده إلى الماء، فأقبل الماء يعلو بعضه على بعض حتّى إذا قرب تناوله وأخذه (2).

ص: 572


1- البحار: ج 69 ص 162.
2- البحار: ج 69 ص 271.

الدعاء المستجابة

قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ إبراهيم خرج مرتاداً لغنمه وبقره مكاناً للشتاء فسمع شهادة أن لا إله إلّا اللّه، فتبع الصوت حتّى أتاه فقال: ياعبداللّه من أنت؟ أنا في هذه البلاد مذ ما شاء اللّه ما رأيت أحداً يوحد اللّه غيرك قال : أنا رجل كنت في سفينة غرقت فنجوت على لوح فأنا ههنا في جزيرة قال فمن أي شيء معاشك؟ قال: أجمع هذه الثمار في الصيف للشتاء، قال: انطلق حتّى تريني مكانك، قال: لا تستطيع ذلك، لأنّ بيني وبينها ماء بحر، قال: فكيف تصنع أنت؟ قال: أمشي عليه حتّى أبلغ، قال: أرجو الّذي أعانك أن يعينني، قال: فانطلق.

فأخذ الرجل يمشي وإبراهيم يتبعه، فلمّا بلغا الماء أخذ الرجل ينظر إلى إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) ساعة بعد ساعة يتعجب منه حتّى عبرا، فأتى بها كهفاً، قال: ههنا مكاني، قال: فلو دعوت اللّه وأمنت أنا، قال: أما إنّي أستحيي من ربّي، ولكن ادع أنت وأُؤمن أنا، قال: وما حياؤك؟ قال : أتيت الموضع الّذي رأيتني فيه فرأيت غلاماً أجمل الناس، كأن خديه صفحتا ذهب ذوّابة مع غنم وبقر كان عليها الدهن، فقلت له: أنت؟ قال: أنا من إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، فسألت اللّه أن يريني إبراهيم منذ ثلاثة أشهر، وقد أبطأ ذلك عليّ، قال: فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : فأنا إبراهيم، فاعتنقا».

قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : هما أوّل اثنين اعتنقا على وجه الأرض» (1).

العبد الّذي يصبر على بلاء اللّه

روى شعيب الأنصاري وهارون بن خارجة قالا: قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ موسى صلوات اللّه عليه انطلق ينظر في أعمال العباد فأتى رجلا من أعبد الناس، فلمّا أمسى

ص: 573


1- البحار: ج 69 ص 287.

حرّك الرجل شجرة إلى جنبه فإذا فيها،رمانتان قال: فقال : ياعبد اللّه من أنت ؟ إنّك عبد صالح، أنا ههنا منذ ما شاء اللّه ما أجد في هذه الشجرة إلّا رمانة واحدة، ولولا أنك عبد صالح ما وجدت رمانتين، قال: أنا رجل أسكن أرض موسى بن عمران قال: فلمّا أصبح قال : تعلم أحداً أعبد منك؟ قال: نعم، فلان الفلاني».

قال: «فانطلق إليه فإذا هو أعبد منه كثيراً، فلمّا أمسى أُوتي برغيفين وماء، فقال: يا عبد اللّه من من أنت، إنّك عبد صالح، أنا ههنا منذ ما شاء اللّه وما أُوتي إلّا برغيف واحد، ولو لا أّنك عبد صالح ما أُوتيت برغيفين، فمن أنت؟ قال: أنا رجل أسكن أرض موسى بنعمران، ثمّ قال موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : هل تعلم أحداً أعبد منك؟ قال: نعم، فلان الحدّاد في مدينة كذا وكذا، قال : فأتاه فنظر إلى رجل ليس بصاحب عبادة، بل إنّما هو ذاكر اللّه تعالى، وإذا دخل وقت الصلاة قام فصلّى، فلمّا أمسى نظر إلى غلّته فوجدها قد أُضعفت، قال: ياعبد اللّه من أنت، إنّك عبد صالح، أنا ههنا منذ ما شاء اللّه غلتي قريب بعضها من،بعض والليلة قد أُضعفت فمن أنت؟ قال: أنا رجل أسكن أرض موسى بن عمران قال: فأخذ ثلث غلّته فتصدق بها، وثلثاً أعطى مولى له، وثلثاً اشترى به طعاماً، فأكل هو وموسى».

قال: «فتبسّم موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال : من أي شيء تبسّمت؟ قال: دلّني نبيّ بني إسرائيل على فلان فوجدته من أعبد الخلق، فدلّني على فلان فوجدته أعبد منه، فدلّني فلان عليك وزعم أنك أعبد منه، ولست أراك شبه القوم، قال: أنا رجل مملوك، أليس تراني ذاكراً لله، أو ليس تراني أُصلّي الصلاة لوقتها، وإذا أقبلت على الصلاة أضررت بغلّة مولاي، وأضررت بعمل الناس أتريد أن تأتي بلادك؟ قال: نعم، قال: فمرت به سحابة، فقال :الحداد ياسحابة تعالي ! قال: فجاءت قال: أين تريدين؟ قالت : أُريد أرض كذا وكذا، قال انصرفي ثمّ مرّت به أُخرى، فقال : ياسحابة تعالي فجاءته، فقال: أين تريدين؟

ص: 574

قالت: أُريد أرض كذا وكذا قال انصرفي، ثمّ مرّت به أُخرى فقال: ياسحابة تعالي! فجاءته، فقال: أين تريدين؟ قالت: أُريد أرض موسى بن عمران، قال: فقال: احملي هذا حمل رفيق، وضعيه في أرض موسى بن عمران وضعاً رفيقاً».

قال: «فلمّا بلغ موسى بلاده قال: يارب بما بلغت هذا ما أرى؟ قال: إنّ عبدي هذا يصبر على بلائي، ويرضى بقضائي، ويشكر نعمائي»(1).

إباحة المدينة المنوّرة

ابن الزبير هو عبد اللّه، وكان أعدى عدوّ أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وهو صار سبباً لعدول الزبير عن ناحية أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، حيث قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لا زال الزبير معنا حتّى أدرك فرخه»، والمشهور أنّه بويع له بالخلافة بعد شهادة الحسين صلوات اللّه عليه لسبع بقين من رجب سنة أربع وستين في أيّام يزيد، وقيل : لما استشهد الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في سنة ستّين من الهجرة دعا ابن الزبير بمكّة إلى نفسه، وعاب يزيد بالفسوق والمعاصي وشرب الخمور، فبايعه أهل تهامة والحجاز، فلمّا بلغ يزيد ذلك ندب له الحصين بن نمير وروح بن زنباع، وضمّ إلى كلّ واحد جيشاً، واستعمل على الجميع مسلم بن عقبة وجعله أمير الأُمراء، ولمّا ودّعهم قال: يا مسلم لا تردّ أهل الشام عن شيء يريدونه لعدوّهم، واجعل طريقك على المدينة فان حاربوك فحاربهم، فإن ظفرت بهم فأبحهم ثلاثاً.

فسار مسلم حتّى نزل الحرّة، فخرج أهل المدينة فعسكروا بها، وأميرهم عبداللّه بن حنظلة الراهب غسيل الملائكة، فدعاهم مسلم ثلاثاً فلم يجيبوا، فقاتلهم فغلب أهل الشام، وقتل عبداللّه وسبعمائة من المهاجرين والأنصار، ودخل مسلم المدينة وأباحها ثلاثة أيّام، ثمّ شخص بالجيش إلى مكّة، وكتب إلى يزيد بما صنع بالمدينة، ومات مسلم

ص: 575


1- البحار: ج 69 ص 323.

لعنه اللّه في الطريق، فتولّى أمر الجيش الحصين بن نمير حتّى وافى مكّة، فتحصن منه ابن الزبير في المسجد الحرام في جميع من كان معه، ونصب الحصين المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة فبينا كذلك إذ ورد في الخبر على الحصين بموت يزيد لعنة اللّه عليهما، فأرسل إلى ابن الزبير يسأله الموادعة، فأجابه إلى ذلك، وفتح الأبواب واختلط العسكران يطوفون بالبيت.

فبينما الحصين يطوف ليلة بعد العشاء إذ استقبله ابن الزبير، فأخذ الحصين بيده وقال له سراً: هل لك في الخروج معي إلى الشام فأدعو الناس إلى بيعتك؟ فانّ أمرهم قد مرج، ولا أدري أحداً أحق بها اليوم منك، ولست أُعصى هناك، فاجتذب ابن الزبير يده من يده، وهو يجهر: دون أن أُقتل بكلّ واحد من أهل الحجاز عشرة من الشام، فقال الحصين: لقد كذب الّذي زعم أنك من دهاة العرب، أُكلمّك سرّاً وتكلّمني علانية، وأدعوك إلى الخلافة وتدعوني إلى الحرب، ثم انصرف بمن معه إلى الشام.

وقالوا: بايعه أهل العراق وأهل مصر وبعض أهل الشام إلى أن بايعوا لمروان بعد حروب، واستمرّ له العراق إلى سنة إحدى وسبعين، وهي التي قتل فيها عبدالملك بن مروان أخاه مصعب بن الزبير وهدم قصر الإمارة بالكوفة.

ولمّا قتل مصعب انهزم أصحابه فاستدعى بهم عبد الملك، فبايعوه وسار إلى الكوفة ودخلها واستقرّ له الأمر بالعراق والشام ومصر، ثمّ جهّز الحجّاج في سنة ثلاث وسبعين إلى عبد اللّه بن الزبير فحصره بمكّة ورمى البيت بالمنجنيق، ثمّ ظفر به وقتله، واحتزّ الحجّاج رأسه، وصلبه منكّساً، ثمّ أنزله ودفنه في مقابر اليهود، وكانت خلافته بالحجاز والعراق تسع سنين واثنين وعشرين يوماً، وله من العمر ثلاث وسبعون سنة، وقيل : إثنان وسبعون سنة، وكانت أُمّه أسماء بنت أبي بكر(1).

ص: 576


1- البحار: ج 71 ص 123.

بالتوكّل على اللّه تُقضى الحوائج ويقرّب النصر

عن أبي المفضّل، عن عبد اللّه بن محمّد بن عبيد بن ياسين، عن أبيه عن جدّه ياسين بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عجلان :قال أصابتني فاقة شديدة وإضاقة ولا صديق لمضيق، ولزمني دين ثقيل، وغريم يلح بإقتضائه، فتوجّهت نحو دار الحسن بن زيد، وهو يومئذ أمير المدينة، لمعرفة كانت بيني وبينه، وشعر بذلك من حالي محمّد بن عبداللّهبن علي بن الحسين وكانت بيني وبينه قديم معرفة.

فلقيني في الطريق فأخذ بيدي وقال لي: قد بلغني ما أنت بسبيله، فمن تؤمّل لكشف ما نزل بك ؟ قلت الحسن بن زيد فقال : إذاً لا تقضى حاجتك، ولا تسعف بطلبتك، فعليك بمن يقدر على ذلك، وهو أجود الأجودين، فالتمس ما تؤمله من قبله، فانّي سمعت ابن عمّي جعفر بن محمّد يحدّث، عن أبيه، عن جده، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال: «أوحى اللّه (عزّوجلّ) إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه إليه: وعزّتي وجلالي لأقطعن أمل كلّ مؤمل غيري بالإياس، ولأُكسونّه ثوب المذلّة في النار، ولأبُعدنّه من فرجي وفضلي، أيؤمّل عبدي في الشدائد غيري والشدائد بيدي، أو يرجو سواي وأنا الغنيّ الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني ألم يعلم أنه ما أو هنته نائبة لم يملك كشفها عنه غيري، فما لي أراه بأمله معرضاً عنّي، قد أعطيته بجودي وكرمي ما لم يسألني فأعرض عنّي ولم يسألني، وسأل في نائبته غيري، وأنا اللّه أبتدي بالعطيّة قبل المسألة، أفأسأل فلا أُجيب؟ كلاً أو ليس الجود والكرم لي ؟ أو ليس الدنيا والآخرة بيدي؟ فلو أنّ أهل سبع سموات وأرضين سألوني جميعاً فأعطيت كلّ واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي مثل جناح بعوضة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه، فيابؤساً لمن عصاني ولم يراقبني.

فقلت له: يابن رسول اللّه أعد عليّ هذا الحديث، فأعاده ثلاثاً، فقلت: لا واللّه لا

ص: 577

سألت أحداً بعد هذا حاجة، فما لبثت أن جاءني اللّه برزق وفضل من عنده.

وبعث اللّه نبياً إلى قوم [ وأمره أن يقاتلهم] فشكى إلى اللّه الضعف، فأوحى اللّه (عزّوجلّ) أنّ النصر يأتيك بعد خمسة عشرة سنة، فقال لأصحابه : «إنّ اللّه (عزّوجلّ) أمرني بقتال بني فلان فشكوت إليه الضعف»، فقالوا: لا حول ولا قوّة إلّا باللّه، فقال لهم: «إنّ اللّه قد أوحى إلىّ أنّ النصر يأتيني بعد خمسة عشرة سنة»، فقالوا: ما شاء اللّه لا قوّة إلّا باللّه، قال: «فأتاهم اللّه بالنصر في سنتهم تلك، لتفويضهم إلى اللّه، وقولهم : ما شاء اللّه لا حول ولا قوّة إلّا باللّه» (1).

رضا الناس غاية لا تدرك

روي أنّ لقمان الحكيم قال لولده في وصيّته : لا تعلّق قلبك برضى الناس ومدحهم وذمّهم، فان ذلك لا يحصل، ولو بالغ الإنسان في تحصيله بغاية،قدرته، فقال ولده ما معناه أحبّ أن أرى لذلك مثالا أو فعالا أو مقالا، فقال له: أخرج أنا وأنت، فخرجا ومعهما،بهيم، فركبه لقمان وترك ولده يمشي وراءه.

فاجتازوا على قوم فقالوا: هذا شيخ قاسي القلب قليل الرحمة، يركب هو الدابة وهو أقوى من هذا الصبي، ويترك هذا الصبي يمشي وراءه، وإنّ هذا بئس التدبير، فقال لولده: سمعت قولهم وإنكارهم لركوبي ومشيك ؟ فقال: نعم، فقال: اركب أنت ياولدي حتّى أمشي أنا، فركب ولده ومشى لقمان.

فاجتازوا على جماعة أخرى فقالوا هذا بئس الوالد وهذا بئس الولد. أما أبوه فإنّه ما أدب هذا الصبي حتّى يركب الدابة ويترك والده يمشي وراءه، والوالد أحق بالاحترام والركوب، وأما الولد فلأنّه عق والده بهذه الحال، فكلاهما أساءا في الفعال،

ص: 578


1- البحار: ج 71 ص 154.

فقال لقمان لولده سمعت؟ فقال: نعم، فقال: نركب معاً الدابة فركبا معاً.

فاجتازوا على جماعة فقالوا: ما في قلب هذين الراكبين رحمة، ولا عندهم من اللّه خبر، يركبان معاً الدّابة يقطعان،ظهرها، ويحملانها ما لا تطيق، لو كان قد ركب واحد و مشى واحد كان أصلح وأجود، فقال : سمعت؟ فقال: نعم، فقال: هات حتّى نترك الدابّة تمشي خالية من ركوبنا فساقا الدّابة بين أيديهما وهما يمشيان فاجتازوا على جماعة فقالوا: هذا عجيب من هذين الشخصين! يتركان دابّة فارغة بغير راكب ويمشيان، وذمّوهما على ذلك كما ذمّوهما على كلّ ما كان، فقال لولده: ترى في تحصيل رضاهم حيلة لمحتال، فلا تلتفت إليهم واشتغل برضا اللّه جل جلاله، ففيه شغل شاغل وسعادة وإقبال في الدنيا ويوم الحساب والسؤال (1).

حسن الخُلُق والسخاء

عن زيد بن علي، عن علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في خبر طويل قال: «ثلاثة نفر آلوا باللّات والعزّى ليقتلوا محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فذهب أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحده إليهم وقتل واحداً منهم وجاء بالآخرين، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : قدّم إلى أحد الرجلين، فقدّمه فقال: قل: لا إله إلّا اللّه واشهد أني رسول اللّه، فقال: لنقل جبل أبي قبيس أحبّ إليّ من أن أقول هذه الكلمة، قال: ياعلي أخّره واضرب عنقه، ثمّ قال: قدّم الآخر، فقال: قل: لا إله إلّا اللّه واشهد أنّي رسول اللّه قال: الحقني بصاحبي قال: ياعلي أخره واضرب عنقه، فأخّره وقام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)ليضرب عنقه، فنزل جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال: يا محمّد إنّ ربك يقرئك السلام ويقول: لا تقتله، فانّه حسن الخُلُق، سخيّ في قومه، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): ياعلي أمسك، فإنّ هذا رسول ربي (عزّوجلّ) يخبرني أنه حسن الخُلُق سخيّ في قومه، فقال المشرك تحت السيف: هذا رسول ربّك يخبرك ؟ قال: نعم، قال: واللّه ما ملكت درهماً مع أخ لي

ص: 579


1- البحار: ج 71 ص 361.

قطّ ولا قطبت وجهي في الحرب، فأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول اللّه، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : هذا ممن جرّه حسن خُلُقه وسخاؤه إلى جنّات النعيم»(1).

الأفعال الخمسة المنجية

عن أحمد بن علي الأنصاري، عن أبيه عن الهروي قال: سمعت الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «أوحى اللّه (عزّوجلّ) إلى نبي من أنبيائه إذا أصبحت فأوّل شيء يستقبلك فكله، والثاني فاكتمه، والثالث فاقبله والرابع فلا تؤيسه والخامس فاهرب منه، قال: فلمّا أصبح مضى، فاستقبله جبل أسود عظيم فوقف وقال : أمرني ربي (عزّوجلّ) أن آكل هذا، وبقي متحيّراً، ثمّ رجع إلى نفسه فقال: إنّ ربّي جلّ جلاله لا يأمرني إلّا بما أُطيق، فمشى إليه ليأكله، فلمّا دنا منه صغر حتّى انتهى إليه فوجده لقمة فأكلها فوجدها أطيب شيء أكله.

ثمّ مضى فوجد طشتاً من ذهب، فقال: أمرني ربي (عزّوجلّ) أن أكتم هذا، فحفر له وجعله فيه وألقى عليه التراب ثم مضى فالتفت فإذا الطشت قد ظهر، فقال: قد فعلت ما أمرني ربي (عزّوجلّ).

فمضى فإذا هو بطير وخلفه بازي فطاف الطير حوله، فقال: أمرني ربي (عزّوجلّ) أن أقبل هذا، ففتح كمّه فدخل الطير فيه، فقال له البازيّ: أخذت منّي صيدي وأنا خلفه منذ أيّام، فقال: أمرني ربي (عزّوجلّ) أن لا أُويس هذا، فقطع من فخذه قطعة فألقى إليه ثمّ مضى، فلمّا مضى فإذا هو بلحم ميتة منتن مدوّد، فقال: أمرني ربي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن أهرب من هذا، فهرب منه.

فرجع فرأى في المنام كأنّه قد قيل له: إنّك قد فعلت ما أُمرت به، فهل تدري ماذا كان؟ قال: لا، قيل له: أمّا الجبل فهو الغضب، إنّ العبد إذا غضب لم ير نفسه، وجهل قدره من عظم الغضب، فإذا حفظ نفسه وعرف قدره وسكّن غضبه كانت عاقبته

ص: 580


1- البحار: ج 71 ص 390.

كاللقمة الطيّبة التي أكلتها، وأمّا الطشت فهو العمل الصالح إذا كتمه العبد وأخفاه أبى اللّه (عزّوجلّ) إلّا أن يظهره ليزيّنه،به مع ما يدّخر له من ثواب الآخرة، وأما الطير فهو الرجل الّذي يأتيك بنصيحة فاقبله واقبل نصيحته، وأمّا البازي فهو الرجل الّذي يأتيك في حاجة فلا تؤيسه، وأما اللحم المنتن فهي الغيبة فاهرب منها » (1).

هكذا تجتمع الذنوب

عن زياد قال: قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نزل بأرض قرعاء فقال لأصحابه : ائتونا بحطب فقالوا: يارسول اللّه نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب قال: فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه فجاؤوا به حتّى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : هكذا تجتمع الذنوب، ثمّ قال: إيَّاكم والمحقّرات من الذنوب، فانّ لكلّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين»(2).

حسن العاقبة

عن زكريّا بن إبراهيم قال كنت نصرانياً فأسلمت و حججت، فدخلت على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقلت: إنّي كنت على النصرانية وإنّي أسلمت، فقال: «وأيّ شيء رأيت في الإسلام»؟ قلت: قول اللّه (عزّوجلّ): «مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَبُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ»(3) فقال: «لقد هداك اللّه»، ثمّ قال: «اللّهمّ اهده ثلاثاً سل عمّا شئت يابنيّ»، فقلت: إنّ أبي وأمّى على النصرانية وأهل بيتي وأُمّي مكفوفة البصر فأكون معهم، وآكل في آنيتهم؟ فقال: «يأكلون لحم الخنزير» ؟ فقلت: لا، ولا يمسّونه، فقال: «لا

ص: 581


1- البحار: ج 71 ص 418.
2- البحار: ج 73 ص 346.
3- الشورى: 52.

بأس، فانظر أُمّك فبرها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك كن أنت الّذي تقوم بشأنها، ولا تخبرنّ أحداً أنك أتيتني حتّى تأتيني بمنى إن شاء اللّه»، قال: فأتيته بمنى والناس حوله كأنّه معلّم،صبيان، هذا يسأله وهذا يسأله.

فلما قدمت الكوفة ألطفت لأمّي، وكنت أُطعمها وأُفلّي ثوبها ورأسها وأخدمها، فقالت لي: يابنيّ ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني، فما الّذي أرى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفيّة؟ فقلت: رجل من ولد نبيّنا أمرني بهذا، فقالت: هذا الرجل هو نبيّ ؟ فقلت: لا ولكنّه ابن نبيّ فقالت: يابنيّ هذا نبيّ إنّ هذه وصايا الأنبياء، فقلت: يا أُمّة إنّه ليس يكون بعد نبيّنا نبيّ ولكنّه ابنه فقالت: يابنّي دينك خير دين، اعرضه عليّ، فعرضته عليها، فدخلت في الإسلام وعلّمتها، فصلّت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثمّ عرض لها عارض في الليل، فقالت: يابنيّ أعد عليّ ما علّمتني، فأعدته عليها، فأقرّت به وماتت.

فلمّا أصبحت كان المسلمون الّذين غسّلوها، وكنت أنا الّذي صلّيت عليها ونزلت في قبرها (1).

البقرة والبرّ بالوالدين

عن البزنطي قال : سمعت الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول : إنّ رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له، ثمّ أخذه فطرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل، ثمّ جاء يطلب بدمه، فقالوا لموسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إنّ سبط آل فلان قتلوا فلاناً، فأخبرنا من قتله؟ قال: ائتوني ببقرة «قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوا قَالَ أَعُوذُ باللّه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَهِلِينَ»(2) ولو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد اللّه عليهم.

ص: 582


1- البحار: ج 74 ص 53.
2- البقرة: 67 71.

«قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَين لَنَا مَا هِي قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بكرٌ» يعني لا صغيرة ولا كبيرة «عَوَانُ بَيْنَ ذَلِكَ». ولو أنّهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم ولكن شدّدوا فشدّد اللّه عليهم. «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاهُ فَافِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ الناظِرِينَ» ولو أنهم عمدوا إلى بقرة لأجزاءهم ولكن شدّدوا فشدّد اللّه عليهم. «قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللّه لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ، يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْخَرَثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْئانَ جِئْتَ بِالْحَقِّ». فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل، فقال: لا أبيعها إلا بملء مسكها ذهباً، فجاؤا إلى موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقالوا له ذلك، فقال: اشتروها، فاشتروها وجاؤا بها، فأمر بذبحها، ثمّ أمر أن يضربوا الميت بذنبها، فلمّا فعلوا ذلك حيى المقتول، وقال: يارسول اللّه إنّ ابن عمّي قتلني، دون من يدّعي عليه قتلي (فعلموا بذلك قاتله).

فقال لرسول اللّه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعض أصحابه: إنّ هذه البقرة لها نبأ، فقال: وما هو ؟ قال: إنّ فتى من بني إسرائيل كان باراً بأبيه، وإنّه اشترى تبيعاً فجاء إلى أبيه فرأى أنّ الأقاليد تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع، فاستيقظ أبوه فأخبره فقال: أحسنت، خذ هذه البقرة فهي لك عوضاً لما فاتك، قال: فقال رسول اللّه موسی (عَلَيهِ السَّلَامُ): أنظروا إلى البرّ ما بلغ بأهله»(1).

سخط الأُمّ ورضاها

عن سعيد بن يسار، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) «أنّ رسول اللّه حضر شابّاً عند وفاته فقال له: قل: لا إله إلّا اللّه، قال : فاعتقل لسانه مراراً، فقال لامرأة عند رأسه: هل لهذا أُمّ؟ قالت: نعم أنا أُمّه، قال: أفساخطة أنت عليه؟ قالت: نعم، ما كلّمته منذ ستّ حجج،

ص: 583


1- البحار: ج 74 ص 68.

قال لها : ارضي عنه قالت رضي اللّه عنه برضاك يارسول اللّه. فقال له رسول اللّه : قل: لا إله إلّا اللّه، قال: فقالها، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللّه : ما ترى؟ فقال: أرى رجلا أسود قبيح المنظر وسخ الثياب منتن الريح قد وليني الساعة فأخذ بكظمي، فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : قل: «يامن عليها اللّه يقبل اليسير ويعفو عن الكثير اقبل منّي اليسير واعف عنّي الكثير إنك أنت الغفور الرحيم: فقالها الشاب، فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) اللّه : انظر ما ترى؟ قال: أرى رجلا أبيض اللون، حسن الوجه، طيب الريح، حسن الثياب، قد وليني، وأرى الأسود قد تولّى عنّي، قال: أعد فأعاد، قال : ما ترى؟ قال: لست أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليني، ثمّ طفى على تلك الحال.

وأيضاً عن أبي جميلة، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «كان في بني إسرائيل عابد يقال له جريح، وكان يتعبّد في صومعة، فجاءته أُمّه وهو يصلّي فدعته فلم يجبها، فانصرفت، ثمّ أتته ودعته فلم يلتفت إليها، فانصرفت، ثمّ أتته ودعته فلم يجبها ولم يكلّمها، فانصرفت، وهي تقول: أسأل إله بني إسرائيل أن يخذلك، فلمّا كان من الغد جائت فاجرة وقعدت عند صومعته قد أخذها الطلق، فادعت أنّ الولد من جريح، ففشا في بني إسرائيل أنّ من كان يلوم الناس على الزنا قد زنى، وأمر الملك بصلبه، فأقبلت أُمّه إليه فلطمت وجهها، فقال لها: اسكتي إنّما هذا لدعوتك.

فقال الناس لمّا سمعوا ذلك منه وكيف لنا بذلك؟ قال هاتوا الصبيّ، فجاؤا به، فأخذه فقال: من أبوك ؟ فقال : فلان الراعي لبني فلان، فأكذب اللّه الّذين قالوا ما قالوا في جريح، فحلف جريح ألا يفارق أُمّه يخدمها»(1).

ص: 584


1- البحار: ج 74 ص 75.

خير من جهاد سنة

قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «جاء رجل إلى رسول اللّه فقال : يارسول اللّه إنّي راغب في الجهاد نشيط، قال: فجاهد في سبيل اللّه فإنّك إن تُقتَل كنت حيّاً عند اللّه ترزق، وإن مت وقع أجرك على اللّه، وإن رجعت خرجت من الذنوب كما ولدت فقال: يارسول اللّه إنّ لي والدين كبيرين يزعمان أنّهما يأنسان بي ويكرهان خروجي، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أقم مع والديك، فوالذي نفسي بيده لأُنسهما بك يوماً وليلة خير من جهاد سنة»(1).

أبرّ بأبيها

عن حماد بن حيان قال: أخبرني أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ببرّ ابنه إسماعيل له وقال: «لقد كنت أُحبّه وقد ازداد إلى حبّاً، إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أتته أُخت له من الرضاعة، فلمّا أن نظر إليها سرّ بها وبسط رداءه لها فأجلسها عليه، ثمّ أقبل يحدّثها ويضحك في وجهها، ثمّ قامت فذهبت، ثمّ جاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل: يارسول اللّه صنعت بأُخته ما لم تصنع به وهو رجل ؟ فقال : لأنّها كانت أبرّ بأبيها منه».

برّ الأُمّ

عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) «قال: جاء رجل إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : يارسول اللّه من أبرّ؟ قال: أُمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أُمّك، قال: ثم من؟ قال: [أُمّك، قال: ثمّ من؟ قال: ] أباك » (2).

حقوق الأُخوان

عن أبان بن تغلب قال: كنت أطوف مع أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فعرض لي رجل من

ص: 585


1- البحار: ج 71 ص 66.
2- البحار: ج 74 ص 81.

أصحابنا كان يسألني الذهاب معه في حاجة، فأشار إليّ فكرهت أن أدع أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأذهب إليه، فبينا أنا أطوف إذا أشار إلي أيضاً، فرآه أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال: «يا أبان إيّاك يريد هذا» ؟ قلت: نعم، قال: «فمن هو» ؟ قلت: رجل من أصحابنا، قال: «هو على مثل ما أنت عليه»؟ قلت نعم قال : «فاذهب إليه»، قلت: فأقطع الطواف؟ قال: «نعم»، قلت وإن كان طواف الفريضة، قال: «نعم»، قال: فذهبت معه.

ثم دخلت عليه بعد فسألته فقلت: أخبرني عن حق المؤمن على المؤمن؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا أبان)دعه لا تردّه» قلت: بلى جعلت فداك، قال: «يا أبان لا تردّه»، قلت: بلی جعلت فداك، فلم أزل أُردّد عليه، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «یا أبان تقاسمه شطر مالك»، ثمّ نظر إليّ فرأى ما دخلني فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا أبان أما تعلم أنّ اللّه (عزّوجلّ) قد ذكر المؤثرين على أنفسهم»؟ قلت: بلى جعلت فداك، فقال: «أما إذا أنت قاسمته فلم تؤثّره بعد إنّما أنت وهو سواء، إنّما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر » (1).

السؤال من الجبّار

عن مقرن إمام بني فتيان عمّن روى عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان في زمن موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) ملك جبار قضى حاجة مؤمن بشفاعة عبد صالح، فتوفّي في يوم الملك الجبّار والعبد الصالح، فقام على الملك الناس وأغلقوا أبواب السوق لموته ثلاثة أيّام، وبقي ذلك العبد الصالح في بيته، وتناولت دواب الأرض من وجهه، فرآه موسى بعد ثلاث فقال : ياربّ هو عدوّك وهذا وليّك؟! فأوحى اللّه إليه ياموسى إنّ وليّي سأل هذا الجبّار حاجة فقضاها، فكافأته عن المؤمن، وسلّطت دوابّ الأرض على محاسن وجه المؤمن لسؤاله ذلك الجبّار » (2).

ص: 586


1- البحار: ج 74 ص 248.
2- البحار: ج 74 ص 306.

الولد الصالح

عن إبراهيم بن محمّد، عن الصادق عن آبائه (عَلَيهِم السَّلَامُ) قال: «قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : مرّ عيسى بن مريم بقبر يعذّب صاحبه، ثمّ مرّ به من قابل فإذا هو ليس يعذّب، فقال: ياربّ مررت بهذا القبر عام أوّل فكان صاحبه يعذّب، ثم مررت به العام فإذا هو ليس يعذّب؟ فأوحى اللّه (عزّوجلّ) إليه: ياروح اللّه إنّه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً فغفرت له بما عمل ابنه»(1).

تواضع النجاشي

عن ابن صدقة، عن جعفر، عن أبيه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «أرسل النجاشي ملك الحبشة إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت له جالس على التراب، وعليه خلقان الثياب قال: فقال: جعفر بن أبي طالب فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلمّا رأى ما بنا وتغيّر وجوهنا قال: الحمد للّه الّذي نصر محمّداً وأقرّ عيني به، ألا أُبشركم؟ فقلت: بلى أيّها الملك فقال: إنّه جاءني الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك، وأخبرني أنّ اللّه قد نصر نبيه محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وأهلك عدوّه، وأُسر فلان وفلان، وقتل فلان وفلان، التقوا بواد يقال له،بدر كأنّي أنظر إليه حيث كنت أرعى لسيدي هناك وهو رجل من بني ضمرة.

فقال له جعفر : أيّها الملك الصالح ما لي أراك جالساً على التراب، عليك هذه الخلقان؟ فقال: يا جعفر إنّا نجد فيما أُنزل على عيسى؛ أنّ من حقّ اللّه على عباده أن يحدّثوا اللّه تواضعاً عندما يحدث لهم من نعمه، فلمّا أحدث اللّه تعالى لي نعمة نبيه محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أحدثت اللّه هذا التواضع، قال: فلمّا بلغ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ذلك قال لأصحابه: إنّ الصدقة تزيد صاحبها كثرة، فتصدّقوا يرحمكم اللّه، وإنّ التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم اللّه،

ص: 587


1- البحار: ج 75 ص 2.

وإنّ العفو يزيد صاحبه عزّاً، فاعفوا يعزّكم اللّه» (1).

الراضي بالكذب

عن محمّد بن سنان قال: كنت عند الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال لي: «يا محمّد إنّه كان في زمن بني إسرائيل أربعة نفر من المؤمنين، فأتى واحد منهم الثلاثة وهم مجتمعون في منزل أحدهم في مناظرة بينهم فقرع الباب فخرج إليه الغلام فقال: أين مولاك ؟ فقال: ليس هو في البيت، فرجع الرجل ودخل الغلام إلى مولاه فقال له: من كان الّذي قرع الباب؟ قال: كان فلان فقلت له: لست في المنزل، فسكت ولم يكترث ولم يلم غلامه، ولا اغتمّ أحد منهم لرجوعه عن الباب، وأقبلوا في حديثهم. فلمّا كان من الغد بكّر إليهم الرجل فأصابهم وقد خرجوا يريدون ضيعة لبعضهم، فسلّم عليهم، وقال: أنا معكم، فقالوا: نعم، ولم يعتذروا إليه، وكان الرجل محتاجاً ضعيف الحال، فلمّا كانوا في بعض الطريق إذا غمامة قد أظلّتهم، فظنّوا أنّه مطر، فبادروا، فلمّا استوت الغمامة على رؤوسهم إذ مناد ينادي من جوف الغمامة : أيّتها النار خذيهم، وأنا جبرئيل رسول اللّه، فإذا نار من جوف الغمامة قد اختطفت الثلاثة نفر، وبقي الرجل مرعوباً يعجب بما نزل بالقوم، ولا يدري ما السبب.

فرجع إلى المدينة، فلقي يوشع بن نون فأخبره الخبر وما رأى وما سمع، فقال يوشع بن نون: أما علمت أنّ اللّه سخط عليهم بعد أن كان عنهم راضياً، وذلك بفعلهم بك، :قال وما فعلهم بي؟ فحدّثه يوشع، فقال الرجل فأنا أجعلهم في حلّ وأعفو عنهم، قال: لو كان هذا قبل لنفعهم، وأمّا الساعة فلا، وعسى أن ينفعهم من بعد » (2).

ص: 588


1- البحار: ج 75 ص 119.
2- البحار: ج 75 ص 191.

الغيبة

عن أديم بيّاع الهروي قال : قلت لأبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : بلغنا أن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان يقول: «إنّ اللّه يبغض البيت اللحم»، قال: «إنّماذاك البيت الّذي يؤكل فيه لحوم الناس، وقد كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لحِماً يحبّ اللحم، وقد جاءت امرأة إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) تسأله عن شيء وعائشة عنده، فلمّا انصرفت وكانت قصيرة قالت عائشة بيدها تحكي قصرها، فقال لها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : تخلّلي، قالت: يارسول اللّه وهل أكلت شيئاً؟ قال: تخلّلي، ففعلت فألقت مضغة من فيها»(1).

النمام

وبالجملة فشرّ النمّام عظيم، ينبغي أن يتوقّى، قيل : باع بعضهم عبداً وقال للمشتري : ما فيه عيب إلّا النميمة، قال رضيت به فاشتراه فمكث الغلام أياماً، ثمّ قال لزوجة مولاه: إنّ زوجك لا يحبّك، وهو يريد أن يتسرى عليك، فخذي الموسى واحلقي من قفاه شعرات حتّى أسحر عليها فيحبّك، ثمّ قال للزوج: إنّ امرأتك اتّخذت خليلا وتريد أن تقتلك، فتناوم لها حتّى تعرف، فتناوم فجاءته المرأة بالموسى، فظنّ أنّها تقتله، فقام وقتلها، فجاء أهل المرأة وقتلوا الزوج، فوقع القتال بين القبيلتين وطال الأمر»(2).

المنصور والخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ)

روى المظفّري في تاريخه :قال لمّا حجّ المنصور في سنة أربع وأربعين ومائة، نزل بدار الندوة، وكان يطوف ليلا ولا يشعر به أحد، فإذا طلع الفجر صلّى بالناس وراح في موكبه إلى منزله، فبينما هو ذات ليلة يطوف إذ سمع قائلا يقول: «اللّهم إنا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحقّ وأهله من الظلم»، قال: فملأ

ص: 589


1- البحار: ج 75 ص 256.
2- البحار: ج 75 ص 270.

المنصور مسامعه منه، ثمّ استدعاه فقال له: ما الّذي سمعته منك؟ قال: «أنت آمن على نفسك»، قال: «أنت الّذي دخله الطمع حتّى حال بينه وبين الحقّ وحصول ما في الأرض من البغي والفساد، فانّ اللّه سبحانه وتعالى استرعاك أُمور المسلمين فأغفلتها، وجعلت بينك وبينهم حجاباً وحصوناً من الجصّ والآجر وأبواباً من الحديد، وحجبة معهم السلاح، واتّخذت وزراء ظلمة وأعواناً فجرة، إن أحسنت لا يعينوك، وإن أسأت لا يردّوك، وقوّمتهم على ظلم الناس، ولم تأمرهم بإعانة المظلوم والجايع والعاري، فصاروا شركاءك في سلطانك، وصانعتهم العمال بالهدايا خوفاً منهم، فقالوا: هذا قد خان اللّه فما لنا لا نخونه، فاختزنوا الأموال، وحالوا دون المتظلّم ودونك، فامتلأت بلاد اللّه فساداً وبغياً وظلماً، فما بقاء الإسلام وأهله على هذا؟

وقد كنت أُسافر إلى بلاد الصين وبها ملك قد ذهب سمعه، فجعل يبكي، فقال له وزراؤه ما يبكيك؟ فقال: لست أبكي على ما نزل من ذهاب سمعي، ولكنّ المظلوم يصرخ بالباب ولا أسمع نداءه، ولكن إن كان سمعي قد ذهب فبصري باق، فنادى في الناس: لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم فكان يركب الفيل في كلّ طرف نهار هل يرى مظلوماً فلا يجده.

هذا وهو مشرك باللّه، وقد غلبت رأفته بالمشركين على شحّ نفسه، وأنت مؤمن باللّه، وابن عمّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ولا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شحّ نفسك، فإنّك لا تجمع المال إلّا لوحدة من ثلاث إن قلت: إنّك تجمع لولدك، فقد أراك اللّه تعالى الطفل الصغير يخرج من بطن أُمّه لا مال له فيعطيه، فلست بالذي تعطيه بل اللّه سبحانه هو الّذي يعطي وإن قلت: أجمعها لتشييد سلطاني، فقد أراك اللّه القدير عبراً في الّذين تقدّموا، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الأموال ولا ما أعدّوا من السلاح، وإن قلت أجمعها لغاية هي أحسن من الغاية التي أنا فيها، فواللّه ما فوق ما أنت فيه منزلة إلّا العمل الصالح.

ص: 590

ياهذا هل تعاقب من عصاك إلّا بالقتل ؟ فكيف تصنع باللّه الّذي لا يعاقب إلّا بأليم العذاب، وهو يعلم منك ما أضمر قلبك وعقدت عليه جوارحك، فماذا تقول إذا كنت بين يديه للحساب عرياناً ؟ هل يغني عنك ما كنت فيه شيئاً»؟

قال: فبكى المنصور بكاءً شديداً وقال: ياليتي لم أخلق ولم أك شيئاً، ثمّ قال: ما الحيلة فيما حوّلت؟ قال : «عليك بأعلام العلماء الراشدين»، قال: فرّوا منّي، قال: «فرّوا منك مخافة أن تحملهم على ظهر من طريقتك، ولكن افتح الباب، وسهّل الحجاب، وخذ الشيء ممّا حلّ وطاب، وانتصف للمظلوم، وأنا ضامن عمّن هرب منك أن يعود إليك، فيعاونك على أمرك»، فقال المنصور: اللّهمّ وفقني لأن أعمل بما قال هذا الرجل، ثمّ حضر المؤذنون وأقاموا الصلاة، فلمّا فرغ من صلاته قال علي بالرجل، فطلبوه فلم يجدوا له أثراً، فقيل : إنّه كان الخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ)(1).

التوبة النصوحة

علي بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتّاب بني أُميّة فقال لي: استأذن لي على أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فاستأذنت له، فلمّا دخل سلّم وجلس ثمّ قال: جعلت فداك، إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت في مطالبه، فقال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لولا أنّ بني أُميّة وجدوا من يكتب لهم ويجبى لهم الفيء، ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقّنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلاّ ما وقع في أيديهم»، فقال الفتى: جعلت فداك فهل لي من مخرج منه؟ قال: «إن قلت لك تفعل»؟ قال : أفعل، قال: «اخرج من جميع ما كسبت في دواوينهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ومن لم تعرف تصدّقت به وأنا أضمن لك على اللّه الجنّة»، قال: فأطرق الفتى طويلاً فقال : قد فعلت جعلت فداك. قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا

ص: 591


1- البحار: ج 75 ص 351.

إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلا خرج منه حتّى ثيابه التي كانت على بدنه، قال: فقسمنا له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا بنفقة قال : فما أتى عليه أشهر قلائل حتّى مرض فكنّا نعوده، قال: فدخلت عليه يوماً وهو في السياق، ففتح عينيه ثمّ قال: يا علي وَفي لي واللّه،صاحبك قال : ثم مات فولّينا،أمره، فخرجت حتّى دخلت على أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) فلمّا نظر إليّ قال : «يا علي وفينا واللّه لصاحبك»، قال: فقلت: صدقت جعلت فداك، هكذا قال لي واللّه عند موته (1).

قصّة حاطب

«يَأَيُّهَا الّذين ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ»(2) نزلت في حاطب بن أبي بلتعة كان قد أسلم، وهاجر إلى المدينة وكان عياله بمكّة، وكانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم أن يكتبوا إلى حاطب يسألونه عن خبر محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وهل يريد أن يغزو مكّة. فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك، فكتب إليهم حاطب : أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يريد ذلك. ودفع الكتاب إلى امرأة تسمّى صفيّة، فوضعته في قرونها ومرّت فنزل جبرئيل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأخبره بذلك، فبعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمير المؤمنين والزبير بن العوّام في طلبها فلحقوها، فقال لها أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «أين الكتاب»؟ فقالت: ما معي شيء، ففتّشوها فلم يجدوا معها شيئاً، فقال الزبير ما نرى معها شيئاً، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : واللّه ما كذّبنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ولا كذّب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على جبرئيل صلوات اللّه عليه، ولا كذب جبرئيل على اللّه جلّ ثناؤه واللّه لتظهرنّ الكتاب أو لأوردن رأسك إلى رسول اللّه»، فقالت: تنحّيا حتّى أخرجه، فأخرجت الكتاب من قرونها، فأخذه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وجاء به إلى رسول

ص: 592


1- البحار: ج 75 ص 375.
2- الممتحنة : 1.

اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : « يا حاطب ما هذا» ؟ فقال حاطب واللّه يارسول اللّه ما نافقت ولا غيّرت ولا بدّلت وإنّي أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنك رسول اللّه حقاً، ولكن أهلي وعيالي كتبوا إلي بحسن صنيع قريش إليهم، فأحببت أن أجازي قريشاً بحسن معاشرتهم، فأنزل اللّه جلّ ثناؤه على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) «ياَأَيُّهَا الّذين ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ» إلى قوله «لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوَلَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرُ» (1) ثم قال : «لَا يَنهَاكُمُ اللّه عَنِ الّذين لَمْ يُقَتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُم أن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَهمَّ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» إلى قوله «فأولياكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(2)(3).

التورية والتقيّة

وقال رجل لمحمّد بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) : يابن رسول اللّه مررت اليوم بالكرخ فقالوا: هذا ندیم محمّد بن علي إمام الرفضة فاسألوه؛ من خير الناس بعد رسول اللّه؟ فان قال: علي، فاقتلوه، وإن قال أبو بكر فدعوه فانثال عليّ منهم خلق عظيم وقالوا لي: من خير الناس بعد رسول اللّه ؟ فقلت مجيباً : أخير الناس بعد رسول اللّه أبو بكر وعمر وعثمان، وسكت ولم أذكر علياً، فقال بعضهم: قد زاد علينا، نحن نقول ههنا: وعلي، فقلت: في هذا نظر، لا أقول هذا، فقالوا بينهم : إنّ هذا أشدّ تعصباً للسنة منا قد غلطنا عليه، ونجوت بهذا منهم فهل عليّ يابن رسول اللّه في هذا حرج؟ وإنّما أردت أخير الناس أي أهو خير استفهاماً لا إخباراً، فقال محمّد بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) : «قد شكر اللّه لك بجوابك هذا لهم، وكتب لك أجره وأثبته لك في الكتاب الحكيم، وأوجب لك بكل حرف من

ص: 593


1- الممتحنة: 31.
2- الممتحنة: 98.
3- البحار: ج 75 ص 388.

حروف ألفاظك بجوابك هذا لهم ما تعجز عنه أماني المتمنّين ولا يبلغه آمال الآملين».

أيضاً قال: وجاء رجل إلى علي بن محمّد (عَلَيهما السَّلَامُ) فقال : يابن رسول اللّه بليت اليوم بقوم من عوّام البلد أخذوني وقالوا: أنت لا تقول بإمامة أبي بكر بن أبي قحافة؟ فخفتهم یابن رسول اللّه، وأردت أن أقول : بلى، أقولها للتقيّة، فقال لي بعضهم، ووضع يده على في وقال: أنت لا تتكلّم إلّا [بمخرقة ] أجب عّما اُلقنّك قلت: قل، فقال لي: أتقول أنّ أبا بكر بن أبي قحافة هو الإمام بعد رسول اللّه إمام حق عدل، ولم يكن لعلي في الإمامة حقّ البتة ؟ فقلت : نعم، وأُريد نعماً من الأنعام الإبل والبقر والغنم، فقال: لا أقنع بهذا حتّى تحلف، قال: واللّه الّذي لا إله إلّا هو الطالب الغالب المدرك المهلك يعلم من السر ما يعلم من العلانية، فقلت: نعم، وأريد نعماً من الأنعام، فقال: لا أقنع منك إلا بأن تقول : أبو بكر بن أبي قحافة هو الإمام، واللّه الّذي لا إله إلّا هو وساق اليمين، فقلت: أبو بكر بن أبي قحافة إمام أي هو إمام من ائتم به واتخذه إماماً واللّه الّذي لا إله إّلا هو، ومضيت في صفات اللّه، فقنعوا بهذا منّي وجزوني خيراً، ونجوت منهم، فكيف حالي عند اللّه ؟ قال : «خير حال، قد أوجب اللّه لك مرافقتنا في أعلا عليّين لحسن يقينك»(1).

فائدة آية الكرسي

عن أبي خديجة عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «أتى إخوان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقالا: إنا نريد الشام في تجارة فعلّمنا ما نقول، قال: نعم إذا أويتها إلى المنزل فصليتها العشاء الآخرة، فإذا وضع أحدكما جنبه على فراشه بعد الصلاة، فليسبح تسبيح فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)، ثمّ ليقرأ آية الكرسي، فإنّه محفوظ من كلّ شيء حتّى يصبح. وإنّ لصوصاً تبعوهم حتّى إذا نزلا بعثوا غلاماً لهم لينظر كيف حالهما، ناما أم مستيقظين فانتهى الغلام إليهما وقد وضع أحدهما جنبه على فراشه، وقرأ آية الكرسي وسبّح تسبيح فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)، قال : فإذا عليهما حائطان

ص: 594


1- البحار: ج 75 ص 405.

مبنيّان، فجاء الغلام فطاف بهما، فكلّما دار لم ير إلّا حائطين مبنيين، [فرجع إلى أصحابه فقال : لا واللّه ما رأيت إلّا حائطين مبنيين ] فقالوا له : أخزاك اللّه لقد كذبت، بل ضعفت وجبنت، فقاموا فنظروا، فلم يجدوا إلّا حائطين، فداروا بالحائطين فلم يسمعوا ولم يروا إنساناً، فانصرفوا إلى منازلهم، فلمّا كان من الغد جاؤا إليهم فقالوا: أين كنتم؟ قالا: ما كنّا إلا ههنا وما برحنا فقالوا: واللّه لقد جئنا وما رأينا إلّا حائطين مبنيين، فحدّثونا ما قصّتكم؟ قالوا: إنا أتينا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فسألناه أن يعلمنا، فعلّمنا آية الكرسي وتسبيح فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)، فقلنا، فقالوا: انطلقوا لا واللّه ما نتبعكم أبداً ولا يقدر عليكم لصّ أبداً بعد هذا الكلام»(1).

عملك

عن علقمة الحصين قال: سمعت قيس بن عاصم المنقري يقول: قدمت على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في وفد من جماعة من بني تميم، فقال لي: «اغتسل بماء وسدر»، ففعلت ثم عدت إليه وقلت: يارسول اللّه عظنا عظة ننتفع بها، فقال : «ياقيس إن مع العزّ ذلّاً، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكلّ شيء حسيباً، وعلى كلّ شيء رقيباً، وإنّ لكلّ حسنة،ثواباً ولكلّ سيّئة عقاباً، وإنّ لكلّ أجل كتاباً، وإنّه ياقيس لابدّ لك من قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميّت فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، لا يحشر إلّا معك، ولا تحشر إّلا معه، ولا تسأل إلّا عنه، ولا تبعث إلّا معه فلا تجعله إلّا صالحاً، فإنّه إن كان صالحاً لم تأنس إلّا به، وإن كان فاحشاً لا تستوحش إلاّ منه، وهو عملك» (2).

ص: 595


1- البحار: ج 76 ص 246.
2- البحار: ج 77 ص 175.

العفو عن الأُخوان

عن أبي هريرة قال: بينا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جالس إذ رأيناه ضاحكاً حتّى بدت ثناياه، فقلنا: يارسول اللّه ممّا ضحكت ؟ فقال: «رجلان من أُمّتي جيئا بين يدي ربّي، فقال أحدهما: ياربّ خذ لي بمظلمتي من آخر، فقال اللّه تعالى: أعط أخاك مظلمته، فقال: ياربّ لم يبق من حسناتي شيء، فقال : ياربّ فليحمل من أوزاري»، ثمّ فاضت عينا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقال: «إنّ ذلك اليوم ليوم تحتاج الناس فيه إلى من يحمل عنهم أوزارهم، ثمّ قال اللّه تعالى للطالب بحقّه: إرفع بصرك إلى الجنّة فانظر ماذا ترى؟ فرفع رأسه فرأى ما أعجبه من الخير والنعمة، فقال يارب لمن هذا ؟ فقال : لمن أعطاني ثمنه، فقال: ياربّ ومن يملك ثمن ذلك ؟ فقال : أنت، فقال : كيف بذلك ؟ فقال : بعفوك عن أخيك، فقال: قد عفوت فقال اللّه تعالى فخذ بيد أخيك فادخلا الجنّة، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) «فَاتَّقُوا اللّه وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ»(1)(2).

من هم أولياء اللّه

عن أنس بن مالك قال: قالوا: يا رسول اللّه من أولياء اللّه الّذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؟ فقال : «الّذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها، فاهتّموا بآجالها حين اهتمّ الناس بعاجلها، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم، وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم، فما عرض لهم منها عارض إلّا رفضوه، ولا خادعهم من رفعتها خادع إلّا وضعوه، خلقت الدنيا عندهم فما يجدّدونها، وخربت بينهم فما يعمرونها، وماتت في صدورهم فما يحبّونها، بل يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، نظروا إلى أهلها صرعى قد حلّت بهم المثلات، فما يرون أماناً دون ما

ص: 596


1- الأنفال: 1.
2- البحار: ج 77 ص 180.

يرجون، ولا خوفاً دون ما يحذرون» (1).

التواضع

روي أنه (عَلَيهِ السَّلَامُ) مرّ برجل من أهل السواد دميم المنظر، فسلّم عليه ونزل عنده وحادثه طويلا. ثمّ عرض (عَلَيهِ السَّلَامُ) نفسه في القيام بحاجته إن عرضت له، فقيل له: يابن رسول اللّه أتنزل إلى هذا ثمّ تسأله عن حوائجه، وهو إليك أحوج ؟ فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «عبد من عبيد اللّه، وأخ في كتاب اللّه، وجار في بلاد اللّه يجمعنا وإيَّاه خير الآباء آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأفضل الأديان الإسلام، ولعلّ الدهر يردّ من حاجاتنا إليه فيرانا بعد الزهو عليه متواضعين بين يديه ثم قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) :

نواصل من لا يستحق وصالنا****مخافة أن نبقى بغير صديق(2)

قضية واحدة في خمسة عقوبات

والزنا على وجوه والحدّ فيها على وجوه، فمن ذلك أنّه أحضر عمر بن الخطاب خمسة نفر أخذوا في الزنا فأمر أن يقام على كلّ واحد منهم الحدّ.

وكان أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) جالساً عند عمر، فقال: «ياعمر ليس هذا حكمهم»، قال: فأقم أنت عليهم الحكم، فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه، وقدّم الثاني فرجمه، وقدّم الثالث فضربه الحدّ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ، وقدّم الخامس فعزّره، وأطلق السادس.

فتعجب عمر وتحيّر الناس، فقال عمر: يا أبا الحسن خمسة نفر في قضية واحدة أقمت عليهم خمس عقوبات، ليس منها حكم يشبه الآخر ؟

ص: 597


1- البحار: ج 77 ص 181.
2- البحار: ج 78 ص 325.

فقال: «نعم، أمّا الأوّل: فكان ذمّياً زنى بمسلمة فخرج عن ذمته، فالحكم فيه،السيف وأمّا الثاني: فرجل محصن زنى رجمناه وأمّا الثالث: فغير محصن فحددناه، وأما الرابع: فعبد زنى ضربناه نصف الحد، وأما الخامس: فمجنون مغلوب في عقله عزّرناه» (1).

التوبة في السر أفضل من هتك الستر

عن أبي بصير قال: قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له : يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أبك جُنّة؟ فقال: لا، فقال: فتقرأ من القرآن شيئاً؟ قال: نعم، فقال له: ممّن أنت؟ فقال أنا من مزينة أو جهينة، قال: اذهب حتّى أسأل عنك، فسأل عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين هذا رجل صحيح مسلم.

ثم رجع إليه فقال: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهرني، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : ويحك ألك زوجة ؟ قال: نعم، فقال: كنت حاضرها أو غائباً عنك؟ قال: بل كنت حاضرها، قال: اذهب حتّى ننظر في أمرك، فجاء الثالثة فذكر له ذلك فأعاد عليه أمير المؤمنين فذهب، ثمّ رجع في الرابعة وقال: إنّي زنيت فطهرني فأمر أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أن يحبس.

ثمّ نادى أمير المؤمنين: أيها الناس إنّ هذا الرجل يحتاج إلى أن نقيم عليه حدّ اللّه، فاخرجوا متنكّرين لا يعرف بعضكم بعضاً، ومعكم أحجاركم، فلمّا كان من الغد أخرجه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالغلس، وصلّى ركعتين، وحفر حفيرة ووضعه فيها، ثمّ نادى أيّها الناس إنّ هذه حقوق اللّه لا يطلبها من كان عنده اللّه حقّ مثله، فمن كان عنده اللّه حقّ مثله فلينصرف، فإنّه لا يقيم الحدّ من اللّه عليه الحدّ.

فإنصرف الناس، فأخذ أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) حجراً فكبّر أربع تكبيرات فرماه ثم أخذ

ص: 598


1- البحار: ج 79 ص 34.

الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) مثله، ثمّ فعل الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) مثله، فلمّا مات أخرجه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وصلّى،عليه فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا تغسله ؟ قال : قد اغتسل بماء هو منها طاهر إلى يوم القيامة. ثمّ قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : يا أيها الناس من أتى هذه القاذورة فليتب إلى اللّه فيما بينه وبين اللّه، فواللّه لتوبته إلى اللّه في السر أفضل من أن يفضح نفسه ويهتك ستره»(1).

عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة

عن صالح بن ميثم عن أبيه قال: أتت امرأة «حامل مقرب» أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقالت: يا أمير المؤمنين طهّرني إنّي زنيت فطهّرني طهّرك اللّه، فانّ عذاب الدنيا أيسر عليّ من عذاب الآخرة الّذي لا ينقطع، فقال لها: «ممّا أُطهّرك»؟ فقالت: إنّي زنيت، فقال لها: «أذات بعل أنت أم غير ذلك»؟ فقالت: ذات بعل، قال لها: «أفحاضراً كان بعلك إذ فعلت ما فعلت أم غائب» ؟ قالت بل حاضر فقال لها : «انطلقي فضعي ما في بطنك»، فلمّا ولّت عنه المرأة فصارت حيث لا تسمع كلامه، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «اللّهمّ إنّها شهادة». فلم تلبث أن عادت إليه المرأة فقالت: يا أمير المؤمنين إنّي قد وضعت فطهّرني، قال: فتجاهل عليها وقال: «يا أُمّة اللّه أُطهّرك ممّاذا» ؟ قالت : إنّي زنيت فطهّرني، قال: «أو ذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت»؟ قالت : نعم، قال: «فكان زوجك حاضراً إذ فعلت [ما فعلت] أو كان غائباً» ؟ قالت بل حاضراً، قال: «انطلقي حتّى ترضعيه حولين كاملين، كما أمر اللّه».

فانصرفت المرأة، فلمّا صارت حيث لا تسمع كلامه، قال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «اللّهمّ شهادتان».

قال: فلمّا مضى حولان أتت المرأة فقالت : قد أرضعته حولين فطهّرني قال: فتجاهل عليها وقال: «أُطهّرك ممّاذا» ؟ قالت : إنّي زنيت فطهّرني، قال: «أو ذات بعل أنت إذ فعلت

ص: 599


1- البحار: ج 79 ص 35.

ما فعلت»؟ قالت : نعم، قال: «وكان بعلك غائباً عنك إذ فعلت ما فعلت أم حاضراً»؟ قالت: بل حاضراً، قال: «انطلقي فاكفليه حتّى يعقل أن يأكل ويشرب، ولا يتردّى من السطح، ولا يتهوّر في بئر»، فانصرفت وهي تبكي، فلمّا ولت وصارت حيث لا تسمع کلامه قال: «اللّهمّ ثلاث شهادات»، قال: فاستقبلها عمرو بن حريث المخزومي فقال: ما يبكيك يا أُمّة اللّه؟ فقد رأيتك تختلفين إلى أمير المؤمنين تسألينه أن يطهّرك؟ فقالت: أتيته فقلت له ما قد علمتموه، فقال : اكفليه حتّى يعقل أن يأكل ويشرب، ولا يتردّى من سطح، ولا يتهوّر في بئر، ولقد خفت أن يأتي عليّ الموت، ولم يطهّرني، فقال لها عمرو: ارجعي فأنا أكفله.

فرجعت فأخبرت أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بقول عمرو، فقال لها أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو يتجاهل عليها : «ولِمَ يكفل عمرو ولدك» ؟ قالت: يا أمير المؤمنين إنّي زنيت فطهّرني، قال: «ذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت»؟ قالت: نعم، قال: «فغائب عنك بعلك إذ فعلت ما فعلت أم حاضر» ؟ قالت: بل حاضر. قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال: «اللّهم إنّه قد ثبت لك عليها أربع شهادات، فإنك قد قلت لنبيّك فيما أخبرته به من دينك: يا محمّد من عطّل حدّاً من حدودي فقد عاندني، وطلب مضادّتي، اللّهم فإنّي غير معطّل حدودك، ولا طالب مضادّتك ولا معاندتك، ولا مضيّع لأحكامك، بل مطيع لك، ومتّبع سنة نبيّك».

قال: فنظر إليه عمرو بن حريث فكأنّها تفقاً في وجهه الرمان، فلمّا رأى ذلك عمرو، قال : يا أمير المؤمنين إنّي إنّما أردت أن أُكفّله إذ ظننت أنّك تحبّ ذلك، فأما إذ كرهته فانّي لست أفعل، فقال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «بعد أربع شهادات لتكفلنّه وأنت صاغر ذليل».

ثمّ قام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فصعد المنبر فقال: ياقنبر، نادِ في الناس «الصلاة الجامعة» فنادی قنبر في الناس، فاجتمعوا حتّى غصّ المسجد بأهله، فقام أمير المؤمنين علي بن

ص: 600

أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) خطيباً فحمد اللّه وأثنى عليه، وقال: «يا أيها الناس إنّ إمامكم خارج بهذه المرأة إلى هذا الظهر ليقيم عليها الحدّ إن شاء اللّه، فعزم عليكم أمير المؤمنين إلّا خرجتم،متنكّرين، ومعكم أحجاركم لا يتعرّف أحد منكم إلى أحد، حتّى تنصرفوا إلى منازلكم إن شاء اللّه.

فلما أصبح بكرة خرج بالمرأة وخرج الناس متنكّرين متلثّمين بعمائمهم وأرديتهم، والحجارة في أرديتهم، وفي أكمامهم، حتّى انتهى بها والناس معه إلى ظهر الكوفة، فأمر فحفر لها بئر، ثمّ دفنها إلى حقويها، ثمّ ركب بغلته فأثبت رجليه في غرز الركاب، ثمّ وضع اصبعيه السبّابتين في أذنيه، ثمّ نادى بأعلى صوته فقال:

«يا أيها الناس إنّ اللّه تبارك وتعالى عهد إلى نبيّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عهداً، عهده محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إليّ بأنّه لا يقيم الحدّ من اللّه عليه حدّ، فمن كان اللّه تبارك وتعالى عليه مثل ما له عليها فلا يقيمنّ عليها الحدّ»، قال : فانصرف الناس ما خلا أمير المؤمنين(1).

التوبة غفران الذنب

جاء في إرشاد القلوب: روى أن رجلا أتى أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : يا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) خذ حدّ اللّه في جنبي، فقال له أمير المؤمنين : ماذا صنعت»؟ فقال: لطت بغلام فقال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لم توقب»؟ قال : بل أوقبت يا أمير المؤمنين، فقال له: «اختر من إحدى ثلاث: ضرباً بالسيف أخذ منك ما أخذ أم هدم جدار عليك، أو حرقاً بالنار».

فقال الرجل: يا أمير المؤمنين وأيّها أشدّ تمحيصاً لذنوبي؟

فقال على (عَلَيهِ السَّلَامُ): «الحرق بالنار»، فقال: إنّي قد اخترته.

ص: 601


1- البحار: ج 79 ص 45.

فقال: «ياقنبر أضرم ناراً، فأضرم له النار، فقال : يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أُصلّي ركعتين وأحسن ؟ فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «صلّ»، قال: فتوضّأ الرجل وأسبغ ثمّ صلّى ركعتين وأحسن، فلمّا فرغ من صلاته سجد سجدة الشكر، وجعل يبكي في سجوده ويدعو ويقول :

اللّهم إني عبدك ابن أمتك مذنب خاطئ، إرتكبت في ذنبي كيت وكيت، وقد أتيت حجّتك في أرضك وخليفتك في بلادك، وكشفت له عن ذنبي، فعرّفني أن تمحيص ذلك في إحدى ثلاث خصال: ضرباً بالسيف، أو هدم جدار، أو حرقاً بالنار، اللّهم وقد سألته عن أشدّها تمحيصاً لذنبي فعرفني أنّه الحرق بالنار، اللّهم وإنّي قد،اخترته، فصلّ على محمّد وآل محمّد، فاجعله تمحيصاً لي في النار.

قال : فبكى أمير المؤمنين ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: «من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا»، ثمّ قال له: « قم ياهذا الرجل، فقد غفر اللّه لك ذنبك، ودرأ عنك الحدّ»، فقال له :أصحابه ياأمير المؤمنين فحدّ اللّه من جنبه لا تقيمه؟ قال: «الحدّ الّذي عليه هو،للإمام، فإن شاء أقامه، وإن شاء وهبه»(1).

كما تدين تدان

في الصحيح عن إبراهيم بن أبي البلاد :قال كانت امرأة على عهد داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) يأتيها رجل يستكرهها على نفسها، فألقى اللّه (عزوجلّ) في نفسها فقالت له : إنك لا تأتني مرّة إلّا وعند أهلك من يأتيهم، قال: فذهب إلى أهله فوجد عند أهله رجلا، فأتی به داود (عزوجلّ) فقال: يانبي اللّه أتى إلي ما لم يؤت إلى أحد، قال: «وما ذاك» ؟ قال : وجدت هذا الرجل عند أهلي، فأوحى اللّه (عزوجلّ) إلى داود قل له: «كما تدين تدان»(2).

ص: 602


1- البحار: ج 79 ص 73.
2- البحار: ج 14 ص 41.

الشهادة للميّت

عن سعد الإسكاف، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «كان في بني إسرائيل عابد فأعجب به داود (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليه: لا يعجبك شيء من أمره فإنّه مراءٍ، قال: فمات الرجل، فأتى داود فقيل له: مات الرجل، فقال: ادفنوا صاحبكم، قال: فأنكرت ذلك بنو إسرائيل وقالوا كيف لم يحضره؟ قال: فلمّا غسل قام خمسون رجلا فشهدوا باللّه ما يعلمون منه إلّا خيراً، فلمّا صلوا عليه قام خمسون رجلا فشهدوا باللّه ما يعلمون إلّا خيراً، فلمّا دفنوه قال : فأوحى اللّه (عزوجلّ) إلى داود (عَلَيهِ السَّلَامُ): ما منعك أن تشهد فلاناً؟ قال: الّذي أطلعتني عليه من أمره، قال إن كان لكذلك، ولكن شهده قوم من الأحبار والرهبان، فشهدوا لي ما يعلمون إلّا خيراً، فأجزت شهادتهم عليه، وغفرت له علمي فيه»(1).

تأخير استجابة الدعاء

فيما أوحى اللّه إلى داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) : من انقطع إلىّ كفيته، ومن سألني أعطيته، ومن دعاني أجبته، وإنّما أُؤخّر دعوته وهي معلّقة وقد استجبتها حتّى يتمّ قضائي، فإذا تم قضائي أنفذت ما سأل، قل للمظلوم: إنّما أُؤخّر دعوتك وقد استجبتها لك على من ظلمك لضروب كثيرة غابت عنك وأنا أحكم الحاكمين: إمّا أن تكون قد ظلمت رجلا فدعا عليك فتكون هذه بهذه لا لك ولا عليك، وإما أن تكون لك درجة في الجنّة لا تبلغها عندي إلّا بظلمه لك، لأّني اختبر عبادي في أموالهم وأنفسهم، وربّما أمرضت العبد فقلت صلاته وخدمته، ولصوته إذا دعاني في كربته أحبّ إليّ من صلاة المصلّين، ولربّما صلّى العبد فأضرب بها وجهه وأحجب عنّي صوته، أتدري من ذلك ياداود؟ ذلك الّذي يكثر الالتفات إلى حرم المؤمنين بعين الفسق، وذلك الّذي حدّثته نفسه لو ولّى أمراً لضرب فيه الأعناق ظلماً، ياداود نح على خطيئتك كالمرأة الثكلى على ولدها، لو رأيت الّذين يأكلون

ص: 603


1- البحار: ج 14 ص 42.

الناس بألسنتهم وقد بسطتها بسط الأديم، وضربت نواحي ألسنتهم بمقامع من نار، ثمّ سلّطت عليهم موبّخاً لهم يقول: يا أهل النار هذا فلان السليط فاعرفوه، كم ركعة طويلة فيها بكاء بخشية قد صلّاها صاحبها لا تساوي عندي فتيلا حين نظرت في قلبه فوجدته أن سلّم من الصلاة، وبرزت له امرأة وعرضت عليه نفسها أجابها، وإن عامله مؤمن خانه» (1).

الصدقة تدفع البلاء

عن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : يدفع بالصدقة الداء والدبيلة والغرق والحرق والهدم والجنون، حتّى عدّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) سبعين نوعاً من البلاء».

وعن أبي جعفر محمّد بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه قال: «كان في بني إسرائيل رجل له نعمة، ولم يرزق من الولد غير واحد، وكان له محبّاً، وعليه شفيقاً، فلمّا بلغ مبلغ الرجال، زوجه ابنة عمّ له، فأتاه آت في منامه فقال : إنّ ابنك هذا ليلة يدخل بهذه المرأة يموت، فاغتمّ لذلك غمّاً شديداً وكتمه، وجعل يسوّف بالدخول حتّى ألحت امرأته عليه وولده وأهل بيت المرأة، فلمّا لم يجد حيلة استخار اللّه وقال: لعلّ ذلك كان من الشيطان، فأدخل أهله عليه وبات ليلة دخوله قائماً وينتظر ما يكون من ابنه، حتّى إذا أصبح غدا عليه فأصابه على أحسن حال، فحمد اللّه وأثنى عليه، فلمّا كان الليل نام فأتاه ذلك الّذي كان أتاه في منامه فقال : إنّ اللّه (عزوجلّ) لدفع عن ابنك، وأنسأ أجله بما صنع بالسائل.

فلما أصبح غدا على ابنه فقال : يابنيّ هل كان لك صنيع صنعته بسائل في ليلة ابتنائك بامرأتك ؟ قال : وما أردت من ذلك ؟ قال تخبرني به، فاحتشم منه فقال: لابد أن تخبرني بالخبر، قال: نعم، لمّا فرغنا مما كنا فيه من إطعام الناس بقيت لنا فضول كثيرة

ص: 604


1- البحار: ج 14 ص 42.

من الطعام، وأُدخلت إلىّ المرأة، فلمّا خلوت بها ودنوت منها، وقف سائل بالباب، فقال: ياأهل الدار واسونا ممّا رزقكم اللّه، فقمت إليه فأخذت بيده، وأدخلته وقربته إلى الطعام، وقلت له كل فأكل حتّى صدر، وقلت: ألك عيال ؟ قال : نعم، قلت: فاحمل إليهم ما،أردت فحمل ما قدر عليه، وانصرف وانصرفت أنا إلى أهلي، فحمد اللّه أبوه، وأخبره بالخبر»(1).

الّذين يمنعون حقّ اللّه

عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس أنه قيل له: إنّ قوماً من هذه الأُمّة يزعمون أنّ العبد قد يذنب الذنب فيحرم به الرزق ؟ فقال ابن عبّاس: فوالذي لا إله غيره لهذا أنور في كتاب اللّه من الشمس الضاحية، ذكر اللّه في سورة ن والقلم أنه كان شيخاً وكانت له جنّة، وكان لا يدخل بيته ثمرة منها، ولا إلى منزله حتّى يعطي كل ذي حقّ حقّه، فلمّا قبض الشيخ ورثه،بنوه وكان له خمس من البنين فحملت جنّته في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملاً لم يكن حملت قبل ذلك، فراحوا الفتية إلى جنّتهم بعد صلاة العصر، فأشرفوا على ثمره ورزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم. فلمّا نظروا إلى الفضل طغوا وبغوا، وقال بعضهم لبعض: إنّ أبانا كان شيخاً كبيراً قد ذهب عقله وخرف، فهلم فلنتعاقد عهداً فيما بيننا أن لا نعطي أحداً من فقراء المسلمين في عامنا هذا شيئاً حتّى نستغني وتكثر أموالنا، ثمّ نستأنف الصنيعة فيما يستقبل من السنين المقبلة، فرضي بذلك منهم أربعة، وسخط الخامس، وهو الّذي قال اللّه: «قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ»(2).

فقال الرجل : يابن عبّاس كان أوسطهم في السنّ؟ فقال: لا، بل كان أصغر القوم

ص: 605


1- البحار: ج 96 ص 24.
2- القلم: 28.

سناً، وكان أكبرهم عقلا، وأوسط القوم خير القوم، والدليل عليه في القرآن قوله، إنّكم ياأُمة محمّد أصغر القوم وخير الأمم، قال اللّه : «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمّة وَسَطًا»(1) فقال لهم أوسطهم : اتّقوا اللّه وكونوا على منهاج أبيكم تسلموا وتغنموا، فبطشوا به وضربوه ضرباً مبرحاً، فلمّا أيقن الأخ أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارهاً لأمرهم غير طائع، فراحوا إلى منازلهم، ثمّ حلفوا باللّه أن يصر موا إذا أصبحوا، ولم يقولوا إن شاء اللّه، فابتلاهم اللّه بذلك الذنب، وحال بينهم وبين ذلك الرزق الّذي كانوا أشرفوا عليه، فأخبر عنهم في الكتاب قال : «إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجنّة إِذْ أَقْسَموا لَیَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيم». قال : كالمحترق.

فقال الرجل: يابن عبّاس ما الصريم؟ قال : الليل المظلم، ثمّ قال: لا ضوء له ولا نور، فلمّا أصبح القوم «فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ». قال : «فَأَنطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَنُونَ» قال : وما التخافت يابن عبّاس؟ قال: يتشاورون، يشاور بعضهم بعضاً لكي لا يسمع أحد غيرهم، فقالوا: «أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِسْكِينُ (24) وَغَدَوا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ»(2) وفي أنفسهم أن يصر موها ولا يعلمون ما قد حلّ بهم من سطوات اللّه ونقمته، فلمّا رأوها وعاينوا ما قد حلّ بهم «قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ». فحرمهم اللّه ذلك الرزق بذنب كان منهم، ولم يظلمهم شيئاً «قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبَّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاومُونَ» قال : يلومون أنفسهم فيما عزموا عليه «قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ». فقال اللّه : «كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَر لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ»(3)(4).

ص: 606


1- البقرة: 143.
2- القلم: 17 25.
3- القلم : 26 33.
4- البحار: ج 96 ص 101.

لقمة بلقمة

روي أن سائلا وقف على خيمة، وفيها امرأة وبين يديها صبي في المهد، وكانت تأكل وما بقي إلّا لقمة، فأعطته، فلمّا كان بعد ساعة اختطف الذئب ولدها من المهد، فتبعته قليلا فرمی به من غير سوء، وسمعت هاتفاً يقول: لقمة بلقمة(1).

الحمد والشكر للّه تعالى

كان الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) بمنى، فجاءه سائل فأمر له بعنقود، فقال: لا حاجة لي في هذا إن كان درهم، فقال: «يسع اللّه لك»، فذهب ولم يعطه شيئاً، فجاءه آخر، فأخذ أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثلاث حبّات من عنب فناوله إيّاها فأخذها السائل فقال: الحمد للّه ربّ العالمين الّذي رزقني، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «مكانك»، فحثا له ملء كفّيه فناوله إياه، فقال السائل: الحمد للّه ربّ العالمين، فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «مكانك، ياغلام أيّ شيء معك من الدراهم» ؟ قال : فإذا معه نحو من عشرين درهماً فيما حرزنا أو نحوها، فقال: «ناولها إيّاه»، فأخذها، ثمّ قال : الحمد للّه ربّ العالمين، هذا منك وحدك لا شريك لك. فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «مكانك»، فخلع قميصاً كان عليه، فقال: «البس هذا»، فلبسه، ثمّ قال: الحمد للّه الّذي كساني وسترني، يا عبد اللّه جزاك اللّه خيراً، لم يدع له (عَلَيهِ السَّلَامُ)إلّا بذا ثم انصرف، فذهب فظنّنا أنّه لو لم يدع له لم يزل يعطيه، لأنّه كان كلّما حمد اللّه تعالى أعطاه (2).

قصّة شاه زنان بنت كسرى

عن محمّد بن جرير الطبري، غير التاريخي، قال: لما ورد سبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بن الخطاب بيع النساء، وأن يجعل الرجال عبيداً، فقال له أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : أكرموا كريم كلّ قوم»، فقال عمر : قد سمعته يقول: إذا أتاكم كريم

ص: 607


1- البحار: ج 96 ص 132.
2- البحار: ج 96 ص 135.

قوم فأكرموه وإن خالفكم، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هؤلاء قوم قد ألقوا إليكم السلم ورغبوا في الإسلام، ولابد من أن يكون لي منهم ذرية، وأنا أُشهد اللّه وأُشهدكم أنّي قد أعتقت نصيبي منهم لوجه اللّه تعالى».

فقال جميع بني هاشم: قد وهبنا حقنا لك يا أخا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقال: «اللّهمّ اشهد أنّهم قد وهبوا لي حقهم وقبلته، وأشهد أني قد أعتقتهم لوجهك».

فقال عمر: لِمَ نقضت عليّ عزمي في الأعاجم، وما الّذي رغّبك عن رأيي فيهم؟ فأعاد عليه ما قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في إكرام الكرماء، فقال عمر : قد وهبت اللّه ولك يا أبا الحسن ما يخصني وسائر ما لم يوهب لك، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «اللّهم اشهد على ما قاله، وعلى عتقي إيّاهم»، فرغب جماعة من قريش في أن يستنكحوا النساء، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «هؤلاء لا يكرهن على ذلك، ولكن يخيّرن، وما اخترنه عمل به»، فأشار جماعة إلى شهر بانويه بنت كسرى فخيّرت و خوطبت من وراء الحجاب والجمع حضور، فقيل لها من تختارين من خطابك؟ وهل أنت تريدين بعلا؟ فسكتت، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «قد أرادت وبقي الاختيار»، فقال عمر وما علمك بإرادتها البعل ؟ فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) كان إذا أتته كريمة قوم لا ولي لها وقد خطبت يأمر أن يقال لها : أنت راضية بالبعل ؟ فان استحيت وسكتت جعلت إذنها صَمتها، وأمر بتزويجها، وإن قالت: لا، لم تكره على ما تختاره، وإنّ شهر بانويه أُريت الخطّاب فأومأت بيدها واختارت الحسين بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)»، فأُعيد القول عليها في التخيير فأشارت بيدها، وقالت بلغتها هذا، إن كنت مخيّرة، وجعلت أمير المؤمنين وليها، وتكلّم حذيفة،بالخطبة، فقال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «ما اسمك»؟ فقالت: شاه زنان بنت كسرى قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أنت شهر بانويه وأُختك مرواريد بنت کسری»؟ قالت: آریه(1).

ص: 608


1- البحار: ج 100 ص 56.

النجف الأشرف

عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ النجف كان جبلا، وهو الّذي قال ابن نوح: «قَالَ سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ»(1) ولم يكن على وجه الأرض جبل أعظم منه، فأوحى اللّه (عزوجلّ) إليه : يا جبل أيعتصم بك منّي ؟ فتقطع قطعاً قطعاً إلى بلاد الشام، وصار رملا دقيقاً، وصار بعد ذلك بحراً عظيماً، وكان يسمّى ذلك البحر بحر ني، ثمّ جفّ بعد ذلك، فقيل : ني جفّ، فسمّى نيجف، ثمّ صار بعد ذلك يسمّونه نجف، لأنّه كان أخفّ على ألسنتهم» (2).

قبر الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ما روي عن عبداللّه بن حازم :قال خرجنا يوماً مع الرشيد من الكوفة فصرنا إلى ناحية الغريين، فرأينا ظباء، فأرسلنا عليها الصقور والكلاب فجاولتها ساعة، ثمّ لجأت الظباء إلى أكمة فتراجعت الصقور والكلاب عنها، فتعجّب الرشيد من ذلك، ثمّ إنّ الظباء هبطت من الأكمة فسقطت الطيور والكلاب عليها، فرجعت الظباء إلى الأكمة فتراجعت الصقور والكلاب عنها مرة ثانية، ثمّ فعلت ذلك مرة أُخرى، فقال الرشيد: اركضوا إلى الكوفة فأتوني بأكبرها سنّاً، فأُتي بشيخ من بني أسد، فقال الرشيد: أخبرني ما هذه الأكمة؟ قال: حدّثني أبي عن آبائه أنه كانوا يقولون: إنّ هذه الأكمة قبر علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، جعله اللّه حرماً لا يأوي إليه شيء إلا آمن، فنزل هارون، ودعا بماء وتوضّأ وصلّى عند الأكمة، وجعل يدعو ويبكي ويتمرغ عليها بوجهه، وأمر أن يبني قبّة بأربعة أبواب فبنى، وبقي إلى أيّام السلطان عضد الدولة، فجاء فأقام في ذلك الطريق قريباً من سنة هو وعساكره، فبعث فأتى بالصنّاع والاستاديّة من الأطراف، وخرّب

ص: 609


1- هود: 43.
2- البحار: ج 100 ص 226.

تلك العمّارة وصرف أموالا كثيرة جزيلة، وعمّر عمّارة جليلة حسنة، وهي العمّارة التي كانت قبل عمّارة اليوم، واللّه العالم (1).

أردت أن أعظه فوعظني

عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ محمّد بن المنكدر كان يقول : ما كنت أرى أنّ مثل علي بن الحسين يدع خلفاً لفضل علي بن الحسين، وحتى رأيت ابنه محمّد بن علي فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه بأي شيء وعظك ؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة فلقيت محمّد بن علي، وكان رجلا بديناً، وهو متّك على غلامين له أسودين أو موليين، فقلت في نفسي : شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أشهد لأعظنّه فدنوت منه، فسلّمت عليه، فسلّم علي بنهر، وقد تصبب عرقاً، فقلت: أصلحك اللّه شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا ؟ ! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحالة.

قال: فخلاً عن الغلامين من يده، ثمّ تساند (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقال : لو جاءني واللّه الموت وأنا في هذه الحال; جاءني وأنا في طاعة من طاعات اللّه تعالى أكفّ بها نفسي عنك وعن الناس، وإنّما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي اللّه، فقلت: يرحمك اللّه أردت أن أعظك وعظتني (2).

ماذا يقول المال لصاحبه

عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «احذروا المال، فانّه كان فيما مضى رجل قد جمع مالا وولداً وأقبل على نفسه وجمع لهم فأوعى، فأتاه ملك الموت فقرع بابه، وهو في زيّ مسكين، فخرج إليه

ص: 610


1- البحار: ج 100 ص 252.
2- البحار: ج 103 ص 8.

الحجّاب، فقال لهم: ادعوا لي سيّدكم قالوا أو يخرج سيّدنا إلى مثلك، ودفعوه حتّى نحوه عن الباب، ثم عاد إليهم في مثل تلك الهيئة، وقال: ادعوا لي سيدكم، وأخبروه أني ملك الموت، فلمّا سمع سيّدهم هذا الكلام قعد فرقاً وقال لأصحابه: ليّنوا له في المقال، وقولوا له : لعلّك تطلب غير سيّدنا بارك اللّه فيك، قال لهم: لا، ودخل عليه وقال له: قم فأوص ما كنت موصياً، فإنّي قابض روحك قبل أن أخرج، فصاح أهله وبكوا فقال: افتحوا الصناديق واكتبوا ما فيها من الذهب والفضة، ثمّ أقبل على المال يسبّه ويقول له: لعنك اللّه يامال، أنت أنسيتني ذكر ربّي، وأغفلتني عن أمر آخرتي، حتّى بغتني من أمر اللّه ما قد بغتني، فأنطق اللّه المال، فقال له: لم تسبّني وأنت ألأم منّي ؟ ألم تكن في أعين الناس حقيراً فرفعوك لما رأوا عليك من أثري؟ ألم تحضر أبواب الملوك والسادة ويحضر هما الصالحون وتدخل قبلهم ويؤخّرون؟ ألم تخطب بنات الملوك والسادة ويخطبهنّ الصالحون فتنكح ويردّون؟ فلو كنت تنفقني في سبيل الخيرات لم أمتنع عليك، ولو كنت تنفقني في سبيل اللّه لم أنقص عليك، فلم تسبّني وأنت ألأم منّي ؟ إنّما خلقت أنا وأنت من تراب، فأنطلق تراثاً وانطلق بإثمي، هكذا يقول المال لصاحبه»(1).

اللّه يرزق من يشاء بغير حساب

عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن أبيه، عن جده قال : قال سيّدنا الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «من اهتمّ لرزقه كتب عليه خطيئة، إنّ دانيال كان زمن ملك جبّار عاتٍ أخذه فطرحه في جبّ، وطرح معه السباع، فلم تدنوا منه ولم تجرحه، فأوحى اللّه إلى نبي من أنبيائه: أن ائت دانيال بطعام، قال: ياربّ وأين دانيال؟ قال: تخرج من القرية يستقبلك ضبع فاتّبعه فإنّه يدلّك، فأتت به الضبع إلى ذلك الجبّ، فإذا فيه دانيال، فأدلي إليه الطعام، فقال دانيال: الحمد للّه الّذي لا ينسى من ذكره، الحمد للّه الّذي لا يخيب من دعاه، الحمد للّه

ص: 611


1- البحار: ج 103 ص 24.

الذي من توكّل عليه كفاه الحمد للّه الّذي من وثق به لم يكله إلى غيره، الحمد للّه الّذي يجزي بالإحسان إحساناً وبالصبر نجاتاً، ثمّ قال الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ اللّه أبى إلا يجعل أرزاق المتّقين من حيث لا يحتسبون، وأن لا يقبل لأوليائه شهادة في دولة الظالمين».

أيضاً عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان في بني إسرائيل عابد، وكان عارفاً تنفق عليه امرأته، فجاءها يوماً فدفعت إليه غزلا فذهب فلم يشترِ بشيء، فجاء إلى البحر فإذا هو بصيّاد قد اصطاد سمكاً كثيراً فأعطاه الغزل وقال: انتفع به في شبكتك، فدفع إليه سمكة فأخذها وخرج بها إلى زوجته، فلمّا شقها بدت من جوفها لؤلؤة فباعها بعشرين الف درهم».

أيضاً ذكروا أن سليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ) كان جالساً على شاطىء بحر فبصر بنملة تحمل حبّة قمح تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان ينظر إليها حتّى بلغت الماء، فإذا بضفدعة قد أخرجت رأسها من الماء، وفتحت فاها، فدخلت النملة فاها، وغاصت الضفدعة في البحر ساعة طويلة، وسليمان يتفكر في ذلك متعجباً.

ثمّ إنّها خرجت من الماء وفتحت فاها فخرجت النملة من فيها، ولم تكن معها،الحبّة، فدعاها سليمان وسألها عن حالها وشأنها وأين كانت، فقالت : يا نبي اللّه في قعر هذا البحر الّذي تراه صخرة مجوّفة، وفي جوفها دودة عمياء، وقد خلقها اللّه تعالى هنالك، فلا تقدر أن تخرج منها لطلب معاشها، وقد وكّلني اللّه برزقها، فأنا أحمل رزقها، وسخّر اللّه هذه الضفدعة لتحملني، فلا يضرّني الماء في فيها، وتضع فاها على ثقب الصخرة وأدخلها، ثمّ إذا أوصلت رزقها إليها خرجت من ثقب الصخرة إلى فيها، فتخرجني من البحر، قال سليمان: «وهل سمعت لها من تسبيحة» ؟ قالت : نعم، تقول: يامن لا تنساني في جوف هذه الصخرة تحت هذه اللجّة برزقك، لا تنس عبادك المؤمنين برحمتك (1).

ص: 612


1- البحار: ج 103 ص28.

الأُخوة الثلاثة

عن الثمالي، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «كان في بني إسرائيل رجل عاقل كثير المال، وكان له ابن يشبهه في الشمائل من زوجة عفيفة، وكان له إبنان من زوجة غير عفيفة. فلمّا حضرته الوفاة قال لهم: هذا مالي لواحد منكم، فلمّا توفّي قال الكبير : أنا ذلك الواحد، وقال :الأوسط: أنا ذلك، وقال الأصغر : أنا ذلك، فاختصموا إلى قاضيهم، قال: ليس عندي في أمركم شيء، انطلقوا إلى بني غنام الأُخوة الثلاث، فانتهوا إلى واحد منهم، فرأوا شيخاً كبيراً، فقال لهم: ادخلوا إلى أخي فلان فهو أكبر مني فاسألوه، فدخلوا عليه فخرج شيخ كهل فقال: سلوا أخي الأكبر مني، فدخلوا على الثالث، فإذا هو في المنظر أصغر فسألوه أوّلا عن حالهم ثمّ مبيّناً [هم] فقال:

أمّا أخي الّذي رأيتموه أوّلا: هو الأصغر، وإنّ له امرأة سوء تسوؤه، وقد صبر عليها مخافة أن يبتلي ببلاء لا صبر له عليه فهرمته، وأما الثاني أخي؛ فانّ عنده زوجة تسوؤه وتسرّه، فهو متماسك الشباب، وأما أنا؛ فزوجتي تسرّني ولا تسوؤني، لم يلزمني منها مكروه قطّ منذ صحبتني، فشبابي معها متماسك، وأمّا حديثكم الّذي هو حديث أبيكم؛ انطلقوا أوّلا وبعثروا قبره، واستخرجوا عظامه وأحرقوها، ثمّ عودوا لأقضي بينكم.

فانصرفوا، فأخذ الصبي سيف أبيه، وأخذ الإخوان [المعاول]، فلمّا أن همّا بذلك فقال لهم الصغير : لا تبعثروا قبر أبي، وأنا أدعُ لكما حصّتي، فانصرفوا إلى القاضي، فقال: يقنعكها هذا ائتوني بالمال، فقال للصغير : خذ المال، فلو كانا ابنيه لدخلهما من الرقّة كما دخل على الصغير»(1).

ص: 613


1- البحار: ج 103 ص 233.

سبعون حلالا خير من سبعمائة حرام

روي أنّ رجلا دخل على الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وشكا إليه فاقته، فقال له (عَلَيهِ السَّلَامُ): «طب نفساً فانّ اللّه يسهّل الأمر»، فخرج الرجل فلقي في طريقه همياناً فيه سبع مائة دينار، فأخذ منه ثلاثين ديناراً وانصرف إلى أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحدّثه بما وجد، فقال له: «اخرج وناد عليه سنة لعلّك تظفر بصاحبه»، فخرج الرجل وقال : لا أُنادي في الأسواق وفي مجمع الناس، وخرج إلى سكّة في آخر البلد وقال: من ضاع له شيء؟ فإذا رجل قال: ذهب منّي سبع مائة دينار في كذا قال معي ذلك، فلمّا رآه وكان معه ميزان فوزنها فكان كما كان فأخذ منها سبعين ديناراً وأعطاها الرجل، تنقص فأخذها وخرج إلى أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فلمّا رآه تبسّم وقال: «ما هذه ؟ هات الصرّة» فأتى بها فقال: «هذا ثلاثون وقد أخذت سبعين من الرجل وسبعون حلالا خير من سبعمائة حرام» (1).

هوى النفس في القضاء

عن محمّد بن إسماعيل بن الحكم، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «كان في بني إسرائيل،قاضٍ وكان يقضي بينهم قال : فلمّا حضره الموت قال لامرأته: إذا متّ فاغسليني، وكفّنيني، وضعيني على سريري، وغطّي وجهي، فإنّك لا ترين سواء، قال: فلمّا أن مات فعلت به ذلك، ثم مكثت حيناً وكشفت عن وجهه لتنظر إليه فإذا هي بدودة تقرض،منخره ففزعت لذلك، فلمّا كان الليل أتاها في منامها فقال لها: أفزعك ما رأيت؟ فقالت: أجل لقد فزعت قال: أمّا إنّك إن كنت فزعت ما كان ما رأيت إلّا في أخيك فلان أتاني ومعه خصم له، فلمّا جلسا إلى قلت: اللّهم اجعل الحقّ له، ووجّه القضاء له على صاحبه، فلمّا اختصما إليّ كان الحقّ له، ورأيت ذلك بيّناً في القضاء، فوجّهت القضاء

ص: 614


1- البحار: ج 104 ص 250.

له على صاحبه، فأصابني ما رأيت لموضع هواي كان معه وإن وافقه الحق» (1).

التوسّل بالقرآن

عن محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه قال: جاء رجل إلى سيدنا الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال له: ياسيّدي أشكو إليك دَيْناً ركبني، وسلطاناً غشمني، وأُريد أن تعلمني دعاء أغنم بها غنيمة وأقضي بها دَيْني، وأُكفي بها ظلم سلطاني، فقال: «إذا جنّك الليل فصلّ ركعتين واقرأ في الركعة الأُولى منها الحمد وآية الكرسي وفي الركعة الثانية الحمد وآخر الحشر: «لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ» إلى خاتمة السورة، ثمّ خذ المصحف فدعه على رأسك وقل: اللّهم بهذا القرآن وبحقّ من أرسلته، وبحقّ كلّ مؤمن مدحته فيه، وبحقّك عليهم، فلا أحد أعرف بحقّك منك، بك يا اللّه، عشر مرّات، ثم تقول: يامحمّد، عشر مرّات، ياعلي عشر مرّات، يافاطمة عشر مرّات، یاحسن عشر مرّات، ياحسين عشر مرّات، ياعلي بن الحسين، يامحمّد بن علي، ياجعفر بن محمّد، ياموسى بن جعفر، ياعلي بن موسى، يامحمّد بن علي، ياعلي بن محمّد، ياحسن بن علي، يا أيها الحجّة، كلّ واحد من الأئمّة تذكره عشر مرّات ثمّ تسأل اللّه تعالى حاجتك».

قال: فمضى الرجل وعاد إليه بعد مدّة قد قضي دينه، وصلح سلطانه وعظم يساره(2).

حسنة الكافر وخطيئة المؤمن

عن أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : ولقد سمعت محمّداً رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول : إنهّ كان فيما مضى قبلكم رجلان أحدهما مطيع اللّه مؤمن والآخر كافر به مجاهر بعداوة أوليائه

ص: 615


1- البحار: ج 104 ص 276.
2- البحار: ج 2 ص 112.

وموالاة أعدائه وكلّ واحد منهما ملك عظيم في قطر من الأرض، فمرض الكافر، واشتهي سمكة في غير أوانها، لأنّ ذلك الصنف من السمك كان في ذلك الوقت في اللجج بحيث لا يقدر عليه، فآيسته الأطباء من نفسه، وقالوا له : استخلف على ملكك من يقوم به، فلست بأخلد من أصحاب القبور، فإنّ شفاءك في هذه السمكة التي اشتهيتها ولا سبيل إليها، فبعث اللّه ملكاً وأمره أن يزعج تلك السمكة إلى حيث يسهل أخذها، فأخذت له تلك السمكة، فأكلها وبرىء من مرضه، وبقي في ملكه سنين بعدها.

ثمّ إنّ ذلك الملك المؤمن مرض في وقت كان جنس ذلك السمك بعينه لا يفارق الشطوط التي يسهل أخذها منه مثل علّة الكافر، فاشتهى تلك السمكة ووصفها له الأطبّاء وقالوا: طب نفساً فهذا أوانه، تؤخذ لك فتأكل منها، وتبرأ، فبعث اللّه ذلك الملك وأمره أن يزعج جنس تلك السمكة عن الشطوط إلى اللّجج لئلا يقدر عليها، فلم يوجد حتّى مات المؤمن من شهوته وبُعد دوائه.

فعجب من ذلك ملائكة السماء وأهل ذلك البلد في الأرض حتّى كادوا يفتنون لأنّ اللّه تعالى سهّل على الكافر ما لا سبيل إليه وعسّر على المؤمن ما كان السبيل إليه سهلا، فأوحى اللّه إلى ملائكة السماء وإلى نبيّ ذلك الزّمان في الأرض:

إنّي أنا اللّه الكريم المتفضّل القادر، لا يضرني ما أُعطي، ولا ينقصني ما أمنع، ولا أظلم أحداً مثقال ذرّة، فأما الكافر فإنّما سهّلت له أخذ السمكة في غير أوانها، ليكون جزاء على حسنة كان عملها، إذ كان حقاً على ألا أبطل لأحد حسنة، حتّى يرد القيامة ولا حسنة في صحيفته، ويدخل النار بكفره، ومنعت العابد تلك السمكة بعينها، لخطيئة كانت منه، فأردت تمحيصها عنه بمنع تلك الشهوة وإعدام ذلك الدواء، وليأتني ولا ذنب عليه فيدخل الجنّة» (1).

ص: 616


1- البحار : ج 92 ص 242.

الدعوات الثلاث الضائعة

روي أنّ اللّه أوحى إلى نبيّ من الأنبياء في الزمن الأوّل: أنّ لرجل في أُمّته ثلاث دعوات مستجابة، فأخبره بذلك، فانصرف من عنده إلى بيته، وأخبر زوجته بذلك، فألّحت عليه أن يجعل دعوته لها، فرضي، فقالت: سل اللّه أن يجعلني أجمل نساء الزّمان، فدعا الرجل، فصارت كذلك، ثمّ إنّها لما رأت رغبة الملوك والشبان المتنعمين فيها متوفّرة، زهدت في زوجها الشيخ الفقير، وجعلت تغالظه وتخاشنه وهو يداريها، ولا يكاد يطيقها، فدعا اللّه أن يجعلها كلبة، فصارت كذلك، ثم اجتمع أولادها يقولون: يا أبت إنّ الناس يعيّرون؛ أنّ أُمّنا كلبة،نابحة وجعلوا يبكون ويسألونه أن يدعو اللّه أن يجعلها كما كانت فدعا اللّه تعالى فصيّرها مثل الّذي كانت في الحالة الأولى، فذهبت الدعوات الثلاث ضياعا (1).

قصّة اُمّ داود ودعائها

عن محمّد بن الحسن بن إسحاق... وعن فاطمة بنت عبداللّه بن إبراهيم بن الحسين، بعد قتل ابنيه محمّد وإبراهيم: حمل ابني داود بن الحسين من المدينة مكبّلا بالحديد مع بني عمه الحسنيين إلى العراق، فغاب عنّي حيناً، وكان هناك مسجوناً فانقطع خبره وأُعمي أثره، وكنت أدعو اللّه وأتضرّع إليه وأسأله خلاصه، واستعين باخواني من الزهّاد والعبّاد وأهل الجدّ والاجتهاد، وأسألهم أن يدعو اللّه لي أن يجمع بيني وبين ولدي قبل موتي، فكانوا يفعلون ولا يقصّرون في ذلك.

وكان يتّصل أنّه قد قتل، ويقول قوم : لا، قد بني عليه أُسطوانة مع بني عمّه، فتعظم مصيبتي، واشتدّ حزني ودقّ عظمي، وصرت إلى حدّ اليأس من ولدي لضعفي وانقضاء عمري، ولا أرى لدعائي إجابة.

ص: 617


1- البحار : ج 93 ص 326.

قالت: ثمّ إنّي دخلت على أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وكان عليلا، فلمّا سألته عن حاله ودعوت له، و هممت بالانصراف قال لي: «يااُمّ داود ما الّذي بلغك عن داود»؟ وكنت قد أرضعت جعفر بن محمّد بلبنه، فلمّا ذكره لي بكيت، وقلت له: جعلت فداك أين داود؟ داود محتبس بالعراق وقد انقطع عنّي خبره، ويئست من الاجتماع معه، وإنني لشديدة الشوق إليه والتلهف عليه، وأنا أسألك الدعاء له فإنّه أخوك في الرضاعة.

قالت: فقال لي أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يااُمّ داود فأين أنت من دعاء الاستفتاح والإجابة والنجاح، وهو الدعاء المستجاب الّذي لا يحجب عن اللّه (عزوجلّ)، ولا لصاحبه عند اللّه تبارك وتعالى ثواب دون الجنّة»؟ قالت قلت وكيف لي به يابن الأطهار الصادقين؟

قال: «ياأُمّ داود فقد دنا هذا الشهر الحرام – يريد (عَلَيهِ السَّلَامُ) شهر رجب - وهو شهر مبارك عظيم الحرمة مسموع الدعاء فيه، فصومي منه ثلاثة أيّام؛ الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وهي الأيام البيض، ثمّ اغتسلي في يوم النصف منه عند زوال الشمس، وصلّي الزوال ثمان ركعات ترسلين فيهنّ، وتحسنين ركوعهن وسجودهن وقنوتهنّ، تقرئين في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية قل هو اللّه أحد، وفي الست البواقي من السور القصار ما أحببت، ثمّ تصلّين الظهر، وتركعين بعد الظهر ثمان ركعات تحسنين ركوعهن وسجودهن وقنوتهنّ، ولتكن صلاتك في أطهر أثوابك في بيت نظيف على حصير نظيف واستعملي الطيب، فإنّه تحبّه الملائكة، واجتهدي أن لا يدخل عليك أحد يكلمك أو يشغلك».

ثمّ قال: «فإذا فرغت من الدعاء فاسجدي على الأرض، وعفّري خدّيك على الأرض، وقولي لك سجدت وبك آمنت فارحم ذلّي وفاقتي وكبوتي لوجهي، واجهدي أن تسحّ عيناك ولو مقدار ذباب دموعاً، فإنّه آية إجابة هذا الدعاء حرقة القلب، وانسكاب العبرة، فاحفظي ما علّمتك، ثمّ احذري أن يخرج عن يديك إلى يد

ص: 618

غيرك ممّن يدعو به لغير حقّ، فانّه دعاء شريف، وفيه اسم اللّه الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب وأُعطي، ولو أنّ السماوات والأرض كانتا رتقاً والبحار بأجمعها من دونها وكان ذلك كله بينك وبين حاجتك لسهّل اللّه (عزوجلّ) الوصول إلى ما تريدين، وأعطاك طلبتك، وقضى لك حاجتك، وبلّغك آمالك، ولكلّ من دعا بهذا الدعاء الإجابة من اللّه تعالى ذكراً كان أو أنثى، ولو أنّ الجن والإنس أعداء لولدك لكفاك اللّه مؤنتهم، وأخرس عنك ألسنتهم، وذلّل لك رقابهم إن شاء اللّه».

قالت أُمّ داود: فكتب لي هذا الدعاء، وانصرفت إلى منزلي، ودخل شهر رجب فتوخّيت الأيام وصمتها، ودعوت كما أمرني وصليت المغرب والعشاء الآخرة، وأفطرت، ثمّ صلّيت من الليل ما سنح لي، وبتّ في ليلي، ورأيت في نومي ما صلّيت عليه من الملائكة والأنبياء والشهداء والأبدال والعباد، ورأيت النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فإذا هو يقول : «بابنيّة ياأمّ داود أبشري، فكل من ترين أعوانك وشفعاؤك، وكلّ من ترين يستغفرون لك، ويبشّرونك بنجح حاجتك، فابشري بمغفرة اللّه ورضوانه، فجزيت خيراً عن نفسك وابشري بحفظ اللّه لولدك وردّه عليك إن شاء اللّه».

قالت اُمّ:داود فانتبهت من نومي، فواللّه ما مكثنا بعد ذلك إلّا مقدار مسافة الطريق من العراق للراكب المجدّ المسرع، حتّى قدم عليّ داود، فقال: ياأُمّاه إنّي لمحتبس بالعراق في أضيق المحابس، وعليّ ثقل الحديد، وأنا في حال الإياس من الخلاص، إذ نمت في ليلة النصف من رجب، فرأيت الدنيا قد خفضت لي حتّى رأيتك في حصير في صلاتك، وحولك رجال رؤوسهم في السماء وأرجلهم في الأرض عليهم ثياب خضر يسبّحون من حولك، وقال قائل جميل الوجه، حلية النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نظيف الثوب، طيّب الريح، حسن الكلام فقال: يابن العجوزة الصالحة أبشر، فقد أجاب اللّه (عزوجلّ) دعاء أمّك، فانتبهت فإذا أنا برسول أبي الدوانيق، فأُدخلت عليه في الليل، فأمر بفكّ حديدي والإحسان إليّ

ص: 619

وأمر لي بعشرة آلاف درهم و أن أحمل على نجيب، واستسعي بأشدّ السير، فأسرعت حتى وصلت إلى المدينة.

قالت أُمّ داود: فمضيت به إلى أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فسلّم عليه وحدثه بحديثه، فقال له الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ أبا الدوانيق رأى في النوم علياً (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول له: أطلق ولدي وإلا لأقتيك في النار، ورأى كأنّ تحت قدميه النيران فاستيقظ وقد سقط في يده (1) فأطلقك» (2).

ص: 620


1- سقط في يده : أي ندم على ما فعل، وتحير.
2- البحار: ج 97 ص 46.

باب عبّر وحِكَم

الشاب المذنب

دخل معاذ بن جبل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) باكياً، فسلّم فرد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثم قال: «ما يبكيك يا معاذ»؟ فقال: يارسول اللّه إنّ بالباب شابّاً طري الجسد نقيّ اللون حسن الصورة، يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها يريد الدخول عليك، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «أدخل عليَّ الشابّ يا معاذ»، فأدخله عليه، فسلّم فرد (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثم قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «ما يبكيك ياشاب»؟ قال: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً إن أخذني اللّه (عزوجلّ) ببعضها أدخلني نار جهنّم، ولا أراني إلّا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبداً.

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «هل أشركت باللّه شيئاً» ؟ قال : أعوذ باللّه أن أُشرك بربّي شيئاً، قال: «أقتلت النفس الّتي حرم اللّه» ؟ قال : لا، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يغفر اللّه لك ذنوبك وان كانت مثل الجبال الرواسي»، فقال الشاب: فإنها أعظم من الجبال الرواسي.

فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يغفر اللّه لك ذنوبك وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق»، قال : فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق.

فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «يغفر اللّه لك ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ومثل العرش والكرسيّ»، قال: فإنّها أعظم من ذلك. قال: فنظر النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إليه كهيئة الغضبان، ثمّ قال: «ويحك ياشاب ذنوبك أعظم أم ربّك»؟ فخر الشاب لوجهه وهو يقول:

ص: 621

سبحان ربّي ما شيء أعظم من ربّي، ربّي أعظم يا نبيّ اللّه من كل عظيم، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «فهل يغفر الذنب العظيم إلّا الربّ العظيم»؟

قال الشاب: لا واللّه يارسول اللّه، ثم سكت الشاب، فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): «ويحك ياشاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك»؟ قال: بلى أُخبرك.

إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين، أخرج الأموات وأنزع الأكفان، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار، فلمّا حملت إلى قبرها ودفنت وانصرف عنها أهلها، وجنّ عليهم اللّيل أتيت قبرها،فنبشتها، ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها، وتركتها متجّردة على شفير قبرها، ومضيت منصرفاً، فأتاني الشيطان فأقبل يزينّها لي، ويقول : أما ترى بطنها وبياضها؟ أما ترى وركيها؟ فلم يزل يقول لي هذا حتّى رجعت إليها، ولم أملك نفسي حتّى جامعتها وتركتها مكانها، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول:

ياشابّ ويل لك من ديّان يوم الدين يوم يقفني وإيّاك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى، ونزعتني من حفرتي وسلبتني أكفاني وتركتني أقوم جنبةً إلى حسابي، فويل الشبابك من النار. فما أظنّ أنّي أشم ريح الجنّة أبداً، فما ترى لي يارسول اللّه ؟

فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «تنحّ عنّي يافاسق إني أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النار»، ثم لم يزل (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول ويشير إليه حتّى أُمعن من بين يديه.

فذهب فأتى المدينة فتزود منها، ثم أتى بعض جبالها فتعبّد فيها، ولبس مسحاً، وغلّ يديه جميعاً إلى عنقه، ونادى: يا ربّ هذا عبدك،بهلول، بين يديك مغلول، يا ربّ أنت الّذي تعرفني، وزلّ منّي ما تعلم سيّدي، يا ربّ أصبحت من النادمين، وأتيت نبيّك تائباً فطردني وزادني خوفاً، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيّب رجائي، سيدي ولا تبطل دعائي، ولا تقنطني من رحمتك، فلم يزل يقول ذلك

ص: 622

أربعين يوماً وليلة، تبكي له السباع والوحوش، فلمّا تمت له أربعون يوماً وليلة رفع يديه إلى السماء وقال:

اللّهمّ ما فعلت في حاجتي ؟ إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوح إلى نبيك، وإن لم تستجب لي دعائي ولم تغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي فعجل بنار تحرقني، أو عقوبة في الدنيا تهلكني، وخلّصني من فضيحة يوم القيامة. فأنزل اللّه تبارك وتعالى على نبيه : «وَالّذين إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً» يعني الزنا «أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ» يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزنا، ونبش القبور وأخذ الأكفان «ذَكَرُوا اللّه فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ» يقول : خافوا اللّه فعجّلوا التوبة «وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا اللّهُ»

يقول (عزوجلّ) : أتاك عبدي يا محمّد تائباً فطردته فأين يذهب ؟ وإلى من يقصد؟ ومن يسأل أن يغفر له ذنباً غيري ؟ ثم قال (عزوجلّ) : «وَلَمْ يُصِرُوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»(1) يقول: لم يقيموا على الزنا ونبش القبور وأخذ الأكفان «أُولَيكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّتُ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ»(2).

فلما نزلت هذه الآية على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خرج وهو يتلوها ويتبسّم، فقال لأصحابه: «من يدلني على ذلك الشاب التائب»؟ فقال معاذ: يارسول اللّه بلغنا أنه في موضع كذا وكذا، فمضى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بأصحابه حتّى انتهوا إلى ذلك الجبل، فصعدوا إليه يطلبون الشاب، فإذا هم بالشابّ قائم بين صخرتين، مغلولة يداه إلى عنقه قد اسود وجهه، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء.

وهو يقول: سيدي قد أحسنت خلقي وأحسنت صورتي، فليت شعري ماذا تريد بي؟ أفي النار تحرقني؟ أو في جوارك تسكنني؟ اللّهم إنّك قد أكثرت الإحسان

ص: 623


1- آل عمران: 135.
2- آل عمران: 136.

إليّ، وأنعمت عليّ، فليت شعري ماذا يكون آخر أمري؟ إلى الجنّة تزفّني؟ أم إلى النار تسوقني ؟ اللّهم إنّ خطيئتي أعظم من السماوات والأرض ومن كرسيك الواسع وعرشك العظيم، فليت شعري تغفر خطيئتي أم تفضحني بها يوم القيامة؟ فلم يزل يقول نحو هذا، وهو يبكي ويحثو التراب على رأسه، وقد أحاطت به السباع، وصفت فوقه الطير، وهم يبكون لبكائه.

فدنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأطلق يديه من عنقه، ونفض التراب عن رأسه، وقال: «يا بهلول إبشر فإنّك عتيق اللّه من النار»، ثم قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): لأصحابه: «هكذا تداركوا الذنوب كما تدارکها بهلول، ثمّ تلا عليه ما أنزل اللّه (عزوجلّ) فيه وبشّره بالجنّة»(1).

الذباب والمسك

عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : كانت قريش تلطّخ الأصنام الّتي كانت حول الكعبة بالمسك والعنبر، وكان يغوث قبالة الباب، وكان يعوق عن يمين الكعبة، وكان نسراً عن يسارها، وكانوا إذا دخلوا خروا سجداً ليغوث، ولا ينحنون، ثم يستديرون بحيالهم إلى يعوق، ثم يستديرون بحيالهم إلى نسر، ثم يلبون فيقولون: لبيك اللّهم لبيّك لبيّك لا شريك لك، إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك. قال : فبعث اللّه ذباباً أخضر له أربعة أجنحة، فلم يبق من ذلك المسك والعنبر شيئاً إلا أكله، وأنزل اللّه (عزوجلّ) : «يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذين تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا للّه وَإِن يَسْلُهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ»(2)(3).

ص: 624


1- لبحار : ج 6 ص 23.
2- الحج: 73.
3- البحار: ج 3 ص 253.

أبو سفيان وعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

لمّا دخل أبو سفيان المدينة لتجديد العهد بين رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وبين قريش عندما كان من بني بكر في خزاعة وقتلهم من قتلوا منها، فقصد أبو سفيان ليتلافى الفارط من القوم، وقد خاف من نصرة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لهم، وأشفق ممّا حلّ بهم يوم الفتح، فأتى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وكلّمه في ذلك، فلم يردّ عليه جواباً، فقام من عنده فلقيه أبو بكر فتشبّث به وظنّ أنه يوصله إلى بغيته من النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فسأله كلامه له، فقال : ما أنا بفاعل ذلك، لعلم أبي بكر بأنّ سؤاله في ذلك لا يعني شيئاً، فظنّ أبو سفيان بعمر ما ظنّه بأبي بكر، فكلّمه في ذلك، فدفعه بغلظة وفظاظة كادت أن تفسد الرأي على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فعدل إلى بيت أمير المؤمنين، فاستأذن عليه فأذن له، وعنده فاطمة والحسن والحسين (عَلَيهِم السَّلَامُ)، فقال : يا علي إنّك أمسّ القوم بي رحماً، وأقربهم منّي قرابة، وقد جئتك فلا أرجعنّ كما جئت خائباً، اشفع لي عند رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فيما قصدته، فقال له: «ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على أمر لا نستطيع أن نكلّمه فيه»، فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) فقال لها : يا بنت محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) هل لك أن تأمري ابنيك أن يجيرا بين الناس فيكونا سيدي العرب إلى آخر الدهر ؟ فقالت: «ما بلّغ ابناي أن يجيرا بين الناس وما يحير أحد على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فتحيّر أبو سفيان وأسقط في يديه (1) ثمّ أقبل على أمير المؤمنين فقال: يا أبا الحسن أرى الأمور قد التبست عليّ فانصح لي، فقال له أمير المؤمنين: «ما أرى شيئاً يغني عنك، ولكنّك سيّد بني كنانة، فقم وأجر بين الناس، ثمّ الحق بأرضك»، قال: فترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟ قال: «لا واللّه ما أظنّ، ولكن ما أجد لك غير ذلك»، فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيّها الناس إنّي قد أجرت بين الناس، ثمّ ركب بعيره وانطلق، فلمّا قدم على قریش قالوا ما وراءك ؟

ص: 625


1- ندم، تحير.

قال: جئت محمّداً فكلّمته، فواللّه ما ردّ عليّ شيئاً، ثمّ جئت إلى ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثمّ لقيت ابن الخطاب فوجدته فظّاً غليظاً لا خير فيه، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم لي، وقد أشار علي بشيء فصنعته، فواللّه ما أدري يغني عنّي شيئاً أم لا قالوا بما أمرك ؟ قال : أمرني أن أُجير بين الناس ففعلت.

فقالوا: هل أجاز ذلك محمّد ؟ قال : لا، قالوا: فويلك فواللّه إن زاد الرجل على أن لعب بك فما يغني عنك.

فقال أبو سفيان: لا واللّه ما وجدت غير ذلك (1).

زيد بن حارثة وأصحابه

قال أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ): «لقد بعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) جيشاً ذات يوم إلى قوم من أشدّاء الكفّار فأبطأ عليهم خبرهم، وتعلّق قلبه بهم، وقال: ليت لنا من يتعرّف أخبارهم ويأتينا بأنبائهم، بينا هو قائل إذ جاءه البشير بأنهم قد ظفروا بأعدائهم واستولوا وصيّروهم بين قتيل وجريح وأسير، وانتهبوا أموالهم، وسبوا ذراريهم وعيالهم، فلمّا قرب القوم من المدينة خرج إليهم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بأصحابه يتلقاهم، فلمّا لقيهم ورئيسهم زيد بن حارثة، وكان قد أمره عليهم، فلمّا رأى زيد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نزل عن ناقته وجاء إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقبّل رجله، ثمّ قبّل يده فأخذه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقبل رأسه، ثم نزل إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عبداللّه بن رواحة فقبّل رجله ويده، وضمه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إليه، ثم نزل إليه سائر الجيش ووقفوا يصلّون عليه وردّ عليهم رسول اللّه خيراً، ثمّ قال لهم: حدّثوني خبركم وحالكم مع أعدائكم، وكان معهم من أُسراء القوم وذراريهم وعيالاتهم وأموالهم من الذهب والفضّة وصنوف الأمتعة شيء عظيم، فقالوا: يارسول اللّه لو علمت كيف حالنا لعظم

ص: 626


1- البحار: ج 22 ص 76.

تعجبّك فقال رسول اللّه : لم أكن أعلم ذلك حتّى عرّفنيه الآن جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وما كنت أعلم شيئاً من كتابه ودينه أيضاً حتّى علّمنيه ربّي، قال اللّه (عزوجلّ) : «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»(1).

ولكن حدّثوا بذلك إخوانكم هؤلاء المؤمنين لأُصدّقكم فقد أخبرني جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقالوا: يارسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إنّا لمّا قربنا من العدو بعثنا عيناً لنا لنعرف أخبارهم وعددهم لنا، فرجع إلينا يخبرنا أنّهم قدر ألف رجل، وكنا ألفي رجل، وإذا القوم قد خرجوا إلى ظاهر بلدهم في ألف رجل، وتركوا في البلد ثلاثة آلاف فتوهمنا أنهم ألف، وأخبرنا صاحبنا أنهم يقولون في ما بينهم نحن ألف وهم ألفان، ولسنا نطيق مكافحتهم، وليس لنا إلاّ التحصن في البلد، حتّى تضيق صدورهم من مقاتلتنا، فينصرفوا عنّا، فتجرأنا بذلك عليهم، وزحفنا إليهم، فدخلوا بلدهم، وأغلقوا دوننا بابه، فقعدنا ننازلهم، فلمّا جنّ علينا الليل وصرنا إلى نصفه فتحوا باب بلدهم، ونحن غارون نائمون، ما كان فينا منتبه إلا أربعة نفر؛ زيد بن حارثة في جانب من جوانب عسكرنا يصلّي ويقرأ القرآن، وعبداللّه بن رواحة في جانب آخر يصلّي ويقرأ القرآن وقتادة بن النعمان في جانب آخر يصلي ويقرأ القرآن، وقيس بن عاصم في جانب آخر يصلّي ويقرأ القرآن، فخرجوا في الليلة الظلماء الدامسة ورشقونا بنبالهم، وكان ذلك بلدهم وهم بطرقه ومواضعه عالمون، ونحن بها جاهلون، فقلنا فيما بيننا: دهينا وأُوتينا هذا ليل مظلم لا يمكننا أن نتقي النبال لأنا لا نبصرها، فبينا نحن كذلك إذ رأينا ضوءًا خارجاً من في قيس بن عاصم المنقري كالنار المشتعلة، وضوءًا خارجاً من في قتادة بن النعمان كضوء الزهرة والمشتري، وضوءًا خارجاً من في عبداللّه بن رواحة كشعاع القمر في الليلة المظلمة، ونوراً ساطعاً من في زيد

ص: 627


1- الشورى: 52.

بن الحارثة أضوء من الشمس الطالعة، وإذا تلك الأنوار قد أضاءت معسكرنا حتّى أنه أضوء من نصف النهار، وأعداؤنا في ظلمة شديدة، فأبصرناهم وعموا عنا، ففرّقنا زيد عليهم حتّى أحطنا بهم، ونحن نبصرهم وهم لا يبصروننا، فنحن بصراء وهم عميان فوضعنا عليهم السيوف فصاروا بين قتيل وجريح وأسير، ودخلنا بلدهم فاشتملنا على الذراري والعيال والأثاث والأموال، وهذه عيالاتهم وذراريهم، وهذه أموالهم، وما رأينا يارسول اللّه أعجب من تلك الأنوار من أفواه هؤلاء القوم التي عادت ظلمة على أعدائنا حتّى مكنا منهم.

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : فقولوا: الحمد للّه ربّ العالمين على ما فضلّكم به من شهر شعبان هذه كانت غرّة،شعبان، وقد انسلخ عنهم الشهر الحرام، وهذه الأنوار بأعمال إخوانكم هؤلاء في غرّة،شعبان، وأسلفوا لها أنواراً في ليلتها قبل أن يقع منهم الأعمال.

:قالوا يارسول اللّه وما تلك الأعمال لنثاب عليها ؟ قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أما قيس بن عاصم المنقري; فإنّه أمر بمعروف في يوم غرّة شعبان، وقد نهى عن منكر، ودلّ على خير فلذلك قدّم له النور في بارحة يومه عند قراءته القرآن وأمّا قتادة بن النعمان; فإنّه قضى ديناً كان عليه في يوم غرّة،شعبان، فلذلك أسلفه اللّه النور في بارحة يومه.

وأمّا عبداللّه بن رواحة ; فإنّه كان برّاً بوالديه، فكثرت غنيمته في هذه الليلة، فلمّا كان من غده قال له أبوه : إنّي وأُمّك لك محبّان، وإنّ امرأتك فلانة تؤذينا وتعيبنا، وإنّا لا نأمن من انقلاب في بعض هذه المشاهد، ولسنا نأمن أن تستشهد في بعضها فتداخلنا هذه في أموالك، يزداد علينا بغيها وغيها، فقال عبد اللّه : ما كنت أعلم بغيها عليكما وكراهيتكما لها، ولو كنت علمت ذلك لأبنتها (1) من نفسي، ولكنّي قد أبنتها الآن لتأمنا ما تحذران، فما كنت بالذي أحبّ من تكرهان فلذلك أسلفه اللّه النور الّذي رأيتم، وأمّا زيد بن

ص: 628


1- أي طلّقتها.

حارثة الّذي كان يخرج من فيه نور أضوء من الشمس الطالعة، وهو سيّد القوم وأفضلهم، فلقد علم اللّه ما يكون منه، فاختاره وفضّله على علمه بما يكون منه»(1).

سعد بن معاذ

عن أبي عبداللّه جعفر بن محمّد الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أُتي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقيل له: سعد بن معاذ قد مات، فقام رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وقام أصحابه معه، فأمر بغسل سعد وهو قائم على عضادة الباب، فلمّا حنّط وكفّن وحمل على سريره تبعه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بلا حذاء ولا رداء، كان يأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة حتّى انتهى به إلى القبر، فنزل رسول اللّه حتّى لحده، وسوّى عليه اللبن، وجعل يقول : ناولوني حجراً ناولوني تراباً، فيسدّ به ما بين اللبن.

فلما أن فرغ وحثا عليه التراب وسوّى قبره، قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «إني لأعلم أنه سيبلى ويصل البلاء إليه، ولكنّ اللّه (عزوجلّ) يحبّ عبداً إذا عمل عملا أحكمه» فلمّا أن سوّى التربة عليه قالت أُمّ سعد من جانب: ياسعد هنيئاً لك الجنّة، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : ياأم سعد مه لا تجزمي على ربّك، فإنّ سعداً قد أصابته ضمّة، قال: فرجع رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ورجع الناس فقالوا: يارسول اللّه لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد، إنّك تبعت جنازته بلا حذاء ولا رداء، فقال: إنّ الملائكة كانت بلا رداء ولا حذاء فتأسّيت بها، قالوا: وكنت تأخذ يمنة السرير ويسرته، قال كانت يدي في يد جبرئيل آخذ حيث يأخذ، فقال: أمرت بغسله وصليت على جنازته ولحدته في قبره، ثمّ قلت: إنّ سعداً قد أصابته ضمّة، قال : فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : نعم إنه كان في خلقه مع أهله سوء» (2).

ص: 629


1- البحار: ج 22 ص 79.
2- البحار: ج 22 ص 107.

زواج جويبر من الدلفاء

عن أبي حمزة الثمالي :قال كنت عند أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) إذ استأذن عليه رجل فأذن له، فدخل عليه فسلّم، فرحّب به أبو جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأدناه وساءله، فقال الرجل: جعلت فداك إنّي خطبت إلى مولاك فلان بن أبي رافع ابنته فلانة فردّني، ورغب عنّي، وازدرأني لدمامتي وحاجتي وغربتي، وقد دخلني من ذلك غضاضة هجمة، عضّ لها قلبي تمنيت عندها الموت.

فقال أبو جعفر : «اذهب فأنت رسولي إليه، وقل له: يقول لك محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِم السَّلَامُ): زوّج منحج بن رباح مولاي ابنتك فلانة ولا تردّه»، قال أبو حمزة: فوثب الرجل فرحاً مسرعاً برسالة أبي جعفر، فلمّا أن توارى الرجل قال أبو جعفر : إنّ رجلا كان من أهل اليمامة يقال له: جويبر أتى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) منتجعاً للإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلا قصيراً دميماً محتاجاً عارياً، وكان من قباح السودان، فضمه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لحال غربته وعراه، وكان يجري عليه طعامه صاعاً من تمر بالصاع الأوّل، وكساه شملتين، وأمره أن يلزم المسجد ويرقد فيه بالليل، فمكث بذلك ما شاء اللّه، حتّى كثر الغرباء ممّن يدخل في الإسلام من أهل الحاجة بالمدينة، وضاق بهم المسجد، فأوحى اللّه (عزوجلّ) إلى نبيه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : أن طهّر مسجدك، وأخرج من المسجد من يرقد فيه بالليل ومر بسدّ أبواب كلّ من كان له في مسجدك باب إلّا باب علي، ومسكن فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)، ولا يمرّنّ فيه جنب ولا يرقد فيه غريب قال فأمر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بسدّ أبوابهم إلّا باب علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وأقر مسكن فاطمة صلّى اللّه عليها على حاله.

قال : ثمّ إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أمر أن يتخذ للمسلمين سقيفة فعُمِلت لهم، وهي الصفّة، ثمّ أمر الغرباء والمساكين أن يظلوا فيها نهارهم وليلهم، فنزلوها واجتمعوا فيها، فكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يتعاهدهم بالبر والتمر والشعير والزبيب إذا كان عنده، وكان المسلمون

ص: 630

يتعاهدونهم ويرقّون عليهم الرقة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ويصرفون صدقاتهم إليهم.

فانّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نظر إلى جويبر ذات يوم برحمة منه له ورقّه عليه فقال : ياجويبر لو تزوّجت امرأة، فعفّفت بها فرجك، وأعانتك على دنياك وآخرتك، فقال له جويبر: يارسول اللّه بأبي أنت وأُمّي من يرغب فيّ؟ فواللّه ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأيّة امرأة ترغب فيّ ؟ فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا جويبر إنّ اللّه قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرّف بالإسلام ما كان في الجاهلية وضيعاً، وأعزّ بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلا، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلّهم أبيضهم وأسودهم وقرشيّهم وعربيّهم وعجميّهم من آدم، وإنّ آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) خلقه اللّه من طين، وإنّ أحبّ الناس إلى اللّه (عزّوجلّ) يوم القيامة أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم ياجويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلا إلّا لمن كان أتقى للّه منك وأطوع.

ثمّ قال له: انطلق ياجويبر إلى زياد بن لبيد فإنّه من أشرف بني بياضة حسباً فيهم فقل له: إنّي رسول رسول اللّه إليك، وهو يقول لك: زوّج جويبر ابنتك الدلفاء، قال: فانطلق جويبر برسالة رسول اللّه إلى زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده، فاستأذن فأُعلم فأذن له وسلّم عليه، ثمّ قال: يازياد بن لبيد إنّي رسول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إليك في حاجة فأبوح بها أم أسرها إليك؟ فقال له زياد بل بح بها، فإنّ ذلك شرف لي وفخر، فقال له، فقال له جويبر

إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول لك: زوّج جويبر ابنتك الدلفاء، فقال له زياد: أرسول اللّه أرسلك إليّ بهذا ياجويبر ؟ فقال له : نعم، ما كنت لأكذب على رسول اللّه، فقال له زياد: إنا لا نزوّج فتياتنا إلا أكفاءنا من الأنصار، فانصرف ياجويبر حتّى ألقى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأُخبره بعذري.

ص: 631

فانصرف جويبر وهو يقول: واللّه ما بهذا نزل القرآن ولا بهذا ظهرت نبوّة محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فسمعت مقالته الدلفاء بنت زياد وهي في خدرها، فأرسلت إلى أبيها; أُدخل إليّ، فدخل إليها فقالت له: ما هذا الكلام الّذي سمعته منك تحاور به جويبراً؟ فقال لها: ذكر لي أنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أرسله وقال : يقول لك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : زوج جويبراً ابنتك الدلفاء، فقالت له : واللّه ما كان جويبر ليكذب على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بحضرته، فابعث الآن رسولا يردّ عليك جويبراً.

فبعث زیاد رسولا فلحق جويبراً فقال له :زياد ياجويبر مرحباً بك اطمئن حتّى أعود إليك، ثمّ إنطلق زياد إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال له: بأبي أنت وأمي إنّ جويبراً أتاني برسالتك وقال: إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول : زوّج جويبراً ابنتك الدلفاء، فلم ألن له في القول، ورأيت لقاءك، ونحن لا نزوّج إلا أكفاءنا من الأنصار، فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) یازیاد جويبر،مؤمن والمؤمن كفؤ للمؤمنة، والمسلم كفؤ للمسلمة، فزوجه يازياد ولا ترغب عنه.

قال: فرجع زياد إلى منزله، ودخل على ابنته فقال لها ما سمعه من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فقالت له: إنّك إن عصيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، کفرت، فزوّج جويبراً، فخرج زياد فأخذ بيد جويبر، ثمّ أخرجه إلى قومه فزوّجه على سنّة اللّه وسنّة رسوله وضمن صداقه، قال: فجهّزها زياد وهيّأها، ثمّ أرسلوا إلى جويبر فقالوا له : ألك منزل فنسوقها إليك؟ فقال: واللّه ما لي من منزل قال: فهيّؤها وهيّؤا لها منزلا، وهيّؤا فيه فراشاً ومتاعاً، وكسوا جويبراً ثوبين، وأُدخلت الدلفاء في بيتها، وأُدخل جويبر عليها مغتمّاً.

فلمّا رآها نظر إلى بيت ومتاع وريح طيبة قام إلى زاوية البيت، فلم يزل تالياً للقرآن راكعاً وساجداً حتّى طلع الفجر، فلمّا سمع النداء خرج وخرجت زوجته إلى الصلاة، فتوضّأت وصلّت الصبح فسألت هل مسك ؟ فقالت: ما زال تالياً للقرآن وراكعاً

ص: 632

وساجداً حتّى سمع من زياد، فلمّا كانت الليلة الثانية فعل مثل ذلك، وأخفوا ذلك من زیاد، فلمّا كان اليوم الثالث فعل مثل ذلك، فأخبر بذلك أبوها، فانطلق إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال له : بأبي أنت وأُمّي يارسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، أمرتني بتزويج جويبر، ولا واللّه ما كان من مناكحنا، ولكن طاعتك أوجبت عليّ تزويجه، فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : فما الّذي أنكرتم منه ؟ قال : إنا هيّأنا له بيتاً ومتاعاً، وأدخلت ابنتي البيت، وأُدخل معها مغتمّاً، فما كلّمها ولا نظر إليها ولا دنا منها، بل قام إلى زاوية البيت فلم يزل تالياً للقرآن وراكعاً وساجداً حتّى سمع النداء فخرج، ثمّ فعل مثل ذلك في الليلة الثانية، ومثل ذلك في الليلة الثالثة، ولم يدن منها ولم يكلّمها إلى أن جئتك، وما نراه يريد النساء، فانظر في أمرنا، فانصرف زياد، وبعث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى جويبر فقال له :

أما تقرب النساء ؟ فقال له جويبر أو ما أنا بفحل ؟ بلى، يارسول اللّه إنّي لشبق نهم إلى النساء، فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : قد خبّرت بخلاف ما وصفت به نفسك، قد ذكروا لي أنّهم هيّؤوا لك بيتاً وفراشاً ومتاعاً وأُدخلت عليك فتاة حسناء عطرة، وأتيت مغتمّاً، فلم تنظر إليها ولم تكلّمها ولم تدن منها، فما دهاك إذن؟

فقال له جويبر : يارسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) دخلت بيتاً واسعاً، ورأيت فراشاً ومتاعاً، وفتاة حسناء،عطرة، وذكرت حالي التي كنت عليها وغربتي وحاجتي وضيعتي وكينونتي مع الغرباء والمساكين، فأحببت إذ أولاني اللّه ذلك أن أشكره على ما أعطاني، وأتقرّب إليه بحقيقة الشكر، فنهضت إلى جانب البيت فلم أزل في صلاتي تالياً للقرآن راكعاً وساجداً أشكر اللّه حتّى سمعت النداء فخرجت، فلمّا أصبحت رأيت أن أصوم ذلك اليوم، ففعلت ذلك أيّام ولياليها، ورأيت ذلك في جنب ما أعطاني اللّه يسيراً، ولكنّي سأرضيها وأُرضيهم الليلة إن شاء اللّه، فأرسل رسول اللّه إلى زياد فأتاه وأعلمه ما قال جويبر، فطابت أنفسهم، قال: وفى لهم جويبر بما قال، ثمّ إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خرج في غزوة

ص: 633

له ومعه جويبر فاستشهد (رَحمهُ اللّه)، فما كان في الأنصار أيّم أنفق منها بعد جويبر»(1).

سعد وحبّ الدنيا

عن أبي بصير قال : سمعت أبا جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «كان على عهد رسول اللّه مؤمن فقير شديد الحاجة من أهل الصفّة، وكان ملازماً لرسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عند مواقيت الصلاة كلّها لا يفقده في شيء منها، وكان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يرقّ له وينظر إلى حاجته وغربته فيقول : ياسعد لو قد جاءني شيء لأغنيتك، قال: فأبطأ ذلك على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فاشتدّ غمّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) السعد، فعلم اللّه سبحانه ما دخل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من غمّه لسعد، فأهبط عليه جبرئيل ومعه در همان، فقال له :

يا محمّد إنّ اللّه (عزّوجلّ) قد علم ما قد دخل عليك من الغمّ لسعد، أفتحبّ أن تغنيه ؟ فقال : نعم، فقال له : فهاك هذين الدرهمين فأعطهما إيّاه، ومره أن يتّجر بهما، قال: فأخذهما رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ثم خرج إلى صلاة الظهر وسعد قائم على باب حجرات رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ينتظره، فلمّا رآه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : قال ياسعد أتحسن التجارة؟ فقال له سعد: واللّه ما أصبحت أملك مالا أتجربه، فأعطاه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الدرهمين وقال له : اتّجر بهما وتصرّف لرزق اللّه تعالى، فأخذهما سعد، ومضى مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) حتّى صلّى معه الظهر والعصر، فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : قم فاطلب الرزق، فقد كنت بحالك مغتمّاً ياسعد.

قال : فأقبل سعد لا يشتري بدرهم شيئاً إلّا باعه بدرهمين، ولا يشتري شيئاً بدرهمين إّلا باعه بأربعة، وأقبلت الدنيا على سعد، فكثر متاعه وماله وعظمت تجارته، فاتّخذ على باب المسجد موضعاً وجلس فيه وجمع تجايره إليه، وكان رسول اللّه إذا أقام بلال الصلاة يخرج وسعد مشغول بالدنيا، لم يتطهر ولم يتهيّأ كما كان يفعل قبل أن يتشاغل بالدنيا،

ص: 634


1- البحار : ج 22 ص 117.

فكان النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول : ياسعد شغلتك الدنيا عن الصلاة، فكان يقول: ما أصنع أُضيّع مالي؟ هذا رجل قد بعته فأُريد أن أستوفي منه، وهذا رجل قد اشتريت منه فأُريد أن أُوفيه، قال: فدخل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من أمر سعد غمّ أشدّ من غمّه بفقره، فهبط عليه جبرئيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال :

يا محمّد إنّ اللّه قد علم بغمّك بسعد، فأيّما أحبّ إليك؟ حاله الأُولى أو حاله هذه؟ فقال له النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يا جبرئيل بل حاله الأُولى قد ذهبت دنياه بآخرته.

فقال له جبرئيل: إنّ حبّ الدنيا والأموال فتنة ومشغلة عن الآخرة، قل لسعد: يردّ عليك الدرهمين اللذين دفعتهما إليه، فإنّ أمره سيصير إلى الحالة التي كان عليها أوّلا.

قال : فخرج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فمرّ بسعد فقال له: ياسعد أما تريد أن تردّ عليّ الدرهمين الّذين أعطيتكهما؟ فقال سعد: بلى، ومائتين، فقال له: لستُ أُريد منك ياسعد إلاّ الدرهمين، فأعطاه سعد در همین قال: فأدبرت الدنيا على سعد حتّى ذهب ما كان جمع وعاد إلى حاله التي كان عليها»(1).

من استغنى أغناه اللّه

عن سالم بن مكرم عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: اشتدّت حال رجل من أصحاب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقالت له امرأته: لو أتيت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فسألته، فجاء إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فلمّا رآه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) قال : من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه، فقال الرجل: ما يعني غيري، فرجع إلى امرأته فأعلمها فقالت: إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بشر فأعلمه، فأتاه فلمّا رآه رسول اللّه قال: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه حتّى فعل الرجل ذلك ثلاثاً، ثمّ ذهب الرجل فاستعار معولا ثمّ أتى الجبل فصعده، فقطع حطباً ثمّ جاء به، فباعه بنصف

ص: 635


1- البحار: ج 22 ص 122.

مدّ من دقيق، فرجع به فأكله، ثمّ ذهب من الغد فجاء بأكثر من ذلك، فباعه، فلم يزل يعمل ويجمع حتّى اشترى معولا، ثمّ جمع حتّى اشترى بكرين وغلاماً، ثمّ أثرى حتّى أيسر، فجاء إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): قلت لك: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه» (1).

الموسر والمعسر

عن عثمان بن عيسى عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «جاء رجل موسر إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نقيّ الثوب، فجلس إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، فجاء رجل معسر درن الثوب، فجلس إلى جنب الموسر، فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) أخفت أن يمسّك من فقره شيء؟ قال: لا، قال: فخفت أن يصيبه من غناك شي؟ قال: لا، قال: فخفت أن يوسخ ثيابك؟ قال: لا، قال: فما حملك على ما صنعت؟ فقال: يارسول اللّه إنّ لي قريناً يزيّن لي كل قبيح ويقبّح لي كلّ حسن، وقد جعلت له نصف مالي، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للمعسر : أتقبل ؟ قال: لا، فقال له الرجل: ولِمَ؟ قال: أخاف أن يدخلني ما دخلك» (2).

طاعة الزوج

عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إنّ رجلا من الأنصار على عهد رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) خرج في بعض حوائجه فعهد إلى امرأته عهداً أن لا تخرج من بيتها حتّى يقدم، قال : وإنّ أباها مرض فبعثت المرأة إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقالت : إنّ زوجي خرج وعهد إليّ أن لا أخرج من بيتي حتّى يقدم، وإنّ أبي مرض فتأمرني أن أعوده ؟ فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك، قال: فثقل فأرسلت إليه ثانياً بذلك فقالت: فتأمرني

ص: 636


1- البحار: ج 22 ص 128.
2- البحار : ج 22 ص 130.

أن أعوده ؟ فقال : اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك، قال : فمات أبوها، فبعثت إليه؛ أنّ أبي قدمات فتأمرني أن أُصلّي عليه ؟ فقال : لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك، قال: فدفن الرجل فبعث إليها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )؛ إنّ اللّه قد غفر لك ولأبيك بطاعتك لزوجك» (1).

وعن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: خرج رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يوم النحر إلى ظهر المدينة على جمل عاري الجسم، فمرّ بالنساء فوقف عليهنّ ثمّ قال: يا معاشر النساء تصدّقن وأطعن أزواجكنّ، فإنّ أكثر كنّ في النار، فلمّا سمعن ذلك بكين، ثمّ قامت إليه إمرأة منهنّ فقالت : يارسول اللّه في النار مع الكفّار ؟ واللّه ما نحن بكفار فنكون من أهل النار، فقال لها رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : إنكن كافرات بحق أزواجكنّ» (2).

الإيثار لأبناء الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

وقال الحسن بن علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : إنّ رجلا جاع عياله، فخرج يبغي لهم ما يأكلون، فكسب در هماً فاشتری به خبزاً وأدماً، فمرّ برجل وامرأة من قرابات محمّد وعلي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) فوجدهما جائعين، فقال: هؤلاء أحقّ من قراباتي، فأعطاهما إيّاهما، ولم يدر بماذا يحتجّ في منزله، فجعل يمشي رويداً يتفكّر فيما يتعذّر به عندهم ويقول لهم ما فعل بالدرهم إذ لم يجئهم بشيء، فبينما هو متحيّر في طريقه إذا بفيج (3) يطلبه، فدلّ عليه، فأوصل إليه كتاباً من مصر وخمسمائة دينار في صرّة وقال: هذه بقيّة حملته إليك من مال ابن عمّك مات بمصر وخلّف مائة ألف دينار على تجار مكّة والمدينة، وعقاراً كثيراً ومالاً بمصر بأضعاف ذلك.

فأخذ الخمسمائة دينار ووضع على عياله ونام ليلته فرأى رسول اللّه وعلياً (عَلَيهما السَّلَامُ) فقالا له: كيف ترى إغناءنا لك لما آثرت قرابتنا على قرابتك؟ ثم لم يبق بالمدينة ولا بمكّة

ص: 637


1- البحار:ج 22 ص 145.
2- البحار: ج 22 ص 145.
3- الفيج بالفتح معرّب بيك.

ممّن عليه شيء من المائة ألف دينار إلا أتاه محمّد وعلي في منامه وقالا له : إمّا بكرت بالغداة على فلان بحقّه من ميراث ابن عمّه وإلا بكّر عليك بهلاكك واصطلامك وإزالة نعمك وإبانتك من حشمك، فأصبحوا كلّهم وحملوا إلى الرجل ما عليهم، حتّى حصل عنده مائة ألف دينار، وما ترك أحد بمصر تمن له عنده مال إلا وأتاه محمّد وعلى (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) في منامه وأمراه أمر تهدّد بتعجيل مال الرجل أسرع ما يقدر عليه، وأتى محمّد وعلي هذا المؤثر لقرابة رسول اللّه في منامه فقالا له: كيف رأيت صنع اللّه لك؟ قد أمرنا من بمصر أن يعجل إليك مالك أفنأمر حاكمها بأن يبيع عقارك وأملاكك ويسفتج (1) إليك بأثمانها لتشتري بدلها من المدينة؟ قال : بلى، فأتى محمّد وعلي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) حاكم مصر في منامه فأمراه أن يبيع عقاره والسفتجة بثمنه إليه، فحمل إليه من تلك الأثمان ثلاثمائة ألف دينار، فصار أغنى من بالمدينة، ثمّ أتاه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال يا عبد اللّه هذا جزاؤك في الدنيا على إيثار قرابتي على قرابتك، ولأُعطينّك في الآخرة بدل كلّ حبّة من هذا المال في الجنّة ألف قصر، أصغرها أكبر من الدنيا، مغرز كلّ إبرة منها خير من الدنيا وما فيها»(2).

الخلق على ثلاث طبقات

عن محمّد بن الأصبغ بن نباتة قال: أتى رجل أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) فقال : أُناس يزعمون أنّ العبد لا يزني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن، ولا يأكل الربا وهو مؤمن، ولا يسفك الدمّ الحرام وهو مؤمن، فقد كبر هذا عليّ وحرج منه صدري، حتّى زعم أنّ هذا العبد الّذي يصلّي إلى قبلتي ويدعو دعوتي ويناكحني وأُناكحه ويوارثني وأوارثه فأُخرجه من الإيمان من أجل ذنب يسير أصابه.

ص: 638


1- السفتجة كقرطعة: أن تعطي مالاً لأحد وللآخذ مال في بلد المعطي فيوفّيه إياه ثم، فيستفيد أمن الطريق وفعله السفتجة بالفتح.
2- البحار : ج 23 ص 263.

فقال له على (عَلَيهِ السَّلَامُ) صدقك أخوك، إني سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وهو يقول: خلق اللّه الخلق وهو على ثلاث طبقات، وأنزلهم ثلاث منازل، فذلك قوله في الكتاب: أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة والسابقون السابقون،(1) فأمّا ما ذكرت من السابقين فأنبياء مرسلون وغير مرسلين جعل اللّه فيهم خمسة أرواح روح خمسة أرواح روح القدس، وروح الإيمان وروح القوّة، وروح الشهوة، وروح البدن.

فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين وبروح الإيمان عبدوا اللّه ولم يشركوا به شيئاً، وبروح القوّة جاهدوا عدوّهم وعالجوا معايشهم وبروح الشهوة أصابوا اللذيذ من الطعام ونكحوا الحلال من شباب النساء، وبروح البدن دبّوا ودرجوا، ثم قال: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّه وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدَناَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» ثم قال في جماعتهم : «وَأَيَّدَهُم بِرُوحِ مِنْهُ»(2) يقول : أكرمهم بها وفضلهم على من سواهم.

وأمّا ما ذكرت من أصحاب الميمنة فهم المؤمنون حقاً بأعيانهم فجعل فيهم أربعة أرواح: روح الإيمان، وروح القوّة، وروح الشهوة، وروح البدن، ولا يزال العبد يستكمل بهذه الأرواح حتّى تأتي حالات» قال: وما هذه الحالات؟ فقال علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «أمّا أولهنّ؛ فهو كما قال اللّه: «وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا»(3) فهذا ينتقض منه جميع الأرواح، وليس من الّذي يخرج من دين اللّه، لأنّ اللّه الفاعل ذلك به ردّه إلى أرذل عمره، فهو لا يعرف للصلاة وقتاً، ولا يستطيع التهجّد بالليل، ولا الصيام بالنهار، ولا القيام في صفّ مع الناس فهذا نقصان من روح الإيمان

ص: 639


1- الآيات في الواقعة : 108 وفيها اختصار.
2- البقرة: 253.
3- النحل: 70.

فليس يضرّه شيء إن شاء اللّه وينتقض منه روح القوّة فلا يستطيع جهاد عدوّه ولا يستطيع طلب المعيشة، وينتقض منه روح الشهوة فلو مرّت به أصبح بنات آدم لم يحنّ إليها ولم يقم، ويبقى روح البدن فهو يدبّ ويدرج حتّى يأتيه ملك الموت فهذا حال خير لأنّ اللّه فعل ذلك به، وقد تأتي عليه حالات في قوته وشبابه يهمّ بالخطيئة فتشجعه روح القوّة، وتزيّن له روح الشهوة، وتقوده روح البدن حتّى توقعه في الخطيئة فإذا مسّها انتقص من الإيمان، ونقصانه من الإيمان ليس بعائد فيه أبداً أو يتوب، فإن تاب وعرف الولاية تاب اللّه عليه، وإن عاد وهو تارك الولاية أدخله اللّه نار جهنّم.

وأمّا أصحاب المشئمة فهم اليهود والنصارى قول اللّه تعالى «الّذين اتيناهم الْكِتَبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ» في منازلهم «وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ» الرسول من اللّه إليهم بالحقّ «فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ»(1).

فلمّا جحدوا ما عرفوا ابتلاهم اللّه بذلك الذم، فسلبهم روح الإيمان وأسكن أبدانهم ثلاثة أرواح روح القوّة، وروح الشهوة، وروح البدن، ثمّ أضافهم إلى الأنعام فقال: «إن هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا»(2) لأنّ الدابَّة إنما تحمل بروح القوة، وتعتلف بروح الشهوة وتسير بروح البدن، فقال له السائل : أحييت قلبي بإذن اللّه تعالى (3).

الأنبياء الّذين ولدوا مختونينۀ

سأل الشامي أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عمّن خلق اللّه (عزّوجلّ) من الأنبياء مختوناً، فقال: «خلق اللّه (عزّوجلّ) آدم مختوناً، وولد شيث مختوناً، وإدريس ونوح وسام بن نوح وإبراهيم وداود وسليمان ولوط وإسماعيل وموسى وعيسى ومحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )»، وسأله عن أوّل من أمر

ص: 640


1- البقرة: 146 - 147.
2- الفرقان : 44.
3- البحار : ج 25 ص 64.

بالختان، فقال: إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)» (1).

ثمن ما تأكل

عن عبداللّه بن هلال عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «لمّا جاء المرسلون إلى إبراهيم جاءهم بالعجل فقال: كلوا، فقالوا: لا نأكل حتّى تخبرنا ما ثمنه ؟ فقال : إذا أكلتم فقولوا: بسم اللّه، وإذا فرغتم فقولوا: الحمد لله، قال : فالتفت جبرئيل إلى أصحابه، وكانوا أربعة وجبرئيل رئيسهم، فقال: حقٌّ للّه أن يتخّذ هذا خليلا»، قال أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «لمّا أُلقي إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) في النار تلقاه جبرئيل في الهواء وهو يهوي إليه فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا»(2).

ص: 641


1- البحار : ج 12 ص 3.
2- البحار : ج 12 ص 5.

ص: 642

قصص في أحوال الفقراء من المؤمنين

فقراء المسلمين

«وَاصْبِرْ نَفْسَكَ» (1) أى احبسها وثبّتها، قال الطبرسي (رَحمهُ اللّه) في نزولها : إنّها نزلت في سلمان وأبي ذرّ وصُهيب وعمّار وخبّاب وغيرهم من فقراء أصحاب النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وذلك أنّ المؤلّفة قلوبهم جاؤا إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ): عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا: يارسول اللّه إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء وروائح صنانهم وكانت عليهم جباب الصوف جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك، فما يمنعنا من الدخول عليك إلا هؤلاء، فلمّا نزلت الآية قام النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يلتمسهم، فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون اللّه فقال: «الحمد اللّه الّذي لم يمتني حتّى أمرني أن أُصبّر نفسي مع رجال من أُمّتي، معكم المحيا ومعكم الممات».

الفقر ومحبي علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)

بإسناده عن الأصبغ قال: كنت عند أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) قاعداً، فجاء رجل فقال: يا أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) واللّه إنّي لأحبّك في اللّه، فقال: «صدقت، إن طينتنا مخزونة أخذ اللّه ميثاقها من صلب آدم فاتخذ للفقر جلباباً، فانّي سمعت رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول : واللّه ياعلي إنّ الفقر لأسرع إلى محبّيك من السيل إلى بطن الوادي».

ص: 643


1- الكهف: 28.

تقسيم الأرزاق

عن أبان بن عبدالملك قال: حدّثني بكر الأرقط، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أو عن شعيب، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنه دخل عليه،واحد فقال له : أصلحك اللّه إنّي رجل منقطع إليكم بمودّتي، وقد أصابتني حاجة شديدة، وقد تقرّبت بذلك إلى أهل بيتي وقومي، فلم يزدني بذلك منهم إلّا بعداً، قال : «فما آتاك اللّه خير ممّا أخذ منك»، قال: جعلت فداك ادع اللّه أن يغنيني عن خلقه، قال: «إنّ اللّه قسم رزق من شاء على يدي من شاء، ولكن اسأل اللّه أن يغنيك عن الحاجة التي تضطرّك إلى لئام خلقه».

جزاء الفقراء يوم القيامة

عن سعدان قال: قال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ اللّه (عزّوجلّ) يلتفت يوم القيامة إلى فقراء المؤمنين شبيهاً بالمعتذر إليهم، فيقول : وعزتي وجلالي، ما أفقرتكم في الدنيا من هوان بكم عليّ، ولترون ما أصنع بكم اليوم، فمن زوّد أحداً منكم في دار الدنيا معروفاً فخذوا بيده فأدخلوه الجنّة»، قال: «فيقول رجل منهم : ياربّ إنّ أهل الدنيا تنافسوا في دنياهم فنكحوا النساء، ولبسوا الثياب اللّينة، وأكلوا الطعام، وسكنوا الدور، وركبوا المشهور من الدواب، فأعطني مثل ما أعطيتهم، فيقول تبارك وتعالى : لك ولكل عبد منكم مثل ما أعطيت أهل الدنيا، منذ كانت الدنيا إلى أن انقضت الدنيا سبعون ضعفاً».

اختبار الأغنياء

جاء يوماً رجل من الأنصار إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وعنده رجل من أصحاب رسول اللّه من أصحاب الصفة قد لزق برسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ورسول اللّه يحدّثه، فقعد الأنصاري بالبعد منهما، فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : تقدّم»، فلم يفعل، فقال له رسول اللّه: «لعلّك خفت أن يلزق فقره بك»؟ فقال الأنصاري: اطرد هؤلاء عنك، فأنزل اللّه «وَلَا تَطْرُدِ الّذين يَدْعُونَ

ص: 644

رَبَّهُم بِالْغَدَاوْةِ وَالْعَشِي»(1) الآية... ثم قال : «وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ»(2) أي اختبرنا الأغنياء بالغنى لننظر كيف مواساتهم للفقراء، وكيف يخرجون ما فرض اللّه عليهم في أموالهم لهم، واختبرنا الفقراء لننظر كيف صبرهم على الفقر، وعما في أيدي الأغنياء، «ليَقُولُوا» أي الفقراء «أَهَؤُلاء» الأغنياء و «مَنَّ اللّه عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّه بِأَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ»(3).

كرامة الفقراء يوم القيامة

عن ابن يزيد عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «إذا كان يوم القيامة أمر اللّه (عزّوجلّ) منادياً فينادي: أين الفقراء؟ فيقوم عنق من الناس، فيؤمر بهم إلى الجنّة، فيأتون باب الجنّة، فيقول لهم خزنة الجنّة : قبل الحساب، فيقولون أعطيتمونا شيئاً فتحاسبونا عليه؟ فيقول اللّه (عزّوجلّ): صدقوا عبادي، ما أفقرتكم هواناً بكم، ولكن ادّخرت هذا لكم لهذا اليوم، ثمّ يقول لهم: انظروا وتصفّحوا وجوه الناس، فمن أتى إليكم معروفاً فخذوا بيده وأدخلوه الجنّة».

دعاء لنفى الفقر والسقم

روي أنّ أحداً من الصحابة شكى إلى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عن الفقر والسقم، قال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «فإذا أصبحت وأمسيت فقل : لا حول ولا قوّة إلّا باللّه، توكلت على الحيّ الّذي لا یموت، والحمد للّه الّذي لم يتّخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك. قال: فواللّه ما قلته إلاّ أيّاماً حتّى أذهب عنّي الفقر والسقم»(4).

ص: 645


1- الأنعام: 52.
2- الأنعام: 53.
3- الأنعام: 53.
4- البحار: ج 72 ص 2.

ص: 646

الخوف والرجاء

الخوف من اللّه

عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) قال: «إنّ رجلا ركب البحر بأهله، فكسر بهم، فلم ينج ممّن كان في السفينة إلّا امرأة الرجل، فإنّها نجت على لوح من ألواح السفينة، حتّى أُلجئت إلى جزيرة من جزائر البحر، وكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق، ولم يدع اللّه حرمة إلّا انتهكها، فلم يعلم إلّا والمرأة قائمة على رأسه.

فرفع رأسه إليها فقال : إنسيّة أم جنيّة ؟ فقالت: إنسية، فلم يكلّمها كلمة حتّى جلس منها مجلس الرجل من أهله، فلمّا أن همّ بها،اضطربت، فقال لها : ما لك تضطربين ؟ فقالت: أفرق من هذا، وأومأت بيدها إلى السماء، قال: فصنعت من هذا شيئاً؟ قالت: لا وعزّته، قال: فأنت تفرقين منه هذا الفرق ولم تصنعي من هذا شيئاً، وإنّما استكرهتك استكراها، فأنا واللّه أولى بهذا الفرق والخوف، وأحقّ منك، قال: فقام ولم يحدث شيئاً ورجع إلى أهله، وليس له همة إلّا التوبة والمراجعة.

فبينما هو يمشي إذ صادفه راهب يمشي في الطريق فحميت عليهما الشمس، فقال الراهب للشابّ: ادع اللّه يظلّنا بغمامة فقد حميت علينا الشمس، فقال الشابّ: ما أعلم أنّ لي عند ربّي حسنة فأتجاسر على أن أسأله شيئاً، قال: فأدعوا أنا وتؤمن أنت قال: نعم، فأقبل الراهب يدعو والشاب يؤمن، فما كان بأسرع من أن أظلّتهما غمامة، فمشيا تحتها مليّاً من النهار، ثمّ انفرقت الجادّة جادّتين، فأخذ الشاب في واحدة، وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحاب مع الشاب فقال الراهب: أنت خير مني، لك أُستجيبت ولم

ص: 647

يستجب لي، فخبّرني ما قصتك ؟ فأخبره بخبر المرأة فقال غفر لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل »(1).

الخائف حقّاً

عن ليث بن أبي سليم قال: سمعت رجلا من الأنصار يقول: بينما رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )مستظلّ بظلّ شجرة في يوم شديد الحرّ، إذ جاء رجل فنزع ثيابه، ثمّ جعل يتمرّغ في الرمضاء يكوي ظهره مرّة، وبطنه مرّة، وجبهته مرّة، ويقول: يانفس ذوقي، فما عند اللّه (عزّوجلّ) ما أعظم مما صنعت بك، ورسول اللّه ينظر إلى ما يصنع، ثمّ إنّ الرجل لبس ثيابه، ثمّ أقبل فأومأ إليه النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بيده ودعاه، فقال له: «يا عبد اللّه لقد رأيتك صنعت شيئاً، ما رأيت أحداً من الناس صنعه، فما حملك على ما صنعت»؟

[فقال الرجل : حملني على ذلك مخافة اللّه (عزّوجلّ) ، وقلت لنفسي: يانفس ذوقي فما عند اللّه أعظم مما صنعت بك ] فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «لقد خفت ربّك حقّ مخافته، فإنّ ربّك ليباهي بك أهل السماء»، ثمّ قال لأصحابه : «يا معاشر [من حضر ادنوا من صاحبكم حتّى يدعو لكم»، فدنوا منه فدعا لهم وقال لهم : اللّهم اجمع أمرنا على الهدى واجعل التقوى زادنا والجنّة مآبنا ](2).

النجاة في الصدق

عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «بينا ثلاثة نفر فيمن كان قبلكم يمشون إذا أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم، فقال بعضهم لبعض: ياهؤلاء واللّه ما ينجيكم إلّا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم اللّه (عزّوجلّ) أنّه قد صدق فيه.

ص: 648


1- البحار: ج 70 ص 361.
2- البحار: ج 71 ص378.

فقال أحدهم: اللّهم إن كنت تعلم أنّه كان لي،أجير عمل لي على فرق أُرز فزرعته فصار من أمره إلى أن اشتريت من ذلك الفرق بقراً، ثمّ أتاني فطلب أجره فقلت: اعمد إلى تلك البقر فسقها فقال: إنّما لي عندك فرق من أُرز، فقلت: اعمد إلى تلك البقر فسقها فانّها من ذلك فساقها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، فانساحت الصخرة عنهم.

وقال الآخر : اللّهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيها كلّ ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عليهما ذات ليلة فأتيتهما وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع وكنت لا أسقيهم حتّى يشرب أبواي فكرهت أن أُوقظهما من رقدتهما، وكرهت أن أرجع فيستقيظان لشربهما، فلم أزل أنتظرهما حتّى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساحت عنهم الصخرة حتّى نظروا إلى السماء.

وقال الآخر : اللّهم إن كنت تعلم أنّه كانت لي ابنة عمّ أحبّ الناس إليّ وإنّي راودتها عن نفسها فأبت عليّ إلّا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتّى قدرت عليها، فجئت بها فدفعتها إليه، فأمكنتني من نفسها، فلمّا قعدت بين رجليها قالت: اتّق اللّه ولا تفضّ الخاتم إلّا بحقّه، فقمت عنها وتركت لها المائة، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا، ففرّج اللّه (عزّوجلّ) عنهم فخرجوا»(1).

العابد والمرأة

عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «خرجت امرأة بغيّ [على] شباب من بني إسرائيل فأفتنتهم، فقال بعضهم: لو كان العابد فلاناً لو رآها افتنته، وسمعت مقالتهم فقالت: واللّه لا أنصرف إلى منزلي حتّى أفتنه، فمضت نحوه في الليل فدّقت عليه، فدلك

ص: 649


1- البحار: ج 70 ص 379.

فقالت: آوي عندك، فأبى عليها، فقالت: إنّ بعض شباب بني إسرائيل راودوني عن نفسي، فإن أدخلتني وإلّا لحقوني وفضحوني.

فلمّا سمع مقالتها فتح لها، فلمّا دخلت عليه رمت ثيابها، فلمّا رأى جمالها وهيئتها وقعت في نفسه فضرب يده عليها ثم رجعت إليه نفسه، وقد كان يوقد تحت قدر له فأقبل حتّى وضع يده على النار، فقالت: أيّ شيء تصنع ؟ فقال: أُحرقها لأنّها عملت العمل، فخرجت حتّى أتت جماعة بني إسرائيل، فقالت: الحقوا فلاناً فقد وضع يده على النار، فأقبلوا فلحقوه وقد احترقت يده»(1).

القاضي والمرأة

عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «كان ملك في بني إسرائيل، وكان له قاض وللقاضي أخ وكان رجل صدق وله امرأة قد ولدتها الأنبياء، فأراد الملك أن يبعث رجلا في حاجة، فقال للقاضي أبغني رجلا ثقة، فقال: ما أعلم أحداً أوثق من أخي، فدعاه ليبعثه، فكره ذلك الرجل، وقال لأخيه: إنّي أكره أن أُضيّع امرأتي فعزم عليه، فلم يجد بُدّاً من الخروج، فقال لأخيه: يا أخي إنّي لست أخلف شيئاً أهمّ عليّ من امرأتي، فاخلفني فيها، وتولّ قضاء حاجتها، قال: نعم.

فخرج الرجل، وقد كانت المرأة كارهة لخروجه، فكان القاضي يأتيها ويسألها عن حوائجها، ويقوم لها فأعجبته، فدعاها إلى نفسه، فأبت عليه، فحلف عليها لئن لم تفعل ليخبرنّ الملك أنك قد فجرت، فقالت: اصنع ما بدا لك، لست أُجيبك إلى شيء ممّا طلبت، فأتى الملك فقال: إنّ امرأة أخي قد فجرت، وقد حق ذلك عندي، فقال له الملك: طهِّرها فجاء إليها فقال: إنّ الملك قد أمرني برجمك، فما تقولين تجيبني وإلّا رجمتك،

ص: 650


1- البحار: ج 70 ص 387.

فقالت لست اُجيبك، فاصنع ما بدا لك.

فأخرجها فحفر لها فرجمها ومعه الناس، فلمّا ظنّ أنّها قد ماتت تركها. وانصرف وجنّ بها الليل، وكان بها رمق، فتحرّكت فخرجت من الحفيرة، ثمّ مشت على وجهها حتى خرجت من المدينة فانتهت إلى دير فيها ديراني، فنامت على باب الدير، فلمّا أصبح الديراني فتح الباب ورآها، فسألها عن قصّتها، فخبّرته فرحمها وأدخلها الدير، وكان له ابن صغير لم يكن له غيره، وكان حسن الحال فداواها حتّى برئت من علتها واندملت، ثمّ دفع إليها ابنه، فكانت تربّيه.

وكان للديرانيّ قهرمان يقوم بأمره، فأعجبته فدعاها إلى نفسه، فأبت، فجهد بها فأبت فقال : لئن لم تفعلي لأجتهدنّ في قتلك، فقالت: اصنع ما بدا لك، فعمد إلى الصبيّ فدقّ عنقه، وأتى الديراني فقال له: عمدت إلى فاجرة قد فجرت فدفعت إليها ابنك فقتلته، فجاء الديرانيّ، فلمّا رآها قال لها : ما هذا، فقد تعلمين صنيعي بك، فأخبرته بالقصّة، فقال لها : [ ليس تطيب نفسي أن تكون عندي فاخرجي، فأخرجها ليلا، ودفع إليها عشرين درهماً وقال لها : ] تزوّدي هذه، اللّه حسبك.

فخرجت ليلا فأصبحت في قرية، فإذا فيها مصلوب على خشبة وهو حيّ، فسألت عن قصّته، فقالوا علیه دین عشرون درهماً، ومن كان عليه دين عندنا لصاحبه صلب حتّى يؤدّي إلى صاحبه، فأخرجت عشرين درهماً ودفعتها إلى غريمه وقالت: لا تقتلوه، فأنزلوه عن الخشبة، فقال لها: ما أحد أعظم عليّ منّةً منك، نجيتني من الصلب ومن الموت، فأنا معك حيث ما ذهبت، فمضى معها ومضت حتّى انتهيا إلى ساحل البحر، فرأت جماعة وسفناً، فقال لها : اجلسي حتّى أذهب أنا أعمل لهم واستطعم وآتيك به.

فأتاهم فقال لهم ما في سفينتكم هذه؟ قالوا: في هذه تجارات وجوهر وعنبر

ص: 651

وأشياء من التجارة، وأما هذه فنحن فيها، قال : وكم يبلغ ما في سفينتكم؟ قالوا كثير لا نحصيه، قال: فانّ معي شيئاً هو خير ممّا في سفينتكم، قالوا: ومامعك؟ قال: جارية لم تروا مثلها قطّ، فقالوا بعناها قال نعم على شرط أن يذهب بعضكم فينظر إليها، ثمّ يجيئني فيشتريها ولا يُعلمها، ويدفع إلىّ الثمن ولا يُعلمها حتّى أمضي أنا، فقالوا: ذلك لك، فبعثوا من نظر إليها، فقال: ما رأيت مثلها قط، فاشتروها منه بعشرة آلاف درهم. ودفعوا إليه الدراهم، فمضى بها، فلمّا أمعن أتوها، فقال لها: قومي وادخلي السفينة، قالت: ولم؟ قالوا: قد اشتريناك من مولاك، قالت: ما هو بمولاي، قالوا: لتقومين أو لنحملتك، فقامت ومضت معهم.

فلما انتهوا إلى الساحل لم يؤمن بعضهم بعضاً عليها، فجعلوها في السفينة التي فيها الجوهر والتجارة، وركبوا هم في السفينة الأخرى فدفعوها، فبعث اللّه (عزّوجلّ) عليهم رياحاً فغرقتهم وسفينتهم، ونجت السفينة التي كانت فيها، حتّى انتهت إلى جزيرة من جزائر البحر، وربطت السفينة، ثمّ دارت في الجزيرة فإذا فيه ماء وشجر فيه ثمر، فقالت: هذا ماء أشرب منه، وثمر آكل منه، أعبد اللّه في هذا الموضع، فأوحى اللّه (عزّوجلّ) إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل، أن يأتي ذلك الملك، فيقول: إنّ في جزيرة من جزائر البحر خلقاً من خلقي، فاخرج أنت ومن في مملكتك حتّى أتوا خلقي هذا فتقروا له بذنوبكم، ثمّ تسألوا ذلك الخلق أن يغفر لكم، فإن غفر لكم غفرت لكم.

فخرج الملك بأهل مملكته إلى تلك الجزيرة، فرأوا امرأة، فتقدم إليها الملك فقال لها: إنّ قاضي هذا أتاني فخبّرني أنّ امرأة أخيه فجرت فأمرته برجمها ولم يقم عندي البيّنة، فأخاف أن أكون قد تقدّمت على ما لا يحلّ لي، فأُحبّ أن تستغفري لي، فقالت: غفر اللّه لك اجلس ثمّ أتى زوجها ولا يعرفها فقال: إنّه كان لي امرأة، وكان من فضلها وصلاحها... وإنّي خرجت عنها، وهي كارهة لذلك، فاستخلفت أخي عليها، فلمّا

ص: 652

رجعت سألت عنها، فأخبرني أخي أنها فجرت فرجمها، وأنا أخاف أن أكون قد ضيّعتها، فاستغفري لي غفر اللّه لك، فقالت: غفر اللّه لك اجلس فأجلسته إلى جنب الملك، أتى القاضي فقال : إنّه كان لأخي،امرأة، وإنّها أعجبتني فدعوتها إلى الفجور فأبت، فأعلمت الملك أنها قد فجرت وأمرني برجمها فرجمتها، وأنا كاذب عليها، فاستغفري لي قالت غفر اللّه لك.

ثم أقبلت على زوجها فقالت : اسمع، ثمّ تقدّم الديراني فقص قصته، وقال: أخرجتها بالليل، وأنا أخاف أن تكون قد لقيها سبع فقتلها، فقالت: غفر اللّه لك اجلس، ثمّ تقدّم القهرمان فقصّ قصّته، فقالت للديراني اسمع غفر اللّه لك، ثمّ تقدّم المصلوب فقصّ قصّته، فقالت: لا غفر اللّه لك.

قال: ثمّ أقبلت على زوجها فقالت: أنا امرأتك وكلّ ما سمعت فإنّما هو قصّتي، وليست لي حاجة في الرجال، وأنا أحبّ أن تأخذ هذه السفينة وما فيها، وتخلّي سبيلي، فأعبد اللّه (عزّوجلّ) في هذه الجزيرة، فقد ترى ما لقيت من الرجال، ففعل وأخذ السفينة وما فيها، وخلّى سبيلها، وانصَرف الملك وأهل مملكته» (1).

بئس الضيفة

عن هارون بن خارجة عن أبي عبداللّه (عزّوجلّ) قال: «كان عابد من بني إسرائيل، فطرقته امرأة بالليل فقالت له: أضفني، فقال: امرأة مع رجل لا يستقيم، قالت: إنّي أخاف أن يأكلني السبع فتأثم، فخرج وأدخلها، قال والقنديل بيده فذهب يصعد به، فقالت له: أدخلتني من النور إلى الظلمة، قال: فردّ القنديل، فما لبث أن جاءته الشهوة، فلمّا خشي على نفسه قرب خنصره إلى النار، فلم يزل كلّما جاءته الشهوة أدخل اصبعه

ص: 653


1- البحار: ج 70 ص 395.

النار حتّى أحرق خمس أصابع، فلمّا أصبح قال : اخرجي فبئس الضيفة كنت لي»(1).

الكفاف

عن إبراهيم بن محمّد النوفلي رفعه إلى علي بن الحسين صلوات اللّه عليهما قال: «مرّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) براعي إبل، فبعث يستسقيه، فقال: أما ما في ضروعها فصبوح الحيّ، وأمّا ما في آنيتها فغبوقهم، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : اللّهم أكثر ماله وولده، ثمّ مرّ براعي غنم فبعث إليه يستسقيه فحلب له ما في ضروعها وأكفأ ما في إناء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وبعث إليه بشاة وقال : هذا ما عندنا، وإن أحببت أن نزيدك زدناك، قال: فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : اللّهم ارزقه الكفاف.

فقال له بعض أصحابه: يارسول اللّه دعوت للذي ردّك بدعاء عامتنا نحبّه ودعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاء كلنا نكرهه، فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : إن ما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى، اللّهمّ ارزق محمّداً وآل محمّد الكفاف» (2).

المرائي

ويُروى أنّ عالماً أتى عابداً فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: تسألني عن صلاتي وأنا أعبد اللّه منذ كذا وكذا! فقال : كيف بكاؤك ؟ فقال : إنّي لأبكي حتّى تجري دموعي، فقال له العالم: فإنّ ضحكك وأنت خائف من اللّه أفضل من بكائك وأنت مدلّ على اللّه، إنّ المدلّ لا يصعد من عمله شيء (3).

ص: 654


1- البحار: ج 70 ص 401.
2- البحار: ج 72 ص 61.
3- البحار: ج 72 ص 319.

حقيقة اليقين

عن إسحاق بن عمّار قال : سمعت أبا عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) يقول: «إنّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفّراً لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : كيف أصبحت يافلان؟ قال: أصبحت يارسول اللّه،موقناً، فعجب رسول اللّه من قوله، وقال له: إنّ لكلّ يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟ فقال: إنّ يقيني يارسول اللّه هو الّذي أحزنني، وأسهر ليلي وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتّى كأني أنظر إلى عرش ربّي وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنّة يتنعمون في الجنّة ويتعارفون على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذّبون مصطرخون، وكأنّي الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي.

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالإيمان، ثمّ قال له: الزم ما أنت عليه، فقال الشابّ: ادع اللّه لي يارسول اللّه أن أُرزق الشهادة معك، فدعا له رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فاستشهد بعد تسعة نفر، وكان هو العاشر»(1).

حبّ الدنيا وعبادة الطاغوت

عن مهاجر الأسدي، عن أبي عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : «مرّ عيسى بن مريم (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) على قرية قد مات أهلها وطيرها ودوابّها فقال: أما إنّهم لم يموتوا إلّا بسخطه، ولو ماتوا متفرّقين لتدافنوا، فقال الحواريّون: ياروح اللّه وكلمته ادعُ اللّه أن يحييهم لنا فيخبرونا ما كانت أعمالهم فنجتنبها. فدعا عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) ربّه، فنودي من الجوّ، أن نادهم، فقام عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) بالليل على شرف من الأرض فقال يا أهل هذه القرية فأجابه منهم مجيب: لبيك ياروح اللّه وكلمته فقال: ويحكم ما كانت أعمالكم ؟ قال عبادة الطاغوت وحبّ الدنيا، مع

ص: 655


1- البحار: ج 70 ص 159.

خوف قليل، وأمل بعيد في غفلة ولهو ولعب فقال كيف كان حبكم للدنيا؟ قال: كحبّ الصبي لأُمّه، إذا أقبلت علينا فرحنا وسررنا، وإذا أدبرت عنّا بكينا وحزنًا، قال: كيف كان عبادتكم للطاغوت؟ قال: الطاعة لأهل المعاصي، قال: كيف كانت عاقبة أمركم؟ قال: بتنا ليلة في عافية وأصبحنا في الهاوية فقال وما الهاوية؟ قال: سجّين، :قال: وما سجّين ؟ قال: جبال من جمر توقد علينا إلى يوم القيامة، قال: فما قلتم وما قيل لكم؟ قال: قلنا : ردّنا إلى الدنيا فنزهد فيها، قيل لنا كذبتم، قال: ويحك كيف لم يكلمني غيرك من بينهم ؟ قال : ياروح اللّه وكلمته إنّهم ملجمون بلجام من نار، بأيدي ملائكة غلاظ شداد، وإنّي كنت فيهم ولم أكن عنهم، فلمّا نزل العذاب عمّني معهم، فأنا معلّق بشعرة على شفير جهنّم، لا أدري أكبكب فيها أم أنجو منها.

فالتفت عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)إلى الحواريين فقال : يا أولياء اللّه أكل الخبز اليابس بالملح الجريش، والنوم على المزابل خير كثير مع عافية الدنيا والآخرة» (1).

قيمة الدنيا

عن جابر :قال مرّ رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بالسوق، وأقبل يريد العالية، والناس يكتنفه، فمرّ بجدي أسكّ على مزبلة ملقى وهو ميت فأخذ بأُذنه، فقال: «أيّكم يحبّ أن يكون هذا له بدرهم»؟ قالوا: ما نحبّ أنّه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: «أفتحبون أنه لكم»؟ قالوا: لا، حتّى قال ذلك ثلاث مرّات، فقالوا: واللّه لو كان حيّاً كان عيباً فكيف وهو ميّت؟ فقال رسول اللّه : «إنّ الدنيا على اللّه أهون من هذا عليكم»(2).

ص: 656


1- البحار: ج 73 ص 10.
2- البحار: ج 73 ص 126.

لا تغضب

عن معلّى بن خنيس، عن أبي عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال : قال رجل للنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : يارسول اللّه علّمني قال : اذهب ولا تغضب، فقال الرجل : قد اكتفيت بذلك، فمضى إلى أهله فإذا بين قومه حرب قد قاموا صفوفاً ولبسوا السلاح، فلمّا رأى ذلك لبس سلاحه ثم قام معهم، ثم ذكر قول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : لا تغضب فرمى السلاح ثمّ جاء يمشي إلى القوم الّذين هم عدوّ قومه، فقال: ياهؤلاء ما كانت لكم من جراحة أو قتل أو ضرب ليس فيه أثر فعليّ في مالي، أنا أوفيكموه، فقال القوم فما كان فهو لكم، نحن أولى بذلك منكم، :قال فاصطلح القوم، وذهب الغضب»(1).

أبقيت وعافيت

روي أنه قدم على الوليد قوم من بني عبس، فيهم رجل ضرير، فسأله عن عينيه وسبب ذهابهما فقال:

يا أمير بتُ ليلةً من بطن واد، ولا أعلم عبسيّاً يزيد حاله على حالي، فطرقنا سيل، فذهب ما كان لي من أهل وولد ومال، غير بعير وصبيّ مولود، وكان البعير صعباً، فند أي نفر وذهب شارداً فوضعت الصبي واتبعت البعير، فلم أُجاوز إلّا قليلا حتّى سمعت صيحة ابني، فرجعت إليه ورأس الذئب في بطنه يأكله، ولحقت البعير لاحتبسه فنفخني برجله «اي ضربني» في وجهي فحطّمه وذهب بعيني، فأصبحت لا مال ولا أهل ولا ولد ولا بعير.

فقال الوليد: انطلقوا إلى عروة ليعلم؛ أنّ في الناس من هو أعظم منه بلاءً، وشخص عروة إلى المدينة فأتته قريش والأنصار، فقال له عيسى بن طلحة بن عبيد اللّه : أبشر يا أبا

ص: 657


1- البحار: ج 73 ص 277.

عبداللّه، فقد صنع اللّه بك خيراً، واللّه ما بك حاجة إلى المشي فقال:

ما أحسن ما صنع اللّه بي، وهب لي سبعة بنين فمتّعني بهم ما شاء، ثم أخذ واحداً وترك ستة. ووهب لي ستة جوارح متّعني بهن ما شاء، ثمّ أخذ واحدة وترك خمساً: يدين، ورجلا، وسمعاً، وبصراً، ثم قال: «إلهي لئن كنت أخذت لقد أبقيت، وإن كنت ابتليت لقد عافيت» (1).

معاوية الثاني

روي أنه لما نزع معاوية بن يزيد بن معاوية نفسه من الخلافة، قام خطيباً فقال:

أيها الناس ما أنا راغب في التأمر عليكم، ولا بالآمن،لكراهتكم، بل بُلينا بكم وبليتم بنا، إلّا أنّ جدي معاوية نازع الأمر من كان أولى بالأمر منه في قِدَمِه وسابقته عليّ بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فركب جدّي منه ما تعلمون، وركبتم معه ما لا تجهلون، حتّى صار رهين عمله وضجيع حفرته، تجاوز اللّه عنه، ثمّ صار الأمر إلى أبي، ولقد كان خليقاً أن لا يركب سننه، إذ كان غير خليق بالخلافة فركب ردعه، أي لم يرتدع واستحسن خطأه، فقلّت مدّته وانقطعت،آثاره و خمدت ناره ولقد أنسانا الحزن به الحزن عليه، فإنّا للّه وإنا إليه راجعون.

ثمّ قال: وصرت أنا الثالث من القوم الزاهد فيما لديّ أكثر من الراغب، وما كنت لأتحمل آثامكم، شأنكم وأمركم خذوه، من شئتم ولايته فولّوه.

قال: فقام إليه مروان بن الحكم فقال: يا أبا ليلى سنّة عمريّة.

فقال له يا مروان تخدعني عن ديني ائتني برجال كرجال عمر أجعلها بينهم شوری.

ص: 658


1- امالي الشيخ الطوسي: ص 93.

ثم قال: واللّه إن كانت الخلافة مغنماً فقد أصبنا منها حظاً، ولئن كانت شراً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها، ثم نزل، فقالت له أُمّه ليتك كنت حيضة، فقال: وأنا وددتُ ذلك، ولم أعلم أنّ اللّه ناراً يعذّب بها من عصاه وأخذ غير حقّه(1).

يا لها من حركة جبارة وتضحية عظيمة قام بها معاوية الثاني في عزل نفسه من الخلافة وكل الملذات الدنيويّة، وأعطى الحق لصاحبه وخلّد اسمه مع الصلحاء.

رحمك اللّه يا معاوية بن يزيد، لقد أخرجت نفسك من الظلمات إلى النور....

الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهشام بن عبد الملك

روي انّه حجّ هشام بن عبد الملك فلم يقدر على استلام الحجر من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه وأطاف به أهل الشام فبينما هو كذلك إذ اقبل عليُّ بن الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وعليه إزار ورداء، من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة، بين عينيه سجّادة كأنّها ركبة عنز، فجعل يطوف، فاذا بلغ إلى موضع الحجر تنحى الناس حتّى يستلمه هيبة له.

فقال شاميّ: «كان واقفاً بجنب هشام» من هذا يا أمير؟ فقال: لا أعرفه، لئلا يرغب فيه أهل الشام.

فقال الفرزدق : «حيث كان حاضراً في المكان» لكنّي أنا اعرفه، فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فأنشد قصيدة ذُكر بعضها في الأغاني، والحلية، والحماسة، «نحن هنا نذكر قسم منها»:

یا سائلي أين حلّ الجود والكرم؟***عندي بيان إذا طلّابه قدموا

هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته***والبيت يعرفه والحلُّ والحرم

هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم***هذا التقيُّ النقيُّ الطاهر العلم

ص: 659


1- بحار الأنوار: ج 46 ص 117 عن تنبيه الخواطر ص518.

هذا الّذي أحمد المختار والده***صلّى عيه إلهي ما جرى القلم

لو يعلم الركنُ من قد جاء يلثمه***لخرّ يلثمُ منه ما وطى القدم

هذا علىُّ رسول اللّه والده***أمست بنور هداه تهتدي الأسم

هذا الّذي عمّه الطيّار جعفر***والمقتول حمزة ليث حبّه قسم

هذا ابن سيّدة النسوان فاطمة***وابن الوصيّ الّذي في سيفه نقم

اذا رأته قریش قال قائلها***إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

يكاد يمسكه عرفان راحته***ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

وليس قولك: من هذا؟ بظائره***العرب تعرف من أنكرت والعجم

إلى أن يقول:

ما قال لا قطُّ إلّا في تشهده***لولا التشهد كانت لاؤه نعم

مشتقّة من رسول اللّه نبعته***طابت عناصره والخيم والشيم

إن عُدّ أهل التقى كانوا أئمتهم***أو قيل مَن خير أهل الأرض قيل هم

بيوتهم في قريش يستضاء بها***في النائبات وعند الحكم أن حكموا

فجده من قريش في أُرومتها***محمّد وعليّ بعده علمُ

بدر له شاهد والشعب من أُحد***والخندقان ويوم الفتح قد علموا

وخيبر وحنين يشهدان له***وفي قريضة يوم صيلم قثم

مواطن قد علت في كلّ نائبة***على الصحابة لم أكتم كما كتموا

لما سمع هشام بن عبد الملك قصيدة الفرزدق، غضب غضباً شديداً وأصدر أمراً بمنع جائزته، وقال: ألا قلت فينا مثلها ؟ قال الفرزدق هات جدّاً كجدّه، وأباً كأبيه، وأُمّاً كأُمّه، حتّى أقول فيكم مثلها.

فحبسوه بعسفان بين مكّة والمدينة، فبلغ ذلك عليَّ بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، فبعث

ص: 660

اليه باثني عشر ألف درهم، وقال: «اعذرنا يا أبا فراس فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به».

فردّها وقال : يا ابن رسول اللّه ما قلت الّذي قلت الّا غضباً اللّه ورسوله، وما كنت لأرزاً عليه شيئاً، فردّها إليه وقال بحقّي عليك لمّا قبلتها، فقد رأى اللّه مكانك وعَلِمَ نيتك، فقبلها.

فجعل الفرزدق يهجوا هشاماً وهو في السجن، فكان مما هجاه به قوله

أيجبسني بين والمدينة والتي***إليها قلوب الناس يهوي مُنيبها

يقلب رأساً لم يكن رأس سيّد***وعيناً له حولاء باد عيوبها

فأُخبر هشام بذلك فأطلقه، وروي أنّه أخرجه إلى البصرة(1).

حرّة بنت حليمة السعدية

روي عن جماعة ثقات أنه لما وردت حرَّة بنت حليمة السعدية على الحجّاج بن يوسف الثقفي فمثلت بين يديه.

قال لها : أنت حرَّة بنت حليمة السعدية؟

قالت له: فراسة من غير مؤمن !

فقال لها : اللّه جاء بك، فقد قيل عنك إنك تفضّلين علياً على ابي بكر وعمر وعثمان.

فقالت :كذب الّذي قال إنّي أُفضّله على هؤلاء خاصّة.

قال: وعلى من غير هؤلاء ؟

ص: 661


1- البحار : ج 46 ص 124، ورواها في الحلية ج 3 ص 139، والأغاني ج 14، وابن الجوزي في تذكرة الخواص ص 185 وغيرهما من كبار أعلام اهل السنة، راجع المصدر ص 75.

قالت: أفضّله على آدم ونوح ولوط وابراهيم، وداود، وسليمان، وعيسى بن مريم (عَلَيهِم السَّلَامُ).

فقال لها : ويلك إنّك تفضلينه على الصحابة، وتزيدي عليهم سبعةً من الأنبياء من أُولي العزم ؟ إن لم تأتيني ببيان ما قلت، ضربت عنقك.

فقالت: ما أنا مفضّلته على هؤلاء الأنبياء، ولكنَّ اللّه (عزّوجلّ) من فضّله عليهم في القرآن بقوله (عزّوجلّ) في حقّ آدم: «وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ، فَغَوَى»(1)، وقال في حقّ عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «وَكَانَ سَعْيُكُم مَشْكُورًا»(2).

فقال: أحسنت يا حرّة، فبما تفضّلينه على نوح ولوط؟

فقالت: اللّه (عزّوجلّ) فضله عليهما بقوله : «ضَرَبَ اللّه مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِن اللّه شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ»(3) وعليّ بن أبي طالب كان ملاكه تحت سدرة المنتهى، زوجَتَهُ بنت محمّد فاطمة الزهراء التي يرضى اللّه تعالى لرضاها ويسخط السخطها.

فقال الحجّاج: أحسنت يا حرّة، فبما تفضّلينه على أبي الأنبياء ابراهيم خليل اللّه ؟

فقالت: اللّه عز وجل فضله بقوله : «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِیمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئنَّ قَلبى»(4) ومولاي أمير المؤمنين قال قولا لا يختلف فيه أحد من المسلمين: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً. وهذه كلمة ما قالها أحد قبله

ص: 662


1- طه: 121.
2- لإنسان: 22.
3- التحريم: 10.
4- البقرة: 260.

ولا بعده.

فقال: أحسنت يا حرّة، فيما تفضّلينه على موسى كليم اللّه؟

قالت: يقول اللّه عز وجل : «فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفَاً يَتَرَقَبُ»(1) وعلي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) بات على فراش رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم يخف حتّى أنزل اللّه تعالى في حقه «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّه»(2).

قال :الحجّاج : أحسنت يا حرّة، فيما تفضّلينه على داود وسليمان (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) ؟

قالت: اللّه تعالى فضّله عليهما بقوله عز وجل : «يَا دَاوُردُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بالحقّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّه»(3).

قال لها : في أيّ شيء كانت حكومته؟

قالت في رجلين رجل كان له كرم والآخر له غنم، فنفشت الغنم بالكرم فرعته، فاحتكما إلى داود (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقال : «تباع الغنم وينفق ثمنها على الكرم حتّى يعود إلى ما كان عليه»، فقال له ولده لا يا أبة، بل يؤخذ من لبنها وصوفها، قال اللّه تعالى «فَفَهَّمنَاهَا سُلَيْمَانَ»(4) وإنّ مولانا أمير المؤمنين عليّاً (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «سلوني عما فوق العرش، سلوني عمّا تحت العرش، سلوني قبل أن تفقدوني».

وإنّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) دخل على رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يوم فتح خيبر، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) للحاضرين: «أفضلكم وأعلمكم وأقضاكم علي».

ص: 663


1- القصص: 18.
2- البقرة : 207.
3- ص: 26.
4- الانبياء: 79.

فقال لها : أحسنت فيما تفضّلينه على سليمان؟

فقالت: اللّه تعالى فضله عليه بقوله تعالى: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى»(1) ومولاي أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قال: «طلّقتك يا دنيا ثلاثاً لا حاجة لي فيك»، فعند ذلك أنزل اللّه تعالى فيه : «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا»(2).

فقال : أحسنت يا حرّة، فبما تفضلينه على عيسى بن مريم (عَلَيهِ السَّلَامُ)؟

فقالت: اللّه تعالى عز وجل فضّله بقوله تعالى:«وَإِذْ قَالَ اللّه يَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُتِيَ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللّه قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ، تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ»(3) فأخّر الحكومة إلى يوم القيامة، وعليُّ بن أبي طالب لما ادّعوا النصيرية (4) فيه ما ادّعوه، قتلهم ولم يؤخّر حكومتهم، فهذه كانت فضائله لم تُعدّ بفضائل غيره.

قال: أحسنت يا حرّة، خرجت من جوابك، ولولا ذلك لكان ذلك، ك، ثمّ أجازها وأعطاها وسرحها سراحاً حسناً، رحمة اللّه عليها (5).

دار في الجنّة

روی هشام بن الحكم قال : كان رجل من ملوك أهل الجبل يأتي الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)

ص: 664


1- ص: 35.
2- القصص: 83.
3- المائدة : 116.
4- النصيرية : طائفة من الغلاة السبأية وليسوا من الشيعة.
5- فضائل بن شاذان ص 122 عنه البحار: ج 46 ص 134.

في حجة كلّ سنة، فينزله أبو عبداللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) في دار من دوره في المدينة، وطال حجه ونزوله فأعطى أبا عبداللّه «الصادق» (عَلَيهِ السَّلَامُ) عشرة آلاف درهم ليشتري له داراً وخرج إلى الحج.

فلما رجع قال: جعلت فداك اشتريت لي الدار ؟

قال: «نعم»، وأتى بصك فيه «بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى جعفر بن محمّد لفلان بن فلان الجبلي؛ اشترى له داراً في الفردوس، حدُّها الأول رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، والحدُّ الثاني أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والحدُّ الثالث الحسن بن علي، والحدُّ الرابع الحسين بن علي (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)».

فلما قرأ الرجل ذلك قال : قد رضيت جعلني اللّه فداك.

قال : فقال أبو عبد اللّه (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إني أخذت المال ففرّقته في ولد الحسن والحسين وأرجو أن يتقبل اللّه ذلك، ويثيبك به الجنّة».

قال: فانصرف الرجل إلى منزله وكان الصلكُّ معه، ثمّ اعتل علّة الموت، فلمّا حضرته الوفاة جمع أهله وحلّفهم أن يجعلوا الصكّ معه، ففعلوا ذلك، فلمّا أصبح القوم غدوا إلى قبرة، فوجدوا الصكَّ على ظهر القبر مكتوب عليه: وفى لي واللّه جعفر بن محمّد بما قال(1).

قضاء حاجة المؤمن

عن عليّ بن طاهر الصوريّ إنه قال: وُلّي علينا بعض كتّاب يحيى بن خالد، وكان عليَّ بقايا يطالبني بها، وخفت من إلزامي إيَّاها خروجاً عن نعمتي، وقيل لي: إنّه ينتحل هذا المذهب، فخفت أن أمضي إليه فلا يكون كذلك فأقع فيما لا أُحب.

ص: 665


1- المناقب : ج 3 ص 359 عنه البحار: ج 47 ص 134.

فاجتمع رأيي على أن أهرب إلى اللّه تعالى وحججت ولقيت مولاي الصابر -يعني موسى بن جعفر (عَلَيهَا السَّلَامُ) - فشكوت حالي إليه، فأصحبني مكتوباً نسخته: (بسم اللّه الرحمن الرحيم، أعلم ان اللّه تحت عرشه ظلا لا يسكنه إلّا من أسدى إلى أخيه معروفاً، أو نفس عن كربه، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام).

قال: فعدت من الحجّ إلى بلدي، ومضيت إلى الرجل ليلاً، واستأذنت عليه وقلت: رسول الصابر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فخرج اليّ حافياً ماشياً، ففتح لي بابه، وقبلني وضمني إليه، وجعل يقبل بين عيني، يكرّر ذلك كلّما سألني عن رؤيته (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكلما أخبرته بسلأُمّته، وصلاح أحواله استبشر، وشكر اللّه ثم أدخلني داره وصدَّرني في مجلسه وجلس بين يدي، فأخرجت إليه كتابه (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقبله قائماً، وقرأه ثم استدعى بماله وثيابه، فقاسمني ديناراً ديناراً، ودرهماً درهماً، وثوباً ثوباً، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته، وفي كلّ شيء من ذلك يقول (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «يا أخي هل سررتك» ؟ فأقول : إي واللّه، وزدت على السرور، ثم استدعى العمل فأسقط ما كان باسمي وأعطاني براءة ممّا يتوجّه عليَّ منه، وودّعته وانصرفت عنه.

فقلت: لا أقدر على مكافاة هذا الرجل إلاّ بأن أحجّ في قابل وأدعو له، وألقي الصابر (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأعرّفه فعله.

ففعلت ولقيت مولاي الصابر (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وجعلت أُحدّثه ووجهه يتهلّل فرحاً.

فقلت: يا مولاي هل سرك ذلك ؟ فقال : إي واللّه لقد سرني وسر أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، واللّه لقد سرّ جدّي رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، ولقد سرّ اللّه تعالى»(1).

ص: 666


1- البحار : ج 48 ص 174

كرم الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)

عن ياسر، عن اليسع بن حمزة قال: كنت أنا في مجلس أبي الحسن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) أُحدّثه، وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل عليه رجل.

فقال له : السلام عليك يا ابن رسول اللّه، رجل من محبّيك ومحبّي آبائك وأجدادك (عَلَيهِم السَّلَامُ)، مصدري من الحجّ، وقد افتقدت نفقتي، وما معي ما أبلغ به مرحلة، فان رأيت أن تنهضني إلى بلدي، واللّه علىَّ نعمة، فإذا بلغت بلدي تصدَّقت بالذي تولّيني عنك، فلست موضع صدقة.

فقال له الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «اجلس رحمك اللّه»، وأقبل على الناس يحدّثهم حتّى تفرقوا، وبقى هو وسليمان الجعفريّ وخيثمة وأنا.

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : أتأذنون لي بالدخول ؟ فقال له يا سليمان قدّم اللّه أمرك، فقام ودخل الحجرة وبقي ساعة، ثم خرج وردّ الباب، وأخرج يده من أعلى الباب وقال:

«أين الخراساني»؟ فقال: ها أنا ذا، فقال: «خذ هذه المأتي دينار واستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرك بها ولا تتصدّق بها عني واخرج فلا أراك ولا تراني».

ثمّ خرج، فقال سليمان: جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت، فلماذا سترت وجهك عنه ؟

فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : مخافة أن أرى ذلَّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول: «المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجة، والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له» أما سمعت قول الأوّل:

متی آته يوماً لأطلب حاجة***رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه(1)

ص: 667


1- الكافي: ج 4 ص 23 عنه البحار: ج 49 ص 101.

تعيين اجرة العامل

عن سليمان بن جعفر الجعفري قال: كنت مع الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) في بعض الحاجة، فأردت أن انصرف إلى منزلي، فقال لي : «انصرف معي، فبت عندي الليلة»، فانطلقت معه فدخل إلى داره مع المغيب، فنظر إلى غلمانه يعملون بالطين أواري الدوابّ أو غير ذلك، وإذا معهم أسود ليس منهم.

فقال: «ما هذا الرجل معكم»؟ قالوا: يعاوننا ونعطيه شيئاً.

قال: «قاطعتموه على أُجرته» ؟ فقالوا : لا، هو يرضى منّا بما نعطيه، فأقبل عليهم، وغضب لذلك غضباً شديداً فقلت: جعلت فداك لم تدخل على نفسك؟ فقال: «إنّي قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرّة أن يعمل معهم أحد حتّى يقاطعوه أُجرته «اي يعيّنون اجرته».

واعلم أنّه ما من أحد يعمل لك شيئاً بغير مقاطعة، ثمّ زدته لذا الشيء ثلاثة أضعاف على أُجرته إلاّ ظنّ أنك قد نقصته أُجرته، وإذا قاطعته ثم اعطيته أُجرته حمدك على الوفاء، فإن زدته حبّة عرف ذلك لك، ورأى أنك قد زدته»(1).

توبة أبي لبابة

في قوله تعالى: «وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَلِحَا وَءَ اخَرَ سَيّئًا عَسَى اللّه أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيم»(2).

الآية المباركة نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، وقيل: نزلت في بعض أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عندما امتنعوا من الاشتراك في غزوة تبوك، وقيل غير ذلك، على أي

ص: 668


1- نفس المصدر.
2- التوبة : 102.

حال، فإن هذه الآية المباركة وقصة أبي لبابة تشمل كل الأفراد الّذين خلطوا الأعمال الصالحة والحسنة بالسيئة، وندموا على أعمالهم السيئة، وهذه فرصة للتوابين إلى اللّه من ذنوبهم وأعمالهم السيئة.

لمّا حاصر رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بني قريضة قالوا له : ابعث إلينا أبا لبابة نستشيره في أمرنا.

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يا أبا لبابة ائت حلفاءك ومواليك»، فأتاهم فقالوا له: يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ؟

فقال: انزلوا واعلموا أن حكمه فيكم هو الذبح، وأشار إلى حلقه، ثم ندم على ذلك فقال: خنت رسول اللّه، ونزل من حصنهم ولم يرجع إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ومرّ إلى المسجد وشد في عنقه حبلا ثم شده إلى الاسطوانة التي كانت تسمى ب- «اسطوانة التوبة» فقال : لا أحلّه حتّى أموت أو يتوب اللّه عليّ.

فبلغ ذلك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال: «أما لو أتانا لاستغفرنا اللّه له، فأما إذا قصد إلى ربّه فاللّه أولى به».

وكان ابو لبابة يصوم النهار ويأكل بالليل ما يمسك به نفسه وكانت ابنته تأتيه بعشائه وتحلّه عند قضاء الحاجة، فلمّا كان بعد ذلك ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في بيت أم سلمة نزلت توبته.

فقال رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «يا أم سلمة قد تاب اللّه على أبي لبابة»، فقالت: يا رسول اللّه أفأؤذنه بذلك؟ فقال: «افعلي».

فأخرجت رأسها من الحجرة فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب اللّه عليك.

فقال: الحمد اللّه، فوثب المسلمون يحلّونه فقال: لا واللّه حتّى يحلّني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

ص: 669

بیده، فجاء رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال : «يا أبا لبابة قد تاب اللّه عليك توبة لو ولدت من أُمّك يومك هذا الكفاك».

فقال : يا رسول اللّه فأتصدّق بمالي كلّه؟

قال: «لا»، قال فبثلثيه؟ قال: «لا»، قال : بنصفه ؟ قال: «لا»، قال فبثلثه؟ قال: «نعم»، فأنزل اللّه : «وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَالِحَا».... الآية.

اللّه تبارك وتعالى يفرح بتوبة عبده ويحب العبد التوّاب وذلك ما ورد في الحديث عن الامام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) أنّه قال: «إن اللّه تعالى أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدهما، فاللّه أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وحدها».

وقال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إنّ اللّه يحب المفتن التوّاب ومن لا يكون ذلك منه كان أفضل» (1).

أبو خيثمة، والثلاثة الّذين تخلّفوا

قال اللّه تعالى: «لَقَد تَابَ اللّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الّذين اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة» وقال تعالى: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الّذين خُلِفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللّه إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّه هُوَ الثَّوَابُ الرَّحِيمُ»(2).

قال المفسرون: إن الآية الأولى والثانية: نزلت في غزوة تبوك والمشاكل والمصاعب العظيمة التي واجهها المسلمون، حيث دفعت جماعة من أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى التصميم على الرجوع وعدم الاشتراك في الحرب، ولكن اللطف الإلهي والتوفيق

ص: 670


1- سفينة البحار : ج 1 ص 478.
2- التوبة: 117 118.

الرباني قد شملهم، فثبتوا في مكانهم، والتحق قسم منهم، وابتعد آخرون، حيث ندموا على ترك رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وتابوا توبة نصوحة، فتاب اللّه عليهم، وهو التواب الرحيم.

القصة

فمن جملة الّذين قيل أن الآية قد نزلت في حقّهم هو: «أبو خيثمة» وكان من أصحاب رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) و هو الوضع فيه امتنع عن التوجه إلى معركة تبوك مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

مرت عشرة أيّام على هذه الواقعة، وكان الهواء حارّاً محرقاً، فحضر ابو خيثمة يوماً عند أزواجه، وكنّ قد هيأن خيمة، وأحضرن الطعام اللذيذ والماء البارد، فتذكر فجأة قدوته النبي اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وغاص في موج الأفكار، وقال في نفسه:

إن رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) الّذي غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وضمن له آخرته، قد حمل سلاحه على عاتقه وسار في الصحاري ورياحها المحرقة، وتحمل مشقة هذا السفر، أما أبو خيثمة - يعني نفسه - فهو في ظل بارد، يتمتع بأنواع الأطعمة والنساء الجميلات!!! إن هذا ليس من الإنصاف.

فالتفت إلى زوجاته وقال : أقسم باللّه أن لا أكلم إحداكن كلمة، ولا أستظل بهذه الخيمة حتّى ألتحق بالنبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ).

قال ذلك وحمل زاده وجرابه وركب بعيره وسار و جهدت نساؤه أن يكلمنه فلم يعبأ بهن ولم ينبس بنبت شفة، وواصل سيره حتّى اقترب من تبوك.

فقال المسلمون بعضهم لبعض : هذا الراكب على الطريق، فقال النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «كن أبا خيثمة» لما اقترب وعرفه الناس، قالوا: نعم، هو أبو خيثمة، فأناخ راحتله وسلّم على النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وحدثه بمى جرى له، فرحب به النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ودعا له.

ص: 671

وبذلك فإنه كان من جملة الّذين مال قلبهم إلى الباطل، إلا أنه تاب وندم، ولما رأى اللّه تعالى استعداده الروحي وتوبته الحقيقيّة أرجعه إلى الحق، وهداه إلى الطريق المستقيم، وثبّت قدمه، وتاب عليه، إنّه بهم رؤوفٌ رحيم.

والآية الثانية تشير إلى الثلاثة من المسلمين وهم: كعب بن مالك، ومروان بن ربيع، وهلال بن اميّة، وقد امتنعوا من المسير مع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) والاشتراك في غزوة تبوك، وذلك لكسلهم وتثاقلهم، فلم يمضي زمان حتّى ندموا.

فلما رجع النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) من غزوة تبوك حضروا عنده، وطلبوا منه العفو عن تقصيرهم، إلّا أن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم يكلمهم حتّى بكلمة واحدة، وأمر المسلمين أيضاً أن لا يكلموهم.

لقد عاش هؤلاء محاصرة اجتماعية عجيبة وشديدة، حتّى أطفالهم ونساءهم أتوا إلى النبي، وطلبوا منه الإذن في أن يفارقوا هؤلاء، إلّا إن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لم يأذن لهم بالمفارقة، لكنه أمرهم أن لا يتقربوا منهم.

إن فضاء المدينة بوسعته قد ضاق على هؤلاء النفر، واضطروا للتخلص من هذا الذلّ والفضيحة الكبيرة إلى ترك المدينة والالتجاء إلى قمم الجبال.

ومن المسائل التي أثّرت تاثيراً روحياً شديداً، وأوجدت صدمة عنيفة لدى هؤلاء، ما رواه كعب بن مالك أحد هؤلاء الثلاثة قال:

كنت يوماً جالساً في سوق المدينة وأنا مغموم، فتوجه نحوي رجل مسيحي شامي، فلمّا عرفني سلّمني رسالة من ملك الغساسنة كتب فيها: إذا كان صاحبك قد طردك وابعدك فالتحق بنا، فتغيّر حالي وقلت: الويل لي، لقد وصل أمري إلى أن يطمع بي العدو !

خلاصة الأمر، إن عوائل هؤلاء وأصدقائهم كانوا يأتونهم بالطعام، إلّا أنهم لا

ص: 672

يكلمونهم قط، ومضت مدة وهم على هذه الحال، ويتجرعون ألم الانتظار والترقب في أن تنزل آية تبشرهم بقبول توبتهم، لكن لا خبر عن ذلك.

في هذه الأثناء خطرت على ذهن أحدهم فكرة وقال: إن كان الناس قد قطعوا علاقتهم بنا واعتزلونا، فلماذا لا يعتزل كل منا صاحبه، صحيح أننا مذنبون جميعاً، لكن يجب أن لا يفرح أحدنا لذنب الآخر، وبالفعل اعتزل بعضهم بعضاً، ولم يتكلموا بكلمة واحدة، ولم يجتمع اثنان منهم في مكان واحد.

وأخيراً... وبعد خمسين يوماً من التوبة والتضرع إلى اللّه سبحانه وتعالى قبلت توبتهم ونزلت الآية في ذلك.

عندما تشتد الحوادث والضغوط والاضطرابات والكوارث إلى الحد الّذي يقترب أن تزلّ فيه أقدام بعض المسلمين عن طريق الصواب، ويكادون يبتعدون عن الحق والرجوع عن الجهاد، ويرى صدق توبتهم وتضرعهم وندمهم من أعمالهم السيئة ويحاولون أن يقتربوا من اللّه، عند ذلك تنزل الرحمة الإلهية واللطف الإلهي ويشملهم بعطفه وتوبته ورعايته... فتأمل.

تُبَّع الحميري

قال اللّه تعالى: «أَهُمْ خَيْرُ أَمْ قَوْمُ تُبَّعِ وَالّذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ»(1).

لقد كانت اليمن الواقعة في جنوب الجزيرة العربية من الأراضي العامرة الغنيّة، وكانت في الماضي مهد الحضارة والتمدن، وكان يحكمها ملوك يسمون تبعاً لأن قومهم كانوا يبيعونهم.

فقد كان قوم تبع يشكلون مجتمعاً قوياً في عدته وعدده، ولهم حكومتهم الواسعة.

ص: 673


1- الدخان: 37.

وتبّع كان لقباً عاماً لملوك،اليمن، وقد ظهر من بين هؤلاء الملوك ملك آمن بالنبي محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لها قبل ظهوره، اسمه : أسعد ابو كرب، ولقب ب(تبّع) الحميري حيث يعتقد بعض المفسرين أنه كان رجلا طالب حق مؤمناً، وقد روى سهل بن سعد عن النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) انه قال: «لا تسبوا تبعاً فانه كان قد أسلم».

وجاء في حديث عن الامام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «إن تبعاً قال للأوس والخزرج: كونوا هاهنا حتّى يخرج هذا النبي، أما لو ادركته لخدمته وخرجت معه»(1).

روي ان تبّعاً قال لمن كان معه من الأوس والخزرج:

«أقيموا بهذا البلد، فإن خرج النبي الموعود فآزروه وانصروه، وأوصوا بذلك أولادكم»، حتّى أنه كتب رسالة أودعهم إياها ذكر فيها إيمانه بالرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )(2).

كان تبّع الأول من الخمسة الّذين ملكوا الدنيا بأسرها، فسار في الآفاق يريد مكّة، وكان يتخذ من كل بلدة يمر بها عشرة أنفس من حكمائهم، فلمّا وصل مكّة، كان معه أربعة آلاف رجل من العلماء، وكسى البيت وأطعم الناس وهو القائل:

شهدتُ على أحمد أنّه***رسول من اللّه بارئ النسم

فلو مدّ عمري إلى عمره***لكنتُ وزيراً وابن عم

فلمّا وصل مكّة فلم يعظمه أهل مكّة، فغضب عليهم، فقال لوزيره عمياريا في ذلك فقال الوزير: انّهم جاهلون ويعجبون بهذا البيت فعزم الملك في نفسه أن يخربها ويقتل أهلها، فأخذه اللّه بالصدام، وفتح عن عينيه وأذنيه وأنفه وفمه ماءً منتناً عجزت الأطباء،عنه، وقالوا: هذا أمر سماوي وتفرقوا.

ص: 674


1- مجمع البيان.
2- روح المعاني : ج 25 ص 118 عنه تفسير الأمثل: ج 16 ص 150.

فلما أمسى جاءه عالم فاستأذن الوزير له، فلمّا خلا به قال له: هل أنت نويت في هذا البيت أمراً؟ قال: كذا وكذا، فقال العالم : تُب من ذلك، ولك خير الدنيا والآخرة.

فقال : قد تبتُ مما كنت نويت فعوفي في الحال، فآمن باللّه وبابراهيم الخليل، وخلع على الكعبة سبعة أثواب وهو أول من كسى الكعبة، وخرج إلى يثرب، ويثرب هي أرض فيها عين ماء، فاعتزل من بين أربعة آلاف رجل عالم أربعمائة رجل عالم على أنهم يسكنون فيها، وجاءوا إلى باب الملك وقالوا: إنا خرجنا من بلدنا وطفنا مع الملك زماناً وجئنا إلى هذا المكان ونريد المقام إلى أن نموت فيه، فقال الوزير: ما الحكمة في ذلك؟ فقالوا: أعلم أيّها الوزير أن شرف هذا البيت بشرف محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) صاحب القرآن والقبلة واللواء والمنبر مولده بمكّة وهجرته إلى هاهنا وأنا على رجاء أن ندركه أو تدركه أولادنا.

فلما سمع الملك ذلك تفكّر أن يقيم معهم سنة رجاء أن يدرك محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )، وأمر أن يبنوا اربعمائة دار لكل واحد،دار وزوّج كل واحد منهم بجارية معتقة، وأعطى لكلّ واحد منهم مالاً جزيلا.

وروي أن تبّع الأول مات بغلسان من بلاد الهند، وكان بين موته وبين مولد النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ألف سنة، وله كتاب إلى رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يذكر فيه إيمانه به (1).

هذا نتيجة التوكل على اللّه والإيمان به والتوبة إليه، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.

فضل صلاة الجماعة

روي عن الصفي السيد مرتضى النجفي، وكان ممن أدرك العلامة الجليل الشيخ الأكبر جعفر بن الشيخ خضر النجفي، شيخ الفقهاء، صاحب كاشف الغطاء.

ص: 675


1- سفينة البحار : ج 1 ص 444.

قال السيد مرتضى النجفي: أبطأ الشيخ كاشف الغطاء في بعض الأيام عن صلاة الظهر، وكان الناس مجتمعين في المسجد ينتظرونه، فلمّا استيأسوا منه قاموا إلى صلاتهم فرادى، وإذا بالشيخ قد دخل المسجد، فرآهم يصلّون فرادى، فجعل يوبّخهم وينكر عليهم ذلك ويقول: أما فيكم من تثقون به وتصلون خلفه ؟ ووقع نظره من بينهم إلى رجل تاجر صالح معروف عنده بالوثاقة والديانة يصلّي في جنب سارية من سواري المسجد، فقام الشيخ خلفه واقتدى به، ولمّا رأوا الناس ذلك اصطفوا خلفه وانعقد الصفوف وراءه، فلمّا أحسّ التاجر بذلك اضطرب واستحى، ولا يقدر على قطع الصلاة، ولا يتمكن من اتمامها كيف وقد قامت صفوف خلفه تغتبط منها الفحول من العلماء، فضلاً عن العوام، ولم يكن له عهد بالإمامة، سيّما التقدّم على مثل هذه المأمومين، ولما لم يكن له بدّ من الإتمام أتمّها والعرق يسيل من جوانبه حياءً.

ولما سلّم قام فأخذ الشيخ بعضده وأجلسه، قال: يا شيخ قتلتني بهذا الاقتداء، مالي والمقام الإمامة ؟ فقال الشيخ: لابد لك من أن تصلي بنا العصر، فجعل يتضرّع ويقول: تريد تقتلني لا قوّة لي على ذلك، وأمثال ذلك من الكلام.

فقال الشيخ: إما أن تصلي أو تعطيني مائتي شامي (1) أو أزيد والترديد مني فقال: بل أعطيك ولا أصلّي.

فقال الشيخ: لابد من احضارها قبل الصلاة، فبعث التاجر من أحضرها، ففرّقها الشيخ على الفقراء، ثم قام إلى المحراب وصلى بهم العصر.

كان هذا فضل الشيخ كاشف الغطاء وإحسانه، وبركة صلاة الجماعة، وحصول المصلين على الثواب والأجر المادي والمعنوي، وحصول التاجر الثواب والافتخار.

ص: 676


1- الشامي: النقود المعروفة في ذلك الزمن.

جعفر بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)

روي انه لمّا بعث النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عسكراً إلى مؤتة ولّى عليهم زيد بن حارثة، ودفع الراية إليه وقال : إن قتل زيد فالوالي عليكم جعفر بن أبي طالب (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، وإن قتل جعفر فالوالي عليكم عبداللّه بن رواحة الأنصاري،وسكت فلمّا صاروا وقد حضر هذا الترتيب في الولاية من رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) رجل من اليهود قال:

إن كان محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) نبياً كما يقول، سيقتل هؤلاء الثلاثة، فقيل له: لم قلت هذا؟ قال : لأن أنبياء بني اسرائيل كانوا إذا بعث نبي منهم بعثاً في الجهاد فقال : إن قتل فلان فالوالي فلان بعده عليكم، فإن سمّى الولاية كذلك اثنين أو مائة أو أقل أو أكثر، قتل جميع من ذكر فيهم الولايات.

قال جابر: فلمّا كان اليوم الّذي وقع فيه حربهم، صلّى النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) بنا الفجر ثم صعد المنبر فقال: «قد التقى اخوانكم مع المشركين للمحاربة»، فأقبل يحدّثنا بكرّات بعضهم على بعض، إلى أن قال: «قُتل زيد بن حارثة وسقطت الراية»، ثم قال: «قد أخذها جعفر بن ابي طالب وتقدم للحرب بها»، ثم قال : قد قطعت يده وقد أخذ الراية بيده الأُخرى»، ثم قال: «قطعت يده الأخرى وأخذ الراية في صدره»، ثم قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «قتل جعفر بن أبي طالب وسقطت الراية، ثم أخذها عبداللّه بن رواحة، وقد قُتل من المشركين كذا وقُتل من المسلمين كذا، فلان وفلان إلى أن ذكر جميع من قتل من المسلمين بأسمائهم».

ثم قال (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «قتل عبداللّه بن رواحة وأخذ الراية خالد بن الوليد»، فانصرف المسلمون، ثم نزل عن المنبر وصار إلى دار جعفر فدعى عبد اللّه بن جعفر فأقعده في حجره، وجعل يمسح على رأسه.

وروى الواقدي بإسناده عن أسماء بنت عميس قالت: اصبحتُ في اليوم الّذي

ص: 677

أُصيب به جعفر وأصحابه، فأتاني رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) فقال: «يا أسماء أين بنو جعفر»؟ فجئت بهم اليه، فضمّهم وشمّهم، ثم ذرفت عيناه فبكى فقلت: يا رسول اللّه، بلغك عن جعفر شيء؟ قال: «نعم أنّة قتل اليوم»، فقمت أصيح واجتمعت اليَّ النساء، فجعل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يقول: «يا اسماء لا تقولي هجراً ولا تضربي صدراً»، ثم خرج حتّى دخل على ابنته فاطمة (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) وهي تقول: «واعمّاه»، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «على جعفر فلتبك الباكية»، ثم قال: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد شُغلوا عن أنفسهم اليوم».

كان رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) يحب جعفر بن ابي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) كثيراً، وكان دائماً يقربه منه، ولما فتح خيبر، قَدِمَ جعفر بن ابي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) من الحبشة فالتزمه رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وجعل يقبّل ما بين عينيه ويقول: «ما أدري بأيّهما أنا أشد فرحاً بقدوم جعفر أم بفتح خيبر».

وقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) : «خير الناس، حمزة وجعفر وعليّ (عَلَيهِم السَّلَامُ)».

إذن وعلى هذا الأساس يظهر من قصة شهادة جعفر وبكاء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) عليه أنه يجوز البكاء على الميت ويجوز عقد المآتم له واطعام الطعام.

ص: 678

المحتويات

المقدمة...5

مقدمة الطبعة الرابعة...7

أثر القصة في عملية التغيير الإنساني...7

التغيير في الإنسان هدف...7

إشارة أخيرة...10

باب العلم 1 ...11

قهر الناصبيّ...11

الركون إلى الدنيا...12

لا أدري نصف العلم...12

قياس أبي حنيفة...12

غرائب العلوم في حروف الهجاء...14

أبو بكر واليهودي...15

الأعرابيّ وأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...16

أول من عبد الأصنام...17

باب البداء والنسخ...21

الصدقة تدفع البلاء...21

قصة اخرى...22

ص: 679

يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت...22

رحمة الأولياء مقبولة...23

الديصاني وهشام بن الحكم...24

تغيير القبلة...25

أبو حنيفة وموسى الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ)...26

إذا جاء أجلهم لا يستأخرون...27

أوّل ما خلق اللّه...28

الملائكة كتّاب الأعمال...28

باب في الموت والحشر...31

حبُّ لقاء اللّه...31

شدّة سكرات الموت...31

الاستخفاف بالصلاة...32

الشاب والخوف من اللّه...32

كيف وجدت طعم الموت...33

أحوال البرزخ والقبر وعذابه...34

الحسرة والندم...35

إثبات الحشر وكيفيّته...35

بخت نصر وبني إسرائيل...36

جيران اللّه...37

الحسنات يذهبن السيئات...38

منافخ النار...40

ص: 680

أبواب جهنم وبكاء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...41

باب بني أُميّة...42

أشقى الأشقياء...43

النساء المعذبات...44

قصّة القاضي من بني إسرائيل...45

باب في المناظرات والإحتجاج...47

الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مجلس معاوية...47

عصمة الأنبیاء ...62

شفاء الشابّ اليهودي...72

إسلام عبداللّه بن سلام ...74

إحتجاج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )على اليهود...76

الحجّاج ويحيى بن يعمر...80

أبو حنيفة ومؤمن الطاق...82

معنى الواحد إلى المائة...83

الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) والشامي...85

مناظرات الإمام الباقر (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع النصراني...88

أبناء الرسول من فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)...89

هشام وعمرو بن عبيد...90

الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) والمأمون...92

يحيى البرمكي وهشام بن الحكم...94

احتجاج أبي قحافة...96

ص: 681

قصة اليهوديين مع أبي بكر...97

قصة اليهود الثلاثة...104

أسقف نجران...107

رسالة ملك الروم...109

فكتب إليه أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...112

الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) والمعتصم...112

الإمام الجواد (عَلَيهِ السَّلَامُ) ويحيى بن أكثم...114

كعب الأحبار وعمر بن الخطّاب...118

الهندي والإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ)...123

بطلان القياس...125

باب أحوال الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) وقصصهم...127

الأسماء الخمسة على ساق العرش...127

بكاء آدم...128

توبة آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ) والمشاعر الحرام...128

بدء نسل آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ)...129

أول خليفة بعد آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ)..130

قصة نبي اللّه إدريس (عَلَيهِ السَّلَامُ)...132

قصة نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ) وبناء السفينة...139

السفينة...141

دروس تربوية في قصة نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ)...144

قصّة شدّاد وإرم ذات العماد...146

ص: 682

قصة النبي هود (عَلَيهِ السَّلَامُ)...149

ملاحظات ...154

قصة صالح (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقومه...157

ولادة نبيّ اللّه إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ)...159

نبي اللّه إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وكسر الأصنام...161

نبي اللّه إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) والعابد...164

إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وطول العمر...165

أحوال أولاد إبراهيم (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأزواجه وبناء البيت...166

نبي اللّه لوط (عَلَيهِ السَّلَامُ) وقومه...169

قصة ذي القرنين والعابد...174

إسلام ذي القرنين...176

رؤيا نبي اللّه يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ)...177

رمي يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ) في البئر...178

تفسير المنام لصاحبيه...181

رؤيا الملك...182

قصة بنيامين مع أخيه يوسف...183

رجوع يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى أبيه يعقوب (عَلَيهِ السَّلَامُ)...184

زواج يوسف (عَلَيهِ السَّلَامُ) من زليخا...187

نبي اللّه أيوب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وصبره على البلاء...187

بكاء نبي اللّه شُعيب (عَلَيهِ السَّلَامُ)...189

عذاب قوم شعیب (عَلَيهِ السَّلَامُ)...190

ص: 683

ولادة نبي اللّه موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأحواله...191

تواضع موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)...195

نبي اللّه موسى وقومه...196

غرق فرعون وجنوده...198

عصا موسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)وسحرة فرعون...199

نبي اللّه موسی (عَلَيهِ السَّلَامُ) والخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ)...202

موسى والخضر (عَلَيهما السَّلَامُ) والصياد...205

مؤمن آل فرعون...206

قصّة ماشطة آل فرعون وامرأة حزبيل...207

قصّة امرأة فرعون آسية وإيمانها باللّه...208

عبادة العجل...209

قصة ذبح البقرة...210

صادق الوعد...212

لقمان والحكمة..213

من هو لقمان...214

حِكَم لقمان...215

قصّة إشمويل (عَلَيهِ السَّلَامُ) وطالوت و جالوت..217

قضاء داود (عَلَيهِ السَّلَامُ)...220

عبادة داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) وتسبيح الضفدعة...221

قصّة داود (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأُوريا...221

قصّة سليمان بن داود (عَلَيهِ السَّلَامُ)...222

ص: 684

حكمة سليمان النبي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...224

النملة وسليمان (عَلَيهِ السَّلَامُ)...225

قصة كرسي بلقيس...226

وفاة سليمان بن داود (عَلَيهِ السَّلَامُ)....288

قصة قوم سبأ...230

قصة أصحاب الرّس...231

قصة شعيا (عَلَيهِ السَّلَامُ)...232

حياة زكريا ويحيى (عَلَيهما السَّلَامُ)...233

قتل وذبح يحيى (عَلَيهِ السَّلَامُ)...234

حياة مريم (عَلَيها السَّلَامُ)وولادتها وبعض أحوالها...235

ولادة عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)...236

تواضع عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)...237

عیسی (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومعجزة إحياء الموتى...238

ما جرى بين عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) وإبليس...238

حواري عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)...239

قصّة عيسى (عَلَيهِ السَّلَامُ) مع المؤدّب...239

مرور عیسی (عَلَيهِ السَّلَامُ)على قبر يعذّب صاحبه...240

رفع عيسى إلى السماء...241

قصة بخت نصّر...241

يونس في بطن الحوت...243

متى ولقاء داود وسليمان (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) معه...245

ص: 685

أصحاب الكهف والرقيم...246

قتل أصحاب الأُخدود...249

قصّة جرجيس (عَلَيهِ السَّلَامُ)...250

عدد الأنبياء وكتبهم...251

صفات الأنساء الخمسة...252

معنى النبوّة...252

فضل مسجد السهلة...253

فضل مسجد الكوفة...253

باب في أحوال النبي محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...255

عبدالمطّلب وابنه عبداللّه...255

نصرة الملائكة لعبداللّه...262

عبدالمطّلب وأبرهة...263

إسلام اليهودي...264

النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) وبحيراء الراهب...265

الوقائع التي وقعت عند ولادته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...266

إخبار رجل يهودي ولادة محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ونبوّته إلى قريش...268

قصّة حليمة السعدية...268

معجزاته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...269

قصّة إيمان الطبيب الراهب...270

تجارة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لخديجة (عَلَيهَا السَّلَامُ)...271

زواج خديجة من النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...272

ص: 686

رواية أخرى حول زواج النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )

بركة الإثنا عشر درهماً...281

دعاء النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...282

الجنّة لا يدخلها العجائز...283

فضل رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) على الملائكة والأنبياء...283

منزلة مُحبّ النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...285

إسلام حمزة عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...285

الوليد بن المغيرة وعناده لقبول الحقّ...287

الهجرة إلى الحبشة...289

صحيفة قريش...290

هجرة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) إلى المدينة...293

معجزة النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) في الشاة...295

بناء أوّل مسجد في المدينة المنوّرة...296

أبي عامر الراهب ومسجد ضرار...298

نزول سورة براءة...299

قصّة المباهلة...300

مرض الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) ووفاته...302

ضيوف اللّه يوم القيامة...307

باب غزوات النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...309

تعداد الغزوات والسرايا...309

غزوة بدر الكبرى...310

ص: 687

غزوة السويق...316

غزوة القردة...318

غزوة بني قينقاع...318

سيف ذو الفقار...319

غزوة أُحد...320

غزوة حمراء الأسد...324

غزوة الرجيع...325

غزوة بني النضير...326

غزوة ذات الرقاع...327

غزوة عسفان....328

غزوة الأحزاب وبني قريظة...328

صفية بنت عبدالمطّلب...333

غزوة بني المصطلق...334

قصة الإفك...335

هر قل ومحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...337

قيصر ومحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...338

المقوقس ومحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...339

كسرى ومحمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...339

غزوة خيبر...341

غزوة مؤتة...345

غزوة ذات السلاسل...347

ص: 688

فتح مكّة...349

غزوة حنين...351

غزوة الطائف وأوطاس...354

غزوة تبوك...355

غزوة عمرو بن معدي كرب...358

باب في أحوال الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفضائله...363

ولادة الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...363

جواب الجاهل...364

رمّانة الجنّة...364

أصحاب الكهف...365

الشيخ اليهودي وعدل علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...365

في حبّ عليّ وبغض عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)...367

السابّ عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)...369

أربعة من أهل الجنّة...369

سعد بن أبي وقاص والرجلين...370

إغاثة الملهوف...372

تفسير الأذان...373

صوت الناقوس...377

الاحتيال على علىّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)...378

الأخوة العشرة...379

نزاع إمرأتين في طفل...380

ص: 689

مات الدّين وعاش الدّين...380

حكم عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) وحكم النبي دانيال (عَلَيهِ السَّلَامُ)...383

من أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً...385

صدقة على (عَلَيهِ السَّلَامُ)...386

الانفاق في سبيل اللّه...387

عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) واليتامى...391

عدالة علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...392

ردّ الشمس...393

الأعرابيّ والثمانون ناقة...394

الولد العاقّ...395

الحاج الّذي لم يحجّ...397

العلوية والرجل المجوسي...398

قد أُجيبت الدّعوة...400

المرأة العمياء وحبّ عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)...401

زواج خولة الحنفية من علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...401

عقيل (رضیَ اللّهُ عنهُ) ومعاوية...404

العفو عند المقدرة...405

مقتل أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...406

قصص في فضل النجف الأشرف...408

التسليم بإمرة المؤمنين...410

ابريدة ورسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...411

ص: 690

خالد وأبي زاهر الأسدي...413

باب قصص من أصحاب الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...415

تخلّف الأصحاب عن عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ)...415

سلمان وأبو ذر...415

صوم الدهر وختم القرآن كل يوم...416

سلمان الفارسي (رضیَ اللّهُ عنهُ)...417

حكمة سلمان (رضیَ اللّهُ عنهُ)...418

بیت سلمان (رضیَ اللّهُ عنهُ)...418

إسلام أبي ذرّ (رضیَ اللّهُ عنهُ)...419

أبو ذرّ وغنمه...421

أبو ذرّ وهدية عثمان...423

وفاة أبي ذرّ الغفاري...423

باب في أحوال فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)...425

ولادة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ)...425

الجفنة من طعام الجنّة...428

نطفة فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)...429

عقد فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)...430

الايثار والثقة باللّه وحسن الظن...433

إجازة البنت في الزّواج...435

زواج فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) ومهرها...436

وفاة فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ)...439

ص: 691

فضل فاطمة (عَلَيهَا السَّلَامُ) عند اللّه...441

فعلت فداها أبوها...442

باب في أحوال الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ)...445

ولادة الحسن والحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...445

الحسن والحسين ابنا رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...445

العجوز وكرم الحسنين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...447

قصّة شهادة الإمام الحسن (عَلَيهِ السَّلَامُ) ودفنه...447

باب في أحوال الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...451

الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) والغلام...451

الأعرابيّ والأسئلة الثلاثة...451

إخبار رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ ) لشهادة الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...452

البكاء على الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) واعتراض العالم...453

عمر بن سعد وقتل الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...359

باب قصص من معاجز الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)...459

الغيبة الكبرى...459

قصّة عليّ بن مهزیار والحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)...460

شفاء المرضى ببركة الحجّة...463

قصّة أبو راجح الحمامي والحجة (عَلَيهِ السَّلَامُ)...468

قصّة الرّمانة...470

الشهادة الثالثة...473

الدّعاء في الشّدة...477

ص: 692

بناء مسجد جمکران...478

الشيخ محمّد حسن السريرة ممن رأى الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)...482

باب قصص المعمّرين...487

قصة الخضر وموسى (عَلَيهِ السَّلَامُ)...487

قصّة عليّ بن عثمان المغربي (أبو الدنيا)...489

قصّة الربيع بن الضبع الفزاري...491

فائدة القلاقل الأربعة...493

باب فضائل الأئمّة (عَلَيهِم السَّلَامُ)....497

قصة المَلَكَ فطرس...497

حبّ الرسول وآله...498

حب عليّ (عَلَيهِ السَّلَامُ) ليس فيه رخصة...498

لا تقبل الأعمال إلّا بالولاية...500

المرأة السوداء...501

رجل لا يخاف اللّه وهو من أهل الجنّة...501

المرأة تلد لستّة أشهر...502

الصلاة الخالصة...503

إسلام الراهب...504

ما بين الإيمان واليقين...505

معجزة الرجل الشامي...506

قصّة يونس النقّاش والفصّ...507

سبب تشيّع عبد الرحمن...508

ص: 693

سبب تشیّع وزير المتوكّل...509

شفاء المتوكّل من مرضه...510

الإمام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وخان الصعاليك...511

قصة زينب الكذّابة...514

المشعبذ الهندي ومجلس المتوكّل...514

الوشاية بالامام الهادي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...515

توبة الحسين بن الحسن...516

قصّة أبو الأديان مع الإمام الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)...517

قصّة زواج أُمّ المهدي (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف)...519

قصّة ولادة الحجّة (عَلَيهِ السَّلَامُ)...523

المهدي من ولد الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)...525

قصّة أحمد بن أبي روح...526

قصّة أحمد الدينوري السّراج...528

دعاء الفرج...531

الابن الّذي أكبر سنّاً من أبيه...534

الأئمّة إثنا عشر...535

كيفية خلق السماء والأرض...537

أوّل يوم خلق اللّه...538

النهار خُلق قبل أم اللّيل ؟!...538

دعاء العلوي لأُمّ المتوكّل...539

صلاة ودعاء الفرج...540

ص: 694

باب قصص متفرقة من هنا وهناك...543

قصة ميزاب العبّاس عم النبي (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...543

القيّم والتوكّل على اللّه...545

خصال الليل والنهار...546

كَذِبَ المنجّمون...547

علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) وسرسفيل المنجّم...548

المنجّمة بوران والمعتصم...550

لا تعادوا الأيّام فتعاديكم...551

يوم النيروز...552

قصّة أصحاب الرّس...553

قصّة هاروت وماروت...556

أوّل قطرة، وأوّل عين فاضا، وأوّل شجرة على وجه الأرض...559

تفاخر خلق اللّه...560

أشدّ ما خلق اللّه...561

في فضل مدينة قم...561

أيضاً فضل مدينة قم...562

قصّة أنس بن مالك...562

حمل العذراء...563

الظبية وإسلام المنافق...564

حقوق الحيوان...565

دعاء النملة...565

ص: 695

نبيّ اللّه سليمان والقبّرة..565

الاستهزاء بخلق اللّه...566

تقسيم الأرزاق...567

ابرهة وهدم الكعبة...567

شوب اللبن بالماء...568

عنقاء المغرب...569

كلام اللّه مع خلقه...569

الفقير الغنيّ...570

حسن العاقبة...570

أدخله في الإسلام وأخرجه منه...571

صفات أولياء اللّه...572

الدعاء المستجابة...573

العبد الّذي يصبر على بلاء اللّه...573

إباحة المدينة المنوّرة...575

بالتوكل على اللّه تُقضى الحوائج ويقرب النصر...577

رضا الناس غاية لا تدرك...578

حسن الخُلق والسخاء...579

الأفعال الخمسة المنجية...580

هكذا تجتمع الذنوب...581

حسن العاقبة...581

البقرة والبرّ بالوالدين...582

ص: 696

سخط الأُمّ ورضاها...583

خير من جهاد سنة...585

أبرّ بأبيها...585

برّ الأُمّ...585

حقوق الأخوان...585

السؤال من الجبّار...586

الولد الصالح...587

تواضع النجاشي...587

الراضي بالكذب...588

الغيبة...589

النمام...589

المنصور والخضر (عَلَيهِ السَّلَامُ)...589

التوبة النصوحة...591

قصّة حاطب...592

التورية والتقيّة...593

فائدة آية الكرسي...594

عملك...595

العفو عن الأُخوان...596

من هم أولياء اللّه...596

التواضع...597

قضية واحدة في خمسة عقوبات...597

ص: 697

التوبة في السرّ أفضل من هتك الستر...598

عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة...599

التوبة غفران الذنب...601

كما تدين تدان...602

الشهادة للميّت...603

تأخير استجابة الدعاء...603

الصدقة تدفع البلاء...604

الّذين يمنعون حقّ اللّه...605

لقمة بلقمة...607

الحمد والشكر اللّه تعالى...607

قصّة شاه زنان بنت کسری...607

النجف الأشرف...609

قبر الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...609

أردت أن أعظه فوعظني...610

ماذا يقول المال لصاحبه...610

اللّه يرزق من يشاء بغير حساب...611

الأُخوة الثلاثة...613

سبعون حلالا خير من سبعمائة حرام...614

هوى النفس في القضاء...614

التوسّل بالقرآن...615

حسنة الكافر وخطيئة المؤمن...615

ص: 698

الدعوات الثلاث الضائعة...617

قصّة أُمّ داود ودعائها...617

باب عبرٌ وحِكَم...621

الشاب المذنب...621

الذباب والمسك...624

أبو سفيان وعلي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...625

زيد بن حارثة وأصحابه...626

سعد بن معاذ...629

زواج جويبر من الدلفاء...630

سعد وحبّ الدنيا...634

من استغنى أغناه اللّه...635

الموسر والمعسر...636

طاعة الزوج...636

الإيثار لأبناء الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ )...637

الخلق على ثلاث طبقات...638

الأنبياء الّذين ولدوا مختونين...640

ثمن ما تأكل...641

قصص في أحوال الفقراء من المؤمنين...643

فقراء المسلمين...643

الفقر ومحبي علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)...643

تقسيم الأرزاق...644

ص: 699

جزاء الفقراء يوم القیامة...644

اختبار الأغنياء...644

كرامة الفقراء يوم القيامة...645

دعاء لنفي الفقر والسقم...645

الخوف والرجاء...647

الخوف من اللّه...647

الخائف حقاً...648

النجاة في الصدق...648

العابد والمرأة...649

القاضي والمرأة...650

بئس الضيفة...653

الكفاف...654

المرائي...654

حقيقة اليقين...655

حب الدنيا وعبادة الطاغوت...655

قيمة الدنيا...656

لا تغضب...657

أبقيت وعافيت...657

معاوية الثاني

الإمام السجاد (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهشام بن عبد الملك...659

حرّة بنت حليمة السعدية...661

ص: 700

دار في الجنّة...664

قضاء حاجة المؤمن...665

كرم الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)...667

تعيين اجرة العامل...668

توبة أبي لبابة...668

أبو خيثمة، والثلاثة الّذين تخلّفوا...670

القصة...671

تُبَّع الحميري...673

فضل صلاة الجماعة...675

جعفر بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)...677

ص: 701

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.