تاریخ ما بعد الظهور

هوية الکتاب

الكتاب : تاریخ ما بعد الظهور

المؤلف : محمد الصدر

الناشر : دار التعارف المطبوعات - شارع سوريا

بناية درویش - الطابق الثالث

643: 247280 - بيروت - لبنان

المستودع : حارة حريک ، شارع ابوعلی رحال

الحقوق : جميع الحقوق محفوظة لناشر

الطبعة الثانية

ص: 1

اشارة

ص: 2

مَحمَّد الصَدٰر

تَاریخ مَا بَعٰد الظهُور

ص: 3

الكتاب : تاریخ ما بعد الظهور

المؤلف : محمد الصدر

الناشر : دار التعارف المطبوعات - شارع سوريا

بناية درویش - الطابق الثالث

643: 247280 - بيروت - لبنان

المستودع : حارة حريک ، شارع ابوعلی رحال

الحقوق : جميع الحقوق محفوظة لناشر

الطبعة الثانية

ص: 4

التمهيد

قد يكون من الطريف ان يتصدى الباحث المنظر إلى ما وراء الغيب ،

ليخط تاريخ المستقبل بسطور ، وقد لا يعدو هذا التاريخ في نظر الكثيرين ،

عن كونه سرداً لمجموعة من التنبؤات التي قد لا يقع شيء منها في مستقبل

الدهر . وأي فشل التنبؤات الفرد . واكثر ركاكة من ان يثبت كذب هذه التنبؤات وسقوط هذه الاخبارات .

إذن ، فقد يبدو انه من الأفضل ، أن يعرض الفرد صفحاً عن مثل هذا

التاريخ و يهمله اهمالاً ، ويدع تسلسل الحوادث على مقادیر ها ، بدون ان

يزعم لنفسه القدرة على استكناه المستقبل او النظر إلى ما وراء الغيوب .

إلا أن هذه الفكرة يمكن أن تزول عن الذهن تماماً ، وتوجد الهمة في

النفس نحو هذه البحوث ... حين نعرف أن هذه المحاولة وان كانت - في

حقيقتها - سرداً لحوادث لم تقع في الزمان ، وانما المستقبل وحده هو الكفيل

بمعاصرتها وعرضها للعيان . الا انها لن تكون محاولة لادعاء معرفة ما وراء

الغيب ، كما انها ليست تنبؤاً محضا غير منطلق من قاعدة أو قائم على أساس

ويتم إيضاح ذلك فيما سنذكره من جهات الكلام ، كما يلي :

الجهة الأولى : في أهمية الموضوع في نفسه .

ص: 5

الجهه الثانية : في طرق الاستدلال التي سوف تكون متبعة خلال هذا البحث.

الجهة الثالثة : في الصعوبات التي تواجه البحث .

الجهة الرابعة : في أسلوب الخروج عن هذه الصعوبات ومحاولة تذليلها جهد الامكان .

الجهة الخامسة : في ترتيب أبواب وفصول هذا الكتاب .

* * *

الجهة الأولى : أهمية هذا الموضوع

يكتسب هذا الموضوع أهميته ، من أهمية البحث حول المهدي (ع)

ككل . من حيث كون هذا التاريخ حقلاً من حقوله وشعبة من شعبه .

ومن المعلوم أن الفكرة المهدوية عند كل قائل بها و مؤمن بصدقها ، تقوم

على اساس كون المهدي هو مصلح العالم في المستقبل ، وهو الذي يقلب الظلم إلى العدل ، ويحول الظلام إلى نور ويحقق الرفاه والسعادة لكل فرد على وجه

الأرض .

فمن الحق أن يطمع الفرد إلى التعرف على تصرفات هذا المصلح العظيم

في يومه الموعود ، وعلى اسلوبه وسياسته و طريقته في التدبير والقيادة .

وان هناك العشرات من الأسئلة تنبثق حول ذلك ، وخاصة بعد ان يعاصر الفرد الحياة الحاضرة بما فيها من تعقيد اجتماعي و تنظیم دولي وسياسي . فهل

سيكون للمهدي المصلح نفس هذا التنظيم بحقوله العديدة ، أو انه سيتخذ

للعالم وجهاً آخر ويبنيه بيده على شكل جديد ؟

ص: 6

فإذا استطاع هذا البحث أن يزيل الغموض ، ولو عن بعض هذه الأسئلة و يقرب جوابها إلى الذهن إلى حد كبير ، فهو غاية المطلوب،.

إذن ، فالحديث عن ( تاریخ ما بعد الظهور ) يعني التعرف على يوم الاصلاح العام على يد القائد المنتظر ، وهو يعني - بكل صراحة - التعرض إلى النتائج النهائية التي تتبناها الفكرة المهدوية ككل ، ووصف البشرية المثلى في مستقبله السعيد .

والتعرض إلى هذا التاريخ ، لا يتوقف على الايمان باطروحة مهدوية معينة . هي الأطروحة الامامية - مثلا" - التي تؤمن بالغيبة الطويلة للمهدي الموعود إذ يكون في الإمكان أن يقوم بمثل هذه الاعمال التي سنذكرها له بعد ظهوره ، سواء كان غائباً في الفترة السابقة على ظهوره او لم يكن (1) ومن هنا يكون لهذا البحث فائدة شاملة لكل المسلمين بصفتهم مؤمنين بفكرة المهدي . بل يكون لها اثر قریب بالنسبة إلى غير المسلمين ممن يؤمن بالمصلح المنتظر .

وتنبثق اهمية هذا البحث مرة أخرى ، في محاولة تصفية ما قيل او يقال في تحديد ما سوف يحدث يوم الظهور وبعده ، مما قد يكون مشوبآ بالأساطير ، ومحاولة الاقتصار على اثبات ما قام عليه الدليل ، و رفض اي امر آخر .

وتنبثق فائدة هذا البحث من زاوية ثالثة ، من البرهنة على الارتباط العضوي الوثيق بين يوم العدل الموعود ، وبين الأساس العام الذي يقوم عليه

ص: 7


1- هذا بحسب التصور ، بغض النظر عما قلناه في تاريخ الغيبة الكبرى (ص 501) وما بعدها من البرهان على تأثير الغيبة الطويلة على جانب تكامل القيادة لديه ، و تعمیق تطبيقاته العادلة في اليوم الموعود

ص: 8

الحجة الثانیة : طرق الاستدلال

ص: 9

المسار الثالث : المصلح المنتظر للمسلمين الاماميين خاصة ، وهو المهدي الغائب محمد بن الحسن بن علي عليه السلام الذي يظهر فيملأ الأرض عدلاً

كما ملئت جوراً.

وهذه المسارات في جوهرها واحدة ، تشير إلى مفهوم واحد مندرج في

التخطيط الإلهي العام، بشرت به الأديان و أكد عليه السلام. و انما حصل الاختلاف فيه نتيجة لظروف معينة تمت إلى التربية الفكرية للبشرية بصلة ، كما سبق ان حملنا عنه فكرة في التاريخ السابق (1)وسنعرف تفاصيله في الكتاب القادم .

الا اننا على أي حال ، ينبغي أن ننطلق في البرهان على حوادث المستقبل

من اسس مسلمة ، لهذه المسارات الثلاث ليكون الكلام مقبولاً مسلم الصحة لديها جهد الامكان .

ومعه ، فمن المتعذر إلى حد كبير التعرف على اسس مشتركة بالنسبة

إلى المسار الأول . أو -- بتعبير آخر -- مشتركة بين المسارات الثلاثة كلها ...

مما يعود إلى مفهوم المهدوية العام الذي تتسالم عليه الاديان . و ذلك لعدم تسالمها - في حدود المقدار المعروف لدى اهلها من القواعد والاسس. . . على أمور

مشتركة يمكن الانطلاق منها على حقيقة معينة بهذا الصدد . و معه يكون البحث عن تفاصيل اليوم الموعود . والاعمال التي سيقوم بها القائد المنتظر متعذراً.

وانما غاية ما يمكن التعرف عليه والتسام على صحته هو تطبيقه للعدل على وجه الأرض على الاجمال .

ص: 10


1- انظرص 251 و ما بعدها الی آخر الفصل

نعم ، لو اقتصرنا في فكرة ، المصلح المنتظر على اليهودية والمسيحية و الاسلام

امكن الانطلاق من بعض الأسس المشتركة إلى بعض تفاصيل اليوم الموعود

كما سنرى . وخاصة بعد ان يثبت في الاسلام - على ما ستسمع - نزول

المسيح في ذلك اليوم . وسيكون لما ذكر في التوراة والإنجيل من تفاصيل جزء خاص آت من الموسوعة .

واما الاستدلال على التفاصيل من خلال المسارين الثاني والثانث، ففي

الامكان الحصول على كثير من الأسس المشتركة النافعة بهذا الصدد . وسيكون

المنطلق الأساسي المشترك هو ما نطق به القرآن الكريم من الوعد بيوم التطبيق

الاسلامي العادل ، و من الخصائص الكبرى التي يتصف بها ذلك اليوم على ما ستسمع

كما سينطلق الاستدلال مما تسالمت عليه اخبار الفريقين من الحقائق . اما ما استقل به كل فريق من الأخبار فسيكون لنا منه موقف خاص ، سنذكره .

وينبغي الالماع إلى أن الاخبار الامامية. قد تكفات بنقل الحوادث نلفترة

الزمنية التي نؤرخ لها ، أكثر بكثير مما نقلته اخبار العامة . وخاصة فيما يعود

إلى المهدي و أصحابه واعماله . وأن أكثرت الاخبار العامة الحديث عن المسيح

و الدجال و اشراط الساعة .

وعلى أي حال . فما يعود إلى مقدار الأخذ بالخبر او رفضه، سنذكره في الانقسام الثالث ان شاء اللّه تعالي .

الإنقسام الثاني : التقسيم من حيث مقدار الحوادث التي يراد الحصول عليها و اثباتها تاريخياً .

وذلك : اننا أن كنا نتوخى الاطلاع على التاريخ التفصيلي لما بعد الظهور، وذكر حوادثه وأقوال معاصریه ، جملة وتفصيلا ، كما لو كان مشاهداً

ص: 11

محسوساً فعلاً. فهذا مما لا يمكن اساساً وينبغي الاعتراف سلفاً بتعذره و انقطاع

السبيل إليه . بسبب ما سنسمعه فيما يلي من البحث من وجود الفجوات الواسعة في الروايات الناقلة التاريخ المطلوب .

الا ان مثل هذا التفصيل ، مما لا يهم التعرض له ، وليس هناك مصلحۀ معاصرة في معرفته . وانما المستقبل وحده هو الكفيل بمعاصرته، واللّه عز وجل

هو القدير على ايجاده و العليم به ... وأن عشت اراك الدهر عجباً .

فان أياً من المصالح الأربعة السابقة لا يتوقف نحققها على مثل هذا التفصيل

بل يكفي فيها التعرف على الأفكار العامة والحوادث الرئيسية في ذلك العهد .

و واردة في الأخبار بشكل يمكن اثباته تاريخياً . دون ما هو أوسع من ذلك .

ومن ثم لا ينبغي أن نتوقع من الباحث في تاريخ ما بعد الظهور . زيادة

من التفاصيل ، وانما يقتصر بمقتضى مادة عمله وأسس مصادره على الأفكار

العامة والحوادث الرئيسية بطبيعة الحال .

الإنقسام الثالث : التقسيم من حيث ما نتطلبه من الاثبات التاريخي ،

باعتبار اننا تارة نتوخى حصول الاطمئنان والوثوق بوجود الحادثة المعينة .

واخرى نكتفي بالإخبار الاعتيادي في اثباته .

ومن هنا يكون لنا - بلحاظ ذلك - موقفان :

الموقف الأول : إذا اردنا حصول الاطمئنان بو جود حادثة معينة مما

ينقل حدوثها بعد الظهور ... امكننا الاعتماد على المصادر التالية :

المصدر الأول : القرآن الكريم بما فيه من ظواهر واضحة دالة على وصف

العدل الاسلامي ، والخيرات التي تعود على البشرية عند تطبيق احكام الاسلام.

ص: 12

المصدر الثاني : الروايات المتعددة الناقلة لحادثة معينة. بحيث تكون احداها قرينة على الأخرى ، ومصدقة لها بحيث تكون بمجموعها موجبة للثبوت التاريخي في أي حقل اعتيادي من حقول التاريخ .

المصدر الثالث : اخبار الفريقين إذا تسالمت على نقل حادثة معينة ، و لو كانت بعدد قليل عند كل فريق ، فانه يكفي لاثباتها . و ذلك : لأن ظروف الرواية واشخاص الرواة ، مختلفين عند كل مذهب اسلامي . مما يوجب الاختلاف الكبير في النقل فإذا تسالوا على نقل مضمون بعينه ، كان هذا بعيداً عن الخطأ إلى حد كبير .

المصدر الرابع : الخبر الذي تعضده القواعد الاسلامية العامة وتؤكد مضمونه فانه يكفي اثباتاً تاريخياَ ، و مقاله : الاخبار القائلة بأن المهدي عليه السلام يطبق الاسلام كما جاء به النبي (ص) فانها مطابقة لنظرة الإسلام إلى استمرار تعالیم الدين الاسلامي إلى نهاية البشرية . .

المصدر الخامس : القواعد الاسلامية العامة المبرهن عليها في علوم مختلفة من حقول الاسلام ، کالعقائد والفقه وغيره . فانها إذا كانت ثابتة في محلها امكن التوصل بها إلى بعض النتائج. ومقاله : القاعدة التي تقتضي عدم جواز الحكم القضائي الا بسماع البينة مع توفرها . فانها تنفي الأخبار الدالة على أن المهدي (ع) يقضي بدون سماع البينة ، كما سيأتي ايضاحه .

فإذا اجتمعت هذه المصادر الخمس بنتائجها ، كان تخطيطنا العام لهذا التاريخ قد كمل. إذ بها نستطيع ان نثبت كل ما هو مهم ورئيسي في عهد الظهور . وتبقى جملة من التفاصيل يوكل اثباتها إلى الموقف الثاني ، باعتبار تعذر اثباتها بشيء من هذه المصادر الخمسة .

ص: 13

الموقف الثاني : إذا اكتفينا في الاثبات التاريخي بالخبر الاعتيادي أو النقل المنفرد . و هو ما سنحتاج إليه بطبيعة الحال (1)في سرد عدد من التفاصيل التي لا يمكن التوصل إلى معرفتها بدون ذلك. بالرغم من أن قيمة الاثبات لا تزيد على قيمة هذا الخبر المنفرد .

ونحن بهذا الصدد . نستطيع ان نقبل بعض المصادر : وان ترفض بعضاً : اما المصادر التي نقبلها ، فهي كما يلي :

المصدر الأول : النقل المنفرد الذي تقوم القرائن القليلة على تأييده ... كالقران الخالية ، أو وجود روايتين فقط بمضمون واحد ، او سندين رواية واحدة ، فان احدهما يكون قرينة على صحة الآخر .

المصدر الثاني : النقل المتفرد الذي يقبل عادة في الفقه كمثبت للحكم الشرعي الاسلامي . وهو الخبر الذي يتصل بالمتحدث الأول عن طريق الثقات . فانه يمكن اعتباره أثباتاً كافياً بلحاظ الموقف الثاني . وان تجرد عن القرينة على صدقه .

واما المصادر التي نرفضها فهي كما يلي :

المصدر الأول : الخبر الذي تنفيه القواعد الاسلامية العامة المبرهن عليها

ص: 14


1- و هذا هو فرق الإثبات الذي نحتاجه في هذاالتاريخ عن الإثبات الذي أسسناه في التاريخ انسابق «208» ، فإنه كان قائماً على رفض الخبر المنفرد بكل أشكاله و سمیناه بالتشدد السندي . و ذلك بعدم الاحتياج إلى مثل هذا الخبر . أما هنا فسنحتاج اليه بالضرورة ، أن عددا من الحوادث منقولة بالحبر المنفرد فقط وهي مما نحتاج إليها في ضبط التسلسل العام للحوادث . وسيكون هذا الفرق نتائج ملموسة كما سيأتي .

كما سبق مثاله . لا يختلف ذلك بين ما إذا كان خبراً منفرداً او عادة اخبار . ولا يختلف في القاعدة بين أن تكون مستفادة من الكتاب او السنة او غير هما .

المصدر الثاني : الخبر الذي يوجد له معارض ينقل بخلافه . و ذلك فيما إذا وجد لدينا خبر ان بنقلان حادثة معينة بشكلين متغایرین. او ينقلان حادثتين متنافيتين ، ونحو ذلك .

وفي مثل ذلك : إذا كان أحد طرفي المعارضة ، أعني احد الخبرين ، راجحاً على صاحبه ، كما لو كان مستفیض النقل او موافقاً مع القواعد العامة أو الشواهد الأخرى ، اخذنا به وطرحنا الآخر . وان لم يكن هناك رجحان في احد الطرفين سقط كلاهما عن امكان الاثبات التأريخي. وقد فصّلنا القول في ذلك في التمهيد الذي عقدناه لي «تاريخ الغيبة الصغرى» (1)فلا حاجة إلى الاطالة فيه .

المصدر الثالث : المصدر الذي لا يوجد له مؤيد ولا مفند: مما لم يروه الثقات ، ولا ارتباط له بالقواعد العامة بشكل مباشر، لتدل على صحته او نفيه . فانه بطبيعة الحال لا يصلح للاثبات التاريخي بهذا الصدد .

و برفض هذا المصدر إلى جنب المصدرين السابقين ، يمكن ملاحظة ان الروايات الناقلة لحوادث اليوم الموعود ، قد تخلصت مما يحتمل أن يتطرق إليها من دس او يحوم حولها من وهم أو ما يكتنف حقلها من أساطير . وبذلك تكون مصادرنا المعتمدة واضحة لا غبار عليها وصالحة لعرض الفكرة المهدوية تجاه العالم .

ص: 15


1- انظر ص 28 وما بعدها و ص 46 وما بعدها .

الجهة الثالثة : في الصعوبات التي يواجهها هذا البحث .

وهي صعوبات عديدة اقتضتها ظروفها ومصالحها الخاصة والعامة ، على ما سنرى . ولا بد في المقام من أن نستثني ما ذكرناه من الصعوبات في « تاریخ الغيبية الصغرى »، مما يعود إلى التاريخ بشكل عام (1)وإلى الروايات الواردة في المهدي بشكل خاص (2). فانها صعوبات شاملة لهذا التاريخ ، وقد، ذللناها هناك .

و نقتصر هنا على الصعوبات التي يختص بها هذا التاريخ ، وهي قد تتحد مع تلك الصعوبات أحياناً في العنوان ، إلا أنها من حيث الفكرة والأهمية تختلف عن سابقاتها ، كما لا يخفى على المقارن .

ويمكن أن نعرض الصعوبات فيما يلي :

الصعوبة الأولى : قيام الأخبار الناقلة لحوادث المستقبل ، على الرمزية في كثير من أساليبها و نقاط عرضها ، وخاصة فيما يعود إلى شخص المهدي (ع) كقوله في بعض الروايات الآتية « إذا هز رأسه أضاء له ما بين المشرق والمغرب » وانه « يضع يده على رؤوس الأنام فيجمع أحلامها » وان « رايته ليست من قطن ولا كتان وإنما هي ورقة من أوراق الحنة » وغير ذلك من التعبيرات. ويراد بها حقائق إسلامية و أعية لكنها لم تستعمل المداليل الاعتياديةللألفاظ . وإنما استعملت الرمزية التي عرفنا معناها في تاريخ الغيبة الكبری (3).

الصعوبة الثانية : تعمد الإجمال في الروايات والسكوت عن بعض ما

ص: 16


1- ص 24 وما بعدها إلى عدة صفحات .
2- ص 42 وما بعدها إلى عدة صفحات .
3- ص 212 وما بعدها .

سيحدث من الأعمال والأقوال ... بشكل يبدو بوضوح إرادة المتكلم حذف بعض الحقائق التي لا يجد مصلحة في التصريح بها . كسكوت بعض الروايات عن ذكر مضمون خطبة المهدي في المسجد الحرام أول ظهوره، و سکوت الروايات عن مضمون خطبته في مسجد الكوفة عند وروده العراق . وسكوتها عن كثير من نصائحه و أساليب امتحانه لأصحابه . بل يقتصر على القول : وأنا أعلم بما يقوله لهم . واما ماذا يقول لهم ، فهذا ممالا سبيل إليه .

ومثله ما ورد في عدد من الروايات عن أصحاب المهدي عليه السلام : و أنا أعرف أسماءهم وأسماء آبائهم ..: و لكنه لا يسمي واحداً بالمرة .

الصعوبة الثالثة : وجود الفجوات الضخمة فيما ينقل من الروايات ، و عدم انخفاظ تسلسل الحوادث بأي حال . وهذا ما كان يبدو مثله في ما سمعناه من التواريخ السابقة، إلا أنه في هذا التاريخ أشد تركيزأ و وضوحاً . فانحفاظ التسلسل الزمني للعديد من الحوادث ، يكاد يكون متعذراً. كما أن كثيراً من مهمات الأعمال التي سيقام بها بعد الظهور محذوفة بالمرة . ومن الملاحظ أنه كلما تقدم الزمن مبتعداً قلت الحوادث المنقولة . وازدادت الفجوات . مضافاً إلى ازدياد الرمزية والاجمال أيضاً .

فبالنسبة إلى الصعوبة التي نتحدث عنها . نلاحظ أن الحوادث الواقعة قبل الظهور بقليل أو بعده بقليل . منقولة و متوفرة إلى حد كبير ، واما في الفترة اللاحقة لذلك . فليس هناك إلا حوادث متفرقة ولمام من الأقوال من دون ترتیب و تعيين . وإذا از داد البعد و توجه النظر - مثلاً - إلى حادثة موته أو قتله وإلى من يخلفه بعده ، كانت الروايات نادرة إلى حد كبير .

وهذه الصعوبات الثلاثة أمور راهنة تعمدها النبي (ص) و الأئمة عليهم السلام

ص: 17

في حديثهم عن المهدي (ع) لعدة أسباب ، أهمها : وجود الفجوات الثقافية والفكرية الواسعة بين عصر صدور الروايات والعصر الذي تتحدث عنه الروايات . من حيث أن تطور الفكر الإسلامي وتعمقه خلال القرون المتطاولة التي يعيشها ما بين هذين العصرين ، وتطوره المتزايد على يد القائد المهدي (ع)... جعل من المتعذر على سامعي هذه الأحاديث في عصر المعصومين

عليهم السلام فهم واستيعاب ما قد يقع من أعمال وأقوال في العصر المؤرخ

له . ومن هنا كان من المصلحة سكوت المعصومين عن التصريح بها أساساً ،

تم لقانون : كلم الناس على قدر عقولهم .

الصعوبة الرابعة : اتخاذ الروايات مسارا ًمعيناً من التفكير . بحسب المذهب الإسلامي الذي تتبناه .

والحديث عن ذلك ، يتشعب إلى شعبتين ، باعتبار ما ورد من الأخبار

في مصادر العامة تارة ، وما ورد من الأخبار في المصادر الخاصة أخرى .

الشعبة الأولى : في الأخبار الواردة في مصادر العامة من اخواننا أهل السنة و الجماعة ، كالصحاح الستة وغيرها .

فان هذه الأخبار التي تتضمن التنبؤ بحوادث المستقبل ، من هذه المصادر ، تنقسم إلى أربعة أقسام . وما يفيدنا - كما سنعرف - هو أشدها اختصاراً وغموضاً .

القسم الأول : وهو الذي يمثل المسار العريض و الاتجاه الفكري الأهم

لهذه الأخبار ، وهو الحديث عن الفتن و الملاحم أي الحروب التي تقع خلال التاريخ ، وما ينبغي أن يكون موقف الفرد المسلم منها . ثم الحديث عن الدجال

و أوصافه وأفعاله ، والحديث عن عيسى بن مريم عليه السلام ونزوله إلى

ص: 18

الأرض وحروبه مع الدجال ومع يأجوج ومأجوج بعد انفتاح السد. الذي حبسوا خلفه . ونحو ذلك من المضامين .

وهذا هو الذي يمثل الأعم الأغلب من الأخبار الناقلة لحوادث المستقبل . وقد سبق أنا ذكرنا و ناقشنا في «تاريخ الغيبة الكبرى » ما يعود منها إلى تلك الفترة.

وهي لا تمت إلى ( اليوم الموعود ) بصلة . وسنذكر في هذا التاريخ ما يعود منها إلى نزول المسيح وبعض الأمور الأخرى.

القسم الثاني : وهو يمثل طائفة مهمة من الأخبار ، وهي الأخبار المشبتة

الوجود المهدي (ع) أساساً ، وانه من ولد فاطمة مع التعرض إلى اسمه

وأوصاف جسمه . وانه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً . وهي بمجموعها تزيد

على التواتر بكثير . وتثبت وجود المهدي بالضرورة ... ولكنها لا تنفعنا في تاريخ ما بعد الظهور إلا قليلاً .

القسم الثالث : ما يعود إلى شرح نتائج التطبيق الإسلامي الكامل والمصالح

الواسعة التي تترتب على العدل الحقيقي ... الأخبار الدالة على كثرة المال

و انه يبحث الرجل عمن يقبل زكاته فلا يجد ، و بأن الفرات بحسر عن جبل

من ذهب . لو فسرناه بسعة الزراعة وكثرة الخيرات .

و هذا القسم لا يذكر في المصادر العامة مقترناً باسم المهدي (ع) وظهوره .

نعم قام البرهان على أن مضمونها لا يمكن أن يتحقق إلا في ذلك العصر ،

لعدم توفر التطبيق العالمي الكامل قبله .

القسم الرابع : الأخبار المتكفلة لبيان المصالح وبعض النتائج الكبرى التي تترتب على ظهور المهدي (ع) بنفسه و عنوانه.

ص: 19

وهذا القسم وان لم يرد في الصحاح الستة ، الا انه ورد في المصادر الحديثية الاخرى كمسند أحمد بن حنبل ومستدرك الحاكم واربعين الحافظ الأصفهاني

و غيرها .

وأوضح مثال على ذلك : ما ورد في هذه المصادر عن النبي ( ص). بمضمون : تتنعم الامة في عهده نعمة لم تنعم مثلها قط. يرضى عنه ساکن الأرض و ساكن السماء .

وما يمت إلى هذا القسم بصلة متوفر في الأخبار . الا انه يقتصر على العموميات

ولا يكاد يشكل تاريخاً واضحاً. على انه – مهما تعدد - فانه يشكل الجزء

الأقل من الاقسام الأربعة . بالنسبة إلى مجموع المصادر ... كما ان القسم الثالث ، هو الجزء الأقل بالنسبة إلى الصحاح الستة ، وسنری موقفنا من هذه القلة فيما يلي من البحث.

الشعبة الثانية : في الأخبار الواردة في مصادر الخاصة ، فيما يمت إلى

تاریخ ما بعد الظهور بصلة .

والاتجاه الفكري الذي تتخذه هذه الأخبار ، عادة ، هو الاتجاه الطائفي

فالمهدي (ع) يناقش طبقاً له ويحارب لأجله و يقيم الامتحانات المعقدة للآخرين

على اساسه . وكأنه ليس في العالم من البشر الا المسلمين بمذاهبهم المختلفة .

نعم . من المنطقي انصحيح ، أن يجمع المهدي (ع ) المسلمين على الحق

الذي يعتقد به . وان يختبر الناس على اساسه . الا ان هذا لا يعني بأي حال

اقتصار جهوده على المسلمين ، بعد الذي سنبر هن عليه من عالمية دعوته من ناحية والعلم الوجداني ، بان غير المسلمين اضعاف المسلمين إلى حين أول

الظهور ؛ كيف وان الأرض كانت وستبقى إلى يومئذ مملوءة ظلماً وجوراً.

ص: 20

اذن ، فالجهود المبذولة من قبل القائد المهدي (ع)، واصحابه الخاصة المخلصين على سائر العالم ، اضعاف الجهد المبذول على المسلمين ، او قل بتعادلهما على اقل تقدير .اما ان تكون جهوده المبذولة على المسلمين اضعاف جهوده على

غير هم . كما تدل عليه المصادر الخاصة . فهو مما لا يكاد يفهم .

ولعل في الامكان اعطاء المبررات الكافية لمثل هذا الاتجاه في الاخبار ، الا انها - باي حال - تبقى مقتضبة بالنسبة لموقف المهدي (ع) من غير المسلمين .

وأهم تبرير يمكن اعطاؤه لذلك . هو كون هذه الأخبار في واقعها انعکاساً

للظروف المعاشة في زمن صدورها . ولا نعني بذلك كونها كاذبة أو مفتعلة على

نسق معين ، فان نكل خبر حسابه اخاص طبقاً للمنهج الذي استفناه . بل

تعني أن ظروف الظلم و المصاعب التي كان يعيشها اصحاب الأئمة عليهم السلام في المجتمع الاسلامي . من الدولتين الاموية و العباسية . كانت تعكس في

نفوس القواعد الشعبية الأمامية الاعتقاد بان الجبهة المضطهدة بالكسر-ها، تمثل

المذاهب الاسلامية الأخرى ، ومن ثم تكتسب القضية المذهبية في أذهانهم عمقاً

وأصالة ، اكثر من نسبتها العالمية ، لو صح التعبير . ويكون هؤلاء بحاجة

إلى رفع معنوياتهم من قبل قادتهم الأئمة المعصومين (ع) . من هذه الناحية اكثر من اي ناحية اخرى . وذلك باستخدام عدة طرق من اهمها : الكشف

عن هذا الجانب بعينه من اعمال الامام المهدي (ع) والسكوت عن اعماله الاخرى التي لا تمت إلى حاجة المجتمع بصلة وثيقة ، وان كانت تمثل الجانب الأكبر في دونته .

ومن المستطاع القول أيضا ، أن الفجوات التي تركت . لم يكن المجتمع عموما نيهضمها بوضوح ، باعتبارها ممثلة لتصرفات المهدي (ع) على

ص: 21

المستوى العالمي وفي عمق الوعي الذي يريده ، مما لم يكن المجتمع في عصر

صدور هذه الاخبار على مستوى استيعابه . ومن ثم كان قانون «كلم الناس على قدر عقولهم » مانعاً للمعصومين عليهم السلام عن الاعراب والكشف عن هذا الجانب من دولة المهدي (ع) مهما كان واسعاً.

وعلى أي حال ، فهذه الصعوبة التي نحن بصددها و تعتبر واقعاً لا محيص عنه

وان علاقات المهدي بغير المسلمين . لم تذكر الاخبار الا بأقل القلیل .

الصعوبة الخامسة : ما يعود إلى نفس الباحث بصفته ممثلاً لمرحلة معينة

من تطور الفكر الاسلامي .

ويتم ايضاح ذلك بتقديم عدة نقاط :

النقطة الأولى : يمثل مفهوم : الفكر الاسلامي . مستويين مستقلين :

المستوى الأول : الفكر الاسلامي بصفته مجموعة من الحقائق و التشريعات .

كما يعرفها اللّه تعالى ورسوله و او لیاؤه علیه و علیهم السلام ... وهو الفكر الاسلامي الأعلى . والأطروحةالعادلة الكاملة للحياة .

المستوى الثاني : الفكر الاسلامي الموجود عند علماء الاسلام والمفكرين الاسلاميين على مر العصور . وهو في واقعه ناقل للمستوى الأول وحاك عنه

و منبثق عنه إلى حد كبير نتيجة للتبلیغات و البيانات التي قيات من قبل المشرع

الاسلامي المقدس في الكتاب الكريم والسنة الشريفة .

والمقصودالأساسي هو تربية الأمة على فهم و امتثال المستوى الأول . عن

طريق ممارستها وتدقيقها للمستوى الثاني ، بصفته ممثلاً للمستوى الأول .

وهي باجيالها المتعاقبة كفيلة بأن تقوم بذلك تدريجاً، كما سبق ان عرفنا في التاريخ السابق .

ص: 22

ولا زال الفكر الاسلامي بمستواه الثاني في طريق التطور والتعمق والتوسع . ومن هنا صح ان يقال : ان كل جيل او عدة اجيال من الامة الاسلامية يمثل مرحلة للفكر الاسلامي . ولا زال الفكر الاسلامي في طريق الرقي ، وينبغي

الاعتراف بعدم وصوله إلى الكمال ، ووجود عدد من البحوث غير المطروقة

فيه ، كما هو غير خفي على المحققين في هذا الصدد .

النقطة الثانية : انه ينتج من ذلك : أن كل باحث ومفكر ، هو بطبيعة

تكوينه ابن الفترة التي يعاصرها و الزمن الذي يمر فيه . ويتعذر عليه بالمرة ،

مهما أوتي من عبقرية وطول باع ، أن يسبق الزمن ، فيدعي الوصول إلى

المستوى الأول للفكر الاسلامي ، او انه محتو على وعي وثقافة الأجيال

الاسلامية القادمة من المستوى الثاني ... تلك الثقافة القائمة على انكشاف ما في

سوابقها من الاخطاء ، وملأ ما فيها من فجوات.

اذن فكل باحث يحتوي على قصور طبيعي و ذاني في تفكيره الاسلامي

بصفته ممثلاً لمرحلة معينة من تطور الفكر الاسلامي لا يمكن ان يتعداها.

في حين يمثل الامام المهدي (ع ) بما ينشر في عصر ظهوره من ثقافات و افکار

وتشريعات ، يمثل المستوى الأول من الفكر الاسلامي ، ويصل بالمستوى

الثاني إلى صف المستوى الأول تماماً كما نصت على ذلك الأخبار ، واعترف

به سائر مذاهب الاسلام . من أن يطبق الاسلام كما جاء به رسول اللّه ( ص ).

ومن هنا تنشأ الصعوبة ، من أن يتصدى باحث قاصر للتفكير فيما يتعدى

عصره ، وللتوصل إلى حقيقة شخص كامل و مجتمع عادل .

النقطة الثالثة : انه بعد الذي عرفناه من فجوات و مصاعب فيما وردنا من

الاخبار من تاريخ ما بعد الظهور : سوف نضطر - على ما سنعرضه عن قريب -

ص: 23

إلى تذليل هذه المصاعب عن طريق انتهاج القواعد الاسلامية المعروفة ،

في عدة مجالات : في فهم النصوص عامة ، وفيما هو المقصود من الاستعمالات الرمزية خاصة ، وفي محاولة التعرف على الاتجاهات العامة التي سيسير عليها الإمام القائد على الصعيدين الاجتماعي و التشريعي ، وفي ترجيح بعض النصوص على بعضي إلى غير ذلك من المسؤوليات في البحث والاستنتاج .

ويبدو من الواضح ، بعد هذه النقاط : ان كل باحث أنما يملأ هذه الفجوات بمقدار ما لديه من الثقافة الإسلامية وما وصل إليه تطور الفكر الاسلامي في عصره. ويستحيل في حقه أن يصل إلى الواقع الراهن القائم بعد عصر الظهور على عمقه وشموله . وبخاصة بعد ورود ما سنسمعه في العديد من الاخبار من أن المهدي (ع ) يأتي بامر جدید و کتاب جدید و ساطان جديد . ولعل من أوضح امثلة ذلك : ما ذكره ابن عربي في ( الفتوحات المكية) (1) عن تاریخ ما بعد الظهور ، مما يظن أن المهدي (ع ) يقوم به من تصرفات وما يعينه من وزراء وما يسنه من تشريعات . فانه أنما كتبه بمستواه من التفكير الاسلامي : ونحن نجده الآن - بعد تعمق الفكر الاسلامي - في غاية الغرابة والتعقيد .

وهذه الصعوبة . مما ينفرد بها هذا البحث عن سائر أبحاث التاريخ ، بما فيها ما كتبناه من تاريخ الامام المهدي (ع) في غيبته الصغرى و غيبته الكبرى . فان تلك الابحاث كانت عرضاً لحوادث معاشة سابقة او معاصرة . مفهومة الأبعاد والجوانب ، يمكن للمفكر الاسلامي الأخذ بزمامها . بخلاف العرض التاريخي لما بعد الظهور ، لما عرفناه من قصور الباحث عن ادراك العمق الحقيقي لذلك العصر .

ص: 24


1- انظر ج 3 ص 327 و ما بعد ها

الصعوبة السادسة : أنه قد يخطر على الذهن في نقد الاخبار الشارحة الحوادث الفترة التي نؤرخها : انها قائمة على المعجزات و خوارق العادات . وهي بطبيعتها بعيدة الحدوث صعبة التصديق . ومن ثم يشكل ذلك ضعف في هذه الأخبار وصعوبة في فهمها و استيعاب ها .

الا ان هذه المدوية . مما لا يمكن ادراجها في قائمة المصاعب الحقيقية با بحث . تلك المصاعب التي تضطر الباحث إلى التسليم بالأمر الواقع . و ادخال انتقص الحقيقي على خشه . فان هذه الصعوبة ليست كذلك . وانما تعتبر نقطه ضعف في البحث عند اتجاه المفكرين الذين سقطوا المعجزات عند نظر الاعتبار .

فإن عدداً مهماً من تلك الأخبار لا تحتوي على الاشارة إلى أي معجزة على الاطلاق ، وانما تروي أعمال المهدي (ع) ومنجزاته و عدد اصحابه وغير ذلك . وهوه فلا تكون شد. ولة لهذه الفكرة أساساً .

واما الأخبار الدالة على المعجزات منها . فينبغي فحصهما ومحاسبة كل خبر وكل حادثة على حدة . فما كان منها مطابقآ قانون المعجزات الذي بر هنا عليه في ( تاريخ الغيبة الكبرى ) (1)... اخذنا به . بمعنى أنه لم يواجه صعوبة من هذه الناحية . وما كان خارجاً عن حدود هذا القانون . کان مرفوضاً من هذه الناحية و ساقطاًعن الاثبات التاريخي . وقد سبق أن طبقنا ذلك بدقة في الكتاب المشار إليه . ويكون ذلك من القواعد العامة الدالة على تكذيبه .

اذن ، فهذه الصعوبة . لا تكاد تشكل عقبة حقيقية تجاه هذا البحث ،

ص: 25


1- ص 37

وانما المهم هو الصعوبات الخمسة الأولى . ولابد من البحث عن امكان تذليلها وانكفكفة من عمق تأثيرها جهد الإمكان .

الجهة الرابعة : في اسلوب الخروج عن الصعوبات السابقة ، وتذليلها ، بمقدار ما هو الممكن و المتوفر .

وقد أشرنا فيما سبق : إلى أن الجواب الحاسم على هذه المشكلات ، والقاضي على هذه العقبات جملة وتفصيلا ، مما لا يتوفر ، ولا يمكن توفره لأي باحث ، ما لم يكن معاصرآ لعصر الظهور ، أو متأخرآ عنه .

ومن ثم ينبغي الاعتراف بقصور هذا البحث عن الاحاطة بالعمق الحقيقي لليوم الموعود ، والحوادث التفصيلية الواقعة فيه . وانما غاية ما نحاوله أن تصور الافكار العامة والاعمال الرئيسيةالمتوفرة فيه . من خلال ما بلغنا من اخبار و مانعرفه من قواعد .

وان خير ما يخرج من تلك المصاعب السابقة هو اتخاذ اساوبين مبر تبين : الأسلوب الأول : تذليل المصاعب عن طريق القواعد العامة المؤسسة في الكتاب والسنة . و ذلك بعرض جميع ما وردنا في مصادر هذا التاريخ عرضه على ما هو المعروف من فهم الإسلام للامور ووجهة نظره إلى القضاياالعامة والخاصة ... ذلك الفهم المستنتج من الكتاب والسنة ، والمستشهد عليه بآية او رواية او المعروف عن طريق الاستدلال العقلي القطعي .

ونستطيع بهذه القواعد، أن نصل إلى عدة نتائج اساسية حاسمة في تذليل تلك المصاعب :

أولا : محاولة فهم العبارات الرمزية ، بنحو ينسجم مع الفهم الإسلامي

ص: 26

الصحيح ، باعتبار أن فهم ظواهرها المباشرة غير محتمل اساساً ، والا كان اساساً لتصورات خاطئة اسلامياً. كما هو المبرهن عليه في البحوث الاسلامية . وإذ يدور الامر بين اهمالها وتاويلها . يكون تاویلها إلى المعنى الصحيح افضل . كيف . ونحن نعلم أن استعمال الرمز على لسان النبي (ص) و الأئمة (ع) أمر غير غريب : وخاصة فيما يكون فوق فهم السامعین المباشرين لهم ... كما هو الحال في التعبير عن حوادث تاریخ ما بعد الظهور .

ثانياً : محاولة ملاً بعض الفجوات الموجودة في هذا التاريخ المنقول بما نعلم عادة قيام المهدي (ع) به بعد ظهوره. بحسب القواعد العامة ... وان لم يصرح به في الاخبار نتيجة لظر و فيها الخاصة .

و لكن تبقى -مع ذلك - فجوات واسعة قد نستطيع ملأها ، او جملة منها . عن طریق الاسلوب الثاني الآتي . و بدونه ينبغي الاعتراف بالعجز عن الملأ . لكننا سنرى أننا نستطيع بالاخبار مع تحكيم هذين الاسلوبين تغطية المهم منها .

ثالثاً : رفض ما خالف القواعد العامة من النصوص . و جعلها قرائن فاصلة في رفض او قبول الاخبار ما لم تكن مستفيضة او متواترة، وجعلها المحك في هذا التمحيص .

رابعاً : التوصل إلى بعض ما سكتت عنه الاخبار من الاتجاهات العامة ندونة المهدي (ع) مما يمكن التوصل إليه . بعد تذليل الصعوبة الخامسة جهد المكان كما سيأتي .

خامساً : التوصل إلى الربط بين الحوادث التي لا تبدو مرتبطة في النقل الواصل إلينا ، أو محاولة ترتيبها زمنياً ، ان لم يكن الترتيب مو جوداً. على ضوء القواعد العامة . مع الامكان .

ص: 27

إلى غير ذلك من النتائج المهمة التي سيأتي تطبيقها فيمايلي من البحث .

الأسلوب الثاني : عند اعم از القواعد العامة احياناً : ينحصر معرفة النتيجة عن طريق عرض ( الاطر وحات ) المحتملة : كالذي سبق أن طبقناه في تاريخ الغيبة الكبرى ... بالنسبة إلى عدد من امهات الامور .

وهذا يعني عرض اقرب الاحتمالات في مورد المشكلة . أما اثنين او ثلاثة . مما لا يكون مخالفاً للقواعد العامة . ويكون محتمل التحقق في زمنه الخاص . ويعني ذلك ايضاً . عدم اجزم بأحد المحتملات ، بل تبقى المسألة معروضة بمحتملاتها . لكن يبقى في الامكان جمع القرائن الدالة على تر جیح احد المحتملات في الأعم الأغلب .

و بهذا الاسلوب نستطيع التوصل إلی عدد من النتائج لسابقه. إذا عجزت عنها القواعد، وبه نستطيع تغطيةكل المطالب و حل سائر المشكلات : لعدم وجود مشكلة لا تكون بعض محتملاً لها راجحة .

نعم . يبقى لدينا امر ان يحتاجان إلى مزيد من التأمل :

الأمر الأول : المفهوم الطائفي المؤكد عليه في أخبار المصادر، الخاصة. كما سبق أن أشرنا ... وهو وان كان له مبرراته الخاصة في عصر صدور هذه الاخبار . كما عرفنا ، الا ان هذه المبررات تكاد تفقد قيمتها الاجتماعية في العصر الحاضر ، لأن دولة المهدي (ع) عالمية شامية للبشرية جمعاء . وإذا كان مقصودنا هو الاستيعاب والشمول في التاريخ ، فلا ينبغي التأكيد على هذا المفهوم خاصة وترك ما عداه من الاعمال والأقوال : لعهد ما بعد الظهور باي حال ، لاننا نكون قد اقتصرنا على بعض الجوانب دون بعض .

والذي ينبغي أن يقال : أنه بعد التسليم بامكان تصديق هذه الأخبار ،

ص: 28

ما كان منها صالحة للاثبات التاريخي ... بناء على الفهم المهدوي الأمامي ... يمكننا تغطية هذا الاتجاه الطائفي في تاريخنا هذا باسلوبين :

الأسلوب الأول : اننا بعد أن نملأ الفجوات اني عرفنا . ونبرهن على اتصال المهدي (ع) بغير المسلم بين شعوباً وحكومات . تقديماً الادراجهم في دولته العالمية ... ونستطيع فهم الاتجاهات العامة والاثار الكبرى التي تترتب على ذلك ... عندئذ يمكننا أن نعطي نتات الاخبار مدلولها الواقعي :

ان الامة الاسلامية ستصبح هي القائدة ورائدة لأبشر أجمعين على طريق العدل الكامل . ويجهودها سيفتح القائد المهدي (ع ) العالم . ومن منطلقاتها سیستطيع بث الدعوة المقدسة إلى العالم . والامة القائدة ينبغي أن تكون على مستوى هذه المسؤولية الكبرى ، والا كانت جهودها في العالم فاشلة. ومحلة في التخطيط العام في نهاية المطاف .

ومن هنا كان التأكيد على تربيتها في التخطيط الإلهي كبيرة . سواء في عصر ( الغيبة ) او في عصر (الظهور ) . وقد انتجت تربيتها في عصر الغيبية تمخضها عن الجماعة المؤمنة التي تمارس فتح العالم بين يدي المهدي . إلى جانب انحراف الاعم الأغلب من البشر و در سهم بالظلم والطغيان . حتى من الأمة الاسلامية نفسها . وهذه الأمة التي أصبح الأكبر فيها منحرفا لا يمكن أن تكون على مستوى مسؤولية القيادة العالمية باي حال !

فإذا لاحظنا درجات الاخلاص الأربعة التي ذكرناها في التاريخ السابق (1)و درسنا احتمالات تجاوب افراد الامة الاسلامية مع الامام المهدي (ع) في

ص: 29


1- انظر تاریخ الغیبه الکبری ص 248 و ما بعدها

اول دعوته ، وهي احتمالات واسعة جداً بلحاظ ما يحمله الأفراد من درجات الاخلاص . لكن یبقى الكثيرون ممن لا يتصف بالاخلاص اساساً، كما ينبغي رفع درجات الاخلاص عند الافراد من الدرجات الدانية إلى العالية منها تدريجاً لتكون الأمته بسرعة على مستوى القيادة العالمية . كأمة ذات دعوة و هدف .

وهذه يحتاج إلى اعمال عسكرية وفكرية واسعة النطاق . قد لا تقل عن المقادير الواردة في الأخبار التي سنسمعها خلال هذا التاريخ يكن ينبغي أن نفهم أن من يعمل المهدي (ع) ضده من الأفراد المسلمين هو كل منحرف منهم . وإن كان على مذهب المهدي نفهمه من الناحية النظرية .

و هذا الذي يفسر لنا كيف أن جهود المهدي (ع) في أول ظهوره. وخلال فترة سيطرته على العالم عسكرياً وفكرياً . تكون مبذولة على الأمة الاسلامية نفسها أكثر من أي امة اخرى ليصنع منها في فترة قصيرة امة قائدة للعالم ورائدة للحق . ريثما يستتب له الوضع العالمي ليوزع جهوده على العالم على حد سواء وليس في مداليل الأخبار التي نحن بصددها ما هو أوسع من ذلك .

الأسلوب الثاني : في تغطية الاتجاه الطائفي للاخبار . هو الاستغناء عن ذكر ما يوجب جرح العواطف المذهبية واثارة الضغائن بين المذاهب الاسلامية وأن أوجب ذلك وجود فجوة تاريخية .

على ان الاخبار المتطرفة طائفياً ليست كثيرة. وليست واردة بطریق صحيح ولا تثبت للنقد أمام الأسلوب الذي اتخذناه بالعمل بالاخبار ، فلا يكون تركها مؤسفاً .

الأمر الثاني : ما يحتاج إلى التأمل : أن ما قلناه منقصور الباحث عن ادراك العمق الحقيتي اليوم الموعود و قيادة المهدي (ع) فيه . حقيقة واقعة

ص: 30

لا مناص منها ، ومن هنا يكون الباب منسداً امام التعرف على التخطيطات والتشريعات التفصيلية التي يقوم بها القائد المهدي (ع) والعمق الحقيقي لثقافة الفرد المسلم والجماعة المسلمة في ذلك العصر.

الا ان هذا لا يعني بحال عدم امكان التعرف على ذلك بنحو الاجمال ، على شكل قضايا تجريدية تتصف بشيء من العمومية ... وذات اختصار تجاه تلك التفاصيل الكبرى الموعودة . ولا نعدم إلى جنب ذلك بعض التفاصيل القليلة على ما سری .

اذن ، فهذا البحث لا يمكنه أن يزاحم الحقائق في ذلات العصر ، أو یغي عنها . وانما غاية جهده أن يلم بعناو ینها العامة وقضاياها الاجمالية ونتائجها الرئيسية عن طريق مبر هن صحيح .

و بالاطلاع على هذه الجهات . نعرف بوضوح جواب السؤال الذي ذكرناه في أول هذا التمهيد ، من أن هذا البحث خال من الفائدة ورجم بالغيب قد- يتحقق في المستقبل وقد لا يتحقق .

اما انكار فوائد هذا البحث ، فقد عرفنا ما يترتب عليه من فوائد الجهة الأولى من هذا التمهيد ، فان كل فائدة منها تكفي في رجحان الدخول في هذا البحث فضلاً عن المجموع .

وأما كونه رجماً بالغيب ، فليس كذلك لاننا إذ نتكلم على المستوى الاسلامي ، انما نأخذ ذلك من مصادر الاسلام الاساسية وقواعده العامة وليس فيه أي إخبار بالمغيبات على الاطلاق .

نعم ، نفس الأخبار الواردة عن النبي ( ص) والأئمة ( ع ) التي تعتمدها في هذا النصدد ، تحتوي على الأخبار بالغيب أو بحوادث المستقبل ، شأنها في

ص: 31

ذلك شأن العديد من الاخبار التي اعتمدناها في التاريخ السابق ، والتي اثبتنا صحة الاعم الاغلب منها . وهو مما لايكون مضراً على المستوى الاسلامي بعد امکان تعليم الله تعالى اياهم ذلك ... ووجود المصالحة في تبليغه ، وهو الاعداد التدريجي للامة الاسلامية لتلقي اليوم الموعود .

مضافاً إلى اننا اخترنا هذه الاخبار . في التاريخ السابق . فوجدناها صادقة و فيها ما هو مبرهن ألصدق إلى حد يدل على صدق العقيدة الاسلامية . فضلاً عن قضية المهدي . كما قلنا هناك (1) . فإذا امكن أن نصدق بعض الاخبار . امكننا أن لا نستبعد صدق الجميع .

وأما كون هذا التاريخ مما قد يتحقق أو لا يتحقق : فهذا تابع لقوة ما سنعرضه من الأدلة . وفيها ما هو قطعي الانتاج . وما هو مؤكد وما هو ظني . وان كانت كلها صالحة للإثبات التاريخي طبقاً للمنهج الذي ذكرناه . ولا معي بطبيعة الحال . أن نقول لما هو قطعي او موکد . انه سوف لن يتحقق أو أن احتماله، ضعيف !!!...

الجهة الخامسة : الفهرسة

في بيان تر تیب ابواب وفصول هذا الكتاب ... نذكره في البدء ليكون القاريء ملما بالتسلسل المنطقي لها . قبل الدخول في التفاصيل : يقع هذا التاريخ في اقسام ثلاثة :

القسم الأول : في أرهاصات او تقديمات الظهور . بما فيها من اسس عامة . وظواهر خاصة . وفيه بابان :

الباب الأول : في الأسس العامة للظهور ، ونعني بها القضايا الرئيسية التي يبتي عليها اليوم الموعود .

ص: 32


1- انظر تاريخ الغيبة الكبری ص37 5 وما بعدها إلى عدة صفحات .

ويتكون هذا الباب من عدة فصول :

الفصل الأول : ارتباط يوم الظهور بالتخطيط العام الإلهي للبشرية ، ذلك التخطيط الذي سبق أن عرضناه و بر هنا عليه في تاريخ الغيبة الكبرى .

الفصل الثاني : آثار الغيبة الكبرى على ما بعد الظهور ، فيما يعود إلى الإمام المهدي (ع) نفسه وما يعود إلى أصحابه ، وما يعود إلى البشرية على وجه العموم .

الفصل الثالث : توقيت الظهور من ناحية شرائطه و علاماته ، وفائدة تحقق هذه الأشياء بالنسبة إلى ما بعد الظهور . مع الألماع إلى أن مثل هذا التوقيت لا ينافي الأخبار الدالة على نفي التوقيت .

الفصل الرابع : الاديولوجية العامة التي يتبناها الامام المهدي (ع) تجاه الكون والحياة والتشريع .

الفصل الخامس : التخطيط الإلهي لما بعد الظهور . وان التخطيط الإلهي العام للبشرية لا ينقطع بالظهور ، بل يبقى ساري المفعول لكن على شكل جديد .

الباب الثاني : حوادث ما قبل الظهور . ونعني بها الحوادث التي تقع قبل الظهور بزمن قليل . وهو ما سبق أن أجلنا فيه الكلام من تاريخ الغيبة الكبرى إلى هذا التاريخ ، بعد أن فصلنا الكلام هناك بالحوادث التي لا تكون بطبيعتها قريبة من عصر الظهور .

يندرج في ذلك : حروب السفياني و فتنة الدجال ، وقتل النفس الزكية ، والصيحة والنداء ، وغير ذلك ، مما ورد النقل عن حدوثه قبل الظهور بقليل . وقد سبق أن أعطينا فكرة كافية عن الثلاثة الأولى في التاريخ السابق الا

ص: 33

اننا نحاول هنا أن نعطي فكرة جديدة عنها ، في حدود الفرق في اسس الاثبات ومنهجة البحث بين الكتابين ، وقد المعنا إلى المهم منها قبل صفحات .

القسم الثاني : حوادث الظهور واقامة الدولة العالمية إلى وفاة الامام المهدي (ع). ويندرج فيه عدة أبواب :

الباب الأول : في حوادث الظهور ، وما يليه إلى حين مسير المهدي (ع) إلى العراق ويتم الكلام في ذلك ضمن فصول :

الفصل الأول : في معنى الظهور وكيفيته ، وطريقة معرفة الامام (ع) بالوقت الملائم لذلك .

الفصل الثاني : في مكان الظهور و زمانه ، ونعني بالزمان : اسم اليوم والشهر ونحو ذلك مما قد ورد في بعض الاخبار تعيينه .

الفصل الثالث : خطبته الأولى ، مع بيان مغازيها والتعرض إلى عمق مضامينها .

الفصل الرابع : عدد اصحابه وخصائصهم وكيفية اجتماعهم .

الفصل الخامس : منجزاته الأولى إلى حين الوصول إلى العراق .

الباب الثاني : فتحه للعالم بالعدل .

وهو على عدة فصول :

الفصل الأول ، في نقطة الانطلاق ، والمراد به المكان الذي يبدأ به المهدي (ع) غزو العالم .

الفصل الثاني : في سعة ملکه .

ص: 34

الفصل الثالث : ضمانات النصر لديه عليه السلام ، وانه كيف يمكن أن ينتصر بالعدد القليل على العالم وفيه القوى الكبرى ذات العدد والعدة .

الفصل الرابع : في كيفية ومدة استيلائه على العالم. اعني من اول ظهوره

إلى حين تأسيس الدولة العالمية بكاملها .

الفصل الخامس : ما یحتمل أن يكون موقف الآخرين منه ، سواء في ذلك الأفراد أو الجماعات .

الفصل السادس : في مدة بقائه في الحكم .

الباب الثالت : التطبيق الاسلامي المهدوي ، او الدولة المهدوية العالمية ، ويتضمن هذا الباب عدة فصول :

الفصل الأول : مجيء المهدي (ع) بكتاب جديد وقضاء جدید ...

واعطاء الفكرة الصالحة عن ذلك .

الفصل الثاني : موقفه من القضايا السياسية والاجتماعية :

الفصل الثالث : ضمانات التطبيق السريع للعدل الكامل في العالم .

الفصل الرابع : قيادات اصحابه . و مقدار قابلياتهم وسعتها .

الفصل الخامس : تمحيص المهدي لأصحابه وللامة عامة .

الفصل السادس : اسلوبه في تربية الأمة على وجه الاجمال بعد تعذر

الاطلاع على التفصيل .

الفصل السابع : منجزات المهدي على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي في حدود ما وردنا في الأخبار وما تقتضيه القواعد العامة .

ص: 35

الفصل الثامن : موقف الامام المهدي (ع) من اهل الكتاب ، ومسألة مشاركة المسيح عيسى بن مريم على نبينا و عليه السلام معه في القيادة العالمية :

الباب الرابع : في انتهاء حياة المهدي (ع) والحديث عن سبب موته

القسم الثالث : العالم بعد المهدي عليه السلام .

وينقسم إلى بابين :

الباب الأول : في قيادة ما بعد المهدي (ع) ، وعرض صفات الدولة ، من حيث الرئاسة والخصائص العامة لها و للمجتمع .

الباب الثاني : في نهاية البشرية ، وهل يصح : أنه لا تقوم الساعة الا على شرار الخلق .

هذا ويكون الكلام في هذا القسم الثالث موجزاً نسبياً، لأجل أن نعرضه بكل تفصيل في الكتاب الرابع من هذه الموضوعة .

وينبغي ان نشير هنا إلى اننا جعلنا عنوان هذا الكتاب : تاریخ ما بعد

الظهور ، لان المهم هو التعرض إلى تاريخ البشرية من زاوية ما يقوم به

المهدي عليه السلام من اعمال من حين ظهوره فصاعداً. ويبقى التعرض إلى

العلامات القريبة السابقة على الظهور بقليل ، وإلى الظهور نفسه وما يحتويه من

ملابسات ، يبقى ذلك كأنه من مقدمات هذا التاريخ .

ص: 36

القسم الأول : مقدمات الظهور

في إرهاصات الظهور ومقدماته

بما فيها من أسس عامة وظواهر خاصة

وفيه بابان :

ص: 37

ص: 38

الباب الأول : الاسس العامة للظهور

في الأسس العامة لظهور المهدي (ع)

ونعني بها القضايا الرئيسية التي يبني عليها اليوم الموعود ،

بما يحتويه من ظهور المهدي عليه السلام ودولته العالمية العادلة .

ويتكون هذا الباب من عدة فصول :

ص: 39

ص: 40

الفصل الاول : ارتباط الظهور بالتخطيط الإلهي العام

يكون التخطيط الإلهي العام المنتج لشرائط الظهور ، قد انتهى ، و تكلل بنتيجته الكبرى ، وهو حصول اليوم الموعود .

وحاصل الفكرة التي فصلناها في التاريخ السابق (1): اننا انطلاقاً من قوله

تعالى : ««وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (2) نفهم :

ان الغرض الإلهي الاسمى من ايجاد الخليقة . وامدادها بالإدراك والاختيار ،

هو التوصل بها إلى الكمال ، و هو تمحيض العبادة الحقيقية للّه تعالى ، والغرض الإلهي لا يمكن أن يتخلف .

وقد ذكرنا هناك معنى العبادة الحقيقية (3)... و بر هنا (4) على ان وجود هذا الهدف يتوقف على عدة شرائط ، هي كما يلي :

أولاً : وجود الأطروحة العادلة الكاملة المبلغة إلى البشر من قبل اللّه تعالي. لتكون هي القانون السائد في المجتمع.

ص: 41


1- انظر تاريخ الغيبة الكبری ص 233 وما بعدها إلى عدة صفحات .
2- الذاريات :51/56.
3- تاريخ الغيبة كبری ص 234
4- المصدر 476 وما بعدها.

ثانياً : وجود القيادة الحكيمة التي تقوم بتطبيق تلك الأطروحةفي اليوم الموعود .

ثالثاً : وجود العدد الكافي من المخلعين المؤازرين للقائد بتطبيقه العالمي المنشود .

أما الشرط الأول : فقد خطط اللّه تعالى لایجاده و تربية البشرية عليه .

ضمن خط الانبياء الطويل ، حتى تكلل هذا التخطيط بالنجاح بانجاز هذا الشرط

ضمن الأطروحة الاسلامية المبلغة من قبل خاتم الانبياء عليه و آله السلام ، وقد سبق هناك ان برهنا ان الأضروحة العادلة الكاملة هي الاسلام (1).

وأما الشرط الثاني : فقد وفره اللّه تعالى في المهدي (ع) كقائد أمثل

للبشرية ليكون هو المطبق لتلك الأطروحة الكاملة في اليوم الموعود ... واكد

على بقائه الطویل خلال اجيال عديدة من البشر . ذلك البقاء الذي سنرى في

الفصل الآتي . كونه ضرورياً لتولية القيادةالمأمولة في اليوم الموعود؛ وقد

اعطينا طرفاً مختصراً عن ذلك في التاريخ السابق (2).

وأما الشرط الثالث : فقد خطط اللّه تعالى لایجاده بعد الاسلام. فان تربية

الفرد على تفهم وتطبيق مناهج سابقة غير الأطروحة العادلة الكاملة . والتي

سبق (3) ان بر هنا على مر حليتها وضيق مضمونها باعتبار ان انذهن البشري لم يكن قابلاً لأكثر من ذلك . ان التربية على تفهم وتطبيق هذه المناهج مما لا يكون مجدياً في تحقيق العدل في اليوم الموعود . وانما لا بد من تربية الامة الاسلامية

ص: 42


1- المصدر ص 261 .
2- المصدر ص 501 وما بعدها .
3- المصدر ص 255 وما بعدها و ص 258 وما بعدها ..

على الاطروحة الكاملة نفسها . من حيث تفهمها و استيعاب مضمونها - من

ناحية - والكفاءة لتطبيقها واطاعة مواد قانونها من ناحية ثانية ... ليكون

للافذاذ الممحصين من هذه الأمة شرف المشاركة في انجاز اليوم الموعود ،

و توطيد دعائم الدولة العالمية العادلة .

ومن هنا كان لا بد ان تمر الأمة الإسلامية بخط طويل من التربية ،

و بظروف معينة من الامتحان و التمحيص ، من الناحيتين الفكرية والعاطفیة .

أما من الناحية الفكرية : فتبر بي الامة ، و بشكل غير مباشر كل البشرية .

بما يقدمه لها المفكرون الاسلامیون من بحوث و تدقيقات لدينهم الحنيف . لكي تكون الامة ، ومن ثم : البشرية كلها . على مستوى تفهم الافكار والتشريعات

الجدیده التي تعلن في اليوم الموعود .

وأما التربية من الناحية العاطفية ، أي من جهة تعميق الايمان و الاخلاص

فالاسلوب الرئيسي لذلك : هو ان تمر الامة بظروف صعبة من الظلم والمصاعب

والانحراف ، ويكون لدى النخبة الصالحة منها من الاخلاص والايمان وقوة

الارادة . بحيث يكون رد فعلهم تجاه هذا الظلم والانحراف رد فعل مخلص متضمن للتطبيق الكاملة للاطروحة الكاملة ، او الإطاعة التامة الاسلام .

وتستمر التربية جيلا بعد جيل قائمة على هذا الأساس ، يتزايد خلالها هؤلاء المخلصون ، كما يتطرف العديدون إلى جانب الظلم والانحراف ؛ حتى يأتي اليوم الذي يتوفر فيه العدد الكافي من هؤلاء المخاصين لقيادة اليوم الموعود

و تنفيذه . وعندئذ يكون الوعد الإلهي ضروري التطبيق . بعد توفر شر ائطه الثلاثة .

ومعه نستطيع ان نفهم بكل وضوح، مدى ارتباط بوم الظهور الموعود

ص: 43

بالتخطيط العام للبشرية ، فانه في الحقيقة هو اليوم الذي يتحقق فيه السبب

الرئيسي لايجاد العبادة الكاملة للّه تعالى في خلقه ... و بايجاده يتحقق الهدف

الاسمی لحلق البشرية ككل .

إذن فيوم الظهور ، ليسن يوماً طارئاً ولا عرضاً عارضاً ، ولا ظاهرة

موقتة ، وانما هو النتيجة الطبيعية المفصودة للّه عز وجل من خلقه . وعلى طريقه

كانت جهود الأنبياء والأولياء والشهداء . اولئك الاعاظم الذين لم تتكلل

جهودهم بالنتيجة الاساسية المأمولة في عصورهم ، بل بقيت مذخورة ومخططة

لليوم الموعود .

وعلى طريقه كانت تضحيات البشر والامهم ، وما قاسوه من المصاعب

والمصائب على مر التاريخ . وما مروا فيه من ظروف الظلم والعسف

و الانحراف . فهو غياث المستغيثين و أمل الآملين ورافع کرب المكر وبين وظلم

المظلومين ، ومحقق العدل العظيم .

وسيأتي فيما يلي من البحث ، المزيد من التفصيل و الايضاح لهذه الفكرة .

ص: 44

الفصل الثاني : في نتائج الغيبة الكبرى على ما بعد الظهور

بالنسبة إلى كل من الإمام المهدي (ع) نفسه ،

وبالنسبة إلى أصحابه وخاصته ،

وإلى الأمة الإسلامية بشكل عام ، بل إلى البشر أجمعين

تنقسم الغيبة الكبرى في مفهومها الضخم الذي حققناه في التاريخ السابق

تنقسم إلى ثلاثة مدالیل :

المدلول الأول : تأجيل اليوم الموعود إلى امد بعيد ، وإلى موعد مجهول .

المدلول الثاني : طول عمر الامام القائد المذخور للمهمة العالمية في اليوم الموعود ... كما يقتضيه الفهم الامامي للمهدوية، ومعاصرة هذا القائد لتاريخ

طويل واجيال كثيرة للامة الاسلامية .

المدلول الثالث : غيبة هذا القائد خلال ذلك ، و عدم اطلاع الناس على

شخصه ومكانه و اسلوب حياته ... بالمعنى الذي ذكرناه من الغيبة في التاريخ السابق .(1) ولكل من هذه المداليل تأثيره الحقيقي الفعال في اليوم الموعود .

ص: 45


1- انظر تاریخ الغيبة الكبري ص34

أما المدلول الأول : فهو مدلول ثابت و منتج سواء على الفهم الامامي المهدي او على الفهم الآخر . لان قضية التأجيل امر واضح للمسلمين عموماً

من صدر الاسلام وإلى المستقبل ... لا يختلف الحال فيه بين ان يكون

التمائد المهدي (ع) مو جوداً خلال هذا الاجل الطويل أو لم یكن ، أو غائباً و ليس بغائب .

وهذا المدلول . اغني التأجيل الطویل . فوائده المهمة وآثاره العميقة على

اليوم الموعود والدولة العالمية ، من عدة نواحي :

ناحية الاولى : مرور الامة الاسلامية بظروف التمحيص والاختیار. التي

توضح حقيقة افرادها وتكشف عن ايمان المؤمنين فيها. وتجعلها على طريق

تعميق الاخلاص والوعي .

الناحية الثانية : ان ظروف التمحيص الطويل تنتج العدد الكافي من الأفراد

المخلصين الكاملين الغزو العالم بالعدل ، الذين يكون لهم شرف القيادة في اليوم

الموعود . الأمر الذي عرفنا أهميته في التاريخ السابق مفصلاً .

الناحية الثالثة : ان هذه المدة الطويلة كفيلة باكمال تربية الأجيال من الناحية الفكرية والعاطفية او - بتعبير آخر : على فهم الأطروحة العادلة الكاملة ، أولاً ، و التدرب على اطاعتها والتضحية في سبيلها .

وقد سبق ان عرفنا في تاريخ الغيبية الكبرى فكرة مفصلة عن ذلك – وهذه

التربية لا تختص بخصوص الممحصين الكاملين ، بل هي عامة تشمل سائر

الأفراد على مختلف المستويات ، كما بر هنا ، وهي تؤثر في الأمة من زاوية

جعلها على مستوى فهم القوانين والأفكار والمفاهيم التي تعلن في الدولة العالمية

والتي يكون اعلانها ضرورياً لاستتباب العدل الكامل في الأرض .

و هذه النواحي الثلاث ، كما قلنا ، لا ترتبط بوجود الامام الغائب ، بل

يمكن تصور انتاجها لفوائدها بدون الايمان بذلك ، طبقاً للتصور غير الأمامي

ص: 46

للمهدي ... حتى ما إذا علم اللّه تعالى إكماله لنتيجة بحسب ما هو المقصود

في تخطيطه الطويل ، اوجدالإمام المهدي في عصره ، فأخذ بقيادة الأمة

الاسلامية والبشرية إلى شاطىء العدل والسلام.

الا ان هذا مما لا ينبغي المبالغة في نتيجته ، وأن كان صحيحاً على أي

حال ... و ذلك بعد أن نلتفت إلى مجموع امرین :

الأمر الأول : ما تسالمت عليه مذاهب المسلمين على اختلافها ، من ان الحق منحصر في مذهب واحد على الاجمال ، وان المذاهب الاسلامية الأخرى

بعيدة عن واقع الاسلام بقليل أو بكثير غاية الامر ان كل مذهب يدعي هذه المزية لنفسه .

الأمر الثاني : ان التمحيص الإهي الضروري لايجاد اليوم الموعود ، لا

يكون الا على الحق ، والتجارب والمحن لا تنطلق الا من طاعته و الاخلاص

له . واما المذهب او المذاهب التي تكون في واقعها بعيدة عن الاسلام ، فالتربية

على اساسها و التدريب على طاعتها تدريب على الباطل وان اتخذ صفة الاسلام .

اذن ، فالتمحيص ينحصر في المذهب الواحد الحق المطابق لاسلام

والمرضي اللّه تعالى من المذاهب المتعددة في الاسلام ، و هو - على اجماله - الذي

يقوم فيه المخلصون الكاملون بقيادة البشرية بين يدي الامام المهدي في

اليوم الموعود .

ومعه ، فالفوائد المبنية على اساس المدلول الأول و الناتجة عنه ، لا تترتب

الا على ذلك المذهب الحق ، ولا يمكن ان تترتب على مجموع مذاهب المسلمين .

وأما المدلول الثاني : وهو طول عمر الامام المهدي (ع) ومعاصرته

ص: 47

لتاريخ طويل للامة الاسلامية خاصة والبشرية عامة ... فما يترتب عليه

من الفوائد يختص بالفهم الامامي للمهدي (ع) ولا يعم فهم المذاهب الأخرى

له . فإذا عرفنا ما لهذا المدلول من فوائد في تكميل وترسيخ العدل في عصر

الظهور، امكننا ان نعرف افضلية التصور الأمامي على غيره من هذه الجهة .

وان اللّه تعالى حين يريد افضل اشكال العدل للدولة العالمية ، فهو يختار التخطيط

للغيبة . وبذلك نستكشف صحة التصور الامامي و تعين الأخذ به في التخطيط الإلهی.

وقد بحثنا ذناث في التاريخ السابق (1)طبقاً لمنهج معين ، ونريد ان نبحثه الآن طبقاً لمنهج آخر ، قد يكون اكثر تحليلاً :

وخلاصة القول في ذلك : ان الأطروحة الأمامية لفهم المهدي (ع)

في حدودها الصحيحة المبرهنة التي عرضناها في التاريخ السابق : تتضمن - في

حدود المدلول الثاني الذي نحن بصدده - عدة خصائص مهمة.

الخصيصة الأولى : الايمان بعصمة الامام المهدي عليه السلام ، باعتباره الثاني عشر من الأئمة المعصومين .

الخصيصة الثانية : الايمان بكونه القائد الشرعي الوحيد للعالم عامة والقواعده

الشعبية خاصة ، طيلة زمان وجوده. سواء كان غائباً أو حاضراً .

الخصيصة الثالثة : معاصر ته لاجيال متطاولة من الامة الاسلامية خاصة والبشرية عامة .

الخصيصة الرابعة : كو نه على مستوى الاطلاع على الأحداث يوما فيوماً و عاماً فعاماً عارفاً باسبابها ونتائجها وخصائصها.

ص: 48


1- انظر : تخطيط الخاص بايجاد القائد ص 97: وما بعدها .

الخصيصة الخامسة : كونه على ارتباط مباشر بالناس خلال غيبته ، يراهم

ویرونه ويتفاعل معهم ويتفاعلون معه ، الا انهم لا يعرفونه بحقيقته الا نادراً جداً. وذلك

طبقاً ل « اطروحة خفاء العنوان»التي اخترناها و بر هنا عليها في تاريخ الغيبية الكبرى .(1)

وكل هذه الخصائص مما يفقدها النهم غير الأمامي للمهدی ، بكل

وضوح . وانما المهدي ، بحسب تلك الأطروحة شخص يولد في زمانه ،

وييسر له اللّه عز وجل ظروف الثورة العالمية . فهل هذا العمل الكبير ممكن

التنفيذ من قبل شخص غير معصوم ، احسن ما فيه انه يمثل ثقافة عصره و درجة

وعيه من الناحية الاسلامية ؟! ...

الحق ، اننا ينبغي ان نذعن بان مثل هذا الانسان : لا يمكن ان يؤهل

للقيادة العالمية باي حال ، وان خصائص المهدي في التصور الأمامي ليست

بالخصائص الطارئة أو الثانوية ، وانما هي اساسية في تكوين قيادته و تمكنه من

تحقيق المجتمع العادل ، كما أراده اللّه تعالى وكما وعد به .

أما الخصيصة الأولى : وهي عصمة الامام المهدي (ع) فتترتب عليها

عدة فوائد ، يمكن أن نشير إلى أربعة منها :

الفائدة الأولى : كونه وارثاً علم الامامية المتضمن الأسس الرئيسية للفكر القيادي العالمي...وارثاً له عن آبائه المعصومين عن رسول اللّه (ص) عن

اللّه عز وجل ، وأني لمن يوجد في العصور المتأخرة الحصول على ذلك ، الا

بوحي جديد من اللّه عز وجل ، وهو ما حصل الاجماع من قبل سائر المسلمين على عدم حصوله للمهدي عليه السلام .

ص: 49


1- انظر صفحة 34 و ما بعده ها .

ولا يخفى ما في الاطلاع على هذه الأسس الرئيسية من زيادة في القدرة

على القيادة العالمية ، ان لم تكن -في واقعها - الطريق الرئيسي الوحيد لذلك

وتعذر القيادة العالمية بدونها ، وكلما تعين شيء للقيادة العالمية او كان افضل لها .

كان اللّه تعالی منجزاً له لا محالة ، لكونه واقعاً في طريق الهدف البشري الأعلى ،

وكون اختيار عكسه ظلم للبشرية و موجب التخلف الهدف وكلاهما محال على اللّه عز وجل .

الفائدة الثانية : الشعور بالابوة للبشر أجمعين، فهو حين يحارب الكافرين والمنحرفين ويقتل العاصين ، لا يشعر تجاههم بحقد او ضغينة وانما يحاربهم

من اجل مصالحهم انفسهم ونشر العدل والسعادة في ربوعهم . و ايصال الحق إلى اذهانهم .

واجتماع هاتين العاطفتين ، أعني الشعور بالابوة مع قصد القتل ، لا

تتوفر لدى أي أحد في التجربة الفعلية للفتح الاسلامي الا اذا كان معصوماً .

ومن هنا راينا الفتح الاسلامي بعد انحسار القيادة المعصومة عنه ، قد تحول

إلى مقاصد اخرى لا تمت إلى الشعور بالعطف الأبوي على الشعب المغلوب ،

بأي صلة ... وانما اصبح الفتح تجاریاً محضاً ، كما سمعنا طرفاً منه في« تاریخ الغيبة الصغرى . (1)

فإذا كان هذا الشعور متعذراً لغير المعصوم في الفتح الإسلامي ذو النطاق

المحدود ، فكيف بالفتح الإسلامي العالمي ، بما تزهق فيه من نفوس ، وما

تحصل فيه من اموال ، وما يتسع فيه من سلطان .

الفائدة الثالثة : عدم الانحراف بالقيادة عن مفهومها الاسلامي الصحيح

ص: 50


1- انظر صفحه 96 ومابعدها

الذي يشجب استغلالها في سبيل ترسيخ الكرسي والتمسك بدفة الحكم والجشع

الشخصي ... هذه الآثار السيئة والعواطف المنحرفة التي لا تكادتنفك عن

كل من يحكم رقعة من الأرض ، او دولة معينة ، فكيف إذا أصبح الحكم

عالمياً واصبحت السيطرة والنفوذ في القمة من السعة والشمول . ان الفرد مهما

كان صالحاً ونقياً قبل هذه القيادة ، ستكون مثل هذه القيادة مكا لانحرافه

و طمعه ، لمدى ضغط الدافع الشخصي والمصلحي على الفرد الحاكم ، ما لم

يكن معصوماً بالفعل عن ارتكاب كل قبيح و معصية في التشريع الإسلامي.

الفائدة الرابعة ، الدقة الكاملة في التطبيق العالمي للاطروحة العادلة الكاملة

ومن ثم الأخد بزمام المجتمع للعبادة المحضة للّه عز وجل ، التي هي الهدف الأساسي من ايجاد الخليقة .

وهذه الدقة يمكن ان تتوفر للمعصوم بكل سهولة ، بناء على الفهم الامامي

للعصمة . وهو أن المعصوم ممتنع عليه الخطأ والنسيان مضافاً إلى عصمته من الذنوب ، وان الامام ( منی أراد ان يعلم شيئاً اعلمه اللّه تعالى ذلك ) كما نطقت

به الاخبار (1). فان المشاكل العالمية مهما كثرت وتعقدت ، يمكن للامام

المتصف بهذه الصفات ، ان يهيء لحلها اقرب الاسباب .

ولعل هذا هو السر الأساسي في جعل هذه الصفات المعصوم واتصافه

بها ، مع انه لا تترتب عليها مصالح الدعوة الإلهية بالمعنى الشخصي .

وذلك : انه قد يستشكل في الدليل العقلي التقليدي على العصمة ، بان :

غاية ما دل عليه ذلك الدليل هو وجوب عصمته عن الذنوب وعن الكذب

ص: 51


1- انظر : الكافي (الاصول ) لثقة الإسلام الكليني (مخطوط ) في باب بعنوان : ان الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا .

في التبليغ والدعوة ، لكي يكون كلامه مؤثراً في الآخرين ومقنعاً لهم. بخلاف

ما لو عرفوه محتمل الكذب في حياته السابقة ، فان هذا التأثير لا يحصل لا

محالة . واما عصمته عن الخطأ والنسيان فهو مما لا يشمله ذلك الدليل ، لا

مكان تدارك ما فات بعد الالتفات .

والجواب عن ذلك ، على ضوء النتائج السابقة ، ان العصمة عن الخطأ

والنسيان مما يتوقف عليه التطبيق العالمي للعدل الكامل (1) وخاصة في مهمته

الأولى ، وتحويل العالم الفاسد إلى عالم صالح عادل ، والمفروض في كل معصوم

ان يكون على مستوى القيادة الثابتة له نظرياً. اعني ان يكون له من القابليات

ما يمنعه من التقصير في تنفيذها . باعتبار ان ايكال الدعوة إلى شخص قاصر

عن تطبيقها مستحيل على اللّه عز وجل ، بل لا بد ان تنسجم دائماً

مدعيات الدعوة الالهية من الناحية النظرية مع امكان التطبيق على طول الخط .

هذا حال المعصوم ، و اما غير المعصوم ، فيتعذر عليه تماماً قيادة العالم

بالعدل ، وخاصة في تحويله لأول مرة من الظلم إلى العدل ، الأمر المملوء بالمشاكل والعقبات .

ولعل أطرف ما يبرز ذلك ،

ما روي عن ذي القرنين حين أوكل

إليه اللّه تعالى قيادة العالم ، ولم يكن

حاكماً من الناحية العملية إلا على بعض

العالم ... وقد أوحى اللّه إليه تعالى :

ص: 52


1- ولا ينافي هذا ما قلناه في التاريخ السابق عن القاعدة القائلة : إذا أراد الإمام أن يعلم شيئا أعلمه اللّه تعالى ذلك فاننا حددناها هناك (ص 517) ببعض القيود . و لکنها في ضمن تلك الحدود تكون كافية للقيادةالعالمية ، ولا يقتضي الدلين الذي ذكرناه هنا ما هو أوسع من ذلك .

« يا ذا القرنين انت حجّي على جميع

الخلائق ما بين الخافقين من مطلع الشمس

إلى مغربها . وهذا تأويل رؤياك .

فقال ذو القرنين : يا إلهي انك

ندبتي لأمر عظيم ، لا يقدر قدره

غيرك . فأخبرني عن هذه الأمة . بأية

قوة اكابرهم ، وبأي عدد أغلبهم .

وبأي حيلة أكيدهم ، وبأي صبر

أقاسيهم ، وبأي لسان أكلهم . وكيف

لي بأن أعرف لغاتهم ، وبأي سمع

أعي قولهم ، وبأي بصر انقدهم ، وبأي

حجة اخاصمهم ، وبأي قلب أعقل

عنهم ، وبأي حكمة أدبر أمرهم ،

وبأي علم اتقن أمرهم ، وبأي حلم

اصابر هم ، وبأي قسط أعدل بينهم ،

وبأي معرفة أفضل بينهم ، وبأي عقل

احصيهم . وبأي جند أقاتلهم ، فإنه

ليس عندي مما ذكرت یا رب شيء !

فقوني عليهم ، فانك الرب الرحيم الذي

لا تكلف نفساً إلا وسعها ، ولا تحملها

إلا طاقتها » (1) .

ص: 53


1- انظر إكمال الدين الشيخ الصدوق (نسخة مخطوطة )

فهذه الرواية تبرز بوضوح صعوبة ممارسة الحكم العالمي. ولئن ذللت

المدنية الحديثة بعض هذه المصاعب إلى حد ما ، فانها اضافت إليها مصاعب

و تعقيدات جديدة . تزيد في الطين بلة . ولولا ان اللّه عز وجل وعده بعد ذلك

-لو صحت الرواية - بالتوفيق والتسديد ، لكان من الحق تعذر بل استحالة

القيادة الشخصية غير المعصومة للعالم ، بل لبعض العالم ، فان ذا القرنين لم يكن

حاكماً للعالم كله .

نعم ، ترتفع هذه الاستحالة ويقل التعذر ، مع وجود القيادة الجماعية

الا اننا سبق أن ناقشناها بالتفصيل في التاريخ السابق (1) ، وسيأتي تطبيق ذلك في مستقبل هذا التاريخ . وسيتضح انه لا يمكن للمهدي ان يأخذ بالقيادة

الجماعية الا بعد ان تمر البشرية بتربية طويلة طبقاً للمناهج التي يضعها بنفسه .

وعلى أي حال ، فقد كان المقصود البرهنة على اهمية الخصيصة الأولى

المهدي (ع) وهي صفة العصمة ، وانه لا يمكن لأي شخص غير معصوم

الاضطلاع بمهمة القيادة العالمية .

وأما الخصيصة الثانية للامام المهدي (ع) في الفهم الامامي ، وهي كونه

القائد الشرعي والوحيد للعالم عامة ولقواعده الشعبية خاصة ، حتى في حال

غيبته ... فترتب عليها عدة فوائد بالنسبة إلى من يؤمن بقيادته . فان لها اثرها

الكبير في تعميق التمحيص الإفي وتوسيعه .

فان الفرد المؤمن بقيادته حال غيبته ، حين يكون على محك التمحيص

الإلهي ، الساري المفعول لاجل صقل ایمانه و تعمیق اخلاصه و تکمیل نفسه ...

ص: 54


1- انظر تاريخ الغيبة الكبرى ، ص 477 وما بعدها

إذا اخذ الفرد مفهوم القيادة المهدوية في ذهنه ، فانه سوف ينعكس على سلوكه بكل

وضوح . وسيتجه إلى العمل والتضحية اكثر من الفرد الحالي من هذه الفكرة

بطبيعة الحال ، و ذلك ، لاقتران مفهوم القيادة المهدوية في ذهنه بعدة حقائق

الحقيقة الأولى : كونه جندياً مأموراً موجهاً بالفعل للعمل في سبيل اللّه

و اطاعة احكامه ، وأن أوامر قائده المهدي (ع) موجودة و متوفرة لديه متمثلة بالاحكام الاسلامية ، فان المهدي هو الممثل الحقيقي للاسلام . فأوامر الاسلام

او امره ، ورغبات النبي ( ص) في امته رغباته .

الحقيقة الثانية : كونه مسؤولاً ومحاسباً امام هذا القائد ، ولو بشكل غير

مباشر . كيف وان صوت هذا القائد موجود في ضميره الاسلامي يحمله على

الخير ويردعه عن الشر. وهذا الفرد یعلم ان قائده حي مطلع على ما يصدر منه من

اعمال و يقيّم ما يقوم به من حسنات او سيئات ، فأحر به أن يدخل السرور

عليه بحسناته وان لا يخجل امامه بسيئاته وانحرافه .

الحقيقة الثالثة : الشعور بمظلومية هذا القائد حال غيبته. وبمظلومية البشرية

البائسة التي اوجبت لها غيبة امامها ومرورها بعصور الظلم والانحراف، كثيراً من القمع والاضطهاد .

الحقيقة الرابعة : الشعور بانتظار هذا القائد ، و احتمال ظهوره وقيامه

بدولة الحق في اي لحظة من الزمن . وهذا يستدعي ، بطبيعة الحال ، ان يراعي الفرد تعميق اخلاصه وايمانه وتضحياته في سبيل دينه ... ليكون له الزلفة

لدى أمامه وقائده عند ظهوره واهلية شرف المشاركة بين يديه في اصلاح العالم وقيادته .

إلى غير ذلك من الحقائق التي تكون كل واحدة منها فضلاً عن مجموعها

ص: 55

من اكبر المحفزات للفرد المؤمن على مزيد العمل والتضحية في الخط الاسلامي

الصحيح . وهذا نفسه يوجب النجاح في التمحيص الإلهي بشكل أعمق واسرع

بطبيعة الحال . ولا يمكن ان يترتب شيء من هذه الفوائد مع عدم الايمان بقيادة الامام المهدي (ع) و غيبته .

و هناك فوائد أخرى تترتب على ذلك . تكون مشتركة مع الخصائص

الآتية بحسب التطبيق و الوجود، ومن هنا كان الأفضل ذكرها مع تلك الخصائص.

الخصيصة الثالثة : وهي عبارة عن معاصرة الامام المهدي (ع) لاجيال

طويلة من البشرية ... ولها عدة فوائد ننتصر منها على فائدتين تعود احداهما

إلى الأمام نفسه وتعود الأخرى إلى البشرية:

أما الفائدة التي تعود إلى الأمام . فهي ما عرضناه في التاريخ السابق (1).

وأقمنا عليه القرائن من ان معاصرة الامام للأجيال توجب اطلاعه المباشر على

قوانين تطور التاريخ وتسال حوادثه ، الأمر الذي يؤثر تأثيراً كبيراً في عمق

قیادته بعد ظهوره .

وأما الفائدة التي تعود إلى البشر ، فهي باعتبار ما ورد في اخبار المصادر

الخاصة من الحاجة إلى وجود الامام حاجة كونية قهرية مضافاً إلى الحاجة القيادية .

منها : ما أخرجه ثقة الإسلام الكليني

في الكافي (2) بإسناده عن أبي حمزة ،

ص: 56


1- انظر تأريخ الغيبة الكبری ص 514 وما بعدها
2- انظر باب : أن الأرض لا تخلو من حجة اصول الكافي ، ( نسخة مخطوطة). وكذلك ما بعده . و انظر ایضاً : الغيبة الشيخ الضوهي ص 92ط النجف .

قال : قلت لأبي عبد اللّه - الصادق -

عليه السلام : تبقى الأرض بغير إمام ؟

قال : لو بقيت الأرض بغير إمام الساخت.

وما أخرجه بسنده عن أبي هراسة

عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام .

قال : لو أن الإمام رفع من الأرض

ساعة الماجت بأهلها كما يموج البحر

بأهله .

وهي تدل بظاهر ها - بغض النظر عن إمكان منها على الرمزية – بان

بقاء الإمام ضروري خفض بتماء لأرض ومن عليها . حتى يكون لها وجود

و نظام كوني كامل يمكن تنفيذ الوعد و الاهی وإنتاج التخطيط العام من خلاله .

وهذا إنما يتم مع وجود الإمام معاصراً لكل الأعوام والأجيال البشرية ...

وخاصة بعد الاعتقاد الإمام المؤيد باخبار العامة (1) بان الأئمة اثنا عشر لا يزيدون. وحيث قد ثبت موت أحد عشر منهم ، إذن . يتعين أن تمي اللّه تعالى الإمام الثاني عشر الحصول على هذه الفائدة .

وقد يكون هذا هو المراد من قول الإمام المهدي (ع). فيما روي

عنه : واني لأمان لأهل الأرض، كما أن النجده أمان الأهل السماء (2).

ص: 57


1- أخرجها البخاري : أنظر ح ه ص 101 و مسلم أنظرح 6 ص 3 و غیر هما من الصحاح وكتب الحديث .
2- انظر تاریخ الغيبة الکبری ص 54 عن لا صحیح لمصبری

الخصيصة الرابعة : كون الإمام المهدي (ع) على مستوى الاطلاع على

الأحداث ، يوماً فيوماً وعاماً فعاماً ، عارفاً بأسبابها ونتائجها .

وتحتوي على عدد من الفوائد مضافاً إلى الفائدة الأولى من الحصصة الثالثة . أهمها : الحفاظ على المجتمع المسلم ودفع البلاء الواقع عليه من أعدائه عليه .

فإن الإمام المهدي (ع) حين يعلم بجريان الأحداث وأسبابها ومسببائها ،

و ما قد تؤول إليه من مضاعفات ، وحين يكون مكلفاً إسلامياً برفع الأضرار

والدواهي عن المجتمع المسلم ، في بعض الحدود التي ذكرناها في التاريخ السابق (1)... وقد وعد هو عليه السلام بذلك فيما روي عنه (2) .... حين

يكون كذلك ، فانه لا محالة يقوم بوظيفته المقدسة خير قيام . وقد عرضنا (3)

الأسلوب الذي يمكنه عليه السلام به أن يقوم بالأعمال النافعة خلال غيبته .

هذا مضافاً إلى تفیيمه للناس و المجتمعات ، طبقاً للميزان العميق الذي

يحمله ويعرفه ، الأمر الذي يوفر عدة نتائج :

منها : اطلاعه على درجة إيمان المؤمنين و إخلاص المخلصين ، واتجاهاتهم

السلوكية والعقائدية في الحياة .

ومنها : اطلاعه على سلوك المنحرفين والكافرين ، و محتملات نتائجه على

الإسلام والمسلمين ، لأجل التوصل من ذلك إلى محاولة الحد من تأثيره .

ص: 58


1- انظر تاریخ الغيبة الكبری ص 53 و غيرها .
2- المصدر ص 167 و ص 175 .
3- المصدر ص 176 .

ومنها : معرفته بتحقق شرط اليوم الموعود ، الذي هو يوم ظهوره ،

وهو وجود العدد الكافي من الناصرين والمؤازرين له على فتح العالم و مباشرة

حكمه بالعدل طبقاً لاحد المحتمالات في أسلوب تعرفه على يوم ظهوره . مما

سوف يأتي عرضه و اختيار الصحيح منه .

الخصيصة الخامسة : وهي اتصال الإمام المهدي (ع) بالناس و محادتته

لهم وتفاعله .معهم ... ولها - على الأقل -- فائدتان . إحداهما خاصة

بالإمام المهدي (ع) و الأخرى عامة للمجتمع المسلم كله .

أما الفائدة الخاصة به عليه السلام ، فهو اختلاطه بالناس و ارتفاع الوحشة عنه . تلك الوحشة المشار إليها في بعض الأخبار (1)والثابتة له على تقدير بعده

عن الناس وسكناه في الصحاري والقفار ، كما ورد في رواية ناقشناها في

التاريخ السابق (2). هذا ، مضافاً إلى قضاء حوائجه الشخصية الضرورية

لكل إنسان . بشكل أسهل من أي أسلوب آخر يتخذه في الحياة .

واما الفائدة التي تعم المجتمع كله ، باتصال المهدي (ع) بأفراده ،

فهي انه عليه السلام . حين يتصل بالناس ، يقوم بوظيفته الإسلامية تجاههم

من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقريبهم من الطاعة و إبعادهم عن المعصية

وحثهم على الأعمال العامة النافعة و بذر بذور الصلاح في الأفراد والمجتمع ...

في الحدود و بالشكل الذي سبق أن حولناه على التاريخ السابق .

ص: 59


1- عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال : لا بد لصاحب هذا الأمر من عزلة ، ولا بد في عز نته من قوة ، وما بثلاثين من وحشة ... الحديث . انظر تاريخ الغيبة الكبري ص 74 عن غيبة الشيخ الطوسي .
2- وهي ما ورد عن المهدي (ع) نفسه يقول عن أبيه (ع) : و أمرني أن لا أسكن من الجبال إلاو عر ها و من البلاد الا عفرها.. الحديث .المصدر 72.

ومن ثم السير قدماً بتحقيق الشرط الثالث من شرائط الظهور ، باعتبار

أن الناس كلما ازداد إيمانهم واخلاصهم ، كلما كان احتمال نحقق العدد

الكافي لغزو العالم بالعدل أقرب وأوضح .

هذا وينبغي أن نعرف في نهاية الحديث عن خصائص الإمام المهدي (ع)

في غيبته : أنها خصائص متساندة ومتعاضدة ، باعتبار أن المنصف بها شخص واحد ، فمن المنطقي أن تكون الفوائد المشار إليها منطلقة من مجموع الخصائص وإن كانت بواحدة الصق ونحوها أقرب .

وبهذا يتم الكلام عن المدلول الثاني للغيبة الكبرى .

وأما المدلول الثالث للغيبة الكبرى ، وهو استتار الامام القائد وخفاء شخصه

وعمله ومكانه على الناس ، أعني بصفته الحقيقية .

... ففائدته الكبرى بالنسبة إلى اليوم الموعود ، هو حفظه عليه السلام

من شر الأعداء للقيام ليبقى مذخوراً بالمهام الكبرى في ذلك اليوم المجيد .

وهذا ما أشير إليه في الأخبار :

أخرج الشيخ الطوسي في الغيبة(1)

بإسناده عن زرارة ، قال : ان للقائم

غيبة قبل ظهوره ، قلت : ولم ؟ قال :

یخاف القتل .

وفي حديث آخر (2) عن زرارة

ص: 60


1- ص 201
2- نفس المصدر ص 202 .

ابن أعين أيضأ ، قال سمعت أبا عبد اللّه

عليه السلام يقول : إن للغلام غيبة

قبل أن يقوم ، قلت : ولم ؟ قال :

يخاف . وأومأ بيده إلى بطنه .

وأخرج الشيخ الصدوق في إكمال

الدين (1) بإسناده عن سعيد بن جبير

قال : سمعت سید العابدين علي بن

الحسين يقول : في القائم منا سنن

من سنة الأنبياء عليهم السلام .... إلى

أن قال : وأما موسى فالخوف والغيبة... الحديث .

وفي حديث آخر (2)عن محمد بن

مسلم الثقفي الطحان ، قال : دخلت

على أبي جعفر محمد بن علي الباقر ،

وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل

محمد صلوات اللّه عليه وعلى آله فقال

لي ، مبتدئاً : يا محمد بن مسلم ان في

القائم من آل محمد ( ص) شبهاً من

خمسة من الرسل ... إلى أن يقول :

واما شبهه من موسى فدوام خوفه وطول

غيبته وخفاء ولادته ... الحديث

ص: 61


1- نسخة مخطوطة غير مر قمة الصفحات .
2- نفس المصدر .

ولعن هذه الفائدة ، هي المصلحة الوحيدة التي بينتها الأخبار للغيبة الكبرى .

باعتبارها المصلحة الوحيدة المناسبة مع المستوى الفكري والثقافي الذي كان دوجوداً في عصر صدور هذه الأخبار.

و ثبوت هذه الفائدة واضح ، بعد التسليم بأمرين :

الأمر الأول : الفهم الإمامي القائل : بأن المهدي هو الإمام الثاني عشر

من الأئمة المعصومين عليهم السلام . الذي هو الفهم الذي ننطلق منه في إثبات

أكثر مداليل الغيبة الكبرى كما عرفنا .

الأمر الثاني : ان الإمام المهدي (ع) لو كان ظاهراً معروفاً بحقيقته ،

قبل اليوم الموعود ، لقتله الظالمون لا محالة ... بعد التسالم الواضح على أن هدفه

الأساسي هو تطهير الأرض من الظلم و تبديل أوضاع الظالمين . إذن ، فكل

من لا يرضى بهذا التبدیل ، انطلاقاً من انحرافه ومصالحه الشخصية ، سيكون ضده .

وسيكون القضاء على المهدي (ع ) متيسراً بأسهل طريق. لأنه ليس له

من ينصره أو يدافع عنه . أو يوجد من لا يكفي لذلك ، لما عرفناه مفصلاً من

أن نصره متوقف على تمخض التخطيط العام عن وجود العدد الكافي لغزو

العالم بالعدل . وان هذا لا يتم الا قبيل ظهوره . و اما خلال المدة المتحللة قبله

فان التخطيط لم ينته بعد ولم ينتج هذا العدد الكافي . إذن فقيامه بالثورة العالمية

متعذر تماماً ، ودفاعه عن نفسه بدون ذلك متعذر أيضاً ، لاقتران وجوده

في أذهان الناس بالثورة العالمية ... إذن فيتعين أن يكون غائباً غير معروف

وان لا تنكشف حقيقته إلا يوم ظهوره في اليوم الموعود . و ذلك من أجل أن

یبقی مذخوراً لتلک المهمة الأخرى . ومن الواضح أن مقتله يفقد اليوم الموعود

ص: 62

قائده ، الذي لا يوجد غيره . بحسب الفهم الإمامي ، ومن ثم يخل بالدولة

العالمية ، و بالهدف العام من خلق البشرية .

وقد يخطر في الذهن :ان المهدي (ع) يمكن أن يكون معروفاً . الا أن اللّه تعالى يحفظه عن طريق المعجزة ، لأجل تنفيذ اليوم الموعود و الهدف العام ...

بعد أن عرفنا من قانون المعجزات أن كل ما يتوقف عليه الغرض الإلهي يمكن اقامة المعجزة فيه .

وجواب ذلك : اننا عرفنا إلى جنب ذلك من قانون المعجزات ، انه مني أمكن السير نحو الهدف بدون معجزة ، كان الطريق الطبيعي غير الاعجازي ،

متعيناً، ولا تحدث فيه ..معجزة .

فبالنسبة إلى المهدي (ع) حين كان هو الأمام الثاني عشر من المعصومين

عليهم السلام . ولا إمام بعده ، كان حفظه لليوم الموعود و اطالة عمره متعينا

بالمعجزة ، ولا بديل لذلك . ومن أجل هذا حدثت المعجزة وطال عمره .

وأما حفظه لذلك اليوم بمعني دفع القتل عنه ، فهذا يتعين عن طريق المعجزة .

بل يمكن أن يكون عن طريق الغيبة أيضاً ، وهي طريق طبيعي واضح ، كما

سبق أن بر هنا في التاريخ السابق (1) لا يتضمن في أساسه الاغنية كل أفراد البشر عن حقيقته وعدم العلم بكونه هو المهدي ، ومن ثم لا يوجد عند أحد

القصد إلى قتله . بصفته مهدياً . وقلنا أنه إذا أمکن الطريق الطبيعي ، لا تقوم المعجزة بتنفيذه .

و بمعرفتنا مداليل الغيبة الكبرى ونتائجها الكبرى بالنسبة إلى الأمة الاسلامية.

ص: 63


1- أنظر تاريخ الغيبة الكبری ص 38.

خاصة والبشرية عامة . وبالنسبة إلى الإمام المهدي (ع) خاصة وتنفيذ اليوم

الموعود عامة ... يتبر هن لدينا بوضوح أهمية الغيبة الكبرى ، وكونها عنصراً

رئيسياً في التخطيط الإلهي العام لا يمكن الإستغناء عنه .

واما مع الأخذ بانهم غير الإمامي للمهدي وكونه شخصاً يولد في زمانه

وسیوفق للثورة العالمية العادلة في حينه . ان مثال هذا القائد أن يستطيع بأي حال

قيادة العالم قيادة عادلة عادة . و لو فرضنا- جدلاً - انه استطاع ذلك لفترة ، فهو

لا يستطيع ضمان بقاء التطبيق الإسلامي على الدوام ، كما هو المفروض في

دولة المهدي وسيأتي الإستدلال عليه .

وينطلق الحكم بعدم استطاعة مثل هذا الإنسان القيام بهذه المهمة ، من

حقيقة عده لياقته لذلك ، وقصوره عنه قصوراً تاماً . بعد كونه فاقداً لكل

النتائج التي عرفناها أغيبة الكبرى . وبخاصة صفة العصمة التي يكون فاقداً لها و لكل خصائصها المهمة . وأما المدلول الأول الذي يشمل الفهم غير الإمامي

للمهدي . فنتائجه تظهر في الأمة أو البشرية ، وليس لها نتائج خاصة بالمهدي كما مر.

ص: 64

الفصل الثالث : توقيت الظهور من ناحية شرائطه وعلاماته

إن أهم الفروق بين شرائط الظهور وعلاماته . هو أن الشرائط عدة

خصائص لها التأثير الواقعي في ايجاد يوم لظهور والنصر فيه وانجاز الدولة

العالمية . ولولاها لا يمكن أن يتحقق ذلک .على حين أن علامات الظهور ليس

لها أي دخل في ذلك فيمكن لليوم لموعود أن يتحقق سواد وجدته أو لم توجد

وانما هي أمور جعت من قبل اللّه سبحانه و بلغت إلى البشر من قبل الصادقين

قادة الإسلام الأوائل. بصفتها دولاً وكواشف عن قرب الظهور . إذا

كانت من العلامات القريبة . أو عن أصل حصوله . لو كانت من العلامات

البعيدة : و ذلك : يكون الأفراد المنتظرون لذلك اليوم المختارون للعمل فيه

نتيجة بنجاحهم التام في التمحیص . بحانة التهية النفسي الكامل لاستقباله عند حدوث العلامات القريبة .

وهذا هو الذي قاناه في التاريخ السابق (1)وعرفنا فيه (2)عدة فروق

بین الشرائط والعلامات . لا حاجة لأن الی في سردها . وانما المهم الآن هو أن

تحمل فكرة عن تأثير الشرائط والعلامات بالنسبة إلى ما بعد الظهور .

ص: 65


1- تاریخ الغيبة الكبری ص530
2- المصدر ص 410 و ما بعد ها .

عرفنا في الفصل الأول : أن المهم المتبقي مما لم يحدث إلى الآن من شرائط

الظهور ، ولم يتمخض التخطيط الإلهي عن ايجاده ، أمران :

الأمر الأول : تربية الأمة ككل من الناحية الفكرية، حتى يكون لها القابلية

لاستيعاب و فهم وتطبيق القوانين الجديدة التي تعلن بعد الظهور .

الأمر الثاني : تربية العدد الكافي للنصر في يوم الظهور من الأفراد المخلصين

الكاملين المحصين ، الذين يكونون على مستوى التضحية والفداء لتطبيق الاطروحة العادلة الكاملة .

وهذان الأمران يحدثان تدريجاً نتيجة للتربية الطويلة البطيئة للأمة، تحت الظروف والخصائص التي سبق ان عرفناها . وسوف لن يتمخض التخطيط

الإلهي لا يجادهما الا قبيل الظهور . وبتعبير آخر : انهما عندما يتحققان يكون

اليوم الموعودنافذاً بجميع شرائطه ، ومعه لا يمكن أن يكون متخلفاً أو متأخراً عن ذلك .

واما الاطلاع على أنهما تحققا فعلاً أو لم يتحققا ، فهو مما لا يمكن أن يعرفه الناس الا عند الظهور ، لأنه يكون دالاً على تحققهما قبله لا محالة

ولا يحصل هذا الاطلاع عند البشر إلا للإمام المهدي نفسه ، على ما سنذكره في فصل قادم .

وهذان الشرطان يكاد ان يكونان مقترنين في تطورهما التدريجي ، والوصول

إلى الغاية المطلوبة . وبخاصة وهما لا يتضمنان في مفهومهما مقداراً محدداً غير

قابل للزيادة . إذ في الامكان تطور الأمة من الناحية الفكرية والإخلاص على

الدوام . غير أن هذين الأمرين ( حد ادني) يصلح أن يقوم عليه اليوم الموعود

ومع تحقق هذا الحد الأدنى لكلا الشرطين معاً يكون اليوم الموعود واقعاً و نافذاً

ص: 66

لا محالة . ويكون التطور الزائد في جوانب الأمة الإسلامية موكولاً إلى ما بعد الظهور .

وهذان الشرطان متشابهان في التطور إلى حد كبير ، تبعاً لازدياد الظلم و

الانحراف ، المنتج لهما معاً . ولكن لو فرض أن أحدهما كان أسرع من

الآخر ، فترة من الوقت ، بحيث وصل إلى الحد الأدنى المطلوب قبل الآخر

كما يتصور - عادة - في الجانب الفكري ، فانه أسرع تطوراً من جانب

الإخلاص وقوة الإرادة ، كما بر هنا عليه في التاريخ السابق (1) ... فهذا

مما لا يكاد يضر بالمطلوب شيئاً ، لأن الجانب الفكري لن ينزل ، وأنما الذي

سيحدث هو حصول الحد الأدنى من العدد الكاني من الجيش الفاتح للعالم ،

مع تعمق القابلية الفكرية للأمية أكثر من الحد الأدنى وأكثر دقة و رسوخاً .

وكذلك لو فرض تطور الإخلاص أكثر من القابلية الفكرية ، فإنه مما لاضير

فيه ، إن لم يكن أكثر نفعاً بالنسبة إلى يوم الظهور .

وعندما يتكامل هذان الشرطان ، تكون كل الشرائط المطلوبة قد اجتمعت في زمن واحد. فالأطروحة العادلة الكاملة موجودة بين البشر ، متمثلة بتعاليم

الإسلام ، كما بر هنا عليه في التاريخ السابق (2). والأمة قد تربت على فهمها

بدقة واتقان ، وأصبحت قابلة لتفهم القوانين الجديدة التي تكون على وشك

الصدور في اليوم الموعود . والقائد موجود متمثل بالإمام المهدي عليه السلام

على كلا الفهمين الإمامي وغيره . والعدد الكافي من الجيش العقائدي القيادي

متوفر لفتح العالم ونشر العدل والسلام بين ربوعه مع وجود العامل المساعد

المهم وهو انکشاف نقاط الضعف لكل التجارب البشرية والمباديء والقوانين

ص: 67


1- انظر تاریخ الغيبة الكبری ص 265.
2- المصدر ص 261.

الوضعية السابقة على الظهور ، واليأس من حل بشري جديد ، كما سبق أن أوضحناه في التاريخ السابق (1).

و إذا اجتمعت هذه الشرائط . كان تنفيذ الوعد الإهي والغرض الأهم

من الخلق ضروریاً . لاستحالة تخلف الوعاء و الغرض في الحكمة الإلهية الأزلية .

ومن هنا نعرف أن وقت الظهور . منوط باجتماع هذه الشرائط .

ومن أجل ذلك ، قد يخطر في الذهن منافات ذلك مع ما ورد في اخبار

المصادر الخاصة من نفي التوقيت و تكذيب الوقاتين .

کرواية الفضيل ، قال : سألت

أبا جعفر عليه السلام : هل لهذا الأمر

وقت؟... فقال : كذب الوقاتون

كذب الوقاتون، كذب الوقاتون .

وعن أبي عبد اللّه الصادق عليه

السلام : كذب الوقاتون وهلك

المستعجلون . ونجا المسلمون ، وإلينا

يصيرون .

وعنه عليه السلام : من وقت لك

من الناس شيئاً ، فلا تهابن أن تكذبه

فلسنا نوقت لأحد وقتاً (2).

ص: 68


1- تاریخ الغيبة الكبرى ص. 249 وغيرها .
2- الغيبة للشيخ الطوسي ص 262 ... الاخبار الثلاثة كلها .

وأخرج النعماني عن أبي بكر

الحضرمي ، قال : سمعت أبا عبد اللّه

عليه السلام يقول : أنا لا نوقت هذا

الأمر(1)

وهذه الأخبار بعدد قابل للإثبات التاريخي . وواضحة الدلالة على نفي التوقيت . فلو كان ما ذكرناه من اقتران اليوم الموعود بشر ائطه توقيتاً له . إذن يجب تكذيبه جملة وتفصيلاً .

إلا أنه من حسن الحظ بان التوقيت المنفي نيس هو ذلك بل المراد به - بوضوح - تحديد الوقت بتاريخ معين ؛ كما لو قيل - مثلاً - إن الظهور أو اليوم الموعود ، يكون في سنة النمين ميلادية أو في سنة الفين هجرية .

والقرينة على ذلك ، ما ورد

من الأخبار التي تنفي توقيتاً معيناً :

كالذي أخرجه النعماني (2) باسناده عن عمار الصيرفي قال : سمعت

أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : قد كان

لهذا الأمر (3) وقت ، وكان في سنة

ص: 69


1- الغيبة للنعماني ص 155.
2- المصدر ص 157 وكذلك الخبر الذي يليه .
3- المراد من هذا الأمر ما يشمل ظهور المهدي (ع) ولیس خاصا بذلك . وفي بعض الروايات ما هو خاص به کالذي أخرجه النعماني عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع قال قلت له : جعلت فداك متى خروج القائم عليه السلام . فقال : يا أبا محمد ، إنا أهل بيت لا نوقت .وقد قال محمد (ص) كذب الوقانون ... الحديث (غيبة النعماني ص 155 وما بعدها ).

أربعين ومأة ، فحدثتم به وأدعتموه ،

فأخره اللّه عز وجل .

وعن أبي حمزة الثمالي قال سمعت

أبا جعفر عليه السلام يقول : يا ثابت

ان اللّه كان قد وقت هذا الأمر في

سنة السبعين . فلما قتل الحسين عليه

السلام اشتد غضب اللّه فأخره إلى

أربعين ومائة . فلما حدثنا كم

بذلك أذعم وكشفتم قناع الستر ، فلم

يجعل اللّه لهذا الأمر بعد ذلك عندنا

وقتاً ، يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده

أم الكتاب .

وفي هذه الأخبار الأخيرة بعض المفاهيم وبعض المناقشات ، لا مجال

للدخول فيها . ولكنها لا تضر بما نريده الآن من انها دالة على أن المراد من التوقيت تحديد الوقت بتاريخ معين ، فإن الروايات الأخص تكون قرينة على الأعم .

و هذا النحو من التوقيت فيه عدد من نقاط الضعف :

النقطة الأولى : إنه قول جزاف بدون أي دليل . كيف وقد أجمع المسلمون

على أن وقت اليوم الموعود موکول إلى علم اللّه عز وجل . مع الغموض التام

بالنسبة إلى الناس .. بلى ظاهر الرواية الأخيرة انه خفي حتى على المعصومين أنفسهم . ومن هنا يكون ذكر أي تاريخ معين جزافاً محضاً وكذباً صريحاً .

ص: 70

النقطة الثانية : أن تاريخ الظهور لو كان محدداً معروفاً ، لكان من أشد

العوامل على فشل الثورة العالمية وفناء الدولة العادلة . فإنه يكفي أن يحتمل الأعداء ظهوره في ذلك التاريخ، ولو باعتبار اعتقاد المسلمين ذلك ، فيجتمعوا

على قتله في أول أمره وقبل اتساع ملكه واستتباب أمره .

ولذا اقتضى التخطيط الإلهي ، من أجل إنجاح اليوم الموعود، أن يكون الظهور فجائياً ، مثاله مثال الساعة لا يجليها لوقتها ، كما نطقت بذلات الأخبار

و سترى مالعنصر المفاجأة من أثر فعال في نصره .

النقطة الثالثة : ان الأمة الإسلامية حين لا يكون التخطيط الإلهي قد انتج نتيجته فيها ، ولم تصبح بعد على مستوى مسؤولية اليوم الموعود ؛ فإنها تكون

مقصرة بالنسبة إلى كل حدوده و مقدماته ... و تكون هذه الحدود والمقدمات

فوق مستواها العقلي والثقافي والديني . ومن هنا لم يتورع الناس عن افشاء

التوقيت الذي كان فيما سبق . ولو أعطوا وقتاً جديداً لأفشوه أيضاً لا محالة...

ومن هنا الغي التوقيت ، كما سمعنا من هذه الأخبار .

وهذا أيضاً أحد الأسباب في تحريم تسمية الإمام المهدي عليه السلام خلال

غيبته الصغرى ، كما سمعنا في تاريخها (1) فإنهم ان عرفوا الاسم أذاعوه وإن علموا بالمكان دلوا عليه .

وهذا القصور العام في الأمة هو المشار إليه في بعض الأخبار، كقول

الإمام موسی بن جعفر عليه السلام : يا بني عقولكم تضعف عن هذا وأحلامكم تضيق عن حمله ، ولكن إن تعيشوا تدركوه (2).

ص: 71


1- انظر تاریخ الغيبة الصغری ص 277 وما بعدها .
2- رواه النعماني في غيبته ص 78 و نقلناه في تاريخ الغيبة الكبرى ص 11.

وفإن المراد بالعقول ما نسميه بالمستوى الفكري والثقافي ، والمراد بالأحلا ما نسميه بالإخلاص وقوة الإرادة وكون الأمة على مستوى المسؤولية ...

وكلاهما ضعيفان بمنطوق الرواية ، كما دين عليه البرهان ایضاً.

وليس المراد من هذه الرواية وأمثاله ما يفهمه بعض الناس . من أمتناع

التعرف على مصلحة الغيبة ، وخفاء مصلحة وجود الإمام خلالها ... بعد كل

الذي سبق أن عرضناه في كتب هذه الموسوعة مستفاداً من القرآن الكريم و السنة الشريفة نفسها .

النقطة الرابعة : ان وقت الظهر وإن كان محدداً في علم اللّه الأزلي ، ولكنه بالنسبة إلى علله وشرائطه ينبغي أن لا يفترض له وقت محدد .

فإن تحديد التاريخ يمكن أن يكون على مستويين :

المستوى الأول : علم اللّه الأزلي بالأشياء منذ القدم ، المتعلق بكل الممكنات أو المخلوقات بأسبابها ومسببابها .

المستوى الثاني : وجود المعلول بالنسبة إلى وجود علته ، فإن المعلول يحدث متى حدثت علته ، بلا دخل للزمان في ذلك أصلاً.

مثاله : إننا لو نسبنا تاريخ اكمال بناء البيت بالنسبة إلى القوى المادية والبشرية

العاملة فيه ، كان تأريخه منوطاً بتحقق هذه المكونات ، حتى ما إذا وضع البناء آخر حجر في كيان الدار ، تكون هذه الدار قد انتهت . بغض النظر

عن طول زمن البناء وقصره... فانه قابل للاختلاف حسب الظروف والطواريء والقابليات والإمكانيات .

وحيث يبرهن فلسفياً بأن علم اللّه تعالى الأزلي المتعلق بالأشياء ليس علة

ص: 72

لها ، وإنما يتعلق بها ويكشف عنها على ما هي عليه في الواقع؛ إذن ، ففي الإمكان قصر النظر على واقع الشيء بغض النظر عن تعلق ذلك العلم به ومعه

يكون المستوى الثاني للتوقيت صحيحاً. ويكون وجود الشيء منوطاً بوجود

علته و اجتماع شرائطه و مكوناته ، من دون أن يكون الزمن ملحوظاً في تحديد

حدوثه على الاطلاق ... بلي قد يكون قابلاً للزيادة والنقص ، كما قلنا .

ومن هذا التقبيل ، يوم الظهور . فإننا لو غضضنا النظر عن علم اللّه الأزلي

لم يبق لدينا أي وقت محدد له , وإنما هو منوط بحصول شرائطه و علله . فمثلاً

نقول : متى اجتمع العدد الكاني للمغزو العالمي بالعدل الكامل . من المخلصين

الممحين ، كان يوم الظهور ناجزاً ، سواء كان زمان وجودهم والفترة التي

تقتضي تحققهم طويلة جداً أو قصيرة.

وهذا دليل آخر على أن التوقيت بمعنى تحديد التاريخ المعين جزاف محض.

وهذا هو مرادنا من التوقيت الذي بر هنا عليه . وهو توقيت اجمالی بخلق من التحديد بالزمان تماماً . فلا يكون قولاًجزفاً ولا وجب التكذيب . كما

لا يكون تحديده الإجمالي خطراً على الإمام المهدي وموجباً لفشل مهمته بعد الظهور .

هذا تمام الحديث في توقيت الظهور باعتبار شرائطه .

وأما توقيت الظهور باعتبار علاماته . فقد سبق أن عرفنا في التاريخ السابق

جملة من العلامات ، وفحصنا ادلتها ودققنا في معانيها ... ولنا موقف آخر

معها في الباب الثاني الآتي من هذا التاريخ .

والمهم هنا هو أن نعرف أن العلامات على قسمين :

القسم الأول : علامات واردة في الأخبار . لا على أن تقع قبل الظهور

بزمن قليل بل على ان تقع قبله ، ولو بزمان بعيد و أمد طويل .

ص: 73

وقد عرفنا في التاريخ السابق أن أغلب هذه العلامات قد تحققت وصدقت

بها الأخبار . إلا أنها في واقعها لا تحتوي على أي توقيت بالنسبة إلى الظهور .

وإنما لها فوائد أخرى . أهمها : أن الخبر الوارد إذا قرن وقوع الحادثة بالظهور

وانها واقعة قبله في الحملة . ثم رأينا الحادثة قد حدثت ، فنعرف أن الخبر صادق في إخباره عن الحادثة ومن ثم فهو صادق بإخباره عن حصول الظهور

ولو في مستقبل الدهر . وبهذا تكون هذه الحادثة علامة على الظهور .

القسم الثاني : من العلامات ما صرحت الأخبار بقرب حصوله من زمن الظهور .

وقد قلنا في التاريخ السابق (1) ان هذا النحو من العلامات وإن لم يكن

له ارتباط سببي بيوم الظهور ، إلا أنه مما جعله اللّه تعالى تنبيهاً خاصة أوليائه

المخلصين الممحصين علامة على قرب الظهور ، ليكونوا على الاستعداد التام

من الناحية النفسية والعقائدية لاستقبال إمامهم وقائدهم ، وتلقي مهامهم ومسؤولياتهم عنه .

بل إن التهيؤ النفسي غير خاص بالممحصين ، بل شامل لكل مسلم

مسبوق بوجود هذه العلامات ، وخاصة بعد تحققها والتأكد من صدق الإخبار

السابق عنها . غير أن تهيؤ الأفراد لاستقبال الظهور يختلف باختلاف درجة

ثقافتهم وايمانهم ووعيهم ، ويكون أحسن أشكال التهيؤ صادراً- بطبيعة

الحال - من المخلصين الممحصين . وسيكون لهذه الفكرة نتائجها في مستقبل هذا البحث .

وهذا القسم من العلامات يتضمن التوقيت بوضوح ، ويشير إلى قرب

حصول الظهور ومن هنا أمكن التهيؤ لاستقباله .

ص: 74


1- انظر تاريخ الغيبة الكبری ص 530 .

إلا أنه قد يخطر في الذهن سؤالان حول ذلك :

السؤال الأول : إن هذه العلامات كما تنبه المخلصين الذين يعدون أنفسهم

للفداء بين يدي المهدي عليه السلام : كذلك تكون منبهة لاعداء المهدي (ع)، فيعدون أنفسهم للقضاء عليه وطمس حركته ، في أول حدوثها .

وهذا سؤال أثرناه في التاريخ السابق . وأجبنا عنه مفصلاً (1). ومجمل

الفكرة : أن الأعداء سوف لن يلتفتوا إلى حصول هذه العلامات ، ولو التفتوا

فإنهم لن يعلموا أنها من قبيل العلامات إلى ظهور المهدي (ع). ولو علموا فإنهم لن يستطيعوا التألب عليه ، لأنه يظهر في زمان غير مناسب لذلك ، على ما سترى في فصل قاده .

ولو فرض أنهم التفتوا و تأ لبوا ، فلا يكون ذلك مجدياً أيضاً ، لما سنعرفه في مستقبل البحث من أن المهدي عليه السلام ، لن يعلن عن أهدافه الكاملة

الأول وهلة ، ومن هنا فلن تلتفت الدول إلى خطر المباشر عليها ، إلا بعد

أن تقوي شوكته و يتسع سلطانه . إذن ، فلو كانوا قد تأتبوا فإنهم سوف لن يستعملوه ضده إلا بعد فوات الأوان .

السؤال الثاني : إن التوقيت بهذه العلامات، منا من الأخبار النافية للتوقيتوالآمرة بتكذيب الوقاتين .

والجواب على ذلك ، يكون على مستويين :

المستوى الأول : أن ننظر إلى الزمان السابق على وقوع هذه العلامات

کز ماننا هذا ... ونقول : بأن هذه العلامات لو وقعت لدلت على قرب

ص: 75


1- المصدر السابق ص 32.

الظهور . وهذه قضية صادقة لا تشتمل على التوقيت المنهي عنه على الإطلاق

وإنما هي توقيت إجمالي ، كالذي قلناه في شرائط الظهور تماماً من أنها : لو

حصلت لظهر المهدي (ع) . فإن عدم الإطلاع على زمان وقوع هذه العلامات

مستلزم بطبيعة الحال لجهالة زمان الظهور و عدم تحديده ، ذلك التحديد المنفي

في الأخبار .

المستوى الثاني : أن ننظر إلى الزمان المنتخلل بين وقوع هذه العلامات وبين

الظهور فإن كل فرد يشاهد إحدى العلامات القريبة ، من حقه أن يقول :

أن المهدي (ع) سيظهر بعد قليل . و يمكن أن نفهم هذا القول على شكلین :

الشكل الأول : إن هذا القول لا يحتوي على تحديد معين للوقت ، باعتبار

أنه يبقی مردداً بين اليوم والأيام ، بل بين العام والأعوام . فإن تخلل عشرة

أعوام مابين ظهور العلامة القريبة وظهور المهدي عليه السلام ، غير ضائر

بكونها قريبة ، لضآلة هذه الأعوام العشرة تجاه الزمان الطويل السابق عليها

ومعه فلا تكون تحديداً . ولا تندرج في الأخبار النافية للتحديد .

الشكل الثاني :ان نتنزل عما قلناه في الشكل الأول ، ونقول : إن هذا

القول ، أعني : أن المهدي سيظهر بعد قليل ... يتضمن التحديد والتوقيت

إذن ، فلا بد من الإلتزام بأن الأخبار الدالة على وقوع العلامات القريبة مخصصة

الأخبار التكذيب وخارجة عن مدلولها . وتكون النتيجة :ان كل تحديد

لتاريخ يوم الظهور کذب و واجب الرفض إلا إذا كان مستنداً إلى حدوث

علامة من العلامات القريبة ، فإنه يكون صادقاً وجائز التلقي بالقبول .

ولأجل ذلك - في الحقيقة - وضعت هذه العلامات ، وهو تأكد المخلصين

ص: 76

الممحصين من قرب الظهور . ومعه فمن غير المحتمل بقاء التحديد كاذباً

ومحرماً إلى ذلك الحين . كما أنه ليس جزافاً من القول بعد استناده إلى العلامة

التي سمع الفرد بوقوعها في الأخبار ، وقد رآها متحققة في عالم الوجود.

مع العلم ، أن هذه العلامات لا تدل على أكثر من اقتراب اليوم الموعود

وأما تحديده باليوم والشهر ونحوه ، فيبقى سراً في علم اللّه تعالى ، حتى يتحقق

الظهور.

ص: 77

الفصل الرابع : في الأيديولوجية العامة التي يتبناها المهدي (ع)

تجاه الكون والحياة والتشريع

والذي نريد التعرف عليه في هذا الصدد ، ليس هو الاطلاع الكامل على

العمق الحقيقي للوعي الذي ينشره الإمام المهدي في المجتمع ، ولا تفاصيل

الأسس العامة التي تبتني عليها الإيديواوجية يومذاك . فإن ذلك مما يتعذر

الإطلاع عليه قبل يوم الظهور ، كما ذكرنا في التمهيد .

وإنما الذي تثير التساؤل عنه وتحاول التعرف عليه الآن ، هو بعض العناوين

العامة التي يتصور اتجاه الإيديولوجية المهدوية نحوها أو التي قد يخطر في الذهن ذلك منها . ومعه يكون التساؤل مثاراً عن أمور أربعة :

الأمر الأول : الدين الذي يعتنقه المهدي عليه السلام ، ويعلنه في العالم .

الأمر الثاني : المذهب الذي يتخذه عليه السلام .

الأمر الثالث : التساؤل عما إذا كان يتبني بعض المفاهيم المحددة الضيقة

کالعنصرية والقومية والوطنية ونحوها .

الأمر الرابع : اتساؤل عما إذا كان نظامه مشابهاً في المفهوم أو المدلول

مع الأنظمة السابقة على الظهور ، کالرأسمالية و الإشتراكية ، أو لا؟

ص: 78

ونتكلم عن كل من هذه التساؤلات الأربعة ، في ضمن جهة من الكلام

الجهة الأولى : في الدين

الذي يتبناه الإمام المهدي عليه السلام ، ويحكم العالم على أساسه .

وهو دين الإسلام بصفته الأطروحة الكاملة التي تحقق العبادةالحقيقية المستهدفةمن خلق البشرية أساساً ، كما سبق أن عرفنا .

ويتم الإستدلال على ذلك بعدة أساليب ، نذكر منها ما يلي :

الأسلوب الأول : أن نستعرض بعض الظواهر المهمة لنتائج العدل السائد

في دولة المهدي ... فإذا عطفنا على ذلك انحصار العدل الكامل بالإسلام ،

استطعنا أن نستنتج أن النظام الذي يسير عليه المهدي (ع) والدين الذي

يعتنقه هو الإسلام ، إذن ، فهذا الأسلوب متوقف على مقدمتين :

المقدمة الأولى : استعراض بعض الظواهر المهمة والنتائج العظيمة للعدل

السائد في دولة المهدي العالمية .

وهذا بتفاصيله موکول إلى الباب الثالث من القسم الثاني من هذا التاريخ وإنما نقتصر في المقام على ذكر بعض الأمثلة .

فمن ذلك ما أخرجه ابن ماجة (1) عن أبي سعيد الحدري : أن النبي ( ص) قال : يكون في أمتي المهدي ... فتنعم فيه أمني نعمة لم ينعموا

مثلها قط . تؤتي أكلها ولا تدخر منهم شيئاً .والمال يومئذ کدوس . فيقوم

الرجل فيقول : يا مهدي اعطني فيقول : خذ.

ص: 79


1- انظر السنن ج 2 ص 1367

وما يرويه البخاري (1)عن أبي هريرة : أن رسول اللّه (ص) قال،

- في حديث - : ومتى يكثر فيكم

المال فيفيض . حتي یهم رب المال من

يقبل صدقته . ومتى يعرضه فيقول

الذي يعرض عليه لا أرب لی به .

وقد بر هنا في التاريخ السابق (2) بانحصار حدوث هذه ألكثرة من المال في دولة المهدي (ع ) دون ما قبلها . مضافاً إن دلالة هذه الأخبار المروية هنا .

وما أخرجه مسلم في صحيحه (3)

عن أبي سعيد وجابر بن عبد اللّه . قالا :

قال رسول اللّه (ص) : يكون في

آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا یعده .

وما أخرجه الشيخ المفيد في الإرشاد(4)

عن المفضل بن عمر قال :

سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول : ان

قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور

ربها . إلى أن قال : وتظهر الأرض من

كنوزها حتى يراها الأرض على وجهها .

ص: 80


1- انظر صحيح ج 9. ص 74.
2- انظر تاریخ الغيبة الکبری ص 331 و ص335 .
3- ج8 ص 185
4- انظر ص 342.

ويطلب الرجل منكم من يصله بماله

ويأخذ منه زكاته ، فلا يجد أحداً يقبل

منه ذلك . واستغنى الناس بما رزقهم

اللّه من فضله .

ومثل ذلك ما ورد في كتب

العهدين في وصف دولة العدل المنتظرة،

كقوله (1): وتنفتح أبوابك دائماً(2) نهاراً وليلا لا تغلق ، ليؤتى إليك بغي

الأمم وتقاد ملكهم ، لأن الأمة والمملكة

التي لا تخدمك تبيد ، و خراباً تخرب الأمم.

وكقوله : بل يقضي بالعدل

للمساكين ، ويحكم بالإنصاف لبائسي

الأرض ، ويضرب الأرض بقضيب

فمه ، ويميت المنافق بنفخة

شفتيه... فيسكن الذئب مع الحروف

ويربض النمر مع الحدي ... والبقر

والدبة ترعیان ، تربض أولادهما معاً ،

ص: 81


1- أشعيا : 13/60
2- مرجع ضمير المؤنث المخاطب هو (أورشليم ) عاصمة بني اسرائيل في نظر اليهود . ولكننا سنبر هن في الكتاب القادم على انحصار صحة هذه النبوءات بدولة المهدي (ع). وانما ذكرت أورشليم باعتبارها العاصمة الدينية المهمة في نظر اليهود. فان انتقلت الأممية إلى غيرها انتقلت النبوءات أيضا ، لأنهاتتبع الدين الحق حيث يكون .

والأسد کالبقر يأكل تبناً . ويلعب

الرضيع على سر ب الصل ، ويمد الفطيم

يده على جحر الأفعوان ، لا يسوءون

ولا يفسدون . في كل جبل قدسي .لأن

الأرض تمتلىء من معرفة الرب (1).

إلى غير ذلك من النصوص في كتب العهدين. ولكل من هذه النصوص

تحليله وتفسيره الذي سيأتي في مستقبل البحث ... وإنما المراد الإلمام في الجملة

بحالة السعادة والرفاه التي يعيشها شعب المهدي (ع) - وهو كل البشرية - في دولته و تحت نظامه.

المقدمة الثانية : إنحصار العدل الكامل في الإسلام .

وهذا يحتاج إلى بحث عقائدي لسنا الآن بصدده . وإنما نشير الآن

إلى خلاصة نتائجه : وهي أننا بعد أن علمنا أن الإسلام هو آخر الشرائع

السماوية ، وأن العقل البشري قاصر عن إيجاد العدل الكامل في العالم . وان اللّه

تعالى وعد في كتابه الكريم بتطبيق العدل الكامل والعبادة المحضة على وجه

الأرض ، بل كان هذا هو الغرض الأساسي للخلق . إذن فينحصر أن يكون

هذا العدل المشار إليه هو الإسلام لعدم إمكان حصوله من العقل البشري و عدم

إمكان نزول شريعة أخرى بعد الإسلام .

وإذا تم الأسلوب الأول ، بكلا مقدمتيه ، عرفنا أن كل ما ذكر من

أنحاء و أنواع السعادة والرفاه الموجود في دولة المهدي (ع ). دولة الحق والعدل

المنتظرة ، هو في الحقيقة نتيجة لتطبيق مفاهيم وقوانين الإسلام فيها .

ص: 82


1- أشعیا804/11

اذن . فقد تبرهن : أن الدين الذي يعتنق والقانون الذي يتخذ في تلك

الدولة هو الإسلام ، بقيادة القائد العظيم الإمام المهدي عليه السلام .

الأسلوب الثاني : أن نستعرض نصوص الأخبار الدالة على أن الإمام المهدي (ع) یطبق الإسلام بالخصوص . وهي على عدة أقسام :

القسم الأول ، الأخبار الدالة على أن المهدي من النبي (ص) و من عترته

ومن أمته و من أهل البيت . وإذا كان المهدي منصفاً بهذه الصفات ، فهو على دين الإسلام بالضرورة .

أخرج أبو داود (1)، ونعيم بن

حماد والحاكم عن أبي سعيد ، قال :

قال رسول اللّه (ص ) : المهدي مني...

الحديث .

وأخرج أحمد والباوردي في

المعرفة وأبو نعيم عن أبي سعيد ، قال :

قال رسول اللّه (ص ) : أبشركم بالمهدي

رجل من قريش من عترتي.. الحديث.

وأخرج أبو داود وابن ماجة

والطبراني والحاكم عن أم سلمة :

سمعت رسول اللّه (ص ) يقول :

المهدي من عترتي من ولد فاطمة .

ص: 83


1- انظر الحاوي للفتاوي للسيوطي ج3ص 134 . وكذلك الأخبار الأربعةالتي تليه.

وأخرج أبو نعيم عن أبي سعيد عن

النبي (ص) ، قال : المهدي منا أهل

البيت، رجل من أمتي... الحديث.

وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وابن

ماجة ونعيم بن حماد في الفتن عن علي

قال : قال رسول اللّه (ص ) : المهدي

منا أهل البيت ... الحديث.

وأخرج (1)ابن أبي شيبة والطبراني

والدارقطني في الأفراد وأبو نعيم والحاكم

عن ابن مسعود ، قال : قال رسول اللّه

(ص ) : لا تذهب الدنيا حتى يبعث

اللّه تعالی رجلا من أهل بيتي ... الحديث.

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود

عن النبي (ص) قال : لو لم يبق من

الدنيا إلا ليلة لملك فيها رجل من

أهل بيتي.

إلى غير ذلك من الأخبار ، ودلالتها على المطلوب أوضح من أن تخفي .

القسم الثاني : الأخبار الدالة على أن المهدي (ع) يحكم الأمة الإسلامية

على الأخص . وهو حين يحكمها بصفتها الإسلامية، فسوف لن يكون حكمه إلا بالإسلام .

ص: 84


1- المصدر ص 125 وكذلك الخبر الذي يليه .

أخرج الترمذي (1)وحسنه ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص)

قال : أن في أمتي المهدي يخرج الحديث.

أقول : يخرج فيها يعي يحكمها .

وأخرج نعیم بن حماد وابن ماجة

عن أبي سعيد ، أن النبي (ص) قال :

يكون في أمتي المهدي ... الحديث .

وأخرج (2)أحمد ومسلم عن

جابر ، قال : قال رسول اللّه (ص)

يكون في آخر أمتي خليفة ...الحديث.

القسم الثالث : الأخبار الدالة على تطبيق المهدي (ع ) للإسلام وسنة النبي ( ص ).

أخرج الطبراني في الأوسط (3)

وأبو نعيم عن أبي سعيد الخدري :

سمعت رسول اللّه (ص)يقول :

يخرج رجل من أهل بيتي يقول بسني ...

الحديث .

وأخرج - يعني نعيم بن حاد(4) -

ص: 85


1- المصدر ص126 وكذلك الخبر الذي يليه .
2- المصدر ص 131 .
3- المصدر و الصفحة
4- المصدر ص 148 .

عن علي عن النبي (ص) ، قال :

المهدي رجل من عترتي يقاتل على

سنتي ، كما قاتلت أنا على الوحي .

وأخرج ابن حجر في الصواعق (1)

قال : وصح أنه صلى اللّه عليه وسلم

قال : يكون اختلاف عند موت خليفة...

إلى أن قال : ويعمل في الناس بسنة

نبيهم (ص) ويلقي الإسلام بجرانه

على الأرض .

وروى الشيخ الطوسي في الغيبة (2)

عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في

حديث عن القائم (ع) ، قال : ويقتل

الناس حتى لا يبقى إلا دين محمد

(ص).... الحديث .

وأخرج أبو يعلى(3) عن أبي

هريرة قال : حدثي خليلي أبو القاسم

(ص) قال : لا تقوم الساعة حتى

يخرج عليهم رجل من أهل بيتي ،

فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق ...

ص: 86


1- انظر ص 98
2- انظر ص 283 .
3- الحاوي للفتاوي ص 131 .

الحديث . أقول : الحق في نظر

رسول اللّه (ص) هو الإسلام .

وروى الشيخ المفيد في الإرشاد (1)عن المفضل بن عمر الجعفي ، قال :

سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد

عليهما السلام يقول : اذا أذن اللّه

تعالى القائم في الخروج صعد المنبر

فدعا الناس إلى نفسه وناشدهم باللّه

ودعاهم إلى حقه ، وان يسير فيهم

بسنة رسول اللّه (ص) ويعمل فيهم

بعمله ... الحديث .

القسم الرابع : من الأخبار، ما دل على أن المهدي عليه السلام يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

وهي أخبار متواترة مروية عن النبي ( ص) وقادة الإسلام الأوائل .

وهم يرون أن القسط والعدل هو الإسلام ليس إلا . فيكون المعنى اعتناق وتطبيق الإمام المهدي عليه السلام للإسلام عقيدة ونظاماً .

وقد أحصى الصافي في منتخب الأثر (2)لهذه العبارة الكريمة مائة و تسعة وعشرون حديثاً ، وقد روتها المصادر العامة بكثرة بما فيها الصحاح كأبي داود

ص: 87


1- انظر ص 342 وما بعدها .
2- انظر ص 478.

وابن ماجة والترمذي إلى مصادر أخرى كثيرة ذكر ناها في التاريخ السابق (1) مضافاً إلى مصادر علماء الإمامية ومصنفيهم فإنها أكثر من أن تحصى .

وسيأتي في القسم الثاني من هذا الكتاب ما يزيد هذه الأخبار بأقسامها الأربعة وضوحاً.

و هذان الأسلوبان من الإستا لال على حقيقة الدين الذي يتخذه المهدي

(ع) ثابتان بغض النظر عن الدليل القائم على أساس التخطيط الإلهي والقائل

بأن الأطروحة العادلة الكاملة المطبقة في اليوم الموعود في دولة المهدي (ع)

هي الإسلام . وتصلح نتيجة هذين الأسلوبين للإستدلال على هذه الحقيقة .

بأن نقول :

إن المهدي (ع) بطبق الأطروحة العادلة الكاملة في دولته العالمية ، كما

ثبت في التخطيط العام وهو يعتنق ويطبق الإسلام ، كما ثبت بهذين الأسلوبين

الأخيرين ... إذن فالإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة .

وكذلك يصح الإستدلال بالعكس ، بأن نغض النظر عن هذين الأسلوبين

ونتساءل من جديد عن حقيقة الدين الذي يعتنقه المهدي (ع) فنقول : ان

المهدي يطبق الأطروحة العادلة الكاملة في دو لته ، كما ثبت في التخطيط

العام . والإسلام هو الأطروحة العادية الكاملة ، كما استدللنا في التاريخ

السابق (2) وسيأتي الحديث عن ذلك في الكتاب الآتي أيضاً. . . إذن، يثبت أن الدين

الذي يعتنقه المهدي (ع) ويطبقه هو الإسلام . إذ لا يحتمل أنه يطبق الإسلام

وليس بمسلم ... فإن التطبيق الإسلامي سوف لن يكون تاماً و عادلاً إلا إذا

ص: 88


1- تاريخ الغيبة الكبرى ص 281 وما بعدها .
2- انظر ص 261 منه .

كان الرئيس الأعلى مسلماً ، كما ثبت في الفقه الإسلامي . ويصلح أن يكون

هذا أسلوباً ثالثاً إلى جنب الأسلوبين السابقين .

إذن ، فهذان الحقيقتان ، وهما :

ا- ان دين المهدي (ع) هو الإسلام .

2 - إن الإسلام هو الأطروحة العادلة الكاملة يمكن الإستدلال بإحداهما على الأخرى ، بعد أخذ احداهما مسلمة والأخرى محلاً للاستدلال . وكلاهما مدعمان بأدلة أخرى غير هذا .

وإذا تبرهن على أن المهدي (ع) یطبق الإسلام في اليوم الموعود ،

باعتباره النظام الذي يتكفل العادل الكامل ... فإنه يترتب على ذلك عدة

نتائج فيما إذا قورنت دولته بالدول الحاضرة . وهذا ما سيأتي في القسم الثاني

من الكتاب ، ونذكر الآن بعضها على سبيل المثال .

منها : توحيد المعتقد الديني في العالم بدين الإسلام . طبقاً لقوله تعالى :

« وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (1)على

أساس أن هذا الدين هو الذي ينظم العالم ويحل مشاكله ويحقق له العدل الكامل .

ويأتي هذا التوحيد تحت ظروف معينة يبيؤهما القائد المهدي، نشير إليها في

مستقبل البحث .

ومنها : أن العالم سوف يحكم بأطروحة قانونية واحدة ، لا يحق فيها

التجزئة ولا يجوز عليها الخروج .

ص: 89


1- آل عمران : 85/3

ومنها : اتحاد السياسة والدين في سير التطبيق والتاريخ . كما كان عليه الحال في زمن النبي ( ص ) والخلافة الأولى . وإنهاء فكرة : فصل الدين عن

الدولة .

ومنها : ابتناء الحكم ، وابتناء التكامل الفردي والإجتماعي على الأساس

الإلهي . ويتم القضاء تماماً على أي الجاه مادي في العالم مهما كان نوعه .

ومنها : إنهاء فكرة : حق تقرير المصير . فإن مصير البشر قد تقرر

من الأعلى ، من التخطيط الإلهي العام ... ولن يكون منبثقاً من البشر أو

ناتجاً عن آرائهم الناقصة .

إلى غير ذلك من النتائج ، التي سيأتي التعرض لأسبابها ونتائجها مفصلاً .

الجهة الثانية : المذهب

الذي يتخذه المهدي (ع) من مذاهب الإسلام.

يمكن أن يراد من المذهب أحد معنيين :

المعنى الأول : أن يراد بالمذهب مجموع الأفكار المتبناة من العقائد و الفقه

السائد... بحيث يكون كلام شيوخ المذهب و علمائه دخيلاً في بلورته وصقل

فكرته .

المعنى الثاني : أن يراد بالمذهب العقائد الرئيسية التي تشكل حجر

الزاوية فيه والأساس الرئيسي له ... كالقول بالعدل والإمامة اللذين كانا

محل الخلاف بين الإمامية وغيرهم من المسلمين .

فإن أردنا المعنى الأول من المذهب ، فينبغي لنا أن نجزم بأن المهدي (ع)

سيغایر تفاصيل تشريعه كل مذاهب المسلمين الموجودة قبل ظهوره ،

ولايحتمل فيه أن يكون منسوباً إلى أي من المذاهب السائدة . لأن الكثير من

ص: 90

أفكار كل مذهب . ناتج عن أفكار مفکريه و استنتاجات علمائه ، وهي - على

أي حال - قابلة للخطأ والصواب ، ما لم تكن من ضروريات الدين أو واضحات

العقل .

و المهدي عليه السلام سيطبق عند ظهوره الإسلام الواقعي كما جاء به النبي

( ص) سواء وافق الأحكام المعروفة للمذاهب أو خالفها . وسيأتي بقوانین

إسلامية جديدة لتنظيم العالم ، ليجعله كله على عتبة الرقي والتكامل .

ولذا صرح عدد من علماء العامة ومفكريهم في مناسبات مختلفة ، بعدم

انطباق أحكام المهدي مع شيء من المذاهب الأربعة ، ولا غيرها .

قال ابن عربي في الفتوحات المكية (1) في كلامه عن المهدي : به يرفع

المذاهب من الأرض فلا يبقى إلا الدين الخالص . أعداؤه مقلدة العلماء أهل

الإجتهاد لما يرونه من الحكم بخلاف ما ذهبت إليه أثمنهم ...

وقال السيوطي(2) عن الحكم الذي يمارسه عیسی بن مريم عليه السلام وهو العضد الأيمن للمهدي (ع). كما سنعرف - ، في دولة الحق ، قال : وإذا

قلتم أنه يحكم بشرع نبينا ، فكيف طريق حكمه به أبمذهب من المذاهب

الأربعة المقررة ، أو باجتهاد منه ؟!. هذا السؤال عجب من سائله !!!

و أشد عجباً منه قوله فيه : بمذهب من المذاهب الأربعة !!. فهل خطر ببال

السائل : أن المذاهب في الملة الشريفة منحصرة في أربعة ، والمجتهدون من

الأمة لا يحصون كثرة ... فلأي شيء خصص السائل المذاهب الأربعة :

ثم كيف يظن بنبي أنه يقلد مذهباً من المذاهب ، والعلماء يقولون :

ص: 91


1- ج3 ص 327.
2- انظر الحاوي للفتاوي ، سيو في ج2 ص 280

إن المجتهد لا يقلد مجتهداً، فإذا كان المجتهد من آحاد الأمة لا يقلد ، فكيف

يظن بالنبي أنه يقلد .

إلى غير ذلك من الكلمات التي لا حاجة إلى استقصائها .

وأما موقف الإمامية من ذلك ، فواضح . فإنهم يعتبرون المهدي عليه

السلام ، مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي ، بصفته الإمام الثاني عشر من

أئمتهم عليهم السلام . فمن غير المحتمل لديهم رجوعه في التشريع أو غيره

إلى أحد علمائهم أو إلى أكثر بل هو يستقل ببيان التشريع الإسلامي ، ويكون

واجب الطاعة في ظهوره، كما كان واجب الطاعة في غيبته .

وأما إذا أردنا بالمذهب، ما يعود إلى المقومات الرئيسية للعقيدة كالإعتقاد

بالعدل والإمامة وعدمه ...

فالملاحظ بالنسبة إلى المهدي (ع) سکوت الأخبار الواردة في مصادر العامة و الجماعة عن مذهبه ، سكوتاً تاماً، في حدود اطلاعنا . فلو أردنا الجواب

على مثل هذا السؤال وهو : هل المهدي من أهل السنة ، يؤمن بأصولهم

الإعتقادية ، أو بالأهم منها على الأقل ... كان ذلك متعذراً عن طريق

الأخبار .

من هنا سكتت كلمات محققيهم عن التعرض لذلك ... واكتفوا بالقول

بأنه يطبق الدين الحقيقي : من دون أي اشارة إلى أنه ممن يوافقهم في المذهب

أولاً .

نعم ، من يرى منهم بأن المهدي (ع) يعمل بفقه أحد المذاهب الأربعة

بری – بطبيعة الحال أنه ملتزم عقائدياً بما يعتقدونه. غير أن محققيهم اعترضوا

على هذا القول واستنكروه ، كما سمعنا .

إذن ، فلم يتم الإثبات التاريخي الكافي لذلك .

ص: 92

نعم ، تبقى هناك فكرتان :

احداهما أشمل من الأخرى ، لا بد من عرضهما في هذا الصدد :

الفكرة الأولى : فيما تقتضيه القواعد العامة ، من تعيين مذهبه على وجه

الاجمال . من المسلّم به بين المسلمين كون أحد المذاهب الموجودة من بين

مذاهبهم حقاً . وأن المذاهب الأخرى باطلة غير مطابقة للعقائد الإسلامية

الصحيحة . وسبق أن قلنا أن أصحاب الإمام المهدي (ع) الممحصين في

عصر الغيبة ، إنما يكونون من ذلدى المذهب أياً كان - دون غيره ، ليتم تمحيصهم

على الحق وإخلاصهم له ، لا على غيره ، كما هو واضح .

ومعه فلا بد من الإلتزام بأن مذهب المهدي (ع ) هو ذلك المذهب الحق

الذي يختار له اللّه تعالى عليه أصحابه . ولا يحتمل أن يكون مخالفاً لهم في المذهب

لأنه يلزم منه أن لا يكون أحدهما على الحق ... وهو باطل بالضرورة .

وأما تعيين هذا المذهب الحق ، وتسميته من دون المذاهب الأخرى ...

فهذا راجع إلى وجدان كل مسلم ، وما قام الدليل عنده من صحة أي مذهب

من المذاهب . وستكون الفكرة الأولى لدى الفرد المسلم أن يقول : إن المذهب

الحق هو مذهبي ، والدليل على صحته قائم عندي ، إذن فالمهدي يكون

عليه . هكذا يقول أهل كل مذهب ... ويبقى مذهب المهدي - بعد ذلك - مجملاً .

وقد لا يكون هذا ضائراً ، فإن التعرف الإجمالي على مذهبه . بالشكل

الذي قلناه ، كاف على المستوى الذي يقنع سائر المسلمين . ويكون البحث فيه إسلامياً عاماً غير طائفي . ويكون المهدي - في ذاته - مختاراً في تطبيق

المذهب الذي يريده على العالم .

ص: 93

الفكرة الثانية : وهي أخص من سابقتها ، فانه يمكن القول : بأن المهدي (ع ) على المذهب الإمامي الاثني عشري . و ذلك : باعتبارالقرائن و المرجحات

التالية :

المرجع الأول : ما ورد من أن المهدي (ع) من أهل البيت ومن العترة

وقد سمعنا عدداً من هذه الأخبار فيما سبق . ومنها ما هو موجود في الصحاح السنة . التي سنقتصر على النقل عنها :

أخرج أبو داود (1). وابن ماجة(2)

عن أم سلمة ، قالت : سمعت رسول

اللّه (ص) يقول : المهدي من عترتي

من ولد فاطمة .

وأخرج أبو داود أيضاً (3)

قوله(ص ) : لو لم يبق من الدهر إلا يوم

لبعث اللّه رجلا من أهل بيتي ... الحديث

وأخرج ابن ماجة (4) قوله (ص) : المهدي منا أهل البيت ... الحديث.

وأخرج الترمذي (5) قوله (ص)

ص: 94


1- انظرالسنن ج2 ص 422
2- انظر السن ج 2 ص 1368.
3- أنظر ج2 ص 422.
4- انظر السنن ج 2 ص 1367 .
5- انظر الجامع الصحیح ج3 ص 343

لا تذهب الدنيا حي يملك العرب رجل

من أهل بيتي .

إلى غير ذلك من الأخبار .

و إن أخص موارد انطباق مفهومي العترة وأهل البيت هم : بنت النبي

(ص) الزهراء و زوجها وولداها ، وقد يشمل سلمان الفارسي رضوان

اللّه عليه الذي ورد في شأنه قول النبي ( ص) : سلمان منا أهل البيت(1) . فليكن الإمام المهدي (ع) على مذهبهم ، وليس هو غامضاً ولا مجملاً في

التاريخ .

المرجح الثاني : ما ورد من الأخبار في مصادر العامة من أن الأئمة اثنا

عشر بعد النبي ( ص) ... أما بالنص على أن المهدي (ع) هو آخر هم

أو بدون ذلك . فإنها إنما تنطبق على الاتجاه الإمامي في فهم الإسلام بالتعيين ،

دون غيره . ومعه ، يتعين الإلتزام بأن مذهب المهدي (ع) موافق لهذا

الانجاه .

أخرج البخاري (2) عن جابر بن

سمرة ، قال سمعت النبي (ص) يقول :

يكون اثنا عشر أميراً. فقال كلمة لم

أسمعها . فقال أبي : إنه قال : كلهم

من قريش ، وأخرج مسلم (3) نحوه ،

وذكر له أسناد عديدة إلى جابر بن سمرة.

ص: 95


1- انظر اسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثیر. ج 2 ص 331 . ذكر له اكثر من رواية .
2- انظر الجامع الصحيح ج 9 ص 101 .
3- انظر صحيح مسلم ج 6 ص 3-4.

و أخرج الترمذي (1) عن جابر

ابن سمرة ، قال : قال رسول اللّه (ص) :

يكون من بعدي اثنا عشر أميراً . قال :

ثم تكلم بشيء لم أفهمه . فسألت

الذي يليني ، فقال : قال : كلهم

من قريش . ثم قال الترمذي : هذا

حديث حسن ، وقد روي من غير

وجه عن جابر بن سمرة .

وأما ما رواه أحمد وغيره في

خارج الصحاح . فكثير .

وإذا تعين صحة الإتجاه الإمامي .. هذه الأخبار . ثبت كون المهدي

هو الثاني عشر من هؤلاء الأمراء الذين يشير إليهم النبي (ص). وهو المطلوب.

و هناك من الأخبار ما يشير إلى ذلك بالصراحة ، مما رواه علماء العامة أنفسهم ،

كالذي أخرجه القندوزي في

ينابيع المودة (2) نقلا عن فرائد السمطين

اللحمويي بسنده عن مجاهد عن ابن

عباس ، قال : قدم بهودي يقال له :

نعثل فقال : يا محمد أسألك عن أشياء

ص: 96


1- انظر الجامع الصحیح ج3 ص 240.
2- انظر ص 529 ط النجف و ص 369 ط الهند عام 1311ه.

تلجلج في صدري منذ حين ... إلى

أن يقول : فما من نبي إلا وله وصي،

وأن نبينا موسى بن عمران أوصى

یوشع بن نون ، فقال : ان وصي

علي بن أبي طالب ، وبعده سبطاي

الحسن والحسين . تتلوه تسعة أئمة من

صلب الحسين . قال : يا محمد فسمهم

لي : قال : إذا مضى الحسين فابنه

على ، فاذا مضى على فابنه محمد. فاذا

مضى محمد فابنه جعفر ، فاذا مضى

جعفر فابنه موسی . فاذا مضى موسى

فابنه علي . فاذا مضى علي فابنه محمد ،

فاذا مضى محمد فابنه علي . فاذا مضى

علي فابنه الحسن ، فاذا مضى الحسن

فابنه الحجة محمد المهدي . فهؤلاء

اثنا عشر .

وهذه النتيجة ، وهي صحة الإتجاه الإمامي في فهم المهدي (ع) ، ومن

ثم القول : بأن المهدي إمامي المذهب و انه أحد الأئمة الاثني عشر ... هذه

النتيجة لازمة لكل من يقول من علماء العامة : بأن المهدي هو محمد بن الحسن

العسكري ، كابن عربي في الفتوحات المكية على ما نقل عنه في أسعاف الراغبين (1)، إذ نسمعه يقول :

ص: 97


1- انظر ص 142

وهو من عترة رسول اللّه ( ص ) ومن ولد فاطمة رضي اللّه تعالى

عنها . جده الحسين بن علي بن أبي طالب . ووالده الإمام حسن العسكري

ابن الإمام علي النقي بالنون ابن الإمام محمد ( التقي بالتاء ابن الإمام علي ) (1) الرضا ابن الإمام موسى الكاضم ابن الإمام جعفرالصادق ابن الإمام محمد ( التقي بالتاء ابن الإمام علي ) الباقر ابن الإمام زين العابدين علي بن الحسين

ابن الإمام ء بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنهم. يواطيء اسمه اسم رسول اللّه ( ص ) ....».

وكذلك الشعراني في الیواقیت والجواهر (2)، إذ قال هناك : المهدي

من ولد الإمام حسن العسكري . وذكر موافقة الشيخ حسن العراقي وسيدي علي الخواص على ذلك .

وكذلك كمال الدين بن طلحة في مطالب السؤول (3) حيث قال : الباب

الثاني عشر : في أبي القاسم ابن محمد الحسن الخالص ابن علي المتوكل بن القانع بن علي

الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدین

ابن الحسين الزكي بن علي المرتضى أمير المؤمنين ابن أبي طالب . المهدي الحجة الخلف الصالح المنتظر عليهم السلام ورحمة اللّه وبركاته .

وكذلك الحافظ الكنجي في كتابه البيان (4) حيث قال : وامابقاء المهدي

عليه السلام : فقد جاء في الكتاب و السنة ... ثم شرح ذنك . إلى أن قال :

ص: 98


1- ما بين القوسين عبارة نقلت من محلها هنا إلى المحل الذي أثبتناه بين القوسين فيها يلي و هو خفاً مطیعی غريب . وهي في الأول صحيحة ، في الثاني خاطئة .
2- انظر ص 288 ط1306 و أنظر اسعا ف الراغبین ص 141
3- انظر ص 79.
4- انظر ص 109.

و اما الإمام المهدي (ع) : مذ غيبته عن الأبصار إلى يومنا هذا لم يملأ الأرض قسطاً

وعدلاً ، كما تقدمت الأخبار في ذلك ، فلا بد أن يكون ذلك مشروطاً بآخر

الزمان . فقد صارت هذه الأسباب لاستيفاء الأجل المعلوم (1). أقول :

و هذا الكلام منه واضح في اختيار الاتجاه الإمامي في فهم المهدي .

وكذلك ابن الصباغ في الفصول المهمة(2) إذ نجده يتحدث عن المهدي

مفصلاً ، وقال - فيما قال - : وأما نسبه أباً وأماً ، فهو أبو القاسم محمد

الحجة بن الحسن الخالص بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسی

الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن

علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليهم أجمعين .... وأما لقبه : فالحجة

و المهدي والخلف الصالح والقائم المنتظر وصاحب الزمان ... الخ.

وذكر الحافظ القندوزي في ينابيع المودة . عدداً من العلماء الذاهبين إلى

ذلك : منهم الشيخ صلاح الدين الصفدي في شرح الدائرة (3)و شيخ الإسلام أحمد الجامي النامقي والشيخ عطار النيشابوري و شمس الدين التبريزي و جلال

الدين الرومي والسيد نعمة اللّه الولي و السيد النسيمي (4)والشيخ عزيز بن محمد

النسفي(5)مضافاً إلى من ذكرناهم قبل قليل .

المرجح الثالث : اعتراف الأئمة المعصومين السابقين عليه به عليه وعليهم

السلام ... بل تنويههم به و الحث على إطاعته و انتظاره في عدد من الأخبار

ص: 99


1- انظر ص 111 من البيان .
2- انظر ص 310.
3- انظر ينابيع المودة ص 565، ط النجف وصی 293ط الهند .
4- المصدر ص 566، ط النجف و ص 293 ط الهند .
5- المصدر ص 569، ط النجف و ص 359 ط الهند .

تفوق حد التواتر . وقد نقل عنهم بعض هذه الأخبار عدد من مصادر العامة

کالبيان للكنجي . و ينابيع المودة للقندوزي وغيرهما .

أما علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام :

فأخرج عنه الكنجي (1) وابن

ماجة (2) وغيرهما ، قال : قال

رسول اللّه (ص ) : المهدي منا أهل

البيت يصلحه اللّه في ليلة .

و أما فاطمة الزهراء بنت الرسول ( ص ) فقد قال لها أبوها .

كما أخرجه عنه الكنجي في البيان(3)

وابن الصباغ في الفصول المهمة (4)

وغيرهما ، واللفظ للكنجي - : أنا

خاتم النبيين و أكرم النبيين على اللّه واحب

المخلوقين إلى اللّه ، وأنا أبوك ، ووصیي

خير الأوصياء وأحبهم إلى اللّه وهو

بعلك ... ومنا سبطا هذه الأمة وهما

أبناك الحسن والحسين ، وهما سيدا

شباب أهل الجنة ، وأبوهما - والذي

بعثي بالحق - خير منهما . یا فاطمة

ص: 100


1- انظر البيان ص 65
2- انظر السن ج 2 ص 1367 .
3- انظر ص 56.
4- انظر ص 314 و ما بعدها .

والذي بعثي بالحق ، أن منهما مهدي

هذه الأمة ، اذا صارت الدنيا هرجاً

و مرجاً وتظاهرت الفتن ... الحديث.

و الإمام الحسن الزكي بن علي عليهما السلام نظر إليه النبي ص- فيما رواه السيوطي (1)- فقال : إن ابني هذا سيد . كما سماه النبي صلى اللّه

عليه وسلم . سيخرج من صلبه رجل يسمى اسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا

يشبهه في الخلق .

وأخرج السيوطي(2) عن ابن

عساكر عن الحسين عليه السلام

ان رسول اللّه (ص) قال : ابشري

يا فاطمة ، المهدي منك .

وأخرج أيضا(3)عن الدار قطي

في سننه عن محمد بن علي ( وهو الإمام

الباقر عليه السلام ) قال : ان المهدينا

آيتين لم يكونا منذ خلق اللّه السموات

والأرض : ینکسف القمر الأول ليلة

من رمضان ، وتنکسف الشمس في

النصف منه .... الحديث .

واخرج عنه عليه السلام أيضاً

ص: 101


1- انظرالحاوي للفتاوي ص 125 ج 2.
2- نفس المصدر ص 137 .
3- المصدر ص 136.

بكنيته : أبي جعفر (1) بعض الأخبار .

وأما الإمام أبو عبد اللّه الصادق

عليه السلام ، فقد كان له في ذكر

الإمام المهدي (ع) موقف عاطفي

عظيم ... أخرج القندوزي (2)عن

المناقب عن سدير الصيرفي قال دخلت

أنا والمفضل بن عمر وأبو بصير وابان

ابن تغلب على مولانا أبي عبد اللّه جعفر

الصادق (رضي اللّه عنه ) فرأيناه جالساً

على التراب وهو يبكي بكاءاً شديداً

ويقول : سيدي غيبتك نفت رقادي

وسلبت مي راحة فؤادي .

قال سدیر : تصدعت قلوبنا جزعاً.

فقلنا : لا أبكى اللّه يا ابن خير الورى

عينيك . فزفر زفرة انتفخ منها جوفه .

فقال : نظرت في كتاب الجفر الجامع

صبيحة هذا اليوم ... وتأملت فيه

مولد قائمنا المهدي وطول غيبته وطول

عمره وبلوى المؤمنين في زمان غيبته...

الخ الحدیث وهو مطول .

ص: 102


1- المصدر ص 141.
2- انظر ينابيع المودة ص 545 ط النجف و ص 379 ط الهند .

و الإمام الرضا علي بن موسى عليهما السلام بشر بالمهدي (ع) أيضاً .

أخرج القندوزي (1) عن الحمويني

الشافعي في فرائد السمطين باسناده

عن دعبل بن علي الخزاعي قال : أنشدت

قصيدة لمولاي الإمام علي الرضا . رضي

اللّه عنه . أولها :

مدارس آیات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

إلى أن قال دعبل : ثم قرأت باقي

القصيدة عنده فلما انتهيت إلى قوني :

خروج إمام لا محالة واقع

يقوم على اسم اللّه والبركات

یميز فينا كل حق وباطل

ويجزي على النعماء والتقمات

بکی الرضا بكاء شديدا . ثم قال :

يا دعبل نطق روح القدس بلسانك .

أتعرف هذا الإمام ؟ قلت : لا . الا

اني سمعت خروج امام منكم يملأ

الأرض قسطاً وعدلا . فقال : إن الإمام

بعدي ابي محمد وبعد محمد ابنه علی

وبعد علي ابنه الحسن ، وبعد الحسن

ص: 103


1- المصدر ص 544 ط النجف و ص 379 ط الهند .

ابنه الحجة القائم . وهو المنتظر في

غيبته المطاع في ظهوره، فيملأ الأرض

قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ...

الحديث .

وروى القندوزي في الينابيع (1)حادثة ولادة المهدي عليه السلام . وفيها

بشارة أبيه الإمام الحسن العسكري

عليه السلام بولادته ... منها قوله عن

أمه رضي اللّه عنها : انه سيخرج منها

ولد كريم على اللّه عز وجل يملأ الأرض

عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلما وجوراً .

فهذا ما روته المصادر العامة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام . وقد أخرجت عن كل منهم عدداً من الأحاديث ، ذكرنا قسماً منها كنموذج . وأما المصادر الإمامية فقد روت عن جميع المعصومين عدداً وافراً من الأخبار في التبشير بالمهدي (ع) . لا حاجة إلى نقلها .

والأئمة المعصومون عليهم السلام، بغض النظر عن المفهوم الإمامي عنهم .

أناس أتقياء علماء صالحون . لا يوجد لهم في المصادر العامة إلا الذكر الجميل

ومذهبهم الإسلامي أشهر من أن يذكر ، فإنهم جميعاً إماميون اثنا عشر يون

یومن كل منهم بامامة نفسه و امامة الباقين من آبائه وأولاده .

ومن هنا ينبثق عندنا تقريبان لتعيين مذهب الإمام المهدي علي هذا الضوء :

ص: 104


1- المصدر ص540 ط النجف و ص376 ط اهندو انظرص 464 ط النجف

التقريب الأول : إنه من غير المحتمل أن يقوم الأئمة المعصومون بهذا

التأييد للإمام المهدي (ع) وينو هوا به هذا التنويه المتواصل الشديد . وهو

شخص يختلف عنهم في المذهب . و يغایر هم في الفهم والمعتقد الإسلامي .

إذن فيتعين أن يكون الإمام المهدي على مذهبهم واتجاههم و اعتقادهم . وهو المطلوب .

التقريب الثاني : إننا لو قلنا بأن المهدي (ع) يختلف عنهم في المذهب ،

للزم الإلتزام ببطلان مذهبه أو مذهبهم ... باعتبار وضوح أن المذهب الحق

و أحد في الإسلام بالضرورة والإجماع . وهذا مما لا يمكن التنموه به تجاه

الأئمة المعصومين ولا تجاه المهدي . إذن فهم جميعاً على مذهب واحد.

المرجح الرابع : ما اعترف به عدد من علماء عامة و الجماعة ، من أن

المهدي عليه السلام . لا ينفضل عليه أبو بكر وعمر .

روى السيوطي في العرف الوردي (1) بسنده عن محمد بن سیرین انه ذكر

فتنة تكون . فقال : اذا كان ذلك

فاجلسوا في بيوتكم حتى تسمعوا على

الناس بخير من أبي بكر وعمر . قيل :

أفيأتي خير من أبي بكر وعمر ؟!..

قال : قد كان يفضل على بعض .

قال السيوطي : قلت : في هذا

ما فيه . وقال ابن أبي شيبة في المصنف

في باب المهدي : حدثنا أبو اسامة عن

ص: 105


1- نظر الحاوي للفتاوي ج2 ص 153 .

عوف بن محمد - هو ابن سيرين -

قال : يكون في هذه الأمة خليفة لا

يفضل عليه أبو بكر ولا عمر .

قال السيوطي : قلت : هذا اسناد صحيح. وهذا اللفظ أخف من الأول...

إلى آخر كلامه . وظاهر اللفظ أنه خبر عن ابن سیرین نفسه لا عن النبي

(ص) . إذن فابن سیرین بری عدم أفضلية الشيخين على المهدي. ووافقه البرزنجي

في الاشاعة ، حيث قال بعد نقل ما ذكره السيوطي (1) : وتقدم عن الشيخ

في الفتوحات أنه معصوم في حكمه مقتف أثر النبي (ص ) لا يخطى، أبداً ،

ولا شك أن هذا لم يكن في الشيخين وان الامور التسعة التي مرت لم تجتمع

كلها في امام من أئمة الدين قبله . فمن هذه الجهات يجوز تفضيله عليهما .

وإن كان فما فضل الصحية ومشاهدة الوحي والسابعة. وغير ذلك. واللّه أعلم .

قال الشيخ علي القاري في المشرب الوردي في مذهب المهادي : ومما يدل

على أفضليته : أن النبي (ص ) سماه خليفة اللّه ، وأبو بكر لا يقال له

إلا خليفة رسول اللّه . انتهى كلام البرزنجي .

وإذا تم ذلك ، فمن البعيد جداً . ان لم يكن من القبيح عقلاً ، اتباع

الأفضل للمفضول ومسايرته في فهمه و اتجاهه ... مع أن سر فضله كامن

في الاطلاع على الحقائق والاتساع في النظر والعمل بشكل غير موجود لدى

المفضول .

اند ، فكل واحد من هذه القرائن ، يبرهن على أن مذهب الإمام المهدي

(ع ) من حيث الأصول الرئيسية ، هو المذهب الإمامي الاثنا عشري ،

بحسب الأدلة التي ينبغي أن يعترف بها سائر المسلمين .

ص: 106


1- انظر الإشاعة في اشراط الساعة من 113 .

واما عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، فهذا من الضروريات القطعيات ،

التي لا يمكن أن يرقى إليها الشك . وتدل عليه اعداد غفيرة من أخبارهم في

المهدي ، مما لا حاجة إلى الإفاضة فيه . يكفي في ذلك أن نعرف انهم يرون

أن المهدي إمامهم الثاني عشر ، وانهم يرون وجوب طاعته ولزوم انتظاره

وفي أخبار المصادر العامة ما يدل على ذلك. وقد سمعنا قبل قليل بعضها

و فيها تعبیر الأئمة المعصومين عنه عليه السلام بقائمنا و مهدينا ولحو ذلك

فليرجع التقاريء إليها .

الجهة الثالثة : موقفه العنصرية

الجهة الثالثة : موقف الإمام المهدي (ع) من العنصرية و أمثالها .

وهي عدة مفاهيم ذات مدلول أناني ضيق يتضمن تفضيل عنصر على

عنصر من البشر على أساس الدم أو اللغة أو اللون أو الوطن أو القبيلة أو لحو ذلك .

والنصطلح عليها جميعاً بالعنصرية ، من أجل تخفيف التعبير .

والرأي الذي لا بد من الجزم به . باعتبار الأدلة الآتية . هو أن موقف الإمام المهدي (ع) من العنصرية دائماً موقف سلبي ومعارض ... بل دعوته

و دولته عالمية تصل إلى كل البشر على حد سواء بدون تفضيل لجماعة على

أخرى .

ويمكن اقامة الدليل على ذلك على عدة مستويات :

المستوى الأول : أن دعوة المهدي (ع) قائمة على الإسلام ، كما بر هما .

فإنه إنما يطبق الإسلام على وجه الأرض . ويرفض أي عنصر غريب عنه أو

أجنبي .

ونحن نعرف أن الإسلام نص بكل صراحة على إلغاء العنصرية . بمثل

ص: 107

قوله تعالى : « يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأني . وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا : ان أكرمكم عند اللّه أتقاكم . ان اللّه عليم خبير » (1) . وقول النبي ( ص) المشهور عنه : « لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى».

والإسلام دين الناس أجمعين وليس خاصاً بأحد . قال اللّه تعالى : « قل :

يا أيها الناس أني رسول اللّه إليكم جميعاً» ، (2) وقال عز وجل : « وما أرسلناك

الا كافة للناس بشيراً ونذيراً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون»(3).

وقد أعطى الإسلام للتفاضل أسساً جديدة . لا تمت إلى أي شكل من

أشكال العنصرية بصلة . وهي ثلاثة :

الأساس الأول : العلم . قال اللّه سبحانه : «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ » (4) .

الأساس الثاني : التقوى : قال تعالى « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (5). ويدل عليه الحديث النبوي الشريف . السابق أيضاً .

الأساس الثالث : الجهاد : قال اللّه تعالى : لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ.

ص: 108


1- الحجرات : 13/49.
2- الأعراف : 7/ 158 .
3- سبأ : 36/ 28 .
4- الزمر : 9/39
5- الحجرات : 13/49 .

دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (1)

هذا بعد التساوي بالإسلام وحسن العقيدة والتطبيق بطبيعة الحال . ولا

يبقى بعد ذلك في الإسلام أي تفاضل . وإنما الناس سواسية كاسنان المشط ،

تجاه عدله الكامل ... يكون العظيم عنده صغيرأ حتى يأخذ منه الحق ، و الحقير

عنده عظيماً حتى يؤخذ له الحق .

فإذا كان هذا هو الرأي الصريح الإسلام ، وهو الأمر العادل بحكم

العقل أيضاً وفطرة الفكر . كما أشار إليه سبحانه حين قال : «إنما يتذكر أولوا الألباب » إذن ، فالمهدي (ع) سوف يسير على ذلك ايديولوجيته العامة ،

و تفاصيل تشريعه وقضائه . وكيف لا، وهو الذي يملأ الأرض قسطاً و عدلاً ويطبق الأطروحة المعادلة الكاملة .

وقد يخطر في الذهن هذا السؤال : ان الإسلام مهما شجب العنصرية ،

فإننا نعرف إلى جنب ذلك : أن الإمام المهدي (ع) سيأتي بأمر جديد وكتاب جدید

و قضاء جديد. فلعل فيما يأتي به من الامور انفاذ العنصرية و الاعتراف

ببعض حدودها و معه لا يكون هذا الدليل تاماً .

وجواب ذلك : أنه سيأتي في مستقبل البحث - أيضاً - أن ما يعلنه المهدي

في دولته ، مهما كان جديداً وعميقاً ومفصلاً . الا أنه لا يتعدى مستوى

التطبيقات والتنظيمات للمجتمع الذي يحكمه ، بالشكل الذي لا يكون

خارجاً بأي حال على التشريعات والمفاهيم الرئيسية في الاسلام ، ولا مضاداً

ص: 109


1- النساء 4 / 95 – 96

لها. ومن الواضح أن شجب العنصرية بكل أشكالها من واضحات الإسلام

ونص الكتاب و السنة . إذن ، فمن غير المحتمل أن يقوم الإمام المهدي (ع)

بتغيير ذلك .

المستوى الثاني : ان دعوة المهدي (ع) و دولته عالمية . كما هو ضروري

الوضوح لكل معترف به من المسلمين . وسيأتي التعرض النصوص الدالة على

ذلك بصراحة .

و الدعوة العالمية على طول الخط منافية مع العنصرية . ولذا نرى سائر

المبادىء في التاريخ . ممن طمعت بالإستيلاء العقائدي على العالم ، تقف من

العنصرية ، موقفاًسلبياً . وتعتبرها نظرة ضيقة لا ترقى إلی اسلوبها الواسع وافقها الرحب .

وحيث كانت دعوة المهدي عليه السلام عالمية . إذن ، فهي تناني العنصرية

كأي دعوة عالمية أخرى . بمعنى أنه بمجرد أن يتخذ بعض شعارات العنصرية

فإن دائرة دعوته ستكون ضيقة ، وسيتعذر عليه بأي حال . أن تبقى دعوته

عالمية . وهذا خلاف الضرورة و التواتر عن دعوة المهدي (ع) . وسيخل

بتأسيس الدولة العالمية . وهو . خلاف ما استهدفه هذا القائد العظيم في

ظهوره و الغرض الأساسي الذي وجد التخطيط الإلهي من أجله .

وقد يخطر في الذهن : أن ما دل عليه الدليل القطعي ، بالضرورة والتواتر

هو استيلاء المهدي (ع) على العالم بأجمعه و اتساع رقعته . وهذا لا ینافي

الاعتراف من قبله ببعض أشكال العنصرية .

والجواب على ذلك :ان استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم ، ان کان

غزواً عسكرياً مجرداً ، فهذا الذي قاله السائل صحيح . فإن الغزو العسكري

ص: 110

المجرد لأجل الحصول على السلطة ، يناسب مع الاعتقاد بالعنصرية ومع رفضها فلا يكون مجرد الإستيلاء على العالم دليلاً على شجب العنصرية .

إلا أن استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم ليس مجرد غزو عسكري بل هو دعوة عقائدية و أطروحة عادلة يريد نشرها وتطبيقها على البشرية أجمعين وتربية البشر على أساسها تربية صالحة ، لتتحقق العبادة المحضة لله عز وجل على وجه الأرض . كما هو الغرض الأساسي من الخلق و من اليوم الموعود .

و الدعوة إذا كانت عالمية بهذا الشكل. فإنها تكون منافية للعنصرية بالمرة و ذلك بعد الالتفات إلى مجموع أمرين :

الأمر الأول: أن التطبيق الحقيقي للعدل والتربية العادلة: لا يمكن أتمامه إلا بجو من الانسجام والتقبل النفسي للفرد والجماعة ، لكي تترسخ القواعد الأساسية والسلوك الصالح في عالم الحياة .

وأما مع جو الانزجار وانتأفف والتباعد . فلا يمكن أن تنال البشرية مثل تلك النتائج الصالحة. ومن ثم لا يمكن تطبيق العبادة الكاملة على تلك الجماعة فيكون مخلا بالغرض الأساسي لخلق البشرية .

الأمر الثاني : أن الاعتراف بالعنصرية بأي شكل من أشكالها ، يعني أن العنصر الآخر . الذي لم يعترف به من البشر . وقام النظام على الالتزام بتسافله و خسته أمام العنصر المفضل . ان هذا العنصر سوف يشعر بالغربة في ذلك النظام و بالتعهد النفسي والانزجار والتأفف تجاهه ، بطبيعة الحال .

ونحن إذا لاحظنا العالم ككل لم نجد أي عنصر من العناصر التي يتبناها العنصريون یشكل أكثرية في العالم ، و انما يشكل الأقلية على طول الخط . وهذا

ص: 111

يعني بكل وضوح. أن الدولة العالمية لو تبت أي عنصر من العناصر ، وفضلته على غيره ، فإنها تتبنى مصالح الأقلية من شعبها و تعتبر أكثريتهم من الجنس الأخس الأدنى إذن فستحس الأكثرية بالتعقد و الانزجار تجاه تلك الدولة بحكم کو نهم محكومين بالحساسة والتسافل في نظامها . و بالتالي ستتعذر تربيتهم الصالحة المطلوبة . و يكون الغرض من أصل الخليقة متخلفاً و فاشلاً .

و باستحالة تخلف هذا الغرض. نعرف لزوم كون الدولة العالمية المهدوية سلبية تجاه العناصر البشرية . وحيادية تجاه التفاضل بينها . وملغية لها كأساس للتفاضل تماماً ... توصلا إلى التربية العادلة للبشرية أجمعين .

وقد يخطر في الذهن : أن الفكر الحديث قد طور مفهوم العنصرية . فقد أصبحت لا تعني تفضيل عنصر على عنصر . وإنما كل ما تعنيه هو الاهتمام بمصالح مجموعة معينة مشتركة في اللغة أو الوطن أو غير ذلك . انطلاقاً من اشتراكها بالمصالح و التاريخ والآمال . وهذا لا يتضمن تفضيلا لأحد.

وجواب ذلك : إنه بغض النظر عن أن هذا التطوير لا يخرج بالفكرة عن التحديد والأنانية . ومن ثم عن العنصرية نفسها ... بغض النظر عن ذلك ، فإما أوضح بعداً عن الفكرة العالمية المهدوية من العنصرية نفسها . لأن المفروض فيها الاهتمام بمجموعة معينة لا بمجموع البشر ... ومن الواضح إلى حد الضرورة أن الدولة العالمية مهتم بمصالح و تربية و آمال مجموع البشر لا بمجموعة معينة مهما كانت صفتها .

وقد يخطر في الذهن : إن هذا الاتجاه لا يصح في الدولةالعالمية ، ولكنها قد تعطي للشعوب أو العناصر المختلفة الاهتمام بصفاتها تلك . من دون أن يكون للحكم المركزي نفسه تركيز على جهة دون جهة .

ص: 112

وجواب ذلك : أن هذا غير محتمل أيضاً ، لمخالفة هذا الاتجاه مع العدل

الكامل من عدة جهات ، أوضحها ما يحدث بين العناصر المختلفة من التشاحن

والتعاقد نتيجة لحرية التفاخر والتركيز العنصري .... الأمر الذي ينافي كل

المنافات مع العدل الكامل .

نعم ، قد تبقى اتجاهات فردية متفرقة ، ناشئة من ( لا شعور ما قبل الظهور ) تتضمن الإحساس بأهمية العنصر أو الطبقة ... ولكنها تذوب

تدريجياً تحت التربية المركزة والمستمرة التي تقوم بها الدولة العالمية طبقاً للأطروحة العادلة الكاملة .

المستوى الثالث : الإستدلال بما وردنا من الأخبار الدالة على نفي

العنصرية وعلى وجود الفكرة المنفتحة والمتعادلة من هذه الناحية في دولة المهدي (ع) .

وهي على أنحاء :

النحو الأول : ما دل على أن حكم المهدي (ع ) یكون قاسياً وشديداً

على العرب ... باعتبار فشل أكثرهم في التمحيص الإلهي حال الغيبة ،

و تقصيرهم تجاه الشريعة الإسلامية . فاو كان الإمام المهدي (ع) عنصرياً

لكان يميل إلى أبناء لغته ، على كل حال .

والأخبار بذلك متظافرة لدى الفريقين :

فمنها : ما أخرجه البخاري (1)

عن زينب بنت جحش ، انها قالت :

استيقظ النبي (ص) من النوم محمراً

ص: 113


1- انظر صحيح البخاری ج9 ص60

وجهه يقول : لا إله إلا اللّه ، ویل

للعرب من شر قد اقترب ... الحديث.

و تأسف النبي (ص) وتحذيره منصب على انحراف العرب وخروجهم

على شريعته بقرينة الحديث الذي يليه ، والذي يقول فيه :

فاني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم

کوقع المطر (1) ، ورواه الترمذي (2)

وقال : هذا حديث حسن صحيح .

وأخرجه ابن ماجة في سننه (3).

وأخرج ابن ماجة (4) عن عبد اللّه

ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه (ص) :

تكون فتنة تستنظف العرب . قتلاها في

النار . اللسان فيها أشد من وقع السيف.

وفيه دلالة واضحة على فشل العرب في التمحيص في عصر الفتن والإنحراف

خلال الغيبة الكبرى ، وهو ما قد حدث فعلاً . وحيث نعلم موقف الإمام المهدي (ع) من كل فاشل في التمحيص . كما سيأتي مفصلاً ، نعرف موقفه من هؤلاء العرب الفاشلين .

ومنها : ما أخرجه النعماني في الغيبة (5) :

ص: 114


1- المصدر و الصفحة .
2- انظر الجامع الصحيح الترمذي ج3 ص 325 .
3- انظر ج2 ص 1305 منه .
4- المصدر ص 1312 .
5- ص 122.

عن أبي بصير ، قال : قال

أبو جعفر (ع) : يقوم القائم بأمر جدید

وكتاب جديد ، وقضاء جدید ، على

العرب شديد ، ليس شأنه إلى السيف...

ولا يأخذه في اللّه لومة لائم .

وفي حديث آخر (1) : عن أبي عبد اللّه (ع ) ، أنه قال :

إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين

العرب وقريش إلا السيف ... الحديث.

إلى غير ذلك من الأحاديث ، الدالة على أن الميزان الصحيح في نظر القائد

المهدي (ع) هو الإيمان و النجاح في التمحيص ، وليس هو اللغة ولا القبلية .

فهو لا يميل إلى أهل لغته : العرب ، ولا إلى قبيلته : قريش . بل يأخذهم

أخذاً شديداً نحو طاعة اللّه تعالى ، ويعاقبهم على ما سلف منهم من الذنوب .

وفي هذه أحاديث عديدة ، اقتصرنا منها على مقدار النموذج .

النحو الثاني : ما دل من الأخبار على أن أصحابه الممحصين الخاصين

الذين يجتمعون إليه ويحاربون بين يدية . ليسوا من عنصر واحد، بل هم من

مختلف بلدان العالم .

فمن ذلك :

ما أخرجه الشيخ في الغيبة (2)

عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع)

ص: 115


1- المصدر و الصفحة .
2- ص284 وما بعدها .

يقول فيه عن أصحاب القائم (ع ) :

فيتوافون من الآفاق ثلاثمائة وثلاثة

عشر رجلا ، عدة أهل بدر .

أقول : وفيه دلالة على ورو دهم إليه من مختلف البلدان في العالم .

وما أخرجه النعماني في غيبته (1)باسناده عن علي عليه السلام يقول فيه:

ثم يجتمعون قزعاً كقزع الخريف

من القبائل ، ما بين الواحد والاثنين

والثلاثة والأربعة والخمسة والسنة

والسبعة والثمانية والتسعة والعشرة .

أقول : وهو نص في عدم التمييز بين القبائل والأنساب في أصحابه ،

وإنما الميزان هو عمق الاخلاص و قوة الإيمان والإرادة .

وأخرج (2) في خبر آخر عن الإمام الباقر (ع ) ، قال :

أصحاب القائم ثلثمائة وثلاثة عشر

رجلا . من أولاد المجم بعضهم .

أقول : والمراد بالعجم غير العرب لا خصوص الفرس ، كما هو معروف في

اللغة . فليس الميزان هو اللغة أو الدم أو العنصر ، والا لم يقبل المهدي القائم

عليه السلام في أصحابه إلا العرب . بل الميزان أمور أخرى أوسع وأعمق.

النحو الثالث: مادل من الأخبار على مشاركة غير العرب في حكم العالم

و هداية الناس تحت ظل دولة المهدي (ع).

ص: 116


1- غيبة النعماني ص 168
2- المصدر ص 170.

فمن ذلك : ما رواه النعماني في غيبته بسنده عن الاصبغ بن نبانه ، قال :

سمعت علياً عليه السلام يقول :

كأني بالعجم فساطيطهم في مسجد الكوفة

يعلمون الناس القرآن ، كما أنزل .

أقول : وهذا إنما يحدث في دولة المهدي (ع)لأنهم انما يعلمون القرآن

على أساس معانيه الواقعية ، مأخوذة من الإمام المهدي (ع) نفسه . واما قبل ذلك فهو متعذر بطبيعة الحال .

المستوى الرابع : في الاستدلال على موقف المهدي(ع) من العنصرية إننا نضم فكرتين اثنتين واضحتين ، تنتجان نتيجة واضحة :

الفكرة الأولى : أن الإمام المهدي (ع) يسير بسيرة النبي (ص) ويطبق منهجه على المجتمع و الحياة . وهو ما سبق أن أقمنا عليه الدليل .

الفكرة الثانية : أن سيرة النبي ( ص ) في أصحابه ومجتمعه ، كانت بالضرورة على نفي العنصرية وشجبها بكل أشكالها : واعلان عقيدة الإسلام ونظامه عاماً عالمياً لكل الناس . وقد جمع في أصحابه

بين عبيد المجتمع وأحراره وبين عربه و عجمه و بين مختلف القبائل ، وراسل ملوك العالم في عصره يدعوهم إلى الإسلام ، وكلهم لم يكونوا عرباً . وان اشهر أصحابه من غير العرب سلمان الفارسي وبلال وصهيب الحبشيان ... وهناك الكثير غيرهم .

وأود بهذه المناسبة أن أروي ما أخرجه الترمذي (1)عن أبي هريرة ، قال :

كنا عند رسول الله (ص) حين

أنزلت سورة الجمعة فتلاها . فلما

ص: 117


1- انظر الجامع الصحيح : ج ه ص 383.

بلغ ( وآخرين منهم لا يلحقوا بهم ) (1) قال له رجل : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا .

فلم يكلمه . قال : وسلمان الفارسي

فينا . قال : فوضع رسول الله (ص ) يده على سلمان ، فقال : والذي نفسي بيده ، لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء .

قال الترمذي : هذا حديث حسن.

وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي ( ص ).

أقول : وهو يدل بوضوح على مشاركة غير العرب بالإيمان العميق ، عقيدة وتطبيقا ... إذا كان المراد جعل سلمان الفارسي ( رض ) ممثلاً لهم. مع احتمال أن يكون المراد جعله ممثلاً لمستوى معين في الاخلاص والتفكير ويكون قوله (ص ) : رجال من هؤلاء... يعني من كان متصفا بذلك المستوى.

وعلى أي حال ، فإن الملاحظ أن هذا الخبر غير دال بالمرة على أن سلمان الفارسي من الآخرين الذين لم يلحقوا بهم ، المذكورين في الآية الكريمة ، بل هو دال على العكس ، كما هو واضح لمن يفكر . واما السؤال عن معنى الآية فقد أعرض النبي ( ص ) عن جوابه .

وعلى أي حال : فما دامت دولة النبي (ص ) خالية من العنصرية ، إذن

ص: 118


1- الجمعة : 3/62.

فستكون دولة المهدي (ع) كذلك ، لأنه يستن بسنته ويسير بسيرته .

الجهة الرابعة : نظام الدولة المهدوية

الجهة الرابعة : نظام الدولة المهدوية ، هل هو مشابه لبعض الأنظمة السابقة عليه ، کالرأسمالية أو الاشتراكية أو غيرهما ، أولا ؟.

و الذي ينبغي الحزم به أساساً هو النفي المطلق ، وان شيئاً من الأنظمة السابقة على الظهور : لا تصدق على نظام المهدي ولا تشمله .

والدليل الحسي التطبيقي ، سوف لن يظهر ، إلا بعد الظهور ، حين يتم تطبيق نظام الإمام المهدي (ع ) ودولته العالمية ، ويكون في الامكان مقارنته بالأنظمة السابقة عليه مقارنة حسية . وهذا لا يتم في العصر الحاضر بطبيعة الحال .

ولكننا نستطيع طبقا للأدلة التالية ، الجزم بأن نظام المهدي (ع) مباین و مغاير تماماً مع أي نظام سابق عليه . وذلك : باعتبار الأدلة التالية :

الدليل الأول : اننا عرفنا أن الامام المهدي (ع ) سوف يطبق الإسلام . بصفته الأطروحة العادلة الكاملة ... وقد تم البرهان في بحوث الفكر الإسلامي على مغايرة نظام الإسلام لسائر الأنظمة الأخرى . وانه أطروحة مستقلة لحل مشاكل البشرية لا تمت إلى الحلول الأخرى بصلة .

ولا مجال لسرد تلك الأدلة في هذا التاريخ ، بطبيعة الحال . إلا أنها تنتج بعد التسليم بصحتها مغايرة نظام الإمام المهدي (ع ) للأنظمة السابقة عليه ... الأن نظامه هو الاسلام المغاير لتلك الأنظمة .

الدليل الثاني : إننا ننطلق من فكرة الحديث النبوي المتواتر ، القائل : إن

ص: 119

المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ... ننطلق منه إلى النتيجة

المطلوبة . فإننا قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى (1)ان البشرية عامة والأمة الإسلامية

خاصة ، لا بد أن تمر بظروف صعبة وقاسية من الظلم والجور والإنحراف ...

لكي تتمخض في نهاية المطاف عن عدد من المخلصين المحصين يكفي للقيام بمسؤولية

الدولة المهدوية . ونتيجة لتلك الظروف (تمتلىء الأرض ظلماً و جوراً) وبجهود

هؤلاء المخلصين تحت قيادة الإمام المهدي (ع) (تمتلىء الأرض قسطاً وعدلاً).

وإذا تساءلنا عن أسباب هذه الظروف. تكشفت لنا خلال التاريخ المعاصر

والسابق ، عن سلسلة متصلة ومتواصلة من الأسباب الكبيرة ... التي من

أهمها أساليب الحكم الفردي الدكتاتوري التي مورست خلال التاريخ ،

ووجود الكيان الرأسمالي الأوروبي - الأمريكي وما تبعه من الاستعمار بشكلیه

القديم والحديث . وما لاقى منه العالم بشكل عام و الأمة الإسلامية بشكل خاص

من بلايا وأضرار وكذلك محاولة فرض الحلول المدعاة لمشاكل العالم على الشعوب

عن طريق الغزو الفكري للعالم (2) كما قامت به الشيوعية ، وهي تعلن إيمانها

بحق تقرير المصير للشعوب ، فيبدو موقفها متهافتاً غريباً .

ولئن كان الرأي العام العالمى . قد أحيط علماً بحسب التجربة التاريخية

القاسية التي عاشوها بالأضرار الناتجة عن الحكم الفردي والاستعمار الرأسمالي .

فإن الأعوام الآتية كفيلة بكشف ما في النظام الشيوعي من هنات و نقاط ضعف

ومنطلقاً من ذلك نستطيع أن نعمم و نقول : أن أي نظام وضعي بشري المولد ،

موجود قبل الظهور ، يمثل في واقعه أهم أسباب الظلم والإنحراف في العالم ،

ص: 120


1- انظر ص 246 وما بعدها .
2- بل قامت الشيوعية بالغزو العسكري المباشر ، كما حدث في تشيكوسلوفاكيا عام 1969وفي انغولا هذا العام أعني 1976 .

إن كان بدوره ناتجاً عن ظلم و انحراف سابقين ... ومعه فستكون المهمة

الرئيسية للإمام المهدي (ع) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، أن يقوم

بتغيير هذه الأنظمة والقضاء على جذورها وتفاصيلها .

الدليل الثالث : ان سائر الأنظمة والقوانين الوضعية قائمة على المادية .

و اسقاط العنصر الإلهي عن نظر الاعتبار . اما بالصراحة كالشيوعية و الوجودية .

أو بالخفاء کالرأسمالية والفاشية والنازية والقوانين الرومانية والجرمانية ،

و متفرعاتها الحديثة . فإنها قائمة على أساس دنيوي مادي صرف لا أثر للروح

أو للّه تعالى فيه .

وقد علمنا أن نظام المهدي عليه السلام سيقوم على ربط الإنسان بربه

و تربيته لجسمه وروحه . والربط بين هذه العناصر ربطاً عادلاً وعميقاً .

وستكون كل القوانين المطبقة قوانين إلهية إسلامية . حتى أن المهدي (ع)

نفسه إنما يكون واجب الإطاعة باعتباره أحد أئمة المسلمين المخولين من

قبل اللّه تعالى للحكم والتقنين والتطبيق .

إذن فسوف لن يكون في دولة المهدي مجال للمادية بشكليها الصريح والخفي

وسوف يتم القضاء عليها قضاء تاماً.

الدليل الرابع : الانطلاق من زاوية أخرى من القواعد التي فهمناها عن

فكرة المهدي ... وقد أشرنا إليها في التاريخ السابق (1).

وهي : أن التخطيط الإلهي قائم على اكتساح التمحيص الدقيق للأفراد

والمبادىء ، وبذلك ينكشف بشكل حسبي مبر هن ومدعم بالتجارب الكثيرة

ص: 121


1- انظر تاريخ الغيبة الكبری ص 249 وما بعدها .

والمريرة ، عن فشل كل دعوة تدعي لنفسها حل مشاكل العالم و تذلیل مصاعبه .

حتى ما إذا انكشفت وبان زيفها ونقاط الضعف فيها وأست البشرية من أن

تضع حلها لنفسها ... إنبثق الأمل في أنفسها من جديد إلى حل جدید و نظام

جديد ينقذها من وهدمها ويخرجها من ورطتها . وهذا الأمل احساس نفسي

مجمل لا زال في طريق التربية في نفوس البشر، كما هو المحسوس الآن بالوجدان

ولا زالت الحوادث وما ينكشف من مساوىء الأنظمة والفلسفات الوضعية تؤيده وندعمه .

وهو أمل مجمل ، لا يشير على التعيين إلى الإسلام أو إلى نظام المهدي

(ع). ولكن اللّه تعالى يكون قد أعد لخلقه الانقاذ الحقيقي والعدل الكامل

على يد القائد المهدي (ع) ومخلصيه . فإذا رأت البشرية نظامه وعدله ، فانها

ستؤمن بكل وضوح أفضليته على كل التجارب و المدعيات السابقة التي مرت

بها ، وانه هو الحل الأساسي الذي ينقذها من ورطتها . وبالتالي هو الصورة

الحقيقية لذلك الأمل المجمل . وقد أشير إلى هذا التخطيط في المصادر الخاصة ،

في بعض الأخبار ، كالخبر الذي رواه الشيخ المفيد في الارشاد (1) والطبرسي في اعلام الوری (2) ... والذي يقول فيه :

ان دولتنا آخر الدول ولم يبق أهل

بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا ، لئلا

يقولوا إذا رأوا سيرتنا : إذا ملكنا سرنا

یمثل سيرة هؤلاء . وهو قوله تعالى :

وَالعاقِبَةُ لِلمُتَّقينَ.

ص: 122


1- انظر ص 344 .
2- انظر ص 432

وليس المراد بحكم (أهل بيت

هم دولة ) حكم ( الأسر) أو القبائل

بل المراد بهم الجماعة الذين يتخذون

ايديولوجية معينة في دولتهم . بقرينة

قوله في الحديث : ( اذا ملكنا سرنا

بمثل سيرة هؤلاء ) فان من يقول ذلك

انما هم مثل تلك الجماعة ، لا الحاكم

القبلي وهو يخلو حكمه من أي هدف

اجتماعي أو عادل ، بحيث لا يكون

قابلا للمقارنة أساساً . وانما عبر الحديث

الشريف بهذا التعبير بقانون (كلم

الناس على قدر عقولهم ).

وفي رواية أخرى (1) عن هشام

ابن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام،

أنه قال : ما يكون هذا الأمر «يعني دولة المهدي (ع) » حتى لا يبقى

صنف من الناس إلا وقد ولوا

من الناس « يعني باشروا الحكم فيهم » حتى

لا يقول قائل : إنا لو ولينا العدلنا .

ثم يقوم القائم بالحق والعدل . أقول :

لانهم لو قالوا ذلك بعد ظهور القائم

ص: 123


1- انظر تاريخ الغيبة الكبری ص 389 نقلا عن غيبة النعماني

المهدي (ع) فان جوابهم یكون

واضحاً ، وهو أنكم حكمتم وفضلتم

في حل مشاكل العالم ، بل كان حكمكم

وظلمكم من جملة مشاكله وويلاته .

إذن ، فالتخطيط قائم على كشف الحلول المدعاة للعالم أمام الرأي العام العالمي ، قبل تولي دولة العدل للحكم وممارستها اياه في الخارج... وإعطاء

روح اليأس من تلك الحلول عالمياً، بشكل لا يؤمل معه وجود حل بشري جدید ... كما هو المفهوم من الحمر الموجود في هذه الأخبار « حتى لا يبقى

صنف من الناس إلا وقد ولوا من الناس» المستفاد من الاستثناء بعد النفي .

وهذا معناه بكل بساطة وصراحة تنافي نظام دولة المهدي (ع ) مع النظم

السابقة وقيامها على أنقاضها وبعد انکشاف زيفها وبطلانها. وهل من المحتمل أن يتبع القائد المهدي في دولة العدل المطلق ، إحدى النظم التي بان زيفها وفشلها .

إذن. فقد تبرهن عدم أخذ الإمام المهدي (ع) في دولته بشيء من النظم السابقة على ظهوره . واستغنائه بالعدل الإلهي المعد لتطبيقه في دولته .

وسوف يشعر الرأي العام العالمي ، بكل وضوح ، بهذا الإستغناء ، فإن

من يتخذ أحدهذه المباديء الحاضرة مذهباً له وطريقة في الحياة . يستهدف

لا محالة اما الهدف الشخصي في الحصول على المال والشهرة والسعادة ، أو

الهدف العام في الدفاع عن الفقراء والمضطهدين باعتقاده . وكلا هذين الهدفين

بتحقق باجلی مظاهره في دولة المهدي (ع ) ، على ما سمعناه مجملاً من كثرة

المال لدى كل الأفراد في عصره، وما سنسمعه من سائر التفاصيل في مستقبل

ص: 124

البحث . إذن ، يكون بامكان الهادفين في العالم أن يحققوا النتائج الجيدة التي

يعتقدونها لأهدافهم بنظام المهدي (ع ) ، ويتخلصوا - في نفس الوقت - من

نقاط الضعف التي كانت فيها .

وبالنتيجة ، فالعنوان العام الايديولوجية دولة المهدي (ع )، هوالإسلام

بصفته النظام العادل الكامل كما جاء به النبي الأعظم ( ص) . ولا يمت إلى

النظم السابقة عليه ، بصلة .

ص: 125

الفصل خامس : التخطيط الالهي لما بعد الظهور

كما يوجد لعصر ما قبل الظهور تخطيطه العام ، وهو الذي شرحناه مفصلاً

في التاريخ السابق ، يوجد لعصر ما بعد الظهور تخطيتله أيضاً .

وهذا القسم من التخطيط هو محل الحديث الآن ، فإن التخطيط الإلهي

العام لتكامل البشرية ، لا يكون منقطعاً بحصول نتيجة التخطيط السابق ،

بل يكون مواكباً مع البشرية إلى نهايتها بمقدار استحقاقها في وضعها العادل

الجديد ... وسيهدف عندئذ نتيجة أبعد تمت إلى تعميق العدل و التربية البشرية

بصلة .

فهذا التخطيه . هو الإمتداد الطبيعي للتخطيط السابق ، والموافق - أيضاً

- للموازين الثابتة في الفلسفة الإسلاميةالقائلة : بأن اللّه تعالى يفيض نعمة

الكمال على كل موجود بقدر استحقاقه . فإذا كانت درجته من الكمال دانية

كان استحقاقه منحصراً في الرتبة الكمالية التي فوقها مباشرة . وإذا كانت

درجة الموجود عالية في الكمال ، كان استحقاقه لدرجة أعلى من الكمال متحققاً؛ واللّه تعالى كريم مطلق فيفيض عليه الكمال الجديد ؛ وبعد أن يتخذ

صبية الكمان الحديد . فانه سيستحق رتبة أخرى . وهكذا يسير في طريق الكمال اللا نهائي .

ص: 126

وإذا طبقنا ذلك على محل الكلام ، نقول : إن البشرية بعد اجتماع شرائط

الظهور ، طبقاً للتخطيط السابق ، تكون مستحقة لدرجة جديدة من الكمال ،

هو تطبيق العدل الكامل فيها ، بواسطة ظهور القائد المهدي عليه السلام .

و بتطبيق هذا العدل تكون البشرية قد بلغت درجة أعلى من الكمال تستحق

بعدها درجة أخرى أعلى و هو عمق هذا العدل وترسخه ، إلى أن تصل إلى

استحقاق صفة « العصمة » حيث بوجد المجتمع المعصوم كما سوف نشير في

مستقبل البحث .

و بهذا يتبر هن فلسفياً تخطيط ما بعد الظهور ...

إلا أن انتاج هذا التخطيط لنتائجه النهائية منوط ببقاء البشرية مدة

كافية من الدهر لكي تتربي على عمق العدل و رسوخه ، لكي نصل في نهاية

المطاف إلى الكمال الإنساني الأعلى . واما إذا انتهت حياة البشرية جميعها

وقامت القيامة خلال زمن قصير ، فسوف ينسد باب الترقي والتكامل بطبيعة

الحال .

ومن هنا ينفتح احتمالان :

الاحتمال الأول : قصر عمر البشرية بعد الظهور ، وتحقق اليوم الموعود .

الاحتمال الثاني : بقاء البشرية لفترة طويلة من الدهر بعد ذلك .

ولكل من الاحتمالين مرجحاته ، على ما سنذكر - على حين لم يكن للاحتمال

الأول وجود في التخطيط السابق . باعتبار ضرورة انتاجه اليوم الموعود . وذلك لأكثر من دلیل :

ص: 127

الدليل الأول : كونه وعداً إلهيا . واللّه لا يخلف الميعاد . و ذلك في قوله عز من قائل : «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ...»(1).

الدليل الثاني : كونه غرضاً أصلياً في خلق البشرية . و من المستحيل أن يزول الشيء من الكون قبل أن يستوفي غرضه. وقد سبق في التاريخ السابق (2) ان بر هنا على كونه غرضاً. وسيأتي في الكتاب الآني تركيزه بشكل أوسع و أعمق .

وهذا هو الذي أشارت إليه الأخبار من الفريقين . فمنها :

ما أخرجه النعماني في الغيبة (3)

بسنده إلى أبي هاشم الجعفري ، قال :

كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا

عليه السلام ، فجرى ذكر السفياني ،

وما جاء في الرواية من أن أمره من

المحتوم . فقلت لأبي جعفر (ع) : هل

يبدو للّه في المحتوم . قال : نعم . قلنا

له : فنخاف أن يبدو للّه في القائم . فقال :

ان القائم من الميعاد ، واللّه لا يخالف

الميعاد .

ص: 128


1- النور : 24/ 55
2- تاریخ الغيبة أكبری ص 225 .
3- ص 142.

ومنها : ما أخرجه أبو داوود (1) عن زر عن عبد اللّه عن النبي (ص) قال :

لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول اللّه

ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مني

- أومن أهل بيتي - یواطیء اسمه

اسمي ... الحديث .

واخرج أيضاً (2)عن علي (ع) عن النبي (ص) : قال :

لو لم يبق من الدهر إلا يوم

لبعث اللّه رجلا من أهل بيتي ... الحديث.

و هذه التأكيدات في الأخبار كثيرة ومتضافرة ، وكلها دالة على ضرورة

تمخض التخطيط الإلهي السابق عن وجود اليوم الموعود . و عدم فناء البشرية قبله .

وأما بالنسبة إلى التخطيط الموجود بعد الظهور . حيث يكون الوعد قد

تحقق و الغرض الأساسي من خلق البشرية قد أنجز . فقد يبدو أنه لا حاجة لبناء

البشرية بعد ذلك ، ولا دليل عليه .

و سياتي مناقشة ذلك مفصلاً في القسم الثالث من هذا التاريخ ، غير أن

الصحيح هو طول عمر البشرية ، لأجل دليلين رئيسيين :

الدليل الأول : انا فهمنا في التاريخ السابق (3)من قوله تعالى :«وَمَا

ص: 129


1- ج2 ص 422 .
2- المصدر و الصفحة
3- تاريخ الغيبة الكری ص 235 .

خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » (1) ، فهنا : أن الغرض

الأساسي من خلق البشرية هو إيجاد العبادة الكاملة في ربوعها . وفهمنا هناك(2)من العبادة الكاملة وجود المجتمع الصالح والدولة العالمية الصالحة .

فلو اننا اقنصدنا على هذا المقدار من الفهم ، لكان الغرض الأعلى

من خلق البشرية متحققاً بمجرد تأسيس المهدي (ع) لدولته العالمية العادلة .

ومعه فقد يخطر في الذهن : ان المقصود هو ايجاد هذا النوع العالي من العبادة

ولو في فترة قصيرة من الزمن . فلا يبقى أي دليل على استمرار البشرية

بعد ذلك ردحاً طويلاً من الزمن ، إن لم يكن ذلك مستحيلاً ، لأن بقاء الشيء

بعد استيفاء أغراضه محال في الحكمة المطلقة .

لكننا نريد في هذا الدليل أن نخطو خطوة جديدة في فهم هذه الآية .

وهي : أن المعنى الذي ذكرناه للعبادة وان كان مهماً ورئيسياً جداً ... إلا

أنه ليس نهائياً بحال . بل هناك مراتب أعلى من العبادة تكون تلك المرتبة الأولى

مقدمة لها وإعداداً لايجادها ، وكلها ممكنة الحصول من البشرية و اتصافها بها

في المدى الطويل ، كما سيتضح عند استعراضها .

وبطبيعة الحال ، كلما تصورنا مرتبة من العبادة ممكنة للبشرية ، كانت مندرجة في مدلول الآية الكريمة. لعدم وضع الآية أي تحديد على مفهوم العبادة

فيكون ایرادها مطلقة ، دليلا على ايراد العبادة المطلقة .

إذن ، فالغرض الأساسي من خلق البشرية أبعد بكثير من مجرد وجود

الدولة العالمية ، وإنما وجدت هذه الدولة العظيمة . وخطط لها في تاريخ البشرية

ص: 130


1- الذاريات : 56/51
2- ص 224

الطويل من أجل هدف أعلى وأهم أمامها . ويكفينا الآن أن نعبر عنه : ( العبادة

المطلقة ) لخالق الكون ، حتى يأتي في مستقبل البحث ما يلقي الأضواء الكافية على هذا المفهوم .

إذن ، فوجود الدولة العالمية ، لا يعني نجاز الغرض الأقصى من خلق

البشرية و تحققه في عالم الوجود ، بل هو لم يوجد بتأسيس هذه الدولة ، ولا زال

أمام البشرية الشيء الكثير لكي تصل إليه .

إذن ، فلا معنى لقصر عمر البشرية بعد تأسيس هذه الدولة ، بل لا بد

أن تبقى حتى تستوفي غرضها الأعمق ، إذ يستحيل تخلف الأغراض في

الحكمة الإلهية الأزلية .

الدليل الثاني : انه يستبعد أن يكون زمان النتيجة أقصر بكثير من زمان

المقدمات :

فإننا عرفنا كم من الزمان يستغرق اعداد البشرية لليوم الموعود ... وهو

كل عمرها منذ أول وجودها إلى حين نجار ذلك اليوم العظيم. وهو ما لا يقل

عن عدة آلاف من السنين ، إن لم يكن أكثر من ذلك ، كما عليه أنصار الفكر

الحديث . وقد استوعبت هذه المدة ملايين الحوادث من تضحيات البشرية

وآلامها ومظالمها ، ومن جهود الأنبياء والأولياء والمصلحين والشهداء ؛

ومن ظروف التمحيص الإلهي ، وما أدته البشرية من خيرات وما ارتكبته

من جرائم فإن كل ذلك ، كان مقدمة لليوم الموعود ، و إعداداً لحصول

شرائطه المطلوبة التي لا يمكن تحققه بدونه ، . كما عرفنا من التخطيط الإلهي السابق على الظهور . وقد عرضنا ذلك في التاريخ السابق مفصلاً (1)

ص: 131


1- انظر الفصل الخاص بالتخطيط الإلهي ص 233 .

فهل من المعقول أن تستمر المقدمات آلافاً من السنين . ثم لا تكون النتيجة

غير تسع سنوات أو أقل ، كما تدعي الفكرة التقليدية . ان هذا في غاية البعد

بحكم العقل . فانه يعني بكل وضوح استخدام الأجيال البشرية المتطاولة في

سبيل إسعاد جيل واحد أو نصف جیل !! ان هذا قبح عقلاً ومستحيل في الحكمة المطلقة الأزلية .

وتبقى هذه الاستحالة سارية المفعول ما لم تصل النتائج أعني أجيال ما بعد

الظهور ، إلى حد من الكثيرة بحيث تكون التضحية بالأجيال السابقة في سبيلها

من قبيل التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة. أو بالمصاحة القليلة

في سبيل المصلحة الكبيرة فايكن القارىء منذکراً لذلك . حتي یأتي موضع

الحاجة منه و ایضاحه .

و إذا تم البرهان على طول عمر البشرية بعد الظهور . و عدم وصولها إلى

هدفها الأسمي بمجرد حصوله : اذن، فمن اللازم التخطيط لهذا الهدف خلال

هذا العمر إذ لا يوجد شيء مهمل في هذا الكون . ولا بد من اعداد البشرية

بالشكل الذي يمكنها الوصول إلى ذلك الهدف ؛ كما كانت قد أعدت للتشرف

بلقاء اليوم الموعود .

ومعه يكون قد تبرهن هذا التخطيط و ثبت ثبوتاً کاملاً . ولا بد لنا فيما

بلى أن نعطي المؤدي العام لهذا التخطيط . فتعرف على صياغته وخطواته .

كما تعرفنا على صياغة وخطوات التخطيط السابق عليه .

ما بين التخطيطين :

إذا كان المقصود من التخطيط الإلهي السابق : هو التوصل إلى ظهور المهدي (ع) وحسب؛ اذن ، يكون هذا التخطيط منتهیاً في لحظة الظهور .

ص: 132

إلا أن التخطيط الجديد سوف لن يبدأ بلحظة الظهور بطبيعة الحال ،

لأنه تخطيط للعالم الذي تم فيه تطبيق العدن للسير باتجاه ( العبادة المطلقة ) . وهذا

التطبيق لا يتم في اللحظة الأولى .... بل یحتاج إلى جهود عميقة وواسعة من

قبل القائد المهدي (ع) و اصحابه المخلصين . في غزو العالم عسكرياً و ثقافياً

و السيطرة عليه تماماً . فإذا نمت وأثمرت هذه الجهود . يكون التخليط قدم

بدا .

و من ثم نواجه في فهم الموقف ثلاث أطر وحات محتملة :

الأطروحة الأولى : ان هناك ما بين التخطيعين . فترة من الزمن محدودة .

ذات تخطيط خاص بها . يستهدف سيطرة القائد المهادي ( ع) على العالم

و استتباب الدولة العالمية العادلة ..

حي ما إذا أثمرت جهوده ، وتم تطبيق العدل الكامل على العالم . كان

أول يوم لذلك ، هو أول يوم لتطبيق التخطيط الماء الجديد .

الأطروحة الثانية : ان الأطروحة الاوي لا تخلو من تسامح في التصور .

فإن ظهور الإمام المهدي (ع) لم یخطط لايجاده بمجرده. بل خطط له من

أجل تأسيس الدولة العالمية العادلة . وقد كانت شرائط الظهور التي عرفناها،

و بر هنا عليها في التاريخ السابق (1). شر ائط لهذا الهدف ... وإنما كانت شرائط للظهور نفسه . باعتبار كونه المقدمة الرئيسية الأخيرة له أيضاً .

اذن فانتاج التخطيط السابق کاملاً لا يكون إلا بتأسيس الدولة العالمية ، و معه تكون جهود الإمام المهدي (ع) وأصحابه للسيطرة على العالم داخلة

في التخطيط السابق نفسه ، باعتبارها الحلقة الأخيرة لهذه النتيجة الكبيرة .

ص: 133


1- تاريخ الغيبة "الکبری ص 476 وما بعدها

فإذا تم تطبيق العدل وتأسيس الدولة العادلة ، يكون التخطيط السابق

قد انتهى . وبلحظة البدء بتطبيق العدل تكون بداية التخطيط الثاني . ولا يكون

بين التخطيطين فاصل زماني ملموس .

الأطروحة الثالثة : ان فترة السيطرة على العالم بالعدل والجهود المبذولة

في هذا السبيل ، داخلة في التخطيط الجديد ، لا في التخطيط السابق .

وذلك : بأن نفترض أن الهدف من التخطيط السابق هو الظهور نفسه ،

بصفته كاشفاً عن القائد العالمي المؤسس لدولة العدل الكبرى . بهذا ينتهي هذا

التخطيط عند الظهور . ولا معنى لبقائه بعد تحقق نتيجته .

ويبدأ التخطيط الجديد من حين الظهور فصاعداً ، وتكون فترة السيطرة على العالم بالعدل مندرجة فيه ، باعتبارها مقدمة لهدفه . فإنه يستهدف إيجاد ( العبادة الطاقة ) في ربوع البشرية . وهذا الهدف يحتاج إلى مقدمته الرئيسية وهي

إيجاد الدولة العالمية العادلة ، وهذه الدولة تحتاج إلى السيطرة على العالم

بطبيعة الحال في أول تأسيسها . ومن هنا تكون الجهود المبذولة في هذه السيطرة

واقعة في هدف التخطيط الثاني ، فتكون مندرجة فيه .

وبالرغم من أن ما عرضناه خلال الأطروحة الثانية كاف للقول بأنها هي

الصحيحة ، إلا أن نتيجة هذا البحث تبدو وكأنها مجرد اصطلاح ، فانه سواء

كانت فترة السيطرة على العالم بالعدل مندرجة في التخطيط السابق أو في التخطيط

اللاحق ، فإنها واقعة في خط تكامل البشرية العام الذي لا بد منه باستمرار .

وإنما عقدنا هذا البحث لأجل ايضاح جوانب الفكرة لا أكثر .

ص: 134

الأسس العامة التخطيط ما بعد الظهور

إذا أردنا التعرف على أسس وتفاصيل التخطيط العام لما بعد الظهور ،

لا بد لنا من التفاتة إلى ما سبق أن قلناه في التمهيد ، من أنه يتعذر على الباحث

الذي يعيش الفترة السابقة على الظهور أن يدرك العمق الحقيقي للاتجاهات

القانونية والفكرية العميقة التي تكون سائدة بعد الظهور ، وعند تطبيق العدل

الكامل على العالم .

ومن هنا ينبغي أن تبقى التفاصيل والتفريعات مصونة في الغيب إلى حين

تحققها ، وإنما غاية جهد الباحث أن يدرك الخطوط العريضة والقضايا العامة

المهمة التي يمكن الاطلاع عليها في حدود الثقافة الاسلامية الموجودة في العصر

الحاضر .

و بذلك نعرف إحدى نقاط الاختلاف بين التخطيطين . فان التخطيط

الإلهي السابق متخذ للسير بالبشرية الماضية والحاضرة إلى نتائجها المطلوبة ...

وبتعبير أوضح اننا بحسب وجودنا في هذا الزمن نعيش التخطيط الساري

المفعول فيه . ومن هنا يكون اطلاعنا على تفاصيل هذا التخطيط ممكناً و متيسراً

إلى حد كبير ، عن طريق القواعد العامة المعروفة وعن طريق ما هو مشاهد

بالوجدان مما قد تحقق من حلقاته وتفاصيله . كما سبق أن عرضنا ذلك مفصلاً

في التاريخ السابق .

واما تخطيط ما بعد الظهور ، فيحتوي على عدة نقاط ضعف في التعرف

عليه :

ص: 135

اولاً : بعدنا الزماني عنه ، بحيث لا يمكن مشاهدته بالوجدان ، ولا أن بصل منه شاهد عيان .

ثانياً : اننا نقتصر في الغالب - في التعرف عليه على القواعد العامة ، وهي

لا تعطي الا العموميات . ولا يمكنها الوصول إلى التفاصيل .

ثالثاً : اننا لجهل القوانين الجديدة والنظم التي ستكون معلنة في ذلك

العصر . الأمر الذي يوفر لنا طريقاً سهلاً ، في معرفة التخطيط لو كان متوفراً

إلى غير ذلك ، مما بحدونا إلى الكفكفة من غلواء البحث . والاقتصار

في النتائج على مقدار الامكان .

والكلام في ذلك یکقع ضمن جهات ثلالة :

الجهة الأولى : في الخصائص حین الظهور

العامة للمجتمع الذي ينطلق منه التخطيط ،

وهو المجتمع العالمي الذي يتم فيه حكم الإمام المهدي (ع) و تطبيق العدل الكامل

لأول مرة .

ان مع تطبيق العدل الكامل . هو كون الحكم العام في العالم قائماً على

العدل ، وازالة العوائق التي يمكن أن تشكل خطراً عليه . و ليس معناه صياغته

كل نفوس الأفراد صياغة اسلامية عادلة كاملة لأول وهلة .

إن المهدي (ع) سيقتل عدداً كبيراً من الأفراد ممن فشل في التمحيص

الموجود في التخطيط الإلهي السابق ، وأصبح يشكل خطراً على العدل الكامل

في المجتمع الجديد ، على ما سيأتي تفصيله ... ولكن سيبقی -مع ذلك - عدة

فجوات ونقاط ضعف في العالم ، يكون على التخطيط الحديد بشكل عام .

وعلى المهدي (ع) بشكل خاص. ملؤها و تذلیل مصاعبها مما لا يؤثر

فيه الفتح العسكري عادة

ص: 136

النقطةالأولى : وجود أهل الذمة ، وهم الشعوب التي تؤمن بالأنبياء

السابقين على الإسلام . وسيسمح لها – بمقتضى القواعد الإسلامية المعروفة

الآن - البقاء على دينها مع دفع الجزية ... ويكون لها أن تدخل في دين الإسلام

طواعية

النقطة الثانية : وجود المذاهب المتعددة من معتنقي الإسلام ، وممن لا

يظهرون معارضة للنظام الجديد .

النقطة الثالثة : نقص الثقافة الإسلامية العامة ، بالنسبة إلى العالم الذي يواجه

قوانين الإسلام لأول مرة ، وهي الشعوب التي كانت كافرة قبل الظهور ،

ورضيت بالإسلام ديناً بعده .

النقطة الرابعة : نقص الثقافة الاسلامية العامة ، في الأمة الإسلامية نفسها،

نتيجة لبعدها عن الاسلام في عصور الفتن والانحراف .

النقطة الخامسة : نقص الثقافة الإسلامية في الأمة خاصة وفي البشرية

عامة ، بالنسبة إلى القوانين الجديدة التي يصدرها القائد المهدي (ع) والأفكار

العميقة التي يعلنها ، ريثما يتم اعلانها وتوضيحها للناس.

النقطة السادسة: نقص الاخلاص و قوة الإرادة لدى الأعم الأغلب من المسلمين

فان غاية ما تمخض عنه التخطيط الإلهي الأول ، هو وجود الاخلاص العميق

لدى جماعة من المسلمين ، ولم يؤثر - بطبيعة الحال - نفس الأثر في مجموعهم

كيف وأن الأرض قد امتلأت ظلماً و جوراً .

فهذه أهم نقاط الضعف من الناحية الدينية، التي یزخر بها المجتمع الذي

يواجهه المهدي عليه السلام لأول وهلة . وهي النقاط الأهم تأثيراً في بناء

الدولة العالمية، باعتبار ما عرفناه ، من ان الإسلام هو الأطروحة العادلة الكامنة

ص: 137

التي يقوم الإمام المهدي (ع) بتطبيقها ، والأمة الإسلامية هي الأمة الرائدة

في خضم تلك الجهود البانية للدولة . فأي صعوبة في هذه الأمة تعني الصعوبة في نيل الهدف أيضاً .

واما الصعوبات ( الدنيوية ) لو صح هذا التعبير . واعني بها الصعوبات

و نقاط الضعف الموجودة في الاتجاهات غير الدينية . وما انتجته المادية والعلمانية

من ويلات في العالم ، فهي أكثر من أن تذكر أو تخصر.

وإذ يواجه نظام الإمام المهدي (ع) كل هذه المصاعب . سيكون مسؤولاً عن اتخاذ الخطوات الحاسمة اللازمة لحل كل مشكلة وتذليل

كل عقبة . وسيكون على مستوى المسؤولية بعد أن كان متدرعاً بالسلاح و متذرعاً بالإخلاص ، ومنطلقاً من الأطروحة العادية الكاملة . ومتصفاً بصفات شخصية

عليا ، حاولنا أن نحمل عنها فكرة في التاريخ السابق (1) الأمر الذي قلنا انه

ييسر له القيادة و التطبيق العادل في اليوم الموعود .

الجهة الثانية : تفاصيل التخطيط الثاني

الجهة الثانية : يستهدف هذا التخطيط الثاني . الكمال الإنساني الأعلى

البشر ، في الحدود الممكنة له على هذه الأرض . فهو يوفر الأرضية الكافية

التكامل الانسان إلى غاية ما يمكن أن يحصل عليه من الكمال ... حتى يكون

بالتدريج البطيء في امكان الفرد أن يكون معصوماً ، وأن يتكامل في عصمته (2) .

وليس معنى ذلك أن البشر جميعاً يكونون لأول وهلة ، على هذا المستوى

ص: 138


1- انظر : من ص504 ال دی 520
2- أعني من العصمة ما يسمى ب (المهمة غير الواجبة ) وهي التي ينعدم فيها احتمال الظلم و المصيان دون الخطأ والنسيان . وسيأتي إيضاحه في الكتاب الآتي . و أما التكامل فيما بعد العصمة فقد بر هنا من التاريخ السابق على امكانه .

العالي . بل معناه توفير الطريق لأن ينال كل فرد من هذا الهدف بمقدار قابلياته

الشخصية ، و بمقدار ما يؤدي من اطاعة وتضحيات في سبيل الحق والعدل .

وهو من هذه الناحية يشبه ما رأيناه في التخطيط السابق على الظهور.

فانه كان يستهدف - فيما يستهدف إليه - تعميق الثقافة الإسلامية في الأمة (1)

و تقوية الارادة الإيمانية تجاه المشاكل . وقد رأينا كيف يأخذ الناس من هذه

الأهداف بمقدار قابلياتهم و مقدار ما يؤدونه من تضحيات ، وكيف ينتج

هذا التخطيط تكاملهم التدریجي البطيء.

غير أن هذا التخطيط الجديد يختلف عن سابقمه في نتيجته . فإنه بينما

رأينا في التخطيط السابق أنه لم يتصف بالنجاح الحقيقي خلاله إلا عدد قليل نسبياً .

فان هذا التخطيط الجديد سيشمل بالنجاح أكثر الأفراد ، وسيصل في المدى

البعيد كل الأفراد إلى المستوى المطلوب : بالتدريج البطيء.

وسيأتي في مستقبل هذا البحث أن المجتمع البشري . نتيجة للتدابير الآتية

التي تضعها الدولة العالمية ، سيمر بمرحلتين من العصمة :

المرحلة الأولى : ان يكون الأفراد غیر معصومین و لكن الرأي العام المتفق

عليه بينهم معصوماً. وقد أشرنا في التاريخ السابق (2) إلى ذلك مختصراً . وسيأتي في مستقبل البحث ما يزيده ايضاحاً .

المرحلة الثانية : أن يكون كل الأفراد معصومین ... بتلك العصمة

ص: 139


1- يسير هذا العمق إلى جنب الشعور الديني ... ومن هنا لم يكن وجود هذا العمق في الثقافة الاسلامية لدى عدد كبير في الأمة ، منافيا مع وجود الضحالة من هذه الجهة لدى عدد كبير أيضا ، كما أشرنا غير بعيد . في النقطة الثالثة من نقاط الضعف .
2- تاريخ الغيبة الكبري ص 481

القائمة على أساس العدل الكامل مفاهيمياً و تشريعياً . الذي كان ولا زال

- في تلك الفترة - مطبقاً منذ عهد بعيد. وسيأتي ما يوضع ذلك أيضاً .

الجهة الثالثة : في التعرف على تفاصيل التخطيط الإلهي العام لما بعد الظهور

و أسسه العامة بمقدار الامكان . تلك التفاصيل والأسس التي يمكنها أن تحول

المجتمع الذي عرفنا نقاط ضعفه في الجهة الأولى ، إلى الصفات الكبرى

التي حملنا عنها فكرة كافية في الجهة الثانية .

ونحن إذ نتحدث عن هذه الأسس ، إنما نتحدث عما يمكن أن يكون

كذلك في الفترة الأولى للدونة العالمية . وهي التي تسبق المجتمع المعصوم

بكلا نسميه ، فإن هذا أقرب إلى امكان التعرف عليه من تلك المجتمعات العليا

المتأخرة . فإننا سبق أن أكدنا عجز الباحث عن ادراك العمق الحقيقي للفكر والتشريع لما بعد الظهور . وهذا ثابت منذ تأسيس الدولة العالمية ، فضلاً

عن المجتمعات المعصومة . إذن . فليس لنا أن نعرف عن المجتمعات المعصومة شيئاً مفصلاً .

وما يمكن لنا الآن ندوره و اثباته بالقواعد العامة ، من الأسس لتلك الفترة . ما يلي :

الأساس الأول : تربية العالم ثقافياً من جهة الاسلام الواقعي أو العدل الكامل

الذي يقوم عليه نظام الإمام المهدي (ع) في دولته العالمية .

ويعطى من ذلک لكل فرد و لكل شعب ما يحتاجه من أساليب التثقيف

ومقداره ، بشكل تدریجي وعلى مراحل . وكلماطويت مرحلة . أستحق الفرد أو الجماعة مرحلة جديدة من الثقافة .

فالشعوب غير المسلمة ، سوف تدعي إلى الإسلام . وسوف يعتنقونه

ص: 140

باقتناع وسهولة ، نتيجة للأسباب التي سوف نذكرها بعد ذلك . وكل

من أسلم من جديد أو هو مسلم سلفاً سوف يربي على الثقافة الإسلامية العامة

الضرورية لوجود الطاعة والابتعاد عن المعصية ، إن لم يكن قد نال ذلك

نتيجة للتخطيط الإلهي السابق .

وكل من قربی إلی هذه الدرجة . فانه يعطى الثقافة التي تؤهله لاستيعاب

الأفكار والمفاهيم والقوانين الجدیدة التي تعلن في ذلك العهد : طبقاً للمصالح

الموجودة يومئذ .

ثم يبدأ التصاعد والتكامل الثقافي من هذه الدرجة أيضاً . ویأخذ كل

فرد من البشر من ذلك بقدر قابلياته وجهوده أيضاً .

ولئن كانت المراحل الأولى والأسس الرئيسية من هذا التثقيف ، سینجزها

الإمام المهدي (ع) بسهولة وسرعة . على ما سوف نسمع في هذا التاريخ

إلا أن المراحل المتأخرة التي تعتبر تفريعاً و تطبيقاً للأسس، سوف تكون تدريجية

وبطيئة ، طبقاً لتربية كل أمة .

الأساس الثاني : تربية البشرية من حيث الإخلاص و قوة الارادة تجاه

المسؤوليات الجديدة في دولة العادل .

ويكون الأسلوب العام في ذلك مشابهاً في الفكرة للأسلوب الذي كان

متخذاً في التخطيط الأول. وهو مرور الفرد بمصاعب و عقبات تجاه العدل ،

ليرى موقفه منها ورد فعله تجاهها . فان وقف موقفاً اسلامياً عادلاً كان ناجحاً في هذا التمحيص وإلا كان فاشلاً .

لكن يختلف سبب التمحيص في التخطيط السابق عنه في هذا التخطيط

الجديد ، فإننا قلنا في التخطيط الأول أن ظروف الظلم والانحراف كافية في

ص: 141

لتمحيص، من حيث رد الفعل الاسلامي الصحيح من الفرد تجاهها. وأما

في التخطيط الثاني . فسوف لن يكون لعصور الظلم و ظروف الفساد أي أثر

وانما ينبثق التمحيص في العهد الجديد من المسؤوليات التي يفرضها التمسك

بالعدل الكامل وتطبيقه . والمحافظة على بقائه في علاقة الفرد مع نفسه ومع

و به ومع الآخرين ومع النظام العام القائم ... تلك العلاقات التي يتوقع من

الفرد خلالها رد فعل اسلامي عادل كامل.

وسوف يكون التمحيص شاملاً لكل فرد بمقدار قابلياته وثقافته ، لأنه

یتماسب دائماً مع ارتفاع الثقافة تناسباً طردياً مطرداً ... إذ يقبح على اللّه

عز وجل أن يوفر للفرد امتحاناً و تمحیصاً يكون الفرد فيه فاشلاً باليقين ،

فان ذلك خلاف العدل الإلهي . وانما يكون التمحيص على مقدار الثقافة

و القابلية دائماً. حتى ما إذا وصلت الثقافة قمة عالية . كأن التمحيص في غاية الدقة

و الصعوبة . وكان المجاح المتوقع منها نجاحاً مناسباً لملك المرتبة ، والفشل الصمادر فيها مسجلاً بادق الموازين و بأهون العثرات .

وقد وردت في أخبار المصادر الخاصة . نماذج للتمحيصات التي يقوم بها المهدي (ع) في الفترة الأولى من عهده ، تجاه الأمة عامة وتجاه أصحابه الخاصين - ممن نجحوا في تمحيص التخطيط الأول - خاصة . على ما سوف نعرف تفصيله في ما يأتي .

وقد يخطر في الذهن : انه ما الحاجة إلى التمحيص في التخطيط الإلهي

الجديد ، وإنما كانت الحاجة في التخطيط السابق إلى التمحيص ، لإيجاد العدد

الكافي من أفراد الجيش الفاتح للعالم بين يدي المهدي (ع). وقد أنجز هذا

الجيش عمله . وانتفت الحاجة إلى مثله . فلماذا يستمر التمحيص ساري

المفعول في البشر .

ص: 142

وجواب ذلك : ان ناموس اللّه تعالى في خلقه هو تربيتهم عن طريق

التمحيص ... كما دل عليه الكتاب الكريم في عدد من آیاته ، والسنة الشريفة ، منها : قوله تعالى : «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ

حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ » (1)

فإنه قانون عام لاختبار طاعة الأفراد في عصر ما قبل التمحيص ...

و هو كل عصر يواجه فيه الناس دعوة جديدة و تربية جديدة لم تختبر مواقفهم

تجاهها ، ولم تعرف ردود فعلهم حيال المشاكل التي تعترضها فلا بد أن تمر

الأمة المسلمة خلال هذا القانون. ليكون له الأثر الفعال في تربية الأفراد

و تعميق اخلاصهم وتقوية ارادتهم تجاه المشاكل . وبذلك يتميز الخبيث من

الطيب ، ويعرف من يكون له موقف اسلامي صحيح تجاه المصاعب و العقبات .

و من يكون ذا موقف منحرف باطل . وهذا ميز واقعي بين الأفراد يمت إلى

اختلاف قابلياتهم ومسبقاتهم الفكرية والعقلية والنفسية بصلة ... قبل أن

يكون مجرد انكشاف لدى الآخرين ...

وقد سمعنا كيف أن هذا القانون ، كان شاملاً لدعوات الأنبياء السابقين

على الإسلام ، ومشاركاً في تربيتهم مشاركة فعالة ، وقد شرحناه في التاريخ

السابق (2)وقلنا (3) ان الحاجة - مع ذلك - تعنّ إلى سريان قانون التمحيص

إلى ما بعدالإسلام لتتري البشرية طبقاً لمفاهیم و تشريع الأطروحة العادلة

الكاملة .

وكما واجه المجتمع المؤمن دعوة جديدة في صدر الإسلام ، فكان مقتضی

ص: 143


1- آل عمران : 179/3 .
2- انظر تاریخ الغيبة الكبری ص255 وما بعدها .
3- المصدر السابق ص 266

هذا القانون تمحيص الأفراد على أساسه خلال تربية الأجيال تربية بطيئة و طويلة

و هذا هو التمحيص الساري في تخطيط ما قبل الظهور . كذلك سوف يواجه

المجتمع المؤمن و البشرية جمعاء دعوة اسلامية جديدة بعد اندر اس الإسلام

و عوده غريباً أو نسيان وعصيان الكثير من أحكامه . و سيواجه في هذه الدعوة

الجدیده نظاماً و قوانین و مفاهیم . لم يكن له بهاسابق عهد مضافاً إلى القواعد

الإسلامية السابقة .

ومن هنا يكون المجتمع بالنسبة إلى هذه الدعوة الجديدة . مجتمع ما قبل

التمحيص ... ویحتاج مقتفي هذا القانون الشامل الى أن يمر بعصر التمحيص

خلال تربية طويلة و بطيئة . لتتميز مواقف الناس تجاه النظام الجديد والدعوة

الجديدة ... و يأخذ كل فرد على قدر قابلیه وجهو ده من النجاح و التكامل

خلال التمحيص . ما يستطيع

وبينما كان التمحيص السابق . يننج فشل الاعم الأغلب من البشر ،

كماعرفنا فان هذا التمحيص . بصفت۔ مدعماً بالاسس التي سنعرفها ينتج

نجاح الأعم الأغاب من البشر . وسيكون النجاح مطرداً. حتى تصل البشرية

في النتيجة إلى المجتمع المعصوم .

الأساس الثالث : للتخطيط الجدید: توفير جو من السعادة والرفاه المادي

المتزايد ، تحت جو من الأخوة والتضامن والعدل الكامال ... بأساليب معينة

ستأتي في القسم الثاني الآتي من الكتاب .

والأساس النظري لايجاد هذا الرفاه . ليس هو مجرد نیل اللذة المادية

لانها مهما كانت مهمة . فإنها لا تكفي وحدهاللسير بالبشرية نحو هدفها

المقصود النهائي ... وإنما يلاحظ الرفاه المادي بمقدار ما يستطيع أن يؤثر

في ذلك الهدف البعيد وير بي البشرية باتجاهه .

ص: 144

وذلك : من زاوية أن الرفاه المادي كلما تزاید ، فإنه يوجب توفير

الوقت الكافي والجو النفسي للناس من أجل ايفاء الجانب الاخلاقي و العبادي

حاجته الكاملة ... لكي يقع الرفاه المادي عن هذا الطريق واسطة نحو الهدف

البشري البعيد .

وطبقاً لهذا المنهج ، يصبح الرفاه المادي متناسباً تناسباً مطرداً ، مع توفير

الجو الكافي لذلك ، ولا يمكن أن يكون عائقاً عنه ، بعد أن يتشرب الناس

ذلك الأساس النظري ، و هو ملاحظة الرفاه بصفته طريقاً نحو الهدف ، لا

انه بنفسه الهدف . ومن ثم ستكون زيادة الرفاه مؤيدة لتركيز التربية وترسيخ

العدل ، ومن ثم المشاركة في بناء ذلك الهدف .

وهذا هو المؤدي الحقيقي لما سمعناه من الأخبار في فصل سابق من كثرة

المال في عهد الإمام المهدي (ع) وانه يقسم المال ولا بعده ... تلك الأخبار

المروية من قبل الفريقين ، وقد سمعنا ما ورد منها في الصحيحين .

وقد يخطر في الذهن : أن توفير المال و الرفاه ، إنما يكون من زيادة العمل ،

فيكون متناسباً تناسباً عكسياً مع الهدف. لأن زيادة العمل في سبيل الرفاه سوف

يمتص الجهد الذي يمكن أن يبذل في الجانب الأخلاقي و العبادي . ولا تكون

زيادة الرفاه مؤيدة لتركيز التربية ، كما قلنا .

والجواب على ذلك واضح جداً ، لمن استطاع استيعاب المفهوم الصحيح

للعبادة مع المفهوم الصحيح للعمل ، فانه سيستغرب كيف تكون العبادة عائقاً

عن العمل مع أنه الأسلوب المهم في حصول الرفاه الاقتصادي المطلوب من

أجل العبادة نفسها . وكيف يكون العمل عائقاً عن العبادة ، وهي الهدف الرئيسي

للحياة . وبالنتيجة هما معاً واقعين في طريق الهدف البشري الأعلى .

10

ص: 145

ومن هنا يمكن أن ننطلق إلى الجواب على مستويين :

المستوى الأول : إننا إذا فهمنا من العبادة معنى لا ينطبق على العمل،

وأصبح العمل المتزايد عائقاً عن العبادة . فإن ذلك لا يمكن أن یحدث تحت

ظل النظام العالمي العادل . إذ يمكن التوفيق بين العبادة والعمل، وتنظیمها

تنظیماً عادلاً يكفل إيفاء كل منهما للحاجة التربوية، وتحصیله لنتيجته المطلوبة ،

تحت اشراف القانون والدولة .

المستوى الثاني : أننا نفهم من العبادة معي ينطبق على العمل ، ولا يتنافي

معه فان العمل نفسه يمكن أن يصبح عبادة . إذا كان واقعاً في طريق العبادة

و مطابقاً لنظام العادل الكامل . فإنه يصبح آنئذ من أفضل العبادات في علاقة

الفرد مع الآخرين . ولا نريد بالعبادة خصوص الطقوس الفردية التي تربط

الفرد بر به . وقد اعطينا في هذا الكتاب و الكتاب السابق فكرة كافية عن ذلك

. ... لكن بشرط أن يشعر الفرد العامل بهذا الترابط . وهذا الاستهداف

فإن شعوره بذلك يجعله متصفاً من خلال عمله بالعبادة ، وهو في معمله أو

متجره أو منجمه . وهذا الشعور متوفر بطبيعة الحال تحت الإشراف التربوي

للدولة العادلة .

لكن العمل إذا انطلق من هذا المفهوم ، فلن يكون مستهدفاً لذاته ، أو

لمجرد الحصول على المال . فان العمل ما دام في سبيل المصالح العامة و تحقیق

العبادة التامة ... اذن . فيجب أن يتحدد بحدودها ، يكثر حين تقتضي

كثرته . ويقل حين تقتضي تلك المصالح قلته . ولا معنى لأن يكون العمل معيقاً عن تحقیق المصالح و الأهداف .

الاساس الرابع : للتحطیط الماني : الاشراف العام للدوله على تفاصيل

التطبيق من الناحيتين القانونية والاجتماعية .

ص: 146

حيث تشرف الدولة العادلة على نشر الثقافة العامة ، وتقوم ببعض التمحيصات

على ما سنسمع . ونراقب الأفراد من حيث رقيهم في الدرجات المطلوبة من

الكمال ، وتساعدهم على النجاح والتكامل بالمقدار اللازم، وتسجل في سجل

ضمير ها من نجح من الأفراد ومن فشل منهم في التمحيص . ومن له

قابلية الرفي ممن ليس له ذلك .

وسنرى كيف سيكون للدولة من أثر مباشر في تربية الأفراد في العالم ،

و التدخل في حياتهم الروحية و العاطفية والعقلية والاجتماعية . وهذا مما یؤکد

نجاح الدعوة المهدوية و التطبيق الكامل للعدل ، كما يؤكد اجتياز الأفراد للمراحل

الأولى من الكمال بنجاح وسرعة وسهولة .

وهذا الأساس مما يفترق به هذا التخطيط عن سابقه . نتيجة لاختلافهما

في الأهداف ، فقد كان الهدف من التخطيط السابق . تمييز ألخبيث من الطيب

و تکریس جهود الطيبين وتعميق اخلاصهم ليكونوا الطليعة الأولى لدولة العدل

العالمية في اليوم الموعود . ولم يكن هناك أي تأكيد على انجاح الراسبين أو توفير

فرص النجاح ... بل أن الفرد إذا رسب في التمحيص وعصى الأحكام

الإلهية الإسلامية ، فقد جي بنفسه على نفسه و سعي بظلفه إلى حتفه . فليس

وراءه إلا استحقاق العقاب .

ولذلك لم يكن هناك أي حاجة للاشراف المركزي على التثقيف أو التمحيص

وان كان هذا راجحاً . إلا أنه في امكان التخطيط العام أن يصل إلى نتيجته

وصولاً تلتقائياً وفي كل الظروف .

ولكن التخطيط الثاني يختلف عن الأول : في هذه النقطة . و ذلك : لأنه

لا يسهدف مجرد لتمحيص . بل الوصول إلى الهدف الأعلى الاسنية على

الصعيد العالمي كله . وهذا يستدعي القيام بأمرين مقتر نین :

ص: 147

الأمر الأول : تعميق التمحيصات تبعاً لتعميق الثقافة الأسلامیه میت ، نعلنة

في العالم يومئذ . و تشديد النكير على الراسبين في هذا التمحيص ، إلى حد قد

يؤدي بهم إلى القتل ، لعدم انسجام الفرد الراسب في التمحيص مع مجتمع العدل المطلق .

الأمر الثاني : توفير الفرص الكافية للأفراد . ممن لا يتصف بالقابلية

العليا و الثقافة العميقة ، إلى النجاح ، تحت إشراف الدولة العادلة ، ليكون

اصول إلى نتيجة التخطيط أسرع وأسهل و أوسع.

وليس بين هذين الأمرین تناف ، بل هما متفقان في الايصال المطلوب

إلى النتائج المتوخاة ، وسوف يكون الأمر الأول أشد وضوحاً وأهمية مع

وجود الأمر الثاني ، فإن من يرسب في التمحيص ، بالرغم من وجود الفرص

الكافية للنجاح ، يكون أشد إجراماً وأبعد عن الحق والعدل . ممن یر سب

بدون هذه الفرص ، كما هو واضح .

وهذا يشكل احدى الفوارق في النتائج بين هذا التخطيط و سابقه ، فبينما

نجد أن التخطيط السابق يتمخض عن ضعف المسؤولية ، كما سبق أن برهنها

في التاريخ السابق (1) نرى هذا التخطيط مساوقاً مع عمق المسؤولية ودقتها .

ويرجع ذلك لعدة أسباب ، لعل من أوسعها وأوضحها، كون تطبيق

العدل في التخطيط السابق مخالفاً للاتجاه العام المملوء بالظلم والجور، حتى يكون

القابض على دينه كالقابض على جمرة من النار ، كما ورد في بعض الأخبار .

ومن الواضح أن القبض على الجمر يحتاج إلى قوة ارادة عليا ، وأن عدم القبض

عليه لا يتضمن المسؤولية العليا والإجرام الكبير . بخلاف الحال في التخطيط

ص: 148


1- تاريخ الغيبة الكبری ص 451 و ما بعدها إلى عدة صفحات .

الحديد ، فان تطبيق العدل موافق للاتجاه العام المملوء قسطاً وعدلاً ، ومن هذه

الجهة يكون موافقاً للهوى ، ويكون الانحراف مخالفاً للاتجاه العام فتكون

مسؤوليته ذات درجة عليا من الأهمية ومن استحقاق العقاب .

فهذه هي الأسس الرئيسية التي يمكن التوصل إليها الآن ، وبها وأشباهها يستطيع القائد المهدي (ع) تربية الأمة الإسلامية بسرعة وسهولة . واما بالنسبة

إلى سائر أجزاء العالم فهذه الأسس سوف تشارك في تربيته بعد استتباب السيطرة

عليه . وأما حصول هذه السيطرة فلا وكيفيتها ، فهو ما سنذكره مفصلاً

في فصل قادم .

ص: 149

ص: 150

الباب الثاني: حوادث ما قبل الظهور

ونعني بها الحوادث التي تقع قبل الظهور بزمن

قليل ، حسب ما نعرف من أدلتها . وهو ما

سبق أن أجلنا الحديث عن الأعم الأغلب من

« تاريخ الغيبة الكبرى » إلى هذا التاريخ ، باعتبار ما الصق به . وان كانت هذه الحوادث في واقعها، تحصل في عصر الغيبة الكبرى نفسه ، إلا أن

قصر الزمان نسبيا، بينها وبين الظهور يجعلها أشد، ارتباطاً به مما قبله، كما سيتضح فيما يلي من البحث

ص: 151

ص: 152

تمهيد

لا بد أنا - في هذا الصدد - أن نأخذ بنظر الاعتبار ، عدة أمور :

الأمر الأول : اننا سرنا في التاريخ السابق (1) على أسلوب معين في فهم غالب الحوادث الواردة في الأخبار . وهو أسلوب الحمل على الرمزيّة . لوجود

الاطمئنان في كثير من الأحيان، بأن المداليل اللفظية الأخبار الناقلة لهذه

الحوادث غير مقصودة . وإنما المقصود من ورائها الاشارة إلى حوادث اجتماعية

مما قد يتمخض عنها التخطيط السابق على الظهور . وإنما صيغت بأسلوب

الرمز المصالح معينة ... لعل من أهمها :

أولاً : عدم موافقة الصراحة بهذه الحوادث مع المستوى الفكري للعصر

الذي صدر فيه هذه الأخبار .

ثانياً : انه لو صرح بهذه الحوادث و شرحت بوضوح . لأمكن استغلالها

واتخاذ مواقف سيئة منها ، بنحو يخل بالتخطيط الإلهي العام .

ثالثاً : ان مؤدې جملة كبيرة من الأخبار الناقلة للحوادث . ظاهربأنها

تحصل عن طريق اعجازي غير طبيعي ، بشكل يكون منافياً مع قانون المعجزات

الذي بر هنا على صحته . فيدور الأمر بين طرح الحديث أساساً وبين حمله على

الرمز ، وقلنا هناك (2) بأن الحمل على الرمز أولى من الطرح ، وخاصة فيما

ص: 153


1- انظر - مثلا - ص 212 منه .
2- ص 217 وما بعدها .

إذا كانت الحادثة منقولة بأخبار كثيرة ، صالحة للاثبات التاريخي ، ولا يمكن

طرحها .

وهنا نواجه هذه النقاط مرة أخرى ، بشکل و آخر ، في الأخبار الناقلة لحوادث

ما بعد الظهور . مع وجود اختلافين احدهما نقطة قوة والأخرى نقطة ضعف :

الاختلاف الأول : الذي يمثل نقطة البقوة وهو أننا هنا لن نواجه العقبة

التي قلناها في تمهيد هذا التاريخ، وهي أننا لا نستطيع التعرف على العمق الحقيقي

للحادثة أو لمجموع الحوادث ، و ذلك : لأن ذلك إنما یصدق على حوادث

ما بعد الظهور . وأما ما يكون موجوداً قبل الظهور ، كما هو شأن العلامات

التي نتحدث عنها في هذا الفصل، فاستيعاب فهمه متيسر إلى حد كبير .

الاختلاف الثاني : الذي يمثل نقطة الضعف ، ينطلق من صعوبة اختيار

المعنى المرموز إليه ، في الموارد التي تحتاج فيها إلى ذلك ، فانه بعد أن يتبر هن

الحمل على الرمزية ، قد لا يتعين المعنى المشار إليه بالرمز : ولعله من الممكن

انطباقه على أكثر من مفهوم أو عدة وقائع .

ومع وجود هذه المصاعب ، قد لا يتعذر الاطلاع على المعنى المرموز إليه .

إذا وجدت من القرائن و المثبتات حوله ما يكفي . ولكن مع تعذر ذلك

لابد أن نبني البحث على أسلوب (الأطروحات ) بمعنی عرض أقرب المعاني

المحتملة إلى الواقع وإلى القواعد العامة . وقد لا يكون المعنى المحتمل بلحاظ ذلك

أكثر من معنى واحد ، فيتعين ، وان كان لا يعدو كونه ( أطروحة) باعتباره معنى محتملاً .

وتوجد هناك صعوبة أخرى ، قد تواجهها في فهم بعض الأخبار وهي

أننا نجهل ما هو الرمزي من الفاظ الروايات مما هو صريح . فهل كل الفاظها

ص: 154

رمزية أو يوجد بعضها ما يمكن حمله على معناه الصريح. وهل يمكن التبعيض

في الفاظ الحديث الو أحد ؟ وهل نحن محتاجون في هذه الرواية ، للحمل على

الرمز أو لا ؟

أما من حيث أسس ذلك ، وهي امكان التبعیض في الفاظ الحديث الو احد

فالصحيح المطابق للفهم العام من الكلام ، أن ذلك ممكن إذا لم يكن مجموع

الفهم من ألفاظ الحديث متنافراً. بمعنى ضرورة الإنسجام بين المعاني التي

فهمناها سواء الصريح منها والرمزي.

واما الحاجة إلى الرمز وعدمه. فهو ما سبق أن بحثناه في التاريخ السابق (1) و خلاصته عدم امکان الحمل على الرمز و امكان فهم المعنى اللفظي المطابقي

نفسه. ومع امكان ألحمل على المجاز و الكناية. إذ مع امكانه لا حاجة إلى الرمز .

وانطلاقاً من هذه الأسس سنقوم بتذليل هذه الصعوبة : أعني تعيين الرمزي من الصريح من الألفاظ ، عن طريق ( القواعد العامة ) و دلالة الأخبار الأخرى أو لاً . فان تعذر ذلک`كان أسلوب ( الأطر و حات ) كفيلاً بتذليل

هذه المشكلة ، لأننا حين نعرض الأطروحة المعينة القريبة إلى الذهن، سنعرف

بطبيعة الحال ما يدل عليها من الأخبار بنحو الرمز . وما يدل عليها بنحو

الصراحة .

الأمر الثاني : - من التمهید - : في تمحيص ما ورد من الحوادث .

يمكن تقسيم هذه الحوادث من حيث إعرابها عن المعجزات إلى قسمين :

القسم الأول : ما كان بدلالته المتفظية ، أو بعد حمله على الرمزية . دالاً

على حوادث غير اعجازية ، اجتماعية أو طبيعية .

ص: 155


1- تاريخ الغيبة الكبری می 208 وما بعده ها .

القسم الثاني : ما كان دالا على حوادث اعجازية ، بشكل واضح، لا

يمكن صرفه عنها .

ويختص القسم الثاني بتحفظين لا حاجة إليهما في القسم الأول .

التحفظ الأول : ان هذا القسيم مربوط بقانون المعجزات ، فما كان منه

منسجماً معه أمكن الأخذ به لو تم فيه التحترف الثاني الآني ... وما لم يكن منسجماً معه ، فلا بد من رفضه على كل حال .

التحفظ الثاني : ان القسم الأول يمكن قبول حوادثه مع الانسجام مع

المنهج العام الذي قلناه في التمهيد العام لهذا التاريخ ... في حين أن القسم

الثاني يحتاج إلى درجة أعلى من التشدد في القبول . كما عملنا عليه في التاريخ

السابق (1). ففي الوقت الذي قبلنا فيه الخبر الموثوق الواحد المجرد عن القرائن

المثبتة في التمهید ... لم نكن قد قبلناه في التاريخ السابق . ولا نستطيع قبوله

في اخبار القسم الثاني المتكفل لنقل أخبار المعجزات ، باعتبار ما في نقلها من

مظنة الخطأ والانس . كما سبق أن عرضناه في التاريخ السابق (2)204 ، فنقتصر

فيه على قبول الخبر المستفيض أو المحفوف بالقرائن الموافقة .

الأمر الثالث : سبق منا في التاريخ السابق (3)ان ذکر نا حوادث ما قبل

الظهور . مفصلة وعرفنا ما حدث منها ومالم يحدث. وما هو محمول على الرمزية

وما ليس كذلك . وعرفنا هناك خصائص كثيرة لا حاجة إلى تكرارها في هذا التاريخ .

ص: 156


1- تاریخ الغيبة الكبری ص 208 .
2- المصدر ص
3- المصدرفصل الأخبار الدالة على التنبو بالمستقبل ص 280 وفصل علامات الظهور ص521 .

إلا أن هذا التركيز فيما سبق ، كان على حوادث ما قبل الظهور . ككل

سواء منها البعيد عنه والقريب ... بل كان التركيز على البعيد عنه أشد والحديث

عنه أوسع ... باعتباره بعضاً من حلقات تاريخ الغيبة الكبری.

و مع تجنب التكرار في هذا التاريخ ، والاستغناء عن ذكر الحوادث البعيدة

أو المحتملة البعد عن يوم الظهور ، يبقى على هذا الفصل أربعة مهام :

المهمة الأولى : التعرض إلى بعض العلامات التي لم تكن قد ذكرت في

التاريخ السابق . مع محاولة تمحيصها . واعطائها الفهم اللازم .

المهمة الثانية : محاولة اثبات بعض العلامات التي سبق ذكرها . طبقاً

لتغيير المنهج في الإثبات التاريخي، كما سبق أن أوضحنا في التمهید.

المهمة الثالثة : محاولة اعطاء فهم جديد لبعض العلامات القريبة التي لم

تكن قد أخذت حفلها الكافي من البحث في التاريخ السابق ... أو عرض

جوانب جدیدة منها . لم تكن قاد عرضت هناك .

المهمة الرابعة : محاولة ضبط التسلسل التاريخي للحوادث مهما أمكن .

و هذا ما لم تتوفر عليه في التاريخ السابق . في حين يكون استنتاجه مهما في هذا التاريخ .

و إذا تمت هذه المهام ، فسيكون هناك فرق أساسي كبير بين بحث

التاريخ السابق . وبين هذا الباب . كما سوف يظهر عند الدخول في

التفاصيل .

وعلى أي حال ، فتنقسم هذه الحوادث ، أعني القريبة إلى الظهور ، إلى قسمين رئيسيين :

ص: 157

الأول : الظواهر الطبيعية أو السماوية التي لا تمت إلى اختيار الناس بصلة .

الثاني : الظواهر الاجتماعية التي تعود إلى تصرفات الناس ، وما يعود

إلى الحوادث التي تحصل للأمة الإسلامية بين آونة وأخرى .

وينبغي أن يقع الحديث عن القسم الأول سابقاً على الحديث عن القسم

الثاني لأجل أن تتصل حوادث القسم الثاني بما بعدها من التاريخ ، حفظاً للتسلسل الزماني لها.

و سنتحدث عن كل قسم في فصل مستقل .

ص: 158

الفصل الاول الظواهر الطبيعية و السماوية

و نريد بها الحوادث المنقول حدوثها في الطبيعة ، وان كانت صفتها

اعجازية . والمنقول منها أمور عديدة . ونحن نقتصر - اختصاراً للكلام و تمحیصاً للروایات - على ما كان متصفاً بشرائط ثلاث :

الشرط الأول : عقدنا من أجله هذا الباب ، وهو خصوص الحوادث

القريبة من الظهور . بحسب أدلتها دون البعيد منها .

الشرط الثاني : أن تكون الحادثة مما يمكن اثباته ، بحسب المنهج الذي

اتخذناه مع محاولة تجنب ما لا يمكن اثباته .

الشرط الثالث : أن يكون مما ورد ارتباطه في الأخبار نفسها بظهور

الإمام المهدي (ع) . وبهذا تختص هذه الحوادث بالمصادر الخاصة الإمامية ، و ليس في المصادر العامة منها إلا النادر .

وما يبقى مندرجاً هذه الشروط ، من الحوادث : عدة أمور . نذكركلا منها في جهة :

الجهة الأولى : الخسوف والكسوف :

ويراد به حدونهما بشكل يختلف عن الشكل الاعتيادي له. فبدلاً عن أن

ص: 159

يحدث ألكسوف في أول الشهر والخسوف في وسطه ، كما هو المعتاد ، فان حدوثهما . سوف يكون بالعكس ، فيحدث الكسوف في وسط الشهر والخسوف

في أوله ... بشكل لم يسبق له نظير منذ أول البشرية إلى حين حدوثه .

و هذا ما تعرب عنه عدد من الروايات . ذكرنا ثلاثاً منها في التاريخ

السابق (1) عن الشيخ الطوسي والشيخ المفيد والشيخ النعماني . واخرج الشيخ . الطوسي في ( الغيبة ) (2)أيضاً بسنده عن بدر الأزدي ، قال :

قال أبو جعفر الإمام الباقر (ع)

آيتان تكونان قبل القائم لم تكونا منذ

هبط آدم (ع) إلى الأرض . تنکسف الشمس في النصف من شهر رمضان

والقمر في آخره . فقال رجل : يا ابن

رسول اللّه ، تنکسف الشمس في

آخر الشهر والقمر في النصف. فقال

أبو جعفر : اني لأعلم بما تقول ولكنهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم (ع) .

واخرج السيوطي في العرف الوردي (3)عن الدار قطني في سننه عن محمد ابن علي ( الأمام الباقر (ع ) ، قال :

ان لمهدينا آيتين لم يكونا منذ خلق اللّه السموات والأرض : ینكسف.

ص: 160


1- انظر ص 574
2- ص 270 .
3- الحاوي للفتاوي ج2 ص 136 .

القمر الأول ليلة من رمضان ، وتنکسف

الشمس في النصف منه . ولم يكونا منذ

خلق اللّه السموات والأرض » .

وفيما روينا هناك ما يدل على أن انكساف القمر يكون في الخامس والعشرين من رمضان . واما انكساف الشمس فهو في ثلاث عشرة أو أربع

أو خمس عشرة منه . ويدل سياق هذه الرواية وأكثر من رواية أخرى على

قرب هذه العلامة من قيام القائم أعني ظهور المهدي (ع).

و هذا العدد من الروايات يكفي للاثبات التاريخي حتى مع ( التشدد السندي)

الذي سرنا عليه في التاريخ السابق . وطبقناه هنا على الروايات الناقلة للمعجزات.

وقد أشرنا هناك إلى المبرر الذي دعا إلى إيجاد هاتين الواقعتين في التخطيط الإلهي لما قبل الظهور . وهو - باختصار - : ترسيخ فكرة المهدي (ع)

عند حدوث هذه العلامة ، أولاً. والايعاز إلى المخلصين الممحصين من الخاصة إلى قرب الظهور ثانياً .

يبقى علينا الآن أن نتكلم عن المبرر الكوني لوجودها . وهل هو بطریق اعجازي أو طبيعي ... وإذا كان طبيعياً فكيف يحصل ... وهذا ما لم نفض

فيه الحديث في التاريخ السابق .

ان لحدوث هذه الوقائع عدة أطروحات لا بد من أستعراضها ونقادها :

الأطروحة الأولى : حصول الكسوف والخسوف بسببه (العلمي )الاعتيادي

لكن مع اختلاف بسيط هو الاختلاف في الزمان . فإذا ثبت في العلم الحديث أن

الكسوف يحصل بتوسط القمر بين الأرض و الشمس. و ان الخسوف يحصل، بتوسط

الأرض بين الشمس والقمر ، أمكن حصول ذلك في زمان آخر جديد .

11

ص: 161

وهذه الأطروحة هي الأوفق بالظاهر الأولي من الروايات ، لو فرض

الالتزام بكون هذه الحوادث طبيعية غير اعجازية .

إلا أنها واضحة المناقشة طبقاً للنظرية العلمية الحديثة ، ومن ثم لا بد من

التنازل عن هذا الظهور الأولي للروايات .

فان القمر - وهو يستمد نوره من الشمس ، و النور يسير بخطوط مستقيمة

لا يمكن أن تنعطف انعطافاً كبيراً - ان القمر لا يمكن أن يكسف الشمس

حال كونه بدراً في وسط الشهر ، لان انكساف الشمس به ، يلازم بالضرورة

كون الوجه المظلم من القمر متوجهاً إلى الأرض . وهذا ينافي بالضرورة ،

کونه بدراً .

كما أن خسوف القمر لا يكون إلا بوقوع ظل الأرض على القمر ، بعد

توسطها بينه وبين الشمس . وهذا معناه : أن الأرض أقرب إلى الشمس من

القمر . وهذا لا يحدث إلا في وسط الشهر حين يكون القمر بدراً .

ولا يمكن دفع هذه المناقشة ، إلا بالطعن بلنظرية العلمية ، انطلاقاً من

زاوية أن النظريات العلمية مهما تأكدت. فإنها قائمة على الحساب الظني ، وإن

كان راجحاً ولا تنتج يقيناً تاماً بأي حال . وهذا موکول إلى وجدان القاريء .

الأطروحة الثانية : أن تكون رؤية الكسوف والخسوف في غير الأرض بل في مناطق أو كواكب أخرى من المجموعة الشمسية .

أما بالنسبة إلى كسوف الشمس ، فقد حدث فعلاً عام ( 1391 ه - 1971 م) حين كان بعض رواد الفضاء على القمر ، فشاهدوا الشمس

مكسوفة كسوفاً كلياً بتوسط الأرض بينهم وبينها . وهذا التوسط لا يحدث

- عادة - إلا في وسط الشهر .

ص: 162

وأما الخسوف فلم يحدث إلى حد الآن ، لكن في الامكان تصور حدوثه

فيما إذا انتقل بعض أفراد الإنسان إلى كوكب آخر من المجموعة الشمسية

کالمريخ أو الزهرة ، فإنه قد تصبح الأرض ما بين القمر وذلك الكوكب .

فيحدث الخسوف في نظرهم . ومن الواضح : ان هذا غير مشروط بحدوثه

في وسط الشهر القمري ، بل قد يحدث في أوله أو آخره أيضاً .

ويمكن المناقشة في هذه الأطروحة من أكثر من جهة :

أولاً : أن الظهور الأولي للروايات يقتضي حدوث الكسوف والخسوف

بالنسبة إلى ساكني الأرض ، لا بالنسبة إلى من في القمر أو المريخ.

غير أنه يمكن الاستغناء عن هذا الظهور، من زاوية ان ظهورها في أن

الانسان هو الذي يرى هاتين الواقعتين . وهو أمر لا يختلف فيه الحال بين الأرض

والقمر والمريخ ، ما دام الانسان هو المشاهد .

ثانياً : ان الظهور الأولي للروايات يقتضي حدوث هاتين العلامتين في

شهر واحد . هو شهر ، رمضان ، وهذا مما لم يتحقق في الخارج .

ثالثاً : ان الظهور الواضح لهذه الروايات - كما قلنا – يقتضي قرب هذه

الوقائع إلى اليوم الموعود . فإذا كان قد حدث أحد الأمرين . إذن فهو لم

يحدث قريباً من اليوم الموعود .

الأطروحة الثالثة :ان يحدث الكسوف والخسوف بتوسط جرم آخر

طارىء في الفضاء صدفة ، من الأجرام التي تعتبر علمياً تائهة في الفضاء ،

أو ذات مدار ضخم جداً وغير محدد . فيحجب القمر عن الشمس ، فيحدث

الخسوف . أو حجب الشمس عن الأرض في وسط الشهر ، فيحدث

الكسوف ، ومن الواضح أن مرور الحرم الطاريء غير محدد بز مان معين من

الشهر .

ص: 163

وقد يؤيد ذلك بقوله في أكثر من رواية : انهما آيتان لم تحدثا منذ هبط

آدم (ع). فلعل جرماً ما قد أوجد هذه الظاهرة قبل وجود البشرية . ثم

يكون وقت مروره بالمجموعة الشمسية منوطاً بتاريخ معين يصادف قبل ظهور المهدي بقليل .

وهذه الأطروحة لا ترد عليها المناقشة الأولي للأطروحة السابقة . لفرض

انها ترى من الأرض .

وأما المناقشة الثانية : فمن حيث حصول الواقعتين في شهر واحد ، أمر

لا غبار عليه ، إذا التفتنا إلى أن جرماً و احناً هو الذي يعمل كلا العملين .

فان المذنب وأمثاله إذا ظهر قريباً من الأرض لا يختفي عادة لليلة واحدة .

بل يبقى مدة من الزمن حتى ينتهي عبوره فضاء المجموعة الشمسية ، فيمكن

أن يحدث خلال وجوده کلا هذين الأمرين .

و اما وحدوث ذلك في شهر رمضان دون غيره . فهذا على تقدیر ثبوته ،

لا بد من ايكال علمه إلى أهله . وسيأتي ما يوضحه فيما يلي .

الأطروحة الرابعة : أن يحدث الكسوف والخسوف بتوسط جرم آخر طاريء ، ولكنه من الأجرام المنطلقة من الأرض لبعض الأغراض العلمية

أو الحربية . إذ لعل البشرية تتطور حتى تصل إلى المستوى الذي يؤهلها

لاطلاق الأجرام الضخمة المنتجة لمثل هذه النتائج الكبيرة .

وقد يرد في الذهن : إنه إذا كان ذلك بفعل البشر . فكيف يكون ذلك

علامة على اليوم الموعود .

و جوابه من عدة وجوه :

أولاً : لعل البشر يطلقون الجرم لا لأجل إحداث الكسوف والخسوف ،

ص: 164

بل لغرض آخر ، فيترتب عليه من حيث لا يعلمون ، فإذا كان من الضروري

أن تكون العلامة قهرية الوقوع . فهذه بمنزلة العمة القهرية .

ثانياً : ان البشر حتى لو كانوا ملتفتين إلى امكان حدوث الکسوف و الخسوف من اطلاق الجرم ، إلا أن الذين يطلقونها لا يحملون عن المهدي

(ع) و علامات ظهوره أية فكرة . فتكون هذه العملية بالنسبة إلى فكرة

علامیتها كالقهرية.

ثالثاً :ان البشر الذين يطلقون الجرم حتى لو التفتوا إلى فكرة العلامية ،

إلا أنهم لا يمكن أن يطلعونه إلا بعد بلوغهم مستوى ( مدنياً ) ، معيناً . فمن

الممكن أن تكون العلامة في الواقع هو هذا المستوى المدني العلمي وإنما ذكرت

الروايات وجود الكسوف والخسوف للاشارة إليه ، بشكل لا ينافي المستوى

الفكري العام لعصر صدور الأخبار .

وأما ورود المناقشات التي أوردناها على الأطروحة الثانية ، فهو غير

مهم . كما هو واضح لمن يفكر . سوى حصول ذلك في شهر رمضان و هو

ما سيأتي ايضاحه .

وقد يخطر في الذهن : ان الروايات دالة على حدوث هاتين الواقعتين قبل وجود البشرية . فكيف ينسجم ذلك مع هذه الأطروحة .

وجوابه واضح من زاوية ان الروايات لم تدل على اكثر من عدم حصوله

خلال عمر البشرية ( منذ هبط آدم (ع) ) . واما حصوله قبل ذلك . فليس

لها ظهور تام في ذلك ، وان كانت مشعرة به قليلاً . ويمكن الاستغناء عن

هذا الاشعار مع تأكد هذه الأطروحة .

فهذه جملة من الأطروحات الطبيعية أعني حدوث هاتين العلامتين بشكل

ص: 165

غير خارق لنظام الطبيعة ، وهناك بعض الأطروحات الأخرى منها ما هو

مبتن على النظرية النسبية ، لا حاجة إلى التطويل بذكرها.

ويرد على هذه الأطروحة إشكال مشترك هو ما أشرنا إليه من التوقيت

سواء منه التوقيت بشهر رمضان أو بقرب الظهور . فانهما معاً قد يستشكل

بعدم انسجامهما مع الحدوث الطبيعي لهاتين الواقعتين بأي أطروحة كان .

ويمكن الجواب على هذا الايراد من أكثر من وجه واحد ، نذكر منها ما يلي :

الوجه الأول : الطعن بصحة هذا التوقيت . والالتزام بأن أقصى ما

يثبت هو وجود هاتين الواقعتين في غير أوانهما الطبيعي من الشهر ، فان

هذا المعنى تسالمت عليه الروايات ، وأما غير ذلك من الصفات فهو مما

استقلت به البعض دون البعض ، فلا يكون له الاثبات التاريخي الكافي . فلا

يكون هذا الاشكال المشترك وارداً .

إلا أن هذا الوجه لا يتم في بعض الصفات الأساسية كحدوث الواقعتين

قرب الظهور ... وان صح الاستغناء عن بعض الصفات الأخرى .

الوجه الثاني : اننا إذا سلمنا بثبوت التوقيت ، لم يبق من اشكال الا في

أصل جعلها علامة على الظهور ، مع انها حوادث مستقبلة ، وهي مما لا

يمكن الاطلاع عليها من قبل أحد . و هذا ما سبق أن ناقشناه في الكتاب السابق (1) . ومع ارتفاعه وتسليم امكان التنبؤ بالمستقبل من قبل قادة الاسلام المعصومين

عليهم السلام ، وتسلیم ثبوت هذه الصفات - كما قلنا - ... لا يبقى لهذا الاشكال مجال .

ص: 166


1- تاریخ الغيبة الكبری ص 532.

الأطروحة الخامسة : أن يحدث هذا الكسوف والخسوف علی نحو

الاعجاز ، بخرق نواميس الطبيعة .

وقد تؤيد هذه الأطروحة ببعض القرائن المؤيدة :

القرينة الأولى : قوله في أكثر من رواية : انهما آيتان لم يحدثا منذ أن هبط آدم (ع) إلى الأرض ... إذ لو كانت هذه الحوادث طبيعية لحدثت

خلال وجود البشرية أكثر من مرة .

إلا أن هذه القرينة لا تتم مع ثبوت احدى الأطر وحتين الأخيرتين

بل مع مجرد احتمالهما . فانهما يعطيان التبرير ( الطبيعي ) لعدم حدوث هذه

الوقائع خلال عمر البشرية . فلا ينحصر أن يكون هذا اعجازياً.

القرينة الثانية : ان اعجازية هذه الوقائع هي المناسبة مع جعلها علامة للظهور

و منبهة للمخلصين الممحصين . واما مع وجودها وجوداً طبيعياً . فتضعف

فكرة جعلها علامة إلى حد كبير .

وهذه القرينة أيضاً قاصرة ، لانها تتضمن غفلة عن معنى جعل العلامة . الذي سبق أن ذكرناه في التاريخ السابق (1)وعرفنا هناك أن السر الأساسي

فيه ليس منطلقاً من الاعجاز ، بل من الإخبار نفسه . حيث يختار قادة الاسلام

عليهم السلام شيئاً مهماً ملفتاً للنظر فيخبرون به مرتبطاً بالظهور . حتي

ما إذا وقعت الحادثة ثبت عند الجيل المعاصر لها صدق الإخبار عنها بالوجدان

فيثبت بالوجدان أيضاً صدق ما ارتبط بها في الرواية ، وهو أصل الظهور

ص: 167


1- انظر ص 529 و ما بعدها .

ان كانت علامة مطلقة . أوقربه ان كانت علامة قريبة .

وأضفنا هناك : ومن هنا لا معنى لكون بعض هذه الحوادث علامة ،

إلا إذا ورد في الروايات ذكره ، وجعل منها علامة على الظهور .

أقول فالأساس في ذلك هو الإخبار لا الاعجاز ، وما دام الأخبار موجوداً وكافياً للاثبات التاريخي ، لا يكون حدوثها ( الطبيعي ) مخلاً بفكرة جعلها علامة .

هذا وينبغي الالماع إلى ان في هذه الأطروحة الاعجازية ، نقطة ضعف و نقطة قوة . بالنسبة إلى ( قانون المعجزات ). فهي موافقة له من زاوية كون

هذه الوقائع واقعة في طريق الهداية . كما اسلفنا في التاريخ السابق(1). وهذه

نقطة قوته . ولكنها مخالفة له باعتبار عدم الحصار طريق الهداية بها ، ولا أقل

من الشك في ذلك ، ومعه لا تكون موافقة مع هذا القانون من جميع جهاته

فلا تكون صحيحة . فإذا الحصر الأمر بالأطروحة الاعجازية . كان اللازم

رفض الأخبار الدالة عليها ، إلا أننا عرفنا عدم الانحصار بها ، ومعه يتعين

رفض هذه الأطروحة والحفاظ على الأخبار مع حملها على احدى الأطروحات الطبيعية .

الجهة الثانية : الفزعة والصيحة

وهما أيضاً من الحوادث المنقولة في الأخبار ، وإنما دمجناهما في عنوان

واحد ، لاحتمال أن يكون المراد بهما شيء واحد ، على ما سوف نشير .

ص: 168


1- انظر تاريخ الغيبة الكبری ص 575.

اخرج الصدوق (1)باسناده إلى محمد بن مسلم عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع) في حديث ، قال فيه :

ومن علامات خروجه عليه السلام

... وصيحة من السماء في شهر رمضان.

وأخرج أيضاً عن الحرث بن المغيرة ، عن أبي عبد اللّه (ع) :

الصيحة التي في شهر رمضان تكون

ليلة الجمعة لثلاث وعشرين مضين من

شهر رمضان .

واخرج عن عمر بن حنظلة . قال : سمعت أبا عبد اللّه (ع) یقول :

قبل قيام القائم خمس علامات

محتومات .. وعد منها : الصيحة .

و نحوه أخرج النعماني في ( الغيبة) (2)إلا أنه قال : والصيحة في السماء .

واخرج النعماني أيضا(3)عن داود الدجاجي عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) قال :

سئل أمير المؤمنين (ع) عن قوله

تعالى : فاختلف الأحزاب من بينهم .

فقال :انتظروا الفرج من ثلاث ! فقيل

يا أمير المؤمنين . وما هن ؟!... فقال :

ص: 169


1- انظر اكمال الدين المصدوق (نسخة مخطوطة ) .
2- ص 133 .
3- نفس الصفحة .

... والفزعة في شهر رمضان . فقيل :

وما الفزعة في شهر رمضان . فقال :

أو ما سمعتم قول اللّه عز وجل في القرآن :

«ان نشأ ننزل عليهم آية من السماء،

فظلت أعناقهم لها خاضعين » هي آية

تخرج الفتاة من خدرها توقظ النائم

ويفزع اليقظان .

وأخرج أيضا(1)عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (ع) في حديث قال :

وفزعة في شهر رمضان توقظ النائم

وتفزع اليقظان. وتخرج الفتاة من خدرها.

وفي حديث آخر : عن أبي بصير عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام : في حدیث انه قال :

الصيحة لا تكون إلا في شهر رمضان

شهر اللّه - وهي صيحة - جبرئيل إلى

هذا الخلق ، ثم يقول- بعد حديث طویل -

إذا اختلف بنو فلان فيما بينهم ، فعند

ذلك فانتظروا الفرج . وليس فرجكم

إلا في اختلاف بني فلان . فاذا اختلفوا

فتوقعوا الصيحة في شهر رمضان وخروج

القائم . ان اللّه يفعل مايشاء .. الخبر .

ص: 170


1- انظر غيبة النعماني ص 134 وكذلك الحديث الذي يليه .

ولعل من أهم ما دل على وقوع الصيحة من الأخبار ، ما ورد في الخطاب

الذي أخرجه السفير الرابع عن الإمام المهدي (ع ) . والذي أعلن فيه المهدي

(ع) انتهاء السيارة بموت هذا السفير . يقول فيه :

الا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج

السفياني والصيحة . فهو كذاب مفتر (1) .

وأخرج القندوزي في ينابيع المودة بعض هذه الأخبار .

ونستطيع أن نعطي لفهم هذه الصيحة . عدة أطروحات . لنرى ما يصح

منها وما لا يصح :

الأطروحة الأولى :ان الصيحة والفزعة بمعنى واحد . ويراد بهما صوت

عظيم يكون في السماء . يوقظ النائم وينزع اليقظان . ويخرج الفتاة من خدرها خوفاً و فزعاً . ومن هنا سميت بالفزعة . و يكون الصوت حادثاً بالمعجزة .

ولا يكون له مدلول كمداليل الكلام . وإنما هو صوت کار عد أو الهدة العظيمة

إلا أن هذا مما لا يكاد يصح ، فإن أهم ما ينافيه في الروايات . قوله : وهي صيحة جبرئيل إلى هذا الخلق . فان صيحته تكون لا محالة - ذات

معنی کمعاني الكلام . لا أنها مجرد صيحة صامتة . و سياتي ما يدل علی ذلک

في أخبار ( النداء ) .

الأطروحة الثانية : أن المراد بالصيحة هو النداء الآتي ذكره . وهو نداء

جبرئيل على ما سنسمعه من الأخبار . وفي التعبير بانها صيحة جبرئیل. ما يؤيد

ذلک.

ص: 171


1- انظر الاحتجاج للطبرسي ط النجم ج 2 ص 297 و أنظرتاريخ الغيبة لصغری ص 633 وما بعدها .

ويكون السبب في هذا الصوت شيء من قبيل المعجزة ، فان سیه صادر

من فوق الطبيعة المادية . لأنه صوت أحد الملائكة الكرام كما سمعنا من الأخبار .

وعلى أي من هاتين الأطروحتين ، يكون الصوت اعجاز یاً حادثاً من

أجل مصالح معينة ، أهمها ما أشرنا إليه من التنبيه على قرب الظهور . من

أجل ايجاد الاستعداد النفسي لدى المخلصين والمسلمين لاستقباله .

الأطروحة الثالثة : أن يكون المراد بالصيحة والفزعة معان طبيعية غير

اعجاز ية فالفزعة تعبير عن وجود رعب عام لسبب من الأسباب كتوقع حرب

أو وباء مثلاً . ويكون المراد بالصيحة صوت عظيم صادر من بعض القنابل

أو الصواريخ . أو من اختراق احدى الطائرات حاجز الصوت . أو انفجار

بعض المستودعات ... ونحو ذلك .

غير أن الأطروحة بعيدة للغاية عن مداليل هذه الأخبار وسياقها العام .

وخاصة مع الاستدلال بقوله تعالى : «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ

السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ » (1). وقد استدل بهذه الآية على الفزعة .كما سبق أن سمعنا . وعلى الصيحة . فيما رواه الصافي

في منتخب الأثر (2) والقندوزي في الينابيع (3)عن أبي عبد اللّه (ع)،

وقال في آخره : فتلوت هذه الآية أي قوله تعالى : ان نشأ ننزل عليهم من

السماء آية ... الآية . فقلت : أمي الصيحة ؟ قال : نعم . لو كانت الصيحة

خضعت أعناق اعداء اللّه عز وجل .

ص: 172


1- الشعراء : 4/26
2- ص 404
3- ص 426

وإنما تخضع أعناق أعداء اللّه عز وجل نتيجة لحادث كوني كبير غير

معهود . فيه عنصر اعجازي . لا لحادث بسيط كصوت صاروخ أو طائرة .

و لعل في تفسير الآية تارة بالصيحة و أخرى بالفزعة . ما يوحي بالأطروحة

الأولى . أو أن تكون الفزعة بمعنى الصميحة . فانها آية واحدة تخضع لها أعناق

أعداء اللّه سبحانه . ويكون ذلك مطابقاً للأطروحة الثانية . ويكون الفزع

ناشئاً من صوت جبرئيل الأمين . في قلوب أعداء اللّه ... وأما المؤمنين فيكون

الصوت بشارة كبرى لهم عن قرب الفرج وتوقع الظهور .

ومن أجل هذا یحصل الاهتمام الكبير بهذا الصوت . يستيقظ منه النائم

و يفزع اليقظان . وتخرج الفتاة الحيية المخدرة من خدرها . ولا تتحدث عن

الفتيات غير المتصفات بالحياء .

هذا ، و الظاهر من سياق هذه الأخبار . وخاصة مثل قوله : فتوقعوا

الصيحة وخروج القائم ... أن تكون الصيحة قبل الظهور بزمن قليل نسبياً ...

و هو المقصود .

الجهة الثالثة : النداء .

والأخبار عن ذلك على ثلاثة أشكال :

الشكل الأول : ما كان دالاً على وجود النداء إجمالاً. وانه من المحتوم.

أخرج الصدوق (1) بسنده إلى ميمون البان عن أبي عبد اللّه الصادق

(ع) قال :

ص: 173


1- اكمال الدين (المخطوط )

خمس قبل قيام القائم ... وعد

منها : المنادي ينادي من السماء .

و روی المفید (1)بسنده عن أبي همزة الثمالي ، قال :

قلت لأبي جعفر (ع) : خروج

السفياني من المحتوم ؟ قال : نعم ؛

والنداء من المحتوم . الحديث .

واخرج النعماني (2)بسنده عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (ع) انه قال :

النداء من المحتوم ... الحديث.

الشكل الثاني : النداء بالحق و بالباطل . ويكون النداء بالحق أولاً . ثم النداء بالباطل .

أخرج الصدوق (3) بسنده إلى میمون البان في حديث عن أبي جعفر (ع) قال :

ثم قال : ينادي مناد من السماء :

ان فلان بن فلان هو الإمام باسمه . وينادي

ابليس لعنه اللّه من الأرض . كما نادی

برسول اللّه (ص) ليلة العقبة .

واخرج النعماني في الغيبة (4)عن أبي بصير عن أبي جعفر محمد بن

ص: 174


1- الارشاد ص338
2- الغیبه ص 134
3- انظر اکمال الدین المخلوط
4- ص 134

علي عليهما السلام في حديث طويل ، قال فيه :

ينادي مناد من السماء باسم القائم ،

فيسمع من بالمشرق ومن بالمغرب .

لا يبقي راقد إلا استيقظ ولا قائم إلا

قعد ولا قاعد إلا قام على رجليه

فزعاً من ذلك الصوت . فرحم اللّه عبداً

اعتبر بذلك الصوت فأجاب . فان

الصوت صوت جبرئيل الروح الأمين .

وقال عليه السلام : الصوت في

شهر رمضان في ليلة جمعة ، ليلة ثلاث

وعشرين . فلا تشكوا في ذلك ،

واسمعوا وأطيعوا .

وفي آخر النهار صوت ابليس

اللعين ينادي : ألا إن فلاناً قتل مظلوماً،

ليشكك الناس ويفتنهم . فكم ذلك

اليوم من شاك متحير . قد هوى في النار .

فاذا سمعتم الصوت في شهر

رمضان ، فلا تشكوا فيه انه صوت

جبرئيل وعلامة ذلك أنه ينادي باسم

القائم واسم أبيه عليهما السلام، حتى

تسمعه العذراء في خدرها ، فتحرض

أباها وأخاها على الخروج .

ص: 175

إلى أن قال : فاتبعوا الصوت الأول

وإياكم والأخير أن تفتنوا به ... الحديث.

واخرج السيوطي في العرف الوردي (1) قال : اخرج نعيم عن علي . قال :

إذا نادى مناد من السماء : ان

الحق في آل محمد . فعند ذلك يظهر

المهدي على أفواه الناس ، ويشربون

حبه ، ولا يكون لهم ذكر غيره .

واخرج أيضاً (2)عن نعیم بن حماد أيضاً . عن أبي جعفر . قال :

ينادي منادٍ من السماء : إن الحق

في آل محمد . وينادي مناد من الأرض :

إن الحق في آل عيسى - أو قال : العباس

شك فيه - وإنما الصوت الأسفل

كلمة الشيطان . والصوت الأعلى كلمة

اللّه العليا .

واخرج القندوزي في الينابيع شيئاً من ذلك .

القسم الثالث : النداء باسم القائم (ع) بدون أن يكون في الأخبار تعرض إلى نداء آخر :

اخرج الصدوق (3)بسنده إلى محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر (ع) في حديث ، قال :

ص: 176


1- انظر الحاوي المسير طي ج2 ص 140.
2- المصدر ص 151
3- انظر اكمال الدين المخطوط .

ومن علاماته خروج السفياني ...

ومنادٍ ينادي باسمه واسم أبيه .

واخرج النعماني (1) بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع) ، قال :

قلت له : جعلت فداك ، منی

خروج القائم . فقال : يا أبا محمد ،

انا أهل بيت لا نوقت ... إلى أن قال :

ولا يخرج القائم حتي ينادي باسمه في

جوف السماء ، في ليلة ثلاث وعشرين

من شهر رمضان ، ليلة جمعة . قلت :

بم بنادی ؟ قال :باسمه واسم أبيه. الا أن

فلان بن فلان قائم آل محمد ، فاسمعوا

له وأطيعوه .

فلا يبقى شيء من خلق اللّه فيه

الروح ، إلا سمع الصيحة . فتوقظ

النائم ويخرج إلى صحن داره ، وتخرج

العذراء من خدرها . ويخرج القائم

مما يسمع ، وهي صيحة جبرئیل

عليه السلام .

واخرج الشيخ في الغيبة (2)بسنده عن محمد بن مسلم ، قال :

ينادي مناد من السماء باسم القائم ،

ص: 177


1- انظرغيبة النعماني ص 134 .
2- انظر ص 274 .

فيسمع ما بين الشرق إلى الغرب .

فلا يبقى راقد إلا قام ولا قائم إلا قعد

ولا قاعد إلا قام على رجليه من ذلك

الصوت . وهو صوت جبرئیل

الروح الأمين .

واخرج أيضاً (1) عن أبي بصير (ع) قال : قال أبو عبد اللّه (ع) :

إن القائم صلوات اللّه عليه ، ينادی

اسمه ليلة ثلاث وعشرين ... الحديث .

إلى غير ذلك من الأخبار .

والمعنى المفهوم من مجموع هذه الأخبار وأخبار الجهة السابقة : أن أخبار

الصيحة والفزعة وأخبار النداء باقسامها تشير إلى معنى مشترك وحادثة واحدة ،

لا اختلاف فيها ، وأن تعددت أساليب الأخبار . ولا تعارض بينها في الحقيقة .

كما انها لا تدل على كثرة الندوات أكثر من صوتين ، لو تم القسم الثاني من الأخبار .

وعلى ذلك عدة قرائن ، من هذه الأخبار نفسها :

منها : ان الصيحة والنداء معاً نسبها إلى جبرئيل (ع ) بشكل مستفيض .

ومنها ان وقتهما معاً في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من شهر رمضان .

ومنها : انها جميعاً تورث الاهتمام الكبير . يستيقظ النائم ويقوم القاعد وتخرج العذراء من خدرها .

ص: 178


1- الغيبة للطوسي ص 274.

ومنها : ان الصيحة والنداء من المحتوم . إلى غير ذلك مما لا يخفى على

المتتبع.

و بعد حمل المطلق على المقيد و المجمل على المفصل ، نفهم ما يلي :

1 - إن المراد من النداء الذي هو

من المحتوم هو نداء جبرئيل

باسم القائم .

2 - إن المراد من النداء بالحق ليس

إلا ذلك .

3 - إن صيحة جبرئيل في هذا

النداء أيضاً .

4 - إن الآية التي تخضع لها اعناق

أعداء اللّه هو ذلك أيضاً .

ه - إن الفزعة التي تخرج الفتاة من

خدرها هو ذلك أيضاً .

6 - إن التوقيت في الثالث عشر من

شهر رمضان ، توقيته أيضاً.

فان القسم الثالث من أخبار النداء ، أعني النداء باسم القائم واسم ( أبيه)

هي أخص هذه الأخبار جميعاً ، بما فيها أخبار الصيحة والفزعة ... فتصلح

أن تكون مفسرة لها وشارحة لمدلولها ... كما ستكون الصفات الأخرى المعطاة

في تلك الأخبار ، صفة للنداء أيضاً ، كالتوقيت والحتمية وغيرها .

وإذا تم هذا الفهم العام ، كانت الأخبار الدالة ، على هذا المعنى المشترك

ص: 179

متواترة بل تزيد على التواتر . فان اخبار النداء وحدها مستفيضة . فإذا أضفنا

إليها أخبار الفزعة والصيحة كانت متواترة.

كما أن بعض الخصائص المذكورة لها مستفيضة ، كحصول الاهتمام

المتزايد ، والتوقيت الذي عرفناه ، وكونها من المحتوم ، وكونها صوت جبرئیل

الأمين ، وانها تكون بالحق وضد أنصار الباطل .

لا يبقى بعد ذلك مجال للنقد إلا في مستويين :

المستوى الأول : ما هو محتوى النداء؟ هذا ما بينته الروايات التي سمعناها

على شكلين :

الشكل الأول : النداء بأسم المهدي واسم أبيه .

الشكل الثاني : النداء بأن الحق في آل محمد .

فقد تحصل المعارضة بين هذه الروايات ، ويبقى محتوى النداء ، خالياً من الدليل الصالح للاثبات .

والصحيح هو عدم التعارض ، باعتبار احدى نقاط :

النقطة الأولى : ان افترضنا أن كلاً من الندائين ذو دليل كاف لاثباته ،

اذن ، فينبغي أن نلتزم بوجود نداء واحد يحتوي على كلا المدلولين : فهو

يقول إن الحق في آل محمد وان أمامكم فلان بن فلان . ولا تنافي بين الأمرين .

النقطة الثانية : ان نفهم أن الشكل الثاني للنداء راجع إلى الشكل الأول

منه . وان ما يحصل في الخارج هو الشكل الأول فقط ، وإنما ذكر الشكل الثاني

نتيجة لظروف تاريخية معينة .

ص: 180

وخاصة إذا التفتنا أن الأخبار الناقلة للندائين : بالحق أولا ثم بالباطل ، نقلت النداء الأول على شكلين ، هما نفس الشكلين اللذين أشرنا إليهما .

فيكون ما دل على أن النداء هو من الشكل الأول قرينة على فهم معين لما دل

على أن النداء هو من الشكل الثاني ، وانه صدر في ظروف معينة .

النقطة الثالثة : اننا لو تنز لنا عن كلا النقطتين السابقتين، و افترضنا حصول

التنافي بين الندائين ، للعلم بأن أحدهما غير حاصل. إذن، يتعين الأخذ بالشكل

الأول من النداء ، ورفض الشكل الثاني ،، لوفرة الأخبار الدالة على انه ينادی

باسمه واسم أبيه ، لأن منها ما ورد مستقلاً وهو القسم الثالث من الأخبار ،

ومنها ما ورد مع عطف النداء الباطل عليه ، وهو أغلب القسم الثاني . فلا

يكون ما دل من الأخبار على الشكل الثاني للنداء معارضاً ، لقلة عدد الأخبار

فيه ... فيكون مرفوضاً .

المستوى الثاني : هل الأخبار الدالة على وجود النداء بالباطل كافية للاثبات أو لاً ؟..

هناك بعض المقدمات الفكرية التي يمكن أن تنتج رفضها :

المقدمة الأولى : ان عدد الأخبار الدالة على النداء بالباطل أقل بكثير من

الأخبار الدالة على النداء بالحق . فبينما نرى الأخبار الدالة على النداء بالحق

أو باسم المهدي (ع) عديدة فإذا الحقنا بها أخبار الصيحة والفزعة ، كما سبق

- أصبحت متواترة ... نرى أن الأخبار الدالة على النداء بالباطل ذات عدد

قليل ، تمثل قسماً من أخبار النداء فقط .

المقدمة الثانية : اننا إذا سرنا على الفهم التقليدي لهذه الأخبار المطابق مع

ظهورها الأولي، وهو صدور النداء بالباطل بشكل اعجازي أو ميتافيزيقي ،

ص: 181

فيكون هذا معجزة صادرة في جانب الباطل ، وقد بر هنا على استحالة ذلك في

التاريخ السابق (1)لما فيه من التغرير بالجهل والدفع إلى الفتنة والانحراف

و هو مستحيل على الحكيم المطلق جل وعلا .

فإذا تمت هاتان المقدمتان لزمنا رفض هذه الأخبار ، لأنها أخبار قليلة

نسبياً و دالة على أمر مستحيل ، فيكون الأخذ بمضمونها مستحيلاً.

وهذا لا يعني اسقاط القسم الثاني من أخبار النداء كله . بل الساقط هو

الجزء الدال على وجود النداء بالباطل فقط . وأما الجزء الدال منها على النداء

بالحق فيبقى ساري المفعول . معتضداً بالأخبار الأخرى الدالة على ذلك .

وقد سبق أن بر هنا على امكان التبعيض في الأخذ بمدلول الخبر .

نعم لو ناقشنا بالمتقدمة الثانية ، وأمكننا حمل النداء عموماً أو النداء بالباطل

خصوصاً . على معنى ( طبيعي ) غير اعجازي ، أمكن الأخذ بالأخبار الدالة

عليه غير أن هذا سوف يكون قابلاً للمناقشة على ما سيأتي .

وإذا لحاول تكوين فهم متكامل عن هذين الندائين ، نواجه عدة أطروحات

منها الطبيعي ومنها الاعجازي .

الأطروحة الأولى : أن نفهم من ( جبرئیل ) المنادي بالحق و ( ابلیس ) المنادي بالباطل ، أن نفهم منهما -ولو بنحو الرمز أو المجاز - التعبير عن

انصار الحق و انصار الباطل . فجبرئیل كناية عن ( المهدي ) نفسه . ونداؤه

نداء الحق ، وابليس عبارة عن أعداء المهدي والمنحرفين من البشر عموماً .

ويكون المراد بسعة الصوت و انتشاره إلى الشرق والغرب أو إلى كل

ص: 182


1- انظر ص 577

انسان ، كونه مبثوثاً عن طريق وسائل الاعلام الحديثة ، كالاذاعة والتلفزيون

وما ورد من أن الصوت من السماء ، فباعتبار أن البث الإذاعي والتلفزيوني

لا يكون التقاطه ، إلا من الفضاء ، وخاصة مع وجود الكواكب الصناعية للبث الإذاعي والتلفزيوني .

ومعه يكون من السهل بل من الطبيعي أن نتصور أن ( جبهة ) الإمام المهدي (ع ) تنادي باسمه بطريق هذه الوسائل الحديثة ... و ( جبهة ) اعدائه تنادي بنداء مضاد سوف نعرف مدلوله ، تريد به الفتنة وصرف الناس من الحق إلى الباطل.

ويكون السبب في التأثير النفسي البالغ ، والاهتمام الذي يحدثه الصوت الحق في العالم ، ليس هو ارتفاع الصوت ، بل هو أهمية المضمون . فان

الاعلان العام عن ظهور المهدي (ع) لأول مرة ، واعطاءالمفهوم الواضح

الثورته العالمية ، مع كون المسلمين عامة ، بل أكثر البشر ممن يتوقع حدوث

دولة الحق ، سوف يحدث ردود فعل عنيفة مختلفة في الناس ، بلا شك .

وهذه الأطروحة ، وان كانت واضحة منطقياً، غير انه يرد عليها بعض الاشكالات التي من أهمها : أن ما يستفاد من سياق هذه الأخبار من أن النداء

وصوت الحق و صوت الباطل، إنما يكون قبل ظهور المهدي (ع) وليس

بعده ... وهذا يكون منافياً مع مضمون هذه الأطروحة، لأنها تنظر إلى دعوات الحق والباطل بعد الظهور .

الأطروحة الثانية : أن نلتزم - طبقاً لظاهر الأخبار - بأن هذين الصوتين يوجدان قبل ظهور المهدي (ع) لكن بطريق طبيعي أيضاً ، عن طريق وسائل

الاعلام الحديثة . ويكون السبب في هذين الصوتين ، وجود حركتين متناحرتين

ص: 183

في العالم الاسلامي . احداهما محقة ، تهدي الناس إلى الإسلام الصحيح ،

والأخرى حركة مبطلة ، تغوي الناس وتخدعهم وتثير فيهم الشبهات .

ويكون التأييد لحركة الحق في أول قيامها تأثيراً كبيراً في الناس ، حتى أن المرأة تحث أباها وأخاها على نصرة هذه الحركة و تأييدها . ولكن هذه الحركة

لن تدوم طويلاً، بل تكون ضدها حركة مبطلة تعلن عن رأيها و تصرح بمقاصدها

فتوقع الناس في بلبلة و شبهات في العقيدة الاسلامية أو ما يمت لها بصلة .

ويكون من نداءاتها وشعاراتها المهمة : أن فلان قتل مظلوماً . والمراد به - واللّه العالم - ذلك الشخص الذي قتلته وقضت على حكمه الحركة الأولى المحقة . ومن هنا تصرح الحركة الثانية ، بمظلوميته وانتهاج سبيله ، والاحتجاج

على قتله .

ولعل التعبير يكون نداء الحركة الأولى صادراً من السماء و نداء الحركة

الثانية صادراً من الأرض . باعتبار احترام النداء الأول . وكونه محقاً . وانتقاص النداء الثاني باعتباره باطلاً وزخرفاً .

إلا أن هذه الأطروحة لا تصح ، لوضوح آن نداء الحركة المحقة سوف يكون هو الدعوة إلى مبادئها و تأييدها . لا النداء باسم القائم المهدي واسم أبيه

كما صرحت به الأخبار العديدة . ومعه يبقى هذا النداء بلا تفسير من زاوية هذه الأطروحة .

واما احتمال : أن يكون المراد من لفظ القائم : قائد الحركة المحقة باعتبار

انه قائم بالسيف وناصر للحق بالسلاح ، في الجملة ، وان لم تكن حركته عالمية

فهذا الاحتمال غير صحيح : فان الأخبار صرحت بكونه قائم آل محمد وانه

المهدي ، وفي بعضها وجود الصلاة والسلام عليه ، وهو مما لا ينطبق إلا على المهدي الموعود .

ص: 184

الأطروحة الثالثة : وهي المطابقة مع ظاهر الأخبار وسياقها العام ... وهو أن نفهم الأسلوب الإعجازي للنداء بالحق ، باسم القائم واسم أبيه . ويكون

ذلك من المنبهات للاستعداد النفسي للظهور ، كما قلنا .

وهو في عين الوقت يضفي أهمية عظمى مسبقة على يوم الظهور، ويعين اسم القائد العظيم فيه . ويكفي أن يقال بعد الظهور ، الذي يبدو انه سوف

لن يتأخر كثيراً بعد النداء : ان هذا القائد العظيم هو الذي هتف الهاتف باسمه

وحدثت المعجزة الضخمة آمرة بالطاعته والتسيم لأمره . وسوف يكون

لذلك أعظم الأثر في نصره و انتشار دعوته . وقد عرفنا أن يوم الظهور هو نتيجة جهود الأنبياء والأوصياءوالصالحين والشهداء ، وهو الغرض الأسمى

من خلق البشرية ، فلا عجب أن يمهد اللّه تعالى بمثل هذه المعجزات .

وهو مما دلت الأخبار المتواترة عليه ، كما عرفنا ، وهو غير مناف مع قانون المعجزات ، لوقوعه في طريق الهداية ؛ اذن فلا بد من التسلیم به والاعتراف بوقوعه .

ويكون هذا الصوت في شهر رمضان في ليلة ثلاث وعشرين ، التي هي

- في الأرجح - ليلة القدر ، وهي أفضل ليالي السنة . ويكون التوجه الديني

في ذلك الحين لدى المسلمين وتقبل المفاهيم الدينية والأمور الروحية قد بلغ

ذروته . فإنه يزداد في مناسبات العبادة وخاصة في شهر رمضان ، وبالأخص

في ليلة القدر .

وسيكون رد الفعل بالاهتمام والفزع لهذا النداء ، ناشئاً من عوامل ثلاثة مقترنة .

العامل الأول : ارتفاع الصوت و انتشاره بحيث يسمع الآفاق كلها .

ص: 185

العامل الثاني : جانبه الاعجازي ، الذي لا يكاد يمكن تفسيره تفسيراً مادیاً .

العامل الثالث : مضمونه ، من حيث كونه مشيراً إلى القائد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً . كما ملئت ظلماً و جوراً .

وأود أن الاحظ على النداء بعض الملاحظات .

الملاحظة الأولى : هناك فهم تقليدي للنداء . بأنه يقع في لحظة الظهور ، . اعلاناً عنه وايداناً بوقوعه ، وهذا ما لم تجد شيئا من الروايات دالاً عليه .

ومن هنا لا يمكن الالتزام بصحته .

ولكن لا يمكن مع ذلك، رفع اليد عن فكرة الايذان و الاعلان عن الظهور

إلا أن هذا كما يمكن أن يحصل عند ایجاد النداء مع الظهور . كذلك يمكن

أن يحصل مع ايجاد النداء قبله بقليل . ويبدو كأن الظهور قائم على أساس النداء و منطلق منه ، وإن كان الأمر - في الواقع - بالعكس .

ولا يبعد القول بامكان البرهنة على تقدم النداء على الظهور ، بفترة زمنية .

و ذلك ، ان النداء إذا حصل مع الظهور ، كان المتعين عالمياً انطباقه على المهدي (ع) الذي لا زال في أول ظهوره غير راسخ الملك والقوة ، ومن هنا ينفتح

احتمال توجه الأسلحة العالمية ضده . وهو خلاف بعض الضمانات التي سنذكرها

لانتصاره .

بخلاف ما لو حصل النداء قبله ، فان حركة المهدي (ع) في أول عهدها

سوف لن تكون ضرورية الانطباق على ذلك النداء ، عالمياً . وسوف لن يلتفت

إلى ذلك إلا المؤمنين به والمنطقة التي تعاصر حركته الأولى . وهذا هو الأنسب

مع بعض الضمانات التي سنذكرها .

ص: 186

وحيث أن النداء بأسم المهدي (ع ) مع ظهوره مخلاً بانتصاره ، اذن فيتعين عدم حصوله ساعتئذ. وحيث ثبت وجود النداء اجمالاً ، اذن فهو يحصل قبل الظهور ، بزمن قليل لا يضر مع وجود فكرة الاعلام والتنبيه .

الملاحظة الثانية : إن حصول النداء قبل الظهور : معناه حصوله في عصر الغيبة طبقاً للمفهوم الإمام عن المهدي .

وهذا النداء عندئذ : لا ينافي الغيبة الحاصلة في الفترة المتخللة بين النداء والظهور . لأن المعنى الأساسي للغيبة ، كما عرفناه في التاريخ السابق (1) . هو الجهل المطلق بحقيقة شخص المهدي (ع )، فبالرغم من أن الناس يرون الإمام ويعاشرونه . إلا أنهم يعرفونه باسم آخر غير صفته الواقعية . ومن الواضح

أن هذا المعنى لا يتغير بوجود النداء ما لم يطبقه المهدي نفسه على نفسه عند

ظهوره .

وكذلك الحال مع الأطروحة الأخرى التي رفضنا ها هناك ، وسميناها ب ( أطروحة خفاء الشخص ) . إذ يمكن استمرار خفاء الشخص حتى مع

وجود النداء ولا يرتفع إلا مع الظهور .

الملاحظة الثالثة : كم هي الفترة المنتخللة بين النداء والنور ؟ دلت الروايات

السابقة على وقوع النداء في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان (2). ولعله

هو الشهر الذي يقع فيه الكسوف والخسوف على غير المألوف ، أو رمضان آخر

قريب منه نسبياً . والملاحظ أن هذا التوقيت في روايات النداء مستفیض صالح للاثبات التاريخي ، إلا أن هذا التوقيت لم يبلغ

إلى هذه الدرجة من الكثرة في روايات الخسوف والكسوف .

ص: 187


1- تاريخ الغيبة الكبري ص 34 وما بعدها .
2- المصدر ص 31 وما بعدها .

وسوف يأتي ان الروايات تدل على حصول الظهور في مساء اليوم العاشر

من محرم الحرام ... فإذا استطعنا أن نبر هن - كما سبق - على قصر المدة

بين النداء والظهور ، تعين القول : ان المحرم الذي يتم فيه الظهور هو المحرم

الذي يأتي بعد ذلك الرمضان الذي يوجد فيه النداء ، ويفصل بينهما - في كل عام - ثلاثة أشهر من الأشهر القمرية . فتكون المدة المتخللة ثلاثة أشهر وسبعة

عشر يوماً . إن كان شهر رمضان تاماً.

وستكون هذه المدة المتخللة كافية لتنبيه المؤمنين ، و اجتماعهم لاستقبال

إمامهم وقائدهم عند ظهوره ، كما سيأتي .

فهذه الملاحظات ، عن النداء بالحق ، وهو الصالح للاثبات كما عرفنا .

واما النداء بالباطل فهو غير صالح للاثبات . فلا يهم التعرض إلى تفاصيله

* * *

الجهة الرابعة : المطر .

أخرج الطبرسي في اعلام الوری (1) عن عبد الكريم الخثعمي عن

أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام ، في حديث عن القائم يقول فيه :

وإذا آن قیامه ، مطر الناس في

جمادى الآخرة وعشرة أيام من رجب

مطراً لم ير مثله ... الحديث .

وذكر المفيد في الارشاد (2): قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي (ع )، وحوادث تكون امام قيامه ، و آیات ودلالات

ص: 188


1- انظر ص 432
2- انظر ص 337 .

ثم انه ( عليه الرحمة ) ذكر العديد منها إلى أن قال :

ثم يختم ذلك بأربع وعشرين مطرة

تتصل فتحيي بها الأرض بعد موتها

وتعرف بركاتها .

واخرج الشيخ في ( الغيبة ) (1) باسناده عن سعيد بن جبير قال :

السنة التي يقوم فيها المهدي تمطر

أربعة وعشرين مطرة برى أثرها وبر كاتها.

ولا تخفي الحكمة من هذا المطر . وهو الاستعداد للظهور، بانعاش الأرض

انعاشاً كافياً لتوفير الزراعة ، ذلك التوفير العظيم الذي سنسمع عنه فيما يلي

من الفصول :

وهذا التقديم خير من نزول المطر بعد الظهور بغزارة ، بحيث قد يعيق

عن جملة من الأعمال التي يريد القائد المهدي (ع) انجازها . ففي تقدمه على

الظهور جي لفوائد المطر مع تفادي مضاعفاته .

ونزول المطر ليس إعجازياً، بطبيعة الحال، إلا أن توقيته و كميته، يبدو من

سیاق الروايات انها بقصد اعجازي خاص من قبل الباری، الحكيم ، توصلا

للنتائج المطلوبة من ورائها .

غير أن عدة نقاط ضعف تبرر في هذا الصدد .

النقطة الأولى : ضعف الروايات من حيث السند . فان روایتي الطبرسي

والمفيد مرسلتان ، ورواية الشيخ منقولة عن سعيد بن جبير لا عن أحد الأئمة

المعصومين . فلا تكون صالحة للاثبات التاريخي .

ص: 189


1- انظر ص 269

النقطة الثانية : قلة عدد الروايات الدالة على ذلك . فان منهجنا في هذا

الكتاب وان كان قائماً عن أساس قبول الخبر الواحد ، غير أننا اشرنا إلی

لزوم تطبيق ( التشدد السندي ) في روايات المعجزات . وهذه منها بلحاظ

ما قلناه من التوقيت الإعجازي . فلا تكون هذه الروايات كافية للاثبات .

حتى ولو لم تكن مرسلة .

النقطة الثالثة : ان هذه الروايات لا تدل على أمطار ضخمة جداً ، فان أربعة وعشرين مطرة موزعة على شهر أو شهرين مما يحدث في البلاد المتوسطة

المطر فضلاً عن الغزيرة الباردة . ومعه لا يمكن أن يكون هذا المطر علامة

على الظهور ، لأن فكرة العلامة منطلقة من الإخبار عن شيء مهم وملفت

للنظر في التاريخ . وليس هذا المطر كذلك .

النقطة الرابعة :ان هذه الروايات لا تدل على مكان حدوث هذه

الأمطار . فقد تكود بلاداً باردة ممطرة وقد تكون بلاداً جافة ... كل ما

يمكن قوله : ان المطر سوف يحدث في بلاد الشرق الأوسط الإسلامية . إلا أن

هذه البلاد نفسها تحتوي على كلا القسمين من المناخ . فهناك الباردة الممطرة

کایران و لبنان ، وهناك الجافة الممحلة كالحجاز ونجد على العموم .

نعم ، يمكن أن يقال ك ( أطروحة ) من أجل اكتساب هذا المطر الأهمية

و من ثم تصدق عليه فكرة العلامية : ان مكان هذا المطر يمكن أن يكون على شكلين :

الشكل الأول : انه ينزل في الأماكن المقدسة : مكة والمدينة المشرفتين

وهي من البلاد الجافة الممحلة . فيكون وجود هذه الكمية من المطر فيه مهماً جداً.

ص: 190

الشكل الثاني : انه ينزل في كل منطقة الشرق الأوسط جميعاً . وبشكل

مشترك ... بالعدد و الزمان المحددين السابقين . فيكتسب أهمية كبيرة أيضاً .

غير أن هذين الشكلين إنما يكتسبان الأهمية . لو تم إثباتهما التاريخي ،

وقد عرفنا في النقتطين الأوليتين عدم صلاحية الروايات للاثبات التاريخي .

وإذا لم يثبت ذلك ، كان العديد مما ذكر في المصادر من الحوادث

و العلامات القريبة ، للظهور ، غير قابل للاثبات التاريخي أيضاً ، لأنه ليس

أحسن حالاً في النقل من هذه الحادثة على أي حال . ومن ثم يكون الاحجي

أن نعرض عنها ، وندع العلم بها إلى أهله .

فهذا هو الكلام عن العلامات ( الطبيعية ) أعني الكونية الخارجة عن

المجتمع البشري . وعرفنا أن أهمها وأوضحها اثنان فقط هما النداء باسم

القائم واسم أبيه ، ويليه الكسوف والخسوف . وليس هناك ما يمكن اثباته

من الحوادث والعلامات ( الطبيعية ) غير ذلك ، إذا مشينا على منهجنا في

التمحيص التاريخي .

ص: 191

الفصل الثاني: الظواهر الاجتماعية

أعني الظواهر التي تنطلق من المجتمع وتصرفات

الناس وهي عدة علامات ، نذكر كلاً منها بعنوان

الدَّجال

وقد سبق أن عرضناه مفصلاً في التاريخ السابق . وقدمنا هناك الفهم

المتكامل عنه ، و المناسب مع كل ما ورد وثبت عنه من الخصائص والصفات .

وإنما كررنا العنوان في هذا التاريخ ، باعتبار ما دلت عليه بعض الأخبار ،

مما سيأتي من قرب ظهور الدجال إلى ظهور المهدي (ع)، فيكون من

العلامات القريبة للظهور. التي نحن بصددها . وهذا ممكن الصدق على كلا

الفهمين اللذين قدمناهما للدجال في التاريخ السابق .

وسوف لن نكرر ما ذكرناه هناك ، بطبيعة الحال ، وإنما المهم هنا أن

نسير خطوات أخرى إلى الإمام في فهم الدجال ، ونؤكد على مدى علاقة

الدجال بالمهدي و المسيح عليهما السلام ، و ایراد ما ورد في ذلك من الأخبار

و نحوها من الخصائص التي لم تتوفر على عرضها في التاريخ السابق .

ص: 192

الناحية الأولى : موقف الدجال من الأمة الإسلامية

الناحية الأولى : موقف الدجال من الأمة الإسلامية ، ومدى تأثيره فيها ،

ذلك التأثير الذي نستطيع أن نفهم استمراره إلى حين الظهور .

ويواجهنا بهذا الصدد عدد من الأخبار ، نذكر ما أورده الشيخان من

العامة وبعض الأمامية .

أخرج مسلم (1) بسنده عن

حذيفة ، قال : قال رسول اللّه (ص)

لأنا أعلم بما مع الدجال منه . معه

تهران يجريان ، أحدهما : رأي العين

ماء أبيض ، والآخر رأي العين نار

تأجج . فأما أدركن أحد ، فليأت

النهر الذي يراه ناراً ، وليغمض ، ثم

لیطاطیء رأسه فيشرب منه ، فانه ماء

بارد . وان الدجال ممسوح العين ،

عليها طفرة غليظة ، مكتوب بين

عينيه : كافر . يقرؤه کاتب وغير كاتب .

وفي حديث آخر أخرجه أيضاً(2) عن النواس بن سمعان ، قال : ذكر

رسول اللّه (ص) الدجال ، إلى أن

قال : إنه خارج خلة بين الشام والعراق .

ص: 193


1- انظر صحيح مسلم ج8 ص 195 و نحوه في البخاري ج 9 ص 75.
2- صحيح مسلم نفس الجزء و الصفحة .

فعاث يميناً وعاث شمالاً، یا عباد

اللّه فانبثوا . إلى أن قال : فيدعوهم

فيؤمنون به ويستجيبون له . فيأمر

السماء فتمطر ، والأرض فتنبت .

فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت

ذراً واسبغه ضروعاً وامده خواصر .

ثم يأتي القوم ، فيدعوهم فيردون

عليه قوله . فينصرف عنهم . فيصبحون

ممحلين ، ليس بأيديهم شيء من

أموالهم ... الخ.

وأخرج البخاري (1) عن أنس

ابن مالك ، قال : قال النبي (ص) :

يجيء الدجال حتى ينزل في ناحية المدينة ،

ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات ؛

فيخرج إليه كل كافر و منافق .

وأخرج الصدوق (2) بإسناده عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع )

يتحدث عن الدجال ويقول عنه :

ينادي بأعلى صوته يسمع ما بين

الخافقين ... يقول : إلى أوليائي .

أنا الذي خلق فسوى وقدر فهدى

ص: 194


1- انظر الصحيح ج 9 ص 71.
2- انظر اكمال الدين المخطوط .

أنا ربكم الأعلى . وكذب عدو اللّه .

إنه أعور يطعم الطعام ويمشي في

الأسواق . وإن ربكم ليس بأعور ولا

یطعم الطعام ولا يمشي في الأسواق ،

ولا يزول تعالى اللّه عن ذلك علواً

كبيراً.

ألا وان أكثر اتباعه يومئذ أولاد

الزنا ، وأهل الطيالسة الخضر ...الخ

الحديث . وغير ذلك من الأخبار .

وقد اعطينا في التاريخ السابق أطروحتان لفهم الدجال : احداهما : تقليدية تقول أن الدجال شخص معين طویل العمر ، سيظهر في آخر الزمان

من أجل ضلال الناس وفتنتهم عن دينهم . ويدل عليه قليل من الأخبار (1)

والاخرى : ان الدجال عبارة عن مستوى حضاري ايديولوجي معين معاد

للاسلام والاخلاص الايماني ككل .

وقد سبق هناك أن ناقشنا الأطروحة الاولى ورفضناها بالبرهان ، ولا بد

من طرح ما دل عليها من قليل الأخبار. ودعمنا الأطروحة الثانية وهي ،

التي ستكون منطلق كلامنا الآن .

ونحن نعلم ، فيما يخص الحضارة المادية المعاصرة ، كيف استطاعت

غزو المجتمع المسلم فكرياً وعسكرياً ونادت بأعلى صوتها فأسمعت ما بين

الخافقين ، عن طريق وسائل الاعلام الحديثة ، فجمعت إليها أولياءها ، وهم كل من يؤمن بعظمتها وصدقها واغراه العيش بين أكنافها .

ص: 195


1- انظر تاريخ الغيبة الكبری ص 78ه وما بعدها و ص 617.

ونرى كيف انها امدت هؤلاء بالخير الوفير والمال والقوة والسيطرة ،

(فتروح سارحتهم ) أي أغنامهم ، وهو كناية أو رمز عن كل مصدر للمال والقوة ( أطول ما كانت ذراً واسبغه ضروعاً وامده خواصر ) یکنی

بذلك عما ينال المنحرفون من خير الحضارة المادية و ما تستطيع هذه الحضارة أن تضمنه لهم من مستقبل عريض .

على حين نرى الخاصة المخلصين ، الذين شجبوا هذه الحضارة ، وانكروا

عليها ماديتها ولا اخلاقيتها وظلمها ، يعيشون في الضيق والضرر ( يصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ) كما يقول الخبر .

( يجيء الدجال ) ممثل هذه الحضارة ( حتى ينزل في ناحية المدينة ) أي مدينة ، ليس له فيها إلا مرکز واحد غير ملفت للنظر ، قد يكون هو سفارة

وقد يكون مركز تبشير وقد يكون مدرسة أو مستشفى . ولكن بمضي الأيام

و الليالي ( ترجف المدينة ثلاث رجفات ) خلالها ، وهو كناية أو رمز عن

المصاعب والمحن التي تمر بها المجتمعات ، وهي محن التمحیص دائماً

( فيخرج إليه كل كافر و منافق ) فاشل في التمحيص .

وقد ذكرنا في التاريخ السابق (1) معنى ادعاء الدجال الربوبية ، وان

له تهران ... طبقاً لهذه الأطروحة ... فلا نعيد.

( أكثر أتباعه أهل الطيالسة الخضر) وهم - حسب ما يبدو - أهل

الأموال والسمعة والسيطرة الاجتماعية في المجتمع المسلم المنحرف . و (أولاد

الزنا ) يمكن أن يراد بذلك أحد معنيين :

المعنى الأول : أولئك الذين انقطعوا عن آبائهم عقائدياً و مفاهيمياً ...

ص: 196


1- انظر ص 642و ص ه 64 .

وأصبحوا أولاداً للناس الآخرين الذين آمنوا بربو بيتهم وولايتهم ومبادئهم .

المعنى الثاني : ان الإيمان بالاتجاه المادي الحديث ، ينتج انکار عقد الزواج

وتكوين الأسرة بدونه، كما عليه عدد من الناس في البلاد الإسلامية الآن،

فينتجون ذرية تكون لقمة سائغة في شدة السبع المادي الهائل .

وليس هذا موقف الحضارة المادية المعاصرة فقط ، بل موقف كل حضارة

مادية على مدى التاريخ ، وخاصة فيما إذا استمرت في المستقبل عدداً مهما

من الأجيال . ومفهوم ( الدجال ) شامل لمجموع الحضارة المادية على مدى التاريخ ، لا خصوص حضارتنا المعاصرة المحترمة !!!...

وإذا كان للدجال ان يعاصر ظهور المهدي ونزول المسيح ، أو ان يوجد

قبل ذلك بقليل ، ليكون من علاماته القريبة ... فمعنى ذلك استمرار الحضارة

المادية إلى ذلك الزمان ، مهما كان بعيداً ، لكي يستمر التمحيص ويتعمق

بالتدريج ، حتى ينتج نتيجته المطلوبة المنتظرة .

والدجال يقتله المسيح و المهدي عليهما السلام ، كما سنسمع ، لأن نظامهما

سيقضي تماماً على الحضارة المادية وما ملأت به الأرض من الظلم والجور

و الانحراف ، ويتبدل إلى القسط والعدل والإنصاف والرفاه .

الناحية الثانية : علاقة الدجال بالمسيح

الناحية الثانية : علاقة الدجال بالمسيح (ع) عند نزوله .

أخرج مسلم(1) من حديث عن

النواس بن سمعان قال ذکر رسول اللّه (ص)

الدجال ... إلى أن يقول :

ص: 197


1- انظر صحيح مسلم ص 197 - 198 ج8.

فبينما هو كذلك ، اذ بعث اللّه المسيح

ابن مريم ، فينزل عند المنارة البيضاء

شرقي دمشق بين مهر ودتين ، واضعاً

كفية على أجنحة ملكين ... فیطلبه

حتى يدركه بباب لد ، فيقتله . ثم یاتی

عیسی بن مریم قوم قد عصمهم اللّه منه

فيمسح عن وجوههم ، ويحدثهم

بدرجاتهم في الجنة ... الحديث .

وفي حديث آخر لمسلم (1) قال :

قال رسول اللّه (ص) : بخرج الدجال

في أمني فيمكث أربعين ... فيبعث

اللّه عیسی بن مريم ، كأنه عروة بن

مسعود ، فيطلبه فيهلكه . ثم يمكث

الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ...

الحديث .

وهناك في المصادر العامة الأخرى أخبار أخرى بهذا المضمون ، ولكننا

تقتصر على ما اخرجه مسلم .

والمصادر العامة اقتصرت على ذكر العلاقة بين الدجال ، بأي معنى

فهمناه ، وبين المسيح (ع ) على حادثة قتله . كما اقتصرت في قاتل الدجال

على المسيح (ع ) و لم تتعرض للمهدي (ع) على ما سنسمع ذلك ونناقشه .

ص: 198


1- صحيح مسلم ج 8 ص 201 .

وسنتعرض إلى حادثة نزول المسيح في القسم الثاني من هذا التاريخ ،

وسنوافق عليها اجمالاً . فإذا تم ذلك ، وهو لا يتم إلا بعد طغيان الدجال

واستفحال أمره ، بأي معنى فهمناه كان من أهم الأعمال التي يستهدفها

هو القضاء على الدجال والاجهاز على نظامه ومفاهيمه .

ومنطق الأشياء يقتضي أن يسبق مقتل الدجال حرب سجال بينه وبين المسيح ، يكتب فيها النصر للمسيح فيقتله . واما فوزه عن طريق المعجزة ،

كما يظهر من البرزنجي في ( الاشاعة ) (1) ، فهو مخالف لما قلناه من أن

أسلوب الدعوة الإلهية غير قائم على المعجزات ، ما لم ينحصر بها الأمر ، والا

كان نبي الاسلام (ص ) في نصره على قريش أولى بالمعجزات ، ولاستطاع

السيطرة على كل العالم بين عشية وضحاها . ومن هنا لا نقول بوجود المعجزات في طريق نصر المهدي (ع) إلا بمقدار الضرورة التي لا بديل عنها .

وقد سمعنا في هذه الأخبار عدة خصائص من حيث أن قتل الدجال سيكون

في دمشق، وهو أمر يصعب اثباته تاريخياً ، ولكنه لو نم فهو يدل على أن هذه

البلدة ستصبح مسرحاً مهماً ومركزاً رئيسياً للدجال ، بأي معنى فهمناه . ولا

يخفى انه طبقاً للاطروحة التي فهمناها للدجال ، لا يكون لقتل الدجال .

هناك أكثر من هذا المعنى . أعني تحويل دمشق من الانحراف إلى الإيمان .

وهذا مما يفسر لنا ما سيأتي من وجود عدد من المخلصين الممحصين

الراسخين في الإيمان في دمشق ، على ما دلت عليه الأخبار ، وسيأتي في محله

من هذا الكتاب . فان انحراف المجتمع كلما تزاید والظلم كلما تضاعف ،

أوجب ذلك عمق التمحيص ودقته ، الأمر الذي يوجب زيادة عدد المؤمنين

ص: 199


1- انظر ص 135

وزيادة اخلاص الموجود منهم ... حتي وصفوا في هذه الأخبار بالأولياء والابدال .

وهؤلاء وأمثالهم هم الذين يأتي إليهم عيسى بن مريم ( فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة ، كما سمعنا في الحديث .

غير أن ظاهر الحديث انه يأتي إليهم بعد أن يتم قتل الدجال على يديه ، لا انه يرتكز عليهم في قتاله . والصحيح أن الحديث دال على انه عليه السلام يأتي إليهم ويبشرهم بالجنة بعد قتل الدجال ، ولكنه لا يدل على عدم مشاركة هؤلاءفي قتله أو قتاله . بل لعلى الدرجات التي استحقوها في الجنة ناشئة إلى

حد كبير من هذه الأعمال الكبرى .

الناحية الثالثة : في علاقة الدجال بالمهدي (ع) .

وهذا ما وجدناه في المصادر الخاصة ، دون العامة .

اخرج الشيخ الصدوق (1)باسناده عن النزال بن سبرة قال خطبنا علي بن

أبي طالب (ع) ، فحمد اللّه عز وجل وأثنى عليه وصلى على محمد وآله . ثم قال :

سلوني قبل أن تفقدوني ثلاثاً. فقام

إليه صعصعة بن صوحان . فقال : يا

أمير المؤمنين متى يخرج الدجال ؟ فقال

له : اقعد فقد سمع اللّه كلامك وعلم

ماأردت ... إلى أن يقول بعد حديث

ص: 200


1- انظر اكمال الدين (المخطوط) باب حديث الدجال وما يتصل به من أمر القائم صلوات الله وسلامه عليه .

طويل : يقتله اللّه عز وجل بالشام على

عقبة تعرف بعقبة أفيق ، لثلاث ساعات

مضت من يوم الجمعة على يد من (1)

يصلي عيسى بن مريم خلفه ... الحديث.

أقول : والذي يصلي عيسى بن مريم خلفه هو المهدي (ع ) كما وردت

بذلك الآثار المستفيضة . ومنها ما في الصحيحين (2):

كيف بكم إذا نزل عيسى بن مريم

فيكم وإمامكم منكم .

واخرج الصدوق (3) أيضا باسناده عن المفضل بن عمر ، قال :

قال الصادق جعفر بن محمد (ع) :

ان اللّه تبارك وتعالى خلق أربعة عشر

نوراً قبل خلق الخلق بأربعة عشر ألف

عام . فهي أرواحنا . فقيل له : يا ابن

رسول اللّه ، ومن الأربعة عشر ؟

فقال : محمد وعلي وفاطمة والحسن

والحسين ، والأئمة من ولد الحسين ،

آخرهم القائم الذي يقوم بعد غيبة فيقتل

الدجال (4)ويطهر الأرض من كل

جور وظلم .

ص: 201


1- في المخطوط : على من يد من ... وهو تحريف .
2- انظر صحيح البخاري ج 4 ص 205 ، وصحيح مسلم ج1 ص 94 .
3- انظر اكمال الدين المخطوط .
4- كذا نقله في منتخب الأثر (ص 480 ) و لكنه في المخطوط : الرجال بالراء .

وفي منتخب الأثر (1)في حديث

عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين

عليه السلام" يقول فيه : ومنا رسول اللّه

ووصيه وسید الشهداء وجعفر الطيار

في الجنة ، وسبطا هذه الأمة ، والمهدي

الذي يقتل الدجال .

ومن الغريب أن الصحاح تذكر أحاديث في علاقة الدجال بالمسيح ،

وأحاديث في علاقة المسيح بالمهدي (ع) ، ولا تورد أي خبر في علاقة المهدي بالدجال ، مع أنه تفهم من ذينك العلاقتين معاصرته له . ومن المعلوم کون المهدي (ع) هو رائد الحق في العالم فكيف لا يكون له اليد الطولى في قتله وقتاله .

ولو نظرنا من زاوية أخرى ، رأينا أن تأخر نزول المسيح (ع) عن

ظهور المهدي (ع ) بفترة من الزمن ، على ما سنسمعه عن المصادر العامة ،

بنتج لنا : أن السبب الرئيسي الوحيد في زوال الدجال هو عمل القائد المهدي (ع) ضده وتخطيطه للقضاء عليه . ومن المقطوع بزيفه وبطلانه باليقين ان

يظهر الامام المهدي (ع ) فلا يحارب الدجال - بأي معنى فهمناه - ، وبرجیء قتاله إلى حين نزول المسيح من السماء ، فان ذلك خف تكليفه الإسلامي

ووظيفته الإلهية في قمع الكفر والانحراف ونشر الهداية في العالم.

كما أن من المقطوع ببطلانه : أن يفترض أن المهدي (ع) يحارب الدجال

فيندحر امامه ، وينتصر الدجال ويحاصر المهدي (ع ) ورجاله ، كما يظهر من

ص: 202


1- انظرص 172و ما بعدها

البرزنجي في الاشاعة (1) وكيف يمكن أن يتحقق ذلك ، وقد ثبت بضرورة الدين و تواتر الاخبار وعن طريق البرهان على التخطيط العام الذي عرفناه ، كون الامام المهدي (ع ) منصوراً مؤيداً حتى يفتح العالم بأجمعه ، ويجمع

البشر على الحق و العدل .

إذن ؛ فاليد الطولى في الاجهاز على الدجال ونظامه ، للمهدي (ع)

نفسه . نعم ، يمكن أن نفترض مشاركة المسيح (ع) من قتل الدجال ضمن احدى أطروحتين :

الأطروحة الأولى : ان المسيح(ع) يقتل الدجال بالمباشرة ، والمهدي

(ع) يقتل الدجال بالتسبيب أعني بصفته قائداً أعلى لا تصدر التعليمات

الأساسية إلا منه . فيكون اسناد القتل إلى المهدي (ع)من قبيل قولنا : فتح

الأمير المدينة ، يعني بأمر منه ، والفاتح المباشر هو الجيش بطبيعة الحال .

وهذه الأطروحة ، كما تناسب الفهم الكلاسيكي للدجال ، وهو كونه

شخصاً بعينه كذلك تناسب مع الفهم الرمزي الذي دعمناه ، ويكون الاجهاز

على الدجال من قبل المسيح (ع) بصفته أحد القادة الرئيسيين في دولة المهدي العالمية .

الأطروحة الثانية : ان المسيح (ع) إذا كان يتأخر نزوله عن ظهور

المهدي (ع)، فقد نتصور أن المهدي (ع)عند ظهوره يقاتل الدجال ، بأي

فهم فهمناه وبعد نزول المسيح يوكل هذه المهمة إلى المسيح(ع).

ولا تنافي بين هاتين الاطروحتين ، كما هو واضح لمن يفكر. وبها لجمع

بين الأخبار الدالة على أن المسيح يقتل الدجال و الأخبار الدالة على أن المهدي

يقتله فان كلا هذين القسمين من الأخبار يصبح صادقاً ، ولا تنافي بينهما .

ص: 203


1- انظر ص135

يأجوج ومأجوج

وهذا ما ورد الاخبار عنه في القرآن الكريم ، في أكثر من موضع ...

وتطاحنت التفاسير فيه ، حتى لم تكد ترسو على أمر مشترك . وذكر لهم بعضها

صفات غريبة . وليس المهم الآن الدخول في تفاصيل ذلك ؛ وإنما المقصود ،

هو معرفة مدى ارتباطه بالظهور ومدى ما يمكن أن يكون مدى تأثيره لو كان

له ارتباط .

وقد ذكر في التاريخ السابق(1)شيئاً من الأخبار عن يأجوج ومأجوج ،

وتكلمنا عما إذا كان القرآن الكريم بضمه إلى الاخبار دالاً على تقدم خروج

يأجوج ومأجوج على الظهور ، ولم نستطع أن نتميز ضهور القرآن في ذلك ،

بل بات الأمر محتملاً غير قابل للإثبات التاريخي ، وإن كان محتملاً جداً.

وقد روينا هناك (2) ما أخرجه مسلم عن هؤلاء .، نكرر منه هذه الفقرة :

«ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل

الخمر ، وهو جبل بیت المقدس .

فيقولون : لقد فعلنا أهل الأرض ،

هلم فلنقتل من في السماء . فيرمون

بنشابهم إلى السماء ، فيرد اللّه عليهم

نشابه مخضوبة بالدم» .

ص: 204


1- انظر ص 633 وما بعدها .
2- المصدر و الصفحة

وأخرج ابن ماجة (1) عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول اللّه (ص) ، قال :

تفتح يأجوج ومأجوج ، فيخرجون،

كما قال اللّه تعالى ، وهم من كل

حدب ينسلون . فيعمون الأرض وينحاز

منهم المسلمون ، حتى تصير بقية

المسلمين في مدائنهم وحصونهم ،

ويضمون إليهم مواشيهم ، حتى انهم

ليمرون بالنهر فيشربونه ، حتى ما

يذرون فيه شيئاً . فيمر آخرهم على

أثرهم ، فيقول قائلهم : لقد كان

بهذا المكان مرة ماء .

ويظهرون على الأرض ، فيقول

قائلهم : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا

منهم ، ولننازلن أهل السماء . حتى

أن أحدهم ليهز حربته إلى السماء فترجع

مخضبة بالدم . فيقولون : قد تعلنا

أهل السماء .

فبينما هم كذلك إذ بعث اللّه دواب

كنغف الجراد ، فتأخذ بأعناقهم ،

فيموتون موت الجراد ، یرکب بعضهم بعضاً .

ص: 205


1- انظرالسنن ج 2 ص 1363

فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم

حساً. فيقولون : من رجل یشري

نفسه ، وينظر ما فعلوا ؟ فينزل منهم

رجل قد وطن نفسه على أن يقتلوه .

فيجدهم موتى . فيناديهم : ألا أبشروا ،

فقد هلك عدوكم . فيخرج الناس ويخلون

سبيل مواشيهم . فما يكون لهم رعي

إلا لحومهم ، فتشكر عليها ، كأحسن

ما شكرت من نبات أصابته قط .

وأخرج الصحيحان (1)وغيرهما

بالإسناد عن زينب بنت جحش قالت :

أن النبي (ص) استيقظ من نومه وهو

يقول : لا إله إلا اللّه ، ويل للعرب

من شر قد اقترب . فتح اليوم من ردم

يأجوج ومأجوج مثل هذه . وعقد

سفيان بيده عشرة . قلت : يا رسول اللّه ،

افنهلك وفينا الصالحون ؟ قال :

نعم ، إذا كثر الخبث . وقال الترمذي :

هذا حديث حسن صحيح ، جوّد

سفيان هذا الحديث.

وأخرج أبو داود (2)بإسناده

ص: 206


1- انظر صحيح البخاري ج8 ص 76 وصحيح مسلم ج8 ص 265 واللفظ لمسلم.
2- انظر السنن ج 2 ص 429.

عن حذيفة الغفاري في حديث قال فيه :

فقال رسول اللّه (ص) : لن تكون

أو لن تقوم الساعة حتى يكون قبلها

عشر آيات :... وعد منها : خروج

يأجوج ومأجوج .

وينبغي أن نتكلم حول هذه الأخبار في عدة نواحي :

الناحية الأولى : عدم الأخذ بالدلالة الصريحة -

الناحية الأولى : أنه لا يمكننا الأخذ بالدلالة ( القصرية ) لهذه الأخبار

الأمر الذي يعين علينا الالتزام بالفهم ( الرمزي ) لها . وذلك لوجود عدة

موانع عن الأخذ بصراحتها ، نذكر منها ما يلي:

المانع الأول : وجود التهافت بين بعض مدلولاتها، الأمر الذي يسقطها

عن قابلية الإثبات التاريخي .

فإن الخبر الذي أخرجه مسلم ورويناه في التاريخ السابق ، يدل على

وجود نبي اللّه عيسى بن مريم عليه السلام بين المسلمين عند انتشار يأجوج ومأجوج . وقد أعرضت عنه سائر الأخبار الأخرى . فتكون دالة على عدم

وجوده ، لأن وجوده ليس بالواقعة البسيطة التي يمكن إهمالها .

كما أن ذاك الخبر دال على أن زوال يأجوج ومأجوج كان بدعاء المسيح

وأصحابه ، وان إزالة جثثهم كان بدعائه أيضاً . والأخبار الأخرى خالية عن

ذلك . ويدل خبر ابن ماجة على أنهم يهلكون بإرادة مباشرة من اللّه عز وجل .

كما أن خبر مسلم متضمن لوجود المطر الذي يغسل الأرض من نتنهم بعد

زوال جثثهم ... وهذا ما سكتت عنه الأخبار الأخرى ، واعتبرته

كأنه لا حاجة إليه.

ص: 207

كما أن خبر مسلم دال على أن الطير تنقل الجثث إلى حيث يشاء اللّه ،

ولكن خبر ابن ماجة دال على أن الأغنام تأكل لحومها فتشكر عليها أي تسمن أحسن من أكلها للنباتات .

المانع الثاني : قيام عدد من الحوادث في نقل هذه الأخبار على المعجزات ، بشكل يتنافى مع ( قانون المعجزات ) الذي تم البرهان عليه في محله .

منها : موت يأجوج ومأجوج ، فجأة بطريق إعجازي . وهذا غير

ممكن في قانون المعجزات ، فإن أسلوب الدعوة الإلهية - كما قلنا - قائم على مقابلة السائح بالسلاح ، وتحصيل النصر بالكفاح ، لا عن طريق المعجزات . وبتعبير آخر : إن كل ما يمكن حصوله بالطريق الطبيعي ، مهما كان صعباً

و بعيداً ، لا تقوم المعجزة لتحصيله . ومن الواضح أن تربية وتأديب يأجوج ومأجوج ، أو استئصالهم إذا لم يتأدبوا ، أمر ممكن بالطريق الطبيعي .

ومنها : إزالة آثار نتن الجثث بطريق إعجازي ، بشكل و آخر ، وإن

اختلفت الأخبار في أسلوبه. ومن الواضح إمكان التنظيف بالطريق الطبيعي .

ومنها : افتراض أكل الماشية للحم . وهو أمر غريب ولا مبرر له في

قانون المعجزات . ويزيد غرابة استفادتهم الصحية من أكل اللحم أكثر من أكل النبات .

ومنها : ما ذكر من تصرفات يأجوج ومأجوج أنفسهم ، کشربهم

بحيرة طبرية حتى تجف ، كما في خبر مسلم ، أو شربهم من النهر حتى يجف ،

كما في خبر ابن ماجة . فإن هذا مما لم يتضح فهمه ، مهما تزايد عددهم

وطال بقاؤهم ، ومهما طالت أجسامهم ، كما تقول الأساطير .

ومنها : إرسالهم السهام إلى السماء لأجل غزوها ... وليس في هذا

ص: 208

غرابة إذا كانوا أغبياء إلى هذه الدرجة ... وإنما الغرابة في أن تعود السهام

مكسوة بالدم من أجل إيهامهم بأنهم قد قتلوا الناس الموجودين في السماء ...

فإنه من الأساطير التي لا يمكن أن يكون لها أي مبرر ، فضلاً عن موافقته

لقانون المعجزات .

هذا ولكن أغلب هذه الأشياء ستصبح حقائق ، عند دمجها في تكوين

متكامل من الفهم الرمزي ، على ما سنذكر بعد قليل . ومعه تصبح هذه

الاعتراضات ، واردة على الفهم التقليدي لمثل هذه الأخبار ، لا للمقاصد

الحقيقية منها .

الناحية الثانية : عرض أطروحة لفهم يأجوج ومأجوج

الناحية الثانية : في عرض أطروحة متكاملة لفهم يأجوج ومأجوج ، منطلقة عن ( الفهم الرمزي ) للأخبار .

مرت البشرية ، بحسب ما هو المقدر لها في التخطيط الإلهي العام ، بشكلين منفصلين من الايدلوجية .

الشكل الأول : الاتجاه الذي ينفي ارتباط العالم بخالقه بالكلية . ونستطيع

أن نسميه بالمادية المحضة أو الإلحاد التام .

الشكل الثاني : الاتجاه الذي يربط العالم بوجود لخالقه ، بشکل و آخر .

ولكل من هذين الاتجاهين فروعه وانقساماته التي تختلف باختلاف

المستوى العقلي والحضاري للمجتمع البشري .

ويمكن القول بأن تاريخ البشرية على طوله عاش في الأعم الأغلب

الاتجاه الثاني ، بمختلف مستوياته ، نتيجة لجهود الأنبياء وتربية الصالحين .

ومهما فسد المنحرفون والمصلحيون ، فانهم لم يخرجوا عن الاعتراف الغامض

14

ص: 209

بالخالق الحكيم . ويكفنيا مثالاً على ذلك قوله تعالى على لسان مشركي قريش :

«مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى » (1) فهم بالرغم من

تطرفهم في الكفر ، مؤمنون بالخالق ، ومن ثم مندرجون في الاتجاه الثاني .

وعلى هذا الغرار .

يقابل ذلك ، الاتجاه الأول الرافض لوجود الخالق تماماً ... والمعطي

زمام قيادة الإنسان بيد نفسه ، بالرغم من قصوره وتقصيره .

ولم يوجد على مر التاريخ هذا الاتجاه وجود مهم ، فيما عدا

الأفكار

الشخصية المتفرقة في التاريخ ... ما عدا مرتين - فيما نعرف - : المرة الأولى :

اتجاه المادية البدائية ، المتمثلة بشكل رئيسي في قبائل يأجوج ومأجوج . والمرة

الثانية : اتجاه المادية الحديثة المعاصرة ، بمختلف أشكالها وألوانها.

وقد كان المد المادي الأول خطراً وبالغ الضرر ، على ذوي الاتجاه

الثاني عموماً ، وبخاصة تلك الشعوب الصالحة المتبعة لدعوات الأنبياء . ولعل

القسط الأهم من الضرر لم يكن هو الإفساد العقيدي ، وإن كان هذا موجوداً

من أولئك الملحدين البدائيين ... وإنما الأهم من أشكال الضرر هو الضرر

الاجتماعي والاقتصادي وأشكال القتل والنهب الذي كانت توقعه القبائل البدائية الملحدة على المجتمع المؤمن.

ومن هنا ، خطط اللّه تعالى للقضاء الحاسم على هذا المدّ الواسع ، بإيجاد

قائد كبير ذو حركة عالمية وقدرة واسعة ، وممثل لأفضل أشكال الاتجاه

المؤمن ، هو الاسكندر ذو القرنين .

وقد شكى المجتمع المتضرر لهذا القائد من حملات أولئك البدائيين :

ص: 210


1- الزمر :3/29 .

«قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ

فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا (1)أي أجرة ، لكي تكفينا شرهم وتكسر

شوكتهم .

وقد استطاع هذا القائد الكبير أن يعلن دعوة اللّه في الأرض ، ويحصر نشاط ذلك المد المادي في أضيق نطاق ، وأن يعيد المجتمع البشري إلى سابق عهده ، من كون الاتجاه المسيطر هو الشكل الثاني للايديولوجية ، ويبقى الاتجاه الأول اتجاها شخصياً متفرقاً.

وقد اتخذت تدابير ذي القرنين في هذا الصدد ، شكلين أساسيين:

الشكل الأول : بناء السد الموصوف في القرآن الكريم المتكون من الحديد و الصفر . و هو يحتوي على الحماية ( العسكرية ) من هجمات القبائل البدائية

الملحدة .

الشكل الثاني : بناء السد العنوي في المجتمع المؤمن ، وزرع المفاهيم وقوة الإرادة الكافية ضد الانحراف والفساد .

ولعل في الإمكان مع بعض التوسع في فهم القرآن الكريم ، أن نحمل السد الموصوف فيه على السد المعنوي الذي يفصل بين الحق والباطل . وان

الحديد والصفر عبارة عن مكوناته المفاهيمية . إلا أننا نعرض ذلك كاطروحة

محتملة ، على غير اليقين ... وإن كان ذلك ممكناً في لغة العرب . ولكننا

سنسير بهذا الاتجاه ريثما تتّم هذه الأطروحة .

«قال : ما مكني فيه ربي خير » مما لديكم من المال و الحطام ، بعد أن مكنه اللّه تعالى من الملك والهداية معاً.

ص: 211


1- الكهف : 94/18.

وكان السد الذي بناه ذو القرنين ، ضخماً ومهماً ، إلى حد يكفي لكبح جماح البدائيين الملحدين ورد عاديتهم ، « فما استطاعوا أن يظهروه وما

اسطاعوا له نقباً .» فإن الإتجاهات الملحدة تكون دائبة في نشر عقيدتها

و اختراق السد الإيماني وقهر قوة الإرادة والإخلاص عند المؤمنين . إلاّ أن

سد ذي القرنين ، كان منيعاً لا يمكن لهذه الاتجاهات أن تؤثر فيه .

ولكنه على أي حال ، لم يستطع القضاء عليه نهائياً ، بل بقي بوجوده الضعيف مؤثراً في المجتمع الإنساني بمقدار ما يستطيع « وتركنا بعضهم يومئذ

يموج في بعض ». ولم يكن مقدراً في التخطيط الإلهي استئصاله عن الوجود ،

لإمكان مشاركته في التمحيص العام الذي حملنا عنه فكرة كافية . ولذا كان

لا بد من الاقتصار على كبح جماحه وكسر شوكته فقط ، ببناء السد ضده ، على وجه الأرض أو في نفوس المؤمنين .

ومن هنا بقي هذا الاتجاه في التاريخ ، لكي يتمحض بعد حوالي ثلاثة آلاف

عام عن السيطرة الجديدة للمادية على البشر للمرة الثانية ، ولكنها في هذه المرة ليست بدائية ، ولكنها مادية ( تقدمية ) ومعقدة ومفلسفة و ذات شعارات

براقة .وذات قوة ومنعة بحيث يصعب مجرد التفكير في منار لتها فضلاً عن

القضاء عليها . وهو معنى قوله في أحد الأخبار السابقة : لا يدان لأحد في

قتالهم .

لقد خرقت السد القديم ، ولم يعد كافياً للسيطرة عليهم وكبح جماحهم . ان ذلك السد كان مناسباً مع مستوى عصره العقلي والثقافي والعسكري ، ولم يعد الآن كافياً « «حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ » (1) أي من كل جهة ينتشرون. كذلك انتشرت المادية الحديثة .

ص: 212


1- الأنبياء : 21 / 96

وتسيطر الحضارة المادية على خيرات البلاد الإسلامية ، في ضمن سيطرتها على العالم كله . وتستولي مصادرها الطبيعية ، فتشرب البحيرات ، والأنهار - كما أشارت الأخبار - بمعنى أنها تستغلها تماماً لصالحها ، وتمنع أهلها من

الإستفادة منها . فيحصل الفقر والقحط في البلاد المحكومة المستعمرة « حتي يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مئة دينار لأحدكم اليوم ».

وتأتي الأجيال المتأخرة من اتباع الحضارة المادية ، فيقولون : «لقد كان

بهذاالمكان ماء » . فإنهم عرفوا من التاريخ أن هذه المنطقة كانت تغل لأهلها

وتفيدهم . و اما الآن - وبعد سيطرة الحضارة الكافرة - فقد أصبحت الغلات

لها . وأصبح وجود الماء كالعدم بالنسبة إلى أهل البلاد .

وأما المسلمون المخلصون ، فينحازون عنهم ويبتعدون عن ممالأتهم والسير في طريقهم ، خوفاً على إيمانهم من الانهيار ، وعلى سلوكهم من

التفسخ والانحلال .

وحين يتم للحضارة المادية الملحدة ، بسط السيطرة على الأرض ، تتجه

أطماعها إلى السماء ، ومن هنا نجدهم «يقولون : هؤلاء أهل الأرض قد

فرغنا منهم ، ولنناز لن أهل السماء » . وهذا - بمعناه الرمزي - مما حدث

فعلاً ، فإن الحضارات المادية بعد أن أحكمت قبضتها على الأرض ، طمعت بغزو السماء ، بادثة بالأقرب فالأقرب من الكواكب . ومن هنا انبثقت

فكرة غزو الفضاء الخارجي والسير بين الكواكب .

« فير مون بنشابهم إلى السماء ، فيرد اللّه عليهم نشابهم مخضوبة بالدم»

. وهذا - بمعناه الرمزي - مما حدث فعلاً ، متمثلاً بإطلاق الأقمار الصناعية

والمركبات الفضائية والصواريخ الكونية. فاعجب لمثل هذا التنبؤ الصادق

ص: 213

الذي لم يكن للنبي (ص) أن يصرح به في عصره إلا بمثل هذا الرمز ، طبقاً

لقانون «كلم الناس على قدر عقولهم ».

ومعنى كونها تعود مخضبة بالدم ، هو أنها محاولات ناجحة ، تنتج الأثر المطلوب المتوقع ... فكما أن المتوقع من القتل بالحربة أو السهم أن

تتخضب بالدم ، كذلك من المتوقع للمركبات أن تنتج الخبرات العلمية المطلوبة ، وأن تجلب التراب من القمر - مثلاً -.

ولعل في التعبير بأن السهام «ترجع ، عليها الدم الذي اجفظ » أي فاض وغزر ... فيه إشارة واضحة إلى ذلك ... بعد العلم أن السهم الاعتيادي لا يفيض منه الدم ، وإنما يراد بذلك التأكيد على مدى نجاح الرحلات

الفضائية ، وسعة ما تنتجه من نتائج ، من حيث العمق والانتشار في العالم .

وحين يتم لهم ذلك ، ينالهم الغرور بعلومهم ومدنيتهم «فيقولون : قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ». وكل حضارة ينالها الغرور، وتفشل في التمحيص الإلهي العام للبشرية ، لا بد أن يحكم عليها بالزوال ، ويكون

غرورها نذير فنائها واندثارها ... طبقاً للقانون الذي يعرب عنه قوله تعالى : « حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا

أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا

حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ

يَتَفَكَّرُونَ » (1)

وكما كان للاسکندر ذي القرنين الدور الأهم في منازلة المادية الأولى ..:. سيكون للقائد المهدي عليه السلام الدور الأهم في منازلة المادية الحديثة . ولذا

ص: 214


1- يونس24/10

قورن الإمام المهدي (ع) بذي القرنين بعدد من الروايات ، كما سنسمع بعد ذلك .

وسيكون للمسيح عليه السلام مشاركة فعالة في هذا الصدد ، تحت قيادة

القائد المهدي (ع) ... إلى حد يمكن أن نعبر عنه بأنه السبب المباشر لذلك ،

مع شيء من التجوز والتعميم . ومن هنا تسبب موت يأجوج ومأجوج إلى

عمله وجهوده ، كما سمعنا من بعض الأخبار .

وأما أسلوب موت هؤلاء ، فيمكن أن نطرح له أطروحتان :

الأطروحة الأولى : موتهم عن طريق تفشي الأمراض والأوبئة فيهم ... كما هو الموافق مع ظاهر الأخبار ، على المستوى ( الصريح ) دون الرمزي .

ففي خبر مسلم : فيرسل اللّه عليهم النغف في رقابهم . وفي خبر ابن ماجة :

فبينما هم كذلك ، إذ بعث اللّه دواب كنغف الجراد ، فتأخذ بأعناقهم فيموتون موت الجراد ، يركب بعضهم بعضاً . والنغف دود صغار يكون في

الإبل ، وكل ما هو حقير عند العرب فهو نغفة (1) . ومن هنا يكون الأرجح

کونه تعبيراً عن مكونات الأمراض ( الميكروبات ) . ومن هنا يكون الخبر

نبوءة عن هلاك الماديين الجدد عن طريق الأوبئة الفتاكة أو الحرب الجرثومية و نحوها .

الأطروحة الثانية : ان نفهم من الموت موت الكفر والانحراف ، لا موت

الأبدان . وهي المهمة الكبرى التي يقوم بها المهدي والمسيح عليهما السلام في

العالم . ولئن كان الكفر قاتلاً للإيمان ، وهو أشد من موت الأبدان «الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» (2) . فإن الإيمان قاتل للكفر ، وهو أفضل شكلي الحياة .

ص: 215


1- راجع اقرب الموارد ، مادة نغف .
2- البقرة : 217/2و أنظر أيضا :191/2

وهذا هو الذي يفسر لنا ما يظهر من الأخبار السابقة ، من أن موتهم جميعاً يكون سريعاً و في زمان متقارب جداً ، فإنه طبقاً - للاطروحة الثانية -

نتيجة للجهودالكبيرة المركزة في السيطرة على العالم بالعدل وتربية البشرية

باتجاه الكمال . وهو – أيضاً – دليل على النجاح الفوري الأكيد لتلك الجهود في اليوم الموعود .

وستكون مخلفات الحضارة المادية الملحدة ، كبيرة جداً من الناحية الصناعية والعلمية . وسيكون لذلك الأثر الكبير في دعم الدولة العالمية العادلة ،

وترسيخ جذور التربية في المجتمع البشري. «فما يكون لهم (1)رعي إلاّ

لحومهم ، فتشكر عليها كأحسن ما شكرت على نبات قط » فلحومهم - طبقاً

لهذه الأطروحة - ، مخلفاتهم ، (2) ومن المعلوم أن المستوى التكنيكي الرفيع

إذا اقترن بمستوى اجتماعي عادل ، أنتج أضعافاً مضاعفة من النتائج ، مما

إذا لم يقترن بالمستوى الاجتماعي العادل .

ولم تنج البشرية ، ما بين الماديتين : البدائية والتقدمية !!! ، من جذور وبذور وإرهاصات للتجدد والاشتعال . ومن هنا تأسف نبي الإسلام (ص) أسفاً شديداً ، لأنه قد «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وعقد عشراً ». من حيث أن هذا الردم الإيماني قد بدأ بالتصدع مقدمة لوجود المادية التقدمية !!..

ص: 216


1- الضمير في العبارة راجع إلى المواشي، و الملحوظ أنه ضمير لمن يعقل ، ولو أراد المواشي على التعيين لقال : لها . ومن هنا يمكن أن نفهم التعميم.
2- رأوضح في الاستفادة من المخلفات ما أخرجه ابن ماجة (ج 2 ص 1359 ) : قال رسول اللّه (ص) : سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج و نشانهم وأتر ستهم سبع سنين . أقول : ذلك النشاب الذي سمعنا أنهم يرسلونها إلى السماء .

غير أن موقف المهدي والمسيح عليهما السلام ، سيختلف عن موقف ذي القرنين . فلئن اكتفى ذو القرنين ببناء السد ، مع الحفاظ على وجودهم إجمالاً ، طبقاً للتخطيط العام . فإن المهدي عليه السلام سيتخذ موقف الاستئصال التام لكل العقائد المنحرفة والكفر والضلال ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، «فيموتون موت الجراد ، يركب بعضهم بعضاً » .

الناحية الثالثة : في الفرق بين يأجوج ومأجوج ، والدجال .

فإنه قد يرد إلى الذهن : اننا بعد أن فسرنا الدجال بالحضارة المادية ، كيف صح لنا أن نفسر يأجوج ومأجوج بنفس التفسير . وهل يمكن أن تعترف أنهما تعبيران عن حقيقة واحدة ، مع العلم أن تعدد الأسماء و العناوين دليل على تعدد الحقائق .

ويمكن أن يجاب ذلك بعدة أجوبة ، يصلح كل منها تفسيراً کاملاً للموقف :

الجواب الأول : ان مفهوم ( الدجال ) ناظر إلى الحضارة المادية ككل ، و مستوعب لها على نحو المجموع . واما مفهوم ( يأجوج ومأجوج ) فيقسم تلك الحضارة إلى قسمين متميزين .

فإنه بالرغم من أن الحضارة المادية ككل مميزاتها وخصائصها التي تفصلها عن الاتجاه الآخر بمميزاته وخصائصه ، ولها فروتها عن الحضارة

الإسلامية والمفاهيم الدينية الإلهية . وهذه الحضارة المادية المنظور إليها بهذا الشكل ، هي التي تمثل مفهوم الدجال.

... بالرغم من ذلك ، فإن للحضارة المادية انقساماتها الداخلية التي تجعلها في معرض الصراع الداخلي ، الذي يكون في الأعم الأغلب عنيفاً

ص: 217

و عميقاً. وهذا الإنقسام هو المعبر عنه بمفهوم ( يأجوج ) مرة ومفهوم ( مأجوج ) أخرى .

وهذا الإنقسام ليس حديثاً ، بل هو قديم قدم المادية نفسها . فالمادية البدائية ، كانت منقسمة ، وكان انقسامها مشوباً بالشعور القبلي . والمادية ( التقدمية ) منقسمة ، ولكن انقسامها ايديولوجي ومصلحي معاً .

الجواب الثاني : إن مفهوم الدجال يمثل المادية الحديثة ... ولذا لم ينقل

عنه قبل الإسلام أي وجود . وإنما بدأت إرهاصاته - حسب إفادات الأخبار التي عرفناها في التاريخ السابق (1)– بعد بدء الإسلام ، وكان وجوده

الكامل متأخراً عنه بألف عام .

وأما مفهوم ( يأجوج ومأجوج ) فهو يمثل الخط المادي بتأريخه الطويل .

ولذا كان له وجود بدائي ووجود حديث . ولم يخل التاريخ المتوسط بينهما من التأثيرات والإرهاصات .

وهذا يعني أن الوجود الحديث ليأجوج ومأجوج، هو الدجال نفسه ، وليس شيئاً آخر .

الجواب الثالث : إن مفهوم يأجوج ومأجوج ، يعني الحضارتين الماديتين

بوجودهما الأصيل . وأما عنوان الدجال فلا يعني ذلك بالضبط ، وإنما النظر

فيه إلى نقطة تأثر المسلمين بتلك الحضارة المادية . فالدجال يعبر عن عملاء

تلك الحضارة في البلاد الإسلامية ، وهم متصفون بنفس أوصافهم ومتخذون

نفس منهجهم في الحياة ... وكثيراً ما مارسوا الحكم وزرعوا الشبهات ، وحاولوا فك المسلمين عن دينهم وإبعادهم عن طريق ربهم .

ص: 218


1- انظر ص 644

ويؤيد ذلك اتخاذ مفهوم الدجال، ، الدال على أنه مسلم بالأصل ، ولكنه أصبح كافراً ومنحرفاً ، يدعو الناس إلى الكفر والإنحراف ، وقد ينطلق في إثبات أفكاره في الأذهان عن طريق الخداع والتمويه ، باستعمال المفاهيم

الإسلامية بشكل مشوه و مستغل للمنافع الشخصية والنتائج الباطلة . كما يدل

عليه الحديث الذي أخرجه أبو داود (1)، قال : قال رسول اللّه (ص) : من سمع الدجال فلينأ عنه . ، فواللّه إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن،

فيتبعه مما يبعث به من الشبهات .

و هناك أجوبة أخرى محتملة للجواب على السؤال الذي ذكرناه في هذه الناحية ، لا حاجة إلى سردها .

وللقارىء أن يختار أيّاً من هذه الوجوه الثلاثة شاء ... فإن أياً منها كاف في تصحيح تفسير نا الدجال و ليأجوج ومأجوج معاً.

الناحية الرابعة : طبقاً للاطروحة التي فهمناها عن يأجوج ومأجوج ،

فإن انتشارهم من رد مهم سيكون قبل عصر الظهور . وسيظهر المهدي (ع)

وينزل المسيح عيسى بن مريم ، وهم على حلبة العالم . فيتم القضاء عليهم تماماً .

غير أن بعض الأخبار دال على تأخر انتشار هم عن عصر الظهور .

منها : ما أخرجه الحاكم في المستدرك (2) في حديث يتحدث فيه عن

نزول المسيح وسيطرة المسلمين وقتلهم لليهود ، ويقول : ويظهر المسلمون

فيكسرون الصليب ويقتلون الخنزير ويضعون الجزية . فبينما هم كذلك ،

ص: 219


1- انظر السنن ج 2 ص 431 .
2- انظر المستدرك على الصحيحين ج 4 ص 491 .

أخرج اللّه أهل يأجوج ومأجوج ... الحديث .

فإذا عرفنا أن نزول المسيح وكسر الصليب وقتل الخنزير تعبير آخر

عن قيام الدولة العالمية المهدوية العادلة ... كان الحديث دالاً على خروج يأجوج ومأجوج بعد تأسيس هذه الدولة .

ومنها ما أخرجه مسلم (1) ورويناه في التاريخ السابق (2)في حديث يذكر فيه حادثة نزول المسيح ثم يقول:

فبينما هو كذلك ، إذ أوحى اللّه

إلى عيسى اني قد أخرجت عباداً لي

لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرز عبادي

إلى الطور . ويبعث اللّه يأجوج ومأجوج ،

وهم من كل حدب ينسلون... الحديث.

فإذا استطعنا أن نبرهن - كما سيأتي - على تأخر نزول المسيح (ع) عن ظهور المهدي (ع) ، وكان انتشار يأجوج ومأجوج بعد نزول المسيح - كما

قال هذا الخبر – إذن ، فسيكون انتشار هم بعد ظهور المهدي (ع).

إلا أنه يمكن المناقشة في هذه الأخبار من وجهين :

الوجه الأول : وجود الدلالات المعارضة في الأخبار لهذه الدلالة ... تدل على تقدم ظهور يأجوج ومأجوج على الظهور .

ولعل أهم ما يدل على ذلك : ما دل من الأخبار على خوف المسلمين من فتح يأجوج ومأجوج . وهي عديدة وقد سمعنا بعضها ، وهي دالة بوضوح على تحصن المسلمين منهم وعجزهم عن قتالهم وسحبهم لمواشيهم معهم .

ص: 220


1- انظر صحيح مسلم ج8 ص 197 وما بعدها .
2- انظر تاریخ الغيبة الكبری ص 633 220

و هذا الخوف إنما یمکن قبل تأسیس الدولة ، بل قبل ظهور

المهدي (ع) اساساً ، إذا لا معنی للخوف بعد الظهور ، حین یکون النصر

محرزاً و الأمن مستنباً... طبقاً لقوله تعالی : «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ

وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ

بِي شَيْئًا » (1).

إذن ، فيتعين أن يكون انتشار يأجوج ومأجوج الموجب للخوف والتحرز

بين المسلمين ، سابقاً على الظهور حين لا يكون المسلمين قوة عليا وهيمنة.

وقد يخطر في الذهن : أن هذه الأخبار دلت على وجود هذا الخوف بين

المسلمين بالرغم من وجود المسيح (ع) فيهم ، وانه عليه السلام مأمور بتحصينهم

ضد اعتداءات يأجوج ومأجوج . فاذا كان نزول المسيح (ع) بعد الظهور

كما أسلفنا ، اذن فسيكون فتح يأجوج ومأجوج بعده أيضاً.

والصحيح : أن هذه الرواية انما تدل على تقدم نزول المسيح على الظهور ،

وانه ينزل في زمان اضطراب المسلمين وضعفهم ووجود الفتن فيهم . وهذا ما سوف نناقشه في القسم الثاني من هذا التاريخ ... ويكفينا الآن أن نعلم بوجود

عدد من الأخبار دال على تأخر نزوله عليه السلام عن الظهور .

اذن ، فلا بد من الالتزام بان انتشار يأجوج ومأجوج سابق على الترول

و الظهور معاً ، ونرفع اليد عن دلالة هذا الخبر بهذا المقدار . وهو المطابق مع

الأطروحة التي عرفناها قبل قليل .

ص: 221


1- النور55/24

الوجه الثاني : وجود الدلالات المعارضة من ناحية أخرى .

وذلك : اننا سنسمع الروايات الواردة لسرد حوادث ما بعد الظهور ،

و ستجدها جميعاً خالية من التعرض ليأجوج ومأجوج. وانما سنجد العالم هو العالم

الذي نعرفه خالياً من الغرائب التي نسبت إلى هاتين القبيلتين ، يظهر المهدي (ع)

و ينزل المسيح (ع) فيحكمان فيه بالعدل . ومعه تكون تلك الأخبار ككل

دالة على عدم انتشار يأجوج ومأجوج يومئذ .

و حيث علمنا من القرآن الكريم و السنة الشريفة، أنهم لا بد ان ينتشروا في يوم ما ، اذن ، فهذا واقع قبل الظهور لا محالة .

وهنا لا بد لنا أن نتنازل عما دلت عليه بعض الأخبار السابقة عن تأخر انتشار

هاتين القبيلتين عن نزول المسيح . تماماً كما قلنا في الجواب السابق .

وينبغي أن نلاحظ أيضاً ، أنه طبقاً للاطروحة التي فهمناها لا تكون هناك

أية معارضة بين أخبار يأجوج ومأجورج وبين الروايات التي تذكر حوادث ما

بعد الظهور . لأن هذه الأطروحة كما تقول بتقدم انتشار يأجوج ومأجوج المادية

على الظهور ، تنفي عن هاتين القبيلتين كل الغرائب. وانما هما يمثلان العالم نفسه

كما نعرفه ؛ فما عرفناه من دلالة الأخبار على سيطرة المهدي (ع ) على العالم

كما نعرفه ، يكون منسجماً مع الأطروحة كل الانسجام .

نعم ، طبقاً للاطروحة يكون عمل المهدي (ع) مكرساً في أول ظهوره للسيطرة على يأجوج ومأجوج ، أو المادية السابقة على ظهوره . وهذا المفهوم لم يرد في اخبار ما بعد الظهور . وهذا يعني تحول المفهوم في هذه الأخبار و ترك

التعرض إلى عنوان يأجوج ومأجوج ... ولا يعني وجود الاشكال في هذه

الأطروحة.

ص: 222

السفياني

وهو من الحركات الإجتماعية التي أكدت عليها المصادر الأمامية تأكيداً

كبيراً، وأهملتها مصادر العامة إلى حد كبير ، على العكس من الدجال ، كما

أشرنا في التاريخ السابق (1).

وقد سبق هناك أن ذكرنا العديد من تفاصيل أوصافه وأعماله ، وأعطينا

عنه فهماً خاصاً ، وهو كونه يمثل حركة الانحراف ، أو حركة منحرفة واسعة

النفوذ ، في داخل المجتمع المسلم .

والمهم في تاريخنا هذا أن ننظر إلى أعمال السفياني ، كشيء سبق على

الظهور بقليل ، بحيث يتم الظهور ، ولا يزال السفياني يعمل عمله و ينشر حكمه

ودعوته ، كما عليه ظاهر الأخبار .

وينبغي أن نتكلم حول ذلك ضمن عدة نواحي :

الناحية الأولى : في سرد الأخبار

الناحية الأولى : في سرد الأخبار التي تفيدنا في حدود الغرض الذي أشرنا

إليه ، بعد أن سردنا من أخبار السفياني في التاريخ السابق (2)الشيء الكثير

وعرفنا أنها متواترة لا مناص من الأخذ بها إجمالا .

ص: 223


1- انظر ص 621 وما بعدها .
2- انظر ص 622وما بعدها .

أخرج الصدوق(1) عن أبي منصور البجلي ، قال : سألت أبا عبد اللّه (ع)

عن اسم السفياني . فقال :

وما تصنع باسمه ؟ إذا ملك كور

الشام الخمس : دمشق وحمص وفلسطين

والأردن وقنسرين ، فتوقعوا الفرج .

قلت : يملك تسعة أشهر ؟ قال :

لا ، ولكن يملك ثمانية أشهر لا

يزيد يوماً .

وأخرج النعماني في الغيبة (2)عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) في حديث

طويل يقول فيه :

لا بد لبني فلان من ان يملكوا .

فإذا ملكوا ثم اختلفوا تفرق ملكهم أو

تشتت أمرهم . حتى يخرج عليهم

الخراساني والسفياني . هذا من المشرق

وهذا من المغرب . يستبقان إلى الكوفة

كفرسي رهان . هذا من هنا وهذا

من هنا . حتى يكون هلاك بني فلان

على أيديهما . أما أنهم لا يبقون

منهم أحداً.

ثم قال : خروج السفياني واليماني

ص: 224


1- انظر اكمال الدين (المخطوط ).
2- ص 135 .

والخراساني في سنة واحدة ، في شهر

واحد ، كنظام الخرز ، يتبع بعضه

بعضاً ... الحديث .

وأخرج النعماني أيضاً (1) بسنده عن الحارث عن أمير المؤمنين (ع) في حديث يقول فيه :

وإذا كان ذلك ، خرج السفياني ،

فيملك قدر حمل امرأة ، تسعة أشهر ،

يخرج بالشام ، فينقاد له أهل الشام

إلا طوائف من المقيمين على الحق ،

يعصمهم اللّه من الخروج معه . ويأتي

المدينة بجيش جرار ، حتى إذا انتهى

إلى بيداء المدينة خسف اللّه به ، وذلك

قول اللّه عز وجل في كتابه : «وَلَوْ

تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا

مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ » (2)

وأخرج أيضاً (3) بسنده عن محمد

ابن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال :

السفياني أحمر أصفر أزرق ، لم يعبد

اللّه قط ، ولم ير مكة ولا المدينة قط .

يقول : يا رب ثاري والنار ، یا رب

ثاري والنار .

ص: 225


1- ص 163
2- سبأ : 51/34.
3- الغيبة ص 164.

وأخرج الشيخ في الغيبة (1) عن بشر بن غالب ( قال ) : يقبل السفياني من بلاد الروم منتصرأ في عنقه صليب ، وهو صاحب القول .

وأخرج أيضاً (2)عن أبي عبد اللّه (ع) قال : كاني بالسفياني - أو لصاحب السفياني - قد طرح رحله

في رحبتكم بالكوفة ، فنادى منادیه :

من جاء برأس شيعة علي ، فله ألف درهم .

فيثب الجار على جاره ،

ويقول : هذا منهم. فيضرب عنقه

ويأخذ ألف درهم . أما ان امارتكم

يومئذ ، لا تكون إلا لأولاد البغايا .

ولعل أهم الأخبار التي تحدد حركات السفياني وحروبه ، خبران :

أحدهما : ما أخرجه الشيخ (3)عن عمار بن یاسر ( أنه قال : )

ان دولة أهل بيت نبيكم في آخر

الزمان ، ولها إمارات ... إلى أن قال :

ويظهر ثلاثة نفر بالشام كلهم يطلب

الملك : رجل ابقع ورجل اصهب

ص: 226


1- ص 278 .
2- المصدر ص 273 .
3- المصدر ص 278 .

ورجل من أهل بيت أبي سفيان ،

يخرج من كلب ، ويحضر الناس بدمشق،

ويخرج أهل الغرب إلى مصر . فإذا

دخلوا فتلك إمارة السفياني .

ويخرج قبل ذلك من يدعو لآل

محمد ، وتنزل الترك الحيرة. وتنزل

الروم فلسطين. ويسبق عبدُ اللّه عبدَ اللّه

حتى يلقي جنودهما بقرقيسيا على النهر

ويكون تعال عظيم . ويسير صاحب

المغرب فيقتل الرجال ويسبي النساء .

ثم يرجع في قيس حتى ينزل الجزيرة

السفياني . فيسبق اليماني ، ويحوز

السفياني ما جمعوا . ثم يسير إلى الكوفة

فيقتل أعوان آل محمد (ص) ويقتل

رجلاً من مسميهم . ثم يخرج المهدي

على لوائه شعيب بن صالح .

وإذا رأى أهل الشام قد اجتمع

أمرها على ابن أبي سفيان ، فالحقوا

بمكة . فعند ذلك تقتل النفس الزكية ،

وأخوه بمكة ضيعة . فينادى مناد من

السماء : أيها الناس ، أميركم فلان .

وذلك هو المهدي الذي يملأ الأرض

قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلما وجوراً .

ص: 227

ثانيهما : ما أخرجه النعماني(1)بسنده إلى جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي (ع ) في حديث طويل يقول فيه :

يختلفون عند ذلك على ثلاث

رايات ، راية الأصهب وراية الأبقع

وراية السفياني . فيلتقي السفياني بالأبقع

فيقتلون . فيقتله السفياني ومن تبعه ،

ويقتل الأصهب . ثم لا يكون له همة

إلا الإقبال نحو العراق . ويمر جيشه

بقرقيسيا ، فيقتتلون بها ، فيقتل بها من

الحبارين مائة ألف . ويبعث السفياني

جيشا إلى الكوفة ، وعدتهم سبعون

ألفاً ، فيصيبون أهل الكوفة قتلا

وصلباً وسبياً . فبينما هم كذلك ، إذ

أقبلت رايات من خراسان ، وتطوي

المنازل طياً حثيثاً ، ومعهم نفر من أصحاب القائم .

ثم يخرج من موالي أهل الكوفة في

ضعفاء ، فيقتله امير جيش السفياني

بين الحيرة والكوفة . ويبعث السفياني

بعثة إلى المدينة ، فينفر المهدي (ع)

منها إلى مكة . فيبلغ أمير جيش السفياني

ص: 228


1- انظر الغيبة للنعماني ص 149.

أن المهدي قد خرج إلى مكة . فيبعث

جيشاً على أثره، فلا يدركه حتى يدخل

مكة خائفاً يترتب على سنة موسی بن عمران .

قال : وينزل أمير جيش السفياني

البيداء ، فينادي مناد من السماء :

يا بيداء ابيدي القوم، فيخسف بهم ،

فلا يفلت منهم إلا ثلاثة نفر ...

الحديث .

ثم يبدأ الحديث بشرح حوادث الظهور التي ستسمعها في القسم الثاني .

وسنذكر الأخبار الدالة على قتال السفياني للمهدي ومقتله على يده في ناحية آتية .

الناحية الثانية : في صلاحيتها للإثبات التاريخي

الناحية الثانية : في امكان الاعتماد على هذه الأخبار في الإثبات التاريخي ،

طبقاً للمنهج الذي سرنا عليه في هذا الكتاب .

ان الاتجاه العام لهذه الأخبار منطبق على هذا المنهج ، لولا بعض نقاط الضعف :

النقطة الأولى : أن الخبر الذي رواه الشيخ عن عمار بن یاسر ، لم يرو عن أحد المعصومين عليهم السلام ، بل عن عمار نفسه . وان كان من الراجح

أنه استقى هذه المعلومات عنهم عليهم السلام . الا أن الكلام كلامه ، بدلیل قوله في أول الخبر : أن دولة أهل بیت نبيكم في آخر الزمان ... الدال على

أن المتحدث لم يعتبر نفسه من أهل البيت ، وهذا ما لا يحدث لو كان المتحدث أحد المعصومين عليهم السلام ومعه يسقط الخبر عن الإثبات التاريخي . وتكون

ص: 229

صحته متوقفة على القرائن أو اشتراك نقله مع الأخبار الأخرى ، أو تخفق ما أخبر به في العالم الخارجي

وهذا هو الحال في الخبر الذي أخرجه الشيخ عن بشر بن غالب ، فان

الظاهر منه أنه هو المتكام . فلا يكون قابلاً للاثبات التاريخي.

النقطة الثانية : أن خبر عمار غير مرتب من حيث الزمان ، فهو يحتوي على

حوادث مختلطة : نقدمة ومتأخرة ، وغير محددة على ما يبدو .

فنزول الترك الحيرة ، تعبير عن السيطرة العثمانية على العراق . ونزول

الروم فلسطين هو الغزو الصليبي . وصاحب المغرب هو - على الأرجح -

أبو عبد اللّه الشيعي الذي مهد بقتاله الواسع في شمال افريقيا لحكم المهدي الأفريقي

(محمد بن عبيد اللّه ) (1)جد الفاطميين الذين حكموا بعدئذ مصر

ردحاً من الزمن .

وهذه الحوادث وردت في الحديث على عكس حدوثها التاريخي تماماً

كما يتضح بمراجعة التاريخ الإسلامي . واذا كانت حوادث الماضي فيه غير

مرتبة فلعل حوادث المستقبل فيه كذلك .

النقطة الثالثة : أن هناك تهافتاً بين بعض مضامين هذه الأخبار .

فمن ذلك : مدة بقاء حكم السفياني ، فبينما يصرح أحد الأخبار أنه

يملك قدر حمل امرأة تسعة أشهر ، نری خبر اً آخر ينفي ذلك بصراحة ، وأنه لا يملك إلا ثمانية .

ومن ذلك : موعد وجود حركة السفياني ، فبينما يظهر من بعض هذه

الأخبار أن زوال دولة بني العباس يكون على يده، اذا فهمنا من بني فلان ، ذلك كما هو الظاهر . ومعنى ذلك أن حركة السفياني قد وجدت وانتهت منذ مد بعيد .

ص: 230


1- انظر تاریخ الغیبة الصغری ص354.

... نجد - إلى جنب ذلك – ارتباط حركة السفياني بالخسف ، وان

المهدي (ع) نفسه هو الذي يقتله ... ومعنى ذلك أن حركته لم تحدث لحد الآن: وكم بين هذين الموعدين من بعد شاسع .

غير اننا في التاريخ السابق(1) ناقشنا الخبر الدال

على ازالته لدولة بني

العباس ... ومعه يكون هذا الموعد منتفياً ، ويتعين الموعد الآخر.

ومن ذلك : تعيين دين السفياني . فبينما نسمع من أحد الأخبار أنه مسيحي بشكل وآخر ( في عنقه الصليب ) نجد في خبر آخر أنه من المسلمين المهتمين باستئصال شيعة علي عليه السلام . مع الالتفات إلى أن المسيحي قلما يكون

له اهتمام خاص بذلك .

ومن ذلك : أن هناك تشویشاً وتضارباً في تسمية القادة الموجودين قبل الظهور . فان ظاهر الأخبار تعاصر هذه الحركات تقريباً ، وكلها ذات أهمية

في المجتمع ، إلى درجة يكون إهمال الخبر لذكر بعض القواد قرينة على عدمه أساسا ، لعدم إمكان الإعراض عن ذكره - عادة - مع وجوده .

ففي بعض الأخبار لا نجد غير السفياني ، وفي بعضها نجد الخراساني والسفياني دون غيرهما ، وفي أخبار أخرى نسمع بوجود عدة قواد : ابقع وأصهب وسفياني ويماني .

وقل مثل ذلك في المنطقة التي يحكمها السفياني . فان المقدار الواضح من الأخبار انطلاقه من دمشق وسيطرته عليها ، إلى جنب عدم وصوله إلى مكة والمدينة المشرفتين . وأما بالنسبة إلى باقي البلدان ، فالأمر لا يخلو من تشويش.

ولعل من أوضح موارد التشويش هذه : الكوفة . حيث نسمع من بعض

ص: 231


1- انظر تاریخ الغيبة الكبری ص 624.

الأخبار ارتکازه فيها وسيطرته عليها ... نجد في بعضها الآخر أن ( الخراساني) بحنلها معه أيضاً .

بل أن انطلاقه من دمشق أيضاً لا يخلو من ظلال، نظراً إلى الخبر القائل :

بأن السفياني يقبل من بلاد الروم .

غير أن الذي يهون الحطب . ان اكثر منطلقات هذه النقطة قابل للتذليل

مع شيء من التفكير ، كما سوف نطبق بعضه فيمايلي .

الناحية الثالثة : تنظيم مداليل الأخبار

الناحية الثالثة : من الحديث عن السفياني : في محاولة فهم الحوادث التي تدل

عليها هذه الأخبار ، ومحاولة ضبطها وترتيبها ، انطلاقاً من ظاهرها على المستوى

( الصريح) دون ( الرمزي) .... ما لم تعن الحاجة إلى الحمل على الرمز أحياناً .

ان منطلق السفياني سيكون هو الشام دون بلاد الروم . وأما الخبر الدال على

إقباله من هناك. فسنذكر له فهماً خاصاً في حديثنا عن علاقة السفياني بالدجال .

ان دمشق الشام ستكون في يوم من الأيام مسرحاً لحروب داخلية وصدام مسلح بين فئات ثلاثة كلها منحرفة عن الحق ، وكل منها يريد الحكم لنفسه . ولا

تعبر لنا الأخبار عن اتجاهات هؤلاء وعقائدهم بوضوح ، غير أنها توضح وجود الاختلاف بينها عن طريق اختلاف ألوانها ... وهي تعبر عن ألوان

الأمراء باعتبارهم مركز الثقل في التوجيه الفكري والعسكري لقواعدهم الشعبية ،

فأحدهم : ابقع . والآخر : أصهب . والآخر : أحمر أصفر أزرق ،

وهو السفياني . وهو الذي يكتب له النصر في هذه المعمعة ، ويستطيع السيطرة

على الموقف في الشام ، ويتبعه أهلها ، الا عدد قليل من الناس ، يعصمهم اللّه

تعالى عن اتباعه ، وهم جماعة من المخلصين المحصين الكاملين ، المعبر عنهم

في بعض الأخبار بالأولياء والأبدال ، كما أسلفنا ، ويحكم السفياني الكور

ص: 232

الخمس : دمشق ، وحمص وفلسطين والأردن وقنسرين(1) إلى جنب ما سوف يملكه من مدن العراق .

وحين يستتب له الأمر يطمع بالسيطرة على العراق ، و يفكر في غزوها

عسكرياً ، فيوجه إليها جيشاً يكون هو قائده . فيلتقي في طريقه جيش أرسله حكام العراق من أجل دفعه ، فيقتتل الجيشان في منطقة تسمى بقرقيسيا (2)

ويكون قتالهما ضارياً. يقتل فيه من الجبارين حوالي مئة ألف. و الجبار العنيد هو

كل حاكم منحرف ... وهو كناية عن أن كل من يتمتل يومئذ من أي الجيشين

هو من الفاسقين المنحرفين. و بذلك تتخلص المنطقة من أهم القواد العسكريين الذين

يحتمل أن يجابهوا المهدي (ع) عند ظهوره .

وعلى أي حال ، فالنصر سوف يكون للسفياني أيضاً ، فيدخل العراق ، ويضطر إلى منازلة ( اليماني ) في أرض الجزيرة (3) فيسيطر عليه أيضاً و یجوز من جيش اليماني ما كان قد جمعه من المنطقة خلال عملياته العسكرية.

ثم يسير إلى الكوفة ، فيمعن فيها قتلاً وصلباً وسبياً ... ويقتل أعوان

آل محمد ( ص ) ورجلاً من مسميهم يعني من المحسوبين عليهم . وقد سمعت ما في أحد الأخبار من أنه ينادي مناديه في الكوفة : من جاء برأس من

ص: 233


1- الكور جمع کورة، وهي المدينة و البقعة (انظر أقرب الموارد ج2 ص 1122). و قنسرین كورة بالشام بالقرب من حلب ، وهي احد أجناد الشام ، قال ابن الأثير : وكان الجند ينز لها في ابتداء الإسلام ولم يكن لجلب معها ذکر (تاج العروس ج 3 ص 508 مادة : قنسر ) .
2- في مراصد الاطلاع بألم : بلد على الخابور عند مصبه ، و هيعلى انفرات ، جانب منها على الخابور وجانب على ألغات ، انظر ج2 ص 1080 . أتوا : وهي منطقة واقعة في سوريا الآن قريبة من الحدود العراقية .
3- وهي أرض ما بين النهرين في العراق

شيعة علي ، فله ألف درهم ، فيثب الجار على جاره ، وهما على مذهبين مختلفين في الإسلام ، ويقول : هذا منهم ، فيضرب عنقه ، ويسلم رأسه

إلى سلطات السفياني ، فيأخذ منها ألف درهم .

ولا تستطيع حركة ضعيفة و تمرد صغير يحدث في الكوفة من قبل مؤيدي اتجاه أهلها ... لا تستطيع التخلص من سلطة السفياني ، بل سوف يفشل وسيتمكن السفياني من قتل قائد الحركة بين الحيرة والكوفة . وكأنه يكون

قد انهزم بعد فشل حركته ، فيلقي السفياني عليه القبض في الطريق فيقتله .

وفي بعض الأخبار أنه تراق بين الحيرة والكوفة دماء كثيرة ، وهو إشارة

إلى هذه الحادثة ... وفيها الدلالة على أن القائد الحركة مركزاً مهماً هناك ، لن يستطيع السفياني السيطرة عليه بسهولة .

وحين يستتب له الأمر في العراق أيضاً ، يطمع في غزو الأراضي المقدسة

في الحجاز . فيرسل جيشاً ضخماً إلى المدينة لاحتلالها . وظاهر أغلب الأخبار أن السفياني نفسه ليس فيه . فيسير هذا الجيش بعدته وسلاحه متوجهاً نحو

المدينة المنورة : ويكون الإمام المهدي (ع ) يومئذ في المدينة ، فيهرب منها إلى مكة . فيعرف السفياني ذلك عن طريق استخباراته ، فيرسل جيشاً في أثره متوجهاً نحو مكة . محاولاً قتله والإجهاز عليه وعلى أصحابه ، وظاهر سیاق الأخبار أن الجيش المتوجه إلى مكة هو جزء من الجيش الذي كان متوجهاً إلى المدينة المنورة .

إلاَّ أن مكة حرم آمن بنص القرآن الكريم ، لا يمكن أن يخاف فيه المستجير كما أن الإمام المهدي (ع) قائد مذخور لليوم الموعود وهداية العالم ، لا يمكن أن يقتل ، ولا بد من حمايته ... ومن هنا تقتضي الضرورة افناء هذا الجيش ،

ص: 234

والقضاء عليه بفعل اعجازي إلهي . فيخسف به في البيداء . ولا ينجو منه إ نفر قليل : اثنين أو ثلاثة ، يخبرون الناس عما حصل لرفاقهم .

إلا أن ذلك لا يعني الكفكفة من غلواء السفياني ، بعد أن ملك سوريا والعراق والأردن وفلسطين ومنطقة واسعة من شبه الجزيرة العربية ، وهدد الإمام المهدي وحاربه ... بل سيبقى حكمه ريثما يظهر المهدي (ع) بعد الخسف بقليل

و برد بجيشه إلى العراق ، ويناجزه القتال فيسيطر عليه ويقتله ، كما سنذكر .

هذا، وقد اعتبرنا في هذا الفهم التسلسل الحوادث ، أن كل ما ورد

في شيء من الأخبار من دون أن يكون له ناف أو معارض في خبر آخر ، فهو

ثابت . وهذا صحيح في سائر الأخبار ، غير الخبرين اللذين عرفنا ورودهما

عن غير المعصومين عليهم السلام ، وهما من نقاط الضعف في هذا الفهم .

كما أنها قد تواجه نقاط ضعف أخرى ، ينبغي عرضها ونقدها :

النقطة الأولى : أنه قد يخطر في الذهن : ان هذه التحركات العسكرية وما

رافقها من الملابسات ، صيغت على غرار تحركات الجيوش القديمة التي كانت

تحارب خلال العصر العباسي - مثلا - ... حيث لا يوجد قانون دولي ولا أمم متحدة ولا حدود معترف بها . وأما بعد أن تقدمت الحضارة و أسست هذه الأسس فمن غير المحتمل أن تحدث مثل هذه التحرکات .

ويمكن عرض عدة أجوبة على هذه النقطة ، نذكر منها جوابين :

الجواب الأول : ان قيمة القانون وما يستتبعه من الاعتراف بالامم المتحدة والحدود الآمنة المعترف بها ، انما تنطلق من المصلحة الخاصة ليس إلا ، لأن الفرد أو الدولة إذا تنازلت عن شيء من المصلحة أمكن تبادل هذا التنازل مع الآخرين ، وبذلاء تنحفظ مصالح خاصة أهم وأشمل .

ص: 235

وأما في الوقت الذي يحرز الفرد أو الحاكم امكان سيطرته على الآخرين وحصوله على الربح مع أحراز دفع الضرر عن نفسه ، فسيكون هو وبنود القانون على طرفي نقينس .

ومن هنا لم يكن وجود القانون ولا الأمم المتحدة ، ولا محكمة العدل الدولية مانعاً عن أنواع الإعتداءات وأشكال الغزو والسيطرة على الشعوب الضعيفة من قبل مختلف الأنظمة ، كما نشاهده باستمرار . وليست حركة السفياني بأفضل من

أي واحد من هذه الاعتداءات .

الجواب الثاني : انه من المحتمل - على الأقل - أن تكون تحركات السفياني ذات طابع ( قانوني) مشروع في حدود الفهم الحديث لهذه المشروعية . كما لو كانت نتيجة لاتفاقيات بين الدول أو اتحاد في شكل الأنظمة فيما بينها . أو اعلان شكل من الاتحاد بين اثنين أو أكثر منها . وغير ذلك مما لا حاجة إلى الدخول في الحديث عن تطبيقاته في عالم اليوم .

وبهذا يرتفع الإشكال الذي قد يرد إلى الذهن ، من حيث أن ظاهر الاخبار عدم وجود أية مقاومة ضد جيش السفياني حين يدخل الحجاز ... فان ذلك يكون نتيجة لاتفاقات معينة ، أو لضعف الحكم القائم هناك يومئذ تجاه الجيش المحتل ضعفاً شديداً .

النقطة الثانية : أن ظاهر بعض الأخبار التي سمعناها ، كون الإمام

المهدي (ع ) قبل ظهوره معروفاً للسفياني ، ويبدو أن الهدف الرئيسي للجيش الذاهب

إلى الحجاز هو قتل المهدي (ع) . ومن هنا يخاف عليه السلام و يهرب من المدينة

إلى مكة على سنة موسى بن عمران (ع) حين هرب إلى مدين ... ويكون الخسف بالجيش انقاذاً له . ويفهم السفياني بهرب المهدي (ع) فيرسل خلفه جيشاً فيخسف به .

ص: 236

و هذا - بظاهره - مناف لمسلك الغيبة الذي يتخذه الإمام (ع) إلى حين ظهوره، و خاصة من الأعداء الذين يحتمل فيهم أن يقتلوه أو يشكلون خطراً عليه،

ولو انحصر الأمر بذلك، وجب رفض دلالة الخبر للجزم بثبوت الغيبة قبل الظهور.

لكننا يمكننا الإستغناء عن هذه النقطة أيضاً ، لو التفتنا إلى ( أطروحة خفاء العنوان ) التي عرضناها في التاريخ السابق ، والتي تقول : أن المهدي (ع)

خلال غيبته يرى الناس ويرونه ولا يعرفونه . وانما تكون غيبته باعتبار غفلة الناس غفلة مطامة عن حقيقته ... ويعرفونه بعنوان مستعار وشخصية ( ثانوية) يتخذها المهدي (ع) في المجتمع .

ومعه ، فمن الممكن أن السفياني يعرف تلك ( الشخصية الثانوية) أعني

ما اتخذه المهدي من عنوان مستعار في ذلك العصر . ويتابع أخباره بتلك الصفة .

ويرسل جيشاً لقتله بتلك الصفة أيضاً . وأنما عبر عنه في الأخبار بالمهدي باعتبار

حقيقته ، وانما يخسف بالجيش المعادي له باعتبار ذلك أيضاً . الا أن السفياني

لن يشعر أنه قاصد لقتل المهدي (ع) نفسه ، ولن يشعر الناس بذلك أيضاً لأنه والناس ، انما يعرفونه بشخصيته الثانوية دون الحقيقية .

النقطة الثالثة : انه تبقى عدة فجوات في تسلسل الحوادث لم تنطق بها

الأخبار بوضوح ... ومن الصعب استدراكها بطبيعة الحال. نذكر لها بعض الأمثلة.

منها : دور الجماعة المقبلة من خراسان ، وفيها بعض أصحاب القائم (ع) بقيادة ( الخراساني) . ما هو دورها في العراق هل هو عسكري أو فكري أو ليس لها أي دور . وما هو موقف السفياني منها حين يسيطر على البلاد .

ومنها : دور اليماني عسكرياً وفكرياً وعقائدياً . وان كان المظنون أنه هو المشار إليه في بعض الأخبار بأن رايته راية هدي، كما سمعنا في التاريخ السابق (1)

ص: 237


1- انظر تاریخ الغيبة الكبري ص 632 .

و السفياني سيجهز عليه وسيخلي الساحة العراقية منه . الا أن فجوات أخرى سوف تبقى غير قابلة للجواب .

ومنها : عدد أفراد الجيش الذين يتجهون إلى مكة المكرمة للقبض على المهدي (ع) . فهل هو جماعة كبيرة أو صغيرة . فبينما يعبر عنه في عدد من الأخبار بالجيش ، وهو يوحي بالعدد الكبير . ويؤيده ما في بعض الأخبار من أنهم ثمانون ألفا(1)

إلا أن بعض الأخبار تقول : فيبعث إليه بعث (2) وهو يوحي بالإرسالية

الصغيرة نسبياً . الا أن الأغلب على التعبير بالجيش على أي حال .

الناحية الرابعة : الرايات السود والخراساني

الناحية الرابعة : انا فهمنا في التاريخ السابق (3)من الأخبار التي

تذكر خروج الرايات السود من خراسان ... فهمنا الإشارة إلى حركة أبي مسلم الخراساني ، التي أجهزت على حكم بني أمية ومهدت لحكم العباسيين .. ومعه

فقد يخطر في الذهن أن الخراساني المذكور في الأخبار التي ذكرناها هنا هو أبو مسلم أيضاً .

وهذا احتمال معقول لو استطعنا أن نفهم من ( بني فلان) في الخبر الذي

نقلنا عن النعماني في ( الغيبة ) ... بني أمية دون بني العباس . فكأنه قال : لا بد لبني أمية أن يملكوا. فاذا ملكوا خرج عليهم الخراساني فأهلكهم . فيكون واضح الانطباق على أبي مسلم دون شك .

غير أن هذا الفهم لا يخلو من بعض المصاعب :

أولاً : ان الخبر مروي عن الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام . وهو

ص: 238


1- المصدر ص 601. غير أن الخبر مروي عن ابن عباس لا عن أحد المعصومين (ع).
2- المصدر ص 599
3- المصدر ص 547.

معاصر لدولة بني أمية ... فلا يكون قوله (لا بد لبني أمية أن يملكوا ) معنی واضح . بل يتعين حمله على الدولة التي لم تحدث في زمانه . وهي دولة بني العباس . ومن المعلوم أن أبا مسلم أسس دولة العباسيين لا انه أهلكها .

ثانياً : ان الخبر كالصريح في تعاصر حركة الخراساني والسفياني ، ومن المعلوم عدم تحقق حركة السفياني لحد الآن !! ، اذن فحركة الخراساني لم تتحقق..

اذن ، فهي ليست منطبقة على حركة أبي مسلم على أي حال .

ومعه ، تكون الحركة المشار إليها في أخبار الرايات السود غير الحركة

المشار إليها في هذه الأخبار بقيادة الخراساني . غير أننا نخسر بذلك شيئاً ذا بال ،

وهو : ان الحادثة المشار إليها لو كانت واحدة ، لاستطعنا ضم أخبار الرايات السود إلى أخبار ( الخراساني ) ، فتصبح كثيرة ومستفيضة . ان لم تكن متواترة

وهذا غير ممكن مع تعدد الحادثة المقصودة . ولكن هذا لا يعني سقوط کلا الطائفتين من الأخبار عن امكان الإثبات التاريخي ، كل بمقدار قابليته .

الناحية الخامسة : الخسف يكون بجيش السفياني

الناحية الخامسة : قد ثبت بهذه الأخبار وغيرها ، كون الخسف الذي استفاضت به الأخبار في مصادر الفريقين ... انما يكون يجيش السفياني ، حين يقصد قتل الإمام المهدي (ع) و هو مستجير بمكة .

وبذلك نحصل على شيء ذي بال - على عكس الناحية السابقة - وهو انضمام أخبار الخسف المستفيضة إلى أخبار السفياني ، وان لم تذكر السفياني

بالصراحة . فاذا علمنا أن أخبار السفياني مستفيضة ، كان ضم المستفيض إلى المستفيض منتجاً للتواتر لا محالة .

الناحية السادسة : مقتل السفياني

الناحية السادسة : بقي علينا التعرض إلى مقتل السفياني على يد الإمام المهدي عليه السلام . ولا زلنا إلى الآن نتكلم طبقاً للفهم ( الصريح ) دون

ص: 239

الرمزي لمفهوم السفياني ، تتوفر في الناحية الآتية على عرض الفهم الرمزي له .

وقد وردت في ذلك عدة أخبار :

قال في اسعاف الراغبين (1)و هو يعدد ما ورد في الروايات من حوادث ظهور المهدي (ع) ... قال :

وان السفياني يبعث إليه من

الشام جيشاً ، فيخسف بهم بالبيداء

فلا ينجو منهم إلا المخبر .

فيسير إليه السفياني بمن معه ، ويسير

إلى السفياني بمن معه ، فتكون النصرة

للمهدي ، ويذبح السفياني .

وروى في البحار (2)حديثاً طويلا عن جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقرعليه السلام ، يتحدث فيه عن المهدي (ع) وظهوره وما يحدث بعد ذلك ،

إلى أن قال :

ثم يأتي الكوفة فيطيل فيها المكث

ما شاء اللّه أن يمكث ، حتى يظهر

عليها ، ثم يسير حتى يأتي العذرا (3)

هو ومن معه ، وقد الحق به ناس كثير

ص: 240


1- انظر ص 138 .
2- ص 160 - 161 ج13 .
3- و من اصد الاطلاع بالمد : قرية بغوطة دمشق.عروفة إليها ينسب مرج عذراء ج2 ص 924

السفياني يومئذ بوادي الرملة . حتى

التقوا وهم ، يوم الابدال ، يخرج

أُناس كانوا مع السفياني من شيعة آل

محمد (ص) ، ويخرج ناس كانوا

مع آل محمد إلى السفياني ، فهما من

شیعته حتى يلحقوا بهم . ويخرج كل

ناس إلى رايتهم . وهو يوم الإبدال .

قال أمير المؤمنين عليه السلام : يقتل

يومئذ السفياني ومن معه حتى لا

يدرك منهم مخبر ؛ والحائب يومئذ

من خاب من غنيمة

كلب ...(1)

الحديث .

وفي خبر مطول آخر أخرجه المجلسي في البحار أيضاً(2) عن عبد الأعلى الحلبي قال :

قال أبو جعفر (ع) : يكون

الصاحب هذا الأمر غيبة ... إلى أن

يقول : لأصحابه سيروا إلى هذه

الطاغية ، فيدعو إلى كتاب اللّه وسنة

نبيه (ص) ، فيعطيه السفياني من البيعة

سلماً ، فيقول له كلب - وهم أخواله-

ص: 241


1- أخوال السفياني و المحاربين معه ، كما يظهر من الخبر الآتي و غيره .
2- انظر ج13 ص 189.

ما هذا ؟ ما صنعت ؟ واللّه ما نبايعك

على هذا أبداً ... فيقول : ما أصنع

فيقولون : استقبله ! ... فيستقبله.

ثم يقول له القائم صلى اللّه عليه

: خذ حذرك ، فاني أديت

إليك ، وأنا مقاتلك ، فيصبح ،

فيقاتلهم. فيمنحه اللّه أكتافهم . ويأخذ

السفياني أسيراً ، فينطلق به يذبحه

بيده ... الخبر .

ولا نجد في هذه الأخبار تنافياً يذكر ، مع الأخبار السابقة والفهم العام الذي فهمناه عنها . فان الجو العام لها واحد. فينبغي الآن قصر الكلام على الحوادث

الزائدة التي تعرب عنها هذه الأخبار ، مما لم يكن موجوداً في الأخبار السابقة . ويكون فهمنا الآن تتمة للفهم العام السابق .

ان مركز حكم السفياني سيكون هو العراق بعد انتقاله عن الشام ، ولن

يوجب الجيش الذي تفشل مهمته في الحجاز ، انتقال مركز حكمه إلى هناك .

ومن هنا سوف يواجه المهدي (ع) عند دخلوله إلى العراق حكم السفياني بكل جبر وته . غير أن السفياني - على ما يبدو - سوف يكره مناجزته القتال ، لأن ذلك سوف يثير ضده مشاكل لا تطاق. ومن هنا يدخل المهدي (ع) العراق سلماً

و يمكث في الكوفة ما شاء اللّه له ذلك كزعيم شعبي ، حتى ما إذا اجتمع له من

الرجال والسلاح ما يكفي للسيطرة على الحكم استطاع مواجهة السفياني بصراحة.

وطبقاً لقواعد الإسلامية سيبدأ المهدي (ع) بعرض العقائد الإسلامية الحقة

على السفياني ، فان قبل بذلك و صار معه فهو .... والا ناجزه القتال .

ص: 242

وطبقاً للاتجاه النفسي لدى السفياني لمجاملة المهدي (ع) ، سيعطي للمهدي

ما يطلبه من الشهادة . الا أن بطانته سوف تحتج على ذلك وتشجب موقفه ،

و تلزمه بأن يواجه المهدي (ع) مواجهة كاملة .

ولعل هذا الاتجاه النفسي ، هو الذي يفسح المجال لتسرب كل المؤمنين

المشتغلين في جيش السفياني إلى جيش المهدي (ع) ، وفي نفس الوقت يميل

الفساق الفاشلين في التمحيص من سكان الكوفة قبل الظهور ، إلى الالتحاق

بجيش السفياني . وهو يوم الإبدال ... أي تبادل الأصحاب . ويتم ذلك في الفترة

الاولى قبل مناجزة القتال .

وإذ يخضع السفياني لاقتراح بطانته ، ينكمش ضد المهدي (ع) و يتحداه

فينذره المهدي (ع) بالقتال ، فيضطر السفياني إلى الصمود ضده . فتحدث

المعركة بين المعسكرين ، ويكون الفوز للقائد المهدي ، وينتهي حكم السفياني ،

ويؤخذ أسيراً ويقتله المهدي في الأسر. و بذلك تتم سيطرة المهدي على العراق .

بل سوف تتم سيطرة المهدي (ع) على كل المنطقة التي عرفناها محكومة

للسفياني ، وهي العراق والشام والأردن وفلسطين . ومن هنا سوف تنفتح

الفرصة المؤاتية للغزو العالمي ، كما سيأتي في القسم الثاني من الكتاب .

الناحية السابعة : الفهم الرمزي للسفياني

الناحية السابعة : في محاولة لإعطاء الفهم الرمزي عن السفياني ، مع الإلماع

إلى علاقة السفياني بالدجال .

يحتاج الفهم الرمزي إلى شرطين أساسيين ، لا يصح إلا من خلالهما ،

فان فقد أحد الشرطين ، فضلا عنهما معاً، كان الفهم الرمزي مما لا لزوم له.

الشرط الأول : أن يكون العمل بظاهر الأخبار متعذراً، والفهم ( الصريح)

منها ممتنعاً ... باعتبار قيام القرائن على عدم صحته أو افتضاء القواعد العامة لنفيه.

ص: 243

و هذا ما كنا نواجهه في مفهوم : الدجال أو مفهوم يأجوج ومأجوج . من

حيث أن مظاهر الأخبار نسبة الحوارق و المعجزات إلى المنتسبين إلى الباطل ، و هو

مستحيل ، وهويعطي هذين المفهومين صورة مخالفة البشر الاعتياديين ، مما

يوثق بعدم صدقه . فيكون ذلك سبباً للانطلاق إلى الفهم الرمزي الذي يذلل هذه

المصاعب ، مع أخذ الشرط الثاني بنظر الاعتبار .

الشرط الثاني : أن يكون الفهم الرمزي أقرب ما يمكن إلى الظواهر ، معطياً

غمورة شاملة ومتكاملة ومتساندة لمجموع الظواهر والمفاهيم الواردة في الاخبار ...

بحيث لا يند عن ذلك إلا الخبر الشاذ غير القابل الاثبات التاريخي أساساً .

وهذا ما حاولنا تطبيقه في فهمنا الرمزي لمفهوم الدجال و مفهوم يأجوج ومأجوج

غير أن مفهوم : السفياني فاقد للشرط الأول . اذ من الواضح بعد استعراض

الأخبار السابقة وغيرها مما ورد في السفياني ، انها خالية من أية معجزات

وخوارق منسوبة إليه أو إلى غيره من المبطلين . بل هي تخلو من أية معجزة

سوى الخسف بالبيداء الذي يحدث دفاعاً عن الحق لا عن الباطل ، وقد عرفنا

مبرره الكامل فيما سبق .

كما أن هذه الأخبار تعرض البشر على حالهم في عصرالتمحيص والفتن ،

فهناك الآراء المتعارضة والجيوش المتحاربة والحكام الظالمين، والقلة المدافعة

عن الحق . وكل هذه الامور صفات أساسية للمجتمع المعاصر . وبالتالي فهي

لا تعطي صورة مخالفةي للبشر الاعتياديين ليكون الوثوق بعدم صدقها موجوداً.

ليكون ذلك منطلقاً إلى ألفهم الرمزي .

اذن ، فالفهم الرمزي الكامل مما لا لزوم له . وانما الشيء الممكن هو

ملاحظة الحصانص والصفات المعطاء حول هذا المفهوم ، واسقاط ما يمكن

اسقاطه منها .

ص: 244

فإن أسقطناها جميعاً أو الأعم الأغلب منها . كان ( الفهم ) الذي

ذكرناه في التاريخ السابق(1) صحيحاً و هو أن السفياني يمثل خط الانحراف

في داخل المعسكر الإسلامي ككل ، فتندرج تحته كل الحركات والعقائد

الخاطئة التي تدعي الانتساب إلى الإسلام ، مما كان ( بعد زوال الدولة

العباسية ) أو يكون إلى يوم الظهور الموعود .

وأما إذا أخذنا عدداً من الصفات بنظر الاعتبار ، مما تسالمت الروايات

على صحته ، فإن هذا المفهوم الواسع سوف يتضيق ، وسوف ينحصر في

تطبيق واحد من تطبيقاته ، فانني أود أن أقول : ان مفهوم السفياني يعبر عن

آخر حكم منحرف للمنطقة قبل ظهور المهدي عليه السلام .

ويمكننا أن نصف هذا الحكم بما ثبت له من الصفات ، کدخول سوريا

والعراق تحت حكم واحد أو متشابه ، وحقده على أهل الحق ، وإرساله الجيش

ضد المهدي ( أو ضد جماعة من أهل الحق المخلصين يكون المهدي (ع)

موجوداً فيهم بعنوان آخر غير حقيقته ) ، وحدوث الخسف على هذا الجيش .

والمهدي (ع) هو الذي يزيل حكم السفياني . لأنه إذا دخل العراق ،

فإنه يواجه حكومته لا محالة ، فإذا كان الحاكم هو المعبر عنه بالسفياني ،

كان الذي يواجهه بالعراق هو السفياني بطبيعة الحال ، ولكنه سوف يقضي عليه

على كل حال ، وبذلك سوف يكون آخر الحكام المنحرفين لهذه المنطقة .

وأما الصفات الأخرى ، كتسميته بعثمان بن عنبسة ، وخروجه من

الوادي اليابس، وصفات جسمه وسيطرته على الأردن وفلسطين ، ونفاصيل

مواقفه العسكرية ، فهي مما ينبغي اسقاطها تحت وطأة الفهم الرمزي ، وإيكال

علمها إلى أهله . وإن كان الوارد من الأخبار في بعض هذه الصفات صالح

للإثبات التاريخي ، وإن لم يكن أكيد اً.

ص: 245


1- انظر تاريخ الغيبة الكبری ص 647 .

وانطلاقاً من فهمنا هذا ، تنضح علاقة السفياني بالدجال بالمعنى الذي

فهمناه أيضاً . بعد أن بر هنا في التاريخ السابق (1)على أن هذين المفهومين

يعبران عن شيئين لا عن شيء واحد .

فان للفهمين ( الصريحين) التقليديين للسفياني و الدجال ، اتجاه إلى عزل

أحدهما عن الآخر عزلا تاماً ، طبقاً للظهور الأولي الأخبار ... فالمسيح ينزل

فيقتل الدجال في دمشق بدون أن يكون السفياني موجوداً في العالم . والمهدي (ع)

يظهر فيحارب السفياني بدون أن يكون الدجال موجوداً في العالم .

ولكننا إذا علمنا أن زمن ظهور المهدي (ع) و نزول المسيح واحد ، حتی

أن المسيح يصلي وراء المهدي (ع) تكرمة لهذه الأمة كما وردت بذلك

الأخبار ، وستر وبها فيما يلي ... اذن ، سيكون هذا الاتجاه التقليدي مبرهن

البطلان . ولا بد من ان يكون الدجال والسفياني متعاصرين ، ولا بد من

وجود العلاقة بينهما بشكل من الأشكال .

وإذا كان الدجال عبارة عن الحضارة المادية الحديثة بخطها الطويل ، وكان

السفياني آخر الحكام المنحرفين في الشرق ، فسوف لن يصعب علينا تصور

العلاقة بينهما ... بعد أن أصبحنا نعيش بكل حواسنا تطبيقات الدجال والسفياني

بكل وضوح .... ونعلم الاشكال الصريحة والمبطنة لعلاقة أحدهما بالآخر

بشكل نكون في غنى عن عرضه .

وهذا التحديد للعلاقة ، منطلق من فهمنا لذينك المفهومين ، بغض النظر

عما اكتسبه مفهوم الدجال من رتوش محتملة عند الحديث عن علاقته بيأجوج

ومأجوج . اذ مع الأخذ ببعض الأطروحات التي ذكرناها هناك ، سوف تحتاج

إلى بعض التغيير في تصور العلاقة ... وهذا ما نو کله إلى القارىء الذكي .

ص: 246


1- تاريخ الغيبة الكبری ص 630 وما بعدها .

النفس الزکیة

و هو انسان قرنت حركته ومقتله

بظهور الإمام المهدي عليه السلام ،

في اخبار المصادر الخاصة على الأغلب .

وقد سبق في التاريخ السابق(1)أن بحثنا ذلك و عرضنا الأخبار التي تصرح

بأن مقتل النفس الزكية من المحتوم ، وغيرها . ولكننا لم نستطع هناك – بما كان

لنا من منهج في الإثبات التاريخي - أن ندفع احتمالا معيناً ، هو أن تكون النفس

الزكية هو محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه

السلام . وحيث أن مقتله قد حصل في العهد العباسي الأول ، فلا ينبغي انتظار

حادثة أخرى لمقتل النفس الزكية في مستقبل الدهر .

ولكننا نحاول الآن أن نبحث المطلب بشكل جديد . انطلاقاً من المنهج الذي

اتخذناه في هذا التاريخ ، وهو التنزل عن التشدد السندي وقبول الخبر الموثوق،

وان لم تقم التمرائن على صدقه من الخارج ، وهذه هي نقطة الاختلاف بين

المنهجين ، كما أشرنا في أول هذا الكتاب .

وينبغي أن نتكلم عن ( النفس الزكية ) ضمن عدة نواحي :

الناحية الأولى : سرد الأخبار الدالة على ذلك

الناحية الأولى : في سرد الأخبار الواردة في هذا الموضوع ، غير ما

نقلناه في التاريخ السابق ، الا القليل الذي نحتاجه فنكرره .

روينا في التاريخ السابق (2) (2)عن المفيد في الارشاد(3) عن أبي جعفر الباقر (ع)

والشيخ في الغيبة (4)والصدوق في اكمال الدين (5)عن أبي عبد اللّه الصادق

ص: 247


1- انظر ص 604 ومابعدها إلى عدة صفحات .
2- المصدر ص 605 .
3- ص 339 .
4- ص 271.
5- انظر المصدر المخطوط .

عليه السلام بلفظ متقارب - واللفظ للمفيد - : أنه قال : ليس بين قيام القائم

عليه السلام وقتل النفس الزكية ، أكثر من خمس عشرة ليلة .

وقال في الارشاد(1) : قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم

المهدي عليه السلام ... وعد منها : ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام .

وأخرج في البحار(2) عن السيد علي

بن عبد الحميد بالاستناد إلى

أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام ، في حديث طويل ، يقول فيه :

يقول القائم (ع) لأصحابه :

یا قوم . ان أهل مكة لا يريدوني ،

ولكني مرسل إليهم لأحتج عليهم بما

ينبغي لمثلي أن يحتج عليهم .

فيدعو رجلا من أصحابه ،

فيقول له : امض إلى أهل مكة ، فقل

يا أهل مكة ! أنا رسول فلان إليكم،

وهو يقول : إنا أهل بيت الرحمة

ومعدن الرسالة والخلافة ، ونحن ذرية

محمد وسلالة النبيين . وانا قد ظلمنا

واضطهدنا وقهرنا وابتز منا حقنا ،

منذ قبض نبينا إلى يومنا هذا. فنحن

نستنصرکم فانصرونا .

ص: 248


1- ص 336.
2- ج13ص 180 .

فاذا تكلم هذا الفتى بهذا الكلام .

أتوا إليه فذبحوه بين الركن والمقام.

وهي النفس الزكية ... الحديث .

وأخرج أيضاً (1)عن الكافي بسنده عن يعقوب السراج عن أبي عبد اللّه (ع)

في حديث عن المهدي (ع) يقول فيه :

ويستأذن اللّه في ظهوره : فيطلع

على ذلك بعض مواليه . فيأتي الحسني

فيخبره الخبر ، فيبتدر الحسي إلى

الخروج ، فيشب عليه أهل مكة ،

فيقتلونه ، ويبعثون برأسه إلى الشام ،

فيظهر عند ذلك صاحب الأمر ...

الخبر .

وقال الراوندي في الحرایج و الجر ایح (2): وروي أن النفس الزكية هو

غلام من آل محمد اسمه محمد بن الحسن يقتل بلا جرم . فاذا قتل فعند ذلك يبعث

اللّه قائم آل محمد . أقول : وأرسل الصافي في منتخب الأثر (3) هذا المعنى ارسال المسلمات .

وأخرج الصافي (4) عن غيبة الشيخ بسنده عن سفيان بن ابراهيم الحريري

أنه سمع اباه ، يقول :

ص: 249


1- البحار ج 13 ص 178 .
2- ص 196 .
3- انظر ص 454 .
4- ص 455 .

النفس الزكية غلام من آل محمد،

اسمه محمد بن الحسن ، يقتل بلا جرم

ولا ذنب . فاذا قتلوه لم يبق لهم في

السماء عاذر ولا في الأرض ناصر .

فعند ذلك يبعث اللّه قائم آل محمد...

الحديث .

فهذا هو كل ما وجدناه من الأخبار بهذا الصدد . وسنمحصها بعد اعطاء

الفهم المتكامل عنها .

الناحية الثانية : فهم الأخبار ككل

الناحية الثانية : في محاولة فهم هذه الأخبار ككل ، على تقدير صحتها

وكفايتها للاثبات التاريخي . ويكون فهمنا هذا تتمة - بشكل وآخر - للفهم

العام الذي ذكرناه للسفياني .

ان المهدي (ع) مع خاصة أصحابه حين يهربون من وجه جيش السفياني

لمبعوث ضدهم ... من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ، يصبح من الواجب

اعلى أهل مكة نصرته ، بحسب تكليفهم في نصرة المؤمنين المظلومين ضد الظالمين

ممن كان على شاكلة السفياني .

ولكن لن يكون لأهل مكة استعداد للنصرة ، أما الأجل اختلاف مذهبهم عن مذهب المهدي (ع) في الإسلام ، واما لأجل خوفهم من سطوة السفياني

وسلطته . وحسبنا اننا سمعنا أن السفياني دخل الحجاز من دون مقاومة عسكرية ،

لمدى الرهبة والخوف الذي زرعه في النفوس . ومن هنا يحافظ أهل مكة علی

مصالحهم الخاصة وينكمشون ضد. المهدي (ع) ... اعني : بعنوانه المعلن

وان جهلوا حقيقته .

ص: 250

ويعلم الإمام المهدي (ع) بعدم استعدادهم لنصرته . فيقول لخاصته :

یا قوم ، أن أهل مكة لا يريدونني. ولكني مرسل إليهم لأحتج عليهم ، بما

ينبغي لمثلي أن يحتج عليهم .

ويكون هذا الاحتجاج اتماماً الحجة عليهم ، ومواجهة صريحة لهم بالموقف

حتى لا يبقى منهم غافل أو مماطل .

ومن هنا يفكر المهدي (ع) بأن بر سل شخصاً من قبله إلى أهل مكة ليقوم

بهذا الاحتجاج . فيدعو بعض أصحابه ، وهو من الهاشميين ومن المخلصين

الممحصين ، على ما سنعرف الوجه فيه ... ويحمله رسالة شفوية معينة ، ويأمره

بأن يخطب بها في المسجد الحرام بين الركن والمقام وقد سمعنا نص الخطبة في الاخبار .

وينبغي هنا أن نلاحظ أنه حين يقول : أنا رسول فلان إليكم ... لا دليل

على أنه يورد اسم المهدي (ع ) بحقيقته ويعرف المخاطبين أنه هو المهدي الموعود ،

بل لعله يورد الإسم أو العنوان المعلن اجتماعياً له عليه السلام في ذلك

الحين .

وما أن يسمع أهل مكة هذه الخطبة ، حتى يجتمعون عليه ويمتاونه بين

الركن والمقام قرب الكعبة المشرفة في بيت اللّه الحرام . ولعلهم يقطعون رأسه

ويرسلونه إلى الشام ، إلى السفياني ، ليكون لهم الزلفي لديه .

هكذا تقول احدى الروايات السابقة ، ولكننا عرفنا أن مركز السفياني

يومئذ لن يكون هو الشام بل هو العراق ، وان كان كلا القطرين تحت سيطرته

وهذا له عدة توجيهات ، أوضحها : احتمال أن يكون السفياني في ذلك الوقت

قد ترك مرکزه و سافر إلى الشام لانجاز بعض المصالح المعينة، ريثما يعود مرة أخرى

وعلى أي حال ، فانهم حين يفعلون ذلك ، يكونون قد عصوا العديد

ص: 251

من أهم أحكام الإسلام وضروريات الدين . منها : المحافظة على حرمة البيت

الحرام الذي اعتبره القرآن الكريم حرماً آمناً . ومنها : قتل النفس المؤمنة بدون

جرم و بغير نفس ومنها : رفض نصرة المستنصرين بالحق . فيشتد غضب اللّه تعالى

على أهل الأرض ، فيأمر الإمام المهدي (ع) نفسه بالظهور لأخذ الحق ودحر

الظالمين .

ويكون رسول المهدي (ع) هذا هو النفس الزكية الموعود قتلها بين الركن

والمقام ، وسوف لن يكون بين مقتلها وبين الظهور أكثر من خمسة عشر ليلة.

وهذا هو التصور العام الذي تعكسه هذه الأخبار ، لتاريخ تلك الفترة .

وهو تصور سليم إلى حد كبير ... لا يكاد يرد عليه إلا المناقشات القليلة

الآتية التي لا تغير من جوهره شيئاً . ومعه لا حاجة إلى الحمل على الرمز ، لما

قلناه من أنه انما يتعين ذلك عند قيام الدليل على بطلان المعني ( الصريح) .

الا ان ارتفاع هذا الفهم إلى مستوى الإثبات التاريخي ، منوط بصحة

تلك الأخبار وصلاحيتها للاثبات ، وهذا ما سنبحثه غير بعيد .

الناحية الثالثة : بعض الاعتراضات

الناحية الثالثة : في نقد بعض الاعتراضات التي قاد تورد على هذا الفهم العام:

الاعتراض الأول : انه كيف يتيسر لرجل واحد أن يخاطب أهل بلدة

بكاملها ، بشكل طبيعي غير اعجازي .

الا أن هذا السؤال يحتوي على سذاجة واضحة ، لوضوح كفاية قيام الفرد

خطيباً في المسجد الحرام المحتشد بأهل مكة ، مستعملا الأجهزة الحديثة لبث

الصوت وتكبيره . لكي يستطيع الفرد أن يخاطب أهل مكة جميعاً ، ويبلغ

الحاضر منهم الغائب في أقل من ساعة من نهار

ص: 252

وقد يخطر في الذهن أنه من أين للنفس الزكية حصول مثل هذا الجمع ،

و استعمال المكبرات .

وجوابه : أننا لم نلاحظ إلى الآن في ( النفس الزكية ) إلا جهته الخفية وهو

أنه من خاصة الإمام المهدي (ع) في أواخر عصر الغيبة . ولم يتيسر لنا ملاحظة

الجهة الإجتماعية المعلنة له عادة .

إن أختيار المهدي (ع) له لينوب عنه بالتبليغ ، ليس جزافياً ، إلا بعد

إحراز النجاح في ذلك . أعني التبليغ ، وله القابلية الفكرية والإجتماعية له.

إن الجهة الإجتماعية المعلنة له دخيلة لا محالة في ترجيح اختياره .

فقد يكون هذا الرجل خطيباً معروفاً أو وجيهاً أو له درجة من المسؤولية

و السلطة في المجتمع ، ومن الممكن له أن يجمع الناس ويخضب بهم بواسطة

أجهزة التكبير .

وخاصة إذا عرفنا أنه سيقول قولته و الناس لا زالت مجتمعة بعد الحج .

فقد وردت روایات سنسمعها تعرب عن أن الظهور سيتم في اليوم العاشر من

محرم الحرام ، فإذا استثیننا من ذلك خمسة عشر ليلة ، كان موعد خطاب

النفس الزكية هو اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام . أي بعد

انتهاء أعمال الحج بحوالي عشرة أيام .

الاعتراض الثاني : أنه كيف أمكن نلنفس الزكية أن يطلع على حقيقة

الإمام المهدي (ع ) خلال عصر غيبته ، ويحمل منه الرسالة إلى أهل مكة .

مع أن ذلك متعذر بالنسبة إلى كل أحد، إلى حين حصول الظهور .

والجواب الأولي الواضح لذلك ، هو أن الإرسال كان من قبل الإمام

المهدي (ع) نفسه ، وهو العام بالمصالح ، و بعد به ليع أن يكشف حقيقته

للفرد ، أياً كان ، في حدود ما يعرفه من ملابسات وحقائق .

ص: 253

لكننا لو عبرنا عن الإعتراض بتعبير آخر من زاوية ما عرفناه في التاريخ

السابق (1) من أن مصلحة الغيبة مقدمة على كل مصلحة . فكيف جاز للإمام

عليه السلام أن يكشف حقيقته أمام هذا الرجل ، مهما كان صالحاً .

ويمكن الجواب على ذلك من عدة وجوه نلخصها فيما يلي :

الجواب الأول : أن ما عرفناه من تقديم مصلحة الغيبة على كل مصلحة ،

وإن كان صحيحاً ، إلا أن السر الأساسي فيه هو : أن كشف الغيبة وارتفاعها

مناف مع حفظ المهدي (ع) لليوم الموعود ، ومن ثم تكون مصلحة الغيبة

هي مصلحة اليوم الموعود . و مصلحة ذلك اليوم مقدمة على كل مصلحة .

وهذا البرهان لا يرد في واقعة إرسال النفس الزكية ، لأن مصلحة

الظهور واليوم الموعود نفسه ، أصبحت متوقفة على انكشاف الغيبة بالنسبة

إلى هذا الشخص ، وتعرفه على حقيقة المهدي (ع)... بغض النظر عن ،

الأجوبة الآتية . فيكون مقتضى تقديم مصلحة الظهور على كل مصلحة ، هو

هذا الإنكشاف لا الغيبة .

الجواب الثاني : أننا قلنا في التاريخ السابق (2)أيضاً : أن كل ناجح

نجاحاً تاماً في التمحيص الإلهي ، بحيث يكون مؤهلاً للمشاركة في مهام عصر

الظهور ، يكون في إمكانه رؤية الإمام المهدي (ع) خلال عصر غيبته ،

إذ لا يحتمل أن يكون مورد خطر بالنسبة إليه . وقد دلت كثير من الروايات

و عدد من أخبار المشاهدة ، بأن المجتمعين به عليه السلام في عصر الغيبة

متعددين ، ممن يعرف هويته وصفته . وأنه يجمع إليه أنصاره ممن بلغ في

ص: 254


1- تاریخ الخيبة الكبری ص 49 .
2- ص 150 وما بعدها .

التمحيص غايته ، ونجح فيه النجاح المطلوب . وإن في ذلك من المصالح التي

تمت إلى ممارسة هؤلاء القيادة في اليوم الموعود ، ما لا يخفى .

ويبدو من سباق الرواية التي تعرب عن إرسال النفس الزكية ، أن هذا

الرجل إنما هو من هؤلاء الخاصة الذين يجمعهم المهدي (ع) ويعرفهم

بحقيقته . ومن هنا لا يكون في اطلاع النفس الزكية على حقيقة الإمام

المهدي (ع ) أي إشكال .

وينبغي أن نلاحظ هنا : أن النفس الزكية حتى لو كان مطلعاً على حقيقة

المهدي (ع ) حين إرساله ، فإنه ليس من الضروري أن يسميه في خطبته .

بل قد يذكر العنوان المعلن للمهدي (ع) ويتجنب ذكر الحقيقة بالرغم من

معرفته لها ، تبعاً لأمر إمامه وقائده عليه السلام .

الجواب الثالث : أن ننطلق من الزاوية التي تصورنا بها تعرف السفياني ،

على تحركات الإمام المهدي (ع)، وهي اطلاعه عليه بعنوانه المعلن لا

بحقيقته .

فمن المحتمل ، أن لا يكون ( النفس الزكية ) ،مطلعاً على حقيقة الإمام

المهدي (ع) الذي أرسله ... بل يذهب لتبليغ الرسالة و هو لا يعلم أكثر

من كونها صادرة عن ( فلان ) الذي يسميه في خطبته . وهذا كاف في إقامة

الحجة على الناس .

كما أنه كاف لتفسير مقتله ، إذ لا دليل على أنهم يقتلونه باعتبار رسالته

عن المهدي (ع) بالذات ، بل باعتبار مضمون خطبته ، وقد يكون المهدي

بعنوانها لعلي مبغوضاً لديهم أيضاً ، فينزعجون من تجاوب ( النفس الزكية)

معه وقبوله لتحمل الرسالته .

ص: 255

الاعتراض الثالث : إن هذا التسلسل التاريخي الذي عرفناه في ( الفهم

العام ) مناف مع ما بر هنا عليه من أن شرائط الظهور هي الحكم الفصل في

إنجازه عند تحققها ، وهذه الأخبار تدل على أن سبب الظهور هو تهديد السفياني

للمهدي (ع) بالقتل ، وقتل النفس الزكية . فبأيهما نأخذ ؟

والجواب : إن كلا الفكر نين صادقتان وكلا السببين سبب صحيح في نفسه . وليس مقتل النفس الزكية وتهديد المهدي (ع ) إلا نتيجة من نتائج

نجاز شرائط الظهور .

فإن التخطيط العام السابق على الظهور ، بما له من خصائص وصفات ،

عرفناها في التاريخ السابق ، منتج لعدة نتائج يهمنا الآن منها اثنان :

النتيجة الأولى : وجود العدد الكافي من الأفراد المخلصين الممحصين ،

لغزو العالم بالعدل بين يدي الإمام المهدي (ع) . وهذا هو الشرط الأخير

المتبقي من شرائط اليوم الموعود الثلاثة التي عرفناها في التاريخ السابق (1).

وبمجرد نجازه يتم الظهور وينجز اليوم الموعود .

النتيجة الثانية : تطرف العدد الأكبر من أفراد المسلمين ، فضلاً عن

غيرهم ، إلى جانب الإنحراف والضلال ، وأخذهم بالأفكار الإاسلامية

وعصيانهم أحكام الإسلام .

وكلما ازداد الزمان ، از دادت نتائج التمحيص تركيزاً ... وحصلت

كلتا النتيجتين بشكل أوسع وأوضح . فيتكاثر في أحد الجانبين قوى الحقوالإخلاص ، ويتكاثر في الجانب الآخر انحراف المنحرفين وظلم الظالمين ، على مختلف المستويات الاجتماعية .

ص: 256


1- انظر تاريخ الغيبة الكبري ص 475 وما بعدها إلى عدة صفحات .

حتى يصبح جانب الانحراف و الفساد في المجتمع المسلم عاصياً لأوضح أحكام

الإسلام ، ومنكراً لضروريات الدين، ومهدداً لحرمات الشريعة من أجل مصالحه

وشهواته ... الأمر الذي ينتج أفظع النتائج لدي احتكاك اجتماعي بين الجانبين .

ومعه تكون كلتا النتيجتين اللتين سمعناهما من الاخبار ، طبيعية و واضحة.

فموقف المهدي (ع) من السفياني سوف لن يكون إلا الشجب والاستنكار ،

في حدود المقدار الممكن له حال غيبته ... الأمر الذي يولد رد الفعل لدى

السفياني بإرسال الجيش و تهديده بالقتل . وأما موقف النفس الزكية فواضح

من خطبته ، وإن هو إلا صورة أخرى من صور الشجب والاستنكار ؟ ؛ وسيكون رد الفعل هو قتله من داخل بيت اللّه الحرام .

وستكون ردود الفعل هذه متطرفة إلى درجة إهدارها للأحكام الضرورية

في الدين ، الأمر الذي يكشف عن تمخض التخطيط والتمحيص الالهيين عن

نتائجهما المطلوبة ... فيكون موعد اليوم الموعود قد تحقق .

الاعتراض الرابع : إنه قد يخطر في الذهن : أن المستفاد من سباق الأخبار ،

أن سبب الظهور هو إثارة غضب المهدي (ع) من الحادثتين المشار إليهما .

وهذا غير صحيح، بعد أن قامت الضرورة القطعية لدى كل مؤمن بالمهدي كونه

مذخوراً لإصلاح العالم برمته ، وأنه ممن لا تهمه مصالحه الشخصية على

الإطلاق. فكيف يصح أن يكون ظهوره ثأراً لهاتين الحادثتين ؟!!..

والجواب على ذلك واضح مما سبق ، وواضح في ضمير كل مؤمن بعد

وجود الضرورة القطعية المشار إليها .

ص: 257

إن هاتين الحادثتين ستغضبان الله تعالى ، لا المهدي وحده ... بما يستبطنان

من إهدار لضروريات الدين . ولكن الظهور سوف لن يكون ثأراً لأي منهما ...

فإن مهمة المهدي (ع ) الموعود أوسع وأعمق من هذا المجال الضيق ، بالرغم

من أهميته . كل ما في الأمر أن ظهوره سيكون قريباً منهما زماناً ، باعتبار

تحقق شرائط الظهور . وليس لهاتين الحادثتين من صلة بالظهور إلا ما قلناه

من الكشف عن تحقق الشرائط ، إلى جانب جعلها علامة عليه في الاخبار ...

الأمر الذي ينبه المخلصين الممحصين إلى قرب الظهور .

وهذا في واقعه ، يمثل إحدى الفروق الجوهرية بين شرائط الظهور

وعلاماته ، تلك الفروق التي أنهيناها في التاريخ السابق (1) إلى سبعة .

الناحية الرابعة : في تمحيص الأخبار

الناحية الرابعة : في محاولة تمحيص تلك الأخبار التي ذكرناها في الناحية

الأولى ، من حيث قابليتها للإثبات التاريخي وعدمه.

وفي هذا الصدد نواجه عدة نقاط:

النقطة الأولى : أنها روايات قليلة نسبياً وغير مستفيضة ، بخلاف ما جاء

في السفياني أو الدجال ، فإنه كثير ، منها ما ذكرناه ومنها ما تركناه .

إلا أن هذه النقطة غير مضرة ، تمشياً مع ميزان الإثبات التاريخي الذي سرنا عليه ... لو كانت الروايات متفقة في المضمون ، أو كان بعضها موثوقاً سنداً ... ولم نكن نتوخي في الإثبات حصول الإستفاضة في الأخبار .

وقد يخطر في الذهن : أن أخبار ( النفس الزكية ) الموعودة، كثيرة العدد ، ومستفيضة ، كما هو معلوم لمن استعرضها ... وليست قليلة

كما قلناه .

ص: 258


1- انظر ص 470 وما بعدها إلى عدة صفحات .

والحق ، أننا إذا نظرنا إلى مجموع أخبار ( النفس الزكية ) بما فيها الأخبار

الدالة على أن مقتل النفس الزكية من المحتوم وأنه من علامات القائم ، كانت

الأخبار مستفيضة حتماً .

إلا أن هذا المجموع ، لا يثبث إلا مقتل النفس الزكية إجمالاً ، و مذ لا يفيدنا في صدد كلامنا الحاضر ، لاحتمال انطباقها على محمد بن عبد اللّه الحسني الملقب بالنفس الزكية . وأما الأخبار التي تتحدث عن التفاصبل ،

والتي توضح أن هناك شخصاً آخر بهذا اللقب سوف يقتل في المستقبل ، وهي

ما سمعناه في أول هذا الفصل ، فليس مستفيضاً . وان لم يكن عدم الاستفاضة

مضراً ، كما أشرنا .

النقطة الثانية : إن في هذه الأخبار عدداً من جوانب الضعف :

الجانب الأول : ما كان رواية عن غير المعصوم ، كالخبر الذي نقله

الشيخ عن سفيان بن ابراهيم الحريري عن أبيه ... وكلام الصافي في منتخب

الأثر.

الجانب الثاني : ما كان مرسلاً ، بدون ذكر أي راو على الإطلاق ،

کخبر الإرشاد ، وخبر الخرایج و الحرايح .

الجانب الثالث : ما كان مرفوعاً مع وجود جزء من السند ، أعني بعض الرواة وجهالة الباقي . وهو رواية البحار المتضمنة لخطبة النفس الزكية ...

حيث رواها المجلسي عن السيد علي بن عبد الحميد بإسناده إلى أحمد بن محمد الأيادي

يرفعه إلى أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام .

الجانب الرابع : ما كان قاصرة في دلالته أساساً على ما فهمناه . مثل خبر

ص: 259

الإرشاد الذي يذكر من العلامات : ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام . فإنه

لا يتعين أن يكون هو النفس الزكية المسمى محمد بن الحسن في الأخبار

الأخرى . وإن كان المظنون هو ذلك ، لاستبعاد أن يتمتل قبل الظهور بين الركن

والمقام شخصان .، مع قاسية بيت اللّه الحرام لدى المسلمين و وضوح حرمته .

وكذلك الخبر الثاني البحار . فإنه لم يصرح باسم النفس الزكية ، وإنما

قال : فيبتدر الحسني إلى الخروج . وهو أيضاً غير متعين الإنطباق عليه .

الجانب الخامس : وجود التعارض في دلالات بعض هذه الأخبار.

فلو حاولنا أن نعرف أن النفس الزكية هل هو مرسل من قبل المهدي (ع)

أولا ؟ نجد أن الخبر المطول الأول الذي نقلناه عن البحار . يصرح بالإيجاب . ونجد الخبر الثاني ينفيه بقوله : فيبتدر الحسي للخروج. وهو

واضح في عدم استئذانه من المهدي (ع) فضلاً عن تحمل الرسالة عنه -مع

افتر اض أنه هو النفس الزكية والغض عما سبق -.

النقطة الثالثة : وفي هذه الأخبار بعض جوانب القوة ، وإن لم تكن تعدل

جميع جوانب الضعف السابقة .

الجانب الأول : أن الخبر القائل : ليس بين القائم وبين قتل النفس الزكية

الا خمس عشر ليلة ، خبر موثوق قابل للاثبات التاريخي ، بحسب منهج هذا الكتاب .

فقد رواه الشيخ المفيد في الارشاد (1) عن ثعلبة بن میمون عن شعيب الحداد

عن صالح بن میثم ( الجمال ) ، قال سمعت أبا جعفر عليه السلام:

وكل هؤلاء الرجال موثقون

اجلاء . وكان بودي أن أشير إلى

ص: 260


1- ص 339 .

تصريحات العلماء فيهم لولا أنه يطول

به المقام ، فنوكله إلى القارىء الباحث .

ورواه الشيخ الطوسي في الغيبة (1)عن الفضل بن شاذان عن الحسن بن علي

ابن فضال عن ثعلبة إلى آخر السند ... وكلاهما من العلماء الثقات.

وعليه . فما ذكرناه في التاريخ السابق (2)من المناقشة في سند هذا الحديث

مبني على التشدد النادي الذي التزمناه هناك .. وقد رفعنا اليد عن الالتزام به هنا .

الجانب الثاني : ان الخبر الثاني الذي نتملناه عن البحار موثوق أيضا . فقد

نقله (3)عن الكائي لثقة الإسلام الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد

عن ابن محبوب عن يعقوب السراج عن الإمام أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام .

وكلهم ثقات أجلاء .

الجانب الثالث : اننا يمكن أن نستفيد من مجموع هذه الأخبار ، و من كلمات من سمعنا تصريحاتهم کالر او ندي والصافي و ابراهيم الحريري، الذين

اعتبروا الأمر في عداد المسلمات ، فنستفيد وجود التسالم أو الشهرة الواسعة على

أن مقتل النفس الزكية يكون قبل الظهور بقليل بين الركن والمقام. وانه غير

مقتل الثائر الحسني الملقب بهذا اللقب .

غير أن هذا الجانب لا يخلو من المناقشة :

أولاً : لأنه لم يثبت وجود شهرة و تسالم أوسع من الأخبار الموجودة لتكون

ص: 261


1- ص 271 .
2- ص613.
3- ص178.

قرينة عليها . وكلمات الراوندي والصافي وغير هما قد تكون اعتماداً على

هذه الأخبار فقط .

ثانياً : ان هذه الشهرة - لو ثبتت - تدفع احتمال انطباق مقتل النفس الزكية على الثائر الحسني السابق . الا انها لا تثبت كل الخصائص المطلوبة ،

ککونه رسول المهدي (ع) الى الناس وخطبته فيهم ، ويكون سبب مقتله بين

الركن والمقام مجهولا .

غيران الأخذ بهذا الجانب الثالث قريب من النفس ، وان لم يصل إلى درجة

الإثبات التاريخي .

فهذه هي النخبة من الحوادث الإجتماعية المروية ، لما قبل الظهور ، وهناك أمور متفرقة مروية أيضاً أعرضنا عنها، لقصورها عن الإثبات التاريخي

فيكون الدخول في تفاصيلها تطويلا بلا طائل .

كما أن هناك تفاصيل في تحديد الوضع العالمي قبيل الظهور ، مما يمت إلى

ايجاد الظرف المناسب للنصر بعد الظهور بصلة . وهي تفاصيل مهمة ، سنعرض

إلى محتملانها والاستدلال عليها في القسم الثاني الآني عند عرض ضمانات النصر للمهدي عليه السلام .

ص: 262

القسم الثاني: حوادث الظهور وإقامة الدولة العالمية

الى وفاة الامام المهدي عليه السلام

وتندرج في هذا القسم عدة أبواب

ص: 263

ص: 264

الباب الأول في معنى الظهور وكيفيته وما يليه من الحوادث

إلى حين مسير الامام المهدي (ع) إلى العراق

ويتم الكلام في ذلك ضمن عدة فصون :

ص: 265

ص: 266

تمهيْد

حين ينتج التخطيط الإلهي العام لعصر الغيبة نتيجته ، ويتمخض عن وجود

العدد الكافي لغزو العالم بالحق والعدل، يترتب على ذلك نتیجتان كبيرتان :

النتيجة الأولى : امكان الحفاظ على حياة الإمام المهدي (ع) بالطريق الطبيعي الاعتيادي ، بالرغم من معر وفيته وانكشاف حقيقته للناس . وذلك

لوجود العدد الكافي من الأفراد الذين يمكنهم باخلاص أن يذودوا الأخطار

بعون اللّه عز وجل عن امامهم وقائدهم العظيم .

وبذلك ترتفع الحاجة إلى الغيبة بكلا شكليها : الاعجازي والطبيعي ، اعني ( اطروحة خماء الشخص ) الاعجازية و ( اطروحة خفاء العنوان ) الطبيعية

ومع ارتفاع الحاجة إلى الغيبة ، لا معنى لاستمرارها .

بل سيكون استمرارها مانعاً عن تحقيق الغرض الإلهي المطلوب في اليوم

الموعود ، ومن هنا تكون محرمة على الإمام المهدي عليه السلام ... باعتبار

أنه يجب عليه بحكم اللّه عز وجل تنفيذ ذلك الغرض الذي ذخر من أجله ،

وقد أصبح بعد نجاز التخطيط ممكناً. فكل ما يكون مانعاً عنه أو حائلا عن

تنفيذه مما يعود إلى عماه الشخصي واختياره ، يكون محرماً عليه .

النتيجة الثانية : امكان الفتح العالمي بالحق والعدل ، بهذا العدد الكافي المهيأ

ص: 267

لهذه المهمة. و هو ما لم يتوفر تنفيذه لأحد من الأنبياء والأولياء والعظماء والمصاحين السابقين عليه عليه السلام . وانما شارك كل واحد منهم بقسط من الاعداد طبقاً

المتخطيط العام . و بقيت النتيجة مؤجلة و منوطة بالمهدي (ع) عندما يتمخض هذا

التخطيط عن نتائجه .

واذ يكون الفتح العالمي بالعدل بهذا العدد المتوفر ممكناً، يكون واجباً لا محانة طبقاً للتكليف الإسلامي العام المشروع في كل زمان ومكان ،والمتكون من أمرين :

الأمر الأول : ان الفتح الإسلامي لاي متمادار ممكن من الأرض المسكونة .

واجب ... طبقاً لمفاهيم وأحكام الجهاد الموضة في الكتاب و السنة . فاذا

كان الفتح المجموع الكرة الأرضية ممكناً كان واجباً لا محالة .

الأمر الثاني : ان امتثال كل تكليف في الإسلام ، بما فيه وجوب الفتح الإسلامي منوط في الشريعة بامكان حصوله وتوفر مقدماته ... فمتى كان المكلف

قادراً على امتثال التكليف - أياً كان - وجب عليه وكان معاتباً ومعاقباً على تركه

وإذا كان الفرد عاجزاً عن الامتثال ، باعتبار قصوره أو قصور فيه أو في الظروف

المحيطة به ، كان التكليف ساقطاً عن الذمة . لأن اللّه تعالى لا يكلف نفساً إلا

وسعها . وليس معنى ذلك عدم وجود التكليف في الشريعة ، وانما معناه اناطته بوال القدرة والاستطاعة .

إذا عرفنا ذلك ، استطعنا أن نشخص بوضوح أن النبي (ص) والأئمة المعصومين الماضين عليهم السلام. حيث لم يكن لديهم العدد الكافي من الأفراد

لغزو العالم بالعدل ، كان التكليف به ساقطة عنهم . لأن الغزو في تلك الظروف

ص: 268

التي عاشوها لم يكن ممكناً إلا بالمعجزة ، وهو ما لم تقم الدعوة الإلهية على اتخاذه

على طول التاريخ .

... بل كان يقتصر كل منهم على المقدار الممكن له من الأعمال المؤثرة

في اقامة الحق . و لقد كان للنبي (ص) عدداً كافياً لفتحه طقت من الأرض. فكان

يجب عليه المبادرة إلى ذلك . وقد كان صلى الله عليه و آله على مستوى المسؤولية فأدى تكليفه على أحسن وجه ، وبذلك انتشر الفتح الإسلامي .

ثم إن اللّه عز وجل خطط خلال عصر الغيبة ، كما عرفنا ، لوجود العدد

الكافي من المخلصين لغزو العالم ... وان التكليف بذنت عند نجاز هذا الشرط ،

وسيكون هذا التكليف متوجهاً إلى الإمام المهدي (ع ) و سيكون هو على مستوى المسؤولية وفي أعلى مراتب الحكمة وأفضل أشكال القيادة ... بعد الذي عرفناه

من آثار طول الغيبة في ترسيخ و تعميق القيادة لديه .

وعلى أي حال، فسيكون الظهور والقيام بالسيف أو التحرك العسكري من

قبل الإمام المهدي ، عند نجاز التخطيط ، متعيناً لازماً ، بحسب الوعد الإلهي في

القرآن الكريم ، والغرض الأسمى من خلق البشرية ، وبحسب التكليف

الإسلامي للإمام المهدي نفسه .

وليس الإمام وحده مكلفاً ، بل مع تحقق الإمكان ، تكون كل البشرية مكلفة بذلك . كل ما في الأمر ، أن من يكون على مستوى المسؤولية الكاملة

لاطاعة هذا الحكم وتنفيذه ، هو الإمام المهدي (ع) و أصحابه ... دون الكفار

والمنحرفين الذين يكون العدل منافياً لمصالحهم الشخصية .

ومن هنا أيضاً، كان من اللازم على كل فرد التجاوب مع ثورة المهدي (ع)

بأقصى امكانه ، فان استطاع الجهاد العسكري وجب ، والا فعليه التجاوب

مع مفاهيمه وقوانينه وتطبيقها تطبيقاً دقيقاً .

ص: 269

الفَصْل الأول: في معنى الظهور وكيفيته

وأسلوب معرفة المهدي (ع) للوقت الملائم

للظهور معنيان مقترنان يصدقان معاً بالنسبة إلى المهدي (ع) ، طبقاً

للفهم الامامي ، ويصدق أحدهما طبقا للفهم الآخر . وله معنى ثالث لا يصدق إلا في زمن متأخر نسبياً .

المعنى الأول : ان يراد من الظهور : البروز والانكشاف بعد الاحتجاب و الاستتار . وهذا ما يحصل فعلا بالنسبة إلى الإمام المهدي (ع) عند تعرف

الناس عليه بعد غيبته و استتاره ، وهو خاص بالفهم الامامي الذي يرى

حصول الغيبة .

المعنى الثاني : ان يراد بالظهور : اعلان الثورة ( في منطق العصر الحاضر) أو القيام بالسيف ( في منطق العصر القديم ). و هو صادق بالنسبة إلى المهدي (ع)

على كلا الفهمين الامامي وغيره . لوضوح كونه عليه السلام الثائر الأكبر

ضد الظلم والطغيان والتخلف على وجه الأرض .

ومن هنا نعرف أن كلا المعنيين صادقين من زاوية ( امامية) ، اذ نجد

الإمام المهدي (ع) يظهر بعد الاستتار ثائراً على الظلم والطغيان .

المعنى الثالث : أن يراد بالظهور : الانتصار والسيطرة ، يقال : ظهر عليه إذا انتصر ضده و سيطر عليه . وهذا المعنى بصدق عند استتباب الأمر

للمهدي (ع) على العالم كله ، وهو غير ما نريده من كلمة الظهور . اذن ،

فينحصر معنى الظهور في لحظاته الأولي ، بالمعنيين الأولين .

ونحن حين ننظر إلى الظهور مقابلا للغيبة والاحتجاب ، نحتاج إلى التساؤل

عن كيفيته وطريقة تحققه . كما اننا حين ننظر إلى الظهور بوصفه ثورة عالمية

ص: 270

وتنفيذاً لليوم الموعود ، نحتاج إلى التساؤل في أسلوب معرفة الإمام المهدي (ع)

للوقت الملائم له ، وطريقة اطلاعه على تمخض التخطيط الإلهي عن نتائجه .

فباعتبار هذين التساؤلين ، ينبغي أن نتكلم في جهتين :

الجهة الأولى : في كيفية الظهور بعد الغيبة .

وإذا نظرنا إلى الظهور من هذه الزاوية ، نجد أن له معنيين مقترنين

عملي ونظري ، يصدقان معاً :

المعنى الأول : وهو المعنى العملي ... وهو أن يرى الناس الإمام المهدي (ع)

في أول ظهوره ، فيعرفهم بنفسه و يكشف لهم عن صفته الحقيقية ، ويطالبهم

بنصره و مؤازرته . وهذا ما سنعرف تفاصيله في هذا تقدم من التاريخ .

المعنى الثاني : وهو المعنى النظري ... ويتلخص بارتفاع الغيبة التي كان

عليه السلام قد اتخذها مسلكاً لنفسه ، طبقاً للتخطيط الإلهي ... سواء كان معنی

الغيبة هو ( أطروحة خفاء الشخص ) أو ( أطروحة خفاء العنوان ) اللذين شرحناهما

في التاريخ السابق ، فيكون شخصه مكشوفاًو عنوانه معروفاً .. تقديماً لانجاز

مهامه العالمية ، المتوقعة منه منذ الآن.

فان صحت ( اطروحة خفاء الشخص ) الاعجازية ، كان معنى الظهور ارتفاع المعجزة عنه و انکشاف جسمه للناس ، مضافاً إلى ضرورة تعريفه اياهم بنفسه واطلاعهم على حقيقته . فان هذه المعجزة انما كانت سارية المفعول في

اخفائه لأجل حفظه من الأعداء والطوارىء ليتولى القيادة الكبرى في اليوم

الموعود . فاذا حل اليوم الموعود ، واجتمعت شرائطه ، لم يكن لبقاء ذلك

الاختفاء من موضوع .

وان صحت ( اطروحة خفاء العنوان ) التي هي طريق طبيعي لحفظ الإمام

يغني عن الطريق الإعجازي ، إلا في أوقات الخطر ، كما سبق أن ذهبنا إليه

ص: 271

في التاريخ السابق ... كل ما في الأمر أنه عليه السلام يعيش ( بشخصية ثانوية)

متكونة من اسم مستعار و عمل معين واسلوب في الحياة غير ملفت للنظر ولا

يمت إلى الأمامية والقيادة بصلة .

ومقتضي هذه الأطروحة أنه ليس هناك أي اعجاز في الاختفاء ليحتاج إلى

زواله ، بل يكفي في الظهور : أن يبدل المهدي (ع) شخصيته الثانوية بشخصيته

الحقيقية ، ويعرف الناس بصراحة بصفته الواقعية ، و يقيم الحجة على ذلك ،

بالأسلوب الذي سوف يأتي . فيثبت باليقين على أن هذا الشخص الذي كان يسمي

بفلان و يعمل کیت، انما هو المهدي الموعود. وقد باشر من الآن مهماته الكبرى .

ويؤيد ذلك من الأخبار ما رأيته في بعض المصادر التي لا تحضرني الآن

من أنه عليه السلام حين يظهر ، يقول عدد من الناس : اننا كنا رأينا هذا الشخص قبل هذا . أقول : وهو أيضاً من الأخبار الصريحة في نفي الأطروحة الأولى.

وهنا ينبغي أن نتذكر ما عرضناه من أسلوب تعرف ( السفياني) على تحركات

المهدي (ع) و مطاردته له في عصر غيبته ...فانه مما لا موضوع له مع صدق الأطروحة الأولى ... فتكون كل الأخبار الدالة على ذلك دالة على صدق

الأطروحة الثانية .

ومعه فا تماماً للفهم العام السابق ، نفهم : ان هذا الشخص الذي كان السفياني

يطارده ، وقد حصل الخسف من أجله . ولم يؤثر موقف ( النفس الزكية )

في ترجيح كفة الميزان الاجتماعية إلى جهته : أن هذا الشخص سوف يذهب إلى

المسجد الحرام فيعلن عن شخصيته الحقيقية ، و يطلب من الناس نصرته والفداء

في سبيل أهدافه . ضد السفياني و غير السفياني من الطغاة الظالمين .

* * *

ص: 272

الجهة الثانية : أسلوب معرفة الإمام بالوقت

الجهة الثانية : في أسلوب معرفة الإمام المهدي (ع) بالوقت المناسب

للظهور ، ذلك الوقت الذي يكون التخطيط الإلهي قد انتج به نتائجه الكبرى.

والسؤال عن ذلك ينبغي أن يتوجه تارة إلى الفهم غير الإمامي للمهدي

و أخرى إلى الفهم الإمامي عنه .

أما طبقاً للمهم غير الإمامي ، وهو أن المهدي رجل يولد في عصره ،

فيوفق للثورة العالمية ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً.

فطبقاً لذلك لا نكاد نحس بالحاجة إلى السؤال ، إذ يكون شأن المهدي شأن

أي قائد آخر تتوفر له الظروف الموضوعية للثورة ، ويدرك إمكان نجاح حركته ، كما يدرك أي قائد ذلك لنفسه ، وإنما يبقى الفرق بينه و بين سائر القادة ، بأمرين :

الأمر الأول : أنه بينما يفسر سائر القادة الأوضاع الاجتماعية ، من زواياهم الشخصية ، وينظرون الظروف والفرص من منظار مصالحهم الخاصة . فإن المهدي ، ينظر إلى ذلك من زاوية مصالح الإسلام الذي هو ( الأطروحة العادلة الكاملة ) الذي يخرج به البشر من الظلمات إلى النور

والحق والعدل .

الأمر الثاني : أنه يتلقى الإلهام من اللّه عز وجل ، ويكون مؤيداً ومسدداً

من عنده ... كما يذهب إليه ابن عربي في الفتوحات المكية (1)وغيره ، وإن لم نجد دليلاً واضحاً على ذلك من المصادر العامة ، مما اضطر ابن عربي أن ينسبه إلى ( الكشف الصحيح ) دون الكتاب الكريم والسنة الشريفة .

ص: 273


1- ج3 ص 327 وما بعدها.

و نحن ذهبنا في التاريخ السابق (1) إلى صحة ثبوت الإلهام للمهدي ...

لكن ذلك باعتبار الفهم الإمامي . وأما طبقاً للفهم الآخر فيكاد أن يكون إثباته

متعذراً .

وأما التعرف على إنتاج التخطيط الإفي لشرائط الظهور ، فيكون هذا

موکولاً إلى اللّه تعالى وحده . ومن هنا سيقدر میلاد المهدي في الزمان الذي

يكون نضجه الكامل شخصياً مساوقاً ومعاصراً مع إنتاج التخطيط و اجتماع

الشرائط . فإذا حان الوقت ، فسيعرف المهدي بفطنته وجود الفرصة المواتية

و العدد الكاني من الأفراد لغزو العالم متوفراً ، فيصدع بمهمته الكبرى.

وأما لو أخذنا بالفهم الإمامي ، فسيكون هذا السؤال وجيهاً ...

باعتبار أن أيام الغيبة متساوية النسبة بالنظر السطحي ، تجاه موعد الظهور ،

فلا يكون بعض الأيام أولى من بعض الإنجاز ذلك . ما لم يحصل هناك علم إضافي

أو انتباه خاص حول الموضوع .

و هذا العلم لا شك في أنه سيحصل للإمام الغائب (ع) ، فإن اللّه عز وجل بحكمته الأزلية و تخطيطه العام سيمكن المهدي (ع) من العلم بموعد

ظهوره ، لتوقف نجاحه عليه ، وتوقف تنفيذ الوعد الحق و الغرض الأسمى

على الظهور ، فيتوقف ذلك الغرض على العلم بحلول الموعد ، فيكون علمه

عليه السلام ضرورياً بالبرهان .

وإنما ينفتح السؤال عن أسلوب علمه بذلك . وأنه هل هو بطريق إعجازي

أو طبيعي ؟ وهو ما أجابت عليه جملة من الأخبار الخاصة . فتحصلت عندنا

عدة أطروحات في مقام الجواب على ذلك ... وقد لا تكون متنافية فيما

ص: 274


1- ص505 و ما بعدها

بينها ، بل في الإمكان صدقها جميعاً ، لو صحت بالدليل عليها ، وتم عليها

الإثبات التاريخي .

الأطروحة الأولى : أن يكون علم المهدي (ع ) بموعد ظهوره وثورته ، بنحو الرواية عن آبائه المعصومين عن جده الرسول الأعظم صلى اللّه عليه و آله .

وتتصور هذه الرواية على أشكال ، تكون كل واحدة في واقعها منها

أطروحة مستقلة :

الشكل الأول : أن يحدد له الزمان في تاريخ معين ، في ساعة من يوم من

شهر من عام بعينه... يكون معلوماً عنده مجهولاً عندنا .

الشكل الثاني : أن تحدد له حادثة معينة أو عدة حوادث ، تكون معاصرة

الموعد المطلوب في حكمة اللّه عز وجل وتخطيطه ، كمقتل النفس الزكية أو الخسف أو أي شيء آخر .

الشكل الثالث : أن يوصف له جيل معين ، بأسماء أشخاصه وأعمالهم

أو واحد منهم أو أكثر ، ويكون الموعد نقطة معينة من عمر ذلك الجيل.

إلى غير ذلك من الأشكال ... وكلها ممكنة ومحتملة ، إلا أنّه لم يدل عليها نص معين في القرآن الكريم ولا السنة الشريفة ، بحسب تتبعنا . غير

أن توقع وجود نص على ذلك مما لا معنى له ، لأن النص لا يرد إلا فيما أريد

إبلاغه إلى الآخرين ، إلى الناس ، وأما ما كان خاصاً بشخص المهدي (ع)

فلا معنى لوروده في دليل عام ، أعني واسع الانتشار . ومعه فتبقى هذه الأطر ومن ذات احتمال محترم .

و هذا هو أحد الفروق الرئيسية التي تمتاز بها الأطروحة الإمامية عن غيرها . إذ لا يتصور بمن يوجد متأخراً عن صدر الإسلام ، أن يتحمل مثل هذه الرواية ، دون أن تشتهر وتتناقلها الا لسن.

ص: 275

الأطروحة الثانية : أن يكون علم الإمام المهدي (ع) بموعد ظهوره إعجاز یاً ، بمعنى أنه حين يحين الموعد الذي يراه اللّه عز وجل صالحاً للظهور

و انتصار الثورة العالمية ، فإنه عز وجل يحقق أمام الإمام المهدي (ع ) معجزة بشكل و آخر تو جب الفاته إلى ذلك ... كما سنسمع .

وذلك بأحد أسلوبين ، أو بالأسلوبين معاً ، إن لم يكن أحدهما مغنياً

عن الآخر !..

الأسلوب الأول : و هو أوضحهما وأصرحهما بالإعجاز ، ما لم يحمل

على الرمز ، أو أمكن .

فمن ذلك : ما أخرجه الراوندي (1)مرسلاً عن الإمام موسى بن جعفر عليه

السلام ، في حديث عن القائم يقول فيه : إذا كان وقت خروجه انتشر العلم بنفسه ، فناداه العلم : أخرج يا ولي اللّه - اقتل أعداء اللّه ، و له سيف اللّه ،

إذا حان وقت خروجه أقتلع السيف من عنده ( غمده ) ، فناداه السيف : أخرج يا ولي اللّه . فلا يحل لك أن تقعد عن أعداء اللّه . وروي ذلك مرسلاً

مكررة أيضاً(2)

وهذا الأسلوب ، كما ترى ، فيه عدة نقاط ضعف :

النقطة الأولى : إن رواياته قليلة ، وكلها مرسلة ، لم يذكر لها الراوندي

أي سند . و معه فلا يمكن الأخذ بها طبقاً لأبسط وأوضح الموازين .

النقطة الثانية : أنها منافية لقانون المعجزات ، القائل : بأن المعجزة لا تقوم مع إمكان وجود البديل الطبيعي عنها ، المنتج لنفس النتيجة . ومن

ص: 276


1- انظر الحرایج و الحر ایح ص 198 .
2- المصدر ص 129 رص 162.

المعلوم بوضوح ، وجود البديل من أمثال هذه المعاجز المنقولة في هذه

الأخبار . فإن معرفة الإمام المهدي (ع) بموعد الظهور لا ينحصر بها ، ولا يتوقف عليها ، بعد إمكان الأطروحة الأولى و الثالثة ، اللتان ترجعان

إلى معني طبيعي غير إعجازي .

النقطة الثالثة : انها مبنية على المفاهيم القديمة في تصور الحرب . وان

سلاح الإمام المهدي (ع) في ظهوره سوف يكون هو السيف على التعيين ،

وان قیادته سوف تكون بالراية وهي العلم الكبير ، وكل هذا مما ثبت بالوجدان تغيره وتطوره .

وقد يخطر في الذهن : اننا سنحمل فيما يلي من البحث معنى السيف على

كل سلاح ، وتحمل معنى الراية على القيادة العقائدية ككل ... فلماذا لا نحملها هنا على ذلك أيضاً ؟..

والجواب على ذلك :ان من الأخبار ما يكون قابلاً للحمل على ذلك ، وبعضها ما يكون كالصريح فيه ، كما سنسمع . وأما مثل هذه الأخبار المرسلة ، فلا يمكن أن تحمل على ذلك ... لوضوح أن القيادة المعنوية لا

يتصور فيها النطق والكلام ، حتى وإن كان إعجازياً. كما ان حمل السيف

على المدفع أو الصواريخ الموجهة مثلا ، فتكون في الناطقة بدل السيف ... بعيد جداً ، كما هو واضح .

الأسلوب الثاني : إن الإمام المهدي (ع) يعرف موعد ظهوره عن

طريق الإلهام .

فمن ذلك : ما أخرجه الصدوق في إكمال الدين (1) عن عمر بن أبان بن

تغلب ، قال:

ص: 277


1- انظر المصدر المخطوط .

قال أبو عبد اللّه (ع) : يأتي

على الناس زمان ... إلى أن قال :

اذا أراد اللّه عز وجل اظهار أمره،

نكت في قلبه نكتة فظهر ... الحديث.

والنكت في القاب هو الإلهام ، كما تفسره الأخبار الأخرى .

أخرج الكليني في الكافي (1) بسنده عن علي السائي عن أبي الحسن الأول

موسى عليه السلام . قال :

مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه :

ماض وغابر وحادث . فأما الماضي

فمفسر ، وأما الغابر فمزبور . وأما

الحادث فقذف في القلوب ونقر في

الأسماع ، وهو أفضل علمنا . ولا

في بعد نبينا .

وأخرج أيضاً (2) بسنده عن المفضل بن عمر ، قال :

قلت لأبي الحسن عليه السلام عن

أبي عبد اللّه (ع) أنه قال :ان علمنا

غابر ومزبور ، ونكت في القلوب

ونقر في الأسماع . فقال : أما الغابر

فما تقدم من علمنا . وأما المزبور

ص: 278


1- انظر المصدر المخطوط ، باب : جهات علوم الأئمة (ء).
2- المصدر والباب نفسيهما .

فما يأتينا . وأما النكت في القلوب

فالهام . وأما النقر في الأسماع فأمر

الملك .

و لهاتين الروايتين فهمهما الخاص : الذي يخرج بنا عن الصدد ، والذي میهمنا الآن هو أن الرواية الثانية تفسر انتكت في القلوب بالإلهام (1) . و تسمیه

الأولى : القذف في القلوب ، وتصرح بأنه أفضل العلم الواصل إليهم عليهم السلام .

وهذا المعنى عام لكل الأئمة عليهم السلام، بما فيهم المهدي (ع) طبقاً

للفهم الإمامي له ، الذي ننطلق منه الآن . إذن ، فيكون الإمام المهدي (ع)

ملهماً في تحديد وقت ظهوره ، بدون حاجة إلى تحديد سابق يرويه عن

آبائه علیهم السلام .

وقد سمعنا في التاريخ السابق (2) من الأخبار ما دل على أن الإمام إذا

شاء أن يعلم شيئاً أعلمه اللّه تعالى ذلك . وهو يسند مضمون هذه الأخبار

أيضاً . ولا شك أن المهدي (ع) بريد طوال أيام غيبته أن يعلم وقت ظهوره ، فيعلمه اللّه تعالى بالموعد عند حلوله ، عن طريق الإلهام أو نحوه من أساليب العلم

التي أشارت إليها تلك الروايات .

وإذا غضضنا النظر عن هذا المعنى ( الإعجازي ) للنكت في القلب ...

أمكننا أن نحمله على عدة معاني طبيعية اعتيادية نذكر منها اثنان :

ص: 279


1- الإلهام : وصول المعنى إلى الذهن بدو ن لفظ. و الوحي وصوله مع الفظ و هو خاص بالأنبياء
2- انظر تاريخ الغيبة الكبری ص : 515.

المعنى الأول : معنی عاطفي ... وهو الغضب للّه عز وجل ، وللعدل ...

عند بلوغ انحراف المنحرفين من المسلمين غايته ، ويكون هذا الغضب هو

المعنى الحادث في قلبه عليه السلام حمله على الخروج .

إلا أن هذا المعني بمجرده غير كاف في تبرير الظهور ، فإن غضبه للّه عز

وجل وللعدل موجود على الدوام ما دام عصر الإنحراف موجوداً . إلا أنه

يحتاج إلى العلم بانتصار حركته وثورته عند ظهوره . وهذا ما يحرز بالأطروحة الأولى والثالثة .

المعنى الثاني : معنى عقلي ، وهو علم المهدي (ع) باجتماع شرائط الظهور و تکامل علاماته ، وهذا المعني راجع إلى الأطروحة الثالثة التي سنذكرها.

وإذا كان المراد من الخبر السابق هذا المعني ، كان دليلاً على ما سنقوله في

الأطروحة الثالثة ، ولا يكون دالاً على معنى إعجازي.

وعلى أي حال ، فهذا الخبر الذي دعمنا به الأطروحة الثانية ، لم تثبت وثاقة رواته ، ولم نجد غيره بمضمونه ، فلا يكون قابلاً للإثبات التاريخي .

ومعه لا تتم هذه الأطروحة .

الأطروحة الثالثة : ان المهدي (ع) بشخصّ وقت الظهور بخبر ته الخاصة ... بعد ان كان قد تلقى أسسة العامة عن آبائه عن النبي صلى اللّه

عليه و آله و سلم .

وينبغي أن نتحدث عن إثبات هذه الأطروحة ، ضمن عدة أمور :

الأمر الأول : ان نعدد بشكل موجز شرائط الظهور، وأهم ما يتمخض عنه

التخطيط الإفي العام السابق على الظهور من نتائج ، مما سبق أن عرضناه

ص: 280

في التاريخ السابق وهذا التاريخ ... ويمكن تلخيص أهمها فيما يلي : الأول : وجود القيادة المتكاملة التي تقوم بمهام يوم الظهور ونشر العدل في العالم كله .

الثاني : وجود القانون العادل ، أو الأطروحة العادلة الكاملة ، التي تتكفل

حل كل مشاكل البشرية و تستأصل جميع مظالمها .

الثالث : وجود العدد الكافي من الأفراد لفتح العالم على أساس العدل ،

و استمرار حكمه على هذا الأساس .

الرابع : بلوغ الأمة الإسلامية ككل ، إلى درجة من النضج الفكري والثقافي . بحيث تستطيع أن تستوعب ونتفهم القوانين والأساليب الجديدة التي يتخذها المهدي (ع) في دولة الحق والعدل .

الخامس : تطرف انحراف المنحرفين ، إلى حد يكون على مستوى نبذ

الشريعة الإسلامية و عصیان واضحات أحكامها .

السادس : يأس العالم أو الرأي العام العالمي ، ككل ، من الحلول المدعاة

للمشاكل العالمية من غير طريق الإسلام ... كما سبق أن برهنا .

إلى غير ذلك من النتائج . وهذه أهمها مما يمت إلى محل الحاجة بصلة .

وهذه الشرائط ولواحقها كلها تكون مجتمعة و متعاصرة ، نتيجة للتخطيط

الإلهي العام ، قبيل الظهور مباشرة ، ويكون

الظهور کاشفاً لنا عن اجتماعها...

كما تكشف بعض الحوادث السابقة عليه عن بعضیا .

الأمر الثاني : أن هناك أساليب عامة لتفسير وجود العلم لدى الإمام المعصوم عليه السلام ، شاملة للإمام المهدي (ع) طبقاً للفهم الإمامي الذي

ص: 281

نتحدث على طبقه الآن . وقد وردت في أخبار المصادر الخاصة . وهي تصاح

التفسير علمه بأي من هذه الأمور ، كالإلهام والنقر في الأسماع وقاعدة : إذا

أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه اللّه تعالى ذلك . وقاعدة : إن أعمال العباد

تعرض على الإمام كل جمعة ، ويرى فيها رأيه النهائي في كل عام في ليلة القدر .

ولا نريد الدخول الآن في إثباتات ذلك . ولعل بعض ما سبق في هذا الكتاب والذي قبله ما يصلح لذاك. إلا أننا نريد التجاوز عن كل هذه الأساليب ، طمعاً في أن يتخذ البحث الشكل الطبيعي المألوف . وقد لا تكون

هناك منافات بين الأسلوبين الإعجازي والطبيعي ، لكي يكون أحادهما

نافياً للآخر .

الأمر الثالث : اننا إذا تجاوزنا عن تلك الأساليب العامة ، وحافظنا على الفهم الإمامي لفكرة المهدي ، مع فهم الغيبة طبقاً الأطروحة خفاء العنوان ،

الذي سبق أن فهمناها و بر هنا عليها .

إذا لاحظنا كل ذلك ينتج لدينا كون الإمام المهدي عليه السلام شخصاً

طویل العمر معاصراً لمئات الأجيال البشرية مذخوراً لإقامة العدل الكامل في

العالم كله ، متصلاً بالناس خلال عصر غيبته بدون أن يعرفوه مواكباً لأخبارهم و آرائهم عارفاً بآلامهم وآمالهم .

وإذا فهمنا المهدي (ع) بهذا الشكل استطعنا أن نستوعب بكل سهولة ووضوح علمه بكل هذه الأمور ، بشكل طبيعي لا أثر للإعجاز فيه . فاننا

لا ينبغي أن ننزل في التصور عن الشخص العبقري والمفكر الالمعي ، فإن الفرد العبقري قد يطلع على عدد من جوانب تلك الخصائص ، وان تعذرت

ص: 282

إحاطته الكاملة بها ، بطبيعة الحال ... فكيف بالإمام المهدي (ع) صاحب

الصفات الكبيرة والمميزات الحليلة ... وبخاصة إذا كان للامام عليه السلام

اهتمام خاص بتتبع هذه الخصائص ومواكبة وجودها التدريجي . حتى تصل

إلى درجة الكمال . وهذا الإهتمام موجود بكل تأكيد ، باعتبار حرص الإمام

المهدي (ع ) بمعرفة موعد ظهوره أكثر من أي شخص آخر .

ليس هذا فقط ، أعني أن المهدي (ع) لا يكتفي فقط بمجرد العلم بالحوادث والإطلاع على التفاصيل ، بل هو مكلف – في بعض الحدود التي عرفناها في التاريخ السابق (1)- بالمشاركة بالبناء الإجتماعي الخير ودفع

البوائق والكوارث عن الأمة الإسلامية . ومعه فلا يكون فقط عالماً بتحقق

تلك الخصائص كفرد عبقري ، بل هو مشارك في وجودها مواكب لأخبارها

مواكبة داخلية ، لو صح التعبير ، وهو أفضل أشكال العلم ( الطبيعي )،

وأكثرها تفصيلاً ودقة .

وهذا هو الذي يفسر لنا علمه عليه السلام بكل الأمور الستة ، كما هو غير خفي على القارىء الذكي ... مع وجود بعض المميزات في عدد من النقاط ، نشير إليها فيما يلي :

أولا : بالنسبة إلى الأمر الأول، يعتبر وجود القائد أمراً وجدانياً للمهدي (ع) باعتباره يرى نفسه هو ذلك القائد بطبيعة الحال ، ويعرف ذلك بالضرورة .

ثانياً : بالنسبة إلى الأمر الثاني : يتم تلقي أساس الشريعة وقواعدها العامة ،

بنحو الرواية عن آبائه عن النبي (ص) ... وإن كان عليه السلام يطلع على عدد من التطبيقات عن طريق العلم ( الطبيعي ) الذي أشرنا إليه .

ص: 283


1- انظر ص 53.

ثالثاً :بالنسبة إلى الأمر الثالث : وهو وجود العدد الكافي من المؤيدين والأنصار ، يكفي في اطلاعه عليه السلام على تكاملهم عدداً وإخلاصاً ،

نفس الطريق السابق ، مع ملاحظة اهتمامه الدائم والدائب عن الفحص عن ذلك .

ويفوق هذا الأمر الثالث غيره بنقطة قوة مهمة ، هو ما أشرنا إليه في

التاريخ السابق .(1) من أنه عليه السلام يجتمع بالناجحين الكاملين بالتمحيص ويعرفهم على حقيقته ، انطلاقاً من عدة أدلة أهمها الفكرة القائلة : أن المانع

عن التعرف على الإمام إنما هو الذنوب و انحاء القصور والتقصير ، فإذا

ارتفع كل ذلك ، كان التشرف بخدمة الإمام ممكناً وسهلاً . إلاّ أن ذلك

خاص بالمخلصين من الدرجة الأولى من درجات الإخلاص الأربعة التي ذكرناها هناك . (2)

ومعه يكون تعرفه عليه السلام على هؤلاء الممحين وعددهم و درجة

إخلاصهم ، تعرفاً مباشراً ، بالمشاهدة والوجدان .

نعم ، قد يبقى تعرفه على الناجحين في التمحيص من الدرجات الأدنى

من ذلك ، متوقفاً على الطريق ( الطبيعي ) الذي ذكرناه .

رابعاً : بالنسبة إلى الأمر الخامس ، وهو تطرف انحراف المنحرفين؛

يحتوي على شواهد كثيرة ، أعلاها مطاردة الإمام المهدي (ع) بالجيش

الذي يخسف به ومقتل النفس الزكية ... وقد تكون هناك شواهد أخرى لدى الإمام المهدي (ع ) لم ترد في النقل .

ص: 284


1- تاريخ الغيبة الكبری ص 152.
2- المصدر ص 248 .

هذا ، وأما بالنسبة إلى الأمرين الرابع والسادس : فيبدو أنهما يقتصر ان على ذلك الطريق الطبيعي ، وليس فيهما مزية زائدة ... وهو كاف تماماً

في تفسير كيفية علم الإمام المهدي (ع) بهما.

هذا وينبغي أن نلتفت بهذا الصدد، أن الأمور الأربعة من هذه السنة

التي أسلفناها مستويين من الإثبات :

المستوى الأول : تشخيص ما ينبغي أن تكون عليه الأمة الإسلامية من

مستوى هذه الصفات ، لتكون مؤهلة لتنفيذ اليوم الموعود .

فكم ينبغي أن يكون عدد المخلصين ليكون كافياً لغزو العالم بالعدل ...

وكم ينبغي أن يكون العمق الفكري في الأمة لتكون قابلة لفهم القوانين المهدوية

الجديدة ... وكم ينبغي أن يتطرف انحراف المنحرفين وكفر الكافرين ...

وكم نسبة من البشر ينبغي أن يكون بائساً من الحلول المعروضة في عصر

التمحيص والإنحراف ، كل ذلك من زاوية التشخيص النظري .

المستوى الثاني : التشخيص العملي بأن هذه الأمور التي ينبغي أن تقع ، والذي استهدف التخطيط العام إيجادها جميعاً ... هل وجدت ليكون الوعد

ناجزاً ، أو لم توجد بعد . وما ذكرناه من طريق تعرف الإمام المهدي (ع)

بالنتائج كان هذا المستوى هو المنظور فيه .

وأما طريقة علمه عليه السلام بالمستوى الأول ، فمن الواضح تكفل الأسلوب

العام ( الإعجازي ) لعلم الإمام بتغطيته بوضوح . وأما لو تجاوزنا عنه فينبغي

أن يكون علمه به ناتجاً عن خبر تین مزدوجتين :

الخبرة الأولى : ما يحصله عليه السلام من الاطلاع على حوادث الأجيال

ص: 285

وقوانين التاريخ ، في خلال معاصرته الطويلة للبشرية ، كما سبق أن ذكرنا

في التاريخ السابق.(1)

الخبرة الثانية : معرفته بالمستوى المطلوب الذي سيكون عليه اليوم الموعود ،

أو - بتعبير آخر - ما سيعلنه هو في دولته العالمية من مفاهیم و قوانین و ما

سيقوم به من أعمال ، وهو علم مفروض الوجود عنده عليه السلام ، ولا أقل من زاوية قواعده العامة و أساليبه الكلية .

ومع أجتماع هذين الخبر تین . يستطيع أن يتعرف على المستوى الأولى بكل

وضوح ، خذ مثلا : أن كل مثقف إلى الدرجة الكافية . يستطيع أن يشخص

المستوى الذي ينبغي أن يكون عليه الفرد ثقافياً ليفهم كتاب (روح القوانين )

المونتوسكيو ، أو أن ينظم قصيدة جميلة بمناسبة زواج مثلا . كما انه يستطيع أن

شخص متمدار قوة الإرادة والعزم الذي يكفي لارتداع الفرد عن الرشوة.. وهكذا

وعلى أي حال ، فقد صحت الأطروحة الثالثة القائلة بأن في امكان الإمام

المهدي (ع) أن يطلع على اجتماع شرائط الظهور بنفسه ، ولا حاجة له - بعد

ذلك إلى المعجزة المنبهة له إلى ذلك . کالأسلوب الأول من الأطروحة الثانية ،

بل تكون عندئذ مخالفة القانون المعجزات .

ص: 286


1- ص 512 وما بعدها .

الفصل الثاني: في تاريخ الظهور ورعده

و يمكن أن يتم ذلك على عدة مستويات ، لا بد من عرضها و نقدها ،

واختيار الصحيح منها :

المستوى الأول : في تعيين تاريخ الظهور بشكل تفصيلي يذكر فيه الحمام

والشهر واليوم . وهذا ما لا سبيل إليه ولم يرد تحديده في أي نص. و هو المستوى الذي تكذبه أخبار نفي التوقيت و لعن الوقائين ، التي رويناها في الباب الأول

من القسم الأول من هذا التاريخ .

في تعيين الظهور بعلم الحروف

وقد سبق أن عرفنا أن أخفاء التاريخ التفصيلي هو أحد حلقات التخطيط

التي تتيح للمهدي (ع) و أصحابه فرص النصر في مهمتهم العالمية . و ذلك باعتبار

توفر عنصر الانماجأة التي هي من أهم أسباب عناصر النصر .

في تعيين الظهور بالروايات إجمالاً

المستوى الثاني : في تعيين موعد الظهور اجمالا . كما لو قلنا إنه يحصل

متى أراد اللّه تعالى أو متى توفرت شرائط الظهور ، أو منى حدثت علاماته

القريبة ... أو نحو ذلك . وكل ذلك صادق الا إنه لا يسعفنا بشيء مهم

فيما نحن بصدده .

ص: 287

المستوى الثالث : استنتاج التاريخ اجمالا أو تفصيلا. من بعض كلمات

النصوص القرآنية أو غيرها ، عن طريق قواعد ( علم الحروف) المسمى بالجفر

و هو علم موجود عند بعض الفلاسفة والصوفية ، يدعون أنه ينتج الاطلاع

على الحقائق المجهولة . ومن هنا يحسن أن تحمل عنه فكرة كافية .

وقد استعمل هذه القواعد لاستكشاف موعد ظهور المهدي (ع) جماعة

من علماء المسامين . منهم الشيخ محيي الدين بن عربي القائل :

إذا دار الزمان على حروفٍ ببسم اللّه فالمهدي قاما

ويخرج بالحطيم عقيبصوم ألافاقر أو من عندي السلاما (1)

و ظاهره محاولة استكشاف الموعد من الحروف التي يتكون منها لفظ : باسم اللّه وقال الشيخ الكبير عبد الرحمن البسطامي :

ويظهر میم المجد من آل أحمد ويظهر عدل اللّه في الناس أولا

كما قد روينا عن علي الرضا وفي كنز علم الحرف أضحى محصلا

وقال أيضاً :

ويخرج حرف الميم من بعد شينه بمكة نحو البيت بالنصر قد علا

فهذا هو المهدي بالحق ظاهر سيأتي من الرحمن للخلق مرسلا الخ الأبيات ... .(2)

وستكون معرفة ذلك ، بطبيعة الحال ، متعذرة لغير من يتقن تلك القواعد

ويجيد طريقة الاستخراج منها ، لو كانت صحيحة .

ص: 288


1- انظر ينابيع المودة ص 499 ط النجف
2- المصدر ص 559.

وان أوسع محاولة اطلعت عليها في ذلك ، هو ما قام به الشيخ المجلسي في ( البحار) (1) على أثر خبر يرويه عن أبي عبيد عن الإمام الباقر (ع) قال :

قال أبو جعفر (ع) : يا أبا لبيد ،

إنه يملك من ولد العباس اثنا عشر ...

إلى أن قال : يا أبا لبيد : ان في

حروف القرآن المقطعة لعلماً جماً .

ان اللّه تعالى أنزل : ألم ، ذلك الكتاب .

فقام محمد (ص) حتى ظهر نوره

و ثبتت كلمته . وولد يوم ولد ، وقد

مضى من الألف السابع (2) مائة

سنة وثلاث سنين .

ثم قال : وتبيانه في كتاب اللّه

في الحروف المقطعة ، اذا عددتها من

غير تكرار ، وليس من حروف

مقطعة حرف ينقضي الا وقيام قائم

من بني هاشم عند انقضائه .

ثم قال : الألف واحد واللام

ثلاثون والميم أربعون ، والصاد تسعون،

فذلك مائة واحدی وستون . ثم كان

بدء خروج الحسين بن علي (ع) ألم

ص: 289


1- انظر ج13 ص 132 .
2- يعني من حين نزول آدم (ع) إلى الأرض .

اللّه . فلما بلغت مدته قام قائم ولد

العباس عند ( المص ) ، ويقوم

قائمنا عند انقضائها ب ( الر ) . فافهم

ذاك وعه واكتمه .

وقد تكلم المجلسي حول هذا الخبر كلاماً طويلا،وذكر أن بعض ما أشار

إليه الخبر من تحدیدات ، يطابق الواقع . كبعثة النبي (ص) . ونحن ننقل منه

فيما يلي ما يمت إلى المهدي (ع) بصلة :

قال المجلسي : قوله : ويقوم قائدنا عند انقضائها ب (الر) .

هذا يحتمل وجوها :

الأول : أن يكون من الأخبار المشروطة البدائية (1) ولم يتحقق لعدم تحقق

شرطه . كما تدل عليه أخبار هذا الباب :

الثاني : أن يكون ( يعني : الر) تصحيف ( المر) (2) ويكون مبدأ التاريخ

ظهور أمر النبي (ص) قريباً من البعثة ك( ألم) . ويكون المراد بقيام القائم قیامه بالامامة تورية . فان امامته كانت في سنة ستين ومائتين . فاذا أضيفت إليه

أحد عشر سنة قبل البعثة يوافق ذلك .

الثالث : أن يكون المراد جميع اعداد کل (الر) يكون في القرآن وهي

خمس مجموعها الف و مائة وخمسة وخمسون (3). ويؤيده أنه (ع) عند

ص: 290


1- أي التي حصل فيها البداء فلم تتحقق .
2- والقيمة المطلقة لهذه الحروف بحساب الحمل احدى وسبعين ومائتان . للالف واحد وللام ثلاثون و الميم أربعون و الراء مائتان .
3- لأن قيمة الواحدة منها مائتان و واحد و ثلاثون فاذا ضو عفت خمس مرات كان الناتج هو ذلك.

ذكر ( ألم ) لتكرره ، ذكر ما بعده لتتعين السورة المقصودة ، ويتبين أن

المراد واحد منها . بخلاف (الر) لكون المراد جميعها . فتفطن .(1)

الرابع : أن يكون المراد انقضاء جميع الحروف مبتدأ ب (الر) ، بأن

يكون الغرض سقوط (المص) من الغدد أو ( ألم) أيضاً . و على الأول يكون:

الفاً وستمائة و ستة وتسعين . (2)وعلى الثاني يكون الفاً وخمسمائة وخمسة

وعشرين. و على حساب المغاربة يكون على الأول الفين وثلاثمائة وخمسة وعشرين

وعلى الثاني : الفين و مائة و أربعة وتسعين . وهذه أنسب بتلك القاعدة الكلية ، وهي قوله : و ليس من حرف بنقضي ... اذ دولتهم (ع) آخر الدول . لكنه

بعيد لفظاً . ولا نرضى به . رزقنا اللّه تعجيل فرجه (ع) .

وأضاف : هذا ما سمحت به قريعتي بفضل ربي في حل هذا الخبر المعضل وشرحه . فخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين . و أستغفر اللّه من الخطأ والخطل

في القول والعمل انه أرحم الراحمين .

ص: 291


1- هذا إشارة من المجلسي على صعوبة هذه الاستفادة من الخبر .
2- هذا الوجه الرابع غير مفهوم المقصود بوضوح بحيث ينتج الأرقام التي ذكرها . فان الكلمات المقطعة في القرآن تسع وعشرون و حر و فها خمس وسبعون . و مجموع قيمتها بحساب الجمل ثلاثة آلاف ومئة و خمس وخمسون . فان طرحنا على (الأول ) قيمة المص و هي مائة و احدي و ستین گان الباقي الفين وتسعمائة وأربعة و تسعين . و ان طرحنا (على الثاني ) قيمة ألم فان أراد المجلسي واحداً منها و قيمته و أحد وسبعون كان الباقي ثلاثة آف واربعا و ثمانين . و ان ارادطرح اثنين منها - و هي السابقة على المصر في القرآن الكريم - كان الباتي ثلاثة آلاف و ثلاثة عشر . وان أراد طرح قيمة مجموع ما ورد من هذه الكلمة في القرآن الكريم ... وقد تكررت ست مرات و قیمتها أربعمائة و ست وعشرون . كان الباقي الفين وسبعمائة و تسعة و عشرين فان طرحنا معها أيضاً قيمة المص المشار إليها كان الباقي ألفين وخمسائة و ثمان وتسعين وكل هذه النواتج أكبر من الرقم الذي ذكره المجلسي .. طبقة حساب (ابجد ) المعروف ، فضلا عن حساب المغاربة .

أقول : ويحتمل وجوهاً أخرى عديدة . نذكر فيما يلي عدداً منها طبقاً

النفس الترقيم :

الخامس : وهو المستظهر من الخبر حين يقول : ويقوم قائمنا عند

انقضائها ( يعني : المص ) به : الر ... يعني : حين ينتضي رقم المص نحسب حساب الر ، فإذا انقضى رقمه كان موعد قيام القائم ناجزاً.

فإذا علمنا أن قيمة ( المص ) مائة وواحد وستون ، وقيمة مجموع ما ورد

في القرآن الكريم من كلمة ( الر ) - وقد تكررت خمس مرات - الف

و مائة وخمس وخمسون ... كان المجموع ألفاً وثلاثمائة و ستة عشر . و هو تاریخ هجري قد مضى قبل ثمانين عاماً . ولم يظهر المهدي (ع) فيه .

ومعه لا بد أن نحمل ذلك على أنه تاريخ لما بعد ولادته ، وقد عرفنا

في ( تاريخ الغيبة الصغرى ) أنه ولد عام 200 (1)فيكون المجموع ألفاً وخمسمائة

وواحداً وسبعين . أي أن المهدي سوف يظهر بعد مئة وخمس وسبعين عاماً .

السادس : أن يكون المراد ب ( الر ) قيمة حروفه باعتبار أسمائها ،

أعني : ألف لام را - و الهمزة ساقطة عند علماء الحروف - فيكون مجموعها ثلاثمائة وثلاثة وثمانين . فإذا ضاعفنا ذلك خمس مرات . بعدد تكرر هذه

الكلمة في القرآن الكريم ، كان المجموع ألفاً وتسعمائة و خمسة عشر ، فيكون هذا تاريخاً ميلادياً لم يظهر فيه المهدي . وأما إذا كان هجرياً أو محسوباً من ولادته عليه السلام أو أضفنا إليه قيمة المص ، كان التاريخ بعيداً نسبياً .

السابع : أن يكون المراد : المرتبة الثانية من أسماء حروف كلمة (الر ) .

فان المرتبة الاولى منها ، هو ما عرفناه : الف لام را . والمرتبة الثانية هي أسماء

ص: 292


1- ص 261.

حروف هذه الكلمات .... وقيمة مجموعها سبعمائة وست و ثلاثون . فإذا

أضفنا إليها قيمة ( المص ) كان المجهوع ثمانمائة وسبعاً و تسعين . وهو تاریخ هجري لم يظهر فيه المهدي (ع) . فإذا أضفنا إليه 255 لميلاده عليه السلام

كان الناتج ألفاً ومئة واثنين وخمسين. و هو تاريخ لم يظهر فيه المهدي (ع) أيضاً .

فإذا ضاعفنا القيمة المشار إليها لكلمة ( الر ) خمس مرات كان الناتج

ثلاثة آلاف وستمائة وثمانين . فإذا أضفنا إليه قيمة ( المص ) كان المجموع

ثلاثة آلاف وثمانمائة و واحداً و أربعين. وكلاهما تاريخ بعيد عن العصر الحاضر .. يحتمل فيه بدؤه من الهجرة أو من ولادته أيضاً .

فإذا التفتنا إلى جنب هذه الاحتمالات أن يكون الحساب على طريقة

المغاربة . كما احتمل الشيخ المجلسي ... كانت الاحتمالات أكثر ...

ويبقى موعد الظهور الحقيقي غيباً إلهياً ، كما أراده اللّه تعالى أن يكون في تخطيطه العام .

وعلى أي حال، فإنه مما يبون الخطب أن هذا الخبر لا يخلو من نقاط

ضعف .:

النقطة الأولى : أنه مروي عن أبي لبيد المخزومي ، وقد ذكره علماء

( الرجال ) ولم يوثقوه ... فيكون الخبر ضعيفاً و غير صالح للإثبات التاريخي .

النقطة الثانية : إن الرواة بيننا وبينه مجهولون . أعني غير مذكورين

بالمرة . فيكون الحبر مرسلاً .

النقطة الثالثة : إن تفسير الحروف المقطعة في القرآن ، على أساس كونها

تتكفل التنبؤ بجوادث المستقبل .. بحساب الحمل . هو أحد احتمالات التفسير

ص: 293

. ويدل عليه عدة أخبار منها خبر أبي لبيد هذا . إلا أن في مقابل ذلك

باراً أخرى تدل على تفسيرات أخرى ، لا حاجة إلى ذكرها . والمهم أن

في الأخبار تنفي مضمون هذا الخبر ، وتكون معارضة له ، فيسقط عن

ية الإثبات بالمعارضة .

إلى بعض المناقشات الأخرى . مضافاً إلى المناقشة في ( علم الحروف )

کل ، فإنه من العلوم الخفية التي لم يشت دلیل صحتها ، ولا بد من إيكال

ها إلى أهله .

المستوى الرابع : لمعرفة موعد الظهور :

هو الاعتماد على الروايات الواردة بهذا الخصوص ، والتي تعطينا إلماماً

اليوم والشهر الذي يحصل فيه الظهور ، مع إهمال رقم السنة بطبيعة الحال .

وينبغي أن يقع الكلام هنا في نواحي :

الناحية الأولى : في التعرف على هذه الروايات ، ومحاولة استفادة التاريخ .

وهي روايات عديدة ، تأخذ التاريخ من زوايا متعددة . تذكر لكل

ية مثالاً من الأخبار :

الزاوية الأولى : في تعيين السنة على وجه الاجمال . أخرج الطبرسي في الإعلام (1)عن أبي بصير عن أبي عبداللّه الصادق (ع)،

لا يخرج القائم إلا في وتر من

السنين : سنة احدى أو ثلاث أو

خمس أو سبع أو تسع .

ص: 294


1- انظر اعلام الوری ص 430 .

الزاوية الثانية : في تعيين الشهر وعدد أيامه : أخرج الطبرسي أيضا (1)عن أبي بصير ، قال :

قال أبو عبد اللّه (ع) : ينادی

باسم القائم في يوم ست وعشرين من

شهر رمضان. ويقوم في يوم عاشوراء

وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن

علي (ع) ... الحديث .

وروى الشيخ في الغيبة (2)عن أبي بصير ، قال :

قال أبو عبد اللّه (ع) : ان

القائم صلوات اللّه عليه ، ينادی

اسمه ليلة ثلاث وعشرين ، ويقوم يوم

عاشوراء ، يوم قتل فيه الحسين

ابن علي (ع) .

الزاوية الثالثة : في تعيين اسم اليوم الأسبوعي .

روى الشيخ أيضاً (3) عن علي بن مهزیار ، قال :

قال أبو جعفر الباقر عليه السلام :

كأني بالقائم يوم عاشوراء ، يوم

السبت... الحديث .

ص: 295


1- إعلام الوری ص 430.
2- ص 274.
3- نفس الصفحة .

وروى الصدوق في الإكمال (1)عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع) قال :

يخرج القائم يوم السبت يوم

عاشوراء .يوم الذي قتل فيه الحسين

عليه السلام .

الناحية الثانية : في مقدار صلاحية هذه الأخبار للإثبات .

بعد مراجعة مجدوع ما ورد في المصادر من هذه الأخبار ، نجد أن

الروايات الدالة على أن المهدي (ع) يظهر في وتر من السنين ، قليلة العدد ، وكذلك الروايات الدالة على أنه يظهر يوم السبت ... بخلاف ما دل على أنه

يظهر في اليوم العاشر من محرم الحرام . فإن فيه روایات عديدة قابلة للإثبات

التاريخي .

وقد وجدنا أن تلك الأخبار القليلة مروية بأسانيد ضعيفة ، وقع فيها

مجاهيل وضعاف ، فلا تكون قابلة للإثبات . و معه يثبت أنه عليه السلام

بظهر يوم العاشر من محرم الحرام . فقط . وهي أكثر هذه الخصائص أهمية وأشدها دخلاً في التكوين الفكري العام الذي عرفناه ... كما سنسمع .

الناحية الثالثة : في محاولة التعرف على حكمة التوقيت : في اليوم العاشر

من المحرم ، بحسب فهمنا الحاضر ، وطبقاً للتكوين الفكري العام الذي عرفناه .

و نتحدث عن ذلك ضمن نقطتين :

النقطة الأولى : إن المقصود الأساسي - بحسب ما نفهم - من هذا

التوقيت ، أمران :

ص: 296


1- انظر اکمال الدین (المخطوط)

الأمر الأول : كون هذا اليوم هو يوم . تمتل جده الإمام الحسين بن

علي سيد الشهداء عليه السلام ، وهو ما نطقت به الروايات على ما سمعناه .

باعتبار أن ثورة الحسين (ع) وثورة المهدي (ع) معاً منسجمان في

الهدف ، و هو حفظ الإسلام من الاندر اس والضمور . وقد كانت ثورة

الحسين (ع) في حقيقتها من بعض مقدمات ثورة المهدي (ع) وإنجاز یومه الموعود ، بصفتها جزءاً من التخطيط الإلهي لإعداد العاطفة والإخلاص والوعي في الأمة ، توخياً لإيجاد العدد الكافي لغزو العالم بالعدل . بين يدي

المهدي (ع) ولو بعد حين .

كما أن ثورة الإمام المهادي (ع) دفاع عن الإمام الحسين (ع) وأخذ

بثأره ، باعتبار كونها محققه للهدف الأساسي المشترك و هو تطبيق العدل وإزالة كل ظلم وكفر وانحراف . وقد وردت بهذا المعنى بعض الأخبار التي سنسمعها .

وقد كان ولا زال و سیبقی وجود الحسين (ع) وثورته في ضمير الأمة

خاصة والبشرية عامة حياً نابضاً ، على مختلف المستويات . يتهم الأجيال روح الثورة والتضحية والإخلاص . ومن هنا كان الإنطلاق من زاويته انطلاقاً

من نقطة قوة متسام على صحتها ورجحامها . وان أهم مناسبة يمكن الحديث

فيها عن الإمام الحسين (ع) وأهدافه . هو يوم ذكرى تمتله في العاشر من

شهر محرم الحرام . ومن هنا كان هذا التوقيت للظهور حكيماً وصحيحاً.

الأمر الثاني : كون هذا اليوم قريباً نسبياً من موعد الحج الذي هو المنطلق الأساسي لاجتماع المسلمين و الفرصة الرئيسية الوحيدة التي يمكن وصول

أنصار الإمام المهدي (ع) إليه في موعدهم المحدد . بالأسلوب الطبيعي غير الإعجازي ، على ما ستسمع في النقطة الآتية .

ص: 297

النقطة الثانية : إننا سمعنا في أخبار النداء وفي أخبار التوقيت الأخيرة ،

ن النداء باسم المهدي (ع) سيكون في شهر رمضان ، حيث تكون النفوس

مادة أقرب إلى طاعة اللّه و أبعد عن معصيته وأكثر اهتماماً بالأمور الدينية

ن أي شيء آخر . بل لعل النداء سيكون في ليلة القدر ، الثالث والعشرين

ن رمضان ..... التي هي مركز الطاعة و العبادة من ذلك الشهر .

وسيكون ظهوره عليه السلام في اليوم العاشر من المحرم ، أي أن الفاصل

بن النداء و الظهور حوالي مئة وسبعة أيام .

والروايات ، لم تنص على هذا التابع ، إلا أنه من غير المحتمل أن يكون

نداء في رمضان من بعض السنين . ويكون الظهور في محرم بعد عدة سنين خرى . ولا حتى بعد مدار سنة كاملة ، أي - بالضبط - بعد عام وثلاثة

شهر وسبعة أيام .

ولعل أهم دليل على التتابع ونفي الانفصال . هو ما استفدناه من أخبار

نداء من كون حدوث النداء إنما هو للتنبيه و الإعلان عن حصول الظهور .

هذا إنما يصدق في الزمان القريب . ولعله إذا وجد بعد أيام قليلة كان أفضل .

ولا أن مصلحة كبيرة هي التي اقتضت تأجيله إلى العاشر من محرم . وهو

ريخ كبير نسبياً بالنسبة إلى تطبيق فكرة التنبيه و الإعلان . ومن هنا لا يمكن زيادة عليه إلا برفع اليد عن هذه الفكرة . ولكنها فكرة ثابتة باعتبار دلالة

أخبار عليها ، كما سبق . إذن فلا بد من الالتزام بقرب الظهور إلى وقت

نداء ... وذلك بالشكل الذي عرفناه .

وتستطيع أن تتصور معي حال الأمة الإسلامية خلال هذه المدة ، وما هو

مدار تأثير النداء فيها . ومدى رد الفعل المتوقع له ، وكيف سيكون عليه

ص: 298

موسم الحج في ذلك العام . وماذا سيكون رد الفعل من قبل أولئك الممحصين المخلصين المؤهلين لغزو العالم بالعدل بين يدي القائد المهدي (ع) .

إن كل مؤمن ممحّص . سيري في النداء باسم المهدي (ع) الشرارة

الأولى للظهور ، ولإثارة الشعور بالمسؤولية الإسلامية والوجوب الإسلامي

في نفس الفرد في نصرة المهدي (ع) والمشاركة في شرف تأسيس العدل

في العالم وتوطيد الدولة العالمية الإسلامية .

وسيكون ذهاب الفرد إلى مكة ذهاباً اعتيادياً . لا يثير شكاً ولا يلفت

نظراً. إنه يذهب إلى الحج كما يذهب أي فرد في كل عام . و بذلك يتخطى الحدود القانونية التي وضعتها الحضارة الحديثة .(1) وسيكون الفرد في مكة

عند ظهور المهدي (ع). طبقاً للتخطيط الإلهي الحكيم .

وبذلك يتوافد كل أنصار المهدي (ع) من كل العالم ، وقد أصبحوا

بعدد كاف لغزو العالم بالعدل ، نتيجة للتخطيط العام ... ويحجون مع

الناس . وهم يتوقعون ظهوره في أي لحظة - إن لم يكونوا مسبوقين بر و ایات التوقيت - ولكن الظهور سيتأخر عن أيام الحج ... فيسافر الحجاج راجعين

إلى بلدانهم وتخلو مكة المكرمة منهم ... إلا أولئك الذين ينتظرون الظهور .

إنهم سوف يضطرون إلى البقاء بعد الحج إلى موعد قد لا يعرفونه بالتحديد ... هو موعد الظهور ... وبدون أن يصرحوا بمقاصدهم الحقيقية لأي إنسان .

وسيثير بقاؤهم مشكلة قانونية . يقع فيها الجدل بين الحاكمين هناك ، على

ما نقلته بعض روایاتنا ، على ما سيأتي في فصل قادم . حتى ما إذا شاء

ص: 299


1- أود في المنام أن نتذكر قوله تعالى : و كذلك كدنا ليوسف ، ما كان يأخذ أخاه في دين الملك ، الا أن يشاء اللّه . نرفع درجات من نشاء ، وفوق كل ذي علم عليم » یوسف : 76/12

اللّه عز وجل للمهدي (ع) أن يظهر في يوم عاشوراء ، كان هؤلاء ، هم

البذرة الرئيسية لجيشه ، أمضاهم إرادة وأعمقهم عقيدة .

وبذلك نفهم أن لأصحاب الإمام المهدي (ع) الفرصة الكافية في

الذهاب إلى مكة المكرمة ، بشكل طبيعي لا أثر للإعجاز فيه . ومعه فتكون الروايات الدالة بظاهرها على أن وصولهم إليه بنحو إعجازي ، تكون مخالفة ل ( قانون المعجزات ) ومحتاجة إلى فهم جديد . وسيأتي التعرض لذلك في فصل آت من هذا القسم.

الناحية الرابعة : في إثارة بعض الاعتراضات والأسئلة على التوقيت الذي

تحدثنا عنه : مع محاولة الجواب عنه . وهي عدة أمور :

الأمر الأول : ما هو موقف أعداء الإمام المهدي (ع) من النداء ؟

فإن من المفهوم أن هذه المدة التي تتخلل بين النداء و الظهور كافية تماماً للاستعداد

لسحق أي حركة متوقعة في العالم والقضاء عليها في مهدها و بمجرد حدوثها . فكيف ينجو الإمام المهدي (ع ) من ذلك ؟! ..

فإن الأعداء قد يسمعون النداء ، وخاصة أنه نداء رهيب. واسع يخرج

الفتاة من خدر ها ويوقظ النائم ويفزع اليقظان ، كما سمعنا من الأخبار .

و إذا سمعوه توقعوا الظهور واستعدوا ضده لا محالة .

ويمكن الجواب على ذلك ، ضمن عدة مستويات :

المستوى الأول : أنه لا دليل على أن صوت النداء شامل للبشر أجمعين

بل هو بصفته إعجازياً ، سيتحدد - بالمعجزة - بالمقدار الذي يحتوي على المصلحة ويكون خالياً عن المضاعفات . ومن هنا يمكن أن يكون النداء مقتصراً

على منقطة دون منطقة ، أو مجموعة من الناس دون مجموعة.

ص: 300

و هذا مخالف لظاهر الأخبار التي سمعناها تقول : ينادي مناد من السماء

باسم القائم ، فيسمع من بالمشرق ومن بالمغرب. أو تقول : فلا يبقى شيء من

خلق اللّه فيه الروح إلا سمع الصيحة . إلا أن نخصها بمنطقة أو جماعة باعتبار

أن عموم النداء و شد و له لكل الناس بشكل خطراً على المهدي (ع) في أول

ظهوره.

وأما رد الفعل الموصوف في الأخبار للصيحة . وهي أنها توقظ النائم

وتفزع اليقظان و تخرج الفتاة من خارها ... فيمكن أن نخصه بالسامعين .

ولا يشمل غير هم بطبيعة الحال . إلا أن قوله عن الصيحة : انها تخضع لها

أعناق أعداء اللّه تعالى ، صريح في سماعهم لها ... غير أنه صريح في نفس الوقت بعدم قدرتهم في وقوفهم ضدها .

المستوى الثاني : أنه لا دليل على أن مضمون هذا النداء سيكون هو الدعوة

إلى نصرة المهدي (ع) من أجل غزو العالم بالعدل . بكل صراحة ... ليشكل خطراً على أعداء اللّه ليستعدوا ضده . بل انه ليس كذلك بقيناً ، فإن ما

صرحت به الروايات هو أنه ينادي باسمه واسم أبيه ، ليس إلا.

فنعرف من ذلك : أن مضمون النداء سيكون هو - على الأغلب - :

إمامكم محمد بن الحسن أو محمد بن الحسن حجة اللّه و نحو ذلك . من دون أي

إشارة إلى أهدافه ولا إلى ظهوره ، ولا حتى إلى كونه المهدي الموعود .

وإنما سيعرف المؤمنون كل ذلك باعتبار مسبقاهم الذهنية و أدلتهم العقائدية ... وهذا غير متوفر لدى أعداء اللّه بطبيعة الحال .

المستوى الثالث : إن القوى العالمية المادية الحاكمة في الدول الكبرى

وغيرها ، لو فرضنا أنها سمعت بالنداء أو وصلها خبره ، بل لو عرفت

ص: 301

مضمونه بشکل و آخر ... فسوف لن تفهمه كما ينبغي أن يفهم ... وإنما

تعتبره دعاية كاذبة أو عملاً تخريبياً صادراً من قبل بعض الدول أو الجهات ،

قد يكون مذاعاً عن طريق بعض الإذاعات أو محطات التلفزة أو أحد الأقمار الصناعية المخصصة للبث الإذاعي . إذن، فهو - في رأيها - ليس عملاً ،

يستحق المجابهة و التحدي .

المستوى الرابع : إنه لا دليل على بقاء الحالة العالمية على ما هي عليه

الآن . واستمرارها إلى وقت النداء والظهور . بل هناك ما يدل على زوال الحضارات والقوى الكبرى عن المسرحالعالمي قبل ذلك ... وسنبحثه في

فصل قادم .

ومعه لن يكون المهدي (ع) أعداء رئيسيون في أي مكان من العالم ،

بحيث يمكنهم القضاء على حركته في مهدها . حتى لو سمعوا النداء و فهموه.

المستوى الخامس : إنه مع التجاوز عن جميع المستويات السابقة ، يصلح

ما قلناه في خلال الحديث عن أخبار النداء جواباً في صددنا هذا ، وهو أن

ظهور المهدي (ع) الذي يتأخر أكثر من مئة يوم . سوف لن يتعين أنطباقه

على النداء إلا بعد أن يقوي المهدي (ع) ويشتد ساعده وتكون حركته قابلة للصمود ضمد أي اعتداء .

الأمر الثاني : - من الناحية الرابعة - : إنه قد يخطر في الذهن أن تحديد

زمان الظهور بالنحو الذي سمعناه ينافي مع الإنتظار المستمر للمهدي (ع)

و أنه من المتوقع ظهوره في أي يوم وفي أية لحظة .

إذ مع التحديد بيوم عاشوراء ، سوف لن يكون ظهوره في سائر أيام

السنة مترقباً ، كما أنه مع التحديد بالسنوات الوتر : إحدى أو ثلاث أو خمس...

ص: 302

لن يكون ترقب ظهوره في السنوات المزدوجة : اثنان أو أربع أو ست

موجوداً . وهذا بخلاف ما لو كان التحديد واقعياً غير معروف لأحد ، فإن

توقع الظهور يبقى لدى الناس موجوداً ، وبذلك نحرز فوائد الانتظار التي

عرفناها في التاريخ السابق (1)

ويمكن الجواب على ذلك ، ضمن عدة مستويات :

المستوى الأول : إن كل هذه التحدیدات لا تكاد تكون معروفة لدى

عامة الناس .... ومن هنا نجد منهم من يحدد بتحدیدات أخرى لم نجدها في الأخبار - في حدود اطلاعنا - كتحديد الظهور في ليلة القدر أو تحديده بين شهري جمادى الثانية ورجب . وإذا لم يكن هذا التحديد معروفاً كان الجاهل به منتظراً للظهور على الدوام .

غير أن هذا المستوى لا يكاد يكون تاماً ، إذ بمقتضاه يكون الانتظار منتفياً

بالنسبة إلى من يعلم بهذه المواعيد ، ممن يقرأ هذا الكتاب أو غيره .

المستوى الثاني : ان هذه المواعيد : وان ثبتت بأدلة قابلة للإثبات التاريخي ،

أو كان بعضها كذلك ... إلا أن الإثبات التاريخي شيء واليقين شيء آخر . فمثلاً ان قول ابن الأثير في كتابه ( الكامل ) كان للإثبات التاريخي ولكنه

ليس بيقيني الصدق على أي حال. ونحن لم نسمع هذه الأخبار من المعصومين (ع)

أنفسهم ، بل من الرواة الناقلين عنهم ، فلا تعدو الرواية أن تكون

ظنية ولكنها قابلة للإثبات .

فإذا كانت هذه التحديدات والمواعيد ظنية ، كان هناك احتمال آخر

ص: 303


1- ص 438 وما بعدها .

يقابله . فمثلا : اننا نظن - طبقاً الأخبار - أن المهدي (ع) سيظهر في يوم

عاشوراء ، ونحتمل احتمالا اقل بأنه سيظهر في يوم آخر من السنة. ومعه يكون الانتظار خلال كل أيام السنة ثابتاً .

المستوى الثالث : ان ظهوره في أي يوم آخر أو أي عام افرادياً كان رقمه

أم زوجياً . و بالتالي ظهوره في أي لحظة مهما كانت ... ليس فقط مجرد احتمال . بل هناك ما يدل عليه من الأخبار . كما سمعنا في التاريخ السابق .

كقوله : مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلا اللّه عز وجل . لا تأتيكم إلا بغتة. وقول المهدي الذي سمعناه هناك. في رسالته للشيخ المفيد (1)فان أمرنا بغتة فجأة.

إذن . فهناك ما يكفي للاثبات على بعض التحاديدات ، كما ان هناك ما يكفي لاثبات الاطلاق و صح التعبير ، ولا تعا ض بينهما ، لأن ظهور المهدي (ع)

في بعض هذه المواعيد المحددة . مصداق من ذلك الاطلاق على أي حال .

نعم ، نكون أدلة الإطلاق دو جہت نفسياً و عقاياً الانتظار الدائم .

المستوى الرابع : اننا لو فرضنا أن الأخبار الدالة على التحديد قطعية الصدور

عن المعصومین علیهم السلام، فان مضمونها يبقى محتملا غير قطعي ، لاحتمال نسخة و حصول البداء فيه... بالمعنى الذي قام الدليل على امكانه على اللّه عز وجل وخاصة بعد أن نسمع من الأخبار أن ما هو محتومم، يمكن أن يقع فيه البداء بالرغم من كونه محتوماً .

فالسفياني - مثلا - الذي ورد في عدد من الروايات أنه من المحتوم، وفي

بعضها التمسم على ذناث ... كالذي رواه النعماني في الغيبة (2)بسنده عن

عبد الملك بن أعين ، قال :

ص: 304


1- انظر تاریخ الغیبة الکبری، ص27 و ما بعدها
2- ص 161.

كنت عند أبي جعفر عليه السلام

فجرى ذكر القائم عليه السلام .

فقلت له : أرجو أن يكون عاجلا ،

ولا يكون سفياني . فقال : لا واللّه !

انه لمن المحتوم الذي لا بد منه ويشبهه

الخبر الذي يليه .

بالرغم من ذلك، فقد ورد فيه احتمال البداء ، و من ثم احتمال أن لا يوجد كالخبر الذي ورد عن داود بن القاسم الجعفري ، قال : كنا عند أبي جعفر محمد ابن علي الرضا عليه السلام، فجرى ذكر السفياني وما جاء في الرواية من أن

أمره من المحتوم ، فقلت لأبي جعفر عليه السلام : هل يبدو للّه في المحتوم ؟

قال : نعم . قلنا له : فنخاف أن يبدو

اللّه في القائم ! . فقال : إن القائم

من الميعاد ، والله لا يخلف الميعاد .(1)

فاذا كان البداء يمكن أن يحصل في المحتوم الذي لا بد منه ، فكيف حال

التحدیدات غير المحتومة ؟! ...

واذا كان احتمال البداء موجوداً، لم يبق هناك موعد معین معروف لدى

20

ص: 305


1- المصدر ص 162 . و اعلم أن احتمال البداء في السفياني و غيره لا يعني اسقاطه عن نظر الاعتبار و الالتزام بعدمه . فان معنی احتمال البناء هو كون السفياني - مثلا - داخلا في التخطيط العام غير أنه يحتمل طروء بعض التبدل على التخطيط . فمن زاوية كونه دخيلا لا معنى لاسقاطه عن نظر الاعتبار . أقول: وهذا التبدل انما يحصل في بعض التطبيقات لا في الأسس العامة للتخطيط بطبيعة الحال .

الناس لا يقبل الخلاف و التبديل ، و معه يبقى الانتظار الدائم ساري المفعول.. طبقاً لروايات ( الاطلاق ) التي سمعناها .

الأمر الثالث : هل تكون هذه الأخبار الدالة على تعيين اليوم والشهر

مشمولة لأخبار في التوقيت ولعن ابوقاتين. فان كانت كذلك كانت واجبة التكذيب لا محالة .

الا أن هذا الشمول غير صحيح، ولكل من شكلي الأخبار میدانه الخاص

به ، من دون أن يكذب أحدهما الآخر .

وأهم دليل على ذلك ، وجود قرائن داخلية في نفس الأخبار النافية للتوقيت تجعلها نصاً في أن مركز التكذيب هو رقم السنة فقط، دون اسم الشهر ورقم اليوم و اسمه من الأسبوع ، كالخبر الذي أخرجه النعماني (1)عن أبي حمزة الثمالي

قال : سمعت أبا جعفر الباقر عليه السلام يقول : يا ثابت ! إن اللّه كان قد وقت هذا الأمر في سنة السبعين . فلما قتل الحسين عليه السلام اشتد غضب اللّه فأخره إلى أربعين ومائة . فلما حدثنا كم بذلك أن عتم وكشفم قناع الستر . فلم يعل

اللّه لهذا الأمر بعد ذلك عندنا وقتاً . يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب . قال أبو حمزة : فحدثت بذلك أبو عبد اللّه الصادق عليه السلام ، فقال :

قد كان ذلك .

وهناك بعض الأخبار الأخرى بهذا المضمون ... وهي واضحة في أن

ما ألغاه اللّه تعالى وأمر بتكذيبه انما هو رقم السنة ، و هو لا يشمل الخصائص الأخرى

غير أن هذه الأخبار تحتوي، من بعض الجهات الأخرى ، على بعض الاستفهامات

التي لا مجال الآن إلى عرضها والجواب عليها . ولعلنا نتوفر على ذلك في محل آخر من هذه الموسوعة .

ص: 306


1- انظر الغيبة الكبرى للنعماني ص 157.

الفصل الثالث : خطبته الأولى بين الركن والمقام وبيعته

وينبغي أن نتكلم في هذا الفصل عن عدة جهات :

الجهة الأولى : في ظهوره بين الركن والمقام

الجهة الأولى : في الأخبار الدالة على أن المهادي (ع) يظهر أول ما يظهر

بين الركن والمقام ، وقد وردت بذلك الأخبار من الفرينين :

أخرج أبو داود (1)عن أم سلمة زوج النبي (ص) عن النبي (ص) قال :

يكون اختلاف عند موت خليفة.

فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً

إلى مكة ، فيأتيه ناس من أهل مكة

فيخرجونه وهو كاره . فيبايعونه بين

الركن والمقام . ويبعث إليه بعث من

أهل الشام ، فيخسف بهم بالبيداء

بين مكة والمدينة . فاذا رأى الناس

ذلك أتاه ابدال الشام وعصائب أهل

العراق . فيبايعونه [بين الركن والمقام]

... الحديث .

ص: 307


1- انظر سنن أبي داود ص 423، ج 2.

وأخرج السيوطي في الحاوي (1)عن الطبراني في الأوسط والحاكم عن أم سلمة . قالت : قال رسول اللّه (ص) :

يبايع لرجل بين الركن والمقام

عدة أهل بدر ، فيأتيه عصائب أهل

العراق وابدال أهل الشام ، فيغزوہ

جيش من أهل الشام حتى اذا كانوا

بالبيداء خسف بهم .

وأخرج أيضاً (2)عن نعیم بن حماد عن قتادة ، قال : قال رسول اللّه (ص):

يخرج المهدي من المدينة إلى مكة ،

فيستخرجه الناس من بينهم ، فيبايعونه

بين الركن والمقام ، وهو كاره .

وكذلك الخبر الذي قبله .

وأخرج المفيد في الارشاد (3)عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه الصادق عليه

السلام ، في حديث يقول فيه :

لكأني في يوم السبت العاشر من

المحرم قائماً بين الركن والمقام... الحديث

وروى الشيخ في الغيبة (4) عن علي بن مهزيار عن أبي جعفر الباقر (ع) قال :

ص: 308


1- الحاوي ج 2 ص 129 .
2- المصدر ص 152 .
3- ص 341 .
4- ص 274 .

قال أبو جعفر (ع) : كأني

بالقائم يوم عاشوراء ، يوم السبت ،

قائماً بين الركن والمقام ... الحديث.

وأخرج النعماني في الغيبة (1)عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع) ، في

حديث يقول فيه :

فاذا تحرك متحرك ( متحركنا )

فاسعوا إليه ولو حبوا . واللّه لكأني

أنظر إليه بين الركن والمقام... الحديث

إلى أخبار أخرى كثيرة تدل على ذلك .

الجهة الثانية : في سرد الأخبار الدالة على خطبته التي يلقيها عليه السلام

في موقفه ذاك بين الركن والمقام .

أخرج النعماني في الغيبة (2)باسناده عن جابر بن یزید الجعفي ، قال :

قال أبو جعفر محمد بن علي

الباقر عليه السلام - في حديث طويل - :

والقائم يومئذ بمكة، قد اسند ظهره

إلى البيت الحرام مستجيرة، فينادی :

یا ایها الناس ، انا نستنصركم اللّه ومن

( فمن) أجابنا من الناس ، وأنا ( فانا )

ص: 309


1- الحاوي ج 2 ص 102.
2- ص 150 .

الجهة الثانية : اخبار خطبته

اهل بیت نبيكم محمد . ونحن أولى

الناس باللّه و بمحمد صلى اللّه عليه و آله .

فمن حاجي في آدم ، فأنا أولى الناس

بآدم . ومن حاجني في نوح ، فأنا

أولى الناس بنوح . ومن حاجني في

ابراهيم ، فأنا أولى الناس بابر اهيم.

ومن حاجني في محمد فأنا أولى الناس

بمحمد . ومن حاجني بالنبيين ، فأنا

أولى الناس بالنبيين . أليس اللّه يقول

في محكم كتابه : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى

آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ

عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ، ذُرِّيَّةً

بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ

عَلِيمٌ (1) فأنا بقية من آدم وذخيرة

من نوح ومصطفی من ابراهيم وصفوة

من محمد صلى اللّه عليهم أجمعين .

ألا ومن حاجني في كتاب اللّه ،

فأنا أولى الناس بكتاب اللّه . ألا ومن

حاجني في سنة رسول اللّه ، فأنا أولى

الناس بسنة رسول اللّه .

ص: 310


1- آل عمران 33-34.

فانشد اللّه من سمع كلامي اليوم

لما بلغ منكم الشاهد الغائب . وأسألكم

بحق اللّه و بحق رسوله وبحقي . فان لي

عليكم حق القربي من رسول اللّه ،

الا أعنتمونا ومنعتمونا ممن يظلمنا .

فقد أخفنا وظلمنا وطردنا من ديارنا

وأبنائنا ، وبغي علينا ودفعنا عن حقنا،

فافترى أهل الباطل علينا . فاللّه اللّه

فينا لا تخذلونا وانصرونا بنصركم

اللّه ... الحديث .

وأخرج المجلسي في البحار (1) بالاسناد عن الفضل بن محبوب رفعه إلى

أبي جعفر (ع) قال :

- في حديث - والقائم يومئذ

بمكة عند الكعبة مستجيراً بها يقول

أنا ولي اللّه ، أنا أولى باللّه وبمحمد

(ص) . فمن حاجني في آدم فأنا

أولى بآدم ، ومن حاجني في نوح فأنا

أولى الناس بنوح . ومن حاجني في

ابراهيم فأنا أولى الناس بابر اهيم .

ومن حاجني في النبيين فأنا أولى الناس

بالنبيين . أن اللّه تعالى يقول : إنَّ

ص: 311


1- ج13 ص 179 .

اِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ

إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى

الْعَالَمِينَ ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ

بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.

فأنا بقية آدم وذخيرة نوح و مصطفی

ابراهيم وصفوة محمد . ألا ومن

حاجي بكتاب اللّه فأنا أولى بكتاب

اللّه . ومن حاجني في سنة رسول

اللّه (ص) فأنا أولى الناس بسنة رسول

اللّه وسيرته .

وأنشد اللّه من سمع كلامي ،

لما يبلغ الشاهد الغائب .

وأخرج الطبر سي في أعلام الوری (1)عن المفضل بن عمر في حديث قال :

وسمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول :

إذا أذن اللّه تعالى للقائم بالخروج .

صعد المنبر ، فدعا الناس إلى اللّه عز

وجل وخوفهم باللّه ، ودعاهم إلى

حقه ، على أن يسير فيهم بسيرة

رسول اللّه (ص) ويعمل فيهم بعمله

. ... الحديث .

ص: 312


1- إعلام الوری بأعلام الهدی ص 431 .

وأخرج في البحار (1)عن علي بن الحسين عليهما السلام. في حديث – قال :

فيقوم هو بنفسه ( يعني بعد

مقتل النفس الزكية ) فيقول : أيها

الناس ، أنا فلان بن فلان . أنا ابن

نبي اللّه . ادعوكم إلى ما دعاكم إليه

نبي اللّه . فيقومون إليه ليقتلوه ، فيقوم

ثلثمائة أو نيف على الثلثمائة فيمنعونه.

وأخرج أيضا (2)عن أبي بصير عن أبي جعفر الباقر (ع):

انه يأتي المسجد الحرام فيصلي

فيه عند مقام ابراهيم أربع ركعات

ویسند ظهره إلى الحجر الأسود : ثم

بحمد اللّه ويثني عليه ويذكر النبي (ص)

ويصلي عليه ، ويتكلم بكلام لم يتكلم

به أحد من الناس .. .

الجهة الثالثة : نقاط في الاخبار

الجهة الثالثة : في الالتفات إلى نقاط من الأخبار السابقة :

النقطة الأولى : ان الأخبار الدالة على وقوف المهدي (ع) في أول ظهوره

بين الركن والمقام قابلة للاثبات التاريخي . لكثرتها و تظافرها .

وأما الأخبار الدالة على خطبته ، فلا شك في أنها بمجموعها متضافرة ، غير

ص: 313


1- ص 180 ج13 .
2- الصدر و الصفحة .

أن هذا المجموع لا يثبت أكثر من كونه عليه السلام يقف خطيباً في أول ظهوره

و أما مضمون الخطبة فلن نستطيع أن نتعرف عليه إلا بعد التوثق من صحة

الاسناد للأخبار الناقلة لها واحداً واحداً ... أو أن يوجد مضمون واحد ،

مما يقوله (ع) في الخطبة مكرراً في عدة روایات ، ليكون قابلا للاثبات التاريخي.

أما الخبر الأول الذي نقلناه للخطبة عن النعماني فهو يرويه عن أحمد بن

محمد بن سعيد قال : حدثنا محمد بن الفضل وسعدان بن اسحاق بن سعيد وأحمد

ابن الحسين بن عبد الملك ومحمد بن أحمد بن الحسن جميعاً عن الحسن بن

محبوب ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن ابراهيم عن أبيه : قال :

وحدثني محمد بن يحيى بن عمران قال حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى . قال

وحدثنا علي بن محمد وغيره عن سهل بن زیاد جميعاً عن الحسن . من محبوب

[قال ] و حدثنا عبد الواحد بن عبد اللّه الموصلي عن أبي علي أحمد بن محمد

ابن [ أبي] ياسر [ناشر] عن الحسن بن محبوب عن عمر بن أبي المقدام عن

جابر بن یزید الجعفي .

فأنت ترى أن للشيخ النعماني ثلاث طرق من الرواة إلى الحسن بن محبوب :

الطريق الأول : أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثنا محمد بن الفضل وسعدان

ابن اسحاق بن سعيد و أحمد بن الحسين بن عبد الملك و محمد بن أحمد بن الحسن جميعاً عن الحسن بن محبوب .

الطريق الثاني : ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن ابراهیم عن أبيه ( ابراهيم بن هاشم) . قال وحدثني محمد بن يحيى بن عمران قال

حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى . قال : وحدثنا علي بن محمد وغيره عن سهل

ابن زیاد جميعاً عن الحسن بن محبوب .

ص: 314

الطريق الثالث : الكليني ( أو أحمد بن محمد بن سعيد ) قال : حدثنا

عبد الواحد بن عبد اللّه الموصلي عن أبي علي أحمد بن محمد بن[ أبي ] یاسر

[ناشر] عن الحسن بن محبوب .

و الحسن بن محبوب بدوره يروي عن عمر بن أبي المقدام عن جابر بن

بزبد الجعفي عن الإمام الباقر عليه السلام .

والطرق الثلاثة كافية - باعتبار تعددها - الاثبات التاريخي. و أما الحسن

ابن محبوب فهو من العلماء الثقات الأجلاء ، وأما عمر بن المقدام فقد مدح ولم

يطعن فيه طاعن . وأما جابر بن يزيد فهو من خاصة أصحاب الإمامين الباقر

والصادق عليهما السلام و ثقه بعض و نسبه إلى التخليط عند شيخوخته بعض

آخرون . والملاحظ أن شيخوخته معاصرة للإمام الصادق (ع) في حين أن الخبر مروي عن الإمام الباقر (ع) فيكون مما رواه جابر قبل شیخوخته و من

ثم قبل أن يكون مخلطاً . ومعه ففي الإمكان أن يكون قابلا للاثبات التاريخي.

وأما الخبر الثاني الذي نقلناه من أخبار الخطبة عن البحار ، فقد رواه السيد

علي بن عبد الحيمد باسناده إلى كتاب الفضل بن شاذان عن ابن محبوب رفعه

إلى أبي جعفر عليه السلام . فهو خبر مرفوع يعني أن فيه واسطة ساقطة مجهولة

کالمرسل ... فلا يكون قابلا للاثبات التاريخي .

نعم ، يتحد هذا الخبر في كثير من مضامينه مع الخبر السابق ، فيكون

قابلا للاثبات من هذه الناحية ... وكذلك الأخبار الأخرى التي تنقل - في

الواقع - عدداً من مضامين الخطبة فتكون قابلة للاثبات بهذا المقدار ... فلا

حاجة إلى استعراض أسانيدها ورواتها.

النقطة الثانية : يقف الإمام المهدي عليه السلام في أول ظهوره قريباً من

ص: 315

الكعبة المشرفة مستديراً لها ومواجهاً للجماهير لكي يقول فيهم كلمته الأولى.

ويكون وقوفه (بين الركن والمقام ) والركن واحد الأركان ، و أركان الكعبة

المشرفة زواياها الأربعة التي هي ملتقى جوانبها الأربعة . وقد سمي كل ركن

باسم البلد الذي يتجه إليه عند الصلاة . فالشمالي هو الركن العراقي والجنوبي هو

الركن اليماني والغربي هو الركن الشامي. و أما الشرقي فيسمى بالركن الأسود لأنه

يحتوي على ( الحجر الأسود ) الذي منه مبدأ الطواف حول الكعبة .

وأما المقام ، فهو مقام ابراهيم الخليل عليه السلام : وهو أرض مربعة

صغيرة نسبياً ذات بنية جميلة تبعد عن الكعبة من جهة الشرق عدة أمتار .

واذا قيل ( الركن ) بدون وصف ، فهم منه الركن الأسود بطبيعة الحال

باعتبار أهميته لاحتوائه على الحجر الأسود و ابتداء الطواف منه ، ويكون هو

على يسار الواقف مستقبلا للكعبة ومستديراً مقام ابراهيم ، ويكون إلى يمين

الواقف الركن العراقي . وتقع باب الكعبة إلى نفس هذه الجهة الشرقية قريباً

من الركن الأسود .

ومن هنا نستطيع أن نقول أن باب الكعبة تقع ( بين الركن والمقام ) لأن

الركن الأسود على يمينها بحوالي نصف متر من جدار الكعبة و المقام عن يسا ها ،

وان كان بعيداً عن الكعبة بعدة أمتار . والأرض التي أمام باب الكعبة حتى تصل

إلى مقام ابراهیم واقعة ( بين الركن والمقام ) بطبيعة الحال .

ومن هنا يكون وقوف الإمام المهدي (ع ) بين الركن والمقام مستديراً الكعبة

... يعني مستدبراً الجدار الذي فيه باب الكعبة جاعلا الحجر الأسود عن يمينه

و مقام ابراهيم عن يساره ، ومواجهاً للجماهير ليقول كلمته الأولى .

ص: 316

وقد سمعنا من بعض الروايات أنه يسند ظهره إلى البيت الحرام ، يعني

الكعبة المشرفة وأنه يسند ظهره إلى الحجر الأسود . فاذا فهمنا ذلك مع الحفاظ على كون و قوفه ( بين الركن والمقام ) ، فيكون من اللازم أن نتصوره مستديراً

جدار الكعبة الذي بين الباب و الركن الأسود ، و هي مسافة نصف متر أو

تزيد قايلا ، فيصدق أنه واقف بين الركن والمقام ، كما يصدق أنه مسند ظهره

إلى الكعبة ، وإلى الحجر الأسود أيضاً ، لأن الحجر سيكون قريباً جداً منه

عن يمينه إلى جهة ظهره .

النقطة الثالثة : في ارتباط خطبة المهدي (ع) بالتخطيط العام، وتعبيرها

عن نتائجه .

ان هذه الخطبة المباركة بصفتها واقعة في آخر التخطيط العام السابق على

الظهور ومعبرة عن نتائجه ، ومن هنا كانت لوحة كاملة عما ينبغي أن بعلن

ساعتئذ من نتائج ذلك التخطيط . ويظهر ذلك من عدة زوايا :

الزاوية الأولى : ما عرفناه من التخطيط من أن ( اليوم الموعود) انما هو

نتيجة لجهود البشرية منذ أول وجودها إلى زمن وجوده ، و ان خط الأنبياء

والأولياء والصالحين والشهداء والمصلحين ، انما هو واقع في طريقه والتمهيد

إليه بشكل قريب وبعيد ... وسيأتي في الكتاب الآتي من الموسوعة ما يزيد ذلك برهاناً .

واذا كان الأمر كذلك . وكان المهدي (ع) هو قائد اليوم الموعود و مؤسس

العدل الكامل في العالم : اذن فمن حقه أن يقول : فانا بقية آدم و خيرة نوح

ومصطفى ابراهيم وصفوة محمد .

الزاوية الثانية : ما عرفناه في التخطيط من تركيزه بشكل خاص على تربية

ص: 317

الجانب القيادي في شخص القائد المذخور للثورة العالمية ، وقد بر هنا على ذلك بكل تفصيل في الكتاب السابق .(1) وها قد أنتج هذا التخطيط نتيجته، وها

هو القائد الكامل يواجه الناس ليبدأ بممارسة قيادته التي ذخر من أجلها .

فمن المنطقي . وهو خير البشر في زمانه ، بل خير البشر بعد صدر

الإسلام إلى عصر ظهوره . من المنطقي أن يكون أولى من جميع الناس

الأنبياء و المرسلين بما فيهم نبي الإسلام (ص) . فهو أقرب إليهم علماً و عملا

و عادلا من أي انسان آخر .

ومن هنا نسمعه يقول :

فمن حاجني في آدم فأنا أولى الناس بآدم .

ومن حاجني بنوح فأنا أولى الناس بنوح .

ومن حاجني في ابراهيم فأنا أولى الناس بابراهيم .

ومن حاجني في محمد فأنا أولى الناس محمد .

و من حاجني في النبيين فأنا أولى الناس بالنبيين .

الزاوية الثالثة : ما عرفناه في التخطيط العام . من إنتاج التمحيص الساري

مفعول خلاله ، لاخراف وضلال الأعم الأغلب من الناس و بذلك تمتلىء

الأرض جوراً و ظلماً ، كما ورد في الخبر المتواتر عن النبي (ص) . ويكون

تطرف المتطرفين منهم شديداً . كما يكون تطرف المؤمنين إلى جانب الإيمان

شديداً ، وسمعنا في التاريخ السانتی (2) ما تفعله الأكثرية المنحرفة بالأقلية

المؤمنة من مظالم و شرور .

ص: 318


1- انظر ص 497وما بعدها إلى عدة صفحات .
2- انظر مثلا ص 266 وما بعدها أيضا .

وهنا يقول الإمام المهدي (ع ) في خطبته : فقد أخفنا وظلمنا وطردنا

من ديارنا وابنائنا وبغي علينا ودفعنا عن حقنا ، فافترى أهل الباطل علينا ...

النقطة الرابعة : تحتوي الخطبة المباركة أيضاً ، بعض النقاط من تخطيطات

المستقبل الذي تندرج خصائصه في التخطيط العام لما بعد الظهور .

ويمكن الالتفات إلى ذلك ضمن عدة زوايا أيضاً :

الزاوية الأولى : وجوب طاعة المهدي (ع) وبذل النصر له من أجل

تطبيق العدل الكامل في العالم كله . حيث نسمع المهدي (ع) يقول : فاللّه اللّه فينا ، لا تخذلونا و انصرونا ينصركم اللّه .

وسيكون أول المبادرين إلى تطبيق هذا الأمر ، أولئك

الصفوة المخلصين

الممحصين ، ذوو العدد الكافي لغزو العالم بالعدل ، وسيأتي تفصيل ذلك

غير بعيد .

الزاوية الثانية : إن المهدي (ع) يعد الناس في خطبته بتطبيق الأطروحة

العادلة الكاملة في دولته العالمية « أن يسير فيهم بسيرة رسول اللّه ( ص ) ويعمل

فيهم بعلمه » كما سمعنا من إحدى الروايات . وكما سبق أن بر هنا على ذلك في فصل سابق .

ونعني بسيرة رسول اللّه (ص) : القواعد والمفاهيم العامة التي كان ينطلق منها النبي (ص) إلى أعماله . لا السيرة بكل خصائصها وتفاصيلها

بطبيعة الحال ، لوضوح اختلاف المصالح الزمنية بين العصرين بكثير ...

بل سيأتي في بعض الروايات وجود بعض الإختلافات في تطبيقات الإمام المهدي (ع) عن تطبيقات رسول اللّه ( ص ) . فالمهدي (ع ) بدرك الهارب

ص: 319

و يجهز على الجريح ويقتل المنحرف و إن كان مسلماً وإن كان على نفس مذهبه

الإسلامي ، ويقضي بعلمه لا بالبينة -- كما في بعض الأخبار . وكل ذلك

مما لم يعمله رسول اللّه (ص ) و هذه الأمور ونحوها لو ثبتت تعتبر تخصيصاً

و استثناء من المفهوم الذي بينته الخطبة ... وهو أنه يسير بسيرة النبي (ص)

على تفاصيلهما.

الزاوية الثالثة : تكفله عليه السلام بتطبيق و تفسير كتاب اللّه وسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ... من حيث أنه أولى الناس بهما وأشاد هم اطلاعاً

على تفاصيلهما وقدرة على فهم مغاز میهما و مرا میهما .

النقطة الخامسة : دلت رواية مما سبق أن المهدي (ع ) يصعد المنبر

و يخطب . فإن كان المراد به منبراً يوضع له وقتياً في المكان المشار إليه سابقاً ،

فهو . وإن كان المراد به المنبر المبني فعلاً في المسجد الحرام، فهو أبعد عن

الكعبة المشرفة من مقام ابراهيم ، ومن ثم لا يصدق الوقوف عليه أنه وقوف بين الركن والمقام . ومن ثم تكون هذه الرواية معارضة الروايات الدالة على وقوفه

بين الركن والمقام .

ومعه تكون هذه الروايات متقدمة على تلك الرواية ، فينتج الالتزام بأنه

عليه السلام لا يصعد المنبر الموجود حالياً ، بل يقف بين الركن والمقام ، ولو فوق منبر آخر .

النقطة السادسة : دلت رواية مما سبق أن المهدي (ع) يبدأ كلامه بتقديم

نفسه إلى الناس ، بذكر اسمه الحقيقي و أسم أبيه . بينما سكتت الروايات الأخرى عن ذلك ، حيث يبدو أنه يهمل ذلك تماماً .

ص: 320

وفي كل من هذين الموقفين نقطة قوة ونقطة ضعف محتملة .

فإنه عليه السلام إن أهمل ذكر اسمه للناس . كما عليه أكثر الروایات:

كانت هناك نقطة قوة و نقطة ضعف :

نقطة القوة : أن فيه حماية عن أعدائه في وقت حاجته إلى الحماية في أول

حركته ، فإن الأعداء إن فهموا أنه المهدي الموعود. فإنهم سوف يقضون على

حرکته بأسرع وقت . بخلاف ما لو لم يظهر للعالم بصفته المهدي الموعود .

نقطة الضعف : إن الناس سوف لن يفهموا أنه هو المهدي بالمرة ،

و من ثم سوف لن ينصره المؤمنون ولن يسمع لكلامه الناس .

فلو انطلقنا من ( أطروحة خفاء العنوان ) التي عرفناها ، كان معني إخفاء

اسمه أنه لا زال في غيبته ، وأنه يخاطب الناس ب ( شخصيته الثانوية ) لا

بشخصيته الحقيقية . فإنها هي الشخصية الوحيدة التي يعرفها الناس منه .

وهذا لا معنى له بالنسبة إلى المهدي (ع) منذ ذلك الحين .

و أما إذا اختار عليه السلام أن يذكر اسمه للناس ، فهذا الموقف يحتوي

- في النظر - على نقطة قوة و نقطة ضعف مقابلتين الذينك النقطتين :

نقطة القوة : أنه عليه السلام حين يكشف شخصيته الحقيقية للناس ، برفع بذلك غيبته التي آن له رفعها وحرم عليه استمرارها ويصرح بانتساب

الخطبة وطلب النصرة إليه بتلك الصفة .

نقطة الضعف : ان كشفه لحقيقته سوف يؤلب عليه الأعداء ، في وقت

هو شديد الحاجة فيه إلى الحماية والمنعة .

ص: 321

ويمكن أن نفهم من هذه الروايات ( أطروحة ) نحصل بها على كلتا نقطتي القوة . وندفع بها كلتا نقطّي الضعف : وهي أنه يذكر اسمه الحقيقي

واسم أبيه ، من دون الإلماع إلى أنه هو المهدي الموعود .

فإنه بذلك يرفع غيبته ويكشف شخصيته الحقيقية ، ويصرح

بانتساب

الخطبة وطلب النصرة إليه بتلك الصفة . و بذلك يحرز نقطة القوة الأخيرة .

وفي نفس الوقت يحرز حمايته من الأعداء المتربصين له بصفته مهدياً . يملأ

الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً . فيحرز نقطة القوة الأولى وبدفع

نقطة الضعف الثانية.

وأما نقطة القوة الأولى : فلن تحصل بصراحة وشمول ، وإنما تحصل بالمقدار الذي ينبغي لها أن تحصل . ان المؤمنين الممحصين الذين يمثلون العدد

الكافي لغزو العالم وكذلك من كان في الدرجة الثانية من الإخلاص من الدرجات الأربعة التي عرفناها في التاريخ السابق (1)كلهم سيعرفون أن هذا الشخص

هو المهدي الموعود . ومن ثم سيؤيدونه تأييداً كاملاً . وأما الناس الآخرون

من أعداء متربصين وأشخاص محايدين من مسلمين وغيرهم ، وحتى عدد

كبير ممن على المذهب الإسلامي الذي يتبناه المهدي (ع ) . فسوف لن يعرفوا هذه الحقيقة الكبرى ، إلا في الحدود التي تقتضيها المصلحة و يخطط له

المهدي (ع ) نفسه .

والروايات لم تدل على أكثر من ذلك ، وأن المهدي بسمي نفسه و أباه ،

تماماً كما فعل ( النداء ) من قبل ... وليس في أي منهما تصريح بأنه المهدي الموعود .

ص: 322


1- انظر ص 248 وما بعدها.

النقطة السابعة : في مدى ارتباط الخطبة بالتصور الإمامي للمهدي.

من الواضح أن الوقوف بين الركن والمقام وإلقاء الخطبة على الجماهير غير خاص بالمهدي (ع) بالتصور الإمامي ، بل يشمل المهدي بالتصور الآخر . بل يشمل أي إنسان ذو قدرة وجدارة ، وإنما المهم من ذلك مضمون الخطبة أولا ، و نتائجها ثانياً .

أما النتائج ، وأهمها السيطرة على العالم كله بالعدل ، وتأسيس الدولة العالمية العادلة :.. فهذا ما سيكون صفة للمهدي الواقعي في التخطيط الإلهي العام أيا كان !!:.

ويهمنا الآن تطبيق مضامين الخطبة على التصور الآخر للمهدي، بعد

العلم على أنها منطبقة مع التصور الإنامي تماماً .

ان المهدي - بهذا التصور - يستطيع أن يصرح بعدة أمور من الخطبة :

1- أن يدعو الناس إلى اللّه و بخوفهم به .

2- أن يقسم عليهم بحق القربين من رسول اللّه (ص) ... فإنه على

أي حال من ولد فاطمة ومن أولاد الحسين عليهما السلام .

3- أن يشير إلى الظلم والمطاردة والتنكيل الذي وقع على المؤمنين

والمخلصين خلال عصر التمحيص والإمتحان السابق على الظهور.

4- أن يطلب من الناس نصرته و تأييده ، توخياً لنصرة الحق ، باعتباره

الممثل الرئيسي له .

5- أن يعدهم أنه إذا تم له الإستيلاء على منطقة أو أكثر و استبت له

ص: 323

|الأمور . أن يطبق القانون الإسلامي العادل المتمثل بكتاب اللّه الكريم وسنة رسوله العظيم .

ولكن سوف لن يكون المراد من كتاب اللّه وسنة رسوله ، إلا المستوى الذي وصل إليه الفكر الإسلامي إلى ذلك الحين ، نتيجة

للتخطيط السابق . ولن

يستطيع هذا المهدي أن يسير خطوات مهمة في تربية هذا الفكر و إعطاء الفهم

المتكامل للكتاب والسنة.

إن المهدي - طبقاً لهذا التصور - لن يكون - كما قلنا في التاريخ السابق (1)أكثر من فرد اعتيادي بلغ في الإخلاص والعلم أقصى ما اقتضاه التخطيط

السابق ، وله من القابليات النفسية ما يتوقع بها لنفسه أن يقوم بالتطبيق الإسلامي .

ومثل هذا الشخص لا يمكنه بأي حال أن يقوم بقيادة الدولة العالمية . كما سبق

أن بر هنا .

كما لا يستطيع أن يقدم للكتاب والسنة فهماً أعمق من المستوي لدي وصل إليه الكفر الإسلامي في عصره . ولن يقدم لهما الفهم الذي له أهلية ممارسة

الحكم العادل الكامل في العالم كله .

ومن هنا يتعذر عليه أن يقول عدة مضامين و اردة في الخطبة ، وضرورية

الثبوت للمهدي الموعود ليكون هو القائد العالمي المنشود فهو :

1- لن يستطيع أن يدعي أنه أولى بكتاب اللّه وسنة رسوله من أي شخص آخر ... حتى من قادة الفكر الإسلامي الذين تقدموا به و او صلوه

إلى المستوى المعاصر له .

ص: 324


1- انظر س 248 وما بعدها .

وإنما يدعي ذلك . من له الفهم الكامل لهذين المصدرين الإسلاميين المقدسين ، بالرواية عن النبي ( ص ) وقادة الإسلام الأوائل . بالشكل الذي

يكفل سعادة البشرية العاجل وتربيتها العليا في الآجل . وباختصار : أن يتقدم

بالفكر الإسلامي بخطوات جبارة لا تقاس بأي مفكر آخر ... وسنشير إلى ما يقدمه المهدي (ع) في هذا المجال .

2 - وهو ليس بقية من آدم وذخيرة من نوح و مصطفی من إبراهيم

وصفوة من محمد صلى اللّه عليهم أجمعين .

وكونه من المخلصين الكاملين لا يبرر هذه النسبة إلا كما يبررها في أي

شخص آخر متصف بهذا المقدار من الإيمان والإخلاص ... وهم يومئذ عدد غير قليل ... كما عرفنا في نتائج التخطيط .

3- وهو ليس أولى الناس بالنبيين ... فإن من يكون كذلك إنما

هو القائد المذخور الذي يكال جهود كل الأنبياء بالنجاح في تطبيق العدل الكامل في العالم ... وأما الذي يتصدى لذلك من دون أن يحرز نجاح حركته

أو لا تكون له قابلية القيادة العالمية ، كما قلنا في التاريخ السابق (1)، فلن يمكن أن يكون منصفاً بالأولوية .

4 - ومن هنا نعرف أنه لن « يتكلم بكلام لم يتكلم به أحد من الناس» ،فإن من يكون من حقه ذلك ، بحيث يكون كل ما يقوله صادقاً عليه كل

الصدق و منطبقاً تمام الإنطباق ، هو ذلك الشخص المؤهل للقيادة العالمية والوارث

الخط الأنبياء والذي هو أولى بهم وبكتاب الله وسنة رسوله ، من أي شخص

آخر ، إن هذا هو الذي يتكام الكلام الجديد ويعطي المفاهيم بالأسلوب

ص: 325


1- انظر ص 501وما بعدها .

التربوي الجديد العادي الذي لم يكن يخطر قبل الظهور على بال ... دون أي

شخص آخر .

هذا آخر ما نود التعرض إليه من خصائص الخطبة المباركة ... موكلين

الخصائص الأخرى إلى فطنة القاريء .

الجهة الرابعة من هذا الفصل :

إن مقتضى التسلسل المنطقي للدعوة الإلهية ، التي یمثل المهدي (ع) حلقة من أكبر حلقاتها . هو أن يقيم المعجزة في أول ظهوره إثباتاً لصدق

مدعاه : بأنه المهدي الموعود الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً . لا أقل أمام

المؤمنين المخلصين ممن سيصبحوا من خاصته . لوضوح أنه لولا ذلك الأمكن لأي شخص جريء أن يقف في المسجد الحرام بين الركن والمقام ويلقي مثل

هذا الخطاب ، وخاصة بعد أن يقرأ الخطبة في مصادرها . فكيف يمكن أن

تصدق من شخص أنه هو المهدي لمجرد أنه يقف هذا الموقف .

تماماً ، كما هو الحال في النبوة ، ، فإنه لا يمكن تصديق أي شخص مدع

للنبوة ما لم تقترن دعواه بدليل يوجب القطع بكونه نبياً مرسلاً . ومن هنا

أقام نبي الإسلام ( ص ) معجزات کدلائل على صدقه . تقطع حجج المنكرین .

كان أهمها القرآن الكريم نفسه .

وقد أسلفنا في التاريخ السابق أن المهدي (ع) عند مقابلاته مع الناس خلال غيبته . كان يقيم الدلالة على حقيقته . وهي دلالة تحتوي دائماً على

عنصر إعجازي ؛ وإلا لاستحال التعرف عن حقيقته . أو تصديقه في دعواه

إذا قال لنا : إنه هو المهدي (ع) .

ص: 326

وقد سبق أن عرفنا في التاريخ المشار إليه (1)و غيره من بحوثنا : أن المعجزة

لا توجد عشوائياً . وإنما لها قانونها العام . وهو أنها تقع في طريقي إقامة الحجة

( إذا كانت منتفية ) أو إتمامها ( إذا كانت ناقصة ) . ومن الواضح جداً .

أن إقامة المهدي (ع ) للمعجزة بعد ظهوره يكون في طريق إلبات الحجة على

صدقه ، توصلاً إلى تطبيق العدل الكامل على وجه الأرض ، وهو الهدف

الإلهي المهم الذي عاشت البشرية التخطيط له وباتجاهه منذ ولادتها إلى ذلك

الحين . الوضوح أنه ما لم تثبت شخصيته الحقيقية لا يستطيع هو أن يحصل على المؤيدين والمؤمنين ، ومن ثم لا يستطيع القيام بهذا التطبيق والوصول إلى ذلك الهدف .

إذن ، فقد يستنتج من هذه المقدمات . لزوم أن يقدم المهدي (ع) معجزة واضحة منذ موقفه الأول . ليثبت حقيقته بكل صراحة ووضوح تجاه العالم .مع العلم أننا لا نجد في الروايات الناقلة لهذا الموقف أي إشارة إلى

كونه مقيماً للمعجزة في ذلك الحين .

و یمكن الجواب على ذلك : من عدة وجوه :

الجهة الرابعة : في إقامة المعجزة

الوجه الأول : ان الإمام المهدي (ع) ليس بحاجة في موقفه هذا إلى

إقامة المعجزة على الإطلاق.

وذلك : لوجود الإرهاصات الكافية لظهوره في زمان قريب ، وهي قائمة على إعجاز عظيم وأوضحها عجز تا الكسوف والخسوف في غير أو انهما ... والخسف بالجيش الذي يحاول قتله ... والنداء بإسمه صراحة

في إسماع الخلق . فيكون القطع بصدق من اجتمعت فيه هذه الخصائص

ضروري لازم .

ص: 327


1- ص 32.

واما احتمال : أن شخصاً محتلاً يستغل الموقف بعد حدوث الخسف وقتل

النفس الزكية والنداء ، فيذهب إلى المسجد الحرام في العاشر من المحرم و يتكلم

في الناس بالمضمون السابق للخطبة . فهو في غاية البعد ... ولو حدثته نفسه بذلك فإنه يقتل لا محالة في مواله ذاك . أو يلقي عليه القبض و يفشل مخططه

البتة ... ولن يستطيع الحصول على العدد الكافي لغزو العالم بالعدل ، ولا بعض منه ...

إذن ، فكل من يحصل له ذلك ، هو المهدي الحنيني بكل تأکید .

الوجه الثاني : هناك في العالم - طبقاً للتصور الإمامي لفكرة المهدي (ع) -

عدد غير قليل من الناس يعرف المهدي بشخصه ولا يحتاج إلى إقامة المعجزة للتعرف عليه . لأنه رآه خلال غيبته مرة أو عدة مرات . وهم كل

الأفراد المخلصین من الدرجة الأولى و بعض الأفراد المخلصين من الدرجة

الثانية . من الدرجات التي أشرنا إليها فيما سبق.

وقد كان هؤلاء هم وسائطه إلى الناس - بشكل وآخر -- خلال غيبته .

و سيكونوا لنا بأنفسهم رادة الحق والعدل و اللسان الناطق و السيف الضارب

بين يدي قائدهم المهدي (ع).

فمن الممكن - بغض النظر عن أي شيء آخر - أن يكون هؤلاء هم الشاهد

الصادق في تعريف قائدهم إلى الناس . ريثما يثبت من مجموع أعماله و أقواله

صدقه و عظمة أهدافه . ومعه لا حاجة إلى إقامة المعجزة.

الوجه الثالث : إن المهدي (ع) ليس بحاجة إلى المعجزة ، بل يستطيع أن يعتمد على المستوى الفكري والعقائدي و المفاهيمي الذي يعلنه لإثبات صدقه

و عظمة أهدافه . فإن المعجزة مطلوبة لأجل إقناع النكر البشري غير المعقد ،

ص: 328

وهذا ما سيحصل بشكل عميق وأكيد عند إعلان المستوى الفكري الجديد...

فيكون الاتجاه نحو المعجزة أمراً مستأنفاً .

ويمكن تقسيم المستوى الفكري الذي يقيمه الإمام المهدي في أول ظهوره

إلى مستويين :

المستوى الأول : ما يقوله عليه السلام في خطبته مما وردنا وسمعناه ومما لم يردنا ولم نسمعه . فانه لا دليل على انتصاره (ع) في حديثه على هذا المقدار

بل لعله بذكر أموراً أخرى لم يكن المستوى الفكري السابق في عصر صدور

النصوص مناسباً للتصريح بها في الأخبار طبقاً لقانون (كلم الناس على قدر عقولهم) .

ولعمري ان في هذا المضمون الذي سمعناه ما يكفي لإقامة الحجة ، لولا

احتمال أن يكون منقولا عن المصادر المتوفرة .

المستوى الثاني : استعداده عليه السلام للجواب على أي سؤال مهما كان

صعباً ، فيما اذا عرف أن السائل موضوعي الفكرة مطالباً لاحق ... وانه انما

يسأله لأجل التأكد من صدقه ، طبقاً للشك ( الديكارتي) الذي لا يستقیم بدونه

أي بر هان .

وقد وردت حول ذلك رواية : هي ما أخرجه ثقة الإسلام الكليني (1)

بسنده عن مفضل بن عمر قال : سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول :

الصاحب هذا الأمر غيبتان، احداهما

يرجع منها إلى أهله ، والاخرى

يقال : هلك في أي واد سلك . قلت :

ص: 329


1- انظر الكافي ( الاصول) نسخة مخطوطة (باب في الغيبة ).

فكيف نصنع (1) اذا كان كذلك ؟

قال : إذا ادعاها مدع فاسألوه عن

أشياء يجيب فيها مثله.

وهذا الأمر أوضح من أن يستند فيه إلى رواية ، لأنه هو المفهوم من الاتجاه العام للإمام المهدي (ع) . بل من كل من يدعي منزلة عالية في القيادة

أو في العلم أو في التقوى أو في جميعها ... فانه يمكن للفرد أن يختار السؤال

الذي يعتقد بأن الجواب الصحيح يدل على صدق المجيب وجدارته على مستوى مدعاه . فان جاء الجواب صحيحاً لم يكن للسائل أن يشك من جديد ،

الا إذا كان معقداً غير طبيعي التفكير .

فليفكر القارىء في السؤال الذي يرغب بتوجيهه إلى المهدي (ع) عند ظهوره .

فهذين المستويين الفكريين ، يمكن له عليه السلام الانطلاق منهما لاثبات

صدقه في أول ظهوره . وأما بعد ذلك فستكون المستويات أو الحقول الفكرية

الجديدة أكثر من أن تعد وأوضح من أن تذكر .

الوجه الرابع : اننا لو غضضنا النظر عن كل ما سبق و فرضنا حاجة المهدي (ع)

إلى اقامة المعجزة بعد ظهوره مباشرة لاثبات صدقه وحقيقته ، وهو - لا محالة – قادر على ذلك طبقاً لكلا التصورين الامامي والآخر ، عن المهدي (ع) .

وستقع المعجزة - لو قام بها - مطابقة لقانون المعجزات ، لأنها واقعة في طريق

اقامة الحق والعدل و الهدى ، وهي الطريق المنحصر إليه - بعد غض النظر عن

الوجوه السابقة -... لأنها الطريق الوحيد لمعرفته ولا يمكن اقامة الحق والهدى

بدون معرفته . وكلما الحصر اقامة الحق على المعجزة أوجدها اللّه تعالى في

البشرية - طبقاً لقانون المعجزات - لا يفرق في ذلك بين ني أوولي .

ص: 330


1- في المصدر المخطوط : بصنع و هو تعريف .

فاذا تم ذلك ، كان لنا أن نقول : اننا لا نستطيع أن نقطع بعدم اقامة

المهدي (ع) للمعجزة ... فاذا اقتضتها القواعد العامة في الإسلام كان ذلك اثباتاً كافياً لها ، وعدم النقل لا يدل على عدم الوجود .

و يمكن أن يكون عدم النقل مستنداً إلى السبب الآتي . وهو : اننا نستطيع

أن نقسم المعجزة - في حدود ما محتاجه الآن - إلى خاصة وعامة و العامة منها

إلى معجزة (كلاسيكية ) أو تقليدية و معجزة ( علمية ) !.. وما يمكن نقله إلينا قسم واحد فقط . كما سنوضح ، في حين أن المهدي (ع) قد يقتصر على

القسمين الآخرين ، فيكون ورود نقله في الأخبار متعذراً.

و نقصد بالمعجزات الخاصة ما يقع بين امام و شخص واحد أو جماعة محدودة من خوارق ... كما لو أخبر الإمام شخصاً بما في ذهنه أو أجابه قبل سؤاله ، أو عبر عن أي شيء لا يمكن بحسب القوانين المعروفة للكون أن يكون

عالماً به ، كما يعلم به الفرد المواجه للامام وجدانا .

و نقصد بالمعجزات العامة : تلك الخوارق التي تكون معلنة أمام الناس .

وهي تختلف عن المعجزات الخاصة بأمر رئيسي، وهو أن المعجزات العامة لا بد

أن تكون واضحة الاعجاز أمام الناس ، ومقنعة للذهن البشري الاعتيادي بحسب المستوى العام للجيل المعاصر للمعجزة. وأما المعجزة الخاصة فحسبها أن

تكون مناسبة لمستوى الفرد المواجه للامام و مقنعة له . وقد لا تكون مقنعة للآخرين أو لا يعرف الغير انها معجزة على الإطلاق .

ويمكن تقسيم المعجزات العامة إلى قسمين :

القسم الأول : ما سميناه بالمعجزات الكلاسيكية ، وهي التي تقوم على تغير خارق واضح و سريع في نظام الكون... بحيث يراه ويفهمه عامة الناس .

ص: 331

وهذا القسم هو الذي يغلب على معاجز الأنبياء السابقين . ومن هنا سميناه ب ( الكلاسيكي) والغرض منه اعطاء أكبر مقدار من الزخم العاطفي والعقلي في مجتمع لم يكن يفهم التعمق و التحليل . كانقلاب العصا ثعباناً و انفلاق البحر

و احياء الموتى و انقسام القمر إلى قسمين و غيرها .

القسم الثاني : ما سميناه بالمعجزات (العلمية) وهي التي تقوم فكرتها الاعجازية على التدقيق و التحليل ... وقد لا يلتفت الفرد الاعتيادي إلى وجود شيء خارق لنظام الطبيعة فوراً، وانما ينبغي أن يلتفت الناس إلى ذلك بالتدريج.

وأوضح و أقدم شكل هذا القسم هو ( القرآن الكريم ) أهم معجزات نبي الإسلام . ومن هذا القسم يمكن أن تنطلق معجزات القائد المهدي (ع). كما ستمثل

و يتلخص الفرق بين التمسمين بعدة أمور :

أولاً : ما ذكرناه من فورية الالتفات إلى الاعجاز في القسم الأول دون

الثاني، فانه يحتاج إلى ،مضي زمان لكي يفهم .

ثانياً : ان القسم الأول يناسب المستويات الاجتماعية غير المتقدمة والمعتمة

من البشرية .

ثالثاً : ان القسم الأول يقصد به النتيجة الواضحة . وان أوجبت خرق عدة نقاط من النظام الكوني . بخلاف القسم الثاني . فان المقصود منه نقطة واحدة

فقط من النظام الكوني أو عدة محددة تماماً ومعلنة بوضوح. فالقرآن الكريم تجاوز

المستوى الفكري والبياني البشري عموماً. وفي الامكان تقليل الجاذبية في منطقة

و زمان و معينين . كما لو أعلن أن جاذبية الأرض في مدينة ( بغداد ) ستصبح بمقدار نصف ما كانت عليه أسبوعا محدداً من الزمن .

ص: 332

كما يمكن أن يعلن تحديد زمان لتقليل سرعة النور في منطقة ما أو في حدود

معينة أو زيادة سرعة دوران الأرض قليلا . وهكذا .

ان امثال هذه المعاجز لن يحس الفرد الاعتيادي بحدوث التغير الا بعد

أن يشاهد تطبيقاته في الخارج ... ولقد رأينا أن الفرد الاعتيادي لا يدرك الأول وهلة وجود الاعجاز في آية يسمعها من آيات القرآن الكريم.

رابعاً : ان القسم الثاني من المعجزات قابل للدوام والاستمرار جيلا أو عدة أجيال من البشر أو إلى نهاية البشرية . كما في القرآن الكريم نفسه. وقد يمكن

الاستمرار في بعض تلك الأمثاة إلى أزمنة طويلة أيضاً .

أما القسم الأول فهو وفي الحدوث، لا يمكن استمرار الاعجاز فيه .

وهذا يمثل احدى الفوارق بين معجزات الأنبياء السابقين على الإسلام التي

كانت كلها وقتية الحدوث ... و بين معجزات نبي الإسلام التي استطاعت الدوام والاستمرار ، متمثلة بالقرآن الكريم .

وإلى هنا عرفنا ثلاثة أقسام من المعجزات : المعجزات الخاصة ، والمعجزات العامة (الكلاسيكية ) و المعجزات العامة ( العلمية) . وما يمكن أن نسمع نقله في

الأخبار قسم واحد - كما قلنا - وهي المعجزات العامة الكلاسيكية ، دون المعجزات الخاصة والمعجزات العلمية .

أما امکان نقل هذا القسم . فباعتبار كونه مفهوماً فهماً اجتماعياً عاماً ،و موافقاً مع مستوى الجيل الذي حدثت فيه والأجيال التي سمعت عنها .

و اما عدم امکان نقل المعجزات ( العلمية) في الأخبار ، فواضح أيضاً، باعتبار عدم انسجامها مع المستوى العقلي والفكري والثقافي للمجتمع الذي صدرت فيه

تلك الأخبار لأول مرة . فكما يكون نشازاً في ذلك المجتمع التنبؤ صراحة

ص: 333

بحدوث الطائرة أو الصواريخ الموجهة ، كذلك يكون التنبؤ بحدوث معجزة على هذا المستوى العلمی الرفيع.

وقد يخطر في الذهن :ان بعض المعجزات العلمية كانت موجودة يومئذ، متمثلة بالقرآن الكريم، اذن فلم يكن هذا القسم أعلى من مستوى الفكر الاجتماعي .

وجوابه من عدة وجوه نذكر منها اثنان :

الوجه الأول : إن الأسس التي قام إعجاز القرآن الكريم على أساسها،

أو بتعبير أصح : إن ( القانون) الذي خرقه القرآن بإعجازه... كان مفهوماً للمجتمع يومئذ . و هو المستوى الأدبي والبلاغي للغة الغربية. على حين لم تكن الأسس التي تقوم عليها المعجزات ( العلمية) و التي مثلنا لها ، مفهومة بالمرة.

الوجه الثاني : بالرغم من كون الأسس الإعجاز القرآن كانت مفهومة ، إلا أن فكرة إعجازه و فكرة كونه معجزة خالدة وإيضاح مميزاته عموماً .

لم يقم القادة الإسلاميون بإعطائها دفعة واحدةبل كانت تعطى بالتدريج

طبقاً للخط التربوي العام ... ابتداء بالتحدي القرآني نفسه وانتهاء بالسنة الشريفة وما بعدها من عناصر الفكر الإسلامي التي شرحت مميزات القرآن الكريم .

فإذا كان الحال بالقرآن الكريم مع وضوح أسمه ، هو ذلك، فكيف

بالمعجزات التي لا تكون واضحة الاسس .

ومعه فمن غير المحتمل أن نسمع في الأخبار أي نقل ، عن المعجزات ( العلمية ) التي ستكون الأسلوب الرئيسي للإعجاز في عصر الإمام

المهدي (ع) على المظنون .

ص: 334

وأما عدم نقل المعجزات ( الخاصة ) معجزة معجزة . فهو أوضح .

لما عرفناه من أن الآخرين قد لا يدركون فكرة إعجازها بالمرة ... حتى

وإن وقعت أمامهم ، فضلاً عما إذا نقلت إليهم بالأخبار .

وقد يخطر في الذهن : أن في إمكان الأخبار أن نشير إلى قيام المهدي (ع ) ببعض المعجزات الخاصة إجمالاً ... فلماذا لم تفعل ؟!.

وجوابه : إن هذا النوع من المعجزات ، حيث كان نطاقه شخصياً ،

فيكون ذکر هو في الأخبار مستأنفاً . ولا يبعد أننا نجد في الأخبار شيئاً من ذلك ...

ولكنه قليل وغير ملفت النظر ، باعتبار أن الاهتمام مركز في الأخبار إلى

ما هو أهم وأشمل من أعمال الإمام المهدي وصفات أصحابه و دولته.

اذن : فكل ما في الأمر أننا نتوقع أن نسمع من الأخبار إقامة الإمام

المهدي (ع ) معجزات ( كلاسيكية ) على غرار الأنبياء والأولياء السابقين . على حين أنه عليه السلام سوف يُعرِض عن هذا النوع لكونه قاصراً عن المستوى الذي يكون عليه المجتمع بوم ظهوره ... وإنما كان مناسباً فقط ، مع

الأزمنة السابقة ، المعاصرة مع الأنبياء والأولياء الأقدمين .

وأما النوع أو الأنواع التي يقيمها الإمام المهدي (ع ) من المعجزات .

فلا يناسب ذكرها في الأخبار : لكونها أعلى من مستوى عصر صدور الأخبار ، و عدم فهم المجتمع لاسسها ، واعتياده على الأسلوب انكلاسيكي للمعجزات يومئذ.

الجهة الخامسة من هذا الفصل :

وردت بعض الأخبار تقول : بأن المهدي (ع) يظهر من قرية يقال

لها : كرعة . - بالكاف الفارسية على الظاهر - . وهي تنافي الروايات التي

ص: 335

سمعناها في هذا الفصل من كونه عليه السلام يظهر في مكة بين الركن والمقام .

أخرج الكنجي في كتابه ( البيان ) (1)بإسناده عن عبد اللّه بن عمرو ،

قال : قال رسول اللّه (ص):

يخرج المهدي من قرية يقال لها : كرعة

قلت : هذا حديث حسن رز قناه عالياً . أخرجه أبو الشيخ الأصبهاني في عواليه كما سقناه . ورواه أبو نعيم في مناقب المهدي عليه السلام . انتهى

کلام الكنجي .

وقال السيوطي في الحاوي (2): وأخرج أبو نعيم و أبو بكر بن المقري

في معجمه عن ابن عمرو ، قال : قال النبي (ص):

الجهة الخامسة : ظهوره في كرعة

يخرج المهدي من قرية يقال لها : كرعة

وروى الار بلي (3) عن الأربعين حديثاً للحافظ أبي نعيم بإسناده عن

عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه قال : قال النبي (ص).

يخرج المهدي من قرية يقال لها : كرعة

وروى ابن طاووس (4)عن كتاب نفين للسليلي بإسناده عن عبد اللّه بن

عمر قال : قال رسول اللّه (ص) :

ص: 336


1- انظر، ص91 منه.
2- انظر ج2 ص 37 1.
3- انظر کشف الغمة للإبلی، ج3 ، ص259.
4- انظر الملاحم و الفتن لابن طاو و س ص 114 .

يخرج المهدي من قرية يقال لها : كرعة

فكيف يمكن أن نوفق بين هذه الروايات و تملك ؟ ...

و يمكن الإنطلاق في الجواب عن ذلك من عدة زوايا :

الزاوية الأولى : إن هذا الخبر غير قابل للإثبات التاريخي . فإنه مروي

عن عبد اللّه بن عمر ... و هو الذي يتحمل مسؤولية روايته .

وأما و روده - كما سمعنا - في رواية السيوطي و الكنجي بلفظ : عبد اللّه ابن عمر و . فهو إن كان خطأ مطبعياً أو كتابياً ، وواقعه هو : عبد اللّه بن

عمر ... إذن فالكلام فيه ما سبق أن قلناه . و إن كان شخصاً غيره. فهو

مجهول و مردد بين عدة أشحاص ، فلا تكون روايته قابلة للإثبات .

و إذا سألنا أنفسنا : إن هذه الرواية مروية في عدة مصادر وعن عدد من

الرواة ، فكيف لا تكون قابلة للإثبات .

فجوابه : إنها مروية في عدة مصادر وعن عدد من الرواة ، إلا أنهم

جميعاً يسندونها إلى عبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عمرو . وقد عرفنا حال الرواية عنهما .

و تكون الروايات الحالة : نور الهدي (ع) في مكة وبين الركن

و المقام قائمة وحدها بلا معارض

الزاوية الثانية : إننا لو قبلنا : هذه برواية قابلة للإثبات التاريخي ،

ففي الإمكان أن ننفي التعارض بينهما : طبقاً لعدد من الأطروحات المحتملة ، نذكر بعضها :

ص: 337

الأطروحة الأولى : أن يكون ظهوره عليه السلام في كرعة أولاً طبقاً الأطروحة خفاء الشخص ويكون ظهوره ثانياً في مكة طبقاً لأطروحة خفاء

العنوان .

فإنه طبقاً للفهم الكلاسيكي لغيبة المهدي (ع) في بعض الأذهان أنه

غائب بحيث يختفي بجسمه عن الأبصار . مطابقاً لأطروحة خفاء الشخص . فإذا آن أوان ظهوره في (كرعة ) ارتفع الخفاء الشخصي عنه ، ولكنه يبقى مجهولاً للناس مطابقاً لأطروحة خفاء العنوان : حتى ما إذا وصل إلى مكة وقام بين الركن والمقام و أعلن عن اسمه واسم أبيه ، ارتفع خفاء العنوان

وعرفه الناس .

الأطروحة الثانية إننا لو التزمنا على أن الصبغة العامة للغيبة مطابقة لأطروحة خفاء العنوان ، دون الأخرى . كما ذهبنا إليه ، في التاريخ السابق (1)كان محصّل المعنى للجمع بين الروايات : ان المهدي (ع) حين يريد الظهور في ( كرعة ) فإنه يكشف نفسه للناس ، أعني يطلعهم على اسمه واسم أبيه .

ولكنه لا يمارس أي عمل عام إلا بعد الوصول إلى مكة والوقوف بين الركن والمقام .

الأطروحة الثالثة : ان نفترض أن (كرعة ) عبارة أخرى عن ( مكة المكرمة ) نفسها ، بنحو المجاز أو الرمز .

واما التعبير عن مكة المكرمة بالقرية فباعتبار التعبير عنها بذلك في عدة

آيات من القرآن الكريم ... كما لا يخفى على القارىء .

غير أن أيّاً من هذه الأطروحات لا تخلو من الخدشة والإشكال ، مما

ص: 338


1- ص 34 وما بعدها .

تحيله إلى ذكاء التماريء ، ولا حاجة إلى الدخول في تفاصيله ... بعد أن عرفنا سقوطها عن الإثبات التاريخي .

الزاوية الثالثة : إننا لو سلمنا بقابلية تلك الرواية للإثبات ، ونفينا تلك الأطروحات في الجمع ما بينهما ... فإننا سنواجه المعارضة بين هذه الرواية و روایات ظهوره في مكة وفي المسجد الحرام بين الركن والمقام ... وهي روایات عدیدة مروية عن جماعة من الرواة من الفريقين . فتكون متقدمة

في الإثبات على تلك الرواية بطبيعة الحال.

الجهة السادسة : البيعة بعد الخطاب

الجهة السادسة : إن المهدي (ع ) بعد أن ينتهي من خطابه . يبدأ بأخذ

البيعة من أنصاره و مؤيديه .:

وقد دلت على ذلك عدة روایات ، نذكر أهمها :

أخرج الصدوق في إكمال الدين(1) بسنده عن أبان بن تغلب ، قال :

قال أبو عبد اللّه (ع):

ان أول من يبايع القائم عليه .

السلام جبرئيل عليه السلام....الحديث.

وأخرج النعماني(2) عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) في حديث

أنه قال :

لكاني أنظر إليه بين الركن والمقام

يبايع الناس ... الحديث .

ص: 339


1- انظر المصدر المخطوط .
2- ص 139 .

وأخرج روايات أخرى بنفس هذا المضمون . (1)

وأخرج الشيخ الطوسي (2)بسنده عن علي بن مهزیار ، قال : قال

أبو جعفر :

كأني بالقائم يوم عاشوراء يوم

السبت قائماً بين الركن والمقام. بين

يديه جبرئيل ينادي : البعة للّه . فيملؤها

عدلا كما ملئت ظلماً وجوراً .

وأخرج الطبرسي (3)عن المفضل بن عمر عن أبي عبد اللّه (ع) ، في

حديث : أنه ذكر أولا مضمون خطبة الإمام المهدي (ع ) ثم قال :

فيبعث اللّه عز وجل جبرئيل ، حتى

يأتيه ويسأله ويقول له : إلى أي شيء

تدعو ؟ فيخبره القائم ، فيقول

جبرئيل : فأنا أول من يبايع ، ثم

يقول له : مد كفك ، فيمسح على

بده. وقد وافاه ثلاثمائة وبضعة عشر

رجلا ، فيبايعونه ... الحديث .

وقد وردت في مضمون هذه البيعة عدة روایات :

ص: 340


1- انظر ص 102 و ص 141 .
2- ص274.
3- ص431.

منها ما أخرجه النعماني (1) عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع)، في حدیث ، قال :

يبايع الناس على كتاب جديد

على العرب شديد .

وفي رواية أخرى (2)عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) - في حديث -

قال :

لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام

يبايع الناس بأمر جديد ( شدید )

وكتاب جديد وسلطان جديد من السماء.

وأخرج الصافي في منتخب الأثر (3) عن كشف الأستار للحاج النوري عن عقد الدرر لجمال الدين المقدسي والفتن لأبي صالح السليلي عن

أمير المؤمنين (ع):

انه - أي المهدي (ع) - بأخذ

البيعة عن أصحابه ، على أن لا يسرقوا

ولا يزنوا ولا يسبوا مسلماً ولا يقتلوا

محرماً ولا بهتكوا حريماً محرماً ، ولا

یهجموا ( یهدموا) منزلا ، ولا يضربوا

أحداً الا بالحق ولا يكنزوا ذهباً ولا

ص: 341


1- ص141.
2- غيبة النعماني ايضاً ص 139 .
3- ص 468. وانظر نفس المضمون في الملاحم و الفتن لابن طاووس ص 122 .

فضة ولا براً ولا شعيراً، ولا يأكلوا

مال اليتيم ، ولا يشهدوا بما لا يعلمون،

ولا يخربوا مسجداً ولا يشربوا مسكراً ،

ولا يلبسوا الخز ولا الحرير ، ولا يتمنطقوا

بالذهب ، ولا يقطعوا طريقاً ولا

يخيفوا سبيلا ، ولا يفسقوا بغلام ،

ولا يحبسوا طعاماً من بر أو شعير ،

ويرضون بالقليل ، ويشمون الطيب

و يكرهون النجاسة، ويأمرون بالمعروف

وينهون عن المنكر ، ويلبسون الحشن

من الثياب ، ويتوسدون التراب على

الحدود ، ويجاهدون في اللّه حق جهاده .

ويشترط على نفسه لهم : أن يمشي حيث يمشون و يلبس كما يلبسون

و یركب كما يركبون ، ويكون من حيث يريدون ويرضى بالقليل . ويملأ الأرض - بعون اللّه - عدلاً كما ملئت جوراً . يعبد اللّه حق عبادته . ولا يتخذ حاجباً ولا بواباً .

و هناك من الروايات ما يدل على أن المهدي يبايع کار ها . وقد ورد هذا المضمون في طرق العامة بشكل أوسع مما عليه في طرق الخاصة.

أخرج أبو داود (1)بسنده عن أم سلمة زوج النبي ( ص ) عن

النبي (ص) ، قال :

ص: 342


1- انظر السنن ج 2 ص 243.

يكون اختلاف عند موت خليفة ،

فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً

إلى مكة ، فيأتيه ناس من أهل مكة

فيخرجونه وهو كاره ، فيبايعونه

بين الركن والمقام ... الحديث .

ورواه ابن حجر في الصواعق (1)والقندوزي في ينابيع المودة (2)والصبان

في إسعاف الراغبين.(3)

ومن طريف ما روى السيوطي (4)بهذا الصدد، ما أخرجه عن نعيم بن

حماد ، عن ابن مسعود . قال - في حديث عن المهدي (ع) -:

فيطلبونه فيصيبونه بمكة ،

فيقولون له : أنت فلان بن فلان ؟

فيقول : لا ، بل أنا رجل من الأنصار ،

حتى يفلت منهم ، فيصفونه لأهل

الخير والمعرفة به . فيقال : هو صاحبكم

الذي تطلبونه ، وقد لحق بالمدينة.

فيطلبونه بالمدينة . فيخالفهم إلى ( أهل)

مكة .

فيطلبونه بمكة فيصيبونه .

فيقولون : أنت فلان بن فلان ،

ص: 343


1- ص 98.
2- ص 517، ط النجف .
3- ص 135 .
4- الحاوي ج2 ص 145.

و أمك فلانه ابنة فلان ، وفيك آية

كذا وكذا . وقد أفلت منا مرة ، فمد

يدك نبايعك . فيقول : لست بصاحبكم

حتى يفلت منهم . فيطلبونه بالمدينة

فيخالفهم إلى مكة . فيصيبونه بمكة

عند الركن ، ويقولون له : اثمنا

عليك ، ودماؤنا في عنقك ان لم تمد يدك

نبايعك . هذا عسكر السفياني قد توجه

في طلبنا ، عليهم رجل من حرام. فيجلس

بين الركن والمقام . فيمد يده فيبايع

له . فيلقي اللّه محبته في صدور الناس

فيصير مع قوم أسد بالنهار رهبان بالليل.

وأخرج (1)أيضاً عن شهر بن حوشب ، قال : قال رسول اللّه (ص) :

سيكون في رمضان صوت .

إلى أن قال :

حتى يهرب صاحبهم ، فيوتي

بين الركن والمقام فيبايع وهو كاره.

ويقال له : ان ابيت ضربنا عنقك!!...

برضی به ساكن السماء وساكن الأرض

وورد في طرق الخاصة تفسير هذه الكراهة . أخرج النعماني (2)بسنده

ص: 344


1- الحاوي ج2 ص 161 .
2- غیبة النعمانی، ص140.

عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، أنه قال :

ينادي باسم القائم فيزتي وهو

خلف المقام، فيقال له : قد نودي

باسمك ، فما تنتظر ؟ ثم يؤخذ بيده

فيبايع . قال : قال لي زرارة :

الحمد للّه . قد كنا نسمع أن القائم

عليه السلام يبايع مستكرهاً ( مكرهاً )

فلم نكن نعلم وجه استكر اهه . فعلمنا

أنه استكراه لا إثم فيه .

فهذه هي أهم أخبار البيعة . ولا بد أن نتكلم حولها ضمن عدة نقاط :

النقطة الأولى : البيعة : هي المعاهدة على الطاعة والنصرة . وذلك بإيكال

القيادة و الرأي في كل الأمور العامة - بل و الخاصة - إلى القائد الذي أعطيت البيعة له ، بحيث لا يحول دونه بذل مال ولا نفس .

وهي أمر مشروع في الإسلام ، قام به النبي (ص) تجاه أصحابه في

بيعة الرضوان ، ونزل في مدحهم القرآن الكريم : قال اللّه تعالى :

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ

إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ

فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ

السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا

قَرِيبًا (1)

ص: 345


1- الفتح:18/48.

وقد كانت البيعة أمر معترفاً به و . مطبقاً قبل الإسلام بين الملوك والرعية ...

و أمضاها الإسلام بعد أن أعطاها الصبغة الدينية ، لما لها من الأثر البليغ في

ربط الفرد بالحاكم وشده إليه نفسياً وعاطفياً ، في أغلب المجتمعات التي هي

في طريق التربية . ومن الواضح أن شد الفرد نفسياً إلى الحاكم أو القائد الإسلامي

مطلوب وذو نتائج عامة وخاصة ، تعود إلى تربية الفرد نفسه و إلى المجتمع ،

و من ثم اقتضت المصلحة في الإسلام إقرارهذه الفكرة أو هذا الأسلوب في

تأييد الحاكم والاعتراف بنكو منه وولايته .

وهذا لا يعني أن لها أثر فقهياً أو ( قانونياً ) کاملاً في الإسلام ... لوضوح وجوب إطاعة الحاكم الإسلامي على كل حال . سواء وقعت البيعة

أولاً . كما أن عدم وقوع البيعة لا يعني التمرد على الحاكم إذا كان الفرد

مؤمناً به و عازماً على تطبيق أو امره وإرشاداته . وإنما تعني التمرد إذا كانت

دليلاً على العصيان والإنحراف .

نعم ، إذا أمر الحاكم الإسلامي بالبيعة أو جلس لاستقبال المبايعين ، كما فعل النبي ( ص ) وسيفعل المهدي (ع) ، فيجب على الأفراد القيام بها

تجاهه ، ويكون تركها عصيان من جهتين :

أولاً :لكون تركها إهمالاً لأمر الحاكم الإسلامي الذي يجب إطاعته

في كل أوامره.

ثانياً : لأن أمره بالبيعة وجلوسه من أجلها يعطي هذه الفكرة . وهي

أن هذا الحاكم الإسلامي يرى الآن - ومن خلال هذا الأمر - أن الإعتراف د ولایت و حنا که در ت هقه، عامها . پی . فلو تركها الفرد كان غير

معترف بولايته . فیکوب متمرداً علیه

ص: 346

ومن ثم لا تقتضي تلك القاعدة الفقهية ترك البيعة التي يأمر الحاكم الإسلامي

بها أو يجلس من أجلها . بل مقتضى القواعد الفقهية الإسلامية وجوبها على

کل ملتفت إلى ذلك الأمر أو تلك الرغبة .

نعم ، لو انتهى أمد الأمر ، وأراد فرد من غير المبايعين أن يعلن ولاءه من جديد ... کفی له ( فقهياً ) مجرد الإعراب عن عقيدته ، ولم تكن هناك

ضرورة لاتخاذ أسلوب البيعة . وهذا كله صادق بالنسبة إلى الإمام المهدي (ع) عند ظهوره .

النقطة الثانية : إن الذين يبايعون المهدي (ع) في مو قينه بين الركن والمقام ،

يتكونون من عدة أقسام :

القسم الأول : جبرائيل الأمين عليه السلام . وهو من أهم الملائكة ،

و أحد أربعة من أعاظمهم ، طبقاً للفهم الإسلامي .

و بيعته للإمام المهدي (ع). يمكن أن تحمل على أحد معنيين :

المعنى الأول : المعنى الرمزي ، الراجع في الواقع ، إلى مرتبة عليا من

التأييد الإلهي للمهدي (ع) ومباركة حركته العالمية و دعوته . وإنما ذكر جبرئيل بالخصوص باعتباره الممثل للحق من زاوية عليا كاملة ، وقد كان هو رسول الحكمة وحامل الوحي بين اللّه عز وجل و رسوله الكريم ( ص ).

إلا أن هذا المعنى لا يكون صحيحة ، بصفته رمزیاً . الا بعد الیأس من

المعني ( الصريح ) المباشر . وهذا ما سنبحثه في المعنى الثاني .المعنى الثاني : البيعة بالمعنى المباشر الذي يقوم به سائر الناس . يقموم بها

جبرئيل بعد أن يتخذ شكل رجل . توصلاً إلى فائدتين كبيرتين :

ص: 347

الفائدة الأولى : إلفات نظر الناس إلى لزوم مبايعة المهدي (ع) في موقفه ذلك بين الركن والمقام . فإن الناس غافلون - على الأقل - عن ذلك ،

و يحتاجون إلى المنبه بطبيعة الحال ، وستكون مبايعة جبرئيل عليه السلام منبهاً

لبعض الناس من الخاصة ، فإذا بايعوا كانت مبايعتهم منبهة لسائر الناس

الموجودين في المسجد الحرام ساعتئذ .

الفائدة الثانية : دعم وتأييد حركة المهدي (ع) من أول حد و ثها. إذ من الضروري أن مبايعة جبرئيل لا تكون إلا لأجل تلقيه الأمر الإلهي بذلك .

وإذا كان اللّه تعالى موجباً على جبرئیل (ع) مبايعة المهدي (ع) فذلك من

أعظم الدعم والتأييد .

غير أن هذا التأييد لا يمكن انعكاسه اجتماعياً ما لم يكن جبرئيل ، وهو

على شكل رجل ، معروف الهوية لدى الموجودين حال مبايعته . وهذا - بحسب فهمنا المعاصر - مما يصعب توفره في ذلك الموقف . وإنما يمكن

إعلانه تدريجاً طبقاً لاتساع حركة المهدي (ع) وسلطته . وهذا كاف لدعم

الحركة بمقدار احتياجها التدريجي ،

وقد يخطر في الذهن : أن هناك فائدة أخرى لمبايعة جبرئیل (ع) للمهدي (ع ) . وهي المشاركة في الدليل على صدق المهدي (ع) و احقية دعوته .

وهذا يصح بالنسبة إلى من يعرف جبرئيل (ع) حال قيامه بالمبايعة أو بعدها بدقائق ، فإنه يكون من الأدلة العظيمة على صدق المهدي (ع) إلى

جنب الخسف والخسوف والكسوف وقتل النفس الزكية و مضمون خطبته

و غيرها من الأدلة . غير أن هذا مما يصعب تحققه هناك كما قلنا .

وأما التعرف على حقيقته بعد ذلك ، فإنما يكون بإخبار المهدي (ع)

ص: 348

و خاصته ، بعد قيام البرهان و إتمام الحجة على صدقه . فيصلح دعماً لحركة

المهدي (ع) ولا يصلح أن يكون دليلاً عليها .

و هناك بعض الاستفهامات عن مبايعة جبرئیل سنذكرها في النقطة الآتية .

القسم الثاني : من یبایع الإمام المهدي (ع) في موقفه الأول:

أصحابه الخاصون الذين كانوا يعرفونه على حقيقته في غيبته الكبرى.

فإننا سبق في تاريخ الغيبة الكبرى أن قلنا : أن هناك نفر قليل من البشرية في

كل جيل، يمكن أن يكون مطلعة على حقيقة المهدي (ع) ومكانه. وهناك من

الروايات ما يدل على وجود مثل هؤلاء الأفراد. وقد سبق أن رويناها هنالك (1)

و با لطبع سيكون هؤلاء . مع سائر المخلصين المحصين الناتجين عن

التخطيط الإلهي العام . حاضرون خطاب المهدي (ع) في المسجد الحرام ،

وقد يكونون على موعد خاص سابق بهذا الاجتماع . ولا يحتاجون في التعرف

على شخص الإمام المهدي (ع) إلى أي إثبات.

ومعه فسوف يكونون هم الأوائل من المبادرين إلى البيعة بعد جبرئیل (ع)

والمدافعين عنه عندما يحاول المنحرفون قتله ، عند سماعهم الخطبة ، كما دلت

عليه رواية مما نقاناه عن المجلسي في البحار، خلال اخبار الخطبة . بل سيكونون

اللسان الناطق في إيضاح ما ينبغي إيضاحه في هذه الساعة الأولى .

القسم الثالث : ممن يبايع الإمام المهدي (ع):

سائر المخلصين المدحضين الذين كانوا في مكة ، وقد انتظروا الظهور

بفارغ الصبر . وسنتعرض لكيفية اجتماعهم وسائر أوصافهم في الفصل الآني .

ص: 349


1- انظرص 74 منه وغيرها .

وسيشارك هؤلاء بنفس مهام القسم الثاني ، مع فرق أنهم لم يكونوا قد

شاهدوا المهدي (ع) خلال العصر السابق ... الأمر الذي يجعل الفكرة في

أذهان القسم الثاني أوضح منها في أذهان هؤلاء، في هذه الساعة الأولى . وسيكون

ما يشاهدونه و ما يسمعونه في موقفهم ذاك كافياً في الإيضاح .

القسم الرابع : أفراد آخرون يشهدون الموقف ، فتحصل لهم القناعة التامة ، فيأتون لمبايعة الإمام المهدي (ع) خاضعين . وهم -عادة - بمثلون

الدرجة الثانية والثالثة من درجات الإخلاص الأربعة التي سبق أن سمعنا عنها .

النقطة الثالثة : في عرض بعض الإستفهامات عن مبايعةجبرئیل (ع)

للمهدي (ع ) ينبغي عرضها : قبل العبور إلى خصائص أخرى من البيعة .

الاستفهام الأول : إن جبرئيل عليه السلام أفضل من المهدي (ع)

في درجات الكمال الإلهي ، فكيف يخضع للمهدي (ع ) بالمبايعة ؟..

و هذا الإستفهام يحتوي على عدة أجوبة ، نذكر منها اثنان :

الوجه الأول : إنه لا دليل على أن جبرئيل أفضل من الإمام المهدي (ع) .

بل لعل الدليل قائم على العكس ، باعتبار أن الإنسان الصالح المتكامل في

صلاحه ، أفضل من الملائكة . لأن الملائكة ليس لهم نفس القيمة الخلقية في

إطاعة اللّه تعالی کالفرد الصالح ، بل إن میزان هذه القيمة في الفرد الصالح

أرجح بكل تأكيد. لأن الملائكة إما أنهم لا يملكون الاختيار أصلاً ، بل هم مجبورون

على أفعالهم من قبل باریم جل وعلا ، أو هم - على الأرجح - مختارون ولكنهم يجدون الطاعة موافقة لهواهم ومنسجمة مع ميولهم ، بخلاف

الفرد الصالح فإنه محتار في طاعته ، ويجد في الطاعة مصاعب نفسية و اجتماعية

عديدة ، وهو مع ذلك جاد فيها مثابر عليها . ومن الواضح اتخاذ هذه الطاعة

ص: 350

قيمة أخلاقية أعلى من تلك الطاعة . فيتصف هذا المطيع بكمال أكبر من ذاك

الآخر .

هذا بالنسبة إلى أي فرد صالح متكامل من البشر تجاه أي ملك من الملائكة .

ومن الواضح ثبوت نفس التفاضل ، وبدرجة أكبر ، لو تحدثنا عن النسبة

بين رؤساء الملائكة وقادة البشير الدينيين ، كالأنبياء والأولياء ، فإنهم يتصفون

بالأفضلية على الملائكة ، بطبيعة الحال .

فإذا كان المهدي (ع) أفضل من جبرئیل ، كان المانع من هذه الجهة .

عن البيعة غير موجود.

الوجه الثاني : إن هذه المبايعة من قبل جبرئيل ليست خضوعاً للمهدي (ع) ... وإنما هي احترام له و تقدیس لمهمته العالمية التي خطط من

أجلها خلال عمر البشرية كله ، وقد وجدت المبايعة لأجل مصالح معينة

عرفنا بعضها .

الإستفهام الثاني : إنه ما الذي يعد تفيده جبرئيل من هذه المبايعة ؟ والجواب على ذلك من عدة وجوه نذكر أهمها :

الوجه الأول : أنه يبايع إطاعة لأمر الله تعالى ، لا من أجل مصلحته الخاصة.

الوجه الثاني : إن احترام الحق و تقدیس قادته . يعتبر كمالاً له وفائدة

تعود عليه . وهذا ما يتحقق بالبيعة كما عرفنا .

الوجه الثالث : إن البيعة ذات مصالح عامة عرفناها ، تعود إلى البشر أنفسهم ، ومن ثم تتدرج في التخطيط العام الساري المفعول بعد الظهور ، وهذا كاف في إيجادها .

ص: 351

الاستفهام الثالث : إن فكرة مبايعة جبرئیل (ع ) للمهدي (ع) لا تنسجم مع فكرة أن المهدي (ع) یبایع مكرهاً . فإن من يُكرهه على المبايعة

هم البشر المتضررون من الظلم الواقع عليهم ، وليس لجبرئیل (ع) في ذلك

أية مشاركة ، فكيف نجمع بين الأخبار الدالة على هاتين الفكرتين ؟!..

وجواب ذلك : اننا سنفهم من الإكراه المشار إليه معى معيناً ، يتضمن لهفة المظلومين إلى رفع الظلم عنهم ، وتواضع الإمام المهدي (ع) عن أن

يتصدي للمبايعة بنفسه ، بل من الأفضل أن تكون بطلب من غير ه بطبيعة

الحال . وكلما دل على الإكراه أكثر من ذلك ، ينبغي الإستغناء عنه . وهذا

المعنی لا ينافي مع بيعة جبرئيل (ع) معه ، بل هو منسجم معها ، وسيكون

جبرئیل(ع) در المبادر إلى طلب البيعة منه .

الإستفهام الرابع : انه دلت بعض الروايات على أن جبرئیل قال عند

وفاة النبي (ص) : أنه لن ينزل إلى الأرض مرة أخرى .

قال علي بن عيسى الإربلي في كشف الغمة (1): وروي عن جعفر بن

محمد عن أبيه عليهما السلام ، قال :

و أتى جبرئيل (ع ) إلى رسول

اللّه (ص) يعوده . فقال : السلام

عليك يا محمد . هذا آخر يوم أهبط

فيه إلى الدنيا . وعن عطاء بن يسار ان

رسول اللّه (ص) ، لما حضر أناه

جبرئيل ، فقال : يا محمد الأن اصعد

ص: 352


1- ص 18 - 19 من ج1 .

إلی السماء، و لا أنزل إلی الأرض

أبداً. و عن أبی جعفر(ع) قال:

لما حضرت النبی(ص) الوفاة...

إلی أن قال: فعند ذلك قال جبرئیل:

یا محمد،هذا آخر هبوطی إلی الدنیا،

انما کنت أنت حاجتي فیها.

و الجواب علی ذلك،یکون من عدة وجوه، نذکر أهمها:

الوجه الأول: ان هذه الروایات النافیة لنزول جبرائیل (ع) مقیدة - في

حقیقتها- یقید خفي مصرح به، و هو عدم تعلق الأمر الإلهی أو المصلحة

العامة أو رغبة رسول اللّه(ص) بنزوله مرة أُخری. فکأنه قال: هذا آخر یوم

أهبط فیه إلی الدنیا، إذا لم یحصل أمر إلهی أو مصلحة عامة أو رغبة رسول اللّه (ص)

بذلك ، فان حصل شیء من ذلك . فاني سأنزل إلی الدنیا.

و من المعلوم أن الروایات الدالة علی نزوله مع المهدي (ع) تدل علی حصول

شیء من ذلك ، أو کله، فان شأن المهدي (ع) بصفته المطبق الأکبر المهدف

الأعلی من التخطیط العام، یناسب ذلك.

و وجود مثل هذا القید الحفي المضمني في مضمون الکلام واضح لا یحتاج إلی

استدلال غیر أن قوله في احدی هذه الروایات: ولا أنزل إلی الأرض أبداً ، ینافي

فکرة هذا التقیید، فانها تدل- علی الأقل- بأن شیئاً من ذلك سوف لن یحدث

و من ثم لن یتنزل جبرئیل (ع) إلی الأرض أبداً. غیر أن هذه روایة واحدة یمکن

التجاوز عنها بدلالة الروایات السابقة الدالة علی نزوله مع المهدي (ع) کما أن

هناك روایات أُخری تدل علی نزوله في مناسبات أُخری بعد وفاة النبي (ص)

إلی نهایة الشریة ، تکون نافیة المدلول هذه الروایة.

ص: 353

الوجه الثاني :هناك في الروایات ما یدل علی ما یشبه التقیید المشار إلیه. و هو قوله: انما کنت أنت حاجتي فیها ، فانه دال أن نزوله کان من أجل رسول اللّه (ص) .و تنفیذ مصالحة و رغباته الحکیمة . فاذا علمناه أن

رسول اللّه (ص) ، نفسه یرغب بتأیید المهدي (ع) و یدرك مصلحة وجوده

و هدفه العام کما قد بشر به مراراً و تکراراً خلال حیاته ، کما دلتنا علی ذلك أیضاً.

الوجه الثالث: اننا یمکن أن نقید الأخبار النافیة لنزول جبرئیل(ع) بالهدف

الذي کان ینزل لأجله یومئذ ، و هو تبلیغ الوحی إلی النبي (ص) . فکأنه قال:

لن أنزل إلی الأرض من أجل تبلیغ الوحي . و هذا أمر صحیح ولن یحدث أبداً

لأن نزوله مع المهدي (ع) لن یکون من أجل تبلیغ الوحي ، بطبیعة الحال.

و هذا القید و ان کان مخالفاً لظاهر هذه الأخبار ، الا أنه موافق مع طبیعة

مهمة جبرئیل مع النبي (ص) .....کما ان اخبار نزوله مع المهدي (ع) توجب

الالتزام بهذا التقیید ، بغض النظر عن الوجهین السابقین.

الوجه الرابع: اننا لو تجاوزنا عن الوجوه السابقة ، فوقع التنافي التام بین الأخبار النافیة لنزول جبرئیل(ع) و الأخبار المشتبة له. أمکننا بسهولة اسقاط

الأخبار النافیة لنزولة ، بأحد أُسلوبین:

الأسلوب الأول: تقدیم الأخبار القائلة ینزول جبرئیل مع المهدي (ع) باعتبارها أکثر عدداً و أصح سنداً . أما عدداً ، فهو واضح لمن راجع المصادر.

و اما سنداً فلأن الأخبار الثلاثة النافیة کلها مرسلة لم یذکر الاربلی لها سنداً .

ص: 354

نعم، واحدة منها رویت مرسلة عن عطاء بن یسار ، فأصبح هو الراوی الوحید

المعروف من سلسلة الرواة ، و الباقي کلهم مجاهیل.... و هو غیر کاف في

تصحیح الروایة . فکیف بالروایتین الأخیر تین اللتین لم یذکر لها و لا راو واحد.

هذا ، بخلاف روایات نزول جبرئیل (ع) مع المهدي (ع) فانها جمیعاً مسندة في مصادرها معروفة الرواة .

الأسلوب الثاني : معارضة الأخبار النافیة ،بکل ما دل علی نزول جبرئیل(ع)

بعد النبي (ص) إلی نهایة البشریة .

و قد سمعنا هذا الأسلوب في الوجه لخصوص روایة : لا أنزل إلی الأرض

أبداً . ولکن بعد التنزل عن الجوه السابقة یکون هذا أُسلوباً في معارضة کل

الأخبار الثلاثة النافیة . و هی أکثر عدداً منها . بحیث یکون مجموعها مستفیظاً ،

فلا یبقی لهذه الأخبار الثلاثة بازائها أي اثبات.

فان هناك من الأخبار ما یدل علی نزول جبرئیل (ع) في زمن الأئمة المعصومین (ع) عدة مرات. کنزوله عند ثورة الحسین بن علي علیهما السلام

و عند میلاد الإمام المهدي (ع) و مناسبات أُخری. و کنت أود أن أُرده عدة

أخبار منها ، لولا انه یخرج بنا عن الصدد .

و علی أي حال ، فقد سقط الأخبار النافیة لنزول جبرئیل(ع) بعد وفاة النبي (ص) عن قابلیة الإثبات التاریخي .

النقطة الرابعة - من الحدیث عن البیعة- : ورد في مضمون البعة ، کما

سمعنا في الأخبار- شکلان من العرض ، کلاهما موافق للقواعد الاسلامیة العامة:

الشکل الأول: إن المهدي (ع) یبایع أصحابه علی کتاب جدید و أمر جدید و سلطان جدید.

ص: 355

و هذا - في یمثل مستوی الوعي الإسلامي الجدید الذی لم یکن معروفاً قبل الظهور..... علی ما سوف نبرهن علیه في مستقبل البحث.

و یمکن أن نفهم من المبایعة علی ذلك . أحد ثلاث معان:

المعنی الأول: و هو الظاهر المباشر من اللفظ ، و هو أن یقول المهدي (ع)

حال المبایعة : أُبایعکم و تبایعوننی علی کتاب جدید و أمر جدید و سلطان جدید.

غیر أن هذا المعنی لا یخلو من بعد ، بازاء المعاني الآتیة ، من حیث: ان

الکتاب الجدید و السلطان الجدید من الألفاظ غیر المفهومة للمجهور الحاضر

یومئذ ، و انما یتضح معناه و تطبیقاته بعد ذلك من خلال عمل المهدي (ع) في

دولته ، و من المعلوم : ان المبایعة علی أُمور غیر مفهومة مخالفة المصلحة ، مع

وجود مفاهیم کثیرة واضحة و دافعة إلی الفداء أکثر من هذه الأمور.

المعنی الثاني: لمبایعة علی ذلك : ان نتیجة المبایعة هو العمل الجاد لا لجاز

العدل و تطبیقه في العالم کله ، الأمر الذي سیصبح أمراً جدیداً و سلطاناً جدیداً

و یتضمن کتاباً جدیداً ، کما سیأتی . فالمبایعة علی ذلك یعني افتاجها لذلك في

المدی البعید .

و هذا المعنی محتمل في التصور ، الا أنه مخالف لظاهر هذه الأخبار و ابعد

مفهوماً من المعنی الثالث الآني ، کما هو غیر خفي عند المقانة.

المعنی الثالث: ان المهدي (ع) یبایع أصحابه علی شروط معنیة بتفاصیلها و هذه التفاصیل تمثل - في واقعها - الکتاب و السلطان و الأمر الجدید.

فالکتاب الجدید و الأمر الجدید ، لا یذکره المهدي (ع) بصراحة لیکون

مجهول المعنی للجمهور ، طبقاً للمعنی الأول ، کما أنه لا یهمل الاشرّاط تماماً

ص: 356

اتکالا علی انتائج ، طبقاً للمعنی الثاني . بل یذکر عدة امور في البیعة ، تکون

هي الکتاب الجدید و الأمر الجدید ، في الواقع .

و أما هذه التفاصیل التي بذکرها المهدي (ع) في البیعة ، فهو ما أعربت

عنه الروایات الأخری التي سمعناها ، و التی سنذکر ها في الشکل الثاني .و بذلك یتحد محتوی الشکلین لمضمون البیعة ، لأن الکتاب الجدید و الأمر الجدید یعود

إلی نفس التفاصیل المندرجة في الشکل الثاني . و لیست شیئاً آخر.

الشکل الثاني : ان المهدي (ع) یبایع أصحابه علی شروطه معینة بتفاصیلها .

تمثل في حقیقتها أهم احکام الإسلام . و قد سردت إحدی الروایات السابقة ، قائمة طویلة منها ، لا حاجة إلی تکرارها الآن.

غیر أن هذا الشکل من الرشوط المطولة ، یحتوي علی بعض الاستفهامات ، لا بد من عرضها و نقدها:

الاستفهام الأول: کیف یتصور ان المهدي (ع) یتلو هذه الشروط علی

کل واحد من الحاضرین ، فانه یستغرق زمناً طویلا؟.....

و جوابه: واضح، و هو انه لایحتاج إلی ذکرها أکثر من مرة ، أمام المجموع

الحاضرین أو مجموعة منهم، ثم یقوم بالتنبیه علی تلك الشروط في کل مبایعة.

الإستفهام الثاني : ان ما ذکر في هذه القائمة الطویلة من الأحکام ، لیست

أحکاماً جدیدة ، بل هي أحکام معروفة في الإسلام ، و نافذة قبل الظهور ، فکیف

نقول انها من الکتاب الجدید و الأمر الجدید.

و یمکن الجواب علی ذلك من عدة زوایا ، نذکر اثنتین منها:

الزاویة الأولی : اننا نحتمل - علی الأقل- أن الروایة التي تکلفت بیان

ص: 357

الشکل الثاني لمضمون البیعي قد حذفت من القائمي التي یذکرها المهدي (ع)

لأصحابه ، کل حکم جدید .....لأن ذکرها في الروایة یاوق اعلانها قبل الظهور. في حین آن بیانها موکول تماماً إلی الامام المهدي نفسه.

الزوایة الثانیة : ان في القائمة المذکورة نفسها ، ما یصلح أن یکون حکماً

جدیداً ، و ان کانت اسسه معروفة قبل الظهور : مثل قوله: ویرضون بالقلیل و یشمون الطیب. و یلبسون الحشن من الثیاب و یتوسدون التراب علی الحدود.

فان هذه أحکام نافذة المفعوا قل الظهور ، و لکنها (مستحبة) و غیر (الزامیة) بمعنی انه یجوز ترکها للفرد.... ولکن بعد تعیش الأمة التجارب

القاسیة السابقة علی الظهور . التي تنج فیها الایمان العالي و الاخلاص العمیق في جماعة واسعة من الناس....یصبح فیها القابلیة لأن تکون (ملزمة ) بهذه الأحکام

و أمثالها، فتتحول هذه الأحکام من الاستحباب إلی الوجوب.

و یکون هذا الوجوب ، ممثلا لجهة مهمة من جهات (الکتاب الجدید و الأمر الجدید) الذي سوف یعلن بعد الظهور.

و من هنا نفهم الجواب علی:

الاستفهام الثالث: ان هذه الأحکام (المستحبة) صبعة التنفیذ ، فکیف تکون واجبة علی الناس بعد الظهور؟

و جوابه: من وجهین:

الوجه الأول: انه لا دلیل علی شمول هذه الأحکام لأمة کلها ، و انما

کل مت في الأمر ، ان الروایة دلتنا علی أن المهدي (ع) یشترطها علی أصحابه ....

و من المعلوم أن هولاء الأصحاب المخلصین من الدرجة الأولی. سیکونون علی

مستوی قابلیة التنفیذ لا محالة .

ص: 358

الوجه الثاني : أنه لا بأس بشمول هذه الأحکام و امثالها لأمة ککل ، بعد

تکاملها نتیجة التمحیص الطویل ، فان التوقعات من الفرد تزداد کلما ازداد

اخلاصاً و تکاملا ، و کذلك الأمة ، بصفتها متکونة من الأفراد.

کل ما في الأمر . أن اعلان المثال هذه الأحکام سکون تدریجیاً ، بمقدار

ما یستطیع الأخلاص العمیق أن یرسخ أقدامة في الأمة . فهو یبدأ بأضیق صوره

و هو الاشرّاط خلال البیعة أمام جماعة محدودة من الناس ، و ینتهی بالاعلان

العام عندما تقتضي المصلحة ذلك .

الاستفهام الرابع: قد یخطر في الذهن: باننا عرفنا أن جبریئیل (ع) هو أول

من یبایع ، فهل تکون هذه الأحکام ساریه المفعول علیه ایضاً ؟

ان مجرد اثارة هذا السژال ، غریب .... فانه واضح النفي ، بعد أن عرفنا

أن مبایعة جبرئیل(ع) لیس من أجل أن یصبح من شعب دولظ المهدي (ع) بشکل مباشر... بل لأجل مصالح أُخری عرفنا طرفاً منها. و هذه الأحکام انما تسري

علی شعب تلك الدولة من البشر بطبیعة الحال.

و من هنا نسمع الروایت تقول: «لکأني أنظر إلیه بین الرکن و مقام یبایع النس بأمر جدید....) فهو یبایع الناس و الملائکة ، غیر أن الأمر الجدید ، سکیون ساري المفعول عی البشر فقط . و في الخبر الآخر : أنه یأخذ البیعة عن

أصحابه ..... و جبرئیل (ع) و ان کا من أصحاب المهدي (ع) ، غیر أن

لفظ الأصحاب واضح في أولئك الذین انتخبهم التمحیص ، کعدد کاف لغز و

العالم و العدل ، و کلهم من البشر بطبیعة الحال.

النقطة الرابعة : - من الحدیث عن البیعة - : انه ورد في بعض الروایات

ص: 359

التي سمعناها عن البیعة : ان الإمام المهدي (ع) بشرط علی نفسه أُموراً إلی

جانب ما یسرّط عل أصحابه من الأمور.

و المفهوم الأساسي تؤکد علیه هذه الأمور: ان الإمام المهدي (ع) سیکون قائداً شعیباً یعیش حیاة اعتیادیة بعیدة عن الفخفة و الجبروت التي عاشها

حکام العهد السابق علی الظهور .فهو (یمشی حیث یمشون . و یلبس کما لبسون ، و یرکب کما یرکبون ، . یرضی بالقلیل).

و کذلك کان رسول اللّه(ص) خلال حکمه ، و کان أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب (ع) الذي یقول:

فو اللّه ما کنزت من دنیاکم تبراً ،

و لا ادخرت من غنائمها وفراً ،

و لا اعددت لبالي ثوبي طمراً..

و لو شئت لاهتدیت الطریق إلی مصفی

هذا العسل ولباب هذا القمح ،

و نسائج هذا القز. ولکن هیهات ،

ان یغلبي هواي ، و یقوذني جشعي

إلی تخیر الأطعمة ، و لعل بالحجاز

أو الیمامة من لا طمع له في القرص

و لا عهد له بالبع .... أأقنع من

نفسي بأن یقال: أمیر المؤمنین ،

و لا أُشارکهم في مکاره الدهر ،

أو أکون لهم أسسوة في جشوبة

العیش....»(1)

ص: 360


1- نهج البلاغه، شرح: محمد عبده ج2 ص79-81.

و کذلك ینبغي أن یکون المهدي (ع)، بصفة الحاکم الأعلی للدولة العالمیة العادلة .

فان من القواعد العامة في الإسلام ، أن الرئیس الأعلی للدولة الإسلامیة

یجب علیه أن یعیش في حیاته الشخصیة علی مستوی أفقر فرد في شعبه . و ستأتي

تطبیقات ذلك عند الحدیث عن دولة المهدي و نظامها.

غیر أنه تبقی بعض الاستفهامات عن هذه الأمور التي یفرضها المهدي (ع)

علی نفسه . ینبغي عرضها و نقدها . :

الإستفهام الإول: انما یشتّرطه المهدي (ع) علی أصحابه . یعبر عن تکالیف عامة علی المسلمین ، یکون هو مشمولا لها أیضاً ، فلماذا لم یشترطها

علی نفسه؟ في حین نجد أن اشترطه علی أصحابه أکثر بکثیر مما اشترطه علی

نفسه.... فلو کانت زیادي الأحکام تدور مدار عمق الإیمان و اخلاص، لکان الأنسب هو العکس ، لأن المهدی (ع) أعمق ایماناً و اخلاصاً من اصحابه ، بطبیعة الحال.

و جواب ذلك ینبغي أن یکون واضحاً للقاریء اللبیب.... إذ لا معنی

لشمول کل الأحکام لشخص الإمام المهدي (ع) . اذ من الأحکام ما یقول بوجوب اطاعة الحاکم العادل المتمثل یومئذ بالمهدي(ع) نفسه ، کما ان من

الأحکام مایکون تبویاً للمراتب الواطئة نسبیاً من الناس. و المفروض بالمهدي (ع) أنه أعلی من هذه المرتبة بکثیر . فلا معنی لشمول امثال هذه الأحکام له علیه السلام.

هذا ، وکن غالب الأحکام شاملة له : غیر أن تطبیقها من قبله واضح و مفروض ، لا یحتاج إلی اشتراط - فیکون اشتراطها علیه امراً مستأنفاً لا معنی له . کیف و هو الذي سیأخذ بزمام المبادرة لا شتراطها علی أصحابه . فکیف لا

ص: 361

یلتزم هو شخصیا بها .و انها یتم هذا الاشتراط بالنسبة إلی المراتب الإیمانیة

التی یکون هذا الاشتراط فی مصلحة تربیتها . علی حین أن کمال الإمام المهدي (ع)

أعلی من هذا المستوی بکثیر .

ففي لب الحقیقة أن ما یشترطه المهدي (ع) علی نفسه و ما یشترطه علی

أصحابه معاً ، مکلف هو بها .غیرأن تلك الأمور لا تحتاج إلی اشتراط .

و انما ، یخص المهدي (ع) نفسه باشتراط الأمور التي تخص القائد العادل

في الإسلام ، مضافاً إلی مهمته الخاصة التي کان مذخوراً من أجلها. و هي :

ان یملأ الأرض قسطاً و عدلا کما ملئت ظلماً و جوراً....

و هو و ان کان عالماً بهذه الأمور ، عازماً علی تطبیقها ، الا أن الاعراب

عنها دمام أصحاب ، و خلال البیعة ، تنویر لهم عن وظیفته و تحدید لتوقعاتهم

منه ، و بالتالي فهو اعلان مختصر عن المنهج الذي سوف یتبعه في المستقبل ...

الإستفهام الثانی: ان المهدي (ع) یأخذ فیما یأخذ علی نفسه ، أنه یکون

من حیث یریدون . و من المعلوم بضرورة الدین ، ان تطبیقات الإسلامیة لا

تکون بمشیئة الناس. و انما تکون بارادة اللّه و تشریعه ، و مقتضیات العدل الکامل

و المصالح العامة . و المهدي (ع) هو المطبق لذلك لا لما یرید الآخرون ، فکیف

یشترط ذلك علی نفسه .

و الحق ، اننا لو فهمنا من هذا الشرط کون الإمام علیه السلام یکون طوع ارادة أصحابه في التشریع و التطبیق ، لکان هذا الشرط باطلا لا محالة . غیر أن هذا نفسه سیکون قرینة لنا علی أن نفهم هذا الشرط بأُسلوب آخر.

و یتم ذلك من خلال وجوه غیر متنافیة . فقد تصدق جمیعاً أو أکثر من واحد منها.

ص: 362

الوجه الأول: ان اصحابه انما یریدون العدل العالمي المطلق ، و ان تمتلیء

الأرض قسطاً وعدلا..... فاذا کان المهدي (ع) (من حیث یریدون)

عنی ذلك تطبیقه للعدل المذخور من أجله.

الوجه الثاني : ان في هذا الشرط إشارة إلی الأمور التي تکون موکولة (فقیهاً) إلی رغبة المجتمع في الدولة الإسلامیة ...کتأسیس المؤسسات ، و الحصول

علی مقادیر من الأرض أو الاشتغال في الوظائف العامة .... و نحوها ، فیکون

معنی کون الإمام المهدي (ع) حیث یریدون ، أنه علیه السلام یرضی لهم بذلك و یمضي لهم هذه الحاجات ، في حدود ما لا یکون مخلا بالعدل

و المصلحة العامة .

الوجه الثالث: ان المهدي (ع) لا یقضي فقط هذه الحاجات . بل یقضي

لأصحابه ولکل المؤمنین جمیع ما یریدون من حوائجهم الشخصیة ، و هذا ما

سوف یحدث فعلا في نظامه العادل، کما سوف نعرف طرفاً مهماً منه . خلال

الحدیث عن نظام الدولة العالمیة المهدویة .

الجهة السابعة : من هذا الفصل ، في التعرض إلی نقطة معینة وردت في

الأخبار ، یحسن بنا الإمام بها ....اعني أُسلوب السلام علیه خلال بیعته

و بعد ذلك أیضاً .

أخرج ابن الصباغ في الفصول المهمة (1) عن أبي جعفر - فی حدیث- یقول فیه: فعند ذلك خروج قائمنا ، فاذا خرج أسند ظهره إلی العکبة .....

فأول ما ینطق هذه الآیة : بقیة

ص: 363


1- ص 322.

اللّه خیر لکم إن کنتم مؤمنین . ثم

یقول : أنا بقیة اللّه و خلیفته و حجته

علیکم.

الجهة السابعة : في السلام عليه

فلا یسلم مسلم علیه إلا قال :

السلام علیك یا بقیة اللّه في الأرض

...الحدیث.

و في منتخب الأثر(1) نقلا عن اکمال الدین للصدوق انه : روی ان

التسلیم علی القائم ان یقال :

السلام علیك یا بقیة اللّه في

أرضه .

و في اکمال الدین نفسه (2) بسنده عن محمد بن مسلم الثقفي ، قال سمعت

أبا جعفر محمد بن علي الباقر یقول :

القائم منا منصوربالرعب مؤید

بالنصر .... إلی أن قال : فإذا خرج

اسند ظهره إلی الکعبة ... الخ

الحدیث کما سمعناه عن الفصول المهمة.

و قال الشبلنجي في نور الأبصار(3) : و هذه علامات قیام القائم مرویي عن أبی جعفر رضي اللّه عنه . قال:

إذا تشبه الرجال بالنساء...

ص: 364


1- ص517.
2- انظر المصدر المخطوط.
3- ص171-172 ، و نقله عنه في منتخب الأثر ص 435 و ما بعدها.

و ساق الخبر إلی قوله. فا ذا خرج أسند ظهره إلی الکعبة ... الخ الحدیث

کما سمعناه عن الفصول المهمة.

و في منتخب الأثر (1) عن غیبة الشیخ باسناده عن جابر عن أبی جعفر (ع) قال :

من أدرك منکم قائمنا ، فلیقل

حین یراه : السلام علیکم یا أهل

بیت النبوي و معدن العلم و موضع

الرسالة .

و أخرج الشیخ الحر في الوسائل (2)باسناده عن عمر بن زاهر عن أبی عبد اللّه علیه السلام. قال :

سأله رجل عن القائم یسلم علیه

بإمرة المؤمنین ؟ قال : لا ، ذاك

اسم سمی اللّه به أمیر المؤمنی ،

لم یسم به أحد قبله و لا یسمی به أحد

بعده إلا کافر. قلت : جعلت فداك ،

کیف یسلم علیه .قال : تقول :

السلام علیک یا بقیة اللّه في أرضه.

ثم قرأ : بقیة الّله خیر لکم ان کنتم

مؤمنین . قال الشیخ الحر: و الأحادیث

في ذلك کثیرة لکن ورد لها معارضات

ص: 365


1- ص 517.
2- وسائل الشیعة . کتاب المزار من کتاب الح ج2 ص468.

غیر صریحة في الزیارة ، فالأحوط

الترك.

و في بغض الروایات التي لم

یحضرني مصدرها ما مضمونه : ان

المهدي (ع) إذا ظهر لم یلقب

بأمیر المؤمنین ، فانه لقب خاص

بأمیر المؤمنین علي بن أبي طالب علیه السلام،

بل یقال له : السلام علیك یا بقیة

اللّه في أرضه.

و المراد من هذا اللقب : کون المهدي (ع) هو الباقي من خط الأنبیاء

و الأولیاء و الصالحین الذین مهدوا لوجوده و ضحوا من أجل تطبیق عدله ،

فأصبح هو انتیجة الطبیعة الکبری لجهودهم و القیمة العلیا لأقوالهم و أعمالهم .

فالمراد من (بقیة اللّه) کونه علیه السلام بقیة أنبیاء اللّه و رسله علیهم السلام

و انما نسبت البقیة إلی اللّه مباشرة باعتبار کون هذا الخط المقدس علی طوله

خط ممثل لعدل اللّه و دعوته الحققة ، و هو - عزوجل - مؤسسه و مخططه من

أجل تربیة البشریة و الیسیر بها نحو الکمال.

و أما نسبتها إلی (أرض اللّه ) حین یقال: بقیة اللّه في أرضه . فباعتبار

تأسیسه علیه السلام للدولة العالمیة العادلة علی مجموع الکرة الأرضیة . و من المعلوم

أن (أرض اللّه) هي کل الکري الأرضیة ، لا یستثنی منها أي منطقة أو أي

مجتمع . کما انه في عصره هو القائد الإلهي الوحید الموجود في مجموع

هذه الأرض.

ص: 366

الفصل الرابع: أصحاب الامام المهدي (ع)

جنسیاتهم- عددهم - کیفیة اجتماعهم

و ینبغي أن نتکلم عنهم ، رضي اللّه عنهم ، في عدة جهات:

الجهة الأولى : في الروايات

الجهة الأولی : في الروایات التي تخص أصحاب القائم المهدي (ع)

و تتکفل بیان خصائصهم و صفاتهم . حتی ما إذا حملناه عن ذلك فکرة کافیة ،

انطلقا في الجهات الآتة إلی إعطاء فهم متکامل لما سمعناه.

و الروایات الواردة بهذا الصدد کثیرة جداً ، و متوفرة المصادر العامة

و الخاصة معاً ، بعضها مختصر العبارة و بعضها مسهب . و نحن نقتصر علی جملة ،

کافیة منها:

أخرج مسلم في صحیحه (1) عن عبد اللّه بن مسعود ، قال :قال

رسول اللّه (ص) : - في حدیث-:

إني لأعرف أسماء هم و أسماء

آبائهم و ألوان خیولهم . هم خیر

ص: 367


1- ج8 ص178.

فوارس علی ظهر الأرض یومئذ ،

أو من خیر فوارس علی ظهر الأرض

یومئذ .

و أخرج أبو داود(1) بسنده عن أسم سلمي زوج النبي (ص) عن النبي (ص) - قال:

یکون اختلاف عند موت خلیفیة ،

فیخرج رجل من أهل المئینة هارباً

إلی مکة ، فلیأتیه ناس من أهل مکة ،

فیخرجونه، إلی أن قال : فإذا

رأی الناس ذلك أناه أبدال الشام

و عصائب أهل العراق ، فیبایعونه

بین الرکن و المقام.

و نقل هذا الحدیث عن أبي داود و ابن عساکر في المصادر المتأخرة عنهما ،

کالصواعق المحرقة لابن حجر ، و البیان للکنجي ، و ینابیع المودة للقندوزي ،

و نور الأبصار للشبلنجي ، و إسعاف الراغبین للصبان .... و غیرها.

و أخرج ابن ماجة (2) عن عبداللّه ، قال : بینما نحن عند رسول

اللّه (ص)... إلی أن قال:

حتی یأتي قوم من قبل المشرق

معهم رایات سود، فیسألون الخیر،

ص: 368


1- ج2 ص423.
2- ج2 ص1369

فلا یعطونه . فیقاتلون فینصرون ،

فیطعمون ما سألوا ، فلا یقبلونه ...

حتی یدفعوها إلی رجل من أهل بیتی ،

فیملؤها قسطاً کما ملؤوها جوراً . فمن

أدرك ذلك منکم فلیأتهم و لو حبواً

علی الثلج .

و في حدیث آخر (1) قال:

قال رسول اللّه (ص) : یخرج

نامن من المشرق فیوطئون للمهدي

- یعني سلطانه -.

و أخرج الحاکم في المستدرك(2) بسنده عن محمد بن الحنفیة ، قال:

کنا عند علي رضي اللّه عنه، فسأله رجل عن المهدي .

فقال علي رضي اللّه عنه :

هیهات. ثم عقد بیده سبعاً ، فقال :

ذاك یخرج في اخر الزمان. إذا قال

الرجل: اللّه اللّه ، قتل . فیجمع

اللّه تعالی له قوماً ، قزع کقزع

السحاب ، یؤلف اللّه بین قلوبهم ،

لا یستوحشون إلی أحد ، و لا یفرحون

ص: 369


1- ابن ماجة ج2 ص1368.
2- ج4 ص554.

بأحد. یدخل فیهم علی عدة أصحاب

بدر ، لم یسبقهم الأولون و لا یدرکهم

الآخرون . و علی عدد أصحاب طالوت

الذین جاوزوا معه النهر .... الحدیث.

قال الحاکم : هذا الحدیث صحیح علی شرط الشیخین و لم یخرجاه .

و أخرج القندوزي في الینابیع (1) عن الباقر و الصادق رضي اللّه عنهما ،

في قوله تعالی:

«وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى

أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ (2). قالا : ان الأمة

المعدودةهم أصحاب المهدي في

آخر الزمان ثلاثمائة و ثلاثة عشر

رجلاً ، کعدة أهل بدر، یجتمعون

في ساعة واحدة ، کما یجتمع قزع

الحریف.

و أخرج الکنجي في البیان(3) عن ابی أعثم الکوفي عن کتاب الفتوح

عن أمیر المؤمنی علي علیه السلام أنه قال:

ویحاً للطالقان . فإن للّه عزوجل

بها کنوزاً لیست من ذهب و لا فضة

ص: 370


1- ینابیع المودة ص 509 ط النجف.
2- هود: 8/11.
3- ص69.

ولکن بها رجال مؤمنون عرفوا اللّه

حق معرفته .و هم أنصار المهدي

علیه السلام ، في آخر الزمان .

أقول : و أخرجه عنه في ینابیع المودة

في موضعین (1)

و أخرج السیوطي في الحاوي (2) عن نعیم بن حماد عن ابن مسعود ، قال:

یبایع للمهدي سبعة رجال علماء

توجهوا إلی مکة من أُفق شتی علی

غیر میعاد. قد بایع لکل رجل منهم

ثلثمائة و بضعة عشر رجلاً ، فیجتمعون

بمکه فیبایعونه . و یقذف اللّه محبته

في صدور الناس... الحدیث .

و اخرج ابن الصباغ في الفصول المهمة (3) عن أبی بصیر عن

أبي عبداللّه (ع) في حدیث القائم یقول فیه :

فیصیر إلیه أنصاره من أطراف

الأرض تطوی لهم طیاً ، حتی

یبایعوه.

أقول : هذا بعض ما أخرجته المصادر العامة بهذا الصدد.

ص: 371


1- ص538 و ص589.
2- ج3 ص148.
3- ص221.

وأخرج النعماني (1)في حديث عن أمير المؤمنين (ع) يذكر فيه جيش

الغضب قال :

أولئك قوم يأتوا في آخر الزمان

قزع كقزع الخريف . والرجل

والرجلان والثلاثة من كل قبيلة ،

حق يبلغ تسعة . أما واللّه ،إني

لأعرف أميرهم ومناخ ركابهم ...

الحديث.

وفي حديث آخر عن علي عليه السلام ، قال فيه :

ثم يجتمعون قزعاً كقزع الحريف

من القبائل ما بين الواحد والأنتين

والثلاثة والأربعة والخمسة والستة والسبعة

والثمانية والتسعة والعشرة .

وفي حديث آخر عن المفضل بن عمر ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام :

إذا أذن الإمام ، دعا اللّه باسمه

العبراني فاتيحت ( فانتخب ) له

صحابته الثلاثمائة والثلاثة عشر ،

قزع كقزع الخريف . فهم أصحاب

الألوية . منهم من يفقد عن فراشه

ص: 372


1- ص 168 من (الغيبة) وكذلك الحديثين اللذين بعده .

ليلاً فيصبح بمكة . ومنهم من يُرى

يسير في السحاب نهاراً يعرف باسمه

واسم أبيه وحليته ونسبه . قلت :

جعلت فداك ايهم ( أيهما ) أعظم

إيماناً ؟ قال : الذي يسير في السحاب

نهاراً . وهم المفقودون ، وفيهم

نزلت هذه الآية : أينما تكونوا

يأت بكم اللّه جميعاً (1)

وفي خبر آخر (2) عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين أو عن محمد ابن علي عليهما السلام ، أنه قال :

الفقداء قوم يفقدون من فرشهم

فيصبحون بمكة . وهو قول اللّه عز

وجل : أينما تكونوا يأت بكم اللّه

جميعاً ،و هم أصحاب القائم عليه

السلام .

وفي حديث آخر عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع ) أنه قال :

فيكون أول خلق اللّه مبايعة له

أعني جبرئيل . ويبايعه الناس الثلثمائة

ص: 373


1- الغيبة للنعماني ص 169 و انظر نفس المضمون في اكمال الدين الصدوق مروياً عن الإمام الجواد (ع) .
2- المصدر المصدر و الصفحة وكذلك الحديث الذي بعده

والثلاثة عشر فمن كان ابتلي بالمسير وافى

في تلك الساعة ، ومن افتقد من فرشه. (1)

وهو قول أمير المؤمنين علي عليه

السلام : المفقودون من فرشهم ، وهو

قول اللّه عز وجل : فاستبقوا الخيرات

أينما تكونوا يأت بكم اللّه جميعاً

... الحديث .

وفي حديث آخر (2) عن أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر (ع ) ، قال :

أصحاب القائم ثلثمائة وثلاثة

عشر رجلاً أولاد العجم . بعضهم

يحمل في السحاب نهاراً يعرف باسمه

واسم أبيه ونسبه وحليته . وبعضهم

نائم على فراشه ، فيوافيه في مكة

على غير ميعاد .

وفي خبر آخر (3) عن حكيم بن سعيد قال سمعت علياً عليه السلام يقول :

إن أصحاب القائم شباب لا كهل

فيهم ، إلا كالكحل في العين أو

كالملح في الزاد . وأقل الزاد الملح .

ص: 374


1- معطوف على المبتدأ (من كان) يعني أنه يوافى أيضاً
2- الغيبة للنعماني ص 170
3- المصدر والصفحة

وأخرج الشيخ في الغيبة (1)نحوه .

وأخرج الطبرسي (2)في حديث عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع)

أنه قال فيه :

لكاني به في يوم السبت العاشر

من المحرم قائماً بين الركن والمقام

جبرئيل بين يديه ينادي بالبيعة له

فتصير شيعته من أطراف الأرض ،

تطوى لهم طياً حتى يبايعوه . فيملأ

اللّه به الأرض عدلا كما ملئت جوراً

وظلماً . وأخرج المفيد في الإرشاد(3)

نحوه - .

وفي خبر آخر (4) عن محمد بن مسلم الثقفي ، قال : سمعت أبا جعفر

عليه السلام ، يقول :

القائم منا منصور بالرعب ،

مؤيد بالنصر ، إلى أن قال : فإذا

خرج أسند ظهره إلى الكعبة ، واجتمع

إليه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً.

ص: 375


1- ص 284 .
2- اعلام الوری ص 430 .
3- ص 341 .
4- اعلام الوری ص 433.

إلى أن قال : فإذا اجتمع له العقد :

شرة آلاف رجل ، فلا يبقى في

الأرض معبود دون اللّه . . . الحديث

وأخرج المفيد في الإرشاد (1)عن المفضل بن عمر الجعفي عن

أبي عبد اللّه (ع ) في حديث ، بعد أن ذكر مبايعة القائم ، قال :

وقد وافاه ثلثمائة وبضعة عشر

رجلاً ، فيبايعونه . ويقيم بمكة حتى

يتم أصحابه عشر آلاف نفس ، ثم

يسير منها إلى المدينة

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(2) بسنده عن أبي بصیر قال : سأل

رجل من أهل الكوفة أبا عبد اللّه عليه السلام : كم يخرج مع القائم عليه

السلام ؟ فإنهم يقولون : إنه يخرج مثل عدة أهل بدر . ثلثمائة وثلاثة

عشر رجلاً . قال :

ما يخرج إلا في أولي قوة. وما يكون

اولوا قوة أقل من عشرة آلاف .

إلى غير ذلك من الروايات . وهناك بعض الروايات تقوم بتعداد أماكن

و ( جنسيات ) أصحاب الإمام المهدي (ع) وتعرب أيضاً عن ( المشكلة القانونية ) التي سيحدثها وجودهم في مكة قبل الظهور ، وسنسمع طرفاً منها

ص: 376


1- ص 343 .
2- انظر المصدر المخطوط

في هذا الفصل . كما أن هناك من الروايات ما يوضح شجاعتهم وإيمانهم

وإخلاصهم لقائدهم والأعمال الموكولة إليهم، وهذا ما سنذكره فيما بعد

كلاً في مكانه المناسب .

الجهة الثانية : في أهميتهم

الجهة الثانية: في أهمية أصحاب الإمام المهدي (ع ) .

يكتسب أصحاب الإمام المهدي (ع) أهميتهم من جهة كونهم ناجحين

و ممحصين في التمحيص الإلهي الذي كان ساري المفعول في عصر الغيبة

الكبرى ، كما عرفنا . فقد أثبتوا - من خلال التمحيص الذي عاشوه -

جدارتهم وإخلاصهم وقدرتهم على التضحية الكبرى في سبيل الأهداف

الإسلامية العليا .

وهذه هي الجهات الرئيسية التي تميز المؤمن الحقيقي ، والمشارك الرئيسي

في تنفيذ الأهداف الإسلامية ، عن غيره . وكلما كان الهدف أوسع وأكبر

احتاج إلى تركيز في الإيمان والإخلاص ، بشكل أعمق . فكيف لو كان

هدفاً عالمياً لم ينله فيما سبق أي قائد كبير ولا نبي عظيم . وإنما كان خط

الأنبياء والمرسلين ، وما نالته البشرية من مظالم وما أدته من تضحيات ، كلها

مقدمات هذا الهدف الكبير وإرهاصاته. وقد كان التخطيط العام السابق

على الظهور مركزاً من أجل إنتاج هؤلاء على المستوى المطارب لهذا الهدف.

الكبير .

ومن هنا نطقت الروايات التي سمعناها وغيرها ، بمدحهم والثناء عليهم ،

فهم « رجال مؤمنون عرفوا اللّه حق معر معرفته رفته » وهم « رهبان بالليل

ليوث بالنهار » وهم « خير فوارس على ظهر الأرض ، أو من خير

فوارس على ظهر الأرض » وهم أيضاً « أبدال الشام وعصائب أهل

ص: 377

العراق » و « النجباء من مصر » . كل ذلك باعتبار أهميتهم التي اكستبوها

من التخطيط العام السابق على الظهور

وأما أهميتهم ، باعتبار ما سيشاركون به تحت إمرة التقائد المهدي (ع )

من غزو العالم بالعدل وإقامة الدولة العالمية العادلة . وممارسة الحكم في مناطق

الأرض المختلفة ، المختلفة ، كما سيأتي ... فحدث فحدث عن هذه الأهمية ولا حرج ،

فإنه الهدف الذي وجدوا من أجله وكُرس التخطيط العام السابق من أجل

تنمية قابلياتهم عليه.

الجهة الثالثة : في عددهم .

نصت الروايات ، بشكل مستفيض يكاد أن يكون متواتراً ، أن عددهم

بمقدار جيش النبي ( ص ) في غزوة بدر : ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، (1)كما وردت روايات سمعناها تنص على أن أصحابه لا يتملون عن عشرة آلاف

رجل . فإنه عليه السلام :

«ما يخرج إلا في أُولي قوة

وما يكون أولو قوة أقل من عشرة

آلاف » ...

ص: 378


1- قال ابن الأثير في الكامل ( ج 2 ص 82 ) خلال حديثه عن غزوة بدر الكبرى : وكان مسير رسول اللّه (ص) لثلاث خلون من شهر رمضان ، في ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا وقيل أربعة عشر ، وقيل بضعة عشر رجلا ، وقيل ثمانية عشر . الخ كلامه . فقد اختار هو العدد الذي نصت عليه الروايات و اعتبرته أمراً مسلماً، وربما كان مشهوراً بين المسلمين لفترة طويلة من صدر الإسلام. وفي سيرة ابن هشام (ج 2 ص 274) جاء في تقدير أحد أفراد الجيش المعادي لجيش رسول اللّه (ص) : أنهم ثلاث مئة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون . أقول : هذا الرقم التقريبي يناسب مع الرقم المطلوب ، لأنهم عندئذ يزيدون على الثلاثمائة بقليل

كما نصت على ذلك الروايات .

والسر في ذلك يعود إلى اختلاف درجات الإخلاص التي قسمناها إلى

أربعة في التاريخ السابق (1). . . ينتجها التخطيط العام السابق على الظهور.

ولا حاجة إلى تكرارها الآن ، وإنما المهم أنها تنتج بصددنا هذا عدة نتائج :

النتيجة الأولى : اختلاف عدد الناجحين في كل درجة . لوضوح أن

درجات الإخلاص كلما ارتفعت ، تطلبت قابليات أوسع وثقافة أعمق

لإحراز النجاح . ومن المعلوم أن الأفراد الأكثر قابلية والأوسع ثقافة أقل في

العالم ممن هم دونهم ... وهكذا .

ومن هنا كان الناجحون من الدرجة الأولى أقل منهم في الدرجة الثانية ،

وهم أقل منهم في الدرجة الثالثة . وكلما قلت درجة الإخلاص زاد عدد القواعد

الشعبية المتصفة به .

وقد دلتنا هذه الروايات على أن المخلصين الممحصين من الدرجة الأولى ،

منحصرون في ذلك الجيل الذي يظهر فيه الإمام المهدي (ع) بثلثمائة وثلاثة

عشر رجلا . على حين أن الناجحين الممحصين من الدرجة الثانية . لا يقلون

عن عشرة آلاف شخص في العالم ، ان لم يكونوا أكثر .

فهذا هو السبب في اختلاف العدد الذي نطقت به هذه الأخبار ، وستأتي

في النتائج الآتية إيضاحات أكثر .

النتيجة الثانية : سرعة التحاقهم بالمهدي (ع) ووصولهم إليه. . . فالثلاثمائة

والثلاثة عشر رجلا يكونون حاضرين في المسجد الحرام في مكة ، حين خطاب

ص: 379


1- ص 248 وما بعدها .

المهدي (ع) وبيعته الأولى. على حين أن الباقين يتواردون إلى مكة بعد ذلك

خلال الأيام القليلة القادمة . ومن هنا دلت بعض الروايات التي سمعناها : ان

الإمام المهدي (ع) ينتظر في مكة حتى يتكامل لديه عشرة آلاف رجل .

النتيجة الثالثة : سرعة إيمانهم بالمهدي (ع) وسرعة مبايعتهم له . اذ من

المعلوم أن الفرد كلما كان أعمق إيماناً وأوسع ثقافة يستطيع أن يفهم قول

الحق ويشخص القائد الحق ، بشكل أعمق وأسرع . ومن هنا سيكون هؤلاء

هم الرواد الأوائل إلى مبايعة الإمام المهدي (ع) بعد جبرئيل (ع) ، ولربما كان

جملة منهم يعرفونه في عصر غيبته ، كما أسلفنا ، فلا يحتاجون معه إلى أية حجة أو معجزة .

النتيجة الرابعة : ان هؤلاء سيكونون أول من يدافع عنه ، وذلك باعتبار

ما دلت عليه بعض الروايات :

أخرج المجلسي في البحار (1) بالاسناد عن علي بن الحسين عليه السلام في

ذكر القائم عليه السلام - يقول فيما قال -: فيقوم هو بنفسه فيقول :

أنا فلان بن فلان ، أنا ابن نبي

اللّه ، أدعوكم إلى ما دعاكم إليه

نبي اللّه . فيقومون إليه ليقتلوه...

فيقوم ثلثمائة أو نيف على الثلثمائة ،

فيمنعونه منه ... الحديث .

فبينما كان ( النفس الزكية ) حين يلقي خطابه بين الركن والمقام ، رجلا،

أعزل ليس له مدافع ، فيثورون عليه فيقتلونه ... نجد أن المهدي (ع) يقف

ص: 380


1- ج 13 ص 179 وما بعدها .

في نفس الموضع بعد عدة أيام ، فيخطب فيثورون عليه أيضاً ليقتلونه -طبقاً

لهذه الرواية - لأن المنحرفين يكرهون الاتجاه الذي يمثله الحق على كل حال .

غير أن اللّه تعالى يكون قد رصد للإمام المهدي (ع) من يحميه ويدافع

عنه ويضحي من أجله . وهم هؤلاء الرادة الأوائل للثورة دؤلاء الرادة الأوائل للثورة العالمية الجديدة .

غير أنه من الملاحظ أن هذه الرواية وحدها ، لا تكفي للاثبات التاريخي

غير أن طبائع الأشياء تقتضي صحة حدوث محاولة القتل هذه . واللّه العالم .

النتيجة الخامسة : اختلاف أصحاب الإمام المهدي (ع) في الوظائف

والأعمال التي توكل إليهم، نتيجة لاختلاف درجاتهم في الإخلاص .

فان هؤلاء الممحصين الكاملين، سوف يكونون في جيش المهدي (ع)

« هم أصحاب الرايات » يعني القواد ورؤساء الفرق ، بالاصطلاح الحديث .

على حين يكون الممحصون من الدرجة الثانية عامة جيشه الفاتح للعالم بالعدل .

وبعد أن يستتب الحكم العادل للمهدي (ع) على البسيطة ، سيكون هؤلاء

الخاصة حكاماً في العالم موزعين على مجموع الكرة الأرضية . كما سيأتي منفصلا.

على حين لن يكون للممحصين من الدرجة الثانية هذه المنزلة ، بل يتكفلون

أموراً إدارية أدنى من ذلك .

النتيجة السادسة : اننا نفهم من مجموع هذه الروايات : أن العدد الكافي

لغزو العالم بالعدل ، الذي انتجه التخطيط العام السابق على الظهور ، والذي كان

هو الشرط الأخير من شرائط الظهور وإيجاد اليوم الموعود . . . ليس العدد الكافي

هو وجود ثلاثمائة وثلاثة عشر جندياً . ما قد يتخيل الناس من هذه الروايات

وتذهب إليه بعض الأمهام الكلاسيكية ، اذ يفهمون حصر أصحاب المهدي (ع)

بهذا العدد .

ص: 381

وانما العدد الكافي لغزو العالم ، يتمثل في مثل هذا العدد من القواد ،

والحصر في حقيقته - لو كان مستفاداً من الروايات- منصب على ذلك .

بقرينة ما عرفناه ونعرفه من الروايات الأخرى الدالة على كونهم قواداً وحكاماً.

یضاف إلى هؤلاء ، عدد ضخم من الجيش لا يقل عن عشرة آلاف شخص

في نواته الأولى عند مبدأ الحركة ، ومن هنا قالت احدى الروايات : « ما يخرج

إلا في أولي قوة ، وما يكون أولو قوة أقل من عشرة آلاف » فهي تنفي بصراحة

أن يكون جيش المهدي منحصراً بالثلاثمائة والثلاثة عشر. فانهم وحدهم لا

يشكلون قوة ولا يكونون كافين في تحقيق الهدف الكبير . وانما هم يقومون

بالقيادة والإشراف بالنسبة إلى غيرهم من الناس.

وسنعرف في مستقبل البحث أن عشرة آلاف جندي عدد كاف للمهدي (ع)

في أول حركته ، وكلما تتسع حركته ، فان جيشه يتسع وتتضح أهدافه وأسلحته

تتكثر على ما سوف نرى .

الجهة الرابعة : في كيفية ورودهم إلى مكة المكرمة

الجهة الرابعة : في كيفية ورودهم إلى مكة :

ونواجه حول ذلك أطروحتين محتملتين :

الأطروحة الأولى : ان هؤلاء الجماعة يصلون إلى مكة بشكل اعجازي ،

يجعل وصولهم سريعاً جداً. وهذا هو ظاهر قسم من الروايات ويكاد أن يكون

صريح روايات أخرى .

فهم «يجتمعون في ساعة واحدة ، كما تجتمع قزع الحريف» و هم «الفقداء قوم يفقدون من فرشهم فيصبحون بمكة وهو قول اللّه عز وجل : اينما

تكونوا يأت بكم اللّه جميعاً » . والاستشهاد بالآية الكريمة في الأخبار ايذان

بدقع الاستغراب الناتج من تجمعهم الاعجازي .

ص: 382

والصريح في ذلك ما صرح من الأخبار بأنهم يصلون عن طريق طي

الأرض يعني اختصارها بطريق اعجازي : ففي خبر ابن الصباغ :

«فيصير إليه أنصاره من أطراف

الأرض تطوى لهم طياً ، حتى يبايعوه » .

وفي خبر الطبرسي :

«فتصير شيعته من أطراف

الأرض تطوى لهم طياً ، حتى يبايعوه » .

بل ان ظاهر عدد من الروايات أن المعجزة تتحكم في سرعة وصول الفرد

تبعاً لمقدار اخلاصه ، فكلما كان اخلاصه اعمق أوصله اللّه تعالى بشكل أسرع.

فمن هنا سيكون هؤلاء على عدة أقسام :

القسم الأول : «من كان ابتلي بالمسير» وهو السفر الأرضي الطبيعي .

وظاهر سياق الرواية أنه أردأ الأقسام ، بالرغم من أهميته ... فلم يوفق إلى

الوصول الاعجازي .

القسم الثاني : « المفقودون من فرشهم » يكون الفرد ليلا مستلقياً وهو

«نائم على فراشه ، فيوافيه في مكة غير ميعاد ». وظاهر السياق العام :

انهم هم الذين تطوى هم الأرض . وبذلك فهم أفضل من القسم الأول.

القسم الثالث : « الذي يسير في السحاب نهاراً » وهو « يعرف باسمه

واسم أبيه ونسبه وحليته » . وهم الأسى وصولاً و الأعظم اعجازاً....

فيكون الأفضل من الثلاثة .

وظاهر هذه الروايات أن القسمين الأخيرين لا يكونان إلا

من الثلثمائة

والثلاثة عشر من الخاصة . . . ولكن لا ظهور على أنهم جسيعاً يصلون بالمعجزة

ص: 383

بل قد يكون منهم من يكون من القسم الأول ، فيبتلى بالمسير . هذا ، فضلا عن

غیر هم الذين هم أقل اخلاصاً ، فان وصولهم عن طريق المعجزة غير محمتل.

الأطروحة الثانية : انهم يصلون إلى مكة بطريق السفر الاعتيادي .

وقد سبق أن سمعنا كيف يحدث ذلك في وقت واسع و بأُسلوب طبیعّي غير ملفت للنظر .

حيث سمعنا أنه ينادى باسم المهدي (ع) في شهر رمضان ، ويكون موعد

ظهوره في العاشر من محرم الحرام . وسيمر خلال هذه الفترة موسم الحج في

ذي الحجة الحرام. وحيث يعلم المخلصون الممحصون حصول الظهور بمكة، كما

يعلمون بانفصال وقت الظهور عن وقت النداء زماناً ليس بالكثير.... اذن

فسوف يسافر إلى الحج في ذلك العام كل راغب بلقاء الإمام المهدي (ع) مع

سائر الحجاج . وبعد انتهاء موسم الحج سيختلف هؤلاء في الحجاز ، أو في مكة

على التعيين. بدافع من رغبتهم الملحة في حدوثه . وسيبقون هناك حتى يحصل

المظهور في محرم الحرام .

و بهذا نفهم كيف يحضر الفرد من بلاده البعيدة ، بالرغم من أنه لا يعلم

بنفسه أنه من المخلصين الممحصين الكاملين ، كما سبق من أن الفرد لا يعلم انطباق

نتيجة التخطيط علميه. غير أنه يبتى في مكة انطلاقاً من ايمانه وشوقه ، لا نتيجة

لمعرفته بحقيقة نفسه .

وبذلك يتم معرفة : كيف أن اللّه تعالى يجمعهم من البلاد المتباعدة « قزعاً

كقزع الخريف» أي قطعاً كقطع السحاب حين تجتمع في السماء « على غير ميعاد»

لا يعرف بعضهم بعضاً ، ولا يعرف أي واحد منهم بمقصود الآخر ، وربما لا

يستطيع أن يسأله عن مقصوده أو ان يخبره بذات نفسه . الا ان

جميعهم في

لواقع ، منتظرون للطهور مؤيدون له بكل ما لديهم من نفس ونفيس .

ص: 384

فاذا ظهر قائدهم، كانوا هم أول سامع الخطابه وأول مدافع عنه .

وأول مبايع له .

وضم من قبائل مختلفة ،و من بلدان شتی ، لا تجمعهم جنسية ولا نسب ولا

قبيلة . وأنما يكون من كل قبيلة : « الرجل والرجلان والثلاثة ... حتى

يبلغ تسعة » وهكذا الحق ينطبع على أفراد قلائل على غير تعيين، بحسب ما للفرد

من قابليات وثقافة لا بحسب جنسيته أو لغته أو نسبه.

وهم يجتمعون في ساعة واحدة ، لا باعتبار أن الطريق إلى مكة يستوعب ساعة

واحدة فقط ، بطي الأرض الإعجازي . فان المعجزة لا تستغرق أكثر من

دقائق ولا تحتاج إلى ساعة . وانما بمعنى : ان وقت اجتماعهم متوافق في ساعة

واحدة يكونون كلهم في المسجد الحرام سوية ، ساعة القاء المهدي (ع) خطبته .

بغض النظر عن كيفية وصولهم تماماً .

واما انهم يفقدون من فرشهم، ويصبحون بمكة . . . فهو واضح للغاية

بعد وجود وسائط النقل الحديثة السريعة . . ان الإنسان يمكنه أن يدور في ليلة

واحدة حول الكرة الأرضية عدة مرات. ليس فقط أن يسافر إلى مكة . بل

حتى وسائط النقل الأرضية يمكن أن توفر الوصول في أقل من يوم كامل لمن

كان ساكناً في كثير من مناطق الشرق الأوسط، إذا كان السير حثيثاً وسريعاً .

وانما « يفقدون من فرشهم » فباعتبار خروجهم خلسة عن أهلهم و ذويهم

المنحرفين الكارهين للسفر إلى الحق ، سواء كان إلى الحج أو إلى المهدي (ع) .

وأما السير في السحاب نهاراً ، فهو السفر بطريق الجو إلى مكة . وهو

أيضاً بدوره اسلوب معتاد وطبيعي في الوصول إلى مكة .

و لعمري ان هذه الأمور كانت حال صدور هذه الأخبار ، وحال

ص: 385

تسجيلها في مصادرها الأولى ، أموراً على مستوى المعجزات ، الا أن العصر

الحديث عصر السرعة حقق ذلك ورفع الاستغراب عنه . نعم ، بقي الاعجاز في حصول الأخبار عن هذه الأمور وتسجيلها في المصادر قبل حدوثها بمئات

السنين . ولم يكن قانون « كلم الناس على قدر عقولهم » ليسمح بالتصريح

بهذه الحقائق في ذلك العصر من قواد الإسلام الأوائل ، بغير هذا الأسلوب.

ونفس الشيء نستطيع أن نفهمه من ( طي الأرض ) ، فان الانطباع العام عنه وان كان هو الاعجاز حتى يكاد يكون نصاً فيه بحسب الذوق العام . . .الا

اننا يمكن أن نفهم منه - في كل مورد نسمعه في السنة الشريفة - معنى رمزياً

لسرعة الانتقال بالوسائط الحديثة ، أو ما كان على غرارها في أي عصر ماضٍ

أو مستقبل . باعتبار أن التصريح بحقيقة الأمر لم يكن مناسباً مع فهم السامعين

الموجودين في عصر صدور هذه الأخبار.

ومن تسلسل هذه الفكرة يمكن أن نفهم الوجه فيما دلت عليه بعض

الروايات من أن من يسير في السحاب نهاراً أفضل من المفقود من فراشه . وذلك : لأننا فهمنا أن المفقود من فراشه ليلا سيتخذ طريق البر طريقاً له ، على

حين يتخذ الآخر طريق الجو. وطريق الجو أسرع وصولا ، فطبقاً لاحتمال ظهور

المهدي (ع) في أية لحظة ، يكون الوصول السريع بعد (النداء) أدل على الإخلاص

والإيمان ، لأن فيه توفيراً للوقت الزائد على السفر البري ، واستعداداً للظهور بشكل أسرع .

كما يمكن أن نفهم معنى كون الفرد الذي يسير في السحاب نهاراً ،

معروفاً بحليته واسمه واسم أبيه . فإن ذلك مما يضبط عادة في سجلات السفر

في الدوائر المختصة ، وفي الدفتر الذي تزوده به. وإلا فليس المفروض أن

يعرفه كل الناس أو أغلبهم حتى لو سافر بالطريق الإعجازي إلا أن تكون المعرفة بالطريق الإعجازي أيضاً ! ! . .

ص: 386

وليس في الروايات صراحة في أن المفقودين من فرشهم ، أعني من يسافرون

أرضاً ، ليسوا معروفين . فإنهم لا محالة معروفين لجماعة من الناس ، كالآخرين

ومزودين أيضاً بدفتر السفر الذي يحتوي على الصورة والإسم واسم الأب

وغير ذلك .

بقيت حول هذه الأطروحة الثانية ( الطبيعية )بعض الإستفهامات.

ينبغي عرضها ونقدها، لتستطيع هذه الأطروحة أن تقف تجاه الأطروحة الأولى (الإعجازية ) :

الاستفهام الأول : إن ظاهر عدد من الروايات ، ان الجميع يصلون

سوية في صباح يوم واحد مشترك ، يكون - في الأكثر – هو اليوم الذي يحصل الظهور خلاله أو في مسائه ، على ما في بعض الروايات . وهذا لا يمكن

تفسيره إلا بالمفهوم الإعجازي. فكيف نوفق بينها وبين الأطروحة الثانية ؟ !..

و جوابه : إن كلا الإنطباعين وإن كانا يردان إلى الخيال عند استعراض الروايات ، إلا أن استظهارهما منها محل المناقشة . فإن الروايات قالت :

«منهم من يفقد عن فراشه ليلا فيصبح بمكة » . وهذا صحيح بالنسبة إلى الفرد الواحد ، باعتبار سرعة الواسطة التي تحمله. وأما إن كل الأفراد يصلون

في صباح يوم واحد . فهذا مما لا دليل عليه .

وأما بالنسبة إلى الإنطباع الآخر ، وهو أنهم يجتمعون في يوم الظهور ، دون الأيام السابقة عليه . فكل ما سمعناه من الروايات أنها تقول : « فتصير شيعته من أطراف الأرض . . . حتى يبايعوه » أو تقول : « وقد وافاه ثلثمائة

وبضعة عشر رجلاً ، فيبايعونه .» . وهي غير دالة على ذلك كما هو واضح...

إذ يناسب أن يصلوا في يوم . ويبايعونه في يوم آخر مهما كان هذا اليوم

بعيداً .

ص: 387

الاستفهام الثاني : إن الأطروحة الأولى الإعجازية موافقة لقانون المعجزات. لأن مجيئهم الإعجازي السريع في وقت ضيق نسبياً ، هو الأوفق بنجاحهم في مهمتهم ، ومن ثم نجاح المهدي (ع ) نفسه ... فيكون المجيء

الإعجازي دخيلاً في نجاح الدولة - العالمية العادلة نفسها ، فيكون قيام المعجزة

ضرورياً لذلك ، لأنها بحسب قانونها تقوم حينما يتوقف عليها الهدف العادل

وتطبيق الهدى والحق . . . والأمر الآن على ذلك .

وبذلك تترجح الأطروحة الأولى :، فكيف ولماذا نرجح الأطروحة

الثانية ؟ ! .

وجواب ذلك : إن قانون المعجزات دلنا على أن المعجزة إنما تقوم إذا انحصر طريق إقامة الحق والعدل بالمعجزة . وأما إذا كان هناك أسلوبان كلاهما

موصل إلى نفس النتيجة ، أحدهما : طبيعي ، والآخر : إعجازي . لم تحدث

المعجزة ، بل أوكلت النتيجة إلى الأسلوب الطبيعي لإنتاجها ، وإن كان يستغرق وقتاً أكبر وجهداً أكثر ، وقد استنتجنا من ذلك عدة نتائج في التاريخ السابق .

وقلنا هناك أن كل ظهور في الروايات أو غيرها ، يخالف هذا القانون ،

ينبغي الإستغناء عنه وعدم الاعتماد عليه .

والحال بالنسبة إلى هؤلاء الخاصة كذلك ، فإن الأطروحة ( الطبيعية )

لا قصور فيها عن إنتاج النتيجة ، وهو مؤازرة المهدي (ع ) ودعم حركته. فإن المهم وجودهم جميعاً حال إلقائه الخطبة ، التي هي أول لحظات الظهور .

وأما ما الذي يحدث لهم قبل ذلك ، فهذا لا يزيد ولا ينقص في الأمر شيئاً ، إذا أُحرزت حياتهم إلى ذلك الحين . وسنعرف عدم تعرض أحد منهم للقتل .

ص: 388

فإذا كانت الأطروحة الطبيعية منتجة للمطلوب ، كانت هي المتعينة

ضد الأطروحة الإعجازية. لأن المعجزة لا تقوم مع إمكان الإنتاج بالطريق

الطبيعي . وكل ظهور في الروايات يقف ضد ذلك ، لا بد من الإستغناء عنه .

الجهة الخامسة : جنسياتهم

الجهة الخامسة : في جنسيات هؤلاء الثلاثمائة والثلاثة عشر ، بمعنى

تعيين بلدانهم التي كانوا فيها قبل حضورهم إلى مكة ، أو اللغات التي ينتسبون إليها

وبحسن بنا أولاً ، أن نتذكر بعض العبارات التي تمت إلى ذلك من الروايات السابقة ، ونضيف إليها روايات أخرى ، لنعرف الموضوع بوضوح .

قالت الروايات :

«فيأتيه ناس من أهل مكة

فيخرجونه أتاه ابدال الشام

وعصائب أهل العراق » . و « يخرج

ناس من المشرق فيوطئون للمهدي

سلطانه » و « الرجل والرجلان والثلاثة

من كل قبيلة ، حتى يبلغ تسعة »

و « أصحاب القائم ثلثمائة ، وثلاثة

عشر رجلاً أولاد العجم .»

وأخرج النعماني (1) بسنده إلى ابان بن تغلب عن أبي عبد اللّه الصادق

عليه السلام ، أنه قال :

ص: 389


1- غيبة النعماني ص 169.

سيبعث اللّه ثلثمائة وثلاثة عشر

إلى مسجد مكة ، يعلم أهل مكة أنهم

لم يولدوا من آبائهم ولا أجدادهم. .

الحديث .

أخرج الشيخ (1)عن الفضل بن شاذان بسنده عن جابر الجعفي : قال

أبو جعفر (ع ) :

يبايع القائم بين الركن والمقام

ثلاثمائة ونيف عدة أهل بدر . فيهم

النجباء من أهل مصر ، والابدال من

أهل الشام ، والأخبار من أهل العراق

. . . الحديث .

وأخرج السيوطي في الحاوي (2) عن الطبراني في الأوسط والحاكم عن

أُم سلمة قالت : قال رسول اللّه (ص) :

یبایع لرجل بین الرکن و المقام

عدة أهل بدر، فیأتیه عصائب أهل

العراق و ابدال أهل الشام ... الحدیث

وفي حديث آخر (3) :

ص: 390


1- غيبة الشيخ الطوسي ص 284 .
2- انظر ص 129 .
3- ص 137 منه .

الأبدال من الشام وعصب أهل

المشرق ... الحديث .

وأخرج أيضاً (1)عن أبي غنم الكوفي في كتاب الفتن عن علي بن

أبي طالب ، قال :

ويحاً للطالقان ، فان اللّه فيه كنوزاً

ليست من ذهب ولا فضة ، ولكن

بها رجال عرفوا اللّه حق معرفته ،

وهم أنصار المهدي آخر الزمان .

ورواه الكنجي في البيان (2)عن ابن

أعثم الكوفي في كتاب الفتوح . ونقله

القندوزي في الينابيع (3) عن الكنجي.

ونقله عنه أيضاً في موضع آخر من

الينابيع (4)بلفظ مقارب .

وهناك بعض الروايات التي تحمل أسماء أصحاب المهدي ( ع )

وأسماء مدنهم تفصيلاً ... ينبغي أن نذكر بعض نماذجها لأجل أن نفهمها

بعد ذلك فهماً متكاملاً .

أخرج ابن طاووس في الملاحم والفتن (5)عن أبي صالح السليلي في

ص: 391


1- ص 161 منه .
2- انظر ص 69 .
3- ينابيع المودة ص 589 غير أنه قال : رجال معروفون وهم عرفوا اللّه . . . الحديث
4- المصدر ص 538.
5- ص 119 و ما بعدها .

كتاب : الفتن . من عدد رجال المهدي (ع ) بذكر بلادهم ، ثم ذكر السند إلى الأصبغ بن نباتة ، قال : خطب أمير المؤمنين علي (ع ) خطبة فذكر المهدي وخروج من يخرج معه وأسماءهم . فقال له أبو خالد الحلبي صفه لنا يا أمير المؤمنين ! .. فقال علي (ع ) :

ألا إنه أشبه الناس خلقاً وخلقاً

وحسناً برسول اللّه (ص) . ألا أدلكم

على رجاله وعددهم قلنا : بلى يا

أمير المؤمنين.

قال : سمعت رسول اللّه (ص)

قال : أولهم من البصرة وآخرهم من

اليمامة . وجعل علي (ع) يعدد رجال

المهدي (ع) والناس يكتبون فقال :

رجلان من البصرة و رجلان من

الأهواز ورجل من عسكر مكرم ،

و رجل من مدينة تستر ، ورجل من

دورق، ورجل من الباستان ( لعلها :

الباكستان ) واسمه علي ، وثلاثة...

من اسمه ( لعلها: اسمرة ) : أحمد

وعبد اللّه وجعفر ، ورجلان من عمان :

محمد و الحسن ، ورجلان من سيراف :

شداد و شدید. وثلاثة من شيراز :

حفص ويعقوب وعلي ، وأربعة من

ص: 392

أصفهان : موسى وعلي وعبد اللّه

وغلفان . ورجل من أبدح واسمه

يحيى . ورجل من المرج ( العرج )

واسمه داود . ورجل من الكرخ

واسمه عبد اللّه . ورجل من بروجرد

واسمه قديم . ورجل من نهاوند

واسمه عبد الرزاق . ورجلان من

الدينور : عبد اللّه وعبد الصمد . وثلاثة

همدان: جعفر و اسحاق وموسى .

وعشرة من قم : أسماؤهم على أسماء

أهل بيت رسول اللّه (ص) ورجل من

خراسان اسمه درید وخمسة من

الذين أسماؤهم على أهل الكهف .

و رجل من آمل . ورجل من جرجان .

ورجل من هراة ، ورجل من بلخ ،

ورجل من قراح ، ورجل من عانة ،

ورجل من دامغان ، ورجل من سرخس

وثلاثة من السيار ، ورجل من ساوة

ورجل من سمرقند . وأربعة وعشرون

الطالقان ، وهم الذين ذكره-

رسول اللّه (ص) ، وفي خراسان (1)

ص: 393


1- قوله قوله : كنوز لا ذهب ولا فضة ، ورد بالنسبة إلى الطالقان في الرواية السابقة لا بالنسبة إلى خراسان ، فلعل قوله : وفي خراسان هنا ، زائد والعبارة تنسجم بدونه .

كنوز لا ذهب ولا ،فضة ولكن رجال

يجمعهم اللّه ورسوله . ورجلان من

قزوين، ورجل من فارس ، ورجل

أبهر ، ورجل من برجان (لعلها :

جرجان) و رجل من جموح ، ورجل

من شاخ ورجل من صريح ، ورجل

من أردبيل ورجل من مراد ، ورجل

من تدمر ، ورجل من أرمينية ،

و ثلاثة من المراغة . ورجل من خوي،

ورجل من سلماس ورجل من أردبيل

( مكرر في الرواية )ورجل من بدليس

ورجل من نسور ورجل من بركرى

ورجل من سرخيس ، ورجل من

منارجود ( لعلها : بروجرد ) ، ورجل

من ،قلقيلا وثلاثة من واسط ، وعشرة

من الزوراء، ورجل من السراة ورجل

من النيل ، ورجل من صيداء ، ورجل

من جرجان ، ورجل من القصور ،

ورجل من الأنبار ، ورجل من عكبرا ،

ورجل من الحنانة ، ورجل من تبوك ،

ورجل من الجامدة ، وثلاثة من عبادان ،

وستة من حديثة الموصل ، ورجل

من الموصل، ورجل من معلثايا ،

ص: 394

و رجل من نصيبين ، ورجل من كازرون

ورجل من فارقين ( أقول : أصله :

ميا فارقين) ورجل من آمد ، ورجل

من راس العين، ورجل من الرقة ورجل

من حران ، ورجل من ،بالس ورجل

من قبج . ثلاثة من طرطوس ، ورجل من

ورجل من ادنة ( لعلها :

ادرنة ) ورجل من خمرى (أقول :

أصلها : باخمرى) ورجل من عرار

( لعلها : عرعر ) ورجل من

قورص ( لعلها : قبرص ) ، ورجل

من انطاكية ، وثلاثة من حلب .

ورجلان من حمص . وأربعة من

دمشق ، ورجل من سورية ، ورجلان

من قسوان ( لعلها : أسوان) ، ورجل

من قيموت ( لعلها : بيروت ) .

ورجل من كراز ورجل من أذرح .

و رجل من عامر . ورجل من دكار .

ورجلان من بيت المقدس . ورجل

من الرملة، و رجل من بالس ( مكرر )

و رجلان من عكا . ورجل من صور ،

ورجل من عرفات ، ورجل من عسقلان

ورجل من غزة ، وأربعة من الفسطاط .

ص: 395

ورجل من قرميس، ورجل من دمياط،

ورجل من المحلة ورجل من الاسكندرية

ورجل من برقة ، ورجل من طنجة

ورجل من افرنجة ( ويعني أوروبا

بلاد الافرنج أو فرنسا خاصة )

ورجل من القيروان وخمسة من السوس

(لعلها : الشرق الأقصى) ، ورجلان

من قبرص ، وثلاثة من حميم ،

قوص ، ورجل من عدن ورجل من

علالي ، وعشرة من مدينة الرسول (ص)

وأربعة من مكة ، ورجل من الطائف

ورجل الدير ، ورجل من الشيروان ،

ورجل من زبيد، وعشرة من مرو

ورجل من الاحساء ورجل من القطيف،

ورجل من هجر ، ورجل من اليمامة .

قال علي عليه الصلاة والسلام :

أحصاهم لي رسول اللّه (ص)

ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، بعدد

أصحاب بدر ، يجمعهم اللّه مشرقها

إلى مغربها ... الحديث .

فهؤلاء حوالي المأتين والأربعين فرداً. وهو ينقص عن العدد المطلوب بتسعین .

ص: 396

وهناك رواية تذكرهم بكاملهم وتذكر أسماءهم ومدنهم . يحسن بنا أن

تذكرها بالرغم من طولها ، لتتوفر على المقارنة بين الروايتين :

روى في إلزام الناصب (1)بسند ضعيف عن عبد اللّه بن مسعود رفعه

إلى علي بن أبي طالب : لما تولى الخلافة ... أتى البصرة فرقى جامعها وخطب

الناس ... وهي آخر خطبة خطبها «وتسمى خطبة البيان ، وهي لها نسختان وهذا النص مطابق لأحد النسختين. كما ذكر في المصدر » أقول : بين

النسختين اختلاف كبير جداً ونحن ننقل منها بمقدار الحاجة من النسخة الأولى:

اسمعوا أُبين لكم أسماء أنصار القائم ! . ان

أو ولهم من أهل البصرة وآخرهم من الابدال . فالذين

من أهل البصرة رجلان : اسم أحدهما على والآخر

محارب . ورجلان من قاشان : عبد اللّه وعبيد اللّه .

وثلاثة رجال من المهجمة : محمد و عمر ومالك . ورجل

من السند : عبد الرحمن. ورجلان من حجر ( لعلها :

هجر ) : موسى وعباس . ورجل من الكورة :

ابراهيم . ورجل من شيراز عبد الوهاب . وثلاثة

رجال من سعداوة : أحمد ويحيى وفلاح. وثلاثة رجال

من زين: محمد وحسن وفهد. ورجلان من حمير :

مالك وناصر ، وأربعة رجال من شيران . وهم :

عبد اللّه وصالح وجعفر وابراهيم . ورجل من عقر:

أحمد . ورجلان من المنصورية : عبد الرحمن وملاعب.

وأربعة رجال من سيراف : خالد ومالك وحوقل

ص: 397


1- ص 193 وما بعدها إلى عدة صفحات ط ايران.

وابراهيم. ورجلان من خوفخ (لعلها خوي ) :

محروز ونوح . ورجل من المثقة : هارون، ورجلان

من السنن ( لعلها : السند ) : مقداد وهود . وثلاثة

رجال من الهويقين : عبد السلام وفارس وكليب .

ورجل من الزناط : جعفر . وستة رجال من عمان :

محمد وصالح و داود وهو اشب وكوش ويونس. ورجل

من العارة ( لعلها : عانة ) مالك . ورجلان من ضفار

يحيى وأحمد . ورجل من كرمان : عبد اللّه . وأربعة

رجال من صنعاء : جبرئيل وحمزة ويحيى وسميع .

ورجلان من عدن : عون وموسى . ورجل من

لرنجة كوثر - ورجلان من صمد ( لعلها : صفد )

علي وصالح . وثلاثة وثلاثة رجال من الطائف : عملي وسبا

وزكريا . ورجل من هجر : عبد القدوس . ورجلان

الخط : عزيز ومبارك . وخمسة رجال من جزيرة

آوال ، وهي البحرين : عامر وجعفر ونصير وبكير

وليث . ورجل من الكبش : فهد ( محمد ) . ورجل

من الجدا: ابراهيم. وأربعة رجال من مكة : عمر

و ابراهيم ومحمد وعبد اللّه . وعشرة من المدينة ، على

أسماء أهل البيت : علي وحمزة وجعفر وعباس

وطاهر وحسن وحسين وقاسم وابراهيم ومحمد. واربعة

رجال من الكوفة : محمد وغيات وهود و عتاب (عباب)

ورجل من مرو : حذيفة ، ورجلان من نيشابور :

علي ومهاجر . ورجلان من سمرقند : علي ومجاهد

ص: 398

وثلاثة رجال من كازرون: عمر ومقمر ويونس.

ورجلان من الأسوس : شيبان وعبد الوهاب. ورجلان

من دستر : أحمد وهلال . ورجلان من الضيف :

عالم وسهيل . ورجل من طائف اليمن : هلال .

ورجلان من مرقون: بشر و شعيب . وثلاثة رجال

من بر وعد : يوسف وداود وعبد اللّه . ورجلان

من عسكر مكرم : الطيب وميمون . ورجل من

واسط : عقبل. وثلاثة رجال من الزوراء : عبد

المطلب وأحمد وعبد اللّه . ورجلان من سر من رأى :

مرائي وعامر . ورجل من المسهم ( المتهم ) ؛ : جعفر

وثلاث رجال من سيلان: نوح وحسن وجعفر.

ورجل من كرخا بغداد : قاسم . ورجلان من نوبة :

واصل وفاضل . وثمانية رجال من قزرين : هارون

وعبد اللّه و جعفر وصالح و عمر ولت و علي ومحمد. ورجل

من البلخ : حسن . ورجل من المداغة ( لعلها : المراغة )

صدقة . ورجل من قم : يعقوب ، وأربعة وعشرون

من الطالقان ، و ، وهم الذين ذكرهم رسول اللّه (ص)

فقال : اني أجد بالطالقان كنزاً ليس من الذهب ولا

فضة ( الفضة ) ، فهم هؤلاء كنزهم اللّه فيها . وهم

صالح وجعفر ويحيى وهود وفالح وداود وجميل

وفضيل وعيسى وجابر وخالد وعلوة وعبد اللّه وأيوب

وملاعب وعمر وعبد العزيز ولقمان وسعد وقبضة

ومهاجر وعبدون وعبد الرحمن وعلي . ورجلان

ص: 399

من سحار : أبان وعلي. ورجلين من شرخيس : ناحية

و حفص . ورجل من الأنبار : علوان . ورجل من

القادسية : حصين. ورجل من الدورق : عبد الغفور

وستة رجال من الحبشة : ابراهيم وعيسى ومحمد

و حمدان وأحمد وسالم . ورجلان من الموصل : هارون

وفهد . ورجل من بلقا : صادق . ورجلان من نصيبين

أحمد وعلي . ورجل من سنجار : محمد ورجلان من

خرسان ( لعلها : خراسان ) : نكبة ومستون .

ورجلان من أرمينية : أحمد وحسين . ورجل من

أصفهان : يونس . ورجل من وهان ( لعلها : وهران )

حسين ، ورجل من الري: مجمع . ورجل من دنيا :

شعيب . ورجل من هراش : نهروش . ورجل من

سلماس : هارون ورجل من بلقيس : محمد . ورجل

من الكرد : عون . ورجل من الحبش : كنير . ورجلان

من الحلاط : محمد و جعفر . ورجل من الشوبا :

عمیر. و رجلان من البيضا : سعد وسعيد . وثلاثة

رجال من الضيعة : زيد وعلي وموسى . ورجل من

أوس : محمد . ورجل من الانطاكية : عبد الرحمن .

ورجلان من حلب : صبيح ومحمد . ورجل من

حمص : جعفر . ورجلان من دمشق: داود وعبد

الرحمن . ورجلان من الرملية ( لعلها : الرميلة ) :

طليق وموسى . وثلاثة رجال من بيت المقدس :

ص: 400

عسفان ) : محمد ويوسف وعمر وفهد وهارون . ورجل

من غزة : عمير . ورجلان من عكة ( عكا ) مروان

و سعد . ورجل من عرفة : فرخ. ورجل من

الطبرية : فليح . ورجل من البلسان : عبد الوارث .

وأربعة رجال من القسطاط ( الفسطاط ) من

مدينة فرعون لعنه اللّه : أحمد وعبد اللّه ويونس

وظاهر . ورجل من بالس : قصير وأربعة رجال من

من الاسكندرية : حسن ومحسن و شبيل وشيبان .

وخمسة رجال من جبل اللكام : عبد اللّه وعبيد اللّه

وقادم و بحر وطالوت . وثلاثة رجال من السادة : صلب

وسعدان وصبيب . ورجلان من الافرنج : علي واحمد .

ورجلان من اليمامة : ظافر وجميل . وأربعة عشر

رجلا من المعادة : سويد وأحمد ومحمد وحسن ويعقوب

وحسين وعبد اللّه وعبد القديم ونعيم وعلي وحيان

وظاهر وتغلب وكثير . ورجل من المرطة :

معشر . وعشرة رجال من عبادان : حمزة وشيبان

وقاسم وجعفر وعمر وعامر وعبد المهيمن وعبد

الوارث ومحمد وأحمد . وأربعة عشر من اليمن :جبير

وحويش ومالك وكعب وأحمد وشيبان وعامر وعمار

وفهد وعاصم وحجرش وكلثوم وجابر ومحمد. ورجلان

من بدو مصر: عجلان ودواج. وثلاثة رجال من

بدوا عقيل : منبه وضابط وعريان . ورجل من

بدواغير : عمر . ورجل من بدو شیبان : نهراش. ورجل

ص: 401

من تميم: ريان . ورجل من بدو قين : جابر. ورجل

من بدو كلاب : مطر . وثلاثة رجال من موالي أهل

البيت : عبد اللّه ومخنف وبرّاك . وأربعة رجال من

موالي الأنبياء . صباح وصياح وميمون و هود . و رجلان

مملو كان : عبد اللّه وناصح . ورجلان من الحلة :

محمد وعلي . وثلاثة رجال من كربلا : حسين وحسين

وحسن . ورجلان من النجف . جعفر ومحمد . وستة

رجال من الابدال ، كلهم أسماؤهم عبد اللّه ...

الحديث .

وينبغي أن نتحدث عن هذه الروايات ضمن عدة نواحي :

الناحية الأولى : تحتوي هاتان الروايتان الأخيرتان على عدة من نقاط الضعف :

النقطة الأولى : انهما معاً ضعيفتان سنداً ، والثانية تزيد على ذلك بأنها مرفوعة ، والمرفوع ما يكون محذوف بعض رواته مرسولاً فلا يكون قابلاً للإثبات .

النقطة الثانية : إن الخطبة البيان نسختين غير متشابهتين . يكفينا أنه ليس في النسخة الثانية تعرض لأنصار الإمام المهدي (ع ) ، وإنما تعدد أسماء الحكام الذين يوزعهم على العالم . ونحن لا نعلم أن أي النصين أو النسختين هي الصادرة عن أمير المؤمنين (ع ) ، فيكون كلاهما ساقطاً عن قابلية الإثبات .

النقطة الثالثة : إن عدداً من المدن والأماكن المذكورة فيها غير معروف . و ینبغی أن نلتفت أن للخطأ المطبعي والكتابي دخلاً كبيراً في تغيير أسماء

ص: 402

البلدان ، مضافاً إلى صعوبة الضبط خلال كتابة الخطبة ، في مثل هذه القوائم

المفصلة ، تشابه الأسماء وتفرق البلدان .

هذا ولعل بعضها قرى منعزلة غير معروفة ، وبعضها معروف ولكنه

بائد الآن تماماً . ولعل بعضها مدن ستوجد في المستقبل لا نعلم الآن منها شيئاً ! ! .

النقطة الرابعة : إن هاتين الروايتين بالرغم من التقائهما في عدد من المضامين إلا أنها تحتوي على عدد من نقاط التعارض ، كما لا يخفى على القارىء

عند المقارنة .

النقطة الخامسة : توجد بعض الروايات الأخرى الناقلة لأسماء أنصار الإمام المهدي عليه السلام ، وهي تختلف أيضاً مع كلتا هاتين الروايتين ، في أسماء

المدن وأسماء الأشخاص معاً ، وان اتفقت معهما على بعض الأمور الرئيسية ، كعدد الطالقانيين في هؤلاء الخاصة .

ومهما يكن شأن تلك الروايات التي لا نحب الإطالة بذكرها ، فانها تعارض كلتا هاتين الروايتين في عدد كبير من مضامينهما ... فتكون قابلية هاتين الروايتين وتلك المشار إليها ، للاثبات التاريخي أقرب للوهن والسقوط.

ولكننا اذ نريد أن نكوِّن عن جنسيات أصحاب الإمام المهدي فهماً معيناً

لا بد أن نغض النظر عن هذه النقاط . . . والا كان الطريق إلى فهم ذلك منسداً

تقريباً ، وان كان الجهل بذلك لا يحتوي على اسفاف تاريخي أو عقائدي .

الناحية الثانية : لا يخفى وجود نقطتين للقوة في هذه الروايات ترفع معنوياتنا في الاستدلال بها ، لو ضممنا إلى الروايتين الأخيرتين ما قبلهما من

الروايات ، ونظرنا إلى هذا المجموع كله .

ص: 403

النقطة الأولى : اشتراك مضمون كل من الروايتين الأخيرتين مع معطيات

الروايات الأخرى ... اذا لوحظت الروايتان كل على حدة .

النقطة الثانية : ان هناك عدد من المعطيات مشترك بين هاتين الروايتين ومشترك في نفس الوقت مع مضمون بعض الروايات السابقة . واذا أصبح المضمون متسالماً عليه بهذا الشكل ، فمن الممكن القول بأنه ثابت تاريخياً ومتجاوز

نقاط الضعف السابقة ، باعتبار تسالم عدد من الروايات على صحته . وسنرى

لكل من هاتين النقتطين تطبيقاتهما فيما يلي :

الناحية الثالثة : اننا بملاحظة مجموع الروايات الناقلة الجنسيات أصحاب

الإمام المهدي (ع) ، يمكن أن نصل إلى النتائج الآتية :

النتيجة الاولى : ان مضمون ( حديث الطالقان) مروي عن النبي (ص)

من كلا الفريقين، وان اختلفت بعض الفاظه .

النتيجة الثانية : ان مقدار الكنز الذي بشر به النبي (ص) وامتدحه ، الطالقان ، مكون من أربعة وعشرين رجلا . فان ذلك مما تسالمت عليه جميع الروايات الناقلة لأسماء هؤلاء الأصحاب ، بالرغم من اختلافاتها الاخرى

النتيجة الثالثة : ان مصر والشام والعراق من جملة البلاد التي تحتوي على عدد من هؤلاء الخاصة . فقد ذكرت ذلك على وجه الإجمال الروايات من الفريقين ، كما ذكرت الروايات المكرسة لأسمائهم عدداً من مدن هذه البلاد

وان في كل منها جماعة منهم .

النتيجة الرابعة : نصت الروايات التي سمعناها على أن هؤلاء يجتمعون من مختلف بقاع العلم ...وهذا هو نفس المعطى الذي توحيه الروايات المكرسة لأسمائهم .

ص: 404

النتيجة الخامسة : ان الأعم الأغلب من هؤلاء الخاصة ، هم من الشرق الأوسط . . . الذي كان هو الموقع الرئيسي لخط الأنبياء والمرسلين ، والمنطلق الأهم للتخطيط الإلهي العام .

فمصر سوف ترسل من عدد من مدنها ( نجباء ) . . . والعراق سوف تعطي عدداً آخر ( أخياراً ) وخاصة من البصرة والكوفة والنجف ... والشام تبعث ( أبدالا) وخاصة من دمشق نفسها ، وان كان عنوان الشام في الأخبار شاملا لكل من سوريا ولبنان والاردن وفلسطين . والحجاز سوف تشارك في هذا المجد

العظيم بأفراد من مدينتيها المقدستين: مكة المكرمة والمدينة المنورة وغيرهما.

و ( المشرق ) سوف يشارك أيضاً في هذه المهمة الجليلة ، كما نصت على ذلك الروايات الموجزة والروايات المطولة معاً. فانه عنوان ينطبق على ما كان في شرق المنطقة المشار إليها ، اعني في شرق العراق على وجه التحديد . وهو

يشمل ايران على الخصوص، والمنطقة الشاملة لأفغانستان و باكستان والجمهوريات

المسلمة في الاتحاد السوفياتي على العموم. وقد عددت الروايات المطولة عدداً

مدن هذه المنطقة ، وان كان أغلبها من ايران خاصة .

النتيجة السادسة : ان سائر مناطق العالم سوف تشارك في هذه المهمة ولكن

على نطاق أضيق .

وان أوسع المناطق مشاركة بعد المناطق السابقة ، هو الشمال الافريقي المسلم ، وتليه افريقيا السوداء . وهناك أفراد من اليمن وشرق الجزيرة العربية ومن

أوربا وقبرص ومن الشرق الأقصى. وهذا ما تدل عليه الروايات المطولة على

الخصوص ، وما دل من الروايات على أن أصحاب المهدي (ع) يجتمعون من كل مناطق العالم .

ص: 405

الناحية الرابعة : اذا اعتبرنا اتفاق الروايتين الأخيرتين ، قابلا للاثبات

التاريخي . أمكننا أن نلاحظ ما يلي :

أولا : اتفقت الروايتان على نسبة قليلة من المدن . فبينما ذكرت الرواية الاولى مائة وستاً وعشرين مدينة والثانية : مائة وست مدن مع انساب وعناوين أُخرى ... نراهما يتفقان في تسمية خمس وثلاثين مدينة فقط . وهي نسبة

تقل عن الثلث في كلتا الروايتين .

ثانياً : لأجل الحقيقة وتسهيلا على

القارىء نذكر المدن المتفق عليها :

البصرة ، عسكر مكرم ، عمان ،

سيراف ، شيراز ، أصفهان ، الكرخ ،

قم، الطالقان ، قزوين ، أرمينية

الزوراء ، عبادان ، الموصل ،

نصيبين، بالس ، حلب ، حمص ،

دمشق ، بيت المقدس ، غزة ، الفسطاط

الاسكندرية ، الافرنج ، عدن ،

المدينة ، مكة ، الطائف، مرو ، هجر

عرفات (عرفة) ، رملة ( رملية)

عكا ، انطاكية ، اليمامة.

ثالثاً : اختلفت الروايتان في العدد الذي يخرج من هذه المدن ... فيما

عدا احدى عشر مدينة ، هي كما يلي : البصرة اثنان ، الطالقان أربع وعشرون

بالس ،واحد عرفات ،واحد غزة واحمد الفسطاط أربعة ، المدينة المنورة عشرة ، مكة المكرمة أربعة ، هجر واحد ، عكر اثنين . أنطاكية واحد .

ص: 406

رابعاً : اهملت الرواية الثانية عدداً من المدن المهمة التي ذكرتها الرواية الاولى ، والتي يبعد أن لا يوجد فيها أحد من الخاصة . نذكر على سبيل المثال :

بروجرد و نهاوند و همدان و خراسان وأردبيل وصيدا وصور والاحساء والقطيف ودمياط والقيروان .

واهملت الرواية الاولى عدداً من المدن المهمة أيضاً ، مما ذكرته الرواية الثانية : كعمان وقاشان و سمرقند وبغداد وكربلا والنجف والكوفة وعكا

والبحرين واليمن .

ويعتبر هذا من نقاط الضعف في هاتين الروايتين .

الناحية الخامسة : هناك بعض الاستفهامات حول هذه الروايات نذكر

أهمها، خشية التطويل :

الاستفهام الأول : دلت بعض الروايات السابقة على أن هؤلاء الخاصة

هم (أولاد العجم ) ... فهل يمكن الأخذ بذلك ؟

وجوابه : اننا بعد أن نلتفت إلى أن المراد من العجم غير العرب عموماً

لا خصوص الفرس . نجد نسبة عالية من المدن المذكورة في كل من الروايتين

المطولتين هي مدن غير عربية . وان الأهم منهم وهم الطالقانيون من العجم .

غير أن هذه النسبة لن تزيد على النصف كثيراً ، بل لعلها أقل ، كما يتضح

عند الاحصاء والمقارنة .

ومعه لا يمكن الالتزام بظاهر تلك الرواية بأن كلهم أو أغلبهم من العجم فان فيهم من العرب نسبة عالية بكل تأكيد. على أن اللغة غير مهمة بازاء الدفاع عن الحق وتوطيد الهدف العادل .

ص: 407

الاستفهام الثاني : دل الخبر الذي أخرجه أبو داود وغيره ، على أن أهل مكة هم الذين يخرجون المهدي (ع ) ويبايعونه وظاهره أن جميعهم من أهل مكة

فهل يمكن الالتزام بذلك ؟

وجوابه : انه ان كان المراد من أهل مكة : من يكون فيها يومئذ ، فهذا صحیح، لأن جمیع الخاصة سوف يكونون فيها ، فيكونون من أهلها بهذا المعنی، مهما کانت بلدانهم السابقة .

وان كان المراد سكانها الاعتياديون ، كما هوالمفهوم عادة من اللفظ، أعنی : ( أهل مكة ) . . . فهو غير صحيح ، فان آحادا منهم من أهلها ، غير الكثرة الكاثرة منهم ليسوا منهم على أي حال . يدل على ذلك ما في الخبر نفسه

من أن منهم « ابدال الشام وعصائب أهل العراق ) وان منهم «ناس من المشرق » وان منهم « الرجل والرجلان والثلاثة من كل قبيلة ...» وليست القبائل

كلها في مكة .

مضافاً إلى الروايتين المطولتين اللتين دلتا على أن ما عدا أربعة

فقط من غیر أهل مکة.

أضف إلى ذلك : الخبر الذي سمعناه عن النعماني عن أبي عبد اللّه الصادق

عليه السلام.

« سيبعث اللّه ثلثمائة وثلاثة

عشر إلى مسجد مكة ، يعلم أهل

مكة انهم لم يولدوا من آبائهم ولا أجدادهم

وظاهره أنهم جميعاً ليسوا من أهل مكة ، غير أن التنزل عن هذا الظاهر

في أربعة فقط ، غير عسیر.

ص: 408

مضافاً إلى ما ستسمعه ، غير بعيد ، من أن وجود هؤلاء في مكة سيشكل

(مشكلة قانونية ) بصفتهم غرباء لم يدخلوا بترخيص من الجهات الحاكمة ، كما

دلت عليه الأخبار. فلو كانوا من أهل مكة ، لم يكن لهذه المشكلة أي موضوع.

الاستفهام الثالث : هل أن وجود بعض هؤلاء الخاصة في مدينة ما ،

يعتبر شرفاً وفضيلة لتلك المدينة ، أم لا ؟

وجوابه : انه لاشك أن هذه جهة مهمة جداً بالنسبة إلى أي مدينة . غير

أنه لا ينبغي المبالغة في ذلك ... لأن السبب الرئيسي لتكامل الفرد في المدن

الاعتيادية . ما لم تحتو المدينة على زخم علمي وعقائدي خاص موجب للتكامل

كالذي يوجد في القاهرة والنجف وقم وجامعة القرويين وأمثالها في العالم الإسلامي والا فسيكون المسبب الرئيسي للتكامل هو زيادة الظلم والانحراف الساري

المفعول ضد المؤمنين في كل الأجيال . وكلما تطرف أهل المدينة إلى جانب

الباطل تطرف هؤلاء إلى جانب الحق ، كما برهنا عليه في التاريخ السابق (1) و من هنا يكون سبب التكامل العالي ، حتى يكون الفرد بدلا من الابدال ، هو

تطرف الأفراد الآخرين إلى جهة الباطل واضطهادهم الأفراد المؤمنين إلى أقصى حد .

وهذا هو الذي يجعل انتاج المدينة الاعتيادية لبعض الأفراد المتكاملين الخاصين ، لا يمثل شرفاً ولا فضيلة بالنسبة إلى الأفراد الآخرين في الاعم الأغلب.

الجهة السادسة : المشكلة القانونية التي تحدث في مكة لورودهم

الجهة السادسة : من هذا الفصل .

في المشكلة القانونية التي يحدثها بقاء هؤلاء الثلاثمائة والثلاثة عشر في مكة

المكرمة ، ما بين ورودهم إلى حين تحقق الظهور .

ص: 409


1- ص 244 وما بعدها .

ونتحدث عن ذلك ، ضمن عدة نقاط :

النقطة الاولى : في محاولة فهم هذه المشكلة أساساً .

ان المنطلق الأساسي الذي يثير المشكلة هو وجود هؤلاء ( الغرباء )

فترة من الزمن تقل أو تكثر بدون سبب ظاهر .

انها مشكلة مفهومة في جو المجتمع القديم، حين كان الغريب منظوراً

إليه بعين الاستغراب ، ومراقباً من قبل أي فرد في كل تحركاته . تصعب مجاملته ومكالمته وتعتبر الصداقة معه خطوة خطرة . بل ان مجرد بيع الطعام عليه لا

يكون إلا بالحذر. فكيف إذا كان الغرباء كثيرين في وقت لم تعتد المدينة على

استقبال الزوار . وكان من الواضح عدم وجود هدف معين لاجتماعهم... ولم يتذكر فرد من أهل البلدة أنه رأى أي واحد منهم طيلة حياته .ان أهل مكة المكرمة سيعيشون مثل هذه المشكلة إذا كانوا يمثلون المجتمع القديم .

وهي مشكلة مفهومة أيضاً، بحسب قوانين الدول الحديثة ، على كلا

الفهمين ( الطبيعي ) و ( الاعجازي ) في ورودهم إلى مكة .

أما طبقاً للفهم ( الطبيعي ) الذي أعطيناه ، وهو أنه سوف يقع النداء في شهر رمضان وسيظهر الإمام المهدي (ع) - كما دلت الروايات- في اليوم

العاشر من محرم الحرام ، فتكون المدة المتخللة ، وهي حوالي أربعة أشهر ،

فترة كافية للسفر الاعتيادي إلى مكة لمقابلة الإمام (ع) ، من قبل أي شخص

مشتاق إلى ذلك . وسيمر موسم الحج خلال هذه الفترة ، وسيكون الذهاب من

هذه الجهة مشروعاً تماماً أمام الناس ، كما سيفوز الفرد المخلص بأداء فريضة

الحج أولا ، وبمقابلة الإمام المهدي (ع) ثانياً .

ص: 410

ان هذه الاطروحة هي مركز المشكلة بالنسبة إلى أهالي مكة ، فان ما بين

انتهاء فترة الحج واليوم العاشر من المحرم أكثر من خمسة وعشرين يوماً. والمفروض أن الحجاج سيعودون أدراجهم بعد انتهاء موسم الحج مباشرة ، كما هو الحال في كل عام فما الذي حصل في أن تتخلف جماعة كبيرة بعد

الحج زمناً طويلا نسبياً ؟ ! وما هي مقاصدهم من هذا التخلف ؟ !

ان هؤلاء ( الخاصة) لا يمكنهم أن يصرحوا بهدفهم الحقيقي لأحد ، بل لعل أي واحد لا يستطيع أن يصرح للآخر منهم بذلك ، لعدم سبق معرفة بينهم

أصلا فضلا عن التصريح به للشعب المكي أو للحكام .

ان غاية ما يستطيع الفرد منهم أن يعمله ، هوأن يأخذ اذناً بالإقامة لمدة

شهر، عسى أن يحصل الظهور خلاله ، فان لم يحصل أخذوا اذناً بالبقاء شهراً

آخر . ولكن الظهور سوف لن يتأخر عنهم أكثر من شهر .

فهذه هي الصورة طبقاً للفهم الطبيعي الذي أعطيناه . وسنعرف فيما بعد

مدى صحة هذه الصورة وعدمها .

وأما طبقاً للفهم ( الاعجازي) لاجتماعهم ، وذلك في الليلة السابقة على الظهور ، كما سنسمع . . . فالمشكلة أوضح ، اذ يصبح أهل مكة ، فيجدون

هؤلاء المئات من الناس يتجولون في الأسواق بدون هدف معروف . لا يعرفون

واحداً منهم ، ولم يسبق لأي منهم أن حمل في جيبه جواز سفر أو إذناً بالإقامة.

ولعل الروايات أقدر مني في بيان شكل المشكلة . . . غير أنها منطلقة من

زاوية اعجازية - أولا - وفي مجتمع لا تحكمه دولة نظامية حديثة ، ثانياً .

النقطة الثانية : في سرد الروايات الواردة بهذا الصدد .

ص: 411

وهي عدة روايات، أكثرها يورد المشكلة باختصار . ولعل أهم الروايات وأوضحها : ما أخرجه ابن طاووس في الملاحم والفتن (1)نقلا عن كتاب يعقوب

ابن نعيم قرقارة الكاتب لأبي يوسف . قال ابن طاووس : قال النجاشي الذي

زكاه محمد بن النجار : ان يعقوب بن نعيم المذكور روى عن الرضا (ع) وكان جليلا في أصحابنا ثقة . ورأينا ما ننقله في نسخة عتيقة لعلها كتبت في

حياته . وعليه خط السعيد فضل اللّه الراوندي قدس اللّه روحه فقال : ما هذا لفظه :

حدثني أحمد بن محمد الأسدي

سعيد بن جناح عن مسعدة أن

أبا بصير قال لجعفر بن محمد (ع) :

هل كان أمير المؤمنين (ع) يعلم

مواضع أصحاب القائم (ع) ، كما

كان يعلم عدتهم . فقال جعفر بن

محمد (ع) : إي واللّه يعرفهم بأسمائهم

وأسماء آبائهم رجلا فرجلا ، ومواضع

منازلهم .

أقول : وتحنوي الرواية على تعداد الأماكن وان من كل مكان رجل أو

رجلان أو أكثر ، من دون تسمية ثم يقول :

فهؤلاء ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، يجمعهم اللّه

عز وجل بمكة في ليلة واحدة ، وهي ليلة الجمعة .

فيصبحون بمكة في بيت اللّه الحرام ، لا يتخلف منهم

ص: 412


1- ص 169 وما بعدها .

رجل واحد فينتشرون بمكة في أزقتها ويطلبون

منازل يسكنونها ، فينكرهم أهل مكة، وذلك ( لأنهم )

لم يعلموا بقافلة قد دخلت من بلدة من البلدان الحج ولا

لعمرة ولا تجارة . فيقول من يقول من أهل مكة بعضهم

البعض : ما ترون ، قوماً من الغرباء في يومنا هذا ،

لم يكونوا قبل هذا ليس هم من أهل بلدة واحدة

ولا هم من قبيلة واحدة، ولا معهم أهل ولا دواب .

فبينما هم كذلك ، إذ أقبل رجل من بني مخزوم

فيتخطى رقاب الناس ويقول : رأيت في ليلتي هذه

رؤيا عجيبة ، وأنا لها ، وأنا لها خائف وقلبي منها وجل .

فيقولون : سر بنا إلى فنون الثقفي ، فاقصص عليه

رؤياك ، فيأتون الثقفي ، فيقول المخزومي : رأيت

سحابة انقضت من عنان السماء ، فلم تزل حتى

انقفت على الكعبة ما شاء اللّه . وإذا فيها جراد ذو

أجمعة خر . ثم تطايرت يميناً وشمالا . لا تمر ببلد

إلا أحرقته . ولا يحصن الا حطيته .

فيقول الثقفي : لقد طرقكم في هذه الليلة ، جند

من جنود اللّه جل وعز ، لا قوة لكم به . فيقولون :

أما واللّه ، لقد رأينا عجباً ! ويحدثونه بأمر القدم .

ثم ينهضون من عنده فيهتمون بالوثوب بالقوم . وقد

ملأ اللّه قلوبهم رعباً وخوفاً . فيقول بعضهم لبعض

وهم يأتمرون بذلك : يا قوم لا تعجنوا على القوم ولم

ص: 413

يأتوكم بمنكر ولا شهروا السلاح ، ولا أظهروا

الخلاف . ولعله أن يكون في القوم رجل من قبيلتكم

فان بدا لكم من القوم أمر تنكرونه ،فأخرجوهم .

أما القوم فمتنسكون ، سيماهم حسنة ، وهم في

حرم اللّه جل وعز الذي لا يفزع من دخله حتى

يحدثوا فيه حادثة ولم يحدث القوم ما يجب (به) محاربتهم

فيقول المخزومي - وهو عميد القوم - : أنا لا

آمن أن يكون وراءهم مادة ، وان أتت إليهم انكشف

أمرهم وعظم شأنهم ، فاحصوهم وهم في قلة العدد

وعزة بالبلد ، قبل أن تأتيهم المادة . فان هؤلاء

لم يأتيكم إلا وسيكون لهم شأن . وما أحسب تأويل

رؤيا صاحبكم إلا حقاً .

فيقول بعض لبعض: ان كان من يأتيكم مثلهم

فانه لا خوف عليكم منهم ، لأنه لا سلاح معهم و لا

حصن يلجأون إليه . وان أتاكم جيش نهضتم بهؤلاء

فيكونون كشربة ضمآن .

فلا يزالون في هذا الكلام ونحوه ، حتى يحجز

الليل بين الناس فيضرب على آذانهم بالنوم . فلا

يجتمعون بعد انصرافهم ( إلى) أن يقوم القائم . فيلقى

أصحاب القائم (ع) بعضهم بعضاً كبني أب وأم،

افترقوا غدوة واجتمعوا عشية ...الحديث .

النقطة الثالثة : في تلخيص المهم من مضامين هذه الرواية ، مع نقده :

ص: 414

أولاً : تدل هذه الرواية بوضوح على اجتماع هؤلاء الخاصة بطريق

المعجزة ، لا يبقون إلا نهاراً واحداً يظهر الإمام المهدي في مسائه .

وهذه المعجزة منافية لقانون المعجزات ، بعد أن عرفنا إمكان انتقالهم بطريق السفر الاعتيادي. وكلما أمكن انتاج الهدف بالاسلوب الطبيعي لم تقم المعجزة لانجازه .

ثانياً : تعكس هذه الرواية مدى القلق الذي يسيطر على أهل مكة وحكامها من هؤلاء الغرباء ... حتى أنهم يفكرون في مقاتلتهم ، لولا أن اللّه تعالى يصرفهم عن ذلك ، باعتبار الحرمة الإسلامية في القتل في مكة المكرمة ما لم يبدأ

الآخرون بالقتال ، فيحفظ اللّه تعالى نفوسهم بذلك إلى حين الظهور .

وهذا القلق لدى أهل مكة ، واضح وضروري ، مع صحة الانتقال الاعجازي لهؤلاء الخاصة. وأما مع وصولهم بالسفر الاعتيادي لأجل الحج -كما

قلنا- فالظاهر أنه ليس هناك أية مشكلة ولن يكونوا ملفتين للنظر على كل حال .

فان مكة المكرمة في الأزمنة السابقة ، كانت لا تستقبل الزوار الحجاج ، إلا في موسم الحج، فمن الطبيعي أن يكون بماء الزوار في غير هذا الموسم أو بعد انقضائه ، غريباً ملفتا للنظر. الا أن الحال قد اختلف جداً في السنوات المتأخرة . فقد أصبحت مكة تستقبل أعداداً كبيرة من الزوار على طول مدار

العام ، وتشتغل فنادقها بالقاطنين طوال السنة ، لا تخرج جماعة إلا لتدخل أُخرى . ويكون التخلف عن الحج لأجل عدة أهداف كالتجارة والنزهة وتطويل الزيارة ومراجعة الكتب والمفكرين والعلماء ، وغير ذلك ... أمراً طبيعياً لا غبار عليه .

ومعه ، يكون أهل مكة قد اعتادوا مواجهة الغرباء باستمرار ، واعتادت السلطات على اعطاء الاذن للناس بالاقامة فترات مختلفة من الزمن طول

ص: 415

العام . إذن ، فبقاء هؤلاء الخاصة أن يكون ملفتاً للنظر ولن يوجب أي مشكلة

ولا دليل كامل على أن الباقين بعد الحج هم هؤلاء فقط ، بل لعل أُناساً آخرين

يستمرون بالبقاء بنفس القصد أو لأغراض أخرى .

ثالثاً : تدل الرواية على أن السلطات المكية بدائية الشكل ، والمجتمع المكي

متدين إلى حد ما بحيث يتورع عن قتل هؤلاء في الحرم المكي . وكلا الفكرتين

قابلة للمناقشة :

أما بدائية الدولة فقد ارتفعت في العصر الحديث، وتبدلت إلى الدولة النظامية الحديثة. ومن الواضح : ان معجزة مثل هذه لو حدثت في دولة حديثة لما

تلكأت الدولة في القاء القبض على هؤلاء واستنطاقهم فرداً فرداً . ولا أقل من

تشديد قوى الأمن الداخلي وجعلهم تحت الرقابة المستمرة استعداداً لكل طارىء

فالغض عنهم ، ووقوع الجدل بشأنهم لا يكاد يكون محتملا في أنظمة الدولة

الحديثة .

نعم ، سوف لن يكون هذا أي أثر مع صحة الاطروحة الطبيعية التي عرضناها لاجتماعهم ، كما هو واضح . وانما يترتب ذلك طبقاً للفهم الاعجازي

لاجتماعهم . وقد يعتبر ذلك أحد نقاط الضعف في هذا الفهم .

وأما تدين المجتمع المكي ... فهناك قرينة رئيسية على نفيه ، وهو قتل النفس الزكية بين الركن والمقام قبل الظهور بخمسة عشر يوماً . و سيصادف ذلك

زمن وجود هؤلاء في مكة طبقاً للاطروحة الطبيعية . ومن يكون على مستوى

القتل في داخل المسجد الحرام ، سوف لن يتورع عما هو دونه ، وهو القتل في خارج المسجد .

غير أن ذلك مما سوف يكون مستغنى عنه طبقاً للاطروحة الطبيعية ، للاختلاف الجذري بين مهمة النفس الزكية الذي يواجه الشعب المكي بما

ص: 416

لا يرتضيه ، وبين مهمة هؤلاء الذين لن يحركوا ساكناً ولن يلفتوا نظراً قبل الظهور .

الجهة السابعة : في خصائص أخرى لهم

الجهة السابعة : في خصائص أخرى نصت عليها الروايات ، لأصحاب

الإمام المهدي (ع) . :

الخصيصة الأولى : تسميتهم بجيش الغضب .

و هو ما دلت عليه روايات أخرجها النعماني في الغيبة (1) والصدوق في

اکمال الدين (2) وقد نقلنا بعضها فيما سبق .

والسر في هذه التسمية هي أنهم بقيادة امامهم المهدي (ع) ، يمثلون غضب اللّه تعالى على المجتمع الفاسد المتفسخ عقيدة ونظاماً واخلاقاً ، والحكم

عليه بالفناء والزوال، مع تبديله إلى مجتمع عادل تسوده السعادة والرفاه .

الخصيصة الثانية : انهم شباب لا كهول فيهم إلا أقل القليل ، كالكحل

في العين أو كالملح في الطعام ، كما دلت عليه احدى الروايات . وهذا التشبيه

دال على أن هؤلاء الكهول القلائل هم من أفضل الجماعة ايماناً واخلاصاً وثقافة،

وان وجودهم فيهم ضروري ... شأن الملح في الطعام فانه على الرغم من قلته بالنسبة إلى سائر الأجزاء ، الا أنه أهمها وأكثرها ضرورة .

وهذا أمر موافق مع خصائص النفس الإنسانية . فالشاب بطبيعته أقوى

من الكهل اندفاعاً وقوة وإرادة والكهل أفضل من الشاب رشداً وتجربة وثقافة.

والجيش المتكامل يحتاج إلى كلا النوعين بطبيعة الحال . ولكنه إلى الاندفاع

وقوة الإرادة أحوج . وأما الرأي ان احتيج إليه – فيكفي فيه العدد القليل. ومن

ص: 417


1- ص 167 وما بعدها.
2- انظر النسخة المخطوطة .

الواضح كون الرأي الأهم موكول إلى الإمام المهدي (ع) نفسه ، الا فيما يستشير أصحابه من الأمور ، كما كان النبي (ص) يفعل أحياناً ، وخاصة

بعد أن وعده وعدهم أن يكون (حيث يريدون ) .

وقد يخطر في الذهن : ان المفروض في أصحاب الإمام المهدي (ع) -كما قالنا -أن يكونوا من المخلصين الممحصين المتكاملين في الإيمان والإرادة إلى درجة عالية جداً . وهذا ما يحتاج الفرد في الوصول إليه إلى سنين وسنين

وإلى ظروف كثيرة وتجارب مثيرة. وهذا لا يتم في الشباب على أي حال. فكيف ينسجم ذلك مع ما دل على كونهم - في الأغلب - من الشباب .

والجواب على ذلك يكون على مستويين :

المستوى الأول : اننا قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى (1): أن تمحيص الفرد

وتربيته لا يعود فقط إلى الظروف التي يعيشها الفرد خلال حياته . . . بل يعود

جزء كبير منها إلى تربية الأمة ككل متمثلة بالأجيال المتصاعدة. فكل بجبر من

الصالحين يوصل نتيجة التمحيص إلى درجة معينة ويورثها إلى الجيل الذي يليه

ليمشي بها خطوة أخرى ... وبقانون ( تلازم الأجيال ) يبقى التمحيص

ساري المفعول على مجموع الأمة .

ومعه ، فمن الممكن القول : ان التمحيص في الجيل الأسبق عن الظهور قد بلغ من العمق والشمول بحيث لم يبق منه إلى انتاجه الكامل ، الا خطوات قليلة

تتحقق خلال السنوات الأولى من الجيل الذي يليه وهو الجيل السابق على الظهور

مباشرة ، أعني الجيل الذي يحصل فيه الظهور، ومعه فسيتحقق الظهور حال

شباب الأعم الأغلب من هؤلاء الصالحين .

ص: 418


1- انظر ص 364 وغيرها.

المستوى الثاني : ان الأسباب التي يخرج بها الفرد ممحصاً كاملا ..تمثل في حقیقتها،کما برهنا عليه في التاريخ السابق (1) المواقف وردود الفعل التي

يتخذها الفرد تجاه الظروف الخارجية الظالة والعادلة على حد سواء ، فكلما

كانت المواقف أصبح وكانت ردود الفعل أفضل، كان الفرد أكثر نجا حار قميصاً.

وهذه الظروف قد تكون بطيئة الانتاج، بمعنى أن كل حادثة تمر بالفرد

لا تقتضي منه إلا درجة بسيطة من الإخلاص وقوة الإراد، فيكون تكامله محتاجاً

إلى تجارب كثيرة وطويلة بصيراً محتاجاً إلى عشرات السنين وقد لا ينتج المستوى المطلوب طول عمر الفرد أصلا، وانما يصل الفرد إلى مرتبة ناقصة

من الكمال فحسب .

وقد تكون الظروف التي تمر بالفرد تقتضي منه قوة ضخمة في الارادة و درجة عظيمة في الاخلاص ، وتكون مواقفه وردود فعله صالحة وصحيحة .....

فتكون تربيته سريعة ووصوله إلى الدرجة المطلوبة - لو وفق إلى النجاح في

كل الخطوات – غير محتاج إلى زمان طويل .

ومعه يمكن أن تحصل على أشخاص ممحصين كاملين ، وهم في سن الشباب .

على أننا لو جمعنا بين هذين المستويين . . . والحياة تتضمن - في الأعم الأغلب - الجمع بينهما بشكل وآخر. فالفرد - حتماً - يكتسب من الجيل السابق ما يمكنه اكتسابه من الثقافة والاخلاص ، ويضيف عليه من عنده فيها

يتخذه من مواقف وردود فعل صالحة تجاه الحوادث. فاذا كانت هذه الحوادث ضخمة ومهمة ، ووفق إلى النجاح فيها ، كان من المخلصين الممحصين

لا محالة .

ص: 419


1- المصدر ص 307 وما بعدها والتي تليها .

الخصيصة الثالثة : ان هؤلاء الخاصة الثلاثماثة والثلاثة عشر رجلا يتميزون

عن غيرهم لعدة أسباب :

أولا : اتصافهم بالإخلاص من الدرجة الأولى ، في نتيجة التمحيص

السابق على الظهور ... دون غيرهم .

ثانياً : مبايعتهم للمهدي (ع) لأول مرة بعد جبرئيل (ع) واستماعهم لخطبته.

ثالثاً : أنهم سيكونون « الفقهاء والقضاة والحكام » في دولة المهدي (ع)

العالمية، كما أكدت عليه الروايات ، وسنسمعه فيما بعد .

رابعاً : انهم قادة جيشه خلال القتال ...لا أنهم يمثلون كل الجيش كما سبق أن قلنا . فهم العدد الكافي من القواد لغز و العالم ، لا من الجنود العاديين.

ومن هنا ، لن يكتفي الإمام المهدي (ع) بهؤلاء الخاصة ، بل انه « ما يخرج الا في أولي قوة ، وما يكون أولو قوة أقل من عشرة آلاف » كما سمعنا من الروايات . « ويقيم بمكة حتى يتم أصحابه عشرة آلاف نفس ثم يسير منها إلى المدينة » كما سمعنا من رواية أخرى «فاذا اجتمع له العقد : عشرة

آلاف رجل ، فلا يبقى في الأرض معبود دون اللّه » كما في رواية ثالثة .

والروايات تسكت عن تحديد فترة بقائه في مكة ريثما يجتمع له هذا العدد.

وان كان المظنون من مجموع القرائن ، انه لن يزيد على أسبوع.

الجهة الثامنة : في سؤال مع جوابه

الجهة الثامنة : هناك سؤال قد يخطر على البال ، من خلال التأكيد في الروايات على أعداد هؤلاء الخاصة والتعرف على شخصياتهم وأماكنهم . وهو أنه إذا صح ذلك فسوف لن يستطيع أي انسان آخر أن يصبح متصفاً بالإخلاص

من الدرجة الأولى ، وسوف تذهب جهوده في ذلك سدى ، بعد ان كان المتصفون به معينين ومعروفين سلفاً .

ص: 420

فكيف نوفق بين ذلك ، وبين قانون التمحيص العام الساري المفعول قبل الظهور ، الذي لا يقتضي نجاح افراد بأعيانهم ، بل يوكل ذلك إلى همة الفرد

و ايمانه ومقدار تضحياته في سبيل الحق. وهذا معنى عام قد تزيد نتيجته وقد تنقص . فكيف نوفق بين هذين المعنيين ؟ !.. .

ويمكن أن نعرض هذا السؤال على مستويات ثلاثة :

المستوى الأول : ان ننظر إلى التنافي المحتمل بين المفهوم العام لقانون التمحيص ، وما ورد من التحديد بثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا . باعتبار أن هذا التحديد واضح وثابت في الروايات ، واما التحديدات الأخرى ، فلا يخلو

ثبوتها من ضعف كما سمعنا .

ويمكن الجواب على هذا التنافي بوجوه ثلاثة :

الوجه الأول : ان النجاح في التمحيص من الدرجة الأولى غير خاص بهذا العدد لو نظرنا إلى مجموع أجيال الأمة الإسلامية . فان عدداً من الناس قد يصلون

إلى هذا المستوى الرفيع . ولكن حياتهم تنتهي ولا يحصل الظهور . لأن مجموع

من حصل على هذه الدرجة العليا من الجيل ليس كافياً لغزو العالم بالعدل .

ومعه ، فلو نظرنا إلى أجيال الأمة لوجدنا عدداً ضخماً من الناس المتصفين بهذه الصفة . كل ما في الأمر أن كل جيل بعينه ، لا يحتوي على العدد الكافي

منهم ... وأول جيل يحتوي على ذلك هو الجيل الذي يحصل فيه الظهور.

إذن ، فالفرصة مفتوحة ، طبقاً للقانون العام ، للوصول إلى تلك المرتبة وانما يقصر الناس عن ذلك انطلاقاً من اختيارهم وارادتهم . وأول جيل سوف

يتوفر العدد الكافي فيه لغزو العالم بالعدل ، سوف يتم فيه الظهور .

ص: 421

الجواب الثاني: ان المسألة مسألة وقت ليس إلا. غير أنه رقت متعين

غير قابل للزيادة والنقصان . فأن الظهور كما لا يمكن أن يحدث قبل توفر العدد الكافي لا يمكن أن يتأخر عن زمان توفره .

أما قبل توفر العدد كله ، فالفرصة موجودة بوضوح، لأجل توفير العدد بالتدريج من مجموع الناس ، حسب ما لديهم من المهمة والتضحية... . . طبقاً

للقانون ، واما بعد توفر العدد ، فالقانون وان كان باقياً ، غير أن الظهور سوف

لن يتأخر عندئذ بطبيعة الحال و به سوف يستوفي القانون السابق غرضه ،و تتحول تربية البشرية إلى التخطيط العام الجديد .

فعدم امكان الزيادة على العدد ، لا لأجل التصور في الفرم الفرص القانونية للتمحيص بل لأجل تحقق الظهور عند توفر العدد الكافي ، الأمر الذي يغير قانون التمحيص إلى شكل جديد .

الجواب الثالث : اننا لو تنزهنا - جدلا - عن ذلك كله ، وفرضنا كون

هذا الرقم مرصوداً لأشخاص معينين ، أمكننا الجواب على ذلك من نواحي أخرى اجتماعية وفلسفية بالشكل الذي نحاول عرضه في الجواب على المستوى

الثالث .

المستوى الثاني : إنه بعد البرهنة على التنافي بين رقم الثلاثمائة والثلاثة عشر

وبين قانون التمحيص العام . وان هذا الرقم يبقى فارغاً قابلا للملء بأي انسان ،

ننظر في المستوى الثاني إلى التنافي المحتمل بين قانون التمحيص وبين تسمية

البلدان والأعداد المذكورة لكل منها . اذ قد يخطر في البال ، عدم وجود الفرصة للزيادة على ذلك .

ويمكن تقديم ثلاثة أجوبه موازية للروح العامة للأجوبة الثلاثة الواردة

في المستوى الأول .

ص: 422

الجواب الأول : اننا لو نظرنا إلى الأجيال المتطاولة للبصرة - مثلا - لم نجد أربعة من الناجحين الكاملين فقط ، بل أكثر من ذلك بكثير ، وكل ما في

الأمر أن هذا الرقم هو الذي سيخرج من البصرة في الجيل المعاصر للظهور.

بل ان الحال أوسع من ذلك ، فقد يوجد في البصرة أكثر من هذا العدد في جيل ما ، وانما لم يحصل الظهور باعتبار عدم توفر العدد المطلوب في العالم، على

وجه العموم ، لتقلص عدد من المدن عن المشاركة في تصدير حصتها من هؤلاء .

بينما يعاصر جيل ( الظهور) تقلصاً في رقم ( البصرة) وتوسعاً في بعض المدن الأخرى ، طبقاً للحالة النفسية والعقلية والاجتماعية التي تعيشها كل مدينة .

الجواب الثاني: ان المسألة مسألة وقت لا غير ، تماماً كالمستوى الأول لكن بعد ملاحظة ( البصرة) وكل مدينة بعينها ، كجزء من كل مشارك في التخطيط العام لا يجاد العدد الكافي . فبمجرد أن يتم العدد الكافي يحدث الظهور

ولكن من حسن حظ بعض المناطق انها تشارك بعدد أكثر الحسن تصرف الأخبار

من أهلها وادائهم التضحية في سبيل الحق والهدى ، على حين تشارك المدن

الأخرى بعدد أقل، لسوء نصرف أهلها وتفضيلهم اللذاذة العاجلة على التضحية العادلة.

ولا ينبغي أن ننسى ما عرفناه في التاريخ السابق من صعوبة الوصول إلى هذه الدرجة العليا من الاخلاص ، واحتياجها إلى قوة في الارادة وسعة في الثقافة لا تتوفر إلا في القليل من الناس .

الجواب الثالث : اننا لو تنزلنا - جدلا -عن الوجهين السابقين ، وفرضنا

أن رقم الأربعة من البصرة ، مرصود لأشخاص معينين ، وكذلك غيرها من المدن ، امكننا الجواب على ذلك من زوايا أخرى ، على ما سنذكره في الجواب الثاني والثالث على المستوى الثالث .

ص: 423

المستوى الثالث : أنه بعد البرهنة على عدم التنافي بين مجرد الترقيم سواء

منه العام أو الخاص بكل مدينة ، وبين التمحيص العام.... يبقى التنافي بين

هذا القانون العام وبين التسمية الواردة في الروايات ، فانها – على أيّ حال – اشارة إلى أشخاص معينين ، لا يمكن ابدالهم بغير هم . وليس كالترقيم يمكن

ملؤه بأي انسان .

ويمكن أن يجاب على ذلك بثلاثة أجوبة :

الجواب الأول : اننا بينما نرى أن الترقيم ثابت في الروايات فان العدد : ثلاثمائة وثلاث عشر ، مستفيض النقل وعليه عدد مهم من الروايات . كما أن التحديد لكل مدينة أكثر نقلا من التسمية ، من حيث أن بعض الروايات تتضمن الرقم والتسمية وبعضها تتضمن الرقم فقط ، كالرواية الأولى التي

نقلناها عن ابن طاوس .

فبينما نرى الترقيم ثابتاً في الجملة ، نجد أن التسمية غير ثابتة ، لما سمعناه من أن الروايات الناقلة للأسماء ضعيفة السند وقليلة العدد متعارضة في ذكر الأسماء ، فتسقط عن قابلية الاثبات التاريخي ، ومع انتفاء الدليل على التسمية

يكون الاشكال في مستواه الثالث منتفياً موضوعاً .

هذا وسيكون الجوابان الآتيان شاملين للمستويات الثلاثة كلها ، وانما أجلناهما إلى المستوى الثالث لمناسبتهما معه دون ما سبق من الأجوبة على المستويين

الأولين . وستكون زاوية النظر في احدهما اجتماعية وفي الآخر فلسفية

الجواب الثاني : ان نعيد النظر في الخصائص المعطاة لهؤلاء الثلاثماثة والثلاثة

عشر . فبينما عرفناها خصائص ( داخلية) تمت إلى تكوينهم الشخصي الإيماني

بصلة وثيقة ، يمكن أن نعتبرها الآن خصائص ( عرضية) أو خارجية ، تمت

إلى وضعهم الاجتماعي بصلة ، بالشكل الذي سنذكره بعد لحظة .

ص: 424

فليس هؤلاء فقط هم المتصفين بالدرجة الأولى من الإخلاص ، بل

هناك أناس غير مسمين متصفين بها أيضاً . وانما يختص هؤلاء بصفات أُخرى ( اجتماعية ) يمكن فهمها على شكلين طبقاً للأطروحة المختارة لكيفية اجتماعهم.

فان اخترنا لهم الاجتماع الاعجازي في مكة، كانت خصيصتهم الرئيسية انهم - دون غيرهم - ينقلون بالمعجزة من أجل نصرة المهدي (ع) . وليس

اختصاصهم بذلك من أجل مستواهم الإيماني ، بل قد تكون لمصالح أخرى

في علم اللّه عز وجل ، كاتصافهم بقوة جسمية معينة أو بثقافات وتدريبات قيادية معينة يفقدها الآخرون. . . مما لا يمت إلى قانون التمحيص بربط مباشر

ومعه لا تكون هذه الخصائص ولا خصيصة الانتقال الاعجازي مضرة بشمول

هذا القانون .

وان اخترنا لهم الاجتماع الطبيعي ، كما رجحناه ، امكننا أن نضع التسلسل الفكري للحوادث كما يلي : ان الوصول إلى الدرجة الأولى من الاخلاص أوسع من هذا الرقم وأوسع من هذه الأسماء المذكورة في الروايات، وسوف

يؤثر ( النداء) باسم المهدي عليه السلام في اثارة الشوق في نفوس الجميع ،

و سيسافرون جميعاً إلى مكة المكرمة . غير أن لحظة الظهور حيث أنها غير محددة في أذهانهم ، وانما ينتظرونها بعد الحج اجمالا . فمن الصعب – بطبيعة -

الحال- أن يبقى الجميع في المسجد الحرام باستمرار طوال الأيام انتظاراً . للظهور. وانما هم يبقون في منازل مكة وفنادقها . ثم يحصل الظهور في لحظة معینة هي مساء اليوم العاشر ، كما ورد في بعض الروايات . وسيصادف أن

المسجد الحرام يحتوي على ثلاثمائة وثلاثة عشر من المنتظرين في مكة المكرمة...

لمجرد رغبتهم في الطواف في تلك الساعة . وهذه المصادقة سوف تقتضي يكون هؤلاء - دون غيرهم - هم أول من يواجه الإمام المهدي (ع) ويسمع

ص: 425

خطبه ويتشرف بمبايعته . . . ريثما يتسامع الناس بالظهور، ويهرع الآخرون للوصول بخدمة الإمام عليه السلام .

ومن الواضح أن هذه المصادفة غير مضرة بشمول قانون التمحيص ،

ولا منافية معه .

الجواب الثالث : اننا لو تنزلنا عن كل ذلك . وفرضنا أن التسمية لأشخاص معينين لا يمكن تبديلهم ، وانه أمر ثابت لا محيص عنه ، فيمكن الجواب عن

ذلك عن من زاوية فلسفية ، نعرض عنه الآن فكرة مبسطة ومختصرة محيلين التفصيل

إلى المصادر الفلسفية .

ان هذه الروايات الناقلة للأسماء - على تقدير ثبوتها - تنقل لنا رأي

قائليها وهم الأئمة المعصومون عليهم السلام . وآرائهم دائماً مستقاة من النبي

الأعظم صلى اللّه عيله وآله وسلم . وهو

«وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ

هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى» (1)

اذن فالأمر يعود إلى تعلق العلم الإلهي بنجاح أشخاص معينين ووصولهم

إلى الدرجة الأولى من الإخلاص .

وعلم اللّه عز وجل عين ارادته ، كما ثبت في الفلسفة الإسلامية ، فلو كانت إرادته تعالى قد تعلقت باتصاف هؤلاء بهذه الصفة على كل حال ، أعني :

ولو بسبب قهري غير إرادي ، لكان الاشكال وارداً ، اذ من الظلم أن تتعلق الإرادة الإلهية بانجاح هؤلاء دون غيرهم ، والظلم مستحيل الثبوت للّه عز وجل كما ثبت في الفلسفة أيضاً .

ص: 426


1- النجم : 53 / 3 - 4 .

ولكن ارادة اللّه تعالى على نجاح هؤلاء بملىء أرادتهم واختيارهم . وهو

-في واقعه - معنى النجاح في التمحيص، لما عرفناه من أن عنصر الاختیار ضروري في قانون التمحيص واحد الأركان الرئيسية للنجاح فيه اذ لو كان النجاح جبرياً قهرياً ، لما كان نجاحاً أصلا. فان اعطاء معدن الذهب شكل الحلي

الجميل ليس فخراً للذهب كما هو واضح .

ومعه نعرف : ان علم اللّه الأزلي تعلق بنجاح هؤلاء باختيارهم وبرسوب الراسبين باختيارهم أيضاً ... وارادته تعلقت بذلك أيضاً . . . فهما متساوقان مع

القانون العام للتمحيص الذي سنه اللّه تعالى بعلمه وارادته أيضاً ، ووهب الاختيار للبشر بعلمه وارادته أيضاً .

ومعه يكون مدلول الروايات : ان هؤلاء المسلمين أو المعدودين هم الذين سيحسنون التصرف وتكون مواقفهم الاختيارية صحيحة وعادلة. وان غيرهم سوف لن يبلغ مبلغهم باختياره أيضاً . ولو لم يقصر المقصرون ، وكان الناس

على مستوى المسؤولية في عهد التمحيص ، لكان الناجحون أكثر ولوردت

تسميتهم في الروايات أيضاً. ولكن من المؤسف أن الناس قد ابدوا باختيارهم

سلوك المقصرين وتصرف المذنبين ، فتضاءل عدد الناجحين ، فتضاءلت تسميتهم في الروايات أيضاً . وقد قال اللّه تعالى :

«يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ

مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا

بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ» (1)

ومن الطبيعي أن يكون الناجحون باختيارهم والواصلون إلى الدرجة الأولى

ص: 427


1- یس : 30/36

بتضحياتهم وجهادهم ، يكونون أهلا لكل المميزات التي يتفردون بها عن البشر أجمعين ، لأنهم أدوا من التضحيات ما لم يؤد غيرهم من الناس ، فارتفعوا

إلى مستوى لم يرتفع إليه غير هم من البشر ... ابتداء باهتمام رسول اللّه (ص)

والأئمة المعصومين (ع) بتعدادهم وتسميتهم ، وانتهاء بنصرتهم للمهدي (ع) وممارسة القيادة والحكم بين يديه .

هذا ولا ينبغي أن ننسى أن الدرجات الأخرى من الإخلاص ، ينالها

الفرد بالاختيار أيضاً ، ولكنها حيث تكون أسهل منالا ، فان القواعد الشعبية

المتصفة بها أيضاً ستكون أوسع ، وكلهم بالتدريج سينصرون المهدي (ع)

ويعملون بين يدية .

ص: 428

الفصل الخامس: المنجزات الاولى للامام المهدي (ع)

إلى حين الوصول إلى العراق

وينبغي أن نتكلم في هذا الفصل ضمن عدة جهات :

الجهة الأولى : في حديث: يصلحه اللّه في ليلة .

وهو ما نود استهلال هذا الفصل به لأن انتصاره سيكون في ليلة ظهوره نفسها .

وهذا الحديث وارد في مصادر كلا الفريقين ، وان كان في المصادر

العامة أغلب .

فمن مصادر الإمامية : ما أخرجه الصدوق في إكمال الدين بسنده عن

أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام – في حديث-، قال :

ويصلح اللّه عز وجل أمره في

ليلة . وروى نحوه عن أبي جعفر

الباقر عليه السلام (1)

وما رواه الطبرسي(2)عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده

ص: 429


1- انظر الخبرين في المصدر المخطوط.
2- ص 401 .

قال : قال الحسين (ع) - في حديث -:

قائمنا أهل البيت يصلح اللّه تعالى

أمره في ليلة واحدة .

و من المصادر العامة ، ما أخرجه ابن ماجة (1)عن علي عليه السلام

قال:

قال رسول اللّه (ص) المهدي

منا أهل البيت يصلحه اللّه في ليلة .

ونقل نحوه ابن حجر في الصواعق (2)عن أحمد . وفي (مفتاح كنوز السنة) (3) نقله عن أبي داود والترمذي وأحمد ، ونقله السيوطي (4)عن أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجة ونعيم بن حماد في الفتن . رأخرجه القندوزي في الينابيع أيضاً . (5)

وفي بعض الروايات تشبيهه بموسى بن عمران عليه السلام من هذه الناحية. روى القطب الراوندي (6) مرسلا ، قال : قال محمد بن علي التقي

الجواد لعبد العظيم الحسني :

المهدي .....من ولدي ، وان

اللّه يصلح أمره في ليلة ، كما أصلح

ص: 430


1- ج 2 ص 1367
2- انظر ص 97
3- ص 484 .
4- ج 2 ص 124.
5- ص 519 ط النجف .
6- الحرایج و الجرايح ص 199 .

أمر كليمه موسى (ع) حيث ذهب

ليقتبس لأهله ناراً .

والمراد من إصلاحه أو إصلاح أمره توفير النصر لديه ، أو إيجاد المقدمات

الواضحة الصريحة للنصر . قالوا في اللغة : صلّح ضد فسد ، أوزال عنه الفساد.

يقال : صلحت حال فلان . وأصلحه ضد أفسده ، وأصلحه بعد فساده أقامه (1)

فالمهدي عليه السلام بعد أن كان في حال غيبة وتفكر، وكان أعزلاً عن السلاح بعيداً عن الحكم ، يصبح بين عشية وضحاها ، في ليلة واحدة ، منتصراً فائزاً قائداً له من المعدة العدة والعدد ما يستطيع به اليسطرة على العالم بأسرع

وقت وأسهل سبيل .

وأول وأهم خطوة لهذا النصر هو اجتماع أصحابه الخاصين حوله و مبايعتهم له. وهو يحدث في ليلة واحدة هو نفس المساء الذي يخطب فيه بين الركن والمقام . وهذا صحيح على كلا الأطروحتين : الإعجازية والطبيعية

لاجتماعهم ... فإنهم يجتمعون في تلك اللحظة حوله على أي حال.

إذن ، فاجتماع أصحابه هو الشيء الرئيسي المشار إليه في هذا الحديث الشريف ، بصفته أول مراحل تصاعد الإنتصار الدريجي السريع بما فيه اجتماع عشرة آلاف نفس في الأيام القليلة القادمة قبل الخروج من مكة .

الجهة الثانية : احتمال تأخر الخسف عن الظهور

الجهة الثانية : عرفنا تقدم حكم السفياني وتهديده للإمام المهدي (ع) بالقتل والخسف بالجيش الذي يرسله ، تقدم كل ذلك على الظهور . حتى جعل الخسف من علامات الظهور للمهدي (ع) كما سمعنا في هذا الكتاب وسابقه . (2)

ص: 431


1- أقرب الموارد ؛ مادة : صلح ج 2 ص 656 .
2- انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص 599 .

غير أن هناك من الأخبار ما يدل على تأخر التهديد والخسف عن الظهور.

وهو إنما يحصل في الأيام الأولى للظهور ، وهي الفترة التي نعرضها الآن من حياة

الإمام المهدي (ع) . فينبغي أن لا نمر بهذه الأخبار مسرعين .

أخرج أبو داوود (1)عن أم سلمة زوج النبي (ص) عن النبي (ص ) قال :

يكون اختلاف عند موت خليفة...

فيخرجونه ( يعني المهدي (ع)) وهو

کاره ، فيبايعونه بين الركن والمقام .

ويبعث إليه بعث من أهل الشام،

فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة .

فاذا رأى الناس ذلك ، أتاه ابدال

الشام وعصائب أهل العراق ، فيبايعونه

... الحديث .

وأخرجه السيوطي (2)عن ابن أبي شيبة وأحمد وأبو يعلى والطبراني.

وأخرج السيوطي (3)عن الطبراني في الأوسط والحاكم عن أم سلمة ،

قالت : قال رسول اللّه (ص) :

يبايع لرجل بين الركن والمقام

عدة أهل بدر ، فيأتيه عصائب أهل

العراق وابدال أهل الشام . فيغزوه

ص: 432


1- انظر سنن أبي داود ج 2 ص 423 .
2- الحاوي ج 2 ص 126 .
3- المصدر ص 129 .

جيش من أهل الشام ، حتى إذا

كانوا بالبيداء خسف بهم .

وأخرج المجلسي في البحار(1)عن عبد الأعلى الحلبي ، قال : قال

أبو جعفر (ع) :

يكون لصاحب هذا الأمر غيبة ...

( ثم يذكر حوادث الظهور واجتماع

أصحاب المهدي (ع) ومبايعتهم له .

ويقول بعد ذلك ) : حتى ينتهي

( يعني المهدي (ع ) وجيشه ) إلى

البيداء ، فيخرج إليه جيش السفياني ،

فيأمر اللّه الأرض فيأخذهم من تحت

أقدامهم ، وهو قول اللّه « ولو ترى

إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من

مكان قريب(2) وَقَالُوا آمَنَّا بِه

وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ

بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ

قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ

مَكَانٍ بَعِيدٍ.وَحِيلَ بَيْنَهُمْ

وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ

بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ . إِنَّهُمْ

ص: 433


1- ج 13 ص 188 وما بعدها.
2- سبأ : 52/34 54 .

كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ». يعني

بقائم آل محمد « و قد کفروا به»

یعني بقائم آل محمد ، إلى آخر السورة .

فلا يبقى منهم إلاَّ رجلان ...

الحديث .

وتحتوي هذه الأخبار على نقاط قوة ونقاط ضعف :

أما نقاط القوة ، فثلاث :

النقطة الأولى : ان الوضع العام يكون واضحاً . وإرسال الجيش للقضاء

على حركة المهدي (ع) في مهدها ، من قبل قوى الإنحراف والطغيان ...

يكون معلوم الدوافع . بخلاف محاولة القضاء على المهدي (ع) قبل ظهوره

واتضاح دعوته ، فإنه لا يكون واضحاً بهذا المقدار .

النقطة الثانية : انه في صورة تقدم الخسف على الظهور ، يثور التساؤل

عن كيفية معرفة ( السفياني ) بالمهدي (ع) ليحاول الإجهاز عليه ؟؛ كما سبق

أن عرضناه وناقشناه . غير أن هذا السؤال يكون بلا موضوع مع تأخر الخسف

عن الظهور . فان ( السفياني) سيتعرف على ( المهدي (ع) ) بظهوره وسيرسل

عليه الجيش وهو عالم بحقيقته .

النقطة الثالثة : إن الخسف سيصبح بعد الظهور بأيام قلائل ، هو المعجزة

الرئيسية الكبرى التي تدعم حركة الإمام المهدي (ع) وتفهم الناس بكل

صراحة عدالة دعوته وأحقية حركته .

وقد صرحت الروايات بتأثير هذه المعجزة في النفس « فإذا رأى الناس

ذلك أتاه أبدال أهل الشام وعصائب أهل العراق ، فيبايعونه » . ( وقالوا :

ص: 434

آمنا به ) «يعني بقائم آل محمد ( وقد كفروا به ) يعني بقائم آل محمد ».

بل إن معجزة الخسف ستؤثر في ( السفياني) نفسه، فتجعله قريب العاطفة

من المهدي (ع) . الأمر الذي يسبب عدة نتائج أهمها : دخول العراق بدون قتال

ففي خبر أخرجه السيوطي (1) عن نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم

عن محمد بن علي يقول فيه :

فيقول الذي بعث الجيش حين

يبلغه الخبر من ايلياء : لعمر اللّه ،

لقد جعل اللّه في هذا الرجل عبرة .

بعثتُ إليه ما بعثت ، فساخوا في

الأرض . إن في هذا العبرة ونصرة .

فيؤدي إليه السفياني الطاعة ... الخ

الخبر الذي يروي نقض السفياني للبيعة

ومقتله .

وهذا الخبر واضح بأن بيعة السفياني للمهدي (ع)، واتخاذه معه موقف

الملاينة ، إنما هو نتيجة للخسف بجيشه .

وأما نقاط الضعف في تلك الأخبار ، أعني الدالة على تأخر الخسف عن الظهور :

النقطة الأولى : معارضة هذه الأخبار مع الأخبار الدالة الأخبار الدالة بصراحة على وقوع

الخسف قبل الظهور .

منها : ما رويناه في التاريخ السابق (2)عن غيبة النعماني عن أبي عبداللّه

عليه السلام أنه قال :

ص: 435


1- الحاوي ج 2 ص 146.
2- انظر الأخبار الثلاثة في تاريخ الغيبة الكبرى من 600 .

من المحتوم الذي لا بد منه أن

يكون قبل قيام القائم : خروج

السفياني وخسف بالبيداء .

وفي خبر آخر عنه عليه السلام . قال الراوي : قلت له : ما من علامة

بين يدي هذا الأمر ؟ فقال : بلى . قلت : وما هي ؟ قال : هلاك

العباسي ....إلى أن قال : والخسف في البيداء .

وهذا الأمر تعبير عن الظهور . وبين يديه يعني قبله .

وفي خبر آخر عنه عليه السلام :

«قائم خمس علامات ، وعد

منها : الخسف في البيداء .

أقول : والعلامة لا تكون إلا سابقة على الظهور ،كما هو واضح .

النقطة الثانية : معارضة هذه الأخبار بمادل من الأخبار بأن الخسف يحصل

من أجل رجل أو جماعة لا عدد لهم ولا عدة . إذ من الواضح أن الإمام المهدي (ع) بمجرد ظهوره سيكون له عدد وعدة ، لا تقل عن عشرة آلاف

جندي .

أخرج مسلم (1) : أن رسول اللّه (ص) قال :

« سيعوذ بهذا البيت قوم ليست

لهم منعة ولا عدد ولا عدة . يبعث

ص: 436


1- انظر الصحيح ج 8 ص 167 .

إليهم جيش ، حتى إذا كانوا ببيداء

من الأرض خسف ». أقول :

بهم هذه صفة المهدي (ع) قبل

الظهور .

النقطة الثالثة : معارضة هذه الأخبار بما دل من الأخبار المطولة الدالة

على تفاصيل الحوادث ، والتي تنص على حدوث الخسف قبل الظهور.

أخرج النعماني في الغيبة (1)بسنده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد

ابن علي عليه السلام. في حديث طويل يقول فيه :

ويبعث السفياني بحثاً إلى المدينة

فينفر المهدي منها إلى مكة . فيبلغ

أمير جيش السفياني أن المهدي قد

خرج إلى مكة ، فيبعث جيشاً في

أثره فلا يدركه حتى يدخل مكة

خائفاً يترقب على سنة موسى بن

عمران . قال : وينزل أمير جيش

السفياني البيداء ، فينادي مناد من

السماء : يا بيداء أبيدي القوم ،

فيخسف بهم .....قال : والقائم

يومئذ بمكة قد أسند ظهره إلى البيت

الحرام مستجيراً ....الخ الحديث

ص: 437


1- ص 149 وما بعدها .

الذي يستمر في نقل خطبته عليه

السلام .

وأخرجه المجلسي في البحار .(1) وهو واضح -على الأقل -بعدم تأخر

الخسف عن الظهور .

ومع وجود هذه الروايات تكون الأخبار الدالة على تأخر الخسف عن

الظهور ، ساقطة ، عن قابلية الإثبات في هذه الجهة . ولكننا مع ذلك لن نخسر

نقاط القوة السابقة التي ذكرناها لها .

أما النقطة الأولى : فلأن عزم السفياني على قتل المهدي (ع) لن يكون بصفته مهدياً، بل بصفة أخرى يشعر معها السفياني بأن (المهدي) بتلك الصفة

شخص متمرد عليه ثائر على نظامه ، فينبغي له الإجهاز عليه .

وهذا الوضع طبيعي وواضح ، من موقف الإنحراف تجاه الحق وأهله دائماً . ولا يلزم من ذلك أن المهدي (ع) حال غيبته يكون قد قام بحركة واسعة ضد السفياني ... فان ذلك مخالف لفكرة غيبته . إلا ان نفس وجود

المهدي (ع) بالصفة الأخرى هادياً للناس يثير حقد السفياني ضده وتخيله بالعمرد

عليه .

وأما النقطة الثانية ، فقد سبق أن بحثناها مفصلاً ، وعرفنا أن السفياني

لن يعرف المهدي (ع) بصفته الحقيقية ، بل ب (شخصيته الثانية ) التي يتصف

بها في ذلك العصر من عصور غيبته .

ص: 438


1- ص 146 ج 13 .

وأما النقطة الثالثة : فباعتبار أنه من الواضح أن كون الخسف معجزة صريحة ، وعلنية تقع إلى جانب المهدي (ع) فتثبت عدالة دعوته ، لا يفرق

الحال فيه بين أن يكون الخسف متأخراً عن الظهور بأيام أو متقدماً عليه

بأيام .

فان تقدمه على الظهور يكشف للناس : أن هذا الذي وقع الخسف

من

أجله ، هو المهدي (ع) ، وهذه المعجزة تشارك في إثبات حصانته

عن الکذب

والتزوير ، عند إلقاء الخطبة وأخذ البيعة ، وإلى نهاية الخط .

( الجهة الثالثة والرابعة والخامسة حذفت من المسودة ) .

ص: 439

ص: 440

الباب الثاني : فتح العالم بالعدل

البابُ الثاني

(من القسم الثاني للکتاب)

فتح العالم بالعدل

و هو علی عدة فصول

ص: 441

ص: 442

الفصل الاول: نقطة الانطلاق إلى العالم

ونتكلم في هذا الفصل ضمن عدة جهات :

الجهة الأولى : في سرد الأخبار

الجهة الأولى : في سرد الأخبار الدالة على ذلك :

ستكون نقطة الإنطلاق إلى فتح العالم هي الكوفة من العراق على وجه

التعيين ، وستكون في المدى القريب عاصمة الدولة العالمية المهدوية العادلة.

والمراد بالكوفة ، كما عرفنا ، المنطقة التي تشمل النجف أيضاً ، باعتبار

أن تجاورهما أرضاً وبناءً يجعلهما كالمدينة الواحدة . ومن هنا جاءت الأخبار لتسمي الكوفة تارة والنجف أخرى . وكلا القسمين يرجع إلى معنى واحد :

روى القندوزي في الينابيع (1)عن كتاب فضل الكوفة لمحمد بن علي

العلوي ، بسنده عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول اللّه (ص) :

يملك المهدي أمر الناس سبعاً أو

عشراً . أسعد الناس به أهل الكوفة .

وروى ابن الصباغ في الفصول المهمة (2)عن أبي جعفر (ع) - في حديث

طويل - قال :

ص: 443


1- ينابيع المودة ص 531 .
2- الفصول المهمة ص 321.

إذا قام القائم (ع ) سار إلى الكوفة

فوسع مساجدها ... الخ الرواية .

وروى المفيد في الإرشاد (1)عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر عليه

السلام ، قال :

كأني بالقائم عليه السلام على

نجف الكوفة ، قد سار إليها من مكة

في خمسة آلاف من الملائكة . جبرئيل

عن يمينه وميكائيل عن شماله والمؤمنون

بين يديه ، وهو يفرق الجنود في

البلاد .

وفي رواية عن عمر بن شمر عن أبي جعفر عليه السلام . قال : ذكر

المهدي فقال :

يدخل الكوفة وبها ثلاث رايات

قد اضطربت ، فتصفو له . ويدخل

حتى يأتي المنبر فيخطب . فلا يدري

الناس ما يقول ، من البكاء .

فإذا كانت الجمعة الثانية سأله

الناس أن يصلي بهم الجمعة . فيأمر

أن يخط له مسجد على الغري ويصلي

بهم هناك .....الحديث . ورواه

ص: 444


1- ص 341 وكذلك الحديث الذي بعده .

الطبرسي (1) أيضاً بنفس النص

ورواه الشيخ في الغيبة (2) عن عمر بن ثابت عن أبيه عن أبي جعفر (ع)

وساق الحديث إلى قوله :

ولا يدري الناس ما يقول من

البكاء . وقال فيه: فإذا كانت الجمعة

الثانية، قال الناس : يا ابن رسول اللّه

الصلاة خلفك تضاهي الصلاة

خلف رسول اللّه (ص) والمسجد

لا يسعنا . فيقول : انا مرتاد لكم .

فيخرج إلى الغري فيخط مسجداً له

ألف باب يسع الناس .

وأخرج الشيخ أيضاً (3)بسنده عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر (ع)

إذا دخل القائم الكوفة ، لم يبق .

مؤمن إلا وهو بها أو يجيء إليها .

وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام .

ويقول لأصحابه : سيروا بنا إلى هذا

الطاغية ، فيسير إليه .

ص: 445


1- اعلام الورى الطبرسي ص 430.
2- ص 281 .
3- ص 275 .

وأخرج أيضاً (1) بسنده عن صالح بن أبي الأسود عن أبي عبد اللّه (ع) قال :

ذكر مسجد السهلة ، فقال له :

أما إنه منزل صاحبنا إذا قدم بأهله .

وروى المجلسي في البحار (2)عن السيد علي بن عبد الحميد في كتاب

الأنوار المضيئة بإسناده إلى أحمد بن محمد الأيادي يرفعه إلى إسحاق بن عمار قال :

سألته عن انظار اللّه تعالى إبليس

وقتاً معلوماً ذكره في كتابه فقال :

إنك من المنظرين إلى يوم الوقت

المعلوم . قال : الوقت المعلوم يوم

قيام القائم . فإذا بعثه اللّه كان في

مسجد الكوفة ... الخ الخبر .

وروى أيضاً (3)عن بعض مؤلفات أصحابنا بإسنان عن المفضل

، قال: سألت سيدي الصادق (ع) :

هل للمأمور (4) المنتظر من

وقت موقت يعلمه الناس يعلمه الناس . - والحديث

طويل إلى عدة صفحات ، يقول

فيه -المفضل : قلت : يا سيدي ،

فأين يكون دار المهدي ويجتمع

ص: 446


1- ص 282 .
2- البحار ص 197 - 13 .
3- المصدر : يبدأ هذا الخبر المطول ص 200 ج13و ما نقلناه موجود ص 203 .
4- لعلها : المأمول .

(مجمع) المؤمنين . قال : دار ملکه

الكوفة ، ومجلس حكمه جامعها ،

وبيت ماله ومقسم غنائم المسلمين

مسجد السهلة . وموضع خلواته

الذكوات البيض بين الغريين . قال

المفضل : يا مولاي ، كل المؤمنين

يكونون بالكوفة ؟ قال : اي و اي واللّه ،

لا يبقى مؤمن إلا كان بها أو

حواليها . وليبلغن مجالة فرس منها

ألفي درهم ... الخ الخبر.

وهناك عدد من الأخبار عن منجزات الإمام المهدي (ع) في الكوفة .

سيأتي الحديث عنها عند عرض نظام دولته عليه السلام .

وذكر الشبلنجي في نور الأبصار (1)عدة فوائد بعد إيراده لأخبار المهدي (ع) وقال : الخامسة : أنه بعد أن تعقد له البيعة بمكة يسير

منها إلى الكوفة . ثم يقرق الجند إلى الأنصار .

أقول : التعبير في الأخبار بالنجف ونجف الكوفة ،والغري، والذكوات

البيض بين الغريين ، كلها تعبيرات عن منطقة واحدة هي مدينة النجف الأشرف الحالية ، التي فيها مرقد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام .

و ( مسجد السهلة ) أحد مساجد الكوفة يبعد عنها إلى جهة الشمال نحو

ص: 447


1- ص 171 .

كيلومتر واحد . بناه أحد أصحاب الإمام أمير المؤمنين (ع) ، ويحتوي على عدة . نقاط روي أنها موضع صلاة عدد من الأنبياء والأولياء . والظاهر أن

أول من قام بتحديدها هو السيد مهدي بحر العلوم من أبرز علماء الإمامية في القرن الثاني عشر الهجري . وهو أعلم بما قال وفعل .

منها : الموضع الذي يعرف بمقام المهدي عليه السلام . الذي يروى أن

الإمام المهدي (ع) صلى فيه ركعتين في بعض عصور غيبته .

وأما (جامع الكوفة ) الكبير الذي كان مركز قضاء الإمام أمير المؤمنين

عليه السلام وصلاته وخطبه . وفيه الموضع الذي ضرب فيه ضربته التي توفي عنها . . . وكان له في التاريخ الإسلامي أثر كبير ؛ فهذا الجامع غني عن التعريف.

(الجهة الثانية والجهة الثالثة حذفت من المسودة) .

الجهة الرابعة : قابلية الروايات للاثبات

الجهة الرابعة: هل هذه الروايات قابلة للإثبات بالنسبة إلى الأغراض

سقناها من أجلها .

دلتنا هذه الروايات على عدة أشياء داخلة في حاجتنا وغرضمنا :

أولاً : ان المنطقة الرئيسية لوجود الإمام المهدي (ع) بعد مكة المكرمة الكوفة ( بالمعنى الشامل للنجف الأشرف)

وقد أصبح هذا المضمون مستفيضاً بل متواتراً ، بعد أن كان مروياً من

كلا الفريقين . ويدل عليه هذا المجموع من الروايات . كما تدل عليه الأخبار التي سمعناها لسفر المهدي (ع) وجيشه إلى الكوفة . وتدل عليه أيضاً مجموعة أُخرى من الأخبار التي تتحدث عن إخطارات المهدي (ع) في الكوفة ، مما أجلنا الحديث عنه .

ص: 448

ثانياً : إجتماع المؤمنين في الكوفة نصرة وتأييداً للإمام عليه السلام.

وقد دل على ذلك عدد من الأخبار ، ذكرنا أهمها . وهو عدد كاف

للإثبات .

ثالثاً : إلقاء المهدي (ع) خطاباً أساسياً في مسجد الكوفة .

وهذا ما دلت عليه روايتان مما سبق روتهما ثلاث من المصادر الإمامية القديمة. فإذا لاحظنا أن طبيعة الموقف تقتضي القاء هذا الخطاب ، بحيث لو لم يرد له ذكر ، لكان الأنسب عرضه كأطروحة محتملة على أقل تقدير ، فكيف وقد ورد ذكره في الأخبار. إذن ، يكون هذا الخطاب ثابتاً تاريخياً .

رابعاً : إن الكوفة والعراق على العموم ، محكومة للسفياني ، وانه يقوم

من المهدي (ع) - لأول مرة - موقف المجاملة والملاينة .

وهذا ثابت تاريخياً كما سمعنا من أخبار السفياني السابقة، وما سيأتي من الأخبار التي تتحدث قتاله مع المهدي (ع) ، وإن كانت أخبارنا

هذا الفصل لم تذكر ذلك بوضوح .

خامساً : إن الشعب الكوفي والنجفي سيخضع للمهدي (ع) بسهولة

ويؤيده بحرارة .

وهذا واضح من مجموع الروايات ، وقد تحدثت كل منها عن زاوية

من نتائجه . . . إلى جانب مناسبته مع طبع هذا الشعب وطبع الحوادث .

نعم ، دلت إحدى الروايات أن المهدي (ع) يدخل الكوفة وبها ثلاث

رايات قد اضطربت ، فتصفو له . وهي وحدها لا تفكي لإثبات هذا التحديد وإن كان دخوله الكوفة وصفاؤها له أمراً أكيداً .

ص: 449

سادساً : ان المهدي (ع) يصلي بالناس صلاة الجمعة .

وهو أمر واضح دلت عليه الروايات ، وتقتضيه القواعد الفقهية الإسلامية أيضاً ، كما لا يخفى على المطلع . إلا اننا عرفنا أنه لا دليل على شرعة إقامته

لهذه الصلاة . . . وإن كان الطلب منه لإقامتها سريعاً ، نتيجة لاندفاع الناس عاطفياً نحو الإمام المهدي (ع) وحبهم له واحترامهم إياه واعتبارهم له الحجة بينهم وبين اللّه تعالى .

فقد تتأخر إقامتها إلى حين انتهاء بناء المسجد الكبير في النجف بين الغريين.

سابعاً : ان المهدي (ع) يبدأ بغزو العالم انطلاقاً من الكوفة ، وذلك بإرسال

السرايا وبث الجيوش المتكاملة للقيام بهذه المهمة .

وقد عرفنا ثبوت ذلك تأريخياً ، بعد وروده في مصادر كلا الفريقين .

حتى اعتبره الشبلنجي أصلا مسلماً ، كما علمنا .

مضافاً إلى اقتضاء طبع الحوادث له، من حيث الحصول على القوة الكافية لهذا الهدف يومئذ وعدم حصولها قبل ذلك، وخاصة بعد سيطرته على حكم البلاد

على وجه العموم . وأما تأجيلها أكثر من ذلك ، فهو بلا موجب بعد حصول القوة الكافية ، ووجود الضمانات الكافية للانتصار التي سنسمعها عما قريب.

هذه هي أهم الأمور التي أردنا التعرف عليها في هذا الفصل .

ص: 450

الفصل الثاني : في مقدار سعة ملكه

الفصل الثاني

في مقدار سعة ملكه وشموله لكل العالم

ونتكلم عن ذلك ضمن عدة جهات :

الجهة الأولى : في سرد الأخبار

الجهة الأولى : في سرد الروايات الدالة على ذلك .

والروايات المندرجة تحت هذا العنوان على أقسام :

القسم الأول : ما يتكفل بيان ذلك بصراحة :

أخرج أبو داوود (1) بسنده عن أم سلمة عن النبي (ص) قال :

يكون اختلاف عند موت خليفة ....

إلى أن قال : فيقسم المال ويعمل في

الناس بسنة نبيهم (ص) ويلقي

الإسلام بحرانه في الأرض .

وأخرج أيضاً (2) عن أبي هريرة عن النبي (ص) في حديث أنه قال :

ص: 451


1- أنظر السنن ج 2 ص 423 .
2- المصدر ص 432 .

ويهلك اللّه في زمانه الملل كلها

إلا الإسلام .

وأخرج القندوزي (1) عن زرارة قال : سئل الباقر رضي اللّه عنه ، عن قوله تعالى :

قَاتِلُوا المُشرِكينَ كافَةً كمَا

يُقاتِلُونَكُم كافّة (2)، وَقاتِلُوهُمْ

حَتى لا تَكُونَ فِتنَةٌ وَيَكونَ

الدّينُ كُلّهُ للّهِ (3)

قال : لم يجئ تأويل هذه الآية . وإذا قام قائمنا بعد : يرى من يدركه ،

ما يكون من تأويل هذه الآية . وليبلغن دين محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم ما

بلغ الليل والنهار ، حتى لا يكون شرك على ظهر الأرض، كما قال اللّه عز و جل .

وعن عباية بن ربعي (4) قال :

قال أمير المؤمنين علي كرم اللّه

وجهه، في هذه الآية : والذي

نفسي بيده ، لا تبقى قرية إلا نودي

فيها بشهادة أن لا إله إلا اللّه ، وأن

محمداً رسول اللّه ، بكرة وعشياً .

ص: 452


1- ينابيع المودة ص 507 .
2- 26/9.
3- 39/8.
4- ينابيع المودة ص 508 ط النجف .

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(1)في الحديث المسند عن النبي (ص)

في كلام منقول عن اللّه تعالى يقول فيه :

لأظهرن بهم ديني ولا علين بهم

كلمتى ولأطهرن الأرض بآخرهم

-يعني آخر الأئمة المعصومين عليهم

السلام - من أعدائي ولا ملكنهم

مشارق الأرض ومغاربها . . . حتى

يعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي

.... الخ الحديث .

وأخرج أيضاً (2)عن محمد بن مسلم الثقفي قال : سمعت أبا جعفر

محمد بن علي الباقر عليه السلام يقول :

القائم منا ..... يبلغ سلطانه المشرق

والمغرب ، ويظهر اللّه عز وجل به

دينه ، على الدين كله ولو كره

المشركون . لا يبقى في الأرض

خراب إلا عمر ... الخ الحديث .

وما أخرجه المفيد في الإرشاد (3)في حديث عن القائم عليه السلام ، قال :

ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الإسلام ويعترفوا بالإيمان . أما سمعت قول اللّه

سبحانه :

ص: 453


1- انظر الإكمال المخطوط .
2- المصدر المخطوط .
3- ص 243 . .

« وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ في السّماواتِ

وَالأرْض طَوْعاً وَكرْهاً وإليه

تُرْجِعونَ » (1).... الحديث.

وأخرج المجلسي في البحار (2)عن المفضل بن عمر : قال الصادق (ع ) :

كأني أنظر إلى القائم على منبر

الكوفة ، وحوله أصحابه ثلثمائة وثلاثة

عشر رجلاً ، عدة أهل بدر . وهم

أصحاب الألوية ، وهم حكام اللّه

في أرضه على خلقه .

وفي حديث آخر (3)عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال :

كأني بأصحاب القائم وقد أحاطوا

بما بين الخافقين . ليس من شيء إلاَّ

وهو مطيع لهم .

إلى أخبار أخرى مشابهة .

القسم الثاني : ما دل من الأخبار على أن المهدي (ع) يملأ الأرض

قسطاً وعدلا .

ص: 454


1- آل عمران : 83/3 .
2- بحار الأنوار ج 13 ص 184 .
3- المصدر ص 185 .

وهو خبر متواتر ، كما سبق أن عرفنا أخرجته الصحاح العامة والحفاظ وأجمع رجال الحديث من الفريقين على صحته وقد خرجناه في التاريخ السابق (1)

وقد ورد بألفاظ متقاربة وبمناسبات مختلفة . بمعنى أن النبي (ص) وقادة الإسلام عليهم السلام كرروه مراراً ، ولم يقتصروا على المرة والمرتين . ومن هنا كان مجموع النقول واضحة ومتواترة .

والمراد من ( الأرض) كل الأرض المعمورة بطبيعة الحال ، إذ لاقرينة

على ما دون ذلك .

القسم الثالث : تشبيه المهدي (ع) بذي القرنين ، في سعة الملك .

أخرج الصدوق في إكمال الدين (2) عن جابر بن عبداللّه الأنصاري،

قال : سمعت رسول اللّه (ص) يقول :

إن ذا القرنين كان عبداً صالحاً

جعله اللّه حجة على عباده . إلى أن

قال : وإن اللّه عز وجل سيجري

سنته في القائم من ولدي . ويبلغه

شرق الأرض وغربها حتى لا يبقي

منهلاً ولا موضعاً من سهل ولا جبل

وطأه ذو القرنين إلا وطأه ... يملأ

الأرض قسطاً وعدلا ، كما ملئت

جوراً وظلماً .

ص: 455


1- انظر ص 281 .
2- اكمال الدين المخطوط .

وأخرجه الطبرسي في إعلام الورى. (1)

القسم الرابع : سيطرته على أقاليم الأرض جميعاً .

أخرج النعماني في الغيبة بسنده (2)عن أبي حمزة الثمالي قال : سمعت

أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام يقول :

لو قد خرج قائم آل محمد عليه

السلام ....إلى أن قال : يفتح

اللّه له الروم والصين والترك والديلم

والسند والهند وكابل شاه والخزر ....

وأخرج الطبرسي (3)عن أبي بصير عن أبي جعفر (ع) في حديث عن

القائم عليه السلام ، قال :

ويفتح قسطنطينية والصين وجبال

الديلم .. الحديث .

ويندرج في هذا القسم ما ورد من توزيع المهدي (ع) أصحابه حكاماً على

أقاليم الأرض ، كما سوف يأتي في الحديث عن الشكل الإداري للدولة العالمية .

و هذه الأخبار بأقسامها الأربعة متواترة قطعية الصدق بالنسبة إلى المطلوب وهو : عالمية الدولة المهدوية. وخاصة إذا التفتنا إلى أن نتيجة التخطيط الإلهي

العام تقتضي ذلك بعينه ، كما سنذكر في الجهة الآتية .

ص: 456


1- ص 413 .
2- ص 122 - 123 .
3- ص 432 .

وسنحاول فهم تفاصيل هذه الأخبار بعد الحديث عن التخطيط الإلهي

الجهة الثانية : اقتضاء التخطيط العام عالمية الدولة

الجهة الثانية : اقتضاء التخطيط الإلهي العام عالمية الدولة المهدوية .

سبق أن ذكرنا في هذا التاريخ، والذي قبله (1)أنه يمكن أن ننطلق من

قوله تعالى :

«وَما خَلَقْتُ الجِنّ والإنْسَ

إلاَّ لِيَعْبُدُونَ » .(2)

وآيات دريمة أخرى في القرآن ، إلى الإستدلال على أن هدف وجود

الخليقة عموماً إنما هو العبادة بمعناها الكامل الشامل الدقيق ، وهو تطبيق العدل الكامل على الفرد والمجموع ، المتمثل بتفاصيل أوامر اللّه تعالى ونواهيه وإرشاداته بدقائقها على كل الخليقة : الإنس والجن .

وقد عرفنا ، فيما يخص الإنس أو البشرية، أنها عاشت حقباً طويلة من

الدهر في التخطيط التربوي العام لها ، لأجل تحقيق شرائط هذا الهدف وإيجاد المستوى اللائق به في المجتمع البشري .

وكان القائد الكبير المذخور لتحقيق هذا الهدف الكبير هو الإمام المهدي الموعود عليه السلام . وهو الذي بشرت به الأديان ونادى به الإسلام . باعتبار أن كل الأديان السماوية بما فيها الإسلام ، إنما كانت واقعة في طريق ذلك الهدف الكبير، ومن ثم لتحقيق شرائط قيادة المهدي (ع) ووجود دولته العالمية.

ومن ثم يتضح بجلاء ، أن عمل الإمام المهدي (ع) وقيادته وأهدافه في

ص: 457


1- انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص 234 .
2- 56/51.

البشرية هي الأهداف التي أرادها اللّه تعالى لخليقته من حين وجودها ، وهي نتيجة جهود الأنبياء والأولياء والصالحين جميعاً . وهي تطبيق العدل الكامل والعبادة المحضة في ربوع المجتمع الإنساني ( الإنس ) كلهم ، على ما نطقت

به الآية الكريمة .

ولا يمكن أن يكون هذا الهدف ضيقاً أو مقتصراً على قوم دون قوم او

مجتمع دون مجتمع او دولة دون دولة . . . فان نسبة البشرية إلى الخالق الحكيم و إلى الأهداف التى توخاها في خليقته ، نسبة واحدة متساوية ، إذن فالهدف يجب أن يكون عاماً شاملاً ، وبشرياً بكل ما في هذه الكلمة من سعة وشمول.

إذن ، فمن الطبيعي أن نفهم من الآية الكريمة نفسها : أن دولة الإمام

المهدي (ع) ستكون شاملة للانس كلهم وللمجتمع البشري كله .

ولسنا الآن في حاجة إلى إعطاء التفاصيل لهذا التخطيط العام بعد الذي

عرفه قارىء الموسوعة ، وما سوف يأتي في الكتاب الآني تفصيل عميق لهذا

التخطيط .

الجهة الثالثة : في ملحوظات تساعد على الفهم

الناحية الثالثة : في إعطاء بعض الملحوظات التي تساعد على فهم

الروايات السابقة .

الملحوظة الأولى : روايات القسم الأول الذي سمعنا صريحة في عالمية الدولة

المهدوية . كقوله :

وليبلغن دين محمد ( ص ) ما بلغ

الليل والنهار ، حتى لا يكون شرك

على ظهر الأرض .

ص: 458

ولا نبقى قرية إلا نودي فيها

بشهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً

رسول اللّه بكرة وعشياً .

والقرية هي كل منطقة مسكونة وقد ورد في الرواية طبقاً للفهم القرآني

حين يقول :

«ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى

نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ

وَحَصِيدٌ »(1)

والمقصود من الرواية : أن كل المدن على الإطلاق ، سوف ينادى فيها

بالأذان الإسلامي المعهود .

وكذلك قوله : يبلغ سلطانه المشرق والمغرب . وقوله : ولاملكنهم

مشارق الأرض ومغاربها . . . حتى يعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي .

إلى غير ذلك .

الملحوظة الثانية : ان عقد المقارنة بين سعة ملك ذي القرنين ، وبين سعة حكم المهدي (ع ) ، إنما هو باعتبار أن ذا القرنين أكبر قائد عرقه التاريخ القديم ، وسيكون المهدي أكبر قائد يعرفه التاريخ الحديث. وسيبقى الفرق بين

هذين القائدين هو الفرق بين العهدين، وما يحتويانه من إمكانيات معنوية ومادية.

وليس المراد بهذه المقارنة تشابه المقدار الذي يفتحه المهدي (ع) مع

المقدار الذي فتحه ذو القرنين. ليخطر على البال : ان ملك المهدي لا يزيد على

ص: 459


1- هود : 11 / 100 .

ذلك ولا يستوعب العالم كله، لأن ذا القرنين لم يستوعب بملكه العالم كله على

أي حال :

إن النصوص التي سمعناها في الملحوظة الأولى ، صريحة في عالمية الدولة العالمية ، مضافاً إلى اقتضاء التخطيط الإلهي العام لذلك ، فتكون قرينة على أن

المراد من التشبيه هو مجرد السعة والشمول دون التحديد .

وليس في الرواية دلالة على الإنحصار . فإنها قالت : حتى لا يبقى منهلا

ولا موضعاً وطأه ذو القرنين إلا وطأه ، وهذا صادق مع استيعاب الحكم المهدوي للعالم ، فان مناطق « ذي القرنين » تقع «ضمن الحكم المهدوي» بطبيعة الحال .

فالتحديد المروي يعني أن المهدي (ع) لا يطأ أي لا يفتح مقداراً أقل من

ذلك ، بل يفتح هذا المقدار الذي فتحه ذو القرنين . وقد يزيد المهدي (ع) على ذلك بكثير. وليس في الرواية ما يدل على نفي ذلك . فإذا دل على هذه الزيادة دليل كاف كالروايات من القسم الأول والتخطيط العام ، كانت عالمية الدولة المهدوية أمراً ثابتاً ، بل قطعياً .

الملحوظة الثالثة : نصت روايات القسم الرابع على أسماء بقاع معينة في

العالم يستولي عليها الإمام المهدي (ع) ضمن دولته العالمية ، و هی - بلسان كلا الروايتين - :الروم والصين والديلم أو جبال الديلم والترك والسند

والهند والقسطنطينية وكابل شاه والخزر .

وهذا أكبر استيعاب ممكن لمناطق العالم ، بحسب مستوى الفهم العام

للمجتمع حال صدور هذه النصوص ، هذه النصوص ، الفهم الذي لم يكن ليساعد على تعداد

ما هو أکثر من ذلك.

ص: 460

وفي الحقيقة ، أن هذه المناطق إنما ذكرت لإعطاء الإنطباع عن سعة فتح الإمام المهدي (ع) ودولته . . . وسيقت كأمثله لذلك لا على وجه التعيين.

ومعه فيمكن استفادة التعميم من هذه الرواية إلى كل مناطق العالم وعدم الإنحصار

بهذه المذكورة. وكيف يمكن فهم الانحصار مع قيام الدليل القطعي الذي عرفناه على خلافه .

ومن هذه الأمثلة نعرف سعة حكم المهدي (ع) على ذي القرنين ، فان المعروف ان ذا القرنين لم يحكم الصين ولا الروم (1) ، وإن حاربهم . علی

حين أن المهدي سوف يسيطر على ذلك سيطرة تامة .

والمراد بالروم في الرواية، طبقاً للفهم المعاصر لصدورها ، معناه الشامل للافرنج كلهم أعني أوروبا عموماً . وقد يشمل قارة أمريكا أيضاً ، لا

أنهم من عنصر بشري مشابه ، أي أنهم من الإفرنج بالمعنى العام .

والمراد بالصين المنطقة المعروفة في شرق آسيا . . . الشاملة للقسم المحكوم للشيوعيين اليوم والقسم المحكوم لأمريكا والصين الوطنية ، والشامل لليابان أيضاً.

والمراد بالديلم أو جبال الديلم ، المناطق التي تقع الآن في جنوب «الإتحاد السوفيتي » والتي تحتوي أكثرها على أكثرية مسلمة . فان نسبة الديالمة في التاريخ إلى تلك المنطقة . وقد تسمى بمنطقة ما وراء النهر في بعض التواريخ.

وأما الهند فمعروفة ، الا أن المقصود منها ما يشمل باكستان أيضاً، لكونهم

مما يصدق عليهم إسم الهند لغة بطبيعة الحال .

وأما السند فالمراد به ما يسمى اليوم بجنوب شرقي آسيا، بما فيها أندونيسيا

وفيتنام ولاوس وغيرها

ص: 461


1- أعنى الجزء الغربي من أوروبا ، فان الجزء الشرقي منها دخل تحت حكم ذي القرنين .

ص: 462

ص: 463

الفصل الثالث: ضمانات انتصار المهدي (ع )

ونريد بها الأسباب التي تتوفر

للإمام المهدي (ع ) حين ظهوره ،

فتوجب له تحقق النصر الأكيد السريع

الذي يسيطر به على كل المجموعة

البشرية .

و هي لا شك ضمانات أكيدة

وشديدة وواسعة ، يوفرها اللّه تعالى

للمهدي (ع ) لكي نكون بمجموعها

سبباً لإنجاز هذا القائد العظيم الهدف

الأسمى من وجود البشرية .

ص: 464

تمهیْد

قد يخطر في الذهن : أنه لا حاجة إلى البحث عن الضمانات ، وتفاصيلها ، بعد أن كنا نعلم أن إرادة اللّه تعالى هي الضمان الوحيد لنصر الإمام المهدي (ع)

الذي جعلته القائد الكبير لتطبيق الهدف الكبير والقيام بدولة الحق ، في آخر

الزمان .

وجواب ذلك : أن إرادة اللّه عز وجل هي الضمان الوحيد للنصر ، وهذا

صحيح بكل تأكيد ، ولا يوازيها أي عامل آخر .

ولكن هذا لا ينافي البحث عن الطريقة التي يريد بها اللّه تعالى نصر مهديه

الموعود ، في حدود الإثباتات والأدلة المتوفرة .

فان الأسلوب الذي يريده اللّه تعالى أسلوباً لانتصار المهدي (ع) ، يحتمل

فيه عدة أطروحات .

الأطروحة الأولى : الإنتصار بالطريقة الإعجازية الكاملة .

وهي الأطروحة التي يذهب إليها الفكر التقليدي لدى المسلمين . ولذا استنتجوا : ان الإمام عليه السلام يحصل على الأسلحة بطريق المعجزة ، وان الأسلحة لا تعمل ضد جيشه ، وأن الأعداء لا يمكنهم الكيد ضده ، بمعنى أنهم سوف يصرفون ذهنياً عن استنتاج الطرق العسكرية أو الإجتماعية المؤثرة ضاء الكيان المهدوي .

ص: 465

غير أننا نأسف لعدم إمكان الإلتزام بهذه الأطروحة، لأن الدليل الصحيح القطعي قائم على دحضها وتفنيدها . فانها تواجه عدة اعتراضات مهمة نذكر

منها ما يلي :

الاعتراض الأول : لو كان الإعجاز طريقاً صحيحاً للدعوة الإلهية. لأمكن للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى السيطرة الكاملة على العالم، بالرغم من جبروت

العباسيين والفرس والروم يومئذ ، فيملؤها قسطاً وعدلا بعد أن ملئت ظلماً وجوراً . بل لأمكن لنبي الإسلام (ص) – وهو خير البشر - تحقيق هذا الهدف، ولما احتاج إلى بذل الجهود المضاعفة ، في نشر الهدى والعدل ، ومقاتلة المشركين . ولما انتهى الأمر إلى مقتل الإمام الحسين عليه السلام وأهله

وأصحابه في سبيل الهدى والعدل، في واقعة كربلاء الدامية المعروفة .

وإذا أمكن إنجاز الهدف البشري الكبير في وقت أسرع . كان تأخيره

ظلماً للبشر ، والظلم غير ممكن من الحكمة الإلهية الأزلية . فيجب تقديم الموعد بمقدار الإمكان .

والسر الأساسي في هذا التأجيل ما عرضناه مفصلا في التاريخ السابق .(1) من أن طريق الدعوة الإلهية لا يقوم على المعجزات ، لأن الهدى والعدل الناتج

عن المعجزات أقل وأضحل من الهدى والعدل الناتج عن طرقه الطبيعية . ومن هنا كانت كل نتيجة يمكن تحتميقها بالطرق الطبيعية، فانها لا توجد عن طريق المعجزة ، بل يوكل أمرها إلى تلك الطرق مهما طال بها الزمن . لا يستثنى

من ذلك إلا قيام المعجزة عند انحصار السبب بها انحصاراً مطلقاً .

ص: 466


1- 244 وما بعدها إلى عدة صفحات .

وحيث كان الهدف البشري العام الموعود ، يمكن إيجاده بالطرق الطبيعية وكانت هذه الطرق تحتاج في فعالياتها إلى طول الزمان ، كما سبق أن عرضناه

هناك ، اذن فقد تعين تأجيل الموعد إلى حين وجوده بالسبب الطبيعي .

ولما عرفنا من ذلك ، بنحو القاعدة العامة ، أن طريق الدعوة الإلهية ، ليس بطريق إعجازي. فهذا لا يختلف فيه الحال ما بين عصور ما قبل الظهور،

و عصور ما بعده . أو بتعبير آخر : لا يختلف فيه الحال بين المقدمات البعيدة لإنجاز الهدف البشري أو المقدمات القريبة منه . أو عصر ما بعد إنجازه . فان سنة اللّه تعالى في خلقه لا تختلف على كل حال .

ومن هنا لا يمكن الإلتزام بأن سيطرة المهدي (ع) على العالم تكمون بطريق

إعجازي مطلق .

الاعتراض الثاني : ان افتراض الإعجاز في انتصار الإمام المهدي (ع) على

العالم ، مما تنفيه أعداد كثيرة من الأخبار :

أولاً : الأخبار الدالة على أن أصحابه الخاصة ثلاثمائة وثلاثة عشر

اذ مع المعجزة لا حاجة إلى أي واحد منهم .

ثانياً : الأخبار الدالة على أنه يخرج من مكة بعشرة آلاف . . . اذ مع

المعجزة أمكن أن يخرج بعشرة ملايين .

ثالثاً : الأخبار الدالة على سفره من مكة إلى الكوفة . إذ بالمعجزة يمكن

الوصول إلى الكوفة فوراً .

رابعاً : الأخبار الدالة على إلقاء خطبته في مكة وإلقاء خطاب آخر في

الكوفة . إذ يمكن بالإعجاز إيصال هذه المعاني إلى أذهان الناس بدون كلام !

ص: 467

خامساً : الأخبار الدالة على مقاتلته للسفياني ، وقتله إياه وقتله إياه .. إذ مع

المعجزة تكون الحاجة إلى هذا الجهد منتفية .

سادساً : الأخبار الدالة على أن المهدي (ع) يقتل المنحرفين بكثرة ، يضع

السيف فيهم ثمانية أشهر بدون انقطاع ، كما سيأتي . وهذا لا حاجة له مع إمكان إنجاز ذلك بالمعجزة بين عشية وضحاها أو طرفة عين !

بل ان نفس ظهور المهدي (ع) مما لا حاجة إليه ، لو آمنا بتأثير المعجزة

إيماناً مطلقاً ، إذ يمكن له إصلاح العالم ، في حال غيبته ، بل ان نفس وجود المهدي عليه السلام يبقى أمراً مستأنفاً ، إذ يمكن اللّه أن يصلح العالم بدون قائد

ولا قيادة ولا حروب . قال اللّه تعالى :

«وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ

فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا» . (1)

«قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ

فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ »(2)

فكل ما دل على وجود الإمام المهدي (ع) وعلى ظهوره ، ينافي

مع

فكرة الإعجاز المطلق .

إذن ، فالأطروحة الأولى قطعية البطلان .

الأطروحة الثانية : ان اللّه تعالى يريد نصر الإمام المهدي (ع) على

حد إرادته لسائر الأشياء في الكون . بمعنى أن يوكل الله انتصاره إلى القوانين

ص: 468


1- يونس : 10 / 99 .
2- الانعام : 6 /149.

الطبيعية إيكالا كاملا ، بدون أي زيادة أو رتوش من تأييد أو تخطيط.

وهذه الأطروحة أيضاً لا يمكن الإلتزام بصدقها صدقاً كاملا ، بالرغم

من صحة القول : بأن السير على طبق القوانين الكونية هو الأسلوب ( العام ) في عمل المهدي (ع) غير أن التمحض في ذلك ونفي التأييد والتخطيط الإلهيين

يواجه عدة اعتراضات :

الاعتراض الأول : ان التاريخ السابق على الظهور الذي دلنا عليه التخطيط الإلهي العام ، دال بوضوح على وجود العناية والتأييد الخاصين بالمهدي (ع) ويومه الموعود .

فهناك التخطيط لإيجاد الشرط الأول من شرائط اليوم الموعود ، التي

عرفناها في التاريخ السابق (1) وهو وجود الأطروحة العادلة الكاملة معروفة

بين الناس. وقد تم هذا التخطيط ووجدت الأطروحة متمثلة بالإسلام كما

عرفنا هناك .

وهناك التخطيط لإيجاد الشرط الثالث ، وهو العدد الكافي لغزو العالم

بالعدل . . . الذي عرفنا أن التمحيص ومرور البشرية في ظروف الظلم والتعسف

ردماً طويلاً من الزمن من أهم أسبابه .

وهناك التخطيط لإيجاد الشرط الثاني وهو صفة القيادة العالمية المثلى ، متمثلة بشخص الإمام المهدي (ع ) . . . الأمر الذي عرفنا للغيبة الطويلة أعني

لطول العمر دخلاً كبيراً في التسبب إليه .

وهناك التخطيط بإيجاد الغيبة نفسها ، التي كان لا بد أن يقترن طول

ص: 469


1- تاريخ الغيبة الكبرى : ص. 261 وما بعدها .

العمر بها ، حفاظاً على القائد المذخور ليوم العدل الموعود .

وهناك علامات الظهور القريبة ، التي سمعناها في هذا التاريخ ، وأهمها

الخسف والخسوف والكسوف في غير أوانه . وهي علامات إعجازية.

وقد يخطر في الذهن : أن أكثر هذه الأمور التي عرضناها هي- في واقعها- أمور ( طبيعية ) تحدث طبقاً للقوانين العامة في الكون ، وليست إعجازية ، حتى ( الغيبة ) طبقاً للفهم الذي رجحناه في التاريخ السابق(1). و هو ( أطروحة خفاء العنوان ) . فلا تكون هذه الأمور دالة على وجود العناية

والتأييد الإلهيين .

وجواب ذلك : أنها أمور ( طبيعية )بكل تأكيد، ولكنها تدل على العناية والتأييد ، بكل تأكيد أيضاً. فان القوانين الكونية بوجودها الخالص ، لا تقتضي هذه الأمور اقتضاء ضرورياً ، لتكون هذه الأمور ( طبيعية ) خالصة.

بل هي محتاجة إلى التخطيط المتعمد المرتب .

وكان السبب في هذا التخطيط المتعمد كما عرفنا هناك ، كما سيأتي مزيد البرهان عليه في الكتاب القادم... هو التسبيب لأجل إيجاد الغاية التي خلق

الكون عموماً والبشرية خصوصاً من أجلها ،وهو الكمال الفائق أو العبادة الخالصة .

وإرادة الخالق القدير وقدرته ، يمكنها أن (تعطف) اتجاه القوانين الكونية

إلى حيث تريد ، من دون أن تتغير قانونيتها ودقتها . فقد عطفتها باتجاه إيجاد

الغاية من الخلق . ومن هنا وجدت فكرة التخطيط المتعمد المرتب

ص: 470


1- انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص 34 وما بعدها .

إذن ، فهذه الأمور ( طيبعية ) وهي في نفس الوقت تدل على العناية

والتأييد الإلهيين .

الاعتراض الثاني : إن التاريخ اللاحق للظهور ، الذي دلت عليه الروايات

التي سمعناها والتي سنسمعها ، يتضمن بوضوح العناية والتأييد الإلهيين .

فمن ذلك : اجتماع أصحاب الإمام المهدي (ع) عند أول ظهوره

وتتابعهم في الوصول إليه بعد ذلك . وهم يصلون بطريق (طبيعي) ولكن

تركيز عواطفهم باتجاه نصر المهدي (ع) وتأييده . . . لطف وعناية ، ناتج

عن التخطيط العام السابق على الظهور.

ومنه : كون المهدي (ع) منتصراً في كل حروبه ، ضد أي عدو عظيماً

كان أو حقيراً .

ومنه : ما سنسمعه من نصرة الملائكة للمهدي (ع) . وقد وردت في ذلك

روايات عديدة سترويها .

ومنه : سيطرته على العالم كله ، وهو هدف لم يتحقق على يد أي قائد

سابق ، ظالماً كان أو عادلاً .

ومنه : تجاوب ( الطبيعة ) مع العدل الساري في دولته، بالمعنى الذي سنذكره.

وغير ذلك من النقاط التي تدل بوضوح على العناية والتأييد ، مما ذكرنا وسنذكر إثباتاته الكافية ... وبعضها ترقى إلى رتبة اليقين لكل مؤمن بفكرة المهدي أساساً .

ومعه فالأطروحة الثانية القائلة بإيكال أمر الإمام المهدي (ع) إلى

القوانين الكونية إيكالا كاملا ...لا يمكن أن تكون صحيحة .

ص: 471

الأطروحة الثالثة : وهي المتعينة بعد نفي الأطروحتين السالفتين :

ان الإمام المهدي (ع) ينتصر طبقاً للطريق( الطبيعي)، ولا يمكن أن

تكون المعجزة سبباً قهرياً لانتصاره. غير أن هذا الطريق الطبيعي ( مطعّم ) بالتأييد الجزئي وغير القهري من قبل اللّه عز وجل . باعتبار أن دولة الإمام

المهدي (ع) هي النتيجة الكبرى لوجود البشرية وجهودها تضحياتها .

تماماً ، كما أيد اللّه نبيه صلى اللّه عليه وآله وسلم . . . وأوضح أشكال هذا التأييد الذي لا يمكن أن ينكره منكر ، هو وصول الجيش الإسلامي القليل العدد والعدة ، إلى مناطق شاسعة من الكرة الأرضية في أقل من نصف قرن ، ولا زال الإسلام ، بالرغم من تكالب الجهود الدولية على طمسه والإجهاز عليه باقياً في توسع وانتشار وان كان أبطأ من السابق بطبيعة الحال .

هذا ، ان صرفنا النظر عن انتصار النبي (ص) في كل حروبه ، و تأییده بالملائكة ، وبالقرآن الكريم . ولماذا نصرف النظر عن ذلك ؟ ! . .

وبعد هذا التمهيد ، لا بد لنا من التعرض إلى صلب الموضوع في هذا

الفصل وهو عرض أسباب أو ضمانات النصر للإمام المهدي (ع) .. تلك الضمانات التي تهيء له ( البيئة ) المناسبة لسرعة وسهولة سيطرته على العالم بالعدل، بالرغم من أهمية هذه المهمة وجسامة مسؤولياتها .

وأما كيفية وأساليب الخطط العسكرية والمفاهيم الفكرية التي يستعملها المهدي (ع) خلال عمله ، فهذا مما لا يمكن الإطلاع عليه إلا للفرد المعاصر

لذلك الزمن ... سوى بعض الأمور القليلة التي سنذكرها بعد ذلك .

وهذه الضمانات يرتبط بعضها بالتخطيط العام للعصر السابق على الظهور

ص: 472

بمعنى أنها من نتائجه بشكل وآخر. وبعضها راجع إلى تخطيط خاص متخذ يومئذ لكي يوصل إلى نتائج معينة ؛ ومن هنا لا بد من وقوع الحديث في قسمين من الضمانات :

القسم الأول : الضمانات الناتجة من التخطيط السابق

القسم الأول : الضمانات الناتجة عن التخطيط العام السابق على الظهور :

وهي ضمانات عديدة ، أكثرها منصوص في الروايات بوضوح :

الضمان الأول : فشل الأنظمة السابقة

الضمان الاول : فشل الأنظمة السابقة على الظهور واتضاح زيفها

وظلمها لدى الناس .

فقد قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى (1)أن من جملة النتائج التي يتمخض عنها

التخطيط العام السابق على الظهور ، هو مرور كل المبادىء التي تدعي لنفسها

حل مشاكل البشرية وتذليل مصاعبها . . . بتجارب طويلة الأمد ، ينكشف في نهاية المطاف زیفها . وجهات القصور والنقص والظلم فيها . . . ذلك النقص

التي تتضمنه بالضرورة باعتبارها بنت العقل البشري القاصر المقيد في حدود العاطفة والزمان والمكان ، هذا النقص الذي لا يبرز للعيان إلا بعد التجربة

والإمتحان .

وتمر المبادىء في خضم التجارب ، واحدة بعد الأخرى ، أمام الرأي

العام العالمي ، وبمرأى ومسمع من الجميع : الصديق والعدو والموافق والمخالف..

حتى يظهر زيفها وظلمها ومخالفتها للمصالح العامة والخاصة . اما الجميع ، وهذا ما نعيشه فعلا في تاريخنا الحاضر، الذي كشف للرأي العام العالمي

عدد من المبادىء التي تدعي حل مشاكل العالم .

ص: 473


1- ص 288 وما بعدها .

وإذا تهاوت كل التجارب على صخرة الواقع ، يحدث عند البشر عموماً

يأس نفسي قاتل من المبادىء المعروضة كلها ، وإحساس عميق بأنها غير قابلة لرفع المظالم عن كاهل البشرية ، وإبدالها بالسعادة والرفاه . ولكن

خيط الخير وومضة النور ، تبقى تعتمل في ضمير الناس بشكل غامض عميق الغموض ان خيط الأمل بالسعادة سوف لن ينقطع . وينبعث أمل غامض

بأن هناك مبدأ مجهولا عادلا يمكن أن يضمن للبشرية سعادتها ورفع المشاكل من ساحتها . ويزداد هذا الأمل أصالة ووضوحاً كلما ازداد الإحساس بفشل المبادىء المعروضة في العالم.

لا يختلف في هذا الأمل ، مؤمن عن كافر ... فان الكل يحسون بالظلم

وإن كانوا مشاركين في إيجاده ، وكلهم يشعرون بمرارته وقساوته ؛

كما أن الجميع سيعرفون فشل المبادىء المعروضة لحل مشاكلهم وانها إنما أضافت إلى الظلم ظلماً ، وإلى المشاكل مشاكل .

فتنعكس هذه الأحاسيس على شكل تصور لا شعوري مجمل يتضمن احتمال انبثاق المبدأ المؤهل لإيجاد السعادة في يوم من الأيام . ويصبح البشر على العموم في حال انتظار غامض هذا الغد السعيد المنشود . . . تماماً ، كما ينتظر المؤمن ظهور المهدي (ع) انتظاراً واضحاً .

وانطلاقاً من هذه الزاوية بالذات . سوف يتلهف الناس ويلتفتون بكل إخلاص يملكونه ، ومن منهم لا يخلص لمصلحته وسعادته : ! .. . إلى أول صوت صريح يدعي وجود حل جديد لمشاكل البشرية وسبب جديد لنشر السعادة في ربوعها .

سيقول المؤمن : هذا هو أملي الذي كنت أعرفه وأنتظره بوعي ووضوح

ص: 474

وسيقول الكافر : هذه تجربة خيرة البوادر ، لعلها تنقذ البشرية وتحقق أملها المنشود . وسيقول المهدي (ع) : أنا المصلح المنتظر . فيجيبه العالم :: أنت

المصلح المنتظر !...

وهذا ليس بدعاً من الأمر.. بعد أن اعتادت البشرية أن تستقبل كل

مبدإ جديد يريد حل مشاكل العالم ، بصدر رحب وحسن نية ، لعله هو الذي يكون المبدأ المنشود الذي يحالفه التوفيق لإنجاز الغد السعيد .... وحين تبوء تجاربه بالفشل . تستقبل المبدأ الآخر بصدر رحب أيضاً . فما سيكون حالها حين تفشل كل التجارب المعروضة والأطروحات المحتملة. إن يأسها

من هذه الأطروحات سوف يتركز . وأملها بالغيد السعيد سوف يتضح ، وصدرها تجاه المبدإ الجديد والأطروحة الجديدة سيكون أرحب وحسن

ظنها أكثر .

تلك هي الأطروحة العادلة الكاملة التى سيجد الناس لأول وهلة فروقاً

شاسعة بينها وبين أي واحد من المبادىء السابقة الفاشلة . الأمر الذي يجعل الأمل في نجاحها في إنجاز الغد السعيد المأمول ، واضحاً ومنطقياً أكثر من أي

مبدا آخر .

ومن هنا ، حين يقول القائد المهدي (ع) أنا المصلح المنتظر ، سيجيبه

العالم : أنت المصلح المنتظر . ومن هنا يتولد الضمان الأول لانتصار المهدي (ع ) .

وهذا ما أشارت إليه بعض الأخبار التي سبق أن روينا قسماً منها في

التاريخ السابق (1)

ص: 475


1- ص 288 وما بعدها .

أخرج المفيد في الإرشاد (1) والطبرسي في الإعلام (2)عن عتبة عن

أبيه قال :

إذا قام القائم حكم بالعدل .......

إلى أن قال : ان دولتنا آخر الدول .

ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا

قبلها . لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا :

إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء

وهو قول اللّه تعالى : والعاقبة للمتقين .

وأخرج الشيخ في الغيبة (3)بسنده عن أبي صادق عن أبي جعفر عليه السلام ،

قال:

دولتنا آخر الدول . وساق الحديث .

أقول : وهذا الخبر قرينة على أن القائل في ذلك الخبر هو الإمام الباقر نفسه.

وأخرج النعماني في ( الغيبة ) (4)بسنده عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه

عليه السلام ، أنه قال :

ما يكون هذا الأمر ، حتى لا

يبقى صنف من الناس إلا وقد ولوا

من الناس . حتى لا يقول قائل :

ص: 476


1- ص 344 .
2- اعلام الوری ص 432.
3- ص 282 .
4- ص146.

انالو ولينا لعدلنا . ثم يقوم القائم

بالحق والعدل .

وهو صريح في مرور المبادىء التي تدعي حل مشاكل العالم ، بالتجارب واحدة بعد الأخرى عن طريق تسلمها زمام الحكم في منطقة من العالم صغيرة

أو كبيرة . وستفشل لا محالة فيما تدعيه ، وسيسود بدل العدل المطلوب الظلم

والفساد في مناطقها المحكومة لها . ومن هنا لا م أن تدعي عند قيام حكم المهدي (ع) ونظامه العادل : « اننا إذا ملكنا نا بمثل سيرة هؤلاء » أو تقول : « أنا لو ولينا لعدلنا » .

لأن مثل هذا الإدعاء سوف يكون معرى عن المصحة أمام الجميع ، بعد

أن أثبتت التجارب بمرأى ومسمع من الرأي العالمي فشلها وزيفها . فيقال

لهم بوضوح : انكم باشرتم الحكم ولم تسيروا بمثل هذه السيرة العادلة . ولو كان عندكم رأي أو اتجاه أعمق مما مارسمتموه خلال حكمكم ، لظهر

يومئذ لا محالة .

ويقال للرأي العام : إنكم جربتم هذه المبادىء وعشتم قساوتها وظلمها

وأملتم زوالها وتبدلها إلى العدل. فها هو العدل قد جاءكم ليخرجكم من الظلمات إلى النور ويهديكم إلى الصراط المستقيم

وهذا هو قول اللّه تعالى :

« وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » (1)

أي ان نهاية المطاف في التخطيط العام البشرية : هو حكم المتقبل الأخيار

حملة العدل الكامل والعبادة الخالصة إلى الناس .

ص: 477


1- الأعراف : 7 / 128 وانظر القصص : 83/28 .

الضمان الثاني: ضعف الدول السابقة

الضمان الثاني : ضعف الدول السابقة على الظهور ، والتي ستصبح

معاصرة له في أول تحققه .

فإنه قد يخطر في الذهن : استبعاد انتصار الإمام المهدي (ع) أمام قوى

الشر الكبرى في العالم المتمثلة بالدول الكبرى والمجموعات الدولية والأحلاف

الدولية . . . وامام الأسلحة الرهيبة التي يكفي بعضها القليل لهلاك كل البشرة .

فضلا عن الکثیر . والتي يمكن بها التعرف على أي شكل من أشكال التحرك لأي جيش أو جهة ، أينما كان في الكرة الأرضية .. لأجل التوصل إلى

ضربه وتحطيمه .

وهذا الإستبعاد يمكن نقده بأي ضمان من هذه الضمانات التي نحن بصددها الآن لانتصار الإمام المهدي (ع) . ولكن بغض النظر عن أي ضمان . يمكن أن

يكون هذا الضمان الثاني جواباً مستقلا متكاملا عن هذا الإيراد .

وهو : اننا يمكن أن نعرض ( اطروحة ) معينة محتملة – على أقل تقدير-

نجمع حولها المثبتات والقرائن ، بما فيها بعض الروايات الواردة . نعرضها لكي نقول فيها : إن قوى الشر الكبرى والأسلحة الحديثة الفتاكة ، سوف

لن تبقى إلى عصر الظهور ، لكي يتستى لذويها استعمالها ضد الإمام المهدي (ع ) ، بل سيكتب لهذه الأسلحة الزوال بشكل من الأشكال .

وذلك انطلاقاً من منطلقات نذكر منها اثنتين رئيسيتين :

المنطلق الأول : ان نتصور ان اتفاقية عامة تقع بين الدول المهمة في

العالم ، بمنع استعمال الأسلحة الاستراتيجية الفتاكة كالقنابل الذرية والصواريخ

الموجهة ، وبعض أنواع الطائرات والدبابات والبوارج المتطورة الصنع ....ونحو ذلك مما يعجب الدمار العام ... ومنع صنعها وبيعها ... والاتفاق

ص: 478

على إتلاف هذه الأسلحة ممن كانت لديه ، وفرض رقابة دولية مشددة

على ذلك .

فإذا تمّ تطبيق هذه الاتفاقية، لم يبق لدى الدول عموماً ، إلاَّ السلاح

الذي ينفع للاستهلاك المحلي الداخلي ، وهو مما لا يمكن أن يواجه حركة مهمة واسعة كحركة الإمام المهدي (ع ) .

وقيام الدول في المستقبل غير البعيد يمثل هذه الاتفاقية، أمر محتمل

جداً ، والاتجاه الدولي العام يسير نحوه بخطى حثيثة . وخاصة بعد أن منع تفجير الأسلحة النووية جواً ، ومنع بيعها للدول غير المالكة لها ، و اتجه التفكير إلى الحد منها في الدول المالكة لها ، بل الحد كل أنواع الأسلحة المهمة . كما لا يخفى على القارىء المتابع لهذه الأخبار .

ومعه يبقى وجود مثل هذه الاتفاقية أمراً قريباً جداً . وكل ما في الأمر

انه يحتاج إلى مضي بعض الزمن لأجل نضج الفكرة والاتفاق على النقاط

الأساسية .

المنطلق الثاني : وهو ثابت على تقدير عدم حصول المنطلق الأول ،

أغني عدم اتفاق الدول على الحد من الأسلحة . ففي الإمكان القول حينئذ

ان الأسلحة ستتحطم في حرب عالمية ساحقة ماحقة مدمرة .

الحرب العالمية

وقد نقل عن أحد المفكرين الأروبيين ، أظنه برناردشو ، انه سئل عن

نوع الأسلحة التي تستعمل في الحرب العالمية الثالثة ، فقال ما مؤداه : إن هذا مما لا اعلمه، وإنما أعلم أنه إن وقعت حرب رابعة ، فسوف يكون السلاح

فيها هو العصي والحجارة .

ص: 479

وهذا واضح جداً في كون هذا المفكر مقتنعاً بأن الحرب العالمية الثالثة

سوف تكون هائلة تذهب بالحضارة والمدنية كلها ، لا بالأسلحة فقط . وستكون كل الأطراف المشتركة فيها خاسرة وفانية .. إلى حد سوف

لن يوجد بعدها إلا أناس فارغين من الحضارة ومجردين من السلاح القوي... لا يملكون في الحرب إلا العصى والحجارة .

وهذه الصورة لا تخلو من مبالغة ، إلاّ أن طبع الحضارة الأروبية بكل

أشكالها تتجه نحو الحرب لا محالة ، ما لم تضم اتفاقية من النوع الذي ذكرناه

في المنطلق الأول . ولا زال شبح الحرب العالمية ماثلاً ، والخوف منها يأكل قلوب الساسة الكبراء في عالم اليوم ، فضلاً عن الشعوب الضعيفة .

وإذا حدثت هذه الحرب ، فسنكون نتيجة للتخطيط العام الذي تمر به

البشرية ، وهذه الدول بالذات . طبقاً لقوله تعالى :

«حتىّ إذا أخَذَت الأرضُ

زخرُفتها وازَّينَتْ ، وَظَنَّ أهْلُها

أنّهُمْ قادرِوُنَ عَليَها ، أتَاهَا

أمْرُنا لَيْلاً أو نهاراً ، فَجَعَلنْاهَا

حَصيداً كَانْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ .

كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ

يتفكرون »(1) .

فإن التمحيص كما هو شامل للأفراد : شامل للجماعات والدول أيضاً ، وما يفشل الأفراد في التمحيص كذلك تفشل الدول . وفشلها عبارة عن انعدام

ص: 480


1- /24.

الضمير والأخلاق فيها ، وتولد الأنانية وسوء الظن ببعضها البعض وبالأفراد والجماعات . الأمر الذي يولد على الصعيد الداخلي أقسى أنواع الظلم والتعسف ،

وعلى الصعيد الخارجي الحرب العالمية المدمرة .

وقد انطبقت الشرائط المذكورة في الآية الكريمة على الحضارة الأروبية

تماماً. فقد « أخذت الأرض زخرفها وازينت » بأنواع التقدم الحضاري والمدني في مختلف الحقول الإنسانية واللاانسانية ....و « ظن أهلها انهم قادرون عليها » وانهم مسيطرون على الطبيعة قادرون على تذليلها لمصالحهم وتوفير سعادتهم . وإذا وجد هذان الشرطان وجدت النتيجة الرهيبة : « أتاها أمرنا » بالفناء « فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس » كما قال الشاعر :

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وليس الأمر الإلهي بالفناء منحصراً بالطريقة الاعجازية ، بل تشمل

النتيجة التي قلناها ، وهي ان فشل الدول في التمحيص يولد بينها الحربُ المدمرة الماحقة التي لا تبقي للدول المتحاربة ولا لأسلحتها ولا لكبريائها

أي وجود .

والتنبوء بحدوث الحرب المدمرة قبل الظهور ، موجود في الروايات ،

بشكل وآخر ، مروية من قبل المحدثين من الفريقين .

أخرج ابن ماجة (1)عن أنس بن مالك عن رسول اللّه (ص) ، في

حديث عن اشراط الساعة ، انه قال :

ويذهب الرجال ويبقى النساء

حتى يكون الخمسين امرأة قيم واحد .

ص: 481


1- أنظر السنن ج 2 ص 1343 .

ومن الواضح ان ذهاب الرجال أو فنائهم ، لا يكون لمرض أو فقر

، أو نحوه ، وإلاّ لشمل النساء أيضاً ، وإنما يكون نتيجة للحرب خاصة ......إذ ان الأعم الأغلب من المحاربين هم من الرجال على مر الأجيال .

وأخرج السيوطي في الحاوي (1)عن نعيم بن حماد عن ابن سيرين ،

قال:

لا يخرج المهدي حتى يقتل من

كل تسعة سبعة

وأخرج النعماني (2) بسنده عن زرار قال :

لا يكون هذا الأمر حتى يذهب

تسعة أعشار الناس .

أقول : والمراد من هذا الأمر : ظهور المهدي (ع ) .

وأخرج الصدوق في إكمال الدين (3) والمجلسي في البحار (4)عن أبي

بصير ومحمد بن مسلم قالا سمعنا أبا عبد اللّه (ع ) يقول :

لا يكون هذا الأمر حتى يذهب

ثلثا الناس .

فقيل له : فإذا ذهب ثلثا الناس فما يبقى ؟ فقال ( ع ) :

ص: 482


1- ج 2 ص 147.
2- ص 146 .
3- المصدر المخطوط .
4- ج 13 ص 156 .

أما ترضون أن تكونوا في الثلث

الباقي .

وأخرج الشيخ في الغيبة (1) بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع ) :

كان أمير المؤمنين عليه السلام

يقول : لا يزال الناس ينقصون حتى

لا يقال : ( اللّه ) . فإذا كان ذلك

ضرب يعسوب الدين بذنبه . الخ

الحديث حيث يتحدث عن كيفية

اجتماع أصحاب القائم المهدي (ع ) .

وخبر ابن سيرين صريح في أن هذه القلة المتزايدة التي تصيب الناس ، إنما تكون بالقتل ، وهذا القتل الشامل للبشرية كلها لا يكون عادة لظلم ظالم معين أو الحروب محلية ، بل يتعين حصوله بحرب عالمية شاملة قوية التأثير .

واختلاف هذه النسب المذكورة في الأخبار لقلة الناس ، دال على كونها على وجه التقريب لا التحديد . على أنه يمكن الأخذ بأكبر النسب وهو تسعة أعشار ، لأن الإخبار بذهاب الأقل لا ينافي الإخبار عن ذهاب الأكثر.....

إذا كان الاخبار مربوطاً بقانون ( كلم الناس على قدر عقولهم ) . وقد

يمكن ضرب هذه الكسور ببعضها ويكون الناتج هو الباقي من الباقي من الناس .

فلو ضربنا التسع الباقي بعد ذهاب تسعة أعشار ، بالثلث الباقي بعد ذهاب الثلثين ، كان الناتج ان الباقي من البشر واحد من سبع وعشرين . فلو ضربنا ذلك بالتُسعَين الباقيين بعد ذهاب : من كل تسعة سبعة . كان الناتج واحداً من مئة وإحدى وعشرين تقريباً ، يكون هو الباقي من البشر . وهذا الضرب

ص: 483

ممكن إلاّ أنه لا يخلو من استبعاد في الذهن لأول وهلة واللّه العالم . ونوكل إلى القاريء القناعة بأي من هذه النتائج التي النتائج التي عرضناها .

وهذا الهلاك العظيم الواقع على الناس ، مهما كانت نسبته ، وإن أمكنت

له عدة تفسيرات ، إلا أنه لا يكون - عادة - إلاّ نتيجة للحرب المدمرة الواسعة الانتشار. فإن الوباء وأشباهه من المبيدات ، لا يستوعب البشرية

كلها عادة ولا يذهب بهذه النسبة العالية من الناس ، وخاصة مع المستوى الطبي اللائق الموجود في الأزمنة الحديثة . إذن ، فالسبب الأهم لذهابهم ليس إلاّ الحرب العامة .

وعلى أي حال فقد ثبت المنطلق الثاني من الضمان الثاني ، وهو تلف

الأسلحة بحرب ضروس شاملة ، لا تتلف الأسلحة فقط ، بل الناس أيضاً

كل ذلك لكي يظهر الإمام المهدي (ع ) على أرضية سهلة من البشر ، غير قادرة على المقاومة الشديدة عسكرياً ولا فكرياً ، ولا تشكل خطراً حقيقياً على الثورة المهدوية . لكي تكون سيطرة المهدي (ع ) على العالم بأقصر مدة وأقل جهد أمراً ممكناً وصحيحاً .

ولا ينبغي أن نتجاوز هذا الموضوع قبل أن نعرض بعض الأسئلة التي

قد ترد على الذهن ، ونحاول الجواب عليها :

السؤال الأول : إن الحرب العالمية الرهيبة إذا حدثت ، سوف لن يقتصر

القتل فيها على الكفرة بل يعم المسلمين لا محالة، ومعه قد يقتل من أصحاب الإمام المهدي (ع ) المعدّين لنصرته بعد ظهوره جماعة ، أو قد يقتلون

کلهم . ومعه يكون الظهور متعذراً لما عرفناه من أن وجود العدد الكافي من الجند والقادة لغزو العالم بالعدل أمر ضروري للانتصار على العالم . فإذا تعذر

ص: 484

الانتصار لم يكن للظهور فائدة ، وكان متعذراً أيضاً . فتكون هذه الحرب موجبة لتأخر الظهور ، وانخرام شرطه بدلاً عن أن تكون في صالحه .

ولعلنا لو قلنا بأن الباقي من البشرية هو نسبة الواحد إلى المئة والواحد والعشرين ، أو حتى نسبة الواحد إلى السبع والعشرين ... كان هذا الإيراد صحيحاً ... وكان من الصعب القول بأن أصحاب الإمام المهدي (ع )

كلهم سيكونون من الباقين ، وخاصة إذا توسعنا أكثر إلى الثلثماءة والثلاثة عشر إلى المخلصين من الدرجتين الثانية والثالثة . فإن المحافظة عليهم يحتاج إلى عناية خاصة تشبه المعجزة : وبذلك تكون الحرب العالمية التي تسبب هذه

القلة العظيمة في البشر ، ضد مصلحة الظهور ، وليست إلى صالحه .

إلاّ أن هذه الفكرة غير صحيحة ، بمعنى ان الحرب لا تكون مضرة

بالظهور حتى على هذا المستوى . وذلك لأمرين :

الأمر الأول : إننا - على أسوأ تقدير - يمكن أن نفترض تساوي نسبة

الفناء في البشر بين جميع أصنافهم سواء من أصحاب الإمام أو غيرهم .

فإذا كانت البشرية ذات العدد الكبير تحتاج إلى ثلاثماءة ونيف من القواد ، فمن المنطقي أن البشرية القليلة العدد، تحتاج إلى قادة أقل ، وكلما قلت نسبتها قلت حاجتها إلى القواد . فإن النسبة بين عدد البشر وعدد الجيش المهدوي تبقى ذاتها مهما صغر الرقم .

الأمر الثاني : لو تنزلنا - جدلاً عن الأمر الأول وفرضنا ان الحرب

العالمية التي تسبب القلة العظيمة مضرة بمصلحة الظهور ، إذن ، نستطيع أن نعرف بالأدلة الدالة على حصول الظهور وانتصار الأمام عليه السلام وكون ذلك هو الهدف من خلق البشرية ، تعرف أن هذه القلة لن تحصل في انصار

ص: 485

الإمام (ع ) إما لأن الحرب نفسها لن تحصل وإما لأنها لا تكون موجبة لقلة البشر بهذا المقدار . واما أن توجب قلة البشر الآخرين مع المحافظة على هؤلاء

بعناية وتأييد خاص ، ناشيء من تأييد هدفهم الأعلى نفسه .

وبهذه الأدلة نستطيع أن نقيد الروايات او دلت على القلة المضرة بمصلحة

الظهور ، ونحملها على مقدار من القلة لا يكون مضراً .

إلاّ أن الإنصاف ان استنتاج هذه القلة العظيمة في البشر من هذه الأخبار

بلا موجب ، فإن الحاصل الناتج من ضرب الكسور لم يدل عليه خبر أصلاً.

بل ولا الأخذ بأكبر الكسور وهو التسعة أعشار . فإن دل عليه خبر واحد

لم تسنده الأخبار الأخرى ، فلا يكون قابلاً للاثبات .

بل اما نحمل هذه الأخبار على التقريب - كما ذكرنا – أو نأخذ بأقل

التقادير ، باعتبار انه المقدار المسلم بين الأخبار ، والزائد مشكوك لم يثبت تاريخياً. وأقل النسب هو ذهاب الثلثين وبقاء الثالث . وإذا صح جوابنا على النسب العالية للهلاك صح جوابنا على النسب الأقل بطريق أولى .

يضاف إلى ذلك أجوبة أخرى : أهمها : إن المحافظة على أصحاب الإمام الخاصة بل وغير الخاصة ، ليس يحتاج إلى العناية والتأييد الخاص ، بل يمكن

أن يكون طبيعياً خالصاً .

وذلك انطلاقاً من زاويتين :

الزاوية الأولى : إن الأسلحة التي تشمل بالفناء كل البشرية سوف لن

تستعمل ، لأنها توجب فناء الدولة الضاربة ... وهذا واضح .

الزاوية الثانية : انه لا دليل على شمول الحرب لكل دول العالم وأقاليمه .

ص: 486

وإنما سوف تقتصر على المناطق التي تكون محكومة للدول المتحاربة ، ولكل

أصدقائها ومخالفيها ... وهي بكل سكانها نسبة عظمى من العالم قد تزيد على ثلاثة أرباع سكانه . فلو هلك أكثر هؤلاء مع القليل من غيرهم ، يكون الهالك بالنسبة التي فهمناها أخيراً .

ومن الواضح والسهل افتراض أن يكون هؤلاء المخلصون المعدون

لنصرة الإمام التمائد المهدي (ع )موجودين في الدول غير المشاركة في الحرب .

فمهما نالهم من الضرر نتيجة للحرب العالمية ، فإنهم يبقون على قيد الحياة على أي حال ، وهو المطلوب .

وهذا هو المقصود من قوله عليه السلام في إحدى الروايات : أما ترضون

أن تكونوا في الثلث الباقي ....

إذن ، فسوف يقل أعداء الإمام المهدي (ع ) دون أصحابه وناصريه ،

وهو المقصود من أن وجود الحرب العالمية تشكل إحدى الضمانات لانتصاره

عليه السلام .

السؤال الثاني : انه إذا قامت الحرب العالمية الرهيبة التي تذهب بأكثر

أفراد البشر ... فمعنى ذلك زوال معالم الحضارة الحديثة بكل حقولها وموت كل الاختصاصيين في فروع المعرفة. فماذا يبقى لعصر ما بعد الظهور من حضارة أو مدنية ؟ ومعه فكيف يعم الرفاه كل البشر بدون ذلك ؟ ! . . .

وجواب ذلك : ان المهم من معالم الحضارة الحديثة التي يمكن أن يفيد منها عصر ما بعد الظهور ، ليس هو المباني والشوارع والجسور ونحوها . بل الأهم هو المصانع الكبرى والمختبرات العلمية وخبراؤها والمصادر التي تتحدث عن

ص: 487

العلوم التي تخصها أعني الكتب والوثائق التي تخص هذه الحقول . فإن هذا

هو أفضل ما أنتجته أوروبا من خدمات إنسانية .

ومن الممكن القول ان كل ذلك يمكن أن ( يعبر ) الحرب إلى ما بعدها

سالماً . وذلك لأن الحرب تستها.ف أساساً الجيوش والأسلحة ومصانعها والعوصم والمدن الكبيرة والمعسكرات ونحوها ، ولن تستهدف معامل صنع السيارات والزجاج بطبيعة الحال فما يتلف تحت التفجيرات الذرية والهيدروجينية هو ذلك ... وكذلك . وكذلك قسم كبير من الناس ، والقسم الأوفر

هو الذي يموت متأثراً بالاشعاع بعد ذلك . ويكون موته محسوباً على الحرب

بطبيعة الحال .

إذن ، فأغلب المصانع سوف لن تتلف تحت الضرب ولا يضرها الإشعاع بطبيعة الحال مضافاً إلى أن عدداً من المصانع موجودة في الدول غير المشتركة في الحرب . ولن تتلف الوثائق والكتب الخاصة بهذه الحقول أيضاً .

أما الحبراء ، فأغلب الظن أن الموجود منهم في الدول المشتركة في الحرب ، سوف ینتهي أو یقارب النهایة. فلو لم يكن هناك خبراء آخرون في العالم لتوقفت المعامل عن العمل . إلا أننا نعيش الفكرة في هذا العصر بوضوح.... إن الخبراء في الدول الصغيرة عدد كبير لا يستهان به وهم في ازدياد مستمر ، مضافاً إلى أن الحفاظ المصادر والوثائق الخاصة بحقول المعرفة الصناعية تتيح للإنسانية إنتاج خبراء أكثر .

إذن ، فالحرب ، وان كانت قاتلة لأعداد بشرية هائلة فوق الحسبان

بكثير ، ، غير أنها لن تنال الجانب الصناعي بضرر كبير ، الأمر الذي يوفر

فرصة الإستفادة منه في عصر صر ما بعد الظهور .

ص: 488

السؤال الثالث : إن معنى ما سمعناه في هذا الضمان الثاني لانتصار الإمام المهدي (ع) . ان قيام الحرب العالمية هي الضمان الرئيسي لانتصاره . وأما

إذا لم تقم الحرب إلى حين الظهور ، فسوف لن يستطيع النصر ولا تحقيق الدولة العالمية العادلة ، إذ انه سيواجه القوى العالمية العادلة بكل جبروتها ، الأمر الذي

يجعل انتصاره أمراً متعذراً .

وجواب ذلك من عدة وجوه :

الوجه الأولى : اننا بعد أن نعرف أن (الظهور) المنتج للدولة العالمية

هو الهدف البشري الأعلى . وقد عرفنا في التاريخ السابق وفي هذا التاريخ. أن اللّه تعالى يحقق كل ما هو لازم لإنجاز هذا الهدف ، إن أمكن ذلك بالطريق الطبيعي ( المخطط ) فهو ، وإلا فبالطريق الإعجازي . وقد استنتجنا من

ذلك عدة نتائج تمت إلى عصر الغيبة بصلة .

و من هنا يتبرهن بالضرورة كونه منتصراً على كل حال ، في كل غزواته وفتوحاته ، وان الدولة العالمية العادلة ناتجة على يده لا محالة ، سواء وقعت الحرب العالمية قبل الظهور أولا .

الوجه الثاني : انه لو لم تحدث الحرب العالمية ، كان هذا الضمان منتفياً. ولكن تبقى الضمانات الأخرى على حالها للمشاركة في إنجاز النصر بعد الظهور .

و هی فعالة شديدة التأثير ضد أعظم القوى العالمية . وقد سمعنا بعضها ويأتي

البعض الآخر .

الوجه الثالث : إن المهدي (ع) بقابلياته القيادية التي حملنا عنها أكثر من فكرة في أكثر من مناسبة ، يستطيع أن يخطط للحرب الفكرية والعسكرية في هذا العالم المليء بالظلم والطغيان ، ما يستطيع به أن يذلل كل عسير .

ص: 489

ونحن بالطبع ، حيث نكون سابقين على عصر الظهور ، لا نستطيع أن

ندرك كنه تلك التخطيطات والأساليب، فيبقى إدراك ذلك موكولا إلى

عصر ما بعد الظهور .

السؤال الرابع : وهو يدور حول عبارة في الرواية التي سمعناها عن الشيخ

في الغيبة بسنده عن أبي بصير عن أبي عبداللّه (ع) :

كان أمير المؤمنين (ع) يقول :

لا يزال الناس ينقصون حتى لا يقال :

( اللّه ) .

فإن العبارة ذات دلالة على النقصان لا يحدث في الناس أنفسهم بل

يحدث في إيمانهم ، حتى لا يقال : اللّه باعتبار إنكارهم للعقيدة الإلهية . وهذا

انحراف واضح نتيجة للتمحيص حين تمتلىء الأرض ظلماً وجوراً . فهلا كانت

هذه الرواية قرينة على أن المراد من النقص المذكور في الروايات الأخرى

هو النقص في الإيمان لا في الأنفس ؟ ! . .

وجواب ذلك : ان تلك الروايات واضحة جداً في نقصان الأنفس . وهذه الرواية ليست بهذا الوضوح لتكون قرينة على فهم الروايات الأخرى. إذ من المحتمل أن هذه الرواية تريد بيان نقصان الإيمان فقط، كما هو مراد السؤال . ومن

المحتمل أنها تريد نقص الإيمان والأنفس معاً ، فكأنما تقول : لا يزال الناس ينقصون عدداً وينقصون إيماناً حتى لا يقال اللّه . ومعه تكون القرينة المذكورة

في السؤال ، بدون موضوع .

الضمان الثالث : وجود العدد الكافي من المخلصين

الضمان الثالث : لانتصار الإمام المهدي (ع) .

توفير جماعة من المخلصين الممحصين الكافين للقيام بمهام الفتح العالمي،

وتنفيذ الغرض الإلهي الأعلى من خلق الخليقة .

ص: 490

وقد عرفنا كيف خطط اللّه تعالى لوجودهم ، في ضمن الفترة الطويلة المتخللة بين صدر الإسلام والظهور ، كما عرفنا أعدادهم وسمعنا الروايات الواردة في أسمائهم ، إلى غير ذلك من التفاصيل .

والمهم الآن ، هو أن ننظر إلى أمور أخرى من خصائصهم وصفاتهم،

لم نكن قد سمعناها ، من حيث إيمانهم وشجاعتهم وإخلاصهم للمهدي (ع) و طاعتهم له ، وحسن القيادهم لقيادته . لنعرف في النتيجة كفايتهم لنفتح

العالم وكون هذه الأوصاف تشكل ضماناً أساسياً للنجاح في الثورة ، بشكل غير متوفر في أي جيش آخر .

و ينبغي أن نتكلم عن ذلك ضمن عدة جهات :

الجهة الأولى : شرائط النصر عموماً

الجهة الأولى : ثبت من التجارب الكثيرة التي عاشتها الجيوش خلال الحروب : أن النصر منوط عادة بصفات معينة لا بد أن يتصف بها أفراد الجيش لكي يكونوا أكثر إقداماً وأسرع نصراً .

وتتلخص هذه الأوصاف بالأمور التالية .

الأمر الأول : الإيمان بالهدف ، فكلما كان الجيش أوعى لهدفه كان

أقرب إلى النجاح ، وأما إذا لم يكن يفهم لنفسه هدفاً ، وإنما يساق سوق الأغنام إلى ساحة القتال، فسوف تكون فرصة الفوز من هذه الناحية قد فاتت بشكل مؤسف .

الأمر الثاني : الشعور بالمسؤولية تجاه الهدف ، وانه هدف مهم يتوقف تحقيقه على مسعاه وتسعى غيره من الناس . وأنه هدف لا يتحقق إلا ببذل النفس

والنفيس في سبيله .

ص: 491

وإذ يكون الجندي على مستوى المسؤولية والإخلاص ، فإنه يكون لا

محالة مقدماً على التضحية والصبر على المكاره في سبيل هدفه . وكلما تعمق هذا

الشعور في نفس الفرد أو في أنفس كل أفراد الجيش ، كان أقرب إلى النصر .

وأما إذا كان أفراد الجيش غير شاعرين بالمسؤولية . ولا مخلصين للهدف

بل يرون ضرورة تقديم مصالحهم الخاصة على مصلحه القتال وتحقيق الهدف.....

فمثل هؤلاء من الصعب أن نتصور لهم النجاح والإنتصار .

وإنما يخرج هذا الجندي باعتبار الإضطرار ... لأنه لو رفض ذلك

عوقب بالقتل . فهو مخير بين قتل عاجل جازم لو رفض أوامر القتال ، وبين قتل مؤجل أو محتمل لو باشر القتال. فهو يخرج تقديماً لأحسن الفرضيتين على أسوئهما في مصلحته .

ومثل هذا الجندي ، متى ما رأى أن من مصلحته ترك الحرب من دون

أن يعاقب بالقتل ، كالهرب والإختفاء أو الإنتقال إلى معسكر الأعداء ، أو غير ذلك من الفعاليات، فإنه لا يتوانى عن القيام بها . كما أنه لو رأى

أن من مصلحته قبض الأموال للتجسس أو للقيام بالأعمال التخريبية ، فإنه

لا يكون لديه أي مانع من القبول . وأي مانع لديه من الإجهاز على حرب تهدده بالقتل ، بدون أن يفهم لها هدفاً أو أن يجد نحوها إخلاصاً .

إذن ، فالمهم ، هو أن يجد الجندي، وبالتالي الجيش كله الشعور بالمسؤولية تجاه الهدف من هذه الحرب. وكلما ازداد شعورهم وإخلاصهم ، وكلما

ازداد عدد الشاعرين المخلصين في الجيش، كانت فرص الفوز واحتمالات النصر أقرب لا محالة .

الأمر الثالث : الإخلاص للقائد والإيمان بقيادته ، وبالتالي بذل الطاعة

ص: 492

التامة له. وهي ليست طاعة عمياء ، لو كان الجندي شاعراً بالمسؤولية.

بل ستكون طاعة واعية مبصرة هادفة .

فلو لم يكن الأمر كذلك ، بل كان الجندي عاصياً أحياناً أو يطلق لنفسه

حرية المناقشة والطعن في قرارات وتطبيقات القائد ونحو ذلك ، فان فرصة النجاح تتضاءل لا محالة ، أو كان في الجيش عدد مهم بهذه الصفة .

الأمر الرابع : وهو شرط فيمن توكل إليه القيادة للجيش أو لبعضه ،

و هو أن يكون خبيراً بما أوكل إليه من المهام عالماً بالصحيح من المصالح والمفاسد من النواحي العسكرية والإجتماعية والعقائدية ، لكي لا يقع في الغلط المؤدي إلى التورط في المشاكل المهلكة .

ومن هنا لا بد أن ننطلق إلى جيش الإمام المهدي (ع) قادة وجنوداً ...

لكي نرى ما إذا كانت الخصائص الرئيسية للجيش العقائدي المخلص المنتصر

متوفرة فيهم أولاً . وبأي أسلوب يمكن توفرها فيهم ؟

وسيكون منهجنا فيما يلي أن نخص الجهة الآتية في نقل الأخبار الواردة

في أوصافهم ، مما عدا ما ذكرناه فيما سبق . ونخص ما بعدها من الجهات

في الإستنتاج من هذه الأخبار وتمحيصها من سائر الأخبار .

الجهة الثانية : سرد الأخبار في أصحاب الإمام المهدي (ع )

الجهة الثانية : في سرد الأخبار الدالة على أوصاف أصحاب الإمام المهدي

(ع) من نواحي الإيمان والطاعة والشجاعة ، ونحو ذلك .

وهي أخبار كثيرة ، نقتصر على نماذج كافية منها :

أخرج القندوزي في الينابيع (1)عن أبي بصير ، قال : قال جعفر الصادق

رضي اللّه عنه :

ص: 493


1- ينابيع المودة ص 509 ط النجف .

ما كان قول لوط عليه السلام

لقومه : « لو كان لي بكم قوة أو

آوى إلى ركن شدید » (1)

إلا تمنياً لقوة القائم المهدي وشدة أصحابه . وهم الركن الشديد ، فان

الرجل منهم يعطى قوة أربعين رجلا . وان قلب رجل منهم أشد من زبر الحديد . لو مروا بالجبال لتدكدكت، لا يكفون سيوفهم حتى يرضى اللّه عز وجل.

وما أخرجه أيضاً (2)عن أبي نعيم عن الإمام الباقر رضي اللّه عنه ، قال :

إن اللّه يلقي في قلوب محبينا

واتباعنا الرعب . فإذا قام قائمنا

المهدي عليه السلام ، كان الرجل من

محبينا أجرأ من سيف وأمضى من

سنان.

وأخرج السيوطي في الحاوي (3)عن نعيم بن حماد عن أبي جعفر قال :

يظهر المهدي بمكة عند العشاء .

إلى أن قال : فيظهر في ثلثماءة وثلاثة

عشر رجلاً عدد أهل بدر، على غير

ميعاد قزعاً كقزع الخريف رهبان

بالليل أسد بالنهار . إلى أن يقول :

ص: 494


1- هود : 11/ 80 .
2- ينابيع المودة ص 538 .
3- ص 140-145 ج2.

فليقي اللّه محبته في صدور الناس ،

فيصیر مع قوم أسد بالنهار ورهبان

بالليل .

وأخرج أيضاً (1)عن الحسن بن سفيان وأبي نعيم عن ثوبان ، قال :

قال رسول اللّه (ص) : تجيء

الرايات السود من قبل المشرق كأن

قلوبهم زير الحديد . . . الحديث .

وأخرج النعماني (2) بسنده عن أبان بن تغلب عن أبي عبد اللّه الصادق

عليه السلام في حديث يتحدث فيه عن المهدي (ع) . ثم ذكر رايته ، فقال :

فإذا هزها لم يبق مؤمن إلا صار

قلبه أشد من زير الحديد . وأعطي

قوة أربعين رجلاً .

وأخرج الطبرسي في اعلام الوري (3)والصدوق في الإكمال (4)والراوندي في الخرايج (5)عن أبي الجارود عن أبي جعفر الباقر عليه السلام

عن أبيه عن جده ، قال :

قال أمير المؤمنين عليه السلام على

ص: 495


1- ص 133 .
2- الغيبة ص 167 .
3- ص 435.
4- اكمال الدين المخطوط .
5- الحرایج و الجرایح ص195.

المنبر : يخرج رجل من ولدي في

آخر الزمان ... إلى أن قال : فإذا

هز رايته أضاء لها ما بين المشرق

والمغرب . ووضع يده على رؤوس

العباد ، فلا يبقى مؤمن إلا صار

قلبه أشد من زبر الحديد . وأعطاه اللّه

عز وجل قوة أربعين رجلاً ........

الحديث .

وأخرج ابن طاوس في الملاحم والفتن (1)عن ابن رزين الغافقي

سمع علياً (ع ) يقول :

يخرج المهدي في اثني عشر ألفاً

ان قلوا ، وخمسة عشر ألفاً ان

كثروا . ويسير الرعب بين يديه .

لا يلقاه عدو إلا هزمهم بإذن اللّه ،

شعارهم : امت امت . لا يبالون

في اللّه لومة لائم ... الحديث .

وأخرج المجلسي في البحار (2)بالإسناد إلى الفضيل بن يسار عن أبي

عبد اللّه عليه السلام في حديث قال :

ورجال كأن قلوبهم زبر الحديد ،

لا يشوبها شك في ذات اللّه ، أشد

ص: 496


1- ص52ط النجف .
2- ص 180 ج13 .

من الجمر ، لو حملوا على الجبال

لأ زالوها ، لا يقصدون براية بلدة

إلا أخربوها .كأن على خيولهم

العقبان . يتمسحون بسرج الإمام عليه

السلام يطلبون بذلك البركة . ويحفون

به يقونه بأنفسهم في الحروب ويكفونه

ما يريد. فيهم رجال لا ينامون الليل

لهم دوي في صلاتهم كدوي النحل ،

يبيتون قياماً على أطرافهم ويصبحون

على خيولهم ، رهبان بالليل ليوث

بالنهار .

هم أطوع له من الأمة لسيدها .

كالمصابيح كأن قلوبهم القناديل .

وهم من خشية اللّه مشفقون ،

يدعون بالشهادة ، ويتمنون أن يقتلوا

في سبيل اللّه . شعارهم : يالثارات

الحسين ( ع ) . إذا ساروا سار الرعب

أمامهم مسيرة شهر . يمشون إلى المولّى

ارسالاً . بهم ينصر اللّه امام الحق .

إلی غیر ذلك من الأخبار.

ولا ينبغي أن تنسى ما سبق أن رويناه ، مما أخرجه مسلم في صحيحه من أو دافهم وأنهم «خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ أو من خير فوارس

32

ص: 497

على ظهر الأرض يومئذ» وما أخرجه غيره من أنهم « رجال عرفوا اللّه حق معرفته » وأنهم « أصحاب الألوية » وأنهم « الفقهاء والقضاة والحكام » إلى

غير ذلك .

الجهة الثالثة : في مقدار إيمانهم

الجهة الثالثة : في تحديد مقدار إيمانهم :

سمعنا من هذه الروايات أنهم مؤمنون لا يبالون في اللّه لومة لائم ، ولا بشوب قلوبهم شك في ذات اللّه. رهبان في الليل . لا ينامون لهم دوي في

صلاتهم كدوي النحل ، يبيتون قياماً على أطرافهم . وهم رجال عرفوا اللّه

حق معرفته . وسنعرف أن شجاعتهم أيضاً من الأوصاف الإيمانية لديهم.

والإيمان الذي يتصف بهده الصفات ، لهو من أعظم الإيمان وأقواه .

فان حسب الإنسان المؤمن أن لا يبالي في اللّه لومة لائم . . . كما قال اللّه تعالى :

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ

يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ

يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ

أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى

الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ

فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ » الآیة (1)

وإذا حاولنا فهم هذه الآية من زاوية التخطيط العام . كان (الذين آمنوا)

المخاطبون في الآية هم مؤمنوا ما قبل التمحيص . وهم يصبحون بالتمحيص

ص: 498


1- 54/5.

منقسمين إلى قسمين ، قسم مرتد عن دينه نتيجة للفشل في التمحيص ولردود

الفعل السيئة التي اتخذها تجاه الوقائع ، تلك الردود المنافية مع إيمانه والمنافرة

مع الحق والهدى فأصبح إلتزامه لها ارتداداً كما قالت الآية .

والقسم الآخر الذي ينتجه التمحيص تدريجياً وليس فوراً ، هم المؤمنون

الناجحون ، في التمحيص « فسوف يأتي اللّه بقوم يحبهم ويحبونه » . وهؤلاء

طبقاً للتخطيط العام لا يمكن أن يكونوا إلاهؤلاء الذين ذخرهم اللّه لنصرة الإمام المهدي (ع) فانظر لاهتمام اللّه تعالى في قرآنة الكريم بهذه المجموعة

العادلة الكاملة .

و هم « أذلة على المؤمنين » لشعورهم بالأخوة الإيمانية « أعزة على

الكافرين» والمنحرفين والمرتدين أجمعين ، لفشلهم جميعاً في التمحيص.

« يجاهدون في سبيل اللّه » خلال الفتح العالمي بالعدل ومن أجل تأسيس الدولة

العالمية العادلة . « ولا يخافون لومة لائم » مما يقع منهم من

ا الأعمال المضرة

بمصالح المنحرفين والموجبة لغيظ الكافرين. كيف وان نجاحهم في التمحيص

لم يكن إلا نتيجة لأمثال هذه التضحيات التي أدوها خلال الحياة ، حتى أصبح العدل والهدي هو مقصودهم فوق كل مقصود ، لا يزحزحهم عنه

عتب عاتب ولا تأنيب مؤنب . وإذا كان ديدنهم السابق على ذلك في عصر

الفتن والإنحراف ، فكيف لا يكون ذلك مسلكهم بين يدي إمامهم وقائدهم

ولإنجاز هدفهم الأعلى العادل الصالح .

و « ذلك » النجاح في التمحيص بأي درجة من درجاته « فضل اللّه يؤتيه من يشاء » انطلاقاً من إرادة نفس الفرد المؤمن لا قسراً عليه ... حتى حين يجد

اللّه تعالى في قلبه السلامة وحسن النية والإخلاص .

كما أن حسب الفرد أن لا يشوب قلبه شك في ذات اللّه عز وجل، فهو

ص: 499

يرى في كل أهدافه وأحكامه والموجودات حوله ، عدلا لا يشوبه ظلم وصدقاً .

لا يشوبه كذب ومصلحة لا يشوبها مفسدة . وعلى هذا كان سلوكه في عصر عصر التمحيص السابق على ذلك ، فكيف لا يكون كذلك بعده .

كما أن حسب الفرد أن يعرف اللّه حق معرفته . . أي كما ينبغي أن يعرف

وكما هو أهل له . وأهم فقرة في ذلك بعد الإعتقاد بتوحيده وعدله ، هو الشعور

بأهمية طاعته وعظمة شأنه ، والإنصياع النفسي والسلوكي الكامل لتنفيذ

أوامره وتطبيق أهدافه ... وأن يرى الفرد نفسه وكل ما يملك شيئاً هيناً يسيراً

تجاه عظمة اللّه العليا ، ينبغي تقديمها بكل سرور في سبيله . كذلك تكون صفة

هؤلاء المؤمنين .

ويترتب على هذا الإيمان أمران مقترنان :

الأمر الأول : شجاعتهم الموصوفة في الأخبار ، وسنعرض لها في الجهة

الآتية . فإنها في الحقيقة شجاعة في تنفيذ أوامر اللّه وتطبيق أحكامه .

الأمر الثاني : عبادتهم الموصوفة في الأخبار، وتهجدهم في الاسحار ...

الأمران اللذان يعبر عنهما في الروايات ، رهبان في الليل ليوث في النهار».

الجهة الرابعة : عبادتهم

الجهة الرابعة : عبادتهم .

هم رهبان الليل ، من خشية اللّه مشفقون . فيهم رجال لا ينامون الليل لهم دوي في صلاتهم كدوي النحل ، يبيتون قياماً على أطرافهم ، ويصبحون

على خيولهم .

إن العبادة - بمعناها الخاص - صفة واضحة الدلالة على الإيمان ، وكلما

ازداد الإيمان ازدادت العبادة ؛ فالفرد من هؤلاء ، لا يبالي بتعب النهار

ص: 500

والجهد والجهاد الذي بذله فيه ، ولن يمنعه ذلك من العبادة في الليل والتوجه

إلى الرب العظيم بمزيد الصلاة والدعاء والتسبيح ، واستمداد العون منه

والنصر . إنه الرب العظيم الذي يستقطب جهود الفرد في الليل والنهار .

إلا أن العبادة على هذا الشكل ، مختصة ببعض أصحاب الإمام المهدي (ع)

وليست عامة لهم أجمعين : « فيهم رجال لا ينامون . . . » . فان الفرد منهم

لوخلي وطبعه ، لتهجد بالليل وتعبد ، وقد كان على ذلك سلوكه قبل الظهور ،

قبل أن يمارس الجهاد. ولكنه الآن يبذل الطاقة الكبيرة خلال الجهاد نهاراً ،

ويحتاج إلى تجديد طاقة أخرى للغد ، إذن، فينبغي أن يستريح في الليل بعض الشيء . ومن هنا لم يكن الكل ليقبلوا على عبادة الليل ، بل كان ذلك صفة

البعض منهم .

وإذ سوف نعرف في مستقبل هذا الفصل أن الشجاعة ظاهرة عامة لكل

الجيش المهدوي ، ففي الإمكان أن نعرض هذه الأطروحة بوضوح ، : ان الخاصة المخلصين بالدرجة العليا ، هم الذين يقومون بالجهاد والعبادة معاً . . فهم رهبان الليل وليوث النهار . وأما سائر الجيش فهم يقومون بالجهاد

الواجب عليهم في الشريعة العادلة الكاملة ، ومن أجل أتعابهم سيتركون

المستحب وهو التهجد في الليل. ولا يناسب تعبهم البدني ودرجة وعيهم

الديني أن يجدوا النشاط الكافي للجمع بين العبادة والجهاد .

ومن هنا ينقسم أصحاب الإمام المهدي (ع) إلى قسمين : متهجدين وغير متهجدين . كما انقسم أصحاب رسول اللّه (ص) كذلك ، كما قال اللّه

تعالى :

«إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أنّك

تَقومُ أدنَى مِن تُلُثَي الّليلِ ونِصفَهُ

ص: 501

و ثُلُثُهُ وطائِفَةٌ مِنَ الّذينَ

مَعَكَ »(1)

والذين مع النبي (ص) يومذاك ، هم جماعة المسلمين قبل الهجرة ، فلم

يكن كلهم متهجدين. وإنما كان النبي (ص) مع طائفة متهجداً ...

بالرغم من أنهم جميعاً كانوا على مستوى الشجاعة في تحمل أذى قريش

واضطهادهم للمسملين. كذلك سيكون الإمام المهدي (ع) مع طائفة من

من أصحابه متهجداً ، بالرغم من أنهم جميعاً على مستوى الشجاعة في تحمل

الجهاد وفتح العالم بالعدل ، لا تأخذهم في اللّه لومة لائم .

الجهة الخامسة : شجاعتهم

الجهة الخامسة : شجاعتهم.

هم الركن الشديد الذين تمناه لوط النبي عليه السلام ضد الكفار والمنحرفين

من قومه . قلوبهم كزبر الحديد ، وكالحجر ، وان الواحد منهم أجرأ من

ليث وأمضى من سنان ، ويعطي قوة أربعين رجلا . لو مروا بالجبال لتدكدكت

يتمنون أن يقتلوا في سبيل اللّه. إلى غير ذلك من الأوصاف . وقد تكرر الكثير منها في عدد من الروايات .

وزبر الحديد ،بضم الأول وفتح الثاني ، جمع زبرة ، وهي

القطعة

منه . قال اللّه تعالى :

آتوني زُبَرَ الحديد » (2)

أي قطع الحديد .

والتشبيه للقلب بقطع الحديد، وبالحجر لمزيد التأكيد على عظمة الشجاعة

ص: 502


1- 20/73.
2- 96/18.

والجرأة ، وعدم تطرق الخوف والتلكؤ على القلب ، أعني وجدان الإنسان

وفكره .

وأوضح من تشبيهه بالسيف وبالسنان ، فإنه ليس فقط مثل هذه الجمادات

في الأثر بل هو أجرأ من ذلك ، وأمضى في العمل والنشاط .

وأوضح منه قولهم عليهم السلام : أنه يعطى الفرد منهم قوة أربعين رجلا من غيرهم ، فانه لا يراد بذلك التحديد بل التقريب . . . ويكون

.. المؤدى ان الأثر العملي الفعلي لنشاط الفرد من أصحاب الإمام المهدي (ع)

يكون معادي للأثر الفعلي الناتج عن نشاط جماعة ضخمة من الرجال ، متكونة من أربعين فرداً على وجه التقريب .

وأعتقد أننا ينبغي أن نفهم من الأربعين ، من يتصف بالجرأة والشجاعة بالمقدار الإعتيادي. وإلا فلا شك أن الفرد من أصحاب الإمام تزيد قيمته

المعنوية على كل التافهين والمخنثين في العالم، وان وصل عددهم إلى عشرات

الملايين .

وبهذه الشجاعة النادرة وارتفاع المعنويات الضخم ، يمكنهم القيام بالمسؤولية العالمية ، من فتحه والمحافظة على عدله ، وتغيير مجرى التاريخ تماماً.

ويكتبون بأيديهم على كل ظلم و فساد سطور الخيبة والزوال .

وحصول التطور في معنويات الفرد وأعماله ، في ظروف معينة ، أمر واكبه علم النفس وأقره . وذلك عند وجود المناسبات العامة الهامة والمشاركات

الجماعية المتحمسة لعمل من الأعمال. فإنه يمكن للفرد في مثل ذلك أن يقوم

بأضعاف ما يستطيع عمله في أحواله الإعتيادية ، ولا يحس بالتعب . وإنه ليعجب مما أنجزه حين يلتفت إلى ذلك بعد انتهائه . ومثاله : المظاهرة الصاخبة

ص: 503

ضد شخص أو مؤسسة أو شعار. فإنها تقوم بتحطيم كل ما يقع تحت يديها من أشياء وأشخاص بكل جرأة واندفاع .

وكذلك يمكن التمثيل له إسلامياً بالحج ، حيث نجد المؤمن منهمكاً في

اداء شعائره بهمة وإخلاص لا يشعر بالتعب خلاله ؛ نعم قد يشعر به بعد

الإنتهاء حين يوجد الرضا والراحة بإداء الواجب . وهي ظاهرة موصوفة من قبل الكثير من الحجاج .

فإذا اقترن العمل بقابلية طبيعية للتحمس والإندفاع ، كما في فترة

الشباب . . . كانت النتائج كانت النتائج أكثر وضوحاً وأبعد أثراً ... ولهذا وغيره ، كان

أغلب أنصار الإمام المهدي (ع) من الشباب .

فكيف وهم يواجهون الحق بصراحة ويدركونه بعمق ، ويؤمنون بقيادة القائد بإخلاص ، فمن الطبيعي جداً أن يكون للفرد منهم قوة جماعة ضخمة

ويكون لنشاطه الأثر الكبير الذي لا تكاد تنتجه الجماعات .

ومن هنا نعرف أن قوله : ويعطى قوة أربعين رجلا ... يراد به أن اللّه تعالى يعطيهم هذه القوة ، لا بنحو الإعجاز ، بل بالأسباب الطبيعية . . . لما عرفناه من أن النفس الإنسانية قابلة لهذا التكامل والرقي ، تحت ظروف معينة

تحت التربية .

وهذه الشجاعة العليا ، عامة لكل الجيش ، بل ثعم كل المؤمنين وكلهم من أفراد جيشه بشكل وآخر. ومن هنا نسمع الرواية تقول : فلا يبقى مؤمن إلا صار قلبه أشد من زبر الحديد ، وأعطاه اللّه عز وجل قوة أربعين رجلا .

وهذه الفقرة واضحة في شمول الشجاعة لكل الأفراد . مضافاً إلى عدم وجود الإستثناء في هذه الصفة في أية روية أخرى .

ص: 504

إلا أننا - على أي حال - نعلم أن مثل هذه الشجاعة الإيمانية ، تتناسب

تناسباً طردياً مع زيادة الإيمان، فتزداد بزيادته وتنقص بنقيصته . لوضوح

أن الفرد كلما كان د كلما كان أشد إيماناً بالهدف وأكثر إخلاصاً له ، كلما ازداد جرأة

في عمله وتضحية على طريقه .

وبذلك نستطيع أن نحكم : أن الخاصة من أصحاب الإمام المهدي (ع)

وهم القادة والحكام، أشجع وأقوى إرادة وأمضى عزيمة من الآخرين . وان

كان هم والآخرون يمثلون كل الأوصاف المذكورة في الروايات وتنبسط

عليهم خصائصها جميعاً . ومعه فالمفهوم فالمفهوم أن الخاصة يتصفون بصفات أعلى مما

هو مذكور في الروايات .

الجهة السادسة : مقدار طاعتهم للمهدي (ع )

الجهة السادسة : في مقدار إطاعتهم لقائدهم المهدي (ع) وتطبيقهم

التعاليمه ، والإعتقاد ببركة وجوده .

وقد نصت على ذلك الرواية الأخيرة التي نقلناها عن البحار ، وأشبعته إيضاحاً ، بالرغم من أنه أمر واضح في نفسه ، فان كل إيمانهم الذي وصفناه

مركز في الإمام المهدي (ع) ، وكل شجاعتهم التي عرفناها مبذولة في سبيل طاعته

، حتى أنهم وصفوا بما وصف به المهدي (ع) نفسه فقيل عنهم : إنهم إذا ساروا

يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر . وهو ما وصف به المهدي (ع) كما سيأتي.

كما قيل عنهم أنهم لا يكفون سيوفهم حتى يرضى اللّه تعالى . وهو ما وُصِفَ به ( ع ) أيضاً كما سيأتي .

وما ذلك، إلا لأن فعلهم وفعله واحد ، على نمط واحد وهدف واحد . كما تقول : فتح الأمير المدينة. وتقول : فتح الجيش المدينة . وأنت صادق

في كلتا الجملتين . من حيث أن التعاليم بيد التمائا : والتطبيق بيد الجيش .

وقد نصت رواية البحار على أنهم.

ص: 505

«يتمسحون بسرج الإمام عليه

السلام يطلبون بذلك البركة . ويحفون

به يقونه بأنفسهم في الحروب، ويكفونه

ما يريد ...هم أطوع له من الأمة

لسيدها .....» الحديث .

وتمسّحهم بسرج الإمام عليه السلام ، معنى كنائي عن مدى حب أصحابه

له عليه السلام وعلاقتهم به ... إلى حد يرون أن ملامستهم للشيء الذي

لا مسته يد الإمام (ع) يتضمن معنى البركة. وهذا هو الشأن بين الأحباء دائماً .

إن ملامستك لثوب من تحبه أو للزهرة التي يمسكها يعطيك زخماً عاطفياً عالياً .

ليس فقط ذلك بل يشمل النظر أيضاً وقديماً قال الشاعر : نعم وأرى الهلال

كما تراه . . . فالنطر المشترك إلى الهلال يعطيه الزخم العاطفي المطلوب .

وليس التمسح بالسرج . محمولا على المعنى الحقيقي ، إذ قد لا يركب

المهدي (ع) بعد ظهوره فرساً على الإطلاق ، وإنما يستعمل وسائط النقل

وأسلحة الحرب المناسبة مع عصر ظهوره بطبيعة الحال .

وهم «يحفون به » أي يحيطون به « يقمونه بأنفسهم في الحروب » أي يحمونه ويصونونه ويتحملون الموت دونه . وقد كانت الإحاطة المباشرة بالقائد

كافية في الحماية من الأسلحة في الحرب القديمة التي كانت معروفة في عصر

صدور النص . وأما الآن فلا زالت الإحاطة موجبة للحماية من كثير من كثير من الأسلحة

والإعتداءات ، ويراد بها الإحاطة حال استعمال الأسلحة كركوب الدبابات

أو الطائرات ، فإذا أحاطوا به براً وبحراً وجواً ، كان في ذلك الحماية المطلوبة.

ويحتمل أن يكون المراد من الرواية : ان الوقاية نشاط مستقل يقوم به أصحاب الإمام (ع) عن الإحاطة به . فهم يحيطون به لأجل الإستفادة من

ص: 506

علومه وتعاليمه . وهم أيضاً يقونه بأنفسهم في الحروب بمعنى أنهم يقدمون

أنفسهم فداء بين يديه .

وأما أنهم يكفونه ما يريد ، فهو من كفاه الأمر إذا قام به عنه . يقال : كفى فلاناً مؤنته . إذا جعلها كافية له ، أي قام بها دونه فأغناه عن القيام بها (1)

فالمراد بيان إطاعتهم الكاملة وانقيادهم لتعاليم قائدهم ، وتنفيذهم الأمور تحت ظل قيادته . فهم «أطوع له من الأمة لسيدها » وكيف لا . مع

أنهم يرون به الإمام القائد نحو العدل الكامل والنفع البشري العام .

الجهة السابعة : شعارهم .

تعرضت هذه الروايات وغيرها إلى شعارهم ، فبحسن بنا الآن أن نحمل

عنه فكرة كافية . . . وإن كان استطراداً بالنسبة إلى موضوع هذا الفصل .

ذكرت رواية ابن طاوس في الفتن : ان شعارهم : أمت أمت .

وذكرت رواية المجلسي في البحار ان شعارهم : يا لثارات الحسين (ع ) .

وأخرج ابن قولويه في كامل الزيارات (2)بإسناده عن مالك الجهني

عن أبي جعفر الباقر عليه السلام ، قال :

من زار الحسين عليه السلام يوم

عاشوراء من المحرم . . . إلى أن يقول :

قال : قلت : فكيف يعزي بعضهم

بعضاً . قال : يقولون : عظم اللّه

ص: 507


1- أنظر : أقرب الموارد ، مادة كفى ، مادة كفى ج 2 ص 1095 .
2- أنظر ص 175 . ونقلها في (مفاتيح الجنان ص 454 وما بعدها ) عن الشيخ الطوسي .

أجورنا بمصابنا بالحسين عليه السلام ،

وجعلنا وإياكم من الطالبين بثأره مع

وليه الإمام المهدي من آل محمد

( ص ) ... الحديث .

وتتضمن هذه الرواية نفسها الزيارة المعروفة : ب« زيارة عاشوراء » التي

يزار بها الإمام الحسين بن علي عليه السلام ، والتي سمعنا الإمام المهدي (ع) في بعض الروايات التي نقلناها في التاريخ السابق (1) يحث على قرائتها حثاً شديداً . وتتضمن هذه الزيارة هذها الدعاء :

فاسأل اللّه الذي أكرم مقامك

أن يكرمني بك ويرزقني طلب ثأرك

مع إمام منصورٍ من آل محمد صلى اللّه

عليه وآله . ويقول في موضع آخر

منها : وان يرزقني طلب تأركم

مع إمام مهدي ناطق لكم . (2)

والشعار يمكن أن يراد به أحد معنيين :

المعنى الأول : اللفظ الذي ينادى به في الحرب لأجل بث روح الحماس

والإقدام في الجنود. وهو المعنى الذي كان مفهوماً من اللفظ عند صدور

الروايات .. وقد كان رسول اللّه (ص) يتخذ الشعار في حروبه. والمعروف

ص: 508


1- تاريخ الغيبة الكبرى ص 148 .
2- انظر كامل الزيارات ص 176 - 177 . ومفاتيح الجنان ص 456 - 457 .

المروي أن شعار المسلمين يوم بدر : يا منصور أمت (1) ويوم بني الملوح :

أمت أمت . (2)

المعنى الثاني : اللفظ الذي يصاغ للتثقيف الجماهيري ، يعبر عن مفهوم

أو هدف معين . وهو المعنى المفهوم في عصرنا الحاضر .

والشعار الوارد في هذه الروايات التي نقلناها ، إنما يراد به المعنى الأول،

لأنه المعنى الذي كان معروفاً في ذلك العصر. فأصحاب الإمام المهدي (ع)

سيتخذون الشعار في الحرب مشابهاً لشعار رسول اللّه (ص) : أمت أمت .

أما المطالبة بثأر الحسين عليه السلام ، فرواية البحار تدل على أنه شعار بالمعنى الأول ، وتدل الروايات التي بعدها أنه شعار بالمعنى الثاني ، بمعنى

أنه يكون هدفاً معلناً ومفهوماً تثقيفياً ... ولا تنافي بين المعنيين إذ من المحتمل

استعمال هذا المفهوم على كلا الشكلين .

وعلى كلا الحالين. فاستعماله أمر واضح ، باعتبار أن الإمام الحسين عليه السلام أشد القادة الإسلاميين مظلومية في الضمير المسلم بإجماع الأمة

المسلمة بكل مذاهبها . فاتخاذ الثأر له شعاراً انطلاق من زاوية شديدة الأهمية

من ناحية ، ومتسالم على صحتها بين المسلمين من ناحية أخرى . وتحمل معنى

وحدة الأهداف بين حركة الإمام الحسين وحركة الإمام المهدي عليهما السلام ،

وهي محاولة إحقاق الحق وإزهاق الباطل .

هذا ، وبعض هذه الروايات ، صحيحة من حيث السند ، فتكون قابلة

للإثبات التاريخي ، في حدود منهجنا في هذا التاريخ .

ص: 509


1- انظر : وسائل الشيعة الشيخ الحر العاملي كتاب الجهاد باب استحباب اتخاذ المسلمين شعاراً ج 2 ص 487 .
2- المصدر والصفحة .

الضمان الرابع : مميزات الإمام نفسه

الضمان الرابع : المميزات الخاصة بالإمام المهدي عليه السلام .

من حسن قيادته وشجاعته ، واطلاعه على قوانين التاريخ ، وغير ذلك مما أنتجه التخطيط الإلهي ودلت عليه الأخبار ، فتكون هذه المؤهلات بمجموعها من أكبر الضمانات لانتصار حركته ونجاح ثورته . وبالتالي في

تحقيق الهدف الإلهي الأعلى لوجوده .

وينبغي أن ينفتح الحديث عن ذلك في عدة جهات :

الجهة الأولى : نتائج التخطيط السابق

الجهة الأولى: في مميزات الإمام المهدي (ع) ، كما ينتجه التخطيط

العام السابق على الظهور .

وهذا ما لا ينبغي أن نطيل الحديث عنه بعد كل الذي قلناه في التاريخ

السابق وهذا التاريخ ، من أثر الغيبة الكبرى وطول معاصرة الإمام المهدي (ع)

للمجتمع البشري وحوادثه واحتكاكه بالامة المسلمة والبشرية عموماً ، و استشعاره لآلامها و آمالها ، وعمله في سبيل مصالحها . . . أثره على تطور هذا

الإمام القائد وتكامله وتكامله من درجة العصمة إلى ما هو هو أعلى منها وأعمق بمراتب.

فان الكمال غير متناهي الدرجات ويمكن للفرد أن يصعد في درجاته ما شاء له ربه وعمله . وقد برهنا على ذلك في تاريخ الغيبة الكبرى (1)

وينتج من هذا التكامل التعمق في قابليته للقيادة العالمية ودقتها ، بحيث يمكنه التوصل إلى النتائج المطلوبة بشكل أسهل وأسرع وأوسع . ويتمثل هذا

التكامل في عدة خطوات تذكر أهمها :

الخطوة الأولى : قدرته الضخمة على تحمل الألم في سبيل الهدف ، مهما

ص: 510


1- ص 504 وما بعدها .

تعاظم الألم وتعددت التضحيات . بل انه ليجده برداً وسلاماً وسعادة . إذا

كان فيه نصر دينه وتحقيق هدفه وإرضاء ربه .

الخطوة الثانية : قوة إرادته وارتفاع معنوياته ، بشكل لا نظير له في

التاريخ . . . مهما بعد الهدف وتعقدت الوسيلة .

الخطوة الثالثة : اطلاعه على قوانين معينة للتاريخ وللمجتمع وللنفس البشرية، بشكل يفسح له فرصة التصرف في المجتمعات وسير التاريخ ، بطرق لم يسبق لأحد أن اطلع عليها .

فهذا وغيره . يصنع منه القائد العظيم الذي يمكنه فتح الكرة الأرضية

برمتها ، وتنفيذ الغرض الإلهي الأقصى فيها .

الجهة الثانية : الاخبار الواردة حول ذلك

الجهة الثانية : في مميزاته الشخصية ،كما دلت عليها الأخبار ، لنرى

مقدار موافقتها لنتائج التخطيط العام التي عرفناها .

والأخبار التي نريد التعرض إليها في هذه الجهة على ثلاثة أنواع ، من حيث أنها تدل (أولاً) على مقدار عمره الظاهري عند ظهوره . وتدل (ثانياً)

على صفاته الجسمية . وتدل ( ثالثاً ) على شجاعته وارتفاع معنوياته.

النوع الأول : الأخبار الدالة على مقدار عمره الظاهري عند ظهوره ؛ مع العلم أن عمره الواقعي، بالفهم الإمامي للفكرة المهدوية ، أكثر من ذلك بكثير .

أخرج ابن الصباغ في الفصول المهمة (1) عن أبي أمامة الباهلي قال قال

رسول اللّه (ص) - في حديث-

ص: 511


1- الفصول المهمة ص 217 .

المهدي من ولدي ابن أربعين

سنة....الحديث .

وأخرج السفاريني في لوائح الأنوار البهية (1)عن أبي أمامة مرفوعاً :

المهدي من ولدي ابن أربعين

سنة....الحديث .

وأخرج السيوطي في الحاوي (2) عن نعيم بن حماد عن عبد اللّه بن

الحارث ، قال :

يخرج المهدي وهو ابن أربعين

سنة ... الحديث .

وأخرج عنه عن محمد بن حمير - في حديث عن المهدي (ع) - :

يجيء من الحجاز حتى يستوي

على منبر دمشق ، وهو ابن ثمان

عشرة سنة .

وأخرج عنه أيضاً عن علي بن أبي طالب - في حديث عن المهدي (ع) قال :

يبعث وهو ما بين الثلاثين إلى

الأربعين .

وأخرج الصدوق في إكمال الدين (3) ، بسنده إلى أبي الصلت الهروي قال :

ص: 512


1- ص31 ج2.
2- الحافین ج2 ص147 و کذلک الخبرین الذین بعده.

قلت للرضا عليه السلام : ما علامة

القائم عليه السلام منكم إذا خرج .

قال : علامته أن يكون شيخ السن ،

شاب المنظر ، حتى ان الناظر إليه

ليحسبه ابن أربعين سنة أو دونها . وان

من علاماته أن لا يهرم بمرور الأيام

والليالي حتى يأتيه أجله .

وأخرج النعماني في الغيبة (1) بإسناده عن علي بن أبي حمزة عن أبي

عبد اللّه (ع) ، أنه قال :

لو قد قام القائم لأنذره الناس ،

لأنه يرجع إليهم شاباً موفقاً ...

وفي غير هذه الرواية ، أنه قال عليه السلام :

وان من أعظم البلية أن يخرج

إليهم صاحبهم شاباً وهم يحسبونه

شيخاً كبيراً .

وأخرج أيضاً بإسناده عن علي بن عمر بن علي بن الحسين عن أبي عبد اللّه

جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال :

- في حديث عن المهدي (ع) -

ويظهر في صورة شاب موفق ابن

اثي وثلاثين سنة ، حتى ترجع عنه

33

ص: 513


1- ص 99 وكذلك الخبر الذي بعده .

طائفة من الناس . . . الحديث. وأخرجه

الشيخ في الغيبة (1)الا أنه قال :

ابن ثلاثين سنة .

وقال الشيخ أيضاً(2) روي عن أبي جعفر (ع) أنه قال :

ليس صاحب هذا الأمر من جاز

الأربعين . صاحب هذا الأمر القوي المشمر .

وأخرج (3) بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع)

أنه قال :

لو خرج القائم لقد أنكره الناس،

يرجع إليهم شاباً موفقاً . فلا يثبت عليه

إلا كل مؤمن اخذ اللّه ميثاقه . . الحديث

وأخرج الطبرسي في أعلام الورى (4): ومما جاء عن الحسن بن علي ابن أبي طالب عليهما السلام - في حديث يذكر فيه المهدي (ع) إلى أن يقول-:

-التاسع من ولد أخي الحسين،

ابن سيدة الإماء ، يطيل اللّه عمره في

غيبته ، ثم يظهره بقدرته في صورة

شاب دون أربعين سنة . ذلك ليعلم

أن اللّه على كل شيء قدير.

ص: 514


1- ص 259 .
2- ص 258 .
3- ص 259 .
4- ص 401 .

ونقل ابن طاوس عن زكريا في كتاب الفتن بإسناده عن كعب عن

النبي (ص) قال :

المهدي اسمه اسمي . ويخرج وهو

ابن احدى وخمسين ...الحديث

إلى غير ذلك من الروايات .

النوع الثاني : الأخبار الدالة على صفاته الجسمية عند ظهوره . وهي

كثيرة ومتنوعة . نذكر منها نماذج كافية .

أخرج أبو داود (1)بإسناده عن أبي سعيد الخدري ، قال :

قال رسول اللّه (ص) : المهدي

مني أجلى الجبهة ، أقنى الأنف، يملأ

الأرض قسطاً وعدلا ، كما ملئت

ظلما وجوراً..... الحديث .

وأخرج ابن الصباغ في الفصول المهمة (2)عن أبي أمامة الباهلي قال :

قال رسول اللّه (ص) - في

حديث عن المهدي (ع) -: كأن

وجهه كوكب دري في خده الأيمن

خال أسود عليه عبايتان قطوانيتان ،

كأنه من رجال بني اسرائيل.. الحديث

ص: 515


1- السنن ج 2 ص 422 .
2- ص 317 .

وأخرجه الكنجي في البيان (1)

وأخرج الكنجي أيضاً (2)بإسناده عن حذيفة ، قال : قال رسول اللّه (ص):

المهدي رجل من ولدي وجهه

كالكوكب الدري، اللون لون عربي

والجسم جسم اسرائيلي . . . الحديث .

وأخرج أيضاً (3)بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف . قال : قال رسول

اللّه (ص) :

ليبعثن اللّه تعالى من عترتي رجلا

أفرق الثنايا أجلى الجبهة ، يملأ الأرض

قسطاً وعدلا . . . الحديث .

وفي حديث آخر عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال :

- في حديث عن المهدي (ع) -

كث اللحبة ، أكحل العينين ، براق

الثنايا ، في وجهه خال ، أقنى ، أجلى،

في كتفه علامة النبي (ص). . الحديث.

وأخرجه السيوطي في الحاوي. (4)

ص: 516


1- ص 95 .
2- ص 94 .
3- ص 96 . وكذلك الحديث الذي بعده.
4- ج2 ص 147 و کذلك الذي بعده.

وأخرج السيوطي أيضاً عن نعيم بن حمادعن محمد بن حمير بن حمير ، قال :

المهدي أزج ، أبلج ، أعين . . الحديث

وروى النعماني(1)بإسناده عن سليمان بن هلال قال حدثنا جعفر بن

محمد عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي عليهم السلام ، قال :

جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه

السلام فقال له : يا أمير المؤمنين نبئنا

بمهديكم هذا . . . إلى أن قال : وهو

رجل جلي الجبين أقنى الأنف ، ضخم

البطن ، أذيل الفخذين ، بفخذه اليمنى

شامة ، أفلج الثنايا ، ويملأ الأرض

عدلاً كما ملئت ظلما وجوراً .

وروى بإسناده عن حمران بن أعين ، قال : قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام :

جعلت فداك ، اني قد دخلت

المدينة وفي حقوي هميان فيه ألف

دينار ، وقد أعطيت اللّه عهداً اني

أنفقها ببابك ديناراً ديناراً ، أو تجيبني

فيما أسألك عنه . فقال : يا حران

سل تجب ، ولا تبعض دنانيرك . فقلت

سألتك بقرابتك من رسول اللّه صلى

اللّه عليه وآله : أنت صاحب هذا

ص: 517


1- ص 114 وكذلك الذي بعده .

الأمر والقائم به ؟ . قال : لا . قلت :

فمن هو . بأبي أنت وأمي . فقال :

ذاك المشرب حمرة ، الغائر العينين ،

المشرف الحاجبين ، عريض ما بين

المنكبين ،برأسه حزاز (خراز) ،

وبوجهه أثر ، رحم اللّه موسى.

وأخرج أيضاً (1)بإسناده عن حمران بن أعين قال : سألت أبا جعفر عليه

السلام :

فقلت له : أنت القائم ؟ فقال . . .

عرفت حيث تذهب ( بك المذاهب)

صاحبك المدمج ( البذخ) البطن ، ثم

الخراز برأسه ، ابن الأصلح ، رحم

اللّه فلاناً .

وأخرج أيضاً بإسناده عن أبي بصير ، قال : قال أبو جعفر عليه السلام أو أبو عبد اللّه عليه السلام - الشك من ابن عصام - : يا أبا محمد ، بالقائم

علامتان :

شامة في رأسه وداء الخراز برأسه

وشامة بين كتفيه من جانبه الأيسرتحت

كتفه ، ورقة مثل ورقة الآس .

ابن سبية ، وابن خيرة الاماء .

ص: 518


1- ص 115 . وكذلك الخبر الذي بعده .

وأخرج (1)بإسناده عبد الرحيم القصير ، قال : قلت لأبي جعفر عليه

السلام ، قول أمير المؤمنين عليه السلام: بأبي ابن خيرة الإماء ، أهي فاطمة

عليها السلام . فقال :

ان فاطمة عليها السلام خيرة

الحراير ، ذاك المبذخ بطنه ، المشرب

حمرة ، رحم اللّه فلاناً .

وأخرج الشيخ في الغيبة (2)والمفيد في الإرشاد (3)بإسنادهما عن جابر

الجعفي : سمعت أبا جعفر (ع) يقول :

سأل عمر بن الخطاب أمير

المؤمنين (ع) فقال : أخبرني عن

المهدي ما اسمه ؟ . فقال : أما رسمه،

فان حبيبي شهد ( لعلها : عهد) إلي أن

لا أحدث باسمه ، حتى يبعثه اللّه.

( قال ) : فأخبرني عن صفته ؟ قال :

هو شاب مربوع ، حسن الوجه ، حسن

الشعر ، يسيل شعره على منكبيه ،

ونور وجهه يعلو سواد لحيته ورأسه

بأبي ابن خيرة الإماء .

وأخرج الصدوق في إكمال الدين (4)بإسناده عن زياد بن المنذر عن أبي

ص: 519


1- ص 120 .
2- ص281.
3- ص 342 .
4- المصدر المخلوط .

جعفر محمد بن علي الباقر عن أبيه عن جده عليهم السلام . قال : قال أمير

المؤمنين عليه السلام ، وهو على المنبر :

يخرج رجل من ولدي في آخر

الزمان ، أبيض اللون مشرب بحمرة

مبدح البطن ، عريض الفخذين ، عظيم

مشاش المنكبين ، بظهره شامتان :

شامة على لون جلده ، وشامه على

شبه شامة النبي (ص) . ..الحديث .

وأخرجه الراوندي (1)بلفظ متقارب .

إلى غير ذلك من الأخبار .

النوع الثالث : الأخبار الدالة على شجاعته وارتفاع معنوياته ، وبعض

صفاته ( الإجتماعية ) الأخرى .

أخرج النعماني (2)بسنده إلى سليمان بن هلال قال حدثنا جعفر من

محمد عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي عليهم السلام. قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : يا أمير المؤمنين ، نبئنا بمهديكم هذا . فقال :

إذا درج الدارجون وقل المؤمنون

... إلى أن قال : لا يجبن اذا المنايا

هلعت ، ولا يجوز إذا المنون اكتنفت،

ولا ينكل إذا الكماة اصطرعت ،

ص: 520


1- الخرائج والجرايح ص 195.
2- الغيبة ص 113 وما بعدها .

مشمر مغلولب ، ظفر ضرغامة ،

حصد مخدش ، ذكر ، سيف من

سیوف اللّه ، رأس قیم، يشق رأسه

سيو في باذخ السؤدد ، وعارز مجده في

أكرم محتد . إلى أن قال : أوسعكم

كهفاً، وأكثركم علماً ، وأوصلكم

رحماً .

أللهم فاجعل بيعته خروجاً من الغمة ، واجمع به شمل الأمة . فان خار اللّه لك فاعزم ، ولا تنثن عنه إن وفقت له ، وتجزنّ عنه ان هديت إليه . هاه .

وأومأ بيده إلى صدره شوقاً إلى رؤيته .

وأخرج الطبرسي في أعلام الورى (1)عن الريان بن الصلت ، قال : قلت

للرضا عليه السلام : أنت صاحب هذا الأمر ؟ فقال :

أنا صاحب هذا الأمر ، ولكني

لست بالذي أملوها عدلا كما ملئت

جوراً .

وكيف أكون ذلك على ما ترى

من ضعف بدني . وان القائم هو الذي

إذا خرج كان في سن الشيوخ ومنظر

الشبان ، قوياً في بدنه حتى لو مد

يده إلى أعظم شجرة على وجه الأرض

ص: 521


1- ص 407 .

لقطها ، ولو صاح بين الجبال نند كدكت

صخورها .

إلى غير ذلك من الأخبار.

وهذه الأخبار ناطقة بمضامينها واضحة بمداليها . فلا حاجة إلى تكرار ما فيها . كل ما في الأمر أننا نحتاج إلى أمرين : أحدهما : تفسير بعض ألفاظها

على المستوى اللغوي . والثاني : محاولة تذليل صعوبة التعارض الواقع بين بعضها . وهو ما سنذكره فيما يلي .

الجهة الثالثة : الشرح اللغوي للأخبار

الجهة الثالثة : في شرح هذه الأخبار بأنواعها الثلاثة من الناحية اللغوية،

سواء في التفسير اللغوي الصرف أو الإشارة إلى المراد من المجاز والكناية

ونحوها . آخذين بالأسبق فالأسبق من الروايات التي ذكرناها . وعلى القارىء

تطبيقه عليها .

قوله : يرجع إليهم شاباً . وفقاً ... يفهم من ذلك الإشارة إلى حقيقة معينة هي : أن العمر الذي ( يستطيع ) الشاب أن يقضيه في الحياة يكون طويلا

عادة .ومن هنا يكون مستقبله منفتحاً والأمل فيه عريضاً ... وهو معنى

التوفيق المشار إليه . وهو معنى يفقده المتقدم في السن ، لأن مستقبله يكون

بارداً والأمل فيه قصيراً كما هو معلوم .

قوله : صاحب هذا الأمر القوي المشمر ... من شمر عن ساعديه

فهو مشمر . وإنما يشمر الإنسان عادة للعمل . وهو من يكون قوياً على إنجازه

رحب الصدر بالنسبة إليه . وهذه الصفة تكون في فترة الشباب عادة .

( أجلى الجبهة) من يكون عالي الجبهة واسعها.

ص: 522

( أتی الأنف ) . . . فى الأنف يقنى إذا ارتفع وسط قصبته وضاق

منخراه.

(كأن وجهه كوكب دري ) . . . تعبير مجازي عن الهيبة والبهاء .

(كأنه من رجال بني إسرائيل ... والجسم جسم إسرائيلي) . . . إشارة إلى ضخامة الجسم وتناسق أعضائه . ومن الواضح أن سحنته ليست إسرائيلية

لأنه ليس من نسلهم بالضرورة .

( اللون لون عربي ) يعني في السمرة .

( أفرق الثنايا ) . . . مفلج الأسنان ، متباعد ما بينها .

( أكحل العينين) . . . يفهم منه سواد الأهداب... الذي هو العمل

الأساسي للكحل .

(براق الثنايا ) ... أبيض الأسنان .

( أزج الحاجبين ) . . . يقال : زجج حاجبيه إذا دققهما وطولهما .

(جلي الجبين. أو أجلى الجبين ) الجلي هو الظاهر والواضح ، والأجلى تفضيل في هذه الصفة . والجبين : ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ .

( أذيل الفخذين) . يقال : ذالت المرأة أو الناقة ، إذا هزلت . فيكون المراد دقة فخذيه وهز الهما. فيعارض ما في رواية أخرى من أنه (عظيم الفخذين) ويقال : ذيل ثوبه إذا طوله . فيكون المراد أنه طويل الفخذين، وإن كان عريضهما أيضاً. وبهذا التفسير يرتفع التعارض وفسره في ( الإشاعة ) (1) بكونه منفرج الفخذين متباعدهما ولم نجد له سنداً في اللغة .

ص: 523


1- الاشاعة لاشراط الساعة : ص 89 .

(الغائر العينين ، المشرف الحاجبين ) بمعنى أن عينه داخله وحاجباه خارجتان . والعادة في مثل ذلك أن يكون الحاجبان عريضان . فيكون معارضاً

-إلى حد ما - مع مادل على كونه أزج الحاجبين دقيقهما . إلا أن الأمر

ليس ضروري الثبوت ، لإمكان ان يكون خارج الحاجبين ودقيقهما .

( برأسه حزاز أو خراز أو داء الخراز) على اختلاف النقول . والحزاز

. بمهملة مفتوحة ومنقوطتان : الهبرية في الرأس كأنه نخالة (1) . وهو قشرة

الرأس التي تسقط عند الحك. عند من ابتلى بهذا الداء . ولعل الحراز ، بالراء والزاي تحريف عنه فإنه ليس له في اللغة معنى مناسب .

(مبدح البطن ) أي واسعها ، فإن البدحة بضم فسكون : المتسع من لأرض ، وقد ورد هذا اللفظ في المصادر على أشكال : مدح ومبلح ومبدح،

وكله غير مطابق مع اللغة ، ولعله تحريف في الخط ، والصحيح أن يقال : أبدح

بسكون ففتح أو بدح بفتح فكسر . وورد أيضاً (المبذخ بطنه ) وهو دال على نفس المعنى ، لأنه من البذخ وهو العيش في الرفاه الزائد الذي يسبب

اضخامة البطن . وليس معنى ذلك أنه يعيش في رفاه فعلا ، وإنما صفته كمن

يعيش هذه العيشة .

(مربوع) متوسط الطول .

(عظیم مشاش المنكبين) . المشاش جمع مشاشة ، وهي رؤس العظام ،مثل الركبتين والمرفقين والمنكبين. ويقال : فلان جليل المشاش ، عظيم نفس العظام (2)وهذه الصفة تدل على عرض المنكبين بطبيعة الحال .

ص: 524


1- أنظر أقرب الموارد ، مادة حزز .
2- أنظر المصدر ، مادة مشش .

(مغلولب) . إغلولب العشب تكاثف واغلولب القوم كثروا (1)

فيكون المراد كونه عليه السلام مجمع المؤمنين ومهوى قلوب الصالحين .

( ظفر ) . من إطلاق المصدر على الشخص مجازاً ، يراد به إسم الفاعل.

كقولنا : فلان عدل أي عادل . فيكون المراد كونه ظافراً أي منتصراً غالباً .

( ضرغامة ) الأسد .

( حصد ) بكسر الصاد. يقال : حصد الحبل أو الدرع إذا اشتد فتله

واستحكمت صنعته . فيكون المراد بيان تكامله جسمياً ونفسياً .

( مخدش ) إن قرأناه بكسر الدال ، كان من الخدش وهو الجرح .

فيكون المراد كونه كثير القتل . وإن قرأناه بنفتح الدال ، فالمخدّش : مقطع العنق من الإنسان (2)ولعل المراد منه عندئذ كونه غليظ الرقبة ، دلالة على

ضخامة جسمه ، كما دلت عليه سائر الروايات . وهو موافق لوصف السفير

الثاني للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى له ، إذ قال : ورقبته مثل ذا . أومأ

بيديه . . . أي أغلظ الرقاب حسناً .(3)

(يشق رأسه في باذخ السؤود ) تعبير مجازي عن عظمته وشرفه.

(وعارز مجده في أكرم محتد ) . عرز بالفتح اشتد وغلظ ، وبالكسر

اشتد وصلب . وإسم الفاعل منها عارز. والمحتد هو الأصل في النسب .

فالمراد : ان مجده الأصيل الشديد يتصل بأكرم أصل نسبي باعتبار كونه

متصلا برسول اللّه (ص) .

ص: 525


1- انظر المصدر مادة غلب .
2- المصدر مادة خدش .
3- انظر عيبة الشيخ ص 219 .

وهناك عدد آخر من الصفات ، واضحة المعنى في الروايات .

الجهة الرابعة : حل تعارضات الأخبار

الجهة الرابعة : في حل أهم التعارضات الموجودة في هذه الروايات :

إن أهم تعارض في هذه الروايات ما سمعناه في النوع الأول ، من تعيين

عمر الإمام المهدي (ع) حين ظهوره . وهناك بعض التعارضات الأخرى

البسيطة التي لا حاجة إلى عرضها .

تنقسم الروايات الدالة على عمر الإمام المهدي (ع) إلى قسمين رئيسيين : القسم الأول : ما دل على التحديد برقم معين . وهي : الأربعين والثلاثين والإثنين والثلاثين والثمانية عشر ، والإحدى والخمسين . وظاهر كل رواية

أنه لا يزيد ولا ينقص عن الرقم الوارد فيها .

القسم الثاني : ما دل على فترة مدينة تقريبية كقوله : شاب المنظر ، ابن

أربعين أو دونها . ما بين الثلاثين والأربعين. وفي صورة شاب . ونحوها .

ونحن تارة ننطلق من الفهم غير الإمامي للمهدي (ع) وهو أنه رجل

يولد في زمانه فيملأ الأرض قسطاً وعدلا . وأخرى تنطلق من الفهم الإمامي

القائل بأن المهدي (ع) طويل العمر وغائب عن الأنظار ردحاً طويلا من الزمن .

ويفترق هذان الفهمان في تحديد العمر فرقاً أساسياً ، هو أن المهدي بالفهم

غير الإمامي نستطيع أن نحدد عمرة وقت ظهوره بالأعوام بل بالأيام والساعات والدقائق ، بمجرد الإطلاع على تاريخ ميلاده. على حين لا يكون ذلك ممكناً في الفهم الإمامي . لأن تحديد العمر الطويل ممكن إلا أنه غير مقصود الآن التركيز عليه ، لأنه لا يماثل شكله الظاهري عند ظهوره . وإنما المهم الآن تحديد عمره من شكله الظاهري فقط ، كما تقول الروايات «يحسبه الناظر إليه ابن أربعين عاماً أو دونها » .

ص: 526

والشكل الظاهري غير محدد بطبعه ، لا نستطيع أن نعده بالأعوام فضلا

عن الأيام والساعات. وليس هناك إلا التحديد التقريبي الذي يحمل الناظر عنه فكرة إجمالية .

ونحن إذا انطلقنا من الفهم غير الإمامي ، كان القسم الأول من الروايات متعارضاً تماماً . لأن المهدي إما أن يكون ابن ثلاثين أو ابن اثنين وثلاثين أو

ابن أربعين . . . وهكذا . ولا يمكن أن يكون متصفاً برقمين من هذه الأرقام

كما هو واضح .

وبهذا نخسر عدداً من الروايات ، غير أن عدداً منها دال على الأربعين

عاماً . ومن هنا قد يؤخذ بهذا الرقم بالتحديد .

وروايات القسم الثاني أيضاً لا تخلو من المعارضة ، فكونه ابن إحدى

وخمسين ينافي كونه شاباً أساساً وينافي كونه بين الثلاثين والأربعين . بل ان كونه ابن ثلاثين أو ابن أربعين ينافي أن يكون ما بين الثلاثين والأربعين أيضاً .. وهكذا

إذن ، فطبقاً للفهم غير الإمامي ، يكون التعارض بين الروايات كبيراً

ومتعدداً . ومعه لا يكون يصفو عندنا شيء معين .

وأما لو انطلقنا من زاوية الفهم الإمامي ، المستلزم - كما عرفنا - لنفي

التحديد عن الشكل الظاهري للإمام المهدي (ع) ، بل يكون تقريبياً على كل

حال . ولعل التقريب يختلف بعض الشيء باختلاف الناظرين . ومن هنا ستتفق أغلب الروايات على ( مفهوم ) معين أو تحديد تقريبي معين ، وهو تحديد لا يمكن أن نزيد عليه حتى لو كنا مواجهين للمهدي (ع)

تماماً .

فهو شاب المنظر ، وفي صورة شاب .. والإنسان يبقى شاباً حتى

ص: 527

ما بعد الأربعين عادة ، وخاصة مع نظارة الجسم التي عرفناها في أوصاف المهدي (ع) . وهو أيضاً ما بين الثلاثين و الأربعين علی وجه التقریب .و هو ایضاً ابن إثنین و ثلاثین ، كما يقدره بعض الناظرين، وهي فترة تقع بين الثلاثين والأربعين. وهو أيضاً ابن ثلاثين ، كما يقدره بعض الناظرين ، وهو قريب من الإثنين والثلاثين بتقدير الناظرين. وهو أيضاً دون الأربعين، بهذا التقدير . بل قد يصل تقدير الناس له إلى الأربعين أيضاً ، كما عليه عدد من الروايات .

نعم ، لا بد من الإستغناء عن روايتين :

الأولى : الرواية الدالة على أن عمره ثمانية عشر عاماً . فإنها مروية عن

محمد بن حمير لا عن أحد المعصومين . مضافاً إلى منافاتها إلى أكثر الروايات السابقة ، كما هو واضح لدى التدقيق .

الثانية : الرواية الدالة على أن عمره إحدى وخمسين ... وهي مروية

عن النبي (ص) إلا أنها لم تصح سنداً مضافاً إلى منافاتها لكثير من الروايات السابقة . فان من يكون شاباً يقدر بفترة الثلاثين والأربعين ، لا تقدر حادة

بفترة الخمسين ، كما هو واضح .

الجهة الخامسة : كونه في سن الشيوخ

الجهة الخامسة : دلت الروايات التي معناها أن المهدي (ع) حين يظهر

يكون في من الشيوخ، وهذا صحيح بالضرورة طبقاً للفهم الإمامي لفكرة المهدي . فان الشيخ من تجاوز الشباب والكهولة ، سواء توفي عند الثمانين والتسعين أو تجاوزها . والمهدي (ع) قد تجاوزها بكثير فهو شيخ في السن . وقد ورد في التسليم على (نوح) النبي عليه السلام (السلام عليك يا شيخ المرسلين )

(1) انظر مفاتيح الجنان المعرب ص 340

ص: 528

مع أن عمره بنص القرآن الكريم لا يقل عن تسعمأة وخمسين عاماً .

وقد أشرنا في التاريخ السابق (1)أن العمر إذا بلغ مثل هذه الأرقام فلا ينبغي أن نتوقع للفرد شكلا معيناً في أي فترة من فترات عمره ، بل يبقى

شکله أعی شبابه وكهولته وشيخوخته ، منوطة بمشيئة الخالق الذي شاء طول عمره . وبتعبير آخر : أن هذه الفترات ستكون عنده طويلة تبعاً لطول عمره، وحيث اننا لا نعلم أن رصيده من العمر أي مقدار ، فلا نعلم – تبعاً لذلك – أنه

في أي فترة من فترات عمره.

وهذه الفكرة النظرية الواضحة تدعم ما دلت عليه الروايات ، من أن المهدي (ع) يظهر في سن الشيوخ ومنظر الشبان . مضافاً إلى الوضوح المرتكز

في ذهن كل من يؤمن بالمهدي (ع) ، في أنه سوف لن يظهر وهو في سن

الشيخوخة (جسمياً ) بأي حال ، وإنما يظهر بما دون ذلك من عهود العمر.

بالرغم من ذلك سمعنا الروايات تشير إلى أن هذا الفارق بين

سنه الواقعي وشكله الظاهري . سيكون تمحيصاً ومحنة يمر بها الناس عند ظهوره

عليه السلام . وسيكثر الفاشلون في هذا التمحيص على أثر شكهم في مهدوية المهدي (ع) ، من حيث انه يظهر عليهم شاباً وهم يتوقعونه شيخاً كبيراً. و سوف لن يثبت على الإيمان به إلا كل مؤمن أخذ اللّه ميثاقه .

ومن الصعب أن نتصور أن يكون هذا التمحيص عاماً ، بعد كل الذي

قلناه من مرتكز الأذهان ونص الروايات واقتضاء الفكرة النظرية عدم شيخوخة المهدي جسمياً . ومعه يتعين انحصار هذا التمحيص على بعض المستويات :

المستوى الأول : إن هذا التمحيص ثابت بحسب الطبع الأولي للقضية ،

ص: 529


1- تاريخ الغيبة الكبرى ص 12 .

بمعنى أن هذا الفارق الكبير بين العمر والشكل يقتضي هذا التمحيص . ولكن الروايات التي شرحت ذلك أوضحت إمكان وجود الفارق ، فالتفت الناس إلى ذلك وصار في الإمكان النجاح العام في هذا التمحيص .

المستوى الثاني : إن هذا التمحيص ثابت بالنسبة إلى عدد من الناس ،

يؤمنون أساساً بطول عمر الإمام المهدي (ع) ولكن مستواهم الثقافي واطلاعاتهم الدينية قاصرة عن إدراك إمكان الفارق بين عمره الحقيقي وشكله الظاهري

ومن ثم فسيتوقعون ظهوره بصورة شيخ كبير بقدر ما يؤمنون له من العمر .

فإذا رأوه شاباً ، كان ذلك غير ممكن في نظرهم ... فيكون التمحيص في حقهم ثابتاً .

أقول : فهذه أربعة من الضمانات لانتصار المهدي (ع) هي التي

تترتب على التخطيط الإلهي العام الثابت قبل الظهور . وهي القسم الأول من

هذه الضمانات .

القسم الثاني من ضمانات الانتصار

القسم الثاني : من ضمانات انتصار الإمام المهدي (ع) في فتحه العالمي .

وهو ما لا يمت إلى التخطيط العام لعصر الغيبة بصلة . . . وإنما هي أمور

ذات تخطيطات خاصة بها . . . توجد فتؤثر في نصر الإمام عليه السلام من الناحية العسكرية أو الإجتماعية أو الفكرية أو غيرها .

وكما كانت الضمانات في القسم الأول أربعة كذلك هي في القسم الثاني

أربعة .

الضمان الأول : المباغتة

الضمان الأول : عنصر المباغتة والمفاجأة في الهجوم أو بدأ الثورة ،

بشكل لم يحسب له الآخرون أي حساب .

وهي عنصر مهم في فوز الجيش وانتصاره ، كما أنها عنصر يأخذه

ص: 530

العسكريون بنظر الإعتبار في وضع الخطط العسكرية . وان أي خطوة عسكرية يتخذها أحد المعسكرين مما لم يكن متوقعاً بالنسبة إلى المعسكر الآخر ، تكون هذه الخطوة دائما ناجحة في مصلحة من يتخذها .

وان أهم عنصر يكون نافعاً في الحرب هو غفلة المعسكر الآخر عن احتمال حدوث الهجوم أو بدأ الثورة أو القتال . وهو معنى المفاجأة . إذ يكون المعسكر الآخر مأخوذاً على حين غرة بدون استعداد أو اجتماع على سلاح . فيكون

احتمال انتصار المعسكر المهاجم أو الجيش الفاتح كبيراً جداً ، قد يصل أحياناً إلى حد اليقين .

ويمكن القول : أنه كلما أمكن للمهاجم ضبط عنصر المفاجأة أكثر .

صار احتمال إنتصاره أكبر . حتى ما إذا أصبحت المفاجأة ( مطلقة ) أصبح انتصار المهاجم يقينياً .

ولا زال عالقاً في أذهاننا كيف استطاعت مصر عبور خط بارليف الإسرائيلي عام 1976م باستخدام عنصر المفاجأة ، ولا زال تحت سيطرة مصر إلى الآن ، مع أنها لم تكن مفاجأة ( مطلقة ) بالمعنى الكامل لأن الحذر والعداء التقليدي متبادل بين المعسكرين بطبيعة الحال .

ولكن هذا العنصر سيكون مطلقاً تماماً في ثورة القائد المهدي (ع) العالمية وذلك : لأن أعداءه من المنحرفين والكافرين والمادبين ، فارغوا الذهن تماماً عن قضية ثورته وعن احتمال حصولها تماماً. فيكون حدوثها مباغتة ( مطلقة ) وسيؤخذون على حين غرة وعلى غير استعداد .

وقد أكدت الأخبار على هذا العنصر من ضمانات الإنتصار :

ص: 531

أخرج الصدوق (1) بإسناده المتصل بالإمام الرضا(ع) ، عن آبائه ، أن

النبي (ص) قيل له : يا رسول اللّه ، متى يخرج القائم من ذريتك ؟ فقال :

مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها

إلا اللّه عز وجل ، ثقلت في السماوات

والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة . (2)

وأخرج الطبرسي في الإحتجاج(3)رسالة المهدي (ع) إلى الشيخ المفيد عليه الرحمة ، وقد سبق أن ذكرناها في تاريخ الغيبة الكبرى (4)وقد جاء في

آخرها :

فيلعمل كل امرىء منكم بما

يقرب به من محبتنا ، ويتجنب ما

يدنيه من كراهتنا وسخطنا . فان أمرنا

بغتة فجأة ، حين لا ينفعه توبة ، ولا

ينجيه من عقابنا ندم على حوبة. . الحديث.

إلى غير ذلك من الأخبار ....

وينبغي أن نتحدث عن عنصر المفاجأة ضمن جهتين :

الجهة الأولى : في تخطيط المباغتة

الجهة الأولى : ان للمفاجأة بظهور المهدي (ع) تخطيطاً خاصاً بها ،

مربوط بالتخطيط العام السابق على الظهور .

ص: 532


1- انظر : اكمال الدين (نسخة مخطوطة ) .
2- الاعراف : 178/7 .
3- ج 2 ص 324 .
4- ص 168 .

ويمكن إرجاع هذا التخطيط إلى عدة فقرات :

الفقرة الأولى : تعاهد قادة الإسلام الأوائل ، على عدم التصريح بموعد

الظهور ، وإبقائه غيباً مكتوباً عن كل أحد ، لا يعلم به حتى المخلصون من أصحابه ، فضلا عن الآخرين. ويختص عليه باللّه عز وجل والقادة الإسلاميين

المعصومين أنفسهم .

ولذا سمعنا النبي (ص) في الرواية الأولى يرفض أن يصرح بالوقت ،

ويشبه خفاء . وعد الظهور بخفاء ، وعد قيام الساعة « لا تأتيكم إلا بغتة ، ثقلت في السماوات والأرض» (1). كيف لا وهو يرى بأن انتصار ذلك

القائد الكبير في ذلك اليوم العظيم : منوط بالكتمان .

الفقرة الثانية : نفي التوقيت ، ولعن الوقاتين وتكذيبهم ، من قبل القادة

الإسلاميين السابقين. والتي سمعناها في فصل سابق من هذا التاريخ .

الفقرة الثالثة : إعطاء العلامات العامة والخاصة ، أو بالأحرى البعيدة

والقريبة للظهور ، مع التجنب - بحذر متعمد - التصريح بالوقت الحقيقي

لها وله .

الفقرة الرابعة : ما عرفناه من تعذر الإطلاع على نتيجة التخطيط العام

من قبل أي إنسان ، سوى المهدي نفسه – طبقاً للفهم الإمامي - .

فان الشرط المتبقي وهو وجود العدد الكافي لغزو العالم ، لا يمكن التعرف

على نموه أو تحققه إلا بعد الإطلاع على ثلاثة أمور:

الأمر الأول : مقدار هذا العدد المحتاج إليه في غزو العالم ... كلياً .

ص: 533


1- انظر : الأعراف: 178/7 .

الأمر الثاني : صفات الإخلاص وغيره التي ينبغي أن يتصف بها أفراد

هذا الجيش ... كلياً .

الأمر الثالث : تحقق الأمرين الأولين في أشخاص بأعيانهم في عالم الحياة

أو بتعبير آخر : اتصاف نفس المقدار من الأفراد بهذه الأوصاف .

وهذا مما لا يمكن التعرف عليه بحال ، كما سبق أن برهنا عليه .

الجهة الثانية : في بعض المناقشات

الجهة الثانية : في مناقشة قد ترد على فكرة المفاجأة في ظهور المهدي (ع) .

وذلك : أنه كيف ينسجم عنصر المفاجأة مع ما عرفناه من جعل العلامات القريبة للظهور كالنداء والخسف وغيرها. فإنه يجعل الظهور مترقباً ليس فيه مفاجأة على الإطلاق .

والجواب على ذلك : أننا قلنا أن هذه العلائم إنما جعلت ، لتكون

تنبيهاً للمخلصين الممحصين خاصة وللمؤمنين بالمهدي (ع) عامة . . . إلى قرب

الظهور . ومن هنا لا يكون عنصر المفاجأة بالمعنى الكامل ثابتاً بالنسبة إليهم .

بل لا معنى لسريانه عليهم عندئذ ، لضرورة اجتماعهم إلى المهدي (ع)

عند ظهوره . وهذا يستدعي انتباههم إليه قبل الظهور ، ولا معنى لغفلتهم

أو مباغتتهم .

والمباغتة لا تكون تجاه الأصدقاء ، وإنما هي خطة ضد الأعداء . وقد

قلنا أكثر من مرة أن الأعداء لا يلتفتون إلى هذه العلامات ، ولا يعتبرونها

دالة على شيء أصلا . إذن ، فهم على الدوام غير متوقعين للظهور على الإطلاق

ومعه فيكون الظهور بالنسبة إليهم مفاجأة كاملة ، كما هو المطلوب .

الضمان الثاني : كونه منصوراً بالرعب

الضمان الثاني : لانتصار المهدي (ع) : كونه منصوراً بالرعب .

ص: 534

وينبغي أن يقع الحديث عن ذلك في عدة جهات :

الجهة الأولى : الأخبار الدالة على ذلك

الجهة الأولى : في الروايات الدالة على ذلك . وهي عديدة ، نذكر عدداً

من نماذجها :

أخرج النعماني (1)عن أبي حمزة الثمالي ، قال : سمعت أبا جعفر محمد

ابن علي عليه السلام يقول :

لو قد خرج قائم آل محمد عليه

السلام...إلى أن قال : والرعب

مسيرة أمامه . وفي نسخة : يسير

سيرة امامه .

وعن (2)هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال :

بينا الرجل على رأس القائم بأمر

وينهى ، إذ يأمر بضرب عنقه . فلا

يبقى بين الخافقين إلا خافه .

وعن (3)عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبداللّه عليه السلام - في حديث -

قال :

يؤيده بثلاثة أجناد : بالملائكة

وبالمؤمنين وبالرعب... الحديث .

وعن (4)أبي بصير قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام – في حديث يذكر

ص: 535


1- الغيبة للنعماني : ص 122 .
2- المصدر ص 126 .
3- المصدر ص 128 .
4- المصدر ص 165 .

راية القائم المهدي (ع) - . . . إلى أن قال :

فإذا هو قام نشرها . . . وقال :

ويسير الرعب قدامها شهراً ، ووراءها

شهراً ، وعن يمينها شهراً وعن يسارها

شهراً . ثم قال : يا أبا محمد ، انه

يخرج موتوراً غضبان أسفاً ، لغضب

اللّه على هذا الخلق .. الحديث .

وأخرج الصدوق في إكمال الدين (1)والطبرسي في أعلام الورى (2)

عن محمد بن مسلم الثقفي قال :

سمعت أبا جعفر محمد بن علي

الباقر (ع ) يقول : القائم منا ،

منصور بالرعب ، مؤيد بالنصر...

الحديث .

وقد سبق أن سمعنا لأصحاب القائم (ع) نفس هذه الصفة . كالذي

أخرجه المجلسي في البحار (3)عن أبي عبداللّه (ع) . في حديث - : إذا

ساروا سار الرعب أمامهم عب أمامهم مسيرة شهر .

الجهة الثانية : تفسير النصر بالرعب

الجهة الثانية : الرعب لغة هو الخوف ، ويفهم منه عادة الخوف الشديد

ذا كان بدرجة لا يمكن كتمه .

ص: 536


1- اكمال الدين (المخطوط ) .
2- ص 433 .
3- ج 13 ص 180 .

ومعه يكون المقصود من كون المهدي (ع) منصوراً بالرعب انهدام

معنويات أعدائه واندثار هممهم للوقوف تجاهه ، وخو فهم من جيشه الصلب

الصامد .

والمقصود من مسير الرعب شهراً ، أن البلاد الواقعة على بعد شهر من

موقع جيشه ، تخافه وتصبح مرعوبة منه . والمراد ببعد الشهر : المسافة التي يحتاج المسافر في قطعها إلى شهر من الزمن .

فإذا فهمنا هذه المسافة بالفهم القديم المناسب مع زمن صدور هذه الأخبار

وما كان يفهمه المجتمع يومئذ ، وهو السفر على ظهور الحيوانات كالإبل والجياد . فيكون معنى مسير الرعب شهراً : أن البلاد التي تبتعد شهراً عن موقع

الجيش المهدوي في السفر بوسائط النقل القديمة ، تصبح مرعوبة منه .

وهذا أمر طبيعي ، لأن مثل هذه البلاد ستكون مجاورة له بالمفهوم الثابت ،

و يمكن الوصول إليها بالوسائل الحديثة في عدة ساعات : بل في أقل من ساعة

بل يمكن ضربها بالسلاح البعيد المدى في لحظات. فإذا كان الجيش المهدوي

قوياً مرهوب الجانب كان من الطبيعي أن تكون هذه المناطق مرعوبة منه.

وإذا فهمنا هذه المسافة بالفهم الحديث ، كانت – في حقيقتها – مستوعبة

للكرة الأرضية كلها ... لوضوح إمكان الدوران حولها بطائرات السفر الإعتيادية، في أقل من شهر بكثير ، فضلا عن وسائط النقل الحربية الحديثة والأسلحة والصواريخ المتطورة .

ومعه يكون المراد : ان كل أعداء الإمام المهدي (ع) على وجه الأرض

يكونون في حالة رعب شامل وخوف دائم من مهاجمة المهدي (ع) لهم .وسيكون هذا الرعب ، مهما كانت أبعاده ، ضماناً أكيداً لنجاح الجيش

ص: 537

المهدوي وانتصاره وهو أمر واضح عسكرياً . غير أن الخطط العسكرية الحديثة لا تستطيع إيجاده في الأعداء . إلا أن المهدي (ع) سوف تتوفر له الأسباب المتعددة لتنمية هذا الرعب في نفوس أعدائه ، على ما سنسمع ، بصفته القائد الأعظم المنقذ للهدف الإلهي الكبير .

ومعنى ( مسير ) الرعب بين يدي الجيش المهدوي أو إمامه ؛ تقدمه

بتقدم هذا الجيش. وهذا ما يؤكد فهم المسافة بالفهم القديم الذي عرضناه.

فإذا كان الرعب متقدماً على متقدماً على الجيش بخمسمأة -كيلومتر مثلا، وتقدم الجيش

مئة سار الرعب أمامه مئة ، فشمل مناطق كانت مطمئنة فيما سبق ....

وهكذا . . . حتى تدخل كل مناطق العالم تحت الحكم المهدوي.

الجهة الثالثة : في أسباب الرعب

الجهة الثالثة : في أسباب الرعب ، ومبررات وجوده في نفوس أعداء

الإمام المهدي (ع) .

وينبغي لنا منذ البدأ أن نحدد موقفنا من احتمال وجود الرعب بسبب إعجازي

.. . فانه غير صحيح تماماً ... لمنافاته لقانون المعجزات ، وعدم دلالة هذه الروايات عليه .

أما منافاته لقانون المعجزات ، فلأننا عرفنا : أن المعجزة لا تقع إلا

إذا كانت طريقاً منحصراً للهداية أو إتمام الحجة ، وهذا الرعب واقع في

طريق الهداية ، لكونه أحد أسباب انتصار المهدي (ع) الذي يكون سبباً

لهداية العالم وتنفيذ الغرض الإلهي الكبير ، ولكن المعجزة ليست سبباً منحصراً

في إيجاده ، بعدما سنعرفه من أسبابه الإعتيادية .

أما عدم دلالة الروايات ، فلوضوح أنه لم يرد في أي خبر منها أي إشعار

بذلك . ومسير الرعب شهراً - كما أشارت الروايات - لا يدل على الإعجاز ،

بعد الذي فهمناه من المنحى المجازي لهذا التعبير البليغ .

ص: 538

وإنما يكمن السر الأساسي في وجود هذا الرعب ، هوأنه سر عان ما

تنتشر في العالم عن المهدي وجيشه وأصحابه خصائص معينة ، يخشى الناس

استعمالها ضدهم .. . وهو أمر مؤكد لو جابهوه، ومن هنا يحملهم الرعب والفزع على أن يتركوا مجابهته جهد الإمكان. وكثير منهم سوف يسلم له زمام الحكم بدون قتال .

وهذه الخصائص منها ما يعود إلى نفس المهدي (ع) ومنها ما يعود

إلى جيشه .

فمن الخصائص التي تعود إلى شخص الإمام المهدي (ع) ، أنه قادر على

عدد من الإنجازات ، باعتبار علمه بخصائص الأمور والتاريخ البشري ككل .

ذلك العلم الناتج عن قابلياته الخاصة التي اكتسبها حال غيبته ، أو عن علم الإمامة من حيث أثبتنا أن الإمام إذا أراد ن يعلم شيئاً أعلمه اللّه تعالى ذلك .

وقد بحثناه مفصلا في تاريخ الغيبة الكبرى (1) فراجع .

ومن هنا يكون قادراً على فضح أي حاكم من حكام دول العالم بمأ يأبى

ذلك الحاكم كشفه عنه ، ويعتبره سراً مكتوماً لنفسه أو للدولة . وليس في العالم حاكم لا يفضحه كشف سره ، على مدى التاريخ السابق على الظهور.

كما أنه يكون قادراً على إيقاع الخلاف والمنافرة بين أعضاء الحكومة

الواحدة بأن يخبر بعضها بما لم يطلع عليه من أعمال البعض الآخر .

بل قد يكون مجرد وجود المهدي (ع) وبدئه بحركته ، موجباً لانقسام

كثير من الحكومات انقساماً داخلياً بين مؤيد للمهدي (ع) ومحارب له ومتحير

ص: 539


1- ص 515 وما بعدها .

في شأنه ومجامل له . ونفس وقوع هذا الإختلاف يكون في مصلحة انتصار

المهدي عليه السلام.

كما أن المهدي (ع) يكون قادراً على معرفة مواقع الأسلحة والذخائر

و المعامل الحربية ، ونقاط الضعف من تحركات العدو ، بشكل لا يمكن أن يطلع عليها غيره إلا بأصعب الطرق وأطول الأزمان . وقد يأخذ الخبر من الإستخبارات الحديثة أو الأخبار الصحفية ، فيفهم منها ما لا يمكن لغيره أن يفهمه.

ويكفي في مثل ذلك . أن تفهم الدول أن المهدي واجه بعض الحكومات

بمثل هذه الطرق .... أن تمتلىء رعباً وفزعاً وتنهار معنوياتها انهياراً تاماً ، بمجرد أن تعرف منه التفكير في غزوها .

كما أننا بعد أن نعرف - فقهياً - : أن الدين الإسلامي لا يجيز البدء بالقتال ، قبل الدعوة إلى الإسلام ، وإرشاد المعسكر الآخر إلى العقائد الإسلامية والعدل الإسلامي ، وإيضاح ذلك في أذهانهم . وهذا ما يعمله الإمام عليه السلام في كل غزو يقصده ، مضافاً إلى أساليبه العامة في عرض الأطروحة العادلة الكاملة

على العالم ككل ، وهي أساليب واضحة وصريحة وواسعة الإنتشار .

ومعه ستكون فكرته مقنعة للكثيرين من الشعوب المعادية ، فيكتسب فيها

قواعد شعبية وعسكرية واسعة ، ولا يكون الفرد منهم على استعداد لمواجهة المهدي (ع) وجيشه بالقتال . على أقل تقدير .

ومعه ، فستضطر حكومة تلك البلاد ، مهما كانت عازمة على الحرب

والصمود . إلى التنازل والمسالمة ، لأن الحاكم يكون في مثل ذلك كالأعزل ، لا حول له ولا قوة .

وتدريجياً ، وبالتدريج السريع نسبياً . سيتضح للدول الكافرة، بأن المستقبل

ص: 540

العالمي بيد المهدي (ع) على أي حال . كحقيقة لا يمكن الفرار منها : أو -

على الأقل - وجود النظام المهدوي كدولة كبرى يصعب جداً مجابهتها ومنافرتها.

بل من الأفضل مجاملتها والتزلف لديها . وهذا وذاك، مما يدفع الأفراد والدول على حد سواء إلى التسليم بالمهدي (ع) وعدم مجابهته بالقتال.

فهذا عدد من الخصائص التي يتصف بها المهدي (ع) مما توجب الرعب

لمن يحاربه . ومقتضى ذلك : أن الرعب يتولد تدريجياً عند البدء بغزو العالم ، لا

من أول الظهور . وهذا هو ظاهر الروايات أيضاً .

وأما خصائص أصحابه، فأمران رئیسیان :

الأمر الأول : قوة اندفاعهم وحماسهم في إطاعة أوامر قائدهم وتطبيق

خططه . تلك القوة الناتجة من علو إيمانهم وصلابة إرادتهم وارتفاع معنوياتهم ووعيهم للهدف الذي يسعون إليه .

وليس هناك أي واحد من التمادة أو الحكام في الدول ، يجهل هذه الحقيقة التي قلناها فيما سبق . وهي أن الجيش المؤمن الواعي ذو المعنويات العالية هو المنتصر دائماً . وكل القادة والحكام سيعلمون ، وبسرعة بصفة جيش المهدي (ع)

من هذه الناحية . وهم يعلمون بصفة جيوشهم من ناحية ثانية . فإنها وإن كانت

مسلحة تسليحاً كاملا ومدربة تدريباً عالياً ، إلا أنها لا تقوم في أساسها على الإخلاص ووعي الهدف ، بل تقوم على أسباب أخرى كالتجنيد الإجباري

أو الطمع بالرواتب الضخمة وغير ذلك ... وهو مما لا يساعد بحال على وجود الإندفاع والحماس في الجيش في ميدان القتال .

وهذه الحقائق التي يعرفها حكام العالم ، تجعلهم يفكرون طويلا . قبل

التورط بمنازلة المهدي بقتال .

ص: 541

الأمر الثاني : كثرة قيامهم بقتل أعدائهم بشكل غليظ لا هوادة فيه ، كما سنسمع مفصلا في الفصل الآتي ، الأمر الذي يولد انطباعاً واضحاً لدى

الآخرين ، بأنهم أشداء غلاظ بالنسبة إلى أعدائهم ، الأمر الذي يولد الرعب ويسبب إعادة التفكير فيما إذا كانت مجابهتهم بالقتال يحتوي على مصلحة أم لا.

الضمان الثالثة : انطلاقه من زاوية متفق عليها

الضمان الثالث : انطلاقه من زاوية متفق عليها بين المذاهب الإسلامية،

بل متفق عليها بشكل أوسع من ذلك .

وانطلاقه من مثل هذه الزاوية ، أمر أساسي في تهيئة الجو العام إلى جانبه واكتساب القواعد الشعبية الموالية ، وخاصة في أول دور حركته وثورته.

حتى يستطيع أن ينطلق من هذا المنطلق العام إلى ما يريد تأسيسه من العدل والحق.

وما يجيء به من كتاب جديد وقضاء جديد وسلطان جديد ، على ما سنسمع .

وسيكون انطلاقه من زاوية متفق عليها ، متمثلا من عدة مستويات :

المستوى الأول : الخطاب الذي يلقيه المهدي (ع) في المسجد الحرام في

أول ظهوره . فإننا رأينا أنه يؤكد - في الأغلب - على الأمور المشتركة

المعلومة الصحة عند سائر المسلمين ، وهي الإعتراف بالإسلام وبما سبقه من

الشرائع منطلقاً منه إلى ربط حركته ودعوته بخط الأنبياء الطويل . مشيراً إلى

نتائج الظلم التي تطرف إليها المتطرفون نتيجة للفشل في التمحيص .

وهناك روايات ناقلة لخطبة الإمام (ع) ولا تعرّض فيها إلى ذكر الظلم

السائد ، الأمر الذي يجعلها أكثر تركيزاً على المفاهيم المتسالم عليها في الإسلام ، بحيث تشمل تلك الأفكار القاصرة التي لا تدرك بشاعة الظلم ومنافاته لتعاليم

الإسلام.

ص: 542

أخرج السيوطي (1)عن نعيم بن حماد عن أبي جعفر ، قال :

يظهر المهدي بمكة عند العشاء ،

معه راية رسول اللّه صلى اللّه عليه

وسلم وقميصه وسيفه ، وعلامات

ونور وبيان . فإذا صلى العشاء نادى

بأعلى صوته يقول : اذكركم أيها

الناس ومقامكم بين يدي ربكم .

فقد اتخذ الحجر وبعث الأنبياء وأنزل

الكتاب ؛ وأمركم أن لا تشركوا به

شيئاً ، وإن تحافظوا على طاعته وطاعة

رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وان

تحيوا ما أحيا القرآن وتميتوا ما أمات ،

وتكونوا أعواناً على الهدى ، ووزراء

على التقوى. فإن الدنيا قد دنا فناؤها

وزوالها ، و آذنت بانصرام ، فإني

أدعوكم إلى اللّه ورسوله ، والعمل

بكتابه ، وإماتة الباطل ، وإحياء

سنته . فيظهر في ثلثمائة وثلاثة عشر

رجلاً عدد أهل بدر . . . الحديث .

ورواها الصافي في منتخب الأثر (2)بشيء من الإختلاف . أهمه :

ص: 543


1- ج 2 ص 144 .
2- ص490.

في أولها : وقد أكد المحجة وبعث الأنبياء . وفي آخرها : وإماتة الباطل وإحياء السنة .وهو أفضل أفضل من ،نسخة الحاوي : ولعل فيه خطأ مطبعياً.

المستوى الثاني : اتخاذ الجيش المهدوي شعار رسول اللّه (ص) الذي

اخذه لجيشه ، كما سبق أن عرفنا .

ولئن لم يكن الشعار النبوي معروفاً لدى عامة المسلمين ، فهو معروف

على أي حال بين علمائهم ومفكريهم المخلصين منهم . فيمكنهم أن يعرفوا وأن يعرفوا الآخرين : أن هؤلاء القوم قد ساروا على شعار النبي (ص) ، إذن فهم مع النبي حتى في شعار حربه ، وممثلون له في خصائصه وهدفه .

المستوى الثالث : مطالبته بثأر الحسين عليه السلام . فإنه أمر متسالم على صحته

بين المسلمين، بل بين كل المظلومين وهم أكثر البشرية في عصر الظلم والإنحراف

وقد سمعنا الروايات الدالة على ذلك ، وكانت كلها مروية عن طرق

الخاصة، وأود الآن أن أروي عن بعض المصادر العامة رواية تمت إلى ذلك بصلة :

أخرج القندوزي في الينابيع (1)عن عبد السلام بن صالح الهروي . قال :

قلت لعلي الرضا بن موسى الكاظم رضي اللّه عنهما : يا ابن رسول اللّه ، ما تقول في حديث روي عن جدك جعفر الصادق رضي اللّه عنه ، أنه قال :

إذا قام قائمنا المهدي ، قتل

ذراري قتلة الحسين رضي اللّه عنه

بفعال آبائهم . فقال : هو ذلك .

قلت : فقول اللّه عز وجل : لا تزر وازرة وزر أخرى ، ما معناه ؟

ص: 544


1- ينابيع المودة ص 509 ط النجف .

فقال : صدق اللّه في جميع أقواله، لكن ذراري قتلة الحسين رضي اللّه عنه يرضون ويفتخرون بفعال آبائهم ومن رضي شيئاً كمن فعله . ولو أن رجلا

قتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان شريك القاتل .

وليس المراد بالثأر مجرد الانتقام ، كما كان عليه ديدن العرب في الجاهلية وبقي عليه المنحرفون الوارثون لتلك العادات إلى الآن . بل المراد به أمران

مزدوجان :

الأمر الأول : تطبيق الهدف الذي أراده الحسين عليه السلام ، في ضمن

ما أراده من أهداف . وهو إزالة الظلم عن الأرض وتطهيرها الأرض وتطهيرها من الفساد ، والسير نحو المثل الأعلى العادل .

الأمر الثاني : قتل كل راض بمقتل الحسين عليه السلام ، وطاعن في

ثورته . فإن الراضي بذلك يمثل في حقيقته ذلك الإنحراف والظلم الذي ثار عليه الحسين (ع) ، وأراد فضحه أمام الرأي العام ، وسيثور عليه المهدي (ع) ويستأصله عن وجه الأرض . فمن الطبيعي أن يستأصل المهدي (ع) أمثال هؤلاء المنحرفين ، تمكيناً وتهيئة للمجتمع العادل الكامل ، كما سنوضح.

لا يختلف في ذلك بين أن يكونوا من ذرية قتلة الحسين فعلا أم من غير هم . . فإن القاعدة الأساسية في ذلك هو : أن الراضي بالشيء كفاعله « ولو أن رجلا قتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان شريك القاتل » لا يؤثر

في ذلك افتراق المكان واختلاف الزمان .

وإنما نصت هذه الرواية على الذرية، باعتبار أن الغالب في الذرية المنحرفة ،

هو الإفتخار بما اجترح الآباء من مظالم وارتكبوا من مآتم وهدروا من دماء .

و نصت أيضاً على القاعدة العامة التي يمكن باعتبارها التعميم من الذرية إلى

35

ص: 545

غيرهم . بل القول اليقين ، بأنه لو كان في الذرية من هو مؤمن يستنكر فعل آبائه ، لم يكن مشمولا للقتل من هذه الجهة .

هذا ، وينبغي أن نشير إلى أن ثورة الإمام الحسين (ع) ، وإن كانت

واقعة ، في ضمن التخطيط العام لعصر ما قبل الظهور . . . إلا أن النداء بثأره من قبل المهدي (ع) مخطط خاص ثابت بعد الظهور ، وليس مستنداً إلى التخطيط

السابق ، إلا باعتبار حدوث سببه فيه . ومن هنا جعلناه في الضمانات التي لا تترتب على ذلك التخطيط.

الضمان الرابع : معونة الملائكة له

الضمان الرابع : من ضمانات انتصار الإمام المهدي (ع) مما لا يترتب

على التخطيط العام السابق على الظهور : معونة الملائكة له وقتالهم معه .

وينبغي أن نتحدث عن ذلك في جهتين، من حيث إيراد الأخبار الدالة

على ذلك أولاً ، وإيضاح فلسفته ثانياً .

الجهة الأولى : في إيراد الأخبار

الجهة الأولى : في إيراد الأخبار الدالة على ذلك ، وهي عديدة نذكر أهمها :

أخرج الكنجي في البيان (1) بإسناده عن الهيثم بن عبد الرحمان عن علي

ابن أبي طالب عليه السلام - في حديث عن المهدي (ع) يقول فيه -:يمده

اللّه بثلاثة آلاف من الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم .

قال الكنجي : رواه الطبراني في معجمه ، وأخرجه أبو نعيم في مناقب

المهدي (ع ) .

وقال القندوزي في الينابيع (2) نقلا عن إسعاف الراغبين للصبان قوله :

ص: 546


1- ص 96 .
2- ص 563 .

وجاء في روايات عدة أنه عند

ظهوره ينادي فوق رأسه ملك : هذا

خليفة اللّه فاتبعوه ....وإن اللّه

تعالى يمده بثلاثة آلاف من الملائكة ...

وان جبرئيل على مقدمة جيشه وميكائيل

على ساقته . . . الحديث .

وأخرج ابن قولوية في كامل الزيارات (1)بإسناده عن أبان بن تغلب

عن أبي عبداللّه عليه السلام ، قال :

كأني بالقائم على نجف الكوفة ...

إلى أن يقول : فينحط عليه ثلاث

عشر ألف ملك وثلثماءة وثلاثة عشر

ملكاً . قلت : كل هؤلاء الملائكة ؟

قال : نعم ، الذين كانوا مع نوح

في السفينة ، والذين كانوا مع ابراهيم

حين ألقي في النار ، والذين كانوا

مع موسى حين فلق البحر لبني

إسرائيل ، والذين كانوا مع عيسى

حين رفعه اللّه إليه . وأربعة آلاف

ملك مع النبي صلى اللّه عليه وآله

مسومين ، وألف مردفين ، وثلثمائة

وثلاثة عشر ملائكة بدريين . وأربعة

ص: 547


1- ص 120 .

آلاف هبطوا يريدون القتال مع الحسين

( ع ) فلم يؤذن لهم في القتال......

وكل هؤلاء في الأرض ينتظرون قيام

القائم عليه السلام إلى وقت خروجه

عليه صلوات اللّه والسلام .

وأخرجه النعماني في الغيبة (1) ، مع شيء من الإختلاف .

وأخرج النعماني أيضاً (2)عن أبان بن تغلب ، قال : قال سمعت أبا

عبد اللّه (ع ) يقول :

كأني أنظر إلى القائم على نجف

الكوفة ......-ويستمر في الحديث

فيذكر أن راية رسول اللّه (ص)

يأتيه بها جبرئيل ، ثم يقول -:

يهبط بها تسعة آلاف ملك ، وثلاثماءة

وثلاثة عشر ملكاً . فقلت جعلت

فداك ، كل هؤلاء معه ؟ قال :

نعم . هم الذين كانوا مع نوح في

السفينة ، والذين كانوا مع ابراهيم

حيث ألقي في النار ، وهم الذين كانوا

مع موسى لما فلق له البحر ، والذين

كانوا مع عيسى لما رفعه اللّه إليه ،

ص: 548


1- ص 166 وما بعدها .
2- ص166.

وأربعة آلاف مسومين كانوا مع

رسول اللّه ( ص ) ، وثلاثماءة

وثلاثة عشر ملكاً كانوا معه يوم بدر

ومعهم أربعة آلاف يصعدون ( صعدوا )

إلى السماء يستأمرون في القتال مع

الحسين عليه السلام ، فهبطوا إلى

الأرض وقد قتل . فهم عند قبره

شعث غير يبكونه إلى يوم القيامة و

وهم ينتظرون خروج القائم عليه

السلام .

وأخرج أيضاً (1)بسنده عن أبي حمزة الثمالي ، قال : سمعت أبا جعفر

محمد بن علي عليهما السلام يقول :

لو قد خرج قائم آل محمد لنصره

اللّه بالملائكة المسومين والمردفين

والمنزلين والكروبيين . يكون جبرئيل

أمامه وميكائيل عن يمينه واسرافيل

عن يساره . والرعب مسيره أمامه

وخلفه وعن يمينه وعن شماله والملائكة

المقربون حذاه . . . الحديث .

وأخرج أيضاً (2)بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبداللّه عليه

ص: 549


1- ص 122 .
2- ص 128 .

السلام ، - في حديث يقول فيه -:

يؤيده بثلاثة أجناد : بالملائكة

وبالمؤمنين وبالرعب ... الحديث.

وأخرج الطبرسي في الأعلام (1)عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر

الباقر (ع) :

كأني بالقائم على نجف الكوفة ،

وقد سار إليها من مكة ، في خمسة

آلاف من الملائكة ، جبرئيل عن

يمينه ، وميكائيل عن شماله ،

والمؤمنون بين يديه ، وهو يفرق

الجنود في الأمصار .

إلى غير ذلك من الأخبار ، هذا وقد سبق هذا وقد سبق أن سمعنا أن جبرئيل عليه

السلام أول من يبايعه بعد الإنتهاء من خطبته في المسجد الحرام .

أقول : الملائكة المسومون ، هم المذكورون في قوله تعالى :

«بَلى إنْ تَصْبروا وَتَتَقوا ،

وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذا

يُمْدِدْكُمْ رَبِّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف

مِنَ المَلائِكَةِ مُسوَمينَ وَمَا جَعَلَه

اللّهُ إلا بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ

قلُوبَكُم بِهِ . وَمَا النّصرُ إلاَّ منْ

ص: 550


1- ص 430 .

عِنْدِ اللّهِ العّزيزِ الحَكيمِ» .(1)

والملائكة المردفون هم المذكورون بقوله تعالى :

««إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ،

فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ

بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ.

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى ،

وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ . وَمَا

النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . إِنَّ

اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ».(2)

و الملائکة المنزلون هم المذکرون في قوله تعالی:

«إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: أَلَنْ

يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ

بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ

مُنْزَلِينَ ».(3)

والملائكة المقربون هم المذكورون في قوله تعالى :

«لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسيحُ أنْ

يكونَ عَبْداً للّهِ وَلا المَلائِكَةُ

المُقَرَّبونَ » .(4)

ص: 551


1- آل عمران : 3/ 125 - 126 .
2- الأنفال : 9/8 - 10 .
3- آل عمران : 124 .
4- 172/4.

والظاهر أنها صفة عامة للملائكة .

والملائكة الكروبيون ، غير مذكورين في القرآن الكريم ، لكنهم ذكروا

في السنة الشريفة في كثير من الأخبار والأدعية . قيل عنهم في المصادر

اللغوية : سادة الملائكة أو المقربون منهم. عبرانيتها : كروبيم جمع كروب. ومعناها : حافظ أو حارس أو مقرب (1)

والملائكة البدريون هم الذين أعانوا الجيش الإسلامي النبوي في وقعة

بدر... ويبدو من هذه الروايات أنهم ثلاثماءة وثلاثة عشر عدد الجيش نفسه

والملائكة الأربعة : جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل هم سادة

الملائكة . . . وقيل : هم أدنى من ( الروح) المذكور في قوله تعالى :

«تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ ». (2)

فالفرد منهم أحد أربعة أو خمسة ، لا يضارعهم غيرهم من الملائكة .

الناحية الثانية : في فلسفة هذه الأخبار .

اننا إذا تكلمنا من ناحية عقائدية غير فلسفية ، نجد أن معونة الملائكة

للجيش المجاهد ، يعني إعطاء التأييد الإلهي غير القسري لهذا الجيش ، بإدخال عوامل ميتافيزيقية في الحرب لأجل الحصول على نتائج أفضل .

وذلك : حين تكون الحرب جهادية ومطابقة للحق ومرضية اللّه عز وجل ،

فإنه عز وعلا مشيئته الأزلية بانتصار الحق على الباطل ، المفهوم من قوله تعالى :

ص: 552


1- انظر أقرب الموارد ، مادة كرب .
2- القدر: 4/97.

«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا

وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (1)

فإنه لا محالة يسبغ على الجيش الممثل لطرف الحق لطفه وعطفه ويساعده بتوفير عناصر الإنتصار له ... يكون منها : أنه يرسل قسماً من الملائكة

لنصر المؤمنين ، وهم ( عناصر ) ميتافيزيقية غير منظورة ... عناصر لا

تكون إلا إلى جنب الحق والعدل .

وبمجرد أن تنحرف الأمة ، فإنها تحرم بالضرورة من هذه العناصر

الطاهرة قال اللّه تعالى :

««وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ

بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ

وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ ».(2)

وهذه العناصر ليست غريبة عن الإمام المهدي(ع) بعد أن كانت قد

وجدت للنبي (ص) والأنبياء السابقين عليه ، كما يفهم من الآية الأخيرة وهذه الروايات . كيف ، وان ثورة المهدي (ع) هي نتيجة جهود كل هؤلاء الأنبياء وكل الأولياء والصالحين والمطبقة للهدف الأسمى من خلق البشرية على وجه الأرض . فقد تكون أولى بالنصر والإمداد من أي دعوة أخرى سابقة عليها.

أما الأسلوب الذي تتخذه هذه العناصر الميتافيزيقية ، في التأييد والنصر،

فهو مما لا يمكن التعرف عليه ، لوضوح أنها عوامل غير منظورة ، فمن

الطبيعي أن يكون أساوب تأثيرها غير منظور أيضاً ، أو غير ثابت تاريخياً على

ص: 553


1- 21/58.
2- 28/36.

الأقل . وقد وردت بعض الروايات التي تتحدث عن غزوات للنبي (ص)

تصرح بأن الملائكة كانوا يقاتلون كما يقاتل الناس ، بعد اتخاذهم صورة البشر وهذا محتمل عقلا ، إلا أنه لا يكاد يثبت تاريخياً ، ولا يتعين الإلتزام به بحسب القواعد المعروفة للإسلام .

وإنما الذي يستطاع الركون إليه بهذا الصدد ، واستفادته من هذه الآيات

نفسها . . . هو أن هذه العناصر الميتافيزيقية ترفع من معنويات الجيش البشري المجاهد وتخفض من معنويات الجيش المعادي للحق . . . إلى حد تجعل الفرد

أقوى من عشرة من أعدائه. ولذا كان الحكم الإسلامي المصرح به في

القرآن الكريم عدم جواز الفرار حتى لو كان الأعداء عشرة أضعاف المسلمين.

حتى ارتفع بقوله تعالى :

«الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ

وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا » الآية . (1)

وبدل إلى عدم جواز الفرار إذا كان الجيش المعادي بقدر الجيش المعادي مرتين . وعلى كلا الحالين ، فالمفروض بالفرد المؤمن أن يكون أعلى مستوى

في معنوياته وإخلاصه من الفرد الكافر . وهو قوله تعالى :

« إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ

يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ

مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ » .(2)

وتسبب هذه العناصر الميتافيزيقية إلى رفع معنويات المسلمين ، هو

ص: 554


1- الأنفال : 66/8.
2- النساء:104/4.

المستفاد من نفس هذه الآيات السابقة حيث تقول : « وما جعله اللّه إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به » . وأما الحصول على النصر الكامل من اللّه عز

وجل وحده.

« وما النّصْرُ إلاَّ مِنْ عِنْدِ

اللّهِ العَزيزِ الحكيمِ » .

وهذا التسبيب الإلهي ليس على وجه القسر غير مناف مع إرادة المجاهدين وتضحياتهم. وإنما هو التسبيب الإلهي الموجود في كل الكون ، حتى نزول المطر وخروج النبات التي يكون استنادها إلى الأسباب الطبيعية واضحاً . قال

اللّه تعالى :

«وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً

ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا

وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا»(1)

وبهذا نستطيع أن ندرك أن الإنتصار الذي يحرزه الجيش المجاهد ، ناتج

من عمله وإرادته ، وليس للعوامل غير المنظورة من إنتاج إلا رفع هذه

الإرادة وتركيز هذا العمل . وليس من قبيل المعجزة ، لأن المعجزة تكون

بسبب ميتافيزيقي قسري خارج عن إرادة البشر ، وليس موردنا من هذا القبيل.

وأود في هذا الصدد، أن أشير إلى أن الآيات لم تنط إنزال الملائك

كون القائد نبياً أو رسولا ، بل ولا كون المؤمنين في حالة حر

وإنما أناطت ذلك بأحد أمرين :

ص: 555


1- عم : 78 / 14 - 16 .

الأمر الأول : الصبر والتقوى . قال تعالى :

«بَلى إنْ تَصْبِروا وتَتّقوا،

وَيَأْتُوكُم مِنْ فَوْرِهِمْ هذا ...»

الآية ....

الأمر الثاني : الإستغاثة إلى اللّه تعالى بطلب العون . قال تعالى :

«إذْ تَسْتَغيثونَ رَبِّكمْ ،

فاستَجابَ لَكْم إني مَمدَّكُمْ

بِألفٍ مِنَ الملائِكَةِ مُردِ فِينَ » .

وهذا هو معنى ارتباط هذا التأييد الإلهي بدرجة كافية من الإخلاص في

طريق اللّه والجهاد المقدس والأهداف العادلة .

ومتى حصل أحد الأمرين وجد الإمداد الإلهي ، بغض النظر عن شخص

القائد ، نبياً كان أو إماماً . . وبغض النظر عن العمل العادل الذي يقوم به

المسلمون ، حربياً كان أم سلمياً .

ومن هنا لم تنص الروايات على معونة الملائكة للمهدي (ع) في خصوص الحرب. وقد سبق أن سمعنا أن جبرئيل عليه السلام ينزل لمبايعته ، وليس

المهدي (ع) في ذلك الحين في حالة حرب .

هذا ، وإن الإيمان بمعونة الملائكة مبني على الإيمان بوجودهم بطبيعة الحال ، وهو متوفر لدى كل من يعتقد بالمهدي (ع) . وأما الجدل العقائدي ضد الماديين وغيرهم في إثبات ذلك ، فليس مجاله هذا الكتاب . ويكفينا نحن كمسلمين ، تصريح القرآن الكريم بوجودهم .

ص: 556

و إلى هنا تمت لدينا فكرة كافية عن ضمانات النصر للإمام المهدي (ع)

التي ينطلق منها إلى تحقيق هدفه الأعلى في البشرية . ولعل هناك ضمانات أخرى

لا ندركها ، أولم يحصل لها الإثبات التاريخي الكافي .

ولعل أي واحد من هذه الضمانات الثمانية كاف في الإنتصار على العالم

أما أكثر من واحد منها ، فضلا عن مجموعها ، ففيه أكثر من الكفاية . بل يكفي لفتح العالم في مدة قصيرة لا تتعدى الثمانية أشهر ، على ما يستفاد من عدد من الأخبار التي سنسمعها في الفصل الآتي. بل تكفي لفتح العالم أو أكثر

أجزائه بدون قتال ، كما يستفاد من عدد آخر من الأخبار التي ستسمعها

هناك أيضاً . ولا يكون كل ذلك مستبعداً أبداً ...

ص: 557

الفصل الرابع في كيفية ومدة استيلاء المهدي (ع ) على العالم

تمهید:

قلنا ان التعرف على كيفية استيلاء الإمام المهدي (ع) على العالم بمعنى الإطلاع على تفاصيل خططه الحربية ، وغير ذلك ، متعذر على الباحث السابق على الظهور ، فيبقى ذلك موكولا إلى حين مجيء عصره .

وإنما نتكلم الآن في حدود إمكاناتنا والإثباتات التي نملكها عن ذلك وما يمكن أن يندرج تحت هذا العنوان من إثبات ينقسم إلى عدة أمور :

الأمر الأول : ان أول حرب يخوضها الجيش المهدوي، هي حربه مع

السفياني - بأي معنى فهمناه - . ويتم بانتصار الجيش المهدوي ومقتل السفياني

وسيطرة الإمام المهدي (ع) على العراق، بل على كل المنطقة التى كان يحكمها

السفياني ، وهي سوريا والعراق ، على الأقل. وهذا ما سبق أن عرفناه بشكل موجز ، ونعر ونعرض له الآن مفصلا .

الأمر الثاني : إن الإمام المهدي (ع) سوف يضع السيف في كل

المنحرفين الفاشلين في التمحيص ، ضمن التخطيط السابق على الظهور ، فيستأصلهم جميعاً ... وإن بلغوا الآلاف، ولا يقبل إعلانهم التوبة والإخلاص.

ص: 558

الأمر الثالث : إن مدة وضع السبف ستكون ثمانية أشهر . وقد يفسر ذلك

بأن مدة فتحه للعالم كله هو هذا المقدار . . وسنتحدث عن ذلك .

الأمر الرابع : ان فتحه للعالم سيتم في الأغلب ، بدون قتال ، كما سيأتي

الإشارة إلى أسلوبه وفلسفته .

ومن هنا سنتحدث في هذا الفصل ضمن أقسام أربعة :

القسم الأول : حرب السفياني مع الإمام المهدي (ع) .

ونتكلم عنه ضمن جهتين :

الجهة الأول : في سرد الأخبار

الجهة الأولى : في سرد الأخبار الواردة بهذا الصدد .

أخرج أبو داود(1) ونقله السيوطي(2)عن ابن أبي شيبة وأحمد وأبو

يعلى والطبراني عن أم سلمة عن النبي (ص) ، قال :

يكون اختلاف عند موت خليفة. .

إلى أن يقول : ثم ينشأ رجل من قريش

أخواله كلب ، فيبعث إليهم بعثاً ،

فيظهرون عليهم ، وذلك بعث كلب ،

والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب ....

الحديث .

ص: 559


1- السنن ج 2 ص 422 الوما بعدها .
2- الحاوي ج 2 ص 126 .

وأخرج السيوطي(1)عن أبي عمر الداني عن حذيفة ، قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم - في حديث يذكر فيه ظهور المهدي (ع) وبركات دولته- :

فيقدم الشام ، فيذبح السفياني

تحت الشجرة التي أغصانها إلى بحيرة

طبرية ، ويقتل كلباً . قال رسول

اللّه (ص) : فالخائب من خاب يوم

كلب ، ولو بعقال . قال حذيفة :

يا رسول اللّه ، كيف يحل قتالهم

وهم موحدون ؟ فقال رسول اللّه

صلى اللّه عليه وسلم : يا حذيفة هم

يومئذ على ردة ، يزعمون أن الخمر

حلال . ولا يصلون ،

وأخرج المجلسي في البحار(2)مرفوعاً إلى جابر بن يزيد عن أبي

جعفر (ع) قال :

إذا بلغ السفياني أن القائم قد

توجه إليه من ناحية الكوفة ، فيتجرد

بخيله حتى يلقى القائم ، فيخرج

ويقول : اخرجوا إليّ ابن عمي .

ص: 560


1- المصدر ص 160.
2- ج 13 ص 199 .

فيخرج عليه السفياني ، فيكلمه القائم

(ع ) فيجيء السفياني فيبايعه .

ثم ينصرف إلى أصحابه ،

فيقولون له : ما صنعت ؟ فيقول :

أسلمت وبايعت فيقولون : قبح

اللّه رأيك ، بينما أنت خليفة متبوع،

فصرت تابعاً . فيستقبله فيقاتله . ثم

يمسون تلك الليلة، ثم يصبحون للقائم

بالحرب ، فيقتتلون يومهم ذلك .

ثم إن اللّه تعالى يمنح القائم وأصحابه

أكتافهم ، فيقتلونهم حتى يفنوهم

.. الحديث .

وأخرج أيضاً (1)عن عبد الأعلى الحلبي عن أبي جعفر (ع) - في حديث

طويل - ذكر فيه القائم المهدي (ع) إلى أن ذكر دخوله الكوفة . ثم قال :

ثم يقول لأصحابه : سيروا إلى

هذه الطاغية. فيدعوا إلى كتاب اللّه

وسنة نبيه (ص ) ، فيعطيه السفياني

من البيعة سلماً . فيقولون له كلب

وهم أخواله : ما هذا ؟ ما صنعت ؟

واللّه ما نبايعك على هذا أبداً . فيقول

ما أصنع . فيقولون : استقبله . فيستقبله

36

ص: 561


1- ج 13 ص 189 .

ثم يقول له القائم صلى اللّه عليه :

خذ حذرك ، فاني أديت إليك ،

وأنا مقاتلك . فيصبح فيقاتلهم ،

فيمنحه اللّه أكتافهم ، ويأخذ السفياني

أسيراً ، فينطلق به فيذبحه بيده .

وأخرج السيوطي (1)عن نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم عن محمد بن

علي قال :

إذا سمع العائذ الذي بمكة الخسف

خرج مع اثني عشر ألفاً، فيهم

الأبدال حتى ينزلوا إيلياء ، فيقول

الذي بعث الجيش حين يبلغه الخبر

من إيلياء : لعمر اللّه لقد جعل اللّه في

هذا الرجل عبرة بعثت إليه ما

بعثت فساخوا في الأرض . ان في هذا

لعبرة ونصرة . فيؤدي إليه السفياني

الطاعة . فيخرج حتى يلقى كلباً ،

و هم أخواله ، فيعيرونه بها صنع،

ويقولون : كساك اللّه قميصاً فخلعته !

فيقول : ما ترون ؟ أستقيله البيعة ؟

فيقولون : نعم . فيأتيه إلى إيلياء

فيقول : أقلي [ فيقول : بلى ] فيقول

ص: 562


1- ص 146 .

له : أتحب أن أقيلك ؟ فنقول : نعم ،

فيقيله . ثم يقول : هذا رجل قد

خلع طاعتي . فيأمر به عند ذلك ،

فيذبح على بلاطة باب ايلياء . ثم

يسير إلى كلب فينهبهم . فالخائب من

خاب يوم نهب كاب .

إلى بعض الأخبار الأخرى .

وقوله : رجل من قريش أخواله كلب ... هو السفياني بقرينة الأخبار

الأخرى وظاهر الأخبار أن نسبه في آل أبي سفيان وأنه من قبيلة (كلب ) .

ويوجد من أفرادها جماعة من أهم بطانته ومناصريه .

وقوله : اخرجوا إلى ابن عمي . . . انطلاقاً من ادعاء أن آل أبي سفيان وآل أبي طالب ( ومنهم المهدي) أولاد عمومة . وهو ادعاء لم يؤيده التاريخ .

وظاهر الخبر أنه من كلام السفياني نفسه .

وقوله : بينما أنت خليفة متبوع ... ظاهره أن السفياني يمارس الحكم

باسم الخلافة الإسلامية . وهو بعيد . غير أن الخبر جاء طبقاً للمستوى المناسب

لعصر صدوره ، فإن الحكم كان باعتبار الخلافة يومئذ .

و ( إيلياء ) إسم بلدة. والظاهر أنها الكوفة باعتبار أمرين :

الأمر الأول : أن المهدي ينزلها بعد الخسف . قال في الخبر « خرج في

اثني عشر ألفاً فيهم الأبدال حتى ينزلوا إيلياء » . و قد عرفنا أن الكوفة

هي المركز الرئيسي للمهدي (ع) بعد خروجه من مكة وقدومه العراق .

ص: 563

الأمر الثاني : أن الكوفة كانت هي عاصمة حكم علي بن أبي طالب أمير

المؤمنين عليه السلام. ومن هنا سميت بإيلياء اشتقاقاً من لفظ (علي) .

وقوله : العائذ الذي بمكة . هو المهدي (ع ) . كما نطقت بذلك الروايات الكثيرة التي سمعناها في هذا التاريخ والتاريخ السابق. وهو الذي يحدث الحسف من أجله كما عرفنا مفصلا.

الجهة الثانية : في الفهم العام للروايات

الجهة الثانية : في الفهم العام لهذه الروايات، متصلا بالفهم العام السابق

الذي قدمناه إلى حين وصول المهدي (ع) إلى العراق .

بعد حدوث الخسف يحصل عند السفياني ، بأي معنى فهمناه ، حجة واضحة في أن الحق إلى جانب المهدي (ع ) . فيقول : لعمر اللّه لقد جعل اللّه في هذا الرجل عبرة . بعثت إليه ما بعثت فساخوا في الأرض. إن في هذا

لعبرة ونصرة .

ويسير المهدي (ع) حتى ينزل الكوفة في هذا الجو الملائم ، الذي عرفنا أنه الأطروحة الرئيسية لتغطية تحركات المهدي (ع) سلماً . فيطلب السفياني مواجهته في الكوفة ، فيتقابلان ، فيتكلم معه الإمام عليه السلام فيزيده عقيدة به . فيبايعه السفياني ، ويعتقد بإمامته . ولم تصرح الروايات بالصيغة المتفق عليها بينهما . غير أن المفهوم عموماً أنه ليس تنازلا مطلقاً من قبل السفياني.

بمعنى أنه يبقى حاكماً سياسياً كما كان بالرغم من مبايعته .

ويخرج السفياني عائداً إلى عاصمته ، فيستقبله أهل الحل والعقد من جماعته ، وفيهم عدد من المتطرفين المسيطرين ، ذكرت الأخبار أنهم من عشيرة أمه .

من قبيلة كلب . فيسألونه عن نتائج المباحثات . فيخبرهم بمبايعته فيشجبون ، وقفه ويعيرونه عليه، باعتبار أنه قد أصبح تابعاً بعد أن كان متبوعاً .

ص: 564

ولا يمكن أن يكون للسفياني بشخصه موقف مستقل ضد خاصته ومستشاريه. فيسألهم عن الرأي الصائب في نظرهم . فيقترحون عليه خلع البيعة ومواجهة المهدي (ع) مواجهة صارمة .

فيعود السفياني إلى المهدي (ع) طالباً خلع البينة وإقالته منها . فيقيله

المهدي (ع) منها . وبذلك يصبح خارجاً على طاعته . فيهدده المهدي (ع) بالقتال ، فلا يكون للسفياني بد من القبول . وظاهر سياق الروايات في هذه النقطة أن المهدي (ع ) يقاتل السفياني وهو -أعني السفياني -بعيد عن عاصمته، مع جماعته القليلة الذين جاؤا معه إلى مقابلة المهدي (ع) . فيفى عسكر السفياني ويباشر المهدي قتل السفياني بنفسه ، كما تقول بعض الروايات .

و تبقى عاصمة السفياني بمن فيها من مسيطرين ومنحرفين بدون حاكم.

فيسرع المهدي (ع) إليها بجيشه، فتسقط بيده بسهولة . وينهب الجيش المهدوي أموالهم «والخائب يومئذ من خاب من غنيمة نيمة كلب »

وبذلك تسقط المنطقة التي يحكمها السفياني ، كلها في يد المهدي (ع) .

ويصبح المهدي حاكماً عاماً عليها .

القسم الثاني : في ان المهدي (ع) يستأصل المنحرفين جميعاً

القسم الثاني : في أن المهدي (ع) يستأصل المنحرفين جميعاً ونتكلم عنه

في عدة جهات :

الجهة الأولى : في سرد الأخبار

الجهة الأولى : في سرد الأخبار الدالة على أن المهدي (ع) يقتل المنحرفين

قتلا واسع النطاق .

وقد وردت حول ذلك أخبار كثيرة نذكر نماذج كافية منها:

ص: 565

أخرج النعماني في الغيبة (1)بسنده عن الحارث الهمداني ، قال : قال

أمير المؤمنين (ع) :

بأبي ابن خيرة الاماء - يعني :

القائم من ولده- يسومهم خسفاً ،

ويسقهيم بكأس مصبرة ، ولا يعطيهم

إلا السيف هرجاً . فعند ذلك تتمنى

فجرة قريش لو أن لها مقاة مني

بالدنيا وما فيها . لا غفرلها . لا نكف

عنهم حتى يرضى اللّه .

وأخرج أيضاً (2)بسنده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام : قال :

قلت له : صالح من الصالحين سماه لي . أريد القائم عليه السلام . فقال :

اسمه اسمي . فقلت : أيسير بسيرة

محمد صلى اللّه عليه وآله ؟ قال :

هيهات هيهات ، یا زرارة ، ما بسيرته .

قلت : جعلت فداك ، لم ؟ قال :

ان رسول اللّه (ص) سار في

أمته باللين ( بالمن ) ، كان يتألف

الناس . والقائم يسير بالقتل . بذاك

أمر في الكتاب الذي معه . أن يسير

بالقتل ولا يستتيب أحداً . ويل لمن

ناواه ! . .

ص: 566


1- ص 120 .
2- ص 121 .

وأخرج أيضاً (1) عن أبي خديجة عن أبي عبداللّه (ع) أنه قال : أن علياً

عليه السلام قال :

كان لي أن أقتل المولي وأجهز

على الجريح . ولكن ( ولكني) تركت

ذلك للعاقبة من أصحابي أن جرحوا

لم يقتلوا . والقائم له أن يقتل الموليّ

ويجهز على الجريح

وأخرج أيضاً (2) عن محمد بن مسلم : قال : سمعت أبا جعفر عليه

السلام يقول :

لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا

خرج لأحب أكثرهم ألا یروه

مما يقتل من الناس . أما انه لا يبدأ

إلا بقريش ، فلا يأخذ منها إلا السيف

ولا يعطيها إلا السيف . حتى يقول

كثير من الناس : ليس هذا من

آل محمد ، لو كان من آل محمد

لرحم .

وأخرج أيضاً (3)عن أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام ، أنه قال :

ما تستعجلون بخروج القائم .

ص: 567


1- نفس الصفحة .
2- ص 122 .
3- نفس الصفحة. وانظر غيبة الشيخ الطوسي ص 277 .

فواللّه ما لباسه إلا الغليظ ولا طعامه

إلا الجشب . وما هو إلا السيف والموت

تحت ظل السيف.

وأخرج أيضاً (1) بسنده عن بشر بن غالب الأسدي . قال : قال لي

الحسين بن علي عليهما السلام :

یا بشر ، ما بقاء قريش إذا

قدم القائم المهدي منهم خمسماءة

رجل ، فضرب أعناقهم . ثم قدم

خمسماءة فضرب أعناقهم صبراً .

ثم خمسماءة فضرب أعناقهم . قال :

فقلت له : أصلحك اللّه ، أيبلغون

ذلك ؟ فقال الحسين بن علي (ع ) :

إن مولى القوم منهم .

وأخرج الشيخ المفيد في الإرشاد (2)عن عبداللّه بن المغيرة عن أبي عبد

اللّه (ع) قال :

إذا قام القائم من آل محمد صلوات

اللّه عليهم ، أقام أقام خمسماءة من قريش

فضرب أعناقهم . ثم أقام خمسماءة

فضرب أعناقهم . ثم خمسماءة أخرى ،

ص: 568


1- ص 123 .
2- ص 243 .

حتى يفعل ذلك ست مرات . قلت :

ويبلغ عدد هؤلاء هذا . قال : نعم

منهم ومن مواليهم.. وأخرجه الطبرسي ،

في أعلام الورى . (1).

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(2)والطبرسي في الأعلام (3) عن

عبد العظيم بن عبد اللّه الحسيني . قال : قلت لمحمد بن علي بن موسى عليهم السلام :

اني لأرجو أن تكون القائم

من أهل بيت محمد ... إلى أن يقول

الإمام عليه السلام : فإذا اكتمل له

القصد وهو عشرة آلاف رجل خرج

بإذن اللّه عز وجل ، فلا يزال يقتل

أعداء اللّه ، حتى يرضى اللّه عز وجل .

قال عبد العظيم : فقلت له : يا سيدي،

وكيف يعلم أن اللّه عز وجل قد

رضي . قال : يلقي في قلبه الرحمة

....الحديث.

وأخرج الشيخ في الغيبة (4)عن أبي الجارود ، قال : قال أبو جعفر (ع) :

ص: 569


1- ص 431.
2- انظر المصدر المخطوط .
3- ص 409 .
4- ص 283 .

-وهو يتحدث عن القائم (ع) -:

ويقتل الناس حتى لا يبقى إلا دين

محمد صلى اللّه عليه وآله . . . الخبر.

وأخرج المفيد في الإرشاد (1)عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه

السلام - في حديث طويل - أنه قال :

إذا قام القائم عليه السلام ، سار

إلى الكوفة ، فيخرج منها بضعة عشر

ألف نفس يدعون البترية (البرية) عليهم

السلام . فيقولون له : ارجع من حيث

جئت ، فلا حاجة لنا ببني فاطمة .

فيضع فيهم السيف حتى يأتي على

آخر هم . ثم يدخل الكوفة ، فيقتل

بها كل منافق مرتاب ويهدم قصورها

ويقتل مقاتليها ، حتى يرضى اللّه

عز وعلا .

وأخرج المجلسي في البحار (2)عن رفيد مولى ابن هبيرة . قال : قلت

لأبي عبداللّه عليه السلام :

جعلت فداك ، يا ابن رسول

اللّه ، أيسير القائم بسيرة علي بن أبي

ص: 570


1- ص 343 .
2- ج 13 ص 181 .

طالب في أهل السواد . فقال : لا ،

يا رفيد . ان علي بن أبي طالب سار

في أهل السواد بما في الجفر الأبيض ،

وان القائم يسير في العرب بما في

الجفر الأحمر . قال : قلت : جعلت

فداك ، وما الجفر الأحمر ؟ قال :

فأمر اصبعه على حلقه . فقال : هكذا .

يعني الذبح .

وأخرج أيضاً(1) مرفوعاً إلى عبد اللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (ع) : قال :

إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين

العرب والفرس إلا السيف . لا يأخذها

إلا بالسيف ، ولا يعطيها إلا به .

وأخرج النعماني (2)بسنده عن بشير بن أراكة النبال ، عن أبي جعفر (ع) :

في حديث - انه قال : يذبحهم،

والذي نفسي بيده ، كما يذبح القصاب

شاته . . وأومأ بيده إلى حلقه . قلت :

إنهم يقولون : انه إذا كان ذلك

استقامت له الأمور فلا يهريق محجمة دم.

فقال : كلا ، والذي نفسي بيده ،

ص: 571


1- ص 200 من نفس الجزء .
2- ص 152 وكذلك الذي يليه .

حتى يمسح وأنتم العرق والعلق ؛

وأومأ بيده إلى جبهته.

وفي حديث آخر عن بشير النبال أيضاً ، قال : قلت لأبي جعفر (ع) :

إنهم يقولون :

إن المهدي لو قام لاستقامت له

الأمور عفواً ، لا يهريق محجمة دم .

فقال : كلا ، والذي نفسي بيده ،

لو استقامت لأحد عفواً ، لاستقامت

لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حين

أدميت رباعيته وشج في وجهه . كلا ،

والذي نفسي بيده ، حتى نمسح نحن

وأنتم العَرقَ والعَلَق ، ثم مسح جبهته .

وأخرج الشيخ في الغيبة (1)بسنده عن أبي بصير ، قال :

إذا قام القائم ... إلى أن قال :

ثم يتوجه إلى الكوفة فينزلها ، وتكون

داره . ويبهرج (2) سبعين قبيلة

من قبائل العرب .

وبإزاء هذه الأحاديث المتواترة القطعية ، يوجد ما ينفي مباشرة الإمام

المهدي (ع ) للقتل ، الأمر الذي سمعنا تكذيبه من الأخبار السابقة .

ص: 572


1- ص 284 .
2- يعني : يهدر دماءهم .

أخرج السيوطي في الحاوي (1)عن نعيم بن حماد ، وابن طاوس في

الملاحم والفتن (2) عنه أيضاً ، عن أبي هريرة ، قال :

يبايع المهدي (ع) بين الركن

و المقام . لا يوقظ نائماً ولا يهريق

دماً .

وفي الملاحم أيضاً (3)عن نعيم بن حماد بإسناده عن أبي رافع اسماعيل

حدثه ابن رافع عمن عن أبي سعيد عن النبي (ص) قال :

تأوي إليه أمته ، كما يأوي النحل

إلى يعسوبها ، يملأ الأرض عدلاً كمب

ملئت جوراً . حتى يكون الناس على

مثل أمرهم الأول . لا يوقظ نائماً

ولا يهرف دماً .

الجهة الثانية: ارتباط كثرة القتل بالتخطيطين العامين

الجهة الثانية : ارتباط كثرة القتل بالتخطيطين الإلهيين العامين : تخطيط

ما قبل الظهور ، وتخطيط ما بعد الظهور .

وهما تخطيطان سبق أن عرضناهما وبرهنا عليهما . والمراد في المقام :

بيان ارتباط ما يقوم به القائد المهدي (ع) من القتل الكثير ، بهذين التخطيطين.

بمعنى الجواب على التساؤل عن مقدار سببية تخطيط عصر الغيبة لهذا القتل ، وعن

هذا نفع هذا المقدار من القتل وتأثيره في التخطيط لما بعد الظهور . . . الذي هو

التخطيط لإقامة دولة العدل في العالم وترسيخ قوائمها .

ص: 573


1- ج 2 ص 152 .
2- ص 51 .
3- ص 56 .

فهنا موقفان :

الموقف الأول : مقدار ارتباط كثرة القتل بالتخطيط العام السابق على

الظهور .

إن أخذنا هذه الكثرة بصفتها تكتيكاً حربياً ونظاماً عسكرياً ، لم يكن

له ارتباط وثيق بهذا التخطيط . . . ولكننا إن لاحظنا المقتولين في هذه الحملة

وجدناها موجهة ضد أولئك الفاشلين في التمحيص الذي كان جزءاً رئيسياً

من التخطيط العام لما قبل الظهور فكل من تطرف نتيجة للتمحيص إلى طرف

الباطل ، يكون الآن مقتولا لا محالة . ولذا نسمع من هذه الأخبار أنه عليه

السلام يقتل أعداء اللّه ، ويقتل كل منافق مرتاب ، وأنه لا یستتیب أحداً ،وأنه يقتل قوماً يرفضون ثورته ويقولون له : ارجع ، لا حاجة لنا ببني فاطمة.

وكل هؤلاء هم الفاشلون في التمحيص السابق على الظهور .

ولا تنفع هذا الفاشل توبته بين يدي المهدي (ع) بل سيقتله المهدي (ع)

ولا يستتيبه ، أي لا يطلب منه التوبة ولا يسمعها منه . وقد سبق أن سمعنا عن

الإمام المهدي (ع) نفسه أنه قال : فيلعمل كل امرىء منكم بما يقرب به من محبتنا ، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا . فان أمرنا بغتة فجأة ، حين

لا تنفعه توبة ، ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبه (1)

ولعل هذا هو المقصود من قوله تعالى :

« يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ

لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ

آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي

ص: 574


1- الا حاج للطبر سي ج 2 ص 23 و ما بعدها و تاريخ الغبية الكبرى للمؤلف .

إِيمَانِهَا خَيْرًا »(1)

كما جاءت به بعض الرويات (2) . وهذا هو المعنى الظاهر من

الآية عند

مراجعة سياقها حين يقول - عز من قائل-:

«يوم يأتي بعض آيات ربك ،

لا يشفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من

قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ، قل

انتظروا ، انا منتظرون » .

وسيأتي الكلام عن ذلك في الجزء الخاص بالقرآن الكريم من هذه الموسوعة .

وأما الناجحون الممحصون في هذا التخطيط العام ، فهم المؤمنون بالمهدي (ع) المبايعون له ، الآمنون في دولته ، السعداء في ظل عدله . وهم الذين

يباشرون القتل تحت قيادته . وقد سبق أن سمعنا عنهم : أنه يعطي الواحد

منهم قوة أربعين رجلا . لا يكفون سيوفهم حتى يرضى اللّه عز وجل .

الموقف الثاني : ارتباط كثرة القتل بالتخطيط العام لما بعد الظهور .

فإذا عرفنا أن هدف هذا التخطيط هو إقامة المجتمع الإيماني الكامل الذي

تحكمه دولة الحق ويسوده التشريع العادل الكامل. ومثل هذا المجتمع لا يمكن

تطبيقه إلا إذا تظافرت القوى من قبل الدولة والشعب معاً على تنفيذه وإنجازه.

فإنه يحتاج - وخاصة عند بدأ التطبيق - إلى جهود وتضحيات كثيرة . فما لم

يكن الأفراد على مستوى المسؤولية في تطبيق التشريع العادل على كل أقوالهم

وأفعالهم ، لا يمنكهم أن ينجوا فيه ، ومن ثم قد يصبحوا سبباً في فشل

التخطيط أساساً .

ص: 575


1- الانعام : 6 / 158 .
2- أنظر : الاحتجاج ج 2 ص 317 و دره.

ومن المعلوم أن المعطى الفردّي والإجتماعي لهذا التضحيات و التجاوب مع هذه التغييرات ، يتناسب تناسباً عكسياً مع قلة الإيمان والشعور بالمصلحة

الأنانية. فإنّ الإنسان بمقدار ما تحتويه نفسه ويتضمنه كيانه الفكري و والعقائدي

من نقاط ضعف ، فإنه ينساق إلى تفضيل مصلحته الأنانية على السلوك العادل.

و مهما كبرت في الفرد نقاط ضعفه ، كلما كان لمصلحته أشوق وبها ألصق،

وعن إطاعة الحكم العادل أبعد .

إذن ، فمثل هذا الفرد لا يستطيع أن يواكب السلوك العادل ورد الفعل

الصالح الذي يقتضيه المجتمع العادل ، بمعنى أنه يختار عليه دائماً مصلحته وأنانيته . ومعه ينحصر تطبيق المجتمع العادل على أيدي الأفراد الصالحين

العادلين ، الذين مارسوا السلوك الصالح ردحاً من الزمن . وهم الناجحون

في التمحيص الموجود في التخطيط السابق . وأما الفرد المنافق والمنحرف الفاشل

في التمحيص فلا يمكن أن يكون عضواً في هذا المجتمع . بل ينبغي اجتثاثه رأساً قبل البدء بالتطبيق العادل .

وحيث قد أنتج التخطيط العام السابق انكشاف حال الكثيرين ، في السقوط في مهوى الرذيلة والنفاق، وكونهم على مستوى عصيان ضروریات

الدين ، كما سبق أن قلنا . . . وهذا حال أكثرية المسلمين من مختلف المذاهب. وحينئذ نستطيع أن نتصور عدد الأفراد الذين ينبغي اجتثاثهم والإستغناء عن

وجودهم ، لأجل البدء بالتطبيق العادل الكامل .

وسيكون هذا الإجتثاث أو القتل أول خطوة رئيسية في التطبيق العادل

الذي يهدف إليه - فيما يهدف - التخطيط الإلهي العام لما بعد الظهور .

ومن منا نعرف ربطاً جديداً بين التخطيطين ، حيث يكون الأول مساعداً

ص: 576

للثاني في إنتاجه لهدفه . فإن الأول ، وهو تخطيط عصر الغيبة ، يكشف ما

في نفوس الأفراد من زيف ونقاط ضعف عن طريق التمحيص الطويل ، لكي

يستغنى عنهم وينزه المجتمع عن وجودهم أخذاً بالتخطيط الثاني.

إذن ، فالقتل ليس تكتيكاً عسكرياً محضاً لمجرد الإنتصار والسيطرة ، بل هو مقدمة أساسية للتطبيق العادل. ومن هنا نرى أن المهدي (ع) يقتل

الأفراد في غير الحرب أيضاً ، كما وردت به الروايات . كالذي سمعنا عن أبي عبد اللّه (ع ) أنه قال : بينا الرجل على رأس القائم يأمر وينهى، إذ أمر بضرب

عنقه . وغيرها . كل ذلك تجنباً من العناصر السيئة في المجتمع الصالح .

ولو تكلمنا بلغة العصر الحديث لقلنا : ان تطبيق الحاكم العقائدي لمبدئه و عقيدته على دولته ، يتوقف على استئصاله لكل معارضيه ، وكل من يحتمل صدور الخلاف منه استتصالا تاماً ... ولا يكفي فيهم الملاينة وتأجيل العقاب

بعد الجريمة . كيف ، وهو يعلم أن مبدأه هو الحق ، وكل مخالف له مخالف

للحق . وكل مخالف للحق ،مجرم ، وكل مجرم لا يمكن أن يعيش في مجتمع الصالحين.

ومن هذه النقطة بالذات ، يبدأ سبب عدم قبول توبة التائب ... فإن

الشخص المتمرس بالإنحراف والمعتاد على العصيان وعلى عبادة شهواته وتقديم

مصالحه ، لا تكون توبته حقيقية أبداً ، وإن شعر هو وقتياً بذلك ، وإن كانت الشريعة تحكم بكونه إنساناً صالحاً في الظاهر . . . غير أن المطلوب بعد

الظهور ، وجود الإنسان العادل في الواقع ، لا العادل في الظاهر ، والتوبة -وخاصة إذا كانت نتيجة للخوف- لا تغير واقع الإنسان من الناحية النفسية

والفكرية ، بل يبقى هو الإنسان المعتاد على تقديم مصالحه على كل شيء ،

فيزل قدمه في أول عثرة ، إذن فلا بد من رفض توبته والإستغناء عن وجوده .

ولأجل هذا الهدف بحسب ما ندركه الآن ، جاز للمهدي (ع) قتل

ص: 577

المسلمين وإن لم يحاربوا ... بالرغم من أن ذلك لم يكن جائزاً شرعاً قبل

الظهور لأي قائد إسلامي آخر ، بما فيهم النبي (ص) وعلي أمير المؤمنين (ع)..

وإنما قاتل علي (ع) من حاربه من المسلمين خاصة . ولذا سمعنا من الروايات

أن سيرة المهدي (ع) تختلف من هذه الجهة عن سيرتهما ، فإنهما سارا بالعفو

والملاينة مع الناس المنحرفين والمنافقين. وأما المهدي (ع) فهو مكلف من قبل اللّه تعالى « في الكتاب الذي عنده » باستئصالهم أجمعين . فهو يقتلهم حتى

يرضي اللّه عز وجل ، أي حتى يكون ما أمر به مطبقاً ونافذاً ومنتهياً .

و من هنا نسمع في بعض الروايات التأكيد على ذلك ، كالذي رواه في البحار عن أبي بصير عن أبي عبداللّه (ع) في حديث عن القائم يقول فيه :

لا ، يا أبا محمد ، ما لمن خالفنا في دولتنا من نصيب . إن اللّه قد أحل لنا دماءهم

عند قيام قائمنا . فاليوم محرم علينا وعليكم. ومن خالفهم هم الفاشلون في التمحيص في أي مذهب كانوا .

وسيكون الإستغراب من كثرة القتل ، في بعض الأوساط الضعيفة الإيمان موجوداً « حتى يقول كثير من الناس : ليس هذا من آل محمد ، لو كان

من آل محمد لرحم » .

وستكون هذه الكثرة سبباً في بث الرعب في هذه الأوساط ، وغيرها

الرعب الذي عرفنا أنه یسیر أمامه شهراً ، ووراءه شهراً ، وإلى جانبيه شهراً وعرفنا أن هذه الكثرة من أسبابه .

وقد يرد إلى الذهن هذا السؤال : ان مقتضى هذا التسلسل الفكري ، هو أن المهدي (ع) سوف يقتل أكثر المسلمين ، ولا تبقى إلا البقية الصالحة

القليلة التي تبايعه وتنصره . بل إذا كان المنحرف من المسلمين مستحقاً للقتل فكيف بالكافر والمشرك . إذن ، فهو لا بد أن يستأصل البشرية كلها

ص: 578

سوى هذا النفر القليل. وهذا بالجزم واليقين مخالف للهدف الإلهي والغرض

المنشود ، فإنه هدف مجعول لأجل مصلحة البشر والرحمة بهم وإسعادهم

لا لأجل استئصالهم وقطع دابرهم . فكيف نوفق بين الأمرين .

وجواب ذلك : أما موقف الإمام المهدي (ع) تجاه الكفار والمشركين ، فهو ما سيأتي عرضه ، فالسؤال غير وارد بالنسبة إليهم ، لأن لهم تخطيطهم

الخاص بهم . وإنما يختص السؤال بالبلاد الإسلامية خاصة .

ونحن بهذا الصدد يجب أن نلتفت إلى ما ذكرناه من أقسام الإخلاص الثلاثة التي ينتجها التمحيص السابق على الظهور . فإن مجموع الأفراد الناجحين

بأي درجة من تلك الدرجات يمكنهم المشاركة في المجتمع العادل والتجاوب

معه ، ما لم يصدر من بعضهم سوء في النية أو العمل، كهؤلاء الذين سمعنا أن المهدي (ع) يأمر بقتلهم . وإلا فالناجحون بشكل عام لهم القابلية للتعايش

بسلام في دولة الحق والعدل .

ولئن كان الناجحون من القسم الأعلى هم قواد جيش المهدي (ع) ، وحكام الأرض من قبله ، وكان الناجحون من القسم الثاني جيشه المحارب. . .

فالناجحون من القسم الثالث هم قواعده الشعبية المطبقة للعدل ... ويلحق

بهم كل من يعرف منه التوبة النصوح - التي لا رجعة بعدها إلى الذنوب-

والاعتدال الحقيقي الكامل . فيكون مجموع هؤلاء عدداً ضخماً . وان كان الباقي المستحق للقتل عدداً ضخماً أيضاً يكفي لانطباق الكثرة المبينة في الروايات

بكل تأكيد .

وقد يخطر في الذهن سؤال آخر وهو : أن ظاهر هذه الروايات

أن كثرة القتل مختصة بالمسلمين . لا تشمل غير هم فلماذا كان ذلك ، مع العلم

أن الكافر والمشرك أبدا عن الحق ، وأحق بالقتل من المسلم المنحرف ؟ ! ...

ص: 579

والجواب على ذلك ، يكون على مستويين :

المستوى الأول : إننا ننكر دلالة الروايات على هذا الاختصاص . لأن

هذه الروايات على قسمين :

القسم الأول : ما كان مطلق الدلالة ليس فيه أي إشعار بالاختصاص بالمجتمع المسلم . بل ظاهره العموم لكل الناس ... كقوله : « القائم يسير بالقتل ... ولا يستتيب أحداً » و « ما هو إلا السيف » « فلا يزال يقتل أعداء اللّه حتى يرضى اللّه عز وجل » . ونحوها

القسم الثاني : الأخبار التي ورد فيها تسمية بعض الجماعات . و هم كما يلي : قريش ، البترية ، أهل السواد ، العرب ، الفرس ، سبعين قبيلة

من قبائل العرب .

أما البترية ، فالمفروض فيهم الإنحراف واستحقاق القتل . وأما الجماعات

الأخرى فهي إنتسابات غير دينية ، يوجد في كل منها مسلمون بمختلف

مذاهبهم وغير مسلمين بمختلف أديانهم ، بنسب مختلفة بطبيعة الحال .

وإيراد أسماء هذه الجماعات في الأخبار لا ينفي شمول القتل لغيرها .

كل ما في الأمر ، أن قانون ( كلم الناس على قدر عقولهم) منع القادة الإسلاميين من بيان كل الجماعات المشمولة القتل ، لعدم تحمل المستوى

العقلي والثقافي للناس عند صدور هذه النصوص لاستيعاب ذلك .

المستوى الثاني : اننا لو تنزلنا عن المستوى الأول ، وسلمنا بظهور الروايات

باختصاص كثرة القتل بالمسلمين ...فهذا ليس أمراً مروّعاً ، بل هو أمر يمكن أن يكون مطابقاً مع القواعد الإسلامية العامة والتخطيط الإلهي العام .

ص: 580

فإننا سبق أن أشرنا أن لغير المسلمين أو البلاد غير الإسلامية تخطيطاً خاصاً بها في أسلوب السيطرة عليها نطقت به الروايات التي ستسمعها ، وهي

سيطرة يغلب عليها الجانب السلمي . كما أن للمسلمين أو للبلاد الإسلامية

تخطيطها الخاص بها ، وهو كثرة القتل التي نطقت به هذه الروايات . وهذه الكثرة ليست لأجل السيطرة بل لأجل التنقية والتنظيف من العناصر السيئة .

والفرق بين المسلمين وغيرهم يتمثل في عدة خصائص :

الخصيصة الأولى : إن ( الحجة ) الكاملة بصدق الإسلام واحقيته ، واضحة في أذهان كل المسلمين ، ومعلنة على نطاق واسع جداً بينهم بخلاف

غير المسلمين فإن هذا الوضوح لم يتوفر للجميع على حد واحد .

الخصيصة الثانية : إن الأمة الإسلامية هي الحاملة للأطروحة العادلة الكاملة ، والمطبقة الأولى لها في بلادها. ذلك التطبيق الذي سيكون الشكل

الأمثل لهذا الأطروحة في العالم كله .

الخصيصة الثالثة : إن الأمة الإسلامية ستكون الحاملة لهذه الأطروحة إلى العالم ، والمبشرة بها فكرياً وتطبقياً تجاهه. وبالتالي سيكون لها مركز القيادة

في العالم كله .

الخصيصة الرابعة : إن المسلمين يكونوا قد مروا بتخطيط كامل للتمحيص

هو التخطيط السابق على الظهور. وأنتج هذا التمحيص نتائجه فيهم . وكان تمحيصهم منصباً على ( الأطروحة ) التي تمت الحجة بها عليهم . بخلاف البلاد

غير المسلمة ، فإنها مرت بالتمحيص ، ولكن من زوايا أخرى أوجبت نتائج مغايرة ، كانكشاف زيف الأطروحات الاخرى ، ونحو ذلك .

وكل هذه الخصائص تستدعي من الأمة المسلمة أن تكون في أعلى درجات

ص: 581

الإيمان وأقوى درجات الإخلاص ، والمثال الأفضل للأطروحة التي تتبناها .

فمن لم يكن كذلك المسلمين ، فإنه سيوجب عاجلاً أو آجلاً ، الإخلال

بالقيادة والتطبيق للأطروحة العادلة الكاملة ، في بلاده وفي العالم ، الأمر الذي يخل بالهدف الأعلى نفسه. ومن هنا كان لا بد من الاستغناء عن كل خدماته

وأحاسيسه في طريق هذا التطبيق العظيم ، وذلك بنفيه من عالم الحياة ، مقدمة

لذلك التطبيق .

ولن يعني هذا ( التقديم ) أن القيادة العالمية سوف لن تبدأ إلا بعد الإنتهاء

من هؤلاء المنحرفين جميعاً . فإن القيادة سيتولاها في وقتها المناسب أولئك

المخلصون المؤهلون لها . وسيستغنى عن خدمات المنحرفين ريثما يتم الإجهاز

عليهم جميعاً . وسيأتي إيضاح ذلك بشكل أوسع عند الحديث عن الروايات التي تنص على استمرار القتل مدة ثمانية أشهر .

الجهة الثالثة : في إيضاح بعض النقاط من الأخبار

الجهة الثالثة : في إيضاح بعض النقاط الواردة في هذه الأخبار :

النقطة الأولى : الظاهر الأولي للروايات هو أن الإمام المهدي (ع ) يستعمل السيف في قتل المنحرفين. وهو السلاح الذي كان مستعملاً في عصر

صدور هذه الأخبار. ومن الواضح بالضرورة أن المهدي (ع) يستعمل سلاح عصره أياً كان هذا السلاح ، ولا معنى لاستعمال سلاح آخر لعدم إمكان الانتصار به ، إلا عن طريق المعجزة التي برهنا على عدم نفوذها في مثل ذلك ، لإمكان التعويض عنها بالطريق ( الطبيعي ) باستعمالها السلاح

المناسب للعصر .

ومعه يتبر من ضرورة حمل السيف على المعنى الرمزي الذي يراد به أي سلاح . وهذا ما طبقناه في التاريخ السابق ، وهو ساري المفعول في كل

ص: 582

الروايات كما هو واضح . وإنما ذكر السيف بالخصوص انطلاقاً مع المستوى

العقلي والثقافي لعصر صدور هذه الأخبار .

النقطة الثانية : ورد التأكيد في أكثر من خبر من الأخبار السابقة : إن الأمور لا تستقيم للمهدي (ع ) عفواً ومن تلقاء نفسها...... بل تحتاج إلى جهد وجهاد و « لو استقامت لأحد عفواً لاستقامت لرسول اللّه (ص) حين

أدميت رباعيته وشُجَّ في وجهه ... فإن النبي ( ص ) – وهو خير البشر -أولى من المهدي باستقامة الأمور عفواً ، لو كان ديدن الدعوة على إيجاد هذه

الإستقامة . ولكنها لم تستقم لخير البشر ( ص ) إذن فهي لا تستقيم لمن دونه ، لا لقصور في القيادة عندهم ، بل لأن ديدن الدعوة الإلهية ليس على ذلك .

والسر في ذلك -حسب ما نفهم - أن فكرة ( التمحيص ) غير خاص بالناس الاعتياديين أو بالدرجات الدانية من الإيمان . بل تمتد هذه الفكرة

بمعنى أشرنا إليه في التاريخ السابق (1) لتشمل القواد الرئيسيين بما فيهم

الأنبياء والأولياء ، وتكون فكرة التمحيص بالنسبة إليهم لزوم مرورهم بمصاعب وجهود تساوي مستواهم العالي لينالوا بها مستويات أعلى من باب ( تكامل ما بعد العصمة ) كما ذكرنا هناك . ولو استقامت الأمور للقادة

لكان ذلك على خلاف التمحيص بالنسبة إليهم ، ومن ثم يحجب التكامل الذي

سينالونه بالجهود والمصاعب ، فيكون ظلماً لهم ، وهو مستحيل على الحكمة

الإلهية .

مضافاً إلى أن ظروف الجهود والمصاعب التي يمر بها هؤلاء القادة ،

ص: 583


1- ص 506 .

ستكون محكاً لتمحيص كل الجيل المعاصر من مؤمنين وغيرهم . من حيث النظر إلى ردود أفعالهم تجاه تلك القيادة المحقة ، ومقدار ما يبذلون لها من

جهود وتضحيات .

كذلك كانت قيادة النبي (ص) في صدر الإسلام ، وعلى ذلك ستكون

قيادة الإمام المهدي (ع ) في مستقبل الدهر .

هذا ، وإن استقامة الأمور عفواً تنشأ من أحد سببين :

السبب الأول : السبب الإعجازي. وقد برهنا على عدم إمكانه ، لإمكان

التعويض عنه بالطريق الطبيعي ، بكل وضوح .

السبب الثاني : السبب الطبيعي ، بمعنى اقتضاء التخطيط السابق على الظهور لهذه النتيجة . بأن يدعي شخص : بأن هذا التخطيط العام سارٍ على شكل منتج في نهايته لاستقامة الأمور عفواً للمهدي (ع ) .

إلا أن هذا السبب أيضاً غير محتمل ، فإننا عرفنا كل تفاصيل التخطيط

العام السابق فلم نجد فيه ما يقتضي ذلك ، بل وجدنا فيه ما يقتضي العكس ،

بمعنى أنه يقتضي وجود العدد الكافي لغزو العالم بالعدل والحق ، بكل ما في الغزو من مصاعب وجهود وجهاد .

إذن ، فاستقامة الأمور عفواً بقيت بدون منشأ صحيح : فلا تكون

قابلة للإثبات . مضافاً إلى قابلية نفس هذه الأخبار لنفيها كما هو واضح .

النقطة الثالثة : سمعنا من بعض الأخبار أن المهدي (ع) : لا يهريق دماً ولا يوقظ نائماً ، كما سمعنا من بعض الأخبار الأخرى تكذيب ذلك . فبأي من القسمين نأخذ ؟ ! .

ص: 584

والذي يبدو : أننا تارة ننظر إلى أسلوب الفتح العالمي وتأسيس الدولة العالمية . وأخرى ننظر إلى المجتمع الناتج بعد تأسيس هذه الدولة، ذلك المجتمع الذي تطبق فيه الأطروحة العادلة الكاملة .

فان نظر إلى اسلوب الفتح العالمي وجدنا (السيف) مستعملا فيه لا محالة

طبقاً للروايات الكثيرة المتواترة ، التي لا يقوم بإزائها خبر واحد ، مضافاً إلى الحاجة إلى السلاح بإزاء القوى المعادية بعد البرهنة على نفي الأسلوب الإعجازي

إذن فلا بد من تكذيب هذا الخبر ، إن كان المراد منه ذلك . وهذا هو مراد الأخبار المكذبة له والنافية لمدلوله .

وإن نظرنا إلى المجتمع العادل الذي يؤسسه المهدي (ع) في دولته العالمية

المجتمع الذي تعمه السعادة والرفاه ، وتندر فيه أسباب الجريمة على ما سيأتي ومن ثم تنتفي الحاجة إلى القتل أساساً .

ومعه يصدق تماماً أن المهدي (ع) « لا یهريق دماً » . لعدم الحاجة إلى إهراقه . وهذا النظر هو الذي يؤكده أحد الأخبار المتكفلة لبيان هذه الحقيقة حين يقول فيه : « يملأ الأرض عدلا كما ملئت جوراً ، حتى يكون الناس على مثل أمرهم الأول ، لا يوقظ نائماً ولا يهرق دماً » . وهو واضح في أن عدم

إراقة الدم إنما يكون بعد امتلاء الأرض قسطاً وعدلا ، وليس قبل ذلك .

أقول : الأمر الأول المشار إليه هو الإسلام كما جاء به النبي (ص) . وهو معنى تطبيق ( الأطروحة العادلة الكاملة ) . في دولة المهدي العالمية .

وأما الخبر الآخر الذي يقول : «يبايع المهدي بين الركن والمقام . لا يوقظ نائماً ولا يهريق دماً» واضح في أن المهدي (ع) لا يهريق دماً حتى في

عمليات الغزو العالمي وقد علمنا أن هذا المعنى باطل بالضرورة ، فلا بد من

تكذيب هذا الخبر .

ص: 585

النقطة الرابعة : نص عدد من الأخبار على اختلاف سيرة الإمام المهدي (ع)

من الناحية العسكرية عن أسلوب النبي (ص) والإمام أمير المؤمنين .

وقد أشرنا إلى ذلك ، ونريد الآن إعطاء المبررات التفصيلية له :

وما يمكن استفادته من مجموع الأدلة أمران :

الأمر الأول : إن القاعدة العامة للقادة الإسلاميين عموماً جواز الإجهاز على الجريح وملاحقة الفار وقتل الأسير ونحوها من التصرفات . . . غير أن القادة

الأوائل كفوا عن تطبيق هذا الحكم في عصورهم ، من أجل مصالح وقتية

خاصة في تلك العصور . قال علي (ع) -كما في الخبر الخبر - : « ولكن تركت ذلك للمعاقبة من أصحابي إن جرحوا لم يقتلوا » . وهذه المصالح لن

تتوفر في عصر الإمام المهدي (ع) ومن هنا يكون له أن يأخذ بتطبيق الحكم المشار إليه الشامل له بصفته أحد القواد الإسلاميين.

الأمر الثاني : إن القاعدة العامة للقواد الإسلاميين هو عدم جواز قتل

الجريح وملاحقة الفار ونحو ذلك . فهم تركوا ذلك في عصرهم الأول لعدم

جوازه بالنسبة إليهم . ولكن سيصبح ذلك جائزاً للمهدي (ع) خلال الفتح

العالمي «بذلك أمر في الكتاب الذي معه » . وهو استثناء خاص بهذه الفترة .

وسيرتفع الحكم بالجواز بالنسبة إليه بعد الإنتهاء من الفتح العالمي ، ويعود الأمر

كما كان في عدم جواز هذا الأسلوب العسكري ... فيصبح الإمام المهدي (ع)

لا يهريق دماً ولا يوقظ نائماً ».

والسر في هذا الإختلاف ، على كلا التقديرين ، هو اختلاف مستوى المجتمع الإسلامي الأول عن المجتمع المهدوي اختلافاً كبيراً جداً . . . ذلك

الإختلاف الذي عرفنا الكثير من خصائصه ومميزاته .

ص: 586

وأهم الخصائص التي تمت إلى تطبيق هذا الحكم بصلة ، هو أن الإيمان والكفر في العصر الأول ، كان في الأعم الأغلب من : إيمان ما قبل التمحيص

وكفر ما قبل التمحيص . لأن المجتمع لم يكن قد مر بفترة التمحيص الكبرى المخططة له قبل ( الظهور ) . وسيكون الإيمان والكفر في المجتمع الآتي : إيمان

ما بعد التمحيص وكفر ما بعد التمحيص ، بعد أن المجتمع بفترة

التمحيص الكبرى .

إن مرور المجتمع بهذه الفترة ليس أمراً هيناً أو ضئيلا . ويكفينا أن

نتصور أن القاتل (المؤمن ) والمقتول ( الكافر) في العصر الأول ، لم يكن التمحيص قد شملهما ، ومن ثم فإدراكهما لأهمية القتال ونتائجه سوف تكون

أقل بدرجة كبيرة ، مما إذا كانا معاً قد مرا بفترة التمحيص ، فاكتسب الإيمان أهميته في نفس المؤمن واكتسب الكفر أهميته في نفس الكافر أو

المنحرف واتسع أفقهما العقلي والثقافي إلى حد كبير .

إن كافر ما قبل التمحيص ، لمدى بساطته وضآلة مستواه ، ( لا يستحق ) إجراء هذا التكتيك العسكري الصارم عليه. وأما كافر ما بعد التمحيص ، باعتبار أهميته وعمق مستواه. فإن أقل ما يستحقه من جزاء هو ذلك. فإنه طالما حارب الحق والعدل خلال عصر التمحيص بهمة ووعي ، وبكل غافلة،

فينبغي أن يأخذ عقابه اللازم بهمة ووعي وبكل غلظة . « لا يكفون سيوفهم حتى يرضى اللّه عز وجل » .

القسم الثالث : في تحديد مدة القتل بثمانية أشهر

القسم الثالث من هذا الفصل: في تحديد مدة كثرة القتل بثمانية أشهر

ونتكلم عن ذلك في ضمن جهتين :

الجهة الأولى : في سرد الأخبار على ذلك

الجهة الأولى : في سرد الأخبار الواردة لتحديد مدة وضع (السيف )

في رقاب المحرفين ، بثمانية أشهر ،

ص: 587

أخرج الصدوق في إكمال الدين (1) بسنده إلى أبي بصير ، قال : سمعت

أبا جعفر عليه السلام يقول - :

وساق الحديث إلى أن قال -:

ثم يضع سيفه على عاتقه ثمانية أشهر

بيمينه . فلا يزال يقتل أعداء اللّه حتى

يرضى اللّه عز وجل عز وجل ... الحديث.

وأخرج النعماني في الغيبة (2) والمجلسي في البحار (3)عن أبي بصير قال :

قال أبو عبد اللّه عليه السلام :

لا يخرج القائم عليه السلام حتى

تكون تكملة الحلقة . قلت : وكم

تكملة الحلقة . قال : عشرة آلاف...

إلى أن قال : يجرد السيف على عاتقة

ثمانية أشهر، يقتل هرجا ..

الحديث .

وأخرج السيوطي في الحاوي (4)عن نعيم بن حماد عن علي ، قال :

إذا بعث السفياني جيشاً فحسف

بهم بالبيداء. . . إلى أن قال : ويخرج

رجل من قبله ( أي المهدي ) رجل

ص: 588


1- المصدر المخطوط .
2- ص 165 .
3- ج 3 ص 193 .
4- ص 146ج2. وكذلك الخبر الذي بعده .

من أهل بيت بالمشرق ، ويحمل السيف

على عاتقه ثمانية أشهر ... الحديث .

وأخرج عنه أيضاً عن علي أيضاً ، قال :

تفرج الفتن برجل منا يسومهم خسفاً.

لا يعطيهم إلا السيف ، يضع السيف

على عاتقه ثمانية أشهر . حتى يقولوا :

واللّه ما هذا من ولد فاطمة ، ولو كان

من ولدها لرحمنا . . . الحديث.

وقال البرزنجي في ( الإشاعة ) (1) : في بعض الروايات :

يحمل السيف على عاتقه ثمانية أشهر.

وفي بعضها ثمانية عشر شهراً ، وفي

رواية اثنين وسبعين شهراً ، وهي مدة

ست سنين .

والمراد بتجريد السيف ووضعه على العائق : مباشرة الحرب أو القتل ، والهرج هو القتل الكثير . يقال : هرج الناس هرْجاً ، إذا وقعوا في فتنة واختلاط وقتل .

ولا يخفى أن رواية الثمانية عشر شهراً وما بعدها ، مما ذكره البرزنجي مرسلة وغير قابلة للإثبات التاريخي. مضافاً إلى أنها منفية بالأخبار المتعددة

الدالة على حصر المدة بثمانية أشهر . وهذه الأخبار تصليح للاثبات بحسب

منهجنا في هذا الكتاب ، لتعاضدها ، ودلالة بعضه على صدق بعض .

ص: 589


1- ص 98 .

الجهة الثانية : في نقد هذه الأخبار

الجهة الثانية : الحديث عن هذه الأخبار.

وتتكلم حول ذلك في عدة نقاط :

النقطة الأولى : إن لتبرير القتل الكثير الذي يقع خلال الثمانية أشهر أطر وحتين

رئيسيتين :

الأطروحة الأولى : إن هذا القتل هو الذي يحدث خلال الغزو العالمي

والثمانية أشهر هي المدة التي يتم فيها الإستيلاء على العالم .

غير أن هذه الأطروحة تواجه عدة اعتراضات

الاعتراض الأول : معارضتها بما دل على اختصاص الفتل الكثير بمنطقة

الشرق الأوسط ونحوها ، وعدم شموله لكل العالم ، كما سبق أن عرفنا .

الاعتراض الثاني : معارضتها بما دل على أن الفتح العالمي في غير الشرق

الأوسط سيكون بدون قتال ، بل تفتح الدول للمهدي (ع) أبوابها سلماً، كما

سيأتي غير بعيد.

الاعتراض الثالث : إن الثمانية أشهر مدة زائدة جداً على الغزو العالمي،

سواء كان الفتح حربياً أو سلمياً ... لمدى الضمانات الأكيدة الشديدة التي

فناها لانتصار المهدي (ع ) . . . فالتحديد بهذه المدة سيكون بعيداً جداً إذا

كان المراد منه ذلك .

الاعتراض الرابع : ما يفهم من كلام السيد البرزنجي، من من استبعاد الفتح

العالمي خلال هذه المدة بل في المدة الأطول منها قال في الإشاعة (1)في فصل : تحديد مدة ملك المهدي (ع ) بتسع سنين ،

ص: 590


1- ص 106 .

ولا شك أن مدة التسع سنين فما دونها ، لا يمكن أن يساح فيها ربع أو خمس

المعمورة سياحة . فضلا عن الجهاد وتجهيز العساكر وترتيب الجيوش وبناء المساجد وغير ذلك . أقول : فإذا كان هذا رأيه بالتسع سنوات ، فكيف بالثمانية أشهر .

وواضح أن هذا الكلام منطلق من مفاهيم وأساليب الحرب بشكلها القديم وإما إذا أخذنا وسائط النقل الحديثة والأسلحة المتطورة بنظر الاعتبار كان

هذا الإعتراض بلا موضوع في الثمانية أشهر فضلا عن التسع سنين . وهذا

هو الذي يؤكد الإعتراض الثالث الذي ذكرناه .

إذن ، فهذا الإعتراض غير وارد. لكل الإعتراضات الثلاثة الأولى

محتملة الورود ضد الأطروحة الأولى . وبانتفاء هذه الأطروحة نخسر أمراً غير يسير وهو : العلم بمدة الفتح العالمي، إن هذه المدة ستكون مجهولة لنا.

وسنتحدث عن ذلك في خلال الأخبار التي تتحدث عنه بدون قتال .

الأطروحة الثانية : إن هذا القتل الكثير الذي يحدث خلال الثمانية أشهر ،

ليس للفتح العالمي ، بل لاجتثاث المنحرفين نحو الباطل من المجتمع .

وهذا هو الذي سبق أن فهمناه ويحدثنا عن خصائصه فيما سبق .

وإن الإعتراضات الثلاثة التي أوردناها على الأطروحة تؤكد هذه الأطروحة ، كما هو غير خفي لمن يفكر .

ومعنى ذلك -- بكل بساطة : أن الفتح العالمي سيننهي بمدة أقل من ذلك

بز من غير يسير ، وخاصة إذ كان الفتح سلمياً، كما سنسمع ، إلا أن النحرفين

سوف يبقى وجودهم ونشاطهم إلى جانب النقل ، ساري لفعو ثم ( سيحتاجون) إلى قتل إضافي بعد است . -الدولة العالمية ، وهذا ما سوف يمارسه المهدي (ع) وأصحابه ، إلى تمام الثمانية أشهر .

ص: 591

النقطة الثانية : أن الخبر الذي رويناه عن السيوطي ، والذي يصرح بأن

رجلا من قبل المهدي (ع) هو الذي يمارس التمتل الكثير لا المهدي نفسه .

وهذا المضمون إن فهمناه بمدلوله العام كان صحيحاً ، فإن الذي يقوم بالقتل هو أصحاب الإمام و ليس الإمام نفسه . وإنما نسب إلى الإمام باعتباره منطلقاً عن أمره وتخطيطه ، كما نقول : فتح الأمير المدينة . ولا دليل

على أن الإمام يقتل بيده شخصاً أصلا .

وأما إذا فهمنا هذا الخبر بمدلوله الخاص بمعنى أن رجلاً معيناً هو الذي يعينه المهدي (ع) للقيام بهذه الحملة وليس المهدي (ع) نفسه . . . فهذا وإن كان محتملا ، باعتبار مهام المهدي العالمية ، فيحتاج إلى تعيين مسؤول عن كل

مهمة بعينها . فلعله يعين رجلا يكون مسؤولا عن قتل المنحرفين . غير ان هذا

المضمون لا يثبت ، لعدم قابلية هذا الخبر وحده للإثبات التاريخي .

النقطة الثالثة : سيكون لكثرة القتل رد فعلها السيء في نفوس المنحرفين

بطبيعة الحال « حتى يقولوا : واللّه ما هذا يقولوا : واللّه ما هذا من ولد فاطمة . ولو كان من

ولدها لرحمنا » وقوله : لرحمنا يدل على أن القائل لمثل هذه الإعتراضات هم المنحرفون أنفسهم الذين تكون هذه الحملة مكرسة ضدهم. وهذا أمر متوقع منهم بطبيعة الحال.

وأما الآخرون ، وهم المتصفون بدرجة من درجات الإخلاص . . فقد يقتل من أحدهم أبوه أو إبنه أو أخوه ، أو أكثر من واحد من عشيرته ، باعتبارهم منحرفين مشمولين لهذه الحملة . . . ولكن لن يكون لرد الفعل

السيء أثر في نفوسهم .

وذللل باعتبار عدة عوامل :

ص: 592

العامل الأول : مرانهم ، كمخلصين ناتجين من التخطيط السابق ، على تحمل المصاعب مهما زادت وتعسرت ، ولطالما اعتادوا على تقديم النفس والنفيس والإبن والقريب ، في سبيل الحق ، والتضحية بمصالحهم من أجله ،

حتى لو وصل الأمر إلى بذل النفوس : فكيف والهدف قد أصبح أقرب وأوسع و

أوضح . إن أمثال هذه التضحيات سوف لن تكون لها قيمة بإزاء هذا الهدف المقدس.

العامل الثاني : المفاهيم الجديدة والمعمقة التي يعلنها الإمام المهدي (ع)

في العالم عامة ولدى أصحابه خاصة .

وإن من أوضح هذه المفاهيم هو الإستغناء عن كل العلاقات الخاصة

في سبيل (العلاقة العامة) وهي العلاقة مع عبادة اللّه تعالى وتطبيق أحكامه والسير في سبيله ، وازدراء كل من لم يسر في هذا الطريق. قال اللّه تعالى في قرآنه المجيد :

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا

آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ

اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ .

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ

هُمُ الظَّالِمُونَ . قُلْ إِنْ كَانَ

آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ

وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ

اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ

كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ،

أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ. فَتَرَبَّصُوا

حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ

38

ص: 593

لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ » .(1)

وإذا جاء أمر اللّه المشار إليه في الآية ، انتفت كل هذه العلائق القبلية

والإرتباطات الضيقة . وتبدلت إلى المفاهيم المعمقة والأهداف الواسعة.

والمراد من أمر اللّه المشار إليه - واللّه أعلم بما ينزل -أعلم بما ينزل - وجود الدولة العالمية

العادلة تحت قيادة الإمام المهدي عليه السلام . فيكون لدينا دليل من القرآن الكريم على تجرد أصحاب الإمام من رد الفعل السيء.

العامل الثالث : الجانب العاطفي والحماس الذي يتصف به أصحاب الإمام (ع) في تنفيذ أوامره وتطهير الأرض من أعدائه .. حتى سمعنا تسميتهم

بجيش الغضب وعرفنا صفاتهم في الشجاعة والإندفاع والتضحية .

وبهذا الحماس العاطفي والشجاعة النادرة ، سيمارسون القتل بأنفسهم،

إلغاء الخصائص الضيقة ، وسيحملون السلاح على عواتقهم ثمانية أشهر كاملة ، حتى يتم استئصال المنحرفين من العالم . وسيكون هذا العامل مع

العوامل الأخرى أفضل ضمان لشعورهم بالسعادة والإطمئنان من عملهم المقدس ، بحيث لا يحتمل وجود أي أثر سيء في نفوسهم .

القسم الرابع : الفتح العالمي السلمي بدون قتال

القسم الرابع : الفتح العالمي السلمي بدون قتال : ونتكلم فيه ضمن جهتين :

الجهة الأولى : في الأخبار الدالة على ذلك

الجهة الأولى : في الأخبار الدالة على أن الفتح العالمي سيتم بدون قتال :

أخرج السيوطي في الحاوي (2)عن نعيم بن حماد عن علي قال :

إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشاً

ص: 594


1- التوبة : 23/9 - 24 .
2- ج 2 ص 146 .

فخسف بهم البيداء ..... وتنقل إليه

الخزائن ، ويدخل العرب والعجم

وأهل الحرب والروم وغيرهم في

طاعته من غير قتال ، حتى يبني

المساجد بالقسطنطينية وما دونها .....

الحديث .

وأخرجه ابن طاوس في الملاحم والفتن (1)عن نعيم بن حماد أيضاً -

وأخرج النعماني في الغيبة بن جعفر بن محمد عن (2) بإسناده عن

أبيه عليه السلام قال :

إذا قام القائم . . . قال : ويبعث

جنداً إلى القسطنطينية . فإذا بلغوا

الخليج كتبوا على أقدامهم شيئاً ومشوا

على الماء . فإذا نظر إليهم الروم

يمشون على الماء ، قالوا : هؤلاء

أصحابه يمشون على الماء ، فكيف

هو ؟ فعند ذلك يفتحون لهم أبواب

المدينة ، فيدخلونها ، فيحكمون فيها

ما يريدون .

أقول ونقله عنه في البحار(3)

ص: 595


1- ص 53.
2- ص 172 .
3- ص 194 ج 13 .

وعن عقد الدرر (1)عن علي بن أبي طالب في قصة المهدي وفتوحاته ...

قال:

ثم يأمر المهدي بإنشاء مراكب ،

فيبني أربعماءة سفينة في ساحل عكا.

ويخرج الروم في ماءة صليب تحت

كل صليب عشرة آلاف ، فيقيمون

على طرسوس ، فيفتحونها بأسنة

الرماح ، ويوافيهم المهدي (ع)

فيقتل من الروم حتى يتغير ماء الفرات

بالدم ، وينهزم من الروم فيلحقوا

بانطاكية . وينزل المهدي (ع) على

قبة العباس . فيبعث ملك الروم يطلب

الهدنة

من المهدي (ع) ويطلب المهدي

(ع) منه الجزية ، فيجيبه إلى ذلك

غیر أنه لا يخرج من بلد الروم ، فلا

يبقى في بلد الروم أسير الا خرج .

ويقيم المهدي (ع) بانطاكية سنة

( لعلها : سنته ) تلك . ثم يسير بعد

ذلك ومن تبعه من المسلمين ، لا

يمرون على حصن من بلد الروم إلا

قالوا عليه : لا إله إلا اللّه فيتساقط

ص: 596


1- رواها في الزام الناصب ص 224 ط ایران .

حيطانها ويتمتل مقاتلته . حتى ينزل

على القسطنطينية ، فيكبرون عليها

تكبيرات ، فينشف خليجها ويسقط

سورها ، فيقتلون فيها ثلاثماءة ألف

مقاتلة ، ويستخرج منها ثلاث كنوز ...

ويسير المهدي إلى رومية ، ويكون

قد أمر أربع ماءة مركب من عكا ،

فيفيض ( لعلها : فيقيض ) اللّه تعالى

لهم الريح ، فما يكون إلا يومين

وليلتين ويحيطوا على بابها ، ويعلقون

رجالهم على شجرة على بابها مما يلي

غریبها. فاذا رآهم أهل الرومية

احذروا ( لعلها : أخرجوا )إليهم

راهباً كبيراً عندهم علم من كتبهم .

فيقولون : انظر ماذا يريد . فاذا

أشرف على المهدي (ع) فيقول :

ان صفتك التي هي عندي . وأنت

صاحب رومية ، فيسأله الراهب عن

أشياء فيجيبه عنها . فيقول له المهدي

(ع) : ارجع . فيقول : لا أرجع

أنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً

رسول اللّه. فيكبر المسلمون ثلاث

ص: 597

تكبيرات ، فتكون كالرمانة على نشر(1)

فيدخلونها فيقتلون بها خمسماءة ألف

مقاتلة ويقتسمون الأموال . . . الحديث.

إلى بعض الأخبار الأخرى .

الجهة الثانية : في نقد هذه الأخبار :

تحتوي هذه الأخبار على شيء من نقاط الضعف و شيء من نقاط القوة :

اما نقاط الضعف :

النقطة الأولى : انها وحدها غير قابلة للإثبات التاريخي ، لعدم ثبوت صحة إسنادها وقلة اعدادها . فما لم تقم قرائن إضافية لإسناد مضمونها ، ينبغي

إسقاط هذه الأخبار عن الإعتبار . وسيأتي عرض ذلك في نقاط القوة .

النقطة الثانية : إنها معارضة بما دل بظاهره على شمول ( السيف ) المهدوي

لكل العالم وعدم اختصاصه بالشرق بحسب إطلاق مدلوله.

النقطة الثالثة : إن هذه الأخبار دالة على فتح العالم سلمياً عن طريق المعجزات

بالمشي على الماء تارة وبالتكبير والتهليل أخرى .. فتكون هذه الأخبار

مخالفة لقانون المعجزات، باعتبار أن فتح العالم ما يمكن توفره للمهدي (ع) بدون معجزة ، ولو عن طريق الحرب ، فقيام المعجزة من أجل توفيره يكون بلا موجب .

النقطة الرابعه : إن هذه الأخبار تدل على أن أوضاع المدن في الحصانة الحربية وأساليب القتال ، على الطريقة القديمة . . . وهذا باطل بالحس والوجدان

ص: 598


1- لعلها : نشز ، وهو المرتفع ، فيكون المراد الوضوح والسهولة في دخول المدينة .

بعد أن رأينا المدن المشار إليها في الأخبار وغيرها قد تطورت من هذه الجهات تطوراً لا يقاس بالقديم أصلا .

النقطة الخامسة : إن بعض هذه الأخبار يدل على أن فتح القسطنطينية يتم من قبل المهدي (ع) بأخذها من الكفار والمسيحييين . وهذا غير صحيح . لأن

هذه الخطوة قد اتخذت من قبل السلاطين العثمانيين وقد أصبحت القسطنيطنية

منذ ذلك الحين بلدة مسلمة ، وسميت باسلامبول ، و أصبحت عاصمة الدولة

العثمانية عدة قرون . وسيفتحها المهدي (ع) فتحاً ثانياً لكنه سيأخذها من يد المسلمين المنحرفين لا من الكفار والمسيحيين .

هذا وسنعرف مدى صحة هذه النقاط بعد قليل .

وأما نقاط القوة : فكما يلي :

النقطة الأولى : إن المضمون العام لهذه الروايات ، وهو فتح العالم سلمياً، مدعم بعدة قرائن عامة ، يسند قابلية هذه الأخبار للإثبات التاريخي . وذلك

من عدة زوايا يدعم بعضها بعضاً .

الزاوية الأولى : ما أشرنا إليه وبرهنا عليه من شعور الرأي العام العالمي بوضوح يومئذ بفشل كل التجارب والأطروحات التي ادعت حل مشاكل العالم . إلى حد أصبح الفرد الإعتيادي ( غير المرتبط مصلحياً بهذه التجارب )

مستعداً للتنازل عن أي حكم يتبنى شيئاً منها إلى الحكم الجديد الذي يأمل فيه الخير والرفاه .

الزاوية الثانية : ما عرفناه من قابليات الإمام المهدي (ع) نفسه في الإطلاع

على نقاط الضعف في الدول والحكام ، الأمر الذي ييسر له أحسن النتائج وأسهلها خلال الفتح العالمي ، كما سبق أن أوضحنا .

ص: 599

الزاوية الثالثة : إن الدولة التي سيؤسسها المهدي (ع) في منطقة من العالم قبل استيعاب الفتح العالمي ، ستكون نموذجاً حياً للأطروحة العادلة الكاملة ،

وسيرى العالم كله ما يشملها من الرفاه والأخوة والعدل . الأمر الذي يجعل

انظار العالم مركزة على هذا النظام الجديد وراغبة فيه بشغف شديد.

الزاوية الرابعة : ما يقوم به المهدي (ع) من مناقشات فكرية وعقائدية

و دينية ، لإثبات الفكر الحق و دحض كل ما يخالف من الأساليب والإديولوجيات

وسيكون ذلك على نطاق واضح وواسع ومقنع . مضافاً إلى ما سنسمعه من أن

المسيح عيسى بن مريم عند نزوله سيقوم بمثل هذه الحملة أيضاً .

وهذا ما أشير إليه في بعض الحدود في الروايات السابقة ، وإن الراهب الذي ترسله رومية (روما - أو أوروبا) سوف يؤمن بالمهدي (ع) ويشهد بوجود صفاته في الكتب الدينية القديمة الموجودة عنده ، وأن المهدي (ع)

هو ( صاحب رومية ) يعني أن مستقبلها سيكون إليه لا محالة .

الزاوية الخامسة : الفتح الإعجازي عند انحصار الأمر فيه ، بحيث يكون

مطابقاً لقانون المعجزات. وهذا ما قد تعن الحاجة إليه أحياناً .

ونستطيع أن نتصور رد الفعل العالمي لو حدث ذلك مرة واحدة أن كل

الدول الأخرى سوف تنهار معنوياً وتعلم بنهايتها ، طبقاً لقول الشاعر :

من حلقت لحية جار له فليسكب الماء على لحيته

لأنها تعلم أن الجيش المهدوي سيغزوهاً لا محالة ، فإن أمكن بالطريق

الطبيعي ، فهو...... وإلا فسيدخلها بالمعجزة . و هذا من أقوى أسباب

الرعب الذي سمعنا انتشاره بين أعداء المهدي (ع ) من الروايات .

فهذه الزوايا الخمسة المتوفرة للإمام المهدي (ع ) تيسر الفتح العالمي

ص: 600

السلمي بكل وضوح . . مضافاً إلى الضمانات الأخرى التي عرفناها لانتصاره ، والتي تتناسب مع السلم كما تتناسب مع الحرب .

وإذا تمت هذه الزوايا كانت مؤيدة للأخبار الدالة على الفتح السلمي .

فيصبح من الممكن القول بأن هذه الأخبار صحيحة من هذه الناحية لا

غبار عليها .

النقطة الثانية : إن أكثر نقاط الضعف السابقة غير صحيحة :

فالنقطة الأولى وهي عدم قابليتها للاثبات التاريخي ، ارتفعت بعد دعم

الروايات بالزوايا الخمسة السابقة .

وأما النقطة الثانية : فلأن الفتح السلمي ، لا ينافي شمول ( السيف ) المهدوي لغير الشرق الأوسط. لأن المتعصبين ضد الحق في اوروبا وغير

أوروبا كثيرين أيضاً ، بحيث لا يمكن أن يعايشوا المجتمع العادل الكامل ،

فيجب الإجهاز عليهم مقدمة للتطبيق العادل . وهذا القتل غير الفتح العالمي ،

بل يستمر بعد الفتح . غير أن شمول هذا القتل لكل العالم قد ينافي ما دل على اختصاصه بالشرق أو البلاد الإسلامية ، وكان التبرير النظري مؤيداً لذلك

كما عرفنا . ومن هنا لا يكون ما دل على الشمول قابلاً للإثبات التاريخي .

غير أن نقطة الضعف الثانية لن تكون صحيحة ، لأن شمول السيف ،

على تقدير صحته ، ليس للفتح بل للتنظيف .

وإن كان الالتزام بشمول القتل لأوروبا وغيرها ، على نطاق

البلاد الإسلامية ، وبشكل لا ينافي المبرر النظري السابق ، لا ي- فيشمل من يقابل المهدي (ع ) بالسلاح - كما دلت عليه .

وكل شخص ميؤوس من حسن مشاركته في مجتمع العدل العا!

ص: 601

وأما نقطة الضعف الثالثة : وهي الفتح عن طريق المعجزات فقد عرفنا إمكان ذلك عند توقف الفتح عليه أحياناً ... لا أقل من مرة واحدة لكي تلقي الرعب في قلوب الدول الأخرى .

وأما النقطة الرابعة : فقد وردت هذه الأخبار على لسان عصرها ، وطبقاً لمستواه الفكري والثقافي طبقاً لقانون (كلم الناس على قدر عقولهم ) .

ولا يعني ذلك ، بقاء المدن على الشكل القديم إلى عصر الظهور .

وأما نقطة الضعف الخامسة : فهي صحيحة ، غير أنها غير شاملة لكل الأخبار ، لعدم ورود اسم القسطنطينية إلا في بعضها . فلعله خطأ من الراوي

باعتبار نقل الحديث بمعناه لا بلفظه ، أو لأي سبب آخر ووجود هذه النقطة في بعض الأخبار لا يعني الاعتراض على أصل الفكرة ، وهي الفتح العالمي السلمي ، كما هو واضح .

وعلى أي حال ، فهذه الفكرة تكشف لنا عن أن التخطيط الذي يتخده المهدي (ع ) في مناطق العالم المختلفة غير التخطيط الذي يتخذه في الشرق

الإسلامي، ويبقى التعرف على التفاصيل مصوناً في ضمير الغيب إلى

حين مجيء ذلك الزمان .

ص: 602

الفصل الخامس: موقف الآخرين من الامام المهدي عليه السلام

ماذا سوف يكون موقف الآخرين تجاه المهدي (ع ) وثورته و دولته ؟ !

تنقسم العواطف تجاه الإمام المهدي إلى ثلاثة أقسام رئيسية ، منها إيجابية

و منها سلبية ، كما سنسمع .

فأهم عاطفة إيجابية تجاه المهدي (ع ) عواطف أصحابه المخلصين

وجيشه الموالي له إلى أعلى درجات الولاء ، كما سبق أن عرضنا ذلك مفصلاً .

وهناك عاطفة إيجابية أخرى تجاهه عليه السلام ، تشمل كل العالم ،

وذلك حين يذوق الناس أجمعون لذة العدل والسعادة والرفاه في المجتمع المهدوي العالمي العادل .

واما العواطف السلبية فتنشأ من الانحراف والمنحرفين الذين يواجهون

السيف المهدوي بحرارته وقوته .

ونحن بعد أن تحدثنا عن القسم الإيجابي الأول ، بقي علينا أن نتحدث عن

القسمين الأخيرين ، نبدؤهما بالعواطف السلبية باعتبار تقدمها زمناً على العواطف الإيجابية الثانية .

ص: 603

العواطف السلبية :

تنقسم العواطف السلبية ضد الإمام المهدي إلى ثلاثة أقسام ، في حدود

ما وردنا من المثبتات التاريخية :

القسم الأول : رد الفعل السيء الذي عرفناه غير بعيد من قبل المنحرفين

حين يستمر فيهم القتل ، ويبدأ عددهم الضخم بالتناقص السريع .

إنهم سوف يقولون : إن هذا ليس من ذرية فاطمة ، لو كان من ذريتها

لرحمنا .

أو يقولون : هذا ليس من آل محمد ( ص ) . لو كان من آل محمد

ارحمنا . كما نطقت بذلك الأخبار .

وهذا الكلام منهم يتضمن ارجافاً وتشكيكاً بمهدويته . إذ من المعروف المفهوم بوضوح في أذهان المسلمين ، الذي تواترت به الروايات : أن المهدي

المنتظر من آل محمد ومن ذرية فاطمة . وإذا لم يكن شخص المهدي (ع )

من آل محمد و من ذرية فاطمة ، إذن ، فليس هو المهدي المنتظر الموعود .

وسينطلقون إلى استنتاج كونه ليس من آل محمد ولا من ذرية فاطمة ، من حدة سيفه وكثرة القتل الذي يحدثه فيهم. باعتبار أن كثرة القتل منافية للرحمة ، وآل محمد أولى من يتصف بالرحمة من المسلمين ، فلو كان شخص المهدي (ع ) منهم لاتصف بالرحمة .

إلا أن هذا الكلام منهم سيكون هواء في شبك ، في خضم

الأحداث العالمية السريعة التتابع التي تعيشها البشرية في تلك الفترة .

إن هؤلاء المرجفين سوف ينتهون في خضم كثرة القتل ، لا يبقى منهم

ص: 604

أحد . وسيكون البرهان الأكبر في دحض هذه الشبهة وإثبات أن هذا القائد هو المهدي المنتظر الموعود نفسه ، مضافاً إلى الدلائل الفكرية والعملية التي

يقوم بها خلال نشاطه العام ....سيكون البرهان الأكبر على ذلك استتباب

سيطرته على العالم كله. فإننا لا نعني من المهدي الموعود إلا من يحكم العالم

كله بالعدل .

وهذه الفكرة عن المهدي الموعود ، كما تصلح دحضاً من يدعي المهدوية

في التاريخ ، كما ذكرنا ذلك في كل من التاريخين السابقين (1)، تكون هي البرهان الأهم على صدق من يدعي المهدوية وتم سيطرته على العالم .

وقد غفل هؤلاء المرجفون عن أن معنى الرحمة واللطف ، ليس هو الرحمة الآنية ، والمحافظة على المصالح الوقتية الخاصة للناس ، وإنما معناها

الكبير هو تطبيق الشريعة العادلة الكاملة في ربوع المجتمع البشري . فان ذلك

هو المصلحة العليا للبشر والهدف الأعلى من وجودهم .

وإذا نظرنا إلى هذا التطبيق في دائرته الصغيرة التي لا تستغرق كل العالم فهو مقترن دائماً ، بحسب المصلحة التي سار عليها النبي (ص) وغيره من

القادة الأوائل ، مع الملاينة والتألف ... وأما إذا نظرناه بشكله الواسع الذي

يستغرق العالم كله ، فقد عرفنا أنه يتوقف على اجتثاث كل عنصر للفساد

وسوء النية والإنحراف . ويكون من مصلحة البشر والرحمة بهم قتل هؤلاء وتنزيه المجتمع البشري عن مفاسدهم ، وإن لم يلتفت البشر أنفسهم إلى ذلك لأول وهلة .

إذن ، فالقتل الذي يمارسه المهدي (ع) هو الرحمة لكاملة واللطف

ص: 605


1- أنظر تاريخ الغيبة الصغري ص 355 0 و تاريخ الغيبة الكبرى ص 504 .

الحقيقي ،لأنه ممقدمة لتطبيق العدل ، ونشر السعادة . والمنطق العقلي والقانوني

دائماً يجزم بتقديم المصلحة العاة على المصلحة الخاصة .

القسم الثاني : من العواطف السلبية التي يواجهها الإمام المهدي (ع) .

دلت الروايات على ذلك ، كما يلي :

أخرج النعماني(1)بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع) .. - في

حديث ذكر فيه راية القائم عليه السلام - وقال :

فاذا هو قام نشرها ، فلم يبق

في المشرق والمغرب أحد إلا لعنها.

وأخرج أيضاً (2) بسنده عن أبان بن تغلب ، قال : سمعت أبا عبداللّه

عليه السلام يقول :

إذا ظهرت راية الحق لعنها أهل

الشرق وأهل الغرب . أتدري لم ذلك؟

قلت : لا قال : للذي يلقى الناس

من أهل بيته قبل خروجه .

وأخرج أيضاً (3)عن منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه (ع) أنه قال :

إذا رفعت راية الحق لعنها أهل

الشرق والغرب (المشرق والمغرب )

ص: 606


1- الغيبة ص 165 .
2- المصدر ص 159 .
3- المصدر ص 160 .

قلت له : لم ذلك . قال : مما يلقون

من بني هاشم.

إلى بعض الأخبار الأخرى .

والمقصود من (راية الحق ) : دعوة المهدي (ع) العامة المتمثلة بالاطروحة

العادلة الكاملة ، ونشرها أو رفعها : إعلانها في العالم . كما أن المقصود من

لعنها : الغضب عليها والإشمئزاز منها من قبل أهل الشرق والغرب، وهم أكثر

سكان العالم . ومن المؤكد أن يكون المقصود من بني هاشم و « أهل بيته » شيئاً واحداً ، سواء ذلك على المستوى الصريح أو الرمزي ، على ما سنعرف.

ويمكن تبرير هذا الإنطباع السيء بعدة مبررات :

وتنقسم هذه المبررات إلى قسمين ، ينطلق القسم الأول منها : من الفهم

الصريح لبني هاشم وينطلق القسم الثاني منها من الفهم الرمزي له .

القسم الأول : أن نفهم من بني هاشم وأهل بيت المهدي (ع) ، عشيرته الخاصة المعينة المعروفة في التاريخ. فيكون المعنى الذي تعرب عنه الروايات :

أن الناس سوف يسيئون الظن بالمهدي (ع) ، ودعوته بصفته فرداً من

هذه العشيرة. وذلك للتجارب الفاشلة التي مرت بها هذه العشيرة خلال العصر

السابق على الظهور . وذلك : تحت أحد المبررات التالية :

المبرر الأول : إن الناس يلاقون من حكم بني هاشم في زمن الغيبة ظلماً

وتعسفاً ، فيتخيلون أن المهدي (ع) بصفته فرداً منهم ، سوف يسير من ملاك

النهج .

وقد مارس بنو هاشم الحكم خلال التاريخ في فترات مختلفة . . . كالعباسيين

ص: 607

والفاطميين والزيديين والسنوسيين وغيرهم . وقد مارس الأعم الأغلب منهم الحكم الظالم المتعسف المنحرف عن الدين الحق .

الوجه الثاني : إن الناس يلاقون من بني هاشم، بصفتهم أفراداً في المجتمع

المسلم ، انحرافات شخصية حادة ، إلى حد تكون مضرة بالناس من مختلف المجتمعات ، فيتألمون منها ويضحون من سوئها .

وحيث ان المهدي (ع) من بني هاشم ، فربما خيل للناس - وخاصة وهو يمارس كثرة القتل - أنه عازم على السير على تلك السيرة ... ريثما ينكشف

عالمياً الفرق الكبير بين الأسلوبين والإيديولوجيتين .

الوجه الثالث : إن الناس يلاقون من بني هاشم خلال العصر السابق على

الظهور إعراضاً وإهمالاً متزايدين :

فإن الناس يمرون خلال عصر الغيبة ، بمختلف أشكال المظالم والمشاكل فقد يخطر في أذهان عدد منهمأن يرجعوا إلى هاشم في حل هذه المشاكل

بصفتهم ممن يتوسم فيهم الصلاح والإصلاح ... فلا يجدون منهم إلا إعراضاً وإهمالاً وتهاوناً ، نتيجة لتسامح بني هاشم وتقوقعهم ، وخوفهم من الظروف القاسية ، والتدخل في الأمور العامة .

فينطبع ذلك في أذهان الناس انطباعاً سيئاً ، ويخلف هذا الموقف ظنهم

بالهاشميين ... مع أنهم قد يكونوا مضطرين إلى ترك العمل اضطراراً .

و من الصحيح أن المهدي (ع) من بني هاشم ، غير أن شيئاً من هذه الوجوه

الثلاثة لا ينطبق عليه... . بعد أن جاء ليغير الحكم الظالم إلى الحكم العادل ،

والسلوك المنحرف إلى السلوك الصالح ، ولا معنى للخوف والإضطرار إلى ترك المصلحة العامة في دولته .

ص: 608

غير أن هذه المواقف سوف تتخذ في أول ظهور ( راية الحق ) وستتبدد

الأوهام تدريجياً بمقدار اتضاح و اتساع الإيديولوجية المهدوية عالمياً .

القسم الثاني : من المبررات ، وهو المنطلق من الفهم الرمزي لبني هاشم وآل بيت المهدي (ع) ... حيث يكون تعبيراً عن جانب الدين والمتدينين في العصر السابق على الظهور .

وانطلاقاً من ذلك ، تكون المبررات إلى ( لعن ) راية الحق من قبل

المنحرفين . . . عديدة :

المبرر الأول : الإتجاه المادي العام الذي يشجب الحل الديني للمشاكل البشرية . ومن الواضح أن الأطروحة المهدوية ( راية الحق ) ، مهما اختلفت عن الإتجاهات الدينية السابقة عليها ، فإنها ذات منطلق ديني بطبيعة الحال، من حيث انها تعترف بوجود الخالق، وتلتزم بشريعته ، ومعها ستكون مشمولة للشجب المادي .

وسترتفع مبررات هذا المبرر المادي بالمفاهيم والدلائل التي يقيمها الإمام المهدي (ع) نفسه ، مضافاً إلى التطبيق المهدوي للأطروحة العادلة الكاملة التي التي تمثل أعلى شريعة إلهية وجدت بين البشر ... فيتضح ما تضمنه للبشر من سعادة ورفاه ، والفروق الأساسية الشاسعة بين الإتجاه الديني المهدوي ،

والإتجاهات السابقة عليه .

المبرر الثاني : سوء الظن بالمتدينين عموماً ، بغض النظر عن الوجود

النظري للدين .

فإن هناك اتجاهاً عاماً في العالم اليوم ، موجوداً على مختلف الأديان والمذاهب يتضمن إساءة الظن بالأساليب والإتجاهات العامة التي يتخذها المتدينون ؛ وذلك

39

ص: 609

باعتبار التجارب الكثيرة والمريرة التي عاناها الناس ممن ينتمون إلى الدين،

من حيث أن أكثرهم يستغل موقفه الديني في سبيل الربح الشخصي، بل حتى

لولزم من ذلك الإضرار بالآخرين . لأن أمثال هؤلاء ينتمون إلى الدين إسمياً

ولم يتشربوا بتعاليمه واقعياً، فهم من المنحرفين الفاشلين في التمحيص الذين

يمثلون جانب الظلم والجور في الأرض ، مهما استطاعوا أن يغطوا قضيتهم

بمختلف الأقنعة .

وقد عانى المسيحيون من الوجود الكنسي الممثل لهذا الإتجاه المنحرف ، كما عانى المسلمون بمختلف مذاهبهم من نماذج أخرى سائرة على هذا الطريق ، ولا يخلو هذا الطريق من السائرين في مختلف الأديان .

ومن هنا نشأت الفكرة العامة عن كل ما يتبنى الإتجاه الديني ، وحيث يكون المهدي (ع) ذا اتجاه ديني ، إذن فهو مندرج في هذا الشك

العام ... غير أن هذا الشك سوف يتبخر بالتدريج ، بمقدار ما يفهمه العالم بالحس والوجدان من نفع النظام المهدوي للعالم وما يكفله له من السعادة والرفاه ، وما يبذله المهدي (ع) في سبيل الصالح العام من تضحيات ونكران ذات ، وما تؤكده الوقائع من الفوارق الشاسعة بين هذا الإتجاه الديني ، والإتجاهات

السابقة عليه .

المبرر الثالث : تشويه الفكرة المهدوية في العصر السابق على الظهور.

فإنها شوهت في الأفكار المنحرفة عدة تشويهات حادة، قد يؤدي بعضها إلى

الحقد على المهدي (ع) حتى بعد ظهوره .

والإتجاهات العامة لهذه التشويهات متعددة ، مادية وغير مادية . ولعل في

ص: 610

الرجوع إلى هذه الموسوعة ما يساعد على رفع هذه التشويهات ، ولسنا الآن

بصدد استعراضها جميعاً. كل ما في الأمر أن ما يمكن أن يكون سبباً للحقد

على المهدي حتى بعد ظهوره ، من هذه التشويهات، هو مايلي :

التشويه الأول : أن السيف المهدوي شديد الفعالية قوي النشاط ...

يقتل الناس بلا حساب .

التشويه الثاني : أن الحكم المهدوي بصفته عادلا ، سوف يكون حدياً

وجدياً في تطبيق القانون وكبت الحرية الفردية ، إلى أكبر الحدود .

العشويه الثالث : أن النظام المهدوي بصفته ذو إيديولوجية معينة ، سوف يمنع عن حرية الإعتقاد والتعبير عن الرأي ، لغير الملتزمين بالإيديولوجية المهدوية الرسمية .

العشويه الرابع : ان الفكرة المهدوية بصفتها ذات اتجاه ديني ، فهي تمنع عن الإستفادة من التطور المدني والتكنيكي الحديث ، لأن الإتجاه الديني

عموماً يمنع عن ذلك .

ونحو ذلك من التشويهات ....

والتشويه الأخير كاذب تماماً ، لأن الإتجاه الديني عموماً يحبذ استعمال

نتائج التطور المدني ، لا أنه يمنع عنه . وقد كان ولا زال المتدينون عموماً يستعملون هذه النتائج ، بدون أن يروا أي تناف بين اتجاههم الديني وهذا الإستعمال ، أو أن يعتقدوا أي تحريم ديني لذلك .

وسنسمع في فصل آت ، المثبتات التاريخية الكافية ، لاستعمال المهدي (ع)

نفسه لنتائج التطور المدني على أوسع نطاق في دولته ، مما يدل على مباركته لها وعدم ميله إلى المنع عنها .

ص: 611

وأما التشهريهات الثلاثة الأولى ، فلها أصولها الصحيحة ، وإنما التشويه

كامن في المبالغة منها وإساءة الظن بنتائجها .

ويكفينا الإلتفات إلى أمرين أساسيين لدفع جانب التشويه في هذه الأمور

الثلاثة :

الأمر الأول : أنه بعد البرهنة على أن النظام المهدوي نظام عادل كامل ، وأنه يمثل الغرض الأساسي لخلق البشرية عموماً في الحكمة الإلهية ، كما سبق أن برهنا ، وسيأتي في الكتاب الآني من هذه الموسوعة مزيد من البرهان والإيضاح

لهذه الفكرة. وأنه لا يمكن أن يتضمن هذا النظام أي ظلم أو حيف فردي أو إجتماعي من أي جهة من الجهات .

إذن ، فكل ما يتضمنه هذا النظام من فقرات ، من مفاهيم وقوانين ونظم

هي - لا محالة- مطابقة للعدل الكامل الذي لا محيص للبشرية عنه وبالتالي لا

يمكن للبشرية أن تعيش السعادة والرفاه والكمال تحت أي نظام آخر غيره.

فالمبالغة في تلك الأفكار أو إسائة الفلن بنتائجها ، مما لا معنى له ، بعد أن كانت مطابقة للعدل ، وإذا كان في التطرف بتطبيقها شيء من السوء أو الظلم

فإنه سيقتصر منها في مجال التطبيق ، على ما هو أوفق بالعدل ، وأقرب إلى

المصلحة لا محالة .

الأمر الثاني : انه بينما تسنح الفرصة للمرجفين والمشوهين ، للنشاط

في الأيام الأولى من الظهور ، فإن هذه الفرصة لن تسنح لهم مرة أخرى ، بل سيقوم السيف المهدوي باستئصالهم تماماً . وسوف لن يبقى في العالم إلا

المؤمنين بصدق المهدي (ع ) وعدالة دعوته .

ولا ينبغي أن يتوجه العتب إلى السيف المهدوي بكثرة القتل ، من حيث

ص: 612

كونه مسؤولاً عن تطبيق العدل الذي يتوقف على هذه الكثرة كما عرفنا .

بل ينبغي أن يتوجه العتب إلى الأفراد المنحرفين أنفسهم ، في أنهم أصبحوا

بسوء تصرفهم وممارستهم أشكالاً من الظلم ، بشكل يتنافى وجودهم بكل أقوالهم وأفعالهم مع المجتمع الفاضل والنظام العادل ، فاستحقوا القتل بالسيف المهدوي الصارم .

هذا ، ولا ينبغي أن ندخل في البراهين التفصيلية على الأصول الصحيحة لتلك ( التشويهات ) الثلات الأولى ، بعد كل الذي عرفناه فيما سبق من مثبتاتها التاريخية ، وما سوف يأتي في خضم البحث من مزيد القرائن عليها

واحدة واحدة .

القسم الثالث : من العواطف أو المواقف السلبية التي توجد ضد المهدي

(ع) : ما يقوم به بعض الجماعات من مواجهته بالسلاح :

أخرج النعماني في الغيبة (1)عن يعقوب السراج ، قال : سمعت أبا

عبد اللّه عليه السلام يقول :

ثلاث عشرة مدينة وطائفة يحارب

القائم أهلها ويحاربونه : أهل مكة ،

وأهل المدينة ، وأهل الشام ، وبنو

أمية ، وأهل البصرة ، وأهل دميان

(دشت میشان ) ، والأكراد ،

والأعراب، وضبة ، وغنى ، وباهلة ،

وأزد البصرة ، وأهل الري .

ص: 613


1- ص 160 .

وفي رواية مطولة أخرجها المجلسي في البحار (1)عن عبد الأعلى الحلبي

عن أبي جعفر عليه السلام ، يقول فيها :

فيخرج إليه من كان بالكوفة من

مرجئها وغيرهم من جيش السفياني

فيقول لأصحابه : استطردوا لهم .

ثم يقول : كروا عليهم . قال أبو

جعفر : لا يجوز : لا يجوز - واللّه -الخندق

منهم مخبر ..... الحديث .

ومنها ما سبق أن رويناه ، مما أخرجه المفيد في الإرشاد (2) عن أبي

جعفر في حديث طويل أنه قال :

إذا قام القائم عليه السلام ، سار

إلى الكوفة فيخرج منها بضعة عشر

ألف نفس يدعون البترية ، عليهم

السلاح . فيقولون له : ارجع من

حيث جئت ، فلا حاجة لنا في بني

فاطمة ، فيضع فيهم السيف ، حتى

يأتي على آخرهم .

ثم يدخل الكوفة ، فيقتل بها

كل منافق مرتاب ، ويهدم ،قصورها

ويفعل مقاتليها ، حتى يرضى اللّه عز و علا.

ص: 614


1- ج 13 ص 179 - 180 .
2- ص 343 .

وأخرجه الطبرسي في اعلام الورى . (1)

وأخرج النعماني(2) بإسناده عن أبي حمزة الثمالي ، قال :

سمعت أبا جعفر عليه السلام

يقول : ان صاحب هذا الأمر لو قد

ظهر ، لقي من الناس ما لقي رسول

اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وأكثر .

ومن ذلك الروايات الواردة في قتال السفياني ، بعد ارتداده وفسخه

مبايعة المهدي (ع) ....وقد سمعناها فلا نعيد .

وأقصى ما تعطينا هذه الروايات من المضمون العام ، هو أن المهدي (ع) سوف يواجه في العراق وغيره من المناطق الإسلامية حروباً مساحة

ومناوشات وقلاقل .

وهذا أمر راجح وصحيح، حتى لو لم نسمع شيئاً من هذه الروايات ،

بعد أن نلتفت إلى أن أكثرية الأمة أصبحت فاشلة في التمحيص، وعلى مستوى

عصيان الأحكام الواضحة في الإسلام والمفاهيم القطعية فيه . وكل من يواجهه

بالحرب ، يكون غافلا بطبيعة الحال عن ضمانات انتصاره التي ذكرناها ،

إلى حد يظن بإمكان سيطرته على المهدي (ع ) وجيشه ، أو على الأقل دفعه

عن السيطرة على بلاده .

وأما التفاصيل التي تنطق بها هذه الروايات ، فلا يكاد يثبت شيء

ص: 615


1- ص 431 .
2- الغيبة ص 159 .

منها ، لأن كل واحد من الروايات غير ثابتة الصحة ، ولها مضامين غير ثابتة أيضاً . فلا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها .

نعم ، الرواية الدالة على أن ثلاثة عشر فية تحارب المهدي (ع ) تدل

- بغض النظر عن التفاصيل - على أمرين :

الأمر الأول : إن ما يواجهه المهدي (ع ) من الحروب خاصة في منطقة

الشرق الإسلامي خاصة .

الأمر الثاني : إن تلك الحروب محدودة بثلاثة عشر وقعة ، أو نحوها ،

إن لم يكن هذا الرقم للتحديد . وليست من الكثرة التي يتصورها الفرد في الفتح العالمي العام .

وكلا هذين الأمرين مما دلت الروايات الأخرى على صحته ، صحته ، فتكون

هذه الرواية مؤكدة لمضمونه أيضاً .

العواطف الإيجابية :

أخرج ابن ماجة (1)عن أبي سعيد الخدري : أن النبي (ص) قال :

يكون في أمتي المهدي ....فتنعم

فيه أمتي نعمة لم ينعموا مثلها قط .

وأخرج ابن حجر (2)عن الروياني والطبراني - في حديث - قال :

يرضى بخلافته أهل السماء وأهل

الأرض والطير في الجو .

ص: 616


1- السنن : ج 2 ص 1366.
2- ص 98

وأخرج الحاكم (1)بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال : قال

النبي (ص) : - في حديث -:

يرضى عنه ساكن السماء وساكن

الأرض ....تتمنى الأحياء الأموات

مما صنع اللّه عز وجل بأهل الأرض

من خيره . هذا حديث صحيح

الإسناد ، ولم يخرجاه .

وأخرج النعماني (2)عن أم هانىء عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر

عليه السلام - في حديث - قال :

فان أدركت ذلك الزمان قرت

عيناك.

وأخرج بهذا المعنى حديثين آخرين (3)وبمؤداه حديث أخرجه الكليني

في الكافي (4)

وأخرج الشيخ في الغيبة (5) ، قال : قال رسول اللّه ( ص ) :

أبشركم بالمهدي ... إلى أن قال :

يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض

ص: 617


1- ج 4 ص 465 .
2- ص 75 .
3- نفس الصفحة .
4- نسخة مخطوطة .
5- ص111.

وفي حديث آخر (1)عن أبي وائل عن أمير المؤمنين (ع ) أنه قال :

- في حديث - يفرح لخروجه

أهل السماء وسكانها ، يملأ الأرض

عدلا كما ملئت جوراً وظلماً .

إلى غير ذلك من الروايات .

والمراد بساكن السماء أحد أمرين :

الأمر الأول : سكنة الجو ، وهم الطيور . ومعنى رضاهم سعادتهم بما

ينالهم من لذيذ الطعام وهنيء الماء في عصره، باعتبار عموم عدله ورفاهه.

إلا أن هذا المعنى تنافيه رواية واحدة مما سبق ، وهو قوله : يرضى بخلافته أهل السماء وأهل الأرض والطير في الجو . فإن مقضى المتعاطف

هو التغاير بين أهل السماء وبين الطير . فلا يمكن أن يكون أحدهما هوالآخر .

الأمر الثاني : الملائكة ، وهم سكنة السماء بحسب ظاهر الأدلة الواردة

في الإسلام بل وفي غيره من الأديان الكبرى .

فهم يفرحون ليوم تطبيق العدل الكامل على الأرض ، ويرضون عن قائده العظيم ... وقد عرفنا موقفهم تجاه المهدي (ع ) من التأييد والنصرة ، بشكل واسع النطاق ... فيكون رضاهم عنه أمراً طبيعياً واضحاً ، ومنطلقاً

عن رضاء اللّه عز وجل .

ص: 618


1- ص116.

وقد يخطر على البال : إن ظاهر هذه الروايات كون الرضا المذكور

فيها ناتجاً من قبل الفرد باعتبار استفادته وانتفاعه من حكم المهدي العادل .

وأما إذا لم يكن الفرد منتفعاً به ، فهو لا يكون مشمولاً لهذه الروايات . ومن الواضح أن الملائكة لا يمكن أن يكونوا مستفيدين بالمباشرة من العدل الأرضي .

وجواب ذلك : انه من ضيق النظر افتراض أن الفرد لا يفرح بشيء

إلا إذا استفاد منه فائدة مباشرة. بل قد يفرح الفرد للخير الذي ينال أسرته أو أصدقاءه أو مجتمعه أو مجتمعاً يحبه ، وإن لم ينل منه شيئاً أصلاً .

ومعه : فالملائكة يفرحون بنفوذ إرادة اللّه تعالى وتطبيق هدفه ،علی

أنه لا دليل على عدم انتفاع الملائكة بشكل مباشر في دولة العدل الكامل ، فإن تأييدهم لها ولقائدها وأعمالهم في مصلحتها ، كمال لهم لا محالة.

فهذه هي العواطف الإيجابية الخيرة التي ينالها المهدي (ع ) ونظامه ،

عند تطبيق العدل الكامل ، بعد أن تكون العواطف السلبية تمد انتفت تماماً

خلال الفتح العالمي .

ص: 619

الفصل السادس: في مدة بقاء المهدي (ع) في الحكم

تمهید:

ينفتح السؤال عن مدة حكم المهدي (ع ) باعتبارين :

الاعتبار الأول : السؤال عن بقاء شخص الإمام المهدي (ع ) في الحكم ، بمعنى الإستفهام عن المدة المتخللة بين ظهوره ووفاته ، أو بالأصح المدة بين استتباب الدولة العالمية ، ووفاته ... بعد اليقين بأنه عليه السلام سوف يقضي أيام حياته كلها في الحكم .

الاعتبار الثاني : السؤال عن بقاء نظام المهدي (ع ) ودولته ، ذلك

النظام الذي يبقى بعد وفاته .

ويكون المراد الإستفهام عن أن دولة العدل العالمية هل هي باقية إلى نهاية.

البشرية ، أو لا . وهل أن يوم القيامة ونهاية البشرية يحدث بعد موت المهدي

بقليل ، أو بكثير. وإذا كانت الحياة البشرية باقية مدة طويلة ، فهل تتحول الحياة إلى دولة ظالمة منحرفة ، تحدث بعد دولة الحق . أو تبقى دولة الحق

والعدل باقية على يد الحكام العدول الأولياء الصالحين إلى يوم القيامة .

و مرادنا من هذا الفصل التحدث عن الاعتبار الأول ، مؤجلين الجواب

عن مدة دولته ونظامه إلى الباب الأخير من هذا التاريخ .

ص: 620

ولا بد في صدد الحديث عن هذا الأمر أن يقع الحديث في عدة جهات :

الجهة الأولى : في مقتضى التخطيط العام

الجهة الأولى : في مقتضى القواعد العامة والتخطيط الإلهي العام حول ذلك .

عرفنا فيما سبق أكثر من مرة مبرهناً ، بأن اللّه تعالى استهدف من خلق

الخليقة إيجاد العبادة الخالصة في ربوعها ، وتطبيق العدل الكامل فيها ...

و خطط لذلك تخطيطاً طويلاً الأمد لإيجاد شرائط هذا التطبيق ، متمثلاً في

التخطيط العام السابق على الظهور ، وخطط لاستمرار هذا التطبيق وحفظه

من الانحلال والزوال ، متمثلاً بالتخطيط العام لما بعد الظهور ، ذلك التخطيط

المنتج في خطه الطويل للمجتمع البشري المعصوم .

وقد عرفنا دور الإمام المهدي (ع ) بشخصه في هذين التخطيطين...

فإنه يمثل نهاية التخطيط الاول ، ونتيجته ، وبداية التخطيط الثاني ونقطة

انطلاقه . ويكون هو الرائد الأساسي الأول للتطبيق العالمي العادل الكامل .

وهذه الزيادة ، مع غض النظر عن أي شيء آخر ، تستدعي زماناً كافياً لتحصيل الغرض المقصود منها . إذ بدون ذلك يكون المهدي (ع ) عاجزاً عن التطبيق العادل لقلة المدة ، فيكون الهدف الإلهي الأعلى منخرما في نهاية .

المطاف وهذا ما يستحيل تحققه . وقد برهنا على عدم قيام المعجزات في مثل هذا الطريق .

إذن فالضرورة قاضية ببقاء المهدي (ع ) زماناً كافياً للتطبيق بشكل يكون قابلاً للبقاء والاستمرار بعده. فإذا التفتنا إلى التركات الثقيلة التي يخلفها عصر الغيبة الكبرى إلى زمن الظهور ، إلى حد أصبح المسلمون فيه على مستوى

عصيان واضحات الإسلام والاستهزاء بأساس الدين، فضلاً عن غير المسلمين.

ونظرنا إلى أحوالهم الأخلاقية والاقتصادية والنفسية والقانونيه والاجتماعية

المتدهورة إلى الحضيض، على ما نراه الآن جهاراً في وضح النهار .

ص: 621

استطعنا ، عند ذلك ، أن نخمن مقدار الجهد العظيم الذي ينبغي أن

يبذله المهدي (ع ) في هذا العالم لكي يحوله من الجحيم إلى النعيم .

وهذا ما لا يتوفر بمجرد فتح العالم والاستيلاء عليه ، فإن الأراضي يومئذ وإن أصبحت إسلامية وتحت حكم الإسلام من الناحية الفقهية القانونية ، إلا

أن تربية تلك المجتمعات أمراً أعقد بكثير من مجرد فتحها . فإن الفتح إنما

يكون مقدمة لتربيتها ، ولم يكن لأجل الاطماع أو مباشرة السلطة .

وإنما المهدي (ع) مسؤول عن ترسيخ العدل الكامل بشكل له قابلية

البقاء والاستمرار في المدى البعيد ... وإن يوكل ذلك بعده إلى أيدي أمينة

مخلصة . ومعه فمدة بقائه بالحياة وبالتالي : بالحكم ، مدة مناسبة لإنتاج ذلك.

وأما إن هذا المقدار من السنين ، كم عدده بالتحديد ؟ فهذا لا يمكن أن تسعفنا به القواعد العامة. بل ينبغي الفحص عنه في الأخبار الخاصة المتكفلة

لبيان ذلك .

وينبغي أن لا نستغرب من أن يكون زمن هذه المدة قليلاً نسبياً ؛ فإن مهمته عليه السلام ، مما لا يمكن أن تقوم بها الأفراد والجماعات في

قرن كامل . وحسبنا من هذا أن البشرية لم تقم بهذه المهمة في تاريخها الطويل ،

على الإطلاق . ولكنه شخصياً لمدى قابلياته وعلومه والتوفيق الإلهي المحالف

له بصفته المنفذ الأساسي للغرض الأعلى من البشرية ، ولمدى قابليات أصحابه

الذين هم القواد والفقهاء والحكام ، على ما سمعنا على ما سمعنا من الروايات ......فيمكن

أن نتصور أنه يقوم بتلك المهمة في زمن قصير نسبياً ، هو بالنسبة إلى غيره أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع ، ولكنه منه عليه السلام ليس ببعيد.

الجهة الثانية : في سرد الأخبار الدالة على مدة ملكه .

ص: 622

وهي أخبار كثيرة ، ولكنها متضاربة في المضمون إلى حد كبير . حتى

أوقع كثيراً من المؤلفين في الحيرة والذهول .

وهذه الروايات على نوعين ، منها ما يدل على بقاء المهدي (ع ) في

الحكم عشر سنوات أو أقل . ومضمونها المشترك هو الأشهر في الروايات.

ومنها ما يدل على بقائه عليه السلام أكثر من عشر سنين بقليل أو بكثير .

النوع الأول : ما دل من الروايات على بقاء المهدي (ع ) في الحكم عشر سنوات فأقل . وهو موجود في الأغلب ، في المصادر العامة ، وبعض المصادر

الخاصة .

أخرج أبو داوود (1)بسنده إلى أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول اللّه

(ص) : المهدي مني. إلى أن قال : ويملك سبع سنين .

وفي حديث آخر (2)عن أم سلمة عنه ( ص) - يقول فيه - :

فيلبث سبع سنين . ثم يتوفى

ويصلي عليه المسلمون . قال أبو داود :

وقال بعضهم عن هشام : تسع سنين

وقال بعضهم : سبع سنين .

وأخرج الترمذي(3) بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي ( ص ) : ان في أمتي المهدي ، يحرج

يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً - زيد

ص: 623


1- السنن ج 2 ص 422 .
2- المصدر ج 2 ص 423 .
3- الجامع الصحيح ج 3 ص 343 .

الشاك -قلنا : وما ذاك : قال :

سنين ...الحديث . قال الترمذي :

هذا حديث حسن . وقد روي من

غير وجه عن أبي سعيد عن النبي صلى

اللّه عليه وسلم .

وأخرج ابن ماجة (1) عن أبي سعيد الخدري ، أن النبي (ص) قال :

يكون في أمتي المهدي . ان

قصر فسبع ، وإلا فتسع .. الحديث .

وأخرج الحاكم في المستدرك (2)بسنده عن أبي سعيد الخدري عن

النبي (ص) - في حديث - ذكر فيه المهدي ، فقال :

يعيش فيهم سبع سنين أو ثمان

أو تسع الحديث .

وأخرج في الينابيع(3)عن كتاب ( فضل الكوفة ) لمحمد بن علي

العلوي بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه . قال : قال رسول اللّه (ص) : يملك المهدي أمر الناس سبعاً

أو عشراً... الحديث .

وقد وردت هذه الأخبار وأمثالها ، في سائر المصادر العامة التي تتحدث عن المهدي ، كسند أحمد والحاوي للسيوطي والبيان للكنجي ومطالب السؤال

ص: 624


1- السنن ج 2 ص 1367 .
2- ج 4 ص 465 .
3- ينابيع المودة ط النجف .

لمحمد بن طلحة الشافعي ، والفصول المهمة لابن الصباغ ونور الأبصار للصبان.

وغيرها .

وأما من مصادر الإمامية ، فهذا النوع الأول من الأخبار قليل فيها :

أخرج الشيخ في الغيبة (1)بسنده عن عبد الكريم الخثعمي ، قال :

قلت لأبي عبد اللّه (ع ) : كم يملك القائم ؟ قال :

سبع سنين ، يكون سبعين سنة

من سنيكم هذه .

النوع الثاني : الروايات التي تزيد على العشر سنوات ، في بيان مدة

حكم القائم المهدي عليه السلام .

أخرج القندوزي في الينابيع عن حذيفة بن اليمان ، قال : قال

رسول اللّه (ص) :

المهدي رجل من ولدي ... إلى

أن قال : يملك عشرين سنة .

قال : أخرجه الروياني والطبراني وأبو نعيم والديلمي في مسنده .

وأخرج أيضاً (2)نقلا عن كتاب فرائد السمطين عن أبي امامة الباهلي

قال : قال رسول اللّه (ص) ، - في حديث - :

المهدي من ولدي .. .يملك

عشرين سنة

40

ص: 625


1- ص 520.
2- ص 537 .

وأخرج السيوطي في الحاوي (1)عن نعيم بن حماد عن أرطاة ، قال :

يبقى المهدي أربعين عاماً .

وأخرج عنه عن بقية بن الوليد ، قال :

حياة المهدي ثلاثون سنة .

وأخرج عنه أيضاً عن دينار بن دينار ، قال :

بقاء المهدي أربعون سنة .

وأخرج عنه عن الزهري ، قال :

يعيش المهدي أربع عشرة سنة،

ثم يموت موتاً .

وأخرج عنه عن علي قال :

يلي المهدي آمر الناس ثلاثين أو

أربعين سنة . ومن مصادر الإمامية :

أخرج الشيخ في الغيبة(2)بسنده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر (ع) - في حديث - قال : قلت : وكم يقوم القائم في عالمه ؟ قال : تسع عشرة

سنة . . . الحديث .

وأخرج النعماني (3)بسنده عن يونس بن رباط . قال : سمعت أبا

عبد اللّه (ع ) يقول :

ص: 626


1- ص 155 . وكذلك الأخبار التي تليه .
2- ص 286 .
3- ص 153 .

ان أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا

في شدة . اما ان ذلك إلى مدة قريبة

وعاقبة طويلة .

وأخرج (1)حديثاً آخر بنفس المضمون .

وأخرج أيضاً (2)بسنده عن ابن أبي يعفور ، قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام:

ملك القائم منا تسع عشرة سنة

وأشهر . و نحوه حديث آخر .

وأخرج الطبرسي في أعلام الورى (3)عن عبد الكريم الخثعمي ، قال :

قلت لأبي عبد اللّه (ع) : كم يملك القائم ؟ قال :

سبع سنين . يطول له الأيام

وا يالي ، حتى تكون السنة من سنيه

مكان عشر سنين من سنيكم هذه .

فيكون سني ملكه سبعين سنة من

سنيكم هذه ... الحديث .

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(4) بسنده عن عبد السلام بن صالح

الهروي عن علي بن موسى الرضا عن آبائه عن علي بن أبي طالب (ع ) قال :

ص: 627


1- ص 153 .
2- ص 181 .
3- ص 432 .
4- انظر المصدر المخطوط .

قال رسول اللّه (ص) : - في حديث طويل يتضمن كلاماً عن اللّه عز وجل

يقول في آخره عن المهدي (ع ) :

ولا نصرنه بجندي ولا مدنه

بملائكتي ، حتى يعلن دعوتي ويجمع

الخلق على توحيدي . ثم لأديمن ملكه،

ولا داولن الأيام بين أوليائي إلى

يوم القيامة .

وأخرج الشيخ في الغيبة(1)بسنده عن أبي الجارود ، قال : قال أبو

أبو جعفر عليه السلام :

ان القائم يملك ثلاثماءة وتسع

سنين ، كما لبث أهل الكهف في

كهفهم ، يملأ الأرض عدلا وقسطاً

كما ملئت ظلما وجوراً .. الحديث.

الجهة الثالثة : في تمحيص هذه الأخبار

الجهة الثالثة : في تمحيص هذه الأخبار :

توجد حول هذه الأخبار عدة ملاحظات :

الملاحظة الأولى : أكثر الأخبار التي نقلناها عن السيوطي في النوع الثاني مروية عن غير المعصومين ، كالزهري ودينار بن دينار . فلا تكون قابلة

للإثبات التاريخي .

الملاحظة الثانية : إن ما دل من الأخبار على أن المدة طويلة بشكل غير

ص: 628


1- ص 283 .

محدد ، إنما هو تحديد لمدة دولة المهدي ونظامه ، لا لعمر شخص المهدي (ع )

وحياته كقوله : إلى مدة قريبة وعاقبة طويلة . وكقوله : ولاداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة ومعه تخرج هذه المضامين عن نطاق ما نحتاجه الآن في الإستدلال .

الملاحظة الثالثة : ما دل من هذه الأخبار على طول المدة بطريق إعجازي ،

لا يمكن الأخذ به لكونه مخالفاً لقانون المعجزات ، باعتبار أن توطيد العدل لا يتوقف على مثل هذه المعجزة .

وقد نقلنا بهذا المضمون حديثين يدلان على أن المهدي (ع) يعيش سبع

سنين تكون كسبعين سنة .

ومعه فلا يمكن العمل بهذه الأخبار ، ما لم يمكن حمله على معنى رمزي

سوف نشير إليه بعد ذلك .

الملاحظة الرابعة : ما كان من الأخبار منفرداً في مضمونه ولا دليل على صحته ، ولا قرينة أخرى مؤيدة لمضمونه ... لا بد من اعتباره غير قابل للإثبات التاريخي، في حدود منهجنا في هذا الكتاب .

يندرج في ذلك : الخبر القائل بأنه عليه السلام يبقى في الحكم ثلاثمائة

و تسع سنين .

الملاحظة الخامسة : يصفو لنا بعد هذا التمحيص أقسام ثلاثة من الروايات :

القسم الأول : أكثر روايات النوع الأول ، وهي التي تردد احتمال .مدة

حكم المهدي (ع ) بين خمس أعوام وسبع وتسع وعشر .

القسم الثاني : ما دل من الأخبار على بقاء حكم المهدي تسع عشر سنة .

فإنها روايات ثلاثة متعاضدة ، في بعضها : تسع عشر سنة وأشهر .

ص: 629

القسم الثالث : ما دل من الأخبار على بقائه عشرين سنة ، فإن فيه خبرين

روتهما عدد من المصادر العامة كما سمعنا .

وإذا أمكن إرجاع التسعة عشر والعشرين إلى مدة تقريبية واحدة ، كما

هو الأرجح ، كان القسمان الأخيران قسماً واحداً تدل على صحته خمس

روايات .

ومعه يكون التحديد بين مدتين تقريبيتين ، إحداهما : بين الخمس

والعشر . والأخرى : بين التسعة عشر والعشرين .

هذا ، ولا يبعد أن تكون المدة التقريبية الأولى أقرب إلى الصحة باعتبارها الأشهر بين الروايات . على أن الأمر ليس ذا أهمية بالغة ، بعد الاطلاع على

المفهوم العام الذي عرفناه في الجهة الأولى ، والتي لا تعدو هذه الأخبار أن تكون مصاديق له ومن تطبيقاته .

الجهة الرابعة : إنه بعد التمحيص الذي قلناه ، لا حاجة لنا إلى الأخذ بأقوال الآخرين ، في تمحيص هذه الأخبار ، ولكن يحسن بنا في هذا الصدد

أن نحمل فكرة عن الاتجاهات الرئيسية حول ذلك . وتتلخص في اتجاهين :

الاتجاه الأول : اتجاه الأخذ بالجانب المشهور من الروايات ، وهو

الذي رجحناه .

وقد اختاره السيد ( الصدر) في كتاب المهدي (1)على ما في ظاهر عبارته ،

بعد الذهاب إلى أن السبع سنين هو الأشهر .

وهو الذي ذهب إليه أيضاً : أبو الحسين الآبري ، حين قال : قد تواترت

ص: 630


1- ص 234 .

الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى (ص) بخروجه، وأنه من أهل بيته ، وأنه يملك سبع سنين . . .الخ . (1)

أقول : لا شك أن الروايات الواردة حول قضية المهدي (ع) متواترة ،

بل تفوق التواتر بكثير ... حتى أن أكثر من (حقل) من حقولها يمكن أن يكون متواتراً بحياله. إلا أن أخبار بقائه في الحكم سبع سنين بالتعيين لا تصل إلى

حد التواتر ، على أنها معارضة بروايات عديدة تعطي أرقاماً أخرى غير السبع ..

كما سمعنا .

وهذا الإتجاه هو الذي اختاره ابن عربي في الفتوحات (2)حيث قال : اعلم أيدنا اللّه أن للّه خليفة يخرج وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماً ، فيملؤها

قسطاً وعدلا . .. إلى أن قال : يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً ، يقفو أثر رسول

اللّه (ص) لا يخطىء . . .الخ كلامه .

الاتجاه الثاني : قول من يذهب إلى قبول كل الروايات ، مع الإلتزام

بأنها تعرب عن مراحل متعددة من حياة المهدي وحكمه بعد ظهوره .

وهذا ما ذهب إليه جماعة منهم : السفاريني في لوائح الأنوار البهية ، حيث يقول (3): ويمكن الجمع - على تقدير صحة الكل – بأن ملكه متفاوت الظهور والقوة ، فيحمل الأكثر باعتبار جميع مدة الملك ، منذ البيعة ، والأقل

على غاية الظهور ، والأوسط على الأوسط .

أقول : وهذا يعني أن المهدي (ع) يبقى فاشلا سنوات طويلة . فإننا لو

ص: 631


1- انظر الصواعق المحرقة لابن حجر ص 99 .
2- ص 327 ج 3 .
3- ج 2 ص 79 .

عطفنا رواية الخمس سنوات على رواية الأربعين عاماً ... أنتج أن المهدي يعيش خمساً وثلاثين عاماً من الفشل . وأما لو أخذنا برواية الثلاثماءة والتسع

سنين ، كانت مدة الفشل أكبر من أن تقاس بمدة الحكم والسيطرة . وهذا لا معنى له تماماً في المهدي الموعود المطبق للغرض الأعلى من خلق البشرية .

تماماً في المهدي الموعود المطبق للغرض إلا على من خلق البشرية .

ونقله في الإشاعة (1)عن ابن حجر في القول المختصر . وذكر تأييد

ذلك بعدة أمور نذكر منها ثلاثة :

الأمر الأول : أن اللائق بكرم اللّه تعالى أن يكون مدة العدل ، قدر ما

ينسون فيه الظلم والفتن . والسبع والتسع أقل من ذلك .

الأمر الثاني : أنه عليه السلام يفتح الدنيا كلها ، كما فتحها ذو القرنين

و سليمان ، ويدخل جميع الآفاق ، كما في بعض الروايات، ويبني المساجد في

سائر البلدان ويحلي بيت المقدس. ولا شك أن مدة التسع فما دونها ، لا يمكن

أن يساح فيها ربع أو خمس المعمورة فضلا عن الجهاد وتجهيز العساكر وترتيب الجيوش ، وبناء المساجد وغيرها .

الأمر الثالث : انه ورد أن الأعمار تطول في زمنه ، كما في سيرته ،

وطولها فيه مستلزم لطوله . وإلا لا يكون طولها في زمنه .

ويحسن بنا أن نناقش هذه الأمور الثلاثة مختصراً .

أما الأمر الأول : فهو صحيح والتفات لطيف ، غير أنه لا يعود إلى شخص المهدي (ع) بل إلى بقاء نظامه ودولته . وسيأتي في الباب التالي أن مجرد نسيان

ص: 632


1- ص 105 وما بعدها .

الأمة للظلم والجور غير كاف في الإيمان بطول مدة الدولة المهدوية. وإن كان

في نفسه أمراً صحيحاً . بل هناك فكرة نظرية سنعرضها بعد ذلك تقتضي الإلتزام بطولة مدة هذه الدولة أكثر من ذلك بكثير .

وأما الأمر الثاني : فقد عرفنا فيما سبق أنه منطقي جداً بالنسبة إلى تصورات

الحرب بالأسلوب القديم، وليس منطقياً أصلا من خلال تصورات الحرب

الحديثة . وضمانات انتصار الإمام المهدي (ع) .

وينبغي أن نلتفت إلى أن المهدي (ع) سيفتح الدنيا أكثر مما فتحها ذو

القمرنين وسليمان . فإن ملك ذي القرنين يمثل ( شريطاً ) على الأرض يبدأ

باليونان وينتهي بجنوب شرق آسيا . وأما ملك سليمان فهو لا يعدو فلسطين

نفسها . فإنه وحد بين دولتي اليهود : إسرائيل ويهودا . وحكمهما بشريعة إلهية صحيحة . ولم يخرج ملكه عن هذا النطاق . وأما المهدي (ع) فقد تم البرهان على أنه يحكم الدنيا كلها . وتدخل البشرية كلها تحت سيطرته .

وأما الأمر الثالث : فهو أيضاً راجع إلى زمن نظامه ودولته لا إلى زمن

حياته الشخصية . فإن طول الأعمار ناتج عن الراحة والإطمئنان النفسي الناتج

عن جو العدل العالمي والأخوة البشرية الكاملة . وقد عرفنا وسنعرف أن النظام

العادل غير منحصر في زمن حياة المهدي (ع ) بل سيبقى بعده إلى نهاية البشرية .

إذن . فهذه الأمور لا تصلح دليلا على طول عمر المهدي (ع) بشخصه بعد أن عرفنا أن مهمته الشخصية تأسيس المجتمع البشري العادل القابل للبقاء

والتكامل إلى نهاية البشرية . وهذا ما يحدث وهذا ما يحدث . ضمن إمكاناته . في زمن

قصير . يمكن أن يكون خمس أو سبع أو تسع سنين ...

ص: 633

ص: 634

الباب الثالث التطبيق الاسلامي المهدوي أو الدولة المهدوية العالمية

ويتضمن هذا الباب عدة فصول :

ص: 635

ص: 636

الفصل الاول:مجيء المهدي (ع ) بأمر جديد وكتاب جديد

و هو ما نطقت به روايات عديدة ، ومما يمثل الجزء الأساسي من

الإيديولوجية العامة لدولة المهدي عليه السلام .

ومن هنا ينبغي أن يقع الحديث عن ذلك ضمن عدة جهات :

الجهة الأولى : في سرد الأخبار الدالة على ذلك ،

وهي مما اختصت به المصادر الإمامية فيما نعلم .

أخرج النعماني (1)بسنده إلى أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام، أنه قال :

لا بدلنا ... إلى أن قال : لكأني

أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس

على كتاب جديد على العرب شديد

... الحديث .

وأخرج أيضاً (2)بسنده إلى أبي حمزة الثمالي ، قال : سمعت أبا جعفر

ص: 637


1- الغيبة ص 102 .
2- المصدر ص 122 وما بعدها .

محمد بن علي عليهما السلام ، يقول :

لو قد خرج قائم آل محمد عليه

السلام ... إلى أن قال إلى أن قال : يقوم بأمر

جديد وسنة جديدة ، وقضاء جديد

على العرب شديد .

وأخرج أيضاً (1)عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :

يقوم القائم في وتر من السنين...

إلى أن قال : فواللّه لكأني أنظر إليه

بين الركن والمقام يبايع الناس بأمر

جديد (شديد) وكتاب جديد ، وسلطان

جديد من السماء .

وأخرج المجلسي في البحار (2)عن النعماني بسنده عن كامل عن أبي

جعفر (ع) أنه قال :

ان قائمنا إذا قام دعا الناس إلى

أمر جديد كما دعا إليه رسول اللّه

وان الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً

كما بدأ ، فطوبى للغرباء .

وأخرج (3)عنه أيضاً بسنده عن أبي بصير عن أبي عبداللّه (ع) أنه قال :

ص: 638


1- المصدر ص 139 .
2- ج 13 ص 194 .
3- المصدر والصفحة .

الإسلام بدأ غريباً وسيعود

غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء . فقلت :

اشرح لي هذا أصلحك اللّه . فقال :

يستأنف الداعي منا دعاء جديداً ،

كما دعى رسول اللّه (ص) إلى غير

ذلك من الأخبار .

وهذه الأخبار بحسب أعدادها كافية للإثبات التاريخي . وهي تعطي عدة عناوين : الأمر الجديد والسنة الجديدة والقضاء الجديد والسلطان الجديد والدعاء الجديد. وليس فيها أنه يدعو إلى دين جديد . كما هو المشهور على بعض الألسنة .

الجهة الثانية : في محاولة فهمها فهماً تخطيطياً

الجهة الثانية : في محاولة إيجاد فهم عام لهذه الأخبار ، بشكل يكون

مرتبطاً بالتخطيط العام .

إننا إذا لاحظنا الأحكام الإسلامية في عصر الغيبة ، وهو عصر يبعد عن مصدر التشريع الإسلامي. وأخذناها بنظر الإعتبار من حيث وجودها

النظري والتطبيقي، نجد فيها أربع موارد من النقص والقصور :

المورد الأول : الأحكام الإسلامية التي لم تعلن للناس أصلا ، بل بقيت

معرفتها خاصة باللّه ورسوله والقادة الإسلاميين .

فإن الأحكام التي أوصلها اللّه تعالى إلى البشر بواسطة الرسول (ص) ، وعرفها قادة الإسلام . . . منها : ما أعلن بين الناس لكي يكون مدار عملهم

وفقههم لفترة معينة . ومنها : أحكام بقيت مستورة عن الناس ومؤجل إعلانها إلى زمن ظهور المهدي (ع) وتطبيق العدل الكامل .

ص: 639

وأوضح دليل على هذا الإنقسام : أننا نحد بالوجدان أن عدداً مهماً من الأحكام لم يكن في الإمكان أن يصدر في صدر الإسلام وزمن التمادة الإسلاميين

الأوائل لعدم معرفة المجتمع بموضوعها بالمرة . وعدم مناسبتها مع المستوى الفكري والثقافي له ... کحكم ركوب الطائرة واستعمال القنابل الجرثومية

وحكم زرع القلب وغير ذلك .

ومعه ، فالضرورة مقتضية لتأجيل بيان هذه الأحكام وإعلانها إلى ما

بعد معرفة المجتمع بموضوعاتها. وهذا لا يكون مع البعد عن مصدر التشريع بطبيعة الحال ، وإنما تعلن عند اتصال البشرية مرة ثانية بهذا المصدر متمثلاً

بالإمام المهدي عليه السلام .

المورد الثاني : الأحكام التالفة على مر الزمن ، ، والسنة المندرسة خلال

الأجيال ، مما يتضمن أحكام الإسلام ومفاهيمه أو يدل عليها.

فإن ما تلف من الكتب التي تحمل الثقافات الإسلامية على اختلافها ، بما فيها أعداد كبيره من السنة الشريفة والفقه الإسلامي ، نتيجة للحروب الكبرى

في التاريخ الواقعة ضد المنطقة الإسلامية ، كالحروب الصليبية وغزوات التتار

والمغول وغير ذلك . . . عدد ضخ- عدد ضخم من الكتب يعد بمئات الآلاف ، مما أوجب

انقطاع الأمة الإسلامية عن عدد مهم من تاريخها وتراثها الإسلامي ، واحتجاب عدد من الأحكام الإسلامية عنها .

المورد الثالث : أن الفقهاء حين وجدوا أنفسهم محجوبين عن الأحكام الإسلامية الواقعية في كثير من الموضوعات المستجده ، والوقائع الطارئة على

مر الزمن .. .اضطروا إلى التمسك بقواعد إسلامية عامة معينة تشمل بعمومها مثل هذه الوقائع . . . وهي قواعد إسلامية صحيحة تنقذ الفرد عند جهله بالحكم

ص: 640

وتعين له الوظيفة الشرعية إلا أن نتيجتها في كل واقعة ليست هي الحكم الإسلامي الواقعي أو الأصلي في تلك الواقعة ، وإنما هو يسمى بالحكم ما الظاهري ، وهو يعني ما قلناه من تحديد الوظيفة الشرعية للمكلف عند جهله

بالحكم الواقعي الأصلي .

وهذا النوع من الأحكام الظاهرية أصبح بعد الإنقطاع عن عصر التشريع وإلى الآن مستوعباً لأكثر مسائل الفقه أو كلها تقريباً ما عدا الأحكام الواضحة

الثبوت في الإسلام .

والفتاوى التي يعطيها الفقهاء في مؤلفاتهم ، وإن لم تكشف عن هذا المعنى

بصراحة . وإنما نراهم يعطون الفتوى عادة بشكل قطعي ، مشابه لإعطائهم الفتوى بالحكم الواقعي الأصلي . إلا أن مرادهم بقطعية الحكم : قطعية الحكم الظاهري ، أي : أن هذه الفتوى هي غاية تكليف المكلفين في عصر الإحتجاب

عن عصر التشريع . وهي الفتوى التي تتضمن إطاعة اللّه تعالى وتفريغ ذمة المكلف باليقين . وهذا أمر صحيح . إلا أنه لا يعني بحال أن تكون تلك الفتوى

هي الحكم الإسلامي الواقعي .

وهذا واضح لكل فقيه اسلامي ، على مختلف المذاهب الإسلامية ؛ ولا

مجال في هذا التاريخ إلى الإفاضة في ذلك أكثر من هذا المقدار .

المورد الرابع : الأحكام غير المطبقة في المجتمع المسلم ، بالرغم من وضوحها وثبوتها إسلامياً . سواء في ذلك الأحكام الشخصية العائدة إلى الأفراد

أو العامة العائدة إلى تكوين المجتمع والدولة الإسلامية . حيث قلنا ان الفشل في

التمحيص الإلهي يوجب خروج أكثر الأفراد عن أحكام الإسلام الواضحة

وضروريات الدين .

41

ص: 641

الجهة الثالثة : في نقاط القوة في الفكر الإسلامي خلال الغيبة

الجهة الثالثة : أنه بالرغم من وجود هذه الجهات من النقص والقصور

في الأحكام الإسلامية خلال عصر الإنفصال عن عصر

التشريع .

فإننا قلنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1) وأشرنا في أول هذا التاريخ أن مرور زمن الغيبة الطويل ، يكون مساعداً على رفع المستوى الفكري للأمة الإسلامية من نواحي عديدة ، مما يجعلها على مستوى فهم الأحكام الجديدة والعمق الجديد لعصر ما بعد الظهور. وهذا مستوى ضروري للأمة بل للبشرية

كلها لكي تكون قابلة للتربية إلى المستوى اللائق بها المستهدف للإمام المهدي عليه

السلام .

وقد ذكرنا أن المستوى الفكري للأمة خلال عصر الغيبة يتعمق من عدة جهات :

الجهة الأولى : تعمق المفاهيم والتصورات الإسلامية عن الكون والحياة ،

في ذهن المسلمين عامة ، والمفكرين الإسلاميين خاصة .

الجهة الثانية : تعمق الفهم القانوني والفقهي عند المسلمين ، باعتبار ما

تستجد من وقائع من ناحية ، ومن طرق الإستدلال من ناحية أخرى.

والفقه ، وإن كان قائماً في الأعم الأغلب على مستوى الحكم الظاهري كما قلنا . ولا يعني عمقه انكشاف الواقع للفقيه . . . إلا أن طريقة استنتاج

الحكم وفهمه ، تكون أعمق وأشمل لا محالة .

الجهة الثالثة : الإطلاع على آراء وفلسفات الآخرين ، من مختلف التيارات

الفكرية ، مع التعمق التدريجي في نقدها ومناقشتها .

ص: 642


1- انظر ص 287 و ص 391 منه .

الجهة الرابعة ، موقف الإمام من الفكر الإسلامي

الجهة الرابعة : التعود بعمق على حمل الهموم العامة والإطلاع على أخبار الناس والتجاوب مع حوادث العالم. هذا التعود الذي لو أصبح موجهاً توجيهاً إسلامياً

لكان اهتماماً بأمور المسلمين وحملا لهموم الأمة الإسلامية وبالتالي : البشرية. ...

كما هو اللازم على كل مسلم .

الجهة الخامسة : في شرح هذه الفقرات

الجهة الخامسة : تعمق الفهم الكوني من الناحية العلمية الطبيعية ، كالطب

والفيزياء والكيمياء والفلك وغير ذلك .

وكل هذه الجهات يكون طول المدة وكثرة البحث والتدقيق فيها موجباً لتطورها وتكاملها . حتى ما إذا وصلت الأمة إلى مستوى معين فيها ، كانت

الأمة يومئذ قابلة لفهم العمق الحقيقي للمستوى الفكري الذي يقوم عليه نظام الإمام المهدي (ع) بعد الظهور .

الجهة الرابعة من هذا الفصل : ان المجتمع المسلم بشكل عام حين يصل إلى المستوى اللائق المطلوب في التخطيط العام ، يكون في إمكان الإمام المهدي (ع) - بكل سهولة - إكمال تلك النواقص التي أشرنا إليها ، وسيكون

له تجاه كل نقص موقف معين ، في حدود فهمنا في الوقت الحاضر :

الموقف الأول : موقفه من الأحكام غير المبلغة :

وهو واضح كل الوضوح ، فإن الأمة بعد بلوغها المستوى اللائق لفهم

الأحكام الدقيقة المفصلة ... وبعد أن كان الإمام المهدي (ع) هو الوريث

الوحيد من البشر أجمعين لتلك الأحكام غير المعلنة ، يرويها - بحسب الفهم الإمامي - عن آبائه عن رسول اللّه (ص) عن اللّه جل جلاله . . . إذن يكون الوقت قد أزف لإعلان تلك الأحكام لتشارك في البناء العالمي العادل الكامل ضمن التخطيط العام الجديد لما بعد الظهور .

ص: 643

هذا بحسب الفهم الإمامي للفكرة المهدوية . وأما بحسب الفهم الآخر لها لدى المسلمين الآخرين . وهو أن المهدي شخص يولد في زمانه فيملأ الأرض

قسطاً وعدلا كما ملئت ظلما وجوراً . . . فمثل هذا الشخص يكون حاله حال

سائر الناس في اختفاء الأحكام غير المبلغة عنه . وليست له أية وسيلة للعلم بها

بشكل طبيعي . لا بنحو الرواية ولا بغيرها .

كل ما نستطيع أن نتصوره له ، هو أنه يمثل القمة العليا في الفهم الإسلامي

المعاصر له . ذلك الفهم الذي علمنا أنه يحتوي - على عمقه وسعته - كل تلك

النقائص التي سمعناها . فكيف يستطيع أن يملأ هذه الفجوات؟ ! ...

وأما القول : بأن علم . بهذه الأحكام يكون بطريق إعجازي .

كالإلهام ونحوه ، كما ذكر ابن عربي في الفتوحات (1)فهو غير صحيح لأمرين :

الأمر الأول: إن هذا يتضمن معنى النبوة ، فإننا نعني بالنبوة نقل الأحكام من اللّه تعالى بلا واسطة بشر ، وهذا المعنى يكون ثابتاً للمهدي. مع العلم أنه

لم يدع أحد أنه نبي ، ولا يجوز ذلك في شرع الإسلام .

الأمر الثاني : إن هذه المعجزة منافية مع قانون المعجزات لعدم انحصار إقامة العدل بها ، لوضوح إمكان إبدالها بالفهم الإمامي للمهدي ليكون نقل الأحكام عن طريق الرواية بشكل ( طبيعي ) .

وأما ما أثبتناه للإمام في التاريخ السابق (2)من وجود الإلهاء ، فهو لا محالة ، خاص بالأساليب القيادية التي تمت إلى الوقائع الخاصة ونحوها

بصلة ، لا إلى الأحكام الأصلية في الدين.

فإذا كان من المقدر أن يكون الحكم المعين الجديد المعلن في دولة العدل

ص: 644


1- انظر الفتوحات المكية ، ج 3 ص 327 وما بعدها .
2- تاريخ الغيبة الكبرى ص 505 .

العالمية المهدوية حكماً أصلياً وثابتاً ، شأنه شأن وجوب الصلاة أو حرمة السرقة ، فمثل هذا الحكم لا يمكن أن يتلقاه المهدي (ع ) مباشرة عن اللّه عز وجل بالإلهام، وإلا ثبتت له مرتبة النبوة والرسالة المنفية عنه بضرورة

، الدين ، وإنما يكون ذلك بالرواية فقط . ويكون الإلهام مساعداً له فيما دون

ذلك من الأشياء من خصائص القيادة العالمية .

الموقف الثاني : موقف المهدي (ع ) من الأحكام التالفة .

وهو أيضاً واضح جداً. فإن المفروض أن هذه الأحكام كانت معلنة

في صدر الإسلام، فهي لا تحتاج في فهمها إلى العمق الجديد في التفكير.

وإنما كان فقط ، تحتاج المحافظة عليها وعدم إتلافها ، إلى مستوى معين من

القدرة الدفاعية والشعور بالمسؤولية لدى المسلمين ؛ الأمر الذي كان مفقوداً خلال أجيال المسلمين التي فقدت هذه الأحكام .

والمهدي (ع ) - بالفهم الإمامي - يكون عارفاً بهذه الأحكام عن

طريقين :

الطريق الأول : الرواية عن آبائه عن رسول اللّه ( ص ) عن اللّه عز وجل .

الطريق الثاني : معاصرة هذه الأحكام قبل تلفها ، حين كانت معلنة ومعروفة . وقد جاءت أجيال جديدة بعد تلف تلك الأحكام غير مسبوقة بمضمونها ولا عارفة بحقيقتها ... ولكن المهدي (ع ) وحده هو الذي كان

معاصراً لتلك الأحكام ، وبقي حياً إلى حين ظهوره ، فهو معهود بمضمون تلك الأحكام بالمباشرة ، فيمكنه إعلانها من جديد بعد الظهور .

الموقف الثالث : موقفه من الأحكام الظاهرية .

وهو موقف واضح أيضاً ، بعد الذي عرفناه من أن الأحكام الظاهرية ،

ص: 645

تعني تعيين تكليف الإنسان من الناحية الإسلامية ووظيفته في الحياة عند الجهل بالحكم الواقعي ، ذلك الجهل الناشيء من البعد عن عنصر التشريع .

وأما إذا كان الفرد مطلعاً على الحكم الإسلامي الواقعي ، فيحرم عليه العمل بالحكم الظاهري . والمهدي يعلن الأحكام الواقعية الإسلامية بأنفسها

«يظهر من الدين ما هو الدين عليه في نفسه ، ما لو كان رسول اللّه (ص)

الحكم به» على ما قال ابن عربي في الفتوحات

وأما عند الإمامية ، فالمهدي (ع ) هو إمامهم الثاني عشر ، والأئمة المعصومون الإثنا عشر عليهم السلام ككل ، بمن فيهم المهدي نفسه ، هم

مصادر التشريع ، يمثل قولهم وفعلهم القسم الأكبر من ( السنة ) في الإسلام .

فيكون الحكم الذي يعلنه المهدي (ع ) حكماً واقعياً بطبيعة الحال ...

نعم ، يبقى العمل بالأحكام الظاهرية . وجوداً في الموارد الجزئية التي قد بشك فيها المكلف أو يجهلها من وقائع حياته ، ومعه فالحكم الظاهري سوف

يرتفع في التشريع الأصلي ويبقى في بعض التطبيقات الجزئية .

الموقف الرابع : موقفه من النقص الرابع ، وهو عدم وصول بعض

الأحكام الإسلامية إلى مستوى التطبيق في عصر ما قبل الظهور .

يقوم المهدي (ع ) بنفسه بتطبيق الأحكام العامة ، فيؤسس الدولة العالمية العادلة الكاملة ، ويقوم برآستها وإدارة شؤونها وتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة ، بمستواها العميق الجديد فيها .

وأما الأحكام الخاصة التي تمت إلى الأفراد بصلة ، فيقتل كل عصاتها ، ولا يبقى إلا ذاك الإنسان الذي يكون على استعداد لإطاعة الحكم العادل

وتقديمه على كل مصالحه الشخصية الضيقة .

ص: 646

فهذه أربعة مواقف للإمام المهدي (ع) يتم بها تغطية كل النواقص

التي كان يعانيها الإسلام والمسلمون خلال العصر السابق على الظهور.

الجهة الخامسة : انه بعد أن اتضح كل ما قلناه ، نعرف بكل جلاء ،

ما هو المراد مما ورد من أن الإمام المهدي (ع ) يأتي بأمر جديد وسلطان

جديد . ..

ويحسن بنا أن نتكلم عن كل فقرة من هذه الفقرات ، في نقطة :

النقطة الأولى : يراد بالسلطان الجديد ، الأسلوب الجديد في إدارة الدولة وشؤون المجتمع ... ذلك الأسلوب الذي كان مشروعاً في الإسلام ، ولكن البشرية لم تجد تطبيقه الصحيح لا في الخلافة الأموية ولا العباسية ولا ما

بعدهما من دول ومجتمعات ، لأنها تختلف عن الأسلوب الإسلامي الصحيح

اختلافاً جوهرياً في وسائلها وغاياتها .

فالمهدي (ع ) يقوم بتطبيق هذا الأسلوب تطبيقاً كاملاً ، مع التطويرات

الجديدة التي يرى إجراءها عليه خلال سلطانه الجديد .

النقطة الثانية : يراد بالأمر الجديد ، أحد معاني محتملة :

الأول : الأمر بمعنى الطلب ، الذي يجمع على ( أوامر ) ، أي التشريع والحكم . فيكون المراد الإشارة إلى ما سيعلنه الإمام المهدي (ع ) من أحكام

جديدة في دولته ، لم تكن معروفة قبل ظهوره .

الثاني: الأمر بمعنى العقيدة أو الإتجاه الفكري . وقد ورد بهذا المعنى

في عدد من الروايات .

ويكون المراد الإشارة إلى المستوى الفكري والعقائدي العميق الجديد

الذي يعلنه المهدي (ع ) في دولته .

ص: 647

الثالث : الأمر بمعنى الإمارة أو الإمامة أو الخلافة ، ما شئت فعبر ،

وقد ورد بهذا المعنى في عدد من الروايات أيضاً .

ويكون المراد منه ما يشبه فكرة السلطان الجديد. غير أن السلطان بحسب معناه العرفي شامل للقوانين للعامة ، على حين أن الإمارة وصف لشخص الأمير

ومن المعلوم أن إمارة المهدي (ع ) شكل جديد من الإمارة غير ما سبق ، حتى في حياة النبي ( ص ) لوجود عدة فروق بين دولة النبي ( ص ) ودولة

المهدي (ع ) .

فإن النبي ( ص ) سار مع المنحرفين والمنافقين بالملاينة ، والمهدي (ع )

بسير معهم بالقتل . والنبي (ص) أجل إعلان بعض الأحكام الواقعية والإمام المهدي (ع ) سيعرض الأحكام كلها . والنبي ( ص ) مارس الحكم على رقعة محدودة من الأرض . في حين أن الإمام المهدي (ع ) يحكم كل

المعمورة . إلى غير ذلك من الفروق التي حملنا عنها فكرة كافية . ويكفينا في التجديد بالإمارة ، أن تكون دولة المهدي (ع ) عالمية ،

في حين لم تكن الدولة لأي إنسان آخر في التاريخ عالمية .

النقطة الثالثة : يراد بالدعاء الجديد أحد أمرين :

الأول : الدعاء إلى شيء جديد ، وهو المفاهيم والأحكام التي يدعو

إليها المهدي (ع ) بعد ظهوره .

الثاني : أن يكون الدعاء بنفسه جديداً . كما هو ظاهر التعبير فعلاً ... وكما هو مقتضى التشبيه بدعاء رسول اللّه (ص) ، كما سمعناه من بعض الروايات.

فإنه دعاء جديد لم يعهد مثله قبله ، كما أن دعاء النبي ( ص ) لم يعهد مثله

قبله. والمراد بالدعاء الإرشاد والدعوة إلى الحق والعدل . وهو مشابه

ص: 648

للنبي (ص) من حيث إخلاصه في أسلوبه وحريته في بيانه وعدالته في مضمونه ، ورجوعهما معاً إلى مركز فكري واحد .

النقطة الرابعة : ما يحتمل أن يراد من ( الكتاب الجديد )بحسب التصور

الأولي ، عدة أمور :

الأمر الأول : أن يراد به قرآن جديد يأتي به المهدي (ع ) ، في مقابل

القرآن الكريم ، معجزة الإسلام الخالدة .

وهذا باطل بالقطع واليقين ، للضرورة القاضية بأن الدين الذي يلتزمه

الإمام المهدي (ع ) هو دين الإسلام ، وانه يسير على كتاب اللّه وسنة رسوله .

ولم يشك في ذلك أحد من المسلمين على اختلاف مذاهبهم . وقد تواترت

بذلك الروايات ، واقتضاه التخطيط الإلهي العام ، كما سبق أن ذكرنا وبرهنا .

وإذا أتى بقرآن جديد ، فمعناه نسخه للقرآن الكريم ، وخروجه على الإسلام . وهذا خلاف هذه الأدلة القطعية الضرورية . وعلى أي حال ، فمن القطعي أنه لا يأتي مستقلاً ولا بآية جديدة واحدة ، فضلاً عن كتاب

کامل .

الأمر الثاني : أن يراد من ذلك : أن المهدي (ع) يعيد القرآن إلى

شكله الذي كان عليه في زمن رسول اللّه (ص) . وهو شكل غير معهود

للمجتمع المسلم قبل الظهور ، ومن هنا كان موصوفاً بكونه كتاباً جديداً .

وتكون أشكال التغيير المحتملة في القرآن الكريم عديده ، فإن صحت أو صح بعضها كان هذا الأمر الثاني صحيحاً ، وإن بطلت كلها كان هذا الأمر

باطلاً .

الشكل الأول : أن يُبرَز القرآن الكريم مع زيادات في الآيات ، لم تكن

معروفة قبل الظهور .

ص: 649

وهذا الشكل من الافتراض مبني على تصحيح ما ورد في بعض الروايات أن القرآن كان يحتوي على بعض الآيات في زمن رسول اللّه (ص) وقد حذفت بعد وفاته . فإنه لو صح ذلك ، كان صدق هذا الافتراض ضرورياً لأن أولى من يعيد الآيات إلى وضعها الطبيعي ، وإعلانها ثانية بين الناس ، هو الإمام المهدي (ع) نفسه .

غير أن الأخبار الدالة على وجود الحذف في القرآن الكريم ، غير قابلة للإثبات ، كما ثبت في محله . ومعه يكون هذا الشكل من الإفتراض غير

ذي موضوع .

الشكل الثاني : أن يبرز القرآن الكريم مع تقديم وتأخير في آياته مماثل

الأسلوب النزول . فإنه من المؤكد أن القرآن الكریم بالشكل الذي نقرؤه ليس

على ترتيب النزول .

غير أننا سنقول في الشكل الثالث أن التغيير عن ترتيب النزول كان بأمر

من رسول اللّه (ص) نفسه . فيكون تغييره عن ذلك الترتيب مشروعاً ،

لا حاجة إلى تغيير ، بل إن فيه خروجاً عن أمر النبي (ص) نفسه . فلا يقوم به المهدي (ع ) .

الشكل الثالث: أن يُبرز القرآن الكريم مع تغيير آياته وسوره ، بشكل

يصبح مماثلاً لما كان عليه الترتيب في زمن رسول اللّه ( ص ) ، حيث ثبت في محله أن القرآن الكريم كان مرتباً ترتيباً معيناً في عهد النبي (ص) بإشراف

وأمر منه ( ص ) . فقد أصبح القرآن الكريم متغيراً عن ترتيب النزول ، ولكن

ذلك بأمر الرسول (ص) ، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .

وهذا الشكل يتوقف على أن يثبت أن ترتيب القرآن الكريم قد تغير بعد

رسول اللّه (ص) ، لكي يعيده المهدي (ع) إلى شكله الأول . وهذا لم

ص: 650

يثبت بدليل كاف. بل من المؤكد أن القرآن الكريم بشکله الموجود ، هو

الشكل الذي كان مرتباً بأمر رسول اللّه ( ص ) .

إذن ، فلم يثبت أي شكل من هذه الأشكال الثلاثة ، ومعه فالأمر الثاني

ككل لا يكون صحيحاً .

غير أن هناك خبراً يدل على صحة هذا الأمر الثاني، وهو ما رواه المفيد في الإرشاد (1)مرسلا عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام ، أنه قال : إذا قام

قائم آل محمد (ص) ضرب فساطيط ، ويعلم الناس القرآن على ما أنزل اللّه عز وجل ، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم ، لأنه يخالف فيه التأليف.

والظاهر الأولي لتعبيره ، هو الشكل الأول يعني إعادة القرآن الكريم إلى ترتيب النزول « على ما أنزل اللّه عز وجل » . غير أن الأدلة على بطلان ذلك الشكل

والأشكال الأخرى أقوى من أن نعود إليها بمثل هذ الخبر المرسل . على أنه

يمكن فهمه على شكل آخر سنشير إليه غير بعيد.

الأمر الثالث : : أن يراد بالكتاب الجديد ، أن المهدي (ع) يبرز للملأ

تفسيراً جديداً للقرآن الكريم - ، وسعاً ، أو أنه عليه السلام يعطي قواعد

عامة جديدة تؤسس أسلوباً جديداً من التفسير والفهم للقرآن الكريم .

وهذا أمر صحيح لا محيص عنه ، فإنه يمثل حقلا مهماً من العمق والشمول الذي يتصف به الوعي البشري في عهد الدولة العالمية العادلة . ويكون جانب

الجدة فيه هو أن هذا الفهم الجديد أعدق من كل الأفهام السابقة ، والناسخ بحقائقه كل الإختلاف والتضارب الموجود في فهم القرآن الكريم وتفسيره.

ولعل هذا هو المراد من الخبر السابق من حيث أنه يراد من «القرآن على

ص: 651


1- ص 344 .

ما أنزل اللّه عز وجل » ، المقاصد والمعاني الواقعية للقرآن الكريم تلك المقاصد التي لم تكن واضحة بالشكل الكافي في العصر السابق على الظهور . ويرادمن

مخالفة التأليف ، مخالفة الفهم التقليدي الإعتيادي الذي كان واضحاً في الأذهان في العصر السابق .

الأمر الرابع : أن يراد بالكتاب الجديد التشريع الجديد . وإنما عبر عنه بالكتاب ، باعتبار أنه مشابه للكتاب - أعني القرآن الكريم - في احتوائه على التشريع . أو باعتبار أن الكتاب الكريم يحتوي على الأسس الأصلية ، ويكون التشريع الجديد مستمداً منه .

وهذا الأمر محتمل ، في ما يقصد بالكتاب الجديد ، غير أنه لا يعادل

وضوح الأمر الثالث الذي عرفناه .

النقطة الخامسة : يراد بالسنة الجديدة أمر واحد صحيح لا مناص عنه .

وهو كلام الإمام المهدي (ع) وفعله وتقريره . بعد أن ثبت في محله أن السنة هی

كلام المعصوم وفعله وتقريره . والإمام المهدي (ع) معصوم على ما يرى ابن عربي في الفتوحات(1)وغيره . وهو مما أجمعت عليه الإمامية وقام عليه مذهبها

ومعه ، فيكون كلام الإمام المهدي (ع) وفعله وتقريره سنة ، تكون

(حجة ) بين المكلفين وبين اللّه عز وجل ، وواجبة الإتباع والإطاعة عليهم ، لأجل تربيتهم وتطبيقهم للعدل الكامل في العلاقة مع اللّه والدولة والمجتمع .

وإنما وصفت هذه السنة بالجديدة ، باعتبار أن مضمونها سيختلف عن السنة

المنقولة في المصادر السابقة في الإسلام ، باعتبارها ستحمل الأحكام الجديدة

والمفاهيم الجديدة ومستوى الوعي العميق الجديد الذي سيعلنه الإمام المهدي (ع)

ويربي البشرية كلها عليه .

ص: 652


1- ج 3 ص 328 وما بعدها .

وسوف تكون سنته هي السنة الرئيسية التي تكون مدار استنتاج الأحکام وغيرها بعد الإمام المهدي (ع ) . .. بل هي المنطلق الأساسي الذي تقوم عليه

التربية البشرية المستمرة بعده عليه السلام. مضافاً إلى الفهم الجديد للقرآن الكريم

والسنة الأولى الواردة عن قادة الإسلام الأوائل ، في الحدود الممضاة صحتها من قبل المهدي عليه السلام .

النقطة السادسة : يراد بالقضاء الجديد أحد أمور :

الأمر الأول : التخطيط الجديد للبشرية الذي يسار عليه في عصر مر الظهور ،

والذي سميناه بتخطيط ما بعد الظهور .

وإنما عبر عنه بالقضاء باعتبار أن التخطيط الإلهي شكل من أشكال القضاء الإلهي . يكون الوجه في نسبته إلى المهدي (ع) باعتبار كونه موقوتاً بما بعد

ظهوره . وباعتبار كونه مشاركاً فيه مشاركة فعالة وواسعة ، كما سبق أن عرفنا .

الأمر الثاني : أن يراد بالقضاء الجديد : التشريع الجديد الذي يعلنه الإمام المهدي (ع) بعد ظهوره . فإن التشريع من معاني القضاء لغة ، يقال : قضى بكذا ، إذا أمر به وشرعه .

الأمر الثالث : أن يراد به كثرة القتل التي عرفنا أن المهدي (ع) يقوم بها تجاه المنحرفين. فالقضاء هنا بمعنى حكمه بوجوب قتلهم أو بمعنى القضاء

عليهم واستئصالهم . ومن هنا سمعنا من الروايات: أنه « قضاء جديد على

العرب شديد».

الأمر الرابع : أن يراد بالقضاء الجديد ، ما أشير إليه في بعض الروايات

أن المهدي (ع) سيتخذ أسلوباً جديداً في القساء ومص الخصو مات بين

الناس وأنه « يحكم بحكم داوود لا يسأل البينة » . وسيأتي التعرض إلى ذلك مع

نقده في فصل آخر من هذا الباب .

ص: 653

وكل هذه الأمور الأربعة محتملة في معنى القضاء ، غير أن الأمر الثالث مدعم بقرينة تدل عليه هي كونه « على العرب شديد » بخلاف الأمور الأخرى.

الجهة السادسة : في أنه هل يأتي بدين جديد

الجهة السادسة : أننا لم نجد في الأخبار أن المهدي (ع) يأتي بدين جديد ، كما هو المشهور على الألسن وربما كان هذا تحويراً شعبياً لأحد هذه العناوين الستة

التي سمعناها من الروايات ، والتي يصعب استيعابها على الفرد الإعتيادي .

ولو كان ذلك وارداً في الروايات، لما كان المراد منه أنه يأتي بشريعة جديدة

تقابل الإسلام وغيره من الأديان ، وذلك : للقطع بكون المهدي (ع) ليس ،بنبي وأنه لا نبي بعد نبي الإسلام ، وأن المهدي إنما يطبق قانون الإسلام وشريعته ، كما سبق أن عرفنا ودلت عليه الروايات المتواترة ، فلو كان المراد

منه ذلك لوجب طرح الرواية بأزاء الأدلة القطعية النافية لمضمونها.

لكن الأنسب أن يراد بالدين الجديد ، لو كان مروياً ، التشريع الجديد الذي

يأتي به المهدي (ع) ، باعتبار أنه يدان اللّه تعالى بإطاعته وتطبيقه.

الجهة السابعة : في مقارنته برسول اللّه (ص)

الجهة السابعة : سمعنا من عدة من هذه الروايات : أن المهدي (ع) يستأنف أمراً جديداً ودعاء جديداً، كما استأنفه رسول اللّه (ص) . أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً ، فطوبى للغرباء .

أما أن النبي (ص) استأنف أمراً جديداً ودعاء جديداً ، فهو واضح ، بعد الذي كان عليه المجتمع قبل الإسلام وفي السني الأولى من النبوة ، من الظلم

والضياع ، وقد أخرجته النبوة الجديدة من الظلمات إلى النور ودلته على العدل

الكامل .

وقد بدأ الإسلام غريباً ، فقد كان المؤمنون في السني الأولى للنبوة غرباء في مجتمع يعج بالظلم والضياع. وبقيت هذه الغربة حتى اتسعت دعوة الإسلام

وارتفعت غربته .

ص: 654

سيعود الإسلام غريباً حين يعود المجتمع نتيجة للتمحيص العام إلى الظلم والضياع مرة ثانية ، «فطوبى للغرباء »المؤمنين الذين يمثلون الحق والعدل على

مدى التاريخ .

وستبقى هذه الغربة إلى حين شروق شمس الهداية والعدل ، عند الظهور .

وسيقيمه الغرباء بأنفسهم ويدعموه بسواعدهم .

وسيستأنف المهدي (ع) عندئذ أمراً جديداً ودعاء جديداً ، كان قد تخلى عنه المجتمع منذ عهد بعيد ، نتيجة لانحرافه وفسقه .

غير أن هذه الجدة ليست مئة بالمئة ، بل هي مبتنية على ما قبلها ومنطلقة منه

كما لم تكن دعوة النبي (ص) جديدة مئة بالمئة ، بل كانت في أصولها وأسسها العامة ، مشتركة مع دعوات الأنبياء السابقين. غير أن دعوة المهدي (ع)

أكثر التصاقاً بتعاليم الإسلام من ارتباط دعوة النبي ( ص ) بتعاليم الأنبياء

السابقين .

ص: 655

الفصل الثاني موقف الإمام المهدي (ع ) من القضايا السياسية و الاجتماعية السابقة على الظهور

تمهید :

يكاد يكون الحديث تحت هذا العنوان مستأنفاً ، بعد كل الذي عرفناه الموقف المهدوي الحدي الصارم تجاه الأنظمة والقوانين السابقة على الظهور

وإنه يلغيها إلغاء تاماً ويبدلها إلى ما يراه هو مطابقاً للعدل الكامل . ورأينا موقفه

الحدي الصارم إزاء المنحرفين . وانه سيستأصلهم مقدمة لتأسيس مجتمع العدل

الجديد في العالم .

وليس مرادنا الآن تكرار ذلك ، وإنما المراد المرور على شيء من التفاصيل ،

بمقدار الإمكان ، عسى يمكننا استشفاف بعض الاتجاهات التي سيتخدها المهدي في دولته ، بدلاً عما يلغيه من الاتجاهات وما يشطبه من القوانين والمفاهيم .

وبالطبع ، سنكون في حاجة إلى الاطلاع التفصيلي إلى حد معقول ، على

ما نعنيه من( القضايا السياسية والاجتماعية) السابقة على الظهور ، لكي نحدد

موقف المهدي (ع ) منها . والصعوبة الأساسية التي تحول دون هذا الاطلاع التفصيلي : هي الجهل بموعد الظهور ... الأمر الذي يقتضي الجهل بالأنظمة

والقضايا التي تكون سابقة على الظهور مباشرة ، كما هو معلوم .

ص: 656

ولا يمكن تذليل هذه المشكلة إلا بإعطاء افتراض معين ، قد لا يكون

صحيحاً في نفسه ، ولكن البحث على أساسه سيلقي سيلقي كثيراً من الضوء على مواقف الإمام المهدي تجاه الأنظمة السابقة على الظهور ، فيما لو تم في عصر متأخر . وهذا الافتراض هو أن تزعم : أن المهدي (ع ) : أن المهدي (ع) سيظهر في هذا القرن أو ما يقاربه ، بحيث لا يكون قد طرأ على القوانين والمفاهيم العامة المعاصرة في عالم اليوم تغيير مهم .

وهذا أمر محتمل ، طبقاً لقاعدة الانتظار الفوري التي تقتضي توقع ظهور المهدي (ع ) في أية لحظة ، كما برهما في التاريخ السابق (1). غير أن هذا الافتراض يفتقر إلى الإثبات التاريخي ، وهو مما لا سبيل إليه ، بعد نفي

التوقيت الذي عرفناه .

وبهذا الافتراض ، ستكون الأنظمة السابقة على الظهور هي الأنظمة المعاصرة اليوم . بهذا نذلل قسماً مهماً من المشكلة . ولعل الحديث حولها يعطينا الأسس العامة التي يمكننا من خلالها أن نتعرف ولو إجمالاً على موقفِ الإمام عليه السلام من أي نظام سابق على ظهوره .

ولا ينبغي أن نغفل في هذا الصدد عن أن غاية القصد هو الاطلاع على آراء المهدي (ع ) واتجاهاته ، بمقدار ما يهدينا إليه منهجنا في البحث المتكون بشكل رئيسي من القواعد العامة الصحيحة والأخبار الخاصة بالمهدي (ع ) .

أما الاطلاع على العمق الحقيقي للوعي والمستوى الفكري في مجتمع ما بعد الظهور ، فقد برهنا في مقدمة هذا التاريخ على استحاله اطلاع الباحث السابق على الظهور ، عليه ، إلا إذا كان معاصراً له ، مهما أوتي من عبقرية ودقة

تفكير .

42

ص: 657


1- انظر ص 362 وص 427 .

وينبغي لنا هنا أن نفتح الحديث في عدة جهات ، لكي نتعرف على بعض ملامح مواقف الإمام المهدي (ع ) تجاه الأمور الدولية أولاً ، والإدارية

ثانياً ، والاقتصادية ثالثاً ، والاجتماعية رابعاً .

الجهة الأولى : إلقاء الضوء على موقفه من القضايا الراهنة

الجهة الأولى : في إلقاء الضوء على موقف الإمام المهدي (ع ) من

القضايا الدولية الراهنة بشكل عام .

تتضمن القضايا الدولية أموراً كثيرة تعتبر قانونية وملزمة بالنسبة إلى

المجتمع الدولي توخياً لمصالح معينة تعود إلى الدول أنفسها .

فهناك الإتفاقيات والمعاهدات والأحلاف ، ونحوها، مما تعقده الدول فيما بينها بشكل ثنائي أو أكثر لتنظيم العلاقات فيما بينها ، اقتصادياً أو ثقافياً أو عسكرياً أو غير ذلك .

وهناك التمثيل الدبلوماسي بين الدول ، بشكله المعروف الذي يتضمن إلزام السفير بالتقريب بين الدولتين ، وإيجاد العلاقات الحسنة فيما بينهما جهد الإمكان . وإذا لم يكن هناك سفير ، كان مكانه قائم بالأعمال ، أو تتكفل دولة صديقة مصالح دولة ثانية بالنسبة إلى الرعايا الموجودين في دولة ثالثة ، إذا فقد التمثيل الدبلوماسي بينهما .

ويتبع هذا النظام الدبلوماسي ، نظام الاستقبال والتوزيع والزيارة بين

الدبلوماسيين والملوك والرؤساء من مختلف الدول .

وإذا حصل هناك بين دولتين أو أكثر ما لا يمكن حله بشكل منفرد ،

فهناك منظمات دولية كفيلة بالحل . فإن كانت المشكلة قضائية بطبيعتها ، كانت محكمة العدل الدولية كفيلة بتذليلها . وإن كانت المشكلة سياسية كانت

هيئة الأمم المتحدة كفيلة بالسيطرة عليها .

ص: 658

كما أن هيئة الأمم المتحدة كفيلة بحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي قد تحدث في الدول عن طريق لجانها الفرعية كاليونسكو ومنظمة الصحة العالمية وغيرها .

ولا ينبغي أن نغفل ، في هذا الصدد، القانون الدولي الذي يحدد العلاقات

دولة

بين الدول ، باعتبار سلامة الحدود والرعايا والاحترام المتبادل ، وتحديد الجريمة ومكان العقاب ومقداره ... فيما إذا ارتكب شخص من جريمة في دولة أخرى . مضافاً إلى الصيانة الدبلوماسية للممثلين الدبلوماسيين واحترام حق اللجوء السياسي ، وتحديد مقادير المياه الإقليمية التابعة للدولة ، إلى غير ذلك من القضايا التي تفتق عنها الذهن البشري الحديث .ولكن هل أفادت كل هذه التنظيمات في حل مشاكل البشرية . كلا . فإن كل هذه التنظيمات لم تقم على أخلاقية معينة . وإنما قامت على أساس المصلحة الخاصة محضاً . فكان من الطبيعي أن نجد أي دولة حين لا يكون في مصلحتها اختيار أي تنظيم من هذه التنظيمات والسير عليه ، كان ذلك سهلاً بالنسبة إليها ، بل واضحاً في موقفها ، وليس هناك أي ضمان حقيقي يلزم الدوله بتطبيق التشريعات الدولية .

ومن هنا وجدت الحروب باستمرار ، ووجد الاستعمار بشكليه القديم

والحديث ، وحصل الغزو الفكري والعقائدي للشعوب الضعيفة العزلاء .

ولذلك أيضاً وجدت الأحلاف الاعتدائية ووجد التهاتر بين الدول والمقاطعة

والعداوات .

ومن هنا لم يكن لهيئة الأمم المتحدة ، أي ضمان في تطبيق قراراتها .

ولم يكن لها أية فائدة حقيقية في حل منازعات الدول وإلغاء الحروب .

كما لم يكن لمحكمة العدل الدولية ، ضمان في تطبيق أحكامها أيضاً ....

إلا في حدود ما تراضت عليه الدولتان المترافعتان .

ص: 659

فهذا مرور خاطف بنقاط القوة ونقاط الضعف في الوضع الدولي الحديث.

فما هو موقف الإمام المهدي (ع) ودولته من كل ذلك ؟ ! . .

ولا ينبغي أن نتحدث في هذا الصدد عن انعكاس هذا الوضع الدولي على

دولته ... بمعنى أن نبحث عن رأي دولته في هذا الوضع فيما لو كانت

عضواً مشاركاً فيه. فنتساءل عن مدى ما تقبله منه وما ترفضه . وهل ستكون

- مثلاً - عضواً في هيئة الأمم المتحدة أو لا . وهل ستتبادل السفراء مع الدول الأخرى أو لا ؟ ..

كل ذلك ينبغي أن لا نتساءل عنه بحال . وذلك أنه سوف لن يمضي وقت

طويل بعد الظهور حتى تقوم الثورة المهدوية العالمية بتغيير النظام الدولي تغييراً أساسياً ، تجتث معه كل نقاط ضعفه وتلغي كل جذوره .

وذلك انطلاقاً من أساسين : نظري وعملي .

أما الأساس النظري، فباعتبار قيام هذا النظام الدولي على الانحراف والفساد أخلاقياً وعقائدياً . أما انحرافه الأخلاقي ، فأهم نقطه فيه هو ما أشرنا

إليه ، من قيامه على أساس المصلحة الخاصة والأنانية المحضة ، تلك التي لا

يكون لها وجود في دولة المهدي ، بل سيتبدل الحال إلى ملاحظة المصالح

العامة الواقعية ، وتطبيق العدل الكامل والعبادة المحضة للّه عز وجل . الأمر

الذي ينتج تغييراً أساسياً في سير التاريخ البشري .

وأما انحرافه العقائدي، أعني النظام الدولي المعاصر ، فأهم نقطة فيه :

هي قيامه على المادية في فهم الكون والعلمانية في فهم المجتمع .......وإعطاء

زمام قيادة الإنسان بيد الإنسان نفسه وهذا ما سيشطب عليه المهدي (ع )

بالقلم العريض ، ويقيم العدل الكامل ، في البشرية على ركائز مؤمنة بالعطاء

الإلهي والقدرة والحكمة الإلهيين اللانهائيين. كيف و هو النتيجة الطبيعية للتخطيط الإلهي العام المستهدف العبادة الخالصة والعدل الكامل .

ص: 660

وأما الأساس العملي ، فهو أنه عليه السلام لا يعترف بتجزئة البشرية

إلى حدود ودول..... بل دولته عالمية واحدة برئاسة واحدة وقيادة واحدة.

يتوصل المهدي إلى إنجازها عن طريق الفتح العالمي . ومعه تكون كل الأنظمة والقوانين الدولية غير ذات موضوع . لأنها إنما تنظم العلاقات بين الدول المتعددة ،

ولا توجد يومئذ دول متعددة .

وهذا الوضع العالمي الواحد ، سيفتح باب الخيرات ، ويزيل ويزيل أكداس

الأطماع والأنانيات التي تقود الدول في عالم اليوم ، ولن يكون للحروب

أي موضوع ، وسيكون هذا الفتح مفتاح السعادة والرخاء والسلام والعدل بين البشر أجمعين .

الجهة الثانية : في إلقاء الضوء على موقف الإمام المهدي (ع ) من النظام

الإداري الداخلي المتبع في الدول المعاصرة .

ولا بد أن القاريء يحمل فكرة كافية عن النظام الإداري ... ولكننا

سنستعرض النقاط المهمة فيه .

فالدولة هيئة ذات كيان معنوي قانوني تتكون من منطقة مسكونة ذات

حدود معينة وهيئة حاكمة .

ويتولى المسؤولية العليا في الدولة ملك أو دكتاتور أو رئيس جمهورية ، مع رئيس للوزراء في غير النظام الرئاسي ، وعدد من الوزراء يتكفل كل منهم

الإشراف على جانب من جوانب المجتمع المهمة ، كالخارجية والدفاع والمالية والاقتصاد والثقافة أو التربية ... وغير ذلك مما تحتاجه الدولة في إدارة

شؤونها ، مما قد يزيد وينقص باختلاف الدول .

ويوجد في جملة من الدول مجلس للبرلمان ، يتكفل السلطة التشريعية

ص: 661

في البلاد . والأساس النظري الذي يقوم عليه هو تمثيل أعضاء المجلس لفئات

الشعب المختلفة . لكي تكون موافقتهم على القوانين موافقة للشعب نفسه ،

حتى يكون القانون النافذ على الشعب كأنه صادر من الشعب نفسه .

ويوجد في الدول أحزاب ، بعضها سري وبعضها علني . وبعضها يملومن

الحكم فعلاً إما بمفرده أو مع غيره من الأحزاب .

وترى أكثر الدول لنفسها حق منع الأحزاب والإذن لها بالنشاط ،

طبقاً لما ترى الدولة لنفسها من المصالح . ويمثل كل حزب إيديولوجية معينة

ونظرة خاصة إلى الكون والحياة. ومن هنا يقع التناحر النظري والاجتماعي

والمصلحي بين الأحزاب بشكل خفي حيناً وسافر أحياناً .

وإذا مارس الحزب الحكم في الدولة وحده ، كان ذلك ما يسمى بنظام

الحزب الواحد . ويطبق الحزب الحاكم على المجتمع نظرته الخاصة إلى الكون

والحياة . ويرى الحزب الحاكم - عادة -حرية الرأي والنشاط السياسي

والاجتماعي لنفسه ، ومنع أي رأي ونشاط حزبي أو فردي آخر .

والوزارات في الدولة ، تدار من قبل مديريات عامة أو مؤسسات ،

يتكفل كل منها الإشراف على جانب من جوانب المجتمع ، حسب الحاجة .

ماذا سيكون شكل دولته العالمية

وتتكفل الدولة عادة الإشراف على المؤسسات والمرافق العامة التي يصعب

على الأفراد الإشراف عليها ، كالجيش والشرطة والسجون والكمارك والبرق والبريد والتعدين وتوزيع الماء والكهرباء وبعض البنوك . وتزيد الدول

الاشتراكية على ذلك الإشراف على كل التجارات والشركات والبنوك ، وعمليات الاستيراد والتصدير والصناعات الكبيرة . . . وغير ذلك .

فما هو رأي الإمام المهدي (ع ) في كل ذلك ، وكيف سيكون شكل

دولته العالمية ؟ ! .

ص: 662

يمكن أن نلخص ما يمكن إثباته تاريخياً وإسلامياً من ذلك ، في عدة نقاط :

النقطة الأولى : إن الرئاسة العليا في الدولة لن تكون ملكية ولا رئاسية ولا دكتاتورية ... بل ستكون امامية ، لأن الحاكم الأعلى سيكون هو الإمام المنصوب من قبل اللّه عز وجل. وسيمارس هذا المنصب المهدي (ع ) بنفسه ما دام موجوداً ، ويمارسها خلفاؤه من الأولياء الصالحين بعد وفاته ، بالطريقة التي سنشير إليها في القسم الثالث من هذا التاريخ .

هذا ، بالنسبة إلى الرئاسة المركزية في الدولة العالمية. ولكن المهدي لن يباشر بنفسه بالإشراف على كل القضايا الجزئية في العالم ، بل سيتكفل القبض على المقاليد العليا للحكم ، بالمقدار الذي يرى هو المصلحة فيه . ويوكل قيادة المناطق المختلفة في العالم إلى أصحابه المخلصين الممحصين « حكام اللّه في أرضه» على ما سنعرف تفصيله في الفصل الآتي :

النقطة الثانية : إن دولة الإمام المهدي (ع ) ستخلو بطبيعة كيانها العقائدي من البرلمان بصفته السلطة التشريعية . فإن هذه السلطة ، في إيديولوجية هذه الدولة ، ليست للشعب ولا لممثليه ، بل للّه عز وجل وحده لا شريك له ، طبقاً لتشريعه العادل الكامل.

نعم ، يكون للإمام أن يحكم ويتصرف في حدود التشريع الأصلي ،

كما أنه سوف يبلغ فقرات جديدة من التشريع الأصلي لم تكن معروفة قبل ذلك . كما يمكن إيكال البت بعدد من الوقائع الفرعية إلى مجلس يشبه البرلمان

أو مجالس تشبه المجالس البلدية . . . إلا أن وجودها الفعلي في الدولة المهدوية يفتقر إلى الإثبات التاريخي .

النقطة الثالثة : ليس هناك ما يلقي الضوء الكافي على نوعية العلاقات

بين المناطق المحكومة لأصحاب الإمام المهدي (ع ) .

ص: 663

إلا أن هذا مما لا ينبغي التساؤل عنه ، بعد العلم بأن حكمها المركزي

واحد ، وإيديولوجيتها العامة واحدة ، وقانونها العام الأصلي واحد ، ومعه

لا يبقى لحاكم المنطقة إلا التطبيقات التي لا تجعل للدولة سيادة كاملة أو شخصية قانونية مستقلة عن الحكم المركزي . شأنها في ذلك – إن صح التمثيل –

شأن الولاية الواحدة في الولايات المتحدة الأميريكية ، أو الجمهورية الواحدة من جمهوريات الإتحاد السوفياتي . مع فارق في الإيديولوجية والتشريع مع

كلتا الدولتين .

النقطة الرابعة : لا شك أن الشكل الإداري للحكم ، سواء على مستوى المركز أو المناطق.... سيمارس على الشكل المعهود للناس في زمانه ، أعني

الشكل المعهود لهم قبل الظهور مباشرة ، من دون إدخال تغييرات غريبة على

الأذهان فيه . وإن شملته إصلاحات كبيرة بطبيعة الحال .

ومعه فنستطيع القول : أنه لو تم الافتراض الذي سرنا عليه ، وهو افتراض ظهور المهدي (ع ) في هذا القرن.... فسيكون الشكل الإداري لدولته ، هو الشكل

الإداري العام المعهود في الدول المعاصرة ، وهو إدارتها عن طريق الوزراء

أولاً والمدراء العامين ثانياً والمؤسسات الاجتماعية ثالثاً . بل قد يستفاد من بعض الأخبار وجود رئيس للوزراء وقائد أعلى للجيش في دولته .

لكن، لا ينبغي أن نشير إلى الاختلافات بين الأشكال الإدارية المعاصرة.

لأن الدولة المهدوية سوف لن تتبع شكلاً معيناً من هذه الأشكال ، بعد الذي عرفناه من أنها تدخل عناصر التطوير على الشكل العام بالنحو المطابق للمصلحة

العادلة في عصر الدولة المهدوية .

النقطة الخامسة : في شأن الأحزاب في دولة المهدي (ع ) .

يمكن أن نقسم الأحزاب من زاويتين :

ص: 664

الزاوية الأولى : الإنقسام الأولي للأحزاب ... بحيث يحق لأي إنسان

أن يتخذ ما يشاء من الرأي والعقيدة ، وأن يدافع عما يشاء من الآراء . وبهذا

تنقسم الأحزاب - مثلاً - إلى يمينية ويسارية وغير ذلك .

الزاوية الثانية : الإنقسام في داخل معتقد معين . كالإنقسام في داخل المعسكر الشيوعي أو في داخل المعسكر الرأسمالي . باعتبار الاختلاف على

التفاصيل مع الاتفاق على عدد من الأصول الموضوعية .

والانقسام الأول ، لا شك أنه محظور في دولة المهدي (ع ) ، قد

يستحق الفرد عليه القتل فيما إذا تضمن اتجاهه مخالفة صريحة للأطروحة العادلة

الكاملة . وقد رأينا أن مصير كل منحرف في دولة المهدي (ع) هو القتل .

وأما الانقسام الثاني : ونريد به الإنقسام في داخل الإعتقاد بصحة الأطروحة المعادلة الكاملة ، وعدم وجود مخالفة صريحة لما تتبناه الدولة المهدوية وتركز عليه . فهل تكون الإنقسامات الحزبية مجازة في داخل هذا المضمون المشترك

ولا ؟ ! ....

لا يوجد في هذا الصدد أي دليل صالح للإثبات أو النفي . نعم ، لا دليل

من القواعد العامة المعروفة على منع مثل هذه الإنقسامات ....كيف وإن التربية للبشرية مبتنية عادة على التنافس ووجدان الحقيقة منطلق في الأغلب من النقاش والجدل الحر .

ولئن كان التخطيط العام لعصر ما قبل الظهور ، قد أبرز بوضوح فشل

الزاوية الأولى من الإنقسام الحزبي، وكونه شراً على البشرية . . . فإن الزاوية الثانية لم تنزل إلى عالم التجربة بعد ، ولم يظهر صلاحيتها من زيفها في مقام

التطبيق . فإن رأت الدولة المهدوية المصلحة في إجازة هذا الإنقسام الثاني . لا يكون في ذلك مخالفة للقواعد العامة المعروفة .

ص: 665

نعم ، سيذوب هذا الإنقسام تدريجياً نتيجة للتربية المركزة التي تمارسها الدولة المهدوية للبشرية . إذ سيصل البشر إلى مرحلة تكون مدركة للمصالح و المفاسد في التفاصيل كما هي مدركة لها في الخطوط العريضة والقواعد العامة.

شأن الأحزاب في دولة المهدي (ع)

ومعه يكون الإنقسام غير ذي موضوع . إلا أن هذا لن يحدث في حياة الإمام المهدي (ع) نفسه على أي حال .

النقطة السادسة : في سيطرة الدولة المهدوية على المرافق العامة للمجتمع .

لا شك في سيطرة الدولة على المرافق التي يتعذر على الأفراد السيطرة

عليها كالجيش والشرطة والقضاء والسجون والبرق والبريد ونحوها . كما

لا شك في سيطرتها على ما ترى المصلحة في السيطرة عليه . لعل منها بعض

الشركات والبنوك . وكذلك ما تنشؤه الدولة نفسها من معامل وما تقوم به من تجارات .

ولا دليل على أن الدولة المهدوية ستمنع القطاع الخاص من المعامل والبنوك

والتجارات . غير أنه من الواضح - على ما سنبر هن عليه في الكتاب الآتي- أن المؤسسات التي توجدها الدولة وترعاها وتنشر الرفاه والخير في المجتمع على أساسها ، ستجعل القطاع الخاص يذوب ذوباناً تلقائياً ، وتقل أهميته تدريجياً إلى أن تنعدم ، وسيستغني الأفراد بفيض الدولة المباشر . ولعل فيما يأتي في الفصل التالي ما يلقى حزمة من الضوء على ذلك .

هذا وينبغي الإلماح إلى أن الجيش والشرطة والسجون ستذوب أهميتها

تدريجاً أيضاً ، نتيجة للتربية المركزة المستمرة التي تقوم بها الدولة المهدوية

للبشرية ، بحيث تصل بها إلى مستوى عال من الفهم والإخلاص .

ولعل الجيش هو أسرعها ذوباناً ، لأن المفروض كونه سنداً للدفاع الخارجي، ضد اعتداء الدول الأخرى. ومع وجود الدولة العالمية ، لا توجد

ص: 666

دول أخرى على الإطلاق ... فتنتفي الحاجة إلى الجيش من هذه الناحية .

وأما الشرطة والسجون، فستذوب تدريجاً بذوبان الجريمة الذي هو النتيجة

الطبيعية لوصول البشرية في تربيتها إلى درجة عالية من الكمال . غير أن هذا المستوى لن يحدث - عادة - في حياة الإمام المهدي (ع) . وإن كان لن يحدث

أيضاً إلا طبقاً للأسس التربوية العامة التي هو يضعها ، من أجل إيصال البشرية إلى الكمال.

الجمهة الثالثة : في إلقاء الضوء على موقف الإمام المهدي (ع) من القضايا

والمشاكل الإجتماعية السائدة قبل ظهوره .

وإذا أردنا أن نشخص هذه المشاكل من وجهة النظر الإسلامية التي تم التمحيص على أساسها في التخطيط العام السابق على الظهور ... نجدها تندرج

في خط سلوكي مشترك شامل لكل العالم البشري - بشكل عام - ، وهو الإنحدار الخلقي الفضيع الذي وصله الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم

ولغاتهم وألوانهم وثقافاتهم .

وقد نشأت من هذا الإنحدار الخلقي آلاف المشاكل في كل مجتمع من مجتمعات البشرية على الإطلاق ، على مختلف الأصعدة . . . إبتداء من الغش

والتغابن في المعاملات والتسامح في حقوق الآخرين وأموالهم ، وانتهاء بابتناء

القيمة الأساسية للعلاقات على الأساس المالي. إلى جانب التعامل بالربا ،

وصيرورته ضرورة من ضرورات الحياة . . . وتبذل النساء وشرب الخمور وإعلان الفجور والسير في الزواج والطلاق والميراث على الخط المدني ، وتأسيس

المدارس والمسابح والمسارح والسينمات المختلطة والداعرة . وأنت تسمع الأغاني المثيرة وترى الأفلام المسفة في كل راديو وتلفزيون . ونشر الصور والقصص والأفكار الداعرة المثيرة جنسياً والتي تحث على الجريمة في كثير من

ص: 667

الأحيان ، نشرها في الأعم الأغلب من صحف ومجلات ومسلسلات العالم

بمختلف لغاتها ومذاهبها ومقاصدها .

وقد أصبح السير خلال هذا الخط أمراً طبيعياً للفرد ، بل لا تستقيم حياته - في رأيه - إلا به . وأصبح صوت الفضيلة وشجب هذا الإنحدار والنداء بالمحافظة على السلوك المتزن ، أمراً غريباً . وحشاً ملفتاً للنظر . فقد « أصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً » وعاد «الإسلام غريباً كما بدأ ، فطوبى

للغرباء » .

وموقف الإمام المهدي عليه السلام في كل ذلك واضح كل الوضوح ،

وهو الشطب على الإنحدار جلمة وتفصيلا ، وإبداله إلى جو الفضيلة والعدل

والكمال .

والمهم في المقام هو أن نلقي بعض الضوء على البديل الرئيسي لهذا الوضع

المنحدر ، بحيث يستتب معه النظام ويسود العدل الكامل .مع

المحافظة - بطبيعة الحال -على العمق الحقيقي للفكر والوعي في مجتمع ما بعد الظهور

في طي الكتمان رهيناً بحصول وقته .

إن ما ندركه الآن من ذلك ، ذلك ، هو كما يلي :

إن الإمام المهدي عليه السلام في دولته العادلة العالمية : سوف لن يلغي الإذاعة ولا التلفزيون ولا المسرح ولا السينما ولا المصايف ولا المسابح ولا المدارس ولا المستشفيات ولا البنوك ولا الصحف ولا المجلات ولا المسلسلات .

فإن أساس الفكرة من وجود كل هذه الأمور انها موجودة لخير البشرية وتسهيل الحاجات الإجتماعية والفردية ، فمن الطبيعي أن تأخذ دولة العدل بزمام

المبادرة لاتخاذ هذه الأمور وسيلة نحو التكامل وزرع الأخلاق والفضيلة والتكافل والتراحم بين البشر ، وبالتالي وسيلة لتربية البشرية بشكل عام ، والوصول بها إلى كمالها الأعلى المنشود .

ص: 668

فالإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما والصحف ، ستكون وسائل لنشر الأفكار الهادية العادلة ، وللترفيه البرىء . والمصايف والمسابح ستكون موجودة

بدون الإنحدار اللا أخلاقي ، بل مع الإرتفاع بها إلى مستوى العدل و المصلحة الحقيقية. فإن الترفيه غير مقتصر على الإنحدار الحيواني ومباشرة الرذيلة كما

هو معلوم . فإن في صور الطبيعة الكونية من العجائب والطرائف ما یعجب النفس ويسر الخاطر ويبهج الفؤاد . الشيء الكثير . ولا يكون الإقتصار على على الترفيه المنحدر ، إلا نتيجة لسوء السلوك وقصور التصور، وبالتالي لنتيجة الفشل في التمحيص العام .

وأما المدارس على اختلاف مستوياتها وأنواعها . . . فستكون طرقاً لتربية

الفرد وتثقيفه وتكامله ، بالشكل الحق الذي يربط الكون بخالقه العظيم إيجاداً

وتشريعاً ، ربطاً وثيقاً ، والسير بالبشرية في التكامل في هذا الطريق ...

وتهمل كل الجهات التي تحمل الفرد على الإنحراف واللا أخلاقية والعنصرية

وعبادة المادة . ومجمل القول : أن مناهج المدارس بشكل عام ستحافظ على

شكلها المنهجي الأكاديمي . ولكنها لن تحافظ على شكلها العقائدي والإيديولوجي المعاصر ، بل ستتصف بالشكل العقائدي الجديد العادل المطلوب لتربية البشرية في خطها الطويل .

وسيكون سفور النساء ، بمعنى انكشافهن لأعين الرجال بشكل لا أخلاقي ولا إسلامي ، ممنوعاً بطبيعة الحال ومعاقباً عليه ، فضلا عن الإنحدار نحو الرذيلة بأي شكل من أشكالها .

ولكن ذلك لن يمنع بأي حال من دراسة المرأة لأعلى العلوم وتلقيها لأدق المعارف ، وحصولها على أحسن وأوسع النتائج . ولا يمنع حفاظها من قيامها

بأي شكل من أشكال التجارة والعمل ، ولا يمنع اتصالها بالمجتمع وإزجائها

ص: 669

لحاجاتها المشروعة ، مع الرجال والنساء معاً . وستنظم الدولة العلاقة الإجتماعية

بين الجنسين بقانون .

وسيكون التحاقد الطبقي منعدماً في المجتمع المهدوي ، باعتبار ما سنعرف من توفير الدولة فرص العمل للجميع بسخاء وترتيب ، وما سيناله كل فرد من أرباح وما يتقاضاه من من الدولة من هبات ، ما يغنيه عن التفكير في الحقد الطبقي أساساً. فضلا عن التثقيف الإيديولوجي ضد هذا المفهوم الذي يتضمن الإنشقاق الإجتماعي المروع :

وسيكون التحاقد العنصري بين ذوي اللغات المختلفة ، غير موجود أيضاً

بل سيكون الجميع أخوة في العقيدة والهدف ، أخوة في الإيمان العمل ؛

لا تفاضل بينهم إلا بحسب ما يناله كل فرد من كمال حقيقي .

وسنرى لكل الذي قلناه هنا نتائجه المهمة الموسعة ، في بعض فصول هذا الباب ، وسنسمع العديد من النصوص المثبتة له . بعد أن تكلمنا الآن في حدود

القواعد الإسلامية المعروفة فقط.

ص: 670

الفصل الثالث ضمانات التطبيق السريع العميق للعدل الكامل في العالم

تمهید:

تحدثنا في فصل سابق عن ضمانات انتصار الإمام المهدي (ع) ، في

سيطرته على العالم ، ضد قوى الشر والظلم الموجودة قبل ظهوره .

والآن نتحدث عن الضمانات التي يملكها الإمام المهدي (ع) في التطبيق السريع والأكيد والعميق للأطروحة العادلة الكاملة ، في عالم كان يضح بالظلم والآلام والمشاكل . وهي ضمانات موجودة في شخصه وأصحابه

والظروف العالمية ، لا يمكن أن تتوفر لأي شخص آخر .

وهي ضمانات تشترك في بعض تفاصيلها مع الضمانات السابقة ، أعني

أن شيئاً واحداً كما يكون ضماناً للإنتصار ، فإنه ضمان للتطبيق أيضاً ، وان

أختص التطبيق بضمانات خاصة به على أي حال .

وأغلب هذه الضمانات تنتج مستويين للتطبيق :

المستوى الأول : ضمانات التطبيق لأول مرة

المستوى الأول : الشروع في التطبيق لأول مرة ، في العالم الذي كان

يعج بالآلام ويضج من المظالم والمشاكل .

المستوى الثاني : الإستمرار بالتطبيق والسير به نحو التعمق والتكامل ،

في الخط التربوي المستمر للبشرية جمعاء. وسيكون لهذا المستوى ضمانات خاصة به.

ص: 671

ونحن حين نتحدث عن هذه الضمانات، إنما نتحدث -كما فعلنا دائماً - ضمن الإمكانيات المتوفرة، والمستوى الفكري الموجود في عصر ما قبل الظهور .

و سنفتح الحديث عن هذه الضمانات على كلا المستويين كل على حدة ،

المستوى الأول : ضمانات التطبيق العادل لأول مرة في التاريخ البشري بعد

انتهاء الفتح الإسلامي .

وهي بنفسها الضمانات لو أريد البدأ بالتطبيق على نطاق محدود قبل انتهاء الفتح العالمي . فإن كل منطقه يتم فتحها يبدأ المهدي (ع) بتطبيق العدل فيها ، حتى ما إذا استوعب الفتح العالم كله ، كان التطبيق عالمياً كاملاً .

وعلى أي حال فالضمانات هي الضمانات.

وهذه الضمانات على ثلاثة أقسام :

القسم الأول : الضمانات الموضوعية

القسم الأول : الضمانات الموضوعية للدولة المهدوية ... أعني المتوفرة

له في الواقع على صعيد المجتمع والحياة .

الضمان الأول : وجود الأطروحة العادلة الكاملة المعدة للتطبيق في العالم

ضمن التخطيط العام السابق على الظهور ، متمثلة بالإسلام ، كما سبق أن برهنا .

ومن المعلوم أن القانون إذا لم يكن معداً سلفاً أو كان غير عادل كامل

كان ذلك أكبر عقبة في طريق التطبيق ، وبالتالي في جني الثمار الإجتماعية الخيرة المطلوبة . ومن هنا كان وجود هذا القانون ضماناً أكيداً في النجاح .

والدولة المهدوية تملك هذا القانون ، حسب ما يعرفه القائد المهدي نفسه .

إنه الأطروحة العادلة الكاملة ، متمثلة بالإسلام ، بكل ( فقراته ) التي

عرفناها :

الفقرة الأولى : الأحكام الحقيقية التي كانت معلنة قبل الظهور .

ص: 672

الفقرة الثانية : الأفكار والمفاهيم الناتجة عن تطور الفكر الإسلامي .

الفقرة الثالثة : الأحكام والمفاهيم التي كانت تالفة يومئذ ، والآن يتم

تجديدها وإعلانها .

الفقرة الرابعة : الأحكام والمفاهيم المؤجلة التي لم تعلن قبل ذلك ، وكان إعلانها منوطاً بتحقق الدولة العالمية ، فيكون الوقت عند تحققها قد آن لإعلانها .

الفقرة الخامسة : الأنظمة التفصيلية التي يسنها القائد المهدي (ع) نفسه

في حدود الأحكام الثابتة في الشريعة وعلى ضوئها ، من أجل ضبط الوقائع المختلفة ،وهي لا تقصر في وجوب إطاعتها عن تلك الأحكام .

الفقرة السادسة : القواعد العامة التي يضعها المهدي (ع) للحكام الذين يوزعهم على الأرض . تلك القواعد التي تمكنهم من ممارسة الحكم والقضاء العادلين في مناطق العالم .

الفقرة السابعة : القواعد العامة التي يضعها الإمام المهدي (ع) لخاصته

من أجل استمرار تربية البشرية وتكاملها في المدى البعيد .

وبهذه الفقرات تستطيع الأطروحة العادلة الكاملة أن تأخذ طريقها إلى

التطبيق ، وتربية البشرية بالتدريج .

الضمان الثاني: نقصان البشر نقصاناً كبيراً . كما سبق أن سمعنا من

الأخبار ، وفهمنا أنه إنما يكون مع وجود حرب عالمية مدمرة قبل الظهور.

وقد كان هذا أحد الضمانات المهمة لانتصار الإمام المهدي (ع) وسيطرته على العالم . وسيكون هو – على تقدير وجوده- ضماناً أكيداً لسهولة التطبيق

وشموله . إذ من المعلوم أن التطبيق العام على البشر حال كونهم قليلين أسهل

بكثير منه حال كونهم كثيرين. وخاصة إذا كان النقصان بالنسب الكبيرة التي سمعناها .

43

ص: 673

وهذا الضمان هنا ، كما كان هناك ، نافع على تقدير وجوده ، وغير

مضر على تقدير عدمه. بمعنى أن البشر لو بقوا على كثرتهم ، ولم تحدث حرب

عالمية أو أي سبب للنقصان ... فكل ما يحصل هو ترتب نتائج هذا الضمان بشكلها المباشر ، ولا يعني بأي حال انخرام الهدف المهدوي أو تعذر الإنتصار

أو التطبيق . . . بعد أن كان للضمانات الأخرى دورها الكامل في إنجاز ذلك.

الضمان الثالث : زوال الناس المنحرفين الفاشلين في التمحيص ، وغير

القابلين للتربية في التخطيط العام الجديد .

ذلك النقصان الذي يباشره المهدي وأصحابه بسيوفهم وأساحتهم طبقاً

للأسلوب الذي عرفناه وتوخياً للنتيجة التي ذكرناها .

الضمان الرابع : الهيبة والرهبة التي يكتسبها الحكم المهدوي في قلوب

الناس ، الأمر الذي يجعل عصيان قانونه والخروج على تعاليمه - ولو ولو في

الخفاء - أمراً متعذراً .

يحدث ذلك نتيجة لعدة عوامل مهمة ، تذكر عدداً منها :

العامل الأول : الأساس العقائدي والأخلاقي الذي ترسخه الدولة المهدوية في نفوس الناس ... من الإخلاص للقانون واحترام العدل والإيمان بصدق

أهدافه . مع وضوح أن الإخلال بقوانين تلك الدولة إخلال بالعدل وأهدافه.

العامل الثاني : الإشراف المرتب المضبوط على أفعال الناس ، نتيجة لممارسة كل المخلصين - وهم في تزايد مستمر - هذا الواجب المقدس ، وتصحيح

ما قد يقع فيه الأفراد من أخطاء أو هفوات .

العامل الثالث : ما يقوم به المهدي (ع) شخصياً، وبعض خاصته - بتعليمه- من أفعال أو أقوال عظيمة وطريفة في قيادة الدولة وتدبير أمور المجتمع ، مما

ص: 674

يعجز عن مثله الآخرون ، وقد عجزت الدول السابقة كلها عنها . نتيجة , للخصائص العليا التي اتصف بها المهدي (ع) وخاصته ، مما عرفناه ، وسنشير

إليه غير بعيد .

العامل الرابع : كثرة القتل الذي يقوم به المهدي (ع) ، وأصحابه

: للمنحرفين لمدة ثمانية أشهر ، يقتل مرجاً ولا يستتيب ، يقتل مرجاً ولا يستتيب أحداً ،

الأمر الذي يحدث الأثر النفسي الكبير . ولمدة طويلة كافية للتربية ، في التهيب والخشوع

والتصاغر تجاه الحكم المهدوي .

الأمر الذي يجعل عصيان قانون الدولة متعذراً ، ويفسح مجالا عريضاً

للدولة لإجراء قانونها وأنظمتها في كل المجالات .

العامل الخامس : أن هناك بعض التصرفات صعبة التفسير ومجهولة السبب يقوم بها المهدي (ع) لأجل مصالح واقعية يعرفها ؛ ويمكن أن نجد منها بعض النماذج :

فمن ذلك : ما أخرجه النعماني (1)عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه (ع) أنه قال : بينما الرجل على رأس القائم يأمر وينهى . إذ أمر بضرب عنقه ، فلا يبقى بين الخافقين الاخافه

وما أخرجه المجلسي في البحار (2)عن السيد علي بن عبد الحميد في كتاب ( الغيبة ) بإسناده رفعه إلى جابر عن أبي جعفر (ع) – في خبر عن

القائم يقول فيه -:

انما سمي المهدي لأنه یهدي لأمر

ص: 675


1- ص 126 .
2- ص200 ج13.

خفي. حتى أنه يبعث إلى رجل لا يعلم

الناس له ذنب فيقتله... الحديث .

و أمثال هذه التصرفات ، وهي واقعية الصحة ، مجهولة لدى الناس ،

تجعل الفرد ، كل فرد ، يعيد النظر لجدية بالغة في قيامه بأي انحراف أو عصيان.

فبهذه العوامل ونحوها ، تكتسب الدولة المهدوية هيبتها في صدور الناس

على كل المستويات ، الأمر الذي يجعل عصيان قانونها صعباً جداً ، ومن ثم

يكون أخذها بزمام المبادرة للتربية والتطبيق العادل سهلا ميسراً .

الضمان الخامس : ما عرفناه مفصلا من إنتاج التخطيط الإلهي السابق

على الظهور نتيجة مهمة ، هي يأس الرأي العام العالمي من المباديء والأطروحات

المعلنة التي ادعت حل مشاكل البشرية قبل الظهور . والشوق إلى حل عادل

شامل يخرج البشرية من وهدتها العميقة .

وهذا الجو الفكري والنفسي ، يهيء للدعوة المهدوية والدولة المهدوية أفضل الفرص للتطبيق العادل الشامل . كما سبق أن عرفنا مفصلا ، فلاحاجة

إلى التكرار .

القسم الثاني : الضمانات المنبثقة من شخص الإمام المهدي (ع)

القسم الثاني : الضمانات المنبثقة من شخص الإمام المهدي عليه السلام ،

باعتبار ما يملك من خصائص وصفات :

الخصيصة الأولى : العصمة التي تمثل درجة عالية جداً ، وضرورية

التأثیر. . . من الإخلاص والإيمان وتقديم مصالح الهدف الأعلى الإلهي على

كل مصلحة . وبالتالي فهي تقتضي فعل كل ما هو مشروع ومطلوب في الشرع

الإلهي ، وترك كل ما هو غير مشروع منه . ونعني بما هو مشروع و

غير مشروع معناه الدقيق الشامل لمسؤوليات القيادة ، وليس لمسؤوليات الفرد الإعتيادي فقط .

ص: 676

وقد عرفنا أن هذه الصفة مما قامت عليه الضرورة في المذهب الإمامي ،

ووافق علية جملة من الباحثين العامة كابن عربي في الفتوحات ، ومن تابعه بعض من تأخر عنه .

الخصيصة الثانية : أنه متى ما أراد أن يعلم شيئاً أعلمه اللّه تعالى إياه،

كما نطقت بذلك الروايات . وقد سبق أن بحثناه في تاريخ الغيبة الكبرى (1)

وقلنا ان هذه الخصيصة تعتبر من أعظم شرائط القيادة العالمية التي تكون

بدونها متعذرة تماماً ، فان اللّه تعالى حيث أوكل إلى المهدي (ع) هذه القیادة العامة ، وعلمنا أنه يجب في اللطف الإلهي أن يعطي اللّه عز وجل كل فرد منصوب المهمة القدرة على تنفيذ تلك المهمة ، أو أن يختار الفرد القادر لو أمكن .

وبالتالي لا بد من التساوق بين قابليات الفرد ومهامه. لا يختلف في ذلك الأنبياء

عن الأولياء .

وحيث تتوقف القيادة العالمية على خبرة واسعة جداً يتعذر الحصول عليها

بأي تنظيم بشري أو أي جهاز إلكتروني ، وخاصة إذا كان المطلوب هو

تطبيق العدل المطاق وضمان استمراره . إذن ، فيتعين صدق تلك الروايات

وصحة مضمونها ، ووجود هذه الصفة للمهدي عليه السلام ، وهي أنه مني ما أراد أن يعلم أعلمه اللّه تعالى.

ومما يدعم ذلك بالنسبة إلى شخص المهدي (ع) ما أخرجه في البحار . (2)

عن السيد علي بن عبد الحميد في كتابه ( الغيبة ) بإسناده رفعه إلى أبي الجارو

قال : قلت لأبي جعفر : جعلت فداك ، أخبرني عن صاحب هذا الأمر ،

قال : يمسي من أخوف الناس ويصبح من آمن الناس . يوحى إليه هذا الأمر

ص: 677


1- ص 515 وما بعدها.
2- ص 200 ج 13 .

ليله ونهاره . قال : قلت : يوحى إليه جعفر . قال : يا أبا الجارود انه ليس وهي نبوة .

ولكنه يوحى إليه كوحيه إلى مريم بنت عمران ، وإلى أم موسى

وإلى النحل . يا أبا الجارود ، إن قائم آل محمد لأكرم عند اللّه من مريم بنت

عمران وأم موسى والنحل .

ويتم فهم هذه الرواية ضمن عدة نقاط :

النقطة الأولى : إن الوحي غير خاص بالانبياء بل قد يشمل غير هم أيضاً.

وقد نص القرآن الكريم علي عدة موارد من ذلك :

المورد الأول : إن مريم بنت عمران عليها السلام تلقت الوحي عن

طريق الملائكة . قال اللّه تعالى :

«وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ

عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ....إلی أن یقول:

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ

إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ

اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ

وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ

وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ » (1) .

بل ظاهر إحدى الآيات أنها تلقت الوحي من اللّه تعالى مباشرة

«قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي

وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ

قَالَ: كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ».(2)

ص: 678


1- آل عمران : 3 / 42 و 45 .
2- آل عمران : 47/3.

فإنها خاطبت اللّه مباشرة فورد الجواب مباشراً أيضاً ، بحسب ظاهر العبارة.

المورد الثاني : إن أم موسی تلقت الوحی أیضاً . قال اللّه تعالی:

«إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى » (1)

وقال عز وجل :

«وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ

أَرْضِعِيهِ ....» (2)

المورد الثالث : الحواريون : وهم خاصة أصحاب النبي عيسى بن

مريم عليه السلام . قال اللّه تعالى :

««وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ

أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا

آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ »(3)

ولم يكن الحواريون أنبياء أو رسلاً في حياة المسيح عليه السلام ، باعتراف

المسيحيين أنفسهم .

المورد الرابع : النحل . فإنها تلقمت الوحي بالتعليم بما يخص مصالحها

وما يقيم لها حياتها . قال اللّه تعالى :

«وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ

أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا

وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ،

ص: 679


1- طه : 20/ 38 .
2- القصص : 7/28 .
3- 111/5.

فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ... »(1)

وقد نصت الرواية على ثلاثة موارد من هذه الأربعة .

النقطة الثانية : إن ( نوع الوحي) يختلف في هذه الموارد الأربعة . فهو

في النحل ليس أكثر من الأسلوب الفطري لحياة النحلة نفسها . . . كل ما في

الأمر أنه بالنسبة إلى خالق الكون ، ليس أسلوباً ( أعمى) بل هو مدير بحكمة

وإتقان .

وأما أم موسى . فلا نستطيع أن نقول أكثر من أنها قد (خطر )في بالها

وقد فكرت بأن تضع ابنها في صندوق وتلقيه في النيل . فهي لم تشعر إلا أنها

فكرة ذاتية لها ليست (مستوردة) من أعلى غير أن القرآن الكريم يخبرنا أنها

إنما فكرت بذلك نتيجة للتسديد الإلهي .

وأما بالنسبة إلى مريم والحواريين ، فظاهر القرآن الكريم ، ثبوت الوحي

(لفظاً ومعنى ) بالنسبة إليهم . مع احتمال أن يراد به ( الإلهام ) أيضاً ، وهو

إلقاء المعنى في الذهن من دون لفظ .. فإنه من معاني الوحي لغة أيضاً .

وعلى أي حال ، فتشبيه الإمام المهدي (ع) بهؤلاء ، في الرواية لا يستدعي

أكثر من ثبوت أقل المراتب له عليه السلام . بمعنى أنه لا تثبت الزيادة إلا بدليل آخر .

النقطة الثالثة : لا شك أن المهدي عليه السلام من أعاظم الأولياء ، يكفينا

أنه اختاره اللّه تعالى لتنفيذ غرضه الكبير من خلق البشر، وإنجاز العدل الكامل على وجه الأرض أفضل بكثير من مريم والحواريين وأم موسى فضلاً

عن النحل .

ص: 680


1- 69/16.

النقطة الرابعة : إن كل صفة (كمالية ) ثبت وجودها في الأقل شأناً ، فهي

ثابتة لا محالة في نظائره ( باعتبار المساواة) وفي الأفضل ( باعتبار الأولوية) خذ مثلا أن ( الكاسب ) إذا استطاع أن يشتري داراً ، فأحر ( بالتاجر ) أن يشتري مثلها أو أفضل منها . أو إذا استطاع المتخرج من إحدى الكليات تأليف كتاب نافع . فالحامل لشهادة الدكتوراه أولى بالقدرة على ذلك .

النقطة الخامسة : انه يثبت من ذلك : أن أي مرتبة ثبتت في إحدى هذه الموارد فني ( الإمكان ) ثبوتها للمهدي (ع) بالأولوية . نعم ، (وقوع)

ذلك لا يدل عليه التشبيه- كما قلنا - إلا بأقل مراتبه . . . ولكنه ليس هو

المرتبة الضئيلة الثابتة للنحل على أي حال .

النقطة السادسة : إننا جعلنا هذه الرواية مؤيدة لقاعدة الإلهام بالنسبة إلى

المهدي ، ولكنها لا تصلح وحدها دليلا .

أولاً : إنها لا تدل إلا على وقوع أقل مراتب ( الوحي ) للمهدي (ع ) .

وهو - على كل حال - أقل من قاعدة الإلهام : إذا أراد الإمام أن يعلم أعلمه

اللّه تعالى ذلك .

ثانياً : إنها مرفوعة ، بمعنى أنها مجهولة الراوي، فلا تصلح للإثبات التاريخي

ولكنها على أي حال تحتوي على نقطة قوة هي اختصاصها بالمهدي (ع) ،

بخلاف الروايات الأخرى فإنها عامة لكل إمام معصوم . فتثبت الخصيصة الثانية للمهدي بالعموم ، لا بالتنصيص وإن كان العموم كافياً على كل

حال .

الخصيصة الثالثة : تكامل القيادة في شخصه عليه السلام بدرجات أعلى من

( مجرد ) العصمة ... واطلاعه على قوانين المجتمع والتاريخ البشري ، بشكل

ص: 681

لا يمكن لأحد غيره الإطلاع عليها . كما سبق أن ثبتنا ذلك في التاريخ السابق (1)، وفي هذا التاريخ

والقائد المعصوم عموماً ، قابل للقيادة العالمية ، إلا أن المهدي (ع) ببقائه

الطويل ومعاصرته لمئات الأجيال البشرية . طبقاً للفهم الإمامي ، تتكامل فيه

صفة القيادة ، ويكون في إمكانه الوصول إلى الأهداف المطلوبة المنوطة به

والموكولة إليه ، بشكل أسرع وأسهل وأعمق .

القسم الثالث : الضمانات المنبثقة من صفات أصحابه

القسم الثالث : الضمانات المنبثقة من صفات أصحابه عليه وعليهم السلام .

ونشير هنا إلى ماسبق أن عرفناه مفصلا من شجاعتهم وإخلاصهم للعقيدة

والهدف ولإمامهم القائد عليه السلام ، فان كل ذلك يشكل نقاط قوة وضمانات

لانتصار الإمام المهدي عليه السلام ...

ونود هنا أن نشير إلى أمر آخر ، سبق أن أشرنا إليه ، وهو علمهم وفقاهتهم وحسن تدبير هم لأدور المجتمع ... وقد سمعنا وصفهم في الروايات

بأنهم ، النجباء والفقهاء ، ، وهم الحكام وهم القضاة (2)

وسيأتي في الفصل الآتي التعرض إلى طريقة حصولهم على مثل هذا العلم

الواسع المدبر للعالم ، وأما هنا ، وأما هنا ، فأود أن أبين وجه الحاجة إلى مثل هذا العدد

الكبير من الفقهاء والحكام ، بحيث لو كانوا يمثلون بعض هذا العدد أو بعض

هذه الثقافة ، لما أمكن نجاح الدولة المهدوية العالمية . ومن هنا كان اتصافهم بهذه الصفات وهذه العدد من أهم ضمانات نجاح التطبيق العالمي

ص: 682


1- انظر ص 514 وما بعدها . وانظر ص 517 أيضاً .
2- انظر الملاحم و الفتن ص 171 .

ومن هنا - أيضاً - اقتضى التخطيط السابق على الظهور إيجادهم لانجاح

هذه التجربة ، لمشاركتهم - أولاً - بصفتهم قادة عسكريين في الفتح العالمي

و مشاركتهم - ثانياً -بصفتهم رؤساء وحكاماً لمناطق العالم وأقاليمه في الدولة العالمية

ويحتاج بيان هذا المقصود إلى تقديم عدة مقدمات :

المقدمة الأولى : أنه ثبت في الفقه الإسلامي، أن رئيس الدولة لا بد أن

يكون جامعاً لشرائط خاصة وحاصلا على مؤهلات معينة ، لكي يكون أهلا

لتولي هذا المنصب الكبير . وكذلك لا بد أن يكون القاضي جامعاً لشرائط

معينة لكي يكون نافذ الحكم في نظر الإسلام ، وقابلا لحل مشاكل المرافعات بين الناس .

وأهم هذه الشرائط المشتركة بين الحاكم والقاضي معاً : العدالة والفقاهة

و یراد بالعدالة درجة كبيرة من الإخلاص والإستعداد للتضحية ، تكف صاحبها

عن العصيان وعن التمرد على تعاليم اللّه . ويراد بالفقاهة الإطلاع على أحكام الشرع الإسلامي إطلاعاً واسعاً ، يسمى بالإجتهاد في لغة الفقه لما قبل الظهور .

المقدمة الثانية : إن القدرة الفردية : مهما كانت كبيرة وعميقة ، فهي

قاصرة عن أن تباشر الحكم في العالم كله بمفردها بحيث يكون لها مباشرة البت في كل الوقائع الجزئية من شؤون الأفراد والمجتمع . لأنها تعد بالملايين في الساعة الواحدة ، فضلا عن اليوم الواحد ، فالأكثر منه : وقد سبق أن قربنا ذلك.

نعم ، يمكن للمعجزة أن تذلل ذلك : فتعطي للفرد طاقة غير محدودة ، إلا

أن مثل مثل هذه المعجزة مما لا يمكن افتراضها في حق الإمام المهدي (ع) :

مخالفة لقانون المعجزات ، وذلك : لأجل وجود البديل الواضح فا مباشرة الحكم العالمي عن طريق الأفراد الكثيرين المتمثلين باصحا الممحصين. وإذا كان للمعجزة بديل طبيعي لم يكن لها مجال للتجة.

ص: 683

المقدمة الثالثة : إن المناطق التي يحتوي عليها العالم المسكون كثيرة يكفينا

من ذلك أن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الآن يزيد عددهم على المئة بأكثر من عشرة ، وهناك مناطق أو دول غير مشاركة في هذه الهيئة العالمية ، ككل المستعمرات وأغلب جزر المحيطات والمناطق القطبية .

هذا مضافاً إلى أن بعض الدول شاسعة المساحة جداً ، كالصين والإتحاد

السوفيتي والولايات المتحدة وكندا وأستراليا وغيرها . فلو حصلت المصلحة تقسيم هذه الدول إلى عدة ( أقاليم ) في الدولة العالمية ، حصلنا على عدد متزايد من الدول مع ضمها إلى ما سبق . بحيث يمكن أن تصل أقاليم الدولة العالمية إلى مئتين .

المقدمة الرابعة : أنه ليست الحاجة مقتصرة في كل منطقة على خصوص

شخص الرئيس الذي يحكمها ، بل تحتاج المنطقة أو الإقليم إلى جهاز إداري

وقضائي كامل يكون كل الأشخاص الرئيسيين فيه متصفين بالاهلية التي عرفناها ... بما فيهم الرئيس والوزراء والمدراء العامين والقضاة ، وكل من كان بمنزلتهم وأهميتهم في الدولة

يتضح من هذه المقدمات وجه الحاجة إلى هذا العدد : الثلاثماءة والثلاثة عشر من القادة والفقهاء والحكام والقضاة. إن لم نقل أنه رقم يقل عن الحاجة بقليل أو بكثير. فإننا لو سرنا على حسابنا السابق ، فاعتبرنا لكل إقليم من الأقاليم المائتين عشرة أشخاص مؤهلين بالدرجة العالية . كانت الحاجة مقتضية لوجود ألفي شخص من هذا القبيل .

غير أننا ينبغي أن ناتفت إلى أن الصفات العليا لا ينبغي أن نتوخاها في كل

إقليم إلا لشخصين هما الرئيس الأعلى والقاضي الأعلى . وأما الباقون فيمكن اتصافهم بنفس الصفات بدرجة أقل . فإذا لم تبلغ أقاليم الدولة العالمية إلى مئتين

ص: 684

بل اقتصرت على مئة وخمسين مثلا فتكون الحاجة مقتضية لوجود ثلاثماءة من

ذوي المؤهلات العليا ، لا أكثر. ويبقى من هؤلاء الخاصة ثلاثة عشر ، ربما

يتولون مهام الحكم المركزي في العالم إلى جنب الإمام المهدي (ع) نفسه . وقد

نصت الروايات التي سنسمعها في الفصل القادم على وجود إثني عشر نقيباً من

هؤلاء مع الإمام نفسه. والعدد الذي استنتجناه تقريبي على كل حال .

هذا ، وستتم تغطية الحاجة في أشخاص الوزراء والمدراء وباقي القضاة

وغيرهم ، من الأفراد المتصفين بالدرجة الثانية من درجات الإخلاص التي

عرفناها . فإنها مساوقة مع وجود العدالة والفقاهة ببعض مراتبها أيضاً ، بالمقدار

الذي يؤهل المتصفين بها إلى تولي هذه المناصب .

وعلى أي حال ، فإذا استطعنا أن نعتبر كل صفة من صفات الإمام

المهدي (ع) ضمانا مستقلاً للتطبيق العادل الذي نتحدث عنه ...لوضوح

أنه لو تخلف أي واحد منها كان موجباً لفشل التجربة العالمية أو تضررها على

أقل تقدير. فاعتبرنا عددهم ضماناً مستقلا ، وعدالتهم المتمثلة بإخلاصهم للعقيدة

والقائد ضماناً ثانياً ، وفقاهتهم ضماناً ثالثاً . وأضفناها إلى الضمانات السابقة

زادت الضمانات المتوفرة للمهدي (ع) للبدء بالتطبيق العادل على عشرة .

ولسنا بحاجة - بعد هذا - إلى القول : بأن مجموع هذه الضمانات لا يمكن

أن يتوفر لغير الإمام المهدي (ع) ، مهما كانت حركته قوية أو دولته واسعة ،

أو قانونه عميقاً ، وسواء كان أساسه مصلحياً أو عقائدياً على مر التاريخ .

المستوى الثاني : ضمانات دوام التطبيق

المستوى الثاني : في ضمانات دوام التطبيق واستمراره ، بعد إنجازه

واستتبابه لأول مرة ... سواء في حياة الإمام المهدي (ع) أو بعده

وهي - أيضاً - أيضاً - عدة ضمانات ، ندركها الآن بوضوح .

الضمان الأول : إتضاح صحة التجربة المهدوية العالمية أمام الناس أجمعين

ص: 685

أو أمام الرأي العام العالمي بالتعبير المعاصر . . . ومدى السعادة والرفاه الذي يعيشه المجتمع نتيجة لهذه التجرية وهذا التطبيق .

وهذا الوضوح يجعل الناس تلقائياً مؤيدين لبقاء واستمرار نظام المهدي (ع)

أطول مدة ممكنة ، ومدافعين عن ذلك بما يملكون من رأي وسلاح .

وينبغي هنا أن نلتفت إلى أنه عند اتضاح صحة التجربة المهدوية ، تخرج

( الأطروحة العادلة الكاملة ) التي يطبقها عن كونها مجرد ( أطروحة ) . فإن

الأطروحة ما تكون محتملة الصحة . . . وسيكون ذاك التطبيق العالمي الكامل لها

مثبتاً لجدارتها وصحتها وحسن نتائجها بالحس والعيان .

الضمان الثاني : اتضاح مدى الإنسجام الذي حصل بين أفراد المجتمع ،

والأخوة التي سادتهم ، والطمأنينة والسلام المسيطرة على ربوعهم ... ربوع

البشرية كلها .

وهذا الوضوح له نفس الأثر النفسي السابق بطبيعة الحال . وسنعرف

تفاصيلها في فصل آت من هذا الباب يتعلق بإنجازات المهدي (ع) في دولته

على الصعيدين الإقتصادي والإجتماعي .

الضمان الثالث : تربية أجيال الأمة.... والأمة يومئذ تمثل البشرية كلها ...

تربية صالحة وتكميل إيمانها وإخلاصها، عن طريق التربية المركزة المستمرة،

تكميلا يجعلها لا ترضى عن إطاعة حكم اللّه وتنفيذ عدله الكامل ، بديلا .

ومعناه -على وجه التعيين - أنها ستتمسك بحرارة بنظامها المهدوي

الجديد بصفته ممثلا لعدل اللّه وشريعته .

الضمان الرابع : تربية جماعة من خاصة الناس وعظمائهم إيماناً وإخلاصاً

وثقافة ، تربيتهم عن طريق التثقيف العميق المستمر والنجاح في التمحيصات

ص: 686

القوية المختلفة ، التي سوف نشير إلى بعضها ... تربيتهم لكي يكونوا أولياء

صالحين لتولي مهام الرئاسة العالمية ، بعد المهدي عليه السلام ... أو تولي

رئاسة المناطق المختلفة بعد رؤسائها المختلفين، فيما إذا ماتوا أو انعزلوا أو نقلوا .

وواضح أن إيجاد هذا الضمان ضروري لاستمرار نظام الحكم المهدوي ،

وإلا فسيكون نظامه منوطاً بشخصه ، ولا يكون قابلا للبقاء بعده . . . إذا لم

يكن هناك من يباشر السير فيه إلى نتائجه المطلوبة .

والفرق - بطبيعة الحال -موجود بين نتائج حكم المهدي (ع) ونتائج

حكم خلفائه ، للفرق الشاسع بينه وبينهم ، من حيث درجة تكامل القيادة

لديه ولديهم . وهذا ما سنتعرض له في الباب الأخير من هذا التاريخ إلا

أن أصل النظام يبقى موجوداً ومستمراً باعتبار الدفع الثوري الفكري والإجتماعي والتشريعي الذي يوجده المهدي (ع) بين البشر . ذلك الدفع الذي تقوم الدولة

بعد المهدي (ع) بانتهاجه ، وتربية البشرية تربية مركزة على أساسه .

فهذه هي الضمانات المهمة التي ندركها لاستمرار التطبيق العالمي . . مع

أخذ بعض الضمانات التي ذكرناها لابتداء التطبيق بنظر الإعتبار هنا أيضاً

فانها تكون مؤثرة في كلا الحقلين، كما لا يخفى على القاريء اللبيب

ص: 687

الفصل الرابع: قيادات أصحابه ومقدار قابلياتها

تمهید:

سبق أن عرفنا بكل تفصيل عدد أصحاب الإمام المهدي عليه السلام من المخلصين

الممحصين ، ودرجة إيمانهم وإخلاصهم لعقيدتهم وقائدهم ... ومقدار

شجاعتهم وإقدامهم على التضحيات الجلى في سبيل اللّه تعالى ... ومقدار

مشاركتهم وتأثير هم في الفتح العالمي العادل .

وعرفنا أيضاً ، أن عدد أصحابه غير منحصر بهؤلاء الثلاثماءة والثلاثة عشر . بعد أن دلت الروايات أن نواة جيشه الأولى التي تجتمع في مكة في

أول الظهور ، لا تقل عن عشرة آلاف إنسان ، فضلا عمن يصل إليه بعد ذلك.

ودلت القواعد العامة على أن التخطيط الإلهي لعصر ما قبل الظهور ينتج

ثلاث مستويات من الإخلاص ، كلهم سيكونون من أصحابه - بشكل وآخر -

ويكون المخلصون من القسمين الأولين قابلين لتولي أهم الأعمال في دولة

الإمام المهدي عليه السلام .

هذا . ويبنغي أن ننظر إليهم الآن ، بصفتهم أناساً يباشرون الأعمال

الهامة والحكم تحت إشراف الإمام عليه السلام ، وتنظيمه لهم في العالم .

وينفتح الحديث حول ذلك في عدة جهات :

ص: 688

الجهة الأولى : في إيراد الأخبار حول ذلك

الجهة الأولى : في إيراد ما دار حول ذلك من الأخبار :

أخرج القندوزي في الينابيع (1)عن أبي بصير ، قال جعفر الصادق رضي

اللّه عنه :

ما كان قول لوط عليه السلام

لقومه : «لو انّ لي بكم قوة أو

آوي إلى ركن شديد » الا تمنياً

لقوة القائم المهدي وشدة أصحابه .

وهم الركن الشديد . فان الرجل منهم

يعطى قوة أربعين رجلا . وان قلب

أشد الرجل منهم من زبر الحديد . لو

مروا على الجبال لتدكدكت . لا يكفون

سيوفهم حتى يرضى اللّه عز وجل .

وأخرج في البحار (2) الحديث الذي سبق أن رويناه ، بالإسناد إلى

الفضيل بن يسار عن أبي عبداللّه (ع) ، وفيه يقول :

يتمسحون بسرج الإمام عليه

السلام يطلبون بذلك البركة . ويحفون

به يقونه بأنفسهم في الحروب ويكفونه

ما يريد . فيهم رجال لا ينامون الليل

لهم دوي في صلاتهم كدوي النحل .

يبيتون على أطرافهم ويصبحون على

44

ص: 689


1- ص 509 ط النجف .
2- ج 13 ص 180 .

خيولهم ، رهبان بالليل ليوث بالنهار .

هم أطوع له من الأمة لسيدها . وهم

من خشية اللّه مشفقون .

وأخرج أيضاً (1)عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال :

كأني بأصحاب القائم وقد أحاطوا

بما بين الخافقين . ليس من شيء الا

وهو مطيع لهم.

وأخرج أيضاً (2)عن عبد الأعلى الحلبي عن أبي جعفر (ع) في حديث

طويل يقول فيه :

فيبعث « يعني المهدي (ع) »

الثلثماءه والبضعة عشر رجلا إلى الآفاق

كلها . فيمسح بين أكتافهم وعلى

صدورهم فلا يتعايوان في قضاء

ولا تبقى أرض إلا نودي فيها شهادة

ان لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له

وان محمداً رسول اللّه . وهو قوله

تعالى : وله أسلم من في السماوات

والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون»

(3).. الحديث .

ص: 690


1- المصدر ص 185 .
2- المصدر ص 188 -189 .
3- آل عمران : 3/ 83 .

وأخرج النعماني (1)بإسناده عن هارون العجلي ، قال : قال أبو عبد اللّه (ع) :

ان صاحب هذا الأمر محفوظ

له أصحابه لو ذهب الناس جميعاً

أتى اللّه بأصحابه . وهم الذين قال اللّه

عز وجل : « فان يكفر بها هؤلاء ،

فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين»(2)

وهم الذين قال اللّه فيهم « فسوف

يأتي اللّه بقوم يحبهم ويحبونه ، اذلة

على المؤمنين أعزة على الكافرين (3)

وأخرج أيضاً (4)عن عبداللّه بن حماد الأنصاري عن محمد بن جعفر

ابن محمد عن أبيه عليه السلام قال :

إذا قام القائم بعث في أقاليم

الأرض ( في الأقاليم بأسرها ) في كل

إقليم رجلا . يقول : عهدك في كفك،

فاذا ورد عليك مالا تفهمه ولا تعرف

القضاء فانظر إلى كفك واعمل بما

فيها ... الحديث .

وما أخرجه ابن طاوس في الملاحم والفتن (5)في حديث طويل عن أبي

ص: 691


1- الغيبة للنعماني : ص 170 .
2- الانعام : 6 / 89 .
3- المائدة : 5 /54.
4- الغيبة ص 172 .
5- ص 171 .

بصير عن جعفر بن محمد -يقول فيه- : فقال : أبو بصير : جعلت فداك ليس على ظهرها مؤمن غير هؤلاء ( يعني الثلاثماءة والثلاثة عشر ) ؟ قال :

بلى ، ولكن هذه العدة التي

يخرج فيها القائم (ع) ، وهم النجباء

والفقهاء وهم الحكام وهم القضاة

الذين يمسح بطونهم وظهورهم فلا

يشكل عليكم ( عليهم ) حكم .

وما أخرجه في الإرشاد(1)عن المفضل بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال :

يخرج مع القائم عليه السلام من

ظهر الكوفة سبعة وعشرون رجلا

خمسة عشر من قوم موسى عليه

السلام الذين كانوا يهدون بالحق وبه

يعدلون وسبعة من أهل الكهف

ويوشع بن نون وسلمان وأبو دجانة

الأنصاري والمقداد ومالك الأشتر ،

فيكونون بين يديه أنصاراً وحكاماً .

وأخرج المجلسي في البحار (2) عن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق (ع )

في حديث عن أصحاب المهدي (ع) يقول فيه :

وهم أصحاب الألوية ، وهم

حكام اللّه في أرضه ....الحديث .

ص: 692


1- ص 344 . وانظر أيضاً أعلام الورى للطبرسي ص 423 .
2- ص 185.

وقد ورد في ( خطبة البيان ) التي عرفناها فيما سبق واطلعنا على نقاط

ضعفها ، ما ينفع بهذا الصدد، فلا ينبغي إهماله على أي حال. حيث ورد في النسخة الثانية من هذه الخطبة (1)ما يلي :

ثم يولي ( يعني) المهدي (ع) ( بمكة جابر بن الأصلح

ويقبله العوام بالابطح ، فيرجع من العيلم ويقتل

من المشركين في الحرم . ثم يولي رماع بن مصعب ،

ويقصد المسير نحو يثرب ، فيعقد لزعماء جيوشه

ورايته ويقلد أصفياء أصحابه مقاليد ولايته ؛

ويولي شبابة بن وافر والحسين بن ثميلة وغيلان ابن

أحمد وسلامة بن زيد أعمال الحجاز وأرض نجد.

وهم من المدينة .

ويولي حبيب بن تغلب وعمارة بن قاسم

وخليل بن أحمد وعبد اللّه بن مضر ، وجابر بن

فلاح أقاليم اليمن والأكامل وهم من أعراب

العراق .

ويولي محمد بن عاصم وجعفر بن مطلوب ،

وحمزة بن صفوان وراشد بن عقيل ومسعود ابن

منصور وأحمد بن حسان ، أعمال البحرين وسواحلها

وعمان .جزايرها . وهم من جزاير هز .

ويولي راشد بن رشيد وحزيمة بن عوام وهلال

ابن همام وعبد الواحد بن يحيى والفضل بن رضوان

ص: 693


1- الزام الناصب ص 207 وما بعدها .

وصلاح بن جعفر والحسين بن مالك ، الحبشة

وجزاير الكراديس . وهم من مشارق العراق .

ويولي أحمد بن سعيد وطاهر بن يحيى واسماعيل

ابن جعفر ويعقوب بن مشرك وغيلان بن الحسين

وموسى بن حارث حبشه وأقاليم المراقش . وهم

من الكوفة .

ويولي ابراهيم بن أعطى والحسين بن علاب

وأحمد بن موسى وموسى بن رميح ويميز ابن

صالم ويحيى بن غانم وسليمان بن قيس ، مصادر

الخذلان وأعمال الدفولة ؛ وهم من أرض قوشان .

ويولي طالب بن العالي وعبد العريز بن سهلب

ابن مرة ، وهشام بن خولان وعمر بن شهاب

وجيار بن أعين وصبيح بن مسلم ، أقاليم الأدنى

وجزایر الكتايب . وهم من نواحي شيراز .

ويولي أحمد بن سعدان ويوسف بن مغانم وعلي

ابن مفضل وزيد بن نضر والجراد بن أبي العلا

وكريم بن ليث وحامد بن منصور ، أقاليم الحمير

وجزایر الرسلات . وهم من بلاد فارس .

ويولي العمار بن الحارث ومحمد بن عطاف

وجمعة بن سعد وهلال بن داودية وعمر بن الأسعد

جزاير مليبار وأعمال العماير ، وهم من قرى

العراق الأعلى .

ص: 694

ويولى الحسن بن هشام والحسين بن غامر وعلي

ابن رضوان وسماحة بن بهيج ، الشام والاردنا .

وهم من مشارق لبنان .

ويولي الجيش بن أحمد ومحمد بن صالح وعزيز

ابن يحيى والفضل بن اسماعيل الشام الأقصى والسواحل

من قرى الشام الأوسط .

ويولي محمد بن أبي الفضل وتميم بن حماة

والمرتضى بن عماد وعلي بن طاهر وأحمد بن شعبان ،

بأقاليم مصر وجزائر النوبة . وهم من أرض مصر .

ويولي الحسن بن فاخر وفاضل بن حامد

ومنصور بن خليل وحمزة بن هريم وعطاء اللّه ابن

حياة وواهب بن حيار ووهب بن نصر وجعفر ابن

وثاب ومحمد بن عيسى ، وتفور ، وسايط النوبة

وأعمال الكزود . وهم من بلاد حلوان .

ويولي أحمد بن سلام وعيسى بن جميل وابراهيم

ابن سلمان وعلي بن يوسف ، أعمال نواحي جابلقا

وسواحلها ، وأعمال مفاوز . وهم من الازد .

ويولي وثاب بن حبيب وموسى بن نعمان

وعباس بن محفوظ و محمد بن حسان والحسين ابن

شعبان ، جزاير الأندلس وافريقيا . وهم من

نواحي الموصل .

ويولي يحيى بن حامد وبنهان بن عبيد وعلي ابن

ص: 695

محمود وسلمان بن علي وأحمد بن سامد وعلي ابن

ترخان ، نواحي المراكش وثغور المصاعد ومروجة

النخيل . وهم من أرض خراسان .

ويولي داود بن المخبر ويعيش بن أحمد وأبا

طالب بن اسماعيل وابراهيم بن سهل ، ديار بكر

ومشارق الروم . وهم ( من ) نصيبين وفارقين .

ويولي حمام بن جرير وشعبان بن قيس وسهل ابن

نافع وحمزة بن معفر ، أقاليم الروم وسواحلها .

وهم من فارس .

ويولي علقمة بن ابراهيم وعمران بن شبيب

والفتح بن معلا وسند بن المبارك وقايد بن الوفا

ومصفون بن عبداللّه بن مفارق ، قسطنيطنية وسواحل

القفجاق ، وهم من اصفهان .

ويولي الأخوين محمد وأحمد بني ميمون العراق

الأيمن . وهما من المكين .

ويولي عروة بن مطلوب وابراهيم بن معروف

العراق الأيسر . وهما من أهواز .

ويولي سعد بن نضار ونزار بن سلمان ومعد ابن

کامل ، بلاد فارس وسواحل هرمز وهم من

همدان .

ويولي عيسى بن عطاف والحسين بن فضال

عراق الري والجبال . وهم من قم .

ص: 696

ويولي نصير بن أحمد وعباس بن تنفيل وطايع

ابن مسعود أعمال الموصل ومصادر الأرمن

و ( هم ) من قرى فرهان .

ويولي الامجد بن عبد اللّه وأسامة بن أبي تراب

ومحمد بن حامد وسفيان بن عمران والضحاك ابن

عبد الجبار والمنيع بن المكرم ، بلاد خراسان وأعمال

النهرين . وهم من مازندران .

ويولي المفيد بن أرقم وعون بن الضحاك ويحيى

ابن يرجم واسماعيل بن ظلوم وعبد الرحمن ابن

محمد وكثار بن موسى ، جبال الكرخ وأقاليم

العلان والروس . وهم من بخارى .

ويولي عبد اللّه بن حاتم وبركة بن الأصيل

وأبو جعفر بن الزرارة ، وهارون بن سلطان وسامر

ابن معلا ، المالق ونواحي جين والصحارى . وهم

من مرو .

ويولي رهبان بن صالح وعمارة بن حازم وعطاف

ابن صفوان والبطال بن حمدون وعبد الرزاق ابن

غيشام وحامد بن عبادة ويوسف بن داود والعباس

ابن أبي الحسن ، أقاليم الديلم والقماقم وثغور

الشقاقش والغيلان . وهم من سمرقند .

ويولي مطاع بن حابس ومحمود بن قدامة وعلي

ابن قينن وضيف بن اسماعيل والفصيح بن غيث

ص: 697

ابن النفيس وماجد بن حبيب والفضل بن ظهر

وغياث بن كامل وعلي بن زيد ، مداين الخطا

وجبال الزوابق وأعمال الشجارات . وهم من قم .

ويولي يعقوب بن حمزة ومحمد بن مسلم وثابت

ابن عبد العزيز والحسين بن موهوب وأحمد ابن

جعفر وأبا إسحاق بن نضيع ، مغاليق الضوب

وقرى القواريق . وهم من نيشابور .

ويولي الحسن بن العباس ومريد بن قحطان

ومعلى بن ابراهيم وسلامة بن داود ومفرج بن مسلم

ومعد بن كامل ، بلاد الكلب ونواحي الظلمات.

وهم من القرى .

ويولي فضيل بن أحمد وفارس بن أبي الخير

وأسد بن مراحات وباقي بن رشيد ورضی بن فهد.

وعباس بن الحسين والقاسم بن أبي المحسن والحسين

ابن عتيق ، السدود وحيالها . وهم من نواحي خوارزم

ويولي فضلان بن عقيل وعبد اللّه بن غياث

وبشار بن حبيب وسعد اللّه بن واثق وفصيح ابن

أبي عفيف والمرقد بن مروزق وسالم بن أبي الفتح

وعيسى بن المثنى . أقاليم الضحضح ومناخر

القيعان . وهم من قلعة النهر .

ويولي الزاهد بن يونس وعصام بن أبي الفتح

وعبد الكريم بن هلال ومؤيد بن قاسم وموسى ابن

ص: 698

معصوم والمبارك بن سعيد وعزوان بن شفيع وعلامة

ابن جواد ، أقاليم الغربين وأعمال القراغر . وهم

من الجبل .

ويولي محمد بن قوام وجعفر بن عبد الحميد

وعلي بن ثابت وعطاء اللّه بن أحمد ، وعبد اللّه ابن

هاشم وابراهيم بن شريف وناصر بن سليمان ويحيى

ابن داود وعلي بن أبي الحسين ، أقاليم المعابد وجبال الملابس . وهم من قرى العجم .

ويختار الأكابر من السادات الأعمال العارفين

لإقامة الدعائم ، منهم اثني عشر رجلاً . وهم :

محمد بن أبي الفضل وعلي بن أبي غابر والحسين ابن

علي وداود بن المرتضى واسماعيل بن حنيفة ويوسف

ابن حمزة وعقيل بن حمزة وعقيل بن عي وزيد ابن

علي وجابر بن المصاعد، ويوليهم جابرسا

وأقاليم المشرق ويأمرهم بإقامة الحدود ومراعات

العهود .

ثم يختار رجالاً كراماً أحراراً أتقياء أبراراً ،

وهم : معصوم بن علي وطالب بن محمد وادريس

ابن عبيد وابراهيم بن مسلم وحمزة بن تمام وعلي

ابن الحسين ونزار بن حسن والأشرف بن قاسم

ومنصور بن تقي وعبد الكريم بن فاضل واسحاق

ابن المؤيد وثواب بن أحمد. ويوليهم جابرقا وبلاد

ص: 699

المغرب ، ويأمرهم بما أمر به أصحابهم .

ثم يختار الي عشر رجلاً ، وهم طاهر ابن

أبي الفرج وسعد بن الكامل ولوي بن حرث ومحمد

ابن ماجد ورضي بن اسماعيل وظهير بن أبي الفجر

وأحمد بن الفضل والركن بن الحسين ، ويوليهم

الشمال وأعمال الروم ، ويأمرهم بما أمر به من

تقدمهم من الصديقين .

ثم يختار الي عشر رجلاً نقياً من العيوب ،

وهم : اسماعيل بن ابراهيم ومحمد بن أبي القاسم

ويوسف بن يعقوب وفيروز بن موسى والحسين ابن

محمد وعلي بن أبي طالب وعقيل بن منصور وعبد

القادر بن حبيب وسعد اللّه بن سعيد وسليمان ابن

مرزوق وعبد الرحمن بن عبد المنذر ومحمد بن عبد

الكريم. ويوليهم جهة الجنوب وأقاليمها ويأمرهم

بما أمر به من يقدمهم ( تقدمهم ) .

ثم بعد ذلك يقيم الرايات ويظهر المعجزات، ويسير نحو الكوفة . . الحديث.

وينبغي أن نتحدث نتحدث عن هذه الأخبار في الجهات التالية :

الجهة الثانية : بعض نقاط الضعف في خطبة البيان

الجهة الثانية : بعض نقاط الضعف في خطبة البيان ، غير النقاط العامة

التي عرفناها والتي تسقطها عن قابلية الإثبات التاريخي .

النقطة الأولى : إن مقتضى الفهم العام للروايات الأخرى ، هي أن الخاصة

الثلاثماءة والثلاثة عشر ، هم سيقومون بالقيادة العسكرية الرئيسية منذ فتح

العالم ، وسيكونون هم أنفسهم الحكام الذين يوزعهم الإمام المهدي (ع)

ص: 700

على مناطق العالم . وأوضح ما دل على ذلك من الروايات قوله : «وهم الحكام

والقضاة والفقهاء » . مضافاً إلى أنهم الصفوة الذين هم في أعلى درجات الإخلاص

من الجيل المعاصر يومئذ من البشر أجمعين ، فلن يجد المهدي (ع) - عادة -غيرهم لتولي الحكم في العالم تحت إشرافه وقيادته .

وأما خطبة البيان ، فيمكن فهم خلاف ذلك منها. حيث دلتنا النسخة الأولى منها على أسماء الخاصة بصفتهم يجتمعون للإمام (ع) في أول ظهوره ويبايعونه

وينصرونه . ودلتنا النسخة الثانية من الخطبة على أسماء الحكام الذين يوزعهم الإمام (ع) في أقاليم الأرض. وهو ما نقلناه قبل قليل . وقد نقلنا الأسماء

الواردة في النسخة الأولى عند الحديث عن بيعة المهدي (ع) .

وبعد ضم النسختين إلى بعضهما ، نستنتج بوضوح أن الخاصة الذين يبايعونه

لیسوا هم الخاصة الذين يمارسون الحكم تحت قيادته . مع العلم أنه ليس هناك

أي اشتراك بين الأسماء في النسختين ، كما هو واضح لمن يراجعهما . وهذا

على خلاف النتيجة التي ثبتت عندنا فيما سبق .

وقد يخطر في الذهن : أننا لا نستطيع ضم النسختين إلى بعضهما بعد العلم

أن كليهما لم يصدرا من الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام .

وإنما تعددت النسخ في طريق الرواية فقط .

وجواب ذلك : إن دلالة خطبة البيان على أن الحكام هم غير الخاصة الذين

يبايعونه لأول مرة ، كما يمكن أن نفهمه عند ضم النسختين ، بعد العلم أن قيمة

الإثبات التاريخي لأي منهما مساوية للأخرى ... يمكن أن نفهمه أيضاً بضم

النسخة الثانية التي ذكرناها في هذا الفصل إلى الروايات الأخرى التي سمعناها

هناك والتي لم نسمعها أيضاً، مما ورد فيها تعداد أسماء الخاصة الذين يبايعون المهدي (ع) لأول مرة. فإن أياً من تلك الروايات غير مطابقة مع هذه النسخة

ص: 701

الثانية . فتدل هذه النسخة بعد ضمها إلى أي من تلك الروايات على أن هؤلاء الحكام الذين ذكرتهم هم غير أولئك الخاصة . وهي خلاف النتيجة التي عرفناها.

النقطة الثانية : إن هذه النسخة من خطبة البيان دالة بوضوح ، على أن الإمام المهدي (ع) يعين هؤلاء الحكام قبل وصوله إلى الكوفة لأول مرة .

وهذا معناه أنه يعينهم قبل سيطرته على العراق فضلا عن باقي العالم . وقد سمعنا فيما سبق أنه إنما يبث الجيوش بعد وصوله إلى الكوفة .

وهذا المضمون لا يبدو صحيحاً ، لورود أعتراضين عليه : الاعتراض الأول : أن تعيين الحكام يومئذ لا يعني إرسالهم إلى المناطق

التي جعلوا فيها ، لوضوح أن السيطرة لم تتم على أي شيء من هذه المناطق إلى حد

الآن . فلا بد أن يفترض أنه تعيين ( نظري) لأجل إنجازه بعد الوصول إلى

تلك المناطق . وهذا بعيد ، باعتبار كونه تعييناً قبل وقت الحاجة . وإنما يحتاج إلى التعيين في كل منطقة بعد السيطرة على المنطقة بطبيعة الحال . ما لم تكن هناك

مصالح إضافية في نظر الإمام لهذا التعيين (النظري) . . . واللّه العالم .

الاعتراض الثاني : معارضة رواية خطبة البيان ، بما دل من الروايات

على أن تعيين الحكام يتم في الكوفة نفسها نفسها ... كالرواية التي نقلنا قسماً

منها عن المجلسي في البحار . فإنه يذكر دخول المهدي (ع) إلى العراق أولا ، ومنازلتة للسفياني واستتباب الأمر له هناك . ثم يذكر تحديه للروم -

وهو صورة من صور الفتح العالمي - . ويقول: ثم يرجع إلى الكوفة ، فيبعث

الثلثماءة والبضعة عشر رجلا إلى الآفاق كلها . . . الحديث .

وهذه الرواية تفيدنا أيضاً من زاوية أن الحكام الذين يرسلهم المهدي (ع)

هم أولئك الخاصة الثلاثماءة والثلاثة عشر ، وليسوا أشخاصاً آخرين ، كما

دلت عليه خطبة البيان .

ص: 702

النقطة الثالثة : إن رواية خطبة البيان تحتوي على خطأين في الترقيم .

الخطأ الأول: أنه يقول : ويختار الأكابر من السادات الأعمال العارفين

لإقامة الدعائم ، منهم إثني عشر رجلا ... ويعد عشرة فقط . وهم المسؤولون عن أقاليم المشرق من العالم .

الخطأ الثاني : أنه يقول : ثم يختار إثني عشر رجلا ، ثم يعد ثمانية فقط !!

وهم المسؤولون عن جانب الشمال من العالم .

وهذا خطأ واقع لا مناص منه ، إلا أنه خطأ في الرواية والنقل ، حيث

أسقط الرواة الأشخاص الآخرين سهواً . وأما الخطبة في الواقع فهي - على تقدير صحتها- لیست ناقصة بطبيعة الحال .

النقطة الرابعة : إن تقسيم المناطق على الحكام قابل للمناقشة من عدة جهات :

الجهة الأولى : التكرار في المناطق خلال الرواية اما بنفس اللفظ أو بلفظ

آخر. فالحبشة تكررت مرتين بهذا اللفظ ، ومرتين بلفظ ( النوبة ) .

مع العلم أن الحبشة والنوبة إسمان لبلاد واحدة في إفريقيا . وتكررت (الروم ) مرتين ، وتكور (المغرب) مرتين ، تارة بلفظ ( جابلقا) وأخرى بلفظ

( جابرقا ) وهي أكبر مدن المغرب (1)أو جهة المغرب في بعض اللغات.

الجهة الثانية : أنه بينما نريد أن التعيين يتم في مناطق العراق وإيران وشبه

الجزيرة بكثرة . . . نرى إلى جانب ذلك أن مناطق شاسعة ليس لها إلا القليل من

الأشخاص كإفريقيا ، وجهات الجنوب كأستراليا وأمريكا الجنوبية.

الجهة الثالثة: أن عدداً من المناطق المذكورة في الرواية غير

على الإطلاق وغير موجودة في المصادر والأطالس .

ص: 703


1- قال في مراصد الاطلاع: هي مدينة بأقصى المغرب : ج 1 ص 304 .

نعم يمكن في بعضها فهم المناطق من زاوية اللغة القديمة المعاصرة لزمن

صدور النص . فقوله ( أقاليم الأدنى) يراد بها الأقاليم الشرقية القريبة من

الشرق الأوسط كأفغانستان وباكستان والجمهوريات الأسيوية الجنوبية من

الإتحاد السوفيتي .

ويراد بوسايط النوبة ، ما يصطلح عليه باللغة الحديثة بوسط إفريقيا .

ويراد ببلاد الروم ، أوروبا على العموم . ويراد بديار بكر ومشارق الروم ،

آسيا الصغرى وشرق أوروبا ، وهي التي تحت الحكم الشيوعي في العصر الحاضر.

والحين بالجيم الفارسية هو الصين باللغة الحديثة. ويراد بنواحي الظلمات

أمريكا بأقسامها الشمالية والوسطى والجنوبية . باعتبارها واقعة وراء بحر الظلمات وهو المحيط الأطلسي باللغة الحديثة .

هذا ، ولكن يبقى بعد ذلك عدد من المناطق غير المعروفة ، كما لا يخفى.

الجهة الثالثة : من هذا الفصل : في تقديم فهم عام لهذه الروايات ، قبل

الوصول إلى التفاصيل الآتية :

تقسم خطبة البيان العالم إلى تقسيمين :

التقسيم الأول : وهو الأشمل والأوسع ، وهو تقسيم العالم كله إلى أربع

مناطق : شمال و جنوب و شرق و غرب ... يعين لكل منطقة ( لجنة) مكونة

من إثني عشر رجلا من الأتقياء الأبرار الصالحين .

وأما تطبيق هذه المناطق على العالم ، فلا تنطق به الرواية ، ومن الصعب

تطبيقه إلى حد ما ... غير أن أفضل ما نفهمه بهذا الصدد هو أن هذا التطبيق موكول إلى نظر القائد المهدي (ع) طبقاً لما يرى من المصلحة .

التقسيم الثاني : تقسيم العالم إلى مناطق أصغر من ذلك . وقد يكون الحكام

ص: 704

المعينين فيها أقل من درجات الإيمان من أولئك ... بدليل على أن الرواية

دلت على مدح أولئك دون هؤلاء .

كما أن مقتضى هذين التقسيمين هو أن يكون الحاكم للمنطقة ( الصغيرة)

تابع في مسؤوليته إلى الحاكم للمنطقة ( الكبيرة ) .

وهذا التقسيم الثاني هو المشار إليه في الروايات الأخرى ، مع شيء من

الإختلاف ، فإن خطبة البيان تنص على تعيين ( لجنة ) في كل إقليم . بخلاف

الروايات الأخرى فإنها تنص على أنه « إذا قام القائم بعث في أقاليم الأرض،

في كل إقليم رجل ». على أنه من الممكن صدق كلا الروايتين، فإن الحاكم

الرئيسي للإقليم هو واحد لا محالة . ولكن مجموع من يحتاجه الإقليم من

المسؤوليين الرئيسيين أكثر من ذلك بطبيعة الحال .

وبذلك يصبح أصحاب الإمام المهدي القائم (ع) وقد أحاطوا بما بين

الخافقين . ليس من شيء إلا وهو مطيع لهم » . « ولا تبقى أرض إلا نودي

فيها بشهادة . أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له . وأن محمداً رسول اللّه » .

وطبقت فيها الأطروحة العادلة الكاملة .

وسيتم تعيين حاكم مكة المكرمة بمجرد الخروج منها لأول، وإذا كان

المهدي (ع) سيسيطر على البلاد هناك قبل دخوله العراق، فسيتم تعيين الجماعة

التي تحكم نجد والحجاز . وأما باقي الحكام نسيتم تعيينهم بالكوفة ، كما رجحنا

تبعاً لوجود الحاجة إلى التعيين . ومعه فمن الممكن القول : بأن التعيين سيكون

تدريجياً ، تبعاً لسيطرة المهدي (ع) بالتدريج على العالم .

وقد رجحنا فيما سبق أن تقسيم العالم سيكون إلى مئة وخمسين إقليماً على

أقل تقدير ، وستكون الحاجة ملحة عندئذ إلى استعمال الثلاثماءة والثلاثة عشر

كلهم في الحكم مع إضافات أخرى من ذوي الإخلاص الأدنى

من ذلك .

45

ص: 705

ومن المعلوم أن المنطقة كلما كانت أصغر كان مباشرة الحكم وتطبيق العدل

فيها أسهل .

وليس ما يخالف ذلك في الروايات الاخطبة البيان ، فإنها قسمت العالم - بالتقسيم الثاني - إلى خمس وثلاثين إقليماً ، بعضها شاسع جداً حتى أنها

اعتبرت إفريقيا كلها جزءاً من إقليم ، مضافاً إلى جزاير الأندلس .

يتراوح عدد أفراد ( اللجنة ) الحاكمة لكل إقليم – في الخطبة – بين خمسة

إلى ثمانية . ويكون مجموعهم مئة وسبعة وتسعين . . . فإذا أضفنا إليهم الثمان و الأربعين الحاكمين طبقاً للتقسيم الأول كان المجموع مئتين وخمس وأربعين.

وهو ينقص عن عدد الخاصة بثمان وستين فرداً ، فلماذا حصل هذا الفرق؟! . .

وقد يخطر في الذهن : أننا عرفنا أن هؤلاء هم غير أولئك الخاصة ، فمن

الطبيعي أن يختلف رقم هؤلاء عن أولئك .

وجوابه : أننا عرفنا أيضاً أن هذا التفريق هو إحدى نقاط الضعف في خطبة البيان . إذ ليس من المنطقي أن يعرض القائد المهدي (ع) عن تعيين

أولئك الخاصة في أعلى مناصب الدولة العالمية ، ويعين أشخاصاً آخرين أدنى

منهم . إذ أدنى ما يلزم من ذلك : الإخلال بالعدل الكامل المطلوب منه ،

مضافاً إلى دلالة الروايات على ذلك ، كما سمعنا.

إذن ، فلو بقينا نحن والنسخة الثانية لخطبة البيان ، لاستنفدنا منها ، أن هؤلاء الذين ذكرتهم ، هم بعض أولئك الخاصة . ومعه يكون السؤال عن

مصير البقية الذين لم تذكرهم الخطبة ، متوجهاً ! ...

وعلى أي حال ، فإذا تم توزيع الحكام على كل أقاليم الأرض ، كانت

الدولة العالمية المهدوية قد استتبت لأول مرة .

ص: 706

أقول : والأقليم في العرف قسم من الأرض يختص باسم يتميز به عن غيره،

فمصر إقليم والشام إقليم واليمن إقليم ، معرِّب ، وقيل : عربي ، مأخوذ من

قلامة الظفر ، لأنه قطعة من الأرض ، وقال الحواليقي : ليس بعربي محض ،

جمعه : أقاليم (1)، هذا بحسب اللغة ، وأما في الدولة العالمية فالمراد

بالإقليم كل منطقة محددة ، ذات حكم داخلي مستقل عن غيره ، سواء

كانت بمقدار الإقليم بالمعنى اللغوي أو أكثر .

الجهة الرابعة : في إثارة بعض الأسئلة حول مجموع هذه الروايات، مما

قد يلقي بعض الضوء على عدد من التفاصيل :

السؤال الأول : ان المخلصين عموماً ، والخاصة منهم على الخصوص ، سوف يشاركون بطبيعة الحال في الفتح العالمي . وسوف ينقصون نتيجة للحروب

يخوضونها نقصاً كبيراً ، فكيف يفترض مشاركتهم بكامل عدتهم في الحكم؟!...

إلا أن في الخبرات التي عرفناها إلى حد الآن ما يصلح جواباً واضحاً عن

هذا السؤال . وخاصة إذا التفننا إلى أمرين من خصائص الفتح العالمي :

الأمر الأول : الضمانات المتوفرة للجيش المهدوي ، مما لا يمكن توفره

لأي جيش آخر. كالنصر بالرعب ومعونة الملائكة والحرب العالمية السابقة

على الظهور ، لو كانت قد وجدت : وأن أفضل هذه الضمانات في صيانة

الجيش المهدوي هو خبرة الإمام القائد نفسه ، وحسن تخطيطه لغزو العالم ، كما

سبق أن حملنا عنه فكرة مفصلة .

الأمر الثاني : أننا عرفنا بعدة أدلة أن أكثر العالم سوف يدخل تحت الحكم

المهدوي من دون قتال تقريباً ، الأمر الذي يوفر للقائد عليه السلام كثير اًمن

الأسلحة والنفوس .

ص: 707


1- انظر أقرب الموارد ج 2 ص 1035 .

غير أن هذا كله لا ينفي وجود القتل فيهم على نطاق ضيق ، غير أن المظنون آن القتل ، لو حصل . فإنما يحصل على المخلصين من الدرجة الثانية لا

المخلصين من الدرجة الأولى أغني الخاصة الثلاثماءة والثلاثة عشر . لأن هؤلاء

الخاصة ، يكونون قواداً ، والقائد في الحرب القديمة كان يتقدم جيشه فيكون

غرضاً لأول رام ، بينما هو في الحرب الحديثة يعيش خلف خط النار ،

ليتوفر له المراقبة وإصدار التعليمات باستمرار، وبالتالي المحافظة على نفسه من

أجل انتصار الجيش نفسه .

إذن ، فالحرب الحديثة تعطي فرصاً واسعة لصيانة القائد ، فكيف

بالتخطيط العسكري الذي يكون أكثر حكمة وعمقاً عمقاً من هذه الحرب .

ومعه ، يكون افتراض وجود الخاصة بكامل عدتهم بعد الحرب ، كما هو ظاهر الروايات ، أمراً ميسوراً ، وأما المخلصين من الدرجة الثانية، فهم الكثرة بحيث لا يؤثر فيهم القتل القليل نسبياً .

السؤال الثاني : قالت إحدى الروايات التي سمعناها : يخرج مع القائم عليه

السلام من ظهر الكوفة سبعة وعشرون رجلا ، خمسة عشر من قوم موسى عليه

السلام الذين كانوا « يهدون بالحق وبه يعدلون » . وسبعة من أهل الكهف

ويوشع بن نون وسلمان وأبو دجانة الأنصاري والمقداد ومالك الأشتر ،

فيكونرن بين يديه أنصاراً وحكاماً .

وظاهر هذة الرواية رجوع جماعة من الأموات المؤمنين مما قبل الإسلام وبعده إلى الحياة ، ليكونوا من أعوان المهدي (ع) . غير أن هذا المضمون يواجه

عدة إعتراضات :

الاعتراض الأول : أن هذه الرواية غير كافية لإثبات هذه الفكرة . فإنها

- باعتبار غرابتها - تحتاج إلى إثبات قوي ، ولا يكفي فيها الخبر الواحد .

ص: 708

الاعتراض الثاني : ان هذه الفكرة مخالفة لقانون المعجزات ، لأن رجوع الميت إلى الحياة معجزة ، والمعجزة لا تقع الاعند انحصار انتصار الحق بها وعدم وجود البديل الطبيعي لها. ومن الواضح توفر البديل الطبيعي لدى

المهدي (ع) في أصحابه ، فإن المخلصين من الدرجة الأولى بل وكثير من

أفراد الدرجة الثانية ، يماثلون - بكل تأكيد- الأعم الأغلب ممن ذكرتهم

هذه الرواية . كيف وقد تم تمحيصهم الكامل على الأطروحة العادلة الكاملة ،

وكانوا نتيجة جهود البشرية في أكثر من الف عام . على حين أن المؤمنين

السابقين على الإسلام لم يعاصروا هذه الأطروحة ، والمؤمنين المعاصرين

للإسلام لم يتم تمحيصهم بالشكل الكامل ، لوضوح أنهم وجدوا قبل استكمال

ظروف التمحيص والإمتحان.

الاعتراض الثالث : أننا لو غضضنا النظر عن الإعتراضين السابقين ، كان

اللازم رجوع أموات كثيرين إلى الحياة ليسوا بأقل ممن ذكرتهم الرواية ، كالجيش الذي قاتل مع (طالوت) وقالوا :

«كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ

فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ» (1).

وكبعض الحواريين لعيسى بن مريم عليه السلام ، وكعدد من أنبياء بني إسرائيل وغيرهم كداود وسليمان وشعيب ويحيى وغيرهم . ومثل أنصار

النبي (ص) الذين قتاوا بين يديه في بدر وأحد وغيرهما ، وبعض صحابته أيضاً

غیر من ذكرتهم الرواية ، وعدد من علماء المسلمين على مر الأجيال .

وإذا صرنا إلى مثل هذا التفكير ، لم يكن من اللازم وجود أي شخص من

المخلصين الأحياء ، بل يمكن الإكتفاء بالأموات ، ومعه يبقى تأخير ظهور

ص: 709


1- البقرة : 2/ 249 .

الإمام المهدي (ع) وطول غيبته بلا سبب ، فتكون ظلماً للبشر ، لأنه يعني

بقاؤهم ضمن المشاكل والظلم مع إمكان دفعه

عنهم بكل سهولة .

ومع تنزيه اللّه تعالى شأنه عن كل أشكال الظلم ، يتعين القول بعدم صحة

المضمون الظاهر لهذه الرواية ، في حدود فهمنا العام المعاصر.

ومعه ، فلا بد من حملها على بعض أشكال الرمز ، وأن المراد التنبيه على

أن المخلصين المتوفرين للمهدي (ع) ليسوا بأقل رتبة في الإيمان والإخلاص

والعلم والعمل ممن عددتهم الرواية. وهذا أمر صحيح كما عرفنا.

السؤال الثالث : إن المخلصين الممحصين من الدرجة الأولى ، فضلا عن الدرجات المتأخرة ، لم يفرض فيهم أنهم مارسوا إدارة في الدولة أو قضاء

في منطقة خلال عصر ما قبل الظهور ، كما لم يفرض فيهم أنهم درسوا هذه

الأمور من الناحية النظرية ، بحيث يستطيعون تطبيقها في أي وقت شاؤوا .

بل قد يكون الأمر بالعكس ، كما يظهر من بعض الحقائق التي عرفناها ،

فإن التمحيص ينتج اكتساب درجة عليا من الإيمان وقوة الإرادة نتيجة لردود

الفعل الصحيحة تجاه ظروف الظلم والطغيان ، ولا ينتج التمحيص القدرة

على القضاء ، والمران على أساليب الحكم. إذن ، فمن زاوية كونهم ممحصين ،

لا يعني كونهم قادرين على مثل ذلك .

مضافاً إلى أن ما عرفناه في التاريخ السابق (1)من لزوم التزامهم بالتقيه

خلال عصر التمحيص السابق على الظهور بالمعنى الذي فسرناه هناك (2)

قد يلزم منه البعد عن مباشرة أساليب الحكم والقضاء والإنكماش عن الدولة الظالمة

ص: 710


1- انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص 416 .
2- المصدر ص 417 وما بعدها .

ككل . فإنه لو شارك فيها كان فاشلا في التمحيص الإلهي ، وبالتالي لم يكن

من المخلصين الذين لهم شرف الإلتحاق بالإمام المهدي (ع) بعد ظهوره .

يتنج من ذلك أن المخلصين ، بأي د جاتهم لم يمارسوا حكماً ولا قضاء في عهد ما قبل الظهور ، فكيف يستطيعون ممارسته في العالم تحت القيادة المهدوية ، وخاصة وان المطلوب ليس هو القيادة الإعتيادية، بل القيادة العادلة

المعمقة ، ذات التربية المركزة والمستمرة لكل البشرية . فكيف يتم لهم ذلك؟!...

والجواب على ذلك : أن هناك دليلا عاماً يوجب الإلتزام بكون أصحاب

الإمام عليه السلام في أعلى درجات المعرفة والإطلاع .

وذلك : لليقين الذي نملكه بأن دولة الإمام المهدي (ع) سوف تطبق العدل الكامل ، إلى جانب تلك الأخبار الضخمة التي تزيد على التواتر بكثير

والمروية من قبل الفريقين ، بل والموجودة في التوراة والإنجيل أيضاً ، كما

سوف يأتي في الجزء الخاص بهما من هذه الموسوعة ، الدالة كلها علي وجود

السعادة والرفاه في أجلى صورها في دولة المهدي، ووجود الإنجازات الضخمة فيها

ومن المعلوم أن مثل هذا العدل وهذه السعادة ، لا يمكن أن تتم بدون الخبرة الواسعة والثقافة العميقة لكل فرد ممن يشارك في تكوين الدولة وإدارتها

فضلا عن الرؤساء والقضاة . إذن ، فالخبرة المعمقة موجودة لديهم بالضرورة.

كل ما في الأمر ، أننا ينبغي أن نحمل فكرة كافية عن أسلوب حصولهم

على هذه الثقافة . وفي هذا الصدد تواجهنا عدة أطروحات :

الأطروحة الأولى: أنهم يأخذون كل ما يحتاجونه من علوم عن طريق المعجزة ، لا عن طريق التعليم الطبيعي . . . اما دفعة واحدة ، واما بالتدريج

حسب حاجاتهم في كل وقت .

ويمكن أن يستدل على هذه الأطروحة بوجهين :

ص: 711

الوجه الأول : إن هذا هو ظاهر الأخبار السابقة نفسها ، وهي بمجموعها

قابلة للإثبات التاريخي .

حيث نسمعه يقول في أحد الأخبار : « وهم النجباء والفقهاء . . . الذين

يمسح بطونهم وظهورهم فلا يشكل عليهم حكم ... وفي الخبر الآخر :

فيمسح بين أكتافهم ، وعلى صدورهم ، فلا يتعايون في قضاء » فإن المسح

بمجرده ليس تعليماً . وإنما هو «سبب ظاهري» لإيجاد المعجزة التي تعطي التعليم.

وكذلك قوله في الخبر الآخر : « عهدك في كفك ، فإذا ورد عليك مالا تفهمه ، ولا تعرف القضاء فيه ، فانظر إلى كفك واعمل بما فيها » . . دال

على السبب الإعجازي إذا كان المراد أن مجرد النظر إلى الكف كاف في ذلك .

وصحة هذا الوجه منوطة بقانون المعجزات ، من حيث ان دقة الحكم وحسن التصرف من قبل هؤلاء ، هل هو مما يتوقف عليه نجاح دولة المهدي

أولا ، فمتى أصبح الأمر منحصراً بالمعجزة كان وقوعها لازماً كيفما كان شكلها ، ومتى لم يكن الأمر منحصراً بها ، لم تقع المعجزة البتة . وسيأتي أن

المعجزة ليست سبباً منحصراً ، باعتبار وجود الأطروحات الطبيعية الأخري البديلة لتلقي العلم من قبل هؤلاء الحكام .

الوجه الثاني : اننا قلنا في هذا التاريخ ، والتاريخ الذي قبله (1) ، أن الرئاسة العامة في المجتمع تتوقف على أن يكون الرئيس له من قبل اللّه هذه

الصفة الإعجازية ، وهي : أنه متى ما أراد أن يعلم أعلمه اللّه تعالى ذلك . وقد طبقناها على الإمام المهدي نفسه بنجاح ، و ردت في ذلك عدة روايات .

فقد يقال : إننا نطبقها على أصحاب الإمام أيضاً ، فإن كلا منهم قد أصبح

ص: 712


1- تاريخ الغيبة الكبرى ص 504 و ما لح بعدهر إلى عدة صفحات .

في منطقته رئيساً ، لا بد له من حسن التصرف وتطبيق العدل الكامل في إقليمه.

ومعه يكون مندرجاً تحت هذه القاعدة ، وبها لا يعسر عليه حكم ولا قضاء،

لأن جمعيه سوف يكون بإلهام إلهي مباشر .

ومن هنا قد يقال : ان المهدي (ع) إنما يمسح بطونهم وظهورهم مقدمة لوجود هذا الإلهام فيهم. فإنهم بحسب وضعهم البشري الإعتيادي فاقدين لهذه

الصفة ، مالم يقم المهدي (ع) بعمل معين لإعطائها لهم ، وهو المسح .

إلا أن هذا الوجه غير صحيح أساساً لعدة وجوه، نذکر منها إثنان:

الوجه الأول : أن هذه القاعدة خاصة بالرئيس الأعلى الذي ليس فوقه رئيس ، وليس له موجه بشري ولا حاكم أعلى منه ، كالإمام المهدي (ع)

نفسه فإنه يحتاج إذا أشكلت عليه الأمور إلى الإلهام .

أما لو كان للرئيس رئيس فوقه ، يوجهه ويدبر أمره . فإنه لا يحتاج إلى الإلهام، وإنما يمكنه أن يستفيد من توجيهات رئيسه وقائده . ويجب على القائد

الأعلى أن يمد ولاته باستمرار بالتوجيه والإرشاد ، حتى لا ينقطعوا عن حسن

الرأي وعدالة التصرف ، فتفشل قياداتهم . ومع إمكان هذا التوجيه ، يكون افتراض وجود الإلهام أمراً مستأنفاً .

الوجه الثاني : أن أصل الدليل على ذلك خاص بالقائد العالمي المعصوم وغير

شامل لمثل هؤلاء الحكام. وذلك لوجهين نذكر أحدهما ؛ وهو أن وجه الحاجة إلى ذلك كان خاصاً بالقيادة العالمية ، من حيث ان القدرة على استيعاب

الوقائع والأحكام العادلة التي تقتضيها في كل العالم ، أمر خارج عن طوق

القدرة البشرية لأي فرد مهما كان عبقرياً ، ومن هنا كان من الضروري إسعاف

القائد العالمي بالإلهام من أجل تغطية هذه الحاجة الأساسية.

وهذه الحاجة خاصة بالشخص الذي تم تعيينه من قبل التشريع الإلهي، لقيادة

ص: 713

العالم ، باعتبار ما قلناه من ضرورة تساوق قابليات الشخص مع مقدار سعة

مسؤوليته الموكولة إليه في التشريع . فإذا كانت قابلياته قاصرة بدون الإلهام، كان وجود الإلهام ضرورياً .

وأما الشخص الذي تكون مسؤوليته محدودة ، ذات منقطة صغيرة نسبياً بحيث يمكن تغطية تلك الحاجة بأساليب إعتيادية ، فلا يكون مشمولا لهذا الدليل.

و بمثل هذه المناقشات تصبح الأطروحة الأولى مما لا دليل عليه .

نعم ، لا مانع من وجود مضمون هذه الأطروحة ، فيما إذا وقع أحد أصحاب

الإمام المهدي (ع) في صعوبة فكرية بالغة واعتاصت عليه مشكلة إجتماعية

يتوقف تطبيق العدل الكامل على تذليلها ، وتعذر عليه الإتصال بإمامه . فسوف

يكون الإلهام هو المنقذ الوحيد في هذا الموقف حفاظاً على العدل الكامل . فيكون

الإلتزام بصحة هذه الأطروحة ممكناً .

غير ان هذا نادر الوجود ، لوضوح إمكان الإتصال بالإمام المهدي (ع)

في أي منطقة من مناطق العالم .

الأطروحة الثانية : إن أصحاب الإمام المهدي (ع) يلتقون علومهم في العصر السابق على الظهور أو قد يمارسون بعض أشكال الحكم والقضاء أيضاً.

وذلك انطلاقاً من عدة وجوه :

الوجه الأول : إن ظاهر نفس الروايات هو ذلك ، بمعنى أنهم ناجزين علماً وعملا قبل الظهور ، وإنما يتسنى لهم ممارسة الحكم والقضاء في الدولة

العالمية انطلاقاً من هذه الخبرات ، مضافاً إلى التعليمات المهدوية الجديدة .

فإننا نسمع الرواية تقول :« هذه العدة التي يخرج فيها القائم (ع) ،

ص: 714

وهم النجباء والفقهاء وهم الحكام وهم القضاة » . فنفهم منها : أنهم متصفون بهذه الصفات من حين خروجهم مع القائم ومبايعتهم له . وهذا لا يكون إلا إذا كانوا قد عرفوا كل ذلك قبل الظهور .

وأما قوله : « الذين يمسح على بطونهم وظهورهم فلا يشكل عليهم حكم»

فهو إشارة إلى التعليمات المهدوية الجديدة ، كما سوف نشير .

وكذلك الرواية التي تعدد من أصحاب القائم (ع) : يوشع بن نون وسلمان

ومالك الأشتر وغيرهم. فإنهم إن ارادتهم بأشخاصهم، فمن المعلوم أنهم

ناجزون علماً وعملاً ولهم تاريخ إيماني ناصع قبل الظهور. وإن أرادت الرواية

أن أصحاب القائم المهدي (ع) يشبهون بهؤلاء في صفاتهم الرئيسية ، فمن الواضح أن كونهم ناجزين في العلم والعمل من أهم هذه الصفات .

وكذلك خطبة البيان حين تصف عدداً منهم بكونهم : العارفين لإقامة الدعائم أو كونهم رجالا كراماً أحراراً أتقياء أبراراً ، أو كون الفرد منهم نقياً من العيوب . فإنه واضح أن اتصافهم بذلك ثابت لهم في أنفسهم قبل

حصول الظهور .

إذن ، فالروايات لا قصور فيها عن الدلالة على هذه الأطروحة.

الوجه الثاني : أنه ليس من الصحيح القول : بأنه يمكن أن يوجد التمحيص

العالي والإخلاص الكبير ، بدون ثقافة عالية تتناسب معه . إذ مع الجهل يكون

الفرد معرضاً لكل فظيعة من دون أن يعلم ، فيخلّ فعله بإخلاصه ويعتبر ذلك منه فشلا في الإمتحان .

وبكلمة أوضح : إن رد الفعل الصحيح العادل تجاه الوقائع المختلفة ،

الذي هو معنى النجاح في التمحيص ، لا يكون إلا مع معرفة ماهية رد الفعل هذا.

ص: 715

وهذه المعرفة تتوقف على العلم ، بل هي نفس العلم . وكلما كان المتوقع

من الفرد ردود فعل أصلح وأعلى ، كان العلم المطلوب منه أوسع وأعمق :

ومعه يكون الأفراد العالين في التمحيص، الذين هم « خير فوارس على وجه الأرض» هم أعلم أهل الأرض بالشريعة وأطلع الناس على دقائقها.

الوجه الثالث : أنه لا شك في وجود الفقهاء المحققين في علوم الشريعة

والعلماء المطلعين على دقائقها في عصر ما قبل الظهور بأعداد غير قليلة . ولا

يمكن القول - بطبيعة الحال - بأن جميعهم من الفاشلين في التمحيص الإلهي .

بل إننا إن لم نقل بأن جميعهم من الناجحين الممحصين ، فلا أقل من أن عدداً منهم كذلك ، فإن دقة العلم والثقافة الدينية مساوقة عادة مع الإخلاص والمحافظة

على السلوك العادل والصفاء في النية ، وبالتالي مع النجاح في التمحيص ، مالم

يكن الفرد متمرساً في الإجرام ومتوحشاً في الضمير .

وأما ما نجده الآن من ضعف الفقهاء الإسلاميين بالنسبة إلى القوى العالمية

و انصرافهم الظاهري عن الخوض في الأمور العامة : فهو ناشيء من مقدار إمكانياتهم ، وشعورهم بقلة تكليفهم الإسلامي من هذه الناحية . وسترتفع

هذه الصفة عنها عنهم بعد الظهور ، بطبيعة الحال ، وسيتبعون في سلوكهم الجديد

هدى الإمام المهدي (ع) وأوامره وأهدافه ، وبالتالي يصلحون لأن يكونوا

عدداً من المخلصين من أصحابه .

الوجه الرابع : أننا برهنا في هذا التاريخ وما سبقه ، على تطور الفكر الإسلامي خلال العصر الطويل السابق على الظهور ، تطوراً يؤهل الأمة الإسلامية

خاصة والبشرية عامة لفهم القوانين والمفاهيم الجديدة التي يعلنها المهدي (ع)

في دولته العالمية بعد الظهور ... والتي يكون من الضروري إعلانها من أجل

اكتساب ( الأطروحة العادلة الكاملة ) صفة العدل المطلق الذي يمكنه أن يعم العالم بالسعادة والرفاه ويسير به نحو الكمال .

ص: 716

ومن الواضح أن الفرد كلما كان أكثر إخلاصاً للإسلام وأشد تطبيقاً

للعدل على حياته ، سيكون أحرص على فهمه واستيعابه ، ومواكبة آخر أشكال

تطوره . وخاصة إذا احتمل أنه سيكون له مشاركة حسنة بشكل وآخر في

الدولة المهدوية ، ولو كفرد إعتيادي عليه أن يفهم القوانين ويستوعب المفاهيم

الجديدة المعلنة يومئذ . . . فضلا عما إذا شرف بإعطاء بعض درجات المسؤولية

في تلك الدولة .

إذن، فالخاصة الثلاثماءة والثلاثة عشر ، هم بكل تأكيد من مواكبي وقارئي أعلى تطورات الفكر الإسلامي ... إن لم يكن العديد منهم ، من صانعي هذا الفكر المتطور والمشاركين في إيجاده. ونفس هذه الصفة تنطبق

بدرجة أضعف على المخلصين من الدرجة الثانية ، غير أن القارئين المواكبين أوسع بكثير من المشاركين في التطوير .

إذن، فالأطروحة الثانية صحيحة ، لصحة الوجوه الأربعة الدالة عليها جميعاً

غير أن هذه الوجوه تثبت الإستيعاب النظري لتفاصيل الفكر الإسلامي ، ولا

تثبت وجود الممارسة الفعلية للحكم أو القضاء من قبلهم خلال العصر السابق على

الظهور .

هذا ، مع العلم أن الممارسة الفعلية ليس لها دخل مهم في نجاح الفرد في

مهمته ، إذا كان مستوعباً لها نظرياً ، وعارفاً بطبيعة مجتمعه الذي أوكلت إليه قيادته . وخاصة مع الإلتفات إلى أن ذلك لو كان لازماً لكان لا بد لكل موظف

أو حاكم أو قاض أن يكون متمرناً قبل ذلك . وهذه قضية ( متناقضة ) لأن كل حاكم وقاض لا بد أن يكون غير متمرن عند أول استلامه لمهمته .

وإلا لما أمكن الحصول على أي حاكم أو قاض على الإطلاق .

وهذه الوجوه - أيضاً - تثبت اطلاع هؤلاء على الفكر الإسلامي السابق ،

ص: 717

وأما التوجيهات المهدوية والقوانين الجديدة، فهي تبقى محل حاجتهم بطبيعة

الحال . وهذا ما سنبحثه في الأطروحة الثالثة .

الأطروحة الثالثة : إن المخلصين يتلقون ثقافتهم من الإمام المهدي (ع) ،

على أحد مستويات محتملة ، بعد غض النظر عن تلقيهم الإعجازي منه عليه

السلام ، الذي ناقشناه في الأطروحة الأولى :

المستوى الأول : إن المخلصين يتلقون ثقافتهم المعمقة التي تؤهلهم لتولي

أعلى المناصب في دولة العدل العالمية ، من المهدي (ع) نفسه ، قبل ظهوره .

وذلك : انطلاقاً من الفكرة التي سبق أن ذكرناها، وهي أن المهدي (ع) لا يحتجب عن خاصته ، وأنهم يعرفونه بحقيقته في عصر غيبته ، وليس بين

الفرد وبلوغه هذه المرتبة إلا أن يصبح من المخلصين الممحصين المبرئين من

الذنوب والعيوب، وقد دلت الأخبار على أن سبب احتجاب المهدي (ع) وغيبته

إنما هو ذنوب الناس وانحرافهم ، فمع ارتفاع هذه الصفة الرديئة عن بعض

الأفراد يكون سبب الغيبة مرتفعاً فيه ، ومعناه أنه سوف يرى المهدي (ع) بالرغم من احتجابه عن الآخرين .

ومعنى ذلك أن الجماعة المتصفين بالدرجة الأولى من الإخلاص كلهم

يتشرفون بلقائه وسماع كلامه وتوجيهاته حال غيبته .

وهذا المستوى الأول للأطروحة ، لطيف ومحتمل الصحة لو أخذنا بالفهم

الإمامي لفكرة المهدي (ع) إلا أنه غير قابل للإثبات ،

المستوى الثاني : أن المخلصين يتلقون كل ثقافتهم أو جلها بتعليم من قائدهم المهدي (ع) بعد ظهوره ، سواء في ذلك المستوى الفكري العام

والتعاليم الجديدة .

ص: 718

وأحسن ما يقال في هذا المستوى : أنه أمر مستأنف بالنسبة إلى المستوى

الفكري العام الممكن اكتسابه طبقاً للأطروحة الثانية .

المستوى الثالث : ان المخلصين يتلقون تعاليم وثقافات جديدة من الإمام

المهدي (ع) ، فوق مستواهم الفكرّي السابق . قبل ذهابهم إلى مناطق حكمهم

تمهيداً لتمكينهم الكامل من الحكم العادل والقضاء الفاصل .

وهذا المستوى ضروري الصحة ، بعد وضوح عدم مساعدة الفكر السابق

بالرغم من عمقه وشموله ، على إنجاز الأهداف المهدوية العالمية .

وهذا هو الذي أشارت إليه الأخبار التي سمعناها تنقل عن المهدي (ع) حين

يريد إرسال شخص حاكماً على منطقة في العالم ، قوله : عهدك في كفك . فإذا

ورد عليك ما لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه ، فانظر إلى كفك واعمل بما فيها.

وهذا يعني أنه عليه السلام يكتب لكل شخص يرسله « عهداً »(1)

يحتوي على «التخطيط » الذي يجب عليه أن يسير عليه في فترة حكمه . تماماً

كما فعل جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، حين أرسل مالكاً

الأشتر والياً على مصر ، وكتب له العهد المطول المشهور الموجود في نهج البلاغة.

ولكن يبدو أن هذا العهد ليس على شكل القواعد العامة ، كما كان عليه

عهد مالك الأشتر . بل يفترض أنهم قادرون على تطبيق القواعد العامة، مأخوذة

من الفقه العادل في ثوبه الجديد . وإنما يعطى هذا العهد الموارد الضرورة حين

يقع الحاكم في صعوبة من حيث تطبيق القواعد العامة على بعض المشاكل العالمية . ولذا نجده يقول : « فإذا ورد عليك ما لا تفهمه ولا تعرف الق:

ص: 719


1- قالت اللغة : العهد هو الذي يكتبه و لي الأمر للولاة إيذاناً نعم . مع الأمر بلزوم الشريعة وإقامة النصفة . انظر : اقرب الموارد .

يعني طبقاً للقواعد العامة - فانظر إلى كفك - يعني إلى العهد الذي تحمله فيها -

واعمل بما فيها » .

ويقترن هذا المستوى الفكري المعمق بمستوى نفسي معمق يكون الفرد الحاكم محتاجاً إليه ، حين يذهب إلى منطقته لأول مرة ، وتكون الدولة مؤسسه

لأول مرة . انه يتحمل مسؤوليات ضخمة ، قد يعجز عن مجرد تصورها ،

فكيف وهو سيوضع في وسط معمعتها . وهو مؤهل في تربيته السابقة التي

عرفنا جذورها وفروعها مفصلا ، من الناحيتين الإيمانية والفكرية . إلا أنه

يحتاج إلى جانب ثالث هو الجانب النفسي ليكون « أجرأ من ليث وأمضى

من سنان » وليواجه العالم بمعنويات عالية وقوة بالغة مناسبة مع المستوى المطلوب للدولة العالمية المهدوية .

ومن هنا نجد المهدي (ع) - كما في الروايات -يمسح على بطونهم وظهورهم

فلا يشكل عليهم حكم ولا يتعايون في قضاء. فإن الفكرة وحل المشكلة

قد يعتاص على الإنسان مع وجود الإرتباك والتردد في نفسه فيصبح في حالة

شرود و انحطاط . وأما مع ارتفاع المعنويات وقوة الإرادة ، فلا معنى لحصول

ذلك . وأدنى ما يعمله المهدي (ع) في هذا الصدد أن هو يعانقهم هذه المعانقة عند الوداع . ولعله يتخذ خطوات أخرى بهذا الصدد ، سكتت عنها الأخبار

باعتبارها تتحدث بلغة عصر صدورها ، طبقاً لقانون « كلم الناس على قدر عقولهم » .

وبهذا الأسلوب وعن هذا الطريق هذا الطريق ، سوف يتوزع حكام المهدي (ع)

أقاليم العالم ، وتستتب الدولة العالمية ، حتى « لا تبقى أرض إلا نودي فيها

شهادة أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وأن محمد رسول اللّه . وهو قوله

تعالى : وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرها وإليه ترجعون » .

ص: 720

الفصل الخامس: تمحيص الإمام المهدي عليه السلام

لأصحابه خاصة وللأمة عامة

تمهيد:

يتخذ الإمام المهدي (ع) هذا الأسلوب من التمحيص للحصول على فوائد

عديدة ، نذكر بعضها مما يخطر على البال طبقاً للقواعد والروايات السابقة .

الفائدة الأولى : تعويد الأمة الإسلامية الخاصة ، والبشرية عامة ، على

شكل جديد من السلوك ، لم يكن معهوداً من قبل . وان التوقعات من الحاكم

والفرد معاً أصبحت أعمق وأعقد .

الفائدة الثانية : إظهار نقاط الضعف التي لم يستطع التمحيص السابق على

الظهور إظهارها . ومن هنا قد يفشل في هذا التمحيص من سبق له النجاح في التمحيص السابق . لأن هذا التمحيص سوف يبتني على أسس أصعب وأعمق .

الفائدة الثالثة : تهيئة أساليب عميقة يمكن لأصحاب المؤهلات العالية

النجاح من خلالها والتكامل عن طريقها .

الفائدة الرابعة : إنجاز أسلوب عام لتربية البشرية ككل ، بصفتها مطبقة

للعدل الكامل من الآن فصاعداً . وقد سبق أن قلنا أن الدولة ستقوم بأعمال

إختيارية يقصد بها تربية الأمة والبشرية عن طريق التمحيص .

46

ص: 721

وهذا هو أحد الفروق المهمة بين التمحيصين : السابق واللاحق .

فإن التمحيص السابق على الظهور كان مسبباً عن أمر غير اختياري بالنسبة إلى الفرد الناجح فيه . باعتباره ناشئاً من ظروف الظلم والفساد التي

لا يد لهذا الفرد فيها وأما التمحيص اللاحق للظهور ، وفي المجتمع الحالي

من الكافرين والمنحرفين ، فيتعين أن يكون التمحيص اختيارياً ، تقوم به الدولة

أو الإمام عليه السلام ، من أجل تربية الأمة والبشرية .

ومن هنا كان هذا التمحيص ، إحدى الحلقات الرئيسية في تخطيط ما بعد

الظهور ، كما كان التمحيص السابق مهماً جداً في التخطيط السابق .

الفائدة الخامسة : التخلص ممن قد يكون شارك في الدولة العالمية بحكم أو

قضاء ، وليس في واقعه أهلا لذلك ، بالمعنى العميق . سنذكر فلسفته فيما بعد .

إلى غير ذلك من الفوائد ...

ومن حيث الفرق في الهدف بين التمحيصين ، نجد أن التمحيص السابق

كان مستهدفاً إيجاد جماعة محدودة من المخلصين ، ذوو عدد كاف لغزو

العالم ، وأما الباقون ، فقد أوجب ذلك التمحيص تطرفهم إلى جانب الظلم والباطل

وأما هذا التمحيص الجديد ، فهو يستهدف التخطيط العام الشامل له، أعني تخطيط ما بعد الظهور ، من تربية البشرية حكاماً ومحكومين تربية مركزة

ومستمرة نحو التكامل لإيجاد المجتمع العادل المطلق في كل أفراده ، وليس على

مستوى الحكم فقط فقط .وهو « المجتمع المعصوم » الذي ألمحنا إليه في التاريخ

السابق (1) . وسيأتي في الكتاب الآتي من الموسوعة تفاصيل مهمة عن خصائه .

وعلى أي حال ، فينبغي أن ينفتح الحديث عن هذا التمحيص في عدة جهات :

ص: 722


1- تاريخ الغيبة الكبرى ص 481 .

الجهة الأولى : في سرد الأخبار الواردة في هذا الصدد .

ونحن هنا لا نتوخى استيعاب كل ما دل على ذلك ، بل نقتصر على المهم

منه ، فروي ما كان متصفاً بوصفين :

الوصف الأول : كون الخبر مطابقاً مع القواعد المعروفة لنا ، فلو كان يمثل فهماً منحرفاً أو شاذاً لم نروه . لأن إمارات الوضع والإنتحال عليه ظاهرة .

الوصف الثاني : ما لم تكن فيه إثارة طائفية من الأخبار. فإن كان في

مالم

الخبر إثارة من هذا القبيل حذفناه، وإن أحدث نقصاً في التسلسل الفكري العام.

والأخبار في ذلك عديدة شاملة لمختلف جهات التمحيص .

أخرج النعماني (1)عن أبي عبد اللّه (ع) أنه قال :

لو قد قام القائم لأنكره الناس ،

لأنه يرجع إليهم شاباً موفقاً ، لا

يثبت عليه إلا من أخذ اللّه ميثاقه ...

وان من أعظم البلية أن يخرج إليهم

صاحبهم شاباً وهم يحسبونه شيخاً كبيراً.

وأخرج أيضاً (2) عن محمد بن مسلم ، قال : سمعنا أبا جعفر

عليه السلام يقول :

لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا

خرج لأحب أكثرهم الا يروه مما

يقتل من الناس . أما أنه لا يبدأ إلا

ص: 723


1- الغيبة ص 99 .
2- المصدر ص 122 .

بقريش ، فلا يأخذ منها إلا السيف ولا

يعطيها إلا السيف . حتى يقول كثير

من الناس : ليس هذا من آل محمد ،

لو كان من آل محمد لرحم .

وأخرج أيضاً (1)مرسلا عن أبي عبد اللّه (ع) يقول :

إذا خرج القائم ، خرج من هذا

الأمر من كان يرى أنه من أهله ،

ودخل فيه شبه عبدة الشمس والقمر .

وأخرج أيضاً (2)بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع) قال :

ان أصحاب طالوت ابتلوا

بالنهر الذي قال اللّه تعالى : « سنبتليكم

بنهر » (3) . وان أصحاب القائم

عليه السلام يبتلون بمثل ذلك .

وأخرج المجلسي في البحار (4)بإسناده عن أبي بصير عن أبي

جعفر عليه السلام ، قال :

يقضي القائم بقضايا ينكرها بعض

أصحابه ممن قد ضرب قدامه بالسيف،

وهو قضاء آدم عليه السلام .

ص: 724


1- المصدر ص 171 .
2- المصدر ص 170.
3- البقرة : 2/ 249 . وهو نقل بالمعنى عن الآية .
4- ج 13 ص 200 .

فيقدمهم فيضرب أعناقهم . ثم يقضى

الثانية ، فينكرها قوم آخرون ممن قد

ضرب قدامه بالسيف ، وهو قضاء

داود عليه السلام ، فيقدمهم فيضرب

أعناقهم ، ثم يقضي الثالثة ، فينكرها

قوم آخرون ممن قد ضرب قدامه

بالسيف ، وهو قضاء ابراهيم عليه

السلام ، فيقدمهم فيضرب أعناقهم.

ثم يقضي الرابعة ، وهو قضاء محمد

(ص) ، فلا ينكرها أحد عليه .

وأخرج المجلسي في البحار(1)بإسناده عن المفضل بن عمر ، قال

الصادق (ع) :

كأني أنظر إلى القائم على منبر

الكوفة وحوله أصحابه ثلثماءة وثلاثة

عشر رجلا عدة أهل بدر. و هم

أصحاب الألوية وهم حكام اللّه على

خلقه . حتى يستخرج من قبائه كتاباً

مختوماً بخاتم من ذهب ، عهد معهود

من رسول اللّه (ص) ، فيجفلون

عنه اجفال الغنم . فلا يبقى منهم إلا

الوزير واحد عشر نقيباً ، كما بقوا

ص: 725


1- ج 13 ص 184 - 185 .

مع موسى بن عمران (ع) .

فيجولون في الأرض فلا يجدون

عنه مذهباً ، فيرجعون إليه. واني أعرف

الكلام الذي يقوله لهم ، فيكفرون به .

الجهة الثانية : في فهم مفردات هذه الأخبار

الجهة الثانية : في فهم مفردات هذه الأخبار. أعني ما ورد فيها من الفاظ ومفاهيم بعيدة عن الذهن لكي يكون هذا منطلقاً إلى الفهم الكامل الذي سوف تعرب عنه في الجهات التالية .

( قضاء محمد ) نبي الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم ، هو ما أعرب

عنه قوله (ص) : إنما أقضي بينكم بالبينات والإيمان . وهو حديث مشهور مروي

بطريق الفريقين . وقد فهم منه فقهاء الإسلام قواعد القضاء الرئيسية للمرافعات وهو أن تكون البيئة من المدعي واليمين على المنكر .

وأضاف (ص) في حديثه (1):

فايما رجل قطعت له من مال

أخيه شيئاً ، فانما قطعت له به قطعة

من النار ، يعني أن هذه القواعد

القضائية إذا أثبتت حقاً غير واقعي

كان أخذه من قبل غير مستحقه حراماً

غير مشروع ، وان كان القاضي

معذوراً باعتباره جاهلا بالواقع ،

ومتبعاً للقواعد الشرعية العامة الغالبية

الصدق .

ص: 726


1- الوسائل ج 3 ص 435 .

( قضاء داود ) عليه السلام ، هو ما شرحه القرآن الكريم في قوله تعالى :

«وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ

تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا

عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا

تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى

بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ

وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ .إِنَّ

هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً

وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ :

أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ.

قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ

إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ

الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى

بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .

وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ

رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ.فَغَفَرْنَا

لَهُ ذَلِكَ . وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى

وَحُسْنَ مَآبٍ». (1)

والنقطة الرئيسية في هذه الحادثة التي ترويها الآية ، هو أن داود عليه

ص: 727


1- سورة ص : 21 - 25 .

السلام أخذ جانب المدعي من دون أن يطالبه بالإثبات القضائي، أعني البينة.

فقال له : « لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه » .

وقد نطقت به الأخبار أيضاً . منها عدد من الأخبار تدل على أن الخصوصية

الرئيسية فيه هو الحكم طبقاً لعلم القاضي بواقع الحادثة ، لا طبقاً للبينة .

منها ما رواه الحر العالمي (1)بسنده عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (ع)

- في حديث -، قال :

إذا قام قائم آل محمد (ص) حكم

بحكم داود (ع) لا يسأل البينة .

وفي رواية أخرى عن أبان قال : سمعت أبا عبداللّه (ع) يقول :

لا تذهب الدنيا حتى يخرج رجل

مني يحكم بحكومة آل داود ولا يسأل

بيئةً . يعطي كل نفس حقها .

وفي رواية أخرى مرسلة عن أبي عبداللّه (ع) -في حديث - قال :

إن داود (ع) قال : يا رب ارني

الحق كما هو عندك حتى أقضي به .

فقال : انك لا تطيق ذلك . فألح على

ربه حتى فعل ، فجاء رجل يستعدي

على رجل، فقال : ان هذا أخذ مالي

فأوحى اللّه إلى داود : ان هذا المستعدي

ص: 728


1- الوسائل ج 3 ص 435 . وكذا الخبر ان اللذان بعده .

قتل أبا هذا وأخذ ماله . فأمر داود

بالمستعدي فقتل ، وأخذ ماله فدفع

إلى المستعدى عليه . قال : فعجب

الناس وتحدثوا ، حتى بلغ داود (ع)

ودخل عليه من ذلك ما كره . فدعا

ربه أن يرفع ذلك ففعل . ثم أوحى

اللّه إليه أن احكم بينهم بالبينات ،

واضفهم إلى اسمي يحلفون به .

وإنما نقلنا هذا الحديث المرسل ، لوجود فارق بينه وبين الآية . فإن

الحادثة التي يعرب عنها الخبر – لو صح -حادثة واقعية يمكن أن يعلم بها القاضي عن طريق الوحي أو عن طريق معاشرة الخصمين ونحوه . وأما الحادثة

التي تعرب عنها الآية ، فالمشهور عنها أنها حادثة إمتحانية، أوجدها اللّه تعالى

من اجل امتحان النبي داود (ع) واختباره وقد فشل في هذا الإمتحان ، وهو

قوله تعالى : « وظن داود أنا فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب» .فالخصمان لم يكونا خصمين حقيقة ، وإنما كانا ملكين أرسلهما اللّه تعالى لاختبار داود (ع) . واستدلوا على ذلك : بقوله تعالى : « إذ تسوروا المحراب »

فإن البشر لا يتسورون الحائط على القاضي الذي يريدون التحاكم عنده . ولا

يردون عليه في وقت عبادته ، بل في وقت استعداده للحكم .

وكان من واجب النبي داود (ع) طبقاً للقواعد القضائية العامة أن يسأل

من المدعي ، وهو صاحب النعجات التسع والتعسين ، أن يأتي بالبينة الدالة على أن

أن تلك النعجة الواحدة له . ولكنه أسرع بقبول قول المنكر بدون مطالبة البينة ،

وصار إلى جانبه ، بدون دليل . ولكنه فكر بعد ذلك وعلم بخطئه ، فاستغفر اللّه

وخر راكعاً وأناب ، فعفا اللّه عنه وأكرم مقامه .

ص: 729

غير أن الصحيح هو أن الآية لا تدل على أن الحادثة مصطنعة وغير واقعية،

بل تدل على واقعية الحادثة ، بعدة قرائن في الآية نفسها :

القرينة الأولى : قوله تعالى : الخصمين . فإن ظاهره كونهما خصمين حقيقة ،

وحمله على الخصمين المصطنعين خلاف الظاهر ، لأنه مجاز لا يصار إليه إلا بقرينة.

القرينة الثانية : قوله : ان هذا أخي . وهو ظاهر بالأخوة الحقيقية . ومن

المعلوم أنهما لو كانا ملكين لم يكن صدق ذلك ممكناً .

القرينة الثالثة : قوله : له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة . فإن

ظاهره الملكية الحقيقية لنعجات حقيقية. وما خالف ذلك محتاج إلى تأويل .

القرينة الرابعة : قوله : لقد ظلمك بسؤال نعحتك إلى نعاجه . فإنه لا يكون ظالماً على الإطلاق لو كانت المرافعة صورية . ولكانت هذه الجملة كاذبة.

وأما ما ذكروه من أن العبور على الحائط ليس من أفعال البشر ، فهو

غير صحيح ، فإنه أقرب إلى فعل البشر الدنيء منه إلى فعل الملائكة .

وأما كون الحادثة لامتحانه وفتنته ، كما دلت عليه الآية فعلا ، فهذا لا يقتضي إرسال الملائكة إليه ، بل يكون حاصلا مع وجود هذا الترافع نفسه بين

بشرين. بدليل على أنهما لو كانا رجلين حقيقيين لما كان في مستوى الإمتحان الإلهي أي تغيير .

بل ليس في الآية الكريمة أن داود (ع) كان يعلم بحقيقة الموقف ، بطريق الغيب ، ولا أنه مال إلى جانب المدعي لمجرد سماع المرافعة . بل لعله كان يعرفهما عن قريب أو مطلع على حالهما بشكل وآخر .

وإذا كان المفروض لداود في هذه الحادثة وغيرها أن يحكم بعلمه ، كما

ص: 730

سيحكم الإمام المهدي (ع) أحياناً . إذن ، فحكمه صحيح لا غبار عليه ، وجائز للقاضي أحياناً ، إذا كان نبياً أو ولياً على الأقل .

و من هذه الزاوية نعرف دليلا آخر على واقعية هذه المرافعة ، لأنها لو

كانت صورية لم يكن لوجود العلم بالواقع أي معنى . بل كان الأنسب أن يعلم داود (ع) أنها مرافعة صورية ، أو أن يعلم أن الأفضل السير على طبق

القاعدة القضائية العامة . وحيث حكم في الواقعة بعلمه ، إذن، فهي حادثة واقعية.

وأما توبته واستغفاره ، فهو ناشيء من أحد منشئين :

المنشأ الأول : ما هو الموجود في بعض الأخبار ، من أن مؤدى هذه

المرافعة ، كان مماثلا لأمر كان يعيشه في حياته ، وهو أنه عليه السلام بالرغم

من كثرة زوجاته . طلب من أحد أصحابه أن يطلق زوجته لكي يتزوجهاهو. فأراد اللّه تعالى أن ينبهه على ذلك ، فقيض له هذه المرافعة .

إذن ، فاستغفاره لم يكن لأجل التسرع في القضاء ، وإنما كان من أجل

موقفه الحياتي الخاص .

المنشأ الثاني : أن كلا الأسلوبين القضائيين : أعني طلب البينة ، والحكم طبقاً للعلم ... كانا جائزين له . فكان عليه السلام حين يرى اختلاف هذين

الأسلوبين في النتيجة أحياناً فإنه يرجح الحكم بعلمه لأنه أوصل إلى الواقع من

الطريق الآخر . كما في هذا المورد بالذات .

غير أن متابعة العلم كان هو الأسلوب المرجوح في الشريعة الإلهية ، لأنه يتعذر استعماله دائماً ولكل أحد ... وكان من الراجح استعمال الأسلوب

القضائي العام وهو طلب البينة دائماً وبلا استثناء ، حتى لو كان خاطئاً أحياناً،

ليستقيم القضاء على وتيرة واحدة عنده وعند غيره من الناس .

ص: 731

إذن ، فقد استعمل النبي داود (ع) الأسلوب المرجوح في هذه الواقعة،

وعرف بعد ذلك أن هذا كان امتحاناً ، لأن الحادثة من موارد اختلاف الأسلوبين كما أشرنا ، وكان الراجح استعمال الأسلوب الآخر ، فخر

راكعاً وأناب .

وقد يخطر في البال : أن هذا الأسلوب إذا كان مرجوحاً ، فكيف سمعنا

من الروايات عمل المهدي (ع) به .

وجوابه يكون من عدة وجوه تأتي عند التعرض لقضاء المهدي (ع) ، وأوضحها أن ظروف التمحيص المخططة تجيز للمهدي (ع) ذلك، على أقل تقدير.

فهذا هو قضاء داود (ع ) ، ولا مجال للتفصيل فيه أكثر من هذا المقدار.

وأما (قضاء إبراهيم ) و ( قضاء آدم ) عليهما السلام . فهو مما لم يردفي

التاريخ ، إذ لم ينقل ، إذ لم ينقل - حسب اطلاعي - أنه عرضت عليهما قضايا معينة حكما فيها بأحكام خاصة . وإن كان لا بد أن هذا قد حدث فعلا ، لأن البشرية

لا تخلو من مخاصمات ، غير أنه لم يردنا بالتحديد أنواع تلك القضايا ومؤديات

الأحكام فيها . غير أن الإمام المهدي (ع) عالم بها، فيمكنه تطبيقها في مواردها

قوله : ( إن أصحاب طالوت ابتلوا بالنهر ) . وقصتهم مشهورة مذكورة

في القرآن الكريم ، لا حاجة إلى تفصيلها . ولكن يحسن بنا عرض فكرة الإمتحان الذي مروا به .

أنهم حين ساروا بقيادة طالوت مدة متوجهين إلى منطقة العدو ، مروا

على نهر في طريقهم ، وكانوا في أشد التلهف إلى الماء هم ودوابهم . فأصدر طالوت القائد قراراً بعدم جواز الشرب من النهر إلا في حدود غرفة واحدة

من الكف يشربها كل فرد :

ص: 732

« قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ

فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي

وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي . إِلَّا

مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ»(1)

وكان رد الفعل تجاه هذا التشريع من قبل الجيش على ثلاثة أقسام :

القسم الأول : وهم الأكثرية الكاثرة ، الذين أسقطوا هذا الإمر عن نظر

الإعتبار ، وشربوا من النهر بكثرة وسقوا دو دوابهم. فكان أن عزلهم القائد عن

الجيش ومنعهم من المسير معه ، وخرجوا بذلك عن الإيمان ، قال اللّه تعالى :

«فلما جاوزه هو والذين امنوا معه » وهم غير هذا القسم.

القسم الثاني : وهم الذين أخذوا بالإستثناء في كلام القائد، فشربوا

بالمقدار الذي أجازه ، واكتفوا بالكف الواحدة عن الكثير .

وقد دل سياق القرآن الكريم على أن هؤلاء هم الذين قالوا عند مواجهة

العدو : « قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ».باعتبارهم باعتبارهم القسم الأضعف.

إيماناً من الجماعة التي صاحبت القائد من حادثة النهر .

القسم الثالث : وهم الذين لم يشربوا على الإطلاق ، أخذاً بالحيطة لدينهم وتقوية لعزائمهم وإرادتهم. ومن هنا لم ترهبهم كثرة العدو . بل « قال الذين يظنون أنهم ملاقوا اللّه ، كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه، واللّه

الصابرين».

فالقسم الأول هو الفاشل في هذا التمحيص ، والقسم الثالث هو الناجح

ص: 733


1- البقرة : 249 .

بشكل كامل ، والقسم الثاني كان ناجحاً في حادثة النهر . ولكن برزت نقطة

ضعفه في آخر لحظة عند مواجهة العدو ، ففشل في هذا الإمتحان الجديد .

وقد يخطر على البال : أن تطبيق هذا الإمتحان على أصحاب الإمام المهدي

(ع) إنما هو باعتبار التمحيص الموجود في التخطيط العام السابق على الظهور ،

حيث عرفنا انقسام المخلصين باعتباره إلى عدة أقسام، يكون الخاصة منهم کالقسم الثالث من أصحاب طالوت ، وهم الذين حاربوا وانتصروا عليه . وفي

بعض الروايات التي سمعنا أحداها فيما سبق أن عددهم كان - ایضاً-ثلاثماءة وثلاثة عش

فليس هذا الخبر ناظراً إلى التمحيص الذي يمر به أصحاب الإمام عليه

السلام بعد ظهوره ، فلا يكون من الأخبار النافعة لنا في هذا الباب .

وجواب ذلك : أن هذا محتمل فعلا ، إلا أن ظاهر الخبر بخلافه ، حيث يقول : وان أصحاب القائم عليه السلام يبتلون بمثل ذلك . فإنهم لا يكونون أصحابه حقيقة إلا بعد ظهوره وانضمامهم إليه ، كما هو واضح .

قوله : ( شبه عبدة الشمس والقمر) وهم الملحدون والماديون، يدخلون في ( هذا الأمر ) يعني الحق والعدل الذي يعانه الإمام المهدي (ع) ويوضحه للعالم

بكل صراحة .

قوله : ( فيجفلون عنه إجفال الغنم) أي يهربون ويفرون . يقال : جفل

البعير إذا ند وشرد ، وجفل القوم إذا أسرعوا الهرب .(1)

قوله : ( فلا يبقى منهم إلا الوزير وأحد عشر نقيباً ). الوزير : حبأ الملك

ص: 734


1- انظر أقرب الموارد.

الذي يحمل ثقله ويعينه برأيه وتدبيره (1) . وقد كان الوزير في الدول السابقة

واحداً توكل إليه مهمات الدولة. وهو بإزاء رئيس الوزراء في الدول الحديثة .

والوزير أيضاً : المعاون ، يقال : هو وزيره ، أي معاونه (2)

والنقيب : شاهد القوم وضمينهم وعريفهم ونقيب الأشراف : من ينقب عن أحوالهم (إسلامية )(3). ويبدو من سياق الحديث أنه بمنزلة

الوزير في الدول الحديثة .

قوله (كما بقوا مع موسى بن عمران ) . . . فيه إشارة إلى قوله تعالى :

«وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ

بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ

اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ...» الخ الآية .(4)

والآية واضحة في أن هؤلاء النقباء أفضل أصحاب موسى عليه السلام ،

غير أنها لا تدل على أنهم نتجوا عن تمحيص سابق فشل فيه غيرهم ، كما هو

ظاهر الخبر ... إلا أن الآية لا تنفي ذلك على أي حال ، وقد علمنا من القواعد

العامة أن هذه الأهمية والعمق في الإخلاص لا يكون إلا نتيجة لتمحيص عميق

یمر به المجتمع ، فينجح فيه التمليل ويفضل فيه الكثير .

الجهة الثالثة : في محاولة فهم عام لهذه الأخبار

الجهة الثالثة : في محاولة فهم عام لهذه الأخبار :

ص: 735


1- ذات المصدر .
2- المصدر نفسه .
3- نفس المصدر .
4- المائدة:12.

يدل مجموع هذه الأخبار ، على أن أسباب التمحيص ومناشئه عديدة :

المنشأ الأول : ظهور المهدي (ع) شاباً موفقاً ، مع أن الناس يحسبونه

شيخاً كبيراً .

وقد سبق أن حللنا ذلك ، وقلنا أنه إنما يحدث في الأوساط البعيدة عن

الفكر الديني ، وعن التعمق ... لوضوح أنه لا معنى لهذا التوقع في المهدي (ع)،

طبقاً لكلا الأطروحتين في فهم الفكرة المهدوية : الإمامية والعامة ... كما

سبق أن أوضحنا .

والذي يبدو أن هذا التوقع لا تدل على حدوثه إلاهذه الروية . . . بينما

دلت على ظهور المهدي (ع) شاباً عدد لا يستهان به من الروايات ، خالية من هذا

التوقع . وعليه ففكرة هذا التمحيص منوطة بصحة هذه الرواية بالذات .

المنشأ الثاني : للتمحيص كثرة القتل الذي يقوم به الإمام المهدي (ع) في

الفترة الأولى من ظهوره .

وقد سبق أن حللنا لك ، وقلنا ان هذه الحملة تنتج رد فعل عنيف لدى الجماعات الموجهة ضدهم ، فيواجهونها بمقدار ما يستطيعون من السوء والإرجاف. وأن من أوضح وأصرح أشكال الأرجاف ضد الإمام المهدي (ع) هو التشكيك بمهدويته ، (ليس هذا من آل محمد . لو كان من آل محمد لرحم).

والمهدي المنتظر لا بد أن يكون من آل محمد بإجماع المسلمين ، وهذا ليس من آل محمد إذن فليس هو المهدي المنتظر .

والإمام المهدي (ع) بعد أن يكون قد أقام الحجة الكاملة على صدقه وعدالة

قضيته ، فثبت للرأي العام العالمي ، باليقين ، أنه هو المهدي المنتظر ، لا

ص: 736

يبقى عنده من جواب على هذه الشبهة ، إلا أن يستمر في القتل حتى يستوعب جميع المرجفين .

فهذا التمحيص ، إذن ، سيوجب زيادة فشل الفاشلين في التمحيص السابق ،

وأما المؤمنين بالمهدي (ع) فسوف لن يكون لهم في هذا التمحيص أي اشتراك

بمعنى أنهم سيكونون من الناجحين فيه بكل تأكيد .

وكلا هذين المنشأين للتمحيص مما سيحدث ، قبل استتباب الدولة العالمية ومن هنا لا يكونان مندرجين في المناهج التربوية العامة التي تعملها الدولة في

سبيل تطوير المجتمع وتقدمه نحو الكمال .

وهذان المنشأن معاً من الأسباب العامة للتمحيص ، وغير خاصة بأصحاب الإمام المهدي (ع ) ... وهما من السهولة بالنسبة إليهم بحيث يحرز نجاحهم

فيهما . بخلاف الإمتحانات الآتية ، فإنها من التعقيد بحيث لا يحرز فيها هذا النجاح.

المنشأ الثالث : للتمحيص ، اتخاذ المهدي (ع) لأساليب الأنبياء السابقين في

القضاء بين الناس .

إذ يكون ذلك ، منشأ للبلبلة والشك في بعض الأوساط من أصحابه.

فيقوم الإمام المهدي (ع) بقتل كل المشككين من هذه الناحية، كما سمعنا من الأخبار

و یحسن أن نتحدث عن هذا المنشأ ضمن عدة تقول :

الحقل الأول : أن التشكيك بهذه الأقضية والإحتجاج عليها ناتج عن

الغفلة أو التغافل عن أمرين :

الأمر الأول : كون الإمام المهادي (ع) أولى بالمؤمنين بأنفسهم وأموالهم،

تماماً كما كان رسول اللّه (ص) ، كما ثبت بالدليل . ومعه فهو يستطيع أن

يعمل أي عمل تقتضيه المصلحة ، من دون أن تجوز مناقشته .

47

ص: 737

الأمر الثاني : ان هذه الأقضية كلها ذات وجوه صحيحة من وجهة نظر

إسلامية أو فقهية ، كما سوف يأتي .

فإن لم يلتفت الفرد إلى هذين الأمرين ، وتناسى - على وجه الخصوص - الحجة القطعية التي أقامها الإمام المهدي (ع) على صدقه وعدالة قضيته ...لم

نستغرب منه أن يستغرب من هذه الأقضية ، وإذا سنحت له الفرصة لأن يحتج ، فإنه يبوح باستغرابه واستنكاره .

وقد يكون لهذا الإحتجاج صيغة فقهية، هي أن المهدي (ع) يجب عليه أن

يطبق القواعد القضائية الإعتيادية ، ولكنه لم يفعل ذلك .

الحقل الثاني : أننا لو نظرنا إلى الشخص المتدين الملتزم ، نرى موقفه من تمحيص عصر ما قبل الظهور واضحاً إلى حد كبير ، من حيث فهمه التام بأن

كل الأوضاع العالمية سياسية واجتماعية وإقتصادية ، قائمة على الظلم والإنحراف ؛

واتخاذ موقف الإحتجاج والسلبية تجاه هذه الظروف ، أمر واضح عقائدياً

لا غبار عليه. إذن ، فمن اللازم على هذا المتدين أن يصمد تجاه التيار وأن ينجح في الإمتحان الإلهي .

ولكن هذا الفرد المتدين الملتزم ، حين يواجه دولة الحق ، وهو خالي

الذهن عن احتمالات تصرفات الإمام المهدي (ع) وأقواله . . . وهو أيضاً قد يكون فج التفكير من ناحية إمكان حمل التصرفات الملفتة للنظر والتساؤل على وجه صحيح ، وليس في تصرفات الإمام المهدي (ع) ما يخالف ذلك .

و هو أيضاً يحمل عن دولة الحق وعن تصرفات رئيسها ، مسبقات ذهنية

معينة ، نتيجة لثقافته الإسلامية التي تلقاها قبل الظهور . إذن ، فمن الطبيعي أن يكون له توقعات معينة عن سيرة الإمام وقضائه ، وخاصة وهو لم يفهم

ص: 738

وضوح معنى الحديث القائل : أن المهدي (ع) يأتي بكتاب جديد وقضاء

جديد وأمر جديد.

فمثلا : يجد هذا الفرد المتدين أنه من الواضح جداً في الإسلام أن يحكم القاضي طبقاً لقانون البينة واليمين . فسوف يمنى بالصدمة العقائدية الشديدة ،

حين يرى إمامه وقائده يخالف قواعد القضاء ، ويخالف - باعتقاده - واضحات

الشريعة الإسلامية .

وحيث لا يعرف هذا الفرد وجوه التصحيح : فسوف يحتج انتصاراً

لاعتقاده . بل قد يؤول موقفه إلى الشك بصدق المهدي عليه السلام ، إذ لو كان هو المهدي المنتظر لكان مطبقاً للشريعة ، في حدود ضرورياتها الواضحة ، على الأقل ! ! ! . .

إنه من المحتمل أن يكون مثل هذا الفرد ، قد اعتقد بصدق المهدي (ع) مدة من الزمن ، وقاتل بين يديه وتحت قيادته قتال الأبطال ، وشارك بشرف

فتح العالم بالعدل . غير أنه يجد الآن - بعد سماعه قضاء المهدي (ع) - أنه كان متوهماً ، وأن أفعاله راحت هدراً ، أنه لم يكن في حسبانه أن هذا أن هذا الإمام

سيترك العمل بواضحات الشريعة ! ! ...

وهكذا يبوء هذا الفرد بالفشل في هذا الإمتحان الجديد ، فيصبح منحرفاً كان يجب عليه التسليم لإمامه في كل ما يفعل، لأن واضحات الشريعة إنما تؤخذ

منه لا أنها تفرض عليه . فاستنكار ذلك يعد انحرافاً، ولا بقاء للمنحرف في دولة

العدل ، ومن هنا يأمر المهدي (ع) بقتل كل من يحتج على قضائه . وبذلك

يذهب جماعة ممن ضرب قدام المهدي (ع) بالسيف .

الحقل الثالث : يمكننا أن نلاحظ في هذه الأقضية عدة أمور :

ص: 739

الأمر الأول : أن الإحتجاج عليها خاص بالفقهاء العارفين بالشريعة ،

ومن يقرب من مستواهم . وأما عوام الناس فلا معرفة له بصحة ذلك أو فساده.

و من هنا يكون في المحتجين من كان قد اعتقد بالمهدي (ع) وشارك في الفتح

العالمي ممن له ثقافة إسلامية واسعة .

الأمر الثاني : أن الرواية لا تدل على انحصار الإحتجاج بأصحاب الإمام

المهدي (ع) وإنما تدل على وجود الإحتجاج في أصحابه في الجملة ، بشكل

يناسب أن يكون معهم غيرهم.

الأمر الثالث: أن الرواية لا تدل على كثرة المحتجين بشكل زائد في

كل واقعة ، بل لعله عدد قليل .

الأمر الرابع : من المستطاع القول : أن هؤلاء المحتجين من أصحاب

الإمام عليه السلام ، ليسوا على الإطلاق من المخلصين الممحصين من الدرجة

الأولى . وإنما هم من الدرجة الثانية فما دون .

وهذا واضح من الرواية حين تقول : ينكرها بعض أصحابه ممن قد ضرب

قدامه بالسيف. فإن الذي يباشر الحرب ويتعرض للقتل بشكل رئيسي هو الجندي المحارب ، دون القائد . وقد سبق أن عرفنا أن الجنود يمثلون الدرجة

الثانية، على حين لا يتولى الأفراد من الدرجة الأولى إلا مراكز القيادة .

وأما المخلصون من الدرجة الأولى ، ففشل بعضهم في هذا الإمتحان ، وإن

كان محتملا على أي حال، طبقاً لما قلناه من صعوبة هذا التمحيص . إلا أن

الصفات الكثيرة التي سمعنا عنهم تنفي ذلك ... مثل كونهم : لا تأخذهم في

اللّه لومة لائم ، وكونهم من خشية اللّه مشفقون ، وكونهم رهبان بالليل وفرسان

بالنهار ... وغير ذلك من صفاتهم . فيكون من الراجح عدم فشلهم في هذا التمحيص ، واختصاص هذا الفشل بمن هو أقل منهم إخلاصاً وتمحيصاً .

ص: 740

الأمر الخامس : إن هذه الأقضية لا يعملها المهدي عليه السلام ، إلا بعد انتهاء الفتح العالمي واستتباب الأمن ، والبدء بمباشرة التطبيقات الإسلامية

على كافة الأمور ، بما فيها القضاء .

وهذا واضح من قوله : ممن ضرب قدامه بالسيف . . . الدال على أن

الضرب بالسيف ، يعني الفتح العالمي يكون قد انتهى . وهو واضح أيضاً من

القرائن العامة ، إذ لا يكون للمهدي (ع) فرصة الفراغ إلى مثل هذه الأقضية

إلا بعد الحرب عادة. وهناك بعض النقاط حول ذلك نو كلها إلى ذكاء القاريء .

الأمر السادس : أنه لا دليل على تتابع هذه الأقضية في أيام قليلة ، من

قبل المهدي (ع) . والخبر الدال على ذلك وإن أوحى ظاهره بذلك إلا أن

( العطف ) بثم دليل على التراخي والفصل ما بين قضاء وقضاء بمدة كافية .

وإن كان المظنون ان مجموع هذه الأقضية لا يستغرق وقتاً طويلاً جداً ، بل يكفي فيه العام الواحد تقريباً .

الأمر السابع : أنه لا دليل على استمرار سيرة المهدي عليه السلام على

العمل بهذه الأقضية . وإنما هو يعملها في الفترة الأولى من مباشرته القضاء ...

ثم يحكم أخيراً بقضاء محمد (ص) ويستمر عليه .

والمعتقد أن هذا صحيح بالنسبة قضاء آدم وإبراهيم . وأما قضاء داود

فقد دل عدد من الروايات التي سوف تأتي على استمرار المهدي على ذلك ، ولا أقل من كونه مخيراً - باستمرار - بينه وبين قواعد القضاء الإعتيادية . وهذا ما سوف نبحثه في محله من هذا الكتاب .

الأمر الثامن : أن أهم ما يبدو للنظر من فوائد هذا التمحيص ما يلي :

أولاً : ربط الدعوة المهدوية بخط الأنبياء ككل ، حيث يكون من حق

ص: 741

المهدي (ع) أن يقضي بأي أساوب قضائي سار عليه نبي من الأنبياء السابقين ،

لوجود الإرتباط العضوي بين حلقات هذا التسلسل العام ، المنتهي بالمهدي

نفسه وقد أشرنا أنه من هذه الجهة. يلقب ببقية اللّه في أرضه .

وهذا مبر من الصحة ، كما سبق أن عرفنا ، غير أن المهدي (ع) يقيم الآن

دليلا حسياً على ذلك .

ثانياً : إثبات سعة علم المهدي (ع) وإطلاعه على أساليب القضاء التي

كان يتخذها الأنبياء السابقون ... أعني إقامة رقم حسي على ذلك .

ثالثاً : تربية الأمة والبشرية على أساس قبول آراء المهدي (ع) وقوانينه

وعدله العام ، بدون مناقشة ، لأن منها ما يتوقف على عدم إطلاع الأفراد على

أسبابه ، بل يجب أخذه بشكل تعبدي محض ، وإلا لم يكن سبباً كاملا للتربية

المطلوبة .

ولذا نجد المهدي (ع) كما تدل عليه الرواية ، يترك الإعلان عن هوية القضاء الذي يقضيه فترة من الزمن ريثما يتعين من يقبله ممن يرفضه ، وبعد أن

يتم القضاء على عناصر الإحتجاج والإستنكار ، يكون التمحيص قدتم فتنفتح

فرصة واسعة أمام المهدي (ع) للإعلان عن هوية هذا الأسلوب القضائي الذي

سار عليه أوذاك . وبعد الإعلان تنتج الفائدتان الأوليتان.

الأمر التاسع : في قابلية هذه الرواية الدالة على تعدد أساليب قضاء المهدي

عليه السلام ، للإثبات التاريخي .

والظاهر أنها الرواية الوحيدة الدالة على ذلك ، في حدود علمنا ، فيكون البناء على صدقها وصحتها ، متفرعاً على قابليتها للإثبات التاريخي . وقابليتها

للإثبات متفرعة على وثاقة رواتها .

ص: 742

هذا وقد نقلها صاحب البحار عن كتاب الغيبة للسيد علي بن عبد الحميد ،

وأحال السند على ذلك الكتاب ، فأصبح الرواة مجهولين بالنسبة إلينا ، فلا تكون

قابلة للإثبات ، وإن كانت قريبة إلى الوجدان على أي حال ، بل ضرورية إذا

كان هذا الأسلوب من التمحيص مما تتوقف عليه تربية المجتمع في التخطيط

اللاحق للظهور .

و بهذا يتم الحديث عن المنشأ الثالث للتمحيص .

المنشأ الرابع للتمحيص : اتخاذ الإمام المهدي (ع) موقفاً جدياً تجاه

تصرفات أصحابه الذين وزعهم حكاماً على أقاليم العالم .

فإنهم بعد توزيعهم هذا سيكونون محل عناية وتركيز ومراقبة من قبل

القائد المهدي (ع) لكي يكونوا جديين في تطبيق العدل صارمين في الحق

مستمرين في الحفاظ على مستوى المسؤولية العليا التي أنيطت بهم . وهي

مسؤولية ليست سهلة ، بل هي مهددة بالزلل والفساد لأقل طمع أو جشع ، کما هي مهددة بالإنحراف في التطبيق لأقل نسيان أو خطأ .

ومن هنا ورد عن المهدي (ع) كونه « شديداً على العمال » .

أخرج السيوطي في الحاوي (1)وابن طاوس في الملاحم والفتن (2) وغيرهما ، عن نعيم بن حماد في كتابه ( الفتن ) بسنده عن طاووس ، قال : - بلفظ السيوطي -:

علامة المهدي أن يكون شديداً

على العمال جواداً بالمال رحيماً بالمساكين

ص: 743


1- ج 2 ص 150 .
2- ص 137 .

و بلفظ ابن طاووس : المهدي سمح

بالمال ، شديد على العمال رحيم بالمساكين

والعامل في اصطلاح أرباب السياسة : الرئيس والوالي ومن تولى إيالة (1)

فالعمال - في الحديث - هم ولاة المهدي في العالم .

ولا يراد بالعامل من يعمل بيده أو في معمل . بدليل قوله : رحيماً بالمساكين

فإن العامل بهذا المعنى من المساكين وضعاف الحال ، فيكون المهدي رحيماً به لا شديداً عليه .

وإنما شدته على عماله ، أعني الحكام الموزعين في أقاليم الأرض ، من.

أجل أهمية تطبيق العدل ، ومراقبتهم لئلا يحصل تسامح أو انحراف فيهم .

وهذا ما يؤكده - أيضاً - الخبر الذي سمعناه في هذا الفصل عن البحار المفضل بن عمر . حيث نستطيع أن نفهم منه هذا التسلسل الفكري :

إن أصحاب الإمام عليه السلام ، خلال حكمهم في العالم ، سيمارسون نشاطهم الإعتيادي، من خلال ما يعرفونه من أحكام وما يتوصلون إليه من أساليب وما يتلقونه من تعاليم وما يحتوون عليه من قابليات ويبقون على ذلك .

برهة من الزمن لا تحددها الرواية .

وهذه الممارسة هي في حقيقتها من أعظم التجارب والتمحيصات المتوجهة إليهم . إلى حد من الممكن القول : بأنهم لم يسبق لهم أن عاشوا مثل هذا التمحيص الكبير ... بالرغم من مرورهم بالتمحيص السابق على الظهور ، وبفترة الفتح العالمي ، واجتيازهم كل ذلك بنجاح منقطع النظير .

ص: 744


1- انظر أقرب الموارد ، مادة عمل .

وخلال هذه البرهة ، تبدأ - بالتدريج - نقاط ضعفهم بالظهور ، ويتجلى اختلاف قابلياتهم في الإدارة وتطبيق العدل بشكل واضح . إلى حد يصبح

العدل العالمي ككل معرضاً للخطر ، لو استمر الوضع على ما هو عليه.

فيأتي ذلك اليوم القريب الذي يجمعهم الإمام المهدي (ع) من أطراف العالم ، ويعمل لهم مؤتمراً عاماً ، فيخرج لهم من قبائه كتاباً مختوماً بخاتم من

ذهب ، عهد معهود من رسول اللّه (ص) - كما تقول الرواية - فيطلعهم عليه.

والرواية لا تشير إلى مضمون هذا العهد ، لأن التصريح به فوق مستوى الذهنية

العامة لعصر صدور النص . إلا أنه من المؤكد أنه سوف يكون مضاعفاً للمسؤولية

عليهم مؤكداً لهم وجوب الإلتزام بالعدل بشكل دقيق لا تسامح فيه.

وبذلك تصبح نقاط ضعفهم التي مارسوها خلال نشاطهم العالمي ، واضحة للعيان.

تقول الرواية : فيجفلون عنه إجفال النعم ... يهربون عنه ولا يقبلون بمضمون هذا العهد . وبذلك يفشلون في هذا التمحيص فشلا ذريعاً ، بالرغم

من أنهم نجحوا في كل التمحيصات السابقة .

وسيكون الفاشلون أكثر أصحابه الخاصة ، إذ لا يبقى منهم إلا اثني عشر نفر منهم ، يتخذون جانب طاعة الإمام المهدي (ع) والإلتزام بعهوده وتعاليمه

فيكون العصاة عليه ثلاثماءة شخص وواحد ، وهم الباقي بعد طرح اثني عشر

من ثلاثماءة وثلاثة عشر .

وليتهم إذ يهربون منه ، يكتفون بترك المجتمع والإنصراف إلى العبادة ، أو الأعمال الخيرية الصغيرة . لكنهم سوف يجولون في الأرض طلباً للناصرين

لهم والمدافعين عنهم ليكونوا جبهة معارضة ضد الإمام عليه السلام أو بما ينوون مناجزته القتال إذا استطاعوا .

ولكنهم سيفشلون في مهمتهم فشلا ذريعاً ، لأن عدل الإمام المهدي (ع)

ص: 745

وهيبته وصحة عقيدته وقانونه . يكون قد سبقهم إلى كل القلوب والعقول .

فلم يبق في العالم أحد إلا تابع المهدي (ع) إيماناً أو خوفاً أو طمعاً ، تماماً كما

نطقت به بعض الأخبار. فيتفرق عنهم الناس ، بعد ، بعد أن يعرفوا مقاصدهم

المنحرفة ، ولا يستطيع هؤلاء أن يجدوا في البشرية مؤيداً ولا ناصراً .

وتمضي خلال ذلك مدة ، يقررون في نهايتها الرجوع إلى المهدي (ع)

للاعتذار منه وتخليص أنفسهم من عقوبته . ولكن سيهات ولات حين مناص

بعد الفشل الذريع . إنهم الآن مستحقون للقتل في منطق الدولة المهدوية . ومن

هنا سيواجههم الإمام القائد بكلام معين ، يأبى الحديث الشريف عن التصريح

بمضمونه ، تكون نتيجته ، أن هؤلاء الناس يكفرون بالمهدي (ع) يعني

ينكرون مهدويته وصدقه . ولا بد أنه عندئذ يأمر بقتلهم جميعاً .

وإلى هنا تنتهي الحادثة التي یعرب عنها هذا الحدیث . و هو أمر محتمل تماماً ، بحسب ما أعطيناها من الفهم المرتبط بالفهم العام للدولة المهدوية وللتمحيصات العامة ، وخاصة تلك التي تكون في التخطيط اللاحق للظهور .

و على أي حال فلن ينجو من الفشل في هذا التمحيص إلا اثني عشر فرداً ، يبدو أنهم يمثلون الحكومة المركزية في العالم، أعني أنهم كانوا يعملون إلى جانب

الإمام المهدي نفسه ، وليسوا متفرقين في العالم . وذلك بمرجحين :

المرجع الأول : أن فيهم الوزير حيث تقول الرواية : الوزير واحد عشر

نقيباً . والوزير يعمل إلى جنب الملك أو الرئيس عادة . وهو في الدولة القديمة

بمنزلة رئيس الوزراء في الدولة الحديثة ، كما عرفنا .

المرجح الثاني : أن هؤلاء النفر القليل أفضل في الإخلاص وقوة الإرادة ،

أساساً من أولئك المرتدين العديدين، بدليل نجاحهم وفشل أولئك . والنجاح

لا ينتج إلا من عمق الإيمان .

ص: 746

ومن الطبيعي أن نفترض أن المهدي (ع) من أول الأمر يختار حكومته المركزية من أفضل هؤلاء الثلاثماثة والثلاثة عشر ، فيستبقي عنده اثني عشر

منهم ، ويفرق الباقي في البلدان. فيكون هؤلاء الإثني عشر أفضل من الجميع ،

فيتيسر لهم النجاح في هذا التمحيص . وهم باعتبار قربهم من قائدهم ومركزية

وجودهم يكونون أكثر استيعاباً وفهماً لموقف المهدي (ع ) وآرائه ، وللمصالح

العالمية ككل ، ومن هنا يكونون أقرب للنجاح في التمحيص من هذه الجهة .

هذا ، ولكن هذه الرواية الدالة على هذا التمحيص لا تخلو من بعض

المناقشات :

المناقشة الأولى : إن هذا الحديث الشريف وحده غير كاف في الإثبات

التاريخي، بحسب الموازين التي اتبعناها في هذا البحث التاريخي .

والقرائن العامة التي فهمناها منه وضممناها إليه . . . وإن كانت مؤيدة لمضمونه ، إلا أنها في الحقيقة ، تؤيد إمكان وقوع ذلك ، لا انها تؤيد إثبات الوقوع . وفرق كبير ما بين هذين الأمرين .

المناقشة الثانية : إننا لو غضضنا النظر عن الأسلوب الإعجازي الذي

عرفنا أن الدعوة الإلهية لا تقوم عليه على طول الخط ... فإننا يمكن أن

نقول : إن ارتداد هؤلاء لا يشكل نقصاً ذريعاً في المؤهاين لإدارة العالم .

فإن كان هؤلاء الذين تمخض عنهم تاريخ البشرية في خطها الطويل ،

لأجل نصرة الإمام المهدي (ع ) طبقاً لتخطيط ما قبل الظهور ، إن كان هؤلاء لم يستطيعوا الاستقامة ولم تتثبت أهليتهم الكاملة لممارسة الحكم . فمن

أين يأتي الإمام المهدي (ع) بغيرهم في تلك العجالة ، ولما يمر بعد

على البشرية زمان كاف للتربية والتكامل بحيث يكون الحكام الجدد أفضل

ص: 747

بدرجات كبيرة وواضحة من هؤلاء المخلصين الممحصين ، إن ذلك - بعد إسقاط الأسلوب الإعجازي عن النظر – أمر في غاية البعد .

فإذا التفتنا إلى أن سياق الحديث . مشعر بأنهم سوف لن يمارسوا الحكم

في الدولة المهدوية طويلاً ، بل قد لا يعدو حكمهم عدة أشهر . وهذا ما

تعضده القرائن ، فإن انكشاف نقاط الضعف ، تكفي فيه هذه المدة بشكل

واضح . فالمدة كافية لفشل هؤلاء ، ولكنها غير كافية لإيجاد بديل أفضل

منهم ، يسد الفراغ الكبير الذي سوف يحدثه ارتدادهم .

وحيث ينعدم البديل ، يستبعد زوال هؤلاء عن كراسي الحكم ، لأنه

سوف يؤدي إلى الإخلال بالدولة العالمية وأهدافها الكبيرة .

المناقشة الثالثة : إن الإمام المهدي (ع ) يقيم الحجة على صدقه لأول

مرة ، عند ظهوره الخاصة أصحابه الذين يبايعونه في المسجد الحرام ويرافقونه

إلى العراق . وهؤلاء هم الذين يفترض بهم أن يكفروا به بعد هذا الزمن

بهم المتطاول والجهاد المتواصل ... بعد أن أضحت الحجة على صدق المهدي

عليه السلام معلنة على البشر أجمعين، وواضحة لكل فرد وضوح الشمس.

وقد شارك هؤلاء أنفسهم في إعلانها وترسيخها في المجتمع ، على أوسع

نطاق .

وإن أهم حجة على الإطلاق يمكن للمهدي (ع ) أن يقيمها هو فتحه

للعالم كله وتطبيق العدل فيه . فإننا لا نعني بالمهدي إلا الشخص الذي يعمل

هذا العمل ويؤسس هذه النتيجة الكبرى، بإجماع علماء الإسلام ، بل بإجماع أهل الأديان.

وإن أي تشكيك يمكن أن يرجف به المرجفون في المعجزات الوقتية التي

ص: 748

يقيمها المهدي (ع ) كحجة على صدقه ، كالذي قيل ضد بني الإسلام (ص) بأنه كاهن أو ساحر . غير أن الفتح العالمي واستتباب الدولة العالمية ، دليل لا يمكن أن يرقى إليه شك .

وإن أهم من يعرف ذلك ويفهمه بعمق من البشر المعاصرين لذلك العهد ،

هم هؤلاء الخاصة المخلصون الممحصون ، فكيف يمكن أن نتصور منهم أنهم يكفرون به ويرتدون عن الإيمان بمهدويته .

المناقشة الرابعة : إننا سبق أن ذكرنا في تاريخ الغيبة الكبرى(1) أن احتجاب الإمام المهدي (ع ) خلال غيبته الكبرى ، مهما كان دقيقاً وشاملاً

إلا أن الفرد إذا وصل في تربيته وتمحيصه إلى درجة معينة عالية من الإيمان ،

فأصبح من المخلصين الكاملين ، كان له أن يرى الإمام ولا دليل على أنه عليه

السلام يحتجب عن مثل هذا المستوى الرفيع من المؤمنين .

وهناك من الأخبار ما يدل على مرافقة المهدي (ع ) لجماعة من الناس مع معرفتهم بحقيقته خلال الغيبة الكبرى. وأن عدداً من الناس ممن كانوا

يشاهدونه خلال ذلك كانوا يعرفونه حين يصادفونه بعد ذلك .

إذن ، فهؤلاء المخلصون المعاصرون للظهور ، كانوا يعرفون الإمام

المهدي (ع ) خلال غيبته ، وربما كان بعضهم متصلاً به ومعاشراً له .

فمثل هؤلاء يكونون مطلعين على حقيقة المهدي (ع ) منذ غبته . وقد سمعنا غير بعيد ، احتمال أن الإمام (ع ) يخصهم خلال ذلك بالتعاليم التي تؤهلهم لتولي مسؤولياتهم الجسيمة بعد الظهور .

إذن ، فهؤلاء الخاصة على يقين بأن هذا الشخص بعينه هو المهدي المنتظر،

ص: 749


1- انظر ص 150 وما بعدها إلى عدة صفحات .

منذ غيبته فضلاً عن عصرظهوره . ومعه فمن غير المحتمل أن يخطر على بالهم التشكيك بمهدويته .

ومع وجود هذه المناقشات وغيرها ، يمكننا أن نطمئن تماماً على استقامة هؤلاء الخاصة خلال ممارستهم الحكم والقضاء في دولة العدل العالمية . وخاصة

بعد أن عرفنا أن أسلوب الإمام القائد عليه السلام ، هو تعاهدهم بالتوجيه

والرعاية والإصلاح .

ومعه لا يكون مضمون هذا الخبر الدال على ارتدادهم ، قابلاً للإثبات التاريخي .

الجهة الرابعة : في تمحيص الإمام المهدي (ع ) للأمة ككل .

والأمة الإسلامية تشكل يومئذ أكثرية البشر ، إن لم يكن جميعها . والدولة

الإسلامية المهدوية مسيطرة على العالم كله بطبيعة الحال .

والفرد الإعتيادي فيها يواجه عدة مستويات من التمحيص، بحسب ما يدركه

الباحث السابق على الظهور .

المستوى الأول : التمحيص تجاه عواطف الفرد وغزائره وشهواته .

فإن الإنسان خلال الحكم العادل ، لا يتحول عما خلق عليه من الميول

والغرائز ، وما ركب فيه من الشهوات ، بل يبقى إنساناً بما له من عقل وفكر

وغرائز وميول ؛ وقصارى ما يقدمه له التشريع العادل، هو أن هو ينظم له متطلبات هذه الجهات ، بحيث يضمن له التوازن بينها أولاً ، والتكامل

المستمر ثانياً .

كما أن قصارى ما تقدمه الدولة العادلة ، هو أن تفتح له فرص هذا

التوازن والتكامل على مصراعيها ، اجتماعياً واقتصادياً ونفسياً وفكرياً د

ص: 750

وأما الأخذ بزمام المبادرة إلى التحكم في الغرائز المنطلقة وكبح جماحها .

وتطبيق مفاهيم الفضيلة والعدل عليها ، أو تطبيقها على هذه المفاهيم ...

فهو موكول إلى الفرد نفسه على طول الخط ، بحسب منطق الدعوة الإلهية .

لا يختلف ما قبل المظهور عما بعده في ذلك .

إذن ، فالفرد يواجه هذه المسؤولية على طول الخط ، وهي تشكل تمحيصاً مهماً بالنسبة إليه ، حيث تقاس تصرفاته وردود فعله ، تجاه متطلبات عواطفه

وشهواته المنحرفة ! فبمقدار ما يمكنه أن يطبق عليها المنهج العادل في التوازن

والتكامل ، يكون ناجحاً في التمحيص ، ومهما قصر في ذلك واستطاعت شهواته السيطرة على سلوكه وتفكيره ، وأعاقت سيره نحو الكمال ، كان

فاشلاً في التمحيص .

المستوى الثاني : المشاركة في تطبيق العدل الكامل .

فإن العدل الكامل يتوقف على تجاوب وتعاطف بين الدولة والأفراد من ناحية ، وبين الأفراد أنفسهم من ناحية أخرى ، وعلى إطاعة كاملة وتطبيق حقيقي للتشريع العادل ، على كل المستويات. لكي يكون لكل فرد في الدولة

والمجتمع شرف المشاركة في إنجاح التجربة العادلة الكبرى ، وفي جعل البشرية جمعاء في طريق التكامل الحقيقي والسعادة الكاملة ، التي يهدف إليها تخطيط

ما بعد الظهور .

وإن أي تقصير أو تخلف ، مهما كان بسيطاً ، سوف يكون عاملاً عكسياً

هداماً في هذا التخطيط المقدس ، وهذا الهدف العظيم ، ويعتبر انحرافاً مهماً وفشلاً ذريعاً في التمحيص . قال اللّه تعالى :

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ

ص: 751

فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ

لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ،

وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ

أَمْنًا ، يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ

بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ،

فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ »(1).

إذن فالكفر والتمرد على متطلبات العدل بعد تنفيذ هذا الوعد وإقامة

الدولة العالمية العادلة ، أمر يمثل أقصى الخسة والانحطاط .

والدولة ، بطبيعة الحال ، تساعد بكل اهتمام، في إيجاد الظروف الملائمة

لتطبيق هذه المسؤوليات ، على ما سنسمع في الفصل الآتي الخاص بأسلوب

تربية الأمة .

وفي مثل ذلك ، يكون الأخذ بزمام المبادرة إلى الطاعة وتطبيق العدل ، من قبل الفرد ، سهلاً إلى حد كبير .ومن هنا تكون بوادر الإنحراف

والتمرد على هذه المسؤوليات من أعظم الجرائم وأكبرها ، ولا يكون العقاب

بالقتل عقاباً مجحفاً .

المستوى الثالث : التسليم بكل ما يقوم به الإمام المهدي (ع ) من من أفعال

وأقوال ، والاعتقاد بكونه هو الحق الصحيح ، وعدم الاستماع إلى الإرجاف

الذي قد يحصل حول ذلك ، مهما كان فعله عليه السلام ملفتا للنظر وغير معروف المصلحة .

لأن هذا التسليم هو الذي يمكن المهدي (ع ) من تربية الأمة والبشرية تربية كاملة ومستمرة ، ووضع الأسس التربوية التي يتبعها الحكام العالميون

ص: 752


1- النور/55.

الذين يمارسون الحكم بعده. بعد وضوح أنه هو الشخص الوحيد المسدّد

من قبل الحكيم المطلق تعالى ، في معرفة الحقائق والمصالح والأحكام .

والأخبار التي رويناها في الجهة الأولى من هذا الفصل ، حين تتعرض

إلى صور التمحيص ، يمكننا فهمها على أساس هذه المستويات الثلاثة .

فأخبار قضاء الإمام المهدي (ع) بأساليب الأنبياء السابقين ، تتعرض إلى التمحيص ، على الأساس الثالث ، لوجوب التسليم بالقضاء الذي يتخذه

المهدي (ع ) على كل تقدير .

وكذلك هؤلاء الخاصة الذين يجفلون عنه إجفال النعم - لو تم الخبر - فانهم نجحوا في التمحيص بالمستويين : الأول والثاني . وفشلوا في المستوى

الثالث . وقد عرفنا تفصيله .

أما امتحان أصحاب طالوت ، وتطبيقها على أصحاب الإمام المهدي (ع ) . فإن القسم الأول منهم إن كانوا نجحوا بالمستوى الأول فإنهم فشلموا في المستوى الثاني والثالث ، فإنه كان اللازم الالتزام بكلام قائدهم بدون

مناقشة للوصول إلى الخير والسعادة . بل إنهم لم ينجحوا حتى في المستوى الأول، لأنهم قدموا مصالحهم الحياتية على تطبيق التشريع العادل .

وأما القسم الثاني من أصحاب طالوت ، فقد نجحوا في المستوى الأول ،

لأنهم فضلوا أمر قائدهم على مصالحهم ، ولم يتناولوا سدوى كفاً واحداً من

الماء . ولكنهم فشلوا في المستوى الثالث ، بعدم تركهم هذا الكف من الماء، كما ترك الآخرون .

وأما القسم الثالث من أصحابه فقد نجحوا نجاحاً كاملاً في كل المستويات ،

فأصبحوا من الخاصة المؤمنين ، الذين نصر اللّه تعالى بهم دعوته العامة .

48

ص: 753

وكذلك سيمر أصحاب الإمام عليه السلام بالتمحيص ، وستتعدد مستويات النجاح بالنسبة إليهم، مع فرق مهم بينهم وبين أصحاب طالوت ، في فهم

المستوى الثاني للتمحيص ، فإن أصحاب الإمام (ع) يتحملون مسؤولية تطبيق العدل المطلق ، وأصحاب طالوت يتحملون مسؤولية تطبيق مرحلة

من العدل تناسب المستوى الذي عاصروه من تطور البشرية .

ولن يكون الامتحان الذي يمر به أصحاب الإمام تماماً كذلك الامتحان ،

بكل حوادثه. وإنما تشير الرواية إلى وجود تمحيصات لهم ، لم تشر إلى هويتها

وإنما مثلت لها تمثيلاً ، وقد شرحتها الروايات الأخرى بوضوح .

وأما قوله في الحديث الآخر : إذا خرج القائم ، خرج من هذا الأمر

من کان یری أنه من أهله ، و دخل فيه شبه عبدة الشمس والقمر... فهو بالرغم من كونه خبراً مرسلاً لا يصلح للإثبات ، غير اننا لو لاحظناه على ضوء مجموع الفهم الذي أعطيناه لتمحيص الأمة ،

يصبح فمهه أمراً طبيعياً

وسهلاً . بل يمكن الوثوق بصحة الحديث، على ضوء هذه القرائن العامة .

فإن ذلك يعتبر من النتائج الرئيسية للتمحيصات السارية المفعول في تخطيط ما بعد الظهور . فبينما يكون جماعة من المتدينين بالحق ، نجدهم يخرجون

من عقيدتهم وينحرفون انحرافاً شنيعاً ... بينما نرى قوماً آخر بن ربما يكونون

أكثر عدداً وأكبر عدة ، يكون واقعهم قائماً على الإلحاد والمادية أو التسيب واللامبالاة ، ( شبه عبدة الشمس والقمر ) يؤمنون بالمهدي (ع) ويحسن

إيمانهم نتيجة لوضوح الحجة يعلنها عليه السلام ، وجمال العدل والسعادة

التي تعم دولته العالمية .

وإذا كان الماديون ، وهم أبعد الناس في تسلسل الفكر الاعتقادي لدى البشر من الإسلام ، يصبحون مسارعين إلى الإيمان، فكيف بالآخرين من ذوي

ص: 754

الأديان السماوية وغيرهم، ممن هم أقرب في تسلسل الفكر الاعتقادي

إلى الإسلام ، نتيجة لاعتقادهم بالخالق الحكيم وإنكارهم للمادية المطلقة -.

وسنذكر في الباب التالي من هذا الكتاب ، الفرص الكبرى التي تنفتح لأهل

الكتاب من اليهود والنصارى للدخول في دين اللّه أفواجاً .

وأود في هذا الصدد، أن يفرق القارىء ، بين سيطرة الإمام المهدي (ع ) على العالم وبين دخول الناس في عقيدته. فإن هذه التمحيصات إنما تؤثر في

زيادة الإيمان ونقصه ، بعد استتباب الدولة العالمية ، ولا ربط لها بتأسيس

هذه الدولة .

ص: 755

الفصل السادس: أسلوب الامام المهدي (ع) في تربية الأمة

تمهید:

ينبغي في هذا الفصل ، أن نأخذ بنظر الاعتبار نقطتين مهمتين :

النقطة الأولى : إن بحثنا عن أسلوب الإمام عليه السلام ، في تربية الأمة ،

سوف يكون بحثاً إجمالياً بعد تعذر الاطلاع على التفصيل . لأن ذلك يقتضي

الاطلاع الكامل على عمق الوعي الذي يقوم بنشره الإمام عليه السلام في

ربوع البشرية ، ليمكننا أن نرى أصبح الطرق وأسهل الأساليب التي يتخذها

عليه السلام في هذا الصدد . فيبقى تفصيل ذلك مؤجلاً إلى عصر الظهور .

ومن هنا سوف نقتصر بالضرورة ، على ما تدركه أذهاننا من عناوين

عامة ، وأساليب مفهومة ، مطابقة للقواعد العامة المبرهنة الصحة في الإسلام .

النقطة الثانية : إن هذا البحث ، بالرغم من إجماله ، سوف لن يعدم

المصادر للاطلاع على بعض الخصائص من هذه الناحية، تلك المصادر التي

اتبعناها في كل هذا التاريخ ، وهي القواعد العامة في الإسلام والأخبار الواردة

بالخصوص ، مما يمكن أن يلقي ضوءاً على محل الكلام. وسنرى هنا أن

في هذين المصدرين غناء وعطاء سخياً .

ص: 756

وسنتحدث في هذا الفصل عن جهتين : إحداهما : في الأساليب العامة

المتخذة لتربية الأمة في عهد الظهور . والأخرى : في نتائج هذه التربية ،

أو ما يمكن أن يصل إليه المستوى الثقافي والإيماني للأمة الإسلامية ، نتيجة

للتربية المهدوية .

الجهة الأولى : في الأساليب العامة للتربية في عصر الظهور

الجهة الأولى : في الأساليب العامة المتخذة لتربية الأمة في عصر الظهور .

ويكون في الإمكان أن ندرك تالك الأساليب أو استطعنا أن نحمل فكرة

واضحة عن دواعي الإنحراف وموجباته ، في المجتمع المنحرف فيما قبل

الظهور .

وتتلخص تلك الدواعي - بشكل عام - فيما يلي :

أولاً : التثقيف المنحرف الموجه من قبل الدولة للأجيال الصاعدة ،

في المدارس والمعاهد ووسائل الإعلام بشكل عام .

ثانياً : الضغط الموجه من قبل الدولة لإطاعة وتطبيق القوانين الوضعية

المخالفة للعدا الإسلامي .

ثالثاً : الحاجة المالية عموماً والتنافس المالي خاصة ، الذي يدعو الفرد إلى ارتكاب كل الأساليب في الحصول على المال ، سواء في الصناعة أو التجارة او - خدمة الدولة أو غيرها .

رابعاً : التنافس الاجتماعي في توسيع السكن وتجميل الثياب وتحسين

وجبات الطعام ، والحصول على الآلات الحديثة الموفرة للراحة والرافعة من

شأن صاحبها نتيجة لهذا التنافس .

خامساً : الأغراء الجنسي ، على مختلف مستوياته وأشكاله .

وتتداخل هذه الأسباب وتتشعب ، فيشعر الفرد المعاصر ، بكل وضوح

ص: 757

بأن السير في اتجاهها هو الأصلح له ، والذي يوفر له قسطاً من الراحة والهناء .

و من هنا يندفع تلقائياً إلى التكيف طبقاً لمتطلباتها ، فيعطيها من جانبه المعنوي

والخلقي ومن راحته وهنائة نفسه الشيء الكثير .

و من هذا المنطلق يحدث التغيير ، إذ يشعر الفرد بالراحة والهناء ، بدون

وجود أسباب الإنحراف ليتوفر له فرصة الهداية والسير نحو العدل والحق .

ومن هنا نستطيع أن نتبين بوضوح الأسلوب الرئيسي الجديد لتربية الأمة ،

ضمن النقاط التالية ، كل واحدة بإزاء أحد الدواعي السابقة :

النقطة الأولى : إن التثقيف الخاص والعام ، يصبح موجهاً نحو طاعة اللّه وعبادته الحقيقية ، في كل حقولها ومستوياتها ، والخلق الرفيع ، وذلك عن

طريق كل ألسنة الدولة المهدوية ....ابتداء بالتوجيهات العليا الصادرة من

الإمام عليه السلام نفسه ، وانتهاء بأجهز وانتهاء بأجهزة الإعلام كالإذاعة والتلفزيون

والصحف . وكذلك المناهج التربوية في المدارس والمعاهد العلمية في كل

العالم .

النقطة الثانية : إن الضغط بدل أن يكون موجهاً نحو تطبيق القانون

المنحرف ، سيكون موجهاً ضده وسيستأصل كل منحرف وفاشل في

التمحيص الإلهي كما رأينا وسمعنا. وبذلك تنقطع الأرضية العامه لنمو الفساد

انقطاعاً كاملاً ، ويطبق القانون العادل الكامل تطبيقاً كاملاً .

النقطة الثالثة : إن التنافس سوف يكون موجهاً ومركزاً نحو الخير والصلاح

طبقاً للمفاهيم والقوانين العامة التي تصبح سائدة في ذلك العصر .

النقطة الرابعة : إن الحاجة المالية ، وهي من أعظم أسس الجريمة في

العالم اليوم ، سوف ترتفع تماماً بعد الذي سنسمعه في الفصل الآتي ، من توفير

ص: 758

المهدي (ع) للمال وفرة كبيرة جداً يرتفع به الدخل لكل أحد ، ارتفاعاً

كبيراً. وتتوفر فرصة العمل لكل الأفراد توفراً حقيقياً بشكل متساو . على

ما سنسمع أيضاً .

النقطة الخامسة : إن الإغراء الجنسي المنحرف ، ينعدم بالمرة ، بعد

تطبيق الأحكام الإسلامية في تنظيم العلاقة بين الجنسين. إذ بعد بناء النفوس

والأفكار بناء صالحاً عن طريق التثقيف العام والخاص ، سوف تتمثل هذه

العلاقة على أرفع صورها وأعدل أشكالها .

ومع اجتماع هذه النقاط ، سوف يصدر الفرد عن قناعة وإخلاص ،

إلى ضرورة إقامته للخير والسلوك العادل ومواكبة الأطروحة العادلة الكاملة، التي يدعو إليها المهدي (ع ) ويطبقها .

وسيشعر الفرد بوضوح : أن السلوك الشرير على خلاف مصلحته الخاصة

والعامة. على طول الخط ، فضلاً عن كونه خروجاً عن الخط العبادي للّه

عز وجل ، ومستوجباً للعقاب في الدنيا والآخرة .

فهذا موجز عن الظروف التي توفرها دولة الامام المهدي عليه السلام

للصلاح والايمان ، وبالتالي : العدل . . بغض النظر عن تفاصيل المفاهيم التي يعلنها في المجتمع .. تلك المفاهيم والظروف التي تؤدي إلى النتائج الكبرى التي نحاول أن نحمل عنها صورة واضحة . في الجهة الاتية .

الجهة الثانية : في نتائج التربية الإسلامية في دولة المهدي (ع )

الجهة الثانية : في نتائج التربية الاسلامية في دولة المهدي (ع)، وما يمكن

أن يصل إليه المستوى الثقافي والايماني في المجتمع ، بشكل عام .

ونحن تارة نحاول أن نتناول ذلك من زاوية القواعد العامة التي عرفناها.

اغني من حيث الارتباط بالتخطيط الألهي العام لهداية البشرية ؛ واخرى من

ص: 759

حيث الاعتماد على الاخبار الواردة بهذا الصدد ، مما يمكن جعله منطلقاً إلى

معرفة خصائص المستوى الثقافي والايماني للناس ، فيما بعد الظهور .

أما اذا نظرنا من زاوية التخطيط الالهي العام . فمن مكرر القول أن نؤكد على أن النتيجة الاولى التي تحدث باستتباب الحكم للمهدي (ع) في

العالم ، هو تطبيق ما سميناه ب- ( الاطروحة العادلة الكاملة ) من الناحية القانونية وان النتيجة الكبرى والنهائية التي تحدث نتيجة للخط التربوي الطويل الذي

يتخذه الامام المهدي (ع) في دولته ، هو الهدف الالهي نفسه من خلق

البشرية ، ذلك الهدف الذي اعرب عنه قوله تعالى :

«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ

إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(1).

وهو وجود المجتمع ( العادل) في افراده و ( المعصوم ) في رأيه العام . .

بل المجتمع ( المعصوم )في افراده أيضاً ، في نهاية المطاف وسيأتي البرهان

الكامل عليه في الكتاب الاتي من هذه الموسوعة .

واما اذا نظرنا من زاوية الاخبار الواردة في هذا الصدد ، فنجد امثلة

متفرقة تعطينا صوراً كافية عن السلوك الصالح والمستوى الثقافي والايماني ،

الذي يصله الافراد بعد استتباب دولة المهدي (ع) .

فمن ناحية الاخوة في الهدف المشترك. والتصافي بين افراد المجتمع ،

نسمع الاخبار التالية :

فمن ذلك : ما اخرجه السيوطي في الحاوي(2) عن نعيم بن حماد وابو

ص: 760


1- الذاریات:56.
2- ج 2 ص 129 .

نعيم من طريق مكحول عن علي قال : قلت : يا رسول اللّه . امنا آل

محمد المهدي أم من غيرنا ؟ فقال : لا بل منا ، يختم الله به الدين كما فتح بنا .

وبنا يؤلف اللّه قلوبهم بعد عداوة الفتنة كما الف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك

وبنا يصبحون بعد عداوة الفتنة اخوانا في دينهم . أقول : وهذا حديث مشهور

أوردته الكثير من مصادر الفريقين ،

وأخرج مسلم (1)عن أبي هريرة في حديث عن النبي (ص) أنه قال :

لتذهبن الشحناء والتباغض .

وأخرج النعماني (2) بسنده عن عميرة بنت نفيل ، قالت :

سمعت الحسن ( الحسين ) بن علي

عليهما السلام ، يقول : لا يكون

الأمر الذي تنظرون، حتى يبرأ بعضكم

من بعض ، ويتفل بعضكم في وجوه

بعض فيشهد بعضكم على بعض بالكفر

ويلعن بعضكم بعضاً . فقلت له : ما

في ذلك الزمان من خير ! . فقال

الحسين عليه السلام : الخير كله في

ذلك الزمان ، يقوم يقوم قائمنا ويدفع

ذلك كله .

واخرج المجلسي في البحار (3)باسناده عن بريد العجلي ، قال : قيل

لابي جعفر (ع) :

ص: 761


1- ج 1 ص 94 .
2- ص 109 .
3- ج 13 ص 195 – 196 .

ان أصحابنا بالكوفة جماعة

كثيرة ، فلو أمرتهم لأطاعوك واتبعوك

فقال : يجيء أحدهم إلى كيس أخيه

فيأخذ منه حاجته؟ فقال : لا . فقال : فهم

بدمائهم أبخل ! ... ثم قال : ان

الناس في هدنة ، ننا كحهم ونوارثهم

ونقيم عليهم الحدود ونؤدي أماناتهم.

حتى إذا قام القائم جاءت المزايلة .

ويأتي الرجل إلى كيس أخيه فيأخذ

حاجته لا يمنعه .

اقول : المزايلة هي المفارقة والمباينة بين اهل الحق واهل الباطل والكيس

المراد به محل حفظ النقود .

وهذه الصورة كافية لان نستشف من خلالها حياة الاخوة التي يبذرها

الامام القائد في مجتمعه العادل ، لو اخذنا بنظر الاعتبار أنها أخبار قيات طبقاً

لفهم المجتمع الذي صدرت فيه .

فحسبنا أن نتصور ألاخوة التي استطاع رسول اللّه (ص) أن يبذرها في

صحابته . تلك الاخوة الخالصة المبنية على العقيدة والهدف المشترك، لكي نتصور

أن الامام المهدي (ع) يقيم مجتمعه على نفس المستوى الذي اقام النبي (ص)

مجتمعه عليه . طبقا لما سمعناه عن رسول اللّه (ص) في الخبر - وبنا يصبحون بعد عداوة الفتنة اخوانا كما اصبحوا بعد عداوة الشرك اخوانا

في دينهم .

ولا يخنمانا لطف المقايسة في هذا الخبر بين عصر الجاهلية وما استتبعه من

ص: 762

(عداوة الشرك) وعصر الغيبة وما يستتبعه من ( عداوة الفتنة) . إلى جانب

المقايسة بين عصر النبي كرافع لعداوة الشرك ، وعصر المهدي (ع) كمزيل

لعداوة الفتنة ، وما حدث ويحدث في هذين العصرين من أخوة ووفاق .

كما أن حسبنا أن نتصور مستوى الاخوة العظيم المقترن بالمفهوم الصحيح

و هو أن لاخيك في الايمان حقاني مالك متى أحتاج اليه ، يصبح أي فرد مسروراً

إذا أمتدت يد أخيه المحتاج إلى كيسه أو محفظته ليأخذ مقدار حاجته . تلك

الاخوة التي يمكن بها فتح العالم وتأسيس دولة العدل العالمية . ولئن كانت هذه

الاخوة في أول عهد الظهور محصورة بين الخاصة الممحصين ، فستكون بعد قلیل هي الصفة الشائعة . والمسلمة الموجود في كل مسلم ، نتيجة لتربية المهدي (ع) وجهوده .

واما من ناحية المستوى الثقافي للامة ، فتعطينا الاخبار الصورة التالية :

أخرج الصدوق في اكمال الدين(1)بسنده عن أبي جعفر (ع) قال :

اذا قام قائمنا عليه السلام وضع

يده على رؤوس العباد ، مجمع بها

عقولهم ، وكملت بها أحلامهم .وفي

رواية الكافي (2): وضع اللّه يده ... الخ.

واخرج النعماني (3)بسنده عن حبة العوني : قال : قال امير المؤمنين عليه

السلام :

ص: 763


1- انظر: اكمال الدين المخطوط .
2- انظر : منتخب الاثر ص 483 .
3- ص 171 وكذلك الخبر الذي بعده .

كأني أنظر إلى شيعتنا بمسجد

الكوفة قد ضربوا الفساطيط يعلمون

الناس القرآن ، كما أنزل ،

و في خبر آخر عن أبي عبد اللّه (ع) انه قال :

كأني بشيعة علي في أيديهم المثاني،

يعلمون الناس المثال المستأنف

وفي حديث آخر(1) عن حمران بن اعين عن ابي جعفر (ع) :

انه تحدث عن المهدي (ع) فقال

فيما قال : وتؤتون الحكمة في زمانه ،

حتى ان المرأة لتقضي في بيتها بكتاب

اللّه وسنة رسول اللّه (ص) .

إلى غير ذلك من الاخبار، وسيأتي في الفصل الآتي ما ينفع في هذا

الصدد : والاحلام جمع حلم بكسر فسكون ، وهو الاناة والرشد والعقل .

قال تعالى :

أم تَأْمُرُهُمْ أَحلامُهُم بهذا (2)

أي عقولهم. وقد يقابل به الجهل والسفاهة . قال زهير : وان سفاه

الشيخ لاحلم بعده

ص: 764


1- ص 126.
2- الطور:32.

وقوله : وضع يده على رؤسهم، قال المجلسي في مرآة العقول (1): الضمير في قوله ( يده)، اما راجع إلى اللّه أو إلى القائم عليه السلام . وعلى التقديرين :

كناية عن الرحمة والشفقة أو القدرة و الإستيلاء . وعلى الأخير يحتمل الحقيقة .

أقول : ليس المراد به شيء من ذلك ... وإنما المراد الكناية عن تربية

القائم عليه السلام للأمة الإسلامية، وإنما عبر بالرؤوس باعتبار كونها وعاء

العقل والفكر باعتقاد الناس . ووضع اليد عليها كناية عن السيطرة عليها

بالإقناع والتربية ، لا يختلف الحال في ذلك سواء كان الفاعل المربي هو اللّه تعالى أو المهدي (ع ) ، فإن شريعة المهدي (ع ) هي شريعة اللّه تعالى،

وتربيته هي تربية اللّه عز وعلا ، فكلاهما المربي في حقيقة الأمر .

ومن هنا تنتج التربية نتيجتها الطبيعية المطلوبة ، وهي اجتماع العقول ،

وتكامل الأحلام . والمراد من اجتماع العقول ، الجانب العامي أو الثقافي من

حياة الإنسان والمراد من اجتماعها تسالمها على مفهوم عقائدي واحد وعلى أطروحة تشريعية واحدة ، بحيث يكون من الصعب أن نتصور وقوع الخلاف

بين شخصين مندمجين في الإيديولوجية العامة لدولة المهدي العالمية . وخاصة

إذا أصبحت الأمة والبشرية بدرجة من الكمال بحيث يصبح الرأي العام فيها ( معصوماً ) ويكون تحصل الاجتماع والإتفاق على الأمور سهلا إلى

حد كبير .

والمراد من تكامل الأحلام : ارتفاع مستوى الاذاة والرشد وهو

الجانب العاطفي والنفسي للإنسان . ذلك الجانب الذي يمثل بأول درجاته مستوى ( العدالة ) الفردية في الإسلام ، ويمثل في درجاته العليا مستوى

( العصمة ) التي سوف يصل إليها المجتمع بعد فترة من الزمن .

ص: 765


1- انظر هامش منتخب الاثر ص 483 نقلا عن مرآة العقول .

وهذه النتيجة بجانبيها العلمي والعاطفي ، هي التي تمثل الوعي العالي الذي

يوجده المهدي (ع ) في دولته ومجتمعه. ذلك الوعي الذي قلنا انه لا يمكن

أن يدرك الفرد كنهه إلا المفكر المعاصر لعهد الظهور ، وإنما ندركه الآن

بعناوينه العامة ليس غير .

و من هنا يتضح وضع اليد على رؤوس العباد ، لا يراد به المعنى ولا الحقیقی، و لا الرحمة ولا الإستيلاء بمعنى المالك والسلطنة . فإن كل ذلك

بمجرده لا ينتج تكامل الأحلام ولا اجتماع العقول ، كما هو واضح . وإنما

الذي ينتج ذلك هو التربية والإعلاء للعقول والأفكار والعواطف .

والمراد بالقرآن كما أنزل ، ذلك الذي يعلمه أصحاب المهدي (ع )

للناس ، كما نطق به الخبر ... المراد به المعاني الواقعية للقرآن ، بعد وضوح

عدم اختلاف القرآن عن عهد رسول اللّه ( ص ) لفظياً .

ومن الطبيعي أن يعرض القرآن يومئذ كما أنزل ، لما سمعناه في الأخبار العديدة : بأن المهدي يأتي بالإسلام جديداً ، كما جاء به رسول اللّه ( ص ) .

فكانت وظيفة النبي (ص ) هو التنزيل ، ووظيفة المهدي (ع) هي التأويل أي التطبيق . وإن من أهم فقرات التطبيق وخططه : تفهيم الناس المقاصد

الواقعية للقرآن الكريم ، وتثقيفهم الثقافة العالية عن هذا الطريق . . . عن طريق

الإمام المهدي (ع) وعن طريق أصحابه ثانياً .

والمثاني التي هي بيد أصحاب المهدي (ع ) – كما نطق الخبر-هی

الواردة في قوله تعالى : « ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم » . وقد

فسّرت في اللغة بآيات القرآن الكريم . وهو لا يكاد يكون صحيحاً ،

فإن الآيات لا تنحصر بسبعة ، إلا إن يراد بها سورة الحمد خاصة ، وهو

تفسير وردت به بعض الأخبار إلا أنها لم تثبت ، وهو - أيضاً - خلاف ظاهر الآية الكريمة .

ص: 766

والأوفق بالقواعد اللغوية والإسلامية معاً ، هو هذا الاحتمال الذي

نعرضه كأطروحة محتملة في تفسيرها . فإن المثاني في اللغة هي ما بعد الأول

من الأشیاء. ومعه يكون الأول هو القرآن العظيم الذي عطفته الآية على

المثاني . وتكون المثاني مستويات سبعة متأخرة في الرتبة عن القرآن الكريم من

قواعد الإسلام العامة . والأنسب عندئذ ، هو أن يكون كل واحد من هذه

الأمور السبعة يلي القرآن مباشرة في الأهمية ، بحيث يعتبر كل واحد منها

ثاني القرآن ، ليكون الجمع بالمثاني أوضح وأقرب .

وأما إن هذه القواعد بالتعيين ما هي ، فيمكننا أن نعرف قليلاً منها :

كالسنة والعقل والسيرة العقلائية ... والمظنون أن عدداً منها غير معروف أساساً . . . فإن المثاني إنما أوتيت إلى النبي ( ص ) « ولقد آتيناك » ، ومن المظنون أن بعضها بلغه النبي (ص) إلى الناس ، وبعضه بقي مذخوراً إلى اليوم الموعود.

وسواء عرفناها أو لم نعرفها ، فاليوم الموعود ، هو وقت إعلانها جميعاً .

فأصحاب الإمام المهدي (ع ) سيصبحون ، باعتبار تعاليمه وهداه ، عارفين

بكل المثاني السبع ، يطبقون متطلباتها ويفهمون الناس موجباتها وآثارها في

حدود ما تقتضيه مصالح التكامل البشري يومئذ .

والخبر الذي يعرب عن ذلك ، لا يدل على أن أصحاب الإمام عليه

السلام يعلمون الناس المثاني نفسها - وإنما قال : بأيديهم المثاني ، يعلمون

الناس المثال المستأنف . فهم يأخذون المثاني بنظر الاعتبار ، من أجل إشاعة

الثقافة العليا بين الناس .

والمثال المستأنف ، هو هذه الثقافية . وهي الإيديولوجية الكبرى التي

يبشر بها المهدي في دولته . نعرف ذلك من خبر آخر أخرجه النعماني

ص: 767

بسنده عن جعفر بن محمد (ع ) أنه قال : كيف أنتم لو ضرب أصحاب القائم

الفساطيط في مسجد كوفان ، ثم يخرج إليهم المثال المستأنف .

وإنما سميت هذه الثقافة بالمثال المستأنف باعتبار أمرين :

أحدهما : كونها مثالية ( أعلى من الواقع المعاصر بكل مستوياته ) بالنسبة

إلى عصر صدور هذه الأخبار ، بل بالنسبة إلى عصر ما قبل الظهور عموماً .

ثانيهما : باعتبار كونها جديدة على الأذهان غير معهودة لدى أغلب الناس

بل جميعهم في عصر ما قبل الظهور . فباعتبار الأمر الأول كانت ( مثالا ) وباعتبار الأمر الثاني كانت أمراً ( مستأنفاً ) .

المثال المستأنف يخرجه المهدي (ع ) إلى العالم بشكل رئيسي ، فيتلقاه أصحابه عنه بشكل كامل ودقيق ، فيعطونه إلى العالم ويبلغونه إلى البشر توصلاً إلى الهدف الإلهي الرئيسي في إيجاد المجتمع الكامل ذو العبادة الإلهية

الكاملة . . . طبقاً لقوله تعالى : وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون .

هذا وقد اشتملت بعض هذه الأخبار على التصريح بأن شيعة علي عليه السلام هم الذين يقومون بهذه المهمة الكبرى. وهو دال بوضوح على أن

أصحاب المهدي (ع ) على مثل هذا المذهب ، وقد سبق أن بسطنا الكلام

في ذلك عند الحديث عن المذهب الإسلامي للمهدي (ع) . والمهم الآن أنهم

أصحاب الإمام المهدي (ع ) نفسه .

والحديث الأخير الذي سمعناه يتحدث عن المرأة ، وعن المستوى الثقافي العالي الذي تبلغه في عصر الظهور ، تلك المرأة التي عانت من المجتمع المنحرف

ظروفاً من الجهل والكبت والظلم ، أما في الدولة العالمية فهي تنطق بالحكمة ،

ص: 768

وهي : المفاهيم المهدوية العليا ، وتقضي بكتاب اللّه وسنة رسوله ، و تقوم

بقيادة جانب مهم من المجتمع على أحسن وجه . وإذا كانت كذلك ، فما

أحسن تعاملها مع زوجها وما أفضل تربيتها لأولادها .

وهي في قيادتها تطبق عملها على آداب اللياقة الإسلامية ، وهو الحجاب

والجانب الأخلاقي في العلاقة بين الجنسين ، كما يقتضيه العدل الكامل .

ذلك الجانب الذي قانا في بعض بحوثنا أنه لا يمنع من أي عمل أو تجارة أو

قيادة .

49

ص: 769

الفصل السابع بعض منجزات الامام المهدي (ع) على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي

لعل من الواضح أن الإطلاع على التفاصيل الكاملة لهذه المنجزات ،

متعذر تماماً لإنسان ما قبل الظهور . مهما كان عبقرياً . غير أن المهم هو محاولة الإطلاع على بعض هذه المنجزات في حدود ما تدلنا عليه القواعد العامة الإسلامية من ناحية .والأخبار الخاصة الدالة على هذه المنجزات في الدولة العالمية . من ناحية أخرى .

ونحن نبدأ بسرد الأخبار الخاصة أولاً من دون ترتيب . فإن الخبر

الواحد قد يحتوي على عدة منجزات يمت كل منها إلى حقل من حقول الحياة

ثم نتحدث بعد ذلك عن الفهم العام لها وترتيبها مطبقة على القواعد العامة .

ثم نذكر لهذا الفصل خاتمتان: احداهما : حول المنجزات القضائية

والعسكرية والفقهية للإمام المهدي (ع) . والأخرى : حول المنجزات التي تسمى ب ( العلمية ) في الإصلاح الحديث . ونسرد عدداً من الأخبار الدالة

على أن المهدي (ع) يستعمل آخر منجزات العلم الحديث في دولته .

وينبغي أن يقع الكلام في هذا الفصل ضمن عدة جهات :

ص: 770

الجهة الأولى : في الأخبار الدالة على هذه المنجزات

الجهة الأولى : في ايراد الأخبار المتضمنة لأهم ما ورد من منجزات

الإمام عليه السلام في دولته على الصعيد الإقتصادي والإجتماعي .

وقد تحدثت عن ذلك أخبار الفريقين بغزارة .

فمن أخبار العامة في ذلك :

ما أخرجه البخاري (1) بسنده عن أبي موسى عنه عن النبي (ص) قال :

ليأتين على الناس زمان يطوف

الرجل فيه بالصدقة من الذهب ، ثم

لا يجد أحداً يأخذها ... الحديث

وما أخرجه أيضاً (2)عن أبي هريرة : أن رسول اللّه (ص) قال :

لا تقوم الساعة -وعد علامات

كثيرة حتى قال : -وحتى يكثر

فيكم المال فيفيض ، حتى يهم رب

المال من يقبل صدقته . وحتى يعرضه

فيقول الذي يعرضه عليه : لا أرب لي به.

وما أخرجه مسلم (3)بسنده عن أبي هريرة ، قال :

قال رسول اللّه (ص) : والله ،

لينزلن ابن مريم ، إلى أن قال :

ليدعون إلى المال ، فلا يقبله أحد.

ص: 771


1- ج2 ص136.
2- ج9 ص74.
3- ج1 ص 94.

وما أخرجه أيضاً بسنده (1) عن أبي سعيد ، قال :

قال رسول اللّه (ص) : من خلفائكم

خليفة يحثو المال حثياً ، لا يعده عداً.

وفي خبر آخر عن أبي سعيد وجابر

ابن عبد اللّه ، قال : قال رسول اللّه

(ص) : يكون في آخر الزمان خليفة ،

يقسم المال ولا يعده . وذكر له مسلم

سندين. وأخرج الحاكم في مستدركه (2)بهذا المضمون أكثر من حديث واحد.

وأخرجه الحاكم أيضاً (3)عن أبي سعيد في حديث عن النبي (ص)

يقول فيه :

فيبعث اللّه عز وجل رجلا من

عترتي فيملأ الأرض قسطاً وعدلا

كما ملئت ظلما وجوراً ؛ يرضى

ساكن السماء وساكن الأرض ، لا

تدخر الأرض من بذرها شيئاً إلا

أخرجته ، ولا السماء من قطرها شيئاً

إلا صبته عليهم مدراراً ... تتمنى

الأحياء الأموات مما صنع اللّه عز

ص: 772


1- ج 8 ص 180 .
2- ج 4 ص 454 .
3- ج 4 ص 465 .

وجل بأهل الأرض من خيره .وقال

الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد

ولم يخرجاه .

وأخرجه أيضاً (1)عن أبي سعيد الخدري عن النبي (ص) ، قال :

يكون في أمتي المهدي ، ان

قصر فسيع وإلا فتسع ، تتنعم أمتي

فيه نعمة لم ينعموا مثلها قط . تؤتي

الأرض أكلها لا تدخر عنهم شيئاً.

والمال يومئذ كدوس . يقوم الرجل

فيقول : يا مهدي أعطني ! فيقول : خذ.

وأخرج أيضاً (2)عن ابن عباس : في حديث ، قال :

وأما المهدي الذي يملأ الأرض

عدلا كما ملئت جوراً ، تأمن البهائم

والسباع وتلقي الأرض أفلاذ كبدها؟ قال :

قلت : وما أفلاذ كبدها ؟ قال :

أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة،

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح

ولم يخرجاه .

وأخرج أيضاً (3) عن أبي سعيد : أن رسول اللّه (ص) قال :

ص: 773


1- ج 4 ص 558 .
2- ج 4 ص 514 .
3- ج 4 ص 558 .

يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه

اللّه الغيث ، وتخرج الأرض نباتها ،

ويعطي المال صحاحاً ، وتكثر الماشية

وتعظم الأمة الأمة ... الحديث .قال . :

هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

وأخرج الترمذي (1)بسنده عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه (ص) :

تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال

الأسطوان من الذهب والفضة . قال :

فيجيء السارق فيقول : في هذا قطعت

يدي . ويجيء القاتل فيقول : في هذا

قتلت . ويجيء القاطع فيقول : في

هذا قطعت رحمي ، ثم يدعونه ولا

يأخذون منه شيئاً .

وأخرج القندوزي في الينابيع(2)عن الترمذي عن أبي سعيد عن النبي

(ص) في قصة المهدي (ع) :

فيجيء إليه الرجل فيقول : يا

مهدي ، أعطي أعطي أعطني . قال :

فيحتي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله.

ص: 774


1- ج 3 ص 334 .
2- ص 517 ط النجف .

وأخرج أيضاً (1)عن أحمد والماوردي أنه (ص) قال :

ابشروا بالمهدي ! رجل من قريش

عنرتي ، يخرج في اختلاف من

الناس وزلزال ، فيملأ الأرض عدلا

وقسطا كما ملئت ظلما وجورا ،

ويرضى عنه ساكن السماء وساكن

الأرض ، ويقسم المال بالسوية ،

ويملأ قلوب أمة محمد غناه ويسعهم

عدله ، حتى أنه يأمر منادياً فينادي :

من له حاجة إلى المال يأتيه . فما

يأتيه أحد. إلا رجل واحد يأتيه ،

فيقول له المهدي : أنت السادن حتى

يؤتيك . فيأتيه فيقول : أنا رسول

المهدي ، أرسلني إليك لتعطيني .

فيقول : احث . فيحثو ، فلا يستطيع

أن يحمله ، فيلقي حتى يكون قدر

ما يستطيع أن يحمله ، فيخرج ،

فیندم، فيقول : أنا كنت أجشع

الأمة نفساً . كلهم دعي إلى هذا المال

فتركوه غيري ، فيرد عليه ، فيقول

السادن: انا لا نقبل شيئاً أعطناه .. الحديث.

ص: 775


1- ص 562 وما بعدها و انظر الحاوي للسيوطي ج 2 ص 124 .

وقال في الينابيع (1): وفي بعض الآثار ... : أنه يبلغ سلطانه المشرق

والمغرب . وتظهر له الكنوز ولا يبقى في الأرض خراب إلا يعمر .

أقول : وأنظر هذه المضامين في عدد آخر من المصادر العامة كمسند أبي داود وابن ماجة وأحمد والبيان للكنجي والصواعق لابن حجر ونور الأبصار

للصبان وإسعاف الراغبين للشبلنجي وغيرها .

وأما أخبار المصادر الخاصة ، فهي كما يلي :

فمن ذلك : ما أخرجه المفيد في الإرشاد (2)عن أبي جعفر (ع) أنه

ذكر المهدي (ع) وخطبته الأولى في مسجد الكوفة . وقال :

فاذا كانت الجمعة الثانية ، سأله

الناس أن يصلي بهم الجمعة ، فيأمر

أن يخط له مسجد على الغري ، ويصلي

بهم هناك . ثم يأمر من يحفر من ظهر

مشهد الحسين عليه السلام نهراً يجري

إلى الغربين ، حتى ينزل الماء في النجف

ويعمل على فوهته القناطير والأرحاء.

فكأني بالعجوز على رأسها مكتل فيه

بر، تأتي تلك الأرحاء فتطحنه بلا كري.

وأخرج عن المفضل بن عمر (3) قال سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول :

ص: 776


1- ص 563 .
2- ص 341 .
3- ص 342 .

إذا قام قائم آل محمد عليه السلام

بى في ظهر الكوفة مسجداً له ألف

باب ، واتصلت بيوت أهل الكوفة

بنهري كربلا .

وأخرج عنه (1)قال : سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول :

ان قائمنا إذا قام أشرقت الأرض

بنور ربها ... إلى أن قال : وتظهر

الأرض من كنوزها حتى يراها الناس

على وجهها ، ويطلب الرجل منكم

من يصله بماله ويأخذ منه زكاته ،

فلا يجد أحداً يقبل منه ذلك . واستغنى

الناس بما رزقهم اللّه من فضله .

وأخرج (2)عن أبي بصير ، قال : قال أبو عبد اللّه (ع) :

إذا قام القائم عليه السلام ، هدم

المسجد الحرام حتى يرده إلى أساسه ،

وحول المقام إلى الموضع الذي كان فيه.

وأخرج أيضاً (3)عنه عن أبي جعفر (ع) في حديث طويل أنه قال :

ص: 777


1- نفس الصفحة .
2- ص 343 .
3- ص 344 .

إذا قام القائم عليه السلام سار إلى

الكوفة ، فهدم بها أربعة مساجد . ولم

يبق مسجد على وجه الأرض له شرف

إلا هدمها وجعلها جماء ووسع

الطريق الأعظم ، وكسر كل جناح

خارج في الطريق ، وأبطل الكنف

والمأزيب إلى الطرقات ، لا ويترك

بدعة إلا أزالها ولا سنة إلا أقامها .

وأخرج الشيخ في الغيبة (1) بسنده عن المفضل بن عمر ، قال :

سمعت أبا عبد الله (ع) يقول :

ان قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور

ربها ، واستغنى الناس ...ويبني

في ظهر الكوفة مسجداً له ألف باب،

وتتصل بيوت الكوفة بنهر كربلا

بالحيرة . حتى يخرج الرجل يوم

الجمعة على بغلة سفواء يريد الجمعة

فلا يدركها .

وفي حديث آخر عن أبي جعفر (ع) يقول فيه :

فيخرج إلى الغري فيخط مسجداً

له ألف باب يسع الناس عليا

أصيص.

ص: 778


1- ص 280 وكذلك الخبر الذي بعده .

ويبعث فيحفر من خلف قبر الحسين

(ع) هم نهراً يجري إلى الغريين ،

حتى ينبذ في النجف ، ويعمل على

فوهته قناطر وأرحاء على السبيل .

وكأني بالعجوز وعلى رأسها مكتل فيه

بر حتى تطحنه بكربلاء .

وأخرج أيضاً (1)بسنده عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبد اللّه (ع)

يقول :

ما تستعجلون بخروج القائم !

فو اللّه ما لباسه إلا الغليظ وما طعامه

إلا الشعير الجشب . وأخرج الراوندي

في الخرائج والجرايح(2) نحوه في

حديث طويل عن علي بن الحسين

عليهما السلام .

وأخرج الصدوق في أكمال الدين(3)والطبرسي في إعلام الورى (4)عن محمد بن مسلم الثقفي ، قال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (ع)

يقول :

القائم منا منصور بالرعب مؤيد

ص: 779


1- ص277.
2- ص 196.
3- انظر المصدر المخطوط .
4- ص 433 .

بالنصر ، تطوى له الأرض ، وتظهر

له الكنوز ... ولا يبقى في الأرض

خراب إلا عمر ..

وأخرج الطبرسي أيضاً (1) عن جابر بن عبد اللّه الإنصاري ، قال :

سمعت رسول اللّه (ص) يقول :

ان ذا القرنين كان عبداً صالحاً...

إلى أن قال : وان اللّه سيجري سنته

في القائم من ولدي ... ويظهر اللّه له

كنوز الأرض ومعادنها وينصره بالرعب

ويملأ الأرض به عدلا وقسطا ، كما

ملئت جوراً وظلماً .

وأخرج أيضاً (2)عن علي بن عقبة عن أبيه ، قال :

إذا قام القائم حكم بالعدل

وارتفع في أيامه الجور وأمنت السبل

وأخرجت الأرض بركانها ، ورد

كل حق إلى أهله ... فحينئذ تظهر

الأرض كنوزها وتبدي زينتها ،

فلا يجد الرجل منكم موضعاً لصدقته

ولا لبره ، لشمول الغنى جميع

المؤمنين ...الحديث .

ص: 780


1- ص 413 .
2- ص 432 .

وأخرج المجلسي في البحار (1)، قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه -

في حديث - :

ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء

قطرها ولأخرجت الأرض نباتها

ولذهبت الشحناء من قلوب العباد،

واصطلحت السباع والبهائم ، حتى

تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا

تضع قدميها إلا على النبات وعلى

رأسها زينتها ، لا يهيجها سبع ولا تخافه.

فهذه نخبة من الأحاديث الكثيرة الواردة في هذا الصدد .

وكثرة الأخبار الواردة بهذا الصدد تنتج لنا أمرين :

الأمر الأول : اتضاح مدى اهتمام قادة الإسلام : النبي (ص) فمن بعده ، إيضاح خصائص دولة المهدي (ع) وما يقوم به من أعمال ، وما

ينتجه من خيرات . كيف لا ؟ ! وهو يمثل القمة لجهودهم والثمرة الطيبة لاعمالهم والنتيجة الكبرى للتخطيط الإلهي الطويل .

الأمر الثاني : إننا نستطيع بهذا السرد أن نؤدي حساب كل حادثة من الحوادث المنقولة ، بشكل أكثر وأدق ، ونوفر لها المثبتات بشكل

أكثر . لوضوح أن الروايات كلما زادت على الحادثة الواحدة ، كانت آكد واوضح في الذهن وأقوى ثبوتاً من الناحية التاريخية .

ص: 781


1- ج 13 ص 182 .

والآن . لا بد أن نأخذ كل زاوية من الزاويات العامة المنقولة من هذه

الأخبار لنرى مقدار ثبوتها وموافقتها للقواعد العامة والقرائن المثبتة، وذلك ضمن الجهات الآتية .

الجهة الثانية : في المسلك الشخصي للإمام المهدي (ع )

الجهة الثانية : المسلك الشخصي للامام المهدي (ع) بصفته رئيساً للدولة

العالمية العادلة .

وهو ما صرحت به بعض هذه الاخبار . من أن لباسه الخشن

الغليظ

وطعامه الشعير الجشب . وفي الخبر ايراد القسم على ذلك .

وهذا هو المسلك الصحيح لرئيس الدولة الاسلامية العادلة على طول

الخط . فانه قد أخذ اللّه تعالى على كل امام عادل يتولى الحكم الفعلي في المجتمع

أن يعيش في طعامه ولباسه على شكل أو اسلوب أقل أفراد شعبه . والحكمة

من ذلك ، أوضح من من أن تخفى تخفى ، وهو ، وهو أن لا يدعوه المنصب الكبير والمال

الوفير إلى تناسي الفقراء والمعوزين من ابناء شعبه ومحكوميه .

وهذا المسلك هو الذي طبقه رسول اللّه ( ص ) على نفسه حين تولى

رئاسة الدولة الاسلامية بعد فتح مكة ، واتخذه الخلفاء الأوائل الذين حكموا

بعده إلى عصر خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .

وكذلك سوف يكون الامام المهدي (ع) حين يمارس الحكم العالمي

العادل ، لانه سيكون من الواجب عليه أن يكون في عيشه مماثلا لأقل فرد

جائع ومسكين في العالم كله

وسيكون ايضاً على هذا المسلك . اصحابه الخاصة الذين يوزعهم حكاما

على الارض . لان الفرد منهم سيكون رئيساً عادلا لمنطقة من الارض ،

فيجب عليه أن يكون في حياته مماثلا لاقل فرد في منطقته .

ص: 782

وقد سبق أن سمعنا في اخبار بيعة الامام في المسجد الحرام لاول مرة ،

أنه عليه السلام يشترط على هؤلاء الخاصة شروطا ، يعود عدد منها إلى

الحفاظ والتقيد من الناحية الشخصية ، والعدد الآخر إلى العدل في المسلك

الاجتماعي .

ففيما يعود إلى الناحية الشخصية يشترط عليهم أن « لا يتمنطقوا بالذهب

ولا يليسوا الخز ولا يلبسوا الحرير ولا يلبسوا النعال الصرارة . . ويلبسون

الخشن من الثياب ويوسدون التراب على الحدود ويأكلون الشعير ويرضون بالقليل » الخ الخبر (1)

وحيث لا يكون ذلك واجبا على كل المسلمين نعرف ان الامام المهدي

(ع) انما يشترط ذلك عليهم باعتبارهم سيصبحون بعد فتره غير طويلة

ريثما يتم فتح العالم واستتباب الدولة العادلة . حكاما على أقاليم الارض أو

مشاركين في الحكومة المركزية معه.

وهذا المضمون ، من الوضوح في القواعد الاسلامية العامة بحيث لا يحتاج

إلى خبر خاص يعرب عنه .

واما الخبر الوارد بهذا الصدد ، والذي سمعناه يقول : فو اللّه ما لباسه الا

الغليظ ، وما طعامه الا الشعير الجشب . . فهو بالرغم من مطابقته لهذه القواعد العامة ،

يواجه سؤالين لا بد من عرضهما مع محاولة الجواب عنهما .

السؤال الأول : ان ما تقتضيه القواعد العامة هو ان يعيش الرئيس في حياته الخاصة كأقل فرد من محكوميه. وبعد ان نعرف طبقا للروايات

المستفيضة عموم الرفاه وكثرة المال في دولة المهدي العالمية ، نعرف نتيجة

ص: 783


1- انظر الملاحم و الفتن ص 122 .

لذلك أن الواجب عليه سيتغير ، لان أقل الافراد في العالم سيعيش مرفها

عالي الدخل ، فيكون للامام عليه السلام أن يتوسع في حياته الخاصة إلى حد

كبير ، وكذلك اصحابه الخاصون تماماً .

وجواب ذلك عدة وجوه ، نذكر منها إثنين :

من

الوجه الأول : ان الرواية لم تدل على بقاء هذا المسلك للمهدي (ع) ،

طيلة أيام حكمه ، بل يكفي في صدقها كونه على ذلك فترة من الزمن في

اول حكمه . لان العدل انما يؤثر تدريجاً في نشر الرفاه في الارض والسعادة

بين ابناء البشر اجمعين. ومالم يعم الرفاه كل العالم بشكل حقيقي كامل ،

يبقى الفرد البائس موجودا في بعض زوايا العالم بطبيعة الحال . وما دام هذا

هذا الفرد موجودا ، يبقى المسلك المشار اليه في الرواية واجبا على الامام

المهدي (ع) .

الوجه الثاني : اننا نحتمل - على اقل تقدير- ان تدريجية تأثير العدل

في نشر الرفاه في العالم بكامله ، سوف تستمر طيلة حياة المهدي (ع) شخصياً

وانما سيحقق هذا الهدف الكبير بعده طبقا لنظامه الذي يسنه هو عليه السلام

للحكام العالميين الذين يخلفونه .

ومن الصحيح ان الاعم الاغلب من مناطق العالم ستكون مرفهة . ومن

هنا يكتسب العالم كله سمة الرفاه والسعادة ، في حياة المهدي

(ع) . غير أنه

من الممكن وجود الفرد البائس في مناطق نائية او متخلفة حضاريا من العالم

الامر الذي يحتم عليه بقاؤه على هذا المسالك طيلة حياته . وانما تستطيع

الدولة العالمية العادلة اجتثاث ذلك ، على ايدي خلفائه .

السؤال الثاني : ان الرواية تقول : ما تستعجلون بخروج القائم ، فواللّه

ما لباسه الا الغليظ وما طعامه الا الشعير الخشب .

ص: 784

مع ان هذا المسلك الحياتي الذي يتخذه ، لا ينافي استعجال ظهوره عليه

السلام ، لامرين :

أحدهما : أن الفرد المؤمن يتمنى ظهور الامام عليه السلام لاجل المصلحة

العامة ، وهي تطبيق العدل في العالم كله وتنفيذ الهدف الرئيسي من خلق

البشرية .. حتى وان أوجب ذلك اتخاذ الفرد مسلك الزهد والتقشف ، أو

أوجب الاجهاز على مصالحه الشخصية .

ثانيهما : ان الفرد لو كان يتمنى ظهور الامام عليه السلام ، من أجل

مصالحه الشخصيه لرفع ظلاماته وترفيه عيشه ، فهذا متوفر له على أي حال ،

لما عرفناه من ان هذا المسلك خاص غير عام ، وسيكون الفرد وسيكون الفرد الاعتيادي

مرفهاً سعيداً طيلة حياة المهدي (ع) ، وما بعده . ولن يكون هذا الفرد مسؤولا

عن اتخاذ ذلك المسلك لانه لا يكون ممارسا للحكم في أي منطقة من

الارض .

ومعه يكون مؤدى الاستفهام الاستنكاري حين يقول : ما تستعجلون

بخروج القائم ؟ ! . . غامضاً مجهول القصد .

وجواب ذلك : اننا ينبغي ان نفهم من هم المخاطبون بقوله : ما تستعجلون

لننطلق من ذلك إلى الجواب .

لاشك ان الامام ابا عبد اللّه الصادق (ع) كان يخاطب قواعده الشعبية

بهذا الكلام ، تلك المجموعة التي كانت تعاني من الظلم الاموي والعباسي

اشد العذاب . وكان الفرد منهم ينتظر خروج القائم (ع) من أجل رفع الظلامات وتطبيق العدل ، ومن ثم من أجل حصوله على السعادة والرفاه .

وهذه المجموعة تنقسم إلى قسمين رئيسيين :

50

ص: 785

القسم الأول : خاصة الامام الصادق عليه السلام وطلابه ، المرتفعوا

الدرجة في العلم والايمان .

القسم الثاني : الشعب الاعتيادي الموالي للأئمة المعصومين عليهم السلام .

و الفرد من كلا القسمين يتمنى ظهور القائم المهدي (ع) بسرعة . . وخطاب

الامام الصادق (ع) واستنكاره لذلك يمكن ان يشملهما معا ، فيكون لكل قسم فكرته الخاصة في الجواب .

أما القسم الأول . فمن الواضح انه لو حصل التمني وظهر المهدي (ع)

یو مئذ- بغض النظر عن شرائط الظهور وعلاماته التي كان يجهلها الفرد

منهم-، فإن المهدي (ع ) سوف بخص أفراد هذا القسم بالاهتمام ، ولن

يجد غيرهم في التوزيع على مناطق العالم حكاماً وقضاة . وإذا أصبحوا حاكمين

كانوا مشمولين لوجوب مسلك التقشف كما قلنا . ومن ثم لم يحصل السبب

المهم في التمني لسرعة الظهور وهو الحصول على الحياة المرفهة السعيدة .

فكان الاستفهام الاستنكاري عليهم من قبل الإمام الصادق (ع ) في محله

جداً . لانطلاق جملة منهم من زاوية المصلحة الخاصة في هذا التمني ، كما

يعرفه الإمام الصادق (ع) نفسه من أصحابه .

وأما القسم الثاني من الأفراد ، فإن الفرد الاعتيادي يومئذ باعتبار بساطته

في الإيمان والعلم نسبياً ، وعدم مروره بعصور التمحيص الطويلة، التي تصرمت

بعد ذلك ، يتخيل نفسه كامل الإيمان عميق الفهم، ويتوقع من المهدي (ع )

-لو ظهر يومئذ - أن يقربه ويمجد به . و من هنا نعود إلى نفس التسلسل

الفكري الذي عرفناه للقسم الأول .

إن هذا الفرد الاعتيادي ، لو حصل ما يتمنى وظهر المهدي (ع ، فإن أبعده عنه واعتبره فرداً اعتيادياً من شعبه ، فسوف يحصل على الرفاه

ص: 786

إلا أن توقعه القرب من المهدي (ع) سوف يتخلف ، وهي صدمة عنيفة بلا شك . وأما إذا قربه المهدي (ع ) إليه واعتبره من خاصته ، فقد حصل

توقعه من امامه ، إلاّ أنه سيرسل هذا الفرد حاكماً في بعض أقاليم العالم ، على أحسن تقدير ، ومعه يكون مشمولاً لوجوب الزهد والتقشف ، ولن

يحصل على مصلحته الخاصة بحال . ومعه يكون الاستفهام الاستنكاري من

قبل الإمام الصادق (ع ) في محله تماماً .

والغرض الرئيسي من هذا الاستفهام سيكون هو أن تمني الظهور ،

لا ينبغي أن يكون من زوايا المصلحة الخاصة أساساً ، وإنما يجب أن ينطلق

من زاوية المصلحة العامة ، التي هي تطبيق العدل العالمي وتنفيذ الغرض الإلهي ...

وإلاّ كان من المتوقع تخلف هذه المصلحة الخاصة أساساً .

الجهة الثالثة : السياسة الزراعية للمهدي في دولته

الجهة الثالثة : في السياسة الزراعية التي يتبعها الإمام المهدي (ع ) في دولته .

نستطيع أن نحيط علماً ببعض نتائجها وأساليبها من الأخبار السابقة ، حيث نصت على أن الأرض تؤتي أكلها لا تدخر منه شيئاً ، وهو كناية عن

ان انبات الأرض للنبات سيكون إلى أكبر حد ممكن يتحمله وجه البسيطة

«حتى تمشي المرأة بين العراق والشام لا تضع قدميها إلاَّ على النبات ، ومن

يخفى عليه حال هذه الصحراء التي تتوسط العراق والأردن والشام ونجد...

انها صحراء ضخمة وموحشة وجافة، لكنها ستصبح يانعة بالأشجار والثمار في أقل مدة ممكنة .

وما هذا إلاَّ مثال واحد من العالم كله ، وإنما نصت عليه الأخبار باعتبار ، قربه إلى أذهان المجتمع السامع لهذه النصوص في عصر صدورها ،

وليس ذلك باعتبار الانحصار . فإن دولة المهدي (ع ) عالمية ، وجهوده

ص: 787

وجهود المخلصين في دولته شاءاة لكل العالم على حد سواء ، فمن الطبيعي

أن نتصور ان هذه الصحراء ليست هي الصحراء الوحيدة التي ستصبح

خضراء ، وإنما ستخضرّ كل الصحاري في العالم بما فيها الربع الخالي والصحراء

الكبرى في شمال افريقيا وغيرها .

وإذا كان هذا هو شأن الصحاري شأن الصحاري ، فما هو شأن الأراضي التي كانت

خصبة منذ عهد ما قبل الظهور ، وما هو مقدار إنتاجها واسباغ النعمة منها .

ان هذا شيء لا يمكن لمفكر بشري سابق على الظهور أن يقدره .

وعلى أي حال ، فما هو العنصر المسبب لهذا الانقلاب الزراعي الشامل ؟ نستطيع أن نوعز ذلك - بعد عنصر التساوق بين التشريع والتكوين الذي سنتحدث

عنه في جهة قادمة من هذا الفصل - نستطيع أن نوعزه إلى الإخلاص الحقيقي

في العمل .

فمن السخف أن يقال : إن البشرية متجهة نحو المجاعة ، وان زيادة

النسل يؤدي حتماً إلى قلة الأرزاق في العالم . ان ذلك إنما يتحقق ، حين يكون

الإخلاص ضئيلاً والعمل مبعثراً والتشريع ظالماً ، كما هو الحال في عصر

ما قبل الظهور . وأما حين توجد الدولة المخلصة والتشريع العادل والأيدي

العاملة المجدة والعمل المنظم عالمياً ، فسوف يمكنه أن يحفظ للبشرية أرزاقها

مهما تزايدت وتكاثرت ، بل يمكنها أن تزيد الانتاج إلى أضعاف مقدار

الحاجة ، وتُضاعِف الدخل الفردي لكل البشر بشكل لا مثيل له في ما سبق

من تاريخ .

وأما المنهج التفصيلي التشريعي والعملي الذي يتبعه المهدي (ع) في دولته

لنيل هذه النتائج الزراعية الرائعة ، فالتعرف عليه موكول إلى وعي ما بعد الظهور ، وإنما المستطاع التعرف على بعض فقراته من خلال ما بين أيدينا من

ص: 788

قواعد وأخبار. وهذا ما سنتوفر عليه في الكتاب القادم من هذه الموسوعة ،

إن نفس الأخبار التي سمعناها ، تعطينا بعض الحقائق التي تفيدنا بهذا

الصدد . فالإمام المهدي عليه السلام ، سيأمر بحفر نهر خلال الصحراء الواقعة

بين كربلاء والنجف ، حتى ينزل الماء في النجف، ويعمل على فوهته القناطير ،

يعني الجسور والأرحاء - وهو جمع أرحية وهي المطحنة القديمة للحب - ومن

هنا قال في الرواية : فكأني بالعجوز على رأسها مكتل فيه بر، تأتي تلك

الأرحاء فتطحنه بلا كري ، أي بدون أجره .

فإذا عامنا أن ذلك ليس إلا مجرد مثال : ذكر طبقاً للفهم

القديم، استطعنا

أن نتصو مقدار الأنهر والقنوات ممدوده في الصحاري للري ، ومقدار

التجهيز الآلي الزراعي المباح التصرف فيه للناس مجاناً ، ليساعد على سرعة

الإنتاج وضخامته ، وعلى سر عة التوزيع والتسويق .

وستؤدي هذه الثوره الزراعية طبقاً لإيديولوجية الدولة ،المهدوية : إلى عدة

نتائج مهمة ، نفهم بعضها :

منها : توفر الأطعمة والثمار بكثرة لدى الناس ، مع رخص قيمتها

السوقية ، بل توفرها مجاناً للكثير من الناس .

ومنها : توفير العمل المنتج للعديد من الأيدي العاملة ، وبالتالي إشباع

الملايين من العوائل التي كانت فقيرة ومضطهدة في عهد ما قبل الظهور .

ومنها : العمران الواسع خلال هذه الأرض المزروعة ، ذلك العمران

الذي ستتميز بعض تفاصيله في الجهة الآتية من هذا الفصل .

ومنها : توفير الفرص الكبيرة لإزجاء الحاجات الحياتية مجاناً، وبدون عوض.

وبذلك نستطيع أن نتصور حصول النتيجة المهمة الكبرى المطلوبة ، وهي

ص: 789

توفير الرفاه والسعادة في ربوع المجتمع البشري.

الجهة الرابعة : السياسة العمرانية لدولة المهدي (ع )

الجهة الرابعة : في السياسة العمرانية في دولة المهدي عليه السلام .

ونحن نرى نتائج هذه السياسة واضحة فيما سمعناه من الأخبار ، فبيوت

الكوفة سوف تتصل بكربلاء والحيرة ، ويكون الجميع بلدة واحدة ، وهي

من السعة بحيث لو ركب شخص بغلة سفواء - أي سريعة السير - من صبح

یوم الجمعة قاصداً المسجد الذي تقام فيه صلاة الجمعة ظهراً لأجل حضور هذه

الصلاة ، لم يدركها . وإذا كان هذا الشخص قد توجه من أحد أطراف هذه

المدينة ، فالمسجد على أي حال، ليس في طرفها الآخر ، بل في وسطها . ومن

هنا نعرف أن هذه المسافة التي يمشيها هذا الرجل ببغلته السريعة ، ليست إلا

قسماً من البادة ، ولا يمثل أكثرها فضلا عن جميعها .

وهذا أيضاً من التنبوءات الطريفة في الأخبار ، فإن سعة المدن بهذا المقدار . لم تكن معروفة بأي حال في الزمن القديم ، بل لعل مجرد تصورها

كان فوق الخيال . وأما الآن ، فهو يعتبر أمراً طبيعياً ، خاصة في العواصم

الأخرى كيف والكوفة ستصبح عاصمة للعالم كله ، تحت راية الدولة المهدوية

فمن الطبيعي لها أن تتسع بهذا المقدار .

ولعلنا نستطيع أن نفهم من هذا : مقدار تركيز الدولة واهتمامها بالعمران

في سائر البلدان ، وليس في العاصمة فقط ، فلئن كانت العاصمة بالتحديد الذي

سمعناه ، يزيد طولها على الثمانين كيلومتراً ، فليكن غيرها مقارباً لذلك أو

بمقدار نصفه مثلا ... حسب ظروف كل بلدة وموقعها الجغرافي وأهميتها

الإجتماعية .

وستنال المساجد اهتماماً خاصاً من قبل الإمام المهدي (ع) ، باعتبارها

مراكز إسلامية رئيسية .

ص: 790

فالمسجد الحرام الذي فيه الكعبة المشرفة في مكة المكرمة سوف يشطب على

کل توسيعاته، ويهدمها ويرد المسجد إلى أساسه الذي كان عليه في صدر

الإسلام ، احتراماً لهذا الأساس الذي كان في زمن رسول اللّه (ص).

وستترتب على هذا التغيير بعض النتائج التي قد نشير إليها في خاتمة هذا الفصل .

ويحول المهدي (ع) مقام إبراهيم من موضعه الحالي ويرده إلى مكانه الذي

كان عليه ملاصقاً للكعبة المشرفة . بعد أن كان قد فصل عنها عدة أمتار ، ولا

زال مفصولا عنها إلى العصر الحاضر .

إن فكرة مقام إبراهيم أساساً، تعني المكان الذي وقف عليه إبراهيم

الخليل عليه السلام حين بنى الكعبة المشرفة . وبطبيعة الحال يقف الباني إلى

جنب الجدار الذي يبنيه ، ولا معنى لأن يقف بعيداً عنه بعدة أمتار . ومعه

الموضع الطبيعي لمقام إبراهيم هو جوار الكعبة المشرفة، كما تقتضيه طبائع الأشياء.

وهو أيضاً يهدم في الكوفة ، أربعة مساجد من دون تجديد ، على ما هو

ظاهر الأخبار : باعتبارها لم تبن على التقوى ، الذي هو الشرط الأساسي

لمشروعية بناء المسجد في الإسلام. فإذا بنى على غير التقوى وجب هدمه لا

محالة ، ولم تكن قبل ظهور المهدي (ع) قوة مؤمنة قادرة على ذلك ، ومن ثم

وجب على دولة المهدي المبادرة إلى إزالة آثار الإنحراف والعدوان .

وأما المسجد الذي يأمر المهدي (ع) ببنائه في ظهر الكوفة، أي خلفها من

ناحية النجف ، فهو الذي له ألف باب . وقد دل على وجوده عدد

. من الأخبار .

وهذا الرقم وإن لم يكن مقصوداً بنفسه ، إلا إنه يدل على كثرة كبيرة جداً من الأبواب ، تلك الكثرة المستلزمة لسعة ضخمة في المسجد .

فإننا لو فرضنا هذا المسجد ،مربعاً، وكان في كل ضلع منه مئتان وخمسون

باباً ، وكان بين كل باب وباب عشرة أمتار على الأقل ، لأن طول الضلع

ص: 791

ألفي متر وخمسمئة متر . وهذا معناه أن سعة المسجد لا تقل عن ست ملايين

و ربع من الأمتار المربعة. وهو مسجد لم يسبق له مثيل قبل عهد الظهور یبنی

لكي يناسب الوضع الإسلامي في الدولة العالمية.

وإنما تنبثق الحاجة إلى ذلك ، باعتبار صلاة الجمعة التي يقيمها الإمام عليه

السلام في كل أسبوع . والتي يجب شرعاً أن يحضرها الأعم الأغلب من

الذكور من سكان العاصمة ، وما حواليها من الضواحي . إلى جانب كل من

يرغب بالحضور للتشرف بالصلاة خلف الإمام المهدي عليه السلام . وثم

سوف يكون التجمع كبيراً جداً بحيث يمكن أن يجمعهم جامع الكوفة الكبير

الذي يخطب فيه لأول مرة ، كما سمعنا . فاقتضت المصلحة إيجاد مثل هذا

المسجد الضخم ليسد هذه الحاجة الإسلامية الملحة .

ومن هنا ذكرت الأخبار أن الإمام المهدي (ع) في أول جمعة من وروده

، إلى العراق يخطب خطبته الأولى هناك ، وهي التي سبق أن تعرضنا لها . قال

الخبر « فإذا كانت الجمعة الثانية ، قال الناس : يا ابن رسول اللّه ، الصلاة

خلفك تضاهي الصلاة خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم . والمسجد لا يسعنا ، فيقول :

أنا مرتاد لكم . فيخرج إلى الغري ،

فيخط مسجداً له ألف باب ، يسع

الناس » .(1)

والمسجد الذي لايسع المصلين ، هو جامع الكوفة الكبير الذي كان أمير

المؤمنين عليه السلام يصلي فيه . والغري هو النجف الأشرف الواقع جنوب

الكوفة . وقوله : مرتاد لكم ، أي طالب ومترقب لإجابة طلبكم .

ص: 792


1- انظر غيبة الشيخ ص 281 و اعلام الوری ص 430 .

ومن هنا نعرف أن هذا المسجد يكون من أولى منجزاته العمرانية في العالم .

وهو يهتم في كل مسجد أن يطبق عليه الحكم الإسلامي الصحيح . حتى

لو كان الحكم استحبابياً غير إلزامي، حيث ينبغي أن يتربى المجتمع تدريجاً على

الإلتزام بالواجبات والمستحبات معاً، ليبلغ في نهاية المطاف درجة العصمة

المطلوبة ، فهو عليه السلام يهدم كل مسجد عالي البناء ، ويقتصر منه على

المقدار الراجح في الشريعة العادلة . قال الخبر : « ولم يبقى على وجه الأرض له

شرف إلا هدمها وجعلها جماء » .

ومن جملة الأعمال العمرانية للمهدي (ع) في دولته – كما في الخبر –

أنه يوسع الطريق الأعظم. والمراد به الطريق الرئيسي الذي يصل بين بلدتين

وليس في الخبر إشارة إلى طريق معين، وإنما المراد أنه يقوم بتوسيع الطرقات

المهمة التي تصل بين المدن عموماً . وإننا في عصرنا الحاضر لندرك أهمية هذا

التوسيع وجسامة العمل المنتج له أكثر من أي وقت مضى .

ومن تشريعاته العمرانية أنه يمنع الأجنحة إلى الطرقات ، ويهدم الموجود

منها . والجناح في اللغة هو الروشن أو الكوة(1) فيكون المراد بها الشبابيك التي

تطل من المنازل على الطرق ، فتكشف ما في داخل المنزل ما لا یصح کشفه

في الشريعة العادلة ، فيكون من الواجب إزالتها ، وإبدال سبب التهوية بشيء

جديد .

وقد يفهم من الجناح أمر آخر ، وهو البروز الذي يجعل عادة في البناء

إلى جانب الطريق أو الشارع ، اما عن طريق الأعمدة أو بدونها . وهذا انسب

باستعارة الجناح ذوقاً وإن لم ينص عليه لغة .والمفهوم تقليدياً أن المهدي (ع) يحرم

هذا النوع من البناء البناء . . . غير أنه ليس من معاني الجناح لغة .

ص: 793


1- انظر أقرب الموارد .

و من تشريعاته العمرانية - كما نص الخبر - : أنه يبطل أي يمنع الكنف

والمآزيب إلى الطرقات . والكنف بضمتين جمع كنيف . وهو البالوعة ، والمراد

بها مواسير المياة القذرة . والمآزيب جمع ميزاب وهو معروف . وكلاهما

مستعمل بكثرة في عصرنا الحاضر ، وهما ، موجبان لاتساخ الطرق وإزعاج

المارة . ومن هنا يقوم الإمام عليه السلام بمنعها . . . ولا بد لأهل البيوت من تصريف مياههم بأساليب أكثر نظافة وتهذيباً.

الجهة الخامسة : أهمية التعدين في الدولة المهدوية

الجهة الخامسة : في أهمية التعدين في الدولة المهدوية .

نصت الأخبار الواردة بطرق الفريقين : بأن الأرض تظهر معادنها وكنوزها

على سطحها حتى يراها الناس ، وتلقي بأفلاذ كبدها كأمثال الأسطوانات

من الذهب والفضة .

وهذا يمكن فهمه على أساس إعجازي. بمعنى أن يفترض أن ظهور المعادن

على سطح الأرض يكون عن طريق المعجزة ، تأييداً من اللّه تعالى للمهدي ودولته.

وهذا الفهم محتمل ، على ما سوف يأتي .. إلا أنه ليس فهماً منحصراً . بل

يمكن تقديم فهم آخر لا يكون الفهم الإعجازي بالقبول منه على أقل تقدير .

وهو أن نفهم الشكل الطبيعي لظهور المعادن ، وهو استخراجها بالآلة ، عن

طريق تخطيط معين واهتمام خاص من قبل الدولة . حتى تتوفر المعادن بأيدي

الكثيرين للقيام بها في الصناعات وإزجاء مختلف الحاجات .

ولا يخفانا في هذا الصدد، أن تطبيق الحكم الإسلامي على المعادن يجعلها

مملوكة للأفراد لا للدولة ، بخلاف القوانين الوضعية التي تعتبرها جميعاً ملكاً

للدولة. كما أنه يجعلها منتشرة بأيدي الآلاف لا بأيدي عدد قليل من الناس .

وذلك : بأن نفترض أن الدولة المهدوية هي التي توفر آلات الإستخراج

ص: 794

الضخمة ، مع تطبيق الحكم الإسلامي القائل : أن كل من استخرج شيئاً من

المعدن يجب عليه أن يدفع خمسه إلى الفقراء وهو يملك المقدار الباقي . فينتج

أن آلاف العمال العاملين في المعادن سوف يملكون كميات ضخمة من المعدن

المستخرج، وملايين من الفقراء سوف تنسد حاجتهم عن طريق دفع خمس المقدار المستخرج إليهم .

فإذا ضممنا إلى ذلك الحكم الإسلامي القائل : بأنه لا يجوز للمستخرج أن

يزيد مقدار ما يستخرجه وما يملكه من المعدن ، على قوت سنته . . . عرفنا أنه ليس من حق أي فرد من العاملين في المعدن أن يثري على حساب الآخرين ، وإنما

بمجرد أن تصل ثروته إلى حد معين يفي بحاجته السنوية له ولعياله بما يناسب

حاله إجتماعياً، منعته الدولة عن الحصول على المقدار الزائد من المعدن ، فاما أن

يعتزل العمل ويسمح لغيره بالإستخراج ، لكي يملك من المعدن بهذا المقدار

أيضاً ، أو أن يعمل ويكون الناتج للدولة مباشرة .

و على أي حال ، فالدولة تملك الكمية الفائضة من المعادن عن كميات العمال،

وهي كميات كبيرة ، قد تزيد على ما ملكه العمال جميعاً بأضعاف كثيرة .

وهذه الكميات تستخدمها الدولة في صناعاتها وسد احتياجات العمل فيها .

ومن هنا تكون المعادن ، تحت الحكم العادل ، قد أفادت بطريق مباشر

وغير مباشر ملايين الناس ، وأغنت ملايين العوائل في العالم .

الجهة السادسة : السياسة المالية للدولة المهدوية

الجهة السادسة : في السياسة المالية للدولة المهدوية ، كما أشارت الأخبار

واقتضتها القواعد الإسلامية العامة.

وأول ما يواجهنا في الأخبار المستفيضة من الفريقين ، هو ما نصت عليه من وفرة المال وكثرته بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ وأن الأفراد كلهم يكونون

ص: 795

من الغنى المالي . بحيث قد يكون للرجل زكاة أو صدقة ، فيبحث عن الفقير

لكي يعطيها ، فلا يجد فيعرضها على الناس فيرفضون أخذها استغناء .

وإن الإمام المهدي (ع) يعرض الأموال أمام الناس ويعلن التوزيع المجاني،

لكي يحمل كل فرد منهم ما يستطيع حمله. إلا أن الناس لا يرغبون به

ولا يأخذون منه شيئاً، غير واحد يأتي ويأخذ ثم يندم لأنه أصبح الوحيد الطامع بالمال ،

ثم يحاول إرجاعه فيرفض طلبه .

وكلا هاتين الصورتين المعروضتين في الأخبار، صريحتان في شمول الغنى

المالي الواسع لكل الناس في المجتمع ، وأن المال والذهب والفضة والأحجار

الكريمة قد سقطت عن الرغبة الإجتماعية ، باعتبار توفرها كالماء والتراب .

هذا ، ولكن هذه الأخبار تواجه بعض الأسئلة يحسن عرضها ومحاولة

الجواب عليها ، وسنذكر كل سؤال في ناحية مستقلة :

الناحية الأولى : ما سبب تكدس المال وكثرته في الدولة المهدوية، سواء

على مستوى الدولة أو الأفراد .

وللجواب على ذلك عدة أطروحات محتملة لا بد من عرضها وتمحيصها.

الأطروحة الأولى : توفر المال عن طريق المعجزة ، ببركة الإمام المهدي

(ع) ودعائه .

ولكن هذه الأطروحة لا تتم لعدة إعتراضات ، نذكر منها اثنين.

أولاً : أنها خلاف قانون المعجزات ، من حيث أنه مهما أمكن وجود الشيء

على الطريقة الطبيعية لم يجز حمله على الوجود بسبب إعجازي . وإمكان فهم توفر المال بالطريق الطبيعي واضح ، بعد الإطلاع على الأطروحتين التاليتين.

ثانياً : أن السياق العام لهذه الأخبار التي تذكر تكدس المال وكثرته ، يشير

ص: 796

إلى عدالة النظام واستقامة الأمور إلى حد يتوفر المال بهذه الكثرة . ومن الواضح

أن افتراض توفر المال عن طريق المعجزة ينافي هذا السياق ، لإمكان وجود

المعجزة - مع اقتضاء المصلحة- في أشد الأنظمة ظلماً وفساداً . وبتعبير آخر :

إن المال سوف يكون نتيجة للمعجزة لا للنظام العادل ، وهو خلاف ظاهر

الأخبار . ومعه فلا تكون هذه الأطروحة صحيحة.

الأطروحة الثانية : إن المال يتوفر لدى الدولة عن طريق ما تقوم به في

الزاراعة والصناعة والتعدين وغيرها من استثمارات . توجب توفر المال للدولة

والأفراد معاً .

وبهذه المشاريع يتوفر في الدولة العالمية المهدوية الإكتفاء الذاتي ، بل

زيادة المنتجات على الحاجات من ناحية ، ويتوفر فيها زيادة على ذلك كمية

ضخمة من النقد ليس لها منفذ ومصدر للصرف معين . فإن مصادر استهلاك

المال - مهما تعددت - فهي تعود إلى الحاجة ، فحين تكون الحاجة منتفية في

كل العالم والدولة واحدة والأمن مستتب والأخوة عامة بين البشر ، والحاجات الأولية والثانوية والتربوية كلها مستوفات ، فيكون المال الزائد بلا مصدر

معين للصرف .

نعم ، يمكن أن يذخر هذا المال لإنقاذ أي منطقة من العالم ، قد تصبح

محتاجة نتيجة لظروف طبيعية طارئة كالفيضان أو الزلازل أو الوباء أو غيرها.

إلا أن نسبة حدوث ذلك سوف يكون أقل بكثير من نسبة تزايد المال وتوفر النقد.

وهذه الأطروحة صحيحة لا مانع من القول بصحتها .

الأطروحة الثالثة: أن توفر المال يكون عن طريق السيطرة على البنوك الكبرى

في العالم ، حيث يعتبر أكثر المال الذي خزن فيها مغصوباً وحراماً غير مشروع

لمن سجلت باسمه ، من الناحية الإسلامية .

ص: 797

ومن ثم تقوم الدولة المهدوية بعدة خطوات في هذا الطريق ، أهمها تأسيس

نظام مصر في جديد قائم على الإيمان بحرمة الربح الربوي من ناحية ، وعلى عدم

تقبل المال ما لم يحرز كونه مالاً حلالاً من الناحية الإسلامية لصاحبه ، من ناحية ثانية.

ثم تقوم الدولة بجرد البنوك التي كانت في عصر ما قبل الظهور، وتصفية

حساب الأموال المذخورة فيها . فان كانت الشرائط الجديدة متوفرة فيها بقيت

مودعة في البنوك لأهلها ، وإن كانت غير متوفرة أخرج المال من البنك

وصادرته الدولة ، باعتبار كونه مجهول المالك ، وهو يعود إلى الدولة

الإسلامية في حكم الإسلام. وإذا ثبت في مال أنه مسجل لغير مالكه الحقيقي أعيد إلى المالك .

إلا أن الأموال التي تحصل عليها الدولة عن هذا الطريق كثيرة قد تربو

على عشرات الملايين. وإن كانت هناك كميات ضخمة أخرى تبقى مسجلة

لأصحابها ، باعتبارها مستجمعة للشرائط المطلوبة .

وهذه الأطروحة أيضاً لا مانع من القول بصحتها .

والظاهر أن الدولة تحصل على الأموال عن كلا الطريقين المبينين في

الأطروحتين الثانية والثالثة . والمعتقد أن الأموال الفائضة نتيجة للأطروحة

الثانية ستكون أكثر بكثير من الأموال التي تحصل عليها الدولة نتيجة للأطروحة

الثالثة ، بالرغم من كثرتها في نفسها . ومعه تكون العمدة في كثرة الأموال هو الأطروحة الثانية .

الناحية الثانية : ما هو الهدف الذي يتوخاه الإمام المهدي عليه السلام من

عرض الأموال للناس وتوزيعها عليهم مجاناً ، كما أخبرتنا الأخبار .

ويمكن أن نتصور لذلك إحدى أطروحتين محتملتين :

ص: 798

الأطروحة الأولى : أن كمية ضخمة من المال، كما سمعنا ، تبقى من دون

أن يتوقع لها منفذ معين .ومن هنا يكون من المنطقي أن ترصد للمحتاجين

أفراداً ومجتمعات ، على طول الخط . يأخذ منها المحتاج - أياً كان -

مقابل وبدون شروط ، وبدون بدون تحديد كمية معينة ، مادام المقدار معقولاً ومنطقياً.

غير أن الأخبار دلت بوضوح على عدم إقدام الناس للحصول على شيء

من هذا المال ، لعدم وجود المحتاج بأي شكل من أشكاله في الدولة المهدوية

العادلة، حتى أن هذا الفرد الذي يأخذ المال ثم يندم عليه. سيكون دافعه للأخذ هو

الطمع ولسيس الحاجة ، ومن هنا أمكنه التفكير بإرجاعه بدون حرج.

الأطروحة الثانية : أن دولة المهدي (ع) بعد أن تستتب أساليبها وبرامجها

في إغناء الناس وإسعادهم . حتى لا يبقى فقير على الإطلاق ولا مشتاق إلى المال

أصلا ؛ عندئذ تتعلق المصلحة ببيان ذلك وإيضاحه أمام البشر أجمعين والتاريخ

وذلك بالقيام بتخطيط معين موقت ، وهو أن تعد الأموال الفائضة ويعلن في

الناس إعلاناً عاماً ، بان من يريد أن يحصل على المال ، فإنه يستطيع ذلك

بمقدار ما يشاء . و حين لا يقبل الناس على أخذ المال . غير واحد فقط ، یثبت

بالضرورة أن جميع الأفراد قد أصبحوا أغنياء و مرفهين إلى حد انقطعت

أطماعهم وتحققت كل آمالهم .

فإذا استطعنا أن نتصور أن هذا التخطيط المعين في كثير من بلدان العالم،

يبدأ به المهدي (ع) في العاصمة المركزية، ويطبقه الحكام الموزعون على الأرض

كل في إقليمه.. . وإذا كانت الإستجابة من الناس هي نفسها أو مقاربة في

كل البلدان ، حتى التي كانت معتادة على الخشع الرأسمالي... حينئذ نستطيع

أن ندرك كيف ولماذا أصبحت هذه التجربة هي المزية الرئيسية للإمام المهدي (ع)

لم يستطع أحد قبله على الإطلاق أن يؤديها أو أن يفكر فيها فضلا عن أن ينجح

ص: 799

في ادائها .. مهما كانت دعاوى العقائد المنحرفة السابقة على الظهور، ذات

ضجيج وعجيج .

ومن هنا نصت جملة من الأخبار على هذه المزية بالتعيين ، ولم تصف

المهدي (ع ) إلا بها . كالذي أخرجه مسلم : يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده . وما أخرجه البخاري : وحتى يعرضه ، فيقول الذي

يعرض عليه : لا أرب لي به إلى غير ذلك من الأخبار ، وقد سمعناها .

الناحية الثالثة : إن بعض الأخبار السابقة يذكر كثرة المال ولا يشير

إلى المهدي (ع ) بالتعيين ، فكيف نستطيع أن نفهم أن المقصود به ذلك ؟ . .

ولهذا السؤال أسلوبان في الجواب ، أحدهما عام لكل الأخبار الواردة

حول المهدي (ع ) مع أنها لم تذكر اسمه . وقد طبقنا جانباً من هذا الأسلوب في التاريخ السابق (1) وقلنا ان كل التنبوءات بحوادث المستقبل مربوطة

بظهور المهدي (ع ) وتصلح أن تكون( علامات) له ، ما لم يثبت بدليل

خاص تأخرها عن الظهور وكونها من أشراط الساعة بشكل مباشر . وستأتي

تفاصيل البرهان على ذلك في الكتاب الخاص بالسنة والمهدي من هذه الموسوعة

بتوفيقه تعالى .

وهناك من القرائن ما هو خاص بمورد كلامنا ، تدلنا على أن كثرة

المال لا تكون إلا في دولة المهدي العالمية العادلة . نذكر منها قرينتين :

القرينة الأولى : إنه بعد أن ثبت بالضرورة والوجدان ، عدم توفر المال

بكثرة على الشكل الموصوف في الروايات ، في أي عصر من عصور البشرية

إلى العصر الحاضر . إذن ، فهو سيتوفر في المستقبل . ولا يخلو عصر توفره

من أحد احتمالات ثلاث :

ص: 800


1- تاريخ الغيبة الكبرى ص 523 وما بعدها.

الأول : توفر المال قبل الظهور، أي في الفترة المتخللة بين العصر الحاضر

والظهور .

الثاني : توفر المال في دولة المهدي (ع ) نفسها .

الثالث : توفر المال بعد دولة المهدي (ع) أي في الفترة المتخللة بين

نهاية هذه الدولة ، ونهاية البشرية .

أما الاحتمال الأول ، فهو غير وارد على الإطلاق . لما عرفناه مفصلاً

من بقاء الظلم والفساد إلى لحظة الظهور . ومن غير المحتمل لعصر الفتن

والانحراف أن يؤثر تأثيراً إيجابياً في كثرة المال بهذا الشكل . وهذه الأنظمة

العالمية المعاصرة أمامنا لم تنتج هذه الكثرة وغير قابلة لأن تنتجها في المستقبل .

وكذلك كل نظام لا يتكفل النظام العادل ، بل يمثل خط الانحراف العام .

وأما الاحتمال الثاني : فهو المطلوب ، لأنه على تقدير صحته ، يتعين

أن تكون كثرة المال في دولة المهدي نفسها .

وأما الاحتمال الثالث ، فهو - في واقعه - لا يتضمن مفهوماً مغايراً

للاحتمال الثاني : فإننا سنبر هن في الكتاب الآتي من هذه الموسوعة مفصلاً

في على أن دولة المهدي ونظامه سيبقى مستمراً إلى نهاية البشرية ، فكثرة المال لو

لم يتحقق في حياة المهدي (ع ) بل تحقق بعده ، طبقاً لهذا الاحتمال ، فهو

قد تحقق في نظام المهدي ودولته العادلة نفسها ، مهما أبطأ في الوجود . ولكن

إذا صح أن يوجد المال بكثرة نتيجة للنظام العادل ، فأحر به أن يوجد في

حياة الإمام المهدي (ع ) نفسه بصفته القائد الأعظم والأجدر قادة هذه

الدولة على الإطلاق ، والمؤسس للنظام التكاملي والتربوي البعيد المدى فيها .

ومعه يتعين الاحتمال الثاني ، وهو أن تكون كثرة المال التي أعربت عنها

51

ص: 801

أي رواية من هذه الروايات وغيرها ، لا تكون بدايتها إلا في عصر وجود

المهدي (ع) بشخصه في دولته العالمية. وإن استمرت هذه الكثرة بعده

قروناً من الزمن .

القرينة الثانية : ان تجعل الروايات التي تربط كثرة المال بظهور المهدي

( ع ) قرينة على أن المراد من الروايات الساكنة عن ذلك هو ذلك أيضاً. وهذا

فهم عرفي ولغوي صحيح ، ناشيء من حمل المطلق على المقيد ، أو فهم

المطلق على ضوء المقيد .

والروايات التي تربط كثرة المال وحصول الرفاه الاجتماعي بظهور

المهدي على قسمين :

أحدهما : روايات المصادر الخاصة كلها، مما سمعناه ومما لم نسمعه .

ثانيهما: الأغلب من روايات المصادر العامة . فإننا روينا في هذا الفصل

منها اثني عشر نصاً . منها خمسة نصوص تسمي المهدي على التعيين . وثلاثة

منها تصف المهدي بصفة لا تنطبق إلا عليه كقوله . فيبعث اللّه عز وجل رجلاً

من عترتي فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت ظلما وجوراً . وقوله : يكون

في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده ، ونحوها من الروايات التي لا

يراد منها إلا المهدي (ع ) ، بإجماع المسلمين .

ومنها : أربعة نصوص مهملة من هذه الجهة ، هي روايتان عن البخاري

و واحدة عن مسلم وواحدة عن الترمذي. وهي التي تقول - طبقاً للقاعدة

اللغوية العامة -إن تلك الروايات الأكثر عدداً والأوضح صراحة تكون

قرينة على أن المراد منها هو عصر ظهور المهدي نفسه ، ليس غير .

وبوجود هاتين القرينتين يحصل المقصود :

ص: 802

هذا . ولكثرة المال سبب إيديولوجي نظري ، هو ما يسمى بالمذهب

الاقتصادي في اللغة الحديثة . وهذا ما لا نحاول الدخول فيه الآن . فقد اقتصرنا

هنا على الآثار والنتائج الاقتصادية ، الموسعة الناتجة عن المذهب الاقتصادي

المهدوي العادل ،. وأما ان هذا المذهب ما هو وكيف هو ، فهذا ما سنفهم المقدار الممكن منه في الكتاب التالي من هذه الموسوعة مفصلاً ، إن شاء اللّه

تعالى .

الجهة السابعة : في التأييد الإلهي لدولة المهدي (ع )

الجهة السابعة : في التأييد الإلهي لدولة المهدي عليه السلام .

وينبغي أولاً أن نقيم القرائن على صحة هذا التأييد عموماً ، بالشكل

الذي سنوضحه ، ثم نتحدث ثانياً عن مظاهر هذا التأييد في الدولة العالمية .

ومن هنا نتكلم في ناحيتين :

الناحية الأولى : في وجود التأييد الإلهي لجانب الحق والعدل عموماً ،

أينما وجد في مختلف الأزمنة والأمكنة .

ويمكن أن نلحظ ذلك في الأدلة الإسلامية على مختلف المستويات :

المستوى الأول : وهو الذي يعرب عنه مثل قوله تعالى :

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ

تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ

أَقْدَامَكُمْ » (1)

فإنه ما دام الفرد والمجتمع معطياً نفسه لنصرة اللّه ماشياً قدماً في سبيل اللّه ، فاللّه تعالى يفيض عليه النصر وقوة الإرادة ويعطيه من النتائج ما لم يكن

متوقعاً .

ص: 803


1- 7/47.

ومثل قوله تعالى :

وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ

إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ،الَّذِينَ إِنْ

مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ

وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ

وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ

الْأُمُورِ(1)

وإن من أوضح مصاديق هؤلاء المؤمنين الموصوفين في الآية هم المهدي

(ع ) وأصحابه : إن لم تكن هذه الآية هم المهدي تشير إليهم بالذات .

ومثل قوله تعالى :

«وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى

وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ» (2)

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن هناك مرتبة من الإخلاص والإيمان

إذا وصلها الفرد في عمله في سبيل اللّه - أياً كان شكل العمل وأسلوبه -

أصبح مستحقاً للتأييد الإلهي والعناية والرحمة من قبل رب العالمين.

وأثر التأييد الإلهي ، هو زياد النتائج على المقدمات . بمعنى أن هذا العمل

المعين لو لم يكن مؤيداً لا نتج نتائج معينة محدودة ، بحسب قوانين المجتمع

العامة ،كأي عمل آخر . لكن حين يصبح العمل مقروناً بالتأييد ، فإن نتائجه

سوف تكون أوسع مما يتوقع عادة من مثل هذا العمل .

ص: 804


1- 40/22-41
2- 17/47.

ومن أمثلته المحسوسة في العصر الحاضر ، انتشار الدين الإسلامي في

العالم. فإنه بالرغم من قلة دعاته المبشرين إليه وقله المدافعين عنه وضعفهم

نجده محفوظاً متنامياً بارزاً بالعزة والفخر أمام الرأي العام العالمي ، يعتنقه في

كل عام مئات من الأفراد الجدد في افريقيا خاصة وفي العالم عامة .

المستوى الثاني : وهو المفهوم من مثل قوله تعالى :

«بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا

وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا

يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ

آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ .

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ

وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا

النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ .لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ

الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ

فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ». (1)

فمهما تزايد عنصر الصبر وعنصر التقوى في الأفراد العاملين ، كان

استحقاق عملهم للتأييد الإلهي أكثر فأكثر .

وليست هذه الآية وأمثالها خاصة بالنبي (ص) وأصحابه ، وان نزلت لأول مرة فيهم . وبرهان عدم الإختصاص ينطلق من عدة وجوه نذكر منها

اثنين مستفادين من الآية نفسها :

ص: 805


1- 125/3-126.

الوجه الأول : إن الآية أناطت الامداد والتأييد بالصبر والتقوى ، ولم

تنطه بكون القائد نبياً أو مرسلاً من اللّه عز وجل ، الأمر الذي يعطينا أن

الصبر والتقوى يستتبعان التأييد أينما وجدا .

الوجه الثاني : إن الهدف من تأييد الجيش النبوي مذكور في الآية وهو

قوله تعالى : « ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ».

فمهما وجد هذا الهدف بإخلاص وجد التأييد . وكيف إذا عرفنا أن الهدف المهدوي ليس محدوداً بل واسعاً بسعة الأرض كلها ، فإن التأييد يكون من

هذه الناحية أولى بطبيعة الحال ..

المستوى الثالث : تعاضد التكوين والتشريع في إنتاج العدل لنتائجه النهائية.

فإن المستفاد عدد من من النصوص من الكتاب الكريم والسنة الشريفة ،

ان تطبيق العدل الإلهي أينما وجد ، والمجتمع المؤمن أينما تحقق ، فإن الطبيعة

تكون مساعدة له بمشيئة خالقها الحكيم - لانتاج النتائج الحسنة والوصول

إلى الرفاه الاجتماعي . وهذا أمر صحيح برهانياً ، وسيأتي ما يلقي عليه الضوء

الكافي في الكتاب الآتي ، من هذه الموسوعة .

كقوله تعالى - نقلاً عن هود النبي ( ع ) - :

«وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ

ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ

عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً

إِلَى قُوَّتِكُمْ ». (1).

ص: 806


1- 52/11.

وقوله نقلاً عن نوح النبي ( ع ) :

«فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ

إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ

عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ،وَيُمْدِدْكُمْ

بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ

جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا»(1)

فإن إرسال السماء مدراراً وشق الأنهار وزيادة البنين ونحوها ، أمور

تكويسية ليس للإنسان فيها يد ، وخاصة في عصر نوحٌ عليه السلام ، ومع

ذلك فقد قرنت مع الاستغفار والتوبة ، ومع إصلاح النفس والإخلاص

بشكل عام . وهذا صادق بالنسبة إلى المجتمع المحدود ، فكيف إذا أصبح المجتمع كله صالحاً مؤمناً .

فهذه مستويات ثلاثة من التأييد الإلهي ، لا حاجة الآن إلى الزيادة عليها :

الناحية الثانية : في تطبيق ذلك على الدولة المهدوية ، وما عرفناه من

أشكال التأييد التي تعتبر كنتائج لإحدى هذه المستويات .

من الواضح أن الصفات المعتبرة لاستحقاق التأييد في المستويات الثلاثة

كلها موجودة في أصحاب الإمام المهدي (ع ) خاصة وفي الدولة العالمية

العادلة ، ككل ؛ فمن الطبيعي أن يكونوا مشمولين لكل هذه الأشكال

الثلاثة .

وأما من حيث النتائج التي تعرضها علينا الأخبار السابقة ، فتتجلى في

صور مختلفة :

ص: 807


1- 10/71-12.

الصورة الأولى : سهولة استخراج المعادن بشكل خارج عن الحسبان،

سواء فهمناه من زاوية إعجازية أو من زاوية طبيعية . وقد تحدثنا عن ذلك .

الصورة الثانية : اتساع الزراعة والأراضي المزروعة بشكل عظيم لم

يسبق له مثيل . « لا تدخر الأرض من بذرها شيئاً إلا أخرجته ، ولا السماء من قطرها شيئاً إلا صبته » .

الصورة الثالثة : ارتفاع الدخل الفردي بشكل لا مثيل له ، إلى حد

ينغاق الطمع بالمال الزائد تماماً، كما صرَّحت به الروايات .

الصورة الرابعة : انه عليه السلام : « تطوى له الأرض » وهو تعبير

عن سرعة الوصول إلى المكان البعيد ، أما بشكل ، إعجازي أو بشكل طبيعي ،كما سنتحدث عنه غير بعيد .

الصورة الخامسة : شمول الأخوة لكل الناس وعموم الصفاء بينهم جميعاً،

الأمر الذي لم يحدث في أي نظام آخر . كما نصت عليه أخبار الفريقين .

الصورة السادسة : إن الأمن والصفاء لا يشمل البشر فقط ، بل يشمل

الحيوانات أيضاً : البهائم والسباع « واصطلحت السباع والبهائم » فيما

بينها . وهي لا تضر الإنسان أيضاً « لا يهيجها سبع ولا تخافه » .

وهذا الصلح منصوص عليه في كتب العهدين أيضاً ، ومقرون هناك أيضاً

بوجود المجتمع الصالح العادل . كما سوف يأتي في جزء آت من هذه الموسوعة .

وقد أعطي هناك معنى يشمل الأفاعي وسائر الحشرات أيضاً .

وهذا الصلح أحد المظاهر الواضحة للتأييد الإلهي للمجتمع المهدوي .

حتى أن الوحوش تصبح ملهمة بقدرة اللّه عز وجل ، على أن تتجنب كل

ما يضر بالبشر من قتلهم أو قتل مواشيهم أو إفساد مزروعاتهم وغير ذلك .

ص: 808

بل لعلها تشاركهم فيما يشعرون من سعادة ورفاه وأخوة « يرضى عنه ساكن السماء » وهو الطير .

وهذا المطلب لا يمكن إثباته من ناحية العلم التجريبي الحديث ، ولا

يكون قابلاً للتصديق من قبل أي فرد ممن وثق بهذا العلم واطمئن إليه .

ولكن حسبنا تجربة المستقبل ، وحدوث يوم الظهور نفسه . فبيننا وبين المفكرين المحدثين ، وجود المجتمع العالمي العادل :

« فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ

الْمُنْتَظِرِينَ» . (1)

فإن تجربة وجود هذا الصلح لا يمكن تحققها بدون تحقق ذلك المجتمع ،

فإنه الشرط الأساسي له . ولا يعقل أن يتحقق الشيء قبل توفر سببه . فإن

حدث ذلك المجتمع ، ولم يحدث الصلح بين السباع والبهائم كان كلام

المنكرين صادقاً ، ولكنهم لا يمكنهم إثبات ذلك في العصر الحاضر ، بأي حال من الأحوال .

فهذا هو مهم الكلام في هذا الفصل. بقي علينا الدخول في الخاتمتين

اللمتين تعرضان إلى أنواع أخرى من المنجزات لا تمت إلى الجانب المالي

والاقتصادي بصلة .

الخاتمة الأولى : في المنجزات القضائية والعبادية والفقهية وغيرها

الخاتمة الأولى :

في المنجرات القضائية والعبادية والفقهية ونحوها في دولة المهدي عليه

السلام .

ص: 809


1- 71/7 و انظر : 20/10.

ونتكلم عن ذلك في عدة جهات :

الجهة الأولى : في سرد الأخبار الدالة على هذه المنجزات :

أخرج في البحار (1)عن أبي عبيدة عن أبي عبد اللّه (ع ) ، قال :

إذا قام قائم آل محمد حكم بحكم

داود وسليمان ، لا يسأل الناس بينة.

وأخرجه ، في الوسائل (2)بلفظ مقارب

وأخرج النعماني(3)عن ابان بن تغلب قال : كنت مع جعفر بن محمد

عليهما السلام في مسجد مكة وهو آخذ بيدي ، فقال :

يا أبان ، سيأتي اللّه بثلثماءة وثلاثة

عشر رجلا في مسجدكم هذا...

إلى أن قال : ثم يأمر مناد فينادي :

هذا المهدي يقضي بقضاء داود سليمان،

لا يسأل على ذلك بينة ، وأخرجه

الصدوق في اكمال الدين أيضاً (4)

وأخرج النعماني (5)عن ابان أيضاً عن أبي عبد اللّه (ع ) في حديث ،

أنه قال :

ص: 810


1- ج 13 ص 183 .
2- ج 3 ص 435 .
3- ص 169 .
4- نسخة مخطوطة .
5- نفس الصفحة السابقة .

ويبعث اللّه الريح من كل واد

تقول : هذا المهدي يحكم بحكم

داود ولا يريد البينة .

وهناك أخبار أخرى حول هذا القضاء رويناها في الفصل الخاص بالتمحيص فراجع.

وأخرج في البحار (1)عن الكافي بإسناده عن أبي عبد اللّه (ع ) ،

قال :

أول ما يظهر القائم من العدل ان

ينادي مناديه أن يسلم صاحب النافلة

لصاحب الفريضة الحجر الأسود والطواف.

وروى أيضاً عن الكافي بإسناده عن عمرو بن جميع قال سألت أبا جعفر

(ع ) عن الصلاة في المساجد المصورة ، فقال :

أكره ذلك ، ولكن لا يضركم

اليوم ، ولو قد قام العدل لرأيتم كيف

يصنع في ذلك .

وقال في البحار : روي في كتاب مزار لبعض أصحاب عن أبي بصير

عن أبي عبد اللّه (ع ) قال : قال لي :

يا أبا محمد ، كأني أرى نزول

القائم في مسجد السهلة ، بأهله وعياله،

قلت يكون منزله ؟ جعلت فداك ! قال :

ص: 811


1- ص 196 ج 13 ، وكذلك الخبرين بعده .

نعم . . . قلت : جعلت فداك لا يزال

القائم فيه أبداً . قال نعم . قلت :

فمن بعده ؟ قال : هكذا من بعده إلى

انقضاء الخلق . قلت : فما يكون من

أهل الذمة عنده ؟ قال : يسالمهم ، كما

سالمهم رسول اللّه (ص) ، ويؤدون

الجزية عن يد وهم صاغرون .. الحديث.

وروى أيضاً (1) عن السيد علي بن عبد الحميد بإسناده إلى أحمد ابن

محمد الايادي يرفعه إلى إسحاق بن عمار ، قال : سألته عن إنظار اللّه تعالى

إبليس وقتاً معلوماً ذكره في كتابه ، فقال :

انك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم (2) . قال : الوقت المعلوم

يوم قيام القائم . فاذا بعثه اللّه كان في

مسجد الكوفة ، وجاء ابليس حتى

يجثو على ركبتيه، فيقول : يا ويلاه ،

من هذا اليوم ، فيأخذ بناصيته فيضرب

عنقه . فذلك يوم الوقت المعلوم

منتهی أجله .

وقد سبق أن روينا هذا الخبر ، واجانا الحديث فيه إلى هذا الفصل .

ومن أجل هذا كررناه .

ص: 812


1- ص 197 ، ج 13 .
2- 80/38-81.

وروى في البحار أيضاً (1)عن بعض مؤلفات أصحابنا بإسناده عن

المفضل بن عمر ، قال : سألت سيدي الصادق (ع ) : هل للمأمور المنتظر

المهدي (ع ) من وقت معلوم الناس ؟ -وهو حديث طويل يقول

فيه -:

قال المفضل : قلت : يا سيدي ، فأين يكون دار المهدي ويجتمع

المؤمنون ؟ قال :

دار ملكه الكوفة ومجلس حكمه

جامعها وبيت ماله ومقسم غنائم

المسلمين مسجد السهلة . وموضع

خلواته : الذكوات البيض بين الغربين.

قال المفضل : يا مولاي ، کل

المؤمنين يكونون في الكوفة ، قال :

اي واللّه ، لا يبقى مؤمن إلا كان بها

أو حواليها ، وليبلغن مجالة فرس منها

الفي درهم... وليصيرن الكوفة

أربعة وخمسين ميلا ،و ليجاورن

قصورها کربلا ، وليصيرن اللّه

كربلا معقلا ومقاماً ، تختلف فيه

الملائكة والمؤمنون ، وليكونن لها

شأن من الشأن ... الحديث .

وروى الحر في الوسائل (2)بإسناده عن الحسين الشيباني عن أبي عبد

ص: 813


1- ج 13 ص 200 .
2- ج 2 ص 281 .

اللّه (ع ) قال : قلت له : رجل من مواليك يستحل مال بني أمية ودمائهم

وانه وقع عنده وديعة . فقال :

ادوا الأمانة إلى أهلها وان كان

مجوساً . فان ذلك لا يكون حتى قام

قائمنا ، فيحل ويحرم .

وأخرج الصدوق في إكمال الدين(1) بسنده عن ابان بن تغلب ، قال :

قال أبو عبد اللّه (ع ) :

دمان في الإسلام حلال من اللّه عز

وجل، لا يقضي فيهما أحد بحكم اللّه

عز وجل ، حتى يبعث اللّه القائم من

أهل البيت ، فيحكم بحكم اللّه عز وجل

فيهما ، لا يريد فيه بينة : الزاني المحصن

يرجمه ، ومانع الزكاة يضرب رقبته

( عنقه ) .

إلى غير ذلك من الأخبار التي لا حاجة إلى الإطالة بذكرها .

أقول : إن أكثر هذه الأخبار ، بصفتها أخباراً مفردة ، غير قابلة

للإثبات التاريخي، وخاصة ما نقلناه عن البحار فإن فيه ما هو مجهول ومرسل و مرفوع . فالعمدة في تصحيحها مطابقتها للقواعد والقرائن. ولكننا سنتحدث

الآن عنها كما لو كانت كافية للإثبات ، لعدم قيام القرانن على بطلانها على أي حال .

ص: 814


1- انظر المصدر المخطوط .

الجهة الثانية : في المبررات الكافية لاتخاذ المهدي (ع ) أسلوب قضاء سليمان وداود عليهما السلام

الجهة الثانية: في الحديث عن قضاء المهدي (ع قضاء المهدي (ع ) ، وقد تحدثنا عن

ذلك مفصلاً ، وإنما بقيت هناك نقطتان لم يكن المجال لإيضاحهما متوفراً ، فنتحدث عنهما الآن .

النقطة الأولى: في معنى قضاء سليمان عليه السلام. فإننا لم نذكره من بين أساليب الأنبياء للقضاء فيما سبق . وقد ورد في هذه الروايات ذكره

هو ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى :

«وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ

فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ

الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا

حُكْمًا وَعِلْمًا ».(1)

وهذه الآية لم تذكر الحكم الذي حكم به سليمان (ع) طبقاً لتفهیم

اللّه عز وجل . ولكن ذكرته السنة الشريفة في عدة أخبار.

منها : ما روي (2)عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع ) قال : قلت

قلت له :

«و داود وسليمان اذ يحكمان

في الحرث » قلت : حين حكما في

الحرث كانت قضية واحدة ؟ !

فقال : انه كان أوحى اللّه عز وجل

إلى النبيين قبل داود ، إلى أن بعث

ص: 815


1- 77/21-78
2- تفسير البرهان ج 2 ص 693 .

ص: 816

ص: 817

وليس المراد بقضاء داود (ع ) حكمه في قضية الحقل التي حكم بها ولده سليمان (ع) . بل أسلوبه العام في أنه يقضي بدون أن يطلب من المدعي بينة على مدعاه.

وينبغي أن يقع الحديث في نقطتين :

النقطة الأولى : في المبررات الكافية لاتخاذ المهدي (ع) قضاء سليمان

(ع ) . يمكن أن نذكر لذلك مبررين :

المبرر الأول : إن قضاء سليمان (ع ) مطابق للقواعد الإسلامية نفسها.

فإنه بعد أن يثبت اعتداء الغنم على حقل الغير . يكون صاحب الغنم ضامناً

لصاحب الحقل قيمة ما أتلفته الغنم من الزرع وهذا صحيح واضح في القواعد الإسلامية ، وهو مما أخذه سليمان وداود عليهما السلام مسلماً أيضاً ،

وإنما اخنافت الأحكام فيما يمثل هذا الضمان الذي يدفعه صاحب الغنم کما قلنا في الاحتمالات الثلاث السابقة .

فبينما يبدو للفرد المعاصر لعصر النقود والعملات الورقية ، أن الضمان يجب أن يكون متمثلاً بها ، لم يكن هذا واضحاً ولا مفهوماً للمجتمع المعاصر

لسليمان وداود عليهما السلام ، لانعدام العملة عندهم .

ومن الصحيح إسلامياً أن الضمان في العصر الحاضر ، إنما يكون بالنقود

والعملة بوجه عام -. ولكن من الصحيح إلى جانب ذلك أنه يمكن دفع العين

أو العروض بدلها أحياناً . كما لو اتفق الدائن والمدين على ذلك ، وكما لو أمر

بذلك الحاكم الإسلامي الأعلى نفسه .

إذن ، فالفرق بين حكم سليمان وحكم الإسلام فيما يمثل الضمان .

فإذا حكم المهدي (ع ) بحكم سليمان (ع ) : فقد أمر ضمناً بصفته حاكماً

ص: 818

إسلامياً أعلى - بتحويل الضمان من النقد إلى العروض ، فيكون هذا جائزا

وملزماً للمدين :

وأما التفريق بين الاعتداء في الليل والاعتداء في النهار ، فلا يكون في

هذه المسألة منشأ للفرق بين حكم سليمان وحكم الإسلام فيها ، لأنه كان

اعتداءاً ليلياً مضموناً في حكمه وهو مضمون في الإسلام أيضاً . نعم ، لو كان

الاعتداء في النهار ، لكان منشأ للفرق الحقيقي، إلا أن المهدي (ع ) سيحكم

بالضمان كما حكم سليمان بالضمان .

المبرر الثاني : انها لو تنزلنا - جدلاً - عن المبرر الأول ، وفرضنا أن

حكم سليمان (ع ) غير صحيح إسلامياً ، فعندئذ يكفي في لذ يكفي في صحته بالنسبة

إلى الإمام المهدي (ع) ما كفى بالنسبة إلى اتخاذه أساليب قضاء الأنبياء الآخرين كآدم ونوح ، وقد أعطينا لذلك المبرارت الكافية في الفصل السابق

فراجع. هذا والمهدي (ع) أولى بالناس من أنفسهم وأموالهم ، وله أن

يعمل ما هو الأصلح على كل حال ، شأنه في ذلك شأن نبي الإسلام (ص)

نفسه ، كما هو ثابت بضرورة الدين .

النقطة الثانية : في المبررات الكافية لاتخاذ المهدي (ع ) قضاء داود (ع ) .

يمكن أن نقدم لذلك ثلاث مبررات بحسب فهمنا المعاصر :

المبرر الأول : التمحيص والامتحان ، الذي هو المبرر العام لاتخاذ

المهدي (ع) أياً من أساليب قضاء الأنبياء السابقين ، على ما عرفنا . . . إلى

جانب مصالح أخرى عامة عرفناها .

وهذا المبرر يكتسب إثباته التاريخي ، بشكل رئيسي ، من الظن بأن

الإمام المهدي (ع ) حين يحكم في قضية بحكم النبي داود (ع ) سوف لن

ص: 819

يصرح بأن هذا من ذاك ، ولن يوضح أنه حكم بعلمه مطابقاً للواقع وان خالف

القواعد القضائية العامة . ومن هنا يكون مثاراً للاحتجاج ، وهو محك

التمحيص .

غير أن هذا صحيح في العدد القليل من القضايا التي يتخذ فيها المهدي (ع) هذا الأسلوب القضائي ، إذ تكون صفته صفة اتخاذه لأساليب القضاء

الأخرى ، مرة مرة ، وهي التمحيص . غير أن المستفاد من الروايات استمرار ديدن المهدي (ع ) على ذلك في كثير من القضايا ، ومعه ، يكون

اتخاذ هذا الأسلوب لأول مرة محكاً للتمحيص ، وحين يتكرر الأمر ويتضح السر فيه ، سيتخذ الموقف مبرراً آخر أعمق من هذا المبرر .

المبرر الثاني : تعويد المجتمع على الوصول إلى الواقع في المرافعات

القضائية . فحين يعلم الإمام المهدي (ع ) أن القواعد القضائية ستوصل

القضية إلى الواقع لا يكون لديه مانع من استعمالها ، وحين يعلم مخالفتها

للواقع فإنه سيهملها ويتجه في حكمه نحو الواقع مباشرة . وقد قلنا في الفصل

السابق أن الحاكم العادل مخير بين الأسلوبين باستمرار .

ومن هنا كان هذا الأسلوب معتاداً له ، لا بمعنى أنه يتخذه في كل القضايا

على الإطلاق ، بل بمعنى أنه يكثر من اتخاذه ، وذلك في موارد مخالفة القواعد

العامة للواقع ، ومن هنا يمكن القول : بأن المهدي (ع ) يجمع ما بين قضاء

داود (ع ) وقضاء محمد ( ص ) . وحيث نعرف أن قضاء محمد (ص)

أعني القضاء بالبينة واليمين غالبي المطابقة للواقع ، وقليل المخالفة له، نعرف

أن المهدي (ع ) سيتخذ قضاء محمد (ص) في الأغلب وقضاء داود في

الأقل . ولكنه عليه السلام سيصل إلى الواقع على كل تقدير .

ولا حاجة إلى التوسع في هذا المبرر أكثر من ذلك .

ص: 820

المبرر الثالث : تعويد المجتمع على الوصول إلى الواقع ، في كل المصالح العامة ، وليس في القضاء فقط . فإن القضاء بالرغم من أهميته ليس هر أهم

مرافق الدولة و أعمق مستوياتها ، فإذا كان الجانب الأضعف محتاجاً إلى

الوصول إلى الواقع ، فكيف بالجانب أو الجوانب المهمة والعليا في الدولة

والمجتمع .

والمنطلق الأساسي لهذا المبررة هو أن الحكم العادل المطلق ، الذي يحصل

فيه الإنسجام المطلق بين البشر أجمعين ، لا يمكن أن يتحقق إلا بعد التشخيص

الحقيقي لكل الوقائع والحوادث ، والرؤية الواضحة لكل الظواهر والتحركات ،

وأي ضعف في التشخيص أو جهل في الرؤية ، يؤدي إلى تضعضع العدالة في

الحكم الوارد في الواقعة . وإذا كثر هذا الضعف كثر هذا التضعضع ، ومن

ثم قد يودي بعدالة النظام ككل .

ولا نريد بالتشخيص الحقيقي والرؤية الواضحة ، إلا ملاحظة كل واقعة

وحادثة على واقعها من دون لبس وغموض . إذن ، فتطبيق العدل الكامل

المطلق ، متوقف على الوصول إلى الواقع دائماً ، أعني في المصالح العامة -.

وقد يصل بعد التربية البشرية المستمرة حتى إلى الوقائع الشخصية الخاصة .

وهذا هو أحد الفروق بين داود (ع ) والمهدي (ع) حيث وقع هذا القضاء من داود (ع) مرجوحاً كما عرفنا مستحقاً للاستغفار والإنابة ،

بينما سوف يكون راجحاً من المهدي (ع ) ومطابقاً للمصالح العامة في دولته .

لأن المجتمع في عصر داود لم يكن على مستوى الوصول إلى الواقع ، بل

كانت القواعد القضائية العامة تربوية بالنسبة إليه إلى الحد الكافي . . . على حين

سيصبح المجتمع في عصر الإمام المهدي (ع ) محتاجاً إلى الوصول إلى الواقع

في كل المصالح العامة .

ص: 821

ولا حاجة إلى التوسع في هذا المبرر الثالث أكثر من هذا أيضاً .

الجهة الثالثة : في مقتل إبليس .

وهو ما دل عليه بعض الروايات ، منها ما نقلناه فيما سبق .

ولفهم مقتل إبليس أطروحتان ، كل منهما يحتمل أن يكون مقصود الرواية :

الأطروحة الأولى : الأطروحة الصريحة ( غير الرمزية) لهذا الحادث الطريف.

وتبدأ هذه الأطروحة من زاوية ظهور القرآن الكريم بأن (إبليس ) مخلوق

معين ذو شخصية محددة . وهو الذي أصبح منذ عصيانه الأمر الإلهي بالسجود

لآدم عليه السلام مصدر الشر والخطايا لآدم وذريته . وقد دعا إبليس ربه في

ذلك الحين أن يرزقه العمر الطويل ليقوم بمهمته خير قيام.... وقد أجابه إلى

ذلك . ومن هنا كان أي كفر أو انحراف أو عصيان في البشرية منسوباً إلى

إبليس أو الشيطان .

غير أن إبليس دعا ربه أن يهبه العمر إلى نهاية البشرية (إلى يوم يبعثون )

فاستجاب له قسماً من هذا الدعاء ورفض الآخر، هذا الدعاء ورفض الآخر ، بأن أعطاه قسماً من

العمر المطلوب ....

«قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ

إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»(1)

وهو يوم الظهور وتأسيس الدولة العالمية . حيث يقوم الإمام المهدي (ع)

بقتله ، وتبقى البشرية بدون شيطان ، فتكون تربيتها أسهل وتكاملها أسرع ،

وربما تكون هذه السرعة أضعاف ما هي عليه في حياة إبليس ! !..

ص: 822


1- 80/38-81.

فبينما كان إبليس ، أعني طاعته والإنحراف باتجاهه ، محكاً للتمحيص

منذ أول البشرية إلى عهد الظهور . أوقل : في التخطيط العام السابق على الظهور.

فلن يكون كذلك بعد الظهور ، لما عرفناه من وجود اختلافات أساسية في

الأسلوب والنتائج بين التخطيط السابق والتخطيط اللاحق على الظهور.

وهذه الأطروحة وكذلك الثانية ، تصدق بغض النظر عن بعض المناقشات

الجانبية في مضمون الخبر الذي سمعناه بهذا الخصوص ، والذي يطول بنا

المقام في سردها .

غير أن أهم مناقشة تواجهها هذه الأطروحة . بعد التسليم بأن ذاك

الخبر وحده غير كاف في الإثبات التاريخي ... هي جهلنا بمقصود القرآن

الكريم من ( الوقت المعلوم ) . فإن القرآن ظاهر فعلا بأن ( الوقت المعلوم )

أقصر مدة وأقرب زماناً من ( يوم يبعثون ) ، إلا أنه لم يحدد هذا الوقت المعلوم ....

فلعل المراد به يوم موت إبليس نفسه . فكأنه قال : إنك من المنظرين إلى حين

موتك . ولعل المراد به يوم ظهور المهدي (ع ) كما هو مبين في هذا الخبر . ولعل

المراد به يوم وجود المجتمع المعصوم . كما سنسمع في الأطروحة الآتية ، كما

لعل المراد الإشارة إلى وجود حادث كوني معين يودي بحياة الشيطان ، أو يجعل حياة الشياطين متعذرة.

وحيث لا معين لأحد هذه الإحتمالات من ظاهر القرآن الكريم ، وهذا

الخبر وحده غير كاف للإثبات . إذن فلا يمكن التأكد من صحة الأطروحة الأولى.

الأطروحة الثانية : الأطروحة الرمزية. وهي أن نفهم من مقتل إبليس

مقتله في نفوس البشر ، بحيث انه- مهما كان في ذاته - لا يبقى له أي أثر

أو وجود وجود عملي على سلوك البشر على الإطلاق ، وذلك حين تجتث الدولة

الإسلامية العالمية العادلة : عناصر السوء والفساد من الأرض وتبدلها إلى جو

ص: 823

الخير والصلاح ، في نفوس وعقول الأفراد أجمعين . فحينئذ لا يبقى لوجود

إبليس أية قيمة من الناحية العملية . واما بقاؤه حياً في عالمه أو موته هناك، فهذا

غير مهم بالنسبة إلينا .

حيث كان وجود الخير والصلاح في البشرية كلها ناتجاً من جهود

الإمام المهدي (ع) وتعاليمه وقوانينه، كان نسبة مقتل إبليس إليه أمراً صحيحاً .

وإنما كان مقتله في مسجد الكوفة - على ما نطق به الخبر - لأن هذا المسجد

بصفته أحد المراكز المهمة في العاصمة العالمية : الكوفة ، سيكون هو منطلق

تعاليم المهدي (ع) ونشر هدايته على العالم . ومن الواضح عندئذ كيف يتأسف

الشيطان لذلك ويجزع ، كما سمعنا من الخبر - ويكون مقتولا في النفوس بسيف

المهدي (ع) وسلاحه المعنوي .

إن هذه الأطروحة تنطلق من آيات القرآن الكريم أيضاً ، فإن مجموعة منها

صريحة في أن إبليس ليس متسلطاً على كل البشر ولا نافذ الأمر فيهم جميعاً،

بل هناك جماعة مؤمنة خارجة عن نطاقه ، وإن الإنسان إذا وصل في إيمانه

درجة معينة ، فإنه يكون في منجاة كاملة من أضاليل إبليس وشبهاته .

قال اللّه تعالى :

«قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي

لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ،

وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا

عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » .(1)

و قال تعالی:

«قالَ فَبعِزَّتِکَ لاُغْوِیَنّهُمْ

ص: 824


1- 39/15-40.

أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ

الْمُخْلَصِينَ»(1)

وهذا النص ملحق بقوله :

«قَالَ رَبّ فَأنْظرْني إلیَ یَوْمِ

یُبعَثُونَ ، قالَ فإنّکَ مِنَ المُنظرینَ

إلیَ یَوْمَ الوَقتِ المَعلُومِ».

وقال عز وجل :

«إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ

سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ

الْغَاوِينَ ». (2)

وقال عز من قائل :

«إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ

يَتَوَكَّلُونَ ،إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى

الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ

بِهِ مُشْرِكُونَ»(3)

إلى غير ذلك من الآيات ، وهي واضحة في أن مستوى معين من الإيمان

يكون دافعاً لسلطان إبليس واغوائه ، باعتراف إبليس نفسه ، كما دلت عليه

الآيتان الأوليان ، ويقول اللّه عز وجل في الآيتين الأخيرتين .

ص: 825


1- 82/38-83.
2- 42/15.
3- 99/16-100.

وهذا المستوى من الإيمان يوجده المهدي (ع) في البشرية خلال حياته ، ومن

ثم يكون هو القاتل لإبليس مباشرة بسيفه المعنوي . ولا أقل من أنه يضع المنهج العام لتربية البشرية على الخط الطويل

لكي تصل إلى عصر ( المجتمع المعصوم )

وعندئذ يكون مقتل إبليس في نفوس البشر أكيداً وواضحاً . لوجود التنافي

الأساسي والأكيد بين العصمة والمعصية .

وسيكون هذا المجتمع آخر نهاية محتملة له ، نعلم من خلاله بموت إبليس

أو انفصاله عن البشرية نهائياً. لأنه إما أن يموت يومئذ ، أو يموت في حياة

المهدي (ع) فيكون عند حصول المجتمع المعصوم ميتاً . أو يموت -كما قلنا -

بحادث كوني يجعل حياته متعذرة. وليس ذلك إلى صفة العصمة التي يتحلى بها

المجتمع يومئذ . فإنها تقتله أو تجعله منفصلا عن البشرية بشكل نهائي . طبقاً

للأطروحة الثانية.

بقيت آية واحده قد يخطر على البال منافاتها لما قلناه : وهي قوله تعالى :

«قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي

كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى

يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ

ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا».(1)

فقد يبدو أنها دالة على بقاء الشيطان إلى يوم القيامة ، كما أنها دالة على أن

اتباع الشيطان هم أغلب البشرية على طول الخط ، وإلى نهايتها ، وهذا ينافي

مع وجود المجتمع المعصوم الباقي إلى نهاية البشرية .

والصحيح أنها لا تدل على كلا الأمرين. وإنما تدل على أمور أخرى

تذكر بعضها :

ص: 826


1- 62/17.

الأمر الأول : توقع الشيطان البقاء إلى يوم القيامة، وهو توقع لم يكن يلق

قبولا من قبل اللّه عز وجل ، كما عرفنا في قوله تعالى «إلى يوم الوقت المعلوم»

الأمر الثاني : أن الشيطان لو بقي إلى نهاية البشرية فإن أتباعه سيكونون

هم الأغلب من البشر . وهذا صحيح ، إلا أن بقاءه سوف لن يحدث ، وهذه

الآية غير دالة عليه ، لأنه يقول : لئن أخرتني إلى يوم القيامة. لا أنك

ستؤخرني فعلا .

الأمر الثالث : ان الشيطان ما دام موجوداً ، فإن أغلب البشر من أتباعه ،

وهذا صحيح ، وسيبقى موجوداً إلى «يوم الوقت المعلوم » . وعندئذ تنتهي

حياته فيسود الصلاح والعدل الكامل ربوع البشرية .

وهذا يصلح برهاناً على نقطتين ، نضمهما إلى استنتاجاتنا السابقة :

النقطة الأولى : أن الشيطان ما دام موجوداً في الواقع ، فإنه متسلط على

البشرية ، ولا يعقل انفکاکه عن ذلك إلا بموته . وهذا يبرهن على عدم صحة

الأطروحة الرمزية ، بل إنما يمكن الخلاص منه بقتله الحقيقي فقط .

النقطة الثانية : أن تطبيق العدل الكامل متوقف على قتل الشيطان ، لأنه يتوقف على شيوع الإيمان بين البشر ، وهذا لا يكون في حياتة إبليس ، إذن

فلا بد من أجل ذلك . فيكون قتله خطوة أولى لصلاح البشرية وتطبيق

العدل الكامل فيها ، ومن هنا يمكننا أن نفهم من « الوقت المعلوم » الذي هو

نهاية عمر إبليس يوم قتل المهدي (ع) إياه ، فإنه لا بد له أن يقتله من أجل

فسح المجال لتطبيق الأطروحة العادلة الكاملة ، وإنجاح تخطيط التكامل في

عصر ما بعد الظهور .

ولا ينبغي أن نتحدث عن إبليس أكثر من ذلك.

ص: 827

الجهة الرابعة : الحج في عصر المهدي (ع) .

انه بعد العلم أنه عليه السلام سوف يعيده إلى أحكامه الواقعية التي كان

عليها في عصر نبي الإسلام (ص) ، كما يفعل في كل مناحي الحياة ، وقد

يضيف إليه أحكاماً أخرى ، في جملة ما يضيف من أحكام . . . بعد هذا لا

يبقى ما يمكن ذكره غير نقطتين :

النقطة الأولى : أنه عليه السلام - كما سمعنا فيما سبق – سيقوم بتقليص

حجم المسجد الحرام وإرجاعه إلى أسسه التي كان عليها في صدر الإسلام ،

و هي الأسس التي بناها إبراهيم النبي عليه السلام . وبذلك لا تبقى ربع

المسافة التي عليها المسجد في العصر الحاضر. وخاصة بعد التوسعات الضخمة

التي أدخلت عليه أخيراً .

النقطة الثانية : إن ضيق المسجد لا يعني قلة الحجاج ، بل إن الحجاج

سيتكاثرون بشكل هائل من كل العالم البشري، حين يعم الإيمان وجه الكرة

الأرضية . وسيكون حجهم مخلصاً إطاعة للوجوب أو الإستحباب الشرعيين ،

لا للتجارة ولا للنزهة ، كما كان عليه الناس قبل الظهور .

ومن هنا توجد مشكلة مهمة ، هي ضيق المسجد بالطائفين ضيقاً شديداً .

وسيواجه المهدي (ع) هذه المشكلة بعدة أحكام تقوم بتذليلها ... أشارت

الأخبار إلى إثنين منها :

الأول : جواز الطواف خلف مقام إبراهيم ، الأمر الذي كان مختلفاً

فيه بين علماء المسلمين قبل الظهور . فإننا سمعنا في خبر سابق أنه يعيد مقام

إبراهيم إلى موضعه الطبيعي ملتصقاً بالبيت أعني الكعبة المشرفة ، وقد دلت

القرائن على صحة هذا الخبر ، على ما قلنا . ومعه يتعين أن يكون الطواف

خلف المقام ، ولا تحديد له بعد ذلك إلا جدار المسجد نفسه .

ص: 828

الثاني : منع الطواف المستحب مع وجود كثرة من الطائفين طوافاً واجباً.

وهذا ما دل عليه الخبر الذي رويناه في الجهة الأولى من هذه الخاتمة «أن يسلّم

صاحب النافلة » يعني الطواف المستحب « لصاحب الفريضة » يعني الطواف الواجب « الحجر الأسود » يعني استلام الحجر وهو عمل مستح مستحب « والطواف »

فتعطى القدمة لصاحب الفريضة . وبذلك يقل عدد الطائفين بالبيت إلى

حد كبير .

الجهة الخامسة : في منجزات أخرى وردت في الأخبار

الجهة الخامسة : ذكرت الأخبار بعض الإنجازات الأخرى للمهدي (ع)

في دولته ، نذكر أهمها باختصار :

الأمر الأول : أنه يمنع المساجد المصورة . أو بتعبير آخر : أنه يمنع تصوير

المساجد وزخرفتها ، كما يمنع -كما سمعنا أيضاً - ارتفاع بنيانها ، ويهدم

منها ما كان مرتفعاً ، ويهدم كل مسجد أسس على غير التقوى .

الأمر الثاني : أنه يرجم الزاني المحصن ويقتل مانع الزكاة . وهذه أحكام

إسلامية نافذة المفعول منذ صدر الإسلام ، إلا انها لن تكون مطبقة قبل عصر

الظهور ، فهو أو من يقوم بهما بعد عصر را رسول اللّه (ص).

وهذه المعاصي قد تحدث في أول عصر الدولة العالمية ، قبل رسوخ الإيمان

في نفوس البشر أجمعين .

الأمر الثالث : أنه يجب في العصر الحاضر اداء الأمانة إلى البر والفاجر ،

من مختلف المذاهب والأديان ، ويجب ألا يحدو بالفرد إذا رأى من الآخر

انحرافاً أو كفراً أن يأكل عليه أمانته .

وأما إذا ظهر الإمام المهدي (ع) واستتبت دولته ، فإنه قد يتصرف في هذا الحكم المطلق « فيحل ويحرم » كما نطق الخبر فيمنع عن اداء الأمانة تغير

ص: 829

المؤمن . فإنه بينما كان إداء الأمانة دالا على عدالة الأمين واستقامته ، قبل

الظهور ، فإن عدم أدائها بعد الظهور ، سيكون من أهم الخطوات لمحاربة الكفر

والإنحراف واجتثاثه . وليس على الأمين من ضير بعد أن أمره التشريع المهدوي

بحبس الأمانة .

الأمر الرابع : ان الأخبار العديدة تصف اتساع الكوفة وعمرانها بشكل

منقطع النظير ، وسيصبح المتر من أراضيها غالي الثمن ومهماً جداً ، ولا غرو

بعد أن تصبح هي العاصمة العالمية للدولة المهدوية .

و سيتخذ المهدي (ع) - كما يظهر من الأخبار - من مساجدها منطلقات

للحكم والإرادة . فجامع الكوفة مجلس حكمه ، وهو ما يقابل قصر الرئاسة

أو البلاط ، بلغة العصر الحاضر ، ومسجد السهلة بيت المال ، وهو ما يقابل

وزارة المالية في الدولة المعاصرة . وأما موضع عبادته وخلواته مع اللّه عز وجل

فهو الذكوات البيض ( بين الغريين ) وهو النجف الأشرف موضع قبر جده

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ولم يكن عصر صدور هذه

الأخبار مناسباً للدول في التفاصيل الإدارية أكثر من ذلك .

وليس اتخاذ المهدي (ع) المساجد مراكز للإدارة أمراً غريباً ، فإن فكرة

المساجد في الإسلام أسست على ذلك ، فإن المساجد ليست ببنيانها وجمال شكلها ، فإن هذا مما سيشطب عليه المهدي (ع) . . . وإنما هي بما تؤدیه

للإسلام والمجتمع العادل من خدمات ومنافع ، وهل هناك أعظم منفعة من

إدارة الدولة العالمية العادلة . إنها دولة أرادها اللّه ، فينبغي أن تدار من بيوت اللّه.

هذا ، وقد تعرضت هذه الأخبار إلى وضع المهدي (ع) الجزية على أهل

الكتاب ، وهذا ما ستسمعه تفصيلا في الفصل الآتي بتوفيق اللّه عز وجل .

ص: 830

الخاتمة الثانية : في المنجزات العلمية لدولة المهدي (ع )

الخاتمة الثانية

في المنجزات العلمية – بالمصطلح الحديث- لدولة المهدي عليه السلام .

وهذا مما لا يمكن فهمه بالصراحة من الأخبار ، باعتبار ضرورة موافقة

ظواهر الكلام مع المجتمع الذي يصدر فيه . وحيث لم يكن في ذلك المجتمع

الأول أثر للصناعات والآلات الحديثة . لم يكن من الممكن أن يرد في الأخبار

ذكر واضح لها . أو أن نتوقع منها التصريح باسمها وصفتها .

وإنما كل ما يمكن تصيده من الأخبار . بعض العبارات الرمزية المتفرقة

التي ترمز إلى وجود الأجهزة الحديثة في دولة المهدي (ع) . بل هناك من الأخبار

ما يدل على وجودها قبل الظهور أيضاً في عصر الظلم والإخراف . وهذا هو

الذي نعرفه الآن بالوجدان من الوضع الصناعي لعصورنا الحاضرة .

ولأجل استيعاب ما دلت عليه الأخبار في هذا الصدد ، نود أن نتحدث

عن كلا العصرين : عصر ما قبل الظهور وعصر ما بعده ، ولذلك نتكلم في جهتين

الجهة الأولى : في الأخبار الدالة على وجود الأجهزة الحديثة قبل الظهور

الجهة الأولى : ما دلت عليه الأخبار من وجود الصناعات والأجهزة

الحديثة في عصر ما قبل الظهور :

أخرج مسلم في صحيحه (1)بإسناده عن يزيد بن جابر عن رسول اللّه (ص)

حديثاً طويلا يذكر خلاله يأجوج ومأجوج . فيقول :

ص: 831


1- ج8، ص199.

«ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى

جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس

فيقولون : لقد قتلنا أهل الأرض ، هلم

فلنقتل من في السماء ، فيرمون بنشابهم

إلى السماء ، فيرد اللّه عليهم نشابهم

مخضوبة دماً » .

وأخرج ابن ماجة (1)حديثاً طويلا يتحدث خلاله عن ياجوج وماجوج

ويذكر أنهم « يقولون :

هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا

منهم ، ولتنازلن أهل السماء ، حتى

أن أحدهم ليهز حربته إلى السماء ،

فترجع مخضبة بالدم . فيقولون : قد

قتلنا أهل السماء ، أو يقولون- بلفظ

الحاكم (2)- : قهرنا أهل الأرض

وغلبنا من في السماء قوة وعلواً .

وأخرج الصدوق في إكمال الدين (3)بإسناده عن النزال بن سبرة قال :

خطبنا علي بن أبي طالب (ع) فحمد اللّه عز وجل وأثنى عليه ، وصلى على

محمد و آله ، ثم قال :

ص: 832


1- السنن ج 2 ص 1364 .
2- المستدرك ج 4 ص 488 .
3- انظر اكمال الدين ( نسخة مخطوطة ) .

سلوني أيها الناس قبل أن تفقدوني

ثلاثاً . فقام إليه صعصعة بن صوحان ،

فقال : يا أمير المؤمنين متى يخرج

الدجال ؟ والحديث طويل وفيه من

صفات الدجال أنه « يخوض البحار

وتسير معه الشمس ، بين يديه جبل من

دخان ، و خلفه جبل أبيض يرى

الناس أنه طعام . يخرج في قحط شديد

تحته حمار أقمر خطو حماره میل ،

تطوى له الأرض منهلا منهلا ....

ينادي بأعلى صوته يسمع ما بین

الخافقين ... يقول : إلي أوليائي...

أنا الذي خلق فسوى وقدر فهدى أنا

ربكم الأعلى... ثم يذكر دابة

الأرض ، ويقول عنها : ثم ترفع

الدابة رأسها فيراها ما بين الخاففين

...الحديث .

ولا ينبغي للقارىء أن ينسى فهمنا لياجوج وماجوج والدجال ، فإنهما بوجودهما المعاصر ، وجهان للحضارة المادية الحديثة . واما إعطاء الفهم

المتكامل لدابة الأرض . فهو ما سيأتي في الباب الأخير من هذا التاريخ.

وقد أوضحنا بجلاء خلال حديثنا عن ياجوج وماجوج ، أن المراد من السهام التي يرمونها إلى السماء الصواريخ الكونية ، وإنما كررنا الرواية لتلتحق

هنا بنظائرها من هذه الناحية.

53

ص: 833

وأما الصفات المعطاة للدجال ، فهي بعد البرهنة على استحالة صدور

المعجزة من المبطلين ، يتعين حملها على المعاني الطبيعية المناسبة .

فهو « يخوض البحار » وهذا ما حدث فعلا . فقد خاضت المدنية الحديثة

قي أعماق البحار ، وسيرت البواخر على سطحه بكثرة مسرفة .

و « تسير معه الشمس » في الأغلب أن هذا تعبير عن السلاح الذي يرهب الدجال به العالم . وهو القنبلة الذرية أو الهيدروجينية ، من حيث ان حرارتها عالية جداً كالشمس .

و « بين يديه جبل من دخان » . وما أكثر الدخان في المدنية الحديثة ، في

في الحرب والسلم معاً ،كما هو واضح ، وكله يبدو في مصلحة هذه المدنية.

و « خلفه جبل أبيض يرى الناس أنه طعام » انه بهارج هذه المدنية

وملذاتها ، يرى الناس أنها جميلة وعظيمة ، وليس ورائها في الواقع إلا

الإنحلال والدمار .

و « تحته حمار أقمر خطو حماره ميل». وهذا تعبير جميل عن

الشعارات والمفاهيم التي استطاعت المدنية والحضارة الحديثتان ، أن تسير بهما في العالم وهي شعارات واسعة الإنتشار سريعة السير .

والدجال « تطوى له الأرض منهلاً منهلاً » وذلك عن طريق

وسائل النقل الحديثة الأرضية والجوية على حد سواء . فإن طي الأرض

يتضمن معنى سرعة السير، و بعد نفي احتمال المعجزة تتعين صحة هذا

الفهم .

«ينادي بأعلا صوته يسمع ما بين الخافقين » ليس لأن صوته

مرتفع إلى هذا الحد ! ! بل لأنه يستعمل أجهزة الإعلام الحديثة بما فيها

النجوم الإذاعية « التلستار » .

ص: 834

وأما دابة الأرض ، فهي « ترفع رأسها فيراها ما بين الخافقين »

عن طريق البث التلفزيوني بطبيعة الحال .

ولا ينبغي هنا أن نغفل ما قلناه فيما سبق من وجود التنبؤ في الأخبار بالنقل

الجوي في عصر ما قبل الظهور ، حيث سمعنا عن كيفية تجمع أصحاب الإمام

المهدي (ع) عند ظهوره ، وكان منهم من «يسير في السحاب نهاراً » ، وهو تعبير عن الطائرات ، كما سبق أن برهنا .

فهذا هو ما يحدث في عصر ما قبل الظهور ، وهو بطبيعة الحال ، سوف

يبقى مستمراً إلى ما بعد الظهور ، حتى لو حدثت حرب عالمية ، كما سبق

أن أوضحنا ، فإنها إنما تقضي على المراكز العسكرية والعواصم المهمة في العالم،

وأما الصناعات الحديثة وعدد من خبرائها فلا موجب لاستئصالها .

وسيكون ذلك نواة صالحة للتشجيع من قبل الدولة المهدوية ، على البلوع بالصناعات الحديثة إلى مراتب أعلى وأسمى وأدق . وجعل هذه الصناعات

مواكبة مع الأهداف العليا المتبناة من قبل الدولة وقائدها المهدي عليه السلام .

الجهة الثانية : في الأخبار الدالة على وجودها في عصر الظهور

الجهة الثانية: فيما دلت عليه الأخبار من وجود الأجهزة والصناعات

الحديثة في عصر ما بعد الظهور .

روى الصافي في منتخب الأثر(1)عن أبي الربيع الشامي ، قال : سمعت

أبا عبداللّه (ع) يقول :

ان قائمنا إذا قام مد اللّه لشيعتنا

في اسماعهم وأبصارهم حتى لايرون

(لا يكون) بينهم وبين القائم بريد

ص: 835


1- ص 483 .

يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو

في مكانه .

وروى الصافي أيضاً (1)والمجلسي في البحار (2) عن ابن مسكان ، قال :

سمعت أبا عبداللّه (ع ) يقول :

ان المؤمن في زمان القائم وهو

بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب

وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي

في المشرق .

وأخرج النعماني في الغيبة (3)عن أبان عن أبي عبد اللّه (ع) في

حديث أنه قال :

ويبعث اللّه الريح من كل واد

تقول : هذا المهدي يحكم بحكم

داود . . . الحديث . وقد سبق أن رويناه.

وأخرج في البحار(4)عن جابر عن أبي جعفر (ع) في حديث عن المهدي (ع)

أنه قال :

انما سمى المهدي لأنه یهدي إلی

أمر خفي حتى أنه يبعث إلى رجل لا

يعلم الناس له ذنب فيقتله ، حتى

ص: 836


1- نفس الصفحة .
2- ج 13 ص 200 .
3- ص169.
4- ج13 ص 200.

أن أحدهم يتكلم في بيته ، فيخاف

أن يشهد عليه الجدار .

وأخرج أيضاً (1)عن أبي عبد اللّه (ع) أنه قال :

كأني بالقائم على ظهر النجف ...

إلى أن قال : ثم يركب فرساً له أبلق

بين عينيه شمراخ ينتفض به ، لا

يبقى أهل بلد إلا أتاهم نور ذلك

الشمراخ حتى يكون آية له... الحديث.

وأخرج النعماني في الغيبة (2)عن أبان بن تغلب عن أبي عبد اللّه (ع)

في حديث عن القائم يقول فيه :

ويركب فرساً له أدهم أبلق بين

عينيه شمراخ، فينتفض به انتفاضة،

لا يبقى أهل بلد إلا وهم يرون أنه

معهم في بلدهم ..الحديث .

وأما أخبار طي الأرض للمهدي (ع) . فهي عديدة نذكر بعضها :

أخرج الصدوق في إكمال الدين (3)عن محمد بن مسلم الثقفي ، قال :

سمعت أبا جعفر بن محمد بن علي الباقر عليه السلام يقول :

ص: 837


1- المجلد والصفحة .
2- ص 166.
3- انظر المخطوط .

القائم منا منصور بالرعب مؤيد

بالنصر ، تطوى له الأرض... الحديث .

وأخرج أيضاً (1)بإسناده عن عبد العظيم بن عبداللّه الحسيني ، قال :

قلت لمحمد بن علي بن موسى (ع ) :

اني لأرجو أن تكون القائم من

أهل بيت محمد الذي يملأ الأرض

قسطاً وعدلا كما ملئت جوراً وظلماً .

فقال : يا أبا القاسم ، ما منا إلا وهو

قائم بأمر اللّه عز وجل وهاد إلى دين

اللّه . ولكن القائم الذي يطهر اللّه عز

وجل به الأرض من أهل الكفر

والجحود ، ويملؤها عدلاً وقسطاً ،

هو الذي تخفى على الناس ولادته ...

وهو الذي تطوى له الأرض ... الخبر .

وأخرج الطبرسي (2) بسنده إلى علي بن الحسين بن خالد ، قال : قال

الرضا (ع) - في حديث طويل عن المهدي (ع) - :

وهو الذي تطوى له الأرض .

إلى غير ذلك من الأخبار .

وهذه الأخبار واضحة الدلالة وبشكل مكرر ، على استعمال البث التلفزيوني

ص: 838


1- المصدر المخطوط.
2- اعلام الوری ص 408 .

في الدولة المهدوية . فالإمام المهدي نفسه يستعمله وربما يكثر من استعماله ، حتى

«لا يبقى أهل بلد إلا وهم يرون أنه معهم في بلدهم » وحتى « لا يكون بينهم وبين القائم بريد ». وهي مسافة معينة من

الأرض بالمسح القديم ، ومن المعلوم أن الصورة التلفزيونية أقرب إلى الناظر

من هذه المسافة بكثير . غير أن عصر صدور هذه الأخبار لم يكن یسمح

بالبيان أكثر من ذلك . والحديث قد نفى أن يكون بينهم وبينه مقدار بريد. فقد

لا تتجاوز المسافة بين الناظر والصورة أكثر من مترين.

وعن هذا الطريق « يكلمهم فيسمعون ، وينظرون إليه وهو في

مكانه » . أنظر لصراحة الخبر الصادر قبل أكثر ألف من عام في ذلك .

انه في الواقع لا زال في مكانه ، ولكن البث التلفزيوني «الحي » يجعلهم يسمعون كلامه وينظرون إليه . وليس في الخبر أنهم يكلمونه أيضاً

لتعذر ذلك تلفزيونياً .

وليس استعمال هذا البث مقتصر على الإمام المهدي (ع) ، بل يشمل سائر الأخوة في الإيمان ، حيث نجد «أن المؤمن في زمان القائم (ع) وهو

بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب . وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق » . فإن الصورة التلفزيونية تقوم بذلك ، من دون أن يحصل تبادل

في الرؤية ، بل المراد أن البث تارة يحصل من طرف المشرق وتارة يحصل من طرف المغرب . وقد تقوم الدولة المهدوية بإيجاد أجهزة أخرى تجعل تبادل

الرؤية والكلام معاً ممكناً بالنسبة إلى الأفراد، بل والجماعات أيضاً . ولدينا

في العصر الحاضر نموذج مصغر لذلك هو التلفون التلفزيوني ، الذي تم اكتشافه

ولم يتم توزيعه في العالم على نطاق واسع إلى حد الآن .

ونجد في هذه الأخبار الإشارة إلى البث الإذاعي الصوتي أيضاً في قوله :

ص: 839

«ويبعث اللّه الريح في كل واد تقول » ويحتوي هذا الخبر على فلسفة

البث الإذاعي أيضاً، فإن الريح أو الأثير هو الذي يحمل الموجات الصوتية الكهربائية ، إلى جهاز الإستقبال ، الراديو.

ومن الأجهزة الدقيقة التي تستعمل في دولة المهدي (ع) ، أجهزة

الإستخبارات التي قد تستعمل ضد المجرمين والمنحرفين « حتى أن أحدهم يتكلم في بيته . فيخاف أن يشهد عليه الجدار » . وهذا الخوف لا يكون

منطقياً إلا مع وجود مثل هذه الأجهزة .

والمهدي (ع) سوف « يركب فرساً له أدهم أبلق ، بين عينيه شمراخ».

وينبغي أن نفهم من الفرس واسطة النقل أياً كانت ، وإنما عبر عنها بالفرس، باعتبار مستوى العصر يوم صدور الخبر .

والأدهم : الأسود . ومن الخيل والإبل : الشديد الورقة حتى يذهب البياض (1) والورقة بالضم فالسكون : سواد في غبرة (2) . ويفهم منه قلة

السواد أو أنه من الألوان الغامقة القريبة من السواد .

والأبلق : الذي فيه سواد وبياض (3)يقال : بلق بالكسر . إذا كان

فيه سواد وبياض ، وبلق الفرس : ارتفع تحجيله إلى فخذيه (4) يقال : حجل

وتحجل الفرس إذا كان في قوائمه تحجيل أي بياض ، فهو محجل ومحجول . (5)

ص: 840


1- أقرب الموارد ، مادة (دهم ) .
2- المنجد ، مادة (ورق ) .
3- أقرب الموارد ، مادة ( بلق ) .
4- المصدر نفسه .
5- المنجد ، مادة (حجل ) .

والشمراخ له عدة معان في اللغة ، منها : راس الجبل ، ومنها : غرة

الفرس إذا دقت وسالت وجالت الخيشوم ولم تبلغ الجحفلة (1). والجحفلة

لذي الخافر كالشفة للإنسان .(2)

فإذا عرفنا ذلك ، أمكننا أن نذكر لفهم هذا الخبر أطروحتين :

الأطروحة الأولى : وهي منطلقة من أن معنى الشمراخ: راس الجبل، فيكون

معنى الخبر : أن واسطة النقل التي يركبها المهدي (ع) ذات إرتفاع أمامي

دقيق وطويل يشبه قمة الجبل. وهذا الوصف ينطبق على الدبابة التي يكون

أمامها المدفع. وينطبق على الطائرات الحديثة التي يكون متقدمها مخروطي

الشكل مدبباً . ولكن بعد العلم أن الطائرات لا تكون إلا بيضاء . فلا ينطبق

عليها اللون المذكور في الخبر ، كما أن التعبير بالفرس، يراد به واسطة النقل

الأرضية لا الجوية . إذن نعرف انطباقه على الدبابة . وهي إحدى وسائط

النقل الحربية التي تستعمل في القتال الارضي .

ويؤيد هذه الأطروحة ، قضية اللون الموصوف في الخبر . فإن عدداً من

الدول تجعل الدبابات ذات لونين غامق وفاتح ، على شكل بقع كبيرة لكل

لون ، كالفرس الأبلق تماماً .

الأطروحة الثانية : وهي منطلقة من أن معنى الشمراخ غرة الفرس أي

جبهته . إذا كانت طويلة وجميلة . فيكون معنى الخبر : ان في مقدمة واسطة

النقل التي يركبها الإمام المهدي (ع) شيء يمكن أن يصدق عليه مجازاً هذا الوصف . ويبدو الآن أن الزجاجة الواسعة التي تكون في مقدمة السيارة عادة

ص: 841


1- أقرب الموارد ، المادة ( شمرخ ) .
2- المصدر : مادة جحفل

هي المقصود من الخبر. فيكون المراد : أن المهدي (ع) يركب سيارة

إعتيادية ذات لونين .

وحيث كان الحديث في الخبر عن الفرس . إذن يكون فهم الشمراخ طبقاً

للأطروحة الثانية هو الأفضل .

هذا . ولكن الخبر الآخر الذي وصف هذا الشمراخ ، ذكر أن له نوراً

حتى «لا يبقى أهل بلد إلا أتاهم نور ذلك الشمراخ : حتى يكون آية له» أي

للإمام المهدي عليه السلام .

ولفهم هذا النور عدة أطروحات نذكر منها ثلاثة :

الأطروحة الأولى : أن يكون هذا النور إعجازياً ، «حتى يكون آية له»

من أجل تمييز سيارة الإمام المهدي (ع) عن غيرها ، أو لأسباب أخرى .

الأطروحة الثانية : أن يكون هذا النور معنوياً ، يعبر عن الهدى والعدل

الذي يصدر عن راكب هذه السيارة . أغني الإمام المهدي نفسه .

الأطروحة الثالثة : أن يكون هذا النور مادياً صادراً من واسطة النقل بطبيعة تكوينها . غير أن سيارة من هذا القبيل لم تكتشف إلى حد الآن ، فلعلها تصمم في المستقبل قبل الظهور أو بعده .

وللقارىء تفضيل إحدى هذه الأطروحات على بعض .

وأما طيّ الأرض للإمام المهدي (ع) ، فقد فهمنا منه الإنتقال الطبيعي،

بوسائط السفر السريعة التي لم تكن متوفرة في عصر صدور هذه الأخبار .

وتبقى عندئذ بعض الأسئلة التي تحتاج إلى الجواب ، نذكر أهمها :

ص: 842

السؤال الأول : لماذا لم نفهم من طي الأرض للإمام المهدي عليه السلام

الأسلوب الإعجازي في الإنتقال ، كما يفهم ذلك التفكير التقليدي لدى

المسلمين . فإن هذا بالنسبة للدجال لم يكن ممكناً لعدم إمكان صدور المعجزة منه . كما قلنا . ولكن ممكن بالنسبة إلى المهدي (ع) ، فينبغي الحمل عليه .

وجواب ذلك من عدة وجوه :

الوجه الأول : اننا قلنا في التاريخ السابق (1)وفي هذا الكتاب ، أنه كلما

أمكن فهم الأسلوب الطبيعي من الخبر ، كان هذا متعيناً، ما لم تقم قرائن

واضحة في تعيين الأسلوب الإعجازي. وهذه الأخبار لا تحتوي على مثل هذه

القرائن ، فحملها على الأسلوب الطبيعي هو الصحيح .

الوجه الثاني : قانون المعجزات الذي يقول : أنه كلما أمكن البديل الطبيعي

للمعجزة لم يكن للمعجزة مجال. ومن الواضح أن السفر بوسائط النقل الحديثة، يوصل

الفرد إلى أي نقطة من العالم بأقصى سرعة ، ولا سيما في الطائرات التي تفوق

سرعتها سرعة الصوت أكثر من مرتين . فلا يبقى للمعجزة مجال .

الوجه الثالث : أننا سمعنا أن الدجال تطوى له الأرض ، والمهدي (ع) تطوى له الأرض أيضاً . فقد استعمل هذا المفهوم على نمط واحد بالنسبة إلى كلا

الشخصين. فبعد البرهان على إرادة المعنى الطبيعي للسفر السريع ، بالنسبة إلى

الدجال ، يتعين نفس الفهم بالنسبة إلى المهدي (ع) . لأن الخبر استعمل فيه

نفس المفهوم بدون رتوش .

السؤال الثاني : إن طي الأرض ذكر في الأخبار بصفته إحدى الصفات المهمة

ص: 843


1- انظر ص 218 و وغيرها .

التي يتصف بها المهدي (ع ) دون سائر البشر. فلو حماناه على معنى السفر الطبيعي !

السريع، لم تكن هذه مزية للمهدي (ع) ، كما هو واضح .

وجواب ذلك يكون من وجوه نذكر منها وجهين :

الوجه الأول : إن استفادة هذه المزية من الأخبار لا تخلو من مناقشة ، إذ

بعد اتصاف الدجال بهذه الصفة أيضاً، لا تكون الصفة من خصائص الإمام

المهدي (ع) كما هو واضح . وقد نسبت في بعض الأخبار إلى أصحاب الإمام

عليه السلام عند اتجاههم إلى لقائه لأول مرة كما سبق. فكيف تكون من خصائصه .

الوجه الثاني : إن هذه الأخبار لا تدل على اختصاص هذه الصفة بالمهدي

(ع) حتى مع التنزل - جدلا -عن الوجه الأول . فإنها إنما دلت على أن

مجموع ما ذكرت له من صفات، لا يمكن أن يتصف بها أحد غيره . وهذا صحيح

وأما كل واحدة من هذه الصفات او لوحظت بحيالها فقد يتصف بها آخرون

أيضاً ، كطي الأرض نفسه . إلا بعض الصفات التي قام البرهان على اختصاصه

بها كتأسيسه للدولة العالمية العادلة ، وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلا بعد أن ملات ظلماً وجوراً .

السؤال الثالث : إن طي الأرض ذكر في الأخبار في سياق أمور إعجازية

فنفهم باعتبار وحدة السياق أنه يحدث بطريق إعجازي.

وجوابه : اننا استطعنا من خلال هذا التاريخ وهذه الموسوعة أن نفهم

الأعم الأغلب من صفات الإمام المهدي (ع) وما ذكرت عنه الأخبار ، بشكل طبيعي إجتماعي مرتب ، لا إعجاز فيه ولا تنافر في مدلوله ، ومن هنا يمكن

القول بأن طي الأرض لم يقع في الأخبار ضمن الصفات الإعجازية ، بل ضمن الصفات الطبيعية ، ومن هنا تقتضي قرينة وحدة السياق أن نفهم من طي الأرض

الأسلوب الطبيعي لا الإعجازي على عكس ما توخاه السائل .

وإلى هنا يتم الحديث في الخاتمة الثانية من الفصل السابع من هذا الباب، وبها

ينتهي الفصل نفسه .

ص: 844

الفصل الثامن موقف الامام المهدي (ع) من أهل الكتاب و نزول المسيح (ع) في دولته

وينبغي أن نتكلم خلاله ضمن عدة جهات :

الجهة الأولى : في سرد الأخبار المتعلقة بالمسيح وأهل الكتاب .

وهي عدد ضخم في مصادر العامة . يصعب أن نحمل فكرة تفصيلية عنها.

ومعه فسنقتصر في نقل الأخبار على أمرين :

أحدهما : نقتصر من مصادر العامة على خصوص ما نقلته الصحاح الستة

من الأخبار دون غيرها ، وخاصة الصحيحان الرئيسيان فيها . ونقتصر على

المصادر القديمة المعتمدة من كتب الخاصة .

وثانيهما: أن نختصر الإشارة إلى قضايا الدجال وياجوج وماجوج من

زاوية علاقتهما بالمسيح ، وقد ذكرتها الأخبار مفصلا ... بعد أن تكلمنا

عن ذلك فيما سبق . وإنّما نقتصر على الأمور الأخرى المتعلقة به عليه السلام

مما وردنا في الأخبار بيانه .

وبعد هذه التصفية ، سوف يبقى مقدار كاف من الأخبار ، ويكون المهم

منها كما يلي :

ص: 845

أخر البخاري (1)عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (ص) :

كيف أنتم إذا نزل ابن مريم

فيكم وامامكم منكم .

وأخرجه مسلم(2) أيضاً . وفي حديث آخر مشابه يقول :

إذا نزل ابن مريم فيكم وأمكم.

وفي حديث ثالث

فامكم منكم .

وأخرج البخاري (3)عن أبي هريرة أيضاً ، قال : قال رسول اللّه (ص) :

والذي نفسي بيده، ليوشكن أن

ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلا ،

فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع

الجزية ( الحرب) ، ويفيض المال حتى

لا يقبله أحد . حتى تكون السجدة

الواحدة خير من الدنيا وما فيها . ثم

يقول أبو هريرة : واقرأوا : « وان من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته» . (4)

ص: 846


1- صحيح البخاري : ج 4 ص 205 . وانظر أيضاً الترمذي ج 3 ص 344 وابن ماجة ج 2 ص 1363 .
2- صحیح مسلم :ج1 ص94. و کذا ما بعده.
3- صحیح البخاری: ج4 ص205.
4- النساء:159.

ورواه مسلم أيضاً (1)إلا أنه قال : حكماً مقسطاً . ورواه بأسانيد أخرى

ثارة : إماماً مقسطاً : وأخرى حكماً عدلا . وثالثة : بدون ذلك أصلا وفيه

أيضاً : يضع الجزية . بدون نسحة البدل . أعني لفظ ( الحرب ) .

وأخرج مسلم أيضاً (2)عن أبي هريرة نحوه . إلى أن قال :

وليضعن من الجزية، ولتتركن القلاص

فلا يسعى إليها ، ولتذهبن الشحناء

والتباغض والتحاسد ، وليدعون إلى

المال فلا يقبله أحد.

وأخر أيضاً (3)عن جابر بن عبد اللّه ، قال : سمعت النبي (ص) يقول :

لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون

على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة . قال :

فينزل عيسى بن مريم صلى اللّه عليه

و سلم ، فيقول أميرهم : تعال صلِّ

بنا ! فيقول : لا ، ان بعضكم على

بعض أمراء ، تكرمة اللّه هذه الأمة .

وأخرج أيضاً (4) في حديث طويل ذكر فيه الدجال وعدداً من تفاصيله .

ثم قال :

ص: 847


1- صحیح مسلم : ج 1 ص 93 - 94 .
2- المصدر : ص 94 .
3- المصدر ص 95 .
4- المصدر ج 8 ص 197 .

فبينما هو كذلك ، إذ بعث اللّه

المسيح بن مريم ، فينزل عند المنارة

البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين

واضعاً كفيه على أجنحة ملكين . إذا

طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدر منه

جمان كاللؤلؤ . فلا يحل لكافر يجد منه

ريح نفسه الا مات ونفسه ينتهي حيث

ينتهي طرفه . فيطلبه -يعني يطلب

الدجال -حتى يدر که بباب لِدّ فيقتله .

ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد

عصمهم اللّه منه ، فيمسح عن وجوههم

ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة . فبينما

هو كذلك ، إذ أوحى اللّه إلى عيسى :

اني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد

بقتالهم ...الحديث ، حيث يذكر

خروج يأجوج وماجوج .

وأخرج أبو داود (1)عن أبي هريرة : أن النبي (ص) قال :

ليس بيني وبينه - يعنى عيسى عليه

السلام - نبي ، وانه نازل . فاذا

رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع

إلى الحمرة والبياض بين ممصرتين ،

ص: 848


1- السنن ج 2 ص 432 .

كأن رأسه يقطر وان لم يصبه بلل.

فيقاتل الناس على الإسلام .فيدق

الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع

الجزية ، ويهلك اللّه في زمانه الملل

كلها إلا الإسلام ، ويهلك المسيح

الدجال ، فيمكث في الأرض أربعين

سنة . ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون .

ونحوه بألفاظ مقاربة في صحيح الترمذي (1)ونحوه في سنن ابن ماجه . (2)

وهناك حديثان آخران تركهتما الصحاح ، يحسن إدراجهما لنصل إلى

الرأي الصحيح فيهما :

أخرج السيوطي في الحاوي (3)عن أبي نعيم عن ابن عباس : قال : قال

رسول اللّه (ص) :

لن تهلك أمة أنا أولها وعيسى

ابن مريم في آخرها والمهدي في وسطها.

وأخرج ابن حجر في الصواعق (4)عن ابن ماجة والحاكم أنه (ص) قال :

لا يزداد الأمر إلا شدة ولا الدنيا

إلا ادباراً ولا الناس إلا شحاً ، ولا

54

ص: 849


1- ج 3 ص 348 .
2- ج 2 ص 1357 .
3- ج 2 ص 134.
4- ص 98 .

تقوم الساعة إلا على شرار الناس ،

ولا مهدي إلا عيسى بن مريم

فهذه بعض أخبار المصادر العامة .

وأما أهم أخبار المصادر الخاصة ، فقد أخرج النعماني (1)بسنده عن جابر قال : دخل رجل على أبي جعفر الباقر (ع) فقال له : عافاك اللّه اقبض مني على

هذه الخمسمأة درهم. فقال له أبو جعفر عليه السلام :

خذها أنت فضعها في جيرانك

من أهل الإسلام والمساكين من

اخوانك من المسلمين .

ثم قال :

إذا قام قائم أهل البيت

قسم بالسوية .. إلى أن قال :

ويستخرج التوراة وسائر كتب اللّه عز

وجل من غار بانطاكية . ويحكم بين

أهل التوراة بالتوراة وبين أهل الانجيل

بالانجيل، وبين أهل الزبور بالزبور ،

وبين أهل القرآن بالقرآن . . الحديث .

وفي حديث آخر (2)قالین سنان ، قال : سمعت أبا عبداللّه (ع ) يقول :

على موسى قضيب آس من

ص: 850


1- الغيبة ص 124 .
2- غيبة النعماني ص 125 .

غرس الجنة أتاه بها جبرئيل عليه

السلام لما ، توجه تلقاء مدين، هي

و تابوت آدم في بحيرة طبرية ،

ولن يتغيرا حتى يخرجهما القائم (ع)

إذا قام .

وأخرج الأربلي في كشف الغمة (1)عن أربعين الأصفهاني والقندوزي (2)عن كتاب الفتن لنعيم بن حماد عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول

اللّه (ص): منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه .

وأخرج الصدوق في إكمال الدين (3) بسنده إلى محمد بن مسلم الثقفي ، قال :

سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول :

القائم منا منصور بالرعب...

إلى أن قال : وينزل روح اللّه عيسى

بن مريم فيصلي خلفه .

وأخرج في البحار (4): عن ابن بكير ، قال : سألت أبا الحسن (ع) عن

قوله تعالى :

وله أسلم من في السماوات

والأرض طوعاً وكرها . قال : أنزلت

القائم (ع) ، إذا خرج باليهود

ص: 851


1- ص 264 ج 3 .
2- ص 539 .
3- نسخة مخطوطة .
4- ج 13 ص 188 .

والنصارى والصابئين والزنادقة وأهل

الردة والكفار في شرق الأرض وغربها

فعرض عليهم الإسلام ، فمن أسلم

طوعاً أمره بالصلاة والزكاة وما

يؤمر به المسلم ويجب اللّه عليه . ومن

لم يسلم ضرب عنقه ، حتى لا يبقى

في المشارق والمغارب أحد إلا وحد

اللّه ... الحديث.

وأخرج أيضاً (1)في حديث سبق أن رويناه عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه

(ع) يقول فيه قلت :

فما يكون من أهل الذمة عنده ؟

قال : يسالمهم ، كما سالمهم رسول

اللّه (ص) ويؤدون الجزية عن يد

وهم صاغرون ...الحديث.

الجهة الثانية : في وحدة المسيح والمهدي

الجهة الثانية : في وحدة المسيح والمهدي .

وهو احتمال نعرضه ونناقشه قبل الدخول في تفاصيل هذه الأخبار لكى

نتوفر على التفاصيل، في نتيجة هذه المناقشة .

وينطلق هذا الإحتمال من أطروحة معينة وهي : أنه بعد العلم أن المنقذ

العالمي لكل البشرية واحد لا يتعدد،- تكون له الزيادة الأولى إلى الإصلاح العام

بشكل لا تعود بعده البشرية إلى الظلم والضياع مرة أخرى .

ص: 852


1- المصدر ص 196 .

إن هذا المنقذ العالمي الواحد ، هو الذي سماه الإسلام بالمهدي وسماه

السابقون : اليهود والنصارى بالمسيح ، وسماه آخرون بأسماء أخرى . ومعه

يتعين أن يكون المسيح والمهدي لفظين أو صفتين لشخص واحد ، هوالمنقذ العالمي الواحد الموعود .

وحيث كان في مقابل هذه الأطروحة احتمالان رئيسيان : هما أن يكون

المنقذ العالمي هو المسيح عيسى بن مريم ، أو أن يكون هو المهدي الإسلامي

مهما كان إسمه . فينطلق من هذين الإحتمالين احتمالان :

الاحتمال الأول : أن يكون المنقذ العالمي هو المسيح عيسى بن مريم ،

ونعبر عنه بأن المهدي هو المسيح عيسى بن مريم .

الاحتمال الثاني : أن يكون المنقذ العالمي هو المهدي الإسلامي ، ونعبر عنه

أن المسيح هو المهدي الإسلامي نفسه .

ولكل من هذين الإحتمالين مثبتاته التي سنذكرها ، وأما احتمال أن

يكون كلا هذين القائدين يمارسان مهمة الإنقاذ العالمي ، فهو مما تنفيه هذه

الأطروحة لأنه ينافي الفكرة المؤكدة في وحدة المنقذ العالمي.

مثبتات الاحتمال الأول

وهو أن يكون المهدي هو المسيح عيسى بن مريم، بمعنى أن يكون هذا

النبي عليه السلام هو الذي يمارس الإنقاذ العالمي الموعود ، ويطبق العدل الكامل ،

وقد سمي في الإسلام بالمهدي بالمعنى المتضمن لذلك المفهوم .

ولهذا الإحتمال عدة مثبتات :

المثبت الأول : أن عيسى بن مريم أو يسوع الناصري عليه السلام هو

ص: 853

المسيح بقول مطلق باعتراف الإنجيل والقرآن وفي التبادر الذهني العام لكل

سامع . . . فإننا إذا قلنا المسيح لم نفهم غيره .

والمسيح ليس إسماً شخصياً له وإنما لقب به باعتباره المنقذ العالمي . فإن

لفظ المسيح مهما كان معناه اللغوي ، لا يراد به في الإصطلاح الديني إلا ذلك .

ومن هنا كان يلقب به داود عليه السلام (1)و شاؤل أيضاً (2) تفاؤلا بكونهم متخذين لتلك الصفة .

وحين جاء المسيح إلى الدنيا اتخذ هذه الصفة بشكل مطلق وبلا منازع ،

وهذا واضح جداً من الإنجيل والقرآن معاً. إذن، فهو المنقذ العالمي المطلق ، باعتراف الإنجيل والقرآن معاً .

المثبت الثاني : ذكرت عدد من الأناجيل (3)بتبشير يسوع الناصري بطول عمر المسيح وبمجيئه في آخر الزمان ، ووافقت على ذلك السنة الشريفة في

الإسلام، كما سمعنا من هذه الأخبار وغيرها ، حتى كاد أن يكون ذلك من واضح

واضحات الديانتين المسيحية والإسلام .

وقد بشر هو بإسهاب ، كما نطقت بذلك الأناجيل ، بقرب مجيء ملكوت

اللّه الذي هو يوم العدل العالمي الموعود ، وقد نفهم من ذلك أن هذا الملكوت

إنما ينزل إلى حيز التطبيق عند مجيثه في آخر الزمان ، ومعه يكون هو المطبق له.

المثبت الثالث : الخبر الذي سبق أن سمعناه أنه : لا مهدي إلا عيسى بن مريم. فإنه متضمن لمضمون هذا الإحتمال بصراحة ، وان المتكفل للإنقاذ

ص: 854


1- انظر : صموئيل الثاني : 19 / 21 و 23 / 1 وغيرها .
2- انظر : صموئيل الأول : 24 / 6 و 26 / 16 و 26 / 25 وغيرها .
3- انظر : متى : 28 / 29 و 16 / 19 و 24 / 2 وغيرها .

العالمي الموعود ليس إلاهذا النبي عليه السلام ، وربما اشعرنا هذا الخبر بأن هذا

النبي هو المسمى بالمهدي في اصطلاح الإسلام .

وأما شأن هذه المثبتات من الصحة فهو ما سنذكره بعد ذلك .

مثبتات الاحتمال الثاني

وهو أن يكون المهدي الإسلامي هو المسيح ، ولا يوجد إلى جنبه أو

بعده أو قبله شخص آخر مستحق لهذه الصفة ، بصفتها ممثلة للإنقاذ العالمي الموعود.

وإثبات ذلك ينطلق مما قلناه من أن المراد بالمسيح بالإصطلاح الديني : هو

هذا المعنى ، فبعد أن يثبت بضرورة الدين الإسلامي أن مهمة الإنقاذ العالمي

موكولة إلى المهدي الإسلامي وحده، إذن فسوف يكون - بكل وضوح -

هو المسيح الموعود .

غير أن الصحيح هو عدم صحة كلا هذين الإحتمالين ، بمعنى عدم صحة

الأطروحة التي ينطلقان منها ، وهي وحدة المسيح والمهدي . بل هما شخصان

منفصلان ، يظهران معاً في آخر الزمان، أعني عند البدأ بالإنقاذ العالمي الموعود

ويضطلعان معاً بإنجاز هذه المهمة ، بقيادة المهدي الإسلامي وجهود المسيح

عيسى بن مريم .

وبهذا الفهم نستطيع أن نناقش مثبتات كلا الإحتمالين ، ونعرف المناشيء

الحقيقية لها .

فالإنقاذ العالمي مهمة مجيدة واحدة ، لا معنى لتعددها ، بعد البرهنة على

عدم الحاجة إلى ذلك ، كما سوف يأتي في الباب الآتي وفي الكتاب الآتي . والمنقذ

العالمي واحد ، هو المهدي الإسلامي دون غيره .

ص: 855

وأما تسمية النبي عيسى عليه السلام بالمسيح بلا منازع ، فهو لا يدل على

استقلاله بهذه المهمة لوجهين :

الوجه الأول : أن تسمية المسيح عيسى بن مريم عليه السلام بهذا

اللقب ، لم يكن مستعملا في حياته . بل كان يتخذ مدلولاً عاماً (1) ،

وإنما أكد على ذلك طلابه كتبة الأناجيل الأربعة ، إيحاء بانه المنقذ المنتظر والمطبق لملكوت اللّه دون غيره .

وأما تلقيب القرآن الكريم له بهذا الوصف ، فهو باعتبار الشهرة الموجودة

في ذلك العصر به ، نتيجة لتركيز المسيحيين على ذلك طيلة عدة قرون .

إذن ، فهذه الشهرة العالمية لعيسى أو يسوع عليه السلام ، بهذا اللقب، ليس

له أي مدلول أكثر من إطلاقه على داود أو شاؤل الذي كان لمجرد مجاملتهما

على ما يبدو ، بعد اليقين بأن أياً منهما لم يكن هو المنقذ المنتظر .

الوجه الثاني : أنه يكفي - في حدود الفهم الذي عرضناه – لتلقيب عيسى

عليه السلام بالمسيح جهوده الكبرى في بناء اليوم الموعود ، كما سنعرف .

إلى حد يصدق من الناحية العلمية نسبة تطبيق العدل الكامل إليه ، وإن كان

ذلك في الواقع بقيادة الإمام المهدي الإسلامي عليه السلام .

ولعل هذا هو الوجه الذي حدا بالقرآن الكريم إلى الإعتراف بهذه الشهرة

لهذا النبي (ع) وعدم إلغائها أو تبديلها ، على حين ألغاها بالنسبة إلى غيره

كداود عليه السلام .

وبهذا يكون المثبت الأول للإحتمال الأول مندفعاً.

ص: 856


1- انظر : يوحنا 7 / 27 و 43 .

وأما ما تسالمت عليه الديانتان من عودة المسيح في آخر الزمان ، فهو لا

يدل بمجرده على استقلاله بتطبيق اليوم الموعود ، بل نحتمل - على الأقل -

أنه لمجرد المشاركة فيه ، لأجل نيل المصالح التي سنعرف طرفاً منها في ما يأتي .

وأما تبشيره بملكوت اللّه ، فهو تبشير باليوم الموعود نفسه ، وإنما أكد

عليه المسيح عيسى بن مريم باعتباره الحلقة الأخيرة من التشريعات السابقة على

وجود الأطروحة العادلة الكاملة التي ستكون مطبقة في ذلك اليوم .

وكل ما يتضمن هذا التبشير والتأكيد ، هو أهمية ملكوت اللّه وتطبيق

عدله الكامل ، ولا يعني بأي حال استقلال المسيح بتطبيق العدل .

ولا تتضمن الأناجيل ولا القرآن الكريم أي إشارة إلى أن المسيح عيسى

عليه السلام هو المطبق الأكبر لذلك اليوم . وإنما نسب التطبيق إلى قائد معين أسمته الأناجيل بابن الإنسان ، وهو ليس عيسى أو يسوع على أي حال .

لأن الأناجيل تطلق على يسوع لقب ابن اللّه ... وابن الإنسان غير ابن اللّه ،

فلا يكون ابن الإنسان الا القائد الواقعي لليوم الموعود . ويوجد في كلام

الأناجيل عدد من القرائن على ذلك ، كما سيأتي في الكتاب الخاص بهذا الموضوع

من الموسوعة .

وبهذا يكون المثبت الثاني للإحتمال الأول مندفعاً .

وأما المثبت الثالث : وهو الخبر الوارد بهذا الصدد ، فقد ناقشه ناقلوه

نقاشاً حامياً . قال ابن حجر في الصواعق (1) : قال الحاكم : أوردته تعجباً

لا محتجاً به. وقال البيهقي : تفرد به محمد بن خالد . وقد قال الحاكم : انه

مجهول . واختلف عنه في إسناده ، وصرح النسائي بأنه منكر . وجزم غيره

ص: 857


1- ص 98 .

من الحفاظ بأن الأحاديث التي قبله أي الناصة على أن المهدي من ولد فاطمة

أصح إسناداً .

كما أن هذا الخبر متضمن لبعض المداليل المعلومة الكذب . وهو قوله : لا

یزداد الأمر إلاشدة ولا الدنيا إلا إدباراً ولا الناس إلا شحاً . فإنه بمدلوله ينفي

وجود االيوم الموعود الذي ترتفع فيه الشدائد وتقبل الدنيا بعد إدبارها ، ويزول

الشح من الناس ويتبدل إلى التعاطف والأخوة على كل المستويات . ومعه ،

فالدليل القطعي الدال على وجود اليوم الموعود ، ينفي مدلول هذا الخبر .

وإذا وجدت في الخبر فقرة فاسده أمكن أن تكون فقراته الأخرى فاسدة

فيكون ساقطاً عن الإثبات التاريخي .

وأما ما ورد في الخبر من أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس ، فهو ما

ورد في عدة أخبار سنسمعها ونبحثها في الباب القادم .

وأما الاحتمال الثاني : وهو تلقيب المهدي الإسلامي بالمسيح بصفته المنقذ

المنتظر ، فهو أمر معقول وصحيح غير أنه متروك إسلامياً ، باعتبارما سوف

يقع عندئذ من الخلط بين المهدي وعيسى بن مريم عليهما السلام .

ولكنه على كل تقدير لا يدل على وحدة هذين القائدين ، وإن الذي بشرت

الأناجيل والأخبار بمجيئه ليس إلا المهدي نفسه ، دون عيسى بن مريم (ع) .

لأن الأناجيل والأخبار لو كانا قد اقتصرا على لقب المسيح لكان هذا الحمل

محتملا ، غير أن الأمر ليس كذلك ، فإن الأناجيل بشرت بعودة يسوع نفسه

في آخر الدهر والمهدي الإسلامي ليس هو يسوع على أي حال . وأما الأخبار

فقد سمعنا تسميته بصراحة ، بعيسى بن مريم عليه السلام ، وليس مجرد كونه

مسيحاً ليحتمل انطباقه على المهدي (ع) . بل هي - في الأغلب سمته ولم

تلقبه بالمسيح .

ص: 858

ومعه ، فاحتمال وحدة المسيح والمهدي ، وأنهما مفهومان عن شخص واحد، غير وارد على الإطلاق . بل هما شخصان يظهران معاً ويبذلان جهوداً مشتركة

في إنقاذ العالم وتطبيق العدل الكامل. ويتكفل كلاهما قيادة واحدة ومهمة

واحدة ، وإن كانت القيادة العليا مسندة إلى المهدي (ع) كما سنسمع .

وبعد استنتاج هذه النتيجة ، يمكننا أن نمشي في الجهات الآتية ، من

الحديث بسهولة .

الجهة الثالثة : في المضمون العام لهذه الأخبار

الجهة الثالثة : في المضمون العام لهذه الأخبار .

إذا لاحظنا مجموع هذه الأخبار ، واعتبرناها جميعاً قابلة للإثبات

التاريخي ، حصلنا على تسلسل الفكرة بالشكل التالي :

إن الدجال حين يبلغ قمة مجنده وإغرائه وسيطرته على العالم ، ينزل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام من السماء واضعاً كفيه على أجنحة ملكين ، فينزل

عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، يبدو للرائي كأنه خرج من الحمام لوقته ،

لأنه إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدرت منه قطرات جمان كاللؤلؤ على

وجهه . وإن كان المفهوم من الخبر أن هذا خيال للرائي وليس هو برطوبة

حقيقية .

وتكون الوظيفة الرئيسية الأولى للمسيح هي قتل الدجال والقضاء عليه ،

ويكون الدجال يومئذ في دمشق فيلحقه المسيح عليه السلام ، فيدركه بباب

لد فيقتله .

وحينما يقضي على الدجال تكون مهمته الثانية تأييد المؤمنين في العالم والقضاء على الكافرين والمنحرفين. أما المؤمنين فيواجههم ويحدثهم عن درجاتهم في الجنة . و أما الكافرين فيقاتلهم على الإسلام ويدق الصليب بمعنى .

ص: 859

أنه يقضي على المسيحية المعروفة المتخذة للصليب ، ويقتل الخنزير ، بمعنى

أنه يحرم أكله ويأمر بالقضاء على الموجود للتدجين منه « ويضع الجزية على من بقي على دين اليهودية والنصرانية ، كما فعل رسول اللّه ( ص ) معهم.

فيمكث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون .

وأما المهدي (ع) فهو الشخص الرئيسي من هؤلاء المؤمنين الذين يواجههم

المسيح . وحين تحين الصلاة بعد وصولهم إليه أو وصوله إليهم ، يدعوه

الإمام المهدي (ع ) احتراماً له ، أن يكون هو الإمام في صلاة الجماعة.

فيأبى ذلك قائلاً : لا ، إن بعضكم على بعض أمراء ، تكرمة اللّه لهذة الأمة

يعني أن الأمة الإسلامية لابد- في الحكم الإلهي – أن يحكمها شخص منها،

وحيث ان المسيح عيسى بن مريم ليس منها ، باعتباره نبياً لدين سابق ، إذن

فلا ينبغي أن يحكم المسلمين أو أن يأمهم في الصلاة . وبعد هذا الاعتذار ،

يتقدم المهدي (ع) اماماً للصلاة ويصلي المسيح عليه السلام خلفه مأموماً .

وسيحين خلال هذه المدة ، الوقت المناسب لمنازلة الكافرين والمنحرفين ،

متمثلين بيأجوج ومأجوج ، وبالرغم من أن القيادة العالمية إنما هي بيد الإمام

المهدي (ع ) غير أن قيادة الحرب ستكون بيد المسيح عليه السلام ، ومن

هنا نسب القضاء على يأجوج ومأجوج إليه ، كما نسب قتل الدجال إليه أيضاً مع أن هناك من الأخبار ما يدل على أن المهدي (ع ) هو الذي يقتل الدجال(1)

وكلا النسبتين صادقة ، باعتبار وحدة العمل والهدف .

وهذا التسلسل الفكري ، يمكننا دمجه بفهمنا العام السابق للحوادث ،

وربطه بالتخطيط العام السابق على الظهور والتخطيط العام اللاحق له ، فينتج

لدينا النتيجة التالية :

ص: 860


1- انظر منتخب الأثر ص 480 عن 1 كمال الدين و وغير .

إن الدجال ليس شخصاً معيناً ، كما قلنا ، وإنما هو كناية عن الحضارة

المادية في قمتها وأوج عزها واغرائها. ومن الواضح أن مثل هذه الحضارة

لا يمكن القضاء عليها بقتل شخص معين ، وإنما يحتاج إلى عمل فكري

وعسكري عالمي للقضاء عليها ، وتحويل الوضع إلى الحكم العادل الصحيح .

وهذا العمل موكول أساساً إلى المهدي عليه السلام بصفته القائد الأعلى

ليوم العدل الموعود . ومن هنا ذكرت الأخبار بأنه يقتل الدجال . وهذا لا

ينافي أن شخصاً من أصحابه و تحت أمرته يشارك في هذه المهمة مشاركة رئيسية ،

بحيث تصحح نسبة القتل إليه أيضاً ، كما تصحح كونه مسيحاً مصلحاً للعالم .

والمستفاد عموماً من الأخبار : أن نزول عيسى عليه السلام . يكون

بعد ظهور المهدي (ع) ولكن قبل استتباب دولته ، يعني خلال محاربته

للكافرين والمنحرفين ، وممارسته للفتح العالمي . وهناك من الأخبار (1) ما

بدل على أنه يبايعه في المسجد الحرام مع أصحابه الخاصة الأوائل ، غير أنه

غير قابل للإثبات التاريخي .

وهذا هو المراد من كون المهدي (ع ) في وسط الأمة وعيسى في آخرها ،

لو صح الخبر ، لأنه ينزل بعد ظهور المهدي، ويبقى بعد وفاته ، فأصبح

كأنه بعد المهدي في الزمان، فيصدق عليه مجازاً ، أنه في آخر الأمة .

والمسيح يواجه بعد نزوله يأجوج ومأجوج وقد خرجوا من الردم ،

وقد عرفنا أنهما يمثلان الحضارة المادية ذات الفرعين الأساسيين في البشرية ،

ويكون مسؤولاً خلال الفتح العالمي ، عن محاربتهما والقضاء عليهما . وقد

سبق أن تحدثنا عن ذلك مفصلاً.

ص: 861


1- انظر الزام الناصب ص 307 .

وهنا قد يبدو أن الخبر الدال على ذلك ، دال أيضاً على تأخر خروج

يأجوج ومأجوج من الردم ، على نزول عيسى عليه السلام ومن ثم عن ظهور

المهدي (ع ) . وهذا مخالف لفهمنا السابق ، لأن الحضارة المادية بكلا فرعيها إنما تكون قبل الظهور .

إلا أن دلالة الخبر على ذلك غير صحيحة ، لأنه دال على أن عيسى (ع )

بعد أن يجتمع بالمؤمنين الصالحين، يخبره اللّه تعالى بإخراج يأجوج ومأجوج

« فبينما هو كذلك إذ أوحى اللّه إلى عيسى : إني قد أخرجت عباداً لي

لا يدان لأحد بقتالهم » . إن هذا التوقيت توقيت للاخبار لا للخروج من

الردم . وليس في الخبر الذي يتلقاه هذا النبي انهم قد خرجوا لفورهم .

وهذا الإخبار لا يتضمن معناه المطابقي اللفظي بطبيعة الحال ، وإنما

يتضمن الأمر بالمبادرة إلى قتالهم بعد أن التأم جمع المؤمنين مكوناً من المهدي

والمسيح عليهما السلام وأصحابهما ، وقد أزفت ساعة الصفر للفتح العالمي ،

و اقتضى التخطيط الإلهي ذلك .

ثم يكشف المهدي عليه السلام عن مواريث الأنبياء بشكلها الواقعي ،

كما خلفها الأنبياء أنفسهم في الأرض ، كل في منطقته . وهي تابوت آدم

عليه السلام أي الصندوق الذي كان يحفظ فيه كتاباته الدينية وتشريعاته وعصر

موسى عليه السلام والتوراة والزبور والإنجيل وسائر كتب اللّه . فيبدأ هو

والمسيح عليه السلام بمناقشة أهل الأديان السماوية بهذه الكتب والمواريث .

فيدخلون في الإسلام ، وأما المتبقي منهم ، فيقول الخبر أنهم يدخلون في ذمة

الإسلام ويدفعون الجزية كما كان الحال في زمن رسول اللّه (ص) . ريثما

يتم بالتدريج دخولهم في الإسلام .

وعندئد « تذهب الشحناء والتباغض والتحاسد» ويعم الغنى أمة محمد

ص: 862

( ص ) وهم كل البشر « وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد» عند استتباب

الدولة العالمية .

فهذا هو المضمون العام لهذه الأخبار ، وأما التفاصيل فسنعرفها في

الجهات الآتية .

الجهة الرابعة : في الحديث عن بعض خصائص المسيح عيسى بن مريم عليه السلام .

ونتكلم عن ذلك في عدة نواحي :

الناحية الأولى : حين عبرت الأخبار السابقة بنزول عيسى عليه السلام ،

فإنما تريد نزوله من السماء بعد أن رفعه اللّه تعالى إليه حين أراد اليهود قتله فشبه

لهم وقتلوا غيره مكانه . . . وهذا انطلاق من الفهم التقليدي للمسلمين عن ذلك .

وقد ورد في أخبار الفريقين ما يؤيده ويدل عليه .

ونحن لا نريد الدخول في إثباتات ذلك الآن، وحسبنا أن القرآن الكريم بعد

ضم بعض آياته إلى بعض غير صريح في ذلك ... وإنما غاية ما ينفعنا في المقام هو

أن نلتفت إلى أن مجيء المسيح عليه السلام مع المهدي عليه السلام لا يعني صحة

هذا الفهم بالتعيين ، بل يمكن رجوعه بقدرة اللّه تعالى مهما كانت خاتمة

حياته السابقة ، كما هو واضح .

الناحية الثانية : في الحكمة من بقاء المسيح عليه السلام خلال هذه المدة

الطويلة طبقاً للفهم التقليدي المشار إليه :

إن الحكمة من ذلك ، حسب ما تدركه عقولنا الآن ، تتمثل في عدة أمور:

الأمر الأول : اختصاص هذا النبي عليه السلام بمميزات شخصية أساسية

من دون سائر الأنبياء ، كولادته الإعجازية بدون الأب وإحيائه للموتى

ص: 863

ورفعه إلى السماء . كما اختص موسى عليه السلام بالكلام مع اللّه عز وجل ومحادثته مدة عشرة أيام كاملة ، واختص محمد نبي الإسلام صلى اللّه عليه وآله وسلم بالقرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة . ولا بد لكل نبي رئيسي

من خصائص تميزه على أي حال.

الأمر الثاني : البرهان على صحة الغيبة بالنسبة إلى المهدي عليه السلام، حيث

يكون المسيح أكبر عمراً منه مهما طالت الغيبة بعدة مئات من السنين ، هي الفرق

بين عصر ولادة المسيح وعصر ولادة المهدي عليهما السلام و هي حوالي التسعماءة

عام .

وحيث اعترف الفكر التقليدي الإسلامي ببقاء المسيح حياً لم يمت ، اذن ، ففي

الإمكان تماماً بقاء من هو أصغر منه عمراً ، إن لم يكن أولى بالبقاء منه .

وهذه تماماً هي الحكمة من بقاء الخضر عليه السلام حياً ، كما اعترف به الفكر التقليدي الإسلامي أيضاً ووردت به الأخبار من الفريقين . وورد في الاخبار الإشارة إلى هذه الحكمة بالذات لبقائه (1) . فإن عمره يزيد على عمر

المسيح والمهدي عليهما السلام معاً باعتباره أسبق ولادة منهما. فإذا كان بالإمكان

بقاء الإنسان خلال هذا الدهر الطويل، فبالأولى أن يبقى شخص آخر بمقدار

ص: 864


1- أخرج الصدوق في إكمال الدين ( نسخة مخطوطة ) بسنده عن سدير الصيرفي عن أبي عبد اللّه الصادق (ع ) في حديث طويل يقول فيه : واما العبد الصالح اعني الخضر ، فإن اللّه تبارك وتعالى ما طول عمره لنبوة قدرها له ولا لكتاب ينزل عليه ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله من الأنبياء ولا لإمامة يلزم عباده الاقتداء بها ، ولا لطاعة يفرضها له . بلى إن اللّه تبارك وتعالى لما كان في سابق علمه أن يقدر من عمر القائم في أيام غيبته ما قدر وعلم من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول ، طول عمر العبد الصالح من غير سبب أو جب ذلك إلا لعلة الاستدلال به على عمر القائم ، ليقطع بذلك حجة المعاندين ، ولئلا يكون للناس على اللّه حجة . . . الحديث .

أقل منه . ولئن كان المسيح يعيش في السماء : فإن الخضر يعيش على الأرض تماماً كالمهدي (ع) وهو يزيد على عمره بأكثر من ألفي عام .

الأمر الثالث : تكامل المسيح عليه السلام خلال هذا العصر الطويل . من

التكامل الذي سميناه بتكامل ما بعد العصمة . وقد برهنا التاريخ السابق (1)

على ثبوته للمهدي (ع) من خلال عمره الطويل على الأرض ومعاشرته

للأجيال الطويلة للبشرية .

فكذلك يمكن القول بالنسبة للمسيح في عمره الطويل في السماء ، في

في الملكوت الأعلى ، وما يشاهده من عظمة اللّه وحكمته وعدله في ذلك العالم ،

الأمر الذي يوجب له أكبر الكمال .

وسوف يستفيد المسيح من هذا التكامل العالي ، في تدبير المجتمع العالمي

العادل ، تماماً كما يستفيد المهدي (ع) من تكامله العالي أيضاً . فانظر إلى هذه

القيادة العالمية الرشيدة المكونة من هذين التكاملين العاليين .

الناحية الثالثة : في الحكمة من مشاركة المسيح في الدولة العالمية العادلة.

يؤثر وجود المسيح عليه السلام في الدولة العالمية ، وبالتالي في التخطيط

اللاحق للظهور ، في حدود ما نفهم الآن ، في عدة أمور:

الأمر الأول : إيمان اليهود والنصارى به ، وهم يمثلون ردحاً كبيراً من

البشرية . وذلك حين يثبت لهم بالحجة الواضحة أنه هو المسيح يسوع الناصري

نفسه ، وأن الإنجيل والتوراة إنما هي هكذا وليست على شكلها الذي كان

معهوداً . وإن ملكوت اللّه الذي بشر به هو في حياته الأولى على الأرض قد تحقق فعلا متمثلا بدولة العدل العالمية .

55

ص: 865


1- تاريخ الغيبة الكبرى : ص 504 وما بعدها إلى عدة صفحات .

ولن يبقى منهم شخص من ذلك الجيل المعاصر للظهور ، إلا ويؤمن به

كما هو المستفاد من قوله تعالى :

«وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا

لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ »(1).

فإن الإستنثاء بعد النفي يفيد العموم .

الأمر الثاني : أنه نتيجة للأمر الأول سوف يتيسر الفتح العالمي بدون

ال ، بل نتيجة للإيمان بالحق والإذعان له . وقد سبق أن تكلمنا عن ذلك

مفصلا ، وعرفنا أن الجانب الفكري في الفتح العالمي سيكون أوسع بكثير من

الجانب العسكري .

الأمر الثالث : تكفل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام للقيادة في جانب

أو عدة جوانب من الدولة العالمية ، وتحمله مسؤوليتها ، كما لو أصبح في مركز

مشابه لرئيس الوزراء في الدولة الحديثة ، أو تكفل الحكم في رقعة كبيرة من الأرض ، أو الدولة العالمية.

الناحية الرابعة : ان المسيح عيسى بن مريم عليه السلام. وإن كان نبياً مرسلا وليس الإمام المهدي (ع) كذلك ، غير أن القيادة العليا تبقى موكولة إلى

المهدي (ع) .

وذلك لعدة وجوه نذكر بعضها :

الوجه الأول : ان الإمام المهدي (ع) هو الوريث الشرعى للأطروحة

العادلة الكاملة عن نبي الإسلام (ص) ، يروي عنه وعن قادة الإسلام الأوائل تفاصيلها وحل معضلاتها ، وفهم ظواهرها وخفاياها . وبالتالي فقد مرّ الامام

المهدي (ع) نجو كاف للتعرف على هذه الأمور على يد آبائه عليهم السلام وهو

مما لم يحدث ان وحق له المسيح عيسى بن مريم عليه السلام.

ص: 866


1- 159/4.

الوجه الثاني : القاعدة العامة التي نصت عليها الأخبار التي سمعناها ، و هي يقولها المسيح نفسه حين يعتذر عن تقدمه لامامة الجماعة بالمسلمين : ان بعضكم

على بعض أمراء ، تكرمة اللّه هذه الأمة .

فإنه بصفته نبياً لملة أخرى غير دين الإسلام . يكون من الوهن في الحكمة الإلهية أن يكون حاكماً للمجتمع المسلم بما فيه من أولياء وصالحين ، وكأنه يظهر

عندئذ عجز الأمة الإسلامية عن ايجاد قائد كبير منها . بل ان الحكمة والتفضل الإلهيين اقتضى أن يكون الحاكم الأعلى للدولة الإسلامية مسلماً بالأصل لايمت

إلى أي دين آخر بصلة . مضافاً إلى صفاته الأخرى .

الناحية الخامسة : دلت الرواية على أن بقاء المسيح في الأرض بعد نزوله

أربعون سنة . ولعل المراد به مجرد الكثرة . بشكل يناسب أن تكون أكثر أو

أقل بمقدار ما . وحيث يكون من الراجح ، كما سوف نشير أن الإمام المهدي

(ع ) لن يبقى في الحياة بعد ظهوره ، إلا حوالي العشر سنوات ، إذن فسوف

يبقى المسيح بعد المهدي (ع) حوالي ثلاثين عاماً ، وهي فترة ليست بالقصيرة بالنسبة إلى النظام المهدوي الجديد .

ويؤيد ذلك قوله في رواية أخرى : وعيسى في آخرها . فإنه لا يكون في

آخرها إلا إذا كان متأخراً في البقاء في الحياة عن الإمام المهدي (ع).

ومهما يكن شكل الرئاسة العليا لدولة العدل العالمية بعد الإمام المهدي (ع)

- وهذا ما سنذكره في الباب الآتي - ، فإن المسيح (ع) سوف لن يتولى الرئاسة

على أي حال، بل سيكون له قسط من العمل والتوجيه ، أو يستمر بنفس

صفته التي كان عليها بين يدي شخص الإمام المهدي (ع ) .

نعرف ذلك من القاعدة التي سمعناها : ان بعضكم على بعض امراء . ومن

الواضح أن الأولياء الموجودين بعد المهدي (ع) كلهم مسلمون بالأصل غير

ص: 867

المسيح ، لأنه نبي لدين سابت . فيكون هؤلاء الأولياء أولى منه بتولي الرئاسة.

وإذ تنتهي حياته ويحين أجله . تسكت الروايات عن كيفية موته وسببه.

والمفروض أنه يموت كما يموت غيره من البشر ، فهو الآن يصعد بروحه وحدها

إلى السماء بعد أن كان قد صعد فيما سبق بروحه وجسمه معاً .

إن قانون : « كل نفس ذائقة الموت » يعين عليه الموت مهما طال

عمره فإنه قانون عام لا يستثنى منه نبي ولا ولي . وحيث لم يكن ارتفاعه الأول

موتاً حقيقياً أو كاملا ، كان اللازم بمقتضى هذا القانون ، أن يموت الموت الحقيقي الموعود ، ولو بعد مئات أو آلاف من عمره الطويل .

فهذا هو الحديث عن بعض النواحي المهمة من خصائص المسيح عليه السلام.

الجهة الخامسة : في بعض خصائص أهل الكتاب وعقيدتهم يومئذ .

ونتكلم عن ذلك في عدة نواحي :

الناحية الأولى: دلت بعض الروايات ، بما فيها بعض ما سبق : على أن المهدي (ع) يستخرج التوراة والإنجيل ، وكل الكتب والصحف المنزلة على

الأنبياء من غارفي إنطاكية ، فيحتج بها على اليهود والنصارى ، فيدخلون

في الإسلام .

إلا أن هذا التعيين للمكان لا يخلو من بعض نقاط الضعف :

النقطة الأولى : عدم كفاية هذه الروايات لإثبات هذا الأمر تاريخياً . فإنها

روايات قليلة نسبياً وضعيفة السند .

النقطة الثانية : اننا أشرنا خلال فهمنا لهذه الأخبار ، أن المهدي (ع)

يستخرج كل كتاب من المكان المذخور فيه ... وذلك بعد ضم أمرين إعجازيين :

الأمر الأول : انحفاظ هذه الكتب من التلف خلال آلاف الأعوام .

ص: 868

الأمر الثاني : اطلاع الإمام المهدي على مكانها ، وهي موزعة في بتماع العالم.

وإنما حدثت هذه المعجزة باعتبار هداية الناس بهذه الكتب بعد الظهور.

فأصبحت مطابقة لقانون المعجزات. على أنه يمكن حمل الأمرين على الشكل الطبيعي أيضاً .

وأما اجتماع هذه الكتب كلها من غار إنطاكية ، فهو مما لا مبررله لا

إعجازي ولا طبيعي . كما هو واضح ، فيكون باطلا .

الناحية الثانية : كيف يثبت للناس أن هذه هي الكتب الحقيقية ،

وكيف يثبت أن هذا هو عيسى بن مريم (ع) نفسه وأن هذه هي الكتب الواقعية؟

مع أن الناس غير مشاهدين ولا معاصرين له ولا لها . وخاصة وأن هناك في

اليد نسخ من التوراة والإنجيل ستكون مختلفة تلك النسخ الأصلية .

وجواب ذلك : أن هذا الإثبات يتم بعد إقامة الحجة الكاملة من قبل

المهدي (ع ) على مهدويته وصدقه ، بحيث يكون كل ما يخبر به مسلم الصحة

عند الناس . فيعرفهم على المسيح وعلى التوراة والإنجيل . مضافاً إلى ما قد

يضيفه المسيح نفسه من حجج وبينات ، فيثبت بها نفسه وصدقه ، إلى جنب عدالة القضية ككل .

وبهذا نعرف أن قضية نزول المسيح أو استخراج الكتب لا يكون بمجرده

حجة كافية ، لوضوح أن نزول عيسى من السماء لن يشاهده إلا القليل

وربما لا يشاهده أحد . فيحتاح وهو على الأرض إلى إثبات لشخصيته . وكذلك

الكتب . فإن مجرد وجودها هناك لا يعني صدقها ومطابقتها للواقع ، ما لم يقترن

كل ذلك بالحجة الكافية لإثباته .

نعم . بعد أن يثبت كل ذلك بالحجة ، وقد سبق أيضاً للناس التبشير

ص: 869

بحصول ذلك في عصر المهدي (ع) في الأخبار التي سمعناها ، يكون ذلك

بطبيعة الحال ، دعماً لصدقه وعدالة قضيته .

الناحية الثالثة : أنه دلت بعض الأخبار على أن الإمام المهدي (ع) يحكم

بين أهل التوراة بالتوراة وبين أهل الإنجيل بالإنجيل وبين أهل الزبور بالزبور

و بين أهل القرآن بالقرآن. فكيف يصح ذلك ، وهل يكون الحكم في الدولة العالمية

إلا واحداً مشتركاً بين الناس أجمعين ، على مختلف أديانهم ومجتمعاتهم .

ويؤيد مضمون هذه الرواية بما روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام

أنه قال :

كما يؤيد أيضاً بقوله تعالى :

لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين

أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل

الإنجيل بانجيلهم وبين أهل الزبور

بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم . (1)

کما یؤید أیضاً بقوله تعالی:

«إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ

يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا

لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ

بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ

اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا

تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا

تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا.

ص: 870


1- انظر إرشاد الديلمي ج 2 ص 6 ط بيروت .

وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ

فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ . وَكَتَبْنَا

عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ

وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ

وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ

وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ

بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ

يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ

هُمُ الظَّالِمُونَ »(1).

وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه ، ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك

هم الفاسقون . وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب

ومهيمناً عليه ، فاحكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق» .

وقال تعالى :

«وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ

وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ

رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ

تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ...الآیة»(2).

حيث دلت هذه النصوص على أنه عند الحكم العادل ، ينبغي أن تنزل

كل الكتب السماوية إلى حيز التطبيق ، كل منها على من يؤمن بها. وقد وصف من

يعصي حكم التوراة بالكافرين تارة وبالظالمين أخرى . ووصف من يعصي حكم

ص: 871


1- 44/5-45.
2- 66/5.

لإنجيل بالفاسقين . كل ما في الأمر أن الزمام الأعلى يكون للحكم الإسلامي

الذي أنزله اللّه تعالى في القرآن ، مهيمناً على الملل السابقة .

وإنما تمنى أمير المؤمنين (ع) إنجاز ذلك ، وإنما يقوم المهدي (ع) به ،

تطبيقاً لهذا التأكيد القرآني الذي سمعناه .

ويمكن فهم هذا التأكيد على أساس عدة أطروحات محتملة :

الأطروحة الأولى : أن يراد من تطبيق هذه الكتب تطبيق ما أمرت

به من الدخول في الإسلام وبشرت به من وجود نبي الإسلام . وسيكون هذا

واضحاً في النسخ التي سوف يجيء بها المهدي (ع) من هذه الكتب .

وهذا هو الفهم التقليدي لهذه الآيات القرآنية ، وهو فهم محترم لولا أنه

يخالف ظاهر بعض الآيات . فإن قوله تعالى« وكتبنا عليهم أن النفس بالنفس والعين بالعين . إلى أن يقول : ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون».

ظاهر بأن المطلوب هو تطبيق هذه الأحكام نفسها التي عددتها الآية الكريمة .

وقوله : « ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل ... لأكلوا من فوقهم ومن

تحت أرجلهم » ظاهر بأن الرفاه الإجتماعي ناتج عن إقامة الأحكام التفصيلية

للكتب أنفسها . وقصرها على مجرد تبشيرها بالإسلام ، خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بدليل .

الأطروحة الثانية : أن يراد من تطبيق هذه الكتب ، تطبيق أحكامها جملة

وتفصيلا . وخاصة تلك الكتب التي يخرجها المهدي (ع) ويثبت أنها هي التوراة

والإنجيل الواقعية .

إلا أن هذه الأطروحة غير محتملة : لأن في هذه الكتب ناسخ ومنسوخ

وكلها منسوخة بشريعة الإسلام. فالتوراة ناسخة للشرائع السابقة عليها .

ص: 872

والإنجيل ناسخ لأحكام التوراة والقرآن ناسخ لأحكام الإنجيل . ومعنى كونه

منسوخاً أنه لا يجب العمل عليه في حكم اللّه عز وجل ، بل يجب العمل فقط

على الشريعة الأخيرة الناسخة لكل الشرائع السابقة والتي ليس بعدها ناسخ لها،

وهي الإسلام. ومعه لا معنى للعمل بالأحكام التفصيلية للشرائع السابقة .

وهذا النسخ لا يختلف فيه الحال بين المسلمين وبين اليهود والنصارى ،

فليس من الصحيح أن أحكام التوراة مثلا منسوخة بالنسبة إلى المسلمين . ولكنها

سارية المفعول على اليهود لأن الشرائع المتأخرة عن التوراة إن لم تكن صحيحة كانت

أحكام التوراة شاملة لكل البشر . وإن كانت صحيحة ، كانت تلك الأحكام منسحبة عن كل البشر . ولا معنى للتفريق .

على أن بعض هذه الكتب لا يحتوي على أحكام بالمرة أو يحتوي على شيء

قليل ، لا يكفي لتطبيق العدل ، كالزبور والإنجيل نفسه .

الأطروحة الثالثة : تطبيق هذه الكتب، من زاوية عدد من الأحکام

المهمة التي أعربت عنها ، وليس المراد تطبيقها جملة وتفصيلا .

فإن هناك من الأحكام ما كان ناشئاً من فهم معين للعدل والقانون بشكل

عام، حتى أصبح عدد من واضحاتها ضروري التطبيق في المجتمعات البشرية

كلها على خط وجودها الطويل ، منذ أن استطاعت تطبيق الشرائع .

وحيث يكون فهم العدل والقانون في الشرائع السماوية عموماً واحد ،

أعني الشرائع بشكلها الواقعي ، فإنها صادرة من مصدر واحد حكيم لانهائي

في علمه وقدرته كانت الأحكام الأساسية مشتركة ما بين الشرائع ، لا تختلف

إلا في حدود اختلاف الحاجات التربوية التي تمر بها المجتمعات .

وإذ يكون هذا الفهم العام موجوداً أيضاً في دولة العدل العالمية ، لكن

ص: 873

بشكل معمق وموسع ، يكون من المنطقي جداً أن يكون تطبيق الأحكام الأساسية

المشتركة الناشئة من ذلك الفهم مطلوباً أيضاً في هذه الدولة، مضافاً إلى الأحكام

الأخرى المطبقة فيها .

وهذا التطبيق يكون عاماً على كل البشر وغير خاص بأهل الململ السابقة ،

بل تدخل هذه الأحكام في ضمن قوانين الدولة العالمية ، ويكون هو المراد من تطبيق هذه الكتب والحكم بمؤديات أحكامها ، فإن تطبيق أحكامها الأساسية والفهم العام الذي تقوم عليه ، يعتبر تطبيقاً لها ، مضافاً إلى تطبيق تبشيراتها

بالإسلام ، واليوم الموعود ، يو العدل العالمي .

وهذه الأطروحة صحيحة ، بمعنى أنها منسجمة مع سائر النصوص ،

ولا دليل على بطلانها، فيتعين القول بصحتها فيتعين القول بصحتها ، مع بطلان الأطروحتين

السابقتين .

ولا ينافي صحة هذه الأطروحة . أن نلتزم بصحة الأطروحة الآتية لو

رأينا الدليل علها تاماً . فإنهما أطروحتان غير متنافيتين .

الأطروحة الرابعة : أن يكون المراد من تطبيق التوراة والإنجيل تطبيقهما

على أهل الملل المؤمنين بهما دون غيرهم .

لكن لا بمعنى التفريق بينهم وبين غيرهم بشكل كامل ، الأمر الذي نفيناه فيما سبق . بحيث يكون الشامل لهؤلاء خصوص أحكام هذه الكتب دون

سائر قوانين وأنظمة الدولة العالمية. بل ان هذه القوانين شاملة للجميع ، ويختص

هؤلاء بأحكام كتبهم . ريثما يدخلون في الإسلام تدريجاً.

وفي كل مادة قانونية اختلف فيه قانون الدولة عن حكم الكتب ، كان

الحاكم العادل مخيراً بين تطبيق قانونه أو قانونهم عليهم ، كما افتى به الفقهاء المسلمون أيضاً ، واستفادوا ذلك من قوله تعالى :

ص: 874

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ

عَنْهُمْ (1)

يعني أحكم بينهم بحكم الإسلام أو اعرض عنهم ودعهم ليطبقوا ودعهم ليطبقوا أحكامهم الخاصة .

وهذا هو الأنسب مع نصوص الأخبار التي سمعنا بهذا الصدد ، حيث

قالت : ان أحكام التوراة تطبق على أهل التوراة وأحكام لإنجيل تطبق على أهل الإنجيل.

وعلى أي حال : فقد تكون كلا الأطروحتين الثالثة والرابعة صادقتين ،

ومعه لا تكون الأطروحة الثالثة منافية مع هذا الظهور الذي أشرنا إليه في

الأخبار ، كما هو غير خفي .

هذا وسيأتي في الكتاب القادم ، ما يلقي ضوءاً ضافياً على فهم هذه النصوص.

الناحية الرابعة : في وضع الجزية على أهل الكتاب .

صرحت عدد من الأخبار السابقة ، بأن السياسة العامة للدولة العادلة مع أهل الكتاب ، ما داموا لم يسلموا ، هي إقرارهم على دينهم وأخذ الجزية منهم ، كما كان عليه الحكم الإسلامي قبل الظهور وكما طبقه رسول اللّه (ص) ، وبقي

عليه الحكم المسلم ردحاً طويلا من الزمن.

كل ما في الأمر أن بعض الأخبار نسبت هذه السياسة إلى المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وبعضها نسبتها إلى المهدي (ع) . وقد عرفنا أن هذا

اختلاف شكلي يعود إلى عمل واحد وأهداف مشتركة يقوم بها هذان

القائدان على السواء .

ص: 875


1- 42/5.

وهذا هو الظاهر من قوله : يضع الجزية . يعني يشرعها ويطبقها ، بعد

أن كانت مرتفعة بعد انحسار الحكم الإسلامي قبل الظهور . وهذا هو المشهور

في الأخبار كما سمعنا والموافق للقاعدة الإسلامية المعروفة الواضحة قبل الظهور .

غير أننا سمعنا في خبر منها تخيير المهدي (ع) لليهود والنصارى بين الإسلام

والقتل ، كما يفعل بسائر المشركين والملحدين في العالم . وهو الرأي الذي مال

إليه المجلسي في البحار (1)حيث نسمعه يقول : وقوله « ويض الجزية »

معناه أنه يضعها من أهل الكتاب ويحملهم على الإسلام .

وهذا أمر محتمل في التصور على أي حال ، حيث يكون ذلك من التشريعات

المهدوية الجديدة التي تختلف عن الأحكام السابقة . غير أنه مما لا يمكن الإلتزام

به بعد ظهور الأخبار بتشريع الجزية وهي الأكثر عدداً بشكل زائد .

و على أي حال، فالقضية منحصره يمن يبقى على دين اليهودية والنصرانية

و هم عدد قليل يومئذ على كل حال ، بعدما عرفنا من الفرص المتزايدة والتركيز

الكبير على نشر الدين الإسلامي في البشر أجمعين .

ص: 876


1- ج 13 ص 198 .

البابُ السادسْ في انتهاء حياة الامام المهدي (ع) وهو باب متكون من فصل واحد

نتكلم خلاله في عدة جهات :

ص: 877

ص: 878

الجهة الأولى : إن النتائج التي عرفناها فيما يخص المقام ، تتلخص في

عدة أمور :

الأمر الأول : إن مدة بقاء المهدي (ع) بعد ظهوره ، ستكون محدودة ، قد

لا تزيد على العشر سنوات . كما سبق أن رجحناه .

الأمر الثاني : ان المهدي (ع) سيمارس الحكم من حين سيطرته على العالم

إلى وفاته. ومن ثم يكون تحديد عمره حين الظهور ، تحديد لمدة حكمه .

الأمر الثالث : ان المهمة التي يتكفلها المهدي (ع) في دولته ، بعد التجاوز الأمور الإدارية هي وضع الأسس العامة لتربية البشرية من خلال الأطروحة

العادلة الكاملة . باتجاه المجتمع المعصوم .

الأمر الرابع : إن نظام المهدي (ع) سيبقى بعد وفاته ، وستستمر دولته

إلى نهاية البشرية أو قريباً من النهاية : وسنوضح هذه الجهة في القسم الآتي من الكتاب.

ومن هنا لن تكون الآن هذه الأمور . مورداً للبحث ، وإنما نتكلم عن أسلوب وكيفية موت الإمام المهدي (ع) إذا شاء اللّه عز وجل أن يلحقه بالرفيق الأعلى.

الجهة الثانية : الأخبار التي تنفع بهذا الصدد

الجهة الثانية : في الأخبار التي تنفع بهذا الصدد أخرج أبو داود(1)بسنده عن أم سلمة في حديث يقول فيه (ص) عن المهدي (ع) :

فيلبث سبع سنين ، ثم يتوفى

ويصلي عليه المسلمون .

ص: 879


1- سنن أبي داود ج 2 ص 423 .

وأخرج ابن طاوس في الملاحم والفتن (1)عن أبي سعيد الخدري : قال :

قال رسول اللّه (ص) :

أبشركم بالمهدي ... إلى أن قال :

فيكون ذلك سبع سنين أو ثمان سنين

أو تسع سنين . ثم لا خير في العيش

بعده أو قال : لا خير في الحياة بعده .

وأخرج الأربلي (2)عن أربعين الأصفهاني بسنده عن عبداللّه بن مسعود

قال : قال رسول اللّه (ص) :

لو لم يبق من الدنيا إلا ليلة لطول

اللّه تلك الليلة حتى يملك رجل من

أهل بيتي ...إلى أن قال : فيملك

سبعاً أو تسعاً ، لا خير في عيش الحياة

بعد المهدي .

وقال في البحار (3): على ما ورد عنهم صلوات اللّه عليهم فيما تقدم من

أن الحسين بن علي (ع) هو

الذي يغسل المهدي (ع) ويحكم في

الدنيا ما شاء اللّه .

وقال في إلزام الناصب (4)ملخص الإعتقاد في الغيبة والظهور ورجعة

الأئمة لبعض العلماء : ويقول فيما يقول :

ص: 880


1- ص 135 .
2- ج 3 ص 264 .
3- ج13 ص229.
4- ص190.

فإذا تمت السبعون سنة أتى الحجة

الموت فتقتله امرأة من بني تميم اسمها

سعيدة . ولها لحية كلحية الرجل بجاون

صخر من فوق سطح ، وهو متجاوز

في الطريق . فإذا مات تولى تجهيزه

الحسين (ع ) ... الخ .

الجهة الثالثة : في أن المهدي (ع ) هل يقتل ؟ ! . .

الجهة الثالثة : ان التبادر الأولي في الذهن الإعتيادي، هو أن يموت المهدي

(ع) حتف أنفه كما يموت سائر الناس . غير أنه في الإمكان الإلتفات إلى عدة

وجوه مقربة لإثبات قتله :

الوجه الأول : الخبر المرسل عن الإمام الصادق (ع) :

ما منا إلا مقتول أو شهيد . (1)

والمراد به أن الأئمة المعصومين عليهم السلام لا بد أن يخرجوا من الدنيا

بحادث تخريبي خارجي ، ولن يموت واحد منهم حتف أنفه ، بمن فيهم الإمام المهدي (ع) نفسه بحسب الفهم الإمامي له .

إلا أن هذا الخبر قاصر عن الإثبات التاريخي ، باعتباره خبرا مرسلا لم

تذكر له المصادر سنداً .

الوجه الثاني : ما أشرنا إليه في تاريخ الغيبة الصغرى (2)من الفكرة التقليدية القائلة بأن النبي (ص) والأئمة عليهم السلام قد خلقت بنيتهم الجسدية

قوية كاملة ، لا تكون قابلة للموت والتلف إلا بعارض خارجي ؛ فلو لم

56

ص: 881


1- انظر اعلام الورى ص 349 وتاريخ الغيبة الصغرى ص 230 .
2- ص 230 .

يحدث شيء على المعصوم، لكا قابلا للبقاء إلى الأبد. ولكن طقباً للقانون العام

للموت الذي أعربت عنه الآية :

«كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ » . (1)

لا بد أن يطرأ عارض خارجي كالقتل ونحوه على كل معصوم لكي يكون

هو السبب في انتهاء حياته . وهذه الفكرة تشمل الإمام المهدي (ع) بطبيعة الحال.

وقد ذكرنا في تاريخ الغيبة الصغرى(2) ما يصلح أن يكون مثبتاً لهذه

مكرة وعرفنا هناك أنها غير صالحة للإثبات . فلا يكون هذا الوجه صحيحاً .

الوجه الثالث : النص الأخير الذّي نقلناه مع الروايات عن إلزام الناصب.

فإنه يصرح بأن المهدي (ع) يموت مقتولا ويذكر طريقة موته .

وسنعرض

مضمونها ونناقشه في الجهات الآتية . والمهم الآن أنها هل تصلح دليلا على إثبات

هذه الفكرة بمجردها ، وهي أن المهدي (ع) يموت مقتولا .

والصحيح أن هذا النص غير قابل للإثبات أساساً ، لأنه ليس رواية

عن أحد المعصومين بل عن بعض العلماء ، وهذا العالم لم نعرف إسمه . ولو كان

هذا النص إشارة إلى مضامين الروايات- كما هو المضمون - فإنه يصبح

رواية مرسلة ليس لها أي سند ولا يعرف الإمام المروي عنه . على أن تلك

الروايات المشار إليها تكون - عادة – ضعيفة السند وغريبة المضامين، بشكل

تسقط معه عن الإثبات التاريخي .

هذا ، وستأتي بقية مناقشات هذا النص عند التعرض لتفاصيله.

الوجه الرابع : استبعاد أن المهدي (ع) يموت حتف أنفه ، وذكر قرائن

معينة توجب الظن أو الإطمئنان بكونه غير قابل لمثل هذا الموت خلال سبع

أو عشر سنين ، بل حتى خلال سبعين عاماً .

ص: 882


1- آل عمران:185.
2- ص 232 .

فمن ذلك قوته البدنية الموصوفة في الأخبار التي سمعناها فيما سبق ، والتي

في بعضها أنه لو مديده إلى شجرة عظيمة لقلعها ، ولو صاح بالجبال لتدكدكت،

وقد وصف بدنه بالضخامة وعظامه بالخشونة ووجهه بالحمرة ، مما يدل على

قوة بنيته إلى حد بعيد .

ومن ذلك غيبته المترامية في الطول ، بحسب الفهم الإمامي ، فان من عاش هذه القرون ، قابل لأن يعيش ردحاً طويلا آخر من الزمن.

مضافاً إلى ما سبق ان ما قلناه من أن فترات عمر الإنسان ، كالشباب والكهولة ، تنقسم في عمره بنسب معينة ، فإن كان العمر طبيعياً كالمعهود ، كانت كل فترة خمسة عشر عاماً أو عشرين مثلاً . وإن كان أطول كانت

الفترات مقسمة بنفس النسبة لكن بسنوات أكثر ، على مقدار العمر المفترض .

فقد تكون فترة الشباب خمسمئة عام مثلاً وهكذا .

فإذا علمنا ان الإمام المهدي (ع ) يظهر بعد أكثر من ألف عام وهو في

آخر الشباب ، في عمر الأربعين ، كما سمعنا من أخبار ، إذن فقد بقیت

فترات أخرى من عمره لم يمر بها بعد وهي الكهولة والشيخوخة ، ويحتاج

من خلال عمره الطويل ان يمر بنفس المقدار السابق من السنين تقريباً لكي

يستوفي هاتين الفترتين .

ومن ذلك ، ما عرفناه مفصلاً من الخبرة المعمقة التي تكون لدى الإمام

المهدي (ع ) بما فيها خبرات طبية تعود إلى أسلوب العناية بالجسم وإبقائه صحيحاً معافى إلى أكبر حد ممكن .

إلى قرائن أخرى تدعم الظن ، بأن الإمام المهدي (ع ) لن يموت بهذه

السرعة بدون حادث تخريبي خارجي . وهذه القرائن قائمة ولا نافي لها ، إلا أنها لا تعدو الظن ولا تصل إلى درجة الإثبات التاريخي بطبيعة الحال .

ص: 883

وإذا لم يم شيء من هذه الوجوه ، كان احتمال موته حتف الأنف ،

قابلاً للاثبات التاريخي ، لأنه القاعدة العامة في البشر حيث لا يوجد حادث

خارجي .

الجهة الرابعة : في أمور أخرى أشارت إليها الأخبار

الجهة الرابعة : إن الخبر الأخير الدال على كيفية مقتله عليه السلام ،

يحتوي على عدة نقاط ضعف ، غير ما سبق :

النقطة الأولى : إن الإمام المهدي عليه السلام يقتل بحادث عمدي

تخريبي ، أو بمؤامرة مدبرة ضده ، وهذا بعيد جداً ، بعد أن استطاع المهدي

(ع) تربية البشرية بشكل عام ، وإحراز الرأي العام لعدالة نظامه وعظمة

شخصه وما له من المميزات والقدرات ، الأمر الذي يخلف أفضل الاثر في

نفوس الناس وأعظم الاحترام ، مما يستبعد معه تفكير أي منهم في التآمر ضده .

وسيدرك الناس تدريجياً وبسرعة المبررات الواقعية التي قام المهدي (ع )

بموجبها بحملات القتل الكثير في أول ظهوره ، وسيعرفون أنهم قد استفادوا

من ذلك فائدة كبيرة ، إذ مع وجود أولئك المنحرفين لا يمكن إقامة العدل ولا شمول السعادة والرفاه . ومعه لن يكون لتلك الحوادث انعكاس سيء

في النفوس ليوجب تآمر البعض للاجهاز عليه عليه السلام .

ومعه يكون ما دل عليه الخبر من وجود التآمر بعيد جداً .

النقطة الثانية : يدل الخبر على أن المهدي (ع ) يقتل بجاون صخر يقع

عليه ، من أعلى وهو ماش في الطريق ، والجاون آلة قديمة لسحق الأشياء

ودقها ، كالحبوب وهو عبارة عن جسم مجوف ثقيل الوزن له فتحة من أعلاه

توضع فيه الحبوب ، ويلحق به جسم أسطواني ضخم للدق فيه . وهو قد يعمل

من الصخر وقد يعمل من الخشب .

ص: 884

واستعمال مثل هذه الآلة في العصر المهدوي القائم على العمق الحضاري

والعمق المدني معاً ، كما سبق أن برهنا ، أمر غير محتمل. كما أن وجوده على

السطح في مثل البيوت القديمة التي كان يوجد فيها ، أمر غير محتمل لثقله وقوة

الضرب فيه ، مما يوجب انهدام السطح، وإنما كان يستعمل عادة على الأرض.

وقد يخطر في الذهن : أنه في الإمكان حمل ( الجاون ) على بعض الآلات

المتطورة كما حملنا ( السيف ) على كل آلة للقتال.

وهذا أمر محتمل ، إلا أن جو الخبر ينافيه ويدل على نفيه كما هو واضح،

بخلاف مثل قولنا : إن المهدي يظهر بالسيف، فإن معناه أنه يظهر حاملا

للسلاح ، وليس في تلك الأخبار ما يدل على نفي هذا المعنى.

النقطة الثالثة : يدل الخبر على أن المرأة التي تقتله ذات لحية كلحية الرجل

وهذا المعنى له عدة محتملات كلها فاسدة ، فيكون أصل المعنى فاسداً .

الإحتمال الأول : أن يكون لهذه المرأة شعر غير قليل في مكان اللحية

حرصت على تنميته وإظهاره . وهذا ما قد يحدث لبعض النساء وإن كان نادراً.

غير أن اللحية عندئذ لا تكون كلحية الرجل ، بل لا تكون لحية إلا مجازاً ، لأن

المناطق الخالية من الشعر كثيرة جداً ، فهي أشبه بلحية الرجل الأحص أو

الأكوس ، لا بلحية الرجل الطبيعي ؛ مع أن ظاهر الخبر أنها كلحية الرجل الطبيعي

الإحتمال الثاني : أن يكون لهذه المرأة لحية كثة كلحية الرجل تماماً ،

وهذا مقطوع العدم لأنه لم يحدث في التاريخ لأي امرأة ، مما يدل على أن الجنس

الناعم مناف مع وجود مثل هذه اللحية خلقياً.

ويجيب الفكر التقليدي على ذلك : أنه ما من عام إلا وقد خص ، وقدرة

اللّه تعالى شاملة لمثل ذلك . ومن ثم توجد هذه المرأة بلحيتها لتكون هي القاتلة للإمام المهدي عليه السلام بعد ظهوره .

ص: 885

والجواب على ذلك : أنه بعد التجاوز عما قلناه من عدم قابلية الخبر

للإثبات بالرغم من أن الفكر التقليدي قائم على قبوله وقبول أمثاله تعبداً.

إن هذه المرأة لو وجدت في عصر الظهور وعاشت بين الناس وأظهرت

لحيتها ، والتفت الناس إلى هذه الظاهرة النادرة ، وكان مفكروهم وعلماؤهم

قد قرأوا في الكتب أن مثل هذه المرأة تقتل المهدي (ع) ... إذن فسوف

نتعين هذه المرأة لقتله قبل أن تقوم به بسنين ، وسوف يقع عن ذلك

كلام كثير ومناقشات وسوف يسأل المهدي (ع) نفسه عنها . وسوف يكون

للدولة تجاهها موقف معين لا نستطيع الآن أن نعرف كنهه ، وليس هو غض

النظر عنها وإهمالها بالمرة على أي حال، فقد لا تكون النتيجة تماماً كما يتوقع

الفكر التقليدي أن يكون .

الإحتمال الثالث : أن تكون هذه المرأة طبيعية الخلق كباقي النساء ، ولكنها تضع لحية على نحو الإستعارة ، على شكل ( باروكة ) تضعها على وجهها

تشبهاً بالرجل . وهذا الإحتمال له صورتان :

الصورة الأولى: أن يفترض أنه يوجد للنساء إتجاه عام لوضع اللحى

المستعارة على الذقون ، وتكون المرأة القاتلة واحدة من هؤلاء النساء .

إلا أن وجود مثل هذا الإتجاه في دولة العدل العالمية ، من غير المحتمل

أن يوجد ، بعد أن انتهت قصة ( تشبه النساء بالرجال ) بالظهور نفسه ، وتم

القضاء على جذورها بسيف المهدي. وقد كان هذا إحدى الصفات المنحرفة لمجتمع

الظلم والفساد السابق على الظهور ، فكيف يحتمل وجودها مع وجود

النظام العادل .

الصورة الثانية : إن هذه المرأة القاتلة تنفرد بوضع الباروكة ، من دون

كل النساء .

ص: 886

ولعل هذا أبعد الإحتمالات وأشدها فساداً ، إذ يكفي في نفيه أنه بذلك

تدل على نفسها وتجعل نفسها عرضة لاحتمال كونها القاتلة للإمام عليه السلام

أو أكثر من الإحتمال. وهذه ورطة تكون هذه المرأة في غنى عنها مع إهمال

استعمال الباروكة ، بل لعل فرص القتل عندئذ ستكون أكثر لو كانت شريرة

قاصدة له على كل حال .

وإذا بطلت كل المحتملات ، كان افتراض وجود اللحية لهذه اللحية

افتراض باطل ، أو أنه يفتقر إلى الإثبات على أقل تقدير.

النقطة الرابعة : يدل الخبر على أن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام

هو الذي يقوم بتجهيز الإمام المهدي (ع) ودفنه بعد موته .

وهذا افتراض يقوم على أسس تقيلدية ثلاثة

الأساس الأول : القول بالرجعة عموماً بمعنى رجوع الأئمة المعصومين

السابقين مرة أخرى إلى الدنيا ليمارسوا الحكم من جديد بعد المهدي (ع ) .

وهذا ما سوف نناقشه في الباب الآتي وسنرى أنه مما لا يمكن إثباته

إثباتاً كافياً ، بالرغم من اندفاع البعض في اندفاع البعض في تصحيحه والإلتزام به .

الأساس الثاني : وهو تطبيق من تطبيقات الرجعة ، وهو الإلتزام بأن

الذي يرجع ويمارس الحكم بعد المهدي (ع) هو الإمام الحسين عليه السلام بالخصوص

وهذا أبعد عن إمكان الإثبات التاريخي من الأساس السابق ، ولعلنا نلم بذلك في الباب الآتي .

الأساس الثالث : أن الإمام المعصوم لا يقوم بتجهيزه بعد موته إلا الإمام المعصوم. وهي فكرة تقليدية مرتكزة في بعض الأذهان إلى اليوم، بالرغم من أنه لم يقم عليها دليل كاف.

ص: 887

وحيث أن الإمام المهدي (ع) هو آخر الأئمة المعصومين الإثني عشر ، في

الفهم الإمامي ، إذن فسوف لن يوجد امام معصوم آخر يقوم بتجهيزه مالم

نقل بالرجعة ، وأن إماماً من الأئمة السابقين يعود إلى الدنيا ليقوم بهذه المهمة

و من هنا قد يجعل هذا الأساس الثالث دليلا على الرجعة نفسها .

إلا أن الصحيح أن الأساس الأول وهو الإلتزام بالرجعة على وجه الإجمال

أقوى الأسس الثلاثة دليلا ، فمن غير المحتمل أن يصلح الأساسان الآخران

کدليل عليه. لكننا سنرى في أدلة الرجعة تشويشاً واضطراباً وغرابة ، تسقطها

عن كفاية الإثبات التاريخي .

ولو أننا سلمنا بالأساس الثالث ، فلا ضرورة إلى القول بالرجعة ، لامكان

تطبيق هذه القاعدة على البديل الآخر للرجعة ، وهو أن يمارس الحكم بعد

المهدي (ع) أولياء صالحون غير الأئمة المعصومين السابقين ، كما سنوضحه في الباب التالي .

فمع شيء من التوسع في فهم هذا الأساس الثالث ، يكون خليفة المهدي

(ع) تطبيقاً من تطبيقات هذا الأساس ، لأنه معصوم بمعنى من المعاني ، على ما

سنعرف ، ولأنه خير أهل الأرض بعد المهدي (ع ) .

فلو فرضنا قيام الدليل الكافي على هذا الأساس الثالث، فهو لا يأبي عن هذه

الصورة بكل تأكيد ، ولشرح ذلك والتوسع فيه مجال آخر .

الجهة الخامسة : - من هذا الباب - : في أمور أخرى أشارت إليها

الأخبار السابقة .

الأمر الأول : ان المهدي (ع) إذا مات صلى عليه المسلمون .

وهذا أمر طبيعي بصفته إمام المسلمين ورئيسهم الأعلى ، وهم يشكلون

يومئذ الأكثرية الساحقة في العالم .

ص: 888

والذي يصلي عليه- عادة -هو خليفته ، أياً كان ، أعني سواء صح القول بالرجعة أولم يصح ، فإنه - بعد المهدي (ع) - رئيس المسلمين وخير أهل الأرض .

ويبدو أن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، لن يقوم بهذه الصلاة، لنفس

السبب الذي رفض في أول نزوله تولي إمامة الجماعة . كما انحسرت عنه

خلافة المهدي (ع) بالرغم من بقائه بعده . وهو السبب الذي أشار إليه الخبر

السابق : تكرمة اللّه هذه الأمة .

الأمر الثاني : قال الخبر الأخير : فإذا تمت السبعون أتى الحجة الموت.

يراد بهذه السبعين أن الحجة القائم المهدي (ع) يبقى في الحكم سبعين عاماً .

ولا بد أن هذا منطلق من الخبر الذي سمعناه في فصل سابق من أنه يبقى سبع

سنين ، كل سنة كعشر سنين من سنيكم هذه. إذن ، فهو يبقى سبعين سنة. وقد

سبق أن فهمنا هذا الخبر وأمثاله بشكل لا نصل معه إلى هذه النتيجة، فليراجع.

الأمر الثالث : نص أكثر من خبر واحد ، أنه لا خير في الحياة بعد

المهدي (ع) أو لا خير ، في العيش بعده .

وهو أمر صحيح كما سنذكر ، وقد اختصت به المصادر العامة دون

الإمامية ، ولكن قد يبدو للذهن منافاته مع إحدى فكرتين :

الفكرة الأولى : القول بالرجعة. فإن جود الأئمة المعصومين عليهم

السلام بعد المهدي (ع) يعني انحفاظ التطبيق على مستواه الرفيع من دون أي

خلة أو نقص ، فيكون الخير في العيش بعد المهدي (ع) موجوداً .

ولعله لهذا لم يتبيّن الفكر الإمامي التقليدي مثل هذه العبارة . وخاصة وهو

يؤمن أن الأئمة المعصومين من نور واحد ولهم قابليات متماثلة وآراء مشتركة

ص: 889

لا يختلف أولهم عن آخرهم. فإذا وجد الحسين (ز) بعد المهدي (ع) أمكن

أن يأخذ بزمام القيادة الإسلامية ، تماماً كالمهدي (ع) .

ولا يحول دون ذلك سوى احتمال واحد من احتمالين ذكر ناهما في التاريخ السابق (1)وهو أن يكون المهدي (ع) أفضل ممن سبقه من الأئمة (ع) أو من

أكثرهم على الأقل . وقد سمعنا هناك الأخبار الدالة على ذلك والمبررات

الكافية له . إذ يكون الفرق بين القيادتين كافياً في صدق هذه العبارة : لا خير

في الحياة بعده.

الفكرة الثانية : القول بوجود المجتمع المعصوم . فإن وجوده يعني وجود

الخير كله بعد المهدي (ع) لا أنه لا خير في الحياة بعده .والصحيح صدق هذه العبارة حتى مع القول بوجود هذا المجتمع . إذ

سيأتي في الباب التالي أن القيادة التي ستخلف المهدي (ع) هي قيادة الأولياء الصالحين وليس الأئمة المعصومين عليهم السلام .

كما أن المجتمع المعصوم سوف

لن يوجد بسرعة وسهولة ، بل سيتأخر كثيراً بعد وفاة الإمام المهدي (ع) .

فإذا التفتنا إلى ذلك استطعنا أن نعرف أن هناك فترة من الزمن هي التي تلي

وفاة الإمام المهدي (ع) يشعر فيها المجتمع العالمي بكل وضوح الفرق بين

القيادتين، وهو فرق كبير مهما أرادت القيادة الجديدة أن تبذل من الجهود ومهما

استطاعت أن تنتج من النتائج. فإن المجتمع سيرى الفرق الكبير بين القيادة

المهدوية التي عاصرها وسعد تحت لوائها وشاهد مميزاتها، وبين القيادة الجديدة

كل ما في الأمر أن هذه القيادة ستستطيع بالتدريج البطيء وتحت القواعد المهدوية

العامة لتربية البشرية ، الوصول بالبشرية إلى المجتمع المعصوم .

فهذا الجيل المعاصر لقيادة الإمام المهدي (ع) ، سيقول عند وفاته بكل

تأكيد : أنه لا أنه لا خير في الحياة بعده .

ص: 890


1- ص 512 .

القسم الثالث العالم بعد المهدي عليه السلام

وهو ينقسم إلى بابين :

ص: 891

ص: 892

البابُ الأول قيادة ما بعد المهدي (ع)

من حيث خصائص الدولة والمجتمع

و نتكلم عن ذلك في فصل واحد ذو عدة عناوين داخلية :

ص: 893

ص: 894

قيادة ما بعد المهدي (ع)

وأعني به نوعية الحاكم الأعلى الذي يتولى رئاسة الدولة العالمية العادلة

بعده عليه السلام .

ونواجه بهذا الصدد أطروحتين رئيسيتين :

الأطروحة الأولى: القول بالرجعة ، أي الإلتزام برجوع الأئمة المعصومين

عليهم السلام إلى الدنيا ليمارسوا الحكم بعد المهدي عليه السلام .

الأطروحة الثانية : حكم الأولياء الصالحين بعد المهدي عليه السلام.

وقد ورد في إثبات كل من الأطروحتين عدد من الأخبار ، لا بد من سماع

المهم منها . وعرضها على القواعد والقرائن العامة ، لنختار في النهاية إحدى

الأطر وحتين .

القول بالرجعة :

حين ننظر إلى هذا المفهوم على سعته، يحتمل أن يكون له أحد عدة معان :

المعنى الأول : ظهور المهدي (ع) نفسه ، فإنه قد يصطلح عليه بالرجعة،

باعتبار رجوعه إلى الناس بعد الغيبة ، أو باعتبار رجوع العالم إلى الحق والعدل بعد الإنحراف .

وهذا المعنى حق صحيح، إلا أن اصطلاح الرجعة عليه غيرصحیح . لأنه

يوهم المعاني الأخرى الآتية التي هي محل الجدل والنقاش، ونحن في غنى عن هذا

ص: 895

الإصطلاح بعد إمكان التعبير عن ظهور المهدي (ع) بمختلف التعابير . وقد

مشينا في هذا الكتاب على تسميته ب- ( الظهور) .

المعنى الثاني : رجوع بعض الأموات إلى الدنيا ، وإن لم يكونوا من

الأئمة المعصومين عليهم السلام . وخاصة من محض الإيمان محضاً ومن محض

الكفر محضاً .

المعنى الثالث : رجوع بعض الأئمة المعصومين (ع) كأمير المؤمنين علي

عليه السلام والحسين . وربما قيل برجوع النبي (ص) أيضاً . وهم يرجعون

على شكل يختلف عن حال وجودهم الأول في الدنيا من حيث الترتيب ومن حيث الفترة الزمنية أيضاً .

المعنى الرابع : رجوع كل الأئمة عليهم السلام بشكل عكسي ، ضد الترتيب الذي كانوا عليه في الدنيا ، فبعد المهدي (ع) يظهر أبوه الإمام الحسن

العسكري (ع) و بعده يظهر أبوه الإمام علي الهادي (ع) وهكذا . ويمارسون

الحكم في الدنيا ما شاء اللّه تعالى حتى إذا وصل الحكم إلى أمير المؤمنين

(ع) کان هو دابة الأرض ، وكانت نهاية البشرية بعد موته بأربعين يوماً .

والمعنيان الأخيران ، قائمان على الفهم الإمامي للإسلام كما هو واضح.

كما أن المعاني الثلاثة الأخيرة هي التي وقعت محل الجدل والنقاش في الفكر الإسلامي

وينبغي لنا أولاً : أن نسرد الأخبار الدالة على ذلك ، ونحن نختار نماذج

مهمة ولا نقصد الإستيعاب .

أخرج المجلسي في البحار (1)بالإسناد عن محمد بن مسلم قال سمعت

ص: 896


1- البحار : ج 13 ص 210 وكذلك الاخبار الثلاثة التي بعده .

حمران بن أعين وأبا الخطاب يحدثان جميعاً - قبل أن يحدث أبو الخطاب ما

أحدث : - أنهما سمعا أبا عبداللّه (ع) يقول :

أول من تنشق الأرض عنه ويرجع

إلى الدنيا الحسين بن علي . وان الرجعة

ليست بعامة، وهي خاصة . لا يرجع

إلا من محض الإيمان محضاً أو محض

الكفر محضاً .

وبهذا الإسناد عن بكير بن أعين ، قال : قال لي من لا أشك فيه ، يعني

أبا جعفر (ع) : ان رسول اللّه (ص) وعلياً سيرجعان .

وفي رواية أخرى عن أبي عبداللّه (ع) في قول اللّه عز وجل

ويوم نحشر من كل أمة فوجاً .

فقال : ليس أحد من المؤمنين قتل

إلا سيرجع حتى يموت ، ولا أحد

من المؤمنين مات إلا سيرجع حتى

يقتل .

وفي رواية أخرى عنه عليه السلام يقول فيها :

فلم يبعث اللّه نبياً ولا رسولاً

إلاّ ردهم جميعاً إلى الدنيا حتى يقاتلوا

بين يدي علي بن أبي طالب أمير

المؤمنين عليه السلام .

57

ص: 897

وفي رواية أخرى (1)عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :

إن أول من يرجع الحاركم الحسين

عليه السلام ، فيملك حتى تقع حاجباه

على عينيه من الكبر .

وعن أبي بصير (2)عن أبي عبداللّه (ع) ، قال :

انتهى رسول اللّه (ص) إلى أمير

المؤمنين (ع) وهو نائم في المسجد ،

وقد جمع رملاً ووضع رأسه عليه .

فحركه برجله ثم قال : قم يا دابة

اللّه . فقال رجل من أصحابه : يا

رسول اللّه ، أنسمي بعضنا بعضاً بهذا

الإسم ؟ فقال : لا واللّه ما هو إلا له

خاصة ، وهو الدابة التي ذكر اللّه

في كتابه : « وَإِذا وَقَعَ القَوْلُ

عَلَيْهُم أخرجنا لَهُمْ دَابَّةٌ من

الأرْضِ تُكَلِّمُهُم ، أَنَّ النَّاس

كانوا بآياتِنَا لا يُوقِنُونَ » (3).

ثم قال : يا علي ، إذا كان آخر

الزمان أخرجك اللّه في أحسن صورة ،

ص: 898


1- المصدر : ص 211 .
2- المصدر ص 213 .
3- 82/27.

ومعك ميسم تسم به أعدائك ...

إلى أن قال : فقال الرجل لأبي عبد اللّه

(ع ) : إن العامة تزعم أن قوله :

« وَيَوْمَ نَحشُرُ من كُلّ أمة

فَوْجاً » (1)عنى في القيامة ، فقال

أبو عبد اللّه (ع ) : فيحشر اللّه يوم

القيامة من كل أمة فوجاً ويدع الباقين ؟

لا . ولكنه في الرجعة . واما آية القيامة

« وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ تُغادِرُ مِنْهُم

أحَداً » (2)

وعن (3) الحسن بن الجهم ، قال : قال المأمون للرضا (ع) : يا أبا

الحسن ما تقول في الرجعة ؟ فقال :

إنها الحق . قد كانت في الأمم

السالفة ونطق بها القرآن . وقد قال

رسول اللّه (ص) : يكون في هذه

الأمة كل ما كان في الأمم السالفة

حذوا النعل بالنعل والقذة بالقذة .

وقال (ع) : إذا خرج المهدي من

ولدي ، نزل عيسى بن مريم فصلى

خلفه . وقال (ع) : إن الإسلام

ص: 899


1- 83/27.
2- 47/18.
3- البحار ج 13 ص 214 .

بداً غريباً وسيعود غريباً ، فطوبى

للغرباء . قيل : يا رسول اللّه ، ثم

يكون ماذا ؟ قال : ثم يرجع الحق

إلى أهله .

وعن (1)عبداللّه بن سنان ، قال : قال أبو عبداللّه (ع) قال رسول

اللّه (ص) :

لقد أسرى بي ربي عز وجل ،

فأوحى إلي من وراء حجاب ما أوحى

وكلمني بما كلم به ، وكان مما كلمني

به... یا محمد ، عليّ آخر من

أقبض روحه من الأئمة (ع) وهو

الدابة التي تكلمهم ...الخبر.

وفي البحار أيضاً (2) عن الإرشاد : روى عبد الكريم الخثعمي عن أبي

عبد اللّه عليه السلام قال :

إذا آن قيام القائم مطر الناس

جمادى الآخرة وعشرة أيام من

رجب ، لم تر الخلائق مثله . فينبت

اللّه به لحوم المؤمنين وأبدانهم في

قبورهم ، وكأني أنظر إليهم مقبلين

ص: 900


1- المصدر : ص 217 .
2- المصدر : ص 223 .

من قبل جهينة ، ينفضون شعورهم

من التراب .

وقال المجلسي بعد سرده للأخبار :

اعلم يا أخي أني لا أظنك ترتاب

بعدما مهدت وأوضحت لك في القول

بالرجعة التي أجمعت الشيعة عليها في

جميع الأعصار واشتهرت بينهم

كالشمس في رابعه النهار ... وكيف

يشك مؤمن بحقية الأئمة الأطهار فيما

تواتر عنهم من مأتي حديث صريح ،

رواها نيف وأربعون من الثقات

العظام والعلماء الأعلام ، في أزيد من

خمسين من مؤلفاتهم . ثم عدهم المجلسي

واحداً واحداً.

وهذا الكلام من المجلسي يواجه عدة مناقشات :

المناقشة الأولى : ان إجماع الشيعة وضرورة المذهب عندهم ، لم تثبت

على الإطلاق، بل المسألة عندهم محل الخلاف والكلام على طول الخط .

والمتورعون منهم يقولون : أن الرجعة لبست من أصول الدين ولا من فروعه

ولا يجب الإعتقاد فيها بشيء بل يكفي إيكال علمها إلى أهله. فهل في هذا

الكلام - وهو الأكثر شيوعاً - اعتراف بالرجعة .

وإنما اعترف من اعترف بالرجعة وأخذ بها ، نتيجة لهذه الأخبار التي

ادعى المجلسي تواترها ، إذن، فالرأي العام المتخذ حولها - ولا أقول الإجماع -

ص: 901

ناتج من هذه الأخبار ، ولا يمكن أن تزيد قيمة الفرع على الأصل .

المناقشة الثانية : أنه من الواضح أن مجرد نقل الرواية لا يعني الإلتزام بمضمونها

والتصديق بصحتها ، من قبل الناقل أو الراوي . إذن فهؤلاء الأربعون

الناقلون لهذه الروايات لا يمكن أن نعدهم من المعترفين بالرجعة .

المناقشة الثالثة : أن هؤلاء الرواة الإثنين والأربعون الذين عددهم المجلسي

لم يجتمعوا في جيل واحد . فلو رويت أخبار الرجعة من قبل أربعين شخصاً في

كل جيل حتى يتصل بزمن المعصومين عليهم السلام ، لكانت أخبار الرجعة

متواترة . ولكن يبدو من كلام المجلسي نفسه ، وهو أوسع الناس إطلاعاً

في عصره ، أن مجموع الناقلين لأخبار الرجعة من المؤلفين في كل الأجيال

الإسلامية إلى حين عصره لا يعدو النيف والأربعين راوياً . فلو أخذنا

المعدل وهو عملية لا مبرر لها الآن ، لرأينا أنه يعود إلى كل جيل حوالي

أحد عشر مؤلفاً ، لأن المجلسي عاش في القرن الحادي عشر الهجري . وهو عدد

لا يكفي للتواتر .

المناقشة الرابعة : إن عدداً من المؤلفات التي ذكرها المجلسي ، لم تثبت

عن مؤلفيها ، أو لم تصلنا عنهم بطريق صحيح مضبوط ، أو أن روايته عن

مؤلفه ضعيفة أساساً. كتفسير علي بن إبراهيم، وكتب أخرى لا حاجة إلى تعدادها.

المناقشة الخامسة : إن الروايات التي نقلها هؤلاء، ليست كلها صريحة

وواضحة ، وسنعرف عما قليل أنها مشوشة قد لا تدل على الرجعة أصلا وقد

تدل على الرجعة بالمعنى العام المشترك بين الإحتمالات الثلاثة السابقة ، وقد تدل

على واحد منها بعينه وتنفي الإحتمالات الأخرى . وهكذا .

إذن ، فالتواتر المدعى ليس له مدلول معين ، ومعنى ذلك : أن الأخبار لم

تتواتر على مدلول بعينه. وسنحاول إيضاح هذه النقطة أكثر .

ص: 902

ومعه ، فكلام المجلسي يحتوي على شيء من المبالغة في الإثبات على أقل تقدير

وأما مناقشات مداليل الأخبار ، فنشير إلى المهم منها :

المناقشة الأولى : عدم اتحاد الأخبار بالمضمون. فإن مداليلها مختلفة اختلافاً

شديداً . حتى لا يكاد يشترك خبران على مدلول واحد تقريباً .

والمداليل التي تعرب عنها الأخبار عديدة :

المدلول الأول : رجوع من محض الإيمان محضاً ورجوع من محض

الكفر محضاً .

المدلول الثاني : رجوع كل مؤمن على الإطلاق . لأنه إن كان قد مات

فهو يرجع ليقتل ، وإن كان قد قتل فيرجع ليموت .

المدلول الثالث : رجوع الأنبياء جميعاً .

المدلول الرابع : رجوع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم . المدلول الخامس : رجوع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .

المدلول السادس : رجوع الحسين بن علي عليهما السلام .

المدلول السابع : رجوع جماعة من كل أمة .

المدلول الثامن : رجوع عدد من المؤمنين في الجملة.

المدلول التاسع : رجوع بعض الأئمة المعصومين عيلهم السلام إجمالا.

المدلول العاشر : رجوع الحق إلى أهله ، وهو ليس قولا بالرجعة كما

عرفنا.

وليس شيء من هذه المداليل متواتر في الأخبار بكل تأكيد.

نعم ، هناك مدلول مشترك إجمالي بين الأخبار الدالة على المداليل التسعة

ص: 903

الأولى . وهو رجوع بعض الأموات إجمالا إلى الدنيا قبل يوم القيامة . وهو

ما تتسالم عليه كثير من الأخبار. ومن هنا يكون قابلا للإثبات ، إلا أنه لا

ينفع القائلين بالرجعة ، على ما سنقول .

المناقشة الثانية : إن الإلتزام بصحة المداليل التسعة جميعاً ، أي القول بصحة

الرجعة على إطلاقها ، مما لا يمكن ، لضعف الأخبار الدالة على كثير منها.

وأما الإلتزام بها إجمالا، بالمعنى الذي أشرنا إليه ، فهو لا ينفع القائلين

بالرجعة ، لأن القول بالرجعة من الناحية الرسمية يتضمن أحد المعاني الثلاثة

التي ذكرناها في أول هذا الفصل . وهذا المعنى الإجمالي لا يعين ولا واحداً

منها ، بل ينسجم مع افتراضات أخرى كما هو واضح.

فهي لا تتعين في حدوثها بعد وفاة المهدي (ع) مباشرة ، ولا أنها على

نطاق واسع. ولا تتعين في أحد المعصومين (ع) ولا من محض الإيمان محضاً،

و لا غير ذلك .

نعم ، هناك مداليل تتكرر في الأخبار ، واوضحها رجوع الإمام أمير

المؤمنين (ع) بصفته دابة الأرض التي نص عليها القرآن الكريم . ان هذه

الداليل لا ترد عليها هذه المناقشة ، وهي قابلة للإثبات من زاويتها .

المناقشة الثالثة : ان القول بالرجعة يتخذ سمة عقائدية ، فإنه على تقدير صحته يعتبر أحد العقائد - وإن لم يكن من أصولها - وليس هو من الفروع

والتشريعات على أي حال . وقد نص علماء الإسلام بأن العقائد لا تثبت

بخبر الواحد وإن كان صحيحاً ومتعدداً ، ما لم يبلغ حد التواتر ، وقد علمنا

أن الأخبار في المداليل التسعة والمعاني الثلاثة غير متواترة . فلا تكون الأخبار

قابلة لإثبات أي منها حتى لو كان المضمون متكرراً في الأخبار ، ما لم يصل

إلى حد التواتر .

ص: 904

وأما المضمون الإجمالي المتواتر ، فقد عرفنا أنه لا ينفع القائلين بالرجعة،

وسنزيد هذا إيضاحاً .

المناقشة الرابعة : ان المعنى الأخير من المعاني الأربعة التي ذكرناها أولا،

وهو رجوع الأئمة المعصومين عليهم السلام بشكل عكسي . لعله من أکثر

أشكال الرجعة تقليدية ورسوخاً في الأذهان المعتقدة بها . وقد وجدنا أنه ليس

هناك ما يدل عليها على الإطلاق ولا خبر واحد ضعيف بل ليس هناك أي خبر

يدل على رجوع جميع الأئمة المعصومين على التعيين ، ولو بشكل مشوش ،

إلا بحسب إطلاقات أعم منهم بكثير ، ككونهم ممن محض الإيمان محضاً..

بل أن هناك ما يدل على نفي هذا المعنى التقليدي ، كقوله في الخبر : أول

من تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي . . . فإنه لو صح ذلك

لكان أول من يرجع هو الإمام الحسن العسكري عليه السلام وليس الحسين

عليه السلام .

وأما دلالة القرآن الكريم على الرجعة : فاما أن نفهمه على ضوء

الأخبار المفسرة له ، واما أن نفهمه مستقلا .

أما فهمه على ضوء الأخبار ، وهو باستقلاله غير ظاهر بذلك المعنى ،

فهذا لا يعدو قيمة الخبر الدال على هذا الفهم، ويواجه نفس الإشكالات التي

واجهناها في الأخبار. ومن ثم يكون من اللازم الإستقلال في فهم الآيات .

وإذا نظرنا إلى الآيات المذكورة للرجعة ، وجدنا لكل منها معنى مستقلا

لا يمت إلى الرجعة بصلة ، حتى بذلك المعنى الإجمالي العام ، أي أنها لا تدل

على إحياء بعض الموتى قبل يوم القيامة ، ولا أقل من احتمال ذلك المسقط لها

عن الإستدلال على الرجعة .

ص: 905

وقد استدل البعض بأكثر من ثلاثين آية في هذ الصدد ، وهو تطرف

و مبالغة في الإستدلال بكل تأكيد ، وإنما نود أن نشير هنا إلى ثلاث آيات فقط

تعتبر هي الأهم بهذا الصدد، لنرى مقدار دلالتها على الرجعة :

الآية الأولى : قوله تعالى :

«قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ

وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا

بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ

سَبِيلٍ ».(1)

وطريقة فهم الرجعة منها : أن الآية تشير إلى حياتين وموتين للناس.

ونحن لا نعرف إلا حياة واحدة وموتاً واحداً ، فأين الثاني منهما ؟ وجوابه :

ان ذلك إنما يكون في الرجعة فإنها تتضمن حياة ثانية وموتاً بعدها ، فإذا

أضفناها إلى الحياة المعاصرة والموت الذي يليها ، كان المجموع إثنين إثنين .

غير أن هذا الفهم إنما يكون صحيحاً بأحد أسلوبين :

الأسلوب الأول : أن تصح الأخبار الدالة عليه . وقد عرفنا مناقشاتها .

الأسلوب الثاني: أن يكون فهماً منحصراً ، بحيث لا يوجد مثله أو أظهر

منه في سياق الآية . فإن وجد ذلك ، لم يمكن الإعتماد على هذا الفهم .

وهذه الآية تتضمن معاني محتملة غير الرجعة .

المعنى الأول : أن يكون الموت الأول يشير إلى ما قبل الميلاد ، حال

وجود النطفة مثلا . وأن تكون الحياة الثانية هي الحياة في يوم القيامة . فإذا

أضفناهما إلى الحياة والموت المعهودين كانا كما قالت الآية الكريمة .

ص: 906


1- 11/40.

المعنى الثاني: أن يكون المشار إليه هو حياة وموت آخر يكون في

داخل القبر لأجل الحساب والسؤال . كما ثبت في الإسلام وقوعه .

المعنى الثالث : أن يكون المشار إليه هو حياة وموت آخر يكون في عالم

البرزخ أي أن الميت يحيى بعد موته إلى عهد قريب من يوم القيامة . ثم

يموت بنفخة الصور الأولى حين يصعق من في السماوات والأرض . وأما

الاحياء ليوم القيامة فهو زمن التكلم وكأنه غير داخل في الحساب .

إلى معاني أخرى محتملة . ولعل أكثرها ظهوراً هو المعنى الأول ، دون

معنى الرجعة والمعاني الأخرى . فلا تكون الآية دالة على الرجعة بحال .

ولعل أوضح ما يقرب المعنى الأول على معنى الرجعة، هو أن المعنى الأول

عام لكل الناس ، والرجعة خاصة ببعضهم ، وظهور الآية هو العموم .

الآية الثانية : قوله تعالى :

«وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ

أُمَّةٍ فَوْجًا »(1) .

وقد أشار أحد الأخبار التي سمعناها إلى طريقة فهم الرجعة من هذه الآية.

ان اللّه تعالى يخشر في يوم القيامة الناس جميعاً ، لا أنه يحشر بعضاً ويدع بعضاً :

وهو المشار إليه في قوله تعالى« وحشر ناهم فلم تغادر منهم أحداً».

وما دامت الآية التي نتكلم عنها تشير إلى حشر الممس دون الكل «من كل أمة

فوجاً » أذن فهي لا تشير إلى حشر يوم القیامة لا تشير إلى وإنما تشير إلى حشر آخر هو

ص: 907


1- 83/27.

الحشر في الرجعة . وإنما سمي حشراً باعتبار أنه يتضمن الحياة بعد الموت

لجماعات كثيرة ، مشابهاً من هذه الجهة لحشر يوم القيامة .

ونحن إذا نظرنا إلى الآية الكريمة باستقلالها ، لم نجدها دالة على الرجعة بحال

ولا أقل من احتمال معنى آخر بديل لمعنى الرجعة ، لا تكون الآية دالة عليه

أقل من دلالتها على معنى الرجعة .

وهذا المعنى هو الحشر التدريجي . فإن الحشر والحساب في يوم القيامة

له أحد أسلوبين محتملين :

الأسلوب الأول : الحشر الدفعي أو المجموعي . بمعنى أن يحشر الناس

كلهم من أول البشرية إلى آخرها سوية ، ويحاسبون على أعمالهم .

وهذا هو المركوز في الأذهان عادة، غير أنه ليس في القرآن ما يدل عليه،

وترد عليه بعض المناقشات لسنا الآن في صددها .

الأسلوب الثاني : الحشر التدريجي، جيلا بعد جيل أو ديناً بعد دين أو

مجموعة بعدد معين بعد مجموعة وهكذا . وحتى يتم حساب الدفعة الأولى

تحشر الدفعة الثانية وهكذا .

فقد تكون الآية التي نحن بصددها دالة على هذا الأسلوب من الحشر .حيث

يقول : « ويوم نحشر من كل أمة فوجاً » . لان حشر الجيل الواحد يتضمن أن

يعود إلى الحياة جماعة من كل مذهب ودين : « من كل أمة» كما كان عليه

الحال في الدنيا . وهو لا يريد إهمال الآخرين ، بل هو يشير إلى دفعة واحدة

من الحشر التدريجي ، وأما الدفعات الأخرى فيأتي دورها تباعاً . ولن تكون

مهملة بدليل قوله تعالى : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً « أي أن الحشر

التدريجي سيستوعب في النتيجة كل البشرية من أولها إلى آخرها .

ص: 908

إذن ، فكلتا الآيتين تشير ان إلى يوم القيامة ، ولا تمت إلى الرجعة بصلة،

ولا أقل من احتمال ذلك بحيث تكون دلالتها على الرجعة غير ظاهرة .

«وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ

أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ

تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا

بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ ».(1)

وطريقة دلالتها على الرجعة بأحد أسلوبين :

الأسلوب الأول : ان حادثة خروج دابة الأرض تكون عند الرجعة .

فهي تخرج مع الراجعين لتقوم بوظيفتها بينهم .

إلا أن هذا الأسلوب غير صحيح بكل وضوح ، لأن الآية لا تشير إلا

إلى خروج دابة الأرض ، وأما أنها تخرج في جيل طبيعي أو في جيل الرجعة ،

فهذا ما لا تشير إليه الآية إليه بحال .

الأسلوب الثاني : أنها تشير إلى رجعة دابة الأرض نفسها ، أعني حياتها بعد الموت ،

فهي تشير إلى رجعة شخص واحد لا أكثر. وإذا أمكن ذلك في شخص أمكن في عديدين.

وهذا يتوقف على أن نفهم من « دابة الأرض » أنها إنسان سبق له أن

عاش في هذه الحياة . وفي الآية قرينة على بشرية هذه الدابة وهي قوله :

«تكلمهم فإن الكلام يكون من البشر دون غيره . ويتوقف على أن نفهم من قوله « أخرجنا » معنى : : أرجعنا إلى الحياة بعد الموت ، لا أن هذا الإنسان

ص: 909


1- 82/27.

يولد في حينه . وقد يجعل قوله تعالى : « ان الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون »

دليلا على ذلك ، لأن الآية إنما تكون بالرجوع بعد الموت ، وأما لو كان

يولد في زمانه ، لما حدثت الآية ، وقد قامت الأخبار التي سمعنا طرفاً منها،

بتعيين هذا الإنسان بالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

والإنصاف أن فكرة الأسلوب الثاني هي المستفادة من الآية الكريمة .

فدابة الأرض هو إنسان بعينه ، وقوله أخر جنادال على الإيجاد غير الطبيعي لا

على مجرد الولادة. إذن ، فالآية الكريمة دالة على رجعة هذا الإنسان .

غير أنها لا تدل على أي معنى آخر للرجعة ، لا العام ولا الخاص ، ومن

المحتمل بل المؤكد أن هناك مصلحة في حكمة اللّه تعالى لرجوع دابة

الأرض ، لا تتوفر في أي بشري آخر ، ومعه لا يمكن القول بالتعميم منه إلى

رجعة أي شخص آخر . ومجرد الإمكان في قدرة اللّه تعالى ، وهو مما لا شك

فيه ، لا يدل على الوقوع الفعلي .

وإذا وصلنا إلى هذه النتيجة ، استطعنا أن نستنتج ننتيجة أخرى مهمة ،

هي التوحيد بين مدلول القرآن ومدلول الأخبار. فإننا عرفنا أن الأخبار لا

يمكنها أن تثبت إلا المعنى الإجمالي الذي تواترت الأخبار عليه ، وهو رجوع

بعض الأموات إلى الحياة قبل يوم القيامة ، بشكل يناسب أن يكون هذا الراجع

واحداً لا أكثر. وهذا صالح للإنطباق على ما دل عليه القرآن الكريم من

رجعة دابة الأرض . فإن هذا المعنى الإجمالي لم يثبت انطباقه بدليل كاف

إلا على دابة الأرض فيتعين فيه ، بعد ضم الدليلين إلى بعضهما .

ومعه في الإمكان القول : ان المقدار الثابت في السنة الشريفة ، ليس أكثر

مما دل عليه القرآن الكريم . كما أن ما دل عليه القرآن هو بعينه ما ثبت في السنة.

ومعه ، فلم يثبت أي معنى من معاني الرجعة ولا احتمالاتها السابقة ،

ص: 910

وإنما لا بد لنا كمسلمين ، أن نتعبد بخروج دابة الأرض التي نطق بها القرآن

الكريم . وفي الإمكان أن نسمي ذلك بالرجعة إلا أنه على خلاف اصطلاحهم.

فهذا هو نبذة الكلام حول الرجعة .

حكم الأولياء الصالحين :

أخرج الشيخ في الغيبة (1)بسنده عن أبي حمزة عن أبي عبداللّه (ع)

- في حديث طويل - أنه قال :

يا أبا حمزة ، ان منا بعد القائم

أحد عشر مهديا .

وأخرج أيضاً (2)بإسناده إلى جابر الجعفي ، قال :

سمعت أبا جعفر (ع ) يقول :

واللّه ليملكن منا أهل البيت رجل

بعد موته ثلاثمائة سنة . قلت : متى

يكون ذلك ؟ قال : بعد القائم.

قلت : وكم يبقى القائم في عالمه ،

قال : تسع عشر سنة ثم يخرج

المنتصر فيطلب بدم الحسين (ع)

ودماء أصحابه ، فيقتل ويسبي ، حتى

يخرج السفاح .

ص: 911


1- ص 285 .
2- ص 286 .

وأخرجه النعماني في الغيبة (1)إلى قوله :

تسع عشر سنة . إلا أنه قال :

ثلاثماءة سنة ويزداد تسعاً .

وأخرج في البحار (2)نقلا عن غيبة الشيخ عن أبي عبد اللّه الصادق (ع)

عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام ، قال :

قال رسول اللّه (ص) في الليلة

التي كانت فيها وفاته ، لعلي : يا

أبا الحسن ، احضر صحيفة ودواة .

فأملى رسول اللّه (ص) وصيته حتى

انتهى ( إلى ) هذا الموضع . فقال :

يا علي ، انه سيكون بعدي اثنا عشر

إماماً ومن بعدهم اثني عشر مهدياً .

فأنت يا علي أول الإثنا عشر إمام ...

وساق الحديث ، إلى أن قال : وليسلمها

الحسن ( يعني الإمام العسكري عليه السلام ) إلى ابنه محمد المستحفظ

من آل محمد صلى اللّه عليه وعليهم .

فذلك اثني عشر إماماً . ثم يكون من

بعده اثنا عشر مهدياً . فإذا حضرته

الوفاة فليسلمها إلى ابنه أول المهديين

ص: 912


1- ص 181 .
2- ج 13 ص 237 . وانظر غيبة الشيخ .

( المقربين : نسخة الغيبة ) . له ثلاثة

أسامي : اسم كاسمي واسم أبي ،

وهو عبد اللّه ، وأحمد ، والإسم

الثالث : المهدي ، وهو أول

المؤمنين .

وفي عدد من الأدعية الواردة في المصادر الإمامية الدعاء لهؤلاء الأولياء

الصالحين والسلام عليهم بعد الدعاء للمهدي (ع) والسلام عليه .

ففي بعض الأدعية المكرسة للدعاء للمهدي (ع) والثناء عليه ، يقول

في آخره :

اللهم صل على ولاة عهده والأئمة

من بعده ، وبلغهم آمالهم وزد في

آجالهم ، واعز نصرهم وتمم لهم ما

أسندت إليهم من أمرك لهم وثبت

دعائمهم ، واجعلنا لهم أعواناً وعلى

دينك أنصاراً ... الخ الدعاء . (1)

وفي دعاء آخر يذكر فيه المهدي (ع) ويثنى عليه طويلا ، ويقال في آخره:

وصل على وليك وولاة عهدك والأئمة من ولده ، ومد في أعمارهم وزد في

آجالهم، وبلغهم أقصى آمالهم ديناً ودنيا وآخرة ، انك على كل شيء قدير . (2)

إلى غير ذلك من الأدعية .

58

ص: 913


1- مفاتيح الجنان المعرب ص 542 .
2- المصدر ص 53 .

هذا ، وقد حاول المجلسي في البحار (1) أن يرفع التنافي بين هذه الأخبار

من حيث كونها دالة على إيكال الرئاسة العليا بعد المهدي (ع) إلى غير الأئمة

المعصومين عليهم السلام ، وبين القول بالرجعة الذي يقول : بإيكال الرئاسة إلى

الأئمة المعصومين أنفسهم . حيث قال : هذه الأخبار مخالفة للمشهور - يعني

القول بالرجعة - وطريق التأويل أحد وجهين :

الأول : أن يكون المراد بالاثني عشر مهدياً : النبي (ص) وسائر الأئمة

سوي القائم (ع ) ، بأن يكون ملكهم بعد القائم...

والثاني : أن يكون هؤلاء المهديون من أحباء القائم هادين للخلق في زمن

سائر الأئمة الذين رجعوا ، لئلا يخلو الزمان من حجة . وإن كان أوصيا الأنبياء و ( أوصياء ) الأئمة حججاً أيضاً . واللّه تعالى يعلم .

وقال الطبرسي في أعلام الورى (2) : وجاءت الرواية الصحيحة بأنه

ليس بعد دولة القائم دولة لأحد ، إلا ما روي من قيام ولده إن شاء اللّه ذلك .

ولم ترد به الرواية على القطع والثبات . وأكثر الروايات انه لن يمضي – يعني

المهدي القائم (ع ) - من الدنيا إلا قبل القيامة بأربعين يوماً ، يكون فيها

الهرج .

هذا ما قالته المصادر الإمامية . ولم نجد لدولة ما بعد المهدي في المصادر

العامة أي أثر .

ونود أن نعلق أولا على كلام المجلسي . انه يعترف سلفاً ان كلا الوجهين

نحو من أنحاء التأويل .

والتأويل دائماً خلاف الظاهر ، فلا يصار إليه إلا عند

الضرورة ، ولا يكفي مجرد الإمكان أو الاحتمال لإثباته .

ص: 914


1- ج 13 ص 237 .
2- ص 435 .

وعلى أي حال ، فالوجه الأول حاول فيه المجلسي على أن يقول : أن

الأولياء الاثني عشر بعد المهدي (ع ) هم الأئمة المعصومون الاثنا عشر

أنفسهم ، فترتفع المعارضة بين روايات الأولياء وروايات الرجعة . ويكون المراد منهما معاً الأئمة المعصومين أنفسهم .

إلا أن هذا الوجه قابل للمناقشة من وجوه ، نذكر منها اثنان :

الوجه الأول : إن عدداً من روايات الأولياء التي سمعناها ، تنص على أن

الأولياء الاثني عشر من ولد الإمام المهدي (ع ) . قال في أحد الأخبار :

«ثم يكون من بعده اثنا عشر مهدياً بعده اثنا عشر مهدياً ، فإذا حضرته الوفاة - يعني المهدي

(ع ) - فليسلمها إلى ابنه أول المهديين » . وقال في الدعاء « والأئمة من

ولده » . مع أن الأئمة المعصومين السابقين هم آباء الإمام المهدي (ع )

بكل وضوح .

الوجه الثاني : إننا لم نجد - كما عرفنا - دليلاً كافياً على عودة الأئمة

الاثنا عشر كلهم ، لا بشكل عكسي ولا بشكل مشوش ، وإنما نص فقط

- بعد النبي ( ص ) - على أمير المؤمنين عليه السلام وابنه الحسين عليه السلام .

وإذا لم يثبت رجوع الأئمة الإثنا عشر جميعاً كيف يمكن حمل هذه

الأخبار عليه .

وأما الوجه الثاني : الذي ذكره المجلسي ، فيتخلص في الإعتراف بوجود

الأئمة المعصومين (ع) والأولياء الصالحين في مجتمع ما بعد المهدي (ع) ،

متعاصرين. ولكن الحكم العام سيكون للمعصومين (ع). وأما الأولياء فسيكونون

هداة عاملين في العالم من الدرجة الثانية . وبذلك يرتفع التعارض بين الروايات.

وأوضح ما يرد على هذا الوجه هو أن روايات الأولياء ، صريحة

ص: 915

بمباشرتهم للحكم على أعلى مستوى ، بحيث يكون التنازل عن هذه الدلالة

تأويلا باطلا . كقوله : «ليملكن منا أهل البيت رجل » وقوله : « فإذا حضرته الوفاة، فليسلمها - يعني الإمامة ، أو الخلافة - إلى إبنه أول المهديين » قوله : « اللهم صل على ولاة عهده والأئمة من بعده » ونحوه في الدعاء الآخر .

ويحتوي كلام المجلسي في الوجه الثاني على استدلال ضمني على الرجعة

مع جوابه . وملخص الإستدلال : أنه ثبت في الفكر الإسلامي أن الأرض

لا تخلو من حجة باستمرار ما دام للبشرية وجود ، حتى لو كان إثنان كان

أحدهما الحجة على صاحبه . ولكن الأرض بعد الإمام المهدي (ع) ستخلو

من الحجة ، ما لم نقل بالرجعة ، ليرجع الأئمة المعصومون عليهم السلام

ليكونوا هم الحجج بعده ، تطبيقاً لهذه القاعدة .

إلا أنه من حسن الحظ أن يكون المجلسي نفسه قد أجاب على ذلك ،

وملخص الجواب : إننا لا نحتاج إلى القول بالرجعة كتطبيق لتلك القاعدة

بل ان حكم الأولياء الصالحين تطبيق لها أيضاً ، قال المجلسي لأن « أوصياء الأنبياء و ( أوصياء ) الأئمة حجج أيضاً » فالأض تكون مشغولة بهم بصفتهم

أوصياء للأئمة عليهم السلام ، فلا تكون خالية من الحجة .

ومعه لا تكون هذه القاعدة مثبتة للرجعة ، ولا منافية مع حكم الأولياء

الصالحين .

وأما تعليقنا على كلام الطبرسي ، فهو ان ما ذكره من أن ما روي من

قيام ولد المهدي (ع) بعده ، لم يرد على القطع واليقين ، أمر صحيح

لأن الروايات الدالة على حكم الأولياء الصالحين ليست متواترة . ولكننا

سنرى أنها صالحة للإثبات التاريخي، وهذا يكفينا في المقام .

ص: 916

وأما ما ذكر من أنه ليست بعد دولة القائم دولة لأحد ، فهو أمر صحيح

لأنه ان أريد بدولة القائم نظام حكمه ، فهو نظام مستمر إلى نهاية البشرية

تقريباً أو تحقيقاً على ما سنسمع ، وليس وراءه حكم آخر . وإن أريد به حكمه

ما دام في الحياة ، بحيث تنتهي البشرية بعده مباشرة ، فهو أمر غير محتمل لأنه

أمر تدل كثير من الروايات على نفيه ، كروايات الرجعة وروايات الأولياء

وروايات أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق وغير ذلك ، بل تدل على ذلك

بعض آيات القرآن كآية دابة الأرض بعد العلم بعدم خروجها في زمن المهدي (ع)

نفسه .

إذن ، فالبشرية ستبقى بعد المهدي (ع) والنظام سوف يستمر ، وإنما يراد

من ذلك القول : أنه ليس بعد دولة القائم دولة لأحد من المنحرفين والكافرين

على الشكل الذي كان قبل ظهوره .

وأما قوله : وأكثر الروايات أنه لن يمضى من الدنيا إلا قبل القيامة بأربعين يوماً ... فهذه الروايات سنسمعها، ومؤداها أن الحجة سيرفع

-أي يموت- قبل القيامة بأربعين يوماً. وسنرى أنه ليس المراد بالحجة شخص

الإمام المهدي بل شخص آخر ، قد يوجد بعد زمان المهدي (ع) بدهر طويل.

وبعد هذه المناقشات ، وقبل إعطاء الفهم الكامل لحكم الأولياء الصالحين،

لا بد لنا أن نجيب على هذا السؤال الذي قد يخطر في ذهن القارىء : وهو اننا

کیف استطعنا أن نعتبر روايات الأولياء كافية للإثبات التاريخي ، على حين

لم نعتبر روايات الرجعة كافية للإثبات ، مع أنها أكثر عدداً وأغزر مادة وأوضح في أذهان العديدين .

وأما من زاوية كفاية روايات الأولياء للإثبات التاريخي ، فهو واضح طبقاً

لمنهجنا في هذا التاريخ لأنها متكثرة ومتعاضدة ، وذات مدلول متشابه إلى حد بعيد.

ص: 917

وأما من زاوية معارضتها لأخبار الرجعة ، فهو واضح بعد فشل الوجهين

اللذين ذكرهما المجلسي للجمع بين الأخبار ، إذ يدور الأمر عندئذ بين أن

يكون الحكم بعد المهدي (ع) موكولا إلى المعصومين عليهم السلام أو إلى

الأولياء الصالحين .

ونحن حين نجد أن أخبار الرجعة غير قابلة للإثبات . كما عرفنا ، ونجد

أن أخبار الأولياء قابلة للإثبات ، كما سمعنا ، لا محيص لنا على الأخذ بمدلول

أخبار الأولياء بطبيعة الحال .

وبالرغم من أن مجرد ذلك كاف في السير البرهاني ، إلا اننا نود أن

نوضح ذلك بشكل أكثر تفصيلا .

إن نقطة القوة الرئسية في أخبار الأولياء المفقودة في أخبار الرجعة ، هي أن

أخبار الأولياء . ذات مضمون مشترك تتسالم عليه ، بخلاف أخبار الرجعة ،

فإنها ذات عشرة مداليل على الأقل ، ليس لكل مدلول الاعدد ضئيل من

الأخبار قد لا يزيد أحياناً على خبر واحد .

ومن هنا نقول لمن يفضل أخبار الرجعة : هل أنت تفضل أخباراً منها

ذات مدلول معين . كرجوع الإمام الحسين (ع) مثلا . أو تفضل تقديم مجموع أخبار الرجعة .

فإن رأيت تفضيل قسم معين من أخبار الرجعة ، فهي لا شك أقل عدداً

وأضعف سنداً من أخبار الأولياء ، بل وأقل شهرة أيضاً ، وكل قسم معين

منها يصدق عليه ذلك بكل تأكيد ، غير ما دل على رجوع الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام الذي سوف نشير إليه .

وإن رأيت تفضيل مجموع أخبار الرجعة على أخبار الأولياء ، إذن ، فستصبح أخبار الرجعة بهذا النظر متعارضة ومختلفة المدلول كما عرفنا . غير

ص: 918

ذلك المدلول الإجمالي العام الذي برهنا على انطباقه على خروج دابة الأرض التي

نطق بخروجها القرآن الكريم . وهو - بمنطوق الأخبار – يعني خروج علي

أمير المؤمنين عليه السلام. وهو بعيد عن أي مفهوم تقليدي للرجعة ، بل هو

ليس من الرجعة في شيء ، فإن مفهوم دابة الأرض غير مفهوم الرجعة عندهم .

وهذا المفهوم لا ينافي حكم الأولياء الصالحين ولا يعارض الأخبار الدالة

عليه ، وذلك لعدة أمور ، نشير إلى أمرين منها :

الأمر الأول : ان خروج دابة الأرض غير محدد بتاريخ ، لا في القرآن

الكريم ولا في السنة الشريفة ، ومعه فقد يحدث بعد حكم الأولياء الصالحين

بمدة طويلة .

الأمر الثاني : إن دابة الأرض سوف لن تأتي لتمارس الحكم الأعلى في

الدولة العالمية العادلة ، كما يستشعر من القرآن وتصرح به الأخبار ، بل تأتي

من أجل إعطاء الأفراد حسابهم الكامل ، فتعين منزلة كل فرد ودرجة تطبيقه

للمنهج العادل المطلوب منه . ولعلنا نوضح ذلك فيما بعد .

وإذا تم ذلك ، لم يكن خروج الدابة منافياً مع حكم الأولياء حتى لو

خرجت في زمن حكمهم ، لأن وظيفتهم في المجتمع غير وظيفتها .

وبعد ترجيح روايات حكم الأولياء الصالحين ، ينبغي لنا أن نقدم لها فهماً

متكاملا ملحقاً بالتسلسل الفكري الذي سرنا عليه في هذا الكتاب. ثم نعقبه

بدرأ ومناقشة بعض الأشكالات التي قد تخطر في الذهن في هذا الصدد .

إن الإمام المهدي (ع) لن يهمل أمر الأمة الباقية بعده ، لا لمجرد أن لا

تبقى رهن الإنحلال والضياع ، وإن كان هذا صحيحاً كل الصحة ، بل لأكثر من ذلك ، وهو ما قلناه من أن إحدى الوظائف الرئيسية للمهدي (ع)

ص: 919

بعد ظهوره هو تأسيس القواعد العامة المركزة والبعيدة الأمد لتربية البشرية

في الخط الطويل ، تربية تدريجية لكي تصل إلى المجتمع المعصوم . وهذه

التربية لا يمكن أن يأخذ بزمام تطبيقها إلا الإنسان الصالح الكامل حين يصبح

رئيساً للدولة العادلة . ومثل هذا الرجل لا يمكن معرفته لأحد غير الإمام المهدي

نفسه ولعله يولية التربية الخاصة التي تؤهله لهذه المهمة الجليلة . وأما احتمال تعيينه بالإنتخاب فهو غير وارد على ما سنقول .

ومن هنا سيقوم الإمام المهدي (ع) بتعيين ولي عهده أو خيلفته ، خلال حياته وربما في العام الأخير، ليكون هو الرئيس الأعلى للدولة العالمية العادلة بعده

والحاكم الأول لفترة « حكم الأولياء الصالحين » .

وبالرغم من أن هذا الحاكم الأول قد يكون هو أفضل الأحد عشر الآتين بعده باعتبار أنه نتيجة تربية الإمام المهدي (ع) شخصياً والمعاصر لأقواله

وأفعاله وأساليبه ، بخلاف من يأتي بعده من الحاكمين . بالرغم من ذلك فإنه

سيفرق فرقاً كبيراً عن المهدي (ع) نفسه ، إلى حد يصدق « أنه لا خير في

الحياة بعده » .

والسر في ذلك - على ما يبدو - يعود إلى أمرين رئيسيين :

الأمر الأول : ما سبق أن عرفناه من الفرق الشخصي والثقافي والنفسي

بين الإمام المهدي (ع) وخليفته ، الأمر الذي ينتج اختلافاً واضحاً في التصرفات

بينهما .

الأمر الثاني : راجع إلى الأمة نفسها أو البشرية كلها بتعبير آخر من حيث أن المجتمع مهما كان قد سار بخطوات كبيرة نحو الأمام ، في السعادة

والعدالة والتكامل ، إلا أنه لم يصل إلى درجة العصمة بأي شكل من أشكالها

التي سنشير إليها ، وبقيت هناك في أطراف العالم مجتمعات متخلفة عن الركب

ص: 920

العام ، لوجود انخفاض مدني أو حضاري جديد سابق فيها، منعها أن تكون

- مهما ارتفعت بجهود الإمام المهدي (ع) - مواكبة للإتجاه العالمي العادل العام.

إذن ، فستكون التركة العالمية ثقيلة جداً ، وتخلفات عدد من الأفراد

والمجتمعات عن تطبيق العدل ، بعد ذهاب القائد الأعلى . محتملة جداً . . .

وعدم استيعاب الكثيرين من وعيهم العقائدي لضرورة التجاوب الكلي مع

الرئيس الجديد، احتمال وارد تماماً. وخاصة وأن الأمر الأول من هذين

الأمرين سيعيشه العالم يومئذ بكل وضوح .

نعم ، لا شك أن الإمام المهدي (ع) قبل وفاته ، قد أكد وشدد ، بإعلانات

عالمية متكررة على ضرورة إطاعة خليفته وعلى ترسيخ « حكم الأولياء الصالحين »

في الأذهان ترسيخاً عميقاً . إلا أن البشرية حيث لا تكون بالغة درجة الكمال

المطلوب ، فإنها ستكون مظنة العصيان والتمرد في أكثر من مجال .

ولكن وجود هذه المصاعب لا يعني الفشل بحال ، بعد القواعد التربوية

التي تلقاها هذا الحاكم عن الإمام المهدي (ع) بكل تفصيل . ان الدولة

ستبقى مهيبه ومحبوبة للجماهير على العموم ، وستبقى تمارس التربية المركزة

باستمرار ، تماماً كما كانت عليه في عصر الإمام المهدي (ع) ، أخذاً بالمنهج

المهدوي العام .

وسيكون حكم الأولياء الصالحين، فترة تمهيدية أو انتقالية ، يوصل

المجتمع العالمي إلى عصر العصمة ، حيث يكون الرأي العام المتفق معصوماً ،

كما أشرنا في التاريخ السابق (1)وعندئذ سترتفع الحاجة إلى « التعيين » في الرئاسة العامة ، كما كان عليه الحال خلال حكم الأولياء الصالحين ، وستوكل

ص: 921


1- تاريخ الغيبة الكبرى ص 480 .

الرئاسة إلى الإنتخاب أو الشورى ، حين يكون الأفراد كلهم من

«لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ

يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ

كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ ، وَإِذَا

مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ،وَالَّذِينَ

اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ ، وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ،

وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا

رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ »(1)

وستوضع الشورى موضع التنفيذ طبقاً لقوانين تصدر يومئذ لا يمكن

التعرف عليها الآن.

وببدأ الشورى يكون عصر حكم الأولياء الصالحين المنصوبين بالتعيين

قد انتهى ، ولكن الحكام الجدد المنتخبين سيكونون أولياء صالحين أيضاً،

إلا أن هناك فرقاً بين أسلوب تربيته أساساً. أن الحاكم الذي سيتم تنصيبه

عن طريق التعيين ، يكون - بكل تأكيد - نتيجة لتربية خاصة مركزة من

قبل سلفه، مقترنة بالتعليم الواضح المفصل للقواعد الموروثة من قبل الإمام

المهدي (ع ) .

وأما الحاكم المنتخب ، فهو لا يكون إلا في مجتمع يكون رأيه العام

معصوماً ، ومثل هذا المجتمع كما أن الأعم الأغلب من أفراده صالحين وعادلين

ولذا أصبح رأيه العام معصوماً ، لأن الرأي العام من الصالحين لا يكون إلا صالحاً . يحتوي - إلى جنب ذلك - على عدد يقل أو يكثر وصلوا إلى

ص: 922


1- 36/42-38.

درجة عليا من العدالة والإلتزام الصالح ، قد نسميها بالعصمة ... أعني ما يسمى

بلغة الفلاسفة المسلمين بالعصمة غير الواجبة. وبتلك الصفة نفسها يكونون

مؤهلين لتولي الرئاسة العامة للدولة العالمية العادلة . ولن يكون بينهم وبين

توليهم الفعلي الاتجمع الأصوات في صالح أحدهم .

بقيت بعض الأسئلة والمناقشات ، تلقي أجوبتها أضواء كافية على هذا

التسلسل الفكري ، نعرضها على شكل سؤال وجواب .

السؤال الأول : ما هو عدد الأولياء الصالحين ؟

هذا ما لا بد في تعيينه من الرجوع إلى الأخبار السابقة . قال الخبر الأول

الذي نقلناه : «ان منا بعد القائم أحد عشر مهدياً » . وقال خبر آخر .

«ثم يكون من بعده اثنا عشر مهدياً .»

وموقفنا من هذا الإختلاف . اننا اما أن نعتبر كلا الخبرين ، إذا نظرنا لكل واحد منهما مستقلا ، قابلا للإثبات التاريخي ، وإما أن نعتبرهما معاً

غير قابلين له ، أو يكون أحدهما قابلا دون الآخر .

فإن لم يكونا قابلين للإثبات، وهذا لا يعني سقوط أصل نظرية حكم

الأولياء الصالحين ، لاستفادتها من مجموع الأخبار ... إذن ، فسيصعب

الجواب على هذا السؤال ، فقد يكون عددهم كثيراً وقد يكون قليلا ، تبعاً

للمصلحة التي يراها المهدي نفسه حين يؤسس هذا الحكم بعده . وميزانه

-كما عرفنا – تصل البشرية إلى عهد الشورى حين يكون الرأي العام معصوماً .

ولا يبقى العدد مهما إلى درجة عالية .

نعم . قد ينبثق من التفكير الإمامي رجحان أن يكون الأولياء اثني عشر، كما كان الأئمة المعصومون عليهم السلام إثني عشر . غير أن هذا

بمجرده لا يكفي للإثبات كما هو واضح.

ص: 923

وإن كان أحد الخبرين قابلا للإثبات دون الآخر ، أخذ بمدلوله دون

الآخر ؛ ويمكننا بدوياً أن نقول : ان الخبر القائل بعدد الإثني عشر أصح

و أثبت، فيؤخذ به ويبقى الآخر غير قابل للإثبات .

وأما إذا كان كلا الخبرين قابلين للإثبات ، فيمكن الجمع بينهما ، برفع

اليد عن ظهور الخبر القائل بالأحد عشر ولياً ، عن ظهوره بالحصر والضبط ،

بقرينة الخبر الآخر القائل بالإثني عشر، وتكون النتيجة هو الإلتزام بالإثني عشر بطبيعة الحال .

وبذلك يظهر أن الرقم الإثني عشر راجح على كل التقادير ، وإن كان

يحتاج إلى دليل مثبت أحياناً . وسنفرضه فيما يلي أمراً مسلماً لتسهيل الفكرة على أقل تقدير .

السؤال الثاني : كم مدة حكم الأولياء الصالحين بالسنين ؟

إذا كان عدد الأولياء الحاكمين إثني عشر ، وهم يتولون الرئاسة في عمر إعتيادي بطبيعة الحال. غير أن معدل العمر الإعتيادي ، في دولة العدل

الكامل في مجتمع السعادة والأخوة والرفاه ، لن يكون هو الستين أو السبعين،

بل هو المئة على أقل تقدير . ومن هنا يمكن أن يعيش الرئيس ثمانين عاماً منها ،

وهو على كرسي الرئاسة . فإذا كان معدل بقاء الفرد منهم ستين عاماً ، كان

مجموع مدة حكم الأولياء الصالحين سبعمئة وعشرين عاماً . وهي مدة كافية جداً

لتربية البشرية تربية مركزة دائبة ودقيقة ، وإيصالها إلى مجتمع العصمة .

السؤال الثالث : كيف يعرف المجتمع بدأ صفة العصمة ؟

و معرفته بذلك يعني عدة نتائج أهمها ما عرفناه من انتهاء حكم الأولياء

الصالحين وبدأ حكم الأولياء المنتخبين عن طريق الشورى .

ص: 924

لمعرفة المجتمع بذلك عدة أطروحات محتملة :

الأطروحة الأولى : في غاية البساطة ، وهي و أن المجتمع عرف بوصية

المهدي (ع) نفسه عدد الأولياء الصالحين الذين سيمارسون الحكم فيه ، ككونهم

اثني عشر فرداً - مثلا - . فإذا تم العدد ، كان حكم هؤلاء الأولياء قد انتهى

وبالملازمة يكون مجتمع العصمة قد بدأ . إذ من غير المحتمل أن تكون الدولة

قد فشلت في مهامها التربوية .

الأطروحة الثانية : لو فرضنا أن عدد الأولياء كان مجهولا، وهو أمر بعيد

على أي حال . فمن المحتمل أن تكون هناك وصية خاصة بالأولياء أنفسهم

موروثة من الإمام المهدي (ع) تقول : في عام كذا إذا مات الولي الحاكم

يومئذ ، فعليه أن لا يوصي إلى شخص بعده ، بل ينتقل الأمر إلى الشورى .وقد

يكون في ضمن الوصية تعليل ذلك بأن مجتمع العصمة قد بدأ .

الأطروحة الثالثة : أن تكون هناك وصية خاصة بالأولياء موروثة عن

الإمام المهدي (ع) تحدد انتهاء حكمهم بحوادث وصفات إجتماعية معينة ،

تعود إما إلى وقائع تاريخية أو إلى تحديد في المستوى العقلي والثقافي للبشرية،

الذي سيكون عليه في المستقبل ، أو إلى غير ذلك .

وهذه الأطروحة صادقة أيضاً فيما إذا لم يكن عدد الأولياء الصالحين

معيناً سلفاً .

السؤال الرابع : أن هؤلاء الأولياء الصالحين ، هل هم متفرقون من حيث

النسب ، أو أنهم متسلسلون في النسب ينتهون إلى الإمام المهدي (ع) نفسه.

أو أنهم على شكل آخر .

وينبغي أن نفهم سلفاً أنه لا أهمية كبيرة في الجواب على هذا السؤال إذ الأهم في الموضوع هو صفاتهم الذاتية وأعمالهم العادلة ، دون قضية النسب.

ص: 925

نعم، أجابت بعض الأخبار على ذلك . قال أحدها : « إن منا بعد القائم أحد عشر مهدياً ». والمفهوم من قوله منا أنهم من نسل أهل البيت (ع)

إجمالا . وقال الخبر الآخر : « فليسلمها إلى إبنه أول المهديين » وهو دال على

أن الولي الأول ابن المهدي (ع) نفسه . ولم يذكر الأولياء الذين بعده .

ويقول أحد الأدعية التي سمعناها :

« وولاة عهدك والأئمة من ولدك».

فلو اعتبرنا كل هذه الأخبار قابلة للإثبات مستقلة ، لفهمنا أن هؤلاء

الأولياء الصالحين هم من نسل أهل البيت عليهم السلام ولا يراد بأهل البيت

في لغة الأخبار إلا الأئمة المعصومين عليهم السلام . وحيث لا يحتمل أن يكونوا

من نسل إمام آخر غير المهدي (ع) باعتبار بعد المسافة الزمنية ، إذن فهم من

أولاد الإمام المهدي (ع) نفسه . وهذا افتراض واضح تعضده بعض هذه الأخبار ولا تنفيه الأخبار الأخرى .

يبقى لدينا هل أنهم متسلسلون في النسب أحدهم إبن الآخر ، أو أنهم

متفرقون من هذه الجهة ، وان انتسبوا إلى المهدي (ع) في النهاية .

وفي هذا الصدد لا تسعفنا الأخبار بشيء ، لكن هناك فكرة عامة صالحة

للقرينية على التسلسل النسبي . وهي ما نسميه بتسلسل الولاية . فإن كل ولي

في ذلك العهد المرحلي السابق على صفة العصمة يحتاج إلى اعداد خاص وتربية

معينة ، قبل أن يتولى الحكم. ومن الصحيح أن المجتمع ككل وخاصة إذا

كان صالحاً وعادلا يمكنه أن يربي الحاكم أفضل تربية ، إلا أن هناك عدداً من

الحقائق والأساليب والقوانين الإجتماعية وغيرها ، تكون خاصة بالحاكم عادة ولا

يعرفها غيره على الإطلاق ، وهي موروثة وراثة خاصة عن الإمام المهدي (ع).

وهي تحتاج في ترسيخها وكشفها إلى الحاكم الجديد إلى مدة وجهود من قبل

ص: 926

الحاكم السابق ، الأمر الذي لا يتوفر عادة بين الوالد وولده، ومن الصعب جداً

توفره بين أبناء الأعمام مثلا .

ومعه . فمن المظنون جداً أن يكون تسلسلهم النسبي محفوظاً ، من أجل

الحفاظ على تسلسل الولاية الضروري لتربية كل حاكم .

السؤال الخامس : هل المنطلق إلى فكرة « حكم الأولياء الصالحين »

بعد الإمام المهدي (ع) هو الفهم الإمامي للمهدي (ع) أو ينسجم مع الفهم الآخر .

كلا . إن حكم الأولياء الصالحين الذي طرحناه ، ينسجم تماماً مع الفهم

الآخر الذي يقول : ان المهدي رجل يولد في حينه فيملأ الأرض قسطاً وعدلا .

ولا ربط له مباشر بغيبة المهدي (ع) قبل ظهوره ولا بكونه الإمام الثاني عشر

الأئمة المعصومين عليهم السلام كما هو واضح .

غير أن فكرة حكم الأولياء الصالحين ، يبقى مفتقراً للدليل من أخبار

العامة أنفسهم . ولم نجد في حدود تتبعنا أي إشارة في تلك المصادر إلى دولة ما

بعد المهدي (ع) مهما كانت صفتها . ويبقى مفكروا العامة بعد ذلك مخيرين

بالإلتزام بهذه الأطروحة .

السؤال السادس : ماذا - بعد ذلك - عن احتمال العصيان والتمرد خلال

حكم الأولياء الصالحين ؟

لا شك أن هذا الإحتمال يتضاءل تدريجاً ، بالتربية المركزة التي تمارسها

الدولة باتجاه العدالة والكمال . حتى ما إذا وصل المجتمع إلى درجة العصمة ،

ولو بأول أشكالها ، ارتفع احتمال التمرد والعصيان ارتفاعاً قطعياً ، لبرهان

بسيط هو منافات العصمة مع العصيان . ولا أقل من أن تكون الأكثرية الساحقة

للبشرية كذلك ، بحيث من الصعب أن يفكر أحد في حركة تمرد أو بث دعاية

باطلة .

ص: 927

وإنما يقع التساؤل عن الفترات الأولى لحكم الأولياء الصالحين ، هل هي

خالية عن التمرد والعصيان ، أو يحصل ذلك فيها كثيراً ، أو يحصل قليلا ؟

لا شك أن لنظام حكم الأولياء الصالحين ، عدة ضمانات ضد مثل هذا

الإحتمال ، يمكننا أن نتعرف على بعضها ، بحسب مستوانا الذهني المعاصر :

الضمان الأول : السعادة والرفاه والأخوة والتناصف بين الناس هذا الذي

أسسه ونشره الإمام المهدي نفسه ، الأمر الذي يجعل الفرد ومن ثم الجماعات

تميل تلقائياً إلى حب هذا النظام واحترامه والتعاطف معه ، مما يحدو بالأعم

الأغلب جداً من الناس بعدم التفكير بأي عصيان واضح، بل يحدو الكثيرين

إلى الوقوف تلقائياً تجاه أي تمرد أو عصيان يفهمون به ، وفضحه ولوم صاحبه

لوماً شديداً .

الضمان الثاني : القواعد والأسس الخاصة التي علمها المهدي (ع) نفسه

الخلفائه ، مما يمت إلى طبيعة المجتمع وحركة التاريخ وأفضل الطرق في التصرف

به ودفع شروره ، وجلب مصالحه . الأمر الذي كان هو عليه السلام ، أكثر

الناس علماً به واطلاعاً على تفاصيله . ومن أجل فوائد علمه بذلك ، تزريقه إلى

خلفائه الصالحين ، ليستطيعوا أن يبنوا دولتهم الحديثة ، ويدفعوا عنها الشرور

بأيسر طريق .

الضمان الثالث : عالمية الدول العادلة. فإن لهذا العنصر جهتين من الضمان .

الجهة الأولى : الهيبة التي تكسبها الدولة العالمية في نفوس الناس وعقولهم

بصفتها تمارس حكماً مركزياً مهماً لم تمارسه أي دولة أخرى في التاريخ.

الجهة الثانية : سيطرتها على كل مصادر ومصانع الأسلحة في العالم لا

یستشی من ذلك شی ء ، ولها الطرق المعقدة للحد من التهريب والختل والخداع

ونحو ذلك.

ص: 928

فهذه الضمانات وغيرها ، تنتج في هذا الصدد ، نتيجتين مهمتين : النتيجة الأولى : أنها تقف ضد احتمال كثرة التمرد والعصيان ، بشكل

يعيق عن تطبيق المنهج التربوي العام . إذ مع وجودها سيقل من يفكر من البشر بالحركات العصيانية.

النتيجة الثانية : أنها تقف ضد ما قد يحدث من حوادث التمرد والعصيان

من القلائل الذين قد يفكرون بذلك ، وعن طريق هذه الضمانات التي تملكها الدولة ستستطيع أن تقضي على كل حوكة .

السؤال السابع : هل لدابة الأرض خلال هذا العهد ، وظيفة معينة ؟ لما كانت الوظيفة الرئيسية لدابة الأرض، كما يستناد من الأخبار ، هي

تمييز الكافر من المؤمن والمنحرف من الملتزم ، وإعطاء القيمة الأخلاقية لكل

منهم علانية ؛ فهذا لا يمكن أن ينجز في عهد ما بعد الظهور ، المتطور نحو

المجتمع المعصوم الخالي من الكفار والمنحرفين ... فهو لا يمكن أن ينجز إلا في إحدى فترتين :

الفترة الأولى : فترة ما بعد المهدي (ع) مباشرة ، حيث تعيش الدولة

العالمية العادلة أحرج عهودها وأدق فتراتها ، بعد فقد قائدها الأعظم عليه السلام.

فإنه من الصحيح ، كما عرفنا ، أن الإمام المهدي (ع) قام باستئصال المنحرفين من الكرة الأرضية ، إلا أن هناك جزءاً من البشر ، مهما كان

قليلا ، قد سلم لدولة المهدي خوفاً أو طمعاً ، لا عن إخلاص حقيقي ، فمن

المحتمل جداً أن تتحرك الأطماع بعد القائد الأعظم إلى السيطرة على الدولة

أو على بعض أجزائها على الأقل .

و الضمانات السابقة وإن كانت صالحة للوقوف ضد أي احتمال ، غير

59

ص: 929

أنه من المحتمل أن تخرج دابة الأرض ، لتأخذ بعضد الدولة العالمية العادلة .

باتجاه النصر والسيطرة على كل تمرد وعصيان .

الفترة الثانية : الفترة السابقة على يوم القيامة مباشرة ، وهي فترة سنبحث

عن صحة وجودها في الفصل القادم . غير أنه - على تقدير صحتها - سيتصف

المجتمع العالمي خلالها بالكفر والإنحراف، بعد أن يكون قد تنازل عن آخر

صفات العصمة والعدالة .

فمن المحتمل أن دابة الأرض تخرج لتضمن بقاء المؤمنين على إيمانهم،

ومدى خسارة الكافرين والمنحرفين ، حين تنازلوا بسوء تصرفهم عن العصمة

والعدالة ، وتقف في وجه الذين يكفرون بقتل المؤمنين ، أو الإطاحة بكيانهم

بشكل وآخر .

وعلى أي حال ، فحيث نعلم من القرآن الكريم ، بضرورة خروج دابة

الأرض ، وعدم خروجها خلال المجتمع المعصوم لعدم انسجام وظيفتها ...

كما أنه ليس هناك احتمال حقيقي لخروجها قبل الظهور . . . إذن يتعين وجودها

في إحدى الفترتين المشار إليهما . وأما إذا عرفنا في الفصل الآتي، عدم وجود

الدليل على انحراف المجتمع بعد إتصافه بالعصمة ، إذن ينحصر خروج دابة

الأرض بعد وفاة المهدي عليه السلام مباشرة ، لتقوم بوظيفتها الكاملة.

وبذلك يكون « سيف » الإمام علي بن أبي طالب قد وطد الإسلام في

«آخر الزمان » كما وطده في عصر الرسالة وصدر الإسلام سلام اللّه عليه .

وبهذه الأسئلة السبعة وضعنا الرتوش الكافية على فترة حكم الأولياء

الصالحين وما بعدها ، ولا ينبغي لنا الآن أن نزيد على ذلك ، وإنما نحيل القاريء

إلى الكتاب الرابع الآتي من هذه الموسوعة .

ص: 930

الباب الثاني قيام الساعة على شرار الخلق

وهو باب في فصل واحد :

ص: 931

ص: 932

وينبغي أن يتم الحديث في هذا الفصل ضمن عدة جهات :

الجهة الأولى : في سرد الأخبار الدالة على ذلك

الجهة الأولى : في سرد أهم الأخبار الدالة على ذلك . وهي واردة في

مصادر الفريقين .

أخرج مسلم في صحيحه (1) عن عبداللّه بن عمر عن رسول اللّه (ص) -في حديث تحدث فيه عن الدجال والمسيح عيسى بن مريم (ع) . ثم تحدث

فيه عن عصر ما بعد المسيح فقال فيما قال - :

فيبقى شرار الناس في خفة الطير

وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً

ولا ينكرون منكراً . فيتمثل لهم الشيطان

فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون :

فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ،

وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم.

ثم ينفخ في الصور .

وأخرج أبو داود (2)عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه (ص):

لا تقوم الساعة حتى تطلع

الشمس من مغربها . فإذا طلعت ورآها

الناس آمن من عليها . فذاك حين

ص: 933


1- ج 8 ص 201.
2- ج 2 ص 430 .

«لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت

من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً » (1)

و أخرج الحاكم في المستدرك (2)عن أبي أمامة ، قال : سمعت رسول :

وأخرج اللّه (ص) يقول :

لا يزداد الأمر إلاَّ شدة ولا المال

إلا إفاضة ، ولا تقوم الساعة إلا على

شرار من خلقه . وقال الحاكم : هذا

حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

وأخرج أيضاً (3)عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه (ص) :

لا يزداد الأمر إلا شدة ولا

الدين إلا إدباراً ولا الناس إلا شحاً

ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ،

ولا مهدي إلا عيسى بن مريم .

وأخرج الشيخ في الغيبة (4)عن عبداللّه بن جعفر الحميري ، قال :

اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (5)

عند أحمد بن إسحاق بن سعيد الأشعري

ص: 934


1- 158/6.
2- ج4 ص440.
3- ج 4 ص 440. ويرويه في الصواعق (98) عن ابن ماجة .
4- ص218.
5- دو الشيخ عثمان بن سعيد النائب الأول للمهدي (ع ) خلال غيبته الصغرى .

القمى . فعمزني أحمد أن أسأله

الخلف - يعني الحجة المهدي (ع).

فقلت له : يا أبا عمر إني أريد

(أن) أسألك وما أنا بشاك فيما

أريد أن أسألك عنه . فإن اعتقادي وديني

أن الأرض لا تخلو من حجة إلا إذا

كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً ،

فإذا كان ذلك وقعت ( رفعت ) الحجة ،

وغلق باب التوبة . فلم يكن « ينفع

نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ،

أو كسبت في إيمانها خيراً ... (1)

فأولئك أشرار من خلق اللّه عز وجل .

وهم الذين تقوم عليهم القيامة.

الحديث .

وأخرج السيد البحراني في معالم الزلفى (2)عن بستان الواعظين. قال

حذيفة : كان الناس يسألون رسول اللّه (ص) عن الخير وكنت أسأله عن الشر.

فقال النبي (ص) :

يكون في آخر الزمان فتن كقطع

الليل المظلم . فإذا غضب اللّه تعالى على

أهل الأرض أمر اللّه سبحانه وتعالى

ص: 935


1- 158/6.
2- ص 136 .

اسرافيل أن ينفخ نفخة الصعق.

فينفخ على حين غفلة من الناس ...

الحديث .

فهذه كل الروايات التي وجدناها دالة على هذا المضمون .

الجهة الثانية : في نقد هذه الأخبار .

إن أكثر هذه الأخبار يمكن إسقاطها عن الإستدلال تماماً ، لأن كل خبر

يواجه بحياله بعض المناقشات ، فلا يبقى منها إلا القليل .

أما الخبر الذي أخرجه مسلم في صحيحه فهو يصف أولاً فسق الناس وإطاعتهم للشيطان ، وتحولهم إلى عابدي أوثان . وهذا كله – بمعنى وآخر - مما يقع قبل الظهور . ويقول بعدها : ثم ينفخ في الصور . والنفخ فيه كناية

عن نهاية البشرية . إلا أن وجود هذه النهاية في ذلك الجو الفاسق مما لا يدل عليه

الخبر ، لأن حرف العطف ( ثم ) دليل على التراخي والإنفصال كما نص النحاة

واللغويون . فإن لم يكن الخبر دليلا على بقاء البشرية بعد ذلك المجتمع الفاسق .

فلا أقل من كونه ليس دليلا على انتهائها به .

وأما خبر أبي داود ، فهو غير دال بالمرة على المضمون المشار إليه . فهو

دال على أن الناس يؤمنون كلهم حين تطلع الشمس من مغربها . ولا يقول

شيئاً غير ذلك . وقد قلنا في التاريخ السابق (1)أن المراد من الشمس التي

تطلع من مغربها : المهدي (ع) حيث يطلع بعد غيبة ، ولا تقبل عندئذ من

الفاسق توبة .

وكذلك الخبر الثاني الذي نقلناه عن الحاكم ، فإن فيه قوله : ولا مهدي

ص: 936


1- تاريخ الغيبة الكبرى ص 596 .

إلا عيسى بن مريم ، وقد نقده ورفضه أهل الحديث العامة والخاصة ، كما

سبق ، ولا حاجة إلى تكراره . مضافاً إلى إشكالات أخرى مشتركة ستأتي.

وكذلك الخبر الذي نقلناه عن معالم الزلفى فإنه خبر مرسل وضعيف. ويحتوي

من خلاله على مضامين مدسوسة وغير صحيحة ، كما يبدو لمن راجعه في مصدره.

لا يبقى عندنا -بعد هذا - إلاخبران، أحدهما : الخبر الأول الذي

نقلناه عن الحاكم والخبر الذي أخرجه الشيخ في الغيبة .

على أن خبر الشيخ أيضاً لا يخلو من مناقشة فإنه ليس رواية عن معصوم وإنما

یعبر فيه عبداللّه بن جعفر الحميري عن اعتقاده، وليس بالضرورة ان كل ما

يعتقده له الإثبات التاريخي الكافي . وإن كان هو شخصياً من العلماء الصالحين ،

كما ثبت من تاريخه.

وعلى أي حال ، فالخبران يواجهان إشكالا مشتركاً ، هو أن مثل هذه

القضية وهي : ان الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق ، من الأمور الإعتقادية

في الدين . ومن الواضح عند العلماء أن الأمور الإعتقادية لا تثبت بخبر الواحد

وإن كان صحيحاً سنداً وواضحاً مضموناً، وإنما تثبت فقط بالخبر المتواتر

القطعي . مع العلم أن مجموع هذه الأخبار غير متواترة فضلا عما بقي بعد النقد

منها .

هذا مضافاً إلى إشكال مشترك آخر على أكثر من خبر واحد. كالخبر الذي

يقول : « لا يزاد الأمر إلا شدة ولا الدين إلا إدباراً ولا الناس إلا شحاً ...»

فإن قارىء هذ الموسوعة ، وخاصة التاريخ السابق ، يعلم أن هذه هی صفة

المجتمع قبل الظهور . وسيرتفع كل ذلك بالظهور ، مع أن ظهور الخبرين

هو ان ذلك باق إلى يوم القيامة . وهو أمر تنفيه كل الدلائل السابقة التي عرفناها.

أضف إلى ذلك معارضة هذه الأخبار ، بما دل على بقاء دولة العدل إلى

ص: 937

يوم القيامة . لأن الإنحراف القوي يستدعي لا محالة ، انتقال الحكم إلى المنحرفين

مع أن الأخبار تنص على بقاء الدولة مع المؤمنين العادلين .

أخرج الصدوق في إكمال الدين(1) بإسناده عن عبد السلام بن صالح

الهروي عن الإمام الرضا علي بن موسى الرضا عليه السلام عن آبائه عن

النبي (ص) - في حديث طويل - قال (ص)

فنودیت : يا محمد ، أنت عبدي

وأنا ربك - ويستمر الحديث إلى ذكر

آخر الإئمة الاثني عشر ، المهدي عليه

السلام فيقول : -حتى يعلن دعوتي

ويجمع الخلق على توحيدي . ثم

لاديمن ملكه ولاداولن الأيام بين

أوليائي إلى يوم القيامة .

وأخرج النعماني في الغيبة (2)بسنده عن يونس بن رباط ، قال : سمعت

أبا عبداللّه (ع) يقول

إن أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا

في شدة . أما أن ذلك إلى مدة قريبة

وعاقبة طويلة .

وأخرج الشيخ في الغیبة (3)

بإسناده عن أبي صادق عن أبي جعفر (ع ) قال :

ص: 938


1- نسخة مخطوطة .
2- ص152.
3- ص282.

دولتنا آخر الدول، ولم يبق أهل

بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا ، لئلا

يقولوا ، إذا رأوا سيرتنا : إذا ملكنا

سرنا مثل سيرة هؤلاء ، وهو قول

اللّه عز وجل : « والعاقبة للمتقين»(1)

وأخرجه المفيد في الإرشاد (2)في ضمن حديث عن علي بن عقبة عن

أبيه . وكذلك فعل الطبرسي في الإعلام .(3)

فقوله : « ولا داولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة» واضح ببقاء

المجتمع برمته مؤمناً إلى نهاية البشرية ، وهو ناف بصراحة لفكرة المجتمع

الفاسق قبل يوم القيامة .

وكذلك قوله : « دولتنا آخر الدول » فإنه واضح بأنه ليس بعد دولة

الحق دولة من حين قيامها إلى آخر عمر البشرية . فإذا علمنا أن البشرية لا

يمكن أن تخلوا من حكومة أو دولة ، وان المجتمع المنحرف يستدعي انحراف

الدولة عادة ، يتعين أن تكون دولة الحق مستمرة في البشرية إلى آخر عمرها .

ومع وجود هذه المناقشات ، تكون تلك الأخبار ساقطة عن إمكان الإثبات

التاريخي . ولا دليل على أنه : لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق . وستأتي

في الكتاب التالي مناقشات أخرى قائمة على أسس جديده .

الجهة الثالثة : إعطاء الفهم المتكامل عن هذه الأخبار

الجهة الثالثة : إعطاء الفهم المتكامل لهذه الأخبار ، أعني القائلة أنه لا

تقوم القيامة إلا على شرار الناس .

ص: 939


1- 128/7.
2- ص344.
3- اعلام الوری ص 432 .

فإننا لا يخلو الأمر إما أن نلتزم بمضمون هذه الروايات ، وإما أن نرفضها .

وعلى كلا التقديرين يمكننا أن نربط تسلسل الفكرة بالنتائج التي توصلنا إليها

والمعلومات التي عرفناها فيما سبق.

ومن هنا لا بد أن يقع الكلام في ناحيتين :

الناحية الأولى : إذا التزمنا بصدق هذه الأخبار ، فسيكون تسلسل الفكرة

على الشكل التالي :

إن التخطيط الإلهي العام لما بعد الظهور ، بعد أن ينتج نتيجته الكبرى

وهي إيجاد المجتمع المعصوم. وتنتقل الرئاسة الإسلامية من التعيين إلى الشورى ؛

يكون الهدف الأعلى من خلقة البشرية، وهو إيجاد العبادة الكاملة في ربوعها ،

قد تحقق ، وخاصة بعد بقاء هذا المجتمع على حاله الرفيع ردحاً طويلا من الزمن.

عندئذ يبدأ - طبقاً لهذا الفهم - تخطيط إلهي جديد ، هو التخطيط الأخير

في البشرية . ليستهدف إيجاد المجتمع الكافر أو المنحرف بكل أفراده ، ليكون

هو المجتمع الذي تقوم عليه الساعة .

ولو نظرنا إلى طبائع الأشياء بحسب فهمنا المعاصر ، أمكننا أن نجدد الخطوط

العامة لهذا التخطيط العام .

إن الدفع الإيماني القوي الذي أوجده المهدي القائم عليه السلام في البشرية

والذي أذكى أواره وحافظ على كيانه المهديون الإثني عشر بعده ، خلال مئات

السنين ، حتى أنتج نتيجته الكبرى ، وهو المجتمع المعصوم . . . إن هذا الدفع

سوف يكون مهدداً بالخطر إلى حد ما حين ينقلب أمر الخلافة من التعيين إلى

الإنتخاب .

إن هذا الدفع سوف يبقى صافياً صحيحاً أجيالا متطاولة من الزمن ما دامت

ص: 940

درجة العصمة محفوظة في المجتمع . إلا أن الأجيال المتأخرة سوف تنزل عن هذه

الدرجة تدريجاً . وستعمل عوامل الشرفي نفس الإنسان ونوازع المصلحة من

جديد . وسوف لن يوجد لها الرادع الكافي في حفظ العصمة ، لأن التخطيط

الإلهي قاض بارتفاع هذه الصفة تدريجاً من المجتمع .

وسوف يأتي بالإنتخاب إلى كرسي الرئاسة ، أولياء مهما كانوا على

مستوى العدالة العليا ، إلا أنهم لم يرافقوا المهدي (ع) ولم يعاصروا خلفائه

المهديين . ولم توجه إليهم تربية خاصة من أجل تولي مهام الرئاسة - ومن هنا

سوف يبذل كل رئيس وسعه في دفع التيار المنحرف لن يستطيع الإجهاز

عليه . بل يبقى يستفحل على مر السنين ويعم بين البشر ، إلى أن ينحسر الدين

عن القلوب والعقول ، ويصبح الناس كما كانوا قبل ظهور المهدي (ع)

على مستوى عصيان واضحات الشريعة الإسلامية ، حيث سمعنا من إحدى

الروايات قتل أحد الشخصيات الإسلامية في داخل الحرم . بل سوف يزداد

الوضع سوءاً حتى لا يقال : اللّه ، اللّه ، على ما نطقت به بعض الروايات . (1)

وعندئذ يتحقق أمران لا مناص منهما :

الأمر الأول : إن الرئيس العامل الذي هو حجة اللّه على الخلق في ذلك

الحين يصبح مسلوب الصلاحيات من الناحية العملية لا يستطيع القيام بأي عمل

على الإطلاق ، ولا يؤمل من وجوده أية فائدة .

الأمر الثاني : إن اللّه عز وجل يشتد غضبه على الأمة والبشرية ، بحيث

تكون أهلا لأي عقوبة .

ويترتب على الأمر الأول أن الرئيس الإسلامي ، حيث لا فائدة من

ص: 941


1- انظر مثلا - مستدرك الحاكم ج 4 ص 494 .

وجوده فينبغي أن يرتفع من الأرض ، فيقبضه اللّه إليه ، ويتوفاه . وذلك

قبل يوم القيامة بأربعين يوماً ، كما ورد في الرواية .

وعند زوال هذا القائد ، لن تكون البشرية على مستوى الشعور بالمسؤولية

لانتخاب شخص جديد . بل سيبقون في فساد محضر وظلم كامل لمدة أربعين

يوماً . وهم شرار خلق اللّه . فيؤثر الأمر الثاني أثره ، وذلك بإنزال العقاب

عليهم بالنفخ بالصور وقيام الساعة .

وبهذا التسلسل الفكري استطعنا الجمع بين عدة قواعد مروية في السنة

الشريفة ، أحدها: أن الدولة الإسلامية العادلة تبقى إلى يوم القيامة ثانيها :

أن الحجة يرفع عن الأرض قبل يوم القيامة بأربعين يوماً . ثالثها : ان القيامة

تقوم على شرار خلق اللّه ، وعرفنا عدم المنافيات بين هذا التخطيط والتخطيط

السابق عليه المنتج لوجود المجتمع العصوم .

يبقى هنا سر الان قد يخطر ان على الذهان ، ينبغي ذكر هما مع الإجابة عليها :

السؤال الأول : أنه كيف يمكن للمجتمع المسلم بعد ارتفاع صفة العصمة

عنه أن يمارس الإنتخاب ، مع أن إعطاء حق الإنتخاب إليه ، كان بسبب

هذه الصفة ، إذن ، فلا بد أن يرتفع بارتفاعها ، ويعود الأمر إلى التعيين أو إلى أي أسلوب آخر.

وهذا السؤال له عدة أجوبة ، تذكر أهمها :

أولاً : ان الإنتخاب سوف لن يكون عشوائياً ، وإنما يكون للمؤهلين

للرئاسة ، بحسب النظام الساري المفعول في الدولة العالمية . لا يختلف في ذلك

عصر العصمة عما بعده . وإنما الفرق أنه في عص العصمة يتوفر عدد كبير

اسى المؤهلين لذلك، بخلاف العصر المنحرف اللاحق له ، فإن عددهم

يتضاءل تدريجياً، وهذا لا ينافي قاعدة الإنتخاب بطبيعة الحال .

ص: 942

ثانياً : إن القاعدة يومئذ سوف تقتضي بقاء الإنتخاب ، لأن هذا هو

الأمر المعروف الموروث عن الدولة العادلة ، وليس بين البشر من يستطيع

إيجاد تشريع جديد ، كما جاء به المهدي (ع) نفسه زيادة على المعروف قبله.

من هنا ينحصر سير البشرية على قاعدة الإنتخاب بالضرورة . وسيكون تغييره

انحرافاً عن القواعد العادلة المعروفة يومئذ .

وأما اقتران الإنتخاب بصفة العصمة . وإناطته بها ، فقد لا يكون شيئاً

مفهوماً فهماً عاماً يومئذ ، وإنما هو تقدير خاص . وجود في ذهن المشرع الذي

بلغ للناس وجوب الإنتخاب عند دخولهم في عصر عصر العصم . وهو آخر الأولياء

المهديين الإثني عشر. وقد يكون معروفاً لبعض خاصته أيضاً .

السؤال الثاني : إن إعداد البشرية للإنحراف يعني رضاء اللّه تعالى بالظلم

وإرادته لوجوده ، فكيف يصح ذلك منه وهو العادل المطلق ؟

وقد سبق أن أثرنا مثل هذا السؤال . في تاريخ الغيبة الكبرى(1)على

التخطيط الإلهي لما قبل الظهور . وأجبنا عليه بشكل يرفع الشبهة .

وملخص الفكرة التي ينبغي أن نفهمها الآن هو أن وجود الظلم لا يستلزم

رضاء اللّه تعالى بالظلم وإرادته له ولا إجبار الناس عليه . وإنما حين تتعلق

المصلحة بوجود الظلم في الخارج، من قبيل ما فرضناه من ضرورة قيام الساعة

على شرار الخلق . ذلك الفرض الذي نتكلم الآن أساسه ، فيكفي للّه عز

وجل أن يرفع المانع عن وجوده .

ومن هنا يكفي غض النظر عن هذا الإنحراف ، ورفع اليد عن مزيد

التوضيح والتربية للناس إلى جانب الحق والعدل ، لكي يوجد الظلم باختيار

ص: 943


1- ص 269 وما بعدها .

الأفراد الظالمين أنفسهم ، وبكل قناعة منهم . مع وجود الحجة البالغة اللّه عليهم

بالنهي والزجر التشريعي عن التورط في هذا العقاب ، واستحقاق العقاب عليه.

وهذا هو الذي خططه اللّه تعالى لعصر الغيبة موقتاً لغرض التمحيص

والإعداد ليوم الظهور ، كما سبق أن فصلناه في التاريخ السابق . وهو الذي

يخططه أيضاً عند اقتراب الساعة من أجل إيجاد المجتمع الذي يمكن قيام الساعة

عليه . بعد استحالة قيامها في المجتمع المؤمن ، على ما هو المفروض في هذا الكلام

هذا كله على تقدير الإلتزام بصحة تلك الأخبار .

الناحية الثانية : إذا التزمنا بعدم صحة تلك الأخبار ، وعدم كفايتها

لإثبات قيام الساعة على شرار خلق اللّه . بل يمكن أن تقوم الساعة على المجتمع

المؤمن نفسه . طبقاً لما سبق أن ذكرناه من المناقشات .

وإذا كان هذا ممكناً لا استحاله فيه ، كان ذلك متعيناً ، ولا يكون

التخطيط لإيجاد المجتمع المنحرف ممکناً . وذلك :

أولاً : لكونه لغواً بلا مبرر ولا حكمة ، وإيجاد اللغو قولاً أو فعلاً ،

محال على اللّه تعالى الحكيم الكامل من جميع الجهات.

ثانياً : لكونه مستلزماً - كما قلنا- لتقليل مستوى التربية والإيضاح ،

وهو ظلم للناس ما لم يفترن بمصلحة مهمة مبررة له . والمفروض عدم وجودها .

ومعه فيتعين القول ببقاء المستوى المطلوب من العناية والتربية ، نتيجة

للقواعد الواضحة التفصيلية التي أعطاها الإمام المهدي عليه السلام طبقاً لوعي

ما بعد الظهور ، ونتيجة للدفع الإيماني الذي أوجده في الأمة ، ذلك الدفع الذي

أنتجه المجتمع المعصوم في نهاية المطاف. والذي لا يزول أثره إلى نهاية البشرية

فإن الوعي إذا كان على أعلى مستوى ، لا يكون قابلا للزوال ، ولا الإنحراف

ص: 944

وإنما تؤكده الحوادث وترسخه المشاكل باستمرار ، لو وجدت في مثل ذلك

المجتمع المعصوم .

وقد سبق أن حملنا فكرة عن مدى التأييد الإلهي للمجتمع العادل ذلك

التأييد المنتج لوفرة الزراعة والصناعة وارتفاع خطر الوحوش وغير ذلك . وهذا

يحدث في المجتمع الذي يحكمه المهدي (ع) بنفسه ، قبل أن يصل المجتمع إلى

درجة العصمة ، بل لمجرد تبريك يوم الظهور ، وبدأ الدولة العالمية العادلة .

وبعد حصول صفة العصمة ، سوف يكون المجتمع والدولة - بغض النظر عن شخص المهدي (ع) - أصلب عوداً وأقوى وجوداً وأوسع تطبيقاً

للنظام الإسلامي الكامل. ومن هنا يكون من الطبيعي أن تتلاحق التأييدات الإلهية

وتزداد وتترسخ بين أفراد المجتمع . فكيف يكون الإنحراف مع وجود هذا التأييد.

ويستمر المجتمع في الترقي والتكامل في عالم الروح ، حتى يكون كل فرد

مترقباً لقاء اللّه تعالى شأنه مسروراً بالوصول إلى رضاه العظيم ونعيمه المقيم.

فيشاء اللّه عز وجل أن يأخذهم جميعاً إليه كما تزف العروس إلى عريسها والحبيب إلى حبيبه ، فيموتون جميعاً موتاً كشم الرياحين . وبذلك تنتهي البشرية ويبدأ بذلك يوم القيامة .

وسيأتي في الكتاب الآني تفسير أعمق من ذلك لنهاية البشرية ، فليكن

القاريء على علم بذلك .

ولا حاجة هنا إلى افتراض ارتفاع الحجة قبل أربعين يوماً من يوم القيامة .

ولا إلى افتراض فساد المجتمع ، فإن كلا الأمرين منقول بالروايات التي

نفترض في هذه الناحية الثانية عدم صحتها .

بل يكفي - منطقياً - لقيام الساعة تحقق الهدف من خلق البشرية ، وهو

وجود العبادة الكاملة ردحاً طويلا من الزمن ، بحيث لا يبقى بعدها هدف آخر

60

ص: 945

متوقع لها على وجه الأرض ، وإنما ينحصر وجودها وتكاملها في عالم آخر.

وقد تحقق ذلك بوجود المجتمع المعصوم ، فيبقى وجود البشرية بلا موضوع

فلا بد من زوالها بشكل من الأشكال .

فهذا التسلسل الفكري المبتني على عدم صحة تلك الأخبار القائلة بأر

الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس . وهو الأنسب مع القرائن والقواعد العام

الإسلامية ، مضافاً إلى عجز تلك الأخبار عن قابلية الإثبات كما عرفنا .

وعلى أي حال ، فلا ينبغي إعطاء شيء من تفصيل نهاية البشرية أكثر

من ذلك ، بعد العلم أنه سيأتي في الكتاب الآتي ما يعطي ذلك

كله بتوفيق من اللّه العلي العظيم .

هذا آخر ما أردنا إيراده من تاريخ ما بعد الظهور . والحمد للّه رب

العالمين على حسن التوفيق. وصلى اللّه على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين

قد تم بيد مؤلفه المحتاج إلى رحمة ربه الكريم محمد بن السيد محمد صادة

الصدر . بتاريخ مساء يوم الجمعة المصادف 11 رمضان 1392 هجرية الموافق 12 تشرين الأول 1972 ميلادية . في النجف الأشرف .

ص: 946

المصادر

أهم مصادر هذا التاريخ :

1 - الإحتجاج. تأليف : أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي

مط : النعمان . النجف الأشرف . عام 1386-1966.

2- الإرشاد . للشيخ محمد بن محمد بن النعمان . الملقب بالمفيد . ط :

طهران . عام 1377 ه.

3- إلزام الناصب في إثبات الحجة الغائب لمؤلفه المولى الشيخ علي اليزدي

الحائري . ط : أصفهان في عام 1351 ه شمسي .

4-أسد الغابة في معرفة الصحابة للشيخ عز الدين أبي الحسن علي بن محمد

ابن عبد الكريم الجزري المعروف بابن الأثير . ط الأوفست.

الإسلامية . طهران .

5-إسعاف الراغبين للأستاذ الشيخ محمد الصبان . على هامش نور الأبصار

( انظره ) .

6-الإشاعة لاشتراط الساعة. تأليف السيد الشريف محمد بن رسول البرزنجي الحسيني . ط : الأولى ، مصر ، عام 1370 ه .

7-بحار الأنوار ، تأليف الشيخ محمد باقر بن محمد تقي المعروف المجلسي الجرء الثالث عشر . ط الحجر عام 1305 ه .

8-البيان في أخبار صاحب الزمان . للحافظ أبي عبداللّه محمد بن يوسف

ص: 947

ابن محمد النوفلي الفرشي الكنجي الشافعي . قدم له وعلق عليه : محمد مهدي الخرسان . مط النعمان ، النجف الأشرف . 1382 . 1962 9-الجامع الصحيح ، للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة

الترمذي . مط الفجالة الجديدة . القاهرة : عام 1387 - 1997 .

10- الحاوي للفتاوي للشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد

السيوطي . حقق أصوله وعلق على حواشيه : محمد محي الدين عبد

الحميد . ط مص- مصر . الثالثة . مط السعادة . عام 1959م.

11- الخرايج والجرايح للشيخ قطب الدين أبي الحسين سعيد بن هبة اللّه ابن

الحسين الراوندي . ط الهند ، على الحجر ، عام 1301 ه .

12 - سنن أبي داود . للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني . ط مصر . الأولى الأولى ، عام 1371 -1952.

13 - سنن ابن ماجة . للحافظ أبي عبداللّه محمد بن يزيد القزويني بن ماجة . بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي . دار إحياء الكتب العربية . عام 1373 -1953.

14-شرح نهج البلاغة . للشيخ محمد عبده . بتحقيق محمد محي الدين عبد

الحميد مطبعة الإستقامة . مصر . مهمل من التاريخ .

15- صحيح البخاري. لأبي عبداللّه محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن المغيرة بن يردذية البخاري الجعفي. مطابع الشعب . مصر 1378 ه. 16-صحيح مسلم . لأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري

النيسابوري . مطبعة محمد علي صبيح وأولاده . مصر.

17- الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة . للمحدث شهاب

الدين أحمد بن بن حجر الهيثمي المكي ط مصر عام 1312 ه .

ص: 948

18 - الغيبة للشيخ الغيبة للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي . ط النجف . الثانية

عام 1385 .

19-الغيبة . للشيخ أبي عبداللّه محمد بن إبراهيم بن جعفر الملقب بالنعماني.

ط تبریز عام 1383 .

20-الفتوحات المكية . للشيخ أبي عبداللّه محمد بن علي المعروف بابن عربي

الحاتمي الطائي . أوفست دار صادر بيروت . مهمل من التاريخ.

21-الفصول المهمة في معرفة الأئمة ، للشيخ نور الدين علي بن محمد بن

أحمد المالكي المكي الشهير بابن الصباغ . ط الحجر : طهران عام 1302.

22- الكافي ( الأصول ) لثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني .

نسخة خطية في مكتبتنا الخاصة. وقع الفراغ في تحريرها في عصر يوم

الثلاثاء من شهر ذي القعدة الحرام سنة 1077 ه. بيد محمد بن طاهر آقاجان الشوشتري .

23 - الكامل في التاريخ. لأبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد ابن

عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير . بيروت، لبنان عام 1387- 1967.

24-كامل الزيارات . للشيخ الأقدم أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه

القمی، حققه وعلق عليه الشيخ ميرزا عبد الحسين الأميني التبريزي .

المطبعة المرتضوية . النجف . 1356 ه .

25-الكتاب المقدس ، أي كتب العهد القديم والعهد الجديد . انتشر عن

يد جمعية التوراة البريطانية والأجنبية . ط جامعة كمبردج . بريطانيا

26-كشف الغمة في معرفة الأئمة . للعلامة أبي الحسن علي بن عيسى بن

أبي الفتح الأربلي . المطبعة العلمية . قم .

ص: 949

27-مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع ، لصفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي. وهو مختصر معجم البلدان لياقوت. تحقيق وتعليق : علي محمد البجاوي. دار إحياء الكتب العربية ، مصر ، عام 1374 -1955.

28-مطالب السؤل في مناقب آل الرسول . تأليف الشيخ أبي سالم كمال

الدين محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن القرشي العدوي الشافعي .

دار الكتب التجارية في النجف الأشرف ، 1371 - 1951 .

29 - مفاتيح الجنان. تأليف : الشيخ عباس القمي . ترجمة السيد محمد

رضا النوري النجفي . ط : طهران . عام 1359ه.

30- الملاحم والفتن . للسيد رضي الدين أبي القاسم علي بن موسى بن جعفر ابن محمد بن طاوس ، الحسني الحسيني . ط الثالثة . الحيدرية . النجف الأشرف - 1383 -1964.

31-منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر. تأليف الشيخ لطف اللّه الصافي.

الثانية . مهمل من التاريخ .

32 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للشيخ الحسن بن الحر العاملي

ط الحجر - طهران عام 1314 ه.

33-ينابيع المودة. تأليف الحافظ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي.

الطبعة السابعة . ط النجف الأشرف . الحيدرية . عام 1384 - 1965 .

ص: 950

الفهرس

الصورة

ص: 951

الصورة

ص: 952

الصورة

ص: 953

الصورة

ص: 954

الصورة

ص: 955

الصورة

ص: 956

الصورة

ص: 957

الصورة

ص: 958

الصورة

ص: 959

الصورة

ص: 960

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.