الكوفة والنهضة الحسينية

هویة الکتاب

طالب علي الشرقي

الكوفة ... والنهضة الحسينية

17 هجرية – 60 هجرية

أمانة مسجد السهلة المعظم

مؤسسة مسجد السهلة المعظم

ص: 1

اشارة

الإهداء

إلى أول قدحة في زناد النهضة

وأول شهيد من رموزها

إلى ثقة المعصوم المصلح ، وسفير

الحسين المفلح ، الأبي الأصيل

مسلم بن عقيل بن أبي طالب (علیه السلام)

أُهدي هذا الحاصل اليسير ...

المؤلف

ص: 2

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله . وبه نستعين ، وصلى الله تعالى على نبيّه الأمين ، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين ، وصحبه المنتجبين ، وبعد :

في تاريخ العراق حقب ينبغي للدارسين الوقوف عندها ، وتأمل خيوط نسيجها ، وما حصل فيها من سلب وإيجاب تبعاً لظروف الفترة وملابساتها . فالعراق بلد الخصب ، ووادي الرافدين ، لجأ اليه الإنسان ، وحقق على أرضه مقدمات الإستقرار وأسباب الحضارة ، وعرفت البشرية تعاليم السماء على يد إبن العراق وأبي الأنبياء إبراهيم (علیه السلام) . وتعاقبت عليه الحضارات ونوّرت أرضه أنوار الرسالات .

ويوم بشّر الرسول الأعظم محمد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله و سلم) برسالة الإسلام الرسالة الخاتمة ، والتي يجب أن تصل إلى عموم أرجاء المعمورة ، حملها أبناء القبائل العربية الى الشرق والى الغرب ، واتخذوا لهم في الأرض المسلمة حديثاً معسكرات ومستوطنات فكانت البصرة ، وكانت الكوفة – من جهة الشرق– ثم تقدمت الكوفة على أُختها البصرة باتخاذها عاصمة لحكومة الدولة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) .

إنّ مَن يقرأ تاريخ هذه المدينة بدءاً من اختيار أرضها للسكن والأقوام التي سكنتها ، والحوادث التي مرّت بها حتى يصل إلى سنة 60 من الهجرة ، يجد نفسه أمام أنموذج من المدن نادر الصفات ، فهي تجمع وبشكل حاد بين

ص: 3

مختلف الظواهر الفاعلة في وقتها ، فكرياً وعلمياً ، وسلوكاً وعطاءً . ففيها نهض الفقه واتسعت دائرتة في مدرسة الإمام علي (علیه السلام) التي هي مدرسة الرسول (صلی الله علیه و آله) . ومن على منبرها أشرقت أنوار البلاغة والفصاحة ، والى الكوفة ينسب النحو والخط العربي الكوفي ، وفي أنديتها تألق الشعراء والأُدباء والمفكرون ، كما تفرّد مسجدها الكبير بقدسية وكرامة قرنته بأقدس الأماكن على الأرض ( الكعبة ومسجد الرسول (صلی الله علیه و آله) والمسجد الأقصى ) ، والى جانب ذلك برزت فيها ظواهر سلبية ، كالفتن ، ومشاكسة الولاة والحاكمين ، وتقاطع العقائد والإجتهادات .

وحين يستعرض الباحثون مفردات الحياة في الكوفة في تلك الفترة التي تقارب نصف قرن من الزمان بحلوِها ومرِّها ، لا يقف – أكثرهم – عند المفاصل التي تحقق معرفة الأسباب والدوافع التي يكتسب منها الخلف دروساً وعبراً مما فعله السلف ، فيفخر بالتفوق الفكري والأدبي والحِرفي والعسكري وما ماثل ذلك . كما يكتشف أساليب الغدر والخداع والتستر بالقيم والدين ويعلم علم اليقين دور بني أُميّة في تشويه المسيرة التي أرادها الإسلام ، وكيف تعاملوا مع قول الله تبارك وتعالى : ﴿ ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور ﴾ (1) وقوله تعالى : ﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ﴾ (2)

ص: 4


1- سورة الشورى الآية 23 .
2- سورة الإسراء الآية 34 .

ومن خلال الإطلاع على جملة من البحوث والدراسات التي تناولت الكوفة حتى سنة 60 هجرية ، وجدت عطاءً رائعاً وجهداً ظاهراً ، وإحاطة بتفاصيل النشأة والسكن والسكان والنظم الإدارية والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنشاط الفكري والأدبي ، وعلم الشريعة والحديث ، وإلى آخر مفردات المدنيّة في وقتها . إلاّ أنّ الملفت للنظر هو : التردد في ذكر الماورائيات التي تتحكم بمجريات الأحداث ، وعدم وضع النقاط على الحروف عندما يتعلق الأمر بشخصية مهمة أو عقيدة خاصة ؛ وإنْ كان لبعض المختصين إضاءات تستحق الثناء .

ولقد حاولت السير مع الحقيقة التاريخية المتفق عليها . ولا أدعي الإحاطة بل اقتصرت على بعض الجوانب التي وجدت أنها بحاجة الى إظهار ، وضمن إمكانياتي المتواضعة ، وعنونت ذلك ب- (( الكوفة والنهضة الحسينية من 17-60 هج- )) . ووراء هذا العنوان حقيقة هي : إنّ النهضة الحسينية حتمية الحدوث لما توفرت لها من أسباب ؛ ولكن : هل تتحقق النهضة دون توفّر أدواتها ؟

نعم : لقد توفّر القائد الذي لايختلف عليه المؤمنون الصادقون بالإسلام وأحكامه وأخلاقه ، وبقي أن يتوفر جيش النصرة ، وقد أعلنت الكوفة بيعتها ، ووقوفها مع الإمام الثائر ، وبهذا كانت الكوفة السبب المكمل لقيام النهضة ، وعليها كان الإعتماد ، ولكن ... سوف نقف – قدر الإستطاعة – على أبرز مجريات الأحداث في حينها لمعرفة المصير الذي كانت الكوفة وراءه ... والأمر لله من قبل ومن بعد .

ص: 5

ولقد التزمت مبدأ الإختصار بعيداً عن الحشو ، بعيداً عن التكرار ..

نسأل الله السداد والثواب ، وهو حسبنا .

المؤلف

طالب علي الشرقي

ذو القعدة 1433ﻫ

أيلول 2012 م

ص: 6

التسمية

كل من يكتب عن الكوفة يتصدى أولاً الى التسمية ، أصلها ، إشتقاقها ، وقد تكرر ذلك كثيراً ، ولكن السؤال الذي تتحقق بجوابه الحقيقة الى حد الإطمئنان هو : عندما قرر سعد بن أبي وقاص ، إختيار أرض الكوفة بالمواصفات التي تخدم جيشه ، وترضي الخليفة ، ذكر في رسالته للخليفة عمر بن الخطاب إسم الارض ؟ فهل كانت تحمل اسماً معلوماً ، أم أن الاسم لحقها بعد الاختيار ؟ وبالرجوع الى المصادر المعتبرة نجد :

في تاريخ الطبري مثلاً : سأل سعد مَن قِبَله عن هذه الصفة فيما بينهم ، فأشار عليه مَن رأى العراق من وجوه العرب ، ب- (( اللسان )) (1) واللسان : لسان البر الذي أدلعه في الريف ، وعليه الكوفة .. (2) وقال ايضاً : كتب سعد الى عمر : إنّي نزلت بكوفة منزلاً بين الحيرة والفرات برّياً بحرياً (3) ولم يقل بالكوفة . وهذا يدعم قول من يقول ان التسمية جاءت من صفة الارض الرملية ، وان كل رملة يخالطها حصباء تسمى كوفة (4). فالتسمية عربية . والتكوّف يعني التجمع أيضاً ، وهو ما يتفق مع الغرض الاصلي من تأسيس الكوفة لتكون قاعدة عسكرية تتجمع فيها الجنود ، ولذا سمّيت كوفة الجند .

ويوم كانت الحيرة وما جاورها تحت النفوذ الفارسي ، كانت المناطق التي لم تكن تحمل أسماء في الأصل ، تُطلق عليها أسماء فارسية ، فمنطقة

ص: 7


1- الطبري / تاريخ الطبري 4 : 42 .
2- ياقوت الحموي / معجم البلدان 5 : 16 .
3- الطبري / تاريخ الطبري 4 : 43 .
4- معجم البلدان 4 : 490 .

الكوفة سماها الفرس ( سورستان ) وتعني الصحراء أو البادية (1) . وحين اختارها العرب سموها بما يتفق ولغتهم ، ولا مجال لمن يدعي ان إسمها من أصل سرياني أو آرامي ، على ان للسريان والآراميين حق إطلاق ما يرغبون من الفاظ للمناطق التي يتواجدون فيها من دون أن تلغى مسمياتها الأصلية .

ويذكر الشيخ جعفر محبوبة رأياً للقس سليمان الصائغ الموصلي يقول فيه : .. مشهد علي بالقرب من عاقولا ، وهي الكوفة (2) . بينما يقول الاستاذ الدكتور حسن عيسى الحكيم : إنّ من الثابت أن الكوفة قد خططت على مقربة من مركز فكري حيري يسمى عاقولا ، وقد اتخذه السريان معقلاً لهم ، وأصبح له شأن علمي بعد تمصير الكوفة (3) . أي أنّ عاقولا وجود جغرافي حضري قرب الكوفة وليس هو الكوفة .

ويقول الدكتور مهدي المخزومي : وكان هناك عناصر ساميّة من السريان شيّدوا ديارات لهم في هذه البقعة ، وعُرفت عندهم بالعاقولا (( يا-كيو- لو )) وهو الإسم السرياني للكوفة كما يزعم ما سنيون (4) . فالدكتور المخزومي يقلل من أهمية الخبر ويحصره في زعم المستشرق الفرنسي ماسنيون .

ثم إنّ ياقوت الحموي لم يذكر لعاقولاء غير الإسم في بيت شعر ، لحاجب بن ذبيان المازني يخاطب مسلمة بن عبد الملك بقوله :

ص: 8


1- البلاذري / فتوح البلدان ص 275 .
2- ماضي النجف وحاضرها 1 : 6 .
3- الكوفة بين العمق التاريخي والتطور العلمي ص46 .
4- مدرسة الكوفة ص1 .

أقام بعاقولاء منّا فوارس *** كرام إذا عُدَّ الفوارس والرَّجل (1)

وقال إبن عبد الحق البغدادي : عاقولاء موضع في شعر (2) ولم يذكر المؤرخون أو الجغرافيون أي تفاصيل عن خطط وسكان ومآثر عاقولاء. ويفهم من المدلول اللغوي للفظة عاقولاء إنّها منسوبة الى نبات العاقول الحمضي الذي يكثر في الأرض الواقعة بين الحيرة والكوفة ، وهي أرض مالحة يظهر فيها هذا النبات بكثرة .

موضع الكوفة وموقعها

وقبل الشروع بالتأسيس أو المباشرة بتحديد موضع إقامة المسجد الذي يمثل مركز ثقل الحاضرة الجديدة والذي تدور حوله مواضع المنشآت والتقسيمات اللاحقة كان لابد من توفير عنصر الأمان بعيداً عن المخاطر المحتملة (( كالفيضانات ومجرى الرياح ومأوى البعوض .. وحيث يمكن قطع الطريق على الأعداء القادمين من النهر وعرقلة تقدمهم ، إضافة الى وفرة المياه وخصوبة الأرض وصلاحيتها للزراعة والسكن )) (3) ، وهكذا كان موضع مدينة الكوفة التي تقع (( في مكان حيوي يتوسط العراق ويمكن منها فرض السيطرة على طول منطقة الفرات الاوسط من الناحية الحربية ، وممراً في طريق القوافل التجارية ، ومحطة في راس طريق الحج الى مكة ... (4)

ص: 9


1- معجم البلدان 4 : 69 .
2- مراصد الإطلاع ص910 .
3- الدكتور كاظم الجنابي / تخطيط مدينة الكوفة ص34 .
4- الدكتور كاظم الجنابي / تخطيط مدينة الكوفة ص35 .

وجاء في معجم البلدان : ... إن إبن بقيلة قال لسعد : هل أدلّك على أرض إنحدرت عن الفلاة وارتفعت عن المبقّة ، قال نعم ، فدلّه على موضع الكوفة (1) .

ويصف ماسنيون موضع الكوفة بقوله : (( ... في ريف مماس الى لسان من الرمل اليابس النافذ في منطقة تروى بمياه شط عظيم (الفرات))) (2).

التأسيس

باختصار شديد حيث أسهب المؤرخون والباحثون في ذكر تفاصيل تأسيس مدينة الكوفة ، نقول : في سنة 17 هجرية – على الأرجح – وبعد الإنتهاء من فتح المدائن ، وحاجة الجيش العربي للراحة والاستقرار أُختيرت أرض الكوفة لذلك ؛ لتوفرها على الصفات التي تلائم أمزجة العرب وخيولهم وإبلهم ، وأُريد لها أن تكون دار هجرتهم ومحلاً لإقامتهم ومعسكراً لحاميتهم يسيطرون على العراق وفارس (3) .

وفي قول للآثاري الدكتور كاظم الجنابي يفيد بأن الكوفة لم تكن معروفة قبل أن ينزلها العرب ، غير أن ثمة رواية فارسية يذكرها المستوفي ، تزعم أن الملك الأُسطوري (( خوشنك )) هو الذي بنى الكوفة ، ولكنها تخربت ... أو كما يقول إبن الفقيه : بأن الطوفان قد أصاب مسجدها ، ومنه خرجت

ص: 10


1- ياقوت الحموي 4 : 491 .
2- خطط الكوفة وشرح خريطتها ص15 .
3- البلاذري / فتوح البلدان ص274 .

سفينة نوح ، وكل من الروايتين لا يدعمهما دليل تاريخي أو آثاري (1) على حدِّ قول الدكتور الجنابي .

وطبيعي أن يكون السكن في الخيام ، ثم إن أهل الكوفة إستأذنوا في بنيان القصب فأذن لهم الخليفة عمر بن الخطاب ، ولكن الحريق وقع بالقصب فبعث سعد نفراً يستأذنون في البناء باللبن .. فقال الخليفة عمر : إفعلوا ولايزيد احدكم على ثلاث أبيات ولا تطاولوا في البنيان فوق القدر (2) وهذه هي الحكمة السياسية والإدارية التي تمنع المتنفذين والاثرياء من الاستحواذ على مساحات اكبر من الارض ، والشموخ والتعالي في البناء على الفقراء والعامة من الناس ، إنها خطوة على طريق حماية الضعفاء والمعوزين من سطوة الأقوياء .

وفي ولاية المغيرة بن شعبة ، صاروا يشيدون المساكن من الآجر (3) . يقول الشيخ علي الشرقي : مصّرت الكوفة في العام السابع عشر للهجرة ، وتكاملت كمدينة أكواخ في خمس سنوات ، وفي عهد المغيرة نهضت جدر من اللبن غير المشوي تقبعها خيام ومضارب بصورة ثابتة ، وعلى عهد زياد شيّدت بالآجر ، وأول ما شيّد بالآجر أبواب الدور (4) .

وحين راجت عملية الهجرة من الحيرة الى الكوفة ، وأُهملت الدور والمباني القديمة إتّجه الكوفيون الى انتزاع ما يحتاجون من آجرها وأبوابها وبنوا بها دورهم ومنشآتهم ، حتى قيل أن الكوفة بنت الحيرة ، وبنفس الطريقة بنى

ص: 11


1- تخطيط مدينة الكوفة ص57-58 .
2- الطبري / تاريخ الطبري 4 : 43 .
3- ماسنيون / خطط الكوفة ص38 .
4- مجلة الاعتدال النجفية المجلد 4 الجزء 1 ص 14 .

سكان المشهد العلوي المطهر بعض دورهم ومنشآتهم من آجر مباني الكوفة القديمة ، فقيل إن النجف بنت الكوفة .

أمّا البناء الأول في الكوفة فكان المسجد ودار الإمارة . ووضعت الخطط ، فقسمت الكوفة الى سبع مناطق عسكرية سميت الأسباع (1) وقد ذكرَتْها المصادر بالتفصيل (2) . ولهذا التقسيم إعتبارات مهمة تتصل بمواصفات القبائل ودرجات منزلتها وحجمها ، فهي برغم إسلامها الاّ انها لم تتخلص تماماً من التربية الجاهلية .. حتى أن سعد بن أبي وقاص إستشار الخليفة عمر في كيفية إسكان القبائل بلحاظ القرب والبعد عن المسجد ، وكذلك من حيث الإتجاهات الجغرافية ، فكان أمر الخليفة في تعديلهم ، فكان النسب والحلف والتوافق أساساً في تنظيم الأسباع . واستمر ذلك الى أن غيّره زياد بن أبيه الى الأرباع كما هو الحال في البصرة .. (3) ففي سنة 50 هجرية في إمارة زياد بن أبيه صار التقسيم على أساس الأرباع واستمر العمل به حتى زوال شأن الكوفة (4) .

ومن خلال هذا الحراك والتحولات العمارية – على بساطتها – يخرج المتأمل بسؤال يقول : ما الذي يعتمل في نفوس سكان الحاضرة الجديدة وهم يعيشون حياة الاستقرار بعيداً عن حياة الصحراء ونتائج الغزو وشحة الماء والكلأ ؟

ص: 12


1- ماسنيون / خطط الكوفة ص40 .
2- المصدر السابق ص42 وما بعدها .
3- الطبري / تاريخ الطبري 4 : 48 .
4- ماسنيون / خطط الكوفة ص60-61 .

والجواب هو : إن أغلب الناشطين والقادة المتميزين يعيشون إصطراعاً خفياً بين ما فطروا عليه واعتادوا على فعله من جهة وواقع الحال المعاش من جهة أخرى . فقد تولّدت لدى بعضهم طفرات نوعية إيجابية بينما حصل لدى آخرين إضطراب وعدم وضوح رؤية حيث الهدم السريع لمنظومة القيم الموروثة . إنها نتيجة حتمية تفرزها طبيعة المدن وخاصة مع الشريحة التي تفتقر للتجربة الحياتية الجديدة ، وقد تتولد منها مواقف حادة واصطفافات تعكّر حالة التعايش التقليدية بين الناس ، وذلك بإحياء الأحقاد القديمة بين القبائل بل وبين الأفراد أحياناً أو إذكاء جذوة الفتن والنعرات ، وهو المتحقق فعلاً في بعض مراحل حياة الكوفة .

مساحة الكوفة

إنّ في ضَياع مصادر التوثيق والكتب المختصة بتاريخ الكوفة في العهود الأولى ، ضياعاً لكثير من الحقائق ، ولذا جاء القول بالتخمين . يقول الدكتور كاظم الجنابي : إننا لم نعثر في الكتب على أرقام تشير الى المساحة التي شغلتها في بادئ أمرها .. ويمكننا من باب التخمين والترجيح أن نقول : إنّ الكوفة قد أُقيمت في رقعة صغيرة لا يتجاوز قطرها الكيلو مترين (1) . وهي بالضرورة تشمل ما يحتاجه سكانها من أرض لتشييد دورهم وطرقهم وأسواقهم وجباناتهم ومساجدهم ، بعد أن تمركز المسجد الأول ودار الإمارة في الوسط . وتفيد الأخبار بأن الخليفة عمر بن الخطاب أمر بالمناهج – الشوراع – أربعين ذراعاً وما يليها ثلاثين ذراعاً وما بين ذلك عشرين ، وبالأزقة سبعة أذرع ليس

ص: 13


1- تخطيط مدينة الكوفة ص39 .

دون ذلك شيء ، وفي القطائع ستين ذراعاً (1) . ولابد أن تكون لخيولهم ودوابهم مساحات كافية إضافة الى الفضاءات المفتوحة كرحبة علي والكناسة وأمثالهما .

وعندما اتخذها الإمام علي (علیه السلام) عاصمة ، لم تحظ بنهضة عمرانية وتوسع ، لما عُرف عنه (علیه السلام) من إبتعاد عن ترف الحياة ، إضافة الى خوضه ثلاث معارك لم تترك مجالاً للناس بالتوسع وتشييد المباني المهمة.

كما لم تحظ الكوفة بالرعاية والتوسع العمراني خلال حكم الأمويين والعباسيين لموقفها السياسي المنحاز الى العلويين عدا التوسع الطبيعي التقليدي .. (2)

ص: 14


1- الطبري / تاريخ الطبري 4 : 44 .
2- طالب علي الشرقي / قصور العراق العربية الاسلامية حتى نهاية العصر العباسي 656هج- ص89 .

خطط الكوفة

بعد اختيار الأرض صار لابد من وضع حجر الأساس للمسجد الأعظم للمدينة فهو أقدس مكان تلتف حوله جزئيات الكيان الجديد . فكان في الوسط ، وقد أوصى الخليفة عمر بن الخطاب ان يكون إستيعابه لاربعين الف مصلٍ . وبحياله من جهة الجنوب دار الامارة وبيت المال (1) وأمر سعد إبن أبي وقاص أصحاب القطائع والدور أن يختطوها بما تشتمل عليه من مرافق تهيئ لهم سبل الاستقرار ، وان كل قبيلة إختطت المكان الذي خصص لها – أي أن التخصيص مركزياً وليس وفق رغبة القبيلة –

والتزاماً بمنهج الاختصار وعدم التكرار ما أمكن نكتفي بالاشارة الموجزة الى ما حصل . فقد نزل أهل اليمن في الجانب الشرقي من المسجد وهو خير مواضع الكوفة لأنه يقع بين الفرات والمسجد ، ونزلت نزار في الجانب الغربي . وبعد تحديد المناهج (2) تمّ إنزال القبائل عليها . وكانت المناهج :

1-شمال المسجد خمسة مناهج .

2-قبلة المسجد ( جنوبه ) أربعة مناهج .

3-شرق المسجد ثلاثة مناهج .

4-غرب المسجد ثلاثة مناهج .

ص: 15


1- في نهاية موضوع خطط الكوفة سوف نتعرض للمسجد ودار الامارة وباختصار لايخل بتحقيق التعريف المجزي .
2- المنهج هو الخط الفاصل بين تصفيف الخيام التي أقطعها سعد للقبائل المختلفة . وكل منهج كان على جانبيه صفّان من الخيام بمثابة الطرق الرئيسية (ماسينون / خطط الكوفة صفحة 63 مع الهامش رقم 1 ) .

فخصص المنهج 1 ، 2 لقبيلتي سليم وثقيف ، والمنهج 3 لهمدان ، والمنهج 4 لبجيلة ، والمنهج 5 لتميم اللات وتغلب . وفي جنوب المسجد المنهج 6 لبني أسد ، والمنهج 7 بين بعض أسد والنخع ، والمنهج 8 لبعض النخع وكنده ، والمنهج 9 بين بعض كنده والازد وفي شرق المسجد المنهج 10 بين الانصار ومزينة ، والمنهج 11 لتميم ومحارب ، والمنهج 12 لبعض أسد وعامر . وفي غرب المسجد المنهج 13 لبجالة وبعض بجيلة والمنهج 14 لجديلة واللفيف والمنهج 15 لجهينة واللفيف (1) .

وبعد ذلك وبأمر من الخليفة عمر بن الخطاب تمَّ تعديل القبائل وتقسيمها الى أسباع ، أي أن القبائل المار ذكرها قسَّمت الى سبعة مجاميع ، في كل منها ثلاث قبائل كحد أدنى وأكثر من ذلك حسب أحجامها . وفي آخر الأسباع يقول ماسنيون : لم تذكره جميع المصادر . فجعله ماسنيون لقبيلة طي (2) .

وقد حصل للأسباع تغيير في عهد امير المؤمنين الإمام علي (علیه السلام) ، فأنه رتّبَ القبائل ترتيباً جديداً وفق منظور عسكري تعبوي ، وعلى الترتيب الآتي :

1-عَقَدَ لحمير وهمدان راية .

2-عقد لمذجح والأشعريين راية .

3-عقد لقيس وعبس وذبيان راية .

4-عقد لكندة وحضرموت وقضاعة ومهرة راية .

ص: 16


1- الدكتور كاظم الجنابي / تخطيط مدينة الكوفة ص76 .
2- خطط الكوفة وشرح خريطتها ص48 .

5-عقد لبكر وتغلب وبقية بطون ربيعة راية .

6-عقد للإزد وبجيلة وخثعم وخزاعة راية .

7-عقد لسائر قريش والأنصار وغيرهم من أهل الحجاز راية (1).

والذي بدّل نظام الأسباع وجعله أرباعاً هو زياد بن أبيه في ولايته للكوفة سنة 50 هجرية فجعل :

الربع الأول أهل المدينة .

الربع الثاني تميم وهمدان .

الربع الثالث كندة وربيعة .

الربع الرابع مذحج وأسد . (2)

وبقي هذا التقسيم حتى آخر أيام الكوفة .

مسجد الكوفة

هو أول شيء خطه رجال الفتح الإسلامي عند نزولهم أرض الكوفة وكان في موضع وسط ليتيسّر لعامة المسلمين أداء الفرائض والإتصال بالوالي ويعتبر سعد بن ابي وقاص الباني الأول للكوفة ومسجدها ودار إمارتها . قال البلاذري : (( فلما أنتهى الى موضع مسجدها أمر رجلاً فغلا بسهم قبل مهب القبلة فأعلم موقعه ثم غلا بسهم آخر .. )) الى آخر الأركان الأربعة . والذي يستوقف القارئ قوله : (( فلما انتهى الى موضع مسجدها)) فهل هناك موضع

ص: 17


1- الدكتور كاظم الجنابي / تخطيط مدينة الكوفة ص79 .
2- المصدر السابق ص80 .

معين قديم ، ربما أخبرهم به من وصل الى علمه شيء من ذلك كسلمان الفارسي مثلاً ، أو أنّ القصد فلما إنتهى الى الموضع الذي تمّ إختياره ، والإتفاق عليه في وسط المدينة المقترحة ؟ وقال الطبري (( وبنى ظُلةً في مقدمه ليست لها مجنبات ولا مواخير ، والمربعة لاجتماع الناس لئلا يزدحموا ، وكانت ظُلته مائتي ذراع على أساطين رخام كانت للأكاسرة ... وأعلموا على الصحن بخندق لئلا يقتحمه أحدٌ ببنيان )) (1) .

والحقيقة إنّ المرويات الدينية والأخبار العقائدية تتقاطع مع أقوال الآثاريين الذين ينظرون الى الأبعاد والإتجاهات وعمر مواد الإنشاء والمساحة الكلية والمنشآت الملحقة والخدمات التي يقدمها المسجد للسكان . (( ودلّت الحفائر الأثرية التي أُجريت في مسجد الكوفة على أن المسجد كان قد أُقيم على أرض مربعة الشكل تقريباً بانحراف قليل عن زاوية القبلة بمقدار سبع عشرة درجة . وقياس الجداران :- الضلع القبلي 110متراً والجدار الشمالي 109 متراً والجداران الآخران كل منهما 116 متراً . ولوحظ أن الجدران الأربعة نازلة في الأرض الى عمق خمسة أمتار ، ومرتفعة يدعمها من الخارج أبراج نصف دائرية إرتفاعها بالجدران يصل الى نحو 20 متراً وعدد الأبراج 28 برجاً . في الجدار القبلي 5 ، وفي الجدار الشمالي 7 وفي الجدار الشرقي 7 وفي الجدار الغربي 5 وفي كل ركن من أركان المسجد برج ، وفي الجدار القبلي بيت للصلاة ومحراب بدل المحراب الأصلي وعليه كتابة نصّها : هذا مقام أمير المؤمنين (علیه السلام) (2) .

ص: 18


1- تاريخ الطبري 4 : 44 , 45 .
2- الدكتور كاظم الجنابي / تخطيط مدينة الكوفة ص114-120 .

ولم يبق الجامع على حاله بل جرت عليه تغييرات وتوسعة في عهد المغيرة بن شعبة سنة 41ﻫ ووسعه وأضاف اليه زياد بن أبيه سنة 50ﻫ وأصلحه وجدده بعد ذلك الحجاج وخالد القسري (1) .

دار الامارة في الكوفة

سمي بدار الامارة لكونه مركز إدارة الحكم ويسكنه امير الجند ، وسمي قصر سعد نسبة الى بانيه سعد بن ابي وقاص ، وسماه الخليفة عمر بن الخطاب بقصر الخبال (2) وبهذا الاسم سماه الإمام علي (علیه السلام) أيضاً (3) .

يقع القصر في وسط مدينة الكوفة بحيال مسجدها الكبير ، بينهما طريق منقب ( ضّيق ) جعل فيه بيوت الاموال . والقصر في قبلة المسجد .

يتألف سور القصر الخارجي من أربعة جدران طولها 170×170 متراً ، ومعدل سمكها 4 امتار وتدعم كل ضلع من الخارج ستة أبراج نصف دائرية باستثناء الضلع الشمالية يدعمها برجان فقط ، وتنتهي الأركان الثلاثة الشمالية والجنوبية الشرقية والغربية بثلاثة أبراج نصف دائرية ماعدا الركن الشمالي الغربي فانه يتصل بسور المسجد . وإنّ إرتفاع السور بأبراجه يصل الى ما يقارب 20م .

يقول الدكتور كاظم الجنابي : إنّ السور الخارجي بقي على ماكان عليه منذ بدء تشييده ، سوى تغيير القسم الجنوبي عند الأيوان وقد حدث ذلك إبان العهد الأموي (4) .

ص: 19


1- المصدر السابق ص113 .
2- إبن الأثير : الكامل في التاريخ 2 : 530 , الطبري / تاريخ الطبري 4 : 47 .
3- نصر بن مزاحم / وقعة صفين ص5 .
4- د . كاظم الجنابي / تخطيط مدينة الكوفة ص152 .

وفي القصر دار كبيرة متعددة المرافق تدل المعالم الأثرية في جانبها الغربي على أن ذلك الجانب منها كان مخصصاً للسكن ، ويصل بين غرفه ممر عريض يفصل هذه الغرف عن الضلع الغربية للسور الداخلي أما قسمها الشمالي فيكون من قاعتين فسيحتين يدل سمك جدرانهما وريازتهما على أنهما لم يكونا غرفاً للسكنى ولعلهما تعودان الى مجموعة غرف الإدارة (1).

أسواق الكوفة

أما أسواق الكوفة فكانت أرضاً فضاءً لا بناء فيها ولا سقوف سوى ظلال ( بواري ) من الحصير ، وكان نظام الأسواق على سنّة المساجد فمن سبق الى موضع فهو له حتى يفرغ منه ، وهي مدعومة بأمر الخليفة عمر إبن الخطاب ، قال : الأسواق على سنّة المساجد ، من سبق الى مقعده فهو له حتى يقوم الى بيته أو يفرغ من بيعه . وظلت الأسواق على حالتها تلك حتى ولاية خالد بن عبد الله القسري فكان أول من بنى الأسواق في الكوفة بناءً محكماً (2) .

قال اليعقوبي : السوق من القصر والمسجد الى دار الوليد الى القلائين الى دور ثقيف وأشجع ، وعليها ظلال بواري الى أيام خالد بن عبد الله فإنه بنى الأسواق وجعل لأهل كل بياعة داراً وطاقاً وجعل غلالها للجند (3).

ويتوقف إزدهار الاسواق وتنوّع البضاعة وتعدد المهن فيها على أمور مختلفة ولكنها متلازمة فالحاجة تستدعي توفير مستلزمات الحياة اليومية فلابد من العمل في الزراعة والتجارة ، وحين تكون الحياة رخيّة تنشط الأسواق وتتنوع المهن والحرف .

ص: 20


1- مجلة سومر المجلد 10 الجزء الاول ص77-79 وانظر : مجلة الكوفة المجلد الخامس / العدد الأول 2001م عدد خاص بمهرجان الفية الكوفة / جامعة الكوفة مقال لطالب علي الشرقي (( دار الامارة في الكوفة )) ص278-289 .
2- الدكتور كاظم الجنابي / تخطيط مدينة الكوفة ص86 وانظر البلاذري / فتوح البلدان ص284 .
3- كتاب البلدان ص71 .

والحقيقة إن أسواق الكوفة في النصف الأول من القرن الأول الهجري قد سكتت المصادر عن وصفها بالتفصيل الاّ أن الناس لا تستغني عن البيع والشراء بالمواد الغذائية كالحبوب واللحوم والخضر ، والأقمشة والتوابل والعطور والأسلحة ومستلزمات الزراعة والتمور والصابون .

أما المهن فقد ذكر ماسنيون مجموعة منها ولكنه لم يحدد تاريخ ظهورها في الكوفة الاّ ان أكثرها ملتسق بحاجة السكان في أي مرحلة ، كالوراقين والخياطين والقصارين والتمارين والبقالين والجزارين وباعة الحنطة وطحين الشعير وما الى ذلك (1) .

المساجد في الكوفة

خطّت القبائل مساجد صغيرة حسب مواضعها ، وأصبح لكل قبيلة مسجد . وقسم ماسنيون المساجد في الكوفة الى قسمين : مساجد لاعنه وأُخرى غير لاعنه ، لعلّه أراد باللاعنه تلك المساجد الواقعة تحت تأثير الضلال الأموي الذي سن لعن أمير المؤمنين الإمام علي (علیه السلام) . وقد تهدمت جميع مساجد النصب والعدوان وبقيت مساجد العدل والتقوى كمسجد السهلة ومسجد صعصعه بن صوحان. ونقل إبن الفقيه نصاً ورد على لسان الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) وهو : إنّ بالكوفة أربع بقاع قدس مقدسة فيها أربعة مساجد . قيل : سمّها يا أمير المؤمنين ، قال احدها مسجد ظفر وهو مسجد السهلة ويسمى أيضاً مسجد القرى (2) ومن مساجد الكوفة أيضاً مسجد سماك منسوب الى سماك بن مخرمة الاسدي . ومسجد بني حذيفة جنوب غربي مسجد الكوفة ومسجد جعفي ومسجد الحمراء وفيه قبر يونس بن متي ومسجد غني ..

الجبّانات في الكوفة

ص: 21


1- خطط الكوفة ص104 .
2- الدكتور كاظم الجنابي / تخطيط مدينة الكوفة ص88-90 .

لقد أختصت كل قبيلة بجبانة أو مقبرة خاصة بها ، وقد ترددت أسماء بعض الجبانات في المصادر التاريخية وهي تحمل أسماء أشخاص وقبائل – غالباً – مثل جبانة (( عزرم )) إسم رجل وجبانة (( بشر )) أسم رجل ايضاً وجبانة (( كنده )) لكنده وربيعة وجبانة (( بني سلول )) من قيس (1) وهي كثيرة ومبثوثة في أرجاء منطقة الكوفة . وذكر ما سنيون اكثر من عشر جبانات منها : الجبّانة ، وليس لها أسم خاص تقع على الثويّة وفيها مدافن للقريشيين والثقفيين (2) ودفن فيها من الاعلام المغيرة بن شعبة وكميل بن زياد وابو موسى الاشعري وزياد بن أبيه وغيرهم .

السجون في الكوفة

هناك تلازم بين الحكومة والسجن ، فحيث يوجد القضاء يوجد السجن وعلى الرغم من عدم تحديد أعداد السجون ومواقعها ومواصفاتها الاّ ان المصادر التاريخية صرّحت بوجودها ، فقال الفيروز آبادي في القاموس المحيط : والمخيّس سجن بناه عليّ رضي الله تعالى عنه وكان أولاً جعله من قصب وسماه ( نافعاً ) فنقبه اللصوص فقال : ... بنيت بعد نافع مخيّساً (3).

وقال ماسنيون :يوجد في الكوفة سجنان ، وقد رأينا السجن القديم كان في غرب المدينة قرب الكناسة (4) وكشف التنقيب الآثاري عن بناية خارج مدينة الكوفة على بعد سبعة كيلو مترات الى الجنوب الشرقي من دار الامارة ، أُطلق عليها إسم (( قصر أُم عريف )) والحقيقة إنها سجن من سجون الكوفة .. ومن أشد الولاة ظلماً في الكوفة زياد بن أبيه فقد سجن وقتل الكثير من الشيعة خاصة ، ومثله إبنه عبيد الله الذي اتخذ عدة سجون منها في قصر الامارة ،

ص: 22


1- المصدر السابق ص93 .
2- خطط الكوفة ص72 .
3- الفيروز آبادي / القاموس المحيط .
4- خطط الكوفة وشرح خريطتها من 110 .

والسجن الذي ضم العشرات إبان النهضة الحسينية سنة 60هجرية ومنهم المختار بن أبي عبيد الثقفي (1) .

ص: 23


1- طالب علي الشرقي / مجلة حولية الكوفة المجلد 2 ص60 وما بعدها مقال بعنوان السجون في الكوفة .

النشاط العلمي والثقافي في الكوفة في النصف الأول من القرن الهجري الأول

إنّ نواة السكن التي أرست قواعدها القبائل العربية التي تألف منها جيش الفتح كان في طليعتها القبائل اليمنية كقبيلة مذحج وهمدان وكندة وحمير وبجيلة (( فهذه الأقوام كانوا متمدنين تقريباً وصاروا سبباً لتحضر العنصر العربي في الكوفة )) (1) وكان لجمهور الصحابة ممن بايعوا الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) تحت الشجرة ومن البدريين تأثير ظاهر في نشر الوعي والمعارف الدينية ، بل (( إن هؤلاء الصحابة هم أول من أسس حركة العلم في الكوفة ولكن ليس كلهم على درجة واحدة من الأهمية ويمكن الاشارة الى بعض منهم ممن أرسلهم الخليفة عمر بن الخطاب الى الكوفة ليعلموا أهلها – إضافة الى ادوارهم الاخرى – منهم عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وقرظة بن كعب الأنصاري وعثمان بن حنيف وحذيفة بن اليمان )) (2) .

وقد تنوعت محاور العلوم فكان التاريخ والفقه والنحو واللغة وعلم الكلام والتفسير ، وكان لمسجد الكوفة الدور الأول كحاضنة لطلاب المعرفة وملتقى المعلمين والمتعلمين . (( وأخذ هذا الجامع في خلافة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) طابعاً علمياً واسع النطاق )) (3) فكان أول مدرسة لإقراء القرآن الكريم ، وقد جلس القراء في مسجد الكوفة يلقّنون طلبة القرآن القراءات التي رووها بأسانيدهم ، وكان أبو عبد الرحمن السلمي شيخ القراء أول من جلس للإقراء في مسجد الكوفة (4) ومسجد الكوفة كان موطن الفقه ومستقر الفقهاء وإنّ عدداً كبيراً من الصحابة كان لهم دور كبير في إقامة مدرسة فقهية سامية مثال ذلك الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) وعبد الله بن

ص: 24


1- ماسينون / خطط الكوفة ص53 ( قبل أن يختلط بهم سكان الحيرة وبعض أهل العراق ... ) .
2- مجلة الكوفة المجلد الخامس العدد الأول من ص30 بحث الدكتور نزار عبد اللطيف الحديثي .
3- الدكتور حسن عيسى الحكيم / الكوفة بين العمق التاريخي والتطور العلمي ص199 .
4- مجلة الكوفة المجلد الخامس العدد الأول ص41 بحث الدكتور حسين امين .

مسعود وحذيفة بن اليمان وسهل بن حنيف وغيرهم . وتناول العرب المسلمون القرآن الكريم بالدراسة والتفسير وكان القرّاء من أوائل الذين اهتموا بتفسير القرآن ، ومن أوائل الذين عرفوا بالتفسير في الكوفة مؤسس المدرسة عبد الله بن مسعود الذي كان منهجه يقوم على تلاوة القرآن ومن ثم تفسيره . وحفلت الكوفة بمجموعة من المفسرين كان منهم محمد بن كعب القرظي وزر بن حبيش ، وابو عبد الرحمن السلمي (1) .

وللحديث النبوي الشريف حصة في نشاط الكوفة المعرفي فهو كثيراً ما يفسّر ويوضح معاني القرآن الكريم ، كما يمثل جانباً تشريعياً أو إرشادياً وكان عبد الله بن مسعود قد علّم القرآن وعلم السنّة ، وكان من تلاميذه علقمة بن قيس ومسروق بن الأجدع وعبيدة السلماني وغيرهم (2) .

كما أسهم الكوفيون في دراسة الأدب وتدوينه ، وبيّنوا أسباباً لنشوء تلك الدراسات ومنها المفاخرات بين القبائل . كما كان للقراءات القرآنية دورها الهام في تثبيت العلاقة بين القراءة الصحيحة وماله علاقة بالنحو العربي ورسم المصحف . وفي الحلقات القرآنية زرعت بذور الدرس اللغوي ... تلك الامور وسواها أدت الى أزدهار دراسات الأدب العربي . ويبدو أن الإهتمام بدراسة النحو في الكوفة كان اسبق من غيره من فنون الأدب العربي ، فقد اتجهت طائفة من القرّاء في الكوفة الى تصحيح متن القرآن عن طريق الرواية ، وقد ظهر من أصحاب عبد الله بن مسعود من كان مهتماً بالنحو فكان زر بن حبيش أعرب الناس ، وكان عبد الله بن مسعود يسأله عن العربية . وفي مجال الشعر كان إهتمام أهل الكوفة متميزاً ، فكان الكوفيون بصيرين بأشعار العرب ومطلعين عليها .. (3)

ص: 25


1- حولية الكوفة / العدد الاول 1432ﻫ 2011م ص195-196 بحث الدكتور هادي حسين حمود – كلية الآداب – جامعة بغداد .
2- المصدر السابق ص196 .
3- المصدر السابق ص198 .

اما النشاط التاريخي فلا أختلاف في أنه كان شفهياً في الغالب واذا وُجِدَ من دوّن فانه نادر . وقد رُويت عن عبد الله بن مسعود مرويات فكانت تتعلق بأحداث التاريخ الاولى ، وكان لتلميذه مسروق بن الأجدع بعض المرويات التاريخية وكان لبعض اصحاب الإمام علي (علیه السلام) وتلاميذه الدور المميز الواضح في رواية الاحداث التاريخية ، ومن أولئك على سبيل المثال الأصبغ بن نباته وأبو حمزة الثمالي ، وسليم بن قيس الكوفي الهلالي وعنه يذكر ابن النديم أن له كتاباً في التاريخ . وكان عبيد الله بن رافع كاتب الامام علي قد ألّف كتاباً أسماه : ( تسمية من شهد مع أمير المؤمنين (علیه السلام) الجمل وصفين والنهروان من الصحابة ) . وكان زياد بين أبيه والي الكوفة قد كتب في الأنساب (1) .

وفي الكوفة نشأ علم الكلام وكان من أسباب ظهوره : المعارك الكلامية بين أصحاب ومؤيدي الفرق ، وحوادث كانت مثار جدل كلامي ابرزها مسألة الإمامة وشروطها والخلافة ومن هو أحق بها . ثم ما تردد بين الإمام علي (علیه السلام) ومعاوية ، وبين الامام والخوارج ، وكلها حصلت في الكوفة ، والإمامية يذهبون الى أنهم واضعوا الركائز الأولى لعلم الكلام ودليلهم هو ان الأئمة من آل البيت قد كشفوا الكثير من المسائل الكلامية التي وردت في احاديثهم ومناظراتهم مثال ما ورد عن الامام علي مع مجموعة من الصحابة وبعض الخصوم بعد وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وأثناء خلافته.. (2)

وأخيراًمع المدرسة العظمى ، مع باب مدينة علم الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) الذي تفرّد بقوله : سلوني .. في رحاب مسجد الكوفة المعظم كان أمير البلاغة والبيان الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) يملأ الأجواء بخطبه التي فاقت كلام المخلوقين وعلّمت الناس أساليب الخطابة وجواهر البلاغة ، ونشر من خلالها

ص: 26


1- المصدر السابق ص199-200 .
2- المصدر السابق ص228-231 بحث الاستاذ الدكتور نعمة محمد ابراهيم كلية الآداب – جامعة الكوفة .

ما فاض من خزائن علمه وعظيم معرفته ، وتعرّض لأدق فروع المغيّبات وغرائب المعلومات ، وكشف للناس غطاء المجهول من صفات الله تبارك وتعالى ، وترك دروساً وعبر للأجيال المتعاقبة على أختلاف مستوياتها ومعتقداتها .

لقد تصدّى السيد الشريف الرضي محمد بن الحسين (رضی الله عنه) الى جمع ما تيسر له من كلام أمير المؤمنين وخطبه في كتاب أسماه (( نهج البلاغة )) الذي يقول فيه أحد شرّاحه المرحوم الشيخ محمد عبده : ولا أعلم إسماً اليق بالدلالة على معناه منه . ويضيف قائلاً : وهو لم يترك غرضاً من أغراض الكلام إلاّ أصابه ، ولم يدع للفكر ممراً إلاّ جابه (1) .

ص: 27


1- محمد عبده / شرح نهج البلاغة ص ي من المقدمة .

سكّان الكوفة

إتفق المؤرخون على أنّ جيش الفتح العربي هو أوّل من سكن الكوفة . ولسنا بحاجة إلى تكرار ما حقّقه جل من كتب بخصوص سكانها وانتماءاتهم التي ينسبون اليها ، والذين التحقوا بهم فيما بعد ، سواء من المهاجرين أو الأحلاف ولكن : حين النظر الى الكم الكبير من القبائل المختلفة في النسب والوطن والثقافات والطموح والغايات والفوارق الأجتماعية والدرجات الاخرى فإننا سوف نقف على خليط تجمعه صفتان : الأولى الاسلام ، مع تفاوت في القِدم والصلاح . والثانية : العسكرية ، فهم جنود ولا مهمة رئيسية لهم غير ذلك الاّ ما اقتضته الحاجة وما تفرضه ظروف السلم وحياة المدينة . وقد بلغ عدد سكان الكوفة وقت انشائها مائة الف مقاتل .

ونزل الكوفة المئات من اشراف العرب ومن الصحابة ووجوه أهل المنزلة والأعتبار ، ولكن : لم يكن نزولهم الكوفة إختيارياً بل بأمر الخليفة عمر بن الخطاب ، فقد ورد عنه أنه قال : والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب . ولم يدع رئيساً ولاذا رأى ولاذا شرف ولاذا بسطة ولا خطيباً ولا شاعراً الاّ رماهم به ، فرماهم بوجوه الناس وغررهم (1) .

إنّ لهذا الأختلاط – قصير العمر – آثار غاية في الأهمية ، فليس من السهل الالتقاء على منهج في السلوك وحتى في العقائد . نعم ربما تميل الأغلبية الى توافقات مرحلية ، ولكن الطبائع ومفردات النشأة تبقى مؤثرة الى حد كبير في تعدد التوجهات وردود الأفعال المختلفة بحيث يصعب تحديد الهوية الكوفية عقيدة وولاءً ، وبسبب ذلك ظهر التمايز الذي فرضته السياسة الأموية التي فرقت بين العربي وغير العربي كما فرقت بين الهاشمي والأموي .

ص: 28


1- الطبري / تاريخ الطبري 3 : 487 . في هذا النص سرٌّ لم يشر اليه المصدر , فهل كانت نيّة الخليفة عمر إبن الخطاب تطابق ظاهر الخبر أم أنّه أراد أمراً آخر ؟ فبمنطق الفطنة السياسية يظهر أن الخليفة عمر أراد إبعاد تلك النخب المتميّزة والفاعلة في مجتمع المدينة المنوّرة عن مركز الحكم تلافياً للمواقف المتضاربة , وانهاءً لأصوات المعارضة والتقاطع مع الاجراءات السلطوية التي تصدر عن مركز القرار .

ونتيجة لهذه السياسة التعسفية ظهرت النعرات والضغائن ونشأت الخلافات (1) وكانت العصبية القبلية في المقدمة ، ولم تستطع التشريعات والنواهي الدينية الحد من تمردها ، وظلت هي السلاح الذي يعتمده الحكام في الأوقات العصيبة .

وهنا لابد من تسليط الضوء على مواقف الصحابة الذين سكنوا الكوفة ممن بايعوا الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) تحت الشجرة وعددهم ثلاثمائة ، والصحابة الذين أشتركوا في معركة بدر ( البدريون ) وعددهم سبعون ، وهم أصحاب المنزلة السامية والدرجات العالية في الايمان، ويفترض انهم فوق الشبهات ، ولا يصدر عنهم ما يخالف الشرع ، فهل كانوا كذلك ؟ فالحقيقة : إنّ في الرجوع الى الحوادث والفتن التي حصلت في حينها نجد أنّ ثمة مواقف سلبية سُجلت على البعض منهم كالسكوت عن نصرة أهل الحق ومعاونة أهل الباطل ، وعدم الإقلاع عن الموروث الجاهلي والتمسك بقيم القبيلة التي رفضها الإسلام وهذه أدلّة على أن بين الصحابة من كان دون المستوى المطلوب .

أما عدد السكان العرب ، فبلغ إثني عشر ألف من عرب الجنوب وثمانية آلاف من عرب الشمال ، ومعهم ثلاثمائة وسبعون صحابياً ، وإذا أضفنا اليهم النساء والذراري (2) وأربعة آلاف من الفرس الذين شاركوا في معركة القادسية وأعلنوا إسلامهم وهم ( حمراء ديلم ) ثم اتى الكوفة قوم من السريان ممن كانوا يسكنون في أطراف النجف والحيرة ونزلها عدد من النبط وهم سكان البطائح ، وهاجر اليها عدد من نصارى نجران باليمن ، أما اليهود فقد نزلوا سنة 20 هجرية وازداد عددهم فيما بعد (3) .

ص: 29


1- الدكتور عبد الرسول الغفاري / دعبل الخزاعي .. ص19 .
2- كريم مرزة الأسدي / تاريخ الحيرة .. الكوفة .. ص92 .
3- الدكتور كاظم الجنابي / تخطيط مدينة الكوفة ص42 , 43 .

إنّ هذا العدد الكبير من السكان يحتاج الى نظام أمني يتولى الإشراف على تنفيذ الواجبات وتوزيع الحقوق ، فظهرت عدة وظائف كان أهمها : وظيفة رؤوس الأسباع ؛ ويتم اختيارهم ممن لهم نفوذ شخصي متميز بين القبائل ، وممن لهم مكانة عالية في الأُخرى ، يُعرفون بالبأس والنجدة والتجربة في الحروب ، ومن فرسان الناس ووجوهم وأُولي الفضل منهم ، وقد زوّدوا بسلطة عسكرية وإدارية ومالية ، فكانوا في أوقات السلم يديرون شؤون القبيلة ، ويحكمون في الخلافات ، كما يوزعون العطاء عليهم وهم المسؤولون عن تصرفات قبائلهم مسؤولية فعلية تجاه الوالي او الأمير بصورة مباشرة ، وهم الرادعون لفتنها وأعمالها المعادية للدولة (1) .

ومن أساليب الضبط والسيطرة على الوضع العام ، واستجابة لما املته الظروف العسكرية والاجتماعية والاقتصادية في الكوفة ، تمَّ تقسيم القبائل الكبيرة الى وحدات صغيرة ، واستحدثت لها وظيفة يطلق عليها أسم (( عريف )) له واجبات خاصة منها : توزيع العطاء ، وتنظيم السجلات باسماء المقاتلة والنساء والاطفال ، وتجهيزاتهم وعدد مواليهم ، وهو المسؤول مسؤولية كاملة عن الأمن والنظام (2) .

إنّ هذه الصلاحيات غير العادية التي تمنح لرؤساء الأسباع أو الأرباع وللعرفاء أيضاً ، لم يشترط فيها توفر العدالة والإلتزام بتقوى الله تعالى ربما لأن مَن يختار هو فاقد لها ، وفاقد الشيء لا يعطيه كالمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه وعبيد الله بن زياد .

وأوّل من أدخل نظام (( العسس )) أو حّراس الليل هو الخليفة عمر بن الخطاب . وفي خلافة أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أسس الإمام (( شرطة

ص: 30


1- الكتور محمد حسين الزبيدي / الحياة الاجتماعية والإقتصادية في الكوفة في القرن الاول الهجري ص 47 , 48 .
2- المصدر السابق ص50 , 51 .

الخميس )) وسمي رئيسها صاحب الشرطة ، وكانوا معروفين بالثقة والعدالة ، وأبرز واجباتهم القبض على المجرمين ، وصيانة ارواح الناس وحفظ اموالهم (1) .

وفي إبّان النهضة الحسينية كان المجتمع الكوفي مكبّلاً بالنظام الأمني الصارم ( نظام الأرباع ونظام العرفاء ) ولأن رؤساء ذلك النظام من أتباع السلطة الحاكمة فقد ربطوا مصيرهم بمصيرها ، فلا مجال للتساهل مع من يطالب بحق يتقاطع مع سياسة الدولة .

ومن سمات الأجواء الملغومة في تلك الفترة ، الصراع بين العرب والموالي ، وهم أسرى حرب إعتنقوا الإسلام فاعتقهم أسيادهم العرب فاصبحوا موالي لهم وقد دخلوا التنظيم القبلي ، واصبح موالي كل قبيلة ينتسبون أليها ، ويحاربون في صفوفها (2) .

واستوطن الكوفة بجانب الموالي أفراد من المحاربين الفرس ( حمراء ديلم ) بعد أن استسلموا للعرب وتعاهدوا على القتال معهم ؛ وقد مُنحت هذه القوات نفس حقوق العرب ، وتحالفوا مع بعض القبائل العربية (3).

وكوّن الموالي نسبة كبيرة من سكان الكوفة (4) وتمتعوا بكثير من الحقوق ، ولكنهم لم يحصلوا على المساواة الكاملة مع العرب ، فقد كان العرب في هذا العصر لا يكنّونهم بالكنى ، ولا يمشون معهم في الصف ، ولا يتقدمون في المواكب (5) كما اطلق العرب على الموالي أسماء مستهجنة مثل

ص: 31


1- باقر شريف القرشي / نظام الحكم والادارة في الإسلام ص377 / 378 . ولفظة شرطة جاءت من قول الامام علي (علیه السلام) : تشرّطوا , فإني أُشارطكم على الجنّة ولست أشارطكم على ذهب ولا فضة . والخميس : الجيش الذي قسمه الإمام الى خمسة أقسام : المقدمة , الميمنة , الميسرة , القلب والساقة أي المؤخرة .. وانظر الدكتور حسن عيسى الحكيم / الامام علي روح الاسلام الخالد ص 126 / 127 .
2- الدكتور محمد حسين الزبيدي / الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة في القرن الاول الهجري ص 74 , 75 .
3- المصدر السابق .
4- ابن قتيبة / الامامة والسياسة ص148 .
5- ابن عبد ربه / العقد الفريد 3 : 413 .

النبط والحمراء (1) أمّا زواج الموالي بالعربيات فقد أعتبروه جريمة نكراء يستحق مرتكبها أقسى العقوبات ، ويحق للأمير أو الوالي أنْ يفرّق بينهما (2) وحُرم الموالي من تولي المناصب العامة ، وحرموا فرصة قيادة الجيش ، وحرموا من الهجرة الى المدن وان يرجعوا الى قراهم .

ولهذه الاسباب وغيرها بدأ الصراع بين العرب والموالي وادّت الى كرههم للعرب ، فظلوا يتحينون الفرص للايقاع بهم ، وليشفوا حقدهم فاصبحوا عوناً لكل من خلع طاعة الحكم أو طلب التغيير ، ممنّين انفسهم بالخلاص من هذا الظلم والحصول على إمتيازات يتغيّر معها وضعهم الإجتماعي ، واتخذوا الدين ستاراً لاغراضهم الخاصة (3) .

دور الموالي في حياة الكوفة السياسية

لقد شكّل الموالي قوة لا يستهان بها وذلك في العقود الخمسة الأولى من عمر الكوفة ( 17-67ﻫ ) ولكنهم كانوا يمثلون الشريحة المسحوقة . وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان عاشوا الفقر والاستصغار بل والإحتقار ، وكانوا أسرع أهل الكوفة في الالتحاق بالثورات التي تقوم بوجه المستبدين والتف أغلبهم حول أهل البيت النبوي (علیهم السلام) أو حول الداعين لنصرة اهل البيت (4) لأنهم حققوا لهم المساواة ، ونتيجة للسياسة التعسفية ضدهم ظهرت الضغائن والخلافات ، ورجعت الكوفة الى ما كانت عليه العرب في جاهليتهم بتعاملهم وفق العصبية القبلية ، واخذ الثأر وإظهار الفخر والكبرياء والإعتزاز بأيامهم ورواج ذلك في أحاديثهم بمجالسهم (5) .

ص: 32


1- الطبري / تاريخ الطبري 7 : 208 .
2- أبو الفرج لأصفهاني / الأغاني 21 : 114 .
3- الدكتور محمد حسين الزبيدي / المصدر السابق ص 83 .
4- الدكتور عبد الرسول الغفاري / دعبل الخزاعي ص17 , 18 .
5- المصدر السابق ص19.

إنّ هذه الاعداد الكبيرة المضطهدة أظهرت المناصرة للعلويين أو لدعاة التشيع ، فعززت مكانة الشيعة في الكوفة حتى وصفت الكوفة بالعلويّة قال أمير المؤمنين علي (علیه السلام) : أصدقاؤك ثلاثة ، وأعداؤك ثلاثة . فأصدقاؤك : صديقك وصديق صديقك وعدو عدّوك . وأعداؤك : عدوك وعدو صديقك وصديق عدوك (1) . وعلى ضوء هذا التصنيف المحكم يتبين أن الولاء لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) يتجسد في الذين يعرفون درجة إيمانه وسابقته وقربه من الله تعالى ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) وفضله وجهاده وتقدّمه على مناوئيه ؛ يظهر ذلك عند :

أولاً:أكثر الصحابة الذين وفدوا الى الكوفة كان هواهم مع الامام (علیه السلام)

ثانياً : إنّ طبقة القرّاء من الصحابة والتابعين الذين نزلوا الى الكوفة كانوا ضد الادارة في عهد الخليفة عثمان فهم ضد المناوئين لعلي (علیه السلام) .

ثالثاً : إنّ مظلومية أمير المؤمنين (علیه السلام) التي كانت غائبة عن ذهنية المجتمع الكوفي طوال مدة الخلفاء قبله خلقت تياراً مضاداً للسياسة الأموية .

رابعاً : إن الحروب التي فرضت على الإمام (علیه السلام) وخاضها ضد الناكثين – طلحة والزبير – وضد القاسطين – معاوية وأنصاره – وضد المارقين – الخوارج – قد عززت من مكانة التشيّع في الكوفة .

خامساً : كثرة الموالي وبغضهم الشديد للأمويين كان عاملاً آخر في تعزيز مكانة أهل البيت في الكوفة (2) . ومع ذلك فالأمر لم يصل الى حد الولاء المطلق ، قال تعالى : قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا

ص: 33


1- محمد عبده / شرح نهج البلاغة 3 : 225 .
2- الدكتور الغفاري / دعبل الخزاعي ص24 .

وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) .

وقد أثبتت التجارب إن المؤمنين هم القلّة ، والكم الأكبر من الناس لا يُؤمَن جانبهم وقت الشدّة ، حين يصل الأمر الى التضحية بالنفس والنفيس.

والحديث عن التشيّع حديث خطير لا تستريح له أعصاب الأمويين وأنصارهم . أنه صراع مبادئ فالتشّيع بكل معانيه هو لقاء ألصفوة بيعسوب الدين أمير المؤمنين علي (علیه السلام) ، لقاء العقيدة وصدق الولاء لله ورسوله ، ومناصرة الحق وملازمة العدل المتجسد بسيرة الوصي (علیه السلام) . ولهذا حظي التشيع برعاية الرسول الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله) (( فمما روى السيوطي في كتاب ( الدر المنثور في تفسير كتاب الله بالمأثور ) في تفسير قوله تعالى : @ﭽﯢﯣﯤﯥﭼ قال : أخرج إبن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كنّا عند النبي (صلی الله علیه و آله) فأقبل علي (علیه السلام) فقال النبي : والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، ونزلت :@ ﭽﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣﯤﯥﭼ (2). فقد ورد عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) أنهم لا يعتبرون الرجل شيعة لهم إلاّ إذا كان مطيعاً لأمر الله ، مجانباً لهواه ، آخذاً بتعاليمهم وإرشاداتهم ، ولا يعتبرون حبهم وحده كافياً للنجاة الاّ إذا إقترن بالأعمال الصالحة ، وتحلى المُوالي لهم بالصدق والأمانة والورع والتقوى (3) .

ولو استعرضت سيرة الأمويين لما وجدت فيهم إلاّ المخاصم لأهل البيت (علیهم السلام) الاّ النادر ندرة الزئبق الاحمر . لقد سنّوا سبَّ علي بن أبي طالب في صلواتهم وخطبهم ، علماً بأنّ قادتهم يعرفون من هو الذي يسبّون ؛ هو الذي قال فيه رسول الله محمد (صلی الله علیه و آله) : يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة (4). ((

ص: 34


1- سورة الحجرات الآية 14 .
2- الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء / أصل الشيعة وأٌصولها ص82 ط14 .
3- الشيخ محمد رضا المظفر / عقائد الامامية ص107 .
4- منصور علي ناصف / التاج الجامع للاصول من أحاديث الرسول 3 : 335 .

أنت منّي بمنزلة هارون من موسى الاّ انه لا نبي بعدي )) (1) وقال (صلی الله علیه و آله) (( يا علي لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق )) (2) .

أما فقهاؤهم ومحدثوهم فقد وضعوا أحكاماً فقهية وأخباراً واحاديث منسوبة الى السنّة النبوية الشريفة على خلاف الحقيقة ، وشددوا النكير على مَن يروي أو يحدّث عن علي وأولاده . يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين : المأخذ الدائم الذي يؤخذ على الأمويين هو أنهم كانوا – أصولاً وفروعاً – أخطر أعداء النبي (صلی الله علیه و آله) وإنهم إعتنقوا الإسلام مرغمين ، وقد أحدثوا في الدين – بسلاح الدين – ماشوّه السنّة النبوية المطهرة فاضافوا وحذفوا كل ما يمكن فعله على يد أعوان – لمعاوية خاصة – من الصحابة والتابعين واستهدفوا امير المؤمنين الإمام علي (علیه السلام) بالأخبار والرويات القبيحة ومن أولئك المأجورين أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وعروة بن الزبير .. وقد استغلهم معاوية لإيجاد مبرر ديني لسلطان بني أُمية باختلاق الأحاديث التي تتضمن الطعن في علي وأهل بيته ونسبتها الى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وأجزل لهم العطاء . وكتب الى عمّاله : (( أنْ برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضائل ابي تراب وأهل بيته ... وانظروا مَن قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه فادنوا مجالسهم وقربوهم واكرموهم واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم .. فأكثروا في فضائل عثمان . ثم كتب الى عماله : إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر ، فاذا جاءكم كتابي فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد في أبي تراب الاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة . ولم يكتفِ معاوية بنشر الاخبار والأحاديث بين الناس بل أُلقيت الى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم

ص: 35


1- المصدر السابق .
2- المصدر السابق .

، وعلموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله ، فظهر حديث كثير موضوع ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة (1) .

ولو أخذنا بمبدأ المقارنة بين عليّ (علیه السلام) وشيعته من جهة وبين قادة الخط الأموي بدءاً بأبي سفيان وهند بنت عتبة وابنها معاوية وابنه يزيد ثم مروان بن الحكم وعمرو بن العاص ، وقادة جنودهم والأغلب الأعم من ولاتهم وقضاتهم ، والهمج الرعاع الذين لا يفرقون بين الناقة والجمل من أتباعهم ، وكان معيارنا : القرب والبعد عن الله ورسوله ، لوجدنا انفسنا امام عالمين متضادين ؛ عالم الأيمان الصادق من جهة ، وعالم الشرك الموروث من الجهة المقابلة . عالم العدل والمروءة والمساواة بين الناس ، وعالم الغدر والكبر والجور لمن لا يسير في ركابهم وان كان أباذر الغفاري أو سلمان اللذين ورد ذكرهما في حديث بُريده عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال : ان الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنّه يحبهم . قيل يا رسول الله سمهم لنا ، قال : عليٌ منهم ، قالها ثلاثاً ، وابو ذر والمقداد بن الاسود وسلمان (2) هؤلاء الصفوة الذين مثّلوا الخلية الأولى للتشيع في عهد النبي وبرعاية منه (صلی الله علیه و آله) ولم تخلُ منهم ساحات المواجهة ، وامتد تأثيرهم وتأثير من شايعهم الى ما بعد واقعة الطف التي رفعت الغطاء عن وجوه الأدعياء ، وأظهرت المعدن الحقيقي لآل ابي سفيان وشيعتهم ومرتزقتهم. وهذه حقيقة تكشف عنها مواقف معاوية من شيعة الامام علي (علیه السلام) وربما يطول الحديث في هذا المنحى ، فقد تمادى معاوية وعمّاله في الإرهاب والقتل والتشريد والتجويع والإذلال لشيعة علي (علیه السلام) أين ما كانوا وخاصة في معقل الشيعة الأكبر الكوفة . وقد اختار معاوية لهذه المهمة أبعد الناس عن الرحمة والدين ، رجالاً عتاة قساة لا يفهمون إلاّ الفتك وتنفيذ أوامر أميرهم وكان أفضعهم جرماً واوسعهم دماراً : سفيان بن عوف الغامدي والضحاك بن قيس الفهري وبسر بن أرطاة وزياد بن أبيه . وكانت اوامر

ص: 36


1- ثورة الحسين ص 78-81 .
2- منصور علي ناصف / التاج الجامع للاصول من أحاديث الرسول 3 : 335 .

معاوية للغامدي تتلخص في قوله : (( فاقتل كل من لقيته ممن هو ليس على مثل رأيك ، وأخرب كل ما مررت به من قرى ، وأحرب الأموال فان حرب الأموال شبيه بالقتل ، وهو أوجع للقلب )) (1) وأمر معاوية الضحاك الفهري بأن يتوجه ناحية الكوفة (( فمن وجدته من الأعراب في طاعة علي فأغِرْ عليه )) أما بسر بن أرطاة فوجهه الى الحجاز واليمن وقال له : (( سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس ، وأخف من مررت به ، وانهب أموال كل من أصبت له مالاً ممن لم يكن دخل في طاعتنا .. ولا تنزل على بلد أهله على طاعة عليّ الاّ بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنهم لانجاء لهم ، وانك محيط بهم ، وادعهم الى البيعة لي فمن أبى فاقتله ، واقتل شيعة علي حيث كانوا . وكان أشد الناس تعرضاً للبلاء حينذاك أهل الكوفة لكثرة مَن بها من شيعة علي (علیه السلام) فسلّط عليهم زياد بن أبيه ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (علیه السلام) فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم وقطع الايدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم (2) .

وكتب معاوية الى عماله ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة ، ثم كتب الى جميع البلدان : أُنظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه . وأضاف قائلاً : من اتهمتوه بمولاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره .

وازداد البلاء والفتنة بعد موت الحسن بن علي (علیه السلام) فلم يبق أحد من هذا القبيل الاّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض (3) .

ولاة الكوفة واثرهم في المجتمع

ص: 37


1- محمد مهدي شمس الدين / ثورة الحسين ص48 .
2- المصدر السابق ص48-51 .
3- المصدر السابق ص51-52 .

لم تكن الكوفة قبل سنة 36هجرية الاّ ولاية تابعة لمركز الحكم في المدينة المنوّرة تدُار بالولاة ، وكان عملهم يدور في محيط المراقبة وإقامة الصلاة واقتضاء الخراج . ثم توسعت الدائرة لتشمل تدبير الجيوش والنظر في القضاء وجباية الخراج وقبض الصدقات وحماية الدين بإقامة الحدود الشرعية والإمامة في الصلوات (1) . وتوقفت إدارة الولاة فيها حين اتخذها الإمام علي (علیه السلام) عاصمة للدولة الاسلامية ما عدا الفترات التي يغيب فيها أمير المؤمنين عن الكوفة لانشغاله بالمعارك التي فرضت عليه . وفي سنة 40 هجرية إستشهد الإمام علي (علیه السلام) وبويع الإمام السبط الحسن بن علي (علیه السلام) خليفة . ولم يترك الكوفة الاّ بعد إبرام الإتفاقية بينه وبين معاوية بن أبي سفيان وانتقال العاصمة الى دمشق . فتوالى الولاة على الكوفة حتى اواخر سنة 60 هجرية التي بدأت بها النهضة الحسينية الإصلاحية المسلحة الخالدة ، حيث ينتهي بحثنا .

وفي تلك الحقبة التي امتدت من سنة 17 هجرية ولغاية سنة 60 هجرية كان للولاة دور فعّال ومهم في تسيير حياة الكوفة وساكنيها ، أقتصادياً ، واجتماعياً وسياسياً وما الى ذلك . فمنهم من نهض بالمهام وحقق تقدماً ملحوظاً ومنهم من تراجع وضعف ، أو تنمّر وتجبّر حتى ترك مشكلاً أو فتنة . وقد ذكر السيد البراقي ولاة الكوفة في تلك الفترة ولم يفرز الغث من السمين منهم بمعيار العدالة والحياد وتطبيق الشريعة المقدسة، والذي يثير الاهتمام هو إن معاوية الذي مرّر مخطط غدره بعد ما سمي بالصلح مع الامام الحسن (علیه السلام) لم يخرج من الكوفة حتى ولّى عليها المغيرة بن شعبة ؛ وبهذا ضَمَن الأداة التي تحقق له أبشع اساليب التنكيل بشيعة الإمام علي في الكوفة . وبعد وفاته سنة 50 هجرية تولى أمر الكوفة زياد بن أبيه (2) الذي ترك آثار مؤلمة وجروحاً

ص: 38


1- البراقي / تاريخ الكوفة ص240 .
2- وهو ممن اختلفوا في أبيه . أمه سميّة جارية الحارث بن كلدة .. كان زياد كاتباً للمغيرة بن شعبة ثم لأبي موسى الأشعري , ولاه علي بن ابي طالب إمرة فارس , ولما توفي الإمام علي إمتنع زياد على معاوية , ثم الحقه معاوية بنسبه سنة 44 هجرية . ولاّه البصرة والكوفة وسائر العراق ( أنظر : الزركلي : الأعلام 3 : 89 ) ولكن : لماذا إهتم معاوية بزياد هذا الإهتمام وهو يعلم حقيقة أمه . ولم يكن أبو سفيان وحده عند سمية في تلك الليلة ؟ والجواب : لقد كان زياد من الدهاة الخطرين والقادة المجربين الذين يجدون عند معاوية ترحيباً فالحقه بالعصابة التي توفر عليها معاوية لتميّزه بالمواصفات التي ترضي رغبات معاوية .

غائرة في مجمل حياة الكوفيين وقد وصف عهده بأنه عهد إرهاب، وحين ثار أهل الكوفة عليه على أثر سعيه في مقتل حجر إبن عدي (1) أنزل الكوفيين مع أسرهم وعدد من البدو يبلغ خمسين الف في خراسان وقد أهلكه الله تعالى بالطاعون سنة 53ﻫ فخلفه جملة من الولاة حتى وفاة معاوية (2) .

نزعة المعارضة وعدم الرضا عن الولاة

هناك حقيقة تاريخية ظاهرة في حياة الكوفة في القرن الأول الهجري – على الأغلب – تنحصر في عدم الثبات على موقف ، والرغبة في المعارضة وخلق الأزمات . ولو تتبعنا المواقف البارزة في تلك الفترة لوجدنا أكثر من شاهد يؤكد تلك الحقيقة . ومن أهم أسبابها حسب الظاهر : تعدد الولاءات وضعف الالتزام بقيم الدين واستمرار فعل الموروث في سلوك كثير من السكان ، وتأثير البدايات التي مارسها الولاة في حياتهم الاقتصادية والاجتماعية متأثرين بالسنن غير الثابتة بعد عهد الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) من حيث توزيع الثروة وفق اعتبارات ميّزت بين المسلمين صعوداً ونزولاً . إضافة إلى سيرة الولاة الذاتية التي تصطدم أحياناً مع عقائد الناس والتزاماتهم ، فلا يجدون الاّ الهياج وطلب التغيير ، سواء أكان الوالي مسالماً شديد الإلتزام بالنظام فيوصف بالضعف أم جائراً شديد الوطأة على العامة ، عسوف (3). كما لايرضون بقسمة الأموال بينهم سواء بالتساوي أو بالتفضيل لتنوّع مكاناتهم الاجتماعية واصولهم وبيئاتهم وثقافاتهم ودرجات إِيمانهم ومواقفهم الجهادية ..

ص: 39


1- العسقلاني / لسان الميزان 2 : 493 .
2- كريم مرزة الأسدي / تاريخ الحيرة .. الكوفة ص123 .
3- من وصيّة معاوية بن أبي سفيان لإبنه يزيد : (( وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل , فإن عزل عامل أحب الي من أن تشهر عليك مائة سيف ( أنظر : الطبري / تاريخ الطبري 5 : 323 ) .

ومن الثابت إن أهل الكوفة شكوا سعداً فعزله عمر وولى مكانه عمار بن ياسر ، فقالوا عنه : مسلم ضعيف ، فعزله . وقيل: اقبل عمر على وفد أهل الكوفة فقال : مَن تريدون ؟ قالوا : أبا موسى فأمّره عليهم ، وأقام عليهم سنة ، وباع غلامه العلف فشكاه الوليد بن عبد شمس ، فارسل إليهم جبير بن مطعم ، فمكر به المغيرة واستطاع ان يقنع عمر بأن يتولى الكوفة . ويقال : قال عمر لأصحاب أبي موسى الذين شخصوا في عزله من أهل الكوفة : أقويٌّ شديد أحب اليكم أم ضعيف مؤمن ؟ فلم يجد عندهم شيئاً (1).

وحين سار بهم أمير المؤمنين الامام علي (علیه السلام) بسيرة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) لم يسلم من معارضتهم ومخالفتهم ، في حين أنهم يحسبون من شيعته ومواليه . والحقيقة إن هناك فرقاً بين شيعة علي المخلصين ، وبين المحسوبين عليه الذين ترهقهم شدة الحق وترهبهم ساحات الحرب . هؤلاء هم المرضى بالشقاق ، وكثيراً ما كان أمير المؤمنين يثقل لهم بالقول والتأنيب ومن ذلك قوله (علیه السلام) : (( .... أيها الشاهدة أبدانهم الغائبة عقولهم المختلفة أهواؤهم ، المبتلى بهم أمراؤهم ، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه ، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه ، لوددتُ والله أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ منّي عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم ؛ يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث واثنتين : صمٌّ ذوو أسماع ، وبكمٌ ذوو كلام ، وعمي ذوو أبصار ، لا أحرار صدق عند اللقاء ، ولا أُخوان ثقة عند البلاء... (2)

والحقيقة إن هذا الكلام كان قد حصل بعد تجربة مريرة عانى منها أمير المؤمنين كثيراً ، علماً بأن الأمر لم يكن كذلك في أول عهد البيعة ؛ ويوم دعاهم لجهاد الناكثين ووأد الفتنة ، فكان يخاطبهم بقوله : يا أهل الكوفة ، أنتم أخواني وأنصاري وأعواني على الحق ومجيبيّ إلى جهاد المحلين ... (3)

ص: 40


1- تاريخ اليعقوبي 2 : 145 , تاريخ الطبري 4 : 165 .
2- نهج البلاغة / شرح محمد عبده 1 : 189 .
3- ابن قتيبة / الامامة والسياسة 1 : 124 .

وكان يذكر الكوفة وأهلها بأجلّ النعوت ومنها قوله : ... الكوفة كنز الإيمان وجمجمة الاسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث يشاء (1) .وليس ذلك الاّ مصداقاً لما قلنا بأنهم قد ابتلوا بعدم الثبات على موقف ، تتقاذفهم الأهواء والرغبات فتذهب ريحهم ويفشلوا فتتسلط عليهم قوى الظلام.

الإمام علي (علیه السلام) في الكوفة

لما قدم الإمام علي بن أبي طالب من البصرة إلى الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من رجب سنة ست وثلاثين ... ومعه أشراف الناس وأهل البصرة ، إستقبله أهل الكوفة ، وفيهم قرّاؤهم وأشرافهم ، فدعوا له بالبركة وقالوا : يا أمير المؤمنين ، أين تنزل ؟ أتنزل القصر ؟ قال : لا ، ولكن أنزل الرحبة ، فنزلها . وأقبل حتى دخل المسجد الأعظم ، فصلّى فيه ركعتين ، ثم صعد المنبر ، ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على رسوله وقال : أما بعد يا

ص: 41


1- ابن الفقيه / مختصر كتاب البلدان ص163 .

أهل الكوفة فإنّ لكم في الاسلام فضلاً مالم تبدّلوا وتغيّروا ... ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى (1).

لقد مرّ على الكوفة قبل اتخاذها عاصمة لدولة الاسلام ، عشرون عاماً من البناء والإعمار والتفاعل الإجتماعي والتقدم الاقتصادي والتطوّر الفكري والتبادل التجاري والإختلاط والتعايش القومي والديني والتقاطعات السياسية والادارية والعسكرية ، والى كثير من مفردات النشأة والنمو بغض النظر عن سلامة التخطيط والتنظيم ، أو تباين وجهات النظر في مختلف شؤون الحاضرة وساكنيها منذ إختيارها معسكراً سنة 17هجرية وحتى اختيارها عاصمة سنة 36هجرية . ولقد أراد الإمام (علیه السلام) للكوفة أن تكون مدينة عاصمة للمسلمين ، وقاعدة للجهاد ، ومنطلقاً لنشر الإسلام منذ أن وطأ أرضها ، فيقول : والله إنّ الكوفة للهجرة بعد الهجرة ، وإنها لقبة الاسلام ، وليأتين عليها يوم لا يبقى مؤمن إلاّ أتاها وحنَّ إليها ... (2)

... وفي الكوفة إستعمل أمير المؤمنين العمال فبعث الى النواحي والبلدان مَن يثق بهم من أصحابه ، كما كان يختار الكتّاب من ذوي النزاهة والأمانة . وتولى الإمام نفسه وظيفة المحتسب ، وأخذ يراقب الأسواق ، ويحث التجّار على ألاّ يظلموا الناس ، وكان يقف على الموازين والمكاييل لمراقبة حركتها ، ويطّلع على الأسعار . وقد يدخل السوق فيقول : أيها التجّار خذوا الحق واعطوا الحق . وكان يتخذ الاجراءات من أجل تخفيف الأسعار ومكافحة الغلاء . وفي العطاء كان يساوي بين الناس ، ولم يفرّق بين الموالي والصلبية . ولا ميزة لولده ولا لأخيه على غيرهم من سائر الناس (3).

ص: 42


1- المنقري / وقعة صفين ص3 .
2- الطبري / تاريخ الطبري 4 : 59 .
3- الدكتور حسن الحكيم / الإمام علي روح الإسلام الخالد ص 132 .

ولسنا بصدد الحديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ؛ وما ورد من ذلك هنا لا يعدو أن يكون إشارة عابرة لاهتمامه بالأسواق ، وحرصه على حفظ حقوق العامة . ولو أردنا التذكير بسيرته الذاتية وادارة شؤون الرعية وأساليب الحفاظ على المال العام وطرق توزيعه ، وكيفية تصرف الحاكم بمقدرات المحكومين على ضوء الشريعة السمحاء ، وتدابير أمير المؤمنين الجامعة المانعة لكلفنا ذلك إبحاراً في عباب يم ليس له حدود بما ليس لنا القدرة على أكثر من لثم بعض سواحله والإغتراف من نمير سلسبيله ، ولو أردنا أن نقبس من أنوار أبي السبطين قبساً لاستعرضنا الوثيقة العلوية الخالدة لحقوق الإنسان التي تضمنها عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الاشتر . ذلك العهد الذي تجاوز قدرات المنظّرين وتعدى إمكانات الساسة والإقتصاديين ، وقد تصدى لكل مفردات الحياة العامة والخاصة . إنّه المنهاج الأمثل للحكم والإدارة الناجحة . ومع ذلك فإنّه لا يمثل أكثر من خطة عمل ولاية ، وتنبيه تفصيلي لأحد الولاة ..إنّه قطرة صافية عذبة من بحر علوم الإمام وقدراته التي لا حدود لها .

ولكنّ آل أبي سفيان وجنود الشيطان لم يتركوا له فرصة للبناء وتربية المسلمين على كتاب الله وسنّة نبيّه (صلی الله علیه و آله و سلم) . فانشغل بحروب أخذت كل فترة خلافته التي ختمت باستشهاده (علیه السلام) .

والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو : لماذا يساهم بل يقود بعض الصحابة معركة غير مبرّرة ضد خليفة شرعي منتخب ، بدوافع دنيوية تتلخص في أن زوج النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) (( عائشة )) تبغضه ، وطلحة والزبير يطمعان في سلطة ، ومعاوية يريد أن يرث الخلافة بحجة انه ولي دم الخليفة المقتول عثمان بن عفان (1) والكل يعلم أن علياً فرضت عليه الخلافة ولم يسعَ إليها . وأنّه عصي على الطامعين والمتربصين ، فلا يجدون عنده مَيلاً يتقاطع مع العدل يمكن

ص: 43


1- حين صفا لمعاوية الحكم لم يذكر عثمان ولا دم عثمان ولا أبناء عثمان وانما شهر كل ذلك سلاحاً بوجه أمير المؤمنين طلباً للسلطان ( انظر : الدكتور محمد حسين الصغير / موسوعة أهل البيت الحضارية / الامام علي .... ص282 ) .

أن يحققوا عن طريقة مآربهم الدنيوية . كما أنهم يعلمون أن علياً تفرد عن كل الصحابة بفضائل أقرّها كتاب الله واعلنها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فقد قال الصحابي عبد الله بن عباس : نزلت في علي ثلاثمائة آية . وقال أيضاً : ما أنزل الله @ﭽﯓ ﯔ ﯕﭼ إلاّ وعلي أميرها وشريفها ، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان ، وما ذكر علياً الاّ بخير (1) ثم إنّ النبي الكريم (صلی الله علیه و آله و سلم) خص علياً بأحاديث ترفعه إلى مقام العصمة والنبوة . قال تعالى «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» (2) عن أم سلمة (رضی الله عنها) إن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء ، ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي ... ( ذكره : التاج الجامع للاصول في أحاديث الرسول 3 : 348 مع 143 مصدراً (3).

وعن جابر بن عبد الله (رضی الله عنه) إن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قال لعلي : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى الاّ أنه لا نبي بعدي . ( ذكره : التاج الجامع للاصول في أحاديث الرسول 3 : 332 مع 204 من المصادر (4) .

وكان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يغتنم كل فرصة ومناسبة ليقول في علي (علیه السلام) ما يكشف حقيقته ويرفع قدره . قال أحمد بن حنبل : (( ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي )) (5) .

فعن عائشة التي كان ( جملُها ) الرمز الذي قتل حوله آلاف الرجال ، وبه سميت المعركة تقول : قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : ذِكرُ علي عبادة (6).

ونعود الى الكوفة ؛ فقد وجدها الامام (علیه السلام) بحاجة الى ترتيب جديد في حياتها الإجتماعية يتطلب إفشاء العدل والمساواة بين الرعية وان تشيع الأخلاق

ص: 44


1- السيوطي / تاريخ الخلفاء ص171 .
2- الاحزاب 33 .
3- الفتلاوي / الكشاف المنتقى ... ص65 .
4- المصدر السابق ص188 .
5- ابن حجر / الصواعق المحرقة ... ص72 .
6- الفتلاوي / الكشاف المنتقى ... ص253 ... مع 18 مصدراً .

الاسلامية لتحل محل المرفوض من العادات والتقاليد والأعراف السقيمة ، فاهتم الإمام بالقضاء وسلامة المعاملات ، ووصول الحقوق الى أصحابها دون إمتيازات ... فهل يتفق هذا النهج مع ما تعود عليه الناس – والاغنياء منهم – في عهدي الخليفة الثاني والخليفة الثالث من سياسة ماليّة عمل بها كل منهما وفق منظوره واجتهاده ، فكان التفاضل والدرجات ثم صار التفريط والهبات التي لا يحكمها ضابط أو معيار في عهد الخليفة عثمان .

وثمة سؤال كبير آخر يقول : لماذا إتخذ الإمام علي (علیه السلام) الكوفة عاصمة لدولة الإسلام في خلافته ؟ وجوابه: هناك أسباب متعددة وردت في مطاوي بحوث الدارسين وكتابات المؤرخين جمعت بين الحقيقة والتوقعات ، وخلطت بين الدوافع . والأمر ليس كما يتصور الآخرون بأن تبديلَ العاصمة أمر مرتجل أو تبعاً لمزاج الحاكم ، بل الأمر اكبر من ذلك لاسيما والحاكم هو علي بن ابي طالب (علیه السلام) باب مدينة العلم والخبير الاول بكل مفردات الحياة التي في جنبة الخير والصلاح .

فبنظرة فاحصة لأوضاع المدينة المنوّرة بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان ثم أندحار جيش الناكثين في معركة الجمل وعودة صاحبة الجمل الى المدينة، وتمرد معاوية بن أبي سفيان في الشام وقدراته العسكرية والبشرية التي هُيئت له منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب ... إلى جانب التجاذبات الفكرية والقبائلية بين الأنصار والمهاجرين من الصحابة والتابعين .. كل ذلك أخذ طريقه الى فكر الإمام وحساباته للمستقبل ؛ إضافة الى تدابيره (علیه السلام) التي أراد لها بيئة جديدة يعيد فيها السيرة النبوية الشريفة ، فكانت الكوفة وجيشها المنتصر والغلبة الظاهرة لشيعته ومريديه فيها ، أسباباً مركزية في إختيارها ولتحقّقْ سيطرته على اطراف الدولة، ويكون قريباً من الخطر الخارجي المتمثل بمعاوية وجند الشام وليقطع عليه الطريق باتجاه الشرق .

ص: 45

إنّ إنتصار الإمام في معركة الجمل وخضوع أرجاء الأرض المسلمة للسلطة الشرعية المنتخبة قد أثار حفيظة حاكم الشام المتمرّد ، والمهيأ أصلاً لمهمة الاستحواذ على الحكم باي وسيلة ، حتى صار مصدر قلق وخطر ... ولذا لم يكن أمام أمير المؤمنين (علیه السلام) إلاّ الاحتكام الى السيف لتحقيق الشرعية بعد استنفاد السبل السلمية والقاء الحجة واليأس من الإنصياع للحق ، فكانت صِفين ... وليس خافياً ما تخلفه الحروب من خسائر تؤثر بشكل مباشر في تعطيل عجلة البناء والاصلاح المادي والمعنوي ، وكانت خسائر صِفّين أعظم .. فقد مكنت أعداء الإسلام من الوصول الى الحكم ، وتحقيق المخططات الرامية الى توجيه الدين توجيهاً أموياً كما أفرزت لعبة التحكيم ثلمة ظاهرة في مسيرة الامام نحو الاستقرار فكانت واقعة النهروان ... وأخيراً تمّ إغتيال أمير المؤمنين (علیه السلام) واضطرار الامام الحسن (علیه السلام) التوقيع على عهد التسوية مع معاوية بن أبي سفيان ، وتسلم الاخير السلطة الكاملة ... ومن هنا بدأت أجراس النهضة الحسينية تعلن بدء المواجهة بعد هدوء وترقب .

متى بدأت النهضة الحسينية ؟

لابد للنهضة من أسباب ودوافع تتكامل في فترة المخاض ، وتثمر عند التنفيذ ... والحديث عن النهضة الحسينية من وجهة نظر عقيدية وأحداث تاريخية يبدأ من لحظة ظهور التقاطع بين المنهجين العلوي والأموي بمعيار القرب والبعد عن العدل والإستقامة بالمفهوم الإسلامي الواضح .

لقد عاش الإمام أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهم السلام) أيام التراجع المبرمج وتفاصيل المنهج الأموي في سلب السلطة والمال العام في خلافة عثمان بن عفان وخاصة في نصفها الثاني ، تلك الفترة التي أضّرت بمستقبل المسلمين ، وضعضعت البناء الذي شيّده الرسول الاعظم محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وفتحت أمام أبناء الطلقاء والمطرودين من قبل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أبواب خزائن المال ،

ص: 46

أولئك الذين لم يسمح الخليفة أبو بكر ولا الخليفة عمر بردّ الإعتبار لهم ؛ وتسنموا أرفع المناصب ، وتحكموا بمصائر الناس في عهد عثمان ..

ووقف الإمام الحسين (علیه السلام) على الدور الضلالي ، والمشاركة الفعليّة للحزب الأموي ممثلاً بمروان بن الحكم ومن لفّ لفّه في حرب الجمل التي تركت آثار مؤلمة في جسد الدولة العلوية الفتيّة . وشارك الامام (علیه السلام) في حرب صفّين التي قادها نجل أبي سفيان معاوية ، مجدداً دور أبيه في محاربة الاسلام والمسلمين ، ورأى بعينه أساليب الغدر والتضليل والإستهانة بدماء المؤمنين ... كما وصلته اخبار التجاوزات والعدوان الذي يمارسه جنود معاوية بن أبي سفيان في غاراتهم على أطراف العراق ، وقتلهم وسلبهم السكان الآمنين الموالين لأمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) .

وعاش الإمام الحسين (علیه السلام) فترة المعاناة المرّة التي مرّت على أخيه الإمام الحسن (علیه السلام) حياً وميتاً ، كما عاش مجريات الاحداث التي أدّت الى تسليم السلطة الى معاوية ، وغدْر معاوية ونقضه العهد الذي أبرمه هو مع الإمام الحسن وبإرادته حتى أنه بعث الى الإمام (علیه السلام) صحيفة موقعة بختمه وطلب من الإمام وضع ما يرغب من الشروط والطلبات عندما أحس بان الظرف مواتٍ قبل أن ينقلب مزاج العراقيين ضدّه .

نعم ، لقد خطط معاوية ودبّر تلك المؤامرة وحين وصل الى مراده وقف في مسجد الكوفة وقال : (( يا أهل الكوفة ، إني والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا وإنكم لتفعلون ذلك ولكنّي قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وانتم له كارهون ، ألا وإني قد منيّت الحسن بن علي أشياء ، وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها )) (1) . ثم دبّر عملية إغتيال الإمام السبط الحسن (علیه السلام) بالسم ، وتمّ له ذلك .

ص: 47


1- الشيخ المفيد / الإرشاد ص239 .

وعاش الإمام الحسين (علیه السلام) مراحل إبتعاد الأمويين عن الشريعة ، وكان يرى بعينه الإنحرافات ، ويتحسس التخطيط للردّة . وإنّ الخطر الأعظم يتدثر بالأسلوب الذي غلّف المرحلة ، والكيفية التي إستطاع بها معاوية وأعوانه شراء الذمم وتجريد الإمام الحسن من أسباب وأدوات الدفاع عن المسيرة والحفاظ على دماء الموالين .

لقد كان الإمام الحسين (علیه السلام) يغلي ، يريد الإنقضاض على الغادرين ولكن الإمام الحسن يقف في طريقه لأن معاوية قد أحكم الهيمنة على الحكم ولبس عباءة الدين .. فلو ثار الحسين في وقته فسوف لا يلقى التأييد الشعبي المطلوب ، فالناس قد غُيّبت عنهم الحقائق وعاشوا أجواء الرياء من جهة والترغيب والترهيب من جهة أخرى .

وكان معاوية يرى في الحسين خطراً على مستقبل ملكه ، لأنه المدافع الصادق عن رسالة الإسلام ؛ مما ضاعف الإهتمام بأمر الحسين فكتب إليه قائلاً : أما بعد ، فقد انتهت اليَّ منك أُمور لم أكن أظنك بها رغبة عنها ، وإنّ احق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها . فلا تنازع الى قطيعتك ، واتق الله ، ولا تردنّ هذه الأُمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأُمّة محمد ، ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون (1).

في النص السابق صلّف وتناقض وتحريف للكلم ، فليس في الدنيا من لم يشهد لسبط الرسول وريحانته ، وسيد شباب أهل الجنّة بالصدق وصدق التقوى ؛ وإذا كان في تاريخ الإسلام فتنة فإن معاوية ومروان ومن تناسل منهما هم أصلها ومدبّروها . وإنّ معاوية يطالب الإمام الحسين (علیه السلام) بالوفاء بالتزاماته التي وردت في العهد الذي أبرمه معاوية مع الإمام الحسن (علیه السلام) ولم

ص: 48


1- ابن قتيبة / الامامة والسياسة 1 : 154 .

يخالفه الإمام الحسين (علیه السلام) وينسى بل يتناسى – أنه هو الذي نقض العهد على رؤوس الاشهاد بقوله : ... وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها .

ويعطي معاوية لنفسه حق الدفاع عن دين محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) فهل في سيرته المليئة بالكبر والغطرسة ، وسفكه لدماء المسلمين الصادقين علاقة من قريب أو بعيد بدين محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) ؟! إنّه النفاق بعينه والإلتفاف على الحقيقة زوراً وبهتاناً .

وكتب إليه الإمام الحسين (علیه السلام) : أما بعد فقد جاء في كتابك تذكر فيه إنه إنتهت إليك عني أُمور لم تكن تظنني بها ... وأما ذكرك أنه رقي إليك عنّي ، فإنما رقاه الملاّقون المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الجمع وكذب الغاوون المارقون . ما أردت حرباً ولا خلافاً ، وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين ؛ حزب الظالم وأعوان الشيطان الرجيم . ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين الذين كانوا يستفضعون البدع ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فقتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكدة ، جراءة على الله واستخفافاً بعهده . أولست بقاتل عمرو بن الحمق الذي أخلقَتْ وأبلت وجهه العبادة فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود مالو فهمته العصم نزلت من شعف الجبال . أولست المدعي زيادً في الاسلام فزعمت انه إبن أبي سفيان ، وقد قضى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ثم سلّطته على أهل الاسلام يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ويصلبهم على جذوع النخل ... أولست قاتل الحضرمي الذي كتب إليك فيه زياد أنه على دين عليّ كرم الله وجه ، ودين علي هو دين إبن عمه (صلی الله علیه و آله و سلم) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه لولا ذلك كان أفضل شرف آبائك تجشم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف فوضعها الله عنكم بنا منّة عليهم . وقلت فيما قلت : لا ترد هذه الأُمّة في فتنة ، وإني لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها .. واعلم إن الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنة

ص: 49

وأخذك بالتهمة وإمارتك صبياً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك الاّ قد أبقت نفسك وأهلكت دينك وأضعت الرعية (1).

ومن كلام لسيد الشهداء الامام الحسين في مجلس معاوية حيث أفاض الوالد بذكر فضائل إبنه – ولي عهده – فقال الحسين : ... هيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى وبهرت الشمس أنوار السرج ، لقد فضلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى محلت ، وجزت حتى جاوزت . ما بذلت لذي حق من إسم حقه بنصيب حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل ، وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأُمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوباً أو تنعت غائباً ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دلَّ يزيد من نفسه على موقع رأيه فخذ ليزيد فيما أخذ فيه من إستقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش والحمام السبق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي ، تجده باصراً . ودع عنك ما تحاول فيما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فوالله ما برحت تقدم باطلاً في جور وحنقا في ظلم حتى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت الاّ غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص (2).

لقد خرج معاوية وأتباعه عن جادة الحق ، وارتكبوا أبشع الجرائم بحق أهل البيت وشيعتهم ، ومع من كان معارضاً لسلطانهم ، وليس ذلك غريباً في شريحة لا وازع من دين ولا رادع من ضمير يحكمهم ، وقد حذّر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) المسلمين من معاوية بن ابي سفيان فقال : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه (3) ولم يكن أمر بني أمية خافياً على الناس فقد قال سعيد بن زيد العدوي للشامي الذي أرسله مروان بن الحكم

ص: 50


1- المصدر السابق 1 : 155-157 .
2- المصدر السابق 1 : 160-161 .
3- الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد 2 : 181 والعسقلاني / تهذيب التهذيب 2 : 428 .

ليبايع ليزيد : يأمرني مروان أن أُبايع لقوم ضربتهم بسيفي حتى أسلموا ، والله ما أسلموا ولكن إستسلموا (1).

وذهب كثير من المسلمين ، قدامى ومحدثين إلى إظهار حقيقتهم وكشف زيفهم ، فهذا السيوطي يقول في معاوية : إنّه من المؤلفّة قلوبهم (2).وقال سعيد بن جمهان : قلت لسفينة إنّ بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم قال : كذَبَ بنو الزرقاء ، بل هم ملوك ، وأول ملك معاوية (3) (( وإنّ أحد الصلحاء سُئل أيام معاوية : كيف تركت الناس ؟ فقال : تركتهم بين مظلوم لايُنتصف وظالم لا ينتهي )) (4) .وهذا الدكتور أحمد أمين – المصري – من المعاصرين – وهو ممن يختلف مع الشيعة في المذهب والإجتهاد يقول : الحق ان الحكم الأموي لم يكن حكماً أسلامياً ... وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية (5).

معاوية أمام الحقيقة

حضر معاوية الكوفة ، وطلب البيعة من الناس ... وكان الرجل يحضر فيقول : والله يا معاوية إنّي لأُبايعك وإنّي لكاره لك .. ويأتي الآخر فيقول : أعوذ بالله من نفسك ... وأتاه قيس بن عبادة . فقال : كنت لأكره مثل هذا اليوم ... لقد حرصت أن أُفرق بين روحك وجسدك قبل ذلك .. ثم أقبل بوجهه على الناس فقال : يا معشر الناس ، لقد اعتضتم الشر من الخير ، واستبدلتم الذل من العز والكفر من الإيمان فاصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيد المسلمين وابن عم رسول رب العالمين وقد وليكم الطليق بن الطليق

ص: 51


1- المقرم / مقتل الحسين ص34 عن تهذيب تاريخ ابن عساكر 6 : 128 .
2- السيوطي / تاريخ الخلفاء ص194 .
3- المصدر السابق ص199 .
4- جورج جرداق / علي وعصره ص97 .
5- أحمد أمين / ضحى الاسلام 1 : 27 .

يسومكم الخسف ويسير فيكم بالعسف ، فكيف تجهل ذلك أنفسكم ، أم طبع الله على قلوبكم وأنتم لا تعقلون (1)؟

وبعد إستشهاد حجر بن عدي ومن معه من شيعة أمير المؤمنين (علیه السلام) ( شريك بن شداد الحضرمي ، صيفي بن فسيل الشيباني ، قبيصة بن ضبيعة العبسي ، محرز بن شهاب التميمي وكدام بن حيان العنزي ) قال معاوية للحسين بن علي (علیه السلام) : يا أبا عبد الله ، علمت إنّا قتلنا شيعة أبيك ، فحنّطناهم وكفّنّاهم وصلّينا عليهم ودفناهم . فقال الحسين : حججتك ورب الكعبة . لكنّا والله إن قتلنا شيعتك ما كفّنّاهم ولا حنطناهم ولا صلّينا عليهم ولا دفناهم (2).

أي أن أبتاع معاوية لا تسري عليهم أحكام الإسلام فقد خرجوا من ربقته بحربهم لأبناء العترة الطاهرة ، عترة الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والمؤمنين بنهجهم ، إرضاءً لنزوات معاوية الذي أعمت بصيرته المطامع ، وصح فيه قول الشاعر السوري محمد مجذوب :

آثرتَ فانيها على الحق الذي *** هو لو علمتَ على الزمان مخلّدُ

أرأيت عاقبة الجموح ونزوة *** أودى بلبك غيّها المترصد

وغلوتَ حتى قد جعلت زمامها *** إرثاً لكل مذممٍ لا يُحمدُ (3)

ويطيش ببعض المتطرفين حلم التنزيه والتماس العذر لمعاوية ولأمثاله ممن أقتدى بهم أو مَن إقتدوا به بانه إجتهد فأخطأ أو أنّه تاب ؛ وعليه لا

ص: 52


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي ص205-206 .
2- المصدر السابق ص219 .
3- محمد علي الحمامي / المطالعات في مختلف المؤلفات 3 : 527 .

يصح الكشف عن مساوئه ... ويكفي أن نقول لهم إنه أخطأ مع سبق الإصرار ، وحتى لو تاب فانها ذنوب لا تُقبل فيها توبة ، فقد فرى لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كبداً وسفك لأمير المؤمنين دماً ..

ومات معاوية بن أبي سفيان في رجب من سنة 60 هجرية ، وكان موته أشد ضرراً على الإسلام والمسلمين من حياته . مات معاوية ويزيد غائباً ، فلما قدم دمشق كتب – فوراً – الى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وهو عامل المدينة : إذا أتاك كتابي هذا فأحضر الحسين بن علي وعبد الله إبن الزبير فخذهما بالبيعة ، فإن امتنعا فاضرب عنقيهما وابعث اليَّ برأسيهما ، وخذ الناس بالبيعة فمن أمتنع فانفذ فيه الحكم (1).

ويرفض الحسين البيعة ليزيد بن معاوية . وقد تناول الباحثون ذلك بكثير من التفصيل ، الاّ أنّ الذي يستحق التأكيد عليه هو الرفض نفسه .

ففي الرجوع الى السنوات العشر التي سبقت موت معاوية والتي شهدت الإرهاصات الأولى لولاية العهد ، ودور العصابة الباغية وعلى رأسهم المغيرة بن شعبة في ذلك ، والتحرك المحموم الذي اضطلع به معاوية بن أبي سفيان نفسه ، والأساليب التي إتبعها والأكاذيب التي إبتدعها والمؤامرات التي حاكها والوعود التي أعطاها والوعيد الذي بثّه بين المترددين والرافضين للبيعة التي أعلنها سنة 59 هجرية لولده يزيد (2)، تجد أن الأُمور في غاية التعقيد ، وأن المستقبل يُنذر بكارثة يشارك في حبك خيوطها – بقصد وبدون قصد – كثير من الصحابة والتابعين والقادة والمتنفذين ، ماخوذين أمّا بالفتاوى الباطلة التي تسمح بولاية المفضول ، والإنقياد لأولي الأمر ولو كانوا على ضلال . أو مرهوبين بالشدة والفتك ، أو طامعين بالمال والسلطان والمناصب العليا ، أو مطبوعين على حياة الذل والخضوع ، فهل للحسين مكان بين كل هؤلاء ؟!

ص: 53


1- اليعقوبي / تاريخ اليعقوبي ص229 .
2- المسعودي / مروج الذهب 3 : 36 .

وما هو مصير الاسلام المهدد بالنسيان في ظل حاكم بعيد عن منابع النور والهداية ، حاكم لا يفقه الاّ لغة القتل والتصفية ومن ورائه مجتمع خدّرته النعمة وجبّنته العصا الغليظة ، يتعبّد الأوامر والتعليمات التي كرّسها معاوية بن أبي سفيان ، حتى قال أمير المؤمنين الامام علي (علیه السلام) : .... وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه .

إذن : هناك قضية اكبر من الحكم واكبر من مغريات الدنيا ، وهي بحاجة ماسة وسريعة الى مَن يتصدى لحمايتها وإنقاذها من التشويه الذي يصعب أو يتعذر إصلاحه . إنها الرسالة المحمدية، الرسالة التي رفع رايتها جد الحسين (صلی الله علیه و آله و سلم) وحاربها جد يزيد . وثبّت أركانها أبو الحسين بجهاده وتضحياته ، وحرّف مداليلها أبو يزيد ورهطه . وجاء يزيد ليهدم ثوابتها ويعمل على محو ذكر المبعوث رحمة للعالمين ، ولكن الارادة العليا والعناية الكبرى وراء قوله تعالى : «كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ»(1) فهل غير الحسين لها ؟ ولهذا كان الرفض بأعلى درجات العزم والإصرار .

لقد مثّل يزيد بن معاوية الذروة في قيادة التراجع والإنسلاخ عمّا يُنتظر من رأس السلطة لدولة تدّعي التدّين بالإسلام ، ولم يكن ذلك إتّهاماً بل هو الواقع الذي تُقر به شرائح المجتمع ، وتؤكده إعتراضات بعض الصحابة والتابعين ؛ ولم يكن يزيد بن معاوية وحده في هذا المستنقع ، بل كان قد أحاط نفسه بالنماذج النادرة المثيل في خسَّة النسب ونجاسة المولد وقساوة القلب وفقدان الرحمة وابتعاد عن القيم والدين . ويقابل ذلك سبط الرسول وريحانته وسيد شباب أهل الجنّة وخامس أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، والممثل لأولاد الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) في المباهلة ، وابن بنت النبي فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وابن سيد الوصيين ويعسوب الدين أسد الله الغالب علي بن أبي طالب (علیه السلام) . فهل ثمة وجه للمقارنة بينه وبين رمز الضلال

ص: 54


1- سورة الحجر الآية 90

والجريمة ؟ يقول الكاتب الكبير الاستاذ عباس محمود العقاد : (( ومن أعجب عجائب المناقضة التي تمّت في كل شيء بين الحسين ويزيد ، إنّ يزيد لم يختص بمزيّة محمودة تقابل نظائرها من مزايا الحسين حتى في تلك الخصال التي تأتي بها المصادفة)) (1)

ومع هذا يفوز الناقص ببيعة الصحابة والتابعين ، ويُدعى بأمير المؤمنين ، وهم الذين بذلوا النفس والنفيس في سبيل انتصار الاسلام ومبادئه السامية ، فماذا يحصل لو صرخ المؤمنون والخيّرون والشرفاء بوجه معاوية رافضين هذه البيعة النكراء ؟

وظاهر الأمر أن الخيار صعب قد يكلّف الكثير ، وإلاّ كيف تصدّق الأجيال اللاحقة إن أُمّة الاسلام القريبة من عهد رسول الله محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) والذين معه من المؤمنين تتخلى عن نصرة إبن بنت الرسول الذي (( إنتصر بأشرف ما في النفس الإنسانية من غيرة على الحق وكراهة للنفاق والمداراة ، وانتصر يزيد بأرذل ما في النفس الإنسانية من جشع ومراء وخنوع لصغار المتع والأهواء )) (2) .

ويرى بعضهم أن لا يُلام الطيبون على سكوتهم أو جلوسهم عن نصرة الحسين (علیه السلام) لشدّة وطأة العتاة الذين جاء وصفهم بكونهم (( جلاّدين ، وكلاب طراد في صيد كبير .. شرذمة تمتلئ صدورهم بالحقد يقتلون ويقبضون الأجر فرحين )) (3) .

وقد جرّب أحرار المدينة المنورة الذين خلعوا بيعة يزيد كيف كانت عاقبة ذلك من استباحة للدماء والأموال والأعراض ثلاثة أيام ، والتي سُمّيت

ص: 55


1- عباس محمود العقاد / أبو الشهداء ص62 .
2- المصدر السابق ص14 .
3- المصدر السابق ص18 .

بوقعة الحرة (1) كما أن مكة المكرمة لم تسلم من الحرق والدمار بأمر من يزيد بن معاوية والمأجورين من اتباعه في حربه لعبد الله بن الزبير .. (2) فليس ثمة فرصة للوقوف بوجههم الاّ بعظيم التضحية والفداء ، وهذه صفة خاصة لا تتوفر لدى الجميع بل هي صفة الصفوة الذين أمتحن الله قلوبهم فملأها إيماناً واخلاصاً للحق وأهله ، وخير من يمثلهم أصحاب الإمام الحسين في كربلاء الذين كانت أمامهم فرصة النجاة من الموت بمجرد تخلّيهم عن الحسين (علیه السلام) وقد طلب الحسين منهم ذلك ، ولكن كان الرفض سيّد أجوبتهم ، ولم يكونوا جميعاً من أبناء عمومته وقرباه بل كان منهم غرباء نصحوا له ولأنفسهم هذه النصيحة .

ص: 56


1- ابن الاثير / الكامل في التاريخ 4 : 112 .
2- المصدر السابق 4 : 124 .

الإمام الحسين (علیه السلام) يقرر النهضة المسلّحة

حين طغى عمى البصيرة عند يزيد بن معاوية ، وصدَّق أنّه أصبح الحاكم الأول في دولة أبيه ، أصابته رعدة المواجهة مع مصدر النور الإمام الحسين بن علي (علیه السلام) المدافع الشرعي الأول عن رسالة السماء التي أساء لها سفيان ومروان والعاص والعيص ... ونخر أساساتها معاوية وحزبُه ، وأراد لها يزيد وبطانته النكوص والعودة الى جهل الجاهلية ، ومواخير الرذيلة وعالم ذوات الرايات . وكان معاوية - ومن طرف خفيّ - قد أوصى وأكد على أهمية مبايعة الحسين لأنه الممثل الحقيقي للشرعية وليس من مصلحة المتطفلين على السلطة بقاء الحسين حراً دون تركيعه وإرغامه على البيعة . فكتب يزيد إلى والي المدينة الوليد بن عتبة : ... خذ الحسين – وفلان وفلان – بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتى يبايعوا ... (1)

ودعا الوليد الحسين للبيعة ، فكان ردّه (علیه السلام) : مثلي لا يبايع سراً فاذا دعوت الناس الى البيعة دعوتنا معهم فكان أمراً واحداً (2). وقد اعترض مروان بن الحكم على ذلك ، وأشار على الوليد بحبس الحسين حتى يبايع أو يُقتل . وكان رد الحسين على مروان : يا ابن الزرقاء ، انت تقتلني أم هو ؟ كذبت والله وأثمت (3). ثم أقبل على الوليد وقال : أيها الأمير إنّا أهل بيت النبوة

ص: 57


1- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 338 .
2- المصدر السابق 5 : 340 .
3- المصدر السابق

ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل شارب للخمور وقاتل النفس المحرّمة ، معلن الفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة (1).

وخرج الحسين (علیه السلام) الى مكة ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة 60 هجرية (2) مبتعداً عن أعوان الشيطان ، ومكث في مكة قرابة الأربعة أشهر ، وجاءته رسل أهل الكوفة ورسائلهم وهي تحمل نصوصاً شتى ومن جهات شتى ، منهم من شيعة أهل البيت الموالين الصادقين وهذا نموذج منها:

(( بسم الله الرحمن الرحيم : للحسين بن علي من سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجَبَه ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر ، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة : سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله الاّ هو : أمّا بعد : فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأّمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضا منها ، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبعداً له كما بعدت ثمود . إنّه ليس علينا إمام ، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق . والنعمان بن بشير في قصر الامارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه

ص: 58


1- المقرم / مقتل الحسين ص129 عن مثير الأحزان لإبن نما الحلّي / ( من الشروط التي أحتواها نص المعاهدة بين الامام الحسن ومعاوية : أن لا يعهد معاوية لأحد من بعده وأن يكون الأمر من بعده للحسن بن علي وبعده الحسين بن علي ) وعليه فالحسين أحق بالخلافة من غيره ) ( انظر : ابن عنبه / عمدة الطالب ص67 ) .
2- لماذا مكة ؟ هل كانت مكة خالية من سلطة بني أمية أم أن السلطة كانت تتحرز من المواجهة المسلحة لخصومها في مكة ؟ وحين إستقر الحسين (علیه السلام) في مكة تمتع بشيء من الامان والحرّية , وتوافدت عليه الوفود . وظاهر الأمر ان الحرم المكي كان في مأمن من شر الطغاة وملاذً وحمى للذين يلجؤون إليه . قال الطبري : ... بُعث الى عبد الله بن الزبير عمرو بن سعيد , فقال له أبو شريح : لا تغزُ مكة فإني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول : (( إنّما أذن الله لي في القتال بمكة ساعةً من نهار ثم عادت كحُرمتها )) ( تاريخ الطبري 5 : 346) وكان المكيّون يختلفون الى الحسين , ويأتيه مَن بها من المعتمرين وأهل الآفاق ( أنظر : ابن الأثير / الكامل في التاريخ 4 : 20 ) ولكن الطاغية يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر وأمَّره على الحاج وولاه الموسم وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وجد ( أُنظر : المقرم / مقتل الحسين ص168 عن المنتخب للطريحي ص304 ) . وعلم الحسين (علیه السلام) بذلك فعزم على الخروج من مكة قبل اتمام الحج واقتصر على العمرة كراهية ان تستباح به حرمة البيت .

الى عيد ، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت الينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله والسلام ورحمة الله عليك (1) .

أما رسائل اهل الختل والغدر المرسلة من قواد العسكر ورؤساء الأرباع ، فهذا نموذج منها :

من شبث بن ربعي وحجّار بن ابجر ويزيد بن الحارث وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج ومحمد بن عمير التميمي : أما بعد ، فقد أخضرّ الجناب واينعت الثمار وطمَّست الجمام . فاذا شئت فأقدم على جندٍ لك مجنّدة ، والسلام عليك (2) .

ويقيناً إن الحسين (علیه السلام) بما يحمل من خُلق محمّدي وطهارة نفس علَوية لم يتحرَّ عن مصداقية المرسلين ، وأطمأن إلى محتوى رسائلهم إجمالاً ، وإن تلك الرسائل – على افتراض صدق النوايا – وضعت الإمام الحسين قبالة واجبه المقدس في النهضة ضد الإنحراف بحضور الناصر . فبعث (علیه السلام) الى مسلم بن عقيل فقال له : سِرْ إلى الكوفة فانظر ما كتبوا به إليَّ ، فإن كان حقاً خرجنا إليهم . فخَرج مسلم (3) .

ص: 59


1- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 352 ( .... عن محمد بن بشير الهمداني قال : إجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صُرَد , فذكرنا هلاك معاوية , فحمدنا الله عليه , فقال لنا سليمان بن صُرد : إنّ معاوية قد هلك , وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم وقد خرج الى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه , فان كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا اليه , وإن حفتم الوَهَلَ والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه , فقالوا : بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه . قال فاكتبوا إليه فكتبوا .. )
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق

مسلم بن عقيل (علیه السلام)

مسلم بن عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي . ولد سنة 12 هجرية (1) في المدينة المنورة في دار أبيه . وتربى في أحضان الإمامة ، صحب عمّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) وشب مع سيدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين سبطي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) تعلم من أهل العصمة العلوم الإلهية والمعارف الربانية ، واستمد من أبيه العلاّمة النسّابة العلوم العربية (2) .

إصطفاه الإمام الحسين (علیه السلام) وبعثه الى العراق المعروف بآدابه وفنونه ، كان قوياً شجاعاً شهد مع عمه عليّ معركة الجمل ومعركة صفين . يقول ابن شهر آشوب في صفة جيش الإمام علي في صفين : عبّأ عسكره فجعل على ميمنته الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر ومسلم بن عقيل (3).

وهو عند الحسين عظيم المنزلة ، وقد أشار إليها الإمام في كتابه مع مسلم لأهل الكوفة : بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين . أما بعد : فإنّ هانئاً وسعيداً (4) قدما عليَّ بكتبكم وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي إقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جلّكم أنه ليس علينا إمام ، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق ، وقد بعثت اليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، وأمرته أن

ص: 60


1- عبد الواحد المظفر / سفير الحسين ص12 .
2- المصدر السابق ص12-13 .
3- ابن شهر آشوب / مناقب آل أبي طالب 3 : 168 .
4- هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي .

يكتب اليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم ، فان كتب اليَّ أنه قد أجمع رأي ملأكم وذوي الحجى منكم مثل ما قدمت عليَّ به رسلكم وقرأت في كتبكم ، أقدم عليكم وشيكا إنشاء الله ، فلعمري ما الإمام الاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله ، والسلام (1).

إنّ الملكات التي يتمتع بها مسلم بن عقيل لا تتهيأ لكائن من يكون ، وهي متكاملة في الجسد والنسب والنشأة والصحبة والاقتداء والتربية والحنكة والشجاعة والايمان وحسن السيرة والمهابة اللاّزمة لشخصية القائد، والقدرات العلمية والأدبية والفصاحة والبلاغة ومعرفة طرق الحوار وفنون المجادلة ، والفطنة والعفة النفسية والجسدية .. ولتوفره على تلك المزايا وغيرها قال فيه الإمام الحسين (علیه السلام) ... وثقتي (( وهذا اللفظ عظيم جداً فان الامام المعصوم لا يقول ثقتي الاّ لمن خلص وصفا وتمحض ولاؤه وإيمانه)) (2).

في حديث عن سفر مسلم بن عقيل من المدينة المنوّرة الى الكوفة ، يقول ابن الأثير ... إستأجر دليلين فماتا بالطريق من العطش ، فكتب مسلم الى الحسين ... وقد تطيّرت من وجهي هذا ، فاذا رأيت ، أعفيتني منه وبعثتَ غيري ، والسلام (3).

ومن غريب الصدف أنك تقرأ هذا الخبر في أغلب المصادر الموالية والمخالفة كالطبري وأبن الأثير والشيخ المفيد في الإرشاد وابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب وغيرها . ولو تأملت الخبر لوجدت فيه مالا يتفق مع شخصية مسلم بن عقيل ، فهو إختيار المعصوم ويستبعد جداً أن يكون إختيارً منقوصاً ، فليس في عقيدة مبعوث الحسين شيء من رواسب الجاهلية وليس هو مَن يتطيّر وقد أُرسل الى مهمة خطيرة لا تخلو من المخاطر والمفارقات،

ص: 61


1- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 353 .
2- المظفر / سفير الحسين ص37 .
3- الكامل في التاريخ 4 : 21 .

كما لاريب ولاشك في شجاعته الموروثة والمجرّبة . وظاهر الأمر : إن ولادة الخبر لأول مرة كانت من رحم مريضة .

ووصل مسلم (علیه السلام) إلى الكوفة ، ولم يصحب معه جيشاً ، ولا أعدَّ قوة دفاعية . وحل ضيفاً على المختار بن أبي عبيد الثقفي (1) فرحّب الكوفيون بالضيف الكريم ، واكتظت الشوارع بالجماهير من مختلف الطبقات رافعين شعار التهاني والإبتهاج بتشريفه (2)ولم تمضِ سوى أيام قليلة حتى ضم ديوانه ( دفتر التسجيل ) إثني عشر ألف ممن بايع للحسين (علیه السلام) ويقال أكثر من ذلك كلهم من أهل العراق (3) .

إنّ النتائج التي تحققت على يد المبعوث الحسيني (علیه السلام) والأجواء الإيجابية التي أحاطت بأيام البيعة وما أفرزته من إنطباع بالنجاح ، وأن الطريق سالكة لتحقيق الأهداف . شجّعت على أن يكتب مسلم الى الإمام الحسين (علیه السلام) بتعجيل القدوم الى الكوفة بما نصَّه : (( أمّا بعد فإن الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألف ، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي فإن الناس كلهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى . والسلام (4).

لقد كانت مهمة مسلم بن عقيل دينية سياسية تعمل على حماية الرعيّة من تسلط الولاة والمتنفذين والحد من العبث بالدين ونشر الأثرة والاستبداد ، وايقاظ الذين اعتقدوا بدوام العافية ومحبة العاجل وأنفوا من الرضوخ للحق لما

ص: 62


1- اختلف المؤرخون في تحديد الدار التي نزل فيها مسلم حين وصوله الى الكوفة , فمنهم من يقول إنه نزل في دار مسلم بن عوسجة وآخر يقول بل في دار هانئ بن عروة وآخر يقول نزل في دار المختار . والراجح أن نزوله كان في دار المختار ( انظر : المظفر / سفير الحسين ص58 ) .
2- المظفر / سفير الحسين ص65 .
3- المصدر السابق ص66 .
4- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 375 .

زعموا أنّ فيه هضماً لكرامتهم وخرقاً لسدّة مجدهم ، فكان مسلم يتألفهم بما لا حرج عليه به في الدين ولم تحظره عليه الشريعة (1).

البيعة والمبايعون للإمام الحسين (علیه السلام) من سكان الكوفة

البيعة تعني : التولية ، وعقدها: بايعناك على كتاب الله وسنة نبيه (صلی الله علیه و آله و سلم) .. وهي أن يمسك أعيان البلاد يد مَن يولّونه الخلافة علامةً لقبولهم إياه وتعهدهم بطاعته والإنقياد له (2).وتُلزم البيعةُ من شهد المبايعة ، وتحقق فيها الإجماع من أهل الحل والعقد ، ويتبع في ذلك مَن سمع بها .

والذي لا يختلف عليه العارفون هو : إن العامة – غالباً – يتبعون قادتهم وأعيانهم وذوي الثقة والإعتبار فيهم في مسألة البيعة ، وربما تتبدل المواقف فيكون للعامة دور مؤثر في ميزان الأحداث ، فهم الأغلبية ، ومنهم تحشد الجيوش ، وعلى ولائهم يتكئ أصحاب الجاه والسلطان. وكان في الكوفة إبان النهضة الحسينية إتجاهان :- الأول : الإنحياز إلى أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (علیه السلام) والإعتقاد بأحقيته في الخلافة ويمثله الشيعة والمتعاطفون معهم . والإتجاه الثاني : العثمانية (3) وهم الموالون للخليفة عثمان بن عفان والمدافعون عنهُ أو من المخدوعين بالإعلام الأموي الذي كرّس نشاطه للنيل من الأتجاه الأول واتهام الإمام على بالتواطؤ وحماية قتلة الخليفة عثمان . وكان السلطان الأموي يغذي هذه الدعاوى ويبذل كل ما يستطيع لإذكاء نار الفرقة والخصام . فعندما عيّن معاوية بن ابي سفيان المغيرة بن شعبة والياً على الكوفة أوصاه ( بشتم علي وذمّه ، والترحم على عثمان والاستغفار له ،

ص: 63


1- المظفر / سفير الحسين ص48 .
2- لويس معلوف / المنجد في اللغة
3- يرتبط إطلاق (( العثمانية )) بنشاط انصارها من الأمويين والمنافقين الذين يبغضون الإمام علي في تلك الفترة وعلى أثر اغتيال الخليفة عثمان وليس ذلك من الثوابت إنما هو وليد مرحلة,وعليه يصح أن نقول ان الكوفة بدأت عمريّة وكثير من سكانها تأثروا بالفكر والسياسة التي إنتهجها الخليفة عمر بن الخطاب , وقد سنّ الخليفة عمر جملة من السنن وامر الناس باتباعها طوعاً أو كرهاً ... ويمتلك قاعدة شعبية تقدمه على من جاء بعده .

والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم ، والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم ، وبالغ المغيرة في تنفيذ وصيّة معاوية على الرغم من تصدي أعلام الشيعة له مثل حجر بن عدي الذي سانده كثير من الناس ) (1) ثم أنّ الولاة الأمويين يفرقون بين الرعية في العطاء والمراتب والاعتبارات الإجتماعية مما يثير حفيظة المظلومين ويدفعهم الى المخالفات ، ويترك آثارً نفسية سلبية تورث الإنحراف والتذبذب في المواقف ، والخضوع للأقوى والإستسلام امام الحاجة ، فينتج عن ذلك عدم وضوح الإنتماء ، وتجد الإشاعات طريقها إليهم فلا يتورعون عن إثارة الفتن أو تأييدها .

وبخصوص أخذ البيعة للإمام الحسين (علیه السلام) وبعد الجهود التي بذلها مسلم بن عقيل في توضيح برنامج الحكم المرتقب والذي فصّلت بعض أبعاده رسالة الإمام الحسين (علیه السلام) التي حملها مسلم الى ( المؤمنين والمسلمين ) من أهل الكوفة وقرأها على الحاضرين في دار المختار ؛فقد قام عابس بن شبيب الشاكري فحمد الله وأثنى عليه وقال : أمّا بعد فإنّي لا أُخبرك عن الناس ، وما أعلم ما في نفوسهم ، وما أغرُّك منهم ، والله أُحدثك عما أنا موطن نفسي عليه ، والله لأُجيبنّكم إذا دعوتم ولأُقاتلنّ معكم عدوكم .. فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي فقال : وأنا والله الذي لا إله الاّ هو على مثل ما هذا عليه . ثم قال الحنفي مثل ذلك (2).

وفي قراءة متأنية للنصوص المذكورة آنفاً يدرك الفاحص أنّها تومي الى أن الوجوه الشيعية المؤمنة بعملية الإصلاح والسير وراء المعصوم لتحقيق العدالة ، غير مطمئنة لبيعة ذلك الكم من العامة، فبيعة اكثرهم أمّا باندفاع عاطفي غير ثابت الولاء ، أو بإيعاز من أزلام النظام للوقوف على نوايا

ص: 64


1- البراقي / تاريخ الكوفة ص278 .
2- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 353 .

أصحاب التغيير أو معرفة أماكن تواجدهم . قال الطبري : (( واختلف الشيعة إليه – الى مسلم بن عقيل – حتى عُلِم مكانه ، فبلغ ذلك النعمان بن بشير (1) .

من هذا الواقع تنكشف حقيقة تفيد بأن الذين بايعوا الحسين بيعة الإخلاص وتوطين النفس على التضحية هم الخلّص من الشيعة والنخب التي يُعتمد عليها في المواجهة والنهوض بالمهمات الصعبة إضافة الى جمهور من المضطهدين ، اما العامة الذين وصل عددهم الى أكثر من إثني عشر ألف فقد بايعوا – في الغالب – طمعاً بالحكم العادل والخلاص من جور بني أميّة وزبانيتهم وليس بعقيدة التشيع ومبدأ الولاء الثابت ، ولذا أمكن بسهولة تفريقهم عن مسلم بن عقيل . ويؤكد ذلك ما ذكره السيد عبد الرزاق المقرم بقوله : لما صاح مَن في القصر ، يا أهل الكوفة إتقوا الله ولا توردوا على أنفسكم خيول الشام فقد ذقتموهم وجربتموهم ... حتى أن الرجل يأتي إبنه وأخوه وابن عمه فيقول له : إنصرف . والمرأة تأتي زوجها فتتعلق به حتى يرجع (2).

وقال أبو مخنف : فتكلم كثير بن شهاب أول الناس فقال : أيها الناس إلحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود يزيد قد أقبلت وقد أعطى اللهَ الأميرُ عهداً لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم، أن يحرم ذريتكم العطاء ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لايبقى له فيكم بقية من اهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جرّت أيديها .. وتكلم الأشراف بنحو من كلام هذا ، فلما سمع مقالتهم الناسُ أخذوا يتفرقون وأخذوا ينصرفون (3).

ص: 65


1- المصدر السابق ( لم يكن مسلم وأعوانُه يعملون في الظلام , فالذي يبايعه ثمانية عشر ألف أو أكثر لا يعقل أن يكون مجهولاً , ألم يصل خبره مفصلاً الى الوالي النعمان بن بشير من قبل أعوان السلطة . ثم إنّ مسلماً كان يؤم أنصاره ومؤيديه في الصلاة في جامع الكوفة . نعم حصل التحفظ والإنزواء عندما تمكن عبيد الله إبن زياد من الكوفة وانقلبت إليه الجماهير .
2- المقرم / مقتل الحسين ص158 .
3- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 370 .

وكان بين المنتدبين لتخذيل الناس عن مسلم (علیه السلام) أقطاب الزمرة الذين كتبوا للحسين : أما بعد فقد أخضر الجناب واينعت الثمار فاذا شئت فأقدم على جند لك مجنّدة .. ( شبث بن ربعي ، حجار بن أبجر ، يزيد بن الحارث ، يزيد بن رويم ، عزرة بن قيس ، عمرو بن الحجاج ومحمد بن عمير) (1).

والسؤال الذي يحضر هنا : هل كان المقاتلون – كما سمتهم النصوص – من الصبيان ... حتى يفرقهم أخوانهم ونساؤهم ؟ أليس في أعناقهم بيعة ؟ وهل بهذه السهولة يتخلّون عن أحلامهم بالخلاص من جور بني أمية وأزلامهم ، ويتركون ما عقدوا العزم عليه في مواجهة جنود السلطة ؟ نعم : ربما تفرقوا بعد الخسائر الفادحة التي تكبدوها في المواجهات الدامية ، وكثرة الإعتقالات او ربما يتفرق المترددون والخائفون من المستقبل ، وإلاّ فالأمر يحتاج الى مراجعة .

موقف السلطة في الكوفة من مسلم بن عقيل (علیه السلام)

كان التعاطف الشعبي في الكوفة مع النهضة الحسينية محصوراً في التأييد والبيعة دون الدخول في أزمات وصدامات مع السلطة ، وكان على رأس السلطة الاموية في الكوفة الوالي النعمان بن بشير الانصاري وحين علم بنشاط السفير مسلم بن عقيل واختلاف الشيعة الى مكانه ارتقى المنبر وقال : (( أمّا بعد فاتقوا الله عباد الله ولا تسارعوا الى الفتنة والفرقة فإنّ فيهما يهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب الأموال ... وإني لم أقاتل من لم يقاتلني ولا أثب على من لم يثب عليَّ ولا أُشاتمكم ولا أتحرّش بكم ولا آخذ بالقرف ولا الظنة ولا التهمة ولكنكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم

ص: 66


1- المظفر / سفير الحسين ص62 .

فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر (1).

في خطاب الوالي النعمان بن بشير كشف لحجم التمرد الشعبي السلمي على السلطة ، فسماه بالفتنة ، ولكون النعمان بطبعه مسالماً قدّم الإنذار على استعمال القوة التي هدد باستعمالها إذا لزم الأمر حتى لو كان بلا ناصر . ولم يرقْ ذلك لأنصار النظام ، فقد قال عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية للنعمان : إنه لا يصلح ما ترى الاّ الغشم ، إن هذا الذي أنت فيه ما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين ، فقال النعمان : ان أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب اليَّ من أن أكون مع الأعزّين في معصية الله . ثم نزل .

ولم يرعوِ عبد الله بن مسلم الحضرمي، فكتب الى يزيد بن معاوية : اما بعد فإن مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن علي ، فإنْ كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ينفّذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدّوك ، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف ... ثم كتب إليه عمارة بن عقبة وعمر بن سعد بن أبي وقاص بمثل ذلك (2).

وما كان من يزيد إلاّ الرجوع الى سِفر الخبث وداهية الغدر أبيه معاوية حيث كان قد عهد قبل مماته لعبيد الله بن زياد على الكوفة وأودعه لدى سرجون – مولى معاوية – فتمّ إختيار الأعرق بالغدر، والمروق من الدين، عبيد الله ، واليه على البصرة فعهد إليه بولاية الكوفة أيضاً وكتب له يأمره بقوله : سِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب إبن عقيل كطلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله او تنفيه . والسلام (3) .

ص: 67


1- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 355-356 .
2- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 355 .
3- المصدر السابق 5 : 356 .

عبيد الله بن زياد في الكوفة

.. وحال تسلمه كتاب الولاية الجديدة سار عبيد الله على الفور من البصرة الى الكوفة لا يلوي على شيء ... دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو متلثم ، والناس قد بلغهم إقبال الحسين اليهم فهم ينتظرون قدومه ، فظنوا حين قدم عبيد الله انه الحسين، فاخذ لا يمر بجماعة من الناس الا سلموا عليه وقالوا : مرحباً يا ابن رسول الله قدمت خير مقدم . فرأى من تباشيرهم بالحسين (علیه السلام) ماساءَه (1) وحين استقر في دار الامارة حدث انقلاب خطير ، وتطورت الأمور تطوراً ينذر بالشر حيث مال جمهور ( الأشراف ) الى جانب الحاكم رغبة في الرتب وطمعاً في الكراسي والهبات عند الامير الجديد ، وخاف الأوساطُ قطْعَ الرواتب فانحاز اليه فريق ،ووقف فريق بين الأمرين ينظر لهذا بعين ولذاك باخرى ، ويراقب رجحان كفة الميزان لمن تكون . لقد اعتركت الدنيا والآخرة في نفوس هذه الطبقة المتوسطة فاختل النظام السياسي وتبدل الوضع بدخول ذلك الجبار ، مما اضطر مسلم بن عقيل الى تغيير دار سفارته من دار المختار بن ابي عبيد الثقفي الى مركز أقوى ونفوذ تام في الأعوان ، وذلك في دار هانئ بن عروة زعيم قبيلة مذحج .. وأخذت الشيعة تختلف اليه في دار هانئ بن عروة (2).

يقول الدينوري : بعد خطبة ابن زياد ووعيده . خرج مسلم من الدار التي كان فيها بعد عتمة حتى أتى دار هانئ بن عروة المذحجي ، وكان من أشراف أهل الكوفة ، فدخل داره الخارجة ، فأرسل إليه ، وكان في دار نسائه ، يسأله الخروج إليه فخرج إليه ، وقام مسلم فسلم عليه وقال : إنّي أتيتك لتجيرني وتضيّفني ، فقال له هانئ : لقد كلفتني شططا بهذا الأمر ولولا

ص: 68


1- المصدر السابق 5 : 358 ( ولهذا أمر عبيد الله بن زياد- كما أرى- بمنع الركب الحسيني من الدخول الى الكوفة والاّ فسوف تسحق الجماهير أبن زياد وتلتف حول الامام الحسين (علیه السلام) .
2- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 362 .

دخولك منزلي لأحببت أن تنصرف عني ، غير أنه قد لزمني ذمام لذلك ، فأدخله دار نسائه ، وأفرد له ناحية منها ، وجعلت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ (1).

أمّا الشيخ المظفر فيذكر الخبر الذي ينسجم مع تاريخ هانئ وعلاقته بأمير المؤمنين الامام علي (علیه السلام) ،ولم ترد أية اشارة تفيد بامتناعه عن البيعة للحسين (علیه السلام) ولو كان قد حصل مثل ذلك فانه لا يخفى ، فهو الزعيم الكبير لأكبر قبيلة في الكوفة قبيلة مذحج . يقول الشيخ : ... تعاضد الرئيسان وتعاون الزعيمان العدناني والقحطاني على تنفيذ مشاريع هذه السياسة الجديدة فجدّا وشمّرا عن ساعد الحزم والكفاءة في نشر الدعوة الحسينية وجذب الناس إليها (2) .

ولكن : أليس ثمة نقص في الأمر ، فمن المسلمات التي تسبق إعلان أي تغيير لاسيما التحولات السياسية الكبرى ، وضع مخطط للسيطرة على المدينة وإسقاط حكومتها . ويظهر أن مثل هذا المخطط لم يكن موجوداً ، ويرى بعضهم ان في ذلك تقصيراً ، فعندما كُشفت الاوراق وعلم الذين بايعوا للحسين موقف الوالي الضعيف ، وتحرك أقطاب الحزب الاموي ضد الثورة ، وان مسلم بن عقيل قد كتب فعلاً للإمام الحسين بالقدوم ، فليس من الحكمة الانتظار حتى يعمل الإعلام الأموي عمله بالضعفاء والمترددين ، وكان من الأصوب الانقضاض على السلطة وتهيئة الأجواء لاستقبال ركب الحسين (علیه السلام)

ص: 69


1- الأخبار الطوال ص233 ( في النص السابق أمور ينبغي الوقوف عندها ولنبدأ برد فعل هانئ تجاه طلب مسلم (علیه السلام) والمعروف إنّ مثل هذا الموقف يتعارض مع تربية هانئ العشائرية ومنزلته الاجتماعية السامية , ثم كان بإمكانه أن يرفض أو يوافق دون أن يواجه مبعوث الإمام الحسين (علیه السلام) بتلك العبارات الثقيلة , ومن غير المعقول أن يرضى مسلم بن عقيل بهكذا مقابلة تنطوي على طرد غير مباشر ويُشم منها رائحة الإذلال ومسلم من بيت شعاره هيهات منّا الذلّة , واذا كان هانئ يخشى سطوة إبن زياد فلماذا يسمح باختلاف الشيعة الى داره وكان بإمكانه منع ذلك . إنّ في النص إساءة لكلا الزعيمين الكبيرين , ولااستبعد ان يكون الدينوري قد نقل الخبر من مصدر مغرض , ولم يشر إليه ) .
2- المظفر / سفير الحسين ص76 .

قبل وصول عبيد الله بن زياد الى الكوفة وهو الخبير بأساليب القمع وشراء الذمم .

لقد استطاع عبيد الله من كشف حيثيات العمل السري ، ومكان تواجد مسلم بن عقيل بواسطة الجاسوس (1) الذي وظفه لهذا الغرض ، ولم تنفع الإجراءات اللاّحقة بعد فوات الأوان .

قصة المؤامرة لقتل عبيد الله بن زياد

وردت قصة محاولة اغتيال عبيد الله بن زياد بروايتين : يقول فلهوزن : .. في البصرة لم يكن للشيعة في الجملة كبير شان ، وكان لرئيسهم شُريك بن الأعور الحارثي مكان كريم عند زياد وعند أبنائه من بعده ، ولكن شريكاً لم يكن براً بثقتهم فيه ، فقد أراد أن يستغلها ليغدر بعبيد الله بن زياد الذي تولى العراق بعد أبيه وذلك إن شريكاً مرض ، فذهب إليه عبيد الله بن زياد عائداً في داره ، فأراد شريك أن يقتله ، وحرّض على ذلك رجالاً كانوا في داره ، ولكنهم إستقبحوا هذا الغدر الشائن وكرهوه (2).

وفي رواية الطبري : ... فمرض هانئ بن عروة ، فجاء عبيد الله عائداً له ، فقال عمارة بن عبيد السلولي : إنما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية فقد أمكنك الله منه فاقتله . قال هانئ ما أُحب ان يقتل في داري فخرج . فما مكث الاّ جمعة حتى مرض شُريك بن الأعور وكان كريماً على ابن زياد ، وكان شديد التشيّع . فأرسل إليه عبيد الله إني رائح إليك العشية ، فقال لمسلم : إنّ هذا الفاجر عائدي العشية فاذا جلس فاخرج إليه واقتله . فلما كان من العشي أقبل عبيد الله لعيادة شريك فقام مسلم بن عقيل ليدخل وقال له

ص: 70


1- دعا إبن زياد مولى له يقال له معقل فقال له : خذ ثلاثة ألاف درهم ثم أطلب مسلم بن عقيل , واطلب لنا أصحابه , ثم أعطهم هذه الثلاثة آلاف فقل لهم إستعينوا بها على حرب عدوكم وأعلمهم أنك منهم . ( انظر : الطبري / تاريخ الطبري 5 : 362 )
2- يوليوس فلهوزن / تاريخ الدولة العربية / تعريب الدكتور عبد الهادي أبو ريدة ص63 .

شريك لا يفوتنك اذا جلس ، فقام هانئ بن عروة إليه فقال : أني لا أحب أَن يقتل في داري، كأنه استقبح ذلك . فجاء عبيد الله بن زياد فدخل مسلم .. ثم أنه قام فأنصرف ، فخرج مسلم فقال له شريك ما منعك من قتله ؟ فقال: خصلتان :- أما إحداهما فكراهة هانئ أن يقتل في داره ،وأما الأُخرى فحديث حدّثه الناس عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) (( إن الايمان قيد الفتك ولا يفتك مؤمن )) فقال هانئ : أما والله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجراً غادراً ولكن كرهت أن يقتل في داري (1) .

أنّ مراجعة سريعة للروايتين يمكن أن يلاحظ المتابع الاختلافات بينهما ، ولعل أهم ما في رواية الطبري أنها نصّت على ذكر مسلم بن عقيل بالذات ولم يذكر ذلك فلهوزن . ثم إنّ المفارقة الخطيرة تكمن في العرض الذي تلقاه مسلم (علیه السلام) من شُريك بن الأعور بالفتك بعبيد الله ، فهل أن مسلم وعد بالتنفيذ ثم أحجم أو تراجع عندما سنحت الفرصة ؟ أم أنه لم يوافق أصلاً ؟ وفي هذا أيضاً إختلف الرواة ، فعن إبن نما الحلي في مثير الأحزان ، يقول السيد عبد الرزاق المقرم : ... إنّ شُريك بن الأعور قال لمسلم (علیه السلام) إنّ غايتك وغاية شيعتك هلاكه ، فأقم في الخزانة حتى اذا أطمأن عندي أخرج إليه واقتله وأنا أكفيك أمره بالكوفة . وبينما هما على هذا إذ قيل : الأمير على الباب ، فدخل مسلم الخزانة .. (2) أي أنه وافق . والظاهر إن الرواية الطبرية قد أغفلت ذكر الخزانة ، وذكرت ما دار بين شُريك وعبيد الله بن زياد في دار هانئ وليس في دار شُريك كما ذكر ذلك فلها وزن .

ولكي تتضح الصورة أرى أن رغبة شُريك بن الأعور في قتل عبيد الله بن زياد خدمة للمشروع الحسيني ليست مستبعدة، كما أن هانئ بن عروة وحتى مسلم بن عقيل يتمنون الخلاص من هذا الطاغية ، الاّ أن القيم العليا

ص: 71


1- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 363 .
2- مقتل الحسين ص153 .

التي يتحلى بها هانئ وعدم موافقته ان يقتل ضيفه في داره ليست بعيدة عن مبعوث الإمام حتى لو كان في قتل إبن زياد مكسب كبير للثورة ، ومن المستبعد أن يوافق مسلم على التنفيذ ثم يتراجع ... إنّ مسلم بن عقيل الذي وصفه الإمام الحسين (علیه السلام) بقوله : ثقتي من أهل بيتي ، لا يخرج عن أخلاق البيت الذي تأدب بآدابه ، ذلك البيت الذي أذهب الله عن اهله الرجس وطهرهم تطهيرا . فلا يمكن أن نتصور مسلم بن عقيل قد نسي واجبه الشرعي وأخلاقه الإسلامية ، أليس هو ظل الحسين في الكوفة ؟

الجديد في مهمة مسلم بن عقيل في الكوفة

وصف الطبري مسير عبيد الله بن زياد من البصرة الى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي وشُريك بن الأعور الحارثي ، وحشمه وأهل بيته ، حتى دخل الكوفة ليلاً .. ونزل في قصر الامارة . وفي اليوم الثاني نودي : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فخرج عبيد الله بن زياد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أمّا بعد فإن .... يزيد ولاّني مصركم وثغركم وامرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان الى سامعكم ومطيعكم ، وبالشّدة على مريبكم وعاصيكم ، وأنا متّبع فيكم أمره ، ومنفذ فيكم عهده ، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي ، فليُبقِ امرؤ على نفسه . الصدق ينبئ عنك لا الوعيد. ثم نزل (1).

إنّ لهجة عبيد الله بن زياد في هذه الخطبة تفصح عن أمرين :- الأول : إنه يركن الى قوة ضاربة تحميه من الشيعة والموالين للإمام الحسين (علیه السلام) من اهل الكوفة ، في وقت تعلن فيه المعارضة عن نيتها خلع بيعة يزيد والتخلص من سطوة الحكم الأموي . وكان إبن زياد واثقاً من إقتداره بتنفيذ وعده ووعيده ، غير مكترث لما يطرق سمعه من اخبار وتحركات ، فهو

ص: 72


1- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 358 – 359 .

المتمرس في الاعيب السياسة وتقلباتها . والأمر الثاني يتعلق بسكان الكوفة ، ففي نظرة نقدية للوضع الإجتماعي السائد آنذاك تتجلى الصورة الآتية : إن العامة من العرب لم تعد تحترم الموروث القبلي ، وتمارس الضغوط على الأغراب من الموالي ، وبنفسيات تميل الى التطرف في السيادة والقيادة والإمتيازات ، وكانت المحصلة مجتمعاً قلقاً يميل الى النفعية الذاتية والتملص من قيود الطاعة ما امكنه ذلك .

في مثل هذه الأوضاع باشر عبيد الله بن زياد نشاطه المحموم حال وصوله الى دار الإمارة ، وبث العيون والأرصاد ، وجمع ما امكنه من وجوه الشيعة والموالين للحسين (علیه السلام) فقتل وسجن ... وحين علم بوجود مسلم بن عقيل في دار هانئ بن عروة قرر القبض عليه .. فقال لوجوه من أهل الكوفة : مالي أرى هانئ بن عروة لم يأتني فيمن أتاني ؟ فخرج إليه محمد بن الأشعث في ناس من قومه وهو على باب داره . فقالوا : إنّ الأمير ذكرك واستبطأك فانطلقْ إليه . فلم يزالوا به حتى ركب معهم وحتى دخل على عبيد الله بن زياد ... قال يا هانئ أين مسلم ؟ وقد رفض هانئ تسليم مسلم ، فأدمى عبيد الله وجه هانئ بضربه حتى شجّه ، ثم أمر به فحبس في جانب من القصر (1).

لقد كان إعتقال الزعيم هانئ بن عروة دافعاً لإشعال فتيل الحرب وتطويق قصر الإمارة من قبيلة هانئ (( مذحج )) والتي فشلت بسبب سوء قيادة الحليف عمرو بن الحجاج الزبيدي الذي لم يكن مخلصاً لزعيمه ، وطامعاً بالتقرب من إبن زياد ، فسرعان ما أمر أتباعه بفك الحصار عن القصر مصدقاً إدعاء أحد زبانية إبن زياد ، بأن هانئ لم يقتل ، ولم يتجشم إبن الحجاج عناء الاصرار على فك حبس هانئ أو التحقق من سلامته فعلاً . فكانت حمله فاشلة أو هي بالحقيقة مُفشّلة .

ص: 73


1- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 348 , 349 .

وعندما سمع مسلم بن عقيل بما جرى لهانئ بن عروة ، ((نهض بأربعة آلاف مقاتل ... قال أبو مخنف عن عباس الجدلي قال : خرجنا مع أبن عقيل أربعة آلاف فما بلغنا القصر الاّ ونحن ثلاثمائة)) (1) وعند المساء لم يبق مع مسلم (علیه السلام) الاّ الخلص من أصحابه وقد أحّل لهم الانصراف حفظاً لدمائهم .

يقول الشيخ عبد الواحد المظفر : إن فشل هذه الحملة ينحصر في سببين :- الأول : كراهة مسلم إقتحام القصر لوجود أبرياء يمكن أن تزهق أرواحهم . والثاني : الإعلام المضاد الذي فرّق الناس عن مسلم فبقي وحيداً (2) وأرى أن السببين لا يدعمهما الوضع المتفجّر ولا يرضاهما منطق المواجهة العسكرية . إن الاصطدام بالقوة الحكومية هو السبب الرئيس والمرجح في بعثرة القوة المهاجمة وفشلها في تحقيق اهدافها .

وهناك حملة ثالثة هاجها إعتقال محمد بن كثير الأزدي ، وهي لم تذكر في المعاجم العربية المشهورة وإنما ذكرت في المعاجم التاريخية الفارسية . وهذه ترجمتها من كتاب (( ناسخ التواريخ )) الفارسي وهو يحكيه عن تاريخ أعثم الكوفة المطبوع بالفارسية ، وأعثم هذا من اجلاّء علماء السنّة المتقدمين ، وهو يروي عن إبن اسحاق صاحب المغازي وإبن هشام وغيرهما (3).

( لمّا تفرّق أهل الكوفة عن مسلم بن عقيل (علیه السلام) وبقي وحيداً . إمتطى صهوة جواده وهمّ بالخروج من الكوفة ، الاّ أنه لا يهتدي الطريق الموصل الى الخارج ، وبقي يتردد في شوارع الكوفة . وفيما هو يسير إذ عرض له سعيد بن أحنف ، فاستوقفه وسأله عن سبب خروجه فقال : لمّا أيست من الجماعة الذين بايعوني ، وتفرقوا عنّي صممت على ترك الكوفة علّني أرى جماعة

ص: 74


1- المصدر السابق . ( وفي مقاتل الطالبيين ص67 كان العدد المتبقي مع مسلم ثلاثون وليس ثلاثمائة )
2- سفير الحسين ص90-91 .
3- وهذه الرواية نقلتها من كتاب سفير الحسين للشيخ عبد الواحد المظفر ص98- 101 , وقد أختصرتها وأبقيت على المهم من تفاصيلها .

يبايعوني ولا ينكثون . فقال سعيد : لا يكون ذلك أبداً ، إنّ القوم أخذوا عليك الطرق وبثوا الأرصاد والعيون والحرس من أجلك ، فاذا وقعت أعينهم عليك قبضوك قبض اليد . فقال مسلم : اذاً فما الرأي ؟ قال " أن نذهب سوية الى دار آمنة ومكان محصن لا يطلع عليه أحد من القوم أبداً . ومضينا حتى إنتهينا الى دار (( محمد بن كثير )) وما شعر بهما محمد حتى أنكب على أقدام مسلم بن عقيل ، يقول : ما أسعدني ومَن مثلي ، فقد حظيت بالدين والدنيا . وكانت في دار محمد مواضع خفيّة واخبية قلّما يهدي أحداً لمعرفتها ، غير أن الحرس الكثير والأرصاد المبثوثة أستطاعت أن تكشف هذا الخبر ، وسرعان ما طيّر الخبر الى إبن زياد فأمر إبنه خالداً أن يصحب معه فوجاً من العسكر ، وأن يطوّقوا دار محمد بن كثير .. وقبض على محمد وعلى إبنه ، وبُعثا إلى إبن زياد . غير أنهم خفي عليهم موضع مسلم . ولما فهم سليمان بن صُرد الخزاعي والمختار بن أبي عبيد الثقفي وورقاء بن عازب وجماعة أخرى من اشراف الكوفة بهذا الأمر ، صمموا على أن يهاجموا دار الإمارة في اليوم التالي ويستنقذوا محمداً وإبنه ، ثم يقيموا خارج الكوفة ويعلنوا نصرة الحسين بن علي (علیه السلام) . ومن القضاء والقدر أن قِدمَ عامر بن الطفيل مع عشرة آلاف من عسكر أهل الشام قبل طلوع فجر تلك الليلة ، فظلوا خاضعين لأمر إبن زياد . وفي صبيحة تلك الليلة أحضر إبن زياد محمد بن كثير وشتمه وسبّه ما شاء . فقال له محمد : أنت لئيم حسباً خسيس نسباً فما أنت إلاّ نغل وإبن زنا لا غير ... وبينما هما في الكلام إذ علت أصوات الرجال وكثر الهتاف والضوضاء وإذا بأربعين الف أو أكثر يحاصرون دار الإمارة ، فلم يبالي إبن زياد بل استمر مع محمد بن كثير بجبروته ، فأقسم إن لم يسلّم مسلم بن عقيل ، يرسل رأسه الى يزيد . ولم يستجب له إبن كثير ، ودارت معركة بين محمد بن كثير وبعض غلمان إبن زياد في القصر ، فانثالوا عليه وعلى إبنه باسيافهم ، فقتلا ؛ ثم رمى برأسيهما الى أهل الكوفة ، فلم يتفرقوا بل

ص: 75

اشتدوا واستأسدوا ، وداموا يحاربون الجيش حتى حجزهم الليل ، وعاد كل منهم الى داره ولم يبق منهم بباب القصر واحد .

ولما أنتهى خبر هذه الواقعة الى مسلم بن عقيل ، ترك دار محمد بن كثير ، وخرج. الاّ أنه لا يدري أين يذهب . فقدم جهة من الجهات من غير أن يعلم ما هي ولا أين ينتهي ، فعرض له قسم من الجيش فصاحوا به : مَن انت والى اين تريد ؟ فقال : رجل من فزارة أريد الرواح الى قبيلتي ، فقالوا له : إرجع لا يمكنك العبور. واخذ طريق محلة دار الربيع ، فعارضه خالد إبن عبيد الله بن زياد ومَن معه ، فلم يفسحوا له . وأخذ طريق الكناسة فعارضه الخادم الشامي ، فأخذ طريق السوق . الاّ أن رجلاً يقال له الحارث التفت الى رجوع مسلم بسرعة ، فقطع أنه هو مسلم، فاخبر ... فركب نعمان من وقته ومعه خمسون فارساً ، فطرق سمع مسلم وقع حوافر الخيل فترجّل ، وهمز جواده بالسوط ، ومرّ الجواد في الشارع ، فلحقه نعمان مع فرسانه فأخذوا الجواد خالياً الى ابن زياد ، فأعلن إبن زياد مكافأة لمن يعرف مكان مسلم .

أخذ مسلم يمشي في الأزقّة جائعاً عطشاناً ، وخاف أن يظفر به الناس فالتجأ الى مسجد قضى فيه بياض ذلك النهار ، وفي الليل أخذ يجوب الطرق ، فوقع نظره على دار عالية البنيان ، فجلس أمامها يستريح ، وكانت الدار لأُم ولد يقال لها طوعة ...

من هذه القصة أو الرواية دقيقة التفاصيل نخلص الى أنّ الوضع الاجتماعي في الكوفة وليد تناقضات حادة يغلب عليها التباين بين الظاهر من السلوك والباطن من العقيدة ، بين المحسوب على الفضيلة بمقياس الأعراف والدين، وبين النقيض من ذلك . ففي الجانب المشرق نجد أن إعتراض سعيد بن أحنف طريق مسلم وإرشاده الى ما يضمن له الأمان في تلك الظروف المتأزمة دليل على ان الموالين لأهل البيت (علیهم السلام) في الكوفة لا يتأخرون عن أداء

ص: 76

ما يمكنهم فعله ماخوذين بالواجب الديني والأخلاقي ، الاّ أن الإرهاب الحكومي يقطع على الطيبين فعل ذلك حيث التهديد بقطع الارزاق ، وقد يصل الى إتلاف الحياة .

وإنّ استقبال محمد بن كثير لمسلم بن عقيل بالإحترام والقبلات والشعور بأنه قد فاز بخير الدنيا والآخرة يمثل النموذج الحقيقي لشيعة أهل البيت فلم يقف جبروت الحاكم حائلا دون أتمام مقاصده ، فواجه الطاغية إبن زياد بالتهديد والتحقير ، حتى نال الشهادة .

امّا الجانب الآخر فتدل عليه مواقف سلبية غير متوقعة منها تلك الاعداد الكبيرة من المقاتلين من قبيلة محمد بن كثير ، الذين زاد عددهم على أربعين الف – كما ورد في القصة ، ولا يخلو الرقم من المبالغة – قد اختفوا من الساحة ولم يظهر منهم ما يعكر صفو حياة إبن زياد وأعوانه . وقد فعلها مقاتلو قبيلة مذحج المنكوبة بقتل زعيمها هانئ بن عروة . مما برهن على ضعف الروابط النسبية وتدنّي درجة الولاء للقبيلة ، ناهيك عن إضطراب الإلتزام الديني الذي يوجب الوقوف مع أصحاب الحق ، ومقاومة أهل الباطل .

بقي أن نشير إلى أن المعلومات الدقيقة وتشعباتها التي وردت في النص قد حمّلها الكاتب ما يصعب الإحاطة بها ومتابعة مفرداتها لاسيما في الظروف الصعبة التي استنفر فيها إبن زياد قوّاته لإلقاء القبض على مسلم (علیه السلام) . وأرى إنها قد دخلها شيء من الإضافات والتوقعات التي غالباً ما يتطلبها نسيج النص الفني ...

مسلم بن عقيل في دار طوعة

لم يكن مسلم بن عقيل قاصداً اللجوء إلى دار إمرأة لا تعرفه ولا يعرفها ، وإنما أراد الإبتعاد عن عيون أزلام النظام وكسب الوقت وإراحة جسده من

ص: 77

عناء التجوال ، والتفكير في كيفية الخلاص من شراك الأشرار والوصول إلى وسيلة تمنع ركب الحسين (علیه السلام) من الوصول إلى مصيدة الغدر والنكث ، ومن حسن المصادفة أن تكون المرأة (( طوعة )) شيعية إمامية (1) فعندما ذكر لها مسلم إسمه ونسبه وهو في وضع نفسي لا يحسد عليه ، رحبّت به ، وادخلته في قسم معزول من بيتها . ولكنها لم تستطع الحفاظ على السر أمام إلحاح إبنها ، وكان إبنها مولى لمحمد بن الأشعث ، فأخبرته، مطمئنة إلى ما استوثقت منه بالأيمان المؤكدة والأقسام المشددة ، أن لا ينم ولا يوشي ولا يسعى بهذا العبد الصالح معتمد أهل بيت النبوة ..

ولكن نفسه الخبيثة لم تحترم الأيمان والعهد ، فبكّر الى وكر الجريمة وأخبر محمد بن الأشعث بخبر مسلم وأنه في دارهم (2).

من خلال النصوص التي سجلها جملة من مؤرخي العهد العباسي وبينهم الطبري ، يتلمس المتأمل إنحيازاً – وان كان خفياً – في تعمد التشويه والطعن في دور الكوفيين – الشيعة – وتصغير دور مسلم بن عقيل في الكوفة . فهل تخلّت الكوفة حقاً عن نصرة مسلم وبقي وحيداً ؟ واذا تعذر على الآلاف الذين بايعوه ، حمايته ، فهل تعذر عليهم إخفاءه في دورهم أو إخراجه من الكوفة إلى مكان آمن ؟ مع العلم أن هناك إشارات تفيد بأن مسلم وشيعة الكوفة لم يستسلموا بهذه السهولة ، وتصدّوا لجنود السلطة فاستشهد الكثير منهم . إنَّ كثيراً من المؤرخين والباحثين قدامى ومحدثين يتعاملون مع نصوص الطبري وغير الطبري تعاملاً وسطاً ، لا رفضاً مطلقاً ولا قبولاً تاماً وإنّما القبول بما يحمل اكبر قدر من الحقيقة وفق تقدير المتلقي وقناعاته .

ص: 78


1- محمد حسين الأعلمي / تراجم أعلام النساء 2 : 244 .
2- المظفر / سفير الحسين ص104 .

أما قضية لجوء مسلم بن عقيل إلى دار طوعة – وإنْ كان مشبعاً بالخذلان واليأس – فإنّ أغلب الرواة وأهل المقاتل يتبنون تفاصيل هذه القصة على ما فيها من فجوات سلبية ...

البطل العقيلي في يومه الخالد

يومٌ إحتل المساحة التي يستحقها من كتب التاريخ والمقاتل ، يومٌ فريد أسهب المؤرخون في ذكر تفاصيله، ومجمل ذلك في لقاء مسلم بن عقيل (علیه السلام) كتيبة من جنود عبيد الله بن زياد قوامها 60-70 رجلاً إقتحموا عليه دار طوعة ، فشدَّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار واكثر فيهم القتل ، فاشرفوا عليه من فوق ظهر البيت وأخذوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في أطنان ( باقات ) القصب ثم يلقونها عليه من فوق البيت فلما رأى ذلك خرج الى السكّة يقاتلهم ، فأقبل عليه محمد بن الأشعث فقال : يا فتى لك الأمان ، لا تقتل نفسك (1) .

إنّ ما فعله مرتزقة النظام وأميرهم الغادر مع مسلم بن عقيل يمثل سوء سلوك الجبناء ، وقد بدؤوا بالأُسلوب الذي ورثوه من كبيرهم معاوية إبن أبي سفيان بإعطاء الأمان .. يقول الطبري : (( فدنا محمد بن الأشعث فقال : لك الأمان . فقال : آمنٌ أنا ؟ قال : نعم، وقال القوم : أنت آمن .. وقال إبن عقيل : أمّا لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي بأيديكم . واجتمعوا حوله ، وانتزعوا سيفه من عنقه ، فقال : هذا أول الغدر . قال محمد بن الأشعث : أرجو ألاّ يكون عليك بأس ، قال : ماهو الاّ الرجاء ، أين أمانكم ؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون . وأقبل محمد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر وأخبر عبيد الله

ص: 79


1- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 373-374 .

بن زياد بما كان من أمانه إيّاه ، فقال عبيد الله : ما أنت والأمان ، كأنا أرسلناك تؤمنه ، إنما أرسلناك لتأتينا به ، فسكت (1) .

أمّا ما ذكره بعض أهل المقاتل من صنع حفرة مغطاة ومعماة بالتراب ليتمكن جنود النظام من الإمساك بمسلم بن عقيل حين يقع فيها ، بعد ان عجزوا عن إيقاف إندفاعه وفتكه بهم . فقد خلت عن ذكرها المصادر التاريخية المعتبرة (2) والحقيقة إن الإنسان مهما أُوتي من قوة وشجاعة لا يستطيع وحده المطاولة والمقاومة أمام جيش السلطة بعدده وعدته ، وقد وصل الحال بمسلم حد الإعياء من الجوع والعطش ونزف الجراح ، فلا يحتاج إلى حفرة للإمساك به إنما هي إضافات يقصدها الرواة للمبالغة في قدرات الرموز والمجاهدين فيرفعون ويخفضون لدغدغة العواطف .

ووقف المجاهد الصلب أمام حفنة من الحاقدين المفرّغين من الخلق والدين أمثال مسلم بن عمرو الباهلي الذي منع مسلم بن عقيل من شربة ماء ، وهو أسير مغلوب ، وعبيد الله بن زياد الذي شتم مسلم بن عقيل وقال ، إيه يا أبن عقيل ، أتيت الناس وأمرهم جمع ، وكلمتهم واحدة لتشتتهم وتفرّق كلمتهم ، وتحمل بعضهم على بعض . قال مسلم : كلا لست أتيت ، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعوا إلى حكم الكتاب (3) فغضب اللئيم واتهم مسلماً بشرب الخمر في المدينة ، قال مسلم : والله إن الله يعلم إنك غير صادق ... وإنّ أحق بشرب الخمر منّي وأولى بها مَن يلغ في دماء المسلمين ولغاً ويقتل

ص: 80


1- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 374-375 ( والأمان في لسان العرب يعني : ضد الخوف , ضد الخيانة . وفي الشريعة المقدسة : عن الأمام الباقر (علیه السلام) قال : من أمن رجلاً على دمه , فقتله , فإنّه يحمل لواء الغدر يوم القيامة . وسئل الإمام الصادق (علیه السلام) عن معنى قوله / يسعى بذمتهم أدناهم . فقال (علیه السلام) لو أن جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين , فأشرف رجل منهم فقال : إعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم أُناظره , فاعطاهُ أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء . ) أنظر : محمد هويدي / التفسير المعين للواعظين والمتعظين / ص92 بهامش المصحف المفسر .
2- المظفر / سفير الحسين ص118 .
3- الطبري 5 : 377 .

النفس التي حرّم الله قتلها ويسفك الدم الحرام ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً . فشتمه إبن زياد وقال : قتلني الله إنْ لم أقتلك قتله لم يُقتلها احد في الإسلام، فقال مسلم : أمّا أنك أحق مَن أحدث في الإسلام مالم يكن منه، أما أنك لاتدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة ، ولا أحد من الناس أحق بها منك (1) فأمر إبن مرجانة زبانيته بقوله : إصعدوا به فوق القصر فأضربوا عنقه ثم أتبعوا جسده رأسه . فقال مسلم : ... فدعني أوصي إلى بعض قومي ، فنظر إلى جلساء عبيد الله وفيهم عمر بن سعد ، فقال يا عمر إنّ بيني وبينك قرابة ولي إليك حاجة ، وقد يجب لي عليك نجحُ حاجتي ، وهو سر . فأبى أن يمكّنه من ذكرها . فقال له عبيد الله : لا تمتنع ... فقال مسلم : إنّ عليَّ بالكوفة دينا ، سبعمائة درهم فاقضها عني (2) وانظر جثتي فاستوهبها من إبن زياد فوارها ، وابعث الى حسين من يردّه (3). وقد أفشى عمر بن سعد السر إلى إبن زياد فقال له إبن زياد : قد أسأت في إفشائك ما أسرّه إليك وقد قيل إنه لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن . وكان جواب إبن زياد : أما مالك فهو لكَ ولسنا نمنعك ان تصنع فيه ما احببت . وأما حسين فإنه إنْ لم يُردْنا لم نُرده ، وإن أرادنا لم نكفْ عنه . وأما جثته فإنّا لا نشفعك فيها ، إنه ليس بأهل منّا لذلك . وزعموا إنه قال : أمّا جثته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها .

من الأمور التي تستحق التأمل في هذه الوصية :

أولاً : من دلائل رباطة الجأش وقوة شخصية مسلم بن عقيل أن يستحضر مفردات الواجب الشرعي فيوصي بها ، وعلى الرغم من ضحالة عمر بن سعد وخلوّه من صفات النخوة والشهامة فإن مسلم بن عقيل كان

ص: 81


1- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 377 .
2- المصدر السابق ( ومن مقتل الحسين للخوارزمي 1 : 212 نقل الدكتور نبيل بيضون : من وصية مسلم بن عقيل , أن تَسترِدَّ فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم فتبيعه وتقضي عني سبعمائة درهم إستدنتها في مصركم هذا ( موسوعة كربلاء 1 : 492 ) .
3- الطبري / المصدر السابق .

مضطراً لأن يتشبث بأي وسيلة يأمل منها منع الحسين من الوصول إلى الكوفة .

ثانياً : ومن دلائل الانحطاط الذي وصل إليه أبناء الصحابة أنهم يسلكون طريق الضلال إرضاء لأسيادهم .

ثالثاً : أما جثة الشهيد ، فقد تحقق ما توقّعه من المثلة بها ... فقد فصل عنها الرأس الشريف ، وسُحبت في أسواق الكوفة وأزقتها ثم صلبت . ولم يبال إبن زياد ماصُنع بها كما قال ؛ وقطعاً إنّ ما صُنع بها كان بأمره ، فمن يجرؤ على ذلك غيره ؟ والمهم إنّ الرواة والمحدثين والمؤرخين لم يذكروا كيف وأين تمَّ دفن جثته الطاهرة ؟ فإن منطق التاريخ السياسي يرفض أن يكون الحاقد عبيد الله بن زياد أو زبانيته والمرتزقة من أنصار الحزب الأموي في الكوفة قد سمحوا بدفنه في هذه البقعة بين المسجد الأعظم وقصر الامارة ! وإنّ شدّة وطأة الحكم والتضييق على محبي أهل البيت بأساليب القهر المختلفة قد أسكتت العارفين بمكان دفنه ... ولكنّ أرى وبيقين : عند تحرير الكوفة من سلطة الأمويين سنة 66 هجرية على أثر ثورة المختار بن أبي عبيد الثقفي ، سعى المختار بنفسه إنسجاماً مع أهداف ثورته لمعرفة مكان دفن الجسد الشريف ، ثم نقل جثمانه الى داره ( دار المختار ) قال ياقوت الحموي (1) (( إن بيت المختار مما يلي جدار جامع الكوفة )) وهو محل مرقده الحالي الذي تسالم عليه الناس عبر القرون ولم يختلف عليه الموالف والمخالف والذي عززته الكرامات المتعددة والمتواصلة التي يحظى بها المتوسلون .

أمّا ما نقله الدكتور لبيب بيضون من كتاب (( وسيلة الدارين في أنصار الحسين (علیه السلام) لإبراهيم الزنجاني ص209 )) قوله : بقيت الجثة الطاهرة

ص: 82


1- معجم البلدان 4 : 493 .

على وجه الأرض من غير غسل ولا كفن . ولما دجى الليل ونامت كل عين، شدّت زوجة ميثم التمّار على نفسها ، وخرجت الى الكنائس ، وحملت مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وحنظلة بن مرّة الى دارها . ولما انتصف الليل ونامت كل عين حملتهم إلى جانب المسجد الأعظم ودفنتهم بدمائهم ، ولم يعلم بها أحد الاّ زوجة هانئ بن عروة لانها كانت في جوارها (1) .

وهذه معلومات غريبة ، ولي عليها ردود :

1- لم تبقَ جثة مسلم بن عقيل على وجه الأرض ، وإنّما صُلبت ومعها جثة هانئ بن عروة ولم يفارقهما الحرس والعسس لعدة أيام للإعلام ووفق ما جرت عليه السوابق ، ففي خبر صلب ميثم التمّار ومصير جثته قال الراوي فاجتمعنا سبعة من التمّارين فجئنا إليه ليلاً والحرس يحرسونه وقد أوقدوا ناراً فحالت النار بيننا وبينهم فاحتملناه ... (2)

2- قوله : (( وخرجت الى الكنائس )) يعني أن الجثث في اكثر من كناسة دون تحديد المسافات . كما لم تذكر المسافة بين مكان او أماكن الجثث وبين بيت زوجة ميثم . ثم لماذا زوجة ميثم وليس لها علاقة نسبية أو سببية بالقتلى ؟

3- هل بمقدور إمرأة واحدة حمل ثلاث جثث ، وإخفائها في دارها – وهل كانت الدار خالية من السكان ؟ وفي منتصف ليلٍ لم يهدأ بعد هول الصدمة ، تدفنهم في نفس الليلة في مكان بجنب المسجد ؟ فمن شاركها في

ص: 83


1- موسوعة كربلاء 1 : 498 .
2- عباس كاظم مراد / المزارات المعروفة في مدينة الكوفة ص43 .

نقل الجثث الثلاث ؟ ومن حفر القبور ؟ وهل وضعتهم جميعاً في قبر واحد ؟ وعلى اي إعتبار إختارت هذا المكان ولم يكن مدفناً ، وهو لا يخلو من حرس القصر ؟ ولماذا كل هذه السرّية عن الرجال ؟ أليس فيهم من ينهض بالمهمة اذا كان بالإمكان فعلها ولو بالسّر ؟!

4- لم تذكر المصادر التي وقفت عليها، قتيلاً مع مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة إسمه حنظلة بن مرة ، ولم أعثر على ترجمة لهذا الاسم .

وأرى إن القصة مليئة بالوهن والإضطراب ويتعذر حصول ما جرى ان لم يكن مستحيلاً ، ولم يرد أي ذكر لا من قريب ولا من بعيد لبعض مفردات تلك الأفعال في المصادر المعروفة كافّة .

امّا ما ذهب إليه بعض الباحثين المعاصرين من أن قبيلة مذحج إستوهبت الجثتين من عبيد الله بن زياد ودفنتهما في مكانيهما الحاليين فإنه محض إدعاء لا يسنده دليل وهذه المصادر المعتبرة خالية من أية إشارة لهذا الإدعاء .

أمّا هانئ بن عروة الذي إحجتزه عبيد الله بن زياد في قصر الإمارة فقد أمر أن يُلحق بمسلم بن عقيل فقال : أُخرجوا إلى السوق فاضربوا عنقه.

لقد تمادى إبن زياد في التعبير عن مكنون سّره المتوحّش ، وابتعاده عن أبسط قيم الإنسانية حين امر بسحب جثتي زعيمين عظيمين هما أعظم منه قدراً ونسباً ، وبعث برأسيهما (1) إلى سليل الضلالة يزيد بن معاوية في دمشق .

ص: 84


1- في حوادث سنة 304 هجرية ورد كتاب من خراسان يذكر فيه انه وجِد بالقندهار في أبراج سورها برج متصل بها فيه خمسة آلاف رأس في سلال من حشيش , ومع هذه الرؤوس تسعة وعشرون رأساً في أُذن كل رأس منها رقعة مشدودة بخيط إبريسم بإسم كل رجل منهم , والإسماء: شريح بن حيان , خباب بن الزبير , الخليل بن موسي التميمي ... هانئ بن عروة .. وجدوا على حالهم إلا أنهم قد جفت جلودهم والشعر عليها بحالته لم يتغير ( صلة تاريخ الطبري ص59 , 60 )

إن هذه المواقف السلبية التي حصلت في الكوفة قد كلّفت المدينة وسمعتها التاريخية الشيء الكثير ، وتركت الباحثين على طرفي خلاف فمنهم من يسمُها بالسوء ، ومنهم من يرتفع بها بقوله : الكوفة علوية. والحقيقة إن المدينة قد مرّت بظروف ومراحل مختلفة وفي أغلبها كانت علوية الهوى ، وظاهرها ظل يلازمها ، على انها لم تستقر على حال فهي لا تختلف عن نظيراتها في خضوعها للون الحكم وتوجّهاته ، ومدى الرعاية أو الإهمال ، ومقدار النفع او الخسارة ، فهذه هي الأمور التي تحدد ميل الناس أو نفورهم ، ولكن تبقى رواسب العقيدة تدفع باتجاهها حتى إن مَن حكم الكوفة على طول فترة نشاطها يحسبها علوية فيحجب عنها ما ينفع ، وهكذا كان نصيبها أيام الأمويين والعباسيين .

الكوفة وأهل الكوفة في نهج البلاغة

الكوفة حاضرة الإسلام الثانية في العراق بعد البصرة وقد توفرت على مستلزمات الإحترام والتقديس ، فقد ورد في ذلك أخبار وروايات متعددة ، متصلة بالموروث الديني والبعد التاريخي لمسجدها (1)ثم أرتقت في سماء الفضيلة وتفردت بالرفعة والكرامة يوم إتخذها أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) عاصمة لدولة الإسلام . وكان (علیه السلام) يقول : الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء ، والذي نفسي بيده لينتصرن الله بأهلها في شرق الأرض وغربها .

وكرّم أهلها بقوله (علیه السلام) عند مسيره من المدينة المنّورة إلى البصرة : (( من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة ، جبهة الأنصار وسنام العرب (2) وقال فيهم بعد فتح البصرة وكسب معركة الجمل : (( .... وجزاكم

ص: 85


1- انظر : ياقوت الحموي / معجم البلدان 4 : 492 وانظر البراقي / تاريخ الكوفة ص23 وما بعدها
2- محمد عبده / شرح نهج البلاغة 3 : 2 .

الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته ، والشاكرين لنعمته ، فقد سمعتم وأطعتم ودعيتم فاجبتم ..)) (1) .

ومرت السنون وتتابعت الحروب ، وبدأ الضجر والسأم من آثار الحرب يهيمن على النفوس والأجساد ، حرب بين الشرعية والتمرد فلا مكاسب ماديّة مغرية ولا قوة في العقيدة تدفع بإتجاه الواجب . والإمام (علیه السلام) يتحرك ضمن منظومة الحق الصرف ، فلا يجد الإذن الصاغية، ولايجد في نهجه إمكانية السكوت على الباطل ، أو الجلوس عن ردّه .. فيقول : أمّا بعد، فان الجهاد باب من أبواب الجنّة .. ألا وانّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وسراً وإعلاناً ... وتخاذلتم حتى شُنت الغارات عليكم ... ، فيا عجباً والله يميت القلب ، ويجلب الهمّ إجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم ، فقبحاً لكم وترحا حين صرتم غرضاً يرمى ... فاذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الصيف قلتم هذه حمّارة القيظ أمهلنا .. وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارة القرّ أمهلنا .. كل هذا فراراً من الحر والقرّ فأنتم والله من السيف أفر ... لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفةً والله جرّت ندماً وأعقبت سدماً قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً وجرعتموني نغب التهمام أنفاساً وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان (2) .

بهذه المرارة وشدّة الإنفعال يواجه أمير المؤمنين (علیه السلام) جموع المقاتلين الذين أمرهم الله تعالى بمحاربة الباطل ، وردع الخارجين على إجماع الأمّة ، والبعيدين عن الحق والعدل ، مروّجي الفتنة ومسعري نار الحروب حتى انه يتمنى فراقهم ولو بالموت حيث يقول : فوالله لئن جاء يومي وليأتينّي ليفرّقنَّ بيني وبينكم وأنا لكم قال وبكم غير كثير (3) .

ص: 86


1- محمد عبدة / شرح نهج البلاغة 3 : 4 .
2- المصدر السابق 1 : 63-66 .
3- محمد عبدة / شرح نهج البلاغة 2 : 121 / 122 .

وإذا كان حالهم هكذا مع أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب (علیه السلام) فكيف تكون مواقفهم بعد ربع قرن من الإرتخاء والإنغماس في متع الحياة ...

هنا ينبغي الإشارة إلى حالة معاشه ، ربما بدأت مبكّرة في حياة الناس ، ويجد المتتبع جزئياتها هنا وهناك ، وكلما مرّ عليها الزمن وعركتها تقلبات الأمزجة والمصالح ، ظهرت بصورة جديدة إذا ما قورنت بماضيها . تلك هي حالة تراجع الالتزام الديني والموروث الأخلاقي . ولعل ما يسمى التحولات الحضارية هي التي أنست الناس الكثير من التزاماتهم وغلّبت جانب الإستسلام للواقع طمعاً بالعافية مادام الثواب والعقاب في يوم الحساب الأكبر.

الحسين (علیه السلام) في طريقه لتحقيق الإنتصار في عرصات كربلاء

في التاريخ حوادث ومعارك وثورات لا حصر لها ، منها الخطير ومنها الحقير . ومهما تكن غاياتها وتضحياتها وطول عمرها او قصره ، لم يبق منها إلاّ الذكر العابر ، وأغلبها قد أخذ حظه من الإهتمام، وخمد أوارها او يكاد . وتبقى نهضة الإمام الحسين (علیه السلام) حيّة فاعلة عبر العصور لسبب مركزي خالد هو انها ثورة الحق على الباطل ، ثورة الرسالة الإلهية الخاتمة على الردّة والتقهقر بإتجاه الجاهلية الجهلاء .

نعم إنها صرخة محمّدية جديدة قبالة العدوان السفياني والمرواني الذي يريد للإسلام الضعف والتراجع إن لم يكن الضمور والإختفاء .

لقد وصل الإنحراف عن القيم والدين حداً ينذر بالخطر ولا يحتمل السكوت عليه والإنتظار ، فليس ثمة أمل في العودة إلى جادة الصواب ، وكان على أُمناء الأُمة النهوض لحماية العقيدة من الأدعياء أبناء الطلقاء ،

ص: 87

فكانت كربلاء ، وكان الحسين وليس غير الحسين لها ، فهو الممثل الأمثل لجدّه صاحب الرسالة ، والقائد الأفضل لمثل هذه المهمة الإنسانية العظمى .

إذن ، فالنهضة حتمية لأن مبايعة يزيد تعني إضفاء الشرعية على حكمه ، والسكوت يعني الرضا بما يحصل للإسلام والمسلمين على يد يزيد وزبانيته .

والذي عجّل باتخاذ قرار النهضة ، أمران :- الأول : الحكم بالقتل الصادر من رأس السلطة ( يزيد بن معاوية ) بحق الإمام (علیه السلام) إذا لم يبايع وهذا يعني وأد مشروع الإصلاح، والثاني : توفر مستلزمات النهضة من نقمة المجتمع ورفضه – السري والعلني – لولاية يزيد ، وإلحاح اهل الكوفة بالقدوم عليهم واستعدادهم للتضحية من أجل إحقاق الحق .

وقد أعترض جملة من الناصحين وآخرين على سفره إلى الكوفة خاصة ، وكان التركيز على رفض فكرة إصطحاب الأطفال والنساء .

وحين إعترضه رسل عمرو بن سعيد بن العاص في مكة وقالوا له : ... يا حسين ألا تتقي الله تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأُمّة ؟ فتأول الحسين قول الله عز وجل : (( لي عملي ولكم عملكم انتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون )) (1).

وخرج الركب الحسيني من مكة قاصداً ارض العراق فلقيه الفرزدق إبن غالب الشاعر ، فقال له الإمام الحسين : بيّن لنا نبأ الناس خلفك ، قال : قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أُمية والله يفعل ما يشاء. فقال له الحسين (علیه السلام) صدقت لله الأمر والله يفعل ما يشاء ، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه ... وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتدِ مَن كان الحق نيّته

ص: 88


1- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 385 , سورة يونس الآية 41 .

والتقوى سريرته (1)ولم يختلف الرواة والمؤرخون المنصفون على أن الحسين (علیه السلام) في نهضته أراد الإصلاح في أُمّة جدّه والسير بسيرته وسيرة أمير المؤمنين علي ، ويقول : فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن ردّ عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين .

وذكر الباحثون دوافع كثيرة للثورة الحسينية منها : إنّ الإمام ثار من أجل الشعب المسلم بإعتبار يزيد على رأس الحكم الأموي الذي جوّع الشعب وصرف أمواله في اللذات والرشا وشراء الضمائر ، وقمع الحركات التحررية . هذا الحكم الذي إضطهد المسلمين غير العرب ، وشرّد ذوي العقيدة السياسية التي لا تنسجم مع سياسة البيت الأموي ، وقتلهم وقطع عنهم أرزاقهم وصادر أموالهم (2).

وفي خطبة الإمام (علیه السلام) في جيش الحر بن يزيد الرياحي، ركّز الإمام الحسين (علیه السلام) على جملة من الدوافع الجوهرية التي ينبغي أن ينهض بسببها فقال : إنّ رسول الله قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ،. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، واحلوا حرام الله وحرموا حلاله (3).

ولاشك في ان حفيد أبي سفيان الذي ورث ما في الأصل وزيادة قد احل الحرام وحرّم الحلال وقتل النفس التي حرّم الله قتلها الاّ بالحق ، وبالدلائل القاطعة إنه لم يؤمن بدين ولم يعتقد بالإسلام فهو كأسلافه لولا الفتح واندحار الشرك ما لفظوا الشهادتين ، ويقينا إنه لم يفارق ماضيه بدليل قوله :

ص: 89


1- المصدر السابق .
2- مهدي شمس الدين / ثورة الحسين ص138 .
3- المقرّم / مقتل الحسين ص189 .

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا واستهلوا فرحاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم *** وعدلناه ببدر فأعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل (1)

وإذا كان الأمر كذلك فالصراع لم يكن بين شخصين متنافسين على ملك وسلطان كما يدّعى المتخرصون ، بل صراع بين الحق والعدل والميزان من جانب ، والظلم والفسق والغدر من جانب آخر . «يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» (2).

وكان لجند الشيطان الدولة والقوة ، ويحلمون بازالة (( أشهد أن محمداً رسول الله )) . ومن هنا كان لابد من كسر شوكتهم ودحر قوتهم . فمن هو المؤهل لهذا العمل العظيم والدور الفريد ؟ إنّه الشخص الذي إدخرته السماء لهذا الموقف التاريخي لإنقاذ الشريعة من التشويه ، وتخليص الأمّة من الجور والإذلال ، إنه السبط الذي قال فيه جدّه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : (( حسين منّي وانا من حسين )) .

وعلى الرغم من إعتراض المحبين وتحذير الآخرين من مغبة المخاطرة بالنفس والأهل والأصحاب بالخروج إلى مجتمع غير مامون الجانب وقد سبق منهم أن خذلوا أمير المؤمنين علي (علیه السلام) وإبنه السبط الإمام الحسن (علیه السلام) الاّ ان

ص: 90


1- المقرم / مقتل الحسين ص377
2- سورة الصف الآية 8 .

الحسين لم يجد في نفسه ولا في معتقده ما يمنعه من الخروج والتضحية ، ولم يكن يجهل مصيره ، وقد ذكره بما لا يقبل التأويل ، وإن المنازلة سوف تثمر الشهادة . يقول محمد بن يعقوب في كتاب الرسائل : ... عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) قال : يا حمزة ، إنّي سأُحدثك بحديث لا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا . إن الحسين (علیه السلام) لما رحل متوجهاً ، أمر بقرطاس وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من الحسين بن علي الى بني هاشم ، أما بعد فإنه من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلّف عني لم يبلغ الفتح . والسلام (1) .

وقبل أن يخرج (علیه السلام) من مكة قام خطيباً فقال : الحمد لله وما شاء الله ولا قوة الاّ بالله : وصلى الله على رسوله . خُط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني الى أسلافي إشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه ، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلا فملأن منّي أكراشاً جوفا وأجربة سغبا ، لا محيص عن يوم خُط بالقلم . رضا الله رضانا أهل البيت ،نصبر على بلائه ويوفينا أُجور الصابرين (2).

بعد هذه النصوص الصريحة يأتي من يجامل أسياده على حساب الحقيقة فيقول : إن الحسين حين لقيه الحر بن يزيد ، سأله قائلاً : أين تريد ؟ قال أريد هذا المصر . قال له : إرجع فإني لم أدعْ خلفي خيراً أرجوه لك ؛ فهمَّ

ص: 91


1- علي بن موسى بن طاووس / اللهوف في قتلى الطفوف ص27 ( وظاهر الأمر إن الامام الحسين (علیه السلام) وجّه هذه الرسالة إلى الطالبيين من بني هاشم وليس لغيرهم , لأن العباسيين لم يشترك منهم أحد ما عدا نصيحة عبد الله بن عباس للحسين بعدم الخروج إلى الكوفة , فلما ذا يكون ذلك ؟ الدكتور لبيب بيضون ينقل عن الشيخ مهدي شمس الدين في كتابه انصار الحسين (علیه السلام) قوله : لقد كان العباس عم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) غنياً ومترافقاً مع أبي سفيان ولم يُسلما الا متأخرين , في حين كان أبو طالب من الفقراء وكان أول من آمن بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ونصره وحماه , وعلى نهجه سار أولاده وأحفاده . في حين كان العباسيون بعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ينعمون بجوائز الخلفاء وترف العيش والطالبيون يحترقون بنار الثورات ضد الظلم والباطل . ( انظر موسوعة كربلاء 1 : 98 ) . أما قوله (علیه السلام) : ((ومن تخلف لم يبلغ الفتح )) فقد أراد أنّه لم ينل أجر الفتح الجديد الذي يأتي بديلاّ للفتح الذي قاده رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ( فتح مكة ) الذي شوّه الأمويون صورته التي تحكي أندحارهم وخضوعهم للدين الحق , فكما كان ذلك الفتح نصراً من الله , وبه دخل الناس في دين الله أفواجاً , فإن نهضة الحسين واستشهاده ومَن معه من المؤمنين فتح جديد يعيد للإسلام عزّته ويكسر شوكة أبناء الطلقاء مرّة ثانية.
2- المصدر السابق ص25 .

أن يرجع ، ولكن أَخوة مسلم بن عقيل قالوا : والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نقتل ، فقال الحسين لا خير في الحياة بعدكم ... (1)

أبهذه البساطة وردّة الفعل الآني تتغيّر الخطط ويختلط على الإمام – حاشاه – إتخاذ القرار الحاسم ألم يصرح بأن المحطة الأخيرة في طريق الشهادة هي كربلاء ؟ (2) إنّ مثل هذه الأخبار لا تستحق الإهتمام .

ويأتي الخبر المتهافت الآخر الذي يفيد بأن الحسين (علیه السلام) قال لإبن سعد : إختاروا مني خصالاً ثلاثاً : أما أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ، وأما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه ، وأما أن تسيّروني إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم . وقد أنكر عقبة بن سمعان ما تقدم جملة وتفصيلا ، وقال : صحبت حسيناً ، فخرجت معه من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق ولم أُفارقه حتى قُتل ، وليس من مخاطبته الناس ، كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله الاّ وقد سمعتها ، ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون (3) .

وواصل الإمام الحسين طريقه الذي أُرغم عليه حتى وصل إلى قصر بني مقاتل،قبل أن يدخل المحرّم من السنة الهجرية الحادية والستين...

وهنا يصل البحث إلى نهاية الفترة التي حددها . ولكن : من خلال التفرس بمجريات الأحداث التي رافقت خروج الإمام الحسين (علیه السلام) من مكة متجهاً إلى العراق حتى وصوله إلى كربلاء ، تبيّن أنّ العناية الإلهية لم تفارق النخبة الذين نذروا أنفسهم لمهمة التغيير فأسبغ الله (تبارك وتعالى) عليهم نعمة الرضا

ص: 92


1- المسعودي / مروج الذهب .... 3 : 70 .
2- سأل الحسين عن الأرض ... فقال زهير بن القين : هذه الأرض تسمى الطف فقال (علیه السلام) : فهل لها إسم غيره ؟ قال تُعرَف كربلاء . فدمعت عيناه وقال : اللهم أعوذ بك ن الكرب والبلاء . ههنا محط رحالنا ومسفك دمائنا ومحل قبورنا , بهذا حدثني جدي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) . ( انظر : ابن طاووس / اللهوف ..س33 ومقتل الحسين للمقرم ص198 ) .
3- الطبري / تاريخ الطبري 5 : 413 , 414 .

بالقدر ، وإتمام الصحبة التي تحققت بها الصورة المثالية المجسّدة لهيبة جيش الحق القليل العدد العظيم التأثير . يقودهم إمام معصوم لا يتسرب الوهن والتردد إلى قراراته . وفي إصطحابه للولد والأخ ، والقريب والموالي والأطفال والنساء ، يؤسس للثوّار نهجاً تُلغى فيه كل الذرائع والأعذار ، وترتفع النفس إلى مستوى الفطرة . كما ان الإمام (علیه السلام) قد أدرك بثاقب فكره أن جند الشيطان سيسدلون الستار على تضحياته ، ويضيع الهدف من نهضته ، فاصطحب معه عقيلة بني هاشم زينب الكبرى أُخته لتكون الشريك المتمم واللسان المعبّر بصدق عن الحقيقة وفضح الأكاذيب ، ولتُعرف المسلمين بهوية الضحايا والسبايا وعلاقتهم برسول الله محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) .. وكان كما توقع حيث أشاع القتلة : إن القتلى والسبايا خوارج....

وعند تأمل ظاهرة الحر بن يزيد الرياحي الذي هو من قادة عسكر السلطة الأموية ، أرسله الحصين بن نُمير التميمي في ألف فارس لاعتراض الحسين في قصده الكوفة ، ونفّذ الأوامر ، حتى أدخله إلى كربلاء . نرى في مجملها سراً . فهل يمكن تفسير ما فعله الحر بأنه مرتبط بارادة خفيّة ؟ حيث أن الحسين يجب أن يصل إلى كربلاء ويستشهد فيها وليس في غيرها . وحين وصل الأمر إلى نقطة الحسم وان إبن سعد عازم على قتل الحسين ومن معه ، إنتقل الحر إلى دائرة الضوء ، وبارادة خفية أيضاً لكونه طاهر الوجدان أصلاً ولا يتقاطع مع الحق ولهذا نال الشهادة، ولو لم يكن كذلك لما خُلّد ذكره وصار مرقده مزاراً . وقد أثبتت الوقائع إنّ مالله باق .. ولو تتبعنا مخلفات بني أُمية وبني العباس من قصور ومقابر ومنشآت أفرغ فيها البُناة مهاراتهم حتى صارت أُعجوبة وقتها ، لا نجد منها اليوم إلاّ أثراً ورسوماً ولم يبق من عمارات تلك العهود إلاّ المساجد والمنائر التي أُسست على التقوى لا تلك التي أُسست لغير ذلك ...

ص: 93

وأخيراً أقول :

إنّ التفاصيل الجغرافية للطريق الذي سلكه الركب الحسيني ، وما أعترضه من مصادفات ومفارقات ، وما صدر عن الإمام (علیه السلام) من اوامر وتوجيهات ... وما لاقاه من مضايقات منعته من الوصول إلى شيعته في الكوفة ودفعته باتجاه كربلاء فإنه مسطور في عشرات المقاتل والكتب التاريخية والأدبية والتراجم والسيَر بالتفصيل مع زيادات وتخيّلات ومبالغات يراها أصحابها مغذّية للعواطف ومثيرة للأحزان .. ولكن الحسين أرفع ونهضته أسمى ونتائجها شمس أضاءت طريق المؤمنين وبها (( إنتصر الدم على السيف )) .

ولم يكن أنتصاراً معنوياً مجرداً من المكاسب التي ضحى من أجلها الحسين (علیه السلام) فقد هزّت نهضة الإصلاح الحسينية ضمائر الناس ، ورفعت عن عيونهم غشاوة الدعاوى الأموية الباطلة ، وحققت التغيير النفسي والوجداني للمخدوعين المخدّرين ، وكانت سبباً في نهاية الحكم السفياني وإفشالاً لمشروعهم المناهض للإسلام . كما انّ تأثير النهضة الحسينية لم يقتصر على حقبة بعينها ، بل امتد بامتداد الزمن ، وسيبقى ما بقي الليل والنهار ..

ص: 94

شهيد النهضة الحسينية الأول مسلم بن عقيل (علیه السلام) في الشعر

لقد بدأت النهضة الحسينية عملياً بوصول مبعوث الإمام الحسين (علیه السلام) مسلم بن عقيل (علیه السلام) إلى الكوفة ، وعليه ستكون المختارات الشعرية مختصة بنشاطه ونهايته المأساوية ، وليس لأحداث كربلاء حصة من هذا البيدر ..

ص: 95

ومعلوم إن ما قيل في سيد الشهداء وواقعة الطف من الشعر ما تعدى حدود العد والحصر ، وهو خارج الفترة التي حددها البحث . وإنّ ما قيل في مسلم بن عقيل من الشعر الفصيح حصراً يضيف للمشهد حرارة ويكشف جوانب مهمة من شخصية البطل العقيلي ، وتوخياً للاختصار اخترت نصوصاً تمثل خليطاً من الفخر والاعتزاز مع اللوعة والحسرة ، ولم أبتعد عن عطاء بعض شعراء القرن الرابع عشر الهجري عدا ما اشتهر من أبيات رثاء قيل بانها أول شعر رثي به مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة للشاعر

عبد الله بن الزَبير الأسدي وهي :

إنْ كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري *** إلى هانئ في السوق وابن عقيل

إلى بطل قد هشم السيف وجهه *** وآخر يهوي من طمار قتيل

أصابهما أمر الأمير فأصبحا *** أحاديث من يسري بكل سبيل

ترى جسداً قد غيّر الموت لونه *** ونضحَ دمٍ قد سال كلَّ مسيل

فتىً هو أحيا من فتاة حييّةٍ *** وأقطع من ذي شفرتين صقيل (1)

ويصف الشيخ عبد الواحد المظفر بعض شمائل الشهيد مسلم بن عقيل بشعره ونثره وذلك في مؤلفه الذي يحمل عنوان (( سفير الحسين مسلم بن عقيل)) ، وقد أجاد فيما ذكر . ومن شعره قوله :

ص: 96


1- شعر عبد الله بن الزبير الأسدي / جمع وتحقيق الدكتور يحيى الجبوري ص115 .

تصفّحتُ أخبارَ السفارة لم أجد *** سفيراً يداني مسلم بن عقيل

أرى ذكره حياً وإنْ غاب شخصه *** لدى كل دور في الحياة وجيل

فتىً ينتقيه السبط سبط محمدٍ *** متى تسمح الدنيا له بمثيل

وله أيضاً من قصيدة يشيد فيها ببطولة مسلم وجميل خصاله . وهذه بعض الأبيات المختارة منها :

فلتفخرنّ على الشعوب بأسرها *** فيه العروبة وليشاد فخارها

وإذا يمثلُ أيَ شعبٍ حرُّهُ *** إن الشعوب فخارها أحرارها

فالعرب تفخر بالحسين وصحبه *** فليحيَ فيهم دائماً تذكارها

هل تعرف الأُمم الكثيرة مثلهم *** باق إلى يوم الفنا آثارها

أم هل تجد شبهاً لمسلم أمّةٌ *** بطلاً تخلد ذكره أسفارها

وتقول كافحَ وهو فردٌ بلدةً *** ثارت عليه كبارها وصغارها

ورقت إلى أعلى السطوح نساؤها ***

ص: 97

ترميه اطناناً تسعّر نارها (1)

وهذه أبيات مختارة من رائعة السيد باقر الهندي في رثاء ثقة الحسين البطل مسلم بن عقيل :

لحيّكم مهجتي جانحة *** ونحوكمُ مقلتي طامحه

فكم لي على حبكم وقفة *** وعينيَ في دمعها سابحة

تعاين أشباح تلك الرسوم *** فلا برحت نحوكم شابحه

وعدت غريباً بتلك الديار *** أرى صفقتي لم تكن رابحه

كما كان مسلم بين العدى *** غريباً وكابدها جائحه

رسول الحسين ونعم الرسول *** اليهم من العترة الصالحه

لقد خذلوه وقد أسلموه *** وغدرتهم لم تزل واضحه

فيا أبن عقيل فدتك النفوس *** لعظم رزيتك الفادحة

بكتك دماً يا ابن عم الحسين *** مدامع شيعتك السافحة

لأنك لم تروَ من شربة ***

ص: 98


1- المظفر / سفير الحسين مسلم بن عقيل ص143 .

ثناياك فيها غدت طائحه

رموك من القصر إذْ أوثقوك *** فهل سلمت فيك من جارحه

وسحباً تقاد بأسواقهم *** ألست أميرهمُ البارحه ؟ (1)

ومن مرثية الشيخ حسين الحياوي هذه الأبيات المختارة :

إنْ شئت عزاً خذ بمنهج مسلم *** مَن قد نمته للمكارم هاشم

للدين أرخص أيَّ نفس مالها *** في سوق سامية المفاخر سائم

أبدت له عصب الضلالة حبها *** والكل للشحنا عليه كاتم

قد بايعته ومذ أتى شيطانها *** خفّت إليه وجمعها متزاحم

فانصاع مسلم في الأزقة مفرداً *** متلدداً لم يتّبعه مسالم

قد بات ليلته بأشراك الردى *** وعليه حام من المنيّة حائم

قد خاض بحر الموت في حملاته *** وعبابه بصفاحهم متلاطم

قد آمنته ولا أمان لغدرها *** فبدت له مما تجن علائم

ص: 99


1- المصدر السابق ص145 .

سلبته لامة حربه ثم أغتدى *** متأمراً فيه ظلوم غاشم

وا لهفتاه لمسلم يرمى من ال- *** قصر المشوم وليس يحنو راحم

قد هدَّ مقتله الحسين فاسبل *** العبرات وهو لدى الملمة كاظم (1)

وللسيد إبراهيم الطباطبائي آل بحر العلوم قصيدة في رثاء مسلم بن عقيل مطلعها :

هل عارض الوسمي أبرق مرزما *** فنمنم بالبطحاء ورداً منمنما

ومنها هذه الأبيات :

خليلي كم أطوي الضلوع على الجوى *** واكتم سراً في الضمير مكتّما

فما بعد مَن حلّ الحمى لي حاجة *** بربكما عوجا على أبرق الحمى

رموا من ذرى القصر المنيف معظماً *** فرضّوا ضلوعاً من عظيم وأعظما

فما هلكهُ من قومه هلك واحد *** ولكنه بنيان قوم تهدّما

هوى قمر الأفلاك من آل غالب *** إلى الأرض فارتجت له الأرض والسما

ص: 100


1- المصدر السابق ص155 , 156 .

فتى لا يبالي الموت والموت عابس *** إذا قطّب الموت الزؤام تبسما

ولو لم ينادوه الأمان وسلّموا *** لما كف عن حرب الطغام وسلما

سأبكيك ما قد ذر في الأفق شارق *** بعين اذا نهنهتها رعفت دما (1)

ورثاه الخطيب الشيخ كاظم سبتي بقصيدة طويلة أخترنا منها الأبيات الآتية :

ان رمت خير حمىً وخير مقيل *** فاعقل بمثوى مسلم بن عقيل

اين الثريا من ثراه ولم تكن *** لجديرة باللثم والتقبيل

ابكي على ذاك القتيل ومن بكت *** عين الحسين له فأي قتيل

هو خيرة الله إصطفاه لدينه *** فأبان دين الله بعد خمول

حتى إذا ورَدَ العراق وأقبلت *** زمر النفاق مثاره بدخول

غدرت به عصب الضلالة غدرة *** تسري أحاديثا بكل سبيل

قتلوه ظمآنا وقد فعلوا به *** ماليس يفعل قاتل بقتيل

ص: 101


1- ديوان الطباطبائي / تحقيق علي الشرقي ص235 , 236 .

صعدوا به قصر الأمارة نازلاً *** للأرض حين رموه أي نزول

سحبوه في الأسواق وهو مرمّل *** يوم الشهادة أفضل الترميل

فليبكينَّ المسلمون لمسلم *** ماكان أمثلهم له بمثيل (1)

ونقل الشيخ عبد الواحد مظفر من كتاب ابصار العين للشيخ محمد السماوي هذه الأبيات الجميلة :

نزفت دموعي ثم أسلمني الجوى *** لقارعة ما كان فيهل لمسلم

أُجيل وجوه الفكر كيف تخاذلت *** بنو مضر الحمراء عن نصر مسلم

أما كان في الأرباع شخص بمؤمن *** وما كان في الاحياء حي بمسلم (2)

وهذه بعض الأبيات المختارة من مرثية السيد رضا الموسوي الهندي :

لو أن دموعي استهلت دما *** لما أنصفت بالبكا مسلما

قتيل أذاب الصفا رزؤه *** وأحزن تذكاره زمزما

أتى أرض كوفان في دعوة ***

ص: 102


1- المظفر / سفير الحسين ص149
2- المصدر السابق ص143 .

لها الارض خاضعة والسما

وأعطوه من عهدهم ما يكاد *** إلى السهل يستدرج الأعصما

وما كان يحسب وهو الوفي *** أنْ ينقضوا عهده المبرما

فديتك من مفرد أسلموه *** لحكم الدعيّ فما استسلما

والجأه غدرهم ان يحلَّ *** في دار طوعة مستسلما

فمذ قحموا منه في دارها *** عريناً أبى الليث أن يقحما

ولما رأوا بأسه لا يطاق *** وماضيه لا يرتوي بالدما

أطلّوا على شرفات السطوح *** يرمونه الحطب المضرما

ولولا خديعتهم بالأمان *** لما أوثقوا ذلك الضيغما

وتُقتل صبراً ولا طالبٌ *** بثأرك يسقيهم العلقما

وترمى الى الأرض من شاهق *** ولم ترم أعداك شهب السما (1)

ورثاه السيد حسين بن السيد تقي بحر العلوم بقصيدة بلغت مائة بيت ، أخترنا منها الأبيات المتفرقة الآتية :

ص: 103


1- ديوان السيد رضا الهندي ص55 .

أيا ابن عقيل فزت بالمجد والعلى *** بتضحية فيها الكرامة تجتلى

وقدت خطام الفخر والفخر لم يكن *** بغير التفادي يستقاد ويعتلى

فلا غروَ إن كنت الرسول إلى ابن من *** تحدى جميع المرسلين وفضلا

فجئت إلى أهل العراق ممثلاً *** رسالة من للدين كان ممثلا

لتهديهم للرشد بعد ضلالهم *** وتنقذهم من كل ظلم توغلا

فهاجت وماجت أهل كوفان وانبرت *** مرحّبة حتى أستجاب لك الملا

وأعطتك أهل الغدر سلس قيادها *** بألسنة تخفي النفاق المعسلا

وسرعان ما دال الزمان بأهله *** فسنَّ لك الويلات رمحاً ومنصلا

إذا بالوف المسلمين نواكص *** على عقبيها ريبة وتنصّلا

وأما عيون المؤمنين فمنهم *** سجين ومنهم هاله الرعب فاختلى

وأمسيت من بعد الامارة في الضحى *** غريباً حريباً لم تجد لك موئلا

وجاؤوك حتى داهموك وإنت في *** طمأنينة النجوى مع الله مقبلا

فصالوا وجالوا فانتخيت بصارم ***

ص: 104

رهيف الشبا يفري الجماجم والكلى

فاعطوك مكذوب الامان فلم تكن *** لترضى أمان الخائنين وتقبلا

وقادوك نحو ابن الدعي بحالة *** من الضيم لم تترك الى الوصف مدخلا

وكان الذي ما كان لولا أمانهم *** وخذلانهم مما جرى وتمثلا (1)

وكان لي شرف التعبير عن مشاعر الحزن والأسى لما لاقاه مبعوث الإمام الحسين ، مسلم بن عقيل من غدر وإساءة وقتل وتمثيل ، فكانت هذه القصيدة :

هل هانت الأُمة العظمى فتنهار *** وتستكين لحكمٍ كلّه عار

حكم على رأسه من ليس تنقصه *** رذيلة ، بئس ما ساقته أقدار

به (يزيد) أمير المؤمنين غدا *** حاشا ، فليس له في الدين آثار

جاءت به بيعة بالسيف قد فُرضت *** وبالرشا ، إنها خسف وأقذار

وزاد في الحيف أن الداعمين لها *** رهط الخنا والزنا والكل كفّار

وكان من أمرهم حمل الحسين على *** مالا يكون ولا يرضاه عمّار

ص: 105


1- الباقيات الصالحات / تحقيق الشيخ عبد الجبار الساعدي ص248-251 .

ثار الإمام سليل الطهر رائده *** حفظ الشريعة فالسلطان خمّار

وآزرت كوفة الجند التي وعدت *** ذات الإمام وهم للحق أنصار

فارسل السبط مَن تُرجى كفاءته *** ممثلاً ، إنّه كالبحر زخّار

أنعم به مسلم يسمو بهمته *** وقد تحقق في مسعاه أخطار

له أستجاب الوف من أعزّتها *** وبايع السبط عبّاد وأحرار

حتى أطمأن سفير الحق وانطلقت *** عنه البشائر ، إنّ النصر موّار

لكن داهية شوهاء قد وَلدت *** نغلاً فضائله رجس واوزار

نغلاً هو إبن زياد فاق والدَه *** غدراً وبعداً عن الاسلام ، ذعّار

فارعب الناس بالجيش الذي زعمت *** ازلامه إنّه سيل وإعصار

يبيد من بايع الأحرار ليس لهم *** من يرفع الجور ، ها قد جاء هدار

تفرقت عن سفير السبط وانهزمت *** تلك الجموع ولاعون وإيثار

وبات مسلم مذهولاً فمن عجب *** أن لا يرى ناصراً ، والدهر غدّار

حتى أتى (( طوعة )) والهم يفزعه ***

ص: 106

فالركب أقبل سادات وأطهار

وقد وفَتْ ((طوعة)) حقاً ومكرمة *** لولا سليل ضلالات ، وكفّار

وشى بمسلم حتى قد أحاط به *** جند الضلال فلا يغنيه بتّار

لكنّه بطل أردى جنودهمُ *** فأمّنوه ، وقد غالته أعذار

جاءوا به لأمير اللؤم قائدهم *** ومن تسمى عبيد الله ، خوّار

وبعد أن كشف الأستار عن ضعة *** وخسَّة أمر الجزارَ جزّار

فنفذ ألأمر واقتيد الهصور إلى *** أعالي القصر حيث العدل ينهار

والقيت جثة الليث الذي هربت *** من سيفه لمّة عقباهم النار

هي الشهادة في أعلا مراتبها *** ذوداً عن الدين قدْ مَسّته أضرار

بكُم أنار إله الكون شرعته *** وبالدما غُسلت في الناس افكار (1)

ص: 107


1- طالب علي الشرقي / حبات طلع ( مجموعة شعرية ) ص53-55 .

المصادر

1 - القرآن المجيد

2 - الآلوسي - محمود شكري

بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب / شرحه وصححه محمد بهجت الاثري ط3 دار الكتاب العربي بمصر 1342ﻫ .

3 - إبن الأثير - عز الدين علي

الكامل في التاريخ / دار صادر – بيروت 1385ﻫ 1965م .

4 - إبن شهر آشوب - محمد بن علي المازندراني

مناقب آل أبي طالب / المطبعة العلمية بقم .

5 - إبن طاووس - علي بن موسى

اللهوف في قتلى الطفوف / مط الحيدرية في النجف 1385ﻫ 1965م .

6 - إبن عبد ربه - شهاب الدين أحمد

العقد الفريد / مط مصطفى أحمد – القاهرة 1353ﻫ 1935م .

7 - إبن عنبه - جمال الدين أحمد بن علي

عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ط2 مط الحيدرية في النجف الأشرف 1381ﻫ 1961م .

8 - إبن الفقيه - أحمد بن محمد

مختصر كتاب البلدان / مط بريل – لندن 1302ﻫ

9 - إبن قتيبة - عبد الله بن مسلم الدينوري

الإمامة والسياسة / تحقيق طه محمدالزيني /

ص: 108

مؤسسة الحلبي .

10 - إبن منظور - جمال الدين محمد

لسان العرب / دار صادر – بيروت 1955م.

11 - الأسدي - كريم مرزة

تاريخ الحيرة ... الكوفة ... مط الفرقان في النجف ط1 2007م .

12 - الأصفهاني - أبو الفرح علي بن الحسين

الأغاني / مطابع كوستاتسوماس – القاهرة 1383ﻫ 1963م .

13 - الأعلمي - محمد حسين

تراجم أعلام النساء / مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ط1 بيروت – 1407ﻫ 1987م.

14 - أمين - أحمد ( الدكتور)

ضحى الإسلام – دار الكتاب العربي – لبنان ط10 .

15 - بحر العلوم - حسين السيد تقي

الباقيات الصالحات (شعر) تحقيق الشيخ عبد الجبار الساعدي طبعة خالية من محل الطبع والتاريخ .

16 - البراقي - حسين السيد أحمد

تاريخ الكوفة / حققه وأضاف إليه مواضيع مهمة العلامة السيد محمد صادق بحر العلوم / ط2 المطبعة الحيدرية في النجف 1379ﻫ 1960م .

17 - البغدادي - صفي الدين بن عبد الحق

ص: 109

مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع / تحقيق علي محمد البجاوي دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابي الحلبي ط1 1373ﻫ 1954م .

18 - البلاذري - أحمد بن يحيى

فتوح البلدان / راجعه رضوان محمد رضوان . مط السعادة بمصر 1959م .

19 - بيضون - لبيب (دكتور)

موسوعة كربلاء / مط سليمان زاده – الناشر طليعة النور ط1 1427ﻫ

20 - الجبوري - يحيى (الدكتور)

شعر عبد الله بن الزبير الأسدي / دار الحرية – بغداد 1394ﻫ 1974م .

21 - جرداق - جورج

الإمام علي صوت العدالة الانسانية – علي وعصره – الجزء 4 منشورات العتبة العلوية المقدسة ط1 1433ﻫ 2012م .

22 - الجنابي - كاظم (الدكتور)

تخطيط مدينة الكوفة – دار الجمهورية – بغداد ط1 1386ﻫ 1967م .

23 - الحكيم - حسن عيسى (الدكتور)

1- الكوفة بين العمق التاريخي والتطور العلمي ط1 مؤسسة المعارف 1430ﻫ 2009م .

2- الإمام علي بن أبي طالب روح الإسلام الخالد / ط1 1428ﻫ 2007م ، مؤسسة دار

ص: 110

معارف الفقه الإسلامي – قم .

24 - الحمامي - محمد علي (السيد)

المطالعات في مختلف المؤلفات مط النعمان – النجف الاشرف – ط1 1388ﻫ 1968م .

25 - الحموي - ياقوت بن عبد الله الرومي

معجم البلدان / دار صادر – بيروت 1397ﻫ 1977م .

26 - الخطيب - أحمد بن علي البغدادي

تاريخ بغداد / مط السعادة / القاهرة 1993م .

27 - الدينوري - أحمد بن داود أبو حنيفة

الأخبار الطوال / تحقيق عبد المنعم عامر / دار إحياء الكتب العربية – القاهرة ط1 1960م .

28 - الزبيدي - محمد حسين (الدكتور)

الحياة الاجتماعية والإقتصادية في الكوفة – في القرن الأول الهجري / مط العالمية – القاهرة 1970م .

29 - الزركلي - خير الدين

الأعلام / ط3 بيروت 1389ﻫ 1969م .

30 - السيوطي - جلال الدين عبد الرحمن

تاريخ الخلفاء / تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد / مط المدني القاهرة ط3 1383ﻫ 1964م .

31 - الشرقي - علي (الشيخ)

مجلة الإعتدال النجفية / السنة 4 ج1 ص14

ص: 111

/ مكتبة الروضة الحيدرية ط1 1430ﻫ 2009م . مقال ((عروبة المتنبي))

32 - الشرقي - طالب علي

1- قصور العراق العربية والإسلامية / مطابع دار الشؤون الثقافية – بغداد 2001م .

2- حبات طلع – مجموعة شعرية – مط الأُدباء في النجف 2011م .

3- مجلة الأصالة – مؤسسة التراث النجفي – العدد المزدوج 21-22لشهر صفر 1431ﻫ 2010م مقال ((الإنفرادات الحسينية)) .

4- مجلة الكوفة المجلد الخامس العدد الأول 2001م جامعة الكوفة مقال لطالب علي الشرقي (دار الإمارة في الكوفة)

5- مجلة حولية الكوفة المجلد الثاني / مقال ((السجون في الكوفة)) أمانة مسجد الكوفة 1433ﻫ 2012م

33 - شمس الدين - محمد مهدي (الشيخ)

ثورة الحسين / بدون ذكر محل الطبع والتاريخ .

34 - الصغير - محمد حسين علي (الدكتور)

موسوعة أهل البيت الحضارية / الإمام الحسين (علیه السلام) مؤسسة المعارف للمطبوعات ط1 1423ﻫ 2002م .

35 - الطباطبائي - ابراهيم (السيد)

ديوان الطباطبائي / تحقيق علي الشرقي / مط

ص: 112

العرفان – صيدا 1332ﻫ .

36 - الطبري - محمد بن جرير

1- تاريخ الطبري (تاريخ الأُمم والملوك) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم دار المعارف بمصر 1966م .

2- ذيول تاريخ الطبري (صلة تاريخ الطبري) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – دار المعارف بمصر 1977م .

37 - عبده - محمد (الشيخ)

شرح نهج البلاغة / تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد / مط الإسقامة بمصر

38 - العسقلاني - أحمد بن علي بن حجر

لسان الميزان / مؤسسة الأعلمي – بيروت ط3 1406ﻫ 1986م .

39 - العقّاد - عباس محمود

أبو الشهداء / دار الهلال – مصر 1370ﻫ 1951م .

40 - الغفاري - عبد الرسول (الدكتور)

دعبل الخزاعي بين الفكر الرسالي والفن الأدبي / المكتبة الأدبية المختصة في النجف الأشرف ط1 1433ﻫ 2012م .

41 - الفتلاوي - كاظم عبود

الكشاف المنتقى لفضائل علي المرتضى / مكتبة الروضة الحيدرية ط1 1426ﻫ 2005م .

42 - فلهوزن - يوليوس

ص: 113

تاريخ الدولة العربية / ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريده / لجنة التأليف والترجمة والنشر – القاهرة 1958م .

43 - الفيروز آبادي - محمد بن يعقوب

القاموس المحيط / مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع / القاهرة .

44 - القرشي - باقر شريف (الشيخ)

نظام الحكم والإدارة في الإسلام / مط الآداب في النجف ط1 1386ﻫ 1966م

45 - كاشف الغطاء - محمد حسين (الشيخ)

أصل الشيعة وأصولها / منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف ط14 1385ﻫ 1965م .

46 - ماسينون - لويس (المستشرق الفرنسي)

خطط الكوفة وشرح خريطتها ، ترجمة تقي محمد المصعبي / تحقيق كامل سلمان الجبوري / مط الغري في النجف ط4 1399ﻫ 1979م.

47 - محبوبة - جعفر باقر (الشيخ)

ماضي النجف وحاضرها / مط الآداب في النجف ط2 1378ﻫ 1958م.

48 - المخزومي - مهدي (الدكتور)

مدرسة الكوفة / مط مصطفى البابي الحلبي بمصر ط2 1377ﻫ 1958م .

49 - مراد - عباس كاظم

المزارات المعروفة في مدينة الكوفة / مط1

ص: 114

القضاء في النجف 1391ﻫ 1971م .

50 - المسعودي - علي بن الحسين

مرُوج الذهب .. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد / مط السعادة بمصر ط4 1384ﻫ 1964م.

51 - المظفر - محمد رضا (الشيخ)

عقائد الإمامية / دار النعمان للطباعة والنشر في النجف الأشرف .

52 - المظفر - عبد الواحد الشيخ أحمد

سفير الحسين مسلم بن عقيل / مط الآداب في النجف 1388ﻫ 1968م .

53 - معلوف - لويس (وآخرون ...)

المنجد في اللغة ط23 دار الشرق – بيروت –

54 - المفيد - محمد بن محمد بن النعمان (الشيخ)

الإرشاد / مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ط1 2008م .

55 - المقرم - عبد الرزاق (السيد)

مقتل الحسين / مؤسسة الخرسان للمطبوعات / بيروت 1426ﻫ 2007م .

56 - المنقري - نصر بن مزاحم

وقعة صفين / تحقيق عبد السلام محمد هارون / مط المدني بمصر ط2 1382ﻫ .

57 - ناصف - منصور علي (الشيخ)

التاج الجامع للأُصول من أحاديث الرسول / دار إحياء التراث العربي – بيروت ط3

ص: 115

1381ﻫ 1961م .

58 - الهندي - رضا (السيد)

ديوان رضا الهندي / مط شريعت – قم – ط1 1379ﻫ .

59 - هويدي - محمد

التفسير المعين للواعظين والمتعظين – طبع بهامش المصحف المفسر .

60 - الهيتمي - احمد بن حجر

الصواعق المحرقة ../ صورة بالاوفسيت عن نسخة المطبعة الميمنية بمصر 1312ﻫ

61 - اليعقوبي - أحمد بن أبي يعقوب

1- تاريخ اليعقوبي / علق عليه محمد صادق بحر العلوم / مط الحيدرية في النجف الأشرف 1384ﻫ 1964م .

2- كتاب البلدان / منشورات المطبعة الحيدرية في النجف .

ص: 116

المحتوى

-الإهداء ..................................................3

-المقدمة .................................................. 5

-التسمية .................................................10

-موضع الكوفة وموقعها .................................12

-التأسيس.................................................13

-مساحة الكوفة ..........................................16

-خطط الكوفة ...........................................18

-مسجد الكوفة ..........................................20

-دار الإمارة في الكوفة ..................................22

-أسواق الكوفة .......................................... 23

-المساجد في الكوفة .....................................24

-الجبانات في الكوفة ......................................25

-السجون في الكوفة ......................................25

-النشاط العلمي والثقافي في الكوفة ....................... 27

-سكان الكوفة ............................................ 31

-دور الموالي في حياة الكوفة السياسية ....................35

-ولاة الكوفة وأثرهم في المجتمع .........................41

-نزعة المعارضة وعدم الرضا عن الولاة ................42

-الإمام علي (علیه السلام) في الكوفة .............................45

-متى بدأت النهضة الحسينية ؟ ..........................50

-معاوية ... أمام الحقيقة ...............................55

-الإمام الحسين (علیه السلام) يقرر النهضة المسلحة..............61

-مسلم بن عقيل (علیه السلام) ....................................64

-البيعة والمبايعون للإمام الحسين من سكان الكوفة .........67

ص: 117

-موقف السلطة في الكوفة من مسلم بن عقيل ..............70

-عبيد الله بن زياد في الكوفة ..............................72

-قصة المؤامرة لقتل عبيد الله بن زياد .....................74

-الجديد في مهمة مسلم بن عقيل في الكوفة ................76

-مسلم بن عقيل في دار ((طوعة)) ........................82

-البطل العقيلي في يومه الخالد ............................83

-الكوفة وأهل الكوفة في نهج البلاغة ......................90

-الحسين (علیه السلام) .. في طريقه لتحقيق الإنتصار في عرصات كربلاء ............92

-شهيد النهضة الحسينية الأول في الشعر .................101

-المصادر ..............................................115

ص: 118

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.