هكذا فهمت الاسلام

هویة الکتاب

هكذا فهمت الاسلام

الاستاذ محمد صالح الهنشیر

موسسة مسجد السهلة المعظم

ص: 1

اشارة

كلمة الإهداء

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة على محمد وآله الطيبين الطاهرين

أهدي عصارة تجربتي وقناعاتي، إلى كل صادق محب للحقيقة الحق، التي لا يرتقي إليها شك، وإلى "المسلمين" خاصة، رحلة من التعب والضياع، وصولا إلى الإستبصار، وتكشف سبل النجاة، والخير.

طالبا من الله، ورسوله، وإمامي، أن يشملني ويشملكم برعايتهم.

المؤلف

محور1- هذه حكايتي

أ- قصتي

بسم الله الرحمان الرحيم

"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين"(1)

*

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين

إخوتي الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إني مقدّمٌ لكم بعضا من سيرتي الذاتية، هي ليست سيرة بالمعنى الكامل للكلمة، ولكنها بعض المحطات من الطفولة والشباب، ثم المحطة الكبرى والتي كانت المنعرج، فركبت السفينة مع أهل بيت النبوة بعد بحث وتمحيص، وتدقيق وإعمال للعقل الذي أيقظته، بعد أن كان مُغيَّبًا لأكثر من ثلاثين سنة…

بالجنوب الشرقي التونسي وقريبا من الحدود مع "ليبيا" مدينة صغيرة تسمى "مدنين" وفي أحد أحوازها الجنوبية القريبة " اللبَّة" ولدت سنة 1950 ميلاديا الموافق ل1369 هجري.

نشأت وترعرعت في أحضان عائلة مسلمة ملتزمة محافظة، مقلدة للمذهب المالكي وراثة، وهو المذهب الغالب على كامل البلاد التونسية، بل قل على

ص: 2


1- 69 العنكبوت

شمال إفريقيا، إلا من بعض الأقليات، كأهل "جزيرة جربة"، أو من هم من أصول بربرية فهم أباضية(1)

وكذلك من كانت أصولهم تركية فهم أحناف.

نشأت في هذه البلدة الصغيرة التي كان يتوسطها مسجد "علي بن عبيد"، كان إمام الصلاة فيه "السيد علي بن أحمد الزايدي" والذي عرف ݕ"علي المؤدب"

كان رجلا وسيما لطيفا، كنا نحبه ونهابه، يقصده من لهم مرضى فيُرْقيهم ببعض آيات القرآن الكريم.

كان حريصا على تحفيظنا القرآن، وعندما يُتمُّ أحدنا حفظ جزء منه، يزيَن لوْحَهُ ويطوف به مع بعض أقرانه، على دكاكين البلدة وحرفييها فيكرموه ببعض الملاليم، مشجعين إياه بمواصلة الحفظ، وكنت أحد هؤلاء، عندما أتممت حفظ جزء عمَّ.

كان التَّديُّن سمة ظاهرة في بلدتنا، طبعا التَّديُّن التقليدي، وخاصة أثناء المناسبات الدينية كشهر رمضان الكريم.

ص: 3


1- الإباضية : أحد الطوائف الإسلامية، تأسست على يد التابعي جابر بن زيد، سميت بالإباضية نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي, وتنتشر الإباضية بشكل أساسي في جبل نفوسة في ليبيا وغرداية في الجزائر وبعض المناطق في شمال أفريقيا وسلطنة عمان

هذا الشهر العظيم، لم يكن كباقي الشهور، فيه تلبس البلدة حلة جديدة، فتنار بأنوار على غير العادة، كذلك المسجد، تكثر الزيارات ليلا بين العائلات، ويحلو السهر.

كنا نرافق الكبار إلى المسجد وكانت ليلة القدر أي ليلة السابع والعشرين، أو ليلة الموسم كما نسميها، هي ليلة متميزة في كل شيء، في أكلها وسهرها، في قيامها، كنا نسمع كثيرا من الرّوايات عن هذه الليلة، وأن الله يفتح فيها باب العرش، فطوبى لمن يُفتح له، ويسأل ربه فيعطيه ما يريد.

بعدها نستقبل عيد الفطر، كان أول شيء يفعله والدي رحمه الله بعد صلاة العيد، يذهب إلى المقبرة لزيارة والده، ثم ُيبدأ في الاستعداد لاستقبال عيد الأضحى، وتوديع الحجاج الذاهبين إلى الحج، واحتفالات توديعهم، واستقبالهم.

كذلك الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف، والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، كانت هذه المظاهر الاحتفالية مصدر اعتزاز، وأحاسيس راقية أثرت في نفسي، وأنا بعد صبيا.

في هذه الفترة من عمري، كانت البلاد التونسية مستعمرة فرنسية(1)، وكان التواجد العسكري الفرنسي ملاحظا في بلدتي الصغيرة، كنا نكرههم، ونتحداهم، ونستفزهم ونحن صغار.

ص: 4


1- الاستعمار الفرنسي للبلاد التونسية كان بدعوى الحماية من سنة 1881 إلى 1956

أذكر جيدا أحداث معركة " رمادة " الخالدة (1)، واستشهاد القائد البطل "مصباح جربوع " (2)، وخروج الناس إلى الشارع، في مظاهرات كبارا وصغارا، نساء ورجالا، مهللين مكبَرين، متحدين سلطة المستعمر، دافعهم الوحيد الإيمان بقضيتهم.

وقد حافظت وأنا في بداية شبابي، على تعلقي بالمسجد وخاصة حلقات الإملاء القرآنية، وذلك التكرار، والحفظ الجماعي.

وعلى كثرة ما ترك ذلك في نفسي من رضاء، وإقبال على كتاب الله، فقد كانت تستوقفني بعض من الآيات العظيمة، فأسرح معها بعقلي أتساءل عن معناها، وكنت في بعض الأحيان أسأل من هم أكبر مني سنا.

أثَّر ذلك في تعليمي، فقد كنت كثير التساؤل، محبا للمعرفة، ميَّالا إلى الحُجَّة والعقل، ولعل ذلك قد ترك في نفسي بعض التململ، بالرغم من اعتزازي بعقيدتي، فقد كنت أشعر بأنني لم أمتلأ بعد، من عديد المسائل التي لم أجد لها الجواب الشافي.

بعدها جاءت بداية مرحلة النضج، وعلى قدر ما كنت متمسكا بما ورثته من تربية دينية وموروث حضاري، بالقدر الذي كانت تختلج بذاتي، وتتصارع مقولات متناقضة، تشمل نفس المسائل.

ص: 5


1- رمادة: مدينة بأقصى الجنوب التونسي عُرفت بالمعركة الكبرى ضد المستعمر التي كانت سنة 1958
2- مصباح جربوع: أحد المقاومين الكبار لحرب التحرير أصيل مدينة بني خداش من ولاية مدنين ولد في 1914 واستشهد في 1958 في معركة رمادة الشهيرة

كنت أعجب في نفسي، من التناقض الصارخ في أكثر الأحيان، وكنت أتغاضى، وأُسْكتُ نداء عقلي، بتعلة أنه لا يجوز مراجعة ما قاله السابقون، هذا علاوة على ما اتسم به واقعي من صراعات بظهور بعض الأطروحات كالقومية بفرقها، والفكر اليساري بتنوعه، وبعض الأطروحات الإشتراكية، وما نتج عنه من كتابات وصراعات فكرية، يتداولها المتعلمون والمثقفون من حولي.

كانت هذه الانتماءات في تلك الفترة "موضة "، وبين الإختلاجات التي شعرت بها داخل منظومة الإسلام، والتقائها بالأطروحات الأخرى، تَوَلَّد لديَّ حب كبير للمعرفة، وتوق دفعني له إحساسي، بوجوب مسك الخيوط الواضحة، والمقولات البناءة، التي تجعل رؤيتي واضحة وفكري مستنيرا.

لكن مع هذه الرغبة لم يتهيأ بعد السبب الذي أراده الله فيما بعد.

كانت بعض الأحاديث المنسوبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أقرؤها أحس بحرج شديد في داخلي، وكذلك بعض الأحداث التاريخية، وكثيرة هي الأحاديث، التي اعترضتني والتي لا تخضع لاتفاق مع كتاب الله، أو لا تناسب شخص نبي من الأنبياء، بل إنها في حالات كثيرة، لا تخضع لأبسط سنن العقل والمنطق، ولكن أدوات البحث آنذاك لم تكن واضحة عندي.

ونتيجة لذلك وإضافة إلى الرغبة التي دفعتني، إلى حسن الاستماع للآخرين من صغيرهم وكبيرهم، خاصة أنني عُرفت في محيطي بالاعتدال ونبذ المعاندين، فقد كنت أعلم بداخلي حق العلم، أن الحقيقة واحدة لا بد لها من

ص: 6

وجود، لأن الذي أوجدها واحد، وأن الله سيجعل في طريقي ما يرفع عني الحيرة، خاصة وأن السؤال ديدن الأحرار وأمر شرعي، لا مجال للشك فيه، مهما كان الأمر، لذلك فقد استفدت أيما استفادة، من هذا الواقع، على قدر بساطته، فهو مشحون بالصادقين.

كنت أركز على الحديث، ولا أبحث في المصدر، أو الكتاب الذي خرج منه، وكأنَّ صاحبه أو جامعه، مُنَزَّهٌ في عصره وما بعد عصره، إلى يوم يبعثون، بل إني كنت أفتي في إحدى حلقات التدريس بجامع الزيتونة المعمور(1) بالفقه المالكي، ولا أعلم من يكون مالك(2)، ولا كيف ولد، ولا على يد من تتلمذ، ولا كيف جاء للفتيا، كالذي يركب بحرا ولا يعلم ماذا يمتطي.

أذكر مليا أنه سألني طالب في يوم ما، وهو طالب بكلية الشريعة عن مسألة فقهية في الوضوء، سمعها في إحدى المحطات الإذاعية، وأنها مسألة واضحة في كتاب الله وضوح الشمس في كبد السماء، فكيف وصلت للموطأ(3) على هذا الشكل؟ !..

والناس منذ عصور على هذا الحال دون إدراك، بل اتَّباع دون علم ولا عقل.

ص: 7


1- أول جامعة في العالم الإسلامي وهو جامعة وجامع بمدينة تونس، يرجح المؤرخون أن من أمر ببنائه هو حسان بن النعمان في 79 هجري
2- مالك ابن أنس ولد سنة 94 هجري كلَّفه أبو جعفر المنصور بكتابة كتاب حتى يجمع عليه الناس، وهو صاحب المذهب الفقهي المعروف بالمالكية.
3- الموطأ هو الكتاب الذي كتبه مالك بأمر من أبو جعفر المنصور

وعلى قدر ما كان حديثه مختزلا، فقد ترك في نفسي رغبة شديدة في بداية معركتي الذاتية مع مُسَلَّمَاتي وقناعاتي السابقة، فقررت في تحرق أن ألغي مبدئيا كل تلك القناعات، وأن أبنيها من جديد، وأتفرغ لذلك السنوات، حتى أمسك بالخيط الرفيع الذي يجعلني لا آخذ بالظُّنَّة والشبهة، بل بالبحث والتقصي، كلَّفني ذلك ما كلفني.

فالأمر على غاية من الأهمية، التي ستجعل من فكري يستريح بعد العناء، ويستنير بعد التشويش.

وقد كان لزاما عليَّ، أن أختار طريقي الجديد، طريق البحث والعقل، ولم يكن ذلك بالهيّن والبسيط، فقد تطلَّب مني تفرُّغا وتضحيات جسام.

وإني أذكر مليا، أنه علاوة على مناقشاتي الكثيرة مع أشخاص متعددي التوجهات والمذاهب، خاصة أمسك بالذيكأمسكأ

وأني هاجرت من بلدي إلى المشرق، واحتككت بكثير من الشخصيات الفقهية منها والفكرية، المهاجرين منهم والمقيمين، خاصة في مواسم الحج والعمرة، وكونت صداقات وعلاقات، جعلتني أجد نفسي محاضرا حول قضايا الإسلام.

إلا أن أفكاري التحررية وعقليتي الجدلية، جعلتني أواجه ردود فعل رافضة، مما جعلني أكتفي بتأملاتي لنفسي، خاصة وأني كنت أتنقل كثيرا وأتردد حتى على البلاد الغربية، مما جعلني أطوّر علاقاتي، وتكبر عندي الأسئلة لما يوجد من طرق تفكير مختلفة، وآراء حول الإسلام تصل إلى حد التناقض الصارخ.

ص: 8

هذه العوامل زادت في هاجس البحث عندي، ولعل ما مكنني من ذلك بالفعل، أنني بعد رحلة طويلة وبمشيئة الأقدار، عدت إلى أهلي، وانتقلت بهم مستقرا بالعاصمة بالشمال التونسي، دون أن أنسى تلك الرغبة الجامحة، ونقاط الاستفهام العديدة، لأنني كنت أدرك بما ليس فيه شك، أن المعضلة في فكر المسلمين لا في الإسلام، وفي المتعاملين مع كتاب الله ومع شخص رسوله فهمًا واقتداء، لا في المصادر النقيَّة.

وكان لا بد من البحث عن الحقائق.

وشاءت الأقدار ثانية، أن تطلب مني أختي مساعدتها في إدارة متجرها، وقد لبَّيت طلبها، وكنت تاجرا بمنطق مفكر وباحث، وقد لفت ذلك نظر أحد زبائني، وبفطنته خاطبني ذات يوم

قائلا:

لا يمكن أن تكون تاجرا.

وانطلقنا، منذ تلك الجملة القصيرة، في أحاديث مقتضبة حول عدة مسائل.

وذات يوم بادرني قائلا:

هل أنت مغرم بقراءة الكتب؟

فأجبت على الفور إن ذلك هو عشقي الوحيد.

ص: 9

وبعد هنيهة فوجئت بعودة الرجل وبيده كتاب صغير أعطانيه، قرأت عنوانه، " ثم اهتديت " لمؤلفه الدكتور محمد التيجاني السماوي(1).

فقلت له:

ما قرأت هذا الكتاب من قبل، ولم أسمع بمؤلفه.

فأجابني قائلا:

أما الكتاب فأتركه لديك لتقرأه، وأما صاحبه فإنه أمامك.

وقد استبشرت بوجود كتاب بين يدي، مؤلفه أمامي، يمكنني قراءته ومناقشته نقاشا مباشرا.

وأذكر مليا، أنني ما إن وضعت الكتاب بين يديَّ، في تلك الليلة، وما إن قرأت الحرف الأول منه، حتى رحت ألتهمه بما اكتمن في نفسي من شوق المعرفة ونيران السؤال.

فكأن الكتاب يتحدث عن شخصي، ويأتي على الأسئلة التي في أعماقي، فيضع عليها علامات مضيئة، أنهت الكثير من حيرتي، في مسائل متفرقة على أهمية بالغة، مثلما أوضح من الغامض في بعض أحداث تاريخ السيرة النبوية والإسلام عامة.

ص: 10


1- الدكتور محمد التيجاني السماوي: مفكر تونسي معاصر، له عديد المؤلفات القيمة منها: "ثم اهتديت"، "لأكون مع الصادقين"، "كل الحلول عند آل الرسول"....

وبحكم تردده على الدكان، فقد صار يمدني بكتب أخرى من مؤلفاته مثل: "لأكون مع الصادقين " وقد أدركت بفطنتي أن الرجل ليس من مذهبي، وأنه شيعي.

كنت مثل أغلب أهل بلدي، أحمل صورة داكنة، مشوشة عن أهل الشيعة، وقد فاتحته في ذلك في أدب.

وأذكر من الكلام الذي توجهت به إليه أنني قلت:

"إذا كان حب عليّ هو التشيع فكلنا شيعة، لكنني أمقت التفرقة، وحالة الفوضى والتعصب"، وقلت في نفسي ما عساني أخسر؟ إن أنا فهمت مذهبا مغايرا، وفكرا آخر، وأذكر أنه من الكتب الأخيرة التي مدني بها كتاب "مراجعات"(1) لمؤلفه "السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي" وهو عبارة عن مراسلات ونقاشات دارت بين مؤلفه، و"السيد سليم البشري" شيخ الأزهر آنذاك، وفيه طرح ونقاش علمي معمق لمسائل هامة.

ثم فقدت صاحبي فجأة، علمت بعدها أنه هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

وبالرغم من هذه التجربة، فلم تكن تلك الكتب وحدها، وتلك المحاورات، كافية لبناء قناعاتي من جديد، لأن فيها من المسائل ما كنت أعتقد في صحته لأكثر من ثلاثين عاما، فكيف سأقبل أنه من الصحابة الذين كنت أُجلُّهُم، من كذب على رسول الله؟ بل فيهم من تآمر على الإسلام، وكيف

ص: 11


1- مجموعة المراسلات تمت بين مؤلفه والسيد سليم البشري ناقشا فيها قضايا متعددة

سأقبل وأنا الذي كنت أعتبر نفسي داعية وعلى بصيرة، أن أتخلى عن قناعاتي الفقهية؟ على اعتبار أنها صادرة عن أحاديث ضعيفة، ومكذوبة، خاصة الكتاب الذي نعتد به في بلاد الإسلام عامة، وفي بلدي خاصة له قداسة واهتماما كبيرين، إذ تُعقد حلقات لقراءته وختمه بداية من غرة رجب وتنتهي باحتفال كبير ليلة السابع والعشرين من رمضان، بل إن الناس يُقسمون بالبخاري(1) وصحيحه إذا كان لزاما علي أن أتفرَّغ للأمر، وأعطيه حظا كبيرا من جهدي، ووقتي، فلقد كان الموضوع شائك، فاكتريت لي منزلا، بعد أن شرعت في الأمر في بيتي، لأني أردت أن يكون تركيزي كاملا، إذ تطلب مني الأمر الرجوع إلى علم الرجال، حتى أحقق سلسة الرواة.

وقد اكتشفت في ذلك مسائل عجيبة، وغريبة، مثل أحاديث مروية عن أشخاص غير ثقاة، أو غامضي النسب والانتساب، بل إن منهم من هم أشخاص وهميُّون، لا وجود لهم أصلا كذي اليدين والأعرج وغيرهما...

ولم يكن البحث متعلقا بالسند فقط، بل كان لزاما التدقيق في المتن، وقد اكتشفت عندئذ التضارب الصارخ، بين الحديث والحديث في نفس الباب، وبين الحديث وكتاب الله، وبين الحديث وشخص الرسول وعصمته.

وقلت نهاية:

ص: 12


1- ولد سنة 194 هجري وتوفي سنة 256 هجري، ألَّف كتابه الذي يسمى بصحيح البخاري الذي جمع فيه 7275 حديث

لقد حصلت لي القناعة أن ما ورثناه من أمور الدين، عدا حروف كتاب الله فيه شوائب ودخن، وخلط، جاء على مراحل عدة من التقلبات والانحراف عبر الأزمنة.

لقد ساعدني هذا البحث المضني، الذي دام سنتين، على دفع نفسي إلى الأمام، لخوض معركة فكرية عقائدية مع ذاتي ومع الآخر، ساعدني في ذلك إحساس كبير، بقرب الارتباط بمفهوم وجود المثال الكامل على الأرض، الظاهر أو المخفي لتمييز الأمور.

ولقد أردت أيها القارئ الكريم، أن أهدي لك عصارة هذه التجربة، وتعمدت عدم الحديث طويلا عما يتعلق بذاتي، من أمور لأنها قد لا تنفعك، بقدر ما يمكن أن ينفعك، فحوى القضايا المصيرية التي تعنينا في جوهرنا.

وقد هداني الله ورسوله وإمامه إلى جعل ذلك في أسلوب روائي، حواري، سلس.

ليست الأحداث الظرفية، أو الشخصيات، هي المهمة، فكل ذلك ممكن وواقعي في الحياة، إنها رواية فكرية، تدور أحداثها بين باحث عن الحقيقة، وهو المتكلم، وبين صاحبه المستبصر، والمهم في ذلك، أن تصل إلى نقاش مع ذاتك، يرفع عنك عصور الظلام، وحجب الجهل والبهتان، ويرتقي بك إلى الصفاء والولاية الحق.

ص: 13

ب- اضطراب سابق

إني أذكر مليا، وبعد مشاهدتي لعدة أعمال تلفزية تتحدث عن الحقبة الزاهية في عهد رسول الله وقد رأيت فيها، ما لا يختلف كذلك مع كتب تاريخ، أو السيرة، أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في فترة دعواه الأولى، انقطع عنه الوحي، فبدأ الخبر يسري في قريش، وأرادوا أن يستغلوا الموقف، وراحوا يقولون أنه مجرد شاعر، وعبقري، ذهبت عبقريته، ومدَّع انكشف عنه الغطاء.

ما كان يشغل بالي في كل ذلك أنه امتحان أراده الله وكان آنذاك ولاء أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له شديدا.

فسألوه ذات مرة، فأعلمهم أنهم مدعُوون للصبر، والانتظار، وذلك أمر من أمر الله واجب الطاعة.

وقد قرأت في بعض الآثار، التي تتحدث عن أسباب النزول، أن الله بعد تلك الفترة، أنزل سورة الضحى" والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى "(1)، فالله قد أقسم بالضحى، وذهاب الليل، تثبيتا لنبيه بأن شمسه باقية ساطعة، لأنها نور الحق، وأن ليل المشركين والكفرة ساج، متساقط.

وبما أن كتاب الله كان منجَّما(2)، وهذه حقيقة لا جدال فيها، فكثيرة هي الآيات التي ارتبطت بأسباب النزول.

ص: 14


1- الضحى 1-2-3
2- يعني حسب أسباب النزول

وكلما قرأت هذه السورة، استوقفني قوله تعالى"و وجدك ضالا فهدى"(1)

وكان سؤالي الدائم، كيف وجد الله رسوله ضالا؟ ورحت أسأل وأبحث في الكتب، فما وجدت جوابا واحدا شافيا، وكنت أتساءل السؤال الأكثر إثارة: لماذا لم يطرح أصحابه ولا أعداؤه ذات السؤال؟ هل كانوا يفهمون جيدا قول الله في الضلال؟ وأتى أناس أمثالي بعد هذه القرون فيسألوا عن هذا المعنى؟.

وكنت أقرأ خاتمة السورة "وأما بنعمة ربك فحدث "(2)، فالرسول كان في محنة، وهل أن النعمة المقصود بها، القرآن؟ أم خلق الليل والنهار؟ الذي أقسم به في البداية، أم هي التفاف أصحابه حوله؟ أم أن المعنى أشمل وأعظم من ذلك؟ وكعادتنا، عندما يتعلق بذهننا أمرٌ، نستغفر الله، ونقول: إما بأحد الأقوال التي لا تمسنا في جوهرنا، أو نلجأ إلى عقيدتنا مُسَلّمين بعجزنا، سائلين الله أن يلهمنا المعرفة.

لقد كان "أبو جهل"(3) يسترق السمع لآيات الله، ويجد في ذلك حلاوة وطلاوة، دون تسليم واعتراف، فهل كان" أبو جهل" يفهم كتاب الله أكثر مما نفهمه؟ هل أن علاقتنا بلغتنا الأم، التي نقرأ من خلالها كتاب الله علاقة هزيلة

ص: 15


1- الضحى 7
2- الضحى 11
3- اسمه عمرو، وكنيته أبو الحكم، وأبو جهل لقبه به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ويكنى أيضاً بأبو الحكم.

ضعيفة؟ إذا كان الأمر كذلك فالمفسرون الذين يُشهد لهم بسعة اطلاعهم، يختلفون في تحديد مفهوم يمس، من كمال الرسول وعصمته.

إن معارفنا اللغوية لوحدها غير كافية لتُفهمنا كتاب الله، وإذا كانت أسباب النزول، توصلنا لفهم إطار القول، فإنها لا تقطع في فهم المعنى.

وما كان يزيد حيرتي أن الله يؤكد في أكثر من موقع، أن كتابه ميسر للذكر، لم يترك فيه صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأمرنا بتدبره، فلو كان مبهما لما أمرنا بذلك، بل إن الله يستغرب ممن لا يتدبَّر " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها "(1) .

إذا لماذا أصبح الكتاب غريبا عن الناس؟ أم أن الناس هم من صاروا غرباء عنه؟ فاختلف تفسيرهم، ومن هناك اختلفت رؤيتهم للأحكام واختلف فقههم.

وأذكر حادثة بسيطة في فحواها، عميقة في مدلولها، إذ كان لي أحد الأقارب يتذمر من تصرفات أهل زوجته، وقدومهم إليه دون سابق إشعار، وفي أي وقت. وكان الرجل متدينا، يقول أن الله لا يحب ذلك، ويستدل بقوله تعالى:" يا أيها الذين أمنوا ليستأذنكم الذين ملكت إيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن

ص: 16


1- 24 محمد

طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " (1)، بأنه لا يجوز هتك الأعراض، والتخلق بغير خلق الإسلام.

وكان لي جار مقيم بأحد الدول الأوروبية يأتي كل صائفة، كان دائما يقول بأنهم قد نهلوا من أخلاقنا الحميدة، بينما نحن قد تركناها خلفنا. فهم يحترمون جدا خصوصية بعضهم ونحن نخلط الأشياء بكل جهل وبرود.

كنت أقرأ الآية واضحة والله يقول في نهايتها " ...ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم "(2)

ويدعونا في آيات أخرى إلى وجوب الاستئناس قبل زيارة البيوت، وإذا قدمنا ولم يؤذن لنا في الدخول، فيجب علينا أن نرجع.

أي أخلاق هذه !.. وأي عقد اجتماعي!..، وأسلوب حضاري!..، قد تركناه خلفنا، فتوترت علاقاتنا الاجتماعية بين أسرنا.

وقد مس هذا الاختلاف، لا جوانب السلوك فحسب، بل تعداها إلى ما هو أخطر على الأمة، وكان بعضهم يقول لي، في وثوق، لا بأس من هذا الاختلاف، فالاختلاف رحمة، عن أي رحمة يتحدثون؟ !..

ص: 17


1- 58 النور
2- 58 النور

لقد قرأنا في التاريخ، أن الاختلاف في فهم أصول الدين، قد جرّ الأمة في كثير من الأحقاب، إلى ظهور الفرق الفكرية المتطرفة، ونزعات التعصب والتكفير، الذي يتنافى مع رسالة الإسلام العظيمة.

وحتى قبل هذه الحقبة، فقد كانت بوادر التفرقة والفوضى كبيرة، فبعض المُبَشَّرين بالجنة(1)، حملوا السيوف في وجوه بعضهم البعض، ومن الخلفاء من مات محاصرا، قتله صحابة مشهورون؟

وكانت هذه الأسئلة، وأسئلة أخرى كثيرة تحرق فؤادي وتبعث على طمأنينة زائفة.

لطالما قرأت في الأدب والتاريخ، ولم أفهم معنى تلك الأحداث التي بدأت عند وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم). وكيف كان المسلمون الأوائل يناقشون أمر خلافته ويجمعون عزمهم، وهو لم يدفن بعد(2).

هذا لا يحدث في أعراف المتقدمين، ولا المتأخرين، ولا اليهود، ولا النصارى، وكنت أدعوا الله في صلاتي متحرقا، أن يلهمني الصبر، ودعواي الدائمة " اللهم أرنا الحق، حقا وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه"، متخوفا أن أكون مُجانبا للحق في دوامة كبرى.

ص: 18


1- كل الأحاديث في هذا المعنى، هي أحاديث ضعيفة أو مكذوبة
2- رزية الخميس وقول أن رسول الله يهجر، وغلب عليه الوجع، ثم أحداث سقيفة بني ساعدة (البخاري، تاريخ الطبري، الكامل لابن الأثير وغيرهم كثير)

كان البعض من أصدقائي ممن يقاسمونني نفس المشاعر، عند جلوسنا إلى بعضنا وحديثنا في مسائل مشابهة، يؤكدون على وجود حلقة أو حلقات مفقودة، لكنهم يصفون الداء ولا يجدون الدواء.

وأشد ما كان يدهشني في تلك الأحاديث، ما يؤكد لي بعض من المطلعين، أن من الحديث ما هو ضعيف، ومكذوب، وبه دخن، من الأحاديث المنسوبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكنت أقول بيني وبين نفسي إذا كانت هذه الأحاديث كذلك، فلماذا اعتمدها البعض من مفكري الأمة وفقهاؤها ومؤرخوها ومبشروها؟.

أكانوا على جهل مطبق بذلك؟.

أم كانوا لا يملكون الشجاعة، حتى يتحققوا مما يكتبون؟ !.

أم كانوا ينقلون عن بعضهم ويقدسون الفكر؟

أو ربما وحسب ما ورد بتاريخ تلك الشعوب، أنهم كانوا مدفوعين لإرضاء من يعيشون تحت إمرتهم، ألم يكن فيهم رجل واحد شجاع وصادق؟ ام ان أصواتهم لم تكن لتصل؟.

وكنت أؤمن في قرارة نفسي، أن نفي الشيء في صدق وعدل، مهم، ولكن الأهم، هو وضوح المنهج والرؤيا، فكلما فهمت مسألة، إلا واعترضتني أخرى، أعادتني إلى نفس الأسئلة.

وقد عمَّقت حادثة مفزعة هزت العالم، مشاعر التناقض لدي، إذ أفاق العالم ذات يوم على وقع عملية جريئة أطاحت بالأبراج العظيمة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأُعْلنَ حينها أن جمع من الإرهابيين قد قاموا بعمليات

ص: 19

انتحارية تبنتها "القاعدة"(1)، التي اشتهرت بأعمال التخريب والتفجير، والانتحار ضد الغربيين، معلنين في نشراتهم أنهم أعداء الإسلام وجب محاربتهم بشتى الطرق.

وراح الناس في بلدي في مجالسهم، ينقلون ردود الأفعال، ونحن في بلادنا شعب متفتح، تكثر فيه الآراء وتختلف، فمنهم من شمت في (أعداء الله)، ومنهم من استنكر ذلك، معتبرا أن الجهاد لا يكون بقتل الأبرياء، ومنهم من استنكر لكنه أشاد بالعملية، لأنها رد فعل على انتهاك أعراض الفلسطينيين، والحروب الظالمة، التي كانت كل مرة تندلع في بلد ضعيف تحت تعلَّة مقاومة الإرهاب.

لم تَطَلْ ردود الأفعال تلك، عامة الناس وحسب، بل إنها انتقلت إلى المثقفين، ومحرري المقالات ونشرات الأخبار، وكل واحد يدافع عن رأيه.

وكنت أؤمن في قرارة نفسي، أن عدونا ليس خارجيا، إنه كامن في أنفسنا، ما دمنا لسنا على وضوح، وموقف جريء ومنهجي مع تراثنا، وتاريخنا، وديننا.

لقد أشعلت هذه المسائل نار البحث في ذاتي، وجعلتني أتحرى في كل مصطلح وكلمة، وقد أدركت لوحدي شدة الاضطراب واختلاط المفاهيم.

ص: 20


1- تنظيم سلفي يرأسه أسامة ابن محمد بن لادن سعودي الجنسية من أصل حضرمي يتبنون ما يسمونه "الجهاد المسلح"

ت- بداية السؤال

ذات يوم، كنت متجها إلى أحد الضواحي، أقف في الطريق انتظر سيارة أجرة، وإذا برجل متوسط العمر، طيب الطالع، يقف إلى جانبي، ولما قدمت سيارة أجرة، أومأ إليها وأومأت بدوري، فَوَقَفَتْ بيننا فكان كل واحد منا يُبَجّل الآخر، تبسم صاحبي، وسألني عن مقصدي.

ولما كان المقصد ذاته ركبنا الاثنين، وركب هو حذو السائق، وكان صوت المكبر قويا، فطلب من السائق بلطف أن يخفض الصوت.

قال السائق:

لقد أعجبتني حركتكما كثيرا، مازال الخير في الدنيا والناس يتعاونون، اللهم صل على محمد.

قال صاحبي للسائق:

يظهر أنك صاحب أخلاق عالية، والخير في أمة محمد إلى قيام الساعة، لكن من الخير، أن تصلي على محمد كما يجب.

قلت معترضا:

ألم يصلّ الرجل على الرسول آخر كلامه؟، وهذا طيب، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول" من صلى علي مرة صلت عليه الملائكة عشر مرات"(1).

قال صاحبي:

ص: 21


1- المعجم الأوسط والصغير للطبراني

عندما نزلت الآية الكريمة "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"(1) راح أصحاب رسول الله يصلون عليه، حتى سمع أحدهم.

فناداه وقال له:" لا تصل عليّ الصلاة البتراء"(2).

فقيل له: وما الصلاة البتراء يا رسول الله؟

فقال:"لا تقل اللهم صل على محمد ثم تصمت، بل قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد"

قال السائق:

إني لا أعلم هذا الحديث، وأظنه صحيحا لكن ليس ذلك بالخطأ الكبير

قال صاحبي:

كيف ذلك؟ !، والرسول لا ينطق عن الهوى، ولا يأمر إلا بالمعروف، ولا ينهى إلا عن منكر.

قلت:

أتعني أن عدم ذكر آل النبي في الصلاة على الرسول، يعد منكرا !؟.

قال السائق:

أنا لا أنكر حبي واحترامي لآل النبي، ولكني لم أتصور، أن الصلاة عليه مرتبطة بالصلاة على آله.

قال صاحبي:

ص: 22


1- 56-الأحزاب
2- البخاري

لاحظ إن الصلاة على محمد وآله، شرط في التشهد لتمام الصلاة.

قال السائق:

إن الشيعة يسلمون ويصلون على علي كرم الله وجهه ونحن السُّنة نُجلُّ الإمام علي ولكن لا نصلي عليه

قلت:

أنا لا تهمني هذه التسميات ولكني أريد الحقيقة.

أثارت هذه الكلمة صاحبي،

فالتفت إلي قائلا:

بورك فيك..طلب الحقيقة في كل مسألة فرض عين، لأن كل واحد سيأتي الله فردا، مسؤولا عن أفعاله النابعة من معتقداته، وإيمانه، أما فيما يتعلق بالصلاة على آل النبي، فيكفيهم فخرا أن الله قد سلم عليهم في كتابه في قوله "سلام على آل ياسين"(1)

ولولا قيمة آل بيت محمد عليهم السلام لما أثنى الله عليهم، فهل تعرفون آل بيت النبي عليهم السلام؟

قال السائق متحمسا:

آل بيت النبي، زوجاته، وأبناؤه، وأقاربه.

قال صاحبي:

من هم آل بيتك؟

قال السائق:

ص: 23


1- 130-الصافات

زوجتي وأبنائي على الأخص.

قال صاحبي:

إذا كانت زوجتك من آل بيتك، فإذا ما صار الطلاق بينكما، هل تعد من آل بيتك؟

ساد صمت خفيف فواصل صاحبي قائلا:

لا يمكن أن تكون زوجتك من آل بيتك، إلا إذا كانت ابنة عمك مثلا، فابنتك أنت من آل بيتك، أما زوجتك فهي تنسب لأبيها.

قال السائق:

كلام معقول، ولكن ما المراد من ذلك؟

قلت:

لعله يقصد، أن زوجات الرسول لسن من آل بيته.

قال صاحبي:

لعلكم تنظرون إلى المسألة على أنها بسيطة، لكنها من الأهمية بمكان، وفي الحديث الصحيح المتداول، أن الله لما أنزل " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة واتين الزكاة واطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا "(1) أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الكساء ونادى الحسن والحسين وعليا وفاطمة عليهم السلام وأجلسهم تحت الكساء، وقال قولته الشهيرة " هؤلاء عترتي أهل

ص: 24


1- 33-الأحزاب

بيتي"(1)، فأرادت أم سلمة أن تدخل معهم تحت الكساء، وقالت: وأنا يا رسول الله؟

فقال لها:

أنت على خير كثير، ولكن هؤلاء هم عترتي أهل بيتي.

كانت السيارة، قد أوشكت على وصول المكان، فأخذ الرجل ورقتين صغيرتين ومدَّ واحدة للسائق والأخرى لي

قائلا:

هذا موقعي على" الانترنت" وبه هاتفي، فأنا داعية وباحث تونسي، أبحث عن قضايا الإسلام العالقة، وأحاول أن أفهم ديني.

نزلنا من السيارة، بعد أن تمسك صاحبي بدفع معلوم الرحلة القصيرة، وهي في الحقيقة رحلة طويلة، بدأت منذ تلك اللحظة، وكان يومها آخر كلامه لي:

يظهر أنك رجل صادق ورسولنا الكريم يقول " الصدق يهدي إلى البّر والبّر يهدي إلى الجنة"(2)

فاهدي نفسك للبّر تفز، وأنا تحت أمرك، متى أردت الاستفسار عن شيء أو المحاجة فيه، رافقتك السلامة وجعل الله لك سببا طيبا واستودعك الله.

لم يكن لقائي الأول بصاحبي مباشرا، لأنني في هذه المرحلة كنت مغرما بالمواقع الفكرية، والدينية لمختلف الباحثين من أصقاع العالم، وكان موقعه

ص: 25


1- حديث الكساء صحيح مسلم
2- صحيح مسلم

الذي في البطاقة جديد لم أره من قبل، فجلست أمام الجهاز، ووضعت عنوان الموقع www.kalima-sawaa – ودخلته.

منذ الصفحة الأولى استحسنت عنوانه، فلقد سمّاه " كلمة سواء" مُقَسّمًا إياه إلى أبواب عدّة، في شتى المسائل، والأمر الذي شدّني إليه أنه يتحدث في بدايته، عن جوانب من سيرته الذاتية، معلنا في البداية بكل وضوح، أنه باحث وداعية تونسي، على مذهب الإمام جعفر الصادق(1).

وقد كنت أتلافى النظر، حتى إلى المحطات الفضائية التي التمس فيها نفسا شيعيا، وقد ساعدتني حيرتي، وما لمست في الرجل أثناء ركوبنا سيارة الأجرة من لطف، وسماحة، دفعاني إلى أن أقرأ بعضا من صفحات الموقع، وأمسكت ورقة وقلما، وقلت سأدون ملاحظاتي، وأناقشه بكل تجرد، وجرأة، فقد قررت بيني وبين نفسي أن أحسم المسائل العالقة.

التقيت به بعد ذلك، ومنذ لقائي الأول نسيت أسئلتي، فقد رأيته رجلا متزنا وقورا لا تفارق البسمة محياه.

فقلت له:

ألاحظ فيك شيئا مميزا، لكنني لا أعلمه بالتحديد.

قال صاحبي:

ص: 26


1- هو الإمام السادس من أئمة أهل البيت(علیهم السلام)، ولد 17 ربيع الأول 83 هجري واستشهد في 25 شوال 148 هجري، مرقده الشريف بالمدينة المنورة في عصره أسس مدرسة المدينة ومدرسة الكوفة، تتلمذ على يديه كثير من أصحاب العلم منهم مالك ابن أنس، وأبو حنيفة النعمان وغيرهما كثير

إنه النور.

قلت (في تعجب):

ماذا تقصد بهذه الكلمة؟

قال صاحبي:

نور الله.

قلت:

أتاك نور لم نعرفه بعد؟ أم أنك تدعى أنك من أولياء الله الصالحين؟

تبسم صاحبي في وثوق قائلا:

أما أولياء الله الصالحين هذه، فدعها لوقتها، لأنها ستبعدنا عن النور الذي نتحدث عنه، وقد قصدت بنور الله، النور الذي ذكره الله في كتابه.

قلت:

بل إن الله قد أنزل سورة أسمها "النور"، فلعلك تقصد نور المعرفة؟

قال صاحبي:

معرفة الله ورسوله، ولكن أية معرفة؟

قلت:

إنك تحمل معرفة مختلفة، ورؤية جديدة، هذا ما لمسته في موقعك، ويهمني أن أعرف ذلك، وأناقشه معك.

تهللت أساريره وقال:

أنت رجل صادق، يهمني أمره، فلتكن هذه بداية أخوَّتنا ولك حق عليّ أن أجيبك في أي مسألة.

ص: 27

ثم إنه أمدني بعنوانه، وطلب مني أن أكون ضيفه، فقبلت الدعوة برحابة صدر.

كنت أعلم، حتى قبل أن ألاقي صديقي، أنني أفضل الحيرة، والسؤال والقلق، عن وعي وإدراك، على أن أكون مطمئنا طمأنينة زائفة، مثل البناء الجميل، الذي يتراءى لك قائما، وما إن تقترب من أسسه وتتلمَّس إحدى حَجَرَاته، حتى يهوي كالطوب المبتل.

إني تعمدت مع صديقي الدقَّة، الشدَّة، الحرص على إدراك الغاية القصوى من كل أسئلتي، حتى لا أعود إلى ما كنت عليه من إلجام لعقلي، وإسكات لصوت فطرتي، فأعود إلى تقديس الفكر، والأشخاص، فما الجدوى عندئذ من هذا البحث؟

لقد تعمدت مواجهته حتى تنتهي أوجاعي، لكنه كان رصينا.

قال:

تيقَّن، بأني لا أدعوك بأن تكون مثلي، أو على منهجي، فما يجمع بيني وبينك كلمة واحدة، هي الإسلام.

فاسأل ما بدا لك، وإنني بدوري باحث مثلك، لكنني أسير على منهج واضح.

إنه بحديثه هذا، وجل أحاديثه، قد استنهض في نفسي قيمة السؤال، والصدق، لكن ذلك لوحده لا يكفي.

إنني مثلا أقرأ البسملة، وأمر عليها، ولم تحدثني نفسي يوما بأن أبحث عن معناها، وعن علاقة كلماتها ببعضها.

ص: 28

وأذكر أني قرأت له في موقعه الإلكتروني كلاما استوقفني يقول فيه عن البسملة:

"إنها أول ما يعترضك عندما يتلى عليك كتاب الله، أو تقرأ الذكر من الكتاب، ولأنها في طالع كل سورة تقريبا، باستثناء" التوبة"، فإنها تكتسي عند صاحب اللفظ والكلام أهمية بالغة"، وأذكر أنه سمعني وأنا واقف أصلي، لا أذكرها عند بداية الفاتحة، ورأس السورة، فسألني عن ذلك.

فقلت:

وما ينقص ذلك من الصلاة؟ أهي إحدى أركانها؟

وكنا جالسين غير بعيدين عن المصحف الشريف، فأخذ الكتاب وفتحه على أول صفحة ثم قال:

ما اسم هذه السورة؟

قلت (مبتسما):

هي الفاتحة.

قال صاحبي:

هل تعلم لها من أسماء أخرى؟

قلت (معتدا بنفسي):

السبع المثاني، وقد قال الله فيها " ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم "(1)

قال صاحبي:

ص: 29


1- 87-الحجر

إذا كانت سبع آيات، وأنت تقرأها في الصلاة بلا بسملة، فلقد جعلتها ستا، فهل يجوز لك الإنقاص من الفاتحة؟ بداية أو وسطا أو نهاية؟

قلت:

إن بعض الفقهاء يجيزونها، والبعض لا يرى ضررا في ذلك، لكن على حد كلامك فالمسألة واضحة.

قال صاحبي:

تعني البسملة في رأس السورة، أن الأمور قد وقعت، ووُجبَتْ باسمه، "الله الرحمان الرحيم " بداية ونهاية.

فأنت تنتهي من سورة، فتعيد البسملة في رأس السورة الموالية، فيعلم السامع، أنك استأنفت الكلام.

قلت (محاولا استخدام رغبتي في المعرفة):

لماذا اختص الله من كل صفاته، هاتين الصفتين، ليجعلهما مقترنتين باسم الجلالة في مطلع السور؟

قال صاحبي:

إنها علاقة نعتية بالفاعل، الذي هو الله.

فهو قد نعت نفسه من ناحية، ثم للكلام المتأتي بعد ذلك، علاقة بمفهوم الرحمة بالمخلوقات إطلاقا، وبالإنسان تخصيصا.

قلت:

ألا تشمل المخلوقات الإنسان؟

تبسم صاحبي ابتسامة عريضة وقال:

ص: 30

أحسنت في دقة ملاحظتك، فإنسان محسوب على أنه واحد من المخلوقات، وإنسان متخصص متميز.

وأنت تعلم، لمَّا يتميز الإنسان عند الله، يصبح عنده أرفع من الملائكة، وهؤلاء هم الذين يستحقون تخصيص الرحمة لهم.

قلت:

ما قصدك من وراء ذلك؟.

قال صاحبي:

إنك لن تستطيع فهم شيء في كتاب الله، إلا إذا ربطته بهذا المعنى الأساسي.

وأنت لن تخسر شيئا إذا دخلت هذه التجربة، بل إنك ستجني الثمار، لأنك إن قلت بسم الله الرحمان الرحيم، وتهيأت للقراءة، فقد انخرطت للتبليغ لنفسك ولأهلك وللناس، فكيف ستتكلم بسم الله، إن لم تؤدي ذلك قراءة، وفهما، كما يحبه الله؟

ص: 31

محور2- علاقتي بالكتاب

أ- الكلام اللغة اللسان

قلت لصاحبي:

إنك تنتقد المفسرين، هل انت اعلم منهم ؟..

قال صاحبي:

إنني سأضرب لك مثالا حتى تستوضح الفارق، بين علاقة سطحية، مضطربة مع كتاب الله، وبين علاقة عضوية، معمقة وواضحة.

قلت:

هات، فإنني متشوق لهذه المعرفة.

قال صاحبي:

فلنضرب مثلا ... ما الفرق بين اللغة واللسان والكلام في كتاب الله؟

بقيت أنظر إليه شاردا.

قال صاحبي:

إذا كانت علاقتك سطحية بكتاب الله فإنك لن ترى فارقا كبيرا بين معانيها، وإذا كانت علاقتك معمقة بكتاب الله، وتعلم جيدا أن القرآن مبني على اصطلاح مدقق، إنه لسان صدق إلهي، لا لغة متواترة متفق عليها.

فاعلم يا هذا، أن لفظ اللغة لم يرد في كتاب الله، ثم سكت هنيهة وابتسم.

قلت:

لماذا قطعت كلامك؟ وأنت تضع إصبعك على موطن جيد، من مواطن نفسي.

قال صاحبي:

ص: 32

ما رأيك أن تبحث في كتاب الله عن كلمة لغة؟ وبذلك تختمه قراءة.

قلت:

إن كنت ممازحا، فإني والله طالما أحببت ختم القرآن، وأردت المواظبة على ذلك، لكني كنت في كل مرة أتراخى.

قال صاحبي (محدقا في عيني):

إنك تقرأ كتابا لا تتمتع به لأنك لا تفهمه.

قلت:

أفهمني ممَّا أفهمك الله.

قال صاحبي:

اللغة بشرية، لذلك اشتقت من كلمة اللغو التي تتحدث عنها الآية

"والذين لا يشهدون الزور وإذا مرُّوا باللغو مرُّوا كراما "(1)

فهي حديث العامة، بل إنها، أي اللغة بهذا المفهوم بعيدة عن الكلام الإلهي، المبني على التماسك، وقوة البيان، فقد قال الله تعالى في سورة فصلت.

"وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون"(2)

قلت:

أظن، أن هناك ثلاث مستويات في الحديث، الكلام ثم اللسان ثم اللغة.

قال صاحبي:

ص: 33


1- 72-الفرقان
2- 26-فصلت

أحسنت في الإيجاز، لكن لتعلم أن الإنسان، يتحدث الثلاثة على قدر اعتقاده، وعلمه، وفعله.

فالكلام أزلي.

واللغة رمز متداول عبر التاريخ.

واللسان إبداع وخصوصية.

قلت:

لم أفهم الأخيرة، فما معنى أن يكون اللسان إبداعيا؟

قال صاحبي:

اللسان من إعجاز الله، يختص به أحد عن آخر، في طريقة القول، ومنطقه ووقعه. مثل البصمة فلكل من البشر بصمته

خذ مثلا:

اثنان من نفس البيئة، لهما نفس التاريخ، والمعتقد، تلقَّيَا نفس الكلام واللغة، إلا أنك ستجد لسان أحدهما أفصح من الآخر.

لذلك طلب موسى(علیه السلام) من الله أن يرسل معه هارون، يتكلم باسمه

قال تعالى: “هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدّقني"(1)

لذلك فالقول بالفم، وطريقة القول باللسان.

كنت واقفا أنظر إليه، فجلست وأنا أبتسم ابتسامة الرجل مع نفسه

وقلت بلطف:

أظن أن هذه قد فاتتني، إذن، الفم غير اللسان؟

ص: 34


1- 34 -القصص

قال صاحبي:

اللسان إرادي، أما الفم فغير إرادي.

اللسان متعقل، والفم ثرثرة ولغو.

يقول الله تعالى في سورة النور:" إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم "(1)

وقفت فجأة، كمن سقطت عليه رحمة من السماء، وقلت:

لذلك الله ينطقه يوم القيامة.

وبذلك الله قال:" يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون "(2)

ولم يقل يوم تشهد عليهم أفواههم.

قال صاحبي (ضاحكا):

اللسان يعبر عن الذات، أما استعمال الفم فواحد، للكل لغة مشتركة ولكل لسانه مع تفاوت في استعمال اللسان حسب المرحلة العُمُرِيَّة ونُضجها، وهذا مبحث آخر، ولكنك قد بدأت في التدبُّر، وهي نعمة من نعم الله الكبرى.

إن اللسان متأثر باللغة، ومؤثر فيها حسب الشخص والعصر، كل على قدر تعقُّله.

قلت له (ناظرا إلى ساعتي):

ص: 35


1- 15-النور
2- 24-النور

لقد نسينا موعدنا (وقد كنت حدثته عن صديق لي يريد محاورته) صديقي الذي حدثتك عنه، ينتظرنا، لنمر عليه ونكون في ضيافتك.

قال صاحبي (مبتهجا):

على الرحب والسعة، فالكرم، صفة ملازمة لآل بيت النبي (علیه السلام) كان صاحبي الذي استدعيته من المقربين إلي، درسنا مع بعضنا، كنا نتبادل الآراء ونطالع ذات الكتب، وكان متشوقا لرؤية صاحبي، مستغربا من آرائه، حتى أنه ما إن بادره بالسلام.

حتى قال (مستفزا):

حدثني عنك صديقي، وقد صار منجذبا إليك، وهو يمدح في أخلاقك ورصانة عقلك، فكيف تهاجم العلماء والمفسرين؟

أحسست بحرج فأردت التقليل من وطأة هذا الكلام فقلت:

لا يا صديقي إنه نقد لا تهجم.

وكان صاحبنا يبتسم ناظرا إلينا.

وقال:

لنترك المسائل بعد العشاء.

ودخلنا داره فوجدناها فسيحة، وكان مجلسه في وسطها، فالأيام حارة، بعد العشاء جلسنا فبدأ هذه المرة صاحبنا بالكلام قائلا:

كما سألتني أسألك ثم أجيبك وتجيبني، واعلم أنك ضيفي، إن كنت مستعجلا فلن نستطيع الجلوس والاستفادة.

قال صديقي:

ليس لي من مقصد، إلا سماعك، وأريد كلاما واضحا.

ص: 36

قال صاحبي:

هل لك أن تحدثني، إذا سألك أحد أن تعرف له كتاب الله؟

قلت:

هذا أمر سهل.

قال صاحبي:

ما أسهل الأشياء حين نعدها لكنها للعارفين بها قليل

ضحك صديقي وقال:

هذه معارضة شعرية، وكلام طيب، سأحاول أن أعرف لك كتاب الله، إنه دستور الأحكام، ودستور الكلام.

قال صاحبي:

فما علاقته باللغة؟

قال صديقي:

إنه أفضل اللغات.

قال صاحبي:

هل جاء قبل اللغة أم بعدها؟

سكت الرجل، ونظر إليَ نظرة المهزوم، لا يدري ما يقول، بل إني أحسست، أن جوابه مهما كان سيورط به نفسه.

إن قال اللغة قبل القرآن، قال له صاحبي كيف ذلك؟ وإن قال القرآن قبل اللغة، قال له كيف ذلك؟ لأنه حسب ظني، لا يعرف مثل صاحبي الفرق بين اللغة، واللسان، والكلام.

قال صاحبي:

ص: 37

لم أحرجك فكلامك طيب، لكن لا بد للخوض في هذه المسائل من علم.

قال صديقي:

لست أحد العلماء الذين كتبوا الكتب.

قال صاحبي:

حتى الذين كتبوا الكتب، اختلفوا في هذه المسائل المبدئية، التي تحدد لنا أسس التعاطي مع كتاب الله.

قلت:

حدثنا أنت، ولنعطي رأينا في كلامك، إني أعلم أنك أعلم منا.

قال صاحبي:

لا علم لنا فلم نأت بشيء، هذه مسائل مغيبة تحتاج إلى القليل من الاجتهاد، فالقرآن قد احتوى قانون اللغة، التي خاطب الله بها الملائكة، والنبيين، والصديقين، وسائر البشر، والحيوان، والجماد، والنبات.

وُجدَتْ من قبل نزول آدم الى الارض، ولو لم تُوجَد كذلك ما تحدث الله بها عن النمل، متكلما على لسانه.

قال صديقي:

هل أن العرب تحدثوا لغة بقواعدها؟

قال صاحبي:

إن للغة تاريخ، فعندما استُعْملَتْ على الأرض اخْتَلَفَتْ على ألسنة البشر، حسب طبائعهم، ومعاشهم، والموقع الذي يحتلونه، فصارت إشارات يتواصلون بها، دون مدون يُرجع إليه، وقانون يديرها، حتى تكون علما صحيحا.

ص: 38

قلت (متدخلا):

فجاءت المعجزة الخالدة التي منها اشتُقَّ هذا القانون.

أيدني صديقي قائلا:

هنا يمكن أن نتفق، فبعد ذلك ظَّهَرَ علماء النحو، والصرف، والعروض، فلم نسمع بهؤلاء قبل نزول القرآن.

قاطعه صاحبي قائلا:

لماذا قفزت كل هذه القفزة ولم تبدأ من البداية؟

لقد اشتق منها الامام علي عليه السلام، قانونا، وكلَّف في العناية به صاحبه أبو الأسود الدؤلي(1)

وقال له قولته الشهيرة" انْحُ هذا المَنْحَى" فسُمي نَحْوًا

قال صديقي:

ثم جاء فيما بعد سيبويه(2)، وكثير من المتتلمذين على يديه.

قال صاحبي:

هنا مربط الفرس، لقد صنعوا في ذلك مدارسا، وأصبح التأويل فيما لا يمكن تأويله، إذ أن الجملة البيّنة، تفسر في نحوها، وصرفها، طرقا عدة، مما يدخل الريبة في المعنى.

ص: 39


1- هو من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان من أصحاب أمير المؤمنين (علیه السلام) والمقربين إليه، أول من دوَّن علم النحو ونقَّط القرآن وميَّز حروفه عن بعضها
2- أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر البصري، المعروف ﺑسيبَوَيه ترجع إصوله إلى فارس، ولد في مدينة البيضاء قرب شيراز أحد علماء اللغة العربية

قلت (مؤيدا رأيه):

وبذلك نبتعد عن العلم، لأن العلم قاطع، حتى يتفق الناس فيحملون نفس القناعة، في فهم وظائف الكلمات.

قال صديقي:

إني لم آتك حتى نتحدث في علاقة اللغة بكتاب الله.

قلت (معاتبا):

إنه أمر مهم، وأظن أن في موقفنا من ذلك، انعكاس على ما يمكن فهمه في كتاب الله.

قال صاحبي:

لعل صديقك، يحب الأمثال مثلك، فلا بأس، لا بد من مثال، حتى يتضح الحال.

ص: 40

ب- المصطلح القرآني

قال صديقي:

سمعت من صاحبنا هذا، أن لك تفصيلا خاصا في قصة الخلق، لا يشبه ما قراناه ودرسناه، في كتب المفسرين الأفاضل.

قال صاحبي(مقاطعا):

مع احترامي لجهدك، وأصدقائك المفسرين الأفاضل، فأقول لك قبل الخوض في أي سؤال بأن أولائك أناس مثلي ومثلك، أتتفق معي، في انهم قد يجانبون الصواب ويخطئون؟

قلت:

مما لا شك فيه.

وبقي صديقي صامتا علامة على رضائه.

فواصل صاحبنا كلامه قائلا:

إن الله ما جعل من كلمة في كتابه، إلا ولها ظاهر وباطن، وكل مكتوب فيه أو ملفوظ، لا بد له من تأويل، وهو مرتبط ببعضه، يعلو وينخفض ويمتد، ويقصر، ويفعل، من بعيد، وقريب.

قال صديقي:

حدثني صاحبنا هذا، عن دقتك في تعريف بعض المصطلحات المتقاربة في مفهومها في كتاب الله، فآت بواحدة منها إذن.

قال صاحبي:

أترك لك أمر الاختيار، فلم يتكلم صديقي وبقي صاحبنا ينظر إليه

فقال صديقي:

ص: 41

أريدك أن تفصّل لي الفارق بين البشر والإنسان، فأنا أرى أنهما مترادفان لا يختلفان كثيرا في استعمالهما في كتاب الله.

قال صاحبي:

هذا حكم ينبغي إثباته، أما أنا فعلى خلافك تماما، فالكلمتين تعبّران عن معنيين منفصلين، ودليلي على ذلك، أن الله يخص واحدة بالذّكْر دون الأخرى في معنى يريده.

قلت:

لماذا لا تجعلان كلامكما صورا واضحة؟ فسآتيكما بهذه الآية من سورة المائدة " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" (1)

فقال صديقي(متحمسا):

وأذكر قول الله تعالى في سورة إبراهيم (علیه السلام)" قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون "(2) انظرا هنا كيف ساوى الله بين الأنبياء والبشر.

قاطعه صاحبي (وكأنه أحس شيئا):

ص: 42


1- 18-المائدة
2- 11-ابراهيم

احترس، فإن المراد بالتماثل في الخلق" كلكم من آدم وآدم من تراب" (1)يتماثلون في الصورة والمصير، فقط، اذكر قول الله تعالى: " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم أنتم بشر تنتشرون"(2)

قال صديقي:

كلام معقول، لكن، ما الفارق بين البشر والإنسان؟.

فقال صاحبي:

أعلما أن البشر صورة الإنسان، الذي يتشابه مع غيره ويتماثل، ويمكن أن يتعدد، فنطلق اللفظ، على الفرد والجمع، لأنهما في تساو، أما إذا قلنا إنسانا، فقد ميزناه عن الشيطان، الذي يقابله في المعنى.

قال صديقي:

لكن حسب كلامك، الإنسان مقابل للبشر، فالإنسان متميز، والبشر متماثل.

قال صاحبي:

يمكن أن تكون بشرا، دون أن تتصف بالإنسانية.

قلت(ممازحا):

انكما تشعلان في رأسي أسئلة عدة.

قال صاحبي:

هذا من فضل الله عليك ورحمته بك، ألم يقل " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء

ص: 43


1- أبو داود والترمذي
2- 20 -الروم

واتقوا الله الذي تسَّاءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا "(1) ويسَّاءلوا غير يتساءلوا، فيسَّاءلوا هذه، السؤال الأبدي، الذي ينطوي عليه الإنسان.

لماذا بعثني الله؟ وإلى أي مصير؟ وهو سؤال تلقائي مُلح، وهو بلغة العصر، سؤال الوجود، إذ أنه يبحث عن الكمال المطلق (الرب، الله) ويبحث عن الكمال البشري، الذي به يتوازن الكون، مثلما وازن الله آدم بزوجه، إنه سؤال النفس للنفس الدائم، لذلك استعمل الله في بداية الآية يا أيها الناس ولذلك قال الإمام علي (علیه السلام) "اعرف نفسك تعرف ربك" " أول العلم معرفته"، فالبحث عن هذه الحقيقة إنساني، لا بشريًّا.

قال صديقي:

إنك تميّز بين البشر والإنسان، فما الفارق الذي تراه بينهما؟

قال صاحبي (متمّما):

الإنسان صفة، والبشر وصفا، وصفة الانسانية عناية بالطبيعة الآدمية، من نفس وفكر وروح ومعتقد، لا بما هو مشترك، كالأكل والنوم والسعي، فهي صفة البشرية، فإذا قال الله بشرا فيعني التعميم، أما إذا قال إنسانا أو ناسا أو إنسيا فقد عني التخصيص.

قفزت من مكاني كمن وجد ضالته.

وقلت:

لم أسمع، والله كلاما كهذا من قبل.

فقال صديقي بكل ثقة:

ص: 44


1- 1-النساء

فما رأيك في قوله تعالى في سورة إبراهيم " وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار " (1) هل يعني هذا، أن كل الناس ظُلاَّم وكفرة؟

قال صاحبي: ائت لنا بمصحف.

أحضرت مصحفا في لمح البصر، وفتحته باحثا عن سورة إبراهيم عليه السلام حتى أدركتها.

تناول صديقي المصحف وقرأ إلى أن وصل الآية 34 فقال له صاحبي:

أتمم التي تليها.

ثم أخذ عنه المصحف وقرأ " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر الليل والنهار* وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار* وإذ قال إبراهيم ربي اجعل هذا البلد آمنا وأجنبني وبَنيَّ أن نعبد الأصنام"(2)

وبقي ينظر إلينا.

قال صديقي:

ماذا تريد أن تقول؟

قلت:

لعلي أحاول تدبر الآيات، ولا أدَّعي فيها معرفة.

وضحك صاحبي وقال(مشجعا):

ص: 45


1- 34 -ابراهيم
2- 33-34-35 ابراهيم

ما للناس يخافون كتاب الله؟! لقد جعله الله لكم لتتدبروه، فكيف تخافوه؟ أفيه ما يبعث على الخوف؟ كلام الله علم وسكينة، فتكلم.

قلت:

إن صديقي أستدل بجزء من آية، ولعل هذا لا يفي المعنى، ويصبح فيه كثير من التعميم، وربما تقع المغالطة، فيغالط الإنسان نفسه ومن حوله.

قال صديقي (وقد تغيرت ملامحه، موجها كلامه لصاحبي):

فأتنا أنت بما تعلم، ألم تقل أن لفظة الإنسان تفيد التخصيص؟

قال صاحبي (في ثقة):

بلى والله، فهذا شاهد جيد، فالآية 33 تتحدث عن تسخير المخلوقات عامة لكل البشر "وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار "(1)

ثم يأتي تخصيص في الحديث عن الباطن في الطبيعة الإنسانية الغالبة، فبعد هذه النّعمْ التي أعطاها لكل البشر، والتي لا يمكن حصرها، يكون الظلم والكفر ومنه ظلم النفس، والكفر بنعم الله، وهذا غالب.

فمهما احصى الانسان نعم الله فلن يدركها، وان ظن انه أدركها فقد ظلم نفسه. ثم يأتي تخصيص التخصيص في النبوة والوصاية " وإذ قال إبراهيم رب أجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" (2)

احذر، فهنا المعنى الإنساني، متعلق بقوم إبراهيم، إذ يقول في الآية التي تليها.

ص: 46


1- 33 -إبراهيم
2- 35 -إبراهيم

"رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم" (1)

صحت لوحدي:

الله أكبر، ما أعذب هذا الكلام وما أحلاه.

بقي صديقي مندهشا، ولعله ندم على اعتراضه، واستبشر صاحبي وقال:

أعلم، أن الإنسان يقابل الشيطان في الصفة، فالإنسان مبتلى والشيطان مكلف بالغواية.

الإنسان مخير في أن يكون من الناجين أو الهالكين،

هو قبل ذلك بشرا، تساوى مع غيره في الخلق، والرزق، (بمعنى العدل والحكمة الالهية) والموت، والجنس، حسب حكمة الله وتدبيره.

قال صديقي:

أفهم أن صفة الإنسان في فعله، وصفة البشر في أَعْرَاضه الخارجية.

قلت:

لو ضربنا مثلا.

ضحك صاحبي وقال:

سأسميك صاحب المثلات، فببساطة،

-المرض بشري والصبر من عدمه إنساني،

-التعب بشري لكن الشقاء والسعادة إنسانية.

قال صديقي:

ص: 47


1- 36 -إبراهيم

هل يمكن القول؟ أن الحاجة إلى الله، أو التدين بشري، والإسلام، والكفر، والشرك، والإلحاد إنساني؟

ابتسم صاحبي مربّتا على كتفه:

قد يبدو لك يا أخي، ظاهريا، بعضا من المعاني الشكلية، في معاني الآيات كقول الله تعالى في سورة القيامة، "أيحسب الإنسان ألَّنْ نجمع عظامه" (1)

قلت:

تبدو المسألة متعلقة بضم العظام، والخلايا، وهذه مسألة بشرية مشتركة.

فقال صديقي مداعبا:

تمهَّل يا صاحب المثلات، ودع الرجل، يتمم حديثه الممتع.

قال صاحبي:

بما أن الله استعمل كلمة الإنسان، للتعبير عن جمع العظام، فجمع العظام هو المعنى البشري، لا إنكار في ذلك، ولكن هناك جمع سابق، هو جمع صفاته، التي قضى وهو عليها، خصائصه المرئية، والخفية، لذلك قال الله في سورة السجدة " الذي أحسن كل شيء خَلَقَهُ وبدأ خَلْقَ الإنسان من طين" (2)

فالإنسان يبدأ كبشر، ثم يتخذ صفة إنسان عند التكليف، لأنك كنت في بطن أمك، فلما كبرت وقربت من البلوغ والتكليف، تبدأ مقوّماتك الإنسانية بالتشكل فيك، ففي الآية يقول تعالى: "وبدأ خلق الإنسان من طين" ولم يقل وخلق الإنسان.

ص: 48


1- 3 -القيامة
2- 7-السجدة

ففي آية أخرى، عندما تحدث عن خلق الإنسان عامة، فصَّل خلقه، أي أنه أقر بالمرحلة البشرية، قبل الوصول إلى المرحلة الإنسانية، فالإنسان بشر بالضرورة، وليس كل بشر إنسانا.

قال صديقي:

هذا يتفق مع بعض من العلوم الوضعية، من فلسفة وعلوم حياتية.

قلت:

لقد اخذت الاجابة عن هذا السؤال وقتا طويلا

قال صاحبي مبتسما:

إن تناول بعضنا البعض بالحوار والنصح أفضل من إقبالنا على الحجات البشرية البيولوجية.

ثم نظر إلى ساعته وقال ملاطفا هذا وقت نأكل فيه مما رزقنا الله، ثم نجعل لو أردتما لحديثنا بقية.

قلت (ملحا):

أرجوك أتمم هذا الحديث، فيا له من حديث ممتع.

قال صديقي:

دع الرجل حتى يجد راحته.

قال صاحبي:

إن راحتي، في أن أحدثك عن هذا، لكن أجعل لنا موعدا لا تخلفه إن كنت تبتغي حقا إعمال عقلك، في ما أعطاك الله.

ص: 49

بالرغم من أننا لم نتعمق في مسائل، كان صديقي، قد أخذها لطرحها على صاحبي، إلا أنني ليلتها بقيت مستيقظا، إلى ساعات متأخرة وأنا أقول في نفسي:

ما أحوج الناس في مجالسهم إلى مثل هذا الحديث عوضا عن اللغو ولعب الورق، والحديث في أعراض الناس.

أذكر أنني صرت في شوق، لعرض آيات الله على نفسي، بقراءتها قراءة متأنية، عاملا فيها بفكري ما استطعت، عَليَ أجد ما أسأل عنه صاحبنا، فتحصل الفائدة

فقلت في نفسي:

سأجمع له جملة من الاصطلاحات التي أرى أنها تتشابه، لكنها حتما مختلفة، فجمعت له الكلمات التالية.

الحزب، القوم، الملة، الأمة،(1) ثم خشيت أن أثقل على الرجل، لكني لما التقيته.

قال مبتسما:

أضف إلى ذلك، العُصْبَة.

ظهرت على وجهي علامات السرور فقال صاحبي:

لي شرط واحد، حتى نتحدث في ذلك، يجب عليك أن تستخرج كل آية تتحدث في هذه المسائل، ثم نعود إليها متدبرين.

ص: 50


1- راجع الموقع نافذة زدني علما

ت- لنفهم القرآن

قال صاحبي:

قبل أن أحدثك ونتباحث في مصطلحات القرآن الكثيرة، التي تتقارب ظاهريا، وتختلف في حقيقة معناها، وهي مُحَدَّدٌ كبير في الفهم والاهتداء إلى المعنى الصحيح، هلا أخبرتني عن الفارق بين الكتاب، والقرآن، والتنزيل، والذكر، والفرقان؟

قلت:

هذه أكثر الاصطلاحات، التي كنت أعتقد أنها تعني الشيء نفسه.

قال صاحبي:

انزع من رأسك، أن الله يستعمل نفس الكلمات في معناها، في رسم مختلف، فهذا نظريا لا يعني شيئا، لأن ذلك قد أوقع الأمة في الخلط العجيب، فاختلفت في كتاب ربها.

قلت:

حقا إن الاصطلاح في أي علم، هو مفتاحه الذي يرتكز عليه.

تبسم صاحبي ثم قال:

إذا لم ترفض القبح، لن يستقبلك الجمال، وإذا لم ترفض الجهل، لن يَقْرَبْكَ الكمال.

فلنتحدث بداية حول الكتاب.

قلت:

ما أعلمه أنا، أن الله، يستعمل هذه الكلمة كثيرا في كتابه، فهل تعني هذه الكلمة القرآن الكريم، أم كل الكتب السماوية؟

ص: 51

قال صاحبي:

يقول تعالى "الر * تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " (1)

ويقول في الزخرف "حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " (2)

لاحظ، أن الكتاب مرتبط بالإبانة، والتبيان، والبيان، والقرآن مرتبط بالتنزيل، واللسان العربي.

فالكتاب عامة مُبين، ولكن يختص منه القرآن في إبانته، وتختص منه أم القرآن في إبانتها، الفاتحة.

قلت:

هل أن المقصود في الآية الأولى، والثانية، والثالثة من سورة البقرة الكتاب عامة؟

فالله يقول:

" الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين* الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون"(3)

قال صاحبي:

ص: 52


1- 1-2 يوسف
2- 1-2-3-4 الزخرف
3- 1-2-3 البقرة

الصلاة، شُرَعت بالتوازي مع نزول القرآن، بعد الإسراء والمعراج، الصلاة على شكل الإقامة، هي الصلاة كفرض، لا كدعاء، فالمقصود بالكتاب هنا، القرآن في تواصله مع باقي الكتب، لذلك يقول بعدها " ""والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون"(1)

فكلمة كتاب، إما يُقْصَدُ بها أحد الكتب السماوية في حد ذاتها، أو في علاقتها بما سبقها ولحقها، لأن الإسلام رسالة واحدة.

إن الشكل والمضمون، الذي وجد عليه الكتاب في زمن ما، في عهد ما، على يد نبي معلوم، يسمى قرآنا، كما يسمى في زمن آخر، وعلى عهد آخر، وعلى يد نبي آخر، إنجيلا...

قلت:

أفهم من كلامك، أن القرآن مدار هذه الكتب، وهو مقرونا بالقدسية والحفظ عبر التاريخ.

قال صاحبي:

أحسنت القول، فحدثني عن القرآن.

قلت:

القرآن، وحي الله، بالبيان العربي المُنَزَّل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)

قال صاحبي:

ألم يكن معلوما، لدى النبي من قبل؟

ص: 53


1- 4 -البقرة

قلت:

لم أفهم سؤالك.

قال صاحبي:

لم تفهم سؤالي، لأن هنا مربط الفرس، هل بقي الرسول يتعلم هذا الكلام؟ أم أنه مجعول لذلك؟ لكنه غير مكلف بذلك إلا في زمن ما وفي وضع ما؟

قلت:

إن كان كلامك صحيحا، فما معنى إنزال القران؟

قال صاحبي:

هذه مسألة أخرى، يجب فيها معرفة الفارق، بين الإنزال، والتنزيل والتَّنَزُّل.

إن ما تتطلبه الرسالة، من وضع الكمال البشري على الأرض قدوة، يتصف بالخُلُق كله، والصدق كله، والحق كله، والعلم كله، وإلا صار ناقصا، وهذا يتنافى مع مبدأ النبوة.

قلت:

وإن كنا ابتعدنا عن حديثنا الأصل، فإن للمسألة ارتباطا شديدا ببعضها.

حقيقة إذا كان النبي أو الرسول، غير متصف بهذا الكمال البشري، فما يميزه عن البشر؟ فالبشر في طاقاتهم متفاوتون، والأنبياء حسب اعتقادي، هم أفضل صورة، يكون عليها الإنسان في عصرهم.

قال صاحبي:

أكثر من ذلك، فلن يعرف الخطأ والصواب إلا في وجودهم، أو وجود من ينوبهم.

قلت:

ص: 54

ما أعلمه، أن القرآن أُنزل على الرسول عن طريق الوحي، بواسطة الأمين جبريل (علیه السلام)، فتحدث به الرسول إلى الناس، ثم دُوّن فتناقله الناس عبر التاريخ، كما دُوّن أول مرّة لا تبديل فيه ولا تحريف.

قال صاحبي:

هذا كلام طيب، وسلس، ولكن تنقصه الدقة، أما حديثك عن وصول القرآن إلى النبي، فهذه مسألة لم تبدأ على الأرض، فكلام الله أزلي قديم.

قلت:

معنى هذا، أن الرسول قد تلقاه في عالم آخر؟

قال صاحبي:

إن النبي خلق نبيا، ولم يصبح كذلك في فترة ما من حياته، أي أنه قادر على معجزته منذ خروجه إلى الدنيا، غير أن ساعة الإصداح، لها وقت معلوم بأمر من الله.

هذا موضوع فيه أدلة كثيرة، ربما أتينا عليها، عند حديثنا في هذه المسألة، وأمَّا ما ذكرت من أنّ الرسول، تحدّث به إلى الناس ثم دوّنوه، فهذا لا يختلف فيه عاقلان.

وإن التثبت في ذلك مهم، فأول من تلقى عن الرسول، أقرب الناس إليه، الذي تربى في أحضانه، وعرف حرارة أنفاسه، وهو

القائل:

" ما من آية نزلت في كتاب الله إلا أعلم متى نزلت وفيمن نزلت..."(1)

ص: 55


1- فتح البارئ، كنز العمال

قلت:

إني لم أسمع بحديث كهذا من قبل، ولكني أعلم، أن الوحي كان في سنّ الأربعين تقريبا، ولا أعلم له ممّن يحضره، ويلازمه غير الإمام علي (علیه السلام)

قال صاحبي:

ألم تعلم، ما قال الله في سورة الأنعام على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

" قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بَلَغَ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا اشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ".(1)

فبَلَغَ هنا ليست من الإبلاغ، ولا من التبليغ، ولكنها من البلوغ، وإلا لكانت اللام مشدّدة، لأن المرحلة التي أتى فيها القرآن، كان الإمام، في مرحلة البلوغ، ففعل أَوْحَى خاص بالرسول، أما الإنذار، وهي مهمة من مهمات النبوة، فهي وصل للوحي، بالاشتراك في الإنذار، وتمهيد إلى أنّ المتواصل مع هذا الكتاب، هو المشترك في تبليغه.

إن عملية التبليغ هنا، متعلقة بالوحي الذي سأحدثك فيه لاحقا، وليست متعلقة بالرسالة ككل، فمهمة الإمام علي (علیه السلام)، هي العناية بتبليغ الوحي مع الرسول، لربط النبوّة بالإمامة، انظر مثلا لقوله: لا يبلغن عن الله الا انا وانت.

وقوله تعالى في سورة يونس:

ص: 56


1- 19 -الأنعام

" وما يتبع أكثرهم إلاّ ظنا إن الظّن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون * وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين"(1)

قلت:

أفهم من هذه الآية، والله أعلم في قوله تعالى: "تصديق الذي بين يديه " تواصل القرآن مع ما سبق، وفي قوله: "وتفصيل الكتاب" تواصل مع القرآن فيما لحق.

أمسك صاحبي يدي وقال:

أرأيت، الذي يأخذ الأشياء من معدنها، كيف تكون واضحة، وجلية، إني الآن، أعلمك بأنك تسلك طريق صدق، وعلم، وادعو الله أن ينير لك السبيل وأني سائلك الان كيف نتعامل مع القرآن؟

قلت:

وقد امتلأت نفسي غبطة، نتعامل مع كتاب الله، بالإقبال على قراءته، وفهمه، والبحث في معانيه، حتى نستطيع أن نعبد به الله، على علم لا عن جهل.

قال صاحبي:

إنها قراءات متنوعة، فقراءة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، هي قراءة باسم الرب الخالق، فهي قراءة الأشياء، والأحداث،

والأشخاص، والضوابط، فهي قراءة التكريم (قراءة بالقران)

ص: 57


1- 36-37 يونس

فالقراءة، كانت قبْليَّة، من قبل الوحي المُصرَّح به، لأن جبريل كان ينزل ليوضح، ويرشد، فقوله تعالى:

" اقرأ باسم ربك الذي خلق "(1) لا تعني، أن الله قد أمر نبيه، بأن يبدأ بالقراءة، بل هو تكريم لهذه القراءة.

إنه يقول فيما بعد،" اقرأ وربّك الأكرم"(2)، واستعمال الصفة هنا ليس اعتباطا، فكلمة الأكرم صيغة تفضيل، وهذا قمة الكرم الإلهي، بأن يعلن ذلك للخلق، لأن كلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قد قال الله فيه في سورة النجم...

قلت(مقاطعا):

" وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علّمه شديد القوى "

إن مجرد نطقه، وحي.

قال صاحبي:

لكن كلام محمد كلام، وكلام الله كلام، إن التفريق هنا في المصدر، وفي النقل، فكلام محمد متواصل مع كلام الله.

انه ميثاق مع الله، لا يناله الا الانبياء والاوصياء، الله خصهم واستثناهم

ان هؤلاء بالقران والقران بهم، فهم ترجمانه على الارض، يحيون به وبهم يحيى، فهم القدوة والنهج، إذا أردنا ان نعرفه فيجب ان نعرفهم، وإذا أردنا ان نعرفهم فيجب ان نعرفه، لذلك فكلام الله مقرون معرفته بدرجة من الايمان لا

ص: 58


1- 1-العلق
2- 3-العلق

الاسلام، انه غالبا ما يقرن الالتزام به بدرجة الايمان"" ان هذا القران يهدي للتي هي اقوم ويبشر الذين يعملون الصالحات ان لهم اجرا كبيرا"" (1)

قلت: (مضيفا)

إذا كان الاجر كبيرا فلا بد ان يكون العمل كذلك، عملا عظيما

قال صاحبي:

هم فيه مهديون الى الصراط المستقيم، فالقران لا يهدي كل الناس الى التي هي اقوم، انه يهدي فئات معينة دون اخرى، فالله يقول في نفس السورة "" وننزل من القران ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا خسارا. (2)

(ثم امسك بذراعي ناظرا في عيني.)

ان التعاطي يا اخي بالقران هو المحدد لأهل العدل من اهل الظلم، ولأهل الايمان من اهل الخسران في تعاملهم مع القران.

انه يوطد ايمان المؤمنين إذا عاشوا به، ويزيد في خسران الظالمين وهو على درجات وفئات متعددة، وهذا علم اخر من علم المنازل والدرجات.

قلت:

بورك فيك، فالله لا يظلم احدا بان يفتح بصيرة هذا لكتابه ويطمس بصيرة الاخر، والله في ذلك حكيم عليم.

قال صاحبي:

إنك تذكرني بآية سورة النمل.

"" وإنك لتلقى القران من لدن حكيم عليم"" (3)

ص: 59


1- 9 الاسراء
2- 82 الاسراء
3- 6 النمل

قلت:

فما هي القراءات الأخرى؟

قال صاحبي:

قراءة الاحالة، (القراءة في القران) فهلاّ اجتهدت في معرفتها، فإنك صرت متفاعلا تفاعلا طيبا مع كلام الله.

أطرقت قليلا ثمّ أجبته:

أي أن القرآن يقرأ ذاته بذاته، ففي القرآن آيات يحيل بعضها إلى بعض.

قال صاحبي (مستدركا):

هذا كلام، يجعلنا غير محتاجين إلى من يتولى القراءة، والتأويل، فهل يمكنك أنت مثلا، فعل ذلك؟

قلت:

أنا لست من أهل العلم، ولكن الذين اجتهدوا، وبحثوا، وأمضوا السنين قد أخرجوا للناس تفاسير متعددة.

قال صاحبي:

هل أنت مطلع على هذه التفاسير؟

قلت:

البعض منها.

قال صاحبي:

هل تجدها تفاسير متفقة؟.

قلت:

ليست كلها على اتفاق

ص: 60

قال صاحبي:

هذه ليست قراءة في القرآن، بل إنها قراءة موازية، تلتحم بالقرآن، ولا تلتقي به بل تستكين في ظله لتوهم به وهو براء منها يتبناها رهط من

1- الذين كفروا:

وفي ذلك يقول تعالى:

"" وقال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القران مهجورا= وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا= وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القران جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا (1)

2-ألحدوا:

"" ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في اسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180 الاعراف)

3-أشركوا:

"" وقل إني انا النذير المبين = كما أنزلنا على المقتسمين = الذين جعلوا القران عضين =فوربك لنسالنهم اجمعين = عما كانوا يعملون= فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين= (2)

4-المنافقين:

وهم الاخطر في علاقتهم بكتاب الله

وينقسم المنافقون الى شقين

1-نفاق ظاهر

2-نفاق باطن (وهو الاخطر)

ص: 61


1- 30,31,32 الفرقان
2- 89-90-91-92-93-94- الحجر

""الله لا إله الا هو ليجمعنكم الى يوم القيامة لا ريب فيه ومن اصدق من الله حديثا =فمالكم في المنافقين فئتين والله اركسهم بما كسبوا أتريدون ان تهدوا من اضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا "" (1)

"" وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن اهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون الى عذاب عظيم""(2)

وهذه تسمى (القراءة مع القران)

والان هلا اجتهدت، أن تحدثني عن القراءة للقرآن؟

قلت:

لعلك تقصد القراءة السطحية العادية.

قال صاحبي (مبتسما):

إن حماسك يدفعك إلى التسرع، فهذا التصنيف لا ذَمَّ فيه، ولكنه تبويب، للقراءات بعد تجربة، ودرس، فالقراءة للقرآن، تعني معاملة الكتاب على أنه مصدر من مصادر اللغة، والعلم، مثله مثل بقية العلوم الإنسانية المكتسبة، وفيه منفعة جليلة.

قلت (مستدركا):

ولكنها لا تكفي لوحدها

قال صاحبي:

أحسنت، ولكن لا يمكن ذمّها، فهي قراءة لطلب العلم والأجر، فالقرآن يخاطب النفس البشرية العاقلة التائقة إلى المعرفة.

قلت:

ص: 62


1- 87-88 النساء
2- 101 التوبة

كمن عثر على ضالة، لذلك الله في سورة القمر يؤكد على هذا المعنى حيث يعيد الآية مرارا " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكر"(1)

قال صاحبي:

إنك مجرد، أن تقرأ القرآن بل أن تنظر في المصحف، وتُعَظّم هذا الكتاب في نفسك، حصل لك الأجر عند الله.

قلت:

هذا مؤكد، فإنك إن احترمت كلام شخص في الدنيا، بادلك الاحترام، فكيف بك، وأنت تحترم كلام رب العالمين.

قال صاحبي:

لقد صرت يا أخي في تواصل طيب، وتمعُّن لما هو أحق بالتمعّن، قبل لوازم الحياة وخيوطها المتشعبة، فإنك إن امتلأت بمعرفة دينك وكتابك، تيسرت الحياة أمامك، ونزلت عليك البركات، فلا تفرّطَّنَّ في ذلك.

قلت:

الحمد لله، الذي جعلك في طريقي، وإني شاكر لك سعة صدرك.

قال صاحبي (والغبطة تملأ نفسه):

بل إن صدقك، وإرادة الله في ذلك، قد ساقاك إلينا، انظر إلى هذه الآية من سورة يونس، كيف تعبر عن الإحاطة الكبرى إذ يقول تعالى: "وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ

ص: 63


1- 17 القمر

تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين".(1)

قلت:

هل يدخل علم التلاوة، والتجويد، في هذه القراءة؟

قال صاحبي:

هذا مؤكد، فالله قد جعل قراءة كلامه، قراءة خاصة، متميزة في منطوقها، فجعلها ترتيلا، إذ يقول في سورة النمل "إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرّمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين " (2).

بل أكثر من ذلك، فهناك علوم أخرى يختص بها، وهي في العمق لا في المنطوق، مثل علم التشريع، وعلاقته بكل علم صحيح.

قلت:

حقّا، إن القرآن ليس كتاب متعة روحية فقط، ولا كتاب له طريقة في القراءة، أي الترتيل، بل هو ضابط، ومُنَظّر كبير للعالمين جميعا، ففيه فرائض لا بدّ أن تتبع.

قال صاحبي:

تؤخذ فيه الأحكام على قطعتيها، لا بالجدل فيها والنقاش، ولكن فهما فقط فالله يقول في سورة القصص تأكيدا لهذا المعنى " إن الذي فرض عليك

ص: 64


1- 61 يونس
2- 91-92 النمل

القرآن لرادك إلى معاد قل ربّي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين * وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربّك فلا تكونن ظهيرا للكافرين " (1).

قلت:

فهل هناك قراءات أخرى؟

قال صاحبي:

مازالت القراءة في القرآن، فماذا تعني يا ترى؟

قلت:

ما أعلم من أمر اللغة أن القراءة في الشيء، تعني التأمل فيه.

قال صاحبي:

أحسنت، وأصبت، فإن أي مسلم مأمور، ومدعو من الله، إلى التأمل، والتدبر، وتحسس الإعجاز.

قلت:

الآن، وقد شغفتني، بالفوارق في الاصطلاح، فإني أريد أن أعرف الفارق، بين التأمل، والتدبر، وتحسس الإعجاز.

قال صاحبي:

التأمل، هو كاللمس بالأنامل، فهو الحس الأولي الناتج عن النظر، أما التدبر، فهو إضافة إلى التأمل، إثارة للمسائل، والإشكاليات، والاستفهام،

ص: 65


1- 85-86 القصص

فالأولى بالفؤاد، والثانية بالعقل، وهما مشدودان إلى كتاب الله ويدفعان المتصل بكتاب الله إلى الرجوع إلى منابع التأويل الأصلية.

والله يستغرب من كل مدبر عن التدبر، ويذكر التأمل، في إشارة إلى القلب، في قوله في سورة محمد" أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها "(1)

قلت:

أفهم من كلامك، أن التدبر، مفتاح القلوب، لتستنير بنور الله، وهذا يدفع إلى الرجوع لمنابع التأويل.

قال صاحبي:

هذا هو المنهج الإلهي، في فهم الأشياء في مصدرها الأول، الذي هو كتابه، عن طريق أهل العصمة، الموكول لهم سرّه، وعلمه، ولا أدلّ على ذلك من سورة النساء، يقول فيها تعالى " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا * وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"(2)

قلت:

هذا كلام جميل، مقنع، فما التمعن في الإعجاز؟

قال صاحبي (مبتسما):

ص: 66


1- 24 محمد
2- 82 -83 النساء

إذا أطلت التدبر، ثم بحثت عن علم المؤولين الأَوْلَى بالتأويل، تكوَّنت لديك، نسبة من المعارف، وصرت ممتلكا لمفاتيح بعض المسائل، وكثر الأجر وعمّتك البركات، فيدخلك الله بإذنه في استنارة علم هدائي، يجعل الرؤية أمامك واضحة، والخطوط متماسكة.

وكلما توطدت علاقتك بكلام الخالق، توطدت علاقتك بالخالق، ووقفت على الإعجاز، الذي هو مكمن أسرار الإعجاز الداخلي للقرآن.

قلت (مبتهجا):

اللهم أسألك هذه المراتب.

قال صاحبي:

هذه مراتب في متناولك، وفي متناول كل مسلم على النهج الصحيح، فالتماثل مثلا بين الأمثال، يحسب في ظاهره، على أنه تكرار ظاهر للحوادث ذاتها، لكنك بالتأمل، والتدبر، وطرح الأسئلة، والرجوع إلى الرسول، وإلى المستنبطين من الأئمة من أهل بيته من أولى الأمر، تنكشف أمامك الحجب، وتقف على روعة الإضافة، وكيف ياول بعضه البعض.

قلت:

تحضرني هنا بعض الآيات من سورة الإسراء في قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا * ولقد صرَّفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا " (1)

ص: 67


1- 88-89 الإسراء

قال صاحبي:

أن المقصود بالتمعن في الإعجاز، يدخل في السرّ الباطني، الذي يجعل من نسيج الحروف، وطريقة تركيب الكلام، شفاء، ودواء، وأحاسيس باطنية، تحمل نشوة الإيمان والتمتع.

قلت:

إن هذا، ما بدأت أحسه منذ أن لاقيتك، وأثَرْتَ ما أثرت في نفسي، من مسائل متعلقة بكتاب الله، ويكفي في الحقيقة، أنني أقرأ نفس السور التي كنت أقرؤها سابقا، لكن شتان بين قراءتي الأولى، والثانية.

قال صاحبي:

يظهر أنك قد تبينت الفارق بين الكتاب، والقرآن، فهل لديك ما تسأل؟

أخرجت ورقة من جيبي وقرأت فيها، الإنزال، والتنزيل، والتَّنزّل، فوعدني صاحبي بجلسة أخرى، مخصصة لهذه المسألة.

غاب عني صاحبي أياما معدودات، بقيت فيها أسأل نفسي إلى أين أمضى معه؟

فالرجل دماثة في الأخلاق، وتواضع في العلم، وكرم، ومحبة للخلق، في زمن عزّ فيه الصديق، والرفيق، لم أرَ في جرأته، وحسن استماعه.

وما أن التقيته حتّى بادرني:

لقد اشتقت إليك يا أخي لكن هذا الشوق، ما أكبر منه، إلا شوقك لمعرفة الفارق بين الإنزال، والتنزيل، والتَّنزَّل.

أما الإنزال، ليس بالمعنى المادي للكلمة، أي هبوط الشيء من الأعلى إلى الأسفل، ولكنه وصول الشيء، بالقدرة الإلهية، نظرا لمنزلته، فالإنزال هنا

ص: 68

بمعنى المنزلة، والمكانة، وانظر قول الله تعالى في سورة الزمر " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين"(1)

قلت:

تعني أن الإنزال متعلّق بالكتاب فحسب؟

قال صاحبي:

أخطأت في ذلك، واستنقصت في قدرة الله، فإنزال الكتاب عامة، نعمة من النعم الكثيرة بصريح الآية من سورة البقرة " وإذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن فامسكوهن بمعروف او سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم "(2)

فالله ينزل الحكمة في قلوب المؤمنين الصادقين.

إذ يقول في نفس السورة: " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يُؤْتَى الحكمة فقد أُوتي خيرا كثيرا وما يذَّكَّر إلا أولوا الألباب "(3)

قلت:

يُذَكّرُني هذا، بقوله تعالى في سورة الشورى "الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب" (4)

ص: 69


1- 2-الزمر
2- 231 البقرة
3- 269 البقرة
4- 17 الشورى

فالحق والميزان، صفات للكتاب، لا يمكن نزولهما النزول المادي

قال صاحبي:

هذا ليس خاصا بالقرآن فحسب، يقول الله تعالى في سورة آل عمران. "نزَّل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل "(1)

قلت:

أدركت الآن، أن فعل أنزل، غير نزّل، فأنزل أي وصول الشيء بالقدرة الالهية نظرا لمنزلته، وجعل منزلة للشيء تليق به، لذلك يخرج الحديث، عن الكتاب، ليعمّ كل منزلة طيبة.

قال صاحبي(ملاطفا):

إنك تعرف الأشياء، أفضل مني، وهذا من مفاتيح الفهم الصحيح، فالله قد جعل منزلة للشرع في قوله تعالى في سورة المائدة" انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون "(2)

ومنزلة الماء والرزق؟ كيف فاتتني هذه؟ يتحدث الله عنها في سورة البقرة في قوله تعالى " الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وانزل من السماء ماءا فأخرج به من الثمرات رزقا لكم" (3)

ص: 70


1- 3 آل عمران
2- 44 المائدة
3- 22 البقرة

ولكن هل لا يعني هذا الإنزال المادي؟

قال صاحبي:

دليل أنه يتحدث عن منزلة الماء، ربطه هنا بالرزق، لأنه يتحدث في مواطن أخرى عن التنزيل المادي

" إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير"(1)

فلكل مقام مقاله، وسأحدثك في التنزيل، وأسألك، ما رأيك في قول الله في سورة الزمر؟ " خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون " (2) هل رأيت أنعاما تنزل من السماء؟

قلت(متأملا):

أليس المقصود بهذه الآية، منزلة تلك الأزواج الثمانية، في إيجاد التنوع الحيواني، الصالح لمعاش الإنسان؟

قال صاحبي:

يا لله، ما أحلى أن تكون متدبّرا متأملا إن هذه الآية تتحدث عن إنشاء أولى الخلق في الأنعام، حتى تستقيم بها حياة الناس

قلت صائحا:

ص: 71


1- 34 لقمان
2- 6 الزمر

سورة الحديد يقول فيها الله تعالى " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ان الله قوي عزيز " (1)

فالحديد لا يسقط من السماء، ولكنه يتكون في الأرض

قال صاحبي:

بل أعلم يا أخي أن الحديد أصل كل معدن، تفرعت عنه باقي المعادن، من نحاس، وزنك، وذهب، وفضة، الخ...

فكلها مظاهر لأصل واحد، دخلت عليها عناصر كيمياوية بفعل الطبيعة حولت طبيعتها إلى أنْفَس، أو ألين، أو أصلب، وهو من آيات الله الخالدة

قلت:

يا سبحان الله، لدينا كل شيء، ولا نعلم إلا قليلا، قليلا من كتاب الله

ضحك صاحبي وقال:

هم يخلطون في كتب التفاسير، وغيرها، بين الإنزال، والتنزيل سلهم، هل رأوا نصرا نازلا من السماء؟ " ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وانزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين"(2)

هذه الآية من سورة "التوبة" التي نصحتك بقراءتها، تساوي بين إنزال السكينة، والجنود، لتؤكد على أن السكينة، غير مرئية، وكذلك هم جنود غير مرئيين، وأثر النصرة الإلهية واضح عبر التاريخ، لكن الأسباب الخفية، لا

ص: 72


1- 25 الحديد
2- 26 التوبة

يعلمها كثير من الناس، فإدراكنا لجملة الاسباب محدود، والحديث في الاسباب مهم ومفيد.

_ علم الاسباب :

اعلم ان هذا العلم لا تخلو منه سورة كبيرة او صغيرة، فهو موجود في الفاتحة، في الصلة بين الصراط المستقيم التي سببها باهل النعمة، اما اتصالا قريبا او بعيدا، مباشرا او متباعدا، وهو في الصلة بين عطية الله لرسوله في الكوثر والصلاة والنحر، حمدا وتأكيدا، وهو موجود في أنقاض الظهر بالوزير " ووضعنا عنك وزرك الذي انقض ظهرك ""

قلت:

معذرة، انني لم افهم شيئا.

قال صاحبي:

سأطلب منك ما طلبه سيدنا الخذر (علیه السلام) من سيدنا موسى (علیه السلام)

ضحكت وقلت:

تعني انه يجب علي تقبل الامر والسكوت حتى تحدث انت في ذلك امرا، ابعد ان استنهضت فكري، واشعلت نار المعرفة في صدري، تريدني ان ادعك تمر دون استيقافك؟

قال صاحبي:

ان ما قلته الان هو ما اردته، فانت لافتقادك لعلم الاسباب الواضح، قد بدت لك المسالة غريبة، لأنك مثلا قد قرات في معظم التفاسير، ان المقصود بالكوثر، نهر في الجنة، قد اعطاه الله لرسوله وللمحافظين على الصلاة،

ص: 73

فاقرن لي هذا السبب بالصلاة والنحر، واقرن لي هذه النتيجة بالحقيقة في الاعتبار الالهي، الذي يؤكد عليها في قوله تعالى: "ان شانئك هو الابتر.

اعلم ان هذا العلم ليس مخولا الا لأهل البصائر، فالفعل، او النية او الحدث سواءا الصغير منه او الكبير، يبتدئ بالسبب الاول، فسبب ناتج عن الاول، وسبب يليه منتج لجوهر الاسباب، فسبب جوهري، وسبب ناتج عن السبب الجوهري، تابع للسبب الاخير، فسبب اخير، ثم فعل او نية او حدث.

وهكذا فهي سلسلة متصلة، متناسقة، لان الله خلق الاشياء هكذا مترابطة، متجانسة، مسببة لبعضها، على ما في بعضها ظاهريا من التنافر، والتباعد، والتشتت.

قلت:

هل تريد تعقيد المسالة علي؟

قال صاحبي:

لقد بسطت لك شديد التبسيط، فداخل هذه الابواب التي ذكرت لك مسائل عدة، ليس المجال للخوض فيها، فباب في درجات الاسباب، ويحوي مسائل مثل السبب القريب والسبب البعيد وسبب للأسباب وسبب السبب واسباب للسبب واسباب للأسباب.

قلت:

اما زلت تفصل في ذلك؟

قال صاحبي:

إذا كيف سيكون حالك؟، لو حدثتك مثلا في باب يحوي درجات الاسباب المختلطة، كيف تصنف، وترجع الى مصدرها وفيه نوع من الاسباب، يرتبط

ص: 74

بأكثر من فعل، ويتصل بأكثر من سبب، وباب اخر في ميقات الاسباب، وفيه مسائل تصنيف الاسباب التي تعتمد على الوقت أكثر من غيرها، او مثلا حدثتك، في باب انعدام الاسباب، وهو الباب المتعلق بما بعد الحساب، لأنه لا تكليف، فلا عمل، فلا اخذ بالأسباب.

قلت:

أنك تؤكد في مسالة نظرية، لعلي افهم قصدك، ولكن يستحيل على متابعتك.

قال صاحبي:

لو ضربت لك مثلا من الكتاب، وانت لا تدرك بعضا من هذه المعاني، اولا تضعها في اعتبارك فسيظهر لك التأويل على انه تعاطف، بل أنك لن تستطيع التواصل معه.

قلت:

ستجدني صابرا، هات أعطنا المزيد من الحديث عن الاسباب

قال صاحبي:

لا بد من ربط الاسباب بالنتائج، وهذا باب اخر، فمعرفة السبب ليست متاحة لأي كان، فاذا اختلفنا في تحديد السبب، اتخذ كل طريقا مغايرا، وفيه مسائل عدة، منها تماثل الاسباب مع تماثل النتائج، وتماثل الاسباب ونصل الى نتائج مختلفة، وذلك لأننا لا ندرك الاسباب البعيدة والخفية، مثلنا مثل اغلب الخلق، اسباب يعلمها الله وقلة قليلة في الكمال البشري، كل زمان وخصائصه

قلت (مستغربا):

ص: 75

ما يهمني من كل ما اتيت عليه، هو ان اعرف ما هو تكليفنا الشرعي في التعاطي مع الاسباب؟

قال صاحبي:

ان سؤالك ان دل على شيء فإنما يدل على صدقك، وبحثك على حقيقة التكليف، وحرصك على ان تكون اعمالك وفقا لشرع الله، وهذا باب عظيم جليل ينقسم الى ثلاثة مسائل كبرى.

وهي: الاسباب قبل الفعل، وفيها اتباع الاسباب والاخذ بها.

ومسالة ثانية: وهي التعاطي مع الاسباب عند الفعل، وفيها مراعاة الاسباب والتقيد بها.

ومسالة ثالثة: هي النظر في الاسباب بعد الفعل، وفيه السؤال عن الاسباب ويدخل ذلك في باب التدبر واعمال العقل الشرعي لإدراك التسليم في النهاية في اعتبار الاسباب لضعف الاحاطة البشرية، وكمال الاحاطة الالهية، ويكون كل ذلك بعد اكتمال الفعل حتى يتم تمامه.

قلت:

لقد بدأت استوضح معاني الاسباب وطريقة التعامل الشرعي معها، ولكن يا للأسف فاغلب الناس واقعون في الاخلال بالأسباب.

قال صاحبي:

هذا باب اخر، فيما ينتج من اخلال في التعامل مع الاسباب، وفيه مسالة تعطيل الفعل، ومسالة التواكل، ومسالة التحسر على الفائت، ومسالة الظنون والوساوس، ومسالة دخول ذلك في الشرك والالحاد، ومسالة التطرف الفكري والسلوكي.

ص: 76

قلت:

إنزال النصرة بأسبابه لا يكون إلا في الحرب ؟..

قال صاحبي:

من كان مؤهلا للنصرة نصره الله بإذنه " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدَّتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضلُّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر" (1)

قلت:

لقد فهمت فعل الإنزال هذا، فهلا حدثتني عن التنزيل.

قال صاحبي:

هلا، حاولت أنت أولا، واجتهدت في ذلك، ونلتقي المرة القادمة فتحدثني قبل أن أحدثك.

ترسخت في فكري تلك المعاني المتعددة، لمعنى الإنزال، وكنت على موعد مع صاحبي، بعد أيام ثلاثة من ذلك الحديث الممتع.

بَقيتُ تلك الفترة أقرأ سورة البقرة، وكلما وصلت آية من آيات الإنزال أحسست بانفراج في صدري.

ص: 77


1- 31 المدثر

ثم إني أزمعت على أن أجمع بعضا من الآيات، التي تتحدث عن معنى التنزيل، فاعترضتني الآية التي يقول الله فيها:" قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزَّله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين"(1)

ورحت أتساءل هل أن الله نزّل جبريل (علیه السلام) تنزيلا ماديا؟ أم هو تنزيل على غير الصورة المعتادة؟

فإذا كان تنزيلا ماديا، وحسب ما أكده لي صاحبي، فإن الفعل هنا تنزيل لا إنزال، وهو الوارد في الآية، وربما كان المقصود في آخر الآية "بإذن الله " إنها عملية هندسية، لكن لا يعلم سرّها إلا الله.

ثم التقيت صاحبي فيما بعد، فأردت أن أطرح عليه هذه المسألة، لكنه استدرك وقال:

خلتك ستجتهد أكثر من هذا، فهذا وإن كان مهما، فهو مجرد سؤال في مسألة، فيجب أولا فهم معنى التنزيل، الفهم الواضح، والتحديد النهائي، حتى يكون المصطلح أداة فعلية في تأويل المعنى، وهذا ما اتفقنا حوله منذ أيام.

إن التنزيل، مشابه لما نراه بأعيننا، لكنه في جوهره حكمة الله وترتيبه كما هو الحال عندما يتحدث القرآن، عن تنزيل الكتاب، يقول تعالى: " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين "(2)

ص: 78


1- 97 -البقرة
2- 23-البقرة

قلت (وقد سرحت بذهني في هذا المعنى):

أي أن تنزيل الكتاب، من الإعجاز الإلهي؟

قال صاحبي (مضيفا):

هذا الكلام موجود، قبل أن يصل إلى الأرض، فحادثة وصوله إلى الأرض، حدث كوني، اهتزت له الكائنات، أما الآية التي أردت أن تسأل عنها، فيقول في متشابهها من سورة الأعراف " إن ولييَّ الله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولى الصالحين"(1) وفي سورة غافر يقول: "حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم "(2)

التنزيل فعل هندسي، لكنه بالنسبة لكلام الله إعجاز، لأن العملية موكولة إلى ملائكة، وإلى أمر كوني، تتبدَّل فيه المعطيات، وتَتَشَكَّل، وفق الإرادة الإلهية.

قلت:

إن مسألة التنزيل واضحة، فما هو التنزُّل؟

قال صاحبي:

ما أدل على ذلك من الآية العظيمة، من سورة القدر "تنزَّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر"(3)

قلت:

ص: 79


1- 196-الأعراف
2- 1-2 غافر
3- 4 القدر

وهي تعني نزول القرآن.

تبسم صاحبي قائلا:

هذا في كتب التفسير، أما في تأويل الأئمة، فهي أعظم من ذلك، أتؤمن بأن الملائكة، تسجّل عنك أفعالك، المرضية، والسلبية؟

قلت:

هذا جزء من العقيدة، فهذه عناية الله وعدالته.

قال صاحبي:

وأين يذهب هذا العمل؟

قلت:

لمَ ابتعدت عن صلب الموضوع؟

قال صاحبي:

بل أنا في جوهره.

قلت (متذكرا):

إني لا أستحضر حديثا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكني أذكر معناه إذ يتحدث عن عملنا، وكيف يُعرض عليه، فلم أفهم حينها ما المقصود من ذلك.

قال صاحبي:

المقصود من ذلك، أن أعمالك مسجلة في عدل ودقة كما هي، دون الحكم عليها أو لها، وهذا باب في وظائف الملائكة، ربما حدثتك عنه في حينه.

ص: 80

وملائكة العمل هذه، لا تعلم عن نواياك شيئا، لكن الذي يقرّ العمل ويصنفه قبل أن يُعْرَضَ على ميزان الله يوم القيامة، هو الشخص الذي ولاه على خلقه، بأن جعله أكملهم.

تعرض الملائكة أعمال الخلق عليه، فيختمها، وبلا ختمه لا يمكن المرور بها إلى مقامها، ولا تخلو الأرض من هذا الولي، لأن ذلك داخل في ميزان الله، كما الشمس والقمر دائبين.

قلت:

الآن، قد أدركت بعضا من معاني هذه السورة، فما معنى أن القرآن نزل فيها

قال صاحبي (مبتسما):

ليلة القدر هذه، ليست من الليالي بالمعنى الدنيوي، إنها منفتحة على الغيب، لذلك فهي خير من ألف شهر، فكلام الله، جاء في تلك الليلة، التي لا نعلم حدودها في عالم الغيب، في قلب محمد قبل البعثة، وعندما ينتقل محمّد إلى الرفيق الأعلى فمن ينظر في عملنا؟

قلت:

الكامل على الأرض، ربّما قصدت الأئمة كما حدثتني سابقا.

قال صاحبي:

لذلك فعل التنزُّل، في هذه السورة، مقصودا قصدا إلهيا، بمعنى الاستمرار في النزول، كقوله تعالى في سورة فصلت "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا

ص: 81

تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون" (1)

إن النصرة الملائكية، والتأييد الملائكي من الله، محكوم بالاستقامة، فكلما كانت الاستقامة ثابتة، إلا وثبتت معها النصرة، فعملية الإنزال، والنزول مستمرة بذلك الشرط، فتصبح تنزّلا.

قلت (وقد لمعت في ذهني مسألة):

إن فعل التَّنزُّل، موجود في الآية من سورة لقمان في قوله تعالى " إن الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الارحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس باي ارض تموت ان الله عليم خبير "(2)

فتنزيل الغيث مستمر، باستمرار شروطه، لكني أريد أن أسألك: أليس الإنزال والتنزيل مستمر كذلك؟

قال صاحبي:

إن الله، عندما يستعمل عبارة التنزيل، والإنزال، يميزها كثيرا عن التنزُّل، فالتَّنَزُّلُ محكوم بالإعجاز، وهو ليس مفهوما عاما.

إن فعل التَنَزُّل يتعلق بتَنَزُّل الملائكة كما أعلمتك، وتَنَزُّل الشياطين، وإلا لماذا لا يستعمل الفعل عند الحديث عن الغيث؟.

فالملائكة والشياطين قبل الماء، وبعد الماء، وهذا باب آخر فكيف تتنزّل الشياطين؟

قلت:

ص: 82


1- 30 فصلت
2- 34 لقمان

قال صاحبي:

إن للشياطين الهام مستديم بالنفخ في فاقدي العقيدة، وطالبي اللذة الحرام، والمريدين في غواية البشر، وإخراجهم عن نهج الفطرة.

إن التنزّل ليس من خصائص الكتاب، وإلا لصار الكتاب رواية، فالكتاب مُنْزَل ومُنَزَّل، لكنه لا يَتَنَزَّل، إن التنزّل من خصائص الروح، والملائكة، والشياطين، وهو من خصائص التدبير، في الحاملات وقرا، والجاريات يسرا، والمقسمات أمرا.

قلت (مستلطفا):

هلا حدثتني عنها الثلاثة.

قال صاحبي (وقد تغير لونه):

كثير من الناس يحبون العلم، ولا يتعلموه، ويتعلمون، ولا يتفقهون، فلا تجعل نفسك تتقاذفها المواضيع بالرغبة لا بالمنهج.

لا تكن في واد تستطلع معالمه، ثم تقفز إلى وادي جديد، تريد استكشافه، فالله خلقنا أطوارا.

أنت الآن في طور مصطلحات، إذا فرّقت بينها انجلت لك مسائل ذات بال من تلقاء نفسها، تصل حتى إلى معتقدك.

فسورة القدر، فيها منزلة القرآن، في معنى "إنا أنزلناه"، وفيها كذلك مسألة مرتبطة بمكانة القرآن، ولا تَقلُّ عن ذلك شأنا، وهي تَنَزُّل الملائكة على القائم على الأرض والكون، يعرض أعمال الناس، هل وافقت منزلة القرآن عندهم، أم خالفت ذلك.

ص: 83

هم وحدهم من لديهم معرفة هذه المنزلة بترجمة ما جاء فيه، إلى معارف وأحكام يُستظل بها.

قلت:

والله ما عَنيتُ، إلا ازدياد الفهم، والتَبصُّر، فإن ذلك عندي، أهم من الأكل والشرب، لأنها مسائل تَمَسُّ النفس، والذات في باطنها، كما يَمَسّ الذّكْرُ، قلب الذاكر.

قال صاحبي:

إن الذّكر، صفة كبرى من صفات القرآن، وهي صفة أزلية، دائمة لا تقتصر على ابن آدم، إنه صدى بعيد، في نفوس مطهرة، مرسلة، في أيدي حفظة كرام بررة.

ما أسعدك أيها الإنسان، بأن تتداول كلام الله، مدركا لهذا المعنى، وما أشقاك وأنت لا تعلم منه إلا حرفا.

قلت:

وهذا ما يدفعني إلى أن أغوص، في علاقتي بكتاب الله، وأفهم ما المقصود بالذكر؟

قال صاحبي:

الذكر أكبر صفة في القرآن لقوله تعالى : "إن هو إلاّ ذكر للعالمين"(1) أي أنه موسوم في غايته القصوى بالذكر، والتذكر وبناء ذاكرة، هي مرجع

ص: 84


1- 27 التكوير

العمل، وكلمة العالمين، تأكيد لما قلنا سابقا، بأن الكلام الإلهي صداه في الغيب، وفي الشهادة، لأنه أكثر ذكر متطابق مع الحركات في الكون.

هذا باب من علم اتصال الكائنات، لا يتسع له المجال، بل إن أهل الذكر هم المرجع الحقيقي، الذي يؤكد الله عليه عندما يستحيل على العقل فهم الأشياء.

قلت: فما معنى قوله تعالى في سورة العنكبوت " اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر"

قال صاحبي:

الصلاة محمودة، في القيام بالواجب التعبدي الشرعي، لكن الصدى الذي ينتج عنها في العقيدة، والإيمان يكون أجلّ.

إن الذكر هو الجانب النفعي البيّن لما هو خفي.

فالصلاة في أصلها، لا تنطبق مع الفحشاء والمنكر، فما يترجم هذه القيمة، وما يجعلها بارزة هو الذكر.

قلت:

تصديقا لقولك، تستحضرني الآية من سورة النحل "وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي اليهم فاسالوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون = بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم لعلهم يتفكرون"(1) وأظن أن المعنى هنا واضح، في ارتباط مفهوم الذكر، بالنتيجة الخارجية، في تعاملنا مع الكتاب.

ص: 85


1- 44-النحل

قال صاحبي:

إن أفضل آية تعبر عن هذا المعنى، وأحسّها قريبة من نفسي، سلسة على لساني، قول الله في سورة مريم " ذكر رحمة ربك عبده زكريا "(1) إذ كان من هذه الرحمة، أن وهبه الله سيدنا يحيى عليه السلام، فأفهم من ذلك، أن الكلام شيء، والقول شيء، والحديث شيء، والذكر أعلى مراتبها، فالكلام والمقصود به هنا الكلام البشري، هو استعمال اللسان مع اللغة في إيصال الصوت إلى متلقي.

أما الحديث، فليس ضرورة كلاما مباشرا، فالحديث مرتبط بالحدث.

إن الكلام يكون في حدث، في الأغلب قد مضى، إما ماض بعيد، أو قريب، أو قريب جدا.

والقول، هو جملة الكلمات المنقولة، المعقولة، المتداولة بالتدوين، وفيها الحديث والكلام.

أما الذكر، فهو صدى الكلام، والحديث، والقول.

قلت:

هلا بسطت هذه المعاني، حتى يمكنني حفظها وتمييزها.

قال صاحبي:

الكلام يا سيدي، الصوت البشري الواصل إلى أذنك.

أما الحديث فهو ما اخْتُصَّ من الكلام بحدث، أي هو كلام مرتب. والقول، كلام، أو حديث، مدوّن.

ص: 86


1- 2 مريم

والذكر هو صدى لكل ذلك.

قلت:

الآن قد فهمت، وإني لأشكرك على رحابة صدرك، وأذكر قوله تعالى في سورة الزخرف عن الذين لم يكن لكلام الله صدى في نفوسهم وأفعالهم.

" ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيّض له شيطانا فهو له قرين"(1)

قال صاحبي (مبتسما):

انظر كم الله رحيما بخلقه، وبالمسلمين خاصة، وبالمؤمنين أكثر، فالله قال ومن يَعْشُ، ولم يقل مثلا ومن يغفل، أو ومن يعرض.

لأن المسلمين قد يغفلون، وقد يعرضون عن الذكر، ثم يتوبون. فكلمة "يعْشُ" هنا، تعني يَعشْ حياته من دون ذكر.

فعليك بالذكر الذي قدمه الله على الصلاة، التي ليس فيها وقع، وجعله محصلة لكل كتبه، ومجَّده لأنه وجه الفعل في النفس، وخبر الذات الباطنة.

إن حديثي وكلامي إليك، إذا دونته صار قولا، وهو إن شاء الله ذكرا، فهل وجد ذلك صدى في نفسك؟

فالله قال لرسوله "إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب فبشره بمغفرة واجر كريم "(2) فإن كنت فعلا تخشى الله بالغيب، فاتبع ذكره.

قلت:

ص: 87


1- 36 الزخرف
2- 11يس

حتى أكون صادقا معك، فقد حَصَدْتَ ما بنفسي من هشاشة، وصرتُ على علاقة أفضل بكتاب الله.

قال صاحبي:

الحمد لله الذي جعل الصدق، والصبر، مفتاحا لمعرفته.

تركت صاحبي في يوم حديثنا عن الذكر، بعد أن تحادثنا في الفارق بين القرآن والكتاب والإنزال، والتنزيل، والتَّنزُّل، وقد بَقيَت في ذهني مسألة تتردد، لأسأل عنها صاحبنا في الفارق بين القرآن، والفرقان، وقد أردت أن اجتهد لوحدي، ولكني كالعادة أقع على نتف من التعريفات المتفرقة، المتضاربة أحيانا، والمتفقة بعض الشيء أحيانا أخرى، فلم أجد آيات كثيرة تستعمل هذا المصطلح.

بَقيَت في ذهني آية الفرقان التي يقول فيها الله تعالى " تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا" (1)

لكن لصاحبي رأي آخر، فلما سنحت الفرصة، في معرض من حديثنا، أجابني كعادته جوابا واضحا:

إن الفرقان، في سبع مواضع من القرآن الكريم، فالفرقان ميزان الله في الخلق أجمعين، فهو الفارق بين الخير، والشر، والحلال، والحرام.

لا بد للحق من ترجمان، فقد جعل كتابه فرقانا، حتى لا يكون للخلق حجة، ولكي يكون الكتاب السبب الحقيقي في السعادة الحقيقية، التي يُنَالُ بها خير الدنيا والآخرة.

ص: 88


1- 1 الفرقان

الرقم الذي حدثتك عنه، يشير إلى السبع المثاني، وهي الميزان في القرآن، وقد يقرأ بعضهم كتاب الله ويقول أن الله ذكر الفرقان ثمانية وليس سبعا، ويذكر قول الله، " واعلموا إنما غنمتم من شيء فان لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير "(1) فاعلم أن السبع مواضع، تشترك في معنى التشريع، وهذا الموضع، استعمل فيه اللفظ، للتدليل على معنى بعيد، هو استبيان الصفوف، من خلال معركة، وهو توظيف للفظ، لنيل معنى مغاير.

قلت:

لم أفهم العلاقة بين آيات الفاتحة ومعنى الفرقان.

قال صاحبي:

أحدثك في ذلك عندما نأتي على تبيان تأويل الفاتحة.

قلت:

لماذا لا تشير عليَّ بعض الإشارات، حتى أفهم جيدا معنى الفرقان؟

قال صاحبي:

الفرقان مرتبط بالكتاب، لا بالقرآن، وقد صرت تدرك الآن هذا المعنى، ولا أدل على ذلك من قول الله في سورة الأنبياء " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءا وذكرا للمتقين "(2)

ص: 89


1- 41-الأنفال
2- 48 الأنبياء

قلت:

لم يترك الله زمنا، إلا وجعل فيه منزلة للفرقان، لأن البشرية جمعاء، في حاجة إلى التفريق بين الحق، والباطل.

قال صاحبي (مبتهجا):

و بهذا الفرقان، يكون النماء، وتتنزل البركات، انظر إلى قوله تعالى في سورة الفرقان أو الميزان "تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا " (1)

قلت:

متفق معك، على أن الفرقان ضرورة للحياة، لنيل السعادة، والرقي، ولكن قد يدعي كلٌّ معرفة التفرقة بين ما هو حق، وما هو باطل..

قال صاحبي:

الفرقان يعرفه العارفون.

ويعرفه الجاحدون لكنهم ينكرونه، ويجادلون لأنهم دخلوا في حزب الشيطان، وحزب الشيطان هم الخاسرون.

قلت (متذكرا):

نَسيتَ أن تحدثني عن معنى الحزب في القرآن.

قال صاحبي:

ألم نتفق على أن تجتهد في ذلك؟

قلت:

ص: 90


1- 1- الفرقان

لقد جمعت ما تيسر من الآيات، تتحدث عن الملَّة، الأمَّة والقوم، ولكني لم أصل بعد إلى معنى الحزب.

قال صاحبي:

اتني بتلك الملاحظات، ولنقرأها على بعضنا، فربما استفدنا من ذلك.

قلت:

ولماذا لا تنزل ضيفي، ويكون جلوسنا مريحا، وحديثنا في سعَة.

ص: 91

ث- الفوارق العدديَّة

بينما نحن في الطريق إذ بصاحبي ينطلق في حديث شيق.

قال في ذلك:

إن الحزب في كتاب الله، هو قوة الولاية الجماعية لمجموعة

و انتماؤها إلى ولي، إذ قال تعالى في سورة "ص" " كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة أولائك الأحزاب" (1)

و الله هنا يُخْرجُ من بينهم قوم نوح، بأنهم ليسوا كمثلهم من الأحزاب وذلك في سورة غافر في قوله تعالى "كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أُمَّة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب"(2)

لقد اختص الله ذكر قوم نوح دون غيرهم من الأحزاب، فجمع كل الأحزاب في دائرة، واختص قوم نوح في تكذيبهم في دائرة لوحدهم، وذلك للتدليل على ما أصاب المكذبين من غرق، وما أصاب المؤمنين، على قلتهم، من النجاة، بفضل سفينتهم، ولأن المُخَاطَبَ هو الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وسياق المعنى هو جدال قومه بالباطل وتَعَنُّتهمْ فيكون وجه التشابه بين الحقبتين في قول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق(3)

ص: 92


1- 12-13 ص
2- 5 غافر
3- البخاري، مسلم...

فسِمة الأحزاب، الاختلاف، والافتراق، وذلك في قوله تعالى في موضعين، الأول في سورة الرعد، إذ يقول تعالى " والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما انزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن اعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو واليه مآب "(1)

والثاني في سورة مريم عليها السلام "فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم " (2)

فهم موكولون إلى وليّهم، منطبعون بفكره، وطاعته، سواء أن كان وليّا شرعيّا، ورعا، تقيا، أو وليا من أولياء الشر(الشيطان).

ولا أدلّ على ذلك من آية المجادلة " استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولائك حزب الشيطان ألا أن حزب الشيطان هم الخاسرون"(3)

و يقول تعالى في الآية المقابلة " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولائك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون " (4)

إذًا، الأحزاب حزبين، لا ثالث لهما، اخْتَرْتَ أم لم تَخْتَرْ، عن وعي وإرادة، أو انسياق دون وعي، فأنت في أحدهما.

ص: 93


1- 36 الرعد
2- 37 مريم
3- 19 المجادلة
4- 22 المجادلة

كنا قد عَتَّبْنَا المنزل.

فقال صاحبي:

السلام عليكم أهل الدار، أعطيتك يا صديقي معنى كلمة حزب في القرآن، فأعطنا باقي الفوارق، قبل الأكل والطعام.

وبعد استراحة قصيرة، أخذت ورقات صغيرة، ومصحفا، وضعتها أمامنا، وكنت مدركا أن الجلسة ستحلو وتطول.

قال صاحبي:

هات ما عندك.

قلت:

في الحقيقة، ليس لدي الكثير، ولكني ربّما قد أكون وُفِقْتُ إلى محو مفهوم خاطئ عن الأمة، إذ الأمة لا علاقة لها بالعدد، وإلا لما قال الله تعالى " إن إبراهيم كان أمَّة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين "(1)

لقد فهمت من هذه الآية من سورة النحل، أن جوهر كلمة الأمة، يكمن في قوة الاعتقاد، الذي قد يؤثر في اللاحقين، بناءا على ما تَعْلَمَ من سيرة خليل الله (علیه السلام).

قال صاحبي:

لقد صرت ممن يحبهم محمد وآل محمد.

قلت له:

هذا كلام طيب، كثير على رجل مثلي، يتحسس الطريق إلى كتاب الله.

ص: 94


1- 120 النحل

قال صاحبي:

قلت لك هذا الكلام، لأن هذه الصفة محبذة، ومحبوبة، عند محمد وآله.

العلاقة بكتاب الله على بصيرة، تفتح الأذهان، وتقوي الجنان، وتصلك بمحمد وآله.

ها أنه قد صارت لديك مفاهيم جديدة، غير المتداولة في الإرث الثقيل الذي حملته الأمة، فما قلته طيب.

أشير عليك أن الأمة، تُعرف بوجود النبي،أو الرسول، أو الإمام فيها، إذ يقول في نفس السورة، لو لاحظت ذلك، " يوم نبعث من كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين "(1)

فقلت (مستعجلا):

هذا ما يفسّر قول الله لرسوله " فكيف اذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا "(2)

قال صاحبي:

أو تدري لماذا؟ لأن الله قد جعل لكل أمة خصائصها، إذ يقول في سورة الحج " لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك انك لعلى هدى مستقيم "(3) ويقول في سورة يونس تأكيدا لما جاء في

ص: 95


1- 89-النحل
2- 41-النساء
3- 67-الحج

سورة النحل " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " (1)

قلت:

لذلك الله، في آية آل عمران، يقرن تخيرنا كأمّة بجملة من الصفات، لا يمكن أن تتأكد في الواقع، إلا بعقيدة راسخة قوية.

قال صاحبي:

أفهم أنك تقصد الآية " كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون "(2)

ونهاية، نستطيع أن نُعَرّفَهَا من خلال هذا، بأنها أثر الفعل الجماعي في حركة التاريخ، بما تنتجه مجموعة حول مركزها، الذي هو قائدها.

من منطلق الاعتقاد الذي يتشابه في صورته، مع سرب الطيور في السماء، الذي يتحلَّق حول طائر بعينه، يقوده في المسافات والزمن.

انظر كيف يعبر الله على ذلك في سورة الأنعام إذ يقول : " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم الى ربهم يحشرون " (3)

ص: 96


1- 47 يونس
2- 110 آل عمران
3- 38-الأنعام

إنه تمثيل هنا، فالطيور، والدواب، ليست عاقلة، ولكن تجمعها طبائع مشتركة، هي من السليقة لتقريب الصورة، لذلك فهو مثال واحد، في الآيات التي ذكر الله فيها مفهوم الأمة، وعندما تتغير هذه المعطيات، إلى معطيات جديدة، ومركز جديد، بمفاهيم جديدة، فإننا ندخل على أمة أخرى.

ولكن يبقى لتأثير الأمة السابقة، فعل، ينقص ويزيد، ويسمى المتأثرين بذلك ملّة.

قلت:

إني لم أجد في ذلك إلا أربع آيات، وما شدّ انتباهي، هو التأكيد فيها على ملّة إبراهيم(علیه السلام).

قال صاحبي:

لأن محمّدا (صلى الله عليه وآله وسلم) اعتبر أمته، امتدادا في جوهر عقيدتها، لأمة إبراهيم(علیه السلام).

قلت:

قبل حديثنا عن الملّة، هلا عَرَّفْتَني الفارق بين الحزب والأمة

قال صاحبي:

بكل بساطة، الحزب مجموعة متعلقة بفكرة جزئية متغيرة أما الأمة، فمتعلقة بإمام اعتقادا أكثر منها، مجرد فكر، وتفكير، وهي محكومة بالاستمرار.

قلت:

إذًا، فالأمة حضارة، وتاريخ، وفعل، والحزب هو جزء من ذلك، متغير على مرّ الزمن، لكنك لم تؤكد على مفهوم الملة.

قال صاحبي:

ص: 97

الملَّة، ما أملاه أناس، على الذين من بعدهم، إما حقا وإما زيفا، وكما لاحظت فإنها أكثر ما ذُكِرَت في إملائها الحسن، في ملَّة سيدنا إبراهيم (علیه السلام)

كما يقول الله تعالى في سورة النساء " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملّة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا" (1)

قلت:

إذا كان ذلك كذلك فما الفرق بين الأمَّة والملَّة والحزب والقوم؟

قال صاحبي:

ماذا جمعت لنا أنت من الآيات التي يتحدث الله فيها عن القوم؟

أخذت أوراقي ورحت أقرأ عليه آية المائدة " يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" ا(2)

وآية البقرة:

" يا أيها الذين امنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين" (3)

وآية الأنعام:

ص: 98


1- 125 النساء
2- 51 المائدة
3- 264 البقرة

" وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون" (1)

قال صاحبي:

ماذا تلاحظ في ذلك؟

قلت:

هم مختلفون، ففيهم الظالمون، والكافرون، والعالمون.

قال صاحبي:

بكل بساطة، هم مجموعة تجمعهم جملة من القيم، والصفات، فإن كانت الأمة تجمعها قوة العقيدة الفاعلة، وإن كان الحزب يجمعه ويفرّقه، فكرة شخص أو أشخاص يقودونه، فإن القوم تجمعهم قيم، لا بإرادتهم، بل بما تماثلوا فيه من صفات.

وقد سُمّوا قوما، لأن الواحد ينشأ فيهم، ويقوم من وسطهم.

قلت:

هذا واضح وجلي، فما الفارق بين القوم والعُصْبَة؟

قال صاحبي:

هم قوم ليسوا على الصفة الأخلاقية، لكنهم على الصفة البنيوية، لأن ما يحكمهم قرابة الدم، لا العقيدة، ولا الفكر، ولا القيم المتوارثة، بل الدم، والقوة، فانظر إلى قوله تعالى في سورة النور " إن الذين جاؤوا بالإفك عُصبة منكم

ص: 99


1- 97-الأنعام

لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم"(1)

وانظر إلى قوله تعالى في سورة القصص:

" إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم واتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين " (2)

قلت (مستبشرا):

ما يؤكد القرابة الدموية في مفهوم العُصبة، ما قاله أخوة يوسف (علیه السلام) غيرة " إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عُصبة إن أبانا لفي ضلال مبين "(3)

قال صاحبي:

بل إنها إشارة من الله إلى أن يوسف (علیه السلام) وأخاه الأصغر ليسا من ذات الأم، وكان هذا السبب الأصلي في غيرتهم منه، لذلك فهم عُصبة واحدة، والمجتمع آنذاك تحكمه العصبيات.

قلت:

إني أريد أن أحوصل ذلك حتى لا أَتِيهَ.

قال صاحبي:

ص: 100


1- 11 النور
2- 76 القصص
3- 8 يوسف

لا يكون العلم إلا بالتدوين، والتجميع، والتداول، فلخّص لنا ما رأينا في إيجاز.

قلت:

الأمة هي القوة العقائدية، دون النظر في المسألة العددية، والملة هم أمة تأخذ عن سابقتها، أما الحزب فهو فكر لشخص أو أشخاص، يتجمع حولهم أناس، أما القوم، فهم الذين تغلب عليهم صفة أو صفات يعرفون بها.

والعُصبة هي غلبة العصبيَّة في ذلك، بدم أو بقوة جسدية.

قال صاحبي:

يجدر بك أن تكتفي بهذا، حتى لا يختلط عليك الأمر.

قلت(متلهفا):

إن المسائل واضحة، وإن لهذا الحديث قيمة كبرى، لم أقرأه من

قبل، ولم يمر أمامي فكيف تريدني أن أتركك حتى تجيبني.

ص: 101

محور 3- اكتشاف الكتاب

أ- الأهل والآل

وبينما نحن جلوس، إذ ناداني صوت من داخل الدار، أن قد حضر الطعام، فاستأذنت من صاحبي، ورحت أجلب الأشياء تباعا، وما

إن جلسنا إلى المائدة، حتى مدّ يده للدعاء، وشرعنا نأكل، فالتفت إليَّ قائلا:

أصاحبة الصوت، من أهلك، أم من آلك؟

فقلت(مبتسما):

لم أعهد فيك روح الدعابة.

قال صاحبي:

والله، إني لست مداعبا، ولكني قصدت ذلك.

قلت:

هي أختي، ولكني لم أفهم، أهي من آلي، أم من أهلي، فما قصدك من وراء ذلك؟

قال صاحبي:

ألم تكن تدرس في الفوارق في المصطلحات القرآنية، إذًا، ما الفائدة من معرفة ذلك؟ إن لم يكن لينفعك في حياتك، لأن معرفتك بتلك الأشياء تحدد فهمك لها، ومن ذلك علاقتك بها، فمثلا، قد يأتي من ينفخ، ويهوّل، في مفهوم الأمة، فيتصور أن لها مفهوما قدسيا، والحقيقة كما رأينا، أنها مسألة حضارية، لها علاقة بالتاريخ، بل إن الله ليتحدث عن أمم في نار جهنم، " كلما دخلت أمّة لعنت أختها"

قلت:

ص: 102

من فضل الله عليّ، وفضل أهلي، أن جمعني بك.

قال صاحبي:

إلى حدّ الآن، لم أر أهلك، ولكن، ربّما البعض من آلك، فابحث في ذلك، حتى تلامس الأشياء ملامسة الباحث، المتعقل، لا المتبع الذي يأخذ الأشياء كما يجدها.

هذا حال وقعت فيه الأمة، متى توقف عقلها، واتكأت على أخطاء من سبقها، ظنا منها أنها مع القدوة الحسنة.

كان هذا آخر ما قال في تلك الجلسة، وتواعدنا على اللقاء، بعد أن أبحث عن آيات الأهل، والآل، في كتاب الله.

صار لديّ حماس فياض، فانطلقت في تلك الليلة، في بحثي، وكلي حماس وشوق.

بقيت أياما، لم أرفيها صاحبي، لانشغاله ببعض شؤونه، وكان موضوع الأهل والآل يأخذ مني مأخذا كبيرا، فطفقت أتأمل كتاب الله كل ليلة، وكأنني أقرأه أول مرّة، أدوِّن ملاحظاتي، وأسئلتي. أحسست حلاوة لا مثيل لها، فليس أفضل على المرء من نور العلم، والحقيقة، خاصة عندما يتحرّر من كل فكرة مسبقة، ويتجرّد أمام المصدر الذي لديه، هذا إن كان كتابا من اجتهاد بشري، فما بالك بكلام رب العالمين.

كنت أختم كل قراءة ليليَّة بالدعاء إلى الله، أن يفتح بصيرتي، ويجعلني في نور الصدق، ويبعدني عن النور الزائف، الذي ما إن يظهر حتى يغيب.

كان ما يقوّي جانبي ويجعلني مغتبطا، أنني أقول في نفسي:

ص: 103

حتما إن الله قد علم، ما كانت تأتي عليَّ من أسئلة محيِّرة، خاصة في تضارب المصادر والآراء، وما سبَّبَ لي ذلك، من قلق وجداني، كنت أخفيه عن غير قصد، بتعلَّة أن الذين سبقوني أعلم.

وكان واجبا التحرر من هذه الفكرة المبنية على المغالطة، والتي ينكرها الله على خلقه، في كثير من الآيات كقوله تعالى: " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" (1)

ينبذ الله هذا؟ ويدعونا دائما إلى القراءة، والتدبر، والتأمل.

صرتُ الآن أدرك الفوارق بينها، فكيف تراني أُعرِضُ عن ذلك، وأرفض أن أكون حرّا كما خلقني الله وكرَّمني من دون خلقه. كنت أردّد في نفسي دائما، قوله تعالى: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" (2)

وعندما اشتدَّت بي حرارة السؤال، وأحسست أني جمعت كثيرا من الملاحظات، ذهبت الى بيت صاحبي أطرقه، وكأنه كان على موعد معي، فبادرني مداعبا:

لقد صرت أخي، ومن حقك عليّ، النصح لك، والتبيان، لكن من آدابنا، التي يبينها الله في كتابه، استئناس أهل الدار قبل زيارتهم، ثم التسليم عليهم، وإذا لم يؤذن لنا، رجعنا، وليس في ذلك حرج.

ص: 104


1- 23 الزخرف
2- 70 الإسراء

قلت:

معذرة فقد دفعني شوقي لمجالستك، وغابت عني المسألة، بل الحقيقة أكثر من ذلك، أننا نسينا أو تناسينا أخلاقنا التي أرادها الله لنا، فأصبحت جلّ الصلات والعلاقات مبنية على العادات.

والعادات فيها طيب، وأكثرها لا يحبها الله.

قال صاحبي (مبتسما):

لا عليك، وغفر الله لي ولك، ماذا فعلت في الأهل والآل؟

ثم أدخلني إلى ركن جلسنا فيه وقال:

اقرأ ملاحظتك، واطرح أسئلتك.

قلت:

إنني معجب كثيرا بأسلوبك البعيد عن الأسلوب المدرسي.

فسأحاول استحضار بعض الملاحظات، دون اللجوء إلى الأوراق.

إن أكثر الآيات التي بقيت تتردد في ذهني، ولم أجد لها ما يشفي الغليل، هي تلك الآية التي تتردد في سورة الرحمان بشكل استفهامي استنكاري في قوله تعالى : "فبأي آلاء ربكما تكذبان" (1)

قال صاحبي:

صرت على هدى، فهذه الآية لم يرددها الله سبحانه وتعالى، إلا ليؤِكد على معنى عظيم، في فهم الدين والحياة، فبماذا تبدأ السورة؟

ص: 105


1- 13-الرحمان

قلت:

تبدأ بالتذكير برحمة الله، وتعليم القرآن، وخَلْقِ الإنسان، ووضع الميزان، وبالنظام الكوني، وأن الكل يُسَبّح ويسجد.

قال صاحبي:

تصوَّر، أن كل هذا تقديم لذلك التأكيد الإلهي، فالآلاء رحمة الله، وهم خلق الله، وإعجازه، مثل ما إن الشمس والقمر بحسبان ووَضَعَ الميزان بهم، إلى آخر تلك المعاني في السورة، فما الآلاء؟

قلت:

أعلم أن كلمة الآل قريبة من الآلاء.

قال صاحبي:

لا يختلف اثنان في أن الآل جمع، وأن الآلاء جمع الجمع، وهذا في اللغة، أي المقصود الاستعمال العام، من خصائص بعض المصطلحات، دون سواها فلمن يتوجه بالخطاب؟

قلت:

يتوجه إلى كل الخلق.

قال صاحبي:

ولمَ العناء؟ فالله يقول بعد كل ذلك،" يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان" (1)

ص: 106


1- 33 الرحمان

فكلمة "ربكما" فيها خطاب إلى الإنس والجان، لذلك وردت الآل مجموعة في جمع الجمع، أي أن للجن، آل، وللإنس آل، فما معنى الآل؟

قلت:

وإن كنت لا أعلم المعنى حقا، إلا أنني لا أتصور أن الله يقدم تلك المقدمة العظيمة، ثم يسأل أهل الجن، وأهل الإنس، كيف بعد ذلك ستكذبون بهؤلاء؟ أم بهؤلاء؟ أي أن الآل، والله أعلم، لهم صفة عند الله عظيمة.

قال صاحبي (مبتسما):

هم رحمة الله، وعلم قرآنه، وبيانه، لأنهم ميزان الله على الأرض.

لا يمكن اختراق أقطار السماوات والأرض إلا بأحدهم، فهم كمال الله على الأرض، أي الكمال البشري في كل معشر، وعصر، حتى يستقيم الكون.

فكما خلق الشمس، خلق القمر، وكما خلق الليل، خلق النهار، وكما خلق النجم في السماء، اتزانا لها، خلق الشجر على الأرض، موازنة للبيئة، خلق كذلك المعشر، وخلق فيهم الآل.

قلت:

يا ويل من لم يفهم هذا، وإلا صار مع الكتاب دجالا، وهو لا يعلم

قلت:

إذًا، الآل، هم الصفوة من الخلق.

قال صاحبي:

ص: 107

هم الصفوة في الصالحين، والفسقة، أي أنهم الخاصة، انظر قوله تعالى في سورة غافر" النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " (1)

قلت:

لكن زوجة فرعون مؤمنة.

قال صاحبي:

سلام الله عليها، لذلك فهي، ليست من آله.

قلت:

الآن تلخبطت أوراقي.

قال صاحبي:

هي من أهله، وليست من آله، فالآل محكومون بالصلب، وزوجته علاقة ارتباط، لا علاقة صلب، انظر إلى قوله تعالى في سورة "مريم"، على لسان زكريا عليه السلام عندما اشتد به الكبر وطلب الله في الخِلفة قال:

" يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " (2)

فلم يطلب الإرث في أهله، ولكن طلبه في آله، لأن الإرث هنا، ليست عقارات، ولا أموال، بل إن زكريا يعلم مسبقا، أنه لا بد للنبوة من وارثين، يكونون من خاصة صلبه، وهم إله من اهله.

قلت:

ص: 108


1- 46 غافر
2- 6 مريم

أتقصد أن بعد كل نبي آل؟ يحملون رسالته.

قال صاحبي:

إن الله تحدث عن النبي لوط، وعلى آله، لما نزل العذاب بقومهم. فقال في سورة الحجر "إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين" (1)

فكان يكفي ظاهرا، أن يقول" إلا آل لوط" لكن الله يؤكد عن تنجيتهم في المستقبل، " لمنجوهم " ثم يؤكد على استمرارية تنجيتهم، أي هنا عصمتهم، من كل مكروه، كلهم، أي الآتون كلهم، حتى تحفظ الرسالة.

إلى أن يأتي نبي بعد ذلك، على حقبة أخرى من الزمن، وملة أخرى، ولا أكثر تأويلا لهذا، ولا تفصيلا من الإقرار، والتأكيد الإلهي، في تلك الآية العظيمة، في قوله تعالى : "إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض" (2)

قلت:

يعني هذا أن كل أبناء النبيين أوصياء على رسالة أبيهم؟

قال صاحبي:

كل أبناء النبيين أهله، والذين اصطفاهم الله منهم، هم آلاء الله، انظر إلى قوله تعالى: متحدثا عن خليله، إذ يقول "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا

ص: 109


1- 59 الحجر
2- 33-34 آل عمران

ينال عهدي الظالمين " (1)

إن الله لا يميزهم بدمهم، وعِرْقِهِمْ، على حساب اصطفائهم وتقواهم.

قلت:

الآن فهمت ذلك الحديث الشريف الذي كنت أردده دائما: "العلماء ورثة الأنبياء " (2) فإرث العلم الحقيقي في آل بيت كل نبي.

قال صاحبي (وقد علت محياه ابتسامة كبيرة):

كل ما رأيته بيننا، وما سررت أنت بمعرفته، ما هو إلا القليل من فيضهم، فإذا عرفت سيرتهم وعلمهم، عرفت علم النبي على حقيقته، وعرفت الله على حقيقته.

بقيت صامتا شاردا، ولم يشأ صاحبي أن يقطع دهشتي، حتى قدم علينا صبيّ بأكواب من الشاي، لم أشعر إلا وهو يقدم لي أحدها.

قال صاحبي:

إلى أين وصلت فيما شردت إليه بذهنك؟

قلت:

إن لي آية كتبتها في إحدى الورقات، أريد أن أسألك عنها، ولكن قبل ذلك، هل لك أن تبين لي، الفارق الدقيق بين الأهل والآل؟

قال صاحبي:

ص: 110


1- 124 البقرة
2- سنن الترمذي، صحيح ابن حبان...

إن خصائص معينة بذاتها ظاهرة للعيان، تجعلك أهلا للشيء، وذلك ما يعبر عنه بالأهلية، وبهذه الخصائص المشتركة، مع باقي المؤهلين، للانتساب للشيء، يصبح الكل أهلا، فأهلك هم الذين اكتسبوا من خصائصك، واكتسبتَ من خصائصهم سواء أكانت مكتسبات خَيِّرَة، أو مكتسبات باطلة.

انظر إلى قوله تعالى في سورة ص " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار" (1) وانظر قوله تعالى في سورة هود (علیه السلام) عندما أراد نوحا، أن يلحق الله به ابنه، فأخبره الله أن هذا الابن، لا يمكن أن يكون من أهل نوح " قال يا نوح انه ليس من اهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم اني اعظك ان تكون من الجاهلين " (2)و المعنى، أنه ليس في ذاته عَدَمُ الصلاح، ولكنه قد أتى من عمل غير صالح، إن الخصائص هنا، أصلية دموية، ومكتسبة، و الاعتبار الأول في الأهل، أشد من الثاني، كقوله تعالى في سورة طه " اذ تمشي اختك فتقول هل ادلكم على من يكفله فرجعناك الى امك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى" (3) فأهل مدين، هم أهلها في الماضي، والحاضر،

ص: 111


1- 64 ص
2- 46 هود
3- 40 طه

والمستقبل، بما طُبعوا عليه من مقومات، تجعلهم مُؤهلين للانتساب إلى تلك الديار، سواء كانوا مقيمين، أم رُحَّل.

قلت:

وما الفارق بينها وبين الآل؟

قال صاحبي:

لقد سبق وقلت لك، أن الآل هم صفوة مقربة، فانظر في سورة "الحجر" تجد أن الله يقول : "فلما جاء آل لوط المرسلون" (1)

إن رسل الله ملائكته، لا يأتون إلى البشر كأمثالي أنا وأنت، إنما يأتون لنبي، أو رسول، أو أوصياء من بعده، ويتصلون بهم، وهؤلاء هم آله من أهله، ولكن لا يمثلون أهله، هم منتقون ومؤَيَّدون.

فالله قد أنجى لوطا وآله، حتى يكون للوط من بعده امتداد، وتواصل، انظر إلى قوله تعالى في سورة سبأ " اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور" (2)

فشكر آل داوود، غير شكرنا أنا وأنت وهم ممدوحون من الله، لأن الله اصطفاهم، فالآل هم الصفوة في الأهل.

قلت:

الآن آخذ ورقتي، وأسألك عن هذه الآية، ثم قرأت له من سورة الأحزاب " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى واقمن الصلاة واتين الزكاة

ص: 112


1- 61 الحجر
2- 13 سبأ

واطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" (1)

إلى من يتوجه الله بهذا الخطاب؟ وما المقصود بأهل البيت؟

قال صاحبي:

هذه الآية، أعظم ما ذكر في معنى الأهل، فالأهل هنا، مرتبطة بشيئين يخرجانها عن المفهوم السائد.

هذا استثناء فريد، فيه تحدٍّ من الله وعظمة الممدوحين، فهم أهل، لكنهم ليسوا أهل بيت، إنهم أهل البيت، فالبيت معلوم، والخطاب هنا، لم يأت ظرفيا، لأنه سبق بأداة التأكيد، والوصل، " إنما" وبالإرادة الإلهية كقوله تعالى في سورة الكهف " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " (2)

إن إرادة القَدَرْ، تتمثل بداية في إذهاب الرجس، والرجس هنا مطلق من أدناه، إلى أقصاه، والله لا يكتفي بإذهاب الرجس، فهو دليل على الطهارة، ولكنه يؤكد على ذلك إطلاقا " ويطهركم تطهيرا".

صيغة الإرادة الإلهية، جاءت في الحاضر، الذي يفيد المستقبل، كقولك مثلا، إنما أريد أن تنجح في الامتحان، فأنت ستصل النجاح في المستقبل والأهل هنا جمع للآل، بشرط تلك الصفات المذكورة، والمشتركة، فهي لم

ص: 113


1- 33 الأحزاب
2- 82 الكهف

تأت لوحدها، إنما أتت مميزة بإذهاب الرجس، والتطهير المطلق، ولهاته الآية روايات مذكورة، في كتب كثيرة في حادثة متفق عليها (1) بأن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد جمع الإمام علي (علیه السلام) والسيدة فاطمة (علیها السلام) والحسن والحسين (علیه السلام) تحت رداء واحد وجاءت أم سلمة زوج الرسول لتنضوي تحته، إلا أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمرها بالابتعاد، لعظمة المسألة، وبأنه موقف يحتاج لتأكيد، والحديث معروف بحديث الكساء، وقال قولته الشهيرة، "هؤلاء عترتي أهل بيتي".

بقي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد هذه الحادثة، على اختلاف الروايات في عدد الأشهر، يدخل ويخرج من داره إلى المسجد وهو يرددها، ويذكّر أصحابه بها.

قلت:

هذا كلام لم أسمعه من قبل، لكن ما شدّ انتباهي، استعمال كلمة الأهل من دون الآل في هذه الآية.

قال صاحبي:

إن الذين هم تحت الكساء، هم من خرج منهم، بقية آل البيت، وهم الأئمة الأفاضل المعصومون، فلو قال الله آل البيت، لاقتصرت العصمة على من هم تحت الكساء، لكن كما سبق وقلت لك، فالأهل تدليل على الأهلية، والاستمرار، وهي استثناء عن باقي المفاهيم.

قلت:

ص: 114


1- حديث الكساء،

تعني أن بعد أهل الكساء، آخرون امتداد لهؤلاء؟

قال صاحبي:

أفي الله شك، لا تخلو الأرض من إمام (1)ألم تتعلم أن الكمال البشري ضرورة لوجود الميزان الإلهي، وتوازن الكون.

قلت:

فبم أعرفهم؟

قال صاحبي: تعرفهم بالآية، تعرفهم بما أذهب عنهم من رجس، وبما فيهم من تنزيه ونزاهة، وبما أخذوا من صفات أخلاقية، وخَلْقِيَّة، عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).

قلت:

فمن هم؟

قال صاحبي:

هم الأئمة الاثني عشر وهم:

1-علي بن أبي طالب(علیه السلام).

2-الحسن بن علي المجتبى(علیه السلام).

3-الحسين بن علي سيد الشهداء(علیه السلام).

4-علي بن الحسين السجاد زين العابدين(علیه السلام).

5-محمد بن علي الباقر(علیه السلام).

6-جعفر بن محمد الصادق(علیه السلام).

ص: 115


1- إحياء علوم الدين للغزالي

7-موسى بن جعفر الكاظم(علیه السلام).

8-علي بن موسى الرضا(علیه السلام).

9-محمد بن علي الجواد(علیه السلام).

10-علي بن محمد الهادي(علیه السلام).

11-الحسن بن علي الزكي العسكري(علیه السلام)

12-والإمام الحجة القائم المهدي عجل الله فرجه الشريف.

قلت:

هل هم من صلب الرسول؟ ومعصومون عن الخطأ؟ وهل عاشوا في فترات قريبة أم بعيدة؟ وهل أن الدّين، لا يكمل إلا بهم؟

ص: 116

ب- الكمال والتمام

قال صاحبي:

الدّين كمل بالرسالة، وأما تمامه فبالإمامة.

قلت:

أمن فرق بين كَمُل وتمَّ؟ وما المقصود بتمام الدين بالإمامة؟

قال صاحبي:

الله قد أتم دينه بالإمامة، في آخر ما نزل على رسوله، في الآية الشهيرة من سورة المائدة" حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع الا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وان تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فان الله غفور رحيم " (1)

قلت:

إلى حد علمي، وما أعلمه أن هذه الآية نزلت يوم عرفة في حجة الوداع.

قال صاحبي:

هذه مغالطة كبرى، كغيرها من المغالطات الكثيرة، التي التبست على مفاهيم الناس، وأصبحت من المُسَلَّمَات.

قلت:

ص: 117


1- 3 المائدة

وكيف ذلك؟

قال صاحبي:

اعلم، وأن هذه الآية نزلت بعد أن أتم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)حجَّته، ثم قفل راجعا إلى المدينة، وبمكان يدعى "غدير خم" (1) بين مكة والمدينة، نزل جبريل (علیه السلام) للمرَّة الثالثة، بعد أن نزل مرَّة في المدينة طالبا من الرسول أن يبلّغ أمرا هاما يعدل الرسالة كلها في قوله تعالى:" يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك فإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من الناس ان الله لا يهدي القوم الكافرين "(2)

كما نزل مرّة ثانية بمكة بنفس الآية، ولكن الرسول كان في كل مرّة، يقول له ائتني بالعصمة من الله.

قلت:

ولماذا كان الرسول يفعل ذلك؟ ما فهمت عليك !..

قال صاحبي:

إنك تعلم وأن القرآن أُنزل عليه مجملا، وهو يعرف كل حرف فيه، وجبريل جاءه بآية ناقصة، لأن تتمة الآية تقول "...والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين" (3).

ص: 118


1-
2- 67 المائدة
3- 67 المائدة

هذا أولا، أما المسألة الثانية فهي أهمية الأمر المراد تبليغه، لأصحاب تتقاذفهم أهواء ومشارب مختلفة في مجتمع ما زالت تحكمه الولاءات القبلية، إلا قلة قليلة مما رحم الله.

قلت:

كيف تقول هذا في مجتمع كنا نعده مثاليا؟!..

قال صاحبي:

هذا ثابت في كتب التاريخ والسّير، ولكن دعني أتمّم لك حديث الغدير (1)قلت:

ذكرت أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أُمِرَ بتبليغ أمر يعدل الرسالة، فكيف ذلك؟

قال صاحبي:

تأمل جيدا قول الله تعالى:" فإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته"، اعلم أن سورة المائدة، هي آخر ما نزل من القرآن على رسول الله (2)أي أن الرسالة تقريبا كَمُلت، ما بقي شيء إلا والله شرَّعه، بقي أمر واحد فقط وهو عِدْلُ الرسالة، فإن لم يُبَلَّغ للناس، فكأنما الرسالة كلها لم تُبَلَّغ، لأن بدون هذا الأمر، لا

ص: 119


1- هو من أصح الأحاديث عند أهل السنة، بلغ التواتر ما لم يبلغه حديث غيره، حيث أن رواته تجاوزوا المائة صاحب، موجود في كتب السير والأحاديث بنسب متفاوتة، راجع البخاري، الكامل لابن الأثير، الطبري وغيره
2- هذا ما أجمع عليه جل المفسرين

يمكن فهمها ولا الاهتداء إلى المنهج الصحيح ألا وهو أمر الإمامة (1)، وهي المراد بتمام الرسالة.

قلت:

ألا حدَّثتني هذا الحديث الذي ذكرت؟

قال صاحبي:

إذَن، عندما نزل جبريل في المرَّة الثالثة وأتى بتتمة الآية "والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين" نادى منادي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن حطوا رحالكم في هذا المكان، فرجع المتقدمون ولحق المتأخرون، وكان الوقت لخمس ساعات مضين من ذلك اليوم خطب فيهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خطبته العصماء، وضَّح فيها كل أمر يهم المسلمين، كالإمامة ومن هم الأئمة المفروض طاعتهم، ثم أخذ البيعة من كل الذين كانوا معه (2)ثلاثة أيام بتمامها وكمالها، في هجير من الصحراء والناس يبايعون أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (علیه السلام) (3)

ص: 120


1- عند الإماميَّة لا تكون إلا بالنص القرآني والإختيار الرباني والمؤيدات لهذا الرأي كثيرة منها قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تركت فيكم الثقلين ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (مسند الإمام أحمد، صحيح الترمذي، صحيح مسلم...) لاحظ كيف أن العترة هنا هي عدل القرآن وترجمانه
2- على بعض الروايات 120 ألف من الأصحاب وأقلها 70 ألف
3- حتى أن الخليفة الثاني بعد ما بايع أخذ يقول بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت ولي وولي كل مؤمن ومؤمنة (تاريخ الطبري، الكامل لابن الأثير...)

قلت:

أما حدثتني عن هذه الخطبة، وما قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

قال صاحبي:

انتبه جيدا، واسمع ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معاشر الناس، ما قصَّرت في تبليغ ما أنزل الله إليَّ، وأنا مبيّن لكم،.. إلى أن قال أن أقوم في هذا المشهد، فأعلم كل أبيض وأسود، أن علي ابن أبي طالب هو أخي ووصي والإمام من بعدي، الذي محله مني، محل هارون من موسى إلا أنه لا نبي من بعدي، وهو وليكم من بعد الله ورسوله. (1)فاعلموا معاشر الناس أن الله قد نصَّبه لكم وليا وإماما، مُفتَرِضًا طاعته، على المهاجرين والأنصار، وعلى التابعين لهم بإحسان، وعلى البادي والحاضر، وعلى الأعجمي والعربي، والحر والمملوك، والصغير والكبير، وعلى الأبيض والأسود، وعلى كل موحد، ماض حكمه، جائز قوله، نافذ أمره، ملعون من خالفه، مرحوم من تبعه، مؤمن من صدَّقه، فقد غفر الله له ولمن سمع منه وأطاع له.

معاشر الناس، إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد، فاسمعوا وأطيعوا وانقادوا لأمر ربكم، فإن الله عز وجل هو مولاكم ثم من دونه محمد وليكم

ص: 121


1- (أجمع المفسرون على أنها نزلت في علي ابن أبي طالب) مصداقا لقول الله تعالى:"إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون"55 المائدة،

القائم المخاطب لكم ثم من بعدي، عليًّا وليكم وإمامكم بأمر ربكم، ثم الإمامة في ذريتي من وُلده إلى يوم تلقون الله ورسوله...

معاشر الناس، ما من علم إلا وقد أحصاه الله فيَّ، وكل علم عُلمت فقد أحصيته في إمام المتقين، وما من علم إلا وعلَّمْتَهُ عليا وهو الإمام المبين.

قلت (مندهشا):

ما هذا يا صاحبي؟ . .

والله، ما سمعت أبدا بمثل هذا الكلام، ففي أي مرجع أجد هذا؟ ..

قال صاحبي:

إنه موجود تقريبا في جل الكتب، وعلى فقرات متناثرة هنا وهناك، كل منهم كتب على قدر حاجته أو استدلاله.

قلت:

عجيب أمر هذه الأمة؟.. ما سمعت هذه الخطبة أبدا، فما بال علمائنا؟ عن قصد أم عن جهل يخفون هذه الأمور ولا يحدثون بها الناس في دروسهم؟

قال صاحبي:

لا بل الكثير من هذه الأحداث موجودة في كتب التاريخ والسير، ولكن العقول هي التي تخدَّرت وما عادت قادرة على البحث والقراءة فتعطلت مسيرة الأمة وتعطبت، وبقيت تجتر وتعيش على أساطير وبطولات دونكيشوتية، وأصابها الوهن وحب الدنيا فنالت الضنك.

قلت:

والله يا صاحبي، أنا في حيرة من أمري، فهلا زدتني من هذه الخطبة.

قال صاحبي:

ص: 122

اسمع إذن، مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته إلى أن قال:

معاشر الناس، فضلوه فقد فضَّله الله، واقبلوه فقد نصَّبه الله، إنه إمام من الله ولن يتوب الله على أحد أنكر ولايته، ولن يغفر الله له حتما على الله أن يفعل ذلك بمن خالف أمره فيه، وأن يعذبه عذابا نكرا، أبد الآباد، ودهر الدهور، فاحذروا أن تخالفوه فتصلوا نارا وقودها الناس والحجارة.

معاشر الناس، فضّلوا عليًّا فإنه أفضل الناس بعدي من ذكر وأنثى، بنا أنزل الله وبقي الخلق، ملعون ملعون، مغضوب مغضوب، من ردَّ عليَّ قولي هذا ولم يوافقه، ألا إن جبريل خبَّرني عن الله تعالى بذلك ويقول: من عادى عليًّا ولم يتولَّه فعليه لعنتي وغضبي...

معاشر الناس، إنه جنب الله الذي ذُكرَ في كتابه، فقال تعالى" أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرَّطت في جنب الله وان كنت لمن الساخرين " (1)

معاشر الناس، تدبروا القرآن وافهموا آياته، وانظروا إلى محكماته، ولا تتبعوا متشابهه، فوالله لن يبين لكم زواجره، ولا يوضح لكم تفسيره (2)

إلا الذي أنا آخذ بيده ومصعده إلي وشائل بعضده، ومُعْلمُكُمْ: أن من كنت مولاه، فهذا عليٌّ مولاه وهو علي ابن أبي طالب، أخي، ووصي، وموالاته من الله عز وجل أنزلها عَلَيَّ.

ص: 123


1- 56 الزمر
2- لم يقل تأويل أراد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك مجارات الناس لعلمه وأن هذه الكلمة هي التي ستكون على ألسنتهم.

معاشر الناس، إن عليا والطيبين من وُلدي، هم الثقل الأصغر والقرآن الثقل الأكبر، فكل واحد، منبئ عن صاحبه، وموافق له، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، هم أمناء الله في خلقه، وحكماؤه في أرضه، ألا وقد أدَّيت، ألا وقد بَلَّغت، ألا وقد أسمعت، ألا وقد أوضحت، ألا وإن الله عز وجل قال، وأنا قلت عن الله عز وجل، ألا إنه ليس أمير المؤمنين غير أخي هذا، ولا تحل إمرة المؤمنين بعدي لأحد غيره.

معاشر الناس، هذا عليٌّ أخي ووصي، وواعي علمي، وخليفتي على أمتي، وعلى تفسير كتاب الله عز وجل، والداعي إليه، والعامل بما يرضاه، والمحارب لأعدائه، والموالي على طاعته، والناهي عن معصيته، خليفة رسول الله، وأمير المؤمنين، والإمام الهادي، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

بأمر الله أقول، وما يبدل الأمر لدي بأمر ربي، اللهم والي من والاه وعادي من عاداه، والعن من أنكره، واغضب على من جحد حقَّه.

هذا بعض من خطبة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في غدير خم، وهو قليل من كثير، أنصحك بالعودة إليها (1)

وقراءتها بتدبر، حتى تتيقن، وأن الله أتم الإسلام بأهل النعمة الذين هم صراطه المستقيم، فالكمال والتمام، هو جعل الشيء في أعلى مرتبة، وأَجَلّها، فكمال الدين، وتمام النعمة، هو شقَّيْ الأمر الَّذَيْن يتم بهما الإسلام، إن الله يرضى عن الإسلام الذي يكون فيه كمال الدين، وتمام النعمة.

ص: 124


1- راجع كتاب الإحتجاج للطوسي

الشيء الكامل هو الذي تكون صورته واضحة، لا نقص فيه، بيّنا، أي المسألة في شكلها وحساباتها، كقوله تعالى في سورة البقرة " شهر رمضان الذي انزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدّة ولتكبروا الله على ما هداكم " (1)

أو كقوله تعالى في سورة النحل"ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون" (2)، فالأوزار يوم القيامة، محصاة بدقة، حتى بمقدار ذرة، لأن ذلك العدل الإلهي، فكاملة هنا، في المفهوم العام، ولكن التمام، هو جوهر الشيء وإتقانه، وانعكاس الكمال من خلاله ونفعه، لذلك الله يقول في الصوم" أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وانتم لباس لهن علم الله إنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم اتموا الصيام الى الليل ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون " (3)

ولم يقل أكملوا، لأن الصيام، ليست عملية شكلية، فلا بدّ من إتقانه إلى الليل، لأنه ليس مجرد إمساك عن الطعام.

ص: 125


1- 185 البقرة
2- 25 النحل
3- 187 البقرة

قلت:

اذكر قوله تعالى في سورة الأنعام "و تمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم " (1)

يعني هذا، أن قد تم الوعد الإلهي، والحجة الإلهية المتقنة، والعدل الذي ليس بعده عدلا في جوهره لا في شكله فقط.

قال صاحبي:

انظر إلى معنى التمام في "الفاضحة"، إذ يقول الله تعالى " الا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوقكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين" (2)

فالله يشير، إلى أن التزام العهود ليست مسألة شكلية، كذلك الإسلام كله، فأنت تصلي بحركاتك أمام الناس، وتمتنع عن الأكل صدقا، وتذهب إلى بيت الله الحرام، متحملا مشاقا كثيرة، ولكنه إن أكملت هذا، فلن تتمه إلا بالاعتقاد الصحيح في هذا التمام.

قلت:

أ لهذه الدرجة، هم على هذه الأهمية؟

قال صاحبي:

لا يُفهم الدين، في علاقته بالواقع، إلا من خلال مرجعية كبرى، تتصف بالكمال البشري، وهي المثال على الأرض.

ص: 126


1- 115 الأنعام
2- 4 التوبة

قلت:

فلماذا هذه المسائل مغيبة؟

قال صاحبي:

لا عليك، فالله يقول في نفس السورة " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون" (1)

فالدّين لم يؤت من كماله، فهو كامل في كتابه، لا يقدر أحد على تحريف نصّه، لكنه حُوربَ في تمامه، بقوة أقوى من السيوف، بالتَّقَوُّل، وأفواه الباطل، والدسيسة، ولو تدري نور الله في الآية، ما هو إلا نور الأئمة (علیهم السلام).

قلت:

كلما سألتك في هذا النهج، إلا وزدتني، مما يجعلني أشعر بأن كل ما تلقيته، وتعلمته، طوال هذه السنين، ينهار ككومة من رمل، ويذهب أدراج الرياح.

قال صاحبي:

إن كان هذا حال بيت العنكبوت، فهل نأسف على انهيار بيت العنكبوت، لو كان البناء مقاما مكتملا، وتاما، فما غرّه بالرياح والأنواء.

إن في انهيار بيت العنكبوت، فضل عليك، حتى تقضَّ البنيان المهزوز، وتبني لك أعمدة سليمة، تُشيّد عليها بنيانك الجديد.

قلت:

ص: 127


1- 32 التوبة

لم أكن للحظة الأولى، التي تحدثت فيها إليك، متصوّرا أن أجد نفسي، في علاقة أخرى مع كتاب الله، انظر إلى الإسلام من ضفة أخرى وأرى الأشياء من موقع جديد، وكنت أخال نفسي ملمًّا، مطلعا، متفهما، لكل معاني ومبادئ الإسلام العظيم.

قال صاحبي:

دعك من هذا، فما أنا إلا سبب قد ساقني الله إليك، كما ساق لي سببا، حتى أعيد ترتيب بيتي.

الأهم من هذا، أن تقف مع ذاتك، صادقا، وأن تحاسب نفسك، قبل أن تحاسب، وأن لا تكون مجرد رأس في قطيع من الغنم، بل وطَّنْ نفسك، وخذ المسائل بجد.

إن الموت لا يرحم، والدنيا ساعة، فاغتنم لحظة الصدق، وابْن عليها، يستقيم البناء، واترك ما بُنيَ على كذب، وبهتان ينسحب ليترك الشمس تغمر داخلك، فتحملك إلى ضفة النجاة، وطريق الكمال والتمام.

ص: 128

ت- أهل النور

قلت لصاحبي:

إنك قد وضعتني في موقف، لا بد له من وقفة وتأمل، وإني أصارحك للمرة الأولى، أنني استغرب من أشياء، كنتَ تأتيها ولا أعرفها في صلاتك، ووضوئك، وفي كلامك، لذلك أمهلني بعض الوقت.

قال صاحبي:

لك في مهلة، واسأل ما بدا لك، ولا تتعجل الأمور، فقط تذكَّر، أن هذا الأمر، أَجَلُّ من الأكل، والشرب، والنوم، وهو كلٌّ لا يتجزأ، ولا بد فيه من الحسم، والعزم، " وكذلك أوحينا إليك قرانا عربيا لتنذر ام القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة فريق في السعير " (1)

ثم قطعنا الجلسة على ذلك، وخرجت أسأل نفسي، كيف لا أعلم حاجتي لآل بيت النبي؟ وأنا أذكر جيدا تلك المكانة الرفيعة، التي لا يختلف اثنان في التأكيد عليها، في قرب الإمام علي (علیه السلام) من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي سعة علمه، ورجاحة عقله، ودماثة أخلاقه، فلماذا غبطنا آل بيت النبي حقهم في أنفسنا؟ وغضضنا الطرف؟ ونحن نقرأ التاريخ، ونتذكر الظلم، والتسلط، وقطع الرقاب، الذي حفّ بهم.

أذكر أنني، بعد سفر صاحبي، وبعد كلّ تلك المراجعات، بَقِيَتْ لدي أسئلة، أردتها أكثر عمقا وجرأة، وانتظرت عودته بفارغ الصّبر، وبعد زيارتي له، وحفاوته بي، وبعد أن انفض أهله من حوله، بقينا لوحدنا فبادرني:

ص: 129


1- 7 الشورى

كيف حال الإيمان؟ وإلى أين وصلت؟

قلت:

حقيقة، لك فضل كبير، في تَحْريك السؤال داخل نفسي، وبفضل الأسئلة، فقد وقفت على قراءة مختلفة، لكل ما أحمل من قناعاتي، ولعل أهم محور في ذلك، نظرتي إلى آل بيت النبي، فقد كنت أجهل عنهم أشياء كثيرة، وهذا لا يليق بمسلم يريد فهم دينه.

فقال صاحبي:

لا يكون إظهار فكر، ونهج الأئمة الأطهار عليهم السلام إلا بالمقارعة باللين، والصبر، وحسن التأدَّب، والعمل، والحرص، والحكمة، والطاعة لنهج الأئمة.

قلت:

حقيقة، ألتمس فيك وضوحا، وثقة في نهجك، قلّ أن وجدتهما في شخص قبلك وهذا حقيقة لا مجاملة.

قال صاحبي:

هذا ممكن، لأي مسلم صادق، إذا ما عرف تكليفه، فمن كان لا يعتقد حق الاعتقاد، في قيامهم على الكون، لمعرفة أسراره في دقائقها، فهو بعيد عن صفهم ومن كان يدرك حسن تدبيرهم، ومعونة الملائكة لهم، ومن فهم نهجهم، وعصر ظهور الإمام، إمام العصر والزّمان حق الفهم، عرف تكليفه، وفهم إسلامه.

قلت:

ص: 130

لقد تعلمت منك، وجوب أخذ المعرفة، لأحد جوانب الإسلام من مصدرها الرئيسي، والقوي، كتاب الله، بالعقل، والتدبر، والتأويل.

إني أريد أن أفهم نهج الأئمة، وإمام العصر والزمان الإمام المهدي(عج)، من خلال كتاب الله بالحجة والمقارعة كما علمتني. فماهي الدلائل على ذلك؟

قال صاحبي:

إني أؤكد لك، أنك لو فتحت المصحف في أي سورة أردت، فإنك ستجد إشارة من بعيد أو قريب إلى المؤمنين، الذين هم الخاصة وفيهم أهل بيت النبوة الأئمة الطاهرين، وهم المفلحون في كتاب الله، وهم نور الله.

فشجرة النور في سورة النور، ماهي إلا شجرة آل بيت النبي، والشجرة في كل الأعراف، والكتب القديمة، ماهي إلا شجرة الأصل والعرْق، وهي رمز المعرفة.

إن الله يمثل نوره بشجرة زيتون ليقرب الصورة " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم * في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار

ص: 131

* ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب" (1).

فَأْت بالمصحف، وافتحه على سورة النور.

كنت أقرأ سورة النور ترتيلا، وصاحبي مطرق برأسه، حتى إذا انتهيت قال:

صدق الله العظيم، هذه السورة على علاقة وطيدة من حيث مفاهيمها بسورة "المؤمنون" والمؤمنون صفة من صفات آل بيت النبي فهم المُطَهَّرَون، والمؤمنون والمفلحون والصالحون والصّدِّيقون.

قلت:

ما الفرق بينهم والذين آمنوا؟

قال صاحبي:

في سورة "النور" وآية النور تحديدا، خطابا يميز المؤمنين عن الذين آمنوا، في قول الله تعالى " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دريّ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم " (2)

إلى هذا الحدّ، يتحدث الله عن صورة مركبة، لشجرة نسل، هي نوره إلى قوله تعالى "... نور على نور..." وهي وصف لهذه الشجرة، بأنها نور مأخوذ

ص: 132


1- 35-36-37-38 النور
2- 35 النور

عن نور سابق، ثم في قوله " يهدي الله لنوره من يشاء" هذه فئة أخرى من الذين آمنوا الذين قد يخطئون ويزلون.

إن الخطاب نهايةً، إعلام لكل الخلق بتلك الحقيقة، "...ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم" فالخطاب موجه " للناس" أي للجوهر، وإشارة إلى أن تلكم الشجرة هي العلم الكامل، في قوله تعالى "... والله بكل شيء عليم"

قلت:

ولكن لماذا تلكم الشجرة، لا يمكن أن تكون إلا لآل بيت النبي؟ !..

قال صاحبي:

أول ما نلاحظه في الآية، أنها تعطي صفة من صفات الله "النور" فنوره ممتد في السماوات، ولكل سماء أرضها، لذلك جاءت صيغة الأرض مفردة.

إن المثل المضروب من الله، حتى نعلم هذا النور الإلهي، ونستشعره بمثال مختار، مدقق، للتعبير عن النظارة، والتماسك، والعراقة، والطيبة، والرفعة، والنماء، وهذا مثل شجرة الزيتون.

قلت:

هذا واضح جلي، ولكن كيف نعرف؟ أنه يقصد آل بيت النبي؟

قال صاحبي:

الأمر جلي إن الله لم يسبق أمر الشجرة في الآية بل بدأ بالقول " مثل نوره كمشكاة"، والمشكاة اسم أنثوي وهي حاملة لمصباح، والمصباح الثاني الذي يستأنف به الكلام في زجاجة، هذه الزجاجة، هي بمثابة الكوكب الدري، أي المتألق الذي مصدره تلكم الشجرة.

ص: 133

إنه نسل واحد، مرتبط ببعضه، ارتباطا متجانسا براقا متألقا، فالمشكاة فاطمة الزهراء(علیها السلام)، والمصباح الأول الحسن (علیه السلام) والمصباح الثاني الحسين (علیه السلام)، والكوكب الدري هو خاتم الأئمة الإمام الحجة (علیه السلام).

قلت مندهشا:

الله !...لم أسمع بهذا الكلام قط.

قال صاحبي:

في هذه لا.. فالمسألة موجودة في بعض الآثار، لكننا لا نجتهد في ذلك.

قلت:

ربّما عارضك البعض، وخاصة المفسرون، بأن هذا تخيُّل أكثر منه أمر قطعي.

قال صاحبي:

إن ما يجعل ذلك قطعيا، وحتميا، الآية التي تتلو آية النور، أنظر قوله تعالى " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال " (1)

قلت:

سيقولون لك المقصود هنا، المساجد والجوامع.

قال صاحبي:

رفع البيت مذكور في قوله تعالى "و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم " (2) وفي مواطن كثيرة.

ص: 134


1- 36 النور
2- 127-البقرة

من البيوت بيت العنكبوت، والجبال التي نُحتَتْ بيوتا، هذا معنى واضح جليّ، لكنها لا تعني هذا فحسب، فهي كذلك تعني السكن "و الله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين " (1) هذا من جانب، أما الجانب الأهمّ، فالله قد أمر برفع البيت، بيته بمكة، وعلاقة البيت الأول بهذا المعنى هنا، وطيدة فالثاني امتداد للأول.

قلت:

دعني أفهم قليلا، تعني أن رفع البيت بأمر من الله لسيدنا إبراهيم (علیه السلام) وسيدنا إسماعيل(علیه السلام)، هو من باب البيوت التي أمر الله أن ترفع؟

قال صاحبي:

أي، أن تكون لها المكانة الرفيعة، فبناء بيت الله بأمر، لكن الله لا يستحق بيتا ليسكنه، لكنه للتدليل على رفعته، بإقامة شعائره.

قلت:

إني أفهم مليا ذلك، لكن ما علاقته بآل البيت(علیهم السلام)؟

قال صاحبي:

ص: 135


1- 80 النحل

عندما تواصل القراءة؟ إنك تجد قوله تعالى: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار" (1)

قلت:

لكن سيقول لك المفسرون، إن المعنى هنا ينطبق على الناس الذين يكثرون الذكر، والتهجد، في بيوت الله.

قال صاحبي:

عندما تواصل القراءة، فالمعنى لم يكتمل الله يقول " ليجزيهم الله أحسن ما عملوا، ويزيدهم من فضله، والله يرزق من يشاء بغير حساب " (2) فهل هذه حسب رأيك منزلة عادية؟

قلت:

إن قول الله " أحسن ما عملوا" يعني أن لهم أعمالا أحسن من الأخرى

قال صاحبي:

هذا الفضل الزائد لأن الله قد عصمهم، ولكنه يزيدهم من ذلك الفضل، بتلك الأعمال التي قاموا بها في الدنيا.

إن الله سوف يرزقهم بغير حساب، وهذه منزلة عليَّة على ما أظن.

قلت:

ولكن لماذا كان الخطاب عاما دون توضيح؟

ص: 136


1- 37 النور
2- 38 النور

قال صاحبي:

لأن الخطاب يشملهم، ويشمل الذين دخلوا تحت صفهم.

قلت:

الآن، أريدك أن تُفهمني هذه جيدا.

قال صاحبي:

هذه بائنة، فإن كنت في نهجهم، فاهمًا لتكاليفك، قائما بها، فقد زكيت نفسك، واستحققت الالتحاق بهذا الركب العظيم.

قلت:

يعني ذلك، عندما نقول المؤمنون، فيمكن أن ينضوي أحدنا تحت هذه الطائلة؟

قال صاحبي:

هم قلة، ولكنهم موجودون عبر الأزمان، في حسن الإتباع

قلت:

كيف ذلك؟

قال صاحبي:

حسن اتباع آل بيت النبيّ في الأصل، هو الطريق الصحيح لاتّباع النبيّ، لأنهم خير من أخذ عنه، وأقرب الخلق له.

قلت:

تقصد سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 137

ث- ما السنَّة؟ !..ما الصحابة؟ !..

قال صاحبي:

إن من المغالطات الكبرى إطلاق كلمة سنَّة على ما يأتيه الرسول من تشريع متكامل مع التشريع الالهي

قلت:

كيف تقول كلاما كهذا؟ أتريد إلغاء مفهوم كامل قامت عليه الأمة؟

قال صاحبي:

أنا لا أعود في مفاهيمي، إلا لكتاب الله.

قلت:

ألا يتحدث الله عن السنَّة؟

قال صاحبي:

بلى، وتحدث عن ذلك في ستة عشر موضعا، ولكن تحدث عن السنَّة بمفهوم آخر.

قلت:

مفهوم آخر! كيف ذلك؟

قال صاحبي:

الله يتحدث عن السنَّة، على أنها القانون الإلهي، الذي لا يقبل التغيّر، ويتحدث عن ذلك في أكثر من موقع.

قلت:

هل من دليل على ذلك؟

قال صاحبي:

ص: 138

المصحف في يدك، فافتحه على سورة فاطر مثلا، ورحت أقلب الصفحات حتى عثرت على السورة، واتبعت الآيات، و ما إن انتهيت من الآية الثانية والأربعين إلا وقرأت قوله تعالى : "استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنّة الأولين فلن تجد لسنَّة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا" (1)

قال صاحبي:

ستجد في كتاب الله، أن الله يقرن كلمة سنّة به، لا بأنبيائه، أو أوصياءه.

أعطيك مثالا آخر جليا من سورة الأحزاب إذ يقول تعالى "ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنّة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا " (2)

فأردت التأكد، وذهبت إلى سورة الأحزاب فوجدتها الآية الثامنة والثلاثين، بل إني في الأثناء وقعت على الآية السادسة والعشرون التي يقول الله فيها "سنّة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا" (3)

قلت:

إن الله، حسب ما هو بائن، يؤكد على مسألتين، الأقوام السابقة، وربما ذلك يعني مسألة تاريخية، وعلى أن هذه السُّنن، لا يطرأ عليها تبديل.

قال صاحبي:

ص: 139


1- 43 فاطر
2- 38 الأحزاب
3- 62 الأحزاب

لا علاقة للسُّنة بالفرض، فالفرض باب في تشريع العبادات، والمعاملات، أما السُّنَّة فقانون إلهي في إدارة الأحداث والأشياء، لا تبديل فيه أو تأخير.

قلت:

فما الفارق بينها وبين الأقدار؟

قال صاحبي:

الأقدار، فيها التقديم والتأخير، بمشيئة الله وحكمته، لأنها متعلقة ببني آدم.

فالله حرّ في مخلوقاته، وهو المقدم والمؤخر وهو الذي أوجد قانونا عاما، به تدار الحضارات والتاريخ ويسمى ذلك سنَّة الله.

قلت:

إذًا، لماذا سُمّي الإقتداء بالنبيّ سنَّة؟

قال صاحبي:

حتى لا تمر على آل بيته إلا مر الكرام، ويصبح كل كلام منسوب للنبي سنَّة.

قلت:

ولكن، وإن كان في الأحاديث بعضا من الضعف، فهؤلاء هم صحابته الأولون، الذين نقلوا لنا.

تبسم صاحبي وقال:

إن كلمة صحابة، لا تقلُّ شأنا عن كلمة سنّة، فلا أثر لها في كتاب الله.

قلت: أيعقل هذا أيضا؟

قال صاحبي:

ص: 140

إن الله في كتابه العزيز لم يطلق لفظة صحابي، أو صحابية، أو صحابة، بل إنك تجد الألفاظ التي أطلقها هي الصّاحب، والصاحبة، والأصحاب.

مفهوم الصاحب هو الرفيق بالمكان، كقوله تعالى " أصحاب الجنة" أو" أصحاب النار"، " أصحاب الميمنة"، لوجودهم يمين الميزان يوم القيامة.

قلت:

وما الإشكال، في أن تكون لفظة صحابي مشتقة من الاصطلاح القرآني صاحب أو أصحاب، ألا يعّد ذلك تطويرا للّغة.

قال صاحبي:

نحن لا نتحدث عن مسألة تطور اللغة، فهذا أمر مطلوب وجائز، ولكن نتحدث عن مسألة شرعية، إن ما نسميه أصحابا أو صحابة، هم مصدر من مصادر الرواية، فإذا ما أُحدِث مصطلح جديد فإما أريد به خدمة هدف نبيل أو خدمة هدف دنيء.

قلت:

وما ترى أنت في عبارة صحابي؟

قال صاحبي:

ليس مهما ما أراه من وجهة نظري، بل الأهم من ذلك، ما يرويه التاريخ، من كون لفظة صحابي، قد أخذت مفهوما أكبر منها، بأن صارت تعني قداسة ما.

إن أصحاب الرسول، مثل أصحاب من قبله، وبعده فيهم الصّادق، وفيهم المتردّد، وفيهم المنافق المندسّ بائن النفاق ومخفيه

ص: 141

قلت:

إنك تقدح في أصحاب رسول الله !..

قال صاحبي:

إن التاريخ لا يرحم، والحقيقة لا بد أن تظهر مهما حاولت اخفاءها، فنور الشمس يصل لأنه نور، فكتب التاريخ، التي تَرَكَتْهَا الأمة، ولم تحسن البحث فيها والتعامل معها من المنطلق العقائدي السليم، هي من تقول هذا وتؤكد عليه صارخة أن أعمال فئة مما يُسَمَّى صحابة لا تليق بأدنى أخلاق رجل قويم.

قلت:

إن تاريخنا مليء بالأمجاد والبطولات..

قاطعني صاحبي:

ومليء بالدسائس والمؤامرات والانتكاسات، وأنا لا أنفي تلك البطولات، لكنني أنفي أبطال التاريخ المزيفين، الذين ظهرت ردتهم بصريح قول الله تعالى: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" لتعلم يا بني أن مؤامرة الإنقلاب بدأ نسج خيوطها منذ أن شككوا في إمارة أسامة ابن زيد، وغضبوا من تأمير الرسول له على جيش يضم شيوخ قريش كما قالوا، جيش يضم في صفوفه ابن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبيد الله عامر ابن الجراح، وسالم مولى حذيفة وغيرهم، وامتنعوا عن الخروج معه.

ص: 142

بلغ الأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يعاني من مرضه، فخرج متعبا، وخطب فيهم معاتبا، كما ذكَّرهم أنهم شككوا في إمارة أبيه من قبل، وأكد لهم أن أسامة جدير بهذه الإمارة، كما كان أبوه جديرا بها.

وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) قولته الشهيرة، لعن الله من تخلف عن جيش أسامة (1)كررها ثلاث.

وبالرغم من هذا كله، ما نُفذ أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد وقع التراخي، والتعطيل، في تطبيق الأمر، وبدأت حلقات التآمر تكبر، وعسكروا بمكان يسمى "الجرف" (2).

قلت:

لماذا تقول تآمروا؟

قال صاحبي:

لأن هذا ما تؤكده مواقفهم اللاحقة، عندما رجعوا مسرعين إلى المدينة، بعد ما أرسلت عائشة زوج الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بخادمها إلى أبيها، أن رسول الله طريح الفراش، وما معه إلا أهل بيته (3)وذلك مخافة أن يستأثر أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (علیه السلام) بخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويسقط كل ما خططوه، وضحوا من أجله.

ص: 143


1- مروج الذهب للمسعودي
2- مكان يبعد عن المدينة ثلاث كيلومترات تقريبا
3- تاريخ الطبري

قلت:

هذا اتهام خطير لخيرة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال صاحبي:

تمهل، ولا تتسرع في الحكم، واسمع جيدا ما رواه البخاري في صحيحه...عن ابن عباس قال:

لما اشتد بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعه قال ائتوني بكتاب، أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا، قال عمر إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا.

فاختلفوا وكثر اللغط، قال قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع.

فخرج ابن عباس يقول:

إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وبين كتابه (1)قلت:

أين العيب في هذا الأمر؟ أصحابه كانوا حوله، وما كانوا ليريدوا ازعاجه، أو تكليفه الإملاء، أو الكتابة وهو مريض.

قال صاحبي:

لطالما سألتك أن تعمل عقلك، في كل ما كُتب من تاريخنا، قبل إصدار الأحكام.

ص: 144


1- صحيح البخاري باب كتابة العلم ج1

اعلم يا بني، أن الآمر هنا هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو لا ينطق عن الهوى، هذا أولا، أما الأمر الخطير الثاني، فهو كيف يتجرأ شخص مهما كان شأنه، أن يقول في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه غلب عليه الوجع، ما معنى هذا؟ !.. أي أن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعد يعي ما يقول، وأننا نجد في مواضع أخرى من نفس الكتاب، ومصادر أخرى أن عمر قال أن رسول الله" يهجر" (1)، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، وأنت تعلم معنى هذه الكلمة، لا يمكن أن تقال حتى للإنسان العادي، لأنها من مداني الأخلاق، فما بالك أن يتفوه بها شخص في رسول الله.

ثم إن الأمر، لم يقف عند هذا الحد، بل أردفها بجملة خطيرة، بقي مفعولها ساريا إلى يوم الناس هذا، ألا وهي: "عندنا كتاب الله حسبنا"، أتدرك خطورة هذه الجملة؟ أتدرك معناها؟

ليس لها من معنى، إلا أننا لا حاجة لنا بنصائح محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ووصيته، وكتاب الله بيننا.

فهل كانوا يفهمون كتاب الله؟ ويعرفونه؟ فلو كانوا عارفين لكتاب الله، ما كان ليقع التنازع في حضرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لأن كتاب الله يقول لهم: " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا

ص: 145


1- البخاري ج2 ج6 باب مرض النبي، مسلم في صحيحه ج 11 بشرح النووي، ابن سعد في الطبقات ج2 وغيره كثير...

تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ان تحبط أعمالكم وانتم لا تشعرون " (1).

ثم قبل هذا كله، أليس من الأصوب، أن يكون هؤلاء مع جيش أسامة كما أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ ألا ترى، أنه من هنا بدأ الانقلاب الكبير على دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

قلت:

أتقصد قول الله تعالى"وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" (2)

فما حدث بعد ذلك؟

قال صاحبي:

إنها المعصية الكبرى، والانقلاب على الأعقاب، وإلا بماذا تفسر ترك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على فراش الموت والهرولة إلى سقيفة بني ساعدة، وما وقع فيها من أحداث، ونقض لبيعة يوم الغدير (3)

قلت:

لماذا تسمي هذا انقلابا؟

ص: 146


1- 2-حجرات
2- 144 آل عمران
3- تاريخ الطبري، الإمامة والسياسة لابن قتيبة

لقد قرأت في بعض كتب التاريخ، أنه خوفا على أن ينفرط عقد الإسلام، خاصة وأن المتربصين به كثر، وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يوصي لمن يتولى الحكم ويرعى الدولة بعده، فطبيعي جدا، أن يختار الناس من يسوسهم

قال صاحبي:

كلام جميل، هذا ما رُوّج له، ولكن الحقيقة غير ذلك.

قلت:

الحقيقة غير ذلك؟! ألا بيَّنت لي إذن؟

قال صاحبي:

أوَّلا، لقد كان من المفروض، أن يُجَهَّزَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعدها يقع البحث في أمر الخلافة، بحضور كامل الأصحاب، وهذا من سنن الأولين والآخرين.

لكن في هذه المؤامرة، لا وجود لأحد من المهاجرين سوى ابن أبي قحافة (أبو بكر) وعمر ابن الخطاب وعبيد الله عامر ابن الجرَّاح ومعهم سالم مولى حذيفة وبعضا من الأنصار، لأن أغلبهم كانوا في جيش أسامة، أما أحداث السقيفة، وما وقع فيها من هرج ومرج، فهذه مدونة في الكتب فعليك بالرجوع إليها وسترى عجبا.

كيف وقع إكراه الناس على البيعة ونزع ملكية فدك من فاطمة (علیها السلام) وحرق بيتها وكسر ضلعها وإسقاط جنينها "المحسن" واستشهادها بعد خمسة

ص: 147

وسبعون يوما من استشهاد أبيها(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي غاضبة على ابن أبي قحافة (1) وعمر.

قلت:

فعلا نحن لا نقرأ، ولكنك شوَّقتني إلى أن أرجع إلى كتب التاريخ.

قال صاحبي:

بدون معرفة تاريخك لا يمكن لك أن تعرف دينك، ولكن بشرط أن تقرأ بعقل، وبتجرُّد، فإنك إن لم تتجرَّد فعلا، فقد تحملك العاطفة ولا تستفيد من قراءتك.

قلت:

كل هذا وقع في زمن الخليفة الأول، فماذا عن خلافة عمر بن الخطاب؟

قال صاحبي:

قبل كل هذا، لا بد وأن تعرف كيف وصلت إليه الخلافة.

قلت:

إلى حد علمي، أن الخليفة الأول هو الذي أمَّره، وأوصى به من بعده.

قال صاحبي:

لقد قالوا، وأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يوص بالخلافة لأحد من بعده، وتركها شورى، وهذا فعل من أفعاله، فلا بد أن يُستنَ به، حسب اعتقادهم، ومن يخالف ذلك، فقد رمى جانبا سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي هذا الموقف، نرى أن ابن أبي قحافة، لم يأخذ بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يتركها شورى، كما قال الله حسب

ص: 148


1- الكامل لبن الأثير، الإمامة والسياسة، تاريخ الطبري

تفسيرهم، وهذه مخالفة كبرى، ما كان يجب أن تصدر من صاحب جليل كما يدعون

قلت:

فعلا، لا بد من وقفة تأمل عند هذا الحدث، فإذا كان الأمر كما قرأنا في الكتب، أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تركها شورى فلا بد أن تبقى كذلك من بعده.

قال صاحبي:

لا، ليس هذا فقط، فإن الخليفة الثاني أيضا لم يلتزم، لا بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا بسنة صاحبه، بل وضعها في ستة رجال كان بينهم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب(علیه السلام)، بعد أن قال فيه يوم السقيفة، إن العرب لا ترضى أن تكون النبوة والخلافة في بني هاشم.

فما الذي تغير اليوم؟ أعدلت العرب عن رأيها؟ أم أنه مكر وتخطيط، حتى لا تصل الخلافة إلى أمير المؤمنين.

أما عن تنصيبه للولاة في عهده، فحدث ولا حرج، ألم يجد لمصر غير عمرو ابن العاص؟ وللشام غير معاوية ابن أبي سفيان؟ رغم وجود الصالحين حوله أمثال عمار ابن ياسر، وأبي ذر، وسلمان، والمقداد، وغيرهم من أهل التقوى والورع. أم أن هناك أهدافا، ومشاريع، لا يمكن الوصول إليها إلا بالتدرج والمكر والتمهيد.

قلت:

هذا مشابه أو يزيد عما نراه، من دهاء الساسة في هذا العصر

قال صاحبي:

ص: 149

عليك بمراجعة معلوماتك وقراءاتك، الارجح كما قلت لك إلى كتب التاريخ، اقرأ بعقل، سترى كيف نُصّبَ عثمان ابن عفان بتخطيط من عمر وانظر ما آلت إليه الأمور في عهده، من فساد على جميع الأصعدة، السياسية، والثقافية، وغيرها، وكيف وقع التمهيد لبني أمية، وتمكنهم من الملك، وما تلاه ومن محاولات لطمس دين محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، والتخطيط لما وقع في واقعة كربلاء، واستشهاد سيد الشهداء، وريحانة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، الحسين ابن علي(علیه السلام) إلى غير ذلك، وسقوط الأمة في هوة سحيقة،وبقائها تعاني إلى يومنا هذا، لذا دع عنك جبة القداسة التي ألبسوها إلى كثير ممن لا يستحقونها، ولا تكون على مقاسهم أبدا مهما ضخَّموا ونفخوا فيهم، عن قصد وبدونه واقرأ تاريخك بعقل وتجرّد، سترى كم من أحاديث موضوعة منسوبة إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو منها براء، وأحداث وروايات زائفة، ومُبالغ فيها، مثال ذلك ( اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) هذا حديث مكذوب لا اصل له, او حديث العشرة المبشرين بالجنة فهو حديث مكذوب ايضا , وتقتيل وتهجير باسم الدين والفتوحات، وأشباه فقهاء يفتون في الدين، وإنكار لدور وتفخيم لدور، ومداراة لأخطاء وشراء لذمم كثير من الرواة لوضع الأحاديث خاصة في عهد معاوية، فعليك أن تتحرى في دينك

وتقول للمحسن أحسنت، وللمسيء أسأت، بدون خجل.

قلت:

لأفترض معك أن بعضا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يكونوا مخلصين، فكيف سنميزهم؟

ص: 150

قال صاحبي:

أولا، لا نفترض لأن تلك الحقيقة البائنة، التي يؤكدها الكتاب

والتاريخ، وكثير من الأحاديث الموضوعة المروية.

ثانيا، نحن نميز الأشياء بظواهرها، فافترض مثلا، أنك قريب العهد من عهود الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجاءك رجل يروي لك أي شيء عن النبي، وصدّقته، ولكنك بعد أشهر رأيته يكذب أمامك، أو يفجر، أو يُحْدثُ حَدَثًا يتنافى مع أخلاق الإسلام هل مازلت تأخذ عنه؟

قلت:

قطعا لا... لأن كلام النبيّ من الوحي، وأفعاله منزهة، فكيف سأنقل ذلك عن مصدر مشكوك فيه.

قال صاحبي:

لا أريد هنا أن أتلو لك الأمثال من كتب الرواية، والسيرة، ولكن ارجع إلى تلك الآثار، وتأمل، فستجد ما يجعلك تراجع حسابات كثيرة.

قلت:

يعني هذا، أنك تشكك في كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي الأحاديث المروية عنهم.

قال صاحبي:

قطعا لا.... فمن لم يُرْوَى في شأنه ما يبعث الشك، فلماذا الشك فيه، وإن من أصحاب رسول الله من هم قريبون منه قرب آل بيته، وهم مصدر من مصادر معرفة وقائع التاريخ، وكذلك كيفية تصريف الأحكام، لكن في ذلك لابد من الحذر، وحسم الأمور.

ص: 151

لا يمكن أن يكون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلا، متناقضا في كلامه، لأننا نجد في كثير من كتب التاريخ، أحاديث متضاربة.

قلت:

أذكر ذلك بالفعل، وكان نقاشا أمامي لا أذكر تفاصيله، لكن المتحاوران في المسجد، كلّ يعطي حديثا مرويا عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مناقضا في مفهومه للأخر، وإني أصارحك بأن صديقي الذي التقيتك به مرة، قد اتهمك اتهامات كثيرة ترددت في نقلها إليك تبسم صاحبي وقال:

سامحه الله، وبماذا يتهمني؟

قلت:

قال إنك شيعي وراح يكيل التهم إلى الشيعة.

قال صاحبي:

والله يا أخي، إني أتمنى أن أكون شيعيا، فقد روي عن أحد الأئمة عليهم السلام، أنه في عهده، قدم إليه جمع من أتباعه، ودقوا بابه

فقال:

من الطارق؟

قالوا:

جمع من شيعتك.

قال:

ارجعوا.

ص: 152

وبقي الجماعة على هذه الحال، وفي كل مرَّة يأتون يسألهم ويردهم، حتى جاؤوا في أحد المرَّات، فدقوا بابه

فقال:

من الطارق؟

قالوا:

جمع من أتباع آل البيت.

ففتح لهم،

فقالوا:

يا مولانا، كنا نأتيك فلا تسمح لنا، فهل كنت غاضبا منا؟

قال الإمام(علیه السلام):

كنتم تأتون فتقولون جمع من شيعتك، ولكنكم هذه المرَّة قلتم أنكم جمع من أتباع آل البيت، ففتحت لكم.

قالوا:

ألسنا من شيعتكم؟

قال الإمام(علیه السلام):

إن شيعتنا، يُعرفون بعلامات على وجوههم، من كثرة قيامهم وصيامهم.

قلت:

وما التشيع؟

قال صاحبي:

هو شدَّة التمسك بالنهج، والحب في الله، والصدق، وطهارة القلب.

ص: 153

قال تعالى:"وإن من شيعته لإبراهيم * إذ أتى الله بقلب سليم" (1) فتصور يا أخي، أن إبراهيم (علیه السلام) متقدم على الرسول في الزمان، لكن إبراهيم (علیه السلام) من شيعة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وليس محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) من شيعة إبراهيم(علیه السلام)، فإبراهيم رغم تقدمه زمنيا، ينسب إلى محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، لتعلم معنى التشيع.

قلت:

لكنه يتهم الشيعة جملة من التهم.

قال صاحبي:

إن كنت تقصد الشيعة على مر التاريخ، فإن فيهم مثل باقي المذاهب بعض الفرق القليلة من يدَّعون التشيع، واختلطت عليهم الأمور في بعض العصور، ومنهم من استعمله السلطان ليشوّه سيرتهم عند العامة، ويقصيهم عن الناس ويسميهم "بالرافضة"، ولكن ما هي التهم التي يدعيها صديقك؟

قلت:

إنهم يقولون مثلا، أنكم تسبون الصحابة.. بل الاصحاب.

قال صاحبي:

إذا كان سب أي إنسان هو من الفجور، فكيف نسب تلك الفئة.

فقط نحن نحترز عما أبداه من يسمون أنفسهم علماء من تقديس لكل الاصحاب، وتنزيههم، وجعلهم في مرتبة المعصومين، وقد تعلمت أن

ص: 154


1- 83-84 الصافات

العصمة للأنبياء والأوصياء، ما عدا العصمة المكتسبة، لدى المقتدين بحسن الإقتداء.

قلت:

لقد ركَّز صديقي على سب عمر ابن الخطاب "الفاروق" ثاني الخلفاء الراشدين.

قال صاحبي:

أما الخلفاء الراشدون، فقد عني بها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الأئمة من بعه، لقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يزال أمر أمتي صالحا حتى يمضي اثنا عشر خليفة... (1)

والمقصود بالخلفاء في قول الرسول ليس بالحاكم أو حكم الناس ولكن قصده (صلى الله عليه وآله وسلم) إمامتهم، كما في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إبناي هذان إمامان قاما أو قعدا، يعني حكما أم لم يحكما.

قلت:

لعل مسألة الخلافة، مسألة تاريخية، فيها كثير من الأحداث يطول الحديث فيها، لكن، ما رأيك في عدالة عمر ابن الخطاب وتسميته بالفاروق؟

قال صاحبي:

أول من أطلق لقب الفاروق، الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الإمام علي (علیه السلام) في الحديث المطول الذي طالعه "يا علي أنت فاروق هذه الأمة

ص: 155


1- أخرجه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك والهيثمي في مجمع الزائد عن الطبراني في الأوسط والكبير والبزَّار

وصديقها ويعسوبها وأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" (1)

قلت:

أتعني أن عمرا ليس بالفاروق؟

قال صاحبي:

لا، لقد أطلق عليه معاصروه القريبون هذا اللقب، وهذا ديدن كل حاكم وسلطان، لكن الثابت، حتى في كتب "السنة" أن هذا اللقب لم يطلقه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

قلت:

كيف ذلك؟

قال صاحبي:

روى الإمام أحمد في فضائل الصحابة عن ابن عباس "عمر الفاروق" لكن ابن حبان كذَّبه، وضعَّفه الدارقطني وغيره، وعليك الرجوع إلى كتاب ميزان الإعتدال، وفي الطبقات، قيل في حديث هو الفارق، فرَّق الله به بين الحق والباطل، أنه ضعيف، وقد قال الألباني في حديث منسوب لعمر أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سمَّاه في إسلامه بالفارق، وذلك في السلسلة الضعيفة، أنه، حديث متروك، شديد الضعف، فلا يفرح بحديثه، وكذلك رأي ابن سعد في الطبقات الكبرى بأن أهل الكتاب، أوَّل من قالوا لعمر الفاروق.

ص: 156


1- راجع مستدرك الحاكم والصواعق المحرقة

إنه لم يبلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر من ذلك في شيء.

هذه الكتب التي سميت لك، هي مراجع، وتلك الأسماء هي لعلماء سنة، فهل أكثر من ذلك دليل، لكني أنصحك بأن لا تركز اهتمامك على هذه المسائل فتبعدك عن الفهم الصحيح وتدخلك في مسائل ثانوية تشوش عليك اهتمامك بما هو أهم، فمثلا تخيّل، أن حديثا مرويّا عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والراوي من أصحابه أو ما نسميهم صحابة، أنه كان يخاف المشي حذو الجدران.

قلت (ضاحكا):

النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاف من الجدران؟ !..

قال صاحبي:

إذًا، لو علمتَ بعض الأحاديث الضعيفة، التي تتحدث عن نوم الرسول مع الأذان، وقيامه للصلاة دون وضوء.

قلت (مغتاظا):

استغفر الله! هذا إفك مبين، وجريمة في حق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

قال صاحبي:

بل هي جرائم في حق الأمة، التي تأخذ الأشياء دون عقل

وتأمل، بل إن جرأتهم، وصلت إلى حدّ وضع أحاديث عن مباشرة الرسول لزوجاته وهنّ حائضات.

قلت:

ص: 157

لا...لا.... لا أظنّ أن تصل الأمور لهذا!

قال صاحبي:

ارجع إلى البخاري وتأكد من كلامي.

قلت:

لكن بهذه الأمور، نكون قد ضعنا في هاوية، وحق فينا غضب الله.

قال صاحبي:

غضب الله في ترك القراءة، التي أمر بها أول ما أنزل، فاجتهد في ذلك، وابدأ بنفسك.

ثمّ تركني جالسا، واستأذن، على أن يلقاني بعد ثلاثة أيام.

قررت الرجوع إلى الكتب المتعارفة في رواية الحديث لكن لست من الباحثين إنما سأحاول إعمال عقلي قدر استطاعتي.

ص: 158

محور4- مفاهيم جديدة

أ- الإستخلاف

بقيت أياما وأنا أراجع كلام صاحبي، وأقلب في كتب الأحاديث، وأراجع بعض أحداث السيرة، خاصة المتضاربة منها.

دونت كثيرا من الملاحظات، أردته أن يبدي رأيه فيها، ثمّ بقيت أياما أراجع تلك الملاحظات.

وقلت في نفسي، إن هذا النقاش والحوار سوف يطول، وربما أفنيت عمري في ذلك، ولم احصل على جواب، لذلك لابد لي من الالتزام بالقناعات التي حصلت لديّ، هذا من باب العمل بالعلم، لأن ذلك حجة عليّ يوم القيامة.

يجب أن أوجّه أسئلتي وأختزلها في مسائل جوهرية تعود عليّ بالنفع المبدئي، ثم بعد ذلك أبحث عن تفاصيل الأمور، وبعد تأمل حصرت أسئلتي في سؤالين، وانطلقت إليه بعد أن استشعرته بقدومي.

كان لقاء ممتعا، في إحدى ضواحي المدينة الجميلة، وبعد سؤاله كعادته عن أحوالي، وأحوال أهلي وإيماني.

قال صاحبي:

إلى أين وصلت؟

قلت:

إني أخاف أن تطول رحلة الأسئلة، ولا أهتدي إلى الصراط المستقيم، وأبقى أتخبط في المقولات، والتحاليل الفكرية، والنظريات.

قال صاحبي:

عليك بربط العلم بالعمل ومعرفة تكليفك.

ص: 159

قلت:

والله، ذلك هو السؤال الأول، الذي كنت سأطرحه عليك، فكيف ترى تكليفي أنا المسلم في هذا القرن؟ مع كثرة المتكلمين باسم الدين.

قال صاحبي:

عندما تؤسس لشيء فابدأ من أوّله.

قلت:

كن مباشرا في حديثك لو سمحت، فإني أريد معرفة تصورك للتكليف.

قال صاحبي:

التكليف معرفة أمرين، إن عرفتهما حق المعرفة، فلن تحتاج لمعرفة كثيرة لأنك لن تحيد.

قلت:

إنك تزيد في لهفتي، فتحدث، إني مصغ إليك باهتمام.

قال صاحبي:

الأمر الأول، معرفة تكليفك وهو الاستخلاف، وعندما يتمّ لك ذلك لا بدّ أن توالي المولاة الحق

قلت:

إني اعلم أنّ الله قد استخلف بني آدم، أي جعلهم مسئولين عن أفعالهم، ولا أدل على ذلك، من آية سورة البقرة "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في

ص: 160

الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون" (1)

قال صاحبي:

نعْمَ الاختيار، فهذه الآية اختزال عظيم، لمفهوم الاستخلاف، لأنه مرتبط بالبداية الأولى في خلق الإنسان، المتمثل في أبو الأنبياء آدم عليه السلام.

أريد أن أسألك، أتدري لماذا قالت الملائكة " أتجعل فيها من يفسد فيها "؟ أهو احتجاج على الخالق؟ أم استغراب؟ أم من باب العلم بالشيء؟

قلت:

على ظاهر الآية، إن الملائكة تتعجب الأمر.

قال صاحبي:

والتعجب عادة، ماذا يكون مصدره؟

قلت:

التعجب يكون من شيء مفاجئ نجهله.

قال صاحبي:

هذا يعني أن الملائكة لا تعلم من أمر الاستخلاف.

قلت:

وما دخل هذا في فهمنا للتكليف؟

قال صاحبي:

ص: 161


1- 30 البقرة

إن الموقف، عن قصة الخلق والاستخلاف ومعرفة الملائكة، والشيطان، والرّوح، والجان، هو صلب المسألة، لأن كل هذه المخلوقات مشتركة، لأنها مرتبطة بالإنسان.

الإنسان مكلف، أما الملائكة فقد خُلقت لمهمات محدودة "...ونحن نسبّح بحمدك ونقدس لك " لكنها مع ذلك، تعلم أن الإنسان لو نزل الأرض أفسد فيها وسفك الدماء.

قلت:

وكيف لها أن تعلم؟

قال صاحبي:

إن الله خلق الكون قبل خلق الإنسان، والآية الثلاثون التي استدللت بها مسبوقة بالآية التاسعة والعشرون التي يقول فيها تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثمّ استوى إلى السّماء فسواهنّ سبع سماوات وهو بكلّ شيء عليم " (1)

و السّماوات والأرضون، محروسات من الله بملائكته، الذين يصرّفون الرياح، والأمطار ويحرسون السماوات، لقوله تعالى متحدثا عن الجنّ في سورته "و أنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا " (2)

قلت:

هل أن خلق السماوات والأرض داخل في الاستخلاف؟

ص: 162


1- 29 البقرة
2- 8 الجن

قال صاحبي:

هذا مؤكد، فمعرفة تلك الأشياء، يدلّ على النظام، وعلى الملائكة، وأن هذا النظام، وضع لغاية استخلاف الإنسان، وليس مجرد نظام قائم وكفى.

إن الإنسان جزء من هذا النظام.

قلت:

إذًا، فالملائكة تعرف النظام، والأرض، والسماوات، ولا تعرف بالاستخلاف، إلا لمَّا أعلمها الله.

قال صاحبي:

ألم تقل الملائكة " قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " (1)

قلت:

إذًا، فإعلام الله لملائكته بأمر الاستخلاف جاء بعد الخلق الاخر، فهل كان هذا قبل سجودها لآدم أم بعده؟

قال صاحبي:

اعلم بداية أن الله قد أبرأ الأرواح في عالم الذرّ، وأبرأ الملائكة، والعرش، ثمّ اصطفى من تلك الأرواح أرواحا خالصة له، أعطاها من الكمال، قبل أن يوازن ذلك بخلق الإنسان، وعصيان الشيطان ليكون التكليف.

قلت:

تعني، أن الله قد استخلف الإنسان، على مراحل؟

ص: 163


1- 32 البقرة

قال صاحبي:

قبل الاستخلاف مرحلتين، وبعد الاستخلاف مرحلة.

المرحلة الأولى هي الإبراء، إبراء الأرواح، أي أن الله قد أبرأها فهو باريها.

قلت:

تعني خلقها؟

قال صاحبي:

إياك وهذا القول، فالخلق إيجاد شيء من شيء، فالإنسان بدوره خلاّق، كأن يخلق من شيء شيئا ما ... فكرة من فكرة... إنجاز من إنجاز، لكن خلقه، ليس مثل خلق الله، كما أن الإنسان كريم لكن كرمه ليس مثل كرم الكريم، لأن روحه من الله.

أمَّا الروح فهي مبحث آخر، وهي المسئولة عن الحياة، والموت أعطاها الله، لكل بني آدم قسمة مشتركة.

قلت:

والمرحلة الثانية؟

قال صاحبي:

المرحلة الثانية، هي الخلق، الذي كنّا نتحدث عنه، فالله صنع للروح الأولى آدم (علیه السلام) جسدا، في أحسن صورة من تراب، فأوجد من التراب بشرا.

قلت:

والثالث؟

قال:

ص: 164

هو الجعل، الذي ينقسم إلى مرحلتين بدوره، مرحلة الاستخلاف، ثمّ مرحلة الولاية.

قلت:

أما هذه، فلم أفهمها جيدا.

قال صاحبي:

لقد سبق وقلنا أن الله بعد أن أبرأ الرّوح، خلق لها جسدا

وبعد أن نفخ فيه الروح، جعله خليفة، ثمّ وسّم نسله بالاصطفاء.

قلت:

وكيف وسّمه بالاصطفاء؟

قال صاحبي:

جعل في نسل آدم، نسلا كاملا من أنبياء وأولياء.

قلت:

وما دليلك على هذا؟

قال صاحبي:

قوله تعالى في سورة البقرة "وعلّم آدم الأسماء كلّها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين " (1)

قلت:

لكن هذا لا يدّل على الاصطفاء.

قال صاحبي:

ص: 165


1- 31 البقرة

كيف لا؟ ... فعلّم هنا، لا تعني العلْم، لأن الأسماء لا تحتاج إلى علم، بل علّم هنا، تعني أنه جعل فيه علامات.

إن الآية الكريمة التي تتحدث عن الاصطفاء، ترجمان لذلك في قوله تعالى : " إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم " (1) فاصطفاء شيء، يكون حاضرا لا غائبا، وقد اصطفاهم، من نسل آدم، وأحاديث كثيرة تدل على ذلك.

قلت:

يعني هذا، أنها مراحل أربعة.

قال صاحبي:

المرحلة الثالثة والرابعة، مرتبطتين تمثلان الاستخلاف والولاية لأنهما تجسدتا في آدم، وآدم من دون الأنبياء، هو أول صورة بشرية، وهو في ذات اللحظة أبو الأنبياء فهو مستخلف وولي، وهذا لا ينطبق إلا على آدم (علیه السلام) لأنه بداية الخلق، والاستخلاف، والولاية.

قلت:

هذا تقسيم نابع من التدبّر؟

قال صاحبي:

هذا، تأويل، نابع من كتاب الله، فمراحل الحياة على الأرض أربع، عصر آدم، ونوح، وآل إبراهيم، وآل عمران، لذلك فالكتب السماوية أربع، والفصول أربع، وما إلى ذلك وهذا مبحث عددي ليس مجاله.

ص: 166


1- 33-34 آل عمران

قلت:

لقد فهمت، أن استخلاف الإنسان جاء على مراحل، لكني أريد أن أفهم معناه، فهل هو القيام بالأمانة؟ أمانة تبليغ كلمة الله.

قال صاحبي:

إن الله لمّا خلق آدم، جسّد فيه مستويات الاستخلاف، بما أنه أول خلقه، وهو كذلك نبيّه المعصوم، لذلك جاءت قصة إسكانه الجنة، ونزوله منها، تدليلا على حرية آدم.

قلت:

حتى لا تختلط عليَّ المسائل فإني أريدك أن تحدثني عن استخلافي أنا الإنسان المسلم.

قال صاحبي:

إنّ استخلافك، موكول إلى مستوى معين، فبعد أن تَعْلَمَ أن الله قد فضَّلك على الملائكة، بأن جعلك مخيَّرا لا مسيَّرا، وأمرهم بالسجود لجدك ونبيك الأوّل، وبعد أن أراد الشيطان أن يأخذ تلك المكانة بالغصب، نصب لك العداء.

فقد جعله الله بحكمته، النقيض الثاني للخير الذي يمثله الله وملائكته.

إن المستوى الأول من الاستخلاف في أنبيائه وأوصيائه.

قلت:

ما قيمة الشيطان وفعله في الاستخلاف؟

قال صاحبي:

ص: 167

لتَعْلَمْ، أن الأصل هو الخير والصلاح، ونهج السعادة في الدنيا والآخرة، وأن الشرّ هو النشاز، والخروج عن الخير.

قلت:

منْ هنا جاء التَّخْيِير.

قال صاحبي:

أنت مسؤول، مسؤولية تامة أمام الله على أفعالك.

قلت:

ودور الشيطان؟

قال صاحبي:

قال تعالى في سورة سبأ " ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين " (1)، ففعل الإتباع موكول إلى الإنسان، أما الإقناع بإدخال الريبة والظنّ والضعف، هو من عمل إبليس.

قلت:

لكن إبليس ماهر في ذلك.

قال صاحبي:

الله يقول " إلا فريقا من المؤمنين" وأنت تعلم، أن المؤمنين، هم الأوصياء بالدرجة الأولى، ومن تبعهم بالدرجة الثانية، والله يستثنيهم.

قلت:

تعني، أنه لا بدّ أن نكون في هذا الفريق حتى ننجو.

ص: 168


1- 20 سبأ

قال صاحبي:

ليس للشيطان ولا لإبليس سلطان على الخلق، فهو يعمل على الضعف، ويدخل من بابه، ألم يقل الله تعالى " إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين" (1)ونحن جالسين في مقهى الضاحية، نخوض في هذا الحديث، إذ برجل يأتي نحونا حتى تبينت معالم وجهه، فارتمى عليَّ يحضنني في دهشة من صاحبي

قال صاحبي:

هل هو قريب لك لم تره منذ زمن؟

قلت:

لا والله إنه جار قديم.

جلس الرجل متنهدا، متأففا، وقد تساقط الدمع من عينيه.

قال صاحبي:

هوّن عليك يا رجل، فأمر الدنيا كله إلى تباب، لا أسف على الدنيا وما فيها، هل مات لك عزيز؟

قال الرجل (وهو يغالب عبراته):

ما إن رأيت صديقك، حتى عادت بي الذكريات إلى سنين عدة، ذقت فيها من الألم وقهر الأقدار وظلم الأيام ما ذقت

قال صاحبي بشدة:

ص: 169


1- 42 الحجر

! احذر فيما تقول، هل أن القدر يترصدك؟

! وهل أن الله سلَط عليك الأيام دون سبب؟..

قلت:

هذا أمر فات فهوّن عليك يا رجل.

قال الرجل:

" المكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين "

قال صاحبي:

عجيب أمر الناس، يخلطون خلطا عجيبا غريبا بين القضاء والقدر، وعلم الله، وما هو مكتوب، واختيارهم ومسؤوليتهم، فتتشابك خيوط حياتهم وتضيع، لا يعرفون ما يجب وما لا يجب، يرمون ضعفهم ومسؤوليتهم على الأقدار، وفيهم من يتجرَّأ على الأقدار فيهدر عمره وماله فيما لا يجدي

قال الرجل (متوجها لي بالكلام):

إن صاحبك في كلامه صدق كثير، فدعني أبوح له بما جرى لي علَّه يخفف عني.

تبسم صاحبي وقال:

أنت جليسنا، ومن واجبي سماعك والنصح لك.

قلت:

إن صاحبي رحب الصدر فتكلم دون أن تثقل عليه.

قال الرجل:

كانت الأعوام التي سكنت فيها إلى جوار هذا الرجل الطيب، أعواما عسيرة، ما إن يمر عام حتى يأتي عام بمصيبة أشد، أذكر مثلا العام الأول الذي

ص: 170

انتقلت فيه بسكناي وكانت امرأتي حاملا على وشك أن تضع، ثم وَضَعَتْ مولودا ذكرا، وعلى إثر خطأ طبي غير مقصود ولد ابني البكر بيد سليمة وأخرى لا حراك فيها، وقد سعيت لمداواته، ولكن دون جدوى.

قال صاحبي:

أما ولادة المولود وجنسه فهي قدر محض من الله، ورزق من الأرزاق " ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس باي ارض تموت ان الله عليم خبير " (1)

" لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما انه عليم قدير " (2)

أما كونه مصاب أو به إعاقة، فتلك مسألة تعود لعدَّة أسباب

قال الرجل (مقاطعا):

لكنه مكتوب

قال صاحبي:

اعلما أن كل صغيرة أو كبيرة مكتوبة عند الله في كتاب "وأحصى كل شيء عددا"

ص: 171


1- 34 لقمان
2- 49-50 الشورى

"ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" فهذا علم الله، لأنه ليس علما بشريا، قد أحاط به الله لحكمته “ولا يظلم ربك أحدا"

وهو من التدبير الإلهي، فالله دبَّره، ولم يفرضه، يعلم أسبابه، والإنسان يمارس تلك الأسباب بإرادته، ولمَّا ينتهي إلى نتيجة، عليه قبول الواقع والاتكال على الله والإجتهاد، فهنا تتفاوت الإرادات وتلتقي وتتنافر.

قلت:

هو قضاء الله على كل حال.

قال صاحبي:

هذا خلط آخر، فالقضاء هو الوجه العادل الذي يريده الله، لكن قد يتماشى الإنسان معه وقد يخالفه، انظر قول الله تعالى " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"

فالله قد حكم بعدله بوجوب عبادته لكن قد يخالف بني آدم قضاء الله فيشقى، لذلك لا بد من الأخذ بقضاء الله والتسليم بقدره، حتى تستقيم خياراتنا ولا تخرج بها إلى دائرة التطرف فنخالف قضاء الله ونعاند أقداره.

قال الرجل:

هل تقصد أنه كان بالإمكان أن يولد ابني سليما؟

قال صاحبي:

هو لم يولد سليما وهذه فرضية باطلة، لأنه ما كان كان، لكن لتلك الإعاقة أسباب موضوعية، لو أراد الله لسهَّل تلك الأسباب.

لكن التقاء الأسباب، وحكمة الله من وراء ذلك، فما حال ابنك الآن؟

ص: 172

قال الرجل:

من العجيب، أن ابني قد تعب في أوَّل مراحل حياته، وعند سن مبكرة تمكن من قرض مالي، فاكترى دكانا، وأتى بآلات وراح يشتغل ويبيع حتى صار الآن له مصنع وسيارة وهو يستعد للزواج.

قلت:

الحمد لله رُبَّ ضارة نافعة.

قال صاحبي:

عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، لأننا لا نملك علم الله.

قال الرجل:

فهمت من كلامك أننا لا نرى إلا ظواهر الأمور، فربما جاء الخير مما ظنناه شرا.

قال صاحبي:

لأن إحاطتك بالأشياء وعلمك بها، غير إحاطة الله وعلمه، والفارق بين الناس أن أحدهم معتقد في ذلك قد نفعه اعتقاده وآخر لم ينفعه ضعف اعتقاده.

قلت:

ولقد حدثتني في علم الأسباب المتشعب.

قال الرجل:

ص: 173

حكاية ابني قد فهمتها، أما أختي الكبرى فهي إلى الآن بلا حل، كلما تذكرتها أدمت قلبي وأحزنتني، تقدم بها السن ولم يأت "مكتوبها" (1) بعد.

قال صاحبي:

إن قصدت ب “لم يأت مكتوبها بعد" أن الأقدار لم تزوجها، فقد وقعت في خطأ كبير يقع فيه أناس كثيرون.

قلت (معلّقا):

الناس يقولون أن الزواج "قسمة ونصيب" ولا أحد يمتلك فيه الخيار، فالفتاة قد يخطبها مائة رجل وترسى على رجل واحد (2)

قال صاحبي:

صحيح أنها ترسى على رجل واحد، لكنه ليس مُقدَّرا عليها

قال الرجل:

هل ستأتينا بدين جديد؟ ّ..

تريد أن تفهمني بأن الزواج ليس قسمة ونصيبا من عند الله

قال صاحبي:

كل ما تراه على الأرض هو بعلم من الله ومشيئته، ولولا هذا العلم والمشيئة ما كان شيء، لكن هذا التدبير العظيم تقع فيه دوائر كثيرة

قلت:

ص: 174


1- تستعمل هذه الكلمة في اللهجة العامية التونسية، بمعنى الزوج ويعبر عن هذا المعنى في بلاد المشرق "النصيب".
2- مثل شعبي معروف عند الشعوب العربية

ربما تقصد ما حدثتني به ذات مرَّة من أمر الإرادات وبأنها ثلاثة: إرادة صرفة من الله، وإرادة مشتركة من الإنسان والله، وإرادة حرَّة بشرية.

قال الرجل:

! هل أن أختي بإرادتها لم ترد الزواج؟ وبقيت عانسا ..

حتى تريد أن تفهمني بأنها مسؤولة عن ذلك ولا دخل لإرادة الله

قال صاحبي:

إن قلت هذا الكلام فهذا انحراف في العقيدة لأن الله عادل فكيف يزوج هذه ويترك الأخرى.

قال الرجل:

ربما كان ذلك ابتلاءا.

قال صاحبي:

هذا حكمنا الإنساني على الفعل، وما أدراك؟ لعله عقاب أو لعلَّه خير، فربما كان الزواج صحيا غير ملائم لأختك، ففي فقه الزواج حالات محرَّمة لأنه يعكر صحَّة المتزوج.

قلت:

أذكر أن لي صديقا قديما حذره الأطباء من مغبَّة الزواج، وكان لديه مرض قلبي، ولكنه أصرَّ على الزواج، قتعكَّرت صحَّته كثيرا وأوشك على الهلاك، ثم وُضع له غشاء بلاستيكي على قلبه وهو الآن لا يقدر على المشي كثيرا وهو ممنوع من أي جهد كبير

قال الرجل:

إن أختي سليمة صحيا.

ص: 175

قال صاحبي:

الزواج يا أخي طرفان، وقد تحدث نبينا صلى الله عليه وآله وسلَّم عن تزويج الفتاة ممن نرضى دينه دون تركيز كثير على وضعه المادي المترفه، لأن الله مغير الأحوال، فربما كانت أختك في شبابها قد رفضت الزواج بكثيرين فقطعت الأسباب، ثم لما تقدم بها السن راحت تفتقر للخطاب، وتسرَّب اليأس إلى نفسها وتعقدت حالتها النفسية.

قال الرجل:

صحيح أنها في صغرها كانت بارعة الجمال ورفضت عديد الخطاب، وقد رفضت بدوري أحدهم لأنه كان صغير السن، وهي كانت مصرَّة على الزواج به.

قال صاحبي:

ها إنك قد دخلت في قطع الأسباب التي خلقها الله، ولكن على أختك أن لا تقنط من روح الله وربما كان ذلك ابتلاء كما سبق وذكرت، ولكن عليكما نزع فكرة المكتوب التي في رأسيكما، بمعنى أن الله قد فرض عليهما ذلك الوضع.

كانت جلستنا مع الرجل شيقة حتى أحسست بعد حديث صاحبي، تحسنا في ملامحه ولم يتركنا إلا وهو ينظر إلى الخلف إلى صاحبي.

فتبسَّم صاحبي وقال:

كان الله في عون الناس حتى يفهموا الله فيفهموا أنفسهم ويعلموا تكليفهم كما يجب، فكل ما يقترفون إما ينسبونه للأقدار أو لإبليس

قلت:

ص: 176

على ذكر الشيطان وإبليس، هل من فارق بينهما؟

قال صاحبي:

أصل الشيطان جان، والجان مُبتلى ومستخلف مثل الإنسان، لكنه عند تكريم آدم استشاط منه، وتكبّر، واختار لنفسه، نصب العداء له، وأخذ في ذلك عهدا على نفسه، فسمّاه الله شيطانا، والشيطان هو اسمه، والشيطان الأول سماه الله بصفته، لما أبلس من تفضيل الله لآدم على جميع مخلوقاته، فسُمي إبليسا بصفته.

لذلك دائما في كتاب الله مقرونا بقصة الخلق، أما الشيطان فمذكورا ارتباطا ببني آدم.

كقوله تعالى :"يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " (1)

قلت:

كيف يختار الإنسان، أن يكون للشيطان وليا؟

قال صاحبي:

إن المسؤول في ذلك، هيَ نَفْسُه، فقسمٌ زكّى نفسه وقسم دسّ نفسه " قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دسّاها " (2)

قلت:

ص: 177


1- 27 الأعراف
2- 9-10 الشمس

هل يمكننا تقوية النفس حتى لا يكون للشيطان عليها سبيلا؟

إن الناس يخطئون، ويقولون هذا من عمل الشيطان.

قال صاحبي:

أنت مستخلف، فالله قد أودع فيك القابلية الثنائية، وربما كان بين الخير والشرّ خط رفيع في أغلب الأحيان.

إذا، لم يكن لديك مرجع تعود إليه، اختلطت أوراقك، وتعبت نفسك، وتحرك الشيطان ليعمل عمله، لأنك ناديته دون أن تشعر.

قلت:

حقا فالله قد عدل مع النفس إذ يقول في نفس السورة "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " (1) لكني لا أجد في الآية، المرجعية التي تحدثت عنها.

قال صاحبي:

الآية التي تليها في قوله " قد أفلح من زكاها " أي من زكاها دخل في المفلحين، وهي صفة من صفات المعصومين انظر لفظة زكاها، أي حملها نحو المزكين.

إن النفس تعمل على موازنة إمامها، ومثالها على الأرض، إن حدود اتزان النفس، في معرفة وجه الكمال في أي فعل.

إن وجه الكمال هذا، ليس متاحا لأي كان، فهو الاستخلاف الذي هو درجة أعلى من استخلافك.

ص: 178


1- 9-الشمس

قلت:

تقصد استخلاف الأنبياء، والرسل والمعصومين؟

قال صاحبي:

إن خليفة الله في الأرض، ليس أيا كان، فهو الكمال البشري الأولى بالإقتداء، لأن نفسه ليست مثل نفسك.

وسُمّيت النفس نفسا، لتنافس الخير والشر فيها، أما أنْفُسُ الأنبياء والأوصياء فهي منزهة، إنها خالصة لله فكما خلق الله قطب الشر (الشيطان)، خلق قطب الخير (النبي-الكتاب-الولي)

قلت:

حقا، لقد فهمت الاستخلاف ودرجاته، وإني شاكر لك هذه الإيضاحات، فهلاّ أفهمتني معنى الولاية، ويظهر لي أن المفهومين واحد

قال صاحبي:

لا مفهومين لواحد، فاسعى أنت في تتبع آيات الولاية في كتاب الله، ولنلتقي مرة أخرى فنتحدث.

ص: 179

ب- الولاية

بقيت بضعة أيام أقرأ وردي، وكلما اعترضتني كلمة أولياء، أو ولي، ومشتقاتها، دونتها تباعا لديّ، وبقيت أقرأها مسترسلة، أتأمل فيها على ضوء كل ما تعلمته من صاحبي من أن الأشياء في كتاب الله، درجات ومنازل، وأنه لا متماثلات بالمعنى الذي يجعل الكلمة المختلفة في رسمها، مع كلمة أخرى، هي ذات المعنى تدقيقا.

إن الاختلاف، قد يكون جزئيا، وقد يكون كليا، وهذا محدّد هام في فهم المعنى، علاوة على إدراك أسباب النزول، وغيرها مما يحف الآية من التشريع والتقديم وال-تأخير.

وجدت أن هذا اللفظ مستعمل في أكثر من مائة موضع، وقد لاحظت أن مفهوم الولاية غير التولي.

فالولاية مثل قوله تعالى في سورة يونس " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (1)

هو غير قوله تعالى في سورة آل عمران " الم تر الى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يدعون الى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون" (2) يتحدث الله في تلك الآيات، عن ولاية له، وولاية لأوليائه، وعن فضل تلك الولاية، ويتحدث عن ولاية مقابلة، هي ولاية الشيطان، وأولياء الشيطان.

ص: 180


1- 62-يونس
2- 23-آل عمران

خاطبني صاحبي هذه المرة، على غير عادته، ففرحت لذلك

وضربنا موعدا في مكان هادئ والتقينا.

قال صاحبي:

السلام عليك يا أخي... كيف هي علاقتك بكتاب الله؟

قلت:

الحمد لله، إني أقرأ وردي، وأتمتع بتلك القراءة، والفضل يعود لك.

قال صاحبي:

الفضل يعود لله، ولصدقك مع الله، وبحثك في الأمر الثاني بعد حديثنا في الأمر الأول الذي هو الاستخلاف المقرون بالولاية الحق التي تطمئن فيها نفسك، وتتوازن حياتك، ويستنير عقلك.

قلت:

والله، إن ذلك ما يرجوه كل مسلم صادق، وإني قد اجتهدت وجمعت لك الآيات

(فقاطعني في لطف) وقال صاحبي:

لا يمكن لك الحديث في أمر الولاية، دون ربطه بمفهوم الاستخلاف.

قلت:

أذكر، أنك قلت أنهما مترابطان بالجعل، وأن مستوى الاستخلاف، فيه تكليف النبي، والرسول، والولي، وفيه تكليف كل بني آدم.

قال صاحبي:

الاستخلاف لا خيار فيه، فالله قد خلق النبي نبيا والرسول رسولا، والولي وليا، دون اختياره، بل هو اختيار من الله.

ص: 181

هؤلاء أولى بخلافة الله على الأرض، وخَلَقَ الإنسان عامة مسئولا، مكلفا، لأنه سيسأل عن مسؤولياته في ماله، وصحته، ووقته، وزوجه، وأبنائه، وحيوانه.

انظر قوله تعالى في سورة فاطر "هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم الا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم الا خسارا " (1) فالاستخلاف أمر مفروض، لأنه يتماشى مع الحكمة، والعدالة الإلهية، والتدبير.

قلت:

أتقصد أن الولاية، في الشطر الثاني من الآية؟ "فمن كفر فعليه كفره".

قال صاحبي:

أحسنت، وهي وجه من وجوه الولاية، فالاستخلاف تكليف، والولاية اختيار، فكلنا مستخلف، وكل منا يختار ولايته.

قلت:

هل أن اختيارنا للولي عن وعي أم غير وعي

قال صاحبي:

الولاية قصديَّة وفعليَّة، والقصد هنا، لا يعني النية، ولابد أن تفرق في ذلك بين قصد حيني، وهو النية التي تسبق العمل، وقد كلمتك في ذلك، عند الحديث عن علم الأسباب، أما القصد، فهو توجهك النفسي، والشعوري، العام، في طريقة حكمك على الأشياء.

ص: 182


1- 39-فاطر

قلت:

هل كلامك الأخير هذا، هو تعريف للولاية؟

قال صاحبي:

هذا الشق القصدي، أما الفعليُّ فهو جعل المقصد دافعا للفعل، الذي لا بدّ أن يكون ملائما مع المعتقد.

قلت:

لذلك، الله عزّ وجلّ يقرن كثيرا في كتابه بين الإيمان، والعمل الصالح، فكثيرا ما تعترضني الآيات من قبيل " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " (1)

قال صاحبي:

هذا مستوى من الفهم لمعنى الولاية، فإذا اعتبرنا أن ولينا هو الموكول إليه أمرنا، وهو الأصلح، والأجدر، لأن يكون مرجعنا الواجب الطاعة.

قلت:

بهذا المعنى فمن يكون ولينا؟

قال صاحبي:

هي درجات وضّحها الله وبيَّنها، لأنها المرجع الذي نقيس به أعمالنا، ونستمد منه شرعيتنا.

قلت:

لكن الله هو ولينا.

قال صاحبي:

ص: 183


1- البقرة-يونس-هود-الكهف-مريم-فصلت-البروج

والله قد جعل له أولياء على الأرض، هم الأولى بموالاتهم، حتى يكون دينه للناس، وحتى يكون لكل زمن ولي أولى بالإتباع، وبإتباعه تحصل ولاية الله، التي هي مقصد كل مسلم صادق متيقن.

قلت:

هل من دليل واضح من كتاب الله؟

قال صاحبي:

الله قد أكدّ، وحدّد، وحصر المسألة بكل جلاء، في قوله تعالى "إنما (1) وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون" (2)

قلت:

هذه آية وجدتُها في سورة المائدة، ولم أدرك معناها جيدا، خاصة في القسم الأخير منها.

قال صاحبي:

فهمت قصدك، إن القسم الأخير منها هو المحدد في الفارق بين ولاية المسلمين.

قلت:

إن الولاية لله واضحة، والولاية للرسول واضحة.

قال صاحبي:

ص: 184


1- أداة حصر وتأكيد
2- 55 المائدة

وقد استعمل الله لفظ (الله) عوضا عن "الربّ" للتدليل أولا على أن هذه الولاية، ربط بين عالمي الغيب، والشهادة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى استعمل لفظ " الرسول"، في معنى الرسالة للعالمين، ولم يستعمل لفظ "النبي"، لأن المسألة تعني كل من جاء بعد الرّسول.

قلت:

تقصد في ربطهما بعد ذلك، بالذين آمنوا؟

قال صاحبي:

لكنه لم يترك تلك الصفة دون توضيح، وإلا صار كل الذين آمنوا، أحق بالولاية، وهذا خطأ فادح وقعت فيه الأمة.

قلت:

هذا واضح جليّ، فقد جعل لهم صفات، في " الذين يقيمون الصلاة ويأتون الزكاة وهم راكعون"، فلم أفهم كيف تحدث عن الصفة الأولى في إقامة الصلاة، وقد حدثتني في ذلك مليا، ثمّ ربط المعنى الغيبي، بالمعنى الفعلي، في قوله: ويؤتون الزكاة، لكن لماذا عاد إلى ذكر الصلاة؟ في قوله" وهم راكعون "، فكيف يؤدي الناس الزكاة وهم راكعون؟ أيعني هنا أن الصلاة زكاة على الأبدان؟

قال صاحبي:

هذا معنى خاطئ، فزكاة الأبدان في السقم، والابتلاء، والجهاد بالنفس.

قلت:

فما المعنى إذًا؟

قال صاحبي:

ص: 185

أولا، إنك إن رجعت إلى كثير من كتب التفاسير، التي اعتمدت أسباب النزول عبر أحاديث متواترة (1)، فإنها أجمعت على أن هذه الآية نزلت في الإمام علي (علیه السلام)

قلت:

عذرا، ما دخل الإمام علي (علیه السلام) في "وهم راكعون " فالصفة هنا صفة جمع لا مفرد.

قال صاحبي:

من ناحية أولى إن الخطاب قد يكون للمفرد بصيغة الجمع، من أجل التعظيم كقولك لأحدهم أشكركم على صنيعكم، ومن ناحية ثانية، فهي تعني الإمام (علیه السلام) ومن جاء بعده، من الأئمة منه هو لا من غيره.

قلت:

فكيف يؤدي الإمام الزكاة، وهو راكع؟

قال صاحبي:

في ذلك قصة طريفة (2).... فقد كان الإمام علي (علیه السلام) يؤدي الصلاة ;وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجمع من أصحابه، في المسجد فدخل سائل يطلب صدقة فلم يجبه أحد، وكان الامام علي عليه السلام راكعا، فمدّ الإمام بيده، وكان يحمل خاتما في إصبعه، فتلمسه السائل، ونزع الخاتم من

ص: 186


1- تفسير ابن كثير، الطبري....
2- التفسير الكبير للرازي، الكشاف للزمخشري، الدر المنثور...

اصبعه واخذه، فأنزل الله بعد ذلك على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية

قلت:

الله.... يا للعظمة !..

فقال صاحبي:

وكان من بينهم بعض المنافقين، الذي بقي يمد يده في كلّ صلاة، حتى تشمله هذه العلامة، لكن هيهات.

قلت:

وبقية الأئمة ما دخلهم في ذلك؟

فقال صاحبي:

لكي يجعل الله هذه العلامة، دائمة في الأئمة، فقد تواصلت معهم دون سواهم.

قلت:

أبقي بعد ذلك من شك، ولكن من هو الإمام الأولى بالولاية في عهدنا؟

قال صاحبي:

لقد حدّثتك في هذا الأمر، مرارا وتكرارا، وأذكر أني قلت لك، أن إمام هذا العصر والزمان، الإمام المهدي (علیه السلام)، ابن الإمام العسكري، وحدثتك عن صفاته الخلقية، وعن حياته وعصر ظهوره (1)، أعلمتك أنه يتعين عليك البحث عن الأحاديث التي تتحدث عنه.

ص: 187


1- راجع كتاب "عصر الظهور" لمؤلفه العلامة الشيخ "علي الكوراني"

قلت:

لقد بذلت في ذلك جهدا، ودونت تلك الأحاديث، وهي كمثلها من الأحاديث المروية، عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيها المتجانس والمتضارب، ولكني ربما لم أحسن السؤال.

إني أردت بعد معرفة إمام عصرنا، أن أعلم ما يطلبه منا إمامنا، حتى يكون تكليفي، وفق ما يحبه الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)

قال صاحبي:

إذا حصل لديك مفهوم الارتباط هذا، أي الجانب القصدي من الولاية، فعليك الدخول في الجانب الفعلي، الذي ينقسم بدوره إلى مسألتين، مسألة الأحكام المطلقة، ومسألة الأحكام المتغيرة.

قلت:

ماذا تعني بالأحكام المطلقة.

قال صاحبي:

هي الأحكام، التي لا تخضع لتصريف الزمان، والمكان، كأحكام العقيدة، ومنها الحكم المرتبط بالاعتقاد في وجوب طاعة الإمام، وأنها من طاعة الله، فإذا ما حصلنا على كل تلك الأحكام المطلقة، لا في العقيدة فحسب، بل في كل جوانب الحياة، تحوّلنا إلى الأحكام المتغيرة.

قلت:

ولكن كيف تكون الأحكام متغيرة؟ أيغير الله عزّ وجل أحكامه وقوانينه في الوجود؟

قال صاحبي:

ص: 188

تذكَّر مليًّا، أننا تحدثنا في ذلك، وإني دائما أحذُّرك من خلط الأشياء، فالقوانين الإلهية التي تتحدث عنها هي سنة الله في الخلق، فالسنن الكونية العامة التي خلق الله بها الكون، ليست هي الأحكام، فمجال الأحكام هو مجال التفقه.

ص: 189

ت- تركيز المفاهيم

قلت:

إن الفقه معلوم لدينا أنه على مذاهب أربعة معروفة، وقد رأينا أن جانبا من الأحكام، يكون متغيرا، ليكون الدين صالحا لكل زمان ومكان.

قال صاحبي:

هذا كلام حق أريد به تبرير الأخطاء، والمعاضل، وتذكر أننا تحدثنا مليا، في تناقض ما يسمّى بالفقهاء، في مسائل لا يمكن الاختلاف فيها.

إن الاختلاف في أصول الدين لا يجوز قطعا، وذلك يعد ضربا للدين.

وتذكر أنني وصلْتُ وإياك إلى أن السبب في ذلك يعود إلى أسباب عدَّة منها الجهل، والنقل الكاذب عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)،

و إغفال دور آل بيت محمّد والأئمة عليهم السلام، وتحريف الحقائق التاريخية، خدمة لمصالح دنيوية.

قلت:

هذا ثابت ومؤكد ولكن كيف سنأخذ فقهنا؟

قال صاحبي:

لابد أولا، من إيجاد صاحب العقيدة السليمة، كأساس أوَّلِي للاتباع، فالله يقول " ويقول الذين كفروا لولا انزل عليه اية من ربه إنما أنت منذر ولكلّ قوم هاد" (1) مخاطبا رسوله.

قلت:

ص: 190


1- 7 الرعد

إن الآية تدل، على أن الرسول هو منذر الأمة، ولقد تعلمت منك كما هو في كتاب الله، أن الأمة هي القوة العقائدية، دون النظر إلى العدد والزمن، وهذا ينطبق جليّا، إن الرسول منذر، مادام كتابه موجود، ولكن ما لم أفهمه، أنك علَمْتَني، أن القوم هم الذين يقوم الواحد منهم ويكونون مشاركين له في طبائعهم، وسماتهم، دون التأكيد على رهطهم، فهو ينتمي إليهم بما يُعرف عنهم.

إن سؤالي هنا، إن كان المقصود بكلمة "هاد" عند الأئمة، فهل يعني هذا أن لكل قوم إمامهم؟

قال صاحبي:

أحسنت في طرح سؤالك، وجمع أفكارك، وتدبرك، وهذا علامة من علامات الإقتداء بالأئمة وبرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إن الإمام، والرسول، تجمع بينهما نقاط عدّة، أهمّها القوامة على الكون، لا على شؤوننا فقط، فهم يتصلون بالملائكة، ويدركون حدود الأشياء جيّدا.

فكلام الرسول مثلا، وإن كان مرسلا لأمة، فهو في قوم، فمن كلامه، ما هو تابع ورابط لمهمته، بمهمة الإمام، لأنه من ناحية تهييئية، ومن ناحية أخرى، نقطة انطلاق من المحدود، إلى المتسع، وكذلك هي الأحكام، كما سبق وبينت لك.

إن مهمة الإمام، تأتي في نطاق مهمة الرسول لأمته، جاعلا من الأحكام القطعية العامة مسائل تقام على الكل بلا تفاضل.

ص: 191

أما إذا كان الإمام مرسلا في قوم، فهو ينطلق من واقعه، ويجعل له مراجع، وسفراء يزكيهم، يعود إليهم البعيد عنه، الذي يختلف موقعه عن موقعهم وهم فقهاؤه.

قلت:

أي أن هؤلاء هم الذين تؤخذ عنهم أحكام الدين؟

قال صاحبي:

أحكام الدّين المتغيرة.

قلت:

لقد بقينا نتحدث بتجريد، وإطلاق، فهلا تناولنا مع بعض المسائل على ضوء ذلك.

قال صاحبي:

لو حدثتك في بعض المسائل، عن بعض المراجع، والأئمة، لبدت لك الأمور غريبة، فلولا تمهّلت حتى تحصل لك جملة من المعارف اللازمة، فمثلا لو سألتك، ما الفقه؟ فماذا عساك تجيب؟

قلت:

إني أذكر الآية من سورة هود " قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز " (1) وأظن أن التَّفقُّه أكثر من العلم

قال صاحبي:

ص: 192


1- 91-هود

إنك تقول كلاما طيبا، لكنه لا يفي بالحاجة، والمعنى إذ يجب أن تعلم أولا، أن العلماء كثر، والفقهاء قليل.

كلمة "علم" في القرآن ذكرت مرات كثيرة، ولكن الفقه ومشتقاته مذكور عشرين مرّة في كتاب الله في ستة عشر سورة ومنها "الفاضحة" التي ذكر الله فيها مصطلح "الفقه" أربع مرات لأنها تمثل انتقالا من الحياة المكية البسيطة إلى الحياة المدنية المتشعبة.

قلت (وقد لمعت في ذهني فكرة):

لذلك الله عزّ وجلّ، يحذر في هذه السورة، ويبين المفاهيم المدققة للجهاد والإيمان.

قال صاحبي:

إن الفقيه معصوم عصمة اكتسابية.

قلت:

وما معنى هذه العصمة؟

قال صاحبي:

إن الفقيه مفكر، ومتعقل، ومعتقد، وصاحب تجربة، وعلم، أهم شيء لديه، أنه يحسن التعاطي مع كتاب الله، وحديث الرسول، والأئمة عليهم السلام.

إنه يتناول النص، غير صادر عن المصادر البشرية، بالرغم من أنه يتوجه إلى البشر، فهو في حاجة إلى علم موروث وفقه يحوله إلى علم موضوع، والمقصد هنا، يمكن فهمه، وتداوله بالممارسة.

قلت:

ص: 193

ما رأيك في قوله تعالى في سورة الأنعام: " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم باس بعض انظر كيف نُصَرّفُ الآيات لعلهم يفقهون" (1)

أردت أن أسألك هنا، عن الرابط بين التصريف، وتفقه الأشياء؟

ما معنى أن يصرّف الله الآيات؟ حتى بتفقَّهَهَا البعض؟ أيعني هذا تسهيلها؟

قال صاحبي:

كما سبق وأعلمتك، ففي مذهبنا، المصطلحات لها كياناتها المستقلة، فالتصريف يعني الخروج والتعدد، انظر إلى قوله تعالى في سورة غافر مثلا، إذ يقول :" ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنَّى يُصْرَفُون " (2)

ففي هذه السورة، بعد أن يتحدث الله عزّ وجلّ عن إعجازه، في خلق الكون، والموازين، والحياة، والموت، يطرح هذا السؤال الإنكاري، بأن الذين يجادلون بلا حجّة، كما هي حجج الله، فلا مخرج لهم وهم لن يتفقوا.

دليل آخر على ذلك أن الله تحدث في مواقع أخرى، عن تصريف الرياح، وهو علم كامل يدرس في أحوال الجوّ والتقلبات، إذ بدون هذا التصريف لا حياة للإنسان، لأن الله يخرج هذه الريح ويعطيها وظائف عدّة، منها دفع السحب حتى لا يبقى الماء حكرا على مكان دون آخر، والمساهمة في حركة المدّ والجزر، وتلقيح الأشجار وما إلى ذلك.

قلت (مبتسما):

ص: 194


1- 65-الأنعام
2- 69 غافر

أدخلت بنا في علم" الكليماتولوجيا" (1)؟

ضحك صاحبي وقال:

يا بني، إن الفقه كالرياح، مجعول للحياة، حتى يتم الخير على الأرض، لأن هذه الرياح بمقدار، وهي سبب في نزول الأمطار.

لولا هذا التصريف لعمّت الفوضى، فما أكثر فوضانا، وخلط حلالنا بحرامنا، وبدعنا بثوابتنا، وسنن الله بالفرائض، والفرائض بالأركان، والأركان بالمقاصد، وهذا شيء أنت تحياه.

قلت:

أي سبب إذن تراه في اختلاف الفقهاء؟

قال صاحبي:

إن فكرهم قائم على أسس ليست في علاقة واضحة بالنص فوقع ضربه بالإساءة إليه، في الفهم والتقدير، فأصبح النص ظاهرا غريبا عن الواقع، والحقيقة أن الغرابة كل الغرابة في واقع المتعاطين مع النص.

لأن النصّ مبني على النزاهة، والتعاطي مبني على العرج، وتحويل فكر إلى نص مقدّس، ثم يقال : قال فلان وقال علان في زمن بعيد، وهما تحت إمرة، وسطوة، وضيق، وطمع، وخوف، ودناسة، وتأمُّر ودهاء (2).

ص: 195


1- علم الأحوال الجوية في خصائصها وتحولاتها العلمية الدقيقة
2- انظر كيف كُلف مالك ابن أنس بكتابة فقهه في الموطأ بأمر من الطاغية أبي جعفر المنصور، "الإمامة والسياسة"

قال تعالى في سورة الأنعام : " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا " (1)

فما أكثر الفقهاء، وما أكثر نَسْخهم، وما أقل علمهم، اعلم يا بني أن الآية التي قرأتها عليك، تكررت ثلاث مرات في الأنعام، والإسراء، والكهف (2).

قلت:

هذا تأكيد على أن الأغلبية في جوهرهم لا يفقهون.

قال صاحبي:

إنه باب من أبواب الصراط المستقيم، المتعلق بأصحاب النعمة، الذين يجب إتباعهم في الأحكام الشرعية المتغيرة، لأنهم الأدرى بمصلحة الإنسان، وهذا باب مهم في الولاية.

قلت:

يعني هذا، أنه لا يمكن التعاطي مع أحكام النص المعصوم، إلا من خلال المعصومين، أنبياء وأوصياء، للفهم والإدراك؟ فهلاّ أعطيتني بعض الأحكام الشرعية، في بعض المسائل خاصة المختلف حولها؟

قال صاحبي (مبتسما):

الآن جاز لك بعد هذه القناعة أن تسأل ما بدا لك، لكن سنأخذ ذلك بالتداول على حلقات، أما الآن فأستودعك الله.

ص: 196


1- 25 الأنعام
2- 46-الإسراء، 57-الكهف

بَقيتُ أياما بعد تلك اللقاءات الشيقة مع صاحبي، أقف وقفات تأمل، أراجع فيها نفسي، فقلت إنني بلقاء هذا الشخص، قد انفتحت أمامي عديد السبل، وتوضَّحت عديد المسائل.

ولعلّه نور الصدق، وحبيّ الشديد لمعرفة الحقائق، وتمييز الملتبس من الجلي.

يكفي أن صاحبي، قد جدّد علاقتي بكتاب الله، وفهمت معنى البسملة، والفاتحة، كما لم أفهمها من قبل.

أدركت أن الصراط المستقيم، في إتباع الذين أنعم الله عليهم، وأن الذين أنعم الله عليهم كما قال تعالى: " ولهديناهم صراطا مستقيما * ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقا * ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما" (1)

وأن هذا لا يكون إلا في آل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). فهمت أن احترامهم فقط لا يكفي، فلا بدّ من معرفتهم والارتباط بهم، لأنهم أهل العلم، في كتاب الله.

"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذَّكر إلا أولو الألباب " (2) وأن علمهم غير علمنا، وهو

ص: 197


1- 68-69-70-النساء
2- 7 آل عمران

علم رباني، راسخ، مطّهر، وبذلك الاهتمام، فهمت أن دورهم، وعلمهم، كان مُغْفَلا (1)، مبثوثا في كثير من الآثار، مخفيا خلف كثير من اللغط والإبهام.

وكانت لي أخت كبرى، كثيرا ما أطلعتها على تلك الحوارات، والمجالس مع صاحبي، وكنت أحمل أسئلتها إليه، ودخلت عليّ ذات مرّة، فوجدتني مطرقا في وحدتي أمام كتاب الله، فبادرتني بالسلام ثمّ قالت:

أراك قد سرحت في تأملك، وإنك منذ أيام عدّة لم تحدثني بأحاديث صاحبك القيمة، فأين وصلت معه؟

قلت:

والله يا أختاه، إن حديث الرجل الأخير، قد ترك في نفسي أثرا عميقا.

قالت:

أتقصد ذلك الحديث الذي شمل قصة الخلق؟ ومسألة حديث الاستخلاف والولاية؟ إنه حقا حديث مغاير، يتطلب التأمل، فماذا بقي لك من ذلك الحديث؟

قلت:

لم أكن أعلم، أن قصة الاستخلاف والولاية، في حادثة الخلق الأولى هي تحديد مبدئي لمنهج الأنبياء، على يد النبيّ الأول آدم (علیه السلام)

قالت:

ص: 198


1- یعني وقع طمسه عمدا

أشد ما لفت انتباهي، فيما نقلته لي، أن آدم كانت لديه معجزة مثل باقي الأنبياء، وبوصفه أول المخلوقين، فقد حمل التعبير عن النبوة، وعن الذات البشرية في ذات الوقت.

قلت:

ولذلك، فالاستخلاف، خلافة الأنبياء، ومن هم من ظهورهم، من أصحاب الحق، واستخلاف الإنسان في مستوى ثان بوصفه مسؤولا عن أفعاله المخَيَّرَة، مسيَّرا في أفعاله المقدَّرة.

قالت:

لذلك لا أظن أن استيعاب هذا المفهوم كاف للحياة به، بل ربما لابدّ من ربطه بمفهوم الولاية.

قلت:

أحسنت يا أختاه، فالولاية هي ربط الإنسان بالله والرسل والأوصياء، ومنها التكاليف الشرعية.

قالت:

تقصد الفقه؟

قلت:

لقد ازداد في جراب معرفتي، أن الفقه مخوّل لقلة من أهل العلم الصحيح المعصومين، ومن تبعهم في ذلك، بشروط ومنهج صحيح.

إنه إخراج لنص رباني فوقي، إلى واقع فيه الثابت والمتغير.

قالت:

ص: 199

أذكر أنك قلت بأنه يتبنى فكرة الائتلاف الفقهي (1)، وأن أشياء كثيرة، مسَّت من جانب الأحكام المطلقة، الغير قابلة للتغير.

وأن أحكاما متغيرة كانت متنافية مع الأحكام المطلقة.

قلت:

لقد حددت معه في معرض حديثنا في اللقاءات القادمة، بأن أسأله في كثير من المسائل، خاصة الإشكاليات المعاصرة، ليجيبني عنها من وجهة نظر مذهب أهل البيت.

قالت (والبهجة تعلو محياها):

حقا هذا يا أخي.. إن لي طلبا طالما تردد في نفسي، إني أريد أن أسأل صاحبك، أسئلة مباشرة، تتعلق بموقف الدين والشرع، من أمور تمسّ حياة النساء في هذا العصر.

قلت لها (واعدا):

أعدكِ بذلك، لكن ليس في المرة القادمة، بل التي تليها، لأني فكرت مليا في عديد المسائل، المتعلقة بفقه العبادات، وأخرى بفقه المعاملات، مثل التعامل مع البنوك الرّبوية، وقضية الاستنساخ، وطفل الأنبوب، وزرع الأعضاء، والتعايش بين الأفكار المتناقضة، في المجتمع الإسلامي، وقضايا أخرى كثيرة.

ص: 200


1- يرى أتباع مدرسة الخلفاء "السنة والجماعة" أنه لا ضير في اختلاف الفقهاء وتضارب آرائهم ويقولون في ذلك بأنه رحمة عكسه الائتلاف الفقهي وهو منهج مدرسة أهل البيت(علیهم السلام)

قالت:

هذا سيتطلب منك جلسات ونقاشات طويلة.

قلت:

هذا ما فكرت فيه، لكني قد حصرت الأمر في مسألتين، مسألة متعلقة بفقه العبادات، عن الصلاة وأوقاتها، وإقامتها على الوجه المحدد الذي كان يقوم به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومسألة في فقه المعاملات، نظرا لأني اعتزم الاقتراض من البنك، حتى أستطيع أن أشتري مسكنا كما تعلمين.

قالت:

وتفي بوعدك فيكون لنا مع صاحبك لقاءا، أناقشه في عديد المسائل.

قلت:

لك ذلك.. لكن بعد أخذ موافقته.

بدأ الصيف يحط رحاله، وصرت أجد متسعا من الوقت عند المساء لأقضي شؤوني، ورأيت أن أول شأن، أن أتصل بصاحبي، فكلمته عبر الهاتف، وبعد أن سلم عليَّ، بادرني مباشرة.

ماذا عملت فيما علمت؟

أجبته فورا:

إني أريد ملاقاتك حتى أسألك، وأعرف تكليفي جيدا، وإني على أتم الاستعداد، بعد أن تحصل لي القناعة، أن أقيم فقه الله في نفسي ما استطعت.

أجابني:

ص: 201

إن كان ذلك كذلك، فأنا قادم إليك حالا، مرجئا أيَّ أمر آخر، فقد صار لديك حق عليَّ.

ثمّ جلسنا مساءا في شرفة المنزل، ونحن نترشف القهوة، ولم أستطع صبرا طويلا فبادرته.

إني أريد أن أستفسر منك، موقف فقه آل البيت من مسألتين، الأولى تتعلق بفقه العبادات، والثانية تتعلق بفقه المعاملات، فأعترض قائلا:

نحن لا نقسم الفقه كذلك، وإن كان ذلك هو الفقه المتداول، فتقسيم الفقه إلى عبادات، ومعاملات، يميز العبادة عن المعاملة.

الحقيقة، أن العبادة والقرب منها، والبعد عنها، وصحتها من عدمها، هو المحدد الأول في الإقبال على المعاملات، وكأننا نفصل الدّين عن الدّنيا.

قلت:

إذا، فكيف تقسّمون الفقه؟

قال صاحبي:

لقد قسَّمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فقه الفرد، وفقه الجماعة.

أحاديث توجه بها إلى أشخاص معينين، وأخرى إلى جماعته، ومن ورائهم المسلمون، كما هو الخطاب القرآني.

ذلك أن للفرد صفة، وللجماعة صفاتها، والفرد يذوب في الجماعة، والجماعة مدعوّة إلى وحدة الموقف، مع احترام حرية التفكير، والفرد في ذاته مراقب لنفسه ومتدبّر.

قلت:

ص: 202

ألا يعني هذا التقسيم، تفريق للفرد عن الجماعة؟ خاصة وأن الجماعة مجموعة أفراد؟

قال صاحبي:

إنّ التكليف لدى الفرد هو من أجل تهيئته، ليكون جديرا بالجماعة فتكليف الفرد الهدف منه تهيئته للتواصل مع الجماعة

لأن الجماعة مجموعة أفراد على عقيدة وتصور ما وفكر متفاعل.

قلت:

فما هو رأي فقه الفرد، والجماعة، في مسألة الصلاة مثلا؟

قال صاحبي:

إن الصلاة مسبوقة وجوبا، بالوضوء.

قلت:

هل هناك وضوء للفرد، ووضوء للجماعة.

قال صاحبي:

ليس بهذا المعنى، ولكن لابدّ للجماعة، أن تتهيأ للصلاة بنفس الكيفية، والطريقة التي يأتيها كل فرد.

ظاهريا المسألة متعلقة بالفرد، ولكن إذا خالف الأفراد بعضهم، فكيف سيقفون صفا أمام الله؟ لابدّ لهم أن يتفقوا أولا، ليكون توجههم صحيحا.

قلت:

أتقصد أن الناس مختلفون في وضوئهم؟ ولكن هذا اختلاف ليس في أصل من أصول الدين، ولا أظنه اختلافا جوهريا؟

قال صاحبي:

ص: 203

إن لكل مسألة مقدماتها، فإذا ما كانت جليّة، واضحة، أمكننا التفاعل معها، وتتبعها، وإذا كانت غامضة، أو مختلفة، متناقضة، أصبح الذي يليها صعب التناول، وقد تقصيه مقدماته عن التواصل.

سبق وحدثتك في اختلاف الناس حول مسح الأرجل على ثبوته في الآية السادسة من سورة المائدة.

لا تَقُلْ أبدا إن ذلك من محقرات الأمور، فالله يأمرنا بأمر، لابدّ لنا من الانصياع، ولا نقدّر في ذلك أي تقدير.

التشريع الواضح في كتاب الله المزكي من رسوله ومن آلائه واجب الطاعة لا اختلاف فيه، وإذا ما خالفنا ذلك فقد خالفنا الله،

وإذا خالفنا الله خالفنا رسوله، وإذا خالفنا رسوله فقد خالفنا إمامنا.

قلت:

أتعني أن وضوءنا يصبح باطلا؟

قال صاحبي:

هل كان الوضوء مسألة ذوقية، أو فكرية، أو اختيارية، حتى نختلف في ذلك؟

إن مناسك الله في تقديرنا، صغيرة أو كبيرة، هي في الحقيقة عظيمة، واجبة الطاعة بنفس المقدار.

إن المسح دليل قاطع على طاعة الله بالعبادة، إذ هو ليس مجرد إزالة غبار، أو أذى، شأنه في ذلك، شأن رمي الجمرات في فريضة أخرى، تأتي في ترتيبها متأخرة عن هذه الفريضة.

ص: 204

لا يمكن لمن يدعي العلم والورع أن يفتي برمي عشر جمرات عوض سبع، ولا بلباس شيء، ولو قليل عند الطواف، لا يكون متطابقا لمناسك الحج.

قلت:

يعني هذا، أن الفرائض على درجة واحدة؟

قال صاحبي:

إن الطاعة على درجة واحدة، فتقدير الأجر والإلزام بيد الله، لذلك جعل استثناءات كثيرة في كتابه ورخصا، فَعَوَّضَ مثلا الماء بالتيمم، في حركات يجب أن تؤدى، على الشاكلة التي أرادها الله، وإلاّ بطلت الصلاة، خاصة إذا علمنا ظاهريا أن حركات التيمم، ليس فيها إلا القصد والطاعة، وإلاّ لصارت العبادة معزولة عن المعاملة.

فطاعة الله في العبادة، تدريب على طاعته في المعاملة، " اتل ما اوحي اليك من الكتاب واقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون " (1).

قلت:

لم يسبق لي، أن سمعت كلاما، يربط بين عبادة كالوضوء والمعاملات.

لكنك لم تجبني، عن الفارق بين فقه الفرد، والجماعة، في مسألة كالوضوء مثلا.

قال صاحبي:

ص: 205


1- 45-العنكبوت

مثال ذلك، أن المتوضئ، مُقدَّم على المتيمم في صلاة الجماعة، وإن الصف الذي يلي إمام الصلاة، لا يجلس فيه المتيممون، وإن كانوا أعلم، وما إلى ذلك من الأحكام.

قلت:

أريد أن أسألك الآن، في مسألة تخصني، وهي في ذات الوقت، متصلة بباب المعاملات، أو عفوا، فقه الفرد والجماعة في المال.

قال صاحبي (مستبشرا):

إن الله قد بعث لنا الكتاب والرسل واصطفى لنا الأئمة، حتى يكون الدّين في صلب الحياة، وبذلك نقترب من طاعة الله ورضائه، فاسأل وستجد جوابا شافيا كافيا بإذن الله عما شغل بالك من مسائل.

قلت:

إني أريد أن أقترض من البنك، لأشتري مسكنا، وهذه رغبة قديمة، إلا أنني كلما سألت أحد الذين كنت أعدُّهم من العارفين، إلا وأجابني إما بان التعامل مع البنوك الربوية يعد محرَّما، أو منهم من قرأت له، بأن التعامل معها من باب الضرورة، وللضرورة أحكامها.

قال صاحبي (معترضا):

أما الضرورة التي تتحدث عنها، فهي موضوع طويل، لأنها مسألة دقيقة، ليست مخوّلة لأي كان، فلا بدّ أن نُعَرِّف معنى الضرورة، ومتى تُعدُّ المسألة ضرورية، وبأي المقاييس،

ومن يستطيع أن يتعامل مع أحكام الله، ويجيز الأشياء في منهج واضح، مترابط، فيه استدلال، واستقراء على ضوء قاعدة شرعية.

ص: 206

فأترك هذا مبدئيا ولننظر في مسألتك.

قلت:

تكون بذلك قد قدمت لي خدمة طيبة.

قال صاحبي:

لكي نفهم الأشياء دائما، فلابدّ أن نعيدها إلى أصلها، فمسألة الربا تعود إلى المال، والمال، إمّا مال فرد، أو مال مجموعة، أو مال فرد، تدخل فيه المجموعة، أو مال مجموعة لبعض الأفراد، فيه مصالح.

الأصل في التشريع الحلّة، فكل ما فيه مصلحة لبني آدم حلال طيب.

قلت (مضيفا):

أظن، أن الإشكال في تحديد المصلحة.

قال صاحبي (مبتسما):

لا إشكال في ذلك، مادام المال المقصود مصدره حلالا، مما حدده الله في كتابه، فإما أن يكون من جهد شرعي، كالتعب والوساطة، أو بالرجوع إلى العِرْقِ كالتَّرِكَة، أو مسألة مجاملة كالهبة، والهدية، وما عدا ذلك فباطل.

هذا في تعامل الأفراد، وإذا كان الفرد غير مرتبط بغيره، وكان لديه مال، فمن حق الجماعة تداوله بالطرق الشرعية.

وحتى وإن اكتُسبَ بطرق شرعية، وأُخْرِجَتْ زكاته، فإن كنزه الكنز الفاحش، دون أن يكون لمصلحة واضحة، فردية، أو جماعية، صار مالا آسنا كالماء الراكد.

ص: 207

" يا ايها الذين امنوا ان كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون اموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" (1)

قلت:

أردت سؤالك عن الربا، في القرض الذي أريد أخذه من البنك.

قال صاحبي:

أردت أن أشير عليك فقط حتى تدرك منهج الإسلام في التعامل مع المال.

إن سؤالك الذي سألت، يتعلق بتعامل فرد مع مكان نضع فيه المال، ويكون هذا المال آمنا.

إن البنك لن يمنحك هذا القرض، إلا إذا كنت متعاملا معه بشكل من الأشكال، إما أن يكون لديك راتبٌ، يوضع فيه كل شهر أو أن لك مالا غير منقول، مثل الأرض مثلا، وسيقدم لك البنك المال اللازم مقابل رهن ما لديك من مال غير منقول. هذه عملية فيها حفظ للمال من السرقة، والنهب، والتحيل، ثم إنك تُقدمُ على حفظ كرامتك باقتناء المحل.

قلت:

إن المسألة، تتحوصل في أنني أقتني عن طريق البنك منزلا، ثمنه عند إعادته للبنك على أقساط، يصبح تقريبا ضعفه.

قال صاحبي:

في كم من عام تعيد ثمن المنزل؟

ص: 208


1- 34-التوبة

قلت:

خلال عشرين سنة على أقل تقدير.

قال صاحبي:

إن استعمال المال، هو استعمال لوسيلة، كاستعمالك لوسيلة النقل، والحصاد، ولابد في هذا الاستعمال من أجر عليه محدد، ولا يعتبر ذلك دخولا في تجارة، لأنها في شريعة الله قابلة للربح والخسارة.

والنّسب التي يستعيدها البنك، متفق فيها معك مسبقا برضاك، خاصة إذا قدَّر أهل الخبرة والاختصاص ثمن المنزل عند اكتمال تسديد ثمنه.

ويسمى ذلك، مراعاة القيمة الزمنية في المعاملات المالية، وهذا أمر شرعي لا غبار عليه، ويعتبر ذلك غير شرعي إذا كان مبنيا على الاستغلال الفاحش.

قلت (متعجبا):

ألا ترى في ذلك أي عيب؟

إن البنك يستعمل الفوائض والفوائد، والخصم، وما إلى ذلك.

قال صاحبي (بكل ثقة):

لابد من وضع المال في مكان آمن، وإن كان هذا المؤتمن، يهوديا، أو نصرانيا، إن لم نجد من يُؤَمّن لنا ذلك من أهل الإسلام فهو شرعي.

قلت:

والذين يخصمون للناس فوائدا، مما يوضع في حسابهم الجاري كل شهر، من أجر شغلهم، ما حكم ذلك؟

قال صاحبي:

ص: 209

إن الذي حفظ لك مالك، ومال غيرك، إذا استفاد من أموالكم، بدون أن يكون شريكا لك في عملية تجارية، فلابد له أن يعوضكم عن هذه الاستفادة، بشكل من الأشكال، وأنتم بدوركم بما أنكم مستفيدون من حفظ مالكم، ومراعاته، وتقييده، فلابد أن تساهموا في دفع أجور المشتغلين على أموالكم، ولا يعتبر ذلك ربا.

قلت:

إن من الناس من يقترض مالا ليحسّن مسكنا، أو ليشتري أثوابا أو يبدل سيارة، أو يرفّه عن نفسه، ثم يعيد ما اقترض بفوائض فما حكمه؟

قال صاحبي:

إن مجرد اقتراض المال لأكل وشرب خاصة، لا يجوز قطعا أخذه لأن ذلك يشرع باب اللهث إلى المظاهر، والتظاهر، هذا من ناحية المقترض، أما القارض فيصبح مستغلا لتكالب الناس واندفاعهم إلى المظاهر.

قلت:

والقروض التجارية؟

قال صاحبي:

إن الأساس واضح، فلا تحديد لربح أو خسارة مسبقا، في المعاملة التجارية، وعلى ضوء ذلك المبدأ، يصبح التعامل مع تلك البنوك، إن كان لابد منه، حتى يشتغل الناس من باب الضرورة، وتنتهي تلك الضرورة، بوجود الأقرب والأقرب إلى المعاملة الشرعية.

قلت:

إذًا، أُقدم على هذا المنزل؟

ص: 210

قال صاحبي:

فليبارك الله ذلك، وأنت مُقدمٌ لتُوَسّعَ على عيالك، وتتحول من وضعية الكراء غير المنظم، إلى خلاص البنك بطريقة منظمة.

ثم يبقى المحل بعد ذلك، رحمة لهم.

اعلم، أنه في مذهبنا، ما لم يكن الأمر بيدك، في مسألة فقهية شرعية، فأنت ملزم بإتباع القوانين التي تحيا بها المجموعة المحيطة مع اتقاء الله في نفسك. (1)

وبصلاح كل فرد، تصطلح الأمور، فالنظام المالي ليس من تكليفك.

ص: 211


1- يرى فقهاء ومراجع المذهب الجعفري أنه على المسلم اتباع القوانين السارية في البلد الذي يحيى به ما لم تمسّ بأصل من أصول الدين

محور 5- أهميَّة المرأة

أ- إكرام المرأة

بينما نحن جلوس نتداول هذا الحديث الشيق، حتى أقبلت

علينا أختي معلنة أن العشاء جاهز.

فقلت:

هذه أختي، وهي أقرب الناس إلى قلبي، وإني دائما أحدثها بتفاصيل حديثنا، وهي مستمعة جيدة، تناقش جيدا، وتبحث عن الحجة.

فعلق صاحبي:

المرأة كما وصفها الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) (1) كالقارورة الجميلة إذا عرفت كيف تحفظها حَفِظَت لك كل ما هو نافع، وإذا لم تحسن استعمالها وتقديرها انكسرت، وربما لحقك من انكسارها، جرح، فانظر إلى قول الله تعالى في سورة المؤمنون "و الذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين" (2)قلت (مستوقفا):

فهل لك في تأويل هذه الآية؟

قال صاحبي:

الخطاب فيها يتحدث عن المؤمنين، الذين هم أولى بالولاية، لأنهم طاهرون، وتحدد الآية حكما شرعيا.

ص: 212


1- حديث أنجشة للبخاري
2- 5-6-المؤمنون

الخطاب للذكور، لكن الفروج، المقصود بها جنس الأنثى، تابعة لهم، فلابدّ أن يحافظوا عليها، فهي لا تحل في أن تكون زوجة أو ملك يمين، ولكنها تابعة لهم وجب حفظها، وقد بينها الله في كتابه (1).

قلت:

ولقد طلبت مني أختي، طلبا، بأن تسألك في مسائل تتعلق بالمرأة، فأرجأت ذلك إلى مناسبة قادمة.

فاعترض صاحبي قائلا:

لا يا أخي، فأختك مشتاقة لمعرفة دينها، ونهج الصالحين، والأكيد أن أشياء عدة، تتضارب في فكرها وإن إفهامها بعض المسائل سيعود عليك بالنفع.

قلت:

يكون ذلك بعد العشاء.

قال صاحبي:

لا والله فهذا أهم، نادها يا أخي وأجلسها معنا فلا عيب في ذلك.

قلت:

ألا يعد ذلك اختلاطا؟

ضحك صاحبي مني قائلا:

ما لكم تخلطون الأشياء خلطا عجيبا، أولا، أنا ضيفك..

والمنزل منزلك، وهي تجلس مع أخيها وضيفه، وموضوع الحديث جد في جد، وهي طالبة علم، ربما لا تستطيع الحصول عليه لوحدها.

ص: 213


1- 22-23-النساء

لقد كانت السيدة فاطمة (علیها السلام) تدرّس الرجال من وراء حجاب، هذه بنت رسول الله وقرة عينه، فلم الغلوّ؟ والاستنقاص من الأنثى؟ هذا وأد معنوي لها أكثر من وأد الجاهلية.

خرجتُ من الشرفة إلى داخل المنزل وأنا مبهوت من هذا الرجل، وسمعته من خلفي يحولق المرار والمرار.

وما إن أخبرتها، حتى سرّت أساريرها، كأنها لم تسرّ من قبل،

وكانت صاحبة جرأة، فبادرت بالسلام ثم قالت:

يشرفنا قدومك إلينا، وأريد أن أسألك بادئ ذي بدأ.

هل أن صوت المرأة حرام أو عورة؟

وكيف يكون الرجال قوامون على النساء؟

وما حكم الاختلاط بين المرأة والرجل في هذا الزمان؟

فقاطعتها مخافة أن تكثر على صاحبي، فنهاني مبتسما:

ألم أقل لك أن بأختك شوق، لمعرفة دينها فهي تريد أن تحيا حياة الصالحين.

هذا والله أعز على الإنسان الصادق من الأكل والشرب، فاعلمي يا أختاه، أنه لا يمكن الخوض في المسائل كلها في ذات اللحظة، ولكن لنبدأ من البداية.

فأقول لك:

أن المرأة في الإسلام، مستخلفة في امتحان، وهي مسؤولة مثلها مثل الرجل، لأنها في الحقيقة لا توجد امرأة مجردة.

ص: 214

إنها جاءت من ذكر وأنثى، وهي بدورها تواصل هذه الحلقة، فهي إذًا تمثل سنة الله في المخلوقات فاستخلاف آدم (علیه السلام) استوجب وجود حواء(علیه السلام) وهذا في الحقيقة لا يسري على بني آدم، بل هو في كل الكائنات اتفاقا مع سنن الله في التنوع والتوازن، فأي السؤال تختارين لنبدأ به؟

قالت:

هل يعتبر مجلسنا هذا اختلاء؟

فضحكتُ أنا، وضحك هو، وهي لم تفهم.

فقال صاحبي:

لقد حدثت أخاك في المسألة، لكني سأفيدك أنت، بما يجعلك تحسنين التصرف في ذلك، أما الاختلاء فهو المشاركة في الخلوة، لأن أصل الخلوة أن يكون الإنسان لوحده خاليا من أي رفيق،

والأمر لا يتعلق بالرجل، كما يذهب في ظن البعض.

قالت أختي:

هل تختلي النساء بالرجال؟

قلت:

ربما حصل ذلك.

فاستدرك صاحبي:

المسألة في الاختلاء المفروض، كأن تجد المرأة ويجد الرجل نفسيهما في عمل أو تمريض، أو حرب، في مكان لا يطبق فيه الشرع في بلاد أجنبية، أو تختلط فيه الأمور في بلاد يعيش على أرضها، وفي هذه الحالة الواجب هو الاحتياط.

ص: 215

قلت:

هل تعني أن ذلك كالرعي حول الحمى؟

قالت أختي:

ولكن ذلك يصبح صعبا وفي بعض الأحيان مستحيلا.

قال صاحبي:

إن المسائل متى كانت مبنية، على عقيدة سليمة، سعى المؤمن إلى إبعاد أخته المؤمنة، العاملة معه، أو المعالجة له، أو الراكبة معه عن كل ما من شأنه أن يمس من سمعتها، ولو ريبة، شرط أن تمتلك هي نفس العقيدة، فتحرص بدورها.

قالت:

فصّل لي ذلك.

قال صاحبي:

مثلا، أن يُدْخِل طرفا ثالثا، إما مشاركا في عمل، أو رفيقا في سفر، فإن لم يجد أو لم يكن باستطاعته، جُعل ذلك اللقاء بطريقة أو بأخرى معلوما وليس خاصا، ولو عند بعض الناس،

ويكون ذلك على الأقل عند شخص يعرفه الطرفان.

قلت:

ويمكن تلافي ذلك بالجلوس في الأماكن المفتوحة أو ترك النوافذ والأبواب في وضع طبيعي؟

قال صاحبي:

ص: 216

ولا تنسيا، أنه إذا كان المجتمع متوازنا، لم يذهب وراء اقتفاء أثر الناس، والبحث في طبيعة تواصلهم، لأن المحرك الأساسي، من الداخل لا من الخارج

قالت:

وربما يكون الاحتياط كذلك، في الاقتصار في الحديث.

قال صاحبي:

الحديث، والكلام، والقول، واللسان، واللغة، عند أي شخص جالب للخير كما هو جالب للشر.

قالت:

على ذكر اللسان والقول هل يعد كلام المرأة في الناس بصوتها عورة؟

قال صاحبي (مبهوتا):

من أين تأتون بهذه الأباطيل؟ ليس صوت المرأة عورة في ذاته، إن صفة الصوت، يمكن أن تكون عورة، حتى لدى الرجال وسيكون لنا في ذلك حديثا مستفيضا بعد العِشاء والعَشاء.

بعد العشاء جلسنا في القاعة المطلة على الشرفة، وقدَّمَت لنا أختي الشاي، ورأيتها تجلس غير بعيد وكأنها تنتظر من صاحبي أن يقول شيئا.

ابتسم صاحبي قائلا:

إني شاكر لكما ضيافتكما، وهي من شيم الكرام، وهي علامة مميزة عند الأئمة دون استثناء، وأنتم تعلمون من أمر الآية الكريمة من سورة الإنسان "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا

ص: 217

و يتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا " (1) .

لا يختلف اثنان، في أنها نزلت في الإمام علي والسيدة فاطمة والحسنين عليهم السلام

قلت:

هذا أقل ما يمكن أن نقدم لرجل، عقله مستنيرا وأخلاقه عالية

قالت أختي:

أتذكر أين وصلنا؟

قال صاحبي:

مادامت أختك دائمة على السؤال، فهي حتما ستصل إلى درجة طيبة، من الصفاء، والإيمان.

اعلمي يا أختي أن الصوت من الناحية المادية، هو نتاج لخواص الرجع والصدع الموجودة في الكون كله "و السماء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع " (2) وهو ليس خاصا ببني آدم فالرعد له صوت، وخصَّه الله بسورة، وفيه من الأسرار ما فيه.

فالصوت نعمة من الله، لأنه إن لم تكن الأصوات، لم نميز الأشياء والظواهر، ولم يتعلم الإنسان شيئا من الكون، ولا وجد مذياعا ولا هاتفا.

قلت:

والصوت البشري؟

ص: 218


1- 8-9-الإنسان
2- 11-12-الطارق

قال صاحبي:

الصوت البشري، لا يخرج في طبيعته عن بقية الأصوات، فالقرآن الكريم، يتحدث عن الأصوات المنكرة، والأصوات المهموسة، والمنخفضة، والقول الحسن.

انظر قول الله تعالى " واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " (1)

"و عنت الوجوه للحي القيوم فلا تسمع إلا همسا " (2)

" فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " (3)

قالت أختي:

وصوت المرأة؟

قال صاحبي:

الصوت نتربى عليه، مثلما نُرَبَّى على عديد الأشياء. الأصوات المنكرة منكرة، دون النظر إلى جنسها، فارتفاع الصوت بدون مبرر عورة، سواء كان الصائح رجلا أو امرأة. والصوت الذي يحمل الإغراء، والميوعة، عورة، سواء كان المتكلم رجلا، أو امرأة.

ص: 219


1- 19-لقمان
2- 111-طه
3- 44-طه

انظر قول الله تعالى " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا " (1)

و الله يتحدث عن الفئة الضالة " ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم " (2)

ولحن القول هو النغم المائع المشحون برغبة حرام.

قالت أختي:

إذًا، صوت المرأة ليس عورة؟

قال صاحبي:

إذا لم تحدث المرأة زوجها التي هي مرتبطة به ارتباطا مستديما، أو ارتباط متعة، أو كانت ملك يمينه، بحديث طيب يجعلها محببة لنفسه، فقد أخطأت في حق نفسها ونفسه.

وإذا لم تلاطف رضيعها بصوت حسن فقد أخطأت في تربيته. العورة، في النميمة، واللغو، والكلام الجارح، والفسق، والحديث الباطل.

قلت:

والغناء؟

قال صاحبي:

ص: 220


1- 110-الإسراء
2- 30-محمد

لا يخرج الغناء على كل هذه المعايير، فما هو إلا شكل من أشكال التعبير، وفيه شروط شرعية، وهو مبحث طويل فيه اختلاف، لكن اعلما أن أي صوت يدعو إلى الفتنة بأي شكل من الأشكال، ويتحدث عن مواضيع محرمّة، أو لغو، فهو باطل، آثم قائله، وسامعه. الحَظَا قول الله تعالى :" والذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مروا كراما" (1)

ص: 221


1- 72-الفرقان

ب- مؤسسة الزواج

قالت أختي:

سمعتك تتحدث عن زواج مستديم، وزواج متعة، وتحت اليمين.

قال صاحبي (مبتسما):

بل هي ملك اليمين، لقد أثارت انتباهك هذه المسائل، وهذا طبيعي، فاعلما، أن مؤسسة الزواج في الإسلام، في أصلها كما جاء بها محمد وآله عليهم السلام، فسيحة، مريحة، للفرد والجماعة.

قلت:

إن الناس ينكرون مثلا زواج المتعة في عصرنا وبلادنا.

قالت أختي:

ما المقصود بزواج المتعة، وما هي أدلته الشرعية؟

قال صاحبي:

لقد أنزل الله في ذلك "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما" (1)كما أقر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (2) هذا الزواج

ص: 222


1- 24-النساء راجع تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور
2- صحيح البخاري باب فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، مسند أحمد ج3/ص429، صحيح مسلم ج1/ص535، أما تحريم المتعة فلم يقع لا في عهد رسول الله ولا في عهد الخليفة الأول وحرمها الخليفة الثاني بقوله متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهي عنهما وأعاقب عنهما ...

والمقصود بالمتعة هو حصره في نقاط معلومة، لأن المتعة محدودة، فليس معنى المتعة التمتع بالشيء أي المقصود البرهة السعيدة، فهو أضيق في زمنه من الاستدامة لكنه زواج.

والزواج عامة يخضع إلى شروط كبرى.

قلت:

لعلك تعني المهر، والإيجاب، والقبول.

قال صاحبي (متوجها بحديثه إلى أختي):

أرأيت، أن صوت المرأة واجب سماعه في العقد بينها وبين الرجل، مهما كان نوع الارتباط، زواج المتعة مرتبط بمسألتين، بما اتفق عليه من البرهة، ويمكن أن يتجدد أو يتواصل بكَتْب آخر من الزواج المستديم، ويكون فيه الاتفاق مدققا في الإنفاق.

بينما في الزواج المستديم، فالإنفاق دون اتفاق هو من قوامة الرجل على المرأة، وهو كذلك في ملك اليمين، غير أن ملك اليمين امرأة ذات ظرف خاص، أخذها رجل من أهلها برضائها ورضائهم، ويعيدها عند انتهاء العلاقة إلى أهلها ولا يشترط في ذلك عقدا رسميا بل هو اتفاق قائم على شهود، فإذا ما أراد تدوينه، صار إما زواج متعة، أو زواجا مستديما، وينجر عن ذلك مسائل في الميراث، وقَبْلا، لا يستطيع الرجل بناء علاقة شرعيَّة إلا

ص: 223

إذا توفرت لديه القدرة المادية والصحية، وذلك محافظة على صلابة المجتمع، وصونا لنسائه مهما تكن وضعياتهن.

قالت أختي:

وهل يمكن لإحدانا أن تتزوج مثلا زواج متعة؟

قلت:

لعلي لم أحدثك أن في مذهب صاحبي، لا يستطيع الواحد مخالفة قانون بلاده بأي شكل من الأشكال، لأن القوانين ليست من تكليفه.

قال صاحبي:

لا يُشَرّع الواحد بنفسه، بل في فقه الفرد، يأتي بما هو ملزم به، كأنه لا دخل للغير في ذلك، وفي فقه الجماعة، يتبع ما هو فيه، متنازلا صابرا، لأنه لن ينال شيئا في مخالفة الناس.

قالت أختي:

أشرت في معرض حديثك أن الرجال قوامون على النساء، فما معنى ذلك؟

قال صاحبي:

إن الله قد أكرم النساء، فجعل لهن سورة، فيها آية عظيمة أخطأ المفسرون في فهم تأويلها.

قلت (وقد كنت أحفظها):

" الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض و بما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون

ص: 224

نشوزهن فعضوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا." (1)

قال صاحبي:

صدق الله العظيم، اعلمي يا أختي أن القيام على الشيء ليس كفعله، بل هو إتقان فعله، ومعرفة حدوده، كقولنا إقامة الصلاة، أي إعطاؤها ما تستحق من البناء التام.

القوامة هي العناية، والرعاية بحسن التصرف، وهي في الآية تتعلق بعناية صنف بصنف، في المعاملة فالرجال مطلقا، قوامون على النساء، بما فضّل الله، والله لا يفضّل منكرا وما يفضله الله أي ما يجعله فاضلا في شخص دون شخص.

قلت:

تعني ما يميز بعض الأشخاص عن بعضهم؟

قال صاحبي:

إن الله يتحدث عن بناء الزواج، في العلاقة الشرعية، فهي مفاضلة طبيعية.

قالت أختي:

تقصد أنه قد تتميز المرأة مثلا بجمالها، وقد يتميز الرجل مثلا بحسبه.

قال صاحبي:

إن الله لا يتحدث عما يفضله الناس، ظاهرا بقوله تعالى:

ص: 225


1- 34-النساء

" المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا" (1)

فالمعنى أن الله يفضل بعض الرجال دون آخرين، في القيام على النساء، فيفضّل رجلا على رجل، ونساء على نساء، في التزوج، وإن هذا اعتراف ضمني بحق التعدد، فإذا ما توفرت التقوى،

وتوفر الإنفاق فتقع أفضلية القوامة.

فالآباء مدعوون، إلى تزويج بناتهن، إلى الرجال الأكثر قوامة شرعية في التفاضل في التقوى والإنفاق

قلت:

كثيرا ما سألتني أختي، عن معنى أن الله يأمر بضرب النساء.

قال صاحبي:

استغفرا ربكما، فالله لم يتحدث في الآية إلا عن المرأة التي تنشز، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، جاء الضرب حلا ثالثا بديلا بعد الموعظة، والهجر، ثم يلي ذلك شرط " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا أن الله كان عليا كبيرا " (2)

ص: 226


1- 46-الكهف
2- 34-النساء

قالت أختي:

ما معنى أن تكون المرأة ناشزا؟

قال صاحبي:

أن تكون المرأة ناشزا، هي أن تخرج عن طاعة زوجها دون موجب ودون حق فيما أمر الله فيه بالطاعة، إذا لم يتعدى سنُّها الرابعة عشر سنة فإذا ما تعدى ذلك أصبح باطلا ضربها مهما كانت الأسباب والدوافع، آثم فاعله.

قالت أختي:

أعرف كثيرات تزوجن في السن التي ذكرت، ولكن ماذا تقصد من تحديد سنٍّ للضرب.

قال صاحبي:

إن الضرب هنا محصور في مجال التربية، فلا يمكن إلا أن يكون تأديبا ونهج التربية عندنا كما علمنا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) (1)وعلمنا الأئمة الأفاضل (علیه السلام) أن نُعَلَّم الطفل من السنة الأولى إلى السنة السابعة وأن نؤدبه من السابعة إلى الرابعة عشر من عمره ومن الخامسة عشرة من عمره ما عاد يجوز لنا تأديبه أو ضربه فلابد من مصاحبته.

قالت أختي:

أنت تتحدث عن التربية.

قال صاحبي (مبتسما):

ص: 227


1- الحديث :علمه سبعا وأدبه سبعا وصاحبه سبعا ثم أطلق حبله على غاربه

في نهجنا يبقى الإنسان بعد أن يربيه الآخرون يربي نفسه على الطاعة حتى آخر عمره والمرأة حين يتزوجها الرجل وهي بكر صغيرة في السن ما عاد يستطيع تأديبها بالضرب بعد الرابعة عشر من سنّها

قلت:

حقيقة إن النساء كن يتزوجن في سنّ مبكرة والآن قد تأخر هذا السن قليلا.

قالت أختي:

في عصرنا أقل النساء سنّا يتزوجن تقريبا في العشرين، يعني هذا أنه لا مجال لضربها.

قال صاحبي:

من ضربها فقد أثم.

ضحكتُ وقلتُ:

يا للعجب، ما أجهلنا وفينا من يعتدي على وصية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في النساء (1) مستندا إلى شرع لم ينزل الله به سلطانا، الحمد لله الذي بصّرنا وأفهمنا.

ص: 228


1- البخاري ومسلم

ت- الإسلام جميل

قالت أختي متدخلة:

وهي تريد أن تتحيّن الفرصة

لقد حدثتنا حديثا طيبا، فما رأيك في لباس المرأة وزينتها؟

قال صاحبي(متحمسا):

ليس في نهج محمد وآله (علیه السلام)، من فصل بين الرجل والمرأة، غير أن الحكم، قد يختلف، احتراما للخصوصية والفوارق.

الشكل عادة، دليل على المضمون، وانعكاس له، وفيه شروط عدّة، فلابد أن يكون نظيفا، مناسبا، محترما يستجيب لما رسخ في العقيدة.

قالت أختي معقبة:

إني قصدت من سؤالي ما أراه من مظاهر متعددة عند النساء أظن أن بعضها مخالف للشرع خاصة عند وجود مناسبات كالأفراح والنجاح.

قال صاحبي:

الشكل لابد أن يكون طبيعيا، بلا زينة، إن كان في الحياة العامة، وذلك تجنبا للفت الانتباه والفتنة.

المرأة هنا مدعوة إلى البساطة، فهي لا تلبس لباسا فيه إغراء، كأن يظهر من جسدها، أو يوحي به، كاللباس الضيق، الذي تصبح معه المرأة كاسية عارية.

تبرجها مفروض أمام زوجها، وإخفائها لمفاتنها هو اعتداء على حق زوجها، إلا عند وجود غير المحرم، كما أن الزوج مطالب كذلك أن يتطيب لزوجته، ويظهر فتوته.

ص: 229

قالت أختي:

إن الفتاة عندنا تحلم بالزيجة، وعندما يقترب زواجها فهي تريد أن تتزين.

قال صاحبي:

اعلمي، أنه عند أيام الزواج، لابد من إشاعة الفرح، لكن في ظل ما هو شرعي، فالمرأة يمكنها أن (تتصدّر) (1) كما تشاء، في احترام، مادامت محاطة بمن هم ليسوا من المحارم.

" وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت إيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " (2)

فإن كانت تريد أن (تتصدر) أمام الجميع فما عليها إلا الالتزام بالتحجب مع الأناقة دون تبرّج.

قلت متدخلا:

ص: 230


1- "التصديرة" عادة تونسية تقيمها الفتاة المقبلة على الزواج تشاع فيها الأفراح ومظاهر الزينة.
2- 31-النور

إن الحُسْن، والجمال، لا يتنافى مع الدّين، فالله يقول " الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين " (1)

قال صاحبي:

أحسنت، واعلما، أنه إن كان لأحد المخلوقين، من امرأة أو رجل عاهة ابتلاه الله بها، فمن واجبه إن كان قادرا، إصلاحها، فإصلاح الجسد مثل إصلاح النفس.

قالت أختي:

أي أن عمليات التجميل وتغيير الأنوف والخلقة جائز؟

قال صاحبي في حزم:

لا يا أختاه، فتغيير خلق الله حرام لكن مادام في شكل من أشكال الجسم عاهة، والعاهة هي التغير الكامل في الخلق الطبيعي.

أما تغيير الشكل، للتحسين، والظهور، والبروز، فهو حرام

قالت أختي:

ولقط الحاجبين؟

قال صاحبي:

بناء على ذلك، فتغيير الحاجبين ليس من باب تغيير خلق الله، فهو كنتف الشعر في الإبط وحلق الرأس.

قلت:

ص: 231


1- 64-غافر

وزرع الأعضاء؟

قال صاحبي:

إن كان في عضو تشويه، يؤثر على حياة الشخص ظاهرا أو باطنا، جاز تغييره.

عمل الأطباء مأجورون عليه، لإحياء عضو في شخص، فهو كإحياء النفس، لكن محرّم بيع العضو، لأي سبب فهو تبرع من حيّ، دون المساس بمستقبل صحته، وهو تبرع من ميت، إن أوصى بذلك، أو أجاز أهله، على أن يكون عضوه، مفيدا للتبرع له وله أجر الصدقة الجارية لحديث النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) " إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث علم بثه في صدور الناس وولد يدعو له بالخير وصدقة جارية" (1)

قالت أختي:

ما أرحم ديننا، وأوسعه، وأشمله، وكأنك تحدثنا عن دين آخر.

قال صاحبي:

استغفر الله، ولكن أكثر الناس غير ملمين، بعلم آل بيت محمد وطب الأئمة، الموجود في كثير من الآثار عبر التاريخ.

ص: 232


1-

ث- علاقة المرأة بالرجل

قالت أختي:

كثر الطلاق في مجتمعاتنا، فما هو رأيك في هذه الظاهرة؟

قال صاحبي:

لغياب فهم حقيقة المعروف والإحسان.

قلت:

وهل من فرق بين المعروف والإحسان؟

قال صاحبي:

هناك فرق واضح، وإلا، لما قدّم الله في هذه الآية، المعروف عن الإحسان في قوله تعالى " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فان خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون " (1)

قلت:

لقد علمتني، أن مصطلحات القرآن تختلف في مفاهيمها وإن تقاربت، مادامت مختلفة الشكل، ومن هنا تأتي أهمية الشكل، التي تحدثت أنت عنها آنفا.

قالت أختي:

اترك شيخنا، يبرز لنا الفرق فنستنير.

ص: 233


1- 229-البقرة

قال صاحبي:

ما أجمل أن يعتني المرء بدينه، الذي هو زمام أمره، ومصيره أمام الله.

إن المعروف، هو فعل الخير مع شخص معين، دون انتظار ردّ الفعل إيجابيا، أو سلبيا، أما الإحسان فهو ردّ الجميل بالمثل.

قلت:

وما دليلك على ذلك من الكتاب؟

قالت أختي (وكأنها وجدت ضالتها):

يقول تعالى " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" (1) وذلك في سورة الرحمان

قال صاحبي:

أحسنت، فهل أخرجتِ لنا من كتاب الله، علاوة على الآية التي قرأتها علينا سابقا، آية تتحدث عن الأمر بالمعروف.

فأطرقت قليلا، وأردت أن أجيب بدلا عنها، فأشار عليّ صاحبي أن امسك.

فقالت:

قال تعالى متحدثا عن الوالدين " وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون " (2)و قال تعالى أيضا متحدثا عن الصابرين " التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون

ص: 234


1- 60-الرحمان
2- 15-لقمان

الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين " (1)

قال صاحبي:

أرأيت كيف قرن الله في الآية الثانية الأمر بالمعروف بالصبر، لأنه تأدية باللسان يراعى فيه اختيار المنطق الملائم لعلمنا المسبق بعيوب الآخر ومدى توقعنا لردود فعله.

قال تعالى مخاطبا موسى وهارون (علیه السلام) "اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكَّر أو يخشى" (2)

إن القرآن الكريم يربينا على هذا المنطق، فالأمر بالمعروف، أمر بالجنان، لأن هذا الشعور يحصّننا من الغضب، والغضب يفقدنا توازننا ويستدعي عدونا الأكبر " الشيطان" لأنه إذا غضب أحد ارتفعت درجة حرارة دماغه، والدماغ يتطلب درجة حرارة معتدلة، وعندئذ إذا كانت الدرجة مرتفعة، أحس الشيطان بأن شيئا من طبيعته يجتذبه فيأتي كالبرق، ليخرب ما بَدَأَ الغضب.

قلت:

أظن أن أكثر المسائل التي تفسد علاقة الزوج بزوجته، ابتعادهما عن قول المعروف وفسح المجال لعمل الشيطان.

قال صاحبي:

ص: 235


1- 112-التوبة
2- 43-44 طه

ذلك المعروف بالقول، لكن هناك درجة أكبر هي المعروف بالفعل، أي إذا لم يكن الوعظ مناسبا أمكن الوعظ بالسلوك. فإذا لم ننجح في الاثنين، جاز لنا عندئذ الهجران، لكن هنا في علاقة الزوج بزوجته، يكون لغاية سامية عالية.

لأنه في الأصل إن دخلت امرأة أخرى في حياة الرجل، فإن الرجل إن كانت زوجته مؤمنة، متفهمة للشرع، أن تستمع له وتبدي موقفها في هدوء، وترتاح لذلك لأن زوجها يفكر حلالا.

تبسمت أختي وقالت:

هذا من شيم صاحبات القلوب الكبيرة.

قال صاحبي:

أتدرين يا أختاه، أن المعروف كذلك في درجته الثالثة هو المعروف بالضرب، وظاهريا تتناقض كلمة المعروف مع كلمة الضرب.

لكن إذا اقترن الضرب بالمعروف فإنه يصبح تأديبا خفيفا، لا عنفا ولا حربا، ليس من باب القسوة، ولكن من باب محاولة إعادة الأمور إلى نصابها وذلك بالقدر الذي يتحقق به المطلوب.

إن الصبر في كل ذلك أكيد وقد رأيت ختام الآية " وبشر الصابرين "

والأسباب القوية للطلاق كالمسّ من الكرامة والدين والعِرض فإن لقاء الرجل مع امرأة كهذه بعد استحالة إصلاحها يعدّ باطلا ويصبح الرجل آثما.

وذلك محافظة على صلابة المجتمع، والرجل الذي لا يحترم حقوق زوجته ويكون غاصبا لها، خاصة في عصرنا في فهم خاطئ للدين، هو معتد أثيم لأن الظلم عند الله عظيم.

ص: 236

ثم إنه نهض لبرهة من مجلسه وعاد، يدقق النظر في الساعة فقلت:

هل نسيت شيئا؟

قال صاحبي:

إني مسافر غدا صباحا إن شاء الله، ولابد ّلي من تهيئة نفسي، والنوم باكرا، حتى أستطيع إدراك صلاة الفجر.

قالت أختي:

لعلنا أثقلنا عليك؟

قال صاحبي:

استغفري ربّك، لكن الحديث شيق وقد أخذ منّا ساعات دون أن ندري.

قالت أختي:

كانت هناك مسائل كثيرة أردت أن أسألك فيها.

قال صاحبي:

إن لك أخا طيبا، فتعاونا بالإقبال على كتاب الله، قراءة وفهما، وستجدين ضالتك في أشياء عدّة، وما كان صعبا عليك فدونيه، فربما أجبتك عند عودتي.

قلت:

هل ستبقى في سفرك طويلا؟

قال صاحبي:

ربما يطول سفري، فأنا أعدّ كتابا، وهذا يستلزم مني جهدا. لكن قبل مغادرتي إياكما، وجب عليّ نصحكما، فلا تكثرا العلم

ص: 237

دون العمل، ولا تجعلا عملكما دون علم، فالأولى مدعاة للوهن، والثانية مدعاة للجهل، بل وَازنَا بينهما، واعلما أن هذا الدين قد جاء ليسعد الناس، لا ليشقيهم " طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " (1)

وخذا المسائل تباعا وأصلحا نفسيكما بالتدرج، فالله خلقكم أطوارا لكن بحرص، فالنفس متفلتة.

قالت أختي:

إن هذا الزمن صعب.

قال صاحبي:

الزمن نعمة، من أحسن التعامل معها، كانت لصالحه، ومن أساء التعامل معها قطعته، لذلك وجب عليّ احترام ذلك، واستودعكما الله.

ثم إنه نهض من مجلسه، وأوصلته إلى الباب، وكان ينصحني بأختي خيرا، فما جلست مجلسا أطيب من ذلك المجلس.

ص: 238


1- 1-2 طه

محور6- سر الفاتحة

أ- أصحاب الصراط المستقيم

قلت بيني وبين نفسي، وأنا جالس لوحدي، في قاعة الجلوس، أنتقل من قناة إلى قناة، ومن محطة فضائية إلى أخرى.. شيوخ.. ودروس.. كلام فيه اتفاق.. وآخر متضارب، بقيت أنظر إلى الجهاز الذي بيدي، وأذكر ذلك الحديث الذي ردده صاحبي أكثر من مرّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (1) حول علامات ظهور الإمام المنقذ، " إذا صار العالم في الكف "، ما أبلغك يا رسول الله، وما أقوى حجتك.

إن العالم في أكفنا، وهو على فساحته، يبدو ضيقا عندما تختلط الأشياء.

فإن اختلطت حول مسائل ذوقية أو فكرية فهذا مستوى من الاختلاف، لا مضرّة فيه، ولعله من السنن الإلهية في التنوع. لكن أن نجد أحاديث تتناول كتاب الله، على أنها تفسير وتدبُّر، يعارض بعضها البعض، فهذا ما لم تستسغه نفسي، وترتاح له.

فقلت:

سأجتهد في البحث عن فَهْمٍ، لآيات عالقة بذهني يكون فَهْمًا يقينيا، مبنيا على المنطق، والعقل، وقوة الحجة، لا يعارض الأحكام والعقيدة.

إني أعلم أن ذلك يتطلب جهدا، ولكن يا حبذا، أن يكون الجهد سعيا لفهم كتاب الله. ولقد زادت أختي من تحميسي، واتقاد همتي، ووَعَدَتْ بأن تساعدني في ذلك.

ص: 239


1-

اتفقنا تلك الليلة، على أن نحضر الآيات التي يبدو فهمها صعبا، ولكيلا نثقل على صاحبي ونحصل على الأجر، فإننا سنبحث لوحدنا، وعندما نعجز نستنجد به.

اتفقنا في البحث بكل تجرد، ولا تعصّب، بل غايتنا، وديدننا، كشف الحقائق الموجودة في آيات الله، واضحة، جلية، على أن لا نستأنس لحديث ضعيف منسوب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن لا نأخذ كلام المفسرين، على أنه كلام مقدس لا يجوز المساس به ولا نتحامل على أحد، فنكون مفترين، وعوض أن نتصف بالأحرار، نتصف بالذين يفترون على الله عن وعي، أو بغير وعي لا قدّر الله.

بدأنا من تلك الليلة العمل، وأذكر أن لدي كتبا كثيرة منها ما هو موروث، ومنها ما هو مشترى، أو مهدي، ورحنا نفرزها ونصنفها، حتى تجمعت لدينا أكداسا، ووضعناها على الطاولة.

فقالت أختي (مداعبة):

الآن قد وضعت هؤلاء على طاولة النقاش، فهل تقدر على مناقشتهم؟

قلت لها:

إني لا أناقشهم كأشخاص، بل كأفكار، وكبراهين، واستدلالات، فمن يدري فربما أخذ أحدهم عمّن قبله، دون تثبت فيجر الخطأ الخطأ.

قالت أختي:

فبما ستبدأ؟

قلت:

كما علمني صاحبي، سأبدأ من البداية.

ص: 240

قالت أختي:

تقصد من العقيدة؟

قلت:

إن العقيدة مسألة مهمة، فهي المبتدأ، لذلك جاء الأنبياء في بداية دعوتهم مركزين على التوحيد، وتطهير العقيدة، لأن بها تنجز كل المفاهيم الأخرى، ومن خلال سلامتها تصبح تعلات الأحكام واضحة.

قالت أختي:

سنعود إلى اختلاف الفِرَقْ في عصور مضت، حول الخلق وصفات الله، وما إلى ذلك من قضايا المتكلمين، إنك ستفني حياتك في ذلك.

قلت:

سأبحث مباشرة من خلال العصر الذي أعيشه، حتى أكون واقعيا، والماضي لن نستحقه، إلا للاستدلال، لأنه لا يعنيني كواقع.

قالت أختي:

إذا كان ذلك كذلك، فإني أرى أن المسألة العقائدية الأم، التي تختلف الأمة حولها الآن هي: عصمة الأئمة، فحتى أنا بعد أن فهمت معنى الإمامة، إلا أنني لم أفهم العصمة.

قلت:

بل إن هذه حسب رأيي، قضية واضحة، لكن القضية الأهم، هي من يتعاطى مع القرآن التعاطي السليم، ومن أين نأخذ فهمه الصحيح، حتى لا يصبح دستور المسلمين كتابا لا يصلح إلاّ للصلاة.

ص: 241

حملت أسئلتي إلى صاحبي، فوجدت لديه شخصين قدمهما لي، أحدهما أستاذ في الرياضيات، والآخر طبيب، وهما من جيرانه، كثيرا ما يجلس معهما صبيحة الأحد، يديرون بينهم نقاشا جيدا فيه الكثير من الدعابة.

وجدته يتحدث فيهما فلم أشأ أن أقطع عليه اتصال أفكاره.

قال الطبيب:

من منّا لا يعرف سورة الفاتحة فنحن مسلمون، أو تظن نفسك لوحدك مسلما.

قال صاحبي:

أستغفر الله لي ولك، ما قصدت هذا، ولكن، ربما مستوى الفهم يختلف، فعقيدتك في صدرك.

قال الأستاذ:

تمهّل يا دكتور، ودع الشيخ يتحفنا فنستفيد.

قال الطبيب:

ماذا ستضيف عن المفاهيم الواضحة في الفاتحة وأظنها أوضح سورة في القرآن.

قال صاحبي:

يكفي أن تعلما، ما لحرف النون في كلمة نعبد من دلالة قوية، فهي تحيل على معنى العبادة الجماعية، وتحيل على معنى التماسك، والتواصل، والالتفاف، فَنَعْبُدُ في البداية ويعني هذا اتصالنا بعالم الغيب لذلك جاءت في البداية " ربّ العالمين "، فالعالم الأول، هو الذي نلاقيه بالعبادة أما العالم الثاني والذي هو التكليف، فنتمه بالاستعانة.

ص: 242

قال الأستاذ:

إن هذا المنطق متين، واضح، ولكن ما الإضافة في ذلك؟

قال صاحبي:

ألم تسألا أي عبادة وأي استعانة؟

قال الطبيب:

إن أردت الحديث عن واقعنا اليوم، فإنك ستجد في العبادة طرقا، فمن المسلمين من لا علاقة له بها أصلا، ومنهم من ظنّ أن العبادة شكل من الأشكال، مقتصر على الترديد، والانزواء، والتقشف وترك أهل الدنيا.

قال صاحبي:

ولم البحث، والعناء، وقد حدّثنا الله عن العبادة والاستعانة المطلوبين، في قوله تعالى" هدنا الصراط المستقيم" (1).

قال الطبيب:

إن الاستقامة هي الكافلة، بوجود هذه المعاني في أي مسلم.

قال الأستاذ:

ولكن، ولعليّ فهمت ما يقصده الشيخ، بأن كل من هؤلاء يظن نفسه على الصراط المستقيم.

قال صاحبي:

و لم العناء، إن الله قد وضَّحها جليّا، في أمثلة، هم الأولى بالإتباع في قوله " صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب غليهم ولا الضالين " (2)

ص: 243


1- 6-الفاتحة
2- 7-الفاتحة

قال الطبيب:

الذين أنعم الله عليهم، هم أهل الإسلام الأولون.

قال الأستاذ:

ليس هنا ما يفيد ذلك قطعا.

قال صاحبي:

اعلما، أن القرآن يحيل بعضه على بعض، وأن الفاتحة قد اجتمعت فيها كل معاني الكتاب، لذلك فهي أمُّه.

قال الطبيب:

هذا شيء معلوم، لكننا نريد أن نفهم، من هم الذين أنعم الله عليهم؟

قال صاحبي:

انظر قوله تعالى "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" (1)

وهي الآية الوحيدة في كتاب الله التي يرتب فيها اهل النعمة وان الالتحاق بهم ليس بالأمر المستحيل بل يتطلب الاستقامة على طريقتهم، فهم الصراط المستقيم.

وقف الأستاذ وقال:

مجلسك طيب، لكن نعود إليك لنكمل ما بدأنا ثم انصرف هو والطبيب، وبقيت انظر إلى صاحبي.

ص: 244


1- 69-النساء

فقال:

ربّما تعجبت من أنني قد صرفتهما، لكني أعلم أنهما قد أخذا حظّهما، وما عليهما إلا الاجتهاد، فماهي المسألة التي جئت من أجلها.

قلت:

إن أختي تقول إن الناس ينظرون إلى الله يوم القيامة أي أنهم يدركون الله بعقولهم.

قال صاحبي:

لو لم يدركوا الله بعقولهم وتدبرهم، لما أدركوا ذلك الموقف المتقدم من نضارة الوجوه، وانتظار المأمول للجزاء الطيب.

معنى " لربها ناظرة " أي لجزاء ربّها منتظرة، ودليلنا على ذلك أن الفئة الأخرى في المقابل" تظن أن يفعل بها فاقره" (1) فهي حالة مشتركة من الانتظار.

إن هؤلاء، وجوههم نضرة، والآخرون وجوههم مرهقة، والموقف موقف انتظار للحساب، ولا معنى هنا للمشاهدة العينية للذات الإلهية.

فاستعمال كلمة الرب، تأكيد على المعنى الغيبي، المخفي المتقدس. إن الله له علامات وجوده على الأرض، والحركات فيها، تدلّ على إتقانه، وإعجازه، وآثاره.

قلت:

الحمد لله، لقد وضحت لي ما كنت أحسبه هيّنا، وهو عند الله عظيم.

ص: 245


1- 25-القيامة

قال صاحبي:

أما أنت ففيك بذرة الصدق التي تجعلك تسأل عن دينك، وهذا يجعلك في رحمة الله ثمّ في طريقه المستقيم.

كذلك أختك فتدبرها وانشغالها بآية من آيات الله يجعلها حجّة لها يوم يكون الإنسان في أمس الحاجة إلى حسنة يثقل بها ميزانه.

أريد أن أسألك ما الذي استفدت من حديثي مع الأستاذ والطبيب حول سورة الفاتحة؟

قلت:

لقد فهمت، أن الصراط المستقيم، هي صراط الذين انتقاهم الله وأشهدهم على أنفسهم حتى يعبدوا الله كما يحب الله، وذلك قبل خلق الإنسان، فجعل منهم النبيين والصديقين، فإذا كان النبيُّون معلومون، فمن هم الصّدّ يقون؟

قال صاحبي:

إذا كنت تمتلك ورقة تامة المعاني والكلمات، وأردت أن تستعملها في الاستدلال في مسألة هامة، فماذا تصنع لها؟

قلت:

لابد من أن نجعل عليها ختما، حتى يمكن استعمالها.

قال صاحبي:

قلت لك أنها مختومة، لكنك في الحقيقة ستحتاج إلى مصادقتها، أي إعطاءها الحق في الاستعمال السهل والقانوني، والواضح.

هذا مثال بسيط، عن عمل الأنبياء وعمل الصديقين من بعدهم، فالصديقون هم الذين يُتِمُّون ما أنجز النبيون إثباتا وفعلا في الواقع.

ص: 246

قلت:

ما قولك في قوله تعالى "يوسف أيها الصِّدِّيق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون" (1)؟

قال صاحبي:

أَوَ تَذْكُر أن يوسف لم يجد في محنته مؤتزرا، فقد حُجب عن أهله، والتَفَّتْ به الفتن.

الله يبشره بالاستمرار، فالله يذَكّرُهُ أن لا خوف على رسالتك، وإن من بعدك من يَصْدُقُ مثلك، ويحمل عنك رسالتك، وينتصر لك.

إن الرؤية التي رآها، تعني ما آلت إليه الأمور، ولكنها تعني كذلك الأوصياء من بعده.

الأوصياء عادة اثنا عشر وصيا، أو نقيبا، لكن ليوسف إحدى عشر فقد أعطاه الله الإمامة، وإلا لما كان ملكا على مصر، يقسم، ويوزع، ويحكم بأحكام الله.

كان النبيّ إبراهيم قد اجتمع فيه الإثنا عشر وصيّا ولذلك سمّاه الله أُمَّة فجعل من بعده نبيا (2)لأن الأحقاب غير الأحقاب، والعصر غير العصور.

قلت له:

صدقني، لقد فهمت بعضا من كلامك، ولم أفهم باقيه.

ص: 247


1- 46-يوسف
2- اجتمعت في ابراهيم عليه السلام النبوة والإمامة وما كان له من أوصياء من بعده

قال صاحبي:

لا عليك، فأحضر في مثل هذا الموعد، يوم الأحد، فإني سأحدث الطبيب، والأستاذ في معاني الفاتحة العظيمة.

عندما حدثت أختي في تلك الليلة، بقيت مطرقة رأسها، ثم رفعته

وقالت:

حقيق بنا أن نعلم جيدا من هم الصّدّ يقون، إذا كنا نعرف جيدا من يكون أنبياء الله.

قلت لها:

ألم أقل لك أن صاحبي قد قال، بأنهم هم الذين يصادقون على عمل الأنبياء من بعدهم.

قالت:

إذا كانوا يصادقون فما معنى ذلك؟ هل أن دور الأنبياء ناقص؟

قلت لها:

لا أظن ذلك، فحسب علمي فإن مهمة النبي أو الرسول، هي الإبلاغ والتبليغ والإنذار.

قالت أختي:

حريّ بك أن تسأل صاحبك أن يفسر لك معنى الصّدّيق.

قلت:

في معرض حديثنا، عن وصف الله لنبيه يوسف (علیه السلام)، بالصّدّيق، إنه جعله قائما على ملك مصر يقسم بينهم معيشتهم ويدير أزمتهم.

قالت أختي:

ص: 248

أفهم من كلامك هذا، أن الصّدِّيق هو صاحب الحكمة، والسداد، والأولى بقيادة العباد.

قلت لها:

هذا ما توصَّلتِ إليه في استنتاجِك، وإنني على لقاء معه يوم الأحد إن شاء الله، ليحدثنا في معاني الفاتحة.

قالت أختي:

يا سبحان الله، إننا نقرأ هذه السورة، منذ نعومة أظفارنا ولم يخطر ببالنا أن نتساءل حول الصراط المستقيم، ولا حول مفهوم العبادة، والاستعانة.

كم نحن مقصرون في حق كتاب الله، تدبرا، وتمعنا، ألهتنا الدنيا بمشاغلها، واكتفينا بما وجدنا في كتب السابقين.

قلت (وأنا أنظر إلى الكتب على الطاولة):

لقد صرت أنظر إلى هذه الكتب، على أنها كثيرة في سطورها، قليلة في نفعها، تعيد بعضها البعض، ولا تضيف شيئا إلى العقل بل إن كثيرا منها، يقصيه ويعطله.

قالت (ممازحة).

هل أعيدها إلى أماكنها، أم تراك ستبيعها؟

قلت:

تمهلي قليلا، وسأريك ما سأفعل بها لاحقا.

ذهبت في الموعد المحدّد، فوجدته جالسا إلى الطبيب، وعلمت أن الأستاذ قد أعتذر لالتزاماته الشخصية، ونحن جلوس بادرت صاحبي قائلا:

لقد اختلفت مع أختي، حول مفهوم الصّدّيق في القرآن.

ص: 249

أجاب صاحبي (و كان الجواب حاضرا على شفتيه) الصدّيق، هي صيغة مبالغة من الصدق لغويا، والصّديق شرعا، هو أعلى درجات الصدق، ويكفي أن تعلم الحديث الذي توجه به الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى وصيه الإمام علي (علیه السلام) قائلا " يا عليّ أنت صدّيق هذه الأمة، وفارقوها ويعسوبها،و أنت مني بمثابة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي " (1)

قال الطبيب:

إني لم أسمع بهذا الحديث من قبل فمن أين أتيت به؟

قال صاحبي (وقد بدا عليه شيء من الغضب):

إن لم تسمع به، فلا ينفي وجوده، وصحته في مدلوله فهو لا يتعارض مع أي حكم، أو صفة، وما عليك إلا البحث في كتب الحديث المتداولة، في أبواب مناقب الإمام علي (علیه السلام) أو في الكتب التي تتناول سيرته.

قال الطبيب:

كلنا نعلم المكانة التي عليها الإمام علي كرم الله وجهه، لكن هذه المناقب، لا تخرج عن كونه أحد الصحابة المقربين وصهر رسول الله.

قلت (متدخلا):

يكفي الإمام علي (عليه السلام) أنه أب الريحانتين.

قال الطبيب:

تقصد الحسن والحسين رضي الله عنهما.

قال صاحبي:

ص: 250


1-

بل عليهما السلام.

قال الطبيب:

كيف تسلّم على أحد غير رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

قال صاحبي:

الله يسلم على آل بيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أتريد استنقاص كتاب الله.

قال الطبيب:

استغفر الله، أصرت تتهمني؟.

قال صاحبي:

أنا لا أتهمك، لكن أصف ما بدا منك، ألم يقل الله في كتابه "وتركنا عليه في الآخرين * سلام على آل ياسين" (1)

قلت:

ويس هو أحد أسماء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

بقي الطبيب شاردا.

ص: 251


1- 129-130-الصافات

ب- الفاتحة هي الأم

قال صاحبي:

أريد أن أحدثكم عن الفاتحة التي لا تتم صلاة مكتوبة أو نافلة إلاّ بها باتفاق جميع المذاهب، لذلك فهي أم الكتاب، وأمّ الشيء، هي نبعه وأصله.

قال الطبيب:

هل تعني أن كل كتاب الله وما جاء فيه هو من الفاتحة؟

قال صاحبي:

ليس هذا المعنى بالتحديد، فكلمة الحمد لله مثلا إشارة إلى تمام تشريع الله لذلك تقدمه الشكر.

قال الطبيب:

إني أعلم أن فاتحة الكتاب، معانيها اعتقا دية، إيمانية صرفه،

وذلك موجود ومبثوث في جلّ كتب التفاسير.

فابتسم صاحبي وقال:

لو كان الحمد للرب لكان هذا المعنى، ولكن الحمد هنا لله.

انتفض الطبيب قائلا:

أمن فصل بين الله والرب؟

قال صاحبي:

الله رب العالمين، فالربوبية هي امتلاك الشيء الغير مرئي، لذلك فمعناها مرتبط بالغيب، لكنها استعملت هنا للتدليل على الحكمة الخفية في امتلاك العالمين.

ص: 252

إن الإنسان يسيطر على المرئيات والمحسوسات، لذلك فهو صاحب قدرة فعلية، أما التدبير الكبير فهو خارج عن إرادته، لذلك فالجمع بين هذا وذاك، هو من اختصاص الإلوهية.

قلت:

إني لم أفهم جيدا ما المقصود وما الفرق؟

قال صاحبي:

إن الله، يستعمل صفة الربّ، في الدعاء في القرآن، ويستعمل عند الحديث عن الوقائع، ومجريات الأمور، صفة الإلوهية.

لكن قد تختلط الأمور في فهمها، وذلك نتيجة العلاقة المحكمة المقدرة تقديرا في علاقة عالم الغيب بالشهادة، وهنا تدخل صفات أخرى مثل العدل وغيرها.

قال الطبيب:

إن كلامك يجعلنا في فلسفة، قد يختلط فيها الفهم.

قال صاحبي:

لذلك لا بد من قراءة الأشياء والبحث فيها، فليس كل أمر يمكننا تبسيطه لأن في تبسيطه استنقاص له، لذلك لابد أن تقرأ.

قلت:

فهمت أن الربّ هو مالك لعالم الغيب، وأن الله هو المالك لعالم الغيب والشهادة، لكن أريد أن أفهم جيدا، الفرق بين صفة الرحمان وصفة الرحيم؟

قال الطبيب:

الرحمان هو من يرحم والرحيم هو كثير الرحمة.

ص: 253

قال صاحبي:

بل هي الغاية العامة في التشريع، وإقامة الفرقان في رحمة الخلق عامة، وهي صفة الرحمان.

أما الرحمة الخاصة فهي معطاة لخاصة الناس من الأنبياء والأوصياء(علیه السلام) بما أعطاهم الله من علم يقودون به الكون والحياة.

قال الطبيب:

تقصد أن صفة الرحيم، تتعلق بالمميزات التي أعطاها الله لبعض من خلقه.

قلت:

هذا واضح، لا غبار عليه.

قال الطبيب:

إنني لا أفهم معنى الأوصياء، الذين يأتون بعد الأنبياء.

قال له صاحبي:

لقد أكدنا لك هذا المعنى عند حديثنا عن الإمام علي (علیه السلام)،

وسأحدثك في ذلك في وقت لاحق.

قال الطبيب:

إنني لا أستطيع متابعة حديثكما.

قال صاحبي:

يمكنك أن تعتذر، وأن تدوّن ما استشكل عليك من أمر، نتحدث فيه لاحقا.

اعتذر الطبيب وغادر المكان وبقي صاحبي ينظر إليّ حتى بادرته قائلا:

أأنت غاضب منه؟

قال صاحبي:

ص: 254

ليست المسألة في الغضب، فلابد أن نتأدّب في محاوراتنا، فالله قد أمر موسى (علیه السلام) بالقول اللين إلى فرعون، ولابد أن نصبر على ذلك، ولكن لابد أن نكون محبين للحق "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" (1) ومن لم يكن قلبه معلق بالحقيقة فلن تستطيع أية قوة في الدنيا، إلا إرادة الله، أن تذيب الجليد أمام عينيه، وتظهر له النور الذي يتبعه للنجاة.

قلت:

إني والله أحس بداخلي شيئا من هذه الرغبة.

قال صاحبي:

لنواصل ما بدأنا، ف"مَلِكِ يوم الدين"، هو تذكير بأن شرع الله، لا بد ان يكون عند الناس مسبوقا بالاعتقاد الجازم في عدالة الله، بأن جعل يوما فيه مَلِكٌ أكبر، فيه تحاسب النفس، عن سرّها وعلانيتها، فيَسْهُل ذلك أمر الشرع، ويجعل النفس تقبل عليه عبادة لا إكراها.

قلت:

ألذلك جاءت الآية التي بعدها " إياك نعبد "؟

قال صاحبي:

إن لم تكن حدود الله عبادة، كانت عصيانا، ومرتبة العبادة كما تلاحظ تبدأ بعد الاعتقاد لا قبله.

ص: 255


1- 3-العصر

الاعتقاد في الله وجزائه، وإن لم تكن، حلّ مَحلُّها الاعتقاد في الطاغوت، فتحل عبادته عوضا عن عبادة الله.

ألم يقل الله تعالى : " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد" (1)

قلت:

أتقصد بالطاغوت، فرعون وأمثاله؟

قال صاحبي:

الطاغوت هو طغيان الشيء الذي يتجاوز حدّه فيصبح مؤثرا وفاعلا، فيمكن للنفس أن تكون طاغوتا، والمال أن يكون طاغوتا، والشيطان بطبعه طاغوت، إن كنت متطرفا عن فطرة الله فانت طاغوت.

قلت:

هل أن آية " وإياك نستعين " تعني التوكل على الله؟

قال صاحبي:

هي التوكل، ولكن ليس قولا يقال، فالاستعانة الحق بالله، هي الاستعانة بشرعه.

إن الله، قد جعل هذا الشرع، ليُسَهّل به على الإنسان حياته.

أما الصراط المستقيم، فهي الصراط التي نمشي عليها حتى نصل المقصد، ولن نصل إلى مقصدنا في الفوز والنجاة، إلا بالاستقامة مع الله، فالصراط المستقيم لا تحتمل الشخص الذي انعدمت منه أو تناقضت استقامته.

ص: 256


1- 17-الزمر

قلت:

كل يدعي أنه على الصراط المستقيم، لكنهم مختلفون.

قال صاحبي:

تلك سنّة الله في الخلق، فالحقيقة عند القلَّة.

"ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين" (1) والصراط المستقيم عند فريق واحد ولا أدل على ذلك من حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المتواتر " تفترق أمتي إلى بضع وسبعون شعبة كلها في النار إلا واحدة" (2)

قلت:

لقد قرأت في كتب التفاسير، أن المراد بالمغضوب عليهم

وبالضالين هم اليهود والنصارى.

قال صاحبي:

إن غضب الله، وضلالة الناس، قد تشمل المسلمين، وأنت تعلم أن من المسلمين من يسخط الله عليه، عسى الله أن يتوب عليه.

لماذا يضيقون من معاني الكتاب العظيمة، والحال أن القرآن قد تحدث مليّا عن الضلالة.

فقال مثلا : "قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل" (3)

ص: 257


1- 13-14 الواقعة
2- مسند أحمد
3- 108-يونس

قلت:

هل يعني هذا، أن الإنسان لابد من تدخل إرادته، في الاهتداء،

والضلالة؟

قال صاحبي:

ذلك هو عدل الله، وتلك هي الحرية، التي أعطاها الله للإنسان، لكنه جعله في ذلك مسؤولا.

قلت:

لقد أعلمتني، أن القرآن قد تحدث بإسهاب، في معنى الضلالة.

قال صاحبي:

إن الضلال في القرآن، على أربع ضروب، فضلال قريب مثل قوله تعالى : " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين " (1) فهو ضلال داخل النفس، لا يعلمه إلا الله، ويأتي من الافتراء الباطن، على النفس بشدّة الكذب عليها.

قال فيه الله: " ونزعنا من كل امة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضلّ عنهم ما كانوا يفترون" (2) وهو ضلال مخفي، يعلمه صاحبه ويستأنس به، ويخفيه، حتى يقف على هلاكه.

ص: 258


1- 125-النحل
2- 75-القصص

وضلال واضح، وهو مخالفة نهج محمد وآله قَصَدَهُ الله في سورة الأحزاب فقال:" وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله

و رسوله فقد ضلّ ضلالا مبينا " (1).

أغلب الخلق في هذا النوع واقعون، لقوله تعالى في سورة الصافات : " ولقد ضلّ قبلهم أكثر الأولين " (2)

و ضلال آخر هو الضلال البعيد الذي له بعد واكتساح وهو قريب إلى درجة الموت، وهو الكفر بعينه، لقوله تعالى في سورة النساء " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلّوا ضلالا بعيدا " (3)

قلت:

أكُلُّ الضلال لا تراجع فيه ولا توبة؟

قال صاحبي:

إن الفاتحة تبدأ بالرحمة، وأبواب الله لا تغلق أبدا، فلو تمهلت لأعلمتك عن الضلال النسبي، الذي يبقى في مسألة أو جزء ويبقى معلقا، مقرونا بالتوبة، لقوله تعالى في سورة "الأعراف" "ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين " (4)

ويمكن أن نطلق عليه الضلال الظرفي.

ص: 259


1- 36-الأحزاب
2- 71-الصافات
3- 167-النساء
4- 149-الأعراف

قلت:

لقد فصلت لي الضلال، وفهمته كما لم أفهمه من قبل، فمن هم المغضوب عليهم؟

ابتسم صاحبي وقال:

عليك الآن أن تبحث عن الآيات التي تتحدث عنهم في كتاب الله، وتحاول تأملها، وتستفتح لنا مجلسنا هذا في المرّة القادمة.

غادرت صاحبي وأنا منشرح الصدر، أُسْرعُ الخطى حتى أحدث أختي وأقرأ لها، وهي تدون آيات المغضوب عليهم.

وبعد أن اجتمعت لدي كل الآيات التي ذكر فيها لفظ الغضب، بقيت أقرأها، وأعيد قراءتها متأملا، راجعا إلى موقعها من السورة، دونت بعض الملاحظات كما دونت ملاحظة أختي، التي أكدت على غضب الله على اليهود.

التقيت صاحبي مساءا، وبعد التحية بادرني بقوله:

كان حريا بنا أن نتناول المغضوب عليهم قبل الضالين، فالله يستثنيهم بداية، لأنهم في المرتبة الأولى من التبرّي، فالضالين منهم، من درجة ضلالتهم ظرفية، فما الذي وجدت في المغضوب عليهم؟

وضعت ورقة ملاحظاتي أمامي، حسب ما رأيت من آيات غضب الله، فإن الله يقرنها بالحزم والشدة كما في قوله تعالى في سورة النساء" ومن يقتل

ص: 260

مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابا عظيما." (1)

قال صاحبي:

أحسنت، ولتعلم أن المغضوب عليهم هم المتطاولون على حدود الله، وأحكامه كَرَمْي المحصنات والكبائر التي لها صلة بالأعراض، انظر قوله تعالى في سورة النور "والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين" (2)

نظرت في الورقة، وقلت له:

إن الاحتجاج على أحكام الله بمخالفتها، والتطاول عليها، ينزل غضب الله، والطرد من رحمته، فقد وجدت هذه الآية في سورة الشورى، " والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد " (3)

قال صاحبي (منبها):

عليك الحذر، فهنا ليس المقصود بالمحاجين، أولائك الذين عرفوا الله بعد عقيدة وعبادة، لذلك قال تعالى مشترطا" من بعدما استجيب له" فلا يمكننا مطالبة إلا المسلم بإقامة شرع الله في أرضه.

قلت:

ص: 261


1- 93-النساء
2- 9-النور
3- 16-الشورى

أيعني هذا، أن الكفار المنافقين غير مغضوب عليهم؟

فلقد وجدت في سورة الفتح هذه الآية "ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظنّ السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنم

و ساءت مصيرا" (1).

قال صاحبي (مبتسما):

أرأيت كيف أن الله، قد قرن نوعا من المنافقين، والمشركين، الذين سُدَّت أمامهم أبواب الرحمة، بأنهم ظانين بالله ظن السوء.

إن النفاق والشرك، درجات، ومن رحمة الله، أن لا غضب إلا على اليائسين، انظر قوله تعالى في سورة الممتحنة "يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا .قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور " (2) إن ما يغضب الله حقا هو اليأس من رحمته.

ص: 262


1- 6-الفتح
2- 13-الممتحنة

ص: 263

محور7- تصحيح في الصلاة

أ- الفتوى الحجَّاجيَّة

نظر صاحبي إلى الساعة الحائطية وقال:

لنقم نتوضأ، ونصلي في الوقت الاختياري، فليس أمامنا من عذر لتأخير الصلاة.

تركني صاحبي أتقدمه في الوضوء، وبقي يلحظني، فاستحسنت في نفسي ذلك، وقلت عسى أن يفيدني بنصيحة.

ولما أتممت وضوئي، وأخذت في تنشيف أعضائي.

تبسم وقال:

لقد لحظتك وأنت تتوضأ، فهلا لاحظتني، فاستحسنت ذلك ورأيته، بعد أن بدأ بدعاء لا أعلمه، غسل يديه إلى المعصمين ثلاث، ثم تمضمض اثنتين فقط، واستنشق أثنين، وغسل وجهه مرتين، وفعل كذلك بيديه إلى المرفقين، ثم لم يُعِدْ لمس الماء، فمسح مقدمة رأسه مرة.

ومسح بيده اليمنى مقدمة ساقه اليمنى مرَّة وبيده اليسرى مقدمة ساقه اليسرى مرَّة، فأصابني العجب من ذلك ولم أطق صبرا

فقلت له:

كيف تمسح برجلك ولا تغسلها؟ لقد خالفت قواعد الوضوء فإنه روى عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أنه كان يغسل رجليه (1)

قال صاحبي:

ص: 264


1- البخاري باب الوضوء

أعلم أولا أن للوضوء مكانة مهمة بالرغم من أنه يبدو عبادة" صغيرة "، ذلك أنه المدخل للصلاة، وما أدراك ما الصلاة.

فصَّله الله في الآية السادسة من سورة المائدة في قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وان كنتم جنبا فاطهروا وان كنتم مرضى او على سفر او جاء احد منكم من الغائط او لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وايديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " (1) ثم جعل له بديلا في حالة التعذر.

قلت:

إن الآية واضحة البيان، وفهمها من الناحية النحوية واضح، وجليّ، فهي جُمَلٌ قصيرة مبنية على فعل، وفاعل، ومفعول به.

قال صاحبي:

إذا كان هذا الحال من ناحية النحو فإن قسما من الآية "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين " فيه جملتين، الثانية معطوفة على الأولى لذلك ما كانت الحاجة لفعل المسح في الحديث عن الأرجل.

وهي من الناحية البلاغية قاعدة، لأن التكرار يصبح بلا حاجة، وأنت تعلم أن البلاغة، هي الاقتصاد في القول مع إظهار البيان.

قلت:

ص: 265


1- 6-المائدة

أفي كلام الله شك؟

قال صاحبي:

بل شكوك يا أخي فلماذا تغسل أنت رجلك؟

قلت (مذهولا):

إني أصلي منذ صغري، ولم أجد أيا كان يمسح رجله سواك

قال صاحبي:

وهل يعني هذا، أنكم تخالفون ما جاء في كتاب الله في عبادة هي مفتاح الصلاة، فتجمعون على ذلك على أحقاب وعصور، وتتداولون هذه العادة، فهل يشفع لكم هذا؟ أمام بيان الآية السادسة من سورة المائدة

قلت:

كلامك منطقي، عقلاني، واضح، بل إنك تحرك مسألة قد أخذناها، وقلنا أن الرسول (صلى الله عليه وآلة وسلم) كان يفعل كذلك.

بدت على صاحبي علامات الغضب وتغيرت نبرته فقال:

كُفَّ عن هذا يا رجل، فلا يليق برجل مسلم في عصر متقدم كهذا، بلغ العلم فيه أطوارا، أن يأتي ويقول بأن الرسول يشرع مسألة يخالف فيها الله، فربما كنتَ مستندا على أحاديث مما يروى هنا وهناك.

قلت(مستدركا):

حاش لله أن يكون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) يخالف ربّه لكن هكذا علمونا

قال صاحبي:

ص: 266

إني أعلم جيدا، لماذا أنتم تفكرون بلا عقول، فالمنطق السليم يقول إن الوضوء عبادة وليس مجرد نظافة أو غسل للأعضاء، وإلا لَتَدَبَّرَ كل واحد منا أمره.

إنها عبادة يريدها الله، ولا نريدها نحن، فكيف سيخالف فيها الرسول ربّه؟

قلت:

فكيف خالفناه إذن؟ ألم يكن فينا رجل عاقل؟

قال صاحبي:

العقلاء في كل زمان، لكن إذا رَبَّينَا النفس على شيء، استدامت عليه وصار من البديهيات التي لا تناقش، وتؤخذ كما هي، ومن هنا يتسرب الشيطان.

قلت:

لابد أن هناك سببا أكثر قوة من هذا، جعلنا نغسل أرجلنا، والحال أنه يجب علينا مسحها.

قال صاحبي:

إن كنت تبحث عن السبب القريب فهو بفعل الفتوى الحجَّاجيَّة (1)، أما إذا أردت التعمق في الأسباب العميقة والبعيدة فهي تبدأ أولا من مخالفة أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قي الخروج في جيش أسامة، ثانيا عند منع رسول الله من كتابة كتاب للأمة،

ثالثا أحداث السقيفة وما دار فيها،

ص: 267


1- نسبة للحجَّاج ابن يوسف الثقفي

رابعا نقض بيعة أمير المؤمنين يوم الغدير وتولي الخلفاء الثلاثة من بعد رسول الله وما ابتدعوا في أمر الدين وهذا ما مهَّد للحجَّاج وأمثاله من التطاول على شرع الله.

قلت:

حقيقة إن الأسباب تصب في بعضها، وهذا ما بيَّنته لي سابقا عند حديثنا عن الصحابة، لكني لم أتصوَّر أن من مُخَلَّفَات تلك الأحداث أن تصل في تبعاتها ونتائجها إلى تحريف فريضة وتغيير ما كان يقوم به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن نعتقد أننا في النهج الصحيح وعلى القدوة الحسنة فنأتي بالباطل ولا ندري، ومما فهمت من كلامك أن الخطأ الذي توارثناه في غسلنا لأرجلنا وعدم مسحهما أسباب في ذلك بعيدة فهمناها، وقريبة قلت أنها حجَّاجيَّة، فما القصد في ذلك؟

قال صاحبي:

فلتعلم إذن، أن الحجاج بن يوسف الثقفي، على عهده كان يقف على المنابر، ويقول للناس أغسلوا أرجلكم فإنها أقرب ما تكون من الخبث، فَقَاتِلُ الصالحين، وهَاِدمُ الكعبة الشريفة، الداهية الماكر، لم يستطع أن يبتدع في الصلاة، فابتدع في الوضوء.

قلت:

أأمرهم بالقوة؟

قال صاحبي:

لو أمرهم بالقوة لما أستطاع منعهم من مسح أرجلهم وهم في ديارهم، ولكنه قد أمرهم مستندا على رواية تقول بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد

ص: 268

أنكر على بعض من أصحابه ترْكِهم الخبث في مؤخرة أرجلهم، مما أحدث أذى لمن يصلي خلفهم فهي كلمة حق أريد بها باطل.

مقصد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أن المصلي نظيف طاهر، أما المسح في الوضوء فهو مسألة شرعية لا يجوز للرسول مسها ولا لأي كان، مهما اختلفت العصور والدهور.

ثم لتعلم، أن أوامر الله ليس فيها صغيرا، أو كبيرا، فاستبدال المسح بالغسل، هو كأن يأتي رجل ويحرم الحج، فكلها عبادة لا تعني إلا الطاعة فإذا لم تتوفر الطاعة ما كان من معنى للعبادة وأصبحت تقليدا أعمى، إن الله يُحب أن يُعبد كما يحب هو.

قلت:

كم من كبيرة تبدو صغيرة، فلم يكن يخطر ببالي، أن وضوئي اقتداء برجل، كان أفسق الناس في العراق وخراسان.

قطع الرقاب لمن خالفه، وأنا على يقين ّأنه وجد من يسانده، لأن الناس على تلك العصور، كانوا يضعون الأحاديث ويملونها لمصالحهم.

قال صاحبي:

بالرغم من هذا البيان الواضح في الآية، إلا أن الأمَّة بقيت غارقة في الفتوى الحجاجية، تتعبد ربها بها، تاركة أمر ربها وفعل نبيها.

قلت:

فهلا قمنا إلى الصلاة.

قال صاحبي:

هلا أصلحت وضوءك حتى تصح صلاتك.

ص: 269

ب- المواقيت غير الصلاة

قمت فأعدت الوضوء وهو يرشدني وأنا أستغفر الله تارة

وأضحك من نفسي تارة أخرى.

قال صاحبي:

اجلس أولا وحدثني ما تعرف عن وقت الصلاة؟

قلت:

أوقات الصلاة خمسة:

الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.

قال صاحبي:

تلك هي الصلوات لا أوقاتها.

قلت:

هي خمس صلوات في خمسة أوقات.

قال صاحبي:

إن كتاب الله لا يتفق مع كلامك، سأعطيك الأدلة، ولتكن أنت الحكم.

لنبدأ بسورة "الإسراء"، ففي الإسراء والمعراج، تم تشريع الصلاة فانظر ما يقول الله في أوقاتها، " أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا" (1)

قلت:

لم أفهم قصدك جيدا.

ص: 270


1- 78-الإسراء

قال صاحبي:

إن قوله تعالى:" لدلوك الشمس إلى غسق الليل" هذا وقت معلوم يسمى فقها وقت الظهرين.

قلت (مقاطعا):

والله إني قد قرأت هذه العبارة في أكثر من مصدر لكني لم أفهم معناها.

قال صاحبي (مبتسما):

الظهر والعصر يشتركان في الوقت ويسميان اصطلاحا الظهرين فبعد هنيهة من دلوك الشمس يمكنك أن تصلي الظهر أولا وتأتي بالعصر على إثره.

قلت:

أ أصلي العصر قبل وقته؟

قال صاحبي:

إن ربك قد اختار لهما وقتا واحدا، من دلوك الشمس إلى غسق الليل، حتى لا يثقل عليك فإن شئت فرَّقت بينهما، وإن شئت أتيت بهما جمعا.

قلت:

تذكرت حادثة، وهي احتجاج بعض من صحابة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) على الصحابي ابن عباس لما أطال في درسه (1) فتململوا خوفا من ضياع الوقت فنهاهم عن ذلك وأعلمهم أن الرسول كان يجمع

ويفرّق ويقصّر في غير خوف ولا مطر ولا سفر.

قال صاحبي:

ص: 271


1- البخاري

تلك رحمة الرحمان الرحيم، فانظر إلى باقي الآية حيث يقول" أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا" (1) فمن غسق الليل إلى قرآن الفجر وقت آخر فهل تعرف ما هو؟

قلت:

ربما تعني صلاة العشاء.

قال صاحبي(مبتسما):

فأين ذهبت بصلاة المغرب؟

قلت:

نصليها عند الغسق.

قال صاحبي:

إن الله قد جعل غسق الليل حدّا لوقت وبداية لوقت آخر فلتعلم إن هذه الفترة، تسمى وقت العشاءين.

قلت:

فعلا إني أستحضر مليا هذه العبارة في كتب المالكية.

قال صاحبي:

بل هي تقريبا في كل كتب الفقه، وليست هذه الآية الوحيدة التي تحدد أوقات الصلاة، وتؤكد على أنها خمس صلوات، في ثلاث أوقات.

صلاة وسطى، هي صلاة الصبح (2)، التي تربط يوما بيوم، وتأتي موجزة في وقتها، في الوقت الذي يلذ فيه النوم ويستطيب، لذلك فأجرها عظيم، ومقامها

ص: 272


1- 78-الإسراء
2- اختلف جل الفقهاء في أمر الصلاة الوسطى بين قائل أنها الظهر وقال آخر أنها العصر وقال آخر أنها المغرب

كبير، وفوائدها لا يمكن حصرها، فيكفي أن تعلم أن الملائكة تشهدها، وأن من صلاها حاضرة كان في ضمان الله، ورعاية ملائكته.

لتعلم، أن أوقات الصلاة مذكورة بعددها، أي في خمس مواقع من كتاب الله، فاجتهد في ذلك وأبحث عنها، وليكن لنا مجلس، نتحدث فيه بداية، عن الأوقات، ثم نتحدث فيه عن قيمة الصلاة في كتاب الله، وهيا قم، نتوجه إلى الله بقلوب خاشعة.

حدثت أختي في تلك الليلة، بما دار بيني وبين صاحبي، من حديث الوضوء، والفتوى الحجاجية، وأحسست بنفسيتها في بداية الأمر تتململ، لكنها بعد ذلك خاطبتني:

كيف للأمة أن تغفل عن أمر كهذا، الأكيد أن هناك من دعم الفتوى الحجَّاجيَّة، وناصرها، وفرضها، حتى صارت من البديهيات، شأن كثير من الأشياء التي نتوارثها في حياتنا، وهي مغلوطة.

قلت لها:

أيعني هذا أنك ستمسحين رجليك عند الوضوء؟

ص: 273

قالت:

إذا لم أمسحهما، استجابة للفقه، أو العادة، أو لروايات، الله أعلم بمصدرها، فكيف سألاقي الله يوم القيامة، ويسألني عن آية الوضوء في سورة المائدة.

قلت (معقبا):

خاصة وأنني قد بينت لك ما بينه لي صاحبي، وأكد عليه بالحجة العقلية والشرعية.

قالت:

لقد أقمتم الحجة عليّ، والحمد لله الذي هداني لهذا، وإن لي طلبا أريدك أن لا تخذلني فيه.

قلت:

أنت أقرب الناس إلى قلبي.

قالت:

استدعي لنا صاحبك، واترك الحديث الذي كان سيتحدث به إليك حول قيمة الصلاة، حتى أطرح تساؤلاتي مباشرة.

طلبت صاحبي على الهاتف وأعلمته برغبة أختي، فلم يتردد للحظة في قبول دعوتها، وأشترط في ذلك أن أخرج له آيات مواقيت الصلاة من كتاب الله.

كنت أعلم، أنه على علم بها، لكنه رجل مربّ، أراد تطويع نفسي وجذبها نحو كتاب الله، واستحسنت ذلك، ووضعت تلك الليلة المصحف أمامي، وبدأت أقرأ قراءة سريعة حتى وصلت للآية 205 و206 من سورة الأعراف، فدونتهما على الورقة أمامي، عندها أقبلت أختي مستفسرة فأعلمتها بالأمر

فقالت:

ص: 274

إني لا أعارض قراءتك لكتاب الله طبعا، لكن لتعلم يا أخي، أنه عصر الوسائل المتطورة للأقراص الخاصة، أو المواقع على الانترنت، فيكفي أن تضغط على زر بعد أن تعطي جملة رمزية خاصة بمسألة، حتى تأتيك الآيات في الموضوع الذي أردت.

ثم تركتني وعادت إلى غرفتها، وبعد برهة قدمت وفي يدها ورقة قد كُتب فيها، خمس آيات من خمس سور تتحدث عن مواقيت الصلاة. الآية 79 من سورة "الإسراء"، والآيتين 205 و206 من "الأعراف"، والآية 40 من سورة "ق" والآيتين 25 و26 من سورة "الإنسان"، والآية 130 من سورة "طه".

قلت لها:

هذه أوقات الصلوات المفروضة فهل تظنين أن الله قد أغفل ذكر النوافل خاصة وأن النوافل تُقرِّب العبد من ربه؟

قالت:

إن الله قد جعل سورة إسمها "الأنفال" وقد قال فيها "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم واطيعوا الله ورسوله ان كنتم مؤمنين " (1)

قلت لها:

على حدّ علمي، إن النافلة جمع أنفال والمعنى في الآية واضح، فالأنفال لله وللرسول، لكني أتساءل عن وقتها لأني قرأت في بعض كتب الفقه الصفراء،

ص: 275


1- 1-الأنفال

أن منهم من رأى أن في الوقت القليل السابق لغروب الشمس، لا تجوز فيه النافلة، متعللين بأن عَبَدَةَ النار يصلون في تلك الأوقات.

ضحكت أختي وقالت:

والله إني لست على علم جيد بالفقه، لكني أتساءل ما علاقتنا بعبدة النار.

ضحكت من قولها وداعبتها قائلا:

أتركي أسئلتك جانبا واسألي عنها صاحبنا في لقاء الغد، وقومي إلى نومك حتى يسهل عليك أمر صلاة الصبح.

كان قدوم صاحبي علينا، قد أدخل في نفسي أنا وأختي، بهجة وسرورا فهذا رجل متميز بأخلاقه، وعقلانيته، وبعد أن أعلمته ما دار من حديث.

تبسم طويلا وقال:

بورك لكما، أعلما أن الآية التي تتحدث عن النوافل، هي الآية من سورة "هود" " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين" (1)

إنها تتحدث عن المداومة على النوافل، بقرن طرفي النهار أي تأديتها وفق نظام، وكذلك أفضلية القيام بها ليلا.

لكن الأحرى بكما، وقبل إجابتكما عن أوقات النوافل، أن تفهما جيدا أوقات الصلوات المفروضة، فما من عمل أحب إلى الله، من الصلاة على وقتها، وما من عمل سيء عند الله كالتعسير في عبادته بتضييق الوقت، لأن ذلك يتنافى مع صفة الرحمة، ويجعل الناس في نفور.

ص: 276


1- 114-هود

قلت:

حقيقة، لقد عَجِبت خاصة من وقت المغرب، الناس في بلدي لهم قولة شهيرة " المغرب فارس ".

قال صاحبي (مداعبا):

إذا كان المغرب فارسا فالعشاء إمبراطورا. اتقوا الله، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسميهما العشاءين ويتحدث عن وقتهما في الآيات الخمس التي بين يديك، فيحد بداية الوقت بالغروب والآصال، ثم تجده مباشرة يتحدث عن آناء الليل، لأن ذلك هو الوقت الشرعي، أنظر قوله تعالى في سورة طه

فقرأت أختي:

" فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى " (1)، هذه الآية قد جمعت أوقات الفرائض والنوافل.

ص: 277


1- 130-طه

ص: 278

ت- كنه الصلاة

قال صاحبي (في ثقة):

كل الفرائض التي تحدث عنها الله في كتابه، لم يربطها بمفهوم الإقامة، لكنه عند الحديث عن الصلاة، فإنه قد ربطها بهذا المفهوم... فهل تدريان ما الإقامة؟

قالت أختي:

الإقامة هي المكوث والاطمئنان.

قلت:

الإقامة هي تمام البناء، كأن نقول فلان أقام بيتا.

قال صاحبي:

أحسنتما، لكن عليكما دائما الرجوع إلى كتاب الله.

إن للغة أدوات مستعملة، وقد يتخذ اللفظ شكلا، ومفهوما في الاستعمال الاجتماعي، وقد يأتي متطابقا مع الاصطلاح القرآني، وقد يختلف معه، لأن مفاهيمه متغيرة، لأنه إنساني، واللفظ القرآني مفاهيمه ثابتة، لأنه إلهي.

قالت أختي:

مما أستحضر من أفعال الإقامة، قول الله تعالى في سورة البقرة

" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين " (1)

قال صاحبي:

أترين، كيف ارتبط مفهوم القيام بالقنوت.

ص: 279


1- 238-البقرة

قلت:

يستحضرني مفهوم إقامة الدين من مجرد أن نكون محسوبين عليه، ولكن مراعاة أركانه وقبوله على تمامه.

قال صاحبي:

في ذلك الناس درجات، لكن، لتعلما أن مفردة الصلاة إن وردت وحدها في الكتاب، كانت لا تعني إلا ربط الصلة بالدعاء، كقوله تعالى " خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم" (1)

قالت أختي:

أو كقول الله تعالى "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا ايها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " (2)

قال صاحبي:

الصلاة في ذاتها، فرض لابد من الإتيان به، لكن في إقامتها الفائدة المرجوة، والتميز، وهي علامة من علامات التفوق، " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون " (3)

قلت:

ص: 280


1- 103-التوبة
2- 56-الأحزاب
3- 2-3-البقرة

أعلمُ، أن في الأحاديث المروية عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أن الصلاة يوم القيامة هي مقياس العمل، وهي أول ما يحاسب عليه المرء (1).

قال صاحبي:

أول ما يحاسب عليه، لأنه من لا صلة له بالله كما يحبها الله فلا حظَّ له.

قالت أختي:

لقد صلينا صلاة، فيها الكثير من النقص، والزيادة، والآن أين ذهبت كل تلك الركعات، ألسنا مأجورين في ذلك؟

قال صاحبي:

الأجر والجزاء بيد الله، لكن ما نعلم أن الله يحب أن يعبد، كما علَّم رسوله.

إن الله أقرب إلى الإنسان من قلبه، فإن كان صادقا أبدل الله سيئاته حسنات، لكن بشرط الصدق، والطاعة، وعدم الجحود، والمراء، والعبادة من غير علم ولا كتاب منير.

قلت:

أفهم من هذا أن الصلاة يمكن أن تكون كذلك شكلا مفروغا.

قالت أختي:

هذا بيّن في كتاب الله، ألم يتحدث الله عن منافقين كانوا يصلون مع رسول الله.

قال صاحبي:

ص: 281


1- البخاري

بل إنها يمكن أن تكون إذا أردنا ذلك شكلا مفروغا، بل أكثر من ذلك تمويها.

أنظرا إلى قوله تعالى في سورة الفاضحة، " وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم الا انهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون". (1)

قالت أختي:

إذا كان هؤلاء قد جعلوا من الصلاة مطية لأغراض دنيئة، واختلطوا بالمؤمنين، بل إنهم على عهد رسول الله، قد بنوا مسجدا لاصطياد ضعاف النفوس، فحاربهم الرسول، وفضحهم، فكيف لنا نحن أن نعلم هؤلاء؟

قلت:

إن الله قد تحدث عن صفة كبرى، من صفات المنافقين، بأنهم لا يستطيعون إقامة الصلاة، بحسب المفهوم الذي حدثنا به صاحبنا، ذلك أنهم إذا قاموا إلى الصلاة أتوها متكاسلين.

قال صاحبي:

بقي أن تعلما، وهذا الأصلح لكما في هذا المقام، لما لمسته فيكما من صدق، أن قيمة الصلاة الظاهرة، بأنها اتصال بالغيب، ومفتاح مهم من مفاتيح الأعمال.

قالت أختي:

تعني الاستعانة بها؟ في التغلب على تشعبات الدنيا وصعوباتها

ص: 282


1- 54-التوبة

قلت لها:

الله قال في ذلك " واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة الا على الخاشعين " (1)

قال صاحبي:

إن مقصدي هو أن الصلاة اتصال بالخالق، اتصال فيه تبادل فالله يخاطبك من خلال قرآنه ويسمعك من خلال دعائك وتسبيحك، وتلك اللحظات القليلة أقرب ما تكون فيها إلى الله، تقترب منك ملائكته وتسبح معك الكائنات، ويتوحد العابدون في قبلة واحدة، دون اتفاق بينهم، لكنه اتفاقهم مع الله.

إن المقصود بالآية " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون " (2) القصد المبدئي فيها، هو الصلاة والجهاد، لأن تنزّل الملائكة وكما رأينا، وأن التنزل غير الإنزال، والتنزيل لا يكون إلا لحضور الصلاة أو للنصرة.

إن الصلاة هي الرابط بين عالمي الغيب والشهادة، من خلال إنسان واقف، متوجه قلبه، متصل عقله، متفرغ، يحس الاطمئنان في كل حركة، وما تلك الحركات إلا تعبير عن الطاعة ولو تأملتها جيدا لوجدتها اختزالا لحركات كل المخلوقات.

قلت (متلهفا):

ص: 283


1- 45-البقرة
2- 30-فصلت

ما هذا يا صاحبنا؟ فوا لله يا أختاه لقد زادني هذا الكلام حبا في الصلاة وعمقا، ولقد طلبت من صاحبي مرات، أن يحدثنا في الأمور الهامة، من عباداتنا، فهاهو قد حدثنا اليوم عن الصلاة، فسأترك له أن يحدثنا مرة أخرى، في أمر من أمور الأركان الهامة.

قالت أختي:

فيما ستحدثنا؟ بارك الله فيك.

قال صاحبي:

دعا الأمر لي، ولتعملا بما تحدثنا به حتى لا يكون حديثنا أكثر من فعلنا ويكون حجة علينا، لا حجة لنا، واستودعكما الله وبارك الله فيكما.

ص: 284

محور8- روح الأركان

أ- روح الصيام

لطالما ألححت على صاحبي، بأن يحدثني عن كثير من تأويل آيات الله، بعد أن بيَّن مليا الفرق بين التفسير والتأويل، وكان يؤجل ذلك، معتبرا أن المسائل تكون على درجات، وبمراحل مؤكدا أن هذا هو منهج الله في كتابه، وهو منهج الأنبياء، والأئمة، وقد سألته كذلك أن يحدثني عن الأئمة، لكنه كان يرجئ الكلام في ذلك.

وذات يوم ألححت عليه، فبادرني بدعابة قائلا:

إذا كنت صائما، حدثتك وإذا كنت مفطرا لم أحدثك حتى نتساوى في الدرجة.

قلت:

هل هذا يوم تطوع، إنه يوم السبت فكيف تتطوع بالصيام في يوم كهذا؟

ضحك صاحبي قائلا:

ألم يخلق الله السبت؟ إنه يوم من أيام الله وإذا كان في هذه السنة، وفي هذا الشهر، قد وافق الأيام الوسطى أي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، من الشهر الهجري التي أمرنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن نصومها. (1)

قلت:

ص: 285


1- البخاري والترمذي ...

إني أعلم أنه من السُّنَّة صوم يوم الاثنين والخميس، وأنه من المكروه صيام يوم السبت، والجمعة، ذلك أن يوم السبت هو عيد لليهود وأن يوم الجمعة عيد المسلمين.

قال صاحبي:

لا تصم في عيد المسلمين ولا اليهود، ابحث إذن عن عيد المجوس وعبدة الشيطان، والوثنيين، عبر التاريخ فلن يبقى لك ربع يوم لتصومه فأي دين هذا؟!

إذا اعتبرنا أن الأيام ملك لغير الله، فالله يا بني، يُعبَدُ في كل لحظة وحين دون قيد أو شرط.

فهل رأيت تطوعا لشخص يفرض عليه إلزامات معينة؟ فما بالك إذا كان التطوع لله الرحمان الرحيم.

قلت (مبهوتا):

هذا ما علمونا.

قال صاحبي:

ومن علَّمك علَّموه، ومن علَّموه علَّموهم، فأين المسؤولية أمام الله، فهل أنت ورقة تذروها الرياح؟! أم أنت قصبة ينفخ فيها الهواء؟! وَطِّن نفسك يا أخي.

قلت:

ما أردت في ذلك إلا فهم صيام التطوع ووقته.

قال صاحبي:

أعلم، أن ما يهم في صيام الفرض، والتطوع، هو التقاء روح الصائم، بالطاقة القصوى من الإيمان، ألا وهي طاقة الصبر. إن الامتناع عن

ص: 286

الطعام والشراب، يمكن أن يحدث من غضب أو نصب، أو مرض، أو اعتقاد فاسد، أو احتجاج أو شكل من أشكال الانتحار والعياذ بالله.

قلت (متدخلا):

لم أفهم جيدا مقصدك؟

قال صاحبي:

أردت أن أقول لك بكل وضوح، إن الامتناع عن الأكل والشرب يجب أن يكون لغاية سدّ الطريق، أمام كل الشهاوي الأخرى، لتأديب النفس، وصقلها.

إن بداية سد الطريق أمام كل أصناف الشهاوي، تبدأ من اللذة الأولى التي لدى البشر وهو رضيع، لذة الأكل والشرب، إنَّ قَتْل الشهوة هو قبضٌ على النفس الضعيفة، والمتسترة والمراوغة، والارتفاع بها، عن الغذاء المادي الذي يحكم حتى البهائم، إلى الغذاء الروحي الذي يشبع النفس، فيصبح ما هو أساسيا ظاهرا، ثانويا في الحقيقة، ويصبح ما هو ثانويا، متقدما ومعتنا به.

قلت:

إنك تذكرني بمعنى أدبي إذ غاية المحب أن يبذل من أجل محبوبه أغلى ما عنده ليكسب ودّه والعبد الصالح يفعل ذلك من أجل ربّه فالصوم لله وهو يجزي به (1)

قال صاحبي:

لذلك يا أخي جزاء الصوم غير محدود.

قلت:

ص: 287


1- البخاري ومسلم

إذًا، سأكمل معك تطوعي غدا وتحدثني في مسألة كانت محل نقاش حَدَّثَتْنِي عنها أختي بين بعض المثقفين عن مفهوم الجهاد في الإسلام.

قال صاحبي:

أحدثك في ذلك على مائدة الإفطار عندي في بيتي، وانصرفنا وبت ليلتها أعد أنا وأختي الأسئلة عن مسألة شغلت المسلمين في كل عصر.

كان صاحبي، قد أحضر مائدة في غاية الكرم، وكان معنا هذه المرة، ابنه المتزوج حديثا، وعندما سمعت المؤذن يؤذن، مددت يدي إلى الماء، لكنه أمسكني منها

وقال:

أتريد إبطال يومك؟ لم يحن الوقت بعد.

تبسم ابنه قائلا:

إن لأبي نواميس خاصة، إنه يعتبر أن وقت الإفطار هو وقت الليل لا المغرب.

فاعترض عليه صاحبنا قائلا:

إن الاختلاف الذي بيني وبين ابني، سيجعلك تستفيد، فأنا لا أصدر أحكاما، فالله عز وجلّ قد قال: " احل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم هن لباس لكم وانتم لباس لهن علم الله انكم كنتم تختانون انفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالان باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين

ص: 288

الله آياته للناس لعلهم يتقون " (1) و لو كان القصد غروبا، أو مغرب الشمس، لقال الله ذلك، لأن هذه الفترة من النهار، دقيقة، وقصيرة.

هي مرحلة بين مرحلتين، لا يتحقق فيها دخول الوقت، لكن يتحقق فيها بداية التحول في الوقت.

قال ابنه:

بعض المساجد والجوامع يتركون من عشر إلى خمسة عشر دقيقة ثمّ يصلون صلاتهم.

قلت:

ولكن هل يتعارض وقت الإفطار مع وقت الصلاة؟ ألا يعني دخول وقت الصلاة حلول وقت الإفطار؟

قال صاحبي:

تخيلا أن بعض كتب التفاسير قد ذهبت في فهم الآية التي ذكرت إلى أن المعنى هنا فقط هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي كان يصوم إلى الليل وهذا بهتان ظاهر فالخطاب الإلهي موجه إلى الجماعة.

قال ابنه:

إن مفتاح المسألة حسب رأيي، يكمن في تعريف الليل.

قال صاحبي:

بكل بساطة، الليل مرتبط بالظلمة، سواء أكانت الظلمة في أولها، أو في حلوكها، أو في اقتراب الفجر منها.

ص: 289


1- 187-البقرة

قلت:

لكن أظن أن الليل لا يمكن أن يكون، والضياء منتشر بالرغم من أن الشمس قد بدأت في الأفول.

قال صاحبي: إن كلمة " إلى الليل " لغة كقولك ذهبت إلى المكان، فحالما تدخل المكان بكامل جسمك تكون في المكان، إذا فبداية انتشار الظلمة بعدم تبين الأشياء هو الوقت الشرعي للإفطار.

قلت:

الناس يتسرعون في الإفطار.

قال ابنه:

إن النية هي المطلوبة في ذلك.

قال صاحبي:

النية مقرونة بالعمل، وهذه المسائل قد تبدو لكما مسائل شكلية، ولكن فيها من الحكمة الإلهية، ومفهوم الطاعة، والتوحد في عبادة الله، ما يجعل لها قداسة تُدخِل بها إلى النفس الشعور بالرضاء وحسن الجزاء.

و إني أذكر هنا حادثة في سيرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن رجلا كان يقاتل مع المسلمين بضراوة، لكن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أشار إلى أنه من أصحاب النار، فتعجب من حوله، وعند نهاية المعركة قَتَلَ هذا الرجل نفسه، ففهم البقية أنه كان يقاتل لغاية في نفسه (1)

قلت:

ص: 290


1- البخاري ومسلم....

ألا ترى معي أن الصوم نوع من الجهاد لا يقل عن حمل السيف.. قطع ابنه حديثنا معتذرا

ص: 291

ب- مؤسسة الجهاد

قال صاحبي:

لابد لك من الصبر على نفسك وعلى أهلك، وهو أعظم جهاد وإنك ترى أن الأنبياء والأوصياء قد اختلفوا مع البعض من مقربيهم، فلم يغير ذلك في مسارهم شيئا.

قلت:

إني متمسك بأن تحدثني هذه الليلة، في مسائل عالقة بذهني، تخص مفهوم الجهاد في كتاب الله.

قال صاحبي:

إن الجهاد مرتبط ارتباطا كبيرا بمفهومي الاستخلاف والولاية.

قلت:

هلاّ، فصلت لي القول حتى أفهم المقصد جيدا؟

قال صاحبي:

إن حياة الأنبياء، والرسل، جهاد مستمر، وهم يعطون مشعل الرسالة لمن بعدهم من أوصيائهم، فصراع الحق والباطل مستمر.

إن ديدن الرسالات التي أنزلها الله، قائم بالأساس على معارضة أكثر الخلق، ورفضهم، بشن حملات كبيرة من التكذيب.

قال تعالى: "كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود *

ص: 292

و عاد وفرعون وإخوان لوط * وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذَّب الرسل فحق وعيد" (1)

قلت:

لعل عبارة "إنْ كلٌّ" تعني أن تلك قاعدة عامة

قال صاحبي:

أحسنت، هذا تدبر طيب، ولولا قيمة هذه الرسالات، لما جابهها أحد، إن الرسالة قبل ذلك تجاوز للذات.

قلت:

لعلك تقصد جهاد النفس؟

قال صاحبي:

إني لم أذكره في بداية حديثي، لأنه أهمها، وأصعبها، ومنطلقها، ومفتاحها، فالفرق بين الناس، هذا مغلوب من نفسه، وهذا غالبها قال تعالى " قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دسَّاها" (2)

قلت:

إن المسلمين لا يختلفون أكثر الأحيان في هذه المعاني، ولكن لطبيعة واقعهم وخاصة الأرض المحتلة في بيت المقدس،

والاضطهاد الذي يرونه من العالم المتفوق، يجعلهم مختلفين في تحديد مفهوم الجهاد القتالي، وطريقة الدفاع عن النفس.

ص: 293


1- 12-13-14-ق
2- 9-10-الشمس

إني أريدك أن تبين لي ذلك، من الناحية الشرعية.

قال صاحبي:

الجهاد القتالي في نص الله، يتطلب ثلاث شروط:

أولها حسن الولاية في الصراط المستقيم.

ثانيها وحدة الصف.

ثالثها أخْذٌ بأسباب القوة، من رصد، وتهيئة، وعدم الظلم

وعدم انتهاك المحارم.

قلت:

فما تعني الولاية في الجهاد القتالي؟

قال صاحبي:

الولاية في الجهاد القتالي، أن الأمر لا يصدر عن جانب، بل يتطلب العلم، والأمر الشرعي الموكول لخليفة النبي أو الرسول، وإن فُقِدَ الولي الشرعي، فمن ينوبه؟

تأمل قوله تعالى " هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين " (1)

فالبيان: للكتاب والنبي أو الرسول.

والهدى: في كل جوانب الحياة للإمام الذي لا يخلوا منه عصر. حسن الاتّعاض: للمتقين الذين هم على النهج، ولا يصدر عنهم إلا أمر شرعي فيه رحمة للخلق، حتى وإن كان أمرا بالقتال.

قلت:

ص: 294


1- 138-آل عمران

لم أفهم هذه.

قال صاحبي:

الأمر بالقتال إزهاق للنفس، وهو حلّ أخير، لرد ظلم أو تعد على حرمات، أو سلب حق، لأن الأصل في السّلْم لا في الحرب. قال تعالى " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله انه هو السميع العليم " (1) لا يكون اعتداء، ولا غزوا، ولا هتكا، بل هو إرجاع الأمور إلى نصابها، وكلما وجد طريق لحقن الدماء، إلا وسار فيه المسلمون،

" ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من امن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين واتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وإقام الصلاة واتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون " (2) ولك في سيرة الرسول والأئمة خير مثال.

قلت:

حال المسلمين المضطهدين اليوم أن كل منهم يدعي شرعية كفاحه واقتتاله.

قال صاحبي (في بساطة):

إذا كان خاضعا للمقاييس الشرعية فهو شرعي وهو جهاد قتالي عند الله، والميت فيه شهيد، أما إذا كان رأيا أحاديا أو فهما خاطئا قائما على تكفير

ص: 295


1- 61-الأنفال
2- 177-البقرة

الناس، والتشدد، فهو ردة فعل، وردة الفعل في هذا من ناحية الشرع، مرفوضة وهي مجرد إجرام، كقاتل نفسه، لأنه لا ينفع المسلمين ولا ذاته، وهو إلى مصير مجهول.

فالنفس غالية عند الله لا توهب إلا في وضوح وإيمان واتباع واضح للصراط المستقيم.

" ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنه لا يصيبهم ضمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيض الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون" (1) فإذا كان وهب الجهد ووهب المال والاحتياج "المخمصة" في سبيل الله، أجره أحسن أجرا فما بالك بوهب النفس والحقيقة أن الله يختار هذه الأنفس وهي مكتوبة عنده في جنات النعيم، انظر قوله تعالى في نفس السورة:

" قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون* قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحُسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون" (2)

قلت:

ص: 296


1- 120-121-التوبة
2- 51-52-التوبة

وشرط وحدة الصف؟

قال صاحبي:

من الأشياء التي توجب وحدة الصف، هي تحديد أمر الجهاد القتالي، فالاختلاف يُوَلِّدُ الفُرقة في هذه المسائل.

لابد من بناء مرصوص، يشد بعضه البعض، لأن التفرقة في هذه المسائل تجعل كل من المفترق، يعطي الحق لنفسه حسب هواه، وعوض أن يكون العدو خارجيا، يصبح داخليا، يحدث الهزيمة قبل بدأ المعركة ولك في سورة" براءة" أو" التوبة" أو "الفاضحة" أمثلة عدة.

كقوله تعالى: "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحرّ قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون" (1)

فتأتي الطعنة في الظهر، وفئة النفاق، أخطر على المسلمين في معاركهم الشرعية من العدو الكافر المعتدي الظاهر، وهذا حال المعركة حول بيت المقدس منذ سنين عدّة.

قلت:

و الشرط الثالث، المتمثل في إعداد الأسباب، هل يتنافى مع قوله تعالى " وما جعله الله الا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم " (2)

ص: 297


1- 81-التوبة
2- 126-آل عمران

قال صاحبي:

بل هو تأكيد لهذا المفهوم، فالله عادل حكيم، لا يعطي نصرة إلا بحكمته وما على المسلم إلا التقيد بأبجديات ذلك، فالله يقول:"

و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم واخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف اليكم وانتم لا تظلمون " (1)هذا في القوة المادية، ويقول في القوة الإعلامية " فاذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فان تابوا واقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم " (2)

وما إلى ذلك من موجبات المعركة، فالله يتحدث في كتابه في مواقع كثيرة عن العهود والمواثيق وتقسيم غنائم الحرب، وتنظيم الصفوف وحقوق الأسرى.

إن الله لم يترك كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، وإذا ما أُخِذَ بهذه الأسباب من الطاعة الفعلية كما يحبها الله جاء نصره حتميا، ولك في الأمثال الحية خير مثال.

قلت:

إن الكفار، كذلك ينتصرون في المعارك.

قال صاحبي:

ص: 298


1- 60-الأنفال
2- 5-التوبة

إنهم وإن كانوا كفارا فقد أخذوا بالأسباب، وبالقانون الذي وضعه الله للنصر، وتلك سُنَّة من سنن الله لكن إذا قابلهم فريق مؤمن، متخذا للأسباب، حتما يكون النصر له.

أما إذا أخلَّ بالأسباب، فهذا لا يعني إلا فساد الإيمان والاضطراب، وعدم وعي بحقائق كتاب الله، وبالواجب الشرعي، وأنت موكول لك جهاد نفسك.

قلت:

تعني جهاد نفسي بالصلاة والصوم؟....

قال صاحبي (مقاطعا):

فرائضك لا تكفي لابد من جهادها في معتقداتها الباطلة، لجهل فعلي، أو شبهة في الدين، فهذا السعي الذي تقوم به، جهادا متى كنت صادقا.

قلت:

الحمد لله على ذلك، وأسأل الله البصيرة والتبصر حتى أعبد الله عالما لا مجرد مقلّد.

قال صاحبي:

إن أردت لنفسك ذلك، فلا بدّ لك من جهادها، لمواجهتها ووضع الحقائق أمامها، والاستعانة بالله في ذلك.

تَرَكَتْ تلك الكلمات في تلك الليلة أثرا عميقا في نفسي فحديث صاحبي متزن نابع من رؤية شاملة، وتعامل جيد مع كتاب الله.

ص: 299

ت- الزكاة: إتيان وفعل

حدَّثت أختي عما دار بيني وبين صاحبي من حديث شيِّق ومعمَّق حول مفهوم الجهاد من الناحية الشرعية، ففرحت

وقالت:

ليته يعود لزيارتنا، فمسائل كثيرة في الزكاة غير واضحة المعالم، وأنت تعلم يا أخي، كيف أن الله قد قرن الزكاة بالصلاة.

قلت:

أحدثه في الأمر.

وما إن حدَّثته في الأمر حتى انطلق قائلا:

الزكاة هي رفعة النفس الطيبة العابدة، على الرغبة المادية الضيقة.

قلت:

ولكن للزكاة أحكام فقهية، تتعلق بإخراج نصيب من محصول، أو دفع مال من مال.

قال صاحبي:

التزكي نتيجة إعطاء المال، وليس إلزاما بإعطائه أي ليس الفعل في ذاته.

" وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى " (1)

فلم يقل الله تزكوا، بل قال الذي يؤتي، وإتيان الشيء هو فعله عن قصد ذاتي سابق محدَّد، فقولك أتيتك ليس مثل جئتك، ففعل الإتيان، يأتي بعده

ص: 300


1- 17-18-الليل

بيان المقصد، لأنه الأصل في السعي، كقولك أتيتك لكذا وكذا، ولكن فعل جاء، يمكن أن يكون بدون مقصد بداية.

كقوله تعالى " وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى . قال يا قوم اتبعوا المرسلين " (1)

قلت:

كيف يتحقق الإتيان؟

قال صاحبي:

يتحقق بما سبق من الاعتقاد، وإقام الصلاة، فالزكاة لا تعني إلا المسلم. أما الأداء للأجنبي أو الجزية فهي شرعية، ولكن لا تدخل تحت مؤسسة الزكاة، ومتى تحققت هذه المؤسسة تم الرخاء

والعمار.

قلت:

لماذا تسميها مؤسسة؟

قال صاحبي:

لأنها فسيحة، فالزكاة ثلاث، زكاة الفطر التي تأتي تتويجا للصوم، وإدخالا للفرحة والسعادة في يوم العيد حتى يقترب الناس من المساواة، ومفهوم الفرحة والاستبشار هو الأصل في الدين، على خلاف ما يتمسك به المتطرفون في فهم الدين من ازدراء للدنيا، فالدنيا منزل الامتحان، وعلى المؤمن أن يحسن عيشه فيها ولن يحسن ذلك إلا بالزكاة.

ص: 301


1- 20-يس

قلت:

إني أريدك أن تحدثني عن زكاة النصاب.

قال صاحبي:

مهلا.... لا تتعجل فيجب أن يُفهم الأمر على أنه ربط بين الغيبيِّ والواقعي، ففرض الزكاة له شروط مثل العقل، والقدرة،

وحضور الشيء المُزَكَّى عنه، وهذا داخل في باب زكاة الخمس وزكاة النصاب.

قلت:

ما هي زكاة الخمس؟ إني لا أعلم عنها شيئا.

قال صاحبي:

هي زكاة، فرضها الله تعطى للنبي وآله، ولكل عصر إمامه أو من ينوبه، وهي التي تضمن الرخاء، ذلك أنها تؤخذ بحلول حولها، ولا تؤخذ من رأس المال محافظة على القدرة الماليَّة الأشخاص والمؤسسات، وتعطى للإمام أو من ينوبه، وهي حق آل بيت النبي توزع بمعرفتهم.

فالله حين تحدث عن صفاتهم في سورة "المؤمنون " لم يقل المؤتون الزكاة لأن أمر الإتيان لعامة المسلمين بل قال:"و الذين هم للزكاة فاعلون" (1)أي أنهم هم من يُفَعّلُهَا

قلت:

فأين هي هذه الزكاة؟ وهل تعود كلها لآل بيت النبي؟ وما الحكمة في ذلك؟

ص: 302


1- 4-المؤمنون

قال صاحبي:

الحكمة في ذلك كبيرة، فآل بيت النبي، هم ورثة علمه، تعطى لهم ويوزعونها على مراتب بين المحتاجين، ويعود نصيب منها لهم، لتؤثث حياتهم، فهم متفرغون لرعاية الإسلام، والتطور بعلومه، ذلك أنه لا تجوز عليهم صدقة.

وقد فُقدت هذه الزكاة، عندما وقع إبعاد دور آل بيت النبي عن قيادة الأمة، شأنها شأن كثير من المسائل، وهذا مُدوَّن في التاريخ وعليك الرجوع إلى الكتب وتَبَيُّن المسائل.

قلت:

وزكاة النصاب التي مازالت الأمة عليها.

قال صاحبي:

هي كفالة اجتماعية طيبة، إذا ما أُحسِنت إدارتها وهي تخص الذين أكتمل عندهم نصيب من المال بمقدار، أو من الأنعام، أو الحبوب، أو الذهب والفضة، وقيمتها بسيطة، لكن فائدتها عميقة.

قلت:

ما الفارق بينها وبين زكاة الخمس؟

قال صاحبي:

زكاة الخمس، تؤخذ من ربح سنة كاملة، وهو حق شرعي مقدس، ومنطقي.

إن إقامة هذا الحكم، من شأنه أن يجمع ثروات طائلة، تصرف بالأوجه الشرعية، التي بينتها لك، وتعزز الثقة في المجتمع، وتجعله مكتفيا متوازنا.

ص: 303

أما زكاة النصاب تصنع حركية، وتدل على الإسلام، وحق المجموعة، فيصبح العامل مجتهدا عند صاحب المال، لأن في ذلك فائدة للمحتاجين، القريبين منه في المنزلة الاجتماعية

قلت:

في كتاب الله رَبْطٌ كبير بين الصلاة، والزكاة، كقول الله تعالى في سورة النور " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار" (1)

فما السر في ذلك؟

قال صاحبي:

الصلاة اتصال بالله، لا يتم نفعه إلا بنفع خلقه، ونفع خلقه يكون بالزكاة، وفي ذلك مرضاة الله، فالطريق إلى الله ليس في صوامع التعبد والانزواء، بل إنه تواصل مع الله وخلقه.

ث- الحج ارتقاء

قلت لصاحبي:

ص: 304


1- 37-النور

سبق وأعلمتني، أن الصلاة والزكاة لا يكونان إلا بالتواصل مع الله وخلقه، فهل نجد هذا التواصل في فريضة الحج؟

قال صاحبي:

بل في كل عبادة، لأن في الحج تعبير عن المساوات ووحدة العقيدة وتذكير بتساوي الناس يوم الحساب.

الحج عبادة مختصرة، إذ أنه يكون في أيام معدودات، وهو يسبق النحر (عرفة)، ويكون النحر فيه، وفيه تجتمع كل معاني الإسلام الغيبية.

قلت:

كيف تجتمع فيه كل تلك المعاني؟

قال صاحبي:

أولها أن الله يحب المسلم القوي، ويحب اليد العليا التي تعطي لا اليد السفلى التي تأخذ، لذلك جعل أولى شروطه القدرة الجسدية

و المادية " فيه آيات بينات مقام ابراهيم ومن دخله كان امنا ولله على الناس حج البيت من من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين " (1)

قلت:

وما دخل هذا في المعاني الغيبية؟

قال صاحبي:

ص: 305


1- 97-آل عمران

هو التفرغ والانقطاع عن الدنيا، فالقدرة المادية مثلا، هي أنك تستطيع تأمين قوت أهلك لسنة، والقدرة الجسدية أنك سوف تتمتع بالمناسك، لا يقعدك المرض عن ذلك، فأنت في جهاد.

قلت:

في بلادنا يفرحون بالحاج حينما يذهب، وعندما يعود.

قال صاحبي:

هذا جائز، ولكن دون مبالغة لأن الحج فرض مثل الصلاة والصوم والزكاة، فهل رأيت من يقيم حفلا لأنه صلى الظهر حاضرا، ولكن بما أن في الحج سفر فلا بأس بالاستقبال والتوديع.

قلت:

إن الحاج يصبح عندنا محترما ونطلق عليه كلمة حاج.

قال صاحبي:

إن لقب حاج ومصلي وغيرها ألقاب، إذا أريد منها المركز الاجتماعي، والتباهي، فهي باطلة، أما إذا كانت تعني الاحترام فهي جائزة حتى يُحْتَرَمَ الشخص، ويعامل معاملة تليق بأخلاقه لا بلقبه.

قلت:

ما المغزى من كل تلك المناسك التي يقوم بها الحجاج؟

قال صاحبي:

الحج انقطاع تام عن الدنيا، لذلك " الحج اشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله

ص: 306

وتزودوا فان خير الزاد التقوى واتقون يا اولي الالباب" (1) والمناسك في العبادات تؤخذ كما هي لأن الله أرادها كذلك، وهي تدخل في باب القداسة، والطاعة، ولكن لا بأس من محاولة فهمها، وعقلنتها، بنية التدبر والفكر

قلت:

الإحرام مثلا ماذا يعني؟

قال صاحبي:

هو نزع الدنيا، والانشغال بدار الخلود وربّ الخلود، فجميع الخلق على تعدد لغاتهم، ولهجاتهم، وألوانهم يطوفون في لباس واحد، حول نواة واحدة، ألا وهي الكعبة.

قلت:

صحيح أن للكعبة الشريفة علاوة على مكانتها الدينية أدورا أخرى.

قال صاحبي:

الكعبة أمر من الله، والله يأمر خليله ويختار له المكان ويدعو الخليل (علیه السلام) دعوته الشهيرة " واذ قال ابراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الاخر قال ومن كفر فامتعه قليلا ثم اضطره الى عذاب النار وبئس المصير " (2)

ص: 307


1- 197-البقرة
2- 126-البقرة

وهي قبْلَةُ من في الأرض جميعا، وهي مركز الأرض وتمثل مع بيت المقدس، مكان الطور (1) الذي نزل فيه آدم ورُفع منه عيسى.

قلت:

لم أسمع بكلام كهذا من قبل.

قال صاحبي:

اقرأ سورة الطور متأملا، وستدرك ذلك، ويخرج بين المكانين، شجرة معجزة على عهد إمام العصر والزمان في عصر الصالحين.

قلت:

لا أفهم كلامك جيدا، لكني أعلم أن للكعبة إعجازات.

قال صاحبي:

ألا تذكر قصة أبرهة الأشرم، الذي أراد هدمها فأرسل الله عليه طيرا أبابيل دفاعا عن بيته ومن الإعجازات الكبرى الأخرى ولادة علي بن ابي طالب عليه السلام داخل البيت وهو الوحيد المولود فيها (2).

قلت:

لم يحدثني في الأمر أحد من قبل، لكنك لم تكمل لي قراءتك لمناسك الحج، فالطواف مثلا ماذا يعني؟

قال صاحبي:

ص: 308


1- الحديث هنا عن الطور لا يوجد في مراجع سابقة بعينها إنه مأخوذ عن علم الأئمة
2- مروج الذهب للمسعودي، تذكرة خواص الأمة لابن الجوزي، الفصول المهمة للصباغ المالكي وغيرهم كثير...

الطواف يعني وحدة العقيدة، هذا من الجانب الإيماني، أما من الجانب العلمي، فالطواف حول البيت، هو صورة لما يمكن أن تكون عليه الذرَّة من نواة تدور حولها جزئيات صغيرة كثيرة، في نظام واتساق وتواصل.

إنه مشهد فني بديع، فيه حركة اتساق دائرية تلهب المشاعر وتشد المشاهد.

قلت:

وحركات رمي الجمار؟

قال صاحبي:

إنها تعبير عن رفض الشر ومحاربته، فالإحرام تعبير عن الحمد والتواضع والطواف تعبير عن وحدة العبادة، ورمي الجمار عن رفض طريق الشيطان، طريق المغضوب عليهم والضالين، أليست هذه كلها معاني الفاتحة التي هي أم القرآن، واختزال إلهي فريد لمفهوم الدين.

قلت:

بلى والله ولكن ما المقصود بصعود عرفة.

قال صاحبي:

هو استخلاف الإنسان في الأرض، وولايته فالله قد رفعه فوق خلقه، وجعل له مكانا عليا مثلما رفع آدم، ووضعه في الجنة، ومثلما يرفع الصالحين آخر الزمان مكانا عليا، لذلك فالدعاء على هذه السفوح للصادقين الفاهمين مستجاب.

قلت:

هل أن الإنسان بعد الحج يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟

قال صاحبي:

ص: 309

وهل أن الحج، إلا تكريم للإنسان العارف بالله، وحب فيه، حتى يُطَهّره، ويساعده في تركيز يقينه، كلٌّ مسؤول حسب فهمه، وعمله، ولا ضامن لشيء إلا الله، لأنه الأدري بإخلاص عبده.

ص: 310

محور9- التحوُّل

أ- نور التأويل

قلت:

لقد استفدت كثيرا من كلامنا في عديد المسائل الهامة، لكن بقي لي عندك وعد، بأن تعطيني تأويل بعض الآيات، التي لم يشفي فيها التفسير غليلي.

قال صاحبي:

آتيك الأسبوع القادم في نفس الموعد.

لم أتصور، مدى فرح أختي لما أخبرتها، بأنه يمكننا الاستنارة في فهم آيات، اختلف حولها المفسرون، وقد أخبرتها أن صاحبي يرفض كلمة التفسير ويحبذ كلمة التأويل وأنه لم يشأ أن يبين لي الفرق، حتى ألامس ذلك أنا وهي عن قرب، وأذكر أنها قالت (معقبة):

إني ألاحظ كثيرا ما قاله بعض المفسرين، من مسائل لا يمكن لأقل الناس الأخذ بها، ولكن من يجرؤ على نقاش أهل العلم.

قلت لها:

عديدة هي الأسئلة التي تزدحم في رأسي، حول فهم كتاب الله، وأقول بيني وبين نفسي، لا أظن أن الله قد أنزل كتابه، حتى يختلف الناس حوله، أتذكرين قول الله تعالى لرسوله في مطلع سورة طه " طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" (1)

قالت أختي:

ص: 311


1- 1-2-طه

الله يأمرنا في آيات كثيرة بالتدبر، والتأمل في آياته، ولا أظن أن كتاب الله يختلف مع المنطق، والعقل السليم.

قلت:

لماذا ننزه العلماء في تعاملهم مع كتاب الله، أهم معصومون،

ولو كان واحدا منهم معصوما، ما احتجنا إلى آخرين.

قالت أختي:

أتعلم أن عدد المفسرين أو كتب التفاسير حسب أحد المواقع على الانترنت يفوق المائتي تفسير.

قلت:

تصوري كثرة الاختلافات بين هذه الكتب.

قالت أختي:

لقد قرأت في منابر الجامعة أن العلم سابقا يؤخذ بالنقل والتداول، والنسخ، وربما شابت عملية النقل سوء فهم أو تقدير، أو سهو، وهو علم يبنى بعضه على بعض.

قلت:

بل إني قرأت في بعض الدراسات أنك تجد قولا منسوبا لأكثر من شخص، فلمن يكون؟

قالت أختي:

لو كان الأمر كذلك، لهان علينا، فكيف تقبل أن تنسب أقوالا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تتنافى والفطرة، والحقيقة التي يعلمها كل الناس.

ص: 312

أتتصور مثلا أن بعضهم روى في تفسير آية الضحى" ووجدك ضالا فهدى" (1) بأن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ضاع في شعاب مكة وهو صغير.

قلت (متحمسا):

وكيف أقبل على نفسي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المقصود حسب المفسرين أو أغلبهم أنه" عبس وتولى" ألا يتنافى ذلك مع أبسط قواعد النبوة.

إن صاحبنا يحط رحاله غدا، وإني قد أعددت كثيرا من الأسئلة حتى أفهم منه.

قالت أختي:

لابد من استقباله استقبالا حسنا، فقد قوى هذا الرجل صلتنا بديننا وعقيدتنا.

كان قدوم صاحبي إلى بيتنا في اليوم الموالي لعودته من سفره، وقد أتانا ببعض الهدايا الصغيرة، والمعبرة.

بعد العشاء جلسنا في حديقة المنزل، كانت أختي تمسك أوراقا

فبادرها صاحبي ممازحا هل لديك ما تعلّمِينا؟

قالت:

إننا ننتظر قدومك بفارغ الصبر، فنحن نريد أن نفهم الفرق بين التفسير والتأويل، لا نظريا فحسب، بل عمليا من خلال الآيات التي لا نجد أن التفسير قد أقنع فيها صاحب الفطرة السليمة، والعقل الراجح.

ص: 313


1- 7-الضحى

قلت:

لَشَدَّ ما أخذت اهتمامي آيات سورة الضحى، وخاصة قوله تعالى " ووجدك ضالا فهدى " (1)

أخذت أختي حينها ورقة وراحت تقرأ.

إن ابن كثير في تفسيره لهذه الآية، قد أورد قصة مفادها ضياع النبي مع عمه في طريق الشام.

أما الطبري فقد قال العبارة التالية " ووجدك على غير الذي أنت عليه اليوم" (2) فيا إلهي هل أن النبي كان على غير هدى

قال صاحبي:

أستغفر الله إن القرطبي أراد أن ينقص من حدة ذلك فقال بأن الضلال هنا، هو كقوله تعالى" قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " (3) أي كان الرسول غافلا عما يراد به من أمر النبوة.

فقالت أختي:

لقد ذهب بعضهم من القدامى، كالضحاك، وشهر بن حوشب، والسِّدِّي، أن ذلك من باب تشبيه هذا القول بقوله تعالى في سورة الشورى " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وانك لتهدي إلى صراط مستقيم " (4)

ص: 314


1- 7-الضحى
2- الطبري
3- 52-طه
4- 52-الشورى

أو كقوله تعالى في سورة يوسف " نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القران وإن كنت من قبله لمن الغافلين" (1)

قلت:

لكن لا وضوح في ذلك، أيعقل أن نفهم معنى جليا بهذه الطريقة؟!

قال صاحبي:

هوّنَا عليكما، فالحقيقة باقية إلى قيام الساعة فلتعلما مثلا أنه من القدامى القلائل كالفرَّاء والكلبي ذهبا إلى أن هذا القول " أي في قوم ضلال فهداهم الله بك" (2)

قالت أختي:

إني لم أفهم جيدا ما المقصد من هذا الكلام

قال صاحبي:

إن بلاغة السورة قد حجبت على غير المتبصرين حقيقة المعنى. فأنت لمَّا تأتي قوما فيهم رجل قد فُهمَ خطأ، فلمَّا تَبَيَّنْتَ حقيقته، وأردت الدفاع عنه، فإنك ستقول:

وجدتك كذا، فجعلتك كذا، أي أن ما وجدتك عليه ما يقوله العامة، وما أنت حقيقة عليه هو ما برَّأتك فيه، وهذا ينطبق جليا مع وضعية النبي في تلك المرحلة.

فالله يدافع عن نبيه.

ص: 315


1- 3-یوسف
2-

يقولون عنه ضالا، كما يقال عن كل خارج عن المجموعة، فما بالك ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أتى بعقيدة، تتواصل مع عقيدة سابقة، لكنها تخالف بقوة كل معتقد عند أهله.

والله قد أخذ بيده، وقوى جانبه، وألزمهم احترامه، وجاء منهم من اتبعه على حق، فهدى الله به قسما منهم، واحتُرمَ من أعدائه.

فسورة الضحى عامة انتصار اجتماعي للنبي "وجدك ضالا فهدى" وانتصار اقتصادي للنبي "ووجدك عائلا فأغنى"،

وتبشير بأنه سيأخذ بيد المستضعفين.

" فأما اليتيم فلا تقهر* وأما السائل فلا تنهر" (1)

وخلاصة كل القول أنه صاحب النعمة، وهذه النعمة حدثتكم عنها في مرات سابقة.

قالت أختي:

هل هذا هو التأويل؟

قال صاحبي:

لا فَهْمَ لكتاب الله، من دون ربط الإسلام بآل بيت النبي.

قلت:

و " عبس وتولى “؟

قال صاحبي:

ص: 316


1- 9-10-الضحى

حتى المفسرين ذهب شق منهم إلى أن المقصود لا يمكن أن يكون رسول الله.

قلت:

هذا باعتبار العقيدة، لكن هلا فصلت لنا قليلا.

قال صاحبي:

لذلك، فمعرفة أسباب النزول، ومناسبة القول، مهم جدا فالرسول في هذه المرحلة، يدعو قومه باللين، والجدال الطيب، ويجالسهم، ولمَّا يأتي مؤمن في طلبه ويكون ضريرا فإنه يتفاعل معه ويبجله، وهذا الأمر قد يراه بعض من أصحابه، إفسادا للمجلس، وهم حريصون حرصا زائدا على إقناع الآخر.

قالت أختي:

كيف تربط ذلك بالسورة؟

قال صاحبي:

ليس من الضروري نسب فعل العبوس والتولي لشخص واحد واللوم في السورة ليس موجها لرسول الله " أن جاءه الأعمى"، فما هو ثابت أن الرسول كان يبجل "عبد الله بن أم مكتوم" (1)

تذكرا قول الله تعالى: " فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فاذا عزمت فتوكل على الله ان الله يحب المتوكلين " (2)

ص: 317


1- صحابي جليل من أهل مكة وهو الأعمى الذي ذكر في سورة عبس
2- 159-آل عمران

قالت أختي (متحمسة):

" ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين قل الذكرين حرم ام الانثيين اما اشتملت عليه ارحام الانثيين ام كنتم شهداء اذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل بغير علم ان الله لا يهدي القوم الظالمين " (1)

إنه ينطبق عليهم هذا المقصد من سورة الأنعام.

قال صاحبي:

لا تعممي، فالأسباب متشعبة، لكنني أعطيك الحق في جانب، كيف سيحمل هؤلاء وزر الناس الذين يقدسون اجتهاد غيرهم، فيما لا يمكنهم الاجتهاد فيه؟

قلت:

أتعني أنه لا اجتهاد في فهم كتاب الله؟

قال صاحبي:

استغفر الله، إنه واجب، لكن تعليم الناس بالخطبة فيهم أو توجيههم، أو إخراج كتاب لهم أمر يتطلب معرفة بما يجب أن يكون.

قالت أختي:

وما يجب أن يكون؟

قال صاحبي:

كما سبق وبينت لكما ذات مرة، أن علم الأنبياء والأوصياء في ذاته ليس علما انتقاليا مكتسبا، إنه علم رباني، لا يكون إلا بالجعل والتنزيه.

ص: 318


1- 144-الأنعام

فالأخطاء في كل ما هو مكتسب، على مستوى فكري ممكنة، لأنه على أنقاضها تُبنى الآراء السليمة، فكل الانتاج البشري اجتهاد

قلت:

فهمت مقصدك، لكن هذا كتاب الله فيه أحكام وثوابت هي التي نقيس بها حياتنا وأعمالنا.

قالت أختي:

لو كان المشكل في آية أو آيتين لهان الحال.

قال صاحبي:

من أخطأ في المنطلق، أخطأ في المنعرج، ومن اتخذ طريقه سليما ثابتا، اهتدى بإذن الله.

فما هي الآيات الأخرى التي وجدتما اختلافا في فهمها بين المفسرين؟

قلت:

أيتنافى قوله تعالى في الآية التي قراناها سابقا

" نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين " (1)

في الجزء الأخير منها، مع ما ذكرت لنا من علم النبوة الذي هو علم مباشر من الله فما معنى الغفلة هنا؟

قال صاحبي (مبتسما):

ص: 319


1- 3-يوسف

أحسنت، ليست هناك نعمة تضاهي التعلق بكلمات الله، فالله قد قال: " نحن نقص" ولم يقل قصصنا.

الفعل أتى إعلاميا كقولنا مثلا: نحن نتكلم فهذه الآية هي بوابة القصص في القرآن، وهذه حقيقة لا يعلمها إلا قلة من الذين أعطاهم الله حق التأويل.

فلقد كان الناس قبل البعثة المحمدية يروون القصص عن الأنبياء، حتى قبل مولد الرسول فيها المحرف، والسليم.

هذا القصص مَنَهَجُهُ في قوله تعالى" بما أوحينا إليك هذا القرآن " أي أنه منهج وحي، قد آن أوانه وإن كنت من قبل ذلك، غافلا بإرادتنا (أي بإرادة الله) فالغفلة أو الإغفال لا تعني أن العلم بالشيء غير موجود لكنها تأكيد على ذلك.

قالت أختي:

بسط لي فإني لم أفهم.

قال صاحبي (ممازحا):

أأنت طاهية ماهرة ؟

قالت:

نعم

قال صاحبي:

فإذا لم تطهي هذا اليوم، أيعني ذلك أنك لا تعلمين الطهي؟ إنك قد غفلت، أو تلهيت بشيء لكنك تغفلين من نفسك.

النبي يغفله الله عن ذكر الأمر، لأن أوانه لم يحن بعد فهناك معارك أخرى سابقة هي الأولى ولذلك جاء التشريع متتابعا وكان شعاره في أول البعثة

ص: 320

" قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" وأصبح بعد مراحل عدة "عليكم بكتاب الله وعترتي أهل بيتي" (1) فالمرحلة غير المرحلة، والغفلة في الآية ليست بالمعنى الأخلاقي أو الصفة ، إنها بمعنى الحكمة والتبيين.

قلت:

إن كان هذا هو التأويل، فإنه والله نور يثلج الصدر وعلم مترابط متسق فزدنا منه.

قال صاحبي:

يكفيكم لهذه الليلة من أمر الإغفال، والضلال، واختصرا أسئلتكما، حتى لا أكون مدرسا، فأنا مثلكم متعلم في مدرسة محمد وآل بيت محمد.

ص: 321


1- صحيح مسلم، سنن الترمذي، سنن ابن ماجة...

ب- الأئمة في القرآن

قدم صاحبي إلينا منذ الظهيرة، وكأنه توقع توهج مشاعرنا تجاه فهم كتاب الله، وكان في الدار صديقي الأجنبي، يأتي بين الحين والحين لزيارتنا، فرحَّب به صاحبي وجلسنا أربعتنا لتناول الشاي.

فلم تتمالك أختي أن قالت:

لشد ما اخذ انتباهي أول أمس، أنك تحدثت عن علم الأنبياء والأئمة بأنه علم ليس مثل العلم الوضعي، المكتسب، بل إنه علم مباشر.

قلت:

صاحبنا يسمي ذلك جعلا.

قال صاحبي:

بل الله يقول في كتابه " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " (1)

إذْ أن الجعل أمر حازم مُقَدَّرُ لا مناص من حقيقته انظروا إلى قوله تعالى:"و جعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا" (2)

قالت أختي:

يعني ذلك الخلق؟

قال صاحبي:

ص: 322


1- 24-السجدة
2- 10-11 النبأ

الخلق، إيجاد شيء من شيء، أما الجعل، فهو وجود الشيء بالقوة الإلهية أي أنه داخل في الفطرة دون الاختيار.

قلت:

لعل هذه الآية تدل على ذلك "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (1)

وقد سأله صديقي الأجنبي، عن محور الحديث فبدأ يترجم له وهو مبتهج، وعندما أتم الحديث معه التفت إلينا قائلا: إن هذا المعنى موجود في كل الكتب السماوية بالرغم من أن الكتب السابقة محرفة.

قالت أختي:

إذا قلنا إن الجعل الإلهي موجود في المودة بين الزوج وزوجته بالقوة، لكنني أتساءل أنه مفقود في بعض الحالات.

علق صاحبي (مبتسما):

إنه موجود بالقوة في فطرة الإنسان فإما أن نقوي جانبه أو نضعفه، لذلك فالمسألة لا تتعلق فقط بالمسلمين.

إن الجعل ليس مطلقا، فدائما فيه انتقاء، انظروا الآية التي ضربت لكم كمثل، فالله قد قال " وجعلنا منهم" إنه يتحدث عن فئة معينة " أئمة" يختار منها فئة بالجعل" يهدون بأمرنا"

قلت:

لقد تعلمت منك تعريفا عظيما للجعل والاصطفاء من خلال الآية الكريمة:

ص: 323


1- 21-الروم

"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" (1)

وجعل الله أئمة باختياره لا باختيار أحد

قالت أختي(مستغربة):

إنك صرت تتحدث بحديث صاحبك.

قلت:

الحمد لله الذي جعل في الأرض كمالا، حتى يُعرف الحق من الباطل.

وبدأ صديقي الأجنبي يسأل صاحبنا بلغته، وهو يجيبه، وما إن أتم ذلك

قال صاحبي:

إن صديقكم هذا، يؤكد على أن هذا الفكر، وهذا المعنى الإلهي، يتناسب جدا مع علم الطبيعة، إذ أن الموجودات تتميز بوجود أمثلة راقية، على ضوئها تقاس، وبتطورها تتطور.

وإنه إذا لم يوجد الكمال، والمثال، فلا وجود للأشياء أصلا. فالجعل كما ترون، قيمة عظمى، بها تستقيم الحياة ويستقيم الكون.

قالت أختي:

هل يمكن أن يكون هذا الرجل مؤمنا؟

قال صاحبي:

ص: 324


1- 124-البقرة

أنت تعلمين أن الدين عند الله الإسلام، فهؤلاء يعرفون الله ويدركون قيما كثيرة من قيم الإسلام، والواجب معاملتهم معاملة طيبة والأكل معهم ومجالستهم وتصحيح الصورة التي يحملونها عن ديننا.

قلت:

إن الله تعالى يقول : " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين " (1)قالت أختي:

إن مسألةً قد شدتني في كتاب الله، هي مسألة المصطلحات المتعددة، فتجد مثلا النصارى، وأهل الكتاب، ونجد المؤمنين والذين آمنوا، وكثيرة هي الاصطلاحات التي تترك في نفسي أسئلة، حتى في حديثنا اليومي، إني أتساءل دائما عن الفرق بين آدم، والبشر، والناس، وما إلى ذلك؟

قال صاحبي:

إذا كنت تتحدثين عن عموم كلام الناس فإن ذلك ليس مجالا لنخوض فيه لأنه في طبيعة الشعوب، اختلاط اصطلاحاتها بكثير من العوامل، كالغزو الأجنبي وتأثير المناخ، وحركة الهجرة وما إلى ذلك.

ص: 325


1- 5-المائدة

أما إذا أردت تدبر كتاب الله فإن المصطلح فيه، يجب أن يكون بمعنى محدد، دقيق وواضح لأنه صادر عن الذي لا يسهى ولا ينسي.

ثم التَفَتَ إلى صديقنا، وراح يترجم له كل ما قلنا، وقد فاجأنا بشدة اهتمامه وعندما أتم بادرته قائلا:

إننا لا يمكننا أن نتحدث في جلسة أو جلسات، عن المصطلحات القرآنية في دلالاتها العميقة لكنني سأقترح بعضا منها.

ما المقصود مثلا بالنداء الذين آمنوا في الآية الكريمة من سورة النساء؟

" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ذلك خير وأحسن تأويلا" (1)

قالت أختي:

من كثرة ما تُرَدِّدُ هذه الآية فلقد حفظتُها، وإنها مناسبة طيبة حتى نفهمها.

قال صاحبي:

قبل الدخول في المعنى، اعلموا أن كل آية بدأت بخطاب لا يتوجه إلى النبي أو الرسول، وكان موجها للذين آمنوا فهي آية بالضرورة، قابلة للإضافة، والنسخ، محيلة كذلك، على آية سابقة، ولاحقة، ملزمة في المعنى، أو أنها لا تؤخذ على ظاهرها، فلا اقتضاب في الفهم.

هذه الآية مهمة جدا، لأنها تبدأ بالعقيدة " يأيها الذين آمنوا"، وتنتهي بالتأكيد على عقيدة الارتباط بالغيب، " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر" فالخطاب

ص: 326


1- 59-النساء

موجه إلى فئة بعينها، فما سبق هذه الآية، تحذير من الله، باجتناب الجبت والطاغوت، ثم هي ملحقة بآية أخرى، بعدم الاحتكام إلى الطاغوت ووجوب الكفر به، فلا يمكن الأخذ بمعناها، مرتبطة بأي شكل قريب، أو بعيد، بمعنى من معاني الكفر، والطغيان.

قلت:

إن جوهر الموضوع في ولاية الأمر.

قال صاحبي:

إن مسألة الولاية لدى المؤمنين، إن كانوا في أي نقطة على الأرض، تكون لله، ثم لرسوله، ثم لأولى الأمر.

و أولياء الأمر يختلفون زمانا، ومكانا " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون" (1)، طاعتهم واجبة من طاعة الله، وطاعة الرسول، إذ هم في مرتبة تسمح لكل الذين آمنوا بطاعتهم، وقد ذُكرَ هنا الرسول في الآية، ولم يقل الله النبي .

ثم التفت إلى أختي قائلا:

دوّني هذا، أيتها الباحثة عن المصطلحات.

وبعد أن تحدث إلى صديقنا الأجنبي هنيهة قال:

ذكر الله في الآية الرسول دون النبي، لأن المسألة تشريعية، وهي قديمة، وهي امتداد لرسالة الإسلام الكبرى، وولي الأمر هو أمر المسلمين، ولا يمكن أن يتولى الأمر، إلا من هو أدرى من أي مسلم بأمورهم كما يحبها الله

ص: 327


1- 55-المائدة

ورسوله، وهو أكملهم وأصلحهم، ولا علاقة لذلك بالحكم والسلطة، إنها سلطة أكبر من إدارة الشؤون، فهو وليٌّ واحد في كل عصر، وهذا جانب آخر من استعمال مصطلح الرسول ومصطلح أولي الأمر، في الجمع.

فالرسالة خالدة تعيش على مدى العصور، ولكل عصر وليه، فهم أولوا الأمر.

قالت أختي:

هل أن الحديث في الناس أو النداء الذي يسبق في يا أيها الناس يشمل العالمين؟

قال صاحبي:

إن هذا الخلط في اللغة، وأقصد هنا لغة الكتاب، حتما يفرز خلطا في الفكر، ويضعف العلاقة بكتاب الله، وهذا ناتج عن فقدان العلوم التي تُدخلُنَا إلى مباهج الكتاب ومدن علمه، فالخطاب للناس ليس مثل الخطاب للعالمين، إنه نداء إلهي في رأس الآية يقول الله تعالى مثلا " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام ان الله كان عليكم رقيبا " (1)

والمتكلم هنا هو الله، فقد يأتي الكلام في الكتاب منقولا على لسان رسول، أو لسان نبي، وأو على لسان مجموعة.

ص: 328


1- 1-النساء

لكن عندما يكون الكلام مباشرا، فيعني ذلك أنها حقائق تمس جوهر كل إنسي، ويعني ذلك، أن الحديث الذي سيأتي مرتبط بمسائل جوهرية، لها ارتباط بكنه الإنسان فالناس مخلوقون بنفس الأسباب.

انظروا كيف يقول الله تعالى" وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا" فالله يحذر من حقه في مرتبة أولى، ثم الأرحام، وقد وردت مطلقة، لأن أرحام آدم معصومون، ممثلون في طليعة الأرحام، من أنبياء وأوصياء.

فالولاية لله وللرسول ولطليعة الأرحام في الأنبياء وهم الأوصياء، ثم لأهل التقوى المخلصين وهي تشمل كذلك حسن المعاملة، والاعتبار في احترام الأرحام.

قلت:

ما أعذب الكلام في كتاب الله.

قال صاحبي:

و كما أؤكد لك أن الأرحام هنا تختص بالأنبياء، والأوصياء أساسا، وهذا المعنى يلاحظ جليا في القصة الواردة في كتاب الله، عندما طلب سيدنا زكريا عليه السلام من الله وليا " واني خفت الموالي من ورائي وكانت إمراتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا " (1) فزكريا خائف من ضياع الناس من بعده وانقطاع الرسالة أو تعطلها فهو يبحث عمن يتولاها، وهي مثل دعاء إبراهيم

ص: 329


1- 5-مريم

الخليل(علیه السلام) " رب هب لي من الصالحين" (1) فلاحظوا هنا أن الأنبياء يبحثون عن تواصلهم، ليس البحث الذي نبحثه نحن في الخلفة.

قالت أختي:

فعلا فقد قال الله تعالى: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" (2)

قلت:

على ذكر قصة سيدنا زكريا (علیه السلام) ما المقصود بقوله

" يرثني ويرث من ال يعقوب واجعله ربي رضيا" (3)؟

قال صاحبي (مبتسما):

إنها العصمة، ممثلة في رضاء الله السابق عن هذا الولي المنتظر، فكأن زكريا طلب لمولوده العصمة، حتى يكون بالجعل، وحتى يواصل الرسالة في رضاء من الله وحفظه.

قلت:

و ما معنى قوله تعالى " يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحي لم نجعل له من قبل سميا" (4)

قال صاحبي:

ص: 330


1- 100 الصافات
2- 124 البقرة
3- 6-مريم
4- 7-مريم

ألم نقل مرة، أن أسماء الأنبياء، والأوصياء، ليست مثل سائر الأسماء، فهي مُعَلَّمة في نسل آدم، ولكن اسم يحي هنا لم يطلق على أي إنسي من قبله.

ثم التفت إلي وقال:

أتدرون لماذا؟

قلنا:

لا ندري

قال صاحبي:

لأن الله قد جعله في صفة، هي أقرب ما تكون إلى صفة خاتم الأئمة، في أن أتاه الحكم صبيا.

قلت:

لم أفهم هذا جيدا.

قال صاحبي:

يكفي أن تفهم شيئا، أن في الإمام الأخير، جمع من صفات كل الأنبياء.

وهي ميزات عرف بها الأنبياء، لأن الإمام المهدي (علیه السلام) هو تتويج لحركة الأنبياء، يجمعهم حوله، زمن الرجعة.

قالت أختي:

كلام جميل لم أفهمه جيدا.

قال صاحبي:

إذًا، أنتما مستبصران، مدركان أن الله يعبد بعقل، فلا خوف عليكما وما عليكما إلا الاجتهاد.

ص: 331

والتفت إلى الأجنبي، وراح يحدثه، وقد فهمت بعضا من حديثهما، بأنه كان يحدثه عن التشابه بين رفع سيدنا عيسى (علیه السلام) وغيبة الإمام المهدي (علیه السلام).

قلت:

بعد أن أنهى حديثه، وجدت في بعض كتب التفاسير، أن الأعراف هم أناس، منتظرون لحسابهم، فهل فصلت لنا القول في ذلك؟

قال صاحبي:

لعلك تقصد الآية الكريمة "و بينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون" (1)

فهذه الآية تتحدث عن منزلة بين المنزلتين، فالمقصود بينهما، حجاب أهل النار، وأهل الجنة، والباقون هم أهل الأعراف، وهم في انتظار حتى تأتي فاطمة (علیها السلام)، فتختار منهم من ارتضاه الله للجنة.

قالت أختي:

الله على بنت رسول الله، فقد قرأت مرة حديثا في هذا المعنى.

ص: 332


1- 46-الأعراف

ت- عهد الصَّالحين

قالت أختي:

لكن في سورة الأعراف آية عظيمة يقول فيها الله تعالى:

" الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولائك هم المفلحون " (1)

إنني لم افهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل هو من مهام الرسول حتى يأمر به اليهود والنصارى؟

قال صاحبي:

لو كانت هذه العبارات متعلقة بالتوراة والإنجيل، لقال تعالى يأمرانهم بالمعروف، وينهيانهم عن المنكر، فالمقصود فعلا هو النبي (علیه السلام)، لأن القرآن بيان للعالمين، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عاصرهم، فما آمن معه إلا القليل من الأجناس، فالرسول هنا ليس مقصودا كشخص، لكن الآية تعني بالرسالة في دلالة استمراريتها من موسى (علیه السلام)، إلى عيسى (علیه السلام)، إلى محمد (علیه السلام)، إنها الرسالة المحمدية فموسى وعيسى عليهما السلام وكل الذين أتوا من قبله وكل من حمل لواءه من بعده هم يمثلون رسالته.

إنه يتحدث عن زمن آخر، فيه تحرير من إصر، ليس بالضرورة إصرا ماديا، فهم سيقعون تحت الإصر، والجواب كله واضح في آخر الآية عندما

ص: 333


1- 157-الأعراف

يذكر الله " المفلحون" ويعدد صفاتهم وهنا تسأل نفسك ما علاقتهم بالنبي وبأهل الإنجيل والتوراة.

قلت:

حقيقة هذا أمر يدعو للدهشة.

قالت أختي:

لقد صدق كلامك، خاصة وأن جل الآيات التي تتحدث عن المعاني الإيجابية والعظيمة تنتهي بالمؤمنين والمفلحين

والصادقين والصّدّيقين.

ابتسم صاحبي ابتسامة عريضة ثم قال:

إن المراد من ذكر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ذِكْرُهُمْ فهم من ينتصر لدينه ومن يحمل النور ممثلين في كل عصر من العصور بإمامهم" واتبعوا النور الذي انزل معه"إنها شجرة النور التي حدثتكم عنها في سورة النور، ترتفع بالشعوب في كل العصور ويكون آخر العصر دور اليهود والنصارى عندما يكون الكتابان ظاهران صحيحين فيهما اسم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واضحا جليا، قد أمرهم الله بإتباعه، بإتباع المفلحين،

آل بيته، بإتباع إمامهم وإمام عصرهم.

قلت:

يا الله.... كم هذا بديع، ومتناسق، لعلي أفهم من كلامك، أنه على المسلم فهم دور آل بيت النبي وعلمهم حتى يسهل عليه فهم دينه

قالت أختي:

أدركت الآن، الفرق بين التفسير والتأويل، ولا حاجة لتعريف ذلك.

ص: 334

قال صاحبي:

عليكما بالاجتهاد، فالدين اطمئنان في العقيدة، وعلم، وبحث متواصل، وحوار طيب متزن، لا يأخذ العبد إلا من المصدر، و يتحرى في دينه كما يقول المثل الدارج عندنا " حتى يقال عنه مهبول" (1) ثم التفت إلى الأجنبي وراح يحدثه ويترجم حديثا بديعا عن حال اليهود والنصارى وكيف يسلم كثير منهم بعد أن يقتنعوا بالحق في عهد سيد الكون الإمام الحجة.

قلت:

بعد أن أتمَّا حديثهما ألا نسألك في تأويل آخر.

قال صاحبي:

عليكما الآن بالعمل فلسنا في سمر ومأدبة، فنحن في تصحيح عقيدة، وبناء فكر، وتجديد علاقة بكتاب الله، فابحثا عن التأويل عند أوليائه، ولتعلما أن أسرار القرآن عظيمة، يكشفها الله آخر الزمان على يد الإمام الحجة، حتى يقول المرضى هل جاء بقرآن جديد، وهذا معنى الحديث عن رفع القرآن.

فقوما إلى صلاتكما وناما باكرا حتى تقوما قبل الفجر بهنيهة فتصليان صلاة شكر لله على ما بصَّركما به من أمر دينكما.

بقيت لصاحبي أياما معدودات على موعد سفرته الكبرى، فرجوته أن يخصص تلك الأيام الأخيرة لمجالستي على انفراد، حتى أطرح عليه ما بقي في ذهني عالقا.

ص: 335


1- مثل شعبي يعني أن الإنسان لا بد وأن يكون حريصا على دينه ويكثر من السؤال حتى تتبين له الأشياء

لبى ندائي وكنا نجلس كل مساء عنده وقد بدأنا حديثنا عن معنى الآيات الكريمة من سورة الزمر "وأشرقت الأرض بنور ربها، ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون" (1)

قال صاحبي:

إن إشراقة الأرض، هي عهد الصالحين فهم ورثة الأرض وهذه حقيقة في جميع الكتب التي أنزلها الله , ونور الله كما بينت لك في حديثنا عن شجرة النور هم الأنبياء وأوصياؤهم، لأنهم علم الله وعلى الأدق محمد وآله على الأرض، يعود لكل ذي حق حقه، ويستدعى الأنبياء والشهداء، وهناك قضاء عادل وتأكيد من الله " وهم لا يظلمون" يكون ذلك على عهد الإمام المهدي (علیه السلام) بعد تطهير الأرض وإشراقها، واستتباب الأمن فيها، تقع المحاسبة التاريخية الكونية، وتفكك القضايا الكبرى العالقة، ويسمى ذلك "بزمن الرجعة"، وهو ممكن علميا بإذن الله بل إنه من العقيدة.

قلت:

وبعده؟

قال صاحبي:

عند انتهاء الرجعة، تنفتح الأفاق، ويقترب الغيب من الشهادة والشهادة، من الغيب كما كان الخلق أول ما خلقه الله، فالله يقول " كما بدأنا الخلق نعيده".

قلت:

ص: 336


1- 69-70- الزمر

لقد فهمت الآن لماذا يتحدث الواعظون فلا يؤثرون، ويتحدث الداعون فلا يؤثرون ودعاء لا يرتفع أكثر من الرؤوس.

قال صاحبي:

ماذا فهمت؟

قلت:

ما أوردته من تأويل للآية داخل في صلب العقيدة، وهو كلام معقول يتفق مع كتاب الله، فهل يمكن لداعية لا يحمل العقيدة الكاملة والسليمة أن يعلم الناس؟

قال صاحبي:

الدعوة، لابد أن تكون على نهج النبي، والإمام، حسب العصر وكل دعوة لا يصحبها علم، ما هي إلا دعوة مبتورة على غير منهج، لا نفع منها لأنها قائمة على غير الدقة والوضوح.

فهي كالترغيب من غير استدلال، وهي كالإنذار والتنبيه من غير هدى " لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين" (1) فالإنذار هي رسالة النبي فهو المنذر، وإحقاق الحق بالهدى من خصائص الإمامة

قلت:

وكيف أعرف إمام عصري؟

قال صاحبي:

تعرفه بآل بيته وبأهله وأثره وأثر أجداده.

ص: 337


1- 70-یس

فكما يقول عليه وآله السلام " من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية " (1) ومعرفتك به، هي معرفتك بتكليفك وارتباطك به عقائديا وعمليا، بجعله المثال الأعلى، الواجب الإقتداء به لأنه الكمال على الأرض.

قلت:

إن اشد ما يعوقني عن ذلك، شدّة اختلاف المسلمين في تحديد مفاهيمهم، بينما أكثرهم يستأنس لهذا الاختلاف.

قال صاحبي:

إن الاختلاف إرادة الله بين الليل والنهار، والخير والشر، والجنة والنار، والنفس والجسد، وهذا الاختلاف به يتم التوازن، وتنتج الحياة وتتفاعل, فالنبات مثلا، في حاجة إلى النور والظلمة، والشمس والماء، قال تعالى " إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون" (2) وقال في موضع آخر" وهو الذي يحي ويميت وله اختلاف الليل والنهار" (3)

قلت:

هذا الاختلاف الطبيعي.

قال صاحبي:

ص: 338


1- مسند أحمد...
2- 6-یونس
3- 80-المؤمنون

إنه سُنَّة الله في الخلق. لكن اختلاف الناس بينهم، جائز لاختلاف العصور, لكن الله واحد والأحكام الصادرة عنه و المتأتية عن نبيه الذي لا ينطق عن الهوى والأئمة المعصومون، يجب أن تكون واحدة وإلاّ ضاع جوهر الدين، و حلت البدعة، فالله لا يُعْبَدُ عبر العصور إلا بالطريقة التي أرادها، لا بوثنية، ولا برجعية، ولا بعبثية، ولا مذهبية، و لا هوى نفس، إذًا، فلا بد أن يكون الشرع واحدا قال تعالى " أفلا يتدبرون القران ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " (1)كانت هذه الكلمات آخر حديثنا، قبل أن يعلمني أنه ينطلق غدا في رحلة بحث أخرى، فرجوته أن أكون آخر المُوَدِّعين.

وتبدأ رحلته من البحر، فجهزت نفسي لتوديعه، وكنت سباقا.

كان آخر عهد لي بصاحبي، ونحن نقف عند مفترق الطريق المؤدي إلى المرسى، إنه يتجه في رحلة طويلة.

وبعد ساعة تنطلق به السفينة قال لي يومها:

عليك الآن أن تركب سفينة محمد وآل محمد، من ركبها فقد سلم ومن تخلف عنها فقد هلك. (2)

قلت:

ونحن نجلس في مقهى الميناء، مستغلا تلك اللحظات، ولكني سأفتقدك أنا وعائلتي وأصدقائي كثيرا.

ص: 339


1- 82-النساء
2- نسبة إلى حديث السفينة، راجع صحيح البخاري وصحيح مسلم...

قال صاحبي:

لعلنا نلتقي عصر الظهور، في زمن الصالحين الوارثين لأرض الله، الذين وعد بهم في كتابه.

فعلامات ظهور إمامنا، تتأكد يوما بعد يوم.

لابد أن ترتبط بهذه العقيدة، حتى تكون حريصا على دينك.

قلت:

حقيقة إني أحس خشوعا جديدا في صلاتي، وثقة كبرى في ذاتي، ولقد أدخل كلامك ذات مرة حول الرزق والأرزاق معاني جديدة لم أكن أفهمها، وكم كنت أحمل هم الرزق في ذاتي، أما الآن فإني أسعى إليه بكل معقولية وأستعين بصبري ودعائي.

قال صاحبي:

سوف ترى البركات تَعُمُّك، لأن لله جنودا لا يعلمها إلا هو، وتذكر حديثنا يوما عن الأسباب والمسببات.

قلت:

هذا علاوة على ما تعلمت، من مسائل العبادة، كتصحيح وضوئي ووقت الصلاة الفسيح ولزوم القنوت في كل صلاة، وأدعية الأئمة التي لم أسمع بمثلها من قبل.

قال صاحبي:

إن علم آل بيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسيح، واسع، يتسع لكل الأزمنة ويتجاوزها، فأنت لابد أن ترتقي دائما بنفسك، ولا تجعل لها مرتبة

ص: 340

ثابتة، لكن لابد من التقدم بها إلى الأمام، فلا شيء ساكن فإما أن تتقدم أو تتأخر." والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " (1)

قلت:

سأستعين بالله ورسوله وإمامه في دعوة الناس للحق بكل، لطف واتزان.

قال صاحبي:

بل هذا واجبك الذي لا تتخلى عنه، وعش حياتك بين ناسك وعاصر مشاكلهم، فالمسلم الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم، أفضل عند الله من المسلم الذي لا يعاشر الناس، ولا يصبر على آذاهم.

كانت الساعة قد قاربت زمن الرحيل، فتعانقنا طويلا، وحملت عنه حقائبه، عند مدرج السفينة قال لي تلك الكلمات التي بقيت عالقة بذهني:

بقي لدي رجاء أخير.... ما عدى كلام الله وكلام رسوله الثابت وكلام الأئمة، فاقرأ، وتعلم بعقل، وعش بعقلك تنجو.

فالله قد دعاك للقراءة في أول كلمة أنزلها.. كان الله في عونك، واستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.

ص: 341


1- 69-العنكبوت

الخاتمة

كان عليّ إتمام أمر الكتاب، لا لغاية علمية أو بدافع ذاتي، ولكن برغبة عقائدية، ونداء عميق من باطن ذاتي، وقد أحسست في بداية هذا الإنجاز، أن الظروف والسبل تتلاقى بتدبير مدبّر، ليس لي من هدف إلا طاعة هذه الرغبة، وأنا أقول: لا أبغي من يوافقني، أو يخالفني، فقط أيها القارئ الكريم، كن حرّا في استنتاجك، وحكمك، لأن الله قد خلقك كذلك

الباحث والداعية التونسي

محمد الصالح الهنشير

ص: 342

الفهرس

محور 1 هذه حكايتي الصفحة

أ- قصتي ...................................................2

ب- اضطراب سابق.........................................14

ت- بداية السؤال.............................................21

محور 2 – علاقتي بالكتاب

أ- الكلام، اللغة، اللسان.......................................32

ب- المصطلح القرآني........................................41

ت- لنفهم القرآن..............................................51

ث- الفوارق العددية..........................................92

محور -3- اكتشاف الكتاب

أ- الأهل والآل..............................................102

ص: 343

ب- الكمال والتمام .........................................117

ت- أهل النور...............................................129

ث- ما السنة – ما الصحابة- .................................138

محور -4- مفاهيم جديدة

أ- الإستخلاف .............................................159

ب- الولاية.................................................180

ت- تركيز المفاهيم ........................................190

محور -5- أهمية المرأة

أ- اكرام المرأة.............................................212

ب- مؤسسة الزواج .......................................222

ت- الإسلام جميل .........................................229

ث- علاقة المرأة بالرجل ..................................233

ص: 344

محور -6- سر الفاتحة

أ- أصحاب الصراط المستقيم...............................239

ب- الفاتحة هي الأم ......................................252

محور -7- تصحيح الصلاة

أ- الفتوى الحجاجية ........................................263

ب- المواقيت غير الصلاة...................................269

ت- كنه الصلاة..........................................276

محور 8 روح الأركان

أ- روح الصيام..............................................282

ب- مؤسسة الجهاد..........................................289

ت- الزكاة اتيان و فعل......................................297

ث- الحج ارتقاء ............................................301

ص: 345

محور -9- التحوّل

أ- نور التأويل..........................................309

ب- الأئمة في القرآن ..................................319

ت- عهد الصالحين ....................................330

الخاتمة..............................................339

ص: 346

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.