حوزة النجف الاشرف النظام ومشاريع الإصلاح

هوية الکتاب

العَتَبَةُ العَبَاسِيَةُ المُقَدَّسَةُ

قسم الشؤون الفكرية والثقافية

شعبة الإعلام

حَوزَةُ النَّجَفِ الأَشْرَفِ

النظام ومشاريع الإصلاح

تأليف د. عبد الهادي الحكيم

وِحْدَةُ الْدِرَاسَاتِ وَ النَّشَرَاتِ

كربلاء المقدسة

ص.ب (233)

هاتف: 322600، داخلي: 175-163

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

الكتاب: حوزة النجف الأشرف النظام ومشاريع الإصلاح.

الكاتب: د. عبد الهادي الحكيم

الناشر : قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة / شعبة الاعلام.

الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.

تصميم: رائد الاسدي

الطبعة: الثالثة.

عدد النسخ: 2000

شعبان 1433 - حزيران 2012

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

المحرر: محمّد رادمرد

ص: 1

حَوزَةُ النَّجَفِ الأَشْرَفِ

هویة الکتاب

العَتَبَةُ العَبَاسِيَةُ المُقَدَّسَةُ

قسم الشؤون الفكرية والثقافية

شعبة الإعلام

وِحْدَةُ الْدِرَاسَاتِ وَ النَّشَرَاتِ

كربلاء المقدسة

ص.ب (233)

هاتف: 322600، داخلي: 175-163

www.alkafeel.net

info@alkafeel.net

الكتاب: حوزة النجف الأشرف النظام ومشاريع الإصلاح.

الكاتب: د. عبد الهادي الحكيم

الناشر : قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة / شعبة الاعلام.

الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.

تصميم: رائد الاسدي

الطبعة: الثالثة.

عدد النسخ: 2000

شعبان 1433 - حزيران 2012

جمعية خيرية رقمية: مركز خدمة مدرسة إصفهان

المحرر: محمّد رادمرد

ص: 2

ديباجة الطبعة الثالثة

بسم اللّه رب العالمين وله الحمد على ما أنعم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد،

فإنه غير خاف على أحد ما للحوزة العلمية في النجف الأشرف من دور مهم في سالف المسلمين وغابرهم، وحاضر المؤمنين ومستقبلهم، فلقد نهضت الحوزة العلمية النجفية والمرجعية الدينية بواجبها الملقى على عاتقها خير قيام، تفقها في دينها، وإنذارا لقومها، استجابة لقول باريها في محكم كتابه الكريم : « فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » فحافظت بحلم وحزم، وشجاعة وعزم، وصبر وكظم، على وجود الثلة المسلمة المؤمنة، حامية لثغرها، حافظة لبيضتها، راعية لخصوصيتها، ذائدة عن حياضها، موضحة لها معالم دينها، مبينة لها آداب شريعتها، صائنة لها تاريخ أئمتها، ومجلّية لها أصول عقيدتها. شارعة لها المنهج، وناهجة بها السبيل، في زمن غياب الدولة العادلة، وتحت ظل أنظمة الطغيان والطائفية والاحتلال، متحملة جراء ذلك الموقف الصعب ما تحملت من شؤون وأشجان، وآلام وأهوال، ومحن وأرزاء، ومكابدة وبلاء، جوراً من عدو غاشم حيناً، وقساوة من ابن ظالم أحياناً، ومع ذلك كله ظلت صابرة محتسبة، لم تثنها عن اتخاذ القرار الصعب عوائق ومصاعب، ولم تمنعها من الإقدام عليه ويلات ومصائب قاصدة وجه اللّه عز وجل قبل كل،وجه طالبة رضا اللّه جل وعلا قبل كل،رضا مطمئنة بقدر اللّه راضية بقضاء اللّه صابرة عند بلاء اللّه، شاكرة لنعماء اللّه ذاكرة لآلاء اللّه، مشتاقة إلى لقاء اللّه، مولعة بذكر

ص: 3

اللّه، موالية لأولياء اللّه، معادية لأعداء اللّه.

إن هذا التوصيف لواقعها أو شبهه جعلها محط أنظار الباحثين ومورد سؤال السائلين، لذا حاولت أن أكتب عنها، مجلِّيا بعض ما غمض من وضعها، ومضيئا بعض ما ادّلهم من أمرها على غير العارفين بها وبشؤونها، وذلك من خلال البحث التالي الذي يتضمن فيما يتضمن تمهيدا وسبعة عشر فصلا تتفرع إلى مباحث، وقد تتفرع المباحث إلى مطالب حسب الخطة.

فقد تناول التمهيد تبيانا مختصرا لعمارة المرقد العلوي الشريف السبب الرئيس إن لم يكن الأول والأخير، الداعي إلى نشوء الحوزة العلمية في النجف الاشرف، مجاورة إمامها باب مدينة علم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأفقه وأقضى صحابته المنتجبين.

وتناول الفصل الأول منها الموسوم (الحوزة مصطلحا وتاريخا علميا موجزا) في مبحثين ثنتين تعريفا بمصطلح الحوزة العلمية، وإلماما موجزا ببعض من تاريخها العلمي الأصيل، مع تجلية لأدوار البحث العلمي، ووقوف قصير على فترات النضج المعرفي لمدرستها العلمية الجامعة.

وتناول الفصل الثاني منها الموسوم (مرحلتا المقدمات والسطوح كتبهما الدراسية وطريقة تدريسها) في مباحث ثلاثة تمهيدا حدّد مراحل الدراسة في حوزة النجف العلمية ثم عرّف أولا بمرحلة المقدمات وكتبها المعتمدة، ثم ثنّى فعرّف بمرحلة السطوح وكتبها المعتمدة، ووضح بعد ذلك طرائق التدريس المتبعة فيها.

وتناول الفصل الثالث الموسوم (مرحلة البحث الخارج نظامها وطريقة تدريسها ومثل تطبيقي عليها) في مبحثين ثنتين مرحلة التخصص العالي الدقيق هذه، حيث تطرّق في مبحثه الأول النظام الدراسي المتبع في هذه المرحلة الدراسية المتقدمة، وطريقة

ص: 4

التدريس المتبعة فيه. وقدّم في مبحثه الثاني مثلين تطبيقيين عليه لتقريب طريقة تدريس بحث الخارج السائدة فيه.

في حين تناول الفصل الرابع منه الموسوم (الاجتهاد) في أربعة مباحث معنى كلمة الاجتهاد في المعجم العربي والمصطلح، فمعدات الاجتهاد الشرعي، فإجازة الاجتهاد، ثم قدم في مبحثه الثالث نموذجين لها، مع إطلالة موجزة على برنامج يوم عمل لأستاذ مجتهد في الحوزة العلمية النجفية.

وتناول الفصل الخامس الموسوم (المرجع والمرجعية الدينية) في أربعة مباحث حديثا عن المرجع الديني وطرائق التحقق من توفر الشروط المطلوبة فيه، محددا المقصود بالمرجع الأعلم، فشارحا مسألة تعدد المراجع مع توضيح لمهمات المرجعية وإنجازاتها على أرض الواقع، مستعرضا برامج أيام عمل لبعض مراجع التقليد في حوزتها العريقة.

وتناول الفصل السادس الموسوم (أشهر مراجع التقليد في حوزة النجف الأشرف العلمية الحالية) في مباحث أربعة : السيرة الحياتية والعلمية لكل من أصحاب السماحة: المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني والمرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم والمرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض والمرجع الشيخ بشير النجفي.

بينما تناول الفصل السابع الموسوم (طلاب حوزة النجف الأشرف) في مباحث أربعة تبيانا لأعداد الطلاب التقريبية في الحوزة العلمية النجفية سابقا وحاليا، ثم تعريفا بأماكن الدراسة الحوزوية وبالأخص ما كان منها في المدارس الدينية سابقا وحاليا أيضا، ثم عرضا لبرنامج يوم عمل لطالبين مشتغلين من طلاب حوزة النجف الأشرف.

وتناول الفصل الثامن الموسوم (النظام الدراسي المتبع في حوزة النجف الأشرف بعض من إيجابياته وسلبياته) في مبحثين بعضا من إيجابيات النظام المتبع في حوزة

ص: 5

النجف الأشرف العلمية، ثم بعضا من سلبياته.

أما الفصل التاسع الموسوم (من مشاريع إصلاح المنهج الدراسي المتبع في مرحلتي المقدمات والسطوح في حوزة النجف الأشرف) فقد تناول في مبحثين تقاسمتهما مطالب أربعة بعضا من محاولات إصلاح المنهج الدراسي المتبع في مرحلتي المقدمات والسطوح سواء ما تضمن منها تأليف كتب دراسية جديدة لتحل محل الكتب القديمة أم إجراء تعديل على المنهج الدراسي المتبع فيهما.

بينما تناول الفصل العاشر الموسوم (تصنيف محاولات الإصلاح العام في حوزة النجف الأشرف) توصيفا عاما لمحاولات الإصلاح فيها، تجلية لأسسها النظرية، وتبيانا لمنطلقاتها الفكرية، وتحديدا لآلياتها التطبيقية.

في حين تناول الفصل الحادي عشر الموسوم (مشاريع إصلاحية لم تنجز كما أريد لها أن تنجز) في مبحثين مشاريع تطوير وإصلاح النظام السائد في الحوزة، تعرض أولهما لمشروع نظام مدرسة كاشف الغطاء العلمية، وتطرق ثانيهما إلى مشروع نظام مدرسة دار العلم للسيد الخوئي (قدّس سِرُّه).

أما الفصل الثاني عشر الموسوم (مشاريع إصلاحية تحققت على أرض الواقع، جمعية منتدى النشر أنموذجا) فتحدث في مبحثين عن هذه الجمعية الرائدة شارحا أولهما بواكير مشروع المنتدى الإصلاحي وصعوباته ومعوقاته، ومعرفا ثانيهما بشيء من التفصيل لبرنامج منتدى النشر الإصلاحي وما نهضت به هذه الجمعية من أعمال وما راودتها من آمال ثم ما تحملته جراء ذلك من مصاعب ومصائب.

بينما تناول الفصل الثالث عشر الموسوم (من جديد أنظمة حوزة النجف الأشرف) ما تبنته الحوزة العلمية من نظام جديد بما فيه من اتباع آلية الامتحانات سعيا لتحديد

ص: 6

المستوى العلمي للطالب الحوزوي وما يترتب على ذلك من مستحقاته تبعا لمستوى تحصيله الدراسي متضمنا إحصائيات تفصيلية لأعداد كل مرحلة دراسية ونتائج طلبتها منذ أن شرعت حتى آخر امتحان تحريري أجري لطلبتها وظهرت نتائجه قبل دفع هذه الطبعة إلى المطبعة بفترة ليست طويلة مشفوعة بقراءة إحصائية لها في الملاحق.

ثم تناول الفصل الرابع عشر الموسوم (مشاريع تطويرية قائمة على أرض الواقع حاليا) فقد تعرض في مباحث ثلاثة لنظام ثلاث مدارس حوزوية قائمة اليوم هي : مدرسة الإمام الكاظم (عَلَيهِ السَّلَامُ) للطلاب، ومدرسة دار الحكمة للعلوم الإسلامية بقسميها، ومدرسة دار العلم النسوية موضحا نظام كل من المدارس الثلاث ومناهجها الدراسية وآليات وطرائق التدريس فيها وما إلى ذلك من بعض شؤونها الأخرى.

أما الفصل الخامس عشر الموسوم (هيئات ومؤسسات علمية وإرشادية) فتناول في مبحثين هما: (الهيئة العلمية لمؤسسة شهيد المحراب للتبليغ الإسلامي، ومؤسسة المصطفى للإرشاد والتوعية الدينية أنموذجا) معرفا أولهما في مطلبيه بالهيئة العلمية وما ضمته من تشكيلات إدارية وتنظيمية مع تبيان لنشاطاتها الاجمالية، وعرف ثانيهما في مطلبيه بمؤسسة المصطفى للإرشاد والتوعية الدينية من حيث دواعي التأسيس والأقسام.

ثم تناول الفصل السادس عشر الموسوم (مؤسسات معارف إسلامية مؤسسة الشيخ زين الدين (قدّس سِرُّه) هل للمعارف الإسلامية أنموذجا) فقد تقاسمته مباحث ثلاثة تناول المبحث الأول منها أهداف المؤسسة وآلية تنفيذها، وتناول المبحث الثاني منها : نظامها العام، فيما تناول المبحث الثالث نشاطاتها المتعددة.

في حين تقاسم الفصل السابع عشر منها الموسوم (مؤسسات معنية بالمخطوطات

ص: 7

والوثائق (مؤسسة كاشف الغطاء العامة أنموذجا) مبحثان، تناول المبحث الأول منهما: تاريخ تأسيسها، وتناول المبحث الثاني منهما أقسام المؤسسة المعنية بشاطاتها الأساسية.

وأتبعت فصول الكتاب المتقدمة بخائمة اتبعتها بملاحق إحصائية أو توضيحية أو توثيقية لبعض ما ورد في فصول الكتاب وشؤونه.

ويحسن بي أن أضيف هنا بأني كنت خصصت الفصل الثامن عشر الموسوم ب(مقترحات عامة لإصلاح النظام القائم في حوزة النجف الأشرف) المتكوِّن من مبحثين، تمحَّض أولهما لتبيان أفكار عامة لإصلاح الحوزة العلمية النجفية ارتأيت - حسب قناعتي - أن نظامها القائم اليوم يحتاجها حاجة ماسة، في حين تخصص ثانيهما بوضع مشروع مقترح لنظام أساتذة الحوزة العلمية النجفية اشتمل على مواد مفصلة، معتقدا أن هذه المقترحات كفيلة - إلى حد معقول - بتحصينها من خلال آليات محددة، تقطع الطريق على دعاوى المدّعين من حيازتهم على درجاتها العلمية الرصينة، دون وجه حق من جهة، وتفعيل دورها أكثر فأكثر لتلبية احتياجات الأمة المؤمنة من جهة ثانية.

بيد أني أعرضت عن نشره مؤقتا، لحين توفر الظرف المناسب له.

ويشرفني أن أقول هنا بأني عكفت لاحقا على تطوير وتحديث مسودة الفصل الثامن عشر المشار اليه أعلاه، فترة ناهزت السنة انتهت به إلى أن يكون كتابا تفصيليا يتضمن برنامجا واسعا لتحديث وتطوير نظام حوزة النجف الأشرف، ورفده بخطط عمل جديدة، وأنساق تطوير حديثة، وآليات تنفيذية محددة، أخال أنها كفيلة بأن تنهض به إلى واقع أفضل من خلال أربعة فصول، ومقدمة، وخاتمة، ملحوقة بعرض لمصادر الكتاب ومراجعه.

ثم آليت على نفسي ألّا أنشره قبل أن أعرض مسودته على أكثر من مكتب من

ص: 8

مكاتب مراجع التقليد في حوزة النجف الأشرف الحالية، ليقيني بأنّ أي تحديث لنظام حوزة النجف الأشرف، لا تتبناه المرجعية، أو تدعمه، أو ترضى به، أو لا تعارضه، من الصعب أن يكتب له النجاح، في حوزة علمية، هي زعيمتها، عسى أن أوفق لنشره في الوقت المناسب إن شاء اللّه.

وسيكون الكتاب في حال صدوره هو الكتاب الخامس من خماسية عن حوزة النجف الأشرف أكاد أنتهي من تأليفها الآن تعنون كتابها الأول بعنوان (الحوزة ونجفها معالم المكان البيئة العربية الحاضنة تبادل التأثر والتأثير بين البيئة وحوزتها) وتعنون كتابها الثاني بعنوان (البحث الفقهي / الأصولي عصوره العلمية ومراجعه المعاصرون) وتعنون كتابها الثالث بعنوان (النظام الدراسي المتّبع مراحله ومناهجه، طلابه ومدارسه إيجابياته وسلبياته)، وتعنون كتابها الرابع بعنوان (مشاريع تطوير النظام الدراسي في حوزة النجف الأشرف) إضافة إلى الكتاب الخامس الذي تقدم ذكر موضوعه سابقا.

ويحسن بي أن أذكر هنا أن الطبعة الثالثة اشتملت على تحديث لبعض ما ورد في الطبعة الثانية وإضافات مع تصحيح لبعض من الأخطاء الطباعية

أسأل اللّه أن يتقبل عملي بقبوله الحسن الجميل، وأن ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى اللّه بقلب سليم. رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي إنك على كل شيء قدير والحمد للّه رب العالمين.

المؤلف

النجف الأشرف

النصف الثاني من عام

1433ه- / 2012م

ص: 9

ص: 10

تمهيد

إشارة:

يحسن بي أن أمهد لبحثي عن حوزة النجف الأشرف بتعريف موجز بالمرقد العلوي الشريف الذي لولاه لم تكن الحوزة النجف الأشرف أن تكون حوزة، بل لم تكن أرض النجف حاضرة علمية لنجف أشرف.

المرقد العلوي الشريف

تشرفت أرض النجف الأشرف باحتضان العديد من المعالم المقدسة والأماكن التاريخية والأثرية والمقامات والمساجد ودور العبادة وغيرها الكثير.

بيد أن معلمها المقدس الأهم والأشرف هو الحرم العلوي المطهر، الذي ضم بين جنباته جدث أمير المؤمنين وسيد الوصيين وإمام المتقين الإمام العادل علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ)، فقصده - للتشرف بمجاورة باب مدينة علم رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، وأقضى صحابته - العلماء الأعلام: سواء أكانوا حفظة ومفسرين، أم فقهاء ومحدثين، أم باحثين ومحققين، أم فلاسفة ومتكلمين، أم شعراء ومبدعين، أم غيرهم من أرباب صنوف المعارف الإسلامية الأخرى، فكانت حاضرة النجف الأشرف منذ أن ألقى عصا الترحال فيها السادة العلويون، وأقام فيها ثاويا مستوطناً الأحباب الموالون، فنشأت حوزة النجف الأشرف العلمية وشيدت أعرق وأغنى حاضرة لمعارف أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) منذ ألف عام.

وقبل ذلك وبعده، فقد يمم شطر مرقده المقدس (عَلَيهِ السَّلَامُ) الملايين من الزوار على مر

ص: 11

السنيين، لما للزيارة عند المسلمين وغيرهم، وعند الشيعة بالأخص من حضور روحي محبب تفيض خلاله الروحانية الكبرى للمزور على الزائر، وتغمر فيه المبدئية والصفات القدسية للإمام العادل نفسية الميمم القاصد، فتكتسب من روحانيته ما تكتسب، وتنهل من مبدئيته الصافية ما تنهل، فتطمئن بعد اضطراب، وتصفو بعد كدر، وتسعد بعد شقاء، وترجو بعد قنوط وتشرق بعد تجهم، وربما يحصل ذلك الإنعاش الروحي بمجرد تصور صفاء روح المزور، وتذكّر قيمه ومبادئه الحقة في طواف حول المزور طوافا ذهنيا محضا دون خصوصية للمكان.

ولكن محبي الأئمة الأطهار لا يكتفون بذلك، بل لا تعد الزيارة الروحية زيارة إلاّ إذا كانت عند تربة المزور وبحضرته، ويركزون عملهم هذا على ركيزتين :

إحداهما: قوله تعالى «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَنهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّه وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّه لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ»(1).

فهم يعتقدون أن أرواح المؤمنين لها الحياة ولها الخلود فهي لا تموت ولا تتلاشى.

وثانيهما: إن بين الروح والجسد اتصالا وارتباطا وثيقا، فهما متصلان منفصلان، وان للروح على تربة المتوفى انعكاسا مثل الزجاجة،والنور، فروح ذلك العظيم متصلة بمشهده، ومن يحظ بذلك المشهد يدركها إدراكا روحيا، فيحظى ببعض تلك الأضواء، ثم يرجع إلى أهله وفي نفسه قبس من النور المقدس.

هذه هي الزيارة، وذلك هو الموسم(2).

ص: 12


1- سورة آل عمران: الآيات 169 - 171.
2- الأحلام. الشيخ علي الشرقي: 145.

خط المرقد العلوي الشريف

خط المرقد العلوي الشريف لأمير المؤمنين وإمام المتقين الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) سنة أربعين للهجرة الشريفة، وقد سوَّى ولداه الإمامان الحسن والحسين (عَلَيهِم السَّلَامُ) سيدا شباب أهل الجنة قبره مع الأرض وأخفيا معالم الجدث بوصية منه (عَلَيهِ السَّلَامُ) اليهما، وهو على ما يقول المؤرخ الجاحظ: أول إمام خفي قبره.

وبقي موضع خط المرقد العلوي سرا مكتوما لا يعرفه إلّا أهل بيته والخاصة من صحبه والصالحين من أتباعه لأسباب عديدة منها كما يبدو : جرأة أعدائه الظلمة على نبش قبره (عَلَيهِ السَّلَامُ) حتى قيل إن الحجاج بن يوسف الثقفي حاول جهده الاهتداء لموضع القبر الشريف فحفر لذلك ثلاثة آلاف قبر في النجف طلبا له، ولم يعثر له على أثر (1).

أما الخاصة من أهل بيته والخلص من أتباعه فكانوا يتعاهدونه بالزيارة والسلام بعيدا عن أعين الرقباء.

وذكر قسم من المؤرخين أن المنصور العباسي حين علم أنّ الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) وعددا من أصحابه يوالون زيارة القبر، وكان الخليفة كغيره من عامّة الناس يجهل موضعه، أراد أن يتأكد من ذلك بنفسه، فذهب منفرداً مع بعض خاصته وخَدمه وأمر أن يحفر في المكان المحدد للقبر، وكان يزوره بعد ذلك يناجيه معتذرا إليه مما يفعله بأبنائه.

وذكروا: إنّ داود بن علي العباسي أيضا فعل ذلك، فشاهد كرامة باهرة أخافته، فأمر ببناء القبر وصنع صندوقاً وضعه عليه عام ( 133 ه- / 750م) وجعل عليه صندوقا خشبيا برهة من الزمن ثم أزاله (2).

وفي عهد هارون وقد خرج للصيد في هذه المنطقة كما سيأتي رأى كرامة حملته على أنّ ينعطف ويخشع.

ص: 13


1- ينظر: روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات. محمد باقر الموسوي الخوانساري الأصبهاني : 2 / 53.
2- ينظر : تاريخ النجف الأشرف. الشيخ محمد حسين حرز الدين: 2/ 55.

ثانيا - عمارات الحرم العلوي الشريف

إشارة:

ما ان أشهر الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) موضع المرقد الشريف بعد زوال دولة بني أمية من خلال بناء دكّة عليه كما روى بعضهم، حتى تعاضدت على تشييد عمارته أيدي المسلمين والمؤمنين والأخيار الصالحين.

وقد اختلف المؤرخون في زمن تشيّد العمائر المتقدمة على مرقد أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومن شيدها، كما اختلفوا في عدد هذه العمائر، فقد أوصلتها مؤلفة كتاب (مشهد الإمام علي) إلى سبع عمائر (1)، في حين ذهب الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي إلى أنها ست عمائر(2)، وأشار الباحث محمد علي التميمي إلى أنها خمس عمائر(3)، وهو ما ذهب اليه الشيخ جعفر محبوبه(4) ولعله الأرجح.

وهذه العمائر الخمس هي :

العمارة الأولى : عمارة هارون العباسي

ذكر العديد من المؤرخين خلافا لما ورد من أن الإمام علي بن الحسين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) أمر صفوان الجمال بوضع أول بنية على القبر الشريف، وخلافا لما تقدم عن وضع داود بن علي العباسي صندوقا على القبر - أن أول عمارة على القبر الشريف أقيمت في عهد الخليفة هارون العباسي (149 - 193 ه/ 766-808م) بوضع بنيان بآجر أبيض، وهي على هذا القول العمارة الأولى للحرم العلوي المطهر.

فقد ذكر القندوزي في (ينابيع المودَّة) : لم يزل قبر علي رضي اللّه عنه مختفياً إلى زمن هارون، ثم ظهر بالغري بظاهر الكوفة، ويزوره إلى اليوم الناس، وصار قبره مأوى كل لهيف وملجأ كل هارب.

وقد اختلف المؤرخون في تاريخ إقامة هذه العمارة، فقد ذهب صاحب (رياض

ص: 14


1- مشهد الإمام علي، سعاد ماهر 129 136
2- دليل النجف الأشرف، عبد الهادي الفضلي 24.
3- ينظر مشهد الإمام محمد علي التميمي: 199:1
4- ماضي النجف وحاضرها، جعفر محبوبه 41:1 48

السياحة) إلى أنها بنيت سنة (155 ه / 772م)، فيما جاء في (عمدة الطالب) و(نزهة القلوب) أنها بنيت سنة (170 ه / 786م)، بينما ذكر صاحب (نزهة الغري) أنها بنيت سنة (175ه/ 791م)، وهو ضعيف لتولي هارون الخلافة ما بين الأعوام (170 198ه / 786 م 791م)، وتظل الروايات الأخيرة محل نقاش كبير.

ويبدو أن هذه العمارة على فرض وجودها اندرست بعد عشرات السنين، بسبب الضغوط الكبيرة التي كان يمارسها العباسيون على مراقد العلويين، وعدم السماح لهم بصيانة أو ترميم المرقد الطاهر الأمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).

العمارة الثانية : عمارة محمد بن زيد بن إسماعيل الحسني

المعروف بالداعي صاحب طبرستان(1). فقد ذكر ابن طاووس أن محمد بن زيد هو الذي بنى المشهد الشريف الغروي، أيام المعتضد، وقتل في وقعة أصحاب السكان، وقبره بجرجان (2).

وربما تنسب هذه العمارة إلى أخيه الحسن، ولعل سبب هذا اللبس ما اشار اليه الشيخ الطوسي في التهذيب من أن الحسن بن زيد بنى حائطاً كسور يحيط بالمشهد العلوي.

وقد أنشئت هذه العمارة في زمن المعتضد بالله العباسي (279 289ه / 892 -902م) (3).

العمارة الثالثة : عمارة السلطان عضد الدولة البويهي

يعد السلطان عضد الدولة البويهي أحد تلامذة الشيخ المفيد، وقد أنشأ هذه العمارة (سنة 369ه / 979م)، واستمر العمل على تشييدها حتى (سنة 371ه/ 981م).

ص: 15


1- مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني 445
2- فرحة الغري ابن طاووس 110
3- المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على اللّه

ولقد كانت هذه العمارة من أفضل العمارات المشيدة في حينها، وأحسنها وأجملها وأكبرها، وهي على شكل ضريح مربع تعلوه قبة عظيمة، فبعد أن دخل البويهيون إلى العراق، أمر عضد الدولة البويهي ببناء عمارة جديدة بدلاً من العمارة القديمة، وبذل الأموال الطائلة لتشييدها، جالبا لها من بغداد العصر الذهبي خيرة المهندسين والمصممين والمعماريين والبنَّائين وذوي الفن والصنعة في دولته، ثم أحضر مواد البناء من صخور وأخشاب وغيرها من أماكنها النائية حيث ما وجدت، وحين أعوزه الطابوق والجصّ لعمارته الشاهقة بنى لها قريبا من بئر معروف في بادية النجف مصاهر لما يحتاجه منها، كما حفر قناة للماء من نهر الفرات في الكوفة إلى حيث النجف الأشرف، ثم أقام رواقا مرتفعا عقد عليه قبة بيضاء زاهية.

وقد ذكر هذه العمارة الرحالة ابن بطوطة، عندما زار مدينة النجف الأشرف (سنة 727ه- / 1327م)، ووصفها وصفاً مفصَّلاً فقال : ثم باب الحضرة حيث القبر... وبإزائه المدارس والزوايا والخوانق معمورة أحسن عمارة، وحيطانها بالقاشاني، وهو شبه الزليج عندنا، ولكن لونه أشرق، ونقشه أحسن، وإذا ما دخل زائر يأمرونه بتقبيل العتبة، وهي من الفضّة، وكذلك العضادتان، ثمّ يدخل بعد ذلك إلى القبة، وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه، وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبار والصغار، وفي وسط القبة مسطبة مربعة، مكسوّة بالخشب، عليها صفائح الذهب المنقوشة المُحكمة العمل، مسمّرة بمسامير الفضة، قد غلبت على الخشب، لا يظهر منه شيء، وارتفاعها دون القامة، وفوقها ثلاثة من القبور، يزعمون أن أحدها قبر آدم (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والثاني قبر نوح (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والثالث قبر الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ). وبين القبور طشوت ذهب وفضة، فيها ماء الورد والمسك، وأنواع الطِيِب، يغمس الزائر يده في ذلك، ويدهن بها وجهه تبرّكاً.

وللقبة باب آخر، عتبته أيضاً من الفضّة، وعليه ستور الحرير الملوّن، يفضي إلى

ص: 16

مسجد مفروش بالبسط الحسان مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير، وله أربع أبواب عتبتها،فضة، وعليه سور الحرير وخزانة الروضة العظيمة فيها من الأموال ما لا يضبط لكثرته.

وقد عقد عضد الدولة في بهو الحرم المطهر وتحت رواقه البهي مهرجان افتتاح عمارته الفخمة، داعيا اليه الأمراء والعلماء والنقباء والوجهاء والشعراء والأدباء، وكان من بينهم الفقيه الشاعر الشريف المرتضى، يومها دخل عضد الدولة الحضرة الشريفة وقبل أعتابها وأحسن الأدب، ثم ألقى الشاعر الحسين بن الحجاج قصيدته المعروفة في ذلك البهو الزاهي بمطلعها المشهور :

ياصاحب القبة البيضا على النجف***من زار قبرك واستشفى لديك شفي

العمارة الرابعة : عمارة تشارك بتشييدها أكثر من سلطان

وهي العمارة التي تمت في (سنة 760 ه/ 1385م) ونفَّذها أكثر من سلطان من السلاطين، حيث لم تقتصر عمارتها على واحد بعينه منهم كي تسمى باسمه، والمرجح أنها تمت على أيدي الإيليخانيين.

العمارة الخامسة : العمارة الصفوية

وهي العمارة القائمة اليوم، وتدعى بالعمارة الصفوية، وقد شيدت هذه العمارة كما يبدو على مرحلتين : أولاهما في (سنة 1033ه- 1623م)، يوم زار الشاه عباس الصفوي الأول العتبة العلوية الشريفة قادما اليها من طريق الحلة، فلما أن صار موكبه على مرحلة من واديالسلام، ولاحت لعينيه القبة المنورة، نزل عن ركابه وجعل يمشي حافيا على قدميه، وهو حامل تاجه بين يديه، ونزل معه جميع وزرائه وأمرائه وعساكره حتى دخول الحرم الأقدس، وبقي في جوار حرم أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) عشرة أيام، وكان

ص: 17

يقضي أكثر أوقاته في الزيارة والدعاء والابتهال، وقد جعل نفسه أحد الخدم الذين يخدمون ذلك الحرم الشريف، وكان يتولى كنس الحرم من الغبار بيده في كل يوم من أيام إقامته في النجف (1) الأشرف.

وقد أمر بإيصال الماء إلى الروضة المطهرة، كما أمر بتجديد القبة المطهرة، وتوسيع بناء الحرم العلوي، وجلب لذلك المهندسين المهرة والمعماريين البارعين والبنائين المتميزين من أهل الخبرة والجودة والفن.

وثاني المرحلتين وهي الأهم كان في (سنة 1042 ه / 1631م) يوم زار الضريح المقدس حفيد الشاه عباس الصفوي الأول، وهو الشاه صفي بن صفي ميرزا بن السلطان شاه عباس الصفوي، فأمر وزيره ميرزا تقي خان بتجديد القبة المرتضوية، وفسحة الحرم، وتوسعته.

بيد أن أهم تجديد للعمارة الصفوية هو ما قام به السلطان نادر شاه، فإذ زار مدينة النجف الأشرف في (سنة 1156 ه / 1743م وقيل سنة 1155 ه / 1742م) ووجد القبة المشرفة خلوا من التذهيب أمر بأن تكسى القبة الموقرة بالإبريز (الذهب الخالص)، وأمر كذلك بأن تكسى المئذنتان والإيوان أيضا، وأن تطلى الكتابة الممنطقة للقبة من داخلها بالميناء والفسيفساء (2)، وقد ثبت التأريخ الهجري لتذهيب القبة والروضة وهو (سنة 1156 ه / 1742م) كتابة بالحروف الذهبية على جبهة الإيوان الزاهي.

ثالثا - مميزات العمارة الصفوية القائمة اليوم

تتميز العمارة الصفوية، بل تنفرد بميزات علمية لم تتحقق لغيرها من المباني القديمة أو الحديثة، ولا توجد في أية عمارة أثرية في العالم (3) فقد صمم مهندسها المعماري الجدار الشرقي للصحن الحيدري الشريف ليكون بمثابة شاخص لتعيين وقت الزوال على

ص: 18


1- تاريخ النجف الأشرف : 287.
2- الأحلام. سابق: 176.
3- مرقد وضريح أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ). د. صلاح الفرطوسي : 231

مدى فصول السنة، وهذه الظاهرة موجودة في مكانين في هذا الجدار :

الأول: توجد ثلاثة أقواس من القاشاني الأزرق الملتوي تحت الساعة على واجهة باب الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) المعروف بباب السوق الكبير، وعندما تصل الشمس إلى منتصف القوس الأوسط منها يكون وقت الزوال

الثاني: الأواوين الأربعة التي بين باب مسلم بن عقيل (عَلَيهِ السَّلَامُ) المعروف بباب العبايجية والزاوية الشمالية الشرقية، ففي الوقت الذي تصعد فيه الشمس إلى أرض هذه الأواوين بعرض أربعة أصابع من حافتها يكون وقت الزوال في جميع فصول السنة (1) قد حل.

ولم يكتف المصمم المعماري بذلك، بل أضاف اليه إبداعا علميا آخر، ذلك أنه في كل يوم عند شروق الشمس وغروبها، وفي جميع فصول السنة تنفذ أشعة الشمس عند بزوغها إلى داخل الحرم المطهر من الشباك الشرقي الذي يقع في أسفل القبة الشريفة، وفي ساعة غروب الشمس تغرب بخروج حزمة من أشعتها من داخل الحرم المطهر من الشباك الغربي الذي يقع في أسفل القبة الشريفة (2).

يقول الشيخ محمد حسين حرز الدين (3): ويلاحظ أن في وضع الباب الكبير بمكانه هذا هو جعل بزوغ الشمس في الضريح الأقدس طيلة فصول السنة الأربعة، بحيث لو أن شخصا وقف عند القبر الشريف جانب الرجلين يرى أول بزوغ الشمس من خلال الباب الكبير الشرقي والسوق الكبير وباب البلد الشرقي الرئيسي في سور المدينة على مدى أيام السنة. هذا يوم كانت النجف مسورة والجانب الشرقي منها مكشوف ولم تكن عمائر ولا أحياء جديدة ولا أشجار تحجب بزوغ الشمس ونتيجة لتوالي العمائر في الجهة الشرقية فقد انعدمت رؤية الشمس حين بزوغها وقد أشير إلى بزوغ الشمس ببيت من الشعر الفارسي كتب بالقاشاني في داخل الثلث الأعلى لطاق

ص: 19


1- مساجد ومعالم في الروضة الحيدرية المطهرة. السيد عبد المطلب الموسوي الخرسان: 13 وينظر: ماضي النجف وحاضرها: سابق: 51/1، مرقد وضريح أمير المؤمنين. سابق : 231
2- تاريخ النجف الأشرف. سابق : 1/ 37. والمصدر السابق: 14
3- المصدر السابق : 1/ 373

باب الصحن الشرقي الكبير من جانب الصحن بحروف كبيرة زرقاء داكنة على أرضية صفراء ومعناه أعظِم بأن الشمس تضع جبهتها كل صباح على تراب عتبة قبرك الطاهر.

وإذ وصل بي البحث إلى هذا الموضع، فإني لأرجو من مهندسي العتبة الحيدرية المطهرة وأمنائها أن يعلَّموا هذه الإبداعات العلمية الهندسية بإشارات دالة عليها، بحيث تلفت نظر الزائر والباحث والمستطلع، وأن يزيلوا العوائق التي تحجب رؤية هذا الإعجاز الهندسي الرائع لكل ذي عينين.

رابعا - وصف العمارة الحالية للحرم العلوي المطهر، وهي العمارة الخامسة

يعدّ الحرم العلوي المطهر بعمارته البهية الحاضرة أبرز معلم من معالم مدينة النجف الأشرف، ويقع وسط مدينتها القديمة تماما، متخذا شكلا دائريا أو بيضويا، مكونا بمركزيته القطب الشامخ الذي دارت حوله مكونات المدينة، فهو العنصر المؤثر في تكوينها وظيفيا وبصريا، بمساحته البالغة هكتارا ونصف الهكتار بما يقارب نسبة 2% من مساحة المركز التأريخي للنجف التقليدية (1).

وتضم العمارة الحالية للحرم العلوي (ينظر الملحق الأول) الصحن الشريف والروضة الحيدرية المطهرة بقبتيها الداخلية والخارجية ومئذنتيها المذهبتين وخزائنها النادرة، ومكتبتها العامرة، وملحقات أخرى عديدة سآتي على وصفها والتعريف بها مفصلا في كتابي: (حوزة النجف الأشرف الكتاب الأول، الحوزة ونجفها، معالم المكان، البيئة العربية الحاضنة، تبادل التأثر والتأثير بين البيئة وحوزتها) الذي آمل أن يصدر هو والكتب الأربعة الأخرى من (خماسية حوزة النجف الأشرف) خلال هذا العام إن شاء اللّه.

ص: 20


1- دراسة تحليلية تخطيطية للمحافظة على المركز التاريخي والحضاري لمدينة النجف الأشرف. د. المهندس حيدر عبد الرزاق كمونة. بحث. النجف الأشرف عاصمة الثقافة الإسلامية وكنز المعارف والعلوم. مركز دراسات الكوفة. جامعة الكوفة : 6/2

هوامش التمهيد

(1) سورة آل عمران: الآيات 169 - 171.

(2) الأحلام. الشيخ علي الشرقي: 145.

(3) ينظر: روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات. محمد باقر الموسوي الخوانساري الأصبهاني : 2 / 53.

(4) ينظر : تاريخ النجف الأشرف. الشيخ محمد حسين حرز الدين: 2/ 55.

(5) مشهد الإمام علي، سعاد ماهر 129 136

(6) دليل النجف الأشرف، عبد الهادي الفضلي 24

(7) ينظر مشهد الإمام محمد علي التميمي: 199:1

(8) ماضي النجف وحاضرها، جعفر محبوبه 41:1 48

(9) مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني 445

(10) فرحة الغري ابن طاووس 110

(11) المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل على اللّه

(12) تاريخ النجف الأشرف : 287.

(13) الأحلام. سابق: 176.

(14) مرقد وضريح أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ). د. صلاح الفرطوسي : 231

(15) مساجد ومعالم في الروضة الحيدرية المطهرة. السيد عبد المطلب الموسوي الخرسان: 13 وينظر: ماضي النجف وحاضرها: سابق: 51/1، مرقد وضريح أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ). سابق : 231

(16) تاريخ النجف الأشرف. سابق : 1/ 37. والمصدر السابق: 14

(17) المصدر السابق : 1/ 373

ص: 21

(18) دراسة تحليلية تخطيطية للمحافظة على المركز التاريخي والحضاري لمدينة النجف الأشرف. د. المهندس حيدر عبد الرزاق كمونة. بحث. النجف الأشرف عاصمة الثقافة الإسلامية وكنز المعارف والعلوم. مركز دراسات الكوفة. جامعة الكوفة : 6/2

ص: 22

الفصل الأول

إشارة:

الحوزة مصطلحاً، وتاريخاً علمياً موجزاً

ويتضمن هذا الفصل مبحثين هما :

المبحث الأول : مصطلح الحوزة العلمية.

المبحث الثاني: موجز من تاريخ حوزة النجف الأشرف العلمي.

ص: 23

ص: 24

المبحث الأول: مصطلح الحوزة العلمية

يحسن بي أن أبدأ حديثي بتحديد مصطلح (الحوزة العلمية) بعد أن تداولته وسائل الإعلام المختلفة وفسرته بعضها عن قصد أو بدونه على هواها، وبخاصة إثر بروز مدينة النجف الأشرف ومرجعيتها الدينية كصانعة الحدث كبير في العراق، وحاضرة حضورا فعليا خارجه مما لا يمكن تجاوزها أو تخطيها بحال من الأحوال.

تعدّ الحوزة العلمية الوسط العلمي المنتج والحاضن معاً للساعين إلى الخروج من عهدة التكليف الإلهي بالنفر الوارد في قوله تبارك وتعالى في محكم كتابه المجيد : «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَنَفَقَهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (1) من الباذلين جهدهم للتخلق بأخلاق الإسلام وآدابه سواء أكانوا علماء ومبلغين أم معلمين ومتعلمين أم مفسرين ومؤرخين أم من غيرهم من السالكين إلى اللّه والداعين اليه، خطباء كانوا أم وكلاء أم مبلغين أم من حذا حذوهم واقتدى بسنتهم، متفقها في الدين تارة، ومنذرا ومبلغا أخرى، متأدبا بآداب الإسلام الكريمة وأخلاقه السامية.

والحوزة العلمية في الوقت نفسه ذراع المرجعية والوجود الرابط أو الحلقة الموصلة بين المرجع الديني المجتهد ومقلِّده، والحكم الشرعي ومتّبعه، والعالم بأصول الشريعة وفروعها والمتعلم.

ص: 25


1- سورة التوبة: آية 122

وهي تعني أيضا فيما تعنيه: مركز التعليم الديني الذي يتبع في طريقة تعليمه النهج الذي تربى عليه الفقهاء السابقون منذ العصور الإسلامية الزاهرة وحتى العصر الحاضر، متخذة من نظام الحلقات في الغالب شكلاً لها، متبعة نظام الدراسة التامة بأن يبحث الموضوع ثم يعاد بحثه في كتب لاحقة متعاقبة مع توسعة متدرجة، متخذة من شرح عبارة الكتاب المقرر وتحليلها والغوص في مداليلها ومعانيها طريقة للتدريس، متيحة للطالب الحرية المطلقة في المناقشة مانحة إياه الفرصة المثلى لاختيار الأستاذ الذي يشاء، وتحديد الزمان والمكان للدرس بالاتفاق بينهما عليه، ساعياً طالبها من وراء دراسته نيل رضا اللّه عز وجل في دنياه وآخرته مبتغيا تحصيل المعارف الشرعية زاهدا بملذات الدنيا الفانية وزخارفها، أو هكذا هو المفترض بالحوزوي، بيد أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال صدق انطباق عنوان نية القربة اللّه عز وجل والإخلاص والواقعية والتجرد والزهد واستفراغ الوسع في البحث والدراسة والعلم والعمل على جميع الحوزويين طلاباً وغير طلاب.

ص: 26

المبحث الثاني: موجز من تاريخ حوزة النجف الأشرف

لئن اختلف المؤرخون في تحديد أوائل العمر الزمني الناضج للحركة العلمية الدينية في النجف الأشرف، فإنهم يتفقون أيا كانت آراؤهم على أن مدينة النجف الجامعة كانت حاضرة للعلم وحاضنة له، يؤمها الطلاب ويقصدها المتعلمون للتزود بالعلم والمعرفة والبحث والتحقيق بعد (سنة 448ه / 1056م) زمن هجرة شيخ الطائفة وصاحب كرسي الكلام وأحد الرواد الأوائل لعلم الفقه المقارن ومؤلف الكتب الثمانين في الفقه والتفسير والأصول والرجال وغيرها الشيخ محمد بن الحسن الطوسي(1) المتوفى (سنة 460 ه- / 1068م) وانتقاله شبه القسري من بغداد إلى النجف الأشرف إثر اقتحام داره وإحراق كتبه ابان فتنة طائفية بين المسلمين شيعة وسنة، أشعلها وأورى زنادها ببغداد حاكمها طغرل بك السلجوقي أول دخوله البغداد، فاختلطت جراء فتنته الطائفية دماء أبناء بغداد ومداد حبرهم وعقلانية أفكارهم كلها في شوارعها وأزقتها ونهر دجلتها التي مزج ماؤها بين حمرة الدم القاني وسواد مداد الكتب مما ألقي فيها منها، وقد ادى التعصب الطائفي المقيت إلى إحراق أعظم مكتبة إسلامية شيعية يومها هي مكتبة (دار العلم) التي ضمت بين دفتيها وفوق رفوفها أكثر من عشرة آلاف مجلد في مختلف العلوم والآداب والفنون بعد جلبها بمشقة وتعب من مختلف الأقطار والبلدان حتى وصفها المؤرخ والجغرافي المعروف ياقوت الحموي (2) بقوله لم يكن في الدنيا أحسن كتبا منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة و أصولهم المحررة.

ص: 27


1- الشيخ الطوسي (385 - 460 ه) / (995 1068م) تلميذ الشريف المرتضى وفقيه الشيعة ومتكلمها وشيخها في عصره. درّس في داره بالمحلة المعروفة بمحلة المشراق اليوم في النجف وتوفي ودفن فيها بعد أن تولى غسله وتكفينه ودفنه تلميذه الشيخ الحسن بن مهدي السليقي والسيخ الحسن بن عبد الواحد العين زربي والشيخ اللؤلؤي، وقد حولت داره بعد مدفنه فيها مسجدا يسمى باسمه في الشارع الذي يسمى اليوم باسمه أيضا قرب باب الصحن العلوي المسماة باسمه كذلك. له من الكتب المطبوعة غير ما تقدم كثير منها: التهذيب في 10 أجزاء، والاستبصار في 4 أجزاء والتبيان في تفسير القرآن في 12 جزء، تلخيص الشافي في 4 أجزاء. الفهرست الخلاف المبسوط الاقتصاد. مصباح المجتهد النهاية. الغيبة.
2- معجم البلدان 2 / 342.

كما أدى الهجوم الوحشي الطائفي على دار الشيخ الطوسي ببغداد إلى إحراق كرسيه، كرسي الكلام الذي لا يتبوؤه في العادة إلّا الباحث الأعلم من بين علماء عصره الكثر، ولم يكتف المتعصبون بذلك، ولم يشف غليلهم ما سفكوه من دماء ولا ما بعثروه من أشلاء، بل عمدوا زيادة في الإيذاء وإمعانا في محاربة الرأي الآخر إلى حرق ونهب تصانيف الشيخ الطوسي الكثيرة وإشعال النار في مكتبته العامرة.

إن هجرة الشيخ الطوسي القسرية من بيته العامر بكرخ بغداد إلى مثوى الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في النجف الأشرف وما تبعها من انتظام الدراسة على شكل حلقات للبحث والتدريس ومن إملاء شيخ الطائفة لدروسه جوار قبر أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وما نتج عن تلك الحلقات الدراسية من معارف جمة ثم ما ضمه كتاباه المهمان: (اختيار الرجال) في علم الرجال الذي بدأ بإملائه على تلامذته في النجف الأشرف ابتداء من (سنة 456 ه/ 1064م)، و (شرح الشرح) في علم أصول الفقه وغير ذلك من إبداعات شيخ الطائفة العلمية والفكرية المتنوعة، شكلت بمجموعها البداية الأكثر نضجا لتأسيس جامعة النجف الأشرف الدينية (1) حيث أصبحت الحوزة العلمية الفتية في النجف تربو على المئات من رواد الفضيلة والعلم والطلبة الناشئين والمؤلفة على حد رأي بعض المصادر من أولاده وبعض اصحابه ومجاوري القبر الشريف وأبناء البلاد القريبة منها كالحلة ونحوها، وبرز فيها العنصر المشهدي نسبة إلى المشهد العلوي والعنصر الحلي وتسرب التيار العلمي منها إلى الحلة(2) كما ذكر تاريخيا أن هذا الشيخ العظيم خرّج من تحت كرسي درسه أكثر من ثلاثمائة مجتهد. (3).

ولم يترك شيخ الطائفة الطوسي حوزة نجفه إلّا وعليها أبرز تلامذته ولده الشيخ أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الذي خلف أباه على العلم والعمل وتقدم على العلماء في النجف وكانت الرحلة اليه والمعول عليه في التدريس والفتيا وإلقاء الحديث وغير

ص: 28


1- ينظر : تاريخ التشريع الإسلامي د. الشيخ عبد الهادي الفضلي : 403
2- الدور الأول لجامعة النجف. بحث للشيخ محمد جواد الفقيه. موسوعة النجف الأشرف : 6 / 110
3- التدريس في النجف. د. الشيخ عبد الهادي الفضلي دائرة المعارف الإسلامية الشيعية سابق 10 / 374.

ذلك وكان من مشاهير رجال العلم وكبار رواة الحديث وثقاتهم. وقد بلغ من علوّ الشأن وسموّ المكانة أن لقب بالمفيد الثاني(1).

يقول ابن حجر (2) ثم صار فقيه الشيعة وإمامهم بمشهد علي رضي اللّه عنه وهو في نفسه صدوق مات في حدود الخمسمائة وكان متدينا مشهودا له بالفقه والحديث والرجال واليه تنتهي أكثر الإجازات عن شيخ الطائفة الطوسي كما كان حريصا على إتمام مهمة أبيه الشيخ في رعاية حوزتها الناشئة وتنظيم مناهجها الدراسية وتنشئة جيل من العلماء العاملين والمبلغين من الخاصة والعامة عدّ منهم الشيخ منتجب الدين بن بابويه أربعة عشر رجلا وأضاف الشيخ أغا بزرك الطهراني ستة عشر شخصا كما ذكر ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان ثلاثة أشخاص من العامة فيكون المجموع أربعة وثلاثين شخصا(3).

لقد خلف لنا الشيخ أبو علي كتابا نافعا أسماه (شرح النهاية) هو شرح لكتاب والده شيخ الطائفة الموسوم ب (النهاية) في علم الفقه.

وما أن انتقل الشيخ ابن الشيخ إلى لقاء ربه راضيا مطمئنا حتى تولى الأمر من بعده ولده الشيخ محمد بن الحسن بن أبي علي بن أبي جعفر الطوسي(4) فكان في النجف الأشرف بعد أبيه وجده شيخ الشيعة وعالمهم وابن شيخهم وعالمهم رحلت اليه طوائف الشيعة من كل جانب إلى العراق وحملوا اليه وكان ورعا عالما كثير الزهد أثنى عليه السمعاني.

وقال العماد الطبري : لو جازت على غير الأنبياء صلاة صليت عليه(5) فشهدت النجف وحوزتها بوجوده نشاطا علميا ملحوظا حيث تخرج على يديه كثير من حملة العلم والحديث من الفريقين ثم حين قيض له اللّه أن يرحل عن هذه الدنيا الفانية

ص: 29


1- الشيخ إغا بزرك الطهراني في مقدمة تفسير التبيان.
2- لسان الميزان 2/ 350
3- الشيخ إغا بزرك الطهراني في مقدمة تفسير التبيان
4- تدل كلمات رجال العلم وأهل التاريخ على علو شأنه وسمو مكانه وقد أحيى ذكر أبيه وحاز المرجعية والثقة عند الطائفتين فهو إمام وابن إمام وأبو إمام واستمر العلم والحديث في بيته عشرات من الأعوام، روى عن والده وجماعة من معاصريه وقد روى عنه كثيرون (ينظر : ماضي النجف وحاضرها. سابق: 2 / 474 -475.
5- شذرات الذهب في أخبار من ذهب. ابن العماد الحنبلي: 4 / 126

ليلتحق بجده وأبيه في (سنة 540ه / 1145م) على الأغلب خلّف عليها الشيخ عماد الدين الطبري تلميذ أبيه وأحرص الفقهاء الثقاة على حوزة النجف وأكثرهم قابلية وأكفؤهم قدرة على النهوض بمهامها وتحمل مشاق إدارتها.

ولقد أرخ رئيس المجمع العلمي العراقي العلامة الشيخ محمد رضا الشبيبي(1) المتوفى سنة (1385 ه / 1965م) للنجف الجامعة فقال: مازالت النجف من أكبر عواصم العلم للشيعة وهي أكبرها منذ نحو قرنين، وما انفكت من أول ما خططت مأوى كثير من فقهاء الشيعة ومتصوفيهم وزهادهم، وما عبر عليها عصر خلت فيه من عالم أو أديب، غير أن لها عصورا معروفة حج اليها الناس فيها من أجل التعلم والتفقه، ورأس على رأس كل عصر منها إمام واحد أو أكثر من مشاهير أئمة الشيعة أقدمها عصر أبي جعفر الطوسي على إثر هجرته إلى النجف الأشرف وإقرائه فيها الناس وشدّهم الرحال اليه في منتصف القرن الخامس. ثم عصر عماد الدين الطبري النجفي تلميذ أبي على الطوسى في منتصف القرن السادس(2)، وفي هذا العصر زاحمت الحلة السيفية النجف من الجهة العلمية وصارت اليها رحلة الشيعة نحو ثلاثة قرون، ففتر الناس عن الرحلة إلى النجف من تلك الجهة مدة طويلة أي منتصف القرن السادس حيث عصر ابن إدريس(3) وسديد الدين الحمصي (4) في الحلة إلى منتصف القرن التاسع حيث عصر ابن فهد الحلي (5) فيها، وهو آخر عصورها المشرقة.

على أن حوزة النجف الأشرف لم تنتقل ولم تطفأ جذوتها وإن كانت فترت فتورا ملحوظا، فقد ظهر فيها طوال هذه الفترة طائفة من العلماء المشاهير سواء كانوا ممن خرّجتهم المدينة نفسها أو ممن جاوروا فيها حتى جاز لنا أن نطلق عليهم (علماء الفترة في النجف)(6).

ثم لمّا هرمت الحلة وانقضى عهدها العلمي عاودت حوزة النجف الأشرف

ص: 30


1- سياسي بارز وثائر من كبار الثوار ضد الاحتلال الإنكليزي للعراق سنة (1332 ه / 1914م) وبعدها ومن مشاهير الأدباء والشعراء والمؤرخين العراقيين، ولد في النجف الأشرف وتتلمذ على يد المرجع الشيخ محمد كاظم الخراساني صاحب الكفاية، شغل عدة مناصب تشريعية وتنفيذية متقدمة في البرلمان العراقي والحكومة. من كتبه المطبوعة : مؤرخ العراق ابن الفوطي، ابن خلكان وفن الترجمة أصول ألفاظ اللهجة العراقية، بين مصر والعراق، تراثنا الفلسفي، لهجات الجنوب التربية في الإسلام ديوان شعر كبير.مذكرات مهمة تؤرخ لثورات النجف وثورة العشرين وغيرها نشر قسم منها في دورية عراقية.
2- محمد بن أبي القاسم الطبري المعروف بعماد الدين الطبري ترعرع في أسرة علمية تضم العلماء و المجتهدين، فوالده أبو القاسم محمد بن علي من علماء الشيعة الكبار وكذلك جده يعد من أعلام الشيعة ووجهائها. كان على قيد الحياة إلى سنة (553 ه- / 1158م) بدأ دراسته في الحوزة العلمية في مدينة النجف الأشرف فحضر دروس كبار العلماء من أمثال أبي علي الطوسي ابن الشيخ الطوسي و تلقى منهم العلوم والمعارف الإلهية حتى وصل إلى أعلى درجات العلم والاجتهاد ثم شرع بالتدريس وتربية الطلاب من الناحية العلمية و الأخلاقية يأتي في مقدمتهم سعيد بن هبة اللّه الراوندي المعروف بقطب الدين الراوندي ومحمد بن جعفر المشهدي مؤلف كتاب المزار المعروف. من أهم مؤلفاته : بشارة المصطفى صلى اللّه عليه وآله لشيعة المرتضى عليه السلام وهو أشهر كتاب للطبري ويقع في 17 جزءا ولكن الذي وصل إلينا منها 10 أجزاء وضاع الباقي. وله أيضا كتاب الزهد و التقوى. و شرح مسائل الذريعة الذي هو من تأليف السيد المرتضى علم الهدى المتوفى سنة (436ه- / 1044م) وغيرها
3- محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي المتوفى سنة (598ه/ 1202م) الفقية الجريء الذي استطاع أن يتخطى النظر إلى ما قيل بدلا عن النظر إلى من قال كاسرا هيبة النقد العلمي لآراء الشيخ الطوسي التي بقيت مسيطرة حتى جاء ابن إدريس ففتح باب النقاش العلمي وإن معها مجددا رافضا العمل بخبر الواحد غير المحفوف بالقرينة حاذيا حذو الشيخ المفيد والسيد المرتضى بيد أن مذهب الشيخ الطوسي العامل بخبر الواحد المعتبر وإن لم يكن محفوفا بالقرينة هو المذهب المعتمد عليه إلى اليوم. من أهم كتبه السرائر.
4- هو الشيخ سديد الدين محمود بن علي بن الحسن الحمصي الحلّي الرازي. كان على قيد الحياة سنة (600 ه / 1204م)، أصولي فقيه ومناظر قوي الحجة والبيان وشاعر وأديب، روى عنه عدد من المشايخ منهم: الشيخ ورّام بن أبي فراس له مؤلفات كثيرة منها : (المصادر في أصول الفقه)، و(نقض الموجز)، و (التبيين والتنقيح)، و ( بداية الهداية)، و (الأمالي العراقية) و(التعليق الكبير)، و (التعليق الصغير).
5- ولد سنة (757ه / 1356م) - في الحلة وتتلمذ على يد أكابر العلماء أمثال الشيخ علي بن الخازن الحائري والشيخ أبي الحسن علي بن الشهيد الأول، وروى إجازة وقراءة عن الفاضل المقداد السيوري وابن المتوج البحراني وغيرهما. بقي فترة مدرسا في المدرسة الزينبية في الحلة السيفية، ثم انتقل إلى كربلاء فازدهرت بانتقاله الحركة العلمية فيها، عرفت عنه رياضته وعبادته ومناظراته ومن أهمها تلك التي وقعت في زمان الميرزا أسبند التركماني الذي كان واليا على العراق حيث تصدى ابن فهد لإثبات مذهبه وإبطال مذهب غيره من المناظرين له في مجالس الميرزا التركماني المذكور فغلب جميع علماء العراق، فانتقل الميرزا المذكور إلى مذهبه وجعل السكة والخطبة باسم أمير المؤمنين وأولاده الأئمة الأحد عشر (عَلَيهِم السَّلَامُ) ويبدو أن المناظرة فقدت حيث لم يعثر لها على أثر إلى الآن حسب علمي، تتلمذ على يدي ابن فهد العديد من العلماء أبرزهم الشيخ علي بن هلال الجزائري: وهو من أجلة تلامذته وأستاذ الشيخ الكركي، دفن ابن فهد بكربلاء، وبجنبه شارع باسمه وقبره اليوم مدرسة علمية.
6- شاع في كتابات العديد من الباحثين الذين أرخوا للحوزة العلمية أنها انتقلت عن مدينة النجف الأشرف إلى غيرها ثم عادت مجددا إلى النجف بيد أن عملية الانتقال هذه والعودة منها إلى النجف ثانية والأدلة التي تساق للتدليل عليها تبدو لي غير مقنعة، فأنا ميّال إلى أن فتورا علميا كان يعتري الحوزة العلمية النجفية لأسباب عديدة مترافقا مع نشاط علمي ملحوظ في حوزات علمية في مدن أخرى في الفترة نفسها هو ما كان يوحي للباحثين بانتقال الحوزة العلمية عن النجف وعودتها اليها مجددا. ولعلى أوفق للتدليل على ما ذهبت اليه في مجال آخر.

نشاطها من جديد فدارت فيها رحى الفقه وأصوله وعلوم الشريعة دورتها الحيوية بالعلم والعمل واتصلت أو كادت حلقات عصورها العلمية من أول القرن العاشر أي منذ سنة ( 900 ه / 1495م) تقريبا إلى الآن فكان أولها عصر الشيخ علي بن عبد العالي الكركي المحقق المشهور ومعاصره الشيخ إبراهيم القَطيفي.. ثمّ عصر الشيخ الأردبيلي الزاهد وصاحبه الملّا عبد اللّه اليزدي.. ثمّ عصر الشيخ عبدالنبيّ الجزائري.. ثمّ عصر الشيخ حسام الدين النجفي، فعصر الشيخ فخر الدين الطريحي.. ثمّ عصر أبي الحسن الشريف ومعاصريه، فعصر الفُتوني، فعصر الطباطبائي، فعصر الشيخ جعفر الكبير، فعصر ابن الشيخ فعصر صاحب الجواهر، فعصر الشيخ مرتضى الأنصاري، فعصر تلامذة الأنصاري وغيرهم.. فهذه حلقات هذه السلسلة من العصور الآخِذِ بعضُها بأطراف بعض. وقد تكونت في أثنائها أشهر الأُسَر المعروفة بالعلم والأدب، كآل الخمائسي وآل الطريحي وآل الجزائري وآل محيي الدين وآل البلاغي وآل الطباطبائي وآل الشيخ جعفر وآل النحوي وآل الأعسم وآل الجواهر وآل القزويني وآل قَفطان وآل الشيخ راضي، وسواهم من البيوتات المعروفة والمندرسة(1).

وقد ترجم بعض الباحثين(2) لعلماء جامعة النجف الأشرف خلال القرون الماضية فكان الذين عثر على أسمائهم من علمائها ومؤلفيها خلال النصف الثاني من القرن السادس الهجري (18) عالما تقريبا، ثُمْن هذا العدد مؤلفين في التفسير والحديث والشعر. وقد انخفض هذا العدد إلى (13) عالما في القرن السابع الهجري، ثم عاد ليرتفع في القرن الثامن إلى (19) عالما، حيث نشطت الحركة العلمية بعد الفتور السابق حيث كتب في هذا القرن حيدر بن علي بن حيدر الآملي الذي جاور أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) ثلاثين عاما كتابه الرائد في تفسير القرآن من وحي الفلسفة والعرفان وسماه (المحيط الأعظم) في سبع مجلدات، إضافة إلى ما تركه الآملي من كتب أخرى في الفلسفة والأخلاق

ص: 31


1- دائرة المعارف الإسلامية الشيعية. السيد حسن الأمين: 371/10-372.
2- ينظر : مع علماء النجف الأشرف. السيد محمد الغروي 1/ 108. و 1/ 162 و 1/ 176 – 177 و 1 / 195 و 1 / 217 و 1 / 257.

والعرفان، كما كتب في هذا القرن علي بن محمد بن علي الكاشي في علم الكلام والمنطق والفقه والجغرافيا، وكتب الباحثان عبد اللّه بن محمد بن علي الأعرج الحسيني ومحمد بن علي الجصاني كتبا في علم أصول الفقه، وألف الأخير أيضا في الفلسفة والفقه والكلام، وصنف محمد بن علي الجرجاني الغروي كتبا كثيرة في معظم حقول المعرفة، وحبّر عبد الرحمن بن محمد العتائقي كتبه في الرياضيات والجغرافيا والطب فكانت كتبه (الإرشاد في معرفة الأبعاد) و(الرسالة الفريدة في الأدوية الفريدة) و(شرح حكمة الأشراف) و (التصريح في شرح التلويح) في الطب من الكتب المهمة التي ألفت في هذا العصر.

وما أن حل القرن التاسع الهجري حتى بلغ عدد العلماء والباحثين الذين تم إحصاؤهم فيه (30) عالما وكاتبا ومؤلفا منهم: الحسن بن محمد الاسترابادي مؤلف كتاب (معارج السؤل في تفسير خمسمائة آية من آيات الأحكام)، والشيخ جعفر الحبلرودي المؤلف في علوم المنطق والعقائد والمقداد السيوري المصنف في الفقه والعقائد والحديث، والسيد علي بن عبد الكريم الحسيني النجفي الكاتب في التفسير والعقائد والأخلاق والرجال.

وفي تطور ذي مغزى علمي واضح شيّد المقداد السيوري مدرسته الدينية لإيواء طلاب العلوم الدينية الوافدين على النجف الأشرف للدراسة.

أما في القرن العاشر الهجري فقد ارتفع عدد العلماء بشكل كبير لما للحركة العلمية التي أدارها الشيخ علي بن عبد العالي الكركي من أثر ملحوظ في ذلك حيث تجاوز عدد علماء القرن العاشر في حوزة النجف الأشرف إلى (71) عالما منهم: ابن بدر الدين الحسن الحسيني الغروي من أجلاء تلاميذ المحقق الكركي ومؤلف كتابي: (كدّ اليمين وعرق الجبين) و (ترجمة الرسالة الجعفرية)، ومن هؤلاء العلماء أيضا الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي مؤلف كتاب (الهادي إلى الرشاد في شرح الإرشاد) والعديد من

ص: 32

المؤلفات الأخرى، وكذلك الشيخ أحمد أبي جامع العاملي من تلاميذ المحقق الكركي ومؤلف كتاب (الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)، والشيخ أحمد بن محمد بن خاتون من تلاميذ المحقق الكركي أيضا، وكذلك العالم حسن الفتال النجفي.

وفي القرن الحادي عشر الهجري نشطت حلقات البحث والتأليف والتحقيق في الفقه والأصول، كما نشطت في ظلهما الحركة العلمية في علوم أخرى مصاحبة حيث صنف العديد من علماء حوزة النجف الأشرف التي تجاوز تعدادهم في هذا القرن (159 ) عالما كتبا في علوم الحساب والطب واللغة والرجال والتاريخ، من ذلك مثلا ما كتبه إبراهيم بن نصير الدين الرضوي في (خلاصة الحساب)، وما ألفه الشيخ حسين أبي جامع في الطب، وإبراهيم بن عبد اللّه في (مشيخة الاستبصار)، وماخطه يراع السيد أبي طالب في كتابه (لوامع النجوم) في اللغة، وما دبجه الشيخ حبيب بن إبراهيم النجفي في كتابه (أنيس الملوك) في التاريخ.

وهكذا بدأ أعداد علماء حوزة النجف الأشرف تزيد باطّراد بمرور السنين والأعوام حتى بلغ عدد من أحصي منهم في القرن الثاني عشر الهجري (211) عالما، ثم ازداد عدد علمائها ثانية فبلغ من أحصي منهم في القرن الثالث عشر الهجري (281) عالما، أما في القرن الرابع عشر الهجري فقد ارتفع عدد علمائها ارتفاعا ملحوظا حيث بلغ عددهم حدود (534) عالما وفقيها ومفسرا ومحدثا ورجاليا وحكيما و أصوليا وغيرهم من الباحثين والمؤلفين في شتى صنوف علوم الشريعة والعلوم المصاحبة الأخرى.(1)

إن إلقاء نظرة فاحصة على أدوار تقدم البحث المعرفي في حوزة النجف الأشرف منذ (سنة 448 ه / 1055م) إلى اليوم توحي للناظر اليها أنها مرت بأدوار خمسة هي:

ص: 33


1- ينظر المصدر السابق: 1/ 349 و 1 / 466 - 1747 و 12 / 49 - 583.

الدور الأول : دور الريادة والتأسيس

يبدأ هذا الدور منذ أن حلّ في مدينة النجف الأشرف الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (سنة 448 ه / 1056م) الملقب ب(شيخ الطائفة) المتوفى في مدينة النجف الأشرف (سنة 460 ه / 1068م) وينتهي ببزوغ نجم الشيخ علي بن عبد العالي الكركي الملقب ب(المحقق الثاني) المتوفى في مدينة النجف الأشرف (سنة 940 ه/ 1533م)، وقد سبق أن تحدثت آنفا عن هذا الدور بإيجاز.

الدور الثاني : دور تقدم البحث المعرفي

تعاقبت على جامعة النجف الأشرف العلمية أسوة بالجامعات والمعاهد العلمية العريقة الأخرى فترات تقدم علمي وازدهار، أعقبتها لظروف خاصة فترات تباطؤ معرفي وفتور، تلتها أدوار رقي وانبعاث بفعل فتح باب الاجتهاد على مصراعيه في مدرسة النجف الأشرف العلمية.

ولعل ما قدمته زعامة الشيخ علي بن عبد العالي الكركي المعروف بالمحقق الثاني المتوفى في النجف الأشرف يوم الغدير من عام (940ه/ 1533م) كما أسلفت، صاحب کتاب (جامع المقاصد في شرح القواعد) للحوزة العلمية النجفية بخاصة، وللحوزة العلمية بعامة، من نهوض فكري يعد بحق ملمحا من ملامح تطور معرفي ملحوظ، ومؤشر جلي لتباشير نهوض فكري واعد.

ويعد كتابه (جامع المقاصد) وهو شرح استدلالي كبير لكتاب (القواعد) للعلامة الحلي(1) المتوفى عام (726ه / 1326م) من أهم ما ألف في تلك الفترة، وقد وصل عدد أجزائه المطبوعة حديثا حتى نهاية كتاب الوصايا ثلاثة عشر مجلدا، ما يكشف عن سعة الكتاب وكثرة،مباحثه وقد نقل المحدث النوري في ختام مستدركه المهم

ص: 34


1- الحسن بن يوسف من كبار علماء الإمامية وبخاصة في الفقه حيث ألف العديد منها ما بين موسع ومتوسط ومختصر أشهرها المختلف والتذكرة والمنتهى والقواعد والتحرير وتبصرة المتعلمين ألف في الفقه المقارن كما فعل الشيخ الطوسي والمحقق الحلي، كان له باع مشهود في علم الأصول حيث ألف فيه كتبا متدرجة من أهمها نهاية الوصول إلى علم الأصول وتهذيب الوصول إلى علم الأصول ومبادئ الوصول إلى علم الأصول، وقد برع إضافة لذلك في العلوم العقلية والفلسفة فناقش معاصره الشهير في العلوم العقلية الشيخ نصير الدين الطوسي بل والرئيس ابن سينا وله في فن المناظرة والجدل وعلم الكلام كتب عديدة. وقد أوصل بعض المحققين تأليفه ورسائله إلى ما أربى على المائة. وقد اشتهر بتشيع السلطان محمد خدابنده على يديه.

عن الشيخ محمد حسن النجفي المرجع الأعلى في عصره وصاحب الكتاب الموسوعي الشهير في الفقه (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) قوله: إن من كان عنده كتب: جامع المقاصد، والوسائل، والجواهر، لا يحتاج بعدها إلى كتاب آخر للخروج عن عهدة الفحص الواجب على الفقيه في آحاد المسائل الشرعية، ولعل أهم ما يتقدم به كتاب جامع المقاصد عما سبقه مما ألف في علم الفقه قوة استدلاله العلمي وعمق مباحثه، ولا زال لكتاب جامع المقاصد دوره العلمي المرموق عند الفقهاء والباحثين منذ تأليفه وحتى يوم الناس هذا وإن كان جامع المقاصد لا يشكل دورة فقهية كاملة فقد وصل إلى مبحث تفويض البعض من كتاب النكاح وانتهى ليكمله الفاضل الهندي بعد وفاته.

ما قدمته من بعده زعامة الشيخ أحمد بن محمد المعروف بالمقدس الأردبيلي(1) المتوفى (عام 993 ه / 1585م) صاحب كتاب (مجمع الفائدة والبرهان) للحوزة العلمية النجفية من أثر فاعل أهَّل جامعة النجف الأشرف العلمية لأن تحظى بأهمية بحثية ملحوظة في عصره، ودور رائد في بناء حاضرة علمية رصينة مستقبلا، حيث يعد كتابا (جامع المقاصد) للشيخ الكركي، و (مجمع الفائدة والبرهان) للمقدس الأردبيلي المتقدم ذكر هما من أمهات المراجع في الفقه الاستدلالي في الوسط العلمي الإمامي.

وكتاب (مجمع الفائدة والبرهان) كتاب استدلالي كبير استعرض فيه المقدس الأردبيلي آراء الفقهاء السابقين عليه في ثوب تحقيقي متين مشغول بإضافات بحثية جديدة أعطته نكهة علمية متميزة وأهلته ليحتل دورا رائدا في صدارة الحوزة العلمية النجفية.

وبما انتهى اليه الكتابان القيّمان المتقدم ذكرهما من تطور بعدما تكاملت في الوسط العلمي النجفي أدوات البحث الفنية ووسائله العلمية في التحليل والتعليل والاستقراء والاستنتاج والموازنة والمقارنة والنقد والمناقشة وما إلى هذه من أمور استقر ووضح

ص: 35


1- توفي في النجف ودفن في الحجرة المتصلة بالرواق في الصحن العلوي الشريف. درس العلوم العقلية بشيراز ثم اقتصر في دراسته على النقليات من أواسط عمره حتى توفي له من الكتب آيات الأحكام. أصول الدين. إثبات الواجب حاشية شرح التجريد. حديقة الشيعة مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان وقد يسمى بحاشية الإرشاد أو مجمع الفائدة أو مجمع البرهان وللشيخ هالة قدسية خاصة مكنته من احتلال قلوب المؤمنين وفرضت له احتراما بالغا وتبجيلا في قلوب سلاطين عصره.

الخط العام للتأليف في الفقه الاستدلالي في المادة والمنهج وأسلوب العرض(1).

ثم ما قدمه زعماء الحوزة العلمية اللاحقون لهما من العلماء المجتهدين من أمثال السيد محمد بن السيد علي الموسوي الجبعي المتوفى (عام 1009ه/ 1600م) صاحب كتاب (مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام) في الفقه، والشيخ حسن بن زين الدين الشهيد الثاني المتوفى (عام 1011 ه/ 1602م) صاحب كتاب (معالم الدين وملاذ المجتهدين)، من غنى فكري وأصالة قد خلّف أثره الكبير في ماضي هذه الحوزة العريقة بل وحاضرها.

فكتاب (مدارك الأحكام) مشحون بالأقوال والتحقيقات المهمة التي فتحت المجال الواسع لكثير ممن تأخر عنه من الفقهاء في محاولة للوصول إلى أعلى مراتب النضج، وعكف عليه جمع من طلاب الفقه لدراسته فكان إلى فترة قريبة يعتبر أحد المراجع التي لابد أن يستوعبها الطالب في مراحل تحصيله العلمي(2).

وكتاب (معالم الدين وملاذ المجتهدين) هو الآخر كسابقه من حيث العمق والدقة، بيد أن ما يؤسف له أن مؤلفه لم يكتب منه سوى كتاب الطهارة فقط، ولقد كان مقصود مؤلفه (قدّس سِرُّه) أن يؤلف في الفقه كتابا يعكس آرائه العلمية وما يمتاز به من دقة النظر فشرع في تأليف هذا الكتاب وابتدأه بالحديث عن فضل العلم والحث على طلبه ثم بمقدمة تضمنت جملة من آرائه في أصول الفقه وهي التي أصبحت بعد ذلك الكتاب الدراسي المشهور في هذا العلم حتى عصورنا المتأخرة وتصدى جملة من الأعلام لشرحه والتعليق عليه فأصبح السبب الرئيس لشهرة مؤلفه وصار علما له يغني عن ذكر اسمه أو نسبه الشريف مع أنه كتبه مقدمة للفقه إلّا أنه لم يبرز من قلمه غير كتاب الطهارة فكأنه مصداق للقول المشهور : ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد، إذ أنه إنما كتب في الأصول مقدمة للدخول في الفقه لكنه لم يكمل ما أراده من الفقه ولم يلق ما كتبه منه وهو كتاب

ص: 36


1- ينظر : تاريخ التشريع الإسلامي. الدكتور عبد الهادي الفضلي : 89 وكذلك : تاريخ وتطور الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف العلمية. السيد محمد جعفر الحكيم : 113 وما بعدها.
2- تاريح وتطور الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف سابق : 115.

الطهارة الاهتمام اللائق به في حين أن مقدمته الأصولية التي كتبها مدخلا للفقه حظيت بالنصيب الأوفر من الاهتمام(1).

لقد حاول مؤلف كتاب المعالم أن يستقصي الآراء في كل مسألة من المسائل التي بحثها مع أدلتها ثم ناقشها منتهيا إلى رأي فيما عرض وناقش موليا اهتمامه الواضح لرأي العلمين الجليلين السيد المرتضى المتوفى (عام 436 ه/ 1044م)(2) وتلميذه الشيخ الطوسي المتوفى عام (460 ه/ 1067م) (3) كما أسلفت مقتصرا في كتابه على أساسيات المطالب الأصولية، حاذفا منها ما لا ضرورة له حسب تشخيصه مع جمال في الصياغة ودقة في التحليل وتعديل في المنهجة، ولعل ذلك هو ما حدا بالوحيد البهبهاني إلى تدريسه مرارا، وأعادت كتابة تعليقاته عليه في كل دورة تدريسية جديدة.

ولا يفوتني أن أذكر ما أضافه الشيخ عبد اللّه بن محمد البشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني(4) المتوفى عام (1071 ه/ 1660م) من تجديد في علم الأصول تمثل في إعادة تبويبه للمنهج المعمول به لدى من سبقه من الأصوليين من خلال مبادرته لفصل المباحث العقلية عن مباحث الألفاظ، وتقسيمه الأدلة إلى شرعية وعقلية، ثم تقسيمه للأدلة العقلية إلى ما يستقل العقل بحكمه وما لا يستقل وذلك في كتابه (الوافية) في أصول الفقه.

ومن يقارن بين كتابي (المعالم) و (الوافية) يدرك النقلة العلمية التي أحدثها كتاب (الوافية) في المنهجية وفي نمط التفكير وصياغة المطالب، والدخول إلى البحث من مسلك لم يعهد من قبل(5) من خلال معايير علمية لم يسبقه اليها سابق.

ولم تقتصر تلك الفترة الغنية من عمر مدرسة النجف الأشرف العلمية تأسيسا أو تطويرا أو استفادة على ما ذكرت من كتب وأبحاث في علمي الفقه وأصوله فقط، بل

ص: 37


1- المصدر السابق : 115-116.
2- علي بن الحسين بن موسى، ولد سنة 355 ه تلميذ الشيخ المفيد والمتأثر بمنهجه الفكري. تولى نقابة الطالبيين وإمارة الحاج والمظالم بعد أخيه الشريف الرضي وأبيه. برع في علوم عدة من أهمها الفقه والكلام و أصول الفقه والشعر والأدب، نشّط نوادي العلم وأوقف قرية على تأمين الورق للفقهاء للكتابة والاستنساخ. من مؤلفاته الكثيرة : الانتصار فيما اختلف فيه الإمامية وغيرهم. الذريعة إلى أصول الشيعة في علم أصول الفقه الناصريات رسائل السيد المرتضى. وله ديوان شعر مطبوع.
3- تقدم التعريف به في متن الكتاب.
4- يرتفع نسبه إلى مدينة تون قرب مدينة قائن، وهي منطقة في مقاطعة خراسان جنوب شرق مشهد الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، سكن اصفهان أول الأمر ثم استقر في مشهد الإمام الرضا بخراسان ومنها قصد العراق للزيارة. اهم كتبه الوافية: وهو من كتب الأصول المهمة، وقد شرحه السيد صدر الدين القمي المتوفى سنة (1170 ه- / 1757م) ورغم أن هذا الكتاب قد ألف بعد كتاب المعالم وحوى تقسيما ملفتا للنظر مضيفا فيه جديدا على من سبقه من الأصوليين كالعلامة الحلي والمحقق والطوسي والمرتضى إلّا أنه لم يحظ بالاهتمام بمثل ما حظي به كتاب المعالم. وكان الشيخ زاهدا عابدا، توفي في كرمانشاه ودفن فيها.
5- مقدمة تحقيق كتاب الوافية في أصول الفقه. السيد محمد حسين الرضوي الكشميري: 27.

تعدت ذلك إلى التأليف التطوير في العلوم الأخرى الرئيسة والمساعدة، كتلك التي تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية، أو تلك التي تعين عليها، أو تزكي النفوس وتهذبها من أدران الدنيا وزخارفها، أو تلك التي تعين الجسد على الوقاية والعلاج كي يستمر في أداء دوره في هذه الحياة الدنيا.

فقد حبّر الفيلسوف المفسّر جلال الدين الدواني(1) المتوفى (سنة 907ه/ 1501م) كتابه (الزوراء) جوار المرقد العلوي المطهر في النجف الأشرف حيث جمع فيه بين الحكمة البحتة والذوقية في طريق إثبات الواجب(2) كما كتب (حاشيته على الزوراء) جوار مرقد أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد أن رأى سيده أمير المؤمنين في منامه(3).

وصنّف الملا عبد اللّه بن شهاب الدين اليزدي(4) المتوفى (عام 981ه/ 1573م) كتبه المتعددة في علم المنطق، تلك التي اشتهر منها كتابه (الحاشية) في علم المنطق الذي صنّفه في النجف الأشرف (سنة 967ه/ 1559م)، وكتاب (الحاشية) وإن كان معقد العبارة مستصعبها، إلّا أنه رغم ذلك استطاع أن يفرض نفسه ككتاب دراسي معتمد لمادة علم المنطق في الحوزة العلمية النجفية، بل في الحوزات العلمية الأخرى حتى وقت قريب، ولقد بلغ من تضلع مؤلفه الشيخ في علم المنطق أن قال: إني لو شئت أن اقيم على كل مسألة شرعية برهانا من أدلة المعقول بحيث لم يكن لأحد ردّه لفعلت.

كما ألف الشيخ أحمد بن محمد المعروف بالمقدس الأردبيلي(5) - المتقدم ذكره- المتوفى عام (993ه/ 1585م) كتابه (زبدة البيان في شرح آيات القرآن)، وصنَّف هو نفسه كذلك كتاب (شرح) إلهيات التجريد) في علم الكلام.

وكتب الشيخ عبد النبي سعد الدين الأسدي الغروي الحائري(6) المتوفى (سنة 1021ه / 1612م) كتابه (حاوي الأقوال في معرفة الرجال) مرتبا فيه الرجال على

ص: 38


1- ولد بقرية دوان سنة ( 820 ه- / 1417م) وسكن مدينة شيراز وقد استطاع بفضل نبوغه المبكر إلى الترقي في مدارج العلم والحكمة سريعا فنال احترام الأقربين والأبعدين. عين قاضي القضاة في مملكة فارس وجال في البلدان العربية واستوطن النجف الأشرف فترة من الزمن. توفي في مسقط رأسه دوان ودفن بها وقد علت قبره قبة إلى جانبها منارة من كتبه: التوحيد حل مغالطة ابن كمونة. استكاكات الحروف.
2- لمحة من مسيرة مدرسة النجف الفلسفية. الشيخ عبد الجبار الرفاعي بحث مجلة الفكر الإسلامي. العدد 12 لسنة (1416 ه- / 1995م) ص 139 نقلا عن الضياء اللامع في القرن التاسع للشيخ أغا بزرك الطهراني: 33 والذريعة إلى تصانيف الشيعة له أيضا : 12 / 63.
3- ينظر : معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام. د. الشيخ محمد هادي الأميني: 2/ 577.
4- أحد أبرز اساتذة الفلسفة والحكمة في النجف في القرن العاشر و أستاذ صاحب المعالم وصاحب المدارك في المعقول من اشهر كتبه العديدة كتاب (حاشية ملاعبد اللّه) على كتاب التهذيب في علم المنطق للتفتازاني الذي انتهى من تأليفه في سنة (967 ه- / 1560م) جوار الحضرة العلوية المشرفة، فقد استحوذ هذا المؤلف على حلقات درس هذا العلم وتدريسه في حوزة النجف والحوزات العلمية الأخرى منذ عصر مؤلفه واشتهاره وحتى ظهور وانتشار كتاب المنطق للشيخ محمد رضا المظفر له من المؤلفات الأخرى: حاشية على شرح الشمسية، حاشية على مبحث الجواهر من شرح التجريد و شرح العجالة وهو حاشية حاشية الدواني.
5- مجتهد معروف بالفضل والعلم والتقوى والزهد والورع حتى لقب بالمقدس، قرأ العلوم الشرعية على أكابر علماء عصره وقرأ العلوم العقلية على يد المولى جمال الدين محمود تلميذ جلال الدين الدواني المعروف بالدقة العقلية، تخرج على يديه العديد من العلماء والباحثين وقد اقتصر في أواسط عمره على النقليات إلى أن توفى بعد أن عزف عن العلوم العقلية التي برع فيها قبل ذلك.توفي في النجف الأشرف ودفن بالرواق العلوي المطهر. له من التصانيف: غير ما تقدم: أصول الدين استيناس المعنوية، حاشية شرح التجريد للقوشجي، حديقة الشيعة، حاشية شرح مختصر الأصول، الخراجية، وغيرها.
6- ولد الشيخ في الجزائر وهي ناحية قرب محافظة البصرة ونشأ نشأة علمية في النجف الأشرف حيث تلقى علومه على أبرز علمائها وفقهائها ومدرسيها ثم توجه إلى كربلاء المقدسة ليعيش فيها بقية عمره الشريف عرف باهتمامه الكبير بعلم الرجال والحديث والفقه. له من الكتب إضافة لما تقدم مؤلفات في الفقه والعقائد والحديث.

أربعة أقسام على حسب القسمة الأصلية للحديث الصحيح، والموثق، والحسن، والضعيف، وترك المجاهيل. وقيل إنه أول من فعل ذلك(1).

وسطّر الأمير السيد فيض اللّه الحسيني النجفي(2) المتوفى (سنة 1052ه / 1612م) كما قيل كتابيه (تعليقات على إلهيات شرح التجريد) و (تعليقات على آيات الأحكام).

وصنّف الأمير السيد علي الطباطبائي الحكيم (3) المتوفى بعد سنة (1052 ه / 1612م) كتابه في الطب والصيدلة المسمى (المجربات الطبية)، وتوجد نسخة مخطوطة منه في مكتبة الإمام الحكيم العامة في النجف الأشرف.

وبرع الشيخ فخر الدين الطريحي(4) المتوفى (عام 1085ه / 1674م) في تصنيف كتابيه (مجمع البحرين) في شرح مفردات القرآن الكريم والحديث الشريف وبخاصة الغريب منهما، وقد اهتم هذا الأثر العلمي بإبراز الدلالات اللغوية لمفردات القرآن الكريم والسنة المطهرة وما يمكن توظيفه منهما في مجال استنباط الأحكام الشرعية. و(جامع المقال في تميز المشترك من الرجال) الذي قال عنه الشيخ جعفر محبوبه(5) بأنه کتاب نافع جدا لم يعمل مثله.

ودوّن الشيخ عبد اللطيف ابن الشيخ نور الدين بن أبي جامع(6) المتوفى (عام 1050ه / 1640م) كتابا في الرجال بمنهجية جديدة وهو كتاب صغير الحجم كثير الفائدة اقتصر فيه على خصوص رجال الكتب الأربعة، وهو أول من اشار إلى طبقات الرواة في أصحابنا قال (رَحمهُ اللّه) وحيث أن معرفة الراوي ضرورية جعلت الطبقات ستة:

1 - طبقة الشيخ المفيد.

2- الصدوق.

3- الكليني.

ص: 39


1- كتابة التاريخ في النجف في العصر العثماني. د. عماد عبد السلام رؤوف. بحث ضمن بحوث كتاب مدرسة النجف الأشرف ودورها في إثراء المعارف الإسلامية: 144. من تلاميذ المقدس الأردبيلي ومن أسرة علمية معروفة فقد كان والده من أكابر العلماء كذلك. تصدى الأمير فيض اللّه للتدريس فتخرج على يديه ثلة من العلماء والفقهاء،والمتكلمين حاز قصب السبق في علوم عديدة في مقدمتها الفقه والحكمة وعرف بالصلاح والتقوى ولين العريكة ودماثة الخلق والسبق إلى الفضيلة له من الكتب غير ما تقدم: حاشية المختلف، فوائد متفرقة في تحقيق مسائل أصول الفقه، أصول الأحوال القمرية في شرح الإثني عشرية وغيرها..
2- من تلاميذ المقدس الأردبيلي ومن أسرة علمية معروفة فقد كان والده من أكابر العلماء كذلك. تصدى الأمير فيض اللّه للتدريس فتخرج على يديه ثلة من العلماء والفقهاء،والمتكلمين حاز قصب السبق في علوم عديدة في مقدمتها الفقه والحكمة وعرف بالصلاح والتقوى ولين العريكة ودماثة الخلق والسبق إلى الفضيلة له من الكتب غير مكا تقدم: حاشية المختلف، فوائد متفرقة في تحقيق مسائل أصول الفقه، أصول الأحوال القمرية في شرح الإثني عشرية وغيرها.
3- ينتهي نسبه إلى الحسن المثنى ابن الإمام السبط الحسن بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ). جد الأسرة العلمية (آل الحكيم) وكان معروفا بالعلم والحكمة والفضل والموسوعية إلا أنه تميز بعلم الطب والأدوية وتمرس بهما فطارت شهرته في البلدان فاختير طبيبا خاصا للشاه عباس الصفوي، وحين غادر الشاه عباس النجف الأشرف بعد زيارته لها بقي السيد علي الحكيم في النجف الأشرف يعالج مرضى المدينة المقدسة حتى توفي فيها ودفن في ترابها الطاهر.
4- من الفقهاء والمجتهدين العاملين عني بالحديث والرجال واللغة والشعر إضافة إلى الفقه و أصوله وعرف بالزهد والعبادة. ويعد كتابه مجمع البحرين ومطلع النيرين من الكتب الفريدة في بابها، ويقع في 5 أجزاء، وله من الكتب المطبوعة غيره من أهمها : جامع المقال فيما يتعلق بأحوال الحديث والرجال. وضوابط الأسماء. ومنتخب المراثي والخطب ونزهة الخاطر وسرور الناظر وتحفة الحاضر. وله العديد من المخطوطات التي لم تطبع. توفي عن مكتبة عامرة فقد الكثير من كتبها المخطوطة والمطبوعة بعد وفاته.
5- ماضي النجف وحاضرها. سابق : 2/ 456. وينظر : كتابة التاريخ في النجف في العصر العثماني : سابق : 145 - 147
6- من كبار تلامذة السيد صاحب المدارك والشيخ البهائي والشيخ حسن صاحب المعالم، ومن أهل الفضيلة والعلم والتحقيق المعروفين في عصره سافر سنة 1004ه إلى المشعشعيين ليحيطهم علما بمذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) من مؤلفاته الأخرى عدا ما ذكر: جامع الأخبار في أيضاح الاستبصار، وكتاب في علم المنطق، وحاشية على كتاب معالم الدين ورسالة صغيرة في مسألة الاجتهاد والتقليد.

4- سعد بن عبد اللّه.

5- أحمد بن محمد بن عيسى.

6 - ابن أبي عمير.

ليتضح الحال في وهلة، وأشير في الأغلب إلى طبقة الراوي اما بروايته عن الإمام أو بنسبته إلى أحد المشاهير من أعلى وأسفل أو بكونه من إحدى الطبقات المذكورة(1).

ودبج يراع الباحث محمد حسين بن محمد علي الكتابدار(2) النجفي المتوفى (سنة 1095 ه/ 1683م) كتابه ( تعليقة على كتاب عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب) لابن عنبة في علم الأنساب.

وكتب الشيخ أبو الحسن بن محمد طاهر الفتوني(3) المتوفى (عام 1138ه/ 1725م) كتابه (ضياء العالمين) في الإمامة، وهو من الكتب النفيسة في بابه، يقول صاحب (ماضي النجف وحاضرها )(4) عنه أنه يقع في ثلاث مجلدات ضخام لم يكتب أوسع منه في موضوعه وتوجد نسخة منه بخطه في (مكتبة آل الجواهري) في النجف الأشرف، كما كتب في التفسير كتابه (مرآة الأنوار) أيضا.

وألّف الشيخ أحمد بن إسماعيل بن عبد النبي الجزائري(5) المتوفى (عام 1151ه / 1738م) كتابيه (قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر) في تفسير وفقه القرآن الكريم، و(آداب المناظرة).

وسطّر الشيخ محمد علي ابن الشيخ بشارة(6) المتوفى (عام 1160ه / 1747م) کتابه (نشوة السلافة) وهي ذيل على كتاب (سلافة العصر) وقد أثنى على (نشوة السلافة) كثير من معاصريه ولاحقيهم من أهل الفن واستفاد منها (الشيخ جعفر محبوبه) في تأليف كتابه (ماضي النجف وحاضرها) فائدة ملحوظة.

ص: 40


1- ماضي النجف وحاضرها. سابق : 3 / 321.
2- من علماء الأنساب المشهورين بالإحاطة والدقة، تولى أمر خزانة المكتبة الحيدرية في النجف الأشرف فعمل على تنظيمها وترتيبها وصيانتها وحفظها كما استفاد بدوره من غناها بالكتب العلمية وبخاصة التاريخية منها.
3- من الفقهاء المحقّقين والمحدثين، كتب له العلامة المجلسي إجازتين، كتب في علوم عديدة منها: التفسير والفقه والرجال وعلم الكلام و أصول الفقه وغيرها فأجاد فيها، له من الكتب غير ما تقدم: مرآة الأنوار في التفسير. الصحيفة السجادية. شرح على كفاية السبزواري. شريعة الشيعة: وهو شرح على مفاتيح الملا محسن الفيض رسالة في حقيقة مذهب الإمامية وبيان أساسه. وغيرها.
4- يقول الشيخ محبوبة : توجد نسخة نفيسة تمتاز بالضبط والإتقان عند الشيخ محمد حسن ابن الشيخ محسن الجواهري (ماضي النجف وحاضرها. سابق : 3 / 46)
5- من الفقهاء والمحققين ومن أساتذة الحديث والتفسير في حوزة النجف الأشرف ويعد من مشايخ الإجازة المعروفين. جمع في حياته مكتبة عامرة بالمخطوطات النادرة تفرقت بعد وفاته بين ورثتهم ولم يعد لها أثر.له العديد من المؤلفات غير ما تقدم منها : ارتداد الزوجة. شرح تهذيب العلامة الحلي. آداب المناظرة.
6- أديب شاعر وكاتب من معاصري السيد نصر اللّه الحائري وقد مدحه معاصره الشيخ أحمد النحوي بقصيدة له من الكتب: بحر الأنساب، وشرح نهج البلاغة، والريحانة في النحو، وديوان شعر وغيرها.

وصنّف الشيخ محمد مهدي بن أبي ذر النراقي النجفي(1) المتوفى (سنة 1209ه/ 1794م) كتابة القيم (جامع السعادات) في علم الأخلاف وتربية النفس في محاولة منه لبناء منظومة للقيم الأخلاقية مبنية على أساس متوازن يجمع بين الدين والدنيا في آن.

كما أولى (الشيخ النراقي) علم الأديان اهتمامه الخاص فحرص على تعلم اللغتين العبرية واللاتينية على يد جماعة من اليهود والنصارى لتسهيل أمر رجوعه إلى كتبهم والاطلاع على مبادئهم وأفكارهم من مصادرها الأصلية.

وقد كتب إضافة لذلك كتابيه (المستقصى) و (المحصل) في علم الهيئة، وكتابه (توضيح الإشكال) في شرح تحرير إقليدس الصوري، وكتابه (رسالة في الحساب) وكتابه (محرق القلوب) في السيرة.

كما أن ما خلفته تلك الحقبة الزمنية الغنية جدا بفنون القول من شعر ونثر، وما ضمته بين دفتيها من دواوين وكتب كان لها دور كبير في صون اللغة العربية من حملات التتريك والحفاظ على عمود الشعر العربي بخصائصه الفنية وجماله الأخاذ ولغته المترفة وصوره المبدعة من كل محاولات العبث بجماله الآسر. وقد طبعت أغلب هذه الكتب وتداولتها أيدي الباحثين باهتمام كبير.

إن هذه التصانيف القيمة في علوم مختلفة متعاضدة إضافة إلى ما صُنّف في تلك الحقبة الزمنية من كتب ورسائل في مجالات أخرى عديدة كالحديث والتاريخ والتراجم والسير والفلسفة والحكمة والفلك والرياضيات وغيرها مما لا يسع المجال للتنويه بها في هذا الموجز قد ساهمت جميعها بشكل فاعل في تقدم البحث المعرفي في حاضرة النجف الأشرف العلمية تلك الآونة.

ص: 41


1- ولد الشيخ النراقي في حدود عام (1128 ه / 1716م) في مدينة نراق وهاجر إلى العراق فتلقى علومه على عدد من العلماء في مقدمتهم الوحيد البهبهاني. ثم رجع إلى كاشان فكتب فيها كتابه (جامع الأفكار وناقد الأنظار) في الفلسفة ثم هاجر إلى العراق ثانية ليتوفى في النجف الأشرف وليدفن خلف الحرم العلوي المطهر.

الدور الثالث : دور نضج البحث المعرفي

يبدأ هذا الدور منذ أن حل في رحاب النجف الأشرف تلامذة الشيخ محمد باقر البهبهاني المعروف بالوحيد البهبهاني(1) المتوفى (عام 1208ه/ 1793م)، وفي مقدمتهم السيد محمد مهدي بحر العلوم (المتوفى سنة 1212ه/ م)، وينتهي ببزوغ نجم الشيخ مرتضى الأنصاري (المتوفى سنة 1281ه/ 1864م).

لقد استمرت مدرسة النجف الأشرف الفكرية وحوزتها العلمية تحث الخطى في دراسة وبحث علوم الشريعة وآدابها بيد اني سأتناول في حديثي اللاحق ما يتعلق بدور النضج المعرفي في النجف الجامعة من خلال علمي الفقه و أصول الفقه دون غيرهما محيلا الحديث عن بقية العلوم الأخرى إلى مجال آخر، حيث توسّع مسار البحث المعرفي في علمي الفقه و أصوله في النجف الأشرف نتيجة فتح باب الاجتهاد على مصراعيه فيها حتى وصلت جامعة النجف الأشرف لما يمكن أن نسميه بدور نضج البحث المعرفي فيها على يد تلامذة الشيخ محمد باقر البهبهاني(2) المعروف بالوحيد البهبهاني المتوفى (عام 1208 ه/ 1793م) المتقدم ذكره الذي أعطى علمي الفقه والأصول دفعة قوية من خلال تصديه القوي للمد الأخباري في وقته، وتهذيبه لعلم الأصول منهما خاصة مما علق به من آراء ومبان غريبة قد يكون بعضها من الشواذ، وربما كان أطلق عليه لقب (الوحيد) بسبب ذلك.

وقد يعزى بروز المد الإخباري تلك الآونة من بين أسباب أخرى إلى قلق علمي من ابتعاد تدريجي عن النص الشرعي في عملية الاجتهاد والغوص أكثر فأكثر في تغليب العنصر العقلي عليه. من دون استبعاد لوجود عامل سياسي بسبب توجس ملوك الدولة الصفوية من اتساع دائرة نفوذ العلماء في أجهزة الحكم والدولة إضافة لسيطرتهم على الشارع الشيعي بقوة، مما يشكل خطرا محتملا على سلطتهم المحتاجة إلى العلماء والمعتمدة

ص: 42


1- من أبرز مراجع التقليد في القرن الثالث عشر. عدت مرجعيته الدينية نقطة انعطاف في تطور الحوزة العلمية في النجف فقد انتجت دراسته التحليلية للرجال والحديث تصحيح الكثير من الروايات التي كانت فيما بعد أساسا أدى إلى تحول واضح في مجال الاستنباط خلق روحا جديدة فيه أدت فيما بعد إلى ما أدت اليه بعده والى اليوم وفيما بعد من ثمار غاية في الأهمية في مستقبل حوزة النجف. درّس المعالم عشرين دورة وكان يدون حاشية جديدة في كل مرة. يقول محمد حسين الكرهرودي: شاهدت في مدينة بروجورد 19 نوعا منها. من مؤلفاته الاجتهاد والأخبار. شرح مفاتيح الفيض. حاشية على المعالم. دفن في الرواق الحسيني من حضرة الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في كربلاء المقدسة بعد أن عمّر قرابة المائة عام.
2- من أبرز مراجع التقليد في القرن الثالث عشر. عدت مرجعيته الدينية نقطة انعطاف في تطور الحوزة العلمية في النجف فقد انتجت دراسته التحليلية للرجال والحديث تصحيح الكثير من الروايات التي كانت فيما بعد أساسا أدى إلى تحول واضح في مجال الاستنباط خلق روحا جديدة فيه أدت فيما بعد إلى ما أدت اليه بعده والى اليوم وفيما بعد من ثمار غاية في الأهمية في مستقبل حوزة النجف. درّس المعالم عشرين دورة وكان يدون حاشية جديدة في كل مرة. يقول محمد حسين الكرهرودي: شاهدت في مدينة بروجورد 19 نوعا منها. من مؤلفاته: الاجتهاد والأخبار. شرح مفاتيح الفيض حاشية على المعالم. دفن في الرواق الحسيني من حضرة الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في كربلاء المقدسة بعد أن عمّر قرابة المائة عام.

عليهم ولكن ضمن سقف محدد لا يسمح لهم بتخطيه.

اشتهر الشيخ الوحيد البهبهاني (قدّس سِرُّه) تدخل بدقة تحقيقه للمسائل والفتاوى والآراء والنظريات العلمية في علوم الرجال والحديث والفقه وأصول الفقه وتكثيره للأدلة وتبديهها وهو ما أودعه في كتبه ورسائله وتعليقاته التي بلغ مجموعها (109)، بينها (50) في علم الفقه وحده، و (28) في علم الأصول.

ولا ريب في أن الجذور المهمة للمدرسة الأصولية الحديثة في يومنا هذا تعود إلى جملة من النظريات التي جاء بها الوحيد وانعكست في كتب تلامذة مدرسته بشكل واضح إذ نلمس أصولها وركائزها في أحد أهم كتبه الأصولية الذي عرف ب- (الفوائد الحائرية).

إن أهم النظريات التي طرحت في مدرسة الوحيد البهبهاني

1 - التفريق بين الأمارات والأصول، فإن الجذور الأولى لهذا التفريق كانت من الوحيد على ما ذكره الشيخ الأنصاري في بداية المقصد الثالث من رسائله حينما تعرّض للأدلة الاجتهادية (الأمارات) والأدلة الفقاهتية (الأصول العملية).

2 - التنظير والتقسيم للشك الذي اعتمده الشيخ الأنصاري في منهجيته الحديثة لمباحث علم الأصول، فإنه يعود إلى تقسيم الوحيد للشك إلى قسمين: الشك في التكليف، والشك في المكلف به وتعيين الوظيفة العملية المترتبة على كل منهما.

-3- الصياغة الفقهية المتينة لقاعدة البراءة العقلية التي استقرت في الفكر الأصولي المعاصر، فإنها تعود إلى الوحيد البهبهاني (قدّس سِرُّه)(1).

ص: 43


1- تطور الدرس الأصولي في مدرسة النجف الأشرف. السيد منذر الحكيم. بحث مجلة الفكر الإسلامي : العدد 16/ 117.116.

إضافة إلى الجدة الملفتة في نظرياته الأخرى من أمثال: تنجيز العلم الإجمالي، ودوران الأمر بين الأطراف المتباينة أو الأقل،والأكثر الوظيفة العقلية لدى الشك في التكليف وغيرها وما تضمنتها (فوائده) العديدة كالفائدة الثانية التي بينت تحديد مواضع الرجوع إلى العقل والعرف ومواضع الرجوع إلى النص الشرعي وتحديد دائرة الاجتهاد فيما لا نص صريح فيه والفائدة الرابعة في مدى جواز أخذ موضوع الحكم من العرف إذا كان من المعاملات مادام لم يكن للشرع بيان خاص ومصطلح واضح، وكالفائدة الحادية والعشرين الخاصة في المرجحات المنصوص عليها وتعارضها فيما بينها والثانية والعشرين الخاصة في المرجحات غير المنصوصة والفائدة الثالثة والعشرين الخاصة في كيفية الجمع المقبول بين الخبرين المتعارضين. وكالفائدة السادسة والثلاثين الخاصة في شرائط الاجتهاد والعلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد واستنباط الأحكام إضافة إلى الخاتمة المهمة التي تناولت خطورة ووعورة السير في طريق الاجتهاد، والأهمية القصوى لتهذيب النفوس من أدران الدنيا وزخارفها وتنظيف الباطن من شوائبه المادية ووساوسه لتحصيل القوة القدسية، ومجاهدة النفس بمكارم الأخلاق، وهو ما نحتاجه كثيرا في زمننا(1).

وتأتي في مقدمة كتب الوحيد البهبهاني ورسائله وحواشيه من حيث الأهمية عدا الفوائد الحائرية حاشيته على (المدارك) و(المفاتيح).

ولعل من أهم إنجازاته العلمية الأخرى اللافتة للنظر والمؤثرة في طور نضج البحث العلمي في حوزة النجف الأشرف ما تم على يديه من تنشئة جيل باحث متعمق من الفقهاء المجتهدين يأتي في مقدمتهم المرجع العارف السيد محمد مهدي بحر العلوم(2) المتوفى عام (1212ه/ 1797م) وغيره كما تقدم

ص: 44


1- ينظر: مقدمة الشيخ محمد مهدي الآصفي الواسعة لكتاب الفوائد الحائرية الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي في قم المقدسة المعنونة دور الوحيد البهبهاني في «تجديد علم الأصول».
2- يرتفع نسبه إلى السيد إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى ابن الإمام الحسن السبط (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابن الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).من كبار الفقهاء والمجتهدين المحققين لقب ببحر العلوم لغزارة علمه وعمق تفقهه في علوم الشريعة. له العديد من المؤلفات غير ما تقدم منها: الدرة النجفية. ومشكاة الهداية تحفة الكرام. الفرق والملل. شرح باب الحقيقة والمجاز. وله أيضا ديوان شعر كبير.

لقد خلّف لنا السيد بحر العلوم كتابه (المصابيح) في الفقه، وكتابه (الفوائد الرجالية) في علم الرجال، وشرحاً لكتاب (الوافية) في علم أصول الفقه، ومنظومة أصولية أسماها (الدرة البهية في نظم رؤوس المسائل الأصولية).

والسيد بحر العلوم إلى جانب فقهه و أصوله وعرفانه وزعامته صاحب ذوق أدبي وشعري رفيع، بل هو شاعر يحتكم اليه الشعراء لتمييز نتاجهم الشعري، ولقد بلغ من اهتمامه بالشعر والأدب إدراكا منه لمدى علاقة اللغة وآدابها بالفقه واستنباط أحكامه أنه كان يقبِّل يدي تلميذه في الدراسات الفقهية الشاعر السيد صادق الفحام وفاء لحق تتلمذه عليه في الشعر والأدب وفنون الكلام.

ومثله في الاهتمام بالأدب وفنونه والشعر ونسجه كان الشيخ جعفر الكبير(1) آل كاشف الغطاء(2) المتوفى (عام 1228 ه/ / 1813م) صاحب كتاب (كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء)، وهو من التصانيف المهمة التي أسهمت في تطوير علوم عديدة في مقدمتها علوم : أصول العقائد، و أصول الفقه، والفقه، تطويرا مشهودا له بما اشتمل عليه كتابه القيم من مقدمتين مهمتين: أولاهما في أصول العقائد، والثانية في أصول الفقه، ثم بما استعرضه الشيخ في كتابه من بحوث عميقة في أبواب الفقه ابتداء من باب العبادات وحتى آخر كتاب الجهاد، وكذلك ما ألحقه به بعد ذلك کتاب الوقف وتوابعه، وقد عرف عن الشيخ كاشف الغطاء (قدّس سِرُّه) دقة تفريعه للمسائل الفقهية، وجمال شمّه الفقاهتي المميز، وحسن فهمه وتطبيقه لألفاظ الكتاب والسنة على طريقة الفهم العربي السلیم، وبراعة طرحه لقواعد حديثة لم يسبقه اليها أحد، حتى قال عنه الشيخ الأنصاري قولته المهمة: في اعتقادي أن من يتقن قواعد الأصول التي أوردها الشيخ في أول كشف الغطاء يكون قد بلغ الاجتهاد، كما ان الأهمية الخاصة التي يتعامل بها الشيخ الأنصاري في مكاسبه مع المباني الاجتهادية للشيخ جعفر لم يتعامل بها مع

ص: 45


1- في الأدب النجفي قضايا ورجال. محمد رضا القاموسي: 155-156.
2- من زعماء الحوزة العلمية المشهورين الذين امتدت زعامتهم الدينية إلى الأقطار المختلفة. ولد في النجف الأشرف وتوفي فيها. دافع عن مدينة النجف الأشرف دفاعا مستميتا ضد الغزاة وكانت داره مشجبا للأسلحة وثكنة للجنود والمتطوعين ضد غارات الوهابيين التي حاولت مرارا اقتحام النجف والفتك بها وبأهلها، فأعد العدة للدفاع بحمل أهل العلم والنجفيين على التدريب على حمل السلاح، وقد باشر ذلك بنفسه ومعه أولاده. له العديد الكتب من غير ما تقدم منها : منهج الرشاد لمن أراد السداد في الرد على الوهابية جوابا على رسالة وردته من الأمير الشيخ عبد العزيز بن سعود أمير آل سعود في دولتهم الأولى والمتوفى سنة (1179 ه/ 1765م). إثبات الفرقة الناجية من بين الفرق الإسلامية. بغية الطالب في معرفة المفروض والواجب. أحكام الأموات. العقائد الجعفرية. غاية المأمول في علم الأصول. مشكاة المصابيح. مناسك الحج.

أي شخص آخر حتى أساتذته مثل صاحب الجواهر وغيره. ومن ثم نرى في المكاسب عبارة (بعض الأساطين) إشارة إلى الشيخ جعفر، وعبارة (بعض المعاصرين) إشارة إلى صاحب الجواهر، وكان الشيخ الأنصاري يتعامل مع آراء كاشف الغطاء بغاية الاحتياط، ويحاول أن يخلص إلى تأييدها(1) في رأيه المختار، وكان له ولأبنائه المراجع الفقهاء: الشيخ موسى والشيخ علي والشيخ حسن دور مشهود في دفع عجلتي الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف إلى الأمام.

وقد عرف عن الشيخ جعفر الكبير آل كاشف الغطاء وأولاده المراجع رهافة حسه الأدبي الرفيع وبراعة وجزالة نظمهم للشعر الرقيق كما عرف عن الشيخ جعفر حفظه على خاطره جميع الكتب السماوية من إنجيل وزبور وتوراة وجميع ذلك بآياتها وفصولها وينبئك على ذلك ما ذكره في كتابه كشف الغطاء من الاستدلال على نبوة نبينا (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقد سرد منها هناك ثلاث أوراق أو أكثر من عباراتها باللسان التي نزلت به ثم ترجمها إلى العربية وبيّن تناقض بعضها مع بعض وأنها محرفة عمّا أنزلت به، ويذكرهم الأصل(2) الذي كانت عليه.

وهكذا استمرت مناهج الحوزات العلمية في طور النضج والتكامل شيئا فشيئا منبعثة أو منعكسة على حوزة النجف الأشرف، فقد أبدعت موهبة الأصولي الشاعر الملا مهدي النراقي الكاشاني(3) المتوفى (عام 1209 ه / 1794م) كتابه القيم (تجريد الأصول) وكان لما صنفه يراع السيد جواد العاملي(4) المتوفى (عام 1226ه / 1794م) في كتابه (مفتاح الكرامة) من عمق وإحاطة بآراء وأقوال المجتهدين أثر مهم في النضج المعرفي، وما جادت به قريحة الشيخ أسد اللّه الدزفولي المعروف بالكاظمي(5) المتوفى (عام 1234 ه / 1818م) من شمول واستيعاب لمسائل وفروع مبحث الاجماع في كتابه الأصولي المهم (كشف القناع عن وجوه حجية الاجماع)، ثم ما حققه السيد علي السيد

ص: 46


1- مرجعية التقليد 3. محمد إبراهيم جناتي دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعية المجلد: 10 / 133.
2- العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية. الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء: 57
3- من طلاب المجتهدين الكبيرين الوحيد البهبهاني المتقدم ذكره والشيخ يوسف البحراني صاحب كتاب الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة. جمع فأحسن الجمع بين الفقه و أصوله والأدب والشعر. طبع له ديوانا شعر رائق.
4- من طلاب الشيخ الوحيد البهبهاني بذل جهودا كبيرة في تطوير البحوث الاجتهادية وتميز بذاكرة قوية وشجاعة في صد هجمات الوهابيين واصدر رسالة في ذلك.له من الكتب غير ما تقدم شرح لوافية الأصول للفاضل التوني. حاشية على تهذيب الأصول للعلامة الحلي. تعليقة على كتاب معالم الأصول.
5- أصولي بارع غير أنه مقل في التصنيف. عرف بشدة ذكائه وسعة علمه وكثرة تتبعه حتى عده البعض من نوابغ الحوزة. من خيار تلامذته: الشيخ علي كاشف الغطاء أستاذ الشيخ مرتضى الأنصاري.

محمد الطباطبائي(1) المتوفى (عام 1231ه / 1816م) في دفتي كتابه (رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل) من غنى معرفي أسهم هو وما تقدم من كتب وأبحاث ودروس وتصنيفات في دفع الحركة العلمية في حوزة النجف دفعة مؤثرة إلى الأمام.

فكتاب (الرياض) كما يطلق عليه الحوزويون اختصارا هو أكبر شرح منشور ومشهور لكتاب المختصر النافع للمحقق الحلي(2)، ومن محاسن الرياض كونه دورة فقهية استدلالية كاملة ابتداء من كتاب الطهارة وانتهاء بكتاب الديات والظاهر من حاله متابعته لشرح اللمعة الدمشقية، ومن ثم قد ينفع في حل بعض غوامضها، بل قد ينقل فقرة منها أحيانا مضيفا اليها ما يراه ضروريا ولو لتوضيح المراد من دون أن يشير إلى المصدر.

قال بعض أعلام تلامذته عنه(3): هو في غاية الجودة جدا، لم يسبق بمثله، ذكر فيه جميع ما وصل اليه من الأدلة والأقوال على نهج عسر على من سواه، بل استحال. والمنقول عن صاحب (الجواهر) (رَحمهُ اللّه) أنه عندما ألف جواهره لم يقصد فيه قصد المصنفين من التفنن والتأنق في العبارة، وإلا لانتهج نهج صاحب الرياض.

هذا وهناك العديد من المجتهدين ممن أسهم في تطور البحث العلمي في الحوزات العلمية من غير هؤلاء الأعلام والفقهاء، من أمثال الميرزا أبو القاسم الكيلاني الرشتي المعروف بالميرزا القمي(4) المتوفى ( عام 1231ه / 1816م) صاحب كتاب (القوانين) في أصول الفقه المعروف بكونه الجامع الدقيق لمطالب علم الأصول عند من سبقه من العلماء خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين، ولما أضافه لمباحث علم الأصول حتى عصره من عمق وتوسعة وتفصيل ولا سيما في المباحث العقلية، وبخاصة ما يتعلق منها بما يطلق عليه الأصوليون ب(دليل الانسداد)، ذاهبا إلى حجية مطلق

ص: 47


1- من خريجي مدرسة الوحيد البهبهاني أيضا. تخرج على يديه العديد من الفقهاء. نال قسطا من المرجعية بعد وفاة خاله الوحيد البهبهاني. ترك ثروة علمية كبيرة من الكتب والمؤلفات أحصى السيد محسن الأمين منها في كتابه القيم أعيان الشيعة 19 مؤلفا اشهرها كتابه رياض المسائل المتقدم ذكره. دفن في مشهد الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى جوار خاله الوحيد البهبهاني.
2- من كبار مشاهير الفقهاء والمجددين في أبحاث الفقه عند الإمامية وصاحب التقسيم الرباعي لعلم الفقه حيث بوب علم الفقه إلى: العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام كما سعى إلى تجديد تبني طريقة الشيخ الطوسي بعد أن تعرضت للنقد على يد ابن إدريس الحلي. تولى الزعامة العلمية والدينية للشيعة الإمامية في الحلة الفيحاء حاضرة الحوزة العلمية في عصره له من الكتب الكثير من أهمها عدا المختصر النافع الذي أشرت اليه في المتن كتاب: شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام والمعتبر ومعارج الأصول ونهج الوصول إلى معرفة الأصول ونكت النهاية.
3- تاريخ وتطور الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف العلمية. سابق : 124
4- من وجوه تلاميذ الوحيد البهبهاني أيضا والمقصود بدليل الانسداد الذي تبناه في كتابه القوانين هو : حكم العقل بلزوم العمل بالظن في الأحكام الشرعية معتمدا على مقدمات ساقها في كتابه بيد أن المحققين وفي مقدمتهم الشيخ الأنصاري ناقشوه وفندوه.

الظن لانسداد باب العلم الذي عرضه كتاب المعالم السابق ذكره وقد أبطله المحققون الأصوليون فيما بعد. وقد أصبح القوانين كتابا دراسيا من مناهج كتب علم الأصول في الحوزة العلمية حتى وقت ليس بالبعيد.

ثم بعد ذلك ما أتقن تحقيقه السيد محسن الأعرجي(1) المتوفى عام (1240 ه / 1825م) من بحوث في علمي الأصول والفقه وبخاصة تصنيفه لكتابيه في شرح كتاب الوافية في الأصول لعبد اللّه بن محمد البشروي الخراساني المعروف بالتوني المتقدم ذكره وهما: (المحصول في شرح وافية الأصول) وهو مختصر، و(الوافي) وهو مفصل.

ومن العلماء الذين أسهموا في دفع عجلة علم الأصول إلى الأمام الشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم الحائري(2) المتوفى (عام 1248 ه/ 1832م) مؤلف كتاب (هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين) أفضل حاشية كتبت على كتاب المعالم وكانت لحاشيته التي اشتهر بها دور مثمر في ترسيخ بحوث علم الأصول وتوسيع وتعميق مبانيه ومطالبه، ويكفي في أهميتها قول الشيخ الأنصاري حين سئل : لماذا لا تؤلف كتابا في مباحث الألفاظ ؟ أجاب: تكفي مباحث الألفاظ في هداية المسترشدين للشيخ محمد تقي(3).

والشيخ تقي ابن الشيخ محمد ملّا كتاب(4) النجفي المتوفى قبل (عام 1251ه / 1835م) مؤلف الكتاب الواسع في الأصول (الدلائل الباهرة في فقه العترة الطاهرة) الذي امتاز بمنهجية لعلم الأصول ظاهرة، حيث رتبه على مقدمة وخمسة أصناف وخاتمة وحصر المقدمة في مطلبين، الأول في بيان ما يدل على وجوب التفقه في الدين والثاني في بيان مباديه، والصنف الأول في مطالب أصول الفقه ورتبه على مقدمة

ص: 48


1- من طلاب مدرسة الوحيد البهبهاني والمعروفين بالتحقيق في مضمار علم الأصول. اشتهر بحسن بيانه وإعداده لدروسه ومحاضراته في الفقه. من أشهر تلامذته السيد عبد اللّه شبر. والشيخ محمد تقي الأصفهاني وغيرهم
2- من المحققين البارعين في علم الأصول أيضا ومن طلاب السيد محسن الأعرجي والسيد محمد مهدي بحر العلوم وغيرهما. كان مقررا لبحوث السيد بحر العلوم. خصه الشيخ جعفر كاشف الغطاء بعلاقة خاصة حيث زوجه ابنته. عاد من النجف إلى أصفهان فكان أستاذها الأكبر في عصره.
3- مرجعية التقليد / 3 سابق : 136.
4- ولد في النجف الأشرف وتلقى علومه فيها على يد السيد بحر العلوم حتى بلغ مرتبة الاجتهاد وهو دون الخامسة والعشرين من العمر وصنف بعض كتبه وهو دون هذه السن ويعد في علمه من طبقة الشيخ محسن الأعسم والشيخ علي آل كاشف الغطاء له غي ما تقدم من الكتب الدلائل في الفقه ورسالة في الأراضي الخراجية، دفن في داره في محلة العمارة وكان الناس يزورون مرقده لقراءة الفاتحة والترحم عليه قبل تهديم دور العلماء وآثارهم ومدارس الحوزات العلمية ومكتباتها القيمة زمن النظام الصدامي البائد.

وثمانية أبواب وخاتمة، وجعل الباب الأول من الصنف الأول من الكتاب في المبادئ اللغوية، وهنا يشبع البحث في ذكر عدة أدلة تتضمن مباحث الألفاظ من حيث الكلام والكلمة والحقيقة والمجاز وغيرها مما يتعلق بالوضع والموضوع له وما يناسبه، والباب الثاني في الكتاب والسنة وهو المجلد الثاني من الكتاب وهنا يستوحي البحث عمّا يخص الكتاب من نزوله وحفظه وقرائه وطبقاتهم وعدم وقوع التحريف فيه، وفي السنة يستغرق البحث عن معنى الخبر ولفظه وعدالة الراوي وكل ما تعلق بالسنة قرظ هذا الكتاب الشيخ جعفر صاحب كشف الغطاء وولده الشيخ موسى، رأيت خط الشيخ الكبير وخاتمه وهذا نص عبارته: قد نظرته نظر اعتبار ونقدته نقد الدرهم والدينار فوجدته قد جمع فيه من الشوارد والنوادر ما حقّ أن يقال فيه : كم ترك الأول للآخر واحتوى على كثير من غريب الأشياء وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء(1).

وكذا الشيخ خضر بن شلال العفكاوي (المتوفى عام 1255 ه/ 1840م)(2) صاحب كتابي (التحفة الغروية في شرح اللمعة الدمشقية، ومصباح الرشاد ونجم الهداية) وهو شرح على كتاب ( هداية المسترشدين) للعلامة الحلي.

ومثله الشيخ محمد حسين بن عبد الرحيم الرازي(3) المتوفى (عام 1261 ه / 1845م) صاحب كتاب (الفصول) في أصول الفقه، وهو شقيق الشيخ محمد تقي الحائري المتقدم ذكره، وقد بقي كتابه (الفصول) حتى وقت قريب كتابا دراسيا يدرسه الطالب الحوزوي، وهو يرتقي سلم هذا العلم درجة درجة، بل لازالت مسائله الأصولية حتى يوم الناس هذا محور بحث ومناقشة ونقد وتقييم.

والفقيه النجفي الشيخ حسن آل كاشف الغطاء المتوفى (عام 1262ه / 1846م)(4) المتقدم ذكره مؤلف كتاب (أنوار الفقاهة في علم الفقه، والمعروف بدقة شمّه

ص: 49


1- ماضي النجف وحاضرها : 3/ 225 226.
2- من كبار علماء حوزة النجف الأشرف في القرن الثالث عشر ومدرسى حوزتها العلمية المعروفين. عرف بالزهد والتواضع وسلامة الباطن حتى عرف بأنه صاحب سر السيد محمد مهدي بحر العلوم (الكرام البررة: 2/ 494) وقد توفي عن عمر ناهز الثمانين عاما ودفن في النجف الأشرف وكان قبره مزارا لذوي الحاجات والطلبات يقصدونه للتبرك والزيارة والسلام حتى أزاله النظام البائد مع ما أزال من المساجد والحسينيات والمدارس العلمية وبيوت المراجع والعلماء.
3- من المحققين البارعين في علم الأصول. تلقى دروسه العليا في حوزة النجف الأشرف على يد أفاضل أساتذتها المحققين. خص صاحب الكفاية مباحث كتابه الفصول بالمناقشة والنقد وبخاصة ما يتعلق منها بمباحث الألفاظ. سافر إلى أصفهان بعد ذلك. وأكب على الدرس والتحصيل والتدريس فيها أيضا.
4- أحد أنجال الشيج جعفر آل كاشف الغطاء المتقدم ذكره، وأحد أكابر الفقهاء ومراجع التقليد في النجف الأشرف بعد وفاة والده الشيخ المرجع، ولد سنة (1201 ه / 1787م) وتولى تدريس بحث الخارج في بيته العامر اقام فترة في الحلة الفيحاء ثم هاجر إلى النجف الأشرف فكان مرجعا للتقليد ومصلحا استطاع بحزمه رد کید نجيب باشا السفاك الذي استباح دماء أهالي كربلاء الطاهرة حتى عدت واقعته بأهل الطف الواقعة الثانية بعد واقعة كربلاء الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما استطاع الشيخ المرجع إخماد نار الفتنة بين قبيلتي الشمرت والزكرت التي اشتعلت وأشعلت النجف معها وقد تخرج على يديه جملة من العلماء منهم السيد مهدي القزويني والشيخ الأنصاري والشيخ مشكور الحولاوي. من مؤلفاته الأخرى: رسالة في الإمامة. كتاب في الزكاة وغيرها.

الفقاهتي وبراعة استقامة آرائه على طريق الاستدلال وتسلطه على المباحث الشائكة، والمشهود له بملكة التفريع والتصوير في الفقه.

والفقية النجفي الشيخ جواد ابن الشيخ تقي ملّا كتاب(1) المتوفى (عام 1264ه/ 1848م) مؤلف كتاب (الأنوار الغروية) وهو كتاب كبير الحجم أجاد فيه كل الإجادة، جمع فيه بين الأدلة والأقوال والأخبار بأوجز عبارة إلا أنه غير تام الفقه، بل وصل فيه إلى كتاب النكاح، وتوجد نسخة منه في كتب الشيخ صاحب (الحصون)، وهو عشرة مجلدات(2) ما يكشف عن سعته رغم حرص مؤلفه على ضغط عبارته واختصار كتابته.

كذلك الباحث الموسوعي والفقيه الضليع الشيخ محمد حسن النجفي(3) المتوفى (عام 1266 ه / 1850م) رأس الأسرة العلمية الأدبية المبدعة، وصاحب كتاب (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) في (43) مجلدا، لذا فهو أضخم موسوعة فقهية كاملة صنفت في الفقه الجعفري حتى نهاية عصره والعقود اللاحقة له، أقول كاملة لأن تلميذه العالم الزاهد الشيخ محمد حسين الكاظمي المتوفى (سنة 1308ه/ 1891م) ألّف كتابه المسمى (هداية الأنام في شرح شرائع الإسلام) بما يزيد على (الجواهر) وصل فيه إلى كتاب القضاء والشهادات وكان لا يترك فيه قولا لقائل إلّا نقله ونقل دليله وتكلم فيه واستقصى كلمات الفقهاء كلها فيه(4) بيد أنه لم يتم.

ويتفرد كتاب (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) من بين كتب الفقه الأخرى باشتماله على خلاصة أفكار الفقهاء المتقدمين والمتأخرين مع غاية التحقيق والتدقيق والفهم الجيد للروايات الشريفة ولسائر مدارك الأحكام، المنبئ عن سليقة عرفية سليمة وذوق فقهي عال، وقد استكمل (رَحمهُ اللّه) شرح أبواب (شرائع الإسلام) من كتاب الطهارة

ص: 50


1- ولد في النجف الأشرف سنة (1201 ه / 1788م) واجتهد في الفروع والأصول مشيدا لما بناه أسلافه من والده والسابقين. وقد امتاز بتعبيره الجميل وبيانه،الحسن، تضلع في الفقه والأصول وهو دون العشرين من سني عمره ما لفت نظر الفقيه السيد جواد صاحب مفتاح الكرامة في إجازته التي منحها إياه حيث قال فيها ولعمر اللّه لإن بقي على هذا الحال من الجد والاشتغال الضربت اليه أعناق الفحول من الرجال. كيف لا وقد بلغ قبل العشرين مبالغ قد تقاصر عنها من بلغ الثمانين (ماضي النجف وحاضرها : 3/ 227).
2- ماضي النجف وحاضرها. سابق : 3 / 227.
3- من أكابر فقهاء الشيعة في القرن الثالث عشر. انتهت اليه المرجعية العليا داخل العراق وخارجه وتخرج على يديه العديد من الفقهاء والباحثين وفي مقدمتهم أبناؤه وأهل بيته. له من من الكتب غير ما تقدم : نجاة العباد. هداية الناسكين. رسالة في المواريث.
4- ماضي النجف وحاضرها. سابق : 3 / 221 وما بعدها.

إلى آخر الحدود والديات، ويمتاز عن أكثر المؤلفات الموسوعية التي تستغرق وقتا طويلا لإنجازها بأن أواخره كأوائله وهي مثل أواسطه في الجودة والدقة والاستيعاب بنفس واحد مبني على الاستقصاء والتحقيق، من دون أن يعرف الكلل والملل اليه سبيلا، وقد سمعت من بعض أساتذتي (رَحمهُ اللّه) أن سيدنا الأعظم الإمام الحكيم (رَحمهُ اللّه) في بداية رجوع الناس اليه في التقليد، وقبل أن يؤلف شيئا من كتب الفتوى، كان إذا ابتلي بمسألة يراجع (الجواهر) ويفتي حسب ما يتوصل اليه نظره الشريف بمعونته. وما ذلك إلّا ثقة منه (رَحمهُ اللّه) باشتمال الجواهر على عمدة ما يحتاجه الفقيه في مقام الاستنباط(1) وقد تقدمت الإشارة إلى أن من أتم مراجعة كتب: (وسائل الشيعة) للحر العاملي و(جامع المقاصد) للكركي و (الجواهر) فقد خرج عن عهدة وجوب الفحص.

ولقد صدر معجم باسم (معجم فقه الجواهر) في ستة مجلدات من القطع الكبير، متضمنا عددا كبيرا من المصطلحات والعناوين الفقهية ابتداء من حرف الألف وحتى حرف الياء، كما صدر بعده فهرست تحليلي باسم (جواهر الكلام في ثوبه الجديد)، والهدف منه تفكيك وتحليل أبحاث الكتاب واستخراج آراء ومتبنيات المؤلف على حدة، ثم تليها الاستدلالات والمناقشات والأقوال مرتبة ومرقمة، مع الإشارة إلى النكات الدقيقة فيها حتى يكون ذلك ضوء كاشفا ينير الطريق أمام المحققين والباحثين في معرفة مسائل هذا الكتاب(2).

ونظرا لأهمية هذا الدور وتنوعه وكثرة ما تم فيه من تأليف وكتب وبحوث أسهمت في تطور علمي الفقه وأصوله، فقد آثرت أن أشطره إلى أكثر من دور ومدرسة بحثية فقهية أصولية في كتابي الثاني الموسوم (حوزة النجف الأشرف عصورها العلمية وعلماؤها المعاصرون) الذي آمل أن يصدر في بداية العام القادم إن شاء اللّه.

ص: 51


1- تاريخ وتطور الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف العلمية. سابق:126
2- 96 جواهر الكلام في ثوبه الجديد. الشيخ خالد الغفوري. مجلة فقه أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ). العدد 18. السنة الخامسة. دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقا لمذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) قم. إيران. (1421 ه- / 2000م). ص: 183. ومعجم فقه الجواهر وجواهر الكلام في ثوبه الجديد من إصدار دائرة معارف الفقه الإسلامي.

الدور الرابع : دور نضج البحث المعرفي التحليلي

يبدأ هذا الدور ببزوغ نجم مجدد علم الأصول الشيخ مرتضى الأنصاري(1) المتوفى عام (1281ه/ 1864م) صاحب كتابي: (المكاسب المحرمة) في الفقه، و(فرائد الأصول) في أصول الفقه، اللذين حظيا ولا زالا بعناية واهتمام الفقهاء والشراح والدارسين وينتهي ببزوغ نجم المحققين الثلاثة (والنائيني، والعراقي، والأصفهاني) وسيأتي التعريف بهم والحديث عن دور هؤلاء المحققين لاحقا.

ففي كتاب المكاسب أو المتاجر كما يطلق عليه الحوزويون تتعاضد مباحث ثلاثة :أولها المكاسب المحرمة وقد بحث فيه الكثير من الأمور التي يحرم التكسب بها، وثانيهما: كتاب البيع، وثالثهما : كتاب الخيارات، ثم أن الشيخ الأنصاري خطط لكتابه منهجا يقوم على أساس تقسيم موضوعه محل البحث إلى أقسامه المحتملة، ثم يشرع في بحث أقسامه المحددة واحدا بعد الآخر بتسلسل منهجي ملحوظ. ذلك أنك لا تكاد تجده يخوض غمار بحث موضوع ما من دون التقديم له بمقدمة تلقي الضوء على ما سيبحثه فيه دون أن يعود ثانية إلى نقطة تجاوزها سابقا.

نعم قد يكرّ الشيخ الأنصاري راجعا في بحثه إلى نقطة تجاوزها قبل ذلك مع مراعاة المبحث الواحد الذي هو فيه، وهو ما شكل صعوبة على دارس الكتاب أو مباحثه.

إن الفقه وإن كان قد قطع شوطا كبيرا في القرن الثالث عشر الهجري بيد شيخ الفقهاء صاحب الجواهر(قدّس سِرُّه) حيث إن كتابه احتوى من التحقيقات القيمة ما لا يستغني عنه فقيه حتى في اليوم الحاضر، إلّا أن ما أتى به الشيخ الأنصاري (قدّس سِرُّه) في خصوص الفقه المعاملي لم يأت به فقيه قبله، ولسنا نريد أن نقول: إن كل ما أتى به جديد فإن ذلك غير صحیح، كيف وقد استفاد ممن تقدمه من الفقهاء، وهذه سنة العلم يأخذ المتأخر من

ص: 52


1- من كبار الفقهاء المجددين في علمي الفقه والأصول ومن المعروفين بالزهد والعبادة، مرجع من كبار مراجع الشيعة في العراق وخارجه في وقته. ومن كبار مجددي علمي الأصول والفقه في القرن الثالث عشر. تتلمذ على يديه العديد من الفقهاء والأصوليين الذين كان لهم دور مشهود في تطوير منهجه العلمي في الفقه والأصول. له من الكتب 29 كتابا أو تزيد، منها من غير ما تقدم إثبات التسامح في أدلة السنن رسالة في الإرث. التقية. الخمس. الزكاة. الصلاة. تقليد الميت. حاشية القوانين الاستصحاب. قاعدة لا ضرر ولا ضرار. مناسك الحج. حاشية نجاة العباد. قاعدة من ملك شيئا. وغيرها.

المتقدم ويبني عليه إلّا اننا نقول: إن مجموع ما دونه في خصوص الفقه المعاملي من حيث المجموع وبهذه الكيفية والسعة والعمق، لم يأت به من سبقه(1).

أما في كتاب الشيخ الأنصاري الثاني (فرائد الأصول) أو ما يصطلح عليه الحوزويون بالرسائل فقد جاء بمنهجة جديدة أصبحت هي منهج الأصول في المباحث العقلية من بعده، ولم يتفق لأحد من قبله هذا الكشف والفتح الذي فتحه اللّه على يديه. وهذا المنهج آية في الاستحكام والقوة والمتانة العلمية والتنظيم المنهجي، وأمارة هذا الاستحكام والقوة والمتانة في المنهج والتصوير والمحتوى أن الفقهاء الذين جاءوا بعد الشيخ وهم كثيرون لم يغيّروا الحدّ اليوم الخطوط الأساسية لهذا المنهج(2).

كما أنهم رغم علو قدرهم لم يتجاوزوا منهجه العلمي بل يعتبرون أنفسهم وهم الأساتذة المشهود لهم بالكفاءة المتميزة طلاب مدرسته العلمية التجديدية.

ولا زال كتابا (المكاسب) و(الرسائل) حتى يوم الناس هذا من مناهج الدراسة الأساسية المعتمدة في الحوزات العلمية التي لا يمكن علميا لطالب ينوي الاستمرار في دراسته العليا وحضور بحث الخارج إلّا بدراستها دراسة متأنية فاحصة سواء أكان من طلبة حوزة النجف الأشرف أم من طلبة غيرها من الحوزات العلمية الأخرى المنتشرة اليوم في شرق الأرض وغربها.

ثم جاء من بعده الثائر والمنظر في الفقه الدستوري والأصولي المحقق الشيخ محمد كاظم الخراساني(3) المتوفى (عام 1329 ه/ 1911م) صاحب كتاب (كفاية الأصول)، الذي هو من كتب أصول الفقه الدراسية المعتمدة للآن في الحوزات العلمية كافة ومنها حوزة النجف الأشرف.

ففي كتاب (كفاية الأصول التي هي خلاصة مركزة لبحوثه في علم الأصول،عمد

ص: 53


1- من مقدمة كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري. بقلم الشيخ محمد علي الأنصاري. من تراث الشيخ الأنصاري. إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم: 1/ 16.
2- المنهج العلمي لكتاب الأصول العامة للفقه المقارن. سابق: 128- 129
3- من كبار علماء الحوزة النجفية المحققين وأساتذتها وزعيم الحركة الدستورية في النجف الأشرف والمدافع القوي عن أنصارها في تركيا وإيران برسائله وكتبه إلى السلاطين والحكام من جهة والى العلماء يدعم موقفهم منها من جهة ثانية، عمر مجلس بحثه بمئات الباحثين والطلاب والمجتهدين، وكان حسن البيان قوي الحجة. صلبا شجاعا. مهابا. درس على الشيخ مرتضى الأنصاري والشيخ راضي. تميزت مدرسته الأصولية بالإيجاز والتهذيب، كان في مقدمة مناهضي دعاة الاستبداد، ومن الداعين بحزم إلى الجهاد ضد الغزاة. عزم على السفر إلى خارج العراق للمشاركة في الجهاد إلا أنه توفي فجأة بمعسكره بأسباب غامضة..

المؤلف الضليع إلى ضغط العبارة واختصارها وإيجازها حد الغموض أحيانا، موشيا عباراته بالمحسنات البديعية ما أمكنه، وقد عرفت دروس الشيخ الخراساني وكتاباته في كتابه الكفاية بدقة مطالبها وعمقها وتركيز مباحثها واختصارها وقد وصف السيد محسن الأمين(1) (قدّس سِرُّه) تمثل هذه الخصائص في مباحث الشيخ الخراساني بقوله : وتميز عن جميع المتأخرين بحب الإيجاز والاختصار وتهذيب الأصول والاقتصار على لباب المسائل وحذف الزوائد مع تجديد في النظر وإمعان في التحقيق مزاوجاً في مباحثه بين المسائل الفلسفية والمسائل الأصولية أكثر ممن سبقه من مؤلفي الكتب الأصولية المعروفة المتداولة التي مرّ ذكرها من أمثال الرسائل والفصول والقوانين، ولذلك وغيره كثرت على متن الكفاية الحواشي والشروح منذ عصر مؤلفه عصرنا الحالي، وقد أحصى الأستاذ المرحوم عبد الرحيم محمد على(2) (60) منها في كتابه (المصلح المجاهد الخراساني) فضلا عما لم يشمله الحصاء أو كتب أو حشي عليها بعد استشهاد المرحوم عبد الرحيم محمد علي.

ثم ما تلا ذلك الدور من دخول النجف الجامعة مرحلة النضج المعرفي التفصيلي والتفكيكي اللاحقة.

الدور الخامس : دور نضج البحث المعرفي التحليلي والتفكيكي

دخلت النجف الجامعة مرحلة أكثر عمقاً وتفصيلاً وتخصصاً ودقة في بحوثها الرصينة وبخاصة في علمي الفقه وأصوله وذلك على أيدي المحققين الثلاثة الكبار وهم:

أولا: المحقق الشيخ ميرزا حسين النائيني(3) المتوفى (عام 1355 ه/ 1936م) الذي أبدع في التفكيك بين الأمارات والأصول، وتساءل عن الفرق بين المجعول في

ص: 54


1- أعيان الشيعة. السيد محسن الأمين: 9 / 5-6.
2- مقدمة كتاب كفاية الأصول للشيخ الآخوند الخراساني. السيد جواد الشهرستاني : 26.
3- سليل أسرة معروفة في بلده وهو ابن شيخ الإسلام فيها. من أكابر المحققين في الأصول، والأخلاق والفلسفة والحكمة و من أئمة التقليد والفتيا والمرجعية في النجف الأشرف ومن مشاهير اساتذة بحث الخارج فيها. ومن الجيدين إطلاعا على آداب وشعر شعراء اللغتين العربية والفارسية، إضافة لإجادته الكتابة باللغتين العربية والفارسية. إنشاء وخطا. درس عند الشيخ الآخوند الخراساني زعيم الحركة الدستورية وكان من خاصته وخلص أنصاره.، وساهم في أكثر الحركات الإصلاحية في عصره، تبنى الدعوة، بل التنظير ضد الاستبداد داعما تقييد صلاحية الحكام بشروط محددة ودساتير وقوانين لا يسمح لهم بتجاوزها، وقد أودع نظرياته التنويرية تلك في كتابه القيم: (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) المؤلف سنة (1327 ه / 1909م) وهو كتاب رائد في بابه قياسا بزمن تألفه،وقد حضي باهتمام متزايد بعد تأليفه بعقود من قبل المفكرين المحدثين لسبق تنظيره وعمق مطالبه ومبانيه في طرح مسائل حديثة في الفقه الدستوري من وجهة نظر إسلامية معاصرة، له من الكتب غير ما تقدم: رسالة في المعاني الحرفية. حاشية على العروة الوثقى. حاشية نجاة العباد. رسالة في التزاحم والترتيب، سؤال وجواب عن الأسئلة التي وردته وأجاب عليها وغيرها

أدلة حجية الأمارات وأدلة حجية الأصول ومراتب الحكم التكليفي وتقسيم الأحكام الشرعية والمعنى الحرفي والعلل الشرعية واستصحاب العدم الأزلي وغير ذلك كثير وبخاصة تحقيقاته في مباحث الصحيح والأعم ودلالة صيغة الأمر والواجب المشروط ومقدمة الواجب والتعبدي والتوصلي والنفسي والغيري واجتماع الأمر والنهي والفرق بين شرائط الجعل وشرائط المجعول والتخصص والتخصيص والحكومة والورود(1).

وكان النائيني في عصره يشار اليه بالبنان لما كان يتسم به من القدرة الفائقة على النقد والتحقيق وسلاسة البيان وعمق النظر والمنهجية في البحث(2).

أما بخصوص تضلعه في علم الأصول فأمر عظيم لأنه أحاط بكلياته ودققه تدقيقا مدهشا وأتقنه إتقانا غريبا، وقد رنّ الفضاء بأقواله ونظرياته العميقة، كما انطبقت أفكار أكثر المعاصرين بطابع خاص من آرائه حتى عد مجددا في هذا العلم، كما عدت نظرياته مماثلة لنظريات الآخند الخراساني وكان لبحثه ميزة خاصة لدقة مسلكه وغموض تحقيقاته فلا يحضره إلا ذوو الكفاءة من أهل النظر(3).

وقد أجاد كتابة تقريرات بحثه عديدون في مقدمتهم تلميذه الشيخ محمد علي الكاظمي في كتاب أسماه (فوائد الأصول) في أربعة أجزاء، وتلميذه السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي المرجع الأعلى لاحقا في كتاب أسماه (أجود التقريرات) في جزأين.

ثانياً : المحقق الشيخ أغا ضياء العراقي(4) المتوفى (عام 1361ه / 1942م) درّس السطوح العليا وخارج الفقه والأصول ستين سنة، منها أكثر من ثلاثين سنة في تدريس البحث الخارج، وعرف بكتابة محاضراته بنفسه وإن كان بلغة معقدة في كل مرة يعود فيها لإلقاء محاضراته، خلافا لعذوبة بيانه وطلاقة لسانه في التدريس، كما عرف عنه إفساحه المجال الواسع لمناقشات طلابه فسيستثمرون سعة صدره ودعابته في إغناء

ص: 55


1- ينظر : ابتكارات الأستاذ الإمام الميرزا النائيني (قدّس سِرُّه) في علم الأصول. د. الشيخ محمد حسين الصغير. بحث ضمن بحوث : مدرسة النجف الأشرف ودورها في إثراء المعارف الإسلامية كلية الفقه 187
2- تطور البحث الأصولي في مدرسة النجف الأشرف. سابق : 130.
3- طبقات أعلام الشيعة، نقباء البشر في القرن الرابع عشر. الشيخ أغا بزرك الطهراني. 2/ 594
4- من أكابر المحققين في الأصول، و من أئمة التقليد والفتيا والمرجعية في النجف الأشرف. درس عند الشيخ الآخوند الخراساني والسيد محمد كاظم اليزدي وشيخ الشريعة الأصفهاني وكان زاهدا، له من الكتب: بدائع الأفكار في الأصول. مقالات الأصول. روائع الأمالي في فروع العلم الإجمالي. حاشية موسعة على العروة الوثقى. شرح التبصرة. استصحاب العدم الأزلي. حاشية جواهر الكلام. وغيرها

معلوماتهم، وقد ترك لعلماء الأصول وطلاب العلم من معاصريه واللاحقين له كتابا أصوليا كاملا في أصول الفقه أسماه (مقالات الأصول) ضمنه دورة أصولية كاملة.

وقد أحسن عرض آرائه بعض تلامذته يأتي في مقدمتهم الشيخ محمد تقي البروجردي في كتابه الذي أسماه (نهاية الأفكار) وقد تطرق فيه إلى آراء أستاذه مستوعبا البحث في القطع والحجج والأصول العملية، وكذا الشيخ هاشم الآملي في كتابه (بدائع الأفكار) مستوعبا البحث في مباحث الأصول اللفظية والملازمات العقلية.

ثالثاً : المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني(1) المتوفى (عام 1361 ه / 1942م)، واضع المنهجية الشاملة لمباحث علم الأصول، وهي المنهجية التي اعتمدها وتبناها تلميذه الشيخ محمد رضا المظفر في كتابه (أصول الفقه) كما سيأتي ذكرها تفصيلا في فصل لاحق.

ويعرف عن الشيخ الأصفهاني أنه وظف علم الفلسفة وهو الفيلسوف المشهود له في الأصول توظيفا واسعا بحيث تظهر آراؤه وتحقيقاته الفلسفية على جميع آثاره ودروسه حتى ليكاد المتلمذ له في الأصول خاصة يجد من نفسه أنه ألم بأكثر الأبحاث الفلسفية من حيث يدري أو لا يدري، ومن قرأ حاشيته على الكفاية بالخصوص يجد كيف تطغى المصطلحات الفلسفية على تعبيره حتى ليظن أحيانا أنه يقرأ كتابا في الفلسفة، وقد طغت روحه الفلسفية حتى على أراجيزه في مدح النبي وآله الأطهار(2).

ولقد بلغت دقة البحث الأصولي والقدرة على الاستدلال بالمنطق والقابلية الفذة على الإقناع بالدليل أوجها الرفيع عند المحققين الثلاثة حتى قال أحد الفضلاء من تلاميذ المحقق النائيني(3) لقد كنت أسمع من أستاذنا النائيني رأيا يختلف عن رأي زميله المحقق العراقي فأقتنع برأي شيخنا النائيني بشكل كامل، فإذا جلست إلى الشيخ

ص: 56


1- من أكابر المحققين في الأصول والفلسفة، ومن أساتذة البحث المشهورين ببراعتهم في علوم عدة إضافة إلى الفقه و أصوله كالتاريخ والتفسير والعرفان والأدب. وقد نظم الشعر باللغتين العربية والفارسية درس عند الشيخ الآخوند الخراساني وغيره. له آراء خاصة تتميز بالعمق والجدة والدقة في أصول الفقه والحكمة والعرفان من مؤلفاته: الأنوار القدسية. الحقيقة الشرعية. الطلب والإرادة. نهاية الدراية في شرح الكفاية.
2- الشيخ محمد رضا المظفر، نقلا عن تطور الدرس الأصولي في مدرسة النجف الأشرف. سابق: 133.
3- من مقالات الأصول للمحقق الشيخ ضياء الدين العراقي. بقلم الشيخ محمد مهدي الآصفي: 20/1.

العراقي وناقشته فيه أقنعني بخلافه وقمت وأنا مقتنع بصحة رأيه وعدم صحة رأي أستاذنا الشيخ النائيني، فأرجع إلى المحقق النائيني فيعيد اليّ قناعتي الأولى القائمة على أسس متينة، فلما أعود إلى المحقق العراقي وأناقشه في المباني والأساس الذي سمعته من أستاذي زلزل قناعتي من جديد ووجدتني من جديد في حيرة من أمري. ولا تتأتى قوة الحجة هذه إلّا للقلة القليلة من أهل الرأي والحكمة والمعرفة.

وقد أعقب هؤلاء العلماء الكبار بعض من أقرانهم والعديد من فحول تلامذتهم وتلامذة تلامذتهم مما لا يسعني الوقوف عندهم جميعا لكثرتهم بيد أن ذلك لا يعفيني من الإشارة على نحو الإجمال إلى بعضهم حسب تواريخ وفيات الأقدم فالأقدم منهم على سبيل المثال لا الحصر:

1 - السيد محمد كاظم اليزدي(1) المتوفى (عام 1337ه / 1919م) الفقيه والمرجع الأعلى في عصره والمفتي بالجهاد ضد الإيطاليين والبريطانيين والروس بعد احتلالهم لبلاد المسلمين وصاحب كتاب (العروة الوثقى) المعروف في أوساط الحوزات العلمية بجمال عبارته وحسن سبكه واستيعابه للمسائل بما فيها المستحدثة منها في عصره وقد تناولته أيدي الفقهاء والعلماء بالشرح والتبيين والاستدلال. والتحشية.

2- السيد أبو الحسن الأصفهاني(2) المتوفى (عام 1365 ه/ 1946م) المرجع الأعلى في عصره والمعروف بدقة التحليل والمجاهدة والتحمل والزهد والصبر وصاحب المواقف الصلبة التي ضاق بها حكام العراق ذرعا فأمروا بنفيه إلى خارج العراق فأصدر بيانه المهم الذي ورد فيه ما نصه: من الواجبات الدينية على جميع المسلمين هي الدفاع عن الإسلام والبلاد الإسلامية، وبالخصوص،العراق، بلد المقدّسات، وبلد الأئمّة الأطهار (عَلَيهِم السَّلَامُ)، ضد تسلّط قوّات الأجانب.

حوزة النجف الأشرف

ص: 57


1- ولد سنة (1247 ه / 1831م) وحضر الأبحاث العالية على يد الشيخ مهدي كاشف الغطاء والشيخ راضي النجفي وغيرهما ثم استقل بالتدريس فتخرج على يدية عدد كبير من علماء الحوزة العلمية ومجتهديها. أفتى بالجهاد ضد التدخل الإيطالي في ليبيا وكذلك ضد الاحتلالين البريطاني لجنوب إيران والروسي لشمالها وله مواقف مشهودة ضد الاحتلال البريطاني للعراق وفي قيادة حركة المقاومة ضد الهجوم الإنكليزي على النجف الأشرف. أسس مدرسة علمية من أهم مدارس النجف الأشرف من حيث السعة وجمال العمارة له كتب عديدة منها غير ما ذكر حاشية على المكاسب الصحيفة الفاطمية رسالة في التعادل والتراجيح وغيرها.
2- ولد سنة (1284 ه / 1867م) وأكمل دراسته العالية على يد الشيخ حبيب اللّه الرشتي والشيخ محمد كاظم الخراساني وغيرهما من المراجع والعلماء تخرج على يديه المئات من الفقهاء والمحصلين يأتي في مقدمتهم مراجع التقليد: أصحاب السماحة السيد محسن الحكيم والسيد محمد هادي الميلاني والشيخ محمد تقي بهجت والسيد عبد اللّه الشيرازي (قدس اللّه أسرارهم) وغيرهم له من المؤلفات ( وسيلة النجاة) و (حاشية على العروة الوثقى) و (شرح كفاية الأصول) وغيرها

3- الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء(1) المتوفى (عام 1373 ه / 1954م) المرجع الكبير في عصره والمؤلف لكتاب (تحرير المجلة) في خمسة أجزاء وهو شرح مزجي على (مجلة الأحكام العدلية) ذلك الكتاب الذي يمثل تقنين أحكام الشريعة الإسلامية على شكل مواد قانونية حيث جرى تطبيق أحكام هذه (المجلة) في المحاكم المدنية في كافة البلدان التابعة للحكم العثماني آنذاك، وقد شرح الشيخ بعض بنود (مجلة الأحكام العدلية) وأوضح قواعدها وفروعها في ضوء الفقه الجعفري مناقشا الكثير مما جاء في (مجلة الأحكام العدلية) بما ينبيء بوضوح عن مدى تقدم البحث الفقهي الأصولي في حوزة النجف الأشرف عن غيره من المدارس الفقهية الأخرى التي أغلقت على نفسها أبواب الاجتهاد.

4 - الشيخ محمد رضا المظفر(2) المتوفى (عام 1383 ه/ 1963م) المفكر المجدد وأول عميد لكلية الفقه في النجف الأشرف والمؤلف لكتابي : (المنطق) الذي أغنى أو كاد عما قبله من كتب المنطق الدراسية في الحوزات العلمية، و (أصول الفقه) الجديد في طرحه، الواضح في عبارته المنهجي في تبويبه كما سيأتي ذلك لاحقا.

5- السيد محسن الحكيم(3) المتوفى (عام 1390 ه / 1970م) المرجع الأعلى في عصره ومؤلف كتاب (المستمسك في شرح العروة الوثقى) في (14) جزء والزاخر بمجلداته بآخر ما توصلت اليه حوزة النجف الأشرف العلمية حتى عهده من آراء ونظريات في علوم الفقه و أصوله وكل ما يمت إلى علوم الشريعة بصلة مما حدا ببعض الكتاب(4) لأن يصف المستمسك بأنه الموسوعة الفقهية القيّمة التي لم يسمع بمثلها في هذا الدور من حيث الترتيب والتنظيم والتحقيق والدقة وقوة الاستدلال والتلخيص. هو أول كتاب فقهي ظهر للملأ العلمي بهذا الشكل الكامل في جميع الأبعاد ولم يسبقه أحد من فقهائنا الأفذاذ في هذا الدور وأحرز مؤلفه (قدّس سِرُّه) بهذا التأليف مقام القيادة الكبرى

ص: 58


1- ولد في النجف الأشرف عام 1294 ه / 1877م) تتلمذ على يد الشيخ محمد كاظم الخراساني والسيد محمد كاظم اليزدي والشيخ أغا رضا الهمداني وغيرهم من فطاحل العلماء وقد انقادت له الخطابة والبلاغة كانقياد العلم والتحقيق فحضر العديد من المؤتمرات الإسلامية في فلسطين ومصر والشام والهند وباكستان أشهرها المؤتمر الإسلامي العربي في القدس سنة(1350 ه/1931م) فقدمه الحاضرون للصلاة إماما في المسجد الأقصى الشريف حيث ألقى خطبته العصماء فيه شارك في الجهاد ضد الإنكليز استجابة لدعوة المجتهد السيد محمد سعيد الحبوبي (قدّس سِرُّه) كما كان له القدح المعلى في المطالبة بحقوق الشيعة المضطهدين في عصره. أسس مدرسة علمية حاول فيها تنظيم الدراسة الدينية كما سيأتي له من الكتب الكثير منها أصل الشيعة و أصولها الآيات البينات التعليق على ديوان السيد محمد سعيد الحبوبي
2- من أسرة عرفت في أواسط القرن الثاني عشر الهجري بالعلم فكان أبوه وأخواه وهو من المجتهدين. تضلع بالأصول والفلسفة والعقائد والأدب. أحد أعضاء جماعة العلماء التي تصدت بمباركة المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم لمقاومة الانحرافات الفكرية والسياسية في العراق فأبلت بلاء حسنا. من رواد الاصلاح الكبار العاملين في الحوزة العلمية النجفية. أسس مع إخوانه جمعية منتدى النشر وتولى رئاستها. ثم كلية الفقه في النجف وتولى عمادتها. انتخب عضوا في المجمع العلمي العراقي. أديب رائع وشاعر مجيد ولغوي مميز و أصولي وفيلسوف. غزير النتاج. له من المؤلفات غير ما تقدم: السقيفة. محاضرات في الفلسفة. كتاب في تفسير القرآن كتاب في المواريث. مذكراته الشخصية. ديوان شعر.
3- من أسرة علمية معروفة. يرتفع نسبها إلى السيد إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى ابن الإمام الحسن السبط (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابن الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ). توفي والده وهو ابن ست سنوات. جاهد مع المرجع السيد محمد سعيد الحبوبي ضد الإنكليز خلال غزوه للعراق سنة (1332 ه / 1914م) وكان ساعده الأيمن في ساحة المعركة امتدت مرجعيته إلى أنحاء العالم في شرق الأرض وغربها. كان له حضور فعلي في الشأن الاجتماعي السياسي في العراق والعالم الإسلامي. قاوم الأفكار المنحرفة والحكومات الطائفية في العراق بضراوة فاستشهد له من أبنائه وأحفاده وأسرته العشرات. له عدة مؤلفات منها غير ما تقدم حقائق الأصول. نهج الفقاهة. منهاج الصالحين. دليل الناسك.
4- أدوار الفقه الإسلامي الشيعي. الشيخ محمد إبراهيم الجنّاتي. بحث مجلة الفكر الإسلامي. العدد الثامن من السنة الثانية (1415ه / 1994م): 132 -133.

لركب المحققين حيث أنه يرجع كل تحقيق في شرح العروة الوثقى من بعد صدور هذا الكتاب (المستمسك) إلى ما حققه المؤلف فيه. وكل ما جاء بعده من شروح العروة الوثقى فقد وجد طريقا معبدا فسار عليه بسهولة.

6 - الشيخ حسين الحلي المتوفى(1) ( عام 1394ه / 1974م) أستاذ العديد من المراجع والعلماء والمتعق في بحث المسائل الفقهية والأصولية الشائكة والمتصدي مبكرا للبحث في المسائل المستحدثة المستجدة في عالم اليوم تلك التي تحتاج إلى بحث وتأصيل فقهي و أصولي لتحديد الموقف الشرعي منها، وقد دون تقريراته تلك سماحة الشهيد السيد عز الدين بحر العلوم في كتابه الموسوم ( بحوث فقهية) من محاضرات أستاذه الشيخ الحلي (قدّس سِرُّه).

7- السيد محمد باقر الصدر(2) المستشهد (عام 1400 ه / (1980م) المرجع المجدد والمؤلف لكتابي: (دروس في علم الأصول) الذي سيأتي الحديث عنه لاحقا، و(الأسس المنطقية للاستقراء) من خلال صياغة مذهب جديد في تفسير كيفية نمو المعرفة البشرية وتوالدها، عبر عن اتجاه آخر في تفسير المعرفة البشرية غير ما كان معروفا بين المذهبين التجريبي والعقلي وهو ما اصطلح عليه بالمذهب الذاتي للمعرفة (3).

8- السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي(4) المتوفى (عام 1413ه / 1992م) المرجع الأعلى في عصره وواضع منهجية تألفت من خصائص متعددة قسم من خلالها المباحث الأصولية أسوة بأستاذه الشيخ النائيني إلى أقسام أربعة:

أولها: ما يثبت الحكم الشرعي بعلم وجداني.

وثانيها : ما يثبت الحكم الشرعي بعلم جعلي تعبّدي وهو يتضمن مباحث الألفاظ

ص: 59


1- ولد في النجف عام (1309 ه / 1891م) حضر الأبحاث العالية في الفقه والأصول على يد أكابر المحققين كالشيخ النائيني والشيخ العراقي وغيرهما كما تخرج على يديه العديد من فطاحل العلماء من أمثال المرجع الأعلى اليوم السيد السيستاني والمرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم وغيرهما من العلماء الأعلام الكثير وقد كان المرجع الأعلى في عصره الإمام السيد محسن الحكيم يجله كثيرا ويبجله جاهد مع من جاهد من العلماء ضد الإحتلال البريطاني للعراق ضمن قاطع البصرة وكان محبا للأدب متواضعا من بعض كتبه: رسالة في معاملة اليانصيب الأوضاع اللفظية وأقسامها
2- من مراجع التقليد في النجف بعد وفاة الإمام الحكيم.ومن المنظرين ورواد الحركة الإسلامية في العراق. ولد في ظل أسرة علمية في الكاظمية ودرس في مدارس منتدى النشر فيها ثم انتقل إلى النجف ليواصل دراسته الحوزوية فيها. جاهد ضد النظام البعثي الطائفي في العراق وأفتى بتحريم الانتماء اليه فاعتقل أكثر من مرة ثم أستشهد مع أخته الفاضلة بنت الهدى. كتب دستورا لدولة إسلامية وأرسله إلى الإمام بعد انتصار الثورة الإسلامية فيها. له العديد من المؤلفات غير ما ما تقدم منها فلسفتنا اقتصادنا. البنك اللاربوي في الإسلام الفتاوى الواضحة بحوث حول الولاية. بحوث حول المهدي. فدك في التاريخ.
3- منهج التاصيل النظري في فكر الإمام الصدر بحث. الأستاذ عبد الجبار الرفاعي. منشور ضمن كتاب: محمد باقر الصدر دراسات في حياته وفكره:144.
4- امتدت مرجعيته بعد وفاة الإمام الحكيم إلى أنحاء العالم في شرق الأرض وغربها. عكف على البحث والتدريس طيلة عمره الشريف منذ عام (1359 - 1412ه / 1940 - 1992م) فتخرج على يديه المئات من الفقهاء والمجتهدين ومراجع التقليد اللاحقين. له تصدى لترشيد الانتفاضة الشعبانية ضد نظام صدام الظالم سنة (1411ه/ 1991م) فتعرض للاعتقال مع العشرات من العلماء والمحققين في حوزة النجف الأشرف جراء موقفه وموقفهم القوي هذا له عدة مؤلفات منها غير ما تقدم البيان في تفسير القرآن.مباني تكملة منهاج الصالحين. أجود التقريرات. مستحدثات المسائل. تكملة منهاج الصالحين المسائل المنتخبة. تعليقة على العروة الوثقى. وغيرها.

وحجية الظواهر.

وثالثها ما يعيّن الوظيفة العملية الشرعية.

ورابعها ما يعيّن الوظيفة العملية بحسب حكم العقل. ثم قال: فهذا كله فهرس المسائل الأصولية وترتيبها الطبيعي(1).

كما ألّف سماحته (قدّس سِرُّه) بين كتاب (معجم رجال الحديث) في أربعة وعشرين مجلدا، وهو المصنف المهم في استيعابه وحسن تبويبه وجدته في الطرح والمعالجة: بما وضع من أسس علمية رصينة في علم الحديث والرواية من جهة وفن علم الرجال وسنن الجرح والتعديل من جهة أخرى وما اضافه من نظام القبول والرفض للروايات وما بينه من توثيق الرواة أو ردّهم وما سجله من عدد الروايات وأماكنها من الكتب ومظاتها في الموسوعات الحديثية(2).

9 - السيد محمد تقي الحكيم(3) المتوفى (عام 1423ه/ 2002م) المفكر المجدد والعميد الثاني لكلية الفقه في النجف الأشرف والمؤلف لكتابي: (الأصول العامة في الفقه المقارن) الرائد والمرجع الأهم في الدراسات الأصولية المقارنة كما سيأتي، و(عبد اللّه بن عباس حياته وآثاره) الكتاب التحليلي لخلفيات ما جرى قبل وبعد وفاة رسول اللّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من تداعيات مؤسفة أدت فيما أدت اليه من خروج على النص..

وهناك عدد كبير من غير هؤلاء العلماء الأعلام والمجتهدين المجددين ممن خرجتهم حوزة النجف الأشرف أصبح غالبيتهم مراجع تقليد للمؤمنين لا يمكنني تبيان أدوارهم وأسمائهم جزاهم اللّه عن الإسلام والمسلمين خيرا وحشرهم بما قدموه لفقه محمد وآل محمد مع محمد وآل محمد في أعلى عليين..

ص: 60


1- ينظر : تطور الدرس الأصولي في مدرسة النجف الأشرف. سابق : 134.
2- أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف. الدكتور الشيخ محمد حسين الصغير : 295.
3- من مجتهدي الحوزة العلمية في النجف ومن أساتذة البحث الخارج فيها. رفض التصدي للمرجعية رغم محاولات العديدين. منظِّر. ومنهجي واديب وشاعر ورائد من رواد الإصلاح في الحوزة النجفية، وعمد من أعمدة منتدى النشر وعميد لكلية الفقه بعد الشيخ المظفر. رائد انفتاح الحوزة العلمية النجفية على الجامعات الإكاديمية، وأول حوزوي منح درجة (الأستاذية) من جامعة بغداد من دون الوصول اليها عبر دراسة نظامية ليلقي المحاضرات على طلبة الدراسات العليا ويشرف ويناقش أطروحات طلاب الدراسات العالية فيها. انتخب عضوا في المجامع العلمية واللغوية العربية في بغداد ومصر وسورية والأردن. رائد في معالجة الأبحاث اللغوية الأصولية بروح لغوية وأبرز تصدى من الأصوليين للبحث المستقل عن المسائل اللغوية الأصولية. له من المؤلفات غير ما تقدم: القوعد العامة في الفقه المقارن. من تجارب الأصوليين في المجالات اللغوية. مالك الأشتر. شاعر العقيدة. التشيع في ندوات القاهرة

هذا وقد استعرض الشيخ محمد مهدي الآصفي(1) الحلقات المتعاقبة لتكامل المنهج العلمي لعلم أصول الفقه خلال هذه الأطوار ابتداء من كتاب (فرائد الأصول) للشيخ الأنصاري إلى كتاب (الأصول العامة للفقه المقارن) للسيد محمد تقي الحكيم في سبع حلقات فكانت كالتالي:

* الحلقة الأولى : منهجية المحقق الشيخ مرتضى الأنصاري (قدّس سِرُّه).

* الحلقة الثانية في المنهجية : تعديل المحقق الشيخ محمد كاظم الخراساني (قدّس سِرُّه).

* الحلقة الثالثة : دور المحقق الشيخ محمد حسين النائيني في التفكيك بين الإمارات والأصول (قدّس سِرُّه).

* الحلقة الرابعة : منهجية المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني (قدّس سِرُّه).

* الحلقة الخامسة : منهجية المحقق السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (قدّس سِرُّه).

* الحلقة السادسة منهجية المحقق السيد محمد باقر الصدر (قدّس سِرُّه).

* الحلقة السابعة وهي الأخيرة منهجية المحقق السيد محمد تقي الحكيم (قدّس سِرُّه).

ثم من من أعقب هؤلاء المصلحين والفقهاء من مراجع التقليد اليوم وزعماء حوزتها العلمية الحالية في النجف الأشرف المتصدين للبحث والتحصيل والعلم ولهموم العراق والأمة في آن واحد الحاضرين في عقول وقلوب وأفئدة المؤمنين دوما بما يغني عن الذكر والتبيان وهم كل من : أصحاب السماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني، والمرجع الديني الكبير السيد محمد سعيد الحكيم، والمرجع الديني الشيخ محمد إسحاق الفياض والمرجع الديني الشيخ بشير النجفي (دام ظلهم)، ثم من أعقبهم من أساتذة البحث الخارج والسطوح العالية المعاصرين في حوزة النجف الأشرف اليوم ممن يرجى لهم التقدم في مضمار البحث العلمي والتحصيل وصولا إلى

ص: 61


1- ينظر: المنهج العلمي لكتاب الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم. بقلم. الشيخ محمد مهدي الآصفي: 131 149

المراتب العالية مستقبلا أخذ اللّه بأيديهم جميعا لما يحبه ويرضاه.

وسأتناول بتفصيل أكثر عصور البحث الفقهي / الأصولي في حوزة النجف الأشرف في كتابي الثاني عن حوزة النجف الأشرف الموسوم (حوزة النجف الأشرف: عصورها العلمية وعلماؤها المعاصرون).

ولا يفوتني وأنا في ختام حديثي عن حوزة النجف الأشرف أن أشير إلى غنى وعمق وثراء وجدة وأصالة ما قدمته الحوزة العلمية في النجف الأشرف في غير مجالي علم الفقه و أصوله من كتب ورسائل وبحوث وتصانيف وآراء ونظريات في مجالات علمية وأدبية عديدة أخرى كالتفسير والحديث والتاريخ والتراجم والسير والفلسفة والحكمة والكلام والأخلاق واللغة والأدب العربي بشعره الغزير ونثره وغير ذلك من المعارف والعلوم الإنسانية الأخرى مما لا يسع المجال للتنويه بها في هذا الموجز قد ساهمت جميعها بشكل فاعل في تقدم البحث المعرفي في حاضرة النجف الأشرف العلمية رغم حملات التصفية والإلغاء والحصار والكبت والتضييق والمطاردة والخنق بما لا يلم بأطرافه كتاب مختصر ككتابي هذا.

إن كل هذا الغنى الفكري والتنوع المعرفي والتراكم العلمي قد ترك بصماته واضحة على حاضر هذه الجامعة العلمية العريقة ومستقبلها الواعد المنتظر.

ص: 62

هوامش الفصل الأول

(1) سورة التوبة: آية 122

(2) الشيخ الطوسي (385 - 460 ه) / (995 1068م) تلميذ الشريف المرتضى وفقيه الشيعة ومتكلمها وشيخها في عصره. درّس في داره بالمحلة المعروفة بمحلة المشراق اليوم في النجف وتوفي ودفن فيها بعد أن تولى غسله وتكفينه ودفنه تلميذه الشيخ الحسن بن مهدي السليقي والسيخ الحسن بن عبد الواحد العين زربي والشيخ اللؤلؤي، وقد حولت داره بعد مدفنه فيها مسجدا يسمى باسمه في الشارع الذي يسمى اليوم باسمه أيضا قرب باب الصحن العلوي المسماة باسمه كذلك. له من الكتب المطبوعة غير ما تقدم كثير منها: التهذيب في 10 أجزاء، والاستبصار في 4 أجزاء والتبيان في تفسير القرآن في 12 جزء، تلخيص الشافي في 4 أجزاء. الفهرست الخلاف المبسوط الاقتصاد. مصباح المجتهد النهاية. الغيبة.

(3) معجم البلدان 2 / 342.

(4) ينظر : تاريخ التشريع الإسلامي د. الشيخ عبد الهادي الفضلي : 403

(5) الدور الأول لجامعة النجف. بحث للشيخ محمد جواد الفقيه. موسوعة النجف الأشرف : 6 / 110

(6) التدريس في النجف. د. الشيخ عبد الهادي الفضلي دائرة المعارف الإسلامية الشيعية سابق 10 / 374.

ص: 63

(7) الشيخ إغا بزرك الطهراني في مقدمة تفسير التبيان.

(8) لسان الميزان 2/ 350

(9) الشيخ إغا بزرك الطهراني في مقدمة تفسير التبيان

(10) تدل كلمات رجال العلم وأهل التاريخ على علو شأنه وسمو مكانه وقد أحيى ذكر أبيه وحاز المرجعية والثقة عند الطائفتين فهو إمام وابن إمام وأبو إمام واستمر العلم والحديث في بيته عشرات من الأعوام، روى عن والده وجماعة من معاصريه وقد روى عنه كثيرون (ينظر : ماضي النجف وحاضرها. سابق: 2 / 474 -475.

(11) شذرات الذهب في أخبار من ذهب. ابن العماد الحنبلي: 4 / 126

(12) سياسي بارز وثائر من كبار الثوار ضد الاحتلال الإنكليزي للعراق سنة (1332 ه / 1914م) وبعدها ومن مشاهير الأدباء والشعراء والمؤرخين العراقيين، ولد في النجف الأشرف وتتلمذ على يد المرجع الشيخ محمد كاظم الخراساني صاحب الكفاية، شغل عدة مناصب تشريعية وتنفيذية متقدمة في البرلمان العراقي والحكومة. من كتبه المطبوعة : مؤرخ العراق ابن الفوطي، ابن خلكان وفن الترجمة أصول ألفاظ اللهجة العراقية، بين مصر والعراق، تراثنا الفلسفي، لهجات الجنوب التربية في الإسلام ديوان شعر كبير.مذكرات مهمة تؤرخ لثورات النجف وثورة العشرين وغيرها نشر قسم منها في دورية عراقية.

(13) محمد بن أبي القاسم الطبري المعروف بعماد الدين الطبري ترعرع في أسرة علمية تضم العلماء و المجتهدين، فوالده أبو القاسم محمد بن علي من علماء الشيعة الكبار وكذلك جده يعد من أعلام الشيعة ووجهائها. كان على قيد الحياة

ص: 64

إلى سنة (553 ه- / 1158م) بدأ دراسته في الحوزة العلمية في مدينة النجف الأشرف فحضر دروس كبار العلماء من أمثال أبي علي الطوسي ابن الشيخ الطوسي و تلقى منهم العلوم والمعارف الإلهية حتى وصل إلى أعلى درجات العلم والاجتهاد ثم شرع بالتدريس وتربية الطلاب من الناحية العلمية و الأخلاقية يأتي في مقدمتهم سعيد بن هبة اللّه الراوندي المعروف بقطب الدين الراوندي ومحمد بن جعفر المشهدي مؤلف كتاب المزار المعروف. من أهم مؤلفاته : بشارة المصطفى صلى اللّه عليه وآله لشيعة المرتضى عليه السلام وهو أشهر كتاب للطبري ويقع في 17 جزءا ولكن الذي وصل إلينا منها 10 أجزاء وضاع الباقي. وله أيضا كتاب الزهد و التقوى. و شرح مسائل الذريعة الذي هو من تأليف السيد المرتضى علم الهدى المتوفى سنة (436ه- / 1044م) وغيرها

(14) محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي المتوفى سنة (598ه/ 1202م) الفقية الجريء الذي استطاع أن يتخطى النظر إلى ما قيل بدلا عن النظر إلى من قال كاسرا هيبة النقد العلمي لآراء الشيخ الطوسي التي بقيت مسيطرة حتى جاء ابن إدريس ففتح باب النقاش العلمي وإن معها مجددا رافضا العمل بخبر الواحد غير المحفوف بالقرينة حاذيا حذو الشيخ المفيد والسيد المرتضى بيد أن مذهب الشيخ الطوسي العامل بخبر الواحد المعتبر وإن لم يكن محفوفا بالقرينة هو المذهب المعتمد عليه إلى اليوم. من أهم كتبه السرائر.

(15) هو الشيخ سديد الدين محمود بن علي بن الحسن الحمصي الحلّي الرازي. كان على قيد الحياة سنة (600 ه / 1204م)، أصولي فقيه ومناظر قوي الحجة والبيان وشاعر وأديب، روى عنه عدد من المشايخ منهم: الشيخ ورّام بن أبي

ص: 65

فراس له مؤلفات كثيرة منها : (المصادر في أصول الفقه)، و(نقض الموجز)، و (التبيين والتنقيح)، و ( بداية الهداية)، و (الأمالي العراقية) و(التعليق الكبير)، و (التعليق الصغير).

(16) ولد سنة (757ه / 1356م) - في الحلة وتتلمذ على يد أكابر العلماء أمثال الشيخ علي بن الخازن الحائري والشيخ أبي الحسن علي بن الشهيد الأول، وروى إجازة وقراءة عن الفاضل المقداد السيوري وابن المتوج البحراني وغيرهما. بقي فترة مدرسا في المدرسة الزينبية في الحلة السيفية، ثم انتقل إلى كربلاء فازدهرت بانتقاله الحركة العلمية فيها، عرفت عنه رياضته وعبادته ومناظراته ومن أهمها تلك التي وقعت في زمان الميرزا أسبند التركماني الذي كان واليا على العراق حيث تصدى ابن فهد لإثبات مذهبه وإبطال مذهب غيره من المناظرين له في مجالس الميرزا التركماني المذكور فغلب جميع علماء العراق، فانتقل الميرزا المذكور إلى مذهبه وجعل السكة والخطبة باسم أمير المؤمنين وأولاده الأئمة الأحد عشر (عَلَيهِم السَّلَامُ) ويبدو أن المناظرة فقدت حيث لم يعثر لها على أثر إلى الآن حسب علمي، تتلمذ على يدي ابن فهد العديد من العلماء أبرزهم الشيخ علي بن هلال الجزائري: وهو من أجلة تلامذته وأستاذ الشيخ الكركي، دفن ابن فهد بكربلاء، وبجنبه شارع باسمه وقبره اليوم مدرسة علمية.

(17) شاع في كتابات العديد من الباحثين الذين أرخوا للحوزة العلمية أنها انتقلت عن مدينة النجف الأشرف إلى غيرها ثم عادت مجددا إلى النجف بيد أن عملية الانتقال هذه والعودة منها إلى النجف ثانية والأدلة التي تساق للتدليل عليها تبدو لي غير مقنعة، فأنا ميّال إلى أن فتورا علميا كان يعتري الحوزة العلمية النجفية لأسباب عديدة مترافقا مع نشاط علمي ملحوظ في حوزات علمية في

ص: 66

مدن أخرى في الفترة نفسها هو ما كان يوحي للباحثين بانتقال الحوزة العلمية عن النجف وعودتها اليها مجددا. ولعلى أوفق للتدليل على ما ذهبت اليه في مجال آخر.

(18) دائرة المعارف الإسلامية الشيعية. السيد حسن الأمين: 371/10-372.

(19) ينظر : مع علماء النجف الأشرف. السيد محمد الغروي 1/ 108. و 1/ 162 و 1/ 176 – 177 و 1 / 195 و 1 / 217 و 1 / 257.

(20) ينظر المصدر السابق: 1/ 349 و 1 / 466 - 1747 و 12 / 49 - 583.

(21) الحسن بن يوسف من كبار علماء الإمامية وبخاصة في الفقه حيث ألف العديد منها ما بين موسع ومتوسط ومختصر أشهرها المختلف والتذكرة والمنتهى والقواعد والتحرير وتبصرة المتعلمين ألف في الفقه المقارن كما فعل الشيخ الطوسي والمحقق الحلي، كان له باع مشهود في علم الأصول حيث ألف فيه كتبا متدرجة من أهمها نهاية الوصول إلى علم الأصول وتهذيب الوصول إلى علم الأصول ومبادئ الوصول إلى علم الأصول، وقد برع إضافة لذلك في العلوم العقلية والفلسفة فناقش معاصره الشهير في العلوم العقلية الشيخ نصير الدين الطوسي بل والرئيس ابن سينا وله في فن المناظرة والجدل وعلم الكلام كتب عديدة. وقد أوصل بعض المحققين تأليفه ورسائله إلى ما أربى على المائة. وقد اشتهر بتشيع السلطان محمد خدابنده على يديه.

(22) توفي في النجف ودفن في الحجرة المتصلة بالرواق في الصحن العلوي الشريف. درس العلوم العقلية بشيراز ثم اقتصر في دراسته على النقليات من أواسط عمره حتى توفي له من الكتب آيات الأحكام. أصول الدين. إثبات الواجب حاشية شرح التجريد. حديقة الشيعة مجمع الفائدة والبرهان في

ص: 67

شرح إرشاد الأذهان وقد يسمى بحاشية الإرشاد أو مجمع الفائدة أو مجمع البرهان وللشيخ هالة قدسية خاصة مكنته من احتلال قلوب المؤمنين وفرضت له احتراما بالغا وتبجيلا في قلوب سلاطين عصره.

(23) ينظر : تاريخ التشريع الإسلامي. الدكتور عبد الهادي الفضلي : 89 وكذلك : تاريخ وتطور الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف العلمية. السيد محمد جعفر الحكيم : 113 وما بعدها.

(24) تاريح وتطور الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف سابق : 115.

(25) المصدر السابق : 115-116.

(26) علي بن الحسين بن موسى، ولد سنة 355 ه تلميذ الشيخ المفيد والمتأثر بمنهجه الفكري. تولى نقابة الطالبيين وإمارة الحاج والمظالم بعد أخيه الشريف الرضي وأبيه. برع في علوم عدة من أهمها الفقه والكلام و أصول الفقه والشعر والأدب، نشّط نوادي العلم وأوقف قرية على تأمين الورق للفقهاء للكتابة والاستنساخ. من مؤلفاته الكثيرة : الانتصار فيما اختلف فيه الإمامية وغيرهم. الذريعة إلى أصول الشيعة في علم أصول الفقه الناصريات رسائل السيد المرتضى. وله ديوان شعر مطبوع.

(27) تقدم التعريف به في متن الكتاب.

(28) يرتفع نسبه إلى مدينة تون قرب مدينة قائن، وهي منطقة في مقاطعة خراسان جنوب شرق مشهد الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، سكن اصفهان أول الأمر ثم استقر في مشهد الإمام الرضا بخراسان ومنها قصد العراق للزيارة. اهم كتبه الوافية: وهو من كتب الأصول المهمة، وقد شرحه السيد صدر الدين القمي المتوفى سنة (1170 ه- / 1757م) ورغم أن هذا الكتاب قد ألف بعد كتاب المعالم

ص: 68

وحوى تقسيما ملفتا للنظر مضيفا فيه جديدا على من سبقه من الأصوليين كالعلامة الحلي والمحقق والطوسي والمرتضى إلّا أنه لم يحظ بالاهتمام بمثل ما حظي به كتاب المعالم. وكان الشيخ زاهدا عابدا، توفي في كرمانشاه ودفن فيها.

(29) مقدمة تحقيق كتاب الوافية في أصول الفقه. السيد محمد حسين الرضوي الكشميري: 27.

(30) ولد بقرية دوان سنة ( 820 ه- / 1417م) وسكن مدينة شيراز وقد استطاع بفضل نبوغه المبكر إلى الترقي في مدارج العلم والحكمة سريعا فنال احترام الأقربين والأبعدين. عين قاضي القضاة في مملكة فارس وجال في البلدان العربية واستوطن النجف الأشرف فترة من الزمن. توفي في مسقط رأسه دوان ودفن بها وقد علت قبره قبة إلى جانبها منارة من كتبه: التوحيد حل مغالطة ابن كمونة. استكاكات الحروف.

(31) لمحة من مسيرة مدرسة النجف الفلسفية. الشيخ عبد الجبار الرفاعي بحث مجلة الفكر الإسلامي. العدد 12 لسنة (1416 ه- / 1995م) ص 139 نقلا عن الضياء اللامع في القرن التاسع للشيخ أغا بزرك الطهراني: 33 والذريعة إلى تصانيف الشيعة له أيضا : 12 / 63.

(32) ينظر : معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام. د. الشيخ محمد هادي الأميني: 2/ 577.

(33) أحد أبرز اساتذة الفلسفة والحكمة في النجف في القرن العاشر و أستاذ صاحب المعالم وصاحب المدارك في المعقول من اشهر كتبه العديدة كتاب (حاشية ملاعبد اللّه) على كتاب التهذيب في علم المنطق للتفتازاني الذي انتهى من تأليفه في سنة (967 ه- / 1560م) جوار الحضرة العلوية المشرفة، فقد

ص: 69

استحوذ هذا المؤلف على حلقات درس هذا العلم وتدريسه في حوزة النجف والحوزات العلمية الأخرى منذ عصر مؤلفه واشتهاره وحتى ظهور وانتشار كتاب المنطق للشيخ محمد رضا المظفر له من المؤلفات الأخرى: حاشية على شرح الشمسية، حاشية على مبحث الجواهر من شرح التجريد و شرح العجالة وهو حاشية حاشية الدواني.

(34) مجتهد معروف بالفضل والعلم والتقوى والزهد والورع حتى لقب بالمقدس، قرأ العلوم الشرعية على أكابر علماء عصره وقرأ العلوم العقلية على يد المولى جمال الدين محمود تلميذ جلال الدين الدواني المعروف بالدقة العقلية، تخرج على يديه العديد من العلماء والباحثين وقد اقتصر في أواسط عمره على النقليات إلى أن توفى بعد أن عزف عن العلوم العقلية التي برع فيها قبل ذلك.توفي في النجف الأشرف ودفن بالرواق العلوي المطهر. له من التصانيف: غير ما تقدم: أصول الدين استيناس المعنوية، حاشية شرح التجريد للقوشجي، حديقة الشيعة، حاشية شرح مختصر الأصول، الخراجية، وغيرها.

(35) ولد الشيخ في الجزائر وهي ناحية قرب محافظة البصرة ونشأ نشأة علمية في النجف الأشرف حيث تلقى علومه على أبرز علمائها وفقهائها ومدرسيها ثم توجه إلى كربلاء المقدسة ليعيش فيها بقية عمره الشريف عرف باهتمامه الكبير بعلم الرجال والحديث والفقه. له من الكتب إضافة لما تقدم مؤلفات في الفقه والعقائد والحديث.

(36) كتابة التاريخ في النجف في العصر العثماني. د. عماد عبد السلام رؤوف. بحث ضمن بحوث كتاب مدرسة النجف الأشرف ودورها في إثراء المعارف الإسلامية: 144. من تلاميذ المقدس الأردبيلي ومن أسرة علمية معروفة فقد

ص: 70

كان والده من أكابر العلماء كذلك. تصدى الأمير فيض اللّه للتدريس فتخرج على يديه ثلة من العلماء والفقهاء،والمتكلمين حاز قصب السبق في علوم عديدة في مقدمتها الفقه والحكمة وعرف بالصلاح والتقوى ولين العريكة ودماثة الخلق والسبق إلى الفضيلة له من الكتب غير ما تقدم: حاشية المختلف، فوائد متفرقة في تحقيق مسائل أصول الفقه، أصول الأحوال القمرية في شرح الإثني عشرية وغيرها..

(37) من تلاميذ المقدس الأردبيلي ومن أسرة علمية معروفة فقد كان والده من أكابر العلماء كذلك. تصدى الأمير فيض اللّه للتدريس فتخرج على يديه ثلة من العلماء والفقهاء،والمتكلمين حاز قصب السبق في علوم عديدة في مقدمتها الفقه والحكمة وعرف بالصلاح والتقوى ولين العريكة ودماثة الخلق والسبق إلى الفضيلة له من الكتب غير مكا تقدم: حاشية المختلف، فوائد متفرقة في تحقيق مسائل أصول الفقه، أصول الأحوال القمرية في شرح الإثني عشرية وغيرها.

(38) ينتهي نسبه إلى الحسن المثنى ابن الإمام السبط الحسن بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ). جد الأسرة العلمية (آل الحكيم) وكان معروفا بالعلم والحكمة والفضل والموسوعية إلا أنه تميز بعلم الطب والأدوية وتمرس بهما فطارت شهرته في البلدان فاختير طبيبا خاصا للشاه عباس الصفوي، وحين غادر الشاه عباس النجف الأشرف بعد زيارته لها بقي السيد علي الحكيم في النجف الأشرف يعالج مرضى المدينة المقدسة حتى توفي فيها ودفن في ترابها الطاهر.

(39) من الفقهاء والمجتهدين العاملين عني بالحديث والرجال واللغة والشعر إضافة إلى الفقه و أصوله وعرف بالزهد والعبادة. ويعد كتابه مجمع البحرين ومطلع

ص: 71

النيرين من الكتب الفريدة في بابها، ويقع في 5 أجزاء، وله من الكتب المطبوعة غيره من أهمها : جامع المقال فيما يتعلق بأحوال الحديث والرجال. وضوابط الأسماء. ومنتخب المراثي والخطب ونزهة الخاطر وسرور الناظر وتحفة الحاضر. وله العديد من المخطوطات التي لم تطبع. توفي عن مكتبة عامرة فقد الكثير من كتبها المخطوطة والمطبوعة بعد وفاته.

(40) ماضي النجف وحاضرها. سابق : 2/ 456. وينظر : كتابة التاريخ في النجف في العصر العثماني : سابق : 145 - 147

(41) من كبار تلامذة السيد صاحب المدارك والشيخ البهائي والشيخ حسن صاحب المعالم، ومن أهل الفضيلة والعلم والتحقيق المعروفين في عصره سافر سنة 1004ه إلى المشعشعيين ليحيطهم علما بمذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) من مؤلفاته الأخرى عدا ما ذكر: جامع الأخبار في أيضاح الاستبصار، وكتاب في علم المنطق، وحاشية على كتاب معالم الدين ورسالة صغيرة في مسألة الاجتهاد والتقليد.

(42) ماضي النجف وحاضرها. سابق : 3 / 321.

(43) من علماء الأنساب المشهورين بالإحاطة والدقة، تولى أمر خزانة المكتبة الحيدرية في النجف الأشرف فعمل على تنظيمها وترتيبها وصيانتها وحفظها كما استفاد بدوره من غناها بالكتب العلمية وبخاصة التاريخية منها.

(44) من الفقهاء المحقّقين والمحدثين، كتب له العلامة المجلسي إجازتين، كتب في علوم عديدة منها: التفسير والفقه والرجال وعلم الكلام و أصول الفقه وغيرها فأجاد فيها، له من الكتب غير ما تقدم: مرآة الأنوار في التفسير. الصحيفة السجادية. شرح على كفاية السبزواري. شريعة الشيعة: وهو شرح على

ص: 72

مفاتيح الملا محسن الفيض رسالة في حقيقة مذهب الإمامية وبيان أساسه. وغيرها.

(45) يقول الشيخ محبوبة : توجد نسخة نفيسة تمتاز بالضبط والإتقان عند الشيخ محمد حسن ابن الشيخ محسن الجواهري (ماضي النجف وحاضرها. سابق : 3 / 46)

(46) من الفقهاء والمحققين ومن أساتذة الحديث والتفسير في حوزة النجف الأشرف ويعد من مشايخ الإجازة المعروفين. جمع في حياته مكتبة عامرة بالمخطوطات النادرة تفرقت بعد وفاته بين ورثتهم ولم يعد لها أثر.له العديد من المؤلفات غير ما تقدم منها : ارتداد الزوجة. شرح تهذيب العلامة الحلي. آداب المناظرة.

(47) أديب شاعر وكاتب من معاصري السيد نصر اللّه الحائري وقد مدحه معاصره الشيخ أحمد النحوي بقصيدة له من الكتب: بحر الأنساب، وشرح نهج البلاغة، والريحانة في النحو، وديوان شعر وغيرها.

(48) ولد الشيخ النراقي في حدود عام (1128 ه / 1716م) في مدينة نراق وهاجر إلى العراق فتلقى علومه على عدد من العلماء في مقدمتهم الوحيد البهبهاني. ثم رجع إلى كاشان فكتب فيها كتابه (جامع الأفكار وناقد الأنظار) في الفلسفة ثم هاجر إلى العراق ثانية ليتوفى في النجف الأشرف وليدفن خلف الحرم العلوي المطهر.

(49) من أبرز مراجع التقليد في القرن الثالث عشر. عدت مرجعيته الدينية نقطة انعطاف في تطور الحوزة العلمية في النجف فقد انتجت دراسته التحليلية للرجال والحديث تصحيح الكثير من الروايات التي كانت فيما بعد أساسا أدى إلى تحول واضح في مجال الاستنباط خلق روحا جديدة فيه أدت فيما بعد

ص: 73

إلى ما أدت اليه بعده والى اليوم وفيما بعد من ثمار غاية في الأهمية في مستقبل حوزة النجف. درّس المعالم عشرين دورة وكان يدون حاشية جديدة في كل مرة. يقول محمد حسين الكرهرودي: شاهدت في مدينة بروجورد 19 نوعا منها. من مؤلفاته الاجتهاد والأخبار. شرح مفاتيح الفيض. حاشية على المعالم. دفن في الرواق الحسيني من حضرة الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في كربلاء المقدسة بعد أن عمّر قرابة المائة عام.

(50) من أبرز مراجع التقليد في القرن الثالث عشر. عدت مرجعيته الدينية نقطة انعطاف في تطور الحوزة العلمية في النجف فقد انتجت دراسته التحليلية للرجال والحديث تصحيح الكثير من الروايات التي كانت فيما بعد أساسا أدى إلى تحول واضح في مجال الاستنباط خلق روحا جديدة فيه أدت فيما بعد إلى ما أدت اليه بعده والى اليوم وفيما بعد من ثمار غاية في الأهمية في مستقبل حوزة النجف. درّس المعالم عشرين دورة وكان يدون حاشية جديدة في كل مرة. يقول محمد حسين الكرهرودي: شاهدت في مدينة بروجورد 19 نوعا منها. من مؤلفاته: الاجتهاد والأخبار. شرح مفاتيح الفيض حاشية على المعالم. دفن في الرواق الحسيني من حضرة الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في كربلاء المقدسة بعد أن عمّر قرابة المائة عام.

(51) تطور الدرس الأصولي في مدرسة النجف الأشرف. السيد منذر الحكيم. بحث مجلة الفكر الإسلامي : العدد 16/ 117.116.

(52) ينظر: مقدمة الشيخ محمد مهدي الآصفي الواسعة لكتاب الفوائد الحائرية الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي في قم المقدسة المعنونة دور الوحيد البهبهاني في «تجديد علم الأصول».

ص: 74

(53) يرتفع نسبه إلى السيد إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى ابن الإمام الحسن السبط (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابن الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ).من كبار الفقهاء والمجتهدين المحققين لقب ببحر العلوم لغزارة علمه وعمق تفقهه في علوم الشريعة. له العديد من المؤلفات غير ما تقدم منها: الدرة النجفية. ومشكاة الهداية تحفة الكرام. الفرق والملل. شرح باب الحقيقة والمجاز. وله أيضا ديوان شعر كبير.

(54) في الأدب النجفي قضايا ورجال. محمد رضا القاموسي: 155-156.

(55) من زعماء الحوزة العلمية المشهورين الذين امتدت زعامتهم الدينية إلى الأقطار المختلفة. ولد في النجف الأشرف وتوفي فيها. دافع عن مدينة النجف الأشرف دفاعا مستميتا ضد الغزاة وكانت داره مشجبا للأسلحة وثكنة للجنود والمتطوعين ضد غارات الوهابيين التي حاولت مرارا اقتحام النجف والفتك بها وبأهلها، فأعد العدة للدفاع بحمل أهل العلم والنجفيين على التدريب على حمل السلاح، وقد باشر ذلك بنفسه ومعه أولاده. له العديد الكتب من غير ما تقدم منها : منهج الرشاد لمن أراد السداد في الرد على الوهابية جوابا على رسالة وردته من الأمير الشيخ عبد العزيز بن سعود أمير آل سعود في دولتهم الأولى والمتوفى سنة (1179 ه/ 1765م). إثبات الفرقة الناجية من بين الفرق الإسلامية. بغية الطالب في معرفة المفروض والواجب. أحكام الأموات. العقائد الجعفرية. غاية المأمول في علم الأصول. مشكاة المصابيح. مناسك الحج.

(56) مرجعية التقليد 3. محمد إبراهيم جناتي دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعية المجلد: 10 / 133.

ص: 75

(57) العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية. الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء: 57

(58) من طلاب المجتهدين الكبيرين الوحيد البهبهاني المتقدم ذكره والشيخ يوسف البحراني صاحب كتاب الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة. جمع فأحسن الجمع بين الفقه و أصوله والأدب والشعر. طبع له ديوانا شعر رائق.

(59) من طلاب الشيخ الوحيد البهبهاني بذل جهودا كبيرة في تطوير البحوث الاجتهادية وتميز بذاكرة قوية وشجاعة في صد هجمات الوهابيين واصدر رسالة في ذلك.له من الكتب غير ما تقدم شرح لوافية الأصول للفاضل التوني. حاشية على تهذيب الأصول للعلامة الحلي. تعليقة على كتاب معالم الأصول.

(60) أصولي بارع غير أنه مقل في التصنيف. عرف بشدة ذكائه وسعة علمه وكثرة تتبعه حتى عده البعض من نوابغ الحوزة. من خيار تلامذته: الشيخ علي كاشف الغطاء أستاذ الشيخ مرتضى الأنصاري.

(61) من خريجي مدرسة الوحيد البهبهاني أيضا. تخرج على يديه العديد من الفقهاء. نال قسطا من المرجعية بعد وفاة خاله الوحيد البهبهاني. ترك ثروة علمية كبيرة من الكتب والمؤلفات أحصى السيد محسن الأمين منها في كتابه القيم أعيان الشيعة 19 مؤلفا اشهرها كتابه رياض المسائل المتقدم ذكره. دفن في مشهد الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) إلى جوار خاله الوحيد البهبهاني.

(62) من كبار مشاهير الفقهاء والمجددين في أبحاث الفقه عند الإمامية وصاحب التقسيم الرباعي لعلم الفقه حيث بوب علم الفقه إلى: العبادات والعقود والإيقاعات والأحكام كما سعى إلى تجديد تبني طريقة الشيخ الطوسي بعد

ص: 76

أن تعرضت للنقد على يد ابن إدريس الحلي. تولى الزعامة العلمية والدينية للشيعة الإمامية في الحلة الفيحاء حاضرة الحوزة العلمية في عصره له من الكتب الكثير من أهمها عدا المختصر النافع الذي أشرت اليه في المتن كتاب: شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام والمعتبر ومعارج الأصول ونهج الوصول إلى معرفة الأصول ونكت النهاية.

(63) تاريخ وتطور الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف العلمية. سابق : 124

(64) من وجوه تلاميذ الوحيد البهبهاني أيضا والمقصود بدليل الانسداد الذي تبناه في كتابه القوانين هو : حكم العقل بلزوم العمل بالظن في الأحكام الشرعية معتمدا على مقدمات ساقها في كتابه بيد أن المحققين وفي مقدمتهم الشيخ الأنصاري ناقشوه وفندوه.

(65) من طلاب مدرسة الوحيد البهبهاني والمعروفين بالتحقيق في مضمار علم الأصول. اشتهر بحسن بيانه وإعداده لدروسه ومحاضراته في الفقه. من أشهر تلامذته السيد عبد اللّه شبر. والشيخ محمد تقي الأصفهاني وغيرهم

(66) من المحققين البارعين في علم الأصول أيضا ومن طلاب السيد محسن الأعرجي والسيد محمد مهدي بحر العلوم وغيرهما. كان مقررا لبحوث السيد بحر العلوم. خصه الشيخ جعفر كاشف الغطاء بعلاقة خاصة حيث زوجه ابنته. عاد من النجف إلى أصفهان فكان أستاذها الأكبر في عصره.

(67) مرجعية التقليد / 3 سابق : 136.

(68) ولد في النجف الأشرف وتلقى علومه فيها على يد السيد بحر العلوم حتى بلغ مرتبة الاجتهاد وهو دون الخامسة والعشرين من العمر وصنف بعض كتبه وهو دون هذه السن ويعد في علمه من طبقة الشيخ محسن الأعسم والشيخ علي

ص: 77

آل كاشف الغطاء له غي ما تقدم من الكتب الدلائل في الفقه ورسالة في الأراضي الخراجية، دفن في داره في محلة العمارة وكان الناس يزورون مرقده لقراءة الفاتحة والترحم عليه قبل تهديم دور العلماء وآثارهم ومدارس الحوزات العلمية ومكتباتها القيمة زمن النظام الصدامي البائد.

(69) ماضي النجف وحاضرها : 3/ 225 226.

(70) من كبار علماء حوزة النجف الأشرف في القرن الثالث عشر ومدرسى حوزتها العلمية المعروفين. عرف بالزهد والتواضع وسلامة الباطن حتى عرف بأنه صاحب سر السيد محمد مهدي بحر العلوم (الكرام البررة: 2/ 494) وقد توفي عن عمر ناهز الثمانين عاما ودفن في النجف الأشرف وكان قبره مزارا لذوي الحاجات والطلبات يقصدونه للتبرك والزيارة والسلام حتى أزاله النظام البائد مع ما أزال من المساجد والحسينيات والمدارس العلمية وبيوت المراجع والعلماء.

(71) من المحققين البارعين في علم الأصول. تلقى دروسه العليا في حوزة النجف الأشرف على يد أفاضل أساتذتها المحققين. خص صاحب الكفاية مباحث كتابه الفصول بالمناقشة والنقد وبخاصة ما يتعلق منها بمباحث الألفاظ. سافر إلى أصفهان بعد ذلك. وأكب على الدرس والتحصيل والتدريس فيها أيضا.

(72) أحد أنجال الشيج جعفر آل كاشف الغطاء المتقدم ذكره، وأحد أكابر الفقهاء ومراجع التقليد في النجف الأشرف بعد وفاة والده الشيخ المرجع، ولد سنة (1201 ه / 1787م) وتولى تدريس بحث الخارج في بيته العامر اقام فترة في الحلة الفيحاء ثم هاجر إلى النجف الأشرف فكان مرجعا للتقليد ومصلحا

ص: 78

استطاع بحزمه رد کید نجيب باشا السفاك الذي استباح دماء أهالي كربلاء الطاهرة حتى عدت واقعته بأهل الطف الواقعة الثانية بعد واقعة كربلاء الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) كما استطاع الشيخ المرجع إخماد نار الفتنة بين قبيلتي الشمرت والزكرت التي اشتعلت وأشعلت النجف معها وقد تخرج على يديه جملة من العلماء منهم السيد مهدي القزويني والشيخ الأنصاري والشيخ مشكور الحولاوي. من مؤلفاته الأخرى: رسالة في الإمامة. كتاب في الزكاة وغيرها.

(73) ولد في النجف الأشرف سنة (1201 ه / 1788م) واجتهد في الفروع والأصول مشيدا لما بناه أسلافه من والده والسابقين. وقد امتاز بتعبيره الجميل وبيانه،الحسن، تضلع في الفقه والأصول وهو دون العشرين من سني عمره ما لفت نظر الفقيه السيد جواد صاحب مفتاح الكرامة في إجازته التي منحها إياه حيث قال فيها ولعمر اللّه لإن بقي على هذا الحال من الجد والاشتغال الضربت اليه أعناق الفحول من الرجال. كيف لا وقد بلغ قبل العشرين مبالغ قد تقاصر عنها من بلغ الثمانين (ماضي النجف وحاضرها : 3/ 227).

(74) ماضي النجف وحاضرها. سابق : 3 / 227.

(75) من أكابر فقهاء الشيعة في القرن الثالث عشر. انتهت اليه المرجعية العليا داخل العراق وخارجه وتخرج على يديه العديد من الفقهاء والباحثين وفي مقدمتهم أبناؤه وأهل بيته. له من من الكتب غير ما تقدم : نجاة العباد. هداية الناسكين. رسالة في المواريث.

(76) ماضي النجف وحاضرها. سابق : 3 / 221 وما بعدها.

(77) تاريخ وتطور الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف العلمية. سابق:126

(78)96 جواهر الكلام في ثوبه الجديد. الشيخ خالد الغفوري. مجلة فقه أهل

ص: 79

البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ). العدد 18. السنة الخامسة. دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقا لمذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) قم. إيران. (1421 ه- / 2000م). ص: 183. ومعجم فقه الجواهر وجواهر الكلام في ثوبه الجديد من إصدار دائرة معارف الفقه الإسلامي.

(79) من كبار الفقهاء المجددين في علمي الفقه والأصول ومن المعروفين بالزهد والعبادة، مرجع من كبار مراجع الشيعة في العراق وخارجه في وقته. ومن كبار مجددي علمي الأصول والفقه في القرن الثالث عشر. تتلمذ على يديه العديد من الفقهاء والأصوليين الذين كان لهم دور مشهود في تطوير منهجه العلمي في الفقه والأصول. له من الكتب 29 كتابا أو تزيد، منها من غير ما تقدم إثبات التسامح في أدلة السنن رسالة في الإرث. التقية. الخمس. الزكاة. الصلاة. تقليد الميت. حاشية القوانين الاستصحاب. قاعدة لا ضرر ولا ضرار. مناسك الحج. حاشية نجاة العباد. قاعدة من ملك شيئا. وغيرها.

(80) من مقدمة كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري. بقلم الشيخ محمد علي الأنصاري. من تراث الشيخ الأنصاري. إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم: 1/ 16.

(81) المنهج العلمي لكتاب الأصول العامة للفقه المقارن. سابق: 128- 129

(82) من كبار علماء الحوزة النجفية المحققين وأساتذتها وزعيم الحركة الدستورية في النجف الأشرف والمدافع القوي عن أنصارها في تركيا وإيران برسائله وكتبه إلى السلاطين والحكام من جهة والى العلماء يدعم موقفهم منها من جهة ثانية، عمر مجلس بحثه بمئات الباحثين والطلاب والمجتهدين، وكان حسن البيان قوي الحجة. صلبا شجاعا. مهابا. درس على الشيخ مرتضى

ص: 80

الأنصاري والشيخ راضي. تميزت مدرسته الأصولية بالإيجاز والتهذيب، كان في مقدمة مناهضي دعاة الاستبداد، ومن الداعين بحزم إلى الجهاد ضد الغزاة. عزم على السفر إلى خارج العراق للمشاركة في الجهاد إلا أنه توفي فجأة بمعسكره بأسباب غامضة..

(83) أعيان الشيعة. السيد محسن الأمين: 9 / 5-6.

(84) مقدمة كتاب كفاية الأصول للشيخ الآخوند الخراساني. السيد جواد الشهرستاني : 26.

(85) سليل أسرة معروفة في بلده وهو ابن شيخ الإسلام فيها. من أكابر المحققين في الأصول، والأخلاق والفلسفة والحكمة و من أئمة التقليد والفتيا والمرجعية في النجف الأشرف ومن مشاهير اساتذة بحث الخارج فيها. ومن الجيدين إطلاعا على آداب وشعر شعراء اللغتين العربية والفارسية، إضافة لإجادته الكتابة باللغتين العربية والفارسية. إنشاء وخطا. درس عند الشيخ الآخوند الخراساني زعيم الحركة الدستورية وكان من خاصته وخلص أنصاره.، وساهم في أكثر الحركات الإصلاحية في عصره، تبنى الدعوة، بل التنظير ضد الاستبداد داعما تقييد صلاحية الحكام بشروط محددة ودساتير وقوانين لا يسمح لهم بتجاوزها، وقد أودع نظرياته التنويرية تلك في كتابه القيم: (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) المؤلف سنة (1327 ه / 1909م) وهو كتاب رائد في بابه قياسا بزمن تألفه،وقد حضي باهتمام متزايد بعد تأليفه بعقود من قبل المفكرين المحدثين لسبق تنظيره وعمق مطالبه ومبانيه في طرح مسائل حديثة في الفقه الدستوري من وجهة نظر إسلامية معاصرة، له من الكتب غير ما تقدم: رسالة في المعاني الحرفية. حاشية على العروة الوثقى. حاشية نجاة العباد.

ص: 81

رسالة في التزاحم والترتيب، سؤال وجواب عن الأسئلة التي وردته وأجاب عليها وغيرها

(86) ينظر : ابتكارات الأستاذ الإمام الميرزا النائيني (قدّس سِرُّه) في علم الأصول. د. الشيخ محمد حسين الصغير. بحث ضمن بحوث : مدرسة النجف الأشرف ودورها في إثراء المعارف الإسلامية كلية الفقه 187

(87) تطور البحث الأصولي في مدرسة النجف الأشرف. سابق : 130.

(88) طبقات أعلام الشيعة، نقباء البشر في القرن الرابع عشر. الشيخ أغا بزرك الطهراني. 2/ 594

(89) من أكابر المحققين في الأصول، و من أئمة التقليد والفتيا والمرجعية في النجف الأشرف. درس عند الشيخ الآخوند الخراساني والسيد محمد كاظم اليزدي وشيخ الشريعة الأصفهاني وكان زاهدا، له من الكتب: بدائع الأفكار في الأصول. مقالات الأصول. روائع الأمالي في فروع العلم الإجمالي. حاشية موسعة على العروة الوثقى. شرح التبصرة. استصحاب العدم الأزلي. حاشية جواهر الكلام. وغيرها

(90) من أكابر المحققين في الأصول والفلسفة، ومن أساتذة البحث المشهورين ببراعتهم في علوم عدة إضافة إلى الفقه و أصوله كالتاريخ والتفسير والعرفان والأدب. وقد نظم الشعر باللغتين العربية والفارسية درس عند الشيخ الآخوند الخراساني وغيره. له آراء خاصة تتميز بالعمق والجدة والدقة في أصول الفقه والحكمة والعرفان من مؤلفاته: الأنوار القدسية. الحقيقة الشرعية. الطلب والإرادة. نهاية الدراية في شرح الكفاية.

(91) الشيخ محمد رضا المظفر، نقلا عن تطور الدرس الأصولي في مدرسة النجف

ص: 82

الأشرف. سابق: 133.

(92) من مقالات الأصول للمحقق الشيخ ضياء الدين العراقي. بقلم الشيخ محمد مهدي الآصفي: 20/1.

(93) ولد سنة (1247 ه / 1831م) وحضر الأبحاث العالية على يد الشيخ مهدي كاشف الغطاء والشيخ راضي النجفي وغيرهما ثم استقل بالتدريس فتخرج على يدية عدد كبير من علماء الحوزة العلمية ومجتهديها. أفتى بالجهاد ضد التدخل الإيطالي في ليبيا وكذلك ضد الاحتلالين البريطاني لجنوب إيران والروسي لشمالها وله مواقف مشهودة ضد الاحتلال البريطاني للعراق وفي قيادة حركة المقاومة ضد الهجوم الإنكليزي على النجف الأشرف. أسس مدرسة علمية من أهم مدارس النجف الأشرف من حيث السعة وجمال العمارة له كتب عديدة منها غير ما ذكر حاشية على المكاسب الصحيفة الفاطمية رسالة في التعادل والتراجيح وغيرها.

(94) ولد سنة (1284 ه / 1867م) وأكمل دراسته العالية على يد الشيخ حبيب اللّه الرشتي والشيخ محمد كاظم الخراساني وغيرهما من المراجع والعلماء تخرج على يديه المئات من الفقهاء والمحصلين يأتي في مقدمتهم مراجع التقليد: أصحاب السماحة السيد محسن الحكيم والسيد محمد هادي الميلاني والشيخ محمد تقي بهجت والسيد عبد اللّه الشيرازي (قدس اللّه أسرارهم) وغيرهم له من المؤلفات ( وسيلة النجاة) و (حاشية على العروة الوثقى) و (شرح كفاية الأصول) وغيرها

(95) ولد في النجف الأشرف عام 1294 ه / 1877م) تتلمذ على يد الشيخ محمد كاظم الخراساني والسيد محمد كاظم اليزدي والشيخ أغا رضا الهمداني

ص: 83

وغيرهم من فطاحل العلماء وقد انقادت له الخطابة والبلاغة كانقياد العلم والتحقيق فحضر العديد من المؤتمرات الإسلامية في فلسطين ومصر والشام والهند وباكستان أشهرها المؤتمر الإسلامي العربي في القدس سنة(1350 ه/1931م) فقدمه الحاضرون للصلاة إماما في المسجد الأقصى الشريف حيث ألقى خطبته العصماء فيه شارك في الجهاد ضد الإنكليز استجابة لدعوة المجتهد السيد محمد سعيد الحبوبي (قدّس سِرُّه) كما كان له القدح المعلى في المطالبة بحقوق الشيعة المضطهدين في عصره. أسس مدرسة علمية حاول فيها تنظيم الدراسة الدينية كما سيأتي له من الكتب الكثير منها أصل الشيعة و أصولها الآيات البينات التعليق على ديوان السيد محمد سعيد الحبوبي

(96) من أسرة عرفت في أواسط القرن الثاني عشر الهجري بالعلم فكان أبوه وأخواه وهو من المجتهدين. تضلع بالأصول والفلسفة والعقائد والأدب. أحد أعضاء جماعة العلماء التي تصدت بمباركة المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم لمقاومة الانحرافات الفكرية والسياسية في العراق فأبلت بلاء حسنا. من رواد الاصلاح الكبار العاملين في الحوزة العلمية النجفية. أسس مع إخوانه جمعية منتدى النشر وتولى رئاستها. ثم كلية الفقه في النجف وتولى عمادتها. انتخب عضوا في المجمع العلمي العراقي. أديب رائع وشاعر مجيد ولغوي مميز و أصولي وفيلسوف. غزير النتاج. له من المؤلفات غير ما تقدم: السقيفة. محاضرات في الفلسفة. كتاب في تفسير القرآن كتاب في المواريث. مذكراته الشخصية. ديوان شعر.

(97) من أسرة علمية معروفة. يرتفع نسبها إلى السيد إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى ابن الإمام الحسن السبط (عَلَيهِ السَّلَامُ) ابن الإمام

ص: 84

علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ). توفي والده وهو ابن ست سنوات. جاهد مع المرجع السيد محمد سعيد الحبوبي ضد الإنكليز خلال غزوه للعراق سنة (1332 ه / 1914م) وكان ساعده الأيمن في ساحة المعركة امتدت مرجعيته إلى أنحاء العالم في شرق الأرض وغربها. كان له حضور فعلي في الشأن الاجتماعي السياسي في العراق والعالم الإسلامي. قاوم الأفكار المنحرفة والحكومات الطائفية في العراق بضراوة فاستشهد له من أبنائه وأحفاده وأسرته العشرات. له عدة مؤلفات منها غير ما تقدم حقائق الأصول. نهج الفقاهة. منهاج الصالحين. دليل الناسك.

(98) أدوار الفقه الإسلامي الشيعي. الشيخ محمد إبراهيم الجنّاتي. بحث مجلة الفكر الإسلامي. العدد الثامن من السنة الثانية (1415ه / 1994م): 132 -133.

(99) ولد في النجف عام (1309 ه / 1891م) حضر الأبحاث العالية في الفقه والأصول على يد أكابر المحققين كالشيخ النائيني والشيخ العراقي وغيرهما كما تخرج على يديه العديد من فطاحل العلماء من أمثال المرجع الأعلى اليوم السيد السيستاني والمرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم وغيرهما من العلماء الأعلام الكثير وقد كان المرجع الأعلى في عصره الإمام السيد محسن الحكيم يجله كثيرا ويبجله جاهد مع من جاهد من العلماء ضد الإحتلال البريطاني للعراق ضمن قاطع البصرة وكان محبا للأدب متواضعا من بعض كتبه: رسالة في معاملة اليانصيب الأوضاع اللفظية وأقسامها

(100) من مراجع التقليد في النجف بعد وفاة الإمام الحكيم.ومن المنظرين ورواد الحركة الإسلامية في العراق. ولد في ظل أسرة علمية في الكاظمية ودرس

ص: 85

في مدارس منتدى النشر فيها ثم انتقل إلى النجف ليواصل دراسته الحوزوية فيها. جاهد ضد النظام البعثي الطائفي في العراق وأفتى بتحريم الانتماء اليه فاعتقل أكثر من مرة ثم أستشهد مع أخته الفاضلة بنت الهدى. كتب دستورا لدولة إسلامية وأرسله إلى الإمام بعد انتصار الثورة الإسلامية فيها. له العديد من المؤلفات غير ما ما تقدم منها فلسفتنا اقتصادنا. البنك اللاربوي في الإسلام الفتاوى الواضحة بحوث حول الولاية. بحوث حول المهدي. فدك في التاريخ.

(101)منهج التاصيل النظري في فكر الإمام الصدر بحث. الأستاذ عبد الجبار الرفاعي. منشور ضمن كتاب: محمد باقر الصدر دراسات في حياته وفكره:144.

(102) امتدت مرجعيته بعد وفاة الإمام الحكيم إلى أنحاء العالم في شرق الأرض وغربها. عكف على البحث والتدريس طيلة عمره الشريف منذ عام (1359 - 1412ه / 1940 - 1992م) فتخرج على يديه المئات من الفقهاء والمجتهدين ومراجع التقليد اللاحقين. له تصدى لترشيد الانتفاضة الشعبانية ضد نظام صدام الظالم سنة (1411ه/ 1991م) فتعرض للاعتقال مع العشرات من العلماء والمحققين في حوزة النجف الأشرف جراء موقفه وموقفهم القوي هذا له عدة مؤلفات منها غير ما تقدم البيان في تفسير القرآن.مباني تكملة منهاج الصالحين. أجود التقريرات. مستحدثات المسائل. تكملة منهاج الصالحين المسائل المنتخبة. تعليقة على العروة الوثقى. وغيرها.

(103) ينظر : تطور الدرس الأصولي في مدرسة النجف الأشرف. سابق : 134.

(104) أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف. الدكتور الشيخ محمد حسين

ص: 86

الصغير : 295.

(105) من مجتهدي الحوزة العلمية في النجف ومن أساتذة البحث الخارج فيها. رفض التصدي للمرجعية رغم محاولات العديدين. منظِّر. ومنهجي واديب وشاعر ورائد من رواد الإصلاح في الحوزة النجفية، وعمد من أعمدة منتدى النشر وعميد لكلية الفقه بعد الشيخ المظفر. رائد انفتاح الحوزة العلمية النجفية على الجامعات الإكاديمية، وأول حوزوي منح درجة (الأستاذية) من جامعة بغداد من دون الوصول اليها عبر دراسة نظامية ليلقي المحاضرات على طلبة الدراسات العليا ويشرف ويناقش أطروحات طلاب الدراسات العالية فيها. انتخب عضوا في المجامع العلمية واللغوية العربية في بغداد ومصر وسورية والأردن. رائد في معالجة الأبحاث اللغوية الأصولية بروح لغوية وأبرز تصدى من الأصوليين للبحث المستقل عن المسائل اللغوية الأصولية. له من المؤلفات غير ما تقدم: القوعد العامة في الفقه المقارن. من تجارب الأصوليين في المجالات اللغوية. مالك الأشتر. شاعر العقيدة. التشيع في ندوات القاهرة

(106) ينظر: المنهج العلمي لكتاب الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم. بقلم. الشيخ محمد مهدي الآصفي:131 149

ص: 87

ص: 88

الفصل الثاني

إشارة:

مرحلتا المقدمات والسطوح

كتبهما الدراسية وطريقة تدريسها

يتضمن هذا الفصل تمهيدا يتناول تعداد مراحل الدراسة في الحوزة وثلاثة مباحث:

المبحث الأول : مرحلة المقدمات وكتبها المعتمدة.

المبحث الثاني: مرحلة السطوح وكتبها المعتمدة.

المبحث الثالث: طريقة التدريس المعتمدة في مرحلتي المقدمات والسطوح.

ص: 89

ص: 90

تمهيد

بات من الواضح أن مراحل الدراسة في الحوزة العلمية النجفية ثلاث هي: مرحلة المقدمات ومرحلة السطوح، ومرحلة البحث الخارج وإن كان هناك من الباحثين من يدمج مرحلة المقدمات بمرحلة السطوح فتكونان معا المرحلة الأولى تتبعها المرحلة الثانية مرحلة البحث الخارج بيد أن التقسيم الأول للمراحل هو السائد.

ولما كانت طريقة تدريس مرحلتي المقدمات والسطوح متشابهة لذا أفردت لهما فصلا واحدا ثم أفردت لمرحلة البحث الخارج المختلفة عنهما في طريقة البحث والنظر فصلا مستقلا لاحقا للفصل الحالي.

أما هذا الفصل الحالي المخصص لمرحلتي المقدمات والسطوح فقد تقاسمته مباحث ثلاثة هي: مرحلة المقدمات وكتبها المعتمدة، ومرحلة السطوح وكتبها المعتمدة، وطريقة التدريس المتبعة في مرحلتي المقدمات والسطوح لأن طريقة تدريس البحث الخارج معروفة وهي طريقة المحاضرة حيث يملي الأستاذ بحثه وينهيه بالإجابة عن الأسئلة إن وجدت.

لذا فسأستهل حديثي عن مراحل الدراسة هذه بالمبحث الأول منها المعنون: مرحلة المقدمات وكتبها المعتمدة.

ص: 91

ص: 92

المبحث الأول: مرحلة المقدمات وكتبها المعتمدة

يدرس الطالب عادة في مرحلة المقدمات العلوم المساعدة لتخصصه الدقيق في علم الفقه مع مقدماته، حيث يدرس طالب الحوزة في مرحلته الأولى هذه علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، مركزا اهتمامه البالغ على آداب اللغة العربية في هذا الدور من حياته الدراسية باعتبارها لغة القرآن الكريم ولغة السنة الشريفة، بل ولغة المصادر الأصيلة لموضوع تخصصه في الشريعة، بخاصة بعدما باتت تشهده لغتنا العربية الجميلة من ضعف كبير وانحطاط مقلق إلى حدّ بات يخشى عليها من ازدياد تاثیرات العجمة على فصاحتها ناهيك عن ركاكة في الأسلوب وضعف في التعبير وأغلاط لا تعد ولا تحصى في النحو والصرف والاشتقاق عند من يفترض فيهم عكس ذلك فضلا عن غيرهم، ولعل من أسباب تركيز الحوزة العلمية في النجف الأشرف على صون اللغة العربية وآدابها مما دخلها من عجمة أو طغى عليها من لحن علم رجالات الحوزة بأن اللغة العربية لم تلق من الإعراض والإهمال في تاريخها الطويل ما لاقته في القرون المتأخرة قبل عصر النهضة(1). وهذا ما يدعونا إلى الاعتراف بما أسدته مدرسة النجف الأشرف إلى لغة القرآن الكريم من فضل وما بذلته في سبيلها من جهد وبخاصة بعد محاولات التتريك الشرسة التي مارستها الدولة العثمانية ضد اللغة العربية بل ضد الحوزة نفسها.

لذلك كله وغيره فقد ركز منهج الحوزة اهتمامه الكبير على هذا العلم وأعطاه

ص: 93


1- الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف. الشيخ محمد مهدي الأصفي : 17

المساحة الكبيرة من عمر الطالب العلمي في سنيِّه الأولى متدرجا به من دراسة كتاب (الأجرومية) لأبي عبد اللّه بن محمد بن داود الصنهاجي الفاسي المعروف بابن آجروم (ت 143 ه/ 1342م) وهو كتاب أولي في دراسة النحو العربي إلى دراسة كتاب (قطر الندى وبلّ الصدى) لجمال الدين محمد بن يوسف بن هشام الأنصاري (ت 761 ه / 1360م) وهو أوسع من سابقة وأكثر تفريعا وتنويعا، إلى دراسة كتاب (ألفية ابن مالك) في النحو والصرف لمحمد بن عبد اللّه بن مالك الطائي (ت 672 ه/ 1273 م) وهو أرجوزة نظمت النحو العربي في ألف بيت ليسهل حفظه والرجوع اليه والاستشهاد به متى دعت الحاجة إلى ذلك، ولألفية ابن مالك أكثر من شرح، منها شرح ابن الناظم، ناظم الألفية لأرجوزة أبيه، ولعل هذا الشرح هو أفضل الشروح، وإن كان أكثرها تعليلا نحويا وتجريدا فكريا، ويحتمل أن يكون هذا هو سبب ميل حوزة النجف الأشرف وأساتذتها إلى تدريسه سابقا قبل أن ينحسر تدریس شرح ابن الناظم وإن ببطء، لصالح تدريس شرح ابن عقيل على الألفية، لكون شرح ابن عقيل شرح أقل تعليلا نحويا من شرح ابن الناظم. ومما ساعد على ميل طلاب حوزة النجف الأشرف إلى شرح ابن عقيل على الألفية صدور وانتشار طبعة محققة منه للباحث النحوي المصري المعاصر الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد (ت 1392 ه- / 1972م) حرص محققها على ضبط الأمثلة والشواهد من القرآن الكريم والحديث النبوي والشعر العربي، ثم يشرح الشيخ الأبيات شرحًا وسطا، مع إعرابها كاملة مستعملا عبارة سهلة وأسلوبًا قريبًا، وقد يتوسع أحيانًا في الشرح، ويتعرض للمسائل الخلافية معقبًا أو مرجحًا أو مفسرًا.

ثم بعد انتهاء الطالب من دراسة الألفية وحفظها أو حفظ جلها، نتيجة الدراسة الدؤوبة أو بقصد الحفظ. بعدها يختتم طالب الحوزة دراسته للنحو بدراسة كتاب

ص: 94

(مغني اللبيب) لابن هشام الأنصاري المتقدم ذكره، وربما حرص بعض الطلاب بعد استيعابهم لكتاب (مغني اللبيب) وتأكيدا لرغبته في التوسع أكثر بدراسة النحو والصرف إلى دراسة كتاب (شرح النظام على شافية ابن الحاجب) أو كتاب (شرح الشيخ الرضي على الكافية) وهذا الأخير من أهم كتب النحو المفصلة، وقد أتم الشيخ الرضي كتابة مؤلفه القيّم هذا في النجف الأشرف جوار الحرم العلوي المطهر كما أشار إلى ذلك في آخر كتابه.

أما في علم البلاغة والمعاني والبيان: فيدرس طالب الحوزة في هذه المرحلة كتاب (مختصر المعاني) لمسعود بن عمر بن عبد اللّه التنفتازاني (ت 791 ه/ 1389 م)، ثم يثني بدراسة كتاب (المطول) للتفتازاني أيضا.

وفي علم المنطق سادت دراسة كتاب (المنطق ) للشيخ محمد رضا المظفر (ت 1384 ه/ 1964م)، بل وربما الاكتفاء به من دون الحاجة إلى المزيد بدراسة غيره، وإن كان قسم منهم لا زال يثنّي بدراسة كتاب (حاشية تهذيب المنطق) للملّا عبد اللّه بن شهاب الدين حسين اليزدي (981ه / 1573م ) أو يدرس بعضهم كتاب (تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية) لقطب الدين محمد بن محمد الرازي (ت 766ه/ 1365م)، أو (شرح الشمسية ) لنجم الدين الكاتبى القزويني (ت) 675 ه / 1276م). وقد درج الكثير من الطلاب في عصرنا الحاضر ممن يروم منهم التوسع بدراسة المنطق على ترك دراسة الكتاب الأخير والاكتفاء بدراسة الكتابين المتقدمين عليه كونهم ساعين للتخصص في علم الفقه و أصوله لا في علم المنطق أو علم الكلام أو الفلسفة.

وفي علم الكلام قد يدرس طالب المقدمات كتاب (شرح الباب الحادي عشر) الباب للحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي المعروف بالعلامة الحلي (ت 726 ه/ 1326م).، والشرح للمقداد بن عبد اللّه بن محمد بن الحسين بن محمد السيوري

ص: 95

الحلي الأسدي (ت 826ه/ 1423م)، ثم يعقبه بدراسة كتاب (كشف المراد في تجريد الاعتقاد) للعلامة الحلي المتقدم ذكره وقد يؤجل ذلك إلى المرحلة الدراسية اللاحقة.

أما في مقدمات علم الفقه وهو موضوع الاختصاص الدقيق لطالب الحوزة العلمية فيبدأ طالب المقدمات أول ما يبدأ بدراسة رسالة عملية لأحد المراجع العظام من أمثال كتاب (منهاج الصالحين) الذي يتضمن المهم المهم من أحكام فقه العبادات، ثم المهم المهم من أحكام فقه المعاملات.

و كان طالب المقدمات قبلا يبدأ أول ما يبدأ شوطه العلمي في الفقه بدراسة كتاب (المختصر النافع) لأبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي المعروف بالمحقق الحلي (ت 676 ه/ 1277 م) الذي لا يتخطى فيه الكاتب المحقق مرحلة استيضاح وفك مغاليق المتون الفقهية ذات العبارات المحبوكة.

ونظرا للدور العلمي/ الدراسي لكتاب المختصر النافع فقد تجاوزت شروحه والتعليقات عليه (55) شرحاً وتعليقاً لأهميته وعمليته.

ثم بعد أن ينهي طالب المقدمات من دراسة (المختصر النافع) في الفقه يثّني بدراسة کتاب (شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام) للمؤلف نفسه، وكتاب (شرائع الإسلام) من أمتن كتب الفقه الإسلامي، وأوسعها انتشارا، وأكثرها شروحا، وأجملها عبارة، وأسبكها نظما، وأجملها منهجة، حيث قسم المؤلف كتابه بمنهجية عالية إلى أربعة أقسام هي: العبادات، والعقود، والإيقاعات، والأحكام، معللا وجه حصره مسائل الفقه بهذه الأقسام الأربعة بقوله : إن المبحوث عنه في الفقه إما أن يتعلق بالأمور الأخروية أو الدنيوية، فإن كان الأول فهو عبادات، وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يفتقر إلى عبارة أو لا، فإن لم يفتقر فهو الأحكام، وإن افتقر فإما من الطرفين أو من طرف

ص: 96

واحد، فإن كان الثاني فهو الإيقاعات كالطلاق،والعتق وإن كان الأول فهو العقود ويدخل فيه المعاملات والنكاح(1).

ثم عكف المحقق الحلي بعد ذلك على كل قسم من هذه الأقسام الواسعة فقسّمه إلى مجموعة كتب أخص فأخص، ثم انثنى فقسم كل كتاب منها إلى أركان، وفصول، وأطراف، وأنظار، وجعل عند اللزوم لبعض الكتب مقدمة أو خاتمة. ثم عاد فقسّم الأركان والفصول والأطراف والأنظار إلى فقرات والفقرات إلى بحوث وهكذا.

أما ما يخص منهجته في عرض الأحكام وترتيبها فقد اعتمد منهج تقديم الواجبات منها، فالمندوبات، فالمكروهات، فالمحرمات، ناصا على ذلك في معرض بيان سبب تأخير حكم مكروه عن غيره من الأحكام الأخرى بقوله : إنما أخرنا هذا الحكم وهو متقدم في الترتيب لما وضعنا عليه قاعدة الكتاب من البداءة في كل قسم بالواجب وإتباعه بالندب وتأخر المكروه(2).

ولقد كان حضي كتاب (شرائع الإسلام) منذ أقدم الأزمنة بعناية العلماء وطلاب الدراسات الفقهية فكان موضعا لتدارسهم وشروحهم وتعليقاتهم، ولعل أهم الموسوعات الفقهية التي ألفت منذ عصره حتى عصرنا الحاضر كانت شروحا له(3) عدّ منها محصيها السيد محمد جواد الجلالي (204) شرحا بأسمائها وأسماء مؤلفيها وتواريخ وفياتهم، محددا المطبوع من هذه الشروح وعدد أجزائه، وتاريخ ومكان طبعه، ثم معرّفا بأهم هذه الشروح وهي: (مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام) لزين الدين بن نورالدين علي بن أحمد الجبعي العاملي (ت 966ه/ 1559م)، و (مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام) لمحمد بن علي بن الحسين بن أبي الحسن الموسوي العاملي (ت 1009 ه / 1600م)، و (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) لمحمد حسن ابن الشيخ باقر بن عبد الرحيم النجفي (ت 1266 ه/ 1850م)(4) الذي يعد أكبر

ص: 97


1- شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. المحقق الحلي: 1/ 18
2- المصدر السابق : 1 / 19
3- مقدمة كتاب شرائع الإسلام للطبعة المحققة الأولى. السيد محمد تقي الحكيم: 4
4- شروح الشرائع. بحث. مجلة فقه أهل البيت. العددان الحادي عشر والثاني عشر من السنة الثالثة. 1999م. ص : 327-356.

موسوعة فقهية كاملة مطبوعة في الفقه الجعفري كما سيأتي.

بيد أن الحاجة لاستيعاب دورة فقهية عملية معاصرة تحتوي على مستجدات المسائل الحياتية رجّحت لطالب المقدمات البدء بدراسة الرسالة العملية أولا.

أما في علم أصول الفقه : فقد يبدأ الطالب أول ما يبدأ بدراسة شيء ما من كتاب (معالم الدين) أو ما يسميه طلبة الحوزة العلمية بكتاب (المعالم) اختصارا، وهو من تأليف الشيخ حسن نجل الشهيد الثاني (ت 1011 ه / 1602م) أو قد يؤجل ذلك إلى المرحلة اللاحقة تبعا لنصيحة شيخه أو أستاذه، هذا إضافة إلى دروس محبذة أحيانا تستهوي الطالب أو تستهوي أستاذه الموجه له في مسيرته الدراسية، مع قراءات مطلوبة من طالب المقدمات دائما ن أمثال قراءات متأنية في علوم مثل : التفسير والحديث والرجال، والتاريخ والسير، وفنون الأدب العربي وتاريخه، ودواوين الشعر، إضافة القراءة كتب ثقافية عامة ينتقيها الأستاذ لطلابه ويحثهم على مطالعتها والاستفادة منها.

ص: 98

المبحث الثاني : مرحلة السطوح وكتبها المعتمدة

تتركز دراسة الطالب في هذه المرحلة على دروس الاختصاص الدقيق من فقه و أصول فقه وذلك على سطح كتاب مفتوح، وربما سميت لذلك بالسطوح، وربما يدرس الطالب التفسير وعلومه أيضا لشدة احتياجه اليها في شوطه الدراسي القادم.

وأحيانا تتجاوز دراسة الطالب في هذه المرحلة كتب اختصاصه الدقيق إلى غيرها، توسعة لآفاقه النظرية كما كان سائدا في العهود السابقة، فقد كان يدرس طالب السطوح الحساب من خلال كتاب ((الزبدة) للشيخ محمد بن حسين بن عبد الصمد الحارثي المعروف بالشيخ البهائي (ت 1030ه/ 1621م)، والهندسة من خلال كتاب (أشكال إقليدوس) كما كان الطالب يراجع في علم اللغة مراجعة دؤوبة كتاب (القاموس المحيط) لمجد الدين الفيروزآبادي (ت)، وكتاب (الصحاح) لأبي نصر إسماعيل الجوهري (ت)، وكتاب (مجمع البحرين) لفخر الدين الطريحي (ت)، وفي علم الرجال يراجع الطالب أو يدرس ما يطلقون عليه في أوساطهم كتاب (رجال أبي علي) محمد بن إسماعيل بن عبد الجبار (ت)، كما يلم الطالب في هذه المرحلة بكتاب (وسائل الشيعة) لمحمد بن الحسين بن علي بن محمد بن الحسين المعروف بالحر العاملي (ت 1104 ه/ 1693م) الجامع للروايات عن الأئمة الأطهار، وفي تربية النفس وتهذيبها يدرس أو يراجع الطالب كتاب (المفيد والمستفيد) للشهيد العاملي.

أما في موضوع الاختصاص الدقيق وهو الفقه و أصوله، فيدرس الطالب من كتب

ص: 99

الفقه في مرحلة السطوح الكتب التالية: (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) المتن للشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي بن محمد الجزيني العاملي (ت 786ه / 1384م) كتبه في أسبوع جوابا عن رسالة بعثها اليه حاكم خراسان علي بن المؤيد طالبا من الشهيد الأول القدوم إلى خراسان للتصدي للمرجعية، وإذ لم تسمح للشهيد الأول ظروفه بمغادرة الشام كتب اليه (اللمعة الدمشقية) لتكون مرجعا لشيعة خراسان.

وقد ترجم كتاب اللمعة إلى اللغة الفارسية بترجمتين: أولاهما للشيخ محسن غرويان وعلي شيرواني في مجلدين، وثانيهما طبعته جامعة طهران في مجلدين أيضا.

أما شروح اللمعة فقد تعدت سبعة عشر شرحا أشهرها وأكثرها تداولا كتاب (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) للشهيد الثاني الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد الجبعي العاملي (ت 966ه / 1559م)، وهو شرح كبير ذو عدة أجزاء استوعبت بمجموعها دورة فقهية كاملة ابتداء من كتاب الطهارة وانتهاء بالديات، وقد أربت الشروح والتعليقات على كتاب (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) على (138) شرحا وتعليقا أوسعها وأعمقها مادة وأمتنها استدلالا شرح محمد بن تاج الدين حسين بن محمد المعروف بالفاضل الهندي (ت 1137 ه / 1725م)(1).

لقد حاول الشهيد الثاني بكتابه (الروضة البهية) شرح (اللمعة الدمشقية) تدريب الطالب المبتدئ على أمور مهمة :أولها طريقة الاستدلال والاستنتاج الصحيحين حسب طرائق زمن تأليفه وثانيها: تزويده بالقدرة اللازمة على ممارسة الاستدلال والاستنتاج العلميين. ثالثها: أدب البحث العلمي في المناقشات وطرح الآراء المخالفة باحترام كبير للرأي الآخر.

ثم بعد أن يتم طالب السطوح دراسته لكتاب (الروضة البهية) يواصل دراسته

ص: 100


1- شروح اللمعة والروضة البهية. السيد محمد جواد الجلالي. بحث في مجلة فقه أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) العدد العاشر من السنة الثالثة لعام 1998م ص: 175 وما بعدها.

التخصصية في علم الفقه فيشرع بدراسة كتاب (المكاسب) للشيخ مرتضى بن محمد أمين الدزفولي الأنصاري المعروف بالشيخ الأنصاري (ت 1281 ه/ 1864م) وهو كتاب غاية في الدقة والرصانة قسّمه مؤلفه (قدّس سِرُّه) إلى أقسام ثلاثة هي: المكاسب المحرمة، والبيع، والخيارات، وقد صدّره (رَحمهُ اللّه) بالبحث عن أكثر المكاسب المحرمة في مسائل مستوفيا جهده في الإحاطة بمداركها من أدلتها التفصيلية بدقة متناهية وصدر رحيب في استقصاء الأقوال والأدلة كما هو ديدنه في سائر مؤلفاته، ثم ركز البحث فيه على كتاب البيع وخصوصياته لاشتراكه في أكثر المعاملات في المباني والشرائط العامة وألحقه بالبحث عن الخيارات المعروفة في أبواب المعاملات. وهو مشحون بالتحقيقات الفقهية والمطالب الأصولية(1) وقد طبع طبعات عديدة وشرح شروحا كثيرة أغلبها خلاصة لدروس شراحه من خلال محورية كتاب المكاسب.

وقد يعمد الطالب المجدّ إضافة لدراسته لكتاب المكاسب زيادة في التوسع إلى دراسة كتب فقهية أخرى وهو ما كان يفعله قبل عقود تأتي في مقدمتها كتب من أمثال : المسالك لزين الدين الجبعي والمدارك لمحمد بن الحسين بن أبي الحسن الموسوي، والتحرير والقواعد للعلامة الحلي، وكتاب رياض المسائل للسيد علي الطباطبائي.

أما في موضوع التخصص الدقيق الثاني لطالب الحوزة العلمية وهو (علم أصول الفقه) فيبدأ الطالب أول ما يبدأ بدراسة كتاب (معالم الدين) للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني المعروف في أوساط الحوزويين اختصارا باسم (المعالم) المتقدم ذكره، ثم يثِّني بدراسة كتاب (أصول الفقه) للشيخ محمد رضا المظفر بأجزائه الثلاثة، وهو من كتب الأصول الحديثة التأليف، وقد فرض نفسه بعد لأي ككتاب دراسي لا يستغني عن دراسته طالب هذه المرحلة منذ فترة ليست بالبعيدة، ثم طالب السطوح يكمل دراسته الأصولية بدراسة كتاب (فرائد الأصول) المشهور بين الطلبة باسم (الرسائل) للشيخ

ص: 101


1- تاريخ وتطور الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف العلمية. سابق : 127.

الأنصاري مؤلف كتاب (المكاسب) المتقدم ذكره، وهو يتضمن بعمق تحرير مباحث القطع والظن والأصول العملية والتعادل والتراجيح.

وما أن يفرغ طالب السطوح من دراسة كتاب (فرائد الأصول) حتى يشرع بدراسة کتاب (كفاية (الأصول) للشيخ محمد كاظم الهروي الخراساني المعروف بالآخوند الخراساني (ت (1329 ه/ 1911م) وهو كتاب غاية في العمق والدقة والاختصار وضغط التعبير ما يستدعي من دارسه جهدا مضاعفا لاستيعابه ودأبا متواصلا لفك رموزه وحل طلاسمه.

وقد كان المعتاد حتى عهد ليس بالبعيد أن يدرس طالب السطوح كتاب: (المعالم) للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني، ثم كتاب قوانين (الأصول) لأبي القاسم الجيلاني، ثم كتاب (الفصول في الأصول) للشيخ محمد حسين الحائري، ثم كتاب (الرسائل) للشيخ مرتضى الأنصاري ثم كتاب (كفاية الأصول) للمحقق الخراساني.

وقد يقدِّم بعض الطلاب دراسة الجزء الأول من كتاب (الكفاية) على كتاب (الرسائل) بإشارة من أستاذه أو ناصحيه.

ويرجع سبب انحسار دراسة كتب (قوانين الأصول) و (الفصول في الأصول) من بين أمور أخرى إلى تعقيد أسلوبها في الأداء وميلها إلى التعبير عن مقاصدها العلمية بأسلوب صعب إضافة إلى احتوائها على مطالب ومباحث قديمة سبق أن تجاوزها علم الأصول فباتت من تراث هذا العلم لا من بحوثه المعاصرة.

ونتيجة الحاجة إلى البيان والتوضيح نشطت كتب الشروح والتعليقات والحواشي على هذه الكتب نشاطا ملحوظا وكثرت كثرة وافرة حتى بلغت شروح بعضها العشرات و شروح بعضها الآخر المئات واختلفت هذه الشروح والحواشي من حيث الإطناب

ص: 102

والإيجاز والبين بين فبلغت شروح كتاب (معالم الأصول) مثلا العشرات، عد منها الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي بأسمائها وأسماء مؤلفيها (35) شرحا، وعد من كتب شروح كتاب قوانين الأصول (35) شرحا كذلك، ومن شروح كتاب الرسائل (99) شرحا، ومن شروح الكفاية (105) شرحا، وهكذا غيرها(1).

أما في الفلسفة الإلهية والحكمة فيدرس الطالب ( شرح المنظومة) للشيخ هادي بن مهدي السبزواري (2) (ت 1289 ه/ 1872 م ) ثم كتاب (الحكمة المتعالية) أو ( الأسفار الأربعة) لمحمد بن إبراهيم القوامي الشيرازي المعروف بملا صدرا (ت 1050 ه/ 1640م) ذلك الكتاب العميق في فنه الدقيق في مبانيه وطروحاته.

وقد أصبح من المعروف هذه الأيام -لمن أراد التوسع في علمي الكلام والفلسفة - دراسة كتابي : ( بداية الحكمة) ثم (نهاية الحكمة) للسيد محمد حسين بن محمد بن محمد حسين بن علي أصغر الطباطبائي (ت 1402 ه / 1982م) صاحب تفسير القرآن المعروف بتفسير (الميزان) رغم وجود من يسعى من أساتذة حوزة النجف الأشرف الحالية إلى وقف دراسة الكتابين المتقدمين لقناعته بضرر ذلك.

ص: 103


1- ينظر: دروس في أصول فقه الإمامية. الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي: 1 / 14-29.
2- ولد الشيخ هادي بن مهدي السبزواري سنة 1212 ه وتوفي سنة 1289، وكان فیلسوفا بارعا انتهت اليه حكمة الاشراق في عصره كما كان فقيها عارفا، حضر في أول أمره عند الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية في أصفهان وغيره من العلماء والفلاسفة نحوا من ثماني سنوات وأقام في مشهد كما أنشأ مدرسة في سبزوار أصبحت أكبر معهد للعلوم العقلية من حكمة وفلسفة إلى منطق وغيره في ذلك القرن وقد زاره في غرفته المبنية من اللبن (الطوب) ناصر الدين القاجاري شاه إيران في الأول من شهر صفر سنة 1284ه عند مروره بسبزوار وتناول معه طعام الغداء وكان من الثريد. وكان معروفا بالزهد والورع لا يترك القيام بالثلث الأخير من الليل للتهجد وله المواظبة على السنن وإقامة عزاء الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ). له من الكتب 20 كتابا بين مخطوط ومطبوع كما كان شاعرا باللغتين العربية والفارسية.

ص: 104

المبحث الثالث: طريقة التدريس المعتمدة في مرحلتي المقدمات والسطوح

تختلف طريقة التدريس في الحوزة العلمية باختلاف المرحلة الدراسية التي يمر بها الطالب، ففي حين تعتمد مرحلتا المقدمات والسطوح على شرح الأستاذ لعبارة الكتاب المقرر أولاً، حيث يقرأ الأستاذ من كتاب مفتوح بين يديه جملة تامة تنهض بفكرتها العامة لوحدها، ثم يقوم بتفكيكها شارحاً ومفسراً و معلقاً وممثلاً بمثال أو أكثر لتوضيح،مقصده، مستعينا غالبا بصوته في المد والوقف والرفع والخفض، وبلمحات وجهه الموحية وحركات يديه المعبرة لإيصال الفكرة لتلميذه،بجلاء، وربما يعتمد الأستاذ أحيانا كما بتنا نرى مؤخراً على شرح مقطع من مقاطع البحث بإيجاز قبل البدء بتلاوة نص الكتاب، ومن ثم يقوم الأستاذ بقراءة النص المحدد بدرس ذلك اليوم جزءاً جزءاً، وتفكيك عبارة متن الكتاب المقرر فقرة فقرة بتروٍّ وأناة بمعية ما تقدم من شرح أول الدرس، حتى إذا تيقن الأستاذ أن الفكرة قد وصلت إلى تلميذه على الوجه الأكمل، جلية واضحة، بنى عليها فثنَّاها بأختها الرديفة لها موصلا المقطع بالمقطع والفكرة بالفكرة وهكذا.

وقد يعقب الأستاذ شرحه لمتن الكتاب باستعراض المهم من النقود الواردة عليه مما تضج بها حواشي الكتاب المقرر وغيرها مما كتب حول المتن من شروح وتعليقات، ثم يدلي الأستاذ برايه فيها مناقشا ومنتهيا إلى رأي وعادة ما يتم التوسع أثناء تدريس الأستاذ لمرحلة السطوح، وخاصة السطوح العالية منها كما في تدريس كتابي كفاية

ص: 105

الأصول أو المكاسب كما تقدم وقد يزيد الأستاذ المحاضر فيستطرد بتبيين استطرادات موحية يتوسع بها عمَّا هو مقرر في المتن والحواشي لزيادة معارف الطالب وتوسيع أفقه العلمي للفت نظر الطالب إلى أمر علمي خفي لا يتبادر إلى ذهنه عادة إلّا بالإشارة اليه والوقوف بتأنٍ عنده، وبخاصة إذا لمس الأستاذ في طالبه نضجاً وحبا للمعرفة وتشوقاً للاستزادة منها، وهو ما يستحق من أستاذه أن يمده بما هو أوسع من الكتاب المقرر وحواشيه لتنمية قدراته ومهاراته.

وكثيرا ما ينتهي الدرس بإشكالات واستفسارات من الطالب وأجوبة عنها من أستاذه بما قد ترتفع معه سخونة النقاش إلى حدّ ارتفاع وتيرة الصوت لإثبات المطلوب.

يجري هذا كله والطلاب جالسون حول الأستاذ على الأرض أو أمامه يستمعون لدرسه منصتين في حلقة أو غير حلقة قد تكبر أو تصغر نتيجة لأسباب عديدة تدخل فيها المادة الدراسية وشهرة الأستاذ العلمية وحسن بيانه وتوضيحه وسعة صدره لتقبل النقاش والإجابة عن أسئلة طلابه وأمثال ذلك.

فإذا انتهى الأستاذ من درسه وتفرق الطلاب جرت العادة، يتفق اثنان منهم فصاعدا على وقت ومكان محددين لما يطلقون عليه لفظ (المباحثة)، وهي إعادة لشرح درس من الدروس مضت على تدريس الأستاذ له فترة غير بعيدة بما يُضمن معها ابتعاد الطالب عن أجواء ذلك الدرس الخاص ونسيانه لعبارات أستاذه كي يُحرز أن الطالب مستوعب للدرس ومتفهم لمطالبه وليس مرددا لألفاظ مدرسه ترديد غير الهاضم لها، حتى إذا حان وقت المباحثة المتفق عليه بين الزملاء هبّ أحدهم هذه المرة لإلقاء الدرس على زميله أو زملائه متخذا هيئة أستاذه شارحا،درسه مجيباً على إشكالات رفيقه في الدرس أو رفقائه، وهكذا بالتناوب بين الزملاء على الأستاذية يوما، وعلى إعداد الأسئلة التي قد تتطلب منه أو منهم مراجعة كتب وكتب كي يثبت كل منهم أمام زميله

ص: 106

أو زملائه أنه متابع ومستحضر ومجد ومتابع، وهكذا بالتحضير المستمر، والمران على توجيه الأسئلة والإجابة عنها تتطور العملية التعليمية باطراد ودربة.

ومما يزيد من أهمية المباحثة في تثبيت المعلومة في ذهن الطلاب المتباحثين، كثرة الأسئلة والاستفسارات التي يلقيها بعضهم على الطالب الذي اتخذ هيئة الأستاذ في هذه الحلقة، فقد كان يحصل كثيرا أن تمنع هيبة الأستاذ الطالب من توجيه إشكاله على معلومة ما وردت في بحث الأستاذ بينما يستسهل توجيه الإشكال إلى زميله كي يحله له، أما إذا قدر له أن لا يجد ضالته في جواب رفيق بحثه عندئذ لا يجد بدا من أن يتوجه حينها الأستاذه كي يحل له إشكاله العلمي العالق في ذهنه.

ويجب على طالب الحوزة المجد أيضاً أن يكتب كل يوم درسه، ثم يحمله كل مدة إلى أستاذه كي يراجعه ويلاحظه ليتعرف على مستوى فهم تلميذه لدرسه وطريقة تدوينه ل ومدى دقة عبارته في توصيل المبنى العلمي المقصود.

ولو أمعنا النظر في طريقة التدريس في المرحلتين السابقتين من مراحل الدراسة الحوزوية لوجدناها تتردد بين الطريقتين اليونانيتين، طريقة التحليل وطريقة التفسير. أما الأولى فهي أن يتناول الأستاذ الموضوع ويجزئه إلى أقسام، ثم يتناول كل قسم على حدة ويجزئه إلى أجزاء، وهكذا يقسّم ويحلل حتى يصل إلى أدق الأقسام فيتناولها، ويبحث في العلل والعلاقات والمعاني والألفاظ، وقد اشتهر العراق بهذه الدراسة، فكان الأستاذ يكثر في تقدير الموضوع جريا وراء الفروض والاحتمالات على سائر الوجوه، وقد قدم أحد العلماء على مالك في المدينة المنورة وقد كلفه أصحابه أن يسأل مالكا، وكلما أجاب يقول له: فإن كان كذا، وبعد الجواب يكرر : فإن كان كذا، حتى ضاق مالك فقال : هذه سلسلة بنت سلسلة، إن أردتها فعليك بالعراق.

ص: 107

ومن شهرة العراقيين بأسلوب التدقيق في البحث والتحري والاستقصاء والتعمق قول علماء المسلمين منذ القدم: إن الرجل الذي يكثر تقاطيعه بالسؤال والتفريع يُسأل: أعراقي هذا؟. وهذه هي بعض آثار المنطق السرياني واليوناني في العراق.

أما طريقة التفسير والشرح فهي أن يضع الباحث نص القضية فيدرسها ويأخذ بتفسيرها من جميع الوجوه الممكنة ويختار الوجه الذي يستنسبه والتفسير الذي يتذوقه، ويغلب على الأسلوب العلمي النجفي في التحرير والتقرير أسلوب محاورات سقراط المعروفة التي يسمونها اليوم طريقة السؤال والجواب(1) منذ بداية دراسته الحوزوية وحتى نهايتها فعندما يفتح الطالب عينيه لأول مرة على كتاب الأمثلة وهو رسالة صغيرة في الاشتقاق يبتديء به الطالب النجفي حياته الدراسية يواجه هذه الجملة: (إعلم رعاك اللّه) فيدعو الأستاذ الطالبَ أن يسأل نفسه لماذا ابتدأ المصنف الكتاب بقوله : (إعلم) دون أن يقول: (إقرأ)، فيجيب الأستاذ عنه، بعد أن يعجز الطالب عن الإجابة طبعا، بأن الغرض من الدراسة ليس هو القراءة والحفظ بل النظر والفهم.

وهكذا يتدرج الطالب الناشيء منذ أولى خطواته في هذه الحياة الجديدة على النظر والتفكير والمناقشة والنقد(2).

ولا زالت طريقة التدريس هذه متبعة حتى اليوم.

(تنظر طريقة تدريس مرحلتي المقدمات والسطوح في الملحق الثاني)

ص: 108


1- الأحلام. الشيخ علي الشرقي : 137
2- الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف. سابق : 24

هوامش الفصل الثاني

(1) الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف. الشيخ محمد مهدي الأصفي : 17

(2) شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام. المحقق الحلي: 1/ 18

(3) المصدر السابق : 1 / 19

(4) مقدمة كتاب شرائع الإسلام للطبعة المحققة الأولى. السيد محمد تقي الحكيم: 4

(5) شروح الشرائع. بحث. مجلة فقه أهل البيت. العددان الحادي عشر والثاني عشر من السنة الثالثة. 1999م. ص : 327-356.

(6) شروح اللمعة والروضة البهية. السيد محمد جواد الجلالي. بحث في مجلة فقه أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) العدد العاشر من السنة الثالثة لعام 1998م ص: 175 وما بعدها.

(7) تاريخ وتطور الفقه والأصول في حوزة النجف الأشرف العلمية. سابق : 127.

(8) ينظر: دروس في أصول فقه الإمامية. الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي: 1 / 14-29.

(9) ولد الشيخ هادي بن مهدي السبزواري سنة 1212 ه وتوفي سنة 1289، وكان فیلسوفا بارعا انتهت اليه حكمة الاشراق في عصره كما كان فقيها عارفا، حضر في أول أمره عند الشيخ محمد تقي صاحب الحاشية في أصفهان وغيره من العلماء والفلاسفة نحوا من ثماني سنوات وأقام في مشهد كما أنشأ مدرسة

ص: 109

في سبزوار أصبحت أكبر معهد للعلوم العقلية من حكمة وفلسفة إلى منطق وغيره في ذلك القرن وقد زاره في غرفته المبنية من اللبن (الطوب) ناصر الدين القاجاري شاه إيران في الأول من شهر صفر سنة 1284ه عند مروره بسبزوار وتناول معه طعام الغداء وكان من الثريد. وكان معروفا بالزهد والورع لا يترك القيام بالثلث الأخير من الليل للتهجد وله المواظبة على السنن وإقامة عزاء الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ). له من الكتب 20 كتابا بين مخطوط ومطبوع كما كان شاعرا باللغتين العربية والفارسية.

(10) الأحلام. الشيخ علي الشرقي : 137

(11) الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف. سابق : 24

ص: 110

الفصل الثالث

إشارة:

مرحلة البحث الخارج نظامها وطريقة تدريسها، ومثل تطبيقي عليها

يتضمن هذا الفصل مبحثين

يتناول المبحث الأول منهما مرحلة البحث الخارج من حيث النظام الدراسي وطريقة التدريس.

ويضرب المبحث الثاني منهما مثلان تطبيقيان تقريبيان لطريقة التدريس فيها.

ص: 111

ص: 112

المبحث الأول : مرحلة البحث الخارج نظامها وطريقة تدريسها

يدرس طالب الحوزة في هذه المرحلة التخصصية العالية، علوم الفقه وأصوله بشكل تفصيلي مركّز، وقد يضم اليهما دراسة آيات الأحكام من كتاب اللّه الكريم دراسة استدلالية معمقة، كما قد يدرس أيضا علم القواعد الفقهية دراسة تفصيلية، وربما يتعمق في دراسة علم الكلام أو علم الفلسفة أو غيرها من الدروس الأخرى التي يرتأي الطالب حاجته اليها كباحث متأن في عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

أما لماذا يركز نظام الحوزة العلمية النجفية على علمي الفقه و أصوله بشكل لافت في هذه المرحلة التخصصية فما ذاك إلّا لأن المحور الأساسي لعملية الاجتهاد والاستنباط وموضوعها في الدين الإسلامي هو علم الأصول والفقه، وهما علمان مستمدان من الكتاب والسنة ومترابطان بترابط متبادل على طول التاريخ، حيث أن علم الأصول قد وضع لممارسة تكوين النظريات العامة وتحديد القواعد المشتركة في الحدود المسموح بها شرعا وفقا لشروطها العامة للتفكير الفقهي التطبيقي، وعلم الفقه قد وضع لممارسة طريقة تطبيق تلك النظريات العامة والقواعد المشتركة على عناصرها الخاصة التي تختلف من مسألة إلى أخرى، ومن هنا يرتبط علم الفقه بعلم الأصول ارتباطا وثيقا منذ ولادته إلى أن ينمو ويتطور ويتسع تبعا لتطور البحث واتساعه بوجود مشاكل جديدة في الحياة اليومية(1).

ص: 113


1- دراسة المرجع الشيخ الفياض عن أستاذه السيد الخوئي. مجلة النور. العدد 176 لسنة 2006م: 92

وقد سميت هذه المرحلة بمرحلة البحث الخارج، لأن الدراسة لا تتم فيها من خلال کتاب دراسي، حيث يعمد الطالب بنفسه قبل أن يحضر المحاضرة إلى تتبع مادة المحاضرة العلمية المقررة لذلك اليوم من مصادرها سواء أكانت في بحث الفقه أم أصوله وهو الغالب أم التفسير أم القواعد الفقهية أم علم الكلام أم الفلسفة، حريصا على مراجعة أقوال العلماء السابقين ممن يرى أن كتابتهم في هذا المبحث غنية بما فيه الكفاية بحيث تصلح للدليلية على المدّعى ثم يحدد الطالب الأسئلة التي يمكن أن يوجهها لأستاذه في درس اليوم، بعدها يحاول الطالب جاهدا أن يستخلص لنفسه رأياً محددا في موضوع المحاضرة حتى اذا فرغ الطالب من استقراء الآراء وهضمها، حضر إلى مجلس البحث الخارج منضما إلى زملائه الطلبة للاستماع إلى ما سيلقيه الأستاذ عليه ثم يناقش أستاذه بما يرى نفسه أهلا للنقاش فيه.

ومن الجدير بالذكران تلامذة درس الخارج عادة هم والأستاذ سواء، بالنسبة للكتب الدراسية والتي تراجع من حيث لزوم استحضار ما فيها، وإن كانوا ليسوا سواسية من حيث تفهمها واستحضار مضامينها. وربما يوجد في التلاميذ من يستحضر بعضها في ذاكرته أكثر من الأستاذ، ولكن من البعيد وجود من يماثل الأستاذ في تفهمها وتحليلها وإرجاعها إلى أصولها ومبانيها ولو بنحو الموجبة الجزئية(1).

ثم إنه حين تحين ساعة الدرس يدخل الأستاذ المحاضر المجتهد عادة مجلس البحث فيرتقي المنبر المخصص له في حين يجلس تلامذته وحضار درسه تحت منبره ليبدأ محاضرته التي يتناول فيها عادة آراء الفقهاء والأصوليين السابقين في كل مسألة من المسائل العلمية محل البحث التي قد يستغرق استيعابها دروسا بعد دروس ومحاضرات بعد محاضرات لكثرتها وتشعبها، ثم يناقش أستاذ البحث الخارج الآراء المطروحة وأدلتها التفصيلية رأياً رأياً بكل ما تحتاج اليه المناقشة من وقت وجهد، فإذا انتهى من

ص: 114


1- موسوعة النجف الأشرف جامعة النجف الدينية : 6 / 207. نقلا عن جامعة النجف. الشيخ محمد تقي الفقيه

ذلك كله عرض رأيه المختار مستدلاً عليه بما عنّ له من أدلة وحجج وبراهين داعما حينا ومفندا حينا وطارحا رايا جديدا أحيانا، لتبدأ بعد انتهاء المحاضرة مناقشة الطلاب بما لم يوافقوه عليه من رأي، أو لم يفقهوه من معنى، أو بما لم يستوضحوه من بيان، أو بما لم يذعنوا اليه من برهان.

يقول سماحة الشيخ محمد تقي الفقيه (قدّس سِرُّه) واصفا طريقة تدريس البحث الخارج فترة هجرته إلى النجف الأشرف للدراسة (سنة 1345 ه / 1926م) وما بعدها: إن طلاب البحث الخارج إذا كانوا أقلّاء جلسوا حلقة مستديرة وجلس الأستاذ ناحية قرب جدار أو اسطوانة متجها حيث يشاء، وربما يختار التوجه إلى القبلة تبركا، كما كان يفعل ذلك أستاذنا الحكيم (السيد محسن الحكيم)، ثم يشرع في الدرس، فيسمّي، ثم يحمد اللّه سبحانه وتعالى ويصلي على النبي وآله، ثم يذكر موضوع البحث، ويبين آراء العلماء وأقوالهم فيه وربما يذكر مصادرها، ثم يبيّن مقتضى الأصل والقاعدة فيها، ثم يشرع في سرد أدلة الأقوال واحدا واحدا فيسددها ويشيدها ويقرّبها من الأذهان، ثم يكرّ ويبيّن ما تضمنته من الخلل إن كان لا يرتضيها، وينتهي باختيار أحد المذاهب الذي تكون البراهين عليه سالمة من الشك. وإذا بلغ الطلاب عددا يتعذر معه إسماعهم مع الاستدارة، جلسوا مجتمعين غير مرتّبين والتمسوا من الأستاذ أن يرقى على المنبر مرقاة أو مرقاتين حسب الحاجة فيجيبهم، ثم إذا انتهى من بعض مقدمات الدرس أو جهاته التي تناولها في حديثه تقدّم الطلاب بالتعليق على ما أفاده، وربما تصدّى بعضهم بإقناع بعض، وكثير ما يستحكي الطالب من هو على يمينه أو يساره مستفسرا أو مناقشا بشكل هاديء لا يشوش الجو على الآخرين، وكثيرا ما لا تنفصل الخصومة بين التلاميذ أنفسهم، فتشرئب الأعناق إلى الأستاذ بطبعها، وقد يسكتهم هو بنفسه، ثم يستطرد الشبهات التي ذكروها واحدة واحدة، ويبين منشأها ويسدّدها أحيانا حتى يخيّل لمن

ص: 115

لا يعرف العادة أنه يقول بها ويختارها، ثم يأتي على تلك المباني فيجعلها هباء منثورا(1).

ولا زالت هذه الطريقة نفسها متبعة حتى اليوم (تنظر طريقة تدريس البحث الخارج في الملحق الثالث).

حتى اذا تم ذلك كله وانتهى الدرس وانتهت بعده مناقشته عاد كل طالب منهم إلى بيته ليكتب مبحث أستاذه الذي استوعبه بالمحاضرة وحدها حينا، أو بها وبرديفتها المناقشة حينا آخر. أو بهما وبالمراجعة اللاحقة لأفكارها أو بمعونة زميل نابه من زملاء بحثه لها أحيانا.

وقد جرت العادة أن يعرض الطالب المجدّ كتابته على أستاذ درسه كي يطمئن الطالب من سلامة بيانه لمطالب أستاذه من ناحية، ويتأكد الأستاذ من دقة تعبير تلميذه عن آرائه التي تلقاها منه وحسن بيانه لما تعرض له من ناحية ثانية.

فإذا أتمّ الطالب تدوين آراء مدرسه واستحسن الأستاذ كتابة تلميذه مادة وأسلوباً ودقة تعبير عن المقصود وإحاطة بالفكرة وسلامة بيان لدقائقها، ثم أراد طالبه طباعة ما كتبه من آراء أستاذه قصد أستاذه راجيا منه أن يكتب لما قرره من مباني شيخه مقدمة يصدِّر بها كتابته للتقريرات تصرح للقارئ بأن هذه الآراء تمثل آراء أستاذه تمثيلا دقيقا، بحيث يقرّ صاحب الرأي بصحة نسبة تلك الآراء اليه وإن كانت بقلم الطالب المشتغل، وتسمى تلك الكتابة بالتقريرات وحين تطبع يكتب على غلاف المطبوع حينئذ بما يشبه الجملة التالية : (تقريرات بحث الأستاذ، إنما بقلم تلميذه كاتب التقريرات) وهكذا.

فالتقريرات إذاً هي عنوان عام لبعض الكتب المؤلفة منذ أواخر القرن الثاني عشر وبعده حتى اليوم، وهو نظير (الأمالي) في كتب الحديث للقدماء. والفرق أن الأمالي كانت تكتب في مجلس إملاء الشيخ أو روايته للحديث عن كتاب يحمله معه أو عن

ص: 116


1- المصدر السابق : 6 / 207 – 208.

ظهر قلبه، وكان السامع يكتب الكتاب باسم الشيخ الذي أملى الأحاديث، ويعد من تصانيف الشيخ، بخلاف (التقريرات) فانها مباحث علمية يلقيها الأستاذ على تلاميذه عن ظهر قلب ويعيها التلاميذ في حفظهم، ثم ينقلونها إلى الكتابة في مجلس آخر، ويعد من تصانيفهم هم.(1) إنما تحتوي على آراء الأستاذ ومبانيه، فصاحب الكتابة هو الطالب الذي استمع وفهم ووعى ما سمع ثم دوّن ما استوعب، وصاحب الرأي والمبنى هو الأستاذ المحاضر.

والذي يحسن تبيانه هنا هو أن كتب التقريرات هذه أكثر من أن يستقصيها أحد، ولاسيما التقريرات الأصولية حيث عدّ منها سماحة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي الكثير الكثير(2).

إن كتابة التقريرات التي تحتوي عادة على مباحث غاية في الدقة العلمية تحتاج إلى كاتب يحسن التعبير عنها ويبرزها للقاريء أو الباحث كما لو كان سمعها من الأستاذ نفسه بحيث يرى الأستاذ المجتهد أنها حاملة لمبانيه العلمية ومطالبه وموضحة لأفكاره وتحليلاته فيرتضيها معبرة عما انتهى اليه رأيه في المسائل محل البحث، لا يقوى عليها عادة إلاّ الطالب المشتغل المجد المتميز بين أقرانه المشار اليه بالبنان في محيطه وحوزته حتى ليأمل منه أستاذه وأقرانه الطلاب والحوزة العلمية بشكل عام أن يحتل موقعا صاعدا في الحوزة العلمية مستقبلا.

ويرى بعض الباحثين أن طريقة تدريس البحث الخارج ليست بقديمة قدم المرحلتين السابقتين: مرحلة المقدمات ومرحلة السطوح، ويذهبون إلى أن سماحة الشيخ محمد بن شريف بن حسن علي المعروف بشريف العلماء المازندراني الآملي المتوفى سنة (1245ه / 1829م) المتقدم ذكره هو أول عالم شيعي بدأ تدريس بحوث الخارج، ولم يكن ذلك معروفا قبله والسبب في ذلك يعود إلى الشيخ الأنصاري صاحب كتاب

ص: 117


1- ينظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة. الشيخ أغا بزرك الطهراني : 4 / 366 وما بعدها.
2- ينظر : دروس في أصول فقه الإمامية. الدكتور عبد الهادي الفضلي : 1/ 31 وما بعدها.

المكاسب وسعيد العلماء البابلي فقد كان هذان العالمان يشتركان في مباحثة واحدة فيما بينهما، ولما كانا من أبرز طلبة شريف العلماء فقد كانا يكثران من طرح الأسئلة، فكان يضطر في الإجابة على أسئلتهما وإشكالاتهما إلى ترك الكتاب، فما زال هذا الأمر يتكرر حتى ترك شريف العلماء كتاب المعالم الذي كان يدرسه لتلاميذه، وأخذ يلقي دروسه دون کتاب. ومنذ ذلك الحين أخذ العلماء يلقون دروسهم في الخارج دون كتاب(1). حتى إذا أتمّ الأستاذ المجتهد دورته الفقهية أو الأصولية شرع بتدريس دورة أخرى جديدة بحضور طلاب جدد وهكذا حسب تشخيصه للحاجة وتبعا لظروف النجف وظروفه الخاصة وفي مقدمتها الصحية منها ومع ذلك فقد وجدنا من المراجع من درّس دورة كاملة أو دورات كما وجدنا من استمر عشرات السنين يدرس البحث الخارج دورة بعد دورة كما هو حال المرجع الأعلى في وقته سماحة السيد الخوئي (قدّس سِرُّه) الذي استقلّ بالبحث الخارج العالي طيلة ستين عاما متواصلة وقد وهبه اللّه عمرا مديدا ما فرّط بيوم واحد منه، حتى ما رآه أحد إلّا مدرسا أو دارسا أو مطالعا أو محررا أو مفكر(2).

ويذهب الباحثون في تاريخ نشوء مصطلح (البحث الخارج) أيضا إلى أن إطلاقه على المرحلة الثالثة العالية من مراحل الدراسة الحوزوية قد بدأ في فترة شريف العلماء المتوفى (سنة 1245ه/ 1829م)(3).

وتخضع سعة حلقات الدرس في البحث الخارج وضيقها لشهرة الأستاذ العلمية وقوة حجته ومتانة دليله وعمق مطالبه و وضوح بیانه و مدى نجاحه في توصيل مادة البحث العلمية وأمثال ذلك، فقد كان مثلا أستاذ البحث الخارج في الأصول المرجع الشيخ محمد كاظم الخراساني المتوفى (عام 1329 ه/ 1911م) يحاضر في مسجد الهندي في النجف الأشرف وكان كما وصف الشيخ علي الشرقي يحف بمنبره ثلاثة آلاف طالب فيهم المجتهد أو المرشح للاجتهاد وكانت له الروعة والهيبة إذا استوى فوق منبره وإذا

ص: 118


1- ينظر مرجعية التقليد سابق : 135 هامش رقم 1.
2- أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف سابق : 266.
3- ينظر : مرجعية التقليد. سابق : 135

انتهت محاضراته وانتشر تلامذته تقف حركة المرور، فلا ترى غير تموّج العمائم البيض والسود(1). هذا أحيانا وأحيانا يقل العدد عن ذلك حسب الظروف الزمانية والمكانية وغيرها. فقد قال الشيخ أغا بزرك الطهراني : سمعت ممن أحصى تلاميذ الأستاذ الأعظم المولى محمد كاظم الخراساني في الدورة الأخيرة في بعض الليالي بعد الفراغ من الدرس أنه زادت عدتهم على (2200 ) ألفين ومائتين وكان كثير منهم يكتب تقريراته(2).

ونقل عن المرجع الشيخ أغا ضياء العراقي أن عددهم تعدى (1700) ألفا وسبعمائة نفر في الليلة. وعن السيد هبة الدين الشهرستاني قوله: عددنا حضار درس الشيخ فكان في إحدى الليالي ( 1540) ألفا وخمسمائة وأربعين شخصا(3).

وليس في ذلك تضارب في الأقوال كما ذهب إلى ذلك بعضهم(4)، فقد جرت العادة أن يزداد أو يقل حضور طلبة البحث الخارج من بحث إلى بحث، ومن يوم إلى يوم حسب الظروف والأحوال، وهو ما بدا واضحا في أقوال المحصين أو العادين، فرواية الشيخ أغا بزرك الطهراني تتحدث عن طلاب (بعض الليالي في الدورة الأخيرة) للشيخ، وهي لا تعارض رواية الشيخ الشرقي التي قد تتحدث عن ليال في دورة أو دورات أخرى، وكذلك لا تعارض رواية الشيخ الشرقي أيضا ما نقل عن المرجع الشيخ العراقي (قدّس سِرُّه) التي نصت إضافة لما تقدم على أن عددهم (تعدى) الرقم المذكور فيها، وهي لا تعارضها أيضا رواية السيد الشهرستاني فهي إضافة لما تقدم نصت على عدد الطلاب في (إحدى الليالي) لا عددهم الكلي في ليالي البحث عادة.

وأياً كان العدد الحقيقي لعدد طلاب بحثه (قدّس سِرُّه) الذي قدرته أقل هذه الروايات ب(1540 ) طالبا، وأكثرها ب(3000) فهو عدد كبير جدا، خاصة إذا عرفنا أن هناك من قدر عدد المجتهدين حينها ب أكثر من ألف مجتهد في علمي الفقه والأصول(5).

ص: 119


1- الأحلام. سابق : 263.
2- الذريعة إلى تصانيف الشيعة. الشيخ أغا بزرك الطهراني : 4 / 367.
3- من مقدمة كتاب كفاية الأصول للشيخ الخراساني. بقلم السيد جواد الشهرستاني : 21
4- المصدر السابق
5- أدوار الفقه الإسلامي الإمامي. الشيخ محمد إبراهيم الجنّاتي. بحث. مجلة الفكر الإسلامي. 2/ 126 لسنة 1415ه.

وليس هذا العدد الكبير لطلاب البحث الخارج أو ما قاربه مما اختص به المرجع الشيخ الخراساني (قدّس سِرُّه) وحده - وإن كان (قدّس سِرُّه) في مقدمة من حظيت دروسهم بهذا العدد الغفير من الطلاب لأسباب منها عمق مادته العلمية، وحسن بيانه، وكثرة الطلاب تلك الآونة - فقد اعتدنا أن نسمع أو نقرأ عن حضور عدد مقارب لطلاب الشيخ الخراساني متى ما اشتهر اسم أستاذ لبحث من بحوث الخارج بارع في مادته وطريقة عرضه، ومتى ما تركت الحوزة العلمية وشأنها تنمو تدريجيا من دون مضايقات أمنية أو طائفية أو حدودية أو طارئة كالحروب والتسفير الإجباري التعسفي والتجنيد الإجباري ومنع دخول الطلاب للدراسة وأمثالها، حينها تنمو الحوزة العلمية شيئا فشيئا حتى يصل أعداد طلاب المرحلة الدراسية العليا منها إلى المئات وقد يتعدى ذلك.

فقد حدثتنا كتب التاريخ مثلاً أن المرجع الشيخ موسى آل كاشف الغطاء (قدّس سِرُّه) المتوفى (سنة 1241ه/ 1826م) حضر مجلس درسه في أواخر أمره من طلبة العجم ألف رجل هاجروا من كربلاء بعد وفاة شريف العلماء(1) هذا عدا ما سواهم من الطلاب العرب وغيرهم من حملة الجنسيات الأخرى.

كما حدثتنا كتب التاريخ أيضا أن المرجع الشيخ علي ابن الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء (قدّس سِرُّه) المتوفى (سنة 1253 ه/ 1837م)(2) كان يحضر درسه ما يزيد على الألف من فضلاء العرب والعجم(3) وهناك غيرهما من الأساتذة ممن بلغ حضار درسه المئات.

بيد ان هذا العدد الضخم من طلاب الحوزة العلمية النجفية قد بدأ بالانحسار تدريجيا نتيجة الضغوط الأمنية والمضايقات القاتلة على حوزة النجف الأشرف ومرجعياتها وطلابها المتقدم ذكر بعضها، ومنها عدم منح أو تجديد الإقامات للطلبة الوافدين من غير العراق للدراسة العلمية فيها.

ص: 120


1- ماضي النجف وحاضرها. سابق : 3 / 200.
2- أحد أبناء الشيخ جعفر الأربعة المجتهدين تولى زمام المرجعية بعد وفاة أبيه الشيخ وأخيه الشيخ موسى وكان ورعا تقيا مواظبا على الطاعات دائم العبادة والذكر، وكان لا تأخذه في اللّه لومة لائم آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وكان إضافة لذلك شاعراً مجيداً ومحدثاً بارعاً درس على أبيه الشيخ ثم أخيه الشيخ موسى، وقد تخرج على يديه الكثير من العلماء الفطاحل يأتي في مقدمتهم الشيخ مرتضى الأنصاري والمير فتاح صاحب العناوين والسيد مهدي القزويني والشيخ مشكور الحولاوي له من الكتب والمصنفات الكثير : كتاب في الخيارات وله رسائل عديدة وله أيضا تعليقة على رسالة والده.
3- ماضي النجف وحاضرها 3 / 169.

ولا زلت أذكر خلال أواسط عقد الستينات الميلادية من القرن الماضي ما كنت أشاهده في المسجد الذي اعتاد أن يلقي فيه المرجع الأعلى في عصره سماحة الإمام السيد محسن الحكيم المتوفى (سنة 1390ه/ 1970م) حيث كانت باحته تغص بالطلاب المنصتين أثناء إلقاء سماحته لبحثه وأذكر أيضا مثل ذلك الحضور في درس المرجع الأعلى في عصره سماحة السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي المتوفى (سنة 1412ه/ 1992م)، حيث قدر عدد حضار بحثه الخارج بما يتراوح ما بين (400 500) أربعمائة - خمسمائة طالب، يكتب (95%) خمسة وتسعين منهم البحث، وهو مؤشر على كثرة الطلبة المشتغلين بينهم.(1)

ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد انخفضت أعداد الطلاب بشدة بعد الحرب الدموية المعلنة والمخفية التي شنها الحكام الظالمون على حوزة النجف الأشرف وعلى مرجعيتها العلمية الدينية ككيان ومراجعها وأساتذتها وطلابها كاشخاص منتمين لذلك الكيان العلمي العريق، وخاصة خلال فترة حكم النظام العراقي البائد منذ (سنة 1388ه/ 1968م) وحتى سقوطه المدوي عام (1424ه/ 2003م خشية منهم على حياتهم من ملاحقة وصلت حدّ الإعدام والسجن والتهجير القسري وغيرها خاصة بعد علم هؤلاء الطلاب علم اليقين أن الأنظمة الظالمة قد أعدمت وسجنت الكثير الكثير منهم.

ثم كان أن عادت الحوزة العلمية وتنفست الصعداء بعد زوال النظام الصدامي فبدأت أعداد طلابها وحضار دروسها على مختلف مراحلها بالازدياد تدريجيا، وبديهي أن طلاب البحث الخارج أقلهم عددا الحداثة حرية الانتماء إلى الحوزة بعد سقوط صدام، حيث أن الوصول إلى هذه المرحلة العليا يحتاج إلى أن ينهي الطالب مرحلتي المقدمات والسطوح السابقتين عليها وهو ما يحتاج من الطالب إلى زمن ليس بالقليل، فالقضية

ص: 121


1- نظرة في علم الأصول في حوزة النجف. حوار مع المرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض. منشور في مجلة التحقيق والحوزة. عدد خاص بحوزة النجف الأشرف من دون ذكر رقم العدد السنة الرابعة : 104.

نسبية ومتفاوتة بين هذا الأستاذ وذاك، وبين هذا الظرف وذاك، وبين هذا الموضوع وذاك كما أسلفت.

وقد حضرت بحثا من بحوث الخارج في الفقه للمرجع الديني سماحة السيد محمد سعيد الحكيم (دَامَ ظِلُّه) في مكتبه العامر في النجف الأشرف صباح يوم دراسي من أيام شهر رجب قبيل حلول العطلة الصيفية (سنة 1427ه/ 2006م) بأسبوع، حيث كان سماحته يباحث في (الخيارات) من كتاب البيع في فقه المعاملات، وقد تجاوز حضار الدرس ثلاثين طالبا، كان بعضهم يكتب الدرس، وبعضهم وهم الأكثر يكتب ملاحظات عنه، بينما جلب بعضهم الآخر مسجله معه واضعاً إياه جنب لاقطة الصوت ليسجل كل كلمة أو حرف ينطقه الأستاذ رغبة من التلميذ الباحث في إعادة سماعه ثانية قبل كتابة الدرس ضمانا لدقة نقل رأي الأستاذ ونسبته اليه وهكذا شيئا فشيئا تبدأ دروس بحث الخارج في الحوزة العلمية النجفية نموها التدريجي شيئا فشيئا إن شاء اللّه تعالى.

كما تشرفت بعد ذلك بحضور درس فقهي آخر للسيد المرجع نفسه صبيحة (يوم الأربعاء 15 ربيع الأول سنة 1428ه الموافق ليوم 2007/4/4م) وكان موضوع البحث هو (ضمان قيمة يوم التلف) حيث عرض الأقوال المختلفة في المسألة مركزا على رأبي المرجعين الراحلين السيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (قدس اللّه سرهما) وذهب إلى تبني رأي جديد مخالف لهما في المسألة.

وقد لاحظت - بعد تكرار حضوري للبحث في فترات أخرى متقطعة لغرض الملاحظة - الزيادة الكبيرة في عدد طلاب البحث الخارج هذه المرة قياسا بالمرة السابقة بما أربى على الضعف حيث بلغ عددهم بعد أن أحصيتهم (70) سبعين طالبا، يزدادون مرة عن مرة حضورا ومناقشة، وخاصة في هذه السنة (1432 ه/ 2011م) وبعدها.

ص: 122

المبحث الثاني: مثلان تطبيقيان تقريبيان من أمثلة

درس البحث الخارج في حوزة النجف الأشرف

لئن كانت طريقة تدريس مرحلتي المقدمات والسطوح المتقدمة لا تحتاج إلى مثل تطبيقي عليها، فإن طريقة تدريس مرحلة البحث الخارج ربما تحتاجه، ومن أجل تجلية طريقة تدريسها بات من الحسن أن أستشهد بمثلين تطبيقيين لدرسين من دروسها يقربان القاريء إلى حد مقبول من طريقة تدريس البحث الخارج، أولهما للمرجع الشيخ محمد كاظم الخراساني الملقب بالآخوند المتوفى فجر يوم الثلاثاء 20 من شهر ذي الحجة سنة(1329ه/ 1911م)، صاحب كتاب (كفاية الأصول) في علم الأصول، وثانيهما للمرجع الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء المتوفى فجر يوم الاثنين 18 من شهر ذي القعدة سنة (1373 ه/ 1954م)، صاحب كتاب (تحرير المجلة) في الفقه المقارن.

أما الأول فقد ورد أن شهرة الشيخ العلمية وعمق مباحثه في بحث الخارج قد اشتهرت في البلاد حتى حضر لديه في تلك السنين حاكم النجف من آل الآلوسي فعرض لحضرته أن بعض الأفاضل المؤلفين كتب اليه من الإستانة كتابا يقول فيه: بلغني أن عالما خراسانيا ظهر في النجف وجدد معالم فن الأصول وأنه في هذا العصر كالعضدي في زمانه فارسل ترجمته وأحواله بقدر ما تستطيع(1) كما تخطت شهرته حدود العراق حتى وصل خبر ذلك إلى جميع أرجاء الدولة العثمانية، فاشتاق علماء تلك

ص: 123


1- من مقدمة كتاب كفاية الأصول للشيخ الخراساني. سابق. ص: 19. نقلا عن مجلة العلم. العدد 8 من السنة الثانية. شهر صفر من سنة 1330 ه- ص: 341

الديار للحضور في مجلس درس هذا العالم العيلم حتى قام شيخ الإسلام بنفسه لرؤية الشيخ الآخوند والارتشاف من نمير علمه بحجة أنه يروم السفر إلى قبر أبي حنيفة في بغداد ومن ثم عرج من بغداد إلى النجف ليشاهد الحوزة التي مضى عليها حوالي الألف عام، وكان الشيخ الآخوند يدرس في مسجد الطوسي ودخل شيخ الإسلام بدون سابق إنذار، وبمجرد دخوله حدثت همهمة بين الطلاب وفسحوا له المجال ليجلس في المكان المناسب له بالقرب من المنبر.

وهنا برعت براعة الآخوند،وفراسته، فإنه بمجرد أن رأى شيخ الإسلام وقد عرفه من ملابسه ومن هيئة المحيطين به فنقل البحث إلى قول أبي حنيفة بأن (النهي في الوجوب والحرمة دليل الصحة لا الفساد) وشرع في بيان هذا الدليل وما يؤيده على أحسن ما يرام وببيان جذاب فاندهش شيخ الإسلام من تسلّط الآخوند على مباني أبي حنيفة وغيره من أئمة السنة، وغرق في بحر التأملات، وكيف أن هذا العلم قد وصل في النجف إلى ما وصل؟.

ثم انبرى الآخوند يذكر الإشكالات الواحد تلو الآخر على قول أبي حنيفة المذكور، فما كان من شيخ الإسلام إلا التصديق والإذعان لما يقوله الآخوند.

واستمر الآخوند في ذكر أقوال العلماء حتى وصل إلى الرأي الفصل وهو رأي أستاذه الأكبر الشيخ الأنصاري بأن (النهي في الوجوب والحرمة دليل على فساد ذاك الحكم).

وعندما وصل في بحثه إلى هذا الحد قال : الظاهر ان القادم هو شيخ الإسلام العثماني واحتراما لمقدمه أنزل عن المنبر ليفيض علينا من بعض علومه.

ولكن شيخ الإسلام الذي بهرته معلومات الشيخ الآخوند ولكثرة حضار مجلس

ص: 124

الدرس الذين تجاوز عددهم الألف أبى أن يصعد المنبر وآثر الجلوس مع الشيخ برهة من الزمن. ويقال إن جل حديثه في سفره عند رجوعه إلى بلده كان يدور حول شخصية الآخوند العلمية (1).

ويمكن من خلال هذا العرض لحضور شيخ الإسلام درسا من دروس البحث الخارج في حوزة النجف العلمية معرفة اهتمام أستاذ البحث الخارج في عرض الآراء المختلفة في المبحث المطروح حتى أنه طرح رأي أبي حنيفة إمام المذهب الحنفي المتوفى سنة فيه، رغم البعد الزمني الكبير بين الشيخ الخراساني وأبي حنيفة الذي تجاوز الألف عام، والأهم من ذلك يمكن ملاحظة نزاهة وموضوعية أستاذ البحث الخارج في تناول الرأي الآخر بحيث أنه (قدّس سِرُّه) حين عرض الرأي المخالف لرأيه، عرضه بما أقنع المستمعين بسلامته ودقته كما لو كان هو رأيه المختار، ثم ناقشه بعد ذلك فأقنع مستمعيه ببطلانه. كما يمكن استيضاح مدى دقة أستاذ البحث الخارج في مناقشة الآراء العلمية وصولا إلى الرأي المختار.

وأما المثال الثاني لدرس من دروس البحث الخارج فقد أعد بارتجال من دون سابقة عهد او تهيئة أو إعداد.

فقد زار وفد علمي مصري يرأسه الباحث أحمد أمين صاحب كتب: «فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام» مدينة النجف الأشرف ليلة 21 من شهر رمضان المبارك من عام (1349ه / 1930م) على رأس وفد مصري كبير مؤلف من زهاء ثلاثين بين مدرس وتلميذ، واجتمع بالمرجع الديني في وقته سماحة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (قدّس سِرُّه) في داره العامرة ومشاهدة مكتبته القيمة، ومكث ومكثوا هزيعا في ليلة من ليالي شهر رمضان حيث مجلس الشيخ غاص بمحفل علمي حاشد فدارت بين رئيس الوفد المصري أحمد أمين والشيخ كاشف الغطاء أحاديث شتى بدأها الشيخ

ص: 125


1- المصدر السابق: 19۔20 نقلا عن كتاب تاریخ روابط إيران والعراق: 265

فعاتبه عتاباً خفيفاً عما أورده في كتاباته غير الأمينة عن الشيعة ثم استمر الحوار العلمي بينهما بما استطاع تدوينه ساعتها الشاعر الشيخ صالح الجعفري الذي كان حاضرا تلك الجلسة، لتنشرها له بعد ذلك مجلة (العرفان) اللبنانية الواسعة الانتشار في الصفحة: 308 وما بعدها من الجزء الثالث من المجلد (21) لسنة (1349 ه/ 1930م)(1)

وخلاصة الأمر أن الأستاذ أحمد أمين طلب يومها باسم البعثة العلمية المصرية التي كان يراسها في زيارتها تلك للنجف الأشرف من سماحة الشيخ المرجع في تلك الجلسة أن يستمع لبحث يلقيه في موضوع يختاره ليتعرف الوفد على طريقة تدريس البحث الخارج في حوزة النجف العلمية، فما كان من الشيخ إلا أن صعد المنبر بعد أن اجتمع حوله من حضر الجلسة من تلاميذه وضيوفه وبدأ على غير سابقة عهد ولا تهيئة مرتجلا بعد البسملة البحث التالي مبتدأ بقوله تعالى: «وَلَا نَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».

وها أنذا أثبتُهُ كما ورد، وأضيف أن دروس البحث الخارج غير المرتجلة كهذا الدرس أكثر تفصيلاً، وأعمق تحليلاً، وأشمل استعراضاً وأدق نقدا وتقييما للمباني والمطالب في الغالب مما تحدث به المرجع الشيخ كاشف الغطاء في درسه الارتجالي الذي أحسن فيه وأجاد، وذلك لتناول بحوث الخارج عادة ذكر الآراء المختلفة في المسألة محل البحث بعد نسبتها إلى أصحابها القائلين بها، مع استعراض أدلتهم عليها ومؤيداتهم لها، مناقشة تلك الأدلة ببيان نقاط القوة والضعف فيها وما إلى ذلك من خصوصياتها ودقائقها، وصولا إلى الرأي المختار في المسألة، وهكذا في المسائل اللاحقة لها بالتتابع.

أعود فأقول: لقد بدأ المرجع الشيخ آل كاشف الغطاء حديثه بالبسملة كما أسلفت ثم أضاف بعدها مبتدئاً بحثه بالاستشهاد بالآية القرانية الكريمة كي تكون محور درسه غير المعّد والمهيأ له سلفا :

ص: 126


1- نشرها أيضا الباحث علي الخاقاني في الجزء السادس من موسوعته شعراء الغري وذلك في الصفحات:104-112، ثم أعاد نشرها الأستاذ علاء أل جعفر في مقدمته للطبعة الثانية المحققة من كتاب أصل الشيعة و أصولها للشيخ آل کاشف الغطاء وذلك في الصفحات: 79 وما بعدها، ونشرت أيضا في مقدمة السيد محمد علي القاضي الطباطبائي لكتاب ( جنة المأوى) للشيخ كاشف الغطاء في الصفحات 28-32، ثم أعاد نشرها الدكتور الشيخ محمد حسين الصغير في كتابه أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف: 182-193.

قال تعالى: «وَلَا نَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(1)

تشتمل هذه الآية على عقدين : عقد سلب وعقد إيجاب.

أما عقد السلب : «وَلَا نَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ». فهو من الأساليب القرآنية التي اخترعها وارتجلها في الاستعمالات العربية، ولم تكن معروفة من ذي قبل، وقد تكررت هذه الجملة في القرآن الكريم.

وهي تارة تتعلق بالأفعال مثل قوله تعالى: «وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن»(2). وقوله تعالى: «لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَرَى»(3)، ويكون المراد حينئذ على سبيل الاستعارة بالكناية المبالغة في التحذير عن ارتكاب ذلك الفعل كالزنا والصلاة مع السكر أو غير ذلك. وشبّه اسم المعنى باسم العين فحذّر من قربه، فكيف بملاصقته أو الدخول فيه.

وأخرى تتعلق بالأعيان مثل قوله تعالى: «وَلَا تَقَرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ»(4)، وقوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»(5).

ومن هذا القبيل آية العنوان التي هي من براعة الصنعة وإبداع البيان بمكان، وحيث أن النهي لا يتعلق بالأعيان رأساً، بل لا بدّ من توسط فعل مقدّر في البين يناسب تلك العين، فإذا قيل: حرمت أمهاتكم عليكم، يعني العقد عليهن. وإذا قيل: حرّمت الخمر، يعني شربها. وإذا قيل : حرم الميسر والقمار، يعني اللعب بهما، وهكذا يقدر في كل مناسب ما يناسبه، بل أظهر ما تتعلق به الأفعال التي تطلب من تلك العين ومما هي معدّة له، فلا يراد من قول حرّمت الخمر، حرمة كل الأفعال التي يمكن أن تتعلق بها فيحرم لمسها أو النظر اليها أو التداوي بها وهكذا. كلا، بل ليس المراد إلّا حرمة شربها. وعليه فيكون المراد والمعنى بالآية التي في العنوان: لا تتصرفوا في مال اليتيم التصرفات

ص: 127


1- سورة الأنعام: 152.
2- سورة الأنعام: 151.
3- سورة النساء: 43.
4- سورة البقرة : 35.
5- سورة التوبة : 28.

المطلوبة عند العقلاء من المال بالاتجار به في بيع أو شراء أو صلح أو رهن أو إدانة أو غير ذلك.

والغرض أيضا بهذا النحو من البيان: شدة التحذير والنهي عن التصرف في مال اليتيم بحيث يكون المعنى والمقصود النهي عن المعاملة بمال اليتيم بوجه مطلق من رفع أو وضع أو فعل أو ترك إلّا بالتي هي أحسن، أما حيث لا تريدون التصرف فلا شيءعليكم.

وإن كان التصرف أحسن بخلافه على الوجه الثاني، فإن مفاده لزوم التصرف بالأحسن يؤيد الحكم الضروري من حرمة التصرف بمال الغير مطلقا صغيرا أو كبيرا بغير إذنه، وليس المقصود أصالة البيان بالضرورة، وإنما المقصود عقد الإيجاب وهو إعطاء الرخصة بالتصرف في مال اليتيم إذا كان في التصرف مصلحة فيكون مخصصا لما دل على عموم حرمة التصرف في مال الغير.

إنما الكلام في مقدار تلك الرخصة وحدودها حسبما يستفاد من الآية، فإن محور البحث والنظر يدور من هذه الجهة على تشخيص المراد من لفظ (الأحسن)، وهل هو من أفعل التفضيل نظير: الصلاة خير من النوم. وعلى الأول، فهل المراد من (الأحسن) بقول مطلق، أي ما لا أحسن منه. وعلى الثاني، فهل المراد منه ما اشتمل على مصلحة، أو يكفي خلوّه من المفسدة بناء على أن كل ما ليس بحرام فهو حسن.

ثم لما انتهى إلى هذا المقام طلب بعض الحضور تغيير الموضوع، ونقل البحث إلى مسألة من المسائل الاعتقادية وأساسيات أصول الدين، فأوصل سماحته الكلام اقتضابا من غير روية ولا تمهل، ونقل البحث إلى مسألة الحاجة إلى الأنبياء وضرورة البعثة فقال:

إن النظر في عامة أحوال البشر يعطي أن أعرف صفاته وألصقها فيه وأقدمها عهدا

ص: 128

به هي الخلال الثلاث التي لا يجد عنه محيصا ولا منها مناصا مهما كان ألا وهي الجهل والعجز والحاجة، وهذه الصفات هي منبع شقائه وأصل بلائه، وكلما توغل الإنسان في العلم والمعرفة تطامن للاعتراف بما توصل اليه من العلم بعظيم جهله وإن نسبة معلوماته إلى مجهولاته نسبة القطرة إلى المحيط، وكان أكبر علمه جهله البسيط وقد سئل إفلاطون حين أشرف على الرحلة الأبدية عن الدنيا فقال: ما أقول في دار جئتها مضطراً وها أنا أخرج منها مكرها وقد عشت فيها متحيرا ولم أستفد فيها من علمي سوى أني لا أعلم. وقال سولون الحكيم: ليس من فضيلة العلم سوى علمي بأني لا أعلم، ومن استقصى كلمات حكماء اليونان وغيرهم وجد لكل واحد منهم مثل هذه الكلمات والتشبع بهذه الروح السارية إلى متضلع في الفضيلة بروح الفضيلة من علماء الإسلام وحكمائهم حتى قال الشافعي:

وإذا ما ازددت علما***زادني علما بجهلي

والرازي يقول:

نهاية إدراك العقول عقال***وغاية سعي العالمين ضلال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا***سوى أن جمعنا فيه قيل وقال

في حين أن علماء الغرب وكبار المخترعين الذين حوروا الدنيا إلى هذا الشكل العجيب يعترفون بعدم وصولهم إلى حقائق الأشياء، فهم وإن اخترعوا الكهرباء لا يعرفون حقيقتها، هذا فضلا عن الروح والنفس والحياة، وهذا مجال لا يأتي عليه الحصر، فالإنسان عريق بالجهل لصيق بالعجز والحاجة ولا شقاء ولا بلية إلّا وهي منبعثة اليه من ذلك، وعقول البشر بالضرورة غير كافية لرأب هذا الصدع ونأي هذا الثلم وسد هذا العوز، فالعناية الأزلية التي أوجدت هذه الخليقة لو تركتها على هذه الصفة تكون قد أساءت اليها بإيجادها وما أحسنت الصنيع بنعمة الوجود عليها، ولكان أحرى لو

ص: 129

تركتها في طوامر العدم وأطمار الفناء، ويكون ذلك نقضا للحكمة وإفسادا للنعمة.

إذاً فلا بدّ من إيجاد رجال كاملين في أنفسهم مكملين لغيرهم، يكونون كحلقة الاتصال بين الخالق،والخلق وهمزة الوصل بين العبد،والرب فإن السعادة منه واليه، وأولئك هم السفراء والأنبياء الذين بهم تتم الحجة وتستبين المحجة، وحينئذ تكون سعادة كل إنسان وشقاؤه باختياره قال تعالى: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ»(1)، وقال: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا»(2)، وتكون حينئذ اللّه على الناس الحجة البالغة.

نعم وكل هذا موقوف على إثبات الصانع الحكيم المنزّه عن العبث والظلم، فضلا عن الجهل والعجز.

وهناك أدلى الشيخ بالحجة وأملى أصول البرهنة على وجود الإله الحق بعدة قواعد لا يساعدنا المجال لسردها وعدّها تفصيلا، ولكن نكتفي بالإشارة اليها على وجه الإجمال:

1 - قاعدة أن ما بالعرض لا بدّ أن ينتهي إلى ما بالذات

2 - إن معطي الشيء لا يكون فاقده.

3- إن الصدفة في النواميس الطبيعية الكلية والأشياء المتكررة مستحيلة.

4 - إمكان الأشرف.

5 - قاعدة اللطف

وأمثال ذلك من أمهات قواعد الحكمة و أصول الفلسفة الحقة، ثم ارتأى في هذا المقام أن يختم البحث لضيق الوقت وهكذا كان(3).

وعندما نزل الشيخ من المنبر دارت بينه وبين أحمد أمين أحاديث لا مجال لعرضها هنا.

ص: 130


1- سورة البلد: 10.
2- سورة الإنسان 3.
3- نقلا عن مقدمة كتاب جنة المأوى للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء. بقلم: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي : 28-32

ويصف عبد الوهاب عزام من الوفد الزائر ذلك المجلس في أحد كتبه فيقول بعد أن يتحدث عن الشيخ ومجلسه ثم اقترح عليه بعض الحاضرين أن يشهدنا بعض دروسه، وألحوا عليه فأجاب الدعوة إكراما لضيوفه جزاه اللّه خير الجزاء.

جلس الأستاذ العلامة على كرسي، وأحاط به طلابه وكلهم رجال تلوح عليهم سن الأربعين أو ما يقرب منها، وكلهم وقور في سمته وبزته تكلّم في مسألة من علم الكلام، مسألة واجب الوجود، ثم ثنّى بتفسير الآية «وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ» والطلبة في أثناء ذلك يسألون ويجادلون، قد رفعوا الكلفة بينهم وبين شيخهم. وقد سمعنا المعجب من بيان الأستاذ وغزارة علمه على قصر الوقت(1).

ويمكن في هذا المثال ملاحظة عمق استحضار أستاذ البحث الخارج لمطالبه بحيث أنه وافق مباشرة على طلب تدريس درس من دروسه ارتجالا من دون إعداد لمادة الدرس ومبحثه، وزاد على ذلك فنزل عند رغبة زائريه فوافق على تحويل مادة ومبحث الدرس من علم إلى علم آخر ارتجالا كذلك، وهو علم الكلام، فأحسن العرض والمناقشة في العلمين الدقيقين معا.

كما يمكن استيضاح مدى إحاطة أستاذ بحث الخارج بعلوم اللغة والمنطق والفلسفة والبلاغة وتاريخ الفلسفة وهي من علوم المقدمات وحسن توظيفها في مجال علمي الفقه والكلام من خلال الاستعانة بهما في استنباط الأحكام الشرعية وفي الدلالة على وجود اللّه. ويمكن أيضا ملاحظة استعانته بعلم الأصول في بيان مبحثه الفقهي مع حسن استحضاره ودقة حفظه لآيات القرآن الكريم وكثرة استشهاده بها واستدلاله بنصوصها على المدعى، إضافة إلى أمور أخرى يمكن استفادتها من الدرسين كليهما مما لا يسع المجال للوقوف عندها في هذه العجالة.

ص: 131


1- رحلات عبد الوهاب عزام: 62 وما بعدها.

ص: 132

هوامش الفصل الثالث

(1) دراسة المرجع الشيخ الفياض عن أستاذه السيد الخوئي. مجلة النور. العدد 176 لسنة 2006م: 92

(2) موسوعة النجف الأشرف جامعة النجف الدينية : 6 / 207. نقلا عن جامعة النجف. الشيخ محمد تقي الفقيه

(3) المصدر السابق : 6 / 207 – 208.

(4) ينظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة. الشيخ أغا بزرك الطهراني : 4 / 366 وما بعدها.

(5) ينظر : دروس في أصول فقه الإمامية. الدكتور عبد الهادي الفضلي : 1/ 31 وما بعدها.

(6) ينظر مرجعية التقليد سابق : 135 هامش رقم 1.

(7) أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف سابق : 266.

(8) ينظر : مرجعية التقليد. سابق : 135

(9) الأحلام. سابق : 263.

(10) الذريعة إلى تصانيف الشيعة. الشيخ أغا بزرك الطهراني : 4 / 367.

(11) من مقدمة كتاب كفاية الأصول للشيخ الخراساني. بقلم السيد جواد الشهرستاني : 21

ص: 133

(12) المصدر السابق

(13) أدوار الفقه الإسلامي الإمامي. الشيخ محمد إبراهيم الجنّاتي. بحث. مجلة الفكر الإسلامي. 2/ 126 لسنة 1415ه.

(14) ماضي النجف وحاضرها. سابق : 3 / 200.

(15) أحد أبناء الشيخ جعفر الأربعة المجتهدين تولى زمام المرجعية بعد وفاة أبيه الشيخ وأخيه الشيخ موسى وكان ورعا تقيا مواظبا على الطاعات دائم العبادة والذكر، وكان لا تأخذه في اللّه لومة لائم آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وكان إضافة لذلك شاعراً مجيداً ومحدثاً بارعاً درس على أبيه الشيخ ثم أخيه الشيخ موسى، وقد تخرج على يديه الكثير من العلماء الفطاحل يأتي في مقدمتهم الشيخ مرتضى الأنصاري والمير فتاح صاحب العناوين والسيد مهدي القزويني والشيخ مشكور الحولاوي له من الكتب والمصنفات الكثير : كتاب في الخيارات وله رسائل عديدة وله أيضا تعليقة على رسالة والده.

(16) ماضي النجف وحاضرها 3 / 169.

(17) نظرة في علم الأصول في حوزة النجف. حوار مع المرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض. منشور في مجلة التحقيق والحوزة. عدد خاص بحوزة النجف الأشرف من دون ذكر رقم العدد السنة الرابعة : 104.

(18) من مقدمة كتاب كفاية الأصول للشيخ الخراساني. سابق. ص: 19. نقلا عن مجلة العلم. العدد 8 من السنة الثانية. شهر صفر من سنة 1330 ه- ص: 341

(19) المصدر السابق: 19۔20 نقلا عن كتاب تاریخ روابط إيران والعراق: 265

(20) نشرها أيضا الباحث علي الخاقاني في الجزء السادس من موسوعته شعراء الغري وذلك في الصفحات:104-112، ثم أعاد نشرها الأستاذ علاء أل جعفر في

ص: 134

مقدمته للطبعة الثانية المحققة من كتاب أصل الشيعة و أصولها للشيخ آل کاشف الغطاء وذلك في الصفحات: 79 وما بعدها، ونشرت أيضا في مقدمة السيد محمد علي القاضي الطباطبائي لكتاب ( جنة المأوى) للشيخ كاشف الغطاء في الصفحات 28-32، ثم أعاد نشرها الدكتور الشيخ محمد حسين الصغير في كتابه أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف: 182-193.

(21) سورة الأنعام: 152.

(22) سورة الأنعام: 151

(23) سورة النساء: 43.

(24) سورة البقرة : 35.

(25) سورة التوبة : 28.

(26) سورة البلد: 10.

(27) سورة الإنسان 3.

(28) نقلا عن مقدمة كتاب جنة المأوى للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء. بقلم: السيد محمد علي القاضي الطباطبائي : 28-32

(29) رحلات عبد الوهاب عزام: 62 وما بعدها.

ص: 135

ص: 136

الفَصلُ الرَّابع

إشارة:

الاجتهاد

يتضمن هذا الفصل مباحث أربعة هي:

المبحث الأول : الاجتهاد في المعجم العربي وفي المصطلح.

المبحث الثاني : معدات الاجتهاد الشرعي.

المبحث الثالث: شهادة خريج حوزة النجف الأشرف.

المبحث الرابع: برنامج يوم عمل لأستاذ مجتهد في حوزة النجف الأشرف.

ص: 137

ص: 138

المبحث الأول: الاجتهاد في المعجم العربي وفي المصطلح

الاجتهاد في المعجم العربي مشتق من الجهد، وهو بذل الوسع للقيام بعمل ما، وهو لا يكون إلّا في الأشياء التي في حملها ثقل، فيقال مثلا إن فلانا اجتهد في حمل صخرة، بينما لا يقال أن فلانا اجتهد في حمل ورقة.

أما الاجتهاد في المصطلح فقد نشب خلاف بين العلماء في تعريفه وتحديده، والأنسب في تعريفه بمفهومه العام أن يقال بأنه ملكة تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية شرعية أو عقلية، وهذا التعريف منتزع مما تبنته مدرسة النجف الأشرف الحديثة في علم الأصول(1)، والمجتهد هو من تتوفر فيه هذه الخصيصة.

أو هو بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من مداركها المقررة، وهي القرآن الكريم والسنة بمعونة القواعد الأصولية المستدل على صحتها وفقا للأسس الموضوعة، بعد دراسة العلوم التي تساعد على ذلك. وبموجب ما تقدم فلا يدخل القياس ولا الاستحسان ولا المصالح المرسلة ولا العرف ولا شرع من قبلنا ولا مذهب الصحابي ولا الاعتماد على الرأي الشخصي لبطلانها. ويقال للقادر على استخراج الأحكام من مصادرها (مجتهد).

فإذا انتهى طالب الحوزة العلمية من دراسة المقدمات دراسة مستوعبة، ثم أعقبها بدراسة السطوح دراسة معمقة، ثم أنهى مرحلة البحث الخارج بتدقيق وتحقيق، فقد

ص: 139


1- الأصول العامة للفقه المقارن : 545. (باختصار).

تأهل لدخول مرحلة الاجتهاد من خلال البحث في الأدلة التفصيلية بشكل واسع ومعمق ليختار منها ما يسوقه إليه اجتهاده في المسائل التي تعرض له أو يسأله غيره عنها. فإذا وجد الباحث المجد المستقصي ممن أنهى مرحلة البحث الخارج في نفسه بصدق وإخلاص وتجرد وصفاء نية وقصد قربة للّه عز وجل القدرة على البحث المعمق في المسائل الفقهية والأصولية واستقصاء الأدلة من مصادرها، ودقة تحليل النصوص، ومناقشة الآراء المختلفة فيها بعمق وإرجاع الأدلة الظنية منها إلى أدلة قطعية ومن ثم الوصول إلى رأي مستقل يذهب إليه فيما يبحث ويناقش ويتبناه ويحسن الدفاع الرصين عنه، عدَّ آنذاك مجتهداً.

و من الأهمية بمكان تبيان أن المجتهد ليس من يستطيع النقض والإبرام ثم يخصم بسرعة، بل هو الذي يستطيع المتابعة حتى النهاية على وجه يستطيع إرجاع كل دليل ظني إلى قطعي مهما طالت السلسلة، أما الذي يرجع الدليل الظني إلى مثله، ثم يدعمه بقوله أفتى به فلان أو قاله فلان أو ذكره جماعة فهو يستدل على الظني بمثله وعلى النظري بالنظري، ومثله يعتبر جهلاً في جهل وليس لصاحبه في ميزان التحقيق نصيب من العلم(1).

هذا و من الجدير بالذكر أن ما جعل الاجتهاد في مذهب أهل البيت يمتاز عن غيره هو صدور القواعد الأصولية والفقهية الكثيرة التي يعتمد عليها الاجتهاد من الائمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) وخاصة الإمامين : محمد بن علي بن الحسين الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق (عَلَيهِمَا السَّلَامُ)، فإن الروايات الدالة على الاستصحاب، والبراءة الشرعية، وقاعدة اليد، والسوق، وأصالة الصحة (أي حمل فعل المسلم على الصحيح)، وأصالة الطهارة، وأصالة الحل (الإباحة)، وقاعدتي لا ضرر ولا حرج، وكيفية ترجيح الروايات المتعارضة، وعشرات القواعد الأخر كلها دالة على إحاطة الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) بهذه القواعد، وتعليمهم الفقهاء لها،

ص: 140


1- موسوعة النجف الأشرف جامعة النجف الدينية 6 / 207 نقلا عن كتاب جامعة النجف للشيخ محمد تقي الفقيه.

وإن كانت العناوين والتسميات قد ظهرت بعد ذلك، فالاستصحاب تدل رواياته على واقع الاستصحاب وهو (جرّ الحالة السابقة من حيث الحكم أو الموضوع) وإن لم يطلق عليه عنوان الاستصحاب آنذاك. وكان الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) يربون تلاميذهم كلّا في فرعه الخاص به، فكانوا يعلمون الكلاميين منهم كيفية المناظرة، والفقهاء كيفية الاستنباط، فقد سأل الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ) سائل عن المسح على مرارة وضعها على ظفره المقطوع، فقال (عَلَيهِ السَّلَامُ): «يعرف هذا واشباهه من كتاب اللّه عزّ وجلّ قال اللّه تعالى: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج»(1) امسح عليه»(2).

عند

وقد ورد عن الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) قوله : «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع»(3) أما ماورد عنهم (عَلَيهِم السَّلَامُ) من رفض الاجتهاد فالمقصود منه رفض ما كان متعارفا عند غيرهم آنذاك من الأخذ بالرأي والعمل بالقياس والاستحسان لا الاجتهاد بالمعنى المتقدم.

ويوضح باحث من غير أتباع مذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وهو يتحدث عن الاجتهاد أتباع المذاهب الأخرى مميزا بينه وبين الاجتهاد في مذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) بقوله: إن الصورة المتوارثة عن جهابذة أهل السنة أن الاجتهاد قفل بأئمة الفقه أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل هذا إذا عنينا الاجتهاد المطلق أما ما حاوله الفقهاء بعد هؤلاء من اجتهاد لا يعلو أن يكون اجتهادا في المذهب أو اجتهاداً جزئيا بالفروع، وأن هذا ونحوه لا يكاد يتجاوز عند أهل السنة القرن الرابع بحال من الأحوال، أما ما جاء عن الغزالي في القرن الخامس وأبو طاهر السلفي في القرن السادس وعز الدين عبد السلام وبن دقيق العيد في القرن السابع وتقي الدين السبكي والمبتدع في القرن الثامن والعلامة جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي في القرن التاسع فإن هذا ونحوه لا يتجاوز في نظر المنهج العلمي الحديث باب الفتوى ولا يدخل في شيء من الاجتهاد.

أما علماء الشيعة الإمامية فإنهم يبيحون لأنفسهم الاجتهاد في جميع الصور التي

ص: 141


1- سورة الحج: 78.
2- وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة. الحر العاملي: 1 / 327
3- المصدر السابق : 18 / 41.

حدثناك عنها ويصرن عليه كل الإصرار ولا يقفلون بابه دون علمائهم في أي قرن من القرون حتى يومنا هذا وأكثر من ذلك نراهم يفترضون بل يشترطون وجود المجتهد المعاصر بين ظهرانيهم ويوجبون على الشيعة إتباعه رأسا دون من مات من المجتهدين وليس هذا غاية ما يلفت نظري أو يستهوي فؤادي في قولهم بالاجتهاد، وإنما الجميل الجديد في هذه المسألة أن الاجتهاد على هذا النحو الذي نقرأه عنهم يساير سنن الحياة وتطورها ويجعل النصوص الشرعية حية متحركة نامية متطورة تتمشى مع نواميس الزمن والمكان فلا تجمد ذلك الجمود الموصد الذي يباعد بين الدين والدنيا أو بين العقيدة والتطور العلمي وهو الأمر الذي نشاهده في أكثر المذاهب التي تخالفهم.

ص: 142

المبحث الثاني: معدات الاجتهاد الشرعي

معدات الاجتهاد الشرعي عديدة منها ما يتصل بالقدرة على تفسير القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع وبالأخص ما يتعلق بآيات الأحكام منه بحيث يتعرف الباحث على الخاص والعام والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، ومنها الإحاطة الوافية بالأحاديث الشريفة التي هي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم، ومنها القدرة على تحقيق نسبة النص إلى قائله، كأن تكون للباذل جهده كي يحوز على ملكة الاجتهاد خبرة بعلم الجرح والتعديل بما يضمن له التأكد من سلامة رواة الحديث ووثوقهم فيما ينقلون، وأن يكون على دراية بتحقيق النصوص والتأكد من سلامتها من الخطأ أو التحريف، وعلى علم ومعرفة بمصادر النصوص الشرعية ومظانها المتعددة التي تعينه على الوصول لغرضه العلمي، وأن يكون مؤهلا لالتماس الحجية للروايات من قبل الشارع المقدس باعتبارها من أخبار الآحاد التي توجب القطع بمضمونها، وذا خبرة بالمرجحات التي جعلها الشارع المقدس أو أمضاها في حالة التعارض بينها.

ومن معدات الاجتهاد أيضا ما يتصل بالعلوم المساعدة التي لابدّ لمن أراد الاجتهاد أن يستوعبها ومن أهمها أن تكون له خبرة لغوية تؤهله لأن يفهم مواد الكلمات ويؤرخ لها على أساس زمني، وأن يكون على علم بوضع قسم من الهيئات والصيغ الخاصة كهيئات المشتقات وصيغ الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد

ص: 143

وغيرها، وعلى معرفة واسعة بمسائل النحو والتصريف، وقدرة عالية في فهم أساليب العرب من وجهة بلاغية وتقييمها وإدراك جملة خصائصها، وهذا ما لا يتأتى في الغالب من دراسة كتب البلاغة التقليدية لانشغالها عن مهمتها الأساسية بمماحكات لفظية، أما التماس النصوص البليغة ودراستها وتقييمها فهذا ما لا يتفق أن تعنى به إلّا نادرا، وبما أن أهم مصادر التشريع عندنا هما الكتاب والسنة، وهما في أعلى مستويات البلاغة، وبخاصة القرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة، فإن فهمهما مما يحتاج إلى حس بلاغي لا يتوفر إلّا في القليل من البلغاء ممن تكوّن لديهم ذلك الحس بفضل تتبع واستظهار وتقييم كثير من النصوص البليغة في عصر القرآن وغيره.

ومن معدات الاجتهاد كذلك الإحاطة التاريخية بالأزمان التي رافقت تكوّن السنة، وما وقع فيها من أحداث، كي يستطيع الباحث أن يضع النصوص التشريعية في موضعها الزمني وفي أجوائها وملابساتها الخاصة، ومن هنا تنبع أهمية معرفة أسباب النزول في الكتاب العزيز والبواعث لتبليغ التشريع في السنة إن كانت لما يلقيان من أضواء على طبيعة الحكم، وأن تكون لمريد الاجتهاد خبرة بأساليب الجمع بين النصوص كتقديم الناسخ على المنسوخ والخاص على العام والمطلق على المقيد وكالتعرف على موارد حكومة بعض الأدلة على بعض، أو ورودها عليها.

وأخيرا وليس آخرا أن يكون الساعي لتحصيل ملكة الاجتهاد على ثقة بعد اجتياز المرحلة السابقة وتحصيل ظهور النص بحجية مثل هذا الظهور.

هذا كله بالنسبة إلى الطرق الكاشفة عن الكتاب والسنة، أما الطرق الأخرى الكاشفة عن الحكم الشرعي أو الوظيفة العملية من غير طريقها، فحسب الفقيه أن يحيط بما حرر في كتب الأصول الموسعة ليعرف الحجة منها من غير الحجة، ويعرف أيضا موارد جريانها و أصول الجمع بينها، ولا يقتصر في ذلك كله على الأخذ برأي فريق دون

ص: 144

فريق، بل يمحصها جهده ويكوّن لنفسه رأيا لأن التقليد في أصول الفقه محق للاجتهاد من أساسه.

إن ملكة الاجتهاد إنما تنشأ من الإحاطة بكل ما يرتكز عليه قياس الاستنباط، سواء ما وقع منه موقع الصغرى لقياس الاستنباط كالوسائل التي يتوقف عليها تحقيق النص وفهمه، أو كبراه كمباحث الحجج والأصول العملية. كما ان سالك طريق الاجتهاد لا يمكن أن يبلغ مرتبته حتى يمر بها جميعا ليكون على حجة فيما لو أقدم على إعمال هذه الملكة. فالذي يعرف مثلا وسائل تحقيق النص وفهمه دون أن يجتهد في معرفة بقية الحجج والأصول على نحو يكوّن لنفسه رأياً لا يتداخله الوهم أو الشك لا يسوغ له ادعاء الاجتهاد ولا استنباط حكم واحد لعدم المؤمن له من قيام حجة يجهلها من الحجج الأخرى على خلاف ما استفاده من النص وقد تكون سمة هذه الجهة المجهولة لديه سمة الحاكم أو الوارد على ذلك النص.

كما يُطلب من المجتهد كما يرى بعض الباحثين تحصيل القدرة على تحليل القضايا والوقوف على أبعادها ومعرفة موضوعاتها الواقعية لئلا تترتب الأحكام على غير موضوعاتها وكذلك معرفة أعراف المجتمع وعاداته وأوضاعه لتتناسب الأحكام التي يصدرها المجتهد مع الحالات السائدة في المجتمع فمثلا كان صمت المرأة في العصور الموروثة عند سؤالها عن رايها في الزواج دليلا على رضاها كما جاء في الحديث إذنها صمتها الذي كان مبتنياً على العرف السائد في عصر صدوره. إلّا أن المجتمع بات لا يكتفي في العصر الراهن بصمت المرأة في هذه الحالة وذلك لتغير العرف الذي يرى أن على المرأة الإعراب عن رضاها لفظا، ومنها المعرفة بأوضاع المجتمعات الأخرى ومتطلباتها وعلاقاتها وهذا الأمر يعين المجتهد كثيرا في استنباط المسائل المتصلة بالعلاقات الدولية ومنها معرفة الموضوعات الفقهية فإن الموضوعات التي لا تخضع

ص: 145

لدراسة دقيقة لا يمكن بيان أحكامها بصورة واضحة لأن الحكم تابع للموضوع كما أن العرض تابع للمعروض والحكم يحمل دائما على موضوع معين فإذا أحاط الإبهام بالموضوع كان الحكم المتعلق به مبهما أيضا فإن وضوح الموضوع يثمر حكما واضحا وإذا أظهرت الدراسات الجديدة حول موضوع معين حدوث تغير فيه أو في إحدى خصائصه الداخلية أو الخارجية فإن هذا يستدعي إصدار حكم جديد يتناسب والتغير الذي عرض للموضوع لذلك لا بد للمجتهد من مواكبة تطورات العصر ودراسة الموضوع ضمن ظروفه الزمانية والمكانية ومن الطبيعي أن هذا لا يعني لزوم معالجة الموضوعات من طرف المجتهد نفسه إذ يمكنه الاستعانة بأهل الاختصاص والخبرة في كل حقل من الحقول وأمثال ذلك.

هذا ويشترط في مَن يجوز تقليده الاجتهاد، ويثبت بالاختبار فيما إذا كان المقلِّد قادرا على تشخيص ذلك وبشهادة عدلين من أهل الخبرة، وأن لا تعارضها شهادة مثلها بالخلاف، وبالشياع ويقصد به أن يكون اجتهاد مجتهد أو أعلميته متسالما عليه عند كثير من الناس بحيث يحصل اليقين أو الاطمئنان بذلك ويمكن استكشاف الاجتهاد أو الأعلمية في من يتصدى للمرجعية بما دأب عليه العلماء وأهل الخبرة والمحققون السابقون واللاحقون، فقد كانوا ينظرون إلى عدة أمور وقضايا مهمة تعتبر مؤشرا لهذه الحقيقة:

أولها: ما يرتبط بأصل وجود هذا المستوى من العلم وهو الاجتهاد المطلق بالنسبة لمن يدعي المرجعية، ذلك أن المتصدي للمرجعية لا بدّ أن يكون مجتهدا معترفا به في المؤسسة العلمية المتخصصة، وهي الحوزة العلمية، بأن يتولد لدى علماء الحوزة العلمية ومدرسيها وفضلائها وطلابها رأي عام بقبول دعوى الاجتهاد المطلق للشخص المعين.

إن هذه القرينة العلمية المتبعة في كل شأن علمي يراد استكشاف مدعي تحصيله،

ص: 146

هي خير مائز بين المجتهدين الحقيقيين ومدعي الاجتهاد، ذلك أن أي درجة علمية عالية لا يمكن القبول بدعوى مدعيها ما لم يرجع إلى المؤسسة العلمية التي تخرج منها للوقوف على حقيقة دعواه، فالطبيب مثلا لا يمكن القبول بادعائه الحصول على مستوى عال من التخصص ما لم يكن هناك اعتراف بمستواه العلمي المتقدم من قبل المؤسسات الطبية والجامعات العلمية وزملائه الأطباء، وبدون هذا الاعتراف لا يمكن قبول دعوى من مدعي الحصول على هذه المرتبة الطبية العالية، وحال مدعي الاجتهاد في الفقه حاله حال مدعي التخصص العالي في الطب وغيره من العلوم الأخرى.

ثانيها: وجود الكتب العلمية التخصصية في الفقه و أصوله لهذا الشخص الذي يدعي المرجعية بحيث يستطيع الباحث المتخصص أو الخبير في الفقه و أصوله لا الشخص غير المتخصص أن يقيم مستواها العلمي الرفيع فيحكم على مؤلفها ويحدد مستوى فضله من خلال ما كتب وألّف.

ثالثها تخرج عدد من علماء الحوزة وفضلائها على يديه يشهدون له بالعمق العلمي والبحث الدؤوب والاجتهاد المطلق، ذلك أن طبيعة الحوزة العلمية هي طبيعة بحث مستمر وأخذ وعطاء، فالطالب فيها هو أستاذ لمن هو أدنى منه درجة علمية وهو في الوقت نفسه تلميذ عند من هو أعلى منه درجة علمية،وهكذا، وحين يشهد طلابه العدول الصادقون مع أنفسهم والمتقدمون في دراستهم باجتهاده وفضله العلمي، فإن هذه الشهادة توحي بالثقة بمستواه.

وقد دأب بعض الأساتذة المجتهدين على منح شهادة اجتهاد لبعض طلابهم المتميزين اعترافا منهم بفضلهم واجتهادهم ومستواهم العلمي.

ص: 147

ص: 148

المبحث الثالث: شهادة خريج حوزة النجف الأشرف

جرت العادة أن لا تمنح الشهادة إلا لداع معتدّ به، وغالبا ما يكون ذلك عندما يعتزم الطالب العودة إلى بلده عودة نهائية بعد انتهاء دراسته في النجف الأشرف حيث تطلب نه الإجازة في بلده كتوثيق لمستواه العلمي، حينها يأخذون شهادات من أساتذتهم ومن الرئيس الديني (المرجع الأعلى) وتلك الشهادات تتضمن في اصطلاحاتها مقدار درجات حامليها، وهذه المصطلحات يعرفها الخاصة وهم بدورهم يعطون عن حامليها صورة إلى السواد، فهي نظير الشهادات التي يحملها طلاب الجامعات الحديثة فإنها تتضمن مصطلحات لا يفهمها إلّا القليل.

وعندما يريد الطالب الشهادة يرفع الأمر إلى أساتذته والى الرئيس الأعلى مباشرة أو بواسطة، فإن كانوا يعرفونه معرفة كاملة كتبوا له شهادات بخطوطهم ومن إنشائهم، فإن كان متميزا في ناحية أسهبوا في تلك الناحية، فإن كان متميّزا بالفضل نوّهوا بفضله، وإن كان متميّزا بالعقل نوّهوا بعقله، وإن كان متميزا بالورع نوهوا بورعه، وإن كان متميزا فيها كلها نوهوا بالجميع. يفعلون ذلك تعزيزا للعلم والدين والتماسا لرضا اللّه سبحانه، ويرون ذلك حقا من حقوق الطالب ومن حقوق المجتمع، فليقيموا الحجة بإرشادهم إلى اتباع من ينتفعون به باتباعه، وإن كانوا لا يعرفونه المعرفة الكافية، تعرفّوا عن عقله وفضله وتقواه ممن يثقون بدينهم وأمانتهم ولياقتهم للتمييز، فإن شهدوا له، كلفوا بكتابة ورقة تتضمن ما شهدوا به، وهم بدورهم يتحرجون من ذلك، لأن

ص: 149

الرقابة العامة توجه التبعات على من كتب فإن كان ما كتبه دون مستوى المكتوب له طولب بذلك، وإن كان فوقه كان الأمر كذلك. ثم إذا كتبت الورقة بقيت أياما عند من يطلب منه توقيعها، تبقى للرقابة والتدقيق وتكون خاضعة للتبديل والتعديل، فإن كانوا يعرفونه أعطوا رأيهم، وإلّا استمهلوا واشتغلوا بالتنقيب، والتدقيق، كل ذلك بشكل هادئ إلى الغاية، وبعد ذلك كله يضيف الرئيس إلى المسودة ما يريد أو يضرب على ما لا يرتضيه، ثم يأمر بتبيضها.

وفي هذه الفترة يبقى صاحب الحاجة منتظرا ويطلب توقيع الورقة، فيقال له وقت آخر لا داعي للعجلة المسألة تحتاج إلى ترو، متى عزمت على السفر؟ فيقول بعد أسبوع مثلا، فيقال له الوقت واسع.

فأنت ترى شدة حراجة الأستاذ في كتابته للشهادة ودقة تثبته وتدقيقه قبل منحها، وأنها لا تمنح إلّا بعد أن يطمئن أستاذ البحث الخارج أو أساتذته إلى قدرة الطالب العلمية والمعرفية لما ينوون منحه إياه، ويتأكد أو يتأكدوا من نبوغه في العلم وحيازته على ملكة الاستنباط فيما لو كانت الشهادة شهادة بالاجتهاد بحيث يتضح ذلك عند المرجع الأعلى مثلا من خلال تمكّن الطالب من مسك ناصية البحث والتحليل والاستنباط و مناقشة الأقوال ومحاكمة الآراء والانتهاء من الأدلة الظنية إلى الأدلة القطعية، مع القدرة على الدفاع العلمي الرصين عنها، ومن ثم صياغة أدلته ونتيجة أدلته صياغة فنية من خلال الجمع بين الأحاديث المتعارضة وترجيح بعضها على بعض بالأدلة المقنعة بعد تقليب وجوه الرأي في المسألة محل البحث حينذاك قد يشهد له أستاذه أو أساتذته بالاجتهاد، فينتقل الطالب بعد قطع هذه المرحلة الطويلة من البحث والمتابعة والتحري والاستقصاء التي ربما تستغرق ربع قرن إلى الاجتهاد وإبداء الرأي التي هي عنده أغلى من كل نفيس ولا يكون فيها تمويه ولا تدليس ولا يحوز الشهادة منها بغير الكفاءة

ص: 150

الحقيقية والأهلية الثابتة.

وخلال هذه الفترة الطويلة المليئة بالجدية والنشاط والبذل والسعي والمشقة التي قضاها الطالب المحصل المصحوبة عادة بمتابعة أطراف من الثقافات والحضارات الأخرى التي قد لا تتصل برسالته في الصميم، إلا أنها كذلك ليست بعيدة عنها ما يضع الباحث المتابع لما تنتجه الحضارة اليوم على تماس مباشر بكل ما يعينه على تكوين وجهة نظر علمية رصينة فيما يتصدى له من قضايا معرفية في مجال اختصاصه من جهة، وغير بعيدة عن أجواء المعرفة المعاصرة في غير اختصاصه من جهة أخرى.

إنَّ الحوزة العلمية إذ توصل الطالب المجد إلى هذه المرحلة المتقدمة مرحلة الاجتهاد التي تمكنه من الإحاطة بمعارف الشريعة الغراء أصولاً وفروعاً من مصادرها المعتبرة، وبما تضعه بين يديه من آليات البحث والاستقراء والاستنتاج والاستنباط، تتيح له من التفتح الذهني والمعرفي ما يمكنه فيما لو استثمره الاستثمار الأمثل ورفده بمستجدات الحاضر أن يقدم خدمة نافعة للعلم وللمجتمع في آن.

وقد حرص ويحرص طلاب العلم على أن يدرسوا علومهم الدينية في حوزة النجف الأشرف كي يحوزوا شهادة الاجتهاد منها فمنذ القرن الثاني عشر ازدلفت إلى النجف من سائر اصناف الشيعة جمّ غفير وجعلوا يحثون الركاب اليها من كل فج وصوب ولا تنس ما يحدث بذلك من احتكاك الأفكار وتبادل الآراء وما ينتج منهما، ذاك النتاج الذي أثر في النجف أثرا خالدا حتى كساها سمعة في سائر العلوم أضعاف سمعتها الأولى وتقدمت بهم النجف تقدما باهرا محسوسا وطفقوا يتسابقون في مضمار الجد والاجتهاد لينالوا الشهادة من تلك الكلية الكبرى فإذا بلغ الطالب الغاية وحاز قصب السبق آب إلى وطنه وهو حامل تلك (الإجازة) العالمية الثمينة، فإذا حل بين ظهراني قومه نشر فيهم معارفه ولمعت في ربوعهم أنواره.

ص: 151

وهكذا انتشر خريجو الحوزة العلمية النجفية في أنحاء العالم الشيعي شرقه وغربه مما يصعب إحصاء توزيعهم الجغرافي إلا من خلال جهد متخصص تبذله مؤسسات مصممة لهذا الغرض.

أما طريقة كتابة إجازات الاجتهاد فهي مختلفة حسب طريقة الأستاذ نفسه، فبعض الأساتذة يميلون إلى الاختصار في الكتابة أكثر من بعضهم الآخر. ولكن الشيء المهم في الإجازة النص على بلوغ حاملها مرتبة (الاجتهاد).

ويحسن بي هنا أن أثبت نموذجين لإجازتين منها سبق أن منحتا للمرجع الأعلى اليوم سماحة السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله)، أولى هذه الإجازات منحت له من قبل أستاذه سماحة السيد الخوئي (قدّس سِرُّه)، وثانيهما من أستاذه الآخر سماحة الشيخ حسين الحلي (قدّس سِرُّه) وفيما يأتي نص الإجازتين:

1- نص إجازة الاجتهاد التي منحها إياه آية اللّه العظمى السيد الخوئي (قدّس سِرُّه).

«الحمد للّه رفع منازل العلماء حتى جعلهم بمنزلة الأنبياء وفضّل مدادهم على دماء الشهداء وافضل صلواته وتحياته على من اصطفاه من الأولين والآخرين وبعث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد فان شرف العلم لا يخفى وفضله لا يحصى قدر ورثة أهله من الأنبياء، ونالوا به نيابة خاتم الاوصياء (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما دامت الارض والسماء وممن سلك في طلبه مسلك صالحي السلف هو جناب العالم العامل، والفاضل الكامل، سند الفقهاء العظام، حجة الإسلام السيد علي السيستاني ادام اللّه ايام افاضته وافضاله وكثر في العلماء العاملين امثاله فانه قد بذل في هذا السبيل شطراً من عمره الشريف معتكفاً بجوار وصي خاتم الأنبياء في النجف الأشرف على مشرفها آلاف التحية والثناء، وقد حضر أبحاثي الفقهية

ص: 152

والأصولية حضور تفهم وتحقيق وتعمق وتدقيق، حتى ادرك والحمد اللّه مناهج، ونال مبتغاه وفاز بالمراد وحاز ملكة الاجتهاد فله العمل بما يستنبطه من الاحكام فليحمد الله سبحانه على ما،اولاه وليشكره على ما حباه.

وقد اجزته ان يروي عنّي جميع ما صحت لي روايته من الكتب الاربعة التي عليها المدار (الكافي والفقيه والتهذيب والاستبصار) والجوامع الاخيرة: الوسائل ومستدركه والوافي والبحار وغيرها من مصنفات اصحابنا وما رووه عن غيرنا بحق اجازتي من مشايخي العظام باسانيدهم المنتهية إلى أهل البيت (عليهم افضل الصلاة والسلام) وأوصيه دامت تاييداته بملازمة التقوى وسلوك سبيل الاحتياط فانه ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط وان لا ينساني من صالح الدعوات كما اني لا أنساه ان شاء اللّه تعالى والسلام عليه ورحمة اللّه وبركاته».

أبو القاسم الموسوي الخوئي

حررت في اليوم الرابع من شهر ذي الحجة الحرام سنة 1380ه/ 1961م

(تنظر صورتها الخطية في الملحق الرابع)

2- نص إجازة الاجتهاد التي منحها إياه آية اللّه الشيخ حسين الحلي (قدّس سِرُّه).

«الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين. وبعد فان فضل العلم لا يخفى و به تنال السعادة الابدية العظمى وممن بذل الهمة في تحصيله وصرف على ذلك برهة من عمرة جناب الثقة العلامة المحقق حجة الإسلام السيد علي نجل المرحوم العالم المقدس الحاج السيد محمد باقر الحسيني السيستاني الخراساني طاب ثراه، فان جنابه قد حضر ابحاثي سنين عديدة حضور تفهم وتحقيق، وتامل وتدقيق، مجداً في تحريرها مجيداً في تحقيقها، وقد كثرت المذاكرة معه فوجدته بالغاً مرتبة الاجتهاد

ص: 153

وقادر على الاستنباط، فله العمل بأنظاره في المسائل الشرعية والاحكام الفرعية على حسب الطريقة المعروفة التي جرى عليها مشايخنا العظام واساتذتنا الكرام (قدس اللّه اسرارهم) وقد اجزت الجنابه ان يروي عني كل ما صحت لي روايته باسنادي عن مشايخنا العظام قدست اسرارهم، وأوصيه بملازمة التقوى وطريق الاحتياط وارجوه ان لا ينساني في الدعاء والسلام عليه ورحمة اللّه وبركاته».

17 ذق سنة 1380ه / 1961م

الأقل حسين الحلي

(تنظر صورتها الخطية في الملحق الرابع)

ص: 154

المبحث الرابع: برنامج يوم عمل لأستاذ مجتهد في حوزة النجف الأشرف

إشارة:

كثيرا ما يستغرق العمل العلمي جل وقت الأستاذ المجتهد في حوزة النجف الأشرف مستوعبا أطراف نهاره وآناء ليله لما عرفت به حوزة النجف الأشرف من أصالة وعمق وسعة بحث وتدقيق وكثرة تمحيص وتحقيق، وليس أدل على ذلك مما تناوله برنامج يوم عمل لأستاذين من أساتذتها الحاليين هما سماحة الشيخ باقر الإيرواني (حفظه اللّه) وسماحة الشيخ محمد سند حيث أجابني كل منهما مشكورا عن سؤالي المتعلق ببرنامج يوم عمل دراسي من أيام اشتغاله العلمي واعتذر آخرون، ولكل عذره وظروفه

وفيما يأتي برنامج يوم عمل كل منهما مبتدئا ببرنامج سماحة الشيخ باقر الإيرواني:

أولا - برنامج يوم عمل لسماحة الشيخ باقر الإيرواني

قال الشيخ الإيرواني جوابا عن سؤالي عن برنامج يوم عمله أيام اشتغاله بما نصه:

عشقت الكتاب والعلم منذ فتحت عيني وأنا أعيش في أحان حوزة النجف الأشرف فدرست و درست وتعلمت وعلمّت حتى درّست الكتاب الأصولي المعروف (كفاية الأصول) عشرين دورة تقريبا وقد ضبط على الكاسيت والسيديات ثلاث دورات منها أو أكثر.

أنا الآن اليوم أدرس في حوزة النجف الأشرف كل يوم أربعة دروس صباحاً،

ص: 155

وبعد الظهر أشرف على اجتماع علمي يضم بعض الفضلاء بهدف التدريب العملي على الأبحاث العلمية.

وقد جرت عادتي على الاستيقاظ مبكراً فترة الصباح، وبعد أداء مراسيم العبادة أمارس من جديد تحضير الدروس التي أريد إلقاءها حيث إني أمر بمراحل ثلاث في عملية التحضير للدرس

المرحلة الأولى: أقوم بها في فترة التعطيل الصيفي، حيث أحاول تحضير جميع المادة التي أريد إلقاءها خلال السنة الدراسية القادمة ثم أقوم بضبطها في دفتر خاص، ذلك أن الفترة في يوم إلقاء المحاضرة لا تسع لتحضير أربعة دروس ذات مستوى عالٍ، إذا أن تحضير محاضرة واحدة قد يستدعي أحيانا يوما كاملاً، بل أياماً. فكيف إذا كانت المحاضرات في كل يوم أربع.

وقد أحتاج أحيانا في البحث عن حديث واحد من حيث سنده ودلالته إلى ساعات.

إضافة إلى أن المسألة ليست مسألة تجميع من هنا وهناك بل مسألة تفكير وتأمل بالموضوع بالكامل لمناقشة الآراء الأخرى في المسألة والتوصل إلى رأي فيها.

والمرحلة الثانية أقوم فيها بالتحضير ليلاً، أي قبل يوم المحاضرة، والتحضير في كل ليلة يتم بمقدار المحاضرة التي يراد إلقاؤها في اليوم التالي، وقد يتم التوصل إلى اشياء مستجدة لم يتم التوصل إليها في المرحلة السابقة. وفي صباح اليوم الجديد بعد أداء مراسيم العبادة أبدأ بالمرحلة الثالثة حيث استحضار كامل للمحارة من جديد وترتيب لمنهجيتها وكيفية إلقائها وسد ثغراتها.

وبعد انتهاء التحضير المذكور وتناول وجبة افطار سريعة اذهب إلى مجلس الدرس الأول الذي يبدأ في الساعة السابعة صباحاً، والدرس الأول هو (خارج الفقه)

ص: 156

ويستغرق عادة فترة أربعين دقيقة، ثم في الساعة الثامنة اشرع بتدريس (خارج الأصول) والفترة المتخللة بين الدرسين أتركها للأخوة الطلبة لطرح اسئلتهم وإشكالاتهم ونقاط الغموض بمادة المحاضرة التي استمعوا إليها والجواب عنها (ينظر الملحق الخامس)، ثم في الساعة التاسعة أشرع بدرس (المكاسب) وفي الساعة العاشرة أشرع بدرس (كفاية الأصول)، وفي الفترات المتخللة بين كل درس ودرس يطرح الإخوة الحضور أسئلتهم كما كان شأن الذين سبقوهم من طلاب البحث الخارج، ثم بعد الانتهاء من الدرس الأخير أبقى لابثاً في قاعة المحاضرة لفترة نصف ساعة وربما تزيد أحياناً لاستقبال الأخوة سواء أكانوا من حضار الدرس ام من الناس الآخرين للجواب عن أسئلتهم أو حل بعض مشاكلهم.

وبعد الرجوع للبيت قبل الظهر أشرع مباشرة بكتابة ما بدأت به من بحوث، وقد تستغرق الكتابة تلك أحياناً ثلاث ساعات أو أربع متواصلة أقطعها عادة بعد أن يحل وقت الظهر لأداء مراسيم العبادة حتى إذا انتهيت منها اشتغلت من جديد وبسرعة في مواصلة كتابة شرح الكفاية.

وقد جرت العادة عند تناولي وجبة طعام الظهر أن أقوم بسماع نشرة الأخبار من خلال التلفاز للاطلاع على الأخبار العالمية وبخاصة ما يجري منها على الساحة العراقية ثم بعد انتهائي من وجبة طعام الظهر أواصل الاستمرار في كتابة شرح الكفاية حتى حلول الساعة الرابعة من بعد الظهر حيث أذهب للإشراف على المحاضرة التي تختص ببعض الفضلاء وقبيل الغروب بنصف ساعة تقريبا أرجع إلى البيت بسرعة لأواصل تحضير دروس اليوم التالي وأبقى مستمرا في تحضيرها بعد أداء مراسيم صلاتي المغرب والعشاء حتى الساعة الحادية عشرة تقريبا وفي أثناء ذلك أحاول سماع نشرة الأخبار الليلية من خلال التلفاز.

ص: 157

وليس من عادتي تناول وجبة عشاء، بل أتناول شيئا يسرا امتثالاً للأدب الشرعي. وفي يوم الأربعاء الذي هو آخر الأيام الدراسية في الأسبوع أقوم قبل انتهاء الدرس الأخير بإلقاء محاضرة أخلاقية على الأخوة الحضور بهدف حراسة الجانب المعنوي والمحافظة عليه.

وفي يومي الخميس والجمعة استقبل صباحاً إلى الظهر الإخوة الطلبة وغيرهم للجواب عن أسئلتهم أو كل مشاكلهم وقضاء ما يمكن قضاؤه من حوائجهم.

وعصر الخميس أقصد الذهاب إلى كربلاء للتشرف بزيارة الإمام الحسين وأخيه العباس (عَلَيهِم السَّلَامُ). وفي ليلة الخميس من كل أسبوع أقصد مرقد سيدي الإمام أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) للتشرف بزيارته.

والفترة المتبقية من يومي الخميس والجمعة لا أتركها تذهب سدى، فليس لي وقت زائد حتى يمكن أن يذهب سدى بل أقوم بالإجابة على الأسئلة التي توجه إلي أو بمطالعة بعض الكتب أو النشرات التي تهدى إلي، وأحاول أيضا مواصلة كتاباتي حول المنهج الجديد البديل عن مرحلة المكاسب فإني وفقت بحمد اللّه سبحانه لكتابة بعض الكتب لطلبة الحوزة العلمية وهي مورد استفادتهم.

والكتب التي تم إنجازها لحد الآن هي كما يلي

1. (الحلقة الثالثة في أسلوبها الثاني) وهو يقع في أربعة أجزاء وهو شرح لكتاب الحلقة الثالثة من حلقات السيد الشهيد محمد باقر الصدر في علم الأصول.

2. (دروس تمهيدية في القواعد الفقهية)، وهو جزءان، ويشتمل على أهم القواعد الفقهية التي يحتاج إليها طالب العلم خلال دراسته.

3. (دروس تمهيدية في القواعد الرجالية)، وهو يشتمل على أهم الأبحاث

ص: 158

الرجالية التي يحتاج إليها طالب العلم خلال دراسته.

4. (دروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام) وهو جزءان يشتمل على توضيح الآيات الكريمة المرتبطة بالأحكام الشرعية.

5. (دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي)، وهو ذو أجزاء ثلاثة ويصلح أن يكون بديلاً عن كتاب (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) وقد أخذ هذا الكتاب الأخير يشق طريقه في حوزة النجف الأشرف وحوزتي الأحساء والقطيف.

6. كتاب (كفاية الأصول في أسلوبها الثاني) في خمسة أجزاء ما يصلح أن يكون بديلاً عن مرحلة الكفاية في أصول الفقه.

7. كتاب (الفقه الاستدلالي) في جزئين ما يصلح أن يكون بديلاً عن مرحلة المكاسب، وقد خصصت الجزء الأول منهما لفقه العبادات، وخصصت الجزء الثاني منهما لفقه المعاملات.

كما طبع من أبحاثي خارج الفقه بعض الأخوة الحضور من الفضلاء كتابين هما :

1. (البشارة في شرح كتاب الإجارة) وهو بحثي الخارج في كتاب الإجارة.

2. (فقه البنوك) وهو بحثي الخارج عن بعض أحكام البنوك.

والمحاضرات التي ألقيها في الخارج أو في السطوح قد تم تسجيل أكثرها ويتداولها الأخوة من طلبة الحوزات العلمية.

وقد تم تسجيل آخر دورة من درس (كفاية الأصول) في النجف الأشرف بعد سقوط النظام السابق بعدد من المحاضرات بلغت (425) محاضرة مسجلة على (CD).

ص: 159

وأما (المكاسب) فيقرب من (900) محاضرة (والرسائل) فيقرب من (600) محاضرة وقد سجلت دروسي في تفسير آيات الأحكام، والقواعد الفقهية، والقواعد الرجالية، وفي شرح التجريد، وبداية الحكمة وغير ذلك. كما سجلت لي محاضرات في (الشرائع) و (المكاسب) من قبل الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن. كما سجلت لي محاضرات كثيرة أخلاقية يرتبط بعضها بخطب أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في نهج البلاغة وبعضها بالقران الكريم وبعضها الآخر بموضوعات عامة كنت قد ألقيت الكثير منها في شهر رمضان المبارك بعد أداء صلاة الظهر جماعة ويبث الكثير منها من بعض الإذاعات في هذه الدولة أو تلك.

ثانيا - برنامج يوم عمل لسماحة الشيخ محمد سند

قال الشيخ محمد سند جوابا على سؤالي عن برنامج يوم عمل له بما نصه:

البرنامج اليومي الذي أطوية في الحياة العلمية الحوزوية في النجف الأشرف كالتالي:

عند استيقاظي في الصباح الباكر والإفاقة من الغفوة القصيرة بعد تعقيبات صلاة الصبح هو بالتحضير للدروس التي سألقيها مع تناول مقدار تناول مقدار يسير من الإفطار كي لا يعيقني عن حيوية ونشاط التفكير، ثم أتوجه إلى موضع التدريس فألقى ثلاث دروس

الأول: البحث الخارج في علم أصول الفقه والذي هو عبارة عن الدورة الثانية التي ألقيها على مسامع أهل الفضيلة والعلم حيث استغرقت الدورة الأولى خمسة عشرة سنة وها أنا ذا في السنة الثانية من الدورة الجديدة.

الثاني: البحث الخارج في علم الفقه على متن كتاب العروة الوثقى كتاب الصلاة بعد ما انتهيت طيلة السبعة عشرة سنة من بحث كتاب الاجتهاد والتقليد وكتاب

ص: 160

الطهارة وكتاب صلاة المسافر من الكتاب المزبور (ينظر الملحق السادس).

الثالث : البحث المقارن العقائدي على كتاب (أصول الكافي) للمرحوم الكليني، وأتناول في هذا البحث المقارنة والمحاكمة بين المدارس الاعتقادية في بحوث المعارف سواء الفلسفية القديمة والحديثة الغربية أو الكلامية والتفسيرية أو العرفانية المعنوية واستعراض الإثارات الفكرية المختلفة المعاصرة، ويتم بعد كل درس المتابعة مع الأخوة الحضور حول النقاط المطروحة في الدرس وتجاذب الحديث بالسؤال منهم والجواب مني عن أبعاد المحاور الموضوعية المطروحة، كما استقبل بعد الدرس الثالث وحوار الحضور مختلف الشرائح الاجتماعية لاسيما الجامعية الأكاديمية وأتلقى اسئلتهم في مختلف المجالات وربما كانت عن الموضوعات التي اتناولها في المحاضرات التي تبث لي في الفضائيات المتعددة، ثم بعد ذلك ربما أوفق لزيارة مرقد الإمام أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) قبيل الظهر ثم اتجه لإقامة صلاة الجماعة في احد الجوامع وبعد تناول وجبة الغداء وسماع ما يتسنى من الاخبار أقضي فترة من الراحة ثم أباد في أول العصر لاستقبال عدة قليلة من الأفاضل لإدارة جلسة فقهية خاصة يتم فيها تنقيح الأدلة حول جملة من المسائل الفقهية في الأبواب وأسلوب العمل في الجلسة بنحو ورشة العمل و بنحو المشاركة، وان كانت هذه الجلسة في السابق اعقدها بعد صرتي المغرب والعشاء أو قبيل صلاة الظهر ووقت العصر مخصص لديّ لإقامة جلسة في تفسير القرآن على منهج خاص يختلف عن منهج التفسير الموضوعي وان اشترك معه في بعض الامتيازات.

وبعد صلاتي العشائين أقضي في بعض الليالي مع بعض الأخوة مراجعة بعض المدونات التي قرروها لبحوث متنوعة كنت قد ألقيتها وفي بعض الآخر من الليالي استقبل بعض اللقاءات لمواعيد مسبقة.

وبعد ذلك اتفرغ للتحضير والكتابة وتناول شيء من طعام العشاء.

ص: 161

واما ليالي وايام التعطيل كالخميس والجمعة أو بعض المناسبات فأقيم ليلاً بحث فقهي تعطيلي مشاركي مع الأخوة الحضور مع طبيعة ذلك اليوم وقد انجزت جملة من الكتب الفقهية المطولة في سلسلة أيام التعطيل كدورة استدلالية في الحج وقد طبعت ودورة في كتاب النكاح مما يتصل بقوانين الأحوال الشخصية كما انه لدي سلسلة جلسات متواصلة أيام التعطيل نتناول المسائل المستبعدة المستحدثة سواء في مجال المال والمصارف وقد طبع أو الطب وقد طبع أيضاً أو نظم الدولة وقد طبع أو مسائل الفلك الفقهية وقد طبع أيضاً أو نظم الدولة وقد طبع منه بعض الأجزاء.

وقد طبع لي مما كتبته بقلمي أو بقلم جملة من الفضلاء الحاضرين لدي في أبحاثي :

1. سند العروة الوثقى، شرح استدلالي لكتاب العروة الوثقى وقد طبع منه أحدى عشر جزءاً وهناك ثلاث أجزاء منه أخرى تحت الطبع أيضاً.

2. سلسلة من فقه المسائل المستحدثة

أ) ملكية الدولة

ب) الهيويات الفقهية وقد طبع ثلاث مرات

ج) فقه المصارف والبنوك وقد طبع ثلاث مرات

د) فقه الطب وقد طبع مرتين.

1. بحوث في مباني علم الرجال وقد طبع مرتين.

2. دعوى السفارة في الغيبة الكبرى جزئين وقد طبع الجزء الأول منه كراراً.

3. الشهادة الثالثة في الآذان والإقامة.

4. الإمامة الإلهية خمسة أجزاء، وقد طبع عدة مرات.

ص: 162

5. مقامات فاطة الزهراء (عَلَيها السَّلَامُ).

6. مقامات استنباط العقائد.

7. أسس النظام السياسي عند الإمامية.

8. عدالة الصحابة.

9. الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد.

10. الشعائر الدينية.

11. بحوث معاصرة في الساحة الدولية

12. سند الزيارة الجامعة الكبير.

13. الرأي الآخر في الوحدة والتقريب.

14. فقه علائم الظهور.

15. العقل العملي دورة في بحوث الاعتبار القانوني والأخلاقي.

وهناك مشاركات في ندوات علمية ولقاءات في الفضائيات أيضاً.

ص: 163

ص: 164

هوامش الفصل الرابع

(1) الأصول العامة للفقه المقارن : 545. (باختصار).

(2) موسوعة النجف الأشرف جامعة النجف الدينية 6 / 207 نقلا عن كتاب جامعة النجف للشيخ محمد تقي الفقيه.

(3) سورة الحج: 78.

(4) وسائل الشيعة إلى أحكام الشريعة. الحر العاملي: 1 / 327

(5) المصدر السابق : 18 / 41.

ص: 165

ص: 166

الفصل الخامس

المرجع والمرجعية الدينية

إشارة:

يتناول هذا الفصل مباحث أربعة هي:

المبحث الأول : المرجع الديني وبعض طرائق التحقق من توفر الشروط فيه.

المبحث الثاني : المقلد الأعلم وطريقة انتخابه.

المبحث الثالث: مهمات المرجعية وإنجازاتها.

المبحث الرابع: برنامج يوم عمل لمراجع في حوزة النجف الأشرف.

ص: 167

ص: 168

المبحث الأول: المرجع الديني وبعض طرائق التحقق من توفر الشروط المطلوبة فيه

سبق أن عرضت للاجتهاد في الفصل السابق وشروط المجتهد، فإذا تصدى المجتهد للإفتاء فيما انتهى إليه رأيه واجتهاده من مسائل فعمل المكلفون من غير المجتهدين بآرائه ورجعوا إليه فقلدوه فيها باعتباره الأعلم بموجب شهادة أهل الخبرة والتخصص عدّ مرجعا دينيا وقاضيا بين الناس بالقسط في أمورهم المختلفة، هاديا إلى الحق والهدى والصلاح، معلّما الكتاب والسنة والحكمة والشريعة مزكيا ومطهرا ما أمكنه قلوب المؤمنين من الزيغ والضلال والانحراف، حارسا للعقيدة الحقة، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، محافظا على بيضة الإسلام، مبينا الأحكام الشرعية لمقلديه، وربما متوليا ما استطاع لأمر الأمة في زمن الغيبة على خلاف بين الفقهاء في سعة هذه الدائرة وضيقها وفي دليلها ومدركها وهل أنها تقف عند حدود الأمور الحسبية والضرورات الشرعية التي لا يرضى الشارع المقدس بإهمالها وتركها من قبل خيار المؤمنين على نحو الجزم واليقين، أو أنها أوسع من ذلك. ثم ما هي حدود هذه السعة على تقدير القول بها.؟

ولعل لفظ المرجعية بهذا المعنى منتزع من لفظة ارجعوا الواردة في التوقيع الشريف المروي عن الإمام المنتظر (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) جوابا عن السؤال حول الموقف الشرعي بعد الغيبة فقد ورد في الحديث قوله (عَلَيهِ السَّلَامُ) : «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجّة اللّه على الناس»(1) كما سيأتي ذلك في الفصل القادم.

يشترط في من يجوز تقليده أو المرجع الديني من بين أمور أخرى غير الاجتهاد

ص: 169


1- الموسوعة الفقهية الميسرة. الشيخ محمد علي الأنصاري: 1 / 36

والتقوى، والتعلق بحبل اللّه المتين، وحبه والخوف منه جل شأنه، والتنزه عن التعلق بأمور الدنيا الفانية، والسعي لتحقيق مرضاة اللّه تعالى في كل أمر والتقرب إليه في كل مسعی عدالة بدرجة عالية كما هو عند قسم من المجتهدين تلزمه بالاستقامة على خط الإسلام بنحو لا يرتكب كبيرة أو صغيرة على شرط أن تكون هذه الاستقامة طبعا له وعادة(1).

وبتعبير آخر أن يكون على مرتبة من التقوى تمنعه عادة من مخالفة التكليف الشرعي ومن الوقوع في المعصية، وإن كانت صغيرة، بحيث لو غلبته نوازع النفس ودواعي الشيطان نادراً فوقع في المعصية لأسرع للتوبة وأناب اللّه تعال(2) ورجع إليه.

وبموجب هذا المبنى فإن العدالة المشترطة في المرجع تختلف عن العدالة المشترطة في إمام الجماعة، ذلك أن العدالة المشترطة في الشاهد أو إمام الجماعة مثلا تعني: الاستقامة في العمل، وتتحقق بترك المحرمات وفعل الواجبات(3) و يكفي في إحرازها حسن الظاهر(4). كأن يكون الشاهد أو إمام الجماعة مستقيما في سلوكه ظاهرا كونه يصلي ويصوم ويحج ولا يشرب الخمر ولا يزني وهكذا.

وقد يمكن اختبار شرط العدالة العالية ومدى توفرها في المتصدي للمرجعية من خلال تدقيق عدة قضايا أخلاقية وسلوكية ترتبط بطبيعة المرجعية ومهماتها من أمثال:

1 - مقدار حب هذا المرجع للدنيا وزهده فيها، فعن الإمام الصادق (عَلَيهِ السَّلَامُ): «إذا رأيتم العالم محبا للدنيا فاتهموه على دينكم، فإن كل محبّ يحوط ما أحبّ»، فإن من أهم ما يبتلى به المرجع من أمور خطيرة هو الامتحان بحب الرئاسة والزعامة والموقع.

وقانون الابتلاء والامتحان عام وشامل لا يفرق فيه زمان ومكان عن زمان ومكان آخر بالنسبة لبني الإنسان، وحتى الأنبياء (عَلَيهِم السَّلَامُ) تعرضوا للامتحان والابتلاء، والمرجع

ص: 170


1- الدكتور حامد حفني داود. مقدمة كتاب عقائد الإمامية للشيخ المظفر. ط2 : 38 -48
2- ينظر: الأصول العامة للفقه المقارن سابق: 552 وما بعدها.
3- ينظر السمات المطلوبة للمجتهد الشيخ محمد إبراهيم الجناتي. بحث. مجلة الفكر الإسلامي. العدد 6 / 41-44 مترجما عن مجلة كيهان انديشه الفارسية العدد 52.
4- ينظر المرجعية الصالحة. سابق: 81-86.

يتعرض ايضا إلى أنواع خاصة من هذه الامتحانات والابتلاءات، وإحداها هي قضية حب الرئاسة وحب الشهرة، فلا بدّ أن يراقب الإنسان المتصدي والمرجع العام من خلال موقعه وبشكل دقيق هذا الأمر في نفسه ويرى مدى حبه لهذه الرئاسة ولهذه الشهرة ولهذا الموقع الخطير.

كما يجب على الأمة أن تراقب ذلك بدقة أيضا لتشخيص المرجع ذي المواصفات المطلوبة، وقد عشنا فترة طويلة عاشرنا فيها علماء وأفاضل كراما ومراجع عظاما كانوا يراقبون في أنفسهم هذا الجانب مراقبة شديدة ويتورعون عن كل ما يمت إلى هذا الحب بصلة.

2 - وأمثال : حسن اختيار الحاشية.

3- والحرص على بيت المال والانفاق على مصالح الأمة بطريقة عادلة بعيدة عن القضايا الذاتية والمصالح الشخصية، فقد جعل القرآن الكريم المال (فتنة)، ثم تعرض لدور الأموال في حركة المجتمع الإنساني سلبا في إفساده، وإيجابا في إصلاحه وتطوره وتزكيته.

4 - وأمثال الموقف المناسب الذي يتخذه المرجع من حكام الجور الذين أبتليت بهم الأمة، فمن خلال تاريخ أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وسيرة مراجعنا الصالحين العظام نلاحظ أنهم كانوا يقفون دائما في مواجهة الظالمين موقف الإنكار لهذا الظلم بدرجة تتناسب والظروف المحيطة بهم والأوضاع السياسية والاجتماعية القائمة، إلّا ان (الرفض) كان أصلا ثابتا في مواقف أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) والمراجع.

5 - وأمثال: تقديم المرجع لمصالح الأمة على المصالح الخاصة له، فعندما يحدث التضاد والتزاحم بين مصالحه ومصالح الأمة، فهل يقدم المرجع مصالح الأمة وقضاياها

ص: 171

على مصالحه الخاصة وشؤونه الخاصة، أو یقدم مصالحه الخاصة على مصالح الأمة بحيث يرى المتصدي للمرجعية نفسه أنه أصبح هو الأمة كلها بمصالحها وشخصيتها وشؤونها.(1)

وهناك أمثلة عديدة على تقديم المرجع لمصالح الأمة على مصالحه الخاصة لا العكس، من ذلك مثلا ما حدث بعد وفاة الشيخ مرتضى الأنصاري فقد برزت إلى الوجود مرجعية الشيخ محمد حسن الشيرازي المتوفى في (سنة 1312ه/ 1894م) ومرجعية الشيخ حبيب اللّه الرشتي المتوفى في السنة نفسها أيضا سنة، فكان الشيخ الرشتي يقول: ارجعوا في تقليدكم إلى المرجع الشيخ محمد حسن الشيرازي، ولا ترجعوالي، لأنه أهل لذلك.

وبالفعل قام الشيخ الرشتي بتثبيت مرجعية الشيخ الشيرازي الكبير في الجلسة التي عقدت في داره من قبل مجموعة من العلماء بخصوص هذا الأمر المهم.

ولا زلت أذكر بجلاء، وأنا داخل الصحن الحيدري الشريف، يوم انثنت الحشود المؤمنة التي غصّت بها مدينة النجف الأشرف أثناء تشييع جثمان المرجع الأعلى في حينه سماحة السيد محسن الحكيم (قدّس سِرُّه) المتوفى عام (1390 ه/ 1970م) زاحفة باتجاه نجله الكبير سماحة السيد يوسف الحكيم (قدّس سِرُّه) معلنة تقليدها له فأبت نفسه المتقية إجابة طلب الناس هذا.

يقول صاحب كتاب : (معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام) في ترجمة السيد يوسف الحكيم ما نصه: وانقادت له الزعامة والمرجعية بعد وفاة أبيه، غير أنه لورعه وزهده وتقواه لم يتقبلها وانصرف إلى مواصلة الجهاد العلمي وترك الدنيا وما فيها(2).

ص: 172


1- موسوعة النجف الأشرف جامعة النجف الدينية 6 / 227 نقلا عن جامعة النجف للشيخ محمد تقي الفقيه.
2- ماضي النجف وحاضرها: 1 / 280279.

وأين هذا الموقف وأمثاله من مواقف مدعي الاجتهاد، بل مدعي المرجعية زورا، ممن ابتلينا بهم هذه الأيام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم...؟

6 - ومنها : عدم التعصب القومي والمناطقي والمحلي وأمثالها من دواعي التعصب الأعمى المخالف لمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين عملا بقوله تعالى في محكم كتابه المجيد: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْتَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْتَكُمْ شُعُوبًا وَقَبَابِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّه أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللّه عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(1) ولا ينا في ذلك الاعتزاز بالنسب أو القومية أو المنطقة أو البلدة أو الوطن أو ما شاكل لأن الاعتزاز غير التعصب الأعمى كما هو واضح.

وقد حارب مراجع الدين والمجتهدون العصبية والقومية والمناطقية بأفعالهم حينا وباقوالهم أحيانا واهتموا بإلغاء حالة الشعور بالامتياز أو التعصب للانتماءات القومية والإقليمية في أوساط الحوزة والتي كانت تنشأ أحيانا بسبب قوة الأوضاع الاقتصادية أو النفوذ الإداري أو العلمي والشعور بالاستعلاء والامتياز بسبب ذلك، أو الاحساس بالمظلومية والحرمان والدونية بسبب الاستضعاف وقلة الموارد وغير ذلك من الاسباب وهذه المشاعر بالاضافة إلى آثارها السلبية في العلاقات بين أطراف الحوزة وتماسكها كان لها آثار سلبية في نموها وتطوها العلمي والروحي من ذلك مثلا أن الإمام السيد محسن الحكيم المرجع الأعلى في حينه قد اهتم بشكل خاص بأبناء الحوزة من البلدان المستضعفة على مستوى تنمية العدد حتى أنه بلغ عدة أضعاف في بعض الجاليات عما كان قبله، وعلى مستوى رعايتهم المعنوية والمادية وبث روح الاعتماد على النفس والثقة بالمستقبل وعلى مستوى التحصيل العلمي لإيجاد حالة نسبية من التوازن الواقعي بين الجاليات الإسلامية في الحوزة إن هذا الجانب من العمل كان يحتاج من الإمام الحكيم أن يبذل جهودا استثنائية لتحطيم الحواجز النفسية والأطر الاجتماعية الحوزوية وتجاوز

ص: 173


1- المصدر السابق : 1/ 380

بعض التقاليد في التعامل مع الحوزة أو بين أبنائها وقدم تضحيات كبيرة في هذا المجال من أجل الوصول إلى هذا الهدف، كما دافع الإمام الحكيم وإلى النفس الأخير عن بقاء حوزة النجف مفتوحة أمام جميع أقاليم العالم الإسلامي للاستفادة من ينابيعها الثرية ومدارسها العلمية الغنية ومنهجها في التربية وكانت الأوضاع السياسية تضغط بقوة من أجل أقلمة النجف(1) وانغلاقها على نفسها أو قومها ما أمكن.

ص: 174


1- وسائل الشيعة إلى تحقيق مسائل الشريعة. الحر العاملي: 18 / 101. الحديث رقم: 9.

المبحث الثاني:

المقلِّد الأعلم وطريقة انتخابه

يعرِّف سماحة المرجع الأعلى في حينه السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (قدّس سِرُّه) المقلد الأعلم بأنه: الأقدر على استنباط الأحكام، وذلك بأن يكون أكثر إحاطة بالمدارك وبتطبيقاتها من غيره(1).

ويضيف سماحة السيد السيستاني (دام ظلّه) إلى التعريف المتقدم الجملة التالية بحيث يكون احتمال إصابة الواقع في فتاويه أقوى من احتمالها في فتاوي غيره(2).

ويذهب قسم من المجتهدين إلى أن المراد بالأعلمية هنا أن يكون صاحبها أقوى ملكة من غيره في مجالات الاستنباط، لا الأوصلية إلى الواقع لعدم إمكان إحرازها في الغالب، وكون الفتاوى التي منشؤها الأخذ بالاحتياط تقتضي أن يكون صاحبها أوصل لا تكشف عن علم صاحبها الذي هو المناط في المرجعية والتقليد(3).

ثم أنه يجب الرجوع في تعيين الأعلم إلى أهل الخبرة والاستنباط، ولا يجوز الرجوع في ذلك إلى من لا خبرة له في ذلك(4).

وأهل الخبرة بالأعلمية كما يوضح سماحة السيد السيستاني (دام ظلّه) في جوابه عن سؤال وجهته اليه(5) هم المجتهدون ومن يدانيهم في العلم المطلعون على مستويات من هم في أطراف شبهة الأعلمية في أهم ما يلاحظ فيها، وهي ثلاثة أمور:

الأول : العلم بطرق إثبات صدور الرواية، والدخيل فيه علم الرجال وعلم

ص: 175


1- هامش منهاج الصالحين للسيد محسن الحكيم. تعليق السيد محمد باقر الصدر 12/1. تعليقة رقم 25.
2- منهاج الصالحين. السيد محمد سعيد الحكيم: 1/ 13.
3- المصدر السابق : 137 مسألة 366 شرائط الإمامة.
4- المسائل المنتخبة. السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي:9 مسألة 20.
5- ينظر: المرجعية الصالحة. السيد محمد باقر الحكيم: 40 - 57.

الحديث بما له من الشؤون كمعرفة الكتب ومعرفة الرواية المدسوسة بالاطلاع على دواعي الوضع، ومعرفة النسخ المختلفة، وتمييز الأصح عن غيره، والخلط الواقع أحيانا بين متن الحديث وكلام المصنفين ونحو ذلك.

الثاني : فهم المراد من النص بتشخيص القوانين العامة للمحاورة، وخصوص طريقة الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) في بيان الأحكام، ولعلم الأصول والعلوم الأدبية والاطلاع على أقوال من عاصرهم من فقهاء العامة دخالة تامة في ذلك.

الثالث : استقامة النظر في مرحلة تفريع الفروع على الأصول.

وطريق الاطلاع على مستويات من هم في أطراف شبهة الأعلمية هو المذاكرة معهم أو الرجوع إلى مؤلفاتهم أو تقريرات محاضراتهم الفقهية والأصولية.

والمكلف الباحث عن الأعلم إذا لم يمكنه التعرف على أهل الخبرة بنفسه، فيمكنه بحسب الغالب أن يتعرف عليهم عن طريق من يعرفه من رجال الدين وغيرهم من الموثوق بهم وبدرايتهم كما تقدم، والبعد المكاني لا يشكل عائقا عن الاتصال بهم في هذا العصر الذي تتوفر فيه الكثير من وسائل الاتصال السهلة والسريعة.

ومع ذلك كله فقد يختلف أهل الخبرة فيما بينهم في تشخيص المجتهد الاعلم رغم اجتماع شرائط الحجية في كلا الطرفين المختلفين من أهل الخبرة، عندها كما يجيب سماحة السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظلّه)(1) عن سؤال وجهته اليه بهذا الخصوص بقوله : يتعين سقوط كلتا الشهادتين عن الحجية ورجوع الأمر إلى اشتباه الأعلم بين الأطراف الصالحة للتقليد.

وحينئذ مع تمامية بقية شروط التقليد في الكل وعمدتها الاجتهاد وقوة العدالة وشدة الورع إن تيسر للمكلف الاحتياط بالعمل بأحوط القولين فاللازم عليه ذلك

ص: 176


1- معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام. د. محمد هادي الأميني: 425/1.

تحفظا على الحكم الشرعي ومع صعوبته عليه ولزوم الحرج منه، فرحمة اللّه تعالى بالمؤمنين وسهولة الشريعة الحقة، تقضيان بتنازل الشارع الأقدس عن الاحتياط الذي هو مقتضى الأصل الأولي عند اشتباه الحجج واكتفائه بتقليد أحد الأطراف مع تحري الأقرب فالأقرب مهما أمكن. وذلك يقتضي ترجيح مظنون الأعلمية. ومع تساوي الاحتمال في الأطراف يترجح الأورع، لأنه الأوثق في التحفظ على الحكم الشرعي بعد عدم ثبوت أعلمية غيره عليه.

ومع عدم المرجح المذكور فالمكلف مخير بين الأطراف المحتملة، فله تقليد أي طرف شاء واللازم على المكلف التثبت في جميع ذلك والتأكد منه ولو بالاستعانة بأهل التقوى والمعرفة من أجل استيضاح الرؤية بالمقدار المستطاع و «الإِنسَنُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ»(1). و «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا».(2)

وربما رأى البعض غرابة في اختلاف أهل الخبرة عند سؤالهم عن المجتهد الأعلم، بيد أن هذا الاختلاف في التشخيص أمر مألوف ومتعارف في كل العلوم والتخصصات نتيجة تفاوت وجهات نظر أهل الخبرة والتقييم في تحديد المجتهد الأعلم بسبب كون الأعلمية من الأمور الاجتهادية الحدسية التي من شأنها أن تختلف فيها الأنظار وتتباين وجهات النظر. ويتعين التعامل معها بموضوعية وانفتاح مع الاحترام المتبادل بعد كون الأطراف معنية بالحقيقة وهي في مقام أداء الأمانة والخروج عن العهدة، ولا يفترض في الإنسان أن يلزم الآخرين بقناعاته.

وقد يحسن أن نذكر مثالا عشناه كما يقول سماحة المرجع السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظلّه) فقد كان المرحوم آية اللّه الحجة الشيخ محمد طاهر آل راضي (قدّس سِرُّه)(3) مقتنعا بالتخيير بين المرجعين العظيمين السيد محسن الحكيم (قدّس سِرُّه) والشيخ محمد رضا آل ياسين (قدّس سِرُّه)(4)، وكان له جماعة يسترشدونه في خوزستان فأخبرهم بقناعته فاختاروا

ص: 177


1- سورة الحجرات: 13
2- الإمام الحكيم : السيرة الذاتية، الجانب العلمي، المرجعية الدينية، الحوزة العلمية. بقلم السيد محمد باقر الحكيم: 88-89.
3- المسائل المنتخبة سابق: 8.
4- منهاج الصالحين: 1 / 3.

السيد الحكيم (قدّس سِرُّه) وقلدوه، بينما اختار أهل الشيخ آل ياسين تثل فقلدوه وبقيت علاقته بجماعته وبالمرجعين العظيمين وبجماعتهما على أحسنها مع اطلاعهم على موقفه.

ومن قبل كان الإمام الحكيم (قدّس سِرُّه) يرشد للمرحوم الميرزا النائيني (قدّس سِرُّه) وأخوه الأكبر منه آية اللّه السيد محمود الحكيم (قدّس سِرُّه) يرشد للمرحوم المرجع المعظم الشيخ علي نجل الشيخ باقر الجواهري (قدّس سِرُّه) كل منهما حسب قناعته، من دون أن يؤثر ذلك في علاقتهما الحميمة ونظائر ذلك كثيرة(1).

بل وأكثر من ذلك فقد قصد أحد كبار التجار الشيخ آل ياسين في مجلس درسه العالي الذي لا يحضره إلّا صفوة من المجتهدين وكان يقيمه في داره، فقال التاجر الوجيه للشيخ : أريد أن أقلِّدك.

فقال آل یاسین عجیب!! رجل بمنتهى الوثاقة عند العلماء غير مقلِّد للآن!!.

قال: لا، أنا مقلِّد للسيد الحكيم (السيد محسن الحكيم) وأريد العدول عنه إلى تقليدك !!

فلما سمع ذلك الشيخ اصفرّ وجهه،واحمرّ، ونزع عمامته من على رأسه، وضرب بيده عليه قائلا : اللّه أكبر، السيد مجتهد مطلق عادل، وأنت تريد العدول عنه ؟ وتكلّم بكلمات الإشادة بالسيد الحكيم وأوجب على السائل البقاء على تقليده(2).

وقد يحسن بي أيضا أن أذكر مثالا عشته شخصيا، فقد حدثني مرة سماحة المرجع الحالي السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظلّه) قبل ستة أشهر من تاريخ كتابتي لكتابي هذا، وهو في معرض حديثه عن حالة مشابهة تخصه قائلا : إنه ليوم الناس حيث هو مرجع مقلَّد لا يعرف ولا يريد أن يعرف مَن مِن المراجع يقلِّد أولاده الذين يعيشون معه في بيته وكذلك أخص الناس به من الأقربين فضلا عن الأبعدين، وهذا هو شأن المراجع الحقيقيين من

حاليين وسابقين.

ص: 178


1- الأصول العامة للفقه المقارن سابق : 637.
2- المسائل المنتخبة سابق: 8.

أما طريقة انتخاب المرجع ومعرفة المرجع الأكثر تقليدا (المرجع الأعلى)، فقد درج الشيعة الإمامية على طريقة خاصة بهم في انتخاب مقلدهم أو مرجعهم الديني، وكذلك معرفة مرجعهم الديني الأعلى من بين المراجع العديدين المتصدين للإفتاء في تلك الفترة بما تتفرد به النجف عن غيرها من المراجع الدينية العليا في العالمين الإسلامي غير الإمامي أو المسيحي، حيث يكون انتخابه أو تحديده بصورة تلقائية متدرجة عبر الزمن، فمنذ أن تبدأ شهرة تضلّع أستاذ من أساتذة الحوزة بالانتشار والذيوع في أوساط الحوزة العلمية المنتجة له، تلك التي درس ودرّس فيها، وباحث وبحث، وناقش ونوقش، وأنه أصبح بعد سنوات جدّ واجتهاد وسهر ومكابدة مجتهدا بالمعنى الأخص وعالما متبحرا ومحققا في مجال تخصصه، يشهد له بذلك تلامذته وطلابه والمخالطون له من المشتغلين بالبحث والتدريس والمناظرة والتحري والاستقصاء، ويعرف أهل الخبرة من أهل هذا الفن والمتخصصين فيه اجتهاده من خلال نشره لبحوثه وكتبه وتأليفه ذات البعد العلمي الكاشف لبلوغه مرحلة الاجتهاد وأمثال ذلك، ثم قرر هذا المجتهد بعد ثبوت اجتهاده وفق الأصول المتبعة أن يتصدى للمرجعية، بأن مارس عملية الإفتاء في المسائل الشرعية الفرعية، وأجاب سائليه عن رأيه في المسائل التي يستفتونه بها ثم أوصل فتاويه إلى الناس كي يعملوا بها كما تقدم عندئذ يكون مرجعا دينيا.

إن الاهتمام بقرينة كون المرجع معترفا به في أوساط الحوزة العلمية بعلمائها ومدرسيها وفضلائها وطلابها بالاجماع أو بالرأي العام الغالب في مؤسسته العلمية المنتجة له أمر مهم لتمييز المجتهد الحقيقي من مدعي الاجتهاد زورا وبهتانا. وليست هذه القرينة حكرا على معرفة المجتهدين أو المراجع في مجال علوم الشريعة وحدها بل هي قرينة عامة على معرفة مستوى كل باحث في مجال اختصاصه العلمي إن أية درجة

ص: 179

علمية عالية لا يمكن القبول بها ما لم نرجع إلى المؤسسة التي تربى فيها فالأطباء مثلا لا يمكن القبول بادعائهم لمستوى عال من الطب ما لم يكن هناك اعتراف من قبل المؤسسات الطبية والجامعات العلمية التي تخرج الأطباء في هذا الوقت وبدون هذا الاعتراف لا يمكن قبول مثل هذا الطبيب بهذا المستوى العالي إن اعتراف هذه المؤسسة المختصة بهذا المرجع هو الضمان الذي يمكن أن نحرز من خلاله في المرجع هذه الدرجة العلمية ونسد الطريق بذلك على أدعياء المرجعية(1).

وفي حالات نادرة من تاريخ الحوزة العلمية النجفية ربما بقصد تحقيق المصلحة العامة أو من أجل تيسير أمر تشخيص المرجع الأعلم على المكلفين، تولى بعض المجتهدين المعاصرين يومها أمر التحقق من توفر الشروط المطلوبة في المجتهدين المتصدين ذلك الوقت من أجل اختيار ابرزهم كمرجع أعلى.

من ذلك مثلا أن لجأ الناس في الحالة الأولى إلى عالم محقق معروف ليعينهم على تحديد المجتهد الأعلم من بين العديد من المجتهدين المؤهلين لذلك كما حصل في سنة (1228ه / 1813م) حين أناطت الناس وعلماؤهم أمر تشخيص الأعلم إلى الشيخ المحقق القمي ( صاحب القوانين) فرشحه لهم فتبعوه.

وأقدم في الحالة الثانية أهل الخبرة والاختصاص ومن يرجع اليهم المكلفون بالسؤال عن المرجع الأعلم الذي يجب عليهم تقليده بعد وفاة المرجع الأعلى في عصرهم - وكان يومها سماحة الشيخ موسى آل كاشف الغطاء (قدّس سِرُّه) المتوفى سنة (1241ه/ 1826م)- فرشح هؤلاء الخبراء وأهل الاختصاص سماحة الشيخ علي آل كاشف الغطاء (قدّس سِرُّه) لتولي أمر المرجعية العليا بعد انتقال المرجع الأعلى حينها إلى جوار ربه الرحيم.

وأقدم في الحالة الثالثة المرجع الأعلى للتقليد في عصره سماحة الشيخ محمد حسن

ص: 180


1- الفقه للمغتربين. عبد الهادي الحكيم: 78 79.

النجفي المعروف بصاحب الجواهر المتوفى سنة (1266ه/1850م) على ترشيح سماحة الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سرهما) ليكون المرجع الأعلى للتقليد من بعده، كما سيأتي ذلك مفصلاً لاحقاً.

ومما يجدر ذكره أن هذا الترشيح غير ملزم للمكلفين(1)، ولكنه يسهل عليهم أمر تشخيص مقلدهم كثيرا باعتبار أن من رشحه للمرجعية هو في مقدمة أهل الخبرة الثقات الذين يرجع اليهم المكلف عادة لسؤالهم عن المجتهد الذي يريد السائل تقليده للخروج من عهدة التكليف وبخاصة بعد سعة مساحة انتشار أتباع مذهب أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) في أرجاء المعمورة وعدم معرفتهم بأهل الخبرة كي يسألوهم إضافة لأمور أخرى عديدة باتت واضحة لمن عاش في أوساط المكلفين البعيدين عن مراكز العلم وحوزاته وهو مع تحدید آلیات تنفيذه مفيد للطائفة في ظروف كظروفنا هذه وللمستقبل من دون أن يكون ذلك سنة إلزامية متبعة.

إن هذه القرينة العملية وامثاها هي التي تشهد للمتصدي لشؤون المرجعية بأنه مجتهد عادل ثقة مؤهل حسب شهادة أهل الاختصاص لتولي شؤون المرجعية أو المرجعية العليا، فإذا عرف الناس ترشيح كبار أهل الخبرة له باعتباره الأعلم، قلّدوه فأصبح مرجعا دينيا، ثم إذا بزّت شهرته عند أهل الخبرة شهرة المراجع الآخرين المعاصرين له وكثرت شهادتهم له بالأعلمية بما بر شهادات الآخرين بفارق معتد به، فزاد تبعا لها مقلدوه عن مقلدي غيره من المراجع المعاصرين بفارق ملحوظ عدّ من قبل الحوزات العلمية والمؤمنين مرجعا دينيا أعلى من دون النظر لجنسية المرشح ولا لمنطقته ولا لغير ذلك من أمثالها كما هو واضح.

أما من هم أهل الخبرة وكيف يستطيعون تمييز المرجع الأعلم من بين أقرانه العلماء الآخرين فسأضرب لذلك مثلا يلقي ضوءا على هذه العملية في مثلا يوجد عدد وافر

ص: 181


1- المرجعية الدينية / 2. سابق : 26 - 27.

معروفون بالعلم والفضل، وهم بين مجتهد مطلق ومتجزي ومراهق وهؤلاء كلهم يشتركون في تمييز الأعلم من غير الأعلم ومن ثم يسمون (أهل التمييز)، ومعنى ذلك أنهم يستطيعون تمييز الأعلم من غير الأعلم فإن هؤلاء بعد ممارستهم للبارزين من العلماء بالحضور في دروسهم تارة وبمرافقتهم العلمية أخرى وبالمذاكرة معهم في المسائل المعقدة التي هي مطرح أنظار جهابذة العلماء ثالثة يتضح لهم المتفوق منهم بالإحاطة والاستقراء وإرجاع الفرع الفقهي لمبانيه وبإرجاع القاعدة الأصولية والفقهية إلى أسسها الرصينة، بل إرجاع كل دليل ظني إلى دليل قطعي، وبتنبهه لما خفي على غيره من السلف و المعاصرين، إذا كان ذلك كله شهدوا له بالأعلمية. ثم لا تكون المسألة الواحدة والمسألتان أو الباب الواحد من أبواب الفقه أو الأصول أو المسائل المدونة في الكتب مقياسا للتفوق بل المقياس التفوق فيها وفي غيرها من المسائل التي تخلق مع الزمن. فإذا كثرت ممارسة العلماء البارزين وظهور تفوقهم بالإحاطة وإتقان المباني وإرجاع كل دليل ظني إلى دليل قطعي مع التنبهات الرفيعة والالتفات للدقائق الخفية إذا كان ذلك كله نعتوا الشخص الذي هو كذلك بصفات ترفع مستواه عمّا عداه، وقالوا إنه أعلم(1).

هكذا هو حال اختيار المرجع الديني الشيعي والمرجع الأعلم فهو لا يعينه مسؤول في الجهاز التنفيذي في هذه الدولة أو تلك فيكون ساعتها مرجعا أو مرجعا أعلى كما هو العرف السائد في اختيار أو انتخاب أو تعيين رئيس الشؤون الدينية أو المفتي العام أو ما شابه ذلك في الأعم الأغلب من الدول العربية والإسلامية حيث يعينهم رئيس الجمهورية أو الملك أو رئيس الوزراء أو وزير الأوقاف أو شبهه، كما أن المرجع الشيعي لا يعينه ولا يصادق على تعيينه مجلس نواب أو مجلس شيوخ أو أشباههما كما هو الحال في العديد من الدول العربية أو الإسلامية الأخرى.

ص: 182


1- سورة القيامة : 14.

ويذهب بعض الباحثين في مقام تحديد تاريخ زمني لنشوء المصطلح إلى القول بأن مصطلح المقلد الأعلم والأعلمية ظهر للمرة الأولى لدى العاملي في معالم الأصول، لكن الأعلم عنده هو ذاك المتقدم في رواية الحديث وأقوال الأئمة، لكن عندما استقر الشيخ الأنصاري المتوفى سنة (1281ه/ 1864م) خلفا للشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر المتوفى سنة (1266ه/ 1850م) باعتباره الأعلم حيث كانت أعلميته مفهومة بمعناها الكامل الذي يجعله مرجعا للتقليد في أصول الدين و أصول الفقه كما هو تقليد المدرسة الأصولية، بل إن المرجع الشيخ مرتضى الأنصاري (قدّس سِرُّه) ادعى الاجماع على أن المجتهد المعتبر هو الأعلم في الأصول، وأوضح المرجع السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي المتوفى سنة (1838 ه/ 1920م) أواخر القرن التاسع عشر شروط الأعلمية كما قال بضرورة تقليد المجتهد الأعلم في الوقت بالإضافة لذلك أكد السيد اليزدي ضرورة التقليد من جانب المكلف للمجتهد الأعلم واستحالة معرفة أحكام الدين بدون التقليد(1).

ص: 183


1- سورة البقرة : 286.

ص: 184

القدرة على تجاوز الحالة القومية والعنصرية في اختيار المرجع الأعلى

ومما يلفت النظر في عملية اختيار المرجع الديني الشيعي حقا القدرة على تجاوز الحالة القومية أو العنصرية أو المناطقية في تشخيص المرجع أو المرجع الأعلم سواء أكان ذلك التجاوز على مستوى الطبقة العليا من المجتهدين وذوي الخبرة في التشخيص والفضلاء وأمثالهم أم على مستوى القاعدة المؤمنة المقلّدة، ما يدل على مستوى عال من الالتزام بالحدود الشرعية وفهم عميق وتطبيق دقيق لمفاهيم وقيم الإسلام الخالدة.

وقد مرّ علينا مثل هذه الحالة في الحديث عن شرط العدالة العالية ومدى توفرها في المتصدي للمرجعية من خلال تدقيق عدة قضايا أخلاقية وسلوكية ترتبط بطبيعة المرجعية ومهماتها كانت منها قضية تجاوز الحالة القومية والمناطقية والشلليّة وأشباهها.

ومن يستطلع تاريخ المرجعية يجد عشرات النماذج والأمثلة على هذه الرؤية في عملية الاختيار فقد ذاع اسم الشيخ محمد حسن النجفي مؤلف الموسوعة الفقهية (جواهر الكلام) في الأوساط الفارسية والتركية في إيران والقفقاز وأذربيجان وإيروان كما ذاع اسمه في الهند وهو فقيه عربي من العراق.

وتعاقب بعد ذلك فقهاء من العراق وإيران على مرجعية الشيعة فعم تقليدهم البلدين مثل مرجعية الفقيه الشيخ جعفر كاشف الغطاء من فقهاء العراق (العرب) الكبار الذي شاع تقليده في إيران في العصر القاجاري وسافر إلى إيران واستقبلته إيران

ص: 185

استقبالا حافلا ومرجعية السيد ميرزا حسن الشيرازي الذي شاع تقليده في العراق بصورة واسعة(1).

وفي عصرنا القريب يمكن أن أذكر وأذكر بسعة انتشار المرجعية العليا للفقيه العربي العراقي سماحة السيد محسن الحكيم (قدّس سِرُّه) المتوفى (سنة 1390 ه/ 1970م) والذي امتدت مرجعيته العليا حتى وفاته فغطت مدن العراق وإيران وأفغانستان والهند وباكستان وأفريقيا وأوربا وأمريكا وإستراليا ودول أمريكا اللاتينية وتجاوزتها إلى غيرها من دول العالم غير العربية، فضلا عن الدول العربية طبعا، ثم ما كان من انتشار وسعة المرجعية العليا اللاحقة لمرجعية السيد الحكيم (قدّس سِرُّه) وهي مرجعية سماحة السيد أبي القاسم الموسوي الخوئي قتل المتوفى سنة (1423ه/ 2002م) والذي غطت مرجعيته وهو المرجع الإيراني مولدا، والنجفي مسكنا ومدفنا مدن العراق والدول العربية كلها فضلا عن الدول غير العربية المتقدم ذكرها فيما سبق.

وما لنا نذهب بعيدا وفي يوم الناس هذا تغطي المرجعية العامة للمرجع الأعلى سماحة السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه) مدن العراق وباقي الدول العربية الأخرى، فضلا عن الدول غير العربية في شرق العالم وغربه حتى عمت شهرته ومواقفه المشهودة عند المعنيين بها دول العالم كلها.

ولعل أوضح وأجمل شاهد على تجاوز الحالة القومية في التقليد هو ما تقدمه اليوم مرجعية النجف الأشرف، ففي النجف الأشرف اليوم أبرز مراجع التقليد أربعة هم: المرجع الأعلى سماحة السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه) وهو إيراني المولد نجفي النشأتين الحياتية والعلمية.

ثم المرجع الديني الكبير سماحة السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظلّه) وهو عربي الأصل

ص: 186


1- الشيخ محمد طاهر آل راضي (1322 – 1384) ه (1904 - 1964)م من مجتهدي الحوزة العلمية في النجف الأشرف ومن أساتذة علم الكلام والشعر والأدب فيها من تأليفه (بداية الأصول في شرح كفاية الأصول) و (تعليقة على بعض مباحث المكاسب) إضافة إلى ديوان شعر رائع.

عراقي المولد نجفي النشأتين الحياتية والعلمية.

وسماحة المرجع الديني الشيخ محمد إسحاق الفياض وهو أفغاني المولد، نجفي النشأتين الحياتية والعلمية.

وسماحة المرجع الديني الشيخ بشير النجفي، وهو باكستاني المولد نجفي النشأتين الحياتية والعلمية كذلك.

ونتيجة لتوفر الشروط المتقدمة من اجتهاد وعدالة وشهادة وتصد للمرجعية وغيرها في أكثر من شخص واحد في زمن واحد، ولفتح باب الاجتهاد على مصراعيه في المذهب الجعفري، يتعدد في الغالب مراجع التقليد وتتنوع الاجتهادات والآراء، وهو ما يكسب علم الفقه و أصوله حيوية وغنى وعافية طالما حفزت طلاب الحقيقة على التجديد ومواكبة المتغيرات باستمرار.

ص: 187

ص: 188

المبحث الثالث: مهمات المرجعية وانجازاتها

تحملت المرجعية الدينية ونهضت ولا زالت تتحمل وتنهض بمهمات جسيمة ربما يمكن إجمالها بثلاث مهام كبرى هي :

استيعاب وإبلاغ الرسالات الإلهية وتلاوة آيات اللّه والمحافظة عليها وهداية الناس إلى الحق والهدى والصلاح والعقيدة السليمة وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

التزكية والتطهير والتربية لهؤلاء الناس أفراد وجماعات في نفوسهم وسلوكهم وحياتهم الاجتماعية من خلال الإشراف والرقابة والشهادة على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة ومواكبة مسيرته تبشيرا وإنذارا ووعظ الناس في سلوكهم وعملهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحكم بين الناس بالقسط والعدل وتحقيق العزة والكرامة لهم ثم التدخل لمقاومة الانحراف واتخاذ التدابير الممكنة من أجل ذلك.

تعليم الناس الكتاب والحكمة وشرائع الإسلام وأحكامه والأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة والسنن الإلهية التي تحكم حركة المجتمع الإنساني.

إن هذه المهام الأساسية تبقى ثابتة وإن كانت بعض مصاديقها وصورها تتغير من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن عصر إلى عصر فمصاديقها في يومنا الحالي غير مصاديقها فيما سبق وربما غير مصاديقها فيما يأتي وهكذا.

ص: 189

ورغم عظم المسؤولية الشرعية والحياتية وثقلها فإن المرجعية استطاعت بفضل اللّه ومنه أن تنجز التالي:

الحفاظ على الإسلام الأصيل في عقائده وقيمه ومفاهيمه ومنابعه الأصيلة وأحكام شريعته السمحاء من مصادره الأصيلة كتاب اللّه وعترة نبيه أهل بيته الطاهرين.

إبقاء باب الاجتهاد المضبوط مفتوحا كي تواصل هذه الحركة العلمية أكلها كل حين.

الحفاظ على وجود الجماعة الصالحة وحيويتها فقد كانت المرجعية ولا زالت تتحمل المسؤوليات العظام في ماضي الأمة وحاضرها. بل استطاعت بجهدها وجهادها تنمية هذه الجماعة الصالحة وتطويرها كما وكيفا وصولا بها إلى المرتبة العليا التي هي عليها اليوم.

تمكن المرجعية ومؤسساتها من المحافظة على معالم الثقافة الإسلامية الأصيلة ثقافة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) بتفاصيلها العقيدية والتشريعية والأخلاقية والتأريخية وكل ما يمت اليها بصلة، ليس على المستوى النظري فحسب، بل وعلى المستوى التطبيقي والعملي حيث بقيت هذه الثقافة (ثقافة أهل البيت) أو ( الثقافة الشيعية) حية فاعلة في أوساط الأمة متجلية مظاهرها وتطبيقاتها على مدار السنة وفي أنحاء العالم كافة.(1)

قدرة المرجعية على تعبئة الأمة وقيادتها بحكمة وشجاعة خلال الفترات العصيبة التي مر بها العراق والأمة العربية والإسلامية في التاريخ الحديث وبخاصة ما كان منها منذ أوائل القرن العشرين والى يوم الناس هذا. وما لنا نذهب بعيدا ودور المرجعية العليا في النجف الأشرف الآن متمثلة بالمرجع الأعلى للطائفة سماحة السيد السيستاني (دام ظلّه) شاهد حي على ما قدمته المرجعية الدينية للعراق والشيعة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) فيه، وهو ما دوى صداه الإيجابي في أرجاء العالم كله شرقه وغربه، فضلا عن العراق والمنطقة بما لا يحتاج إلى زيادة إيضاح وبيان.

ص: 190


1- الشيخ محمد رضا الشيخ عبد الحسين الشيخ باقر آل ياسين (1297 – 1370) ه ( 1880 - 1951) م من مراجع التقليد في النجف الأشرف ومن المقدسين والأدباء والشعراء له من التأليف (بلغة الراغبين في فقه آل ياسين) و (حاشية العروة الوثقى ) و (دیوان شعر) جيد.

المبحث الرابع :

برنامج يوم عمل لمرجع سابق ومرجعين حاليين من مراجع حوزة النجف الأشرف

تختلف الظروف الحياتية والمعيشية والمزاجية بين أستاذ وآخر في كل معهد علمي أو جامعة أو مركز بحوث، بيد أن هناك قواسم مشتركة تفرضها طبيعة العمل العلمي أو العمل الاجتماعي العلمي بين علماء المسلمين في هذا المعهد العلمي أو ذاك أو بين هذه الحوزة العلمية أو تلك، لذا يمكن أن نجد في صورة برنامج يوم دراسي ل أستاذ في الحوزة العلمية أو مرجع من مراجع التقليد ما يمكن أن يقرب منهج عمل ودراسة وتدريس الأستاذ أو المرجع الديني في الحوزة العلمية في النجف الأشرف من ذهن القارئ الكريم.

ولهذا فسأدرج فيما يأتي برنامج يوم عمل دراسي لمرجع أستاذ من مراجع الحوزة العلمية توفي قبل أكثر من نصف قرن هو المرجع الديني سماحة الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (قدّس سِرُّه) المتقدم ذكره والمتوفى في (سنة 1373ه/ 1954م)، وبرنامج يوم عمل دراسي لمرجعين معاصرين هما سماحة المرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم، وسماحة المرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض (دام ظلهما) علّ ذلك يصلح لأن يكون أنموذجا تقريبيا مع فروق فردية لجهد ونشاط ومسؤوليات ومهام وواجبات ودراسة وتدريس واشتغال الأستاذ والمرجع في حوزة النجف الأشرف العلمية قبل أكثر من نصف قرن واليوم.

ص: 191

برنامج يوم عمل للمرجع الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (قدّس سِرُّه).

عرف عن أستاذ الحوزة العلمية الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء أنه كان يستيقظ يوميا وقت السحر ليصلي صلاة الليل،وليتهجد، حتى إذا بزغ الفجر وتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود منه أذّن لصلاة الصبح وأقام، ثم صلى وسبح تسبيح الزهراء وعقّب بما شاء له التعقيب أن يعقب، ليبدأ بعده بتلاوة معطرة من آيات اللّه البينات، حتى إذا طلعت الشمس تناول إفطاره المعدّ له ليعود بعده إلى الإجابة عن الأسئلة والكتابة والتأليف والمطالعة حتى الضحى، فإذا أزفت الساعة التاسعة صباحا خرج من بيته العامر إلى مقرّ إفتائه في مدرسته العلمية القائمة حتى يومنا هذا المصادف (1433 ه/ 2012م) في محلة العمارة بجوار مسجدهم الشهير مسجد آل كاشف والى جنب مقبرتهم الخاصة ذات القباب الزرق الجميلة، ليجلس الشيخ عند مكتبته العامرة يستقبل الوافدين ورجال الدين وذوي الحاجات ويفصل بين المتخاصمين ويوفق بين الأشتات ولا يغادر حتى أذان الظهر، ليستقبل الصلاة في الحرم الحيدري أو في داره حتى إذا انتهى من صلاته تناول طعام الغداء ونام بما يناهز الساعة حينا أو يترك النوم كي يستثمر هذه الساعة أحيانا بأن يخرج إلى حجرة مخصصة لشؤونه في مدرسته العلمية قد أعدها للتصنيف والتأليف والمطالعة والإجابة عن الأسئلة المختلفة التي يحملها اليه بريده باستمرار، وهي كثيرة، يبدو ذلك جلياً مما أورده هو عن نفسه في ترجمته التي كتبها بقلمه حيث قال: وكان البريد وغيره يوصل إلى مكتبتي سحابة عمري كتبا من الأقطار البعيدة والقريبة من العراق وخارجه تشتمل على أسئلة في مسائل عويصة ومشاكل غامضة في أصول الدين وفروعه وأسرار التشريع والحكمة في الأحكام، مضافا إلى الاستفتاء في الفروع الفقهية والقضايا العملية، فكان الجواب عنها يذهب مع السؤال، ولم نحتفظ إلّا بالنزر اليسير مما ذهب، وقد جمعنا من هذا النزر اليسير مجلداً كبيراً أسميناه

ص: 192

بدائرة المعارف العليا(1)، وهكذا يستمر عمل الشيخ المرجع دؤوبا لا يفتر إلى ما قبل الغروب بساعة عندها يخرج إلى مراجعيه وزائري ديوانه العامر فيقضي من حاجاتهم ما يمنحه له الوقت حتى غروب الشمس من فرصة ثم يذهب بعدها إلى الصحن الحيدري لأداء الصلاة جماعة مغربا وعشاء، وقد يزور الحرم العلوي بعدها، ومن ثم يذهب إلى درسه العالي (البحث الخارج) فيحاضر في الفقه ويعود إلى الدار أو المجلس أو الندوة، وبعدها ينكبّ على التحصيل العلمي حتى منتصف الليل، ليذوق بعدها غرارة من النوم حتى قبيل الفجر(2) وهكذا.

إن هذا العمل الدؤوب هو ما دعا الباحث جعفر الخليلي المعاصر للمرجع الشيخ والشاهد على برنامجه لأن يقول أكثر ما يعجبك من الشيخ هذا الجلد والصبر على العناء والاجهاد فهو بالاضافة إلى كثرة مراجعيه والوقوف على بابه وخروجه للصلاة بالناس ظهرا وعشاء وإلقائه سلسلة من البحوث في كل مساء فإن معدل ما يتلقى في اليوم ليتراوح بين خمسين أو ستين رسالة وقد يتجاوز المعدل في بعض المواسم المائة رسالة تأتيه من مختلف الأقطار الإسلامية وحتى من الأقطار الأفريقية والأمريكتين ومعظمها استفتاءات شرعية ومسائل اجتماعية وأدبية كان يقرؤها جميعا ويجيب عليها بنفسه وكان الكثير من تلك الأجوبة يكتبها على نفس الرسالة ويعيدها إلى صاحبها وكنت أرى بعض هذه الرسائل حين تتاح لي الفرصة، وكان بين تلك الرسائل والاستفتاءات رسائل من مختلف المذاهب والأديان وكثير منها ترد اليه من رجالات العلم والأدب المسيحيين المقيمين بلبنان والمهاجرين منهم وكان يجيب على كل منها في حدود مستواها ومضمونها(3).

برنامج يوم عمل للمرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظلّه)

عرف عن المرجع الديني الكبير سماحة السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله) من أنه

ص: 193


1- المرجعية الدينية / 2 : 29 30.
2- أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف. سابق : 22 - 23.
3- المرجعية الصالحة. سابق : 84 – 85.

عادة ما يستيقظ لصلاة الفجر في أول وقتها حتى إذا أزف وقت الصلاة وحان موعد لقائه بربه الكريم نهض مشتاقا إلى فرحة لقائه حتى إذا فرغ من أداء صلاته الواجبة المحببه لديه نشط للتعقيب والدعاء وقراءة القرآن والذكر حتى مطلع الشمس - وقد كنت أعرف عنه هذا الالتزام وأشاهده يوميا ونحن محتجزون سوية في زنزانات مديرية الأمن العامة وسجن أبي غريب الخاص المغلق منذ أن اعتقل واعتقلت معه واعتقل رجال أسرتنا أيام النظام البائد لمدة تزيد عن (8) سنوات، وبالتحديد من يوم (10/ 5 / 1983 م - 6 / 6 / 1991م) - (1403 ه- 1411ه)، وقد ظل مواظبا على هذا النظام الحياتي إلى اليوم - فإذا بزغت الشمس هبّ (دام ظلّه) لمكتبته للمطالعة والكتابة والتأليف إلى أن يحين موعد الفطور فإذا تناوله عاد مسرعا إلى مكتبته متما كتابته من حيث انتهى مكبًا على تحضير درسه القادم حتى إذا أزفت الساعة التاسعة والنصف صباحا بدأ بإلقاء درسه على طلبته في خارج الفقه شارحا وموضحا ومناقشا ومشكلا على من سبقه ومجيبا من سأله، مبينا ما أشكل وموضحا لما غمض وهم بين مدون ما يقول أو مسجل ما يلفظ أو مصغ لما يحلل ويجيب، فإذا انتهى من إلقاء درس الفقه وأجاب عن أسئلة طلابه وإشكالاتهم عليه نهض لإلقاء درسه في خارج أصول الفقه حتى إذا أزفت الساعة الحادية عشرة تقريباً أنهى درسه الأصولي الموسع وأنهى بعده الإجابة عن أسئلة طلابه نهض ليجدد وضوءه ليخرج بعده إلى مكتبه العامر يستقبل الزائرين ويلتقي بالوفود الرسمية والشعبية التي اعتادت أن تؤم مكتبه العامر من داخل العراق وخارجه حتى أذان الظهر فإذا أذن المؤذن لصلاة الظهر قام لأداء صلاته وصلاة العصر يؤديهما في مكتبه جماعة مع من حضر من زوار مجلسه وقت الصلاة فإذا انتهى من صلاته وتعقيبه بما يتيسر له من محفوظاته من الأذكار والأدعية والذكر وقراءة والقرآن دخل بيته لتناول طعام الغداء وقد اعتاد متى ما وجد سفرة الغداء ممدودة والطعام لم

ص: 194

ينقل اليها بعد أن يستثمر هذه الفرصة فيشتغل بقراءة القرآن أو المطالعة وإن كانت لا تزيد المدة عن دقيقتين أو ثلاث حتى إذا وضع الأكل على المائدة وتناول منها ما يستعين به على أعماله من طعامه المعتاد ذهب سماحته للاستراحة فأخذ قسطا من النوم يفرضه عليه الجسد الناحل ليستيقظ بعده مستقبلاً وفوداً رسمية أو شخصية بموعد خاص مسبق غالباً ما يطلبه طالبه لأمر خاص به، فإذا انتهى من ذلك كله شرع بالإجابة أو مراجعة إجابات مكتبه عن استفتاءات المؤمنين حتى إذا فرغ منها دخل مكتبته ثانية من أجل المطالعة والتحضير والكتابة ماكثا فيها حتى يحين وقت غروب الشمس عندها قام ليجدد وضوءه استعدادا لأذان المغرب وصلاته ونافلتها وصلاة العشاء ونافلتها ثم يعود مرة أخرى لمكتبته للكتابة والمطالعة حتى يحين وقت العشاء عندها يتناول بسيط ما تهيأ له منه ثم يعود مجدداً لإكمال مطالعته وكتابته حتى إذا انتصف الليل وزاد قام ليؤدي صلاة الليل ويعقب بعدها ببعض الأدعية والأذكار ثم يخلد إلى الراحة ليستقبل يومه الجديد بما ودع به سابقه.

وكان من عادته إذا أرق أو طرقه طارق ما فحال بينه وبين النوم هرع من فراشه إلى مكتبته مشتغلاً بالكتابة والتحضير والمطالعة والتأليف فإذا هو مت عيناه ثانية انتزعته من کتابه وكتابته وعادت به إلى حيث مستقره الذي،فارقه كما كان من عادته أن يهتم بإبداء النصح لأولاده ومتابعة شؤونهم وغالبا ما يستثمر وقت تناول وجبة الطعام في الغداء أو في العشاء مستعرضاً معهم قصصاً وأحداثاً ذات مغاز تربوية وعلمية عديدة يحفظ ويستذكر منها الكثير الكثير بالأرقام حتى أدقها والتواريخ حتى أبعدها.

كما كان من عادته (دام ظلّه) في شهري رمضان ومحرم أن يتفرغ للكتابات في شؤون العقيدة والفكر.

هذا وقد اعتاد سماحته منذ نعومة أظفاره أن يكتب دروسه وتدريساته كلها، بما في

ص: 195

ذلك بحوثه التي يلقيها على طلبة الخارج في الفقه والأصول كليهما غير مكتف بتقريرات تلامذته عنها، وهي حالة جيدة جدا، وياليتها كانت شائعة لدى أساتذة البحث الخارج في حوزة النجف الأشرف. (ينظر الملحق السابع )

برنامج يوم عمل للمرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض (دام ظلّه)

يمكننا أن نلخص برنامج يوم العمل للمرجع الشيخ الفياض بما يأتي:

أولاً: يبدأ العمل اليومي صباحاً بعد صلاة الصبح مباشرة التي تنتهي هي وأورادها بعد آذان الصبح بنصف ساعة وأكثر بقليل، بعدها مباشرة يمارس سماحته بعض الحركات الرياضية البسيطة لغرض المحافظة على لياقته البدنية وذلك لتعسر الخروج ومباشرته المشي في شوارع المدينة أو من البيت إلى الإمام (عَلَيهِ السَّلَامُ) نظراً للظروف الأمنية غير المستقرة، وحدود هذه الممارسة الرياضية لا تتجاوز الساعة أو اقل بقليل.

بعدها في الساعة الخامسة صباحاً تقريباً يعكف سماحته في مكتبه لغرض القراءة والتأليف حتى الساعة الثامنة والنصف ويتخللها بعض الأحيان وبعد طلوع الشمس نومه خفيفة لا تزيد على النصف ساعة في أيام التعطيل عن الدرس فقط.

في الساعة الثامنة والنصف صباحاً يذهب سماحته إلى مكتبه لغرض البدء بالتدريس حيث يلقي درس الأصول أولا ثم درس الفقه على فضلاء وأساتذة الحوزة و الطلبة المتقدمين الذين قد يبلغ عددهم بحدود (300) شخص تقريباً يبدأ سماحته بالشروع بالدرس الأول (الأصول) بحدود الساعة الثامنة والنصف وخمسة دقائق وينتهي بحدود التاسعة وخمسة دقائق وهنا استراحة قصيرة لمدة خمسة دقائق ثم يبدأ الدرس الثاني (الفقه) وينتهي في الساعة التاسعة وخمس وثلاثون دقيقة، إن الدرس يبث عبر الانترنيت إلى كافة أنحاء العالم، بعد انتهاء درس الفقه يتوجه سماحته إلى

ص: 196

الطلبة للاستماع إلى مباحثاتهم والرد على إشكالاتهم الشرعية إن وجدت والاستماع إلى طروحاتهم وأسئلتهم سواء الشرعية أو ما يدور في الساحة العراقية والإسلامية والعالمية.

في حدود الساعة العاشرة صباحاً تنتهي فترة الدرس والمباحثات فيذهب سماحته إلى داره إلى الاستراحة ولتناول طعام الإفطار مع عائلته الكريمة.

يعود لمكتبه بحدود الساعة الحادية عشرة صباحاً أو اقل بقليل ثم يبدأ سماحته باستقبال المؤمنين من أبناء الطائفة وسائر المسلمين للرد على مسائلهم الشرعية والعقائدية وتنتهي فترة استقبال المؤمنين إلى حدود آذان الظهر عندها يبدأ سماحته بأداء الصلاة والعصر.

وبعد انتهاء صلاته وأوراده يتابع سماحته عادة شؤون وأعمال المكتب حيث يستدعي بعض الأخوان المشايخ من أعضاء المكتب لمناقشة بعض الأمور والأعمال المكتبية وكذلك تقدم له في فترات عمل المكتب الاستفتاءات الواردة إلى المكتب عبر الانترنيت من كافة أنحاء العالم ليرد سماحته عليها.

في تمام الساعة الثانية ظهراً يذهب سماحته إلى عائلته الكريمة لتناول الغذاء وللاجتماع مع أفراد أسرته وأولاده وأحفاده لينالوا قسطاً من توجيهاته وبركاته ورعايته الأبوية الكريمة.

وفي حدود الساعة الثالثة ظهراً يخلد سماحته إلى استراحة الظهيرة ليأخذ قسطاً من النوم ويطالع خلال هذه الفترة وقبل النوم الصحف المحلية والعالمية للاطلاع على ما يدور في البلد وفي العالم الإسلامي والعالم الخارجي.

في الساعة الرابعة والنصف تبدأ المرحلة الثانية من تحضير سماحته لبعض الدروس

ص: 197

ومراجعة البحث والاشتغال بتأليف كتابه القيم (محاضرات في علم الأصول) والذي أنهى منه لحد الآن احد عشر جزءاً وخلال هذه الفترة يبدأ سماحته أيضا باستقبال بعض المسئولين والعلماء والضيوف حسب مواعيد مقررة ومبرمجة.

وبعد غروب الشمس وبعد الانتهاء من صلاتي المغرب والعشاء وأورادهما تبدأ مرحلة ثانية من الرياضة المسائية البسيطة ولمدة نصف ساعة تقريباً.

وبعد الساعة الثامنة والنصف مساءاً يعود سماحته إلى مكتبه لغرض كتابة أجوبة الاستفتاءات الخطية الواردة إلى المكتب من كل أنحاء العالم الإسلامي، وكذلك على الدرس والتأليف حتى ساعة متأخرة من الليل، بعدها وبحدود الساعة الواحدة صباحاً يخلد سماحته إلى النوم لما لا يزيد على ثلاث ساعات ليستيقظ بعدها إلى حيث العبادة والصلاة (ينظر الملحق الثامن).

ص: 198

هوامش الفصل الخامس

(1) الموسوعة الفقهية الميسرة. الشيخ محمد علي الأنصاري: 1 / 36

(2) الدكتور حامد حفني داود. مقدمة كتاب عقائد الإمامية للشيخ المظفر. ط2 : 38 -48

(3) ينظر: الأصول العامة للفقه المقارن سابق: 552 وما بعدها.

(4) ينظر السمات المطلوبة للمجتهد الشيخ محمد إبراهيم الجناتي. بحث. مجلة الفكر الإسلامي. العدد 6 / 41-44 مترجما عن مجلة كيهان انديشه الفارسية العدد 52.

(5) ينظر المرجعية الصالحة. سابق: 81-86.

(6) موسوعة النجف الأشرف جامعة النجف الدينية 6 / 227 نقلا عن جامعة النجف للشيخ محمد تقي الفقيه.

(7) ماضي النجف وحاضرها: 1 / 280279.

(8) المصدر السابق : 1/ 380

(9) وسائل الشيعة إلى تحقيق مسائل الشريعة. الحر العاملي: 18 / 101. الحديث رقم: 9.

(10) هامش منهاج الصالحين للسيد محسن الحكيم. تعليق السيد محمد باقر الصدر 12/1. تعليقة رقم 25.

(11) منهاج الصالحين. السيد محمد سعيد الحكيم: 1/ 13.

(12) المسائل المنتخبة. السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي:9 مسألة 20.

ص: 199

(13) المصدر السابق : 137 مسألة 366 شرائط الإمامة.

(14) ينظر: المرجعية الصالحة. السيد محمد باقر الحكيم: 40 - 57.

(15) معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام. د. محمد هادي الأميني: 425/1.

(16) سورة الحجرات: 13

(17) الإمام الحكيم : السيرة الذاتية، الجانب العلمي، المرجعية الدينية، الحوزة العلمية. بقلم السيد محمد باقر الحكيم: 88-89.

(18) المسائل المنتخبة سابق: 8.

(19) منهاج الصالحين: 1 / 3.

(20) الأصول العامة للفقه المقارن سابق : 637.

(21) المسائل المنتخبة سابق: 8.

(22) الفقه للمغتربين. عبد الهادي الحكيم: 78 79.

(23) المرجعية الدينية / 2. سابق : 26 - 27.

(24) سورة القيامة : 14.

(25) سورة البقرة : 286.

(26) الشيخ محمد طاهر آل راضي (1322 – 1384) ه (1904 - 1964)م من مجتهدي الحوزة العلمية في النجف الأشرف ومن أساتذة علم الكلام والشعر والأدب فيها من تأليفه (بداية الأصول في شرح كفاية الأصول) و (تعليقة على بعض مباحث المكاسب) إضافة إلى ديوان شعر رائع.

(27) الشيخ محمد رضا الشيخ عبد الحسين الشيخ باقر آل ياسين (1297 – 1370) ه ( 1880 - 1951) م من مراجع التقليد في النجف الأشرف ومن المقدسين

ص: 200

والأدباء والشعراء له من التأليف (بلغة الراغبين في فقه آل ياسين) و (حاشية العروة الوثقى ) و (دیوان شعر) جيد.

(28) المرجعية الدينية / 2 : 29 30.

(29) أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف. سابق : 22 - 23.

(30) المرجعية الصالحة. سابق : 84 – 85.

(31) ينظر: المرجعية الدينية. الحلقة الثانية. حوار صريح مع سماحة المرجع السيد محمد سعيد الحكيم. سابق: 20

(32) موسوعة النجف الأشرف. جامعة النجف الدينية : 6 / 218 - 219 نقلا عن جامعة النجف للشيخ محمد تقي الفقيه.

(33) مرجعية التقليد. أحمد الكاظمي الموسوي منشور في دائرة المعارف الشيعية. سابق : 10 / 139 (بتصرف).

(34) التقليد والحالة القومية. الشيخ محمد مهدي الآصفي. منشور في دائرة المعارف الشيعية. سابق : 10 / 138.

(35) المرجعية الصالحة. سابق : 2016.(باختصار).

(36) من ترجمة الشيخ كاشف الغطاء بقلمه وهي الثانية وقد كتبها سنة 1371ه- 1952 م.العبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية. سابق : 17 - 18.

(37) ينظر : أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف. الدكتور محمد حسين الصغير: 182 -193. ومقدمة كتاب جنة المأوى بقلم محمد علي القاضي الطباطبائي : 40.

(38) هكذا عرفتهم. جعفر الخليلي: 1 / 143 - 244.

ص: 201

ص: 202

الفَصلُ السَادِس

أشهر مراجع التقليد في حوزة النجف الأشرف العلمية الحالية (1432 ه/ 2011م)

اشارة

ص: 203

ص: 204

مقدمة

في النجف الأشرف اليوم مراجع كبار سبق أن تصدوا للمرجعية بعد وفاة المرجع الأعلى في وقته سماحة السيد أبي القاسم الموسوي الخوئي في (سنة 1412ه/ 1992 م) (قدّس سِرُّه)، فقلدهم المؤمنون على تفاوت في سعة تقليد كل مرجع منهم عن الآخر وضيقه، وهؤلاء المراجع الأربعة هم اصحاب السماحة كل من: المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني، والمرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم، والمرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض، والمرجع الشيخ بشير النجفي (دام ظلهم).

وسأتناول في هذا الفصل من خلال مباحث أربعة : السيرة الحياتية والعلمية لكل منهم، بادئا بالمبحث الأول المخصص لاستعراض موجز للسيرة الحياتية والعلمية للمرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه).

ص: 205

ص: 206

المبحث الأول: المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه)

سيرته الحياتية والعلمية

يحسن بي بادئ ذي بدء أن أتناول السيرة الذاتية للسيد المرجع، معرِّفا بولادته ونشأته العلمية، مسلطا الضوء على بعض من اهتماماته المعرفية الأخرى، ذاكرا أهم كتبه،ومصنفاته معرجا على مرجعيته ومنوِّها بمشاريعه وخدماته العامة للمؤمنين، وذلك في المطالب التالية:

المطلب الأول: ولادته ونشأته العلمية

ولد سماحة المرجع السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه) في المشهد الرضوي الشريف في اليوم (التاسع من شهر ربيع الأول من عام 1349ه الموافق ليوم 1930/8/3م)، وسماه والده المقدس المرحوم السيد محمد باقر علياً، تيمناً باسم جده لأبيه. وكان العلامة الشيخ أغا بزرك الطهراني قد ترجم للسيد علي (قدّس سِرُّه) جد مرجعنا الحالي في القسم الرابع من كتابه الشهير طبقات أعلام الشيعة (ص 1432) حيث ذكر أنه كان في النجف الأشرف وأنه من تلامذة الحجة المؤسس المولى علي النهاوندي، وفي سامراء من تلامذة المجدد الشيرازي، ويعد سماحة المجتهد الشيخ محمد رضا آل ياسين (قدّس سِرُّه) من أبرز تلامذته.

وفي حدود سنة 1308 ه/ 1890م) عاد جد مرجعنا إلى مشهد الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) واستقر فيه، ثم انتقل مرجعنا الحالي السيد السيستاني (دام ظلّه) إلى الحوزة العلمية الدينية في

ص: 207

قم المقدسة على عهد المرجع السيد حسين البروجردي (قدّس سِرُّه)، وذلك في عام (1368ه/ 1949م)، وحضر بحوث علماء وفضلاء الحوزة آنذاك في الفقه والأصول، وقد أخذ الكثير من خبرته الفقهية وآرائه في علم الرجال والحديث من أستاذه المرجع السيد البروجردي (قدّس سِرُّه)، كما حضر درس الفقيه العالم الفاضل السيد الحجة الكوهكمري (قدّس سِرُّه) وبقية الأفاضل في حينه.

وكانت أسرته وهي من الأسر العلوية الحسينية تسكن في أصفهان على عهد السلاطين الصفويين، وقد عين جده الأعلى (السيد محمد) في منصب شيخ الإسلام في سيستان في زمن السلطان حسين الصفوي فانتقل إليها وسكنها هو وذريته من بعده.

وكان سماحة السيد دام ظلّه) بدأ وهو في الخامسة من عمره بتعلم القرآن الكريم، ثم دخل مدرسة دار التعليم الديني لتعلم القراءة والكتابة ونحوها، فتخرج من هذه المدرسة وقد تعلم أثناء ذلك فن الخط من أستاذه (الميرزا علي آقا ظالم)

وفي أوائل عام (1360 ه/ 1941م) بدأ السيد المترجم له بتوجيه من والده بقراءة مقدمات العلوم الحوزوية، فأتم قراءة جملة من الكتب: كشرح الألفية للسيوطي والمغني لابن هشام والمطوّل للتفتازاني ومقامات الحريري وشرح النظام على المرحوم الأديب النيشابوري وغيره من أساتذة الفن، ثم قرأ شرح اللمعة والقوانين على المرحوم السيد أحمد اليزدي المعروف ب(نهنگ)، وقرأ جملة السطوح العالية كالمكاسب والرسائل والكفاية على الشيخ هاشم القزويني، وقرأ جملة من الكتب الفلسفية كشرح منظومة السبزواري وشرح الإشراق والأسفار على المرحوم الآيسي، وقرأ شوارق الإلهام على المرحوم الشيخ مجتبى القزويني، وحضر في المعارف الإلهية دروس المرحوم الميرزا مهدي الأصفهاني. كما حضر بحوث الخارج للمرحوم الميرزا مهدي الاشتياني والمرحوم الميرزا هاشم القزويني (قدس سرهما).

ص: 208

وفي أواخر عام (1368 ه/ 1949م). هاجر إلى قم المقدسة لإكمال دراسته، فحضر عند العلمين الشهيرين السيد حسين الطباطبائي البروجردي والسيد محمد الحجة الكوهكمري، وكان حضوره عند الأول في الفقه والأصول، وعند الثاني في الفقه فقط. وفي أوائل عام (1371ه/ 1952م) هاجر من مدينة قم إلى النجف الأشرف، فوصل كربلاء المقدسة في ذكرى أربعين الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ)، ثم نزل النجف فسكن مدرسة البخارائي العلمية، وحضر بحوث العلمين الشهيرين السيد أبي القاسم الموسوي الخوئي والشيخ حسين الحلي (قدس سرهما) في الفقه والأصول، ولازمهما مدة طويلة، وحضر خلال ذلك أيضاً بحوث بعض الأعلام الآخرين منهم الإمام السيد محسن الحكيم والعلم السيد محمود الشاهرودي (قدس سرهما).

وفي أواخر عام (1380 ه/ 1961م)، عزم على السفر إلى موطنه مشهد الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وكان يحتمل استقراره فيه فكتب له أستاذه الإمام الخوئي وأستاذه الشيخ الحلي (قدس سر هما) شهادتين ببلوغه درجة الاجتهاد، كما كتب شيخ محدثي عصره الشيخ أغا بزرك الطهراني صاحب الذريعة شهادة أخرى يطري فيها على مهارته في علمي الحديث والرجال.

وعندما رجع إلى النجف الأشرف في أوائل عام (1381ه/ 1962م) اشتغل سيدنا المرجع بإلقاء محاضراته في (البحث الخارج) في الفقه على ضوء مكاسب الشيخ مرتضى الأنصاري (قدّس سِرُّه)، وأعقبه بشرح كتاب العروة الوثقى للسيد كاظم الطباطبائي اليزدي (قدّس سِرُّه)، فتم له من ذلك شرح كتاب الطهارة وأكثر فروع كتاب الصلاة وبعض كتاب الخمس. كما ابتدأ بإلقاء محاضرات (البحث الخارج) في الأُصول في شهر شعبان المعظم عام (1384 ه/ 1965م) حيث أكمل دورته الثالثة منها في شعبان المعظم(سنة 1411ه/ 1991م)، وقد سجل محاضراته الفقهية والأصولية غير واحد

ص: 209

من تلامذته.

المطلب الثاني : كتبه ومصنفاته ومنهجه البحثي في علمي الفقه والأصول

للسيد السيستاني دام ظله كتب ورسائل عديدة أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الكتب والرسائل التالية:

شرح كتاب العروة الوثقى، وكتاب في القضاء، وكتاب في البيع والخيارات، وشرح مشيخة التهذيبين، ورسالة في اللباس المشكوك فيه، ورسالة في قاعدة اليد، ورسالة في صلاة المسافر، ورسالة في قاعدة التجاوز والفراغ، ورسالة في القبلة، ورسالة في التقية، و رسالة في قاعدة الإلزام و رسالة في الاجتهاد والتقليد، ورسالة في قاعدة لا ضرر ولا ضرار، ورسالة في الربا، ورسالة في حجية مراسيل ابن أبي عمير، و نقد رسالة تصحيح الأسانيد للأردبيلي، و منهاج الصالحين في ثلاثة أجزاء، و المسائل المنتخبة، و مناسك الحج، وملاحق مناسك الحج، إضافة إلى أبحاثه وتقريراته في الأصول وغيرها.

أما منهجه البحثي في علم الفقه فيمكن أن نلمح فيه عدة أمور، منها المقارنة بين فقه الشيعة وفقه غيرهم من أتباع المذاهب الإسلامية الأُخرى، فإن الإطلاع على الفكر الفقهي السني المعاصر لزمان النص، كالاطلاع على (موطأ مالك) مثلا و (خراج أبي يوسف) وأمثالها، يوضح أمامنا مقاصد الأئمة (عَلَيهِم السَّلَامُ) في زمن النص، ومما يدل على مدى اهتمامه بكتب حديث وفقه وأصول المذاهب الإسلامية الأخرى وإحاطته بهما ما ورد في بعض بحوثه من استعراض ومناقشة لآراء فقهاء من مدارس مختلفة، ناهجا نهج المقارنة بين المذاهب الإسلامية المختلفة في ذلك.

وتجد في محاضراته المطبوعة في (قاعدة لا ضرر ولا ضرار) أسماء كتب مثل سنن ابن ماجة، وكنز العمال، وسنن الدارقطني، ونصب الراية والمستدرك على الصحيحين،

ص: 210

وسنن البيهقي، ومجمع الزوائد، والنهاية في غريب الحديث، وفتح الباري، والأم، و مسند أحمد بن حنبل، وموطأ مالك، وتهذيب التهذيب، وتحفة الأشراف، وجمع الجوامع، وبدائع الصنايع، والمبسوط، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد، ومنتقى الأخبار ونيل الأوطار، والبحر الزخار من كتب المذهب الزيدي، ودعائم الإسلام من كتب الإسماعيلية وغيرها(1).

وقد حدثني الشيخ حسين الأميني من أنه صادف أن زار قبل حوالي خمسين (سنة من الآن) مرقد الإمامين الكاظمين (عَلَيهِمَا السَّلَامُ) مرة بصحبة سماحة السيد (دام ظلّه) بعد مجيئه من إيران، وسماحة الشيخ عبد اللّه البروجردي وكانوا يومها شبابا، فمروا في طريقهم على كلية الشريعة في منطقة الأعظمية ببغداد، فرغب السيد المترجم له بزيارة المعهد والاطلاع على مناهجه وطرق التدريس فيه وإجراء حوار مع أساتذته، فكان له ما أراد حيث دخل ثلاثتهم المعهد بزيهم الديني المعروف عند الشيعة الإمامية، فتوجهت الأنظار اليهم من قبل الأساتذة والطلاب بسبب عدم إلفتهم دخول ضيوف معممين من إخوانهم الشيعة عليهم. وبعد جلوسهم وتبادل كلمات الترحيب المعتادة في مثل هذه المناسبة دار الحديث بينهم حول الكتب الدراسية المعتمدة والمناهج، فكان السيد (دام ظلّه) يحاورهم محاورة المطلع المحيط بكتبهم وتأليفهم وآراء علمائهم واختلافاتهم في الأصول والفروع وما إلى ذلك، مما أثار إعجابهم بسعة اطلاعه على تصانيف فقهائهم وإحاطته بمبانيهم الأصولية والرجالية ومداركهم ومستنداتهم العلمية.

وأذكر أني حضرت مرة لقاءا جرى بينه (دام ظلّه) ووالدي (قدّس سِرُّه)، أشعرني فيه حديثه عن كتاب سيدي الوالد (الأصول العامة للفقه المقارن) مدى اهتمامه به وبمنهج المقارنة بين المذاهب الإسلامية، فقد سأل (دام ظلّه) يومها والدي (قدّس سِرُّه) عن موسوعته في الفقه المقارن التي كان خطط لإصدارها فيما يربو على عشرين مجلدا، وعن موعد صدور كتابه الثاني منها

ص: 211


1- قاعدة لا ضرر ولا ضرار. تقريرات السيد السيستاني. بقلم السيد محمد رضا السيستاني : أنظر هوامش الصفحات: 82 و 89 و 91 و 92 و 99 و 107 و 174 وغيرها

بعد الأصول العامة، وهو كتاب (القواعد العامة في الفقه المقارن) فوعده والدي خيرا.

ومن منهج سيدنا المرجع (دام ظلّه) كذلك الاستفادة من علم القانون في بعض المواضع الفقهية، كمراجعته للقانون العراقي والمصري والفرنسي عند بحثه في كتاب البيع والخيارات، وقد حدثني بعض طلابه في البحث الخارج أنه كان يأتي أحيانا إلى الدرس ومعه كتاب (الوسيط في القانون المدني) للدكتور عبد الرزاق السنهوري، للاستفادة منه قدر الإمكان عند الخوض في موضوعات ترتبط بمحتواه. ولكون هذه البحوث القانونية تلقي الضوء على بعض المرتكزات العرفية ففي كتاب (قاعدة لا ضرر ولا ضرار) وهو من تقريراته تجد مراجع ككتاب: (مصادر الحق في الفقه الإسلامي) و(الوسيط في شرح القانون المدني)، وكلاهما للدكتور عبد الرزاق السنهوري وهكذا غيرهما(1).

ومن منهجيته في البحث الفقهي أيضا، نظرته الاجتماعية للنص الشرعي والسعي للإحاطة بأجوائه وظروفه ومناخه وملابساته التي تؤثر على دلالته، فقد ورد عن النبي الكريم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مثلا أنه حرّم أكل لحم الحمر الأهلية يوم خيبر، فالفهم الحرفي يقول بالحرمة والكراهة، والفهم الاجتماعي يرى أن النص ناظر إلى ظرف الحرب مع اليهود في خيبر، والحرب تحتاج لنقل السلاح والمؤنة، ولم تكن هناك وسائل نقل الأ الدواب ومنها الحمير.

فالنهي في الواقع نهي إداري لمصلحة موضوعية اقتضتها الظروف آنذاك، ولا يستفاد منه تشريع الحرمة ولا الكراهة.

أما منهجه البحثي في علم الأصول فيختلف عن منهجية بعض من أساتذة الحوزة وأرباب البحث الخارج في الأصول، فهو يرى كما يذهب تلميذه السيد منير الخباز في تقرير لمحاضرات السيد المرجع في علم الأصول أسماه (الرافد في علم الأصول)

ص: 212


1- المصدر السابق : أنظر هامش : 330

إلى أن الفترة التي نعيشها الآن بمقتضى العوامل الاقتصادية والسياسية تمثل الصراع الحاد بين الثقافة الإسلامية والثقافات الأخرى على مختلف الأصعدة، فلا بد من تطوير علم الأصول وصياغته بالمستوى المطلوب للوضع الحضاري المعاش، وقد ركزنا في بحوثنا على بعض الشذرات الفكرية التي تلتقي مع حركة التطوير لعلم الأصول من خلال الاستفادة من العلوم المختلفة قديمها وحديثها، كالفلسفة وعلم القانون وعلم النفس وعلم الاجتماع، ومن خلال محاولة التجديد على مستوى المنهجية وعلى مستوى النظريات الكبروية(1) ففي مجال الفلسفة مثلاً رجع في بحوثه الأصولية إلى نظریات فلسفية عديدة ليرتب عليها بعض أفكاره الأصولية، كرجوعه إلى نظرية التكثر الادراكي الفلسفية ليرتب عليها مبناه في الوجود الرابط من أنه مجرد عمل إبداعي ذهني مرتبط بهذه النظرية، وكرجوعه إلى نظرية وحدة الوجود الفلسفية وهي من النظريات التي أولاها اهتماما خاصا في بحوثه ورتب عليها بعض مبانيه الأصولية.

وفي مجال علم المنطق اعتمد على دليل حساب الاحتمالات ورتب عليه ما ذهب أليه من رأي في تحليل مفهوم الشبهة المحصورة وغير المحصورة، وفي مجال علم الاجتماع نراه يرجع في بعض بحوثه الأصولية إلى هذا العلم لينتهي من خلاله إلى التفريق بين العادات والأعراف والتقاليد وليحدد ألمناشئ النفسية والاجتماعية لبناء العقلاء وارتكازاتهم. وفي بحثه حول مدلول صيغة الأمر ومادته يطرح نظرية بعض علماء الاجتماع من أن تقسيم الطلب لأمر والتماس وسؤال نتيجة تدخل الطالب في حقيقة طلبه من كونه عاليا أو مساويا، معتبرا هذه النظرة من رواسب الثقافات السالفة التي تتحدث اللغة الطبقية لا اللغة القانونية المبنية على المصالح العامة.

وفي المجال الأدبي نراه يستعين ببعض النظريات الأدبية في تحليل المفاهيم الأصولية، كاستعانته بالتورية في مبحث استعمال اللفظ في أكثر من معنى، كما نراه حين يتحدث عن

ص: 213


1- الرافد في علم الأصول. تقريرات السيد السيستاني. بقلم السيد الخباز :

حجية قول اللغوي يبحث في تاريخ تدوين اللغة وطرق تدوينها وتاريخ علمائها ليصل إلى أن من عوامل عدم الاعتماد على قول اللغويين هو أن اللغويين يتأثرون بمذاهبهم الفكرية في تفسيراتهم اللغوية، فينعكس اتجاهه المذهبي في تفسيره وشرحه للمفردات اللغوية فلا يكون كلامه تعبيرا عن الفهم العربي الصافي(1) وهكذا.

ويمكنني الإشارة إلى خصائص أخرى في منهجه الأصولي بإيجاز. فمن ذلك انه اقترح منهجا في تصنيف علم الأصول وطريقة تبويبه تخالف المنهج السائد المتداول عند الأصوليين سواء القدماء القائلين بالتقسيم الرباعي منهم أم الأحدث طبقة كالشيخ الأنصاري الذي قال بالتقسيم الثلاثي، مختارا منهجا مختلفا يدخل إليه من مسلكين كلاهما يوصلانه لغرضه. فإما أن يدور منهجه المقترح مدار الحجة المثبتة للحكم الشرعي، وحينئذ يصح أن يصنف علم الأصول إلى أقسام ثلاثة. وإما أن يدور البحث فيه حول محور الاعتبار وشؤونه وتفصيلاته وحينئذ يبحث علم الأصول في خمسة عشر بحثا ولا مجال لاستعراض المسلكين في هذه العجالة.

ومن الطريف أنه يختتم بحثه حول منهجة علم الأصول المقترحة بما يوسعها لغير الأصول من العلوم الأخرى، معتقدا بأنها مفيدة في المجالات القانونية أيضا كالقضاء والمحاماة وسائر البحوث الحقوقية الأخرى، مما يستشف منه اطلاعه على خصوصيات البحوث القانونية بحيث يقترح منهجا لها مختلفا عن المناهج السائدة في أبحاثها.

ومن خصائص منهجه الأخرى بإيجاز أنه يبدأ بحثه الأصولي بالتحدث عن تاريخ البحث الذي ينوي الدخول فيه ومعرفة جذوره والإحاطة بها قبل الخوض فيه، ففي بحث التعادل والتراجيح مثلا، يذهب إلى أن قضية اختلاف الأحاديث فرضتها الصراعات الفكرية العقائدية آنذاك والظروف السياسية التي أحاطت بالأئمة، مما ينبغي الإحاطة بها بعناية قبل استكناه النص واستنطاقه مركزا على الروابط بين الفكر

ص: 214


1- نفسه

الحوزوي والثقافات والمعارف الأخرى معاصرة وغير معاصرة. فتراه في بحث المشتق يتحدث عن الزمان نظرة فلسفية حديثة قوامها انتزاع الزمان من المكان، كما تراه يستشهد أحيانا بأقوال المفكرين والفلاسفة قدماء ومحدثين، فمن المفكرين والفلاسفة القدماء تجد أسماء تتكرر لأكثر من مرة من أمثال الشيخ الرئيس ابن سينا والمحقق الطوسي والسبزواري والقطب الرازي والملا اسماعيل والقاضي عبد الجبار والشافعي والباقلاني والشوكاني وأبي هاشم وبالمفكر الفرنسي (روسو) وغيرهم، موليا الاهتمام بالمباحث الأصولية المرتبطة بالفقه أهمية خاصة، باحثا الفقه الخلافي والفقه المذهبي عند الفريقين واعتمادهما معا على علم الأصول، مميزاً في بحثه عن الفقه الخلافي عند الشيعة بين التشيع الثقافي والتشيع السياسي، مقتطعا من مقدمة ابن خلدون أكثر من نص للتدليل على ما يقول به وينتهي إليه مركزا على جدوى النظرة الاجتماعية للنص، ذاهبا إلى أن الفقيه لا يكون فقيهاً حتى تتوفر لديه خبرة وافية بكلام العرب وخطبهم وأشعارهم ومجازاتهم، كي يكون قادراً على تشخيص ظهور النص تشخيصاً موضوعياً لا ذاتياً، وأن يكون على اطلاع تام بكتب اللغة وأحوال مؤلفيها ومناهج الكتابة فيها، فإن ذلك دخيل في الاعتماد على قول اللغوي أو عدم الاعتماد عليه، متبنيا ما ذهب إليه علماء الاجتماع من أن اللغة ظاهرة حية خاضعة للتطور والتبدل كسائر الظواهر الاجتماعية ذاهبا إلى ما ذهب إليه علماء النفس من أن طريقة التفكير ترتبط ارتباطا وثيقا باللغة المستخدمة عند التفكير فإن اللغات العالمية لا تختلف اختلافا لفظيا فقط بل ان كل لغة تتضمن بين ثناياها طريقة معينة للتفكير والتحليل(1)، قائلا بضرورة استيعاب أحاديث أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) وكتبها التي احتوتها ومؤلفيها ومدى دقتهم في النقل وضبطهم وتثبتهم في نقل ما ينقلون مع التعرف على مناهجهم التي اعتمدوها في تأليفهم وكتبهم واختيار أحاديثهم وحال رواتها بالتفصيل، مركّزا على علم الرجال

ص: 215


1- نفسه : 88

تركيزا خاصا من اجل تحصيل الوثوق الموضوعي بصلاحية النص للاعتماد عليه في مقام الاستنباط، عارضا فكر مدرسة خراسان ومدرسة قم ومدرسة النجف الأشرف الأصولية العميقة، منتهيا من ذلك كله إلى رأي مختار بعد بذل الوسع واستنفاد الجهد في البحث والتحليل والمناقشة.

المطلب الثالث - بعض من اهتماماته المعرفية الأخرى

للسيد السيستاني اهتمامات معرفية متنوعة تنمّ عنها بعض الشواهد التي أذكرها هنا.

من ذلك ما حدثني به دام ظلّه) أثناء تشرفي بلقائه في أواخر ربيع الثاني من(سنة 1424ه/ 2003م) عن رأيه بإجراء انتخابات عامة لاختيار مجلس دستوري يكلف بكتابة مسودة الدستور العراقي الجديد وإقراره من قبل المجلس المنتخب أولاً، ثم بعد ذلك يجري التصويت على المسودة المقرة من قبل الشعب في استفتاء عام ثان لإقراره بشكله نهائي، معتبرا ذلك أفضل الطرق القانونية لوضع الدستور وأكثرها تمتعا بالشرعية، وهو ما تذهب إليه الغالبية من فقهاء الدستور، ما يدل على سعة اطلاع بآليات وضع الدساتير وفقهها. وقد حدثني ولده السيد محمد رضا بأنه (دام ظلّه) بدأ بمراجعة بعض الكتب في فقه القانون الدستوري، وقراءة دساتير بعض الدول للاطلاع عليها في الظرف الراهن الذي بدأ الإعداد فيه لوضع دستور للعراق كي يكون بأجواء العملية الدستورية القادمة في العراق الجديد.

كما حدثني (دام ظلّه) في معرض أجابته عما عرضته عليه من أهمية إطلاع المؤمنين على ما يتم من تواصل دائم بين مراجع التقليد في النجف الأشرف في هذا الظرف الاستثنائي الخطير في حياة العراق والعراقيين من أنه على اطلاع تفصيلي بتاريخ علاقة مراجع

ص: 216

النجف الأشرف ببعضهم منذ عهد الشيخ الأنصاري بالخصوص والى الآن، وأنه لم يقرأ أو يشهد طوال هذه المدة فترة مرّ فيها التعاون والتشاور بينهم بأحسن مما هو عليه الآن، مما يكشف عن مدى أحاطته بتاريخ المرجعية والمراجع في العراق. ثم راح يسردلي في حديث طويل تفاصيل ما هو قائم الآن بين المراجع وممثليهم من لقاءات واتصالات ومشاورات مباشرة مرة وغير مباشرة، وكيف أنه عزم على أن لا يبرم أمراً ذا بال إلا بعد أن يتباحث معهم بشأنه ويستأنس بآرائهم فيه.

وللسيد (دام ظلّه) اهتمام خاص بمتابعة ما يجد من نظريات ومعارف تمت بصلة ولو بعيدة بموضوع اشتغاله ونتيجة لولعه بالقراءة ولإدراكه أهمية ما يجدّ من طروحات وأفكار، فهو يتابع ما يصدر من كتب وما ينشر أحيانا في المجلات من آراء وبحوث، موليا علم التاريخ وفلسفته، وحياة وحضارة الشعوب والشخصيات والسياسات والأطروحات الفكرية عناية خاصة. وقد نقل لي أخي السيد علاء الدين أنه تشرف بزيارة سماحة السيد السيستاني (دام ظلّه) مرة فذكر له - رغم كثرة مشاغل المرجعية العامة وابتلاءاتها - أنه قرأ كتاب سيدي الوالد (قدّس سِرُّه) الموسوم: (عبد اللّه بن عباس: شخصيته وآثاره)، واستفاد منه كثيرا.

كما أنه (دام ظلّه) - يضيف أخي - تابع ما كان نشره السيد الوالد (قدّس سِرُّه) من كتب وأبحاث و دراسات ومقالات بما في ذلك ما اعتاد نشره في الدوريات والمجلات والنشريات أولاً بأول. ويشهد لذلك ما نقله بعض تلامذته عنه من أنه (دام ظلّه) كان في الفترة التي درسنا عنده يتابع أكثر الاصدارات والكتب الجديدة والنظريات المعاصرة في مختلف العلوم والحقول، وكنت أراه يشتري بعضها أو يستعير بعضها ويقرؤها ويردها لاصحابها، وكان يستفيد من مطالعاته العامة في بحوثه الفقهية والأصولية ويردد المنطق القراني «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواً

ص: 217

الْأَلْبَابِ(1) وكان السيد المرجع أحيانا ينتقد تلك الأفكار أو ينبه على خطورة بعض الكتابات على الإسلام والمسلمين.

و للسيد (دام ظلّه) مكتبة خاصة كبيرة ومتنوعة تضم صنوف المعرفة المختلفة. وقد حدثنى سماحته أنه قرأ الكثير من كتب كبار مفكري الماركسية وما صنفه الشيوعيون وغيرهم عن الشيوعية ابان المدّ الشيوعي في العراق بعد ثورة (1958م / 1377ه) للاطلاع عليها ومناقشتها ودفع شبهاتها بما زاد عن العشرات. وأنه يحرص على متابعة ما ينشر من جديد الكتب والطروحات عن الإسلام والمسلمين وبخاصة ما ينشره ويدعو إليه بعض الأكاديميين المسلمين الجدد في الغرب.

وله في ذلك آراء ومناقشات لا مجال للحديث عنها في هذه العجالة. كما أنه يتمتع بذائقة فنية تهتز للشعر(2) وحافظة تختزن بعضا من نماذجه الجميلة التي قد يستشهد بأبيات منها خلال حديثه مع زائريه وضيوفه أحيانا.

المطلب الرابع: مرجعيته العامة

في يوم (29 ربيع الثاني عام 1409ه الموافق ليوم 8 /12 / 1988م) ألمت بأستاذه المرجع الأعلى في عصره السيد الخوئي (قدّس سِرُّه) وعكة صحية، فطلب منه أن يقيم صلاة الجماعة مكانه في جامع الخضراء، فلم يوافق على ذلك في البداية، فألح عليه في الطلب، وقال له: (لو كنت احكم كما كان يفعل ذلك المرحوم الحاج آقا حسين القمي تل لحكمت عليكم بلزوم القبول)، فاستمهله بضعة أيام ثم استجاب لطلبه، وأمّ المصلين ابتداء من يوم الجمعة 5 جمادى الأولى (1409 ه/ 1989م) إلى الجمعة الأخيرة من شهر ذي الحجة من عام 1414ه/ 1994م)، حيث أغلق الجامع، وقد تعرض سماحته في تلك الفترة للعديد من المحن والابتلاءات كما سيأتي.

ص: 218


1- سورة الزمر : آية رقم: 1
2- أساطين المرجعية العليا في النجف. سابق : 95

وبعد وفاة السيد الخوئي (قدّس سِرُّه) قتل كان سماحة سيدنا (دام ظلّه) من الستة المشيعين لجنازته ليلاً، وهو الذي صلى على جثمانه الطاهر، ونتيجة لسد الفراغ الحاصل بوفاة المرجع الأعلى وحرصا منه على الأمة المعذبة، فقد تصدى بعدها للتقليد وشؤون المرجعية وزعامة الحوزة العلمية، فقام بإرسال الإجازات، وتوزيع الحقوق، والتدريس على منبر الإمام الخوئي (قدّس سِرُّه) في مسجد الخضراء بالنجف الأشرف وغير ذلك مما يقتضيه تحمل هذا العبء الكبير من مهام ومسؤوليات.

المطلب الخامس : مشاريعه الإسلامية وخدماته العامة للمؤمنين

للسيد السيستاني (دام ظلّه) مشاريع عديدة في مناطق وأماكن مختلفة في العالم من أمثال المجمعات السكنية لطلاب الحوزات العلمية، ومراكز إغاثة، ومستشفى ومستوصفات طبية، ومراكز علمية، ومؤسسات للنشر والطباعة والترجمة والتبليغ، ومواقع على الانترنيت وفروع ومكاتب في العديد من دول العالم لتقديم الخدمات الإسلامية للمؤمنين ودفع الشبهات عندهم.

كما ويهتم سماحته بشكل خاص بقضاء حوائج المؤمنين ومساعدتهم في البلدان المنكوبة باقتصاد سيئ كما في العراق وغيره وله وكلاء منتشرون في البلدان المختلفة في شرق الأرض وغربها لإيصال صوت المرجعية وخدماتها للمؤمنين مما لا يسع المجال لاستعراضها في هذا المختصر

المطلب السادس : معاناته من النظام البعثي البائد

لاقى سماحة السيد (دام ظله) من عنت النظام المقبور الشيء الكثير، ففي حملات التسفير البغيضة لعلماء وأساتذة وطلاب الحوزات العلمية التي أشرت لبعضها فيما سبق بإيجاز، سفِّر العديد من طلابه وتلامذته وحضار مجالس بحثه، وكاد أن يسفَّر مرات عدة لولا

ص: 219

عناية اللّه عز وجل ورعايته،له وعلى الرغم من ضراوة الحال وقسوته على العراقيين أيام الحرب العراقية الإيرانية الظالمة فضلا عن غيرهم فقد أصر سماحته على البقاء في حوزة النجف الأشرف أستاذا ومربيا وفقيها مستقل الرأي فيما يتبناه إيمانا منه بلزوم استمرار المسار الحوزوي المستقل عن الحكومات تفاديا للسلبيات التي تنجم عن تغيير هذا المسار كما يقول المقربون منه.

وإثر انتفاضة النجف الأشرف (سنة 1411ه/ 1991م) ضد النظام الصدامي الجائر، وبعد استطاعة الجيش القاسي من اقتحام المدينة المقدسة وانتهاك حرمات أهلها ومقدساتهم، أعتقل سيدنا المرجع (دام ظلّه) مع مجموعة كبيرة من العلماء والفقهاء والعدد الغفير من المواطنين، وقد تعرض سماحته للضرب والاستجواب الغليظ في فندق السلام في النجف أولاً، ثم في معسكر الرزازة التابع لكربلاء ثانيا، ثم في معتقل الرضوانية سيئ الصيت ثالثا، قبل أن يمن اللّه عليه بالفرج.

وقد كشفت وثائق جهاز المخابرات الصدامية لاحقا بعد سقوط النظام أنه قد خطط لاغتيال السيد (دام ظلّه)، غير أن اللّه سلم إنه عليم بذات الصدور.

وبقي السيد المرجع حبيس داره المتواضعة منذ أواخر (عام 1418ه/ 1998م)، لم يخرج خلالها لا لإلقاء بحث ولا لقضاء حاجة حياتية، ولا لغير هذا وذاك، حتى أنه لم يتشرف بزيارة مرقد جده أمير المؤمنين الذي لا يبعد عن داره سوى خطوات قليلة، فقد عاش تلك الفترة المرعبة في جو مليء بمحن وابتلاءات، تنفرج آونة، وتضيق أخرى، وتشتد وتعسر ثالثة، ومنالثالثة أن تعرض ولده سماحة السيد محمد رضا السيستاني إلى محاولة اغتيال في دار والده السيد المرجع (دام ظلّه) نجا منها بأعجوبة وسقط غيره قتيلا في الدار التي انتهكت حرمتها واستبيح أمنها وأمن مرجعها وساكنيها، فإنا للّه وإنا إليه راجعون.

ص: 220

كما تعرض العديد من أعضاء مكتبه في النجف الأشرف قبل سقوط النظام المنهار وبعده إلى محاولات تعدّ مماثلة، وتهديدات بالقتل والتهجير والإساءة، إضافة إلى اعتداءات أوقعت إصابات متوسطة حينا، وأوجبت دخول مستشفى أحيانا، والى ضرب و كلام بذيء وتجاوز غالبا، حتى منّ اللّه عليه وعلى العراقيين جميعا بزوال النظام البائد، ثم بزوال الاحتلال لاحقا(1) (ينظر الملحق العاشر ).

ص: 221


1- ينظر : موقع المرجع الأعلى السيد السيستاني على الانترنيت.

ص: 222

المبحث الثاني: المرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظلّه)

سيرته الحياتية والعلمية

يحسن بي بادئ ذي بدء أن أتحدث عن سيرة سيدنا (دام ظلّه) الذاتية من حيث الولادة والنشأة العلمية والأساتذة والكتب والمصنفات مع ذكر شيء من الاهتمامات المعرفية الأخرى. ثم أنتقل بعد ذلك إلى ماعاناه وأسرته في سجن صدام حسين من محن و مصائب، وما قام به وقامت من دور فعال في أول فرصة سانحة لها وهي في السجن القاسي، ثم أعرج على مرجعيته وما قدمته للطائفة وللمؤمنين، مختتما بما تعرض له من محاولة اغتيال أثيمة وذلك في مطالب عدة هي :

المطلب الأول: ولادته ونشأته العلمية

ولد سماحته في مدينة النجف الأشرف، في الثامن من شهر ذي القعدة الحرام عام (1354 ه/ 1935م) في أسرة دينية. يرقى نسبها إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) وهو السبط الأكبر للإمام السيد محسن الحكيم (أعلى اللّه مقامه) المرجع الأعلى للمسلمين الشيعة في عصره

وحظي منذ نعومة أظفاره برعاية والده. وكان مما امتازت به مراحل الشباب عند السيد الحكيم صحبة العديد من الشخصيات العلمية ممن كان والده يعاشرهم ويجالسهم أمثال الأستاذ الكبير الشيخ حسين الحلي (قدّس سِرُّه) الذي كان له أستاذا وأباً روحياً، وخاله

ص: 223

الورع السيد يوسف الحكيم (قدّس سِرُّه)، و الشيخ محمد طاهر الشيخ راضي (قدّس سِرُّه)، وأمثالهم من أعيان العلماء والفقهاء الذين كانت بيوتهم أندية علمية عامرة بالبحث، كما في مجالس المرحوم السيد سعيد الحكيم (قدّس سِرُّه) والسيد علي بحر العلوم (قدّس سِرُّه) والشيخ صادق القاموسي (قدّس سِرُّه) وغيرها من مجالس النجف العلمية والثقافية، التي كانت تفيض بالدروس التربوية والعطاء العلمي الثرّ. وكثيرا ما كنت أشاهده (دام ظلّه) في مجلس جدي السيد سعيد الحكيم (قدّس سِرُّه) وهو يبحث ويناقش ويثري الحوار ويطرح رأيا أو يدحض آخر مستدلا على ما يذهب إليه من رأي بأدلة تشهد على طول باعه وسرعة بديهته ودقة استحضاره وحسن ذاكرته وتبحره في هذا الفن.

ويعد والده السيد محمد علي الطباطبائي الحكيم (قدّس سِرُّه) أول أساتذته حيث باشر تدريسه من أول المقدمات لعلوم الشريعة وأحكامها حتى أنهى على يديه جلّ دراسة السطوح العالية ثم واصل دراسته بعد ذلك عند جده الإمام السيد محسن الطباطبائي الحكيم (قدّس سِرُّه)، حيث حضر لديه جملة وافرة من أبواب الفقه وكذلك الشيخ حسين الحلي (قدّس سِرُّه)، حيث حضر لديه في علمي الفقه والأصول. واستفاد من صحبته وملازمته كثيرا حتى وصف تلك الملازمة العلمية بأنها ربما فاقت الدرس نفعا وتحقيقا. وكذلك سماحة الإمام السيد الخوئي (قدّس سِرُّه)، حيث حضر لديه في علم الأصول لمدة سنتين.

بعد أن أتم سماحته عدة دورات في تدريس السطوح العالية للدراسة الحوزوية بدأ في (عام 1388 ه/ 1968م) بتدريس البحث الخارج على كفاية الأصول حيث أتم الجزء الأول منه (عام 1392ه/ 1972م) ثم وفي نفس السنة بدأ البحث من مباحث (القطع) بمنهجية مستقلة عن كتاب الكفاية حتى أتم دورته الأصولية الأولى (عام 1399ه/ 1979م)، ثم بدأ دورة أصولية ثانية.

وقد واصل التدريس والتأليف رغم ظروف السجن القاسية التي مرّت به منذ

ص: 224

عام (1403ه/ 1983م) لحين ( عام 1411 ه/ 1991م). ومن ذلك ابتداؤه بدورة في علم الأصول بتهذيب خلال هذه الفترة العصيبة.

وأما في علم الفقه فقد بدأ سماحته بتدريسه بمستوى البحث الخارج على كتاب مكاسب الشيخ الأنصاري في (سنة 1390ه/ 1970م) ثم في (سنة 1392ه/ 1972م) بدأ بتدريس الفقه على كتاب منهاج الصالحين للمرحوم السيد محسن الحكيم (قدّس سِرُّه) وما زال على تدريسه إلى اليوم رغم الظروف العصيبة التي مرّت به خلال سنوات عديدة حيث تخرج على يديه نخبة من أفاضل الأعلام الإجلاء في الحوزة العلمية وهم اليوم من الأساتذة في الحوزات العلمية في النجف الأشرف وقم المقدسة وغيرها.

المطلب الثاني : مؤلفاته وكتبه

لسيدنا (دام ظلّه) مجموعة مؤلفات منها : منهاج الصالحين في ثلاثة أجزاء. ومناسك الحج والعمرة و (المحكم في أصول الفقه)، في ستة مجلدات. و(مصباح المنهاج) وهو فقه استدلالي موسع على كتاب (منهاج الصالحين) وقد أكمل منه إلى الآن (1433ه/ 2012م) (16) مجلداً مطبوعا، منها كتاب (الخمس) حيث درَّسنا إياه في سجن أبي غريب وكتبته، وقد كتبه المظلة هو أيضا كعادته في كتابة كتبه كلها إنما في سجن أبي غريب هذه المرة.

وله دورة في (تهذيب علم الأصول) بدأ بها في السجن واقتصر فيها على الأبحاث المهمة من علم الأصول وكتاب في (الأصول العملية) كتبه اعتماداً على ذاكرته في السجن كذلك، وكنت أشاهده يكتب كتابه المذكور على ذاكرته من دون أن يكون بين يديه أي مصدر أصولي للرجوع اليه والاعتماد عليه، وهي حالة نادرة في بابها، ولولا أني كنت شاهدا شهادة عينية على ذلك لتريثت في قبول خبر كهذا لندرته، ولكنه وللأسف

ص: 225

أتلف الكتاب بعد أن أبلغنا أن بعضا من ضباط الأمن والحراس ينوون مداهمة غرفتنا في السجن لتفتيشها، وكان يعني العثور على الكتاب عنده ما يعنيه مما لا يحتاج إلى بيان وله بعد ذلك (حاشية) موسعة على (رسائل الشيخ الأنصاري) (قدّس سِرُّه) في ثلاثة مجلدات. و (حاشية) موسعة على (كفاية الأصول) في خمسة أجزاء و (حاشية) على (المكاسب) في مجلدين. و (تقريرات) ما حضره من درس جده وأستاذه السيد محسن الحكيم (قدّس سِرُّه) في كتب: (النكاح، والمزارعة، والوصية والضمان، والمضاربة، والشركة) و(تقريرات) بحث أستاذه الشيخ حسين الحلي (قدّس سِرُّه) في (علم الأصول) في جزئين، تشتمل على مبحث الاستصحاب ولواحقه، وباب التعارض. وله جزءان في (الفقه) هي (تقريرات) بحث أستاذه الشيخ حسين الحلي أيضاً. و تقريرات بعض ما حضره عند أستاذه السيد أبي القاسم الموسوي الخوئي (قدّس سِرُّه)، وهو جزء واحد من مبحث الواجب التخييري وحتى بداية البراءة. و(رسالة موجهة للمغتربين). و (رسالة موجهة للمبلغين وطلاب الحوزة العلمية). و(رسالة موجهة للعراقيين بعد سقوط النظام البائد) و(رسالة موجهة للتربويين بمناسبة بدء السنة الدراسية الأولى بعد رحيل صدام) و (حوار) أجري مع سماحته حول (المرجعية الدينية) في جزأين أجاب في الجزء الثاني منه عن أسئلتي التي وجهتها اليه متضمنة بعضا من تساؤلات تثار على استحياء هنا وهناك، فكانت إجاباته صريحة ومفصلة وشاملة.

وله كتاب (في رحاب العقيدة) في ثلاثة أجزاء أجاب فيه عن أسئلة أحد العلماء الأردنيين حول الشيعة والتشيع وما يعتمل في صدور غيرهم عنهم. وله كتاب في (فقه القضاء). وآخر في (فقه الكومبيوتر والانترنيت). وله (الكافي في أصول الفقه) في جزأين، وله بعد ذلك كراس في (فقه الاستنساخ البشري) وآخر في (الفتاوى الطبية) وثالث باسم (مرشد المغترب) وقد ألف أخيرا كتابا. مفصلا عن مأساة الإمام

ص: 226

الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) أسماه (فاجعة الطف أبعادها. ثمراتها. توقيتها) وقد طبع في (سنة 1429 ه/ 2008م).

المطلب الثالث: بعض من اهتماماته المعرفية الأخرى

للسيد (دام ظلّه) اهتمام خاص بالتبليغ والتواصل مع المؤمنين وتفقدهم وتقصي شؤونهم، وربما رقى المنبر لمخاطبة الجماهير بنفسه والتحدث إليهم في أمور دينهم والإجابة المباشرة عن أسئلتهم وإجراء الحوار معهم، وقد رأيته غير مرة وفي أكثر من مكان يباشر هذه المهمة التي قد لا يباشرها بعض المراجع بنفسه لأسباب شتى. وقد رقى المنبر سنوات لقراءة مقتل الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في العاشر من المحرم وسيأتي ذكر ذلك بتفصيل لاحقا.

و للسيد (دام مظلّه) ولع بقراءة القرآن قاربته من حفظه. وأذكر مرة أنه (دام ظلّه) طلب مني وكنا يومها في (غرفة رقم 16 من ق 2 من الأقسام الخاصة المغلقة من سجن أبي غريب) أن أفتح القرآن يوم أن حصلنا بعد لأي على نسخة من كتاب اللّه يأتينا بها أحد السجناء لفترة محددة خلسة عن أعين الرقباء ليراجع سماحته على سورة يوسف في محاولة منه لاستكشاف ما إذا كانت كثرة قراءته للقرآن جعلته يحفظ هذه السورة دون قصد مسبق منه لحفظها، فقرأها عليَّ من أولها إلى آخرها دون أن يتوقف أو يتباطأ إلا في موردين أو ثلاثة كما أتذكر. وللسيد (دام ظلّه) بعد ذلك رغبة في حفظ عيون الشعر وبخاصة ما قيل منه في واقعة الطف وولع ودأب على حفظ الخطب البليغة وبخاصة خطب نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب وخطب سيدة النساء فاطمة الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ). وله غير هذا وذاك الكثير مما لا يسعه هذا الموجز.

وله كذلك اهتمام خاص بتتبع كتب العقيدة والتاريخ والسير وليس أدل على ذلك

ص: 227

من كثرة مصادره في بحوثه العقدية و التاريخية فلو أخذنا كتابه (في رحاب العقيدة) بأجزائه الثلاثة أنموذجا لوجدنا أنه اعتمد فيه على (321) مصدرا ومرجعا مختلفا أغلبها من مصادر ومراجع من كتب المذاهب الأخرى، فمن كتب التاريخ رجع مثلا إلى: (البداية والنهاية) لابن كثير المتوفى عام (774ه- / 1372م) و(المختصر في أخبار البشر ) لأبي الفداء صاحب حماة المتوفى (عام 732ه/ 1332م) و (تاریخ بغداد) للخطيب البغدادي المتوفى (عام 463 ه/ 1071م) و (تاريخ الخلفاء) للسيوطي المتوفى (عام 911 ه/1505م) و (تاريخ خليفة بن خياط) المتوفى (عام 240ه/ 854م) و (تاريخ دمشق) لابن عساكر المتوفى (عام 571ه / 1176م) و (تاريخ الأمم والملوك) للطبري المتوفى (عام 310ه/ 922م ) و (التاريخ الكبير) للبخاري المتوفى (عام 256ه/ 870 م) و (تاريخ المدينة المنورة ) لابن شبة المتوفى (عام 262 ه/ 876م) و (تاريخ واسط للواسطي المتوفى (عام 292 ه905 م) وغيرها كثير. ومن كتب التفسير رجع مثلا إلى (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير المتوفى ( عام 774 ه/ 1372م) و(تفسير الطبري ) المتقدم ذكره و (تفسير القرطبي) المتوفى (عام 671 ه/ 1272م) و (تفسير ابن حجر العسقلاني) الشافعي المتوفى (عام 852ه/ 1448م) و (الدر المنثور) للسيوطي المتقدم ذكره و (روح المعاني) للآلوسي المتوفى (عام 1270 ه/ 1854م) وغيرها.

و من السنن رجع إلى (سنن أبي داوود) المتوفى (عام 275ه/ 888م) و (سنن ابن ماجة) المتوفى (عام 275ه/888م ) و (سنن الترمذي) المتوفى (عام 279 ه/ 892م) ه و (سنن الدارقطني) المتوفى (عام 385ه/ (995م) و (سنن الدارمي) المتوفى (عام 255 ه/ 869م) و (السنن الكبرى) للبيهقي المتوفى (عام 458ه/ 1066م) وأيضا للنسائي المتوفى (عام 303 ه / 915م).

ومن الصحاح رجع إلى (صحيح البخاري) (المتوفى عام 256ه/ 870م )

ص: 228

و (صحيح مسلم) المتوفى (عام 261 ه/ 875م) و (المستدرك على الصحيحين) للحاكم النيسابوري المتوفى (عام 405 ه/ 1014م).

ومن المسانيد رجع إلى: (مسند أبي حنيفة) للأصبهاني المتوفى (عام 430 ه/ 1039م) و(مسند أبي عوانة) للاسفراييني المتوفى (عام 316 ه/ 928م) و(مسند أبي يعلى) للموصلي المتوفى (عام 307 ه/ 919م) و(مسند أحمد بن حنبل) المتوفى (عام 07 141ه/ 855 م ) و ( مسند أبي الجعد الجوهري) المتوفى (عام 230 ه/ 845م) و(المسند للحميدي) المتوفى (عام 219 ه/ 834م) و (مسند البزاز ) لأبي بكر البزاز المتوفى (عام 292 ه / 905م) و(مسند الحارث) لابن أبي أسامة المتوفى (عام (282ه895م) و(مسند الروياني) لمحمد بن هارون المتوفى (عام 307ه / 919م) و (مسند الشاميين) للطبراني المتوفى (عام 360ه/ 971م) و (مسند الشاشي) للهيثم بن كليب المتوفى (عام 13 ه/ 947 م ) و (مسند الشهاب) للقضاعي المتوفى (عام 454ه/ 1062م) و (مسند الطيالسي ) لسليمان بن داود المتوفى (عام 204 ه / 819م) و (مسند عبد بن حميد) المتوفى ( عام 249 ه/ 863 م ).

وكذلك لمصادر مثل: (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) لابن حجر رجع العسقلاني المتوفى (عام 852ه/ 1448م) و(المحلى) لابن حزم الظاهري المتوفى (عام 456ه/ 1064م) و (المغني) لابن قدامة المتوفى (عام 620 ه/ 1223م) و(منهاج السنة) لابن تيمية المتوفى (عام 728 ه/ 1328م) و (الموطأ) لمالك بن أنس المتوفى (عام 179 ه/ 795م) و (نيل الأوطار) للشوكاني الزيدي المتوفى (عام 1255 ه/ 1839م) وغيرها كثير مما يكشف عن باع طويل في الإحاطة والمراجعة والتتبع والاطلاع.

وقد حذا في كتابة كتابه (فاجعة الطف أبعادها. ثمراتها. توقيتها) حذو كتابته في (في رحاب العقيدة) بل زاد عليه في عدد مصادره - مع أنه جزء واحد- حيث رجع فيه إلى

ص: 229

(332) مصدرا و مرجعا تاريخيا معتبرا.

ومما يلفت النظر حقا أنه (دام ظلّه) لم يتوقف اهتمامه بالبحث والتحصيل حتى في حجز وسجن النظام البائد، فقد اعتقل مع أسرته آل الحكيم من عام (1403ه- 1411 ه) (1983م - 1991م) وتنقل مع أسرته من سجن إلى سجن حتى انتهى به وبنا الأمر إلى قسم الأحكام الخاصة المغلقة من سجن أبي غريب / صدام، ففي هذه الأقسام المغلقة وتحت ظروفها القاسية الممضة ابتدأ سماحته بأحياء المناسبات الدينية التي كانت تتضمن من جملة ما تتضمن محاضرة يعدها هو ويلقيها على طلابه وأبنائه من أفراد أسرته مطيبة بآيات قرآنية كريمة وأحاديث وروايات شريفة ومواعظ وحكما مختلفة تحث في غالبيتها على الصبر والتحمل والمجالدة والتبصر درج على أن يتصدى بعد انتهائه منها وإنشاد قصيدة لي بالمناسبة كما جرت العادة للإجابة عن استفسارات السائلين وأسئلتهم الفقهية والعقائدية المختلفة مما كان له أعمق الأثر في تخفيف المعاناة عنهم وتعميق توكلهم على اللّه عز وجل والالتجاء إليه والاستعانة به في كل أمر ونازلة.

وكان سماحته قد بدأ درساً في التفسير خفية عن عيون السجانين في القاطع الخامس من سجننا بمديرية الأمن العامة بحدود أوائل عام (1404ه / 1984م) إن لم تخني الذاكرة حضرته مع جمله من حضره من الأرحام من أمثال السادة أولاد العم الثلاثة الذين أعدموا لاحقا وهم الشهداء: السيد محمد رضا، والسيد محمد، والسيد عبد الصاحب أبناء العم العلامة المجتهد الفقيد السيد محمد حسين الحكيم (قدّس سِرُّه) ومعهم المرحوم المجتهد السيد عبد الرزاق الحكيم، والسيد محمد جعفر السيد محمد صادق الحكيم، والسيد محمد حسين السيد محمد صادق الحكيم، وغيرهم، وقد توقف عنه (دام ظلّه) بعد اكتشاف العيون أمره، مما كاد أن يعرضه ويعرضنا إلى ما لا تحمد عقباه.

كما شرع سماحته بعد نقلنا الي سجن أبي غريب بتدريس طلابه منهم على مستوى

ص: 230

بحث الخارج درسين أولهما في الفقه وثانيهما في أصول الفقه حضره ولداه السيد علاء الدين والسيد عز الدين، وكانت الثمرة كتابا في أصول الفقه أكمله بعد خروجه من السجن أسماه (الكافي في أصول الفقه).

كما شرع سماحته أوائل (عام 1404ه / 1984م) استجابة منه لطلبي بدرس في الموعظة والأخلاق حضره معي أخوه السيد محمد صالح الحكيم، كما صنف كتابا في مباحث (الأصول العملية) معتمدا فيه على ذاكرته لعدم وجود مصدر عنده في السجن آنئذ ثم اضطر إلى إتلافه على مضض خشية عثور الجلاوزة عليه أثناء تفتيشهم للسجن كما تقدم.

ثم كتب بعد ذلك كتابا داخل سجن أبي غريب في مبحث (الخمس) متضمنا بعضا من البحوث الفقهية المعمقة على مستوى البحث الخارج، وكتابا في سيرة النبي والأئمة، ولا زلت أذكر وقد سجنت مع السيد المرجع في غرفة واحدة طوال فترة السجن المريرة التي أربت على ثمان سنوات أني طلبت منه أن يدوّن بعض الأحاديث الشريفة في نعمة الموالاة والموالين الصابرين وما يلقاه الممتحنون المبتلون من عظيم الثواب ورفيع المنزلة متى صبروا، لتقوى به عزائم المظلومين و تشحذ به هممهم وتزداد به قدرتهم على تحمل صنوف المعاناة والعذاب فوعد أن يكتب ما تجود به عليه ذاكرته من نصوص كريمة، ووفى (دام ظلّه) فكتب مجموعة من الأحاديث الشريفة بنصوصها التي وردت فيها والتي كان لها دور في تخفيف آلام المعذبين المقهورين، وشد أزرهم وزيادة توطنهم على ما هم فيه من العذاب والبلاء، كما كتب كتاباً عن (مقتل الإمام الحسين) (عَلَيهِ السَّلَامُ).

وما دام قد وصل بي الحديث إلى هذا الموضع فإنه يحسن بي أن أقول انه كتب (مصرع الإمام الحسين) (عَلَيهِ السَّلَامُ) كاملا في غرفة رقم (15 من ق 2) من قسم الأحكام الخاصة المغلقة من سجن أبي غريب / صدام في بغداد، وقد مرّ علينا حينها يوم عاشوراء فدوّن

ص: 231

سماحته المقتل ووقائعه ابتداء من موت معاوية وحتى آخر الواقعة المأساوية الفاجعة بتفاصيلها الدقيقة من نصوص خطب الإمام الشهيد الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) في مكة، وفي الطريق إلى كربلاء، وفي كربلاء.. إلى أسماء الشهداء من الأنصار.. إلى أسماء الشهداء من آل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) الأول فالأول منهم، ومن قتلوا، وقاتليهم بأسمائهم وأنسابهم.. إلى شهادة الأمام السبط (عَلَيهِ السَّلَامُ)، وما جرى فيها، وكيف جرى ما جرى؟.. إلى نص دعائه (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد سقوطه عن الفرس إلى ما بعد مصرعه (عَلَيهِ السَّلَامُ) من تفاصيل.

كل ذلك على ذاكرته لعدم وجود مصدر لديه في السجن، فهو لم يغفل عن ذكر شاردة ولا واردة إلا أتى عليها وذكرها مما أثار باستحضاره وحفظه لدقائق (المصرع) دهشتي و دهشة السجناء الآخرين.

ونتيجة لعدم وجود ورق ولا أقلام كان عليه أن يكتب على ما تجود به غرف المساجين من علب التدخين الفارغة، فيجمعها له جامع، ثم ينقعها هو بالماء داخل أجانة ماء من الليل إلى الصباح، حتى إذا أذاب الماء الصمغ، وأمكن للعلبة أن تفتح لواصقها، قطع أطرافها السائبة لتصبح ورقة بحجم راحة الكف، فيجفف الورقة كي تكون الكتابة عليها ممكنة.

عندها يقوم بفرز أوراق علب السجائر فيأخذ الصافية الخالية من أثر الصمغ لكتابته هو ويترك الأخرى الأقل جودة لي لأنظم عليها الشعر مقدمة لإنشاده في يوم الإحياء القادم.

وكانت كل ورقة منه ومنها هدية أعتز بها، حتى إذا قدر لي أن ألتقي بالأهل بعد أول مواجهة لي معهم منذ أربع سنوات من السجن القاسي – مع مجهولية مصيري ومصيرهم - عرضت عليهم - وأنا مشفق - مهمة حمل الأوراق وإخراجها معهم من

ص: 232

السجن، منبها إياهم على خطورة ما هم مقدمين عليه من أمر فيما لو اكتشف الحرسي أو الشرطي المفتش أو المفتشة أمرهم عند تفتيشهم وهم خارجون من مواجهتي. حينها لا قدر اللّه سيعني لهم ذلك ولي ما يعنيه، فتوطنوا على الأمر، وتحملوا المجازفة على ما فيها من مخاطرة، نزولا عند رغبتي، أو حرصا منهم عليها، أو الاثنين معا.

وقد فعل سماحته بكتاباته مثل ما فعلت، حيث لم تكن عنده وعندي وسيلة أخرى محتملة، ومرت الساعات بين وداعي لعائلتي وأطفالي وتنفسي الصعداء ثقيلة بطيئة متكاسلة، حتى إذا جنّ الليل ومضى زمن على مغادرة زوجتي وولدي يسار ومحمد خمنته كافيا لاجتيازهم قاطع التفتيش من دون أن أستدعى للتحقيق ولما لا تحمد عقباه، تيقنت بنجاح مهمتهم في العبور بسلام، فسجدت للّه شكرا، واطمأننت.

ولا زالت أوراق السجائر المكتوبة وغيرها على حالها مصونة محفوظة عنده وعندي للتذكر والتوثيق والاعتبار.

هذا وكان السيد المرجع - أو السيد المجتهد كما كان يحلو للسجناء أن يطلقوا عليه - شديد التعاطف معهم يسمع منهم شكاواهم ويحاول التخفيف عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا وأذكرانه في مرة من المرات صادف أن توفي فجأة أحد المساجين من الأخوة التركمان المظلومين اسمه (عيسى)، وكان شابا قوي البنية صحيح الجسم، فأثارت وفاته المفاجئة بين أيدي أخوته المساجين الضعفاء وتحت أبصارهم حالة من الفجيعة الشديدة والبكاء والعويل، تبعته حالة من الانهيار المعنوي والانكسار النفسي، مما زاد السجناء غربة على غربة، وضيقا على ضيق فكان أن بادر (دام ظلّه) إلى إلقاء كلمة في السجناء المكسورين يعزيهم ويسليهم ويصبرهم ويقويهم ويرفع معنوياتهم المنهارة، وحين طلب منه بعض السجناء من داخل غرفهم المغلقة أن يروه من وراء قضبان سجنه المغلق وهو يتحدث إليهم تسلق سماحته قضبان الحديد لكي يراهم ويروه فكان لهم ما أرادوا

ص: 233

وكانت تلك من المرات النادرة التي أرى فيها مجتهدا كبير السن يتسلق قفص السجن بهذه الصورة.

وأذكر كذلك أنه رفض بشدة طلباً لأحد مسؤولي السجن قضى بنقل الأسرة إلى قسم في سجن أبي غريب يسمى ب(القسم التأهيلي) بدعوى التوسعة علينا وعلى السجناء الآخرين إذا ما شغلوا مكاننا بعد نقلنا، وكان سبب رفضه الشديد لذلك تفسيره لنقلنا بأنه عزل للأسرة عن السجناء الآخرين، وتعطيل لفرص التبليغ والتواصل، وتخفيف المعاناة عنهم، وهو ما كان يحرص عليه باستمرار.

وحين اضطرت الأسرة إلى مغادرة غرفتيها نزولاً عند أمر السجانين لهم بذلك، قرر سماحته أن يمرّ على غرف السجناء غرفة غرفة، ليودعهم ويشحذ فيهم العزائم والهمم، ويوصيهم بالصبر والتحمل، ويذكرهم بعظم جزاء الصابرين في جو مشحون بالعاطفة والود والتأثر والبكاء.

وفي فترة التحقيق الثانية بعد الانتفاضة الشعبانية (عام 1411 ه/ 1991م) حيث نقل إلى معتقل الرضوانية سيء الصيت للتحقيق معه، الصيت للتحقيق معه، كان يومها يرأس لجنة التحقيق آنذاك المجرم المقبور صدام كامل التكريتي صهر الدكتاتور، وقد استخدمت مختلف أساليب التعذيب مع سماحته من أمثال الضرب الموجع بالهراوات واستعمال الأسلاك الكهربائية وغيرها، ورغم ذلك كله ظل صابرا رابط الجأش مستعينا بالواحد الأحد في مواجهة جلاديه حتى دهشوا من صموده،وإصراره، ما حدا بصدام كامل أن يقول له: لماذا لا تعترف ؟ إن جسمك لا يتحمل هذا التعذيب كله، فاعترف كي تخلص. ولم يقتصر صموده على ذلك، بل كان يخفف عن باقي المعتقلين ويسليهم ويمازحهم لتقوية عزائمهم وشحذ هممهم على التحمل والصبر والتعلق بالله عز وجل في الشدائد واللجأ إليه في النوازل وترك الاستعانة بغيره من خلقه، فهو خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.

ص: 234

هذا بعض مما قام به السيد (دام ظلّه) من دور علمي وتربوي واجتماعي وما لاقاه من محن وآلام في السجن وخارجه قبل التفجير وأثناءه وبعده مما لا يسع المجال لذكرها واستعراضها، جعلها اللّه في ميزان حسناته وأثابه عليها أضعاف ما ابتلاه بها، إنه خير مسؤول..

المطلب الرابع - مرجعيته

بعد رحيل السيد الخوئي (قدّس سِرُّه) كثر الرجوع إلى سماحته وتزايد الإلحاح عليه بالتصدي للمرجعية من قبل مجاميع من المؤمنين والفضلاء في الحوزة العلمية منهم بعض من كبار العلماء ومراجع الدين. فكان أن تحمّل المسؤولية في الظروف الحرجة والمعقدة التي يمرّ بها المؤمنون في مختلف بقاع المعمورة مهتما بتنشئة جيل من الطلاب في النجف الأشرف يعيدون للحوزة العلمية سابق عهدها بعد ما لاقته من عنف محاربة النظام لها هذه المدة المديدة كلها موليا الجاليات المسلمة البعيدة عن الحواضر الإسلامية أهمية خاصة. مركزا على الانفتاح على طوائف المسلمين كافة حريصا على مصلحة الإسلام والمسلمين محاربا التعصب الأعمى مذكرا باستمرار بالمشترك الجامع بين المذاهب الإسلامية من الأصول الكبرى والأحكام وبالمشترك الجامع بين الإسلام والأديان السماوية الأخرى وقد حضرت مرة استقباله في لندن أثناء زيارته لها لوفد من رجالات الكنيسة عاده متمنيا له السلامة من مرضه فرحب به أيما ترحيب وتحدث معه مطولا عن أهمية الحوار والتواصل بين الكتابيين على اختلاف دياناتهم لما فيه من خير وصلاح وفائدة.

المطلب الخامس : مشاريعه الإسلامية وخدماته العامة للمؤمنين

للسيد الحكيم (دام ظله) مشروع عون وإغاثة يتضمن تخصيص رواتب شهرية لآلاف العوائل المتعففة في العراق تلك التي مرت وتمر بظروف اقتصادية عصيبة جراء الظلم

ص: 235

والحيف، إلى جانب تعمير مجموعة من الأماكن والعتبات المقدسة المتداعية أو التي أشرفت على الانهيار بسبب انعدام الرعاية اللازمة لها، مثل مشروع بناء وتجديد (مسجد السهلة) الكبير، وكذلك مرقد (القاسم ابن الإمام الكاظم) (عَلَيهِ السَّلَامُ)، و له ولمكاتبه نشاطات عديدة في مناطق وأماكن مختلفة تقدم الخدمات الإسلامية الأساسية للمؤمنين كإنشاء مدرسة، ومستوصف، ورعاية الأيتام من خلال مؤسسة كبيرة تجاوز عدد الأيتام فيها هذه السنة 2012م (70) الف يتيم ويتيمة في أنحاء العراق كافة، وتولي المرجعية أمر الفقراء والمساكين والمعوزين اهتمامها العالي داخل العراق وخارجة وخاصة في الدول الفقيرة كأفغانستان،وغيرها وللمرجعية مركز ثقافي في جورجيا السوفيتية، ولها مساجد تبنى في الصين، ومسعى حثيث للانفتاح على مؤسسات أكاديمية وبحثية وكتاب ومفكرين أجانب وخاصة من أوربا وأمريكا واستراليا وأفريقيا وغيرها من خلال زيارات متبادلة ولقاءات علمية لاقت انطباعا جيدا عندهم وعكست صورة إيجابية جدا عن فكر وفقه وحضارة واعتدال مذهب آل بيت النبي الأكرم محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)، بدت واضحة من خلال كتاباتهم بعد عودتهم إلى بلدانهم وجامعاتهم ومراكز بحوثهم المختلفة.

وهناك نشاطات أخرى لا يسع المجال لذكرها هنا.

هذا وللمرجعية وكلاء منتشرون في العديد من بلدان العالم في شرق الأرض وغربها لإيصال صوت المرجعية وخدماتها إلى المؤمنين ورد الشبهات وتوجيه المبلغين وتقديم صورة عن حوزة النجف الأشرف وآرائها وطروحاتها في تلك الدول.

ص: 236

المطلب السادس: محاولة اغتياله الأثيمة

لم يدر بخلدي وأنا أودع سماحة المرجع الديني الكبير السيد محمد سعيد الحكيم مغادرا مكتبه في النجف الأشرف قبل ظهر يوم (25/ جمادى الثانية/ 1424 ه- 24/ آب / 2003م) أن سماحته سيكون عرضة لمحاولة اغتيال أثيمة بعد نصف ساعة من توديعي إياه، وأن مكتبه وجداره الخارجي القديم الذي وقفت جنبه لاستقل سيارة أجرة وأرحل سيكون ساحة للتفجير والتخريب بعد قليل.

وما أن وصلت منزلي حتى دوى انفجار عنيف زلزل المكان وترددت أصداؤه في جنبات مدينة النجف الأشرف القديمة فهدمت منزلا هنا، وحطمت زجاج منزل هناك، ودب الخوف والرعب في قلوب الكبار والصغار وعلت صرخات النساء لتملأ المكان استغاثة وفزعا ثم لينجلي الموقف بعد ذلك عن بركة دماء قانية تحوط ثلاث جثث تناثر أشلاء بعضها على جدران البيت وشبابيكه، إضافة لثلاثين جريحا جراح أحدهم خطيرة، لقد كان من بين الجرحى سماحة السيد المرجع الكبير (حفظه اللّه ورعاه) نفسه حيث أصيب بشظايا الزجاج المتطاير، إضافة لاضرار مادية منها تهديم واجهة مكتب السيد المستهدف، وهو ما كان يجلس عادة خلفه، وتهديم لبعض الدور السكنية المجاورة، وتكسير لزجاج النوافذ المحيطة بالمنطقة. واهتزازات للمباني هنا وهناك، خلَّفت ما تخلفه الاهتزازات من ندوب وشقوق وتصدعات (1) (ينظر الملحق. العاشر).

ص: 237


1- ينظر : موقع المرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم على الانترنيت.

ص: 238

المبحث الثالث: المرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض (دام ظلّه)

سيرته الحياتية والعلمية

وفيه مطالب عدة هي:

المطلب الأول : ولادته ونشأته المبكرة

ولد محمد إسحاق سنة (1349 ه/ 1930م) في قرية (صوبة) إحدى قرى محافظة (غزني) في وسط أفغانستان الواقعة جنوب العاصمة كابل، وهو ثاني أبناء والده محمد رضا من بعد أخيه محمد أيوب، وكان والده رحمه اللّه المتوفى سنة (1409 ه/ 1989م) فلاحاً بسيطاً يعمل عند بعض المتمولين في القرية من ملاك الأراضي، ليقتات من كدّ يمينه وعرق جبينه في إعاشة عياله، إلّا أنه كان غنياً بالإيمان، مشفوعاً بحب الرّسول الكريم وآله الأطهار صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين. وقد كان يرى ذلك المؤمن المزارع البسيط في ولده محمد إسحاق من علامات النبوغ والذكاء ما ألزمه أن يوليه إهتماماً ورعاية خاصة وكأنه يقرأ في ملامح ولده منذ ولادته ما يكون عليه الوليد في مستقبل الأيام فكان يرسله والده إلى مكتب شيخ القرية يومياً حيث لا توجد مدارس نظامية في القرية آنذاك - ليتعلم مبادئ القراءة والكتابة وتعلم القرآن، وهو في الخامسة من العمر، وفي فصل الشتاء، يحمل الوالد الكريم صغيره على ظهره مغطياً إياه بما يكفي لحمايته من البرد القارص عبر الطرق الوعرة والثلوج الكثيفة، ليوصله إلى مكتب

ص: 239

الشيخ صباحاً ويعود به إلى البيت مساءً وهكذا ليتغذى الولد من منأهل العلم والمعرفة والأخلاق، وينعم بالعطف والحنان، فيشب على الإيمان وحب آل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ويقرر إكمال دراساته في الحوزات الدينيّة كما كان ذلك رغبة والده رحمه اللّه، فقرأ على شيخ القرية أبجديات العلوم وتعلم القرآن، ومن ثم كتاب (جامع المقدمات) وهو كتاب يشتمل على أكثر من عشر كتب مختصرة في النحو والصرف والمنطق والأخلاق لعدة مؤلفين، يدرسها طلاب العلوم الدينية كمقدمة للكتب اللاحقة المقررة في الحوزات.

ثم إنتقل الطالب بعد مكتب شيخ القرية إلى قرية (حوت قل) المجاورة. حيث أكمل في تلك المدرسة قراءة كتاب (جامع المقدمات) وكتاب (البهجة المرضية في شرح الألفية) المعروف في الأوساط الدراسية بكتاب السيّوطي نسبة إلى مؤلفه جلال الدين السيوطي المتوفى (سنة 911 ه / 1505م) في النحو وقواعد اللغة العربية لأربع سنوات.

وكان نظام المدرسة حينها يكفل للطالب مكان الإقامة والمبيت في إحدى غرفها الصغيرة، وعلى الطالب أن يتكفل بمصاريفه الشخصية من اللباس والطعام الذي كان عادة ما يتكون من جلب الطحين من منازلهم لتقوم بعض نساء القرية بعجنها وعملها خبزاً للطلاب من دون أجر.

وفي تلك الفترة فقد محمد إسحاق والدته رحمها اللّه حيث وافاها الأجل المحتوم أثر مرض ألم بها فحزن لفقدها وتألم كثيراً، إلّا أنّ المصاب رغم فداحته، لم يثنه عن مواصلة التعلم، بل زاده إصراراً حتى قرر الإنتقال من مدرسة القرية إلى مدينة مشهد المقدّسة في إيران، وذلك كخطوة أولى منه، لما يدور في ذهنه ويعمل من أجله بشغف بالغ متمنياً تحقيق أمنيته، ألا وهو الإنتقال إلى الحوزة العلميّة الدينية العريقة في النجف الأشرف في العراق.

ص: 240

لقد إستقر الشيخ محمّد إسحاق سنة واحدة في مدرسة (الحاج حسن) الواقعة في منطقة (بالاخيابان) والتي شملها مشروع توسعة الحرم الرضوي فيما بعد، فتهدمت المدرسة ووقعت ضمن الساحة الكبيرة للحرم المقدس حالياً، قرأ خلالها كتاب (حاشية ملا عبدالله) على كتاب (تهذيب المنطق ) للمولى عبد اللّه بن شهاب الدين الحسيني المتوفى (981 ه- / 1573م)، ومقدار من كتاب (المطول) لسعد الدين التفتازاني، في علم المعاني والبيان والبديع عند الأستاذ الشيخ محمّد حسين النيشابوري المعروف (بالأديب النيشابوري) رحمه اللّه.

بيد ان تلك الغربة لم تكن تعني سوى المزيد من الإصرار على بلوغ الشيخ لمرامه من الوصول إلى الحوزة العلميّة الدينيّة في النجف الأشرف في العراق، وهو في بحث وسؤال دائمين حول طريق السفر، حيث كان قد ترسخ في ذهنه – وهو طالب صغير في قريته - أهمية النجف الأشرف وخصوصيته لما كان يسمعه من فضل النجف مدينة وحوزة على غيرها من المدن والحوزات، وذلك مما يدور في أحاديث الطلبة وأساتيذهم وبخاصة العلماء الذين كانوا قد تخرجوا من النجف الأشرف واستقروا في مناطقهم، أو من أولئك الذين كانوا مازالوا مستمرين في النجف الأشرف ويترددون في زيارات إلى أهليهم، فينقلون في مجالسهم ومحاضراتهم الخصوصيات والميزات بين الحوزات التي زاروها أو استقروا لبعض الوقت فيها، ويذكرون أفضلية النجف على غيرها، يقول الشيخ الفيّاض في هذا الصدد أول ما سمعت باسم النجف ومرتبة الحوزة العلمية فيها، كان من شيخ قريتنا، ومن ثم في المدرسة الدينيّة، وكلما كنا نسمع عن النجف الأشرف حديثاً كنا نسمع أيضاً عن الأستاذ المبرز فيها، ألا وهو السيّد الخوئي (قدّس سِرُّه)، وذلك بواسطة الأفاضل من تلامذته أمثال الشيخ عزيز الكابلي، والسيّد محمد حسن الرئيس والشيخ محمّد علي المدرس رحمة اللّه تعالى عليهم أجمعين.

ص: 241

لقد إنتقل الشيخ الفياض بعد عام من الدرس في حوزة مدينة مشهد – كما تقدم – إلى مدينة قم المقدسة لزيارة قبر السيّدة المعصومة أخت الإمام الرضا (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومنها شد أزره للسفر إلى العراق.

المطلب الثاني : مكابدة الوصول إلى النجف الأشرف

وصل الطالب الجديد إلى النجف الأشرف وهو شاب في مقتبل ربيعه الثامن عشر، وقد مرّ في طريقه إليها -كما تقدم - بتجارب عديدة أصقلت مواهبه وعلمته بعض مصاعب الحياة على إختلاف أنواعها والفرق بين نظم العيش والأخلاق والعادات في مدن عديدة مختلفة، إلّا أنّ للنجف الأشرف كمدينة وللحوزة العلمية فيها كمدرسة، صعوباتها وظروفها الخاصة ومتاعبها كما هي العادات والتقاليد المختلفة بين الشعوب والبلدان، مقابل ما لها من خصوصيات إيجابية في مقدمتها بركة وجود مرقد أمير المؤمنين الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ)، والإنفتاح والتقدم العلمي لحوزتها الدينيّة التي أهلتها أن تتصدر الحوزات الأخرى وتتزعم قيادتها وتخرج آلاف العلماء وتستقر فيها المرجعيّة العليا للطائفة، ولينشد إليها أفكار وأنظار طلاب وعشاق علوم أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) ومواليهم من جميع نقاط العالم.

لقد كان يتحتم على النزيل الجديد التكيف مع تلك الظروف وتحمل صعابها بحجم قدرته في الإصرار والمثابرة على الإستمرار، إبتداء من تحمل مناخها الحار الشديد صيفاً والبارد القارص شتاء، إلى ضرورة تعلم اللغة العربية أوّلاً للواردين إليها من غير المتكلمين بها، والبحث عن مكان مناسب للإقامة والتفتيش بين مئات الحلقات الدراسية الموجودة والمنتشرة في عشرات المدارس والمساجد في أطراف المدينة للعثور على الحلقة المناسبة للتلميذ من حيث المستوى والأستاذ والمباحث، وكيفية الحصول على الكتب الدراسية المنتظمة أو تلك التي يحتاجها الطالب لمطالعاته الخاصة في الحقول

ص: 242

المختلفة، إلى التعرف على الطلاب الآخرين ومستواهم العلمي والأخلاقي لإختيار البعض منهم كزملاء في البحث والدرس، إلى ضرورة تأمين المواد اللازمة للمأكل والملبس وضرورات،العيش،وغيرها، يقول الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض في هذا الصدد: كان قدومي إلى النجف الأشرف بسنوات بعد وفاة المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدّس سِرُّه)، وفي أواخر فترة العهد الملكي، وأوائل فترة مرجعيّة السيّد محسن الحكيم (قدّس سِرُّه) الذي كان قد أجرى راتباً شهرياً للطلبة بمقدار دينارين للطالب المعيل ومبلغ دينار للطالب الأعزب من أمثالنا، وكنا غالباً ما نأكل الخبز والبصل، ولا يخطر ببال أحدنا أن يأكل يوماً شيئا مما يسمى بالفواكه.

وما إن إستقر المقام بالضيف النزيل عند أحد الطلاب من بني قومه الذي كان قد سبقه إلى النجف الأشرف مشاركاً إياه في غرفة صغيرة من غرف مدرسة (السليمية) حتى بدأ بزيارة العلماء والمراجع لأداء واجب الإحترام، والتعرف عليهم عن قرب، وطلب التوجيه والإرشاد منهم في المهمة التي نذر نفسه اليها، كما قام بزيارة عدد من المدارس والمساجد التي تكتظ بالأساتذة وجموع الطلبة في حلقات الدرس والبحث هنا وهناك، وقد كان عونه في تلك الأمور سماحة العلامة المغفور له الشيخ محمد علي الأفغاني المعروف ب (المدرّس) والذي كان من المهتمين والمتابعين لتسهيل وإنجاز أمور الطلبة وقضاء حوائج بني قومه من الطلبة وبخاصة الوافدين الجدد منهم، وهو الأستاذ البارع الشهير لمرحلة المقدمات والسطوح، ولذلك لقّب بالمدرّس فقط أخذ الشيخ الفياض معه إلى زيارة المرجع المرحوم آية اللّه السيّد محسن الحكيم (قدّس سِرُّه) في مجلسه العام وزار المرجع السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (قدّس سِرُّه) في منزله لعلاقة الشيخ المدرّس الخاصة به وقربه منه.

ورغم مضي أشهر منذ أن حط رحاله في المدرسة فقد بقي الشيخ محمّد إسحاق

ص: 243

يشارك مضيفه الشيخ غلام حسين في غرفته الصغيرة في مدرسة السليمية، حتى قرّر زميله إكمال نصف دينه بالزواج وقد وفقه اللّه تعالى لذلك، فترك الإقامة في المدرسة وانتقل إلى منزله الجديد، وإستقر الشيخ محمد إسحاق في الغرفة منفرداً بها، منكباً على الدرس والبحث والمطالعة والكتابة.

المطلب الثالث: دراسته العلمية العالية في النجف الأشرف

إنتقل الطالب (المرجع لاحقا) إلى دراسة مرحلة السطوح ليتأهل لحضور بحوث الخارج لدى العلماء الكبار، فقرأ كتاب (الكفاية) للشيخ الآخوند الخراساني، وكتابي (الرسائل) و (المكاسب المحرّمة) للشيخ مرتضى الأنصاري عند المرحوم الشيخ مجتبى اللنكراني (قدس اللّه أسرارهم) كما كان في تلك الفترة يتباحث في الكتب التي يدرسها مع بعض زملائه، ويدرّس ما فرغ من تحصيله إلى الطلبة المبتدئين من بعده، كما هو المتعارف في نظام التعليم في الحوزة الدينيّة في النجف الأشرف، حيث يتمرّن الطالب منذ البدء، على تعلم نظام التدريس وهو يدرس مرحلة أعلى، فهو تلميذ وأستاذ في وقت واحد، وتسمّى تلك المرحلة في عرف الحوزات الدينيّة بمرحلة السطوح التي تستغرق حوالي خمس سنوات للطالب المجد والمثابر، والتي إنتهى منها الشيخ الفيّاض بأقل من تلك المدة، وسرعان ما التحق بحلقات بحوث كبار العلماء لمرحلة البحث الخارج.

فبعد أن وقف الشيخ الفياض على الآفاق الرحبة للفكر الإسلامي واعتاد الأجواء العلميّة والروحانية منها في مراحل دراسة السطوح، حيث الكتب الدراسية المعهودة التي قرأها على أفاضل علماء وأساتيذ الحوزة العلمية المتقدم ذكرهم ثم انتقل إلى حضور (البحث الخارج) فحضره، وهو في بدايات العشرين من عمره، واختار حلقات بعض الأساتذة الكبار من علماء النجف القديرين لعدة أشهر، حتى إستقر على بحث أستاذه الذي اشتهر طلابه به وإشتهر بهم، فكلما ذكر السيد ابو القاسم الموسوي الخوئي ذكر

ص: 244

معه السيد محمد الروحاني والشهيد السيد محمد باقر الصّدر والسيد علي الحسيني السيستاني والمترجم له وغيرهم من أفاضل تلامذته، كما أنه لو ذكر أحدهم لازمه ذكر السيد الخوئي أستاذاً له.

وقد إستمر الشيخ الفيّاض على هذا الدرس يومياً لأكثر من خمسة عشر سنة دون انقطاع في حلقتي الفقه والأصول، مواظباً ومتابعاً ومقرراً للبحث.

المطلب الرابع : نشاطه العلمي والتدريسي

لقد دأب الشيخ الفيّاض منذ حضوره بحث أستاذه المرجع السيد الخوئي (قدّس سِرُّه) على تقرير البحث على بعض زملائه في الدرس بمعنى أن يعيد درس أستاذه بعد مضي بعض الوقت عليهم كما كان مواظباً على كتابة درسه يوماً بعد يوم سواء في مادة الفقه أم الأصول، حتى أكمل تقرير الدورة الخامسة من دورات بحث أستاذه السيد الخوئي في علم أصول الفقه، فكان الكتاب المعروف ب (المحاضرات ).

و يحكى أنه لما قدم الشيخ الفيّاض تقريرات بحوث أستاذه لإجازته في طبعها، كان بعض ممن يخالف إجازتها معترضاً على السيد الخوئي، بحجج واهية غير مستندة على منطق سليم، كعمر الطالب وانتمائه القومي، وكان السيد الخوئي يقول في ردهم : إن المناط هو علم الطالب وفضله، وما يدل من تقريراته على جهده واجتهاده وذكائه وعمله الدؤوب ومتابعته وقوة ملاحظاته، وليس المناط،عمره، فإنه كانت الإعتراضات هذه وشبهها على أساس صغر سني آنذاك، تحاول منع أستاذي الشيخ النائيني (رَحمهُ اللّه) من إجازته طبع تقريرات بحوثه التي كتبتها (أجود التقريرات) فإنه يجب إنصاف الحق وإعطاء كل ذي حقٍ حقّه، كما ينبغي تشجيع الطالب المجد والمثابر ودعمه للاستمرار على ذلك النهج.

ص: 245

وبالفعل فقد أجاز الأستاذ السيد الخوئي طبع التقريرات تلك مع الإشادة بمقررها

وقد وفق اللّه سماحته في إتمام طبع الأجزاء الخمسة من تقريرات أستاذه في علم أصول الفقه، وهي تعد اليوم من أهم المصادر العلميّة في ذلك الفن، يتداوله العلماء والطلاب العلوم الدينيّة في كثير من الحوزات درساً وتدريساً ومطالعة ومراجعة للوقوف على الآراء الجديدة والأفكار والنظريات التي تحتويها.

وهكذا وخلال تلك الفترة وما بعدها، كان المرجع الشيخ الفيّاض (دام ظلّه) واحداً من الأساتذة المشهورين في الحوزة، حيث يلقي دروسه وبحوثه على جمع كبير من الأفاضل من طلاب العلوم الدينيّة، حيث يدرس خلالها الكتب المعهودة لمستوى السطوح العليا وهي (الرسائل) و(الكفاية) و(المكاسب) في حلقات متعددة في المسجد الهندي المعروف، كما كان أستاذ هذه المرحلة لأكثر من عشر سنوات في (جامعة النجف الدينيّة) التي أسسها المرحوم السيّد محمّد كلانتر وبعدها بدأ بإلقاء بحوث الخارج على طلبته عام (1398ه/ 1978م) في مدرسة السيّد اليزدي الصغرى الواقعة في محلة العمارة، وعند إفتتاح مدرسة (دار العلم) المعروفة التي أنشأها السيد الخوئي عام ( 1400 ه/1980م) إنتقل مجلس بحثه إلى هناك حتى تاريخ هدم المدرسة على يد أزلام النظام البائد بعد الانتفاضة الشعبانية الكبرى عام (1411 ه/ 1991م)، فانتقل مجلس الدرس إلى المسجد الهندي الكبير في فترة قليلة، ومن ثم إلى مدرسة اليزدي، وهي مدرسة أسسها المرجع السيد كاظم اليزدي (قدّس سِرُّه) حيث استمر على التدريس فيها لأكثر من عشر سنوات حتى سقوط النظام البائد ثم انتقل مجلس بحثه إلى مكتب سماحته قرب داره للظروف الأمنية وإلى اليوم، ويحضر درسه اليوم جمع كبير من الطلبة وفيهم غير واحد من الأفاضل ممن يقرّر بحوث المرجع الشيخ الفياض على أمل طبعها إن شاء الله تعالى.

ص: 246

وإذ تعارف لدى المراجع العظام تشكيل لجنة من خاصة المقربين إليهم من أفاضل تلامذتهم والعلماء المبرزين تسمى ب(لجنة الإستفتاء) للإجابة على السيل الكبير من الرسائل والإستفسارات الواردة إليهم من مختلف نقاط العالم من مقلديهم، وذلك بعد التمحيص والبحث والمناقشة والتحقيق حتى الوصول إلى الرأي الشرعي الصحيح بنظرهم مع موافقة المرجع لكتابته في الجواب على السؤال الوارد، وهو ما قد يستغرق البحث في مسألة واحدة عدة أيام قبل إمضائها.

وهو ما دعا المرجع الراحل السيد الخوئي أن يشكل لجنة الإفتاء من العلماء والمجتهدين الكبار من تلامذته للقيام بهذه المهمة، وقد كان سماحة الشيخ الفيّاض لما يملكه من مؤهلات عالية من فضل وعلم وقرب مقام من الإمام الخوئي، واحداً من أولئك الذين استمر بالعمل في هذه اللجنة لأكثر من خمسة وعشرين سنة، حتى آخر يوم من حياة المرجع الراحل (قدّس سِرُّه)، وكما هو المعروف فإن تلك اللجنة ضمت في فترات مختلفة أسماء علماء كبار ومجتهدين عظام تصدّوا لمقام المرجعيّة فيما بعد، أو هم في مقامها، من :أمثال السيّد مرتضى الخلخالي (قدّس سِرُّه)، والسيد علي البهشتي (قدّس سِرُّه)، والسيّد محمّد الروحاني (قدّس سِرُّه)، والشيخ ميرزا علي الغروي (قدّس سِرُّه)، والسيّد محمّد باقر الصدر (قدّس سِرُّه)، والشيخ ميرزا جواد التبريزي (قدّس سِرُّه)، والشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلّه)، والسيّد تقي القمي، والشيخ ميرزا علي الفلسفي (قدّس سِرُّه)، والسيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه) وغيرهم كثير من العلماء الأفاضل وكبار أساتذة الحوزات العلمية.

المطلب الخامس : كتبه ومصنفاته

رغم الإلتزامات الكثيرة لشيخنا المرجع (دام ظله) فقد دأب سماحته على أن يفرغ بعضاً من وقته للتحقيق والتصنيف والتأليف، فقد ألف حتى يوم الناس الكتب التالية :

ص: 247

(محاضرات في أصول الفقه) في عشر مجلّدات، طبع خمسة منها وسيطبع الباقي إن شاء اللّه و(الأراضي) و (النظرة الخاطفة في الإجتهاد) و(تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى) طبع منها عشرة أجزاء و (أحكام البنوك) و(المباحث الأصولية) في 14 مجلد، طبع منها 9 مجلّدات، وستطبع باقي المجلّدات تباعا كما وعدت بذلك و (منهاج الصالحين) في ثلاثة مجلّدات و (مناسك الحج) و (مختصر مناسك الحج) و (توضيح المسائل) و (أجوبة المسائل الطبية) و (موقع المرأة في النظام السياسي الإسلامي) و (المختصر في الحياة العلمية) للسيّد الخوئي (قدّس سِرُّه) و (مائة سؤال وسؤال حول الكتابة والكتاب والمكتبات وجوابها) و (المسائل المستحدثة) و (بيانات وتوجيهات) و (الأنموذج في الحكومة الإسلامية) و (المختصر في أحكام العبادات) و (المختصر في أحكام المعاملات) بقسميه: الأول والثاني.

ومما يلفت النظر في اهتماماته المعرفية الأخرى أجوبته عن مسائل مستحدثة في أمور حياتية شتى، وخاصة في المجال الطبي لم تتناولها رسالته العملية، إضافة إلى تناوله بالبحث والتحقيق مسألتين في غاية الأهمية في وقتنا الحاضر: أولاهما في نظام الحكم الإسلامي، وثانيهما في موقع المرأة سياسيا.

المطلب السادس مرجعيته وخدمات مكتبه للمؤمنين

تصدى المرجع الشيخ الفياض (دام ظلّه) للمرجعية الدينية بعد وفاة أستاذه ومعلمه المرجع الأعلى في وقته سماحة السيد ابو القاسم الموسوي الخوئي (قدّس سِرُّه)، وتصدى للإفتاء أسئلة المكلفين كما تصدى للشؤون العامة في سماع شكاوى المواطنين والإجابة عن ومشاكلهم، مع بذل ما في وسعه من جهد لتذليلها وحلها، ولطالما لمست منه (دام ظلّه) الحرص الشديد على إيصال صوته للمسؤولين حاثا وموجها وناصحا وعارضا الحلول ما أمكنه ذلك.

ص: 248

وللشيخ المرجع (دام ظلّه) مكتب يضم عدة أقسام تتولى مهمة تسيير شؤون مرجعية، فقسم للإجابة عن الإستفتاءات الواردة، وقسم لشؤون الطلبة يتولى توزيع الرواتب شهريا على الطلبة لما يزيد عن خمسة آلاف طالب علم، مع ملاحظة التمييز المعنوي والمادي بين الطلبة المشتغلين وغيرهم، كما يقوم هذا القسم بالإشراف على بحوث بعض الطلبة، وإبداء المشورة العلمية لهم وما إلى ذلك مما يقتضيه البحث العلمي العميق، وقسم لمتابعة شؤون مؤلفات الشيخ المرجع دام ظلّه) وتهيئتها للطبع، وقسم للعلاقات العامة، وقسم للانترنيت والكومبيوتر، وقسم للمكتبة والتصوير، وقسم للإدارة يضم من بين ما يضم لجنة متخصصة لتنسيب ومتابعة شؤون وكلاء مرجعية الشيخ (دام ظلّه) ومأذونيه الذين يقدر عددهم حتى هذه السنة بحوالي مائة وعشرة بين وكيل ومأذون داخل العراق وخمسة وثلاثين خارج العراق يتولون مهمة نشر الوعي الديني والفكري والأخلاقي والعقائدي في الأماكن التي يعملون بها معظمهم من طلبة العلوم الدينية(1). ينظر الملحق العاشر).

ص: 249


1- ينظر : موقع المرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض على الانترنيت.

ص: 250

المبحث الرابع: المرجع الشيخ بشير النجفي (دام ظلّه)

سيرته الحياتية والعلمية

يتناول هذا المبحث مطالب عدة هي:

المطلب الأول : اسمه وأسرته

هو المرجع الحافظ الشيخ بشير حسين بن صادق علي بن محمد إبراهيم بن عبد اللّه اللاهوري، واسمه (بشير حسين) من مَركبات الأسماء، ولكن شاع مختصراً باسم (الشيخ بشير).

ولد (دام ظلّه) عام (1361 ه/ 1942م) في مدينة (جالندهر) إحدى كبريات مدن الهند، في ظل أسرة لها مكانة اجتماعية ملحوظة في بلادها لاهور - فجده لأبيه الشيخ محمد إبراهيم، كان شخصية علمية واجتماعية وسياسية، كما كان زعيم عشيرته ومرجعهم في الحلِ والعَقْد، وممّا نقلهُ الثِقات أنهُ كان لجده ديوانٌ عامر ومجلس كبير يؤمه الناس على اختلاف وتبايُن نحلِهِم ومللهم، وكانت تجري فيه المناظرات والمناقشات العلمية بين جدّ المرجع النجفي (دام ظلّه) وأرباب المذاهب الإسلامية من جهة، وبينه وبين الهندوس- وهم كثر في وطنه من جهة أخرى.

أما والده الشيخ صادق علي فهو الآخر من وجهاء مدينته، فقد سار على نهج أبيه بعد وفاته فكان شخصية اجتماعية وصاحب دیوان عامر يرتاده الناس من مختلف

ص: 251

طبقات المجتمع، وتجري فيه المناظرات مع أبناء الفرق الإسلامية الأخرى حيث كان هو القائم عليها والمدير لها، ودفن أبوا الشيخ المرجع حيث توفيا.

المطلب الثاني : دراسته وهجرته العلمية إلى النجف الأشرف وتدريسه

دأب الفتى (بشير حسين) في بداية تحصيله العلمي على دراسة مُقدّمات العلوم المعروفة من نحو وصرف وبلاغة وفقه وأصول في مدينة لاهور على يد جدّه لأبيه الشيخ محمد إبراهيم الباكستاني - المتقدم ذكره - وعمه الشيخ خادم حسين الباكستاني، والعلامة الشيخ أختر عباس الباكستاني مؤسس (مدرسة جامع المنتظر) الدينية، وهي من أكبر وأنشط المدارس الدينية في باكستان حالياً من حيث كفاءة الأساتذة وطموح الطلبة في تحصيل المراتب الراقية في العلوم الشرعية.

ومن أساتذته في بلده أيضاً شريف العلماء السيد رياض حسين النقوي، والمرحوم الفاضل السيد صفدر حسين النجفي.

ثم هاجر الشيخ بشير في حدود (سنة 1385 ه/ 1965م) إلى النجف الأشرف حاضرة العلم الكبرى ومعقل الدراسات الإسلامية الراقية، للانتهال من ينابيع العلم والتشرّف بمجاورة إمام المتقين باب علم مدينة رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليهما وعلى آلهما الطاهرين، وما أنْ قرتْ عينه بالنزول في تلك العراص الطاهرة حتى بادر إلى الدراسة على مشايخ العلم المعروفين يؤمئذ من أمثال الشيخ محمد كاظم التبريزي (طاب ثراه) وقد درس عنده (الكفاية) في مدرسة المرجع الشيخ الشربياني (قدّس سِرُّه)، كما حضر بحوث المرجع المرحوم السيد محمد الروحاني (قدّس سِرُّه) أصولاً وفقهاً لأكثر من سبع سنوات.

ولما آنس (دام ظلّه) من نفسه القدرة على التدريس شرع بتدريس السطوح عام

ص: 252

(1388ه/ 1968م) في (المدرسة المهدية) الواقعة خلف جامع الطوسي، وفي (المدرسة الشبرية)، وفي (مسجد الهندي)، وإذ اكتملت لديه القدرة العلمية على حضور البحث الخارج دأب على حضور بحوث خارج الفقه والأصول عند المرجع الأعلى في وقته سماحة السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (قدّس سِرُّه) حيث درس عنده دورة كاملة ملفقة. في الأصول، وسنوات بحث طويلة في الفقه استمرت لحين انقطاع المرجع الأعلى السيد الخوئي (قدّس سِرُّه) عن التدريس بسبب التدريس بسبب حالته الصحية.

ونظرا لِما يتمتع به المرجع الشيخ المترجم له منْ مكانة علمية فقد أحبَّ التدريس فأكثر منه ابتداءً من (جامعة المنتظر) في باكستان إلى يومنا هذا في مختلف الفنون والمستويات، فهو منذ خمسة وثلاثين عاماً أي من عام (1393 ه/ 1974م) يباشر بإلقاء دروسه الأولية والعالية سواء ما كان منها في (مدرسة دار الحكمة) التي أسسها المرجع الأعلى في وقته سماحة السيد محسن الحكيم (قدّس سِرُّه) أم في (مدرسة دار العلم) التي أسسها المرجع الأعلى في وقته سماحة السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (قدّس سِرُّه) – وقد فجرهما أتباع النظام البائد بقنابل الديناميت وصادر كتبها خلال استباحته مدينة النجف الأشرف عام (1411 ه / 1991 م ) - أم في (المدرسة الشبرية) أم في (مدرسة القوام) المسامتة لمسجد شيخ الطائفة الطوسي (قدّس سِرُّه) أم في (مسجد كاشف الغطاء) أم في المسجد الهندي أكبر أماكن الدراسات الحوزوية في النجف الأشرف كما تقدم، وما زال (دام ظلّه) يواصل تدريسه خارجاً في الفقه والأصول والتفسير والأخلاق إنما في داره في منطقة الجديدة في النجف الأشرف (ينظر الملحق التاسع).

هذا يروي سماحته في علم الحديث: الكتب الأربعة للمحمدين الثلاثة (رضوان اللّه عليهم) وهي: كتب : (الكافي)، و(الفقيه)، و(التهذيب)، و(الاستبصار) ويروي أيضا: (سائر مؤلفات الشيخ الصدوق)، و (شيخ الطائفة الطوسي)، و(العلامة الحلي)، يرويها

ص: 253

بسندٍ متصل إلى إجازة (العلامة) الكبيرة المطبوعة، وقد استجازه جملة من الأفاضل فمنح لهم الأجازة بذلك.

المطلب الثالث: منهجه في التدريس وبعض من قناعاته التربوية

ينقل فضلاء تلامذته وأجلاء حُضّار بحثه أن المرجع الشيخ بشير النجفي (دام ظلّه) يتميز بطريقة تدريس تمتلك قوّة بيان وحسن تبويب للمطالب، وسلامة ترتيب للمقدمات المفضية إلى النتائج، مع الابتعاد عن الحشو والفضول وتقريب المعنى البعيد باللفظ الوجيز البعيد عن الاحتمال والاشتراك.

وقد ذكر غير واحد من تلامذته ان الشيخ المترجم له يستحضر المسائل المبحوثة في المقدمات والسطوح إلى أرقى دروس بحث الخارج في النحو والصرف والمنطق والأصول والفقه وغيرها وكأنه راجعها قبل قليل، كما ذكروا عنه أنه يسعى بجد لتمكين تلامذته من هضم مستصعبات المسائل بالترويض والمزاولة وإعادة الترويض والمزاولة وصولا نحو الهدف المنشود، وقد اشار إلى ذلك والى أمور تخص العملية التربوية في رسالته التي وجهها إلى طلبة الحوزات العلمية، آثرت أن أثبتها كونها تلقي الضوء على ما أحببت أن ألقي الضوء عليه من منهجه في التربية والتعليم، فقد جاء فيها بعد حمد اللّه والثناء عليه والصلاة على نبيه الكريم محمد وآله الطيبين الطاهرين قوله :

ابعث رسالتي هذه من النجف الاشرف وأجدني مشاركاً روحاً وقلباً مع هذه الأفئدة التي تجمعها هذه المدارس والمراكز العلمية صانها اللّه من ريب الدهور على اختلاف أصنافها من الأجلاء وطلبتنا الأعزاء على اختلاف طبائعهم واجتمعت نفوسهم فيها على العزم والالتزام بسعي حثيث في الارتواء بمنهل علم أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ).

اعلموا أيها الإخوة الفضلاء وأولادي الأتقياء الأعزاء أن رابطة الدين أقوى من

ص: 254

كل الروابط، فإنّ هذا الرابط دفع أولئك الذين سبقونا بالإيمان إلى نبذ كل العلاقات النسبية والسببية والعشائرية وإلغاء كل الاعتبارات التي تقتضي تصنيف البشرية، فكان الرابط الديني أقوى وأسمى وأكثر تأثيراً وأعظم مفعولاً في نفوسهم، فوتروا الأقربين والأبعدين في ذات اللّه، فرابط الدين لابدَّ وان يكون فوق كل الاعتبارات.

وهنا رابط آخر نشترك كلنا فيه، وهو رابط العلم، فقد جمعتنا هاتان الرابطتان فكلنا رواد هذا المنهل الروي مشرع علم الدين، فعلينا جميعاً الاهتمام بالأمور التالية:

الأمر الأول: نجد انه قد أصاب الحوزات العلمية الوهن من حيث الكتب، فنجد طلابنا الأعزاء مَيّالين إلى الكتب السهلة والدراسة السطحية بما يجعلنا نتوقف اتجاهه ملياً، لأنه إذا استمر. لا سمح اللّه فهو لا يبشر بخير.

أخوتي الأجلاء قد بلغني - وأنا في النجف الأشرف - شدة الاهتمام بالحوزات العلمية التي تترأسها سائر الفرق الإسلامية، ولاسيما الوهابية بحيث ينذر ذلك بالخطر الداهم على البلاد الإسلامية، وعلينا التيقظ والالتفات إلى ما نحن فيه، والسعي إلى إرجاع طلابنا الأعزاء إلى سابق العهد الذي عهدنا السلف الصالح من علمائنا الأبرار عليه، فلتكن الدقة والتعمق والتوجه إلى الكتب الصعبة في كل الفنون مقصدنا جميعاً، وعلى المدرسين الأفاضل الاهتمام بهذا الموضوع.

الأمر الثاني: انه بلغني أنَّ كثيراً من الطلبة يخلط بين المنهج الدراسي المتبع في الحوزات العلمية وبين المناهج الدراسية السائدة في الكليات والجامعات التي ترعاها الحكومات في شتى إرجاء العالم فحيث يرون أن الكتب المطروحة أمام الطلبة في تلكم الكليات والجامعات يقصد في أثناء تأليفها التبسيط والتسهيل في التعبير بينما الكتب المطروحة سابقاً في الحوزات العلمية معقدة في تعبيراتها ومستعصية على فهم الطالب العادي

ص: 255

فيتصور بعضهم انه ينبغي أن تكون الكتب الرائجة في الحوزات العلمية شبيهة بالسائدة في الكليات والجامعات ولكنه بأدنى التفاتة يتضح انه لا ينبغي الخلط بين المنهجين، والسر في ذلك إن الغاية من الدرس والتدريس في الكليات والجامعات إعداد الطالب فيها لفهم وإدراك ما وصل إليه العلماء في العلوم الجديدة والفنون الحديثة والإحاطة بها، ومن ثم مواصلة السير في تطوير تلك العلوم والفنون في المستقبل والاستفادة منها ولا علاقة للطلاب بالتعبيرات التي استخدمت وبالألفاظ أو اللغات التي استعان بها العلماء السابقون في تلك العلوم الحديثة، وبما أن طريقة التعبير وسليقة التكلم بكل لغة تتغير وتتبدل بمرور الزمن فربما يكون تعبير واضحاً وسلساً في زمان وبعد مدة يصبح للأجيال القادمة مُعقداً يفتقر الناظر فيه إلى القواميس والاستعانة بقواعد اللغة على الوصول إلى مغزى الكلمات المستخدمة للكشف عما في ضمير المتكلم، مثلاً الخطب التي ألقيت قبل قرون على عامة الناس نجدها اليوم معقدة وبعيدة عن سليقة التكلم وطريقة التعبير التي نعايشها، ومن هنا نجد الحكومات المهتمة بالمدارس والكليات تضطر إلى تغيير الكتب الدراسية بين فترة وأخرى.

بينما طالب علم الدين تنحصر وظيفته وينصب اهتمامه في فهم النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ)، وهي صدرت من متكلميها قبل قرون، وكانت واضحة سهلة الفهم في حينها، ولذلك تم التحدي بتلك الآيات الشريفة لكل من بلغه القرآن في حينه مع سيطرة الأمية على الناس.

وكذلك الأحاديث النبوية وخطب أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأدعية الصحيفة السجادية وغيرها مثل دعاء سيد الشهداء (عَلَيهِ السَّلَامُ) يوم عرفة، فإنها كلها ألقيت وقُرِئَتْ على عامة من يعرف اللغة العربية وكانوا يفهمونها ويستوعبون أدق معانيها لوحدة السليقة في التعبير بين المتكلم والمخاطب، والآن لأجل البعد الزمني الهائل والتبدل الواضح بين

ص: 256

سليقة التعبير في ذلك الوقت وسلوك التعبير اليوم فلا نتمكن من فهم تلك النصوص لمجرد تمكننا من التحدّث باللغة العربية السائدة اليوم وفهمها، فلابد من ترويض ذهن الطالب وتمرينه بنحو يتمكن من فهم واستيعاب المعاني العميقة التي اشتملت عليها تلك التعبيرات.

ولو تعوّد الطالب على التعبيرات السهلة والطرق التعبيرية التي استأنست أذهننا بها وتعوّدت نفوسنا عليها لبقي بعيداً عن عموم تلك المعاني، فيجب الاهتمام بالكتب المعقدة والتعبيرات التي سعى علمائنا الأبرار إلى تبنيها في مقام إيصال المعاني العالية والمطالب السامية وإيصالها للأجيال اللاحقة.

الأمر الثالث: الاهتمام بمظهر طالب العلم بأن لا يخرج عن زي رجل الدين، فالتزي بالزي الأوربي والتمادي في تبني المظاهر المجلوبة من الأغيار في شعر الرأس والملابس والأحذية وطرق الأكل والشرب بنحو ما أخذ يسود في البلاد الإسلامية مما لا ينبغي أن يحدث في الحوزات العلمية.

إن الاهتمام بالمظهر أمر ضروري، والتخلي عن الزي التقليدي لرجل الدين... يؤمي إلى الإحساس بالنقص في الطالب، فإنا لا نجد أحداً من أعداء الإسلام يفكر في التخلي عن سلوكه في المأكل والملبس، بينما نجد شبابنا وأفلاذنا مندفعين إلى التخلي عن سلوكنا في الحياة وتبني سلوك الأوربيين.

الأمر الرابع: الاهتمام بالجانب الروحي، وينبغي أن لا يذهب علينا أن مجرد حفظ القواعد اللغوية العربية وغيرها والإحاطة بالمسائل الفلسفية والكلامية والأصولية ونحوها وحده لا يقرب الطالب إلى اللّه سبحانه بل لا يجعله في صف طلبة علم الدين بالمعنى الواقعي فإنَّ تعلم المسائل بل التبحر فيها مقدمة لصياغة النفس في قالب الدين،

ص: 257

فيجب على المهتمين بتربية طلابنا الأعزاء مراقبة سلوك الطالب وحثه على الالتزام بتقوى اللّه والخشية منه في السر والعلانية، ويجب أن يرافق الارتقاءُ الروحي التقدمَ العلمي، وأن يواكب السمو النفسي الارتفاع في مدارج العلوم التي يدرسها في الحوزات حتى يتجسد الدين في حركاته وسكناته فيكون مثالاً يحتذي به الناس.

الأمر الخامس : يجب توجيه القسط الكبير من الاهتمام إلى تهذيب النفس وحسن السلوك فإنّ تحسين التعامل مع الآخرين على أساس المساواة انطلاقاً من مبدأ: حب لأخيك ما تحب لنفسك من سمات عامة المؤمنين، وأما الذي أوقفَ نفسه في صفوف طلاب علم الدين طمعاً في أن يوفقه اللّه للانخراط في سلك علماء الدين ليحظى بالمقام في حظيرة القدس في زمرة القديسين الصديقين وفي جوار صاحب المقام المحمود النبي الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)عند مليك مقتدر، والذي يرجو ذلك من العلي القدير فإنَّه يجب أن يكون من المؤثرين للآخرين على نفسه رغم الخصاصة.

كما أن التواضع للعلم والعلماء وجعل النفس دائماً في قفص الاتهام والحكم عليها بالقصور بل بالتقصير تجاه الآخرين تُعتبر الخطوة الأولى في سبيل إصلاحها فإنَّ تهذيب النفس الذي دعا إليه وسعى فيه الحكماء والمصلحون من أهم الواجبات فإنّ صلاح خلق الفرد أساس إصلاح المجتمع.

فإذن أيها الطالب العزيز ليكن قيامك وقعودك وتعاملك مع الآخرين على أساس الإيثار.

أرجو اللّه سبحانه أن يمكننا جميعاً من إصلاح نفوسنا وأداء ما علينا وان يحلينا بالعلم والعمل ويجعلنا من شيعة ولي اللّه الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء انه رحيم ودود.

ص: 258

المطلب الرابع : كتبه ومؤلفاته

كتب المرجع الشيخ (دام ظلّه) في علوم مختلفة منها في الفقه والأصول والفلسفة والكلام والتفسير والحديث والمسائل المستحدثة وغيرها أهمها: (الدين القيم رسالته العملية في العبادات ومعاملات - في ثلاثة أجزاء مطبوع)، وقد تُرجمت إلى الانكليزية والأوردية والكجراتية، و(وقفة مع مقلدي الموتى: مطبوع)، و (مرْقاة الأصول: مطبوع)، و(مناسك الحج،مطبوع)، و (خير الصحائف في أحكام العفاف مطبوع)، و(مائة سؤال حول الخمس: مطبوع)، و(هداية الناشئة : مطبوع)، و ( أعمال وأحكام شهر رمضان المبارك: مطبوع)، و (ستبقى النجف رائدة حوزات العالم مطبوع)، و(الخريت العتيد في أحكام التقليد: مطبوع)، و (مصطفى الدين القيم : مطبوع)، و (المرشد الشفيق إلى حج البيت العتيق: مطبوع)، و(المنهل العذب لمن هو مغترب : مطبوع)، و(بحوث فقهية معاصرة: (مطبوع)، و (الشعائر الحسينية ومراسيم العزاء : مطبوع)، و(ولادة الإمام المهد (عَجَّلَ اللّهُ تَعَالَي فَرَجَهُ الشَریف) ي مطبوع)، و (مختصر الأحكام، مطبوع بلغة الأوردو)، و (إلى الشباب: مطبوع)، و(التائب حبيب اللّه : مطبوع).

ولديه (دام ظلّه) عدة كتب مخطوطة بعضها مكتمل التأليف وبعضها لا يزال غير مكتمل عسى أن ترى النور قريباً.

المطلب الخامس : مرجعيته ومشاريعه وبعض من اهتماماته المعرفية

تصدى المرجع المترجم له للمرجعية الدينية بعد وفاة أستاذه المرجع الأعلى في عصره سماحة السيد أبي القاسم الموسوي الخوئي (قدّس سِرُّه) في عام 1992م.

وله مشاريع عدة اضطلع بها سماحته سبق أن ذكرها الشيخ صادق سليم المحسن في رسالته عن أحوال سماحة الشيخ (دام ظله) منها : قيامه بإعادة طبع الكتب الدراسية

ص: 259

المعروفة في المنهج الحوزوي من كتب النحو والبلاغة والصرف والمنطق والكلام والفقه وأصوله. ومنها عدم التسامح بما يسمى ب(الطفرة) في سلم الدراسات المنهجية أو التحايل والتهرب عن أداء الامتحانات الشهرية.

ومنها : الاهتمام بشؤون الفقراء وأهل الحاجة وذلك بتعيين الرواتب الشهرية لهم وتوفير العلاج الطبي وإمدادهم بالملابس الصيفية والشتوية والأدوية وسائر ما يتمكن منه من مور المتوفرة عنده مما يتلقاه من مقلديه ومريديه.

ومنها أنه لا يجيز لمعظم الطلبة والمبتدئين خاصة أن يغادروا النجف الاشرف حتى لمثل التبليغ بغية حثهم على المواظبة على الدرس والبحث.

ومنها نصب مولدات للطاقة الكهربائية وتوزيع خطوط الكهرباء للعوائل وللمدارس والمدارس الدينية والجوامع والحسينيات وبفضل اللّه فقد وصلت أعداد المستفيدين منها إلى ما يقارب 3000 آلاف بيت.

ومنها: إقامة مدارس نموذجية رسمية خاصة للأيتام باسم: (مدارس دار الزهراء (عَلَيهَا السَّلَامُ) للبنين)، و (مدارس دار الزهراء (عَلَيهِا السَّلَامُ) للبنات) امتازت هذه المدارس بتقديم رعاية متطورة للأطفال الأيتام، مع تقديم مساعدات شهرية ودورية لهم. ومنها الاهتمام بجلب طلاب العلوم الدينية من بلدان مثل اليمن وأفغانستان وباكستان والخليج والهند لأجل الدراسة في النجف الأشرف وغيرها.

المطلب السادس : محاولة اغتياله الآثمة

تعرض سماحة المرجع الشيخ بشير النجفي (دام ظلّه) لمحاولة اغتيال بالقنابل اليدوية ليلة الجمعة إحدى ليالي القدر المباركة من عام (1419 ه/ 1998م)، وهو جالس في ركن مكتبه يؤدي واجبه الديني كمرجع، الّا أن اللّه سلّم واستنقذه من غرفة امتلأت

ص: 260

بشظايا ونيران القنابل والقتلى والجرحى ليواصل مسيرته لخدمة دین الله القويم.(1)(ينظر الملحق العاشر).

ص: 261


1- ينظر : موقع المرجع الشيخ بشير النجفي على الانترنيت.

ص: 262

هوامش الفصل السادس

(1) قاعدة لا ضرر ولا ضرار. تقريرات السيد السيستاني. بقلم السيد محمد رضا السيستاني : أنظر هوامش الصفحات: 82 و 89 و 91 و 92 و 99 و 107 و 174 وغيرها

(2) المصدر السابق : أنظر هامش : 330

(3) الرافد في علم الأصول. تقريرات السيد السيستاني. بقلم السيد الخباز :

(4) نفسه

(5) نفسه : 88

(6) سورة الزمر : آية رقم: 1

(7) أساطين المرجعية العليا في النجف. سابق : 95

(8) ينظر : موقع المرجع الأعلى السيد السيستاني على الانترنيت.

(9) ينظر : موقع المرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم على الانترنيت.

(10) ينظر : موقع المرجع الشيخ محمد إسحاق الفياض على الانترنيت.

(11) ينظر : موقع المرجع الشيخ بشير النجفي على الانترنيت.

ص: 263

ص: 264

الفَصلُ السَابِع

طلاب حوزة النجف الأشرف أعدادهم، أماكن دراستهم، مدارسهم، برنامج يوم عمل لطلاب من حوزة النجف الأشرف

إشارة:

ويتناول هذا الفصل مباحث أربعة هي :

المبحث الأول : الأعداد التقريبية لطلاب الحوزة العلمية سابقا وحاليا.

المبحث الثاني : أماكن دراسة طلاب الحوزة العلمية.

المبحث الثالث: الأقسام الداخلية للطلاب سابقا وحاليا.

المبحث الرابع: برنامج يوم عمل لطلاب في حوزة النجف الأشرف.

ص: 265

ص: 266

المبحث الأول: الأعداد التقريبية لطلاب حوزة النجف الأشرف العلمية سابقاً وحالياً

تفاوتت أعداد طلاب الحوزة العلمية في النجف بين مد وجزر تبعاً للظروف

السياسية المعقدة في العراق، فحين تخفف السلطة وأجهزتها القمعية ضغوطها على الحوزة تنمو أعدادها،باطراد وحين تتصاعد ضغوط الأمن والمخابرات وأجهزة الحزب تبدأ أعدادها بالتناقص. وحين أقول ضغوط السلطة لا أعني بذلك الضغط الذي يتحمل ويمكن ولو برباطة الجأش تصريفه فذلك ما اعتادت عليه الحوزة وتكيف له مراجعها وطلابها وأساتذتها، وإنما أعني بذلك تلك الضغوط الشديدة غير القابلة للتحمل من أمثال عدم السماح للراغبين الجدد من غير العراقيين بالدخول إلى البلد للالتحاق بالحوزة العلمية النجفية، ووجبات التسفير الإجباري وحملات الإيذاء المنظم والدهم والتفتيش والترويع والتخويف والتهديد وموجات السجن والاعتقال الكيفي وصولا إلى الإعدامات والقتل الجماعي من دون محاكمة أو تحقيق كما حصل في الانتفاضة الشعبانية عام (1411ه/1991م) وما سبق الانتفاضة الشعبانية ومقابرها الجماعية وما لحق عذاباتها وأشجانها الكثير الكثير.

وتقدر بعض المصادر عدد الطلبة في النجف في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بين عشرة آلاف وخمسة عشر ألف طالب (1) بل ونقلت رسالة وردت لمجلة المنار المصرية الصادرة في القاهرة سنة (1326 ه/ 1908م) نشرتها تحت عنوان:

ص: 267


1- سورة التوبة: آية 122

(كلمات عن العراق وأهله لعالم غيور على الدولة ومذهب أهل السنة)، تعرض فيها كاتبها للتنديد بشيعة العراق الذين بلغ عددهم كما يقول الكاتب ثلاثة أرباع العراقيين، محرضا الدولة العثمانية عليهم، وقد عقّب عليها بقبول ما فيها وتأييده لها رئيس تحرير مجلة المنار الشيخ محمد رشيد رضا، وقد جاء فيها مع الأسف من جملة ما جاء فيها ما نصه: وفي النجف مجتمع مجتهدي الشيعة، وفيه من طلبة العلوم ستة عشر ألفا، ودأبهم انهم ينتشرون في البلاد، ويجدون في إضلال العباد(1).

ويدعم هذا التقدير ما ورد عن بعض المطلعين من أن عدد طلاب العلوم الدينية قبل الحرب العظمى الأولى وفي أيام الملا محمد كاظم الآخوند (الخراساني) لا يقل عن عشرة آلاف طالب (2)، بل نقل عن بعضهم أن العدد لا يقل عن اثني عشر ألفا(3).

ويبدو أن العدد يفوق ذلك، فقد نقل عن الشيخ أغا بزرك الطهراني(4) قوله: وقد سمعت ممن أحصى تلاميذ الأستاذ الأعظم المولى محمد كاظم الخراساني في الدورة الأخيرة في بعض الليالي بعد الفراغ من الدرس أنه زادت عدتهم على الألفين والمائتين، وكان الكثير منهم يكتب تقريراته وجمع منهم كانوا أصدقائي، ورايت تقريراتهم الكثيرة في الكراريس والمجلدات، وتوجد تقريرات كثيرة لم يشخص مقررها.

ونقل عن المرجع الشيخ ضياء الدين العراقي(5) (1364 ه/ 1945م) من أكابر تلاميذ المرجع الشيخ محمد كاظم الخراساني بأن عدد طلاب البحث الخارج للشيخ تعدى في فترة من الفترات 1700 نفر في الليلة. ونقل مثله عن الميرزا محمد الفيض باشتراكه مع المرجع العراقي(6).

بل ورد عن الشيخ علي الشرقي قوله :(7) وكان يحف بمنبره ثلاثة آلاف طالب منهم المجتهد أو المرشح للاجتهاد.

ص: 268


1- مجلة المنار. الجزء الأول من المجلد الحادي عشر. صفر. سنة 1326 ه. ص : 45.
2- المدارس القديمة والحديثة في النجف. الشيخ محمد الخليلي: 77.
3- النجف الأشرف مهد الفضيلة والعلم. سابق : 70.
4- الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 4 / 367.
5- ينظر : كفاية الأصول للشيخ محمد كاظم الخراساني. تحقيق سامي الخفاجي :20/1.
6- ينظر : فصول من تاريخ النجف وبحوث أخرى. عبد الرحيم محمد علي : 1/ 355.
7- ينظر المصدر السابق، والشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف. سابق : 20.

إن هذا العدد الكبير من طلاب البحث الخارج ومن كتاب التقريرات زمن الشيخ الخراساني يكشف عن أن أعداد طلاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف تلك الآونة سواء منهم من كان من طلاب البحث الخارج من غير حضار بحث الشيخ الخراساني أم من كان منهم في المستويات الأدنى من طلاب البحث الخارج كطلاب مرحلة السطوح أو طلاب مرحلة المقدمات يفوق العدد المقدر لهم فيما تقدم بكثير.

بيد أن هذا العدد الكبير قد انخفض كثيرا أيام الحرب العالمية الأولى جرّاء الحرب. ثم عاد للارتفاع تدريجيا حتى عهد حكومة عبد المحسن السعدون حيث بدأ بالانخفاض سريعا بعد أن أقدم رئيس الوزراء خلال سنة (1342 ه/ 1924م) على نفي أكابر مراجع الحوزة العلمية في النجف وعلمائها المعارضين لنهجه في الحكم إلى خارج العراق، ثم عادت أعداد طلاب الحوزة إلى الارتفاع تدريجيا بعد مطلع الثلاثينات إثر تقلد المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني المتوفى سنة (1364 ه/ 1945م) والعائد من منفاه القسري زعامة المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف.

وما أن حلّ شهر ديسمبر كانون الأول من عام ( 1376 ه / 1957م) حتى بلغ عدد طلابها بحدود ألفي طالب، وهو ما أثبتته لحسن الحظ إحصائية أجراها الباحث الدكتور فاضل الجمالي المتخصص بعلوم التربية ورئيس وزراء العراق عامي 1953 و 1954م والمولع منذ (عام 1345 ه/ 1927م) بحب البحث عن الدراسة ونظمها في النجف الأشرف يقول الدكتور الجمالي في بحثه المعنون جامعة النجف الدينية الذي ألقاه في المجلس الثقافي البريطاني ببغداد (عام 1376 ه/ 1957م) مانصه ومنذ ثلاثين عاما على وجه التقريب كان كاتب هذه السطور قد غاص في الدراسة وطرق التدريس لإظهار تفرد النظام الدراسي في النجف وأهميته وكان ذلك جزءا من بحث للدكتوراه يتناول: (النظام الدراسي في جامعة النجف) إلّا أن المقترح تبدل لعنوان آخر(1).

ص: 269


1- جامعة النجف الدينية د. فاضل الجمالي. نقله إلى العربية د. جودت القزويني. مجلة شؤون إسلامية. العدد 2 السنة الثانية 1420ه-. ص : 12.

ولم يبرد ولعه بحب البحث عن جامعة النجف فقد زار النجف الأشرف في شهر تشرين الأول من (عام 1376 ه/ 1957م) ومكث في ربوعها أسبوعا باحثا بحثا ميدانيا عن جامعة النجف الدينية وأنظمتها التربوية ليخلص من دراسته إلى أن التركيبة الإحصائية لعدد الطلاب في النجف في شهر ديسمبر 1957 هي كالآتي:

الطلبة الإيرانيون : 896

الطلبة العراقيون 326

الطلبة الباكستانيون: 324

الطلبة من التبت: 270

الطلبة الهنود : 71

الطلبة السوريون واللبنانيون : 47

الطلبة البحرانيون (البحرينيون) والقطيفيون : 20

المجموع الكلي هو (1954) طالباً. وهذا العدد يختلف باختلاف فصول السنة والظروف(1).

ثم استمرت بعد ذلك أعداد الحوزة العلمية في النجف الأشرف تتزايد باطراد حتى وصلت إلى ما يقرب من عشرة آلاف طالب في فترة ما من فترات مرجعية الإمام السيد محسن الحكيم المتوفى عام (1390 ه/1970م)، فقد تمكن سماحته (قدّس سِرُّه) خلال عشر سنوات أن يرفع عدد العلماء وطلاب العلوم الدينية في النجف الأشرف من (1500) إلى أكثر من (7000) طالب وهذه نسبة هائلة كما نلاحظ تصل إلى حوالي (500 ٪) في هذه الفترة وهي نسبة قياسية في حركتنا الحوزوية العلمية في تاريخنا المعاصر.

ص: 270


1- المصدر السابق نفسه.

إن الحوزة لو كانت سائرة بنفس المنهاج الذي سارت فيه أيام مرجعية الإمام الحكيم قبل مجيء النظام البائد لكان من الممكن أن يصل عددها إلى أربعين ألف دارس و مدرس، وكان من الممكن أن يتطور الجانب الكيفي بهذا المستوى وبهذا الشكل(1) ولعل الحد من هذا النمو الكبير في الحوزة العلمية والخشية من إمكانية التسارع في تطورها الكيفي ورصد تأثيرات هذا النمو المحتملة على الوضعين الداخلي والإقليمي والخارجي كان سبباً من بين أسباب أخرى أدّت إلى تكالب الأنظمة الطائفية في العراق بتشجيع ودعم إقليمي وخارجي كبير والسعي إلى تفكيك هذه المؤسسة العلمية والإسلامية قدر الإمكان بشتى الوسائل ابتداء من التصفيات الجسدية إلى الاعتقالات إلى التسفير الجماعي إلى غيره مما هو معروف و مشهور (ينظر الملحق الحادي عشر).

ومع تزايد الضغوط الأمنية على الحوزة بدأت أعدادها بالتناقص تدريجيا وبخاصة من غير العراقيين، فقد وجدت ما يشير إلى أنها كانت بحدود ( 8000 أو. 10000 طالب) في بداية الثمانينات، وهو ما ورد في تقرير المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة المستر ماكس فان شتويل، ثم تناقص عدد طلاب الحوزة كثيرا فوصل إلى ما يقدر ب (2000 طالب) بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ أي في بداية التسعينات، ثم استمر العدد يتناقص تدريجيا نتيجة الظروف القاسية كما سيأتي حتى وصل إلى حدود (800 طالب) فقط قبل الانتفاضة الشعبانية عام (1411 ه/ 1991م)، بل أقل من ذلك كثيرا حين اندلاعها.

بيد أن مؤشرات تنامي العدد بعد سقوط نظام الدكتاتور عام (1424 ه/ 2003م) بدأت بالتصاعد تدريجيا بعد زوال الخوف المرعب من القتل والسجن والأذى والتشريد والتسفير والمقابر الجماعية ليبلغ في (عام 1426ه/2005م) إلى ما يزيد عن (3500 / طالب)، عدا المبتدئين حاليا بالدراسة، من الطلاب والطالبات اللواتي بدأت تنشط

ص: 271


1- موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية. سابق : 1/ 378.

حلقاتهن الدراسية الحوزوية نشاطا ملفتا للنظر، بل متميزا.

أما في عام (1433 ه/ 2012م) فقد وصلت أعداد الحوزويين إلى ما يناهز تسعة آلاف أستاذ وأستاذة، وطالب وطالبة، بينهم - عدا المراجع العظام - العشرات من أساتذة (البحث الخارج) و(السطوح العالية الكفاية والمكاسب)، وفقهم اللّه لكل خير، ونفع بهم إنه خير مسؤول ومرجو (ينظر الملحق الثاني عشر)

إن عدد طلاب حوزة النجف الأشرف مرشح للصعود خلال الأعوام المقبلة كما أتوقع إن تهيأت لهم مدارس أو أماكن لسكنهم، وهي مشكلة طالما عانى منها طلبة الحوزة ولا زالت بحاجة إلى حل جذري، وإن لم يطرأ على وضعهم الأمني – وهو الأهم- طاريء يهدد دراستهم وتدريسهم، بل وجودهم وحياتهم بالخطر الشديد، وهو ما أسأل اللّه أن لا يكون، وأبتهل اليه أن يبعد شر التكفيريين ومن لفّ لَفَهُم عنهم وعن العراق وأهله المؤمنين إنه سميع مجيب.

هذا وهناك حوزات دينية أخرى رجالية ونسائية بدأت تنشط في محافظات العراق ومدنه وأقضيته وقصباته المختلفة، لم أتطرق اليها كونها خارج نطاق هذا البحث الخاص بحوزة النجف الأشرف، عسى أن أوفق في فترة أخرى لدراستها دراسة ميدانية، لما لذلك من أهمية حالية ومستقبلية على صعيد الواقع العراقي الداخلي والعربي والإسلامي.

ص: 272

المبحث الثاني: أماكن دراسة طلاب حوزة النجف الأشرف

تتوزع أماكن دراسة طلاب الحوزة عادة وتتنوع بين أماكن عدة يأتي في مقدمتها الصحن الحيدري الشريف لما يضفيه جوه الروحي على الطالب والأستاذ والدرس من دفء في البصيرة مميز وتفتتح على الاستيعاب العلمي مشهود.

وقد عاد الصحن الحيدري الشريف لاحتضان دروس أساتذة الحوزة العلمية في (حسينية المدرسة الغروية) بداية هذا العام (ينظر الملحق الثالث عشر) أو في بعض غرفه التي ضمت أجداث كبار علمائها (ينظر الملحق الرابع عشر)، وبدأت أجواء الصحن الشريف تتعاهدها الدروس العالية لعلوم النحو العربي والفقه وأصوله ضاجة بالحوارات العلمية منذ الصباح الباكر من كل يوم دراسي وحتى الظهيرة.

وقد عمر الصحن الحيدري الشريف بالعدد الغفير من الطلبة والباحثين وبخاصة في فترات الضيق والشدة والعوز المادي ففي القرن التاسع عشر مثلا كانت الأوضاع الاقتصادية في العراق بشكل عام وفي المدن الشيعية بشكل خاص سيئة للغاية بسبب كون العراق بؤرة صراع في تلك الفترة من ناحية، ومن ناحية أخرى أكثر تأثيرا بسبب وجود الحكومة السنّية العثمانية، فكانت هذه المناطق من أكثر مناطق الدولة العثمانية تردیا اقتصاديا، ومن أكثرها إهمالا، هذا كله من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الحوزة العلمية نفسها كانت تعيش أوضاعا اقتصادية سيئة وبالتالي فلم يكن من اليسير على الحوزة بناء مدارس تقام فيها الدروس فكانت تستخدم هذه الصحون الشاسعة مراكز

ص: 273

للتدريس(1).

فمن غرف الصحن الشريف وأواوينه الأربعة والأربعين وأكثرها ارتيادا منهم إيوان السيد الحبوبي وإيوان السيد اليزدي إلى الجوامع وقد تجاوزت في المحلات القديمة وحدها من النجف الأشرف الثمانين مسجداً وجامعاً، ولعل من أقدم هذه الجوامع التي اتخذت مراكز للعلم والبحث والمحاضرة جامع (عمران بن شاهين) الذي شيد في أواسط القرن الرابع الهجري ولا زال مكانا للبحث والتدريس، وقد كنت أشاهد فيه مرارا المرجع الأعلى في وقته سماحة السيد محسن الحكيم (قدّس سِرُّه) المتوفى عام (1390 ه/ (1970م) يلقي فيه أبحاثه العليا على طلبته، ولا زال المسجد عامرا بالبحث والتحصيل العلمي (ينظر الملحق الخامس عشر)، ومن الجوامع المهمة أيضا جامع (الخضراء) وهو من المساجد القديمة البعيدة،العهد، وقد كنت أشاهد المرجع الأعلى في حينه سماحة السيد الخوئي قتل المتوفى عام (1412ه / 1992م) مرارا يلقي فيه أبحاثه، ثم استمر من بعده المرجع الأعلى اليوم السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه) يحاضر فيه حتى أغلقته سلطات العهد الدكتاتوري الصدامي الظالمة بحجة التعمير فقطع سماحته مجبراً تدريسه فيه.

وبعد سقوط النظام البائد اعيد تعمير جامع الخضراء والحقت به مقبرة لسماحة المرجع ألأعلى السيد الخوئي (قدّس سِرُّه) واعاد الجامع يحفل بطلاب الحوزة العلمية يدرسون فيه ويتدارسون (ينظر الملحق السادس عشر).

ومن الجوامع الشهيرة بالبحث والمناظرة كذلك جامع (الشيخ الطوسي)، وكانت داراً لشيخ الطائفة الطوسي عندما هاجر إلى النجف عام (448 ه/ 1056 م) ومنتدى للعلماء والدارسين في زمانه وقد كان المرجع الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني يلقي بحوثه الغاصة بالطلاب على سطحه لسعته.

ص: 274


1- مؤسسة الدراسة الدينية الشيعية في النجف وكربلاء خلال القرن التاسع عشر من منظور غربي، مائير لدفك أنموذجا. محمد عبد الهادي الحكيم (مخطوط): 15-16.

ولا زال جامع الشيخ الطوسي (قدّس سِرُّه) عامراً بالطلاب يستمعون فيه إلى محاظرات اساتذتهم ومدرسيهم (ينظر الملحق السابع عشر).

ومن الجوامع التي يعمرها طلاب الحوزة العلمية للبحث والتحصيل العلمي كذلك جامع الجواهري حيث مرقد المرجع الديني الاعلى في زمانه سماحة الشيخ محمد حسن الجواهري (قدّس سِرُّه) (ينظر الملحق الثامن عشر).

ومن الجوامع المعروفة بكثرة ارتياد الطلاب لها كذلك جامع (الشيخ الأنصاري)، وكنت أشاهد فيه المرجع سماحة السيد الخميني (قدّس سِرُّه) يلقي فيه أبحاثه ومحاضراته وخطبه التغييرية كذلك، ولازال هذا الجامع غاصاً باساتذة الحوزة العلمية واساتذتها يرتادونه للدراسة والتدريس. وغير هذه المساجد والجوامع كثير.

ويعدُّ (المسجد الهندي) من أشهر جوامع الدرس والتدريس والمباحثة في النجف الأشرف اليوم وقبل اليوم ومن أكثرها ازدحاما بالحلقات البحثية والدراسة والتدريس والمراجعة والتمحيص (ينظر الملحق التاسع عشر)، وقد تشرفت بالدراسة والمباحثة بين جنباته وقتا ما من دراستي الحوزوية القليلة.

ويحدثنا المؤرخون أن الحاج خان محمد أحد صلحاء الهند في أوائل القرن الثالث عشر الهجري هو الذي شيد هذا الصرح العبادي والعلمي الكبير، واستمر بعده العلماء الأعلام والمحسنون الكرام على إدامة عمارته وتجديدها وكان للمرجع الأعلى في وقته الإمام السيد محسن الحكيم المتوفى في (1390 ه/ 1970م) ثواب إصلاح عمارته وتجديد بنائها وإدامته، كما شيد مكتبته العامة العامرة ( مكتبة الإمام الحكيم العامة) خلف الجامع الكبير بحيث تنفتح بعض أبوابها عليه مثلما تنفتح عليه مقبرته (قدّس سِرُّه) ومقبرة أبنائه المظلومين من جهة، ومقبرة أخرى كبيرة خصصها لأساتذة وطلبة أسرته

ص: 275

العلمية (آل الحكيم)، حتى أن الداخل للدرس لا يدخل اليها إلّا من ساحة مسجد الهندي الواسعة كما لو كانت من بعض أواوينه، ولا زلت أذكر أن سيدي الوالد (قدّس سِرُّه) كان يلقي فيها دروسه في أصول الفقه على مستوى (البحث الخارج) بعد صلاة المغرب من كل يوم دراسي وحين وافاه الأجل ثوى فيها، وهكذا استمرت مقبرة الأسرة باحتضان الدروس العلمية حتى يوم الناس هذا (ينظر الملحق العشرون)

ومن أماكن الدراسة الحوزوية كذلك إضافة لغرف الصحن الحيدري وأواوينه وجوامعه المدارس الدينية وهي كثيرة في القرن الماضي، خلافا لما كان عليه الحال في القرن التاسع عشر كما سيأتي، وقد بنيت مدارس حوزوية تتبع أنظمة خاصة بها من أمثال مدرسة (دار الحكمة) التي أسسها المرجع الأعلى في عصره سماحة السيد الحكيم (قدّس سِرُّه) و دار العلم التي أسسها المرجع الأعلى في عصره سماحة السيد الخوئي (قدّس سِرُّه)، وقد فجّر المدرستين النظام البائد بعد الانتفاضة الشعبانية عام (1411 ه/ 1991م) الأولى بالديناميت بعد أن صادر مكتبتها العامرة وهدّ الثانية وصادر كتبها كذلك، وهناك غيرهما الكثير من المدارس العامرة اليوم بطلاب العلم كما سيأتي.

ومن أماكن الدراسة الحوزوية كذلك (الحسينيات) وهي كثيرة ومنها (الحسينية الشوشترية) التي هدمت زمن النظام البائد أيضا، وكنت أشاهد فيها المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدّس سِرُّه) يلقي فيها أبحاثه ودروسه.

ومنها حاليا حسينيات كثيرة أخرى منتشرة في مدينة النجف الأشرف القديمة خاصة ك(الحسينية الأعسمية) (ينظر الملحق الحادي والعشرون) و(حسينية آل محي الدين) (ينظر الملحق الثاني والعشرون) وغيرهما كثير ويرتاد الطلبة والأساتذة الحسينيات لإلقاء بحوثهم ومحاضراتهم.

ص: 276

وربما يتخذ الأستاذ وطالبه من بيت الأستاذ أو بيت آخر أو مكتب ما من المكاتب العلمية مكانا لدرسهما أو مناقشتهما العلمية (ينظر الملحق الثالث والعشرون).

وقد فتحت عينيّ على عمي المرحوم المجتهد المعذب سماحة السيد محمد حسين الحكيم (قدّس سِرُّه)، وعلى سيدي الوالد (قدّس سِرُّه)، ثم على ابن عمي الشهيد السيد محمد رضا السيد محمد حسين الحكيم، وهم يلقون دروسهم في مكتبة بيتنا الملحقة بقاعة المجلس الكبير (البراني) أو يلقونها أحيانا داخل قاعة المجلس الكبير نفسه الواقع في محلة الحويش إحدى المحلات الأربع المكونة لمدينة النجف الأشرف القديمة، وهكذا غيرهم ممن كنت أشاهدهم من أساتذة الحوزة العلمية ومدرسيها الكثر.

ص: 277

ص: 278

المبحث الثالث: المدارس (الأقسام الداخلية ) لطلاب حوزة النجف الأشرف سابقاً وحالياً

توضیح:

أشار بعض الباحثين(1) إلى بلوغ مدارس طلاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف إلى (53) مدرسة حوزوية بنيت لتكون مكانا لدراسة الطلاب وسكنا مجانيا لغير المتزوجين منهم في آن واحد، حيث تتوفر في هذه المدارس أغلب المستلزمات الضرورية لسكن متواضع مكون من غرفة صغيرة تتسع لأثاث الطالب وأمتعته وكتبه الدراسية وأوراقه وملازمه وما إلى ذلك من شؤون حياته المختلفة، وبخاصة إذا كان من خارج مدينة النجف الأشرف، تخفيفا من عبء الدراسة ونفقاتها التي ربما تكون قاسية على الطالب من دون سكن مبذول له.

فمنذ ألف سنة والنجف مزدحمة بالطلاب يأتون اليها من مختلف الأصقاع عربية كلبنان والمملكة العربية السعودية والكويت والبحرين وسوريا وعمان ودولة الإمارات العربية المتحدة وغيرها ودول غير عربية كالهند،والتبت والأفغان، وبلوجستان، وتركتسان،وقفقاسية وإيران وأفريقيا الشرقية حتى بلغ عدد الطلبة المهاجرين للدراسة إلى النجف الأشرف في فترات الازدهار حوالي خمسة آلاف طالب(2).

إن لكل مدرسة من مدارس النجف الدينية القديمة منها والحديثة أنظمة خاصة تعينها صيغة الوقف، لأن جميع هذه المدارس قد شيدت من الموقوفات التي وقفها العلماء، أو المحسنون على طلاب الدين، ولكل مدرسة شروط خاصة يقبل بموجبها

ص: 279


1- ينظر : موسوعة النجف الأشرف جامعة النجف الدينية: 6/ 191
2- ينظر المصدر السابق : 144

اسكان الطلاب في غرفها

وأغلب سكان هذه المدارس من الغرباء الذين يؤمون النجف بقصد الدراسة

ووصول مرتبة الاجتهاد وقد يقضون فيها عشرات السنين حتى يبلغوا المرام ويعودوا إلى بلدانهم مزودين بالاجازات التي يمنحها لهم اساتذتهم من المراجع الروحانية الكبرى.

ومنذ ألف سنة والنجف مزدحمة بالطلاب الذين يأتون اليها من مختلف الأصقاع،،كالهند،والتبت،والأفغان،وبلوجستان،وتركتسان،وقفقاسية، وايران وافريقيا الشرقية، ولبنان وسوريا ودول الخليج وغيرها، فضلا عن المدن العراقية.

وحين يقبل الطالب في المدرسة يعطى غرفة فيها وتكون هذه الغرف في بعض المدارس مفروشة ومجهزة بالكهرباء وذات منح نقدية تمنح للطالب في كل شهر أو في كل موسم، وموائد تقام على حساب المدرسة في أوقات معينة ولبعض الطلاب في مختلف المدارس مخصصات يومية من الخبز يتناولها من الخباز، وراتب شهري تدفعه له المراجع الدينية كل حسب مؤهلاته، وحسب إمكان المرجع الديني الذي يساعده، ومعظم طلاب هذه المدارس هم من الذين لم يتزوجوا بعد، ولم تخل هذه المدارس من طلاب نجفيين إلى جانب الطلاب الغرباء ممن لا طاقة له على توفير مثل هذا الجو في بيته سواء كان متزوجاً أو غير متزوج، لأن معظم المدارس لا تفرق بين الطالب الغريب وغير الغريب، ولكل طالب مفتاح يفتح به باب المدرسة متى جاء، وحين يغلق باب الحرم في المشهد المقدس ليلا يكون الطلاب غالباً قد أموا مدارسهم، وترى معظم الغرف في هذه المدارس مضاءة إلى وقت متأخر من الليل.

والطالب الغريب هو الذي يعد بنفسه طعامه في غرفته، وغالباً ما يكون هذا الطعام مؤلفاً من الخبز والتمر واللبن، وقد روى الراوون روايات كثيرة عن عدد من كبار

ص: 280

العلماء النابغين الذين عاشوا في مثل هذه المدارس على الخبز وحده، وكثير منهم من كان يطوي اليوم واليومين دون أن يحصل على قوت يومه ملتذاً بالصبر، والفناء فيما هو فيه من التتبع. وهكذا كانت بالاجمال حياة هذه الطبقة من طلاب العلم، وسكان المدارس ولم تزل تجري على هذه الوتيرة مع شيء من الفروق القليلة.(1)

ويصف لنا الدكتور فاضل الجمالي تصميم وهندسة هذه المدارس فيقول: إن كل مدرسة من هذه المدارس تتكون على الأغلب من باحة مفتوحة على شكل مربع أو مستطيل، وفي وسطها بركة ماء محاطة بالأشجار كما تحاط هذه الباحة المربعة بغرف يسكنها طالب أو طالبان ويكون فيها الدور الأرضي مرتفعا بما يقرب المتر عن الأرض، وقد زرت بعض غرف الطلاب ولم تكن فيها أسرّة، وكان الطلاب ينامون على فرش يمدونها فوق السجاجيد والحصران.

أما تهويتها فتتم إما عن طريق الشبابيك أو عن طريق المداخن و(يقصد بها ما يصطلح عليه في عرف النجفيين بالبادكير، وهو منفذ هوائي يوصل بين الغرفة أو السرداب وسطح المدرسة) وبعضها الآخر لم يكن فيها تهوية إلّا من الباب.

وتحتوي بعض هذه الغرف على تدفئة متنقلة، كما أن معظم المدارس تحتوي على سراديب ومخازن تحت الأرض يلجأ اليها الطلبة أثناء الصيف القائظ، وبعض سراديب النجف تكون أكثر من دور واحد، وكلما نزل الشخص إلى عمق سرداب أو اثنين أو ثلاثة فإن البرودة تزداد بشكل تدريجي حتى أنه يحتاج إلى ملابس ثقيلة في السرداب الثالث إذا أراد أن يحتمي منها.

كما وصف لنا الشيخ الخليلي تصميم هذه السراديب فقال : لقد روعي في هندسة المدارس العلمية في النجف طبيعة البلد فكان لابد من حساب (للسراديب) في أغلب

ص: 281


1- مدارس النجف القديمة والحديثة. سابق : 4 وما بعدها.

أبنية المدارس وتقوم هذه السراديب في جهة واحدة من عمارة المدرسة أو جهتين أو الجهات الثلاث أو الجهات الأربع من العمارة ينزل اليها بواسطة سلالم، وتسمى بالسراديب الفوقانية في مصطلح النجفيين، وفي بعض المدارس الأُخرى سراديب تقام تحت السراديب الفوقانية وهي ما تسمى بالسراديب (نيم سن) والكلمة فارسية معناها منتصف (السن) والسن طبقة من الرمل المتحجر ينحت فيه الناحت سرداباً آخر، وهنالك من السراديب ما هو أعمق من (النيم سن) ويسمى بسرداب (السن) ويحفر (للسن) أو (للنيم سن) في وسط المدرسة حفيرة على هيئة متوازي الأضلاع بقطر مترين أو أقل من ذلك وفي عمق عشرين متراً أو أقل من ذلك لينفذ هذا الحفر من متوازي الأضلاع إلى وسط السرداب بقصد ايصال النور وسحب الماء البارد إلى الأعلى كما تحيط بالسراديب من أطراف أعاليها شبأبيك لنفوذ النور والهواء، فضلا عن عدد من المنافذ الهوائية المتصلة من أعلى سطح العمارة بالسراديب الفوقانية وهي التي تسمى (بالبخاريات) ثم تبنى هذه السراديب في الغالب بالآجر وتزخرف وقد تترك سراديب السن على حالها وهي منحوتة من طبقة السن التي تشبه الصخور أو تزين جدرانها بالآجر وقد تزين الجدران وأرض السراديب بالكاشاني.

وكثيراً ما تفتح في السراديب منافذ تتصل ببئر المدرسة إذ المفروض أن يكون في كل بيت وفي كل عمارة بئر ماء تتصل بالبئر المجاورة لها وهذه تتصل ببئر أسخرى. وهكذا حتى تتجمع المياه في بئر كبيرة تستمد مياهها من نهر الفرات ويتحول السكن في الصيف في وسط البيت أو وسط المدرسة إلى هذه السراديب وتتم فيها المطالعة وتناول طعام الغداء والقيلولة وقد تمسي في بعض ليالي الصيف عند اجتياح العواصف الرملية المدينة ملاذاً للطلاب يقضون فيها الليل نياماً(1).

ولقد أحصيت المدارس في (عام 1385 ه/ 1965م) فكانت اثنتين وثلاثين

ص: 282


1- المصدر السابق: 10 وما بعدها.

مدرسة فيها اثنتان و خمسون وتسعمائة غرفة.

وربما تعد المدرسة (المرتضوية) التي يظن أن الرحالة ابن بطوطة قد زارها حينما زار النجف سنة (737ه / 1337 م) هي أقدم مدرسة من مدارس الحوزة العلمية في النجف الأشرف كما ورد ذكرها أيضا في نهاية مخطوطة لمحمد بن علي الجرجاني ختم كاتبها كتابتها سنة (720 ه / 1320م) وفرغ من نسخها في المدرسة المرتضوية في النجف الأشرف ناسخها حيدر بن علي بن حيدر سنة (762ه / 1361م)، ثم تأتي بعدها (المدرسة السليمية) أو مدرسة المقداد السيوري الفقيه الحلي صاحب كتاب كنز العرفان في فقه القرآن المتوفى عام (828ه / 1328م) حيث أنشئت في أوائل القرن التاسع الهجري، ولا تزال قائمة لليوم، وقد ورد ذكرها في ختام نسخة من كتاب مصباح المتهجد لشيخ الطائفة الطوسي قد فرغ منها في مدرسة المقداد السيوري ناسخها عبد الوهاب السيوري سنة (832 ه/ 1332م)، أعقبتها (مدرسة الشيخ عبد اللّه اليزدي) المتوفى عام (981 ه/ 1573م) حيث أنشئت في منتصف القرن العاشر الهجري في المحلة المعروفة بمحلة المشراق، تلتها (المدرسة الغروية) التي أنشأها السلطان عباس الصفوي المتوفى عام (1038ه/1629م) في أوائل القرن الحادي عشر الهجري في الزاوية الشرقية من الصحن العلوي الشريف، ثم (مدرسة الصدر) التي أنشأها الوزير محمد حسين الأصبهاني المتوفى عام (1239 ه/ 1824م) في نهاية السوق الكبير في سنة (1226 ه/ 1811م)، ثم (مدرسة المعتمد) التي أنشئت في محلة العمارة قرب قبور المشايخ من آل كاشف الغطاء قبل سنة (1262ه / 1846م)، (فالمدرسة المهدية) التي شيدت في محلة المشراق سنة (1284 ه / 1867م)، (فمدرسة القوام) التي بنيت في محلة المشراق سنة (1300 ه/ 1883م)، (فمدرسة الإيرواني) التي أسست في محلة العمارة سنة (1305 ه/ 1887م)، (فمدرسة الخليلي الكبرى) في محلة العمارة سنة (1316ه

ص: 283

1898م)، (فمدرسة البخاري) في محلة الحويش سنة (1319 ه/ 1901م)، (فمدرسة الآخوند الكبرى) في محلة الحويش كذلك في سنة (1321 ه/ 1903م)، (فمدرسة الخليلي الصغرى) في محلة العمارة سنة (1322 ه/ 1904م)، (فمدرسة القزويني) في محلة العمارة أيضا سنة (1324 ه/ 1906م)، (فمدرسة البادكوبي) في محلة المشراق سنة (1325 ه/ 1907م)، (فمدرسة الآخوند الوسطى) في محلة البراق سنة (1326 ه/1908م)، (فمدرسة اليزدي الكبرى) و(مدرسة الشربياني) في سنة (1327 ه/1909م)، (فمدرسة الهندي) و(مدرسة الآخوند الصغرى) في محلة البراق سنة (1328 ه/ 1910م)، (فمدرسة السيد عبد اللّه الشيرازي) في محلة الجديدة سنة (1372 ه/ 1953م)، (فمدرسة البروجردي الكبرى) في الجانب الشرقي من الصحن العلوي المطهر سنة (1373 ه/ 1954م)، (فالمدرسة الطاهرية) سنة (1377 ه/ 195م)، (فالمدرسة اللبنانية) في خان المخضر سنة (1377 ه/ 1958م)، (فمدرسة الرحباوي) في سنة (1378 ه / 1959م، (فمدرسة البروجوردي الصغرى) في سوق العمارة من محلة العمارة سنة (1378/ 1959م)، (فجامعة النجف الدينية) في حي السعد سنة (1382 ه/ 1963م)، و(مدرسة الجوهرجي) في شارع المدينة سنة (1382ه- 1963م) ايضا، (فمدرسة عبد العزيز البغدادي) في ساحة ثورة العشرين من جهة طريق كربلاء سنة (1383ه/ 1964م)، (فالمدرسة الشبرية) في محلة البراق سنة (1385ه/ 1966م)، و (دار الحكمة) في شارع زين العابدين سنة (1385 ه / 1966م)، (فمدرسة البهبهاني) في شارع زين العابدين سنة (1390 ه/ 1971م)، وكذلك (مدرسة الأفغانيين) في محلة الجديدة و(مدرسة السيد الخوئي) في دورة الصحن من جهة العمارة في سنة (1395 ه/ 1976م)، وقد هدمت قبل أن يكمل بناؤها، و(مدرسة الكلباسي) في سنة (1395 ه/ 1976م)، و(مدرسة البغدادي) في

ص: 284

شارع أبي صخير، وهي غير مدرسة البغدادي المتقدمة، و(مدرسة الإمام الحكيم) في شارع أبي صخير أيضا، و (المدرسة الأزرية) في خان المخضر، و(مدرسة أمير المؤمنين)، و (مدرسة الحسن بن علي)، (والمدرسة الأحمدية).

ولعل من أجمل المدارس القديمة (مدرسة الخليلي الكبرى) التي أسسها الميرزا حسين الخليلي في محلة العمارة في النجف عام (1316 ه/ 1898م)، وتشتمل على ست وأربعين غرفة من طابقين مقامة على مساحة تقدر بستمائة متر مربع متخذة شكل بناء مربع، وقد كسيت جميع جدرانها بالقاشاني المنقوش بريشة فنان مبدع، محولا إياها إلى لوحة هندسية فنية رائعة، حيث هدمها نظام صدام البائد مع ما هدم من المدارس والجوامع والحسينيات والمكتبات ودور العبادة ومنازل العلماء الكبار ومقابرهم ومنازل المجتهدين والمجاورين الواقعة ما بين الصحن الشريف ومرقد العبد الصالح (صافي الصفا) مقررا بدلها في محاولة لطمس آثار المدينة التاريخية ومنازل العلماء الأعلام ومحال تدريسهم ومكتباتهم ومدارسهم فنادق سياحية ومرآب للسيارات ولكن عمر النظام الصدامي قصر عن إتمام مشروعه التخريبي فكان أن هدمت المحلة بآثارها التاريخية ودياراتها ومكتباتها ولم تنجز الفنادق والمرآب.

أما المدارس الدينية الحديثة فلعل أجملها بناء وعمارة (جامعة النجف الدينية) و(دار الحكمة) التي شيدها المرجع الأعلى في زمانه الإمام السيد محسن الحكيم (قدّس سِرُّه) بطوابق ثلاثة ضمت بحدود مائة وخمسين غرفة عدا القاعات في هندسة فريدة تربعت فوق قطعة أرض مساحتها 714 مترا مربعا عام (1385 ه/ 1965م)، ثم اقتحمتها وفجرتها قوات النظام البائد بعد قصفها النجف الأشرف بالمدافع الثقيلة والصواريخ ثم اقتحمتها بالآليات الثقيلة والدبابات والمجنزرات ما أدى إلى القضاء على الانتفاضة الشعبانية الجماهيرية عام (1411ه/ 1991م) ثم تفجير هذا الصرح العلمي والمعماري الرائع.

ص: 285

المدارس الدينية المشغولة في هذه السنة (2011م / 1432 ه).

أما وقد وصل بي الحديث إلى هذا الموضع فإنه ليحسن بي أن أضيف بأن أكثر المدارس الدينية المشغولة في العام (2011م / 1432ه) هي المدارس التالية:

مدرسة اليزدي، ومدرسة الآخوند الكبرى، ومدرسة الآخوند الوسطى، ومدرسة القوام، ومدرسة القزويني، والمدرسة الهندية ومدرسة الصدر الأعظم، ومدرسة أمير المؤمنين، ومدرسة البروجوردي، ومدرسة الحسن بن علي، والمدرسة اللبنانية، والمدرسة الأحمدية، وهناك غيرها لا يسع المجال لذكرها.

ص: 286

المبحث الرابع: برنامج يوم عمل لطلاب في حوزة النجف الأشرف

كثيرا ما يبتدئ طالب الحوزة العلمية المشتغل المجد في التحصيل يومه الدراسي كما كنت أرى وألحظ وأشاهد من بعد طلوع الشمس وربما قبل ذلك، ويواصل ذلك حتى الزوال دارسا أو مدرسا، فإذا ما صلى الظهر والعصر وطعم واستراح، عاد ثانية بعد العصر للدرس والمذاكرة، فإذا غربت الشمس تفرغ للصلاة والذكر، فإذا انتهى من صلاته وتعقيبه تهيأ للقيام بما تفرضه عليه الأعراف والعلاقات الاجتماعية والمستحبات الشرعية من مواصلة للمؤمنين ومشاركتهم في أفراحهم وأحزاناتهم، ومن حقوق تفرضها الأبوة والبنوة والأخوة والرحم، وواجبات تستدعيها الصحبة والصداقة والجيرة، وأمثالها، فإذا أتم الطالب ما ابتدر اليه من واجبات اجتماعية وأسرية عاد ثانية لكتابه ودرسه و و أستاذه، أو لتلميذه وإشكاله وإشكالات طلاب الحوزة العلمية كثيرة حتى إذا فرغ من ذلك كله وأخذ قسطا من الراحة وتناول ما جاد به ربه عليه من مأكل ومشرب، نشط لكتابة درسه الفائت والتحضير لقابل يومه الآتي، وهكذا دواليك. وليس غريبا أن تسمع من بعضهم قوله بأننا كنا ندرس في اليوم (14) درسا، فلم يكن لنا شغل من أول الصبح إلى الليل سوى الدراسة والمطالعة والبحث(1).

يقول الباحث الدكتور فاضل الجمالي بعد زيارته الميدانية البحثية للنجف سنة 1957/ 1376ه : سألت أحد الطلبة وهو الشيخ محمد رضا شمس الدين أن يوضح لي منهاجه اليومي فذكر لي أنه ينهض صباحا قبل طلوع الشمس بنصف ساعة ليؤدي

ص: 287


1- النجف الأشرف مهد العلم والفضيلة. سابق : 71.

صلاة الفجر، وبعد شروق الشمس يحضر (بحث الخارج) على يد السيد أبي القاسم الخوئي في الفقه وبعدها يتجه إلى تدريس البلاغة والفلسفة الإسلامية في كتاب يسمى (شرح الباب الحادي عشر) للمقداد السيوري، عندها يحضر درسا فقهيا آخر في (بحث الخارج) للشيخ عباس الرميثي يعالج جانبا من شرح كتاب شهير هو كتاب (الشرائع)، ثم تأتي المحاضرة الثالثة (لبحث الخارج) في مباحث الزكاة من الفقه من نفس المصدر. ثم يستمر بالحضور على يد السيد علي الفاني الأصفهاني في محاضرات (البحث الخارج) الأخرى.

وهو مع كل ذلك كان عليه أن يستعد للدراسة والتحضير بنفسه وألّا يتخلف عن مواعيد الصلوات وما يحتاجه لشؤون حياته الخاصة وبالتأكيد فإن هذا البرنامج هو برنامج مليء بالحيوية. وبعبارة أخرى فإن الطالب يمكن أن يتعب نفسه إذا رغب أو يتركها وشأنها إذا كان ذلك رائقا له. وبالنتيجة لا توجد أي قوة خارجية تجبر الطالب على أداء مهماته سوى ما تمليه رغبته عليه(1).

لقد سألت أحد الطلبة الحاليين المشتغلين في حوزة النجف الأشرف وهو الشيخ علي جاسم البهادلي عن يوم عمله الدراسي فكتب لي في الثالث عشر من ربيع الأول سنة 1428ه / 2007م ما يأتي: استجابة لما ندبني إليه بعض الإخوان من تدوين ما وفقني اللّه إليه مما دأبت على فعله في ما يتعلق بطلب العلم في حوزتنا المباركة وكيفية توزيع الوقت في اليوم والليلة إلى تمام الأسبوع بما يمثل النهي الذي اعتده من تحصيل المطالب العلمية وأداء التكاليف الشرعية فأقول معتذرا إن يكن غير واف بالنصاب :

دأبت بفضل اللّه تعالى على الاستيقاظ قبل صلاة الصبح بما يسع صلاة الليل التي ورد الحث عليها من الشرع الشريف بما لا يسع المجال لاستقصائه وأداء نافلة الفجر ثم الاشتغال ببعض الأذكار التي وردت بين صلاة الصبح ونافلتها حتى أذا حان وقت

ص: 288


1- جامعة النجف الدينية. سابق: 17-18.

فضيلة الواجبة صليتها جماعة بأهلي ثم عقبت قليلاً مستذكرا مصيبة سيد الشهداء فينهل له دمعي وينكسر لمصابه قلبي وهو أدنى ما ينبغي له (عَلَيهِ السَّلَامُ) ممن صدق في حبه حتى أذا ما لملمت نفسي غدوت بها إلى مذاكرة البحث في الفقه والأصول تقريراً ومطالعة ثم اتجهت بعد ذلك لحضور بحث أستاذنا سماحة السيد محمد رضا السيستاني دامت إفاضاته في خارج الفقه في تمام الساعة السابعة صباحا لأتجه بعد ذلك لحضور بحث أستاذنا لسماحة السيد محمد باقر السيستاني دامت إفاضاته في خارج الأصول في الثامنة إلا ربعا لأغدو بعد ذلك إلى المباحثة مع بعض الأخوة في بحث الفقه عند الثامنة والثلث تقريباً، ثم لأحضر بعد ذلك في تمام التاسعة خيارات المكاسب عند سماحة الشيخ محمد هادي آل راضي دامت إفاضاته، حتى إذا بلغت الساعة العاشرة اتجهت إلى بعض إخوتي من طلبة العلم لألقي عليهم ما شرعت فيه من درس شرائع الإسلام وعند حلول الحادية عشرة يكون موعدي مع بعض إخوتي من طلبة العلم للمباحثة في بحث الأصول.

حتى إذا ما قارب اللقاء المرتقب مع الحبيب الأوحد أسرع قلبي إليه قبل بدني ليغترف من فيض حنانه وينهل من معين إحسانه على حالة لا أرى سواه ولا أرى أنه يرى سواي فأبته ما أبله فلا أكاد انقطع عنه حتى يقطعني التسليم لأعقب بعده ذاكرا وأسجد له شاكرا لما وفقنى لأداء فرائضه ونوافله حتى إذا انفض الجمع خرجت مودعا مولى المتقين ويعسوب الدين مولاي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) منحنيا له بالتبجيل والسلام.

ثم أصل إلى المنزل فاجتمع بالأهل على الغداء فألبث بعض الوقت بينهم ثم لا أملك إلّا أن اجيب بدني إلى قسط من النوم ليوقظني بعد ذلك بعض من معي لأتهيأ إلى صلاة المغرب فأوديها جماعة بالأهل حتى أذا سلمت عقبت قليلا مستذكرا ما أستذكره بعد كل صلاة غالبا من مصيبة سيد الشهداء (عَلَيهِ السَّلَامُ) لينهل دمعي له وهو أقل ما علي له

ص: 289

ثم أصلي النوافل لأدي بعدها صلاة العشاء ونافلتها معقبا بعدها ومستذكرا، ثم بعد الانتهاء أتابع الاخبار في التلفاز ثم أجلس مع الأهل لوجبة العشاء أقوم بعدها الساعة التاسعة لمذاكرة الدروس مستمرا إلى الساعة الثانية عشرة والنصف على تفاوت يسير في بعض الأحيان لأخلد بعدها إلى النوم فأستيقظ على ما دأبت عليه بفضل اللّه تعالى قبل صلاة الصبح بما يسع صلاة الليل ونافلة الفجر والفريضة لاستقبل يوما جديدا بما ودعت به أخاه إلا ليلة الخميس من كل أسبوع فقد أتفرغ عن المذاكرة فيها.

وأما يومي الخميس والجمعة فأحضر درسا في علم الرجال لدى فضيلة السيد محمد صادق الخرسان دامت توفيقاته وأذاكر مع بعض الأخوة بعض من مباحث علم الأصول.

ثم إني أغتنم أوقات التعطيل في أيام الخميس والجمعة والمناسبات الدينية بإكمال ما شرعت فيه من تأليفات حيث أتممت حاشية على بعض كتب المنطق وحاشية على بعض كتب الكلام وآخرها أتممت كتابا عن الحج يقع فوفقني الباري تعالى لإتمامه وصار في متناول الطباعة.

وبعد فهذه سيرة يوم عملي الدراسي ذكرتها وأخالها لا تمثل إلّا أقل النصاب مما كان عليه دأب علمائنا الأعلام الذين أفنوا أيام حياتهم في الجد والاجتهاد حتى بلغوا بفضل اللّه تعالى ما بلغوا مما ليس بأيدينا منه إلّا مقدار ما ينهل الطير من البحر فنشكو إلى اللّه فتور العزم وضعف الهمة ونسأله أن يأخذ بأيدينا إلى المراتب السنية والدرجات العلية وإن قلت البضاعة وكثرت الإضاعة إنه رحيم ودود.

كما أجابني الشيخ هيثم الرماحي الطالب المشتغل في حوزة النجف الأشرف أيضا عن برنامج يوم عمله الدراسي قائلا : " يبدأ يومي الدراسي بالنهوض بعد صلاة الفجر

ص: 290

ثم قراءة دعاء الصباح ودعاء العهد ودعاء اليوم للإمام زين العابدين (عَلَيهِ السَّلَامُ) بعد صلاة الفجر، وأحياناً أراجع بعض الدروس قبل تناول طعام الافطار ومن ثم الخروج إلى الدرس بصحبة مجموعة من أخوتي الطلبة، نجتمع لأستئجار سيارة صغيرة تقلنا إلى مقربة من مكان الدروس.

الدرس الأول (خارج أصول) للأستاذ السيد محمد باقر السيستاني (دام عزه) وذلك في الساعة 6:45 صباحاً. وبعد درس الأصول يبدأ درس المكاسب مباشرة لأجد بعد ذلك القليل من الوقت أجدد في الوضوء وأقوم بزيارة أمير المؤمنين (عَلَيهِ السَّلَامُ).

بعد ذلك وفي تمام الساعة التاسعة صباحاً أبدأ بتدريس الأصول الحلقة الثانية للسيد محمد باقر الصدر (قدّس سِرُّه) ثم أشرع بعد ذلك بتدريس كتاب الشرائع، ثم أتوجه إلى مدرسة السيد اليزدي (قدّس سِرُّه) للتباحث مع اثنين من الأخوة الطلبة بما قررناه من درس البحث الأصولي. لأتوجه بعدها لأداء الصلاة في المسجد الهندي أو أحياناً في مدرسة السيد البروجوردي (قدّس سِرُّه).

أبقى في المدرسة في فترة الظهيرة مع أخٍ لي للتباحث وتقرير بحث الأصول والتحضير لما أجده في المدرسة من أجواء هادئة والابتعاد هذه المدة عن الجو التقليدي والبرنامج الروتيني في البيت وأحيانا أشتري من السوق الطعام القليل للغداء وأحياناً أخرى اتناول طعام الغداء في المدرسة والذي يقدم لطلبة الساكنين فيها.

ثم أتوجه عصراً للدار الواقع في أحد الأحياء الشمالية لمدينة النجف للتحضير للدروس الأخرى والتهيؤ لصلاة المغرب في المسجد القريب من دارنا بعد ذلك أقوم بقراءة نصف جزء من القرآن الكريم بعد صلاة العشاء وأقرأ أحياناً زيارة عاشوراء.

كما استمع أحيانا لبعض المحاضرات الأخلاقية وغيرها عن طريق الانترنت

ص: 291

للعديد من الفضلاء والعلماء ثم أقوم بطباعة ما كتبته من تقريرات بواسطة الحاسوب وأعطي لزملائي التقريرات التي كتبتها أحياناً إن شغلهم شاغل عن ذلك ونفس الأمر ينطبق علي أيضا فأحيانا أستعين ببعض الأخوة الذين قرروا الدرس على الحاسوب وأعوض ما فاتني منها.

ثم اني أحاول قراءة شيء من الكتب غير المنهجية يومياً وأختم يومي بقضاء صلاة يوم واحد لأعوض ما فاتني أيام الصغر.

وقد اعتدت في يوم الأربعاء أن أسافر للتبليغ إلى مدينة الشنافية التي تبعد مسافة 70 كم جنوب النجف والتي هي مسقط رأسي علماً أنني معتمد المرجعية في هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها 50 ألف نسمة.

فأصل عصراً لحسينية الثقلين في الشنافية وتكون صلاة العشائين فيها وبعد ساعة ونصف من إكمال الصلاة يجتمع المؤمنون مرة أخرى في الحسينية المذكورة لألقي أنا وأحد الأخوة المشائخ أو السادة الذين اصطحبهم معي لمدينتي لإقامة مجلس حسيني تطرح فيه غالبا العديد من المطالب الأخلاقية والعقائدية والفقهية حيث يجيب الضيف المحاضر عن أسئلة الشباب الذين يحفّون به خصوصاً إنني أحضر أحيانا معي بعض الأخوة من مكتب الاستفتاءات التابع لمكتب آية اللّه العظمى السيد علي السيستاني (دام ظلّه) ليجيب عن تساؤلاتهم المتعددة.

كما اعتدت أن أقيم الصلاة ظهر يوم الخميس في مسجد الإمام علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) في الصوب الآخر من مدينة الشنافية لأن هذا المسجد تؤمه مجموعة طيبة أخرى من المؤمنين سبق أن قمت بتدريسهم قبل سنوات الفقه والعقائد والأخلاق ودأبت على تعاهدهم وإلقاء محاضرة عليهم بين الفرضين من الصلاة الواجبة.

ص: 292

بعد ذلك أقيم صلاة العشائين في مسجد الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وفيه ثلة طيبة مثقفة من المؤمنين علماً بأن بداية إمامتي لصلاة الجماعة كانت في هذا المسجد حتى إذا انتهت الصلاة توجهت صوب كربلاء لزيارة الإمام الحسين (عَلَيهِ السَّلَامُ) وأحيانا ألقي على جموع المصلين محاضرة قصيرة بين الفرضين. هناك.

أعود في التاسعة إلى حسينية الثقلين في الشنافية لقراءة دعاء كميل وشرح فقرة من فقراته ثم أقوم بشرح بعض المطالب الفقهية من الرسالة العملية وفي هذه الأيام يأتي العديد من المؤمنين لأقوم بقضاء حاجاتهم عن طريق المساعدة المالية أو إجراء المصالحة في شأن الخمس أو حل بعض المشاكل المتعلقة بالإرث والوصية وبعض المشاكل العائلية كما أقوم بتوزيع ما جلبته من كتب وإصدارات جديدة وأحيانا أطبع لهم ما أراه مفيداً من الأنترنت لأوزعه عليهم.

هذا بالإضافة إلى مكثي في الشنافية للخطابة والصلاة في شهر رمضان المبارك وأيام محرم الحرام الأمر الذي جعل الكثير من الشباب وبقية الشرائح منشدة مشتاقة لقدوم يوم الأربعاء للتعرف على شيخ أو خطيب آخر وسماع محاضرة جديدة والتعاهد فيما بيننا بالحق وبالصبر حتى أننا التزمنا بأن يوقظوني وأوقظهم لصلاة الليل وأنا في النجف وهم في الشنافية عن طريق التنبيه القصير بالهاتف النقال.

كل ذلك في يوم الخميس أما إذا حلّ يوم الجمعة فإني أعود صباحا إلى النجف الأشرف لحضور درس الرجال في بيت أستاذي السيد محمد صادق الخرسان ثم ليبدأ يوم مبارك جيد مع ما يرافقه من مستحبات والتزامات.

أسأل اللّه أن يوفقنا وجميع المؤمنين لما فيه الخير والصلاح.

ص: 293

ص: 294

هوامش الفصل السابع

(1) سورة التوبة: آية 122

(2) مجلة المنار. الجزء الأول من المجلد الحادي عشر. صفر. سنة 1326 ه. ص : 45.

(3) المدارس القديمة والحديثة في النجف. الشيخ محمد الخليلي: 77.

(4) النجف الأشرف مهد الفضيلة والعلم. سابق : 70.

(5) الذريعة إلى تصانيف الشيعة : 4 / 367.

(6) ينظر : كفاية الأصول للشيخ محمد كاظم الخراساني. تحقيق سامي الخفاجي :20/1.

(7) ينظر : فصول من تاريخ النجف وبحوث أخرى. عبد الرحيم محمد علي : 1/ 355.

(8) ينظر: المصدر السابق، والشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف. سابق : 20.

(9) جامعة النجف الدينية د. فاضل الجمالي. نقله إلى العربية د. جودت القزويني. مجلة شؤون إسلامية. العدد 2 السنة الثانية 1420ه-. ص : 12.

(10) المصدر السابق نفسه.

(11) موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية. سابق : 1/ 378.

(12) مؤسسة الدراسة الدينية الشيعية في النجف وكربلاء خلال القرن التاسع عشر من منظور غربي، مائير لدفك أنموذجا. محمد عبد الهادي الحكيم (مخطوط): 15-16.

ص: 295

(13) ينظر : موسوعة النجف الأشرف جامعة النجف الدينية: 6/ 191

(14) ينظر المصدر السابق : 144

(15) مدارس النجف القديمة والحديثة. سابق : 4 وما بعدها.

(16) المصدر السابق: 10 وما بعدها.

(17) النجف الأشرف مهد العلم والفضيلة. سابق : 71.

(18) جامعة النجف الدينية. سابق: 17-18.

ص: 296

الفصل الثامن

النظام التدريسي المتبع في حوزة النجف الأشرف بعض من إيجابياته وسلبياته

إشارة:

ويتناول هذا الفصل مبحثين هما :

المبحث الأول : بعض من إيجابيات النظام التدريسي المتبع في حوزة النجف الأشرف

المبحث الثاني: بعض من سلبيات النظام التدريسي المتبع في حوزة النجف الأشرف

ص: 297

ص: 298

المبحث الأول: بعض من إيجابيات النظام التدريسي المتبع في حوزة النجف الأشرف

للنظام التدريسي المتبع في الحوزة العلمية النجفية إيجابيات كثيرة أدرج منها ما يأتي:

أولا: لعل في مقدمة إيجابيات منظومة العقل الشيعي المستقى من سنة أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ) و من منهج الحوزات العلمية في التفكير والممارسة، هو فتح باب الاجتهاد، الملازم لأبدية الشريعة الإسلامية. ذلك أن هذه الأبدية للشريعة الإسلامية وانسجامها مع الحياة العامة في كل عصر تستدعي ضرورة حركة فكرية اجتهادية ذات طابع إسلامي على طول الخط لكي تفتح الآفاق الذهنية وتحمل مشعل الكتاب والسنة في كل عصر ودور، ولولا هذه الحركة الفكرية الاجتهادية في الإسلام في غياب دور المعصومين (عَلَيهِم السَّلَامُ) وتطورها وتعمقها عصرا بعد عصر بتطور الحياة واتساعها وتعمقها بمختلف جوانبها الاجتماعية والفردية والمادية والمعنوية ما تبلورت إصالة المسلمين في التفكير والتشريع المتميز الملائم مع الحياة في كل عصر والمستمد من الكتاب والسنة على طول التاريخ في عصر الغيبة فلو لم تكن هذه الحركة الفكرية الاجتهادية مستمرة طول التاريخ وفي كل عصر لأنطفأ مشعل الكتاب والسنة في نهاية المطاف وظلت المشاكل الحياتية في المجتمع الإسلامي من الجانب الاجتماعي والفردي في كل عصر بدون حل صارم، ولهذا يتطور علم الفقه ويتسع ويتعمق تدريجيا تبعا لتطور الحياة العامة واتساعها دقة وعمقا في جميع المجالات الحياتية على طول الخط ويؤكد في المسلمين أصالتهم

ص: 299

الفكرية المتميزة في تمام جوانب الحياة وشخصيتهم التشريعية المستقلة.

وعلى هذا الأساس فلا بد في كل عصر من قيام جماعة لبذل أقصى للوصول إلى مرتبة الاجتهاد الكاملة وتحمل مصاعبها ومشاقها(1).

وقد تجلى ذلك في الحوزة العلمية في جامعة النجف الأشرف بصورة خاصة، فقد فتحت باب الاجتهاد على مصراعيه فيما تبحث وتناقش وتعلّم وتتعلم، وتميزت بشدة تبحرها في هذا المجال، فقد تركت المجال للعقول تتصارع في سبيل البلوغ إلى الحق من طريق الجدل العلمي لتأخذ من ثمرات ذلك الصراع تجارب تنبض بالحركة والحياة.

والصراع العقلي متى كانت بواعثه بلوغ الحقيقة كان من أهم أدوات التطور والنمو في أي ميدان دخل فيه من ميادين العلوم أو الآداب، وهذا التطور الذي دخل على الفقه و أصوله في هذه الجامعة سواء في المناهج أم الأساليب كان من أقوى الثمرات لذلك، ولو قدر لنا أن نتابع دراسة الفقه في مختلف عصوره لانتهينا فيما أخال إلى سلسلة من التجارب متلاحقة في بساطتها وعمقها تسلمك كل واحدة منها إلى لاحقتها لتدرسها دراسة فاحصة وتضيف عليها ما جدّ لديها من آراء و تجارب(2).

ولو أردت أن استشهد بمثل على تغيير المباني في مدرسة النجف العلمية نتيجة تفاعل وتلاقح الآراء جرّاء فتح باب الاجتهاد لقلت إن المدرسة النجفية كانت قبلا تتبنى فكرة أصالة الماهية، وبعد ذلك تبنت فكرة أصالة الوجود، وكانت لا تميز بين الإمارات والأصول فاصبحت تفرق بينها بعد ذلك، وكانت نظرية انسداد باب العلم تجد مجالها في البحث كمسألة ذات وقع، ثم انحسرت بعد ذلك حيث أصبح الباحثون جميعا يؤمنون بانفتاح باب العلم، وكذلك تعرض المسألة الواحدة لعدة نتائج مختلفة في فترة زمنية قصيرة.

ص: 300


1- من دراسة للمرجع الشيخ الفياض عن أستاذه السيد الخوئي. مجلة النور:العدد 176. أيلول 2006م
2- من مقدمة كتاب النص والاجتهاد. سابق : 55

وما أيسر أن يجد الباحث في أصول الفقه رأيا للشيخ الأنصاري، وتعقيبا عليه للمحقق العراقي أو النائيني، وملاحظة عن التعليق لباحث من المعاصرين، ورأيا في الملاحظة لآخر منهم.

وهذا الاحتكاك الذهني الذي يشبه التضارب الفكري بين الباحثين يؤدي إلى تعميق المباحث الفقهية والأصولية وتطوير المفاهيم العلمية وتجديد النظر في صياغة إطار البحث.(1)

ثانياً : إن الدافع إلى التعلم في الحوزة وصولا إلى الاجتهاد هو نيل رضا اللّه عز وجل والخروج من عهدة التكليف الإلهي فلا المال ولا الشهرة ولا الدرجة العلمية ولا المركز الاجتماعي ولا المنصب ولا الجاه ولا غير ذلك من أمور الدنيا الفانية هو هدف المعلم والمتعلم الصادق مع نفسه في الحوزة العلمية الدينية، وهو ما بدا واضحا في حياة وسيرة العديد من أساتذة وطلاب الحوزة العلمية حيث عانى كبار الأساتذة والمراجع فيها ما عانوا من آلام ومحن وصعوبة عيش وجشب، ومع ذلك كله فقد تحملوا المعاناة الشديدة برضا حتى لهانت عليهم شدتها المحببة لديهم لهوان الدنيا نفسها عليهم، ولا يتصور القاريء أن حالة الزهد والورع والفقر المحببة إلى نفوس هؤلاء حالة فردية تخص حياة هذا المرجع أو ذاك، إنما هي أو ذاك، إنما هي ديدن أولئك المتقين ودأب هؤلاء المتعلمين وشواهدي على ذلك كثيرة لا يسع المجال لاستقصائها وإن أحببت ذكر نتف منها موعظة وذكرى لأولي الألباب، لذا فسأقتصر على ذكر القليل منها مما لم يكثر تداوله فيشتهر بين الخاصة والعامة من أمثال ما اشتهر من سيرة زهد المرجع الأعلى في عصره سماحة الشيخ مرتضى الأنصاري وتواضعه فهي معروفة(2)، حيث سأسعى لتخطي ذكر سير المراجع الذين مضى على زمان وفاتهم وقت ليس بالقصير من أمثال فقر وزهد المرجع المجاهد الشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني الذي نقل عنه قوله : إن أدام طعامي مدة ثلاثين يوما

ص: 301


1- الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف. الشيخ محمد مهدي الأصفي : 26.
2- ينظر: لمحات من حياة الشيخ الأنصاري. الشيخ محمود سبط الشيخ. مجلة الفكر الإسلامي. العدد السابع السنة الثانية. عدد خاص بالشيخ الأنصاري. رمضان 1415ه ص : 16 - 18. ونظر أيضا الخصائص العلمية والأخلاقية للشيخ الأعظم الأنصاري. السيد محمد علي الموسوي الجزائري. تعريب عباس الأسدي. المجلة نفسها والعدد نفسه. ص : 146-148 وغير هذين كثير.

هو عبارة عن حرارة الخبز الذي أتناوله(1). كما سأتجنب ذكر حالة فقر وتقشف العلماء والمراجع الذين لم يعد لهم مقلدون أحياء في زماننا هذا من أمثال ما حكي في حياة السيد أبي الحسن الأصفهاني (المرجع الأعلى في عصره) زمن دراسته من أنه في مرة من المرات لم يكن لديه إيجار البيت فألقى صاحب الدار به وعياله وأثاثه خارجا فبات مع عائلته في غرفة من غرف مسجد الكوفة حيث لم يكن يملك بيتا فحسب، بل ولا يملك إيجار البيت وحدثني بعض الأصدقاء بأنه كان يتحدث مع بعض الطلاب وإذا به يغشى عليه في أثناء الكلام فلما أفاق قال إنه لم يأكل من ثلاثة أيام(2) و أن إمام الثورة الميزا محمد تقي الشيرازي حينما عرف حاجته وعوزه بعث له بمبلغ خمسمائة ليرة ذهبية ليشتري بها دارا له وذلك في أيام حاجته وضنكه فلم يمد يده إلى المبلغ، بل أودعه لدى بعض الخبازين وبدأ يحوّله خبزا للطلاب والفقراء المعوزين(3).

أقول سأتجاوز ذلك كله ما كان وقع منه في الماضي غير البعيد أو في الماضي القريب، لأتناول نبذة من سير حياة بعض المراجع الأحياء المعاصرين أو الذين لا زال مقلدوهم أحياء لليوم عسى أن يقرأ بعض مقلديهم كتابي هذا فذلك أدعى للتأثير كما أظن وأبلغ من أمثال ما نقله سماحة المجتهد السيد ميرزا حسن البجنوردي (قدّس سِرُّه) عن المقدس السيد يوسف الحكيم النجل الأكبر للمرجع الأعلى في عصره سماحة السيد الحكيم (قدّس سِرُّه) أنه كان يقول: كنّا نطبخ الباقلاء نأكلها ظهرا للغداء، ونتعشى بمائها في الليل(4). ولقد كان الإمام الحكيم يتحدث هو نفسه عن فقره هذا لخاصته وذويه، بل ويفتخر به أحيانا حيث كان يصف حاله وحال أهل بيته، بأنه في بداية حياته كان أكثر طعامهم الخبز واللبن، وهما أكثر الأشياء توفرا وأرخصها ثمنا حينذاك،(5). وقد استمر على هذا الحال من الزهد والتقشف إلى آخر عمره سواء في سلوكه الشخصي في المأكل والمسكن والمركب أم في سلوكه العائلي أم في سلوكه الاجتماعي، فقد كان الفراش يمتد

ص: 302


1- النجف الأشرف مهد الفضيلة والعلم. سابق : 73.
2- النجف الأشرف مهد الفضيلة والعلم. سابق : 73.
3- هكذا عرفتهم. جعفر الخليلي: 1/ 114 - 115.
4- النجف الأشرف مهد الفضيلة والعلم. سابق : 73.
5- موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية. الشهيد السيد محمد باقر الحكيم : 3/ : 51.

به العمر أكثر من ثلاثين إلى خمسين عاما ويكتفي به هو وزوجته أن يكون نظيفا طاهرا وقد كان في الملابس سواء في شكلها أم محتواها وأسلوب تقمصها ملتزما نفس المستوى والطريقة التي كان عليهما في شبابه دون تغيير.

وفي ديوان الاستقبال كان يجلس للناس متواضعا على البسط الخفيفة الأفغانية والفراش الرخيص وفي الغرفة الضيقة الجدران العادية ومن دون طلاء أو زينة والأبواب متواضعة جدا وفي طريقة استقبال الناس ولقائهم والحديث اليهم ومجالستهم. كل ذلك كان يعبر عن هذا المستوى المعيشي المتواضع الذي يدنو في مجمل تفاصيله من الفقراء ويبتعد عن الأبهة والفخامة والكبرياء. لقد كنت أشعر بأن الإمام الحكيم (قدّس سِرُّه) بسبب هذا الزهد تتولد بينه وبين الأشياء الصغيرة والبسيطة التي تحيط به علاقة ومودة، فالقلم الذي يستخدمه والساعة التي يستعملها والخاتم والعصا والدواة والصندوق المعدني المصنوع من (التنك) الذي يضع فيه الرسائل، والسرير الحديدي أو الخشبي الذي ينام عليه والسجادة التي يصلي عليها أو التي يجلس عليها وغير ذلك والصندوق الذي يحفظ فيه أوراقه أو أمواله، كلها أشياء تبقى تلازمه لفترات طويلة ما دامت قادرة على أداء الخدمة، بساطة متناهية ولطافة في الصلة، وتعبير عن الرضا بما قسم اللّه في هذه الدنيا والتجرد عن حبها أو الارتباط بها. كل ذلك والأموال تجري بين يديه والظروف مواتية، والمقام رفيع، والإنفاق على الآخرين واسع، وفرص الانتفاع أو الاستمتاع متوفرة دون حراجة، بل كان بعض حاشيته أو متعلقيه أو الطلبة الأفاضل أو مؤسساته العامة تحصل على مستوى أكثر بكثير من هذا المستوى في العيش. لقد كان زاهدا دون تكلف، حتى تحس بأن الزهد تحول إلى طبع عادي له يمارسه بين الناس وكأنه ليس منهم ودون أن يشعروا بانفصاله عنهم في زهده، ويلتزم بدون أن يشعر الآخرون بالحرج من هذا الالتزام ويربي عليه أهل بيته دون أي ضغط أو عنت(1).

ص: 303


1- المصدر السابق : 3/ : 55-56.

وكان (قدّس سِرُّه) يجلس لاستقبال الناس في اليوم ثلاث مرات، مضافا إلى أيام الأعياد والمناسبات العامة، وبعد ازدياد حجم الأعمال والمسؤوليات أصبح الجلوس مرتين، و كان يجيب على الرسائل وعلى بطاقات ورسائل التهاني والتعازي(1) الواردة اليه من مختلف الطبقات فكان يرد على رسائل الواردة اليه من مستشفيات مرضى السل المنتشر و على رسائل السجناء في السجون والجنود في المناسبات المختلفة وهم كثر، حتى أنه (قدّس سِرُّه)كان لا يترك رسالة من رسائلهم إلا ويجيب عليها، التهنئة بتهنئة، والتعزية كذلك وكل المشاكل التي يطرحها الجنود يجيب عليها(2).

وحين شعر(قدّس سِرُّه) بقرب أجله يقول سماحة الدكتور الشيخ محمد حسين الصغير أرسل السيد محسن الحكيم إلى ولده السيد يوسف الحكيم أن يوافيه إلى مستشفى ابن سينا في بغداد، وسلّمه مفتاح خزانة بيت المال، فتسلمه السيد يوسف بعد تردد، وجمع لجنة مؤلفة من الأثبات والثقات، وفتحوا الخزانة، وكان كل ما فيها خمسة وثلاثين ألف دينار، قام السيد يوسف بدوره بتسليمها إلى الإمام الخوئي، فقبلها وجعلها تحت تصرفه لإعالة الفقراء وسد احتياجات الحوزة، ولو كان الإمام مليّا لما كان هذا كل ما في بيت المال، ولم يخلّف غيرها لا صفراء ولا بيضاء، وكان الناس في أيامه في عوز شديد وضائقة مالية، ولم تكن رواتب الحوزة كافية لسد الرمق، فهجرها كثيرون واتجهوا إلى الوظائف(3).

وما لنا نذهب بعيدا فهذا المرجع الأعلى للطائفة اليوم سماحة السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلّه) على ذيوع صيته في العراق والمنطقة والعالم كله شرقه وغربه، لا زال كما عهده عارفوه من قبل هو هو في مأكله البسيط، ومسكنه المتهالك، وملبسه المعمّر الواضح القصر، وأثاثه المتواضع البسيط، زاهدا في الدنيا وزخارفها زهدا يستطيع ملاحظته بوضوح زائره المستطرق فضلا عن المطلع على دواخله الخاصة، فهو مثلا حتى يوم الناس هذا لا يملك بيتا لسكناه حيث لا زال يسكن في الدار نفسها التي عاش فيها

ص: 304


1- السابق : 3/ : 145.
2- المصدر نفسه 3/ هامش ص 144.
3- الفكر الإمامي من النص إلى المرجعية 306 307.

طالبا ومدرسا في الحوزة العلمية لا تتجاوز مساحتها سبعين مترا مربعا وهي مستأجرة لا يملكها، يدفع أجرتها الشهرية حتى اليوم بمبلغ متواضع(1)، بل ولا يملك ولداه المجتهدان سماحة السيد محمد رضا وسماحة السيد محمد باقر بيتا لسكناهما أيضا كما حدثني بذلك سماحته (دام ظلّه) ضمن أمور أخرى في معرض انتقاده لبعض المتقاتلين على الدنيا الدنية من طلاب السلطة الزائلة والوجاهة الزائفة خلال تشرفي بزيارته ولقائه قبل أشهر. وقد تبرع أحد المؤمنين بقيمة شراء بيت من ماله الخاص لولده المجتهد فأبى ابن المرجع الزاهد إلّا أن يقتدي بسيرة أبيه فرفض العرض.

وإذا تشرف بزيارة سماحته (دام ظلّه) يوما وقد لاحظت ذلك بنفسي مرارا مَن له أثارة من علم، أو ملحظ من دين، أو ظاهرة من ورع وتقوى قربه اليه حتى ليزاحمه في مجلسه، ولا يشغله في ديوانه كثرة الشؤون عن الاستفسار عن صحة كل قادم، شغلته الهمة العلمية عن مظاهر الدنيا، وأوقفته الظاهرة الشرعية عند حدودها، لم يعبأ بملبس أو مأكل، ولم ينظر إلى دار أو عقار، ولم يتمتع من الأصدقاء والخلصاء، ولم تستهوه مجالس الترويح عن النفس بالأحاديث والنوادر، اختص بأفراد قلائل من العلماء يستمع اليهم ويسمعون منه، لم يحضر مجلسا علميا إلا للمذاكرة، ولم يعتد المجاملات التي تستوعب بعض الوقت كل كده وجهده وكدحه خالص لعلم أهل البيت، مع وقار ظاهر واتزان معروف ونظرة صائبة. عاش فقيرا وما زال فقيرا، والملايين بين يديه لسد احتياجات الفقراء وإعلاء شأن الدين ورعاية الحوزات العلمية ومعالجة المرضى وإحياء المشاريع النافعة والإصلاح بين المتخاصمين.

عاش منعزلا حتى لا يعرفه أكثر من طلابه وعلية القوم وهو معهم وخارج عنهم، لا يتصل إلّا لماما، ولا يتعايش مع الآخرين إلا لواذا، فالعلم فوق كل شئ، وهو أكبر من كل شيء، ويضحي من أجله بكل شيء، حتى عدّ من الزاهدين في الحياة والمتفرغين

ص: 305


1- أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف. سابق : 350.

للعلم والعمل الصالح، بعيدا عن كل المعوقات التي تشغله عن الاشتغال والتحصيل ومتابعة المعارف.

إذا حضر محفلاً علمياً بدأ بالبحث العلمي، أو اجتمع بصديق له عرض عليه مسألة مشكلة للتوصل إلى حلول، وإذا أدى واجبا اجتماعيا اقتصر على إسقاط الغرض دون التبذير بالزمن. فيه بساطة الأتقياء، وعليه سيماء الصالحين، ولديه فكر المتيقظ الحذر، وعنده الخبرة الكافية بمعاصريه كما هي في الرجال ومدارك التعديل(1).

وقد حدثني رئيس الجمهورية العراقية مام جلال الطالباني يوما بانبهار وقد عاد لتوّه من زيارة سماحته في النجف الأشرف، كيف أنه سرد له تفاصيل عن آباء مام جلال وأجداده وأهل مدينته متحدثا بإلمام عن مدى اهتمامهم بالعلم والفضيلة في كردستان ما يشير إلى سعة اطلاعه على أحوالهم ومبالغ مستوياتهم، وإلمامه بخصوصيات طرائقهم وشؤونهم.

وهناك الكثير الكثير مما أعرفه عن زهد سيدنا المرجع الأعلى (دام ظلّه) ولا أقوله، خشية أن لا يرضى من نشر ما أعرفه عنه على الملأ وهي طريقة درج عليها الصابرون الزاهدون المتقون تقبل اللّه أعمالهم ووفقنا للاقتداء بهم إنه أرحم الراحمين.

ثالثاً: وإذا كان حال مراجع التقليد كما عرضته فإن وضع طلابهم من طلاب الحوزة الورعين المجدين الحريصين على نيل رضا اللّه جل وعلا وحبه بأحسن من وضع مراجعهم وأساتذتهم والمجتهدين، فقد كتب سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين عن بداية حياته الدراسية في النجف الأشرف قائلا: كنت إذ ذاك في بداية الشباب، وفي ذروة الحياة الدراسية في النجف الأشرف وحلقاتها العلميّة، حيث الفقر حينذاك والحاجة إلى حدّ الجوع، وطيّ الليالي والأيام بلا طعام. وحين يتيسّر الطعام فهو غالباً

ص: 306


1- المصدر السابق : 348.

طعام بسيط، فقد كان الشبع من الطعام الجيّد ترفاً نادراً، وحيث البحث في ليالي الجوع الظلماء عن نفايات الخبز في شرفات غرفة الطلبة في المدرسة، وهي نفايات قليلة فأغلبهم أيضاً فقراء، وان لم يبلغوا في فقرهم حدَّ الجوع وقلما كانت تُتاح الفرصة للحصول عليها، لغلبة الحياء، وخوف انكشاف الحال، فتغسل مما علق بها من تراب وتنقع في الماء لتلين... وحيث النوم بلا وطاء أو بلا غطاء، وحيث الثياب الممزَّقة المرقَّعة، ولبس ثياب الصيف في الصيف والشتاء في بعض السنين، ولبس ثياب الشتاء في الشتاء والصيف في سنين أخرى... وحيث الحفاء في شكل الاحتذاء، أو الاحتذاء الشبيه بالاحتذاء... والحمد للّه على نعمته لقد كانت أياماً مباركة، رزقنا اللّه فيها الصبر، وكانت قسوتها تربية وترويضاً وإعداداً لما أراده اللّه اللطيف بعباده...كانت حياةً قاسية، وكان الملاذ من كل ذلك إلى الدرس والقراءة وزيارة أمير المؤمنين علي (عَلَيهِ السَّلَامُ) ومسجده...

رابعاً: ومن إيجابيات النظام الحوزوي أيضا انه نظام تطوعي، فالمرجع حين يتحمل مسؤوليات الإفتاء إضافة إلى أعباء الحوزة ومسؤوليات الأمة، والمدرس حين يجهد نفسه في التعليم وتوصيل المعلومات بشغف وتعب محبب منذ الصباح الباكر وحتى المساء تطوعا، والطالب حين يبذل قصارى جهده في التعلم والبحث والمتابعة واستفراغ الوسع في المعرفة شادا الرحال غالبا من مسقط رأسه إلى حيث النجف الأشرف، متحملا أعباء الغربة ومشاق الضنك الاقتصادي، والمبلِّغ حين يعاني ما يعاني من أجل إيصال رسالته إلى الناس متنقلا بين الدول والمدن والأقضية والنواحي والقصبات دائرا بعلمه وهمّ إيصاله إلى الناس متحملا عن طيبة قلب كل ما يعترضه من جهود وآلام. إن كل هؤلاء لا يبغون ولا يريدون من أحد من الناس جزاء ولا شكورا.

ولقد كنت أرى شدة حراجة الأستاذ في رفض أي طلب يأتيه من طالب يريد أن يدرس عنده مادام يملك وقتا يمكن أن يفرغ نفسه فيه لتلبية رغبة الطالب ولا

ص: 307

أقصد بشدة حرج الأستاذ وقلق ضميره وتقليبه لساعاته وأوقاته غير الحرج الشرعي والأخلاقي، فهو يخشى إن تقاعس أو تكاسل في إجابة الطلب بالإيجاب مع سماح ظروفه بذلك أن يساءل غداًيوم لا ينفع مال ولا بنون عن سبب رفضه أو يسائله ضميره عن علة رفضه ما دام قد وطن نفسه بنفسه على سلوك هذا الدرب وتحمل تبعاته وأتعابه.

خامساً: إن الطالب في الحوزة العلمية النجفية لا يتوخى من وراء دراسته الحوزوية وظيفة مادية أو منصبا تنفيذيا أو رتبة اجتماعية أو وسيلة اقتصادية أو غاية سياسية أو غيرها، بل لا يسعى أيضا إلى الحصول على شهادة بالتخرج تتيح لحاملها ما تتيحه الشهادات ووثائق التخرج من فرص عمل وأشباهها، ولذلك فإنك لا تجد الطالب الحريص على مستواه العلمي في الحوزة يهرول كي يقطع الطريق إلى نهايته سواء استوعب ما درسه أم لم يستوعبه، بل كثيرا ما كنت أرى من الطلاب من أتم دراسة كتاب ما ثم حين فرغ منه فحص نفسه فوجدها لا زالت غير هاضمة ما درسته هضما يطمئن قلبه له، فقرر عندها العودة إلى كتابه ثانية لدراسته واستيعابه وأقول الطالب المخلص المجد الحريص على مستواه العلمي إخراجا لمن تزيى بزي رجال الحوزة العلمية لغرض في نفس يعقوب.

سادساً: إن لغة التدريس في جميع مراحل الدراسة في الحوزة العلمية النجفية منذ تأسيسها قبل ألف عام وليوم الناس هذا هي اللغة العربية الفصحى. وإن أدنى ملاحظة للمنهج التدريسي المتبع فيها ولغة تدريسه وكتبه الدراسية وأساليب طرحه وغيرها وكلها عربية فصيحة كما تقدم تثبت بوضوح هذه الحقيقة. بيد أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال عدم وجود من يدرّس بغير هذه اللغة في هذا المسجد أو ذاك أو في هذه الحلقة الدراسية أو تلك لوجود أعداد غير قليلة من غير العرب في الحوزة مما قد يضطر معه الأستاذ إلى الاستعانة بلغته الأم أو بلغة الطالب الأم لإيصال المعنى المقصود بدقة

ص: 308

متناهية إلى تلميذه وبخاصة إذا كانت مادة البحث عميقة وهي غالبا ما تكون كذلك.

يقول المجتهد الشيخ محمد تقي الفقيه في كتابه الذي كتبه عن النجف أيام دراسته فيها خلال منتصف القرن الرابع عشر الهجري مؤكدا هذه الحقيقة بما نصه: التدريس في النجف باللغة العربية، ويتقصد الأستاذ الفصحى طاقته، وقد يتنزل عنها طمعا في الإفهام والتوضيح أو من جهة غلبة.العادة. هذا بالنسبة للدروس العليا وللمدرسين من العرب، أما الإيرانيون والأفغانيون والهنود والتبتيون والنكر وغيرهم فإنهم يلقون الدروس السطحية باللغة العربية، ثم يترجمونها لتلاميذهم بلغاتهم، حتى إذا أتقنوا العربية يصبح الدرس كله باللغة العربية. أما دروس الخارج فكلها بالعربية، وقد يضطر الأستاذ لغيرها في أثناء الدرس(1) للتوضيح كما سبق.

إن هذه الخصيصة المهمة في حوزة النجف الأشرف كانت نتيجة طبيعية لطبيعة التركيبة السكانية لمدينة النجف الأشرف الحاضنة للحوزة العلمية فمدينة النجف ذات شمائل عربية، والطابع العام لسكانها هو الطابع العربي بنخوته وعشائريته ورعايته للجار وكرمه وحبه للضيف والضيافة وأمثال ذلك مما يتميز به العرب خلال تاريخهم الطويل ولعل السر في ذلك أن النجف تقع بين الريف العراقي المنتشر على ضفاف الفرات وبين البادية الممتدة من العراق إلى الحجاز، وهي السوق المشتركة بين عشائر الريف وعشائر البادية، وهذه الصلة الاقتصادية بين طرفي الريف والبادية وبين النجفيين هي التي طبعت النجف بهذه السمات(2).

وهناك خصيصة أخرى كان للخصيصة السالفة دخل فيها، وهي تميز النجف عن غيرها من مدن العراق، انها لكونها مدينة جامعية للدراسات الإسلامية وتمتد جامعيتها على مدى يقرب من عشرة قرون قد احتفظت باللغة العربية وآدابها رغم كل محاولات (التتريك) الذي فرضه المماليك والحكام العثمانيون على مدارس العراق وغيرها من

ص: 309


1- موسوعة النجف الأشرف جامعة النجف الدينية : 6 / 231 نقلا عن جامعة النجف للشيخ محمد تقي الفقيه.
2- الديوان. د. السيد مصطفى جمال الدين: 14

البلدان الخاضعة للخلافة الإسلامية من جهة ورغم انتشار اللغات الشرقية وبخاصة اللغة الفارسية بين الوافدين اليها من أقطار العالم الإسلامي التابعة لمرجعيتها الدينية من جهة ثانية. ولعل السر في احتفاظها باللغة العربية وآدابها أن الدراسة الدينية واستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها تعتمد بصورة أساسية على مصادر هي نصوص عربية أصيلة بلغت الغاية القصوى في فصاحتها وبلاغتها وأهمها القرآن الكريم والسنة النبوية ونهج البلاغة وآثار أئمة أهل البيت،. من أجل ذلك لم يكن غريبا أن يتشدد الأصوليون في شروط (الاجتهاد) فيذكروا فيها أن يكون المجتهد على علم باللغة وفهم أساليب العرب، ولذلك كانت الدراسة الدينية تبدأ عادة بما يسمى (المقدمات) أو (علوم الجادة) وأهمها النحو والصرف والبلاغة وفيها من البحوث النحوية والصرفية والبلاغية ما لا يوجد في كتب النحاة والبلاغيين، وهذا هو السر في أنك تجد أكثر من نبغوا في أوائل هذا القرن من أدباء العربية وشعرائها وأصحاب الخبرة في فلسفتها اللغوية هم من خريجي مراكز الدراسات الدينية(1).

ولقد كان من نتائج احتفاظ حوزة النجف الأشرف بلغتها العربية الفصحى وحرصها الشديد عليها وتأكيدها المستمر عمليا على استعمالها في المنهج والدرس اليومي كتابا ولغة تدريس وأسلوب كتابة ولغة مباحثة ونقاش وحوار علمي تعريب المسلمين القادمين إلى تلك الحوزة من الصين ومنغوليا وأزبكستان وأفغانستان والهند وتركيا وإيران ومثل هؤلاء الطلاب من غير العرب يعودون إلى بلادهم وهم علماء نحو وصرف وبلاغة كما هم علماء دين.

وغير خفي ما لمثل ذلك من أهمية في نشر اللغة العربية فإنما يعودون وهم يشعرون بشيء غير قليل من الفخر والزهو لأنهم يعرفون العربية ويقرؤون القرآن ويفهمون كتب التاريخ الإسلامي والعربي بلغتها العربية وقد ينقلون ذلك لأبنائهم في تلك

ص: 310


1- الديوان. د. السيد مصطفى جمال الدين: 14 - 16

البلدان الأجنبية كما هي حالة غير المتعلمين العرب الآن في الجامعات الأوربية.

وإذا ما علمنا أن اللغة العربية لم تلق من الإعراض والإهمال في تاريخها الطويل ما لاقته من القرون المتأخرة قبل (ما أطلق عليه) عصر النهضة عرفنا بعض ما أسدته الحوزة العلمية في النجف إلى لغة القرآن الكريم(1) و آداب اللغة العربية وبخاصة الشعر العربي من فضل.

ولئن ناضلت جامعة الأزهر القاهرية ضد العامية والإنكليزية وحمت جامعة الزيتونة في المغرب اللغة العربية من همة البربرية والفرنسية والإيطالية، فجامعة النجف حرست العربية من غزو بضع عشرة لغة استطاعت أن تجتاح العاصمة بغداد ثم الموصل والبصرة(2).

ولم تكتف الحوزة العلمية النجفية بدورها في الحفاظ على بقاء اللغة العربية وديمومتها ونقائها وصونها من محاولات الإلغاء والتهميش والتحريف والتغريب فقط، بل تعدت ذلك إلى تحمل مسؤولية نشر العلوم في العراق وبث المعارف وتوعية العراقيين بضرورة وأهمية التعلم وتهيئة الوسائل الكفيلة بتحمل ذلك كله بما لا يقاس بما كانت تقوم به وتتحمله الدولة وأجهزتها التنفيذية بمدارسها ومعاهدها ومؤسساتها وبخاصة في العقود الأولى من القرن الماضي فالمدارس الرشيدية (التي تعادل الدراسة المتوسطة اليوم) لم تكن لتضم أكثر من (360) ثلاثمائة وستين طالبا في جميع أنحاء العراق موزعين على عشر مدارس، في حين أن الحوزة العلمية في النجف وحدها في ذلك العصر كانت تضم ما يقارب من عشرة آلاف طالب.. والفرق بين العشرة وبين (360) فرق كبير ويستوقف الباحث حتما إذا وضعنا كل تلك الحقائق نصب أعيننا، وأدركنا جليا أهمية الحوزة العلمية في رفع المستوى الفكري والعلمي والحضاري للأمة في عصور التجهيل، وأدركنا كم للحوزة من دور فاعل في الحفاظ على التراث العلمي

ص: 311


1- موسوعة النجف الأشرف : 6 / 96 نقلا عن مبحث نشوء الحوزة العلمية من كتاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف. لعلي البهادلي.
2- المصدر السابق نقلا عن النجف الحضارية لنصر اللّه بحث منشور في مجلة الغدير. بيروت لبنان. العدد 2 لسنة 1981م.

للأمة الإسلامية(1).

سابعاً: إن الطالب المشتغل في الحوزة العلمية النجفية وفي الحوزات الدينية كلها هو طالب لمن هو أعلى منه طبقة علمية لا عمرية، وهو في الوقت نفسه أستاذ لمن هو دونه طبقة علمية في آن واحد وهكذا تتسلسل المراتب العلمية وتتنوع مهام رجالات الحوزة بين أستاذ آنا وطالب آنا،آخر أستاذ لمن هو أدنى منه مرتبة، وطالب عند من هو أعلى منه مرتبة. وقد استطاعت هذه الطريقة التربوية تحقيق نجاحات عملية متميزة فهي تتكفل بتوفير الأساتذة للطلاب بمختلف مراحلهم الدراسية كما تتعهد بتدريبهم وإعادة تدريبهم باستمرار، كما أنها تعيد تنشيط ذاكرة الأستاذ بما سبق أن درسه وتجاوزه من مواد دراسية معقدة وكثيرة التفرعات مما يبقي تفاصيل المعلومات السابقة حاضرة في الذهن باستمرار إضافة إلى بعدها الأخلاقي المهم فالأستاذ مهما تقدم في مستواه الدراسي يبقى طالبا للعلم والحقيقة ولنتيجة البحث.

ثامناً: إن الأستاذ أو الطالب في الحوزة العلمية النجفية، بل المرجع نفسه غير مستنكف من أن يقول لا أعلم، وغير آبه من أن يقول سل فلانا مثلا، أو حتى سل ابني عما سألتني عنه فإنه أذكر مني، بل ولا متحرج وهو المرجع من أن يعترف بخطئه فيما قاله متى ما انكشف له أنه مخطيء فيما قاله، وقد حدث ذلك معي أكثر من مرة، ويتجلى هذا الأمر بشكل أوضح فيما أورده الباحث جعفر الخليلي متحدثا عن المرجع سماحة الشيح محمد الحسين آل كاشف الغطاء (قدّس سِرُّه) حين قال: ولم أجد شخصا يعدل عن رايه بالسرعة التي يعدل الشيخ محمد الحسين عن رأيه حين تتضح له الحقيقة، ويتجلى له الحق، وكثيرا بل وأكثر من الكثير الذي رايت فيه الإمام يدلي برأي خاص كان يؤمن به منذ زمن ثم لم يكتف بتغير رايه، وإنما راح يدل الآخرين على المواطن التي لم يصب فيها من قبل، وإذا تبجح الكثير بما قد أصابوا في كثير من الآراء فإنه ليسرد لك في المناسبة

ص: 312


1- المصدر السابق : 6 / 96 نقلا عن مبحث نشوء الحوزة العلمية من كتاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.لعلي

كثيرا من المواقف التي التبس فيها عليه الأمر. وهي صفة لزبدة العلماء المحققين(1).

ولقد بات من المتعارف عند الحوزويين، بل الواجب عليهم أن يتحروا عن سائلهم ليقولوا له معتذرين : أنهم أخطأوا في جوابهم عن مسألته التي سبق أن سألهم عنها سابقا وان الصحيح في جواب المسألة هو كذا وكذا.

ولقد تعود الناس أن يسمعوا بإلفة جميلة قول أستاذ مشهور من أساتذة الحوزة، بل أن يسمعوا من مرجعهم المقلد نفسه أحيانا كما حدث لي أكثر من مرة أنه غير مستحضر للجواب الساعة، وأن عليه أن يراجع ويبحث في المسالة لكي يجيب.

تاسعاً: إن الأستاذ الواقعي في الحوزة العلمية النجفية لا يجد غضاضة في أن يقول إن الأستاذ الفلاني أعلم مني، أو أن درس فلان أنفع من درسي وما شابه، لأن رضا اللّه عز وجل هو الهدف، وطلب الحقيقة وقولها هو المقصد. ولقد كنت أشاهد حينا وأسمع أحيانا من ذلك قصصا وحكايا عن بعض من عاصرت من العلماء الصالحين يقول بملء فيه إن فلانا أعلم مني فاقصده وسله عن مسألتك وما شابه، كما أثبت لنا المؤرخون قصصا وحكايا مشابهة أسرد بعضها كشاهد على ما أدعي.

من ذلك مثلا أن المرجع الأعلى في عصره سماحة الشيخ الوحيد البهبهاني مجدد القرن الثالث عشر المتوفى عام 1205 ه / 1791م اعتزل المرجعية في أواخر عمره وأناط مسألة التقليد بأبرز تلامذته، وقد نقل لي أحد كبار المراجع في النجف الأشرف أن الوحيد قلّد الشيخ جعفر الكبير بعد إحساسه بضعفه في الاستنباط، وأخذ يدرّس شرائع الإسلام للمحقق الحلي على سبيل الاستحباب(2) وهو كتاب يدرسه الطلبة في مرحلة المقدمات.

ومنها ما نقل عن السيد حسن كوهكمري - وهو من أساتذة الحوزة العلمية النجفية

ص: 313


1- هكذا عرفتهم. سابق: 1 / 248.
2- مرجعية التقليد. سابق : 132

المعاصرين للشيخ مرتضى الأنصاري (قدّس سِرُّه) أيام كان الشيخ الأنصاري لا يزال بعد غير معروف - من أنه حضر في أحد الايام قبل طلبته إلى محل درسه، فرأى في أحد أركان المسجد شيخا غير معتنٍ بهندامه جالسا مع عدد من الطلبة مشغولا بالتدريس، فأصغى السيد كوهكمري لكلامه فأحس أن هذا الشيخ يدرّس بصورة تحقيقية ويبحث بصورة عميقة. فرغب في اليوم اللاحق أن يحضر إلى المكان في وقت أبكر ويستمع إلى الشيخ، فحضر فازداد اعتقاده بالشيخ وازداد يقينا بأن هذا الشيخ أفضل منه وأعلم، ولو أن تلاميذه حضروا درس هذا الشيخ بدل الحضور في درسه لكانت استفادتهم أكثر، ولهذا عندما حضر تلامذته في اليوم اللاحق قال لهم: إخواني إن هذا الشيخ الجالس مع بعض الطلبة في ناحية المجلس أفضل مني تدريسا وأصلح، وأنا أيضا أستفيد منه، فلنذهب جميعا إلى درسه. منذ ذلك اليوم حضر السيد حسين كوهكمري وطلبته درس الشيخ الأنصاري(1)

ومنها مثلا أن المرجع الأعلى في عصره سماحة الشيخ محمد حسن النجفي (قدّس سِرُّه) صاحب كتاب جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام المتوفى عام 1266ه/ 1850م حين حضرته الوفاة وجمع العلماء ليقلد الشيخ مرتضى الأنصاري أمر المرجعية العليا بعده في قصة معروفة تأتي في الباب الخامس عشر من هذا الكتاب تريث الشيخ المرشح في قبول الترشيح أول الأمر قائلا: أنا لست الأعلم ظانا أن هناك من هو أعلم منه ولو في دولة أخرى، وهكذا بقي متريثا ولم يستقر له بال حتى كتب إلى المجتهد الذي ظن أنه أعلم منه ليتولى أمور المرجعية وهو سعيد العلماء المازندراني (قدّس سِرُّه)، فراسله في ذلك وعرض عليه الأمر ف كتب سعيد العلماء المازندراني في جواب على رسالة أرسلها له الشيخ الأنصاري يخبره فيها بتقديمه إياه على نفسه في المرجعية وزعامه المسلمين لأنه أعلم منه : أجل الأمر كما تفضلتم،وذكرتم، وكنت أعلم وأدق حينما كنت هناك

ص: 314


1- المصدر السابق : 14 - 15

مشغولا بالدراسات لكن هناك شيء ميّزك عني : وهو استمرارك في الاشتغال بالبحث والتدريس والتأليف والتصنيف، وتركي البحوث والدروس لاشتغالي بمهام الأمور من حل القضايا وفصلها، فأنت أعلم مني، فالواجب على الطائفة تقليدك وتسلّمك أمور الزعامة والمرجعية(1).

وإذ قرأ الشيخ الأنصاري جواب رسالته قامت البيِّنة الشرعية عنده على أعلميته، فتقبل هذا التكليف الإلهي والمسؤولية الخطيرة(2).

ومن ذلك مثلا : أن السيد علي التستري أو الشوشتري على اختلاف بين مترجميه المتوفى سنة 1281 ه/ 1864م(3) أستاذ الأخلاق في حوزة النجف الأشرف كان يحضر دروس الشيخ مرتضى الأنصاري في الفقه والأصول، فيما كان الشيخ يحضر دروس السيد التستري أو الشوشتري في الأخلاق كل أسبوع ويدعو طلابه لحضور هذا الدرس والتزود من ثماره المعنوية وإزالة الصدأ عن القلوب، وهذه من الحالات النادرة في التأريخ حيث تجتمع التلمذة والأستاذية لأحد تجاه آخر، فالشيخ كان أستاذ السيد في الفقه والأصول وتلميذه في الأخلاق(4).

ومنها أن المرجع الشيخ عبد الكريم الحائري المتوفى سنة (1355ه/ 1936م) كان يلقي دروسه المعتادة في الوقت نفسه الذي يلقي فيه المجتهد الشيخ محمد القمي المتوفى سنة (1341 ه / 1923م) درسه المعتاد أيضا، وفي يوم من الأيام قال الشيخ القمي لطلابه:

تحدثنا في الدروس الماضية عن موضوع (الأهم والمهم) بشكل مفصل وهو موضوع يبحثه أساتذة الحوزة العلمية ضمن منهجهم الدراسي المعتاد واليوم أريد أن أقول لكم بأن حضوركم في دروس الشيخ الحائري أهم من حضوركم دروسي،فاذهبوا

ص: 315


1- الشيخ الأنصاري من خلال آراء الفقهاء والعظماء والمؤلفين. محمد جواد الطبسي: 8 -9.
2- لمحات من حياة الشيخ الأنصاري. سابق. 20.
3- فقيه وأخلاقي كبير تولى بعد وفاة الشيخ مرتضى الأنصاري مواصلة بحث الشيخ الأنصاري من على كرسي الشيخ نفسه متما بحث شيخه الفقهي من حيث انتهى، بيد أنه لم يعمر طويلا فقد توفي بعد وفاة الشيخ الأنصاري بستة أشهر، ولعل من أشهر تلامذة السيد التستري الحكيم العارف المولى حسين قلي الهمداني، وقد نقل العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان قصة يستفاد منها أن الألطاف الغيبية تدخلت في نقل السيد التستري نحو العرفان والسير والسلوك (ينظر خصائص المدرسة السلوكية. سابق : 194 نقلا عن رسالة لب اللباب : 156).
4- مجلة حوزة الإيرانية، العدد الأول : 53 نقلا عن من خصائص المدرسة السلوكية للفقيه الهمداني بحث عرفان محمود مجلة الفكر الإسلامي العدد الثامن السنة الثانية 1415 ه- : 194.

يا أعزائي واحضروا دروسه.

فنهض جميع الطلاب إلا اثنين منهم، وهما (الشيخ محمد تقي القمي والشيخ محمد باقر القمي) ابناه، فقد كانا راغبين بحضور دروس أبيهما، فكرر عليهما الشيخ قوله مخاطبا إياهما بلغة الأب والأستاذ معا إذهبا إلى دروس آية اللّه الحائري. وهناك من غير هذه الأمثلة كثير.

عاشراً: انعدام فارق السن بين الطلاب في حلقة الدرس الحوزوي، فقد يحدث أن تجد في حلقة الدرس الحوزوي من طلابها من هو بمنزلة الابن إلى جنب من هو بمنزلة أبيه سناً، وسمةً ومقاما ووقارا، وكلاهما غير مستنكر لهذا التفاوت في العمر، ولا مكترث به، ما دامت تجمع الشيخ والشاب المرحلة الدراسية الواحدة عينها. ولطالما شاهدت بأم عيني ذلك في حلقات الدرس المنتشرة في الجوامع وأماكن الدراسة، بل بات من المألوف أن تشاهد طالبا أكبر سنا من أستاذه وهو جالس بحضرته متأدبا تأدب المتعلم أمام العالم يستمع إلى محاضراته وتوجيهاته العلمية والتربوية.

وقد تجد الأستاذ والطالب معا يدرسان في حلقة دراسية واحدة موضوعا من الموضوعات أو يتلقيان علما من العلوم رغب كل منهما أو احتاج لأن يتعلمه أو يستزيد منه، وربما صادف أن شجع أحدهما الآخر عليه، فترى الأستاذ والتلميذ معا قادمين إلى درسهما المشترك متصاحبين أو ذاهبين عنه مترافقين ربما إلى حلقة درسٍ آخر أحدهما الأستاذ فيه والآخر التلميذ وهكذا.

وقد دوّن الدكتور محمود المظفر في ذكرياته عن مرحلة دراسته الحوزوية الأولية أنه سجل في دورتين دراسيتين، أولاهما لتعلم العلوم الرياضية، وثانيهما لتعلم اللغة الإنكليزية فتحتهما جمعية منتدى النشر في النجف الأشرف في الخمسينات من القرن

ص: 316

الماضي للمبتدئين في تحصيل هذه العلوم العصرية وقد توجّه للانضمام اليها كذلك بعض من أساتذة كلية منتدى النشر أمثال الأستاذ الراحل محمد صادق القاموسي الذي بادر إلى التسجيل في كل من دورة الرياضيات العامة واللغة الإنكليزية والذي ظل مواظبا على الحضور فيها، والأستاذ الحجة الحكيم (السيد محمد تقي الحكيم) الذي انتمى ولو لمدى محدود إلى دورة اللغة الإنكليزية، وأكشف الآن هذه الحقيقة للتدليل على ما كان يتمتع به الأستاذ الحكيم والأستاذ القاموسي ونظراؤهما من تفتح ذهني عال وواقعية وتواضع جم، دون أن يجدا حرجا في الجلوس إلى جانب طلابهما من أجل التزود ببعض متطلبات العصر الحديثة(1).

ثم زاد الدكتور المظفر الطالب آنذاك عند أستاذيه المتقدم ذكر هما السيد محمد تقي الحكيم والحاج محمد صادق القاموسي فأضاف ثم لا أكاد أنسى وقد واتت الفرصة لذكره أن السيد الحكيم كان في تلك الفترة يشارك أيضا بعض طلابه وأنا من بينهم في مشروع شراء ما بدأ يرد آنذاك إلى النجف من القاهرة وبيروت بعد فترة انقطاع من كتب وصحف ومجلات دورية تشجيعا لطلابه في التزود من منابع الثقافة الحديثة(2).

أما على صعيد مرحلة البحث الخارج فقد كان سماحة عمي المجتهد المغفور له السيد محمد حسين الحكيم (قدّس سِرُّه) يحضر (حضورا تيمنيا) كما يصطلح عليه الحوزويون في دورة بحث جديدة، كان انتهى من حضورها سابقا جنبا إلى جنب مع تلميذه أو من هو بطبقة تلميذه في درس بحث الخارج الذي يلقيه أستاذهما معا سماحة المجتهد المحقق الشيخ حسين الحلي (قدّس سِرُّه) عصر كل يوم من أيام التحصيل العلمي في إحدى غرف الصحن الحيدري الشريف. وكذلك كان يفعل والدي (قدّس سِرُّه) وغيرهما من أمثالها العديد العديد، ذلك أن هذا الحضور مع عدم الحاجة العلمية اليه يكاد يكون عرفا حوزويا قائما.

ص: 317


1- رحلتي الدراسية مع السيد التقي الحكيم. الدكتور محمود المظفر. منشور ضمن: كتاب السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية في النجف : 349.
2- المصدر السابق. الصفحة نفسها.

حادي عشر: إن الهدف من الحوار العلمي وارتفاع وتائر الصوت حدة بين المتباحثين أستاذا وطلابه أو باحثا ومناقشيه عادة هو من أجل الوصول إلى الرأي المختار، لا من أجل كسب الجولة، وهو ما قد يخفى على غير المعتادين عليه حتى ليظن الناظر إلى المتباحثين أو المنصت لهما أنهما لا يتباحثان وصولا إلى الحقيقة وهو الهدف الأسمى للنقاش وارتفاع وتائر الصوت بل يتنازعان أو يتماحكان في قضية شخصية يريد كل منهما كسبها لصالحه كي يستفيد أو يكسب أو ما شاكل، حتى إذا انتهى البحث المسألة العلمية عادت لغة المحبة والود وعاد معها الهدوء والصفاء للمتناقشين. وخيم الكلام الرقيق على مجلس البحث بعد أن اقرّ أحد المتناقشين بخطئه واعترف واثقا من نفسه بسهوه أو غفلته إن إلفة النجف لهذا النوع من الجدال والصراع ضمن حياتها العلمية الطويلة أكسبها في بحوثها العلمية صفة الموضوعية والتواضع وأبعدها عن مستلزمات الجدل العقيم الذي يورث غالبا الصفات الذميمة كالتحاقد والتباغض والتمسك والاعتداد بالرأي، وإن وضح لدى صاحبه جانب الخطأ فيه، وهذه الصفات البغيضة إنما تتوفر غالبا في أصحابها إذا كان مبعث الجدل هو الحصول على منفعة ذاتية أو كان منبعثا عن عقدة نفسية متأصلة في صاحبه، أما إذا كان بلوغ الحق هو رائد الجميع، وكانت الفكرة هي مجال الأخذ والرد منفكة عن أصحابها، كانت الموضوعية وسرعة التنازل للحق هي المالكة لزمام الجدل في أغلب المتجادلين(1).

ثاني عشر: إن الدراسة في الحوزة العلمية النجفية تبدأ منذ الصباح الباكر من قبل طلوع الشمس أحيانا، وتستمر حتى وقت ما من الليل تتخللها فترة راحة الظهيرة التي يفرضها عليهم الجو الطبيعي الحار الملتهب في النجف الأشرف أشهر الصيف، والمترب غالبا أسأبيع الربيع. فحين تزور جامع الهندي في النجف الأشرف مثلا تجد على مدار الساعات المشار اليها حلقات درسية تختلف عددا وكمّا من آن لآخر حسب الأستاذ

ص: 318


1- من مقدمة كتاب النص والاجتهاد. سابق : 56، وينظر : الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف. الشيخ محمد مهدي الآصفي: 16.

ومادته.

وقد حدثني سيدي الوالد (قدّس سِرُّه) في معرض حديثه عن دراسته أنه اتفق في مرحلة ما من مراحل دراسته مع أستاذه أن يذهب إلى دار أستاذه مبكراً نتيجة ازدحام جدولهما الدراسي اليومي، فيوقظ أستاذه لصلاة الفجر ثم يبدأ درسه بعد الصلاة مباشرة، وليس هذا هو حال سيدي الوالد وحده إنه حال العديد من طلاب الحوزة العلمية النجفية أمس واليوم أيضا. يقول الشاعر محمد جواد الغبان طالب الحوزة العلمية في النجف الأشرف سابقا أثناء دراسته لكتاب (شرح التجريد) للشيخ الطوسي لقد رجوت من أستاذي الشيخ محمد رضا المظفر ان يدرسنا هذا الكتاب وكنا ثلاثة طلاب فقط، فاعتذر الأستاذ لعدم وجود الوقت لديه لمثل هذا العمل. وبعد الحاحنا عليه، ورغبتنا في طلب العلم، وافق الأستاذ على ان يدرسنا الكتاب بين الطلوعين (الفجر والشمس) فهو الوقت الوحيد الفاضل لدية لالقاء الدروس. وهكذا كنا نخترق أزقة النجف المظلمة قبل الفجر كل يوم أنا والسيد علي الصافي ومحمود المظفر لحضور الدرس، حتى أكملنا دراسة الكتاب(1).

ثالث عشر : إن الأستاذ والطالب في حوزة النجف الأشرف هما دوماً في امتحان علمي مستمر في أدق المسائل تارة وفي أيسرها،أخرى لاختبار معلوماته تارة أو للحاجة إلى جوابه أخرى، وعليه،لذلك مختلفة، تحقيقا للقربة وتحصيلا للثواب مرة، أو إثباتا للقدرة وتدليلا على الموهبة أو إثباتا للوجود أو دفعا للانتقاص أو تخلصا من الشفقة، أو لغير ذلك فإن على الحوزوي دائما أن يكون متسلحا بالمعلومة ومستعدا للإجابة عن كل ما يسأل عنه فيما درس ودرّس في كل آن، سواء أكان ذلك في مجلس علمي اجتماعي عام أم في غيره، وسواء أكان خلال الدرس أم خارجه من أستاذه كان أو من زملاء مباحثته، في البيت وجه اليه السؤال أم خارجه، في جلسته مع أسرته أم في سواها، في

ص: 319


1- الشاعر محمد جواد الغبان يروي سيرته بعد أن غبن النظام السابق حقوقه. حوار: علي دنيف حسن. جريدة الصباح العراقية في: 27 / 10 / 2006 م.

الصباح بادره السائل أم في المساء وهكذا. وهو ما يحثه باستمرار على التزود بالمعلومة واستمرار البحث والتحصيل والمذاكرة والاستحضار والمراجعة والحفظ.

رابع عشر: إن الطالب المشتغل الحريص على نيل رضا اللّه عز وجل الساعي للتزود بالعلم والمعرفة استجابة له قادر باندفاع ذاتي كبير بل بحب على تحمل الظروف الحياتية القاسية والمعاناة الشديدة والمكابدة المرة والطوارئ الحاصلة كي يواظب على حضور درسه و تدریسه و مباحثته وتحصيله متجاوزا الصعوبات ومتخطيا العوائق وقد ضرب لنا بعض طلاب وأساتذة حوزة النجف الأشرف أمثلة نادرة لشدة المواظبة وعدم الانقطاع عن التحصيل في أشد الظروف وأقساها من ذلك مثلا ما نقله سماحة الشيخ محمد رضا المظفر (قدّس سِرُّه) عن حياة أستاذه الكبير سماحة الشيخ محمد حسين الأصفهاني العلمية وسيرته الدراسية فترة تتلمذه على يد أستاذه الكبير سماحة الشيخ محمد كاظم الخراساني المعروف بالآخوند الخراساني (قدّس سِرُّه) وكيف أنه أختص به ولازم أبحاثه طيلة ثلاث عشرة سنة وكيف أنه لم يترك درس أستاذه هذه المدة إلا يومين: يوم أصيب فيه برمد شدید عاقه عن الحضور، ويوم آخر هطلت فيه الأمطار بغزاره فظن أن ذلك سيعوق أستاذه وتلاميذه عن الحضور، فظهر بعد ذلك أن أستاذه حضر وألقى درسه على شرذمة قليلة منهم(1).

وفي حالة مشابهة كتب سماحة المرجع الأعلى في زمنه سماحة السيد الخوئي (قدّس سِرُّه) في مقدمة تقريراته لكتابة تلميذه سماحة السيد علي الشاهرودي عن محاضرات أستاذه أن تلميذه هذا لم يغب عن حضور درس أستاذه المرجع مدة عشرين عاما متواصلة.

بيد أن ذلك لا يعني غلبة هذه الظاهرة على الطلاب ولكن وجودها في حدّ ذاته مؤشر تربوي جدير بالاهتمام

ص: 320


1- مقدمات كتب تراثية. السيد محمد مهدي الخرسان : 2/ 486.

خامس عشر : إن الحوزة العلمية النجفية مستقلة في قرارها السياسي والثقافي والمادي وغيره الاستقلال كله ومستقلة أيضا في إدارتها الذاتية ومنهجها التعليمي ومواردها التي تعتمد على خالقها أولا وعلى الدعم الشعبي للمؤمنين من خلالالحقوق الشرعية والهدايا والهبات التطوعية ثانيا.

وإذا كانت السلطات الرسمية قد حاولت مرارا التدخل في الشأن السياسي أو المادي للحوزة العلمية في النجف الأشرف ففشلت، فإن تاريخ الحوزة العلمية النجفية هو الأخر لم يشهد حالة ما لتدخل رسمي في نظامها التربوي، منهجا أو طرائق تدريس أو شبهه، أيا كانت جهته، وأيا كانت الضغوط المصاحبة له.

ان الحوزة العلمية لا تشترط شهادات لمنتسبيها ولا تمنح شهادات أو وثائق لخريجيها ولا تسعى ولا تبحث ولا تريد من أية جهة رسمية أو غير رسمية أكاديمية أو غير أكاديمية الاعتراف بها، بل إن الحوزة تنأى بنفسها عن ذلك النأي كله. لعدم احتياجها اليه من جهة، ولمعرفتها بالمستوى العلمي الرصين لطلابها الذي غالبا ما يفوق مستويات من يمنح الشهادات للطلابفي بعض الجامعات ذات الاختصاص المشابه من جهة أخرى، ولغير هذه وتلك ثالثة.

هذا وقد أوجز سماحة المرجع السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظلّه) بعضا من أهم إيجابات هذه الدراسة خلال إجابته عن سؤال وجهته اليه فكتب لي معددا من إيجابياتها ما يأتي:

أولاً : لا تتقيد الحوزة بنظام حدّي في تحديد مراحل الدراسة، بل كل شخص يعمل بقناعاته وقابلياته في إطار الحوزة العام، بحرية تامة وحسب القدرات المتاحة له، من دون أن يتقيد بجدول زمني خاص ولا بأستاذ خاص ولا بغير ذلك، حيث يتيسر له

ص: 321

بذلك استغلال قابلياته وملكاته على أتم وجه، كما يقتضيه الواجب الشرعي في تحقيق الحق للخروج عن عهدة التكاليف الإلهية المقدسة، وبراءة الذمة منها.

وثانياً: عدم خضوع الحوزة للسلطة القاهرة التي تتحكم في قبول الأشخاص في الحوزة، وفي تشخيص من يبلغ المراحل المتعاقبة فيها من المرحلة الأولى حتى المرجعية العظمى، بل لكل أحد الدخول في الحوزة والمعيار في أهليته لها ومرحلته فيها دينياً وعلمياً على القناعات الفردية للناس، نتيجة الاحتكاك بالشخص وتقييم الأشخاص الموثوقين له، في علمه ودينه، وقابليته الشخصية في الظهور على الساحة وفرض نفسه على الناس، والتحكم في قناعتهم المبنية في الإطار العام على الواقعية والإخلاص، من دون نظام محدد لذلك.

وثالثاً : تستقل الحوزة مادياً عن الدولة وعن غيرها من ذوي النفوذ، بل تعتمد بوجه عام على الحقوق الشرعية التي يدفعها المؤمنون بوجه طوعي قياماً بالتكليف الشرعي من دون قيد ولا شرط ولا نظام يتيسر التحكم فيه.

وقد كان لهذه الأمور بعد تسديد اللّه تعالى ورعاية صاحب الأمر عجل اللّه تعالى فرجه أعظم الاثر في محافظة الحوزات على بهائها وقدسيتها، وعلى تكامل العلم وتطوره وعمقه فيها.

وكان فيها علماء بالمستويات العليا في العلم والتحقيق والعمق، وفي الإفادة والإنتاج، ولهم أعظم الأثر في رفع المستوى العلمي في الحوزات، والصعود به في طريق النضوج والتكامل.

كما كانوا على جانب عظيم من الدين والورع والتقوى والمثالية والنفع، وبهذا ملكوا قلوب المؤمنين، وصاروا موضع فخرهم واعتزازهم.

ص: 322

وبذلك كله قام للحوزات كيانها المستقل، وكان لها تحركها المؤثر، وصوتها المدوي، الذي قد يُخنَق وقد ينطلق، تبعاً لاختلاف الظروف والملابسات.

وكان من الصعب بل المتعذر على القوى الفاعلة في الساحة النفوذ فيها والسيطرة عليها لحرفها عن مسارها، وصرفها عن أهدافها، وما يستتبع ذلك من اكتفائها في طلب العلم الديني وتحديد الرتب بالسطحية والشكليات الرسمية من أجل المراتب الوهمية على حساب الحقيقة، ولو بالالتفاف على الأنظمة وتطويعها بوجه غير مشروع، كما تبتلى بذلك المؤسسات الرسمية عامة، خصوصاً في الفئات المغلوبة على أمرها. وقد امتازت الحوزات الشيعية بذلك عن المؤسسات الدينية لباقي المذاهب والأديان. كما يظهر ذلك بأدنى مقارنة وملاحظة (1)

إن هذه الإيجابيات وغيرها هي التي دعت الباحث المتخصص في علم التربية ورئيس وزراء العراق الأسبق الدكتور محمد فاضل الجمالي لأن يكتب في بحث ميداني له عن جامعة النجف الدينية كان قد أجراه في شهر تشرين الثاني من عام 1957م / 1376 ه قائلا : لقد درست أغلب نظم التعليم الجامعي في الغرب، وزرت الجامعات الألمانية والبريطانية والفرنسية وجامعة أكسفورد وكامبرج، وتلقيت تعليمي في الجامعات الأمريكية، إلّا أنه ما من جامعة من هذه الجامعات حتى الجامعات الألمانية تستطيع أن تفخر في حرية التعليم بما يضاهي حرية التعليم والعمق في جامعة النجف، والتي تطبع شخصية المنتسبين اليها بطابعها المتميز. فالنظام التعليمي لا يخضع لنفوذ الدولة، ولا يموّل من قبلها وبالرغم من وجود (24) مدرسة علمية فإنه لا توجد هيئة خارجية أو سلطة تسيطر عليها أو تقوم بإدارتها، كما لا يوجد رؤساء أو عمداء أو أساتذة، وإنما يستطيع أي فرد مهما كان مستواه الثقافي أن ينضم للمدرسة إذا استطاع أن يجد له مكانا للإقامة مادامت لديه الرغبة في الدراسة، كما أن القانون الذي يدير هذه

ص: 323


1- المرجعية الدينية / 2 في حوار صريح مع المرجع السيد محمد سعيد الحكيم. عبد الهادي الحكيم : 44.

الجامعات وينظمها هو فقط الوازع الديني(1).

وهناك غير هذه وتلك من الإيجابيات التي لا يسع المجال لذكرها في هذا المختصر.

ص: 324


1- جامعة النجف الدينية. د. فاضل الجمالي. بحث. مجلة شؤون إسلامية العدد الثاني. السنة الثانية 1420 ه- ص 13. وكذلك مجلة الموسم. العدد: 119/18.

المبحث الثاني: بعض من سلبيات النظام التدريسي المتبع في حوزة النجف الأشرف

وإذ كان لنظام الحوزة العلمية إيجابياته المعروفة فيما تقدم، ومنها وهو ما يدعو إلى التأمل والإعجاب حقا تخريج هذا العدد الضخم من المراجع والفقهاء الكبار والمجتهدين والمصلحين والمفكرين والمبلغين فإن ذلك لا يمنع من وجود سلبيات في نظامها التدريسي يحدوني الأمل بقدرة مراجعها المعاصرين في النجف الأشرف على تخطيها وإصلاح ما ينبغي إصلاحه منها بعد انتهائهم من معركتهم الحالية في إصلاح الوضع العراقي العام، وهو ما أرجو أن يشكل حافزا لإصلاح البيت الحوزوي من الداخل، ولقد شخص المرجع الديني السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظلّه) بعضا من هذه السلبيات في جواب منه عن سؤال وجهته إليه ذاكرا منها :

أولاً: هدر كثير من القابليات نتيجة الحرية المذكورة، وفقد النظام حيث لا يؤدي الكثير واجبهم ولا يستفرغون قدراتهم في طلب العلم أو في التدريس أو في التبليغ، كسلاً أو ضجراً من دون قوى تردعهم عن ذلك.

ثانياً : ضياع بعض المؤهلين لعدم تيسر ظهورهم على الساحة بعد فقد المعايير الدقيقة والحدية لتقييم الأشخاص، ومنها: حرمان كثير من ذوي الكفاءات من حقوقهم المادية والمعنوية التي يستحقونها بسبب كفاءاتهم لصعوبة تمييزهم عن غيرهم بعد فقد طرق التقييم الرسمية.

ص: 325

ثالثاً : فتح باب الدعاوى غير المسؤولة والتصدي لغير المؤهلين(1). وهو ما جرّ في الآونة الأخيرة إلى مآس ومصائب ومنغصات لا يعلمها حق علمها إلا من قاسوها أو تجرعوها واكتووا بنارها.

ذلك أن الحوزة العلمية التي يفترض في منتسبيها من أساتذة وطلاب السعي لنيل رضا اللّه عز وجل وحده قد لا تتمكن لظروف شتى من جعل الإخلاص والواقعية والتجرد والزهد وما إلى ذلك من الصفات الحميدة الأخرى ديدن جميع منتسبيها طلاباً وأساتذة ومدّعين، فقد بتنا نرى وجود من يستثمر هذه الحرية المتاحة في طريقة التدريس، وعدم وجود قيود على التزيي بالزي الخاص لطلاب الحوزة العلمية، ممن لا يتحلى بوازع من دين ولا رادع من خوف اللّه عز وجلّ ولا ضمير، مدعياً ما ليس فيه لغرض في نفسه أو في نفس غيره منتحلا صورة رجل الدين أو صفة ولقب مرجع التقليد، مستغلاً بذلك طيبة قلوب المؤمنين لتمرير مآربه ونواياه.

رابعاً: قلة اهتمام المنهج المتبع بمادة تعنى بتربية دواخل نفس الطالب وتزكيتها وتهذيبها وتدريبها على أساس أن رضا اللّه عز وجل هو الهدف الأسمى الذي يسعى طالب الحوزة لنيله، ومن يسعى لنيل رضاه جل وعلا تهون في عينه الدنيا وما فيها، وبخاصة وأنه في حضرة الإمام علي بن أبي طالب (عَلَيهِ السَّلَامُ) إمام المتقتين وقدوة الزاهدين، وفي أجواء نه بلاغته وحكمه ومواعظه، وتحت منابر من اهتدوا بهديه واتخذوه أسوة حسنة، وربما يعزى سبب عدم وضع منهج تعليمي خاص بتزكية النفوس راجع إلى الثقة بمن اختار سلوك هذا الطريق بنفسه والاتكال عليه في تهذيب نفسه مادام هو الذي وضع نفسه هذا الموضع طواعية.

ولعل الأوضاع الحياتية اليومية للأساتذة والمجتهدين والمراجع والصالحين خير مربٍ ومهذب ومزك لمن أراد من تلاميذهم طلابهم تزكية نفسه من زخارف الدنيا الفانية

ص: 326


1- المرجعية الدينية / 2. سابق.

وتنقيتها من شوائبها وتهذيبها من التعلق بزخارفها، وليس كل الطلاب والمحسوبين على الحوزة مع الأسف يتعظون بمراجعهم الزهاد الأتقياء وبخاصة في هذه الأيام.

إنه لمن أولى الأولويات أن يجهد النظام التربوي الحوزوي نفسه ليكتشف آليات خاصة به تساعده على إدامة حالة الزهد والتقوى والرضا بما قسم اللّه عز وجل في نفوس طلاب الحوزة مع عدم الاكتفاء بتذكيرهم بذلك ودعوتهم اليه بالقول فقط، وبخاصة في هذه الأيام التي بات يلاحظ عزوف العديد منهم عن هذه الحالة التربوية المهمة، فمن دون منهج تربوي واضح المعالم محدد الأهداف يقود الطالب إلى حيث جعل كل همه هو رضا اللّه عز وجل، تبقى الخشية من نقص الإعداد في الجانب الأخلاقي مؤثرة فاعلة.

خامساً: عدم وجود شروط لقبول الطالب الجديد الذي ينوي أن يكون طالبا حوزويا يدخل غمار البحث العلمي الرصين والغوص في عباب الآراء والنظريات والمناقشات والرأي والرأي المخالف وحمل همّ التبليغ وتوصيل ما استفاده من دراسته إلى المحتاجين.

إن وضع نظام مدروس بعناية لقبول الطلاب الجدد يتضمن من بين شروط أخرى آليات لمعرفة قابليات الطالب الذهنية وجديته في الانخراط بهذا المسلك، واستعداده النفسي لمكابدة الصعاب من أجل بلوغ غايته العلمية والتربوية ومدى التزامه بأحكام و آداب وقيم وأخلاق المؤمن إضافة لدوافعه الحقيقية وماضيه وحاضره وما إلى ذلك من شؤونه الأخرى بات شبه أساسي في الحوزة العلمية النجفية بل في الحوزات العلمية كلها.

سادساً: خلو النظام الحوزوي من وجود ضوابط ومحددات لمدى تأهيل الأستاذ لتدريس علم معين يقوم هو بالفعل بتدريسه، بل ولمدى صلاحيته للتدريس أصلا،

ص: 327

ذلك أن هذا الأمر متروك لرغبة الأستاذ في أن يدرّس ما يشاء كيف يشاء متى يشاء، وقد حدث ويحدث أن لا يكون الشيخ صالحا لتدريس هذا الفن، أو لا يكون صالحا للتدريس اصلا، ويغترّ به الطلاب(1) مما يتسبب في ضرر للطالب وهدر للجهد والوقت وغيرهما مما هو واضح.

سابعاً: عدم وجود ضوابط محددة للتزيي بزي العمة الشريفة ولقد بات من النافع جدا وضع ضوابط ذات قوة حوزوية تنفيذية لها القدرة المعنوية والمادية على تطبيق قراراتها لتحدد إضافة للالتزام الدقيق بالأحكام والأخلاق الإسلامية الرفيعة المقتدية بما ورد في قوله تعالى بحق رسوله الكريم محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» المستوى العلمي والأخلاقي والسلوكي لمن يحق له التزيي بزي رجل الدين ومن لازال غير مؤهل لذلك بعد.

ثامناً : عدم التصدي الجدي لإصلاح المناهج المقررة تعيّنا في الحوزة العلمية وعدم إضافة ما بات ضروريا اليها بما يؤهل الطالب للقيام بالدور الذي سيضطلع به على أحسن وجه في قابل أيامه.

ولقد شغل موضوع تأليف كتب جديدة لتحل محل الكتب الدراسية الحالية المهتمين بالشأن الحوزوي في النجف الأشرف من المراجع فمن دونهم من الأساتذه والعلماء والباحثين الحوزويين لاستيضاحهم حقيقة مفادها أن ارتفاع المستوى العلمي في الحوزات وتطوره بمرور الزمن جدّد الحاجة إلى تبديل الكتب الدراسية والارتفاع بمستواها إلى ما يتناسب والتطور الذي حصل ليساهم الكتاب في انفتاح الطالب على المعلومات المستجدة وهضمها وتهيئته لتطويرها والارتفاع بالمستوى العلمي لنفسه وللحوزة التي هو فيها(2). وبخاصة أن الأعم الأغلب من الكتب الدراسية المعتمدة إن لم نقل كلها كتبت بأسلوب قديم والآن اختلفت أساليب التعبير والكتابة عما كان

ص: 328


1- موسوعة النجف الأشرف جامعة النجف الدينية : 6 / 189 نقلا عن: أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين المجلد العاشر. سيرة المؤلف.
2- علم الأصول نظرة جديدة في مناهجه الدراسية في حوزة النجف. حوار مع المرجع السيد محمد سعيد الحكيم. مجلة التحقيق والحوزة. سابق : 109.

عليه الحال في تلك العصور(1). وأنها لم تعدّ لتكون كتبا دراسية في المنهجية والتبويب والمادة المعروضة وأسلوب العرض وقوة البيان والتعبير، على أن كثيرا منها لا يستوعب دورة علمية تامة (2).

إضافة إلى طرحها لمسائل عفا عليها الزمن من ناحية وعدم احتوائها على ما جد من نظريات وآراء حديثة صقلتها مدرسة النجف الأصولية والفقهية عبر مخاض بحثها العميق من ناحية ثانية، وتأثر علماء الفقه و أصول الفقه بالفلسفة والمنطق تأثرا واضحا على اختلاف في درجة التأثر بين عالم وآخر من ناحية ثالثة، ويلاحظ هذا التأثر في مباحث عديدة منها في موضوع علم الأصول واشتراط وجوده ووحدته استفادوا من قاعدة السنخية بين العلة والمعلول وقاعدة الواحد لا يصدر منه إلا الواحد أو الواحد لا يصدر إلا من واحد وكذلك اعتمدوا على قاعدة الواحد في لزوم وجود الجامع بين الأفراد في بحث الصحيح والأعم وفي موضوع المعنى الحرفي تعرضوا إلى موضوع الوجود وأقسامه الذي يبحث عنه في الفلسفة، وكذلك استفادوا من فكرة الجنس والفصل وفرقهما عن المادة والصورة من أخذ ال(لا بشرطية) عن الحمل في الجنس والفصل بينما أخذ ال(بشرط لا) عن الحمل في المادة والصورة.

وفي بحث الأوامر تعرضوا إلى مسألة كلامية اختلف فيها المتكلمون منذ القدم وهي مسألة الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين ومسألة كلام اللّه والإرادة والطلب وتعرضوا خلالها إلى بعض المسائل الكلامية كما يلاحظ ذلك في كفاية الأصول وفي بحث الضد اعتمدوا على فكرة استحالة اجتماع الضدين أو النقيضين أو المثلين واستخدموا مصطلحات: السبب والمقتضي والشرط والمانع والعلة التامة والناقصة وفي مبحث المطلق والمقيد بحثوا عن التقابل وهل أن التقابل بين المطلق والمقيد تقابل العدم والملكة أو تقابل التضاد، وقد استفادوا في القطع من مبحث الجعل الذي يبحث عنه في

ص: 329


1- حوار مع سماحة الشيخ باقر الإيرواني. مجلة فقه آل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ). العدد 35 من السنة التاسعة. 2004م. ص 178.
2- علم الأصول نظرة جديدة في مناهجه الدراسية في حوزة النجف. سابق : 109، وينظر : المصدر السابق: 179

الفلسفة (1) وغير ذلك كثير.

وقد ذكر الباحث مجالين لهذا التأثر هما مجال الألفاظ والمصطلحات ومجال القواعد(2).

وكان سبق أن عدّ سماحة السيد محسن الأمين (قدّس سِرُّه) قبل أكثر من قرن من الزمان وجود خلل في تدريس علم الأصول وهو إدخال مسائل الكلام في علم أصول الفقه(3).

وسيأتي الحديث عن موضوع الكتب المقررة في نظام الحوزة الدراسي بشكل أوسع في الفصل القادم.

تاسعاً: عدم وجود آلية ما تدفع الطالب نحو الالتزام بالدراسة والحضور اليومي كما تقدم سوى الدافع الذاتي وحده، لذا ينبغي العمل على وضع آليات مصاحبة هدفها تقوية الدافع الذاتي للطالب وصولا به نحو الجدية في الدراسة والحضور والمتابعة والمطالعة والمباحثة الدؤوبة المنتجة.

عاشراً: عدم تحديد سقف زمني معين يتراوح بين حدين أدنى وأعلى لكل مرحلة من مراحل الدراسة الحوزوية، بل ولكل كتاب دراسي من كتبها المقررة في كل مرحلة من مراحلها الدراسية، مما يترك المجال مفتوحا أمام الطالب ليقرر الانتهاء من أية مرحلة يشاء أو كتاب يشاء، ولئن كانت مراعاة الظروف الخاصة لكل طالب مطلوبة، والحرية المتاحة في الدراسة وأوقاتها محببة، إلا أنها في أحيان كثيرة باتت تخرج عما أريد لها أن تكون لأسباب شتى غالبها شخصي تتعلق بالطالب نفسه تدفعه إلى التماهل والتسويف والتغيب غير المسموح به، وقد بان هذا التفاوت واضحا في المدد التي يقضيها بعض الطلاب في دراسة موضوع ما أو كتاب ما فالبعض يدرس علم الأصول في اثنتي عشرة سنة، والبعض الآخر في ست عشرة سنة، وثالث في ست سنوات(4).

ص: 330


1- مدى تأثر علماء الفقه والأصول بالفلسفة.1. السيد هاشم الهاشمي بحث مجلة رسالة الثقلين. المجمع العالمي لأهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ). العدد التاسع من السنة الثالثة. 1415 ه/ 1994 م ص : 180-182.
2- ينظر على التوالي : المصدر السابق 83، والعدد العاشر من المجلة نفسها للسنة نفسها : 134
3- موسوعة النجف الأشرف جامعة النجف الدينية : 6 / 189 سابق : نقلا عن : أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين المجلد العاشر. سيرة المؤلف.
4- حوار مع المرجع الشيخ ناصر مكارم الشيرازي مجلة فقه أهل البيت (عَلَيهِم السَّلَامُ). العدد 35 من السنة التاسعة 2004م ص: 173.

حادي عشر : ليس هناك في النظام الحوزوي السائد ما يلزم الطالب أن يتم المرحلة أو الكتاب الدراسي الذي هو فيه قبل انتقاله إلى المرحلة أو الكتاب اللاحق له، بل إن الأمر متروك للطالب نفسه فمنهم من يوفق إلى تطبيقه تطبيقا تاما فلا يقرأ في كتاب حتى يتم ما قبله ويتقنه، ولا في علم حتى يفرغ من الذي قبله ويتقنه، ولا يقرأ درس الخارج حتى يفرغ من السطوح، وكثير منهم لا يطبق هذا البرنامج فيشرع في الكتاب المتأخر قبل إكمال المتقدم، وفي درس الخارج قبل إتقان السطوح، فلا يستفيد شيئا أو يستفيد فائدة قليلة في مدة طويلة(1).

ثاني عشر : عدم فتح باب التخصص الدقيق في علوم الشريعة بعد مرور الطالب الحوزوي بشكل إلزامي بسنوات الدراسة العامة المتقنة للعلوم، بحيث لا ينتهي الطالب من مرحلة بناء الأساس العلمي المستوعب إلّا وقد أحاط إحاطة تامة بكل ما ينبغي له أن يحيط به ويهضمه من علوم الشريعة والعلوم الأخرى المساعدة وفي مقدمتها علوم العربية. ثم يتخصص في فرع منها بعد ذلك.

إن فتح باب التخصص الدقيق في العلوم أثبت نجاحه على أصعدة العلوم كافة تجريبية ونظرية، وطبيعي أن يثبت نجاحه في علوم الشريعة عندنا أيضا لو تمت دراسته دراسة علمية.

كما إن فتح باب التخصص الدقيق في أبواب مثل القضاء والأديان والمذاهب والتبليغ بقسميه الداخلي والخارجي الذي يتطلب من جملة ما يتطلب دراسة المبلغ المختار للتبليغ في بلد معين للغة ولهجة و طباع وعادات وتقاليد وقيم وثقافة ومجتمع وسياسة ذلك البلد وغير ذلك مما تقتضيه طبيعة عمل المبلغ حتى ينجح في مهمته بعد أن يندمج بمجتمعه الجديد اندماجا كاملا. وهو ما نفتقده كثيرا في العديد من المبلغين القادمين إلى دول ربما لا يعرفون لغتها اليومية المتداولة فضلا عن ثقافة مجتمعها فيتعثر

ص: 331


1- موسوعة النجف الأشرف. جامعة النجف الدينية سابق : 6 / 188 نقلا عن أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين المجلد العاشر. سيرة المؤلف وقد كتبها قبل أكثر من قرن من اليوم.

مسعاهم او يفشلوا في مهمتهم.

ثالث عشر: إلقاء مسؤولية البحث في علوم القرآن وتفاسيره، والحديث وعلمه والرجال وعلمه على الطالب، وإن بتوجيهات أساتذته، غير كاف ولا ناهض بتزويده بثقافة قرآنية وحديثية ورجالية أساسية هو أحوج ما يكون اليها بحكم تخصصه، فما دام النظام الحوزوي والمنهج الدراسي لا يلزمان الطالب بهذه العلوم، فسيبقى الطالب بحاجة إلى سدّ هذا النقص المعلوماتي الكبير، وهذه سلبية تؤشر على النظام والمنهج الحوزوي، ما يستدعي معالجة شافية تلزم الطالب بحفظ القرآن أو سور منه إضافة لآيات الأحكام مع إلمام كاف بعلم حديث المعصومين ورجال الحديث من خلال دراسة منهجية متدرجة لعلوم القرآن ومناهج تفاسيره ومفسريه المختلفة، وعلم الحديث، وعلم الرجال ومناه- وكتب المحدثين والرجال وصولا إلى البحث الخارج فيها.

رابع عشر : خلو المنهج الدراسي المتبع في حوزة النجف الأشرف من مادة أو مواد تعنى بالدراسات الأصولية والفقهية المقارنة بين المذهب الجعفري والمذاهب الإسلامية الأخرى، وهي مادة باتت حاجة الفكر الإسلامي والحوزات العلمية اليوم أكثر أهمية عما كانت عليه تلك الأهمية في العقود والقرون الماضية، ورغم أن سماحة السيد محمد تقي الحكيم تل قد أدرك قبل أكثر من نصف قرن أهمية الدراسات الأصولية المقارنة فكتب لذلك كتابه الرائد في بابه (الأصول العامة للفقه المقارن)، سالكاً في تأليفه منهجا جديدا في حصر المسائل الأصولية وتبويبها وساعيا إلى تأسيس أصول للمقارنة الفقهية بين المذاهب الإسلامية المختلفة، محاولا ضبط وتطوير أصول للفقه المقارن فيه سعة و شمول نسبيان لمختلف المدارس العلمية وفي مقدمتها مدرسة النجف الأشرف الحديثة هادفا من خلال مشروعه التأسيسي إلى:

ص: 332

1 - محاولة البلوغ إلى واقع الفقه الإسلامي من أيسر طرقه واسلمها، وهي لا تتضح عادة إلّا بعد عرض مختلف وجهات النظر فيها وتقييمها على أساس موضوعي.

2 - العمل على تطوير الدراسات الفقهية والأصولية والاستفادة من نتائج التلاقح الفكري في أوسع نطاق لتحقيق هذا الهدف.

3- إشاعة الروح الرياضية بين الباحثين ومحاولة القضاء على مختلف النزعات العاطفية وإبعادها عن مجالات البحث العلمي.

4 - تقريب شقة الخلاف بين المسلمين والحد من تأثير العوامل المفرقة التي كان من أهمها وأقواها جهل علماء بعض المذاهب بأسس وركائز البعض الآخر مما ترك المجال مفتوحا أمام تسرب الدعوات المغرضة في تشويه مفاهيم بعضهم والتقول عليهم بما لا يؤمنون به(1). حتى قيل : إن هذه المبادرة لا تكمن قيمتها في كونها لم تسبق بنظير فحسب، بل لأنها تعد بحق مشروعا تاسيسيا جادا يهدف إلى التقريب بصورة فعلية وعملية وليس على نحو الوعظ والدعوة الحماسية المجردة، فالدعوة إلى التقريب يجب أن تخرج عن حالة الوعظ إلى حالة جادة بوضع برنامج عملي والقيام بخطوات فعلية تاسيسية في هذا الإطار وخاصة في حقل الأصول والمباني الفقهية(2). وأنه وفق لعله للمرة الأولى لنقل شطر جيد من خبرة وجدة وأصالة وعمق مدرسة النجف الأشرف في الأصول إلى أوساط الاختصاص الفقهي في العالم العربي، ولأول مرة يطلع فقهاء المسلمين على آفاق جديدة لهذا العلم... عبر هذا الكتاب الجليل.

ورغم أن المؤلف العلامة حافظ بأمانة على عمق أفكار هذه المدرسة فيما عكس من أفكارها في هذا الكتاب، إلّا أنه استطاع في نفس الوقت أن أن يذلل لغة الاختصاص وييسرها لأصحاب الاختصاص من غير هذه المدرسة، وهو عمل شاق وعسير يعرف

ص: 333


1- الأصول العامة للفقه المقارن سابق : 10.
2- أسس الدراسة الأصولية المقارنة عند العلامة الحكيم. د. عبد الجبار شرارة. بحث منشور ضمن كتاب السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية في النجف: 291. وينظر آية اللّه الحكيم قدوة فكرية في مجال التقريب الشيخ محمد علي التسخيري بحث منشور ضمن الكتاب نفسه: 278.

قيمته جيدا من مارس تجربة من هذا القبيل في هذا الاختصاص العلمي(1).

كما كتب ودرّس مؤلف كتاب (الأصول العامة للفقه المقارن) موضوع (القواعد العامة في الفقه المقارن) مقارنا فيه بين قواعد الفقه في المذهب الجعفري وقواعد الفقه في المذاهب الفقهية الأخرى المختلفة من خلال منهجة جديدة، مستكملا بذلك نهجه في الدراسات الإسلامية المقارنة وقد طبع بعض هذه الأبحاث في كتاب مختصر أسماه (القواعد العامة في الفقه المقارن).

إلّا أن المنهج الدراسي السائد اليوم لا زال لليوم لم يول مبدأ المقارنة بين أصول وفقه المذهب الجعفري و أصول وفقه بقية المذاهب الإسلامية الأخرى أهميته الكبيرة، وأخال أن هذا من جملة الأسباب التي أبقت كتاب: (الأصول العامة للفقه المقارن) وكتاب (القواعد العامة في الفقه المقارن) يتيمين لم يردفا بمثيل، ليس في الحوزة العلمية النجفية فحسب بل في الحوزات العلمية الأخرى أيضا.

هذا وهناك من السلبيات الأخرى التي هي أقل أهمية مما تقدم لا يسع المجال لذكرها في هذا المختصر.

ص: 334


1- المنهج العلمي لكتاب الأصول العامة للفقه المقارن للسيد الحكيم. بحث. الشيخ محمد مهدي الآصفي. منشور ضمن بحوث كتاب: السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية في النجف: 130.

هوامش الفصل الثامن

(1) من دراسة للمرجع الشيخ الفياض عن أستاذه السيد الخوئي. مجلة النور:العدد 176. أيلول 2006م

(2) من مقدمة كتاب النص والاجتهاد. سابق : 55

(3) الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف. الشيخ محمد مهدي الأصفي : 26.

(4) ينظر: لمحات من حياة الشيخ الأنصاري. الشيخ محمود سبط الشيخ. مجلة الفكر الإسلامي. العدد السابع السنة الثانية. عدد خاص بالشيخ الأنصاري. رمضان 1415ه ص : 16 - 18. ونظر أيضا الخصائص العلمية والأخلاقية للشيخ الأعظم الأنصاري. السيد محمد علي الموسوي الجزائري. تعريب عباس الأسدي. المجلة نفسها والعدد نفسه. ص : 146-148 وغير هذين كثير.

(5) : النجف الأشرف مهد الفضيلة والعلم. سابق : 73.

(6) النجف الأشرف مهد الفضيلة والعلم. سابق : 73.

(7) هكذا عرفتهم. جعفر الخليلي: 1/ 114 - 115.

(8) : النجف الأشرف مهد الفضيلة والعلم. سابق : 73.

(9) موسوعة الحوزة العلمية والمرجعية. الشهيد السيد محمد باقر الحكيم : 3/ : 51.

(10) المصدر السابق : 3/ : 55-56.

(11) السابق : 3/ : 145.

ص: 335

(12) المصدر نفسه 3/ هامش ص 144.

(13) الفكر الإمامي من النص إلى المرجعية 306 307.

(14) أساطين المرجعية العليا في النجف الأشرف. سابق : 350.

(15) المصدر السابق : 348.

(16) موسوعة النجف الأشرف جامعة النجف الدينية : 6 / 231 نقلا عن جامعة النجف للشيخ محمد تقي الفقيه.

(17) الديوان. د. السيد مصطفى جمال الدين: 14

(18) الديوان. د. السيد مصطفى جمال الدين: 14 - 16

(19) موسوعة النجف الأشرف : 6 / 96 نقلا عن مبحث نشوء الحوزة العلمية من كتاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف. لعلي البهادلي.

(20) المصدر السابق نقلا عن النجف الحضارية لنصر اللّه بحث منشور في مجلة الغدير. بيروت لبنان. العدد 2 لسنة 1981م.

(21) المصدر السابق : 6 / 96 نقلا عن مبحث نشوء الحوزة العلمية من كتاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف.لعلي

(22) هكذا عرفتهم. سابق: 1 / 248.

(23) مرجعية التقليد. سابق : 132

(24) المصدر السابق : 14 - 15

(25) الشيخ الأنصاري من خلال آراء الفقهاء والعظماء والمؤلفين. محمد جواد الطبسي: 8 -9.

(26) لمحات من حياة الشيخ الأنصاري. سابق. 20.

(27) فقيه وأخلاقي كبير تولى بعد وفاة الشيخ مرتضى الأنصاري مواصلة بحث

ص: 336

الشيخ الأنصاري من على كرسي الشيخ نفسه متما بحث شيخه الفقهي من حيث انتهى، بيد أنه لم يعمر طويلا فقد توفي بعد وفاة الشيخ الأنصاري بستة أشهر، ولعل من أشهر تلامذة السيد التستري الحكيم العارف المولى حسين قلي الهمداني، وقد نقل العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان قصة يستفاد منها أن الألطاف الغيبية تدخلت في نقل السيد التستري نحو العرفان والسير والسلوك (ينظر خصائص المدرسة السلوكية. سابق : 194 نقلا عن رسالة لب اللباب : 156 ).

(28) مجلة حوزة الإيرانية، العدد الأول : 53 نقلا عن من خصائص المدرسة السلوكية للفقيه الهمداني بحث عرفان محمود مجلة الفكر الإسلامي العدد الثامن السنة الثانية 1415 ه- : 194.

(29) رحلتي الدراسية مع السيد التقي الحكيم. الدكتور محمود المظفر. منشور ضمن: كتاب السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية في النجف : 349.

(30) المصدر السابق. الصفحة نفسها.

(31) من مقدمة كتاب النص والاجتهاد. سابق : 56، وينظر : الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف. الشيخ محمد مهدي الآصفي: 16.

(32) الشاعر محمد جواد الغبان يروي سيرته بعد أن غبن النظام السابق حقوقه. حوار: علي دنيف حسن. جريدة الصباح العراقية في: 27 / 10 / 2006 م.

(33) مقدمات كتب تراثية. السيد محمد مهدي الخرسان : 2/ 486.

(34) المرجعية الدينية / 2 في حوار صريح مع المرجع السيد محمد سعيد الحكيم. عبد الهادي الحكيم : 44.

(35) جامعة النجف الدينية. د. فاضل الجمالي. بحث. مجلة شؤون إسلامية العدد الثاني.

ص: 337

السنة الثانية 1420 ه- ص 13. وكذلك مجلة الموسم. العدد: 119/18.

(36) المرجعية الدينية / 2. سابق.