العقائد في القرآن

هوية الکتاب

العقائد في القرآن

من مواهب السيد عبد الأعلى السبزواري

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1432 ه - 2011م

دارالکاتب العربية للطباعة والنشر والتوزيع

هاتف: 03/257984 - فاکس: 01/553456 - ص.ب. 25/355 - غبيري-بيروت

Daralkatebalarabi@hotmail.com

ص: 1

اشارة

جميع الحقوق محفوظة

الطبعة الأولى

1432 ه - 2011م

دارالکاتب العربية للطباعة والنشر والتوزيع

هاتف: 03/257984 - فاکس: 01/553456 - ص.ب. 25/355 - غبيري-بيروت

Daralkatebalarabi@hotmail.com

ص: 2

العقائد في القرآن

من مواهب

السيد عبد الأعلى السبزواري

إعداد

السيد إبراهيم سرور

دار الكاتب العربی

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين .

وبعد،

إن أهم مطلب يجب على الإنسان الاهتمام به والاطلاع عليه والإيمان به هو المطلب العقائدي، والذي يحدّد مصير الإنسان في الدنيا قبل الآخرة. ولأن الإنسان لا بد له من إيضاح الشبهات التي تحيط بعقيدته ودرأ الأفكار الدخيلة والتي لا توافق كتاب الله عز وجل وعقيدة العترة الطاهرة من أهل البيت علیهم السلام ، كان لا بد لنا من بیان بعض الأبحاث العقائدية المحكمة من كتاب التفسير للسيد عبد الأعلى السبزواري (قدس سره) لما لها من الفائدة الجمة و الثقل العلمي الكبير الذي حمله السيد (قدس سره) من جميع الجوانب العلمية، وخصوصاً في هذا الباب الذي يتصل بشكل مباشر بعقائد أهل البيت عليهم السلام الذي لا بد على المؤمن حملها واعتناقها ومعرفتها. ومن أراد ذلك لا بد له

ص: 5

من الرجوع إلى أفكار سماحة السيد (قدس سره) في هذا المجال العقائدي ليغترف من معين أهل البيت علیهم السلام في المعارف الحقة التي تبني عقائد الفرد المؤمن على مرّ العصور، نسأل الله تعالى القبول مع التقصير .

و الحمدلله رب العالمین

السيد إبراهيم سرور

25محرم 1431ه

ص: 6

مراتب الإيمان والكفر

اشارة

إن الإيمان هو التصديق، واختلفوا في أن التصديق بسيط أو مرکب، وكان هذا الاختلاف بين الفلاسفة ولكنه سرى إلى غيرهم. وقد أثبتنا في محله سقوط أصل النزاع رأساً لأن مثل التصديق الذي هو من الصفات النفسانية إن لوحظ باعتبار مبادئ فهو مركب عند الجميع . وإن لوحظ باعتبار نفسهن فهو بسيط كذلك، فالنزاع بينهم لفظي.

لكن في الإيمان نزاع آخر قديم بينهم وهو أن العمل على طبق الوظيفة الشرعية جزء مقوم لحقيقة الإيمان، بحيث إن مَن لم يعمل بالوظيفة الشرعية لا إيمان له وإن كان له التصديق القلبي الجازم بأصول الدين، أو أن العمل بالوظيفة الشرعية شيء خارج عن أصل التصديق القلبي، فيكون من كان معتقداً بأصول الدين ولا يعمل بالوظيفة مؤمناً ولكنه فاسق.

والمتحصل من مجموع الآيات المباركة المشتملة على جملة «الذين آمنوا وعملوا الصالحات» والسنة المقدسة المسوقة في هذا السياق أنّ للإيمان كمالاً ونقصاً وشدة وضعفاً، ويختلف متعلقه - كما تقدم - قلباً وعملاً ولساناً، فيكون إيمان كل شيء بحسبه، فإيمان القلب

ص: 7

بالاعتقاد، وإيمان اللسان بالإقرار، وإيمان الجوارح بالعمل، فإذا تحقق الجميع يثبت الإيمان الكامل، وإذا تحقق بالنسبة إلى البعض فهو إيمان ناقص يثبت بالنسبة إلى ما تحقق وينتفي بالنسبة إلى ما لم يتحقق، ويثبت الكفر مكانه .

والكفر له مراتب کمراتب الإيمان من حيث الشدة والضعف ومن حيث الكمال والنقص، ويتحقق بالنسبة إلى الاعتقاد واللسان وعمل الجوارح فيمكن أن يكون شخص مؤمناً اعتقاداً ولساناً ولكنه كافر عملاً لا اعتقاداً ولا إقراراً، وهذا معنى الأثر الذي تقدم من أن «الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان، فإيمان كل شخص مبثوث على الجوارح، فالإيمان والكفر كالنور والظلمة فقد يكون النور في كل مورد وقد يكون في مورد دون آخر، ولا ريب في أنه متى ما انتفى النور يجل محله الظلمة لا محالة ولا واسطة بينهما، وهذا معنى ما تقدم من الأخبار من قوله صلی الله علیه و آله و سلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» إلى غير ذلك مما ورد، فإذا اجتمع الإيمان بالله قلباً والإقرار باللسان والعمل بما أمر الله وترك ما نهى عنه يكون مؤمناً، وإذا لم يتحقق الإيمان قلباً و تحقق لساناً و عملاً يكون منافقا، وإذا تحقق قلباً ولساناً ولم يتحقق عملاً يكون فاسقاً وهو لا ينافي إطلاق الكفر العملي عليه - أيضاً - كما في قوله علیه السلام : «وأما الرشا في الأحكام فهو الكفر بالله العظيم».

فكل من جهل شيئاً من أمور دينه ينقص من إيمانه بقدر جهله، وكل من أنكر ما يجب عليه تصديقه في الشريعة فله حظ من كفر

ص: 8

الجحود إلى أن يصل إلى الجحود المطلق، وكل من أظهر بلسانه ما لا يعتقده بقلبه بغير عذر شرعي فله حظ من النفاق إلى أن يصل إلى النفاق المطلق، وكل من كتم حقاً شرعياً بعد معرفته فله حظ من التهود إلى أن يصير كذلك مطلقاً، وكل من استبد برأيه ولم يتبع الشريعة فله حظ من الضلالة إلى أن تتم فيه، وكل من ارتكب حراماً أو ترك واجباً فله حظ من كفر الاستخفاف إلى أن يصل إلى الكفر المطلق، إن لم يتدارك ذلك بالتوبة. ولكن من أسلم وجهه لله تعالى واتبع الشريعة المقدسة في جميع ما جاء به وتدارك ذنبه بالتوبة فهو المؤمن حقاً .

هذه خلاصة ما يستفاد من الكتاب والسنة بعد رد المجمل إلى المفصل والمتشابه إلى المحكم.

بحث روائي

عن العسكري علیه السلام أنه قال : «الذين يؤمنون بالغيب عني بما غاب عن حواسهم من الأمور التي يلزمهم الإيمان بها، كالبعث والنشور والحساب والجنة والنار وتوحيد الله، وسائر ما لا يعرف بالمشاهدة وإنما يعرف بدلائل قد نصبها الله تعالی دلائل عليها.»

وعن الصادق علیه السلام أنه قال : والذين يؤمنون بالغيب بصدقون البعث والنشور والوعد والوعيد».

وعنه علیه السلام أيضاً: «الذين يؤمنون بالغيب أي من آمن بقيام القائم علیه السلام أنه حق».

ص: 9

أقول: الغيب شامل لكل ما لم يكن محسوساً ويكون داعياً إلى الله تعالى، فإيمان المسلمين في هذا الزمان بنبينا الأعظم صلی الله علیه و آله وسائر أنبياء الله تعالى من الإيمان بالغيب، وكذا كل حجة منه تعالی تدعو إليه، فا ذكر في الخبر صحيح لا ريب فيه، لأنه من باب أحد المصادیق ومن باب التطبيق .

وأما ما فسره جمع برجال الغيب أيضا، وفضلوا القول فيه فليس ذلك إلا من مجرد الدعوى، ولم يقم دليل على صحته لا عقلاً ولا نقلاً، كجملة كثيرة من أقوالهم في الركن والولي والمرشد والأوتاد ونحو ذلك.

وعن الصادق عليه السلام : «فطر الناس جميعاً على التوحيد» .

وعنه علیه السلام أيضا: «فطرهم على المعرفة، قال رسول الله صلی الله علیه و آله : كل مولود يولد على الفطرة، يعني على المعرفة بأن الله تعالى خالقه» .

أقول: يستفاد من ذلك أن الإيمان بالغيب مودع في الفطرة ومن مصادیقه الإيمان بالله ، كما يأتي في الآيات المباركة.

وعن الصادق علیه السلام في قوله تعالى : «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» أي : «مما علمناهم ينبئون، وما علمناهم من القرآن يتلون».

هذا يدل على ما قلناه من أن الإنفاق لا يختص بالمال بل يشمل كل ما ينفع الغير ولا اختصاص لقوله علیه السلام بعلم الشريعة بل يشمل كل علم ينتفع به الغير في دينه أو دنياه - ما لم يكن منهياً عنه شرعاً - كعلم الطب وغيره مما يقوم به نظام المجتمع، الذي لا ينافي وجوب إنفاقه أخذ الأجرة عليه، كما بيناه في الفقه .

ص: 10

وعنه علیه السلام أيضا حيث سئل في كم تجب الزكاة؟ فقال له : «الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريده » فقال : أريدها جميعاً ، فقال: «أما الظاهرة ففي كل ألف خمسة وعشرون، وأما الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك»(1).

ص: 11


1- مواهب الرحمن، ج1، ص87 - 90

شبهة الجبر والتفويض

«إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)» (الآیة 26 - 27 من سورة البقره)

الآية الشريفة مفتتح آيات الكتاب العزيز في الجبر والتفويض فلابد من البحث فيهما ليمكن إرجاع سائر المواطن إليه. فنقول ومن الله الاستعانة والاستمداد :

إنّ شبهة الجبر والتفويض لم تكن حادثة في الإسلام وإنما هي قديمة بقدم الإنسان وترجع إلى أوائل الخلقة، كما يظهر من مخاصمة إبليس مع الله تعالی فكل من يعتقد بمبدء غيبي مؤثر في العالم فيه هذه الشبهة، وقد قال علي عليه السلام : « عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم» . وفسخ العزيمة إنما وقع من عهد أبينا آدم عليه السلام ، فأصل الشبهة من ذلك الحين، وإنما تطورت بمرور الزمن فدخلت آراء وشبهات

ص: 12

أخرى، وبلغت حداً بعيداً من البحث حتى أفردت لها كتب ورسائل .

وكيف كان فالأفعال الاختبارية الصادرة من الإنسان يحتمل فيها وجوه:

الأول: أنها صادرة بإرادة الله تعالى واختیاره فقط، و أن العبد بمنزلة الآلة الجمادية، وأن الإنسان وفعله مخلوقان لله تعالى . وهذا هو الجبر .

الثاني: أنها صادرة من العبد وباختياره فقط، ولا دخل فيها لله تبارك وتعالى . وهذا هو التفويض.

الثالث: الأمر بين الأمرين والمنزلة بين المنزلتين، فيكون لكل واحد منهما دخل بنحو الاقتضاء لا العلية التامة ، وهذا هو الحق الذي أسسه الأئمة الهداة عليه السلام رداً على المذهبين السابقين، فإنّ الأول منهما خلاف الأدلة العقلية والنقلية بل الوجدان، والثاني يلزم منه التعطيل، كما ستعرف ذلك فيما سيأتي من التفصيل، والبحث تارة يقع في الجبر والتفويض، وأخرى في الأمر بين الأمرين.

ص: 13

مذاهب الجبر

مذاهب الجبر ثلاثة منها: مذهب الأشاعرة، وهو نفي الإرادة عن العبد مطلقاً وانحصارها في الله تعالى، وأن العبد بالنسبة إليه كالقلم في يد الكاتب فيكون نسبة الفعل إلى الله بالحقيقة وإلى العبد بالمجاز .

ومنها: ما ذهب إليه جمع من القول بوحدة الوجود، بل الوحدة المطلقة فلا إثنينية بين الخالق والعبد حتى تكون فيه الإرادة والاختيار، وسيأتي بطلان القول بوحدة الوجود، بل الوحدة المطلقة، بل الالتزام بلوازمه يوجب الكفر.

ومنها: ما ذهب إليه بعض : من أن علم الله تعالی علة تامة لحصول معلوماته، وفعل العبد معلوم له تعالى فلا أثر لاختيار العبد و إرادته في فعله أصلاً.

وقد استدل القائلون بأنّ الأفعال مخلوقة لله تعالى بالأدلة العقلية والنقلية، أما الأدلة العقلية فاستدلوا بأمور :

الأول: أن فعل العبد مقدور لله تعالى، لأنه من جملة الممكنات التي هي منه تعالى، وحينئذٍ لو وقع بقدرة العبد وحده لزم تعطیل قدرته تعالى، وإن وقع بقدرتهما معاً لزم اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد.

ص: 14

و الجواب: إن ليس كل مقدور له تعالى هو من فعله المباشري، فمجرد کون فعل العبد مقدوراً له تعالى لا يستلزم أن يكون من فعله أيضاً.

الثاني: إن جميع ما سواه مورد إرادته تعالى الأزلية الأبدية ، وإن إرادته عین ذاته، وهي العلة التامة لتحقق المعلول، فلا أثر لإرادة العبد في فعله .

والجواب : إن ذلك مبني على جعل الإرادة من صفات الذات ، لكن الحق أنها من صفات الفعل فتكون حادثة بحدوثه، بل إرادته عين فعله، كما في الروايات. وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالی.

الثالث: أن العلم الإلهي متعلق بجميع ما سواه من الممکنات ومنها أفعال العباد، سواء منها في الدنيا أم في الآخرة الذي لا انتهاء الأفعاله، وعلمه سبب تام لحصول المعلوم.

والجواب: إن العلم من مقدمات حصول الإرادة المتقدمة على الفعل وليس سبباًتاماً لحصول المعلوم بوجه من الوجوه، بل علمه تعالی تعلق بأفعال العباد من حيث أنها مختارة لا أن يتعلق بالعلم بأحد طرفي الاختيار فقط.

ثم إن أسباب الفعل هي: العلم، والمشيئة، والإرادة، والقدرة والقضاء، والإمضاء ونحوها. وهي جارية في كل فعل صادر من كل عالم قادر سواء أكان هو الله تعالى أم العبد. والفرق بين المشيئة والإرادة بالكلية والجزئية وكل ذلك من المقتضيات وليست من العلة

ص: 15

التامة في شيء، وهذه كلها في العبد تكون تارة التفاتية تفصيلية ، وأخرى على نحو الإجمال والارتكاز وهو الغالب وسيأتي تفصيل هذا في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالی.

أما الأدلة النقلية فقد استدلوا بظواهر من الآيات المباركة تؤيد مذهبهم منها قوله تعالى : «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ » (سورة الصافات ، الآية 96) وقوله تعالى: «فيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »( سورة إبراهيم، الآية: 4)، وقوله تعالى:« وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى »(سورة الأنفال، الآية 17) وأمثال ذلك من الآيات .

ويناقش فيها بوجهين :

الأول: أنها معارضة بآيات أخرى أكثر عدداً وأصرح دلالة على اختيار الإنسان في أفعاله كما ستعرف.

الثاني : أن سياق تلك الآيات والقرائن المحيطة بها تدل على أن المراد منها غير ما ذهبوا إليه فنفي الرمي عن النبي صلی الله علیه و آله في الآية السابقة - مثلاً - إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة، لا بالنسبة إلى الفعل المباشري الصادر منه صلی الله علیه و آله ، وسيأتي في البحث الروائي ما يفيد المقام.

ومجمل القول في الجبر و مذاهبه أنه لم يصادم العقل والنقل فقط، بل هو مستلزم لنفي الحسن والقبح العقلي المتفق عليهما بين العقلاء، كما أنه يلزم منه نفي الثواب والعقاب الثابتين في جميع

ص: 16

الشرائع الإلهية ، بل يلزم منه تجویز الظلم والجور على الله تعالى، إلى غير ذلك من المفاسد.

ولولا ظهور بعض كلمات القوم في التعميم لأمكن حمل بعضها على ما لا دخل للاختبار فيه - کالعزّة والذلّة، والغني والفقر. ولأمكن حمل الجبر في قولهم على الجبر الإقتضائي، يعني: أنّ مقتضى الإرادة القاهرة الأزلية الإلهية أن تكون في البين إرادة غيرها، ولكنه تبارك وتعالى جعل للإنسان بل لمطلق الحيوان إرادة في الجملة لمصالح كثيرة، فالجبر الإقتضائي لا ينافي الاختيار الفعلي من العبد .

ص: 17

التفويض

قد عرفت أن المراد من التفويض المنسوب إلى المعتزلة هو كون الأفعال مختارة باختيار العباد بلا دخل لاختياره تعالى، وأنها تنسب إلى العباد بالحقيقة و إلى الله تعالى بالمجاز وأنه لا تكون أفعال العباد مورد إرادة الله تعالی.

واستدلوا على ذلك بأنه إذا لم يكن الإنسان موجداً لأفعاله لا يصح تكليف العباد، ولا المدح والذم، ولبطل الثواب والعقاب، وللزم منه الجبر، مع أنه لا يصح أن تكون السيئات والأفعال القبيحة مورداً لإرادته تعالی.

والجواب عن ذلك يظهر من بيان الأمر بين الأمرين .

وقد احتجوا ببعض الآيات الكريمة، فإن قسماً منها تدل على كون الإنسان هو الفاعل لأعماله كقوله تعالى:« كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ » (سورة الطور، الآية 21). و قسماً منها تدل على أن المطيع يثاب على أعماله الحسنة والمسيء يعاقب بمعاصيه، قال تعالى: «الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ»(سورة غافر، الآية 17)، وقوله تعالى : «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)» (سورة الجاثية، الآية 28)، وقوله تعالى : «مَنْ جَاءَ

ص: 18

بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ » (سورة الأنعام، الآية 160). وقسماً منها تدل على أنه مختار في أفعاله قال تعالى : «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (سورة الكهف، الآية 29). وقسمة منها تدل على اعتراف الإنسان بصدور المعاصي منه في الآخرة ، قال تعالى: «وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » (سورة إبراهيم، الآية 22) إلى غير ذلك من الآيات الدالة منطوقاً أو مفهوماً على أن الإنسان خالق لأفعاله وأنه المسؤول عنها .

والجواب عن ذلك: أن أقصى ما يستفاد منها أن الإنسان هو الفاعل وعنه تصدر جميع أعماله ، وأما أنه ليس لإرادته تعالى وقدره وقضائه دخل فيها فلا يستفاد منها، فهي من هذه الجهة معارضة بالآيات الدالة على أنها من الله عز وجل، قال تعالى : « قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ » (سورة النساء، الآية 78)، والآيات الدالة على طلب الاستعانة منه تعالی نحو قوله تعالى: « وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ » (سورة الحمد، الآية 4). ولما ورد عن المعصومين عليهم السلام من قول: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، فإن الجميع ظاهر في حصة نسبة أعمال العباد إلى الله تعالى، إما بنحو القضاء كما في السيئات ، أو هو والرضاء معا. كما في الحسنات . وقضاؤه ورضاه ليسا من العلة التامة .

وبالجملة: إن الآيات والروايات لا يمكن أن يستفاد منها التفويض

ص: 19

الكلي للعباد المقابل للجبر، ويمكن حمل كلامهم على التفويض الإقتضائي بان يقال : إن نهاية استغنائه تعالى عن خلفه يقتضي إيكال الإرادة إلى العباد بعد بيان طريق الحق والباطل، وإتمام الحجة عليهم ، ولكنه لم يفعل لمصالح كثيرة بل جعل إرادته مسيطرة على إرادة عباده لا على نحو يلزم منه الجبر، وهذا هو ما يظهر من بيان الأمر بین الأمرين، كما سيأتي.

ص: 20

الأمر بين الأمرين

اشارة

مما تفردت به الأمامية عن سائر الفرق القول بالأمر بين الأمرين والمنزلة بين المنزلتين فقد ورد عن الأئمة الهداة (سلام الله عليهم) أنه «لا جبر ولا تفویض، بل أمر بين أمرين» و هو الحق المطابق للوجدان والبرهان.

والمراد ب_(الأمر بين الأمرين) أن الله تبارك وتعالى أودع القدرة في عباده وبها - بعد وجود الدواعي - يصدر الفعل من الفاعل، وينسب الفعل إليه مباشرة، فهو غير مجبور، لتعلق قدرته بطرفي الفعل معاً . هذا هو المعنى المستفاد من الأخبار الواردة في ( الأمر بين الأمرين)۔ ولابد من توضيح ذلك بشيء من التفصيل.

بيان ذلك : إنّ أفعال العباد منحصرة في ثلاثة أقسام: فهي إما من الحسنات ، أو من السيئات، أو من المباحات. و لا ريب في أن الأمر بین الأمرين متقوّم بالانتساب إليه تعالى وإلى العباد، انتساباً يحكم بصحته العقلاء، ومن رضائه تعالى بالحسنات وترغيبه إليها والتأكيد في إتيانها، والثواب عليها أو العقاب على الترك في بعضها يصح الانتساب إليه تعالى، ويسمى ذلك بالانتساب الإقتضائي لا يبلغ حد الإلجاء

ص: 21

والاضطرار . ومن إذنه تعالى في المباحات وترخيصه لها صح انتسابه إليه تعالی اقتضاءً كما هو الحال في الحسنات، فتحقق بالنسبة إلى الحسنات والمباحات رضاؤه وقضاؤه تعالى إليها.

ومن خلقه تعالى للنفس الأمارة والشيطان صح نسبة السيئات إليه تعالى، لا بمعنی رضائه بها وترغيبه إليها فيصح نسبة الخلق التسبي إليه تعالى في السيئات، ويجري هذا الوجه في الحسنات والمباحات فإن هذه النسبة توجد في الجميع.

وأما نسبة الفعل إلى الفاعل فإن الله تعالى خلق الذات المختارة القادرة على السيئات مثلا، مع نهيه تعالى وإظهار سخطه وتوعيده عليها، وقد فعلها العبد بسوء اختياره، فينسب إليه الفعل مباشرة كما أن منشأ النسبة إليه تعالى أنه خلق الذات القادرة المختارة مع إبلاغ النهي والتوعيد ، وقد علم بها وقضاها على نحو الاقتضاء لا قضاء الحتم، ولا منقصة في هذا القسم من النسبة أبداً ولعل هذا أحد معاني قوله تعالی : « قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا » (سورة النساء، الآية 78).

وبعبارة أخرى : إنّ في الحسنات والمباحات تتعدد جهة الانتساب إليه تعالى من الرضاء والقضاء، والأذن والترغيب، أو خلق الذات القادرة المختارة ، و في السيئات منحصرة بخصوص الأخيرة والقضاء الإقتضائي مع النهي والتوعيد، كل ذلك موافق لقانون العقل والعدل . ومن ذلك يعلم أن الهداية والضلالة، بل السعادة والشقاوة ليستا من

ص: 22

ذاتيات العبد بحيث لا اختيار له فيها، ولا من لوازم الذات كلزوم الزوجية للأربعة وإلّا لما كانت قابلة للتغيير والتبديل، ولبطل التكليف والثواب والعقاب ونحو ذلك من المحاذير ، بل هو من قبيل الأعراض الخارجية القابلة للزوال والتغيير ، والتي للاختيار فيها دخل مع توفيق وهداية منه تبارك وتعالی .

ومما ذكرناه يجاب عن شبهات القوم، ويرفع التعارض بين الآيات والروايات، ولعلماء الإمامية في تفسير الأمر بين الأمرين وجوه أخرى لا تخلو بعضها من المناقشة فراجع، وسيأتي في البحث الآتي المختص بالمقام مزید بیان .

بحث روائي

عن الباقر والصادق علیهما السلام قالا : « الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها، والله أعزّ من أن یرید أمراً فلا یکون»

وسئلا علیهما السلام هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: «م، أوسع مما بين السماء والأرض».

وعن الوشا، قال: سألت الرضا علیه السلام الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال علیه السلام : «الله أعز من ذلك» قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال : «الله أعدل وأحكم من ذلك» ثم قال علیه السلام : «قال الله تعالی: یا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك».

ص: 23

أقول: هذه الجملة الأخيرة صريحة في ما ذكرناه آنفاً .

وعن الصادق عليه السلام قال له رجل: جعلت فداك أجبر الله تعالى العباد على المعاصي ؟ قال علیه السلام : «الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها» ، فقال له : جعلت فداك ففرض الله إلى العباد؟ قال عليه السلام : «لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي» فقال له: جعلت فداك فبينهما منزلة؟ قال: نعم، أوسع ما بين السماء والأرض».

أقول: (لم يحصرهم) أي لم يوقعهم في حصر التكليف فيكون نفس تصور التكليف بما هو، وبيان الجزاء عليه كافياً في نفي الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين. وهذه عادتهم علیه السلام في إثبات هذا المدعى بأدلة التكليف والجزاء.

وعن أمير المؤمنین علیه السلام القائل في جواب من سأله عن التوحيد والعدل : «التوحيد أن لا تتوهمه، والعدل أن لا تتهمه. فالقائل بأنه خالق للأفعال فقد اتهمه بالظلم، والقلائل بأنه يكلف العباد ما لا يطيقون فقد نسب إليه القبيح، والقائل بأنه لا يقدر على أعمال عباده وأن كل أعمالهم بإرادتهم ولا شأن له فيها قد اتهمه بالعجز».

أقول: الأول عبارة عن الجبر، و الثاني من لوازم التفويض و ترتب اللازمين عليهما واضح.

وعن الرضا علیه السلام : «ألا أعطيكم في ذلك أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه ؟ إن الله عزّ وجلّ لم يطه بإكراه ،

ص: 24

ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد بطاعته ، لم يكن عنها صادراً لا منها مانعاً و إن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل ، و إن لم يحل و فعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه».

أقول: المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من الله تعالى هو محسوس لكل أحد ، فكم من مريد لشيء يصرف عن إرادته و كم غير مريد يصادفه ما يشتهيه وهذه هي المنزلة بين المنزلتين .

وعن الصادق علیه السلام : «لا جبر ولا تفویض ولكن أمر بین الأمرين».

أقول: نقدم ما يتعلق بكل واحد منها.

وعن الرضا علیه السلام : «القائل بالجبر کافر، و القائل بالتفويض مشرك ، والمراد من الأمر بين الأمرين هو وجود السبيل إلى إتيان ما امروا ، و ترك ما نهوا عنه ، والإرادة والمشيئة من الله تعالى في ذلك بالنسبة إلى الطاعات الأمر بها والرضا لها ، وبالنسبة إلى المعاصي النهي عنها ، والسخط لها والخذلان عليها، و ما من فعل يفعله العباد من خبر، أو شر إلّا والله فيه قضاء، والقضاء هو الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة».

أقول : أما أن القائل بالجبر کافر فلأنه نسب إلى الله تعالى الظلم ، و مع ذلك يعاقب العبد عليه . و أما أن القائل بالتفويض مشرك فلأنه أثبت إرادة مستقلة في مقابل إرادة الله تعالى . وأما ما ذكره علیه السلام في تفسير المنزلة بين المنزلتين فهو من باب المثال، وإلا فهو عام لجميع الأفعال .

ص: 25

قوله تعالى : «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ». النقض : هو الفن والفك و الفسخ ، ولا يستعمل غالباً إلّا فيما فيه القوة واستعداد البقاء ، قال تعالى: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ » (سورة النحل، الآية 92)، ويتعلق بالميثاق أيضاً لأجل كونه محكماً یعسر نقضه، قال تعالى : «فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ » (سورة المائدة، الآية 13) .

والعهد : حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال، وهذه المادة في أية هيئة استعملت تفيد الالتزام، و الثبات ، والعزيمة .

والمراد بالميثاق : ما يوثق به الشيء ، کالميقات لما يتحقق به الوقت و يجوز أن يضاف الميثاق إلى الله تعالى، إذ لا يتصور عهد أوثق مما عاهد به الله تعالى عباده ، كما يجوز أن يضاف إلى العباد و هم الذين قبلوا عهد الله تعالی ظاهراً ثم نقضوه ، فيكون المراد من بعد ما أوثقوه . ويصح الحمل على العموم الشامل لجميع ذلك.

والمعنى : إنه لما وصف الضالين بالفسق أراد سبحانه وتعالی بیان حال هؤلاء الفاسقين الضالين فذكر لهم أوصافاً ثلاثة : هي نقض العهد ، وقطع ما يجب أن يوصل ، والإفساد في الأرض . والمراد بالعهد ما عاهد تعالی به على أنبيائه من المعارف و الشرائع الراجعة إلى تربية العباد، وهو من أعظم العهود الموثقة من قبله تعالى بالحجج والبراهين.

ويصح أن يراد به الأعم من ذلك ومن العهد الفطري الموثق بالعقل الذي هو أعظم حجج الله تعالى، فالمراد بنقض العهد عدم الوفاء به قولاً، أو عملاً، أو اعتقاداً كما هو وجداني .

ص: 26

قوله تعالى : « وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ » صلة كل شيء بحسبه . والمراد بالأمر الأعم من التكويني والتشريعي، فصلة العقيدة بالله و رسله جعلها راسخة في النفس، و صلة الأحكام الإلهية التكليفية العمل بها و المواظبة على إتيانها ، صلة النبي الأعظم صلی الله علیه و آله هو الاهتداء بهديه ، والعمل بما جاء به من ربه، وصلة الرحم التآلف والتودد معه، وكذلك صلة المؤمنين بعضهم مع بعض، وصلة الأمور التكوينية معرفة منافعها ومضارها، ونتائجها المترتبة عليها. وتشمل الآية الشريفة جميع ذلك؛ والتفرقة - ولو في الجملة - نقض العهد الله تعالی ومیثاقه، وقطع للصلة، فمن أنكر الله أو صفاته فقد قطع ما أمر به أن يوصل، ومن أنكر النبوة وما جاء به الأنبياء فقد قطع ما أمر به أن يوصل من هذه الجهة .

قوله تعالى:«وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» . الفساد خلاف الصَّلاح وهو أعم من الفردي والاجتماعي، وذكر الأرض قرينة للحمل على الأخير . والإفساد في الأرض هو إضلال الناس، مثل الظلم، والغيبة، وسيأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالی.

قوله تعالى :« أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ». نتيجة واضحة للمقدمات المذكورة، فإن من اتصف بهذه الصفات فقد استحقّ الخزي في الدنيا، وعذاب الآخرة، وهذا هو الخسران المبين، إذ لا معنى لنقض العهد، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل، أو الفساد إلا الخسران المبين (1) .

ص: 27


1- م. ن، ج1، ص 149- 160 .

بحث کلامي حول نبي الله آدم علیه السلام

يقول تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »

قوله تعالى: « وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا » . وردت هذه الهيئة من مادة العلم في موارد كثيرة من القرآن الكريم قال تعالى : « وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا » (سورة الكهف، الآية 65) ، و قال جل شأنه: « وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ » (سورة النساء، الآية 113)، وقال سبحانه وتعالى : « وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ » (سورة البقرة، الآية 151) ، وقال تعالى : « وَ اتَقُوا اللهَ وَ یُعَلِمُکُم اللهُ» (سورة البقرة ، الآية 282).

و المستفاد من الجميع هو إلقاء المعلم حقيقة ما يريده من العلم إلى الطرف بنحو الإلهام أو الإشراق - كما يحكي عن الفلاسفة الإشراقيين - دفعة واحدة أو بالتدريج، بلا فرق في ذلك بين أن لا يكون سبب ظاهري، أو كان ذلك، كما في قوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ

ص: 28

«غُراباً یَبحَثُ فِی الأرضِ لِیُرِیَهُ کَیفَ یُوارِی سَوءَةَ أخیهِ» (سورة المائدة ، الآية 31).

وظاهر الآية المباركة أن التعليم كان مباشرياً من الله تعالی بلا واسطة ملك. وكيف لا يكون كذلك وقد اقتضت العناية الإلهية الاهتمام بأول خليقته والمصنوع بيمينه . وكلتا يديه يمين كما في الأحاديث - والنفخ فيه من روحه، كل ذلك ينبئ عن السر العظيم والحكمة التامة في هذا الإنسان، فميَّزه عن سائر خلفه بهذا المقام الخطير بأن علّمه ما لم يعلم، وجعل في نسله هذه القوة العلمية فكان في ذريته الأولياء الذين أشرفوا العالم بأنوار المعارف الإلهية، وتفرع عن هذا الأصل جميع العلماء والعقلاء الذين سخروا العالم بعلمهم، ودبروا البلاد بعقلهم.

ولم يكن هذا العلم مقتصراً على ألفاظ ومسميّات خاصة وهو في هذا المقام العظيم والمنصب الرفيع فقد تعلّم كل المعارف الإلهية وماله دخل في استكمال الإنسان في النشاتين، كما أن التعليم شكل أسرار القضاء و القدر وخواص الأشياء ومنها خواص النبات، وعرف موجبات الفرح والسرور، وأسباب الحزن والكدر ، فإن آدم وسائر حجج الله سفراؤه في الأرض، و لابد و أن يكون السفير مطلعاً على دار سفارته ، و لعل منها ما حكاه الله تبارك وتعالى في قوله: «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً » (سورة طه، الآية 115) ، فأخبره تعالی بوقوع هذا الحادثة العجيبة منه لكثرة أهميتها في النشأة الدنيوية ، وسيأتي في البحث الروائي وغيره مزید بیان .

ص: 29

ولفظ «آدم» سواء كان لفظاً عربياً - من الأدمة بمعنى السمرة ، أو من أديم الأرض وهي ظاهرها - أو غير عربي، سهل في النطق وذلك يكشف عن وجود الأنس بین ذريته، ولعله لذلك سمي إنساناً لأنّ الأنس من طبعه وفي جبلته، أو لكونه وسط بين الإفراط والتفريط كما أن السمرة وسط بين السواد المحض والبياض كذلك ، والظاهر أن إطلاق هذا الاسم علیه كان من الله تعالى من حين الخلقة، لا حين نزوله إلى الأرض، فهو باسمه وجسمه وروحه مضاف إلى الله تعالی إضافة خاصة.

قوله تعالى : «وَ الأَسمَاء لَها» . الأسماء جمع اسم و له معان :

الأول : اللفظ الخاص المعروف في مقابل الفعل والحرف، مثل سماء وأرض، وبحر، ونهر إلى غير ذلك مما هو في ازدیاد على مر العصور ، فيكون التعلم من مجرد اللفظ فقط بلا توجه من المتعلم إلى المعني أبداً، لا فعلاً و لا بعد ذلك، وهذا يعد من اللغو في المحاورات المتعارفة بين الناس، فيكون قبيحاً بالنسبة إليه تعالى وهو محال، الاستحالة كل قبيح عليه عزّ وجلّ.

الثاني : الأسماء من حيث كونها آلة للتعرف على المسميات والمعاني فتتحقق الإفادة والاستفادة ، كما هو شأن تعلم اللغة التي بها امتاز الإنسان على سائر الخلق، قال تعالى : « الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ » (سورة الرحمن، الآية 1-4 )

الثالث : المراد من الأسماء ذوات المسميات، وحقائق الأشياء

ص: 30

لوجود خاصية الاسم فيها، لأن الاسم ما أنبأ عن المسمّى، وجميع تلك الحقائق تنبئ عن آيات الله وجلاله وجماله . أو للترابط الوثيق بين الدال و المدلول بحيث إذا أطلق أحدهما انتقل الذهن إلى الآخر ، كما تقدم .

والظاهر هو المعنى الأخير، و يتحقق المعنى الثاني لا محالة ، فإنّ المناسب من تعليم الله تعالی آدم الأسماء من حيث كشفها عن حقائق المسميات وجواهرها، وأعراضها، ومجرداتها، ومعرفة ذواتها وخواصها وصفاتها، فكما أن آدم أبا البشر في مقام الأبوة والبنوة الإضافية صار أصلاً لهم في ما يتعلق بشؤونهم الفردية والاجتماعية ومن أهم ذلك معرفة الحقائق وأسمائها، ويشهد لذلك قوله تعالى : « ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ » ، فإنه لو كان المراد هو مجرد الألفاظ فقط لما كان لهذا القول معنىً إلا بالتكلف.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون التعليم دفعياً وفي آن واحد، أو كان بالتدريج على حسب مجرى الطبيعة التي هي مسخرة تحت إرادته تعالى . ولا بأس بالقول بكل منهما فيكون بالنسبة إلى البعض دفعياً وبالنسبة إلى البعض الآخر تدريجياً ، و في جميع الحالات يكون التعليم منسوباً إليه عزّ وجلّ. ثم إنه لا وجه لصرف الآية عن التعميم، والقول بأن التعليم يختص بتلك الأسماء التي كانت مورد حاجة آدم في حياته، وتعليم غيرها يكون من اللغو أو لزوم ما لا يلزم والله تعالى منزه عن ذلك .

ص: 31

إذ يرد على هذا القول: بأن الآية ظاهرة في التعميم، مع أن الإحاطة العلمية خصوصاً بمثل هذه الإحاطة العلمية الغيبية كمال للنفس و أي كمال أفضل منه بل يعدّ هذا من معجزات آدم علیه السلام .

ويحتمل أن يكون المراد بعالم الأسماء عالم المثال الذي أثبته بعض الفلاسفة، ويسمي بعالم الخيال المنفصل أيضاً، الذي فيه صور جميع الموجودات بأشكالها الخاصة وهيئاتها المختلفة المحدودة بحدودها المحضة، واستدلوا عليه بالأدلة العقلية، وبما ورد عن الأئمة الهداة عليهم السلام : « أن في العرش صور جميع الموجودات»، وقد ورد في شرح دعاء - یا من أظهر الجميل وستر القبيح - «أن العبد إذا فعل قبيحاً ستر الله تلك الصورة بستار لئلا يطلع عليها الملائكة» ، والمراد بهؤلاء الملائكة بعض حملة العرش ، ويأتي للمقام شواهد عقلية ونقلية .

وعلى هذا يكون إتيان لفظ من يعقل في قوله تعالى : « ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ»من باب ذكر الأهم لأنه المقصود الأصلي من خلق الجميع.

بل يمكن أن يقال : إن المقصود الأصلي من الأسماء إنما هو مقام الخلافة الإلهية وأسماء الخلفاء ليكون آدم على بصيرة من أمره من أن الأرض أرضه والبشر نسله، و الخلفاء من ذريته ولاسيما سیدهم صلی الله علیه و آله ، وهذا مما لا ريب فيه فقد روى الفريقان صلی الله علیه و آله : « کنت نبياً وآدم بین الماء والطين» فهو صلی الله علیه و آله مقدم على آدم علما وإن كان مؤخراً خارجاً.

قوله تعالى : « ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ» . العرض هو الإظهار على

ص: 32

الغير لغرض فيه قال تعالى : «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» (سورة الأحزاب ، الآية 72)، وقال تعالى: «وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا» (سورة الكهف، الآية 48). فإذا عدي بالهمزة يكون بمعنى الإدبار والتولي كقوله تعالى : « وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ »(سورة الأعراف، الآية : 199) وقوله تعالى : «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ»(سورة السجدة ، الآية : 30).

والمراد بالعرض على الملائكة توجيه نفوسهم ، والإطلاع على تلك الأشياء ، إما أعيانها إن كانت موجودة، أو أمثالها المحدثة بإرادة منه عزّ وجلّ إن لم توجد في الخارج.

وذكر خصوص من يعقل من باب التغليب أو الأفضل كما تقدم، أو لأجل بيان أن المراد الأصلي إنما هو ذوو العقول ولاسيما الكاملين منهم، أو لأجل أن جميع موجودات هذا العالم من جماده ونباته وحيوانات له عقل وشعور في عالم الغيب ، وإن خفي ذلك علينا، و يشير إليه قوله تعالى: « إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » (سورة الإسراء، الآية 44) وهذا العالم يسمى بعالم الروحانيين، وعالم الأشباح والأظلة، وبالملكوت الأسفل، فيكون معنی عرضهم على الملائكة رفع بعض حجب الغيب عنهم وفي هذا العالم تكون خزائن الله التي يقول جلّ شأنه فيها: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » (سورة الحجر، الآية 21).

وبالجملة : حجب الغيب كثيرة، وتحت كل حجاب عالم من العوالم لا يعلمها إلا الله عز وجل. وعن جمع من الفلاسفة: «أن كلما هناك حي ناطق ولجمال الله دواماً عاشق».

ص: 33

قوله تعالى: «أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين» . الأمر للتعجيز و إظهار عجزهم على أنفسهم وعلى غيرهم، فلا وجه لأشكال جمع من المفسرين من أن أمر العاجز عن الشيء قبيح فيكون محالاً عليه تعالى، لأن ذلك في ما إذا كان الداعي من الأمر هو الإيجاب، وأما إذا كان الداعي شيئاً آخر من تعجيز ونحوه فلا محذور وهو في القرآن كثير، وتأتي الإشارة إليه.

والأنباء هو الأخبار يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه تارة، و بواسطة الحرف أخرى ، كما عن جمع من اللغويين.

والمراد بالأسماء هنا نفس الألفاظ فقط وهو تعجيز شديد ، يعني أنكم إذا لم تقدروا على الأخبار عن مجرد اللفظ فأولى أن تكونوا عاجزين عن معرفة أسرار الأشياء وحقائقها«إن کُنتُم صادِقین» في أن ما خطر في نفوسكم أنكم أفضل من آدم و ما أظهرتموه من الدهشة في اختيار الخليفة من الإنسان. وليس ذلك من الحسد المبغوض بل هو من حب الكمال الذي هو من الفطريات لكل ذي إدراك، ولم يسلم من ذلك حتّى أنبياء الله تعالى، كما تشهد به قصة موسى عليه السلام مع الخضر ، وسيأتي تفصيلها في سورة الكهف.

ومن ذلك يعلم أن الحكمة في التعليم والعرض هي إظهار فضل آدم علیه السلام على الملائكة ، و أن الخلافة لا تكون إلا لمن استجمعت فيه مراتب الاستعداد و لا يعلم بها أحد إلا الله تعالی.

هذا كله إذا كان المراد بقول الملائكة الاستفهام الحقيقي، وكان

ص: 34

الاستعمال بداعي ذلك أيضاً، و أما إذا كان الاستعمال بداعي التنفر و الاشمئزاز من المفسدين وسفكه الدماء فهو صحيح ، ويصح انتسابه إلى جميع الملائكة حتى عظمائهم ، وحملة العرش كما لا يخفى . فيكون قوله تعالی ناظراً إلى عدم إحاطتهم بمراتب الغيوب، ومقدمة لأمرهم بالسجود لآدم لما ظهر لهم من فضله بما أفاض الله تعالى عليه علم الأسماء ، وجعله خليفته في الأرض.

وأما ذكر «هؤلاء» بعنوان الإشارة إلى الحاضرين، فيمكن أن يكون لبيان رفعة مقام المسمّيات بخصوص هذه الأسماء دون غيرها فكأنهم حاضرون في جميع العوالم ، وقد عبّر عن خصوص هذه المسميات جمع من الفلاسفة ب_«أرباب الأنواع»، وجمع آخر ب_« المُثُل الأفلاطونية».

قوله تعالى: «قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا » . كلمة «سبحانك» تقال في مقام التوبة كما في قوله تعالی : «سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ » (سورة الأنبياء، الآية 87)، وقوله تعالى : «سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ » (سورة الأعراف ، الآية 143).

وأما قوله تعالى : « لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا» اعتراف منهم بالعجز والقصور، وان علمهم لا يحيط بجميع المسميات، وفيه ثناء على الله تعالى لأنهم أثبتوا العلم له عزّ وجلّ ونفوه عن غيره وأنه المفيض عليهم بالعلم على قدر القابليات والاستعدادات.

قوله تعالى : « إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ » . تأكيد منهم على حصر

ص: 35

العلم بالنسبة إلى ذاته، وللحكمة بالنسبة إلى فضله ومادة (ح ك م) في أية هيئة استعملت تفيد الإتقان والأحكام والإتمام. وأصل الحكمة منه تعالى معرفة الأشياء، وإيجادها بالأحكام والإتقان الواقعي، وهي منبعثة عن العلم بالحقائق. وإذا أطلقت بالنسبة إلى الإنسان ففي اصطلاح الفلاسفة : هي العلم بحقائق الأشياء على حسب الطاقة البشرية .

وفي اصطلاح المفسرين : معرفة الأشياء وفعل الخير، وقالوا : منه قوله تعالى : «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ »(سورة لقمان، الآية 12)، ويأتي في قوله تعالى: «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا » (سورة البقرة ، الآية 299) بعض الكلام.

وإذا أضيفت إلى القرآن كقوله تعالى : «وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ*حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ» (سورة القمر، الآية 5) فإنما يراد بها الاشتمال على الآيات والقوانين المحكمة. ويطلق الحكم على الحكمة أيضا، كما نسب إلى النبي الأعظم صلی الله علیه و آله : «الصمت حكم، وقليل فاعله» .

ومن هذا الجواب يستفاد أن سؤالهم لم يكن من الخصومة والجدال بل كان سؤال مستفسر مستوضح، ولذا رجعوا إلى ما كان قد غفلوا عنه، وفوّضوا الأمر إليه تعالي بعدما تبين لهم الحال.

وفي هذه الآية المباركة جملة من الآداب بين السائل والمجيب، ففيها إيماءً إلى أن الإنسان يجب أن لا يغفل عن كونه مخلوقاً ناقصاً مهما بلغ من الكمال وأن لا يأنف من الاعتراف بالجهل إذا كان لا

ص: 36

يعلم، وأن لا يكتم العلم إذا كان يعلم، ويجب عليه أن يحفظ مقام معلمه في تواضع وأدب .

قوله تعالى : «قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ ». أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها، وإيكال تعليم الملائكة إلى آدم عليه السلام يدل على أفضلية مرتبة الخلافة عنهم.

وقد نادي الله سبحانه جملة من أنبيائه في القرآن العظيم بأسمائهم العلمي، فقال تعالى : « يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا» (سورة هود، الآية 48) وقال تعالى : «يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا» (سورة الصافات، الآية 105)، وقال تعالى : «يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ»(سورة القصص، الآية 31)، وقال تعالی: « يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ » (سورة المائدة ، الآية 116). وأما سيد الأنبياء فلم يخاطبه عز وجل إلا بأوصافه فقال تعالى : «یاأیّهَا النِّبیُّ» (سورة الأنفال، الآية 64) أو «یاأیّهَا الرَّسُولُ» ( سورة المائدة، الآية 41) و(طه) و(يس) يكون له سبحانه وتعالى معه صلی الله علیه و آله أدب. وللرسول معه عزّ وجلّ حالات خاصة .

قوله تعالى: «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ». يدلُّ على أن استكمال الملائكة بالعلم إنما يكون بواسطة أنبياء الله وحججه، ولا محذور فيه بل الأدلة العقلية والنقلية تؤيد ذلك.

ولعل من أسرار نزول الملائكة في ليلة القدر - أو مشایعتهم البعض السور حين نزولها على النبي الأعظم صلی الله علیه و آله - هو الاستفادة مما ينزل على النبي، أو ولي الأمر، وعلى هذا يكون بين الملائكة اختلاف

ص: 37

في الفضل حسب كثرة حشرهم ومخالطتهم مع الأنبياء والحجج وقلّته، وللكلام تتمة تأتي في المحل المناسب إن شاء الله تعالی.

قوله تعالى: «قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» . أي : قلت لكم إني أعلم ما غاب عن أنظاركم وعلومكم، فاحتج عليهم بإثبات علم الغيب له تعالى ونفيه عنهم، فلن أخلق خلقة عبثاً.

وإنما ذكر تعالی غیب السموات والأرض فقط ولم يذكر عالم الشهادة لشمول الأول له بالأولى، مع أن جميع العوالم شهادة بالنسبة إليه تعالى، والتقدم والتأخر بالنسبة إلى الزمان وهو محيط بالزمان و الزمانيات.

ثم احتج عليهم بأنه عالم بما يبدون وما يكتمون ، لأنه - كما ذكرنا سابقاً - أضمروا في نفوسهم أحقيتهم للخلافة ، لكونهم يعبدون ربهم ويقدّسونه فلم يخلق خلقاً أكرم عليه منا.

والظاهر - كما يدل عليه بعض الأخبار و يأتي في البحث الروائي نقلها - أنّ المراد هم جميع الملائكة، ويحتمل أن يكون المراد هو خصوص الشيطان من جهة كونه داخلاً في عموم الخطاب ، لأنه كان داخلاً فيهم سورة فيكون من باب إطلاق الجمع وإرادة الفرد منه، وهو صحیح واقع في القرآن الكريم و المحاورات.

ص: 38

بحوث المقام

بحث دلالي

لا ريب في دلالة الآيات المباركة على فضل العلم، و أنه الغرض الأقصى من خلق الإنسان وجعل الخليفة، إذا لا معنى للخلافة الإلهية بل مطلقها إلّا علم الخليفة في ما يستخلف فيه وتدبيره الحاصل بالعلم أيضاً، فيكون العلم هو العلة الغائية لخلق الموجودات كلها، كما أنه العلة لإيجادها، ففي مثله تجتمع العلة الغائية والفاعلية .

كما يستفاد منها فضل الإنسان، لأنه لا فضل إلّا بالعلم، و لا علم يستعمل في دقائق الكون، وأسرار التكوين ورموزها إلّا في الإنسان، وقد سخّر الكون بعلمه، ولم يخلق الله تعالى العالم إلّا له، كما يأتي ذلك في الآيات الكثيرة . فمبدأ الخلق إنما هو من العلم و غايته للعلم، و تدبيره إنما هو بالعلم. فالجهل و الجهلاء بمعزل عن مبدأ الخلق و غايته و تدبيره، و يكون كالجزء الفاسد من العالم، و يأتي شرح هذا العلم وتفصيله في الآيات المستقبلة إن شاء الله تعالی.

و من هذه الآيات المباركة يستفاد فضل آدم علیه السلام على الملائكة لأنّ الله تعالی جعله معلماً للملائكة، وفضل المعلم على المتعلم واضح.

ص: 39

وتعليم الأسماء لآدم عليه السلام بمنزلة كتاب سماوي أنزله الله تعالى على آدم علیه السلام ، وبه تحدّى الملائكة فأظهروا العجز والقصور، كما جعل الكلام العربي معجزة لنبيّنا الأعظم محمد صلی الله علیه و آله ، ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالی.

ويمكن أن يستفاد من الآيات الشريفة أن هذه المحاورة إنما كانت بين الله تعالى و بين ملائكة الأرض الذين وکّلوا في شؤونها، وكان قد خفي عليهم وجه الحكمة في خلق آدم علیه السلام ، دون غيرهم من ملائكة السماء وعظمائها كالكوربيين وحملة العرش ، وإن كان الإطلاق يقتضي ذلك إلا أن الاعتبار يقتضي الأول ، كما سيأتي في البحث الروائي، فإن المراجعة إنما كانت في الأرض لا في السماء، وإن آدم عليه السلام خليفة الله خلق من الأرض لأنه من طين ومن حمإٍ مسنون، وفي الأرض لأنه خليفة الله في الأرض وللأرض كما هو شأن جميع الأنبياء والرسل، فلا وجه لتوهم كون الخلق في السماء إلا قوله تعالى: «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا» وبعض الأخبار، وسيأتي ما يتعلّق بذلك .

بحث اجتماعي

من أعظم ما أنعم الله تعالى على الإنسان نعمة البيان والنطق فقال عز ّوجلّ في مقام الامتنان عليه: «الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآن*خَلَقَ الْإِنْسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ » (سورة الرحمن، الآية 1- 4 ) فلولا اللغة والبيان لم يتحقق للإنسان اجتماع ولاختل أساس التشريع ، وبالآخرة لم يقم له نظام الدنيا والآخرة ؛ فلا يمكن تحديد هذه النعمة بحد، ويكفي في

ص: 40

ذلك قوله تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ» (سورة الروم، الآية 22) حيث جعل اختلاف الألسنة من الآيات.

والكلام في اللغة يكون من جهات متعددة ففيها التاريخية، والأدبية والعلمية، والاجتماعية وغير ذلك، وقد وضع العلماء لكل واحدة من تلك الجهات كتباً كثيرة .

والذي يهمّنا في المقام هو ما يستفاد من قوله تعالى : «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا»في نشأة اللغة عند الإنسان بعد معلومية انتهائها إلى الله عز وجل ، فإنه المفيض عليهم هذه النعمة - كما في سائر نعمه عز وجل - بإلهام منه تعالى مباشرة، أو بالتعليم.

والوجوه المحتملة كثيرة، وقال بكل منها جمع، وهي:

الأول: أنها كانت من مجرد أصوات ذات دلالات وضعية فقط، فتعدّت عن تلك المرتبة بالتكرار حتى وصلت إلى مرتبة الدلالة الإستعمالية، فصارت ألفاظاً خاصة كاشفة عن معان مخصوصة.

الثاني: أنها كانت من ألفاظ ذات دلالات وضعية منشؤها الفطرة الإنسانية ، كالألفاظ التي يستعملها الصبي غير المميز، أو تستعمل له فتعدت بكثرة الاستعمال عن تلك المرتبة إلى المرتبة الكاملة، كما هو مقتضى السير التكاملي في كل شيء.

ولا يخفى بعد هذين الوجهين عن الآية الكريمة، مضافاً إلى ما فيها من التعسف .

ص: 41

الثالث : أنها مركبة من الوجهين في بدو الأمر؛ فحصل التكامل بما يحصل التكامل في سائر الأشياء.

ويرد عليه ما أورد على الوجهين السابقين .

الرابع : أنّها حصلت أصولها بتعليم الله تعالى، والبقية بنحو ما مر.

الخامس: أنها حصلت جميعها بتعليم الله عز وجل لآدم فانتشرت في ذريته بحسب مقتضيات الأزمنة والأمكنة.

والوجه الأخير وإن كان يلائم المستفاد من الآية الكريمة، وبعض الأخبار التي تأتي ذكرها في البحث الروائي . فإن الجمع المحلي باللام المفيد للعموم في «الأسماء» وتأكيده بلفظ «كل» الواقعين في الآية الكريمة يشملان جميع الأسماء الواقعة في سلسلة الزمان إلى انقراض العالم، وفي جميع اللغات و اللهجات، وقد أحاط بها آدم عليه السلام إحاطة فعلية . و هو وإن لم يكن من قدرة الله تعالى ببعيد، ولكنه مشکل جداً و بعيد من الأذهان، ولو كان الأمر كذلك لكانت معجزة آدم عليه السلام أجلى وأرفع من معجزات جميع الأنبياء.

فالحق أن يقال : إن المراد من الجمع والتأكيد الإضافي منهما أي ما كان في عصر خلق آدم عليه السلام ، وما كان مورد احتياجه في مدة حياته ثم بعد ذلك استحثت لغات و لهجات وألفاظ بالجعل والوضع تخصيصاً أو تخصصاً، وهذا هو الذي يمكن استفادته من مجموع الروايات بعد رد بعضها إلى بعض، وهو قريب من الأذهان، وبه يمكن الجمع بين بعض الوجوه المتقدمة .

ص: 42

بحث روائي

في تفسير العياشي، عن الصادق علیه السلام : «ما علم الملائكة بقولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ لولا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء».

أقول: يستفاد من هذه الأخبار أن علم الملائكة ليس من علم الغيب بل حاصل من المدارك الجزئية الخارجية، وأما أن مداركهم الجزئية كعين مداركنا الجسمانية ففيه تفصيل يأتي بعد ذلك إن شاء الله تعالی.

وفي التفسير عن الصادق عليه السلام في قوله الله عز وجل: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا». ما هي؟ قال علیه السلام : «أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض».

وفيه عنه علیه السلام أيضاً في قوله عزّ وجلّ : «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا» الطشت والدستشان منه؟ فقال علیه السلام : «الفجاج والأودية ، وأهوى بيده كذا وكذا».

وفي تفسير العسكري عن السجاد علیه السلام « علّمه أسماء کل شیء ».

أقول: الأمثلة التي ذكرها علیه السلام من باب المثال لما كان موجوداً في زمان آدم علیه السلام ، لا الحصر .

وفي المعاني عن الصادق عليه السلام : «إن الله عزّ وجلّ علّم

ص: 43

آدم عليه السلام أسماء حججه علیه السلام كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة».

أقول: يظهر من هذا الحديث كجملة من الأحاديث المستفيضة أن الأرواح سابقة على الجسام؛ وفي الحديث المعروف بين الفريقين عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام». ومن ذهب إلى أرباب الأنواع ، أو الممثل الأفلاطونية فإن أراد بقوله مثل ما ذکره علیه السلام في هذا الحديث فلا بأس به، وإن أراد به غير ذلك فلا بد في إثباته من الرجوع إلى أدلتهم المذكورة في الفلسفة الإلهية والتأمل فيها.

وفي تفسير العياشي عن أبي عبد الله عليه السلام قال : «لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له، فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنا نظن أن الله خلق خلقاً أكرم عليه منا، فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق إليه . فقال الله : ألم أقل لكم إني أعلم غیب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما کنتم تکتمون. فيما أبدوا من أمر الجان، وكتموا ما في أنفسهم، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش».

ومثله عن علي بن الحسین وزاد فيه «فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، وأنها كانت من عصابة الملائكة . وهم الذين كانوا حول العرش لم يكن جميع الملائكة - إلى أن قال علیه السلام : فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة».

أقول: تقدم في البحث الدلالي ما يدل على ذلك .

ص: 44

وفي العلل عن الصادق علیه السلام : «أنه سئل رسول الله صلی الله علیه و آله أخبرني آن آدم لم سمي آدم؟ قال : لأنه من طين الأرض وأديمها » .

أقول: تقدم ما يدل على ذلك .

ثم إنّ في المقام بحثين آخرين :

أحدهما: بحث خلقة آدم علیه السلام ، وقد بينّه تعالى في جميع الكتب السماوية خصوصاً القرآن بیاناً وافياً لهذا الخلق العجيب، ثم شرحته السنة المقدسة شرحاً وافياً، وطريق العلم به منحصر بهما،لقصور ما سواهما مطلقاً عن درك ذلك لأنه من الغيب المختص علمه به تعالی وإظهاره يكون بإخباره عز وجل.

ثانيهما: بحث الطينة والميثاق، وتعرض له المفسرون والمحدثون من العامة والخاصة عند قوله تعالى : «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ »(سورة الأعراف، الآیة 172) والأخبار في ذلك كثيرة من الفريقين، وهو أيضاً من الغيب المختص به عز وجل، ولا بد أن يكون العلم به من ناحيته تعالی بلا واسطة، أو بواسطة أنبيائه وأوليائه تعالى، وقد وردت الأخبار في ذلك عن النبي صلی الله علیه و آله و الأئمة الهداة علیهم السلام . والطينة الواردة في السنّة الشريفة على قسمين :

الأول : ما كانت علة تامة منحصرة لكون مآلها إلى الجنة بلا دخل للتكليف والاختبار فيها أصلاً، أو كون مآلها إلى النار كذلك .

ص: 45

الثاني : ما كانت مقتضية لذلك مع دخل شرائط أخرى في كل منهما حتى تصير إلى الجنة أو النار . ولا بد من حمل جميع ما ورد في الطينة من الأخبار على القسم الثاني، دون الأول ، لظواهر الكتاب ۔ على ما يأتي - والسنّة ، وأدلة عقلية نشير إليها في محالها إن شاء الله تعالی (1).

قوله تعالى :«وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ » . السکون مقابل الحركة. وهو من الأمور الإضافية، فتارة : سكون عن مطلق الحركة ولو في محل نفس الشيء، فيقال : سكن الماء عن الجريان ، وسكنت النفس عن الحركة قال تعالى : « وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا » (سورة الأنعام، الآية 96). وأخرى : في مقابل الحركة عن محل إلى آخر، و منه المسكن فإن الساكن له الحركة في مسكنه والتردد في حوائجه، فيطلق على محله المسكن والإسكان، وثالثة: يراد ترك حركات خاصة، من التكبر، والتجبر، والترف ونحوها، ومنه قول نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً ، واحشرني في زمرة المساكين» فذات المعنى في الجميع واحدة ، و الاختلاف يحصل من أطوار الاستعمالات، و قد استعملت في القرآن ويأتي نقلها إن شاء الله تعالی.

والمستفاد من هذه الآية وسائر الآيات المتضمنة لهذه القصة أن خلق زوجة آدم علیه السلام كان قبل دخول الجنة فدخلاها معاً إتماماً للنعمة التي منها الأنس والاستئناس ، لا سيما في الجنة التي أعدت للترفه بكل لذة .

ص: 46


1- م.ن، ج1، ص172 - 186.

ثم إنّ في المقام بحثین :

الأول: قد فصل خلق آدم عليه السلام في الكتاب والسنة بما لا مزيد عليه وأوضح في الجملة أيضا بما لا يبقى معه محل للارتياب و لكن لم يرد في الكتاب العزيز ما يستفاد منه كيفية خلق زوجته حواء إلا قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا »(سورة النساء، الآية 1)، وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا» (سورة الأعراف، الآية 189)، ولعل السر في ذلك أن من أدب القرآن الستر في النساء، مع أنه يكفي بیان خلق آدم عن ذلك.

وكيف كان، فالآيات المتقدمة مجملة لا يعلم المراد منها . نعم، ورد في بعض الأخبار أنها خلقت من ضلع آدم علیه السلام ، وقد ورد في الحديث : «استوصوا بالنساء خيراً ، فإنهنّ خلقن من ضلع أعوج» ، وسيأتي نقل الأخبار في البحث الروائي.

والوجوه المتطورة في هذه الأخبار ثلاثة : الأول : قطع عضو من آدم عليه السلام و هو الضلع الأيسر بعد إتمام خلقته، ونفخ الروح فيه، وخلق زوجته من هذا العضو المقتطع.

الثاني : نفس الوجه السابق قبل نفخ الروح فيه، فإنه بعد تمامية الهيئة والمادة قطع العضو وخلق منه زوجته. وهذان الوجهان بعيدان جداً، وفيهما من القبح ما لا يخفى.

الثالث : إنه بعد خلق آدم عليه السلام من الطينة فضل منها شيء بحيث

ص: 47

لو استعملت في آدم علیه السلام لكان استعمالها في ضلعه الأيسر فكان خلق زوجته من هذه الفضالة فالطينة واحدة فيهما والتبعية متحققة.

والوجه الأخير هو المتحصل مما وصل إلينا من الأخبار في تفسير الآيات الشريفة ، وهو الموافق للذوق السليم، والعقل المستقيم. ويمكن أن يراد من قوله تعالى : «وَ خَلَقَ مِنها زَوجَها» (سورة الأعراف ، الآية 189) ذلك، ولا ينافي ما اخترناه في الآيتين المتقدمتين ، لأن المستفاد مطلق المشابهة الجنسية بعد ملاحظة جميع الآيات، فإن قوله تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا»(سورة الروم، الآية 21) قرينة لما ذكرناه وسيأتي في البحث الروائي ما ينفع في المقام.

البحث الثاني : في جنة آدم عليه السلام وقد اختلف آراء العلماء والمفسرون فيها، وعمدة الأقوال ثلاثة :

القول الأول : إنها جنّة الخلد التي أعدها الله للمؤمنين في الآخرة واستدلوا بأنها ذكرت في الآيات السابقة، وظواهر بعض الأخبار .

وهذا القول ممتنع، لأنه من قبيل تقديم المعلول على العلة، لأن نعيم الجنة، وعذاب الجحيم إنما يحصلان بالعمل كما هو ظاهر الآيات و الأحاديث بل إن الجنة والنار قيعان محض وإنما تعمران بالأعمال كما في الحديث، ولم يصدر من آدم (عليه السلام) وحواء عمل بعد حتى تكون لهما جنة الآخرة. مع أن مجرد الإطلاق لا يكفي في الانطباق على جنة الخلد ما لم تكن قرينة على الخلاف، إلا إذا أرادوا من جنة الخلد ما يأتي بيانه .

ص: 48

القول الثاني: إنها من جنان البرزخ، وادعي الكشف لإثباته ، بل عن بعض من يدعيه أنه دخلها ولم يزل يدخلها.

وهذا باطل لما ثبت في محله من أن دعوى الكشف لا تستقيم إلا بأمرين:

الأول: کون من يدعیه کاملاً من حيث العلم بالفلسفة الإلهية ، والعمل بالأحكام الشرعية .

الثاني : ورود تقرير من الشرع لما كشف .

وكل ذلك ممنوع في من يدعي الكشف في المقام. نعم، لا ريب في وجود أصل عالم البرزخ بنصوص متواترة يأتي نقلها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالی.

القول الثالث: إنها جنة من جنان الدنيا خلقها الله تعالى لإسكان آدم عليه السلام وحواء. وهذا هو المتعين بل منصوص عليه في الجملة، كما يأتي في البحث الروائي.

وقد أيد هذا القول بأمور:

أحدها: أنها لو كانت جنة الخلد لما وقع فيها تكليف، لأنها دار النعيم و الراحة لا دار التكليف.

الثاني : أنها لو كانت جنة الخلد لما خرج منها آدم عليه السلام و حواء الفرض أنها دار الخلد .

الثالث : أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلا المؤمنون المتقون، فكيف يدخلها إبليس؟!

ص: 49

الرابع : أنها لو كانت جنة الخلد كيف يقول الشيطان لآدم علیه السلام : « هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى » (سورة طه، الآية 120)، فإنه ليس له أن يقول ذلك.

ولكن يمكن المناقشة في هذه الأمور : بأن ذلك كله صحيح إذا كان المراد من جنة الخلد هي التي أعدت للمتقين بعد الحشر والنشر والفراغ من الحساب . وأما قبل وقوع ذلك وكون المورد من مادة الجنة فقط فلا دليل على امتناع ما ذكروه من عقل أو نقل ، فيكون نظير ما رواه الفريقان عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «ما بين قبري ومنبري روضة من ریاض الجنة» وقوله صلی الله علیه و آله : «منبري على ترعة من ترع الجنة»، مع أنه يحضر في تلك الروضة المقدسة البر و الفاجر .

وكيف كان، فالجنة هي من جنان الدنيا أعدها الله تعالی لآدم علیه السلام وحواء إجلالاً لهما لاحتياجهما إلى الغذاء والراحة، ويرشد إلى ذلك ما ذكرناه سابقاً من أن آدم عليه السلام خلق من الأرض وفي الأرض و للأرض وقد سخر الله تعالى له الأرض والسماء بعد تعليمه الأسماء كلها وجعله خليفة فيها.

نعم، وقع الكلام في محل هذه الجنة، ويأتي بعد ذلك بيانه إن شاء الله تعالی.

ويمكن أن يكون المراد من جنة الخلد ما ذكرناه ، ومن جنة البرزخ ما ذكره الفلاسفة : من أن لجميع الموجودات نحو وجود برزخي في مقابل سائر أنحاء وجوده قد يظهر ذلك لأهله، كما يظهر جملة من الموجودات في عالم النوم للنائم .

ص: 50

قوله تعالى: «وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ». الأكل معروف، ويعبر عنه بمطلق الصرف والإنفاق أيضاً كقوله تعالى: «لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ» (سورة النساء، الآية 29) ويمكن تأييد هذا ببعض الأخبار الواردة في المقام. والرغد: الطيب الواسع الهنيء، ويمكن أن يكون قوله تعالى : «حَيْثُ شِئْتُمَا » تأكيداً لمعنى الرغد إذا لوحظ الرغد بالمعنى الأعم من السعة في المكان والزمان، وسائر الخصوصيات والجهات، فتدل على الإباحة قوله تعالى : «وَلا تَقرَبا هَذِهِ الشَجَرَةَ » القرب المنهي عنه في المقام كناية عن كثرة الاهتمام بترك المنهي عنه ، فكأنه تعالی نهی عن الاقتراب منه فضلاً عن ارتكابه، وهو كثير في القرآن الكريم والمحاورات الصحيحة قال تعالى: «وَ لا تَقرَبُوا الفَواحِش» (سورة الأنعام، الآية 151)، وقال تعالى : وَ لا تَقرَبُوا الزِنی» (سورة الإسراء، الآية 32)، وقال تعالى: « وَ لاتَقرَبُوا مَالَ الیَتیمِ» (سورة الإسراء، الآية 34)، فيكون محصل المعنى التأكيد والمبالغة في ترك الأكل من الشجرة، ويشهد لذلك قوله تعالى :

«فَلَمّا ذَاقَا ألشَجَرَةَ» (سورة الأعراف، الآية 22).

ويمكن أن يكون للنهي عن نفس القرب موضوعية خاصة، لأن من يقترب إلى المبغوض يوشك أني قع فيه كما قال علي عليه السلام « المعاصي حمى الله ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيها» .

ولم يبين سبحانه الشجرة التي نهى آدم علیه السلام عنها، وقد اختلفت الروايات في تعيينها، وتفاوتت أقوال المفسرين فيها بين الإفراط

ص: 51

والتفريط، فعن بعض : أنها شجرة الكافور. وعن آخر: أنها السنبلة . وعن ثالث: أن البحث عنها لغو لا فائدة فيه . كان مستند هذه الأقوال الروايات الواردة في المقام فهي قاصرة سنداً ، ولم يحرز کونها لبيان الواقع، و إن كان غيرها فلم يعلم حجيته.

نعم، في بعض الأخبار أنها من شجرة الخلد، وهو مخالف لما في أخبار أخرى تدل على أنّ الجنة من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر - كما سيأتي . وتقدم شرح ذلك.

ويمكن أن يقال : إنها كانت مثالا لحقيقة الدنيا، فإنها تظهر الأنبياء الله تعالى وأوليائه بأشكال مختلفة، فتارة : في صورة المرأة كما ظهرت النبينا الأعظم صلی الله علیه و آله في ليلة المعراج، وظهرت لعلي عليه السلام . وأخرى : ظهرت لآدم علیه السلام و حواء في صورة الشجرة وقد نهى الله عن قربها ويشهد لذلك قوله تعالى : «فَتَشقَی» (سورة طه، الآية 117) أي تقع في تعب الدنيا ، كما أن التأمل في مجموع الآيات و الروايات الواصلة إلينا في قصة آدم عليه السلام تدل على أن النهي عن الدنو إلى الدنيا و الاقتراب منها لذلك، لا سيما لمن اتصف بالخلافة الإلهية ، وسيأتي في البحث الروائي تتمة الكلام.

وكيف كان فإن النهي کان لمصالح كثيرة منها : الإشارة إلى أن الإنسان لم يخلق للبقاء في تلك الجنة، بل خلق للأرض، وفي الأرض و منها ، كما عرفت فلا بد و أن تقع هذه المخالفة ، وكم كانت لها فوائد و آثار لآدم علیه السلام و ذريته فلولاها لما حظي بمقام الاصطفاء و لما ظهرت آثار حكمته البالغة في خلق الإنسان وغير ذلك من الحكم والمصالح.

ص: 52

قوله تعالى: «فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ » . الظلم هو عدم النور، و للظلمة مراتب كثيرة فهي تتحقق بإتيان الكبيرة، أو الصغيرة ، أو ترك الأولى و ربما تتحقق في الغفلة عن الله تعالى . والمراد به في المقام الظلم على النفس، لأن ارتكاب ما لا يرتضيه المعبود ولو على نحو التنزه بالنسبة على بعض لا يناسب العبودية المحضة، فيستفاد من ذلك أن النهي کان من مجرد الإشارة إلى ما يترتب على ارتكابه من آثار، كما هي مذكورة في قوله تعالى : «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى* وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى » (سورة طه، الآية 118).

فيكون المعنى إنك إن خرجت منها تمنع نفسك من الكرامة و النعم وتلقى هذه المصاعب، و هي عبارة أخرى عن الشقاء والتعب الملازم لدار الدنيا، كما قاله تعالى في آية أخرى، فلا يكون الارتكاب موجباً لترتب العقاب الأخروي.

قوله تعالى: «فَأزَلَّهُمَا ألشَیطانُ عَنهَا» . مادة (ز ل ل) تدل على الاسترسال في الشيء بلا تعمد وقصد ولو كان بسبب الترغيب من الغير مكراً وخديعةً، كما في المقام، فإن الشيطان حملهما على الأكل من الشجرة بما وسوس لهما في قوله : «هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى » (سورة طه، الآية 120)، وقوله :«مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ »(سورة الأعراف ، الآية 20)، وقسمه لهما : «إنّی لَکُما لَمِنَ الصَالِحین» (سورة الأعراف، الآية 21).

ثم إن الآيات الواردة في المقام ثلاث :

ص: 53

الأولى : هذه الآية وهي لا تدل على وقوع مكروه منهما عن عمد واختيار حتى يبحث عن أنه كبيرة أو صغيرة ، أو من مجرد ترك الأولى . فهي إرشاد محض على ترتب أثر الارتكاب عليه ترتب اللازم على الملزوم. وأما أن هذا اللازم مکروه له تعالى أو غيره فلا يستفاد ذلك منها.

الثانية : قوله تعالى : «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا »(سورة طه، الآية 115) وهي أصرح في عدم صحة نسبة العمد إليه، فيكون نظير قصة ذي الشمالين مع النبي صلی الله علیه و آله التي رواها الفريقان الدالة على نسيان النبي صلی الله علیه و آله في الصلاة المحمولة على الانساء، المصالح كثيرة.

الثالثة : قوله تعالى : «وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى*ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى »(سورة طه، الآية (12).

والحق أن لنفس استعمال هذه العناوين موضوعية خاصة في آدم المصالح كثيرة، منها أن لا يخطر في قلب آدم الكبر، لأنه خليفة الله تعالى، وأنه خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه، وعلمه الأسماء ، وأسجد الملائكة له، فيكون استعمال العناوين المتقدمة في الآيات المباركة من الله تعالى في آدم علیه السلام نحو إصلاح تربوي ومعنوي له، لا أن يكون المراد الواقعي منها بقرينة سائر الآيات والروايات.

قوله تعالى: «فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ» . أي من النعم التي شرحها الله عز وجل في قوله تعالى : «وَ کُلا مِنهَا رَغَدَاً حَیثُ شِئتُمَا» ، وتدل الآية

ص: 54

المباركة على أنه لم يخرج عما أعده الله تعالى له من مقام خلافته، وتعليم الأسماء، وهذه قرينة أخرى على أن الصادر منهما لم يكن معصية . ثم إن الآية المباركة مترتبة على سابقتها ترتب المسبب على السبب.

قوله تعالى : «وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ». الهبوط : النزول من العلو إلى ما دونه ، والمراد به هنا النزول من المحل الذي لا عناء فيه إلى دار التعب والفناء، والكدورة والشقاء، ولا اختصاص لذلك بآدم علیه السلام و حواء ، بل هو جار في مطلق الإنسان، وقد أثبت ذلك علماء الأخلاق والفلسفة والعرفان.

وربما يتوهم: أن الآية تدل على أن الخلق كان في السماء فنزل آدم عليه السلام منها إلى الأرض.

ولكنه مردود : بأن الهبوط أعم من ذلك فإن معناه النزول من محل مرتفع مطلقاً كما في قوله تعالى : «يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ »(سورة هود، الآية 48) ، وقوله تعالى : « أهبِطُوا مُصراً» (سورة البقرة ،الآية 61). وأما الأخبار فيأتي ما يتعلق بها عند نقلها.

والأمر بالهبوط هنا تكويني، كما في قوله تعالی : «یانارُ کُونی بَرداً و سَلاماً عَلی إبراهیم» (سورة الأنبياء، الآية 69)، وقوله تعالى : « يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي »(سورة هود، الآية 44)، وقوله تعالى : «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » (سورة النحل، الآية 40) إلى غير ذلك من الآيات المباركة .

ص: 55

ويصح أن يكون تشريعياً لوجوب الهجرة عقلاً و شرعاً لإعلاء كلمة الله تعالى كما كان شأن جميع الأنبياء والرسل و الأولياء، فكما أن للهبوط دخلاً في نظام التكوين تكون للهجرة دخل في نظام التشريع فهذا الأمر تكويني من جهة وتشريعي من جهة أخرى.

و مورد الخطاب إما آدم عليه السلام و إبليس، و إتيان الاثنين بلفظ الجمع شائع، ويشهد له قوله تعالى :«قالَ إهبِطا مِنها» (سورة طه، الآية 123)، أو هما مع حواء، أو الذرية، وقد وردت بالنسبة إلى بعضها روایات ولا فائدة في البحث عن ذلك بعد تحقق المقصود و هو الهبوط بالنسبة إلى الجميع والمعاداة بينهم.

وهذه العداوة تكوينية اقتضائية حاصلة من التنافي و التباين بين الأنواع المختلفة، و الصفات المتغائرة، وما الدنيا إلّا جمع المخالفات وتفريق المجتمعات، وهي دار الكون والفساد .

قوله تعالى : « وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ » . هذا بيان حكمة إرشاد آدم عليه السلام إلى ترك الأكل ، و هناك حشکم أخرى تأتي في الآيات المناسبة لها.

والمستفاد من هذه الآية المباركة أن الأرض هي الغاية من حياة الإنسان فقط، فقد خلق آدم علیه السلام للأرض وللتمتع بخيراتها و البقاء فيها إلى وقت محدود. وأنها دار الأضداد و العداوة والشقاء تكوینان لكونها دار الكون والفساد، وهداية خلفاء الله تعالى و إغواء الشياطين .

كما أن هذه الآيات وغيرها مما ورد في قصة آدم عليه السلام تدل على

ص: 56

أن هؤلاء الثلاثة كان يرى أحدهم الآخر قبل الهبوط قال تعالى : «إنّ هَذا عَدوٌّ لَّکَ و لِزوجَتکَ» (سورة طه، الآية 117 )، و قال تعالى : «وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ»(سورة الأعراف، الآية 21)، وقال تعالى: «قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى » (سورة طه، الآية 120) و غير ذلك من الآيات والروايات، وأما بعد الهبوط فلا يراه إلا بعض أنبياء الله تعالى و أوليائه .

قوله تعالى : « وَ تَلَقّی آدَمُ مِن رَبِهِ کَلِماتٍ» . التلقي : القبول والأخذ بعد البيان و الذكر . والمراد بالكلمات هنا كل ما يكون له أثر في رفع الحزازة الحاصلة من المخالفة ، فهي راجعة إلى إظهار توبته ، وندامته، و استغفاره، ويمكن تطبيقها على الدعوات التي ألهمها الله تعالی الآدم عليه السلام ، كقوله عز وجل: «قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ » (سورة الأعراف ، الآية 23) وغير ذلك مما يأتي في الروايات، فإنه يكون من باب التطبيق أيضاً.

قوله تعالى: « فَتابَ عَلَیهِ إنَّهُ هُوَ التَوَّابُ الرَّحیمُ» . التوب: هو الرجوع . فإذا وصف به الله يكون إما بمعنى إلهام التوبة إلى العبد و توفيقه لها أو بمعنی رجوع الله و إقباله على العبد بعد مخالفته وعصيانه. وإذا وصف به العبد يكون بمعنى الندم عما فعل ، وعن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «کفی بالندم توبة» و لا يلزم أن تكون التوبة من الذنب، بل تصح عن التوجه إلى غير الله تعالى ولو كان مباحاً فإن «حسنات الأبرار سيئات المقربين» .

ص: 57

و كل توبة من العبد تلازم أموراً ثلاثة :

الأول : توفيق الله عبده للتوبة برجوعه تعالى عليه بعد العصيان ، قال تعالى: « ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ » (سورة التوبة، الآية 118).

الثاني : توبة العبد وندمه عن المعصية .

الثالث : قبوله تعالى توبة العبد، ويأتي تفصيل ذلك في الآيات المباركة المناسبة لها.

والتؤاب إما بمعنى قبول التوبة عن عباده كثيراً بحسب كثرة التائبين، أو أنه عز وجل يقبل توبة العبد الواحد وإن صدر الذنب عنه متعدداً ، أو يكون بمعنى كل منهما، وجميع ذلك صحيح.

والجمع بين التواب والرحيم فيه إيماء إلى أنه تعالى يتفضل على التائب، مضافاً إلى العفو و المغفرة بالإحسان إليه.

وفي مثل هذه الآية المباركة دلالة واضحة على أن الله تعالى هو الذي يلهم عباده التوبة ويقبلها، وأن بابها مفتوح من حين هبوط آدم علیه السلام إلى انقراض العالم، بل التوبة من أهم ما انتفع به الإنسان من الهبوط إلى الأرض ، فإنه تعالى جعل من حكمته التوبة و العصيان قريني الإنسان كفرسي الرهان ، فهذه الآية المباركة في مقام بعض حکم الهبوط وفي الآية التالية البعض الآخر.

قوله تعالى : «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى » . قد ذکر سبحانه وتعالى الهبوط مرتين :

ص: 58

الأولى : لبيان أصل الهبوط من الجنة إلى دار الشفاء والعناء و العداء، كما عرفت.

والثانية : لبيان الغاية من هذا الهبوط و هي ظهور سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء، فالآية تبين الغرض من الخلق، وأنه كان في الأرض والخطاب هنا ظاهر في الجميع أي : آدم علیه السلام و ذريته .

ويمكن أن يقال : إن الهبوط الأول من حيث الجهات المادية الجسمانية أي الدنيوية . والهبوط الثاني من حيث الاستكمالات المعنوية في سلسلة الصعود إلى المقامات العالية الإنسانية ، و لذا ذكره تعالی بعد التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، وأنه الغاية القصوى من الهبوط، وذكر قوله تعالى : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » بعنوان مستقل لئلا يتوهم أحد أنه غاية الهبوط أيضاً، بل هو أمر اختياري حاصل لمن اختار ذلك بعمده و اختياره .

قوله تعالى: «فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» . جملة خبرية في مقام الإنشاء، يعني أن من اتبع هدى الله تعالى ينبغي أن لا يخاف من غيره، ولا يحزن لما فات عنه ، لأن متابعة العبد لهداية الله تعالی توجب انقطاعه إليه، وهو يستلزم نفي الحزن والخوف عنه في الدارين، ويشهد لذلك قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ » (سورة البقرة، الآية 277)، و كذا قوله تعالى: « فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ »(سورة الأنعام، الآية 44) إلى غير

ص: 59

ذلك من الآيات المباركة ، هذا من جهة المتابعة. وأما من جهة العبودية فيعرضه الحزن، لأنه ما بين الخوف و الرجاء ، كما في كثير من الروايات .

والمراد بالهداية في هذه الآية المباركة جميع الشرائع السماوية كل بحسب زمانه وعصره. والمراد من المتابعة هنا الالتزام بها عملاً واعتقاداً .

قوله تعالى : «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ » . مادة (كفر) في مطلق استعمالاتها تدل على الستر - كما تقدم ۔ سواء أكان متعلقه أصل الإيمان أم الطاعة، فيساوق الفسق من هذه الناحية أم عن الشكر فيساوق الكفران. و التكذیب خلاف التصديق، و كل منهما أعم من القول و الفعل. و آيات الله علاماته كتوحيده و عبادته ومعاده من حيث الثواب و العقاب فيثبت بتكذیب كل واحد منها كفر الجحود . وإنما ذكر تعالى الكفر الخاص أي التكذيب بعد العام أي المطلق الكفر ، لينبه على الجهود الذي هو موجب للخلود في النار .

ثم إنه يستفاد من مجموع الآيات الواردة في خلق آدم علیه السلام هنا، وفي سورة الأعراف، وسورة طه أن له مراحل عشرة ولا تخلو ذریته عنها أيضا.

الأولى: مرحلة ما قبل نفخ الروح، وهي بمنزلة الجنين في سائر أفراد الإنسان.

الثانية : مرحلة نفخ الروح، وهي بمنزلة تكريم المولود، وهي حالة اعتناء الله تعالی بآدم عليه السلام و تعظيمه وأمره بسجود الملائكة له .

ص: 60

الثالثة : مرحلة التربية، وهي تعليم الله تعالى الأسماء كلها لآدم علیه السلام ، وهي بمنزلة تعليم الوالدين وتربيتهما للولد.

الرابعة : مرحلة بيان الفضل وهي مرحلة السجود لآدم علیه السلام و إظهار فضل المسجود له على الساجد، وهذه المرحلة توجد في ذريته، وهي حياة التفاضل و التفاخر.

الخامسة : مرحلة التمتع واللعب، وهي مرحلة إسكان آدم علیه السلام الجنة .

السادسة : مرحلة تزاحم الأهواء ، والأفكار ، والآمال وهي مرحلة إرشاد آدم علیه السلام إلى ترك الأكل من الشجرة التي قلنا إنها بمنزلة الوجود المثالي للدنيا لئلا يقع في متاعبها ومشاقها، وهي مرحلة التميز في أفراد الإنسان.

السابعة : مرحلة التمايل الجنسي وتوليد المثل، وهي مرحلة ظهور «فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا» (سورة طه، الآية 121) ، وهي ظاهرة في أفراد الإنسان.

الثامنة : مرحلة العيش والبقاء الدائمي، المستفاد من تعليق قوله تعالى: «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى »(سورة طه، الآية 118) على ترك الأكل من الشجرة، والعيش والبقاء غير الدائمي المستفاد من قوله تعالى : « وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ »(سورة البقرة ، الآية 36).

التاسعة : مرحلة التكليف والعمل إما في طريق الهداية والإيمان أو الكفر والخسران .

ص: 61

العاشرة: مرحلة النتائج إما الثواب، أو العقاب .

هذه هي المراحل التي يمر بها الإنسان كما مات على آدم علیه السلام أول خليقته ، ويمكن إرجاعها إلى ثلاث مراحل: مرحلة الأجنة، مرحلة الطفولة، مرحلة الرشد و الكمال، وتنطوي في كل مرحلة سائر الحالات المتقدمة وتجري هذه المراحل في النوع البشري وأصول المجتمعات أيضاً.

في الكافي والعلل عن أبي عبد الله علیه السلام قال : سألته عن جنة آدم؟ فقال : «من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنات الآخرة ما خرج منها أبداً» .

أقول: لا يستفاد من هذه الرواية مكانها، وإنما يستفاد أنها كانت من جنات الدنيا، ولا بد من التأمل في ذيل هذه الرواية : «ولو كانت من جنات الآخرة ما خرج منها أبداً» لأن جنات الآخرة لا يخرج أهلها منها بعد عملهم وعمرانهم لها، وأما أن الحكم كذلك قبل العمل وقبل كل شيء ففيه بحث وتفصيل.

في تفسير القمي: سئل الصادق عليه السلام عن جنة آدم من جنات الدنيا أم من جنات الآخرة؟ فقال: «كانت من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنات الآخرة ما أخرج منها أبداً» .

أقول: تقدم ما يتعلق بها في سابقها.

العياشي عن أبي جعفر علیه السلام : «ولا تقربا هذه الشجرة يعني: لا تأكلا منها».

ص: 62

أقول: قد مرَّ أنه يمكن إرادة نفس القرب أيضاً اهتماماً بالنهي فيكون ذكر الأكل من باب ذكر النتيجة.

تفسير العسكري في قوله تعالى: « وَ لا تَقرَبا هَذِهِ الشَجَرَةَ» . شجرة العلم شجرة علم محمد وآل محمد صلی الله علیه و آله الذين آثرهم الله عز وجل به دون سائر خلقه، فقال تعالى : لا تقربا هذه الشجرة؛ شجرة العلم ، فإنها لمحمد وآله خاصة، دون غيرهم ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم - ثم قال علیه السلام - وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البر، والعنب والتين، والعناب وسائر أنواع الثمار والفواكه و الأطعمة. فلذلك اختلف الحاكمون لذكر الشجرة، فقال بعضهم: هي برة، وقال آخرون : هي عنبة وقال آخرون : هي تينة ، وقال آخرون : هي عنابة».

أقول: أما ذيل الحديث فيؤيد ما قلناه : من أن الشجرة كانت مثالاً للدنيا وما فيها بحسب الوجود المثالي. وأما صدره فيمكن حمله على أن لبعض تلك الأشجار نحو أثر خاص لم يظهر ذلك إلا لبعض أولياء الله تعالى، كما يدل عليه ما ورد في بعض أخبار الطينات.

في العيون عن عبد السلام بن صالح الهروي : قلت للرضا عليه السلام : يا ابن رسول الله صلی الله علیه و آله ؟ أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها، فمنهم من يروي أنها الحنطة، ومنهم من يروي أنها العنب ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد؟ فقال علیه السلام : «كل ذلك حق» قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال : يا بن الصلت، إن شجرة الجنة تحمل أنواعاً، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب و ليست كشجرة الدنيا» .

ص: 63

أقول: لا ريب في أن تلك الجنة ولو كانت في الدنيا لها خصوصية ليست تلك الخصوصية في جميع جنات الدنيا، ومن جهة قلة التزاحم والتنافي في تلك الجنة أو عدمهما، فيصح أن تحمل شجرة منها أنواعاً من الثمار ، فلا تنافي بين هذه الرواية وبين ما قلناه سابقاً، وقد دلت روايات أخرى متعددة على أنها شجرة الحنطة، ولا تنافي ما تقدم.

في الكافي عن أبي الحسن علیه السلام : «إن لله إرادتين ومشيتين : إرادة حتم وإرادة عزم، ينهي وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء . أو ما رأيت أنه نهی آدم و زوجته أن يأكلا من الشجرة و شاء ذلك، و لو لم يشأ أن يأكلا لما غلب مشيتهما مشية الله ؟ !! وأمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشية إبراهيم مشية الله» .

وفيه أيضا عن أبي عبد الله علیه السلام : «أمر الله ولم يشأ، وشاء لوم يأمر . أمر إبليس أن يسجد لآدم و شاء أن لا يسجد؛ ونهی آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل».

أقول: بیان مثل هذه الأخبار يحتاج إلى شيء من الشرح والتفصيل موکول إلى محله. المعروف بين العلماء أن الإرادة إنما هي الشوق المؤكد الحاصل بعد التصور و التصديق، وهذا في إرادة المخلوق واضح لا ريب فيه ؛ وحيث إن هذا المعنى في الذات الأقدس الربوبي يستلزم کون الذات محل الحوادث وهو ممتنع، ولذا جعل الأئمة الهداة عليهم السلام الإرادة بجميع مقدماتها من صفات الفعل لا الذات ،

ص: 64

وصرّحوا بأن المشية والإرادة محدثة، وبذلك تنحل جميع الإشكالات الواردة على إرادته تعالى التي وقع الفلاسفة في اضطراب عظيم في الجواب عنها، لأنهم ذهبوا إلى أن الإرادة في مرتبة ذاته الأقدس والاختلاف بين الصفات إنما يكون في المفهوم دون المصداق. ولعلنا نتعرض لمذهبهم والجواب عنه في الموضوع المناسب.

وعن جمع من أكابر المحققين إرجاع الإرادة فيه عز وجل إلى الرضاء و ابتهاج الذات بالذات، وفصل القول في ذلك، وهذا القول وإن كان حسناً ثبوتاً، ولكن لا ربط له بالإرادة، ويحتاج إلى تكليف وعناية .

ثم إن الإرادة إما تكوينية أو تشريعية، فإن تعلّقت بفعل ذات المريد فهي تكوينية ، وإن تعلقت بفعل الغير و كانت كإيجاد الداعي لأن يفعل الغير ذلك الفعل بحيث لولا هذا الداعي لا يفعله تكون تشريعية . فتكون إرادته تعالى بالنسبة إلى النظام الأتم الأكمل من الأولى، وبالنسبة إلى إنزال الكتب وإرسال الرسل من الثانية، هذا بحسب الظاهر، و أما بحسب الواقع و الحقيقة فالثانية ترجع إلى الأولى، فإن من أحسن النظام وأتمّه وأكمله في عالم التكوين إنزال الكتب وإرسال الرسل.

وأما قوله علیه السلام : «أمر الله ولم يشأ» ، فالمراد بالأمر الأمر التشريعي الظاهري ، والمراد بمشيئة العدم المشيئة التكوينية الاقتضائية ، كما أن المراد بنهي آدم عليه السلام النهي الإرشادي الظاهري ، والمراد بمشيئة الأكل المشيئة التكوينية الاقتضائية ، و في كل ذلك مصالح لا تعد و لا تحصى .

ص: 65

و عليه يحمل ما في الرواية الأخرى: «إن الله إرادتين ومشيئتين» وهذه الروايات صريحة في أن ما صدر من آدم عليه السلام لم يكن من المعصية كما عرفت . والمراد من قوله «ونهی آدم عن أكل الشجرة» أي القرب منها، كما تقدم، وسيأتي في بعض الروايات التصريح بذلك .

وفي العلل عن الباقر علیه السلام : «والله لقد خلق الله آدم للدنيا و أسكنه الجنة ليعصيه فيرده إلى ما خلقه».

أقول : هذه الرواية نحو شرح وبيان لجميع الأخبار الواردة في المقام و هي دليل على ما قلناه مراراً : من أن آدم عليه السلام من الأرض و للأرض.

في إكمال الدين عن الثمالي عن أبي جعفر علیه السلام قال : «إن الله عز وجل عهد إلى آدم أن لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها، وهو قول الله عز وجل :

«وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا » .

أقول: يصح أن يراد بالنسيان الأنساء يعني: أنساه الله تعالی التجري مقاديره الأزلية ، كما مر في حديث ذي الشمالين في صلاة نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله .

العياشي في تفسيره عن أحدهما علیه السلام و قد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال : «إنه لم ينس وكيف ينسى وهو يذكره و يقول له إبليس : ما نهاكما ربکما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملکين أو تكونا من الخالدين» .

ص: 66

أقول: هذا الحديث قرينة واضحة - لما تقدم من الأخبار - على أن المراد بالنسيان الأنساء.

في العيون عن علي بن محمد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون و عنده علي بن موسی علیه السلام فقال له المأمون : يا ابن رسول الله صلی الله علیه و آله أليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ فقال : «بلی» قال : فما معنى قول الله تعالى : «وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى »؟ قال : «إن الله تعالى قال لآدم : «اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ» و أشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين ، و لم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة، ولا مما كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجرة، ولم يأكلا منها، وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما، وقال : ما نهاكما ربکما عن هذه الشجرة . وإنما نهاكما أن تقربا غيرها، ولم ينهكما أن تأكلا منها إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين، ولم يكن آدم وحواء شاهدين قبل ذلك من يحلف بالله كاذباً، ولم يكن آدم وحواء شاهدين قبل ذلك من يحلف بالله كاذباً ، فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله ، و كان ذلك من آدم قبل النبوة، ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم، فلما اجتباه الله وجعله نبياً كان معصوماً لا يذنب صغيرة ولا كبيرة، قال الله عز وجل : «وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى*ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى »وقال عز وجل: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ».

ص: 67

أقول: مثل هذه الروايات الواردة عن الأئمة الهداة علیهم السلام خصوصاً مولانا الرضا علیه السلام في الجواب عن الإشكالات التي أوردت على عصمة الأنبياء (صلوات الله عليهم) لا يختص بأن يجيب بها الإمام عليه السلام ، بل يمكن أن يجاب بكل وجه صحيح يجمع به بين الأدلة الدالة على العصمة، ومثل هذه الآيات الموهمة للتنافي بينها وبين العصمة، ولنا أن نجيب عن الإشكال في هذا المجال بكل ما يقبله الطبع السليم والذهن المستقيم . ولكن في رواية ابن الجهم جهات من البحث:

الأولى: في سند الحديث علي بن محمد بن الجهم و قد ضعفه كل من تعرض له فلا اعتبار بمثل هذا الحديث، وسياق المتن يدل على أنه ليس من الإمام عليه السلام ، خصوصاً من مثل مولانا الرضا علیه السلام ، بل هو المفتعلات عليه.

الثانية : قوله: «إنما أكلا من غيرها» مخالف لصريح الآية المباركة الدالة على أن الأكل كان من نفس الشجرة المنهي عنها، كما تقدم .

الثالثة : قوله: «و كان ذلك قبل النبوة » مخالف لإجماع أهل البيت والإمامية من عصمة الأنبياء مطلقاً، كما سيأتي في البحث الكلامي فلا بد من طرح الحديث .

وعن أبي الصلت الهروي في الأمالي قال : لما جمع المامون العلي بن موسى الرضا عليه السلام أهل المقالات من أهل الإسلام و الديانات من اليهود و النصارى، والمجوس، و الصابئين وسائر أهل المقالات ،

ص: 68

فلم يقم أحد حتى ألزم حجته كانه ألقم حجراً ، فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا ابن رسول الله صلی الله علیه و آله أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال : « بلی» قال : فما تعمل بقول الله عز وجل : « وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى » - إلى أن قال - فقال مولانا الرضا علیه السلام : ويحك يا علي اتق الله ، ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ، ولا تتأوّل كتاب الله عز وجل برأيك ، فإن الله عز وجل يقول: « وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» . أما قوله عز وجل في آدم: « وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى» فإن الله عز وجل خلق آدم في أرضه ، وخليفته في بلاده لم يخلقه للجنة ، و كانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز وجل، فلما أهبط إلى الأرض ، وجعل حجة و خليفة عصم بقوله عز وجل :«إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ »

أقول: هذا الحديث شاهد لما قلنا في الحديث السابق وقوله : فإن الله عز وجل خلق آدم في أرضه، و خليفته في بلاده» ظاهر بل ناص في عدم صدور المعصية منه من حين نفخ الروح فيه كما تدل عليه نصوص مستفيضة أن أول ما خلقه الله عز وجل هو الحجة ، وآخر مني ذهب من الدنيا هو الحجة .

وأما قوله: «وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض» تقدم ما يتعلق به من أنه ليس من النهي الموجب للمعصية الاصطلاحية وإنما هو إرشاد إلى عدم وقوعه في متاعب الدنيا ومشاقها، كما مرّ .

علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله علیه السلام قال : «أن موسی سأل ربه أن

ص: 69

يجمع بينه وبين آدم عليه السلام فجمع ، فقال له موسى عليه السلام : يا أبت ألم يخلقك الله بيده، و نفخ فيك من روحه، وأسجد لك الملائكة ، و أمرك أن لا تأكل من الشجرة، فلم عصيته ؟ فقال : يا موسی بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي؟ قال : بثلاثين ألف سنة. فقال : هو ذاك . قال الصادق علیه السلام : فحج آدم موسی».

أقول: رواه الفريقان، كما في کنز العمال عن النبي صلی الله علیه و آله ؛ ومعنی الرواية احتج آدم علی موسی وغلب عليه ، و المراد بوجدان خطيئة آدم قبل خلقه التقدير الاقتضائي لله تبارك وتعالى باختيار آدم علیه السلام .

و في تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان قال : سئل أبو عبد الله علیه السلام - وأنا حاضر -: كم لبث آدم وزوجته في الجنة حتى أخرجهما منها خطيئتهما؟ فقال : «إن الله تبارك وتعالی نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة، ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه ثم اسجد له ملائكته و أسكنه جنته من يومه ذلك، فوالله ما استقر فيها إلا ست ساعات من يومه ذلك حتى عصى الله تعالى ، فأخرجهما الله منها بعد غروب الشمس وصبراً بفناء الجنة حتى أصبحا فبدت لهما سوآتهما وناداهما ربهما : ألم أنهكما عن تلكما الشجرة . فاستحى آدم فخضع و قال : ربنا ظلمنا أنفسنا و اعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا ، قال الله لهما: اهبطا من سماواتي إلى الأرض فإنه لا يجاورني في جنتي عاص ولا في سماواتي».

أقول تقدم كيفية خلق حواء من ضلع آدم علیه السلام ، و قوله : «وصيرا بفناء الجنة» يستفاد من هذه الجملة أمران :

ص: 70

الأول : تكرر الهبوط - كما في غيرها من الروايات - الأولى إلى فناء الجنة والثاني منه إلى الأرض.

الثاني : يمكن أن يستفاد منه أن الشيطان لم يدخل الجنة بعد ترك السجود ، بل كان في فناء الجنة فحصلت مكالمة بينه و بين آدم في هذا المكان .

روى الصدوق عن أبي جعفر عن آبائه عن علي علیه السلام عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال : «إنما كان لبث آدم حواء و حواء في الجنة حتى أخرجا منها سبع ساعات من أيام الدنيا حتى أهبطهما الله من يومهما» .

أقول: تقدم في الحديث السابق أن زمان الاستقرار في الجنة كان ست ساعات، و لا تنافي بينهما إذ الحصر ليس حقيقياً حتى يحصل التنافي، بل هو إضافي وتقريبي.

في تفسير العسكري: «كان إبليس بين لحيي لحية أدخلته الجنة، وكان آدم يظن أن الحية هي التي تخاطبه ، ولم يعلم أن إبليس قد اختفى بين لحييها فرد آدم على الحية أيتها الحية هذا من غرور إبليس - الحديث».

أقول: و في رواية أخرى الطاووس ، و كيف كان فقد ذكر الثعبان من حيوانات جنة آدم في التوراة في قضية الهبوط، و لعل هذا الحديث و أمثاله مع هذا التعبير مأخوذ منها. وقد ذكرنا سابقاً أن إبليس كان يرى آدم ويتكلمان مشافهةً فلا معنى للاختفاء والاستتار .

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : « اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ »

ص: 71

فهبط آدم على الصفا، وإنما سميت الصفا ، لأن صفوة الله نزل عليها ونزلت حواء على المروة ، وإنما سميت المروة لأن المرأة نزلت عليها».

أقول: الروايات مختلفة في محل هبوط آدم وحواء و لا ريب ولا إشكال في أن بعد الهبوط الأول كانت منازل متعددة، فيمكن الجمع بين تلك الروايات بجعل كل منزل مهبطاً له فيكون الهبوط طولياً لا عرضياً.

وفي الاحتجاج في احتجاج علي عليه السلام مع الشامي حين سأله : عن أكرم واد على وجه الأرض؟ فقال : واد يقال له سرنديب سقط فيه آدم عليه السلام من السماء».

أقول: ظهر وجهه مما تقدم في الحديث السابق .

في الكافي عن أحدهما علیهماالسلام في قول الله عز وجل : «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ» قال : لا إله إلا أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءً وظلمت نفسي فاغفر لي و ارحمني و أنت خير الراحمين ، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و تب عليّ وأنت التواب الرحيم »

أقول: و في مثل هذا المعنی روایات أخرى مستفيضة عن الخاصة و العامة، وجميع ذلك من باب التطبيق للآية المباركة، ولقوله تعالی : «عَلَّمَ آدَمَ الأسماءَ کُلَّها» .

ص: 72

و روى الصدوق في قول الله عز وجل: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ» . قال : «سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين».

أقول: و نحو ذلك أخبار أخرى كثيرة، وتقدم أنه من باب التطبق على كل ما يمكن أن يتقرب به إلى الله تعالى . ومن أهم ما يتقرب إليه تعالى الخمسة الطاهرین.

وعن ابن عباس في رواية سعيد بن جبير قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله و سلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه. قال : «سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلأتبت عليَّ، فتاب عليه».

وفي الدر المنثور عن النبي صلی الله علیه و آله قال : «لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال : أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى الله إليه ومن محمد؟ قال : تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس أحد عندك أعظم قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك. فأوحى الله إليه : يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك».

أقول: ذيل الحديث منقول من الفريقين، وما في روايات كثيرة كما تقدم بعضها .

ص: 73

عصمة الأنبياء والرسل

أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء والرسل علیهم السلام من الكفر مطلقاً ، ولكنهم اختلفوا في بعض الصغريات. وعمدة الأقوال ثلاثة :

الأول : القول بالعصمة مطلقاً من جميع الذنوب ، وفي جميع الحالات و هذا هو مذهب الإمامية .

الثاني : القول بالعصمة من الكبائر مطلقاً، و أما الصغائر فإنها جائزة عليهم سهواً، و هذا هو مذهب المعتزلة .

الثالث : القول بالعصمة عن الكبائر عمداً ، ولكنها جائزة عليهم سهواً وهذا هو مذهب الأشاعرة.

وهناك أقوال أخرى نادرة أجمع المسلمون على بطلانها .

ولم يستدل أصحاب هذين القولين بدليل يصح الاعتماد عليه إلا ما ورد في القرآن الكريم مما يوهم ظاهره نسبة الظلم والمعصية إلى بعض الأنبياء علیهم السلام ، و سيأتي أنه ليس على ظاهره و لا بد من تأويله .

والرأي المناسب لمقام النبوة و الرسالة هو القول بعصمتهم مطلقاً - كما ذهب إليه الإمامية - من جميع الذنوب كبائرها وصغائرها، عمداً

ص: 74

وسهواً قبل البعثة وبعدها. وقبل أن نذكر الأدلة لا بد من بیان معنی العصمة على سبيل الإيجاز، و التفصيل موکول إلى محله.

العصمة: بمعنى المنع و الإمساك يقال : عصم عن الشيء أي منعه و أمسكه . ومنه قوله تعالى حكاية عن ابن نوح: «سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» (سورة هود، الآية 43) أي : يمنعني منه. و المعصوم هو الممنوع عن فعل المعصية بلا إلجاء و اضطرار حتى ينافي الاختیار، و إلا كان العادل أحسن من المعصوم .

و بعبارة أخرى : إنها عناية خاصة ، وتوفيق من الله تعالی لبعض عباده لعلمه الأزلي بصفاء طينتهم و جوهرهم من دون أن يكون ذلك من العلة التامة كسائر عنایاته و توفيقاته عز وجل بالنسبة إلى عباده ، فقد يوفق عبداً لصلاة الليل مثلاً، أو فعل الخيرات، وقضاء الحاجات أو الاتصاف بالأخلاق الفاضلة ونحو ذلك ، لا على وجه القهر و الإلجاء و لا ضرورة ، بل على نحو إيجاد الداعي إليها.

ثم إنهم استدلوا بأدلة كثيرة على عصمتهم مطلقاً لا يخلو بعضها عن المناقشة ، أو رجوع بعضها إلى الآخر. وأحسن تلك الأدلة أمران :

الأول: أن حجية القول والفعل والتقرير - كما هو المفروض - تنافي ارتكاب المنهي عنه عند الله تعالى وعند العباد، فيكون ذلك خلفاً باطلاً بالضرورة .

بيان ذلك: إن العبد إذا كان يرى نفسه حاضراً بين يدي المولی

ص: 75

و يحس بشهوده ظاهراً وباطناً كيف تصدر عنه المعصية وهو في هذه الحالة في غيبة منه؟! ورسل الله تعالى يدركون بصفاء طينتهم أنهم دائماً في حضرة القدس برون مظاهر جماله وجلاله وآثار حكمته و رحمته فلا يخطر في بالهم حالة أنهم في غيبة عن الله تعالى فيها. وهذا معنى ما ورد في أحاديثنا: «إن المعصوم مع القرآن والقرآن معه» فإن المراد بالمعية هي المعية الحضورية الالتفاتية العملية . كما أن المراد بالقرآن جميع الشرائع الإلهية بالنسبة إلى الأنبياء السابقين .

هذا مضافاً إلى أن صدور المعصية يوجب تنفر الطباع منهم، و يصغر شأنهم في أعين الناس، و يسهل اعتراضهم عليهم مما ينافي حكمة بعث الأنبياء والرسل علیهم السلام، بلا فرق بين صدور المعصية قبل البعثة أو بعدها كما هو المشاهد في من وصل إلى مرتبة من العدالة .

الثاني : الآيات القرآنية الدالة على طهرهم و قداستهم و تأييدهم بروح القدس، واتصافهم بجميع الأخلاق الفاضلة مما يجعلهم القدوة الحسنة و المثل الأعلى لجميع الناس، قال تعالى : «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ » (سورة الأنعام، الآية 90)، وقال تعالى: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ » (سورة الأنبياء، الآية 72)، وقال تعالى: « إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا» (سورة الأنبياء، الآية 90) إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

وبناءً على ما تقدم لا بد من تأويل ما ورد في القرآن الكريم

ص: 76

والسنة الشريفة مما يوهم ظاهره خلاف العصمة، وسيأتي ذلك في مواضعه .

فقد ذكرنا أن ما ورد في آدم علیه السلام كقوله تعالى : «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ» لا يدل على صدور المعصية منه، كما أن قوله تعالی : «فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ » ظاهره الظلم على نفسه بوقوعه في مشقة الدنيا لا الدخول في النار .

وأما قوله تعالى : «وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى » (سورة طه، الآية 121) فإنه ليس المراد منه صدور العصيان والغواية منه علیه السلام ، بل إن النفس استعمال هذه الألفاظ موضوعية خاصة، فإن مقام آدم علیه السلام الذي خلقه الله بيده و نفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء و أسجد له الملائكة و أسكنه الجنة ربما یوجب في نفسه بعض الخطرات المنافية لمقامه علیه السلام فعصمه الله تعالى بذلك. وقد يوجب ذلك كله غلو ذريته فيه فيعبدونه ، فأذهب الله تعالی عنهم ذلك الغلو بما تقدم من الألفاظ .

و كذا قوله تعالى : «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا »(سورة طه، الآيه115) ، فإن عهود الله تعالى ومواثيقه على الأنبياء والمرسلين على قسمين : عهد عام بالنسبة إلى جميع الأنبياء و المرسلين، قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ » (سورة آل عمران، الآية 81)، وكذا قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا

ص: 77

غَلِيظًا» (سورة الأحزاب، الآية 7). وعهد خاص بكل نبي حسب الظروف و الخصوصيات الزمانية والمكانية التي تحيط بذلك النبي، والمائز بين القسمين هو القرائن وما يستفاد من السنّة المعتبرة الواردة في حالات الأنبياء علیهم السلام .

والظاهر في المقام هو الثاني، لأن ترك العزم بالنسبة إلى الميثاق العام لا يعقل ، فإنه خلف مع فرض النبوة . نعم، هو معقول بالنسبة إلى العهود الخاصة الظاهرة في الإرشاد، كما في المقام(1) .

ص: 78


1- م.ن، ج1، ص196- 221.

المعجزة والسحر

لا ريب في أن ما يفاض على الممکنات لا بد أن ينتهي إليه سبحانه وتعالى بنحو الاقتضاء ، للأدلة العقلية والنقلية، ففي الأثر المعروف . المنقول متواتراً بين الفريقين - عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : « لا إله إلا الله وحده وحده وحده) فإن الوحدة الأولى إشارة إلى وحدة الذات ، و الثانية تشير إلى وحدة الصفات أي سلب جميع النقائص عنه تعالى ، وفي الثالثة إشارة إلى وحدة الفعل أي أنه مبدأ الكل ، و أنه لا حول ولا قوة إلا به، فهذه الجملة المباركة جامعة الأنحاء التوحيد، ولكن ذلك لا ينافي قانون الأسباب و المسببات، فإن الله تعالی أبی أن يجري الأمور إلا بأسبابها ، ومن ذلك بعلم وجه انتساب المعجزة وخوارق العادات، والكرامات، والسحر، و الطلسمات إليه تعالى. و قد فرّق الفلاسفة و المتكلمون بين المعجزة و السحر بعد اتحادهما في أنهما صادران من عالم آخر غير عالم المادة : وأن هدفهما هو الإنسان لا غير بوجوه عديدة :

الأول: بحسب المنشأ، فإن المعجزة قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير بعد صفائها وارتباطها مع الله تعالى، والاستفاضة من القدرة

ص: 79

الإلهية. و السحر ينبعث عن نفس خبيئة مرتبطة مع الشياطين، كما تقدم .

الثاني : الفرق بحسب الذات، فإن المعجزة من طرق الهداية والصلاح والخير ولا تصدر إلا من النفوس الخيرة ، بخلاف السحر فإنه من طرق الضلال والغواية والشر، و لا تصدر إلا من النفوس الشريرة.

الثالث : الفرق بحسب الغاية، فإن الغاية من المعجزة هي الدعوة إلى الحق وتثبيت دعوى الأنبياء، ولذا تكون مقرونة غالباً مع التحدي فلا تصدر من الكاذب. و أما السحر فإن الغاية منه الشر والإضرار .

الرابع: أن الشخص الذي تجري على يديه المعجزة ذو نفس كاملة قد اجتهد صاحبها في القيام بمراد المحبوب اعتقاداً وعملاً عن علم بأصول الشريعة وفروعها يدعو إلى الحق، وهو يعمل بما يدعو إليه، فإن لمثل هذه النفوس إرادة قوية ، ولها خلاقية في الجملة الانبعاث إرادتهم عن إرادة العليم الحكيم، إما مباشرة كالأنبياء والأوصياء ، أو بواسطتهم كعباد الله الصالحين. وهذا بخلاف السحر و نحوه فإن صاحبه لا يكون كذلك ، بل له نفس شريرة كدرة لا يصدر منها الخير ، مرتبطة مع الشياطين ومن يحذو حذوها .

الخامس: المعجزة ليست مكتسبة ولم تكن لها قواعد مطردة، بل هي تصدر حسب إرادة الله تعالى، فإما أن تكون خارقة للعادة واقعاً وظاهراً، أو بحسب الظاهر وإن كانت في الواقع مطابقة لقانون السببية والمسببة. و أما السحر فهو علم له قواعده وأحكامه يصدر عن تعلم

ص: 80

وتجربة. وهناك فروق أخرى أغمضنا النظر عن ذكرها، فإن الأمر وجداني ظاهر لكل من رجع إلى وجدانه(1).

ص: 81


1- م.ن، ص400-401، ج1.

ضلال أهل الكتاب

قال تعالى: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا» . مادة (و د د) تأتي بمعنى المحبة، وتستعمل في التمني أيضا، لأنه مشتمل على المحبة ومتضمن لها. أي : تمنی کثیر من اليهود والنصارى أن يرجعوكم عن دینکم ويردونكم إلى الكفر، كما قال تعالى: «وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ» (سورة آل عمران، الآية 63).

قوله تعالى: «حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ». الحسد تمني زوال نعمة عمن يستحقها ، سواء أرادها لنفسه أو لا ، بخلاف الغبطة التي هي تمني مثل تلك النعمة للنفس من دون إرادة زوالها عن الغير . والأول مذموم، والثاني محمود، فعن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «المؤمن يغبط، والمنافق يحسد» وفي الحديث القدسي: «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون».

والمعنى : أن حبهم لإضلالكم عن الإيمان، و إرجاعكم إلى الكفر سببه الحسد الكائن في نفوسهم من بعد ظهور الحق بأن محمدا صلی الله علیه و آله هو النبي الموعود المبشَّر به في كتبهم، وإتمام الحجة عليهم بالآيات

ص: 82

التي أتى بها. وفي قوله تعالى: «مِن عِندِ أنفُسَکُم» إيماء إلى أن ما يصدر عنهم إنما هو من سوء سرائرهم وفساد أخلاقهم، لا أن يكون عن غبطة لحق، أو غيرة عليه أو شبهة ونحو ذلك .

والآية المباركة تشير إلى أمر طبيعي، و هو أن كل طائفة إذا اعتنق أفرادها أمراً وصار ذلك الأمر مألوفاً عندهم يحبون أن يكون غيرهم على طريقتهم لا سيما إذا ما يخالف ذلك القديم، فيتصدون له و يعارضونه بكل ما أمكنهم وينتهي إلى الحسد الكائن في النفوس، فيكون ذلك من عند أنفسهم بعد ظهور الحق.

وفي قوله تعالى: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» إشارة إلى هذا الأمر الطبيعي المنغرس في الفطرة في بداية ظهوره، كما أن في قوله تعالى : «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا» (سورة النساء، الآية 89)، إشارة إلى ذلك بنحو مطلق.

قوله تعالى : « فَأعفُوا وَاصفَحُوا» . العفو: ترك المؤاخذة على الذنب . والصفح: إزالة أثره عن النفس، والإعراض عن المذنب بصفحة الوجه، وهما والتجاوز بمعنى واحد، وهي من مکارم الأخلاق. أي عاملوا الناس بمكارم الأخلاق من العفو و الصفح والإغماض عنهم وحُسن المعاشرة معهم حتى يشتد أمركم، وتغلب شوكتكم، ويمكنكم الله منهم فتعملوا فيهم بما هو الصلاح.

وفي الآية المباركة إيماء إلى أن المسلمين مع قلتهم حين ذاك هم أصحاب القدرة والمنعة، فإن العفو والصفح إنما يطلبان من القادر . وفيها البشارة بالغلبة وتأييدهم بالعناية الإلهية .

ص: 83

قوله تعالى : « حَتی یَأتِیَ اللهُ بِأمرِهِ» . من القتل، أو الطرد والجلاء ونحو ذلك . والمراد من الأمر الأعم من التشريعي وهو الجهاد، و التكويني.

وفيه البشارة للمؤمنين بوعدهم التأييد والنصر و الغلبة، كما أن فيه التهديد للكافرين على أن لا يتعرضوا للمسلمين بسوء فإنهم في حصن الله تعالی.

والسياق يدل على أن الصفح و العفو محدود بزمان خاص، بقرينة آيات أخرى وردت في الجهاد والقتال، فهذه الآية المباركة منسوخة بتلك الآيات، بل نفس هذه الآية الشريفة مغيّاة بغاية خاصة فلا معنی للنسخ الحقيقي حينئذ.

قوله تعالى : «إنّ اللهَ عَلَی کُلِّ شَیءٍ قَدِیرٌ» . تأكيد للوعد الذي وعده للمؤمنين .

قوله تعالى : « وَ أقیمُوا الصَّلوةَ و آتُوا الزَّکاةَ» . بعد أن أمرهم بالعفو والصفح، والمداراة مع الأعداء ليأمنوا من كبدهم ظاهراً ، و يجلبوا قلوبهم إلى الإسلام واقعاً ، أمرهم تعالى بأقوى أسباب الاتصال بينهم وبين الله عز وجل والتمسك بأوثق عرى الإسلام، ليحصل ارتباطهم مع خالقهم ، وهي الصلاة، فإنها من أقوى دعائم الدين وأبرز مظاهر إسلام المسلمين، فيتنزه العبد بمناجاة الله تعالى عن إتيان الفواحش و المحرمات، و أمرهم بإتيان الزكاة وصلة الأغنياء للفقراء ، وفي ذلك من الوحدة و الائتلاف و رفع التفرق والاختلاف ما لا يخفى، وقد تقدم تفسير هذه الآية المباركة .

ص: 84

قوله تعالى: «وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ» . أي : إن ما تعملونه في دار التكليف والعمل محفوظ عند الله فلا يرغب عامل عن العمل، ولا يعتريه ريب فكل خير يصدر منكم تجدون جزاءه عند ربكم فالدعوة عامة، والرحمة تامة، والوفاء ثابت، فإنه تعالى هو الذي يأخذ منكم ذلك ولا يتصور أن يضيع ما أخذه كما قال تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ »سورة الزلزلة، الآية 7- 8) وهذه الآيات المباركة و ما في سياقها صريحة في ظهور نفس العمل من حيث هو في الدار الآخرة، و فيها تأكيد لتثبيت النفوس على رؤية نفس العمل إلا أنه يربّي كما يشاء الله تعالى و في الحديث: «كما يربي أحدكم فصيله»(1) .

ص: 85


1- م.ن، ص431 - 433 ، ج1.

التوحيد الحقيقي

اشارة

قال تعالى: «وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا » . الاتخاذ من الأخذ، و من هنا معنى الجعل والإحداث نظير قوله تعالى : «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ »(سورة الأعراف، الآية 148 )

والقائل بذلك اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب، كما حکی الله تعالى عنهم في كتابه المجيد، قال تعالى: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ » (سورة التوبة، الآية 30)، و قال تعالى: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ » (سورة المائدة، الآية 19)، وقال تعالى : « خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ »(سورة الأنعام، الآية 100)ن بل قد صدر عن غيرهم من أصحاب الديانات حيث جعلوا زعماء ديانتهم أبناء الله تعالی ، مولودین منه سبحانه وتعالى، وذلك لأنهم يرون أن ذلك كمال لمن يعظمونه . وهذا من غاية جهلهم حيث يزعمون أن كل ما يكون كمالاً لهم يكون كمالاً لله تعالى، كما قال علي علیه السلام : «ولعل نمل الصفا يزعم أن لله زبانيتين» .

ص: 86

قوله تعالى : «سُبحانَهُ» . من التسبيح، وهو التنزيه المشوب بالعظمة و التعجب، قولاً، وفعلاً، قلباً وتسخيراً ، قال تعالى : «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ » (سورة الإسراء، الآية 44). و سبحانه مصدر کغفران، لا يستعمل إلا مضافاً ، فإن أصله «سبحته سبحاناً» فحذف الفعل و أضيف المصدر إلى ضمير المفعول و قام مقامه. ويستعمل في تنزيهه عن جميع ما لا يليق به عز وجل، فيجتمع فيه جميع الصفات السلبية .

قوله تعالى : «بَل لَهُ مَا فِی السَماواتِ وَ الأرضِ». شروع في الرد عليهم، فحكم بأنه غني لا يحتاج إلى أحد، وأن كل ما في السموات والأرض مملوك له بالإيجاد و الاختراع، ومن كان كذلك لا يتصور الولد بالنسبة إليه.

هذا إذا كان المراد بالولد معناه اللغوي العرفي ، أي : النسبي منه ، وأما إذا كان المراد الاتخاذي منه - كما هو الظاهر من لفظ الاتخاذ في جملة من الآيات المباركة المشتملة على عنوان «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا » (سورة يونس، الآية 68) وقال تعالى : «وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا»(سورة الإسراء، الآية 40) فيكون مثل قوله تعالى : «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا»(سورة النساء، الآية 125) ونظير قوله تعالى : «أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » (سورة المجادلة، الآية 22)، فيمكن أن تصح النسبة حينئذٍ، إذ يكفي فيها أدني مناسبة فضلاً عن أعلاه.

وهو باطل أيضاً، لأن مناط اتخاذ الولد الحاجة، وهو تعالی منزه

ص: 87

عنها لأنه الكمال الأتم، و الغني المطلق ، فلا يعقل الاحتياج بالنسبة إليه ، وهذا الوجه يجري في القسم الأول أيضا، مضافاً إلى ما سيذكره سبحانه وتعالى في ما بعد.

قوله تعالى : «کُلٌ لَهُ قانِتُون» . القنوت بمعنى الدعاء و العبادة و الخضوع ومرجع الكل إلى الأخير. و لكن للخضوع مظاهر مختلفة ، أي : أن الكل خاضع لإرادته و منقاد لسلطانه، و ذلك ينافي أن يتخذ ولدة، لأن المعبودية المطلقة مناط للاستغناء المطلق، و ولادة شيء من شيء مناط الاحتياج، و هما لا يجتمعان ، فجميع ما سواه تعالى يشهد له بتنزهه عن الولد ، قال تعالى : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ »(سورة الإسراء، الآية 44).

قوله تعالى : «بَدیعُ السَماواتِ وَ الأرضِ» . بديع مبالغة في الإبداع وهو إيجاد الشيء بصورة مخترعة بلا مادة، ولا آلة، ولا مكان، و لا سبق مثال وهو مختص به عز وجل.

وبالنسبة إلى غيره فهو مطلق إحداث الشيء من غير سبق الوجود، فإن كان في الدين فهو البدعة المحرمة، لقول نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «كُلُ بِدعَةٍ ضَلالَة، وَ كُلُ ضَلالَةٍ سَبيلها إلى النار».

ثم إن بداعته تعالى وكونه بديع السموات والأرض لا يختص بنوع دون نوع، بل يشمل جميع الموجودات بأقسام جواهرها - من الأنواع والأصناف - وأنواع أعراضها وأوصافها، ففي كل ذات من الذوات له تعالى بدائع كثيره في أصل ذاته، وعوارضها المحفوفة به التي ربما لا

ص: 88

تحصى ولا تعد، ولا حصر لذلك، فيرجع هذا الاسم فيه عز وجل إلى ربوبيته العظمى المطلقة في كل ذرات الوجودات، و كلياتها وأجزائها وجزئياتها.

وجملة «بَدیعُ السَماواتِ وَ الأرضِ» لم تذكر في القرآن إلا في موردين وكلاهما في نفي الولد عنه سبحانه وتعالى، أحدهما هنا، والثاني قوله تعالى : «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » (سورة الأنعام، الآية 101)ن و هو برهان متين جداً ، فإنه من كان مبدعاً للسموات والأرض و خالقاً لهما و موجداً لجميع ما فيهما يمتنع انتساب الولد إليه، إذ لم يوجد من مخلوقاته مجانس له حتى ينسب إليه تعالی.

قوله تعالى: « وإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . مادة (ق ض ي) قد ذكر لها معان، أنهاها بعض اللغويين إلى عشرة، وتبعهم بعض المفسرين، ويمكن إرجاع بعضها إلى بعض، و قد خُلط فيها بين الموضوع له و المستعمل فيه، بل خلط بين دواعي الاستعمال و تعدد المستعمل فيه، و لعل المعنى الواحد الساري في الجميع: الفعل، بالمعنى العام الشامل للحتم والحكم ونحوهما، فقضاؤه حکم وحتم و فعل.

هذا بالنسبة إلى مطلق القضاء الذي هو من فعل الله تعالى، وأما ما هو في مقابل القدر، فقال الصادق عليه السلام : «لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة، وإرادة ،

ص: 89

و قدرن وقضاء، و إذن وكتاب، وأجل. فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد کفر».

أقول: هذه كلها من فعل الله تعالی ومطابقة للبراهين العقلية كما سيأتي التفصيل في محله إن شاء الله تعالی.

والأمر : الشيء، كما قال تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » (سورة يس الآية 82) وجملة «كُن فَیَکُون» تامة لا تحتاج إلى الخبر، وهي كناية عن إرادته تعالى والمراد بالأمر «کن» هو الإيجاد، ولا تعبير أليق من هذا التعبير الذي يكون أقرب إلى الفهم، وإلا فليس في البين صوت يقرع، ولا نداء يسمع، بل كلامه تعالی عین إرادته ، وإرادته عين فعله.

والسر في هذا التعبير - المعبَّر عنه في الاصطلاح بالأمر التكويني - هو إعلام الناس نهاية السرعة في الخلق، و عدم انفكاك المعلول عن العلة التامة من دون تقدم وتأخر، لا زماني - لأن إرادته فعله - ولا رتبي إلا في فرض العقل. وقوله تعالى: « وإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ليس من القضايا التعليقية المحضة، بل هي من القضايا التي سبقت لبيان تحقق الموضوع، كقوله «الشمس طالعة فالنهار موجوده» فتكون قضية «إذا طلعت الشمس فالنهار موجود» بياناً للقضية الأولى .

ثم إنه قد وقع قوله تعالى : «كُنْ فَيَكُونُ» بعد القضاء تارة ، قال تعالى : «سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون» (سورة مريم، الآية 35) وبعد الإرادة أخرى، قال تعالى : ِ«إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(سورة يس، الآية 82)، والمراد بالقضاء هو القضاء

ص: 90

المبرم، والإرادة هو الفعل، كما أن المراد بالأمر (کن) هو الإيجادی كما مر.

هذا في غير الأمور التي جرى عادته تعالى فيها على تهيئة الأسباب وتقديم المقدمات، التي بينها التقدم والتأخر الزماني، والسبق واللحوق الذاتي کنفس الزمان وما يكون مثله في الحصول التدريجي، إذ كل آن من الزمان الذي هو بين العدمين مورد إرادته تعالى، ومورد قوله «کُن فَیَکُون» و كذا جميع الممکنات من المتدرجات وغيرها، بناء على ما هو الحق من أن مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث، ففي كل آن له تعالى شأن جديد، وفعل حادث في جميع مخلوقاته، فلا يشغله شأن عن شأن بل شؤونه غير متناهية بالنسبة إلى خلقه.

بحث روائي

في الكافي، عن هشام الجواليقي: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول سبحان الله ما يعني به؟ قال علیه السلام : «تنزيهه».

أقول: أي تنزيهه عن كل ما لا يليق به، وهذا هو معناه العرفي و اللغوي أيضاً.

وفي الكافي وبصائر الدرجات عن سدير عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: «بَدیعُ السَماواتِ وَ الأرضِ» قال علیه السلام : «إن الله ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله، فابتدع السموات والأرضين، ولم يكن قبلهن سموات ولا أرضون ، أما تسمع لقوله تعالى : «وَ كانَ عَرشُهُ عَلَى المَاءِ» .

ص: 91

أقول: يمكن أن يكون الاستدلال كناية عن أنه إذا لم يكن ثَمَّ شيء غير الماء فلا شيء حتى يوجد الأشياء على مثاله، مع أن الماء لم يعلم أن المراد به هو الماء الجسم الخارجي، أو أنه كناية عن إظهار ملکه وسعة رحمته بالماء الذي هو مادة الحياة فيعم المجردات ، وستأتي تتمة الكلام عند ذكر الآية الشريفة .

وفي الكافي و التوحيد، عن صفوان بن يحيى قلت لأبي عبد الله علیه السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ قال عليه السلام : الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل، وأما من الله تعالى فإرادته للفعل إحداثه لا غير ذلكن لأنه لا يروي، ولا يهتم، ولا يفتكر و هذه الصفات منفية عنه وهي من صفات الخلق، فإرادة الله تعالى هي الفعل لا غير ذلك، يقول له كن فيكون، بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همهمة ، ولا تفكر، و لا كيف لذلك، كما أنه لا كيف له» .

أقول: الروايات في بيان أن الإرادة فيه تعالى صفة الفعل كثيرة جداً . كما أن الفرق بين صفة الفعل، وصفة الذات واضح وقد أشرنا إلى ذلك في سورة الحمد.

وأما قوله علیه السلام «بلا لفظ ولا نطق - الخ» فهو كناية عن نهاية السرعة في الخلق والإيجاد كما ورد في رواية أخرى: «كن منه تعالی صنع، وما يكون منه هو المصنوع».

ص: 92

من أدلة التوحيد

اتفق المتكلمون على عدم المجانسة بين الله تعالى وبين مخلوقاته واستدلوا عليه بأدلة كثيرة، منها قوله تعالى : «بَدیعُ السَماواتِ وَ الأرضِ» و كما وردت فيه روایات متواترة عن الأئمة الهداة علیهم السلام ، وهو المستفاد من أقوال أكابر محققي الفلاسفة الإلهيين.

وخلاصة ما ذكروه في ذلك يرجع إلى ما ورد عن علي علیه السلام : «بائن عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة»، ولا يصح أن ينسب إليهم القول بالسنخية والمجانسة، فإنه لا يمكن أن يلتزموا بلوازمها، مع جلالة مقامهم وقد تقدَّم بعض الكلام في آخر سورة الحمد.

وعلى هذا فينتفي موضوع الولد له تعالی رأساً، لأنه مستلزم للسنخية والمجانسة، وبه ممتنعة بالنسبة إليه.

فالآية المباركة تدل على امتناع المدعی بوجوه :

والأول: قوله تعالى : ««سُبحانَه» بإنه دليل إجمالي على تنزهه عن جميع ما لا يليق به، فإنه أحدي الذات، وأحدي الصفات، ليس كمثله شيء. كما ورد في سورة الإخلاص، فقد روي أنه جاء نفر من

ص: 93

اليهود إلى نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله و قالوا: «أنسب لنا ربك. فأنزل الله تعالی سورة الإخلاص».

الثاني : قوله تعالى : «لَهُ ما فِی السَماواتِ و الأرضِ» فإنه يدل على أن مناط اتخاذ الولد هو الحاجة، وبعد كون ما سواه ملكاً له كيف يعقل الحاجة بالنسبة إليه تعالى حتى يتخذ ولداً؟!!

الثالث : قوله تعالى :«کُلٌ لَهُ قانِتون» أي : خاضعون لربوبيته و عظمته، و لا يعقل نسبة الولد إليه مع شهادة ما سواه على تنزيهه ، قال تعالى :

«وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ » (سورة الإسراء، الآية 44).

الرابع : قوله تعالى : «بَدیعُ السَماواتِ وَ الأرضِ» فهذا دليل تفصيلي على نفي المدعی، بیانه : أنه تعالى مبدع الخلق ومبدؤه بلا سبق مثال و نظير ولا احتیاج إلى روية و تفكير، ولا تعب، ولا لغوب، فهو مستغن عن الغير، فلا يحتاج إلى الولد.

الخامس : قوله تعالى : «إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون» دلیل آخر تفصيلي لنفي الولد شرحه في قوله تعالى : «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ»(سورة الأنعام، الآية 101)، و ذلك لأن الولدية بحسب نظام التكوين تتوقف على صاحبة وجرت سنة الله تعالى في خلقه على هذا النظام ، فإذا لم تكن له صاحبة كيف يعقل الولد له عز وجل ، فجميع هذه الآية المباركة متدردة على حسب فهم المخاطبين(1).

ص: 94


1- م.ن، ص447 - 453، ج1.

منصب الإمامة والنبوة

تقدم أن الإمامة هي السلطة الإلهية لتقويم العباد و تنظيم أمورهم الدينية و الدنيوية بما يريده الله تعالى، فتكون الإمامة من قسم الهداية الموصلة إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق، وإلا لزم الخلف.

والآيات الكثيرة المشتملة على هذا العنوان تشير إلى ذلك، قال تعالی :«وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا»(سورة السجدة ، الآية 24)، فذكر الصبر و الثبات يشعر بما تحمّلوا - في إيصال الخلق إلى المطلوب من المتاعب والبلايا ، وكذا قوله تعالى :«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ»(سورة الأنبياء، الآية 73)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

إن قيل: لو كانت حقيقة الإمامة هي الإيصال إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق فقد نری خلافه في الخارج من عدم وصول عامة الناس إلى المطلوب الحقيقي مع تماديهم في غيهم وضلالهم.

يقال : إن الإيصال إلى المطلوب بنحو الاقتضاء لا العليّة التامّة المنحصرة، وإلا لبطل الجزاء، فمهما تخلل الاختيار في البين، يكون

ص: 95

الإتصال بنحو الاقتضاء، كما هو معلوم. وسيأتي التفصيل في المباحث الآتية .

ثم إنّ الإنسان لا بد له من إمام يقتدي به في أفعاله وأعماله، و یدبّر له أموره الدينية والدنيوية، ولم يختلف أحد في ذلك، وإنما الخلاف في أمور أخرى ذكرها العلماء في مبحث الإمامة في الكتب الكلامية والحديثية وغيرهما، حتى ألفوا فيها كتبة ورسائل مستقلة . و المتأمل في المجموع يعترف أن جملة كثيرة منها أقرب إلى الأغراض الجزئية من المباحث العلمية.

وبعد التدبّر في مجموع الآيات المباركة والروايات، يظهر أن الإمامة - كالنبوة -.

فتارة : يبحث فيها عن الإمامة العامة الشاملة لإمامة إبراهيم، وموسی، وعيسى، ومحمد علیهم السلام .

وأخرى : عن الإمامة الخاصة .

أما الأولى، فهي: كالنبؤة العامة، فإنها وإن كانت من جهات التشريع لكن لها دخل في نظام التكوين أيضاً، فإن تكميل النفوس الناقصة بالمعارف الحقّة الواقعية من أهم جهات التكوين، ولا يهتم ذلك إلا بإرسال الرسل وبعث الأنبياء وإنزال التشريعات الإلهية، وجعل التشريع بلا وجود قوة مجرية لغو، وهو قبيح بالنسبة إليه عز وجل...

وأما الثانية: فهي المنصوصة من قبل الله تعالی بواسطة

ص: 96

النبي صلی الله علیه و آله ، وتتصف بصفات حميدة راسخة لم تكن في غير ما نص صلی الله علیه و آله .

فالإمامة : هي القوة المجرية لجهات التشريع السماوي ، فيجب لطفاً عليه تعالى جعل الإمام، وهذه القاعدة تجري في الإمامة الخاصة أيضا.

ولا يكفي في القوة المجرية مجرد العقل والعقلاء، فإنه لا بد فيهما من التقرير بالحجة الظاهرة، ومع غلبة النفس الأمّارة والألوهية الشيطانية، كيف يصلح أن يكون العقل والعقلاء قوة مجرية لوحي السماء ؟!

ولا يخفى أن ذلك من حكمة نصب الإمام، لا أن يكون من العلة التامة، وإلا فإن الإمامة شيء و اقتضاء الظروف و الحالات و سائر الجهات لكونه قوة مجرية لوحي السماء شيء آخر، لا ربط لأحدهما بالآخر.

يضاف إلى ذلك أن التشريع الذي يقتضي سعادة الإنسان والمتكفل الجميع جوانب الحياة الإنسانية في الدنيا والآخرة، لا بد أن يستند إلى الله تعالى رب السموات والأرض، أو عقل من ملكوته الأعلى، و إلا فلا يكون التشريع جامعاً أو نظاماً إنسانياً ، لكثرة ما نراه من اختلاف آراء الناس بالفطرة، وقد قال تعالى: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» (سورة المؤمنون، الآية 71)، فإذا كان حدوث التشريع من قبل الله تعالى على ألسنة الأنبياء الحافظين للشريعة

ص: 97

والعالمين بها، فالبقاء لا بد أن يكون بالإمامة، لانقطاع النبوة في خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله .

ومما ذكرنا يظهر : أن هذا الجعل تكويني تشريعي، فتكوينه يكون دخيلاً في تشريعه، وأن تشريعه له دخل في تكوينه .

وأن الإمام يجب أن يكون معصوماً كالنبي صلی الله علیه و آله وإلا استلزم الخلف .

ويدل عليه ظاهر الآية المباركة: «قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ».

فما ذكره العلماء في منصبي الإمامة والنبوة من أنهما منصبان مجعولان من الله تعالى، وأنه ليس في البشر من يفوقهما في علم التشريع، وأنهما مرتبطان بعالم الغيب ، كل ذلك صحيح ومطابق للقواعد العقلية(1).

ص: 98


1- م. ن، ج2، ص20. 22.

بحث كلامي حول التوبة

اشارة

التوبة باب من أبواب رحمة الله تعالى، وهي من أعظم أنحاء لطفه بعباده؛ ومن أقرب الطرق إليه عز وجل، وهي أوّل منازل السائرين إلى الله سبحانه، وأساس درجات السير و السلوك الإنساني، وهي مفتاح التقرب إليه عز وجل، والوصول إلى المقامات العالية .

بل لا تتحقّق التخلية عن الصفات الرذيلة والتحلية بالصفات الحسنة إلّا بها، و يكفي في فضلها أنها من صفات الباري عز وجل، فإنه «التواب الرحيم»، وقد منّ على عبيده أن تقرب غليهم بالتوبة عليهم بعد البعد عنه تعالى بالمعاصي والذنوب، فقال تبارك وتعالى: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(سورة الأنعام، الآية 54).

وقد ورد في عظيم فضلها نصوص كثيرة، ففي الكافي : عن أبي عبيدة ، عن أبي جعفر علیه السلام : «إن الله تبارك وتعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها».

وروي عنهم علیهم السلام : «إن الله أعطى التائبين ثلاث خصال، لو

ص: 99

أعطى خصلة منها جميع أهل السموات والأرض لنجوا بها، قوله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ»، فمن أحبه الله لم يعذبه . وقوله عز وجل: «فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ » . وقوله عز وجل : «إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا». إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في فضلها.

وأن للجنة بابا من أوسع أبوابها يسمى باب التائبين، وهي من مظاهر رحمانینه ورحیمینه ، اللتين هما من أوسع صفات الله تعالی العليا، بل لا حدّ لهما أبداً ، والبحث عن التوبة من جهات كثيرة .

التوبة وتعريفها وحقيقتها

التوبة معروفة عند كل من يقترف ذنباً ويعترف به عند الله تعالى، وهي: بمعنى الاعتذار المقرون بالاعتراف، المستلزم للرجوع إليه تعالی بعد البُعد عنه بسبب الذنب، وهذا هو المعنى اللغوي، كما عرفت.

وقد عرّفها علماء الكلام والأخلاق بتعاریف متعددة هي أقرب إلى المعنى اللغوي، ونحن نذكر تعريفين منها.

الأوّل : ما عن بعض علماء الكلام: أنها الندم على معصية من حيث هي، مع العزم على أن لا يعود إليها إذا قدر عليها.

الثاني: ما عن بعض علماء الأخلاق : أنها الرجوع إلى الله تعالی بحلّ عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بكلّ حقوق الرب.

ص: 100

وهذان التعريفان مقتبسان مما ورد في الكتاب الكريم والشئة المقدسة .

والمستفاد من النصوص الواردة في المقام هو أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب، كما ورد في الأثر عنه علیه السلام : «کفی بالندم توبة».

وذلك لأنّ الإنسان مزيج قوي متخالفة، ومركب من شهوات متعددة ، جذب كل قوة ما يلائمها من الخير أو الشر، كما هو المفضل في علم الأخلاق، فالقوة العاقلة تجذب الإنسان إلى الفضيلة وتمنعه عن الرذيلة، والقوة الشهوية ترغبه إلى ما تشتهيه، والقوى الغضبية تورده إلى المهالك والأخطار إن لم يمسكها بزمام العقل.

والإنسان الكامل هو المدبر لهذه القوى المتخالفة والملائم بينها بالتوفيق بينها، بحيث لا تخرج كل قوة عن الحد الذي عين لها، فيجلب بذلك سعادة الدارين، وهو في مسيرة الاستکمالي لا يسلم من الموانع والعوائق التي تعيقه عن سيره إذا لم يتغلب عليها بالحكمة والتدبير .

ومن جملة تلك الموانع المعاصي والذنوب، فإذا اعترض على الإنسان ذنب يرى نفسه بين أمرين مخيراً بينهما، إما الفعل وما يتعقبه من الآثار، أو الترك وما يلزمه من راحة النفس والفوز بالسعادة، وهذا وجداني لكل فاعل مختار، فإذا عزم على الفعل وأقدم على الارتكاب ، تحصل في نفسه حالة خاصة توجب الندامة والخجل والحياء المسمى ب_(تأنيب الضمير) في علم النفس المعاصر، وقد اعتبر الشارع هذه

ص: 101

الحالة هي التوبة ؛ قال نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله: «التوبة الندامة»، وعن الصادق علیهم السلام : «کفی بالندم توبة».

والسر في ذلك : أن هذه الحالة تكشف عن تغليب العقل والقوى الخيرة على الجانب الآخر، وهي تدعو إلى ترك الذنب في المستقبل والارتداع عن المعصية، ولذا قال أمير المؤمنین علیه السلام : «إن الندم على الشر يدعو إلى ترکه»، وتتكرّر هذه الحالة النفسية عقيب كل ارتکاب للمعصية، ما لم تترسخ المعاصي في النفس فيهون عنده ارتکاب الذنوب واقتراف الآثام، فيستولي عليه الفساد بالإصرار ويقسو قلبه ، وهذه هي حالة إحاطة الخطيئة بالإنسان، كما ورد في القرآن الكريم، وقد أشار تعالى إليها بقوله عز وجل: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ » (سورة المطففين، الآية 14). وتزول هذه الحالة بإتيان الأعمال الصالحة ومزاولة الطاعات، وتقوية النفس بالحسنات وترويضها بالأخلاق الفاضلة .

ومن ذلك يعلم أن تعريف التوبة بالندم هو أقرب إلى ما يتحصل من الروايات، وأما تعريفها بالرجوع والارتداع عن المعصية في المستقبل، فهو تعريف باللازم الحاصل من الندم .

وإذا عرفت أن التوبة حقيقة هي الندم، فلا بد وأن يكون منبعثاً عن حرقة القلب والشعور بالحياء منه عز وجل والخجل عن ما صدر منه، كما في بعض الروايات «إن الرجل يذنب، فلا يزال خائفاً ماقتاً لنفسهن فيرحمه الله فيدخله الجنة».

ص: 102

وأما إذا كان الندم حاصلاً من إطلاع الغير عليه، أو خوفه من إعراض المجتمع عنه، أو سقوط منزلته عند الناس، فلا أثر له، بل لا بد من أن تسوءه سيئته كما ورد في الخبر .

وجوب التوبة

التوبة من الذنب واجبة على الإنسان بالأدلة الأربعة :

الأول: الكتاب الكريم، وتدل عليه آیات کریمة، منها قوله تعالى: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(سورة النور، الآية 31)، ومنها قوله تعالى :«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ»(سورة التحريم، الآية 8) إلى غير ذلك من الآيات، وتدل عليه أيضا الآيات الكثيرة الدالة على إتيان الحسنات ، بضميمة قوله تعالى : «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ»ورة هود، الآية 114)، و من أجلّ الحسنات الفرائض.

الثاني : السنة الشريفة، والأخبار في وجوبها متواترة بين الفريقين بمضامین مختلفة :

ففي الكافي : عن جابر الجعفي عن أبي جعفر علیه السلام في قول الله عز وجل : «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» ، قال : «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ؛ ولا يحدث نفسه بالتوبة، فذلك الإصرار».

وفي مهج الدعوات : عن الرضا عليه السلام ، عن آبائه علیهم السلام قال

ص: 103

رسول الله صلی الله علیه و آله : «اعترفوا بنعم الله ربكم وتوبوا إلى الله من جميع ذنوبكم، فإن الله يحب الشاكرين من عباده» .

وفي الكافي - أيضاً -: عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه». .

وفي الكافي : عن أبي بصير : قال : قلت لأبي عبد الله علیه السلام :«یا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا» ، قال علیه السلام : «هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا. قلت: وأنا لم يعد؟ فقال علیه السلام : يا أبا محمد، إن الله يحب من عباده المفتن التواب».

الثالث: الإجماع من جميع المسلمين على وجوب التوبة، وهو ممّا لا ريب فيه.

الرابع: دليل العقل: فإن حدوث المخالفة و البقاء عليها قبيح عقلاً، و ترك كلّ قبيح عقلي واجب عقلاً و شرعاً، و لا يتحقّق ذلك إلا بالتوبة .

وبتقريب آخر: إنّ المعاصي من المهلكات، وإنها تجلب الضرر على العاصي؛ ولا ريب في وجوب دفع الضرر عقلاً.

فورية وجوب التوبة

بعدما ثبت أصل وجوبها، يكون هذا الوجوب فورياً ، وتدل عليه أمور :

ص: 104

الأول: ظاهر أدلة وجوب التوبة عن المعاصي .

الثاني : قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا»(سورة النساء، الآية 18).

الثالث : أن بقاء العصيان في النفس من أقذر القذارات المعنوية ، و الفطرة تحكم بفورية إزالتها.

الرابع : الإجماع القائم على الفورية .

الخامس : الأخبار الكثيرة الدالة عليها ، منها: رواية مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «طوبی لمن وجد في صحيفة عمله يوم القيامة تحت كل ذنب استغفر الله»، وفي وصية النبي لأبي ذر قال صلی الله علیه و آله: «اتق الله حيثما كنت، وخالق الناس بخلق حسن، وإذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها»، وفي وصية لقمان لابنه «یا بني، لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة».

ومنها الروايات الكثيرة الدالة على إمهال العاصي سبع ساعات، فقد ورد في الكافي: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام : «من عمل سيئة أجل فيها سبع ساعات من النهار، فإن قال : استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، ثلاث مرات لم تكتب عليه».

ويستفاد من مجموع هذه الأخبار أن التوبة من الطاعات ومن الأمور العبادية .

ص: 105

شروط التوبة

قد ذكر العلماء للتوبة شروطاً كثيرة ، وهي على قسمين: شروط الصحة التوبة ، فلا تصح إلا إذا اجتمعت فيها تلك الشروط.

وشروط لكمالها، ومع فقدها لا تكون كاملةن ولا مقبولة .

أما القسم الأول فهي ثلاثة :

الأول : الندم، وقد ذكرنا سابقاً أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب، ويدل على اعتبار هذا الشرط ما تقدم من الأخبار، و قوله صلی الله علیه و آله : «كفارة الذنب الندامة»، وما رواه في الكافي عن الصادق عليه السلام : «من سرته حسنته وساءته سيئته ، فهو مؤمن» إلى غير ذلك من الأخبار .

الثاني : أن ينوي عدم العود إلى ذلك الذنب، لأن حقيقة الندم لا تتحقق إلا بذلكن - كما تقدم . وتدل عليه جملة من الأخبار كما سيأتي، والمعتبر من هذا الشرط ترك العود إلى الذنب الذي سبق مثله، وأما الذنب الذي لمي سبق صدوره منه، فنية تركه لا تكون من التوبة، بل هي من التقوى .

ثم إن العزم على ترك المعصية في المستقبل بعد تحقق الندم عنها

فعلا، إن كان كاشفة عن تحقق حقيقة الندم من كل جهة، فلا ريب في اعتباره، لأنه مع عدمه لا تتحقق حقيقة الندم الفعلي، كما عرفت.

وأما إذا تحقق الندم فعلا، ولم يتحقق العزم على الترك لعدم

ص: 106

التوجه إليه، فلا دليل على اعتباره حينئذ، بل يستفاد من بعض النصوص عدمه، فقد روى الكليني في الكافي عن أبي بصير : «قلت لأبي عبد الله علیه السلام : « یاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا» ، قال علیه السلام : هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً. قلت : وأيُّنا لم يعد؟ فقال علیه السلام : يا أبا محمد، إن الله يحب من عباده المفتن التواب».

والمراد بالمفتن : من يذنب ويتوب، ثم يعود .

ونحوه غيره من الأخبار.

الثالث : أداء الحقوق وردها إلى أهلها، وفي الحديث: «لا توبة حتى تؤدي إلى كل ذي حق حقه»، وفي حديث آخر: «الظلم الذي لا يدعه الله ، فالمداينة بين العباد»، إلى غير ذلك من الأخبار .

وأما القسم الثاني، وهي شروط الكمال، فقد جمع أمير المؤمنين عليه السلام المهم منها في قوله: «الاستغفار درجة العليين؛ وهو اسم واقع على ستة معان:

أولها: الندم على ما مضى.

والثاني: العزم على ترك العود إليه أبدا .

والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم، حتى تلقى الله عزوجل أملس ليس عليك تبعة.

والرابع : أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيعتها، فتؤدّي حقها.

ص: 107

والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان، حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جدید.

والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : أستغفر الله».

ولا يخفى أنه علیه السلام جمع في كلامه كلا القسمين من الشروط .

ومن شروط الكمال أن يترك المعصية لأجل المعصية، لا لأجل شيء آخر من حياء أو خجل أو غير ذلك، بل تركها لأجل نقص في عضو، أو عدم الإمكان، لا يسمى توبة . وهذا ظاهر .

قبول التوبة

إذا تحققت التوبة من العبد وكانت مستجمعة للشرائط، تكون مقبولة لا محالة، ويدل على ذلك أمور:

الأول : قوله تعالى: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (سورة الأنعام، الآية 54).

ويستفاد من هذه الآية قاعدة كلية، و هي أن كلّ ما هو من صغريات الرحمة بينه عز وجل وبين عباده ، يكون واجباً عليه عزوجل، لأنه كتب على نفسه ذلك، فبقول التوبة الجامعة للشرائط مما أوجبه الله على نفسهن فيستغني بذلك عن قاعدة اللطف التي أثبتوها في علم الكلام .

ص: 108

ويدل عليه أيضأ قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا » (سورة النساء، الآية 110).

الثاني: الأخبار الكثيرة الدالة على لزوم قبول التوبة، ففي الحديث عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله أنه قال : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»، وفي الخبر عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال :

« یا محمد بن مسلم، ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان . قلت: فإن عاد بعد التوبة و الاستغفار من الذنوب، وعاد في التوبة؟ قال علیه السلام : يا محمد ابن مسلم، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب، ثم لا يقبل الله توبته؟!! قلت: فإنه فعل ذلك مراراً ، يذنب ثم يتوب ويستغفر، فقال : كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد الله عليه بالمغفرة، وإن الله غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فإياك أن تقنّط المؤمنين من رحمة الله».

و روى ابن بابویه في ثواب الأعمال عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : «أوحى الله إلى داود النبي صلی الله علیه و آله : يا داود، إن عبد المؤمن إذا أذنب ذنباً ثم رجع و تاب من ذلك الذنب. واستحيا مني عند ذكره، غفرت له، وأنسيته الحفظة، وأبدلته الحسنة ولا أبالي وأنا أرحم الراحمين» والروايات في ذلك كثيرة.

الثالث : يمكن الاستدلال عليه بالدليل العقلي أيضا، وهو أن الإنسان السائر في مسير الاستكمال الأبدي، والذي هو أشرف

ص: 109

موجودات هذا العالم، بل لم يخلق العالم إلا لأجله، ومع ذلك فهو ضعيف، كما قال تعالى : «وَ خُلِقَ الإنسانُ ضَعیفاً» (سورة النساء، الآية 28)، قرين النفس الأمّارة ومحاط بالشهوات المادية، والشيطان، يحوط به إحاطة العروق بالدم، وجميع ذلك له دخل في نظام التكوين والتشريع ، كما ثبت بالبراهين القطعية في الفلسفة العملية. وحينئذ فلو كان صرف وجود العصيان مانعاً دائمياً عن إفاضة المبدأ القيوم فيضه عليه، لزم تعطيل أعظم المخلوقات عما خلق له، وهو قبيح، والقبيح محال بالنسبة إليه عز وجل، فيحسن قبول التوبة منه تعالى، ويرشد إلى ذلك ما في بعض القدسیات: «بمعصية ابن آدم عمرت العالم»، ومنه يظهر سر ابتلاء آدم بما ابتلي به في بدء الهبوط، كما يظهر شرح قوله علیه السلام : «إن الله يحب المفتن التواب».

فاليأس عن قبول التوبة معصية كبيرة ، ولو عصى العبد مرات عديدة، لأنه يأس من رحمة الله تعالى، وهو من المعاصي الكبيرة، وعن علي عليه السلام في بعض دعواته الشريفة : «اللهم إن استغفاري إياك وأنا مصر على ما نهيت قلة حياء، وتركي الاستغفار مع علمي بسعة فضلك وحلمك، تضييع لحق الرجاء».

موارد التوبة

تصح التوبة من جميع الذنوب والخطايا، سواء كانت من الكبائر أم الصغائر، وهي توجب محوها إذا اجتمعت فيها الشرائط، وتدل على ذلك آيات من الكتاب الكريم وروايات من السنة الشريفة.

ص: 110

أما الآيات: فمنها قوله تعالى : « وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ »(سورة النور، الآية 31)، وقوله تعالى:«وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا »(سورة النساء، الآية 110).

ويدل على خصوص التوبة عن الكبائر قوله تعالى :«وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا »(سورة الفرقان، الآية 68 - 71).

وأما ما يدل على صحة التوبة عن الصغائر فهو كثير، قال تعالى :«إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ»(سورة النساء، الآية 31) والآيات في ذلك كثيرة.

وأما الروايات، فهي مستفيضة، منها ما روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله قال : «اعترفوا بنعم الله ربكم، وتوبوا إلى الله من جميع ذنوبكم، فإن الله يحب الشاكرين من عباده».

وفي تفسير القمي: عن زرارة، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : «لما أعطى الله إبليس ما أعطاه من القوة، قال آدم: یا رب سلطت إبليس على ولدي وأجريته منهم مجرى الدم في العروق، وأعطيته ما أعطيته، فمالي ولولدي؟ قال : لك ولولدك السيئة بواحدة، والحسنة بعشر

ص: 111

أمثالها، قال : يا رب زدني، قال : التوبة مبسوطةً إلى أن تبلغ النفس الحلقوم، قال : يا رب زدني، قال : اغفر ولا أبالي . قال : حسبي».

و روى في الكافي عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إن الله لا يغفر أني شرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء؛ الكبائر فما سواها قلت: دخلت الكبائر في الاستثناء؟ قال (عليه السلام) : نعم ، والروايات الدالة على صحة التوبة من الكبائر والصغائر كثيرة جداٌ، تقدّم بعضها.

ثم إنه قد ورد أنه لا تقبل التوبة عن بعض الذنوب، منها ما ورد في عدم قبول توبة من أحدث ديناً، وما ورد في عدم قبول التوبة عن الشرك، قال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ»(سورة النساء، الآية 119)، وعدم قبول توبة المرتد.

ولكن الحق أن يقال : إن جميع تلك الموارد لا بد وأن تحمل إما على عدم وقوع التوبة مستجمعة للشرائط، أو الموت على الشرك وعدم التوبة منهن وإلا فإن الإسلام يهدم الشرك بلا إشكال، وتدل على ذلك روایات .

منها: صحيح أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في حديث الإسلام والإيمان ، قال : والإيمان من شهد أن لا إله إلا الله - إلى أن قال - ولم يلق الله بذنب أوعد عليه بالنار . قال أبو بصير : جعل فداك ، وأننا لم يلق الله بذنب أوعد عليه بالنار؟ فقال علیه السلام : ليس هو حيث تذهب، إنما هو من يلق الله بذنب أوعد الله عليه بالنار، ولم يتب منه».

ص: 112

وأما المرتد: فتقبل توبته مطلقاً - فطرياٌ كان أو ملياٌ - على ما فصلناه في الفقه، ومن شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام) ، ويدلّ على القبول صحیح محمد بن مسلم عن أبي جعفر علیه السلام : «من كان مؤمناً فعمل خيراً في إيمانه ثم أصابته فتنة فكفر، ثم تاب بعد کفره، كتب له وحوسب بكل شيء كان عمله في إيمانه، ولا يبطله الكفر إذا تاب بعد کفره».

إن قلت : إنه قد ورد في بعض الأخبار في الإيمان عمن يذنب بعض الذنوب وإثبات الكفر له، ففي الخبر عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «لا يزني الزاني وهو مؤمن؛ ولا يسرق السارق وهو مؤمن»، ومثله غيره.

قلت : يحمل ذلك على نفي بعض مراتب الإيمان، أو إثبات بعض مراتب الكفر، ويدل عليه ما رواه زرارة عن أبي عبد الله علیه السلام: أرأيت قول رسول الله صلی الله علیه و آله : لا يزني الزاني وهو مؤمن ؟ قال علیه السلام : ينزع منه روح الإيمان».

ولا يدلّ ذلك على سلب الإيمان منهم بالكلّية ، أو أنّ العاصي بذلك لا مؤمن ولا كافر، كما يقوله بعض المعتزلة، وللكلام تتمة تأتي في المحل المناسب إن شاء الله تعالی.

التوبة وزمانها

إن من رحمته تعالى ومنه على عبده، أن فتح لهم باب التوبة بمصراعيه، ومن عظيم لطفه جعله مفتوحة أمام العاصين حتى تبلغ النفس إلى الحلقوم، ويدل على ذلك روایات مستفيضة، منها ما رواه

ص: 113

الكليني في الكافي عن رسول الله صلی الله علیه و آله : «من تاب قبل موته بسنة، قبل الله توبته، ثم قال : إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر، قبل الله توبته، ثم قال : إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته، ثم قال : إن يوماً لكثير، من تاب قبل أن يعاین، قبل الله توبته .

وروى في الكافي أيضا عن أحدهما علیهماالسلام : «إن الله عز وجل قال لآدم علیه السلام: جعلت لكل أن من عمل من ذريتك سيئة ثم استغفر غفرت له، قال: یا رب زدني، قال : جعلت لهم التوبة - أو بسطت لهم . حتى تبلغ النفس هذه . قال : يا رب حسبي»، إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة .

ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ »(سورة النساء، الآية 18)، أي في ما إذا عاين الموت ، كما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله ، و الأئمة الهداة علیهم السلام كما تقدم في بعض الروايات.

السبل لمحو الذنوب

تقدم أن الذنوب كلها قابلة للتكفير عنها ومحوها والتوبة عنها، ولذلك طرق كثيرة، وهي إما أن تكون محدودة ومعينة في الشرع، فلا تصح بغيرها، وإما أن لا تكون كذلك.

والجامع بين القسمين هو الندامة، والمجاهدة على ترك الذنب ،

وإرضاء صاحب الحق - خالقا كان أو مخلوقة - فطرق التوبة على قسمين :

ص: 114

القسم الأول: الطرق التي عينها الشارع وجعل لها حدوداً وشروطاً ، لا تصح التوبة بغيرها، وهي كثيرة :

منها : الإسلام فإنه يهدم الشرك، والآيات والروايات فيه متواترة، ويكفي في ذلك قوله صلی الله علیه و آله المشهور بين الفريقين : «الإسلام يجب ما قبله» .

ومنها: قضاء الطاعات الواجبة مثل الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، و الخمس، فإن التوبة المقررة في الشريعة عن الذنب الحاصل من تركها هي قضاؤها، على ما هو المفضل في علم الافقه.

ومنها: أداء حقوق الناس إن ضيعها، سواء كان الحق مالياً ، أو جناية على النفس، أو حقاً أدبياً أخلاقياً ، والتوبة عن الذنب الحاصل من تضييعها أداؤها، والاسترضاء من صاحب الحق، أو القصاص، أو إخراج الدية ، كما هو مفصل في كتب الفقه .

ومنها: إظهار الخلاف وإعلام الناس ببطلان ما أظهره، كما لو استحدث ديناً جديداً ، فطريق التوبة عنه إظهار خلافه وإعلام الناس ببطلانه ، والإصلاح بعد الإفساد، قال تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ » (سورة البقرة، الآية 160)

وأما ما ورد عن الرضا، عن آبائه عليهم السلام ، عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنه قال : «إن الله غافر كل ذنب إلا من أحدث ديناً، ومن اغتصب أجيراً

ص: 115

أجره، أو رجل باع حرا» فإنه محمول على عدم تحقق شرائط التوبة منه، بقرينة غيره من الروايات المتقدمة.

القسم الثاني : الطرق العامة التي جعلها الله تعالى وسيلة للتوبة والتكفير عن الذنوب والخطايا، وهي أيضا كثيرة .

منها: اجتناب الكبائر، فإنه موجب لمحو الصغائر، قال تعالى : «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا » (سورة النساء، الآية 31)، وقال تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ»(سورة الطلاق، الآية 5)، وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»(سورة الأنفال، الآية 29).

وروى ابن بابویه في الفقيه عن الصادق علیه السلام : «من اجننب الكبائر يغفر الله جميع ذنوبه، وذلك قول الله عز وجل : «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ».

وفي رواية محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السلام قال : «من اجتنب کبائر ما أوعد الله عليه النار، إذا كان مؤمناً كفر الله عنه سيئاته»، ونحوهما غيرهما.

ومنها: إتيان الحسنات والأعمال الصالحة، فإنه كفارة للذنوب

قال تعالى : «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» (سورة هود، الآية 114).

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله : «الصلوات الخمس والجمعة تكفر ما بينهن إن اجتنبت الكبائره».

ص: 116

و قال صلی الله علیه و آله : «أتبع السيئة الحسنة تمحها» .

وفي وصية النبي لأبي ذر : «اتق الله حيثما كنت، وخالق الناس بخلق حسن، وإذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها».

وفي صحيح يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله علیه السلام : «ومن عمل سيئة في السر فليعمل حسنة في السر، ومن عمل سيئة في العلانية فليعمل حسنة في العلانية» .

وفي صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ما أحسن الحسنات بعد السيئات، وما أقبح السيئات بعد الحسنات».

ومنها: الاستغفار، فإنه الممحاة، وإنه دواء الذنوب ، كما في الأثر قال تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا» (سورة النساء، الآية 110)، وقال تعالى : «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» (سورة هود، الآية 90) ، وقال تعالى :«وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ »(سورة آل عمران، الآية 130).

وفي الحديث : كان رسول الله صلی الله علیه و آله يستغفر الله في كل يوم سبعين مرة، يقول : أستغفر الله ربي وأتوب إليه، وكذلك أهل بيته، وصالح أصحابه ؛ يقول الله تعال : «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» .

وفي الحديث أيضا قال رجل: «یا رسول الله إني أذنب ، فما أقول إذا تبت؟ قال صلی الله علیه و آله : أستغفر الله ، فقال : إني أتوب ثم أعود، فقال :

ص: 117

كلما أذنبت استغفر الله . فقال : إذن تكثر ذنوبي ، فقال صلی الله علیه و آله : عفو الله أكثر، فلا تزال تتوب حتى يكون الشيطان هو المدحور».

وعن عمار بن مروان، عن أبي عبد الله علیه السلام : «من قال : استغفر الله مائة مرة في يوم، غفر الله له سبعمائة ذنب، ولا خير من عبد يذنب في يوم سبعمائة ذنباً» .

وفي رواية عبد الصمد بن بشير ، عن الصادق عليه السلام أيضا: «إن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربه فيغفر له، وإن الكافر لينساه من ساعته».

والروايات في كون الاستغفار موجباً لمحو الذنوب كثيرة جداً .

ومنها: الاستعانة بالله بالصلاة والصيام في غفران الذنوب، ففي الخبر عنهم علیهم السلام : (ما من عبد أذنب ذنباً، فقام وتطهر وصلى ركعتين واستغفر الله إلا غفر له، وكان حقا على الله أن يقبله، لأنه سبحانه قال : «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا».

وعن أمير المؤمنین علیه السلام أنه قال: «ما أهمني ذنب أمهلت بعده حتى أصلي ركعتين».

وقد وردت روايات كثيرة على أن صوم أيام من الأسبوع، أو أيام من السنة ، يوجب محو الذنوب، فراجع کتاب الصوم من الوسائل.

التبعيض في التوبة

تصح التوبة عن بعض الذنوب دون بعض، لتعدد الذنوب وتعدد

ص: 118

آثارها شرعاً ، وعدم الارتباط بينها كذلك، سواء كانت الذنوب التي يتوب عنها موافقة بالنوع من الذنوب التي لا يريد التوبة عنها، أو مخالفة لها، كأن يريد التوبة عن الكذب دون الغيبة، أو يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلاً، و الدليل عليه مضافاً إلى ذلك إطلاقات الأدلة، وعموماتها، وتسمى هذه بالتوبة المفصلة .

وذهب بعض العلماء إلى عدم صحة التوبة كذلك، بل يجب العموم - كما هو مذهب المسيحيين في التوبة، لأنها إنما تكون السقوط استحقاق العقاب، ومع ثبوت الاستحقاق الفعلي لسائر المعاصين لا موضوع للتوبة حينئذٍ.

وهو مردود بأن اختلاف الجهة يدفع ذلك، فيرتفع الاستحقاق من جهة، و يبقى من جهة أخرى، ولا تنافي بين الجهتين، كما لا يخفی.

نعم، لو كان بقاؤه على بعض المعاصي كاشفاً عن عدم تحقق الندامة بالنسبة إلى ما تاب عنها، فلا تتحقق التوبة حينئذ، وبه يمكن الجمع بين الكلمات، فراجع.

ومن جميع ما تقدم يظهر أيضاً صحة التوبة الموقتة، بأن يتوب عن الذنب مدة معينة و لا يذنب فيها.

صيغ التوبة

للتوبة عبارات متعددة، منها: «أتوب إلى الله»، و«استغفر الله»، و «استغفر الله وأتوب إليه » ، وغير ذلك مما تثبت التوبة بكل واحدة منها

ص: 119

بعد تحقق الندم من مرتكب المعصية ، كما تقدم ، و ليست فيها صيغة خاصة.

أقسام التوبة ومراتبها

التوبة على أنواع، منها توبة الإنابة، وهي عبارة عن الخوف من الله عز شأنه لأجل قدرته على العاصي.

ومنها: توبة الاستجابة، وهي عبارة عن الحياء من الله لقربه من العبد.

و منها : توبة العوام، وهي ناشئة عن الخوف من عذاب الله تعالی.

ومنها: توبة الخواص من الغفلة، و توبة الأنبياء من ترك الأولى والعجز عن ما ناله غيره، وهي أخص الخواص، كما تقدم في آية 37 من هذه السورة .

مراتب التوبة، فهي ثلاثة

الأولى : أن يتوب العبد عن الذنوب كلها و يستقيم على التوبة إلى آخر عمره، و لا تصدر عنه المعاصي إلا اللمم و الزلات ، التي لا يخلو عنها غير المعصومين ، وهي التوبة النصوح، المعبر عنها في الروايات : «أن يكون ظاهره کباطنه».

الثانية : أن يتوب عن الذنوب ويستقيم على الطاعات، إلا أنه لا يخلو في حياته عن بعض ذنوب قد تصدر منه، ولكنه يندم ويأسف على كل ما صدر عنه، وهذا هو معنى التواب .

ص: 120

الثالثة : مثل السابقة، ولكنه لا يحدّث نفسه بالتوبة، و لا يأسف على ما صدر عنه.

التوبة في الأديان السماوية

لا تختص التوبة والتطهير عن الأدناس والخطايا بدين الإسلام فقط، بل تعمّ جميع الأديان كلها، وإن اختلفت في الكيفية والشروط، وقد ورد في القرآن الكريم توبة آدم عليه السلام ، قال تعالى : «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (سورة البقرة، الآية 37)، وقول موسى علیه السلام : «فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ»(سورة البقرة، الآية 54)، وقال تعالى حكاية عن هود علیه السلام : «وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ » (سورة هود، الآية 52)، إلى غير ذلك م الآيات المباركة الدالة على ذلك، ولكن التوبة عند أكثر المسيحيين أحد أسرار الكنيسة السبعة، على تفصيل مذكور عندهم.

«وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ*إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»

الآيات مرتبطة بالآيات السابقة، فإنها بمنزلة التعليل لجملة كثيرة مما ورد في الآيات السابقة كجعل الإمامة، وبناء البيت، وتشريع بعض أعمال الحج، وجعل القبلة، ولعن الذين يكتمون ما أنزل الله من

ص: 121

البينات ، وقبول توبتهم ، فذكر سبحانه وتعالى أولا أن المعبود واحد ، و رحمته عامة تشمل الجميع، وإن اختلف متعلقها من حيث الرحمة الرحمانية و الرحمة الرحيمية، ثم شرح ذلك في الآية الثانية بذكر آیات عظام، ينتظم بها أمور العالم، ويعيش بها كل ذي حياة . و مجموعها تدل على أن من كانت صفاته هكذا، فهو مبدأ كل خير ومنتهی كل امر.

قال تعالى : «وَ إلهُکُم إلهٌ واحدٌ».

تقدم ما يتعلق بلفظ الإله في البسملة من سورة الفاتحة، والمستفاد مما ذكرناه هناك ، أنه محبوب كل الأشياء، قال تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (سورة الإسراء، الآية 44)، ولا ريب أن التسبيح فرع المحبة .

والواحد مبدأ التكترات، أي أنه واحد بالذات و الصفات والأفعال وفي عين ذلك هو مبدأ التكثرات ومفنيها، كما يكون الواحد كذلك .

وقد نسب إلى مولانا الجواد عليه السلام في بيان معنى الواحد فقال علیه السلام : «إجماع الألسنة عليه بالوحدانية، لقوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » ، فجعل علیه السلام مناط الوحدانية الخلاقية العظمى التي اجتمعت الألسن عليها، دون سائر جهات الوحدانية التي تقصر العقول عن درك بعضها، فضلا عن جميعها .

وقد فرّق العلماء بين الواحد والأحد - بعد کون الأخير هو الواحد

ص: 122

أبدلت الواو همزة، ثم خفف اللفظ فصار أحداً - بوجوه تقدمت في آية 133 من هذه السورة ، أهمها أمور :

الأول: أن الواحد هو المتفرد بالذات، والأحد أعم منه .

الثاني : أن الواحد يطلق على ذوي العقول وغيرهم، والأحد لا يطلق إلا على الأول، وقد يطلق على غيره .

الثالث: أن الواحد يدخل في الضرب في العدد دون الأحد. كما مرّ.

وإنما أطلق سبحانه لفظ الواحد ليفيد العموم، فيشمل الوحدة في الذات، فلا جزء له ، و الوحدة في الألوهية والعبادة، فلا شريك له، والوحدة في الصفات، والوحدة في الأفعال ، فينتفي بذلك أنواع الشرك ، فهو واحد من جميع الجهات ليس كمثله شيء.

و كرر لفظ الإله لإفادة أن استحقاق العبادة و المعبودية إما هو الوحدة في الألوهية، فهو متقوم بها، فلو قال تعالى : «وَ إلهُكُم واحدٌ» ، لما أفاد هذا المعنى.

ثم إن الألوهية إما أن تكون واقعية حقيقية، وإما أن تكون اعتقادية، وما هو متقوم بالوحدة إنما هي الأولى دون الثانية، فإنها تحصل من التكثرات وتتنافى مع الوحدة، قال تعالى : «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ»(سورة ص، الآية 5)، وقد حصل لهم التعجب ، لأنها اعتقادية خيالية تابعة لأهوائهم ، قال تعالى : «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ» (سورة الفرقان، الآية 43). والآيات والروايات

ص: 123

والأدلة العقلية تدل على كثرة هذا الإله وتعدده، بحيث لا حصر له ولا عد(1) .

ص: 124


1- م.ن، ج 2، ص 232 - 251.

الشفاعة في القرآن والسنة

اشارة

من الألفاظ الشائعة في القرآن الكريم لفظ (الشفاعة) ومشتقاتها التي ربما تبلغ أكثر من ثلاثين مورداً ، والمستفاد من مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الشفاعة، أنها من الأمور الثابتة المتحققة بلا ريب ولا إشكال، إلا أن في بعضها تنسب الشفاعة إلى الله تعالى بالأصالة ، وفي بعضها الآخر تنسبها إلى غيره عز وجل برضاه وإذنه، فهي لا تنفي الشافعة من أصلها .

والشفاعة من الموضوعات التي كثر الاهتمام بها في الإسلام ، بل في سائر الأديان الإلهية، فقد بحث عنها في غير واحد من العلوم الإسلامية، كعلم الكلام، وعلوم التفسير والحديث والفقه.

والإلمام بها يقتضي البحث في مفهوم الشفاعة ومتعلقاتها، وثبوتها، ومورد جریانها، وشروطها، وزمان تحققهان ومن تصخ منه ، و نسبتها إلى سائر المفاهيم الشرعية التي تثبت العفو والمغفرة وغير ذلك .

مفهوم الشفاعة

مادة (شفع) تأتي بمعنى ضم الشيء مع غيره لغرض يترتب عليه ،

ص: 125

فالشفاعة هي انضمام المشفوع له مع المستشفع لنيل غرض لا يناله إلا بها. وهي من الأمور الدائرة بين أفراد الإنسان، لتحقيق أغراض خاصة وإنجاح بعض المقاصد، كما أنها من الروابط الاجتماعية الوثيقة بين الحاكم والمحكوم عليه.

وإذا تأملنا في الشفاعة الدائرة في الاجتماع الإنساني، نلاحظ أنها تكون من متممات الأسباب، فهي جزء المقتضي بالتعبير العلمي، لا العلة التامة المنحصرة، لأنها لا تكون إلا فيما إذا كان المشفوع له قابلاً في الجملة لنيل الغرض المترتب على الشفاعة . فلا مجرى لها في ما لا قابلية له أصلا، كما أنها متوقفة على إذن المشفوع عنده للشفيع، فإذا أراد فرد أن ينال كمالا أو خبرة يليق به - مادياً كان أو معنوياً - أو أراد الخلاص من عقاب المخالفة بعد استحقاقه، يلجأ إلى الشفاعة، فيضم إلى سببه الناقص - الذي عنده من لياقة أو نحوها - سببية الشفيع، الذي هو بدوره لا بد أن يكون مؤهلاً لقيامه بهذه الوساطة، فالشفاعة من الاسباب المتممِّة في التأثير لا المستقلة، هذه هي الشفاعة الدائرة في المجتمع، وإنها تتقوم بأمور:

الأول: أن يكون المشفوع له مؤهلاً و قابلاً لنيل الغرض والمراد في الجملة، وإن كان ناقصة من جهة فيتمم تلك الجهة بالشفاعة، فلا أثر للشفاعة في ما لا قابلية له أصلاً ، كالشفاعة لفرد أمي لا يعرف شيئاً أن يحوز منصباً علمياً كبيراً ، أو الشفاعة للمشرك أن يدخل الجنة.

الثاني : الشفاعة إنما تكون في الأمور الخارجية عن الذات ،

ص: 126

کالكمالات الاكتسابية التي تكون بالاختيار، أو الأمور الموجبة لمخالفة القانون بالاختيار .

الثالث : أنه لا مجرى للشفاعة في الأمور التكوينية والأسباب الطبيعية، سواء كانت من الخير والشر، أو النفع والضر ، إلا بالعناية فيها، فلا بد من الرجوع إلى أسبابها الطبيعية والوسائل المناسبة، فإن العطش مثلا إنما يرتفع بالارتواء والشرب، والجوع بالأكل، والمرض بالدواء، والحر بالوسائل المناسبة، والبرد باللبس وغير ذلك من الأمور الطبيعية، ولا أثر للشفاعة فيها.

نعم في جملة من التكوينيات يكون انضمام شيء إلى شيء آخر موجبة لحصول الغرض المقصود ، وتسمية ذلك بالشفاعة تكون بالعناية .

الرابع : أن الشفيع إنما يكون جزءً متمماً آخر منضماً لسببية المشفوع له إذا كان بحد نفسه قابلاً للقيام بالسببية ومؤهلا لها، فيتوسط بين المشفوع له والمشفوع عنده بما يوجب نیل الكمال أو دفع الشر والعقاب، وهو إنما يتوسل لدى المشفوع عنده بما يؤثر عليه من صفات حميدة فيه عنده، کالرحمة والكرم ونحوهما، أو في المشفوع له کالعبودية والمذلة وغيرهما.

الخامس : أن الشفيع إنما يرجع إلى المشفوع عنده بما يرتضيه، لا بما هو غير ممكن أو لا يرتضيه، فإن ذلك قبيح لا يمكن أن يكون مورد الشفاعة، فلا يرجع عليه في خلع المولوية عن نفسه، أو إبطال الحكم والتشريع، أو إلغاء المجازاة ونحو ذلك، فإن هذه الأمور مما

ص: 127

تقبح الشفاعة فيها، وهو من المضادة والمعارضة، لا من الشفاعة، وإلى ذلك يشير قول نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله عز وجل، فقد ضاد الله في أمره».

فالشفاعة عند العرف توسط بين السبب ومسببه، فهي لا تخرج عن مطلق قانون السببية، لكن لا على نحو المضادة والمعارضة والغلبة ، كما في الأسباب الطبيعية والتكوينية .

الشفاعة في الإسلام

تقدم أن الشفاعة قد وردت في القرآن الكريم في مواضع متعددة والسنة الشريفة بما لا يحصى، ولم يرد تحديد من الشرع فيها، فيستفاد أنها في الإسلام هي نفس ما عليه في العرف والاجتماع الإنساني، إلا أن أثرها الكبير يظهر في يوم القيامة، وليس لها في هذه الدنيا ذلك الأثر الكبير ، ولكن نسبة الشفاعة إلى الله عز وجل تكون على نحوين:

الأول: توسط الأسباب بينه تعالى وبين غيره، فإنه عز وجل المبدأ والمنتهى، وإليه يرجع الأمر كله، وهو المالك للخلق على الإطلاق والرب لهم، وله من الصفات العليا الحسني والقيومية العظمى التي يدبر بها خلقه. وبينه تعالى وبين خلقه المحتاج إليه أسباب عادية وعلل وجودية ووسائط كثيرة، فإنه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها، فتكون مجاري إعمال قدرته مثل مجاري الطبيعة والتكوين.

وإطلاق الشفاعة على هذا النوع من السببية صحيح ولا مانع منه عقلا، بل يستفاد ذلك من قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

ص: 128

وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ» (سورة يونس، الآية: 3)، حيث أورد الشفاعة بعد خلق السموات والأرض والتدبير لهما ، فلا تكون إلا في أمور التكوين، ويستفاد من الآية أن الشفاعة بهذا المعني هي من جملة تدبير الخلق وتنظيم النظام الأحسن الربوبي، ويؤيد ذلك أيضا قوله تعالى : «لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» (سورة البقرة ، الآية : 250)، فهذه هي الشفاعة التكوينية ، أي توسيط العلل و الأسباب الوجودية بين مسبب الأسباب وخالق الأرض والسماء ، و بين خلقه المفتقر إليه.

الثاني: الشفاعة لديه تعالی بمعنی رفع العقاب عن عباده العاصين ، أو زيادة الثواب لعباده المطبعين، فإن الله تعالی أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، مبلغین صادعين بالحق، وأنزل معهم الكتاب المشتمل على الأحكام التشريعية الراجعة إلى مصالح العباد، و وضع الثواب للمطيعين والعقاب على العاصين، وأقام الحجة في العباد وأتمها عليهم «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(سورة الأنفال، الآية 92) ، و لكنه تعالی رأفة بخلقه ورحمة بعباده جعل الشفاعة لنفسه، وهو من شؤون رحمته المطلقة التي وسعت كل شيء، وهذه هي الشفاعة في الجعل والتشريع.

وبعد كون أصل الشفاعة بيده وتحت استيلائه وقدرته، له تبارك وتعالى أن يجعلها لمن يشاء من خلقه ويريد، وفق الحكمة البالغة والعلم الأنم، و تدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة، قال تعالى :

ص: 129

«يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا» (سورة طه، الآية 109)، وقال تعالى : « لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى» (سورة الأنبياء، الآية 28) ، و إطلاق قوله تعالى :« وَ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى »(سورة الأنبياء، الآية 28)، يدل على أنه لا بد في الشفاعة من إذنه في المشفوع له و الشفيع، وقال تعالى:« وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » (سورة الزخرف، الآية 86).

والمستفاد من جميع ذلك : أن الشفاعة بجميع جهاتها وخصوصياتها لا بد أن تكون تحت اختياره وإرادته، كما تدل على ذلك القاعدة العقلية أيضا، فالشفاعة على نحو ما تقدم مطابقة للعقل والشرع والعرف، فمن أنکرها بهذا المعنى إنما ينكر أمراً وجدانياً ، يعترف به بجنانه وينكره بلسانه .

ثبوت الشفاعة

لا ريب ولا إشكال في إمكان الشفاعة ، فهي ليست من المحالات الأولية ، لما هو المتسالَم بين الفلاسفة من أصالة الإمكان في كل شيء إلا إذا دلّ دلیل معتبر على الامتناع، و لم يتخيل أحد في أن الشفاعة من الممتنعات الذاتية ، هذا بالنسبة إلى الإمكان الذاتي.

وأما الإمكان الوقوعي ، فقد دلت الأدلة العقلية و النقلية على وقوعها في الخارج على ما يأتي من التفصيل، وقد استدل على تحقق الشفاعة بالأدلة الأربعة : الكتاب، والسنة، و الإجماع، و العقل.

ص: 130

الشفاعة في القرآن

تدل عليها آيات كثيرة منطوقاً ومفهوماً ، نفياً و إثباتاً في الدنيا و الآخرة، وهي على طوائف :

الأولى : الآيات التي تدل على انحصار الشفاعة في الله واختصاصها به عز وجل، قال تعالى : «قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(سورة الزمر، الآية 44)، وقال تعالى : «مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ»(سورة السجدة ، الآية 4)، وقال تعالى : «لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ» (سورة الأنعام، الآية 70).

الثانية : ما تدل على التعميم وثبوتها لغيره عزوجل بإذنه و رضاه وهي كثيرة.

منها: قوله تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» (سورة البقرة، الآية 200).

ومنها: قوله تعالى: «وَ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى»(سورة الأنبياء، الآية 28).

ومنها: قوله تعالى : «لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا»(سورة مريم، الآية 87).

ومنها قوله تعالى : «يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا»(سورة طه، الآية 109).

ص: 131

و منها: قوله تعالى: «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى »(سورة النجم، الآية 29).

الثالثة : ما تدل على ثبوت الشفاعة في الدنيا، قال تعالى : «مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا»(سورة النساء، الآية 85)، فإن سياقها يدل على أنها في الدنيا .

الرابعة : ما تدل على نفي الشفاعة إما مطلقة أو في يوم القيامة أو عن طائفة خاصة، قال تعالى : «يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ» (سورة طه ، الآية 109)، وقال تعالى : « أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَ الْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ»(سورة البقرة، الآية 254 )، وقال تعالى : «وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»(سورة زخرف، الآية 86)، وقال تعالى : «لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا » (سورة مريم، الآية 87)، وقال تعالى : «مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ» (سورة غافر ، الآية 18)، والمراد من الظالمين الكافرين، بقرينة قوله تعالى: «وَ الکافِرونَ هُمُ الظَّالٍمُون» .

والمستفاد من مجموعها: أن الشفاعة ثابتة لله تعالى أصالة، وهو المالك لها، وتكون لغيره تعالى بإذنه ورضاه، وهي لا تكون في يوم القيامة إلا لمن ارتضاه الله تعالى وأذن له بالشفاعة، وهذا هو الذي تقتضيه القواعد العقلية، لانحصار مالكية كل شيء فيه تعالى، وجميع

ص: 132

تلك الآيات المباركة تدل على عدم ثبوتها لغيره عز وجل اقتراحاً من الناس ومن دون مشيئة الله تعالى وارتضائه، فنحمل الآيات النافية للشفاعة إما على الشفاعة الاقتراحية للناس، أو على وقت دون وقت .

ونسبة الشفاعة إليه عز وجل كنسبة سائر الأمور المختصة به عز وجل، التي يفيضها على غيره: كعلم الغيب، والرزق، والحكم، والملك وغير ذلك مما هو كمال له، فإنه تعالى يثبته لنفسه عز وجل، وينفيه عن غيره، ثم يثبته له بإذنه وارتضائه، وهذا شائع في القرآن الكريم، فإن الأمر الله وهو فعال لما یرید.

الشفاعة في السنة

وردت أخبار متواترة بين المسلمين في الشفاعة، وأنها المقام المحمود الذي وعد الله به نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله يوم القيامة، ففي صحيح مسلم : عن أنس، عن رسول الله صلی الله علیه و آله ، أنه قال: «أنا أول شفيع في الجنة، لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد»، ذكره جمع غفير من العلماء.

وأخرج البيهقي في الاعتقاد : عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنه قال: «أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر»، رواه الدارمي في سننه أيضا عن صالح بن عطاء .

وأخرج البخاري : عن أنس، عن رسول الله صلی الله علیه و آله أنه قال : «إن لكل نبي دعوة قد دعا بها في أمته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة الأمتي» .

ص: 133

وروى أبو داود : عن أبي بن كعب أن النبي صلی الله علیه و آله قال : «إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم من غير فخر». .

وروى أبو داود أيضاً و الحاكم عن عمر، عن النبي صلی الله علیه و آله : «إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم علیه السلام ، فيقول : لست بصاحب ذلك، ثم بموسى، فيقول كذلك، ثم بمحمد صلی الله علیه و آله فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً، يحمده أهل الجمع كلهم».

وروى البيهقي عن أبي سعيد الخدري : قال رسول الله صلی الله علیه و آله : «يخرج قوم من النار قد احترقوا فيدخلون الجنة، فينطلقون إلى نهر يقال له الحياة فيغتسلون فيه فينضرون كما ينضر العود، فيمكثون في الجنة حينا، فيقال لهم: تشتهون شيئا؟ فيقولون: أن يرفع عنا هذا الاسم، قال صلی الله علیه و آله : فيرفع عنهم».

وعن سماعة، عن أبي عبد الله علیه السلام : «سألته عن شفاعة النبي صلی الله علیه و آله يوم القيامة ؟ قال علیه السلام : يلجم الناس يوم القيامة العرق ويرهقهم القلق. فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون : اشفع لنا عند ربك ، فيقول : إن لي ذنبأ وخطيئة فعليكم بنوح، فيأتون نوحا فيردهم إلى من يليه، ويردهم كل نبي إلى من يلي حتى ينتهوا إلى عيسى فيقول: عليكم بمحمد صلی الله علیه و آله ، فيعرضون

ص: 134

أنفسهم عليه، ويسألونه فيقول : انطلقوا فينطلق بهم إلى باب الجنة ويستقبل باب الرحمة، ويخر ساجداً فيمكث ما شاء الله ، فيقول الله عز وجل: ارفع رأسك و اشفع تشفع وسل تعط، وذلك قوله تعالى : «عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا».

وروى البرقي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله : أعطيت خمساً لم يعطها أحد قبلي : جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، ونصرت بالرعب، وأحل لي المغنم، وأعطيت جوامع الكلم، وأعطيت الشفاعة».

وعن داود بن سليمان، عن الرضا عليه السلام ، عن آبائه عن أمير المؤمنين علیه السلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله : إذا كان يوم القيامة ولينا حساب شيعتنا، فمن كانت مظلمته فيما بينه وبين الله عز وجل حكمنا فيها فأجابنا، ومن كانت مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوهبت لنا، ومن كان مظلمته فيما بينه وبيننا كنا أحق من عفا وصفح».

وعن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، عن أبائه عن علی عليهم السلام قال : من كذب بشفاعة رسول الله صلی الله علیه و آله لم تنله»، إلى غير ذلك من الروايات المتواترة بين المسلمين، كما يأتي التعرّض لقسم آخر منها .

الشفاعة والإجماع

وهو من المسلمين بأجمعهم، بل تعدّ من ضروريات الدين إلا ممّن لا يعتني بمخالفته، وتعرّضوا للإجماع في كتبهم الكلامية والحديثية والتفسيرية، بل يمكن ادعاء إجماع الملّيين على ذلك، فإن الشفاعة مسلَّمة في الكتب المقدسة، وصرَّح علماؤهم بتحقّقها.

ص: 135

الشفاعة و العقل

ويمكن تقريره بوجوه :

منها : أن الله تعالي غني بالذات عن طاعة عباده ، لا ينتفع منها بشيء أبداً، ولا يضره عصیان جميعهم، ولا ينقص بسبب ذلك منه شيء أبدا، ولا ريب في تسلط الشيطان والنفس الأمارة على الإنسان وإحاطتهما به ، كما هو حسوس بالوجدان، وحينئذٍ فالشفاعة كالعفو والإغماض عن الخطأ والزلل مع تحقق الشرائط حسن عقلاً، لا سيما في عالم تنحصر الأسباب في ذات واحدة ، وفيه من الأموال والشدائد ما لا يحصى، فانحصر رفعها في واحد فقط، فترك العفو والإغماض عمن يقدر عليهما بمجرد بقول: «كن فيكون»، مع عدم مانع في البين قبيح، وهو مستحيل بالنسبة إليه عز وجل، فتجب الشفاعة عليه عقلا في النظام الأحسن الربوبي، کالرزق الواجب عليه تعالى في عالم الدنيا، كل بالأسباب المعدة له، والشفاعة رزق معنوي يكون الناس أحوج إليها بمراتب كثيرة.

ومنها : أن تنظيم العوالم بالأحسن يجب عقلا على مديرها و مدبرها المنحصر في الحي القيوم، ومن أهم جهات التنظيم والترتيب العفو والإغماض عن العاصي الأثيم بعد وجود الشرائط، وترك ذلك وإهماله موجب لإخلال النظم، وهو محال على الحكيم العليم.

ومنها : أن الشفاعة معلولة لأصل تشريع الأحكام، تدور معه أينما دار ، وحيث إن أصل التشريع منحصر بالله تعالى، فالشفاعة والثواب والعقاب لا بد أن تنحصر فيه مباشراً أو تسبيباً .

ص: 136

فالكلّ من نظامه الكياني*ینشأ من نظامه الرباني

ومنها : أن ترك الشفاعة مع وجود المقتضي لها وفقد المانع عنها ، نقص في رحمته التي هي عين ذاته تعالى، فيرجع إلى نقص الذات، وهو من المحالات الأولية بالنسبة إليه جلت عظمته .

ثم إنه يمكن إدخال الشفاعة في مفهوم قوله تعالى : «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا » (سورة الفتح، الآية 14)، وقوله تعالى: «يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ» (سورة العنكبوت، الآية 21) ، وقوله تعالى :«يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(سورة الرعد، الآية 39)، وثبوت الاختبار له تعالى في البقاء كثبوته له عز وجل في أصل الحدوث ، وهو مقتضی تمام ملکه ومالکيته وقهاریته .

ويمكن الاستدلال على تحقق الشفاعة بالقاعدة المسلمة بين الفلاسفة، من أن الخير المحض بل الخير بالإضافة ، مقدم على الشر، وقد قررها الله جل جلاله بقوله : «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» (سورة هود، الآية 114)، فأنبياء الله تعالى - سيما أشرفهم وسيدهم - وأولياؤه المنقطعون إلى الله من كل جهة، وبتمام معنى الانقطاع، من الخير المحض، فينعدم بوجوداتهم المقدسة الشر بإذن الله تعالى، ولا معنی للشفاعة إلا هذا.

الشفاعة وشروطها

یستفاد من مجموع الأدلة : أن للشفاعة أهمية كبرى ومنزلة

ص: 137

عظمی، فهي الأولى من مراتب الكمالات الإنسانية، و أوسع باب من أبواب الجنة الإلهية، يرغب كل فرد إليها، ويرجوها في الدنيا والآخرة، ولكن لا يمكن أن ينالها كل أحد إلا إذا توفرت فيه شروط خاصة، لأن الشفاعة لا تخلو عن كونها توسط الأسباب، ولا يمكن أن تكون مطلقة، وإلا لزم بطلان قانون السببية واختلال النظام، ويدل عليه ما عن حفص المؤذن، عن أبي عبد الله علیه السلام : «واعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا من دون ذلك، من سره أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله ، فليطلب إلى الله أن يرضى عنه».

وشروطها هي :

الأول : يعتبر في مورد الشفاعة أن يكون الذنب باقياً إلى يوم القيامة، فلو سقط بالتوبة والاستغفار، أو التكفير بإتيان الحسنات لقوله تعالى : «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» (سورة هود، الآية 114)، أو الحدود الشرعية، فإنه لا موضوع للشفاعة حينئذ، واعتبار ذلك من الشروط مسامحة، لأنه محقق الأصل موضوعها.

ويدل عليه ما روي عن الكاظم، عن آبائه علیهم السلام ، عن النبي صلی الله علیه و آله قال: «إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».

الثاني : يعتبر فيها إذن الله تعالى في مورد الشفاعة، وموضوعها، والمشفوع له، والشفيع، فليس لكل أحد أن يشفع في كل أمر، ولكل أحد، وقد تقدمت الأدلة على ذلك .

ص: 138

وفي تفسير القمي: في قوله تعالى : «وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» قال علیه السلام : «لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله يوم القيامة حتى يأذن الله له . الحديث »، وتقتضيه قاعدة انحصار الأمر فيه تعالى يوم القيامة .

الثالث : أن يكون المشفوع له من المؤمنين المذنبين، ويدل عليه قوله تعالى :«كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ*إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ*فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ الْمُجْرِمِينَ*مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ*وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ*وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ*وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ*حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ*فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ» (سورة المدثر، الآیات 38 - 48)

ويستفاد من هذه الآيات الشريفة أن سبب عدم كونهم أهلا للشفاعة لهم، هو عدم الإيمان والخوض في الملاهي وزخارف الدنيا والركون إليها، التي تكون صارفة عن الإقبال على الله تعالى والإيمان بيوم الدين والجزاء، فإذا لم يكن هذا السبب فلا مانع من شمول الشفاعة له إذا كان مذنبة، وهو من أصحاب اليمين، وهم الذين ارتضی لهم دينهم، وأما أعمالهم فقد تكون مرضية، وهم المذنبون الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فأولئك هم المرجون للشفاعة.

فيكون موردها هم المؤمنون بدین الحق الذين عملوا المعاصي والكبائر، فهم يدخلون النار بسبب أعمالهم، ثم يخرجون منها بالشفاعة، أو أنها تمنعهم من دخول النار، لأنهم متفاوتون في نيل

ص: 139

الشفاعة ودرجاتها، ويشهد لما ذكرنا ما روي عن الكاظم عن أبيه عن آبائه علیهم السلام ، عن النبي صلی الله علیه و آله قال : إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون فما عليهم من سبيل . قيل: يا ابن رسول الله ، كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر و الله تعالى يقول : ولا يشفعون إلا لمن ارتضي، ومن ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضی؟! فقال علیه السلام : ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا ساءه ذلك وندم عليه، وقال النبي صلی الله علیه و آله : کفی بالندم توبة، وقال صلی الله علیه و آله : من سته حسنته وسائته سيئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن، ولم تجب له الشفاعة، وكان ظالمة، والله تعالى ذكره يقول: «مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ»، فقيل له: يا ابن رسول الله، وكيف لا يكون مؤمناً م، لا يندم على ذنب يرتكبه؟ فقال : ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أن سيعاقب عليه، إلا ندم على ما ارتكب، ومنی ندم كان تائبة مستحقة للشفاعة، ومن لم يندم عليها كان مصراً، والمصر لا يغفر له، لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، ولو كان مؤمنة بالعقوبة لندم، وقد قال النبي صلی الله علیه و آله : لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار ، والدين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات، فمن ارتضی دینه ندم على ما ارتكبه من الذنوب، لمعرفته بعاقبته في القيامة.

أقول: المراد من قوله علیه السلام : «ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا ساءه ذلك وندم عليه»، الندم الإجمالي الثابت في مرتبة الإيمان على كل ذنب في الجملة، لا الندم التفصيلي الفعلي الالتفاتي على كل ذنب حتى يكون موجباً لمحو الذنب، كما قال صلی الله علیه و آله : «کفی بالندم توبة»، وحينئذ

ص: 140

ينتفي موضوع الشفاعة كما ذكرنا، ومثل هذا الندم الإجمالي من لوازم الإيمان في الجملة، وهو مقتضٍ لثبوت الشفاعة في يوم القيامة، فهي تكون بمنزلة الجزء الأخير في العلة التامة .

وقوله علیه السلام : «مَن سرّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن»، يبيِّن مرتبة الاقتضاء فقط كما مرّ، لا الفعلية الالتفاتية التفصيلية .

وقوله علیه السلام : «فمَن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن»، يدل على نفي الندم مطلقاً ولو على نحو الاقتضاء، فيكون نفي الإيمان بنفي هذا الندم من باب انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم، فيصير مثل هذا الشخص متهاوناً في التكاليف ومنهمكاً في المعاصي، كما يدل عليه قوله علیه السلام بعد ذلك : «وهو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب»، حيث لا معنى للاعتقاد بالمبدأ والمعاد والتكاليف في الجملة إلا ذلك، و كل ذلك من اللوازم والملزومات .

وقوله عليه السلام : «ومتی ندم كان تائباً مستحقاً للشفاعة»، أي: تائباً على نحو الاقتضاء لا التوبة الفعلية من كلِّ حيثية وجهة حتى لا يبقى موضوع للشفاعة، كما ذكرنا.

وبعبارة أخرى : الاعتقاد بالتوبة والندامة على المعصية غير حصول التوبة الفعلية، ولذا كان مستحقاً للشفاعة في الأول دون الثاني، فإنها تزيل موضوع الشفاعة .

وقوله علیه السلام : «والدِّين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات»، يبين ما ذكرناه من التفصيل بين الموردين، أي الاعتقاد بالتوبة وحصول

ص: 141

الندامة الإجمالية والتوبة الفعلية الجامعة للشرائط، و الأولى موضوع الشفاعة وتكشف عن الإيمان أيضا، بخلاف الثانية فإنها رافعة الموضوعها.

والإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات من لوازم الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، كما أثبتناه سابقاً .

والحاصل : أن مثل هذا الحديث ظاهر في اعتبار هذا الشرط .

و في سياق هذا الحديث عدة أحادیث، فلا بد في تحقيق الشفاعة للمشفوع له من السببية لها في الجملة، فمَن لم يؤمن بشريعة سید المرسلين لا تناله شفاعته ولا شفاعة أحد ممن له الشفاعة، إذ لا بد أن يكون هو بنفسه موجداً للمقتضي لها، وبعد تحقق الموانع - وهي المعاصي والذنوب - التي تمنع من دخول الجنة، تصل النوبة إلى الشفاعة، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى:«وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ »(سورة التوبة، الآية 84)، وهذه الآية المباركة تدل على حرمان مثل هذا الشخص الكافر بالله ورسوله عن الشفاعة، لعدم حصول التسبب منه لها.

وبعبارة أخرى: موضوع الشفاعة مركب من أمرين، حصول المقتضي على نحو الإجمال من المشفوع له في الدنيا، وتتمیم اقتضاء هذا المتقضي من الشفيع في الآخرة، كما عرفت أنه مفهوم الشفاعة .

ص: 142

ما أورد على الشفاعة

تقدم أن الشفاعة ثابتة، بل هي حقيقة من الحقائق القرآنية، لا يمكن إنكارها. وقد ذكرنا أنها لا تثبت إلا بشروط خاصة، فليست هي مطلقة مرسلة يمكن أن ينالها كل أحد، فإن ذلك خلال الحكمة المتعالية وقانون الجزاء والحساب، وبطلان للسببية، كما تقدم.

والشفاعة بالمعنى الذي قلناه مما تدل عليه الأدلة الأربعة، ولا يسع أحد إنكارها.

ومع ذلك فقد أورد بعض على الشفاعة مناقشات وإشكالات واهية، وإنما هي نشأت من قلة التدبر في الآيات الشريفة وما ورد في الشفاعة من السنة الشريفة، ونحن نذكر جملة منها وهي :

الأولى : أن الشفاعة ليس إلا الدعاء فقط، فما هو معتبر في الدعاء يعتبر فيها، وما ورد عليه يرد عليها أيضا، فليست لها حقيقة أخرى غير الدعاء، فيجوز لكل أحد طلب الشفاعة.

والجواب عنها: أن كون الشفاعة هي الدعاء مما لا ينكر، بل هو اعتراف بحقيقتها، لكن الشفاعة هي دعاء الشفيع لدى المشفوع عنده للصفح عن المشفوع له. وكما أنه لا استقلالية للدعاء بوجه أبدا وإنما هو طريق محض لقضاء الحاجة، والشفاعة أيضا كذلك، فالجميع يرجع إلى التأثير من الله تعالى، ولا مشاحة في مجرد الاصطلاح.

هذا، مضافاً إلى أن اختلاف مفهوم الشفاعة مع مفهوم الدعاء أوضح من أن يخفی .

ص: 143

مع أنه لو قلنا بأن الشفاعة هي الدعاء، فقد دلّ الكتاب والسنة على أنها مختصة بالله تعالى، ولغيره بالإذن والارتضاء، فليست هي كمطلق الدعاء من هذه الجهة، وقد تقدم ما يرتبط بالدعاء في آية (186).

الثانية : أن القول بالشفاعة موجب لتجري الناس على المعاصي، وإغراء لهم على المخالفة وارتكاب محارم الله تعالى، وهو ينافي الغرض من بعث الأنبياء والمرسلين، وهو سوق الناس إلى العبودية والطاعة، فلا بد من تأويل ما ورد في الشفاعة، لئلا توجب إغراء الناس بالفساد.

وهي مردودة ..

أما أولا: فبالنقض بما ورد في شمول المغفرة والتوبة والرحمة ، قال تعالى:«وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(سورة الأعراف، الآية 159)، وقوله تعالى:«یا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»(سورة الزمر، الآية 53)، وقال تعالى:«إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ»(سورة النساء، الآية 48)، وما ورد في الاستغفار وغير ذلك من الآيات المباركة والروايات الدالة على سعة رحمته وغفرانه، فهل يتصور أحد في أنها موجب للتجري والتمرد؟! فكل ما يقال فيها يقال في الشفاعة أيضاً.

وأما ثانيا : فبأن الأدلة الدالة على ثبوت الشفاعة، إنما تدل عليها

ص: 144

بالإهمال والإجمال، فلم يعين فيها نوع الجرم الذي تجري فيه الشفاعة، ولا المجرم الذي تناله الشفاعة، بل كانت مبهمة من هذه الجهة، بحيث تجعل الناس بين الخوف والرجاء، فلا تكون موجبة للتجري والتمرد، وهذا هو داب القرآن في جعل الإنسان بين الخوف من ارتكاب المعاصي والتمرد على الأحكام، والرجاء حذرة من القنوط واليأس من روح الله تعالى، بل يمكن أن تكون الشفاعة بهذا النحو من موجبات الانقلاع عن المعصية، ويدل على ما ذكرنا ما رواه حفص المؤذن عن أبي عبد الله علیه السلام في رسالته لأحبائه: «واعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا من دون ذلك، من سره أن ينفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه»، و المستفاد من هذه الرواية أن الإنسان لا بد أن يكون مراقبة لنفسه، لئلا يقع في سخط الله تعالى، فإنه لا تنفعه شفاعة الشافعين، هذا مع أنا اشترطنا في تحقق الشفاعة وجود أصل الإيمان في الجملة .

الثالثة : أن أقصى ما يستفاد من الأدلة الدالة على ثبوت الشفاعة هو إمکانها دون وقوعها، بل إن في أصل دلالة العقل عليها منعاً ، وأما النقل، فإن ما ورد في الكتاب الكريم إما أن يدل على نفي الشفاعة مطلقاً ، مثل قوله تعالى : «لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ»(سورة البقرة، الآية 254)، أو يدل على نفي الأثر عنها مثل قوله تعالى :«فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ»(سورة المدثر، الآية 48)، أو ما ورد فيه الاستثناء، كقوله تعالى :«وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى»(سورة الأنبياء،

ص: 145

الآية 28)، وقوله تعالى : «إلّا مِن بَعدِ إذنِهِ» (سورة يونس، الآية 3)، و قوله تعالى: «مَن ذَا الذِّی یَشفَعُ عِندَهُ إلّا بِإذنِهِ» (سورة البقرة ، الآية 200)، وجميع ذلك يرجع إلى النفي كما في أمثال ذلك مما ورد فيه الاستثناء بالمشية، فإنه يستعمل في القرآن في مقام النفي القطعي، وهو کثیر، قال تعالي:«خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ»(سورة هود، الآية 107)، هذا حال القرآن الكريم.

وأما السنة الشريفة، فإنه لا يمكن التعويل عليها أيضا، مع أنها لا تزيد على الكتاب الكريم دلالة.

والجواب عنها يظهر بعد الإحاطة بما ذكرناه في مفهوم الشفاعة ودلالة الأدلة التي أقيمت على ثبوتها ، وذكرنا أن الآيات المباركة النافية المطلق الشفاعة أنها تنفيها عند عدم المقتضي أو وجود المانع، ولا يقول أحد بالشفاعة حينئذ و أما الشفاعة المطلوبة إنما هي عند وجود شروطها، أو أنها تنفيها عن غيره تعالی .

وأما الآيات النافية لأثر الشفاعة، فإنما هي تنفيه في مورد خاص، وهو خصوص المجرمين المنکرین للجزاء والدین، فهي في الواقع تثبت الشفاعة في غير المورد المنفي فيه أثر شفاعة الشافعين، فالآية الشريفة على ثبوتها أدل.

وأما الآيات المشتملة على الاستثناء، فهي واضحة في أنها تدل على ثبوت الشفاعة لمن أذن له الرحمن، والقول بأنها تدل على مجرد الاستثناء الدال على النفي القطعي، اجتهاد في مقابل النص الصريح،

ص: 146

و شبهة واهية لا يمكن الإصغاء إليها، وأما السنة، فهي متواترة صريحة في المطلوب ، وقد تقدم شطر منها.

الرابعة : أن الآيات المباركة الدالة على ثبوت الشفاعة، إنما هي آیات متشابهات، وليس للعقل فهيا سبيل، فلا بد من إرجاع علمها إلى الله تعالى كما أمرنا بذلك.

والجواب عنها: أن الآيات الدالة على تحقق الشفاعة ليست من المتشابهات، بل هي من المحكمات بعد رد بعضها إلى بعض، والعقل يدل عليها بوضوح، كما عرفت سابقاً .

الخامسة : أن الشفاعة في رفع العقاب بعد الاستحقاق إما أن تكون عدلاً أو ظلماً، وعلى الأول يستلزم کون تشريع أصل الحكم ظلماً ، وهو قبيح بالنسبة إليه تعالى، وعلى الثاني كانت الشفاعة ظلما، وهو لا يليق بالنسبة إلى المشفوع عنده والأنبياء الشافعين.

وهو باطل: لأن تشريع الأحكام حق وعدل، وليس غاية تشريع الأحكام أو الغرض منه خصوص الامتثال فقط، بل لها حٍكَمٌ ومصالح كثيرة أخرى، مثل تکمیل العباد وامتحانهم، ومنها إظهار سعة رحمته بعد المخالفة، إلى غير ذلك من الحِكَم، مضافاً إلى ما تقدّم في مفهوم الشفاعة من أنها لا تغير الحكم، بل توجب العفو عن المجرم بعد شمول العقاب له، فيكون الحكم والشفاعة ورفع العقاب كلها عدلاً .

ومن ذلك يظهر الجواب عما يقال : من أن الشفاعة في رفع العقاب عن المجرمين موجبة للاختلاف في الفعل، واستلزام نقض

ص: 147

الغرض المنافي للحكمة، فإن بطلانه واضح، لأنه تحديد للأغراض الواقعية بنظر الإنسان وقدر إدراكه، مع أن الواقع أعم من ذلك، كما ثبت بالبراهين العقلية في الفلسفة . والشفاعة من الأسباب التي جعلها الله تعالی لينال عباده الرحمة والغفران كما عرفت.

الشفعاء

الشفاعة ثابتة بالأصالة الله تعالى، ولغيره عز وجل بإذنه ورضاه ، ويستفاد من الكتاب والسنة أن الشافعين في العباد متعددون وكثيرون، ونتعرض لجملة منهم.

والشافع الحقيقي بالذات، هو الله تبارك وتعالى، فهو في التكوين بمعنی جعل الأسباب على مقتضى الحكمة، وفي التشريع العفو وإسقاط العقاب ، أو رفع الدرجات كما في جميع أسمائه المباركة الحسنى، فإنه تعالى هو الرزاق والرحيم والغفور والودود إلى غير ذلك، وهي لا تنافي وجود الوساطة ، بل الوسائط في ظهورها للخلق ومظهرية الكل لها، وهكذا بالنسبة إلى الشفاعة بمعنى الشافعية والشفيع في حقه عز وجل، وعلى ذلك جرت مشيئته المقدسة على انتظام النظام الأحسن بأسبابها، قلت أو كثرت، فإن مبدأ الكل عنه، ومرجع الكل إليه ، وحقيقة كل موجود تنطق بلسان الحال «إنّا لِلهِ و إنّا إليهِ راجِعُوُنَ» (سورة البقرة، الآية 155)، ولكن لا نفقه هذا النطق وإن برز ذلك لمن علم الأسرار وارتفعت عنده الحجب والأستار، ويدل على ذلك جملة من الأخبار، ففي جملة من الدعوات المعتبرة: «وأستشفع بك إلى نفسك»، و«اللهم إني أستشفع بك إليك».

ص: 148

ومن أسمائه الحسنى: الشافع والشفيع ، وقال تعالى : «قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا»(سورة الزمر، الآية 44)، فهو الشفيع المحض في الحقيقة، وفي الحديث عن الرضا عن آبائه علیهم السلام ، عن رسول الله صلی الله علیه و آله : «إذا كان يوم القيامة تجلى الله عز وجل لعبده المؤمن، فيوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً ، ثم يغفر الله له، لا يطلع الله له ملكاً مقرباً و لا نبياً مرسلاً و يستر عليه ولا يطلع عليه أحد، ثم يقول لسيئاته : كوني حسنات».

وإذا تأملنا في حقيقة الشفاعة فيه جل جلاله، فإنها ترجع إلى راز قیته تعالى، لأن الرازقية لا تختص بعالم دون عالم، ولا بنوع خاص من الممکنات دون نوع، بل هي تعم جميع ما سواه من مخلوقاته ، سواء المجردات والنفوس والمادیات، كل بحسبه وحياته، كما يصف به نفسه، قال تعالى :«إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا» (سورة فاطر، الآية 41)، فإن هذا الإمساك ليس إمساكاً خاصاً ومن جهة مخصوصة، بل هو من جميع الجهات، بكل ما يتصور من معنى الإمكان والحاجة .

فمعيته القيومية لجميع ما سواه حدوثاً وبقاءً ، و إفناءً وتبديلاً للصور إلى الأخرى، هذا بالنسبة إلى المعية العامة لجميع ما سواه .

وله جلَّت عظمته معية أخرى لأكرم خليقته وهو الإنسان، الذي قال فيه: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(سورة الإسراء، الآية

ص: 149

70) ، وهذه المعية هي التي تراد من قوله تعالى:«وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ»(سورة الحديد، الآية 4)، فإنها معية خاصة تشمل عالم انحصار الأسباب إلا فيه والانقطاع إلا إليه، وهل يعقل للرزق حينئذ معنى أجل وأدق وأفضل من نجاة نفوس محتاجة غاية الاحتياج إليه في شدائد الأهوال وتبدلات الأحوال؟!

ويمكن إرجاع ذلك إلى الرحمة الواسعة التي شملت ما سواه .

أو إلى الرأفة، فإن جميع ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وفي ذلك يشير ما ورد عن الصادق عليه السلام : «إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته».

والشفيع الثاني هو سيد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله ، الذي هو مبدأ للنبوات السماوية في علم الله تعالى، والعلة الغائية ، ولا بد من تقدمها في العلم، فإنه الشفيع المطلق بعد الباري عز وجل، ولذا صار شهيداً على الجميع، قال تعالى:«وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ»(سورة النحل، الآية 89)، فالشفاعة تنزل على نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله ؛ و منه إلى غيره ، لأنّ له المقام المحمود . قال تعالى :«عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا»(سورة الإسراء، الآية 79)، المفسر بمقام الشفاعة في عدة من الأخبار، و كذلك قوله تعالى :«وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى»(سورة الضحى، الآية 5)، وقد وردت روایات متواترة من الجمهور وغيرهم في ثبوتها له صلی الله علیه و آله ، بل يمكن أن يعدّ من ضروريات الدين، ففي

ص: 150

الحديث المعروف : «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»، وفي تفسير العياشي عن أحدهما علیهما السلام لك في قوله تعالى : «عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا» قال علیه السلام : «الشفاعة» .

ومن الشافعين في العباد : الوسائط التكوينية والأسباب الطبيعية ، فإنها شفعاء عند الله تعالی و وسائط بينه عز وجل وبين خلقه، قال تعالى: «لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ»(سورة البقرة، الآية 255 )، فإن جعل الشفاعة بإذنه بعد مالکيته لما في السموات والأرض، يدل على أنها إنما تكون في التكوینیات، بل يمكن أن يكون شيء بوجوده التكويني شافعاً في هذا العالم قبل قيامة الساعة وانسداد باب التوبة ورفع الحجة عن الأرض، وذلك قبل القيامة بأربعين يوماً، ويدل على ذلك قوله تعالى : «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»(سورة الأنفال، الآية 33)، وما ورد عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «لولا شیوخ ركع، وبهائم رتع، وأطفال رضع، لصب العذاب عليكم - الحديث -»، و ما ورد في الكعبة والقرآن من أنّهما أمانان لأهل الأرض، وغير ذلك، و يأتي في الموضع المناسب شرح ذلك إن شاء الله تعالی.

ومنهم : الوسائط التي توجب المغفرة من الله عز وجل أو القرب إليه كالتوبة، قال تعالى : «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ»(سورة

ص: 151

الزمر، الآيتان 53 و 54)، وقد تقدّم البحث في التوبة في أحد مباحثنا التفصيل، وعن علي علیه السلام : «لا شفيقع أنجح من التوبة».

ومنهم : الإيمان قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ» (سورة الحديد، الآية 28)، والآيات في ذلك كثيرة، في الحديث عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله في أخبار متواترة : «كلمة لا إله إلا حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي».

ومنهم: الأعمال الصالحة، سواء كانت من نفس المشفوع له أو من غيره :

أما الأول : فيدل عليه آيات من الذكر الحكيم، قال تعالى : «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ»(سورة المائدة، الآية 9).

وأما الثاني : فقد ورد في الحديث المتواتر عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «يلحق بالميت كل عمل خير يؤتى له بعد موته من الصلاة والصيام والحج والصدقة ، حتى إنه ربما كان في ضيق فيوسع له ذلك»، وعنه صلی الله علیه و آله أيضاً : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له بعد موته، أو مصحف يقرأ فيه»، ونظير ذلك أخبار كثيرة.

ويمكن القول بأن هذه الأخبار بإطلاقها تشمل الشفاعة في عالم البرزخ أيضا، سواء في تخفيف العذاب أو رفع الدرجات في ذلك

ص: 152

العالم، ولا محذور فيه من عقل أو نقل، وعليه شواهد كثيرة من الأخبار يأتي ذكرها في الموضع المناسب.

ومنهم: القرآن الكريم قال تعالى : «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(سورة المائدة، الآية 16)، وفي الحدیث: أنه يقال لقارىء القرآن : اقرأ وارق»، وأي ارق في الدرجات.

ومنهم: الملائكة، قال تعالى:«الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا»(سورة المؤمن، الآية 7)، وقال تعالى : «وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ »(سورة الشورى، الآية 5)، وقال تعالى: « وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى» (سورة النجم، الآية 36)، وغير ذلك من الآيات الشريفة الدالة على ثبوت الشفاعة للملائكة، منطوقاً ومفهوماً.

ومنهم: سائر الأنبياء والمرسلين، فإن لهم الشفاعة أيضا، وما ورد في بعض الروايات من أن الأنبياء إنما يرجعون إلى نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله في ذلك، فيصح أن يقال : إن لهم الشفاعة بعد الإذن من سيد الأنبياء، وليس لهم تلك قبل الاستئذان منه، كما تقدم في بعض الروايات، فإن لهم القابلية والاستعداد لهذه المنزلة الكريمة والمقام العظيم، فقد ذكرنا أنه ليس كل أحد ينال هذه الموهبة الإلهية ، بل لا بد من الاستعداد الذاتي الذي لا يعلمه إلا الله تعالی.

ص: 153

نعم، يمكن الحصول على هذا الاستعداد بالإيمان والأعمال الصالحة و المجاهدات الحقة، ولذلك تختلف مراتب الشفاعة حسب اختلاف الاستعدادات ، وتشتد مراتبها كماً و كيفاً باشتداد مراتب المعارف المعنوية التي يحيط بها نفس الشافع، وأصل ذلك كله شروق نور أزلي على النفس، فيضيء وتستضيء منه النفوس المستعدة ، فهو الشافع الشفيع، وهو النور المضيء، وبأنواره تجلت قلوب العارفین، و بها حصلت بشارة المخبتين، ومنها تتلألأ سيماء المؤمنين، والجميع يسرعون حسب مقاماتهم ودرجاتهم إلى جنات النعيم، فلا أول لهم إلا من الله، ولا آخر لهم إلا إليه، فهم أظهروا حقيقة العبودية، فأحاطت بهم العنايات الربوبية، وكشفت عن بصائرهم الحجب، فأدهشوا بما أدركوا من أنوار رب الأرباب .

ترى المحبين صرعى في ديارهم*كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

ومن ذلك يظهر أن كل من سعی بحسب جهده إلى الوصول إلى هذا المقام، ينال هذه الموهبة الإلهية والفيض الرباني، سواء في ذلك الأنبياء والأوصياء والعلماء والمؤمنون، كل حسب استعداده .

وعلى ذلك يحمل ما ورد من الاختلاف في شفاعة الأنبياء و رجوعهم إلى نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله ، فإنه إمامهم، وهو أكملهم، وله المقام المحمود، ففي الحديث في قوله تعالى : «وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» ، قال علیه السلام : «لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله حتى يأذن الله له إلا رسول الله ، فإن الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة ، والشفاعة له ثم من بعد ذلك للأنبياء»، وتقدم ما يدل على ذلك .

ص: 154

و منهم : بنت خاتم الأنبياء وسيدة النساء الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، ذكر السيوطي في الدر المنثور، والعسكري في المواعظ، والمتقي الهندي في کنز العمال، عن جابر: «أن رسول الله صلی الله علیه و آله رأى على فاطمة علیهاالسلام کساءً من أوبار الإبل وهي تطحن، فبکی، وقال : يا فاطمة، اصبري على مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً ، ونزلت : «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى» .

وروی محب الدين الطبري في ذخائر العقبى : عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله لفاطمة : يا فاطمة، تدرين لم شميت فاطمة؟ قال علي : يا رسول الله ، لم سميّت فاطمة؟ قال : قد فطمها وذريتها عن النار يوم القيامة»، أخرجه الحافظ الدمشقي أيضا، والروايات بهذا المعنى متواترة بين المسلمين.

وأخرج النسائي عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «وإنما سماها فاطمة، لأن الله عز وجل فطمها ومحبيها عن النار».

بل إن شفاعة سيدة النساء من شفاعة سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله ، لما رواه الجمهور وغيرهم بأسانيد متواترة عنه صلی الله علیه و آله : «فاطمة بعضة منِّي»، وليس المراد من لفظ «البضعة» الجزء الخاص كاليد والعين والقلب، بل المراد الجزء السرياني في بدنه الأقدس، من حيث تعلق الروح المقدسة المؤيدة بروح القدس، ويشهد لما قلناه أن علمها من علمه صلی الله علیه و آله ، و قد أجمع أولادها المعصومون علیهم السلام على أن عندهم مصحف فاطمة، بل كانوا يفتخرون به، وهو من إملاء رسول الله صلی الله علیه و آله و خط علیٍّ علیه السلام

ص: 155

بيده، وفيه علم ما كان وما یکون، كما في الروايات، ولا يعقل الانفكاك بين البضعة السريانية و الكلّ.

ومنهم: الأئمة الهداة علیهم السلام ، فإن لهم مقام الشفاعة في الآخرة، و النصوص في ذلك متواترة بين المسلمين عموماً و خصوصاً.

ومنهم: العلماء والشهداء، ففي الحديث عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : ثلاثة يشفعون إلى الله عز وجل فيشفعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء»، ولعل الترتيب محمول على ترتب مقامهم عند الله عز وجل، و عن الصادق علیه السلام : «إذا كان يوم القيامة بعث الله العالم والعابد، فإذا وقفا بين يدي الله عز وجل قيل للعابد: انطلق إلى الجنة . وقيل للعالم : قف، تشفع للناس بحسن تأديبك لهم».

ومنهم: المؤمن حتى السقط منه ، ففي الحديث عن النبي صلی الله علیه و آله : «تناكحوا وتناسلوا، فإني أباهي بكم الأمم ولو بالسقط يجيىء محبنطئة على باب الجنة، فيقال له: ادخل فيقول : لا حتى يدخل أبواي - الحديث - ».

أقول: المحبنطىء : العظيم البطن، يعني امتلأ جوفه غيظاً، وفي الرواية بحث يأتي التعرض له في محله إن شاء الله تعالی.

وفي تفسير العياشي: عن عبيد بن زرارة قال : «سئل أبو عبد الله عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال علیه السلام : نعم، فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلی الله علیه و آله يومئذٍ؟ قال علیه السلام : نعم، إن للمؤمنين خطايا وذنوباً ، و ما من أحد إلا ويحتاج وشفاعة محمد يومئذ - الحديث -».

ص: 156

وفي تفسير العياشي - أيضا - عن أبان بن تغلب قال : سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول : إن المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته ، فيشفع فيهم حتى يبقى خادمه فيرفع سبابتيه فيقول: يا رب، خویدمي كان يقيني الحر والبرد، فيشفع عنه».

الشفاعة ومتعلقاتها

قد عرفت أن الشفاعة إما أن تكون تكوينية، فهي تتعلق بكل شيء في عالم التكوين.

وإما أن تكون تشريعية، تتعلق بالثواب والعقاب، وهذه على درجان :

فمنها : ما تتعلق بكل ما يوجب العقاب حتى الشرك بالله تعالى، وهي التوبة و الإيمان بالله ورسوله.

ومنها: ما تتعلق ببعض الذنوب والتبعات، کالأعمال الصالحة، قال تعالى : «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» (سورة هود، الآية 114).

ومنها: الشفاعة المعروفة في يوم القيامة ، وهي شفاعة الأنبياء والمرسلين ومن تقدم ذكره، وهي الشفاعة الكبرى، وهي تتعلق بالكبائر مطلقاً ، سواء كان موردها حق الله سبحانه وتعالى، أو حق الناس، أو هماً معاً، ويدل على ذلك ما رواه سلیمان بن داود عن الرضا عن آبائه علیهم السلام ، قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله : إذا كان يوم القيامة ولّينا حساب شيعتنا، فمَن كانت مظلمته فيما بينه وبين الله عزّ وجلّ حكمنا

ص: 157

فيها فأجابنا، ومن كانت مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوهبت النا، ومن كان مظلمته فيما بينه و بيننا كنا أحق من عفا وصفح»، هذا ولكن ورد في السنة الشريفة أن بعض الذنوب لا تتعلق به الشفاعة ، فتكون هذه الأخبار تخصيصة لعمومات الشفاعة ، ونشير إلى بعضها.

منها: الاستخفاف بالصلاة، ففي الحديث: عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله : لا ينال شفاعتي من استخف بصلاته ، لا يرد علي الحوض، لا والله»، وعن أبي بصير أيضا قال : دخلت على أم حميدة أعزیها بأبي عبد الله عليه السلام ، فبكت وبكيت لبكائها، ثم قالت: يا أبا محمد، لو رأيت أبا عبد الله علیه السلام عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثم قال : اجمعوا كل من بيني وبينه قرابة، قالت: فما تركنا أحداً إلا جمعناه، فنظر إليهم ثم قال : إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة»، والروايات في ذلك متواترة.

ومنها: شرب الخمر، فعن نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله : «ليس منيِّ من استخف بصلاته، لا يرد علىَّ الحوض ولا والله، ليس منِّي مَن شرب الخمر، لا يرد عليَّ الحوض»، والروايات في ذلك كثيرة.

ومنها: سوء الخلق ، فعن السكوني، عن أبي عبد الله علیه السلام قال : قال النبي صلی الله علیه و آله : أبي الله لصاحب الخلق السيِّء بالتوبة، قيل : وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنه إذا تابت من ذنب وقع في ذنب أعظم منه»، وعنه صلی الله علیه و آله أيضا: «إياكم وسوء الخلق، فإن سوء الخلق في النار لا محالة»، وغير ذلك من الروايات .

ص: 158

ومنها: قتل النفس المحترمة، فعن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله علیه السلام : «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، قال علیه السلام : ولا يوفق قاتل المؤمن متعمداً للتوبة»، وعن ابن أبي عمير، عن سعيد الأزرق، عن الصادق عليه السلام : في رجل قتل رجلاً مؤمناً، يقال له : من أي ميتة شئت، إن شئت يهودياً وإن شئت نصرانياً وإن شئت مجوسياً »، وقد ورد شبه هذا التعبير في التسويف بالحج أيضا.

ومنها: المباردة إلى ارتكاب المعاصي وإتيان المحرمات اعتماداً على شفاعة سيد الأنبياء لأمته، فإن شمول أدلة الشفاعة لهذه الصورة ممنوع، ويستفاد ذلك من خبر حفص المؤذن السالف ذكره.

ولكن مع ذلك كله، فإن الشفاعة أمر غيبي لا تناله الحدود، والله يغفر لمَ، يشاء ويعذب مَن يشاء.

زمان الشفاعة

تقدَّم ما يتعلّق بالشفاعة بقسميها، والحق عدم اختصاصها بزمان خاص، فهي تعمّ جميع ما يرد على الإنسان من العوالم، سواء في الدنيا والحشر والنشر و مواقف القيامة، حتى يتحقّق الاستقرار في دار القرار، وقضاء الله الحتم بالخلود في الجنة أو النار .

ولكن يستفاد من مجموع الأدلّة الواردة في الشفاعة، أنّ الشفاعة الكبرى إنما هي بعد الحشر، فهي تختّص بالآخرة، كما تدلّ عليه الأدلة النقلية، و هي إما أن تتعلق بالعصاة الذين دخلوا النار فينتفعون بها

ص: 159

و يخرجون من النار، كما يدلّ عليه الحديث الوارد في الجهنميين ومز ذكره، وإما أن تتعلق بالعصاة وأصحاب الكبائر قبل دخول النار، فيكون تأثيرها إسقاط العذاب، وتقدم ما يدل على ذلك أيضا.

وأما الشفاعة في الدنيا، فإن بعض إطلاقات الأدلة الواردة في الشفاعة يدل على بوتها فيها، ولا محذور فيه من عقل، فإنه بعد إذنه تعالی عن علم أنه أهل للشفاعة لا تختّص بعالَم دون آخر، ويدلّ على وقوعها بعض الآيات الشريفة، قال تعالى: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ*فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ»(سورة الأعراف، الآيتان 136 و135)، و الظاهر من الآية الشريفة أنهم طلبوا شفاعة موسى عليه السلام في رفع العذاب عنهم.

هذا بالنسبة إلى الشفاعة التشريعية المتعلِّقة بالثواب والعقاب .

وأما الشفاعة التكوينية، فإنها واقعة في هذه الدنيا ولا يمكن إنكارها، فإن الدنيا عالم الأسباب، وقد ذكرنا أن الإيمان بالله تعالی والأعمال الصالحة وغيرهما من الأسباب، إنما هي شفعاء بين العبد وبين الله تعالى، ويدل عليه قوله تعالى : «مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا» (سورة النساء، الآية 85)، وتقدم ما يرتبط بذلك فراجع.

ومن ذلك رجوع أهل الإيمان إلى نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله ، وأولياء الله

ص: 160

تعالى الذين لهم قدم راسخ في مراتب الإيمان، فإن ذلك من الشفاعة عند الله تعالى لنيل المقاصد ونجح المطالب، وليس من الشرك كما يذعيه بعض، بل هما وضوعان مختلفان، فإن إذن الله للواسطة ينفي الشرك ويسقطه بالمرة، وهو يرجع إلى جعل مَن ارتضاه الله تعالی واسطة لأن يدعو في رفع العذاب، كما تقدّم في الآية السابقة من طلبهم إلى موسى أن يدعو في رفع العذاب عنهم، ولا يتوهم المؤمن الذي توسّل بالوليّ أنّ له جهة موضوعية في رفع المخاطر والأضرار أو في إتيان النفع، وإلا فهو من الشرك في مرتبة توحيد الفعل، الذي ينافي لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا في مرتبة المعبودية حتى ينافي لا إله إلا الله ، وبينهما فرق كبير ، كما لا يخفى على الخبير، فطلب الشفاعة ممن أذن له الله تعالى في الشفاعة ليس من العبادة له حتى يشمله قوله تعالى : «مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى»(سورة الزمر، الآية 3)، وليس ذلك بعادم النظير، فإنَّ قراءة القرآن في شفاء مرض والتقرب به إلى الله تعالى، والنداوي بالأدوية التي خلقها الله تعالی لشفاء الآلام والأسقام وغير ذلك، ليس من الشرك ولا يتوهمه أحد في ذلك، وكذا في المقام ويأتي تمة الكلام في الآيات المناسبة إن شاء الله .

وأما عالم البرزخ الذي يتوسط بين عالَم الدنيا والقيامة، فإنَّ الوجوه المتصوِّرة فيه هي: إما أن تكون الشفاعة في عالم البرزخ من نفس الموجودين فيه، أو من الدنيا فيه، أو من الآخرة فيه، ولا رابع في البين .

ص: 161

و الجميع لا موضوع له، لأن مورد الشفاعة الكبرى إنما هو بعد نصب الموازين يوم القيامة والحساب وثبوت استحقاق العقاب فإن بدعاء الشفيع يرفع العقاب، بإذن الله تعالی.

نعم؛ بعض الأعمال الصالحة والخيرات من الأحياء في الدنيا للأموات توجب التوسعة عليهم إن كانوا في ضيق، والأخبار في ذلك متواترة.

وقد ورد في بعض الروايات : أن الدفن في في بعض الأمكنة المقدسة، كالدفن في الحرم الإلهي أو ظهر الكوفة، يرفع جملة من المضايقات عن الميت، ولكن ذلك ليس من الشفاعة المعهودة، بل هو تصرف وحكومة يمنحها الله تعالى لهم، ولكن يستفاد من بعض الأدعية المأثورة أن التصرفات المعنوية في عالم البرزخ منحصرة بالله تعالی مثل ما ورد في الدعاء : «وتولَّ أنت نجاتي من مساءلة البرزخ، وادرأ عنِّي منكراً ونكيراً ، و أرعبني مبشراً وبشيراً »، ويأتي في الموضع المناسب الكلام في عالم البرزخ.

الشفاعة في الأديان الإلهية

لا تختص الشفاعة المعهودة بالإسلام، بل هي ثابتة في سائر الأديان الإلهية وإن كان بينها تفاوت يسير في مفهومها، وذلك يرجع إلى السير التكاملي في المفاهيم الدينية وسائر الأمور، كما قرّرناه في أحد مباحثنا السابقة، مع أنّنا ذكرنا أن الشفاعة ليست وليدة دين خاص، بل هي أمر اجتماعي قرّرها الإسلام والأديان الإلهية، ويستفاد ذلك من

ص: 162

أسفار التوراة والإنجيل، ففي سفر أيوب من التوراة الإصحاح 33 فقرة 23 ما يدلّ على ذلك، وكذلك في الإصحاح 5 فقرة 1، وغير ذلك مما ورد فيه. وأما في الإنجيل وردت هذه العبارة فيه كثيراً : «يسوع المسيح الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا»، أو «يطهرك المسيح من الخطايا»، وأنّ الشفاعة سرّ من أسرار الكنيسة .

غاية الشفاعة

للشفاعة غايات وفوائد متعددة، نذكر المهمَّ منها:

فمنها : توجيه النفوس المستعدة إلى مقام النبوة، خصوصاً سید الأنبياء الذي هو الأصل والأساس للشفاعة .

ومنها: أنها توجه الناس إلى الصالحين من عباد الله ، الذين أذن الله تعالى لهم بالشفاعة.

ومنها : ترغيب الناس إلى الشعي في صالح الأعمال والإخلاص فيها، لعل الله تعالى يرضى عنهم ويجعلهم بأنفسهم من أهل الشفاعة .

ومنها: عدم يأس الناس من رحمة الله تعالی بعد رجائهم في الشفاعة .

ومنها: بقاء الناس في مقام الرجاء والخوف الذي حثّ عليه القرآن الكريم والأنبياء والمرسلون.

هذه هي أهم غايات الشفاعة، وهناك فوائد أخرى تظهر للمتتبع في أدلة الشفاعة.

ص: 163

بحث فلسفي كلامي

لا ريب في ثبوت السعادة والشقاوة للإنسان، والأولى عبارة عن الخير للإنسان. والثانية تقابل ذلك. وللعلماء والفلاسفة فيهما أقوال ومذاهب. ومحل تلك هي: أنه إذا لوحظ الإنسان بالنسبة إليهما يتصور على وجوه :

الأول: أن تكون السعادة ذاتية للسعيد، والشقاوة ذاتية للشقي، بالذاتي الحقيقي المعبَّر في محلِّه بالذاتي الإيساغوجي.

الثاني : أن يكون كل واحد منهما ذاتياً له، بمعنى كونهما من لوازم الذات، كذاتية الزوجية الأربعة والفردية للثلاثة ، المعبر عنه في محلِّه بذاتي باب البرهان .

وهذان الوجهان باطلان في نظام التشريع، لأنَّ القول بهما ينافي الاختبار الذي يتقوم به التشريع مطلقاً، كما دلّت عليه الأدلة العقلية والنقلية .

ولكن استند بعض إلى قول نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، وشرارهم في الجاهلية شرارهم في الإسلام».

ويرّد عليه ما عرفت آنفاً من أن القول به ينافي القواعد العقلية المتقنة، الدالة على ثبوت الاختبار، وأنّ التشبيه في الحديث الشريف إنما هو من بعض الجهات دون جميعها:

ص: 164

الثالث : أن يكون من مجرد الاقتضاء لا الذاتي، وهذا هو الصحيح الذي يستفاد من مجموع الأدلة الواردة في الطينة والميثاق، والشقاوة والسعادة، وهو الموافق للقواعد العقلية الدالة على ثبوت الاختيار في استحقاق الثواب والعقاب .

وحينئذ فالشفاعة الكبرى التي ذكرنا أنها ثابتة لنبينا الأعظم صلی الله علیه و آله الذي هو واسطة الفيض، وسائر الأنبياء والأوصياء، إنما هي في هذا القسم من السعادة والشقاوة، ولا موضوع لها في الوجهين الأولين، لعدم قابلية المحل لها، وقد ذكرنا أنها شرط في ثبوت الشفاعة، ويدل على ذلك ما ورد في الشفاعة، ويدل على ذلك ما ورد في الشفاعة، مثل قوله صلی الله علیه و آله : «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»، فإن المستفاد منه أن موردها الأفعال، فلا تكون في مرتبة الذات والذاتیات ، فيكون مورد الشفاعة السعادة والشقاوة على الوجه الثالث، فإنه قابل للتغيير والتبديل بعروض الموانع.

وقد ذكرنا أن السعادة والشقاوة على درجات :

منها: ما يكون الإنسان فيهما بالغاً إلى أقصى درجات الكمال .

ومنها: ما يكون الإنسان سعيداً ذاتاً و شقياً فعلاً، و بالعکس.

ومنها: ما لتتم له فعلية السعادة والشقاوة، ولكن لا بد من زوال الهيئات الرديئة وبروز الحقيقة، فإما أن ترزق التطهير فتزول الشقاوة العرضية، أو تسلب السعادة العرضية وتظهر شقاوة النفس، أو تكون مرجوة لأمر الله تعالى إن لم تكتمل في السعادة والشقاوة وفارقت الحياة

ص: 165

ناقصة مستضعفة، فالشفاعة في هذه المراتب والأقسام إنما تزيل الهيئات الرديئة الشقية التي لزمت النفوس.

أما النفوس الكاملة في الشقاوة ، التي أثرت المعاصي والذنوب في ذاتها، وانقلب المقتضي إلى الذاتي، فلا موضوع للشفاعة فيها، وهذا من إحدى الأصول التي بني بعض أكابر الفلاسفة (رحمة الله عليه) المعاد الجسماني عليها، وقال بعضهم:

قدم خمرت طينتنا بالملكة*وتلك فينا حصلت بالحركة(1)

«اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ »

الآية الشريفة تقرّر أعظم المعارف الإلهية، وأهم أصل من أصول الدين، الذي إليه يدعو جميع الأنبياء والمرسلين. و أنّ الاعتقاد به يجعل العبد في الصراط المستقيم، ويحثّه على العمل القويم، يطلبه الإنسان بالفطرة ويترنّم باسمه في كل حالة، ألا و هو الله المعبود بالحق الواحد الأحد الذي اجتمع فيه جميع صفات الكمال.

وما في الآية الشريفة هو الحدّ الفاصل بين الاعتقاد الصحيح و غيره، فقد قررت توحيد الله تعالى في الذات والمعبودية والصفات .

ص: 166


1- م.ن، ج4، ص182 - 213.

وقد وصفته بأصول صفات الكمال وهي الحياة، والقيومية ، والمالكية، والربوبية العظمى، والعلم، فلا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض، ولا يحيط بعلمه أحد. وهذه هي أمهات الأسماء الحسنى، وإليها يرجع سائرها، وقد نزهت عنه جميع ما لا يليق بساحة كبريائه .

فهي تثبت المبدأ والمعاد للتلازم بينهما، فتضمّنت الآية الشريفة توحيد الله تعالى والصفات العليا والأسماء الحسنی، وتنزيهه عما لا يليق به، واتصافه بصفات الجمال والجلال، على نحو يستشعر العبد بعظمته وكبريائه، وحكمته وعلو قدره وعظم شأنه، فيقف بين يديه خاضعاً ذليلاً مذعناً بوجوب طاعته والوقوف عند حدوده و أحكامه ، ونبذ ما لا يليق بساحة كبريائه والإعراض عمّا يسخطه ولا يرضى به ، فالمعتقد بها يؤمن بما ورد في القرآن الكريم، وما جاء به سید المرسلین .

فالآية المباركة بحق أعظم آية في كتاب الله المجيد، وإنها من كنوز العرش، وإنها تعدل ثلث القرآن .

ومن ذلك يعلم وجه الارتباط بما سبق وما يأتي من الآيات الشريفة.

ص: 167

في رحاب آية الكرسي

قوله تعالى : «الله»

الله : عَلَم لواجب الوجود المعبود بالحق إلى العالمین جلّ جلاله ، و هو أجلّ لفظ لأعظم معنين فوق ما نتعقله من معنى العظمة والجلال .

وتقدّم في سورة الحمد ما يتعلق به، و قلنا: إنّه سواء كان اللفظ من وَلِه بمعنى التحيّر ، لتحيّر جميع ما سواه فيه جلّ وعلا، و أنّ غاية ما في وسع الجميع إنما هي الإشارة إليه تعالى بهذا اللفظ العظيم وأمثاله من أسمائه المباركة، وأما الحقيقة، فدونها حجب كثيرة .

أو كان من إلِهَ بمعنى العبودية، لكونه المعبود بالحق.

أو عَلَم مختص به جل جلاله ، فإن جميع ذلك يستلزم أنه متصف بجميع صفات الكمال، ومنزه عن النقائص والأوهام، و قد نسب إلى نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «أن هذا هو الاسم الأعظم الذي يتأثر منه العالَم».

قوله تعالى: «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» .

نفي للمعبود مطلقاً و حصر فيه جل وعلا، بل نفي للحقيقة الحقة و إثبات لها فيه تعالى، لأن غيره في معرض الزوال والفناء.

ص: 168

والإله هو الذات المتصفة بصفات الألوهية، من وجوب الوجود و الحياة والقدرة وغيرها.

أي : لا ذات تستحق الصفات الإلهية إلا الله تعالى، والضمير يرجع إلى اسم الجلالة الدالّ على الذات المقدسة، المنصفة بجميع صفات الجمال والجلال، وقد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: «وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ»(سورة البقرة، الآية 193).

ونزيد هنا: أن الوجه في إتيان الضمير مفردة دون الجمع، لما ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنه تعالى إذا كان في مقام بيان الصفات المقدسة العليا، أو في مقام الرحمة والامتنان على العباد، يأتي بالمفرد، وإذا كان في مقام بيان القدرة والقارية والكبرياء، يأتي بضمير الجمع.

وقد كرّرت هذه الجملة المباركة المبتدأة باسم الجلالة والمنتهية بلفظ «هو» في ستة مواضع من القرآن الكريم، أحدها المقام، والثاني قوله تعالى : «الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» (سورة آل عمران، الآية 3)، والثالث قوله تعالى : «الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» (سورة النساء، الآية 87)، والرابع قوله تعالى:«الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأسماءُ الحُسنی» (سورة طه، الآية 8)، والخامس قوله تعالى : «الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هُوَ رَبُّ العَرشِ العَظیمِ » (سورة النمل، الآية 26)، والسادس قوله تعالى : «الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» (السورة التغابن ، الآیة 13) . وعن بعض المتتبعين أن لهذه الجملة المباركة آثاراً عجيباً حصلت بالتجربة، ويشهد لما ذكره (قدس

ص: 169

سره) أن هذه الجملة في جميع الموارد التي ذكرت اقترنت بمهام الصفات الجمالية والجلالية . ووحدته الحقّة الحقيقية سرت إلى الألفاظ التي تطلق عليه عز وجل.

قوله تعالى : «الحَیِّ».

حصر للحياة فيه تعالى، فهي فيه عز وجل حقيقية ذاتية ، لا أن تكون إضافية، كما ستعرف.

أي : هو الحي فقط، وغيره في معرض الزوال ومستمد منه عز وجل، قال تعالى: «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ»(سورة طه، الآية111)

والحي من الصفات المشبهة التي تدل على الثبوت والدوام، کالرحيم والعليم، أي : أنه الحياة الثابتة، ومفهوم الحياة معلوم وظاهر، وهي التي تبتني عليها جميع الإحساسات والإدراکات، ويلازمها العلم والقدرة، وبانتفائها تتعطل جميع قوى الحي ومشاعره وأفعاله، و هي على مراتب، وأصولها الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية، وحياة المجردات، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم في مواضع متعددة ، قال تعالى : و«اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا»(سورة الحديد، الآية 17)، وقال تعالى: «وَ هُوَ یُحیِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِها» (سورة الشورى، الآية 9).

وأقسامها ثلاثة : الحياة الدنيا، والحياة البرزخية، والحياة الآخرة ، وقد وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ» (سورة غافر، الآية 11)، وسيأتي أن المراد من الحياتين الحياة البرزخية والحياة الآخرة.

ص: 170

وأما الحياة الدنيا فقد وصفها الله تعالى بأوصاف مختلفة، كلها تدل على ذم هذه الحياة ورداءتها وزوالها، بخلاف حياة الآخرة التي وصفها الله تعالى بأنها الحياة الكاملة، قال تعالى : و«وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ » (سورة العنكبوت، الآية 46)، كما وصفها بالأمن والخلود والهناء وعدم النقص في كل ما يرتبط بها، قال تعالى : «آمِنِينَ*لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَ وَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ»(سورة الدخان، الآية 56)، وهي أبدية لا غاية لها بحسب الآخر والمنتهى، قال تعالى : «خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ»(سورة هود، الآية 108)، ولكنها محدثة مسبوقة بالعدم، فهي الحياة الكاملة على الإطلاق، ولكن مع ذلك هي مسخرة تحت إرادة الله تعالى، مملوكة له عز وجل، قال تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»س ورة النحل، الآية 97).

فتكون حياته جلّت عظمته حياة حقيقية كاملة واجبة فيه عز و جل، بريئة من النقص، يستحيل عليها الموت والفناء، قال تعالى: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ» (سورة الفرقان، الآية 58)، وهي متقوِّمة بالعلم والقدرة، ولها مراتب غير متناهية ، لانتهائها إلى ما يكون عین ذات الله جلت عظمته، ولا مبدأ لأولها ولا منتهى لآخرها، لأنه أزليّ أبديّ بذاته ، وكذلك يكون ما هو عين ذاته ، أي الحياة والعلم والقدرة .

وهذه الحياة منحصرة في الله تعالى، وليست حياته حياة فردية

ص: 171

شخصية ، بل هي حياة كلية حقيقية ، هي مبدأ حياة كل حي، من حياة النبات والحيوان والإنسان والروحانيين، والأرواح الشامخة والعقول المجردة، بل وجميع ما سواه حتى الجمادات، فإن لها حياة خاصة لا ندركها، كما يظهر من قوله تعالى : «وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (سورة الإسراء، الآية 44)، وقوله تعالى: «أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ» (سورة فصلت، الآية (2)، فإن جميعها مستمدة من تلك الحقيقة الواحدة البسيطة، فتكون حياته عز وجل منشأ الأرواح و أصلها، وبدوامها تدون، بلا فرق بين الأرواح العلوية والأرواح السفلية والجواهر المقدسة الروحانية ، فهي منشأ الخيرات و منبع البركات، وهي الغيث المستغيث والغياث المستغاث في عالمي الأمر والخلق، اللذين يجمعان جميع الممكنات.

والحي أم الأسماء الحقيقية المحضة، كالقدرة ونحوها كما يأتي . قوله تعالى : «القَیُّومُ»

حصر للقيوميِّة فيه عزّ وجلّ فقط، قلبت الواو ياءً بعد أن كان الأصل قيوومة، وادعمنا فصار قیوماً ، للقياس المطرد على ما هو المعروف عند الأدباء، كما أن أصل القيام القوام، فعل به ما فعل بنظيره .

والقيوم من أسمائه الحسنى، ومعناه : القائم بالأمر، المتعهد بالحفظ والتدبير و المراقبة، وقد أطلق عليه تعالى قبل الإسلام أيضاً ، قال أمية بن أبي الصلت:

ص: 172

لم تخلق السماء والنجوم*والشمس نعها قمر يقوم

قدره مهیمن قيوم*والحشر والجنة والنعيم

إلا لأمرشانه عظیم

وهو تعالى قائم بأمر خلقه وتدبير شؤونهم عن علم تام وحكمة كاملة، و هو دائم بدوام ذاته، لا يعتريه ضعف ولا فتور.

وتستلزم القيمومة على خلقه جملة من الصفات العليا الحقيقية ذات الإضافة، كالخلق والرزق، والإحياء، والإماتة، والرحمة، والغفران، ونحو ذلك مما يتطلبه شؤون خلقه.

فهو من أمهات الأسماء ذات الإضافة، والفرق بين الأسماء الحقيقية ذات الإضافة والإضافية المحضة ، يأتي في البحث الفلسفي إن شاء الله تعالی.

قوله تعالى : «لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ».

السنة - بكسر السين - النعاس، وهو الفتور الذي يعتري الإنسان قبل النوم، واصل السنة، وسنة حذفت الواو .

والنوم معروف، وهما - أي السنة والنوم - متلازمان غالباً ، ولكن قد يطرأ النوم من دون أن تغلب السنة.

وقد نفى سبحانه وتعالى عن ذاته الأقدس کلا الأمرين، لأن القيومية على خلقه تتطلب أن يكون قائماً على تدبير خلقه في جميع الحالات، وإلا كان من الخلف الباطل، فلا مقتضي للنوم فيه جل

ص: 173

جلاله بوجه من الوجوه، فيكون ترتّب هذه الجملة على الحيِّ القيوم من ترتّب المعلول على العلّة ، فيستفاد منها أن ما لا يكون كذلك تأخذه السنة والنوم.

ومن ذلك يعلم: أن تقديم السنة على النوم إنما هو من باب إثبات عدم النوم بالأولوية، ولو قدم النوم لما أفاد هذا المعنى، أي : من لا تأخذه مقدمات النوم، كيف يعقل أن يأخذه النوم؟!

و ما قيل : من أن هذه الجملة على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة في مثال المقام، فإنه لا بد أن يكون من الأقوى إلى الأضعف، بخلاف مقام الإثبات، فإن الترتيب فيه يكون من الأضعف إلى الأقوى .

فإنه يرد عليه مضافاً إلى ما تقدم : أن الترتيب في كلا المقامین - مقام الإثبات ومقام النفي - إنما يدور مدار صحة الكلام.

والتعبير بالأخذ)، لنفي جميع ما يتصور في عروض السنة والنوم على ذاته الأقدس عز وجل.

قوله تعالى : «لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ»

معلوم آخر للواحد للحي القيوم، فإنه إذا انحصر الحي القيوم في الفرد الواحد، یكون كل ما سواه له، لا بمعنى المالكية والملكية فقط، بل إن كل ما يتصور في السماوات والأرض من جهات الاحتياج والاستكمال له تعالى، وليس ذلك من المشترك اللفظي في شيء، لأن اللفظ مستعمل في المالكية الحقيقية للذات بجميع لوازمها وملزوماتها، فالسموات والأرض وما فيهما خاضعة لإرادته وحاضرة لديه، و هي

ص: 174

قائمة به عز وجل، فالقيومية العظمى تستدعي سعة إحاطته وقدرته وملکه لجميع السماوات والأرض، وهي تدل على تفرده بالألوهية ، وأن السلطان المطلق لله تعالی.

ومما ذكرنا يعرف: أن هذه الجملة في موضع التعليل لنفي السنة والنوم عنه تعالى أيضا، يعني : من كان مالكاً للسماوات والأرض وما فيهمان و قيّوماً عليها، لا يمكن أن تأخذه السنة والنوم، وإلا استلزم المحال، وهو تعطیل شؤون الملك، کما أنه لو نام ربان السفينة مثلا وغفل عن شؤونها لغرقت السفينة .

قوله تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ»

استفهام إنکاري، أي ليس لأحد الشفاعة والتأثير في ملکه وسلطانه إلا بإذنه، لأنه إذا كان المعبود بالحق منحصراً فيه عز وجل، وهو الحي القيوم لجميع خلقه، وله جميع ما سواه ملكاً وتدبيراً وإيجاداً و إفناءً ، لا يعقل أن يشفع عنده بدون إذنه ، لأنه محال بالضرورة .

والآية الشريفة بعد إثبات السلطان المطلق له تعالى والملكية الحقيقية فيه عز وجل، تثبت قانون الأسباب والمسببات، أي الشفاعة التكوينية بإذن الله تعالى، وقد ذكرنا سابقة أن الشفاعة المنفية ما إذا كانت منافية للسلطان الإلهي و مستقلة عن مشيئة الله تعالى، وأما إذا كانت بإذنه عز وجل، فلا مانع منها، فإنه ما من سبب إلا ويكون تأثيره من الله تعالى، فهو القيوم المطلق، فتصرفه إنما يكون منه جلت عظمته، بل إن الأسباب في عالم التكوين حاكية عن جماله و صفاته

ص: 175

العليا، ونظير الآية المباركة قوله تعالى : «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ»(سورة يونس، الآية 3).

وأنا الشفاعة التشريعية، فتكون بإذنه عز وجل بالأولى، لأنها من شؤون تشريعاته المقدسة التي يكون التكوين من مقدمات حصولها، وقد تقدم الكلام في الشفاعة فراجع.

قوله تعالى :«يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ».

كناية عن كمال إحاطته بالموجودات، وسعة علمه بالمخلوقات .

والمراد بما بين أيديهم الحاضر المشهود، وبما خلفهم الغائب المستور، فيشمل جميع سلسلة الزمان الحاضر والماضي و المستقبل ، وهي بمنزلة التعليل لنفي الشفاعة إلا بإذنه .

يعني : أن مناط الشفاعة هو العلم الإحاطي بالعباد بما فعلوه ويفعلونه، وسائر جهاتهم وخصوصياتهم في سلسلة الزمان من الحاضر والماضي والمستقبل، ومثل هذا العلم منحصر في الله جلت عظمته، فلا بد أن تكون أصل الشفاعة وجميع ما يتعلق بها وسائر إضافاتها، من حيث الشافع والشفيع و متعلق الشفاعة، بإذنه واختياره عز وجل، حدوثاً وبقاء في الدنيا و الآخرة ، فلا كمال ولا استكمال إلا منه تعالى، ولا يقدر أحد على التصرف في ملكه، ولا راد لقضائه جلت عظمته إلا منه وبه تعالى، ولهذه الآية الشريفة نظائر في القرآن الكريم، قال تعالى :

ص: 176

«وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ*لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ*يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ»(سورة الأنبیاء ، الآیة 26و27و28).

قوله تعالى : «وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ »

تأكيد لسعة علمه وكمال إحاطته ونفي علم ما سواه به تعالی . أي : أن أحداً من خلقه لا يقدر أن يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء .

ومن هذه الآية الشريفة يستفاد عجز ما سواه عن الإحاطة به تعالی، لأن صفاته العليا وأسماء الحسنی غیر متناهية كذاته المقدسة ، وما سواه متناه، و عدم إمكان إحاطة المتناهي بغير المتناهي من البديهيات الأولية .

فالعلم لله تعالى وحده، وهو يختص به عز وجل، وما يوجد عند غيره إنما هو من علمه ومشيئته وإرادته، وهو تعالی محیط بما سواه وقائم على خلقه، ولا تتم قیومیته على خلقه إلا بإفاضة ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف لتكتمل بذلك سعادتهم الدنيوية والأخروية ، ولا يختص ذلك بذوي العقول، بل لطفه وعنايته شاملتان لجميع مخلوقاته، فهي مستفيضة من فيضه العلي، و يدل على ذلك جملة من الآيات المباركة، قال تعالى: «وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا»(سورة النحل، الآية 68)، وهي تحت إرادته وتربيبه العظمی، ومن مظاهر فیضه وإحسانه وآثار رحمته وامتنانه، ذاتاً وصفاً حدوثاً وبقاءً ، فجميع نظامه التكويني والتشريعي ينبعث عن نظامه الربوبي، وما

ص: 177

سواه محتاج إليه في البقاء كاحتياجه إليه عز وجل في أصل الحدوث ، الا يقدر أن يقدم على خلاف إرادته عز وجل، وهو قائم بإرادته وتدبيره الأتم وحكمته البالغة ، وفي كل آن له تعالی ربوبية خاصة وشأن غير ما في الآن السابق، قال تعالى : «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (سورة الرحمن، الآية 29)، ومن كان كذلك يكون جميع ما سواه کرسيّاً له، لأن أظهر صفات الكرسي كونه مظهراً من مظاهر القدرة و الاقتدار و التدبير و الإرادة .

فالآية الشريفة تدلّ على تمام تدبيره وكمال إحاطته بمخلوقاته ، وهي عاجزة عن الإحاطة بخالقها وصفاته العليا، إلا بقدر ما يفيضه عليها ويرشدها إلى الكمال المطلوب.

قوله تعالى : «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ».

مادة (ك ر س) تأتي بمعنى الجمع والمجتمع، ومنه الكراسة ، و الكرسي - في العرف - : اسم لما يقعد عليه، ولوحظ فيه المعنی اللغوي أيضا لاجتماع الحال والمحل، أو اجتماع الأجزاء فيه، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في موردين، أحدهما المقام، والثاني قوله تعالى :«وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا»(سورة ص، الآية 34)، و یکنِّی به عن الملك .

والمراد به في المقام : اقتداره التام وسعة سلطانه ، وهو تشبیه بلیغ بين ما هو المعقول - بل فوق المعقول - بما هو المحسوس، وله نظائر كثيرة في الكتاب الكريم .

ص: 178

و تعقيب تلك الصفات العليا والأسماء الحسني بهذه الآية بدل على أن المراد هو ثبوت الملك الحقيقي له تعالى، وكمال إحاطته واقتداره وتمام تدبيره به، و قيام جميع الممکنات به عز وجل، فإن کرسیه بمعنى انتساب جميع المخلوقات إليه انتساباً إشراقياً . و هو من مظاهر فيضه المطلق غير المحدود ، فيعم جميع الممكنات .

فكما أن في أسماء الله المقدسة اسماً جامعاً لجميعها، و يصحّ انتزاع سائر الأسماء الحسنی منه ، وهو اسم الجلالة (الله)، حيث ينتزع منه الرب، و الرحمن، و الرحيم، والجميل، والجليل، والجواد، وغيرها من الأسماء الحسنی، فكذا لكرسيه جلّت عظمته لحاظ إجمالي، و هو جميع ما سواه من الممكنات التي وجدت وستوجد إلى الأبد، و لعل أجلّ تلك الكراسي كرسيّ العلم، الذي به تقوم السّموات والأرض، كما أن به تنتظم شؤون خلقه وتدبير ملكه على الحكمة البالغة.

وإنما شبّه سبحانه وتعالى - ما في ساحته المقدسّة التي تجلّ عن المادة وشؤونها ، فإنه لا کرسئ ولا جلوس هناك ، تقريباً إلى الأفهام - بما اعتاد في صفات الملوك و العظماء فشبه عظمته وكبرياءه وسلطانه التام بكرسي الملك المقتدر المدير لرعيته والمدبر لشؤونها، وإلا فليس ما سواه إلا من مظاهر أسمائه وصفاته .

وفي المقام کلام طويل على بعض مباني الفلسفة الإلهية، أعرضنا عن ذكره وسيأتي في الموضع المناسب بيانه إن شاء الله تعالی.

ص: 179

و من ذلك تظهر المناقشة في كثير مما ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية المباركة، و العجب أن بعضهم أقر بأن كرسيه تعالى كناية عن كمال إحاطته وتدبيره وسلطانه التام ، يقول بأنّ الكرسي شيء يضبط السموات والأرض لا يمكن معرفة كنهه وحقيقته. وليس ذلك إلا من التهافت في الكلام.

قوله تعالى: «وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا».

الأود : المشقة والثقل والجهد، والضمير يرجع إليه عز وجل، أي : لا يشق عليه حفظ السماوات والأرض، ولا يجهده ويتعبه ذلك . ولا ريب فيه لأن الإخراج من العدم إلى الوجود أقوى وأشد من الحفظ بعد الوجود والثبوت، وبعد أن الممكن بعد الحدوث يحتاج إلى العلة ، فالعلة المحدثة في كل أن تكون معه، فلا يتصور موضوع للأود والمشقة بالنسبة إليه تعالی، مضافة إلى قيوميته المطلقة التي لا حد لها ابدأ، فيكون عروض الأود من فرض القيومية المطلقة من الجمع بين المتنافيين، فالآية الشريفة تؤكد السعة العلمية والربوبية العظمی.

قوله تعالى: «وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ».

هذه الجملة تدل على حصر جميع الكمالات فيه عز وجل، فلا علو ولا عظمة إلا فيه ومنه تعالى، وقد وردت في عدة مواضع من القرآن الكريم، وقرن اسم العلي بالكبير، قال تعالى: «وَهُوَ الْعَلِيُّ الْکَبیرُ»(سورة سبأ، الآية 23)، وبالحكيم قال تعالى: «إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» (سورة الشورى، الآية 51)، وقال تعالى :«لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ»

ص: 180

(سورة الزخرف، الآية 4)، كما أطلق اسم الأعلى عليه جل جلاله ، قال تعالى: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» (سورة الأعلى، الآية 1)، وقال تعالى : «إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى»(سورة الليل، الآية 20)، كما أورد اسم العالي في أسمائه المباركة الحسني في جملة من الذعوات المأثورة .

والمعنى : هو العلي في ذاته وجميع شؤونه وصفاته، فهو المتعالي عن الشرك و الأنداد، وعن الضعف في وجوده وصفاته، والفتور في ملکه وأمره العظيم في شأنه وجلاله، وأمره وسلطانه، فلا يعجزه كثرة مخلوقاته، وهو المنزه عن الاحتياج إلى غيره في ملکه وسلطانه .

ويمكن أن تكون هذه الجملة حالية، أي : كيف يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم بالنسبة إلى ما سواه مطلقاً ، فلا يعقل عروض التعب والمشقة عليه.

وهذه الآية الشريفة خلاصة ما ورد في المعارف الربوبية، تشتمل على الذات المقدسة وأمهات الأسماء الحسنى وأصول الصفات العليا ، وكل ما قيل في ذلك مقتبس من هذا النور الإلهي، فهو الله لا إله إلا هو المتنزه عن الأشباه والأنداد، له جميع الصفات العليا الجمالية والجلالية .

فهو الحي القيوم الذي لا يأخذه ضعف ولا فتور ولا يصيبه كلال ولا ملال في حفظ مخلوقاته، وهي محتاجة إليه تعالی، متعلقة بأمره ومشيئته، وهو متعال عنها، عظيم في جميع شؤونه، لا يشبهه أحد من خلقه .

ص: 181

وقد اشتملت هذه الآية على كل ما يسوق العباد إليه . وهي تملأ القلب مهابة من الله جل جلاله، وتجعل النفس خاشعة ذليلة أمام عظمته وكبريائه وجلاله، وتزيد في معرفة العبد الله تعالى، وتقوده إلى ساحة قدسه، وهو يستشعر بالحياء منه وقلبه مليء من عظمته وجلاله، قد أعرض عن غيره وقطع أمله عن سائر خلقه، وتوكل عليه واعترف بالعجز والقصور لينال ما هو المأمول.

ولأجل اشتمال هذه الآية على تلك المعارف العليا كانت لها آثار خاصة لم تكن في غيرها من الآيات، ذكر في السنة الشريفة بعض منها(1) .

ص: 182


1- م.ن، ص214 - 225، ج4.

بحوث المقام

بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور :

الأول : إنما عبّر باسم الجلالة (الله) في صدر الآية المباركة ، الدلالته على الكمال المطلق فوق ما نتعقّله من معنى الكمال، ولازم ذلك انحصاره في فرد ونفي الشريك عنه ذاتاً وصفاً وفعلاً ، لأن الشرك مطلقاً ينافي فرض الكمال المطلق وهو خلف، وبهذا الدليل القويم يستدل على التوحيد في الذات والصفات والأفعال، وهو يغنينا عن إطالة الكلام في ذلك، ولأجل ذلك تكررت هذه الآية في القرآن الكريم، قال تعالى: «اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى» (سورة طه، الآية 8)، وقال تعالى :«اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ » (سورة النمل، الآية 26)، وقال تعالى :«اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (سورة التغابن، الآية 13)، إلى غير ذلك من الآيات المباركة لا سيما إذا انضم إليها جملة (الحي والقيوم) ، لأنها تتضمّن أم الأسماء الجمالية و الجلالية، والأصل في نظامي التكوين والتشريع، والرابط بين عالم الغيب بالشهادة وعالم الشهادة بعالم

ص: 183

الغيب، وفيها أهمّ أسرار عالم الملكوت، وهي النور الذي يتدفق عن عالم الجبروت، يستحيل على الممکنات تحمل معناها، فترى العقول صرعى دون بلوغ مغزاها، قد أدهش الأملاك جلالها، فتراهم خاضعين لا يرفعون الرؤوس، وحیّر الأفلاك فلا تزال تتحرك شوقاً إلى الاقتراب ، وكلما تقترب ميلاً تفرّ أميالاً لشدة أشعة الجلال و عظمة الاحتجاب، يحترق كلّ من دنا منها، وماذا أقول في اسم هو حياة كلّ ذي حياة وقيوم كل ذي ذات - جوهراً كان أو عرضاً .

الثاني : يستفاد من قوله تعالى: « وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا » ، أن حفظ السماوات والأرض أعظم من إيجادهما، فإن حفظ الشيء أعظم بكثير من إيجاده، لأنه يتطلب جهداً أكبر، فكم قد رأينا أن ملكاً وصل إلى الملك ولم يقدر على حفظه وإبقائه ، فحرم من الاستمتاع به، ولكن هذا غير متصوَّر بالنسبة إلى الله تعالى، فإنه القادر القهار على جميع ما سواه ، حدوثة وبقاء ، إيجادة وإفناء، فلا مضادَّ له في حكمه ولا ند له في ملكه، وقد جمع ذلك في قوله عز وجل : « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا».

الثالث : يستفاد من قوله تعالى : «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ » ، تمام الإحاطة العلمية بالمخلوقات، و أن جميع المتدرجات الزمانية بل الدهرية، حاضرة لدى علمه عز وجل، حضوراً علمياً إحاطياً ، وأنها كذرة فلاة غير محدودة.

والتدرج إنما هو في مرتبة المعلوم بالعرض، لا في مرتبة العلم

ص: 184

الإحاطي الغيبي، وأن غيب الغيوب حاكم على الشهادة بكلِّ معنی الحكومة إيجاداً، وتقديراً، وتدبيراً، وإفناءً ، وتبديلاً لصورة إلى أخرى، فهو المبدئ والمعيد والمصوِّر لكلِّ ما شاء وأراد .

كما يشمل قوله تعالى جميع الممكنات - التي منها الإنسان - من بدء حدوثها إلى آخر فنائها، إذ لا معنى لمالكينه تعالى للسماوات والأرض و علمه بها إلا ذلك، فيعلم تعالى جميع ما يتعلق بالإنسان، أنواعه وأفراده، وجميع صفاته وحالاته، وسعادته وشقاوته وأفعاله وأقواله، حتى خطرات القلوب ولمحات العيون.

الرابع: يدل قوله تعالى: «وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ » ، على أنه تمتنع الإحاطة بعلم الباري تعالى إلا بمسمى المشيئة ، ويستفاد منه أن كل علم يفاض منه تعالى على الممكن لا بد أن يكون محدودة بالمشيئة، ولا يمكن للعقول درك خصوصيات المشيئة ولا الجهات المقتضية للإفاضة، وإن كان يستفاد من قوله تعالى :«وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ»(سورة البقرة، الآية 282)، أن لحقيقة التقوى دخلاً كبيراً فيها، فإنها توجب صفاء القلب واستعداده للاقتباس من الأنوار الغيبية، فإذا انعكس شعاع الشمس على المرأة الظاهرية الجسمانية، كيف يحتمل أن لا تنعكس الأنوار الغيبية الواقعية في المرآة الحقيقية الواقعية؟!

الخامس : يحتمل أن يكون متعلق المشيئة الإحاطة، كما يحتمل أن يكون نفس العلم، ويحتمل أن يكونا معاً، وعلى أي تقدير لا يكون

ص: 185

إلا بقدر القابليات والاستعدادات، قال تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»(سورة الرعد، الآية 17).

نعم، لو فرض الفناء المطلق فيه جلّت عظمتهن بحيث تزول الاثنينية، فهناك بحث خاص يقصر اللسان عن بيانه والقلم عن تحريره ، فإنّ جميع جهاته حالية لا أن تكون مقالية .

السادس: يستفاد من هذه الآية الشريفة - وما في سياقها من الآيات - أن المعبود بالحق، لا بد أن يكون فيه هذه الأمور : الحي، القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم وغيرها، لأن هذه كلها ذاتية له، فيمتنع التخلف وتنحصر لا محالة في الله جلت عظمته.

وما يتوهم من أنه يستلزم التركب في الذات الأقدس، لا وجه له، لأن جميع ذلك يرجع إلى سلب الإمكان والنواقص الواقعية والإدراكية عنه، فتكون الذات بسيطة فوق ما نتعقله من معنى البساطة .

السابع: ظاهر نفي السنة والنوم عنه تعالى، نفي حقيقتهما عنه مطلقاً ، فيكون عدم الاختیاري منهما عنه جلت عظمته أيضاً ، بل بالأولى، كما أن مقتضى ذلك نفيهما عنه تعالى في الأزل والأبد، لا أن يكون مختصاً بوقت دون آخر.

وظاهر الآية الشريفة أن عدمهما مختص به عز وجل، أي نفي ذاتهما مطلقاً بجميع مراتبهما الممكنة فيهما.

وأما غيره تعالى، فإنه لا دليل من عقل أو نقل على انحصار حقيقة النوم والسنة فيما يعرضان للحيوان فقط، بل لهما مراتب كثيرة لا

ص: 186

يعلمها إلا علام الغيوب، ومن تلك المراتب ما نسب إلى نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «تنام عيني ولا ينام قلبي»، و قد رأينا بعض المشايخ رحمه الله أنه كله في أثناء بحث التفسير ينام، مع أنه كان مشغولاً بالبحث حين النوم بلا خلل منه في البين.

فالقيوم الذي له القيومية الفعلية على ما سواه من كل جهة ، و الممكن الذي هو زوج ترکيبي له ماهية ووجود، شيئان لا وجه لقياس أحدهما بالآخر.

مع أن للسنة والنوم مراتب كثيرة، ونفي جميعها منحصر به تعالى، كما أثبتناه سابقاً .

وأما العقول وبعض الروحانيين وسادات الملائكة ، فإن نفي بعض المراتب عنهم لا يستلزم نفي الجميع كما هو معلوم .

مع أن المقهورية المطلقة لما سواه عز وجل من أعظم أنواع النوم لجميع الممكنات.

نعم، من كان حياته بحياته وأفني جميع شؤونه في مرضاتهن بحيث لا يرى لنفسه ذاتاً ولا صفاً ولا فعلاً ، و قد وصل إليه کتاب کریم من الحي القيوم إلى الحي القيوم كما في بعض الروايات، فهو خارج عن موضوع ما يكتب وما يختلج في الأوهام، ولكنه مع ذلك كله بالنسبة إلى الأبد، لا بالنسبة إلى الأزل، فارتفع الوفاق وحصل الافتراق .

الثامن : قد أهمل تعالى إفاضة ما يفيضه من العلم، وعلّقه على

ص: 187

مشيئته وإذنه تعالى، إذ لا يحتمل البيان غير الإجمال، لأن إفاضة العلم منه عز وجل على أقسام :

الأول: أن تكون الإفاضة من سلسلة العلل الطولية، حتى تنتهي إلى ذاته المقدّسة، فيحيط المفاض عليه بتمام خصوصیات عالم الشهادة والغيب، حتى يصل إلى غيب الغيوب الذي لا يعقل له حدود ولا نهاية ، فتكون حقائق جميع ما سواه تعالى منطوية في هذا العلم، وفي بعض الدعوات المأثورة عن نبينا الأعظم: «اللهم أرنا الأشياء كما هي».

الثاني : أن تكون الإفاضة علم الحقائق العامة البلوى بما لها من الآثار.

الثالث: أن يفيض علم الآثار من حيث لوازمها وملزوماتها دون أصل الحقائق.

الرابع : إفاضة بعض الآثار إجمالاً .

الخامس: أن يتخصص كلّ فردٍ بخصوصية خاصة. ويمكن أن صور الأقسام أكثر من ذلك، والتفصيل لا يسعه المجال في مقام الثبوت ومقام الإثبات .

بحث أدبي

المعروف بين أهل اللغة والأدب أن (اللام) تأتي للملك المجرد في مقابل سائر المعاني اللازمة للملكية، من التدبير، والتنظيم،

ص: 188

و الإيجاد والإفناء وغير ذلك من لوازم الملكية عقلاً وعرفاً ، وقد وضع لذلك كله ألفاظ أخرى يستعملونها مع تحقق المعنى، ولا تستعمل مع عدمه مع صحة الانفكاك. وقد حصل ذلك من تصور الملكية في الممکنات، وانتفاء الملكية الواقعية الحقيقية من جميع الجهات .

وأما فيما هو الحقيقي الواقعي، فالملكية والمالكية تشمل جميع ما لها من اللوازم والآثار، التي لا يستلزم منها النقص من إطلاقه عليه تعالى، إيجاداً وإفناءً وتدبيراً و غير ذلك. فإن الملك فيه حقيقي، لا اعتباري كالدائر بين الإنسان، فالمستفاد من قوله تعالى : «لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ»، أن له الملكية الذاتية الحقيقية، الشاملة لجميع اللوازم والملزومات، التي لا توجب النقص إما بالدلالة التضمنية أو الالتزامية، كما يقال : فلان رجل عاقل، أي : يحسن تدبيراته وعمله وشؤونه ونحوها، والكل منطو في معنى اللفظ الواحد.

و كلّ ما اتسع المعنى ازدادت آثاره ولوازمه وملزوماته ، ولا نحتاج إلى تكثير اللفظ خصوصاً فيه جلت عظمته، ولأجل ذلك قلنا: إن لفظ (الله) اسم للذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية الواقعية، المسلوب عنه جميع النقائص الواقعية والإدراكية، وتشهد لذلك الأدلة العقلية والسنة الشريفة ، فيكون إطلاق اللفظ الواحد بمنزلة إطلاق ألفاظ كثيرة وسلب معان متعددة، وهذا الإطلاق يكون على نحو الحقيقة دون المجاز .

ص: 189

بحث روائي

تقدم أن آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم، التي تشتمل على جملة من المعارف الإلهية، منها التوحيد الخالص وبيان الصفات العليان ويكفي في شرفها أن اسم الله تعالى تكرر فيها ثمان عشرة مرة، بین ظاهر ومضمر، بل يمكن القول بأنها تحتوي على كليات وأصول المعارف الحقة :

أما التوحيد - فيكفي فيه قوله تعالى : «اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ »

وأما العدل - فإنه يكفي فيه قوله تعالى : «الْحَيُّ الْقَيُّومُ » ، إذ القيومية المطلقة لا تتم إلا بالعدل، وإن به قامت السماوات والأرض .

وأما النبؤة - فيرشد إليها قوله تعالى : «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ».

والنبوة والمعاد - متلازمان تلازم المبدأ والمعاد، لفرض أن النبي يخبر عن المعاد، فهو بوجوده في هذا العالم وجود المعاد، كما تدل عليه الآيات المباركة.

ومنه يستفاد الولاية أيضا، إذ لا نبؤة كاملة إلا بتعيين الوصاية و الولاية.

ولشرافة ما تضمنته هذه الآية الكريمة صارت من أعظم الآيات وأفضلها و أجمعها، فقد ورد في السنة الشريفة ما يدلّ على فضلها وعظمة أمرها والاعتناء بها اعتناء بليغاً، والتوصية بقراءتها وحفظها، لما

ص: 190

فيها من الآثار العجيبة، وقد اشتهرت بذلك من حين نزولها، ونحن نذكر في هذا البحث جملة مما ورد في فضلها، وما يتعلق في عددها، وما يتعلق بالكرسي، وما ورد في تفسير مفرداتها.

فضل آية الكرسي وشأنها

روى السيوطي في الدر المنثور : عن النبي صلی الله علیه و آله أنه قال : «آية الكرسي سيدة آي القرآن».

وروى البيهقي في شعب الإيمان : عن أبي ذر : «قال : يا رسول الله، ما أفضل ما أنزل عليك؟ قال صلی الله علیه و آله : آية الكرسي».

وأخرج البخاري في تاريخه، وابن الضريس : عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وآله قال صلی الله علیه و آله : «أعطيت آية الكرسي من تحت العرش».

وأخرج أحمد والطبراني : عن أبي أمامة قال: «قلت : يا رسول الله ، أيما أنزل عليك أعظم؟ قال صلی الله علیه و آله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم، آية الكرسي»، رواه الخطيب البغدادي أيضا.

وفي سنن الدارمي : عن أيفع بن عبد الله قال: «قال رجل: يا رسول الله ، أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال صلی الله علیه و آله : آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم - الحديث -».

وفي الكافي : عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله : «لما أمر الله هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض، تعلقن بالعرش وقلن : أي رب إلى أين تهبطنا، إلى أهل الخطايا والذنوب؟! فأوحى الله عز وجل

ص: 191

إليهن : اهبطن، وعزتي وجلالي لا يتلوكن أحد من آل محمد وشيعتهم في دبر ما افترضت عليه من المكتوبة في كل يوم، إلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، أقضي له في كل نظرة سبعين حاجة، وقبلته على ما كان فيه من المعاصي. وهي أم الكتاب ، وشهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم، وآية الكرسي، وآية الملك» .

أقول: يستفاد من أمثال هذه الرواية أن للآيات الشريفة حياة حقيقية واقعية وإن كنا لا ندرك ذلك، ويدل عليه قوله تعالى : «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا»(سورة الشورى، الآية 52).

وفي تفسير العياشي: عن عبد الله بن سنان، عن الصادق علیه السلام :«إن لكل شيء ذروة، وذروة القرآن آية الكرسي».

و في أمالي الشيخ بإسناده عن أبي أمامة الباهلي : «أنه سمع علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: ما أری رجلاً أدرك عقله الإسلام أو ولد في الإسلام، يبيت ليلة سوادها، قلت: وما سوادها؟ قال علیه السلام : «اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ»- إلى قوله - « وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» ، قال : فلو تعلمون ما هي - أو قال ما فيها - ما تركتموها على حال : إن رسول الله صلی الله علیه و آله قال : أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبي كان قبلي، قال علي علیه السلام : فما بث ليلة قط منذ سمعتها من رسول الله إلا قرأتها».

وفي تفسير العياشي: عن الصادق عليه السلام قال أبو ذر : یا رسول

ص: 192

الله، ما أفضل ما أنزل عليك؟ قال صلی الله علیه و آله : آية الكرسي، ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض بلانع، ثم قال صلی الله علیه و آله : وإن فضله على العرش كفضل الفلاة على الحلقة».

وسئل النبي صلی الله علیه و آله : «القرآن أفضل أم التوراة؟ فقال صلی الله علیه و آله : إن في القرآن آية هي أفضل من جميع كتب الله، وهي آية الكرسي».

وعن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله: «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة لم يمنع دخول الجنة إلا الموت، ومن قرأها حين ينام آمنه الله وجاره و أهل الدویرات حوله».

وعن علي عليه السلام قال : سمعت نبیِّكم صلی الله علیه و آله بقول - وهو على أعواد المنبر -: من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله» .

أقول: الأخبار في فضلها كثيرة مروية عن الخاصة والجمهور، وقد ورد استحباب قراءتها في مواضع كثيرة، منها عند السفر وبعد الصلاة، وبعد الوضوء وعند المريض، وحال النزاع وسكرات الموت، وغير ذلك مما هو کثیر، راجع الكتب المعدة لذلك.

عدد آية الكرسي

لا ريب في أن كل ما ورد فيه ذكر آية الكرسي يراد بها إلى قوله تعالى: «وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» ، وتقدم في حديث أبي أمامة الباهلي عن

ص: 193

علي عليه السلام التصريح بذلك، ويظهر ذلك أيضا مما ورد في قراءة آية الكرسي وآيتين بعدها، فإنه ظاهر في خروجها عنها، وهو المنصرف من إطلاق آية الكرسي، أي الآية التي يذكر فيها الكرسي، هذا إذا لم تقم قرينة على الخلاف، كما في بعض الروايات من زيادة إلى «هُم فِيهَا خَالِدُونَ» ، أو زيادة «آيتين بعدها»، ففي الخبر عن علي بن الحسين عليه السلام قال : قال رسول الله صلی الله علیه و آله : من قرأ أربع آيات من أول البقرة و آية الكرسي وآيتين بعدها وثلاثة من آخرها، لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه ، ولا يقربه الشيطان ولا ينسى القرآن»، فحينئذ يؤخذ بها في موردها .

وفي تفسير القمي ذكر آية الكرسي إلى: هم فيها خالدون - و الحمد لله رب العالمين.

أقول: يمكن أن يكون التحميد إرشاداً إلى استحباب ذكر الحمد بعد تمام الآيات، كما ورد في سورة التوحيد من استحباب قول: «كذلك الله ربي»، و في سورة الجحد من استحباب قول: «ربي الله وديني الإسلام» بعد تمامها، ومثل ذلك كثير في القرآن .

معنى الكرسي

في الكافي عن الفضيل بن يسار قال : سألت اباعبدالله علیه السلام عن قول الله عزّوجلّ: « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» ؟ فقال : يا فضيل، كل شيء في الكرسي، السماوات والأرض، وكل شيء في الكرسي» .

ص: 194

أقول: أما قوله علیه السلام أولاً : «كل شيء في الكرسي» فيه إجمال، وقد بينه بقوله علیه السلام : «السماوات والأرض»، وأما قوله علیه السلام ثانياً : كل شيء في الكرسي» فهو عبارة عما في السماوات والأرض من الجواهرو الأعراض والنفوس والمجردات والأملاك والأفلاك.

والمراد به : الإحاطة العلمية بما سواه كلية وجزئية، كما فسّر بها في رواية أخرى، أو الإحاطة القيومية، فإنه تعالی محیط بجميع ما سواه وقائم عليه بتمام معنى الإحاطة والقيومية .

وفي الكافي - أيضا - عن زرارة قال : «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله عز وجل:« وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» السماوات والأرض، وسعن الكرسي، أو الكرسي وسع السموات والأرض؟ فقال علیه السلام : إن كل شيء في الكرسي».

أقول: ظهر معنى الرواية مما مر في سابقتها. وأما سؤال زرارة فهو سؤال بدا في ذهنه ابتداءً قبل التأمل فيه، فأبدى الإمام علیه السلام الجواب على حقيقته بما يزيل الوهم.

وفي المعاني: عن حفص بن غیاث قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن قول الله عز وجل : « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» قال علیه السلام : علمه».

أقول: يصحّ التعبير عن العلم المحيط بالعرش والكرسي، ويصحّ هذا التعبير باعتبار الإحاطة والاستيلاء، فيشمل جميع جهات إحاطته تبارك وتعالى، مثل كرسيِّ الجمال والجلال والعزّة والقدرة والعظمة ،

ص: 195

فما ذكره الإمام عليه السلام بعض منها تقريباً للأفهام، ولأن الإحاطة العلمية جامعة لجميع ذلك.

وفي المعاني - أيضا -: عن المفضل بن عمر قال : «سألت أباعبد الله علیه السلام عن العرش والكرسي ما هما؟ فقال علیه السلام : العرش في وجه : هو جملة الخلق، والكرسي وعاؤه. و في وجه آخر: العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه ورسله وحججه. والكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحداً من أنبيائه ورسله وحججه علیهم السلام »

أقول: المراد من الوعاء ليس الوعاء الجسماني، بل الإحاطة الحقيقية .

وأما الوجه، فهو بیان مراتب علمه التي هي غير متناهية، وسيأتي البحث في علمه عز وجل مستقلاً إن شاء الله تعالی.

وفيه أيضا : عن الصادق علیه السلام : «السماوات والأرض وما بينهما في الكرسي . والعرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره».

أقول: تقدم ما يتعلق بقوله: «السموات والأرض وما بينهما في الكرسي»، أي: الكرسي بمنزلة الوعاء لها. وأما قوله علیه السلام : «العرش هو العلم»، فهو صحيح بالنسبة إلى العرش الذي بمعنى العلم، وقوله : «الذي لا يقدر أحد قدره»، أي: لا يقدر على فهم حقيقته أحد، ولا يمكن الإطلاع على جميع خصوصياته.

في تفسير العياشي: عن زرارة في قوله عز وجل: « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» ، قال علیه السلام: لا ، بل الكرسي وسع السماوات والأرض والعرش، وكل شيء خلق الله في الكرسي».

ص: 196

قال الأصبغ بن نباتة : «سئل أمير المؤمنين علیه السلام عن قول الله عز وجل: « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» ؟ فقال علیه السلام : إن السماء والأرض وما فيهما من خلق، مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله » .

أقول: قوله علیه السلام : «لا، بل الكرسي وسع السماوات والأرض والعرش»، دفع لما يكن أن يتوهم من أن السموات والأرض وسعت الكرسي كما سأله زرارة نفسه في رواية أخرى.

والمراد بالعرش : سائر مخلوقاته عز وجلن أي : العرش الجسماني، وقوله علیه السلام : «في جوف الكرسي» ، عبارة عن سعته للسماوات والأرض وما فيهما، كما تقدم في الرواية السابقة .

وأما حمل الملاك الأربعة الكرسيِّ، فهو عبارة عن مظاهر قدرة الله تعالى لحمل كرسي العالم الجسماني، فلا تنافي بين هذه الرواية وبين الآيات الدالة على ثبوت الحمل للعرش، قال تعالى :«الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ»(سورة غافر، الآية 7)، وقال تعالى : « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ »(سورة الحاقة، الآية 17)، ويأتي شرحها في موضعها، وقريب من هذه الرواية ما ورد في الاحتجاج عن الصادق علیه السلام .

و محل الكلام في العرش والكرسي أنهما إما معنویان روحانیان، أو جسمانيان أي عالم الأجسام، ولا بد وأن يميز بحسب القرائن بين الأقسام الأربعة، لئلا يختلط بعضها ببعض، والقرائن موجودة في نفس الأخبار لمن تأمل فيها .

ص: 197

في تفسير القمي: عن الأصبغ بن نباتة : «أن عليّاً علیه السلام سل عن قول الله عز وجل: « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» ؟ فقال : السماوات والأرض وما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي، وله أربعة أملاك يحملونه بإذن الله - الحديث ). ورواه العياشي أيضاً .

أقول : تقدم ما يتعلق به في الرواية السابقة .

في الكافي: عن الحسين بن زید الهاشمي، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء النبي صلی الله علیه و آله وبناته، وكانت تبيع منهن العطر، فجاء النبي صلی الله علیه و آله و هي عندهن فقال صلی الله علیه و آله : إذا أتيتنا طابت بيوتنا؟ فقالت : بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله ، قال صلی الله علیه و آله : فإذا بعت فأحسني ولا تغشي فإنه أتقى وأبقى للمال، فقالت : يا رسول الله ، ما أتيت بشيء في بيعي، وأتيت أن أسألك عن عظمة الله عز وجل، قال صلی الله علیه و آله : سأحدثك عن بعض ذلك - إلى أن قال صلی الله علیه و آله -: وهذه السبع، والبحر المكفوف، وجبال البرد، والهواء، عند حجب النور کحلقة في فلاة في وهذه السبع، والبحر المكفوف وجبال البرد والهواء، وحجب النور عند الكرسي کحلقة في فلاة قي، ثم تلا هذه الآية : «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» . وهذه السبع والبحر المكفوف، وجبال البرد، والهواء، وحجب النور، والكرسي عند العرش كحلقة في فلاة قي، وتلا هذه الآية : «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» ».

أقول: القيّ - بالكسر - هي الأرض القفر الخالية . وحقيقة مثل

ص: 198

هذه الأحاديث لا يعرفها إلا من عبر تلك المحال المقدسة، وهو مختص بسيد الأنبياء صلی الله علیه و آله ، ويمكن أن يراد بالكرسي والعرش، الجسماني منهما . كما تقدم - والله تبارك وتعالی محیط على الجسم والجسمانيات والروح و الروحانيات .

في التوحيد : عن حنان قال : «سألت أبا عبد الله علیه السلام عن العرش والكرسي؟ فقال علیه السلام : إن للعرش صفات كثيرة مختلفة، له في كل سبب وضع في القرآن صفة على حدة ، فقوله تعالى: «رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» ، یقول : رب الملک احتوی ، وقوله : «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» يقول : على الملّك احتوى، وهذا علم الكيفونية في الأنبياء ، ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي، لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، وهما جميعاً غيبان، وهما في الغيب مقرونان، لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع، ومنه الأشياء كلها، والعرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف والكون، والقدر، والحد، والأين، والمشية، وصفة الإرادة، وعلم الألفاظ، والحركات والترك، وعلم العدد، والبداء . فهما في العلم بابان مقرونان، لأن ملك العرش سوى ملك الكرسي، وعلمه أغيب من علم الكرسي، فمن ذلك قال : «رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» أي صفته جار الكرسي، قال علیه السلام : إنه صار جارها لأن علم الكيفونية فيه، وفيه الظاهر من أبواب البداء ، وإنيتها وحد رتقها وفتقها، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف، وبمثل صرف العلماء، وليستدلوا على صدق دعواهما، لأنه يختص برحمته من يشاء وهو القوي العزيز».

ص: 199

أقول: أما قوله علیه السلام : «إن للعرش صفات كثيرة مختلفة» مطابق

اللواقع والحقيقة، لأن كلما عظم الشيء کثرت صفاته، والعرش والكرسي أعظم المخلوقات، فتكون لهما صفات كثيرة، وقد يجتمعان في بعضها وقد يختلفان. وهذه الفقرة تدل على ما ذكرناه آنفا من انقسامهما إلى قسمين، روحانی و جسماني.

والمراد من قوله علیه السلام : «في كل سبب وضع في القرآن»، أي : لكل سبب اصطلاح خاص في القرآن.

والمراد من قوله علیه السلام : «وهذا علم الكيفوفة» أي: العلم بالمخلوق من حيث الكيفية، لأن العرش والكرسي مخلوقان له تعالى، فيجري فيهما الكيفية وسائر الجهات المخلوقة، وإن لم تجر الكيفية بالنسبة إلى الباري عز وجل، لقولهم علیهم السلام : « و هو الذي كيف الكيف، فلا كيف له».

و المراد من قوله علیه السلام : «ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي» ، أي: من حيث ملاحظة العرش مع الكرسي، فهما شيئان مختلفان، لأنهما بابان من أبواب الغيب، وإن كان يجتمعان في كونهما من الغيب، وهذه صفة كل جنس له نوعان مختلفان، وأما كونهما بابين من أبواب الغيب، فلفرض احتوائهما على جميع ما سوى الله عز وجل، ولا يمكن أن يحيط بذلك غيره تعالى، و الحاوي و المحتوي غيبان محجوبان عن البصائر فضلاً عن الأبصار.

والمراد من الظهور في قوله علیه السلام : «لأن الكرسي هو الباب

ص: 200

الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع»، النسبي منه، أي بالنسبة إلى العرش، فيكون العرش بمنزلة الباب الداخل والكرسي بمنزلة الباب الخارج، والكرسي مطلع الموجودات الإبداعية التي خلقها الله تعالی.

ويمكن أن يراد بباب الغيب، أي ما فوقهما لا ما فيهما، وما فوقهما هو غيب الغيوب الذي هو سرّ محجوب .

والمراد من قوله علیه السلام : «العرش هو الباب الباطن»، العرش الروحاني العلمي، لفرض أنه علیه السلام حدّد المعلومات بالنسبة إليه، و منه يكون البداء كما ذكره علیه السلام من جملة العلوم، وكذا علم العدد، فإنه من أهم العلوم الغيبية، وكل ذلك منطو في قوله علیه السلام : «العرش هو الباب الداخل، والكرسي هو الباب الخارج»، فيكون تفصيلاً لذلك الإجمال .

والمراد من قوله علیه السلام : «وبمثل صرف العلماء»، يعني أن علومهم تنتهي إلى هذا الباب الخارج، مؤيدة من الله تبارك وتعالى .

ما ورد في تفسير مفردات آية الكرسي

في تفسير القمي: عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في قوله تعالی : «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ»، قال: «ما بين أيديهم فأمور الأنبياء وما كان، وما خلفهم ما لم يكن بعد إلا بما شاء، أي بما يوحی إليهم».

أقول: هذا تفسير الكلي ببعض مصادیق العلم، وإلا فإن علمه

ص: 201

تعالی عین ذاته ، فهو إحاطي بجميع ما سواه، ويمكن أن يجعل ذلك أيضا من التعميم، فإن جميع العلوم لا تخرج عما يوحي إلى أنبيائه ، وعما يكون في الممکنات.

وفي تفسير العياشي: عن معاوية بن عمار، عن الصادق علیه السلام قلت :مضن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ، قال علیه السلام : نحن أولئك الشافعون»، ورواه البرقي في المحاسن أيضا .

أقول: هذا من باب التطبيق .

في معاني الأخبار : عن محمد بن سنان، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام قال : «سألته هل كان الله عز وجل عارفاً بنفسه قبل أن يخلق الخلق؟ قال علیه السلام : نعم. قلت: يراها ويسمعها؟ قال علیه السلام : ما كان محتاجاً إلى ذلك، لأنه لم يكن يسألها ولا يطلب منها هو نفسه ونفسه هو، قدرته نافذة ، فليس يحتاج إلى أن يسمي نفسه ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها، لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف، فأول ما اختار لنفسه العلي العظيم، لأنها أعلى الأشياء كلها. فمعناه الله واسمه العلي العظيم. وهذا أول أسمائه، لأنه على كلِّ شيءٍ قدير».

أقول: المراد من هذا العرفان هو الوجدان بالذات، أي يجد نفسه بنفسه و يكون حاضراً لدى نفسه، وهذا يجري في غيره تعالى أيضا، لأن الإنسان يعرف وجود نفسه .

وأما قوله علیه السلام : «اختار لنفسه أسماء»، لعلمه الأزلي باحتياج خلقه إليه ودعاء عباده له، فجعل تلك الأسماء وسيلة لهم.

ص: 202

قال تعالى : «اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ».

تقدم بعض الكلام فيه في تفسير آية الكرسي (200 من سورة البقرة)، ونزيد هنا : الله اسم للذات المستجمعة لجميع الكمالات الواقعية والإدراكية، والمسلوب عنها جميع النقائص كذلك، ونفس تصور هذا المعنى بما ذكرناه في فرض العقل يغني عن إثبات صفات جماله وجلاله ومعبوديته المطلقة، وخضوع ما سواه له، ولا نحتاج إلى إقامة دليل آخر على ذلك، فالهوية المطلقة في الكمال المطلق مجردة عن كل قيد وإضافة ، منحصرة فيه عز وجل، وقد روي أن عليا علیه السلام قال : «یا من هو، يا من ليس هو إلا هو»، وعرض ذلك على سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله فقال لعلي: «علمت الاسم الأعظم»، نعم هو اسم أعظم لمن انقطع إليه تعالي كمال الانقطاع فتجلى له حينئذ حقيقة أنه ليس هو إلا هو.

والحي القيوم بالمعنى الحقيقي لا يمكن للعقول المحدودة الإحاطة بهما، لأنهما عين الذات المقدسة، والعقول قاصرة من وصول تلك الساحة العظمى، بل الحياة في ما سواه عز وجل من المجردات ، وغيرها تكون شارقة جزئية من شوارق تلك الحياة .

كما أن المراد بالقيومية فيه عز وجل مديريته ومدبريته وتربيته العظمى لجميع عوالم الممکنات، قیومية حياة تستلزم العلم والقدرة والهيمنة و الإحاطة، لا أن تكون قيومية فاقدة للشعور والحياة، كما في الأسباب الطبيعية التكوينية .

ص: 203

فيكون لفظ القيوم بهذا المعنى من الأسماء الخاصة به تعالی کلفظ (الله)، و لكن لو لوحظ فيه مبدأ الاشتقاق، وهو مطلق القيام بالشيء وعلى الشيء، ومطلق القيومية يكون من الوضع العام والموضوع له العام بحسب أصل المعنى، ولكن بحسب الإطلاق منحصر فيه عز وجل.

هذا إذا لم يحصل مثل هذه الألفاظ علماً له عز وجل وإلا فيسقط أصل البحث، ولعل أحد أسرار توقيفية أسمائه المقدسة عدم تدخل الجهات اللغوية والأدبية المتعارفة فيها، لتكون بنفسها مرجعاً و أصلاً يرجع إليها، لا أن يرجع فيها إلى غيرها .

ويصح أن يراد من القيوم مقوم وجود كل موجود حدوثاً و بقاءً .

كما يصحّ أن يراد به مقوم حياة كلّ ذي حياة، حيوانية كانت أو نباتية .

ويصح أن يراد به قيوم كمال كل ذي كمال .

والحق هو الأخير وسائر المعاني منطوية فيه ، ولذا عقبه سبحانه وتعالى بقوله: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ*هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» لأن ذلك من شؤون حياته وقيوميته المطلقة .

والحي والقيوم من أعظم الأسماء الحسنی. و الأول من أسماء الذات ، بل الثاني أيضاً إن رجع إلى الحكمة

ص: 204

التامة التدبيرية والقدرة الجامعة التامة، كما يصح أن يكون برزخاً بين اسم الذات واسم الفعل باختلاف الجهة .

وإنما ذكرهما سبحانه هنا وفي آية الكرسي (255 من سورة البقرة)، لأنهما دون لفظ (الله) و فوق باقي أسمائه المباركة إلا الاسم الأعظم، بناء على كونه من مقولة اللفظ كما يظهر من بعض الروايات ، ويصح أن يكونا من بعض أجزائه التي من علم خصوصيات التركيب يؤثر الأثر المطلوب.

ويمكن أن يستدل بهذه الآية الشريفة على وحدة المعبود، بأن يقال إنه لا بد أن يكون حيا قيوما، والحي القيوم منحصر في واحد عقلاً ونقلاً ، فالمعبود منحصر بواحد كذلك.

وافتتاح هذه السورة بهذه الجملة المباركة الجامعة لجميع صفات الجلال و الجمال يدلّ على كمال الاعتناء بها، و حقّ لها أن تكون سورة الاصطفاء.

وفيها التعليل لما ورد في الآية التالية، أي الله الذي هو واحد في ألوهيته وذو الحياة الكاملة، والقائم على تدبير خلقه بأحسن نظام وأتم حكمة، لقادر على أن ينزل الكتاب الفارق بين الحق والباطل، ولا يخفى عليه أمر مخلوقاته، فمن آمن بما أنزل على رسله فقد فاز، ومن كفر فقد خاب وسيجزيه الله ، أنه عزیز ذو انتقام.

قوله تعالى : «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ»

المراد بالكتاب القرآن الكريم، والباء في (بالحق) إما في موضع

ص: 205

الحال ، أو للمصاحبة ، أي : حال كونه بالحق أو مصاحباً له لا يفارقه، ولا تعتريه شبهة، ولا يطرأ عليه الباطل في جميع شؤونه .

ومصدقاً حال آخر، أي : حال كونه معترفاً بصدق ما بين يديه و مبيناً له.

والمراد بما بين يديه : ما تقدم من الكتب الإلهية، وهي التوراة و الإنجيل وغيرهما.

والتنزيل : هو النزول، وقد تقدم في قوله تعالى: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (سورة البقرة، الآية 185)، كيفية نزول القرآن، والفرق بين النزول و الإنزال الذي يدل على الدفعة.

والآية تدل على صحة نسبة الكتب الإلهية المتقدمة إلى الوحي الإلهي، و صدق بعض الحقائق التي ورد فيها، وتدل على ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ »(سورة المائدة، الآية 44)، وقال تعالى: «وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ»(سورة المائدة، الآية 46)، وقال تعالى : «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ» (سورة المائدة ، الآية 48)، وقال جل شأنه: «وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ

ص: 206

دَارَ الْفَاسِقِينَ» (سورة الأعراف، الآية 145)، و يستفاد من هذه الآية الشريفة كثرة عناية الله تعالى بالتوراة، لأن جميع الكتب السماوية - بما فيها القرآن الكريم - تشترك في أصول المعارف الإلهية التي منها الدعوة إلى المبدأ جل جلاله وتوحيده ونفي الأضداد والأنداد، ومنها المعاد والعدل الإلهي، والترغيب إلى رحمة الرحمن والتحذير من الشيطان وعداوته للإنسان، ومن عذاب الله تعالى، كما تذكر قصص الأنبياء وما الاقوه من الظالمين في جنب الله ونصرة الله لهم، وتبين قصة ابتلاء آدم علیه السلام وإخراجه من الجنة .

كما أنها تشترك في بيان مكارم الأخلاق وما يرتفع به الإنسان إلى أعلى الجنان وما ينزله إلى حضيض الحيوان، وتشترك في بيان المستقلات العقلية، كحسن الإحسان وقبح الظلم، وبيان جملة من التكوينيات والطبيعيات.

إلا أنها تختلف في بعض الفروع العملية الذي يقتضيه السير التكاملي الإنساني الذي تنوط به المصالح التشريعية، وهذه كلها أصول نظام التشريع التي لا بد وأن تجمعها جميع كتب السماء.

وبعبارة أخرى : أن الوحي السماوي بالنسبة إلى أنبياء الله تعالی واحد بوجود نوعي، والتوراة والإنجيل والقرآن من أفراد ذلك النوع، كما أن الإنسان واحد نوعي له أفراد كثيرون، فيصحّ لنا تأسيس قاعدة كليّة وهي الاتحاد في الكتب السماوية، ولكن القرآن مظهر لجميعها، فما كان منها موافقاً للقرآن يكون صحيحاً و معتبراً ، وما كان مخالفاً له

ص: 207

يرّد علمه إلى أهله، إلا إذا ثبت بدلیل معتبر جهة المخالفة، والأدلة القطعية التي أقاموها على نسخ القرآن هو إنما يكون بالنسبة إلى الجهات المخالفة، لا المساواة والموافقة التي هي مقتضى الأصل والقاعدة فيها .

والآية الشريف وإن دلت على صحة نسبة التوراة والإنجيل إلى الله تعالى، ولا بد أن تكون في الجملة، لا على نحو الكلية والمجموع، الدلالة آيات أخرى على وقوع التحريف فيهما، قال تعالى : «فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» (سورة المائدة، الآية 13)، وقال تعالى«يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ »(سورة المائدة ، الآية 15).

قوله تعالى: «وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ*مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ»

التوراة لفظ عبراني ومعناها الشريعة، وتطلق على العهد القديم المتكون من أسفار موسى الخمسة، التي يسميها بالناموس، وهي: سفر التكوين، وسفر التثنية، وسفر الخروج وسفر اللاويين أو الأحبار، وسفر العدد. وقد وقع الخلاف بين المؤرخين في صحة نسبة التوراة الموجودة بين أيدينا إلى موسى عليه السلام ، ولا يزال كثير من اللاهوتيين يشكون في صحة النسبة ويرون أنها كتبت بعد عصر موسى عليه السلام ، وإن كان القول بأن جميع تلك الأسفار ليست من الوحي لا يخلو من غلو و إفراط في القول، فإن فيها ما يكون منسوبة إلى موسى علیه السلام ، كما

ص: 208

تشهد له الأدلة الكثيرة إلا أن المراد من التوراة في القرآن هي الحقيقية المنزلة على موسى عليه السلام بوحي من الله تعالى، كما تدل عليه الآيات الكثيرة، قال تعالى :«إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ» (سورة المائدة ، الآية 44)، وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثمانية عشر مورداً مقرونة بالتجليل والتعظيم.

واختلف الأدباء في اشتقاقها، ونحن في غنى عن ذلك بعد کونها غير عربية الأصل.

والإنجيل كلمة يونانية ومعناها (الجلوان)، أي ما يعطى لمن يبشر بالشيء، أو البشرى بالخلاص، وتطلق عند المسيحيين على الأناجيل الأربعة، وهي إنجيل لوقا، وإنجيل مرقس، وإنجيل متى، وإنجيل يوحنا، والعهد الجديد يطلق على هذه الأناجيل الأربعة المتكونة من سبعة وعشرين سفراً ، تتضمن سيرة المسيح وتعاليمه وأعمال الرسل (الحواريين) ورؤيا يوحنا اللاهوتي، وقد اختلفوا في تأریخ کتابتها.

ولكن الإنجيل في القرآن الكريم هو الكتاب المنزل من الله تعالی على عيسی علیه السلام الموصوف بأنه كتاب واحد حقيقي مشتمل على النور والهداية، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في ما يقرب من اثني عشر مورداً.

وقد اختلف العلماء في اشتقاق هذه الكلمة على وجوه، ولكن كونها غير عربية الأصل يكفينا عن الخوض في ذكرها.

ويستفاد من مجموع الآيات التي وردت هذه الكلمة فيها أن

ص: 209

الإنجيل كتاب واحد حقيقي وليس هو متعدداً كما يدعيه المسيحيون، وأنه لم يؤمن من السقط والتحريف کالتوارة، ويرشد إلى ذلك إفراد الاسم والتوصیف بأنه هدى للناس، وسيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في ذلك إن شاء الله تعالی.

وإنما ذكرهما سبحانه في أول السورة توطئة لما سيذكره من قصصهم وما يتعلق بولادة عيسى علیه السلام .

ومن سياق الآية المباركة يستفاد أن التوراة والإنجيل نزلتا جملة واحدة، بخلاف القرآن فإنه نزل تدريجية، حيث عبر تعالى :«نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ» ، وقال تعالى: «وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ» ، كما مرّ سابقاً.

إن قيل: ورد نفس التعبير في قوله تعالى : «وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ» ، فيدل على نزول القرآن جمعاً و دفعة ، فيتحقق التنافي بين الآيتين.

قلنا: لو كان النزول والتنزیل مرة واحدة حقيقة فالإشكال وارد، ولكن للقرآن نزولات متعددة كما تقدم سابقا في قوله تعالى : «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ»(سورة البقرة، الآية 185)، فمرّة نزل نجوماً ومراراً نزل دفعة ، وإنما ذكره هنا تجليلاً وتعظيماً لمقام القرآن بالنسبة إلى سائر الكتب السماوية.

قوله تعالى: «وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ».

الفرقان: ما يفرق بين الحق والباطل، وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم كثيراً ، وجميعها تدل على تلك المعارف الإلهية والأصول الحقة النظامية، التي تبيّن وظيفة العبد وما هو مطلوب في

ص: 210

مقام العبودية وإقامة العدل والحق، فيشمل الكتب الإلهية وأنبياء الله تعالى والأحكام الإلهية التي تعين وظائف العبد، كما يشمل العقل وكل أمر محكم، ويدل على ذلك آیات متعددة، منها قوله تعالى: «وَ مَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ » (سورة الأنفال، الآية 41) ، وقال تعالى : «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ» (سورة الأنبياء ، الآية 48)، وقال تعالى:«تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا» (سورة الفرقان، الآية 1).

والمراد به هنا القرآن الكريم، فهو باعتبار وجوده الجمعي يسمى قرآن، و باعتبار تفرقته بين الحق والباطل يسمى فرقاناً، وباعتبار إرشاداته يكون نوراً ، وباعتبار کونه أساساً للعمل والحكم بالعدل يسمى میزاناً ، وتختلف أسماؤه الشريفة باختلاف صفاته المباركة.

وقيل : المراد بالفرقان : العقل، وقيل : الدلالة الفاصلة بين الحق والباطل، وقيل : النصر، وقيل : الحجة القاطعة للرسول صلی الله علیه و آله على من حاجه في أمر عيسى علیه السلام . وفي بعض الروايات : «الفرقان هو كل أمر محكم، والكتاب هو جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء»، ويظهر وجه جميع ذلك مما ذكرناه آنفاً .

قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ»

أي : إن الذين كفروا بآيات الله وجحدوا بها لهم عذاب شدید، وذلك لأن الكفر بآيات الله حرمان عن منبع النور والهداية والسعادة ، مع أن النفس مستعدة لجميع ذلك ولها قابلية إبراز كل كمال من

ص: 211

الكمالات الممكنة إلى الظهور، فيكون نفس هذا الحرمان عذاباً لما يتبعه من الندامة والشقاوة ، فلا يختص العذاب بالآخرة، وهو ظاهر إطلاق الآية الشريفة التي توعد الكافرين بآيات الله بالعذاب في الدنيا والآخرة، و هذا من الحقائق القرآنية التي تؤكدها جملة من الآيات الشريفة، فتعد حرمان النفس عن الكمالات التي أعدها الله تعالى لها من العذاب، ويعد المعرض عنها شقياً قد سلب السعادة عن نفسه، فكل ما يكون سبباً لسعادة الإنسان إذا كفر به يكون عذاباً وشقاءً له، فتكون السعادة والشقاوة في نظر القرآن بسعادة الروح وشقاوتها، وأما سعادة الجسم والبدن فهي أن أوجبت سعادة الروح فهي السعادة العظمی والكمال الأتم، وإلا كانت شقاء وعذابة، قال تعالى : «مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ»(سورة آل عمران، الآية 197)، فالعذاب الإلهي إنما يكون بالنسبة إلى الروح والجسم، ولكن المهم هو الأول . وهذا بخلاف ما يراه الإنسان الذي لم يعبأ بما وراء المادة ولم يتخلق بأخلاق الله تعالى في السعادة والشقاء، فإنه يعتبر ما يكون سبباً للاستمتاع المادية - كالمال والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة - سعادة، وما يكون بخلاف ذلك شقاءً وعذاباً ، و هذا مخالف لما عليه الواقع الإنساني المؤلف من البدن والروح، والكتب الإلهية إنما نزلت لتهذيب الروح وإسعادها ورفع شقائها، لا خصوص سعادة الجسم فقط، وللبحث تتمة تأتي في الموضع المناسب.

قوله تعالى : «وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ» .

مادة (نقم) تدل على براءة الكراهة، سواء كانت باللسان أم

ص: 212

بالعقوبة، وهي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم، ولا تدل المادة بشيء من الدلالات على أن يكون الانتقال للتشفي، كما هو الدائر في انتقام الإنسان، فإن الله تعالى أعز جانباً و أبعد ساحة من أن ينتفع أو يتضرر بشيء من أعمال عباده . و لكن منشأ الانتقام يكون فيهم (أي المنتقم منهم)، ويقوم بهم قيام الصورة بالمادة، وبينهما تلازم، ولا يعقل انفکاکهما إلا في فرض الوهم.

والمعنى: أن الله قوي شديد نافذ في إرادته، منبع الجانب لا يرضى بأن تهتك محارمه، ينتقم ممّن خالفها وأعرض عنها .

وما ورد في هذه الآية الشريفة معلول آخر للحياة الحقيقية - من كلّ جهة . والقيومية المطلقة، ولا معنى لهما إلا إيصال كل ممکن إلى ما يليق به، بعد بسط العدل والإحسان والرحمة والعفو والغفران .

قوله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ» .

معلول آخر للحياة الحقيقية والقيومية المطلقة، فإن وحدة الحي القيوم تستلزم الإحاطة المطلقة، وأن لا يخفى عليه شيء مما سواه، وإلا كان خلفاً و لا يعقل غفلة العلة - العليم الحكيم - عن معلوله .

ويصحّ أن يكون ما ورد في هذه الآية الشريفة كالعلة، أي : لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو الحي القيوم .

وإنما قدّم تعالى الأرض على السماء لقربها إلى أذهان المخاطبين وأنسهم بها، وإرشادهم إلى أن أرضهم - التي يفعلون فيها ما يفعلون - تحت إحاطته الفعلية .

ص: 213

ويستفاد من هذه الآية الكريمة أن معنى العلم فيه تبارك وتعالی يرجع إلى أمر سلبي، أي: لا يخفى عليه شيء لقصور العقول عن درك علمه بالمعنى الإثباتي، لقصورها عن درك ذاته، ويدل على ذلك أخبار كثيرة.

كما تدل الآية المباركة أيضا على العلم التفصيلي الفعلي الإحاطي الله تعالى، وتدل عليه آيات أخرى، منها قوله تعالى : «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»(سورة الحجر، الآية 21)، وقال تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» (سورة الأنعام، الآية 59).

كما تدل الآية المباركة أيضا على العلم التفصيلي الفعلي الإحاطي الله تعالى، وتدل عليه آيات أخرى، منها قوله تعالى : و«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» (سورة الحجر، الآية 21)، وقال تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ» (سورة الأنعام، الآية 59).

قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ»

الصورة تطلق .. تارة على الهيئة الخاصة، وبهذا المعنى يصح أن تكون من الأعراض، كالصور المنصورة في الأذهان، أو ما ينتقش على الجدران أو ما ترتسم في المرآة أو في كل جسم شفاف له قابلية

ص: 214

المحاكاة . وفي العصر الحديث اتسعت دائرتها، وهي بهذا المعنى تعم ما يكون له ظل كالتمثال أو ما لا ظل له .

وتطلق أخرى في مقابل المادة، فتكون جوهراً من مقومات الجواهر المركبة من المادة والصورة، ويعبّر في الفلسفة عن المادة بالجنس باعتبار الوجود الذهني، وعن الصورة بالفصل كذلك أيضاً ، وإلا فالحقيقة واحدة والتصوير إلقاء الصورة.

والرحم في الحيوان هو العضو الذي يتكون فيه الجنين إلى حين الولادة ومحل تربية الطفل. واستعير للقرابة باعتبار انتهاء أفرادها إلى رحم واحد. ويتضمن معنى الرأفة والإحسان أيضا، وبهذا المعنى يطلق على الله تعالى، فهو الرحمن الرحیم. وفي الحديث عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «لما خلق الله الرحم قال تعالى : أنا الرحمن وأنت الرحم، شفقت اسمك من اسمي، فمن وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته»، ومنه يظهر معنى الحديث الآخر : «الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني»، ومخاطبة الرحم الله تعالی ليست ببعيدة، فإن الأشياء كلها - بحقائقها الواقعية - مرتبطة مع الله عز وجل، يخاطبها الله تعالى وتخاطبه ، ولكنها مستورة إلا على أهل البصيرة والبصائر .

وإنما خصّ سبحانه وتعالى تقدير الإنسان وتصويره بالذكر مع أنه له التقدير العام في جميع المخلوقات، لكمال العناية بالإنسان، الذي هو أعز خلقه و أشرفه، فقد ذكر تعالی تصوير الإنسان في آيات أخرى،

ص: 215

قال تعالى: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» (سورة التغابن، الآية 3)، وقال تعالى : «فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ» (سورة الانفطار، الآية 8)، ولبيان كيفية خلق عيسى عليه السلام الوارد في هذه السورة والتعريض بالنصارى في ما يقولونه فيه علیه السلام .

وقد أبدع سبحانه وتعالى في تصوير الإنسان، مما يدل على بديع صنعه و حكمته البالغة وعلمه الأتم، و اعتني بجميع تفاصيله اعتناءً بليغاً ، وأودع فيه من الحكم والأسرار وفق قوانین منظمة تعجز عقول البشر عن الوصول إلى كنهها ومعرفة دقائقها مهما بلغوا في العلم والمعرفة، فقد كشف العلم الحديث عن بعض جوانب تلك الأسرار والحكم مما يبهر العقول ويجل عن الوصف، فحقيق لله تعالى أن يقول في خلق الإنسان : «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(سورة المؤمنون، الآية 14)، ويكفي جانب من تلك الجوانب وجهة من جهاته أن تكون حجة على العباد، وعن علي عليه السلام : «الصورة الإنسانية أكبر حجة الله على خلقه ، وهي الجسر الممدود بين الجنة والنار».

وأما ما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «أن الله خلق آدم على صورته»، فإن المراد صورة مخلوقة اختارها الله تعالی لنفسه، وجعلها حجة على عبادة وسخّر لها ما في السموات والأرض، وليس المراد صورة الله تعالى، لأنه يستحيل أن تكون الله صورة كما ثبت ذلك في الفلسفة العلمية، ويدل على ما ذكرناه ما ورد في الحديث يشرح هذه الرواية، وهو أنه : « سب رجل شخصاً بحضور النبي صلی الله علیه و آله فقال :

ص: 216

قبحك الله وقبح من على صورتك، فقال له النبي صلی الله علیه و آله : لا تقل هكذا، فإن الله خلق آدم على صورته»، أي على صورة الرجل المسبوب ، فيكون سبه سبا لآدم علیه السلام وسائر الأنبياء أيضا.

قوله تعالی : «كَيْفَ يَشَاءُ»

لفظ (كيف) يستعمل في ما فيه شبيه وما لم یکن له شبيه ، کالأبيض و الأسود والصحيح والسقيم ونحوها.

و (کیف) من إحدى المقولات التسع العرضية المعروفة في الفلسفة القديمة و الحديثة، ويدخل فيه الاشتداد والتضعف لاتصافه بالحركة ، كما أن في الشدّة والضعف بذاتها.

وهو من ألفاظ العموم ، ولا يطلق عليه تعالى لنقومه بالغير كما في غيره، وفي الحديث: «هو الذي كيف الكيف ولا كيف له» ، وإلى ذلك تشير القاعدة التي أسسها أئمة الدين علیهم السلام في المعارف الربوبية : «كل ما يوجد في المخلوق لا يوجد في الخالق» ، وقصارى ما يكن القول فيه عز وجل هو: إنه تعالى شيء لا كالأشياء وذات لا كالذوات، حتى لا يلزم التعطيل.

وإطلاق الكيف في المقام باعتبار المخاطبة مع الناس والإنسان المخلوق و أطواره في الأرحام، لا بالنسبة إلى الملك العلام.

ومادة (شيء) تأتي بمعنى المشيء وجوده، فكلّ موجود شيء وبالعكس ، ولا يطلق على العدم، وقد أثبت الفلاسفة مساوقة الوجود للشيئية، وقال بعض أكابرهم:

ص: 217

ما ليس موجوداً یکون لیسا*قدساوق الشيء لدينا أيسا

ولا يطلق بهذا المعنى على الله عز وجل، وتقدم في الحديث : «إنه شيء لا کالأشياء».

والمشيئة بالمعنى الوصفي تكون من صفات الفعل: والفرق بنيها وبين الإرادة بالكلية والجزئية، أو الحدوث والبقاء، فالحدوث يسمى مشيئة، و البقاء و الإبقاء إرادة .

بيان ذلك أن كلّ فعل اختیاری صادر من الفاعل المختار لا بد وأن يسبقه أمور لا يمكن تخلف واحد منها، كما هو الثابت بالوجدان والبرهان، وهذه الأمور تسمى بأسباب الفعل»، وهي:

الأول: هو العلم و لو على نحو الإجمال، وفي الجملة لئلا يكون من طلب المجهول المطلق الذي هو قبيح من العاقل، بل هو محال في نفسه، لأن توجه النفس إلى شيء لا يتحقق إلا بتعين ذلك الشيء في الجملة .

الثاني: المشيئة بمعنی توجه النفس إلى طلبه إجمالاً.

الثالث : التقدير، وهو التفات النفس إلى خصوصياته كماً وكيفاً و من سائر الجهات .

الرابع : القضاء، أي : حكم النفس بإيجاده خارجاً .

الخامس: إبرام هذا القضاء، أي الاستقامة فيه وجعله بحيث لا يتخلف .

ص: 218

السادس: الإرادة الموجودة للفعل .

وهذه كلها موجودة في كل فعل اختباري يحصل من الفاعل المختار، ولو كان هو الله تعالى الخالق القهار .

نعم، في الإنسان واقعها موجودة في النفس ومرتكزة فيها إجمالاً وإن لم يعلم بها تفصيلاً ، ولا يضر ذلك، لأنها بوجودها الواقعي مقتضية لحصول الفعل لا بوجودها العلمي التفصيلي الفعلي.

وأما بالنسبة إلى الله تعالی فمن حيث إحاطته الوجودية فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة، فإن جميع تلك الأمور موجودة ومعلومة له تعالی تفصيلا، فهو عالم بجميع أطوار وجود الفعل وشؤونه، بل عالم بما سواه كلية وجزئية قبل الإيجاد وبعده وجميع مراتب التغيرات والتبدلات، وكذلك هو عالم بقدره وقضائه وإمضائه وإبرامه وإرادته - التي هي عين فعله الأقدس - علماً تفصيلياً إحاطياً.

ويمكن تقليل ما ذكرناه من الأسباب بإدخال بعضها في البعض، ويمكن تکثيرها بتفصيل بعضها إلى أمور، ولذا اختلفت الأحاديث الشريفة الواردة في أسباب الفعل قلة وكثرة.

وكيف كان، فقد وقع الكلام في أن هذه الأسباب من صفات الفاعل أو من صفات الفعل. أما في الإنسان فيصح أن تعد من صفات الفاعل، كما يصح أن تعد من صفات الفعل، ولا محذور فيه من عقل أو نقل، فيقال : فاعل مريد، وفعل مراد، وفاعل مقدر (بالكسر). وفعل مقدر (بالفتح)، خصوصاً في العلم الذي لا إشكال فيه من أحد

ص: 219

أنه من صفات الفاعل في الخالق والمخلوق، وكذا القدر والقضاء والإبرام، إما باعتبار منشئهما وهو العلم الإحاطي الأكمل والحكمة البالغة، أو باعتبار إضافتهما إلى الممكن المخلوق، فلا ريب في كونهما من صفات الفعل.

وأما بالنسبة إليه تعالى، فما كانت مستلزمة للتغيير والتبدّل فمن صفات الفعل، وما لم تكن كذلك فمن صفات الذات .

وأصل الإشكال الذي ذكروه في عدم إمكان جعل المشيئة و الإرادة من صفات الذات، أن الإرادة علة تامة منحصرة لحصول المراد، فإن كانت في مرتبة الذات فيلزم إما تعدد القدماء، أو كون الذات المقدسة محلا للحوادث، وكل منهما مستحيل. وقد أثبتوا امتناع كل ذلك بالبراهين المتقنة .

ولكن يمكن الجواب عن ذلك ...

أولا: بأن علية الإرادة لحصول المراد إنما تكون في الفاعل الموجب (بالفتح) - أي الفاعل غير المختار - دون الفاعل العالم المختار، الذي تكون الإرادة فيه من المقتضيات، كسائر أسباب الفعل فلا يلزم محذور فيه أبداً ، خصوصاً في الإرادة الأزلية، فالاختيار في الفعل والترك، والقدرة القارية باقية قبل الإرادة وحينها وبعدها، وحين حصول الفعل أيضا، ولعل إحدى مصالح جعل البداء لله جل جلاله ترجع إلى ذلك، حيث قال تعالى: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ » (سورة الرعد، الآية 39).

ص: 220

وثانياً: أنه على فرض كون الإرادة علة تامة لحصول المراد، ولكن العلية لا تكون على نحو الجزاف، بل هي على نحو منظم بالنظام الأحسن الأكمل الأثم، فإذا أراد جلت عظمته خلق آدم وهبوطه، أو طوفان نوح، وبعثة نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله ، وقيام الساعة ، وجزاء أهل الجنة والنار، بل جميع العوالم الطولية والعرضية ، يكون مورد إرادته الكاملة وفق النظام الأحسن الأكمل، وإلا يكون من تخلف المراد عن الإرادة، وهو محال .

وثالثاً: أن الإرادة إن كانت علة تامة لحصول المراد، فإنما هو بالنسبة إلى حصول المراد بالأصل لا المراد بالعرض. والمراد بالأصل فيه عز وجل يرجع إلى ابتهاج ذاته بذاته في ذاته ، بلا محذور في البين، كما قالوا ذلك في علمه الأزلي بما سواه، وسمعه، وبصره. وفي الحديث: «عالم إذ لا معلوم، وسامع إذ لا مسموع، وبصير إذ لا مبصره».

وبعبارة أخرى: تكون الإرادة التكوينية من هذه الجهة، كالإرادة التشريعية، فإذا أراد الله تعالى الصلاة - مثلاً - من عباده، أرادها وفق نظام خاص، بحيث يكون أولها تكبيرة وآخرها تسليمة ، مع تخلل القيام والركوع والسجود والأذكار في البين، فإرادته انبساطية على جميع ذلك، كما أن إرادته الأزلية التكوينية تكون كذلك.

قد يقال : «إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » (سورة آل عمران، الآية 47).

ص: 221

ويمكن الجواب عنه : بأن مرتبة الأمر التكويني غير مرتبة الإرادة ، كما هو ظاهر الآية الكريمة . هذا كله بحسب القواعد العقلية .

وأما بحسب ظواهر النصوص التي تدل على جعل الإرادة و المشيئة من صفات الفعل لا الذات، فلا بد من إتباعها، ولا محيص عما ورد فيها. هذا إجمال ما يتعلق بموضوع القضاء والقدر، اللذين هما من أسباب الفعل في كل فاعل مختار .

وأما أسرار القضاء والقدر في فعل الله جل جلاله، فقد حيرته الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين . وفي الحديث عن علي عليه السلام : « بحر عميق فلا تلجه، وطريق مظلم فلا تسلكه، وأنه سر الله فلا تتكلفه»، وسيأتي في الموضع المناسب تتمة الكلام إن شاء الله تعالی .

وتعليق التصوير على المشيئة الإلهية إنما هو لأجل تعميم التصوير ليشمل جميع أقسامه في أصل الخلق والصفات والكيفيات الأخلاقية والطبيعية، والإرشاد إلى عدم إحاطة الأفهام والعقول، كما لا يكمن الإحاطة بالمشيئة الإلهية .

والمشيئة في قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ» ، مشيئة تقدير وإرادة مشيئة حتم، وهو يرشد إلى اختلاف الحالات والعوارض واللوازم الواردة على النطف في الأرحام، فإن جميع تلك الأمور - سواء كانت من لوازم الوجود أم من لوازم الماهية، التي هي مجعولة بالعرض - تكون تحت القدرة الإلهية، بل تشمل جميع التقديرات الحاصلة للإنسان كالعزّة والذلة والسعادة والشقاوة والإيمان

ص: 222

والكفر والعذاب ونحو ذلك، فإن جميعها يكون في الرحم على نحو الاقتضاء والمشية، كما يظهر من الأخبار، منها قول نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه» ، ولا بأس بتسمية جميع ذلك بالصورة بمعناها الأعم.

ومن ذلك يعلم الوجه في تعقيب الآيات المتقدمة بهذه الآية الشريفة، ويصح أيضا أن تكون تحذيراً وتخويفاً بقدرة الله تعالى، فإنه قادر على أن يبدل صورة الإنسان إلى صورة أخرى، إتماماً للحجة وبياناً للقدرة الكاملة ، ليرتدع الناس عن المعاصي والآثام .

قوله تعالى : «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»

تعليل لما تقدم، وعود إلى ما بدأ به الكلام من التوحيد، أي : هو المتوحد في الألوهية والمتفرد في جميع شؤون خلقه، العزيز بقدرته وسلطانه، لا يغلب في إرادته وقضائه، هو الحكيم، أي : يفعل بمقتضى الحكمة التامة .

بحث دلالي

تدل الآيات المتقدمة على أمور :

الأول: أنه قد أثبت أكابر الفلاسفة المتألهین توحيد الذات ، وتوحيد المعبود، و توحيد الصفة و الفعل الله جل جلالها - بمعنى أنه لا شريك له تعالى في شيء من ذلك، فهو واحد متوحّد متفرّد في جميع ذلك - ببراهين عقلية متينة (جزاهم الله تعالی خیراً) ، ويمكن استفادة

ص: 223

وجه يجمع تلك البراهين من قوله تعالى : و«اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» ، فإنه يدلّ على وحدانية الذات المستجمعة لجميع صفات الجلال والجمال والمعبودية الحقيقية في الإله الواحد القهار.

وذلك بأن يقال : إن الذات الجامع لجميع الكمالات الواقعية، و المسلوب عنه جميع النقائص كذلك، إما أن يفرض وجوده أو لا؟

والثاني باطل بالضرورة، والأول يستلزم تحققه كذلك، أي مسلوباً عنه جميع النقائص الواقعية و جامعاً لجميع الكمالات كذلك، وإلا لزم الخلف، وهو باطل بالضرورة أيضاً ، ولا بد أن يسلب عنه الإمكان، ويكون العلم والحياة والقيومية والحكمة عين ذاته، لأن خلاف كل ذلك نقص، والمفروض أنه مسلوب عنه جميع النقائص الواقعية مطلقاً.

الثاني: إنما ذكر سبحانه : «الْحَيُّ الْقَيُّومُ» أولا و رتّب عليه تنزيل الكتاب بالحق، ليعلم من عظمة المنزل عظمة التنزیل، فكما لا حدّ للحي القيوم جلت عظمته، كذلك لا يمكن تحديد هذا الكتاب العظيم الذي نزل بالحق، المهيمن على جميع الكتب الإلهية، ويكون ترتب تنزيل الكتاب بالحق على الحي القيوم من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة، يعني حيث أنه تعالى حي وقيوم نزل الكتاب بالحق.

الثالث : إنما عبر سبحانه بالتنزيل، للإشارة إلى كثرة العناية والاهتمام بوجود القرآن العظيم، فإنه کنسخة واحدة لشرح نظامي

ص: 224

التكوين والتشريع، فقد تجلّى الله تعالى فيه وأنزله بالحق ومن الحق، وإلى الحق.

أما أنه بالحق، فهو من لوازم كونه من الحق المطلق: إذ لا يعقل نزول شيء منه إلا بالحق.

وأما أنه في الحق، لأنه نزل الكتاب لتكميل الإنسان كمالاً معنوياً و ظاهرياً ، حتى يصير بذلك خلاقاً لما يشاء وفعالاً لما يريد من المعنويات .

وأما أنه نزل إلى الحقّ ، لأنه نزل من الحي القيوم إلى قلب سید المرسلين، والغاية منه هو النعيم الأزلي الذي يبقى ولا يفنى.

الرابع: یدّل قوله تعالى: «مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ» على أن اعتبار الكتب الإلهية السابقة إنما يكون بإمضاء القرآن العظيم، فهو الأصل في مدرك الاعتبار، ويكون هو المعتمد في الموافقة والمخالفة، وفي الكلام من براعة الأسلوب وروعة البيان ما لا يخفی.

الخامس: إنما قدّم سبحانه تنزيل الكتاب على نبيّه في الذكر على إنزال التوراة و الإنجيل ، لأن القرآن العظيم هو الأصل في الكتب السماوية، وأن تأخر إنزاله في سير الزمان لمصالح كثيرة، منها حصول استعداد النفوس لذلك، وإلا فهو الأول والأصل، فمعارفه شموس طالعة، وأحكامه أقمار منيرة، وآدابه نجوم مضيئة، تستشرق الأرواح من شوارقه وتستنير النفوس من بوارقه، تحيا الأرواح حياة أبدية وتنعم الأشباح بنعمة سرمدية، توصلها إلى قاب قوسين أو أدنى و الاقتراب من العلي الأعلى .

ص: 225

ألم بنا وصف أجل من الوصف*أدق من المعنى وأخفى من اللطف

تمازجه الأرواح وهي لطيفة*إذا هو روح الروح والروح كالظرف

نعمنا به رغداً من العيش برهة*وراس رتبته المعقول في عالم الكشف

السادس: الفرقان يصح أن يكون وصفاً بحال ذات القرآن، فإنه الفارق بين الحقّ و الباطل، و الهداية والغواية، كما يصح أن يكون ذلك وصفاً بحال المتعلق، أي الفارق بين المؤمن وغيره، فيستفيد كلّ منهم بقدر لياقته واستعدادهن قال تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»(سورة الرعد، الآية 17).

السابع : إنما كرّر سبحانه وتعالى مادة (ن ز ل) في الآية المباركة ثلاث مرات، للاهتمام التّام بالمنزل وكثرة العناية به ، والمراد بالكتاب في أول الآية المباركة هو القرآن الذي هو بين أيدينا، بقرينة قوله تعالى: «وَ نَزَّلَ عَلَيكَ الكِتابَ» ، والمراد من التنزيل التدريجي نجوماً متفرقة حسب تعدّد الخصوصيات ، فلاحظ سبحانه وتعالى باعتبار وجوده الجمعي بعد تمامية مراتب التنزيل وذكره مستقلاً.

و أما التوراة والإنجيل فيستظهر من الآية الشريفة : «وَ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ» أنهما نزلا دفعة و هو كذلك، لأن الإنجيل مقتبس من التوراة ، وهي نزلت دفعة .

وأما قوله تعالى: «وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ» ، فهو عبارة عن المحكمات الفارق بين الحق والباطل، التي تكون في ضمن القرآن، والتكرار ثانياً لكثرة أهميتها وجعل إنزالها إنزالاً دفعياً مضافاً إلى التنزيل التدريجي،

ص: 226

و لا بأس بجعل الاختلاف في التعبير من باب التفنن في الكلام الذي هو من جهات الفصاحة والبلاغة.

ويمكن أن يوجه بوجه آخر أدقّ و ألطف ، وهو أنه إذا لوحظ الوحي بالنسبة إلى الموحي وقلب الموحى إليه، فهو نزول مطلقاً ، التنزههما عن الزمان والزمانیات، ولكن إذا لوحظ بحسب هذا العالم المادي الزماني المتدرج الوجود، فهو تنزیل، فيكون كل منهما بحسب وعائه وعالمه، وبذلك يجمع بين جميع الآيات السابقة من غير محذور في البين.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ » تقدير جميع الأمور المتعلقة بالإنسان، فيكون كفر الكافر وإيمان المؤمن غير خارجين عن تقدير الله تعالى على نحو الاقتضاء، و يكون الكلام تعميماً بعد التخصيص ، وقد ذكر التقدير في الإنسان إتماماً للحجة، وتثبيتاً لإيمان المؤمن، وتطييباً لنفوسهم وتخويفاً بانتقام الكافرين وتعريضاً بالنصارى في أمر المسيح عليه السلام .

المسيح: يدلّ قوله تعال : «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» بعد ذکر ما تقدّم من إنزال الكتب الإلهية والفرقان والانتقام من الكافرين وتصویر الإنسان في الأرحام، على أن جميع ذلك دليل على وحدانيته، وأنه لا بد من استنادا إلى إله واحد مدبّر حکیم، يفعل ذلك بعزّته فلا يغلبه أمر.

العاشر : أن المتأمل من أهل العرفان في جملة من الآيات الشريفة

ص: 227

من سورة آل عمران ، و الآيات المباركة في آخر سورة الحشر، والآيات الأول من سورة الحديد، يعلم أنها تتضمن أبواباً من المعارف، و حقائق من الواقعيات، وإشارات من المعنويات، ولا يصل إلى جميع ذلك إلا بتصفية النفس والمجاهدة في سبيل الله تعالی.

وعن بعض المشائخ : أن في هذه الآيات أسراراً أفاضها الله تعالی علينا، أنه ولى الإفاضة، خصوصا في تكرار لفظ «هو» أربع مرات ...

تارة : مشيراً إلى تجلّي الذات .

وأخرى: مشيراً إلى التجلي الفعلي بتصوير صورة الإنسان، التي هي أعظم آية وعليها يدور خلق سائر العوالم.

وثالثة : مشيراً إلى تجلّي العزّة و الحكمة .

ورابعة : بالتجلّي التشريعي في المعارف الحقّة و القوانين التامّة ، و يلزمه التجلي الجزائي أيضاً ، فإن التشريع بلا جزاء لغو.

بحث روائي

في الكافي: عن الصادق علیه السلام في قوله تعالى: «وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ» قال عليه السلام : القرآن جملة الكتاب، والفرقان المحكم الواجب العمل به».

وفي تفسير القمّي: «الفرقان هو كل أمر محكم، والكتاب جملة القرآن الذي يصدقه مَن كان قبله من الأنبياء».

أقول: قد تقدم ما يتعلق بذلك في التفسير .

ص: 228

في المجمع: عن الكلبي، و محمد بن إسحاق والربيع بن أنس، وفي الدر المنثور: عن أبي إسحاق وابن جرير وابن المنذر، عن محمد بن جعفر بن الزبير وعن أبي إسحاق، عن محمد بن سهل بن أبي أمامة وغيرهم: «أن صدر سورة آل عمران إلى بضع و ثمانين آية منها نزلت في وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلی الله علیه و آله ، وكانوا ستین راكباً وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، العاقب : أمير القوم وصاحب مشورتهم الذين لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، وكانت ملوك الروم قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس العلمه واجتهاده، فقدموا على رسول الله صلی الله علیه و آله في المدينة ودخلوا مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جبات وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن کعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله : ما رأينا وفداً مثلهم، و قد حانت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس وقاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله ، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله : دعوهم فصلوا إلى المشرق، فكلم السيد والعاقب رسول الله صلی الله علیه و آله ، فقال لهما رسول الله صلی الله علیه و آله : أسلما . قالا: قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما الله ولدا، وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير، قالا : إن لم يكن عيسى ولدا لله فمَن أبوه؟ وخاصموه جميعا في عيسى، فقال لهما النبي صلی الله علیه و آله : ألستم

ص: 229

تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال : ألسم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى، قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا، قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث، قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذي الصبي ثم كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى، قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا، فأنزل الله عز وجل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بعض وثمانين آية منها».

أقول: ما ورد في الرواية مطابق للأدلة العقلية أيضاً ، وليس فيها جهة من جهات التعبّد ، ويمكن أن يكون نزول مجموع الآيات التي ذكرت في الرواية بعضها من باب المقدمة لدفع احتجاجاتهم، لا أن تكون بنفسها احتجاجاً عليهم.

في العلل: عن النبي صلی الله علیه و آله : «سُمِّيَ القُرآنَ فرقاناً لأنه متفرّق الآيات، والسور نزلت في غير الألواح وغير الصحف، والتوراة والإنجيل والزبور أنزلت كلها جملة في الألواح والورق».

أقول: أما التوراة والإنجيل والزبور أنزلت جملة واحدة، فيمكن أن يستشهد بقوله تعالی : «وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي

ص: 230

نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» [سورة الأعراف، الآية: 154]

فيستفاد منه أن التوراة كانت مكتوبة بالخط الأزلي في الألواح، وأما أن الألواح من أي شيء كانت، فلا يستفاد ذلك من الآية المباركة . ويشهد لما قلنا قوله تعالى : «صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى» [سورة الأعلى، الآية 19].

وأما أن الإنجيل نزل جملة واحدة، فلقوله تعالى: «وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ» [سورة المائدة، الآية : 46]، وغيره من الآيات المباركة التي يستفاد من سياقها أنه كان مكتوباً وأتاه الله إلى عيسی علیه السلام .

وأما الزبور، فيشهد قوله تعالى: «وَ آتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورً» [سورة النساء، الآية : 193]، فإن المنساق منه أيضاً النزول الجمعي.

ثم إن القرآن والفرقان من الأمور الإضافية النسبية، فيصّح نسبة الجمع إلى القرآن في كلّ ما يصح انتساب الجمع إليه، کالجمع بين الدفتين، أو الجمع في قلب سيد الأنبياء صلی الله علیه و آله ، أو الجمع في اللوح المحفوظ، أو الجمع في علم الله تعالى، أو الجمع في غير ما ذكر من العوالم.

كما أن الفرقان يصح بانتساب التفريق إلى كلّ ما صحّ ذلك عقلاً و شرعاً من التفريق بين المحكم والمتشابه، والتفريق بين أصول المعارف والأحكام، و التفريق بين الآيات الدالّة على التكوين والآيات الدالّة على القصص والحكايات، إلى غير ذلك من جهات الفرق. فما

ص: 231

ذكر في الروايات في معنى الفرقان يكون من باب ذكر المصداق، كما مرّ.

وفي الكافي : عن الباقر عليه السلام قال : «إن الله إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي مما أخذ عليها الميثاق في صلب آدم علیه السلام أو ما يبدو له فيه، ويجعلها في الرحم حرك الرجل للجماع و أوحي إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ و قدري، فتفتح بابها، فتصل النطفة إلى الرحم، فتردد فيه أربعين يوما ثم تصير علقة أربعين يوماً ، ثم تصير مضغة أربعين يوماً ، ثم تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث الله ملکين خلاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله ، فيقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة، فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة والبقاء، ويشقّان له السمع و البصر و الجوارح و جميع ما في البطن بإذن الله تعالى، ثم يوحي الله إلى الملكين : اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري واشترطا لي البداء في ما تكتبان، فيقولان: یا ربّ ما نكتب ؟ فيوحي الله عز وجل إليهما: أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس أمه فيرفعان رؤوسهما، فإذا اللوح يقرع جبهة أمه فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته وزينته و أجله وميثاقه شقياً أو سعيداً و جميع شأنه ، قال : فيملي أحدهما على صاحبه، فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان، ثم يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ثم يقيمانه قائمة في بطن أمه، قال : فربما عتا فانقلب، ولا يكون ذلك إلا في كل عات أو مارد، وإذا بلغ أوان خروج الولد تاماً أو غير تام أوحى الله إلى

ص: 232

الرحم: أن افتحي بابك حتى يخرج خلقي إلى ارضي وينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه، قال : فيفتح الرحم باب الولد فيبعث الله إليه ملكاً يقال لها زاجر فیزجره زجرة فيفزع منها الولد فينقلب فتصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسهل الله على المرأة وعلى الولد الخروج، قال : فإذا احتبس زجره الملك زجرة أخرى فيفزع منها فيسقط الولد إلى الأرض باكياً فزعاً من الزجرة».

أقول: هذا الحديث يبيّن جملة من أسرار التكوين ببيان واضح، والأمور التي ذكرت فيه أسرار معنوية وأسرار تكوينيّة حقيقة لا تنافي الأسباب الطبيعية المعروفة، إذ يمكن أن يكون في شيء واحد أسباب جليّة واضحة و أسباب خفية معنوية، لا يحيط بها إلا الله تعالى، و هما في حاق الواقع يرجعان إلى شيء واحد. و كل واحد منهما يكون من المقتضي لتحصيل المعلول، أو يكون كل واحد منهما علة تامة مترتبة كل سابقة علة للاحقتها، فيصير كل واحد علة تامة من جهة ومقتضيا من جهة أخرى، كما هو شأن العلل والمعلولات المترتبة في حصول النتيجة القصوى .

وأما قوله علیه السلام : «النطفة التي مما أخذ عليها الميثاق» ، فهو مطابق للقانون العقلي، وهو انبعاث المعلول عن علته، و لا ريب في أن جميع الموجودات خصوصاً النطفة التي يريد أن يجعلها سوياً أتم خلق الله وأهمه، وارتباطه تکویناً مع الله ثابت، ويصّح أن يعبّر عن هذا الارتباط بالميثاق، فهو میثاق تكويني من جهة، واختياري من جهة

ص: 233

أخرى، يسمى في الأخبار بعالم الذر والميثاق، كما يأتي شرحه عند قوله تعالى: « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ »[سورة الأعراف، الآية 172]، ويصّح أن يعبّر عن ذلك بالطينة أيضاً، لما ورد فيها من أخبار كثيرة.

وأما قوله علیه السلام : «أو ما يبدو له» من البدء الذي دلت عليه نصوص كثيرة، ويظهر من الرواية أن البداء يكون في مرتبة الميثاق أيضا، فالميثاق قضاء حتمي وما يبدو له غیر حتمي متوقف على البدء.

وأما قوله علیه السلام : «فتصل النطفة إلى الرحم» هذا من الأسباب الطبيعية، وقد تقدم آنفاً أنه يمكن أن يجتمع مع الأسباب المعنوية أيضا.

وأما قوله علیه السلام : «ثم تصير لحماً تجري فيه عروق مشتبكة» ، قد ورد في ذلك كمية و كيفية نصوص كثيرة ، وقد كشف العلم الحديث كثيرة منها، و فرّع الفقهاء على ذلك تعيين دية ما في الأرحام.

وأما قوله عليه السلام : «ثم يبعث الله ملکين خلّاقين» ، يصّح أن يعبّر عن القوة الخلّاقة بالملك ، لأن الطبيعة بأجزائها وجزئياتها كلّها من جنود الله تعالی.

وأما قوله علیه السلام : «يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة»، المراد من الاقتحام هو تشبيه المعقول بالمحسوس ، توضيحاً للأفهام و تشريفاً للملك ، فإنه مختّص بأعالي البدن، وفي الحديث: «نظفوا المأزقتين

ص: 234

فإنهما محل الرقيب والعتيد» ، والملك إن كان جسماً لطيفاً فهو ألطف من البخار الحاصل من حركة الدم، فاقتحامه في البطن والعروق معلوم، ويعبر عن ذلك في الفلسفة ب_(الروح البخاري)، وإن كان مجرداً فهو أوضح من أن يخفى، فيكون من سنخ الإدراكات المحسوسة التي توجب حصول صورة في النفس، وكما أن أعالي البدن موكولة بالملك فأسافلها موكولة بأفعال الشيطان، كما يظهر من روايات كثيرة .

وأما قوله عليه السلام : «فيصلان إلى الرحم وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام النساء» ، يمكن أن يراد من الروح القديمة موضع مادة الروح، وهي ماء الرجل وماء المرأة معاً ، فيكون بمنزلة الموضوع لتعلق الحياة به، والتعبير بالقديمة» لفرض التقدم الزماني على نفخ الروح الحياتي، فالمراد به القدم الإضافي، لا القدم الحقيقي .

وأما قوله علیه السلام : فينفخان فيها روح الحياة والبقاء ويشقّان له السمع والبصر والجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالی» ، یصّح انطباق ذلك كلّه على القوى الطبيعية المسخرة تحت أمر الله تبارك وتعالى ، فإن شئت فسمها ملكاً ، و إن شئت فسمها قوى طبيعية مسخرة تحت إرادة الله عز وجل، ويصح التعبير في جميع ذلك بالحركة الجوهرية)، التي هي تحت إرادته عز وجل، لأن إرادته الأزلية تعلقت بالاستكمال والترقي والتعالي.

وأما قوله علیه السلام : «ثم يوحي الله إلى الملكين : اكتبا عليه قضائي

ص: 235

و قدري ونافذ أمري و اشترطا لي البداء فيما تكتبان» ، يظهر من جملة من الروايات أن المكتوب عليه هو الجبين . وأما اشتراط البداء فيدّل عليه نصوص كثيرة، الدالة على ثبوته في جملة من موارد القضاء والقدر، وسنتعرض لتفصيل ذلك إن شاء الله تعالی.

وأما قوله عليه السلام : «فيقولان: ما نكتب؟ فيوحي الله عز وجل إليهما: أن ارفعا رؤوسكما إلى رأس أمه فيرفعان رؤوسهما فإذا اللوح يقرع جبهة أمه فينظران فيه» ، لأن محل مجمع الحواس هو الجبهة ، فيكون أشرف من سائر أعضاء البدن، والتخصيص بالأم لأن الأب قد انفصل عنه بانفصال النطفة، ولكثرة علاقة الأم بالحمل، ولذا يكون جبينها حاملاً للمواثيق .

وأما قوله علیه السلام : «فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه سعيدة أو شقية وجميع شأنه فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان» ، و لعلّ اشتراط البداء من أجل أن الحوادث اللاحقة على الإنسان وما يجري عليه في المستقبل، تكون لأجل مقتضيات خاصة لا بد من تبذلها وتغيرها، فلا بد من اشتراط البداء حينئذ، حفظة لنظام الأسباب والمسببات، ومما ذكرنا ظهر شرح بقية الحديث.

القمّي في قوله تعالى : «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ » ، قال علیه السلام : «يعني ذكراً أو أنثى وأسود وأبيض وأحمر وصحيحاً وسقیماً » .

ص: 236

أقول: ما ذكره علیه السلام من باب الغالب والمثال وإلا فتصورات الأرحام بالنسبة إلى جميع الجهات والمقتضيات غير معلومة إلا له تبارك وتعالى، ولذا قال تعالى : «كَيْفَ يَشَاءُ» معلق على مشيئته غير المحدودة، ويشهد لذلك أنه علیه السلام لم يذكر الجمال - مثلاً - مع أنه من أهم و أتمّ جهات صور الإنسان.

بحث فلسفي كلامي

عن جمع من الفلاسفة أنهم حدّدوا الفيض النازل من الحي القيوم إلى الممکنات بحدّ خاص مترتب طولاً ، فلا يستفيض كل لاحق إلا بواسطة السابق عليه، وجعلوا أول هذه السلسلة ما اصطلحوا عليه ب_«القاهر الأعلى»، وآخرها ما أسموه ب_«الهيولى الأولى» ، وفضلوا القول في ذلك بالنسبة إلى خلق الممکنات من علوياتها وسفلياتها، وهو تصور حسن في نفسه، ولكنه تحديد لقدرة الله تبارك وتعالى وإرادته الكاملة، بحسب غاية ما يدركونه بعقولهم، وهو أعم من الواقع بلا إشكال، لأن الواقع ذاتاً و صفة و فعلاً و من كل حيثية وجهة غير محدود، فكما أن ذاته الأقدس أجل من أن يحيط به العقول، فكذا صفاته العليا وفعله وسائر ما هو من ناحيته جلّت عظمته، فلا يمكن تحديد قوله تعالى : «إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» بشيء أبداً.

نعم إن أرادوا به السنّة الإلهية من أنه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها، فهو صحيح، ولكن لا دليل على تحديد ما ذكروه من عقل أو نقل، وللبحث بقية نتعرّض لها إن شاء الله تعالی .

ص: 237

بحث عرفاني كلامي

لا ريب في أن الإنسان أشرف الممکنات، لأنه الفصل الأخير الجميعها في المسير الاستکمالي، فيكون الكلّ متوجّهاً إليه بالتكوين، توجّه المقدّمات بالنتيجة .

وفيه اجتمعت العلل الأربع، أما العلة الفاعلية، فقد قال الله تعالی بعد ذكر الأدوار وعوالم خلق الإنسان : «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» [سورة المؤمنون، الآية: 14].

وأما العلّة المادية ، فقد أخبر سبحانه وتعالى أنه المباشر للخلق والتربية: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ» [سورة صن الآية 71]، وقوله تعالى : و«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ»[سورة الأنعام، الآية : 2].

وأما العلّة الصورية قال تعالى : «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ » ، وقال تبارك وتعالى: «هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ» [سورة الحشر، الآية 24].

وأما الغائية فقد قال الله تعالى:«هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا»[سورة البقرة ، الآية : 29].

فجميع الموجودات يحبّ الإنسان محبّة تكوينية ، فالكلّ مسخّر له، قال تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً » [سورة لقمان، الآية: 20]، كما أن الإنسان بطبعه يحبّ جميع الموجودات لفرض تفانيها فيهن فتكون

ص: 238

المحبة والعشق من الطرفين (أي تعاشقا)، فالموجودات كالشجرة بالنسبة للإنسان وهو كالثمرة، فخلقت الدنيا له ولأجله .

فلا بد للإنسان من بذل الجهد لكشف أسرار الموجودات ورموزها واستخراج الحقائق منها، وذلك لا يكون إلا بالارتباط التام مع الرب المطلق والقيوم بالحق، قال الله تعالى : «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»[سورة الأعراف ، الآية: 96]، فهو أشد أنحاء العلم وأمتنه وأقواه، كما أثبته الفلاسفة - من قديمهم وحديثهم - و جميع أهل العرفان.

ولكن الإنسان قصّر في ذلك، فأوقع نفسه في ظلمات بعضها فوق بعض، لا يمكنه التخلص عن بعضها فكيف عن جميعها، قال تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [سورة الحديد، الآية : 28]، وليس المراد بهذا المشي في طريق خاص أو علم مخصوص، بل المشي في جميع أبواب العلوم والمعارف، مشياً مطابقاً للواقع يصل إلى النتيجة الحقة، قال تعالى : «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» [سورة الحشر، الآية : 119) (1).

ص: 239


1- م. ن، ج 5، ص8- 34.

المباهلة

إن المباهلة نوع من الدعاء والابتهال والتضرّع والتبتّل إلى الله تعالى لإثبات حق علم به، وهي عادة جارية بين الناس في جميع الملل والأقوام ممّن يعتقد بوجود عالم الغيب وراء هذا العالم المادي، فتكون نظير صلاة الاستسقاء أو الاستخارة ونحوهما .

والمستفاد من الآيات الشريفة وما ورد في شأنها من السنة المقدسة أنها تتقوّم بأمرين:

الأول: ثبوت حق علم بأنه حق قد سبق الإعلام به بالحجّة البيان، وبعد اليأس عن الفائدة فيهما يرجع بالدعاء واللعان واللجوء إلى الأمر الغيبي الذي يعترف به الخصمان، وهذا يدل عليه قوله تعالی : «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ» أي في الحق المعلوم.

الثاني : وجود الرابط بين عالم الغيب وعالم المادة إما في شخص الرسول أو من يقوم مقامه علماً و عملاً، أو حالة الانكسار والخضوع و التضرّع التي تكون رابطة حالية، فإذا تحقّق هذان الأمران تجوز المباهلة لإثبات الحقّ بالتماس من عالم الغيب، فلا تختصّ المباهلة - بمورد خاص، وقد ورد في السنّة الشريفة ما يدلّ على التعميم، ففي

ص: 240

الكافي عن أبي مسترق عن الصادق علیه السلام : «قلت له: إنا نكلّم الناس فنحتج عليهم بقول الله عز وجل«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» فيقولون نزلت في أمراء السرايا، فنحن عليهم بقوله عز وجل : «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» ، فيقولون في المؤمنين، ونحتج عليهم بقول الله عز وجل: «قلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» فيقولون : نزلت في قربي المسلمين، قال : فلم أدع شيئاً ممّا حضرني ذكره من هذا وشبهه إلا ذكرته، فقال علیه السلام لي: إذا كان كذلك فادعهم إلى المباهلة ، قلت : كيف أصنع؟ قال علیه السلام : أصلح نفسك ثلاثا، وأظنه أنه قال : وصم واغتسل وأبرز إلى الجبانة فأشبك أصابعك من يدك اليمني في أصابعه ثم انصفه وابدء بنفسك وقل : اللهم رب السماوات السبع و رب الأرضين السبع عالم الغيب والشهادة الرحمان الرحيم إن كان أبو مسترق جحد حقاً و ادعى باطلاً فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاباً أليمة، ثم ردّ الدعوة عليه فقل: وإن كنا فلان جحد حقاً أو ادعی باطلاً فأنزل عليه حسباناً من السماء أو عذاب أليماً ، ثم قال علیه السلام لي : فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه - الحديث-» ، وقريب منه غيره.

وفي الدر المنثور: عن علياء بن أحمر اليشكري قال: «فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ» أرسل رسول الله صلی الله علیه و آله إلى علي و فاطمة وابنيهما الحسن والحسين، و دعا اليهود ليلاعنهم، فقال شاب من اليهود: ويحكم أليس عهدتم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير؟ لا تلاعنوان فانتهواه وهذه الرواية تدل على تعدد المباهلة.

ص: 241

وللمباهلة آداب خاصة مذكور في أبواب الدعاء، ولا ريب في نقومها بمن يقوم به الاحتجاج وإظهار الحق، وهو في المقام نفس رسول الله صلی الله علیه و آله . وحيث إنها تدل على الملاعنة والهلاك، يكون إحضار من يريده صاحب الحق أولى من الاحتجاج وأثبت للمدعى وأقطع لدعوى الخصم، ولأن الاجتماع في الدعاء والتأمين عليه مرغوب إليه كثيراً في السنة المقدسة(1).

ص: 242


1- .م. ن، ج6، ص28 - 29.

عالم العهد والميثاق

من جملة الآيات الكثيرة التي دلّت على ثبوت عالم العهد والميثاق، وهي من جلائل الآيات التي وردت في هذا الموضوع، فقد تكفلت - ولو على سبيل الإيجاز - لبيان العهد والمأخوذ منه العهد، ومن أخذ له العهد، والغاية منه، وأثره على الإنسان، وتأثيره في بقية العوالم التي يرد عليها الإنسان، وقد وردت أحاديث في السنة الشريفة ، تبين بعض الجوانب التي تتعلق بهذا العالم، الذي هو من العوالم الربوبية المتعدّدة .

ولكن، لم يعلم أن أخذ العهد كان في عالم الذر الأول ، أو في عالم الذر الثاني، كما لا يعلم الزمان و المكان الذي أخذ فيه الميثاق، ولذلك اختلفت العلماء فيه، فبعضهم عبّر عنه بالثابتات الأزلية، و آخر يقول إنه الأعيان الثابتة، وثالث إنه عالم المثل الأفلاطونية، ورابع اعتبر أنه عالم المثال المنفصل، وخامس أنها عالم الأشباح والأظلة، والجميع يريدون التوصل إلى معرفة هذا العالم الذي أقصى ما يمكن القول فيه إنه من الغيب ولا يمكن الاطلاع عليه إلا لذوي النفوس القدسية الزكية، التي يفاض عليها من عالم الغيب بقدر الاستعداد .

ص: 243

ويرجع الميثاق إلى المعارف اللائقة للإنسان، التي لا بد أن يتلقاها في جميع النشآت التي يمكن أن يرد عليها إتماما للحجة ، وإيضاحاً للمحجّة ، والأخذ للميثاق هو الله تعالى، والمأخوذ منه الإنسان في أي عالم ممكن أن يرد عليه، والمأخوذ هو حقائق الكتاب والحكمة وأصول المعارف الحقة التي يجب أن يتحلّى بها الإنسان الكامل.

وبعبارة أخرى: المأخوذ هو الحق المطلق الذي يكون غاية خلق العالم بروحانياته وجسمانياته، ولأجل عظمة هذا العهد المأخوذ اهتم به سبحانه ، لأنه مرآة الكمال المطلق، وقد أظهره سبحانه في كتابه الكريم المصالح كثيرة.

و غاية ما يمكن أن يقال إنه حادث مسبوق بالعدم، ولكنه أبدي دائم بدوام الله تعالى، تتبدل صوره بحسب تبدل النشآت، فإن العلم الأزلي الأتم الأكمل الذي هو عين ذاته الأقدس من جملة مراتبه، حيث يكون الكلّ فيه واحداً ، و مجرّداً عن الزمان و المكان.

و له مراتب كثيرة ، ففي مرتبة يكون في مقام العلم بالنظام الأحسن، و في مرتبة أخرى عهد وعمل، وفي مرتبة ثالثة جنة ورضوان، كما أنه الغاية من بعث الأنبياء و الرسل، وخلق الجنة والتحذير عن النار، ويصح أن يعبر عنه بالفلسفة العملية المعروفة بين الفلاسفة الإلهيين، كما أنه التجلي الجلالي والجمالي، و عالم الجمع مقابل عالم التفريق - وهو العالم الذي نحن فيه . إذا لوحظ الجمع

ص: 244

و التفريق بالمعنى الإضافي النسبي، وهو الفطرة التي فطر الله عليها والوجوه الجامعة بين جميع الأديان الإلهية، فيكون التخلّي عنها خروجا عن الفطرة وفيه فساد العالم، وخسران بني آدم، فلا يفيد الإنسان شيء آخر غيره، كما قال تعالى في آخر الآيات المتقدمة : «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(1) .

ص: 245


1- م. ن، ج6، ص119 - 117.

بحث كلامي في التكاليف الإلهية

كل تكليف - سواء أكان خالقياً أم خلقياً - لا بدّ وأن يتعلق بالمقدور، وإلا كان تکليفاً بالمحال وهو قبيح عقلاً ويمتنع بالنسبة إلى الله تعالى، وقد استدل الفلاسفة والمتكلمون على ذلك بأمور كثيرة، و يكفي في ذلك الآيات الكثيرة الدالة على ذلك، قال تعالى : «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» (سورة البقرة، الآية : 289)، وغيرها من الآيات الشريفة المرشدة إلى حكم العقل.

ونسب إلى بعض الأشاعرة جواز التكليف بالممتنع الذاتي، بل وقوعه.

ولكن ذلك مردود عقلاً ونقلاً ، كما فضل ذلك في محله، و لعلّنا نتعرّض له في بعض الآيات المناسبة له إن شاء الله تعالی .

ثم إن القدرة المعتبرة في التكاليف على أقسام ثلاثة :

الأول : القدرة العقلية - أي الإمكان الذاتي - في مقابل الامتناع العقلي.

الثاني : القدرة التعبّدية الشرعية .

ص: 246

الثالث : القدرة العرفية كما في جميع الأمور الاختيارية الصادرة عن الناس .

ولا وجه للأول، وإلا لاختل النظام ولزم العسر والحرج في امتثال الأحكام، كما لا وجه للثاني لعدم الإشارة إليها في الكتاب والسنة، وما ذكر في الأحكام من الشروط والأجزاء أو الأوصاف يرجع إلى الثالث، بل لا معنى عندنا للتعبّد في الأحكام الشرعية مطلقاً فضلاً عن موضوعاتها ، لأن كلّ ذلك يرجع إلى مقررات الفطرة ، وإنما أشار إليها الشارع الأقدس و كشف عنها كما تقدّم منا مکرراً في هذا التفسير و بينّاه في علم الأصول. فيتعين الأخير كما هو المستفاد من الكتاب والسنة الشريفة، قال تعالى : «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» (سورة البقرة، الآية 286)، وقال تعالى : ويريد الله بكم اليسر ولا يريد به المره (سورة البقرة، الآية : 180)، وقال تعالى «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (سورة الحج، الآية 78)، وم السنّة قول نبينّا الأعظم صلی الله علیه و آله المتواتر بين الفريقين: «بعثت على الشريعة السهلة السمحاء». وقوله تعالى : «مَن استَطاعَ إليهِ» في الآية التي تقدم تفسيرها يبين ذلك كما هو معلوم(1) .

ص: 247


1- م. ن، ج6، ص162- 163.

بحث الإرادة

اشارة

من المباحث المهمة في الفلسفة الإلهية والحكمة المتعالية مبحث الإرادة، التي لها ارتباط وثيق بمواضيع متعددة في جملة من العلوم ، وقد شغلت قسطاً وافراً من الكتب الفلسفية والكلامية وغيرهما، فإن بحث الجبر والاختبار في الإنسان يرتبط بالإرادة ، كما يرتبط بالإرادة الإلهية مباحث حدوث العالم وقدمه واختياره تبارك وتعالى وغير ذلك، و نحن نذكر في هذا البحث تعريف الإرادة، وما يتعلّق بإرادة الإنسانن وإرادته جلّت عظمته، و بيان حقيقتها، وأقسامها، و أسباب فعله عزّ و جلّ، و الفرق بين المشيئة والإرادة، وارتباطها بعلمه عزّ وجلّ، ثم مبحث اتحاد الطلب مع الإرادة .

تعريف الإرادة

الإرادة: من الأمور الوجدانية لكل ذي إدراك وشعور - إنساناً كان أو حيواناً - حتى لقد عرّف الحيوان المطلق بأنه جسم نام متحرك بالإرادة ، فهي من لوازمه التي لا تنفكّ عنه ، بل قد أثبت بعض قدماء الفلاسفة الإرادة في النبات، ولا يبعد ذلك على نحو الجملة والإجمال كما ستعرف.

ص: 248

و كيف كان ، فقد فسّروا الإرادة بوجوه: فمنهم مَن فسّرها بالقصد، و استدّل بالتبادر.

ومنهم مَن فسّرها بالطلب .

و أُشكل عليه بأنّه مبرز للإرادة نفسها.

و منهم مَن فسّرها بالميل الذي يعقب اعتقاد النفع .

وقال بعض المحدّثين : إنها تصمیم واعٍ على أداء فعل معین، باعتبار أنّ التصميم هي الإرادة النافذة، والإرادة بلا تصميم نيّة مؤجّلة .

وقال بعضهم: إن الإرادة هي الرغبة التي ترافق الفعل إلى أن تبلغ به إلى الغاية .

والحقّ أن هذه التعاريف لا تخلو من مناقشة واضحة، فإنّ الإرادة غير الميل، بل هو في مقدماتها، والتصميم إرادة مؤكدة. ولكن مما يسهل الخطب أن الإرادة من الأمور الوجدانية التي تتداخل مقدّمات حصولها بعضها مع بعض، بحيث يصعب التمييز بينها، ولأجل ذلك اختلفوا في تعريف الإرادة ، فإنه قد يختلط بينها وبين المقدمات التي هي الإدراك وتوجّه النفس والعزم، أي: التصميم، و تصوّر الغاية الذي به يتميز الإنسان عن الحيوان، فإنّهما ذوا شهوة كشهوة الطعام والشهوة التناسليّة، وهي تدفع الحيوان والإنسان إلى الفعل، ولكن الحيوان لا يفعل ذلك متعلقاً كالإنسان .

ص: 249

إرادة الإنسان

لا شك أن المخلوقات بالنسبة إلى الإرادة على أقسام :

الأول : تلك المخلوقات التي تخلو عن الرغبة والشهوة كالحيوانات الدنية - کالديدان والهوام والنباتات - فإن هذه تفعل وتسعى إلى الفعل لأجل الحاجة، لا الرغبة و الشهوة، فإن تغلغل جذور النبات وتفرع فروعها في الهواء واتجاه أوراقها إلى الشمس ونمو أصلها، كل ذلك صادر عن حكم الحاجة إلى الغذاء، بل يفعل بمقتضى الطبيعة فيها، نظير صدور الأفعال الحتمية الصادرة في الحيوانات العليا، كالتنفس والنبض والتثاؤب والنوم ونحو ذلك، فهذه كلّها تصدر عن الحاجة والطبيعة دون الإرادة .

نعم، قد يشتبه الأمر، ففي بعض الحيوانات والنباتات تصدر الأفعال عن رغبة وشهوة ملحّة، و لعلّ من قال من الفلاسفة: إن بعض النباتات فيها الإرادة، كان نظره إلى خصوص هذا الأخير فقط، وإلا ليس كل حيوان فضلاً عن النبات ذا رغبة أو شهوة تتقوّم بها الإرادة .

الثاني : المخلوقات التي لها الإحساس والشهوة - كالحيوانات - فإنّها تفعل الأفعال بإرشاد الغريزة والشهوة المجرّدة عن الرغبة وإرشاد العقل والتعقّل، فهي أيضاً لا تكون ذات إرادة إلا إذا صح إطلاق الإرادة على المقدمات، فتكون الحيوانات حينئذٍ كلّها ذوات إرادة .

الثالث : المخلوقات التي لها الإحساس والشهوة والرغبة والإدراك كالإنسان، فإنه يفعل فعله بحثّ من الشهوة والرغبة وإرشاد من

ص: 250

الإدراك، فهو يفعل ويفهم أنّه يطلبه، بخلاف الحيوان فإنه يسعى حين تلخ عليه الحاجة ومتى زالت هدأ وسكن، ولا يدرك تلك الحاجة .

وأمّا الإنسان، فهو يفهم ويرغب في السعي ولو كانت الحاجة في حين الفعل منتفية .

ولكن يمكن أن يقال : إنّ من ذهب إلى وجود الإرادة في الحيوان، أراد بها بعض مقدماتها. ومن نفى عنها الإرادة إنما نفی الإرادة الثابتة في الإنسان، وبذلك يمكن أن يجمع بين الآراء و الكلمات .

الرابع : المخلوقات التي لها التعقّل و الإدراك الكامل، فإنّها تفعل عن تعقّل کامل من دون شهوة وقتيّة كالملائكة، فإن فيهم الإرادة الكاملة لما يريدون أن يفعلوه في عالمهم.

ومن ذلك كلّه يعلم أنّ الإنسان هو الفرد الكامل الذي اجتمعت فيه مقدمات الإرادة، فهو الحيوان الحساس المتحرّك بالإرادة، و لكنّه قد يغفل عن الإرادة ، فلا يلتفت إليها حين توجه نفسه إلى المراد، بل يكون تمام توجهها إلى نفس المراد فقط.

و إرادة الإنسان مسخّرة تحت إرادة الله تعالى القهّارة، ولا استقلال لها بوجه من الوجوه، ففي بعض القدسیات : «يا ابن آدم تريد وأريد، وأتعبك في ما تريد ثم لا يكون إلا ما أريده» ، وعن سید العارفین علیه السلام : «عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم»، و هذا غير مورد الجبر الباطل؛ لأن مورده نفي الإرادة، والمقام من تخلّف المراد عن الإرادة .

ص: 251

حقيقة الإرادة

عرفنا أن الإرادة من الأمور الوجدانية التي يعرفها كل فاعل مختار، ومن له إدراك وشعور، ولها مقدمات، وتسمّى مقدمات الفعل أيضا، وهي : الإدراك، وتوجه النفس، والعزم، وتصور الغاية ، والقدر والقضاء، والإرادة هي الجزء الأخير من تلك المقدمات .

وفي الفلسفة الحديثة : إن الإرادة خاصية مستقلة عن المؤثرات والظروف الخارجية، ولكن للفطنة والحكمة سلطة عليها، التي تصدر الحكم الذي تبلغه الإرادة إلى القوى الفاعلة، فتكون الإرادة هي الأمر بالعمل أو النهي عنه .

وهذه هي المسألة المعروفة التي ذكروها في علم الأصول، وهي اتحاد الطلب والإرادة، وسيأتي موجز الكلام فيها.

فالإرادة : جهد نفسي وعملية ذهنية يقوم عليها الصمود ورباطة الجأش، بل قال بعض الفلاسفة : إنه لا إرادة حيث لا استطاعة. وقد ذهب بعض الماديين إلى أن الإرادة ثمرة المعرفة والتجربة والتربية .

وبعبارة أخرى : أن الإرادة الإنسانية ليست غير ما تمليه قوانین الطبيعة و المجتمع، وهذه طريقتهم في تفسيرهم لكل الأمور في هذا العالم.

وما أبعد مقالة هؤلاء عما يقوله بعض الفلاسفة الرواقيين من أنها أساس المعرفة والسلوك، ولكن لا يمكن إنكار تأثر الإرادة الإنسانية بما يحيط بها من البيئة و المجتمع .

ص: 252

والإرادة هي الدافع الرئيسي والعامل النفساني الأول في الفعل الإنساني وما يصاحبه من الانفعالات. وفي الإسلام تعتبر الإرادة من أهم مقومات الجزاء، وهي محور الأخلاق والسلوك، وسيأتي في بحث إرادة الله تعالى أن نظام الكون يتقوم بإرادته عز وجلن وحينئذ يحق لنا أن نقول إن أساس الكون هي الإرادة، سواء إرادته عز وجلن أم إرادة المخلوق في تنظيم النظام وصدور الأفعال .

ولا بد لكل إرادة من متعلق وهو المراد، وبها يفترق العمل الإرادي عن اللاإرادي، وتختلف الإرادة حسب اختلاف المتعلقات ، فلا يمكن حصر أقسامها. ولكن ذهب بعض الفلاسفة إلى تقسيم الإرادة إلى أربعة أقسام، التي هي أصول كل إرادة ، و هي:

إرادة الحياة، وهي الجهد الذي يبذله كل فرد للحفاظ على صورة الحياة ، وبها يحقق كل كائن نموذج نوعه، وهي غريزة من الغرائز التي لا ترتبط بالشعور والرأي.

إرادة القوة : وهي الصراع لأجل الوجود، الذي يكون الدافع الحقيقي للتطور.

إرادة الخير : وهي استعداد الفرد لبذل أفضل ما يطيقه من جهد الفعل الخير، وهذه الإرادة هي التي يقاس بها الإنسان الخير عن غيره .

إرادة الاعتقاد: وهي التي تميز الاعتقاد الصحيح عن الفاسد، والتسليم بمعتقدات واختيارها لما يترتّب عليها من منافع عمليّة .

هذه هي أقسام الإرادة كما ارتآه بعض الفلاسفة .

ص: 253

ولكن المناقشة في هذا التقسيم واضحة، فإن بعضاً منه - کالقسم الأول - يرجع إلى الغريزة والفطرة ، و الإرادة بمعزل عنها. والبعض الآخر هو من مجرد الأمثلة، فلو كان المناط على ذلك لوجب ذکر کل ما يتعلق به الإرادة . وممّا يهون الخطب أنه مجرد اصطلاح منهم، ولا ضير في ذلك.

نعم، الأمر الذي لا يسع لأحد إنكاره هو أن الإرادة قد تضعف وقد تشتد حتى تصل إلى حد التصميم والعزيمة، وقد ورد في القرآن الكريم بعض الموارد التي عبر عنها بأنها من عزائم الأمور، وهي التي لا بد فيها من إرادة قوية وحزم وجزمن قال تعالى مخاطباً لنبيه صلی الله علیه و آله : «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(سورة آل عمران، الآية 159)، وقال تعالى: « وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ»(سورة آل عمران، الآية 186).

إرادة الله تعالی

لا ريب ولا إشكال في ثبوت الإرادة له عز وجل، وقد دلت الأدلة الأربعة عليه ، فمن القرآن الكريم آيات كثيرة، منها الآيات التي تقدم تفسيرها، ومنها قوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (سورة البقرة، الآية 180)، ومنها قوله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ» (سورة الحج، الآية 14) ، ومنها قوله تعالى : «إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(سورة النحل، الآية 40)، وغير ذلك مما هو کثیر .

ص: 254

وأما السنّة فسيأتي نقل بعضها .

وأما الإجماع، فقد أطبق أرباب الملل والنحل بل جميع العقلاء على ثبوتها له عز وجل.

ومن العقل حكمه البتي بأن الله تعالى عالم حكيم في أفعاله، و هما يقتضيان الفاعلية بالإرادة والاختيار، فليس جل شأنه من قبيل الفاعل الموجب، وكل من كان كذلك لا بد وأن تكون له إرادة ؛ ولذا نری وجود بعض الممکنات، وحدوثها في وقت دون آخر، بل نری آثار إرادته في جميع الممكنات، وهذا الدليل يتم أيضا حتى بناء على القول بأن إرادته تعالى إنما هي الإيجاد والإحداث، لأن العلم و الحكمة من مقتضيات الفاعلية على وجه الاختيار، وهي الإرادة .

فما ذكره بعض العلماء من أن إثبات الإرادة الله عز وجل من جهة النقل دون العقل.

مردود، كما عرفت .

وأما السنة، فقد وردت أخبار كثيرة في شرح كلتا الإرادتين - إرادة الخالق تعالى و إرادة المخلوق - ونحن نورد جملة منها، ونذكر ما يستفاد منها.

ففي الكافي : عن صفوان قال: «قلت لأبي الحسن علیه السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ قال عليه السلام : الإرادة من الخلق الضمير، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك؛ لأنه لا يروي، ولا يهم، ولا يتفكر، وهذه

ص: 255

الصفات منفية عنه، وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك ، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة، ولا تفكر، ولا كيف لذلك، كما أنه لا كيف له».

أقول: ليس علیه السلام في مقام بيان حقيقة الإرادة من حيث هي على نحو الحد المنطقي حتى تكون إرادة الخالق مباينة مع إرادة الخلق من كل جهة، و إنما هو علیه السلام في مقام التمييز بينهما في الجملة؛ لأن الإرادة من الخلق كما نراها متقوّمة بالتفكّر و الروية في المبدأ وفي الغاية . فالضمير في الخلق عبارة عن مقدمات الإرادة التي تحصل في القلب ، و قوله علیه السلام : «وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل»، يمكن أن يستظهر منه أن الإرادة في الخلق هي فعلهم أيضا، فالفرق بين الإرادتين إنما هو في المقدمات لا في نفس الإرادة من حيث هي، وقوله علیه السلام : «فإرادته إحداثه» ، أي : أن إرادته تعالى إنما هي نفس الفعل، وهي ما قلناه في إرادة المخلوق، ولكن التفرقة في المقدمات . ويظهر ذلك بوضوح من نفي هذه المقدمات عنه عز وجل، ولكن ذلك لا يستلزم نفي الحكمة والعلم بالنسبة إلى المراد .

ومنها: صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري، قال: قال الرضا علیه السلام : المشيئة والإرادة من صفات الأفعال، فمن زعم أن الله لم يزل مریدا شائية، فليس موحّد».

أقول: هذا الحديث يدل على أن الإرادة والمشيئة هي الفعل، وإنما يفرق بينهما بالجزئية والكلية، فالإرادة تتعلق بالجزئيات والمشيئة تتعلق بالكليات .

ص: 256

وأما قوله علیه السلام : «فمن زعم أن الله لم يزل مریداً شائياً فليس بموحده» ، فلأنه لو كانت المشيئة والإرادة في مرتبة الذات و هما يقتضيان المراد - لاستحالة تخلف الإرادة عن المراد . فحينئذ لا بد من القول بالقدم الذاتي للأشياء، فينتفي التوحيد مع أنهما متجدّدان بالنسبة إلى الخلق في كل عصر و زمان، فيلزم التجدّد في الذات و التغيّر والحدوث فيها، وكلّها باطل بالضرورة .

ومنها: صحيحة ابن أذينة عن الصادق عليه السلام قال: «خلق الله المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة» .

أقول: ذكرنا أن المشيئة والإرادة حقيقة واحدة، وإنما تختلفان بالكلية والجزئية، والحديث يبين أن المشيئة حادثة، وليس المراد من خلقها بنفسها كونها موجوداً جوهرياً خارجياً ، بل المراد بذلك تقديرها في نظام العالم يدبّر بها المخلوقات .

ومنها: رواية أبي سعيد القمّاط عنه علیه السلام أيضاً: «خلق الله المشيئة قبل الأشياء ثم خلق الأشياء بالمشيئة».

أقول: المراد بالقبلية هي الرتبة الواقعية لا الزمانية، وهكذا في «ثمّ».

منها: رواية بکیر بن أعين قال: «قلت لأبي عبد الله علیه السلام : علم الله ومشيئته مختلفان أو متفقان؟ فقال علیه السلام : العلم ليس هو المشيئة، ألا ترى إنك تقول: سأفعل كذا إن شاء الله ، ولا تقول :

ص: 257

سأفعل كذا إن علم الله ، فقولك : إن شاء الله دليل على أنه لم يشأ، فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء، وعلم الله السابق المشيئة».

أقول: الحديث يدل على أن المشيئة منبعثة عن العلم الربوبيّ، فلا يعقل كونهما في مرتبة واحدة ، كما هو الأمر في علمنا ومشيئتنا.

ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال : «المشيئة محدثة».

أقول: لأنّ كل ما كان منبعثاً عن مرتبة الذات محدث لا محالة ، والمارد به هو الحدوث الذاتي منه، لا الزماني، وإن تحقق الثاني في سلسلة المتدرجات.

ومنها: صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : قلت : لم يزل الله مریداً ؟ قال علیه السلام : إن المريد لا يكون إلا المراد معه، لم يزل الله عالماً قادراً ثم أراد».

أقول: الحديث يفسّر حقيقة إرادته تبارك وتعالى بمقدّماتها، وبين أيضا أن من مقدمات الإرادة العلم والقدرة، فتكون الإرادة منبعثة عنهما، فتكون حادثة ولم يبين علیه السلام أنها الفعل، لأنه علیه السلام ليس في مقام بيان ذلك.

ومنها: حديث الأهليلجة المعروف عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال في جواب الطبيب: «إن الإرادة من العباد الضمير وما يبدو بعد ذلك من الفعل، وأما من الله عز وجل، فالإرادة للفعل إحداثه إنما يقول : كن فيكون، بلا تعب و كيف».

ص: 258

أقول: مرّ بيان هذا الحديث الشريف في حديث صفوان عن أبي الحسن موسی بن جعفر عليه السلام .

ومنها : رواية الهاشمي المشتملة على مباحثة الإمام الرضا عليه السلام مع أهل الملل والنحل، قال علیه السلام : «مشيئته واسمه وصفته، وما أشبه ذلك، كل ذلك محدث مخلوق مدبر - إلى أن قال علیه السلام : واعلم أن الإبداع والمشيئة والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة».

أقول: الحديث يدل على ما ذكرناه آنفاً من أنه لا فرق بين المشيئة والإرادة، وإنما جعل عليه السلام الإبداع هي الإرادة والمشيئة؛ لأنها عبارة عن الفعل والإحداث، فتكون محدثة . ولكن الفلاسفة فرقوا بين الإبداع والخلق، فجعلوا مورد الإبداع خلق الروحانيين، والخلق أعم من ذلك، وهذا لا يرتبط بالمقام.

ومنها: رواية عبد الرحيم القصير عن الصادق عليه السلام قال: «كان (عز وجل) ولا متكلم، ولا مريد، ولا متحرك، ولا فاعل جل وعز ربنا، فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه».

أقول: الحديث يدل على أن الإرادة هي الفعل، وهي حادثة، وأن كل ذلك ليس في مرتبة الذات.

ومنها: صحيحة يونس عن أبي الحسن الرضا علیه السلام : «قلت : فما معنی شاء؟ قال لي : ابتدأ الفعل، قلت: فما معنى أراد؟ قال علیه السلام : الثبوت عليه».

أقول: الحديث يدل على أن الفرق بين المشيئة والإرادة هو الفرق

ص: 259

بين التقدير والإيجاد، ويمكن إرجاعه إلى ما قلناه من أن الفرق بينهما بالكلية والجزئية، لأن الكلي مقدم على الجزئي بالإضافة، ويفسره الحديث الآتي .

و منها: صحيحة ابن إسحاق عن أبي الحسن علیه السلام قال: «أتدري ما المشيئة؟ فقال: لا، فقال : همّه بالشيء، أو تدري ما أراد؟ قال : إتمامه على المشيئة» .

أقول: الحديث ليس في مقام الفرق بين مشيئة الله عز وجل وإرادته تعالى، بل إنما هو في مقام بیان طبيعة المشيئة والإرادة بالنسبة إلى الخلق، وإلا فليس له تعالى «هم» ولا روية، كما تقدم في الحديث، ويمكن أن يستفاد من لفظ «الهمّ» الكلية، فيكون في مقام بيان الفرق بين مشيئته تعالى وإرادته عز وجل.

هذه جملة من الأخبار الواردة في هذا الموضوع المهم، و الذي اتفقت عليه جميع هذه الأحاديث أنها لم تشر إلى أن الإرادة من الصفات الذاتية أو أنها عينها، كما هو الأمر في سائر الصفات العليا، فإنهم علیهم السلام بینوا ذلك فيها. فلا ريب ولا إشكال في ثبوت الإرادة له جل شأنه عقلاً و نقلاً ، بل يعد ذلك من الضروريات، كما عرفت.

معنى الإرادة فيه عز وجل

ذكرنا في أحد مباحثنا المتقدمة أن العقول تحيرت في ذاته جلت عظمته، وفي صفاته تعالی مطلقاً ، سواء كانت صفات الذات أم صفات

ص: 260

الفعل ؛ لأن التحير في الذات تحير في ما هو عین ذاته تبارك وتعالی أيضا.

وأما صفات الفعل، فلأنّها منبعثة عمّا لا يدرك ذاته وصفاته، فلا بد من التحيّر فيها أيضاً.

والإرادة من الصفات التي هي من أتم مظاهر الجلال والجمال وتجليات الذات قولاً و فعلاً ، ولا ريب أن الإرادة بالمعنى الذي ذكرناه في إرادة الإنسان لا يمكن انصافه عز وجل بها؛ للزوم كونه محلاً للحوادث، و هو منزّه عنها، إلا إذا قلنا بأن الإرادة في الإنسان أيضاً هي فعله - كما هو الحق - فيتحد معنى الإرادتين حينئذٍ.

ولكن قد اختلفت تعبيرات العلماء في إرادة الله تعالى، وعمدة الأقوال فيها ثلاثة :

الأول: أنها ابتهاج الذات بالذات، وقد اختاره جميع من محقّقي العلماء، وقال بعض الفلاسفة:

فحيث ذاته أجل مدرك*أتم إدراك لأبهي مدرك

مبتهج بذاته بنهجه*أقوى ومن له بشيء بهجة

مبتهج بما بصیر مصدره*من حيث إنه يكون أثره

وعن شيخنا المتألّه المحقّق الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني ، قال (قدس سره) في بيان هذا القول: «ومن البيّن أنّ مفهوم الإرادة - كما هو مختار الأكابر من المحققين - هو الابتهاج والرضا وما يقاربهما مفهوماً ، و يعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا، والسرّ في التعبير عنها

ص: 261

بالشوق فينا، وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى إنما المكان أننا ناقصون غير تامّین في الفاعليّة، وفاعليتنا لكل شيء بالقوة، فلذا نحتاج في الخروج من القوة إلى الفعل إلى أمور زائدة على ذواتنا، من تصور الفعل والتصديق بفائدته والشوق الأكيد، المملية جميعاً للقوة الفاعلة المحركة للعضلات، بخلاف الواجب تعالى، فإنه لتقدسه عن شوائب الإمكان و جهات القوة والنقصان، فاعل وجاعل بنفس ذاته العليمة المريدة ، وحيث إنه صرف الوجود، و صرف الوجود صرف الخير، فهو مبتهج بذاته أتم ابتهاج وذاته مرضية لذاته أتم الرضا، وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي - وهي الإرادة الذاتية - ابتهاج في مرحلة الفعل، وهي التي وردت الأخبار عن الأئمة الطاهرین (سلام الله تعالى عليهم) بحدوثها» ، وبناءً على هذا القول تكون الإرادة صفة تقابل سائر الصفات العليا، فلا ترجع إلى العلم حينئذٍ ، فتكون في مرحلة الذات عين ذاته عز وجل، وفي مرتبة الفعل لصدور الإيجاد، فتكون حادثة .

وأشكل عليه : بأن الإرادة غير الشوق والابتهاج عندنا، لما نراه في تناول الأدوية والأفعال العادية والجزافية والعبثيّة ، وأما الابتهاج في حقّه تعالى، فهو بريء عنه؛ لأنه منزه عن الجسم والجسمانيات، إلا أن يراد فيه عز وجل معنى آخر غير ما نجده في أنفسنا.

و فيه : أن الابتهاج حاصل في كل فاعل لا محالة، ولكن ابتهاجه عز وجل مباين مع ابتهاج الخلق، كما في سائر صفاته تعالى، كالسميع والبصير ونحوهما، ولا يضرّ ذلك بأصل ثبوت هذه الصفة .

ص: 262

الثاني : أن إرادته عز وجل علمه بالنظام الأحسن والأصلح.

وقد ذهب إليه جمع آخر من الحكماء، وعلى هذا القول ترجع الإرادة إلى العلم، فتكون عين ذاته .

وقال بعض مشائخنا في توجيه هذا القول بما يرجع إلى القول الأول: «والوجه في تعبير الحكماء عن الإرادة الذاتيّة بالعلم بنظام الخير وبالصلاح، أنّهم بصدد ما به يكون الفعل اختيارياً ، وهو ليس العلم بلا رضا، و إلا كانت الرطوبة بمجرد تصور الحموضة اختيارية، وكذلك ليس الرضا بلا علم، وإلا كانت جميع الآثار والمعاليل الموافقة لطبائع مؤثراتها وعللها اختيارية، بل الاختياري هو الفعل عن شعور ورضا، فمجرد الملائمة والرضا المستفادین من نظام الخير والصلاح التام، لا يوجبان الاختيارية، بل يجب إضافة العلم إليهما، فما يكون به الفعل اختيارياً منه تعالى هو العلم بنظام الخير، لا أن الإرادة فيه تعالی بمعنی العلم بنظام الخير».

أقول: وهو توجیه حسن .

الثالث: أن الإرادة هي الإيجاد عن علم وحكمة، وبه يمكن الجمع بين الأقوال؛ لأن كل من تأمل في تعبيرات العلماء على اختلافها، يرى أنها ترجع إلى شيء واحد، لعدم إمكان قطع النظر عن العلم والحكمة المتعالية في إرادة الله عز وجل، فمن نظر إلى أساس المقدمات أدخل العلم في حدها، ومن نظر إلى النتيجة مجردة عن المقدمات حدها بغير ذلك، فيصح أن يقال : إن الإرادة هي الإيجاد عن

ص: 263

علم وحكمة متعالية، فالمراد من حيث الإضافة إلى الجاعل يسمى إيجادة و إرادة، ومن حيث لحاظه في نفسه يسمی فعلاً.

وهذا المعنى لا يختص به عز وجل، بل يجري في إرادة الإنسان أيضاً ، ومما يؤكد ذلك أن الأئمة علیهم السلام جعلوا الإرادة من صفات الفعل.

ومن ذلك يظهر أن جعل الإرادة العلم بالنظام الأحسن ليس المراد به أن العلم بنفسه هو المؤثّر التّام لصدور الأشياء ووجودها، حتى يلزم المحاذير التي ذكروها في الكتب الفلسفية والكلامية، وإن كان القول بذلك صحيحة في الجملة ، بمعنى المنشأة والمصدرية، كما ذكرنا.

وقد ظهر مما تقدم بطلان ما قيل: من أن الإرادة لا ترجع إلى العلم؛ لأنه يستلزم إما إلى إرادة الشر والظلم والكفر والقبائح؛ لأنه تعالى يعلمها، أو يلزم أن يكون منشا التأثير في الممكن الأصلح اعتبارياً محضاً ، ولا يرجع إلى نفس العلم لتعلقه بالمعلومات على حدّ سواء، أو يرجع إلى نفس الأصلح، وهو يرجع إلى كون شيء واحد مؤثّراً ومتأثراً.

و الكلّ باطل؛ لأن علمه تعالی إن كان علّة تامّة لحصول المعلوم مطلقاً يلزم ما ذكر، ولكنّه ليس كذلك، بل علمه الأزلي بالأشياء من مجرد المقتضي، فالعليّة التامّة تتوقّف على أمور كثيرة أخرى، فمَن يقول إن الإرادة هي العلم بالممكن الأصلح، لا يريد أن العلم لوحده هو السبب لوجوده، بل العلم مع اختياره عز وجلن ويدل على ذلك ما

ص: 264

رواه الكليني عن أبي عبد الله عليه السلام : «علم الله سابق للمشيئة» ، حيث يستفاد أن العلم بوحده لم يكن المؤثّر من دون المشيئة والإرادة .

والحاصل : أن الإرادة هي الإيجاد عن علم وحكمة، وهي فعله، فتكون من صفات الأفعال ، ولا بد من انبعاث صفات الأفعال عن العلم والحكمة.

ويمكن رفع الاختلاف من أصله لما تسالموا عليه من أن العلل التوليدية يصحّ انتساب الأثر فيها إلى نفس المعلول وإلى العلّة ، كما في قولك: أحرقته النار فمات، أو مات بالنار، كما لا فرق بين قولهم علیهم السلام : «الطهور نور»، أو : «الوضوء نور» وأمثال ذلك كثير، وفي المقام أن الإرادة هي العلة التي يترتب عليها المراد، بلا فرق بين إرادة الخالق وإرادة المخلوق، فالإرادة بما هي من شؤون المرید باعثة الصدوق المراد والفعل.

فمَن نظر إلى المراد جعل الإرادة الفعل، ومن نظر إلى أنها لا تحصل إلا بالعلم والحكمة جعلها منهما، ومن نظر إلى توسط الإرادة بين العلم والمراد، جعلها ابتهاجاً و شوقاً ، فيرجع الجميع إلى شيء واحد في هذا الموضوع الذي له شؤون مختلفة.

ولعلّ مَن قال من الفلاسفة الأقدمين : إن الإرادة في الإنسان هي الفعل. فإن كان نظره إلى ذلك، وهذا هو المرتكز في النفوس، فإن الإنسان لا يرى حين إرادته شيئاً إلا المراد فقط، غافلاً عن نفس الإرادة و مقدّماتها ، و إن كانت هي منطوية في النفس انطواء الجزء في الكلّ.

ص: 265

أقسام الإرادة

قسّم الحكماء والفلاسفة الإرادة إلى إرادة تكوينيّة وإرادة تشريعية ، وعرّفوا الأولى بأنها ما تعلّقت بفعل نفس المريد، و الثانية ما تعلّقت بفعل الغير مع سبق إرادته ، وهما تتصوران بالنسبة إلى إرادة الله تعالی وإرادة الإنسان معاً.

أما بالنسبة إلى إرادته عز وجل ، فقد تقدّم ، وقد وردت في القرآن الكريم كلتاهما.

قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (سورة الحجرات، الآية 13). فإنّها إرادة تكوينيّة . وقوله تعالى : «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» (سورة الأنفال، الآية 1) وهي إرادة تشريعية .

وأما في المخلوق ، فمثل قولك : «ذهبت إلى المسجد» ، فإنّها إرادة تكوينيّة، وقولك لولدك : «اذهب إلى المسجد»، وهي إرادة تشريعيّة، وفي القرآن الكريم القسمان من الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة معاً، و السنّة الشريفة حوت الإرادة التشريعية وبيّنت خصوصیاتها.

وهذا التقسيم إنما هو من باب الوصف بحال المتعلق، وغلا فلا فرق بين ذات الإرادة في الموردين .

ثم إن التشريعيّة إن كانت بالنسبة إلى الفعل ولم يستظهر من القرائن الداخلية أو الخارجيّة الترخيص في الترك، يعبّر عنها بالوجوب، وإلا فهي الندب الاستحباب، وإن كانت بالنسبة إلى الترك ولم يستظهر

ص: 266

من القرائن الترخيص في الفعل، يعبّر عنها بالحرام، وإلا فهي الكراهة ، وبذلك تنتظم الأحكام التكليفية، وقد أثبتوا أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا مع الدليل على الخلاف.

وإرادة الله التشريعية ليست إلا لتكميل الإنسان ، فلو قلنا: بأن الإرادة التشريعية منه عز وجل غاية الإرادة التكوينيّة بل أصلها و أساسها، لم يكن به بأس، وعليه الشواهد الكثيرة، و يصحّ العكس أيضاً لشدّة ارتباطهما، فقد ورد في العقل المجرّد سيد الأنبياء أحمد صلی الله علیه و آله : «خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي»، وقال الله تعالى بالنسبة إلى موسی بن عمران :«وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي »(سورة طه ، الآية 41).

ولذا جعل بعض مشائخنا(قدس سرهم) الإرادة التشريعية من التكوينية ؛ لأن التشريع من مراتب النظام الأحسن، وهو متين جداً .

وقيل : إنه لا وجه للإرادة التشريعية؛ لأن إرادته تعالى إن تعلقت بفعل الغير يتحقق لا محالة، فيتحقق الجبر، وحينئذ يكون فعله تعالی الا فعل الغير، فالإرادة التشريعية باطلة.

وفساده واضح؛ لأن الإرادة التشريعيّة تتعلّق بما يصدر من العبد مع إرادته واختياره، فالإرادة تتعلّق بفعله مع تخلل القصد والاختيار، وأنه فاعل مختار، ولعل تقسيم الإرادة إلى هذين القسمين لبيان الفرق بين متعلقي الإرادتين (1) .

ص: 267


1- م.ن، ج8، ص85 - 100.

صفات الله التنزيهية

أن صفات الله جل شأنه تنقسم إلى أقسام عديدة حسب اختلاف الوجوه والاعتبارات :

فتارة : تنقسم إلى صفات الذات وصفات الفعل .

وأخرى: إلى الصفات العامة كالخالقية، والخاصّة كالفيوضات الخاصّة على أنواعها وأقسامها.

وثالثة : تنقسم إلى الصفات الثبوتية والصفات السلبية، وفي هذا البحث يقع الكلام في القسم الأخير، أي الصفات الثبوتية والصفات السلبية، والمراد بالأولى تلك الصفات التي تكون كمالاً للمتّصف بها، ولا يستلزم من نسبتها إليه عز وجل نقصن فيجب حينئذ الاتصاف بها، وهي كثيرة، كالعلم والحياة والقدر ونحو ذلك ، وتسمّى بالصفات الجمالية أو الكمالية .

والمراد بالثانية هي تلك الأمور التي يمتنع ثبوتها لذاته المقدّسة ، و تسمّى بالصفات الجلاليّة ، أي : يجلّ و ینزّه تعالی عنها، وهي النواقص و لواحق الإمكان و كلّ صفة إذا استلزمت النسبة إليه عز وجل نقصاً، وهي كثيرة وقد ورد جملة منها في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، مثل

ص: 268

أنه تعالی ليس بجسم، ولا بمكاني ولا زماني، ولا كيف له، وأنه ليس بمتحرّك ، ولا سكون له، ولا يرى، أي : لا تدركه الأبصار وغير ذلك، كما سيأتي في الموضع المناسب شرح ذلك كله. إلا أنّ البحث في المقام يقع في نفي الظلم عنه عز وجل، كما دلّت عليه الآية التي تقدم تفسيرها.

وقبل أن نتعرّض لذلك لا بد أن نشير إلى الصفات التنزيهيّة التي تجلّ ذاته الأقدس عن الاتصاف بها؛ للزوم النقص، هي غير البحث الذي أشار إليه الأئمة المعصومون علیهم السلام ، و هو أن الصفات الكمالية التي يتصف بها عز وجل لا يمكن درکها بحقيقتها وكنهها، و لا يمكن أن يصل غليها عقول البشر، فالله تعالی عالم، أي : ليس بجاهل، لأن حقيقة علمه عز وجل لا يمكن درکها ولا تصل إليها فهم الإنسان، فإن ذلك في الصفات الكمالية التي يجب أن يتصف بها الذات المقدسة ، وإلا استلزم النقص بالنسبة إليها، لا الصفات السلبية التي يجل أن يتصف بها.

ثم إنه جلّت عظمته منزّه عن الظلم ، كما دلّت عليه الأدلة الكثيرة ، فمن الكتاب آيات عديدة، منها قوله تعالى :«إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (سورة يونس، الآية 44)، وقوله تعالى:« وَ لَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»(سورة الكهف، الآية 49).

و منها: الآية التي تقدم تفسيرها: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا » ، و المستفاد من هذه الآية الشريفة أمور:

ص: 269

الأول : أنّ عدم وقوع الظلم منه لا عن نقص في القدرة الأزلية ، بل لأجل أن حكمته اقتضت أن لا يظلم أحداً ، و هذا هو معنى العبارة المعروفة : «إن الله لا يظلم لحكمة، لا لقدرة» كما تقدّم ، فإنّ قدرته تامّة كاملة قد تعلقت بجميع الأشياء حتّى الممتنعات، ولكن الحكمة الإلهية اقتضت أن لا يفعل ذلك، وهو لا يفعل شيئاً خلاف الحكمة، فإن الذي يقدر على مضاعفة الحسنات لقادر على سلبها عن صاحبها، ولكنه لا يظلم أحداً .

الثاني : أن وقوع الظلم منه يستلزم الجهل، وهو منزّه عنه تعالى ، فيرجع نفي الظلم عنه إلى علمه الأتم بحقائق الأشياء، والظالم يجهلها فیظلم.

الثالث : استغناؤه عن الظلم ، فلا غرض له يتعلّق به ، وهو منزّه عنه ؛ لأن الله تعالى يضاعف الحسنات ويعطي الأجر العظيم لمن استحقّه ، فهو أجلّ من أن يسلبه عنه .

ثم إنّ نفي الظالم عنه تعالى لا يثبت العدل له جلّت عظمته ، بخلاف العكس كما هو واضح(1) .

ص: 270


1- م.ن، ص217 -218، ج8.

جزاء الأعمال

لا شك أن الجزاء المترتب على الأعمال - قبيحةً كانت أو صالحة أو الملكات النفسانية التي لها أثر في الخارج، أو ما لا تكون كذلك إلا أنها قابلة للزوال و لم يعالجها آنها، فرسخت في النفس بالاختيار - لا بد وأن يكون مطابقة لها ويناسبها، ويدل على ذلك كثير من الآيات المباركة والسنّة الشريفة، بل قد يكون الاختلاف حسب العامل بما عنده من الدرجات، أو حسب الأزمنة المعينة أو حسب الصفات النفسيّة ، فلا فرق في ذلك بين العذاب الدنيويّ والأخرويّ ، وأما مسألة الخلود في النار، فقد أجبنا عنه في أحد مباحثنا السابقة، ويأتي التعرّض لها في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالی.

والطمس الذي هو نوع من أنواع العذاب الذي يستحقّه المتمرّد أخف من المسخ في الجملة، فإنّ المسخ قلب الشيء أو تبديله إلى أسوء منه، وهو تارة : في العين، أي : مسخ الخلق، كما يمسخ الله الإنسان المتمرد المنهمك في المعصية إلى القرد.

وأخرى : مسخ الخلق، وهو يحصل في كل زمان و مكان، وذلك أن يصير الإنسان - نستجير بالله - متخلّقاً بخُلُق ذميمة فاسدة من أخلاق

ص: 271

بعض الحيوانات، نحو أن يصير في شدّة الحرص کالكلب، وفي الشره كالخنزير أو غيرهما من الحيوانات التي لها خُلُق ذممية وصفات سيئة .

بخلاف الطمس الذي هو تغيير في الصورة والوجه، بمحو محاسنها وزوال تخطيطها من العين والأنف والحاجب، وجعل الوجه على هيئة الأدبار، وفي المقام لما كانت جماعة من اليهود قد أعرضوا عن الحق ومتابعته بعد إقامة الحجة عليهم، فقد طمس الله تعالی علی وجوههم وغيرهم عن تلك الخلقة الأصلية، جزاء لأعمالهم الفاسدة ولإعراضهم عن الواقع الذي علمت به ضمائرهم ونفوسهم.

ثم إنّ الطمس أو المسخ لو وقع على قوم - أو على فرد - لا يمكن رفعهما؛ وذلك لا لأجل القصور في القدرة، فإنّه تعالى قادر على كل شيء وإذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، بل لأنهما من مظاهر غضبه والطرد من رحمته وساحته، و مَن حلّ به غضبه فقد هوى ، فالموضوع غير قابل، ولا يكون لائقاً للعود إلى رحمته(1).

ص: 272


1- م.ن، ص259 - 260، ج8.

خلافة الأئمة علیهم السلام

استدل الإمامية بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» على الإمامة الأئمة علیهم السلام وخلافتهم بعد الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله ، فقالوا: إن الآية المباركة تدل على أمور مهمة :

الأول: عصمة أولي الأمر، حيث قرن طاعتهم بطاعة الرسول صلی الله علیه و آله المطلقة غير المشروطة بشيء، و قد اعترف جمع غفير من الجماعة على هذا الأمر لظاهر الآية الشريفة، لكنهم اختلفوا في تعیین مصداق أولي الأمر كما عرفت في التفسير، وذكرنا أن المراد من أولي الأمر هم الأئمة المعصومون علیهم السلام .

الثاني: أن أولي الأمر أعلم الأمة بعد الرسول صلی الله علیه و آله ، فإن مَن فرض طاعته لا بد أن يكون عالماً بجميع الأحكام و جهات التشريع.

الثالث: أن أولي الأمر هم أفراد من هذه الأمة معلومون، إلا أن معرفتهم لا بد أن تكون بنص جلي من النبي صلی الله علیه و آله يبيّن أسماءهم وخصائصهم.

ص: 273

الرابع : أصالة منصب الرسول صلی الله علیه و آله و نيابة منصب الإمام علیه السلام و ولي الأمر وخلافته عن الرسول صلی الله علیه و آله .

الخامس: أصالة منصب الرسول صلی الله علیه و آله في وصول الوحي إليه ، بخلاف الإمام عليه السلام ، فإنه يعرف الأمور بإلهام ربّاني أو بفهم ثاقب أو بغيرهما، كمصحف فاطمة سلام الله علیها ، أو بكتاب علي علیه السلام .

السادس: أن الحاجة التي تدعو إلى الرسول صلی الله علیه و آله عين الحاجة التي تدعو إلى أولي الأمر، فإنها تتضمن مصالح مهمة لا تستقيم حال الأمة بدونها(1) .

ص: 274


1- م.ن، ص340. 341، ج8.

القدر

وجوب اتخاذ الحذر، وهو حكم عقلي - بل أمر فطري - کشف عنه الشرع، و الحذر : هو طريق الاحتياط يعمّ في جميع الأشياء و يختلف حسب متعلّقه ، أي المخوف.

والفرق بينه و بين الكيد، هو أنّ الكيد يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه، والحذر هو احتيال الشخص لخروج نفسه عن مكروه ، فالتنافي بينهما واضح. فما قيل من أنه نوع من الكيد، غير صحيح.

والتقديرات من الله سبحانه و تعالى لا يرفعها الحذر أصلاً ؛ لأنّها کائنة حتى في ظرف الحذر، بل المقدرات الإلهية غير مربوطة بالظروف التي حصلت باختيار الإنسان بنفسه، كما عن نبينا الأعظم: «المقدور كائن والهم فضل» - وما قيل: «الحذر لا يغني القدر»، فالتقديرات الإلهية كائنة مهما كانت الظروف والحالات.

إن قلت : لو كان التقدير في الحرب مثلاً الغلبة، فلا فائدة في الحذر، وإن كان مقتضاه المغلوبية فلا نفع فيه، فلا فائدة في الحذر على التقديرين.

قلت: الأمر بالحذر لا ينافي التقدير كما مرّ. و إن الأوامر

ص: 275

التشريعية التي هي في مقام تکمیل العبد، غير مرتبطة بالأمور التكوينية التي منها التقديرات، وقد يكون الحذر من مقدمات الفعل الذي تعلق القدر به، وقد يكون نفس الحذر أيضاً مقدراً.

وبالجملة : أنّ القدر هو جریان الأمور وفق نظام معین متين فيه الأسباب و المسببات ، والله تعالی قدّر أن يكون الفعل واقعاً إذا لم يتخذ الإنسان الحذر ولم يتهيّأ في دفع الضرر عن نفسه، فيكون الحذر من جملة الأسباب ويكون العمل بالحذر عملاً بنفس القدر، لا أن يكون منافياً له أو لا نفع فيه، هذا موجز الكلام في المقام(1) .

ص: 276


1- م.ن، ص41، ج8.

التقوى في القرآن والسنة

وردت كلمة التقوى في القرآن والسنة - بل في الكتب السماوية - كثيراً ، و حثّت عليها الشرائع الإلهية ورغبت إليها. وهي صفة - أو حالة نفسانية - تعرض على الإنسان الملتزم بالدين، وقد تزول عنه حسب العوامل النفسية والمكائد الشيطانية، فهي من الأمور الإضافية، تختلف حسب درجات الإيمان و الثقة بالمبدأ عز وجل.

وهي في اللغة : جعل النفس في وقاية ممّا يخاف. بل جعل نفس الخوف تقوی، من باب تسمية مقتضي الشيء باسم مقتضاه .

وقد عرفت في الشرع بتعاریف متعددة، ولعلّ أسلمها : حفظ النفس عما يؤثم. وذلك بترك المحظور، ويتحقّق باجتناب بعض المباحات، أي التنزّه عن الحلال مخافة الوقوع في الحرام، لما روي : «الحلال بين والحرام بين، ومن رتع حول الحمى فحقيق أن يقع فيه»، وغيره من الروايات قال الله تعالى : «فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» (سورة الأعراف، الآية 35).

وقيل : إنّها صفة راسخة في النفس توجب الاجتناب عن المأثم والمشتبهات، وهذا التعريف يرجع إلى الأول، وإنّما الاختلاف في التعبير .

ص: 277

وقيل : هي الامتناع عن الرديء باجتناب ما يدعو إليه الهوى، و هذا أعمّ ممّا تقدّم.

وكيف كان، فإنّه لا يمكن تحقيق التقوى إلا بترك المشتبهات ، فضلاً عن المحرّمات ، ففي رواية يونس عن الصادق علیه السلام في قوله تعالى : «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ » : «أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ إلى جئتك من أن نتبع أهواءنا فنعطب، ونأخذ بآرائنا فنهلك، فإن من اتبع هواه وأعجب برأيه كان كرجل سمعت غثاء الناس تعظمه وتصفه، فأحببت لقائه من حيث لا يعرفني، لأنظر مقداره و محله، فرأيته في موضع قد أحدقوا به جماعة من غناء العامة، فوقفت منتبذة عنهم متغشياً بلشام، أنظر إليه وإليهم، فما زال يراوغهم حتى خالف طريقهم و فارقهم ، ولم يقر، فتفرّقت جماعة العامة عنه الحوائجهم، وتبعته أقتفي أثره، فلم يلبث أن مر بخباز بتغفله فأخذ من دكانه رغيفة مسارقة ، فتعجبت منه، ثم قلت في نفسي: لعله معاملة، ثم مر بعده بصاحب رمان، فما زال به حتى تغفله فأخذ من عنده رمانتین مسارقة، فتعجبت منه ثم قلت في نفسي : لعله معاملة، ثم أقول: وما حاجته إذاً إلى المسارقة، ثم لم أزل أتبعه حتى مر بمريض فوضع الرغيفين والرمانتين بين يديه ومضى، وتبعته حتى استقر في بقعة من صحراء، فقلت له : يا عبد الله لقد لحقت بك وأحببت لقاءك فلقيتك ، لكني رأيت منك ما شغل قلبي، وإن سائلك عنه ليزول به شغل قلبي، قال : ما هو؟ قلت : رأيتك مررت بخباز وسرقت منه رغيفين ثم بصاحب الرمّان فسرقت منه رمّانتين، فقال لي : قبل كلّ شيء حدّثني

ص: 278

من أنت؟ قلت : رجل من ولد آدم من أمة محمد صلی الله علیه و آله ، قال : حدثني ممن أنت؟ قلت : رجل من أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله ، قال : أين بلدك؟ قلت : المدينة ، قال : لعلك جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قلت : بلى، قال لي: فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شرفت به وتركك علم جدك وأبيك، لأنه لا ينكر ما يجب أني حمد ويمدح فاعله، قلت : وما هو؟ قال : القرآن كتاب الله ، قلت: وما الذي جعلت؟ قال : قول الله عز وجل : و«مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» ، وقال تعالى: «وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا» ، و إني لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات . فلما تصدقت بكلّ واحد منها كانت أربعين حسنة، انقص من أربعين حسنة أربع سيئات، بقي ست وثلاثون . قلت : ثكلتك أمّك، أنت الجاهل بكتاب الله، أما سمعت قول الله عز وجل: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» ، إنّك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين، ولما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، ولما دفعتها إلى غيرها من غير رضا صاحبها كنت إنما أضفت أربع سيئات ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات. فجعل يلاحيني فانصرفت وتركته». ويستفاد من هذه الرواية أن القبول مطلقا يدور مدار التقوى، ولولاها فالأعمال مجرد صور لم يكن لها لبّ . نعم لكل منهما مراتب ودرجات ، و التقوى هي المسلك المهمّ للوصول إلى ساحة قربه ولاستقرار حبّه تعالى في القلب. وقد ذكر علماء السير والسلوك أن مقامات الرقي هي مراتب التقوى، وقسّموها إلى تقوى العوامّ وتقوى الخواصّ، وتقوى

ص: 279

أخصّ الخواصّ. ثم إن المراد من التقوى في الآية المباركة: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» ، هو مجرد التقرّب إليه عز وجل مع تقريره به ، لا التقوى المصطلح، لتناسب ذلك لبدء التشريع وتلائمه مع بثّ النسل، ولم تكمل الحجة بتمام جهاتها . ولكن تقدّم أن للتقرّب إليه تعالی مراتب ودرجات، وأنّه لم يرد مثل هذا التعبير القرآني إلا في هذه الآية فقط (1).

ص: 280


1- م.ن، ص197 - 199، ج11.

النبيون والربانيون والأحبار

بدل قوله تعالى: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ»، على المنزلة العظيمة التي منحها عز وجل لهذه الطوائف الثلاث، النبييّن والربّانيين والأحبار، فقد جعلهم تعالى حكّام الشرع المبين الذين يحكمون بما أنزل الله لبسط العدل بين الناس وإقامة النظام الربّاني فيهم، وإيصالهم إلى الكمال المنشود، كل حسب لياقته واستعداده . و المستفاد من الآية الشريفة أنّ الأنبياء هم الأصل في هذا المنصب الجليل، ثمّ يأتي في المرتبة الثانية الربانيون الذين هم حفظة الشرع المبين ببيان الحقائق وكشف ما أبهم من الشريعة، ثم الأحبار الذين هم أمناء الله على أحكامه المقدسة، ولا ريب أن تلك لا يمكن أن تنالا إلا إذا توفرت شروط الولاية والإمامة، والآية تبيّن أهمّ تلك الشروط، وهي ثلاثة :

الأول : كونهم ربانيين يدعون إلى الله تعالى قولاً وعملاً ، وقد تقدّم الكلام في معنى هذه الكلمة في سورة آل عمران. وهي لم ترد في القرآن الكريم إلا في صفات الأنبياء والأوصياء.

الثاني : العلم الحاصل من تعليم الله تعالى لهم خصوصیات

ص: 281

الشريعة والكتاب ، بل الآية الكريمة تدل على معنى أدق، لأن الحفظ يدل على العلم والتحفظ على ما علم من الضياع والتبديل والتغيير ، فيكون أخص من مجرد العلم، فإن الأول عبارة عن إيجاب الحفظ ورؤيته في المراقبة قولاً وعملاً من كل من وجب عليه الحفظ دون الثاني، فإنه لم ينظر فيه هذه الخصوصية، ولعل هذا الفرق أوجب أن يكون هذا الوصف من صفات الأوصياء، كما أن هناك فرقاً آخر أيضا وهو أن الاستحفاظ يدل على العلم التام بخصوصيات الكتاب وما أنزله الله تعالى و التكليف بالحفظ وبیان ما كمن في نفوسهم الطاهرة من العلم، بخلاف مجرد العلم، و لذا اعتبر في علم المعصوم أن يكون محيطة بجميع ما تحتاج إليه الأمة من خلال الشريعة حرامها ، والعلم بالكتاب وشؤونه. ففي الحديث المروي عن أبي عمر الزبيري ، المروي في تفسير العياشي عن أبي عبد الله علیه السلام : «أن مما استحقّت به الإمامة العلم المنور - وفي نسخة المكتونة - بجميع ما تحتاج إليه الأمة من حلالها وحرامها، والعلم بكتابها خاصة وعامة، والمحكم والمتشابه ، ودقائق علمه أو غرائب تأوليه، وناسخه ومنسوخه، قلت: وما الحجة بأن الإمام لا يكون إلا عالماً بهذه الأشياء الذي ذكرت؟ قال علیه السلام : قول الله تعالى فيمن أذن الله لهم بالحكومة وجعلهم أهلها: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ » ، فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربّون الناس بعلمهم، و أما الأحبار فهم العلماء دون الربانيون، ثم أخبر فقال : «بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ» ، ولم يقل : بما حملوا

ص: 282

منه»، فإنه (عليه الصلاة والسلام) يشير إلى معنی دقیق ، و هو أن علم الأنبياء أعلى مرتبة من علم الأوصياء الذي يختلف عن علم العلماء اللذين حملوا علم الدين بالتعليم والتعلم، والأوصياء ليسوا كذلك، فإنهم علموا الكتاب بما وصل إليهم من الأنبياء وما ألهمهم الله تعالى، ولذا كلفوا بالحفظ ويسألون عنه، نظير قوله تعالى : «لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ»(سورة الأحزاب، الآية 8)، أي: يسألهم عمّا كلّفوا به من الصدق في الأقوال والأفعال وما كمن في نفوسهم من صفته.

إن قلت: إنه قد ذكر عز وجل الأحبار الذين هم علماء الدين في سباق الربانيين، فلم لم يشترط فيهم ما اشترط في الأنبياء والربانيين من العلم والعصمة.

قلت : إنه مضافاً إلى عدم الدليل على اشتراطها فيهم، بل وردت الأدلة على عدمه، لأن المقتضي للاشتراط في الأنبياء والأوصياء هو ما أخبر به عز وجل من صفة الاستحفاظ فيهم وتكليفهم بالحفظ، فإنهم رسل الله تعالى وأمناؤه على الشريعة ومبينوا حلالها وحرامها والمكلفون بحفظها، واحتياج الأمة إليهم كما عرفت آنفاً ، و هذا بخلاف الأحبار والعلماء، فإنه و إن أخذ العهد و الميثاق منهم على بيان الأحكام الإلهية وحفظها، إلا أنه مجرد ثبوت شرعي ، لا ثبوت حقيقيّ مبني على العلم والعصمة عن الخطأ والغلط ، والدين الإلهيّ لا يتمّ إلا بالأخير دون الأول.

الشرط الثالث : العصمة من الغلط والخطأ، فإن العلم بالمعنی

ص: 283

المزبور في الربانيين الذي تبتني عليه الشهادة يستدعي العصمة، فإنها شهادة غير ما هي المتداول عند الناس، وهي شهادة على الشريعة والكتاب كشهادتهم على الأعمال يوم القيامة، التي تقدم الكلام فيها بقوله تعالى:«لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»(سورة البقرة، الآية: 143). وهي شهادة حضور ومراقبة وحفظ، وهي تختصذ بالأنبياء والأوصياء، ولا ريب أن مثل هذه الشهادة تستلزم العصمة، وإلا استلزم الخلف، فهي شهادة حقيقية خالية عن الخطأ والغلط والمعاصي، ويدل عليه ما ورد في الحديث المزبور المروي عن تفسير العياشي عن الصادق علیه السلام : «إن ممّا استحقّت به الإمامة التطهير و الطهارة من الذنوب والمعاصي الموبقة التي توجب النار» .

ومما ذكرنا يظهر معنى قوله عليه السلام في الحديث المزبور: «فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربون الناس بعلمهم»، فإنهم أوصياء الأنبياء والأئمة على الخلق والحجة عليهم، لأنهم علموا بالكتاب حق العلم وشهدوا عليه بحق الشهادة .

والآية الشريفة وإن نزلت في الأنبياء والربانيين والأئمة من بني إسرائيل، إلا أن المناط موجود في غيرهم من الأنبياء والأئمة، لأن الاستحفاظ والشهادة اللذين لا يقوم بهما إلا الربانيون، يكونان في كل كتاب إلهي نزل من عند الله تعالى يشتمل على المعارف الربوبية والأحكام الإلهية، ويدل على ذلك ما رواه العياشي عن مالك الجهني، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى

ص: 284

وَنُورٌ »- إلى قوله تعالى : «بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ » . قال علیه السلام :«فينا نزلت». لأن القرآن الكريم الذي احتوى من المعارف الإلهية على أسماها، ومن الأحكام الشرعية على أكملها»، ومن المكارم على أجلاها وأعلاها هو الذي يستدعي لأن يكونوا عليهم السلام المصداق الأكمل لهذه الآية الشريفة(1).

ص: 285


1- م. ن، ج 11، ص260-268.

مقام الأنبياء والرسل

الأنبياء - الذين هم أفضل أفراد البشر وأكملهم حسب درجاتهم - كلهم من مظاهر شؤونه تعالى وأفعاله، وكل واحد منهم مظهر لأسمائه الخاصة جل شأنه. وفضل بعضهم على بعض بشرف تقرّبهم إلى حضرته جلّت عظمته . و إن كان جميعهم نالوا التقرب إليه مكانتهم وارتباطهم معه تعالى - ولا يتحقق ذلك التشرّف العظيم إلا بأداء أمانة الحق الملقاة على عواتقهم وتحمل المشاق في سبيل إعلاء كلمته عز اسمه والتكلف مع المشقة الشديدة في إبلاغ رسالته، وتحمل الأذى في سبيل هداية البشر إلى السعادة بعد إنقاذهم من المهالك والقيام بالوساطة بينه تعالى وبين العباد .

وكلّما كانت الأمة بعيدة عن الكمالات والمثُل الإنسانية و الأخلاقية ومنغمسة في الشرور والمادیات، كان تعب النبي وتحمله أشد و تقربه إلى الله أكثر، ولذا ورد في الحديث عن نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله : «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت» و لأجله - ولکمالات أخرى . تفوّق صلی الله علیه و آله على جميع الأنبياء وإلا فإن الأنبياء جمعيهم على حد سواء في إبلاغ الرسالة قال تعالى : «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا

ص: 286

رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ»(سورة المائدة، الآية : 75)، وقال تعالى : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ»(سورة آل عمران ، الآية : 144).

وإنما خصّ سبحانه وتعالى كل نبي بمعجزة خاصة لتناسب زمانه بها بالتحدي من أهل عصره وقبولها من أمته ؛ لأن المعجزات الصادرة عن الأنبياء علیهم السلام ليست هي إلا خوارق العادات لإثبات دعوی رسالتهم بطريقة يقتنع بها المدعوون إلى الإيمان، فيؤمنون بشريعتهم مثل إحياء الموتى وشفاء المرضى وغيرهما من معجزات المسيح عليه السلام ، فهي ليست إلا كإلقاء العصا فتصير حية تسعى، ونجاة بني إسرائيل من العذاب، وغرق فرعون وغيرها من معجزات موسى عليه السلام التي تناسب عصر كل منها.

وكذا معجزات نبينا الأعظم صلی الله علیه و آله من تسبيح الحصا بين يديه، ونصرته في الغزوات مع قلة عدد المسلمين، وتفوّق حجته على الخصام، وإخباره عن المغيبات، وعروجه بجسمه الشريف إلى السماء، والبشارة بنبوته في كتب السماء على لسان الأنبياء علیهم السلام ومعجزته الباقية الخالدية (القرآن) وغيرها مما هو كثير .

وأما خلق المسيح عليه السلام بلا أب ، فإنه يرجع إلى قدرته تعالی وعزته ، كخلق آدم علیه السلام بلا أب ولا أم، قال تعالى : «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ»، ولا يكون من المعجزة التي تصدر منه أو تظهر على يديه ؛ لأنه لم يكن تحد في البين مثل نزول المائدة من السماء

ص: 287

بدعائه، وخلق الطير من الطين، وإبراء الأكمه والأبرص. بل معجزة في خلقه، وكذا رفعه إلى السماء يرجع إلى قدرته تعالى فيه، فالمسيح إنسان أرضي وسماوي، وقد أخر هبوطه إلى الأرض بعد رفعه منها حتى يكون شاهداً على حقانية شريعة محمد صلی الله علیه و آله باقتدائه بمهدي هذه الأمة الذي هو من ولد محمد صلی الله علیه و آله ، ويكون لشريعته - بل لجميع الشرائع التي جاء بها الأنبياء - سير استكمالي يصل إلى منتهى الكمال بظهور مهدي هذه الأمة الذي هو من ولد فاطمة البضعة الطاهرة منه صلی الله علیه و آله ، فيملأ الأرض قسطاً و عدلاً هذا بالنسبة إلى حياتهم الظاهرية في إبلاغ مهامهم.

وأما أرواحهم الشريفة ونفوسهم القدسية، فهي لا شك في امتیازها وتفوقها على سائر النفوس لقربها من العقل الأول كما عن بعض، أو أنها فائضة من الحضرة الإلهية كما عن آخرين (1) .

ص: 288


1- م. ن، ج10، ص158 - 159.

بحث عقائدي حول المسيح علیه السلام

اشارة

الآيات المباركة المتقدمة من جلائل الآيات التي نزلت في شأن المسيح عیسی بن مریم علیه السلام الذي اختلف فيه اختلافاً كبيراً ، فقد أبغضته اليهود حتى رموه بما لا يليق بشأنه، وقدّسته النصارى حتى ادعوا فيه الألوهية وأنه ابن الله وهو ثالث ثلاثة، وكلا الفريقين غلوا في دينهم كما حكي عز وجل عنهما في القرآن الكريم، لا سيما هذه السورة المباركة، وأمرهم باتباع الحق في عقائدهم وأقوالهم ونهاهم عن الغلو في الدين؛ لأن الإيمان بأنبياء الله تعالی - بكونهم رسلا مبشرین ومنذرين، وأنهم عباد مکرمون خصهم الله عز وجل بالفيض - أحد أركان الإيمان المطلوب، قال تعالى : «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ » (سورة البقرة، الآية : 283).

وقد أشار سبحانه وتعالى في هذه السورة إلى بعض ما اعتقده النصارى في المسيح، وخصّ بالذكر مسألة الصلب والفداء وبيّن الحقّ فيها، ومسألة ألوهيته وأنه ثالث ثلاثة ونهاهم عن القول فيها فضلاً عن الاعتقاد بها، وإنما خضهما بالذكر لأهميتهما في دينهم، ولأثرهما

ص: 289

العميق في عقيدتهم، ولدلالتهما على بُعدهم عن الحقيقة والواقع، وشهادتهما على تحريفهم لكتبهم المقدّسة، ونهاهم عن قول ما يوجب الانحراف عن الواقع والإعراض عن ما أنزله الله تعالى . وقد ذكرنا أن أحد المباحث السابقة بعض ما يتعلق بمسألة الصلب والفداء، وتعرضنا لما ذكره المسيحيون فيها وناقشناهم فيها فراجع .

وفي هذا البحث نذكر ما يتعلق بمسألة ألوهية المسيح عيسى بن مريم عليه السلام التي لا تقل أهميّة عن سابقتها إن لم تكن بأعظم منها؛ لأنها تمسّ عقيدة التوحيد التي بنيت عليها الأديان الإلهية، ولأثرها الخطير في الأحكام الشرعية، ولتأثيرها في النفوس وإطفاء نور الفطرة فيها.

وقد عالج جلّ شأنه هذه المسألة في آيات محكمة ذات أسلوب بلاغي رائع، فذكر خلق عیسی بن مریم، ورسالته، وأنه عبد من عباد الله تعالى لا يستنكف عن عبادته، وبيّن الحق فيها وأقام الحجج والبراهين عليه ، ونهاهم عن القول بالتثليث، فأثبت عقيدة : «لا إله إلا الله» التي لم ينفك القرآن الكريم عن الدعوة إليها.

ونذكر في هذه البحث الألوهية في القرآن الكريم وما ذكره عز وجل في شأن هذا النبي العظيم الذي يعد معجزة إلهية في جميع أحواله من خلقه وولادته ومبعثه ورفعه إلى السماء، ثم نذكر عقيدة المسيحيين وما يتعلق بها، كما نبين وجه البطلان فيها، ثم نذكر مآخذ هذه العقيدة والسبب في دخولها في المسيحيين إن شاء الله تعالی.

ص: 290

الإله في القرآن الكريم

يعدّ القرآن المجيد من أمتن الكتب الإلهية وأعظمها في معالجة مسألة الألوهية وبيان خصائصها، فقد أثبت الإله الواحد الأحد وأشاد بعقيدة التوحيد وأسّس أسسها وقواعدها، وأقام دعائم الوحدانية واستدلّ عليها بأدلّة وبراهين متعدّدة، الفلسفية منها والوجدانية والطبيعية وغيرها، حتى جعلها أقرب الأمور إلى النفوس وأعذبها إليها، ورفض الشرك بجميع أشكاله وعده من الظلم العظيم الذي لا يغفر، قال تعالى :«إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» واعتبره أمراً مرفوضاً بالفطرة، وله آثار وضعية جسيمة على الإنسان وبقية المخلوقات، وحاج المشرکین بجميع أصنافهم.

وأما التوحيد ، فقد أودعه في الفطرة الإنسانية وأخذ العهد من بني آدم على تثبيته اعتقاداً وعملاً ، فصار أمراً فطرياً لا يقبل الإنكار، ولا محالة يلجأ إليه الإنسان عندما تشتدّ به الحاجة وتنجلي عنه ظلمة الجهل مهما كابر وعاند، وعظّم القرآن الكريم أمر التوحيد بيان جميع جوانبه ، فأقام أركانه بإثبات الخالق العظيم و بیان صفاته عز وجل، وذكر قواعدها وبين خصوصياتها وقسمها إلى صفات کمالية يتصف بها الباري تعالى، و صفات جلالية منزه عنها سبحانه وتعالى، وذكر من أفعاله وآثاره وإبداعه في خلقه ما يدل على علمه الأتم وحكمته المتعالية وقدرته التامة وقفاريته العظمی وقيوميته الكاملة، بحيث لا يدع مجالاً للشك في وجوده ووحدانيته واستجماعه لجميع الصفات العليا

ص: 291

الجمالية، فليس كمثله شيء، وبرّء ساحته عن مجانسة مخلوقاته مهما بلغت من الكمال؛ لأنها خلقه عزّ وجلّ يدبر أمرها - إيجاداً وإبقاءً وإعداماً - إلّا أن مسألة الألوهية مع كثرة اهتمام القرآن بها وتبسيطها إلى أقرب الحدود، لكنها لا تخلو من تعقيدات؛ لأنها من الأمور الغيبية التي يتطرق إليها الظنون والأوهام، فلم تنج من شبهات الملحدين وزيغ المبطلين، فلا بد للمؤمن الذي يعتقد بهذه المسألة التي لها الأثر الكبير في حياته الدنيوية والأخروية، كما يجب على المفكر الباحث أن يستقي المعلومات فيها من عين صافية بعيدة عن كلّ زیغ وضلال.

وقد حدّد القرآن الكريم مصادرها، وهي إما الوحي من الله تعالی العالم بجميع الحقائق، وهذا خاص بمَن اصطفاهم الله تعالى وليس الغيرهم نصيب منه، أو يكون رسولاً اصطفاه الله تعالى بالرسالة،

وأفاض عليه من أنواع العلوم والمعارف الإلهية وحلة الأمانة الكبرى التبليغ شرائعه وتعليماته وتوجيهاته إلى الناس، وأيّده بالمعجزات وخوارق العادات ما تثبت دعاویه، وهذا يختّص بالحاضرين في عصره، فلا يشمل الغائبين المعدومين. أو يكون كتاباً سماوياً احتوى جميع ما يوجب رقي الإنسان ورشده إلى كماله وسعادته في الدارين، ويشترط فيه أن يكون مأموناً من التحريف، وهو ينحصر بالقرآن الكريم الذي اتفقت الأمة على سلامته وأمنه من كل تحريف وبطلان، فكان معجزة إلهية من جميع جوانبه كما هو معلوم.

وأما سائر الكتب الإلهية، فقد ثبت تحريفها بأدلة كثيرة مذكورة

ص: 292

في محلها إلّا أن القرآن الكريم لما لم يمكن فهم مقاصده بسهولة، فلا بدّ أن يرجع في تفسيره و بیان مقاصده إلى من نزل القرآن المجيد عليه الذي علمه الله تعالى جميع رموزه وعلمه من أسرار التأويل ما يزيل كل شك وريب. هذا موجز الكلام في هذه المسألة المهمة العظيمة وللتفصيل موضع آخر.

و من جميع ما ذكرناه يعرف أن الإله في القرآن الكريم لم يكن أمراً وهمياً كما يدعيه بعض، ولا أمراً نسبياً كما يدّعيه آخرون، بل هو حقيقة واقعية، فهو الإله الواحد الأحد الذي عرفه القرآن الكريم بأمور أربعة لا يمكن أن تتحقّق في غيره .

الأول: أن يكون الإله واحداً أحداً لا مثل له ولا شبيه ولا ندّ له، فلو كان غير ذلك لظهر الفساد في الخليقة، قال تعالى :«لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ »(سورة الأنبياء، الآية : 22)، ولبان الاحتياج في الخالق، وهو منفي بالوجدان .

الثاني : أن يكون مستحقاً للعبودية ؛ لكونه الخالق العظيم العليم الحكيم الغني الذي لا يستغني عنه غيره وهو مستغن عنه، قال تعالى : «لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ» (سورة الأنبياء، الآية : 23)، وقد ذكرنا ما يتعلق به في سورة الفاتحة فراجع.

الثالث: أن يكون مستجمعاً لجميع صفات الكمال - كالعلم والحياة والقدرة ونحوها وإلا استلزم الخلف، وتقدم في آية الكرسي - 255 من سورة البقرة ما يتعلّق بذلك .

ص: 293

الرابع : أن يكون منزهاً عن جميع صفات الجلال - کالزمان والمكان و الجسميّة - وإلا احتاج إلى غيره، وهو ينافي الألوهية .

وفي الآيات التي تقدم تفسيرها يبين عز وجل جملة من الصفات الكمالية و الجمالية .

منها : أنه إله واحد؛ لأنه الله المستجمع لجميع الصفات الكمالية، قال تعالى : «إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ»، فليس له شريك ولا نظير ولا ولد.

ومنها: أنه مال لما في السموات وما في الأرض - خلقاً و تدبيراً وتصريفاً وإبقاءً و إفناءً . فهو الغني عن خلقه وهم محتاجون إليه ولا يحتاج إلى معين أو ولد، ويدل على ذلك آيات كثيرة أيضاً.

ومنها : أنه الولي على خلقه يدبر شؤونهم والقيم عليهم؛ فإذا كان الله تعالی واجدة لهذه الصفات الكريمة فلا يحتاج إلى ولد، وهو مننه عن أن يكون له ولد؛ لدلالته على احتياجه واتصافه بصفات المخلوقين، ولا يعقل الإله أن يكون كذلك، وقد تقدم في التفسير ما يتعلق بذلك أيضا فراجع، فإذا ادعى أحد الألوهية، وإما رفع المخلوق إلى مقام الخالق الإله، وهذا أيضا باطل.

المسيح في القرآن الكريم

عظم القرآن المجيد الإنسان وأسمى شأنه وميزه من سائر مخلوقاته وأعزبه، فقال جل شأنه: «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ »(سورة المؤمنون، الآية : 14) ولم يعظم سائر مخلوقاته بمثل ما عظّم هذا

ص: 294

المخلوق العجيب الذي منحه العقل والإرادة ، وأودع فيه الأمانة الكبرى التي أبت السماوات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها فحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولاً.

وقد خصّ بعض أفراد الإنسان بالفيض وجعلهم مورد الاستفاضة، وهم الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالی لهداية البشر، وأنزل إليهم الكتاب وفيه تبيان كل شيء، واصطفى من الأنبياء بعضا فخضهم ببعض الفيوضات الخاصة، منهم عيسى ابن مريم الذي يعد معجزة إلهية في خلقه وحياته ورفعه إلى السماء، فقد خلقه عز وجل من غير أب وأسباب عادية التي لا بد م توفرها في سائر أفراد الحيوان، فتعلقت الإرادة الأزلية أن يخلقه بكلمة (كن) التكوينية من غير سبب مادي عادي تعلقت بمريم العذراء ، فولد منها فكان محتاجة إليها حين الحمل والولادة والرضاعة والتربية، ثم خضه بالفيض واصطفاه بالرسالة، فكان رسولا مبلغا عن الله تعالی محتاجاً إليه في الفيض وسائر شؤونه، وكان هذا الاصطفاء سببا في زيادة تعلقه علیه السلام بخالقه العظيم، فصار عبداً من عباده المخلصين الذين عرفوا معنى العبودية وأدوا لوازمها و حقوقها فلم يتخطّوا عن تلك، وإلا خرجوا عن مورد الفيض و هبطوا عن ذلك المقام السامي، فقال تعالى فيه : «وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» (سورة المائدة، الآية: 119)، فهو عبد الله تعالی اصطفاه وجعله مورد الإفاضة بخلقه من غير أب كما اصطفاه بالرسالة، فلم يكن له أن يقول ما ليس له فيه حق، فلم يدع الألوهية لنفسه ولا

ص: 295

الأمه الطاهرة التي هي مثله في الخلق والعبودية، وإلا خرج عن مورد الاصطفاء ولم يف بحقوق العبودية، وهذا هو السبب في تعظيم شأن عيسى ابن مريم في القرآن الكريم .

و الآيات الشريفة المتقدمة تضمنت أموراً عديدة تدلّ على نفي كلّ ما يدعي فيه من الألوهية وحلول الباري عز وجل فيه وأنه ولد الله تعالى، وغير ذلك مما يدعيه النصارى في حق هذا النبي العظيم، فيخرجونه بها من حدود الإنسانية ويجعلونه في مصاف الألوهية، فهي التي يبطلها القرآن الكريم بوجوه عديدة .

منها: أنه مخلوق مبارك لم يكن قديماً اختص بالفيض فصار خلقه معجزة إلهية كما عرفت في التفسير، والإله لا يعقل أن يكون مخلوقاً حادثاً كما ثبت في الفلسفة الإلهية .

ومنها: أنه محدود، فإنه منسوب إلى امرأة طاهة هي أمه، فهو محتاج إليها في بعض مراحله، قال تعالى : «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ »، وتعالى الله أن يكون محدوداً و محلاً للحوادث كما عرفت.

ومنها: أنه مركب من بدن مثالي خارجي وروح قدسية صارت مورد الفيض، قال تعالى :« وَ كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ»على ما تقدم في التفسير، والإله منزه عن التركيب لدلالته على الاحتياج.

ومنها : أنه رسول الله تعالى تحمل الأمانة الكبرى إلى الناس يجب عليه تبليغها إليهم، ولا ريب أن جميع ذلك ينافي الألوهية والولدية لله ، تعالی عن ذلك علواً كبيراً.

ص: 296

المسيح في عقيدة النصاری

لم يكن المسيح عيسى ابن مریم علیه السلام فرداً عادياً كسائر الأفراد من بني البشر، فقد خصّه الله تبارك وتعالى بالكرامة بأن خلقه من غير أب وجعله مورد الفيض القدسي، وأجرى على يديه المعجزات الباهرات، فكانت حياته من حين انعقاد حمله إلى رفعه إلى السماء معجزة إلهية. ولا ريب في ثبوت ما له علیه السلام من الشرف والمكانة السامية عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء، فهم جميعاً يحترمونه و يجلّونه و يقدّسونه ، إلّا أن مثل هذا الفرد لا يسلم من التقوّل عليه بما هو خارج عن حقيقته، والغلو فيه وإخراجه عن طور الإنسانية والعروج به إلى مقام الألوهية، كما حكى عز وجل في الآيات الشريفة السابقة، قال تعالى : «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ»(سورة النساء، الآية: 171)، وقد كان هذا النبي العظيم ملتفتاً إلى هذه الجهة في حياته على الأرض، فكانت أفعاله وأقواله تدلان على أنه إنسان ولد من أنثى وهي مريم العذراء، وأنه يبقى برهة من الزمن على هذه الأرض ثم يموت كما يموت سائر المخلوقات ، وأنه عبد الله تعالى وهو ابن الأرض - كسائر أفراد البشر - وليست سیاحته في الأرض إلا لإعلام هذه الجهة، وقد أخذ المواثيق من حوارييه على عدم التقول عليه بعد رفعه كما حكى عز وجل عنه في عدة مواضع من القرآن الكريم، وفي العهد الجديد الكثير من ذلك، وقد كان أتباعه أثناء حياته على الأرض على التوحيد ولم يعتقدوا فيه إلا ما كان حقاً، وكذلك كانوا بعد رفعه إلى السماء برهة من الزمن حتى

ص: 297

دبّ الخلاف فيهم و اشتد الصراع بينهم في تفسير حياته علیه السلام ، فحصلت لهم آراء مع فرقهم المختلفة في شأنه علیه السلام مجمعون على التثليث، فيقولون: إنّ الله جوهر واحد ثلاثة بالأقانيم : أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، ويجعلون كلّ أنوم إلهاً ، ويعنون بالأقانيم الوجود، والحياة، والعلم، فيريدون من الأب الوجود، ومن الورح الحياة ، ومن الابن المسيح.

واختلفوا في تفسير هذه المقالة اختلافاً فاحشاً بعد اتفاقهم على أن الله تعالی جوهر - بمعنى أنه قائم بنفسه - غیر متحيّز، ولا مختص بجهة، ولا مقدّر بقدر، ولا يقبل الحوادث بذاته، ولا يتصور عليه الحدوث والعدم .

ولعل منشأ الاختلاف في المسيح عيسى ابن مريم وادعاء الألوهية فيه يرجع إلى أمور يعتقدونها فيه علیه السلام .

الأول : القول بتجسد الكلمة، أي : أن الله تعالی تجد في المسيح عليه السلام ، واختلفوا في كيفيته، فقال بعضهم : إن الكلمة قد تجسدت بمعنى أن الإله - أنوم الابن ثالث الثالوث - الذي هو واحد حقيقة، وثلاثة حقيقة قد تجد في الأرض وتوشح الطبيعة البشرية فأخذ جسداً من مريم عليها السلام وبقى أقنوم الأب، وأقنوم الروح القدس في السماء، وبعد ثلاثين سنة انفتحت السماء ونزل أقنوم الروح القدس وحل على أقنوم الابن المتجد، وبقي الأب في السماء، وصار أقنوم الابن المتجسّد، وأقنوم الروح القدس الحال عليه في الأرض - إلى آخر

ما ذكروه في المقام .

ص: 298

وقال آخرون : باتّحاد الكلمة بجسد المسيح فولدت مريم العذراء علیهاالسلام إلهاً أزلیاً ، و انقلبت الكثرة وحدة، فالمسيح ناسوت كلي لا جزئي، وهو قديم أزلي، وهذا القول هو المعروف بينهم باتحاد اللاهوت بالناسوت.

و قال ثالث: بأن الاتّحاد كان بمعنى الامتزاج كامتزاج الخمر بالماء.

وقال رابع : بأنه كان بمعنى الإشراق ، أي : أرقت كإشراق الشمس من النور وهو قول بعض حکمائهم.

وقال جمع آخر: بأنّ الاتحاد لم يبطل الأزلية، فالمسيح إله تامّ ، وإنسان تامّ ، وهما قديم وحادث والاتحاد غير مبطل لقديم القديم ولا الحدوث الحادث، والقتل وقع على الناسوت دون اللاهوت .

وقال جمع آخر: إن الكلمة انقلبت لحماً و دماً ، فصار الإله هو المسيح، ورووا عن یوحنا أنه قال في صدر إنجيله : إن الكلمة صارت جسداٌ و حلّت فينا.

وقال جمع منهم : إنّ اللاهوت ظهر بالناسوت بحيث صار هو هو، وذلك كظهور الملك لمريم العذراء علیها السلام المشار إليه في القرآن الكريم : «فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا»(سورة مريم، الآية : 17).

وقال بعضهم : بالتركب، أي: جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركباً کتركب النفس الناطقة مع البدن فصار جوهراً واحداً ، وهو املسيح وهو الإله، فيقولون: صار الإله إنساناٌ وإن لم يصر

ص: 299

الإنسان إلهاً ، و إن مريم ولدت إلهاً والقتل والصلب وقعا على اللاهوت والناسوت جميعاً ، إذ لو كان على أحدهما لبطل الاتحاد.

ومنهم مَن قال : بالاتحاد بین اللاهوت والناسوت على نحو الظهور، فلم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء ولا حل فيه، و ذلك كظهور نقش الطابع على الشمع و الصور المرئية في المرآة، فإن القول بهذا النحو من التجسّد مما أوجب القول بألوهية المسيح، بلا فرق في القول بين الاتحاد أو الحلول أو التركب، ولشدة ارتباط بينه علیه السلام وبين مريم العذراء، فقد ادعى الألوهية فيها، وهذا هو المحكي في القرآن الكريم : «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ»(سورة المائدة، الآية 116)، وكان هذا أصل الأقانيم الثلاثة والقول بالتثليث .

الثاني : من جهة الاختلاف في صفات الباري جلّت عظمته، فقيل: إنّ الأقانيم صفات للجوهر القديم وهي الوجود، و العلم، والحياة، وعبّروا عن الوجود بالأب، والحياة بروح القدس، والعلم بالكلمة، وهذا القدر من التفسير لا يدل على الشرك ، وإن كان باطلاً من جهة أخرى كما لا يخفى على الخبير، فإن الصفات مهما كثرت، فإنها عین ذاته المقدسة، وكذا تفسيره بما ذكروه.

وقيل : إن الأقانيم غير الجوهر القديم، وإن كلّ واحد منها إله، فصرّحوا بالتثليث، فكل واحد إله قدیم حقيقة، وإن الله ثالث ثلاثة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهذا يدل على الشرك في الذات، وهو باطل كما هو معلوم.

ص: 300

وقيل : إن الله تبارك وتعالى واحد والأقانيم الثلاثة ليست غیر ذاته ولا نفس ذاته، وإن الاتحاد كان بمعنى الإشراق كما عرفت آنفاً ، وهذا باطل ولم يعرف له وجه أبداً.

وقيل : إن الله تعالى وهو الأب، و المسيح كلمة الله تعالى وابنه على طريق الاصطفاء، وهو مخلوق قبل العالم، وهو خالق للأشياء كلها، وهذا يدل على الشرك في الفعل وهو باطل أيضاً ، كما يدل على قدم الحادث وهو فاسد.

والمعروف بينهم أن الله تعالى هو الواحد الأب صانع كل شيء و مالك كل شيء وفاعل ما يرى وما لا يرى، و أن المسيح ابن الله تعالی الواحد بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها وليس بمصنوع ، إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده اتقنت العوالم وخلق كل شيء، الذي من أجلنا ۔ معاشر الناس . ومن أجل خلاصنا نزل من السماء واحد مع روح القدس ومريم وصار إنساناً وحبلت به وولد من مريم البتول، وهذا القول باطل، لاستلزامه انقلاب الحقائق، وتعدّد القدماء، وقدم الحادث .

الثالث : من جهة خلق عیسی علیه السلام من غير أب وصدور المعجزات التي تخرج عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقدر عليها موصوفاً بالإلهية .

هذه هي عمدة ما يمكن أن يستفاد من أقوالهم المتفرقة وآرائهم المتشتتة في هذه المسألة، وقد خبطوا فيها كثيرا حتى أخرجوها عن

ص: 301

حدود الأدلة والبراهين، واستدلوا عليها بأمور عاطفية وادعاء الرؤية في المقام وغير ذلك مما لم يقم عليه برهان، بل ادعى بعضهم: «بأن ألوهية المسيح فوق المتعقل، ولكنه معقول»، فإذا لم يكن متعقلاً فكيف يمكن أن يكون معقولاً ؟! فهل يكون ألوهية الله تعالى التي اتفقوا عليه أمرا غير متعقل إلا أن يقال : بأن ألوهية المسيح إنما تكون كذلك لأنه إنسان مخلوق حادث ويراد إخراجه عن حدود البشرية والعروج به إلى حدود الإلهية التي عرفت أنها تختص بالواحد الأحد، ويستحيل أن يصل إليها أحد من المخلوقات .

وكيف كان، فنحن نتعرّض في المقام إلى ما يمكن أن نذكره من المناقشات في ما ذكروه إجمالاً ، والتفصيل في موضع آخر إن شاء الله تعالی.

ما يتعلق بعقائدهم

ذكرنا جملة من عقائد المسيحيين في السيد المسيح عليه السلام ، وكثير منها إن لم تكن كلها دعاوي مجرّدة لم يقم عليها دليل إن لم تكن الأدلة على خلافها، وحاول بعضهم إقامة الأدلة العقلية والنقلية عليها ولكنه لم يأت بشيء جديد سوى إضافة دعاوي جديدة عليها والاستدلال بأمور عاطفية أو عنایات أو بما هو أقرب إلى الجدل والسفسطة، كما لا يخفى على من راجعها في كتبهم. ولظهور فسادها اعترف بعضهم بأن مسألة تجد الكلمة - التي هي من أمهات عقائدهم - فوق عقولنا ولكنه معقول، ولم يعلم وجه هذا القول، فإن المسألة إذا

ص: 302

خرجت عن حدود فهم البشرية وكانت فرق عقولهم كيف يمكن أن تكون معقولة ويقام عليه الأدلة العقلية؟!.

وكيف كان ، فنحن نذكر في المقام بعض القواعد المسلّمة عند جميع العقلاء - بما فيهم المسيحيون أنفسهم - التي تدل على فساد جملة كثيرة مما اعتقدوه في عيسى ابن مريم عليه السلام ، ثم نذكر ما يمكن الردّ عليها .

الأولى : اتفّق المليون الذين يعتقدون بالإله الواحد الأحد أن الله تعالی ليس بجسم ولا بمتحيز، وليس في جهة ولم يكن محلا اللحوادث، وقد أقاموا الأدلة والبراهين القويمة العقلية والنقلية على ذلك، وأن القول بتجسد الكلمة ينافي ذلك بلا ريب ، فإن تجسد الإله - سواء كان على نحو العينية أو الحلول أو التركب أو الإشراق وغير ذلك - يستلزم أن يكون الإله جسماً و متحيزاً في جهة، و أن يكون محلاً للحوادث ومشابهاً لمخلوقاته، إلا أن يراد بتجسد الكلمة غير الذي أرادوه فلا بد من بيانه .

الثانية : امتناع قلب الحقائق فإنه مما أجمعت عليه العقلاء، فيمتنع قلب حقيقة إلى حقيقة أخرى مخالفة للأولى إلا بإعدامها، والقول بأن المسيح الذي هو مخلوق حادث صار إلهاً قديماً أزلياً يصادم هذه القاعدة المسلّمة .

الثالثة : امتناع حلول صفات القديم بغير ذات الله تعالى، فيمتنع قولهم بأن الكلمة امتزجت بجسد المسيح وغير ذلك مما اعتقدوه في تجسد الكلمة الأزلية .

ص: 303

الرابعة: امتناع تعدّد الكلي الواحد والإشارة إليه وكونه مرئية، كما هو مبين في علم المنطق، والقول بأن عيسى علیه السلام إنسان كلي باطل، فإن الإنسان الكلي لا اختصاص له بجزئي دون جزئي آخر، وقد اتفق النصارى على كون المسيح مولوداً من مریم علیها السلام ، فإن كانت مریم كلياً كما يدّعيه بعضهم، فإن كان هو غير إنسان المسيح لزم أن يكون المسيح مريم ومريم المسيح، ولزم أن يولد الشيء من نفسه . وكلاهما باطل، وإن كان إنسان مریم جزئياً ، فالكلّي ما كان صالحاً الاشتراك الكثرة فيه، فيلزم أن يكون المسيح جزءاً من مفهوم مریم وبالعكس، وهو محال.

مضافاً إلى أن الكلي لا يمكن أن يقع مورد الإشارة إلّا بالإشارة إلى جزئي من جزئياته، أو يقع مورد القتل والتعذيب والاضطهاد، فإنه محال .

هذه بعض القواعد المسلمة عند الجميع، التي يستلزم القول بها بطلان جملة كثيرة من معتقدات النصارى في المسيح عيسى بن مریم علیه السلام .

وأما القول بتجسد الكلمة الأزلية، فإنه مجرد دعوی بلا دلیل، بل الأدلة قائمة على خلافه، فإنه إن كان المراد منه حلول الباري القديم عز وجل في المسيح الحادث وتقمّص جسده، فهو باطل بلا إشكال، ويدل على بطلانه ما دل على بطلان كونه الله تعالی جسماً ، وامتناع حلول الحوادث تلك .

ص: 304

وإن كان المراد منه رفع المسيح الحادث إلى مقام الألوهية، فهو من انقلاب الحقائق الذي هو ممتنع عن الجميع، إذ كيف يمكن للمخلوق الحادث أن يكون إلهة أزلية قديمة.

وإن كان المراد منه إشراقاً من الله تعالى عليه، فإن كان المراد من الإشراق إشراقاً نورياً كإشراق الشمس، فهو باطل لأنه من لوازم الجسمية، و الله تعالى منزه عنها.

وإن كان المراد من الفيض ونحوه، فهو لا يختص بالمسيح، فإن آدم عليه السلام وسائر الأنبياء العظام لهم مثل تلك الفيوضيات الربوبية، كل حسب استعداده .

وأما القول بالأقانيم، فإن كان المراد منها صفات الله تعالى، فلا بد من تطبيقها على القواعد المسلمة التي ذكرت في الفلسفة الإلهية ، من كونها عين الذات إذا كانت من صفات الذات، وإنها أزلية أبدية لا يمكن تحديدها بحد كما لا يمكن تحديد الذات المقدسة، وعدم اختصاصها بواحد أو اثنين أو ثلاثة بل المدار على ما ميزوا به صفات الذات عن صفات الفعل وغير ذلك، فإن كان مرادهم من الأقانيم تلك فلا مشاحة في الاصطلاح ولكنهم لا يقولون به.

وإن كان المراد تعدّد الآلهة كما يظهر من كلماتهم، فإنّ أدلة التوحيد تنفي ذلك صريحاً كما عرفت آنفاً .

وأما القول بأن خلق المسيح عليه السلام من غير أب يدل على كونه إلها، فإن آدم عليه السلام أبا البشر أحرى بأن يكون إلهاً على ما يزعمون،

ص: 305

فإنه خلق من غير أب ولا أم وهم لا يقولون بذلك، فليس الخلق من غير أب أو غير أم أو كليهما إلا لبيان تمام قدرة الله تعالى على خلقه .

و أما القول بأن صدور المعجزات الباهرات وخوارق العادات منه علیه السلام لدليل على كونه إلهاً ، إذ لم تصدر تلك إلا من الإله. فهو بطل أيضا، فإنها إن صدرت منه استقلالاً و من دون إقدار الله تعالی عليه، فكان أولى له أن يخلص نفسه من العذاب الذي حل فيه من أعدائه ولم يحتج إلى التماسه من أبيه لينجيه من ذلك، كما ورد في العهد الجديد وقد تقدم في البحث السابق، وإن لم تكن من مقدوراته ، فهو علیه السلام و جميع الأنبياء في هذه الجهة على حدّ سواء.

وأما الاستدلال على دعاويهم بما ورد في الأناجيل المعروفة عندهم، فيرد عليه ..

أولا : أنه لا بد من إثبات ذلك، فإن الأناجيل المعروفة لم تسلم من يد التحريف، كما نطق به التنزيل.

وثانياً : أنه معارض بمثله، كما ورد في الأناجيل المذكورة، ولقد كفانا مؤنة ذلك شيخنا الجليل الشيخ البلاغي طاب ثراه)، فمن شاء فليراجع كتابه (الهدى إلى دين المصطفى) وتفسيره القيم (آلاء الرحمن).

وثالثاً : أنه يمكن تأويله بما لا يصادم القواعد المسلّمة إن أمكن التأويل، وإلا فيرد.

هذه خلاصة ما يمكن أن يقال في المقام، ولعل ما ورد في القرآن

ص: 306

الكريم في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه السلام بتعابیر مختلفة، كنسبته إلى أمه العذراء الطاهرة؛ للدلالة على كونه منسوباً و مخلوقاً كسائر أفراد الإنسان، وإثبات كونه رسولاً ، و التأكيد على أن ما صدر منه من المعجزات إنما كانت بإذنه جل شأنه، كما في سورة آل عمران والمائدة وغيرهما من التعابير الدالة على كونه فردا كسائر الأفراد، كل ذلك لنفي ما يزعمه النصارى وما يعتقدونه فيه .

أصل عقيدة التثليث

لا ريب أن الشرك وكل عقيدة تدل عليه ليس لها أصل ولا واقع في الأديان الإلهية المبنية على التوحيد ونبذ الأنداد، وإذا ظهر شيء منها في دين إلهي أو أية عقيدة أخرى تتخذ التوحيد أساساً لها، فلا بدّ أن يكون أحد أمور على سبيل منع الخلو :

منها : فقدان المعلم المرشد الذي يمثل التوحيد قولاً و عملاً ويبينه بیاناً واضحاً لا لبس فيه لاتباعه.

ومنها: احتكاك الأمة مع الأمم التي تدين بالوثنية وتقليدهم فيها على عمي وجهالة.

ومنها : تأويل من لا خبرة له ولا معرفة لما ورد في الكتب الإلهية وقول الأنبياء بما يوافق التشريك، فيكون مجالا خصبا لزيغ المبطلين وإفساد المفسدين.

ومنها: إدخال الأعداء الآراء الهدّامة في الدين ودسّ الأفكار

ص: 307

المضلّة في معارفه وأحكامه ، فيكون سبباً لاندراس أصول الدين و أركانه حتى لا يبقى من الدين إلا اسمه ولا من الكتاب إلا رسمه، ولكل واحد من هذه الأمور طرق وشعب متعددة لا يسع المجال ذكره.

وعلى ضوء ما ذكرناه تعرف أن عقيدة التشريك في النصرانية والتي هي دين إلهي، لا تخرج عن سائر الأديان الإلهية التي تتخذ التوحيد أصلا من أصولها، بل أساس كل معتقد وفكرة فيهان ليس لها أساس ولا واقع وإنما دخلت فيها نتيجة أمور وظروف معينة، وقد حکی عز وجل في القرآن الكريم عن عیسی بن مریم عليه السلام أنه كان يأمر بالتوحيد ونبذ الأنداد، فقال تعالى:«وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ*مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (سورة المائدة، الآية : 119 - 117).

ويستفاد من هذه الآية المباركة أن عبادة الله تعالى الواحد الأحد كانت من أساسيات هذا الدين العظيم، وكان عيسى علیه السلام يأمر بها وهو الشهيد على ذلك ؛ لعلمه بأنها كانت قائمة عند وجوده فيهم، و أمّا بعد ارتحاله وفقدان المعلم المرشد فيهم، فالأمر كان على خلاف ذلك، فقد دب الخلاف فيهم و تعدّدت الأناجيل وكثر المتأوّلون لآياتها، فضلوا وأضلوا كما حكى عز وجل في القرآن الكريم عنهم، ويدل عليه بعض

ص: 308

الأناجيل أيضا، فقد روی یوحنا في الفصل السابع عشر من إنجيله قول عیسی علیه السلام : «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» ، وهو يدلّ على أن الله تعالی واحد، و هو الإله فقط و المسيح رسوله ، و هذا هو الذي دعا إليه القرآن الكريم كما ورد في الآيات التي تقدم تفسيرها. ونقل مرقس في الفصل الثاني عشر من إنجيله أوّل الوصايا : «فأجابه يسوع أول الوصايا اسمع يا أسائيل الربّ إلهنا ربّ واحد» ، وهو يدل على أن عقيدة التوحيد هي المعقول وأساس هذا الدين، فإذا كان شيء يخالف ذلك فلا بد من تأويله إن كان قابلا له، وإلا فهم أولی بتفسير كلمات کتابهم.

ويذكر علماء تاريخ الأديان الإلهية أسباباً عديدة لدخول عقيدة التثليث في النصرانية، و المعروف بينهم أن النصارى كانوا على دين الإسلام برهةً من الزمن بعدما رفع عیسی ابن مریم علیه السلام إلى السماء، ولعل الوجه في ذلك أنه كان بينهم بعض الحواريين الذين اتبعوا المسيح عليه السلام حق الاتباع، وهم الذين نشروا تعاليمه في البلاد فكانوا أوصياؤه علیه السلام ، وبعد غيابهم دخلت تلك العقيدة في النصرانية، فقيل : إن السبب في ذلك هم اليهود الذين عرفوا ببغضهم لهذا الدين، فأدخلوا فيه هذه العقيدة لهدمه، وكانت لهم أساليب متعددّة .

وذكر بعضهم أنه لما وقعت الحرب بينهم وبين اليهود خرج رجل يقال له بولس، فيقتل جماعة من أصحاب عیسی علیه السلام ، فاحتال لأن

ص: 309

يفرّق جمعهم ويشتّت شملهم فأوقع فيهم الخلاف وأضلهم بهذه العقيدة ، على ما هو المذكور في كتاب التأريخ.

وقيل : إن السبب هو نقل المتنصرين الذين دخلوا في النصرانية عقائدهم البدائية الوثنيّة ، فأولوا آیات التوحيد و أدخلوا التحريف والتأويل فيها، و تدلّ عليه شواهد كثيرة؛ لأن النصرانية كانت محاطة بأمم تتخذ التثليث عقيدة لهم، منهم البراهمة؛ و منهم البوذائيين، ومنهم قدماء المصريين، ومنهم الرومان، فقد تأثّرت النصرانية بعقائدهم، وقيل غير ذلك، فراجع کتب تأريخ الأديان والعقائد والله العالم(1) .

ص: 310


1- م. ن، ج 10، ص 213-229.

حياة السيد المسيح علیه السلام

اشارة

كانت حياة المسيح علیه السلام من حين حمله و ولادته إلى رفعه إلى السماء مليئة بالمعجزات وفوارق العادات کحياة أكثر الأنبياء علیهم السلام - إبراهيم، موسى، ويوسف عليهم السلام - و لخاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله أسماها وأشرفها، إلا أن هناك جوانب مهمة في حياة عيسى علیه السلام اقتضت البحث عنها.

رفع المسيح إلى السماء

الآيات الشريفة التي تقدّم تفسيرها تدلّ بوضوح على نفي الموت بجميع أنحائه - من القتل، والصلب، وحتف الأنف - عن عیسی علیه السلام بوجوه كثيرة:

الأول : قوله تعالى : «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ » ، فإنه عز وجل نفی القتل الذي يدعيه جماعة من أهل الكتاب كما نفى الصلب عنه علیه السلام كما يزعمه جماعة أخرى، وكذا حتف الأنف؛ لأن جميعهم يتفقون على نفيه عنه علیه السلام ، فقد نفي عنه الموت بجميع أسبابه كما عرفت.

وظاهر الآية الشريفة أنهم يدعون إصابة القتل والصلب بشخصه البدني علیه السلام الذي رفعه الله تعالى إليه.

ص: 311

الثاني : قوله تعالى : «وَ لَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» ، فإنه يدل على أن القتل والصلب المزعومين في حقه علیه السلام إنما كان بالنسبة إلى الشخص الذي أوقع الله تعالی علیه شبه عيسی علیه السلام لحكم كثيرة كما عرفت آنفاً .

و أما هو فقد نجاه الله تعالى من أيديهم وسلم من قتلهم وصلبهم و حتف الأنف أيضا.

الثالث : قوله تعالى: «بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ» ، فإنه يدل على أن الرافع إنما كان بهذا البدن الجسماني، فإن الإضراب عن اذعاء القتل والصلب بشخصه الجسماني لدليل واضح على أن الرفع بالبدن مع روحه لا أحدهما من دون الآخر، وإلا فلا فائدة في الإضراب، فإن الرفع لا يتم بمجرد الروح بعد الموت بأي نحو كان ، كما لا يتمّ بالبدن فقط.

وقد ذكرنا في التفسير أن الرفع هو تخليص له علیه السلام من أيدي الكافرين المعاندين ونجاة من تعذيبهم ، ثم بعد الرفع لا يعلم حاله من هذه الآية المباركة، بل دليل آخر يثبت حياته كما ستعرفه .

الرابع : قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ» ، فإنه يدل على حياته علیه السلام وعدم موته بعد الرفع - كما عرفت في التفسير - وليس هذا ببعيد عنه علیه السلام ، إن حياته مليئة بالمعجزات من حين ولادته إلى حين رفعه إليه عز وجل حتّى بعد نزوله وموته ، فرفعه من الأرض تخليصاً له من أيدي العتاة و الجبابرة والمعاندین وتكريماً له، ثم حفظه تعالي بعد الرفع بعدم إصابة أي مكروه به ولا يذيقه الموت حتى يقضي الله بنزوله .

ص: 312

وهذه كلها خارقة للعادة دل الكتاب العزيز على ثبوتها وعضدته السنة الشريفة، فلا يبقى بعد ذلك مجال لتأويل المبغضين وزیع المعاندین.

فهذه هي عقيدة المسلمين في المسيح عیسی بن مریم علیه السلام التي هي معروفة من عصر نزول القرآن الكريم .

عقيدة اليهود في رفع المسيح

قد عرفت أنهم اختلفوا فيه، فمنهم من يقول إنّه قتل، ومنهم من يقول إنه صلب، تبعاً لاختلاف الروايات الواردة عنهم في هذا الموضوع، فالمعروف بينهم أن قتله كان بوشاية من اليهود وسعايتهم في قتله لدى الحاكم الروماني في بيت المقدس آنذاك - وهو (بيلاطس) المعروف بالشدّة والقسوة . فصلبه .

وروي أن رهطاً من اليهود سبَّوه بأن قالوا : هو الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة، فقذفه وأمه، فلما سمع (عليه السلام والصلاة) ذلك دعا عليهم ، فقال: «اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ، و لم آتهم من تلقاء نفسي، اللهم فالعن من سبنَّي وسبَّ أمي»، فاستجاب الله دعاءه و مسخ الذين سبوّه وسبّوا أمه قردة وخنازير، فلما رأى ذلك يهودا رأس القوم وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته عليه أيضا، فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عیسی علیه السلام فبعث الله تعالی جبرائيل فأخبره أنه يرفع إلى السماء، فقال لأصحابه : أيكم يرضى بأن يلقي عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال

ص: 313

رجل منه : أنا، فألقى الله شبهه فقتل وصلب ، وقيل : كان رجل منافق فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه، فدخل بيت عیسی، فرفع علیه السلام و ألقى شبهه على المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه، وهم يظنون أنه عیسی .

وقال جمع كثير من المتكلمين : إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله إلى السماء فخاف رؤوساء اليهود من وقوع الفتنة بين عوامهم ، فأخذوا إنساناً فقتلوه صلبوه، ولبَّسوا على الناس أنه هو المسيح، والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلا بالاسم. وروي غير ذلك .

و جميع تلك الروايات لا يمكن الاعتماد عليها ؛ لضعفها وتعارضها وفقد المرجح بينها، فيتعين الرجوع إلى القرآن الكريم - الكتاب الإلهي - فما وافقه يؤخذ به وغيره يطرح. وقد عرفت أنه عز و جل ذكر هذا الموضوع بإسهاب وبأسلوب واضح رصين مما لم يذكره عز وجل في غيره من قتل الأنبياء والمصلحين الذين عرفت اليهود بقسوتهم عليهم وضراوتهم بسفك دمائهم.

و لعمري إن مسألة الصلب لا تكون أكثر أهمية من قتل اليهود للأنبياء بغير حق، كما حكى عز وجل عنهم في القرآن الكريم حيث جعل ذلك من مظاهر كفرهم و شدّد النكير عليهم ووبخهم عليه أعظم توبيخ - لولا أن النصارى جعلوها أساس العقيدة المسيحية وأصل الدين عندهم، فمن آمن بالصلب والفداء فقد فاز بالملكوت الأعلى وصحبة المسيح والصلحاء ونجي من المهالك، ومن كفر به فقد خاب وكان في الآخرة من الخاسرين.

ص: 314

ولأجل ذلك نحن نذكر في هذا البحث عقيدة النصارى في هذا الموضوع وما استدلوا به في إثباته وما يمكن أن يورد عليه من الدليل العقلي والنقلي وبعض شبههم على سبيل الإيجاز .

عقيدة النصارى في الصلب

ترى النصارى أن صلب المسيح عیسی بن مریم علیه السلام إنما كان فداءً عن البشر؛ لأنّ آدم أبا البشر لما عصى الله تعالى بالأكل من الشجرة التي نهاه عز وجل عن الأكل منها، صار بذلك هو و جميع أفراد ذريته إلى يوم يبعثون خطاة مستحقين للعقاب بسبب ذنب أبيهم.

كما أنهم مستحقون للعقاب بذنوبهم أنفسهم ولما كان الله تعالی متصفاً بالعدل والرحمة، فإذا أراد أن يعاقب آدم وذريته كان منافياً لرحمته. وإذا لم يعاقبهم كان منافياً لعدله، فلا يكون عادلاً، فكان عز وجل متردداً بين العقاب والعفو حتى عصر المسيح علیه السلام ، فحل ابنه (عز وجل) الذي هو نفسه في بطن امرأة من ذريّة آدم علیه السلام فأولده منها ليكون إنساناً كاملاً من حيث هو ابنها، وإلهاً کاملاً من حيث هو ابن الله . فإن ابن الله هو الله في عقيدتهم - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، فهو معصوم من جميع معاصي بني آدم، وإن كان مثلهم يأكل مثل ما يأكلون ويشرب مما يشربون ويتلذّذ مثل ما يتلذذون ويتألم مثل ما يتألمون، وقد سخر (عز وجل) أعداءه لقتله أفظع قتلة - وهو الصلب . لأجل فداء البشر وخلاصهم من الخطايا .

وعن بعضهم أن المسيح واثنين معه صلبوا ولم يكن المسيح وحده ، وسيأتي في الآيات المناسبة بطلان ذلك.

ص: 315

فداء المسيح

تعتقد النصارى أن المسيح فدى نفسه لأجل خلاصهم من الخطايا والأدناس، كما قال يوحنا في رسالته الأولى: وهو كفارة لخطايا، وليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضا.

واستدلوا على هذه العقيدة بأمور:

الأول : التواتر، فقالوا: إنها متواترة ثابتة عندهم خلفاً عن سلف ، لا يمكن إنكاره كما في غيره من المتواترات.

الثاني : أنها وردت في جميع الأناجيل ورسائل العهد الجديد، و هي كتب مقدسة لا يجوز إنكار ما فيها .

الثالث : أن كتب العهد العتيق بشرت بالصلب والفداء ونوهت بهما تنويهاً .

الرابع : أن المسيح إذا كان قد نجا من أعدائه بعناية إلهية خاصة، فأين ذهب؟! ولماذا لم يقف له أحد على عين ولا أثر؟!.

هذه هي أهمّ ما استدلّوا به لإثبات هذه العقيدة . و قبل أن نذكر المناقشة في أدلتهم تلك لا بد أن نطرح هذه المسألة على الأدلة العقلية .

الأدلة العقلية تنافي الفداء

والحق أن الأدلة العقلية تنافي الفداء بوجوه كثيرة:

منها : أن هذه العقيدة تنادي بتجسّم الخالق وحلوله في أحد

ص: 316

مخلوقاته واتخاذه أحد ذرية آدم ابناً له، و كلّ ذلك مخالف للأدلة القطعية الدالة على أنه الإله الواحد الأحد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ، وليس كمثله شيء، الذي تنزه عن مجانسة مخلوقاته . وقد ذكر العلماء تلك الأدلة العقلية والنقلية في مواضع متفرقة من علوم متعددة .

ومنها : أنه يستلزم منها نسبة الجهل إليه تعالى وأنه ظل متردداً وجاهلاً لحلّ تلك المعضلة حتى العصر الذي ولد فيه عيسى علیه السلام ، فتفطّن إلى حلها، فجمع بين الرحمة و العدل في فداء المسيح علیه السلام . و كل ذلك باطل بأدلة عقلية ونقلية مذكورة في محلها.

ومنها : أن القول بهذه العقيدة يستلزم منه نقيضها ؛ لأنه تبارك وتعالی جمع بين صفتي الرحمة والعدل في صلب المسيح بن مریم علیه السلام و فداه عن جميع البشر، و هذا يستلزم إعدام شخص بريء وتعذيبه بأشد العذاب وهو لا يستحقه، وقد كان علیه السلام لا يرغب هذا العذاب - كما ستعرف - و هذا مناف لعدله عز وجل ورحمته، فصار عز وجل بذلك عادلا وغير عادل، ورحيمة وغير رحيم، وهذا من التناقض الواضح.

إن قلت: يرد النقض بقوله تعالى بالنسبة لإبراهيم علیه السلام حين أراد أن يذبح ولده إسماعيل علیه السلام : «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» (سورة الصافات ، الآية 107)، فعدم الاستحقاق مشترك بين الذبيح وبين أولئك فنتعذی من فدية إبراهيم علیه السلام إلى فدية عيسى علیه السلام .

قلت: أولاً : أن فدية إبراهيم علیه السلام لولده كان تکليفاً شخصياً

ص: 317

لأجل الوصول إلى المقام السامي الذي خصه الله تعالى به، کتکلیف الجهاد بالنسبة إلى مَن ثبتت شرائطه له أو التهجّد بالنسبة إلى نبيّنا الأعظم صلی الله علیه و آله ، فإن كل شيء له خصوصية .

و ثانياً : فرق بين الفداءين فإنّ فداء إبراهيم لولده لأجل الوصول إلى المقام الأعلى، فإبراهيم و ولده علیه السلام نالا تلك المنزلة بالعمل الخاص المأمور به أي كائن وضعي له، لا لأجل نفي الجزاء الذي يستحقه غيرهما كما تقول النصارى بالنسبة إلى عيسى علیه السلام ، وسياق الآيات المباركة يدل على ما ذكرناه .

ومنها : أن من يعتقد بهذه العقيدة يقول إنها لا تفيد إلا إذا آمن بها الناس، فلم ينفعهم الصلب والفداء إذا كانوا کافرین بها، فيردّ عليهم :

أولا: فما حال الأقوام التي قد خلت من قبل عیسی علیه السلام ، الذين لم يعرفوه ولم يعتقدوا بهذه العقيدة .

و ثانياً : أنها لا تفيد لبقية الأقوام التي لم تعتقد بهذه العقيدة ، فيختص الفداء بأفراد معدودين، فليس هو فداء لجميع البشر .

ثم إن بعد مصادمة هذه العقيدة للعقل والأدلة العقلية الكثيرة كما عرفت، فهل ينفع مثل هذه العقيدة الباطلة؟ وهل تسمّى مثل ذلك عقيدة و إيماناً يرفع أهم أمر عن الإنسان و هو الجزاء الذي استحقه بعمله؟! فالثاني ثابت بدليل قطعي يحتاج رفعه إلى دليل قطعي آخر.

ومنها : أن الاعتقاد بهذه العقيدة يستلزم الجرأة على الله تعالی وعلى ارتكاب المعاصي و الآثام، فإن من أمن من الجزاء والمؤاخذة

ص: 318

على أعماله هانت عليه جميع المعاصي فيرتكب جميع الشرور والآثام، وهو يستلزم الإباحية المطلقة، وهذا ممّا فرضه جميع الملل والأديان .

ومنها : أن القول بها يستلزم مساواة المجرم وغير المجرم، وكونهما على حدّ سواء، فإنّ من اعتقد بهذه العقيدة تغفر ذنوبه كلّها، فكأنما ليس له ذنب، ومن لم يرتكب ذنباً و كان صالحاً ليس له ذنب فصارا سيان في هذا الأمر ، فإن قالوا: يعذب المجرم على شروره وخطاياه ، يقال لهم : فما فائدة هذه العقيدة ، و إن قالوا: إنه لا فرق بينها وبين الشفاعة التي ترفع العقاب وتحط الذنب . نقول : إنهما يفترقان في كثير؛ لأن الشفاعة إنما تتحقق في مورد يكون للشخص ذنب مؤاخذ عليه ويستحق به العذاب، فيأتي الشفيع ويطلب من الله تعالى الغفران له والتوبة عليه، وهما من صفات الباري عز وجل، قال تعالى :«وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى» (سورة الأنبياء، الآية 28).

وبعبارة أخرى : الشفاعة هي طلب من الله تعالى إسقاط حقّه عن العبد المذنب، فأني هذا وعقيدة الصلب والفداء؟!

نعم، العفو الابتدائي عن المسيء من اختياره جل شأنه لو كان المسيء قابلا لشموله بأداء ما عليه من الكفارات وغيرها، وهذا غير مرتبط بالفداء الذي تقول به النصاری .

وفداء إبراهيم وإسماعيل علیهما السلام أو فداء الحسين وموسی بن جعفر علیهما السلام إما لأجل النيل إلى أرفع المقامات، أو لأجل حفظ المبدأ والعقيدة، كالجهاد لأجل العقيدة، أو لأجل وجود صلاحية في المفدين

ص: 319

بكونهم مؤمنين منقطعين إلى الله تعالی مظلومين، لا لكونهم ظالمين ومعتدين على أنفسهم وعلى غيرهم، كما تقول النصاری.

إن قلت: طلب العفو ارتکاز کل خاطئ أو مسيء ولو لم يطلب خارجاً، ففداء عيسى علیه السلام وصلبه كان لأجل ذلك.

قلت : هذا نوع من تأنيب الضمير النفسي، فللعبد أن يخلص نفسه بالتوبة وأداء ما عليه من الحق، ولا ربط له بالفداء أصلا كما هو واضح.

ومنه: أن جميع أفراد الإنسان يعتقدون أن العفو عن المسيء المذنب شيء حسن جمیل، بل يعدونه من مكارم الأخلاق وأحسن الفضائل، ولا يكون منافياً للعدل أبداً ، فإذا كان من صفاته العليا المقدسة العفو والرحمة، فهو قادر على العفو عن المذنبین وغفران ذنوبهم من دون حاجة إلى الصلب والفداء، فيكون هذا عبثاً و لغواً ، و ینزّه الخالق عنهما.

هذه بعض الأدلة العقلية التي تدل على بطلان هذه العقيدة ، ولأجل ذلك ذهب بعض من المسيحيين إلى أن هذه العقيدة وعقيدة التثليث لا تعقل، وأن العمدة في إثباتهما النقل عن الكتب المقدسة، وحينئذ لا بد من النظر في ما استدلوا به كما ذكرناه آنفاً.

المناقشة في ما استدلوا على الفداء

أما الدليل الأول وهو دعوى التواتر، فهي مردودة ؛ لأن التواتر

ص: 320

عبارة عن إخبار عدد كثير في كلّ طبقة ، ولا يحتمل فيهم تواطؤهم على الكذب، قد أدرك الطبقة الأولى منهم الخبر عن حس وعيان لا شبهة فيه، وإذا لاحظنا التواتر الذي اذعوه في إثبات هذه العقيدة نرى أنه لا تتوفر فيه الشروط، فإن الطبقة الأولى لا تخبر عن الصلب مشاهدة ولا تستند عن حس وعيان، بل تستند إلى الذين كتبوا الأناجيل، وهم بعد عصر الصلب ولا يؤمن عليهم الاشتباه ؛ لأنهم غير معصومین ولم يصل عددهم إلى حد التواتر . مضافة إلى ذلك أن جماعة من النصارى أنكروا الصلب وهم فرقة كبيرة منهم التاتوتسيون أتباع تاتيانوس تلميذ بوستينوس الشهيد . فلم يتوفر الشرط الآخر من التواتر وهو إخبار كل طبقة عن سابقتها، بحيث يؤمن عليهم الوهم والالتباس . فلا يمكن دعوى التواتر في هذه المسألة المهمة.

وأما الدليل الثاني وهو ورود هذه القصة في جميع الأناجيل و رسائل العهد الجديد، فيرد عليه ..

أولاً: أنها لم تكن معصومة عن الخطأ والتحريف، ولم يوجد دليل على نسبتها إلى المعصوم .

وثانياً : أنها معارضة بإنجيل برنابا الذي ينكر الصلب قبل أن تصل إليه يد التحريف، فلا ندري حال بقية الأناجيل.

وثالثاً: أن كثيراً من الكتب المتقدمة على تدوين الأناجيل تنكر الصلب ، قال فوتيوس : إنه قرأ كتاب رحلة الرسل - فيه أخبار بطرس، ويوحنا، واندرواس، وتوما، ونولس - «أن المسيح لم يصلب ولكن

ص: 321

صلب غيره، وقد ضحك من صالبيه». ولاشتمال هذه الكتب على كثير من الحقائق التي تخالف الأناجيل الأربعة، فقد حرمت المجاميع الأولى من كتبهم قراءة هذه الكتب والرسائل التي تخالف الأناجيل الأربعة، حتى أنهم أحرقوها وأتلفوها لئلا يقرأها أحد.

ورابعاً : أن ما ورد في هذه الأناجيل من قصة الصلب والفداء يناقض ما ورد في القرآن الكريم الكتاب الإلهي الذي يقول في هذه القصة : «مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ»كما هو الوقاع كذلك، فلا دليل لهم على صحتها، وسيأتي في الموضع المناسب البحث في حجية الأناجيل الأربعة إن شاء الله تعالی.

وعلى فرض التنزيل، فإن الأناجيل في حد نفسها متعارضة في قضية الصلب، ننقل شاهدة واحدة، فإن النصارى يدعون - كما عرفت . أن المسيح بذل نفسه باختياره فداء وكفارة عن البشر، ولكن ورد في إنجيل متى أنه حزن و کُئب عندما شعر بقرب أجله وطلب من الله أن يصرف عنه البلاء، فقد ورد فيه «ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب (37)، فقال لهم : نفسي حزينة جدة حتى الموت امكثوا هنا واسهروا معي (38)، ثم تقدم قليلاً وخر على وجهه وكان يصلي قائلا : يا أبتاه إن أمكن، فلتعبر عن هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت (39)... فمضى أيضا ثانية ، وصلى قائلاً : يا أبتاه إن لم يكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيتك» (متی 26 الآيات من 37 - 42). ومثله ما ورد في لوقا 22 الآيات من 43 -

ص: 322

45گ فإنه يدل على جهله علیه السلام بالحال، وتألّمه بل طلبه من أبيه إبطال هذه القضية التي اجتمع فيها العدل والرحمة، وهذا كله منافي لإلوهيته المزعومة.

وأما الدليل الثالث، وهو بشارة كتب العهد العتيق بمسألة الصلب، فهي موهونة بأنه لم يرد فيها شيء يشير إلى هذه القضية فضلا عن بشارتها، وما ذكروه إن هو إلا من الموضوعات التي ذكروها في كتبهم ونسبوه إلى السيد المسيح علیه السلام ، كما اعترف به جمع ممن له خبرة بهذه الكتب.

وأما الدليل الرابع، فإنه أشبه بالسفسطة، فهو يرد على من يقول بأنه علیه السلام توفاه الله تعالى في الدنيا ثم رفعه إليه عز وجل كما رفع إدريس علیه السلام ، وأما من قال بأن الله تعالى رفع جسده مع روحه إليه ، فهو في مأمن من هذا الإشكال، ومع ذلك فإنه لا إشكال في اختفاء قبر عيسى علیه السلام ، كما اختفت قبور كثيرة من الأنبياء والصالحين، فهذا إخوة موسى علیه السلام مات ولم يعرفه أحد منهم كما هو منصوص في آخر سفر تثنية الاشتراع من أسفار التوراة، فليكن عيسى علیه السلام كذلك فإنه بعد أن فرّ من أعداء الله تعالى الذين أحاطوا به وقد خذله جميع الناس . وانفضوا من حوله فمات في مكان مجهول، ولا غرابة فيه .

هذا بعض ما يتعلق بمسألة الصلب والفداء التي يعتقد بهما المسيحيون، وقد عرفت أنها بالمعنى الذي ذكروه مرفوضة عقلاّ و نقلاً.

ص: 323

الفداء لرفع المكروه

هناك موضوع آخر وهو الفداء، بأن يفدي ولي من أولياء الله تعالى نفسه ويعرضها لأنواع البلاء والمحن وصنوف التعذيب ويريق دمه في سبيل الله تعالی فداء عن المؤمنين به ليرفع عنهم المكروه والبلاء كما مر، فإن هذا أمر معقول، بل هو من أسمى الكمالات، ولم يتحمل الأنبياء والأوصياء صنوف العذاب والبلاء إلا لهذا الغرض، ففيا لحديث أنه كلما اشتد أذى المشركين لرسول الله صلی الله علیه و آله قال صلی الله علیه و آله : «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون». وورد في تفسير قوله تعالى: «وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» (سورة الصافات، الآية 107). أن الله تعالى رفع الذبح عن إسماعيل الذبح ودفع عنه المكروه بسبب فداء الحسين بن علي، فتحمل أنواع المكاره وصنوف العذاب من المؤمنين، وفي بعض الأخبار أن موسی بن جعفر علیه السلام دخل سجن هارون الرشيد وتحمل من البلاء تفدية عن شيعته ودفع العذاب عنهم، فالفداء بهذا المعنى صحيح بل هو من المكارم ولم ينكره أحد، ولكنه غير الفداء الذي يدعيه النصاری في رفع العذاب المستحق بسبب الذنوب والآثام، فإن كل«مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ» (سورة النساء، الآية 123) ، إلا أن يراد منه الشفاعة بضرب من التأويل، ولكن لها شروط وحدود خاصة ذكرناها في بحث الشفاعة ، فراجع .

ثم إنّ بعض المؤرخين ذكر أن لهذه القضية جذوراً تاريخية ترجع إلى ما قبل عصر عيسى علیه السلام ، فقد وجدت في الأمم الوثنية ، قال : إن

ص: 324

تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد عند الهنود الوثنيين وغيرهم، وذكر الشواهد على ذلك، منها: ما يعتقد الهنود أن کرشنا المولود الذي هو نفس الآله فشنوا تحرك حنواً كي يخلّ ص الأرض من ثقل حملها، فأتاها وخلص الإنسان بتقديم ذبيحة منه» ، ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتب تأريخ الديانات .

الفرق بين الشفاعة والفداء

قد عرفت أن الفداء بالمعنى الذي يقوله المسيحيون بالنسبة للسيد المسيح علیه السلام لا يمكن قبوله لما يترتب عليه من المحظورات العقلية كما تقدم.

وأما الشفاعة، فقد بنت بالأدلة العقلية والنقلية، بل هي مما يأمله الخطاة الذين عملوا السيئات وذوو الحاجات في الدارين، وقد ذكرنا أن الشفاعة لها شروط خاصة.

منها : أن الشفاعة إنما تكون في الأعمال السيئة، فلا شفاعة في العقائد الفاسدة لجهة من الجهات، لا سيما إذا استلزمت الشرك بالله العزيز.

ومنها : أن الشفاعة إنما تكون في حقوق الله تعالى، وأما في حقوق الناس فلا بد فيها من التراضي عن صاحب الحق، ولا تنفع الشفاعة بدون رضاه(1).

ص: 325


1- م.ن، ص146 - 157، ج10.

عقيدة الإنسان

الإنسان بلحاظ عقیدته لا يخلو عن أقسام ثلاثة بالحصر العقلي، لأنه إما مؤمن بالله العظيم ونهجه القويم، أو كافر به، أو منافق.

وبتعبير آخر: إما في الصراط المستقيم، أو منحرف عنه وفي طريق الغواية، وإما مزدوج بين الطريقين، وكل طائفة تنال جزاءها المختص حسب عمله الناشئ عن عقيدته .

والإيمان بالله تعالى يحصل باختيار الإنسان، إلا أن السعادة الكائنة في الفطرة كجزء المقتضي للاختبار، وأن السبب التام هو الاختيار، فيختار إما السعادة - حسب فطرته - وإما الشقاء للانحراف عنها، فينتفي الجبر وشبهه كما ينتفي التفويض، على ما تقدم في هذه الآيات المباركة وغيرها.

وأما الجزاء على الأعمال الصالحة المنبعثة عن العقيدة، فلا شك أن المؤمن بالله تعالى ينال جزءا عمله بالمقامات العالية والدرجات الرفيعة، إما في هذه الدنيا - كما تقدم في أحد مباحثنا السابقة ويدل عليه قوله تعالى:«وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا» (سورة آل عمران، الآية 145)، - أو في الآخرة من الجنات والنعم وغيرها ممّا

ص: 326

تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، كما أن الجزاء على أعماله السيئة يكون كذلك، عقابا دنيويا أو أخروية.

وأما بالنسبة إلى أعمال الكافر، فإن كان العمل سيئاً بمقتضی عقيدته، فينال جزاءه السيئ إما في هذه الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً. وإن كان العمل حسناً وصالحاً ينبئ عن أن بعض عقائده يرضى الشارع به ، فيجازيه عز وجل إما في هذه الدنيا، أو في عالم البرزخ، أو في عالم الخلود، كما في الروايات الصادرة عن المعصومين علیهم السلام ؛ ولقاعدة : «العدل والإنصاف» .

وبتعبير آخر: العمل إن كان مصدره عن عقيدة وثبات في الرأي ينال جزاءه المناسب له، مؤمناً كان العامل أو كافراً ، وأن الانحراف في العقيدة لا يوجب التأثير في أصل الجزاء وإن اختلفت کیفیته .

وأما جزاء أعمال المنافق ، فالمستفاد من الآيات الشريفة والسنن المطهرة أن أعماله الحسنة لا تفيده أصلاً . لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة - لأنها لم تصدر عن عقيدة راسخة ونهج معترف به، قال تعالى: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ» ، أي : المنافق لا ينال جزاء المؤمن ولا ينال جزاء الكافر في أعماله الصالحة، فيكون المنافق أسوء حالا من الكافر، قال تعالى : «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا»، ولم يرد هذا التعبير أو ما ينزل تلك المنزلة بالنسبة إلى الكفار وإن كان الكافر برد جهنم أيضا، قال تعالى :«وَ جَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا» (سورة الإسراء، الآية 8).

ص: 327

وأما قوله تعالى : «إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا»الذي يستفاد منه التسوية في العذاب، فباعتبار أصله لا باعتبار مراتبه ودرجاته، فعذاب المنافقين أسوء و أشدّ كما تقدم في الآية الكريمة السابقة .

إن قلت : مقتضى الآيات المباركة أن الجزاء تابع للعمل سواء كان العامل مؤمنا أو كافرة أو منافقا، قال تعالى :«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»(سورة الزلزلة، الآية 7۔ 8)، خصوصاً على القول بأن الجزاء والثواب من الآثار الوضعية للعمل ، وإن كانت تختلف باختلاف العقيدة .

قلت : المراد من العمل في الآية الشريفة العمل الصادر عن عقيدة وإرادة - لا كل عمل - والمفروض أن المنافق لم يكن له عقيدة ؛ لأنه مذبذب ومزدوج، له صورة العمل وهيكله(1) .

ص: 328


1- م.ن، ج10، ص80 - 81.

الولاية الإلهية

الولاية الإلهية التي أثبتها عز وجل لنفسه و منحها لرسوله الكريم والذين آمنوا وهم علي وبنوه الكرام (صلوات الله عليهم) فثبتت لهم الإمامة والدلائل والقرائن والأخبار وشأن نزولها وغير ذلك من الشواهد والإشارات كلها تشهد وتدل عليه، ولكن مع ذلك ناقش الجمهور في دلالتها ونحن نذكر المهم مما ذكروه في المقام وهو على وجوه :

الأول: إن المراد من الولي الناصر، فإن الولي لفظ مشترك يقال للناصر والمحب والأولى بالتصرف والمشترك إذا تردد بين معانيه يلزم وجود القرينة للمعنى المطلوب، فلا يكون نص على إمامة علي علیه السلام فبطل الاستدلال به .

وفيه : ما عرفت أن لفظ الولي إذا جيء به مفرداً يدل على الولاية التصرفية وهو المتبادر منه ولا نحتاج إلى قرينه بل غيره يحتاج إليها، وعلى فرض القبول يمكن أن يقال أن الولي مشترك معنی موضوع للقائم بالأمر أي الذي له السلطان على المولى عليه ولو في الجملة فيشمل ولي المرأة والصبي والرعية والصديق والمحب فإن لهما ولاية وسلطاناً في الجملة على صديقه، فالمراد به القائم بأموركم، يضاف إلى ذلك أنه

ص: 329

لو فرض تعدد المعاني والاشتراك اللفظي فإن القرائن تدل على أن المعنى المناسب في المقام هو الأولى بالتصرف، وقد تقدم في التفسير ما يدل على ذلك، فراجع.

الثاني : إن «الَّذِينَ آمَنُوا» صيغة جمع فلا تصرف إلى الواحد إلا بدلیل وشأن النزول وقول المفسرين لا يقتضي الاختصاص ما لم يبلغ إلى درجة الإجماع.

وفيه : ما عرفت آنفاً أن استعمال صيغة الجمع وإرادة الواحد من الأساليب البلاغية المعروفة وقد نزل القرآن عليها واستعملها فيه لفوائد كثيرة منها تنظيم الفاعل والمتصف بتلك الصفات والإشارة إلى أنه بمنزلة جميع المؤمنين المصلين المزكين لأنه رئيسهم وعميدهم، وأما شأن النزول فهو و إن لم يكن موجباً للاختصاص كما هو المعروف لكن الروايات الواردة في تفسر الآية الكريمة هي من الكثرة بمكان بحيث تكون موجبة للاختصاص وإلا لم يصح الركون إلى شيء من الروايات كما ذكرنا، فراجع.

ومما ذكرنا يظهر أن قول المفسرين إنما كان مستنداً إلى دلالة الآية الشريفة والسنة فلم يكن جزافاً و من غير دليل. ومن كثرة الروايات بل تواترها يمكن دعوى القطع بالاختصاص ولا يقل المقام عن غيره مما لم يصل إلى هذه الدرجة من نقل الروايات والقرائن فلا يصغي إلى قول بعضهم أنه لا نسلم الإجماع على نزولها في الأمير علیه السلام(1) فإنه

ص: 330


1- القائل أبو الثناء الآلوسي في تفسير الآية من (روح المعاني) .

إذا لم نقل بذلك ما عرفت من الروايات ففي أي مورد يمكن دعوی الإجماع حينئذ وأما الروايات الآحاد التي نقلها في شأن النزول فلا يمكن لها النهوض في معارضة تلك الكثرة من النصوص على فرض صحتها، فراجع.

الثالث : إن الحصر المستفاد من كلمة (إنما) يكون فيما يحتمل الشركة والتردد والنزاع، ولم يكن وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف بل كان في النصرة والمحبة .

وفيه : أن ذلك مبني على كون المراد من (أولياء) في ما سبق من الآيات هي ولاية النصرة والمحبة، وقد عرفت بطلانه، وعلى فرضه يكون حكم الآية الشريفة خاصاً بها لا يرتبط بما سبق و على فرضه فإن إثبات ولاية التصرف تستدعي المحبة والنصرة دون غيرها، يضاف إلى ذلك أن كلمة (إنما) تفيد الحصر ونفي الأولياء المزعومين ووجوب الموالاة والإمامة وانحصارهم في من ذکر دون غيرهم، كما تقدم .

الرابع : إن الاستدلال بالآية الكريمة بالتقريب الذي تذكره الإمامية يدل على سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرين الاثني عشر (صلوات الله عليهم) بعين التقرير الذي نفوا به إمامة المتقدمين وفيه :

أولاً : إن الآية إذ دلت على إمامة علي علیه السلام وأثبتت ولايته الشرعية فهو الحجة في تعيين غيره .

وثانياً : إن الآية بقرينة الآية التي سبقتها تدل على إمامة من توفرت فيه الصفات التي تؤهله للإمامة ، وهذا الإشكال إنما نشأ من الغفلة عن

ص: 331

ارتباطها بسابقتها والعجيب أنهم يفسرون الولي في الآيات السابقة ويقطعونها عن أقرب الآيات منها، وقد عرفت فيما سبق أن قوله تعالی «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ » يشتمل على جملة من الأوصاف التي يجب أن تتوفر في من يتولى شؤون الأمة، فراجع .

وعلى هذا فالآية تنفي إمامة غير من عينهم الله عز وجل.

وثالثاً : إن الأئمة هم معلومون وقد عينهم الرسول الكريم في عدة مقامات وقد نقل أرباب الحديث تلك الروايات ، فراجع.

الخامس: إن الآية الكريمة إذا دلت على ولاية الذين آمنوا على زعم الإمامية فإن ولايتهم في زمان الخطاب غير مرادة، لأن ذلك عهد النبوة، والإمامة نيابة فلا تتصور إلا بعد انتقال النبي صلی الله علیه و آله وإذا لم يكن زمان الخطاب مراداً تعين أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولا حد للتأخير فليكن ذلك بالنسبة إلى الأمير عليه السلام بعد مضى زمان الأئمة الثلاثة فلم يحصل مدعى الإمامة.

وفيه : إن ذلك مكابرة واضحة فإن الآية إنما تدل على كون الذين آمنوا هم الأولياء من غير نظر إلى الزمان من قبيل القضايا الحقيقية، وعلى القبول فإنها تدل على ولايتهم بعد الرسول بلا فصل وتنفي ولاية غيرهم فكيف تثبت بعدهم وهناك إشكالات أخرى في غاية الضعف يظهر الجواب عنها من مطاوي ما ذكرناه في التفسير، ولعمري أنها تأویلات باطلة وتفسير للآية الشريفة بالرأي الذي اتفق المسلمون على بطلانه وحرمته . ولو فتحنا باب مثل هذه التأويلات الفاسدة لا سيما مع

ص: 332

مخالفتها للشواهد والأخبار لما كانت آية حجة على أمر البته فيا ليتهم صرفوا عمرهم في استخراج كنوز القرآن العظيم فلو تركوا هذه المغالطات لكان للمسلمين شأن غير الذي هم عليه لكن حرموا أنفسهم من الفيوضات وحرموا أعقابهم منها وهذا من الظلم العظيم(1) .

ص: 333


1- م.ن، ج12، ص87 - 90.

مقام الولاية

إن التبليغ المأمور به فيما إنما تعلق بأمر خاص له شأن كبير في هذا الدين بل له مساس في بقائه ، ولو كنا نحن وهذه الآية الكريمة كانت كافية في الدلالة على المقصود و لوجب علينا التفحص في ما أمره به ربه والأحاديث المتواترة لفظاً ومعنىً تعين ذلك وتثبت أن المأمور به هي الولاية الكبرى والخلافة العظمى وكان ما فعله الرسول الكريم صلی الله علیه و آله بمقتضى الأمر بالتبليغ هو نصب علي علیه السلام ولياً و خليفة يحفظ به هذا الدين القويم وينصر به أهله، وهذا المقدار کاف في الحجة وإلزام الناس بمضمون الآية الشريفة إلا أن القوم أولوها بتأويلات باطلة وجردوها عن المعنى المقصود وتلاعبوا في دلالتها ثم ناقشوا في الأخبار تارة في سندها، وقد عرفت في البحث الروائي بطلان مناقشتهم وإنها أخبار متواترة عند الفريقين وأخرى في دلالتها ونحن نذكر المهم منها والجواب عنه .

الأولى : إن الحديث الذي ورد فيه «من کنت مولاه فعلي مولاهه لا يدل على ولاية السلطة التي هي الإمامة أو الخلافة، ولم يستعمل هذا اللفظ في القرآن بهذا المعنى بل المراد بالولاية فيه ولاية النصرة

ص: 334

والمودة التي قال الله فيها في كل من المؤمنين والكافرين «بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ»ومعناه من کنت ناصراً و موالياً له فعلی ناصره ومواليه، أو من والاني ونصرني فليوال علياً وينصره بل إن مفعل بمعنى أفعل لم يذكره أحد من أئمة العربية، وإن الاستعمال على خلافه لجواز أن يقال هو أولى من كذا دون مولی من كذا، ولم يقم دليل على أن المراد بالأولى - على فرض التسليم - التصرف والتدبير ، بل يجوز أن يكون في المحبة كما عرفت، فلا يدل الحديث على إمامته، وزاد بعضهم بأنه لو كان المراد بالولاية أولوية التصرف، يلزم اجتماع الولايتين في زمان واحد، إذ لم يقل الرسول صلی الله علیه و آله (بعدي)، ولا يتصور الاجتماع بخلاف ما إذا كان المراد المحبة .

وفيه أولاً : إن المولى في الحديث بانضمام سائر القرآن الحالية والمقالية يدل على أن المراد به الأولى بالتصرف ، إذ لا يصح قطع جزء من الحديث عن القرائن الحافة به والحكم عليه، ولو أمعن النظر في الأحاديث الكثيرة التي ورد فيها هذا المقطع «من کنت مولاه فعلي مولاه» صدراً و ذيلاً و حالاً ومحلاً لتبين أن المراد منه الأولى بالتصرف وإلا لحكمنا على كثير منها بالبطلان والفساد، ويجل فعل النبي صلی الله علیه و آله عنهما وهو المعصوم من كل خطأ وزله، فمن تلك القرائن قوله صلی الله علیه و آله : «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» ، فإنه لا معنى لكون المراد فيه المحبة كما هو الظاهر . ومنه قوله صلی الله علیه و آله : «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» فإنه ظاهر أيضا في ذلك وتأويلهما إلى ولاية المحبة خلاف الظاهر من الفقرتين، ومنها: ذكر هذه الفقرات في خطبة قد جمعت

ص: 335

كثيراً من التشريعات الخاصة التي تدل على ولاية التصرف ولا وجه الجرد تلك الفقرات عن البقية إلا بدليل وهو مفقود، ومنها ذكرها في جمع غفير في يوم هجير على رمضان لم يمكن عليها المسير من شدة الحر فإنه أهم قرينة حالية على أن المراد ما ذكرناه ولا وجه لأن يجمعهم الرسول صلی الله علیه و آله لبيان محبة علي علیه السلام وقد أمروا سابقاً بمودة القربی ومحبتهم وغير ذلك من القرائن الكثيرة.

و ثانياً : إن من يفسر المولى بالأولى بالتصرف لم يرد أنه اسم تفضيل حتى يستشكل عليه بأنه يقال هو أولى من كذا ولا يقال : مولی من كذا، بل أراد التفسير بقرينة صدر الحديث «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» الدال على أن المراد الأولى بالتصرف وتفسيره بالمحبة كم فعله بعض المفسرين خلاف الظاهر، بل يمكن لنا القول بأن المولى يراد مالك الأمر وهو المعنى الحقيقي المستعمل في سائر الموارد، ففي الحديث «أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها» وغير ذلك فيدل على الولاية بغير احتياج إلى التصرف، وكل ما يقال في توجيه دلالة إلا الحديث على ولاية المحبة خلاف المعنى الحقيقي والاستشهاد ببعض الأمور لإثبات ذلك إنما يكون إجمال الحديث، والمفروض عدمه وظهوره في الولاية التصرفية .

وثالثاً : على فرض التنزل، وقلنا بأنه لم يعهد أن يكون المراد من المولى الأولى، فهذا أبو عبيدة الذي هو من أئمة العربية وغيره من اللغويين والمفسرين فسروا المولى بالأولى في قوله تعالى: «مَأْوَاكُمُ

ص: 336

النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ» أي أولی بكم، وإلا يراد عليه بأن أبا عبيدة إنما هو في مقام بيان حاصل المعنى يعني النار الموضع اللائق بكم، فليكن المقام من بيان حاصل المعنى لما ذكرناه من القرائن .

وأما ما قيل: بأن النبي صلی الله علیه و آله قال ذلك عندما شكا بعضهم من علي عليه السلام كما ورد في الحديث المتقدّم ، فذكر صلی الله علیه و آله ذلك مبالغة في طلب موالاته و تلطفاً في الدعوة إليها.

فإنه باطل فإن المبالغة في طلب موالاته يقتضي نصبه علماً وهادياً وإماماً لا أن يرشد إلى محبته فقط التي اقتضتها آيات وأحاديث أخرى. والآية الكريمة المبحوث عنها والأحاديث الواردة في شأنها بمعزل عن ولاية المحبة فقط، فصرف اللفظ إليها من الزور الباطل.

الثاني : أنه لو سلم دلالة الحديث على إمامة علي علیه السلام فلا نسلم دلالته على كونها بعد النبي صلی الله علیه و آله بلا فصل حتى تنتفي إمامة غيره ممن تقدمه .

وفيه: أن نصب الولاة والحكام أمر عادي، فما يقال فيها يقال في الحديث أيضا، فإن السلطة لا يقول هذا ولي عهدي بلا فصل بل يجري الكلام على ظاهره ويؤخذ به على كونه بعده بلا فصل فإن ذلك هو المتبادر من اللفظ، يضاف إلى ذلك أن ذكر (بعدي) لا يرفع الإشكال ، فإن البعدية من الأمور النسبية فإنه يمكن أن يقال أنه أمام بعد الثلاثة .

ثم أنه كيف يسوغ لأحد أن ينصب حاكماً و ولياً و يترك ذکر من يقوم بعده من غيره وهو غير جائز عندهم، فكيف يجوز نسبته إلى

ص: 337

ساحة النبي صلی الله علیه و آله وقد تقدم في قوله تعالى : «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ » بعض الكلام ، فراجع.

وهناك مناقشات أخرى واهية، بل هي محض مكابرة للحق، ومن أراد الإطلاع عليها فليراجع الكتب الكلامية(1).

ص: 338


1- م.ن، ج12، 198 - 201.

بحوث في التوصية والألوهية

قال تعالى : «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ».

بیان حال طائفة أخرى من أهل الكتاب التي لا تقل عن الطائفة الأولى في قبائح الأقوال والأفعال واشتراكها معها في أن الانتساب إلى المسيح وكونهم نصارى لم تنفعهم وليسوا على شيء بعد کفرهم بالله إذ أثبتوا له شريكاً فلم يؤمنوا به حق الإيمان ولم يقيموا الإنجيل الذي دعاهم إلى التوحيد، وقد أكد عزّ وجلّ بالقسم كفر القائلين بأن الله هو المسيح بن مریم من النصارى، وقد اختلفت مقالتهم في كيفية اشتمال المسيح بن مريم على جوهر الإلوهية، فمنهم من يقول بالحلول ومنهم من يقول بالأقانيم على اختلاف وجوهها، ومنهم من يقول بالانقلاب ، وتقدم تفصيل ذلك في سورة النساء فراجع.

و كيف كان فهم لغوا في نبيهم المسيح بن مريم عليه السلام كغلو اليهود في الكفر به فضاهوهم بذلك، ولكن النصارى كفرت فيه وقالت أن المسيح هو الله .

وقد رد تبارك وتعالى تلك المقالة الشنيعة والعقيدة الزائفة بوجوه عديدة .

ص: 339

الوجه الأول : إن المسيح هو ابن مریم فكيف يمكن أن يكون الإله ابن امرأة كلاهما مخلوقان من تراب والله منزه عن مجانسة مخلوقاته .

قوله تعالى: «وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ»

هذا هو الوجه الثاني: وهو الاعتراف فمن يعتقد بألوهيته بأنه عبد مربوب مثلهم، فقد أمرهم بعبادة الله تعالى وحده الذي هو ربه وربهم، وهذا القول منه عليه السلام لا يزال محفوظاً في بعض الأناجيل المعروفة عندهم كما ستعرف في محله إن شاء الله تعالی.

قوله تعالى :« إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ».

هذا هو الوجه الثالث: وهو إخباره(صلوات الله عليه) عنه عز وجل بأن الشرك بالله يوجب الحرمان عن الجنة وهذه حقيقة واقعية لا تقبل التغيير والتبديل، فإن كل من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، فلو كان عيسى بن مريم إلهاً لما حرم الله الجنة على من اعتقد فيه بأنه إله، فإنها دار الموحدين من عباده .

قوله تعالى : « وَ مَأْوَاهُ النَّارُ ».

هذا هو الوجه الرابع: وهو أن عيسى بن مريم لو كان إلهاً لأمكن أن ينجي أنصاره ومريديه من النار وقبلت شفاعته فيهم، وفي الآية المباركة إشارة إلى بطلان ما يدعونه في المسيح من أنه اختار الصلب

ص: 340

الخلاص النصارى، فهو فدى نفسه عنهم فهم لا يمسون النار ويدخلون الجنة بغير حساب، وتقدم في سورة آل عمران تفصيل ذلك.

قوله تعالى: «وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ».

هذا هو الوجه الخامس : وهو أن الشرك بالله ظلم. بل ظلم عظیم كما في آية أخرى، والظالم كذلك ليس له نصیر بنصره من عذاب الله المعد للمشركين وإتيان الجمع للدلالة على تعدد من يعتقدونه بألوهيته أو الشافعين لهم ولبيان الأولى، فإن الأنصار على كثرتهم لا ينفعون، فنفي الناصر وهو الذي يعتقدون بألوهيته، يكون بالأولى .

فهذه الحجج الخمس مما احتج الله تعالى بها عليهم وهي براهين قويمة اعترف الخصم بها ولا يسعه إنكارها. فكانت أتم وأثبت .

قوله تعالى : «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ».

تأكيد آخر على كفر الذين قالوا بأن الله تعالى أحد الثلاثة الذين يعبرون عنهم ب(الأقانيم) وهي الأب والابن وروح القدس. وقد اختلفت اتجاهات النصارى في هذه المقالة، فقيل بأنها ثلاثة اعتبارة، ولكنها واحد، وهذا هو القول الأول الذي حكاه عز وجل عنهم «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ».

وقيل : إن الثلاثة كل واحد منها إله والألوهية مشتركة بينهم كما هو ظاهر قوله تعالى للمسيح علیه السلام «ئأَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ»ومسألة التثليث عندهم معروفة، ولما كان بطلانها واضحاً لا تحتاج إلى إقامة البراهين، إذ لا يمكن تصويرها وتعقلها،

ص: 341

فادعي بعضهم بأنها من المسائل المأثورة من مذاهب السلف عندهم لا تقبل الحل بحسب الموازين العلمية، ولكن المأثور إذا لم يقم عليه الدليل المعتبر فهو باطل ونسبته إلى الشرع جناية أخرى لا تغتفر، وقد تقدم في سورة النساء بعض الكلام فراجع.

قوله تعالى : «وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ».

حقيقة من الحقائق الواقعية التي لا تختص بعالم من العوالم حتى في عالم التصوير والتعقل، فإن الإله لا بد أن يكون إلهاً واحداً وإلا لم يكن إلهاً.

فالآية الشريفة تشتمل على حجة قويمة احتج بها على من قال بالشرك والتثليث وغير ذلك من المعتقدات الفاسدة في الإله وهي أعظم آية في القرآن الكريم التي تثبت التوحيد بكل معنى الكلمة وتشتمل على برهان قویم ففيها دعوىّ مع إقامة الحجة عليها، فالإله يجب أن يكون واحداً وهو الله تعالى الذي لا يقبل الكثرة، فهو واحد في ذاته وصفاته وهي عين ذاته ولا تقبل التعدد، فهناك تتحد الذات والصفات والإضافة فلا تورث إضافة الصفة إلى الذات المقدسة كثرة وتعدداً ، فهو كما عرفت إحدى الذات لا يقبل الشركة والتقسيم بأي وجه من الوجوه، لا في العقل ولا في الوهم ولا في الخارج، وقد اشتملت الآية الكريمة على أنحاء من التأكيدات، فإن أسلوب النفي والإثبات من أعظم الأساليب لتثبيت المطلوب وتأكيده كما هو معلوم، ثم دخول (من) على النفي لتأكيد الاستغراق، ثم إتيان المستثنى (إله واحد) نكرة ليفيد

ص: 342

التنويع ولو كان معرفة مثل (الإله الواحد) لم يفد ذلك في إثبات حقيقة التوحيد، ثم إن الآية الكريمة احتفت من طرفيها بالأدلة والبراهين على نفي الشريك وإثبات الوحدانية الحقة الحقيقية، وسيأتي في البحث العرفاني بعض الكلام إن شاء الله تعالی.

والمعنى ليس في الوجود و جنس الإله أبدا إلا إله واحد له من الوحدة لا تقبل التعدد أصلاً لا في الذات ولا في الصفات لا خارجاً و لا فرضاً ، وهي حقيقة التوحيد التي أثبتها القرآن الكريم ولم مثل ذلك في أي بحث علمي أو فلسفي مع ما للعلماء من التحقيق والتدقيق، وهذه هي من معاجز الكتاب الإلهي الذي فيه من المعارف الإلهية الدقيقة التي قل من يدركها إلا من ألهمه الله تعالى من فيضه الأقدس، وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالی.

قوله تعالى : «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

توعيد منه عز وجل لمن لم يكفوا عن القول بالكفر والتثليث وتهديد لهم بالعذاب الأليم، وهو ظاهر إلا أن الكلام في أن التهدید عام لكافة الذين أشركوا بالله من النصارى وقالوا بالتثليث أو خاص ببعضهم كما هو مفاد (من) التبعيضية، والظاهر أن القول بالتثليث لم يكن صادراً عن جميع النصارى، فإن بعضهم كان على التوحيد ولم يقل في المسيح إلا كونه عبداً لله تعالى ورسوله الذي أرسله للناس، أو أن القول بالتثليث لم يكن عند بعضهم عن اعتقاد بل كان لأجل

ص: 343

التشريف ورفع مقام الأبوة والنبوة ، ولذا كانوا يرجعون عنها إذا عرفوا أن التشريف في غير هذه العقيدة، وكيف كان فالمعنى لئن لم ينته النصارى عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم وهم القائلون بالتثليث عذاب أليم وقد نسب القول إلى الجميع باعتبار بعضهم وهو من الأساليب المعروفة المتكررة في القرآن الكريم، وقد ذكروا في المقام بعض الأمور في (من) وغيرها مما لم يقم عليها الدليل، أعرضنا عن ذكرها فراجع.

قوله تعالى: «أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ».

تقرير وتوبيخ ويمكن أن يكون الاستفهام للتعجيب من حالهم وإصرارهم على التثليث مع وضوح بطلانه وما جاءتهم البينات والنذر .

قوله تعالى : « وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

تحضيض للتوبة والاستغفار، فإن رحمته واسعة، يغفر لهم ويمنحهم من فضله العميم إن تابوا إلى الله ورجعوا عن قولهم بالتثليث.

قوله تعالى:«مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ» .

جملة استئنافية مسوقة لبيان الحق، وبرهان لبطلان التثليث وكون المسيح رباً وإلهاً ، وهو يتضمن أموراً ثلاثة جميعها تدل على نفي الألوهية بجميع مراتبها عنه علیه السلام ، فقد ذكر عز وجل.

أولا: ما امتاز به (صلوات الله عليه) من الصفات الكمالية، فصار من أفضل أفراد الجنس، ثم ذكر .

ص: 344

ثانياً : الوصف المشترك بينه وبين بني نوعه.

وثالثاً : بین حاله وحال أمه علیها السلام ، وهذه الأمور مما اعترفت به الأناجيل الموجودة عندهم، فتكون حججاً على كونه علیه السلام عبداً رسولاً وتنفي الألوهية عنه وعن أمه علیها السلام على اختلاف مذاهبهم في كيفية اتخاذها إلها.

فإن بعضهم يقول بإلوهيتها كالمسيح كما يظهر من قوله تعالی : «ئأَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ»(سورة المائدة، الآية 116).

أو كانوا يقدسونها تقديس خضوع لم يكن لبشر مثلها، كما هو المنسوب إلى أهل الكتاب من أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وكيف كان فالآية الشريفة تدل على أن المسيح بن مریم قد حضي من أفضل الكمالات وهي الرسالة وكونه مبعوثاً من الله فهو مقصور عليها لا يتخطاها إلى ما تزعم النصارى فيه إذ كيف يمكن أن يكون الرسول بمنزلة المرسل في الألوهية وإلا بطلت الرسالة، وها مما لا تقبله النصارى فإنهم يعتقدون برسالته كما عرفت .

قوله تعالى : «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ».

برهان آخر وهو أن المسيح لم يكن بدعاً عن سائر الرسل الذين خلوا من قبله فكلهم في عالم الإمكان واحد كانوا بشراً منحهم الله تعالی صفة الرسالة وبعثوا إلى أقوامهم ثم أدركهم الموت فالآية الشريفة تؤكد على كون المسيح بشراً يجوز عليه الحياة والموت كما جاء على سائر الرسل من قبله .

ص: 345

قوله تعالى: «وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ».

برهان ثالث يدل على أنهما اشتملا على أمر ينافي الألوهية، فإن أمه (سلام الله عليها) كانت تصدق بكلمات الله وآياته وقد نزهت عن التعليق بغير الله وبالغت في التصديق به عز وجل كما قال تعالى «وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ»، وبلغت مرتبة الصديقين، وهي وابنها كانا يأكلان الطعام بمقتضى الحاجة والافتقار وإن المسيح عبد ورسول رب العالمين، وهذه كلها تدل على نفي الإلهية بجميع مراتبها عنهما علیهما السلام الي التي تتقوم بالوجود وعدم الافتقار بوجه من الوجوه. وإنما ذکر عز وجل أكل الطعام وما يستتبعه من اللوازم لبيان صفة الحاجة والافتقار التي تلازم جميع المخلوقات وكيف يصير الممكن إلها؟ !!

قوله تعالی : «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ».

خطاب لأشرف مخلوقاته وسيد أنبيائه (صلوات الله عليهم) ومنه السائر المخاطبين الذين لهم الأهلية تعجباً من حالهم كيف يدعون لهما الربوبية بعدما تبينت لهم الحقيقة. وقامت الدلائل القطعية على بطلان دعوى الألوهية في المسيح وأمه علیهما السلام .

قوله تعالى : « ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ».

مبالغة في التعجب وشدته كيف أنهم عرفوا الدلائل الواضحة التي لا يعتريها الشك والريب وأنها بلغت أقصى الغاية في التحقق والإيضاح .

ثم انظر مدى نكرانهم وإعراضهم، فإن ذلك أعجب منهم إذ كيف

ص: 346

لا تصل إليها عقولهم وإدراكهم مع طول المدة وامتداد الآيات وهم لا يتأثرون بها بل يكذبونها.

قوله تعالى: «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا »

خطاب آخر واحتجاج جدید بما تمليه فطرتهم في عبادة الرب، فإن عامة الناس إلا من كان له نوع معرفة في عبادة الله الواحد الأحد إنما يعبدون الرب ويخضعون له طمعاً في دفع الشر عنهم أو جلب النفع لهم فإذا لم يتمكن المعبود من ذلك فلا وجه لعبادته والاستفهام للإنكار والمعنى أتعبدون شيئاً من دون الله لا يملك القدرة مثل ما يستطيعة الله تعالى من دفع الشر والضر وإيصال الخير والنفع، فإن ما دون الله تعالى لا استطاعة له ولا يملك شيئاً من ضر ولا نفع، فإنه مملوك مربوب، وإن كل ما يستطيعه إنما هو بإقدار من الله تعالى عليه الا من عند نفسه، فكيف يمكن أن يتخذ إلهاً معبوداً، فيجب عبادة الله الواحد القادر ولا يتعدى إلى غيره فهو العالم بكل ما يحتاج إليه العبد والسميع لدعوته والقادر على إيصاله إلى ما يفيده، والآية الشريفة تتضمن احتجاجاً آخر على من اتخذ إلهاً من دون الله تعالى، وأنه يشترك مع الحجج المتقدمة في أنها من برهان الإمكان والاحتياج على نفي ألوهية غير الله تعالى ولكنها تمتاز عن أخوانها بأمرين:

أحدهما: أنها عامة تشمل جميع ما يعبد من دون الله سواء كان من البشر أم من الأوثان والأصنام كما هو ظاهر كلمة (ما) التي تشمل الجميع.

ص: 347

والثاني: أنها تشتمل على برهان الإمكان الأشرف الذي هو من البراهين القويمة على وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه عز وجل، وقد ذكره الحكماء المتألهون والفلاسفة الشامخون في كتبهم وخلاصته إن كل ما يمكن أن يتصور من الكمالات من صفات الجمال، أو السلوب من صفات الجلال لا بد أن يكون متحققاً في الإله المعبود وإلا لم يكن واجباً بعد تطرق النقص إليه وهو ينحصر في واجب الوجود وهو الله تعالى، وما سواه من دون الله يستحيل أن يكون إلهاً معبوداً . وحينئذ يكون الضر والنفع أما من باب المثال لصفات الجلال والجمال وإنما ذكراً لأجل أهميتهما عند عامة الناس، أو أنهما أول ما تدعو الفطرة إليه في عبادة الإله، أو بحسب وصول غاية مداركم إلى هذين الأمرين. أو لأجل أنهما بالتحليل العقلي يرجعان إلى صفات الجلال وصفات الجمال، كما عرفت .

قوله تعالى : «وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ».

أي أتشركون بالله والحال أنه هو المحيط بكم إحاطة تامة فهو السميع لأقوالكم المجيب لدعواتكم، العليم بحاجاتكم وسائر أحوالكم فيعلم ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائفة، وهذه الآية الشريفة بانضمام صدرها تدل على ما ذكرناه من قاعدة الإمكان الأشرف التي استدل بها على إثبات واجب الوجود المنصف بجميع صفات الكمال والمنزل عن السلوب وجميع النقائص، وإنما ذكر هاتين الصفتين (السميع العليم) لملازمنهما لصفات الكمال فإنهما تستلزمان

ص: 348

الحياة والقدرة والربوبية والقيومية والإرادة وغيرها، وفي إثباتهما له عز وجل يستلزم إثبات النقص والعجز لغيره ولا يصح عبادة العاجز .

قوله تعالى: «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ».

خطاب آخر يبين سبب انحرافهم عن الحق بعد بيان الحجج القويمة والبراهين الدامغة على نفي ألوهية المسيح عليه السلام و غيره ممن يعبد من دون الله ، والخطاب لأهل الكتاب لأنهم المبتلون بالغلو على أنحاء مختلفة وخاصة النصارى منهم فيعمل الجميع الذين غلوا في أصول دينهم وفروعه.

أما الأول فقد كان له وجوه مختلفة؛ فتارة يقولون بأن بعض الأنبياء أبناء الله تعالى كما حکی تبارك وتعالى عنهم«وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ»(سورة التوبة، الآية 30).

وأخرى يعتبرون المسيح إلها كما حكى عز وجل عن النصارى في ما سبق من الآية «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ».

وثالثه قالوا إن الله ثالث ثلاثة كما في قوله تعالى:«لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ».

ورابعه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله يعتقدون فيهم

ص: 349

القداسة والنزاهة ما لم يعتقدوا في غيرهم من البشر كما في قوله تعالی : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ » (سورة التوبة ، الآية 31).

وخامسه الغلو في اتهام أنبياء الله، ونكران الجميل الذي أسدوه إلى أممهم كما اتهمت اليهود المسيح علیه السلام بأنه ولد غير شرعي.

وسادسه الغلو في جعل أنفسهم أبناء الله تعالى كما حكى عز وجل عنهم

«وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ»(سورة المائدة ، الآية 18).

وأما الغلو في فروع الدين فإنه يتمثل في تحريف الكتب الإلهية لفظا ومعني وإدخال ما ليس من الدين في الدين مما لم يأذن به الله عز وجل كما حکی عنهم في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، ومنها إطلاق الأب والابن على الله عز وجل الممنوع شرعاً ولأنهما مخلوقة .

ومادة (الغلو) تدل على التجاوز عن الحد سواء كان في الدين أو القدرة والمنزلة أو في الماء إذا طفح والغضب . ولا يكون الغلو إلا بغير الحق، فيكون القيد في قوله تعالى (بغير الحق) للتأكيد وتذكير لازم المعنى لئلا يذهل عنه السامع، كما في قوله تعالى «وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» وما ذكر بعض المفسرين من أن الغلو على قسمين غلو بحق وبغير حق و ضرب المثال للأول بالتعمق في المباحث الكلامية فيكون الوصف للتقيد .

ص: 350

كل ذلك مما لا وجه له بل خلاف استعمال اللفظ ولا يسمى الغور في المسائل الكلامية غلوا إذا لم يكن منهياً عنه .

قوله تعالى: «وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا».

كثيرا .

الأهواء جمع هوي وهو الباطل الموافق للنفس وسمي به لأنه یهوی بصاحبه إلى النار وإنما ورد بلفظ الجمع تنبيها على أن لكل واحد هوی غیر هوى الآخر أو باعتبار كثرة الأباطيل التي عمموها بين الناس وأضلوهم بها. ثم إنه بعد أن نهاهم عز وجل عن الغلو في الدين بجميع مظاهره ووجوهه وأنه غير حق ويجب الاجتناب عنه، نهى عز وجل في هذه الآية الكريمة عن إتباع الأقوام الذين كانوا السبب في إدخال الغلو في الدين وهم الذين اتخذوهم أرباباً من دون الله واتبعوهم في أمور دينهم وأطاعوهم في آرائهم وبدعهم التي لم ينزل بها الله من سلطان، فهم الضالون والمضلون لغيرهم، فإن العقل لم يأذن لأحد أن يتبع غيره في أمور دينه بالتي لم يشرعها الله عز وجل لهم إلا إذا ورد الإذن من صاحب الشرع في الإتباع بحدوده وقيوده المعلومة .

ومما ذكرنا يعلم أن النهي عام يشمل جميع أهل الكتاب الحاضرين منهم وقت الخطاب وغيرهم، كما يشمل عباد الأصنام والأوثان أيضا.

قوله تعالی : «وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ».

أي أن الجميع من التابعين والمتبوعين ضلوا عن المحجة البيضاء

ص: 351

والطريق المستقيم، وخرجوا عن طاعة رب العالمين، وكان هذا الضلال حصيلة ضلالهم وإضلالهم، وتشتمل هذه الآية جميع صور الضلال ومنها إنكارهم لنوبة خاتم الأنبياء وتكذيبهم لدينه وابتعادهم عن الحق ، فتكون الآية الشريفة تأكيداً لضلالة الجميع وتعميماً لجميع صوره و وجوهه و بياناً بأن الذي هم عليه ليس من سواء السبيل الذي أمر الله تعالى عباده بإتباعه .

ص: 352

بحوث المقام

بحث أدبي

قوله تعالى: «وَقَالَ الْمَسِيحُ» حال من فاعل (قالوا) بتقدير قد المزيد التقبيح.

وأما قوله تعالى «فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» ، أي المنع من دخولها بقهر إلهي نتيجة أفعالهم وأقوالهم وأصل الحرام المنع، فلا تكون من المجاز أو الاستعارة كما زعمه بعض المفسرين متوهماً أنه بمعنى الحرمة التكليفية ولا تكليف ثمة بل استعمل الحرام في معناه الحقيقي وهو المنع.

وأفراد الضمائر في «حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ» و «مأواه» باعتبار لفظ (من) في «مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ»والجمع في ما للظالمين من أنصار باعتبار معنی (من).

و«ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ»لا يكون إلا مضافاً كما في رابع أربعة ونحوه، وأجاز النصب بعض القراء وعلماء النحو.

وإله في قوله تعالى «وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ» رفع على البدل من إله على الموضع. و(من) لتأكيد الاستغراق والتعميم..

ص: 353

وقال الكسائي يجوز إتباعه على اللفظ فيجر، وهو لا يجيز زيادة (من) والحق عدم الزيادة كما ذكرنا مكرراً.

وقد تقدم في التفسير ما يتعلق بهذه الجملة المباركة وقوله تعالی : «لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» قيل أنه جواب قسم محذوف سادّ مسدّ جواب الشرط، والأكثر مجيء اللازم الموطئة الجواب القسم المحذوف، وقد تحذف اللام والتقدير لئن لم ينتهوا ....

وما في قوله تعالى : «عَمَّا يَقُولُونَ » موصولة وحذف الضمير العائد.

وإلغاء في«أَفَلَا يَتُوبُونَ» للعطف على مقدر يقتضيه المقام حجزت بین همزة الاستفهام ولا النافية هذه، والكلمة تفيد الحض والحث وجملة «اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» في موضع الحال وهي مؤكدة .

و(صديقة) للمبالغة واختلفوا في أنها من الثلاثي المجرد نحو سكير من سكر، وقيل: إنها من صدق مضاعفاً.

و(کیف) في قوله تعالى : «انْظُرْ كَيْفَ» معمول لنبين الجملة في موضع النصب. و(ثم) لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أو للتراخي بين العجبين والمراد بیان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده أي أنهم مع طول الزمان لا يتأثرون.

و(ما) في قوله تعالى: «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ» عام يشمل المسيح والأوثان والأصنام وكل ما عبد من دون الله تعالی أما لأن هذه الحجة أيضا تقام على الوثنيين وعبدة الأصنام التي لا

ص: 354

شعور لها ولا دخل للمسيح عليه السلام الذي هو من أولي العقل في تمامية الحجة، أو لأن كل محدث من حيث ذاته إنما يدخل في ما لا يشعر، أو لبيان أن المسيح علیه السلام من دون مدد إلهي يكون من هذا الجنس .

و (غير الحق) منصوب على أنه صفة مصدر محذوف أي غلو غير الحق. وذكرنا ما يتعلق بالتقييد في التفسير، فراجع.

وقيل : إنه منصور على الاستثناء المتصل أو المنفصل ولكنه تبعید اللمسافة.

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول : يدل قوله تعالى :«لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ» على أن الذين قالوا بهذه المقالة الباطلة واعتقدوا بهذه العقيدة الزائفة هم من الكفار الذين أنكروا الألوهية رأساً فلا ينفعهم الانتساب إلى النصرانية وكونهم أهل الكتاب ، فإن جعل المسيح إلهاً أخرجهم عن ربقة أهل الإيمان وأدرجهم في جماعة الكافرين وإن كان لهم نبي مرسل وكتاب إلهي، وقد تقدم في الآيات السابقة أقسام

الكفر .

نعم إن مجرد انتسابهم إلى كتاب إلهي وكونهم أهل الكتاب في القرآن الكريم أوجب ترتب بعض الأحكام الشرعية عليهم فاختلفوا عن المشركين من عبدة الأصنام والأوثان كما هو مذكور في الكتب الفقهية ، وذكرنا بعضاً منها في سورة النساء وراجع كتابنا مهذب الأحكام.

ص: 355

الثاني : يستفاد من قول المسيح «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» أن القول بالوهيته كان في حياته (صلوات الله عليه) وأنكرها أشد إنكار واحتج عليهم بأمور.

أحدها : أن الإله هو الله وحده دون غيره والعبادة إنما تكون له .

وثانيها: إن الإله الذي لا بد من عبادته إنما له من الصفات العليا ما لم تكن في غيره، فهو الرب الذي خلق العباد وأحاط بهم إحاطة تامة وهو ينحصر في الله رب العباد جميعهم المسيح وغيرهم، فإن في الربوبية العظمى تظهر قهاریته وكبريائه وعطفه ورحمته وعلمه وإرادته وحياته فهو الرب العظيم الذي خلقهم وأفاض عليهم من نعمائه وآلائه وبعث فيهم أنبيائه ورسله ومنهم المسيح المبعوث إليهم المربوب له عز وجل فلا يعقل أن يكون إلهاً.

ثالثها: إن المسيح لا يقدر أن يدخلهم الجنة بعد أن منع الله دخولهم جنته ودار کرامته، وكيف يمكن أن يعبد المسيح الذي هو عاجز عن إدخالهم الجنة إذ لم يأذن له الله تعالی.

رابعها: إن المسيح لا يمكن أن يصرف عنهم العذاب فلا يدخلون الجنة إذا استحقوا العذاب فقد انتفت عنه أعظم صفة من صفات الله تعالى وهي القدرة الكاملة، وهو لا يملك لهم الضرر والنفع ولا يعقل أن يجعل مثل ذلك إلهاً يعبد من دون الله و هذا أمر فطري كما سيأتي.

وخامسها: عن الذين قالوا بأن الله هو المسيح من الظالمين وما لهم من أنصار ينصرونهم أو لم يأذن الله تعالى للمسيح أن ينصرهم من

ص: 356

عذاب الله ، فإذا لم يقدر المسيح الذي اعتقدوا فيه الألوهية نصرتهم فغيره يكون بالأولى.

الثالث : يدل قوله تعالى :«لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ» على أن القول بالثليث والتشريك بالله العظيم مثل القول بأن المسيح هو الله كفر، وظاهر الآية أن هذه المقالة حدثت بعد رفع المسيح عليه السلام وغيابه عنهم أحدثه علماؤهم لأغراض خاصة معلومة ذكر بعضها القرآن الكريم وقد تقدم البحث عن هذه العقيدة في سورة النساء، فراجع .

وكيف كان فإن الاحتجاج عليهم وردها إنما كان من الله تعالى لا من المسيح نفسه مثل ما تقدم في قولهم بأن المسيح هو الله - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

الرابع: یدل قوله تعالى «وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ» على الوحدانية العظمى التي هي من أهم الأغراض التي بعثت الأنبياء والمرسلين لأجل بيانها وتثبيتها وهي من أقدم العقائد ومتوغلة في القدم توغل الخلق فيه، وقد أودعها الله تعالى في فطرة الخلائق كلها ومرت بمراحل كثيرة ومتعددة، فظهرت تارة وانزوت أخرى لأجل شبهات الملحدين وتشکیکات الكافرين حتى وصلت إلى دين الإسلام وشريعة الأنبياء (صلوات الله عليهم أجمعين) فتجلت بأحسن صورها وأبهى معانيها وأدق ما يمكن أن يتصور فهيا وبلغت مبلغاً لم يصل إليه الفكر الإنساني على مر العصور فتميزت بعرفان زاخر وعلم باهر، واشتملت

ص: 357

الآية الكريمة على هذه الجوهرة الفريدة ومفخرة الكمالات وعنوانها بأحسن أسلوب وأتم برهان وهو أسلوب النفي والإثبات الذي هو من أتم الأساليب في إثبات المطلوب ونجاحه مع اشتماله على تأكيد الاستغراق بدخول (من) على النفي وإتيان المستثنى بالتنكير المفيد للتنويع فلو جيء به معرفة لم يدفع به قول النصارى وغيرهم القائلين بالتشريك وإن الذات واحدة في عين أنها كثيرة متعددة الصفات ولكن الآية تنفي جميع تلك المزاعم وتثبت الذات الواحدة بالوحدة المطلقة التي لا تتألف منه كثرة ولا تقبل التعدد أبداً لا في الذات ولا في الصفات ولا في الفرض والتوهم ولا في الخارج، وهذه هي حقيقة التوحيد في الإسلام التي يلوح إليه الكتاب الإلهي وكلمات الأئمة المعصومين عليهم السلام وسيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالی. الخامس: يدل قوله تعالى : «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ» على أن ما اشتملت عليه الآية الشريفة من حقيقة التوحيد، وما عرفت فيها من الطائف المعاني ودقائق الرموز هي آخر المطاف والمنتهي من كل الأقوال، ويجب الانتهاء إليه والوقوف عند حده والتجاوز عنه كفر وليس له عذر بعد ذلك، فإن انتهوا عند هذا الحد وآمنوا به کانوا مؤمنين وإلا كانت النار جزاؤهم ومأواهم وبئس المصير .

السادس : يدل قوله تعالى : «لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ »على أن القول بالتثليث من الذنب العظيم الذي يوجب هذا النوع من الجزاء هو مس العذاب المؤلم لأبدانهم وإدراكهم له جزاء نكرانهم

ص: 358

للتوحيد بعد إدراكهم له ومعرفتهم به ، فينالون بأبدانهم ومشاعرهم من أنواع الأذى والآلام.

السابع: يستفاد من قوله تعالى : «أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ » إن التوبة عن هذا الذنب إنما تتحقق بالرجوع إلى الله وعبادة الواحد الأحد ونفي الشريك عنه والانقلاع عن ما يقولونه وطلب الغفران منه عز وجل والله غفور رحيم فلا يكفي مجرد الاستغفار وطلب الخلاص، وفي الآية الشريفة إشعار بإصرارهم على ذلك وعدم الانقلاع من هذا القول.

الثامن : يستفاد من قوله تعالى : «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» نفي إلوهية المسيح أولاً و كونه أحد الثلاثة لكونه ابن امرأة فهما ممکنان، ثم إنه يموت كما مات الرسل من قبله وإن كان قد شرف بصفة الرسالة فكان داعياً إلى من أرسله و لا يخالفه في شيء.

وكل تلك الصفات هي من صفات سائر أفراد البشر ولا يتميز عن غيره إلا بالرسالة التي هي صفات المخلوقين أيضاً ، والإله لا يتصف بها. ثم نفي إلوهية مرمي وأنها أحد الثلاثة لكونها تتصف بصفة الإمكان كما اتصف ابنها بها وإنهما محتاجان كسائر أفراد جنس الحيوان، ولكنها تتصف بصفة التصديق التي هي من صفات المخلوقين أيضا فتشرف أحدهما بالرسالة والآخر بصفة التصديق، وهما وإن كانتا من الكمالات لكنهما لا تجعلان المتصف بهما من الآلهة ، وإلا استلزم

ص: 359

الخلف كما هو واضح فتعين أن يكون الإله واحداً وهو الله الواحد الأحد، فهذه آیات واضحات لا ريب فيها ولا غموض ولكن العناد واللجاج منهم يمنعهم عن الإذعان لها فكانوا من المكذبين المؤتفكين الذين سينالهم جزاؤهم. وإنما قدم سبحانه الكمال ما لأفراد جنسهما من نقائص البشرية لئلا توحشهم مفاجأة ذلك.

التاسع : ذكر بعض المفسرين أن المراد من قوله تعالى :«كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ» المعنى الكنائي وهو قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج إلى النفض، فيكون ذكره أمرّ ذوقاً في أفواه مدعي إلوهيتهما لما فيه من البشاعة العرفية وليس المقصود سوى الرد على النصارى في اعتقادهم الكريه، ولكن المعنى الذي ذكرناه في التفسير أعم لدلالته على اللازم والملزوم كما عرفت.

العاشر : يستفاد من تكرار الأمر بالنظر في الموردين « انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» لزوم المراقبة ودوام التفكير في الآء الله تعالى ونعمائه وآياته وقدم الأمر بالنظر في الكمالات ولزوم التحلية بها لأهمية الموضوع وأنه مع الدوام على ما هم عليه ينتفي موضوع النظر الثاني الذي هو أمر بالتخلية من الرذائل فمع بقائها في النفس والوصول إلى درجة العناد واللجاج لا يصير مؤهلاً لتلقي الفيض والنظر في الآيات البينات .

الحادي عشر : يستفاد من قوله تعالى: «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا» إن الحجة لا بد أن تكون مما یدرکه

ص: 360

الفهم المتعارف والعقل البسيط الساذج فإن الخطاب في الآية الكريمة مع الفطرة في هذا الأمر المهم أن أول ما يدركه الإنسان في اتخاذ الرب لعبادته هو دفع الشر والضر عنه وجلب النفع إليه، وهذا إنما يملکه الله دون غيره المملوكين الذين يفقد فيهم ذلك وفاقد الشيء لا يعطي، فيجب أن يرفض عبادة غير الله تعالى . وإنما قدم عز وجل الضر على النفع جرياً على الطبع لأن الإنسان بحسب طبعه إنما يلتجئ في مقام الضر وفقدان النعم إلى الرب ليدفع عنه ذلك. وأما إذا كانت النعم موجودة عنده وقد تلهى بها ولم يجد في نفسه ألم فراقها فلا يلتفت إليه، فيكون مس الضر أبعث للإنسان إلى الخضوع للرب وعبادته من وجدان النفع کما بينه عز وجل في غير هذا الموضع، قال تعالى : «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا» (سورة الفرقان، الآية 3). و بين ذلك بوضوح في قوله تعالى:«وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا » (سورة الإسراء، الآية 83).

الثاني عشر : يستفاد من قوله تعالى : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ » أن الغلو في الدين لا يكون حقاً أبداً ، وأنه من الضلال والخروج عن سواء السبيل الذي جعل عز وجل دينه القيم منه .

الثالث عشر: يستفاد من ذكر كلمة (ما) في قوله تعالی : («قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ » . إن ما سوى الله تعالى من

ص: 361

دون فيضه ونعمه من الجماد الذي لا يعقل، فإن من كان له من الشعور والعقل لا يملكهما من عند نفسه كسائر ما ينسب إليه من شؤون وجوده، قال تعالى: ««إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ »(سورة الأعراف، الآية 195).

بحث روائي

العياشي عن زرارة قال : كتبت إلى أبي عبد الله علیه السلام مع بعض أصحابنا في ما يروي عن النبي صلی الله علیه و آله أنه من أشرك بالله فقد وجبت له النار، ومن لم يشرك بالله فقد وجبت له الجنة؟ قال علیه السلام : «إن من أشرك بالله فهذا الشرك البين وهو قول الله «مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ » و أما قوله : من لم يشرك بالله فقد وجبت له الجنة، فقال أبو عبد الله علیه السلام : ههنا النظر هو من لم يعص الله» .

أقول: ما ذكره (صلوات الله عليه) موافق للقواعد العامة والأدلة الكثيرة التي تدل على أن دخول الجنة إنما يكون بالإيمان والعمل الصالح والطاعة وهي إتيان الواجبات وترك المعاصي والمحرمات، وإن مجرد الابتعاد عن الشرك لا يوجب الدخول في الجنة إلا مع توفر بقية الشروط .

في تفسير القمي عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أما المسيح فعصوه وعظموه في أنفسهم حتى زعموا أنه إله ابن الله ، وطائفة منهم قالوا ثالث ثلاثة، وطائفة منهم قالوا هو الله .

ص: 362

أقول : يستفاد من الحديث أن المسيح علیه السلام كان عارفاً ببعض تلك المقالات الباطلة وردعهم عنها فعصوه، وأن تلك إنما حدث من الغلو فيه (عليه الصلاة و السلام) فقدسوه وعظموه حتى انتهى الأمر بهم إلى قول بالتأليه فيه بنحو من الأنحاء.

في العيون عن الرضا(صلوات الله عليه) عن آبائه عن علي علیهم السلام في قوله تعالى: «کَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ» معناه : أنهما كانا يتغوطان .

أقول: رواه العياشي مرفوعاً . وتقدم أنه من المعنى الكنائي وعرفت الوجه في ذلك .

وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام في جواب الزنديق في قوله تعالى وكانا يألاني الطعام يعني أن من أكل الطعام كان له ثقل ومن كان له ثقل فهو بعيد عما ادعته النصارى لابن مریم .

أقول: إن ما ذكره (صلوات الله عليه) إنما هو من لوازم الإمكان والحاجة كما أن التغوط والمعنى الحقيقي للكلمة كلها من ذلك أيضاً أو أن المراد له ثقل خرج عن التجرد ومفارقته للمادة وهو بعيد مما ادعته النصارى لابن مريم من الألوهية .

***

ص: 363

ص: 364

الفهرس

مقدمة ...5

مراتب الإيمان والكفر ...7

بحث روائي ...9

شبهة الجبر والتفويض ...12

مذاهب الجبر ...4

التفويض ...18

الأمر بين الأمرين ...21

بحث روائي ...23

بحث کلامي حول نبي الله آدم ...28

بحوث المقام ...39

بحث دلالي ....39

بحث اجتماعي ...40

بحث روائي ...43

عصمة الأنبياء والرسل ...74

المعجزة والسحر ...79

ضلال أهل الكتاب ...82

التوحيد الحقيقي ...86

بحث روائي ...91

من أدلة التوحيد ...93

منصب الإمامة والنبوة ...95

بحث کلامي حول التوبة ...99

التوبة وتعريفها وحقيقتها ...100

ص: 365

وجوب التوبة ...103

فورية وجوب التوبة ...104

شروط التوبة ...106

قبول التوبة ...108

موارد التوبة ...110

التوبة وزمانها ...113

السبل لمحو الذنوب ...114

التبعيض في التوبة ...118

صيغ التوبة ...119

أقسام التوبة ومراتبها ...120

مراتب التوبة، فهي ثلاثة ... 120

التوبة في الأديان السماوية...121

الشفاعة في القرآن والسنة ...125

مفهوم الشفاعة ...125

الشفاعة في الإسلام ...128

ثبوت الشفاعة ...130

الشفاعة في القرآن...131

الشفاعة في السنة ... 133

الشفاعة والإجماع ...135

الشفاعة والعقل .... 136

الشفاعة وشروطها ...137

ما أورد على الشفاعة الشفعاء ...143

الشفاعة ومتعلقاتها ...157

زمان الشفاعة ...159

الشفاعة في الأديان الإلهية ...162

غاية الشفاعة ...163

ص: 366

بحث فلسفي كلامي ...164

في رحاب آية الكرسي ...168

بحوث المقام ... 183

بحث دلالي ...183

بحث أدبي ...188

بحث روائي ...190

فضل آية الكرسي وشأنها ...191

عدد آية الكرسي ...193

معنى الكرسي ...194

ما ورد في تفسير مفردات آية الكرسي ...201

بحث دلالي ...223

بحث روائي ...228

بحث فلسفي کلامي ...237

بحث عرفاني كلامي ...238

المباهلة ...240

عالم العهد والميثاق ...243

بحث کلامي في التكاليف الإلهية ...246

بحث الإرادة ...248

تعريف الإرادة ...248

إرادة الإنسان ...250

حقيقة الإرادة ...252

إرادة الله تعالی ...254

معنى الإرادة فيه عز وجل ...260

أقسام الإرادة ...266

صفات الله التنزيهية ...268

جزاء الأعمال ...271

خلافة الأئمة ...273

ص: 367

القدر ...275

التقوى في القرآن والسنة ...277

النبيون والربانيون والأحبار ...281

مقام الأنبياء والرسل ...286

بحث عقائدي حول المسيح علیه السلام...289

الإله في القرآن الكريم ...291

المسيح في القرآن الكريم ...294

المسيح في عقيدة النصاری...297

ما يتعلق بعقائدهم ...302

أصل عقيدة التثليث ...307

حياة السيد المسيح علیه السلام...311

رفع المسيح إلى السماء ...311

عقيدة اليهود في رفع المسيح ...313

عقيدة النصارى في الصلب ...315

فداء المسيح ...316

الأدلة العقلية تنافي الفداء ...316

المناقشة في ما استدلوا على الفداء ... 320

الفداء لرفع المكروه ... 324

الفرق بين الشفاعة والفداء ...325

عقيدة الإنسان ...326

الولاية الإلهية ...329

مقام الولاية ...334

بحوث في التوصية والألوهية ...339

بحوث المقام ... 353

بحث أدبي...353

بحث دلالي ...355

بحث روائي ...362

ص: 368

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.