الدرر الأصولية في موسوعة فقه الخلاف

هوية الكتاب

الدرر الأصولية في موسوعة فقه الخلاف

تأليف: حيدر السعدي

الطبعة: الاولى

السنة: 1442ه - 2021م

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: الدرر الأصولية في موسوعة فقه الخلاف

تأليف: حيدر السعدي

ص: 2

المقدمة

الحمد لله على ما عرّفنا من نفسه ، وألهمنا من شكره، وفتح لنا من أبواب العلم بربوبيته ، ودلنا عليه من الاخلاص له في توحيده، وجنبنا من الإلحاد والشك في أمره، حمدًا نعمر به فيمن حمده من خلقه، ونسبق به من سبق إلى رضاه وعفوه.

وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيد الخلق ، وامام الحق نبينا الأكرم ابي القاسم محمد (صلی الله علیه و آله) ، وعلى ال بيته الميامين الاخيار المنتجبين الابرار.

اما بعد:

فقد منّ الله تعالى عليّ من مننه العظيمة بأن وفقني لحضور بحث الفقه لسماحة المرجع الديني اية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ، فأحببت ان اجمع المباحث الأصولية التي ذكرها في بحثه الشريف في كتاب مستقل ؛لأني وجدت في ذلك فوائد جمة ، من أهمها:

1- التعرف على المباني الأصولية لسماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته)؛ اذ لا يوجد بين ايدينا حاليا كتاب يجمع تلك المباني.

2- بيان تلك المطالب ، وما يتميز به بحثه الشريف ، خاصة ان لسماحته اراءً أصولية عديدة يتميز بها عن مشهور الأصوليين ، كما ان طريقته في بيان المطلب معروفة بالاسلوب السلس ، وبالعبارة المفهومة مع دقة علمية في بيان المطالب الأصولية تفتح لكل من يطّلع عليها افاقًا جديدة في علم الأصول.

3- بيان بعض التطبيقات للقواعد الأصولية على موضوعاتها الفقهية ، وهذا من اكبر فوائد قراءة علم الأصول ضمن الابحاث الفقهية ، فان المطلب الأصولي فيها لن يكون مجرد مطلب جامد لا تُعرف إمكانية الاستفادة منه في الفقه او لا. وربما يكون لذلك المطلب الأصولي تطبيق فقهي ولكن لم يعهد الطالب كيفية تطبيقه في علم الفقه.

ص: 3

وقد تباينت أساليب عرض المطالب الأصولية في موسوعة فقه الخلاف بحسب الحاجة اليها في الموضوع الفقهي:فربما دعت الحاجة الى ذكر المطالب الأصولية بشكل مفصل ؛ لان لها مدخلية في البحث ، إضافة الى ان المبنى الأصولي فيها يختلف عما هو المشهور ، او انه مبنى لم يسبق اليه احد.

وربما كان ذكر المطالب الأصولية لمجرد بيان الرأي الذي يتبناه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) من دون خوض في التفاصيل او ذكر لأدلته.

ولذا قسّمت هذا الكتاب على فصلين وخاتمة.

ذكرت في الفصل الأول منها المباحث الأصولية التي ذكرها سماحة الشيخ الأستاذ تفصيلا وبشكل مسهب ، وهي اربعة مطالب:

1- حقيقة الوجوب الكفائي الذي بحثه في مسالة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2- الأصل عند دوران الامر بين التخصص والتخصيص ، فقد بحث سماحته هذا المطلب بشكل تفصيلي وانتهى الى تفصيل لم يسبقه اليه احد من علماء الأصول.

3- التسامح في ادلة السنن ، حيث يذهب سماحته الى ان المقصود من روايات من بلغ هي الروايات المعتبرة ؛ لان البلوغ يتضمن هذا المعنى ، فأشكل سماحته على التوسع في تطبيق هذه القاعدة.

4- التفصيل في الاستصحاب بين الشك في المقتضي والشك في الرافع ، اذ ان سماحته لا يقول بإجراء الاستصحاب مطلقًا ، وانما يرى جريانه في خصوص حالة الشك في الرافع.

اما الفصل الثاني فقد خصصته للمطالب الأصولية التي ذكرها سماحته كمبانٍ أصولية ولَم يسهب في تفصيلاتها ؛ لان رأيه فيها موافق لرأي المشهور ، او لمقتضيات البحث الفقهي وعدم تشتيت الموضوع ، وكذا ذكرت في هذا الفصل بعض تطبيقات المطالب الأصولية ؛ لما في ذلك من فائدة عملية وبيان دقة سماحته في تلك التطبيقات.

ص: 4

كما وضعت خاتمة ذكرت فيها اهم القواعد الفقهية التي بحثها سماحته في موسوعة فقه الخلاف بشكل تفصيلي.

وعندما شرعت في كتابة هذه الأوراق كان سماحته قد أتم كتابة المسألة الأولى وشرع في الثانية من الجزء الثالث عشر من موسوعة فقه الخلاف ، وهما مسالتا مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيرًا ، وحد المبيت الواجب في منى ، ولذا فان ما ساذكره في هذا المؤلف سيكون في حدود هذه الأجزاء.ولم اكتب في متن المُؤلَف الا مقدمة بسيطة ومختصرة قبل نقل اَيٍ من كلمات شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ؛ لان غايتي الرئيسة هنا هي نقل كلمات وابحاث سماحة الشيخ الأستاذ حصرًا.

وقد يجد القارئ لهذا الكتاب بعض العبائر مذكورة تحت اكثر من عنوان ؛ لانها تتضمن اكثر من مطلب اصولي ، ولَم ارجح اقتطاع كل جزء منها و وضعه تحت عنوان خاص ؛ لاني رايت ان في اقتطاعها بهذا الشكل إرباكا وعدم وضوح.

وفي المقابل فان بعض الكلمات كانت تحكي عن مطالب أصولية متعددة ، ومع ذلك لم افرد لكل مطلب منها عنوانا خاصا ؛ لأنها عبارات طويلة بعض الشيء ، ولم ارد تكرارها بطولها ، كما لم ارد تقطيعها ؛ لما في ذلك من تاثير على وضوح البيان ، وذهابٍ لتسلسل طرح الافكار والمطالب.

وبطبيعة الحال فان عملي في هذا المؤلف كان عبارة عن اقتطاع الكلام الخاص ببعض المطالب الأصولية المهمة وترتيبها وفق المنهج الأصولي ، فمن أراد ان يطلع على المطلب الأصلي عليه الرجوع الى موسوعة فقه الخلاف.

كما انني لا ادعي استقصاء جميع المطالب الأصولية التي تضمنتها موسوعة فقه الخلاف ، وانما ذكرت منها ما لفت انتباهي واهتمامي ، فاعتذر مقدمًا عن اَي تقصير او قصور في بيان مطالب شيخنا الأستاذ ، واذا كان هناك خلل او نقص فأرجو تنبيهي عليه لتداركه مستقبلاً ان بقي في الحياة بقية ، وكُتب لهذا الكتاب ان يُطبع ثانية.

ص: 5

وقبل البدء ببيان المطالب الأصولية لسماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) لابد من بيان نظرته لمطالب علم أصول الفقه التي يجب بحثها ، وما هي التسمية الصحيحة التي يفترض ان نطلقها على هذا العلم وفق رؤيته ، وقد ذكر سماحته ذلك في سانحة في تسمية علم (أصول الفقه).

ص: 6

تسمية علم (أصول الفقه)

ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في هذه الأسطر إشكاله على تسمية ما يبحث اليوم في علم الأصول ب (أصول الفقه) ، وذكر ان الصحيح في تسميتها ان تسمى قواعد الاستنباط ؛ لانها تمثل قواعد كيفية التعامل مع الأدلة على الحكم الشرعي. ونص ما ذكره (دامت فيوضاته) هو:

سانحة: في تسمية علم (اصول الفقه)

أرى إشكالاً في إطلاق عنوان (اصول الفقه) على البحوث الاصولية المتداولة؛ لأن اصول الفقه تعني المنابع التي يستقى منها الفقه وهما الكتاب والسنة فقط، اما القواعد التي تؤسسها البحوث الأصولية فهي وسائل وآليات كيفية التعامل مع النصوص الشرعية التي هي أصول الفقه لاستنباط الحكم الشرعي.

فحينما نواجه نصاً شرعياً فيه صيغة (افعل) تقول لنا القاعدة ان هذه الصيغة دالة على الوجوب، وحينما نجد في النص جملة شرطية تقول لنا القاعدة ان لها مفهوماً وانه حجة، واذا تعارض النصّان فنؤسس قواعد لحل التعارض، واذا كان النص ظاهراً في وجوب شيء فان قاعدة تقتضي وجوب مقدمته أو لوازمه أو حرمة ضدّه ونحو ذلك، فالأصل الذي يستنبط منه هو النص الشرعي، اما نتائج علم الأصول فهي قواعد التعامل مع النص الشرعي عند القيام بعملية الاستنباط.

فالصحيح أن يعرَّف علم الأصول المتداول بأنه «قواعد كيفية التعامل مع النصوص الشرعية في عملية استنباط الاحكام الشرعية منها» فالقيد الأخير لتقييد القواعد باستنباط الفقه لا مطلقاً كالعقائد او الاخلاق او السيرة.

ص: 7

إن هذا التعريف لا يعتبر مجرد تغيير في الالفاظ حتى يقال لا مشاحة في الاصطلاح ونحو ذلك بل انه يمثل رؤية ومنهجاً لما يجب ان يتضمنه العلم من مسائل وبحوث، وافتقاد هذه الرؤية هو الذي أدى الى تضخم علم الأصول المتداول وتناوله بحوثاً خارجة عن اختصاصه مما اوجب الكثير من الانتقاد والدعوات للتهذيب والإصلاح.

ولا يتوهم ان هذا التعريف سيخرج بعض مباحث العلم لعدم كونها من التعامل مع النصوص الشرعية كالبراءة العقلية وغير المستقلات العقلية لأن الأولى مما دلت عليها النصوص الشرعية والثانية من مصاديق التعامل مع النص الشرعي اما المباحث التي لا يشملها التعريف فلا مانع من خروجها لأنها تسللّت عبر بعض الصراعات الفكرية.

واعتقد اننا بهذه المحاولة سنحلّ احدى عقد النزاع مع الأخباريين وسنجيب الاشكال القائل بأن علم الأصول مأخوذ من موروث العامة حيث بُني الاشكال على ما أوهمه عنوان العلم من أن الأصول التي يؤخذ منها الفقه والاحكام الشرعية هي هذه القواعد التي هي من مخرجات العقل البشري فاذا اتضح ان أصول الفقه هما الكتاب والسنة لا غير وان هذه المباحث الأصولية جعلت لمعرفة كيفية التعامل مع النصوص وفق ما يقرّره العقلاء وأهل اللغة وفي ضوء ما أسّسه لنا الأئمة المعصومون (علیهم السلام) لكيفية التعامل مع الحالات المختلفة فان الاشكال يزول بإذن الله تعالى.

هذا بلحاظ تسمية العلم ب (أصول الفقه) اما اذا أراد العلماء أن يؤسسوا علماً مستقلاً من دون التقييد بالغرض ويسمونه (علم الاصول) فهذا شأنهم ولهم ان يضمّنوه ما يشاؤون ولكن من دون ان يضيفوه الى الفقه.

والخلاصة ان علم الأصول ينبغي ان يسمى «قواعد الاستنباط» الذي ينصرف الى الاستنباط الفقهي.

الفصل الأول: المطالب الأصولية المفصلة

ص: 8

الفصل الأول: المطالب الأصولية المفصلة

اشارة

وهنا سنذكر أربعة مطالب أصولية بحثها شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) مفصلاً ، وهي:

المطلب الأول: حقيقة الوجوب الكفائي.

المطلب الثاني: الدوران بين التخصص والتخصيص.

المطلب الثالث: التسامح في ادلة السنن.

المطلب الرابع: التفصيل في حجية الاستصحاب بين الشك في الرافع والشك في المقتضي.

ص: 9

ص: 10

المطلب الأول: حقيقة الوجوب الكفائي

اشارة

ناقش سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) هذا المطلب في بحثه لمسالة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، اذ جاء هذا المبحث في الجزء الثامن (صفحة 159- 240)(1) ، حيث ذهب الفقهاء (رضوان الله عليهم) الى ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي ، ومن هنا وقف سماحته عند هذا المطلب مبينًا رأيه في حقيقة الوجوب الكفائي ، أضافة الى بيان الأصل عند الشك بين الكفائية والعينية.

ونص بحث سماحته (دامت بركاته) هو:

ذكروا(2)

أن للواجب الكفائي خصائص تميّزه عن الواجب العيني، وهي مسلّمة ومشهورة، فقهياً وأصولياً:-

1- إذا امتثله البعض على النحو الذي يتحقق به غرض المولى سقط عن الآخرين.

2- لو تركه الجميع عصوا جميعاً وأثموا واستحقوا العقوبة مع تنجّز موجبها.

3- إنه لو كان مما يقبل التعدد والتكثر –كالصلاة على الميت- وامتثل أكثر من واحد عُدُّوا جميعاً ممتثلين ويثابون عليه، وإن كان مما لا يقبل

ص: 11


1- جميع تخريجاتنا لموسوعة فقه الخلاف ستكون على وفق الطبعة الثانية منها ان شاء الله تعالى.
2- بحوث في علم الأصول: 2/424، المباحث الأصولية: 5/203.

التكثر فحينئذٍ لو تعاون جمعٌ على إنجازه حصل بهم الامتثال وأجزأهم.وسنتحقق في المباحث الآتية من كون هذه خصائص للواجب الكفائي تميّزه عن الواجب العيني.

مضافاً إلى وجود تساؤل وإشكالات كبروية على أصل الوجوب الكفائي.

أما التساؤل فحاصله: أن الطلب نسبة متقوّمة بثلاثة أركان: الطالب والمطلوب والمطلوب منه، وهنا الأولان محددان، فالطالب هو الشارع المقدس، والمطلوب هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسمى (المتعلق)، أما المطلوب منه فهو هنا غير معروف أو غير محدد أو غير موجود أصلاً على بعض الأقوال؛ لأن من خصائص الواجب الكفائي سقوطه إذا تحقق الامتثال بالبعض، وهذا البعض غير محدد، بخلاف الواجب العيني فإنه متعلق بذمة كل فرد على نحو العموم الاستغراقي.

وبتعبير آخر: إن الأمر الذي يصدر من المولى حقيقته إنشاء يراد منه بعث وتحريك المأمور نحو المأمور به وإيجاد الداعي لديه للتحرك وإلقاء عهدة التكليف عليه ونحوها من المعاني، وعلى هذا فلا بد من وجود المأمور لتصدق حقيقة الأمر، وهنا يثار التساؤل على الواجب الكفائي بأنه من هو المأمور؟.

ونفس التساؤل يثار في الواجب التخييري، ولكن التساؤل هناك عن المأمور به لتعدد خياراته.

وأما الإشكالات فقد أشكل على الواجب الكفائي من جهة كيفية تصور سقوط الوجوب عن الآخرين إذا قام به البعض، مع أن إطلاق الوجوب يقتضي عدم سقوطه عن الفرد إلا بامتثاله هو.

ويُشكل أيضاً من جهة استحقاق الجميع الإثم لو لم يمتثل أحد، مع أن الملاك واحد والغرض واحد، وهو يستدعي جعلاً واحداً وخطاباً واحداً.

ص: 12

ويُشكل أيضاً من جهة عدم استحقاق الإثم والعقوبة بمجرد الترك إلا إذا ترك الجميع، أي أن الموجب للإثم والعقوبة هو الترك المطلق لامطلق الترك مع أن مقتضى كون الفعل واجباً حرمة تركه مطلقاً.

فهذه الإشكالات يجب حلها من خلال تفسير صحيح للوجوب الكفائي.

وينبغي الالتفات إلى أنه إذا أريد بالإشكال هنا ما يؤدي إلى استحالة الوجوب الكفائي لعدم تمامية أركانه، فهذا مما يكذّبه الواقع لوجود الواجبات الكفائية، والوقوع أدلّ دليل على الإمكان، وإن أريد فهم وتصور حقيقة الوجوب الكفائي كمقدمة لمعرفة بعض الآثار المترتبة على ذلك فهو بحث له معنى.

وقد قيل في تصوير الوجوب الكفائي وحقيقته عدة وجوه، وسنجد من خلالها ومما أجيبت به أن أذهان الأصوليين انطلقت من واجب كفائي محدد- وهو الصلاة على الميت ودفنه كما صرّحوا به في أمثلتهم- وبنوا عليه رؤاهم ثم عمموها إلى كل الواجبات الكفائية، مع اختلافها وتنوعها، وهذا أحد أسباب عدم صحة جملة من التفاسير الآتية.

وعلى أي حال فالوجوه التي قيلت لتفسير الوجوب الكفائي هي:

(التفسير الأول) بأن «لا يكون للوجوب الكفائي إلا طرف واحد وهو المكلف به المتعلق به الإيجاب، وأما بلحاظ المكلفين فلا طرف له أصلاً فهو إيجاب للفعل دون أن يلحظ في جعله مكلف أصلاً»(1).

وفيه:-

1- فقده لأحد مقومات الطلب وهو المطلوب منه، فلا طلب حقيقة بدونه؛

ص: 13


1- بحوث في علم الأصول: 2/423، وهي تقريرات السيد محمود الهاشمي لبحوث السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه).

لأنه نسبة لا تتقوم إلا بأطرافها، فإذا لم يكن هناك مكلف فمن هو المخاطب بالوجوب، وفي عهدة مَنْ يُلقى الواجب؟.

ولو تنزّلنا وقلنا بإمكانه ولو بتقريب إمكان تصوره على مستوى مبادئ الحكم كمرتبة الملاك أو الحب والبغض أو الإرادة فإنه في هذه1- المراتب يمكن تصوره لكفاية وجود الحب والمحبوب، أو المريد والمراد ولا مدخلية لمن يتحقق به المراد، وحينئذٍ يقال بكفاية هذا التحقق لألقائه في عهدة المكلفين واشتغال ذممهم به لحكم العقل بوجوب طاعة المولى في هذه المرتبة.

أقول: هذا التقريب تصور نظري فقط لأن خطابات الواجب الكفائي موجودة-ومنها ما نحن فيه- فنقل الكلام إلى مبادئ الحكم لا موضوع له، مضافاً إلى عدم تمامية كبرى حكم العقل، للعجز عن اكتشاف إرادة المولى وحبّه وبغضه قبل أن يبرزه بالخطاب «تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ» (المائدة:116)، ولو تنزّلنا فإنه غير كافٍ لعدم وجوب الطاعة حتى يصدر الخطاب فلا وجه لاشتغال ذمم المكلفين به.

2- عدم توجّه التكليف لأي أحد، يعني عدم إلزام أي مكلف بالتحرك نحو الامتثال، وبالتالي عدم امتثال أي واجب كفائي، وفيه مخالفة قطعية للوجوب نظير إجراء أصالة البراءة في أطراف العلم الإجمالي.

نعم إذا أرجعنا هذا الوجه إلى عدم وجود طرف بعينه للوجوب أي لم يخاطب به فرد معين ولا غير معين، وإنما ألقي التكليف في عهدة الجميع لينجز، أي أن مطلوب المولى تحقق الواجب الكفائي خارجاً من دون تعلق غرضه بصدوره من أحد أو جماعة بأعيانهم، فهذا التفسير يرجع إلى بعض الوجوه الآتية.

(التفسير الثاني) «أن يقال إن التكليف متوجّه إلى واحد معين عند الله،

ص: 14

ولكنه يسقط عنه بفعل غيره لفرض أن الغرض واحد فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر»(1).

وفيه:-

إنه مخالف لظواهر الأدلة من كون التكليف موجهاً إلى عدد غير1- معين خصوصاً فيما نحن فيه –أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-.

2- لما كان كل مكلف شاكاً في كونه الفرد المعين فيحصل عنده شك في أصل ثبوت التكليف عليه، ويكون مجرى لأصالة البراءة، والعلم الإجمالي بتوجه التكليف إما إليه أو إلى غيره لا أثر له، لأن تكليف الغير ليس داخلاً في عهدته، فلا يكون هذا علماً إجمالياً منجزاً، بل هو احتمال وشك بدوي تجري فيه أصالة البراءة، وحينئذٍ تكون خطابات الوجوب الكفائي غير منجّزة للتكليف، ويكون صدورها لغواً وهو قبيح.

3- إن افتراض توجّه التكليف إلى الواحد المعين ترجيح بلا مرجح؛ لأن كل المكلفين متساوو النسبة إزاء الواجب.

4- منافاته لبعض خصائص الوجوب الكفائي، كاستحقاق الجميع العقوبة إذا لم يمتثل أحد، واستحقاق الفاعلين الثواب وإن تعددوا فكيف يفسّرهما هذا الوجه إذا كان المخاطب بالتكليف واحداً ؟.

5- ما قاله السيد الخوئي (قدس سرّه) من أنه «لو كان الأمر كذلك فلا معنى لسقوط الواجب عنه بفعل غيره، فإنه على خلاف القاعدة فيحتاج إلى دليل، وإذا لم يكن دليل فمقتضى القاعدة عدم السقوط. ودعوى أن الدليل في المقام موجود، لفرض أن التكليف يسقط بإتيان بعض أفراد المكلف وإن كانت صحيحة من هذه الناحية، إلا أنه من المعلوم أن ذلك من ناحية أن

ص: 15


1- محاضرات في أصول الفقه: 45/237 من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سرّه).

التكليف متوجّه إليه ويعمّه، ولذا يستحق الثواب عليه، لا من ناحية أنه يوجب سقوط التكليف عن غيره كما هو ظاهر»(1).

أقول: يمكن مناقشة جواب السيد الخوئي (قدس سرّه) بوجوه:-

إن هذا الرد لا يختص بهذا التفسير لأنه إشكال على أصل الوجوب الكفائي، باعتبار أن مقتضى إطلاق الوجوب العينية، فسقوطه عن البعض بفعل الغير على خلاف القاعدة ويحتاج إلى دليل.

أ- نعم يمكن توجيه كلامه (قدس سرّه) بأنه بناءً على هذا التفسير يكون الوجوب على هذا الواحد المعيَّن عند الله تعالى عينياً، وسقوطه بفعل الغير يحتاج إلى دليل والمفروض عدمه.

ب- يمكن القول أن ما أورده (قدس سرّه) فرض غير متصور بناءً على أن هذا الواحد المعيَّن هو أول ممتثل يتحقق الغرض بفعله، وأوّليّته كاشفة عن كونه المعيَّن المخاطب بالتكليف، فلا يوجد فاعل قبله حتى يصحّ فرض كلام السيد الخوئي (قدس سرّه).

ج- إن سقوط الوجوب بفعل الغير متصوَّر من جهة انتفاء الموضوع كما لو دُفن الميت، وزوال الموضوع أحد مسقطات التكليف بغضّ النظر عن خصائص الوجوب الكفائي.

فائدة: عرض السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) هذا الوجه في بحثه الشريف (محاضرة 24/ع2/1417) واكتفى بالرد عليه بأنه غير محتمل إطلاقاً، فأضفت له بعد الدرس رداً آخر وهو أنه بناءً عليه لا يستحق الجميع الإثم بل الفرد المعين فقط وهو مخالف لإحدى خصائص الواجب الكفائي،

ص: 16


1- محاضرات في أصول الفقه: 45/237، وتبنّاه أيضاً الشيخ الفياض في المباحث الأصولية: 3/213.

وقد أيّد (قدس سرّه) ذلك وقال إنه فاته ذكر ذلك، إلا أنه لم يدوّنه في منهج الأصول هنا (ج4/206) لكنه أضافه بعد ذلك إلى مناقشته لمختار السيد الخوئي (قدس سرّه) بأن المكلف هو الفرد غير المعيَّن (منهج الأصول:4/221) وهناك أشكلت عليه بإمكان استحقاق الجميع للعقوبة من باب التجري أو قلة المبالاة بأمر الله تعالى بعد احتمال كلٍّ منهم أنه هو المقصود، ولا يجري الأصل المؤمِّن في حقهم جميعاً لوجود العلم الإجمالي وقد أشرنا إليه في النقطة (3)(1)

وسنبيّنه إن شاء الله تعالى، فسلّم(قدس سرّه) الإشكال وقال لكننا نتكلم في عقوبة العصيان، فأجبت أنها عقوبة في الجملة، وهو كافٍ (محاضرة 2/ج1/1417).

وعلى أي حال فقد يقال في تعديل هذا الوجه: إننا نفترض «أن يكون موضوعه هو الواحد المعيّن مطلقاً حتى عند المكلفين» أي الواحد المعيَّن أعم من أن يكون عند الله تعالى أو عند المكلفين.

وأجيب بأنه «يلزم التخصيص بلا مخصص والترجيح من غير مرجّح، فإن نسبة ذلك الغرض الواحد إلى جميع المكلفين على صعيد واحد، وعليه فتخصيص الواحد المعيَّن منهم بتحصيله لا محالة يكون بلا مخصص»(2).

أقول: بناءً على ما افترضناه آنفاً من كون تعيين الواحد يكون بسبقه إلى الامتثال، فليس إذن هو تخصيص بلا مخصص؛ لأن المخصِّص هو السبق. وليس هو من الترجيح بلا مرجح؛ لوجود المرجّح وهو استحقاق الألطاف الإلهية الخاصة أكثر من غيره، ولو كان المورد من الترجيح بلا

ص: 17


1- قوله (دامت بركاته): عدم توجّه التكليف لأي أحد، يعني عدم إلزام أي مكلف بالتحرك نحو الامتثال، وبالتالي عدم امتثال أي واجب كفائي، وفيه مخالفة قطعية للوجوب نظير إجراء أصالة البراءة في أطراف العلم الإجمالي.
2- محاضرات في أصول الفقه: 45/238.

مرجّح لأحد الفردين أو الأفراد فإننا لا نجد إشكالاً فيه؛ لأن المرجح هو نفس الحاجة إلى الترجيح وإرادة تحقق الفعل، كأحد قرصي الجائع وطريقي الهارب، مضافاً إلى أننا نتحدث عن طاعات وأوامر إلهية يُرجى منها الثواب والقرب من الله تعالى وقد أمرنا باستباقها والمسارعة إليها، فالمرجح هو الاستحقاق الذي يكشف عنه السبق، قال تعالى: «فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ» (البقرة:148) وقال تعالى: «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ» (الأنبياء:90) وقال تعالى: «وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ» (آل عمران:114) وقال تعالى: «أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ» (المؤمنون:61) وقال تعالى: «وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (آل عمران:133).ولا يمكن إجراء البراءة هنا –بعد أن افترضنا أن المعيَّن هو الفاعل الأول- للعلم الإجمالي بوجوب تحقق الفعل خارجاً، واستحقاق الجميع للعقوبة لو ترك، رغم أن الشبهة غير محصورة هنا على طبق تعريفاتهم لها وعلى طبق نظرية الاحتمالات، إلا أن العلم الإجمالي يدعو الجميع إلى التحرك والانبعاث هنا، وهذا نقض عليهم.

نعم يرد على هذا التقريب مخالفته لظواهر النصوص فإنها تخاطب عموم المكلفين، مضافاً إلى إشكالية مخالفته لخصائص الوجوب الكفائي كما قرّبنا.

ولإنصاف القائل بهذا التقريب أقول: لعل مراده أحد الوجوه الآتية من توجه الخطاب إلى الجميع وتعيّنه بأحدهم –وهو الفاعل- بالامتثال كما قرّبنا، ولكن الإشكال يبقى من جهة كون هذا التفسير ناظراً إلى حال الامتثال والمفروض أن البحث في مرتبة الخطاب، وهذا الخلط بين المرتبتين منشأ آخر لعدم صحة التفاسير المعروضة للوجوب الكفائي.

ص: 18

ومن لطيف ما نستشهد به على هذا التقريب وظيفة النبوة والإمامة فإنها لطف من الله تعالى بعباده يختاره لمن يشاء بفضله، والخلق مكلفون بالاستعداد لحملها على نحو الوجوب الكفائي، وتعيّنت عند الله تعالى ببعض عباده لسبقهم إلى الإقرار في الربوبية كما ورد في روايات كثيرة في تفسير قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» (الأعراف:172) ومن تلك الروايات ما في الكافي بسنده عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إن بعض قريش قال لرسول الله (صلی الله علیه و آله): بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بُعثت آخرهم وخاتمهم؟ فقال: إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب حين أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم: ألستُ بربكم؟ قالوا: بلى، فكنت أنا أوّل نبي قالبلى، فسبقتهم بالإقرار بالله)(1).

(التفسير الثالث) ما اختاره السيد الخوئي (قدس سرّه) ووصفه بأنه الصحيح، وحاصله: «أن يكون التكليف متوجهاً إلى أحد المكلفين لا بعينه المعبر عنه بصرف الوجود».

أقول: أي أن الوجوب متعلق بالمكلفين على نحو العموم البدلي أي بأحدهم على نحو البدل كما لو قال: (أكرم عالماً) لا على التعيين، كما سيوضّح ذلك، وهذا الوجه حكاه صاحب الجواهر، قال (قدس سرّه): «ما ذهب إليه غيرنا من أن المخاطب في الكفائي البعض المبهم»(2).

ثم قال (قدس سرّه) في بيانه: «إن غرض المولى كما يتعلق تارة بصرف

ص: 19


1- الكافي: 1/366، ح6، راجع تفسير البرهان: 4/133.
2- جواهر الكلام: 21/361.

وجود الطبيعة، وأخرى بمطلق وجودها، كذلك يتعلق تارة بصدوره عن جميع المكلفين وأخرى بصدوره عن صرف وجودهم، فعلى الأول: الواجب عيني فلا يسقط عن بعض بفعل بعض آخر،... وهكذا، وعلى الثاني: فالواجب كفائي، بمعنى: أنه واجب على أحد المكلفين لا بعينه، المنطبق على كل واحد واحد منهم، ويسقط بفعل بعض عن الباقي، وهذا واقع في العرف والشرع، ولا مانع منه أصلاً.

أما في العرف فلأنه لا مانع من أن يأمر المولى أحد عبيده أو خدّامه بإيجاد فعل ما في الخارج من دون أن يتعلق غرضه بصدور هذا الفعل من خصوص هذا وذاك، ولذا فأي واحد منهم أتى به وأوجده فقد حصل الغرض وسقط الأمر لا محالة، كما إذا أمر أحدهم بإتيان ماء – مثلاً - ليشربه فإنه من المعلوم أن أي واحد منهم قام به فقد وفى بغرض المولى.

وأما في الشرع فأيضاً كذلك، ضرورة أنه لا مانع من أن يأمر الشارع المكلفين بإيجاد فعل في الخارج كدفن الميت – مثلاً - أو كفنه أو ما شاكل ذلك، من دون أن يتعلق غرضه بصدوره عن خصوص واحد منهم، بلالمطلوب وجوده في الخارج من أي واحد منهم كان، فإن نسبة ذلك الغرض الواحد إلى كل من المكلفين على السوية.

فعندئذ تخصيص الواحد المعين منهم بتحصيل ذلك الغرض خارجاً بلا مخصص ومرجح، وتخصيص المجموع منهم بتحصيل ذلك مع أنه بلا مقتض وموجب باطل بالضرورة كما عرفت، وتخصيص الجميع بذلك على نحو العموم الاستغراقي أيضاً بلا مقتض وموجب، إذ بعد كون الغرض واحداً يحصل بفعل واحد منهم، فوجوب تحصيله على الجميع – لا محالة - يكون بلا مقتض وسبب، فإذا يتعين وجوبه على الواحد لا بعينه المعبر عنه بصرف الوجود.

ص: 20

ويترتب على ذلك أنه لو أتى به بعض فقد حصل الغرض – لا محالة - وسقط الأمر، لفرض أن صرف الوجود يتحقق بأول الوجود ولو أتى به جميعهم، كما إذا صلوا على الميت – مثلاً - دفعة واحدة كان الجميع مستحقاً للثواب، لفرض أن صرف الوجود في هذا الفرض يتحقق بوجود الجميع دون خصوص وجود هذا أو ذاك، وأما لو تركه الجميع لكان كل منهم مستحقاً للعقاب، فإن صرف الوجود يصدق على وجود كل منهم من ناحية، والمفروض أن كلاً منهم قادر على إتيانه من ناحية أخرى.

فالنتيجة: هي أن الواجب الكفائي ثابت في اعتبار الشارع على ذمة واحد من المكلفين لا بعينه، الصادق على هذا وذاك، نظير ما ذكرناه في بحث الواجب التخييري: من أن الواجب أحدهما لا بعينه المنطبق على هذا الفرد أو ذاك، لا خصوص أحدهما المعين، فلا فرق بين الواجب التخييري والواجب الكفائي إلا من ناحية أن الواحد لا بعينه في الواجب التخييري متعلق الحكم، وفي الواجب الكفائي موضوعه»(1).

أقول: يرد عليه شكلاً ومضموناً.أما (شكلاً) –أي الصياغة والتعبير- ففيه:-

1- قوله: «متوجهاً إلى أحد المكلفين» وهذا بلحاظ المثال الذي ينطلقون منه للواجب الكفائي كتغسيل الميت أو دفنه، لكنه لا يصح في واجبات كفائية أخرى كالمسألة محل البحث وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2- الالتباس في عباراته (قدس سرّه)، ففي أول التفسير جعل غرض الوجوب الكفائي متعلقاً بصدوره من صرف الوجود بالنسبة للمكلفين، وقال لاحقاً

ص: 21


1- محاضرات في أصول الفقه: 45/240-242.

أن الغرض يتعلق بصرف وجود الفعل نفسه حين قال: «لفرض أن صرف الوجود يتحقق بأول الوجود ولو أتى به جميعهم»، وهذا الثاني هو الصحيح؛ لأن مطلوب المولى تحقق الواجب الكفائي خارجاً من دون لحاظ مكلف أو مكلفين بأعيانهم، وهو الذي يناسب كلامه في المثال الشرعي الذي ذكره (قدس سرّه).

3- قوله (قدس سرّه): «فعندئذٍ تخصيص الواحد المعيَّن..» وما بعده، هو عرض للتفاسير الأخرى وردَّها، وقد ناقشنا الأول منها وسنناقش الباقي بإذن الله تعالى، وسيظهر أن إلقاء عهدة الواجب في ذمة الجميع ليس بلا مقتضٍ وسبب.

4- قوله (قدس سرّه): «لو أتى به بعضٌ فقد حصل الغرض» يمكن التسليم به في بعض موارد الوجوب الكفائي كدفن الميت،وتغسيله، أما غيره كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه لا يمكن إحراز تحقق الغرض، لعدم الإحاطة به إما من جهة عدم معرفة جميع الأغراض أو لسعتها وتنوعها، ففي مسألتنا يمكن تحديد أغراض عديدة لهذه الفريضة، منها ما في الآية الشريفة «مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (الأعراف: 164) وفي الروايات الشريفة المتقدمة، أنه لإقامة الشريعة (1) أو لكي تكون من أهله ، أو لمضاعفة الثواب ، أو لتحصيل الآثار المباركة ، أو لتحصيل المنزلة العظيمة عند الله تعالى ، أو لإظهار الغضب لله تعالى والرفض لمعصيته ، أو لما قال (علیه السلام) عن تاركهما (أنه يذلّ بعمله دين الله ويقتدي به أهل عداوة الله) ونحو ذلك مما سنفصّله إن شاء الله تعالى، فكيف يمكن القطع بتحقق

ص: 22


1- راجع وسائل الشيعة: كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الأبواب من 1 الى 7 ، او موسوعة فقه الخلاف ج8 من ص 112- 129.

الغرض حتى يسقط التكليف عن الآخرين؟.

5- المثالان العرفي والشرعي اللذان ذكرهما هما مثالان لأصل الواجب الكفائي لا للتصوير الذي قرّبه (قدس سرّه)، ويمكن لكل الوجوه الأخرى أن تذكرهما فلا يعززان تفسيره كما أراد (قدس سرّه). مع ملاحظات أخرى على بعض فقرات النص سنعرضها ونناقشها بعد الانتهاء من مناقشة الوجه بإذن الله تعالى.

وأما (مضموناً) –أي نفس التفسير- فيرد عليه:-

1- إنه مخالف لظواهر الآيات والروايات في توجيه الخطاب إلى الجميع وليس إلى واحد كما يفترض التقريب، بل مخالف لصريحها كقوله تعالى: «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ» (آل عمران:104).

2- إمكان إجراء أصالة البراءة في حق كل مكلف لأن احتمال كونه هو الواحد غير المعين من دون عموم المكلفين من الشبهة غير المحصورة بناءً على تعريفاتهم بل تقرب قيمته من الصفر، فلا يكون العلم الإجمالي منجَّزاً فيسقط عنه التكليف، وتكون هذه الخطابات لغواً لأنها لا تنجّز تكليفاً، وإن قال بتنجّزه فهذا نقض على تعريفهم للشبهة غير المحصورة.

إنه لا يفسِّر لنا جملة من خصائص الواجب الكفائي، فلماذا يؤثم الجميع إذا لم يقم به أحد ما دام المخاطب(1)

واحدًا ؟ وبأي وجه يصح الامتثال من المتعددين، كما لو صلّى مجموعة على الميت، إذا كان المخاطب واحدًا؟ إذ مع عدم وجود الأمر لغير الواحد غير المعين لا يصح التقرب بالعمل إلى الله تعالى، وما ذكره من تقريب حصول الامتثال من الجميع

ص: 23


1- راجع الأطروحة التي أوردناها في الفائدة (صفحة 16)

بقوله: «ويترتب على ذلك..» ينافي مضمون الوجه الذي ذكره (1)

وفيه الالتباس الذي ذكرناه (2)

حيث قرّب التفسير بصرف وجود المكلف وفي هذا المقطع استدل بتحقق صرف وجود الفعل.

2- إنه ينافي ما ذكره في الإيراد على الوجه السابق ونقلنا كلامه (صفحة 15-16) واعترف فيه بتوجّه التكليف لأكثر من واحد بقوله: «إن التكليف متوجه إليه –أي غير الواحد المعين- ويعمّه».

3- إن الغرض من إنشاء الأمر والطلب هو إشغال ذمة المكلف، وإلقاء التكليف في عهدته، وتحريكه نحو تحقيق المطلوب، والمفروض في هذا التفسير أنه مكلف واحد غير معين، وهذا لا يجعل الأمر يرجع إلى معنى صحيح، لأن احتمالات المراد من الواحد لا بعينه عديدة.

فإن أريد به إشغال ذمة الواحد المصداقي وهو الفرد المردد في الخارج، فقد أجمعوا(3) في جوابه: على أن الفرد المردد مستحيل لاوجود له حتى يمكن تصور إشغال ذمته، بتقريب أن الوجود مساوق للوحدة والتعيّن والتشخّص، والمساوقة مع الواقعية الواحدة، وما هو مردد –أي هذا أو

ص: 24


1- اَي التفسير الثالث.
2- اَي النقطة رقم 2 صفحة 21.
3- بحوث في علم الأصول: 2/428، منهج الأصول: 4/206، المباحث الأصولية: 5/211. فائدة: حينما أورد السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) هذا الجواب على السيد الخوئي في بحثه الشريف (محاضرة بتأريخ 2/ج1/1417) قلت له: إن الفرد المردد له مصاديق يمكن أن تكون موضوعاً للأحكام الشرعية كما لو كان مردداً ضمن مقدار معين على نحو الكلي في المعين فهذا المقدار من التعيّن يصدق معه تحقق الموضوع رغم أنه مردد، كمقدار الزكاة في المال الزكوي قبل عزله، وقد أوجب أحكاماً شرعية كعدم جواز التصرف في تمام المال الزكوي، فهو غير مستحيل ما دامت بعض أفراده غير مستحيلة، فأجاب (قدس سرّه) بالإيجاب.

ذاك- لا واقعية له ولا ثبوت، وما هو موجود في الخارج هو هذا وحده وذاك وحده وليس عندنا وجود هذا أو ذاك لا في الخارج ولا في الذهن.

وإن أريد به العنوان الاعتباري فإنه ليس له ذمة حتى تشتغل به فافتراض تعلق الوجوب به لغو لا معنى له. وإن أريد به طبيعي المكلف القابل للانطباق على جميع الأفراد بهدف إشغال ذمة كل فرد من المكلفين باعتباره مصداقاً لهذا العنوان، فهذا وإن كان ظاهر بعض كلماته (قدس سرّه) كقوله (صفحة 21): «الصادق على هذا وذاك» واعترف ضمن ردّه على التفسير الثاني بقوله (صفحة 15): «من ناحية أن التكليف متوجه إليه ويعمه»، وسيأتي قوله (قدس سرّه) في الرسالة العملية بعموم الوجوب.(1)

أقول: إلا أن هذا خلاف ظاهر مراده (قدس سرّه) من عنوان الوجه من كون المكلف واحدًا ؛ لانحلال الوجوب إلى وجوبات بعدد أفراد المكلّفين، وهو وجه آخر مستقل غير ما ذكره (قدس سرّه) فإنه صرّح بأن المكلف واحد لا بعينه. وإن قيل أن المراد إشغال ذمة أحدهم تعييناً، فهذا مخالف لفرضه (قدس سرّه) من كونه غير معين، وهو ترجيح بلا مرجح مضافاً إلى أنه الوجه الثانيالمتقدم، وقد ناقشناه.

1- أما تنظيره بالواجب التخييري في ذيل كلامه (قدس سرّه) وأنهما معاً أخذا على نحو الواحد لا بعينه غير أن المأخوذ في الوجوب التخييري متعلق

ص: 25


1- يراد به قوله (قدس سرّه) في منهاج الصالحين 1 / 352 ، مسالة (1272) ، الطبعة (29): «لا يختص وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصنف من الناس دون صنف، بل يجب عند اجتماع الشرائط المذكورة على العلماء وغيرهم، والعدول والفسّاق، والسلطان والرعية، والأغنياء والفقراء، وقد تقدّم أنه إن قام به واحد سقط الوجوب عن غيره وإن لم يقم به أحد أثم الجميع، واستحقوا العقاب».

الحكم وفي الكفائي موضوعه، فهذا لا ينفعه في تصحيح التفسير وهو قياس مع الفارق؛ لأن المطلوب في متعلق الوجوب –مطلقاً- هو تحققه في الخارج بإنشاء الوجوب لتحريك المكلف نحو إيجاده، وإيجاد الداعي نحو أحد فعلين أو أكثر –كما هو مقتضى الوجوب التخييري- معقول ولا استحالة فيه، أما المطلوب في موضوع الوجوب –وهو المكلف- فهو إشغال الذمة وإلقاء العهدة، وقد علمنا آنفاً أن توجيهه إلى فرد مردد –كما هو مقتضى هذا الوجه- لا يرجع إلى معنى صحيح.

هذا ثبوتاً، والفرق واضح إثباتاً أيضاً لاختلاف أدلة الوجوب التخييري عن الكفائي، فالأولى تدل على أن الواجب هو أحد البدائل المعطوفة ب(أو)، بينما الثانية ليس فيها العطف بين أفراد المكلفين وإنما أخذ موضوعها طبيعي المكلف.

نعم يمكن تصحيح هذا التفسير بلحاظ مرتبة الامتثال كما صحّحنا التفاسير السابقة، وذلك بحمل المراد منه أن متعلق التكليف هو فعل واحد، الذي يكفي في تحققه امتثال البعض –واحداً أو أكثر-، ولكن المولى لم يعيّن هذا البعض وإنما ألقاه في عهدة الجميع ليقوم به هذا البعض غير المعين به، وهذا التفسير يعود إلى بعض الوجوه الآتية.

(التفسير الرابع) أن يكون الخطاب بالوجوب متوجهاً إلى مجموع المكلفين بما هم مجموع وجماعة، فالوجوب واحد متعلق بالمكلفين على نحو العموم المجموعي، وكأن مجموع المكلفين مكلف واحد.

وقد أفاد السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) بأن هذا يمكن تصوره على صورتين، وسنرى أنهما في الحقيقة صورة واحدة، لوحظت بلحاظين، ففي الأولى لوحظت طبيعة الواجب، وفي الثانية لوحظت طبيعة المكلف وهمالمجموع:-

ص: 26

أولاهما: «تفسير الواجب الكفائي وتنظيره بما إذا كُلَّف مجموع العشرة مثلاً بتحريك هذا الحجر الذي لا يمكن لكل فرد منهم مستقلاً تحريكه فكما أنه في المثال يوجد تكليف واحد على المجموع بتحريك الحجر فكذلك في الواجب الكفائي إن أُريد هذا المعنى.

ورد عليه:-

أولاً: إن بعض الواجبات الكفائية لا يتعقل فيه فعل واحد يصدر من الجميع بنحو الاشتراك كالصلاة على الميت مثلاً. فإن صلاة كل مكلّف عليه غير صلاة المكلف الآخر.

وثانياً: إن هذا المعنى راجع بحسب الحقيقة إلى وجوبات عديدة بالنسبة لكل مكلف ولكن متعلقه ليس هو رفع الحجر بل المشاركة فيه ولهذا يكون هناك امتثالات عديدة وعصيانات متعددة أيضاً وتطبيق هذا على الواجب الكفائي لا ينسجم مع خصائصه المتقدمة حيث يسقط التكليف بامتثال فرد واحد»(1).

أقول: هذا التفسير متصور بل واقع في بعض الواجبات الكفائية كما في الجهاد فإن التكليف يتوجه إلى المجموع الذي يتحقق به الامتثال كأنه واحد، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ» (الصف: 4) والبنيان ينظر إليه كشيء واحد ولا تلحظ أفراده المكونة له.

والمثال الآخر بناء مؤسسات الدولة الكريمة، فإن المجموع مكلف بما هو مجموع؛ لأن طبيعة التكليف تستلزم قيام الجماعة كرجل واحد، إذ لا يستطيع واحد أو أفراد دون العدد المعتبر بإنجاز العمل المطلوب، فإما أن

ص: 27


1- بحوث في علم الأصول: 2/427.

تنهض الجماعة التي يتحقق بها الامتثال لمجموعها، أو لا يتحققامتثال أصلاً، بل قد يحرم إذا كان من الإلقاء في التهلكة.

ومن موارده روايات الظهور المبارك التي اشترطت اكتمال عدد الأنصار (313) الذين يتحقق بهم الغرض(1)، فالتكليف متوجه إليهم على نحو المجموع، لذا فإن الامتثال لا يتحقق إلا بقيام تمام العدد.

أما إيراده (قدس سرّه) على هذا التفسير فإنه غير تام:

أما –أولاً- فإنه (قدس سرّه) انطلق فيه من مورد محدد وهو كافٍ للنقض على إطلاق التفسير وعمومه إلا أنه لا ينتج امتناع التفسير ولا يمنع من صحته في الجملة، وقد قرّبنا إمكانه بل لزومه في الموارد المذكورة.

وأما –ثانياً- فمنشأه تحليل الواجب الواحد إلى أجزائه وبسط وجوبه عليها، وإلا فإن الواجب المراد إنجازه واحد وهو رفع الحجر في المثال، لكنه (قدس سرّه) جزّأه بلحاظ المكلفين، ونظرنا في البحث إلى نفس الواجب الواحد، ولا ضير في تصور تجزئة التكليف على عدد من يتحقق بهم الغرض؛ لأنه هو مقتضى هذا التفسير، ولا يضر هذا بكون الواجب واحداً، كما أن وجوب الوضوء واحد لكنه يتضمن واجبات عديدة كغسل الوجه واليدين والمسح كما في الرسائل العملية، وكذا غسل الجنابة، وهذا الانبساط على الأجزاء لا ينافي كونه واحداً بلحاظ المجموع.

ثانيهما: «جعل مجموع المكلفين مكلفاً واحداً بالوحدة الاعتبارية يكون منه امتثال واحد وعصيان واحد، فلو فعل أحدهم فكأن هذا المجموع قد صدر منه الفعل ولو بجزء منه، نظير المكلف الواحد قد يحرك الحجر بيده وقد

ص: 28


1- أنظر: كمال الدين وتمام النعمة – الشيخ الصدوق:406، الاحتجاج – الشيخ الطوسي:2/250.

يحركه برجله، فكما أنه لا ينافي ذلك صدور الامتثال الواحد منه كذلك في المقام.

ورد عليه: أن هذه الوحدة الاعتبارية إنما تتعقَّل في طرف متعلق التكليف أي المكلف به كما في الأمر بمجموع أجزاء مركب اعتباريكالصلاة لأن المقصود منه إيجاده، وإيجاد المركب كذلك معقول، حيث يمكن انقداح الداعي نحوه، وأمّا في جانب المكلف فعنوان مجموع المكلفين الواحد بالاعتبار ليس مكلّفاً حقيقة صالحاً لتشغيل ذمته بالتكليف وإنما المكلّف حقيقة إنما هو كل فرد فرد فلا يعقل افتراض امتثال واحد وعصيان كذلك للمجموع»(1).

أقول: وهذا التقريب أيضاً ممكن، ويوجد ما يدل عليه في النصوص القرآنية والروايات الشريفة من اعتبار الأمة كياناً واحداً كقوله تعالى: «مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ» (الحجر:5) وقوله تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» (الأعراف:34) فللأمة أجل بغضّ النظر عن أفرادها، وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ» (الصف:4) والبنيان يلحظ فيه مجموع الأجزاء كشيء واحد ولا تلحظ أجزاؤه ومكوناته، وكذا ما ورد في الروايات من اعتبار المؤمنين كالجسد الواحد(2)،

ص: 29


1- مباحث الدليل اللفظي: 2/427.
2- عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ميزان الحكمة: 4/2837 عن كنز العمال: 765، 737. وورد نفس المضمون بألفاظ قريبة في بحار الأنوار: 58/150، ح28 و ج109/173.

وراكبي السفينة (1).ومن مصاديق هذا التفسير الواجبات النظامية التي يحفظ بها النظام الاجتماعي العام، فإن الفرد عليه تكليفان، أحدهما: بما هو فرد، وهي الواجبات العينية، وثانيهما: بما هو جزء من المجتمع، فيوجّه التكليف إلى المجموع بما هو عنوان للأفراد من دون نظر خاص إلى أحدهم وإنما يراد من المجموع أن يصدر منهم هذا الفعل بأي نحوٍ كان، فإذا فعل وتحقق الغرض فيكون المجموع قد أدى ما عليه، وإن لم يتحقق الفعل خارجاً أثم الجميع لإلقاء التكليف في عهدتهم.

وفي ضوء ذلك يعلم الرد على إيراده (قدس سرّه)؛ لأن عنوان مجموع المكلفين ممكن بل مستعمل في النصوص الشرعية، ويكون له عهدة يمكن إلقاء التكليف عليها بحيث يكون تعلق التكليف به طريقاً لتحميل أفراده إنجاز الفعل المطلوب عندما لا يوجد غرض للمولى بتكليف أعيان الأفراد وإنما

ص: 30


1- كان (دامت بركاته) قد قال في ج8 / 78: وفي بعض الروايات أن النبي (صلی الله علیه و آله) أثار هذه الحقيقة العقلائية ليدعو الناس للعمل بهذه الفريضة، فقد روي عنه (صلی الله علیه و آله) قوله: (مثل القائم على حدود الله والمرهن فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها –فقال الذين في أسفلها: إننا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمعنوهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً) كما قال في ص 130 من نفس الجزء: وورد بعضها في أبواب لا تناسب هذا المعنى، فقد أورد البخاري في صحيحه في كتاب الشركة، باب 6 «هل يُقرع في القسمة والاستهام فيه؟» قول النبي (صلی الله علیه و آله): (مثل القائم على حدود الله والواقع «وفي سنن الترمذي (والمدهن)» فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)

مراده تحقق الفعل خارجاً.

ومن أمثلتها مؤسسات الدولة وسائر المؤسسات التي لها عنوان مسؤول فإن الأنظمة الحاكمة قد تسقط وتتبدل وربما يتبدل الشعب أيضاً عبر أجيال وتبقى الدولة والمؤسسات مسؤولة عن الوفاء بالتزاماتها وما تعلق بذمتها، فقوله (قدس سرّه): «فعنوان مجموع المكلفين الواحد بالاعتبار ليس مكلفاً حقيقة لتشغيل ذمته» لا يساعد عليه اعتبار العقلاء.

ولإيضاح الفكرة أكثر راجع خطاب (الفقه الاجتماعي ضرورة حضارية)(1)،

ومما قلناه هناك تعقيباً على حديثي الجسد وراكبي السفينة:«فلو كانت الأمة مجرد عدد رقمي للأفراد لما نّبه (صلی الله علیه و آله) إلى هذه الرابطة، فإن الجسد ليس مجرد مجموع عدد من الأجزاء، بل هو مركب له وجود وحقيقة وماهية، وكذا السفينة، وهما مثالان واضحان يُقرّبان فكرة أن الأمة أيضاً كيان مركب من عدد من الأفراد، وكما إن للفرد خصائص ومميزات تُكسبه الصورة الخاصة به، كذلك المجتمع.

وكما إن الفرد يُولد ويموت ويمتلك مقومات القوة والبقاء ثم يضعف ويموت، كذلك الأمم تولد وتنمو وتحصل لها عناصر الديمومة والبقاء، أو تنخر في جسدها آفات العلل والأمراض فتموت، وهي كما أشارت إليه الآية المتقدمة، والتأريخ أمامنا يشهد على حصول ذلك قديماً وحديثاً، فكم من أمة أو حضارة ولدت وازدهرت ثم نخرت في جسدها الآفات والأدران الاجتماعية حتى فتكت بها واندثرت.

وكما إن للفرد مصالحه وملاكاته - بحسب التعبير العلمي - التي أوجبت أن يُكلف بأحكام شرعية، فأوجب المولى تبارك وتعالى عليه

ص: 31


1- خطاب المرحلة: 1/286-304.

الصلاة لتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وأوجب عليه الصوم ليقوي إرادته ويتدرب على أن يملك زمام نفسه مثلا، فكذلك الأمة لها مصالح وملاكات توجب أن يكون لها أحكام من نوع آخر متوجهة إليها كأمة مجتمعة لا كأفراد، غير ما ألفناه في الأحكام الفردية، والفرد مسؤول عن التكليفين معاً، ولكنه في أحدهما مسؤول عنه شخصياً بغض النظر عن قيام غيره به وعدمه كالصلاة والصوم، أما الآخر - أعني تكليف الأمة - فهو مسؤول عنه بما هو جزءٌ من هذا الكل المركب الذي سميناه الأمة أو المجتمع»(1).

ومما تقدم يُعلم النظر في ردّ السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) على هذا التفسير بأنه «غير معقول» و «أن مقتضى الدليل هو أن كل واحد منأفراد المكلف موضوع للتكليف، وجعل الموضوع له مجموع أفراده على نحو العموم المجموعي، بحيث يكون كل فرد من أفراده جزءاً له لا تمامه: خلاف الإطلاق، وأن المجموعية تحتاج إلى قرينة والمفروض عدمها»(2).

أقول: قد رأينا أن هذا التفسير معقول وواقع في بعض موارد الوجوب الكفائي، وأن القرينة عليه نفس طبيعة الواجبات الكفائية كالأمثلة التي ذكرناها.

(التفسير الخامس) أن يكون الوجوب متعلقاً بجميع المكلفين على نحو العموم الاستغراقي، ونتيجته وجود وجوبات متعددة بعددهم، أي أن التكليف متوجه إلى كل مكلف.

وهذه الوجوبات المتعددة بعدد المكلفين مطلقة غير مشروطة كما تفترض بعض الصياغات الآتية، وإلى هنا يكون كالوجوب العيني.

ص: 32


1- خطاب المرحلة: 1/288.
2- منهج الأصول: 4/215-216.

وهذا التفسير صحيح في الجملة، وتتحقق فيه خصائص الواجب الكفائي.

ويدل على هذا النحو من العموم:-

1- إن غرض المولى لم يتعلق بصدور الفعل من بعض دون بعض وإنما غرضه تحقق هذا الفعل خارجاً من أي مكلف كان، فهو متوجه إلى جميعهم على حد سواء بلا تعيين لأحدهم دون آخر؛ لأنهم متساوو النسبة إزاء هذا الوجوب، فلا يمكن تعلقه ببعضهم دون بعض سواء كان هذا البعض معيّناً أو غير معين كما افترضت بعض التفاسير السابقة فلا بد أن يتوجه الوجوب إليهم جميعاً على حد سواء.

2- ما التزموا به من استحقاق الجميع للإثم إذا لم يقم به البعض، وهذا كاشف عن تعلق الوجوب بذمم الجميع، وإلا فلا موجب للإثم بدون تكليف.وكانت هذه الخصيصة للواجب الكفائي التي اتفقوا عليها مانعاً قوياً من قبول أي تفسير لا يقول بالعموم الاستغراقي.

1- ظاهر نصوص الواجبات الكفائية، فإنها لا تختلف عن خطابات الواجبات العينية في توجّه الخطاب إلى الجميع، فإن خطاب الصلاة اليومية أو الصوم أو الحج كخطاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالإيراد على العموم الاستغراقي بأنه «لا يمكن الأخذ بظاهره، وإلا فلا فرق حينئذٍ بين الواجب الكفائي والواجب العيني»(1)

من لزوم ما لا يلزم بعد كون ظاهر النصوص في الواجبين متحدة.

فالمبرر أو المقتضي لكون الوجوب على نحو العموم الاستغراقي موجود، وسنبحث في وجود المانع لاحقاً إن شاء الله تعالى.

ص: 33


1- المباحث الأصولية: 5/204.

نعم يكمن الفرق بين الواجبات العينية والكفائية في عدم تعلق إرادة المولى بصدور الفعل –أي الواجب الكفائي- خارجاً من كل فرد فرد، وإنما يكتفي بما يحقق به غرضه، كتغسيل الميت والصلاة عليه فإنه يتحقق بامتثال واحد، أو الجهاد أو النفر لطلب العلوم الدينية أو تحصيل ملكة الاجتهاد أو الواجبات النظامية التي تتحقق بامتثال جماعة معينة من المجتمع وهكذا، فإذا تحقق غرض المولى انتفى موضوع الوجوب وسقط عن الآخرين.

وبتعبير آخر: إن طبيعة الواجبات الكفائية تقتضي عدم تحقق المخالفة بتركه الفعل خاصة ما دام يمتثل غيره ويتحقق بذلك غرض المولى وينتفي متعلق الوجوب، وإنما تتحقق المخالفة بترك الجميع، فاستحقاق العقوبة مشروط بترك الجميع.

وهذه الصياغة توفّر الخصائص المذكورة للوجوب الكفائي، فسقوطه عن الآخرين بامتثال البعض متحقق لانتفاء موضوع الوجوب، وعصيانالجميع لو لم يحصل الامتثال يترتب لمخاطبتهم جميعاً بالتكليف، ولا مانع من امتثال الجميع إذا كان الفعل قابلاً للتعدد –كالصلاة على الميت- لتوجه الأمر المصحح للعبادات إليهم جميعاً.

فالفرق بين العيني والكفائي ليس في خطاب التكليف أي الوجوب، وإنما في طبيعة الواجب وسنخه وشأنيته المعروفة لدى الجميع، حتى تسالموا فقهياً وأصولياً على خصائصه، فإن الواجبات الكفائية مما يتحقق فيها غرض المولى بامتثال البعض، أما العينية فلا يتحقق غرض المولى إلا بامتثال كل فرد فرد.

ونصل بذلك إلى نتيجة مهمة، وهي أن التقسيم إلى العيني والكفائي هو من تقسيمات الواجب لا الوجوب، وعدم وجود فرق بينهما على مستوى

ص: 34

التكليف والوجوب، وإنما الفرق في مرتبة الامتثال والإتيان بالواجب.

وهذه النتيجة المهمة قد توصلنا لنتيجة أهم منها في مسألتنا وهي أن بعض ما قيل من شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي شروط للواجب لا للوجوب كما سيأتي في الفصل الخاص بالشروط إن شاء الله تعالى.

وإذا صحّت هذه النتيجة فإنها تصحح منظومة فكرية أسست لسيرة عملية للفقهاء والحوزات العلمية اعتبرت الشروط المذكورة شروطاً للوجوب فهو يسقط بعدم تحققها، وبما أن تلك الشروط صعبة التحقق ولا يتحقق القطع بها غالباً، فتلاشى العمل بهذه الفريضة بعد أن أقنعنا أنفسنا بسقوط الوجوب، وهذه المنظومة وجَّهت مسيرتهم خلال قرون من الزمن، والله المستعان.

الإشكال على هذا التفسير:

ويمكن الإشكال على هذا التفسير بأن العموم الاستغراقي يعني وجوبه على كل فردٍ فردٍ، ومن لوازم الوجوب عدم جواز الترك، فهذا العموميعني عدم جواز الترك من كل فرد فرد، وهو غير مراد قطعاً في الواجبات الكفائية؛ لسقوط الوجوب عن الآخرين إذا قام به من به الكفاية. وهذا ما سنجيب عنه عند التفريق بين قول المشهور أن الواجب يسقط بامتثال البعض وما نقوله من سقوطه بانتفاء موضوعه.

نعم الإشكال الرئيس الذي يتوجه إلى هذا التفسير والذي ادعي كونه مانعاً عن القول به هو أن الملاك الذي اقتضى جعل هذا الوجوب الكفائي يفترض فيه أنه ملاك واحد تعلّق بصرف وجود الفعل، ومعنى هذا أنه يناسبه وحدة الوجوب والخطاب أيضاً، وحينئذٍ لا موجب لتعدده كما يفترض هذا التفسير.

ص: 35

وهذا الإشكال دفع بعض الأصوليين إلى العدول عن القول بالعموم الاستغراقي، كالسيد الخوئي (قدس سرّه) حيث ورد ضمن كلماته التي نقلناها (صفحة 20) قولُه: «تخصيص الجميع بذلك على نحو العموم الاستغراقي بلا مقتضٍ وموجب.. إلخ»، رغم أننا قرّبنا ظهور بعض كلماته في العموم الاستغراقي، الذي لم يستطع نفي ظهور الأدلة فيه.

وهذا الإشكال أيضاً مع الحرص على تقديم فرق بين الوجوب العيني والكفائي هو الذي دفع القائلين بالعموم الاستغراقي إلى تقديم أطروحات وصياغات للتخلص منه، وإن لم يصرّح البعض بأن صياغته للتخلص من هذا الإشكال، إلا أن قراءة كلماته تشهد بذلك.

وقبل عرض هذه الصياغات نقول أن الإشكال غير وارد أصلاً؛ لأن الملاك يمكن تصوره في المجعول أي متعلق الجعل كما يمكن تصوره في الجعل أي في نفس إلقاء الجعل إلى المكلفين بغضّ النظر عن متعلقه وامتثاله كالأوامر الامتحانية، مثل أمر إبراهيم (علیه السلام) بذبح ولده إسماعيل فإن الملاك كان في نفس إلقاء التكليف بالذبح في عهدتهما وليس في ذبح إسماعيل، فهذا هو المراد بكون الملاك في الجعل أي في إلقاء التكليف في عهدة المكلفين وليس معناه أن الملاك في إنشاء الخطابحتى يقال أنه يُستوفى بنفس الجعل فلا أثر لمثل هذا الجعل ولا يحكم العقل بوجوب امتثاله(1).

أما على مستوى المجعول فإن بعض الواجبات الكفائية تقبل التعدد كالصلاة على الميت فالملاك يكون متعدداً، وأما على مستوى الجعل، فإن

ص: 36


1- كما حكي عن السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) في سياق الكلام عن شبهة القضاء ونقض الغرض.

الفعل المطلوب كفائياً –أي الواجب الكفائي- وإن كان واحداً، إلا أنه يمكن تصوُّر وجود ملاكات في الجعل بعدد الأفراد تقتضي جعل الوجوب عليهم جميعاً.

وهذا الملاك يمكن أن يكون أموراً:-

1- تحميل مسؤولية إنجاز الفعل على الجميع وإلقائه في عهدتهم، حتى لا يتكل بعضهم على بعض، متذرعين بعدم كون الوجوب تعيينياً على أشخاصهم، فيتقاعس الجميع ويضيع الواجب كما هو المرتكز في أذهان الناس ونظرتهم إلى الواجبات الكفائية. وهذه الحالة وهي (التواكل) خلاف قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ» (الأنفال:24)، وورد التحذير منها بالنص في الأحاديث الشريفة كرواية الكليني في الكافي والصدوق في عقاب الأعمال والشيخ في التهذيب عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يقول: إذا أمتي تواكلت «تواكلوا» الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)(1).

خلق روح التنافس واستباق الخيرات لدى عموم الناس بإعطاء فرصة القيام بالفعل بشكل متساوٍ للجميع، ودعوتهم جميعاً للامتثال، قال تعالى: «فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ» (البقرة:148) وقال تعالى: «وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ1- الْمُتَنَافِسُونَ» (المطففين:26).

ولذا ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (عليكم بأعمال الخير فتبادروها ولا يكن غيركم أحق بها منكم)(2)، وعنه (علیه السلام) قال: (افعلوا

ص: 37


1- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 1، ح5.
2- غرر الحكم: رقم (6151).

الخير ولا تحقروا منه شيئا فإن صغيره كبير وقليله كثير ولا يقولن أحدكم إن أحداً أولى بفعل الخير مني فيكون والله كذلك، إن للخير والشر أهلاً فما تركتموه منهما (كفاكموه أهله)(1).

2- إعطاء الفرصة لأكبر عدد من المؤمنين للامتثال في الواجبات القابلة للتعدد وإن كان الامتثال الواحد كافياً كالصلاة على الميت أو لتوسيع دائرة النهي عن المنكر ورفضه والغضب لله تعالى إذا عُصي، وهذا الجانب –أي الرفض للمنكر- لم يلتفتوا إليه في أمثلتهم التي انطلقوا منها لتفسير الوجوب الكفائي مع أن دائرة الغضب لله تعالى واسعة لا ينحصر امتثالها بواحد أو جماعة.

3- إشعار من لم يقم بالفعل بالحسرة والندامة على فوت الثواب لأنه كان يمكنه أن يكون هو الفائز به، وهو وإن سلم من العقاب لامتثال غيره، إلا أن ما فاته يستحق التأسف والحسرة لأنه تهاون ولم يسارع إلى رضا الله تبارك وتعالى، وورد ذلك في تفسير يوم القيامة بيوم التغابن، ويوم الحسرة قال تعالى: «وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (مريم: 39)، وهذا الشعور بالحسرة يدعوهم إلى التسابق على فعل الخير فيما يأتي.

وهذا العتاب على عدم امتثال الحكم –وإن رُفِع عنهم لاحقاً- له موارد عديدة،

بعد التجريد عن الخصوصية سواء كان رفعه بسبب نسخ الحكم أوبسقوطه لامتثال البعض كما في الواجبات الكفائية، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ

ص: 38


1- بحار الأنوار: 68/190 عن نهج البلاغة: 4/99، قصار الكلمات.

لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (المجادلة:12-13).

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ، الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» (الأنفال:65- 66)(1).

واتضح مما سبق عدم ورود الإشكال على هذا التفسير، بل يتعين الأخذ به لعدم إمكان الأخذ بالوجوه السابقة، ومنه يظهر عدم الحاجة إلى الأطروحات التي ذكرت للتخلص من الإشكال المذكور وإنما نذكرها لتعميق البحث، وهي:

(الأولى) وهي للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) قال فيها: «إن هناك وجوبات عديدة بعدد المكلفين غير أنّ الواجب بهذا الوجوب ليس هو صدور الفعل من كل واحد منهم وإنما هو جامع الفعل الصادر منه أو من غيره فالواجب هو حصول الفعل خارجاً، وبعبارة أخرى: الوجوب الكفائي معناه جعل الفعل وصدوره بالنتيجة خارجاً في عهدة كل مكلّف، وقد تقدم في أبحاث التعبدي والتوصلي أن التكليف بالجامع بين فعل المكلف نفسه وفعل الغير معقول، ولو فُرض أن فعل الغير ليس تحت اختياره حتىبالتسبيب لأن الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور»(2).

ص: 39


1- مما يؤسف له خلوّ الذهنية الفقهية والأصولية المشهورية من هذه المنطلقات للتفكير حتى تحوّلت هذه البحوث إلى قوالب فارغة من ذكر الله تعالى والعبرة والموعظة.
2- بحوث في علم الأصول: 2/242.

ويرد عليه:-

1- إنه لا تساعد عليه الخطابات الشرعية ولا يمكن استظهاره من النصوص الشريفة، فإن ظاهرها تعلق الخطاب بفعل الفرد نفسه لا بالجامع بينه وبين فعل غيره، عدا ما قيل في تقريب آية «وَلْتَكُنْ مِنكُم أُمَّةٌ» بناءً على التبعيضية وقد ناقشناه.(1)

2- إنه لم يحلّ الإشكال؛ لأن الملاك ما زال واحداً يتعلق بالجامع ومقتضاه كون الوجوب واحداً، ولم يقدِّم لنا وجهاً لتعدد الخطابات بعدد المكلفين من دون تعدد الملاكات.

3- إنه غير عرفي وغير معقول، لعدم وجود جامع حقيقي بين فعل الفرد وفعل غيره، لأنهما متباينان فكيف يتعلق التكليف به، وحينئذٍ لا ينفع في جوازه ما قاله (قدس سرّه) من إمكان تعلق التكليف بفعل الفرد وفعل غيره؛ لأن إمكانه كبروياً لا يلزم منه تحققه في المقام. نعم قلنا أن التكليف يتعلق بصرف الوجود الذي هو القدر المشترك بين الأفراد من دون ملاحظة خصوصية صدوره من هذا الفرد أو ذاك، وهو غير الجامع الذي يتضمن القدر المشترك والخصوصيات(2).

(الثانية) «إن الوجوبات المتعددة بعدد آحاد المكلفين وجوبات مشروطة، بمعنى أن وجوبه على كل فرد مشروط بعدم إتيان فرد آخر به،

ص: 40


1- راجع موسوعة فقه الخلاف: 8 / 86.
2- ومثاله من الرياضيات المضاعف المشترك الأصغر والقاسم المشترك الأعظم، فالجامع كالأول لأنه يتضمن العناصر المشتركة وغير المشتركة، أما صرف الوجود والقدر المشترك فهو كالثاني لأنه يقتصر على العناصر المشتركة.

وبه يمتاز الوجوب الكفائي عن الوجوب العيني»(1).

أقول: الظاهر أن أصل هذا الوجه ما ورد في كلمات العلامة (قدس سرّه) في المختلف وجاء فيها «واجب الكفاية هو الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به البعض وجب على الجميع»(2).

وتحاول هذه الأطروحة التخلص من الإشكال بتقريب أن الوجوبات المشروطة ترجع إلى وجوب واحد فعلاً.

وفيه:-

1- إنه مخالف لظواهر النصوص الشرعية من كون الوجوب مطلقاً كما قرّبناه، ونصوص الواجبات الكفائية تشهد بذلك.

2- لازمه كون سقوط الوجوب عند امتثال البعض لانتفاء شرطه وهو عدم إتيان الآخر، بينما الصحيح بالدقة أن سقوطه بسبب انتفاء موضوعه كدفن الميت أو الصلاة عليه ونحوها. لا يقال: أنهما واحد لأن انتفاء الوجوب بانتفاء شرطه وهو عدم إتيان الآخر يعني إتيان الآخر ومعه يتحقق الغرض وينتفي الموضوع فهذا الإشكال غير وارد.

فإنه يقال: إنهما ليسا واحداً من خلال الالتفات إلى أكثر من أمر:-

أ- إن الامتثال قد لا يلزم منه انتفاء الموضوع كما في مسألتنا فلو نهى شخصٌ صاحبَ المنكر ولم يرتدع العاصي فإن الناهي امتثل لكن الغرض لم يتحقق ولم ينتفِ الموضوع فعلى غيره أن ينهى هذا العاصي أيضاً، أو يكرّر النهي نفس الشخص الناهي.

ص: 41


1- المباحث الأصولية: 5/204، مباحث الدليل اللفظي: 2/424، محاضرات في أصول الفقه من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سرّه): 45/238.
2- مختلف الشيعة: 4/472.

ب- النقض عليه بسقوط الوجوب فيما لو ارتدع العاصي من تلقاء نفسه فهنا سقوط للوجوب لانتفاء الموضوع بدون امتثال، فالأول أوسع منالثاني. ومن ثمرات هذا التفريق أنه يحلُّ به إشكال على الوجوب الكفائي حاصله أنه إذا كان الوجوب موجهاً إلى الجميع ولازم الوجوب عدم جواز الترك فكيف يسقط الوجوب عن الفرد بامتثال غيره، أما بناءً على هذا التفريق فيكون المسقط للوجوب هو انتفاء الموضوع وهو فعلاً من مسقطات التكليف، وليس امتثال الغير. نعم في مثل دفن الميت والصلاة عليه هما واحد بحسب النتيجة ويبقى الفرق بينهما بحسب اللحاظ والسبب المباشر وهذا أيضاً يكفي لتسجيل الإشكال، مع فرق دقيق سنذكره في مبحث التعبدية والتوصلية إن شاء الله تعالى.

1- إنه لا يحل الإشكال؛ لأنه على فرض ترك الجميع يكون الوجوب متعلقاً بذمم الجميع وهذا يعني تعدد الوجوبات من دون مبرر بعد فرض الملاك واحداً.

2- إن شرطهم وهو عدم إتيان الآخر به لا يرجع إلى معنى محصَّل؛ لأنهم إن قصدوا مطلق الإتيان حتى وإن لم يتحقق به الامتثال فإنه لا يسقط وجوباً؛ لأن بعض الواجبات لا يتحقق فيها الامتثال بإتيان واحد كالجهاد وغيره مما ذكرناه.

وإن قصد الإتيان المحقق للامتثال الموجب لتحقق الغرض فيرد عليه ما ذكرناه من تعدد الأغراض في مسألتنا مما لا يهتدي إليه أحد، وإنما بنوا نظرياتهم على فرد معين من الواجبات الكفائية وهو دفن الميت والصلاة عليه.

ص: 42

3- يمكن القول حينئذٍ بعدم تنجّز الواجب على أي مكلف، لعدم إحراز العلم بالشرط –وهو عدم إتيان الآخر- في مثل مسألتنا إذ لعله أمره ونهاه أحد ولا نعلم به، وهو احتمال معتد به في المجتمع المسلم، فيحصل الشك بتحقق الشرط والأصل عدمه فلا يتنجّز الواجب.1- ما قاله السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) من «أنه في فرض إتيان أكثر من مكلّف بالواجب يلزم أن لا يكون هناك امتثال أصلاً إذ الشرط هو عدم إتيان الآخر وقد أتى بحسب الفرض وهذا الاعتراض لا محيص عنه».

فيه: أنه إن أتيا به سوية كالصلاة على الميت فإن الشرط متحقق فيهما معاً ويصح امتثالهما لأنه حين مباشرة كل منهما للفعل لم يكن قد أتى به آخر فالوجوب فعلي في حقه، وإن أتيا به على التعاقب صحّ امتثال الأول لتحقق شرطه.

نعم يمكن صياغة الإشكال بأنه لا يصح على طبقه تعدد الامتثال على التعاقب –كالصلاة على الميت مكرراً- لعدم وجود المصحِّح له بعد امتثال الأول وانتفاء الشرط، اللهم إلا أن يقال إن المصحح هو دليل خارجي.

2- إن جعل الوجوبات مشروطة في حين أن الأصل فيها أن تكون مطلقة، لا بد أن يكون لنكتة تسوّغه، وما قيل في تبريره من وجوه غير صالح، وقد ذُكر بهذا الصدد وجهان:

الأول: ما قرّبه السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) على مباني المحقق الأصفهاني (قدس سرّه) واعتبره اتجاهاً ثالثاً لتقريب العموم الاستغراقي وهو في الحقيقة ليس تقريباً مستقلاً عن تقريب الوجوبات المشروطة، وإنما يصلح تقريباً لنكتة الأخذ به، قال (قدس سرّه): «الاتجاه الثالث: الاستعانة بنظرية المحقق الأصفهاني المتقدمة في الواجب التخييري وتطبيقها على المقام، وذلك بافتراض أن الفعل واجب على كل المكلفين إلا أن هناك ترخيصاً في

ص: 43

الترك لكل منهما مشروطاً بفعل الآخر حفاظاً على مصلحة التسهيل، وهذه الفرضية معقولة بناءً على مسلك الميرزا (قدس سرّه) في تفسير الوجوب، فإنها تفي حينئذٍ بتفسير الوجوب الكفائي مع خصائصه إذ لو كان أحد المكلفين قد جاء بالواجب أمكن للآخرين الترك باعتبار فعلية الترخيص في حقهم، وإلا كان الكل معاقبين لفعلية الطلب في حقهم جميعاً من دونترخيص في الترك ولو فعل الكل كان امتثالاً للطلب أيضاً وإن كان يصح أن يترك بعضهم. ولا تحتاج إلى افتراض مصلحة ثالثة هي التسهيل في الترخيص»(1).

وفيه:-

1- إنه لم يبين لنا علة حكم العقل هنا لمراعاة مصلحة التسهيل والإرفاق فيرخّص إذا أتى به الغير، دون الوجوبات العينية مثلاً والمصلحة واحدة.

أما على مختارنا فالأمر واضح لأن الترخيص في الترك إذا أتى به البعض تقتضيه نفس طبيعة الواجب من جهة تعلق غرض المولى بإيجاد صرف المأمور به من أي فرد كان فينتفي موضوعه ويسقط التكليف عن الآخرين، ولا حاجة حينئذٍ إلى جعل الوجوبات مشروطة بأي نكتة ومنها التسهيل والإرفاق.

2- إن هذه النكتة تم تقريبها على مسلك الميرزا النائيني (قدس سرّه) المبني على استفادة الوجوب من حكم العقل عند عدم الترخيص، ونحن لا نوافق عليه إذ اخترنا كونه مستفاداً من الإطلاق، وكذا لا يستقيم على المسلك الآخر القائل باستفادته من الوضع.

ص: 44


1- بحوث في علم الأصول: 2/425.

3- نفيه (قدس سرّه) الحاجة في ذيل كلامه إلغاء للنكتة وبدونها يبقى هذا الاتجاه مجرد شرح وبيان لخصائص الواجب الكفائي وترسيخ للإشكال.

الثاني: ما يوجد في كلمات السيد الخوئي (قدس سرّه) وعبّر عنه الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) بأنه «افتراض وجود التضاد بين الملاكات بحيث لا يمكن الجمع بين اثنين منها، فإذا حصل واحد منها بفعل أحدهم فات إمكان تحصيل الباقي بفعل الآخرين»(1).

وأجاب (دام ظله الشريف) بأنه «لا يمكن الأخذ به، فقد تقدم أنه لايعقل التضاد بين ملاكات الأحكام الشرعية، لأنها أمور معنوية لا مادية حتى يتصور التضاد والتزاحم بينها، لأنها تزيد في قرب العباد إلى الله تعالى وتخلق فيهم الصفات الكمالية والملاكات الفاضلة الإنسانية وتنمو(2)

الإيمان في نفوسهم، ومن الواضح إنه لا يتصور التضاد فيها، وقد سبق تفصيل ذلك» .

وفيه: أنه جواب ناقص، إذ كان يجب أن يفصِّل بين الملاك في الجعل وبينه في المجعول، وما ذكره ناظر إلى ملاك الجعل وقد ذكرنا (صفحة 36-38) عدة ملاكات متصورة، أما الملاك في المجعول فيمكن تصوّر التضاد فيه عندما لا يكون قابلاً للتعدد ومثاله الشرعي وجوب دفن الميت فإنه إذا دفن فلا معنى لتكليف الآخرين به، ومثاله العرفي ما لو طلب المولى ماءً لريّ عطشه، وقد جيء به وارتوى فلا ملاك في امتثال الآخر.

وقصر النظر على الملاك في المجعول هو الذي أوجب ورود الإشكال عليهم حيث تكلموا كثيراً عن تحقق الغرض بالامتثال، وحينئذٍ يسأل عن

ص: 45


1- المباحث الأصولية: 5/205-206.
2- لعله يريد: وتنمّيَ.

ملاك فعل الآخر المبرّر لتوجيه الخطاب إليه، فإن الميت إذا دُفن فما ملاك تكليف الآخرين به؟.

نعم على ما فصلنا بين ملاك الجعل والمجعول يمكن دفعه بإمكان تعدد الملاكات في مرتبته وإن كان الفعل غير قابل للتعدد كالمثال المذكور، ولا يضر حينئذٍ عدم الإمكان هذا لأنه في مقام الامتثال ومنشؤه طبيعة الواجب كما ذكرنا، وإن إشكالنا في مقام الخطاب والتكليف.

فائدة: ذكر الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) أن نكتة جعل الوجوبات مشروطة، أحد الأمرين المذكورين وكأنها قضية مانعة خلو، هذا وقد قرّبنا غير ذلك وهي طبيعة الواجبات الكفائية، فإنها على نحو لو أتي بها فلا يمكن توجيه الخطاب لآخر بالإتيان بها كالمثالين الشرعي والعرفياللذين ذكرناهما آنفاً.

(الثالثة) ما اختاره الشيخ الفياض (دام ظله الشريف)، وهي في الحقيقة ليست أطروحة مستقلة بل هي –بحسب تعبيره- توجيه ثالث لأطروحة الوجوبات المشروطة، وسنعتمد طريقة التعليقات المباشرة على فقرات كلامه، قال (دام ظله الشريف): «إن الملاك في المقام واحد(1)،

وهذا الملاك الواحد قائم بطبيعي الفعل الجامع(2) بين أفراده، وحيث أن نسبته إلى جميع

ص: 46


1- تقدّم أنه إذا صحّ هذا فهو بلحاظ المجعول، أما بلحاظ الجعل فهي متعددة وقد قرّبنا جملة منها، وافتراض وحدة الملاك مع تعدد الجعل هو الذي أورد الإشكال عليهم.
2- لا يوجد جامع حقيقي بين فعل هذا الفرد وذاك حتى يتعلق التكليف به، وقد تقدّم أن تعلق التكليف بهذا الجامع غير مفهوم عرفاً ولا شرعاً، نعم يوجد قدر مشترك بينها وهو المعبَّر عنه بصرف الوجود، ويوجد التباس في عبارته (دام ظله الشريف) بين الجامع وبين الطبيعي، فإن الطبيعي المعبَّر عنه بصرف الوجود هو القدر المشترك بين الأفراد، إذ فعل كل فرد هو طبيعي الفعل زائداً خصوصية صدوره من هذا الفرد أو ذاك، أما الجامع فهو شامل للطبيعي وخصوصيات الأفراد.

أفراد المكلف نسبة واحدة فهي تتطلب إيجاب الفعل على الجميع بإيجاب مشروط(1)، ومرد هذه الإيجابات المشروطة لبّاً إلى إيجاب واحد(2) روحاً وملاكاً وأثراً، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه يسقط عن الجميع بفعل واحد منهم(3)،

وعلى هذا فلا يقال(4)

إنوحدة الملاك تتطلب وحدة الجعل، وحيث إنه في المقام واحد فهو يتطلب جعلاً واحداً ولا مبرر لجعول متعددة، وذلك لأن وحدة الملاك وإن كانت تتطلب وحدة الجعل إلا أن الالتزام بتعدد الجعل المشروط في المقام إنما هو على أساس أن نسبة ذلك الملاك الواحد إلى الكل على حد سواء(5)،

فلهذا لا يمكن إيجاب تحصيله على بعض دون بعض لأنه ترجيح من غير مرجح، فيجب حينئذٍ على الجميع لا محالة بإيجاب مشروط، ومن الواضح أن إيجابه مشروطاً على الجميع لا يكون

ص: 47


1- هذه النكتة تصحح كون الوجوب على نحو العموم الاستغراقي كما قرّبنا، أما كونه إيجاباً مشروطاً فيحتاج إلى بيان نكتة غيرها.
2- لو صحّ هذا لصحّح أطروحة الوجوبات المشروطة من أصلها ولا حاجة حينئذٍ إلى نكتة لتبريره باعتباره على خلاف الأصل، ومما يكشف عن عدم رجوعها لبّاً إلى إيجاب واحد فيما لو لم يمتثل أحد فإن الوجوب يكون منجزاً بحق الجميع فتكون الوجوبات متعددة فعلاً.
3- سقوطه بانتفاء موضوعه، ولا يكفي فيه امتثال الآخر، كما تقدم إيضاحه في النقطة (2)، إذ قد يتحقق الملاك بالنسبة للممتثل ولا يتحقق بلحاظ الفعل، كما لو قام الفرد بواجبه إزاء حالة معينة لكن الفعل المطلوب للمولى لم يتحقق لعدم امتثال الآخرين. ملاحظة: المقصود نقطة (2) المذكور ص 41.
4- من هذا ونحوه يظهر أن دافعهم لهذه الصياغات والأطروحات التخلص من الإشكال الذي حررناه وإن لم يصرحوا بذلك، وقد أجبنا بعدم ورود الإشكال أصلاً، فلا حاجة لهذه الأطروحات.
5- تقدم جوابه في التعليقة الثالثة.

لغواً، فإنه(1) بلحاظ أن بإمكان كل فرد إيجاده وتحصيله في الخارج، فإذا أوجده فيه يسقط عن الباقي أيضاً.

والخلاصة: إن جعل الوجوب على الكل بهذه الغاية المشروطة لا يكون لغواً، فإذن لا مانع من الالتزام بهذا التوجيه ثبوتاً وإثباتاً، وأما ثبوتاً(2) فلأنه لا محذور في الالتزام بجعل إيجابات متعددة بعدد أفراد المكلف المشروطة رغم وحدة الملاك في المقام وقيامه بطبيعي الفعل الجامع، لما عرفت من أن نسبة هذا الملاك الواحد إلى جميع المكلفين، حيث إنها نسبة واحدة بنفسها تتطلب جعل الإيجاب للكل مشروطاً، وقدتقدم أن منشأ هذا الاشتراط لا يمكن أن يكون فرض وجود التضاد بين الملاكات في الواقع، لما مرّ من أنه مجرد افتراض لا واقع موضوعي له، كما لا يمكن أن يكون فرض وجود مصلحة التسهيل والإرفاق، وأما إثباتاً(3)

فلأن خطابات الواجبات الكفائية كصلاة الميت مثلاً التي هي مجعولة في الشريعة المقدسة بنحو القضية الحقيقية موجهة إلى كل فرد مشروطاً بعدم قيام الآخرين بها. فالنتيجة، إنه لا مانع من حمل روايات الباب على ذلك»(4).

والخلاصة: إن ما أفاده (دام ظله الشريف) توجيه ضمن الأطروحتين

ص: 48


1- هذه النكتة تصحّح كون الوجوب على نحو العموم الاستغراقي ولا تصلح لتوجيه كونه مشروطاً.
2- تقدم في التعليقة الثامنة عدم صحة النكتة الثبوتية. ملاحظة : يقصد بالنكتة الثبوتية ما جاء بالهامش السابق.
3- الدليل الإثباتي الذي ذكره يدل على عكس المراد لأن أدلة الوجوبات الكفائية مطلقة لا مشروطة كما تشهد عليه النصوص، فكيف استظهر منها توجه الوجوب إلى كل فرد مشروطاً بعدم قيام الآخرين، نعم طبيعة الواجبات الكفائية تقتضي السقوط عن الآخرين عند انتفاء الموضوع كما تقدّم.
4- المباحث الأصولية: 5/207-208.

السابقتين أي تعلق التكليف بالجامع وكون الوجوبات مشروطة فيرد عليه ما أوردناه عليهما كما يظهر من التعليقات المتقدمة.

وفي الحقيقة فإن المشروط في الواجبات الكفائية بالدقة ليس الوجوب بعدم إتيان الآخر، بل استحقاق العقوبة بترك الجميع وهذا غير ذلك، كما هو واضح وهذا ما تقتضيه طبيعة الواجبات الكفائية كما تقدم، وسيأتي بيانه في الأطروحة الرابعة.

(الرابعة) «أن يكون الوجوب الكفائي مرجعه إلى تحريم ترك الفعل المنضم إلى ترك الآخرين لا مطلق الترك وبهذا التحويل نستطيع التحفظ على كل خصائص الوجوب الكفائي إذ يكون ترك الجميع عصياناً من الجميع لصدور الترك المذكور من كل واحد منهم وعلى تقدير مجيء واحد منهم أمكن للآخرين الترك وعلى تقدير مجيء أكثر من واحد كان كل منهم قد حقق الملاك وامتثل حيث تجنب الحرام.وهذا التفسير صياغة تشريعية معقولة للإيجاب بناءً على افتراض المسلك المشهور من كون الوجوب مجعولاً شرعياً ولعل الإيجاب على الجميع بنحو الوجوب الكفائي يكون تعبيراً عرفياً عن هذه الصياغة التشريعية كما أن هذا التفسير معقول في الوجوب التخييري بلحاظ المتعلق. ولكنه لا يفي بتفسير روح الوجوب إذا أُريد به الإرادة والحب كما لا يخفى»(1).

أقول: حاصل هذه الأطروحة أن الموجب للإثم والعقوبة الترك المطلق لا مطلق الترك، وحينئذٍ نقول: ليس في هذا الوجه أي معالجة للإشكال وإنما هو بيان لواحدة من خصائص الواجب الكفائي، إذ لم يبيّن (قدس سرّه) لنا نكتة

ص: 49


1- بحوث في علم الأصول: 2/426.

عدم تحريم ترك الفعل إلا إذا انضم إلى ترك الآخرين، مع أن مقتضى إطلاق الوجوب حرمة الترك مطلقاً.

أما قياسه (قدس سرّه) على الوجوب التخييري فهو قياس مع الفارق كما أوضحنا في موضع سابق.

وأما ما ذكره في ذيل كلامه من أنه لا يفي بتفسير روح الوجوب فإنه صحيح وموافق لجملة مما ذكرناه من ملاكات الجعل، إلا أن المشهور يدفعه عادة بعدم وجوب الطاعة على هذا المستوى، أي في مرتبة مقدمات الحكم.

القول المختار:

(التفسير السادس) إن الوجوبات الكفائية موجهة إلى جميع الأمة على نحو يشابه العموم الاستغراقي والعموم المجموعي من جهة ويخالفهما من جهة أخرى، ولا مانع من طرح نحو جديد للوجوب وللعموم غير ما ذكروه لأن حصرهم استقرائي.فهو يشابه العموم الاستغراقي من حيث تعلقه بجميع الأفراد وإلقاء عهدته في ذممهم، والاجتزاء من أي فرد قام به صحيحاً محققاً للغرض واستحقاق الجميع الإثم والعقوبة لو لم يأتِ به أحد؛ لأن المخاطب به طبيعي المكلف، ويخالفه من جهة عدم مطلوبية إتيان كل فرد فرد به، لسقوط الوجوب عن الغير إذا قام به البعض على نحو يحقق غرض المولى.

ويشابه العموم المجموعي من جهة توجهه إلى الأمة بما هي أمة لأن لها كياناً قابلاً لتحمل المسؤولية وإلقاء العهدة واشتغال الذمة كالأفراد على ما قربناه، ويختلف معه من جهة عدم مطلوبية إتيان المكلفين به على نحو الاشتراك والانضمام إلى بعضهم –كما هو مقتضى الاصطلاح- إذ يصح منه القيام بالفعل سواء اشترك معه غيره أم لا.

ص: 50

وقد أطلقنا على متعلق مثل هذه الوجوبات: الواجبات الاجتماعية، وقد ذكرتُ في رسالة(1) مستقلة معنى التكاليف الاجتماعية، والفروق بينها وبين التكاليف الفردية من حيث الملاكات والمبادئ والآثار وطبيعة الخطاب والأصول والقواعد التي تستند إليها، وكيفية التمييز بينها، والأغراض الموجبة لتأسيس أطروحة الفقه الاجتماعي، ومبررات وضع هذا المصطلح بدل الواجبات الكفائية ونحوها من المطالب.

وهذا التفسير يوفّر خصائص الوجوب الكفائي المسلّمة فقهياً وأصولياً كما هو واضح.

نعم تختلف آليات امتثال الأمة لهذه التكاليف الاجتماعية أو الكفائية، فبعضها يجب تحققها من جميع الأفراد كإنكار المنكر بالقلب واللسان، وبعضها يكون امتثاله من البعض غير المعيّن بالأشخاص إلا أنه معيّنبالصفات كوظائف المجتهد الجامع للشرائط أو العدد الكافي للجهاد أو للتبليغ والإرشاد والدعوة إلى الإسلام. وبعضها بتصدي مختصين لها كالمهن التي بها قوام حياة الناس، وعلى الأمة أن تهيئ الظروف المناسبة والمقدمات المطلوبة لإيجاد هؤلاء المختصين وتمكينهم من ممارسة مهنهم الضرورية كالطبيب والسياسي والمعلم والقاضي ونحوها، من دون انتفاء المسؤولية عن عموم الأمة، فلو حصل نقص أو تقصير في بعض هذه الجوانب فعليها سد هذا الفراغ وإلا تكون مسؤولة بأجمعها.

ملحق فيه فائدتان:

الأولى: في نهاية هذا البحث نذكّر بما تحصّل لدينا من مناشئ لاضطراب

ص: 51


1- خطاب المرحلة: 1/286-304.

القول في تفسير الوجوب الكفائي، ومنها:-

1- الانطلاق من أمثلة محددة كالصلاة على الميت ودفنه كما صرّحوا به جميعاً، ففصّلوا نظرياتهم على مقاسات هذه الموارد الجزئية، وخرجوا منها بنظرية كلية، والمفروض توسيع أفق النظر ليشمل التفسير كل الواجبات الكفائية.

2- الخلط بين مقام الخطاب بالوجوب ومقام الامتثال فالبحث في الأول لكن الذي لوحظ الثاني، فظهر القول بالوجوب على واحد بعينه أو لا بعينه، وهي إنما تصح بلحاظ الامتثال.

3- التنظير العلمي الصرف بعيداً عن روح القرآن الكريم والسنة المطهرة وعدم استنطاق هذين المصدرين الوحيدين للتشريع.

الثانية: بمَ يعرف كون هذا الواجب كفائياً ؟

العينية والكفائية عناوين انتزاعية متشرعية لا نتوقع ورودها في النصوص الشريفة حتى يمكن تصنيف الواجبات إلى هذا وذاك اعتماداً على ورود العنوان في النص، وإنما هي مصطلحات وضعها العلماء للتعبيرعن معانيها، فإذا ورد في النصوص الشريفة ما يفيد معنى الواجب الكفائي، أي سقوطه إذا امتثل الغير أخذنا به، كآية النفر فإن الغرض يتحقق بنفر البعض إلى الحوزات والمعاهد العلمية ليحصِّلوا العلوم والمعارف والأخلاق والعقائد ويعلمونها الناس، والقرينة على كفاية نفر البعض قوله تعالى: «مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ» (التوبة:122) حيث أن (من) هنا للتبعيض وقوله تعالى: «وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ» وهذا يقتضي وجود قوم لا يجب عليهم النفر يكونون هم المنذرين ونحو ذلك من القرائن والاستظهارات.

وإن لم يرد في النصوص شيء من ذلك، فكيف نعرف أن هذا الواجب

ص: 52

كفائي أو عيني؟ وقد قلنا أن الكفائية تقتضيها نفس طبيعة الواجبات (1) ، ويمكن الاستفادة من عدة مؤشرات لمعرفة كون الواجب كفائياً، منها:-

1- كون الواجبات مما يُعلم تعلق إرادة المولى بمحض تحققها في الخارج المعبَّر عنه بصرف الوجود بغضّ النظر عن فاعلها كالواجبات النظامية والمهن التي يتعلق بها قوام المجتمع الإنساني.

2- كون الفعل مما لا يقبل صدوره من الجميع كدفن الميت، ولا ينافي هذا ما اخترناه من تفسير الوجوب الكفائي بتوجه الخطاب إلى الجميع على نحو العموم الاستغراقي؛ لأن هذا التفسير لا يعني قيام كل فرد فرد به بل يعني توجهه إليهم على حد سواء وأنهم متساوو النسبة للفعل والاجتزاء بصدوره من أي واحد منهم.

الارتكاز المتشرعي الذي يميز –من خلال قرائن داخلية وخارجية-1- بين الخطابات فيستظهر من خطاب (صلِّ) و (صمْ رمضان) أنه عيني على كل فرد، لكنه يستظهر من آيات الجهاد مثلاً كفاية امتثال البعض وهكذا.

ص: 53


1- قلت لشيخنا الأستاذ (دامت بركاته): أظن ان العينية هي التي تقتضيها نفس طبيعة الواجبات ؟ فكان جوابه: (الكفائية تقتضي ذلك وهي محل البحث وهذه الطبيعة نقصد بها انتفاء موضوع التكليف عند قيام البعض به ، فيسقط عن الاخرين بسقوط موضوعه ، وليس لان الوجوب يقتضي ذلك).

مقتضى الأصل عند الشك في العينية والكفائية

إذا علمنا بكون الواجب عينياً أو كفائياً وفق الضوابط المتقدمة (صفحة 53) فهو، وإذا شككنا فما هو مقتضى الأصل؟.

والبحث تارة يكون في الأصل اللفظي وأخرى في الأصل العملي، فالكلام في مقامين:

(المقام الأول) مقتضى الأصل اللفظي:

قال صاحب الكفاية (قدس سرّه): «قضية إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضييق دائرته، فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه فالحكمة تقتضي كونه مطلقاً وجب هناك شيء آخر أو لا، أُتي بشيء آخر أو لا، أتى به آخر أو لا».(1)

أقول: محل البحث هو الأخير من الثلاثة، ومقتضى الإطلاق كون الوجوب عينياً؛ لأن الكفائية بمعنى سقوط الوجوب بفعل الغير يحتاج إلى مؤونة زائدة، إذ الظاهر من توجيه الأمر إلى فرد أو مجموعة بالقيام بفعل معين إرادة أمرين: تحقق نفس الفعل ومدخلية صدوره من المخاطب، كما لو أمر زيداً بالذهاب إلى السوق فإنه يريد الذهاب إلى السوق لا غيره، ويريد صدوره من زيد لا غيره، أما عدم مدخلية المخاطب التي هي مقتضى الكفائية فإنها خلاف المتفاهم العرفي وتحتاج إلى بيان.

وبهذا يتضح أن المراد بالإطلاق هنا ظهور الصيغة لو خلّيت وطبعها، وليس الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة كما ذهب إليه في الكفاية،وستأتي

ص: 54


1- كفاية الأصول للاخوند الخراساني ص 76 ، طبعة مؤسسة ال البيت.

الإشارة إلى ثمرة لهذا التفريق الدقيق.

وهنا فصّل السيد(1) الخوئي (قدس سرّه) ومن تبعه البيان بعدم الفرق في هذه القضية بين أنحاء تفسير الوجوب الكفائي، ثم ذكروا تلك الأنحاء، وهو كلام لا فائدة فيه لأن المراد نفيه بالإطلاق واحد في الجميع وهو هذه الخصيصة للوجوب الكفائي وهو سقوطه بامتثال الغير، ولا دخل لوجوه تفسير الوجوب الكفائي لأن المفروض احتفاظ جميع التفاسير بهذه الخصوصية وإلا خرجت عن كونها تفسيراً للوجوب الكفائي.

ولعل الذي دفعه إلى ذلك تعبير صاحب الكفائية (قدس سرّه) المتقدم: «فالحكمة –أي مقدماتها- تقتضي كونه مطلقاً.. أتى به آخر أو لا» ففهم منه أنه تقريب للإطلاق بناءً على تفسير الوجوب الكفائي بالوجوبات المشروطة، وهذا الظن واضح في عبارة السيد الحكيم (قدس سرّه)، قال (قدس سرّه): «ومعنى كونه كفائياً أنه منوط بعدم فعل مكلّف آخر، وهذه الإناطة تقييد في الوجوب ينفيه إطلاق دليله»(2) فرأى من واجبه تعميم التقريب إلى كل التفاسير الأخرى.

وهذا الفهم غير صحيح لأن المطلوب إثبات الإطلاق بلحاظ خصوصية الوجوب الكفائي وهي سقوطه إذا أتى به الغير وهو التقييد المدعى، وتعبير صاحب الكفاية صريح بذلك؛ لأن هذه الخصوصية هي محل البحث والشك، وليس الإطلاق بلحاظ الوجوب المشروط الذي هو عكس هذا التعبير وحاصله: يجب إذا لم يأتِ به الآخر، وأين هذا من ذاك؟ فلا بد أن ينصبّ تقريب الإطلاق على نفي هذه الخصوصية للواجب الكفائي الثابتة

ص: 55


1- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي: 44/8، المباحث الأصولية: 3/332.
2- حقائق الأصول: 1/180.

بغضّ النظر عن تفسير حقيقته.

احتمال آخر في المقام:

نفى البعض(1) وجود شبهة في كون مقتضى الإطلاق العينية، لذلك لم يتعرضوا للاحتمال المقابل لهذا الإطلاق(2)، مع أنه يرى أن للوجوب العيني حداً خاصاً كالكفائي كما سيأتي، لذا يحتمل في مقابل مقتضى الإطلاق هذا أن يقال: «إن كلاً من التعيينية والنفسية والعينية خصوصية في الوجوب كخصوصية التخيير والغيرية والكفائية وكل من الوجوب التعييني والنفسي والعيني فرد خاص كالوجوب التخييري والغيري والكفائي، فكيف يكون مقتضى الإطلاق إرادة هذه الخصوصية دون تلك وتعيين هذا الفرد دون ذاك؟. فإن كلاً منها فرد يقابل الآخر، وليس الوجوب العيني النفسي التعييني هو نفس طبيعة الوجوب بحيث تطرأ عليها الغيرية والكفائية كما لا يخفى»(3).

وقرّب سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) هذا الاحتمال بقوله: «إن العينية خصوصية زائدة تحتاج إلى قرينة كالكفائية، وحيث يفترض عدمها يكون الظهور بخلافها. ولا أقل من تعارض الظهورين بعدم العنوانين: العيني والكفائي وتساقطهما»(4).

ويرد عليه: ما تقدم من أن المراد بالإطلاق هنا الظهور لو خلي وطبعه

ص: 56


1- المباحث الأصولية للشيخ الفياض: 3/332.
2- محاضرات في أصول الفقه من الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي (قدس سرّه): 44/8، المباحث الأصولية: 3/332.
3- منتقى الأصول: 1/509.
4- منهج الأصول: 4/221.

بلا قرينة فإنه يقتضي العينية ويثبت بلا حاجة إلى مؤونة زائدة وليس الإطلاق المبني على مقدمات الحكمة حتى يرد عليه الإشكال، ويعامل كالكفائي بالاحتياج إلى القرينة لأن العينية ليست خصوصية زائدة على أصل الوجوب.

وبتعبير آخر: إننا قلنا أن العينية والكفائية ليسا عنوانين شرعيين، وإنماهما مصطلحان منتزعان من صفات وخصائص في الواجبات، والواجبات ظاهرة في العينية لو خليت وطبعها فهي مقتضى الأصل، وأن الكفائية تحتاج إلى مؤونة زائدة والمفروض عدمها.

وقد قرّبنا في الصفحة السابقة كيفية هذا الظهور، بل يمكن دعوى أن طبيعة الوجوب هي نفس الوجوب العيني خلافاً لما ادعاه المستشكل في ذيل كلامه، وسيأتي تقريبه عند إجراء الاستصحاب.

لا يقال: يلزم على هذا أن يكون تقسيم الوجوب إلى عيني وكفائي من تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره وهو ممنوع.

فإنه يقال: إننا قلنا أن التقسيم إلى العيني والكفائي هو من تقسيمات الواجب لا الوجوب فلا يرد الإشكال.

أما على صعيد الوجوب فهما واحد، وكلاهما موجه إلى الجميع ويجتزأ بإتيانه من الجميع، ويشتركان في سقوطهما بانتفاء الموضوع، إلا أن اختلافهما من جهة طبيعة الواجب أي متعلق الوجوب فإن الكفائي مما ينتفي موضوعه بفعل الغير دون العيني، فتكون النسبة بين الواجب الكفائي والعيني كالنسبة بين الخاص والعام، وهذه الأفكار تطرق أسماع المشهور لأول مرة.

وأجاب في منتقى الأصول عن الإشكال الذي أورده بقوله (قدس سرّه): «إن التعيينية والنفسية والعينية وإن كان كل منها خصوصية طارئة على

ص: 57

الوجوب، إلا أنها سنخ خصوصية تتلاءم مع نحو من أنحاء الإطلاق في الوجوب وتلازمه، فإذا ثبت ذلك الإطلاق ثبت هذا الفرد الخاص بالملازمة، فحيث أن خصوصية العينية تلازم ثبوت الوجوب مطلقاً سواء أتى به آخر أو لم يأتِ به كان إثبات إطلاق الوجوب في حال إتيان الغير بالمتعلق وعدم إتيانه ملازماً لثبوت خصوصية العينية وكون الوجوب عينياً، كما أن خصوصية التعيينية ملازمة لإطلاق الوجوب من جهة وجوب شيء آخر وعدمه، فمع التمسك بالإطلاق في إحدى هذه الجهات تثبتالخصوصية الملازمة له فلاحظ»(1).

أقول: تقدم أن العينية ليست خصوصية طارئة على الوجوب،مضافاً إلى أن هذا الجواب يبقى دعوى ما لم يوجّه بدليل إذ يمكن دعوى الملاءمة مع الوجوب الكفائي أيضاً لما قلناه من أن سقوطه بسبب انتفاء موضوع الوجوب وهو أمر يشترك فيه مع الوجوب العيني، والفرق بينهما في طبيعة الواجب، كما أن الطلب مثلاً ملائم للوجوب والاستحباب معاً فلا يصح جعل هذه الملاءمة دليلاً على إفادتها للوجوب.

نعم ، إذا كان قصده من الملاءمة ظهوره فيه أو مطابقته له كان كافياً كما قرّبنا.

أما التعارض الذي ذكره سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) فقد ظهر جوابه:-

1- لعدم وجود تعارض أصلاً؛ لظهور الوجوب في العيني،وأنه هو من دون الحاجة إلى قرينة.

2- ولو فُرض عدم وجود قرينة على كلتا الخصوصيتين فهو يعني

ص: 58


1- منتقى الأصول: 1/509-510.

الإجمال وليس التعارض لعدم تحقق ظهور في أي منهما.

وأجاب (قدس سرّه) بقوله: «إن هذا التعارض لا يمكن أن يتحقق لأنه:- أ- بنحو القرائن المتصلة، وفيها لا يكون مقتضى الظهور موجوداً ليقع طرفاً للمعارضة، بل تكون الكلمة مجملة رأساً. ب- مع التنزل فإن الإطلاقين المتنافيين المتصلين لا يتعارضان. إما لوجود المانع، وهو صلاحية كل منهما لتقييد الآخر والقرينية عليه، وإما لعدم المقتضي؛ لأن المتكلم الذي يكون هكذا لا يحتمل أن يكون في محل البيان من كلتا الجهتين. فلو كان المستند هو الإطلاق لم يتعارضا، بل يرجع الأمر إلى الإجمال. وكذلك لو كان المستند هو الظهورالسياقي، غير أن المانع هنا هو وجود المانع بعد تمامية المقتضي الذي هو الدلالة الوضعية، إلا أن المانع المتصل موجود، فلا يعمل المقتضي عمله. وهذا لا يفرق فيه بين ما يكون التعارض فيه بين الظهور بالعينية والكفائية، أو بين الظهور بالعينية والظهور بعدمها، كما هو محل الشاهد»(1).

أقول: لا تخلو عباراته (قدس سرّه) من تسامح في التعبير كقوله: «بنحو القرائن المتصلة» والمفروض عدم وجود قرائن، وقوله: «فإن الإطلاقيين» والمفروض عدمهما، وقوله (قدس سرّه): «وهذا لا يفرق فيه» مع وجود الفرق لأن الثاني ليس الأول إلا على القول بالأصل المثبت.

أما كبرى استفادة الإطلاقين من مقدمات الحكمة كما يظهر من كلامه (قدس سرّه) فإنها غير تامة في مدرسة الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) التي ينتمي إليها، وإن لم يصل ببحثه الشريف إلى مباحث المطلق والمقيد حيث

ص: 59


1- منهج الأصول: 4/221-222.

استشهد قبل ذلك، وقد شرحنا ذلك في كتاب (الفقه الباهر: 146) وقلنا أن الإطلاق يستفاد من الدلالة السياقية، أما مقدمات الحكمة فثمرتها إثبات أن تمام المراد الجدي للمتكلم في عالم الثبوت هو ما صدر منه في عالم الإثبات، وهو ما يعرف بأصالة تطابق عالمي الإثبات والثبوت.

(المقام الثاني) مقتضى الأصل العملي:

ونبحث فيه عن الأصل العملي الجاري عند الشك في واجب أنه كفائي أو عيني، أي أن الوجوب يسقط بإتيان الغير أم لا؟

وإذا نقلنا السؤال إلى مبادئ الحكم فنقول: هل غرض المولى متعلق بصرف وجود هذا الفعل بغض النظر عن فاعله فيتحقق غرضه بمجرد وقوعه خارجاً؟ أم أن غرضه يتعلق بصدور الفعل من الأفراد فلا يسقط إذا امتثل البعض؟ولم تتعرض بعض المصادر(1)

لمناقشة الأصل العملي أصلاً.

ويحتمل فيه جريان عدة أصول:

(الأصل الأول: الاستصحاب):

لم أجد من قرّب هذا الأصل هنا واكتفوا بمناقشة أصلي البراءة والاشتغال مع وجود وجه لجريانه باعترافهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ومع أهميته؛ لأنه لو تم فلا موضوع للأصلين الآخرين الذي هو الشك، أو قل إن موضوعهما عدم وجود حالة سابقة.

نعم تعرّض له سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) ضمن عدة تقريبات للأصول العملية واحتمل جريانه، قال (قدس سرّه): «أنه بعد امتثال

ص: 60


1- بحوث في علم الأصول: 2/114، منتقى الأصول: 1/512.

البعض يجري استصحاب اشتغال الذمة لأنه لو كان كفائياً فقد سقط، ولو كان عينياً فلا زال موجوداً، وهو منتج للعينية، لأنه عندئذٍ يجب على الباقين الامتثال أيضاً»(1).

وأجاب (قدس سرّه) بأن «هذا من استصحاب الكلي من القسم الثالث، كمثال البقة والفيل، والصحيح جريانه».

أقول: يمكن التعليق بعدة نقاط:-

1- لم يبيّن (قدس سرّه) كيف أن استصحاب كلي الوجوب منتج للعينية مع أنه (قدس سرّه) يفترض أنها فرد خاص منه، واستصحاب الكلي لا ينتج ترتيب آثار الفرد الخاص.

2- المناقشة في الكبرى إذ لا نقول بجريان الاستصحاب في الكلي من القسم الثالث، والقول بجريانه خلاف التحقيق، ولم يمتد عمره الشريف ليباحث الاستصحاب حيث عاجلته الشهادة.1- إن المورد ليس من القسم الثالث بل من القسم الثاني؛ لأن الشك في بقاء الكلي –الذي هو الوجوب- سببه الشك في نوع فرد الوجوب المتيقن سابقاً، لتردده بين ما هو باقٍ جزماً بعد امتثال الغير فيما لو كان الوجوب عينياً، وبين ما هو مرتفع جزماً بامتثال الغير فيما لو كان الوجوب كفائياً، وهذا هو القسم الثاني من استصحاب الكلي.

وهذا الذي عبروا عنه بأن الفرد الواقعي مردد بين أن يكون له عمر طويل فهو باقٍ جزماً في الزمان الثاني وبين أن يكون له عمر قصير فهو مرتفع جزماً في الزمان الثاني، ومن أجل هذا الترديد يحصل له الشك في بقاء الكلي.

ص: 61


1- منهج الأصول: 4/223.

ولإنصاف سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سرّه) نقول: لعل ورود لفظ الثالث في منهج الأصول(1) هو من سهو القلم، وإلا فإنه (قدس سرّه) يريد به الثاني، وذِكر مثال البقة والفيل شاهد على هذا، والشاهد الآخر أنه (قدس سرّه) لا يقول بجريان الاستصحاب في القسم الثالث كما صرّح في مواضع متعددة من كتابه، كقوله في نهاية مبحث التعييني والتخييري: «لكنه من استصحاب الكلي من القسم الثالث، والمشهور والصحيح بطلانه»(2).

أما القسم الثالث فإن منشأ الشك في وجود الكلي احتمال وجود فرد آخر غير الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه يقوم مقامه ويستمر وجود الكلي وإلا فإن وجود الكلي ينقطع بارتفاع الفرد الأول، والمورد الذي نحن فيه ليس من هذا القبيل بل على نحو القسم الثاني كما قرّبنا.

ونحن نقول بجريان الاستصحاب في القسم الثاني فيجري هنا استصحاب اشتغال الذمة بالوجوب.

لكن تصوير الاستصحاب على هذا النحو يتوقف على أمرين علىالأقل:-

1- تفسير الوجوب الكفائي على نحو العموم الاستغراقي ليكون اشتغال ذمة الآخر بكلي الوجوب متيقناً، وإلا فإنه ليس كذلك على بعض التفاسير الأخرى كاشتغال ذمة الواحد المعين أو غير المعين، فيكون القول مبنائياً.

2- كون الوجوب الكفائي والعيني فردين متباينين يجمعهما كلي الوجوب لنبحث استصحاب الكلي دون الفرد الخاص، لكننا قرّبنا أن الأمر ليس كذلك لأن الوجوب حقيقة هو الوجوب العيني وظاهر فيه بكل

ص: 62


1- راجعت تقريراتي فوجدته (قدس سرّه) يذكر استصحاب الكلي مجرداً عن وصفه بالثاني أو الثالث.
2- منهج الأصول: 4/202.

مقتضياته، فيكون المورد من استصحاب الفرد ويتبعه الكلي، وهذا من القسم الأول المتفق على جريانه.

أما الوجوب الكفائي فغاية ما يمكن أن يقال فيه أنه تخصيص في الوجوب، لأنه يستثني خصوصية واحدة وهي اقتضاء توجّه الوجوب إلى كل فرد فرد على نحو العموم الاستغراقي ولزوم صدوره من كل فرد فرد وإن ما قام به من يتحقق بهم الغرض، فبهذا التخصيص حصل الاكتفاء بامتثال البعض الذي يسقط به الغرض، فإذا شككنا في الخاص استصحبنا العام.

والنتيجة إلى الآن جريان استصحاب اشتغال الذمة، إما لجريانه في الفرد الخاص –أي القسم الأول- أو لجريانه في الكلي على نحو القسم الثاني وهو ملازم لحصة العينية.

وإذا أردنا تصويره على نحو الكلي من القسم الثالث فيمكن تقريبه بأن يقال: إن القدر المتيقن من الوجوب ابتداءً هو تحققه مشروطاً بعدم إتيان الآخر، فإذا أتى به الغير سقط الوجوب، لكننا نحتمل وجود فرد جديد من الوجوب المشروط إما لاحتمال عدم تحقق الغرض بالامتثال الأول ونحوه، فيكون من القسم الثالث الذي لا نقول بجريانه.

لكن هذه كلها مجرد فروض علمية لشحذ الذهن، وإلا فإنالوجوب ثابت في ذمم الجميع من أول الأمر على كل تقدير سواء كان الوجوب عينياً أو كفائياً كما قرّبنا وليس عند ارتفاع الفرد الأول، وأنه مطلق غير مشروط فيجري الاستصحاب كما قرّب سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سرّه).

وجه لمنع جريان الاستصحاب:

لكن يمكن المنع من جريان الاستصحاب من جهة أخرى بناءً على القول

ص: 63

بالتفصيل في حجيته بين كون منشأ الشك قصور المقتضي عن الاستمرار بالبقاء أو حصول المانع منه، فيجري في الثاني دون الأول.

فيقال هنا أن منشأ الشك هو في سعة الوجوب وشموله لما بعد الامتثال فيكون من الشك في المقتضي ولا يجري فيه الاستصحاب، وأنا ممن يميل إلى هذا القول بهذا التفصيل.

ويصلح هذا المورد للنقض في مباحث الأصول على من قال بالإطلاق في حجية الاستصحاب إذا كان ممن لا يقول بنتيجة العينية عند الشك؛ لأن استصحاب كلي الوجوب جارٍ كما سننقل اعترافهم بذلك، وهو مثبت للعينية، فلماذا كانت نتيجة الأصل عندهم الكفائية؟ وإذا كان جوابهم بالاعتماد على جريان أصالة البراءة –كالسيد الخوئي (قدس سرّه) والشيخ الفياض- فيرد عليهم أن الاستصحاب مقدَّم.

تقريبان آخران للاستصحاب:

ثم قرّب (قدس سرّه) الاستصحاب بوجهين آخرين:

أولهما: «إجراء الأصل العملي في اللفظ، وهذا ما لم أره في كتبأسلافي(1) لأن الأصل كما يجري في عالم الخارج كذلك في الذهن وفي اللفظ،

ص: 64


1- عرضت عليه (قدس سرّه) بعد الدرس فكرة متعلقة بهذا الباب قلت فيها كما هو مسجل في هامش تقريراتي: «إن جريان بعض القواعد والأصول في الألفاظ مما انقدح في ذهني سابقاً ولم أحقق فيه، فمثلاً ذكر الشهيد في اللمعة خلافاً حاصله أن المبطل للصلاة هل هو (البكاء) أم (البكا) والأول خروج الدمع بصوت، والثاني بدونه، فعندنا هنا قدر متيقن من اللفظ وهو (البكا) فهل نأخذ به ونجري البراءة من الزائد وهي الهمزة، كما نفعل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر. قال (حفظه الله): لا ثمرة في ذلك لأن النظر قبل إجراء هذا الأصل في الأمارات وهو النص المفروض وجوده. قلتُ: أما الثمرة العملية فموجودة كما في المثال، وأما النص فالمفروض اختلاف النسخ فيه بحيث لم يترجح أحدها. قال (حفظه الله): فتتعارض وتتساقط. ثم قلت: على القول بجريان القاعدة فيه أي نفي الزيادة في اللفظ، فكيف نتصرف عندما تكون نتيجة إجراء القواعد في مدلول اللفظ أي الحكم عكس ذلك، كما في المثال، فإن القدر المتيقن من المبطل خروج الدمع بصوت وهو يثبت معنى البكاء، وإجراء القاعدة في اللفظ يثبت (البكا) فأيهما يقدَّم؟ قال (حفظه الله): تجري في اللفظ لأنه بمنزلة العلة للمعنى. قلت: لكن اللفظ غير ملحوظ بنفسه بل لحاظه طريقي للمعنى وهو قالب له وفانٍ فيه، أما الملحوظ أولاً وبالذات فهو المعنى فهو المقدَّم. قال (حفظه الله): بل في اللفظ لمدخلية القالب في اللحاظ، والقالب إنما هو اللفظ». أقول: انتهى الحوار إلى هنا وسجّلت في ذيله: «يقوى في نفسي عدم جريان ذلك في اللفظ لأن أفراده دائماً متباينة وليست من الأقل والأكثر فلا يوجد قدر متيقن، وربما تجرأت وقلت بعدم جريان مثل هذه القاعدة في الموضوعات وإنما في الأحكام فقط».

وفتح هذا الباب شيء جيد بغضّ النظر عن ترتب أثر عملي عليه»(1).لكنه (قدس سرّه) أقرّ بأن هذا الاتجاه من البحث يواجه عدة مشاكل:

«1- عدم ترتب أثر مباشر على الأصل لأن الأصل لا ينقح ظهوراً فتكون حجيته فرع إثبات اللازم العقلي.

2- وجود ظهور في الألفاظ سابق رتبة على الشك وإجراء الأصل العملي لأن الظهورات من الأمارات وهي مقدمة».

وعلى أي حال فقد قرَّب (قدس سرّه) جريان الاستصحاب بقوله: «مع الشك في ظهور اللفظ بمنشأ انتزاع العينية، نستصحب عدمها، ولو بالأصل الأزلي،

ص: 65


1- من تقريراتي لبحثه الشريف، محاضرة بتأريخ 4/ج1/1417.

وهو أصل عملي جار في اللفظ، فلا تثبت العينية»(1).

وبتوضيح من تقريراتي لبحثه الشريف «إن عندنا صيغة نفترض إجمالها وعدم ظهورها في العينية أو الكفائية، ولكننا نحتمل أنها مقيدة ثبوتاً بأحد القيدين، إما قيد أو قرينة تنتج العينية، أو قرينة تنتج الكفائية، فحينئذٍ نقول أن تلك القرينة المحتمل وجودها في اللفظ نستصحب عدمها، وهذا استصحاب لا بأس به لكنه متوقف على القول بحجية استصحاب العدم الأزلي؛ لأن الألفاظ منذ وجدت إما مع القرينة أو بدونها، كالمرأة إما توجد هاشمية أو عامية فلا بد إذا كان هناك استصحاب يجري فمن صورة العدم إلى صورة الوجود فإنها عندما لم تكن، لم تكن هاشمية ثم وجدت، فهنا اللفظ عندما وجد لم يكن له قرينة تفيد العينية فالآن كذلك».

وفي تقريراتي توضيح للحاجة إلى إجراء استصحاب العدم الأزلي بتقريب «أن القرائن المتصلة تختلف بمقدار اتصالها لأنها إن كانت من ضمن كلمة واحدة كنسبة المادة إلى الهيأة وبالعكس فله باب وجواب، فعندما يصدر اللفظ يصدر مادة واحدة بهيأة ولا ينفكان فنحتاج إلى استصحاب العدم الأزلي، لكن إذا كانت متصلة لا بمنزلة الكلمة الواحدةباعتبار أن للمتكلم أن يلحق بكلامه ما يشاء فيكون من الاستصحاب الاعتيادي، فحينما قال صيغة الأمر ونحتمل إلحاقها بالقرينة ننفي هذا الاحتمال بالاستصحاب».

وقال (قدس سرّه) في منهج الأصول: «جوابه: إن الظهور بمنشأ انتزاع العينية موجود وقاطع للاستصحاب. نعم لو تنزلنا عن ذلك كما هو المفروض أمكن جريانه».

ص: 66


1- منهج الأصول: 4/224.

أقول: يرد عليه:-

1- جوابه (قدس سرّه) في منهج الأصول صحيح لأن الظهور متحقق وهو قاطع للاستصحاب، ولكنه خروج عن الفرض الذي هو الشك في ظهور اللفظ.

2- لو تنزلنا فإن استصحاب العدم الأزلي لا يجري؛ لأنه قبل صدور اللفظ لا يوجد موضوع للظهور حتى يستصحب فيكون من القضية السالبة بانتفاء الموضوع، فلا يدخل مثله في دائرة حجية الاستصحاب،ومع ورود اللفظ ينعقد ظهور في العينية لأن إطلاق الوجوب ظاهر فيها، وهذا استدلال بالأصل اللفظي لا العملي.

3- ولو قلنا بجريانه تنزلاً وأنه ينتج أصالة عدم العينية فإنها لا تثبت الكفائية لإشكالين:-

أ- إنه مبتنٍ على القول بالأصل المثبت حيث أن لازم نفي العينية ثبوت الكفائية وهو (قدس سرّه) لا يقول به.

ب- إنه معارض باستصحاب عدم الكفائية فيتساقطان ولا ينتج شيئاً منهما، فلا يثمر إجراء هذا الأصل القول بالكفائية.

لكنه (قدس سرّه) ملتفت إلى الإشكالين فحاول الإجابة عنهما فأجاب عن الأول في منهج الأصول بقوله: «ولا يكون مثبتاً باعتباره جارياً في موضوع الظهور، بل يكفينا عدم الظهور وسقوطه عن الحجية فلا تثبت العينية، ويكفي الإجمال اللفظي».أقول: كأن هذه الصياغة غير واضحة ولا تنهض برد الإشكال، فرجعت إلى تقريراتي ووجدت فيها إيضاحاً حاصله «إننا لا نحتاج إلى الأصل المثبت لأننا لا نحتاج أصلاً إلى إثبات الضد، بل يكفينا إجراء استصحاب عدم العينية، وحينئذٍ نضم إليها ما تقتضيه الأصول المتأخرة رتبة فإذا لم

ص: 67

يكن عينياً فإن أصالة البراءة تجري، فينضم هذان الأصلان وينتجان براءة الذمة من العينية».

أقول: نذكر هذه الأفكار كإثارات علمية وإلا فإنها غير مجدية لعدم جريان الاستصحاب أصلاً كما تقدم، والضمّ الذي ذكره (قدس سرّه) لا حاجة إليه لتمكّنه حينئذٍ من إجراء أصالة البراءة مباشرة كما ذهب إليه السيد الخوئي (قدس سرّه) وغيره، ونحو ذلك من الإشكالات.

وأجاب (قدس سرّه) في منهج الأصول عن الثاني بقوله: «إنه لا يعارض بأصالة عدم الكفائية؛ لأنه عنوان انتزاعي، وأما منشأ انتزاعه فهو القرينة، فيجري استصحاب عدمها. إلا أنه لا يثبت العينية إلا باللازم، فيبقى استصحاب عدم الظهور بالعينية أو بمنشأ انتزاعها جارياً»(1).

أقول: في تقريراتي قرّب الإشكال كالتالي: «إن العينية والكفائية عنوانان انتزاعيان لم يؤخذا في مواضيع الأحكام الشرعية بل ينبغي البحث عن منشأ انتزاعه، فننفي القرينة الدالة على منشأ انتزاع عنوان العينية والكفائية لا الدالة على العينية والكفائية مطابقة».

وأجاب (قدس سرّه) عنه بالتفريق بينهما في منشأ الظهور «لأن منشأ انتزاع الكفائية دائماً قرينة منفصلة ومنشأ انتزاع العينية –أي ظهور القرينة فيها- متصلة كالعموم الاستغراقي فنستصحب عدمه، فأصالة عدم الظهور بالكفائية أصالة عدم ظهور منفصلة لعدم الاستغراق مثلاً، ومعه قد يقال بالتعارض؛ لأننا نحتاج في استصحاب عدم العينية استصحاب العدم الأزلي،ولا نحتاج ذلك في القرينة الدالة على الكفائية، فلعلنا نقدّم الكفائي ويثبت لا العينية.

ص: 68


1- منهج الأصول: 4/224.

إلا أن يقال: أن استصحاب العدم الأزلي بعد القول بحجيته مقدم على الاستصحاب الاعتيادي؛ لأن الأزل منظور فيه فاستصحابه يجري، ولسنا ملزمين بتحصيل النتيجة الكاملة؛ لأن الجهة الأولى تامة، وليس هذا إلا تنبيهاً ذهنياً».

أقول: أقل ما فيه أنه جعل الوجوب العيني فقط على نحو العموم الاستغراقي بينما اختار (قدس سرّه) تفسير الوجوب الكفائي به أيضاً ولا فرق بينهما من هذه الناحية.

ثانيهما: «استصحاب عدم تعلق الإرادة من قبل المولى بالعينية، لفرض كون الكلام مجملاً من هذه الناحية»(1).

وفي تقريراتي «أن ننظر إلى مرتبة إرادة المولى التي أصبحت علة في صدور هذا الأمر الذي ترددنا في كونه عينياً أو كفائياً، فهي محرزة لكننا نشك في كونها مقيدة بمنشأ انتزاع العينية أم الكفائية، فنجري أصالة عدم تقييد الإرادة بمنشأ انتزاع العينية فنضم لها أصلاً آخر في مقام الامتثال وهو البراءة عن التكليف الزائد فتثبت نتيجة الكفائية».

أقول: يشكل عليه بما أورد على نفسه (قدس سرّه) بأن أصالة عدم تقييد الإرادة بمنشأ انتزاع العينية يعارضه أصالة عدم تقييد الإرادة بمنشأ انتزاع الكفائية.

وأجاب في منهج الأصول: «قلنا: كلا لأن الكفائية مرجعها إلى إسقاط التكليف (إن كان الشك بعد الامتثال) فأصالة عدمها لا يكون سبباً لثبوت التكليف، أو قل لثبوت العينية؛ لأنه لازم عقلي، بخلاف أصالة عدم العينية، فإنها تعني بالمطابقة فراغ الذمة».

ص: 69


1- منهج الأصول: 4/224.

أما في تقريراتي فقد اعترف (قدس سرّه) بوجاهة الإشكال في عالم الثبوت إذااعتبرنا كلا منهما قيداً، أما في عالم الإثبات فأجاب عن الإشكال «بسقوط المعارضة لأن التكليف الكفائي ليس له امتثال أكثر من امتثال واحد والمفروض تحققه –لأن الشك بعد امتثال الغير- فتكون أصالة عدم تقييد الإرادة بمنشأ انتزاع الكفائية مما لا أثر له شرعاً، في حين يكون في مقابله أثر شرعي لأن العينية اشتغال ذمم كثيرة فينتج إفراغ الذمة».

أقول: يكفي أن نناقشه بنقطتين:-

1- إنه لم يأخذ بنظر الاعتبار ما اختاره من تفسير الوجوب الكفائي على نحو العموم الاستغراقي فيكون شاغلاً لذمم الجميع أيضاً.

2- إننا على يقين بوجود إرادة المولى وتعلقها بصدور هذا الفعل ونشك بارتفاعها عند امتثال البعض فنستصحب بقاءها وهو يقتضي العينية.

هذا ولكن أصل الأطروحة وهي إجراء الأصل في مبادئ الحكم لا جدوى منه لأمرين على الأقل:-

1- إن هذا الاستصحاب لا ثمرة فيه لأن الإرادة وسائر مبادئ الحكم مما لا تجب طاعته، فلا ثمرة تترتب على استصحاب بقائها.

2- تقدم في مناقشة التفسير الأول للوجوب الكفائي أنه على مستوى مبادئ الحكم –كالإرادة- يمكن تعلق إرادة المولى بالفعل دون ارتباطه بالفاعل لعدم وجود تكليف حتى يتطلب عهدة وذمة لإلقائه عليه، ففي هذه المرتبة لا توجد ذمة مشغولة بأي نحو من الأنحاء حتى تستصحب.

وبنفس التقريب يصوَّر على مستوى الغرض ويأتي عليه نفس الرد أيضاً.

ص: 70

(الثاني: قاعدة الاشتغال):

وتقريبه «أن الأمر إذا كان متوجهاً إلى فرد وشك في أنه كفائي أو عيني، فيرجع هذا الشك إلى الشك في السقوط بقيام الغير به وهو منموارد قاعدة الاشتغال دون البراءة»(1).

أقول: هذا التقريب له وجه خصوصاً على مختارنا في الوجوب الكفائي من كونه على نحو العموم الاستغراقي، وتتفق نتيجته مع الأصل السابق أعني الاستصحاب بتقريباته المتقدمة بغضّ النظر عن المانع الذي ذكرناه.

لكن السيد الخوئي (قدس سرّه) منع منه من دون أي تقريب وأحال التفصيل إلى مباحث البراءة والاشتغال(2)،

وتبعه تلميذه الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) معللاً دفع هذه الدعوى «بأن سنخ الوجوب العيني غير سنخ الوجوب الكفائي روحاً وملاكاً، وعلى هذا فإذا توجه أمر إلى فرد وشك في أنه عيني أو كفائي، فهو حينئذٍ وإن كان يعلم بثبوت الوجوب الجامع بين العيني والكفائي ولكن لا يعلم بثبوت كل من الوجوب العيني أو الكفائي بحده الخاص؛ لأن حدوث كل منهما مشكوك فيه والعلم بالجامع لا أثر له إلا فيما إذا لم يقم غيره بالعمل، فإنه حينئذٍ يجب عليه القيام به، سواءً كان كفائياً أم عينياً، وأما إذا قام غيره به فهو عندئذٍ وإن كان شاكاً في سقوطه، إلا أن مرد هذا الشك إلى الشك في حدوث الوجوب العيني واشتغال ذمته به، ومن الواضح أن المرجع فيه أصالة البراءة»(3).

وفيه: إنه ما دام سلّم بثبوت الجامع –أي كلي الوجوب كما قرّبنا في

ص: 71


1- المباحث الأصولية: 4/333.
2- الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سرّه): 44/11 وذكر في الهامش: «لكنه لم يصرّح هناك بالدوران بين العيني والكفائي».
3- المباحث الأصولية: 4/333.

جريان الاستصحاب، ويلزم منه ترتب آثاره- فإن الوجوب العيني ثابت لأن آثار الكلي تعني لوازم الوجوب العيني، ولا نعني بآثار كلي الوجوب إلا العينية وأن عنوان العينية والكفائية انتزاعية والملحوظ منشأ انتزاعها، ولا حاجة حينئذٍ إلى إثبات الوجوب العيني بحدّه الخاصوبعنوانه حتى يقال أن استصحاب الكلي لا يلزم منه ترتب آثار الفرد الخاص فتقريب جريان قاعدة الاشتغال تام.

وتوجد تعليقات أخرى على كلامه (دام ظله الشريف):-

1- قوله: «سنخ الوجوب العيني غير سنخ الوجوب الكفائي» ظاهر بكونهما متباينين، وأنهما فردان خاصان من كلي الوجوب، وقد تقدم عدم تمامية ذلك وأن خطابهما واحد، والفرق بينهما في طبيعة الواجب.

2-قوله: «فهو وإن كان يعلم بثبوت الوجوب الجامع بين العيني والكفائي» اعتراف منه بجريان استصحاب الكلي، ولا نعلم وجهاً لعدم ذكره له.

ويمكن القول بعدم وجود جامع أصلاً بين الوجوب المطلق والمشروط إلا اللفظ لعدم فعلية المشروط، فالتزامه بالوجوب المشروط لا يصحّح وجود الجامع.

3- قوله: «والعلم بالجامع لا أثر له إلا فيما إذا لم يقم به غيره» يرد عليه:-

ما قدمناه من عدم تمامية تفسير الوجوب الكفائي بالوجوب المشروط.

ب-إن هذا الأثر خلاف الفرض لأن موضعه قبل امتثال الغير، وفرض الكلام في الأصل العملي بعد امتثال الغير، فهذا الأثر لا موضوع له.

ج- إن في قوله هذا تقييداً لآثار الوجوب؛ لأنه يعني لزوم الفعل مطلقاً سواء قام به غيره أو لا كما حررنا في الأصل اللفظي وسلّم به، أما هذا الذي

ص: 72

ذكره فهو الوجوب الكفائي نفسه بناءً على تفسيره بالوجوب المشروط بعدم إتيان الغير، وبذلك فقد وقع في المحذور الذي فرّ منه، إذ أراد نفي الحد الخاص للعينية فوقع في الحد الخاص للكفائية دون دليل على هذه المؤونة الزائدة.

4- قوله: «لأن حدوث كل منهما مشكوك» حدوث الوجوب العينيليس مشكوكاً، فإنه متيقن وثابت بنفس ثبوت الوجوب الذي قلنا بأنه هو هو. ومنه يعلم النظر في قوله الآتي: «إلا أن مرد هذا الشك إلى الشك في حدوث الوجوب العيني».

(الثالث: أصالة البراءة):

واختاره السيد الخوئي (قدس سرّه) وتبعه الشيخ الفياض (دام ظله الشريف) قائلاً في توجيهه: «فالصحيح أن مقتضاه نفي العينية عند الشك فيها، باعتبار أن فيها كلفة زائدة، فإذا فرضنا أن المولى أمر فئة بالقيام بعمل وشككنا بأنه واجب كفائي يسقط بقيام غيرهم به أو عيني لا يسقط به، ففي مثل ذلك لا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن العينية»(1).

وفيه: إن العينية عنوان انتزاعي والملحوظ منشأ انتزاعها، وحينئذٍ لا فرق بين الوجوب العيني والكفائي على القول بالعموم الاستغراقي لاشتغال ذمم الجميع بالوجوب على كلا التقديرين، فإذا امتثل البعض وشككنا في بقاء الوجوب في ذمم الآخرين فقد قلنا أن مقتضى الاستصحاب ثبوته فلا مجال لجريان البراءة، لكن إذا تنزلّنا عن ذلك وشككنا في بقاء الوجوب لاحتمال سقوطه بامتثال البعض فلا مانع من إجراء البراءة لأن

ص: 73


1- المباحث الأصولية: 3/333.

مرجع الشك في أصل سعة الوجوب لما بعد امتثال البعض.

ومما تقدم يظهر أن مقتضى الأصل العملي وفق مبانيهم يمكن أن يكون مطابقاً للأصل اللفظي، فقول الشيخ الفياض (دام ظله الشريف): «مقتضى الأصل العملي نفي العينية، ولهذا تكون نتيجته على عكس نتيجة الأصل اللفظي»(1)

لا يتم على إطلاقه.

ص: 74


1- المباحث الأصولية: 3/334.

المطلب الثاني: الدوران بين التخصص والتخصيص

اشارة

بحث علماء الأصول في انه لو تيقنا بخروج فرد من الافراد عن حكم العام ، ودار امر هذا الخروج بين التخصيص والتخصص ، فهل الأصل انه خروج تخصصي او انه تخصيصي ؟

وقد بحث سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) هذا المطلب في الجزء الثاني عشر (صفحة 76- 83) مبينًا طريقة الاستدلال على ذلك ؛ لبيان الدليل على قول مشهور الفقهاء (رضوان الله عليهم) بأن ابن الزنا لا ينسب الى ابيه ، فاذا كان خروج ابن الزنا من عموم توريث الأبناء تخصصا صح ذلك دليلا على عدم نسبته لأبيه اما ان كان خروجه تخصيصا فينبغي ان نبحث عن دليل اخر لنفي الانتساب.

ونص كلام سماحته (دامت بركاته) هو:

الاستدلال على قول المشهور بأصالة العموم لإثبات التخصّص دون التخصيص:

نعم يمكن أن نقرّب قول المشهور بناءً على مطلب أصولي، وهو إمكان التمسك بأصالة العموم لنفي التخصيص عند دوران الأمر بين التخصص والتخصيص، ومثاله: لو قال المولى: أكرم العلماء ثم قال: لا تكرم زيداً، وشككنا بأن خروج زيد تخصصاً لأنه ليس من العلماء أو تخصيصاً لأنه من العلماء ولكنه فاسق مثلاً والمولى لا يريد تكريم الفساق.

وتترتب عليه ثمرة حاصلها: أنه بناءً على كون خروجه تخصيصاً فإنه تترتب عليه سائر أحكام موضوع العام وهم العلماء عدا وجوب إكرامه، أما إذا خرج تخصصاً فلا تجري فيه كل أحكام العلماء وليس فقط وجوب

ص: 75

إكرامه.وتطبيق القاعدة في المقام للاستدلال على قول المشهور أننا عندنا عام يوجب توريث الأولاد مثل «يُوصِيكُمُ اللهُ في أولادِكُم للذَكَرِ مِثلُ حَظِّ الأُنثَيَينِ»(1) والروايات كثيرة، وورد خاص (ابن الزنا لا يورث)(2)

وقد شككنا في أن خروج ابن الزنا من عموم التوريث بالتخصص ومعناه انتفاء نسبه مطلقاً وأن حرمانه من الميراث لأنه ليس ابناً أصلاً فلا تترتب عليه كل أحكام البنوّة كما يذهب إليه المشهور، أو بالتخصيص أي أنه ابن وتترتب عليه كل أحكام البنوّة إلا أنه خرج من خصوص حكم التوريث وما ثبت نفيه بدليل، فهنا نتمسك بأصالة العموم لنفي التخصيص ونقول بأنه لو كان ابن الزنا ابناً شرعياً لورث، فما دام محروماً من الميراث فهو ليس بولد.

ويحسُنُ نقل المثال إلى هذا المطلب في علم الأصول مضافاً إلى مثالهم المتداول في كتب الأصول وهو طهارة ماء الاستنجاء(3) الذي توجد أدلة على طهارته والبحث فيه فقهي ليساهم كل من العلمين في ترصين وتطوير الآخر.

وقد حكى السيد الحكيم في الحقائق عن الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) وبعض من تأخر عنه من المحققين إمكان التمسك بأصالة العموم لنفي التخصيص «بل قيل أنه جرى ديدنهم عليه في الاستدلالات الفقهية»(4)

ووصفه السيد

ص: 76


1- النساء :11.
2- الكافي: الشيخ الكليني: 7/163/ ح1.
3- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 46/391.
4- حقائق الأصول للسيد الحكيم (قدس سرّه): 1/514.

الخوئي بأنه «المعروف في الألسنة»(1)،

فيمكن في المثال نفي كون زيد من العلماء ونفى خروجه بالتخصيص، ويثبت التخصص وهو أنه ليس فرد الموضوع أصلاً؛ لأنه لو كان زيد من العلماء لوجب إكرامه -بحسب تحليل قضية العام- فما دام لم يجب إكرامه فهو ليس من العلماء، كما في قولنا: (كل ماء سائل) فإذا وُجد شيء ليس بسائل فلا يمكن أنيكون ماءً لأنه خلف القضية الكلية.

قال الشهيد الصدر (قدس سرّه) في تقريبه: «إن مقتضى أصالة العموم أو الإطلاق في القضية الكلية ثبوت عكس نقيضها وهو انتفاء موضوعها عند انتفاء محمولها، فإذا ثبت بدليل انتفاء المحمول في موردٍ ثبت بالملازمة انتفاء الموضوع وهو معنى التخصص.

وإن شئت قلت: إن كل قضية حقيقية وإن كانت حملية إلا أنها في قوة قضية شرطية مفادها أنه كلما صدق الموضوع ثبت المحمول وانتفاء الشرط عند انتفاء الجزاء لازم عقلي لا محالة، فإذا ثبت بدليل انتفاؤه ثبت انتفاء الموضوع.

وهذا المدلول وإن كان التزامياً بالنسبة لظهور العام أو المطلق إلا أن المفروض حجية مثبتات الظهور لكونه من الأمارات وعدم اختصاص حجيته بالمداليل المطابقية خاصة»(2).

أقول: يلزم على هذا التقريب عدة لوازم لا يقولون بها:-

1- نفي وجود التخصيص واعتبار كل فرد خارج من حكم العام هو من باب التخصص لأن مقتضى الملازمة التي ذكروها أن كل فرد غير محكوم

ص: 77


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 46/391.
2- بحوث في علم الأصول: 3/353.

بحكم العام فهو خارج من موضوعه مطلقاً وليس في حالة الشك فقط، وهذه النتيجة خلاف ما تبانوا عليه من وجود التخصيص.

2- جواز التمسّك بالعام قبل الفحص عن المخصِّص لأن حكم العام لا يخرج عنه إلا ما خرج من عنوانه فالفحص يكون عن الموضوع وأفراده لا الحكم وتخصيصه.

وقد أشكل المحقق صاحب الكفاية(1)

ومن جاء بعده من المحققين على جواز العمل بهذه القاعدة؛ لأن أصالة العموم من الأصول اللفظيةالتي يرجع إليها عند الشك في مراد المتكلم كما لو علمنا بدخول فرد في العام وشككنا في شمول حكمه له لخروجه بالخاص مثلاً فهنا نأخذ بأصالة العموم ونحكم على هذا الفرد بحكم العام، والمقام ليس من هذا القبيل لأننا نجزم بخروج زيد من وجوب الإكرام، وابن الزنا من حكم التوريث فلا يصح التمسك بأصالة العموم فلا تكون حجة فضلاً عن مثبتاتها.

لكن هذا الرد لا يكفي إذ يمكن تصوير المسألة على أنها شك في المراد باعتبار أننا نشك أن العام المجعول في عالم الثبوت في مثل «يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ» هل هو الابن المتولد من ماء الرجل والمرأة عدا ما كان من الزنا بأن يكون مقيداً بقيد يخرج ابن الزنا عن موضوع العام فيثبت التخصص، أم أنه ليس مقيّداً به وأن المراد هو المعنى اللغوي والعرفي الذي يكتفي بالتولد من مائه، فيمكن هنا التمسك بأصالة العموم والإطلاق لإثبات إطلاق الجعل وعدم أخذ قيد فيه ولازمه العقلي ثبوت التخصيص في ذلك الفرد.

وبالعودة إلى تقريب الاستدلال على صحة التمسك بأصالة العموم فقد

ص: 78


1- كفاية الأصول: 225، ط. آل البيت (علیهم السلام)، بعنوان«بقي شيء».

قالوا: بأنه قد برهن في محله على أن صدق عكس النقيض من لوازم صدق القضية، فإذا صحَّ قولنا: (كل إنسان حيوان) فلا بد أن يصح (كل ما ليس بحيوان فهو ليس إنساناً)؛ لأن الأصول اللفظية من قبيل الظواهر وهي داخلة في الأمارات، والأمارات كما هي حجة في مداليلها المطابقية فإنها حجة في مداليلها الالتزامية وتثبت بها لوازمها الشرعية والعقلية والعادية، فيكون العموم دائماً دالاً بالالتزام على أن كل ما لا يكون محكوماً بحكمه ليس من أفراده، فما دام إكرام زيد غير واجب فهو ليس من العلماء، وما دام ابن الزنا غير محكوم بحكم العام وهو توريث الأولاد فهو ليس ولداً.

وقد أجاب صاحب الكفاية (قدس سرّه) على هذا الإشكال بما بيّنه بعض تلامذته قائلاً: «إنه وإن اشتهر أن المثبت من الأمارات حجة بمعنى أنالأمارات تكون حجة في المدلول الالتزامي إلا أنه ليس ذلك بنحو الكلية بل يختلف باختلاف مقدار دلالة دليل الحجية فإذا كان مطلقاً كان مقتضياً للحجية على اللازم مطلقاً وإن كان مهملاً اقتصر على المتيقن من دلالته وحيث أن دليل حجية الظهور بناء العقلاء الذي هو من الأدلة اللبية كان اللازم الاقتصار على المتيقن من دلالته ولم يثبت بناء العقلاء على حجية الظهور بالإضافة إلى عكس نقيض القضية فلا يحكم بحجيته فيه بل يرجع إلى أصالة عدم الحجية ونظيره اليد وأصالة الصحة بناء على أنهما من الأمارات فإنهما لا يكونان حجة على لوازم الملكية والصحة»(1).

ويرد عليه: أن شمول حجية الظواهر للوازمها من القدر المتيقن وأن العقلاء يبنون على ذلك، فكما أن السيرة ثبتت على ما لو علمنا بدخول زيد في العام إلا أننا شككنا في خروجه منه بالتخصيص فنتمسك هنا بشمول

ص: 79


1- حقائق الأصول: 1/514.

العام له، فكذلك إذا تحققت الملازمة في ما نحن فيه فإن حجيتها ثابتة، وإلا فإن سؤالاً يُثار عن سبب تفريق العقلاء في الحجة بين الموردين مع أن بناءهم في حجية الأمارات على نكتة واحدة وهي الكشف والطريقية «وحينئذٍ تكون كاشفية هذا الدليل عن الموجبة الكلية وعن عكس النقيض بنفس القوة بعد فرض التلازم بينهما»(1).

ولم يتعرض أحد لهذا السؤال وجوابه إلا ما حكاه الشهيد الصدر (قدس سرّه) عن المحقق العراقي(2)

وملخصه: إن التمسك بأصالة العموم لإثبات التخصص يعني أننا نرجع إلى المولى في حل شبهة موضوعية -حيث نثبت بها جزئية هذا الفرد من عنوان العام- وهي ليست من وظائفه وهي عين نكتة عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

لكن السيد الشهيد الصدر (قدس سرّه) قال عن هذه النكتة أنها غير صحيحة و«أن التبعيض في الحجية بالنسبة لبعض المداليل وإن كان معقولاً ثبوتاً، لكن هو خلاف المرتكز العقلائي، فالأمارية نسبتها إلى كل المداليل على حد واحد»(3) ثم أفاض في تحقيق ذلك وذكر صوراً يصح كلام المحقق العراقي على بعضها.

وأرى أن يقال بأن حل الشبهة الموضوعية وإن لم يكن من وظائف المولى أي لا يجب عليه إلا أنه يجوز له ذلك ولا مانع منه إذا اقتضت الحاجة كما في الموضوعات المستنبطة، ونظير ذلك وظائف الفقيه فإنها لا تشمل الفحص عن الموضوع إلا أنه يقوم بذلك أحياناً لأمرٍ ما ككونه من أهل الخبرة أو وكيلاً عن المكلف لعجزه ونحو ذلك، ويكون الجواز أوضح

ص: 80


1- تقريرات الشهيد الصدر (قدس سرّه) بقلم الشيخ حسن عبد الساتر: 7/291.
2- مقالات الأصول للعراقي: 1/152-154 (عنه).
3- تقريرات الشيخ حسن عبد الساتر: 7/293.

في ما لو كان هذا البيان يأتي بدلالة التزامية وليس من نفس الخطاب.

ص: 81

الرأي المختار

والصحيح في الرد على جواز التمسك بأصالة العموم لإثبات التخصص أن يقال: إن القضايا التي بنوا عليها برهانهم في الملازمة بالصدق بين الموجبة الكلية وبين عكس النقيض هي قضايا خارجية واقعية تكوينية كقضية (كل ماء سائل) و (كل إنسان حيوان) وهي تتصف بالكلية، لكنها تختلف في طبيعتها عن قضايا الأحكام الشرعية التي هي قضايا اعتبارية وكلّيّتها بيد المعتبر فتقبل هذه من عدم الملازمة ما لا تقبله تلك.

وبتعبير آخر: إن صياغة القضايا الشرعية على نحو الكلية أمر غير صحيح على إطلاقه لاحتمال خروج أفراد منها بالتخصيص، بل إن أكثر الأحكام كذلك، لذا اشتهر عنهم قولهم: «ما من عام إلا وقد خص» وباختصار فإن احتمال التخصيص ما دام موجوداً فإن عكس النقيض لا يمكن الجزم بصحته لاحتمال خروجه بالتخصيص، فلا يصح أن نقول: (ما دام إكرام زيد غير واجب فهو ليس من العلماء) لاحتمال تخصيصه لأمرٍ ما، فنكتة صدق عكس النقيض غير متحققة.

فلا توجد عندنا في المسألة محل البحث كبرى كلية بعنوان «كل ولد يرث» حتى يقال أن عكس نقيضها «كل من لم يرث فهو ليس بولد» لأن عمومات «يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ» مخصصة بعدم المانع من الميراث كالكفر أو القتل أو الحاجب كحجب الولد المباشر لولد الولد.

فيمكن أن يقال هنا أن الولادة من الزنا مانع من الميراث كبقية الموانع فيكون خروج ابن الزنا بالتخصيص.

لذا لو أمكن إثبات أن قضية العام كبرى كلية وهو العام الذي يصفونه

ص: 82

بأنه آبٍ عن التخصيص فإنه يمكن التمسك بأصالة العموم لإثبات التخصص؛ لأن هذا الظهور يحقق صغرى الملازمة التي هي ثابتة على أي حال، فالصحيح القول بالتفصيل، ولا يمكن القول في هذه المسألةبالجواز وعدمه على الإطلاق.

بيان ذلك: أنه (تارة) يمكن استظهار خروج الفرد على نحو التخصص كما لو استعمل المولى لفظاً صريحاً في العموم قوي الدلالة على الشمول لتمام أفراده بحيث يكون آبياً عن التخصيص كما لو قال: بع جميع كتبي، ثم قال: لا تبع الكتاب الفلاني، فيظهر من ذلك أن هذا الكتاب ليس من كتبه وإنما هو وقف أو إعارة مثلاً ووجه الظهور: أنه لو كان من كتبه لكان من غير اللائق استعمال لفظ (جميع) ويستلزم هذا الاستثناء كذب أحد لوازم صدق القضية؛ لأن لازم بيع جميع الكتب عدم كون ما لا يجب بيعه من كتبي إلا أن يتصل المخصص بالعام، لكن لو قال بع كتبي واستثنى فإن المورد يكون قابلاً للتخصيص ولا تتحقق هذه النكتة التي لم يلتفت إليها السيد الخوئي (قدس سرّه) حيث تعاطى مع المثال المذكور كغيره(1)

ولم يُشر إلى هذا التفصيل.

كما يمكن (تارة أخرى) استظهار خروج الفرد على نحو التخصيص عندما يكون إطلاق الخاص من القوة بحيث أنه حتى لو كان الفرد المشكوك داخلاً في موضوع العام فإنه يخرجه منه، ومقامنا من هذا القبيل فإن أدلة عدم توريث ابن الزنا من القوة والوضوح بحيث تمنعه من ذلك حتى لو كان ابناً شرعاً وليس فقط لغة وعرفاً.

ص: 83


1- موسوعة السيد الخوئي: 46/393. بحوث في علم الأصول (تقريرات الشهيد الصدر (قدس سرّه) بقلم السيد محمود الهاشمي: 3/353).

لكن هاتين النتيجتين من الاستدلال تحتاجان إلى التمسّك بالظهور في المرتبة السابقة على التمسك بأصالة العموم.

فالصحيح في رد هذا التقريب المذكور لقول المشهور أن يقال:-

إن السبب هو عدم كلية الكبرى، وليس عدم صدق الملازمة بين صدق القضية وصدق عكس نقيضها.وبتعبير آخر: إن عدم صحة إثبات خروج الفرد بالتخصص ليس من جهة عدم صحة الملازمة وإنما لأن كلّيّة الكبرى غير تامة.

مضافاً إلى ما قلناه من قوة إطلاق الخاص -وهو عدم توريث ابن الزنا- وإخراجه الفرد المشكوك من حكم العام بالتخصيص مطلقاً وعلى أي حال.

فائدة: تقدمت منّا في بعض الأبحاث السابقة(1)

فكرة مفادها أن كل

ص: 84


1- فقه الخلاف: 5/322، الطبعة الأولى، مسألة (حكم الصلاة في عرفة لمن أقام بمكة). ونص ما قاله سماحته هناك هو: (إذا خرج فرد من حكم عام، فهل الأصل في خروجه التخصص أم التخصيص؟ فيقال في الجواب أن الأصل هو التخصص لأن الأصل أن الأحكام تتبع موضوعاتها، فما دام الحكم قد تغير فهو يكشف أن الموضوع قد انتفى إلا أن يدل الدليل على أن هذا الفرد داخل في موضوع العام إلا أنه خرج حكماً بالتخصيص. ويمكن في مستوى من مستويات التفكير دعوى أن الكثير من موارد التخصيص هي أيضاً تخصص في الحقيقة، فعندما يقول المولى: (أكرم العلماء) ثم يقول: (لا تكرم زيداً) المعدود من العلماء فإن الخطاب الثاني يعتبر قرينة على أن المراد من الموضوع في الخطاب الأول ليس كل العلماء وإنما هم باستثناء زيد وأنه ليس عالماً حقيقة، فخروجه تخصصي. كما استشهد (دامت بركاته) على هذا المطلب بعبارة للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) حيث قال: (قال السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) في فصل بعنوان (جواز التمسك بالعام لإثبات التخصص) قوله (قدس سرّه): «إن مقتضى أصالة العموم أو الإطلاق في القضية الكلية ثبوت عكس نقيضها وهو انتفاء موضوعها عند انتفاء محمولها فإذا ثبت بدليل انتفاء المحمول في مورد ثبت بالملازمة انتفاء الموضوع وهو معنى التخصص».

تخصيص يرجع في الحقيقة إلى التخصّص؛ لأن استثناء الخاص كزيد من العام كوجوب إكرام كل عالم لا بد أن يكون لنكتة ككونه ليس متقياً وإلا لو كان زيد كبقية العلماء لا يختلف عنهم بشيء فإن إخراجه من حكمالعام سيكون عبثياً، وحينئذٍ يكشف هذا الاستثناء عن كون موضوع العام ليس مطلق العلماء وإنما بقيد التقوى، ونتيجة ذلك أن موضوع العام هم العلماء المتقون، وفي ضوء هذه النتيجة يكون خروج زيد من هذا الموضوع تخصصاً.

ص: 85

المطلب الثالث: التسامح في ادلة السنن

اشارة

ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الأول (صفحة 149- 155) ملحقا بعد بحثه في مسالة حكم نقل الميت بعد دفنه إلى العتبات المقدسة ، وقد ناقش سماحته في هذا الملحق مفاد اخبار من بلغ ، حيث رفض فكرة التوسع في قبول الاخبار الضعيفة في مجال السنن وفق هذه القاعدة ، وانتهى الى ان هذه القاعدة تأتي في خصوص الروايات المعتبرة.

ونص كلامه في هذه المسالة هو:

تنبيهات في مفاد أخبار (من بلغ)

توجد عدة روايات معتبرة يطلق عليها أخبار (من بلغ)(1)

جعلوها مستنداً لقاعدة التسامح في أدلة السنن التي يستدلون بها على كثير من المستحبات والمكروهات:

منها: صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له، وإن لم يكن على ما بلغه).

ومنها: معتبرته الأخرى عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من بلغه عن النبي (صلی الله علیه و آله) شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يقله).

ومنها: معتبرة محمد بن مروان عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من بلغه عن

ص: 86


1- تجدها في وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب مقدمة العبادات، باب18.

النبي (صلی الله علیه و آله) شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي (صلی الله علیه و آله) كان له ذلك الثواب، وإن كان النبي (صلی الله علیه و آله) لم يقله).ومنها: معتبرة صفوان عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من بلغه شيء من الثواب على شيء من فعل الخير فعمل به كان له أجر ذلك، وإن كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يقله).

وذكر هذا المعنى أحمد بن فهد الحلي في عدة الداعي وقال: روى الصدوق عن محمد بن يعقوب، بطرقه إلى الأئمة (علیهم السلام) أن من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه.

وروى السيد ابن طاووس في كتاب (الإقبال) عن الصادق (علیه السلام) قال: (من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه).

ومن طريق العامة ما رواه عبد الرحمن الحلواني مرفوعاً إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): (من بلغه من الله فضيلة فأخذ بها إيماناً بالله ورجاءَ ثوابه، أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك)(1).

والمفهوم لدى الأصحاب من معنى هذه القاعدة أنه لو وجد خبر غير تام الحجية دالّ على مطلوبية شيء (أعم من الوجوب والاستحباب) فيعتبر مفيداً للاستحباب بعد تتميم حجّيّته بأخبار (من بلغ)، لذا احتوت الكتب الفقهية على مستحبات كثيرة لم يرد بها دليل تام وإنما بُني القول باستحبابها على هذه القاعدة.

لذا قيل في مفاد هذه الأخبار أنه «حجية خبر الضعيف الذي قام على وجوب شيء، أو استحبابه، بالنسبة إلى استحبابه، فيكون حجة على استحباب ذلك الشيء ولو كان ظاهراً في وجوبه. وبيان دلالة هذه الأخبار

ص: 87


1- عدة الداعي: 13، تأريخ بغداد: 8/296.

على هذا الاحتمال هو دلالتها على ترتب الثواب على العمل الذي بلغه أن فيه الثواب.

ولا شك أن ترتب الثواب على عمل دليل على استحبابه، والمثبت لهذاالاستحباب هو عنوان البلوغ»(1).

والقراءة الدقيقة لهذه الروايات تفيد عدة معانٍ وسنجد من خلالها أن الأصحاب توسعوا في فهم معناها من عدة جهات:

1- إن خبر صفوان وما نقله ابن فهد الحلي والسيد ابن طاووس وخبر جابر الأنصاري تفسّر العمل بأنه من فعل الخير في نفسه وليس إن أخبار (من بلغ) تؤسس استحبابه؛ نعم، هي تؤسس إعطاء الثواب الخاص، فلو صلى شخص ركعتي أول الشهر أو صام كل خميس رجاءَ ثوابهما الخاص أُعطي إياه وإن لم يكن المعصوم (علیه السلام) قد قاله ما دام الفعل خيراً في نفسه.

إن قلتَ: لا تنافي بين خبر صفوان وغيره حتى تحمل عليه؛ كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) ثم قال: (أكرم العلماء الهاشميين) فإنه لا يقيّد الأولى بالثانية.

قلتُ: هذا صحيح بحسب القواعد في الظهورات لكننا ندّعي في المقام - بجعل بعض الروايات قرينة على البعض الآخر- أن الظاهر هو هذا المعنى.

فإن قلتَ: إن الفعل حتى لو لم يكن خيراً في نفسه فإنه مشمول بهذه الأخبار لأنه بترتب الثواب عليه سيكون مستحباً ومن فعل الخير.

قلتُ: هذا غير تام لأن القضية لا تثبت موضوعها بل لا بد أن يثبت الموضوع ليكون صغرى للحديث.

ص: 88


1- كتاب (القواعد الفقهية) الميرزا حسن البجنوردي (قدس سرّه): ج3، ص325، القاعدة 35.

2- بناءً على ما تقدّم في النقطة الآنفة فإن الأخبار لا تختص بالمستحبات وإنما تعم الواجبات لأنها متّصفة أيضاً بالخير والفضيلة، وبلوغ الثواب عليها ينجّز الوعد المذكور في الأخبار مع الالتفات إلى بقية الملاحظات المذكورة كما لو ورد الخبر في ثواب من صام شهر رمضان أو أدّى صلاة الصبح، فلا وجه لحصر مفاد الأخبار في المستحبات.3- إن الاستحباب الناشئ من القاعدة بحسب ما عرضوه لمّا كان مبنياً على التسامح فلا يصلح أن يتصرف في ما ثبت بدليل معتبر كتخصيص العام أو تقييد المطلق لأنه ليس أقوى ظهوراً منها، ومن أمثلة ذلك كراهة مناكحة الأكراد المقيدة لإطلاق تزويج الكفؤ رغم أنه آبٍ عن التخصيص أو استحباب ختان النساء المعارض لقاعدة لا ضرر، وسنبحث هذين المثالين مستقلاً إن شاء الله تعالى(1).

4- إن الأخبار لا تفيد كراهة ما وردت كراهيته في الأخبار غير المعتبرة كالمسألة التي نحن فيها.

إن قلتَ: إن ترك المكروه مستحب فإذا ورد خبر ضعيف في كراهية شيء كمسألتنا كان تركه مستحباً.

قلتُ:

أ- قد طبّقها على المكروهات من لا يقول بهذه الملازمة كالسيد الخوئي (قدس سرّه) كما مرَّ في أصل المسألة فهذا نقض عليه.

ب- إننا لو قلنا بهذه الملازمة وكان ترك المكروه مستحباً فإن هذا المستحب لا يكون صغرى لأخبار (من بلغ) كما هو واضح، لأنها لا تتضمن بلوغ ثواب على فعل.

ص: 89


1- راجع فقه الخلاف: 1/156.

ج. إن العرف لا يرى ترك كل مكروه مستحباً حتى يصدق على الترك معنى الفعل والعمل، ولا يرى كل ترك للمستحب مكروهاً حتى يصدق عليه نفس المعنى، ففي مسألتنا كان التعجيل بتجهيز الميت فعلاً مستحباً والتأخير بتجهيزه فعلاً مكروهاً فإذا ورد خبر ضعيف في كراهة أمرٍ وصدق على تركه عنوان الفعل أمكن إجراء القاعدة على مبناهم.

نعم، لو افتُرض ورود أخبار على استحباب ترك بعض الأفعال كانت مشمولة بأخبار (من بلغ) كصوم يوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء وكذااستحباب ترك بعض الأمور للحاج أو في البيع والشراء كرؤية العبد ثمنه وكذا في النكاح أو في العلاقات الاجتماعية كمناداة شخص باسمه وغيرها كثير، ولكن هذا غير مقصود لهم في باب المكروهات.

5- إن الروايات تضمنت مفردة (بلغ) عدا الأولى التي ورد في صدرها (سمع) وقد يكون من تصرف الراوي باعتبار إذن الإمام (علیه السلام) بالنقل بالمعنى، وذيل الرواية (على ما بلغه) شاهد على أنها لم تخرج عن سياق الروايات الأخرى.

والبلوغ والتبليغ لا يصدق عرفاً إلا إذا كان النقل معتبراً وعليه يبنون في توجيه الدعوات والأوامر وغيرها، ولا يشمل مطلق الخبر حتى وإن كان معلوم الضعف؛ وسيأتي في المحكي عن الشهيد الثاني (قدس سرّه) هذا المعنى، ويشهد له الوضع اللغوي فإن «البلوغ والبلاغ: الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى»(1)،

ولم يرد في القرآن الكريم - في حدود استقرائي الناقص- إلا في الإخبار الصادق كتبليغ الله تبارك وتعالى والأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين، أما في غيره فيستعمل مثل (جاء) كقوله تعالى: (إِن جَاءكُمْ

ص: 90


1- المفردات للراغب، مادة (بلغ).

فَاسِقٌ بِنَبَأٍ) (الحجرات: 6) (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83).

ويمكن استظهار هذا المعنى من ذيل الأخبار: (وإن كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يقله) وهذا يعني أن حجية الخبر مكتملة في نفسها، ويأتي هذا الذيل لتأمين احتمال عدم مطابقة الواقع، فإن أهل الفن والمحاورة يرون هذا الذيل مناسباً للخبر ذي القيمة لا الخبر غير ذي القيمة؛ الذي هو ساقط في نفسه فلا معنى لتأمين احتمال عدم مطابقته للواقع لأنه لا يُعبأ به ابتداءً.ولو استنطقنا الوجدان عن هذا المعنى فنقول لو عكسنا الحالة أي لو بلغ المكلف خبر غير معتبر بوجوب شيء فلم يفعله أو حرمة شيء فلم يجتنبه لعدم الوثوق بالخبر ثم ظهر أنه مطابق للواقع فإنه لا يؤاخذ عليه لعدم صدق البلوغ. وبالتالي عدم تنجّز التكليف وهذا المعنى واضح حتى عند من يلتزم بمسلك حق طاعة المولى عند احتمال التكليف والالتفات إليه وليس بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كالسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه).

فإن قلتَ: إن هذا صحيح لكن الفرق بينهما أن المقام قد تممت حجيته بأخبار (من بلغ) دون مورد النقض.

قلنا: إننا بصدد شرح معنى البلوغ لا الحجية.

إن التتميم موجود بالاحتياط العقلي لوجود الاحتمال المنجّز له بناءً على مسلك حق الطاعة.

فالعرف وظهور الروايات والوضع اللغوي والوجدان كلها شاهدة على هذا المعنى.

6- إن الأخبار خاصة ببلوغ الثواب على فعل شيء ولا تشمل كل ما ورد في طلب فعل معين ما لم يقترن بذكر الثواب ليكون صغرى لأخبار (من

ص: 91

بلغ).

فليس صحيحاً إجراؤهم القاعدة في كثير من الأخبار غير المعتبرة التي تطلب فعلاً معيناً أو تنهى عن فعل معين ولما لم يمكن استنباط حكم إلزامي منهما لعدم اعتبار الدليل فإنهم يحملونهما على الحكم غير الإلزامي.

ووجه عدم الصحة: ما تقدم من عدم تحقق صغرى أخبار (من بلغ) ولأن الأمر ظاهر في الوجوب، والنهي ظاهر في الحرمة، فإذا سقطت الرواية عن الاعتبار فلا وجوب ولا حرمة، ولا ينتقل الظهور إلى الاستحباب والكراهة إلا بالقرائن.نعم، على مذهب من قال بأن الوجوب مركّب من جنس وفصل هما الشيء والنهي عن تركه يمكن القول بحلول الاستحباب محل الوجوب باعتبار سقوط الفصل من التعريف وهو النهي عن الترك فيبقى الجنس وهو طلب الشيء الذي يحمل على الاستحباب.

لكن هذا مردود بعدم مساعدة العرف عليه لأن الوجوب بسيط أما النهي عن الترك فيستفاد من الإطلاق وليس من الوضع، ولو قلنا بالتركيب فإن الجنس يسقط أيضاً كالفصل عند عدم اعتبار الدليل، فعلى مختارهم لا بد من وجود طلب استحبابي ولو ضعيف ليكون صغرى لهذه القاعدة ولا يكفي مطلق الطلب.

7- إن ما بنوا عليه من تتميم حجّيّة الخبر الضعيف الذي يفيد الاستحباب بأخبار (من بلغ) غير صحيح، فالخبر غير الحجة لا يصبح حجة في استحباب الفعل بتتميم حجيته بأخبار (من بلغ)، وإنما يحقق هذا الخبر موضوع أخبار (من بلغ) وتبقى الحجية لأخبار (من بلغ) بعد اشتمال الموضوع على كل العناصر التي اشترطناها، فما لم يقترن مفاد الخبر غير الحجة بعنوان البلوغ فلا يكون الفعل سبباً للثواب وبالتالي لا يكون

ص: 92

مستحباً.

8- إن الأخبار خاصة بمن بلغه الثواب فعمله ولا تشمل الفقيه ليفتي به لأن الأخبار لا تؤسس لاستحباب العمل وإنما يعطى فاعله الثواب الذي دفعه إلى العمل، فالقاعدة المستفادة من أخبار (من بلغ) فقهية وليست أصولية كما نُسب إلى جملة من الأساطين «لأن نتيجتها وهي حجية خبر الضعيف تقع كبرى في قياس الاستنباط»(1)

فهي من هذه الناحية كقاعدة الطهارة والحل ونحوهما التي يطبقها المكلف مباشرة على المصداق ولا تكون حداً أوسط في عملية الاستنباط.9- إن المكلف الذي يأخذ الاستحباب من الرسالة العملية لا يكون صغرى للأخبار لأنه ليس ممن بلغه ثواب عمل من أفعال الخير، إلا أن ينقل الفقيه في رسالته الثواب المروي على العمل، كما يحصل أحياناً نادرة، أو ما يرد من الثواب في كتب السنن والمستحبات ككتاب (مفاتيح الجنان) وغيره.

وتوجد بعض الأمور التي ذكرناها في كلمات السلف الصالح (قدست أسرارهم) كاشتراط عدم بلوغ الخبر حد الوضع والاختلاق، أو اختصاص القاعدة بأخبار الفضائل والمحكي عن الشهيد الثاني -قدس سره- في الدراية أنه قال: جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال، لا في صفات الله تعالى، وأحكام الحلال والحرام، وهو حسن حيث لم يبلغ الضعيف حد الوضع والاختلاق.

والمحكي عن الذكرى: إن أخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم (2).

ص: 93


1- نقلها عنهم في القواعد الفقهية: للسيد حسن البجنوردي: 3/330.
2- الرسائل الأربع: قواعد أصولية وفقهية، تقريرات بحث الشيخ جعفر سبحاني، الرسالة الرابعة، بقلم علي أكبر الكلانتري الشيرازي، ج4/ ص5.

وخلاصة المراد من أخبار (من بلغ) تحفيز المؤمنين على فعل الخير ونفي احتمال عدم حصول العامل على الثواب الموعود لاحتمال عدم مطابقته للواقع وتطمينه بأنه يُعطى الثواب حتى لو لم يكن صادراً من الشارع المقدس.

فالأخبار لا تدل على القاعدة التي ذكروها ولا يمكن الاستدلال بها على استحباب ما وردت به أخبار ضعيفة، فلا بد من الحزم والدقة في الاستفادة من أخبار (من بلغ) خشية الوقوع في الحرمة بنسبة أمور إلى الدين وهي ليست منه ويتحقق ذلك بالالتزام بهذه التنبيهات بفضل الله تبارك وتعالى.والاقتصار في مفاد أخبار (من بلغ) على الحدود التي ذكرناها وإن التوسع الذي تعامل به الفقهاء يفتح الباب واسعاً لدخول كل ما هو مستهجن في مدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم) بالكذب والافتراء.

نعم، قد يكون للقاعدة دليل آخر غير أخبار (من بلغ) وهو حكم العقل بحسن امتثال أوامر المولى حتى لو وردت بطريق ضعيف ما لم يعارضها دليل على الحرمة، وبحسن اجتناب ما ينهى عنه المولى ولو ورد بطريق غير معتبر ما لم يعارضه دليل على الوجوب، وهو حكم صحيح كحكم العقل بحسن الاحتياط، لكنه غير الحكم بالاستحباب والكراهة الذي فهموه من أخبار (من بلغ).

لذا لا نجد مانعاً من الإفتاء باستحباب ما ورد في أخبار الفضائل والأخلاق والمواعظ حتى لو لم يكن الخبر تاماً ما دام منسجماً مع أحكام الشريعة وكان فضيلة في نفسه كصلاة ليلة الدفن أو أول الشهر أو بعض الأغسال المسنونة ونحوها.

ص: 94

المطلب الرابع: التفصيل في حجية الاستصحاب بين الشك في الرافع والشك في المقتضي

في الجزء الرابع من موسوعة فقه الخلاف ، وهو الجزء المخصص لطرق ثبوت الهلال ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ملحقا (صفحة 279-312) بيّن فيه دليله على التفصيل في حجية الاستصحاب بين الشك في الرافع والشك في المقتضي. ونص كلام سماحته في هذه المسالة هو:التفصيل في حجية الاستصحاب بين الشك في الرافع والشك في المقتضي

للأصوليين عدة تفصيلات في حجية الاستصحاب (منها) التفصيل في الحجية بين كون الشك في الرافع أو كونه في المقتضي فذهب عدد من الأعاظم إلى حجيته في الأول دون الثاني كالشيخ الأنصاري والشيخ النائيني ومن المعاصرين السيد حسن البجنوردي والسيد الروحاني (قدس الله أسرارهم جميعاً) خلافاً للأكثر حيث ذهبوا إلى حجيته مطلقاً كصاحب الكفاية ومشهور المعاصرين كالسيد الخوئي (قدس سرّه) وتلامذته كالشيخ الفياض (دام ظله الشريف) وكالسيد الشهيد الصدر الأول (قدس الله سره) وتلامذته(1)

وقد حكى السيد الشهيد الصدر (قدس سرّه) وجود التفصيل موضوعاً في ذهن المحقق في المعارج كما في عبارته الآتية، وعلى أي حال فالصحيح

ص: 95


1- راجع: فرائد الأصول: 2/667، كفاية الأصول: 390 طبعة مؤسسة آل البيت (علیهم السلام)، موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 48/23، بحوث في علم الأصول: 6/154، منتهى الأصول: 2/510، منتقى الأصول: 6/58، المباحث الأصولية: 12/415.

هو القول بالتفصيل.

ولكي لا نخرج من غرض البحث نقول: بغضّ النظر عما قيل من المحتملات في المراد من المقتضي إلا أن الصحيح في المراد بالمقتضي استعداد المتيقن السابق للبقاء وترتيب الآثار عليه في الزمان الثاني لو خلي وطبعه، إذ أن الشك في الزمان اللاحق -وهو ركن الاستصحاب- قد يكون منشأه الشك في قابلية المتيقن في نفسه على البقاء إلى الزمان الثاني واحتمال انتفائه بانتهاء أمده، وقد يكون منشأه حصول رافع لوجوده مع قابليته في نفسه على البقاء، فالأول هو الشك في المقتضي والثاني في الرافع.

ومثّلوا للأول من عالم الموضوعات الخارجية بوجود حيوان في الداريدور أمره بين ما يعيش خمس سنين مثلاً وما يعيش خمسة أشهر فإذا شك في بقاء الحيوان في الدار بعد خمسة أشهر كان من الشك في المقتضي، ومثلوا له في الأحكام الشرعية بخيار الغبن مثلاً إذا شك في بقائه في الزمن الثاني بعد علمه بالغبن لاحتمال اختصاصه بالزمن الأول الممتد من العقد الغبني إلى حين حصول العلم بالغبن فهذا من الشك في المقتضي في البقاء إلى الزمن الثاني مع اليقين بوجوده في الزمن الأول.

وتطبيق المطلب في مسألتنا -وهي طرق ثبوت الهلال- ما لو شك في بقاء الشهر الحالي من جهة الشك في قابليته على البقاء فيما لو رؤي الهلال في بلد غير متحد بالأفق، فإن كانت رؤية الهلال فيه كافية لثبوته في هذا البلد فقد انتفى الشهر السابق وحلَّ الشهر الجديد وإن لم تكن كافية والرؤية المعتبرة مختصة بالبلدان المتحدة في الأفق فإن الشهر الحالي باقٍ.

والدليل على التفصيل نقدّمه باختصار ووضوح ليتناسب مع منهجنا في تناول مسائل علم الأصول في ضوء الغرض المطلوب منه وحاصل

ص: 96

الدليل:

قصور أدلة حجية الاستصحاب عن إفادة الإطلاق وشمول صورة الشك في المقتضي.

لأن عمدة الدليل على حجية الاستصحاب هو بناء العقلاء والأخبار:

أما الأول: فإنه دليل لبّي يُقتصر به على القدر المتيقن وهو إبقاء ما كان استعداده للبقاء في نفسه محرزاً إذا شُك في حصول الرافع له، ولم يثبت بناؤهم على إجراء الاستصحاب وإبقاء ما شُك في استعداده للبقاء عند الشك في بقائه.

ولو ثبت بناؤهم في بعض الموارد على الاستصحاب مع كون الشك في المقتضي فإنه قد لا يكون للاستصحاب وإنما لأهمية المحتمل كحياة الإنسان أو لمصلحة اجتماعية كقاعدة التيسير وحفظ النظام الاجتماعيالعام ومداراة الناس ونحو ذلك.

وأما الثاني: فلعدة تقريبات:-

أ- إن مورد الروايات الشك في الرافع مع إحراز المقتضي كالشك في بقاء الوضوء من جهة الشك في تحقق النوم كما في صحيحة زرارة(1)

ص: 97


1- صحيحة زرارة، قال: (قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يا زرارة؟ قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين، والأذن، والقلب، وجب الوضوء، قلت: فإن حرك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال: لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا تنقض (ينقض) اليقين أبداً بالشك، وإنما تنقضه بيقين آخر). (وسائل الشيعة: 1/245، أبواب نواقض الوضوء، باب 1، ح1)، وفي ح 7 من نفس الباب عن عبد الله بن بكير عن أبيه، قال: (قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): إذا استيقنت أنك قد أحدثت فتوضأ، وإياك أن تحدث وضوءاً أبداً حتى تستيقن أنك قد أحدثت).

الأولى، والشك في بقاء طهارة الثوب من جهة الشك في وقوع النجاسة عليه كما في صحيحته الثانية(1)

وهكذا، ونتمسك بالإطلاق في المقدار الذي يتحقق فيه التجريد عن الخصوصية كالتعدي من الطهارة إلى غيرها ومن النوم إلى غيره ونحو ذلك وليس منه التعدي إلى صورة الشك في المقتضي فلا إطلاق لهذه الروايات، ولا نعلم ماذا سيكون جواب الإمام (علیه السلام) لو سُئل عن مثل هذه الصورة فالرواية مجملة من هذه الناحية.

ب- إن هذه الروايات يمكن أن ينظر إليها على أنها إرشادية إلى ما تبانى عليه العقلاء والمفروض أنه لا يشمل الشك في المقتضي فتتقيد سعة الروايات بهذا المقدار ولا يتم لها إطلاق.

أو يكون بناء العقلاء قرينة ارتكازية بيّنة لدى المتكلم والسامع تقيّد إطلاق الكلام، وهذه القرينة الملحوظة عند التخاطب غير ما اشترطهصاحب الكفاية لانعقاد الإطلاق واعترضنا عليه من عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب؛ لوجود اللحاظ المعيّن للظهور في هذه دون تلك.

ولا أقل من كون بناء العقلاء مجملاً من هذه الناحية فيسري إجماله ولا يتم للكلام إطلاق.

ومن الشواهد على كون الروايات إرشادية صحيحة عبد الله بن سنان الواردة في من يعير ثوبه للذمي وهو يعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فعلل الإمام (علیه السلام) عدم وجوب غسله بقوله: (لأنك أعرته إياه وهو طاهر، ولم تتيقن أنه نجّسه)(2) فإن الإمام (علیه السلام) اكتفى ببيان تحقق موضوع القاعدة وترك تطبيقها إلى السائل معتمداً على ارتكازه العقلائي.

ص: 98


1- وسائل الشيعة: 3/466، 477، 482، أبواب النجاسات: باب 37، 41، 44، ح1.
2- وسائل الشيعة: 3/521، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 74، ح1.

ج - ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري(1)

(قدس سرّه) وأثار جدلاً عند من بعده واكتفى بعض القائلين بالحجية مطلقاً بالرد عليه لإثبات بطلان هذا القول وهذا خطأ منهجي آخر وهو الاكتفاء برد الاستدلال السابق وعدم استيعاب الأدلة المحتملة للقول الآخر، وأحياناً الأقوال الأخرى في المسألة، حيث توجد هنا وجوه أخرى للاستدلال على التفصيل كما ذكرنا.

وعلى أي حال فإن حاصل تقريب الشيخ (قدس سرّه): أن النقض في قوله: (لا تنقض اليقين بالشك) لا يصدق إلا على ما له قابلية البقاء لأن النقض لا يتحقق إلا في الأمر المبرم -وهو ما كان المقتضي فيه تاماً، فإجراء القاعدة في ما عداه يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وهو غير صحيح.

وبيان ذلك يتحقق بعدة مقدمات، إذ أن المراد من هذه العبارة ترتيب آثار المتيقن والجري العملي على طبقه؛ لأنه لا أثر لليقين في نفسه كي يكون الإبقاء وحرمة النقض بلحاظ آثاره أي لم يؤخذ اليقين على نحوالموضوعية.

فحرمة النقض وإن كانت متعلقة باليقين ولكن باعتباره مرآة للمتيقن وأنه عنوان له كالذي نقوله في مبحث تعلق الأوامر بالطبائع لا الأفراد، وبذلك فقد التزمنا بظاهر اللفظ من تعلق النقض باليقين فلا يقال أن حمل اليقين على المتيقن مجاز(2)، والذي أدى إلى إشكالات مطوّلة ردّوا بها استدلال الشيخ (قدس سرّه).

ومن المعلوم أن عدم الجري العملي على طبق المتيقن عند الشك

ص: 99


1- فرائد الأصول: 2/574-575.
2- كما في ردّ صاحب الكفاية (قدس سرّه) على الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) وتبعه غيره (راجع كفاية الأصول: 390 من طبعة مؤسسة أهل البيت).

في بقائه يصدق عليه أنه نقض لليقين باعتبار آثار المتيقن فيما إذا كان للمتيقن استعداد البقاء في ظرف الشك في بقائه، والشك في بقائه يكون مستنداً إلى الرافع -أي إلى احتمال وجود حادث زماني أوجب انعدامه- وإلا فلا معنى للنقض؛ لأن نفس اليقين انتقض بالشك.

ونحن نبني على أن حقيقة الاستصحاب المعبّر عنها بقوله (علیه السلام): (لا تنقض اليقين بالشك) تنزيل الشك منزلة اليقين لا المشكوك منزلة المتيقن كما توهم، أي جرّ اليقين من حيث الجري العملي إلى ظرف الشك ولكن باعتبار مرآتيته وطريقيته لا صفتيته وموضوعيته.

لا يقال: أن دليل الاستصحاب غير منحصر في الأخبار المشتملة على لفظ النقض حتى يختص بالشك في الرافع، بل هناك خبران آخران لا يشتملان على لفظ النقض، فيعمّان بإطلاقهما موارد الشك في المقتضي أيضاً:

الأول: صحيحة عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق (علیه السلام) الواردة في من يعير ثوبه للذمي وهو يعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، قال: (فأغسله قبل أن أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (علیه السلام): صلِّ فيه ولا تغسله منأجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجّسه)(1).

الثاني: رواية إسحاق بن عمار قال: (قال لي أبو الحسن الأول (علیه السلام): إذا شككت فابن على اليقين، قلت: هذا أصل؟ قال: نعم)(2).

فإنه يجاب إجمالاً بأن أدلة التفصيل لا تنحصر بمدلول لفظ النقض وإنما توجد وجوه أخرى كما سنورده في البحث.

ص: 100


1- وسائل الشيعة: 3/521، أبواب النجاسات، باب 74، ح1.
2- وسائل الشيعة: 8/212، (من طبعة مؤسسة أهل البيت)، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 8، ح2، من لا يحضره الفقيه: 1/351، ح1025.

ويجاب تفصيلاً عن الحديثين.

أما الأول: فمورده هو الشك في الرافع، لأن الطهارة مما له دوام في نفسه لولا الرافع، فلا وجه للتعدي عنه إلى الشك في المقتضي. وأما التعدي عن خصوصية الثوب إلى غيره وعن خصوصية الذمي إلى نجاسة أخرى وعن خصوصية الطهارة المتيقنة إلى غيرها، فإنما هو للقطع بعدم دخل هذه الخصوصيات في الحكم، ولكن التعدي عن الشك في الرافع إلى الشك في المقتضي يكون بلا دليل.

مضافاً إلى ما ذكرناه من أن الإمام (علیه السلام) لم يذكر قضية الاستصحاب وإنما نقّح موضوعه فقط وترك إجراءه للسائل وفق ما تبانى عليه العقلاء وقد علمنا عدم سعته.

وأما الثاني: فقد أشكلوا على السند من جهة أن الشيخ الصدوق لم يبتدئ باسم إسحاق حتى يكون مشمولاً بطريقه المعتبر في المشيخة بل قال: روي عن إسحاق بن عمار، ومثل هذا قد لا يكون مشمولاً بقول الصدوق في المشيخة أن ما يرويه عن إسحاق فسنده فلان عن فلان.

ولعل وصف بعضهم للحديث بالموثق بناءً على عدم التفريق بين التعبيرين أو بلحاظ ما في الوسائل حيث نقله عن الصدوق بإسناده عنإسحاق بن عمار «وهذا اشتباه منه»(1)

وهذا التفريق -بين ابتداء الشيخ الصدوق باسم الراوي فيكون مشمولاً بما ورد في المشيخة وبين قوله: «روي عن» فلا يكون مشمولاً- بنى عليه السيد الخوئي والشهيد الصدر (قدس الله سريهما) وعليه فالرواية مرسلة عندهم.

أقول: هذا الإشكال في السند غير تام والأقرب عدم التفريق وحجية

ص: 101


1- مباحث الأصول، مصدر سابق، ق2، ج5، ص 145، بحوث في علم الأصول: 6/86.

التعبيرين، وإن هذا الاختلاف تنوع في التعبير من الشيخ الصدوق لا أثر له، ولو فرضنا أن قول الشيخ الصدوق (كل ما رويته عن فلان فهو) لا يشمل الرواية محل البحث فإنه أكثر من قوله: (ما كان عن فلان فهو عن..) وهذه العبارة تشمل ما نحن فيه.

وقد بنى على عدم التفريق صاحب الوسائل وجامع أحاديث الشيعة فإسناد صاحب الوسائل إلى إسحاق موافق لمبناه وليس اشتباهاً. وتبعهم على ذلك بعض من حضرنا بحثه الشريف الذي ذكر عدة وجوه لرد التفريق قال (دام ظله الشريف):-

«أ- إننا بحسب التتبع نجد أن الشيخ الصدوق (قدس سرّه) نفسه لم يتقيد بتعبير واحد واستعمل التعبيرين، فقد ينقل في مواضع متعددة عن مصدر واحد فيقول: (روى فلان) وفي بعضها (روي عن فلان) -بحسب معرفتنا بالمصدر- ومنه في المجلد الأول عن الفضل بن شاذان فقد جزم بالرواية في أربعة مواضع وصرّح بالنقل عن الفضل، وفي المورد الخامس قال: «وفي العلل التي يروى أن الفضل قد سمعها.. (إن الفطر إنما جُعل ليكون..»)(1)

هذا في الجزء الأول، ص 330 من طبعة النجف) أما فيالموارد الأربعة ففي الصفحات 195، 200، 203، 290، 342).

ب- إنه قد أكثر في الفقيه التعبير بقوله: (روي عن فلان) وذكر في المشيخة السند إلى خصوص من عبَّر عنهم بذلك. ولازم ما أفاده -أي السيد الخوئي- أن ذكر السند في المشيخة لغو وقد أحصيت خمسين شخصاً على هذا النحو، فتكون الموارد أكثر من ذلك.

ص: 102


1- من لا يحضره الفقيه: 1/522، ح 1485 وفيه (وفي العلل التي تُروى عن الفضل بن شاذان النيسابوري رضي الله عنه ويُذكر أنه سمعها من الرضا (علیه السلام) أنه «إنما جُعل يوم الفطر العيد..».

ج- إنه بناءً على ما أشرنا إليه وهو الصحيح إن ترتيب المشيخة بحسب ترتيب الفقيه إلا نادراً فيما لو غفل مثلاً وإلا فالقاعدة عنده أن يبتدئ أولاً بما ابتدأ به أولاً في الفقيه، وبناءً على هذا فإننا نرى الشيخ الصدوق قد لاحظ في المشيخة (77) مورداً بخصوص من قال عنهم: (روي عن فلان) وعلى القول بالتفريق لا يكون له وجه عقلائي إذ لا توجد مناسبة لذكر الطريق وهو لم يروِ عنه»(1).

وقد حكى السيد الشهيد الصدر اشتباه بعض كتب الأصحاب بنسبة الرواية إلى عمار -وهو غير عمار والد إسحاق- «وكأن منشأ الاشتباه كان هو الشيخ الأعظم (قدس سرّه) الذي عبّر في رسائله عن هذا الحديث بموثقة عمار، وقد وقع هذا الحديث في بعض نسخ الوسائل في وسط -الحديث السابق على هذا في نفس الباب- وأشير إلى الاشتباه في الحاشية، وذاك الحديث هو قوله (محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال له: يا عمار أجمع لك السهو كله في كلمتين... فوقع بعد قوله -كلمتين- متن حديث إسحاق بن عمار، فلعل نسخة الشيخ الأعظم (قدس سرّه) كانت من هذا القبيل فأوقعته في الاشتباه»(2).

هذا من جهة السند، وأما من جهة المتن فإن الإشكال بها لا يتم لأن الأمر بالبناء على اليقين مساوق للنهي عن نقضه؛ لأن البناء هو الجري علىطبق ما له ثبات ودوام.

مضافاً إلى أن ورودها في باب الخلل والشك في الركعات يرجح كونها واردة لتأسيس قاعدة التجاوز والبناء على صحة الفعل بعد الفراغ منه فهي

ص: 103


1- تقرير بحث السيد السيستاني، محاضرة بتأريخ 6/ ذ. ق./1417.
2- مباحث الأصول -تقريرات السيد الحائري لأبحاث السيد محمد باقر الصدر-: ق2، ج5، 148.

أجنبية عن الاستصحاب، وما قيل من وجوه لاستبعاد هذا الاحتمال يمكن دفعها كقولهم: «إن اليقين في هذه القاعدة غير موجود»(1) إذ يمكن فرض اليقين باعتبار أنه لم يكن شاكاً حين الفعل وكان حينئذٍ أذكر -كما في بعض الروايات - وهذا المقدار كافٍ لوصفه أنه على يقين، إذ القضية مانعة خلو.

ومنه يتضح المراد بقاعدة الفراغ وليس تحصيل الفراغ اليقيني حتى يرد عليه بأنه «لو كان المقصود ذلك كان ينبغي أن يأمر بتحصيله لا البناء على يقين مفروغ منه -كما يقتضيه سياق الأمر»(2).

إن قلتَ: «لم يرد في لسانها أي إشارة إلى كون الشك في الفراغ عن الصلاة ومجرد ذكر الشيخ الصدوق لها في باب الخلل في الصلاة لا يصلح أن يكون شاهداً على ذلك إذ لعله كان من أجل التطبيق على الصلاة» ((3).

قلتُ: إن مجرد الاحتمال كافٍ لإبطال الاستدلال وإن استظهار الشيخ الصدوق يكشف عن قرب هذا المعنى، حتى أن بعضهم أدخلها في رواية عمار في الاشتباه السابق.

تنبيه: جعل السيد الخوئي (قدس سرّه) بدل الحديث الثاني ضمن هذا الإيراد: «خبر محمد بن مسلم عن الصادق (علیه السلام) (من كان على يقين فشك فليمض يقينه فإن اليقين لا يدفع بالشك»).((4)

أقول: هو خبر الخصال في حديث الأربعمائة بسنده عن محمد بنمسلم وأبي بصير عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين (علیه السلام) وسنده غير تام بالقاسم بن يحيى الذي لم تثبت وثاقته، وفي ما ذكره تحريف فإن في

ص: 104


1- المباحث الأصولية للشيخ الفياض: 12/228.
2- و (3) بحوث في علم الأصول: 6/86، مباحث الأصول، مصدر سابق: 148.
3-
4- (4) موسوعة السيد الخوئي: 48/32-33.

المصدر (فإن الشك لا ينقض باليقين)(1)

وحينئذٍ فهي متضمنة للفظ النقض ولا يتم الإشكال بالرواية(2).

وأرى أن الأولى في رد تقريب الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) أنه يصلح شاهداً وليس دليلاً لأنه لم يُعلم أنه مراد للمتكلم فإن ظاهر العبارة النهي عن التوقف بالعمل باليقين السابق لمجرد طروّ الشك عليه، أما أن نفهم التفصيل من كلمة النقض فهذه استفادة عرضية من الكلام فتصلح شاهداً ومؤيداً، فلا بد من تقديم أدلة أخرى على التفصيل كما قرّبنا.

وللأعلام (قدس الله أسرارهم) هنا محاولات لتقريب جريان الاستصحاب مطلقاً بإتمام اليقين بالمقتضي(3) لا نطيل في إيرادها لأنها خلاف الفرض الذي هو الشك في المقتضي ومنها محاولة للسيد الخوئي (قدس سرّه) حاصلها: أن متعلق اليقين والشك لوحظ بالنظر المسامحي العرفي وإلغاء خصوصية الزمان بالتعبد الشرعي، من أن تطبيق نقض اليقين بالشك على مورد الاستصحاب إنما هو بالتعبد الشرعي فيصدق نقض اليقين بالشك حتى في موارد الشك في المقتضي فإن خيار الغبن كان متيقناً حين ظهور الغبن وهو متعلق الشك بعد إلغاء الخصوصية، فعدم ترتيب الأثر عليه في ظرف الشك نقض لليقين بالشك فتستفاد من قوله (علیه السلام): (لا تنقض اليقين بالشك) حجية الاستصحاب مطلقاً.

أقول: وهذا كما ترى خلاف الفرض، وهذا التسامح العرفي بلحاظتحقق ركني الاستصحاب أي وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة وإلا فإنهما بالدقة

ص: 105


1- الخصال: 460، وسائل الشيعة: 1/247، أبواب نواقض الوضوء، باب 1، ح6.
2- وأوردها بنفس التحريف في (بحوث في علم الأصول: 6/164)، ولعله نقلها عن السيد الخوئي (قدس سرّه).
3- عرض الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) جملة منها (راجع مباحث الأصول).

ليسا واحداً، ولا تتحقق وحدتهما إلا على نحو الشك الساري ويكون مجرى لقاعدة اليقين.

والملفت أن بعض الأعلام نفى وجود حالة الشك في المقتضي وأن الحالة سالبة بانتفاء الموضوع، فقد حكى السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) عن المحقق في المعارج كلاماً «يُشعر بهذا التفصيل حيث أفاد بأن فرض عدم بقاء المستصحب إما يكون من باب احتمال عدم المقتضي أو وجود المانع والأول خلاف المفروض لأن الكلام بعد الفراغ عن وجوده»(1).

أقول: هذا خلاف الواقع كما تشهد به الأمثلة الكثيرة.

دليلان آخران على التفصيل:

وقد ينقدح في الذهن تقريب وجهين آخرين لهذا التفصيل:

أولهما: إنه عند الشك في المقتضي تكون له حصتان: حصة متيقنة وأخرى مشكوكة فنفتقد في الزمان الثاني -وهو اليوم الثلاثون من الشهر السابق بحسب مورد المسألة- إلى ركن الاستصحاب وهو اليقين بالحالة السابقة.

وبتعبير آخر: إن الشك في الزمان الثاني أي الحصة المشكوكة عندما يتعلق بالمقتضي يكون من الشك الساري ويكون مورداً لقاعدة اليقين وليس الاستصحاب.

قد يقال: إن هذا التقسيم بين الحصتين ليس عرفياً وليس له حد فاصل، وجوابه أنه صحيح لكن الوجدان يتحسس أنه في أي الحصتين وهل هو في الحصة المتيقنة أم المشكوكة، وأن بناء العقلاء الذي هو دليل حجية الاستصحاب مستند إلى هذا الإحساس الوجداني بالاستمرار والبقاء.

ص: 106


1- بحوث في علم الأصول: 6/154.

ثانيهما: إنهم لا يجرون الاستصحاب في بعض صور الشك في المقتضي وذلك عندما يكون الشك ناشئاً من حصول شبهة مفهومية في المستصحب وبضميمة عدم الفصل بين صور الشك في المقتضي تكون النتيجة عدم جريان الاستصحاب عند الشك فيه كما في مسألتنا هذه إذ أن الشك في دخول الشهر الجديد ناشئ من إجمال ما يتحقق به وأنه هل تكفي فيه الرؤية في البلد البعيد أم يشترط فيه تحقق رؤية الهلال في البلد القريب، فإذا تحققت رؤية في بلد بعيد وشككنا في بقاء الشهر السابق أو انتفائه فلا يجري استصحاب بقائه؛ لأن الصحيح عدم جريان الاستصحاب في الموضوع الذي يكون مفهومه مشتبهاً، فهذا الشك يمكن تصوره على أنه شك في مقتضي بقاء الشهر السابق وأنه هل له قابلية البقاء فيما لو اشترطنا الرؤية في البلد القريب أم ليست له ذلك فيما لو اكتفينا برؤيته في البلد البعيد، ومثاله الآخر ما لو شك في أن الغروب الذي جُعل غاية لصلاة الظهرين هل هو استتار القرص أو ذهاب الحمرة المشرقية فهذه شبهة مفهومية حكمية وهي من موارد الشك في المقتضي. وقد قلنا بعدم جريان الاستصحاب في موردها.

فهذا التقريب يمكن أن يكون دليلاً على التفصيل أو نقضاً على إطلاقهم جريان الاستصحاب عند الشك في المقتضي.

إلفات: نقض بعض الأعلام على الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) بموارد أجرى فيها الاستصحاب وهي من الشك في المقتضي(1) فيكون قد خالف بذلك مختاره في التفصيل.

ويمكن الدفاع عن الشيخ بمنع كونها من هذا الباب ولا نريد الإطالة في

ص: 107


1- موسوعة السيد الخوئي: 48/33-34، المباحث الأصولية للشيخ الفياض: 12/419.

سردها ومناقشتها ونذكر أحدها وهو مرتبط بمسألتنا، قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «كما إذا شك في ظهور هلال شوال فإن الشك فيه من قبيلالشك في المقتضي، لأن الشك -في ظهور هلال شوال- في الحقيقة شك في أن شهر رمضان كان تسعة وعشرين يوماً أو لا، فلم يحرز المقتضي من أول الأمر مع أن الشيخ قائل بجريان الاستصحاب فيه، بل الاستصحاب مع الشك في هلال شوال منصوص بناءً على دلالة قوله (علیه السلام): (صم للرؤية وأفطر للرؤية) على الاستصحاب»(1)، وقال الشيخ الفياض (دام ظله الشريف): «إلا أنه -أي الشيخ الأنصاري (قدس سرّه)- في مقام التطبيق لم يلتزم به حرفياً في تمام الموارد، إذ أنه (قدس سرّه) بنى على جريان استصحاب بقاء شهر شعبان إذا شك في بقائه من جهة الشك في رؤية الهلال، أو بقاء شهر شوال مع أن هذه الموارد من الشك في المقتضي»(2).

أقول: من الواضح أن المورد من الشك في الرافع وهي رؤية الهلال التي ينتهي الشهر السابق بتحققها وإلا فإن الشهر له قابلية الاستمرار للزمان الثاني وإكمال العدة إذا لم يُر الهلال، والرواية التي ذكرها دالة على ذلك أي على عكس ما ذكروه. وبتعبير آخر: إن الشك في دخول الشهر الجديد له منشآن:

الأول: الشك في رؤية الهلال أصلاً وهذا من الشك في الرافع لأن الشهر فيه مقتضي البقاء إلى اليوم الثلاثين وإتمام العدة إذا لم يرَ الهلال.

الثاني: الشك في كفاية رؤية الهلال المتحققة في بلد لثبوته في بلد آخر غير متحد معه في الأفق، فهنا يوجد يقين برؤية الهلال وإنما الشك في

ص: 108


1- المصدر السابق.
2- المباحث الأصولية: 12/420.

المقتضي لأننا لا نعلم بقابلية الشهر على البقاء في مثل هذه الحالة لاحتمال كفاية الرؤية في البلد البعيد.

فالمستشكل اعتبر إجراء الاستصحاب في الصورة الأولى نقضاً على الشيخ الأنصاري وهي ليست كذلك؛ لأنها من الشك في الرافع.

ص: 109

الفصل الثاني: المباني والتطبيقات الأصولية

الفصل الثاني: المباني والتطبيقات الأصولية

في هذا الفصل سنذكر المطالب الأصولية التي ذُكرت في موسوعة فقه الخلاف ، وقد جاء ذكرها اما على نحو التطبيق للقاعدة الأصولية على موردها الفقهي او كأعراب عن المباني الأصولية.

وقد ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في بعض هذه المطالب مناقشات وأدلة لما يتبناه ، ولَم يذكر في بعضها الاخر الا رأيه الأصولي خاصة سيما اذا كان هذا الرأي هو المشهور بين علماء الأصول.

وقد رتبت هذه المطالب بالشكل الذي يحتاج اليه الفقيه في عملية الاستنباط ، فقدمت الكلام أولا عن الأدلة المحرزة التي يُستنبط منها الحكم الشرعي ، وبدأت بالدليل الشرعي اللفظي ثم اتبعته بالدليل الشرعي غير اللفظي ثم الدليل المحرز غير الشرعي ، وذكرت بعد ذلك مطالب الأدلة غير المحرزة التي تسمى بالأصول العملية والتي يستنبط منها الموقف العملي تجاه الحكم الشرعي المشكوك ، وبعدها ذكرت مطالب بحث التعارض.

اما ما لم يذكر تحت عنوان مستقل في الكتب الأصولية المعروفة او ما ذكر فيها في مباحث التمهيد فقد ذكرته أولا كتمهيد للمطالب الأصولية.

ص: 110

تمهيد المطالب الأصولية

اشارة

ذكرت في هذا التمهيد اثني عشر امرًا ، وهي:

أولاً: الحكم الشرعي.

ثانياً: التقية.

ثالثاً: تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية.

رابعاً: حجية الاكتشافات العلمية.

خامساً: رجوع المجتهد الى مجتهد اخر.

سادساً: تصرف الشارع في الحقائق التكوينية والعرفية.

سابعاً: معنى حديث لا ضرر.

ثامناً: المباشرة والتسبيب.

تاسعاً: الحقيقة الشرعية.

عاشراً: الصحيح والأعم.

حادي عشر: استعمال اللفظ في اكثر من معنى.

ثاني عشر: القاعدة العامة في الاستنباط.

واليك هذه الأمور مفصلاً:

ص: 111

أولا: الحكم الشرعي

اشارة

لم يفرد علماء الاصول عنوانًا خاصًا لبحث الحكم الشرعي الا في المؤلفات الأصولية المتأخرة ؛ اذ كانت هذه المباحث متناثرة بين بقية الأبحاث الأصولية.

وفي موسوعة فقه الخلاف تطرق سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) لمباحث عديدة للحكم الشرعي رتبتها في سبع عشرة مسالة وهي:

المسألة الأولى: انحاء أوامر ونواهي المعصومين (علیهم السلام).

المسألة الثانية: إلزامية بعض الافعال ضمن فعل مستحب.

المسألة الثالثة: الكراهة بالمعنى الاعم.

المسألة الرابعة: مدخلية العلم بإرادة المولى في تنجيز الحكم.

المسألة الخامسة: سقوط الوجوب لا يثبت الاستحباب.

المسألة السادسة: دلالة الأوامر على الاحكام الوضعية.

المسألة السابعة: الاستحباب والكراهة الوضعيان.

المسألة الثامنة: الفرق بين الفساد والبطلان.

المسألة التاسعة: بقاء الوجوب حتى مع انعدام موضوعه.

المسألة العاشرة: تاثير الزمان والمكان على الحكم الشرعي.

المسألة الحادية عشرة: جعل الاحكام على نحو القضية الحقيقية.

المسألة الثانية عشرة: فتوى الفقيه وحكم الحاكم الشرعي.

المسألة الثالثة عشرة: احكام الولي الفقيه.

المسألة الرابعة عشرة: حدود ولاية الفقيه.

المسألة الخامسة عشرة: موارد اعمال الفقيه لولايته.

المسألة السادسة عشرة: شروط إنفاذ الفقيه لولايته.

المسألة السابعة عشرة: احكام الحاكم الشرعي.

واليك الكلام في هذه المسائل مفصلاً:

ص: 112

المسألة الأولى: انحاء أوامر ونواهي المعصومين (علیهم السلام).

بيّن الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ان أوامر المعصومين (علیهم السلام) ونواهيهم التي وصلتنا ليست على نحو واحد وانما هي على ثلاثة انحاء:

فمنها ما يصدر من المعصوم (علیه السلام) بصفته وليًا على الأموال والأنفس: وهذا الامر واجب الطاعة ، ولكن الفقيه لا يستنبط منه حكمًا شرعيًا كليًا ، فان هذا الامر يمثل حكما خاصا في مورد خاص.

ومنها ما يكون إخبارًا وتبليغًا عن الاحكام الشرعية الكلية: وهذا القسم هو الذي يستنبط منه الحكم الشرعي الكلي الذي هو غاية الفقيه في عملية الاستنباط.

ومنها ما يكون إخبارا عن تحقق موضوع الحكم: وتصدر هذه الأوامر عندما يكون الحكم الكلي واضحا ، ولكن يتردد الناس في تحقق موضوعه.

وقد ذكر سماحته هذا المطلب في الجزء الأول من موسوعة فقه الخلاف في طبعتها الأولى ضمن مسالة (ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي / صفحة 99-103) ، وذكره أيضا مع بعض الاختلاف في التعبير في الجزء الرابع من الطبعة الثانية ، ونص كلامه في الجزء الأول هو:

ان أوامر المعصومين ونواهيهم على ثلاثة أنحاء:

1- ما كان مستنداً إلى وجوب طاعتهم من جهة الولاية على الأموال والأنفس وتجب طاعتهم في ذلك وقد اعتادوا التمثيل بما لو أمر زيداً ان يطلق زوجته وهو غير مناسب فيمكن التمثيل برواية هشام بن سالم قال جاءني عبد الرحمن بن الحجاج: ان أبا عبد الله يقول لك أمسك عن الكلام هذه الأيام(1) أي المحاججة مع الآخرين، وما عن عمار الساباطي(قال: قال

ص: 113


1- روى يونس قال: قلت لهشام ان أصحابك يحكون ان أبا الحسن (علیه السلام) سرّح إليك مع عبد الرحمن بن الحجاج أن أمسك عن الكلام، والى هشام بن سالم، قال أتاني عبد الرحمن بن الحجاج وقال لي: يَقول لك أبو الحسن (علیه السلام) أمسك عن الكلام هذه الأيام فقال هشام: فأمسكتُ عن الكلام أصلاً حتى مات المهدي، وإنما قال لي هذه الأيام فأمسكت حتى مات المهدي) معجم رجال الحديث للسيد الخوئي ج19 ص 343 في ترجمة هشام بن الحكم عن رجال الكشي.

أبو عبد الله (علیه السلام) لي ولسليمان بن خالد: قد حرّمت عليكم المتعة ما دمتم بالمدينة لأنكما تكثران الدخول عليّ وأخاف أن تؤخذا فيقال هؤلاء أصحاب جعفر)(1).

فهذه تصلح أمثلة للأوامر المولوية.

2- ما يكون صادراً عنهم ارشاداً وتبليغاً بالنسبة للأحكام الكلية فلا يكون أوامرهم مولوية بل إرشادية من باب تبليغ الأحكام ومرجعها الإخبار عن ثبوت الحكم وهذا كثير في الروايات وقد يكون بصيغة الأمر ففي بعض الروايات ان النبي (صلی الله علیه و آله) أمر من فاتته الصلاة أن يقضي، وأمرهم ان ينحروا في منازلهم(2)

وعن علي (علیه السلام) أمرت الناس الا يجتمعوا في رمضان للنوافل(3)

فهذه أخبار بعدم المشروعية، وفي بعض الروايات أمر (صلی الله علیه و آله) ان يطاف عن المبطون والكسير(4)

فهذه وان صدرت بصيغة الإرشاد لكنها

ص: 114


1- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب المتعة، الباب 5 ح5.
2- عن معاوية بن عمار (عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين يُنحر ان يؤخذ من كل بدنة جذوة من لحمها ثم تطرح في برمة، ثم تطبخ فأكل رسول الله | وعلي (علیه السلام) منها وحسيا مرقها) وسائل الشيعة، كتاب الحج، أبواب الذبح، باب 40 ح11.
3- عن سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) فحمد الله وأثنى عليه.. إلى ان قال: والله لقد أمرت الناس ان لا يجتمعوا في شهر رمضان الا في فريضة وأعلمتهم ان اجتماعهم في النوافل بدعة..) وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب نافلة شهر رمضان، باب 10 ح4.
4- عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) ان يطاف عن المبطون والكسير). (تهذيب الأحكام /ج5 /ص836، كتاب الحج، الباب 9 في الطواف حديث 77. الشيخ الطوسي).

إخبار عن الحكم الكلي من باب تعليم الأحكام.

3- ما يصدر منهم لبيان تحقق الموضوع بمعنى ان الحكم الكليواضح لكن التردد في تحقق موضوعه فيأمر الإمام (علیه السلام) بالإتيان بهذا كما لو أمر الإمام يوم الشك بوجوب الصوم فمرجع هذا ان ما ثبت في الشريعة من وجوب رمضان قد تحقق موضوعه فإن هذا اليوم من شهر رمضان.

وفي القسم الأول تجب الطاعة بلا إشكال وفي الثاني تجب الطاعة لله تعالى لا للإمام بما انه صدر عنه الا إذا كان عن تقية فلا، والأمثلة كثيرة نحو سألت الإمام عن الصلاة خلف العثمانية في البصرة فجوّز لي فرجعت إلى الفضيل بن يسار فأخبرته فقال: لقد اتقاك فتركتُ قول الإمام (علیه السلام)(1).

اما القسم الثالث فيعتمد على الطريق فإن كان مستنداً إلى طريق يحصّل القطع بالمؤدى وتحقق الموضوع كالحس والرؤية بالنسبة للهلال فهو وان كان مستنداً إلى طريق نحتمل خطأه فلا.

والذي نحن فيه -أي ثبوت الهلال- من القسم الثالث فإن المفروض شهادة عدلين برؤية الهلال وكانت الشهادة اما قبل الزوال أو بعده وقد

ص: 115


1- عن علي بن سعيد البصري قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) إني نازل في بني عدي ومؤذنهم وإمامهم وجميع أهل المسجد عثمانية يتبرأون منكم ومن شيعتكم وأنا نازل فيهم فما ترى في الصلاة خلف الإمام؟ قال: صل خلفه قال: واحتسب بما تسمع ولو قدمت البصرة لقد سألك الفضيل بن يسار وأخبرته بما أفتيك فتأخذ بقول الفضيل وتدع قولي، قال علي: فقدمت البصرة فأخبرت فضيلاً بما قال فقال: هو أعلم بما قال ولكني سمعته وسمعت أباه يقولان لا تعتد بالصلاة خلف الناصب اقرأ لنفسك كأنك وحدك قال: فأخذت بقول الفضيل وتركت قول أبي عبد الله (علیه السلام)) (تهذيب الأحكام/ ج3)/ ص461، كتاب الصلاة، باب أحكام الجماعة،ح7.

صرحت الرواية (1)

بذلك ويمكن استفادتها من عدم أمر الإمام ابتداءًفهذا يعني انه اعتمد على طريق وحجة وليس على الحس وإلا لأمرهم ابتداءً بالإفطار فيحصل العلم ان الإمام قد اعتمد على حجة معتبرة.

ونفس الشيء يعتقده عامة الناس في مرجع التقليد والحاكم الشرعي حينما يقول هذا حلال وهذا حرام انه اعتمد على الحجج والطرق لا القطع الوجداني.

فما ذكرناه من النزاع في هذا الأمر هل انه صادر عن الإمام بصفته ولياً مطلقاً أو كونه ولياً للأمور العامة مما لا أساس له لكليهما فإن الظاهر ان الأمر إرشاد لبيان تحقق الموضوع بالاعتماد على طريق معتبر بعد غض النظر بأن الإمام له ذلك(2) فلا بد ان يقال ان حكم الحاكم المستند إلى البينة حجة كما عن المدارك لكن مبناه غير صحيح فإن الأمر إرشاد.

وكذا بالنسبة للأمر ان صدر عن غير المعصوم من الفقيه الجامع للشرائط ان هذا طاهر أو نجس أو فيه لحم خنزير(3)

ونحوه فإن حصل اطمئنان- كما هو الغالب للعوام في تقليدهم- فالاطمئنان حجة

اما ما جاء في الجزء الرابع من الطبعة الثانية (صفحة 152-154) ، فهو قوله

ص: 116


1- المراد بها صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (إذا شهد عند الامام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الامام بالافطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس، وإن شهدا بعد زوال الشمس أمر بافطار ذلك اليوم وأخر الصلاة إلى الغد فصلى بهم.) وسائل الشيعة: 10/ 275- 276.
2- قال الشيخ الأنصاري في المكاسب ج9/ص304 من طبعة النجف بتعليق المرحوم السيد محمد كلانتر (قدس سرّه) بأن من وظائف المجتهد النظر في الموضوعات المستنبطة وما تقدم منا من تقريبه على قاعدة اللطف.
3- أو ان غلاف الكبسولة المستعملة كدواء مصنوعة من مواد محرّمة.

(دامت بركاته):

ولمزيد من الفائدة نقول: إن الأوامر والنواهي المولوية:

(إما) أن تكون مستندة إلى الولاية العامة على الأنفس والأموال ويمثلون له عادة بما لو أمر زيداً أن يطلق زوجته وهو أمر غير معهود في سيرتهم (علیهم السلام)، نعم يمكن التمثيل له بنهي النبي (صلی الله علیه و آله) عن أكل الحمر الأهليةفي خيبر(1)

مثلاً أو النهي الوارد في رواية عمار الساباطي (قال أبو عبد الله (علیه السلام) لي ولسليمان بن خالد: قد حرّمت عليكم المتعة ما دمتم بالمدينة لأنكما تكثران الدخول عليّ وأخاف أن تؤخذا فيقال هؤلاء أصحاب جعفر)(2)

وكنهي هشام بن سالم عن المناظرات(3) وهذا النحو من الأمر تجب طاعته بلا إشكال.

ويتفرع عن هذه الولاية العامة ولاية الأمور العامة التي فيها حفظ نظام المجتمع وإقامة الحق والعدل، وهي التي تنتقل إلى الفقيه الجامع للشرائط دون الأولى الخاصة بالمعصوم (علیه السلام).

(أو) تكون تعبيراً عن بيان الحكم الفرعي الكلي في المسألة ففي بعض الروايات أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر من فاتته الصلاة أن يقضي، وأمرهم أن

ص: 117


1- صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب 28، ح 5528.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 5، ح5.
3- روى الكشي بسنده عن يونس قال: قلت لهشام: إن أصحابك يحكون أن أبا الحسن (علیه السلام) سرّح إليك مع عبد الرحمن بن الحجاج أن أمسك عن الكلام، وإلى هشام بن سالم، قال أتاني عبد الرحمن بن الحجاج وقال لي: يَقول لك أبو الحسن (علیه السلام): أمسك عن الكلام هذه الأيام فقال هشام: فأمسكتُ عن الكلام أصلاً حتى مات المهدي، وإنما قال لي هذه الأيام فأمسكت حتى مات المهدي) (اختيار معرفة الرجال: 2/542).

ينحروا في منازلهم وأن يأكلوا من أضاحيهم(1)

وأمر علي (علیه السلام) الناس ألا يجتمعوا في رمضان للنوافل(2)،

وفي بعض الروايات أمر (صلی الله علیه و آله) أن يطاف عنالمبطون والكسير(3)،

فهذه أوامر وردت لبيان الأحكام الشرعية لتلك المسائل من المشروعية وعدمها.

وهذا النحو من الأمر تجب طاعته أيضاً إلا إذا عُلم صدوره على غير جهة الحكم الواقعي وإنما للتقية(4)

ونحوها.

(أما) الأمر في المقام فقد ورد لبيان تحقق موضوع الرؤية ودخول الشهر؛ لشهادة عادلين بالرؤية فأمره بالإفطار إعلان لتحقق ما ثبت في

ص: 118


1- عن معاوية بن عمار (عن ابي عبد الله (علیه السلام) قال: أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) حين يُنحر ان يؤخذ من كل بدنة جذوة من لحمها ثم تطرح في برمة، ثم تطبخ فأكل رسول الله | وعلي (علیه السلام) منها وحسيا مرقها) وسائل الشيعة، كتاب الحج، ابواب الذبح، باب 40 ح11.
2- عن سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين (علیه السلام) فحمد الله وأثنى عليه.. إلى أن قال: والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة..) وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب نافلة شهر رمضان، باب 10 ح4.
3- عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (أمر رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يطاف عن المبطون والكسير). (تهذيب الأحكام: 5/836، كتاب الحج، الباب 9 في الطواف حديث 77).
4- كالذي رواه علي بن سعيد البصري قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إني نازل في بني عدي ومؤذنهم وإمامهم وجميع أهل المسجد عثمانية يتبرأون منكم ومن شيعتكم وأنا نازل فيهم فما ترى في الصلاة خلف الإمام؟ قال: صلّ خلفه، قال: واحتسب بما تسمع ولو قدمت البصرة لقد سألك الفضيل بن يسار وأخبرته بما أفتيك فتأخذ بقول الفضيل وتدع قولي، قال علي: فقدمت البصرة فأخبرت فضيلاً بما قال فقال: هو أعلم بما قال ولكني سمعته وسمعت أباه يقولان لا تعتد بالصلاة خلف الناصب اقرأ لنفسك كأنك وحدك، قال: فأخذت بقول الفضيل وتركت قول أبي عبد الله (علیه السلام)) (تهذيب الأحكام: 3/ 461، كتاب الصلاة، باب أحكام الجماعة، ح7).

الشريعة من طرق ثبوت الهلال، والشاهد على أن الأمر هنا على هذا النحو تأخر الإمام بالإعلان عنه إلى نهار اليوم التالي حين جاءته البينة يعني أنه اعتمد على حجة معتبرة، ولم يكن أمراً مولوياً ولو كان كذلك لابتدأهم به.

فالأمر هنا كاشف عن تحقق موضوع الحكم الشرعي وهو طريق لتحصيل العلم به فلا يؤخذ به إلا مع الاطمئنان لصحة الطريق وهو ما يعتقده عامة الناس في مرجع التقليد لذا فإنهم يأخذون بقوله.

المسألة الثانية: إلزامية بعض الافعال ضمن فعل مستحب.

نحن نعلم ان بعض الاحكام الشرعية تكون تكليفية تجب طاعتها ، ويؤثم المكلف على مخالفتها ، وبعضها الاخر تكون إرشادية كأن تكون اخبارًا عن جزئية جزء ، او مانعية مانع ، او شرط صحة او فساد ، او ما شابه ذلك.

ومن المعروف ان الاحكام التكليفية تقتصر على خمسة وهي: الوجوب ، والحرمة ، والاستحباب ، والكراهة ، والإباحة. اما الاحكام الإرشادية فلا حصر لها.

ومن الراسخ في اذهاننا ان أجزاء الواجب واجبة ، وأجزاء المستحب مستحبة.

ولكن الشيخ الاستاذ (دامت بركاته) ذكر في الجزء الثالث (صفحة 425) في مسالة مفطرية رمس الرأس في الماء إمكانية تصور جزء واجب او محرم ضمن فعل مستحب اذا توفرت شروط معينة ، حيث قال (دامت بركاته):

يمكن تصوُّر حرمة فعل أو وجوب آخر في الفعل المستحب حينما يلحظ ظرف استمرار الشخص بإتيانه والتزامه بإتمام العمل وإن كان قادراً على ترك العمل من أساسه وأمثلته في الشريعة كثيرة كالمحرمات على المعتكف في اليومين الأولين وهو فعل مستحب، قال (قدس سرّه): «الظاهر أن

ص: 119

المحرمات المذكورة مفسدة للاعتكاف من دون فرق بين وقوعها في الليل والنهار، وفي حرمتها تكليفاً إذا لم يكن واجباً معيَّناً ولو لأجل انقضاء يومين منه إشكال، وإن كان أحوط وجوباً»(1).

المسألة الثالثة: الكراهة بالمعنى الاعم.
اشارة

الكراهة حكم تكليفي يعني وجود حزازة ومفسدة في الفعل ، ولكنها لا تصل الى حد المنع.

وبمعنى اخر فالكراهة تعني المرجوحية ولكن بحد دون المنع.الا ان الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ذكر في الجزء الثالث (صفحة 170) في مسالة احكام الصوم في السفر ان هذا المعنى هو المعنى الأخص للكراهة ، ويوجد للكراهة معنى اعم وهو ترك الأفضل لأجل فعل المفضول او ما يعبر عنه بترك الأولى ، فكراهة الفعل بهذا المعنى لا تعني مرجوحيته بحد ذاته ، قال (دامت بركاته):

ونشير هنا إلى فوائد مرتبطة بالمسألة:

(الأولى): في المراد بالكراهة التي قرن المشهور حكم الجواز بها، فهل المراد بالكراهة المعنى الأخص أي المرجوحية؟ أم أن الحكم هو أفضلية الإقامة فلو سافر يكون قد ارتكب الكراهة بالمعنى الأعم أي تقديم عمل مستحب على آخر أفضل منه في مورد التزاحم بين مستحبين، أي ترك الأولى ؟

ص: 120


1- منهاج الصالحين: ط29، ج1، ص292، المسألة 1080.
المسألة الرابعة: مدخلية العلم بإرادة المولى في تنجيز الحكم.

تذكر كتب الأصول ان الحكم الشرعي له مراتب متعددة منها:

1- الملاك.

2- الإرادة.

3- الاعتبار.

4- الفعلية بتحقق الموضوع.

5- المنجزية الحاصلة بالعلم بفعلية الحكم.

وقد نوقشت مسالة إمكانية تنجز الحكم بمجرد العلم بالملاك او الإرادة ، او ان المنجزية موقوفة على العلم بإنشاء الحكم وفعليته.

وفي الجزء الخامس (صفحة 316-317) في مسالة زكاة أموال التجارة يبين سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) رأيه في هذه المسالة ، فيذكر ان مجرد العلم بارادة المولى وان كانت تنجز الحكم على المستوى الأخلاقي ولكن التنجيز القانوني للحكم الشرعي لا يتحقق الابالعلم بإنشاء الحكم وفعليته ، حيث قال (دامت بركاته):

الخامس: «ورد في أخبار مستفيضة أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) وضع الزكاة على تسعة وعفا عما سواها والعفو لا يكون إلا مع وجود المصلحة والمقتضي، فيظهر من ذلك وجود المصلحة في تزكية كل شيء، فيثبت الاستحباب لوجود الملاك وإنما رفع الإلزام تسهيلاً»(1).

وفيه مع حُسنه على المستوى الأخلاقي فقد ورد في دعاء (يا من تُحل به عُقد المكاره) عن الإمام السجاد (علیه السلام): (ومضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيئتك دون قولك مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة).

فالعلم بإرادة المولى وإن لم تبلغ مرحلة الجعل والإنشاء كافية لتحريك

ص: 121


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله): 2/ 192.

المكلف نحو الطاعة، بشرط العلم بهذه الإرادة.

إلا أنه على مستوى القواعد المعمول بها يقال: إن الاستحباب حكم شرعي والأحكام لا تصل مرحلة التنجيز إلا بعد الإنشاء والفعلية، فرجحان الملاك وحده غير كافٍ للتحريك، مضافاً إلى أن الوجوب إذا سقط للعفو أو التخفيف فلا يلزم منه ثبوت الاستحباب، وإنما له حكمه الذي يثبت بالدليل فالتخفيف عن المسافر بقصر الصلاة لا يعني استحباب التمام، والتخفيف عن المقاتلين عندما يتجاوز العدد الضعف قد يلزم منه حرمة القتال إذا كان انتحاراً وهكذا.

كما اننا ذكرنا كلامًا لسماحته في مبحث حقيقة الوجوب الكفائي يظهر منه ان مجرد العلم بالملاك لا ينجز الاحكام الشرعية ، وان وجوب الطاعة موقوف على صدور خطاب من المولى ، حيث قال (دامت بركاته):

وعلى أي حال فالوجوه التي قيلت لتفسير الوجوب الكفائي هي:

(التفسير الأول) بأن «لا يكون للوجوب الكفائي إلا طرف واحد وهو المكلف به المتعلق به الإيجاب، وأما بلحاظ المكلفين فلا طرف له أصلاًفهو إيجاب للفعل دون أن يلحظ في جعله مكلف أصلاً»(1).

وفيه:-

1- فقده لأحد مقومات الطلب وهو المطلوب منه، فلا طلب حقيقة بدونه؛ لأنه نسبة لا تتقوم إلا بأطرافها، فإذا لم يكن هناك مكلف فمن هو المخاطب بالوجوب، وفي عهدة مَنْ يُلقى الواجب؟.

2- ولو تنزّلنا وقلنا بإمكانه ولو بتقريب إمكان تصوره على مستوى

ص: 122


1- بحوث في علم الأصول: 2/423، وهي تقريرات السيد محمود الهاشمي لبحوث السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه).

مبادئ الحكم كمرتبة الملاك أو الحب والبغض أو الإرادة فإنه في هذه المراتب يمكن تصوره لكفاية وجود الحب والمحبوب، أو المريد والمراد ولا مدخلية لمن يتحقق به المراد، وحينئذٍ يقال بكفاية هذا التحقق لألقائه في عهدة المكلفين واشتغال ذممهم به لحكم العقل بوجوب طاعة المولى في هذه المرتبة.

أقول: هذا التقريب تصور نظري فقط لأن خطابات الواجب الكفائي موجودة-ومنها ما نحن فيه- فنقل الكلام إلى مبادئ الحكم لا موضوع له، مضافاً إلى عدم تمامية كبرى حكم العقل، للعجز عن اكتشاف إرادة المولى وحبّه وبغضه قبل أن يبرزه بالخطاب «تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ» (المائدة:116)، ولو تنزّلنا فإنه غير كافٍ لعدم وجوب الطاعة حتى يصدر الخطاب فلا وجه لاشتغال ذمم المكلفين به.

المسألة الخامسة: سقوط الوجوب لا يثبت الاستحباب.

الثابت في علم الأصول ان الاحكام الشرعية التكليفية متضادة فيما بينها ، وان لكل منها ملاكا يختلف عن الاخر ، فالوجوب حكم شرعي مضاد للاستحباب ، ولا يُقبل قول من يرى ان الاستحباب اذا اشتد يمكن ان يصبح وجوبًا ، وان الوجوب اذا خُفف يصير استحبابًا ، فكلحكم من هذه الاحكام لا يثبت الا بجعله مستقلا.

وقد أشار سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) الى هذه الحقيقة في عبارته السابقة وهي:

أن الوجوب إذا سقط للعفو أو التخفيف فلا يلزم منه ثبوت الاستحباب، وإنما له حكمه الذي يثبت بالدليل فالتخفيف عن المسافر بقصر الصلاة لا يعني استحباب التمام، والتخفيف عن المقاتلين عندما يتجاوز العدد

ص: 123

الضعف قد يلزم منه حرمة القتال إذا كان انتحاراً وهكذا.

وفي مبحث التسامح في ادلة السنن ذكر سماحته ان الدليل غير المعتبر الذي يكون مفاده الوجوب لا يمكن ان نعتبره دالا على الاستحباب ؛ لان الاستحباب ليس مرتبة من مراتب الوجوب فاذا لم تثبت المرتبة الأعلى ثبتت الأدنى كما قد يتوهم البعض ، ونص عبارته (دامت بركاته) هي:

إن الأخبار خاصة ببلوغ الثواب على فعل شيء ولا تشمل كل ما ورد في طلب فعل معين ما لم يقترن بذكر الثواب ليكون صغرى لأخبار (من بلغ).

فليس صحيحاً إجراؤهم القاعدة في كثير من الأخبار غير المعتبرة التي تطلب فعلاً معيناً أو تنهى عن فعل معين ولما لم يمكن استنباط حكم إلزامي منهما لعدم اعتبار الدليل فإنهم يحملونهما على الحكم غير الإلزامي.

ووجه عدم الصحة: ما تقدم من عدم تحقق صغرى أخبار (من بلغ) ولأن الأمر ظاهر في الوجوب، والنهي ظاهر في الحرمة، فإذا سقطت الرواية عن الاعتبار فلا وجوب ولا حرمة، ولا ينتقل الظهور إلى الاستحباب والكراهة إلا بالقرائن.

نعم، على مذهب من قال بأن الوجوب مركّب من جنس وفصل هما الشيء والنهي عن تركه يمكن القول بحلول الاستحباب محل الوجوب باعتبار سقوط الفصل من التعريف وهو النهي عن الترك فيبقى الجنسوهو طلب الشيء الذي يحمل على الاستحباب.

لكن هذا مردود بعدم مساعدة العرف عليه لأن الوجوب بسيط أما النهي عن الترك فيستفاد من الإطلاق وليس من الوضع، ولو قلنا بالتركيب فإن الجنس يسقط أيضاً كالفصل عند عدم اعتبار الدليل، فعلى مختارهم لا بد من وجود طلب استحبابي ولو ضعيف ليكون صغرى لهذه القاعدة ولا يكفي مطلق الطلب.

ص: 124

المسألة السادسة: دلالة الأوامر على الاحكام الوضعية.

يوجد بحث في علم الأصول في ان الاحكام الوضعية مجعولة على نحو الاستقلال ام انها منتزعة من الاحكام التكليفية ؟ وبغض النظر عن هذا البحث فان الجميع متفق على ان هناك أحكاما وضعية منتزعة من الاحكام التكليفية كالجزئية والشرطية والمانعية ، وقد أشار سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) الى هذا المطلب مبينًا ان الامر اذا تعلق بشيء مرتبط بعبادة او معاملة عرفنا ان ذلك الشيء شرط في صحة تلك العبادة او المعاملة ، كما ان النهي يفيد المانعية.

فليس كل امر او نهي يعني ان الحكم تكليفي ، ففي مثل هذه الصور نستفيد أحكامًا وضعية من الأوامر والنواهي.

وقد جاء هذا الكلام في الجزء الثالث (صفحة 228) في مسالة مفطرية رمس الرأس في الماء ، حيث قال (دامت بركاته):

إن العرف يفهم من الأمر بشيء مرتبط بعبادة أو معاملة شرطيته في الصحة ومن النهي تأثيره في الفساد «بقرينة كون المقصد الأهم للشارع بيان الصحة والفساد، حتى صار ذلك من تفاهم أهل العرف في خطاب المتعلق بعبادة أو معاملة مما يوصف بالصحة والفساد، وعليه بنوا كثيراً منالشرائط والموانع كما لا يخفى على المتتبع»(1).

وقد بيّن سماحته (دامت بركاته) في موضع اخر من الجزء الثالث (صفحة 437) ان ما ذكرناه وان كان هو الأصل والقاعدة ولكن في بعض الأحيان يتعذر حمل هذه الأوامر او النواهي على الحكم الوضعي فنحملها عندئذ على الحكم التكليفي ، حيث قال (دامت بركاته):

إن الأصل في الأوامر والنواهي في مقام بيان الماهيات ما ذكر إلا أنها

ص: 125


1- جواهر الكلام: 16/228.

يمكن حملها على الأحكام التكليفية كالحرمة والوجوب إذا تعذر حملها على الوضعية كما استدل أصحاب هذا القول، وأمثلته في الفقه كثيرة كجملة من تروك الإحرام ومنها النظر في المرآة.

المسألة السابعة: الاستحباب والكراهة الوضعيان.
اشارة

مما ألفناه واعتدنا عليه في دراستنا لعلم الأصول ان كلاً من الاستحباب والكراهة حكمان تكليفياًن ، ولكن هناك ما يسمى بالاستحباب الوضعي والكراهة الوضعية ، وقد بيّن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) معنى هذين المصطلحين:

الاستحباب الوضعي

بحث الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الاول من موسوعة فقه الخلاف مسالة نجاسة الخمر ، وأورد هناك طائفتين من الروايات ، أُستدِل بالأولى على نجاسة الخمر ، واستدِل بالثانية على طهارته ثم ناقش تلك الروايات وبيّن خمسة مراتب لعلاج التعارض بينهما ، وكانت المرتبة الثالثة منها هي محاولة الجمع العرفي بين الطائفتين ، وذكر سماحته عدة تقريبات للجمع العرفي ، وجاء شرح معنى الاستحباب الوضعي في التقريب الأول منها (صفحة 208 - 209) ، ونص كلام سماحته هو:(التقريب الأول) ما سبق من حمل روايات الطائفة الأولى على التنزيه ورفع الحزازة من النفس وعدم وجود ما يمنع من حمل روايات الطائفة الأولى على هذا المعنى، وأيّدناه بموارد مشابهة له وذكرنا جملة من القرائن على هذا الحمل.

وهو استحباب مولوي بحمل ما ورد من الأمر بالغسل في الطائفة الأولى

ص: 126

على الاستحباب وهو أيضاً استحباب وضعي إرشادي لإزالة التنفّر والحزازة من النفس، بقرينة قوله (علیه السلام) في صحيحة علي بن رئاب: (صلِّ فيه إلا أن تقذره فتغسل منه موضع الأثر) وفي خبر الحسن بن أبي سارة (إلا أن تشتهي أن تغسله لأثره) (1).

وتؤيد بقرائن أخرى على التنزيه كوحدة السياق في موثّقة عمار (2)

فإن صدرها محمول على التنزيه قطعاً، وبقرينة الإضافة على موثّقة عمار بنقل الشيخ الطوسي (قدس سرّه) في التهذيب وفيها: (أنه سأله عن الإناء يُشرب فيه النبيذ فقال: تغسله سبع مرات وكذلك الكلب)(3)

بتقريب أنه من غير المحتمل أن يكون حكم النبيذ أشد من حكم الخمر التي وصفها القرآن بأنها رجس.

وورد مثل هذا الاستحباب الوضعي في خبر علي بن أبي حمزة عن عرق الجنب قال: (سُئل أبو عبد الله (علیه السلام) وأنا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه، فقال: ما أرى به بأساً، قال: إنه يعرق حتى لو شاء أن يعصره عصره، قال: فقطّب أبو عبد الله (علیه السلام) في وجه الرجل فقال: إن أبيتم فشيءمن ماء فانضحه به)(4).

ولدفع الاستغراب عن مثل هذا الاستحباب الذي صدر من السيد الخوئي (قدس سرّه) في مسألة سابقة نقول إنه يشبه النصيحة الطبية أو الاجتماعية وهو

ص: 127


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 38، ح2، ح12.
2- موثقة عمار عن ابي عبد الله (علیه السلام): (قال: لا تصل في بيت فيه خمر ولا مسكر ، لان الملائكة لا تدخله ، ولا تصل في ثوب قد أصابه خمر او مسكر حتى تغسله). وسائل الشيعة: 3/ 470.
3- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرمة، باب 30، ح2.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 27، ح4.

يقترن باستحباب شرعي بحسب الدليل الدال عليه أو لا يقترن وموارده في الفقه كثير كعرض الإنسان نفسه على الخلاء قبل النوم وعدم النوم ممتلئاً واختيار المرأة الحسناء والبيضاء في الزواج فإننا لا نتوقع أن الإنسان يؤجر لمجرد أنه تزوّج امرأة حسناء أو كشف عن امرأة بيضاء أو طمثت بنته وهي في بيت زوجها -وهي معانٍ وردت في أحاديث شريفة- فالاستحباب هنا وضعي إرشادي، نعم قد يحصل على الأجر إذا توفّرت عناوين أخرى..

الكراهة الوضعية

جاء في الجزء الثالث (صفحة 437) ضمن البحث في مسالة مفطرية رمس الرأس في الماء الكلام عن الكراهة الوضعية تحت عنوان الفات نظر في ضمن مناقشة لكلام السيد محسن الحكيم (قدس سرّه) ، ونص كلام الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في معنى الكراهة الوضعية هناك هو:

ويمكن أن أذكر هنا معنى للكراهة الوضعية لكنه لم يَدُر في خلد السيد الحكيم (قدس سرّه) قطعاً ولا هو مناسب للانطباق على محل البحث ولكنه معنىً للعنوان فأقول فيه: إن الكراهة الوضعية هي حكم المورد الذي تتحقق فيه مفسدة وضعية لم تبلغ حداً ينطبق عليه حكم إلزامي ولم يرد فيه دليل شرعي على الكراهة حتى يدخل ضمن الأحكام الإلزامية؛ كالتدخين الذي ثبتت فيه عدة مفاسد صحية واقتصادية واجتماعية ولكنها لم ترقَ إلىمستوى الإفتاء بحرمته، وكموارد التقبيح العقلي التي لا تصل إلى مستوى ملزم.

ص: 128

المسألة الثامنة: الفرق بين الفساد والبطلان.

بما ان الاحكام الوضعية كثيرة جدا ، ولا حصر لها ؛ لم نجد في الكتب الأصولية من افرد لكل منها عنوانا خاصا لبيان معنى ذلك الحكم والفرق بينه وبين غيره من الاحكام الوضعية الأخرى.

ومن هذا المنطلق لم نجد من فرّق بين الفساد والبطلان حتى ان الكثير يعتقد انهما لفظان مترادفان ، ولكن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ذكر في الجزء السابع في مسالة الفاصل الزماني بين عمرتين مفردتين (صفحة 441) تفريقا بينهما ، ومما يزيد من أهمية هذا التفريق وجود الأثر العملي المهم الذي يترتب عليه ، حيث قال (دامت بركاته):

ان الفرق بين الفساد والبطلان –بحسب فهمي- أن الفساد منشأه وجود مانع أو انخرام شرط مع بقاء المقتضي لكمال العمل وصحته فيمكن إتمامه بإزالة المانع أو توفير الشرط. أما البطلان فمنشأه خلل في المقتضي فيكون قاصراً عن بلوغ الصحة والتمام.

المسألة التاسعة: بقاء الوجوب حتى مع انعدام موضوعه.

عرفنا فيما سبق ان للأحكام الشرعية ملاكاتٍ وأغراضًا ، ومما يبني عليه المشهور ان الغرض من الامر هو إيجاد متعلق الامر خارجًا ؛ فَلَو انعدم الموضوع سقط الامر. ولكن الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) يذهب الى ان هذا الكلام قد يكون صحيحا اذا كان ملاك الحكم الشرعي واحداً ، اما اذا كان الملاك متعددا فقد يبقى الغرض من الحكم الشرعي موجودا وان انعدم موضوعه ، بل ترّقى اكثر من ذلك وذهب الى انه حتى على رأي المشهور من وحدةالملاك قد يبقى الغرض مع انعدام موضوع الحكم ، حيث قال (دامت بركاته) في الجزء الثامن (صفحة 404):

ص: 129

وقد ذكروا في موارد هذا الشرط سقوط الأمر والنهي عند انعدام الموضوع.

قال السيد الخميني (قدس سرّه): «لو عُدم موضوع الفريضة أو موضوع المنكر سقط الوجوب وإن كان بفعل المكلف، كما لو أراق الماء المنحصر الذي يجب حفظه للطهارة أو لحفظ نفس محترمة»(1).

أقول: هذا صحيح بناءً على فهم المشهور من كون غرض الأمر والنهي إيجاد متعلقهما في الخارج، أما بناء على ما اخترناه من تعدد أغراض الفريضة كإظهار الغضب لله أو لخلق أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر فإن الوجوب قائم، بل لا يبعد الوجوب بناءً على المشهور ولكن بعنوان الإرشاد أو تعليم الحكم أو الموعظة أو النهي عن إعادة مثلها ونحو ذلك بحسب حال الفاعل من العلم والجهل والعمد والإصرار.

المسألة العاشرة: تأثير الزمان والمكان على الحكم الشرعي.

ذهب البعض من الأصوليين الى ان الاحكام الشرعية يمكن ان تتغير بتغير الزمان والمكان: فلكل زمان حكمه الخاص به ، ولكل مكان حكمه كذلك ، ومن هنا فقد تكون بعض الاحكام خاصة بصدر الإسلام ولا بقاء لها في زماننا هذا ، كما ان بعض الاحكام قد تكون خاصة بمكان معين وبيئة خاصة ولا تجري في أماكن وبيئات أخرى.

وقد أشار سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) الى هذه المسالة في الجزء العاشر (صفحة 32-34) في ضمن الكلام عن احتمالية اختصاص الحكم بتصوير ذوات الأرواح بزمان صدر الاسلام موضحا ان القول باختصاص

ص: 130


1- تحرير الوسيلة: 1/419، مسألة (8).

الحكم بزمان ما يحتاج الى قرائن وأدلة ، حيث قال(دامت بركاته):

اختصاص الحكم بزمان صدر الإسلام لنكتة خطرت في البال قبل أكثر من عشرين عاماً كمثال على أطروحة قدمتها إلى السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) أسميتها في حينها ب«فهم ما وراء النص» كعامل مؤثر في استنباط الحكم من النصوص واستظهاره والذي بدأ يثار بعد ذلك بسنين في حوزة قم المقدسة تحت عنوان (تأثير عاملي الزمان والمكان) وعند البعض باسم (فلسفة الفقه) وقلت فيه بما يناسب ثقافتي الفقهية والفكرية يومئذٍ: «حرّم الفقهاء تصوير ذوات الأرواح مطلقاً بناءً على عمل النبي (صلی الله علیه و آله) وهو ظاهر النصوص ولكن بمساعدة فهم الظروف والملابسات المحيطة بالحكم كالفترة التأريخية للحكم وكون النبي (صلی الله علیه و آله) قائد ثورة تغييرية لمجتمع ذي تقاليد جاهلية معينة ونحو ذلك نقول بالاستفادة من ذلك نفهم أن الهدف منه هو قطع دابر الوثنية وعبادة الأصنام، أما اليوم وبعد أن أصبحت الأصنام المعبودة من دون الله تعالى من غير الحجارة والخشب والمواد الأخرى فيظهر أن حكم التحريم يجب أن يعاد النظر فيه حيث أصبح الهدف من تجسيم ذوات الأرواح أموراً أخرى غير محرمة كالزينة وتخليد العظماء ولعب الأطفال»(1).

وقد علّق عليه السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) بقوله: «هذا مرفوض فقهياً لأن النص الناهي عن التماثيل يحتوي على ما يسمى «بالإطلاق الزماني» يعني شموله لكل زمان حتى زماننا هذا ولو كان معللاً بما في كلامكم لأمكن التجاوز عن الحكم مع زوال العلة، وهو أمر صحيح أصولياً، إلا أنه غير معلل لفظياً وإنما العلة المذكورة أمر ذهني مفروض على النص

ص: 131


1- الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه، طبعة قم: 171.

من الخارج».

أقول: يمكن أن نؤيد استنباط هذه العلة بخبر عمرو بن جميع قال:(سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الصلاة في المساجد المصوّرة، فقال: أكره ذلك ولكن لا يضرّكم ذلك اليوم، ولو قد قام العدل لرأيتم كيف يصنع في ذلك)(1) لكن ضعف الخبر يجعل ما ردّ به (قدس سرّه) صحيحاً مضافاً إلى ما يمكن أن يقال من النقض عليه ببعض النصوص التي صدرت عن أئمة متأخرين كالإمام الصادق (علیه السلام) ولم يكن ذلك الاحتمال موجوداً لظهور أمر التوحيد وإنما ضعفنا هذا الرد الثاني باعتبار أن عودة عوام الناس إلى عبادة هياكل القديسين والأنبياء والأولياء العظام من دون الله تعالى واتخاذها وسائط للفيض الإلهي أمر يسير ويجد استجابة لدعوته.

ولكن الفكرة -أعني تأثير الزمان والمكان وجملة من العوامل وراء النص أي التي لا تظهر من ألفاظه- صحيحة ودلّت عليها عدة روايات ففي نهج البلاغة أنه سُئل أمير المؤمنين (علیه السلام) عن قول الرسول (صلی الله علیه و آله): (غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود) فقال (علیه السلام): (إنما قال (صلی الله علیه و آله) ذلك والدين قُل، وأما الآن وقد اتسع نطاقُه، وضربَ بجرانه، فامرؤٌ وما اختار)(2).

وروى الصدوق (رضوان الله عليه) في كتاب إكمال الدين بسنده عن محمد بن جعفر الأسدي قال: كان فيما ورد عليّ من الشيخ محمد بن عثمان في جواب مسائلي إلى صاحب الزمان (علیه السلام): (وأما ما سألت عنه من أمر المصلي والنار والصورة والسراج بين يديه هل تجوز صلاته؟ فإن الناس اختلفوا في ذلك قبلك، فإنه جائز لمن لم يكن من أولاد عبدة الأصنام

ص: 132


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساجد، باب 15، ح1 عن الكافي والتهذيب.
2- نهج البلاغة، ج4، صفحة 5.

والنيران أن يصلي والنار والصورة والسراج بين يديه، ولا يجوز ذلك لمن كان من أولاد عبدة الأصنام والنيران)(1).

وفي الفقيه عن عمر بن أذينة عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: سألتهعن المريض كيف يسجد؟ فقال: (على خُمرةٍ أو على مروحة أو على سواك يرفع إليه، وهو أفضل من الإيماء، إنما كره من كره السجود على المروحة من أجل الأوثان التي كانت تُعبد من دون الله، وإنّا لم نعبد غير الله قط، فاسجدوا على المروحة وعلى السواك وعلى عود)(2)

ومن مصاديقها الأحكام التي صدرت بالولاية، واكتشاف هذه العوامل المؤثرة لا يكون بالظن والاستحسان والقياس وتنقيح المناط ونحوها من الطرق غير المعتبرة، بل لا بد من قرائن معتبرة على هذا الحمل والتفصيل موكول إلى محله من علم الأصول.

المسألة الحادية عشرة: جعل الاحكام على نحو القضية الحقيقية.

من المسائل المبحوثة في علم الأصول ان الاحكام الشرعية مجعولة على نحو القضية الحقيقية التي يكون موضوعها مقدر الوجود ام على نحو القضية الخارجية التي يكون موضوعها محقق الوجود ؟ وقد ذهب سماحة الشيخ الأستاذ مع المشهور في كون اغلبها مجعولة على نحو القضية الحقيقية ، وقد جاء ذلك في الجزء الأول (صفحة 229) في مسالة طهارة الكحول ، اذ قال (دامت بركاته):

والقولان الثالث والرابع وإن اختلفا مفهوماً إلا أنهما متّحدان مصداقاً فإن ما تعارف شربه هو ما يسمى خمراً عرفاً، لكن دليل السيد الخوئي (قدس سرّه)

ص: 133


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 30، ح5.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب ما يسجد عليه، باب 15، ح1.

على هذه النتيجة مختلف عن دليلنا فإنه لمّا كان دليله على النجاسة صحيحة علي بن مهزيار بعد تساقط الطائفتين المتعارضتين أفاد في تقريب الاستدلال «بأن الصحيحة إنما دلّت على نجاسة خصوص النبيذ المسكر» «ولا دلالة لها على المدّعى وهو نجاسة كل مسكر وإن لم يتعارف شربه» ولم يعتمد على غيرها «مما ورد في نجاستها لابتلائهابالمعارض»و «أن المسكر ينصرف إلى المسكرات المتعارف شربها وأما ما لم يتعارف شربه بين الناس أو لم يمكن شربه أصلاً - وإن كان يوجب الإسكار على تقدير شربه- فهو أمر خارج عن إطلاق المسكر في الموثقة - أي موثّقة عمار- ولا سيما بلحاظ عدم تحققه في زمان تحريم الخمر والمسكر لأنه إنما وُجدَ في الأعصار المتأخرة» ويقصد (قدس سرّه) «المادة الألكلية المعروفة بالسبرتو» فهو (قدس سرّه) يعلم أن انصراف المطلق إلى فرد لا يقيّده به وهو ما بنى عليه في علم الأصول إلا أن يدّعى ظهوره فيه وانصرافه عمّا سواه فقال (قدس سرّه): «فدعوى انصراف المسكر عن مثله - أي المسكر غير المتعارف شربه- ليست بمستبعدة».

وفيه:

1- إن الأحكام الشرعية مأخوذة على نحو القضايا الحقيقية لا الخارجية، فما دام الموضوع - وهو المسكر- منطبقاً على المادة المستحدثة جرى عليها حكمه وإن لم تكن معروفة في زمن صدور النصّ.

المسألة الثانية عشرة: فتوى الفقيه وحكم الحاكم الشرعي.

ركزت الأبحاث الأصولية على بيان قواعد استنباط الاحكام الشرعية من أدلتها المعتبرة ؛ لان هذا هو الغرض من علم الأصول. اما ما يصدر عن الفقهاء من فتاوى فهو استنباط لذلك الحكم الشرعي من أدلته المعتبرة.

ص: 134

ولكن هناك ما يسمى بأحكام الحاكم الشرعي ، فان الفقيه لا يصدرها بما هو مفتٍ بل بما هو حاكم شرعي ، وهذه الاحكام لم يتم تسليط الضوء عليها وعلى قواعدها بالقدر الكافي.

ومما امتاز به بحث سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) هو إلقاء الضوء على هذا الموضوع ، حيث بيّن الفرق بين الفتوى وحكم الحاكم ، ثم ذكر اقسام احكام الحاكم الشرعي ، ومما ذكره (دامت بركاته) في الفرق بين الفتوى وحكم الحاكم ما جاء في الجزءالرابع (صفحة 137 - 140) في مسالة طرق ثبوت الهلال:

يمكن تلخيص الفروق بين الفتوى والحكم بأمور:-

1- من حيث طبيعتهما وموردهما، فإن الفتوى إخبار عن حكم الله تعالى في موضوع ما حتى لو كان افتراضياً باستنباطه من أدلته التفصيلية حتى لو كان بصيغة الجملة الإنشائية كمن سأل الإمام (علیه السلام) عن إناءين وقعت في أحدهما نجاسة فقال (علیه السلام) اهريقهما وتيمم وطبيعتها كلية حتى لو وردت في واقعة جزئية.

أما الحكم فهو إنشاء لرأي الحاكم في قضية معينة بإلزامٍ (كما لو أمر زيداً بدفع مال لعمرو) أو إطلاق (كما لو حكم بحرية زيد) إما قولاً وهذا واضح أو عملاً كما لو قام الحاكم وأطلق مسجوناً دليلاً على براءته من خلال إجراء وتطبيق القوانين والأحكام الشرعية على واقعة خاصة وإنفاذها حتى لو كان بصيغة الجملة الخبرية كما لو قال حكمت بكذا.

ولا يختص الحكم الإنشائي بالخصومات والمرافعات بل يشمل الأحكام العامة التي تتعلق بالمصالح العامة كالحكم بوجوب الجهاد أو إقامة صلاة الجمعة ونحو ذلك مما يرجع إلى حفظ النظام الاجتماعي العام.

وفي ضوء هذا -بغضّ النظر عن القول بالولاية العامة للفقيه- تعرف

ص: 135

الإشكال في كلام الشهيد الأول (قدس سرّه) حيث خصّ الحكم بمورد الخصومة فقال (قدس سرّه): «الفرق بين الفتوى والحكم مع أن كلاً منهما إخبارٌ عن حكم الله تعالى يلزم المكلف اعتقاده من حيث الجملة: أن الفتوى مجرد إخبار عن الله تعالى بأن حكمه في هذه القضية كذا والحكم إنشاء إطلاق أو إلزامٍ مما يتنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش»(1).اللهم إلا أن يريد بالخصومة معناها العام الشامل لاختلال النظام وهو مستفاد من بيانه لوجه التقييد بمصالح المعاش فقال «وبمصالح المعاش: تخرج العبادات، فإنه لا مدخل للحكم فيها، فلو حكم الحاكم بصحة صلاة زيد لم يلزم صحتها، بل إن كانت صحيحة في نفس الأمر فذاك، وإلا فهي فاسدة، وكذا الحكم بأن مال التجارة لا زكاة فيه أو أن الميراث لا خمس فيه، فإن الحكم به لا يرفع الخلاف بل لحاكم غيره أن يخالفه في ذلك، نعم لو اتصل بها أخذ الحاكم -للزكاة أو الخمس أي جبايتهما- ممن حكم عليه بالوجوب-مثلاً- لم يجز نقضه. فالحكم المجرد عن اتصال الآخذ إخبار، كالفتوى، وأخذه للفقراء حكم باستحقاقهم، فلا ينقض إذا كان في محل الاجتهاد.

ولو اشتملت الواقعة على أمرين: احدهما من مصالح المعاد والآخر من مصالح المعاش، كما لو حكم بصحة حج من أدرك اضطراري المشعر وكان نائباً، فإنه لا اثر له في براءة ذمة النائب في نفس الأمر، ولكن يؤثر في عدم رجوعهم عليه بالأجرة»، فالحكم يتضمن تطبيق الفتوى ويستند إليها.

ويترتب على هذا الفرق:-

أ- إن الحكم الشرعي في الفتوى ينسب لله تعالى، وفي الحكم

ص: 136


1- القواعد والفوائد للشهيد الأول، تحقيق السيد عبد الهادي الحكيم، القاعدة (114) ج1/ص320.

الاصطلاحي للحاكم.

ب- إن الفتوى هي الملزم بها والمنفذّة، والحكم هو الإلزام بها وآلة تنفيذها.

2- إن الفتوى يجوز نقضها للمجتهد الآخر في صورة ما إذا خالفه في المبنى والمستند، أي يشترط في نفوذ الفتوى تطابق المستند، ولا تجري على مقلّدي غيره، بخلاف الحكم فإنه ماضٍ في حقهما وإن اختلفت الفتوى ما لم ينكشف الخلاف ويحصل العلم بالخطأ. فعلى المجتهد الآخر الأخذ بالحكم ما دام صادراً من أهله وفي محله ولا يجب عليه الفحصعن صحة مستند الحكم، وكذلك على المقلد الأخذ بالحكم من دون الفحص عن الأعلمية مثلاً ونحوها من شرائط مرجع التقليد، بخلاف الفتوى فإنه لا يجوز للمجتهد الآخر الأخذ بها ما لم يفحص عن مستندها ويكون صحيحاً لديه ولا المقلد ما لم تكن من الأعلم.

والوجه في ذلك أن الغرض من الحكم المنع من حدوث الفوضى في المجتمع، وتوحيد المجتمع في رأي واحد وحكم واحد. وإذا كانت الفتوى تنقض الحكم، فلا يمكن أن تنقطع الفوضى في المجتمع، لاختلاف المجتهدين في الرأي غالباً، واختلاف مبانيهم في الفتوى.

ويترتب على هذا أن الفتوى تنقض بالحكم، ولا ينقض الحكم بالفتوى بمعنى أن حكم الحاكم لما كان واجب الالتزام به حتى على غير مقلديه، وهم قد يرجعون إلى مجتهد مختلف معه في الفتوى فسريان حكم الحاكم عليهم يعني نقض فتوى مرجعهم بهذا الحكم.

3- إن الفتوى ليست حجة في الموضوعات، إذ ليس للمفتي إلا أن يخبر عن الأحكام الشرعية الكلية، والمقلد هو الذي ينظر في الموضوعات، وأمر تشخيص الموضوعات موكول إلى نظر العرف دون المجتهد.

ص: 137

وذلك بعكس الحكم حيث يكون حجة في الموضوعات، فينفَذ حكم الحاكم في حرية شخص وكفر شخص وكون الأرض مسجداً أو غير ذلك.

فإذا حكم بحرية شخص، فلا يجوز شراؤه واستعباده وإذا حكم بكون الأرض مسجداً فلا يجوز شراؤه وبيعه وإهداؤه وغير ذلك، وبناءً على هذا فقد قال المشهور أنه إذا حكم بثبوت هلال شوّال فلا يجوز صوم ذلك اليوم؛ لأن حكم الحاكم يجري في الموضوعات.

قال الشهيد الأول (قدس سرّه): «وبالجملة فالفتوى ليس فيها منع للغير عن مخالفة مقتضاها من المفتي ولا من المستفتي، أما من المفتي فظاهر، وأمامن المستفتي فلأن المستفتي له أن يستفتي آخر، وإذا اختلفا عمل بقول الأعلم، ثم الأورع ثم يتخير مع التساوي.

والحكم لما كان إنشاءً خاصاً في واقعة خاصة رفعَ الخلاف في تلك الواقعة بحيث لا يجوز لغيره نقضها كما لو حكم حاكم بتوريث ابن العم، ومنع العم للأب، وفي المسألة خال، فإنه يقتضي بخصوصه منع حاكم آخر بتوريث العم والخال في هذه المسألة لأنه لو جاز له نقضها لجاز لآخر نقض الثانية.. وهلمّ جراً، فيؤدي إلى عدم استقرار الأحكام، وهو منافٍ للمصلحة التي لأجلها شرع نصب الحكام من نظم أمور أهل الإسلام، ولا يكون ذلك رفعاً للخلاف في سائر الوقائع المشتملة على مثل هذه الواقعة»(1).

وقال صاحب العروة الوثقى: «والفرق بينه وبين الفتوى أن الفتوى عبارة عن بيان الأحكام الكلية من دون نظر إلى تطبيقها على مواردها وهي -أي الفتوى- لا تكون حجة إلا على من يجب عليه تقليد المفتي بها، والعبرة

ص: 138


1- القواعد والفوائد: الجزء الأول ص 321-322.

في التطبيق إنما هي بنظره دون نظر المفتي. وأما القضاء فهو الحكم بالقضايا الشخصية التي هي مورد الترافع والتشاجر، فيحكم القاضي بأن المال الفلاني لزيد أو أن المرأة الفلانية زوجة فلان وما شاكل ذلك، وهو نافذ على كل احد حتى إذا كان احد المتخاصمين أو كلاهما مجتهداً»(1).

المسألة الثالثة عشرة: احكام الولي الفقيه.

ومما تميز به فقه الخلاف لسماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) بيان ماهية الاحكام التي تصدر عن الولي الفقيه ، فقد وجدنا ان تبنيه لمبدأ ولاية الفقيه قد انعكس على آرائه الفقهيةكما انعكس على التأصيل لهذه الاحكام ، وقد جاء في الجزء الحادي عشر (صفحة 62- 71) ضمن الكلام عن توريث أولاد الأولاد مع وجود الولد المباشر بيان لماهية حكم الولي الفقيه حيث قال (دامت بركاته):

(النحو الثالث) على صعيد الحكم الثانوي بأمر الولي الفقيه:

ولا نعني بهذا المستوى أن الفقيه ينطلق من المصلحة المشخّصة في إشراك أولاد الأولاد بالميراث فيأمر بذلك بالولاية –كما يظهر من بعض فقهاء العامة والقوانين الوضعية وستأتي الإشارة إليه-، فهذا المستند للولي الفقيه أثبتنا عدم صحته في بحث المشاركة في السلطة في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما نعني بالعنوان وجود المسوّغ الشرعي الذي يستند إليه الولي الفقيه ضمن صلاحياته كما سنبين إن شاء الله تعالى.

إذ أن من وظائف ولي الأمر مراعاة الإنصاف في تطبيق القوانين وتنفيذها؛ لأن العدالة التي روعيت في سنّها قد تحتاج في تطبيقها على

ص: 139


1- العروة الوثقى، أول كتاب القضاء.

مواردها إلى هذا التدخل أحياناً.

وبصياغة قانونية: إن الدين الإسلامي فيه مبادئ عامة ككلمة التوحيد وتوحيد الكلمة وكرامة الإنسان وحقه في الاختيار والعدالة والإحسان ومراعاة الفطرة الإنسانية وحقوق الإنسان وهذه بمثابة الدستور، وفيه قوانين وأحكام شرعية تفصيلية تسمى الشريعة، ويشترط في القوانين والأحكام أن لا تخالف مبادئ الدستور، والولي الفقيه هو القيّم على هذه الحالة المراقب لها، وهي من وظائفه.

ولبيان هذه الفكرة الرائدة في الاستنباط الفقهي أنطلق من أساسين قرآنيين:

أولهما: ما ورد في الروايات في تفسير قوله تعالى: «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ،فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً» (الأنبياء: 78-79).

فقد روى الكليني في الكافي بسنده عن أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قول الله عز وجل: «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ» فقال: لا يكون النفش إلا بالليل، إن على صاحب الحرث أن يحفظه بالنهار، وليس على صاحب الماشية حفظها بالنهار، وإنما رعيها بالنهار وأرزاقها، فما أفسدت فليس عليها، وعلى صاحب الماشية حفظ الماشية بالليل عن حرث الناس، فما أفسدت بالليل فقد ضمنوا، وهو النفش، وإن داوود (علیه السلام) حكم للذي أصاب زرعه رقاب الغنم، وحكم سليمان (علیه السلام) الرِسل والثَلَّة، وهو اللبن والصوف في ذلك العام»(1).

وفي مجمع البيان: «قيل: (كان كرْماً وقد بدت عناقيده، فحكم داوود

ص: 140


1- راجع مصادر الروايتين وغيرهما في تفسير البرهان: 6/290-291.

(علیه السلام) بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان (علیه السلام): غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: يُدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها، حتى إذا عاد الكرم كما كان ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله) قال: روي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (‘»).

أقول: ما حكم به داوود (علیه السلام) كان مقتضى العدل والضمان وبه جاءت شريعة الأنبياء السابقين –كما في روايات الحادثة- إلا أنه يضرّ صاحب الغنم، أما ما حكم به سليمان (علیه السلام) فإنه حافظ على مقتضى العدل وأوجب الضمان على المتلف إلا أنه بطريقة حفظت لصاحب الغنم غنمه.

وتأسيساً على هذه الحادثة أقول: إن من واجبات ولي الأمر مراعاة الإنصاف إن لم نقل الإحسان في تطبيق القوانين قال تعالى: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (النحل:90)، وقد أعطي الحاكم الشرعي مثلهذه الصلاحيات في عدة مواضع فقهية كعفوه عن مستحق الحد أو تأجيله في ظروف معينة، ومحل الشاهد أن تطبيق قاعدة (الأقرب يمنع الأبعد) لا بد أن يكون ضمن هذه الحدود، علماً بأنه تتوفر المبررات الكافية لتدخل ولي الأمر والالتزام بدفع حصة الابن المتوفى إلى أولاده، لتنزيلهم منزلة الولد في النصوص لضعفهم وحاجتهم ودخولهم في ولاية الجد، مضافاً إلى التوصيات المؤكدة بهم مما تقدم في النحو الثاني.

فما ذكرناه في هذه النقطة مستند إلى المسوّغات الشرعية، ولا يعني الحرية التامة له في تغيير القوانين بما يراه من المصالح؛ لأن عليه التعبد بها ولا يعلم المصالح والمفاسد الواقعية إلا الله تبارك وتعالى.

ثانيهما: ما استفدناه من قوله تعالى: «لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ

ص: 141

خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ» (الرعد:11) وقد شرحناها في خطاب مستقل(1) ومما قلت فيه: إن له تعالى عند كل أحد ملائكة تتعاقب عليه في جميع أوقاته وأحواله لتحفظه بأمر الله تعالى من أمر الله تعالى الذي قضى بجريان السنن والقوانين التي تحكم على الموجودات أن تؤثر فيه

مثلاً نزول المطر فيه غيث ورحمة للناس المزارعين وأمثالهم من المستفيدين، لكنه يضرّ شخصاً له بيت متهالك يسقط سقفه بنزول المطر، ولا يمكن أن تتوقف الإرادة الإلهية بإنزال المطر لأجل هذا المتضرر، فتقوم الملائكة بأمر الله بحفظ هذا المسكين من أمر الله، وكما أن الله تعالى يغلِّب رحمته بأمره تبارك وتعالى على عدله الذي هو من أمره تعالى (يا من سبقت رحمته غضبه).

وفي رواية عن الإمام الباقر (علیه السلام) يفسّر فيها قوله تعالى: «يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ» قال (علیه السلام): (بأمر الله حتى إذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه، يدفعونهإلى المقادير، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان بالنهار يتعاقبانه)(2).

ومثله حديث عن الإمام الصادق (علیه السلام)، وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (إن مع كل إنسان ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه).

فهذه الملائكة موكّلة من قبل الله تعالى بحفظ الإنسان من جريان القوانين الطبيعية التي أودعها الله تعالى في الكون عدلاً ونظاماً على خلاف مصلحته وخيره رحمة به وفضلاً من الله تعالى عليه، إذ الإنسان أعجز من أن يواجه وحده كل تقلبات الكون وأحداثه وحوادثه والعوامل المؤثرة فيه

ص: 142


1- راجع العدد (145) من صحيفة الصادقين والمجلد التاسع من كتاب خطاب المرحلة.
2- راجع مصادرها في تفسير البرهان: 5/194.

وهي كلها من أمر الله تعالى.

أقول: هذه الحقيقة التكوينية وهو أن القوانين الكونية التي تسير على طبق العدل والمصالح العامة قد تكون على خلاف مصلحة بعض الأفراد فلضمان الإنصاف والرحمة في تطبيقها جعل الله تبارك وتعالى على كل فرد ملائكة تتعاقبه لتحميه وتصونه من هذه الآثار والتداعيات إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

ومن هذه الحقيقة التكوينية ننتقل إلى الوظيفة الشرعية فإن القوانين الشرعية وضعت مراعية للعدل والمصالح العامة كقانون الأقرب أولى من الأبعد بالميراث، لكن الحاكم الشرعي يراقب التطبيقات التي هي وفق العدل لكنها إذا خالفت المبادئ العامة فإنه يتدخل للمحافظة على تلك المبادئ(1).وهي تقتضي أيضاً أن يكون العدل منصفاً وإلا فإن الأخذ بالعدل قد يُعد سيئة أو ظلماً بنحو ما ولو على المستوى الأخلاقي، كما قيل في بعض وجوه تفسير قوله تعالى: «وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (الشورى:40) فسمّى الأخذ بالمثل سيئة، وهو عدل.

وفي قوله تعالى: «فَمَنِ اعتَدَى عَلَيكُم فَاعتَدُوا عَلَيهِ بِمِثلِ مَا اعتَدَى

ص: 143


1- بعض هذه المبادئ تدخل في ما يسمى بالعناوين الثانوية ومنها ما يعمل بها الفقهاء لإيمانهم بها وجداناً وإن لم يقننوا المسألة كما فعلنا، مثلاً من يشترط في كفاية رؤية الهلال في بلد لثبوته في بلد آخر أن يكون البلدان متقاربين ومتحدين في الأفق فإذا رؤي في دبي أو أبو ظبي لا يثبت في العراق لعدم تحقق الشرط، لكنه إذا ثبت في مشهد (شمال شرق إيران) فإنه يثبت في عموم إيران ومنها بندر عباس مثلاً في جنوب غرب إيران مع أن المسافة الفاصلة في الثاني أكثر من الأول فلماذا يثبت في الثاني دون الأول؟ فهذا الفقيه خاضع في وجدانه لمبدأ وحدة كلمة الشعب والدولة على سعتها.

عَلَيكُم» (البقرة:194) سمّى الرد بالمثل عدواناً مع أنه حق.

وفي معتبرة حماد بن عثمان الواردة في تفسير قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ» (الرعد:21) قال: (دخل رجل على أبي عبد الله (علیه السلام) فشكا إليه رجلاً من أصحابه، فلم يلبث أن جاء المشكو، فقال له أبو عبد الله (علیه السلام): ما لفلان يشكوك؟ فقال له: يشكوني أني استقصيت(1)

منه حقي، قال: فجلس أبو عبد الله مغضباً، ثم قال: كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ؟! أرأيت ما حكى الله عز وجل في كتابه: «يَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ» أترى أنهم خافوا الله أن يجور عليهم أو يظلمهم؟ لا والله ما خافوا إلا الاستقصاء، فسمّاه الله عز وجل: «سُوءَ الحِسَابِ» فمن استقصى فقد أساء)(2).

وهذه المعاني لا ينافيها الوضع اللغوي لهذه المفردات؛ لأن ما يقابل العدل لغة هو الجور وليس الظلم، وهذه المقابلة مصرّح بها في النصوصففي رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (علیهم السلام) قال: (من عدل في وصيته كان كمن تصدّق بها في حياته، ومن جار في وصيته لقي الله عز وجل يوم القيامة وهو عنه معرض)(3).

وفي مرفوعة علي بن النعمان عن أمير المؤمنين (علیه السلام) من دعائه إذا صعد الصفا واستقبل القبلة: (أصبحت أتقي عدلك ولا أخاف جورك، فيا من

ص: 144


1- أي طلبت منه أن يقضي حقي، وفي المعاني وتفسير القمي (استقصيت) أي بلغ بالمسألة النهاية في طلبها، وهو الأقرب لمضمون الرواية.
2- الكافي: 5/100، ح1، تفسير القمي: 1/363، ومعاني الأخبار: 246، وتفسير البرهان: 5/201، وفي المعاني: (ولكنهم خافوا الاستقصاء والمداقّة) أي الحساب بدقة.
3- وسائل الشيعة: 19/267، كتاب الوصايا، باب 8، ح2.

هو عدل لا يجور ارحمني)(1)، وغيرها من الروايات.

فيمكن للعدل أن يجتمع مع الظلم، وهذه المعاني تستحق مبحثاً مفصلاً(2).

والمهم أن نقول هنا أن وظيفة الحاكم الشرعي في القوانين التشريعية كوظيفة تلك الملائكة في الحالة التكوينية ومسألتنا من هذا القبيل فإن مقتضى القانون توريث الأقرب وحجب الأبعد، وتطبيقه في المقام توريث الابن المباشر دون ابن الابن لأنه الأقرب ولما كان هذا التطبيق مخالفاً لمبادئ الإنصاف والإحسان والوصية باليتيم فيتدخل الحاكم الشرعي وفق المسوغات المتقدمة ليفرض بالولاية لأولاد الأولاد حصة واسطتهم على نحو الوصية الواجبة مراعاة لإنصاف هؤلاء الضعاف.

ولنا بعد هذين الأساسين القرآنيين وما سيأتي في النحو الرابع إن شاء الله تعالى شاهد على مثل هذه الوظيفة لولي الأمر من كتاب الميراث وهو ما ورد في طعمة جد الميت عندما لا يكون وارثاً لوجود واسطته إلى الميت وهما والدا الميت اللذان هما أقرب إليه منهما كصحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (علیه السلام) (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أطعم الجدة أم الأمالسدس، وابنتها حية)(3)

وصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: (دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) وعنده أبان بن تغلب، فقلت: أصلحك الله إن ابنتي هلكت، وأمي حيّة، فقال أبان: لا، ليس لأمك شيء، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): سبحان الله أعطها السدس)(4) وروايات أخرى غيرها.

ص: 145


1- وسائل الشيعة: 13/478، أبواب السعي، باب 4، ح3.
2- راجع خطبة عيد الأضحى لسنة 1436 هج بعنوان (ويخافون سوء الحساب) في المجلد التاسع من موسوعة (خطاب المرحلة).
3- و (4) وسائل الشيعة: 26/137، أبواب ميراث الأبوين والأولاد، ح1، 6.

والملفت للنظر تعبير الإمام (علیه السلام): (سبحان الله) والتسبيح يعني التنزيه، فالإمام (علیه السلام) لعله ينزّه الله تعالى عن الحكم بحرمان الجدة مع وجود الأب وهو ابنها الذي تتقرب به وهو حكم على طبق القواعد ومفاد الروايات، أي أن الإمام (علیه السلام) ينزّه الله تبارك وتعالى عن تطبيق القانون من دون مراعاة المبادئ الإنسانية العليا، فيعطي للجدة حصة بالولاية وإن لم تستحقها بالميراث.

قال الشهيد الثاني (قدس سرّه): «عدم إرث الجد مع الأبوين أو أحدهما هو المشهور بين الأصحاب، لا نعلم فيه مخالفاً إلا ابن الجنيد، فإنه جعل الفاضل عن سهام البنت والأبوين للجدين أو الجدتين، لكن على المشهور يستحب للأبوين أن يطعما أبويهما شيئاً من نصيبهما»((1).

أقول: قول ابن الجنيد بالوجوب مطابق لظاهر الروايات؛ لأن المعصوم (علیه السلام) أمر بإخراج السدس من دون استئذان الوارث، ولو كان الحكم الاستحباب فالمفروض إيكال أمره إلى المكلف لأنه حكم غير إلزامي ولا يستلزم الأمر بالإخراج، وهذا الوجوب لم يكن بالوصية لعدم الإشارة إليها في كل روايات الباب، فيتعين كون إطعام رسول الله (صلی الله علیه و آله) والإمام الصادق (علیه السلام) كان بالولاية لأن الجد لا يرث هنا ولا كان موصى له، فنحن نتفق مع ابن الجنيد في الوجوب ونختلف معه في منشأه إذ جعله بالميراث ونحن بالأمر الولائي.ويتم تقريب الاستدلال بضم وحدة المناط بل الأولوية لأن ما نحن فيه –وهو رعاية حق أولاد الأولاد- أولى من الأجداد فإن كان أولئك –أي الأجداد- آباء فهؤلاء –أي أولاد الأولاد- أبناء لأنهما متضايفان، ولأنهم مجمعون على

ص: 146


1- (1) مسالك الأفهام: 13/137.

ذلك هنا، ولهم بعد ذلك حق الضعف والعجز واليتم والحاجة ونحو ذلك.

قال الشيخ الكليني عقب هذه الروايات: «هذا قد روي وهي أخبار صحيحة إلا أن إجماع العصابة أن منزلة الجد منزلة الأخ من الأب يرث ما يرث الأخ وإذا كانت منزلة الجد منزلة الأخ من الأب يرث ما يرث الأخ يجوز أنها أخبار خاصة إلا أنه أخبرني بعض أصحابنا أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أطعم الجد السدس مع الأب ولم يعطه مع الولد، وليس هذا أيضاً مما يوافق إجماع العصابة أن منزلة الأخ والجد بمنزلة واحدة»(1).

أقول: يريد بكونها أخباراً خاصة أنها استثناء على خلاف القاعدة فتخصِّص العمومات، وليس هو الحكم الأولي في المسألة لأن الأب يمنع الجد من الميراث كما دلت عليه الروايات والقواعد، وهذا يعني ميله إلى الوجوب، ولو كان الحكم الاستحباب فإنه لا منافاة توجب التفسير بالاستثناء؛ لأن الاستحباب يجتمع مع مقتضى القاعدة وهو عدم وجوب نصيب له.

وحينئذٍ يسأل عن منشأ الخصوصية والوجوب والأقرب إلى فهم السياق أنه حكم ولائي مجعول من الشارع المقدس.

وقال الشيخ (قدس سرّه) عن هذه الروايات أنها «لا تنافي ما قدمناه من الأخبار من أن الجد لا يستحق الميراث مع الأبوين لأن هذا إنما جعل للجد أو الجدة على جهة الطعمة لا على وجه الميراث، على أن الطعمة إنما تكون للجد أو الجدة إذا كان ولدهما حياً فأما مع عدمه فليس لها طعمةأيضاً»(2).

وقال صاحب الوسائل (قدس سرّه) في توجيه هذه الأخبار: «ويمكن الحمل

ص: 147


1- فروع الكافي: ج7، كتاب المواريث، باب 64: ابن أخ وجد، ح15.
2- تهذيب الأحكام: ج9، باب 28: ميراث من علا من الآباء وهبط من الأولاد.

على الجواز مع الأبوين لأن الطعمة على وجه الاستحباب لا الوجوب» وقال (قدس سرّه) في توجيه كلام الكليني (قدس سرّه): «الإجماع على نفي الوجوب والاستحقاق فلا ينافي ثبوت الطعمة على وجه الاستحباب والظاهر أن هذا مراد الكليني من آخر كلامه» (1).

أقول: الإجماع ثابت على عدم استحقاق الأجداد مع وجود الوالدين من جهة الميراث، وهو لا ينافي استحقاقهما بعنوان آخر كالطعمة على نحو الوجوب. وكلام الأصحاب لا يأبى الحمل عليه بل صرح ابن الجنيد بذلك.

وهذا الوجه الذي ذكرناه لمراد الكليني (قدس سرّه) أقرب مما ذكره صاحب الوسائل من جهة عدم احتياج الاستحباب لتفسير أخباره بأنها خاصة لعدم المنافاة، ولكنه (قدس سرّه) عبّر عن الأخبار بكونها خاصة لأن تأويلها بما ذكرناه كان غير محدد في ذهنه، ولو أراد الاستحباب كما قرّب في الوسائل لذكره، ثم إن الاستحباب لا يجيز الإطعام حتى يأذن به المطعم ولا تشير الرواية إلى شيء من ذلك، لكن الأمر الملزم يمكن إخراجه بدون إذنه.

والخلاصة أن هذا الشاهد تام.

المسألة الرابعة عشرة: حدود ولاية الفقيه.

من المعلوم ان هناك اتجاهًا يرى ثبوت الولاية للفقيه ، في قبال من لا يرى ذلك ، ولكن حتى القائلين بولاية الفقيه اختلفوا في مدى صلاحيات هذه الولاية: فهم بين من يرى انهيمتلك نفس ولاية المعصوم فيكون وليًا على الأموال والأنفس ، وبين من يرى ان ولايته محدودة بالأمور العامة وتنظيم أحوال المجتمع.

ص: 148


1- وسائل الشيعة: 26 / 139.

وقد جاء بيان راي سماحة شيخنا الأستاذ (دامت فيوضاته) في هذه المسالة في الكلام الذي نقلناه في المسألة الثانية عشرة عندما قال:

ولا يختص الحكم الإنشائي بالخصومات والمرافعات بل يشمل الأحكام العامة التي تتعلق بالمصالح العامة كالحكم بوجوب الجهاد أو إقامة صلاة الجمعة ونحو ذلك مما يرجع إلى حفظ النظام الاجتماعي العام.

كما نقلنا كلام سماحته عن هذه المسالة عند بيان انحاء أوامر ونواهي المعصومين (علیهم السلام) عندما قال سماحته:

ولمزيد من الفائدة نقول: إن الأوامر والنواهي المولوية:

(إما) أن تكون مستندة إلى الولاية العامة على الأنفس والأموال ويمثلون له عادة بما لو أمر زيداً أن يطلق زوجته وهو أمر غير معهود في سيرتهم (علیهم السلام)، نعم يمكن التمثيل له بنهي النبي (صلی الله علیه و آله) عن أكل الحمر الأهلية في خيبر(1)

مثلاً أو النهي الوارد في رواية عمار الساباطي (قال أبو عبد الله (علیه السلام) لي ولسليمان بن خالد: قد حرّمت عليكم المتعة ما دمتم بالمدينة لأنكما تكثران الدخول عليّ وأخاف أن تؤخذا فيقال هؤلاء أصحاب جعفر)(2)

وكنهي هشام بن سالم عن المناظرات(3) وهذا النحو من الأمرتجب طاعته بلا إشكال.

ص: 149


1- صحيح البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب 28، ح 5528.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 5، ح5.
3- روى الكشي بسنده عن يونس قال: قلت لهشام: إن أصحابك يحكون أن أبا الحسن (علیه السلام) سرّح إليك مع عبد الرحمن بن الحجاج أن أمسك عن الكلام، وإلى هشام بن سالم، قال أتاني عبد الرحمن بن الحجاج وقال لي: يَقول لك أبو الحسن (علیه السلام): أمسك عن الكلام هذه الأيام فقال هشام: فأمسكتُ عن الكلام أصلاً حتى مات المهدي، وإنما قال لي هذه الأيام فأمسكت حتى مات المهدي) (اختيار معرفة الرجال: 2/542).

ويتفرع عن هذه الولاية العامة ولاية الأمور العامة التي فيها حفظ نظام المجتمع وإقامة الحق والعدل، وهي التي تنتقل إلى الفقيه الجامع للشرائط دون الأولى الخاصة بالمعصوم (علیه السلام).

وفصّل (دامت بركاته) في حدود ولاية الفقيه وصلاحياته في الجزء التاسع (صفحة 337 – 342) ، اذ قال:

حدود ولاية الفقيه والأُطُر العامة لها هي:-

1- كل ما فوّضه المعصومون (علیهم السلام) الى نوابهم وتقتضيه وظيفتهم الفقهية كالإفتاء والقضاء.

2- أو كان من وظائف ولي الأمر باعتباره راعياً للأمة وسائساً لأمور الناس من دون خصوصية للمعصوم في ممارستها، والتي يتعذر على الإمام المعصوم والحجة الغائب (عجل الله فرجه) القيام بها مباشرة لمنافاتها لمقتضى المصلحة الإلهية بإخفاء أمره على الناس.

3- ما يرجع إلى تدبير شؤون الناس ديناً ودنياً بحيث لا يرضى الشارع المقدس والعقلاء بإهمالها وتعطيلها ودلّ الدليل على اهتمام الشارع المقدس بإيجادها في الخارج مما يسمى بالأمور الحسبية والقدر المتيقن من المخاطبين هم الفقهاء.

وإنما قلنا بأن لها حدوداً للتقليل من المبالغة التي وردت في كلمات البعض كقول السيد الخميني (قدس سرّه): «لكل منهم –أي الفقهاء- الولاية على أمور المسلمين، من بيت المال إلى إجراء الحدود، بل على نفوس المسلمين إذا اقتضت الحكومة التصرف فيها، فيكون لهم في الجهات المربوطة بالحكومة، كل ما كان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) والأئمة من بعده صلواتالله عليهم

ص: 150

أجمعين»(1).

أقول: هذه السعة في ولاية الأمور حتى على النفوس فيها مجازفة لأن عمل الحكومة مبني على المصالح المظنونة لعدم العلم بالملاكات الواقعية، ولم يثبت أن المصالح المظنونة التي يتوصل إليها غير المعصوم مبرِّرٌ كافٍ للتصرف في النفوس أو الأعراض أو الأموال لمجرد اقتضاء عمل الحكومة ذلك من دون دخولها في عنوان معلوم الحكم شرعاً، فهل يحق للولي الفقيه أن يأمر بذبح الهدي عن الحجاج في بلدانهم للاستفادة من لحومها بدل هدر ملايين الأضاحي في منى لوجود مصلحة في ذلك؟ وهل له أن يأمر بقتل شخص أو طلاق امرأة لأن المصلحة تقتضي ذلك؟ كما يصور بعض القائلين بالولاية العامة بأن له أن يطلق زوجة فلان ويأخذ أموال فلان من دون أن يسأل عن السبب لأنه ولي هذه الأمور كما سنبين إن شاء الله.

فالقول بهذا المستوى من التفويض للفقهاء يحتاج إلى قوة قلب واطمئنان إلى حصول نور الفرقان في القلب ليميز بين الحق والباطل حتى يتبين له أنه الحق في كل قرار وموقف وإجراء، قال تعالى: «يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً» (الأنفال: 29) فقوله (قدس سرّه): «بل على نفوس المسلمين إذا اقتضت الحكومة التصرف فيها» ثابت للمعصومين (علیهم السلام) وإن لم يحدث ولا في واقعة واحدة صدور تصرف منهم (علیهم السلام) في النفوس أو الأعراض أو الأموال بمقتضى ولايتهم محضاً أي ولو من دون انطباق عنوان أحد القوانين الشرعية المعمول بها ظاهراً، فالنبي (صلی الله علیه و آله) أمر بقلع عذق سمرة لكن لأنه أصبح مضاراً ومنع (صلی الله علیه و آله) من إقطاع الأراضي

ص: 151


1- كتاب البيع: 2/625 في بحث الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه.

واختصاص الماء مراعاة للعدالة، والإمام الهادي (علیه السلام) امر بقتلفارس بن حاتم لكن لأنه كان فتّاناً مبتدعاً(1)

ولم تحصل حالة مثل قتل العبد الصالح للغلام والذي كان بالولاية محضاً التي منحها الله تبارك وتعالى له مما أوجب اعتراض النبي موسى (علیه السلام)، نعم توجد حالات مماثلة كأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بقتل ذي الثدية حرقوص بن زهير لأنه سيمرق من الدين ويقود الخوارج إلا أن القتل لم يقع، وكأمر الإمام الصادق (علیه السلام) أبا هارون المكفوف أن يدخل التنور إلا أنه لم يحترق، وجعلت النار برداً وسلاماً.

وللإنصاف فقد وجدنا في كلمات السيد الخميني (قدس سرّه) ما يشير إلى أنه لا يلتزم بهذه السعة لولاية الفقيه وإن هذه الصلاحيات خارجة تخصصاً لعدم شمول دليل ولاية الفقيه لها. قال (قدس سرّه): «إن ما ثبت للنبي (صلی الله علیه و آله) والإمام (علیه السلام) –من جهة ولايته وسلطنته- ثابت للفقيه، وأما ما ثبت لهم من غير هذه الناحية فلا.

فلو قلنا: بأن المعصوم (علیه السلام) له الولاية على طلاق زوجة الرجل، أو بيع ماله، أو أخذه منه ولو لم تقتضه المصلحة العامة، لم يثبت ذلك للفقيه ولا دلالة للأدلة المتقدمة على ثبوتها له حتى يكون الخروج القطعي من قبيل التخصيص»(2).

أقول: وبذلك ينحصر الخلاف معه (قدس سرّه) في أنه (قدس سرّه) يرى أن الولي الفقيه له النظر المستقل في تقدير المصلحة العامة، وأن نظره كافٍ عنده (قدس سرّه) لإعمال ولايته واتخاذ الإجراء المناسب، ونحن لا نقول بكفايته لعدم علم الفقيه بالمصالح الواقعية إلا أن يندرج الإجراء في أحد القوانين التي

ص: 152


1- راجع الرواية في وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 47، ح1.
2- كتاب البيع:2/654.

سنذكرها وهي واسعة جداً، فيستكشف من انطباق بعض تلك العناوين عليه وجود المصلحة فيه، ومنها على سبيل المثال الضرر ففرق بين أن نشق شارعاً وما يستلزمه من هدم دور الناس واستملاك أراضيهممن أجل مصلحة تراها الحكومة أو أن نفعل ذلك لدفع ضرر وحرج على الناس إن لم ننفذ هذا المشروع أو اتخاذ قرار بمنع الحج فتارة يكون لتحقيق مصلحة سياسية معينة، وأخرى لوقاية الحجاج من خطر أمني محدق بهم أو وباء قاتل ونحو ذلك، فالثاني –في المثالين- مسوِّغ دون الأول بناءً على ما ذكرناه.

فالفقهاء وإن كانوا نوّاباً عن الأئمة (علیهم السلام) في ولاية أمور الأمة وفوّضوا لهم صلاحياتهم إلا أن ذلك ليس في كل شيء كأن يقول الفقيه أن المصلحة تقتضي كذا بغض النظر عن وجود عنوان شرعي ينطبق عليه فضلاً عن كونه على خلاف الأحكام الثابتة شرعاً(1).

ونستطيع تقريب عدة وجوه للاستدلال على هذا التحديد والتأطير لصلاحيات الولي الفقيه:-

ص: 153


1- كالروايات التي تتحدث عن تعليق وجوب دفع الخمس حتى إشعار آخر أو تغيير مقداره إلى نصف السدس لمراعاة أوضاع الشيعة كما في رواية علي بن مهزيار (وسائل الشيعة: كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، باب 8، ح4) أو تغيير نوع الكفارة بحسب الظروف كالذي ورد عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في رجل يكون عليه بدنة واجبة في فداء، قال: إذا لم يجد بدنة فسبع شياه) الحديث (وسائل الشيعة: 14/201 أبواب الذبح، باب 56، ح1) إذا افترضنا أنه إجراء مولوي لقضية واقعة في الخارج وليس تبليغاًً لحكم شرعي في البديل، فهنا تقتضي المصلحة العامة شيئاً، فالمعصوم (علیه السلام) يستطيع هنا أن يشرِّع البدائل أو يتصرف في الحكم الأولي، لكن الولي الفقيه لا يرى من صلاحياته إجراء هذه التصرفات من دون دليل شرعي، كما لا يستطيع منع الحجاج من ذبح الهدي في منى وإلزامهم بالذبح في بلدانهم للاستفادة من مئات آلاف الماشية وفيها مصلحة أكيدة.

نفس ما استدلوا به على ولاية الفقيه كمقبولة عمر بن حنظلة فإن فيها (فإذا حكم بحكمنا) ومشهورة أبي خديجة (اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا) والتوقيع الشريف (فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا)1- وكلها تتضمن وجود شاهد من النصوص الشرعية المأثورة على ما يحكم به الولي الفقيه. مضافاً إلى أحاديث أخرى كقول أمير المؤمنين (علیه السلام) لابن عباس: (والله لَهِيَ –أي النعل البالي- أحبّ إليَّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً –أي شريعة الله وأحكامه- أو أدفع باطلاً)(1)

وهو ما سوى ذلك من الظنون التي لا تغني من الحق شيئاً.

2- الأصل: فإنه عند الشك في جريان ولاية الفقيه وعدمه في موردٍ ما فإن الأصل يقتضي العدم لما أسسناه من أن الأصل عدم ولاية أحد على أحد إلا ما جعله الله تبارك وتعالى والمفروض عدم ثبوته.

3- إن التصرف من دون عنوان شرعي أي إعمال الولاية لمجرد المصلحة قد يحرم بالعنوان الثانوي. قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سرّه): «مثلاً إذا كان ينتج من التصرف مفسدة عامة أو إيقاع شك في العقيدة أو ضرر شخصية بليغ بلا مبرر شرعي أو عقلائي فيكون ذلك التصرف حراماً عليه» وأوجب (قدس سرّه) الضمان إذا ثبت عدم المبرر، قال (قدس سرّه): «فلو قلنا بجواز إتلافه –أي الولي الفقيه- لأموال الغير بلا مبرر لم نقبل ببراءة ذمته للمال المضمون، بل يجب عليه دفع مثله أو قيمته إلى صاحبه»(2).

4- إن جعل المصلحة مصححاً للفعل يسوقنا إلى تأسيس قواعد وفروع

ص: 154


1- نهج البلاغة: خطبة (33).
2- ما وراء الفقه: 9/38.

نسلّم ببطلانها كقانون (الغاية تبرر الوسيلة) وقد أثبتنا عدم مشروعيته، وقد ثبت في علم الأصول بطلان الاستحسان والمصالح المرسلة كمستند للحكم الشرعي.

نعم يمكن جعل المصلحة أساساً للعمل إذا صححناها بأحد الإجراءات التالية:

أ- أن نقصد بها معنى صحيحاً كقول أستاذنا الشهيد الصدر الثاني(قدس سرّه): «ونقصد بالمصلحة العامة: تلك الأمور العامة والاجتماعية التي يتعذّر على الأفراد القيام بها باستقلالهم أو قل بدون توجيه مركزي أو قيادي أو إدارة عامة كالجيش والشرطة والسجون والصحة العامة والمدارس وغيرها كثير»(1) لكن هذا المعنى خلاف الظاهر.

ب- أن يراد بالمصالح العامة المقطوع بها وليست الحدسية والمظنونة.

ج- أن يكون مورد مراعاتها الأمور الإجرائية التنفيذية وليس بناء أصل القرار عليها كمشاورة النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه قبل معركة أحد في أن الأصلح التحصّن بالمدينة أم الخروج لملاقاة مشركي قريش.

المسألة الخامسة عشرة: موارد اعمال ولاية الفقيه.
اشارة

بعد ان بيّن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) حدود وصلاحيات الولي الفقيه ، ذكر موارد اعمال ولاية الفقيه في الجزء التاسع (صفحة 342 – 346) ، اذ قال:

موارد إعمال ولاية الفقيه:

يمكن تحليل الأطر العامة التي ذكرناها آنفاً إلى خطوط عريضة لولاية

ص: 155


1- ما وراء لبفقه: 9/39.

الفقيه منها:-

1- موارد الولاية الخاصة التي اتفق عليها الفقهاء وتسمى بالأمور الحسبية كرعاية أموال المفقود والقاصر وطلاق الممتنع وإرث من لا أرث له.

2- الواجبات التي سميناها بالاجتماعية كإقامة الجمعة والحدود وتنصيب القضاة وإعلان الجهاد وفرض التجنيد الإلزامي، وقبض الأموال العائدة للإمام وصرفها في مواردها.

اتخاذ الموقف الواضح من الشبهات الموضوعية والموضوعات1- المستنبطة التي لها مساس بدين الناس ودنياهم لجمع أمر الناس ومنع التنازع كتحديد أوائل الشهور وكانتهاك المقدسات والاعتداء على بيضة الإسلام الموجب للدفاع المسلح.

2- ولاية الأمور ذات النفع العام كالأوقاف العامة ومؤسسات الدولة والأموال العامة فلا يجوز التصرف فيها إلا بإذنه لضمان استعمالها فيما خصصت له من إعمار البلاد وصلاح العباد، فلو قررت الحكومة والبرلمان شيئاً ما ولم يحظ بموافقة الولي الفقيه فإنه غير نافذ.

3- ما فيه حفظ النظام الاجتماعي العام وتيسير أمور معيشة الناس كوضع القوانين المكلفة بذلك وكإجبار المحتكر على البيع وتسعير السلع الضرورية إذا أجحفت أسعارها بالناس ومحاسبة الفاسدين والمقصرين والأمر بإنشاء مؤسسات الدولة كالجيش والشرطة والمحاكم والسجون والوزارات الأخرى وبناء المستشفيات والجسور والمدارس وسائر المؤسسات الخدمية وشق الطرق ويمنح الإذن في استصلاح الأراضي وإحياء الموات واستخراج المعادن ذات المالية العامة بالكيفية والشروط التي تحفظ حقوق الناس جميعاً في الجيل الموجود والأجيال الآتية، أما

ص: 156

مباشرة أو بمنح الشرعية للسلطة الحاكمة، قال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سرّه): «ولو نصب الفقيه المنصوب من الإمام بالإذن العام سلطاناً أو حاكماً لأهل الإسلام لم يكن من حكام الجور كما كان ذلك في بني إسرائيل فإن حاكم الشرع والعرف كليهما منصوبان من حكم الشارع»(1).

4- دفع الضرر عن الناس في الحاضر والمستقبل كتوسيع الطرق الضيقة وهدم الأبنية الآيلة للسقوط ومنع التصرفات المضرّة بالآخرين كما في قضية عذق سمرة بن جندب تطبيقاً لحديث (لا ضرر ولا ضرار).

مراعاة الأولويات ودرء المفاسد وحفظ المصالح العليا المقطوع بها1- كوحدة الشعب وحريته وكرامته واستقلال البلاد والتحفظ على ملاكات الأحكام وتقديم الأهم على المهم في موارد التزاحم مراعياً رضا الله تبارك وتعالى وصلاح العباد، كتحريم المجدد الشيرازي (قدس سرّه) لتناول التبغ لقطع يد الأجنبي عن بلاد المسلمين وثرواتهم، وكفرض الضرائب على السلع المستوردة لحماية المنتوج الوطني، أو منع تهريب الثروة الحيوانية إلى خارج البلاد لمنع ارتفاع أسعارها المجحف بالعامة.

2- التدخل لضمان تفسير وتطبيق القوانين بشكل عادل ورحيم لأن التطبيق الحدّي قد يظلم أو يجحف، وشرحنا له مثالاً حرمان أولاد الولد المتوفى في حياة أبيه من الميراث إذا كان لهذا الجد أولاد مباشرون تطبيقاً لقاعدة (الأقرب يمنع الأبعد) مع أنها قاعدة عادلة في نفسها.

3- إسقاط الحقوق والأحكام العامة إن وُجد المسوِّغ لذلك كإسقاط الحدود وإصدار العفو العام عن السجناء ونحو ذلك.

استخدام الوسائل المتاحة لتطبيق الشريعة الإسلامية في

ص: 157


1- شرح القواعد: 99.

كل شؤون الحياة والسعي لتوسيع دائرتها تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة الى الله تبارك وتعالى وتبليغ الرسالة، ومنها المشاركة في العملية السياسية أو من خلال التأثير على الحكومة أو البرلمان لسنّ القوانين الصالحة وإلغاء الفاسدة وبذل الوسع في التقدم بالوسائل المتاحة «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» (العنكبوت:69) حتى تصل إلى تأسيس حكومة الإسلام، وقد ذهب السيد الخميني (قدس سرّه) إلى وجوب هذا التحرك، قال (قدس سرّه): «فإقامة الحكومة وتشكيل أساس الدولة الإسلامية، من قبيل الواجب الكفائي على الفقهاء العدول، فإن وُفّق أحدهم لتشكيل الحكومة يجب على غيره الاتباع، وإن لم يتيسّر إلا باجتماعهم يجب1- عليهم القيام مجتمعين»(1).

وذكر في وجه ذلك ما يقرب مما نحن بصدده قال (قدس سرّه): «إن الأحكام الإلهية –سواء الأحكام المربوطة بالماليات أو السياسيات أو الحقوق- لم تنسخ، بل تبقى إلى يوم القيامة، ونفس بقاء تلك الأحكام يقضي بضرورة حكومة وولاية تضمن حفظ سيادة القانون الإلهي، وتتكفل بإجرائه، ولا يمكن إجراء أحكام الله إلا بها، لئلا يلزم الهرج والمرج»(2).

وخلاصة النقاط المتقدمة أن ولاية الفقيه ليست عنواناً مستقلاً لإنشاء الأحكام طبقاً للمصالح ويكون حاكماً على العناوين الأولية كحكومة عنوان التقية والضرر والحرج- كما حكي عن السيد الخميني(3)

وتلميذهالشيخ

ص: 158


1- كتاب البيع: 2/642 بحث ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية.
2- كتاب البيع:2/619 بحث ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية.
3- نقل السيد كاظم الحائري (دام ظله) في كتابه (المرجعية والقيادة:165) قول السيد الخميني (قدس سرّه): «إن الحكم الولائي يتقدم حتى على الأحكام الأولية» وقال في شرحه: «فلا يختص حكم الولي بالأحكام الثانوية ودائرة المباحات بل يتعداها ويتقدم حتى على الأحكام الإلزامية الأولية» كالأمر بمخالفة الحكم الشرعي أو إيقاف العمل بالواجب الشرعي، وحاول أن يجيب عن إشكال الأمر ببيع الدار من دون رضا المالك ومنع الحج مع توفر الاستطاعة فلم تغنِ إجابته من جوع، لكنه (دام ظله) رجع وفسَّر قول السيد الخميني (قدس سرّه) بالحدود التي ذكرناها فقال: (صفحة 168): «ليس مقصوده (قدس سرّه) أن للفقيه الحق مثلاً في إسقاط أصل الصلاة أو الصوم أو الحج عن الناس، بل له حق تشخيص التزاحمات بين الأحكام الأولية في القضايا الاجتماعية عند وقوعها، ومن ثم له حق تشخيص الأولويات منها وتقديمها على غيرها» وهذا ينافي ما ذكره أولاً لأن التصرف كان ضمن العنوان الثانوي الموجب للتزاحم، فيدخل في الحدود التي ذكرناها لصلاحيات الولي الفقيه. ونترك التفصيل إلى بحث مستقل عن ولاية الفقيه إن شاء الله تعالى.

المنتظري (قدس الله سريهما)- وإنما هو تطبيق للأحكام الأولية والثانوية والعمل في إطارها ويستمد صلاحياته منها.

إن قلتَ: إن إجراء الأحكام الشرعية والعمل بمقتضى العناوين الثانوية من صلاحيات كل المكلفين ولا يختص بالفقيه كالتقية والضرر والحرج والاضطرار ونحو ذلك فما فرق الفقيه حينئذٍ عن غيره.

قلتُ: الفروق عديدة:-

1- إن أخذ المكلف بالعناوين الثانوية يكون في الأمور الشخصية أما الأمور العامة كالإضرار بالصالح العام فليس لسائر الناس تشخيصها أو اتخاذ الإجراء بإزائها إلا بإذن الولي الفقيه وإلا لزمت الفوضى.

2- إن تحقق العناوين الثانوية في الحالات العامة مما لا يتيسّر معرفته لآحاد الناس لعدم معرفتهم بسائر الحيثيات الدخيلة وحصول التزاحم بينها فيكون تحديدها من قبل الولي الفقيه.

ص: 159

المسألة السادسة عشرة: شروط إنفاذ الفقيه لولايته.

بيّن سماحته شروط نفوذ الولاية للفقيه في الجزء التاسع (صفحة 334 – 337) ، اذ قال (دامت بركاته):

لكن الفقيه الذي قلنا بثبوت الولاية العامة له لما كان غير معصوم ولا يتلقى علمه اللدني من الله تبارك وتعالى كالمعصوم وليس مطلعاً على الملاكات الواقعية من المصالح والمفاسد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الصلاحيات التي تقتضيها ولايته قد تتسع حتى تبلغ ممارسة السلطة والحكم، فإنه لا يمكن التعاطي مع ولاية الفقيه كما نتعاطى مع ولاية المعصوم (علیه السلام) المطلقة لذا كان نفوذ ولايته ووجوب طاعته في الأوامر الولائية مشروطاً ومحدوداً، فالكلام في جهتين:

الجهة الأولى: الشروط (ومنها) ما يعود إلى ذات الفقيه وهي شروطمرجع التقليد وزيادة تقتضيها خطورة الوظيفة التي يتصدى لها وهي قيادة الأمة فيجب:-

1- أن يكون ذا فطنة حتى لا يخدع أو يُستغفل أو تنطلي عليه أساليب المكر والخداع.

2- أن يكون شجاعاً قوي القلب حتى لا يتردد في اتخاذ القرارات الصعبة التي تتطلبها المسؤولية.

3- أن يكون ذا خبرة بشؤون الأمة مطلعاً على مجريات الأحداث حتى لا تلتبس عليه الأمور فيفرط في حقوق الأمة، ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام): (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(1).

4- أن تتوفر فيه الصفات التي ذكرتها الآيات والروايات كقوله تعالى:

ص: 160


1- تحف العقول: 356، الكافي: 1/27.

«لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» (التوبة:128) بأن يكون شفيقاً على الأمة ورؤوفاً بها ومنصفاً للناس وحريصاً عليهم.

5- أن يكون على درجة عالية من الورع والتقوى وإنصاف الناس ليجعل الله تعالى له نوراً يميّز به القرار الصائب ويمنعه من التخبّط والعشوائية، ويعرف من خلاله الملاكات الواقعية للأحكام، قال تعالى: «إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً» (الأنفال:29) وقال تعالى: «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً» «يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» (الطلاق:2، 4).

(ومنها) ما يعود إلى غيره، كالذي قلته في الرسالة العملية: «لا يفرض الفقيه ولايته على الأمة بالإكراه أو الادعاء كما ينقل عن البعض أن الفقيه إذا بسط ولايته وجبت طاعته، وإنّما يشترط تحقق إرادة الأمة واقتناعها بولايته، نعم، لا نقصد بالأمة كل الأمة ولا يتم اختيار الولي الفقيه بالانتخابات العامة لكل الناس وإنّما نقصد بالأمة أهل الخبرة والاختصاصمنها في هذا المجال وهم العلماء وكبار وأساتذة الحوزة العلمية الشريفة المتصفون بالورع والنزاهة والإنصاف والمعرفة بمتطلبات العمل الاجتماعي وتطبيق المشروع الإسلامي المبارك»(1)،

فتوضع آلية لتشكيل هيئة أو مجلس لأهل الخبرة بالمواصفات المذكورة، وإذا شهد هؤلاء لفقيه بالأعلمية والخبرة والكفاءة لولاية أمور الأمة وكان لهم حضور قوي في الحوزة العلمية فمن الطبيعي أن تكون القاعدة الشعبية المؤمنة بقيادة هذا الفقيه واسعة بالدرجة التي تمكّنه من قيادة مشروع الإسلام العظيم.

ص: 161


1- سبل السلام: 33، المسألة (32).

وقلت أيضاً في بعض أحاديثي: «ويدل على هذا الشرط باختصار قوله تعالى: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» فلا يستطيع الفقيه فرضها على الأمة حتى ولو كان مستحقاً لها ثبوتاً وواقعاً، وتدل السيرة العملية للمعصومين (علیهم السلام) على أنهم لم يُعملوا ولايتهم العامة لشؤون الأمة –مع أنها ثابتة لهم واقعاً- إلا بعد أخذ البيعة من الناس على السمع والطاعة، فإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) لم يُعمل ولايته لشؤون الناس ولم يقِم دولته المباركة في مكة وإنما أقامها في المدينة بعد أن بايعه أهلها على السمع والطاعة في بيعة العقبة الأولى والثانية وأن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأموالهم، بل تجد أن التكاليف الاجتماعية المرتبطة بظروف التمكين –كالجهاد وإقامة صلاة الجمعة- لم تنزل عليه (صلی الله علیه و آله) في مكة لأنها ظروف استضعاف، وكذا أمير المؤمنين فإنه ما تصدى للخلافة إلا بعد أن ازدحم الناس على بيعته بعد مقتل الخليفة عثمان وقال (علیه السلام) مشيراً إلى هذا الشرط (أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهدعندي من عفطة عنز)(1) فلا يكفي ادعاء الولاية ولا بسطها من دون إرادة الأمة.

وبهذه الالتفاتة الدقيقة نحل جملة من الإشكالات حول ولاية الفقيه كمسألة تعددهم في مجتمع واحد أو بسط ولاية فقيه مقيم في بلد على بلد آخر أو ما يحلو للبعض أن يقول أنه إذا ادعاها فقيه وجب على الآخرين طاعته والانقياد له لأن هذه الأمور ستحسم بقرارات من هيأة أهل

ص: 162


1- نهج البلاغة: 1/36، الخطبة الشقشقية.

الخبرة»(1).

فأثر هذه البيعة في زمان المعصوم (علیه السلام) أخذ العهد على الناس بأن يطيعوه وينصروه لأنه مأمور بالعمل بالوسائل الطبيعية وليس بالإعجازية على نحو (كن فيكون).

أما البيعة في زمان الغيبة والنيابة عن المعصوم فهي ضرورية لأكثر من أمر:-

1- لاكتشاف الفقيه الجامع لشروط ولاية أمر الأمة باعتباره غير معيّن بالنص الخاص.

2- ولتقديمه إلى الأمة بهذا العنوان الذي يثبت وجوب طاعة المتصف به لتتحمل مسؤوليتها في طاعته ونصرته.

3- ولقطع الطريق أمام من يدّعي هذا الموقع الشريف الخطير.

4- وليتمكن من تطبيق الشريعة باختيار الناس وإرادتهم من دون قهر أو عنف أو قسر، بعد أن التزموا له بالطاعة والمتابعة.

المسألة السابعة عشرة: احكام الحاكم الشرعي.

جاء في الجزء الرابع (صفحة 141-145) بيان اقسام حكم الحاكم الشرعي ضمن الكلامفي مسالة ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي. ومع ان سماحته ذكرها باعتبارها أنواعاً للحكم بثبوت الهلال الا انها لا تختص بذلك المورد.

وبيّن سماحته انها على ثلاثة اقسام ، ونص كلام سماحته هو:

ص: 163


1- خطاب المرحلة: 4/448.
أنواع الحكم بثبوت الهلال:

إن حكم الحاكم الشرعي بثبوت الهلال يمكن أن يكون على ثلاثة أنحاء لا بد من بيانها لمعرفة محل النزاع ومصبّ الاستدلال، ولعل أحد مناشئ الاختلاف في المسألة عدم تحديد نحو الحكم المقصود فالذي نظر إليه المثبت غير الذي نظر إليه النافي:-

1- الحكم بثبوت الشهر بعد قيام الحجة المعتبرة عند الحاكم وهي الحالة المعتادة لمراجع التقليد وهو هنا يؤدي وظيفته كواحد من أهل الخبرة في تنقيح الموضوع لوجود خصوصيات في رؤية الهلال لا يعرفها إلا أهل الاختصاص وقد تقدمت ولأن التحقيق في ثبوت الشهر من الوظائف الاجتماعية التي يقتضيها مقامه كونه مقرباً إلى طاعة الله ومبعداً عن معصيته وهذا يستلزم هداية الأمة إلى صومها وفطرها ونحرها فهذان سببان يوجبان على الفقيه المتصدي لرعاية شؤون الأمة أن يتصدى لمسألة الهلال وتثبيت أوائل الشهور لذا كانت نتيجة انحراف الأمة عن قيادتها الشرعية تضييع ذلك وقد وردت عدة روايات في هذا المعنى منها ما ورد عن الإمام الصادق قال (لما ضرب الحسين بن علي (علیه السلام) بالسيف فسقط ثم ابتُدر ليُقطع رأسه نادى منادٍ من بطنان العرش ألا أيتها الأمة المتحيرة الضالة بعد نبيها لا وفقكم الله لأضحى ولا لفطر)((1).

والحجة حينئذٍ مستند حكم الحاكم لا الحكم نفسه فإنه لاموضوعية له ويكون أثره طريقياً، أي أن حجية قول الحاكم الشرعي في طول حجية مستنده كالبينة وليس في عرضها.

2- ما كان على نحو الحكم القضائي في باب المنازعات كما لو اتفق

ص: 164


1- (1) وسائل الشيعة:كتاب الصوم، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 13 ح2.

الزوجان على نهاية الأجل عند ثبوت الهلال واختلفا في ثبوته تلك الليلة أو في حلول أجل الدين ونحو ذلك.

3- ما كان على نحو الحكم الولائي، أي إعمالاً لولاية الفقيه ضمن حدودها التي تجري فيها كحفظ النظام الاجتماعي العام ودفع الضرر وتقديم الأهم على المهم وإقامة الفرائض ونحو ذلك فقد يصدر الحاكم الشرعي حكماً بثبوت الهلال بصفته وليّاً فقيهاً ضمن حدود صلاحياته لا بصفته مفتياً، كما لو رأى أن اختلاف مراجع الدين في الهلال يؤدي إلى فتنة في البلاد وتمزيق النسيج الاجتماعي فحكم بتحديد أول الشهر، أو أنه كان باسطاً ولايته في دولة كبيرة، ورؤي الهلال في أقصى جنوب الغرب وكان يستحيل رؤيته في أقصى شمال الشرق فإن وحدة البلاد تدعوه إلى جعل أول الشهر واحداً لجميع المواطنين.

وقد ذكر الفقهاء عنوان المسألة مجملاً فلم يتّضح منه المراد من الحكم في المسألة المبحوثة، أو التفريق بين الأنواع، والملحوظ في السيرة الجارية لدى الفقهاء هو الأول، وهو إلى الإخبار وتطبيق الفتوى أقرب وليس من موارد حكم الحاكم، فالمعمول به خارجاً ليس من موارد حكم الحاكم، وما هو من موارد حكم الحاكم غير معمول به خارجاً فيتّضح من ذلك مقدار الإجمال في المسألة.

وتوجد إشارة مختصرة لتعريف العنوان في كلام السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) حيث قال في رسالته العملية: «ونريد بحكم الحاكم الشرعي اتخاذه قراراً بثبوت الشهر أو أمره للمسلمين بالعمل على هذا الأساس، وأما إذا حصلت لديه قناعة بثبوت الشهر ولكن لم يتّخذ قراراً ولم يُصدر أمراً للمسلمين بتحديد موقفهم العملي على هذا الأساس فلا تكون هذهالقناعة ملزمة إلا من اقتنع على أساسها وحصل لديه الاطمئنان الشخصي بسببها،

ص: 165

وفي حالة إصدار الحاكم الشرعي للحكم يجب اتباعه حتى على غير مقلديه ممن يؤمن بتوفر شروط الحاكم الشرعي فيه»(1).

أقول: التمييز بين الاتجاهين ليس منوطاً بإرادة الفقيه فحسب كما يظهر من العبارة بل مما تقتضيه طبيعة المورد وفق التقسيم المتقدم، إلا إذا وُجِد المبرِّر لإصدار القرار في مورده.

لذا احتملنا أن النافين لثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي لاحظوا مقتضى هذه السيرة الغالبة وهو ليس حكماً إنشائياً بل إخبار عن تطبيق الفتوى، ولذا لم يقولوا بسريانه لأنه مشروط بتطابق الفتوى، ولعلهم لا يجدون المورد من صلاحيات الحاكم الشرعي في إصدار الحكم.

أما النوع الثاني فمحدود في باب المنازعات والثالث غير ملحوظ لهم، والشاهد على ذلك أنهم بعد أن أفتوا بنفوذ حكم الحاكم ووجوب اتباعه حتى على من لم يعرف صحة مستنده بل يكفي عدم العلم بخطئه استثنوا من وجوب الاتباع مَن علمَ بخطأ الحاكم وهو إنما يقال على الحكم القضائي لا الحكم الولائي الذي يجب أن يُطاع حتى لو علم بخطأ مستنده لأن القائل بولاية الفقيه يرى أنّ لحكم الولي الفقيه جهة موضوعية كالعناوين الثانوية تغير العنوان الأولي.

وفي ضوء التفصيل المتقدم لأنواع الحكم نستطيع التوفيق بين المنع من ثبوت الهلال بحكم الحاكم وبين الالتزام في كتاب (الاجتهاد والتقليد) بعدم جواز نقض حكم الحاكم الشرعي حتى لمجتهد غيره فإنهم يرون خروج حكم الحاكم في مسألة الهلال تخصصاً عن مسألة نفوذ حكم الحاكم لا تخصيصاً لأن حكم الهلال -بنوعه الأول وهو الذي جرى عليه عمل

ص: 166


1- الفتاوى الواضحة: 523.

الفقهاء- ليس صغرى لهذه المسألة باعتبار أنه تنقيحللموضوع وتعبير عن القناعة التي توصل إليها المجتهد باعتباره من أهل الخبرة ولا تضمن إنشاء حكم لكن الإجمال في تعبيرهم هو الذي أنتج اختلاف الأقوال، فالسيد الخوئي (قدس سرّه) الذي التزم بعدم جواز نقض حكم الحاكم الشرعي في كتاب (الاجتهاد والتقليد) منع من ثبوت الهلال بحكمه وقال في وجه ذلك «وهل ينفذ حكم الحاكم ويحرم نقضه في غير موارد الترافع أيضاً كثبوت الهلال ونصب القيّم والمتولي ونحوها؟ يأتي عليه الكلام ونبين هناك انه لا دليل على نفوذ حكم الحاكم في غير موارد الترافع»(1) وأشار بذلك إلى قوله لاحقاً «ومن هنا يظهر أن الفقيه ليس له الحكم بثبوت الهلال ولا نصب القيم أو المتولي من دون انعزالهما بموته، لأن هذا كله من شؤون الولاية المطلقة وقد عرفت عدم ثبوتها بدليل، وإنما الثابت أن له التصرف في الأمور التي لا بد من تحققها في الخارج»(2).

أقول: هذا يؤكّد أنه (قدس سرّه) إنما يقول بعدم ثبوت الهلال بحكم الحاكم الشرعي، لأنه لا يرى المورد مصداقاً له.

وبحسب التنوع المتقدم للأحكام، تتعدد حيثيات هذه الأحكام:

فمنها: ما له جهة طريقية محضة وليس للإنشاء أي موضوعية فيه كتعامل العلماء مع المسألة محل البحث فهي ليست إنشاءً وإنما إخبار عن تحقق الحجة المعتبرة على ثبوت الهلال، وهذا لا يكون حجة إلا على من يطمئن إلى صحة الطريق من حيث المستند والاستناد.

ومنها: ما يكون للإنشاء جهة موضوعية وطريقية كأحكام القضاء

ص: 167


1- التنقيح من الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي: كتاب الاجتهاد والتقليد: 1/334.
2- الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي (قدس سرّه): 1/360.

الصادرة من الفقيه فإصدار الحكم له جهة موضوعية لأنه سبب للزوم ترتيب الأثر، وله جهة طريقية لأن الغرض منه الوصول إلى الحق والواقعبحسب المقدمات المتوفرة وحينئذٍ لا يجوز نقضها؛لجهتها الموضوعية إلا إذا عُلمَ مخالفتها للواقع لانتفاء طريقيتها.

ومنها: ما يكون فيها للإنشاء جهة موضوعية صرفة كالأحكام الصادرة بولاية الفقيه فإنه لا يجوز نقضها حتى لو عُلِمَ بمخالفتها للحكم الواقعي الأولي؛ لأن ولاية الفقيه سبب تام لإنشاء الأحكام عند القائل بها كالعناوين الثانوية.

ص: 168

ثانيًا: التقية

اشارة

يعد بحث التقية من الأبحاث المهمة ، والتي لها تأثير واضح في عملية استنباط الحكم الشرعي ، اذ ان كثيرًا من الروايات صدرت عن المعصومين (علیهم السلام) تقيةً ، وهذا يعني ان مثل هذه الروايات لا تصلح لان يستنبط منها حكم شرعي ؛ لانها لا تعبر عن المراد الجدي للمعصوم (علیه السلام).

ومن هنا برزت الحاجة لوضع القواعد والأسس التي نميز على وفقها مثل هذه الروايات

وسنحاول هنا إبراز كلمات شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في هذا الموضوع من خلال ما جاء في أبحاث موسوعة فقه الخلاف في خمس مسائل:

المسألة الأولى: روايات جراب النورة.

المسألة الثانية: إلقاء الخلاف بين الشيعة.

المسألة الثالثة: معايير صدور الخبر تقية.

المسألة الرابعة: لا تقية في تحديد الموضوعات الخارجية.

المسألة الخامسة: معنى اخر للتقية.

واليك تفاصيل هذه المسائل:

ص: 169

المسألة الأولى: روايات جراب النورة.

ان واحدة من طرق تمييز الاخبار الصادرة تقية إخبار الاصحاب عن ذلك ؛ اذ انهم كانوايعبّرون عن بعض هذه الاخبار بانها من جراب النورة. وقد ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) هذه المسالة في اكثر من موضع منها:

1- ما جاء في الجزء الأول (صفحة 46) حيث قال (دامت بركاته) في مسالة تحديد سن البلوغ:

وأخذ البعض بروايات الخمس عشرة لأن العمل بها أشهر حتى كاد أن يكون إجماعاً مضافاً إلى موافقتها للأصل وهو استصحاب عدم البلوغ حتى الحد الثاني وحمل السيد صاحب الرياض (قدس سرّه) روايات الثلاث عشرة على التقية وقال: «فالعجب كل العجب من الكفاية حيث استوجه العمل بها مع عدم تصريح منه بقائل بها بالمرة»(1)، ودفعها –أي روايات الثلاث عشرة- صاحب الجواهر (قدس سرّه) ب«استبعاد خفاء مثل ذلك على الأساطين، سيما مع معروفية ما يقع منهم (علیهم السلام) تقية بين خواصّهم، حتى كان بعضهم يقول لبعض: قد أعطاك من جراب النورة»(2).

ص: 170


1- رياض المسائل: 9/243.
2- جواهر الكلام: 26/35. ويشير بالفقرة الأخيرة إلى رواية سلمة بن محرز قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): رجل مات وله عندي مال وله ابنة وله موالي قال: فقال لي: اذهب فأعط البنت النصف وأمسك عن الباقي، فلما جئت أخبرت أصحابنا بذلك فقالوا: أعطاك من جراب النورة، فرجعت إليه فقلت: إن أصحابنا قالوا لي: أعطاك من جراب النورة قال: فقال: ما أعطيتك من جراب النورة، علمَ بها أحد؟ قلت: لا، قال: فأعط البنت الباقي) (وسائل الشيعة: كتاب الفرائض والمواريث، أبواب ميراث ولاء العتق، باب 1، ح16). وفي مجمع البحرين (3/506 مادة: نور): (قوله (علیه السلام): (أعطاك من جراب النورة لا من العين الصافية) على الاستعارة، والأصل فيه أنه سأل سائل محتاج من حاكم قسي القلب شيئاً فعلق على رأسه جراب نورة عند فمه وأنفه كلما تنفس دخل في أنفه منها شيء، فصار مثلاً يضرب لكل مكروه غير مرضي. وفي ضوء هذا قال الشيخ المفيد (رضوان الله تعالى عليه): «إن المكذوب منها لا ينتشر بكثرة الأسانيد، انتشار الصحيح المصدوق على الأئمة (علیهم السلام) فيه، وما خرج للتقية لا تكثر روايته عنهم، كما تكثر رواية المعمول به، بل لا بد من الرجحان في أحد الطرفين على الآخر من جهة الرواة حسب ما ذكرته». «ولم تجمع العصابة على شيء كان الحكم فيه تقيةً ولا شيء دُلِّس فيه ووضع مخروصاً عليهم وكذب في إضافته إليهم،فإذا وجدنا أحد الحديثين متفقاً على العمل به دون الآخر علمنا أن الذي اتفق على العمل به هو الحق في ظاهره وباطنه، وإن الآخر غير معمول به، إما للقول فيه على وجه التقية، أو لوقوع الكذب فيه». «وإذا وجدنا حديثاً يرويه عشرة من أصحاب الأئمة (علیهم السلام) يخالفه حديث آخر في لفظه ومعناه، ولا يصحّ الجمع بينهما على حال، رواه اثنان أو ثلاثة، قضينا بما رواه العشرة ونحوهم على الحديث الذي رواه الاثنان أو الثلاثة، وحملنا ما رواه القليل على وجه التقية أو توهم ناقله» (تصحيح الاعتقاد: 71 طبعة تبريز). أقول: لقد استطردنا في ذكر هذه المباني لأنها جارية في أبواب الفقه.

2- ما جاء في الجزء الخامس (صفحة 232 - 233) عند البحث في ما تجب فيه الزكاة ، حيث قال (دامت بركاته):

إن بعض الأكابر من الرواة كزرارة ومحمد بن مسلم الذين نقلوا روايات الإمامين الصادقين (علیهما السلام) التي حصرت الزكاة في الأربع، هم أنفسهم نقلوا روايات ثبوت الزكاة عن الصادق (علیه السلام) بالنسبة لغيرها، فنقلهم ينافي صدوره تقية، وقد عُرف عنهم أنهم إذا نقلوا رواية عن الإمام (علیه السلام) فيها تقية يعرّضون فيها ويقولون: (إنها من جراب النورة).

المسألة الثانية: إلقاء الخلاف بين الشيعة.

قد يتصور البعض ان الخبر الصادر تقية هو خصوص الخبر الموافق لرأي

ص: 171

العامة على اختلاف مذاهبهم ، اما اذا كان موافقا لبعضهم دون بعض فلا يكون تقية.وقد رفض شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) هذا المعيار لتمييز اخبار التقية اذ ان الخبر قد يكون موافقا لبعض العامة ومخالفا لبعضهم الاخر ومع ذلك يكون تقية ؛ لان بعض الاخبار صدرت عن الائمة (علیهم السلام) بداعي إلقاء الخلاف بين شيعتهم ؛ لحمايتهم من الظلمة ، مع ان العامة غير متفقين على راي واحد في نفس تلك المسالة. وقد ذكر سماحته هذا المعنى في الجزء الثالث (صفحة 432 -433 ) عند البحث في مسالة مفطرية رمس الرأس، حيث قال (دامت بركاته):

قال شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) في الرد على هذا الترجيح: «ودعوى أن الموثقة موافقة للعامة، والصحيحة مخالفة لهم فلا بد من تقديم الصحيحة عليها تطبيقاً للترجيح بمخالفة العامة. مدفوعة: بأنَّ تطبيق هذا الترجيح منوط بكون الموثقة موافقة لكل مذاهب العامة على نحو لا تكون مندوحة للتخلص عن الحمل عليها، وأما إذا كانت موافقة لبعضها ومخالفة لبعضها الآخر فلا مقتضي لحملها على التقية تطبيقاً للترجيح بمخالفة العامة لتوفر الطريق للتخلص عنها والمقام من هذا القبيل فجواز الارتماس وعدم بطلان الصوم به ليس أمراً اتفاقياً لدى العامة كلاً، فإذن لا موجب لحملها على التقية لإمكان التخلص عنها»(1).

وقد رددنا على مثل هذا الدفع فيما تقدم بأن الحمل على التقية لا يشترط فيه ذلك، لأن التقية قد تقتضي إلقاء الخلاف بين الشيعة لدفع كيد الظالم فيجيب الإمام (علیه السلام) بأجوبة مختلفة يكون الحق منها أحدها والأخرى

ص: 172


1- تعاليق مبسوطة: 5/64.

تشابه أقوالاً عند غيرهم وإن لم يكن متفقاً عليها.

المسألة الثالثة: معايير صدور الخبر تقية.

عندما تتعارض الاخبار ، يكون رمي بعضها بالتقية طريقا لعلاج التعارض ، ولكن شيخناالأستاذ (دامت بركاته) اعتبر ان هذا التعامل يعد تسامحا في إهمال الروايات ؛ ولذا فانه عمل على وضع معايير لتمييز الخبر الصادر تقية عن غيره ، وقد جاء ذلك في مسالة ما تجب فيه الزكاة ، الجزء الخامس (صفحة 228-231 ).

ونص كلام سماحته هناك هو:

قد استغربنا في مواضيع عديدة من تسامح الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في إهمال عدد كبير من روايات أهل بيت العصمة (سلام الله عليهم) في كل مسألة لأدنى ملابسة من التقية وهي خسارة في هذا المعين الصافي، من دون سبب يذكر إلا العجز عن فهم الروايات والعلاقة بينها ووضع كل رواية في موضعها المناسب من هذا البناء الشامخ لفقه أهل البيت (علیهم السلام) ومنها هذه المسألة، فإن حمل المجموعة الأخيرة على التقية وإهمالها غير مبرر لعدة أمور:

1- إن بعض الروايات تأبى الحمل على التقية لما فيها من البيان المفصّل والتعليل كما في صحيحة زرارة التي هي مثل صحيحة محمد بن مسلم (1)مع

زيادة ، حين يتبرع الإمام (علیه السلام) بإعطاء قاعدة كلية بعد أن عدّ

ص: 173


1- صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألته عن الحرث ما يزكى منها، قال (علیه السلام): البر والشعير والذرة والدخن والأرز والسلت والعدس والسمسم كل هذا يزكّى وأشباهه) ، تهذيب الاحكام: 4/ 4. صحيحة زرارة عن أبي عبد الله (علیه السلام): مثله، وقال: (كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة، وقال: جعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) الصدقة في كل شيء أنبتت الأرض إلا ما كان في الخضر والبقول، وكل شيء يفسد من يومه) ، الكافي: 3/ 510.

الحبوب فقال (علیه السلام): (كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة) ثم يستدل عليه بتشريع من رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيقول: (جعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) الصدقة في كل شيء أنبتت الأرض إلا ما كان في الخضر والبقول وكل شيء يفسد من يومه) ولماذا ينسب الجعل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) إذا لم يكنواقعياً؟.

وكما في رواية أبي بصير (1)

حيث لم يكتف الإمام بإيجاب الزكاة في الأرز بل أضاف (علیه السلام) وجه ذلك بقوله (علیه السلام): (إن المدينة لم تكن يومئذٍ أرض أرز فيقال فيه ولكنه قد جعل فيه وكيف لا يكون فيه وعامة خراج العراق منه).

أو ما في معتبرة زرارة (2)حيث

سُئل (علیه السلام) عن الدخن فأجاب بالوجوب على جميع الحبوب.

أو ما في صحيحة محمد بن إسماعيل (3) إذ يسأل الإمام (علیه السلام) عن الرطبة

ص: 174


1- صحيحة أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): هل في الأرز شيء؟ فقال: نعم، ثم قال: إن المدينة لم تكن يومئذٍ أرض أرز فيقال فيه ولكنه قد جعل فيه، وكيف لا يكون فيه وعامة خراج العراق منه). تهذيب الاحكام: 4/ 65.
2- معتبرة زرارة قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): في الذرة شيء؟ فقال لي: الذرة والعدس والسلت والحبوب فيها مثل ما في الحنطة والشعير، وكل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق التي تجب فيها الزكاة فعليه فيه الزكاة). تهذيب الاحكام: 4/ 65.
3- صحيحة محمد بن إسماعيل قال: (قلت لأبي الحسن (علیه السلام): إن لنا رطبة وأرزاً فما الذي علينا فيهما؟ فقال (علیه السلام): أما الرطبة فليس عليك فيها شيء، وأما الأرز فما سقت السماء العشر، وما سقي بالدلو فنصف العشر من كل ما كلت بالصاع أو قال: وكِيل بالمكيال). الكافي: 3/ 511.

والأرز فيجيب الإمام (علیه السلام) بوجوب الزكاة في كل ما كيل بالصاع فلو كان صدورها تقية لاقتصر الإمام (علیه السلام) على مقدار الضرورة التي تُقدَّر بقدرها.

2- إن الأئمة (سلام الله عليهم) كانوا صريحين في بيان اقتصار الوجوب على التسع (1)

وردوا بحزم على من حاول التعميم للقياس أو أي وجه آخر ولم تأخذهم في الله لومة لائم، فما معنى الحمل على التقية؟3- إن التقية يمكن افتراضها بلحاظ الإمام (علیه السلام) أو بلحاظ شيعته وكلاهما لا يتمان (إما) بلحاظ الإمام (علیه السلام) فإنه ليس بهذه الدرجة من الانهزامية أمام الطغاة حتى يشرع لهم ظلم الناس وجباية أموالهم بغير حق مما يعني الإخلال بأهم وظائف الإمام (علیه السلام) وهي إقامة العدل ورفع الظلم عن الناس والدفاع عن المظلومين، مع أن الأئمة جاهروا بالمخالفة في أمور خطيرة أخرى كما مر في غير موضوع، مضافاً إلى ما دلّ بشكل خاص على أن الأئمة (علیهم السلام) لم يكونوا يتقون في أمر الزكاة كخبر أبي الحسن (المحسن) قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الحلي عليه زكاة؟ قال: إنه ليس فيه زكاة وإن بلغ مائة ألف درهم، كان أبي يخالف الناس في هذا)(2).

و(إما) بلحاظ حفظ شيعتهم من السلطات الحاكمة التي كانت تجبي الزكاة بقوة ولا تتسامح فيها، فهذا مما لا يحتاج إلى تشريع أحكام توجب الزكاة بل يكفي فيها ما دلّ على وجوب دفع الضرر ونحوه.

4- إن فقهاء العامة في عصر صدور النصوص خصوصاً في زمان الباقر والصادق (علیهما السلام) – حيث لم تحصر السلطات المذاهب بالأربعة بعد-

ص: 175


1- راجع فقه الخلاف: 5/ 217
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 9، ح7.

مختلفون في وجوب الزكاة في ما عدا التسع، قال ابن رشد في بداية المجتهد: «أما ما تجب فيه الزكاة من الأموال فإنهم اتفقوا منها على أشياء، أما ما اتفقوا عليه فصنفان من المعدن: الذهب والفضة اللتين ليستا بحلي، وثلاثة أصناف من الحيوان: الإبل والبقر والغنم، وصنفان من الحبوب: الحنطة والشعير، وصنفان من الثمر: التمر والزبيب وفي الزيت خلاف شاذ»(1)

إلى آخر كلامه.

وحصرها بعضهم بالتسع، قال ابن قدامه في المغني: «وقال مالكوالشافعي: لا زكاة في ثمر إلا التمر والزبيب ولا في حب إلا ما كان قوتاً وحكي عن أحمد إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب وهذا قول ابن عمر وموسى وطلحة والحسن وابن سيرين والشعبي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى وابن المبارك وأبي عبيد(2)... وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: إنما سنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وفي رواية عن أبيه عن جده عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: والعشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير، وعن موسى بن طلحة عن عمر أنه قال: إنما سنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) في هذه الأربعة: الحنطة

ص: 176


1- نقلها الشيخ المنتظري في كتاب الزكاة: 1/147.
2- قال أبو عبيد في كتابه (الأموال) صفحة 575: «أن الذي أختارُ من ذلك الاتباع لسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله): أنه لا صدقة إلا في الأصناف الأربعة التي سماها، وسنّها مع قول من قاله من الصحابة والتابعين ثم اختيار ابن أبي ليلى وسفيان إياه. وذلك أن النبي (صلی الله علیه و آله) حين خصّ هذه بالصدقة وأعرض عما سواها: قد كان يعلم أن للناس أموالاً مما تخرج الأرض. فكان تركه ذلك عندنا عفواً منه، كعفوه عن صدقة الخيل والرقيق، وإنما يُحتاج إلى النظر والتشبيه والتمثيل لنا إماماً مع من اتبعه من الصحابة والتابعين. إذ لم نجد عن النبي (صلی الله علیه و آله) ما هو أثبت منه وأتم إسناده يردوه» وعلّق السيد السيستاني (دام ظله): «فدليلهم إذن رواية ضعيفة مع عمل الأصحاب، وكأنهم قالوا بالتعميم بالقياس».

والشعير والتمر والزبيب، وعن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعثهما إلى اليمن يعلّمان الناس أمر دينهم فأمروهم أن لا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب، رواهنّ الدارقطني»(1).

5- ما كررناه في ترتيب أساليب حل التعارض والجمع بين الروايات وتتقدمها رتبة الدليل الخاص وهو موجود في المقام، وكذا الجمع العرفي وكلاهما متقدمان على الحمل على التقية ونحوها من المرجحات فلا تصلالنوبة إليها.

وقد ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) عدة معايير تنفي صدور الخبر تقية ، جاء ذكر ست منها في الجزء الخامس (صفحة 311-313) في مسالة زكاة أموال التجارة ، حيث قال (دامت بركاته):

أقول: حمل الروايات الدالة على الوجوب على التقية غير صحيح لوجوه:

1- إن التقية لو كانت موجودة وتقتضي صدور تلك المجموعة من الروايات عن الإمام (علیه السلام) فإنه كان يكفي استعمال ألفاظ ظاهرة في الوجوب وقابلة للاستعمال في الاستحباب للاتقاء من الآخر بذلك الظاهر ونصب قرينة لصرفها للاستحباب، ولا حاجة إلى استعمال ألفاظ كالصريحة في الوجوب مثل قوله (علیه السلام): (فعليه الزكاة) لأن الضرورات تُقدَّر بقدرها، وهذا المقدار كافٍ.

2- إباء نصوص المجموعة الأولى للحمل على التقية بلحاظ بيانها وتفاصيلها وذكر الشروط فيها ونوع الألفاظ المستعملة فيها وهذا كله غير

ص: 177


1- المغني: 2/550-551.

مناسب للنصوص الصادرة على نحو التقية.

3- لم نعهد من الأئمة (علیهم السلام) التقية في مثل هذه الموارد التي تؤدي إلى تقوية شوكة الطواغيت وتزيد من ظلمهم فالمبالغة في التقية غير متصورة في المقام ويشهد لهذا ما ورد في خبر أبي الحسن (المحسن) قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الحلي عليه زكاة؟ قال: إنه ليس فيه زكاة وإن بلغ مائة ألف درهم، كان أبي يخالف الناس في هذا)(1).

4- إن العامة وإن أوجبوا الزكاة على مال التجارة إلا أنهم يختلفون مضموناً وملاكاً عما ورد في روايات أهل البيت (علیهم السلام) فهم يوجبونها في مطلق أموال التجارة حتى لو دير بها لأنها تجب عندهم في قيمة عروضالتجارة «في قول أكثر أهل العلم»(2)

وليس في العروض نفسها، لذا فإنهم لا يشترطون دوران الحول على نفس المتاع كما استظهرناه، واكتفوا ب «حولان الحول على الأموال (أي القيمة) من وقت ملك العروض، لا على السلعة نفسها»(3). كما أنهم لم يشترطوا عدم طلبه بوضيعة أي أقل من رأس المال، والخلاصة أن الملاك عندهم هي الضريبة على رأس المال، بينما هي في فقه أهل البيت (علیهم السلام) - بحسب النصوص- ضريبة على تجميد المال وعدم تحريكه.

وقد بيّنتْ صحيحة زرارة (4) هذا الخلاف في المسألة بين مدرسة أهل

ص: 178


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 9، ح7.
2- المغني لابن قدامة: 2/623.
3- الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، ط3: 3/1867.
4- صحيحة زرارة قال: (كنت قاعداً عند أبي جعفر (علیه السلام)، وليس عنده غير ابنه جعفر (علیه السلام)، فقال: يا زرارة إن أبا ذر وعثمان تنازعا على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال عثمان: كل مال من ذهب أو فضة يدار ويُعمل به ويُتّجر به ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول، فقال أبو ذر: أمّا ما يتجر به أو دير وعُمل به فليس فيه زكاة إنما الزكاة فيه إذا كان ركازاً كنزاً موضوعاً، فإذا حال عليه الحول ففيه الزكاة، فاختصما في ذلك إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، قال: فقال: القول ما قال أبو ذر، فقال أبو عبد الله (علیه السلام) لأبيه: ما تريد إلا أن يخرج مثل هذا فيكف الناس أن يعطوا فقراءهم ومساكينهم؟ فقال أبوه: إليك عني لا أجد منها بداً) الاستبصار: 2/ 9-10.

البيت (علیهم السلام) ممثلة بأبي ذر ومدرسة الخلفاء ممثلة بعثمان.

فهذه الروايات الدالة على الوجوب مخالفة للتقية لمخالفتها لفتاواهم ومبانيهم وتدلّ على عكس ما أراد المحدث الكاشاني وصاحب الحدائق (قدس الله سريهما).

5- «ما في مصباح الفقيه من أن صدور هذه الأخبار المتكاثرة لإظهار خلاف الواقع من غير سبق سؤال ملجِئ لذلك في غاية البعد.

ففيه: أن أكثر الأخبار المذكورة هنا في الباب 13 مسبوقة بالسؤال. ثمإن التقية لحفظ الشيعة لا تتوقف على وجود السؤال، بل عليه (علیه السلام) إيجاب الزكاة عليهم ابتداءً بداعي حفظهم، كما عرفت»(1).

6- «إن الحمل على التقية فرع تعذّر الجمع العرفي وإلا كان هو المتعين»(2) والمفروض بحسب المشهور إمكان الجمع؛ قال السيد السبزواري (قدس سرّه): «ولا وجه لحمل ما دل على الوجوب على التقية كما عن الكاشاني والحدائق: لأنه بعد عدم إمكان الجمع العرفي والمفروض إمكانه وهو حمل الوجوب على مطلق الرجحان»(3).

كما جاء في الجزء الخامس ايضًا في مسالة الزكاة في مال الصغير (صفحة 428- 431) مناقشة معايير أخرى لتمييز الخبر الصادر تقية ، حيث قال (دامت

ص: 179


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله): 2/191.
2- مستمسك العروة الوثقى: 9/59.
3- مهذب الأحكام: 11/58.

بركاته):

حمل ما دل على وجوب الزكاة في مال الصغير إذا اتجر به على التقية، ونُسِبَ إلى الشيخ (قدس سرّه) كما عن المحقق الهمداني (قدس سرّه)(1) ويظهر من كلام صاحب الجواهر (قدس سرّه) (2) احتماله وإن جعله مرجوحاً. واحتمله أيضاً الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) الذي كرر ما قاله أستاذه صاحب الجواهر (قدس سرّه) من «أن حمل تلك الأخبار على الاستحباب أولى من حملها على التقية»(3)

وتبعه تلميذه المحقق الهمداني (قدس سرّه) فقد قال عن أخبار المسألة: «وظاهرها الوجوب ولكن المتعين إما حملها على التقية أو الاستحباب»(4).

وأُجيب بأن «الأخبار فصّلت في مال اليتيم بعدم الزكاة فيه إلا إذا اتجر به ولم يفصل أهل السنة في ماله بل حكم الشافعي ومالك وأحمد بثبوت الزكاة في مال اليتيم مطلقاً وحكم أبو حنيفة بعدمها فيه مطلقاً فراجعالمسألة 41 من زكاة الخلاف فالتفصيل بين مال التجارة وغيره في اليتيم لا يناسب التقية»(5).

وورد في بحث السيد السيستاني (دام ظله الشريف) مثله(6).

أقول: لا يكفي هذا الجواب لمنع الحمل على التقية إذ أنهم وإن لم يكن لهم قول صريح بالتفصيل، إلا أن كلامهم يؤول إليه؛ لأنهم رووا ما يحث

ص: 180


1- راجع موسوعة فقه الخلاف: 5/ 445
2- راجع موسوعة فقه الخلاف: 5/ 421
3- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سرّه): 10/84.
4- مصباح الفقيه: 4/3.
5- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سرّه): 1/62.
6- راجع موسوعة فقه الخلاف: 5/ 415

على الاتجار بمال الصغير (1)

لئلا تأكله الزكاة وهم يوجبون الزكاة فيه، فكأن مذهبهم المشهور الاتجار به وتزكيته، وعليه يفهم كلام الإمام (علیه السلام) وكأنه قال: اتجِرْ به وزكّه، أي أن الجملة وإن كانت شرطية ظاهراً إلا أنها ليست تعليقية نظير قول المولى: (إذا جئتني فاجلب لي الكتاب الفلاني) فإن العبد يفهم لزوم المجيء وجلب الكتاب، وليس تعليق جلب الكتاب على المجيء متى شاء.

وورودها في الكتاب والسنة كثير كقوله (علیه السلام) في الدعاء: (إلهي إن كنتُ بئس العبد فأنت نعم الرب) فالله تعالى نعم الرب سواء كنت بئس العبد أو لم أكن، وأنا بئس العبد فعلاً وليس على نحو التعليق.

نعم لا يصح حمل تلك الروايات على التقية لإبائها ذلك من عدة جهات:

1- إن نفس الروايات مخالفة للتقية لأنها تضمنت عدم وجوب الزكاة في مال الصغير خلافاً للمشهور عندهم.

2- لأن الاتجار بمال الصغير ليس موضوعاً للسؤال عندهم.

3- لكثرتها وتظافرها مما لا يحتمل معه كونها صادرة لإظهار حكم مخالف للواقع.

4- ابتداء الإمام (علیه السلام) بالأمر دون سؤال كما في صحيحة يونس بنيعقوب (2)وغيرها.

5- تعرضها لحكم يتشدد فيه الشارع المقدس وهو مال الصغير الذي

ص: 181


1- راجع موسوعة فقه الخلاف: 5/ 392
2- صحيحة يونس بن يعقوب قال: (أرسلت إلى أبي عبد الله (علیه السلام) أن لي إخوة صغاراً فمتى تجب على أموالهم الزكاة؟ قال: إذا وجبت عليهم الصلاة وجبت الزكاة، قلت: فما لم تجب عليهم الصلاة؟ قال: إذا اتجر به فزكه). الكافي: 3/ 541.

جعل أكله بالباطل إدخالاً للنار في بطونهم فكيف يعطي الإمام حكماً بالوجوب في غير موضعه تقية.

6- لصدور الكثير منها قبل تشكل المذاهب المذكورة فضلاً عن كونها تمثل الرأي العام للسلطة وقضاتها فلم يكن حينئذٍ مبرر للتقية، بل ورد عن أبي عبد الله (علیه السلام): (كان أبي يخالف الناس في مال اليتيم ليس عليه زكاة)(1) ونحوها من الوجوه.

وذكر المحقق الهمداني (قدس سرّه) بياناً آخر للتقية سنذكره(2)

بإذن الله تعالى وأخذه منه بعض أعلام العصر (قدس سرّه) فقال: «اللهم إلا أن لا يراد التقية من أهل الفتوى بل التقية في مقام العمل في قبال حكام الوقت فإن الزكاة كانت تطلب من قبل الحكام، والذهب والفضة لم تكن بمرآهم بخلاف الغلات والمواشي ومال التجارة فيكون الوجوب في قوله في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم السابقة: (فأما الغلات فعليها الصدقة واجبة) وكذا في أخبار مال التجارة بمعنى الثبوت ويراد به الإخبار عن الثبوت خارجاً فيكون نظر الأئمة (علیهم السلام) أن مال اليتيم ليس فيه زكاة شرعاً ولكن في الغلات والمواشي ومال التجارة تثبت خارجاً بأخذهم لها قهراً»(3).

أقول: وفيه:1- ما ذكرناه من إباء المجموعة عن الحمل على التقية خصوصاً وإن الراويين هما محمد بن مسلم وزرارة.

2- النقض عليه بعدم التعرض للمواشي مع أنها تشترك مع المذكورات بالمناط.

ص: 182


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب من تجب عليه الزكاة، باب 1، ح9.
2- راجع موسوعة فقه الخلاف: 5/ 446.
3- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سرّه): 1/62.

3- عدم الحاجة لاختصاص الصغير بذلك بل تشمله روايات الزكاة في أموال التجارة.

4- ما قلناه في مسألة مشابهة من أن الأئمة (علیهم السلام) لا يمكن أن يشرعنوا ظلم السلطة وغصبها لأموال الناس، فيفتون بالوجوب لتبرير جباية السلطة للزكاة ظلماً وعدواناً، بل ورد عنهم (علیهم السلام) حثّ شيعتهم على عدم الدفع للحكومات الظالمة كما في صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (في الزكاة فقال: ما أخذ منكم بنو أمية فاحتسبوا بها ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم فإن المال لا يبقى على هذا أن تزكيه مرتين»(1)

وفي معتبرة قرب الإسناد عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه (أن علياً (علیه السلام) كان يقول: اعتد في زكاتك بما أخذ العشار منك واحفظها عنه ما استطعت) (2).

وغاية ما فعلوه (علیهم السلام) رحمة بشيعتهم تخييرهم بإمكان الاجتزاء بما يأخذه السلطان من الزكوات وليس عليهم أداء غيرها كما في عدد من الروايات المعتبرة، ومنها صحيحة سليمان بن خالد قال: (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (إن أصحاب أبي أتوه فسألوه عما يأخذ السلطان، فرقّ لهم، وإنه ليعلم أن الزكاة لا تحل إلا لأهلها، فأمرهم أن يحتسبوا به، فجال فكري والله لهم، فقلت له: يا أبه، إنهم إن سمعوا إذن لم يزكِّ أحد، فقال: يا بني،حقّ أحبّ الله أن يظهره)((3).

وجاء في الجزء الحادي عشر (صفحة 95) في مسالة توريث أولاد الأولاد مع وجود الولد المباشر بيان علامة اخرى تنفي التقية في الخبر ، وهي كون المسالة ليست بذات أهمية عند العامة ، حيث قال شيخنا الأستاذ (دامت بركاته):

ص: 183


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 20، ح3،.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين للزكاة، باب 20، ح4.
3- (3) وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب المستحقين، باب 20، ح8.

«إن كثيراً من العامة وافقوا الصدوق كما عن الكليني والمجلسي وغيرهما حكايته وهو موهن للخبرين –اللذين فيهما (ولا وارث غيره)- وإن كان الإجمال السابق وغيره كافياً في عدم صلاحية ذلك لمعارضة ما تقدم من الأدلة الواضحة»(1).

أقول: يناقش بأن المسألة ليست بدرجة من الأهمية عند القوم حتى يتقى منهم.

المسألة الرابعة: لا تقية في تحديد الموضوعات الخارجية.

جاء في الجزء الثالث عشر في مسالة مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيرًا ان التقية لا تتأتى في تحديد الموضوعات الخارجية التي يمكن استيضاحها من عامة الناس كتحديد أسعار الأشياء وقيمتها ، ولذا رفض شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ان تكون الروايات المحددة لقيمة البعير بعشرين من الغنم قد صدرت تقية كما ذهب اليه بعض الفقهاء.

ونص كلام سماحته في هذا المقام هو:

«قد ورد في روايات ثلاث: أن قيمة كل بعير عشرون غنماً:

منها: صحيحة ابن سنان، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول في حديث: (إن الدية مائة من الإبل، وقيمة كل بعير من الورق مائة وعشروندرهماً، أو عشرة دنانير، ومن الغنم قيمة كل ناب -وهي المسنة- من الإبل عشرون شاة).(2)

ومنها: صحيحة معاوية بن وهب، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن دية العمد، قال: (مائة من فحولة الإبل المسان، فإن لم يكن إبلٌ فمكان كل جمل

ص: 184


1- جواهر الكلام: 39/121.
2- الكافي: 7/ 281.

عشرون من فحولة الغنم).(1)

ومنها: معتبرة أبي بصير، قال: سألته عن دية العمد الذي يقتل الرجل عمداً، قال: (فقال: مائة من فحولة الإبل المسان، فإن لم يكن إبلٌ فمكان كل جمل عشرون من فحولة الغنم).(2)

أقول: هذه الروايات -مضافاً إلى أنه لا عامل بها وأن مضمونها مقطوع البطلان، حيث أنه ليس قيمة كل بعير عشرون شاة- معارضة بما دل على أن الدية ألف شاة، فتحمل على التقية لموافقتها للعامة على ما في المغني»(3).

أقول: صحيح أن هذا القول موجود عند العامة … إلا أنه لا يبرر حمل الروايات على التقية؛ لأن ألسنتها تأباه، ولأن هذا الحمل فرع عدم وجود جمع عرفي وقد تحقق وجوده بما قلناه أو بما قاله الشيخ على الأقل. بل إن هذا الحمل بعيد في نفسه «لأن تحديد قيمة البعير بالدرهم والدينار، أو بالغنم موضوع خارجي واضح عند السامع، أو قابل للاستيضاح، فلا يمكن أن يصدر فيه بيان من المعصوم على خلاف الواقع الذي كان جارياً في زمانه».

وأضاف (قدس سرّه): «فالحاصل: لو كانت الصحيحة وردت ابتداءً بعنوان (الدية اثنا عشر درهم وألفا شاة) أمكن صدورها تقية؛ وأما بهذا اللسان الذي هو لسان تحديد ما يعادل من الغنم كل ناب من الإبل -والذي لا تكوننتيجته ألفين، بل تضعيف الغنم في خصوص ما يلزم من الإبل كونه ناباً،

ص: 185


1- الاستبصار: 4/ 260.
2- تهذيب الاحكام: 10 / 160.
3- مباني تكملة المنهاج، مصدر سابق: 232.

وهو أربعون لا أكثر -فمما لا يحتمل فيه التقية، ولا معنى لها فيه»(1).

أقول: لم يقل السيد الخوئي (قدس سرّه) ألفي شاة وإنما ذكر أن نتيجة هذا العدد تختلف عن الألف المروية وهي تتحقق بزيادة الغنم بإزاء بعض المائة أي الأربعين، وهذا في غير العمد، أما فيه فالإبل كلها من المسان.

المسألة الخامسة: معنى اخر للتقية.

من المعروف عند الجميع ان اصطلاح التقية يراد به جهة الصدور اَي ان المعنى الذي يؤديه الخبر غير مراد جدا للامام (علیه السلام) ، وانما ذكره الامام موافقة للعامة ودفعا لخطرهم وظلمهم وحفاظا على شيعته ، ولكن بعض الفقهاء (رضوان الله عليهم) قد يطلقون على بعض الاخبار صفة التقية مع انهم لا يريدون جهة الصدور ، وانما يريدون ان المعنى الظاهر منها غير مراد ، وانما يراد معنى اخر بدلالة القرائن.

حيث نقل الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الخامس (صفحة 433 – 434) كلاما للشيخ الأنصاري (قدس سرّه) يفيد هذا المعنى:

قال الشيخ الأنصاري (قدس سرّه): «وحمل تلك الأخبار على التقية لا ينافي إرادة الاستحباب، لأن التقية تتأدى بظهور الكلام في الوجوب الذي هو مذهب المخالفين في مال التجارة، وإرادة الاستحباب بقرينة خارجية.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما حكي عن الحلي والمدارك من عدم الاستحباب»(2).

وتبعه المحقق الهمداني (قدس سرّه) فقال: «إن حمل هذه الأخبار الدالة بظاهرها على الوجوب على التقية كما نسب إلى الشيخ منافياًلاستفادة

ص: 186


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/196-197.
2- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سرّه): 10/12.

الاستحباب منها»(1).

وفيه:

1- إن الحمل على التقية يعني طرح الرواية، واعترف (قدس سرّه) بذلك في موضع آخر قال (قدس سرّه): «إن حمل تلك الأخبار على الاستحباب أولى من حملها على التقية، لأنه طرح في الحقيقة»(2)

وذكره المحقق الهمداني (قدس سرّه) في نفس الموضع، وحينئذٍ نقول: مع طرح الرواية لا يبقى دليل على الاستحباب.

2- إن حمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب بقرينة خارجية - ويقصد بها ما دل على نفي الزكاة في مال الصغير- من الجمع العرفي وهو سابق رتبة على الحمل على التقية ولا يبقى لها موضوع.

نعم، يمكن الدفاع عن الشيخ (قدس سرّه) بأن لا يراد بالحمل على التقية جهة الصدور، وإنما استعمال صيغة ظاهرة في الوجوب في مورد الاستحباب الذي يُفهم من قرائن خارجية، وهو فهم ينفع في الدفاع عن هؤلاء الأساطين ودفع إشكال الملازمة عنهم، وإن لم ينسجم مع ظاهر عبارته (قدس سرّه).

ص: 187


1- مصباح الفقيه: 4/3.
2- الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري (قدس سرّه): 10/84.

ثالثاً: تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية

من الابحاث المهمة والتي تمثل احدى المقدمات الابتلائية في عملية استنباط الاحكام الشرعية مبحث تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية ، فاذا سقطت الدلالة المطابقية عن الحجية هل نقول بسقوط الدلالة الالتزامية أيضا للتبعية او نقول ببقاء حجيتها لعدم التبعية ؟

وقد بحث سماحة الشيخ الأستاذ (دامت فيوضاته) هذه المسالة في الجزء الرابع (صفحة 57- 62) ، عند البحث عن ثبوت الهلال بالبينة فيما لو اختلف الشاهدان في بعض التفاصيل.

وقد انتهى سماحته الى التفصيل في هذه المسالة ، فالدلالة الالتزامية تسقط اذا سقطت الدلالة المطابقية لقصور في المقتضي ، اما اذا كان سقوط الدلالة المطابقية لمانع خارجي كالمعارضة فتبقى الدلالة الالتزامية حجة ، قال (دامت بركاته):

فائدة: توجد محاولة لإمكان ثبوت الهلال بالبينة وإن اختلف الشاهدان في بعض تفاصيل المشهود به، قال السيد الخوئي (قدس الله سره): «قد يقال إنهما وإن اختلفا في المدلول المطابقي وهو الإخبار عن فرد خاص من الهلال، إلا أنهما متفقان في المدلول الالتزامي وهو الإخبار عن أصل وجود الهلال والكلّي الجامع القابل للانطباق على كل من الفردين، ولا فرق في حجية البينة -كغيرها مما هو من مقولة الحكاية - بين المدلول المطابقي والالتزامي، فإذا سقطت المطابقة عن الحجية أما لأجل المعارضة، أو لعدم حصول الشهادة الشرعية- لا مانع من الأخذ بالمدلول الالتزامي»(1).

أقول: تقريب الإشكال على الدلالة الالتزامية ليس دقيقاً لأن الإخبار عن

ص: 188


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 22/72.

أصل وجود الهلال والكلي الجامع عُلم بالدلالة التضمنية حيث تتحلل شهادة كل منهما إلى هذا الجامع زائداً الخصوصيات المختلففيها(1) نظير الجنس والفصل أو على نحو تعدد المطلوب، ويتأكد الإشكال عليه (قدس سرّه) بلحاظ السياق الذي ورد فيه وهو ادعاء أحدهما أن الفتحة إلى الجنوب والآخر إلى الشمال فالدلالة الالتزامية متكاذبة، لكن السيد الحكيم (قدس سرّه) أورد التقريب في موضع آخر(2) وهو شهادة أحدهما بالرؤية ليلة الاثنين والآخر ليلة الثلاثاء باعتبار أن لازم شهادة الأول كون يوم الثلاثاء من الشهر فيشترك بهذا المدلول مع الثاني، وقد قرّبنا سابقاً التكاذب في هذه الصورة أيضاً.

وعلى أي حال فالمسألة عنده (قدس سرّه) مبنية على إمكان التفكيك بين الدلالتين المطابقية والالتزامية في الحجية وعدمه، أي هل أن الدلالة المطابقية تتبع الالتزامية بالحجية كما تتبعها بالوجود أم لا؟

واختار السيد الحكيم (قدس سرّه) الإمكان وفاقاً لأستاذيه النائيني والعراقي (قدس الله سريهما)، وذهب السيد الخوئي (قدس سرّه) إلى العدم وتبعه تلامذته كالشيخ الفياض(3) وبعض من حضرنا بحثه الشريف،

والذي أبني عليه التفصيل، فإن سقوط حجية الدلالة المطابقية إن كانت لمانع ذاتي أي لقصور في المقتضي فإن الالتزامية تتبعها لانتفاء أصل وجود الحجية للدلالة المطابقية حينئذٍ، ووجود الالتزامية متفرع عنه، كما

ص: 189


1- وقرّر نفس السياق تلامذته الذين ناقشوا مطالبه كالشيخ الفياض (دام ظله الشريف) قال: «باعتبار أن من شهد برؤية الهلال بالمطابقة في الطرف الجنوبي فقد شهد بالالتزام برؤية الهلال بالجامع» (فيض العروة الوثقى: 2/141).
2- مستمسك العروة الوثقى: 8/457.
3- فيض العروة الوثقى: 2/141.

لو كانت دار بيد عمرو واليد أمارة على الملكية، ثم قامت البينة على أن الدار لزيد فلازمها أنها ليست لعمرو الذي هو صاحب اليد على الدار والبينة حجة في هذا اللازم لأنه بيّن بالمعنى الأخصّ والبينة تقدم على اليد فيثبت بها أن الدار لزيد وليست لعمرو، فلو أقرّ زيد على أنالدار ليست له والإقرار مقدم على البينة فإن الدلالة المطابقية تبطل وكذا الدلالة الالتزامية تسقط وتبقى الدار لصاحب اليد، ولا يمكن القول أن الدلالة الالتزامية تبقى والدار لا لزيد ولا لعمرو.

وإن كان سقوط حجية الدلالة المطابقية لمانع خارجي كتعارضها مع دليل آخر فلا دليل على سقوط حجية الالتزامية لأنها تثبت بثبوت المطابقية ولم يحصل مانع من استمرارها وإنما من المطابقية.

وبتعبير آخر: إن الدلالة المطابقية لم تسقط عن الوجود حتى تتبعها الالتزامية وإنما منع من تأثيرها مانع، ونظير هذا نقوله في سقوط حجية طرفي الإجماع المركب بسبب التعارض بينهما لكن دلالتهما الالتزامية في نفي قول ثالث تبقى قائمة وفي هذا نقض على القائل بعدم إمكان التفكيك بين الدلالتين في الحجية.

لا يقال: إن نفي الثالث هنا للإجماع عليه من الطرفين وليس للدلالة الالتزامية.

فإنه يقال: إن هذا الإجماع هو مجموع الدلالتين الالتزاميتين لطرفي الإجماع المركب.

وأستطيع القول أن هذا التفصيل يصلح وجهاً للجمع بين القولين السابقين فإن الفريق الأول القائل بالإمكان نظر إلى الحالة الثانية، وإن الفريق الثاني القائل بالمنع نظر إلى الحالة الأولى، ويمكن استفادة ذلك من كلماتهم.

ص: 190

قال المحقق النائيني (قدس سرّه): «وتوهم: أن الدلالة الالتزامية فرع الدلالة المطابقية وبعد سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي لا مجال لبقاء الدلالة الالتزامية لهما في نفي الثالث، فاسد فإن الدلالة الالتزامية إنما تكون فرع الدلالة المطابقية في الوجود لا في الحجية. وبعبارة أوضح: الدلالة الالتزامية للكلام تتوقف على دلالته التصديقية أي دلالته على المؤدى، وأما كون المؤدى مراداً: فهو مما لا يتوقف عليه الدلالةالالتزامية»(1).

وقال السيد الخوئي (قدس سرّه): «أن الإخبار عن الملزوم وإن كان إخباراً عن اللازم، إلا أنه ليس إخباراً عن اللازم بوجوده السعي، بل إخبار عن حصة خاصة هي لازم له، فإن الإخبار عن وقوع البول على الثوب ليس إخباراً عن نجاسة الثوب بأي سبب كان بل إخبار عن نجاسته المسببة عن وقوع البول عليه، فبعد العلم بكذب البينة في إخبارها عن وقوع البول على الثوب، يعلم كذبها في الإخبار عن نجاسة الثوب لا محالة. وأما النجاسة بسبب آخر، فهي وإن كانت محتملة، إلا أنها خارجة عن مفاد البينة رأساً»(2).

وذكر بعض من حضرنا بحثه الشريف وجهاً آخر لتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية بالسقوط حاصله: إن الدلالة الالتزامية والتضمنية ليست من أقسام الدلالة اللفظية كما صوّره المناطقة لأن المتكلم لم يخبر عنها فالدلالة التفهيمية التي يتقوم بها الظهور مفقودة، وإن هاتين الدلالتين راجعتان إلى الدلالة الإخطارية أي أن إخطار شيء يلزم منه خطور شيء آخر وفاقاً لما ذكره الطوسي في شرح الإشارات من أن الدلالة التضمنية والالتزامية هي لفظية بمعونة العقل؛ لأن العقل يحكم بعدم الانفكاك فإذا

ص: 191


1- فوائد الأصول: 4/755-756.
2- مصباح الأصول: 3/370.

ثبت الملزوم ثبت اللازم، وإذا وجد زيد فلا محالة فإن الإنسان موجود، فإذا سقط المدلول المطابقي فإن العقل لا يحكم بوجود جميع اللوازم»(1).

أقول: لا يمكن قبول هذه الأطروحة على إطلاقها لما ذكرناه من أن اللزوم البيِّن بالمعنى الأخص بقوة الدلالة اللفظية، وأن من يشهد بأن فتحة الهلال إلى الأعلى فإنه ينفي كونها إلى الأسفل، ومن يشهد بأنالمال لزيد فإنه يشهد بأنه ليس لعمرو.

وعلى أي حال فإن تفصيل البحث موكول إلى محله من علم الأصول عند البحث في باب التعارض عن إمكان نفي حكم ثالث بالحكمين المتعارضين بإذن الله تعالى.

هذا كله بناءً على ما افترضته المحاولة من أن دلالة البينة على الجامع بالدلالة الالتزامية، أما بناءً على ما قربناه من أنها بالدلالة التضمنية فإن الأمر مختلف لأن بعض من قال بسقوط حجية الدلالة الالتزامية بسقوط حجية المطابقية لا يقول بذلك في الدلالة التضمنية، كما لو قال أحدهما حضر زيد وقال الآخر حضر عمرو فإنهما متكاذبان في الخصوصيات إلا أنهما متصادقان على الجامع وهو حضور كلي الإنسان.

وينبغي الالتفات أيضاً إلى أن سقوط حجية البينة هنا ليس لعدم إمكان التفكيك في الحجية بين الدلالتين المطابقية والالتزامية بحيث لو قلنا بالإمكان فإن الهلال يثبت بالدلالة الالتزامية كما افترضته المحاولة، وإنما سقطت للتكاذب وعدم الاطمئنان بصدقها وعدم تحقق مناط حجيتها وهو التصادق بين الشهادتين على مشهود واحد فوجود الجامع هنا لا ينفع فلو فرض أن أحد الشاهدين قال: قتل زيد عمراً في النجف وقال الآخر قتله في

ص: 192


1- محاضرة بتأريخ: 29/محرم/1417.

البصرة فوجود جامع كلي وهو قتل زيد عمراً لا يثبت هنا للتكاذب بين الشهادتين وأن القتل لا يمكن أن يقع في المدينتين، لكن لو شهد أحدهما بأن زيداً ضرب عمراً في النجف وقال الآخر في البصرة فإنه يمكن قبول الجامع لأن الضرب يمكن أن يقع في النجف وفي البصرة.

ثم قال صاحب العروة تبعاً لصاحب الجواهر: «ولا يعتبر اتحادهما في زمان الرؤية مع توافقهما على الرؤية في الليل» أي في نفس الليلة وعبارة صاحب الجواهر أوضح في ذلك، قال (قدس سرّه): «ولا كذلك -أي لا تبطل الشهادة- لو اختلفا في زمان الرؤية مع اتحاد الليلة»، كما لو شهدأحدهما برؤيته بعد الغروب بربع ساعة والآخر بنصف ساعة فإنها لا تؤثر على صحة الشهادة، على أن تكون رؤيتهما في ليلة واحدة وليس في ليلتين متعددتين لأن من يقول: رأيت الهلال في الليلة التالية ينفي بالدلالة الالتزامية ما قاله الآخر من رؤيته في الليلة السابقة.

أما لو أراد (قدس سرّه) اشتراط كون الرؤية في الليل فغير تام إذ لا يشترط أن تكونا في الليل، فلو شهد أحدهما برؤيته قبل المغرب بدقائق -لو فرض إمكانه- والآخر بعده كذلك لم يضر بشهادتهما «إلا إذا فرض التنافي بينهما، كما لو شهد أحدهما برؤيته قبل الغروب بخمس دقائق قريبا من الأفق بحيث لا يبقى فوقه أكثر من عشر دقائق مثلاً، وشهد الآخر بأنه رآه بعد الغروب بساعة فإن مثل هذه الشهادة لا تسمع، لرجوع ذلك إلى الخصوصيات الفردية المستلزمة لتكذيب أحدهما الآخر فإن الفرد الذي يشهد به أحدهما غير الفرد الذي يشهد به الآخر. ومثله لا يحقق البينة الشرعية»(1).

ص: 193


1- موسوعة السيد الخوئي: 22/77.

والخلاصة أن البينة حجة في ما إذا اتحد المشهود به أو كان على نحو اللزوم بالمعنى الأخص بحيث يكون موجباً لكون الدلالة الالتزامية لفظية لتحقق شهادتهما بأمر واحد.

ص: 194

رابعًا: حجية الاكتشافات العلمية

من المسائل التي باتت تشغل فكر الفقهاء مسالة إمكانية الاعتماد على معطيات ونتائج العلوم الحديثة في استنباط الحكم الشرعي ، فاذا أفادت المعطيات العلمية شيئًا ما ، هل يمكن للفقيه الاعتماد عليها والحكم على طبقها او لا ؟

وقد أشار سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) الى هذه المسالة إشارة سريعة في الجزء العاشر (صفحة 366) في مسالة التذكية الشرعية بمكائن الذبح الحديثة تحت عنوان (مسالة مستحدثة) ، وبيّن سماحته امكان التمسك بهذه المعطيات لعلاج الشبهات الموضوعية ، حيث قال (دامت بركاته):

(مسألة مستحدثة)

لو توصل العلم إلى علامات تكشف عن حياة الحيوان قبل ذبحه أمكن التمسك بها لجواز التذكية كفحص الطبيب البيطري لنبضات القلب، والاكتفاء بها عن العلامتين المذكورتين؛ لأن الشبهة موضوعية، والشارع المقدس تدخل لإرشاد المكلف إلى طريقة التحقق من الموضوع ورفع عجزه وحيرته، وليست المسألة حكماً شرعياً ليجب التعبد به.

مضافاً إلى أن الروايات دلّت على أن محل الرجوع إلى العلامات هو الحيوان المشتبه بحياته وقد صرّح به خبر أبان المتقدم (1)وروايات

أُخر في غير مورد، كصحيحة محمد بن قيس فيما أخذت بالحبالة (وكلوا ما أدركتم حياته وذكرتم اسم الله عليه)(2)، فكل ما يُعلم منه إدراك الحياة يكون كافياً

ص: 195


1- خبر أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا شككت في حياة شاة فرأيتها تطرف عينها أو تحرك أُذنيها أو تمصع بذنبها فاذبحها، فإنها لك حلال)
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 24، ح1.

للحل.وفي الجزء الثاني عشر بحث شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) قاعدة الولد للفراش وتكلم هناك (صفحة 64 – 68) عن دور البصمة الوراثية في اثبات النسب اذ قال:

فائدة:

في جميع الموارد التي حكم فيها بالرجوع إلى القرعة يجب اليوم الاستفادة من (البصمة الوراثية) وهي البنية الجينية -نسبة إلى الجينات أي المورثات- التي تدل على هوية كل إنسان بعينه؛ لأن القرعة لكل أمر مشكل، والمفروض أن هذه الوسيلة العلمية تعطي نتائج دقيقة في إسناد العينة - التي يمكن أخذها من خلية بشرية سواء من الدم أو اللعاب أو المني أو البول وغيرها - إلى صاحبها، وبذلك يرتفع موضوع القرعة بزوال الإشكال والحيرة، فقاعدة القرعة هنا محكومة على نحو الورود.

إن البصمة الوراثية وسيلة علمية يطمأن إليها(1)

في إسناد العينة إلى صاحبها وتقوم دليلاً على العلاقة النسبية بين الوالدين وأولادهما إلا أنه لا يجوز العمل بنتيجتها عند وجود حكم شرعي أو قاعدة شرعية حاكمة كقاعدة الولد للفراش لأن هذه القاعدة حاكمة على النتائج العلمية حيث: أسّسها الشارع المقدس لحفظ النظام الاجتماعي العام بغضّ النظر عن الواقع، كما في رواية ابن زمعة حيث ألحقه النبي (صلی الله علیه و آله) بصاحب الفراش مع شبهه بالزاني وعلمه (صلی الله علیه و آله) الواقعي بكونه من الزنا لذا أمر أم المؤمنين

ص: 196


1- قال بعض المتخصصين أن نسبة الخطأ أي احتمال تشابه بصمتين وراثيتين بين شخص وآخر هو واحد من 64 مليار وقيل واحد من تريليون مع أن سكان الأرض لا يصلون إلى 8 مليار (موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة: 13/62)، لكن أخطاء القائمين على عملية الفحص وقراءة النتائج محتملة.

سودة بنت زمعة بالتحجب منه (1).ويشترط في الاستفادة منها ومن سائر الوسائل العلمية إفادة العلم أو الاطمئنان وعدم وجود دليل شرعي حاكم في المورد فلا يثبت بالبصمة الوراثية انتفاء نسب ولد على فراش الزوجية، ولا يثبت الزنا في ما لو كشف تحليل البصمة على أن هذا الماء الموجود في مهبل المرأة من أجنبي أو أن بصمة الولد طابقت بصمة رجل أجنبي لاشتراط الشهود في إثبات العملية وهكذا.

إن قلتَ: تقدم أن قاعدة الفراش مأخوذة على نحو الطريقية فلو قطع بأن الولد ليس من الزوج فإنه لا يجوز إلحاقه به، وعلى هذا فالوسائل العلمية القطعية حاكمة عليها فلماذا لا يصح إثبات النسب بالبصمة الوراثية حتى في حالة وجود الفراش؟.

قلتُ: إن نسبة الخطأ في البصمة الوراثية وغيرها من الوسائل العلمية موجودة ولا يمكن إهمالها ولو من جهة القائمين على عملية الفحص وقراءة النتائج لغايةٍ ما خصوصاً مع تفشي الفساد المالي والإداري، ومع وجود هذا الاحتمال فإن قاعدة الفراش محكّمة.

وبتعبير آخر: إن قاعدة الفراش تجري طالما وجد احتمال لنسبة الولد إلى صاحب الفراش ولو كان ضئيلاً وهو موجود.

ص: 197


1- عن عائشة قالت: (كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة منّي، فاقبضه، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص، وقال: ابن أخي قد عهد إليَّ فيه، فقام عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه.. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هو لك يا عبد الله بن زمعة، ثم قال (صلی الله علیه و آله): الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة -زوج النبي (صلی الله علیه و آله)- احتجبي منه يا سودة؛ لما رأى شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله تعالى). البخاري: 3/ 5.

وهذه القوة من الحجية حتى في مورد الاحتمال الضعيف يعطيها شائبة موضوعية تممت هذه الكاشفية الضعيفة مراعاة لحفظ النظام الاجتماعي.

والخلاصة أنه يستفاد من البصمة الوراثية كوسيلة إثبات في المواضعالتي لا يوجد فيها دليل شرعي حاكم، ومن تلك الموارد(1):-

1- التعرف على الجاني لتبرئة غيره عندما تتطابق العينة مع صاحبها، أما ثبوت العقوبة على المتهم صاحب العيّنة فيمكن دفعه بقاعدة (الحدود تدرأ بالشبهات).

2- تمييز حالات الاشتباه بين المواليد كما في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.

ومن النصوص الواردة في تمييز مثل هذا الاشتباه بوسائل الإثبات المعروفة صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (كان لرجل على عهد علي (علیه السلام) جاريتان فولدتا جميعاً في ليلة واحدة، فولدت إحداهما ابنا والأخرى بنتاً، فعمدت صاحبة البنت فوضعت بنتها في المهد الذي فيه الابن وأخذت ابنها، فقالت صاحبة البنت: الابن ابني، وقالت صاحبة الابن: الابن ابني فتحاكما إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فأمر أن يوزن لبنهما، وقال: أيتهما كانت أثقل لبناً فالابن لها)(2).

بتقريب تجريد ثقل اللبن عن الخصوصية وإنما هو وسيلة للتمييز فيُعمَّم إلى الوسائل الأخرى.

3- حالات التنازع على مجهول النسب في موارد عدم جريان قاعدة الولد للفراش وانتفاء الأدلة أو تساويهما كما لو دار أمر الولد بين زانيين أو واطئ

ص: 198


1- التزم بأكثرها «مجلس المجمع الفقهي الإسلامي» في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة 21-26/10/1422 الموافق 5-10/1/2002.
2- وسائل الشيعة: 27/286، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 21، ح6.

شبهة، أو بين صاحب فراش وواطئ شبهة كما ذهب إليه المشهور باعتبار عدم وجود عاهر حتى يطرد حيث أوكل الفقهاء الحل إلى القرعة.

4- حالات ضياع الأطفال واختلافهم بسبب الحوادث أو الحروبوتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين.

5- تنقيح موضوع حرمة النكاح بين رجل وامرأة بأن ادعى شخص أن هذه المرأة أخت الرجل فتحرم عليه ونفى الآخر، فإذا ثبت بالبصمة الوراثية أنها أخته -بغضّ النظر عن جريان قاعدة الفراش في المرتبة السابقة- حرم نكاحها، وإنما خصصنا العنوان بحرمة النكاح دون بقية آثار النسب للإجماع على حرمة النكاح بالمحارم وإن كانت من الزنا، أما لو كان الأثر لا يترتب إلا على الابن من الفراش فإن نتيجة البصمة لا تنفع لأنها لا تميّز بين ابن الفراش وابن الزنا، كما لو ادعى أحد استحقاقه من الميراث وثبت بالبصمة أنه ابن فهذا لا يكفي في اشتراكه بالميراث لاحتمال أنه ابن من الزنا.

6- لزيادة الاطمئنان وإزالة الشك بانتساب ولده الذي ولد على فراشه إليه وقد وردت بعض الروايات في إفادة الشبه بين الرجل وولده هذه النتيجة كصحيحة يعقوب بن يزيد قال: (كتبت إلى أبي الحسن (علیه السلام) في هذا العصر: رجل وقع على جاريته ثم شك في ولده؟ فكتب عليه السلام: إن كان فيه مشابهة منه فهو ولده)(1)

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (علیه السلام) في من كان يطأ جاريته ثم شك في حملها من غيره قال (علیه السلام): (إن كان الولد لك أو فيه مشابهة فلا تبعهما، فإن ذلك لا يحل لك، وإن كان الولد ليس منك ولا

ص: 199


1- وسائل الشيعة: 21/168، أبواب نكاح العبيد، باب 55، ح5.

فيه مشابهة منك فبعه وبع أمه) (1)، فالمشابهة هنا تعزّز الانتساب بقاعدة الفراش وليست دليلاً مستقلاً، وقوله (علیه السلام): (وإن كان الولد ليس منك) أي لم يولد على فراشك.

وفي ضوء هذا الحمل يُعلم النقاش في استدلال فقهاء العامة ببعضالروايات الواردة في صحاحهم كالمروي عن عائشة قال: (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري مجزّراً -المدلجي الكناني- نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) (2) وكان زيد أبيضاً وأسامة أسود على حجية قول القائف وإن اختلفوا في التفاصيل(3) وهو ليس صحيحاً وإن الحجة هي قاعدة الفراش وإنما يفيد الشبه هنا سكون النفس واطمئنانها.

ومن الغريب مناقشة بعض فقهاء العامة المعاصرين في حجية البصمة الوراثية مع ذهابهم إلى حجية قول القائف لوضوح الفرق في قوة الإثبات بين القيافة -وهي إثبات النسب بالشبهة- التي تفيد الظن والبصمة الوراثية التي تفيد العلم.

إن قلتَ: لعل الفرق وجود النص على حجية القيافة دون البصمة الوراثية.

قلتُ: إن المشكلة ليست إثباتية حتى يكون الفيصل هو النص وإنما هي ثبوتية باعتبار أن حجية القيافة من باب أنها طريق للواقع ووسيلة للإثبات فيلاحظ هذا الملاك في البصمة الوراثية.

ص: 200


1- وسائل الشيعة: 21/168، أبواب نكاح العبيد، باب 55، ح4.
2- مسند أحمد: 6/38. صحيح مسلم: 4/172. سنن أبي داود: 1/505، باب في القافة، ح 2267. سنن الترمذي: 3/298، باب ما جاء في القافة، ح 2212. وغيرها.
3- موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة: 13/68.

خامسًا: رجوع المجتهد الى مجتهد اخر

من المعروف ان المجتهد لا يجوز له العمل بفتوى مجتهد اخر ؛ باعتبار انه عالم بالحكم ، وما دام كذلك فعليه ان يعمل بعلمه ؛ لان المصحح لعمل العامي بفتوى المجتهد هو رجوع الجاهل الى العالم ، ولكن شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) اوجب رجوع المجتهد الى مجتهداخر اذا كان الأول جاهلا بالحكم لتحقق مناط رجوع الجاهل الى العالم ، اذ جاء هذا الكلام في الجزء الخامس (صفحة 175) في مسالة معادلة المد بثلاثة ارباع الكيلو غرام تقريبًا او تحقيقًا ، حيث قال (دامت فيوضاته):

إن المجتهد له بل عليه أن يرجع إلى مجتهد آخر إذا انسد عليه باب العلم بالحكم بشرط عدم العلم بخطئه أو خطأ مستنده وقد حققنا في النقطة السابقة عدم العلم بخطأ المستند، وهنا نقول بتحقق الشرط الآخر وهو عدم العلم بخطئهم إذ لا يعرف الفقهاء المعاصرون الوزن الحقيقي للرطل والمد المذكور في النصوص لكن الفقهاء السابقين يعلمون وأفتوا بما أوصلهم اجتهادهم فيجوز بل يجب الرجوع إليهم ولا يُعلم خطؤهم في ذلك.

وهذا لا من جهة القول بتمامية دليل الانسداد الذي نتيجته حجية مطلق الظن وإنما من باب تطبيق الملاك الذي ذكروه في باب التقليد من جريان السيرة العقلائية التي تقتضي رجوع الجاهل إلى العالم وهي شاملة للمجتهد إذا استعصى عليه الاستنباط في مسألة معينة وهم يلتزمون به بالإرجاع إلى الغير في موارد الاحتياط الوجوبي للتوقف في الفتوى.

ص: 201

سادسًا: تصرف الشارع في الحقائق التكوينية والعرفية

قد يقال: ان الشارع بما هو شارع ليس له ان يتصرف في الحقائق الخارجية ؛ لان وظيفة الشارع اعتبار الاحكام والقوانين ، وليس تغيير الموضوعات الخارجية.

الا ان سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) بيّن في الجزء الرابع (صفحة 403) ان من حق الشارع المقدس التصرف في الحقائق التكوينية والعرفية توسعة وضيقا ، اذ قال:

إن قلتَ: إن هذه النتيجة خلاف ما استظهرتموه من المعنى العرفي للشهر وكونه واحداً لجميع أهل الأرض.

قلتُ: تقدّم أن من حق الشارع المقدس توسيع وتضييق حدود الحقائق الخارجية سواء كانت تكوينية أو عرفية بحسب ما يراه من الملاك، مضافاً إلى أن مختارنا يتفق مع الفهم العرفي بوحدة الشهر لجميع بلدان العالم فيما لو كانت الرؤية في أحد بلاد المسلمين.

ص: 202

سابعًا: معنى حديث لا ضرر.

اشارة

مع ان عادة علماء الأصول جرت على بحث حديث لاضرر في ذيل مبحث البراءة الشرعية ، الا انني رجحت ذكر هذه المسالة في التمهيد باعتبار ان البحث في هذه القاعدة خارج عن علم الأصول باعتبارها قاعدة فقهية.

وقد بيّن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) مختاره لمعنى حديث لاضرر في الجزء الثاني عشر (صفحة 11) عند بيان العناوين الثانوية المبيحة لعملية التلقيح الصناعي ، اذ قال:

إن حديث لا ضرر يعني -بحسب المختار- نفي تسبب الأحكام الشرعية للضرر فهو ينفي حصول الضرر في الشريعة بنفي سببه وهو الحكم، أي أنه ينفي وجود الحكم الضرري من أصله.

كما جاء في الجزء الثاني عشر (صفحة 250 – 254) كلام مهم عن قاعدة لا ضرر ولا ضرار في سياق الحديث عن القيود التي تحدد تصرف الانسان في بدنه ، اذ قال (دامت بركاته):

القيد الثاني: حرمة الإضرار بالبدن

والكبرى ثابتة والصغرى متحققة لأن فقدان العضو ضرر.

بيان الكبرى: أن الحديث المتواتر عن النبي (صلی الله علیه و آله) (لا ضرر ولا ضرار)(1) جملة خبرية فهو ينفي وجود حكم ضرري في الإسلام ولو بلسان نفي الموضوع، وأنه لا يشرع للمكلفين حكماً فيه ضرر عليهم، ولو أدّى حكم عند تطبيقه إلى ضرر فإنه غير داخل في إطار الشريعة وليس منها ولا بد أن خللاً ما في التطبيق قد حصل كما في قضية سمرة بن جندب.

ص: 203


1- الكافي: 5/293، باب (الرجل يتكارى البيت والسفينة)، ح2. وسائل الشيعة: 18/32، أبواب الخيار، باب 17، ح3.

ويمكن أن يكون جملة إنشائية فيفيد النهي عن كل ما يوجب الضرر بالنفس والإضرار بالآخرين؛ لأن النهي عن المعلول أبلغ في الدلالة عن النهي عن العلة، ولأن «الضرر معلول لعلل وأسباب مختلفة، فنفي المعلول نفي لجميع أنحاء علله سواء كانت العلة هي الأحكام الشرعية، فإن العمل بها ربما يكون موجباً للضرر، أو إطلاق السلطنة على المال والنفس، فإنه ربما يؤدي إلى الضرر، أو لزوم بعض المعاملات، أو عدم جعل حق الشفعة وغير ذلك. فإطلاق نفي المعلول يدل على نفي العلل»(1).

ولو قيل بأن «مفاد الفقرة الأولى أنه لا يتوجه إلى المكلف في محيط الشرع ضرر فهي ناظرة إلى ورود الضرر عليه من الخارج ومنصرفة عن ورود الضرر على الإنسان من ناحية نفسه، فلازمها أنه لا يصل إلى الإنسان ضرر في محيط القانون، فلم يحمّل عليه ما يضرّ به، ولم يجوّز للغير إيراد الضرر عليه وأما إضرار الإنسان بنفسه فهو خارج ومنصرف عنه.

كما أن ظاهر المصدر في الفقرة الثانية أيضاً هو الإضرار بالغير وإيراد الضرر عليه فلا يعم إيراد الشخص للضرر على نفسه»(2).

قلنا: لا وجه لدعوى الانصراف مع ظهور الحديث في الإطلاق، ولو تنزّلنا فإن ما قيل لا يضرُّ بالاستدلال لأن الحديث حينئذٍ يدل بالأولوية على حرمة إيقاع الضرر على النفس لأن الحديث مبني على استثارة هذه الحقيقة المركوزة في الفطرة، فكما أن الإنسان لا يرضى بإيقاع الضرر على نفسه منه بل يتحرى لها كل خير ومنفعة وسعادة ورفاهية ودعة، وإن الشريعة أقرَّت ذلك وبنت عليه وتوقفت عن تشريع أي حكم ضرري، كذلك على

ص: 204


1- السيد محسن الخرازي في مجلة فقه أهل البيت (علیهم السلام)، العدد 19، ص 62.
2- كلمات سديدة في مسائل جديدة، الشيخ محمد المؤمن القمي: 158. ط. جماعة المدرسين، 1415 هج.

الإنسان أن لا يتسبب بإيقاع الضرر على الآخرين، ولايجوز للآخرين أن يلحقوا الضرر به أيضاً.

ومن الروايات الدالة على حرمة الإضرار بالبدن الروايات الدالة على أن ملاك الأحكام الشرعية هي المصالح والمفاسد فلا بد أن تدور أفعال الإنسان في مدارها، وهي من الروايات التأسيسية لفقه المصالح، كرواية محمد بن عذافر عن أبيه عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قلت له: لمَ حرم الله الخمر والميتة ولحم الخنزير والدم؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما وراء ذلك من رغبة في ما أحل لهم، ولا زهد فيما حرمه عليهم، ولكنه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله لهم وأباحه لهم وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه، ثم أحله للمضطر في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به)(1).

ومثلها رواية تحف العقول عن الصادق (علیه السلام) في حديث عمّا يحل أكله مما أخرجت الأرض قال: (كل شيء من الحب مما يكون فيه غذاء الإنسان في بدنه وقوته فحلال أكله، وكل شيء يكون فيه المضرة على الإنسان في بدنه فحرام أكله إلا في حال الضرورة. والصنف الثاني ما أخرجت الأرض من جميع صنوف الثمار كلها مما يكون فيه غذاء الإنسان ومنفعة له وقوة به فحلال أكله وما كان فيه المضرة على الإنسان في أكله فحرام أكله. والصنف الثالث جميع صنوف البقول والنبات وكل شيء تنبت من البقول كلها مما فيه منافع الإنسان وغذاء له فحلال أكله وما كان من صنوف البقول مما فيه المضرة على الإنسان في أكله نظير بقول السموم القاتلة ونظير الدفلى

ص: 205


1- وسائل الشيعة: 25/9، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، باب1، ح1.

وغير ذلك من صنوف السم القاتل فحرام أكله.. الحديث)(1).بتقريب أن الرواية دلّت على أن علّة تحريم ما نهاهم عنه هو ضرره على الإنسان وهي كبرى كلية تدلّ على حرمة الإضرار بالنفس وضعف سند الرواية مجبور بإطباق جوامع الحديث على روايتها.

ومثلها رواية العلل عن محمد بن سنان عن الإمام الرضا (علیه السلام) وفيها (إنه لم يحلّ إلا لما فيه من المصلحة للأبدان، وحرَّم ما حرّم لما فيه من الفساد)(2).

ومنها ما دلّ على سقوط الواجبات الشرعية مثل الصوم والغسل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أضرّت بالإنسان كحديث الإمام الصادق (علیه السلام) في الفقيه قال: (كل ما أضرّ به الصوم فالإفطار له واجب)(3)

وصحيحة البزنطي عن الرضا (علیه السلام) (في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح، أو يكون يخاف على نفسه من البرد؟ فقال: لا يغتسل ويتمم)(4).

وغيره من الأحاديث في نفس الباب.

والخلاصة أن كبرى حرمة الضرر ثابتة شرعاً في الجملة وعند العقلاء وحكي عليها الإجماع وهو حكم موافق للفطرة السليمة وحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل إذا كان ذا أهمية وقد زوَّد الله تعالى الإنسان بما يستشعر به الخطر ويدفعه للابتعاد عنه كالمثال الذي ذكرناه في كتاب

ص: 206


1- وسائل الشيعة: 25/84 أبواب الأطعمة المباحة، باب 42، ح1. تحف العقول: 337، ط. جماعة المدرسين، 1404 هج.
2- علل الشرائع: 592.
3- جامع أحاديث الشيعة: 9/284 عن الفقيه.
4- وسائل الشيعة:3/347، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، باب 5، ح7.

الرياضيات للفقيه(1).

وإنما قلنا (في الجملة) للقطع بأن ليس كل ضرر حراماً ولو كان بسيطاً يتسامح به العقلاء، كالتملّي من الطعام فتقيَّد الحرمة بالضرر المعتد به، ويمكن أن يستدل على هذا التقييد بأكثر من وجه:-

أ- ظهور الروايات المتقدمة لاستعمالها ألفاظاً تعبّر عن هذا المستوىمن الضرر كقوله (علیه السلام) في رواية العلل (فيه الفساد).

ب- بناء العقلاء على ذلك مما يشكل دليلاً لبّياً ارتكازياً على التقييد.

ص: 207


1- الرياضيات للفقيه: 88، ط 5.

ثامنًا: المباشرة والتسبيب

ان إسناد الفعل الى من باشره امر واضح ولا غبار عليه ، اما إسناده الى المسبب فقد جرى فيه النقاش والأخذ والرد ، فَلَو امر زيدٌ خادمه بقتل شخص ما ، هل سيقال ان زيدًا هو القاتل ؟

ومن كلمات شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في هذا المقام ما جاء في الجزء التاسع (صفحة 301) تحت عنوان لا فرق بين المباشرة والتسبيب ، اذ قال:

وأضاف صاحب الجواهر (قدس سرّه) فرعاً آخر قال: «ولا فرق في القتل بين المباشرة والتسبيب كالإفتاء ونحوه لإطلاق الأدلة»(1).

أقول: هذا وجيه ولكن ما دام تسبيبه مؤثراً ويصح إسناد الفعل إليه على نحو الاشتراك فهو كالسبب المستقل، مثل الأسباب التوليدية فلو أكره المفتي على إصدار حكم بقتل بريء لم يكن له ذلك ولا يقبل الاعتذار بالإكراه.

ص: 208


1- جواهر الكلام: 22/170.

تاسعًا: الحقيقة الشرعية

مما لا شك فيه ان للشريعة معانيَ ومفاهيمَ خاصة بها تختلف عما هو متداول لغة وعرفا ، كالصلاة مثلا فان لها مفهوما شرعيا يختلف عن المفهوم اللغوي ؛ اذ ان الصلاة في الشريعة الإسلامية يراد بها تلك العبادة الخاصة المعروفة عندنا اما في اللغة فتعني الدعاء.

وقد بحث علماء الاصول في ان الألفاظ وضعت لمعانيها الشرعية في القران الكريم ، وفيما نقل من روايات في زمان الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) - وهو ما يصطلح عليه بالحقيقة الشرعية - ام ان هذا الوضع لم يحصل الا في زمن متأخر - وهو ما يعرف بالحقيقة المتشرعية - ؟

والذي يذهب اليه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) هو عدم القول بالحقيقة الشرعية ، وهذا يتضح مما ذكره في الجزء الأول (صفحة 265- 268) في بحث طهارة غير المسلمين ، حيث قال (دامت بركاته):

والنتيجة أن الراجح في معنى (النجس) في الآية الشريفة هي القذارة المعنوية وخبث النفس والشر ونحوها من المعاني التي نفهمها حينما نقرأ أمثال هذه النصوص كالذي ورد في زيارة وارث المشهورة للإمام الحسين (علیه السلام) والمروية عن الإمام الصادق (علیه السلام) وفيها (أشهد أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها) (1)

وفي زيارة أول رجب المخصوصة (طهرتَ وطهُرتْ بك البلاد وطهُرتْ أرض أنت بها وطهر حرمك) (2).

ومنه يُعلم ما في كلام السيد الحكيم (قدس سرّه) بقوله: «إن الحقيقة الشرعية

ص: 209


1- مصباح المتهجد – الشيخ الطوسي: 721.
2- كامل الزيارات – ابن قولويه:358/ح617.

وإن لم تثبت، لكن الاستعمال الشرعي في تلك المفاهيمثابت، ولأجله جرت الاستعمالات عند المتشرعة عليه حتى صارت حقيقة عند المتشرعة»(1) فإن الآلية التي ذكرها (قدس سرّه) لتشكل المصطلحات الشرعية وإن كانت صحيحة إلا أنها بدأت بعد زمان النبي (صلی الله علیه و آله) أما في زمانه فقد كانت التعبيرات بغير هذه الألفاظ ، ولو فرضنا الاستعمال في المعنى المصطلح فإن هذا المقدار لا يكفي لتشكل ظهور للفظ في هذا المعنى حتى يتبادر إليه.

وإذا كان كلامه (قدس سرّه) يستبطن الاستدلال بالاستصحاب القهقرائي -كما ورد في كلمات بعضهم- فإن كبراه غير تامة لعدم حجية هذا الاستصحاب، وصغراه غير تامة لأنه قد ثبت عكس نتيجته بالاستقراء المذكور.

وحتى في زمان الإمام الصادق (علیه السلام) حينما أصبح لفظ النجاسة حقيقة في المصطلح بقي استعمال اللفظ في القذارة المعنوية ففي موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (وإياك أن تغتسل من غسالة الحمام ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم، فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وإن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه)(2) وتفسرها رواية عن ابن أبي يعفور نفسه - ولعلها نفسها- عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام فإن فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء، وفيها غسالة الناصب وهو شرّهما إن الله لم يخلق خلقاً شراً من الكلب وإن الناصب أهون على الله من الكلب) (3).

ولو افترضنا استعمال لفظ النجس في المعنى المصطلح في زمان

ص: 210


1- مستمسك العروة الوثقى: 1/369.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، باب 11، ح 5، 4.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، باب 11، ح 5، 4.

النبي (صلی الله علیه و آله) فإنه لا يكفي لتأسيس الظهور والانصراف إلى هذا المعنى كماقلنا.

وقد ردّ الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) على «التأمل في ثبوت الحقيقة الشرعية في النجس» وقرّب ظهور النجاسة في المعنى المتعارف بعدة وجوه «إما لأن النجاسة الشرعية هي القذارة الموجودة في الأشياء في نظر الشارع، فلم ينقل عن معناها اللغوي وإما لدعوى ثبوت الحقيقة الشرعية، وإما لوجود القرينة على إرادة المعنى الشرعي، وهي حرمة قربهم من المسجد الحرام، إذ لا يجب تجنّب المساجد عن غير النجس الشرعي إجماعاً» (1) .

أقول: ما ذكر (قدس سرّه) قابل للمناقشة:

أما الوجه الأول فإننا نتفق معه على أن النجاسة شرعاً هي القذارة لكن القذارة على أنواع قال الراغب: «النجاسة: القذارة وذلك ضربان: ضرب يُدرَك بالحاسة وضرب يدرك بالبصيرة، والثاني وصف الله تعالى به المشركين فقال: (إِنَّمَا المُشرِكونَ نَجَسٌ)» (2).

وهي بحسب الاعتبار الشرعي كذلك، لأن النجاسة الشرعية ليست معنىً مبتدعاً للقذارة وإنما هي اعتبار وتوصيف شرعي لها وتختلف فيما بينها بالآثار والذي يهمنا منها الآن أثر التعدي إلى الخارج، فمن القذارة ما هو قائم بالجسم وهي أعيان النجاسات ومن القذارة ما هو قائم بصفة في الجسم كالجنابة والحيض وتزول بزوال الصفة، ونجاسة المشرك كما يمكن أن تكون من الأولى فإنها يمكن أن تكون من الثانية فتكون متعلقة بصفة الشرك وتزول بزوالها، والنوع الأول من النجاسة متعدٍ إلى الغير

ص: 211


1- المفردات في غريب القرآن – الاصفهاني :791.
2- موسوعة الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة: 5/100.

دون الثاني وهو محل البحث. ويمكن القول أن النجس في الآية إلى المعنى الثاني أقرب لوضوح تعلق النجاسة بصفة قائمة في الجسم وليس في نفس الجسم.

وأما الوجه الثاني وهي دعوى ثبوت الحقيقة الشرعية فقد استبعدناهافي تقريب الإشكال.

وأما الوجه الثالث فإن هذه القرينة أدل على عكس مطلوبه لعدم حرمة إدخال النجاسة إلى المساجد إذا لم تكن متعدية ولم تستلزم هتكاً وإن الممنوع من دخول المسجد هو ذو القذارة المعنوية كالمجنب والحائض فالمشرك كذلك ، وكان هذا الحكم - أعني حرمة دخول المشركين المسجد الحرام- كان مقدمة للحكم بوجوب إخراجهم من جزيرة العرب وهو لا يتعلق بالنجاسة الشرعية المعروفة كما هو واضح.

وذُكرت وجوه أخرى لتقريب دلالة الآية على المعنى المتشرعي للنجاسة غير قضية كون لفظ (نجس) حقيقة في هذا المعنى:

منها: «دعوى حمل النجاسة على النجاسة الشرعية بقرينة حالية خاصة، وهي ظهور حال المولى في كونه في مقام المولوية، فلو حمل اللفظ على النجاسة غير الشرعية الاعتبارية لكان هذا إخباراً من قبل المولى عن أمر خارجي، وهو خلاف الظهور الحالي المذكور»(1).

وفيه:

1- إن القرآن الكريم ليس كتاباً مختصاً في الأحكام الشرعية على نحو المولوية حتى يقال فيه ذلك بل، فيه (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) مما يتعلق بهداية البشر نحو الكمال والسعادة.

ص: 212


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 330.

2- لو سلّمنا أن الآية يجب أن تكون مسوقة لبيان الحكم المولوي لأن غيره -ككون المشرك ذا قذارة- ليس من وظيفة المولى، فإن الحكم الشرعي لا يختص ببيان حكم النجاسة، فإن القرائن الحالية والحوادث التأريخية تشير إلى أن الآية بصدد بيان حكم آخر وهو إقصاء المشركين وعزلهم اجتماعياً وعقائدياً، فإن هذا الحكم أعقبه طردهم من جزيرة العرب فالمسألة مرتبطة بتطويقهم وإبعادهم تمهيداً لقطع دابرالشرك في بلاد المسلمين ولا علاقة له بالحكم بنجاستهم.

ص: 213

عاشرًا: الصحيح والأعم

من الأبحاث المعروفة في علم الأصول هو ان ألفاظ العبادات والمعاملات عندما تطلق في كلام الشارع فهل يراد منها خصوص الصحيح او الاعم من الصحيح والفاسد ؟

والذي يظهر من كلمات الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) انه يبني على انها تطلق على خصوص الصحيح.

ومما ذكره في هذا المجال ما جاء في الجزء الثاني (صفحة 402 - 403) في مسالة المحاذاة بين الرجل والمرأة في الصلاة ، حيث قال (دامت بركاته):

هل يشترط في جريان الحكم صحة صلاة الآخر لولا المحاذاة فلو كانت فاسدة في نفسها لم يترتب الحكم؟ اختاره العلامة والشهيدان وصاحب المدارك ونسب إلى الأكثر، قال فخر المحققين: «والأقرب اشتراط صحة صلاة المرأة لولاه في بطلان الصلاتين»(1) واختار النراقي (قدس سرّه) في المستند(2)

والسيد الخوئي (قدس سرّه) عدم الاشتراط «لأنها – أي لفظ الصلاة وغيره من ألفاظ العبادات - أسامٍ للجامع بين الصحيح والفاسد»(3) ثم قال: «فالإنصاف عدم الفرق بين الصلاة الصحيحة والفاسدة في ترتب الأثر لو لم يقم إجماع على الاختصاص بالأولى، على أنه لو كان فهو معلوم المدرك أو محتمله فلا يكون تعبدياً، فالأقوى شمول الحكم لهما، مع فرض صدق الصلاة عليه بألا يكون الفساد من جهة فقد الأركان المقومة لصدق اسم الصلاة كالطهارة أو الركوع والسجود».

ص: 214


1- إيضاح الفوائد: 1/91.
2- مستند الشيعة: 4/419.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 13/115.

والصحيح هو الاشتراط لأن الألفاظ موضوعة للصحيح لا للأعم منه ومن الفاسد لصحة السلب عن الفاسد وعدم صحة الحمل وإنما يصحإطلاقها على الأعم أحياناً من باب المشاكلة لوحدة الصورة الظاهرية أو لخصوصية في بعض الألفاظ تقتضي صحة إطلاقها على الأعم، ولو سلمت صحة إطلاقها على الاعم فإن ما ورد منها موضوعاً للحكم الشرعي يراد به الصحيح نظير قوله (علیه السلام): (دعي الصلاة أيام أقرائك)(1)،

فلا يشمل المنع ما لو صلت مجاراة لأطفالها أو لتدريبهم.

ص: 215


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب الحيض، باب 7، ح2.

حادي عشر: استعمال اللفظ في اكثر من معنى

من المسائل التي بحثت في علم الأصول إمكانية استعمال اللفظ في اكثر من معنى ، ومشهور الأصوليين استحالة استعمال اللفظ في اكثر من معنى.

ولكن الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) يبني على امكان ذلك ، وقد صرح بمبناه هذا في الجزء السابع (صفحة 324) في مسالة حكم الصلاة في عرفة لمن أقام في مكة ، حيث قال (دامت بركاته):

الثالثة: مغادرة محل الإقامة، ووجهه واضح لأنه بهذه المغادرة ينتفي عنه عنوان المقيم الموجب لحكم التمام، باعتبار أن المقيم ومحل الإقامة عنوانان إضافيان، ينتفي أحدهما بانتفاء الآخر، والأحكام تدور مدار العناوين.

والمغادرة هذه تتحقق بالخروج المنافي لصدق الإقامة لمن لم يتم العشرة، وبالارتحال عن محل الإقامة لمن لم يتمها، ويجب أن يفسَّر الخروج الذي جُعل غاية للحكم بالتمام في صحيحة أبي ولاد(1) إذا أريد الاستدلال بها في المقام بهذا التفسير.

لا يقال: إن تفسير الخروج بمعنيين من استعمال اللفظ في أكثر من

ص: 216


1- عن أبي ولاد الحناط قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إني كنت نويت حين دخلت المدينة أن أقيم بها عشرة أيام وأتم (الصلاة ثم بدا لي بعد أن لا أقيم بها) ، فما ترى لي أتم أم اقصر؟ قال: إن كنت دخلت المدينة و صليت بها صلاة فريضة واحدة بتمام فليس لك أن تقصر حتى تخرج منها، وإن كنت حين دخلتها على نيتك التمام فلم تصل فيها صلاة فريضة واحدة بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم فأنت في تلك الحال بالخيار إن شئت فانو المقام عشرا وأتم، وإن لم تنو المقام فقصر ما بينك وبين شهر، فإذا مضى لك شهر فأتم الصلاة. ورواه الصدوق باسناده عن أبي ولاد مثله ( وسائل الشيعة : كتاب الصلاة ، ابواب صلاة المسافر ، باب 18 / ح1 ) .

معنى وهو ممنوع.

فإنه يقال:

1- إن هذه الكبرى ليست تامة عندنا في علم الأصول.

ص: 217

ثاني عشر: القاعدة العامة للاستنباط

اشارة

قد يتوهم البعض ان عملية الاستنباط تشبه الحسابات الرياضية او الهندسية ، فاذا توفرت مقدمات معينة لا بد ان تنتج تلك النتيجة ، ولا نتصور غيرها.

ولكن هذا التوهم غير صحيح ؛ اذ ان عملية الاستنباط تعتمد على استظهار الفقيه ، وما يقتنصه من القرائن المحيطة بالنص ، إضافة الى مدى اطلاعه على ظروف النص وخلفياته.

وهذا ما أشار اليه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الخامس (صفحة 427) في مسالة زكاة أموال الصغير ، اذ قال:

إن المنهج الذي أسميه بالهندسي أو الرياضي في التعامل مع النصوص- أي يريد أن يكون الاستدلال الفقهي على نحو المعادلات الرياضية- لا يلائم عملية الاستنباط الفقهي، ولا يلتزم به أحد من أهل الفن، ويلزم منه فقه جديد كما يعبرون؛ لأن الاستنباط الفقهي أمر وجداني ينشأ من الاطمئنان والاستظهار، لأنه يُبنى على ملاحظة مجموع النصوص.

ص: 218

الأدلة المحرزة

الأدلة المحرزة: هي تلك الأدلة آلتي تكون حجة على الحكم الشرعي ، فبها يحرز الفقيه الاحكام الشرعية.

وتقسم الأدلة المحرزة الى شرعية وغير شرعية.

والأدلة المحرزة الشرعية: هي تلك الأدلة الصادرة من الشارع ، اما غير الشرعية: فهي الصادرة من غير الشارع ، ولكن ثبتت حجيتها شرعا.

وسيكون الكلام اولاً في الأدلة المحرزة الشرعية

الأدلة المحرزة الشرعية

وتقسم هذه الأدلة على قسمين وهما: الدليل الشرعي اللفظي ، والدليل الشرعي غير اللفظي.

وعادة ما يبحث في الأدلة الشرعية ثلاثة أبحاث وهي:

1- دلالات الدليل الشرعي.

2- طرق اثبات الصدور.

3- حجية الظواهر.

وسنسير في ترتيب ما جاء من المطالب الأصولية في موسوعة فقه الخلاف وفق هذا المنهج.

دلالات الدليل الشرعي اللفظي
اشارة

والمراد من الدليل الشرعي اللفظي الكتاب الكريم والسنة القولية من روايات المعصومين (علیهم السلام) ، وتعرف هذه المباحث في الكتب الأصولية باصطلاح مباحث الألفاظ.

ص: 219

وسنتناول هنا أربعة أمور ، وهي:

اولاً: الأوامر والنواهي.

ثانيًا: الاطلاق.

ثالثًا: العموم.

رابعًا: المفاهيم.

واليك تفصيل الكلام في هذه الأمور:

ص: 220

اولاً: الأوامر والنواهي
اشارة

اصبح من البديهي في علم الأصول القول بظهور صيغة الامر في الوجوب ، ولا نرفع اليد عن هذا الظهور الا بالاعتماد على قرينة خاصة تدل على الاستحباب او كان المورد من موارد توهم الحظر ؛ ولذا جاء ذلك في كلمات الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الثاني (صفحة 239) ، اذ قال:

قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) (الجمعة: 9) وقد ثبت في علم الأصول أن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب فالآية تتضمن وجوب السعي إلى ذكر الله عندما ينادى للصلاة يوم الجمعة ويؤذّن بدخول الوقت كما ذكره المفسرون

كما لا اشكال في ان النهي ظاهر في الحرمة ، ولا نرفع أيدينا عن هذا الظهور الا اذا وجدت قرينة دالة على الكراهة.

وقد عبّر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) عن ذلك في الجزء العاشر (صفحة 49) في مسالة حرمة التصوير ، اذ قال (دامت بركاته):

«دعوى أن النهي قد استعمل في مطلق المنع الشامل للحرمة والكراهة، وإنما يستفاد خصوصية إحداهما هنا -بل في جميع الموارد- من أمر خارج، ولذا جعل المصنف (قدس سرّه) قوله (علیه السلام) في المسألة الثانية (كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) يزجر الرجل أن يتشبه بالنساء وينهى المرأة أن تتشبه بالرجال) من أدلة كراهة التشبه، والحال أن الموجود فيه أيضاً مادة النهي»(1).

وفيه: ما ثبت في علم الأصول من أن النهي ظاهر في التحريم إلا إذا وجدت قرينة على حمله على الكراهة.

ولكن توجد مسائل كثيرة ومهمة في مبحث الأوامر والنواهي اختلف فيها

ص: 221


1- شرح ميرزا فتاح الشهيدي على المكاسب: 1/182.

الأصوليون وتعددت فيها المباني ، ونحن هنا سنذكر ست مسائل مما تطرق اليه سماحة الشخ الأستاذ (دامت بركاته) في بحثه ، وهي:

المسألة الأولى: الوجوب امر بسيط.

المسألة الثانية: دلالة الامر على الوجوب بحكم العقل.

المسألة الثالثة: إشكالية دلالة الترخيص المنفصل على الاستحباب.

المسألة الرابعة: دلالة لفظ الوجوب.

المسألة الخامسة: الامر بصيغة النهي والعكس.

المسألة السادسة: الامر بالأمر.

واليك التفصيل في هذه المسائل:

المسألة الأولى: الوجوب امر بسيط.

مما بحثه الأصوليون ان الوجوب مفهوم بسيط ام مركب ؟ فذهب بعضهم الى القول بالتركيب ، بينما بنى البعض الاخر على البساطة.

والذي يبني عليه سماحة الشيخ الأستاذ في هذه المسالة ان الوجوب بسيط، حيث قال (دامت بركاته) في الجزء الخامس (صفحة 315) في مسالة زكاة أموال التجارة:

الثالث: «أصالة عدم الوجوب»(1)

واستدل به صاحب الجواهر (قدس سرّه) على قول المصنف (قدس سرّه): «والاستحباب أصح».

أقول: وهذا لو أمكن التمسك به بعد افتراض حصول الشك نتيجة تعارض الأدلة في الوجهين الأول والثاني فإنه لا ينفع المستدل على الاستحباب إلا بأحد تقريبين:

1- إن الوجوب مركب من جنس وفصل هما الطلب وعدم الترخيص في

ص: 222


1- جواهر الكلام: 15/73.

الترك، فإذا انتفى الجزء الثاني بالتعارض بقي الأول في فردهالآخر وهو الاستحباب.

وهذا التقريب غير تام لأن الوجوب أمر بسيط حقيقته البعث والتحريك، وإنما دل على الوجوب بالإطلاق وضم حكم العقل، ويدل على الاستحباب بالقرائن.

ومن الاثار العملية التي أشار اليها سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) للقول ببساطة الوجوب إضافة الى ما ذُكر في العبارة السابقة انه لا يوجد شيء اسمه وجوب مخفف وآخر مشدد ، فالوجوب امر بسيط وهو الإلزام بالفعل.

جاء هذا المعنى في الجزء الثاني (صفحة 128) في مسالة الاكتفاء ببعض السورة بعد الفاتحة ، حيث قال (دامت بركاته):

وإن كان السيد الخوئي (قدس سرّه) استفاد منه الوجوب المخفف الذي «يسقط بمجرد الاستعجال العرفي لأمر دنيوي أو أخروي ولا يناط ذلك بالبلوغ حد الضرر أو العسر أو الحرج كما في سائر الواجبات، وهذا المعنى غير قابل للإنكار كما تشهد به سائر الأخبار لكنه لا ينافي أصل الوجوب ولزوم الإتيان بها عند عدم الاستعجال، وإن كانت مرتبته ضعيفة».(1)

أقول: هذا خلف بنائه على معنى البأس وهي الشدة، مضافاً إلى أنه لا معنى لوصف مراتب الوجوب بالضعف والشدة لأنه ليس كلياً مشككاً وإنما هو أمر بسيط يفيد الإلزام بالشيء، نعم في باب التزاحم يوجد أهم ومهم وهذا شيء آخر غير ضعف المرتبة ويستند إلى قرائن خارجية، فكلامه (قدس سرّه) فيه اعتراف ضمني بعدم الوجوب.

كما جاء في بحث مفاد روايات من بلغ (2):

ص: 223


1- كتاب الصلاة: 3/ 288.
2- موسوعة فقه الخلاف: 1/ 154.

إن الأخبار خاصة ببلوغ الثواب على فعل شيء ولا تشمل كل ماورد في طلب فعل معين ما لم يقترن بذكر الثواب ليكون صغرى لأخبار (من بلغ).

فليس صحيحاً إجراؤهم القاعدة في كثير من الأخبار غير المعتبرة التي تطلب فعلاً معيناً أو تنهى عن فعل معين ولما لم يمكن استنباط حكم إلزامي منهما لعدم اعتبار الدليل فإنهم يحملونهما على الحكم غير الإلزامي.

ووجه عدم الصحة: ما تقدم من عدم تحقق صغرى أخبار (من بلغ) ولأن الأمر ظاهر في الوجوب، والنهي ظاهر في الحرمة، فإذا سقطت الرواية عن الاعتبار فلا وجوب ولا حرمة، ولا ينتقل الظهور إلى الاستحباب والكراهة إلا بالقرائن.

نعم، على مذهب من قال بأن الوجوب مركّب من جنس وفصل هما الشيء والنهي عن تركه يمكن القول بحلول الاستحباب محل الوجوب باعتبار سقوط الفصل من التعريف وهو النهي عن الترك فيبقى الجنس وهو طلب الشيء الذي يحمل على الاستحباب.

لكن هذا مردود بعدم مساعدة العرف عليه لأن الوجوب بسيط أما النهي عن الترك فيستفاد من الإطلاق وليس من الوضع.

المسألة الثانية: دلالة الامر على الوجوب بحكم العقل.

اختلف الأصوليون في منشأ دلالة الامر على الوجوب: فقد ذهب بعضهم الى ان الامر يدل على الوجوب بالوضع ، وذهب البعض الاخر الى انه يدل عليه بالاطلاق ، وذهب بعض ثالث الى انه يدل عليه بحكم العقل.

والعبارة في المسألة السابقة لسماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) تقول:

إن الوجوب مركب من جنس وفصل هما الطلب وعدم الترخيص في الترك، فإذا انتفى الجزء الثاني بالتعارض بقي الأول في فرده الآخروهو

ص: 224

الاستحباب.

وهذا التقريب غير تام لأن الوجوب أمر بسيط حقيقته البعث والتحريك، وإنما دل على الوجوب بالإطلاق وضم حكم العقل، ويدل على الاستحباب بالقرائن.

ويبدو ان المراد من الاطلاق في عبارته (دامت بركاته) عدم وجود قرينة في الكلام تدل على الاستحباب او الترخيص ، ويؤكد هذا قوله مباشرة بعد ذلك (ويدل على الاستحباب بالقرائن)

واكد سماحته هذا المعنى عندما سالته عن مبناه ، فأجاب (دامت بركاته) بما نصه:

ان الذي ابني عليه ان الوجوب مستفاد من حكم العقل قضاءً لحق المولوية ، وهذا الحكم العقلي ينقح موضوعه الاطلاق ، فالاطلاق ركن أساسي لإفادة الوجوب ؛ لانه يمهد لحكم العقل ، فَلَو لم يطلق المولى او نصب قرائن ، او كان الامر صادرا ممن ليس له حق المولوية ، ونحو ذلك لا يحكم العقل بالوجوب.

واكد (دامت بركاته) ان الامر يدل على الوجوب بحكم العقل في الجزء الخامس (صفحة 321) في مسالة زكاة أموال التجارة ، اذ جاء فيه:

فائدة: ردَّ صاحب الجواهر (قدس سرّه) على المحدث الكاشاني وصاحب الحدائق (قدس الله سريهما) بأنه حتى لو كانت الروايات الظاهرة في الوجوب صادرة من جهة التقية فإن ذلك لا ينافي استحباب الزكاة، قال (قدس سرّه) معرضاً بهما: «بل ربما توقف فيه - أي الاستحباب- بعضهم، لظهور هذه النصوص في خروج تلك مخرج التقية، لكن فيه أنه بعد التسليم لا تنافي بين ذلك وبين الندب على أن تكون التقية حينئذ بالتعبير عن الندب بما ظاهره الوجوب اعتماداً على قرينة خارجية، ومراعاة للجمع بين التقية

ص: 225

والواقع، ودعوى أن المراد من ذلك الأمر الوجوب تقية فلا دليل على الندب حينئذ يدفعها أصالة حجية قول المعصوم (علیه السلام)، وأنه فيبيان حكم شرعي واقعي، وكما أن التقية في مقام العمل يقتصر فيها على أقل ما يندفع به كذلك المستعمل فيها من قول المعصوم (علیه السلام) يقتصر فيه على أقل ما يمكن من إرادة التقية منه، ومن ذلك ما نحن فيه ضرورة إمكان كون التقية في ذلك التعبير الذي ذكرناه، فيبقى الأمر حينئذ على قاعدة إرادة الندب منه بعد معلومية عدم إرادة الوجوب، كما هو واضح، والله أعلم»(1).

وقرب بعض أعلام العصر (دام ظله الشريف) إشكال صاحب الجواهر (قدس سرّه) وردّ عليه، فقال: «ومحصل كلامه أن مفاد الأمر ينحل إلى الطلب، وخصوصية الوجوب. والتقية تندفع برفع اليد عن خصوصية الوجوب، فيبقى أصل الطلب مراداً، إذ الضرورات تتقدر بقدرها.

أقول: مبنى كلامه استعمال الأمر في الوجوب، وكونه مركباً من أصل الطلب والمنع من الترك كما اشتهر. وكلاهما فاسدان، إذ الوجوب والاستحباب ليسا مفاداً للفظ بحيث يستعمل فيهما، بل الصيغة وضعت للبعث والتحريك القولي في قبال التحريك العملي. وإن شئت قلت: وضعت للطلب وهو أمر بسيط.

نعم، البعث والطلب من قبل المولى موضوع لحكم العقل بلزوم الإطاعة واستحقاق العقاب على المخالفة، إلا أن يرخّص المولى بنفسه في الترك. فما وضع له اللفظ واستعمل فيه هو البعث، والوجوب حكم عقلي يحكم به على الطلب المجرد عن الترخيص. كما أن الاستحباب ينتزع عن الطلب المقارن للترخيص.

ص: 226


1- جواهر الكلام: 15/74.

ولو سلم تركب الوجوب فهو تركيب عقلي تحليلي، فلا تسري التقية في بعض أجزائه دون الآخر.

نعم، لو كان هنا لفظان ودار الأمر بين حمل أحدهما على التقية أوكليهما صحّ ما ذكره من أن الضرورات تتقدر بقدرها، فيحفظ أصالة الجهة في أحدهما، فتأمل.

والحاصل أن إشكال صاحب الحدائق قوي، ولا يندفع بما في الجواهر، ولا يلزم أن تكون التقية من الفقهاء والمفتين، ولا بلحاظ حفظ الأئمة (عليهم السلام) بل بلحاظ حفظ شيعتهم من شرّ السلاطين والحكام الجباة للزكوات بعنف وشدة، فإنها كانت أساس اقتصادهم.

فلعل الأئمة (علیهم السلام) أرادوا تقيّد الشيعة عملاً بأداء الزكاة مما تعارف مطالبتها منه، دفعاً لشر السلاطين وتخليصاً من مكائدهم. فإن وظيفة القائد لقوم ملاحظة محيطهم وما يكون دخيلاً في حفظهم من كيد الأعداء » (1).

أقول: شرحه (دام ظله) لمعنى الوجوب صحيح.

واكد سماحته تبنيه لهذا المذهب في الجزء الثاني (صفحة 125-126) في مسالة الاكتفاء ببعض السورة بعد الفاتحة ، اذ جاء فيه:

وأجاب (قدس سرّه) بعد فرض التسليم بكراهة القران بين سورتين: بأنه «إنما يتم ما ذكره بناءً على أن تكون الحرمة والكراهة وكذا الوجوب والاستحباب، معنيين مختلفين للّفظ لغة، وأمّا بناءً على ما هو التحقيق كما بيّناه في الأُصول من عدم استعمال صيغة النهي وكذا الأمر إلاّ في معنى واحد، وإنّما تستفاد الخصوصية من حكم العقل المنتزع من الاقتران بالترخيص في

ص: 227


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (دام ظله الشريف ) : 2/ 190-191

الفعل أو الترك وعدمه، فلا مجال للإشكال أصلاً، إذ النهي حينئذ لم يستعمل إلاّ في معنى واحد وهو طلب الترك، وقد اقترن ذلك بالترخيص في الفعل من الخارج بالإضافة إلى القران، ولم يقترن بالنسبة إلى التبعيض فالالتزام بكراهة الأوّل وحرمة الثاني لا يستلزمالاستعمال في أكثر من معنى واحد بوجه»(1).

أقول: مبناه الأصولي صحيح لذا لم نجعل وحدة السياق قرينة على وحدة الظهور، إلا أن المورد ليس صغرى له لأن عندنا هنا فقرة واحدة ومضمونها (اقرأ سورة واحدة فقط) وعبّر عن فقط بقوله: (لا أقل ولا أكثر) وليس عندنا فقرتان حتى يجري ما قاله فالمورد لا يقبل التفكيك الذي ذكره (قدس سرّه) ويصح النقض الذي ذكرناه، مضافاً إلى أن قوله (قدس سرّه): «ولم يقترن بالنسبة إلى التبعيض» غير دقيق بلحاظ روايات الطائفة الثالثة الآتية التي دلت على جواز التبعيض.

المسألة الثالثة:إشكالية دلالة الترخيص المنفصل على الاستحباب.

اختلف من تبنى دلالة الامر على الوجوب بحكم العقل في ان الترخيص الذي ينفي حكم العقل بالوجوب هل يجب ان يكون متصلا بالأمر او انه يمكن ان يكون منفصلا ؟

والظاهر من كلمات الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ان الترخيص وان كان منفصلا فانه ينفي حكم العقل بالوجوب ويثبت به الاستحباب.

وقد استفدنا ذلك مما جاء في الجزء الأول (صفحة 326) في مسالة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة من جسد الانسان ، حيث جاء فيه:

ص: 228


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 14/269 وسبقه إلى هذا الجواب المحقق الهمداني (قدس سرّه) في مصباح الفقيه: 12/178..

وفي ضوء هذه الصياغة لدليلهم، يكون من غير المجدي الرد عليهم كبروياً كالذي قاله صاحب الحدائق (قدس سرّه) بعد أن وصف كلام صاحب الذخيرة المتقدم بأنه «من جملة تشكيكاته الواهية وفيه خروج من الدين من حيث لا يشعر قائله»(1) وعلله بأنه «متى كان الأوامر الواردة في الأخبار في جميع الأحكام لا تدل على الوجوب والنواهي الواردة كذلكلا تدل على التحريم كما كرره في غير موضع من كتابه هذا فلم يبق إلا الإباحة، وبذلك يلزم تحليل المحرمات وترك الواجبات إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا مؤاخذة إلا بعد إقامة البرهان، والفرض بناءً على ما ذكره أنه لا دليل على وجوب ولا تحريم، واللازم حينئذٍ سقوط التكليف وأن إرسال الرسل وإنزال الشرائع عبث وهو كفر محض كما لا يخفى».

وقال قريباً منه السيد الخوئي (قدس سرّه) وحاصله: «إن الوجوب ليس مدلولاً لصيغة الأمر ، وإنّما هي تدلّ على الطلب الجامع بين الوجوب والاستحباب، وإنّما يستفاد الوجوب من عدم قيام القرينة على الترخيص في الترك، كما أنّ الاستحباب يستفاد من قيامها على الترخيص في الترك، وحيث قامت القرينة على الوجوب في غسل مسّ الميِّت حكمنا بوجوبه دون غيره، وهذا لا يستلزم استعمال الصيغة في معنيين بل معناها واحد كما مرّ.

على أنّا لو سلمنا ذلك فغاية ما يستفاد من ذلك أنّ الصيغة لم تستعمل في الوجوب، وأمّا أنّها استعملت في الاستحباب فهو محتاج إلى الدليل، وعليه فالرواية لا تدلّ على وجوب الغسل كما لا تدلّ على استحبابه لتعارض سائر الأخبار»(2).

ص: 229


1- الحدائق الناضرة: 3/330.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سرّه): 8/202.

وجه عدم الجدوى: أن القائل لم ينفِ أصل دلالة صيغة الأمر على الوجوب، وهذا واضح من كلامه، ومن سيرتهم الجارية في استنباط الأحكام من الروايات، وإنما فهموا من عدد من الروايات عدم الوجوب فجعلوها قرينة على أن الطلب في هذه الروايات التي استدل بها على الوجوب محمول على الاستحباب لوجود تلك القرائن الصارفة لها عن الظهور فيه، وهذا ديدنهم جميعاً في التعاطي مع صيغ الطلب، كما لو ورد (اغتسل للجمعة) وورد (لا بأس بترك غسل الجمعة) فيحمل الأمر فيالأول على الاستحباب بقرينة الترخيص في الثاني.

المسألة الرابعة: دلالة لفظ الوجوب.

تختلف قوة دلالة الألفاظ على معانيها بين الصراحة والظهور والإجمال ، وقد يعتقد البعض ان لفظ الوجوب اذا جاء في الروايات فانه سيكون دالا على الحكم بالوجوب صراحة اَي انه لا يحتمل فيه معنى اخر.

ولكن الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) يذهب الى ان لفظ الوجوب ليس صريحا في دلالته على الوجوب الشرعي ، ومعنى ذلك انه يحتمل فيه دلالته على الاستحباب المؤكد.

وقد جاء ذلك في الجزء الخامس (صفحة 443) في مسالة الزكاة في مال الصغير ، اذ قال سماحته:

والنتيجة أنه لا مانع عرفاً من استعمال لفظ (الوجوب) في الاستحباب المؤكد، بل جرى في أحاديث المعصومين (علیهم السلام) إخفاء الرخصة في بعض موارد الاستحباب ليدفعوا شيعتهم نحو الكمال بالعمل بما ظاهره الوجوب، ولو رخّصوا لهم لتركه غالبهم، بعكس ما نُقل عن بعض السلف الصالح أنهم كانوا يرون المستحب واجباً والمكروه حراماً.

ص: 230

المسألة الخامسة: الامر بصيغة النهي والعكس.

مما لا شك فيه ان الامر غير النهي ، فالامر هو تحريك نحو الفعل ، اما النهي فهو الردع عن الفعل. ولكن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) بيّن إمكانية التعبير عن الامر بصيغة النهي ، فقد يقول المولى (لا تترك الصلاة) ويراد بذلك الامر بالصلاة ، كما انه قد يعبّر عن النهي بصيغة الامر فقد يقول المولى (انتهِ عن الكذب) دلالة على حرمة الكذب.

جاء هذا المعنى في الجزء الثامن (صفحة 29) في مسالة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تحت عنوان هل هما واحد ام اثنان ، اذ قال (دامت بركاته):الأمر بالمعروف غير النهي عن المنكر بحسب الدلالة المطابقية؛ لأن الأول أمر أي تحريك نحو الفعل، والثاني نهي أي ردع عنه، فهما اثنان.

نعم يمكن التعبير عن أحدهما باستعمال صيغ الآخر، ويكون مؤداهما واحداً وإن اختلفا بالتعبير والصياغة، فإن المولى حينما يطلب شيئاً فإنه قد يعبّر بالأمر بتحصيله مباشرة أو يعبِّر بالنهي عن تركه، وهذا مألوف في الخطابات الشرعية وتعابير الفقهاء.

ولكن اتحادهما بالمؤدى وإمكان التعبير عن أحدهما بصيغة الآخر لا يعني أنهما واحد لاختلافهما من أكثر من جهة:-

1- باللحاظ والاعتبار فإن في الأمر يلاحظ المولى إنشاء طلب تحصيل الفعل وإلقائه في عهدة المكلف وتحريكه نحو امتثاله بغضّ النظر عن المنع وتركه، أما في النهي فيلاحظ المولى ردع المكلف عن فعلٍ ما.

2- بالملاك، فإن ملاك الأمر بالمعروف وجود مصلحة في المأمور به، أما ملاك النهي عن المنكر فهو تجنب المفسدة في النهي عنه.

ص: 231

المسألة السادسة: الامر بالأمر.

بعد ان اتفق علماء الأصول على ان الامر ظاهر في الوجوب بحثوا في دلالة الامر بالأمر على الوجوب.

وقد افرد شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) لهذه المسالة ملحقا في الجزء الثامن (صفحة 319 -323) في مسالة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

اذ قال (دامت بركاته):

ملحق: الأمر بالأمر بفعل هل هو أمر بذلك الفعل أم لا؟

بيان المطلب باختصار: أن مدخلية الأمر الأول في طلب الفعل من المأمور الثاني له عدة أنحاء:أولها: على نحو الطريقية المحضة بأن يكون غرض الآمر الأول وهو المولى من إصدار الأمر هو إيصاله إلى المأمور الثاني ليتحرك نحو إيجاد الفعل، ولا دور للمأمور الأول إلا هذا الإيصال فلو علم المأمور الثاني بالتكليف عن غير طريق المأمور الأول فإن التكليف منجز عليه، وإنما وضع المولى الواسطة لسبب ما كقصور المأمور الثاني مثل الصبيان أو تقصيره كالعاصي الذي يراد انتهاؤه عن المنكر، فهنا يلزم من الامر الأول طلب الفعل من المأمور الثاني ومن أمثلته أمر المولى أولياء الأمور بأمر صبيانهم بالعبادات وقد تقدمت جملة من الروايات في ذلك، ولو أن الصبي أخذ الدين من غير والديه فقد تحقق المطلوب.

ثانيهما: أن يكون الأمر الأول مأخوذاً على نحو الموضوعية المحضة بأن يتعلق غرض المولى بإنشاء المأمور الأول الأمر للمأمور الثاني وليس له غرض بصدور الفعل من المأمور الثاني، فهنا لا يلزم من الامر الأول طلب الفعل من المأمور الثاني، ومثاله العرفي: ما لو أراد الملك أن يدرب ولي

ص: 232

عهده على إدارة المملكة وسياسة الناس فيطلب منه توجيه الأوامر إلى المسؤولين لكنه يبلّغ هؤلاء بعدم جواز تنفيذ تلك الأوامر لأن غرضه التدريب فقط.

ثالثها: الطريقية المشوبة بالموضوعية: وذلك بأن يأمر المولى الواسطة بتوجيه الأمر إلى المأمور الثاني، والمولى يريد إيجاد الفعل من المأمور الثاني إلا أنه لا يقبله إلا إذا كان الباعث له أمر المأمور الأول (وهو الآمر الثاني) أي يريد من المكلف أن يأخذه من هذه الواسطة لا غير لغرض في نفسه كتشريف المأمور الأول وإظهار كرامته أو عدم استعداد المأمور الثاني لتلقي الأمر، وهنا الآمر بالأمر بشيء يقتضي طلب ذلك الشيء لكن لا مطلقاً وإنما بعد صدور الأمر من الآمر الثاني.

ومثاله العرفي ما لو عيّن المرجع الديني وكيلاً له في مدينةٍ ما وأمر بإيصال الحقوق الشرعية وتلقي الفتاوى الدينية بواسطته لإظهار فضيلتهومكانته ولتمكينه في أداء دوره فلا يقبل المرجع تواصل المكلف معه مباشرة.

ومثاله الشرعي لزوم أخذ تعاليم الدين عن طريق النبي وأهل بيته الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) فهم الباب الذي لا يؤتى إلا منه وهم واسطة الفيض الإلهي وتلقي المعارف الإلهية، ولذا قرن الله تعالى طاعة نبيه (صلی الله علیه و آله) بطاعته تبارك وتعالى؛ لأنه يريد عبادته عن هذا الطريق المبارك فحسب.

والذي يستظهره العرف من الأمر بالأمر هو القسم الأول أما القسمان الآخران فهما بحاجة إلى القرينة، لذا اخترنا في هذا المطلب أن الأمر بالأمر يقتضي طلب الفعل من المأمور الثاني حتى لو تجرد عن القرينة؛ لأنه ظاهر عرفاً في الأول.

ص: 233

خلافاً لصاحب الكفاية (قدس سرّه) فإنه جعل الأقسام الثلاثة في عرض واحد ولا مرجح لبعضها على بعض إلا بالقرينة، قال (قدس سرّه): «وقد انقدح بذلك أنه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر على كونه أمراً به، ولا بد في الدلالة عليه من قرينة عليه»(1).

وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القسم الأول لأن الغرض من الأمر بها إقامة الفرائض والسنن كما في الروايات الشريفة، ولو أن المأمور المنهي ندم وتاب وأقلع عن المنكر وفعل المعروف فقد تحقق الغرض وسقط وجوب الأمر والنهي.

إن قلتَ: تقدمت الإشارة في أكثر من موضع إلى أن إنشاء الأمر والنهي له جهة موضوعية وهذا ينافي جعل الفريضة من القسم الأول الذي يفترض الطريقية المحضة.

قلتُ: لا توجد منافاة لأن ما ذكرناه هنا بلحاظ فعل المأمور الثاني فأمرالآمر الناهي مجرد واسطة إليه لتحقق متعلق الأمر والنهي، وما قلناه هناك بلحاظ فعل المأمور الأول أي إنشاء الأمر والنهي، فهنا أمران ومتعلقان، وتكليف الآمر الناهي خارج عن محل كلامنا الذي هو في الأمر بالأمر لأنه أمر مباشر، لذا فلا حاجة إلى جعله قسماً رابعاً كما يظهر من بعض الأعاظم(2)

والتفريق دقيق.

ومن الغريب أخذ السيد الخوئي (قدس سرّه) فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على النحو الثاني، قال (قدس سرّه): «الأول: أن يكون غرض المولى قائماً بخصوص الأمر الثاني باعتبار أنه فعل اختياري للمكلف، فلا مانع من

ص: 234


1- كفاية الأصول: 144.
2- بحوث في علم الأصول: 2/381.

أن يأمر الشارع بإيجاد أمر بشيء أو إيجاد نهي عن آخر كما هو الحال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

ويشرح (قدس سرّه) مراده من خصوص الأمر الثاني بقوله: «فإن غرض المولى في القسم الأول متعلق بالأمر الصادر من المأمور الأول دون الفعل الصادر من الثاني فيكون المأمور به هو الأمر فقط» وقال (قدس سرّه): «على الوجه الأول لا يجب الفعل على الثاني لفرض أن غرض المولى يحصل من صدور الأمر من الأول سواء صدر الفعل من الثاني أيضاً أم لا؟ فإذا صدر الأمر منه فقد حصل الغرض»(1).

أقول: وجه الغرابة أنهم يلتزمون بأن الغرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحقيق متعلقهما خارجاً بأي نحو كان والأمر والنهي وسيلة وطريق لتحقيق ذلك.

ملاحظة: وإنما عبّرت بأن الأمر بالأمر يقتضي طلب الفعل ولم أعبِّر بإيجاب الفعل كما ذكر بعض الأصحاب(2) (قدس الله أسرارهم) لعدمالملازمة بين دلالة الأمر الأول على الوجوب ودلالة الثاني عليه فيمكن أن يدلّ على أصل الرجحان كأمر الآباء والأمهات بأمر صبيانهم بالعبادات فإن الأول لو كان واجباً فإن الثاني مستحب لرفع القلم عن الصبي، وهذا مما نقضنا به على ما اشتهر بينهم من أن الفرع لا يمكن أن يزيد على الأصل؛ لأن غرض المولى يتحقق بصدور الفعل من المأمور الثاني وهو مستحب إلا أن الأمر واجب على المأمور الأول.

ص: 235


1- محاضرات في أصول الفقه من الموسوعة الكاملة: 45/261-262.
2- محاضرات في أصول الفقه من الموسوعة الكاملة: 45/261، بحوث في علم الأصول: 2/311، قال في الثاني: «وقع البحث في دلالة الأمر بالأمر على وجوب الفعل على المأمور الثاني وعدمه».
ثانيًا: الاطلاق
اشارة

من المباحث المهمة والتي لها تطبيقات كثيرة جدا في الفقه والاستنباط الفقهي مبحث الاطلاق ، وقد جاءت في فقه الخلاف عدة مسائل في مبحث الاطلاق سنذكر منها ثلاثًا و عشرين مسالة ، وهي:

المسألة الأولى: الاطلاق مدلول لفظي.

المسألة الثانية: الشمولية المستفادة بالاطلاق.

المسألة الثالثة: توقف الاطلاق على عدم القيد المنفصل.

المسألة الرابعة: حكم الاطلاق عند إرادة المقيَّد.

المسألة الخامسة: الاطلاق والقرائن اللبية.

المسألة السادسة: مانعية الارتكاز للإطلاق.

المسألة السابعة: الاطلاقي الذاتي واللحاظي.

المسألة الثامنة: اثبات الوجوب التعييني بالاطلاق.

المسألة التاسعة: دلالة الأفعال على الزمان بالاطلاق.

المسألة العاشرة: الاطلاق السكوتي.المسألة الحادية عشرة: الاطلاق المقامي.

المسألة الثانية عشرة: الاطلاق المقامي دليل لبي.

المسألة الثالثة عشرة: اطلاق الكل و إرادة الجزء.

المسألة الرابعة عشرة: حمل اللفظ على الفرد النادر.

المسألة الخامسة عشرة: الانصراف.

المسألة السادسة عشرة: غلبة الوجود الخارجي لا توجب الانصراف.

المسألة السابعة عشرة: الانصراف لا يصلح للتقييد.

المسألة الثامنة عشرة: التفريعات لا تقيد الاحكام.

المسألة التاسعة عشرة: مناسبات الحكم والموضوع.

ص: 236

المسألة العشرون: التقييد بالمفهوم.

المسألة الحادية والعشرون: تقييد الموضوع بمتعلق الحكم.

المسألة الثانية والعشرون: نكات التقييد.

المسألة الثالثة والعشرون: استعمال الاطلاق بمعنى الظهور.

وتفصيل هذه المسائل:

المسألة الأولى: الاطلاق مدلول لفظي.

اختلف الأصوليون في كون الاطلاق مدلولًا لفظيًا او ان اللفظ لا يدل عليه ، وانما يستفاد الاطلاق من حكم العقل ؟

وقد نفى سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) كون الاطلاق خارجًا عن مدلول اللفظ ، ولكنه في نفس الوقت قال بعدم وجود لفظ موضوع في اللغة للدلالة عليه بل يستفاد الاطلاق من القرائن السياقية.

وقد جاء هذا المبحث في الجزء الثالث (صفحة 145) في مسالة احكام الصوم في السفر ، حيث قال (دامت بركاته):ما تقدم من السيد الخوئي (قدس سرّه) وبنى عليه في علم الأصول من أن الإطلاق ثابت بحكم العقل، وليس من مدلول اللفظ حتى يكون صغرى لقوله: «يأتينا عنكم الحديثان المختلفان» حتى نُعمل المرجحات الواردة فيهما، حيث قال (قدس سرّه) هناك: «أما إذا كان العموم في كل منهما مستفاداً من الإطلاق، فتسقط الروايتان في مادة الاجتماع من الأول، بلا حاجة إلى الرجوع إلى المرجحات. وذلك لأن الإطلاق بمعنى اللا بشرط القسمي المقابل للتقييد غير داخل في مدلول اللفظ، إذ اللفظ موضوع للماهية المهملة التي يعبر عنها باللا بشرط المقسمي، فلا يروي الراوي عن الإمام (علیه السلام) إلا بثبوت الحكم للطبيعة المهملة. وأما إطلاقه فهو خارج عن مدلول

ص: 237

اللفظ، ويثبت بحكم العقل بعد تمامية مقدمات الحكمة. وعلى هذا فلا تعارض بين الخبرين باعتبار نفس مدلوليهما، فإنه لا تنافي بين الحكم بوجوب إكرام العالم على نحو الإهمال، وحرمة إكرام الفاسق كذلك ليقع التعارض بين الخبرين الدالين عليهما. ولا سبيل للعقل إلى الحكم بأن المراد منهما وجوب إكرام العالم ولو كان فاسقاً، وحرمة إكرام الفاسق ولو كان عالماً فإنه حكم بالجمع بين الضدين. والحكم بالإطلاق في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، فيسقط الدليلان معاً في مادة الاجتماع، ويرجع إلى دليل آخر من عموم أو إطلاق. ومع فقده يكون المرجع هو الأصل العملي»(1).

وشرح في موضع آخر مراده من سقوط الدليلين أي إطلاقيهما قال (قدس سرّه): «وأما إن كانت النسبة بينهما العموم من وجه، وكان العموم في كل منهما بالإطلاق، يسقط الإطلاقان في مورد الاجتماع، لما ذكرناه من أن الإطلاق غير داخل في مدلول اللفظ، بل الحاكم عليه هو العقل ببركة مقدمات الحكمة التي لا يمكن جريانها في هذه الصورة. وذكرنا أنالمستفاد من الكتاب ذات المطلق لا إطلاقه، كي يقال: إن مخالف إطلاق الكتاب زخرف وباطل»(2).

أقول: المبنى الذي اختاره (قدس سرّه) من أن الإطلاق «خارج عن مدلول اللفظ، ويثبت بحكم العقل بعد تمامية مقدمات الحكمة» ليس صحيحاً، إذ أن الإطلاق يستفاد من اللفظ لكن لا بالدلالة الوضعية بل السياقية بمعونة القرائن ومقدمات الحكمة ونحوها، أما وظيفة مقدمات الحكمة فهي إثبات أن

ص: 238


1- مصباح الأصول من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سرّه): 48/516).
2- المصدر: 48/517.

تمام المراد الجدي للمتكلم في عالم الثبوت هو ما صدر منه في عالم الإثبات، وهو ما يعرف بأصالة تطابق عالمي الإثبات والثبوت.

وهذا هو مختار السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) وبعض أساتذتنا، قال السيد الشهيد (قدس سرّه): «إن مقدمات الحكمة لا تقتضي إلا مطلباً واحداً دائماً في جميع المقامات، وهو أن ما أخذ موضوعاً للحكم في مقام الإثبات –وهو الطبيعة- تمام الموضوع له ثبوتاً»(1).

فالإطلاق يستفاد من ظهور اللفظ لكن بمعونة مقدمات الحكمة، قال (قدس سرّه): «إن المتكلم له ظهوران حاليان كاشفان عن الإرادة الجدية، أحدهما الظهور السلبي في أن ما سكت عنه ولم يذكره في مرحلة الإثبات غير ثابت في مرحلة الثبوت والجد، فليس هناك شيء قد قصده ولم يقله، وهذا هو أساس الظهورات الإطلاقية في المطلقات. والآخر الظهور الإيجابي في أن ما ذكره في مرحلة الإثبات ثابت في مرحلة الثبوت أيضاً، فليس هناك شيء قد قاله ولم يقصده، وهذا هو أساس الظهورات التقييدية في المقيدات»(2).

واختاره أيضاً بعض أساتذتنا (دام ظله الشريف) فإنه بعد أن أوضح مبنى السيد الخوئي (قدس سرّه) المتقدم بالتفصيل قال عنه أنه «محل خدشة وقدبيناه في علم الأصول، فإن الظهور تارة يكون مستنداً إلى الوضع وأخرى إلى اللفظ وما يكتنفه، فالظهور المدعى في مقام الإثبات هو المستند إلى الوضع، فإذا قال: أكرم عالماً وكان متمكناً من التقييد ولم يقيّد وهو في مقام البيان: ينعقد له ظهور في التوسعة، لكنه من ناحية مجموع الدلالة الوضعية وبقية المقدمات ومنها عدم التقييد، فقوله: (أكرم عالماً) يعني أي

ص: 239


1- بحوث في علم الأصول: 7/285.
2- بحوث في علم الأصول: 7/283.

عالم، فإنكار ظهور اللفظ في الإطلاق محل خدشة»(1).

المسألة الثانية: الشمولية المستفادة بالاطلاق.

مما لا شك فيه ان الاطلاق يفيد التوسعة والشمول ، ولكن الاطلاق يفيد التوسعة بواسطة نفي القيود المحتمل اخذها في الكلام ، وليس بإدخال مفاهيم جديدة غير المفهوم الذي يراد إثبات إطلاقه.

وقد وقع الكثير من الخلط بين هاتين المسالتين في بعض تطبيقات الاطلاق ، فاعملوا الاطلاق لأجل إثبات التوسعة لحيثيات ولحاظات جديدة غير اللحاظ الذي يراد إثبات إطلاقه.

وقد نبّه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) على هذه المسالة في الجزء الأول (صفحة 268) في مسالة طهارة غير المسلمين ، حيث قال:

ومنها: «دعوى الإطلاق في كلمة (نجس)، وأنه بالإطلاق تدل الآية الكريمة على نجاسة المشرك بتمام شؤونه ومراتبه نفساً وبدناً، فتثبت النجاسة المعنوية والجسمية. وبعد معلومية عدم النجاسة الجسمية الحسّية في بدن المشرك تحمل على نجاسة البدن الاعتبارية. فليس الأمر دائراً بين نجاسة النفس ونجاسة البدن، ليدَّعى عدم تعيّن الثاني، بل الإطلاق كفيل بإثباتهما معاً.ويرد عليه: أن النفس والبدن ليسا فردين من الموضوع في القضية لتثبت بالإطلاق نجاستهما معاً، بل مرجعهما إلى نحوين من ملاحظة المشرك فقد يلحظ بما هو جسم، وقد يلحظ بما هو شخص معنوي.

ولحاظه بما هو جسم ومعنى معاً وإن كان أمراً معقولاً، ولكنه لا يفي به

ص: 240


1- محاضرة بتأريخ 3/شعبان/1416.

الإطلاق لأن الإطلاق ينفي أخذ قيد زائد في الموضوع، وليس له نظر إلى توسعة اللحاظ، وإدخال حيثيات عديدة تحته، بل يحتاج ذلك إلى قرينة خاصة»(1).

وببيان آخر:

إن أثر الإطلاق يظهر في المرتبة اللاحقة بعد تشخيص الموضوع فيوسع حدود المراد منه ولا يتكفل بتشخيص الموضوع، وهنا عندنا موضوعان متغايران هما قذارة البدن وقذارة النفس فلابد من تحديد أيّهما الموضوع المراد من النجاسة في الآية من قرائن خارجية أولاً ثم يُتمسك بإطلاقه.

المسألة الثالثة: توقف الاطلاق على عدم القيد المنفصل.

مما لا شك فيه ان الاطلاق لا ينعقد مع وجود المقيد المتصل ، ولكن علماء الأصول ناقشوا مانعية القيد المنفصل لانعقاد الاطلاق ؛ اذ قيل ان الاطلاق ينعقد حتى مع احتمال القيد المنفصل والا فلن ينعقد اَي اطلاق ؛ لأننا نحتمل القيد المنفصل في كل مورد.

وقد أجاب سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) على هذه الإشكالية في الجزء الثالث (صفحة 147 – 148) حيث قال:

ان التعارض نشأ من الأخذ بإطلاقي الطائفتين وهو غير ثابت بعد ورود البيان الآخر وأن كل قضية من القضايا الأربع هي مهملة بقوة الموجبة الجزئية، ولا تنافي بين القضايا الموجبة الجزئية.ونتيجة هذا التقريب الأخذ بالقدر المتيقن، وهو الإفطار إذا سافر قبل

ص: 241


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/ 331.

الزوال مع تبييت النية، والصوم إذا سافر بعد الزوال مع عدم تبييت النية، أما في الحالتين الأخريين فنرجع إلى العمومات الفوقانية التي يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

وهذه الكبرى مبحوثة في علم الأصول حيث وقع الخلاف في صلاحية كل من البيانين لمنع بقاء الإطلاق في الآخر وإن انعقد أولاً، ووجه القائلون بعدم الصلاحية للفريق الآخر «إشكالاً عويصاً حاصله: أنه يستلزم عدم جواز التمسك بالإطلاق كلما شك في ثبوت الحكم لفرد أو حال مما يشمله الإطلاق، لاحتمال وجود مقيّد منفصل لم يصل إلينا، إذ الشك في ذلك يساوق الشك في ثبوت الإطلاق وعدمه»(1).

أقول: هذا الإشكال يأتي على من منع انعقاد الإطلاق من أصله، ولا يأتي على ما قلناه من انعقاده أولاً، وتزلزله حينما ورد البيان الآخر، كالعام الذي ينعقد له ظهور في العموم ثم يأتي مخصص منفصل.

المسألة الرابعة: حكم الاطلاق عند إرادة المقَيَّد.

من المعتاد في كلام الشارع ان يأتي الكلام مطلقا ثم يقيد الشارع هذا الاطلاق بقيد منفصل ، ولهذه الحالة مبررات كثيرة من ضمنها زيادة اهتمام المكلف بالمسالة مثلا ،

ولكن في بعض الأحيان يمثل الاطلاق خللا في البيان اذا كان المقصود هو المقيد ، وقد أعطى سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) تطبيقا فقهيا لهذه المسالة ؛ اذ ذهب بعض الفقهاء الى ان حرمة التظليل على المحرم مختصة بالليل مع ان ادلة التحريم جاءت مطلقة ، فقال (دامت بركاته) لو كان المراد هو

ص: 242


1- بحوث في علم الأصول: 7/280.

خصوص الحرمة في الليل لكان الاطلاق خللا ، وحاشا المعصوم ان يكون خلل في كلامه ، والنتيجة: ان الاطلاق هو المراد والتقييد غيرمطلوب.

جاء هذا المعنى في الجزء السابع (صفحة 129) في مسالة حرمة التظليل على المحرم ، حيث قال (دامت بركاته):

ولو كان الحكم مختصاً بالشمس لوجدنا الامام (علیه السلام) يعلّم بعض أصحابه هذا الحل والعلاج لمشكلة من به أذى أو علة أو انه لا يطيق حر الشمس فيقول له سر في الليل وكان متعارفاً في ذلك الزمان لان الاضطرار لا يصدق الا مع عدم المندوحة فمع وجودها بالسير ليلاً لا يجوز الترخيص في التظليل.

واحياناً يكون الإطلاق خللاً في الجواب إذا كان المطلوب هو المقيد كما في سؤال القبة والكنيسة فالجواب الصحيح -لو كانت حرمة التظليل خاصة بالشمس- يكون بالمنع في النهار والجواز في الليل الا ان يُدّعى بوجود قرائن كالارتكاز لدى السائل بررَّ الاستغناء عن ذكر التفصيل وهو كما ترى.

كما جاء هذا المطلب في الجزء الرابع (صفحة 338) في مسالة رؤية الهلال ، حيث ان هناك طائفة من الروايات جاء فيها لفظ (مصر) (1)، وقد استدِل بها على ان الهلال اذا ثبت في بلد ما ثبت في كل البلاد الأخرى ، فقال سماحته:

وقد أشكل المشهور على الاستدلال بهذه الطائفة جملةً وتفصيلاً، أما جملةً فيتحصّل من كلامهم عدة أمور:

منها: إن لفظ (مصر) لا إطلاق له ليشمل البلدان البعيدة ولا يفيد التعميم

ص: 243


1- موسوعة فقه الخلاف: 4 / 335-338

لأنه نكرة في سياق الإثبات وإنما ينصرف إلى البلدان المتقاربة بحكم الغلبة ولندرة الاطلاع على أحوال البلدان المتباعدة معصعوبة المواصلات والتنقل يومئذٍ(1).

ويجاب هذا الإشكال بوجوه:

وكان الوجه الرابع هو:

ان الإطلاق ظاهر من مثل هذه السياقات فلو لم يكن مراداً للمتكلم لأشار إلى القيد، فترك التقييد في مقام البيان يستلزم الإطلاق وإلا يكون فيه تغرير بالمكلف.

المسألة الخامسة: الاطلاق والقرائن اللبية.

يذهب البعض من علمائنا الاعلام الى ان دلالة الاطلاق ضعيفة جدا ؛ لانها دلالة سكوتية اَي انها ناتجة من السكوت عن بيان القيد ، ولذا فان الاطلاق لا ينعقد مع وجود القيد سواء كان لفظيا او لبيا ، بل ان البعض يرى عدم انعقاد الاطلاق بمجرد احتمال القيد.

ولكن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) يرى عدم مانعية بعض القيود اللبية من التمسك بالاطلاق اللفظي وان كنا على يقين من تحققها.

وقد جاء هذا المطلب في الجزء الأول (صفحة 86- 87) في مسالة مطهرية الشمس ، حيث قال (دامت بركاته):

إطلاق جواب الامام (علیه السلام) الشامل لموضع السجود وهو مما تشترط فيه الطهارة(2) فالفقرة تفيد الطهارة بالدلالة الالتزامية.

ص: 244


1- ممن ذكر الإشكال وأجاب عليه: النراقي في مستند الشيعة: 10/425.
2- نقل عن صاحب المدارك المخالفة فقال «لم أقف على مستند في اشتراط طهارة محل السجود سوى الإجماع المنقول وليس بحجة» وسيأتي تفصيل الكلام إن شاء الله تعالى.

وقد يضعف بان الإطلاق وان كان متحققاً في المقام الا اننا نعتقد ان مثل زرارة ملتزم بما حث عليه المعصومون (علیهم السلام) من السجود علىالخمرة وأنها سنّة(1)واستحباب

السجود على التربة الحسينية(2) فيكون موضع السجود خارجاً بهذه القرينة وهي التفاتة لطيفة الا أنها لا تصل إلى المنع من الاستدلال بالإطلاق.

المسألة السادسة: مانعية الارتكاز للإطلاق.

ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ان وجود الارتكاز القوي على خلاف الاطلاق يمنع من انعقاده.

جاء ذلك في عدة موارد منها:

1- ما جاء في الجزء الأول (صفحة 115-116) في مسالة مطهرية الشمس ، اذ قال (دامت بركاته):

اما الإطلاق الذي استفاده من ترك الاستفصال فهو غير صحيح ولا يوجد مثل هذا الإطلاق إذ يمنع انعقاده وجود ارتكاز قوي ان الجواز لا يشمل ما إذا وجدت رطوبة فتسري النجاسة ولا يشمل موضع السجود لاشتراط الطهارة فيه وارتكازنا الآن شاهد على ذلك عندما نسمع مثل هذه

ص: 245


1- روى الكليني عن أبي عبد الله (علیه السلام) انه قال (السجود على الأرض فريضة، وعلى الخمرة سنة) الوسائل ، كتاب الصلاة، أبواب ما يسجد عليه، الباب 11 ح 1 وفي الحديث الثالث من نفس الباب عن أبي الحسن موسى قال (لا يستغني شيعتنا عن أربع: خمرة يصلي عليها...).
2- روى الشيخ الطوسي في المصباح بإسناده عن معاوية بن عمار عن الإمام الصادق (علیه السلام) انه قال: (ان السجود على تربة أبي عبد الله (علیه السلام) يخرق الحجب السبع) (نفس المصدر، الباب 16، ح 3).

الرواية(1).2- ما جاء في الجزء الرابع (صفحة 282) مبحث التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع قوله (دامت بركاته):

إن هذه الروايات (2)يمكن

أن ينظر إليها على أنها إرشادية إلى ما تبانى عليه العقلاء والمفروض أنه لا يشمل الشك في المقتضي فتتقيد سعة الروايات بهذا المقدار ولا يتم لها إطلاق.

أو يكون بناء العقلاء قرينة ارتكازية بيّنة لدى المتكلم والسامع تقيّد إطلاق الكلام، وهذه القرينة الملحوظة عند التخاطب غير ما اشترطه صاحب الكفاية لانعقاد الإطلاق واعترضنا عليه من عدم وجود قدر متيقن في مقام التخاطب؛ لوجود اللحاظ المعيّن للظهور في هذه دون تلك.

ولا أقل من كون بناء العقلاء مجملاً من هذه الناحية فيسري إجماله ولا يتم للكلام إطلاق.

المسألة السابعة: الاطلاق الذاتي واللحاظي.

بيّن سماحة الشيخ الأستاذ في الجزء الثاني (صفحة 333) في مسالة شرط الفرسخين في وجوب صلاة الجمعة ان الاطلاق ينقسم على قسمين: اطلاق ذاتي ، واخر لحاظي ، وان الثاني هو الذي يتمسك به دون الأول ، اذ قال (دامت بركاته):

الإطلاق إطلاقان: ذاتي وهو بلحاظ نفس الألفاظ مع قطع النظر عن

ص: 246


1- يريد بها صحيحة علي بن جعفر حيث روي انه سأل أخاه موسى بن جعفر (علیه السلام) عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول، ويغتسل فيها من الجنابة أيصلى فيهما إذا جفا؟ قال: نعم). وسائل الشيعة: 3 / 453.
2- يريد بها الروايات التي استدل بها على حجية الاستصحاب.

ملاحظة القيد عند المتكلم حين إطلاق الكلام وعدمه ، ولحاظي وهو الإطلاق الذي يلحظ فيه المتكلم القيد فلا يأخذه ويطلق كلامه ، والأول لا يمكن التمسك به لعدم اجتماع مقدمات الحكمة …، أما الثاني فيُتَمسَّك به.

المسألة الثامنة: إثبات الوجوب التعييني بالاطلاق.

ينقسم الوجوب الى تعييني لا عدل له ، و تخييري له عدل ، وفي الجزء الثاني (صفحة 265-266) في مسالة حكم إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة يذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ان الأصل في الوجوب ان يكون تعيينيا الا اذا دل الدليل على وجود عدل له فيكون تخييريا ، اذ قال (دامت بركاته):

ورد في صحيحة زرارة الثالثة المتقدمة (وذلك سنُة إلى يوم القيامة)(1) والتي تدل على الوجوب في كل زمان ولا يختص بزمن الحضور.

فهذه النصوص دالة بصراحة على الوجوب التعييني لصلاة الجمعة في كل زمان، قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «ومع هذا كله لا يسعنا الحكم بوجوب الجمعة تعييناً، ولا مناص من حمل الأخبار الظاهرة على ذلك على الوجوب التخييري، لأن دلالتها على وجوب صلاة الجمعة وإن كانت تامة كما مرَّ وذكرنا أنها دلالة لفظية وبالعموم إلا أن كونه وجوباً تعيينياً غير مستند إلى اللفظ وإنما يثبت بالإطلاق ومقدمات الحكمة باعتبار أن لفظ الواجب أو الفريضة وأشباههما إنما يكون ظاهراً في التعييني فيما إذا أطلق، ولم يقيّد بما يدل على عدل آخر له، فإن التخييري هو المحتاج إلى مؤونة البيان ولو بمثل إذا لم يأتِ بعَدْله فإذا كان الحال كما عرفت فلا مناص من رفع اليد عن

ص: 247


1-

إطلاق الروايات الواردة في المقام وحمله على التخييري لوجوه صالحة للقرينية والمانعية عن الأخذ بظواهرها أعني الوجوب التعييني» ((1).

وما قاله أولاً بمجمله صحيح إلا أنه يمكن الإشارة إلى أكثر من نقطة:

إنه من الصحيح أن الأصل في الواجبات هو التعيين إلا أن يقوم1- الدليل على التخيير لكن الأصول إنما تؤسَّس لحالة الشك فيرجع إليها، أما في المقام فالأدلة صريحة في الوجوب التعييني على كل فرد -عدا ما استثني- ومثل هذا اللسان لا نحتاج معه الرجوع إلى الأصل.

2- إن صرف الظهور بل صريح النصوص يكون لقرائن تدلّ على البدلية العرضية ذكرت في علم الأصول والقائل بالوجوب التخييري لا يدّعي وجود دليل يوفّر هذه المؤونة الزائدة للوجوب التخييري، ولم يرد دليل على إجزاء صلاة الظهر يوم الجمعة إلا على نحو الطولية والبديل الاضطراري لصلاة الجمعة عند تعذر إقامتها لخوف ونحوه كموثقة أبن بكير المتقدمة ((2)وغيرها، وما يتمسك به القائل بالوجوب التخييري إنما هي مجرد استبعادات تصلح قرينة - من وجهة نظره- على هذا التقييد فهل تكفي مجرد استبعادات يمكن تفسيرها بعدة وجوه.

-كما سيأتي إن شاء الله تعالى- غير تقييد الوجوب التعييني للعدول عمّا أفادته الروايات الصحيحة بصراحة؟ وهل أن حجية النصوص بهذه الدرجة من الهشاشة حتى نتحرر منها لمجرد استبعادات؟!

ص: 248


1- (1) التنقيح في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 11/26.
2- (2) موثقة ابن بكير قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن قوم في قرية ليس لهم من يجمع بهم أيصلّون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟ قال: نعم إذا لم يخافوا). وسائل الشيعة: 7/ 327.
المسألة التاسعة: دلالة الأفعال على الزمان بالاطلاق.

درسنا في علم النحو ان الكلمة اسم وفعل وحرف ، وان الاسم يدل على معنى بذاته مع عدم دلالته على الزمان ، اما الفعل فانه يدل على معنى بذاته مع دلالته على الزمان.

وقد بحث علماء الأصول في دلالة الفعل على الزمان ، وشكك البعض في ذلك.

وفي الجزء الثاني (صفحة 178) في مسالة تعريف الوطن وإمكان تعدده يذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) السر في تخلف بعض الأفعال عن دلالتها على الزمان ؛ اذ انهيرى ان الافعال لا تدل على الزمان بالوضع وانما تدل عليه بالاطلاق. قال (دامت بركاته):

ثم ناقش السيدَ الخوئي (قدس سرّه) بأن: «في دلالة هذه الصيغة بمجردها على التجدد والاستمرار نوعاً من التأمل وان اشتهرت على الالسن , ورب شهرة لا اصل لها , وهل يحتمل التجدد في المثال المزبور او في مثل قوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا) (البقرة: 230)» ((1).

اقول: مثل هذا النقض غير صحيح لأن هذه الدلالات استفيدت من السياق ومناسبات الحكم والموضوع مضافاً الى ما نذهب اليه في علم الاصول ان دلالة الافعال على الزمان انما هو بالاطلاق لا بالوضع.

المسألة العاشرة: الاطلاق السكوتي.

قد يكون اصطلاح الاطلاق السكوتي مستغربا عند البعض ؛ اذ المعهود عند

ص: 249


1- (2) مجلة فقه أهل البيت (علیهم السلام) ، العدد 45، ص48.

دارسي علم الأصول إصطلاحي الاطلاق اللفظي والمقامي ، ولكن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) اصطلح على سكوت الفقهاء (رضوان الله عليهم) عن بيان حكم شرعي محتمل في مسالة ما بالاطلاق السكوتي.

جاء هذا المعنى في الجزء السادس (صفحة 134) في مسالة من يتزوج امرأة طلقت طلاقا غير صحيح ، اذ قال (دامت بركاته):

من تزوج جاهلاً ودخل فقد قال المشهور بالحرمة المؤبدة ولم يظهر ذلك من كلمات سيدنا الأستاذ (قدس سرّه) فقد قال: اعتدت من الثاني ورجعت إلى الأول(1) ويستفاد من الإطلاق السكوتي -لو تم لأصالة الحل- عدم الحرمة مؤبداً.وكنت قد سألت سماحته عن تبنيه لحجية الاطلاق السكوتي ، فكان جوابه (دامت فيوضاته):

لا أتبناه بشكل مطلق – اَي على نحو الموجبة الكلية - ؛ لان المجيب ليس عليه ان يبيّن كل ما يتعلق بالجواب ولوازمه وتفريعاته ، وله ان يقتصر على محل السؤال.

نعم ، قد يستكشف ذلك من ظروف النص ومورده ، كما لو كان من القبيح عدم ذكر هذا الجزء من الجواب ، فيعد سكوته امضاءً له.

المسألة الحادية عشرة: الاطلاق المقامي.

جاء في الجزء الثالث عشر في مسالة مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيرا كلام عن كفاية النقد الرائج من العملات الورقية عن الدراهم الدنانير ، واستعين للاستدلال على ذلك بالإطلاق اللفظي والمقامي ، ولكن

ص: 250


1- منهج الصالحين: ج4، مسألة 50، سطر (6)، طبعة النجف.

شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) رد على ذلك الاستدلال ، واليك نص الكلام:

الرابعة: في كفاية مطلق النقد الرائج وإن لم يكن من الدنانير الذهبية والدراهم الفضية كالعملات الورقية المتداولة اليوم.

على القول بإجزاء دفع القيمة فإنه لا خصوصية لجنس العملة بأن تكون من الذهب والفضة فتؤدى الدية بالقيمة من سائر العملات الرائجة.

أما في غير ذلك كما هو المشهور فيقرّب القول بالإجزاء على أساس أن الدية إنما حددت بهما باعتبارهما نقدين رائجين وتقيَّم بهما الأشياء، لا بما هما ذهب وفضة كسائر الأجناس.

أو قل إن العرف يفهم من جعلهما ضمن أصناف الدية باعتبارهما يمثّلان مالية تلك الأجناس فإن النقد يحصّل مالية الأشياء من دون أن يتحدّد بخصوصيتها، وحينئذٍ يجرد العرف المورد عن خصوصية الذهب والفضة، لكن مع الالتفات إلى العدد المعتبر شرعاً منهما ما دامت مقاربةللقيمة المعيارية؛ لأن لهذه الأعداد موضوعية مع شوب الطريقية الآنفة.

وقد ورد التصريح بوصفهما قيمة للأصناف الأخرى في الروايات كرواية الحكم بن عتيبة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قلت له: إن الديات إنما كانت تؤخذ قبل اليوم من الإبل والبقر والغنم، قال: فقال: إنما كان ذلك في البوادي قبل الإسلام، فلما ظهر الإسلام وكثرت الورق في الناس قسّمها أمير المؤمنين (علیه السلام) على الورق)(1)،

بتقريب «أن التعبير بتقسيم الدية على الورق يُشعر بأن الورق نفس مالية الإبل بحيث صحّ تقسيمها عليه، وهذا إنما يكون لو لوحظ في الورق جانب نقديته وماليته الخالصة لا جنس

ص: 251


1- وسائل الشيعة: 29/202، أبواب ديات النفس، باب 2، ح8.

الفضة، فإنه مباين مع الإبل، ولا معنى لتقسيمها عليه»(1).

ومعتبرة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (علیه السلام) وفيها: (لأن عين المال الدراهم، وكل ما خلاف الدراهم من ذهب أو متاع فهو عرَض مردود ذلك إلى الدراهم في الزكاة والديات)(2).

فالتعبير عن الدراهم بأنها عين المال مقابل الذهب والمتاع يعني لحاظ الدراهم بما هي نقد رائج يحفظ عين المالية لا بما هو جنس خاص.

كما يمكن «دعوى أن المناسب عرفاً وارتكازاً أن يكون الضمان في باب الدية قيمياً لا مثلياً؛ إذ لا ارتباط بين المجني عليه وبين جنس من الأجناس كما في ضمان المثليات، فلا يناسب أن يلزم المجني عليه بأخذ جنس معين إلا ما جعله الشارع من أجل التسهيل على أهل كل صنف من تلك الأصناف من تجويز دفع الجاني ما يجده عنده، وإلا فالأصل في الدية أن تكون تعويضاً قيمياً لا مثلياً؛ أي القيمة المشتركة بين الأجناس، وعرفتأن القيمة والمالية المحضة تكون بالنقد الرائج في كل زمان»(3).

واستدل بعض الأعلام المعاصرين (قدس سرّه) بالروايات الدالة على جواز التعامل بالدراهم المغشوشة إذا كانت تجوز بين الناس أي كانت نقداً رائجاً عندهم (منها) صحيح أبي العباس قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الدراهم المحمول عليها؟ فقال: إذا أنفقت ما يجوز بين أهل البلد فلا بأس)(4)،

وصحيحة محمد بن مسلم قال: (سألته عن الدراهم المحمول عليها، قال: لا بأس بإنفاقها)(3)، ومرسلة ابن أبي نصر عن رجل عن محمد بن مسلم عن

ص: 252


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/227.
2- وسائل الشيعة: 9/139، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح7.
3- قراءات فقهية معاصرة: 1/227.
4- و (3) و (4) وسائل الشيعة: 18/185، أبواب الصرف، باب 10، ح9، 6، 1.

أبي جعفر (علیه السلام) قال: (جاءه رجل من سجستان فقال له: إن عندنا دراهم يقال لها الشاهية يحمل على الدرهم دانقين، فقال: لا بأس به إذا كانت تجوز)(4).

وتقريب الاستدلال (تارة) من جهة الإطلاق اللفظي، إذ «ظاهر مثل هذه الروايات أن الدرهم ملحوظ بما له من المالية والقيمة التبادلية المحضة مع قطع النظر عن خصوصية جنسه؛ حيث جعل المدار فيها على الجواز والرواج في البلد سواء كان خالصاً أم مغشوشاً، فلا خصوصية لجنس الفضة، وإنما الميزان في الأحكام المتعلقة بالدرهم بكونه رائجاً بعنوان النقد ووسيلة التعامل والمالية المحضة عند الناس، والتعبير بإنفاقه يشمل تمام أنحاء الإنفاق سواء جعله ثمناً في البيع والشراء أو دفعه في أداء الدين والضمانات أو الديات والحقوق الشرعية»(1).

(وأخرى) من جهة وجود «إطلاق مقامي لهذه الروايات يقتضي ذلك؛ لأن الإذن في إنفاق الدرهم المحمول عليه في الخارج يستلزم عرفاً إنفاقه في تمام الأغراض التي يبتلى بها المكلف، والتي منها دفع الحقوق الشرعية والشخصية كالضمانات والديات والزكاة وغيرها، فيكون السكوتعن عدم جواز إنفاقها في ذلك منشأ لإطلاق مقامي دال على جواز إنفاقها في ذلك أيضاً، وإلا كان على الإمام (علیه السلام) أن ينبه على عدم الاجتزاء به في ذلك»(2).

ويرد عليه: أن الدرهم المغشوش درهم حقيقة، وليس هو شيئاً آخر غير الدرهم حتى يُجرد عن الخصوصية ويعمم إلى كل عملة رائجة، غاية الأمر أن فيه غشاً من المعادن الأخرى غير الفضة، أي أنه ليس كالدراهم الوضح، والأولى أقل قيمة من الثانية بحسب مقدار الغش فيها.

ص: 253


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/229.
2- قراءات فقهية معاصرة: 1/230.

ولأجل تحقق عنوان الدرهم فيها فقد اشترطت الروايات أن لا يقل مقدار الفضة عن الثلثين كما في صحيحة عمر بن يزيد قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن إنفاق الدراهم المحمول عليها، فقال: إذا جازت الفضة المثلين فلا بأس)(1).

واشترط بيان ذلك للطرف الآخر كما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): أشتري الشيء بالدراهم فأعطي الناقص الحبة والحبتين، قال: لا، حتى تبيّنه، ثم قال: إلا أن يكون نحو هذه الدراهم الأوضاحية التي تكون عندنا عدداً)(2).

أقول: فالكلام في الدراهم المغشوشة هو نفسه في العنوان العام للدراهم لأنها دراهم حقيقية.

ودفع الإشكال بأنه «كما تلغي هذه الروايات خصوصية الفضة الخالصة كذلك تلغي خصوصية أي جنس آخر وخصوصية كون النقدين سلعة حقيقية، وتجعل الرواج والاعتبار بين الناس هو معيار النقدية والملاك في جواز الإنفاق، وهو الملحوظ في الدرهم والدينار في إطلاقات الشارع واستعمالاته لهما وترتيب الأحكام عليهما، خصوصاً إذا كان ذكرهما فيقبال الأجناس الأخرى بعنوان أنها قيمة لها أو لبعضهما كما في باب الديات، فيكون ذكر الدرهم والدينار في روايات الدية باعتبار أنهما النقدان الرائجان وقتئذٍ، فيجوز إعطاء أي نقد رائج بمقدارهما»(3)

لا يضيف شيئاً جديداً غير ما قلناه في أصل الاستدلال، فتقريب الاستدلال بالدراهم المغشوشة غير منتج.

ص: 254


1- وسائل الشيعة: 18/186، أبواب الصرف، باب 10، ح3.
2- وسائل الشيعة: 18/187، الباب السابق، ح7.
3- قراءات فقهية معاصرة: 1/231.
المسألة الثانية عشرة: الاطلاق المقامي دليل لبي.

ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الثالث (صفحة 213) في مسالة احكام الصوم في السفر ، ان الاطلاق المقامي دليل لبي وليس لفظيا ، اذ قال (دامت بركاته):

أقول: يأتي عليه (دام ظله الشريف) جملة مما تقدم ككون الإطلاق المقامي دليلاً لبياً، وأنه دعوى عهدتها على مدعيها، والتوقف في صحة سند رواية ابن مهزيار، ويأتي عليه أيضاً بعض مما ذكرناه قبل ذلك ككون اليوم غير معيَّن، واحتمال كون السفر اضطرارياً بقرينة نظرائه من الموارد.

مضافاً إلى نكتة مهمة لم يشيروا إليها وهي ظهور الرواية في كون الناذر على سفر حينما حلَّ وقت الوفاء بالنذر، وهذا يعني عدم القدرة على الامتثال لمانعية السفر من الصوم الصحيح، لسبق عدم صلاحية اليوم للوفاء بالنذر، فلا تتحقق القدرة على الأداء ويسقط النذر لعدم القدرة، فيختص الجواز –لو تم دليله- بما لو سافر قبل حلول زمن الوفاء بالنذر، لا مطلقاً كما هو مقتضى كلامهم، وسنشير إلى هذه النكتة بإذن الله تعالى.

المسألة الثالثة عشرة: اطلاق الكل و إردة الجزء.

جاء في الجزء الحادي عشر (صفحة 277) في مسالة ارث الزوجة من العقار تطبيق فقهيلمسالة اطلاق الكل واردة الجزء وهو:

أو أنه أريد من العقار والضياع خصوص الدور والمساكن ولا مانع منه لجواز إطلاق الكل وإرادة الجزء كما يقال الجيش الرابع ويراد به الفيلق الرابع من الجيش خلافاً لما اختاره المشهور في علم الأصول بناءً على التعمّل العقلي والمورد ليس منه.

ص: 255

المسألة الرابعة عشرة: حمل اللفظ على الفرد النادر.

من المعروف ان الاطلاق يشمل الفرد النادر ، الا ان حمل اللفظ على خصوص الفرد النادر مما يستقبحه العرف.

وقد جاء في الجزء الثاني (صفحة 386 – 387) تطبيق فقهي لمسالة قبح اطلاق اللفظ وارادة الفرد النادر منه في مسالة محاذاة المراة للرجل في الصلاة ، اذ قال (دامت بركاته):

والبينية الواردة في الروايات وإن كانت مجملة وقابلة للانطباق على جميع الاتجاهات، إلا أن جملة من القرائن تبينها وتحددها بما ذكرنا، ومنها:

أ- موثقة عمار التي فصلت المسافات بجميع الاتجاهات فذكرت (عشرة أذرع) في حال تقدم المرأة أو محاذاتها إلى الجانبين أما التأخر فلم تشترط فيه التباعد نعم يحمل الزائد مما ذكر فيها عن الشبر ونحوه على الاستحباب بدلالة الروايات الأخرى، فتكون موثقة عمار مبينة لإجمال ما ورد من البينية.

ب- إن هذا الفهم يؤدي إلى حصر المنع في روايات الصنف الثاني وغيره بحال الالتصاق إذ من النادر عدم تحقق الشبر بين المصلين وحمل اللفظ على الفرد النادر القبيح.

المسألة الخامسة عشرة: الانصراف.

الانصراف الى فرد من أفراد ما يدل عليه اللفظ يمنع من انعقاد الاطلاق في بقية الافراد ، وقد يكون الانصراف ناتجا من كثرة استعمال اللفظ في ذلك الفرد او الحصة فيكون حجة ، او من غلبة الوجود الخارجي فلا يكون حجة.

ولسماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) كلام مهم جدا في الانصراف وانه متى يفيد التقييد او يمنع من انعقاد الاطلاق ومتى لا يفيد ذلك.

ص: 256

اذ جاء في الجزء الرابع (صفحة 118 – 121) عند بيان ادلة اشتراط رؤية الهلال بالعين المجردة قوله (دامت بركاته):

أدلة اشتراط الرؤية بالعين المجردة:

الأول: إن الروايات علّقت الصوم والإفطار على الرؤية كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية)(1).

وإذا أطلقت الرؤية فإنها تنصرف إلى الرؤية المتعارفة بالعين الطبيعية؛ لأن الفقهاء يصرفون الإطلاقات في جميع أبواب الفقه إلى الأفراد المتعارفة.

وأجيب:-

1- بأن منشأ الانصراف في المقام هو غلبة الأفراد في الخارج وهو لا يصلح للتقييد ولا يمنع من شمول الإطلاق للرؤية بالعين المسلحة فإنها رؤية حقيقية، كما أن ألفاظاً عديدة كان لها انصراف إلى أفراد معروفة في زمن صدور النص لكنها تشمل أفراداً جديدة لم تكن معروفة كشمول السراج للأضوية الكهربائية، وشمول السلاح للدبابات والصواريخ مثلاً وغير ذلك.أقول: هذا صحيح لكن يمكن إعادة صياغة هذا الوجه بعدة تقريبات لدفع الإشكال:-

أ- أن يقال إن غلبة الأفراد يمكن أن تكون مقيدة إذا استظهرنا من القرائن أن مراد المتكلم من المطلق خصوص هذا الفرد الغالب، كأن يقال: إنه بسبب شدة الانصراف إلى الرؤية بالعين المجردة فإن المتكلم لو أراد

ص: 257


1- وسائل الشيعة: 10/252، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح2.

أوسع من ذلك لذكر ما يفيد الإطلاق، كأن يقول: (الرؤية على أي نحو كانت) خصوصاً وإن المعصوم (علیه السلام) عالم بما سيكون في المستقبل بتعليم الله تعالى له.

ب- أو يقال أن لفظ الرؤية ظاهر عرفاً في الرؤية المباشرة بالعين المجردة من دون توسط آلة مكبّرة أو مقرّبة، قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «العبرة حسب النصوص المتقدمة بالرؤية، شهادة الشاهدين بها شهادة حسّيّة عن باصرة عادية»(1).

ج- أو يقال إن الرؤية منصرفة عن العين المسلحة، كما لا تصدق الرؤية الحسية على من رأى في التلفزيون أو من رأى الصور المنطبعة على الكاميرات المزودة للهواتف النقالة ونحو ذلك فإن الرؤية لا تصدق عليه إلا بعناية.

د- وبصياغة أخرى يقال: إن الآية الكريمة «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (البقرة:185) علّقت وجوب الصوم على شهود الشهر والشهادة تطلق على العلم الحضوري بالحس لكلٍ بحسبه، فالمسموعات بالسماع والمذوقات بالذوق والمرئيات بالمعاينة المباشرة وهكذا.

ويسند ذلك أن ظهور الرؤية في ما كان بالعين الطبيعية لا يختص بالمورد وإنما يجري في غيره كعدم رؤية الجدران لتحديد حد الترخّص، ورؤية بيوت مكة لقطع التلبية ولا قائل بكفاية الرؤية بالأجهزة المقرّبة فيالموردين وإلا كان حد الترخص أبعد من مسافة القصر، ولقطع المحرم التلبية من مسافة بعيدة.

2- إن الرؤية ليس لها موضوعية حتى يناقش في شمولها العين

ص: 258


1- موسوعة السيد الخوئي: 22/123.

المسلحة أو لا، بل هي مأخوذة على نحو الطريقية لحصول العلم والقطع بوجود الهلال وهذا ظاهر من الروايات حيث جعلت الرؤية مقابل الشك والظن كما في الصحيحة المتقدمة وغيرها، وعليه فإن أي طريق يكون محصلاً للعلم والقطع يكفي لثبوت أول الشهر كالرؤية بالعين المسلحة، ولذا وجب قضاء يوم إذا رؤي الهلال بعد ثمانية وعشرين يوماً من شهر رمضان، أو ثبتت رؤيته في بلد آخر.

ويمكن ردّ الإشكال بأن يقال أن الرؤية وإن كانت مأخوذة على نحو الطريقية إلا أن المرئي أضاف لها حيثية موضوعية من جهة أنها ليست طريقاً لأي هلال مرئي وإنما للهلال الذي تراه العين المجردة قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «إن عنوان الرؤية الوارد في الروايات وإن كان على نحو الطريقية المحضة، إلا أن ذا الطريق هو الهلال البالغ مرتبة قابلة للرؤية بالعين المجردة، لا مجرد الخروج عن المحاق ولو لم يكن قابلاً للرؤية، والحمل على الطريقية لا يقتضي أكثر من إلغاء موضوعية الرؤية لا المرتبة المفروضة في المرئي»(1)

وقد تقدم تقريب الفكرة أصولياً (2)،

وسيأتي تفصيله في الوجوه الآتية إن شاء الله تعالى.

3- إنه يمكن في زماننا هذا أو المستقبل القريب أن تكون الرؤية المتعارفة هي بالأجهزة الفلكية المتقدمة فعلى القول بانصراف عناوين الموضوعات إلى المتعارف فإنه يجب أن يقال بكفاية الرؤية بها، كما التزم الفقهاء في سائر أبواب الفقه عند تغيّر المصاديق العرفية كتعيين المكيلوالموزون في باب الربا أو المؤونة في الخمس وغير ذلك.

ص: 259


1- رسالة حول مسألة رؤية الهلال للطهراني: 159.
2- سياتي بيان الفكرة تحت عنوان (تقييد الموضوع بمتعلق الحكم)ص282.

ويرده أن دخول الأفراد الجديدة فرع ثبوت الإطلاق فهو متأخر رتبة عن معرفة معنى اللفظ الذي يحدّده الظهور العرفي وقد قلنا أن لفظ الرؤية ظاهر في العين المجردة، مضافاً إلى ما تقدم من أن رؤية الهلال فيها جنبة موضوعية بأن يكون الهلال قابلاً للرؤية عند عامة الناس بالعين الطبيعية فتقيّد الإطلاق.

وقد ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) امثلة فقهية للانصراف الذي يمنع الاطلاق منها:

1- ما جاء في الجزء الأول (صفحة 245) في مسالة طهارة الكحول:

والأدلة على نجاسة الخمر مختصة بما صُنِعَ بطريقة التخمير ومنصرفة عن المصنّع بالطرق الأخرى، فحكم الكحول مبني على كيفية اتخاذه.

2- ما جاء في الجزء الرابع (صفحة 338 – 339) ، اذ قال (دامت بركاته):

(منها) إن لفظ (مصر) لا إطلاق له ليشمل البلدان البعيدة ولا يفيد التعميم لأنه نكرة في سياق الإثبات وإنما ينصرف إلى البلدان المتقاربة بحكم الغلبة ولندرة الاطلاع على أحوال البلدان المتباعدة مع صعوبة المواصلات والتنقل يومئذٍ، قال الشيخ الأنصاري (قدس سرّه): «وأما الأخبار فالظاهر منها -بحكم الغلبة -البلاد المتقاربة»(1).

ويجاب هذا الإشكال بوجوه:-

1- لا نسلّم الانصراف إلى البلدان القريبة خاصة لأن الروايات تتحدث عن قضاء يوم فات من شهر رمضان بعد قيام البينة بدخوله وهذا يمكن العلم به بعد شهر أو شهرين أو أكثر عندما يلتقون معاً في موسم الحج مثلاً لمعلومية اليوم الذي بدأوا به الصوم أو الإفطار كأن يسألونهم: هل

ص: 260


1- المجموعة الكاملة للشيخ الأنصاري: 12/256 وممن ذكر الإشكال وأجاب عليه: النراقي في مستند الشيعة: 10/425 وغيرهما.

صمتم الأربعاء أو الخميس كما في رواية أبي علي بن راشد(1)

فالروايات يمكن أن تشمل البلدان البعيدة، وها نحن في البحث نناقش هلال شوال بعد ستة أشهر ونقول أن الفطر كان يوم الأربعاء أو الخميس، وهذا السؤال كان معروفاً يومئذٍ، ويسأل الركبان عنه، وقد تعددت الإشارة إليه في الروايات كرواية كريب (2)

ورواية أبي علي بن راشد وصحيحة محمد بن عيسى (3).نعم، لو كانت الرواية بصدد بيان حكم آني –كصوم يوم غدٍ الذي هو

ص: 261


1- معتبرة أبي علي بن راشد قال: كتب إلي أبو الحسن العسكري (علیه السلام) كتاباً وأرّخه يوم الثلاثاء لليلة بقيت من شعبان وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكان يوم الأربعاء يوم شك وصام أهل بغداد يوم الخميس، وأخبروني أنهم رأوا الهلال ليلة الخميس، ولم يغب إلا بعد الشفق بزمان طويل. قال: فاعتقدت أن الصوم يوم الخميس وأن الشهر كان عندنا ببغداد يوم الأربعاء. قال: فكتب إلي: (زادك الله توفيقاً فقد صمت بصيامنا). قال: ثم لقيته بعد ذلك فسألته عما كتبت به إليه. فقال لي: (أولم أكتب إليك إنما صمت الخميس ولا تصم إلا للرؤية). تهذيب الاحكام: 4/ 167.
2- روى كريب قال: (قدمت الشام واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته ليلة الجمعة؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم). راجع مسند احمد: 1/ 306 ، مسلم: 3/ 126-127.
3- محمد بن عيسى قال: (كتب إليه أبو عمرو: أخبِرني يا مولاي إنه ربما أشكل علينا هلال شهر رمضان فلا نراه ونرى السماء ليست فيها علة ويفطر الناس ونفطر معهم ويقول قوم من الحُسّاب قِبَلنا: إنه يُرى في تلك الليلة بعينها بمصر وافريقية والأندلس، هل يجوز يا مولاي ما قال الحسّاب في هذا الباب حتى يختلف الفرض على أهل الأمصار فيكون صومهم خلاف صومنا وفطرهم خلاف فطرنا؟ فوقّع: لا تصومنّ الشك، أفطر لرؤيته وصم لرؤيته). وسائل الشيعة: 10/ 297.

يوم الشك من شهر رمضان - أمكن النقاش في الإطلاق بتعذّر وصول الخبر، وقد تقدمت بعض المناقشات.

2- إن الانصراف إلى الفرد الغالب –لو سلّمناه- لا يفيد التقييد كما هو ثابت في علم الأصول وإلا فإنه ما من مطلق إلا وله فرد غالب ينصرف إليه.

3- ومما يبطل الانصراف ويثبت وجود الالتفات يومئذٍ إلى البلدان البعيدة والقريبة على حد سواء وروده في كلمات أئمة مذاهب العامة وهم معاصرون للأئمة (علیهم السلام) وصدور النص، ونحن نعلم أن كثيراً من روايات المعصومين (علیهم السلام) وأسئلة أصحابهم جاءت تعليقاً على فتاوى العامة ومواقف فقهائهم، فقال الحنفية: «اختلاف المطالع غير معتبر فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب» وقال المالكية: «إذا رئي الهلال، عمَّ الصوم سائر البلدان، قريباً أو بعيداً، ولا يراعى في ذلك اتفاق المطالع ولا عدمها فيجب الصوم على كل منقول إليه» وقال الحنابلة «إذا ثبتت رؤية الهلال بمكان، قريباً كان أو بعيداً، لزم الناس كلهم الصوم، وحكم من لم يره حكم من رآه»(1).

4- إن الإطلاق ظاهر من مثل هذه السياقات فلو لم يكن مراداً للمتكلم لأشار إلى القيد، فترك التقييد في مقام البيان عند قبح تركه يستلزم الإطلاق وإلا يكون فيه تغرير بالمكلف.

1- ما جاء في الجزء الرابع (صفحة 402) في مسالة طرق ثبوت الهلال:

الثاني: انصراف لفظ (مصر) في الإطلاقات عن بلاد غير المسلمين، لانقطاع التواصل معها يومئذٍ إما مطلقاً أو في شأن الهلال كأوروبا المسيحية والصين ووسط وجنوب أفريقيا أو لعدم اكتشافها أصلاً

ص: 262


1- الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي: 3/1628، طبعة 3.

كالأمريكتين أو الشرق الأقصى أو استراليا.وهذا الانصراف يصلح لإخراج هذه المصاديق وتقييد المطلق بغيره بتقريبين:

أ- لأن المولى ليس في مقام البيان بلحاظها فلا يكون الإطلاق شاملاً لها.

ب- عدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية بعد توسيع العام ليشمل البدلي -كما هو الصحيح-، والأمصار الخارجية مما نشك بشمول العموم لها بما هو حجة إن شملها بعنوانه.

وهذا الانصراف ليس كالانصراف إلى البلدان القريبة الذي بنى المشهور استدلاله عليه ورددنا عليه بوجوه.

2- ما جاء في الجزء الثالث عشر في مسالة مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيرًا ، حيث جاءت الأدلة دالة على التخيير بين الأصناف الستة الا ان سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ذهب الى ان هذه الأدلة منصرفة عن حالة هبوط قيمة احد هذه الأصناف بشكل غير متعارف ، فيخرج هذا الصنف حينئذ عن أفراد التخيير ، ونص كلام سماحته هناك:

انصراف ما دلّ على التخيير بين الأصناف عمّا لو هبطت قيمة الصنف إلى مقدار غير متعارف بلحاظ الأصناف الأخرى كانصرافها عمّا لو سقطت عن المالية كلها لنفس النكتة. والشاهد على هذا الانصراف أن العرف لا يستطيع فهم وجه عقلائي مقبول لتردد الدية بين مقدارين أحدهما عشرة أضعاف الآخر في أخطر قضايا الدين وهي القتل.

وبتعبير آخر: إن المقاربة بين قيم وأجناس الدية حين صدور حكم التوسعة أنشأ ارتكازاً متشرعياً بأن التخيير مبني على هذا الأساس وهذا الارتكاز يصلح لتقييد إطلاق روايات التخيير ولا يضرّ كونه لبّيّاً، فلو انتشر بين الناس وباء يمنع من أكل لحم البقر فكسد سوق لحومها ولم

ص: 263

يمكن الاحتفاظ بالبقر إلى حين زواله فهبطت قيمة البقر إلى قيمةالغنم أو أقل فإن العرف لا يفهم من روايات التخيير شموله للحالة، ولولي الدم أن يرفض تسليم الدية من البقر.

المسألة السادسة عشرة: غلبة الوجود الخارجي لا توجب الانصراف

يذهب مشهور علماء الأصول الى ان غلبة الوجود الخارجي لا تفيد الانصراف الحجة الذي يمنع من انعقاد الاطلاق ، كما افادته بعض الكلمات التي نقلناها في المسألة السابقة ، وهذا ما يذهب اليه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) أيضا كما تبين إضافة لما نقله ولم يعلق عليه من قول السيد الشاهرودي (قدس سرّه) في الجزء العاشر (صفحة 411) في مسالة التذكية الشرعية بمكائن الذبح الحديثة:

وقد يقال: بانصراف الإطلاق إلى الذبح باليد ونحوه; لعدم وجود غيره حين صدور الأدلة، أو يقال: بعدم الإطلاق في الأدلة، واحتمال دخل المباشرة باليد ونحوه في التذكية.

والجواب: أما عن الانصراف; فإن غلبة الوجود لا توجب الانصراف على ما حقق في محله، وأما على الثاني، فإن الإطلاق ثابت في كثير من الروايات التي رتبت الحكم على عنوان الذبح أو ذبيحة المسلم، بل وفي الآية المباركة (إلاّ مَا ذَكَّيْتُمْ...) إذا كانت بمعنى ذبحتم.

نعم، لو قيل: بأن المأخوذ في مادة التذكية أو هيئة (ذَكَّيْتُمْ) أن يكون إيجاد صفة المذبوحية والذكاة في الحيوان بيد الذابح المذكي مباشرة وبلا واسطة مهمة كالماكنة أو تسخير حيوان أو إرادة إنسان آخر يذبح بلا إرادة حرة بل بأمر أو بسلطة شخص آخر، لم يتم الإطلاق عندئذ.

إلا أن استفادة هذا القيد من مادة أو هيئة (ذَكَّيتُمْ) خلاف الإطلاق

ص: 264

المتبادر منها.

ولكننا عرفنا من المسألة السابقة ان الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) يذهب الى إمكانية حصول الانصراف الحجة بسبب غلبة الافراد الخارجية ، ولكن بشرط ان يستظهَر ان مرادالمتكلم من المطلق هو خصوص الفرد الغالب ، اذ قال:

إن الروايات علّقت الصوم والإفطار على الرؤية كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظني ولكن بالرؤية)(1).

وإذا أطلقت الرؤية فإنها تنصرف إلى الرؤية المتعارفة بالعين الطبيعية؛ لأن الفقهاء يصرفون الإطلاقات في جميع أبواب الفقه إلى الأفراد المتعارفة.

وأجيب:-

1- بأن منشأ الانصراف في المقام هو غلبة الأفراد في الخارج وهو لا يصلح للتقييد ولا يمنع من شمول الإطلاق للرؤية بالعين المسلحة فإنها رؤية حقيقية، كما أن ألفاظاً عديدة كان لها انصراف إلى أفراد معروفة في زمن صدور النص لكنها تشمل أفراداً جديدة لم تكن معروفة كشمول السراج للأضوية الكهربائية، وشمول السلاح للدبابات والصواريخ مثلاً وغير ذلك.

أقول: هذا صحيح لكن يمكن إعادة صياغة هذا الوجه بعدة تقريبات لدفع الإشكال:-

أ- أن يقال إن غلبة الأفراد يمكن أن تكون مقيدة إذا استظهرنا من

ص: 265


1- وسائل الشيعة: 10/252، أبواب أحكام شهر رمضان، باب 3، ح2.

القرائن أن مراد المتكلم من المطلق خصوص هذا الفرد الغالب، كأن يقال: إنه بسبب شدة الانصراف إلى الرؤية بالعين المجردة فإن المتكلم لو أراد أوسع من ذلك لذكر ما يفيد الإطلاق، كأن يقول: (الرؤية على أي نحو كانت) خصوصاً وإن المعصوم (علیه السلام) عالم بما سيكون في المستقبل بتعليم الله تعالى له.

المسألة السابعة عشرة: الانصراف لا يصلح للتقيد.

من المباحث التي تذكر في علم الأصول مبحث الانصراف ، باعتبار ان انصراف اللفظ الى فرد خاص من أفراد اللفظ يمنع انعقاد الاطلاق ، وقد كرر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ان الانصراف لا يصلح للتقييد في اكثر من موضع من فقه الخلاف منها:

1- ما جاء في الجزء السادس (صفحة 259 – 260) في مسالة حكم العقد المنقطع على الباكر من دون اذن وليها ، اذ قال (دامت بركاته):

الثالث: التفصيل بين الزواج الدائم والمنقطع فقيل باستقلال أبيها في الأول واستقلالها في الثاني «تمسكاً بإطلاقات أدلة النكاح المنقطع(1)،

بعد فرض انصراف ما دل على اعتبار رضا الأب إلى العقد الدائم»(2)

وتحصيلاً ل«الجمع بين الأخبار بتخصيصها في الجانبين، كل جانب بنوع من النكاح، ووجه تخصيص الدائم بأخبار الولاية عليها أنه- لكثرة حقوقه وأحكامه من النفقة والميراث واستمراره وغيرها- أهم من المتعة، والمرأة قاصرة النظر عن تحصيل المناسب، فوكل أمره إلى الولي، لتعذر استدراك فائته، بخلاف

ص: 266


1- كرواية الحلبي قال: (سألته عن التمتع من البكر إذا كانت بين أبويها بلا إذن أبويها، قال: (لا بأس ما لم يقتض ما هناك لتعف بذلك) (الوسائل: أبواب المتعة، باب11، ح9).
2- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/213.

المتعة»(1) فهنا دعويان:

الأولى: استقلال أبيها في الزواج الدائم واستدلّوا عليه بما تقدّم في القسم الأول بعد فرض انصراف الإطلاقات فيه إلى الدائم.

والانصراف ممنوع صغرىً وكبرى:

أما الصغرى: فإن لفظ النكاح ينطبق على الدائم والمنقطع سواء بسواء وتجري عليهما أحكام النكاح إلا ما خرج بدليل.وأما كبرى: فلأن الانصراف لا يصلح للتقييد.

2- ما جاء في الجزء العاشر (صفحة 52 – 53) في مسالة حرمة التصوير ، اذ قال (دامت بركاته):

القول الثالث: حرمة المجسَّم مطلقاً لذي الروح وغيره:

ونسبه العلامة (قدس سرّه) إلى الشيخين وسلاّر(2)

وهذا القول ظاهر «من عبّر بالتماثيل المجسمة، بناءً على شمول (التمثال) لغير الحيوان -كما هو كذلك- فخصّ الحكم بالمجسم، لأن المتيقن من المقيِّدات للإطلاقات والظاهر منها -بحكم غلبة الاستعمال والوجود-: النقوش لا غير»(3).

واختصاص الحرمة بالتماثيل المجسمة عبارة ذكرها الكثيرون كالعلامة والمحقق (قدس الله سريهما) فلا وجه لحصر القائل به بالمذكورين وإنصافاً

ص: 267


1- مسالك الأفهام: 7/139.
2- مختلف الشيعة: 5/45، قال المفيد في مكاسب المقنعة: «وعمل الأصنام والصلبان والتماثيل المجسّمة والشطرنج والنرد وما أشبه ذلك حرام، وبيعه وابتياعه حرام» وفي المكاسب المحرمة من النهاية: «وعمل الأصنام والصلبان والتماثيل المجسّمة والصور والشطرنج... فالتجارة فيها والتصرف والتكسب بها حرام محظور» (دراسات في المكاسب المحرمة: 2/553).
3- المكاسب: 14/188.

لهؤلاء الأساطين فإنه من المطمأن به أنهم لم يريدوا التماثيل المجسّمة مطلقاً حتى لغير ذي الروح، ولذا لم يجد صاحب الجواهر (قدس سرّه) غضاضة في أن يضيف لعبارة المحقق في الشرائع: «الرابع: ما هو محرم في نفسه كعمل الصور المجسّمة» قال (قدس سرّه): «لذوات الأرواح، ولعل ترك التقييد بذلك لظهور لفظ الصور في ذلك»(1) فكأنه أصبح مصطلحاً مشهوراً عندهم يراد به ذو الروح وأنه خاصة محل الكلام عندهم.

وعلى أي حال فقد ردَّ عليهم الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) ب«إن هذا الظهور لو اعتُبر لسقّط الإطلاقات عن نهوضها لإثبات حرمة المجسم، فتعين حملها على الكراهة، دون التخصيص بالمجسمة.وبالجملة، (التمثال) في الإطلاقات المانعة -مثل قوله (علیه السلام): (من مثّل مثالاً)- إن كان ظاهراً في شمول الحكم للمجسم، كان كذلك في الأدلة المرخّصة لما عدا الحيوان، كرواية تحف العقول وصحيحة ابن مسلم وما في تفسير الآية.

فدعوى ظهور الإطلاقات المانعة في العموم واختصاص المقيّدات بالنقوش تحكّم».

ومحصّل كلامه (قدس سرّه): «إن غلبة الاستعمال والوجود لو صارت سبباً لانصراف المقيدات إلى خصوص النقوش صارت سبباً لانصراف المطلقات المانعة أيضاً إليها، ولازم ذلك حمل أخبار المنع على الكراهة لما ورد من الرخصة في غير ذوات الأرواح، وعلى هذا فلا يبقى دليل على حرمة المجسّمة لا في الحيوان ولا في غيره».

أقول: يضاف إلى ما قاله الشيخ الأنصاري (قدس سرّه):

ص: 268


1- جواهر الكلام: 22/41.

1- منع الصغرى إذ لم يثبت أن النقوش هي الغالبة في الوجود في تلك الأعصار، فإن التماثيل المجسّمة معروفة بكثرة في جميع الأمم كما نطق به القرآن الكريم ودلّت عليه الروايات الشريفة.

2- إن الانصراف -لو سلّمناه- فإنه لا يصلح للتقييد.

3- ما جاء في الجزء الرابع (صفحة 339) في مسالة طرق اثبات الهلال ، اذ قال (دامت بركاته):

إن الانصراف إلى الفرد الغالب –لو سلّمناه- لا يفيد التقييد كما هو ثابت في علم الأصول وإلا فإنه ما من مطلق إلا وله فرد غالب ينصرف إليه.

ثم بيّن سماحته ان الانصراف يقيد الاطلاق في حالة واحدة فقط: وهي فيما لو اصبح اللفظ المطلق ظاهرا في الفرد الذي انصرف اليه ، ومنصرفا عن بقية الافراد ، وهذا ما جاء في الجزء الثاني (صفحة 143) في مسالة الاكتفاء ببعض السورة بعد الفاتحة ، اذ قال (دامت بركاته):

أقول: هذا الرد ليس كافياً لأن الانصراف لا يقتضي تقييد المطلق وإنلم يكن نادراً إلا أن يكون للمطلق ظهور في هذه العناوين الخاصة على نحو ينصرف عن غيرها.

المسألة الثامنة عشرة: التفريعات لا تقيد الاحكام.

اذا جاء الحكم الشرعي مطلقا ، ثم سأل المكلفون عن بعض التفريعات والملازمات له ، فان بيانها لا يقيد اطلاق الحكم.

وقد جاء بيان هذا المعنى في الجزء السابع (صفحة 126) في مسالة حرمة التظليل على المحرم ، حيث قال سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته):

الحكم المستفاد من استقراء الروايات

تضمنت الروايات حكمين: وجوب الاضحاء وحرمة التظليل، فالكلام في

ص: 269

جهتين:

الأولى: في وجوب الإضحاء وحاصلها:

ان المأمور به في الروايات أي الحكم الأصلي الصادر من المعصوم (علیه السلام) بحق المحرم هو وجوب الاضحاء (راجع الروايات (1)

).اما حرمة التظليل بتفاصيلها فكانت من التفريعات والملازمات والموارد الجزئية لأصل الحكم ومثلها لا يحدد الحكم ولا يقيّده وهذا شأن طبيعي حينما يلقى حكم كلي فان الناس يسألون عن تطبيقاته وجزئياته والمفروض ان يؤخذ الحكم من أصل الأمر لا من الأسئلة التي يلقيها المكلفون، وأمامك الروايات (2)

التي تجاوزت العشرة لا تتضمن ولا واحدة أن الامام (علیه السلام) كان يلقي حرمة التظليل وإنما كان السؤال عنها من قبل الأصحاب لمعرفة التفاصيل والموارد الجزئية عدا رواية المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (لا يستتر المحرم من الشمس ولا بأس ان يستر

ص: 270


1- صحيحة عبد الله بن المغيرة قال: قلت لأبي الحسن الأول (علیه السلام) أظلِّل وأنا محرم؟ قال: لا، قلت: أفأظلل وأكفّر؟ قال: لا، قلت: فإن مرضت؟ قال: ظلّل وكفّر، ثم قال: أما علمت أن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: ما من حاج يضحّي ملبّياً حتى تغيب الشمس الا غابت ذنوبه معها) صحيحة عبد الله بن المغيرة (قال: سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن الظلال للمحرم فقال: أضحَ لمن أحرمت له، قلت: إني محرور وإن الحرَّ يشتد عليَّ، فقال: أما علمت أن الشمس تغرب بذنوب المحرمين) موثقة عثمان بن عيسى الرواسي الكلابي قال: قلت لأبي الحسن الأول (علیه السلام) ان علي بن شهاب يشكو رأسه والبرد شديد ويريد ان يحرم، فقال: إن كان كما زعم فليظلل، واما أنت فاضْحَ لمن أحرمت له) صحيحة حفص بن البختري وهشام بن الحكم عن أبي عبد الله (علیه السلام) (قال: إنه يكره للمحرم أن يجوز ثوبه انفه من أسفل، وقال: أضح لمن أحرمت له)
2- فقه الخلاف: 7 / 123- 125.

بعضه ببعض)(1) وهي ضعيفة سنداً ولا تأبى الحمل على أوضح المصاديق خصوصاً مع ملاحظتها مع الروايات الأخرى، وربما كانت جواباً عن سؤال غير مذكور فتكون كقريناتها، بينما تجد أمراً من الامام (علیه السلام) بوجوب الاضحاء، وفي عدد من الروايات (2)

كان الامام (علیه السلام) يعدل من الحالة الجزئية في السؤال عن التظليل إلى القاعدة الكلية وهو الأمر بوجوب الاضحاء.

واستفادة الحكم من الفرع - أي حرمة التظليل- لا من الأصل - أي وجوب الاضحاء- هو احد مناشئ الاختلاف والتشتت والابتعاد عن المفاد الصحيح للروايات حيث ذهبوا إلى معاجم اللغة لمعرفة معنى التظليل وحدوده وهل هو خاص بالتستر من الشمس أم أعم من ذلك ونحوها، بينما المطلوب وجوب الاضحاء وإنما كان التظليل محرماً لمنافاته لوجوبالإضحاء وإخلاله به، ولو لم يكن كذلك فلا حرمة كما لو تعمد السير تحت الغيمة الحاجبة عن الشمس ويتحرك بحركتها أو كان يسير في ظل المحمل أو يستر بعض جسده ببعض كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

المسألة التاسعة عشرة: مناسبات الحكم والموضوع.

مما يقيد اطلاق الاحكام الشرعية مناسبات الحكم والموضوع ، فقد يأتي الحكم الشرعي مطلقًا، ولكننا نفهم بمناسبات الحكم والموضوع ان هذا الاطلاق غير مراد ، وان الحكم مقيد. ومن تطبيقات هذه المسالة:

1- ما ذكره سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء العاشر (صفحة 100) في مسالة حرمة التصوير ، اذ قال في نتيجة البحث:

ص: 271


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 67، ح2.
2- موسوعة فقه الخلاف: 7 / 124 الرواية الثامنة والعاشرة.

أما الروايات التي تمسكوا بإطلاقها كخبر السكوني (1)

وخبر الخصال (2)

وخبر عبد الله بن طلحة (3)

وخبر تحف العقول (4)

فإن الإطلاق غير تام ولا يمكن الأخذ به لوجهين:1- مناسبات الحكم والموضوع إذ لا يُتصور أن التشديد المذكور فيها موضوعه كل تصوير، بحيث أن بعض الأحاديث شدّدت بالعقوبة على المصورين حتى حكمت عليهم بالكفر مما لم يرد مثله حتى في أعظم الكبائر «وإن الجزاء ليس أمراً جزافياً، بل هو نتيجة للعمل ومن قبيل الثمرة له والثمر يناسب الشجر، وليس هذا القبيل من الأحكام الشرعية من قبيل الأحكام التعبدية المحضة التي لا يعلم سرها وملاكاتها وعواقبها إلا الله تعالى، فلا محالة تكون تابعة لملاكات متناسبة لها عند العقل والفطرة.

وإن شئت قلت: إن الأوامر والنواهي الواردة في أبواب المعاملات والسياسات والجزائيات من قبيل الأحكام الإرشادية إلى ما يدركه العقل

ص: 272


1- السكوني عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (بعثني رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها، ولا قبراً إلا سوّيته، ولا كلباً إلا قتلته). الكافي: 6/ 528.
2- خبر الصدوق في الخصال عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن محمد بن عيسى بن عبيد عن القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد، عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (علیه السلام)، عن أبيه عن آبائه (علیهم السلام)، قال: (قال أمير المؤمنين (علیه السلام): إياكم وعمل الصور، فإنكم تسألون عنها يوم القيامة). مستدرك الوسائل: 13/ 210.
3- خبر عبد الله بن طلحة عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: (مِنْ أكل السحت سبعة - إلى أن قال - والذين يصورون التماثيل). مستدرك الوسائل: 13/ 210.
4- خبر تحف العقول وفيه: (وصنعة صنوف التصاوير وما لم يكن مُثُل الروحاني... فحلال فعله وتعليمه والعمل به). تحف العقول: 335 ، وسائل الشيعة: 17 / 85.

والفطرة أيضاً بعد التنبه لها»(1).

2- ما ذكره سماحته في الجزء الأول (صفحة 245 – 246) في مسالة طهارة الكحول ، اذ قال:

أما النتيجة التي تنتهي إليها أدلة المشهور فالمفروض أنها الحكم بنجاسة كل مسكر حتى لو لم يتعارف شربه، ولو تمسّكاً بصرف إطلاق عنوان المسكّر فإنه يشمل المسكرات عن طريق غير الفم، أعني بالشم كالذي يقال عن السبرتو والثنر والسيكوتين لكن يمكن الاطمئنان هنا بأن لفظ المسكر في الروايات منصرف عن مثلها.

وأخرج السيد الخوئي (قدس سرّه) المسكرات مما لم يتعارف شربها عن الحكم بالنجاسة، وقد نقلنا كلامه (قدس سرّه) ومناقشتنا له، ونسبه إلى أستاذه النائيني (قدس سرّه) حيث نقل عن بعض أقرانه من مقرّري بحث الأستاذ قوله (قدس سرّه): «إن ما ورد في المنع عن بيع الخمر والمسكر من الروايات منصرفة عن المادة المعروفة بالألكلية - أي الكحولات- وإن المطلقات إنما تشملالمسكرات المتعارفة التي هي قابلة للشرب دون ما لم يتعارف شربه»(2).

أقول: تقدم أن هذا الانصراف غير واضح لإطلاق المسكر وعدم وجود ما يقيّده حتى على نحو الارتكاز العرفي ومناسبات الحكم والموضوع إذ قد يرى العرف أن الحكم بالنجاسة بعلة الإسكار بذاتها حتى لو لم يتعارف شربه.

ويكون الإشكال عليهم أكبر فيما لو فهمنا (الخمر) بمعنى اسم المفعول أي (المخمَّر) لا اسم المصدر، وقد ورد هذا المعنى في بعض النصوص التي

ص: 273


1- دراسات في المكاسب المحرمة: 2/546.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى: 3/90.

ذكرناها في توسعة معنى الخمر موضوعاً (1)

3- ما جاء في الجزء العاشر (صفحة 27 - 32) في مسالة حرمة التصوير ، ولفائدة النقاشات المذكورة ننقل لكم المطلب بطوله ، اذ قال (دامت بركاته):

ما استفاده السيد الخميني (قدس سرّه) من طائفة من الروايات بضميمة مناسبات الحكم والموضوع فقيّد الحرمة بما صُوّر ليكون أصناماً تعبد من دون الله تبارك وتعالى لارتكاز هذه العبودية في نفوسهم وعدم اقتلاعها بمجرد الإسلام فقال (قدس سرّه): «ظاهر طائفة من الأخبار بمناسبة الحكم والموضوع أن المراد بالتماثيل والصور فيها هي تماثيل الأصنام التي كانت مورد العبادة، كقوله: (من جدد قبراً أو مثّل مثالاً فقد خرج عن الإسلام)(2)

وقوله: (من صوّر التماثيل فقد ضاد الله)(3) وفيه احتمال آخر ينسلك به في الطائفة الثانية((4)، وقوله: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ قتل نبياً أو قتله نبي ورجل يضل الناس بغير علم ومصور يصور التماثيل) وقوله: (إن منأشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون) وأمثالها فإن تلك التوعيدات والتشديدات لا تناسب مطلق عمل المجسمة أو تنقيش الصور، ضرورة أن عملها لا يكون أعظم من قتل النفس المحترمة أو الزنا أو اللواطة أو شرب الخمر وغيرها من الكبائر، والظاهر أن المراد منها تصوير التماثيل التي هم لها عاكفون مع احتمال آخر في الأخيرة، وهو أن المراد بالمصورين القائلون بالصورة والتخطيط في الله تعالى كما هو مذهب معروف في ذلك العصر.

ص: 274


1- موسوعة فقه الخلاف: 1/ 231.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب3، ح10.
3- مستدرك الوسائل: كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به، باب 75، ح5.
4- (4) وهي مجموعة الروايات التي دلّت على تكليف المصور بالنفخ فيما صور.

والمظنون الموافق للاعتبار وطباع الناس، أن جمعاً من الأعراب -بعد هدم أساس كفرهم وكسر أصنامهم بيد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأمره- كانت علقتهم بتلك الصور والتماثيل باقية في سر قلوبهم، فصنعوا أمثالها حفظاً لآثار أسلافهم وحباً لبقائها كما نرى حتى اليوم علاقة جمعٍ بحفظ آثار المجوسية وعبدة النيران في هذه البلاد حفظاً لآثار أجدادهم، فنهى النبي (صلی الله علیه و آله) عنه بتلك التشديدات والتوعيدات التي لا تناسب إلا للكفار ومن يتلو تلوهم قمعاً لأساس الكفر ومادة الزندقة ودفعاً عن حوزة التوحيد، وعليه تكون تلك الروايات ظاهرة أو منصرفة إلى ما ذكر، وعليه تحمل رواية ابن القداح ((1)عن

أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (علیه السلام): بعثني رسول الله (صلی الله علیه و آله) في هدم القبور وكسر الصور) ورواية السكوني(2) عنه قال: (قال أمير المؤمنين (علیه السلام): بعثني رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها، ولا قبراً إلا سوّيته ولا كلباً إلا قتلته)، فإن بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين لذلك دليل على اهتمامه به، والظاهر أن الصور كانت صور الهياكل والأصنام ومن بقايا آثار الكفر والجاهلية، ولا يبعد أن يكون الكلِب في الرواية الثانية بكسر اللام وهو الكلب الذيعرضه داء الكلب وهو داء شبه الجنون يعرضه فإذا عقر إنساناً عرضه ذلك الداء وما في بعض الروايات(3) من نكتة نجاسة الكلب أن النبي (صلی الله علیه و آله) أمر بقتله فهو سر التشريع على فرض ثبوت الرواية، وإلا فلم يأمر النبي (صلی الله علیه و آله) بقتل مطلق الكلاب حتى كلاب الصيد والماشية، بل جعل لها ديّة كما أن ما في

ص: 275


1- (1) وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب 3، ح6
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، ابواب أحكام المساكن، باب3، ح7
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 12، ح.1

رواية السكوني(1)

عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (الكلب الأسود البهيم لا تأكل صيده لأن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمر بقتله) من سر التشريع فإن أمر النبي (صلی الله علیه و آله) بقتل الكلاب الغير المؤذية بعيد جداً لا يمكن تصديقه، وأما أن تكون الكلاب أو بعضها مورد تعظيم الناس وعبوديتهم بعيد ولم ينقل إلينا، وإن كان لا يبعد شيء من جهال الناس كما اتخذوا البقر والشيطان معبوداً، ولعل أمره بهدم القبور لأجل تعظيم الناس إياها بنحو العبادة للأصنام وكانوا يسجدون عليها، كما يشعر به بعض الروايات الناهية عن اتخاذ قبر النبي (صلی الله علیه و آله) قبلة ومسجداً، فإن الله عز وجلّ لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد(2) ويشهد له بعد بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) أمير المؤمنين (علیه السلام) لهدم القبور وكسر الصور لكراهة بقائهما وسيأتي جواز اقتناء الصور المجسمات. وأما على ما ذكرناه يكون الحكم على وجه الإلزام كما يساعده الاعتبار وتؤيد ما ذكرناه صحيحة عبد الله بن المغيرة(3)

قال: (سمعت الرضا (علیه السلام) يقول: قال قائل لأبي جعفر (علیه السلام): يجلس الرجل على بساط فيه تماثيل؟ فقال: الأعاجم تعظمه وإنّا لنمتهنه (أي نحتقره)، وما عن أبي الحسن (علیه السلام) قال: (دخل قوم على أبي جعفر (علیه السلام) وهو على بساطفيه تماثيل فسألوه فقال: أردت أن أهينه) (4)،

وفي رواية (قال جبرئيل: إنا لا ندخل بيتاً فيه تمثال لا يوطأ) (5)

فإن الظاهر أن التحقير والإهانة بالصور في مقابل تعظيم الأعاجم، لأنهم كانوا يعبدون أصناماً وتماثيل فكانوا

ص: 276


1- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذبائح، أبواب الصيد، باب 45، ح1
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلي، باب 26، ح3
3- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب 4.
4- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب 4.
5- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب أحكام المساكن، باب 4.

يعتقدون أنها مثال أرباب الأنواع التي يعتقدون أنها وسائل إلى الله تعالى، وبالجملة لا تستفاد من تلك الروايات حرمة مطلق المجسمات فضلاً عن غيرها، بل هي مربوطة ظاهراً بعمل الأصنام وحفظ آثار الجاهلية وحفظ عظمتها الموهومة، ولا يبعد القول بحرمتها مطلقاً وحرمة اقتنائها لذلك ووجوب محوها» (1).

وفيه:

1- إن هذا المناط لو كان تاماً فلازمه حرمة إبقاء هذه التصاوير واقتنائها لوحدة المناط مع أن الدليل الصحيح عندهم قام على الجواز.

2- لو سلّمنا هذا الاستظهار في جملة من الروايات فإن عدداً آخر من الروايات فيها إطلاق من هذه الناحية -كصحيحة محمد بن مسلم (2)-

فلا يصح التقييد المذكور.

3- ما ذكره البعض(3) من أنه «لا وجه لاستبعاد العذاب الشديد لمثل التصوير والتماثيل، فإن جعل العذاب الشديد لبعض المعاصي غير عزيز، كما روي عن النبي (صلی الله علیه و آله): (من أكل الربا ملأ الله بطنه من نار جهنم بقدر ماأكل) (4)، وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من يغضب غضبة عممه الله عز وجل بعمامة من نار) (5).

ص: 277


1- المكاسب المحرمة للسيد الخميني (قدس سرّه): 1/169-171.
2- صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن تماثيل الشجر والشمس والقمر، فقال: لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان). وسائل الشيعة: 17 / 296.
3- السيد محسن الخرازي، مجلة فقه أهل البيت (علیهم السلام) العدد(7) صفحة (79) وما بعدها.
4- كشف المحجة: 83.
5- التوحيد: 48.

والمراد من عنوان الخروج عن الإسلام هو الخروج الحكمي(1)

لا الخروج الحقيقي، كقوله (صلی الله علیه و آله): (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(2)،

وقوله (صلی الله علیه و آله): (من يَغضَب أو يُغضب له فقد خلع ربق الإسلام (الإيمان) من عنقه)(3)،

وقوله (صلی الله علیه و آله): (ومن خان أمانته في الدنيا ولم يردها على أربابها مات على غير دين الإسلام)(4).

فالخروج عن الإسلام بالتصوير حكمي لا حقيقي، وإلا فمن المعلوم أن صنع الصنم لا يوجب الكفر والخروج عن الإسلام حقيقةً، فضلاً عن المجسمات، فدعوى عدم المناسبة لتلك التشديدات لعمل المجسمات كما ترى».

4- وما ذكره أيضاً من «أن دعوى ظهور الأخبار المطلقة المذكورة في الأصنام أو انصرافها إليها لا شاهد لها، واستبعاد تلك التشديدات -مع ما فيه- لا يوجب ذلك، لا سيما مع احتمال أن تكون المعصية معصية كبيرة تليق بهذه التشديدات كما تشير إليه روايات النفخ، فلا وجه لرفع اليد عن إطلاق النهي عن التماثيل والتصاوير، نعم لو كثر استعمالها في الأصنام لصحّ دعوى الانصراف، ولكنه ليس كذلك.

وكون جمع من عبدة الأصنام في صدد حفظ آثار أسلافهم، لا يوجب حمل الإطلاق في الأخبار المذكورة عليه.

كما أن ورود روايات تدل على أن النبي (صلی الله علیه و آله) بعث علياً (علیه السلام) لكسر الصورومحوها لا ينافي إطلاق هذه الروايات، سواء قلنا أن الصور

ص: 278


1- ربما يريد الخروج المعنوي أو الخروج عن المعنى الحقيقي الكامل للإسلام.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب18، ح2.
3- ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، صفحة 270، في عقاب من يغضب.
4- ثواب الأعمال، صفحة 285.

المعمول بكسرها هي الأصنام أو مطلق المجسمات.

5- ما نقله عن «المواهب في تحرير أحكام المكاسب (صفحة 341» من «أن التعبير في الروايات بأن المصور يكلّف يوم القيامة بالنفخ بالصورة وليس بنافخ يستفاد منه أن حكمة التشريع هي التشبه بالخالق تعالى، لا ترويج الكفر والشرك الذي هو العلة للتحريم في الطائفة الأخيرة (أي الأخبار الدالة على كسر الصور).

ولو كانت الروايات (المطلقة) ناظرة إلى المعنى المستفاد من الطائفة الأخيرة لكان المناسب أن يعبر فيها بأن المصور يكلف يوم القيامة بالاستشفاع من الصور، ولا ينفعونه، حيث كان المشركون يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله».

وأضاف «ويحتمل أن يكون المقصود من قوله (علیه السلام): (من صوّر التماثيل فقد ضادّ الله) هو ذلك.

وكيف كان، فحكمة الحكم لا تنحصر في المنع عن عبادة الأصنام ومع عدم انحصار الحكمة في المنع عن عبادة الأصنام لا وجه لحمل المطلقات على خصوص عمل الأصنام».

أقول: لكن الإنصاف أنه (قدس سرّه) استظهر هذا المعنى من طائفة من الروايات وهي روايات النفخ وليس أنه حصيلة النظر في كل الروايات، فإن مختاره (قدس سرّه) في رسالته العملية الحرمة مطلقاً قال (قدس سرّه): «يحرم تصوير ذوات الأرواح من الإنسان والحيوان إذا كانت الصورة مجسمة كالمصنوعة من الأحجار والفلزّات والأخشاب ونحوها»(1) وقاله أيضاً في مقدمة بحثه في المسألة حيث أنه بعد أن عدّد الأقوال فيها قال (قدس سرّه): «والأقوى هو

ص: 279


1- تحرير الوسيلة، ج1، كتاب المكاسب والمتاجر، صفحة 450، المسألة (20).

الأخير -أي كون المحرم عمل ذوات الأرواح المجسمة- وهو المتيقنمن معقد الإجماع المحكي، وتدل عليه مضافاً إليه الأخبار الآتية»(1) لذا فإن نسبة(2)

القول بجواز التصوير المجسم لذي الروح في غير الحالة المذكورة إليه (قدس سرّه) وهمٌ أوجبه هذا الاستظهار من هذه الطائفة خاصة دون غيرها.

ومع ذلك فإن طيّات كلامه (قدس سرّه) - والمرء مخبوء تحت طيّ لسانه- تفيد الميل إلى الحرمة في المورد خاصة كقوله (قدس سرّه) في مسألة إلحاق الجن والملك بذي الروح التي ستأتي في الفرع الثامن، فإنه قوّى عدم الحرمة ثم قال: «هل تلحق صورة الجن والشيطان والملك بالصورة الحيوانية أو لا؟ قد يقال: إن مقتضى إطلاق الأدلة ذلك. ولكن يمكن أن يقال: إن العمدة في الأدلة أخبار النفخ، وأما غيرها فقد تقدم أن جملة منها مربوطة بعمل هياكل العبادة وجملة أخرى منها لا إطلاق لها، ولو وجد فيها ما له إطلاق فضعيف سنداً»(3).

المسألة العشرون: التقييد بالمفهوم.

ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ان المفهوم يمكن ان يقيد اطلاق المنطوق ، ولكن بشرط كونه اظهر منه ، جاء هذا المعنى في الجزء السادس (صفحة 261) في مسالة حكم العقد المنقطع على الباكر دون اذن وليها ، اذ قال (دامت بركاته):

إن كون الجملة لها مفهوم غير كاف في المقام وإنما يجب أن تنضمّ إليها كبرى أخرى وهي إمكان تقييد المنطوق المطلق (وهو ما دل على اشتراط

ص: 280


1- المكاسب المحرمة: 1/168.
2- حكى هذه النسبة السيد محسن الخرازي في المصدر المتقدم، صفحة 81.
3- المكاسب المحرمة: 1/171.

إذن الولي) بالمفهوم المقيّد (وهو محل الكلام) أي أن لفظ النكاح الذي اشترط فيه إذن ولي الأمر والشامل للدائم والمنقطع يقيّدبهذا المفهوم الذي أخرج النكاح الدائم من اشتراط إذن ولي الأمر للبكر فتكون مستقلة بتزويج نفسها. والمطلب من حيث الكبرى لم نعترض عليه(1) إن كان المفهوم أظهر من المنطوق.

المسألة الحادية والعشرون: تقييد الموضوع بمتعلق الحكم.

من المعلوم ان الموضوع يكون متقدماً رتبة على الحكم ، بمعنى ان الحكم لا يثبت موضوعه ، فبعد ان يثبت الموضوع ينصب الحكم عليه ، ولكن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) قال بإمكانية تقييد الموضوع بالحكم او بمتعلقه.

جاء هذا المعنى في الجزء الرابع (صفحة 113 – 114) عند بيان ادلة كفاية الرؤية بالعين المسلحة:

قال بعض من حضرنا بحثه الشريف: «المستفاد من قوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» والروايات المفسرة لها أن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت للناس كما كان ميقاتاً عند العرب قبل الإسلام فاتخذوه علامة على بداية الشهور واعتمدوا عليه في توقيت شؤون حياتهم، والمجعول كذلك لا يمكن أن تكون وسيلته منحصرة ببعض الأفراد أو تخترع بعد ألف سنة وإنما لا بد أن يكون الهلال بحد قابل لرؤية عامة الناس؛ لأنه لهم جميعاً فلا عبرة بالعين المسلحة ولا ما بحكمها»(2).

أقول: ظاهر الفقرة الأخيرة أن الهلال مشروط بأن يراه عامة الناس وهو

ص: 281


1- ذكرنا ذلك في شرح الكفاية وهو مقرر عند الطلبة الذين حضروا الدرس خلال الأعوام 1422-1424.
2- السيد السيستاني: محاضرة بتأريخ 25/ ذ. ح./ 1416.

معنى لا يتحقق حتى على القول باشتراط الرؤية بالعين المجردة فإن عدداً محدوداً من الناس هم الذين يستطيعون رؤيته لقوة بصرهمولمعرفتهم بوضع الهلال، ولا يراه الناس عامة، وحينئذٍ يقول الفريق الآخر بأنه ينتفي المانع من قبول الرؤية بالعين المسلحة حيث إن عدداً محدوداً يراه بها وهم العارفون باستعمال الأجهزة الفلكية فكلاهما تصدق عليه رؤية الهلال ويصير ميقاتاً للناس.

والصحيح في مراده أن يقال إن ظاهر الآيات والروايات أن رؤية الهلال وإن أخذت طريقاً لتحصيل العلم بوجوده إلا أن وجوده لم يؤخذ على أي حال حتى الذي لا يرى إلا بالعين المسلحة وإنما على نحو يراه الناس بعيونهم الطبيعية

ثم وضع (دامت بركاته) هنا هامشا قال فيه:

فائدة أصولية: يصلح المورد مثالاً على أن متعلق الموضوع -وهي الرؤية هنا- يصلح قرينة على تقييد الموضوع- وهو الهلال- فهنا الرؤية المتعارفة قيدت إطلاق الهلال بحصة منه، وبتعبير آخر: إن المراد الاستعمالي هنا للهلال وإن كان مطلقاً في الروايات إلا أن ظهور الرؤية في العين الطبيعية قيّدت المراد الجدّي من الهلال بما تراه العين الطبيعية خاصة.

ثم جاء في تتمة الكلام عن ادلة كفاية الرؤية بالعين المسلحة (صفحة 120 -121) قوله (دامت بركاته):

إن الرؤية ليس لها موضوعية حتى يناقش في شمولها العين المسلحة أو لا، بل هي مأخوذة على نحو الطريقية لحصول العلم والقطع بوجود الهلال وهذا ظاهر من الروايات حيث جعلت الرؤية مقابل الشك والظن كما في الصحيحة المتقدمة وغيرها، وعليه فإن أي طريق يكون محصلاً للعلم

ص: 282

والقطع يكفي لثبوت أول الشهر كالرؤية بالعين المسلحة، ولذا وجب قضاء يوم إذا رؤي الهلال بعد ثمانية وعشرين يوماً من شهر رمضان، أو ثبتت رؤيته في بلد آخر.ويمكن ردّ الإشكال بأن يقال أن الرؤية وإن كانت مأخوذة على نحو الطريقية إلا أن المرئي أضاف لها حيثية موضوعية من جهة أنها ليست طريقاً لأي هلال مرئي وإنما للهلال الذي تراه العين المجردة قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «إن عنوان الرؤية الوارد في الروايات وإن كان على نحو الطريقية المحضة، إلا أن ذا الطريق هو الهلال البالغ مرتبة قابلة للرؤية بالعين المجردة، لا مجرد الخروج عن المحاق ولو لم يكن قابلاً للرؤية، والحمل على الطريقية لا يقتضي أكثر من إلغاء موضوعية الرؤية لا المرتبة المفروضة في المرئي»(1)

وقد تقدم تقريب الفكرة أصولياً، وسيأتي تفصيله في الوجوه الآتية إن شاء الله تعالى.

وعندما سالت سماحته: هل المراد من الفكرة الأصولية هنا نفس ما ذكرتموه في الهامش من الفائدة الأصولية ؟

أجاب (دامت بركاته):

نعم ، أردت هذه الفكرة ، وأردت منها فكرة جزئية وهي امكان تقييد الموضوع بالمحمول او الحكم ، وهو عندهم مستحيل.

المسألة الثانية والعشرون: نكات التقييد.

ابرز شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الثالث عشر في مسالة مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيرا عدة نكات يمكن بها تقييد

ص: 283


1- رسالة حول مسألة رؤية الهلال للطهراني: 159.

الاطلاق ، حيث قال سماحته:

وفي ضوء ما تقدم فإننا لا نوافق على إطلاق المشهور بتخيير الجاني بين الأصناف وإن هبطت القيمة بشكل فاحش غير عرفي كقول الشيخ (قدس سرّه) في المبسوط: «فإذا لم يوجد -أي الجنس المتعين عليه- أخذ أحدالأجناس الأخر وسواء كانت بقيمة الإبل أو دونها أو فوقها»(1)،

وقول السيد الخوئي (قدس سرّه): «فله -أي الجاني- اختيار أي صنف شاء وإن كان أقلها قيمة وهو عشرة آلاف درهم أو مائتا حلة في زماننا هذا»؛ فإن دفع الدية من الفضة والحلل -التي أشكلنا على كونها من أصناف الدية أصلاً في الأمر الأول الآتي- مشكل اليوم؛ لأمور:-

1- إن قيمتها تختلف اختلافاً فاحشاً عن القيمة المعيارية أو المرجعية التي شرحناها، وهو منافٍ لشرط المقاربة معها في القيمة الذي استظهرناه من الروايات.

2- وهذا الشرط هو المرتكز في أذهان العقلاء والعرف لعدم استيعابهم إجزاء أصناف من الدية التي هي ضمان لحق المجني عليه كسائر الضمانات المالية يدور أمرها بين أقل وأكثر يختلفان بشكل كبير.

وهاتان القرينتان تقيّدان إطلاق الروايات الدالة على تخيير الجاني بين أصناف الدية وأنها منصرفة عن مثل هذه الحالة، بل تقيّدان قول المشهور بالتخيير أيضاً؛ لأنهم كلهم عاشوا في زمان كان الدرهم الفضي موجوداً مما يجعل القيم متقاربة، ومن اعترض على كلام القاضي المتقدم كصاحبي مفتاح الكرامة والجواهر نظرا إلى الحالة المتعارفة القائمة وليس إلى غيرها، ولو كانوا في زماننا لأعادوا النظر في ما قالوه.

ص: 284


1- المبسوط، للشيخ الطوسي: 7/118-119، ط. المكتبة الرضوية.

إن الروايات صرّحت بأن الدراهم التي يجزي دفعها في الدية هي التي يساوي عشرة منها ديناراً كقوله (علیه السلام) في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج: (وقيمة الدينار عشرة دراهم)(1)، فإن تغيرت عن ذلك روعي فيها ذلك كقوله (علیه السلام) في صحيحة عبد الله بن سنان: (وإن كان في أرض فيها1- الدنانير فألف دينار، وإن كان في أرض فيها الدراهم فدراهم بحساب ذلك اثنا عشر ألفاً)(2).

2- إن الفضة لم تعد معدناً يتنافس عليه العقلاء لانتفاء المنافع المهمة به كسكّ العملة بها واتخاذها زينة وادخاراً ونحو ذلك، فقيمتها لا تناسب تغليظ الشارع المقدس في حرمة الدم.

لا وجود اليوم للدنانير والدراهم المسكوكة التي هي من أصناف الدية، وإن المشهور اشترط كون الفضة مسكوكة بسكة المعاملة الرائجة بين الناس ليصدق عليه الدراهم فلا يجزي دفع وزنها من الفضة، وأن وزن الفضة اليوم بعيد جداً عن قيمة الدرهم زمن النص الذي كان يساوي عُشر دينار أي عشر مثقال من الذهب.

المسألة الثالثة والعشرون: استعمال الاطلاق بمعنى الظهور.

قد تأتي في بعض عبارات الفقهاء والأصوليين كلمة الاطلاق ولا يراد بها الشمول والاستيعاب ، بل قد يراد بها أحيانا ان اللفظ ظاهر في هذا المعنى ، وهذا مما يلزم التنبه له عند التعامل مع عبائرهم.

جاء هذا المعنى في الجزء الثامن (صفحة 222) عند الكلام عن مقتضى

ص: 285


1- وسائل الشيعة: 29/193، أبواب ديات النفس، باب 1، ح1
2- وسائل الشيعة: 29/197، الباب السابق، ح9.

الأصل اللفظي في حالة الشك بين العينية والكفائية ، اذ قال (دامت بركاته):

قال صاحب الكفاية (قدس سرّه): «قضية إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً لكون كل واحد مما يقابلها يكون فيه تقييد الوجوب وتضييق دائرته، فإذا كان في مقام البيان ولم ينصب قرينة عليه فالحكمة تقتضي كونه مطلقاً وجب هناك شيء آخر أو لا، أُتي بشيء آخر أو لا، أتى به آخر أو لا».(1)أقول: محل البحث هو الأخير من الثلاثة، ومقتضى الإطلاق كون الوجوب عينياً؛ لأن الكفائية بمعنى سقوط الوجوب بفعل الغير يحتاج إلى مؤونة زائدة، إذ الظاهر من توجيه الأمر إلى فرد أو مجموعة بالقيام بفعل معين إرادة أمرين: تحقق نفس الفعل ومدخلية صدوره من المخاطب، كما لو أمر زيداً بالذهاب إلى السوق فإنه يريد الذهاب إلى السوق لا غيره، ويريد صدوره من زيد لا غيره، أما عدم مدخلية المخاطب التي هي مقتضى الكفائية فإنها خلاف المتفاهم العرفي وتحتاج إلى بيان.

وبهذا يتضح أن المراد بالإطلاق هنا ظهور الصيغة لو خلّيت وطبعها، وليس الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة كما ذهب إليه في الكفاية، وستأتي الإشارة إلى ثمرة لهذا التفريق الدقيق.

ص: 286


1- كفاية الأصول للاخوند الخراساني ص 76.
ثالثًا: العموم
اشارة

يعد مبحث العموم من اهم ما تم بحثه في علم الأصول ، وقد ذكروا ان هناك ألفاظا وضعت في اللغة لتفيد معنى الشمول والعموم لافراد المفهوم الذي تدخل عليه.

ولكننا لا نريد ان نبحث في ذلك هنا ، بل الذي نريد بيانه الموارد التي يمكننا فيها تعميم الحكم لموضوع اخر غير الموضوع الذي ثبت له الحكم في الدليل ، فقد ذكر علماء الأصول عدة موارد يتم فيها تعميم الحكم ، كما سنبين المسائل التي كانت محلا للأخذ والرد والنقاش من مباحث العموم ، فسنذكر ما جاء في موسوعة فقه الخلاف من مناقشات وتطبيقات لهذه الموارد في اربع عشرة مسالة ، وهي:

المسألة الأولى: تنقيح المناط.

المسألة الثانية: حجية استظهار المناط.

المسألة الثالثة: العلة المنصوصة.

المسألة الرابعة: الفارق بين العلة والملاك والحكمة.

المسألة الخامسة: القول بعدم الفصل.

المسألة السادسة: ضابط التعميم بالأولوية.

المسألة السابعة: التجريد عن الخصوصية.

المسألة الثامنة: الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص.

المسألة التاسعة: خروج الافراد الدال على عدم العموم.

المسألة العاشرة: التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

المسألة الحادية عشرة: : المخصص المجمل مفهوماً.

المسألة الثانية عشرة: المورد لا يخصص الوارد.

المسألة الثالثة عشرة: التطبيق لا يخصص العموم.

ص: 287

المسألة الرابعة عشرة: تخصيص الكتاب بالسنة.واليك تفصيل هذه المسائل:

المسألة الأولى: تنقيح المناط.

عمد الكثير من العلماء الى تعميم الاحكام الشرعية اعتمادًا على فكرة تنقيح المناط ، وقد ناقش سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) هذه الفكرة في الجزء الثاني (صفحة 195) في مسالة احكام صلاة من عمله السفر ، اذ قال:

فالصحيح ما قالوه من الالتزام بمفاد النصوص خصوصاً وأنهم رتبوا آثاراً على الملاكات التي استنبطوها كعنوان (كثير السفر) الذي فرّع عليه سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سرّه) عدة مسائل رغم انه عنوان منتزع ومستنبط لا وجود له في النصوص، إلا أن يقال انه عرف بتنقيح المناط لكنه مردود كبروياً وصغروياً، أما كبروياً، فلعدم حجية هذا الدليل كالقياس وأما صغروياً، فلأن النصوص ذكرت مناط الحكم وهو أن عملهم السفر فلا مجال لتنقيح المناط وبين عنواني (عمله السفر، كثير السفر) عموم من وجه، إذ قد يكثر السفر للزيارة أو السياحة ونحوها من غير أن يتخذه عملا له، وربما يكون عملاً له قبل صدق كثرة السفر عليه -كما سيأتي مثاله بإذن الله تعالى- وقد يجتمعان كما هو الغالب، فلا عبرة بكثرة السفر لوحده ما لم يكن عملاً التزاماً بالنصوص.

واكد (دامت بركاته) في الجزء الخامس (صفحة 297 – 298) في مسالة زكاة أموال التجارة عدم حجية تنقيح المناط لتعميم الحكم اذ قال:

واستدل أيضاً ب«أن المستفاد من أخبار هذه الزكاة اتحادها مع زكاة النقدين من حيث النصاب والقدر المخرج وحول الحول، ولا شك في إفادتها

ص: 288

لذلك لمن نظر فيها بتأمل يسير»(1).

وفيه: إن هذا الاتحاد إذا بني على استقراء المشتركات وتراكمالاحتمالات باعتبار تزايد هذه المشتركات –كما يبدو من صدر كلامه (قدس سرّه)- فيرد عليه بأنه من القياس وتنقيح المناط ونحوها من الظنون غير المعتبرة، نعم إذا كان ظاهراً من الروايات ولو بقرينة السكوت عن بيان مقدار الزكاة مما يعني اتحادها مع النقدين فهو حجة.

واكد على عدم حجية تنقيح المناط أيضا في مسالة زكاة العملات المتداولة (صفحة 373) حينما ذكر ادلة الشيخ المنتظري (قدس سرّه) على الوجوب ، وكان الوجه الثاني من وجوه استدلاله:

الثاني: إلغاء الخصوصية، بتقريب أن الذهب والفضة المسكوكتين وجب فيهما الزكاة بما أنهما نقد رائج وبهما تقوم الأشياء وتعتبر ماليتها، فالموضوع في الحقيقة النقد الرائج المتعارف الذي يقوم به سائر الأشياء، وربما نلتزم بذلك في باب المضاربة أيضاً حيث اعتبروا فيها بالإجماع أن يكون رأس المال من النقدين، فلو لم نقل بكون المراد النقد الرائج انتفى موضوع المضاربة في هذه الأعصار.

ورد عليه (دامت بركاته) (صفحة 375) بقوله:

وأما (الثاني) فهو بالمقدار الذي عرضه غير صحيح، لأن التجريد عن الخصوصية لا بد أن يستند إلى دليل ولا يكفي فيه الظن والاستحسان وتنقيح المناط ونحوها، وهو (دام ظله الشريف) لم يذكر وجهاً للتجريد عن الخصوصية، ونحن قد قربنا عدة وجوه لإلغاء خصوصية النقدين.

ص: 289


1- كتاب الزكاة للشيخ الأنصاري: 10/248.
المسألة الثانية: حجية استظهار المناط.

تبين من المسألة الأولى ان لتنقيح المناط عدة طرق: فقد يستند الى حساب الاحتمالات ، او القياس ، او التخمين. وهو غير حجة في هذه الحالات ؛ لعدم حجية هذه الطرق لتحديد ملاكات الاحكام.

اما اذا استنبطنا المناط من ظهور الروايات فسيكون حجة عندئذ ؛ لحجية الظهور.وقد افاد سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) هذا المطلب في الجزء الخامس (صفحة 366) في مسالة زكاة العملات المتداولة، اذ قال:

الثامن: وحدة الملاك بتقريب أن الظاهر من الروايات أن الملاك في جعل الزكاة على النقدين إذا لم يحركا حولاً هو لتحريك عجلة الاقتصاد وعدم حبس فائدة العملة التي هي الواسطة في تلك الحركة، كصحيحة زرارة المتقدمة (الزكاة على المال الصامت الذي يحول عليه الحول ولم يحركه)، ولذا كان من وسائل الفرار من الزكاة سبك الذهب والفضة الموجودين في العملة لسلب عنوان العملة وما يستتبعها من منافع عنها، فالزكاة لم تجب عليه لأنه ذهب أو فضة، بل لأنه عملة لا يجوز حبسها، وهذا الملاك جارٍ في سائر العملات، ففي صحيحة علي بن يقطين عن أبي إبراهيم (علیه السلام) قال: (لا تجب الزكاة فيما سبك، قلت: فإن كان سبكه فراراً من الزكاة؟ قال: ألا ترى أن المنفعة قد ذهبت منه فلذلك لا يجب عليه الزكاة)(1)،

وروايته الأخرى عن أبي الحسن موسى (علیه السلام) قال: (لا تجب الزكاة فيما سبك فراراً به من الزكاة، ألا ترى أن المنفعة قد ذهبت فلذلك لا تجب الزكاة) (2).

ولا يعقل ذهاب المنفعة عن الذهب والفضة لأن لهما قيمة في ذاتهما،

ص: 290


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 11، ح2، 3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 11، ح2، 3.

وإنما تذهب منفعتهما كعملة، فالمناط هو كونهما عملة وليس كونهما ذهباً وفضة.

بيان ذلك: إن الإنسان لما جعل على هذه الأرض تجددت حاجاته وتنوعت كاحتياجه إلى الطعام والشراب واللباس ووسائط النقل ومستلزمات الراحة والتجمّل والكماليات وغيرها، ولما كان كل شخصبمفرده لا يستطيع توفير احتياجاته لنفسه بنفسه أي يصنعها ويهيئها هو بنفسه لتعذر ذلك، اقتضت الطبيعة الاجتماعية أن يكمل بعضهم بعضاً بمبادلة المتاع والحاجات بغيرها وهو ما كان يسمى بالمقايضة.

ولما كانت الاحتياجات متكثرة –كالدار والسيارة والكتاب- والقيم مختلفة بحسب العرض والطلب وبسبب صعوبة نقل الأشياء لمبادلتها ولعدم توفر حاجة كل طرف عند الطرف الآخر، التفت الإنسان –بلطف الله تبارك وتعالى- إلى ضرورة جعل وسيط لهذه المبادلات يكون أساساً لتقييم الأعيان والمتاع وتبتنى عليه المبادلات والمعاملات، وقد اصطلحت المجتمعات البشرية على مواد مختلفة للتقييم كالملح مثلاً عند بعضهم، لأهميته واشتداد الحاجة إليه وكذا الحنطة عند بعضهم الآخر.

ثم بعد اكتشاف الذهب والفضة والالتفات إلى أهميتهما وتصاعد الطلب عليهما والرغبة فيهما أصبحا أساس التقييم للأشياء وأجور الأعمال وسَكَّت الحكومات العملات بهما، وكانت هذه من أعظم النقلات الحضارية التي منّ الله تعالى بها على عباده، وإليها يشير الإمام الباقر (علیه السلام) بما رواه الشيخ في أماليه بسنده عن أبي عبد الله (علیه السلام) عن أبيه (علیه السلام) أنه (سُئل عن الدنانير والدراهم وما على الناس، فقال أبو جعفر (علیه السلام): هي خواتيم الله في أرضه جعلها الله مصلحة لخلقه، وبها يستقيم شؤونهم ومطالبهم فمن أكثر له منها فقام بحق الله تعالى فيها وأدى زكاتها فذاك الذي طابت وخلصت له،

ص: 291

ومن أكثر منها فبخل بها ولم يؤدِّ حق الله فيها واتخذ منها الأبنية فذاك الذي حق عليه وعيد الله عز وجل في كتابه يقول الله عز وجل: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة: 35].

وفي خبر ضريس قال: (قال أبو عبد الله (علیه السلام): إنما أعطاكم الله هذه الفضول من الأموال لتوجّهوها حيث وجهها الله ولم يعطكموهالتكنزوها)(1).

فأوجب الله تبارك وتعالى الزكاة منعاً لكنزها وحبسها الذي يعطّل هذه المصلحة النوعية الكبرى، وهو ملاك مطرد في سائر العملات ولا مدخلية لكونها من الذهب والفضة.

المسألة الثالثة: العلة المنصوصة.

قد تأتي بعض الاحكام الشرعية مصحوبة ببيان علتها ، وفي مثل ذلك قال العلماء بإمكان التمسك بهذه العلة المنصوصة لتعميم الحكم في كل مورد وجدت فيه.

وقد ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) عدة تطبيقات لهذه المسالة في موسوعة فقه الخلاف منها:

ما جاء في الجزء الثاني (صفحة 200) في مسالة احكام صلاة من عمله السفر:

صدق التعليل الوارد في النص عليهم عرفاً أي قوله (علیه السلام) (2) (لأنه عملهم) فمثلاً لا يبعد ان يقال عرفاً للموظف الذي يسافر يومياً إلى دائرته أو

ص: 292


1- فروع الكافي، ج4، كتاب الصدقة، باب 26: وضع المعروف موضعه، ح5.
2- صحيحة زرارة قال (قال أبو جعفر (علیه السلام): أربعة قد يجب عليهم التمام في سفر كانوا أو حضر: المكاري والكريّ والراعي والاشتقان لأنه عملهم). الكافي: 3/ 436.

الطالب إلى جامعته من دون ان يتوطن محل عمله كما سيأتي ان شاء الله تعالى: ان السفر عمل له والشاهد على ذلك جمع الإمام لكل هذه العناوين بتعليلٍ واحد في نهاية الحديث.

المسألة الرابعة: الفارق بين العلة والملاك والحكمة.

من الأمور المهمة التي نبّه عليها سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ان بعض علمائنايعبر عن الحكمة بالعلة ، كما انهم قد يعبرون بالعلة والملاك عن معنى واحد ، ومن هنا تصدى لبيان الفارق بينها ، وأي منها هو الذي يفيد لتعميم الحكم.

قال سماحته في الجزء الخامس (صفحة 377 – 378) في مسالة زكاة العملات المتداولة:

إن رفع احتياجات المسلمين وسد خلاتهم هي حكمة التشريع وليست ملاك الحكم فلا تسوّغ التبرع بإنشاء الأحكام، نعم، الملاك هو الذي يعمم الحكم، وما ذكره (دام ظله الشريف) (1) هو من الأول وليس من الثاني فلا يصلح للتعميم، وقد يُعبَّر في كلمات الأصحاب عن هذه الحكمة بالعلة، مما يسبب تشويشاً وإشكالات، لأن العلة تُعمّم، وإن أصروا على ترادفهما متشرعياً فلا بد من التفريق بينهما وبين الملاك.

وفي ضوء هذا علينا أن نفرق بين مصطلحين يردان في تعبير كلمات الأصحاب (رحم الله الماضين وحفظ الله الباقين) هما (العلة) و (الملاك) ويستعملان بمعنى واحد وهما ليسا كذلك، فالعلة هي غاية الفاعل من جعل الحكم والباعث على تشريعه وهي لا تكون مرتبطة بشكل مباشر بالفعل إلا

ص: 293


1- يريد به الشيخ المنتظري (قدس سرّه).

لكونه أحد مواردها، أما الملاك فهو منشأ الحكم في الموضوع المعين ويرتبط به مباشرة، وبينهما فرق، وأوضح فرق أن العلة مرتبطة بالفاعل بينما الملاك مرتبط بالفعل، وبتعبير آخر: إن الملاك هو الداعي إلى جعل الحكم بينما العلة هي الداعي إلى الداعي إلى الحكم.

فمثلاً من مهام الحكومة توسيع إيرادات الدولة لتفي بمتطلبات مسؤوليتها واحتياجاتها، وهذه العلة لا تدفع الحكومة إلى جباية الأموال كيفما اتفق وإنما تنظر لملاكات في القوانين التي تسنها، مثلاً ترى من المصلحة فرض رسوم كمركية على البضائع المستوردة لتشجيع المنتوج الوطني، أو تفرض رسوماً كبيرة على بيع وشراء العقارات لمنع مضاربة أصحاب الأموال فيها وزيادة أسعارها بحيث لا يستطيع ذوو الدخلالمحدود تملك عقار، أو تفرض عقوبات مالية على من يرتكب مخالفة مرورية.

فتشجيع المنتوج الوطني وحفظ أسعار العقارات والمحافظة على النظام العام هي ملاكات القوانين، والعلة هي استحصال الأموال لخزينة الدولة لتمويل فعاليتها، وهذه العلة لا ترتبط بتلك القوانين بشكل مباشر أي لا يتعين تحقيقها بها إلا لكونها أحد مواردها، بحسب هذا القانون، وإلا فيمكن للدولة أن تسن قانون العقوبة بالحبس أو أي قرار آخر كالمنع من بيع العقار مدة معينة بدل الرسوم المالية فهنا الملاك موجود وهو مرتبط بالقانون مباشرة لكن العلة المذكورة ليست موجودة، ومن هنا فإن الملاك يعمم الحكم دون العلة.

ونعود إلى مناقشة الشيخ المنتظري (دام ظله الشريف) بعد هذه المقدمة فنقول إن العلة هنا هي مساعدة الفقراء ورفع احتياجاتهم وابتلاء الأغنياء وتزكية أموالهم وإقامة النظام الاجتماعي العام، لكن الفرائض

ص: 294

المالية لها ملاكاتها كزكاة النقود لمنع تجميدها وتعويق الحركة الاقتصادية، أو زكاة أموال التجارة لمنع احتكارها ورفع أسعار السوق من دون مسوغ عقلائي إلا جشع التجار، وهذا الملاك هو الذي يمكن أن يعمم حكم وجوب الزكاة من النقدين إلى سائر العملات والنقود، أما العلة فلا تعمم إلا بقوانين من قبل الشارع المقدس ولا يمكن أن تعمم الأحكام بمجرد أن الزكاة المنصوصة لا تفي بحاجة الفقراء.

المسألة الخامسة: القول بعدم الفصل.

من طرق تعميم الحكم لغير الموضوع الذي ثبت له: القول بعدم الفصل ، فاذا صرح الفقهاء بعدم الفصل بين حكم موضوع ما وحكم موضوع اخر أمكننا ان نعمم الحكم الثابت للموضوع الأول الى الثاني ، اما مجرد عدم القول بالفصل فلا يفيد التعميم.وقد جاء في الجزء الخامس (صفحة 453) في مسالة زكاة أموال الصغير تطبيق لهذه القاعدة الأصولية ، فقد قال سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) هناك:

القول الأول: الوجوب، وقد استدل عليه بوجوه:

الأول: عدم القول بالفصل بين الغلات والمواشي «حكاه في الإيضاح عن ابن حمزة الذي هو أحد الموجبين حيث قال: وقال ابن حمزة: تجب في مال الصبي لما صح عنهما (علیهما السلام) أنهما قالا: مال الطفل ليس عليه في العين والصامت شيء، وأما الغلات فإن عليها الصدقة واجبة. قال: فتجب في الأنعام بالإجماع المركب» (1)

ص: 295


1- مفتاح الكرامة: 7 / 7

وفيه:

1- عدم تمامية الكبرى؛ لأن النافي للتفصيل: الإجماع على القول بعدم الفصل وليس مجرد عدم القول بالفصل، وبشرط كونه تعبدياً، والأمران غير موجودين.

وقد عرّض سماحته بالتعميم بداعي عدم القول بالفصل في الجزء الثاني (صفحة 388) في مسالة صلاة الرجل والمرأة متحاذيين ، حيث قال (دامت بركاته):

وهذا كله في جواز المحاذاة، أما تقدم المرأة فإن استدلالهم السابق على جواز المحاذاة لا يتضمن جواز تقدم المرأة الذي قالوا به أيضاً. إلا أن يتمم بضميمة عدم القول بالفصل وهو كما ترى.

ثم اكد سماحته ان الحجة في التعميم يحصل بالقول بعدم الفصل لا بمجرد عدم القول بالفصل ، حيث قال (دامت بركاته) في الجزء الثاني (صفحة 121) في مسالة الاكتفاء ببعض السورة بعد الفاتحة:

نعم يمكن تتميم هذه الملازمة بعدم القول بالفصل الذي وردت الإشارة إليه في كلمات جملة من الأساطين، قال العلامة (قدس سرّه): «إذا لم تكن السورة واجبة لم تكن أبعاضها واجبة، لأن علماءنا بين قائلين، أحدهماأوجب السورة، والآخر لم يوجبها فلم يوجب أبعاضها فالفرق ثالث»(1).

أقول: هذا مردود صغرىً وكبرى، أما صغروياً فلوجود القائل بالفصل كالشيخ (قدس سرّه) في المبسوط وقد تقدمت كلمته، ولأن القائلين بعدم الوجوب أطلقوا كلماتهم وهي تحتمل القولين بل صرح ابن الجنيد في اشتراط قراءة شيء بعد الفاتحة في الجملة ولو بعض سورة كما تقدم النقل عنه، وأما

ص: 296


1- مختلف الشيعة: 2/162 ونسبه في رياض المسائل: 3/151 إلى دعوى البعض، وقال به أيضاً في جواهر الكلام: 9/333 وكتاب الصلاة للشيخ الأنصاري (قدس سرّه): 1/318.

كبروياً فلأن المجدي –لو تمت الكبرى- القول بعدم الفصل لا عدم القول بالفصل كما ذكرنا مراراً.

المسألة السادسة: ضابط التعميم بالأولوية.

من طرق تعميم الحكم: التعميم بالأولوية ، فقد قيل في علم الأصول عندما يثبت حكم لموضوع ما ، فانه يمكن تعديته لموضوع اخر باعتبار ان ثبوته للموضوع الثاني أولى من ثبوته للأول ، ولهذا افتوا بحرمة ضرب الوالدين ؛ لان الله سبحانه وتعالى حرّم ان يقال لهما أف فمن باب أولى يحرم كل ما هو اشد من قول أف ومنه الضرب. وقد بيّن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) الضابط الذي يمكن على أساسه التمسك بالأولوية لتعميم الحكم في مسالة من يتزوج امرأة طلقت طلاقا غير صحيح في الجزء السادس (صفحة 154) اذ قال (دامت بركاته):

والأولوية المدعاة منشؤها ان ملاك الحرمة في ذات البعل أقوى من المعتدة لان علقة الزوجية فيها أقوى.

ومن يرد على الأولوية يقول: ان الأولوية لا تكون حجة إلا إذا بلغت قوة الظهور لان الظواهر حجة أما إذا كانت أولوية عقلية وحدسية فلا يكون حجة وليست أقوى أولوية من نقصان دية المرأة عند قطع أربعأصابع عن الدية بقطع ثلاث أصابع الواردة في صحيحة أبان بن تغلب (1)

فان هذه

ص: 297


1- عن أبان بن تغلب قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): رجل قطع أصبع امرأة فقال: فيها عشرة من الإبل، قلت: قطع اثنين! - قال: فيهما عشرون من الإبل، قلت: قطع ثلاث أصابع قال: فيهن ثلاثون من الإبل، قلت: قطع أربعا قال: فيهن عشرون من الإبل، قلت: أيقطع ثلاثا وفيهن ثلاثون من الإبل ويقطع أربعا وفيها عشرون من الإبل؟! قال: نعم، إن المرأة إذا بلغت الثلث من دية الرجل سفلت المرأة وارتفع الرجل إن السنة لا تقاس، ألا ترى أنها تؤمر بقضاء صومها ولا تؤمر بقضاء صلاتها، يا أبان حدثتني بالقياس وإن السنة إذا قيست محق الدين). المحاسن: 1/ 214.

الأحكام تعبدية محضة ولا نص يكشف عن علة الحكم وملاكه حتى نتمسك بعموم التعليل خصوصاً وان حكم الحرمة المؤبدة بالدخول بذات العدة ولو جهلاً غير خاص بذات العدة الرجعية حتى يمكن ان نقول أنها بلحاظ بقاء العلقة الزوجية وإنما هي شاملة لكل عدة حتى مع عدم احتمال الزوجية كالمعتدة من الطلاق الثالث وكل طلاق بائن فيه عدة أو من الوفاة وغيرها.

المسألة السابعة: التجريد عن الخصوصية.

من طرق تعميم الحكم التجريد عن الخصوصية: فقد يثبت الحكم لموضوع معين ، ولكننا نرى ان لا خصوصية لذلك الموضوع ، وانما جاء ذكره على سبيل المثال او لانه كان مورد سؤال السائل فنعمم الحكم لغيره من الموضوعات.

ومن التطبيقات التي رفضها شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ما جاء في الجزء الثالث عشر في مسالة مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيرا ، حيث ذهب البعض الى ان المهم في الدنانير والدرهم هو وزن الذهب والفضة ولا مدخلية للسكة في أجزاء دفعها ، ولكن شيخنا الأستاذ بيّن ان الروايات التي تدل على ذلك إنما جاءت في باب الصرف والربافلا يمكن تعميم هذه الفكرة لبقية الأبواب ؛ لاحتمال خصوصية فيها.

ونص كلامه (دامت بركاته):

الروايات الكثيرة الدالة على أن الملحوظ في الدنانير والدراهم وزن الذهب والفضة فيهما عند التعامل وعلى هذا فلا فرق بين المسكوك وغيره كصحيحة أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): آتي الصيرفي بالدراهم

ص: 298

أشتري منه الدنانير فيزن لي أكثر من حقي، ثم أبتاع منه مكاني دراهم، قال: ليس به بأس، ولكن لا تزن أقل من حقك)(1)

وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وفيها (سألته عن الرجل يشتري من الرجل الدراهم بالدنانير فيزنها وينقدها ويحسب ثمنها) وفيها أيضاً (إذا فرغ من وزنها وانتقادها) (2)وفي

معتبرة إسحاق بن عمار (سألت أبا إبراهيم (علیه السلام) عن الرجل يأتيني بالورق فأشتريها منه بالدنانير فأشتغل عن تعيير وزنها وانتقادها) (3).

ويرد عليه:-

1- إن استعمال الوزن في الدراهم التي فيها غش من غير الفضة فتوزن لمعرفة مقدار الفضة فيها، أما الدراهم الجياد المعروفة بالوضح فإنها تباع عدداً وقد صرّحت صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج بذلك قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أشتري الشيء بالدراهم فأعطي الناقص الحبة والحبتين، قال: لا، حتى تبيّنه، ثم قال: إلا أن يكون نحو هذه الدراهم الأوضاحية التي تكون عندنا عدداً) (4).

2- إنه قياس باطل وتجريد عن الخصوصية في غير محله؛ لأن هذهالروايات كلها وردت في أبواب الصرف والربا(5)

حيث دلت الروايات على

ص: 299


1- وسائل الشيعة: 18/168، أبواب الصرف، باب 2، ح4.
2- وسائل الشيعة: 18/168، أبواب الصرف، باب 2، ح1.
3- وسائل الشيعة: 18/168، أبواب الصرف، باب 2، ح5.
4- وسائل الشيعة: 18/187، الباب السابق، ح7.
5- وما ورد في ذكر مهر أزواج النبي (صلی الله علیه و آله) فهو لبيان الموضوع والتعريف بالأوزان كصحيحة معاوية بن وهب قال: (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: ساق رسول الله | اثنتي عشرة أوقية ونشاً، والأوقية أربعون درهماً، والنش نصف الأوقية عشرون درهماً وكان ذلك خمسمائة درهم، قلت: بوزننا؟ قال: نعم) (وسائل الشيعة: 21/244، كتاب النكاح، أبواب المهور، باب 4، ح1).

حرمة الربا في الذهب والفضة سواء كان مسكوكاً أو غيره ففي صحيحة الوليد بن صبيح قال سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة الفضل بينهما هو الربا المنكر)(1)

وصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر أنه قال: (في الورق بالورق وزناً بوزن والذهب وزناً بوزن)(2).

ولذا نهي عن البيع بالتفاضل بين وزنين من جنس واحد مما فيه الربا ففي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وفيها (فبعثنا بالغلة -وهي الدراهم غير النقية- فصرفوا ألفاً وخمسين منها بألف من الدمشقية والبصرية، فقال: لا خير في هذا، أفلا يجعلون فيها ذهباً لمكان زيادتها)(3)

ومفهوم رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سألته عن الدراهم بالدراهم وعن فضل ما بينهما؟ فقال: إذا كان بينهما نحاس أو ذهب فلا بأس) ((4).

لكن الحكم قد يختلف عما عليه في باب آخر بحسب الدليل فالقياس باطل، ففي الزكاة مثلاً ورد التفريق بوضوح بين المسكوك وغيره كصحيحة علي بن يقطين عن أبي إبراهيم وفيه قوله (علیه السلام): (وكل ما لم يكن ركازاً فليس عليك فيه شيء، قال: قلت: وما الركاز؟ قال: الصامت المنقوش،ثم قال: إذا أردت ذلك فاسبكه فإنه ليس في سبائك الذهاب ونقار الفضة شيء من الزكاة)((5)، ورواية جميل بن دراج عن أبي عبد الله وأبي الحسن (علیهما السلام)

ص: 300


1- وسائل الشيعة: 18/166، أبواب الصرف، باب 1، ح 2.
2- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح 3.
3- و (4) وسائل الشيعة: 18/178، الباب السابق، ح1، 7.
4-
5- (5) وسائل الشيعة: 9/154، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 1، ح1.

أنهما قالا: (ليس في التبر زكاة، إنما هي على الدنانير والدراهم)(1)،

ومعتبرة علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى (علیه السلام) قال: (لا تجب الزكاة في ما سُبك فراراً به من الزكاة، ألا ترى أن المنفعة قد ذهبت، فلذلك لا تجب الزكاة)(2).

إذن يشترط في الدية أن تكون من الذهب والفضة مضروبين بسكة المعاملة ولم يتم دليل على كفاية وزنهما، وقد صرّح المشهور بهذا الشرط وأضاف السيد الخميني (قدس سرّه): «ولا يكفي ألف مثقال ذهب أو عشرة آلاف مثقال فضة غير مسكوكين»(3).

فما عليه مشهور الفقهاء المعاصرين من أدائها بالوزن لا دليل عليه ومخالف لمبانيهم، والفرق في القيمة بين الدرهم المسكوك ووزنه من الفضة غير المسكوكة بما لا يسقطه العرف والعقلاء.

نعم ربما يقال بكفاية أداء الوزن من الذهب الخالص باعتبار أن خلوصه من المعادن المضافة عند السك يعادل الزيادة في قيمة العملة بعد سكها كما قرّبنا سابقاً.

ويكون الجواز أوضح على القول بإجزاء دفع القيمة في الذهب.

المسألة الثامنة: الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص.

عندما يكون لدينا عموم شامل لكل الافراد ، ثم يأتي خاص ليخرج بعضا منها ، ونشكفي خروج البعض الاخر يجب ان نتمسك بحكم العام في كل فرد شككنا في دخوله تحت الخاص.

ص: 301


1- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح5.
2- وسائل الشيعة: 9/160، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 11، ح3.
3- تحرير الوسيلة: 2/505، المسألة (3).

جاء هذا المطلب في عدة مواضع من فقه الخلاف ، ومنها:

1- ما ذكر في الجزء الأول (صفحة 71) في مسالة تحديد سن البلوغ وعلاماته ، اذ قال (دامت بركاته):

لقد عرفنا كيفية الجمع بين الروايات بحسب دلالة الروايات أنفسها ولكن لو تنزلنا وافترضنا استقرار التعارض بين القولين فإنه يحصل الشك في جريان التكاليف والأحكام فيما بين الحدين وحينئذٍ ننظر في مقتضى العمومات الفوقانية - إن وجدت- وإلا فنعمل بمقتضى الأصول العملية.

والعمومات الفوقانية مختلفة بحسب الأحكام ففي العبادات يلزم الصبي بها عند الشك لعموم (أَقِيمُوا الصَلاةَ) و (كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِيَامُ) ونحوها، خرج منها المتيقن عدم بلوغه بحديث الرفع ونحوه ويبقى غيره مشمولاً بعموم الخطاب، لجريان العام في الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص.

2- ما جاء في الجزء الثاني (صفحة 335) في مسالة شرط الفرسخين في وجوب صلاة الجمعة ، اذ قال (دامت بركاته):

ولو شككنا في الحكم الخاص بالمسألة لسبب أو آخر من الإشكالات المتقدمة فنتمسك بالعمومات والإطلاقات الجارية في المقام، وهي تقتضي وجوب حضور أبناء المدينة الواحدة في صلاة الجمعة إذا زادت مسافتهم على الفرسخين تمسكاً بعمومات الآية الشريفة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ) (الجمعة:9) والروايات الكثيرة المعتبرة الدالة على وجوب الحضور التي ذكرناها في مسألة الوجوب التعييني لإقامة صلاة الجمعة والحضور فيها.

ووجهه أن الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص يبقى تحت العام،والخاص هنا سقوط الوجوب عمن كان على رأس فرسخين، بعد أن شككنا

ص: 302

في إطلاقه وشموله لمن كان على هذه المسافة من سكان نفس المدينة.

3- ما جاء في الجزء الحادي عشر (صفحة 274) في مسالة ارث الزوجة من العقار ، اذ قال (دامت بركاته):

الاقتصار في تخصيص العمومات القطعية على القدر المتيقن المجمع عليه والمصرَّح به في النصوص للكبرى المعروفة في علم الأصول وما زاد عن الرباع غير مجمعٍ عليه ولا تدل عليه النصوص بنحو معتبر لما ذكرناه من رجوع الروايات إلى بعضها، قال الشيخ العلامة (قدس سرّه): «قول شيخنا المفيد (رحمه الله) جيد لما فيه من تقليل التخصيص، فإن القرآن دال على التوريث مطلقاً، فالتخصيص مخالف، وكلما قلّ كان أولى»(1).

المسألة التاسعة: خروج الافراد الدال على عدم العموم.

من المعروف في علم الأصول انه اذا كان لدينا عموم او اطلاق ثم جاء دليل شرعي فاخرج بعض أفراد ذلك العام ، او قيد اطلاق المطلق ، فان ذلك يعرف بالتخصيص او التقييد.

ولكن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) أشار في الجزء الثاني عشر في (هامش الصفحة 264) الى مطلب اصولي مهم أراد تاسيسه ، وهو: ان خروج بعض الافراد من العام قد يكشف عن عدم تمامية العموم من الأصل ، ونص كلامه:

هنا نؤسس لمطلب أصولي: وهو أن خروج بعض الموارد من تحت عام أو مطلق قد لا يعبِّر عن مجرد تخصيص أو تقييد فيهما وإنما يكون كاشفاً عن أن العموم والإطلاق غير تام في نفسه والخارج عنهما لا يقتصر على المذكورات أي أن نكتة الخروج ثبوتية يمكن أن تعمِّم الخارج لا إثباتية

ص: 303


1- مختلف الشيعة: 9/54.

بالدليل الخاص مقتصرة على المذكورات فيُنظر في الأدلةلاكتشاف النكتة الثبوتية.

ويتفرع على هذا المطلب أن ما أسسناه في علم الأصول من دخول الفرد المشكوك تحت العام إذا لم يتيقن دخوله تحت الخاص صحيح إلا أن يكشف الخاص عن ضيق دائرة العام.

المسألة العاشرة: التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

جاء في الجزء السادس (صفحة 241 – 242) في مسالة حكم العقد المنقطع على الباكر دون اذن وليها بيان من سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) للرد على تطبيق لقاعدة عدم حجية العام في الشبهة المصداقية ، وهو:

الروايات الخاصة بالمقام وقال عنها السيد الخوئي(1)

«إلا أن هذه النصوص لا تخلو أجمعها من الضعف في الدلالة أو السند» والتحقيق في دعواه يتطلب النظر فيها تفصيلاً:

فمنها: صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر (علیه السلام) (قال: المرأة التي قد ملكت نفسها غير السفيهة ولا المولى عليها تزويجها بغير ولي جائز)(2)

والولي المنفي عنها هو الولي عن غير النكاح وإلا أصبحت قضية بشرط المحمول وهي لا معنى لها إذ سيصبح معناها أن من لا ولاية عليها في النكاح فنكاحها بلا إذن الولي جائز، أما ما فهمناه فيجعل القيد بياناً شارحاً لمعنى ملكت نفسها.

قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «إلا أن المناقشة في الاستدلال بهذه الصحيحة

ص: 304


1- مباني العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي): 33/210
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب3، ح1.

تكاد أن تكون واضحة فإن الموضوع فيها هي الجارية وهي أعم من البكر والثيب ومن هنا فلا تكون هذه الصحيحة صريحة فيالمدّعى ومن النصوص الخاصة في المقام وإنما هي مطلقة فيكون حالها حال الآيات والنصوص المتقدمة لا تصلح لمعارضة ما دلّ على اعتبار إذن الولي – لو تمت دلالة وسنداً»(1).

وفيه: إنه لا ذكر للجارية فيها بل إن الموضوع المذكور فيها المرأة فلعله من سهو القلم وهي أيضاً كما قال أعم من البكر والثيب وهذا العموم لمصلحة المستدل لا ضده كما يوحي كلامه (قدس سرّه) وبالعموم والشمول للبكر يستدل صاحب هذا القول فكان الأولى به (قدس سرّه) أن يصفها بأنها مجملة إذ قد يراد بالمرأة التي ملكت نفسها الثيّب. وعلى أي حال فإنها قابلة للتخصيص بما دلّ على اشتراط الإذن لو تم وربما كان يشير (قدس سرّه) إليه بقوله إنها لا تصلح للمعارضة.

لكن الظاهر من الرواية أن علة سقوط ولاية الأب كونها مالكة لأمرها بلا فرق بين كونها بكراً أو ثيباً فبعموم التعليل يستدل على استقلال البنت المتصفة بهذه الصفة لا بعموم المرأة حتى تكون قابلة للتخصيص وهذه نكتة يجب الالتفات إليها.

وتضاف هنا نكتة أخرى وهي أن هذه الطائفة من الروايات ورد فيها التعبير ب(المرأة) وهي الكبيرة الناضجة الرشيدة مقابل الرجل، أما البنت الصغيرة حديثة العهد بالبلوغ فأطلقت عليها الروايات في الطائفة الأولى (الجارية) وهي مقابل الغلام فهذا التنوع يشير إلى العلة التي ذكرناها والتفريق بلحاظ رشد المرأة ونضجها.

ص: 305


1- مباني العروة الوثقى: 2/259

فإن قلت: إن هذه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وهو ممنوع، بيانه: أن الموضوع هنا مركب من جزئين المرأة المالكة أمرها وأخذ عموم المرأة للبكر والثيب جزءاً للموضوع ليثبت الحكم وهو استقلالها بالولاية خصص بروايات اشتراط إذن الأب فخرجت البكر منالموضوع فلا يجوز التمسك بالعام فيها ويعود الموضوع إلى الثيِّب المالكة نفسها ويكون القيد توضيحياً لا احترازياً.

قلت: إن الذي أوجب التخصيص هي المعارضة بين عموم المرأة واشتراط إذن ولي الأمر وسيأتي بإذن الله تعالى أن هذه المعارضة لا واقع لها لأن موضوع الحكم الأول (هو استقلال المرأة) غير موضوع الحكم الثاني (وهو اشتراط إذن ولي الأمر) فإذا ارتفع المانع من التمسك بعموم المرأة تنقح موضوع حكم العام وهو استقلالها بالتصرف وجاز التمسك به.

وبتعبير آخر: إن الموضوع هنا واحد وهي (المرأة المالكة نفسها) وتصلح أن تخصّص روايات اشتراط إذن الولي خصوصاً مع ضميمة القرائن التي أقمناها على أن مفاد روايات الاشتراط أخصّ من المدّعى. مع أن الأصل في القيود أنها احترازية.

المسألة الحادية عشرة: المخصص المجمل مفهوما.

ان المخصص من حيث المفهوم قد يكون مبينا وقد يكون مجملا ، فاذا كان مبينا عرفنا بالتحديد المعنى الذي خرج من العام كما لو عرفنا ان مفهوم الفاسق هو خصوص مرتكب الكبيرة فَلَو اُمرنا بإكرام العالم الا الفاسق سنعرف ان المتبقي تحت العام هو كل عالم لم يرتكب الكبيرة.

ولكن البحث فيما لو كان المخصص مجملا ودار الإجمال فيه بين الأقل والأكثر كما لو دار مفهوم الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة او مرتكب

ص: 306

الذنب مطلقا.

فالأقل وهو القدر المتيقن سيخرج من العام بلا اشكال ، ولكن الأكثر سيدور أمره بين الخروج من العام او بقاء العام حجة فيه ، وقد ذهب سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) الى ان العام يبقى حجة فيه.

وقد ذكر ذلك في الجزء السابع (صفحة 327) في مسالة حكم الصلاة في عرفة لمن أقامفي مكة ، ونص ما قاله هو:

إن لدينا هنا عاماً هو وجوب التقصير على المسافر، وقد ورد عليه مخصص وهو المقيم فإنه يتم، لكن هذا المخصص كان مجملاً مفهوماً في الأزيد من القدر المتيقن وهو الخروج غير المنافي لصدق الإقامة، والمختار في علم الأصول الاقتصار من هذا الخاص على القدر المتيقن، وشمول العام للأزيد المشكوك من الخاص إذا كان على نحو الشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل والأكثر.

وحينئذٍ لا مجال لاستصحاب الخاص وفق ما قربوه في تنبيهات الاستصحاب(1)؛ لصدق موضوع العام وهو المسافر عرفاً، خصوصاً على مختارنا من التفصيل في حجية الاستصحاب بين الشك في الرافع فيجري وبين الشك في المقتضي فلا يجري، وهنا الشك في المقتضي أي كون الإقامة التي خرج منها إلى ما ينافيها فيها اقتضاء استمرارية التمام.

المسألة الثانية عشرة: المورد لا يخصص الوارد.

في كثير من الحالات يشرع الحكم في مورد معين او في مناسبة معينة ، كما

ص: 307


1- راجع التنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب في فرائد الأصول للشيخ الأنصاري (قدس سرّه) وقد قرّب جريان الاستصحاب السيد الحكيم (قدس سرّه) –كما سنذكر- تبعاً لأستاذه النائيني (قدس سرّه) فيما حكي عن تقريراته للخونساري في منية الطالب: 3/171.

هو الحال في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) الحجرات / 8 الذي نزل في واقعة معروفة.

وقد اتفق الأصوليون على ان المورد لا يخصص الوارد ، ومن هنا قالوا بعدم حجية خبر الفاسق مطلقا.

ومن تطبيقات هذه المسالة ما ذكره سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزءالسادس (صفحة 58) في مسالة وجوب الخمس في الميراث ، حيث قال:

وأشكل على الاستدلال بالآية بأن لفظ (الغنيمة) خاص بغنائم الحرب كما تشهد استعمالاته في القرآن الكريم فينصرف إليه اللفظ في هذه الآية خصوصاً وأنها واردة ضمن مجموعة آيات تتناول معركة بدر فيُظنّ أن المراد بالغنيمة ما يؤخذ بالحرب إلا أن هذا الظن غير صحيح لعدة وجوه:

1- القاعدة المعروفة أن (المورد لا يخصّص الوارد) ولو خُصّصت كل آية بمورد نزولها لخرج القرآن عن كونه كتاباً خالداً يأخذ بأيدي البشر نحو الكمال حتى قيام يوم الدين، فمثلاً لا يكتفى بتخصيص الآية بغنائم الحرب بل بغنائم معركة بدر خاصة.

المسألة الثالثة عشرة: التطبيق لا يخصص العموم.

في كثير من الحالات يطبّق الائمة (علیهم السلام) حكما من الاحكام على مصداق معين، فبحث علماء الأصول في ان تطبيق الحكم على المصداق يجعله خاصا بذلك المصداق ام ان التطبيق لا يخصص ؟

وقد ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء السادس من نفس المسألة السابقة (صفحة 59) ان التطبيق على مصداق معين لا يصلح

ص: 308

للتخصيص ، اذ قال:

إن غاية ما تدل عليه كلمات المستشكل هو أن النبي (صلی الله علیه و آله) طبق الآية في مرحلة التنفيذ والإجراء على خصوص غنائم الحرب وهي لا شك من مصاديق الغنيمة، لكن هذا لا يقيد إطلاقها ويمنع شمولها للمصاديق الأخرى إذ قد يجد ولي الأمر مصلحة في تنفيذ القانون على بعض المصاديق وتأجيله في المصاديق الأخرى.

المسألة الرابعة عشرة: تخصيص الكتاب بالسنة.

اثار البعض إشكالية في مسالة تخصيص الكتاب بالسنة باعتبار ان الكتاب قطعي الصدور فكيف يخصص بما هو ظني الصدور ؟

الا ان علماء المسلمين قد اتفقوا على إمكانية تخصيص الكتاب بالسنة ، ومن كلمات شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في هذا المقام ما جاء في الجزء الحادي عشر (صفحة 204 – 205) في مسالة ارث الزوجة من العقار ، اذ يقول:

أقول: يحصل من مجموع هذه الروايات القطع بصدور حكم عن المعصومين (علیهم السلام) بحرمان الزوجة من الأرض في الجملة حتى وإن لم نقل بتواترها عدداً باعتبار تداخل جملة منها مع بعضها وربما سنبيّن ذلك لاحقاً.

وبحسب القواعد فإن هذا الحكم مخصّص لعمومات وإطلاقات الكتاب لأنه أخص منها موضوعاً، وهذه الكبرى –أي تخصيص الكتاب بالسنة- متفق عليها لدى علماء الإسلام وقد وقع تخصيص آيات الكتاب بالسنة في موارد كثيرة يسلّم بها الفريقان، وأذكر مثالاً واحداً لتثبيت الفكرة كتخصيص قوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ» (النساء:11)، وقوله تعالى: «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ» (النساء:7) بما ورد عن النبي

ص: 309

(صلی الله علیه و آله) من انه (لا يرث القاتل) و(لا يتوارث أهل ملتين)، واما مخالفة علماء العامة للإمامية في المسألة محل البحث فليس للخلاف في هذه الكبرى بل لأنهم حرموا أنفسهم من الأخذ عن معين أهل البيت (علیهم السلام) الصافي، وهذا الحكم لم يرو إلا عنهم (علیهم السلام).

إذن لا مانع كبروياً من تقييد إطلاقات استحقاق الزوجة من كل ما ترك زوجها بهذه الروايات الآنفة، وبتعبير آخر: إن من لم يقل بهذا الحكم الخاص، ولم يعمل بهذه الروايات فليس إشكاله كبروياً.

ص: 310

رابعًا: المفاهيم
اشارة

يعد مبحث المفاهيم واحداً من اهم مباحث الدليل اللفظي في علم الأصول ، خاصة انه ينتج معلومة إضافية فيمكننا ان نستفيد من المدلول الالتزامي للدليل فضلا عن مدلولها المطابقي.

وسنتناول هنا المهم مما ذكر في فقه الخلاف حول تطبيقات المفاهيم ضمن مسائل سبعة ، وهي:

المسألة الأولى: دلالة تقدم الجزاء على الشرط.

المسألة الثانية: الشرط المسوق لتحقق الموضوع.

المسألة الثالثة: (اما) التفصيلية بقوة الشرطية.

المسألة الرابعة: حجية مفهوم الغاية.

المسألة الخامسة: مفهوم الوصف.

المسألة السادسة: استفادة المفهوم من القرينة

المسألة السابعة: الفرق بين الوصف واللقب.

المسألة الأولى: دلالة تقدم الجزاء على الشرط.

من الجمل التي شغلت البحث الأصولي في مبحث المفاهيم جملة الشرط ، فقال المشهور بثبوت المفهوم للجملة الشرطية ، بمعنى انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط.

ويسلط سماحة الشخ الأستاذ (دامت بركاته) الضوء على نقطة مهمة جدا في هذا الموضوع ، فبيّن ان مفهوم الجملة الشرطية يكون اظهر وأوضح فيما لو تقدم الجزاء على الشرط كما لو قلنا: اكرم أخاك اذا زارك.

وقد جاء هذا الكلام في الجزء الأول (صفحة 299) في مسالة طهارة غير المسلمين ، ونص كلام سماحته هناك هو:

ص: 311

صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السلام) قال: (سألته عن آنية أهل الكتاب، فقال: لا تأكل في آنيتهم إذا كانوا يأكلون فيه الميتة والدم ولحم الخنزير)(1).

بتقريب: أن مفهوم كلام الإمام (علیه السلام) جواز الأكل في آنيتهم إذا اجتنبوا هذه النجاسات مع مساورتهم إياها بالرطوبات فهم طاهرون ذاتاً.

وناقش فيها السيد الحكيم (قدس سرّه): «بأن الشرطية فيه ليست لها مفهوم» (2).

أقول: لا نعلم وجهاً لنفي المفهوم في هذه الجملة التي هي أوضح الجمل في تحقق المفهوم لتقدم الجزاء على الشرط، إلا أن يقال أن الوجه في عدم المفهوم عدم كون العلة لاجتناب الأكل من آنيتهم وهي النجاسة العرضية بأكل الميتة والدم غير منحصرة لاحتمال أن العلة هي النجاسة الذاتية لأهل الكتاب، لكن هذا مردود لأن فيه مصادرة على المطلوب، وقيل أن الوجه كون الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع فلا مفهوم لها، وهو مردود أيضاً لأن الموضوع –وهو الآنية- ثابت حتى مع انتفاء الشرط وهو عدم أكل النجاسات المذكورة فيها.

المسألة الثانية: الشرط المسوق لتحقق الموضوع.

ذهب مشهور علماء الأصول الى ان المفهوم لا ينعقد للجملة الشرطية فيما لو كان الشرط مسوقًا لتحقق الموضوع ؛ لان نتيجة ذلك هو انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه لا لانتفاء شرطه.

ص: 312


1- وسائل الشيعة: كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرمة، باب 54، ح6.
2- مستمسك العروة الوثقى: 1/373.

وفي مجال تطبيق هذه المسالة تزل اقدام الكثيرين ، فاننا غالبا ما نجد اعتراضا على الاستدلال بمفهوم الشرطية باعتبار ان الشرط فيها مسوق لتحقق الموضوع.ومن التطبيقات المهمة لهذه المسالة ما جاء في الجزء الثاني (صفحة 239) في مسالة الوجوب التعييني لصلاة الجمعة ، ونص كلام سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) هناك هو:

فالآية (1) تعتبر صلاة الجمعة مفروضة الانعقاد والإقامة بدعوة الإمام أو نائبه الفقيه الجامع للشرائط إليها وإنما نزلت الآية لبيان الحكم بوجوب الحضور فيها وحرمة البيع وقت النداء لصلاة الجمعة وهي أحكام فرعية لاحقة للحكم بأصل الوجوب فهو تعبير حسن عن وجوب الفعل بوجوب مقدماته، وإذا كان للآية دلالة على وجوب إقامة صلاة الجمعة فبهذا التقريب، ولا يتم التقريب الذي ذكره صاحب الحدائق بقوله: «فالمستفاد من الآية المذكورة الأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة لكل واحد من المؤمنين متى تحقق الأذان لها أو دخول وقته، وحيث أن الأصل عدم التقييد بشرط يلزم عموم الوجوب بالنسبة إلى زمان الغيبة والحضور»(2)،

ولا نفهم حينئذٍ من (إذا) الشرطية التي تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الموضوع وإنما هي جملة شرطية سيقت لبيان تحقق الموضوع ومعناها «إذا حلّ زوال يوم الجمعة فيجب السعي إلى صلاة الجمعة ويحرم البيع» ولا يشك العرف في وجوب إقامتها إذا أمر الشارع بالسعي إليها.

ص: 313


1- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الجمعة / 9.
2- الحدائق الناضرة: 9/399.

ولكن السيد الخوئي (قدس سرّه) قال(1):

إن الآية لا دلالة لها على الوجوب التعييني بوجه وذلك لوجهين:

«الأول: إنها قضية شرطية وقد علّق فيها وجوب السعي إلى الصلاة على النداء إليها فقال عزّ من قائل إذا نودي للصلاة...... ومعنى ذلك أنهمتى ما تحققت إقامة الجمعة في الخارج في نفسها ونودي إليها وجب السعي نحوها وأما أنَّ النداء إليها وإقامتها واجبان مطلقاً على كل مكلف -كما هو المدعى- فلا يستفاد منها أبداً، بل مقتضى المفهوم المستفاد من الجملة الشرطية عدم وجوب صلاة الجمعة إذا لم يناد إليها ولم يتحقق إقامتها»، والإشكال قديم أورده الشهيد الثاني (قدس سرّه) في رسالته عن صلاة الجمعة(2).

ويرد عليه:

1- قوله إن الآية لا تدل على وجوب إقامة صلاة الجمعة بوجه وقد مرّ تقريبه وقلنا إنه أأكد في الدلالة على الوجوب وأحسن في التعبير.

1- إن الآية وإن كانت بصورة الجملة الشرطية إلا أنها لا تفيد التعليق أي تعليق الجزاء على الشرط وإنما هي مسوقة لبيان تحقق الموضوع وهو النداء نظير قولنا (إذا رُزقت ولداً فاختنه)؛ وعلى هذا فلا يستفاد من الآية شرطية النداء لوجوب صلاة الجمعة.

2- لما كانت الجملة مسوقة لبيان تحقق الموضوع فلا يكون لها مفهوم حتى تدل على عدم الوجوب عند عدم النداء.

إن قلتَ: إن من لوازم كون الجملة الشرطية مسوقة لبيان الموضوع كون المفهوم مما لا معنى له وهنا يصحّ المفهوم إذ يقال «إذا لم ينادَ لصلاة

ص: 314


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى، ج11 من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سرّه)، تقريرات الميرزا علي الغروي لأبحاث السيد الخوئي، كتاب الصلاة: 17.
2- الحدائق الناضرة: 9/401.

الجمعة فلا تسعوا».

قلتُ: إن صحة هذا المفهوم ناشئ من ملاحظة الدلالة المطابقية للآية وعدم الالتفات إلى المعنى الحقيقي المكنّى عنه حيث قلنا أن المراد بالنداء دخول الوقت وحينئذٍ لا يصحّ المفهوم الذي هو «إذا لم يدخل الوقت فلا تسعوا إلى صلاة الجمعة» لأنه لا معنى له.

المسألة الثالثة: (اما) التفصيلية بقوة الشرطية.

من اركان الجملة الشرطية أداة الشرط ، وأدوات الشرط معروفة عندنا ، الا ان سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) بيّن ان (اما) التفصيلية وان لم تكن من أدوات الشرط الا انها بقوة الشرطية فتفيد حصر الحكم بالموضوع.

جاء هذا الكلام في الجزء الخامس (صفحة 459) في مسالة الزكاة في أموال الصغير ، اذ قال سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته):

إن قوله (علیه السلام): (فأما الغلات فعليها الصدقة واجبة) ظاهر في حصر الوجوب بها؛ لأن (أما) تفصيلية، وهي - عند أهل اللغة- بقوة الشرطية فيكون لها مفهوم، ولازمه نفي الوجوب عما سواها.

المسألة الرابعة: حجية مفهوم الغاية.

من الجمل التي اختلف الأصوليون في حجية مفهومها جملة الغاية ، والظاهر من كلام الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) انه يذهب الى حجية مفهوم الغاية ، فقد جاء في الجزء السادس (صفحة 145) في مسالة من يتزوج امرأة طلقت طلاقا غير صحيح:

منها: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل تزوّج امرأة ولها زوج وهو لا يعلم فطلّقها الأول أو مات عنها ثم علم

ص: 315

الأخير أيراجعها؟ قال: لا، حتى تنقضي عدتها)(1)

وتستفاد الحلية من مفهوم الغاية الذي حاصله جواز المراجعة بعد انقضاء عدتها.

واكد (دامت بركاته) قوله بحجية مفهوم الغاية في موضع اخر من الجزء السادس (صفحة 145) ، جاء فيه:

ومنها: صحيحة عبد الرحمن قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجلتزوج امرأة ثم استبان له بعد ما دخل بها انَّ لها زوجاً غائباً فتركها ثم ان الزوج قدم فطلّقها أو مات عنها أيتزوجها بعد هذا الذي كان تزوجها ولم يعلم انَّ لها زوجاً؟ قال: ما احبُّ له ان يتزوجها حتى تنكح زوجاً غيره)(2)

وهي -لو تمت دلالتها على المطلوب- تنتج حلية الزواج للجاهل حتى مع الدخول وقد استفيدت هذه الدلالة من قرينتين:

1- قوله (علیه السلام) (ما أحب) الظاهرة في الكراهة وليس الحرمة.

2- مفهوم الغاية فانه يدل على ارتفاع المنع بعد ان تتزوج غيره.

وعندما ناقش (دامت بركاته) الاستدلال بهذه الصحيحة (صفحة 147) لم يناقش في كبرى ثبوت المفهوم لجملة الغاية ، وانما قال ان هذه الجملة لا يثبت لها المفهوم لقرينة داخلية فيها ، ونص المناقشة هو:

وأما صحيحة عبد الرحمن الأخرى فلوجوه:

1- ان كلمة (لا أحب) تتعلق بالحرام كما تتعلق بالمكروه فلا تعيّن لها في الثاني حتى تستفاد الحلّية ككلمة (أكره) غير الخاصة بالكراهة بمعنى المرجوحية الخاصة وإنما تأتي بمعنى التحريم والمنع.

2- إن ما استفاده المستدل على الحلّية من مفهوم الغاية لا يمكن الأخذ به لعدم احتمال ان التزويج بالغير له مدخلية في حلّيتها له نظير المطلّقة

ص: 316


1- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 16، ح3.
2- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 16، ح4.

ثلاثاً التي تحل لزوجها الأول بعد ان تنكح زوجاً آخر فقوله (علیه السلام) (حتى تنكح زوجاً غيره) لا يفيد الغاية وإنما يعني ان هذا الرجل عليه ان يبتعد عن هذه المرأة ويعطيها الفرصة لتنكح أي رجل آخر غيره ممن يحلّ عليها.

وطبعاً، فان المستدل لا يريد من قوله (علیه السلام) (حتى تنكح زوجاً غيره) أي أنها تحلّ لهذا الزوج الداخل بها جهلاً إذا ضمّت له زوجاً غيره فان هذا لا يمكن احتماله فضلاً عن البناء عليه حتى يرد عليه السيد الخوئي (قدس سرّه)بقوله(1)«إذ كيف يمكن ان يكون تزوجها من الغير مجوزاً لتزوجها منه بل ذلك إنما يوجب عظم حالها وشدة أمرها به حيث تصبح به ذات بعل إذ لم يذكر فيها كون تزوجه منها ثانياً بعد طلاق الزوج الجديد لها وانقضاء عدتها منه» فهذا مما لا يحتاج إلى بيان، نظير ما لو مثّلنا في المطلّقة ثلاثاً فان الشرط (حتى تنكح زوجا غيره) يفهم منه ثم يطلّقها هذا المحلل أو يموت عنها.

وجاء في الجزء العاشر (صفحة 19) في مسالة حرمة التصوير التصريح من سماحته بثبوت المفهوم لجملة الغاية ، اذ قال (دامت بركاته):

«لأن (ما) هنا (2)

ليست شرطية وإنما هي موصولة أو ظرفية، وعلى كلا التقديرين، يكون المفهوم من قبيل مفهوم الوصف. لأنه ليس مفهوم الشرط ولا مفهوم الغاية، ولا غيرهما طبعاً، ومفهوم الوصف ليس بحجة» وأجاب (قدس سرّه) ب«أن الإنصاف أنه من الواضح أن الإمام (علیه السلام) بصدد المنع من تصوير الحيوان، مضافاً إلى بيان جواز غيره، فيكون ظهورها هذا حجة»(3).

ص: 317


1- مباني العروة الوثقى: 1/234.
2- يقصد بها ما جاء في خبر تحف العقول (وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثال الروحاني)
3- ما وراء الفقه: 3/139.

أقول: أصل الإشكال غير وارد لأن (ما) إما ظرفية أو استثنائية وعلى التقديرين فهي غائية لها مفهوم.

المسألة الخامسة: مفهوم الوصف.

بحث علماء الأصول في مفهوم الوصف ، وذهب المشهور الى ان الجملة الوصفية لا مفهوم لها ، بمعنى انها لا تنفي الحكم عن غير الموصوف ، وغاية ما تثبته ان الحكم لا يثبت للطبيعي بما هو.وهذا ما ذهب اليه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) أيضا ، وجاء هذا المعنى في الجزء الثاني (صفحة 198) في مسالة احكام صلاة من عمله السفر ، ونص الكلام:

إلا أن الطائفة الثالثة (1)

اعتبرت عنوان الاختلاف المتقوم بالتكرّر مع البناء على الاستمرار على ذلك كما هو واضح.

وفي ضوء هذا قد يفكر البعض بإضافة قيد آخر وهو تكرار السفرة لصدق عنوان أن عمله السفر المتقوم بالاختلاف والتردد، وقد نقل السيد الخوئي (قدس سرّه) عن الشهيد الثاني احتماله التكرار إلى ثلاث سفرات فلا يتم قبلها كما لا يقصّر بعدها، وعن العلامة في المختلف اختياره اعتبار السفرتين(2).

ولكن هذا غير صحيح لوجهين:

أولهما: ابتناؤه على أن يكون للوصف -وهو التقييد بالاختلاف- مفهوم والصحيح عدمه فلا يدلُّ على أنّ غير هذا المورد غير محكوم بهذا الحكم ليتنافى مع ما سبق.

ص: 318


1- راجع موسوعة فقه الخلاف 2/ 193.
2- مستند العروة الوثقى: 8/166.

وقد ذكر السيد الخوئي (قدس سرّه) هنا فائدة أصولية يحسن ذكرها، قال (قدس سرّه) «نعم ذكرنا في الأصول أن له مفهوما بمعنى آخر وهو الدلالة على عدم تعلق الحكم بالطبيعي على إطلاقه وسريانه وإلا لأصبح التقييد بالوصف لغواً محضاً، وأما أن الحكم خاص بهذا المورد ومنفي عما عداه -كما هو معنى المفهوم اصطلاحاً- فكلاّ، فغايته أن طبيعي المكاري غير محكوم بالتمام لا انه خاص بمن يختلف، ومن الجائز ثبوته لغير هذا الفرد كمن كان شغله السفر وان لم يختلف، فلا معارضة بين الطائفتين بوجه»(1).

وجاء تأكيد هذا المطلب في الجزء السادس (صفحة 106 – 107) في مسالة وجوب الخمس في الميراث ، اذ قال (دامت بركاته):قال السيد الحكيم (قدس سرّه): «المذكور في صحيح ابن مهزيار (2):

التفصيل بين الذي لا يحتسب وغيره، ولأجله فصّل في المتن (أي العروة الوثقى) بين المحتسب فجزم بعدم الخمس فيه اعتماداً على مفهوم الوصف، وغيره فتوقف فيه، إذ لا شبهة في عدم صدق التكسب فيه، وبذلك افترق عن الهبة»(3).

ص: 319


1- مستند العروة الوثقى: 8/168.
2- يريد بها المكاتبة التي جاء فيها: (… والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن، ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله، ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب، وما صار إلى مواليّ من أموال الخرمية الفسقة، فقد علمت أن أموالاً عظاماً صارت إلى قوم من مواليّ، فمن كان عنده شيء من ذلك فليوصل إلى وكيلي، ومن كان نائياً بعيد الشقة فليتعمد لإيصاله ولو بعد حين، فإن نية المؤمن خير من عمله. فأما الذي أوجب من الضياع والغلات في كل عام فهو نصف السدس ممن كانت ضيعته تقوم بمؤونته، ومن كانت ضيعته لا تقوم بمؤونته فليس عليه نصف سدس ولا غير ذلك). وسائل الشيعة: 9/ 502-503.
3- مستمسك العروة الوثقى: 9/524.

وقال السيد الخوئي (قدس سرّه): «وأما التفصيل المزبور فلا بأس به، وقد دلّت عليه صريحاً صحيحة علي بن مهزيار»(1).

أقول: إن الصحيحة إنما دلّت صريحاً على وجوبه في غير المحتسب ولا سبيل إلى نفي الوجوب عن الميراث المحتسب إلا على القول بالمفهوم، مع أنه (قدس سرّه) اعترف بأن هذا التقييد في الصحيحة لا يدل على المفهوم عندما تناول الجائزة الخطيرة وقد وردت في نفس السياق، قال (قدس سرّه): «والتقييد بالخطير لا يدلّ على المفهوم بالمعنى المصطلح، بل غايته الدلالة على عدم تعلّق الحكم بالطبيعي الجامع، وإلا لأصبح القيد لغواً»(2).

أقول: ما ذكره (قدس سرّه) وإن كان صحيحاً إلا أنه لا يحقق نتيجة المفهوم لأن القيود وإن كان الأصل فيها الاحترازية وأنها ظاهرة فيها وإلا لزملغوية ذكره، إلا أن وجود القيد يدل على أن موضوع الحكم في القضية هي الحصة المقيدة وليس كل الطبيعي الجامع، ففي المورد يكون (الميراث غير المحتسب) موضوع الحكم بوجوب الخمس لا طبيعي الميراث، ونتيجة ذلك انتفاء هذه الحصة من الحكم بانتفاء القيد من باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه وهو حكم عقلي ليس من مفهوم الوصف بشيء، والانتفاء بهذا المقدار لا يعني انتفاء طبيعي الحكم وهو وجوب الخمس عن الحصة الأخرى من الموضوع وهي غير المقيدة في الجملة إذ يمكن أن يكون الوجوب فيها بدليل آخر وهو موجود في المقام وأعني بها عمومات وجوب الخمس في كل فائدة التي ذكرناها في المطلب الأول فيتعلق الخمس بالميراث المحتسب من جهة كونه فائدة لا من جهة صحيحة علي بن مهزيار.

ص: 320


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/216.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 25/212.

إن قلتَ: على هذا لا يبقى فرق بين الميراث المحتسب وغيره فما فائدة التقييد به.

قلتُ: ليس مهماً أن نعرف الفرق ما دام الحكم في الحصة غير المقيدة قد استفيد من دليل آخر، ومع ذلك فالفرق موجود وهو عد الميراث غير المحتسب من الغنيمة فيكون تعلق الخمس فيه من باب وجوب الخمس في الغنيمة أما المحتسب فمن مطلق الفائدة ووجوب الخمس فيه من باب وجوبه في عموم الفائدة، ولهذه الخصوصية آثار، منها أن دفع خمس الغنيمة فوري ولا تستثنى منه مؤونة السنة بعكس الآخر، ومنها أن مصرف الأول هي العناوين التي ذكرت في الآية الشريفة بينما الثاني كله للإمام على تفصيل تقدم في مسألة سابقة.

المسألة السادسة: استفادة المفهوم من القرينة.

بعد ان بنينا على ان الجملة الوصفية لا مفهوم لها ، نقول هنا ان ذلك لا يعني ان كلجملة وصفية تكون خالية من المفهوم ؛ لانه قد توجد قرينة خاصة تدل على المفهوم ، فيستفاد المفهوم من القرينة الخاصة لا من الوصف.

ومن تطبيقات هذه المسالة ما ذكره (دامت بركاته) في الجزء الخامس (صفحة 454 – 456) في مسالة الزكاة في أموال الصغير عند مناقشة القول بوجوب الزكاة في مواشي الصغير الذي استدل عليه بعدة ادلة منها صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (1)

التي قربت بتقريبين كان اولهما:

مفهوم نفي وجوب الزكاة في الصامت وهو يقتضي وجوبها في الناطق أي الحيوان، لا من جهة مجرد دلالة الجملة الوصفية على المفهوم بل لنكتة

ص: 321


1- التي جاء فيها: (ليس على مال اليتيم في الدين والمال الصامت شيء)

خاصة بالمقام تضم إلى المفهوم دلالة الاقتضاء. وقبل بيانها نقول: إن السيد السيستاني (دام ظله الشريف) قرّب الاستدلال في موضعين من بحثه الشريف، بنى الأول على ما اختاره في علم الأصول تبعاً لأستاذه السيد الخوئي (قدس سرّه) من التفصيل في مفهوم الوصف وحاصله «إن النزاع في دلالة القضية الوصفية على المفهوم إن كان في دلالتها على نفي الحكم الثابت فيها عن غير موضوعها ولو بسبب آخر فقد عرفت أنها لا تدل على ذلك بوجه، بل لا إشعار فيها على ذلك فضلاً عن الدلالة.

وإن كان في دلالتها على نفي هذا الحكم عن طبيعي الموصوف على إطلاقه فقد عرفت أنها تدل على ذلك جزماً حيث لا شبهة في ظهورها فيه إلا فيما قامت قرينة على خلافه.

ومن هنا يظهر الفرق بين الوصف المعتمد على موصوفه، وغير المعتمد عليه كقولنا (أكرم عالماً) مثلاً، فإنه لا يدل على المفهوم بهذا المعنى وإن انحل بحسب مقام اللب والواقع إلى شيء له العلم إلا أنه لا أثر له في مقام الإثبات بعدما كان في هذا المقام شيئاً واحداً لا شيئان: أحدهماموصوف، والآخر صفة له»(1).

وقرّب السيد السيستاني (دام ظله) جريان هذه الكبرى في المقام فقال: «وأما بناءً على ما اخترناه وفاقاً للسيد الأستاذ من وجود المفهوم للوصف والقيد إن كان معتمداً على الموصوف سواء كان سلبياً أو إيجابياً فله دخل في الموصوف، إذ ليس طبيعي الموصوف هو الموضوع بل المقيد، فللصامت دخل في ثبوت الزكاة فيدل على أن طبيعي مال اليتيم ليس منفياً عنه الزكاة بل الموصوف بالصامت، ويكفي في دخالته ثبوت الزكاة في فردٍ

ص: 322


1- محاضرات في أصول الفقه من الموسوعة الكاملة: 46/280.

مما سواه، وقد ثبت في الذيل ثبوتها على الغلات»(1).

أقول: هذا التقريب كما ترى غير كافٍ لثبوت الحكم بالمفهوم للناطق - وهو الحيوان- لأن غايته عدم ثبوت الحكم - وهو نفي الزكاة- لطبيعي الموضوع - وهو المال- وإنما لحصة خاصة وهو المال الصامت، ولا تنفي ثبوت الحكم لغيره بدليل آخر؛ لأن القيد هنا راجع إلى الموضوع لا إلى الحكم، لكنه لا يثبت الحكم لغيره.

لكنه (دام ظله الشريف) ذكر تقريباً للمفهوم في موضع آخر أقرب إلى ما نريد بيانه فقال: «إن المواشي وإن لم تذكر بالصراحة إلا أنها تستفاد من مفهوم الجملة الأولى ومقتضاه أن في الناطق شيئاً من لحاظ القيد خصوصاً من المقابلة بالناطق مع الصامت، أما الجملة الثانية فلا مفهوم فيها، فظهر مما ذكرنا أن هذه الرواية في حد نفسها تعد دليلاً على التفصيل المنقول عن بعض أكابر القدماء»(2)،

ثم بيّن (دام ظله الشريف) مراده من هذه المقابلة.

أقول: بيان الفرق بين التقريبين أن المفهوم هنا يستفاد بضميمة دلالة الاقتضاء وليس من مجرد الجملة الوصفية لنكتة خاصة في المقام وهيالمقابلة بين المال الصامت - وهو النقدين- والمال الناطق - وهو الحيوان- أي أنهما كالقضية مانعة الخلو، فيلزم من نفي الزكاة عن الصامت إثباتها لمقابله وهو الناطق وإلا لزمت اللغوية

وهذه المقابلة بين المالين معهودة لدى أهل اللغة ففي لسان العرب مادة (صمت) «وماله صامت ولا ناطق، الصامت، الذهب والفضة، والناطق:

ص: 323


1- محاضرة بتأريخ 25/ج2/1419 ه.
2- محاضرة بتأريخ 22 ج2/1419 ه.

الحيوان الإبل والغنم، أي ليس له شيء».

مضافاً إلى ما استظهرناه من كون الإمام (علیه السلام) - وهو يوجه كلامه إلى اثنين من أكابر الفقهاء وهما محمد بن مسلم وزرارة- في مقام استيعاب شقوق المسألة، ومن البعيد إهمال الحيوان التي هي من أوسع الثروات انتشاراً لدى الناس يومئذٍ.

المسألة السابعة: الفرق بين الوصف واللقب.

يذهب مشهور علماء الأصول الى ان الفرق بين جملة الوصف وجملة اللقب هو ذكر الموصوف ، ففي جملة الوصف يكون الموصوف مذكورا كما لو قلنا (اكرم العالم العادل) فالموصوف هو العالم وهو مذكور ، اما في جملة اللقب فلا يكون الموصوف مذكورا كما لو قلنا (اكرم العادل) فالعادل وصف لكن الموصوف غير مذكور في هذه الجملة.

الا ان سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) لم يرتضِ بهذا التفريق فقد يستظهر من الجملة كونها وصفية مع ان الموصوف لم يذكر ، وهذا ما أشار اليه في الجزء السادس (صفحة 260 – 261) في مسالة حكم العقد المنقطع على الباكر بدون اذن وليها ، ونص الكلام:

واستدلوا أيضاً بمفهوم ما دلّ على اشتراط الإذن في المنقطع أي الدعوى الثانية في صحيح البزنطي وأبي مريم المتقدمتين آنفاً عن الرضا(علیه السلام) (قال: البكر لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها)(1) وصحيح أبي مريم عن أبي عبد الله (علیه السلام): (قال: العذراء التي لها أب لا تتزوج متعة إلا بإذن أبيها(2) فمفهومهما أن الزواج الدائم لا يشترط فيه إذن أبيها وهو مردود:

ص: 324


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 11، ح5.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 11، ح12.

1- لأنه من الجملة الوصفية وهي لا مفهوم لها.

لا يقال: إنها من الجملة اللقبية.

فإنه يقال: إن منشأ توهمها من اللقبية عدم ذكر الموصوف لكننا لم نرتض هذا المائز بين الجملة الوصفية واللقبية(1) وهو على أي حال تفريق غير مؤثر على مختارنا لأن كلتا الجملتين ليس لها مفهوم.

ص: 325


1- ذكرنا ذلك في شرح الكفاية وهو مقرر عند الطلبة الذين حضروا الدرس خلال الأعوام 1422-1424.
الدليل الشرعي غير اللفظي
اشارة

ان مصادر التشريع هي الكتاب والسنة ، ولا شك في ان الكتاب الكريم يندرج في الدليل الشرعي اللفظي ، اما السنة فهي قول المعصوم وفعله وتقريره.

وقول المعصوم دليل شرعي لفظي أيضا ، اما فعله وتقريره فهما دليلان شرعيان غير لفظيين ، فيبحث هنا في دلالة فعل المعصوم ، وفي سيرة المتشرعة باعتبارها مأخوذة من المعصوم ومتجسدة على شكل سيرة عملية بين المتشرعة من دون ان يصل إلينا دليل لفظي يدل عليها ، وسيرة العقلاء التي يستدل بها بدلالة سكوت المعصوم وإقراره الدال على رضاه بها.

وسنذكر هنا اهم ما جاء في موسوعة فقه الخلاف في ضمن مسائل أربعة:

المسألة الأولى: اتصال السيرة بزمن المعصوم.

المسألة الثانية: قيام سيرة المتشرعة على المرجوح احيانًا.

المسألة الثالثة: شرطية الالتفات للحكم الشرعي في حجية السيرة.

المسألة الرابعة: دلالة فعل المعصوم.

ص: 326

المسألة الأولى: اتصال السيرة بزمن المعصوم.

بما ان حجية سيرة المتشرعة تتقوم بكشفها عن فعل المعصوم ، كما ان حجية السيرة العقلائية تتقوم بتقرير المعصوم لها ، وعدم ردعه عنها ؛ لذا اشترط الجزم بانها كانت موجودة في زمانه (علیه السلام) ، ولا يتم ذلك الا اذا علمنا ان هذه السيرة متلاقاة جيلا بعد جيل الى زمان المعصوم.

جاء هذا الكلام في الجزء الأول صفحة (83 – 85) في مسالة مطهرية الشمس ، اذ قال سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته):

القول بمطهرية الشمس -في الجملة- هو المشهور لدى الفقهاء -كما عن جماعة كثيرة- بل عن الخلاف والسرائر حكاية الإجماع عليه (1)،

وخالف سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر (قدس سرّه) فقال بعدم مطهريتها ونقله عن أستاذه الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سرّه) ويشهد له عدم ذكره الشمس ضمن المطهرات في رسالته العملية (الفتاوى الواضحة).

وذهب إليه شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) فقال «بل لا يبعد عدم مطهرية الشمس مطلقاً»(2).

ودليل المشهور عدة روايات بعد الشهرة المحققة والإجماع المنقول حيث نقل صاحب الجواهر(3) عن أستاذه كاشف الغطاء أنها شهرة كادت تبلغ الإجماع وقال «بل هو معقد مذهب الإمامية في كشف الحق والإجماع في السرائر وموضعين من الخلاف»(4) وقال (قدس سرّه) «وهو الحجة بعد صحيح

ص: 327


1- المستمسك: 2/75.
2- منهاج الصالحين للشيخ الفياض: 1/192.
3- جواهر الكلام: 6/253.
4- احد الموضعين في كتاب الطهارة / المسألة 186 في الجزء الأول ص 218 والآخر في كتاب الصلاة / المسألة 236 في الصفحة 495 من نفس الجزء.

زرارة...» وسرد الروايات في المقام وتستفاد من كلماته (قدس سرّه) المبثوثة في مناقشة الروايات تقريبات أخرى فاستدل-لو لم تتمالروايات:

«بسهولة الملة وسماحتها، بل وبنفي العسر والحرج اللازمين على تقدير عدم الطهارة بالإشراق، بل وبالسيرة من الناس كافة كما في الرياض في جميع الأزمنة على عدم إزالة النجاسة عن مثل الأرض بالماء، وعلى الاكتفاء بالطهارة بالشمس بل وبما قيل من عموم ما دل على طهورية الأرض ومن ان الشمس من شأنها الاسخان الملطف للاجزاء الرطبة والمصعّد لها، مع إحالة الأرض للاجزاء الباقية اليسيرة، فتطهر حينئذ، خصوصاً لو قلنا ان الطهارة النظافة والنزاهة الحاصلتان بمجرد زوال القذارة عن المحل إلى غير ذلك» وقال ان فيها «كفاية عن غيرها»(1).

وهي كلها قابلة للمناقشة:

1- ان الشهرة حتى لو بلغت الإجماع إنما هي مدركية لوضوح استنادها إلى الروايات التي سنتعرض لها إن شاء الله تعالى فلا يكون الإجماع فضلاً عن الشهرة حجة في المقام.

2- ان ما ذكر من نفي العسر والحرج إنما يصلح لبيان الحكمة والمصلحة في التشريع وليس علة للحكم فلا يصلح دليلاً على مستوى العناوين الثانوية -كما هو المفروض عند ذكر هذه العناوين- وهو (قدس سرّه) لا يريد أكيداً حكومة هذه العناوين الثانوية واستناد الحكم إليها وإلا لدار الحكم مدارها وهو لا يلتزم به.

وليس المورد من تطبيقاتها كما اننا لا نعتقد ان في الإلزام بتطهير الأرض بالماء فيه عسر ومشقة.

ص: 328


1- جواهر الكلام: 6/257.

3- ما ذكر (قدس سرّه) من الاسخان والتصعيد والإحالة جارٍ في المتنجسات الأخرى كالبدن والثياب وهو لا يغني عن التطهير بالماء اما الاستحالة التي عُدَّت من المطهرات فإنها خاصة بموارد تبدل الحقيقة والمورد ليس منموارد تطهير الاستحالة.

4- ان ما قال (قدس سرّه) من الاستدلال بالسيرة ونقله عن الرياض غير تام صغرى وكبرى:

اما الصغرى: فلعدم وجود سيرة متشرعية وبناء على الطهارة الا لمن يقول بها فقهياً اما عند غيرهم فربما كان عدم التطهير للاستغناء عن طهارة المكان مثلاً.

واما الكبرى: فلعدم وجود ما يثبت ان السيرة متصلة جيلاً بعد جيل إلى زمان المعصوم لتكون كاشفة عن فعله (علیه السلام).

المسألة الثانية: قيام سيرة المتشرعة على المرجوح احيانًا.

من المعروف ان المتشرعة باعتبارهم متشرعة فانهم يأخذون أحكامهم من الشارع ولذا لا نحتاج في سيرة المتشرعة الى تقرير المعصوم ، فاذا قامت سيرة المتشرعة على وجوب فعل كانت دليلا على الوجوب ، كما انها لو قامت على حرمة فعل كانت دليلا على الحرمة ، ولو قامت على حجية امر كانت دليلا على الحجية ، وهذا مما لا اشكال فيه.

ولكن في باب الوجوب التخييري لا يلزم قيام سيرة المتشرعة على الفرد الأفضل فقد يعمل المتشرعة بالفرد المرجوح ؛ لانه يحقق الامتثال ولا اشكال فيه ، ولذا فان سيرة المتشرعة لا تصلح دليلا على أرجحية احد أمرين جائزين او واجبين.

وقد بيّن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) هذا المطلب في الجزء الثاني

ص: 329

(صفحة 114) في مسالة الاكتفاء ببعض السورة بعد الفاتحة ، اذ قال:

وإذا انتقلوا بالاستدلال إلى سيرة المتشرعة كان أبعد عن الصواب؛ لأن سيرتهم قد تجري على المرجوح كإعراضهم عن إقامة صلاة الجمعة مع أنها أفضل فردي التخيير لو لم يقولوا بالوجوب التعييني.

المسألة الثالثة: شرطية الالتفات للحكم الشرعي في حجية السيرة.

قد تكون هناك سيرة منتشرة بين الناس في الأزمنة المتأخرة ، ولكن هذا لا يعني انها كانت موجودة في زمان الائمة (علیهم السلام) ؛ لان انتشارها في زماننا قد يكون ناتجًا عن الغفلة بالحكم الشرعي ، او توهم الجواز ؛ لملابسة ما.

جاء بيان هذا المطلب في الجزء العاشر (صفحة 53 – 54) في مسالة حرمة التصوير ، اذ قال سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته):

ما استدل به السيد الخوئي (قدس سرّه) من «أن مقتضى السيرة القطعية المستمرة من زمان المعصوم (علیه السلام) جواز التصوير لغير ذوات الأرواح، ولم نرَ ولم نسمع من أنكر جواز تصوير الأشجار والفواكه والجبال والشطوط والحدائق، بل السيرة المذكورة ثابتة في تعلم بعض الأشياء، خصوصاً في بعض العلوم الرياضية حيث يعملون الصور لتسهيل التفهيم»(1)

واستدل بها أيضاً الشيخ المنتظري(2) (دام ظله الشريف).

وفيه:

أ- ننفي وجود مثل هذه السيرة على التصوير إذ هو عمل مختص بالقلة القليلة من الناس، نعم السيرة قائمة على اقتنائها وهم (قدس الله أرواحهم) أنكروا الملازمة بين جواز اقتناء الصور وجواز عملها.

ص: 330


1- مصباح الفقاهة: 35/348.
2- دراسات في المكاسب المحرمة: 2/560.

ب- أنه لم يثبت أن هذه السيرة مقترنة بالالتفات إلى الحكم الشرعي لتكون كاشفة عن الجواز فلعل منشأها الغفلة أو التهاون بالدين، فإننا نرى أيضاً انتشار صناعة المجسمات ذوات الأرواح، وأكثر منه رسم ذوات الأرواح حيث لا يخلو بيت منها دون سؤال عن حكمه مع ذهاب عدد من الأساطين لحرمته من الأزمنة المتأخرة كالشيخ الأنصاري (قدس سرّه) والسيد صاحب العروة (قدس سرّه) والسيد الخوئي (قدس سرّه) وكان ذلك سائداً حتى فيعصر المعصومين (علیهم السلام)، وربما ساعد على هذه الغفلة ما اشتهر عندهم من جواز اقتناء الصور والتماثيل ووجودها في بيوت المتشرعة بضميمة ارتكاز عرفي للملازمة بين حكم الإيجاد والوجود.

المسألة الرابعة: دلالة فعل المعصوم.

اتفق علماء الأصول على دلالة فعل المعصوم على عدم الحرمة ؛ لان المعصوم لا يرتكب الحرام ، واذا ثبت ان الفعل الذي صدر من المعصوم (علیه السلام) تعبدي فكون هذا الفعل واجبا او مستحبا مما يصعب استظهاره ، ولذا فان دلالة فعل المعصوم تكون مجملة من هذه الجهة.

وقد ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) تطبيقا لهذه المسالة في الجزء الثالث (صفحة 65) في مسالة احكام صوم المسافر ، جاء فيه:

إن الرواية (1)

تحكي فعل المعصوم (علیه السلام) وهو مجمل، ولا دليل على أن صوم أبي الحسن (علیه السلام) كان ندباً فلعله فرض عليه بالنذر المشترط بالسفر ونحوه، وليعلم الآخرين أن الصوم يوم عرفة ليس مرجوحاً إذا لم يضعف

ص: 331


1- يقصد بها صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري قال: (سمعت أبا الحسن (علیه السلام) يقول: كان أبي (علیه السلام) يصوم يوم عرفة في اليوم الحار في الموقف ويأمر بظلّ مرتفع فيُضرب له …). وسائل الشيعة: 10/ 203.

عن الدعاء يوم عرفة.

أو إنه كان ثالث ثلاثة بدل الهدي لأنه كان محل إشكال عند البعض كما يظهر من صحيحة رفاعة بن موسى قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن المتمتع لا يجد الهدي، قال: يصوم قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة) إلى أن قال: (قلت: يصوم وهو مسافر؟ قال: نعم، أليس هو يوم عرفة مسافراً؟ إنا أهل بيت نقول ذلك لقول الله عز وجل: «فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ في الحَجِّ»)(1).ولا يضرّ في هذه الاحتمالات التعبير في الرواية بقوله: (كان أبي يصوم) الدالة على الاستمرار لإمكان تكرار الفعل لتأكيد الأغراض المذكورة.

ص: 332


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب الذبح، باب 46، ح1.
إثبات صدور الدليل الشرعي
اشارة

بعد ان نقلنا اهم ما جاء من مباحث دلالة الدليل الشرعي ، نتكلم الان عن طرق اثبات صدور الدليل الشرعي ، ومن اهم هذه الطرق اخبار الآحاد ، فان معظم الروايات التي نستند اليها في استنباط الاحكام الشرعية وصلتنا عن طريق اخبار الآحاد ؛ ولذا بحث العلماء في حجية هذا الطريق لإثبات صدور الدليل.

وسننقل اهم ما جاء في موسوعة فقه الخلاف عن هذا الموضوع في مسائل ثمانية:

المسألة الأولى: حجية خبر الواحد بدلالة السيرة.

المسألة الثانية: حجية خبر الثقة في الاحكام والموضوعات.

المسألة الثالثة: الاطمئنان بالصدور.

المسألة الرابعة: دور الاستفاضة في اثبات الصدور.

المسألة الخامسة: تاثير إعراض الاصحاب على حجية الخبر.

المسألة السادسة: التفريق بين الإعراض وعدم العمل بالظاهر.

المسألة السابعة: الشهرة لا تجبر ضعف السند.

المسألة الثامنة: الشهرة الجابرة لضعف السند.

وتفصيل هذه المسائل:

ص: 333

المسألة الأولى: حجية خبر الواحد بدلالة السيرة.

اختلفت الاقوال في مستند حجية خبر الواحد: فقال البعض بان الكتاب الكريم كما في آية النبأ او النفر هو الذي يثبت حجيته، وقال اخرون ان الروايات هي التي تثبت حجية خبر الواحد ، بينما تبنى اكثر المتأخرين دلالة السيرة على الحجية.

وصريح كلمات الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) بناؤه على حجية خبر الواحد بدلالة السيرة العقلائية ، اذ قال في الجزء الرابع (صفحة 183 - 184) عند المناقشة في سند مقبولة عمر بن حنظلة:

وقد أشكلوا على الرواية أولاً من جهة السند لعدم ورود توثيق في عمر بن حنظلة وإن سميت روايته بالمقبولة لتلقي الأصحاب لها بالقبول ورواها المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) ورغم ما ورد عن يزيد بن خليفة أنه قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): أن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت فقال أبو عبد الله (علیه السلام): إذن لا يكذب علينا)(1) وهي تدل على أعلى درجات التوثيق لصدوره عن الإمام (علیه السلام) إلا أن يزيد هو الآخر لم يرد فيه توثيق، نعم على مبنى أن صفوان بن يحيى ونظيريه لا يرسلون ولا يروون إلا عن ثقة يكون عمر ويزيد ثقتين لرواية صفوان عنهما.

ومما يمكن الاستدلال به على وثاقتهما أن هذه الرواية نقلها الكليني بسند صحيح عن يونس عن يزيد وهي متضمنة لأعلى درجات التوثيق ولم يكن حال عمر خافياً على يونس فلو كان مجهولاً أو ضعيفاً لأسقط يونس النقل المتضمن توثيق عمر لأن يونس سيكون شاهداً على أمر لا يعرفه، وهو لا يرضى أن يكون شاهد زور، كما أن وظيفة الراوي لا تقتضي

ص: 334


1- وسائل الشيعة، مج3، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 5 ح6.

نقل كل التفاصيل غير المرتبطة بالحكم الشرعي، فعدم نقل يونس لتوثيق عمر لا يضر لعدم ارتباطه بأصل الحكم في الرواية حيثيستمر يزيد يقول: (قلتُ: ذكر أنك قلتَ: إن أول صلاة... الحديث) وفي نهايتها قال الإمام (علیه السلام): (صدق).

وهذا التقريب للتوثيق عرفي وعقلائي ونحن نستدل بسيرة العقلاء على حجية خبر الثقة ونحوها.

المسألة الثانية: حجية خبر الثقة في الاحكام والموضوعات.

بعد التسليم بحجية خبر الثقة ، ناقش علماء الأصول دائرة هذه الحجية: فهل هي مقتصرة على الاحكام او انها تشمل الموضوعات أيضا ؟

والذي يذهب اليه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ان خبر الثقة حجة في الاحكام والموضوعات على حد سواء ؛ لان دليل حجيته السيرة العقلائية ، وهي قائمة على العمل بالأخبار في هذين الموردين.

قال (دامت بركاته) في الجزء الرابع (صفحة 37) في مسالة حجية البينة في ثبوت الهلال:

قد ثبت في الأصول والفقه حجية خبر الثقة في الأحكام وكذا في الموضوعات كالوقت والقبلة والزوجية والطهارة وغيرها لعدم الفرق بينهما في دليل الحجية وهو بناء العقلاء، وعليه دلّت الروايات(1)

ص: 335


1- مثل موثقة زرعة عن سماعة قال: (سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها، فحدّثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال: إن هذه امرأتي وليست لي بيّنة، فقال: إن كان ثقة فلا يقربها وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه) (وسائل الشيعة: 20/300، أبواب عقد النكاح، باب 23، ح2)، وما دلّ على أن المؤذّن مؤتمن على دخول وقت الصلاة (وسائل الشيعة: 5/378، أبواب الأذان والإقامة، باب 3).
المسألة الثالثة: الاطمئنان بالصدور.

تباينت الاقوال في تحديد دائرة حجية خبر الواحد: فذهب البعض الى حجية خصوصخبر الثقة ، وذهب البعض الاخر الى حجية الخبر الموثوق بصدوره وان لم يكن كل رواته من الثقات ، وبطبيعة الحال فان هذه الاقوال تستند الى دليل حجية الخبر.

وبما ان الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) يبني على ان السيرة العقلائية هي الدليل على حجية اخبار الآحاد ؛ فانه يقول بأن الخبر الذي نطمئن بصدوره هو الحجة ؛ باعتبار ان هذا هو الذي قامت عليه السيرة ، وهذا الاطمئنان يحصل من خلال القرائن.

وهذا ما صرح به (دامت بركاته) في الجزء السادس (صفحة 186) في مسالة من لاط بغلام فأوقب حرمت عليه امه وبنته وأخته ، اذ قال:

ان لابن أبي عمير ثلاث مراسيل تقدم ذكرها. ويكفي صحة أحداها لإثبات المطلوب وهو أصل الحكم فالروايات الثلاث تدل عليه فإذا كان احتمال الضعف في كل واحدة كما قدمنا ^img1.png.

واحتمال الاعتبار ^img2.png فإن وجود مرسلة واحدة يعطي احتمالاً للاعتماد

عليها مقداره ^img3.png (علیه السلام)100 = 93.75 % وإذا انضمت إليها ثانية أضيف إليه احتمال مقداره ^img4.png (علیه السلام) (1- ^img5.png) = 0.0586 ومجموعهما 99.61 % وإذا انضمت إليها ثالثة أضيف إليه احتمال مقداره ^img6.png (1- 0.9961)(علیه السلام) 100= 0.37%

فالمجموع 99.98 % وهو احتمال كبير لا يعتد بخلافه ويحصل منه ومن

ص: 336

القرائن المتقدمة اطمئنان بالصدور وهو الحجة(1).

المسألة الرابعة: دور الاستفاضة في اثبات الصدور.

عرفنا ان خبر الواحد الحجة: هو الخبر الذي يُطمأَن بصدوره بمعونة القرائن ، و واحدة من القرائن التي تحقق الاطمئنان بصدور الخبر استفاضته.

هذا ما جاء في الجزء العاشر (صفحة 45-46) في مسالة حرمة التصوير ، اذ قال سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته):

فلا بد من مناقشة هذه الروايات وقد اختصرها السيد الخوئي (قدس سرّه) بسطر واحد قال فيه: «ولكنها مع كثرتها ضعيفة السند وغير منجبرة بشيء فلا تكون صالحة للاستناد إليها في الحكم الشرعي»(2).

وهو جواب غير كافٍ لأكثر من وجه:

أ- وجود روايات معتبرة غير ما ذكره الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) كموثقة أبي بصير ومصححة ابن أبي عمير (الثالثة والسادسة) بل صحيحة العباس بعد التجريد عن الخصوصية وصحيحة محمد بن مسلم بالتقريب الذي ذكرناه.

ب- لو تنزلنا فإن استفاضة الروايات يجبر ضعفها ويحصل الاطمئنان بصدور مضمونها.

ص: 337


1- قلنا في كتاب الرياضيات للفقيه/ ص324 من طبعة بيروت ما ملخصه: إن درجة الاحتمال مهما تصاعدت حتى لو بلغت 100% فإنها لا تكون حجة حتى يحصل منها ولو بضميمة غيرها الاطمئنان الذي يعني سكون النفس إلى الشيء أما قوة الاحتمال فهي حالة عقلية.
2- مصباح الفقاهة: 35/350.
المسألة الخامسة: تاثير إعراض الاصحاب على حجية الخبر.

من الأبحاث التي تناولها علم الأصول مدى تاثير إعراض الاصحاب على حجية الخبر: فمن يبنى على ان المدار في حجية الخبر كونه خبر ثقة لا يرى ان إعراض الصحاب يؤثر على الحجية ، ولكن من يرى ان الاطمئنان بالصدور هو المدار في حجية الخبر يفترض به ان يبني على ان إعراض المشهور يؤثر على الحجية ؛ باعتباره مزلزلاً للاطمئنان.

الا ان سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) اثار نقطة مهمة في هذا البحث: وهي انه حتىعلى مبنى الوثوق او الاطمئنان بالصدور لا يكون إعراض الاصحاب ناقضا لحجية الخبر الا اذا كان إعراضا تعبديا كاشفا عن اعراض المعصوم (علیه السلام) ، حيث قال سماحته في الجزء الثاني (صفحة 84) في مسالة تحقق الغروب بسقوط القرص ام بذهاب الحمرة:

إن هذا الإعراض إنما يكون مانعاً من الأخذ بالروايات إذا كان تعبدياً كاشفاً عن توجه عام لدى فقهاء ورواة أحاديث أهل البيت (علیهم السلام)، وهذا غير متحقق في المقام لاحتمال ذهاب المشهور إلى هذا القول لما دلّ على استحباب التأخير أو للاحتياط أو لأنه علامة على تيقن الغروب ونحوها فلا يكون مانعاً.

كما جاء هذا المعنى في الجزء الأول (صفحة 202) في مسالة نجاسة الخمر ، اذ قال (دامت بركاته):

إن هذا الإعراض إنما يكون مانعاً لو كان تعبدياً كاشفاً عن إعراض المعصوم (علیه السلام) وليس المقام منه للاطمئنان بأن إعراضهم ناشئ من ترجيح القول بالنجاسة لسبب أو لآخر كالاحتياط الذي ذكره (قدس سرّه) في ذيل كلامه، أو الموافقة للكتاب كما ذكر الشيخ الطوسي (قدس سرّه) في التهذيب: «والذي يدل على أن هذه الأخبار محمولة على التقية ما تقدّم ذكره من الآية

ص: 338

وأن الله تعالى أطلق اسم الرجاسة على الخمر ولا يجوز أن يرِد من جهتهم (علیهم السلام) ما يضادُّ القرآن وينافيه، وأيضاً قد أوردنا من الأخبار ما يعارض هذه، ولا يمكن الجمع بينهما إلا بأن نحمل هذه على التقية لأنّا لو عملنا بهذه الأخبار كنا دافعين لأحكام تلك جملة ولم نكن آخذين بها على وجه، وإذا عملنا على تلك الأخبار كنّا عاملين بما يلائم ظاهر القرآن فحملنا هذه على التقية لأن التقية أحد الوجوه التي يصحّ ورود الأخبار لأجلها من جهتهم فنكون عاملين بجميعها على وجه لا تناقض فيه»(1).واكد سماحته هذا المعنى في الجزء الحادي عشر (صفحة 187 – 188) في مسالة ارث الزوج والزوجة عند عدم وارث سواهما ، اذ قال (دامت بركاته):

أما ما قيل من أن إعراض المشهور يوهن الرواية خصوصاً إذا كانت معتبرة فهذا مما لا نعتد به إلا إذا ثبت المناط الذي قالوه وهو وقوفهم على ما يوجب الإعراض عن النص أو تأويله على غير المعنى الظاهر منه، أي بأن يكون الإعراض تعبدياً وأنى لنا أن نثبت ذلك وإنما هو مجرد دعوى وظن وتخمين، ولعل إعراضهم لترجيح القول المشهور بكثرة عدد الروايات أو لموافقته لظاهر الكتاب، أو أن اختيارهم لهذا القول جاء انسياقاً مع ارتكاز فقهي بأن للرجل فضلاً على الأنثى في الميراث مطلقاً إلا ما خرج بدليل، فهذا كله مما يقلل الاطمئنان بكون اختيار المشهور تعبدياً، ولا يجعل إعراضه موهناً للرواية.

كما جاء في الجزء الثاني (صفحة 202) في مسالة احكام صلاة من عمله السفر ، قوله (دامت بركاته):

ونحن لا نلتزم بأن إعراض الأصحاب عن العمل بالرواية الصحيحة

ص: 339


1- التهذيب، ج1، كتاب الطهارة، باب12: تطهير الثياب وغيرها من النجاسات، ذيل الحديث (112)

يسقطها عن الاعتبار والحجية ألا ان يكون هذا الإعراض مستمراً عبر الأجيال ومتصلاً بزمان المعصومين (علیهم السلام) أو يكون إعراضاً تعبدياً غير مستند إلى أسباب ودواعٍ فيكون كاشفاً عن إعراض المعصومين (علیهم السلام) لو أمكن ذلك فلا بد من دراسة دوافع الإعراض وظروفه فقد تكون كافية لإسقاط الحجية وقد تكون غير ذلك كما لو كان مدرك الإعراض عدم وضوح المقصود أو عدم انسجامه مع الرأي المشهور يومئذٍ أو هيبة لرأي السلف الصالح بدرجة يصعب الخروج عليه حتى برواية صحيحة ونحوها وهذا كله غير كافٍ.

وكان سماحته قد قال في الجزء الثاني أيضا (صفحة 135) في مسالة الاكتفاء ببعض السورة بعد الفاتحة:أما المناقشة من جهة إعراض المشهور عنها، فهي مردودة كبروياً وصغروياً، أما كبروياً فلوضوح أن إعراض المشهور لا يسقط الرواية المعتبرة عن الحجية وأن هذه الكبرى لو سلمناها فإن مناط السقوط عدم الوثوق بصدورها عن المعصوم (علیه السلام) وهنا نقطع بصدور هذا المعنى عنهم (علیهم السلام) لكثرتها ووضوحها ورواية الأجلاء لها.

المسألة السادسة: التفريق بين الإعراض وعدم العمل بالظاهر.

قد يتوهم البعض ان مجرد عدم فتوى الاصحاب وفق ظاهر الخبر يعني اعراضهم عن الخبر ، ولكن هذا ليس بصحيح فان الاصحاب قد يفتون بخلاف ظاهر الخبر نتيجة المعارضة مع خبر اخر او لأسباب أخرى لا تعني انهم اعرضوا عن الخبر.

فالصحيح ان ادخال الخبر في المعارضة او تأويل ظاهره يدل على عملهم به لا اعراضهم عنه.

ص: 340

والنتيجة: ان عدم الفتوى وفق ظاهر الخبر لازم اعم من الإعراض عنه.

ولذا قال سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الثاني (صفحة 202) في مسالة احكام صلاة من عمله السفر:

مضافاً إلى انه يجب التفريق بين الإعراض وعدم العمل بالظاهر من اجل شيء من الدوافع التي ذكرناها ومجرد الفتوى على خلاف الظاهر من تلك الروايات لا يدل على إعراضهم عنها بل انه لازم أعم كما لو تركوها لمعارضتها لروايات أخرى أو أنهم تمسكوا بإطلاق الروايات الدالة على التمام فيمن عمله السفر بل تأوّل الأصحاب وتوجيههم للظاهر دليل على أخذهم بالروايات وليس إعراضهم.

المسألة السابعة: الشهرة لا تجبر ضعف السند.

من الواضح ان من يستند في حجية الخبر على وثاقة الراوي ، ويعتبر الوثاقة هي موضوع الحجية فانه سيبني على عدم جابرية الشهرة للسند ؛ لان الشهرة لا تجعل من غير الثقة ثقة.

ولكن من يبني على ان حجية الخبر تدور مدار الاطمئنان بالصدور قد يقول بان الشهرة تحقق ذلك الاطمئنان ، وبالتالي تجبر ضعف السند وتجعل الخبر الضعيف السند حجة

الا انه ينبغي ان نعلم ان الشهرة قد تكون روائية اَي ان الرواية وصلت بأسانيد متعددة ولكنها دون التواتر والاستفاضة ، او تكون شهرة على العمل بالرواية اَي ان الرواية واحدة الا ان مشهور الاصحاب عملوا بها رغم ضعف سندها.

والشهرة الروائية قد لا تحقق الاطمئنان بالصدور فلا يمكننا اعتبار الشهرة جابرة ، كما ان عمل المشهور بالرواية لا يكون جابرا لها الا اذا كان تعبديا.

ص: 341

ولذا فان سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) وان كان يبني على ان حجية الخبر تدور مدار الاطمئنان بالصدور الا انه لا يرى الشهرة جابرة لضعف السند ؛ لان الشهرة التي يمكن ان تحقق ذلك خصوص الشهرة العملية لا الروائية ، والشهرة العملية لا تخلق الاطمئنان بالصدور في كل حالاتها.

وقد بيّن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) هذا المبنى في عدة مواضع من فقه الخلاف منها:

1- ما جاء في الجزء الثاني (صفحة 222) في مسالة احكام صلاة من عمله السفر اذ قال:

وفي الحقيقة فان افتراض ان العشرة لم تذكر للحد إذا أمكن قبوله في صحيحة عبد الله بن سنان فانه لا يمكن قبوله في مرسلة يونس التي يظهر فيها موضوعية العشرة حيث أخذت كحدٍ فاصلٍ بين ما قبلها وما بعدها لكننا لم نفلح في تصحيح سندها ولو تمَّ ولو بالانجبار بالشهرة عند من يقول به مع تمامية دلالتها فتصلح حينئذٍ للدلالة على قاطعية إقامة العشرة أيام للحكم بوجوب التمام ولا ينبغي ترك الاحتياط بالجمع بين القصروالتمام في أول سفرة بعد الإقامة تعبداً بالنص.

2- ما جاء في الجزء الحادي عشر (صفحة 493) في مسالة توريث من يموتون بحادث جماعي ، حيث بيّن سماحته ان الشهرة الروائية لا تجبر السند ، وما يمكن ان يكون جابرا هو خصوص الشهرة العملية:

إن قلتَ: «يكفي لنا في الاحتجاج بها انجبارها بالشهرة ولو لم تكن بحسب السند صحيحة»(1).

قلتُ: مضافاً إلى المناقشة في الكبرى، فإنها لو تمّت فموردها ما لو استند مشهور القدماء إلى الرواية في مقام العمل.

ص: 342


1- رياض المسائل: 14/467.

3- ما جاء في الجزء الأول (صفحة 350) في مسالة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة من جسد الانسان ، حيث بيّن سماحته ان الشهرة العملية التي من شانها جبر السند هي خصوص شهرة المتقدمين:

ونوقشت الرواية من جهة ضعفها بالإرسال، إلا أن المشهور جبر الضعف بما ذكر من عمل المشهور بها.

ونوقش هذا التوجيه كبروياً بعدم انجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور، وصغروياً لما قاله المحقق (قدس سرّه) من أن العامل بها قليل، والجابر - لو قلنا به- إنما هو عمل مشهور المتقدمين.

المسألة الثامنة: الشهرة الجابرة لضعف السند.

بما ان مبنى سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في حجية خبر الواحد هو الاطمئنان بالصدور فاذا كان عمل المشهور بالرواية يخلق ذلك الاطمئنان كان جابرا لسندها.

وقد جاء في الجزء الخامس (صفحة 174) في مسالة معادلة المد بثلاثة ارباع الكيلو غرام تقريبًا او تحقيقًا ، بيان من سماحته عن حالة يمكن ان تكون فيها الشهرة جابرة للسند وهي:أن يقال: إن شهرة العمل بالرواية جابرة لضعفها في المقام وليس مطلقاً إذ لا نقول بها بتقريب أن يقال إن الإشكال في الرواية ليس من جهة العلم بكذب الراوي أو القطع بعدم الصدور من المعصوم (علیه السلام) وإنما من جهة جهالته وعدم معرفة حاله ونحن بعيدو العهد عن زمان الصدور فربما اطلع القدماء على ما لا نعلمه من حال الراوي أو الرواية فاطمأنوا بصدورها فتكون من تقديم بيّنة من يعلم على بيّنة من لا يعلم ونحن لا نعلم كذب الراوي أما القدماء فقد حصل عندهم الاطمئنان بالاستناد إلى الرواية.

ص: 343

الظهور
اشارة

بعد ان تكلمنا في دلالة الدليل الشرعي ، وصدوره ، يأتي الكلام الان عن الظهور ، والمفروض ان يكون الكلام هنا عن حجية الظهور خاصة باعتبارها كبرى قياس الاستنباط ، ولكننا سنتكلم إضافة الى ذلك في بعض صغريات الظهور ، فسنتناول هنا احدى عشرة مسالة مهمة أثيرت في موسوعة فقه الخلاف ، وهي:

المسألة الأولى: ظهور عصر النص هو الحجة.

المسألة الثانية: دراسة ظروف النص.

المسألة الثالثة: علاقة الظهور بالمعاني الاصطلاحية.

المسألة الرابعة: تاثير وحدة السياق في الظهور.

المسألة الخامسة: ظهور الاستشهاد بالكبرى.المسألة السادسة: الاحتمال والاجمال.

المسألة السابعة: مورد أصالة الحقيقة.

المسألة الثامنة: ظهور الألفاظ في مفاهيمها لا في مصاديقها.

المسألة التاسعة: مرجعية العرف في ظهور الألفاظ.

المسألة العاشرة: تأويل الظهور لمانع ثبوتي.

المسألة الحادية عشرة: الزيادة والنقيصة.

وتفصيل هذه المسائل:

ص: 344

المسألة الأولى: ظهور عصر النص هو الحجة.

قد نستظهر من اللفظ معنى معيناً ، ولا نشك في ظهوره في هذا المعنى ، ولكن المهم ان نحرز ان هذا الظهور هو نفس الظهور الذي كان موجودا في زمان صدور النص ؛ لان الظهور الحجة هو ظهور عصر النص ، وليس ظهور عصر السماع ، فاذا وجدت أسباب حقيقية تجعلنا نشك في كون الظهور الحاصل الان هو نفس الظهور الذي كان موجودًا في عصر النص لم يمكننا البناء على حجيته.

ومن تطبيقات هذه المسالة ما جاء في الجزء الثاني (صفحة 221 – 222) في مسالة احكام صلاة من عمله السفر ، اذ قال سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته):

إن الروايات لا تأبى ذلك ولا تشير ولا واحدة إلى نفي حالة التعدد وغاية ما أفادت وضع ضابطة لصدق الوطن وهي يمكن ان تنطبق على بلد أو أكثر وقد دلّ بعضها بالمنطوق وبعضها بالمفهوم كصحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن الأول (علیه السلام) انه قال: (كل منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير) وصحيحه الآخر (كل منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل، وليس لك ان تتم فيه) وصحيح سعد بن أبي خلف قال: سألعلي بن يقطين أبا الحسن الأول (علیه السلام) عن الدار تكون للرجل بمصر والضيعة فيمر بها، قال: إن كان مما قد سكنه أتمَّ فيه الصلاة وان كان مما لم يسكنه فليقصر)(1) وغيرها.

وقد يضعّف في النفس هذا الفهم ان هذه الحالات المذكورة إنما أفرزتها طبيعة الحياة اليوم ولا يمكن تطبيق الرواية إلا على زمانها المختلف عن

ص: 345


1- وسائل الشيعة: أبواب صلاة المسافر، باب4، أحاديث 1، 6، 9.

نمط الحياة المعاصرة.

ولكننا نجد إمكان التطبيق لان بغداد عاصمة الدولة الإسلامية يومئذٍ وحواضر الإسلام الأخرى كانت تشهد نشاطاً صناعياً وتجارياً وعلمياً واسعاً وتستقطب أبناء مدن مختلفة بنفس الحال الذي نشهده اليوم وان الراوي عبد الله بن سنان هو كوفي كان خازناً للمنصور والمهدي والهادي والرشيد، قاله النجاشي(1).

وقد اجبنا بفضل الله تبارك وتعالى من خلال عرض معطيات هذه الفكرة على الإشكالات المتقدمة على الأخذ بظاهر الرواية.

المسألة الثانية: دراسة ظروف النص.

ان القرائن الحافة بالنص لها اثر كبير في تحديد المعنى المراد منه ؛ ولذلك وجب دراسة ظروف النص ؛ لمعرفة الظهور الكاشف عن مراد المتكلم ، وعدم الاكتفاء بما تدل عليه الألفاظ بمدلولها المطابقي.

ومن تطبيقات هذه المسالة ما جاء في الجزء الرابع (ص 88 – 90) في مسالة ان شهر رمضان لا ينقص ، اذ قال الشيخ الأستاذ (دامت بركاته):

وقد ألّف عدد من أعلام الطائفة رسائل في الرد على هذا القولكالشيخ المفيد والكراجكي بعد عدولهما والسيد المرتضى والشيخ الطوسي، بل يظهر من بعض كلمات الصدوق نفسه رجوعه عن هذا القول أو أنه لا يريد منه الاعتماد عليه مطلقاً، قال في كتابه الأمالي -والمظنون أنه متأخر عن الخصال والفقيه-: «وصيام شهر رمضان فريضة وهو بالرؤية وليس

ص: 346


1- معجم رجال الحديث: 10/218.

بالرأي ولا بالتظني، ومن صام قبل الرؤية فهو مخالف لدين الإمامية»(1)،

وصرح في المقنع أن شهر رمضان ينقص كغيره من الشهور، قال (قدس سرّه): «وقد يكون شهر رمضان تسعة وعشرين ويكون ثلاثين، ويصيبه ما يصيب الشهور من النقصان والتمام»(2).

وقد أدّت هذه الجهود المكثفة إلى إنهاء هذا القول فذكر السيد ابن طاووس في كتابه الإقبال أن علماء الشيعة مجمعة في زمانه على أن شهر رمضان قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين وأنهم كانوا مختلفين من قبل(3).

واحتمل بعض من حضرنا بحثه الشريف أن هذه النهضة لرد القول بالعدد ترجع في بعض أسبابها إلى الانتقاد الذي وجهه العالم الفلكي المشهور يومئذٍ أبو الريحان البيروني قال (دام ظله الشريف): «وببالي أن أبا الريحان البيروني(4) المعاصر لهم ذكر في الآثار الباقية: إن العجب من أئمة أهل البيت (علیهم السلام) ينقل عنهم أنهم قائلون بالعدد مع أنه مخالف لعلم الهيئة، والبيروني من أكابر علماء الهيئة وهو في بغداد ومعاصر لهم ويمكن أن يكون له تأثير في تبدل رأي علماء الشيعة»(5).أقول: لا يظهر من كلمات المفنّدين لهذا القول أنهم تأثروا بمثل هذا، إلا

ص: 347


1- أمالي الصدوق: 496، المجلس 93.
2- المقنع: 183.
3- الاقبال – ابن طاووس: 1/33.
4- أبو الريحان البيروني محمد بن أحمد الخوارزمي (362-440 هج) فيلسوف رياضي فلكي، من كتبه الكثيرة (الآثار الباقية عن القرون الخالية)، علت شهرته وارتفعت منزلته عند ملوك عصره وقد ترجمت بعض كتبه إلى اللغات العالمية (الأعلام للزركلي: 6/205).
5- محاضرة بتأريخ 23/ج1/1417.

أنه من المفيد فعلاً في التحقيقات دراسة بيئة النصوص والآراء الفقهية من النواحي العلمية والاجتماعية والسياسية وغيرها لمحاولة فهم وجه صدورها وتبنيها.

المسألة الثالثة: علاقة الظهور بالمعاني الاصطلاحية.

الظهور الحجة هو الظهور الكاشف عن مراد المتكلم اَي انه الظهور اللغوي ، او الظهور في معنى كان مصطلحًا عليه في زمان النص ، اما المعاني الإصلاحية لعلومنا الحالية فهي معان منقولة ، ولا تطابق المعنى الذي كان سائدًا في عصر النص.

ومن هنا لا يصح فهم مدلولات الألفاظ وفق المعاني المتداولة في علومنا التي ندرسها اليوم ، فما نفهمه من ألفاظ الطهارة والكراهة والضد وغيرها في كتب الفقه والمنطق لا يمثل المعنى الذي كانت تستعمل فيه أمثال هذه الألفاظ في عصر الائمة (علیهم السلام) ، وقد أشار سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) لذلك في الجزء الأول (صفحة 90) في مسالة مطهرية الشمس ، في سياق نقل كلام للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) ، وتعليقه (دامت بركاته) عليه:

«عدم إمكان حمل (طاهر) في كلام الامام (علیه السلام) على المعنى الاصطلاحي الفقهي لأنه اصطلاح متأخر لا تفهم في ضوئه الروايات فيحمل على الطهارة اللغوية والعرفية السائدة آنذاك وهو يعني النظافة من الوسخ أي ان قذارته غير موجودة ولا تحمل على الطهارة الحكمية» (1).

وكأنه (قدس سرّه) لم يكتف بهذا المقدار من البيان فأضاف في اليوم التالي:

ص: 348


1- من تقريراتي لبحثه الخارج من الفقه الذي كان يلتقيه صباحاً في مسجد الراس الشريف المجاور لمرقد أمير المؤمنين (علیه السلام) تاريخ المحاضرة 20 ذ.ح 1415هج ، وقد كنت اقرر في دفتري نص كلامه (قدس سرّه).

«يجب ان نلتفت إلى ان النجاسة بالمعنى الفقهي تستفاد من لسان واحد: ارق عليه الماء أو اغسله ولا يستفاد من الأعم من قبيل (لاتصلِّ فيه) فلا يستفاد الخاص من العام لاحتمال وجود مانع آخر كعرق الجنب من حرام الذي ورد فيه (لا تصلِّ فيه) وهو اعم من النجاسة كما ان نقيضه (صلِّ فيه) لا يدل على الطهارة وان حمل ألفاظ المعصومين (علیهم السلام) على المصطلح الفقهي يحتاج إلى إثبات، وبالاستقراء يثبت ذلك لو تم حسياً اما بالغفلة والاستصحاب القهقرائي فعهدته على مدعيه، كقوله (الجاف على الجاف ذكي) ليس يعني طاهر بل لا تسري النجاسة وهو احد المحتملات هنا ويحتمل ان (طاهر) بمعنى صلاته صحيحة، ومن اطمأن فاطمئنانه بسبب التربية الحوزوية ويستصحبه قهقرائياً إلى زمن المعصومين (علیهم السلام)».

وكلامه (قدس سرّه) صحيح كبروياً أي ان المعنى الذي تحمل عليه الألفاظ الواردة في كلام المعصوم (علیه السلام) يجب ان يكون مما تعارف عليه أهل اللغة في ذلك الزمان ولا يصح حملها على معانٍ ومصطلحات مستحدثة ومع الشك لا يمكن التمسك بالاستصحاب القهقرائي الا ان ينضمّ إليه ما يثبت ذلك كالاستقراء ونحوه.

ومن الصحيح ايضاً ما قاله (قدس سرّه) من انه لا يمكن التمسك بمدلول عام لإفادة معنى مخصوص كاستفادة طهارة المكان من الإذن بالصلاة فيه لان الصلاة تجوز في المكان النجس مع أمن السراية.

المسألة الرابعة: تاثير وحدة السياق في الظهور.

كثيرا ما يُستعان بوحدة السياق لتحديد المعنى المراد من اللفظ ، ولكن في كثير من الأحيان يحصل اشتباه في هذه المسالة: فان وحدة السياق لا تعني اكثر من كون الأشياء المذكورة مصداقا لشيء واحد ، وهذا لا يلزم منه اتحادها

ص: 349

في الحكم ، فقد يكون الجامع للاشياء المذكورة في سياق واحد انها مطلوبة ، غير ان المطلوب قد يكون واجبا وقد يكون مستحبا.

ومن هنا عمد سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) الى بيان ذلك ، حيث قال في الجزءالثالث (صفحة 439) في مسالة مفطرية رمس الرأس في الماء:

إن وحدة السياق ليست حجة فكثيراً ما جُمعَ الواجب والمستحب في سياق واحد

كما قال (دامت بركاته) في الجزء الثالث (صفحة 447) في مسالة هل قراءة القران لمن لا يحسنها في شهر رمضان من المفطرات:

إن انتظام أشياء متعددة في سياق واحد لا يعني اشتراكها في الحكم كورود غسل الجمعة والجنابة في خطاب واحد، فإذا دلّ دليل خارجي على عدم وجوب غسل الجمعة فلا يسري ذلك إلى شريكه وهو غسل الجنابة خصوصاً مع تنوع مادتيهما في المقام (تنقض، تفطر).

فحمل ناقضية الكذب للوضوء على نقص الكمال لا يلزم منه حمل مفطرية الكذب على مثله.

المسألة الخامسة: ظهور الاستشهاد بالكبرى.

كثيرا ما تستعمل الألفاظ في معنى خاص واخر اعم منه: وهذا ما جرى عليه الاصطلاح الفقهي والأصولي كالاستحباب بالمعنى الأخص والأعم ، والكراهة بالمعنى الأخص والأعم ، وغيرهما.

وما نريد الإشارة اليه هنا ان الاستشهاد بالكبرى لا يلزم منه ان يكون الأخص هو المراد ، ومن تطبيقات هذه المسالة ما جاء في الجزء السابع (صفحة 128) في مسالة حرمة التظليل ، حيث قال (دامت بركاته):

إن الاستشهاد بالكبرى في أمر مكروه لا يعني أنها مختصة بالمكروه

ص: 350

بالمعنى الأخص فيمكن ان تكون بالمعنى الأعم الشامل للحرمة كما لو استشهد بذيل (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) في موضعين، تارة وجوب الوضوء كمقدمة للصلاة وأخرى لاستحبابالوضوء على الوضوء أو للكون دائماً على الطهارة باعتبار ان الذيل يتضمن المحبوبية المطلقة.

المسألة السادسة: الاحتمال والاجمال.

من العبارات المشهورة في الاستدلالات عبارة (اذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال) ، وعبارة (الاحتمال يوجب الإجمال).

ولكن ليس كل احتمال يكون نافيا للظهور وموجبا للاجمال ، فالظهور لا بد ان يكون في قباله احتمال مخالف له والا لكان صريحا.

فالاحتمال الموجب للاجمال هو خصوص الاحتمال المعتد به والذي يجرد اللفظ من ظهوره فلا يكون ظاهرا في معنى من المعاني.

وهذا ما وضحه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الأول (صفحة 283 – 285) في مسالة طهارة غير المسلمين ، اذ قال:

وعلى أي حال فإننا نذكر المناقشات بنفس ترتيب الروايات بإذن الله تعالى.

فأوردوا على (الأولى) (1):

1- ما قاله السيد الخوئي (قدس سرّه) وحكي عن الهمداني (قدس سرّه) في مصباح الفقيه: «إن دلالتها على طهارة أهل الكتاب أظهر من دلالتها على نجاستهم وذلك لأن الحكم بنجاستهم يستلزم الحكم بالتجنب عن جميع الأواني

ص: 351


1- يراد بها صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس فقال: لا تأكلوا في آنيتهم، ولا من طعامهم الذي يطبخون، ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر). الكافي: 6/ 264

المضافة إليهم حتى الآنية التي يشربون فيها الماء ولا وجه معه لتقييد الآنية بما يشربون فيه الخمر ولا لتقييد طعامهم بما يطبخونه فمن تقييد الآنية والطعام بما عرفت يظهر عدم نجاسة أهل الكتاب.والنهي عن الأكل في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر مستند إلى نجاسة الآنية بملاقاتها الخمر وأما النهي عن أكل طعامهم المطبوخ فيحتمل فيه وجهان: (أحدهما): أن أهل الكتاب يأكلون لحم الخنزير وشحمه والمطبوخ من الطعام لا يخلو عن اللحم والشحم عادة فطعامهم المطبوخ لا يعرى عن لحم الخنزير وشحمه و(ثانيهما): إن آنيتهم من قدر وغيره يتنجس بمثل طبخ لحم الخنزير أو وضع شيء آخر من النجاسات فيها لعدم اجتنابهم عن النجاسات ومن الظاهر أنها بعدما تنجست لا يرد عليها غسل مطهر على الوجه الشرعي لأنهم في تنظيفها يكتفون بمجرد إزالة قذارتها وهي لا يكفي في طهارتها شرعاً وعليه يتنجس ما طبخ فيها بملاقاتها ومن هنا نهى (علیه السلام) عن أكل طعامهم الذي يطبخونه. ويمكن أن يكون هناك وجه آخر لنهيه (علیه السلام) ونحن لا ندركه»(1).

أقول: إن النهي في الفقرة الأولى مطلق مع أن ردّه (قدس سرّه) مبني على أن قوله (علیه السلام): (التي يشربون فيها الخمر) قيد للفقرة الأولى أيضاً وهو خلاف الظاهر لوضوح الفصل بفقرة الطعام، وكأن الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) التفت إلى هذا الإشكال فقرّب رد الاستدلال ببيان آخر تقدم به خطوة وهو أنه «يكفي لسقوط الاستدلال إجمال الفقرة الأخيرة من هذه الناحية –أي كون القيد راجعاً إلى الفقرة الأولى أيضاً- لأنه يكون من اتصال ما يحتمل

ص: 352


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى من المجموعة الكاملة: 3/41.

قرينيته، وهو يوجب الإجمال»(1).

أقول: ليس كل احتمال يوجب الإجمال وإنما لابد أن يكون بدرجة تزلزل الظهور وهو ليس كذلك في المقام كما قدمنا خصوصاً على النص الذي ذكره (قدس سرّه) فقد ذكر في الفقرة الأولى (من آنيتهم) وفي الفقرة الأخيرة (ولا في آنيتهم) وهو ينفع في إيجاد الفرق بين الفقرتين ولكننا لانعلم مستنده في ذلك بعد تطابق المصادر على ما ذكرنا، مضافاً إلى أن الإجمال الأقرب عكس ما قرّبه (قدس سرّه) كما سنذكر أدناه.

المسألة السابعة: مورد أصالة الحقيقة.

قد يطلق المتكلم لفظًا ولا نعلم ما هو المعنى المراد من ذلك اللفظ ، اَي اننا نشك في مراد المتكلم ، وقد يطلق المتكلم لفظًا ونفهم المعنى الذي أراده من ذلك اللفظ ، ولكن لا نعلم انه استعمل اللفظ على نحو الحقيقة او المجاز.

وفي الحالة الأولى نتمسك بأصالة الحقيقة لنقول: ان المعنى الذي أراده هو المعنى الحقيقي الذي وضع له اللفظ.

اما في الحالة الثانية: فنرجع الى علامات الحقيقة والمجاز لنحدد ان المتكلم استعمل اللفظ في معناه الحقيقي او المجازي.

ومن تطبيقات هذه المسالة ما جاء في الجزء الحادي عشر (صفحة 25) في مسالة ميراث أولاد الأولاد مع وجود الولد المباشر ، اذ قال سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته):

وأما قولهم: «إن لفظ الولد استعمل في ولد الولد، والأصل في الاستعمال الحقيقة» ففيه «إن أصالته في مثل ذلك ممنوعة، وإنما هي مسلّمة في ما

ص: 353


1- بحوث في شرح العروة الوثقى: 3/338.

لم يُعلم له معنى حقيقي آخر»(1).

أقول: الاستدلال بأصالة الحقيقة لا موضوع له لأن الشك هنا ليس في مراد المتكلم الدائر بين معنى حقيقي كالحيوان المفترس في قوله: (رأيت أسداً) ومعنى مجازي هو الرجل الشجاع حتى يتمسك بهذا الأصل للاتفاق على أن المراد هنا هو ما يعم ولد الولد، وإنما الشك هنا في كون هذا المعنى على نحو الحقيقة أو المجاز فتجري فيه علامات اختبارهما.

المسألة الثامنة: ظهور الألفاظ في مفاهيمها لا في مصاديقها.

عندما نقول ان هذا اللفظ ظاهر في معناه فهذا يعني ان المفهوم من اللفظ هو الظاهر بغض النظر عن سعة وضيق مصاديق ذلك المفهوم في عصر النص ، فلفظ القلم مثلا ظاهر في مفهوم القلم وان اتسعت مصاديقه كثيرا عما كانت عليه سابقا.

والمحصل: ان اقتصار مصاديق المفهوم في عصر النص على أشياء معينة لا يعني عدم ظهور اللفظ في المصاديق المستجدة.

ومن تطبيقات هذا المعنى ما جاء في الجزء الرابع (صفحة 334) في مسالة طرق اثبات الهلال ، اذ قال سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته):

فإن انطباق عنوان يدخلان ويخرجان من مصر على البلدان القريبة يومئذٍ لا يقيدها بها؛ لأنها من ضيق تصوّر المتلقي، وتطبيقه على المصاديق الخارجية المتعارفة، وليس من ظهور اللفظ في عدم السعة

ص: 354


1- مستند الشيعة: 19/195.
المسألة التاسعة: مرجعية العرف في ظهور الألفاظ.

مما لاشك فيه ان المرجع في تحديد مداليل الألفاظ هو العرف ، فيما اذا لم يكن للشارع معنى خاص به: فأهل اللغة هم الذين يعرفون المعنى الذي يظهر من اللفظ ، اما المعاني التي نقلها الشارع ، او اهل الفنون والعلوم فاننا ينبغي ان نرجع فيها الى ناقلها. ولكن عندما نقول ان العرف هو المرجع في تحديد معاني الألفاظ فهذا لا يعني ان مرجعيتهم مطلقة ، وانما هي مقيدة بالتفاتهم الى القرائن والخصوصيات.

وهذا ما أوضحه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء السادس (صفحة 160 – 161) في مسالة من يتزوج امرأة قد طلقت طلاقا غير صحيح ، اذ قال:

فالمختار حرمة التزوج بالمرأة التي عقد عليها ودخل بها ولو جهلاً وكانت ذات بعل ومنها المطلقة طلاقاً غير صحيح في المحاكم الرسمية.

إن قلت: ان أدلة الحرمة منصرفة عن المقام وهي المرأة المطلقة طلاقاًغير جامع للشروط فإنها ليست ذات بعل في نظر العرف فلا تكون مشمولة بالحرمة.

قلت:

1- ان العرف وان كان محكماً في فهم مداليل الألفاظ إلا انه مقيد بالالتفات، أما مع الغفلة فلا يُعبأ بقوله وحكم العرف بان هذه المرأة ليست ذات بعل ناشئ من الغفلة بدليل عدوله عند الالتفات.

2- ان هذه المرأة ذات بعل واقعاً لبقاء الزوجية وعدم حصول ما ينقضها فمناقشة العرف وغيره في صدق العنوان يكون بمثابة الشبهة مقابل البديهة وما دام العنوان صادقاً فالحكم جار.

3- ان النصوص سمّت المطلقة لغير السنة بذوات الأزواج فتكون

ص: 355

شارحة للعنوان فعن محمد بن الفيض في حديث قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن المتعة قال نعم وإياكم وذوات الأزواج، قلت وما ذوات الأزواج، قال: المطلقات على غير السنة)(1) وعن أبي عبد الله (علیه السلام) انه قال: (إياكم وذوات الأزواج المطلقات على غير السنة)(2)

وعن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إياك والمطلقات ثلاثاً في مجلس واحد فإنهن ذوات أزواج)(3).

المسألة العاشرة: تأويل الظهور لمانع ثبوتي.

قد تكون الرواية معتبرة سندًا ، وظاهرة في المعنى ومع ذلك لا نستطيع العمل بظهورها ؛ لوجود مانع ثبوتي كمخالفتها للظهور القراني ، او لحكم عقلي يقيني ، او لقاعدة شرعية متفق عليها.واعتبر بعض الفقهاء ان من تطبيقات هذه المسألة الروايات التي اجازت نذر الصوم في السفر مع ان القاعدة المتفق عليها كون متعلق النذر راجحا بينما الثابت في الشريعة ان الصوم في السفر معصية.

وقد ناقش سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) هذه المسالة في الجزء الثالث (صفحة 70 – 75) في مسالة الصوم المنذور في السفر ، اذ قال:

وقبل قراءة الروايات ومناقشة الدليل الإثباتي، نشير إلى إشكال ثبوتي حاصله: أن الصوم في السفر معصية كما نطقت به الروايات، وقد أجمعوا على أنه يشترط في صحة النذر ولزومه أن يكون متعلقه راجحاً أو متساوياً على أقل التقادير، فكيف يمكن تصور صحة هذا النذر؟ وإذا لم يصح النذر فالحديث عن صحة الصوم سالبة بانتفاء الموضوع، ونتيجته

ص: 356


1- وسائل الشيعة: أبواب المتعة، باب8، ح3.
2- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب35، ح2.
3- وسائل الشيعة: أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب35، ح1.

أنه إذا وجدت رواية على صحته في الجملة فلا بد من تأويلها بناءً على هذا الإشكال العقلي، وقد يتحصل لدينا من تحرير هذا البحث أن منعهم من الوجوب هنا مع وجود الروايات المعتبرة في بعض موارد النذر هو لهذا الإشكال الثبوتي الذي ولَّد قناعة بعدم قبول الروايات لأمر أو لآخر، باعتبار أن الحكم بكون متعلق النذر أمراً راجحاً عقلي غير قابل للتخصيص وإن كان صريح كلماتهم أن منشأ الإشكال هو عدم تمامية الدليل.

والملاحظ أن كثيراً من الفقهاء (قدس الله أرواحهم) لم يتعرضوا لهذا الإشكال هنا(1) وانشغلوا بمناقشة الدليل الإثباتي كما سيأتي بإذن الله تعالى.

لكن بعضهم تعرّض له في كتاب الحج (مسألة الإحرام قبل الميقاتبالنذر)(2) فمنع منه البعض انطلاقاً من هذا الإشكال –كما سيأتي في كلام صاحب العروة (قدس سرّه)- فيمكن أن يكون الإشكال هو نفسه في مسألة الصوم المنذور في السفر، خصوصاً إذا اتفق القول في المسألتين على المنع.

وقد منعت الأحاديث الشريفة من الإحرام قبل الميقات وشبّهته بالصلاة قبل الوقت(3) إلا أن روايات معتبرة صححته بالنذر، ومما ورد في ذلك صحيحة الحلبي قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل جعل لله عليه شكراً

ص: 357


1- لاحظ: مدارك الأحكام: 6/148-149، رياض المسائل: 5/398، مستند الشيعة: 10/352-354، جواهر الكلام: 16/334-338، مستمسك العروة الوثقى: 8/408، المستند في شرح العروة الوثقى: 21/464-468، وقد وجدتُ لاحقاً أن المرحوم السيد محمد الشيرازي (قدس سرّه) قد أشار إليه هنا في كتابه (الفقه: 35/383).
2- كصاحب العروة الوثقى وشرّاحها، راجع المستند في شرح العروة الوثقى: 24/317.
3- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب المواقيت، باب 9، ح3.

أن يحرم من الكوفة، قال: فليحرم من الكوفة وليفِ لله بما قال)(1)،

والأولى التعرّض للإشكال هنا في كتاب الصوم لأنه أسبق بحسب المنهج الفقهي المتعارف، وقد ذكروه شاهداً في كتاب الحج وكأنه مسلَّمٌ مع أنه لم تسبق مناقشته.

قال السيد صاحب العروة (قدس سرّه) في مسألة الإحرام قبل الميقات بالنذر: «ولا يضر عدم رجحان ذلك بل مرجوحيته قبل النذر مع أن اللاّزم كون متعلق النذر راجحاً، وذلك لاستكشاف رجحانه بشرط النذر من الأخبار، واللاّزم رجحانه حين العمل ولو كان ذلك للنذر، ونظيره مسألة الصوم في السفر المرجوح أو المحرّم من حيث هو مع صحّته ورجحانه بالنذر، ولا بدّ من دليل يدل على كونه راجحاً بشرط النذر، فلا يرد أن لازم ذلك صحّة نذر كل مكروه أو محرّم، وفي المقامين المذكورين الكاشف هو الأخبار، فالقول بعدم الانعقاد –كما عن جماعة لما ذكر- لا وجه له، لوجود النصوص وإمكان تطبيقها على القاعدة»(2).

أقول: توضيح كلامه (قدس سرّه) في تطبيق الحكم على القاعدة: بأن المنذوروإن كان مرجوحاً في نفسه إلا أنه أصبح راجحاً في ظرف العمل بالنذر وهذا كافٍ للزومه ووجوب الوفاء به، ولا ينقض عليه بإمكان تعلّق النذر بكل حرام أو مكروه إذا كان يصححه النذر؛ لأن القول بالصحة عند تعلق النذر ليس مطلقاً وإنما إذا دلّ الدليل عليه.

ويرد عليه: أنه ما دام قد اعترف (قدس سرّه) بأن اللازم كون متعلق النذر راجحاً، فإن صحة النذر لا يمكن تفسيرها بالدليل الخاص لأن الأحكام

ص: 358


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب المواقيت، باب 13، ح1.
2- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/317.

العقلية غير قابلة للتخصيص، والنذر لا يقلب الواقع عما هو عليه أو قُل إنه من قبيل إثبات الموضوع بالحكم مع أن الثاني متأخر عن الأول.

وعليه فلا بد من وجه آخر لتفسير صحة النذر إذا دلّ الدليل على صحته، بغير النذر نفسه.

وأورد عليه السيد الحكيم (قدس سرّه) بأن «هذا على ظاهره غير معقول، لأن صحة النذر مشروطة بمشروعية المنذور، فلو كانت مشروعيته مشروطة بالنذر لزم الدور، ولا يمكن العمل بالأخبار إذا دلت على أمر غير معقول»(1).

وأجاب السيد الخوئي (قدس سرّه) على إشكال الدور بأن: «المتوقَف عليه يغاير المتوقِف عليه فلا دور، لأنّ صحّة النذر وإن كانت متوقفة على رجحان متعلقه ولكن رجحان المنذور غير متوقف على صحّة النذر، بل إنما يتوقف على نفس النذر»(2).

أقول: هذا الجواب قد لا يحل الإشكال لأن رجحان المنذور لا يتوقف على النذر بما هو هو بل بما هو صحيح فيرجع الإشكال.

والجواب على إشكال الدور يمكن أن يكون بأكثر من وجه:

(منها) أن يقال في المقدمة الأولى أن صحة النذر متوقفة على رجحان متعلقه أو قيام الدليل على صحته كما في المقام فينحلّ الإشكال.ونتيجته القول بالتخصيص الذي لم نرضه.

(ومنها) أن هاتين المقدمتين لا تجتمعان لأن من يقول في المقدمة الثانية بأن الرجحان متوقف على صحة النذر، لا يقول بالمقدمة الأولى أي توقف صحة النذر على رجحان متعلقه.

ص: 359


1- مستمسك العروة الوثقى: 11/298.
2- المعتمد في شرح العروة الوثقى: 27/320.

على أن أصل هذا الإشكال الثبوتي غير وارد لأنه ليس كل صوم في السفر معصية بدليل الاستثناءات الموجودة كالعاصي بسفره ومن عمله السفر والموارد المتقدمة، وإنما المعصية ما تعلق به نهي رسول الله (صلی الله علیه و آله) ونطقت بذلك روايات عديدة، فإذا دلّ الدليل على صحة الصوم المنذور في السفر فإنه غير منهي عنه وليس مرجوحاً فيزول الإشكال من أصله.

وبعبارة أخرى: إن اشتراط عدم كون متعلق النذر مرجوحاً حكم عقلي، لقبح التقرب بعمل مبغوض.

والأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص، إلا أنه إذا ورد دليل معتبر على صحة فرد من أفراد الصوم في السفر فإنه يكشف عن خروج هذا الفرد من عموم المنع، وإن عمومات حرمة الصوم في السفر لا تشمل هذا الفرد فلا يكون قبيحاً ويصح تعلق النذر به؛ لأن الصوم المحرم في السفر ما نهى عنه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فإذا دل الدليل المعتبر على صحة تعلق النذر به فإنه يكشف عن عدم دخوله في المنهي عنه.

وإنما خرج بعض الأفراد عن عموم النهي لملاك في كل منها، كحرمان العاصي بسفره من هدية الله تعالى، أو من عمله السفر يعتاد عليه فلا توجد مشقة حتى يكون حكمه الإفطار ونحوها، فناذر الصوم في السفر له ملاك أيضاً.

والملاحظ أن كلا التشريعين –لزوم الإفطار في السفر، والإحرام من المواقيت- من جعل رسول الله (صلی الله علیه و آله) كما دلّت عليه الروايات الشريفة، فيمكن أن يكون مجعولاً في مورد دون آخر. ويمكن لمعصومٍ آخر أن يتحرك خارج هذا التشريع، كالزكاة التي فرضها رسول الله (صلی الله علیه و آله) علىالأصناف التسعة، وأضاف أمير المؤمنين (علیه السلام) إليها الخيل وقد تقدّم البحث فيها.

ص: 360

ومما تقدم اتضح أن خروج صوم المنذور في السفر بالتخصص لا التخصيص، فليس هو استثناءً من الحكم بلزوم رجحان متعلق النذر حتى يقال بأن الأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص.

المسألة الحادية عشرة: الزيادة والنقيصة.

قد تكون الرواية ظاهرة في نفسها ، ولكنها تبتلى بالإجمال بسبب رواية أخرى فيها زيادة عما جاء في الأولى ، او نقيصة عنها فلا نعلم ما هو الصادر من الامام بالتحديد ، ولكن شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) فرّق بين تعدد الروايات ووحدتها: فاذا كانت الروايات متعددة لم يكن للاجمال مجال ، وانما يؤخذ بمجموع مضمونها ، اما ان كانت واحدة بالأصل لكنها ذكرت بصيغ مختلفة في نسخ الكتب فستكون مجملة.

جاء هذا الكلام في الجزء الثالث (صفحة 446) في مسالة هل قراءة القران لمن لا يحسنها في نهار شهر رمضان من المفطرات ، اذ قال فيه:

وقد كرر السيد الخوئي (قدس سرّه) أكثر من مرة ((1)

أن هذا التعدد يوجب الإجمال، وقال أيضاً إن خلوّ إحدى الروايتين من تلك الزيادة يوجب عدم الوثوق بتحققها ومعه فلا يناقش في قدحها في الظهور كما لا يخفى((2).

وهو غير صحيح، فما دامت الروايتان معتبرتين فيؤخذ بمجموع مضمونيهما سواء وجد جزء في الأخرى أو لم يوجد حتى وإن ظُنَّ أنهما رواية واحدة صدرت من المعصوم (علیه السلام)، إذ من الممكن أن يُقطِّع الراويالرواية ويذكر محل الحاجة لواحد ويذكرها كاملة لآخر مع عدم وجود التنافي بينهما كما لو أن شخصاً نقل لآخر أن زيداً اشترى داراً ونقل لثالث

ص: 361


1- (1) المستند في شرح العروة الوثقى (المجموعة الكاملة): 21/135، 136.
2- (2) المستند في شرح العروة الوثقى:نفس الصفحة.

أنه اشترى الدار بكذا مبلغ ونقل للرابع أن فيها كذا غرفة فيؤخذ بالتفاصيل جميعاً.

نعم يحصل الإجمال فيما لو كانت الرواية واحدة بالأصل ولكنها ذُكِرت بصور مختلفة في نُسَخ الكتب فتكون مجملة لعدم معرفة الصياغة الصحيحة منها، وهذا تفريق دقيق.

ص: 362

الدليل المحرز غير الشرعي

كان الكلام فيما سبق عن الأدلة الصادرة من الشارع المقدس والتي يستنبط منها حكم شرعي ، اما الان فسيكون الكلام عن الأدلة غير الشرعية ، وسنتكلم فيها عن الاجماع ، والشهرة ، والدليل العقلي.

فان مشهور العلماء يقول ان الأدلة على الحكم الشرعي أربعة: وهي الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والعقل.

ومن المعروف ان الكتاب والسنة دليلان شرعيان اَي انهما صادران من الشارع ، اما الاجماع والعقل فليسا كذلك.

والبحث عن موضوع الشهرة في هذا المقام تاتى من استدلال الفقهاء على كثير من الاحكام الشرعية بالشهرة مع انهم لم يذكروها الى جانب الأدلة الأربعة ، ولذا فاننا سنذكر ما جاء في الشهرة والإجماع معا ؛ لان البحث فيهما واحد تقريبا من هذه الجهة.

ص: 363

الإجماع والشهرة
اشارة

بحث علماء الأصول موضوعي الإجماع والشهرة في اكثر من موضع ، حيث بحثهما البعض باعتبارهما دليلين على الحكم الشرعي بينما بحثهما البعض الاخر باعتبارهما كاشفين عن صدور الدليل الشرعي.

هذا فضلا عن بحث الشهرة باعتبارها مرجحا بين الأدلة في حالة التعارض.

وسننقل هنا آراء ومناقشات سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الاجماع والشهرة تارة باعتبارهما دليلين على الحكم الشرعي ، واُخرى باعتبارهما كاشفين عن الدليل.

اما الكلام عن الشهرة كمرجح في حالة التعارض فسيأتي في محله.

وسيكون الكلام هنا ضمن احدى عشرة مسالة:

المسألة الأولى: الاجماع الحجة.

المسألة الثانية: الاجماع والشهرة المدركيان.

المسألة الثالثة: الاجماع والشهرة المدركيان لا يكون منشؤهما رواية ضعيفة.

المسألة الرابعة: الاجماع الأوسع من النصوص.

المسألة الخامسة: الاجماع المتأخر عن زمن المعصوم.

المسألة السادسة: اختلاف أصحاب الائمة.

المسألة السابعة: الاجماع المركب.

المسألة الثامنة: الاجماع المنقول.

المسألة التاسعة: الاجماع السابق على النص.

ص: 364

المسألة العاشرة: المسألة الاجماعية.المسألة الحادية عشرة: الاجماع الكاشف عن الدليل.

المسألة الاولى: الاجماع الحجة.

اختلف علماء الأصول في مدرك حجية الاجماع على عدة أقوال: والظاهر من كلمات الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) انه يذهب الى حجية الاجماع باعتباره كاشفًا عن راي المعصوم (علیه السلام) .

جاء في الجزء الأول (صفحة 311) في مسالة طهارة غير المسلمين:

إن الإجماع إنما يكون مانعاً عن الأخذ بخلافه لو كان تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (علیه السلام) وهو هنا اجتهادي مبني على التمسك بالآية والأخذ بالاحتياط وموافقة أخبار النجاسة للتنزه واجتناب غير المسلمين بل غير المأمونين من المسلمين أيضاً وقد صرّحوا بمبانيهم، ثم تحوّلت هذه الاحتياطات والحزازات النفسية إلى فتاوى بالنجاسة وكم من تسالم بين القدماء خالفه المتأخرون كوجوب نزح البئر حتى خالفهم العلامة (قدس سرّه) ما دام الدليل على خلافهم.

المسألة الثانية: الإجماع والشهرة المدركيان.

قد يتفق عدد كبير من الفقهاء على فتوى معينة ، وهذا ما يعرف بالشهرة الفتوائية ، اما اذا اتفق كل الفقهاء على فتوى معينة فهذا هو الاجماع ، وكل من الشهرة الفتوائية او الاجماع قد يكون مستندا الى مدرك شرعي من رواية او قاعدة ، او مدرك غير شرعي كالدليل العقلي ، وفي كل الأحوال يصطلح عليه عندئذ بالمدركي فيقال شهرة مدركية وإجماع مدركي.

اما اذا لم نحتمل او نتيقن من الاستناد الى اَي مدرك مما ذكر فهي شهرة

ص: 365

تعبدية او اجماع تعبدي.

ومما لا خلاف فيه بين علماء الأصول ان الشهرة والإجماع المدركيان ليسا بحجة او دليلاعلى الحكم الشرعي.

وقد ذكر هذا مرارًا وتكرارًا في كل الكتب الفقهية وبطبيعة الحال تم ذكره كذلك في فقه الخلاف عند مناقشة من استدل بهما ، ومن موارد ذكره في فقه الخلاف:

1- ما جاء في الجزء العاشر (صفحة 237) في مسالة حلية السمك اذا مات في الماء محبوسًا، اذ قال (دامت بركاته):

انها شهرة مدركية معلومة المستند وهي الروايات المتقدمة وليست تعبدية حتى يمكن ان تكون دليلاً.

2- ما جاء في الجزء الأول (صفحة 84) في مسالة مطهرية الشمس ، اذ قال (دامت بركاته):

ان الشهرة حتى لو بلغت الإجماع إنما هي مدركية لوضوح استنادها إلى الروايات التي سنتعرض لها إن شاء الله تعالى فلا يكون الإجماع فضلاً عن الشهرة حجة في المقام.

المسألة الثالثة: الإجماع والشهرة المدركيان لا يكون منشؤهما رواية ضعيفة.

عندما يتفق عدد كبير ، او كل الفقهاء على فتوى معينة فلابد ان يكون هناك مستند قوي من شانه ان يخلق مثل هذا الاتفاق ؛ ولذا فلا نتصور وجود شهرة او اجماع مدركيين من رواية او روايتين ضعيفتين.

وهذا ما بينه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الخامس (صفحة 174) في مسالة معادلة المد بثلاثة ارباع الكيلو غرام تقريبًا او تحقيقًا ، حيث قال:

ص: 366

إن هذه الشهرة التي تكاد تكون إجماعاً لا يمكن أن يكون منشؤها روايتين ضعيفتين فإن مثلهما لا يؤسس لمثل هذه الحالة فلا بد أن يكون لهذه الشهرة مستند آخر وهو تلقي الأجيال لها يداً بيد حتى زمان المعصوم (علیه السلام) وإذا حصل تغيير في وزن الرطل أو الدرهم فإنه ينقله بأمانةإلى ما يعادله كما نقل المعاصرون الوزن بأمانة إلى الكيلو غرام.

وقد ذكرنا سابقاً كبرى أن الإجماع لكي يصح كونه مدركياً لا بد أن يكون المدرك بقوته(1) والمقام ليس منه لأن المدرك روايتان ضعيفتان والمجمع عليه قوي ومشهور وعليه العمل في مسائل ابتلائية وفي موارد عديدة (الكر، الزكاة، زكاة الفطرة، الفدية، الكفارة) ولا يحتمل غفلة أي جيل عنها.

ومن عبارات الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) التي تفيد هذا المعنى أيضا ما جاء في الجزء الأول (صفحة 355) في مسالة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة من جسد الانسان ، حيث قال:

وهذا الإجماع المدعى ليس مدركياً لعدة قرائن:

1- إنه لا يمكن أن يكون مستنده رواية مرسلة أي لا تصنع رواية مرسلة مثل هذا الإجماع فهو تعبدي ويكون معتبراً.

2- بناءً على ما أفاده المحقق (قدس سرّه) من أن العامل بالرواية قليلٌ فيكون باقي الإجماع تعبدياً.

1-إن الرواية ظاهرة في المبانة من الحي مع أن الإجماع قائم على المبانة من الإنسان مطلقاً فموضوعهما مختلف.

ص: 367


1- هذه الكبرى كان يميل إليها سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) وفهمت منه أنه تلقاها من أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه).

كما جاء في الجزء الثالث عشر في مسالة مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيرا بيان لهذه الكبرى ، اذ قال شيخنا الأستاذ (دامت بركاته):

نعم يمكن تقريب حجية الإجماع بكبرى نقلها سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) عن أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) والتزما بها حاصلها أن المدركية إنما تحتمل إذا كان مثل هذا المدرك قادراً على إنتاج مثل هذا الإجماع، أما إذا لم يكن كذلك فالمدركية غير محتملة كما في المقامإذ لا يمكن للرواية في المقام أن تنتج مثل هذا الإجماع والتسالم فنسأل حينئذٍ عن منشأ الحصة الزائدة من الإجماع عن المدرك المدعى وليس هو إلا التعبد الكاشف عن حكم المعصوم (علیه السلام).

المسألة الرابعة: الاجماع الأوسع من النصوص.

اتضح مما ذكرناه في المسالتين السابقتين ان سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) يفصّل في الاجماع المدركي بين ما كان مستندا الى روايات عدة او قاعدة ، وبين ما كان مستندا الى رواية ضعيفة او روايتين: فالأول مدركي وليس بحجة ، اما الثاني فلا يوصف بالمدركية ؛ لان قوة الاجماع لا تتناسب مع هذا المدرك مما يعني ان الاجماع الزائد عما يناسب الرواية هو اجماع تعبدي حجة.

ولكن نضيف هنا انه قد توجد في مورد ما روايات ونصوص كثيرة ومع ذلك يكون الاجماع حجة فيما اذا كان هذا الاجماع ثابتًا وراسخًا ؛ لانه أوسع من النصوص.

وقد ذكر هذا الكلام في الجزء الثامن (صفحة 77) عند بيان ادلة وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، اذ قال (دامت بركاته):

ص: 368

والإجماع على الوجوب في الجملة محصّل ومنقول، وهو ثابت في شرع المسلمين جميعاً، وقد يناقش في الإجماع بأنه مدركي، إلا أنه مردود لأن الإجماع المتحقق في المقام أوسع بكثير من النصوص وأرسخ منها مما يرجّح عدم كفاية النصوص في تفسيره، وإنما هو تعبدي متصل بزمن المعصومين (علیهم السلام).

المسألة الخامسة: الاجماع المتأخر عن زمن المعصوم.

اختلف العلماء الذين قالوا بحجية الاجماع واعتباره دليلًا على الحكم الشرعي في ان الاجماع الحجة هو خصوص اجماع المتقدمين الذين عاصروا أصحاب الائمة (علیهم السلام) ام انهيشمل حتى اجماع المتأخرين.

والذي يذهب اليه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ان الاجماع الحجة هو خصوص اجماع المتقدمين أي الاجماع المتصل بزمان المعصوم (علیه السلام) ؛ لانه هو الذي يكشف عن راي المعصوم ، ومن هنا قال في الجزء الأول (صفحة 322 – 323) في مسالة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة من جسد الانسان:

الظاهر كون الإجماع متصلاً بعصر المعصومين (علیهم السلام) فملاك حجية الإجماع متحقق فيه، ولا يناقش في كونه مدركياً، إذ يظهر من عدة روايات أن وجوب الغسل كان ثابتاً عند أصحاب الأئمة (علیهم السلام) ومفروغاً منه فكانوا يسألون عن التفريعات والتطبيقات وكان الإمام (علیه السلام) يقرّهم على ذلك كما في صحيحة إسماعيل بن جابر (أليس لا ينبغي أن يمس الميت بعد ما يموت، ومن مسّه فعليه الغسل) وفي مكاتبة الحسين بن عبيد (هل اغتسل أمير المؤمنين (علیه السلام) حين غسَّل رسول الله (صلی الله علیه و آله) عند موته) أو انتقال الإمام

ص: 369

(علیه السلام) إلى تعليل تشريع الوجوب في علل الفضل بن شاذان(1) وكأن الوجوب مسلَّم.

ولذا فاذا شككنا في اتصال الاجماع بزمان المعصوم لم يكن ذلك الاجماع حجة. قال (دامت بركاته) في الجزء الأول (صفحة 312) في مسالة طهارة غير المسلمين:

الشك في اتصال هذا الإجماع بزمان المعصوم (علیه السلام) وعدم وجود مثل هذا الارتكاز لدى أصحاب الأئمة (علیهم السلام) بل الموجود خلافه كما قرّبنا في المرتبة الثانية فالمحتمل أن هذا الإجماع نشأ بعد زمان المعصومين (سلام الله عليهم).

المسألة السادسة: اختلاف أصحاب الائمة.

بعد ان اشترطنا في الاجماع الحجة كونه متصلًا بزمان المعصومين (علیهم السلام) أشار سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) الى بعض ما يبين ان الاجماع غير متصل بزمانهم كاختلاف أصحابهم في المسالة ؛ فان هذا الاختلاف يثبت انه لم يكن هناك اجماع في زمان المعصوم (علیه السلام).

جاء هذا المعنى في الجزء الخامس (صفحة 216 – 217) في مسالة في ما تجب فيه الزكاة ، اذ قال (دامت بركاته):

أقول: دعوى الإجماع غير تامة صغروياً وكبروياً والإجماع ليس متحققاً في عصر أصحاب الأئمة (علیهم السلام) ولا عند الفقهاء (قدس الله أرواحهم)، وبيان ذلك في النقاط التالية:

1- كشفت جملة من الروايات عن وجود خلاف بين أصحاب الأئمة (علیهم السلام)

ص: 370


1- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 1، ح 2، 6، 11.

أو عدم وضوح في شمول الوجوب لغير التسع لذا أكثروا من السؤال عنه، كما في مرسلة القماط ومعتبرة الطيار وجميل وصحيحة زرارة(1) وموثقة أبي بصير(2)

الآتية، بل يظهر من صحيحة ابن مهزيار الآتية أن لكل قولٍ رواة ومفتين من الأصحاب فكتبوا بذلك إلى الإمام الهادي (علیه السلام).

2- نقل الكليني في الكافي الوجوب في غير التسع عن يونس بن عبد الرحمن وهو من فقهاء أصحاب الإمامين الكاظم والرضا (علیهما السلام) وأن الاقتصار على التسع كان مؤقتاً بعفو من رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وقال ابن الجنيد(3)

وهو من قدماء الأصحاب بالوجوب في كل ما دخل القفيز من الحبوب، وأوجببعضهم الزكاة في أموال التجارة وبعضهم في الخيل، وبعض آخر في الأحجار الثمينة.

ويظهر من الكليني (قدس سرّه) اختيار قول يونس فقد عقد للروايات أكثر من باب، عنون الأولى: «ما وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) الزكاة عليه» وذكر صحيحة الفضلاء وخبر أبي بكر الحضرمي وذكر قول يونس ثم عنون الثانية: «باب ما يزكى من الحبوب» وذكر روايات التعميم ثم عنون الثالثة: «ما لا يجب فيه الزكاة مما تنبت الأرض من الخضر وغيرها».

المسألة السابعة: الاجماع المركب.

اذا وجدت ثلاثة احتمالات مثلا في مسألة من المسائل ، وانقسم الفقهاء في الفتوى: فأفتى بعضهم وفق الاحتمال الأول ، وأفتى البعض الاخر وفق الاحتمال الثاني ، ولَم يفتِ اَي منهم وفق الاحتمال الثالث ، فعندئذ يقال: ان هناك اجماعا

ص: 371


1- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 8، الأحاديث 3، 12، 13، 9.
2- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب9، ح 11.
3- مختلف الشيعة للعلامة الحلي: 3/70.

مركبا على نفي الاحتمال الثالث.

وقد اختلف العلماء في حجية هذا الاجماع ، والظاهر من كلمات الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) انه يبني على عدم حجيته ، اذ قال في الجزء الأول (صفحة 113) في مسالة مطهرية الشمس:

ونحن قد وافقناه بان الصحيحة والموثقة لا يستفاد منها الا طهارة (المكان) و(الموضع) مما تصدق عليه الأرضية، وبهذا العنوان حكم بطهارة الألواح وغيرها من الأشياء التي تُعدّ جزءاً من الأرض كالحصى وليس بعنوان كونها اوتاداً أو حصى حتى يقال بعدم القول بالفصل ولا يوجد فقيه نظر إلى الأوتاد والألواح بما هي أوتاد وألواح حتى ندعي الإجماع المركب بل كان نظرهم (قدس الله أسرارهم) إلى الأرض وغير الأرض وهذه الأشياء لوحظت كأجزاء منها مضافاً إلى اننا لا نقول بحجية الإجماع المركب لعدم توفر ملاك حجية الإجماع فيه.ولكن سماحته بيْن في الجزء الثالث عشر في مسالة حد المبيت الواجب في منى (صفحة 137) ان هناك حالات يكون فيها الاجماع المركب نافيًا للقول الثالث ، اذ قال (دامت بركاته) عند مناقشة الاجماع على عدم كفاية المبيت جزءًا يسيرًا من الليل:

أقول: يمكن دفع هذا المحذور – مضافًا الى مخالفته لروايات الاصباح في منى بناءً على اطلاقها من حيث البداية – بأنه اجماع مركب من وجوب مبيت احد نصفي الليل تعيينًا او تخييرًا ، والاجماع المركب لا يكون نافيًا للقول الثالث الا اذا كان هذا النفي من القدر المتيقن ؛ لانه دليل لبي يقتصر منه عليه ، او يشمله معقد الاجماع ولا نجزم بتحققهما هنا ، خصوصًا وان المشهور القائل بتعين النصف الأول سكت عن حكم من لم يبت فيه لعذر او لغير عذر ، وهل يكتفي منه بالاصباح في منى او يلزمه بالحضور عند

ص: 372

منتصف الليل.

ولعل هذه النكتة غير معروضة في علم الأصول الا ان مبحثًا قريبًا منها مذكور هناك وهو عدم نفي الدليلين المتعارضين لثالث الا اذا كان فيهما دلالة التزامية على نفيه كما اختار السيد الخوئي (قدس سرّه) فإن «الإخبار عن الملزوم وان كان إخبارًا عن اللازم ، الا أنه ليس إخبارًا عن اللازم بوجوده السعي ، بل اخبار عن حصة خاصة هي لازم له ، فإن الإخبار عن وقوع البول على الثوب ليس إخبارًا عن نجاسة الثوب بأي سبب كان ، بل إخبار عن نجاسته المسببة عن وقوع البول»(1)

المسألة الثامنة: الاجماع المنقول.

عندما نتكلم عن الاجماع الحجة فاننا نتكلم عن الاجماع المحصّل المسبَب عن تتبع أقوال العلماء والوقوف على اتفاقهم في الفتوى ، اما الاجماع المنقول فانه لا يعدو كونه خبرثقة عن وجود اجماع على الحكم الشرعي.

ومن هنا ذهب الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) الى عدم حجية الاجماع المنقول حيث قال في الجزء الأول (صفحة 172) في مسالة طهارة الكحول:

أقول: الإجماع المنقول ليس بحجة وما ادعي من عدم الخلاف لم يثبت، فقد خالف عدد من فقهائنا الأقدمين ممن يُعتدّ برأيهم لاطلاعهم الكامل على أحكام مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وقرب عهدهم بالمعصومين (سلام الله عليهم)، بل إن الروايات(2) تشير إلى وجود هذا الخلاف حتى في زمان الأئمة المتأخرين (علیهم السلام) ولم يكن الحكم بالنجاسة مجمعاً عليه عند أصحاب الأئمة

ص: 373


1- مصباح الأصول من الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي (قدس سرّه): 48/ 445.
2- راجع وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، ابواب النجاسات، باب 38، ح2، 4، وباب18، ح2.

(سلام الله عليهم) ففي رواية خيران الخادم الآتية عن الإمام الهادي (علیه السلام): (أنه كتب إلى الرجل يسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير يصلّى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا اختلفوا فيه)، وصحيحة علي بن مهزيار الآتية التي تشير إلى اختلاف النقل عن الأصحاب. وصحيحة كليب بن معاوية التي يظهر منها أن أبا بصير وأصحابه لم يكونوا يعرفون نجاسة الخمر.

مضافاً إلى كون الإجماع في المقام مدركياً لاستناد القائلين بالنجاسة إلى الروايات الدالة عليها وليس إلى الإجماع التعبدي المتلقّى جيلاً بعد جيل حتى يصل إلى عصر المعصوم (علیه السلام)، لذلك فإن المجمعين مختلفون في التفاصيل فمنهم من قال بنجاسة خصوص المتخذ من العنب وقيل من الأصول الخمسة وقيل كل مسكر مائع بحسب استفادتهم من الروايات، فالاستدلال على المسألة منحصر بالروايات.

المسألة التاسعة: الاجماع السابق على النص.

قد نحصّل الاجماع في مسالة ما ، ونجد روايات تدل على نفس الحكم المجمع عليه ، ولكن هذا لا يعني بالضرورة ان الاجماع مدركي ومستند الى تلك الروايات ، فقد يكون سابقا عليها وتكون تلك الروايات صادرة بعد الاجماع.

ويمكن استكشاف ذلك من أسئلة الرواة حينما يعتبرون هذا الحكم مفروغا عنه في أسئلتهم. وبطبيعة الحال فاننا لا نقصد بذلك اجماع الفقهاء ، وانما نقصد اجماع أصحاب الائمة ، و وجود ارتكاز عندهم في تلك المسالة.

هذا ما اوضحه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء السادس (صفحة 82 – 83) عند بيان ادلة وجوب الخمس على كل فائدة ، حيث قال:

الدليل الثالث: الإجماع، أجمع علماء الطائفة على وجوب الخمس في الفاضل عن المؤونة من كل ما يستفيده الإنسان، ولم تنقل المخالفة إلا عن

ص: 374

ابن الجنيد وابن أبي عقيل، ومخالفتهما لا تضر، مع أن الأول احتاط بالوجوب وربما كان مرادهما إسقاط الأئمة (علیهم السلام) له لا نفي وجوبه أصلاً.

وقد يناقش الإجماع من جهة أنه مدركي مستند إلى الروايات المتقدمة.

لكن هذه المناقشة غير صحيحة فإن الإجماع تعبدي متصل بعصر المعصومين وسابق على عصر صدور كثير من النصوص لذا رأينا في جملة من الروايات أن ثبوت الخمس وحق الإمام (علیه السلام) في ذمة المكلفين كان مفروغاً منه عند السائل، كما يظهر من جملة منها أن سيرة أصحاب الأئمة كانت جارية على نقل أخماس أرباح تجاراتهم وحاصل ضياعهم إلى الأئمة (علیهم السلام).

المسألة العاشرة: المسألة الاجماعية.

ناقش سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الحادي عشر المسألة المعروفة بالمسألة الاجماعية ، والتي قال عنها (دام ظله) في مقدمتها (صفحة 125):

تقدم في المسألة السابقة تسالم الفقهاء على قاعدة الأقرب يمنع الأبعد ويحرمه من الميراث ومقتضى إطلاقها أن الأقرب إلى الميت ولو كان بسبب واحد –أي الأب أو الأم فقط- يمنع المراتب المتأخرة ولو كانوا يتقربون إليه بسببين –أي الأب والأم- فلا يرث أحد من أولاد العمومة والخؤولة مع وجود واحد من العمومة أو الخؤولة إلا أنهم أجمعوا على استثناء ابن العم من الأبوين فإنه يحجب عمّه من الأب فقط، فيكون ابن العم أولى بالإرث من العم، وبه خصّصت القاعدة.

قال الشيخ في المبسوط بعد أن بيّن مقتضى القواعد في التقديم: «إلا مسألة واحدة وهي ابن عم للأب والأم مع عم للأب فإن المال لابن العم للأب

ص: 375

والأم، دون العم للأب ولا يحمل عليها غيرها، لأن الطائفة أجمعت على هذه»(1).

أقول: كلامه (قدس سرّه) يفيد عدة أمور وهي الصورة المفروضة للمسألة، وأنها على خلاف القواعد فلا تتعدى إلى غيرها، وأن دليلها الإجماع.

وقد ناقش (دامت بركاته) هذا الاجماع ، وذكر فوائد سيالة يمكن تطبيقها في كثير من الاجماعات الموجودة في الفقه كإجماع المتابعة ، لذا سنذكر كلامه في هذا الخصوص كاملًا ، اذ جاء في (صفحة 135) وما بعدها:

وأما كبروياً: فمثل هذا الإجماع ليس حجة إما لأنه مدركي، أو لأن المشهور هو من صنعه وقد ثبتت نظائر ذلك بالتجربة والتحصيل، وذلك بأن يتبنى أحد المشاهير في عصره –أو مجموعة منهم- قولاً ثم يتبناه تلامذته لهيبة القائل وقدسية آرائه أو أنه أستاذ مهيمن على تلامذتهوعموم الناس فلا يجرأون على مخالفة أقواله فيوافقونه أو يعرضون عن ذكر ما يخالفه ثم يأتي الجيل اللاحق فلا يجد خلافاً في المسألة فيقول بها؛ لأن المنجّز لوجوب الفحص والتحقيق على المجتهد ليس كونه مجتهداً كما يُشعر تعليق الحكم على وصف الاجتهاد المشعر بالعلية كما يقولون، وإنما ينجّزه عدم الاطمئنان بالحكم الموجود -كالمتن الذي يريد التعليق عليه- وأهم مناشئه وجود الخلاف في المسألة.

ثم يتتابع الفقهاء على القول بالحكم المذكور اعتقاداً منهم أنه رأي المشهور وعدم وجود مخالف فيه، ويمكن تسمية هذا الإجماع ب(إجماع المتابعة) وهو ليس بحجة...، وهذا كله يجري في عصر غير متصل بزمان المعصوم (علیه السلام) فهم أصل له وهو أصل لهم.

ص: 376


1- المبسوط: 4/78.

إن قلتَ –بناءً على كبرى سمعتها من سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) وكان يقول بها وحكى القول بها عن أستاذه السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه)-: إن هذا الإجماع تعبدي فيكون حجة، والوجه في ذلك أن هذا التسالم القطعي لدى الفقهاء على الحكم المذكور لا يمكن أن تصنعه رواية ضعيفة غير ظاهرة في المطلوب وهذا يكشف عن تعبدية الإجماع في جزئه الزائد عما يقابل هذا المدرك الضعيف.

قلتُ: قد عرفت الشك في الصغرى أي وجود هذا الإجماع، والشك في اتصاله بعصر المعصومين (علیهم السلام)، ثم إننا نستطيع أن نقول أن هذا الاتفاق من الفقهاء على هذا الحكم مع ضعف مستنده الفقهي كان لموافقته لعقيدة الإمامية في تقديم أمير المؤمنين (علیه السلام) للخلافة وأفضلية أهل بيته على بني العباس في ولاية أمور الأمة وأن بني علي وفاطمة هم ورثة رسول الله (صلی الله علیه و آله) دون غيرهم وكان الجدل محتدماً مع أعداء أهل البيت (علیهم السلام) وحسّادهم الذين سعوا بكل جهدهم لنفي بنوّتهم لرسول الله (صلی الله علیه و آله) لأنهم بنو بنت وكان شاعرهم يقول:

أنى يكون وليس ذاك بكائنٍ *** لبني البنات وراثة الأعمامِ

وقول عبد الله بن المعتز:

قتلنا أمية في دارها *** فكنّا أحقّ بأسلابها

لكم رحمٌ يا بني بنته *** ولكن بنو العم أولى بها

ومنها قوله:

ولما أبى الله أن تملكوا *** دعتنا إليها فقمنا بها

ونحن ورثنا ثياب النبي *** فكم تجذبون بأهدابها

وخلاصة الكلام: أن هذه الرواية تصلح شاهداً على صحة اعتقادات

ص: 377

الإمامية وحجة على المخالف، فإذا أردنا أن نأخذ بمضمون الرواية ففي الجانب الاعتقادي لا الفقهي، على أن العقيدة الحقة في أحقية أهل البيت (علیهم السلام) بإمامة الأمة ثابتة بالأدلة من الكتاب والسنة ولا نحتاج فيها إلى مثل هذه الرواية الضعيفة.

والاستدلال بها فقهياً في موردها لا يتم إلا على القول بالتعصيب الذي هو باطل عندنا، لأن للنبي (صلی الله علیه و آله) وارثاً أقرب من الأعمام وأبناء الأعمام وهي ابنته الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء وفي فقه أهل البيت (علیهم السلام) أنها تحوز الميراث كله بعد إخراج حصة الأزواج، أما العامة فقد أعطوا البنت المنفردة النصف وللأزواج نصيبهن الأدنى، والباقي للعصبة وحينئذٍ يكون للنزاع موضوع في أي من العصبة هو الأولى بالميراث العم للأب أم ابن العم للأبوين، فأي دليل هذا لا يجري في الواقعة التي ذُكرت فيه؟.

ويؤيد ما ذكرناه من استناد المجمعين إلى ما ظنّوه دليلاً في المقام، وكون جذور هذا القول عقائدية لإلزام الخصم بما يعتقد وإقامة الحجة عليه ما ورد في تحف العقول وما رواه الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا (علیه السلام) –ولعله ما أراد بقوله في الفقيه الخبر الصحيح بل جزمنا بذلك فيما سبق- في حديث رفعه إلى الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: (لما أُدخلت على الرشيد سلّمت عليه فرد علي السلام ثم قال: يا موسى بن جعفرخليفتين يجبى إليهما الخراج؟! فقلت: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تبوء بإثمي وإثمك، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمتَ أنه قد كُذب علينا منذ قُبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) بما عِلمُ ذلك عندك فإن رأيت بقرابتك من رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن تأذن لي أن أحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فقال: قد أذنت لك، فقلت: أخبرني أبي عن آبائه عن جده رسول الله (صلی الله علیه و آله) أنه قال: إن الرحم إذا مسّت الرحم تحركت

ص: 378

واضطربت، فناولني يدك –جعلني الله فداك- فقال: أدنُ، فدنوتُ منه، فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني طويلاً ثم تركني، قال: اجلس يا موسى فليس عليك بأس، فنظرت إليه فإذا أنه قد دمعت عيناه فرجعت إليّ نفسي، فقال: صدقت وصدق جدك (صلی الله علیه و آله)، لقد تحرك دمي واضطربت عروقي حتى غلبت عليّ الرقة وفاضت عيناي، وأنا أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين لم أسأل عنها أحداً، فإن أنت أجبتني عنها خليت عنك ولم أقبل قول أحد فيك، وقد بلغني أنك لم تكذب قط، فاصدقني عمّا أسألك مما في قلبي، فقلت: ما كان علمه عندي فإني مُخبرك إن أنت أمنتني، فقال: لك الأمان إن صدقتني وتركت التقية التي تُعرفون بها معشر بني فاطمة، فقلت: ليسأل أمير المؤمنين عما شاء، قال: أخبرني لم فُضّلتم علينا ونحن في شجرة واحدة وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد، إنا بنو العباس وأنتم ولد أبي طالب وهما عما رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقرابتهما منه سواء؟! فقلت: نحن أقربُ، قال: وكيف ذلك؟ قلت: لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأم، وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد الله ولا من أم أبي طالب.

قال: فلمَ ادعيتم أنكم ورثتم النبي (صلی الله علیه و آله) والعم يحجب ابن العم وقُبض رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد توفى أبو طالب قبله والعباس عمه حيّ؟ فقلت له: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني من هذه المسألة ويسألني عن كل باب سواه يريده، فقال: لا، أو تجيب، فقلت: فآمني فقال: قد آمنتك قبل الكلام،فقلت: إن في قول علي بن أبي طالب عليه السلام: أنه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو أنثى لأحد سهم إلا للأبوين والزوج والزوجة، ولم يَثبت للعم مع ولد الصلب ميراث ولم ينطق به الكتاب إلا أن تيماً وعدياً وبني أميه قالوا: العم: والد، رأياً منهم بلا حقيقة ولا أثر عن الرسول (صلی الله علیه و آله) ومن قال بقول علي (علیه السلام) من العلماء فقضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دراج يقول في هذه

ص: 379

المسألة بقول علي (علیه السلام) وقد حكم به وقد ولاه أمير المؤمنين المصرين الكوفة والبصرة، وقد قضى به فأُنهي إلى أمير المؤمنين فأمر بإحضاره وإحضار من يقول بخلاف قوله منهم سفيان الثوري وإبراهيم المدني والفضيل بن عياض، فشهدوا: أنه قول علي (علیه السلام) في هذه المسألة، فقال لهم فيما أبلغني بعض العلماء من أهل الحجاز: فلم لا تفتون به وقد قضى به نوح بن دراج؟ فقالوا: جسر نوح وجبنا وقد أمضى أمير المؤمنين قضية يقول قدماء العامة عن النبي (صلی الله علیه و آله) أنه قال: (علي أقضاكم) وكذلك قال عمر بن الخطاب: (علي أقضانا) وهو اسم جامع؛ لأن جميع ما مدح به النبي أصحابه من القراءة والفرائض والعلم داخل في القضاء.

قال: زدني يا موسى، قلت: المجالس بالأمانات، وخاصة مجلسك، فقال: لا بأس عليك، فقلت: إن النبي (صلی الله علیه و آله) لم يورّث من لم يهاجر ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر، فقال: ما حجتك فيه؟ فقلت: قول الله تعالى: «وَالذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتَهُم مِنْ شَيءٍ حَتّى يُهَاجِرُوا» وإن عمّي العباس لم يهاجر)(1).

أقول: الحديث طويل وفيه استدلال على كون بني فاطمة أبناء رسول الله (صلی الله علیه و آله)، وفيه نفي موضوع النزاع بين العم وابن العم لوجود البنت –وهي فاطمة (علیها السلام)- وإنما افترض النزاع على القول بالتعصيب، ويظهر من الروايةأن قول أمير المؤمنين (علیه السلام) بتوريث البنت دون الأعمام وأبنائهم كان معلوماً ومشهوراً لدى جميع الفقهاء ولكنهم كانوا يخشون العمل به.

ص: 380


1- تحف العقول: 404، وعيون أخبار الرضا: 63-65، باب 7، جمل من أخبار موسى بن جعفر مع هارون، ح9.
المسألة الحادية عشرة: الاجماع الكاشف عن الدليل.

ان الفقيه عندما يفتي لابد ان يستند في فتواه الى دليل شرعي ثبتت حجيته عنده ، فاذا اجمع الفقهاء على فتوى ولَم يكن بين أيدينا ما يصح ان يكون دليلًا على تلك الفتوى كشف ذلك عن استنادهم الى دليل لم يصل إلينا.

وبهذا التقريب يكون الاجماع كاشفا عن صدور الدليل الشرعي.

وقد قرّب سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) كاشفية الاجماع عن الدليل بتقريب اخر محصله: ان الفقهاء اذا اجمعوا على فتوى استنادا لرواية ضعيفة دل ذلك على صدور تلك الرواية من المعصوم.

ثم اجاب عن الإشكالات التي يمكن ان ترد على هذا التقريب.

جاء ذلك في الجزء السادس (187) في الكلام عن مرسلة ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في الرجل يعبث بالغلام قال: إذا أوقب حرمت عليه أخته وابنته)(1).:

وحينئذٍ يُقَرَّب الاستدلال بعدة وجوه:

أ- إطباق الأصحاب بمن فيهم القدماء على قبولها واستنادهم إليها مما يحصّل الاطمئنان بصدورها عن المعصوم (علیه السلام) وهذا الإجماع كاشف عن نص المعصوم وليس فقط عن رأيه الذي جعلوه مناط حجية الإجماع.

وإذا منع الأصوليون من حجية مثل هذا الإجماع باعتباره مدركياً فإنه لا تبقى للإجماع حجية لعدم إمكان تحصيل مناط الإجماع الذي ذكروه لاحتمال استناده إلى مثل هذه النصوص أو التي لم تصل كما تقدم في الحديث عن الفقه الرضوي فأنّى لهم إثبات كونه كاشفاً عن رأي المعصوم؟فلا بد من تحليل الإجماع المدركي وفهم وجوهه وتمييز الحجة من غيره.

ص: 381


1- وسائل الشيعة، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 15، ح6.

ب- أو يقال ان وصف الإجماع بأنه مدركي من خلال وجود نص استند إليه المجمعون لا بد أن يلحظ فيه كون قوة الإجماع بقوة المدرك ولا تطلق دعوى المدركية جزافاً وفي المقام يبلغ الإجماع ذروته حتى انه لا يوجد مخالف كما نقلنا والمدرك المدعى عبارة عن مرسلة لم تثبت حجيتها فإما ان تكون المرسلة مطمأنة الصدور عن المعصوم (علیه السلام) وهو الوجه الأول أو ان الحصة الزائدة من الإجماع هي من الإجماع التعبدي الكاشف عن رأي المعصوم (علیه السلام) وهو الوجه الثاني.

وهذه الكبرى الأخيرة مما كان يأخذ بها سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) وفي بالي انه أخذها من أستاذه الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه).

ص: 382

الدليل العقلي
اشارة

تطرق سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) لعدد من مسائل الدليل العقلي في موسوعة فقه الخلاف ، وسنذكر المهم منها في اربع وعشرين مسالة:

المسألة الأولى: الخلط بين مقدمات الواجب والوجوب.

المسألة الثانية: تحصيل مقدمات الوجوب.

المسألة الثالثة: انحاء شروط الوجوب

المسألة الرابعة: مناقشة كبرى التكليف بمقدمات الواجب وعدم المسؤولية عن مقدمات الوجوب.

المسألة الخامسة: مقدمة الحرام.

المسألة السادسة: الحرمة الغيرية.

المسألة السابعة: ترك المستحب يقتضي الكراهة.

المسألة الثامنة: إشكالية المقدمات المفوتة.

المسألة التاسعة: التخييري من اقسام الواجب لا الوجوب.

المسألة العاشرة: العيني والكفائي من اقسام الواجب.

المسألة الحادية عشرة: افضلية بعض أفراد الوجوب التخييري.

المسألة الثانية عشرة: مورد قاعدة الاشتغال اليقيني.

المسألة الثالثة عشرة: الوجوب العقلي للنهي عن المنكر.

المسألة الرابعة عشرة: ثمرة البحث في كون الوجوب عقليا او شرعيا.

المسألة الخامسة عشرة: التزاحم.المسألة السادسة عشرة: التزاحم والطولية الرتبية.

ص: 383

المسألة السابعة عشرة: تقديم الأهم ملاكا على المهم وان لم يكن الأهم الزاميا.

المسألة الثامنة عشرة: الغاية تبرر الوسيلة.

المسألة التاسعةعشرة: اجتماع وجوبين على موضوع واحد.

المسألة العشرون: عدم استحالة الفرد المردد.

المسألة الحادية والعشرون: حجية العلم ليست ذاتية.

المسألة الثانية والعشرون: الموضوع التقديري للأحكام.

المسألة الثالثة والعشرون: الواجبات النظامية.

المسألة الرابعة والعشرون: الترجيح بالسبق الى العمل.

المسألة الأولى: الخلط بين مقدمات الواجب والوجوب.

من اهم مباحث الدليل العقلي مبحث تحديد مقدمات الواجب والوجوب ، ومسؤولية المكلف تجاه هذه المقدمات.

وقد جاء في الجزء الثالث (صفحة 40) كلام مهم في هذا الموضوع حيث بيّن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ان المشهور اعتبر بعض المقدمات مقدمات للوجوب والصحة في وقت واحد ، وهذا غير صحيح لاختلاف الاثار المترتبة على كل منها. جاء هذا الكلام عندما بحث سماحته مسالة مقدمية الحضر للصوم ، ونص كلامه هو:

هل الحضر وما بحكمه قيد للوجوب أم للواجب؟

بُحثت(1) المسألة في موضعين من كلمات الفقهاء، (أحدهما) شرائط الصحة و (ثانيهما) شرائط الوجوب؛ ولذا قالوا لا يصح الصوم من المسافر

ص: 384


1- لاحظ كتاب العروة الوثقى وشروحه كالمستمسك والمستند، ولم يُشِر أحدٌ إلى هذا البحث.

وقالوا لا يجب الصوم على المسافر، فهل هذا صحيح؟ أيكون الحضر هو من شرائط الوجوب في الصوم، ومن شرائط الصحة كما هو ظاهر كلماتهم بل صريحها(1).

وفيه: إن هذا خلف تقسيمهم الشروط في علم الأصول بأنها إما شروط وجوب أو شروط وجود أي للواجب، وبتعبير آخر إن قيدية الحضر للصوم هل تعود إلى الهيأة أم المادة؟ على نحو القضية مانعة الجمع، ورتّبوا على ذلك فرقاً، وهو أن شروط الوجوب لا يجب تحصيلها، بينما شروط الواجب يجب تحصيلها، مضافاً إلى ما يمكن أن يقال من الاختلاف في الأصول الجارية عند الشك في الشرائط بين الصحة والوجوب.

وحينئذٍ نتساءل هل أن الحضر شرط للوجوب، وأن ما ذكروه من شرطيته في الصحة تبع لذلك، باعتبار أن كل شرط للوجوب هو شرط للصحة لأنَّ خلو الفعل من الأمر يجعله غير مشروع كصلاة الحائض مثلاً، إلا أن ينضمَّ له أمر آخر كعبادات الصبي التي ورد الدليل على استحبابها.

وعلى هذا فما معنى بحث الشرط من جديد في شرائط الصحة؟.

أم أنه شرط للصحة أي أنه من قيود الواجب، وأن الوجوب ثابت على كل حال،

وبتعبير آخر: إن معنى الصحة في المصطلح مطابقة المأتي به للمأمور به، فالصحة فرع هذه المطابقة، أما الأمر فمفروغ منه.

وقد اعترف السيد الخوئي (قدس سرّه) بتداخل المعنيين للصحة في الأمور التي ذكروها، قال (قدس سرّه) معلقاً على عنوان العروة الوثقى في شرائط

ص: 385


1- قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «إن صحة صوم رمضان كوجوبه مشروطة بالحضر» (المستند في شرح العروة الوثقى: 22/24).

الصحة: «وهي بين ما يكون شرطاً في الصحة وما هو شرط في تعلق التكليف، وعلى أي حال فهي معتبرة في الصحة إما لكونها شرطاً للأمر أو للمأموربه»(1).

أقول: هذا التداخل غير مقبول لما عرفنا من الفرق في الآثار والأصول الجارية، وقد امتد هذا الخلط ليشمل ما هو صريح في كونه من شروط الوجوب كالخلو من الحيض والنفاس.

معاني صحة العمل

يتواصل كلام سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في المسألة السابقة ، ولكننا قطعناه ؛ لابراز النكات المهمة التي اثارها هنا ، ولَم نجعلها في مسالة مستقلة ؛ لانها خارجة عن الدليل العقلي.

وفي هذا المقطع من كلامه يبين ان المشهور استعمل مصطلح الصحة في معان عدة ، حيث قال:

ولإتمام الفائدة نقول: قد تطلق الصحة على معنى أخصّ من هذا، وهو عدم لزوم الإعادة، مقابل معنى الفساد وهو عدم الغنى عن الإعادة، وإنما كان أخصّ لأن الأداء قد يتحقق بالفعل لكنه لا يغني عن لزوم الإعادة لنقص حصل فيه يجب سدّه، ومثاله ما في صحيحة زرارة في من أفسدا حجهما بالجماع من إعادة الحج من قابل، وفيها سأل زرارة (فأي الحجتين لهما؟ قال: الأولى التي أحدثا فيها ما أحدثا والأخرى عليهما عقوبة)(2).

وقد تَحصَّل مما تقدَّم أن للصحة ثلاثة معان:-

1- وجود أمر يصحّح التعبّد بالفعل وإلا فلا يصح كصلاة الحائض

ص: 386


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/452.
2- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب كفارات الاستمتاع، باب 3، ح9.

والنفساء وصومهما.

2- مطابقة المأتيّ به للمأمور به فلا تصح الصلاة بلا وضوء مثلاً.

3- عدم لزوم القضاء والإعادة.

ادلة كون الحضر من شرائط الوجوب.

بعد ان تبين الخلط والتداخل في كلمات المشهور الذي اعتبر الحضر شرطا للوجوب واعتبره في ذات الوقت شرطا للصحة يبين سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ما يمكن ان يستدل به على كون الحضر شرطا للوجوب ، اذ قال:

وبحسب علمي فإن كتب الأصحاب لم تفرد بحثاً مستقلاً لبيان الموضع المناسب لشرط الحضر وأنه من شروط الوجوب أو الصحة، رغم مدخليته في بعض الفروع الفقهية التي ذكروها مما يمكن أن تستند إليه في بعض الوجوه –بغضّ النظر عن النصوص- كجواز السفر اختياراً في شهر رمضان.

وتترتب على هذا البحث ثمرات فقهية عديدة غير الفرع المذكور كوجوب قضاء الصوم على الولي فيما إذا مات الشخص قبل أن يتمكن من القضاء، أو وجوب القضاء على المفطر لسفر إذا استمر به العذر إلى رمضان التالي بغض النظر عن الروايات، مما سنبحثه لاحقاً بإذن الله تعالى، كما أنه يساعدنا على تفسير النصوص الواردة في تلك الفروع.

ويمكن دعوى إجماع الأصحاب على كون الحضر من شروط الوجوب، بضم مقدمتين:-

1- الإجماع على عدم وجوب الحضر وما بحكمه للإتيان بالصوم ابتداءً ولا استدامة؛ لذا أجمعوا على جواز السفر في شهر رمضان اختياراً، إذ لا

ص: 387

يعرف فيه الخلاف، إلا من أبي الصلاح الحلبي فقد حكى العلامة (قدس سرّه) عنه قوله: «إذا دخل الشهر على حاضر لم يحل له السفر مختاراً»(1) وخلافه غير قادح.

2- التسليم بكبرى أن ما لا يجب تحصيله هي شروط الوجوب عكس شروط الواجب، بغضّ النظر عن مبنى الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) الذي يمنع من عودة القيود إلى الهيأة أصلاً.وبضمّ هاتين المقدمتين تتحقق لدينا دعوى الإجماع على كون الحضر من شروط الوجوب، أما ذكره في شرائط الصحة فلأنه متفرع عنه بناءً على المعنى الأول الذي ذكرناه، قال المحقق الحلي (قدس سرّه) في الشرائع: «الثاني: في الشروط، وهي قسمان: الأول: ما باعتباره يجب الصوم، وهو سبعة» ثم قال: «والإقامة أو حكمها، فلا يجب على المسافر ولا يصح منه. بل يلزمه القضاء».

ويمكن تحصيل وجه ثانٍ من كلام المشهور للاستدلال على أن القيد للوجوب، فقد قرّب السيد الخوئي (قدس سرّه) كون الحضر شرطاً للوجوب من الآية الشريفة، قال (قدس سرّه): «المستفاد منها تقسيم المكلفين إلى أقسام ثلاثة:

قسم يجب عليه الصيام متعيّناً.

وقسم يتعيّن في حقه القضاء، وهو المريض والمسافر.

وقسم لا يجب عليه لا هذا ولا ذاك وإنما تجب عليه الفدية فقط، وهم الذين يطيقونه، أي من يكون الصوم حرجاً عليه كما هو معنى الإطاقة، كالشيخ والشيخة.

وبما أن موضوع الحكم الثاني هو المريض والمسافر فبمقتضى المقابلة

ص: 388


1- مختلف الشيعة: 3/326، المسألة 73.

وأن التفصيل قاطع للشركة يكون موضوع الحكم الأول هو من لم يكن مريضاً ولا مسافراً فيكون المكلّف بالصيام هو الصحيح الحاضر، فقد أُخذ في موضوع الحكم أن لا يكون المكلّف مسافراً فيكون الوجوب مشروطاً به بطبيعة الحال، لأنّ الموضوع –كما ذكرناه في الواجب(1)

المشروط- هو ما كان مفروض الوجود عند تعلّق الحكم، سواء أكان غير اختياري كدلوك الشمس بالإضافة إلى وجوب الصلاة، أم كان اختياريّاً كالسفر والحضر والاستطاعة ونحوها، فمعنى قولنا: المستطيع يحجّ: أنّه على تقدير تحقّق الاستطاعة وعند فرض وجودهايجب الحجّ، فلا يجب التصدّي لتحصيله، لعدم وجوب تحصيل شرط الوجوب.

وعليه، فيجوز للحاضر السفر ولا يجب على المسافر الحضر، لعدم وجوب تحصيل شرط التكليف لا حدوثاً ولا بقاءً، فلو كنّا نحن والآية المباركة لقلنا بجواز السفر في شهر رمضان ولو لغير حاجة لأنّ الواجب مشروط ولا يجب تحصيل الشرط كما عرفت»(2).

أقول: تحصّل مما تقدم وجهان للاستدلال على كون السفر شرطاً للوجوب هما:

الأول: ظهور الآية وأن مقتضى المقابلة عدم وجود أمر بالصوم للمسافر، وقال (قدس سرّه) في موضع آخر: «مقتضى إطلاقات الكتاب والسنة أن المسافر غير مأمور بالصيام»(3).

وقد نقلنا تعبير بعض أساتذتنا عن ذلك بخروج المسافر من خطاب الوجوب تخصيصاً.

ص: 389


1- كرر (قدس سرّه) هذا العنوان وهو ليس دقيقاً لأن المشروط من تقسيمات الوجوب لا الواجب.
2- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/406-407.
3- المستند في شرح العروة الوثقى: 21/476.

وفيه: إن مفاد الآية تعيُّن القضاء على المسافر في أيام أُخر، وهو أعم من كون الشرط المتخلف –وهو الحضر- راجعاً إلى الوجوب فلا أمر، أو إلى الواجب باعتباره من شرائط الصحة، ولذا منعنا من دعوى التخصيص، وليس لسان الآية لسان تخصيص وإنما بيان حكم آخر يخصّ المريض والمسافر.

الثاني: ضم المقدمتين اللتين ذكرناهما آنفاً

أما المقدمة الأولى فسنناقشها في فرع مستقل بإذن الله تعالى، وسنجد أن الإجماع على جواز السفر اختياراً في شهر رمضان لوجود الدليل الخاص وليس لأنه مقدمة وجوب لا يجب تحصيلها.

وأما المقدمة الثانية فيرد عليها:-1- المناقشة في كبرى أن مقدمات الوجوب مما لا يجب تحصيلها.

2- ولو تنزّلنا وسلّمنا بها فإن الاستدلال وقع بعكسها أي بأن كل ما لا يجب تحصيله فهو من مقدمات الوجوب وهو ليس مسلّماً، وسنذكر جملة من القائلين بأن بعض مقدمات الواجب مما لا يجب تحصيله أيضاً.

المسألة الثانية: تحصيل مقدمات الوجوب.

يبين سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ان المشهور وان بنى على كبرى عدم وجوب تحصيل مقدمات الوجوب ، وعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية الا انه خالف هذه الكبرى في عدة مواضع ، اذ قال في الجزء الثالث (صفحة 45) وما بعدها:

ونريد هنا أن نتوقف عند كبرى عدم وجوب تحصيل شروط الوجوب وما يتحد معها في الملاك كعدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية وهي كبرى مسلّمة عندهم إلا أنهم لم يبنوا عليها وخالفوها ولو احتياطاً في

ص: 390

موارد كثيرة لأن العمل بها دائماً يؤدي إلى تضييع أحكام الدين، فلا يُعمل بها إذا خيف من حصول ذلك، كالاختبار لمعرفة حصول الاستطاعة(1)، وبلوغ نصاب الخمس في المعادن، وتصفية النقد المغشوش لمعرفة بلوغ نصاب الزكاة، والعلم بتحقق الموضوع من مقدمات الوجوب والمفروض عندهم عدم وجوب تحصيلها.

ويؤيده خبر زيد الصائغ عن أبي عبد الله (علیه السلام) وقد أفتى بمقتضاه المشهور(2)

وفيه (قلت: وإن كنت لا أعلم ما فيها من الفضة الخالصة إلا أني أعلم أن فيها ما يجب فيه الزكاة؟ قال: فاسبكها حتى تخلص الفضةويحترق الخبيث ثم تزكي ما خلص من الفضة لسنة واحدة)(3).

نعم إذا دلّ الدليل على عدم وجوب الفحص أو عُلم بناء الشارع المقدس على التسامح في موردٍ ما للتيسير على العباد –كالشك في النجاسة الخبثية أو حلّيّة ما في سوق المسلمين- فلا مانع من الأخذ بها، فما استدلوا به في صحيحة(4) زرارة على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية مطلقاً غير تام ويمكن دعوى اختصاصه بمورده وأمثاله، فالتجريد عن الخصوصية في غير محله لاحتمال اختصاصها بباب النجاسة لمصلحة التيسير على العباد.

ص: 391


1- مواضعها في العروة الوثقى: المسألة (20) من الاستطاعة، والمسألة (13) من خمس المعادن والمسألة (3) من زكاة النقدين.
2- ذكرناه مع مناقشته في المسألة (34) في فقه الخلاف: 5/100 الطبعة الاولى.
3- وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب زكاة الذهب والفضة، باب 7، ح1.
4- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 37، ح1، في الثوب الذي أصابه شيء من النجاسات وفيه: (قلت: فهل عليَّ إن شككتُ في أنه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا).

قال صاحب الجواهر (قدس سرّه): «يعتبر في الحكم بوجوبها –أي الزكاة في الدراهم المغشوشة- العلم بالبلوغ نصاباً، أما لو شك فلا وجوب للأصل وغيره، بل المعروف أيضاً عدم وجوب التصفية ونحوها للاختبار، بل عن المسالك لا قائل بالوجوب، ووجه ذلك أن كل مقدمات الوجوب لا يجب تحصيلها ولا تعرفها، لكن قد يناقش بأن الأول مسلم بخلاف الثاني، ضرورة معلومية الوجوب في مثله من مذاق الشرع، وأنه ليس المراد الوجوب إذا اتفق حصول العلم بوجود الشرط، فلا يجب حينئذٍ على من احتمل في نفسه الاستطاعة مثلاً أو ظنها اختبارُ حاله، ولا على من علق نذره على شيء مثلاً تعرف حصوله ونحو ذلك، إذ هو كما ترى فيه إسقاط لكثير من الواجبات، نعم هو كذلك حيث لا يكون له طريق إلى التعرف، أو كان فيه ضرر عليه بحيث يسقط بمثله وجوب المقدمة، ولعلّه لذلك مال بعض المحققين هنا إلى وجوب التعرف بالتصفية أو غيرها، وهو قوي جداًإن لم يكن إجماع على خلافه»(1).

أقول: رغم تسليمه (قدس سرّه) بعدم وجوب تحصيل مقدمات الوجوب إلا أنه استثنى منها بعض موارد العلم بتحقق الموضوع وهي منها.

وعلى أي حال فإن هذه الكبرى وإن كانت جارية على الألسنة إلا أنه لم يقم دليل عليها، والإجماع المحكي غير معتبر مضافاً إلى المناقشة فيه صغروياً كما تقدم.

هذا ولكن السيد الخوئي (قدس سرّه) أصرّ على كلّيّة هذه الكبرى ورد النقوض عليها، قال (قدس سرّه): «عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية مما لا إشكال فيه ولا خلاف، إلا أنه ذكر جماعة وجوب الفحص في بعض موارد

ص: 392


1- جواهر الكلام: 15/196.

الشبهات الموضوعية مما كان العلم بالحكم فيه متوقفاً على الفحص عادة: (منها): ما إذا شك في المسافة فقالوا يجب الفحص والسؤال من أهل الخبرة، مع كون المورد مجرى لاستصحاب عدم تحقق المسافة. و (منها): ما إذا شك في تحقق الاستطاعة إلى الحج من حيث المال أو من جهة أخرى. و (منها): ما إذا شك في زيادة الربح عن مؤونة السنة، واستدلوا لوجوب الفحص في هذه الموارد بأن جعل الحكم في مورد يتوقف العلم به على الفحص يدل بالملازمة العرفية على وجوب الفحص، وإلا لزم اللغو في تشريعه.

وفيه: أن الكبرى المذكورة وإن كانت مسلّمة، إلا أنها غير منطبقة على الأمثلة المذكورة، فإن العلم بتحقق المسافة في السفر وبلوغ المال حد النصاب أو كفايته للحج أو زيادته عن مؤونة السنة قد يحصل، بلا احتياج إلى الفحص وقد يحصل العلم بعدمه، وقد يكون مشكوكاً فيه كبقية الموضوعات الخارجية نعم ربما يتفق توقف العلم بالموضوعات المذكورة على الفحص. والتوقف أحياناً من باب الاتفاق لا يوجب وجوب الفحص،وإلا لوجب الفحص عن أكثر الموضوعات»(1).

أقول:-

1- تقسيمه (قدس سرّه) التوقف إلى حالات ثلاث يسمى في مصطلحات اليوم «هروب إلى الأمام» لأن الكلام في وجوب الفحص عند الشك فلا معنى لفرض تحقق العلم أو عدمه بلا فحص.

2- قوله (قدس سرّه): «التوقف أحياناً لا يوجب وجوب الفحص» إن أراد به الوجوب مطلقاً بحيث يكون هذا التوقف الاتفاقي كالمصلحة النوعية الموجبة للحكم فهذا مما لا يقول به الناقض ولا يقول بوجوب الفحص مطلقاً.

ص: 393


1- مصباح الأصول من الموسوعة الكاملة: 47/591.

وإن أراد به عدم الوجوب حتى في نفس موارد التوقف الاتفاقية فهذا خلف الفرض في الموارد المذكورة وأمثالها مع ما قلناه من لزوم تضييع أحكام الدين.

ويظهر التراجع عن هذه الكبرى في الجملة أيضاً من كلمات النائيني (قدس سرّه) فقد حكى عنه السيد الخوئي (قدس سرّه) أنه «اعتبر في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية أن لا تكون مقدمات العلم بأجمعها تامة. وأما فيما إذا كانت المقدمات تامة بحيث لا يحتاج حصول العلم إلا إلى مجرد النظر، فلا تجري البراءة، بل لا بد من النظر وتحصيل العلم أو الاحتياط. ومثل لذلك بما إذا كان المكلف بالصوم في سطح لا يتوقف علمه بطلوع الفجر إلا على مجرد النظر إلى الأفق، فلا يجوز له الرجوع إلى استصحاب بقاء الليل أو البراءة، بدون النظر، لأن مجرد النظر لا يعد من الفحص عرفاً ليحكم بعدم وجوبه».

إلا أنه (قدس سرّه) بخل عليه حتى بهذا المقدار من الخروج عن الكبرى فردّ عليه بقوله: «إن مجرد النظر وفتح العين من دون إعمال مقدمة أخرى وإن كان لا يعد من الفحص، إلا أن الفحص بعنوانه لم يؤخذ في لساندليل ليكون الاعتبار بصدقه عرفاً، بل المأخوذ في أدلة البراءة إنما هو الجاهل وغير العالم. ولا شك في أن المكلّف بالصوم في المثال المذكور جاهل بطلوع الفجر، ولا دليل على وجوب النظر ليكون مقيّداً لإطلاقات الأدلة الدالة على الاستصحاب أو البراءة، فالإطلاقات المذكورة محكمة لا وجه لتقييدها»(1).

أقول: يبعد الالتزام بجريان الاستصحاب في مثل هذا الشك، وأدلة

ص: 394


1- مصباح الأصول: 47/592-593.

حجيته منصرفة عن مثله، وبناء العقلاء –الذي هو دليل حجية الاستصحاب- على لزوم الفحص في بعض موارد هذه الشبهات، وكذا سيرة المتشرعة، إلا ما قام الدليل على عدم وجوب الفحص فيها بملاك التيسير على العباد ولا يستلزم تضييع أحكام الدين.

وعلى أي حال فإننا لا نريد أن نطيل النقاش لأننا لسنا في بحث أصولي، وما نريد أن نثبّته هنا هو عدم صحة الاستناد إلى هذه الكبرى في الفروع التي سنتعرض لها بإذن الله تعالى كجواز السفر في شهر رمضان اختياراً بغضّ النظر عن الروايات، أو قل إن هذه الكبرى لا تصلح للمانعية فيما لو قام دليل على خلافها؛ لأن حاصل ما تقدم عدم وجود دليل على ما التزم به المشهور من كون الحضر من شرائط الوجوب.

نعم قد يدعى ظهور بعض الروايات في كون الحضر من شرائط الوجوب، كقوله (علیه السلام) في موثقة زرارة الآتية في مسألة النذر في السفر عن أبي جعفر، قال (علیه السلام): (لا تصوم، قد وضع الله عنها حقه) وهو ظاهر في عدم تكليفها به، وليس مجرد عدم صحته منها.

ويرد عليه: إن وضع الحق يعني إسقاط الأداء والامتثال وهو أعم من سقوط الوجوب، أو عدم صحة المأتي به على ذلك الحال، كالقول بسقوط الصلاة عن فاقد الطهورين بمعنى عدم تمكنه من الإتيان بها، مع أنهاواجبة وعليه قضاؤها. وسنفصل الكلام هناك بإذن الله تعالى.

ادلة كون الحضر من شروط الواجب.

وفي هذا المقطع من كلام شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) يذكر الأدلة على كون الحضر شرطا للواجب لا الوجوب ، حيث قال:

ويمكن التقدم أكثر في الإشكال على المشهور وادعاء وجود الدليل على

ص: 395

أن الحضر من شروط الواجب لا الوجوب من خلال عدة وجوه نشير إليها باختصار، وسنتناولها بعناوين مستقلة إن شاء الله:

(الأول) وجود فروع فقهية دلّت عليها النصوص المعتبرة يستكشف منها ثبوت الوجوب على المسافر لكنه أُلزم بترك امتثال الواجب وهو مسافر لأن من شروط صحته الحضر وقضائه في ما بعد، ومن تلك الفروع: وجوب القضاء عنه إذا مات قبل أن يتمكن من القضاء لموته في شهر رمضان نفسه مثلاً(1)،

ووجوب القضاء على من أفطر لسفر وإن استمر عذره إلى رمضان المقبل، ومقتضى هذه الأحكام أن الوجوب ثابت وإن كان مسافراً ولا يتوقف على الحضر، وإنما لا يصح منه الصوم في السفر، ولذا وجب عليه القضاء وإن لم يتنجّز ظرفه.

وثبوت الكفارة على من أفطر متعمداً في نهار شهر رمضان ثم سافر، بعكس الحائض والنفساء مثلاً فإنها غير مكلفة بشيء من ذلك. مما يعني عدم السنخية بين اشتراط الخلو من الحيض والنفاس –الذي هو من شروط الوجوب قطعاً- واشتراط الحضر فيكون من شروط الواجب.

أو قد يقرّب بما سنقوله في الوجه الرابع بإذن الله من عدم إمكان تبعيض الفعل بلحاظ الوجوب وإمكان تبعيضه بلحاظ الصحة، ونهار الصائم يمكن تبعيضه بلحاظ السفر وعدمه، فهو من الثاني.(الثاني) مقتضى التعليل الوارد في ذيل صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سألته عن امرأة مرضت في شهر رمضان وماتت

ص: 396


1- سنبحثها باختصار في الفرع الخامس من الفروع الملحقة بالبحث بإذن الله تعالى.

في شوال فأوصتني أن أقضي عنها، قال: هل برأت من مرضها؟ قلت: لا، ماتت فيه، قال: لا تقضي عنها، فإن الله لم يجعله عليها)(1)

الحديث، بينما ورد في المسافر وجوب القضاء كما في موثقة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في امرأة مرضت في شهر رمضان أو طمثت أو سافرت فماتت قبل أن يخرج رمضان هل يُقضى عنها؟ فقال: أما الطمث والمرض فلا، وأما السفر فنعم)(2)

وغيرها مما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ومقتضى الجمع أن الصوم مما جعله الله تعالى على المسافر، وستأتي التفاصيل عند بحث الفرعين بإذن الله تعالى.

(الثالث) ما تقدم من دلالة جملة من الروايات على أن المبطل للصوم في السفر هو اقترانه بعنوان المعصية لنهي رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن الصوم في السفر إذا بلغه ذلك، لذا صحَّ من الجاهل، فالصوم في السفر مأمور به وواجب، إلا أنه إذا اقترن بالعلم بالنهي كان مبغوضاً ولا يمكن التقرب إلى المولى بما يبغضه، وهذا إخلال بشرائط الواجب لا الوجوب الذي هو ثابت.

وبتعبير آخر: إن المقتضي لوجوب الصوم موجود باقٍ، وإنما منع من صحته في السفر نهي رسول الله (صلی الله علیه و آله) وتسمية من تعمد مخالفته بالعصاة.

(الرابع) إن الوجوب أمر بسيط غير قابل للتفكيك والتبعيض، وإن الصوم يتطابق فيه وقت الوجوب مع وقت الأداء، فوجوب الصوم غير قابل للتبعيض، فإما أن يوجد في تمام الوقت أو لا يوجد كذلك؛ لذا فإن المرأة لو رأت الدم ولو لحظة قبل الغروب بطل صومها ولو ارتكبت قبل ذلك مايوجب الكفارة لا يترتب عليه أثر.

ص: 397


1- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أحكام شهر رمضان، باب 23، ح12.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أحكام شهر رمضان، باب 23، ح16.

أما السفر فإن بعض النهار يوصف فيه الصوم بأنه صحيح وبعضه ليس بصحيح بلحاظ الزوال مثلاً، والواجب هو ما يمكن أن يكون كذلك لأنه مركب من أجزاء وشرائط فيمكن أن يبدأ صحيحاً في الحضر ثم لا يكون كذلك إذا أنشأ سفراً.

وحينئذٍ يأتي إشكال بأن الحضر إذا كان من شروط صحة الصوم أي من شروط الواجب فكيف جاز السفر اختياراً، مع أن المسلّم عندهم أن شروط الواجب مما يجب تحصيله فيجب الحضر لأداء الصوم.

وجوابه بعدم الالتزام بكبرى أن شروط الواجب مما يجب تحصيله كالذي قلناه في شروط الوجوب فإنهما مما لا دليل عليهما، ولا مانع من أن يرخّص المولى بترك الواجب من خلال عدم توفير شرطه وقضائه في وقت آخر لمصلحةٍ ما، ففي المقام يمكن أن تكون المصلحة رفع الحرج الذي يسببه المنع من السفر طيلة شهر رمضان المبارك، أو مراعاة ذوي الإرادة الضعيفة عن امتثال الأمر بالصوم خصوصاً في الأيام الحارة فيوجِد لهم باباً شرعياً للخروج من عهدة التكليف.

ويوجد من ناقش أو خالف هذه الكبرى كالشيخ الأنصاري (قدس سرّه) الذي ذهب إلى استحالة رجوع القيود إلى الهيأة أصلاً، ورجوعها كلها – ما يجب تحصيله وما لا يجب- إلى المادة أي الواجب.

والسيد الحكيم (قدس سرّه) الذي ذهب إلى التفصيل في شروط الواجب بين ما يجب تحصيله وما لا يجب قال (قدس سرّه): «إن الحضر –لو سلم كونه شرطاً للوجود- فلم يؤخذ شرطاً على نحو يجب تحصيله كسائر شرائط الوجود، بل أُخذ بنحو لا يجب تحصيله»(1) وسيأتي كلام له (قدس سرّه) في مسألة حرمة

ص: 398


1- مستمسك العروة الوثقى: 8/381.

السفر على من بذمته واجب معين ليتمكن من أدائه، وستأتيمناقشته بإذن الله تعالى.

وخلاصة البحث: وجود المانع من القول بأن الحضر من شروط الوجوب، لثبوته على المسافر كما يستكشف من جملة من الفروع الفقهية التي دلّت عليها النصوص المعتبرة.

فهو من شروط الواجب الذي لا يصحّ من المسافر المقصّر في صلاته، ولا مانع من الالتزام بكونه مما يجوز تركه اختياراً للنص الخاص.

إن قلتَ: إن الإشكال ثابت على كلا التقديرين فكما يمكن أن يقال أن الحضر من شروط الواجب وثبت جواز السفر اختياراً بالدليل الخاص، كذلك يمكن أن يقال بأن الحضر من شروط الوجوب وإنما ثبت القضاء بالدليل الخاص في الموارد المذكورة، فالأمر فيهما سيان.

قلتُ: إن هذا بحد ذاته ردّ على المشهور الذي سلّم بكون الحضر من شروط الوجوب.

مضافاً إلى أنهما ليسا سيان فإن وجوب القضاء من دون تحقق شرطه، وهو تحقق القدرة على القضاء في الزمن القابل له، مما لا يمكن تفسيره بالنص؛ لأن النص لا يخالف الواقع، والقدرة من شروط التكليف، ولا قدرة على القضاء حتى يجب، لذا لم يجب على الحائض والنفساء.

أما اعتبار الحضر من شروط الواجب، وتفسير جواز السفر في شهر رمضان اختياراً بالنص فممكن أن يرخّص فيه الشارع لمصلحة مما ذكرنا ويأمر بالقضاء في أيام أخر.

فائدة: إذا أردنا تنظير المطلب بمورد آخر من الفقه فهي صلاة فاقد الطهورين، فإن الأقوى وهو المشهور أنها تسقط أداءً وتجب عليه قضاءً، فالطهور من شروط الواجب، لكن الوجوب سقط بفواته، وقد وقع القوم

ص: 399

هناك بمثل هذا الإشكال.

المسألة الثالثة: انحاء شروط الوجوب.

رغم ان سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) بنى على كون الحضر شرطا للواجب ، الا انه بيّن ان من يصر على كونه شرطا للوجوب عليه ان يجعل شروط الوجوب على انحاء لكي يمكن ان يصحح بنيانه ، اذ قال في الجزء الثالث (صفحة 54) وما بعدها:

وفي ختام هذه الفقرة من البحث نقول: إن أبى الخصم إلا اعتبار الحضر وما بحكمه من شرائط الوجوب لا الواجب، فليكن على نحو يختلف عن شرطية العقل والخلو من الحيض والنفاس، وهذا الفرق ظاهر من آثارهما فرؤية الدم ولو لحظة من النهار تسقط وجوب الصوم وتبطله، بينما السفر ليس كذلك إذ يُصحَّح في بعض الأحوال.

وحينئذٍ يمكن تقنينه على أحد شكلين:

أولهما: فهم الوجوب على مستويات وأشكال من حيث التنجز وعدمه عند فوات شرطه، بحيث قد تسقط مرتبة من مراتبه وتبقى مرتبة أخرى منه، فوجوب الصوم يسقط من أصله بطروّ الحيض والنفاس، لكنه يبقى بمرتبة من الاقتضاء توجب القضاء دون الأداء في السفر، وبذلك يضاف تقسيم جديد إلى تقسيمات الواجب يتكفل علم الأصول بتسميته وبيان خصائصه.

وبتعبير آخر: إن فوات بعض الشروط (تارة) تسقط المقتضي للتكليف –كالحيض والنفاس- فلا قضاء إلا بأمر جديد، و(تارة) تسقط الفعلية والتنجيز ويبقى الوجوب في مرحلة الاقتضاء ومنه السفر بلحاظ الصوم على أن يتنجّز ويصبح فعلياً إذا انتفى السفر الموجب للإفطار أو انتهى وقت الأداء.

ص: 400

وهذا مطلب يقدم كأطروحة لحل بعض المشاكل الأصولية في مبحث الأوامر كالترتب.

ثانيهما: أن تُصنَّف شرائط ومقدمات الوجوب إلى ما يكون على نحوالشرط –كأحد أجزاء العلة بالمعنى العقلي- وإلى ما يكون على نحو عدم المانع، فالخلو من الحيض والنفاس، والعقل أخذت على نحو الشروط بالمعنى العقلي للوجوب، أما الحضر فأخذ على نحو عدم المانع للوجوب أي أن السفر مانع عن الوجوب الذي يكون ثابتاً إلا أن استقراره مراعى بالحضر، ولا بد أن يعاد النظر في كبرى أن مقدمات الوجوب لا يجب تحصيلها في ضوء هذا التصنيف.

المسألة الرابعة: مناقشة كبرى التكليف بمقدمات الواجب وعدم المسؤولية عن مقدمات الوجوب.

علمنا مما تقدم ان المشهور يقول بوجوب تحصيل مقدمات الواجب ، وعدم وجوب تحصيل مقدمات الوجوب.

ولكن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ناقش في كلا الامرين ، فبيّن ان بعض مقدمات الواجب لا يجب تحصيلها ، كما ان بعض مقدمات الوجوب واجبة التحصيل.

ومن كلماته في هذا المقام ما جاء في مسالة وجوب مقدمات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجزء الثامن (صفحة 343) وما بعدها ، حيث قال (دامت بركاته):

ملحق: وجوب مقدمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قال سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه): «يجب إيجاد مقدمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك:

ص: 401

أولاً: بتعلم الأحكام الشرعية الضرورية في الحياة ليعرف الفرد المعروف والمنكر من نفسه وغيره.

ثانياً: بإيجاد المجتهد المطلق الذي يجوز تقليده. وذلك بتصدي جماعة كافية لتعلم العلوم الدينية ليحصل بعضهم على هذه الدرجة الرفيعة. ولا يجوز لأي مجتمع إهمال ذلك بحيث يحصل في المستقبل زوالالمجتهدين كلهم وعدم تعويضهم بآخرين.

ثالثاً: بإيجاد القاضي الشرعي الجامع للشرائط. ليمكنه حل المخاصمات بين الناس: وذلك بتعلم العلوم الدينية، كما قلنا ولا يجوز إهمال ذلك أيضاً، بحيث يعود الأمر كله إلى القضاء الدنيوي»(1).

أقول: المورد الأول الذي ذكره (قدس سرّه) مما جعلوه من شروط الوجوب، وعندهم كبرى أن مقدمات الوجوب لا يجب تحصيلها، فالقول بوجوبها على خلاف القاعدة، أما عندنا فلا إشكال لأننا لا نسلّم بإطلاق هذه الكبرى، مضافاً إلى أننا اعتبرنا هذه الشروط للواجب وليس للوجوب الذي هو مطلق، بمعنى أن الجميع مخاطب بالوجوب، إلا أن من يتصدى له لا بد أن يكون عالماً بالمعروف والمنكر.

وهكذا الشروط الأخرى التي ذكروها للوجوب ومنها ما نحن فيه أعني احتمال التأثير فإنه تجب مقدمات تحقيقه، وهذا المطلب لم يتعرضوا له هنا(2)،

لكنهم ذكروا له مورداً في باب المكاسب المحرمة عند التعرض لولاية الجائر.

قال المحقق الحلي (قدس سرّه) في المسألة الرابعة في ذيل المكاسب

ص: 402


1- منهج الصالحين: 1/236، المسألة (877).
2- وجدت أن الشيخ حسين النوري الهمداني أشار إلى المطلب هنا في كتابه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 82.

المكروهة: «الولاية من قبل السلطان العادل جائزة وربما وجبت كما إذا عيّنه إمام الأصل، أو لم يمكن دفع المنكر أو الأمر بالمعروف إلا بها».

وعلق صاحب الجواهر (قدس سرّه) بعد أن وصف هذا الوجوب بالعيني وأضاف إلى السلطان نائبه قائلاً: «مع فرض الانحصار في شخص مخصوص فإنه يجب عليه حينئذٍ قبولها بل تطلبها والسعي في مقدمات تحصيلها حتى لو توقفت على إظهار ما فيه من الصفات أظهرها، كل ذلك لإطلاق ما دلّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتجب مقدماته كماانه يجب السعي فيها إلى أن يحصل العجز من غير فرق بين ما كان من فعل الغير وعدمه».

أقول: هذا شاهد على أن عدم احتمال التأثير لا يسقط الوجوب وإنما يوجب السعي لإزالة الموانع منه. ثم ردّ (قدس سرّه) على إشكال أن هذه من مقدمات الوجوب التي لا يجب تحصيلها، قال (قدس سرّه): «ودعوى أن الولاية من مقدمات القدرة التي التي هي شرط الوجوب، فلا يجب تحصيلها ولا قبولها لعدم إطلاق التكليف بالنسبة إليها، يدفعها أن إطلاق الأمر بالمعروف يقتضي وجوب سائر المقدمات، ولا يسقط إلا بالعجز فيندرج فيها الولاية وغيرها بعد فرض القدرة عليها، وبذلك يفرق بين المقام والحج المشروط وجوبه بالاستطاعة التي لا يدخل فيها غير المالك، وإن تمكن من تكسب ما يستطيع به، ولذا قلنا هناك بعدم الوجوب عليه ضرورة عدم صدق الاستطاعة عليه بذلك، بخلاف المقام الذي لم يعلق وجوبه على لفظ يرجع فيه إلى العرف، بل أطلق الوجوب ومقتضاه عقلاً الامتثال حتى يتحقق العجز، ولا ريب في انتفائه هنا بعد فرض وجود القدرة على الولاية مثلاً على وجه لا تنافيه شيء من الأدلة الشرعية التي تقتضي سقوط التكليف بتحصيلها من العسر والحرج والضرر ونحوها كما هو واضح بأدنى

ص: 403

تأمل»(1).

أقول: لا يفرق فيما نحن فيه بين الولاية للسلطان العادل أو الجائر إذا توقف إقامة المعروف وإزالة المنكر عليها سوى التزاحم مع الحرمة الذاتية والعارضة في الثانية وهذا غير مرتبط بمحل الشاهد وتجري فيه قواعد باب التزاحم.

وقال الشيخ الأنصاري (قدس سرّه): «ولا إشكال في وجوب تحصيل الولاية إذا كان هناك معروف متروك أو منكر مركوب، يجب فعلاً الأمر بالأولوالنهي عن الثاني»(2).

أقول: وجود هذه المصلحة والملاك الراجح في الولاية للجائر مع ملاك المفسدة الثابتة فيها يعطي وجهاً لحل التعارض في روايات الولاية للجائر بين التغليظ بالحرمة والحث الأكيد، والأول معروف فنذكر روايتين للثاني:

أولاهما: مصححة زيد الشحام في الأمالي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من تولى أمراً من أمور الناس فعدل فيهم، وفتح بابه ورفع ستره، ونظر في أمور الناس، كان حقاً على الله أن يؤمّن روعته يوم القيامة ويدخله الجنة)(3).

ثانيهما: ما رواه النجاشي في رجاله في ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) قال: (إن لله تعالى في أبواب الظالمين من نوَّر الله به البرهان، ومكّن له في البلاد؛ ليدفع بهم عن أوليائه ويصلح الله بهم أمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمنين من الضر، وإليهم مرجع ذوي الحاجة من شيعتنا، بهم يؤمن الله روعة المؤمنين في دار الظلمة، أولئك المؤمنون حقاً، أولئك أمناء الله في أرضه، أولئك نور الله في رعيته يوم

ص: 404


1- جواهر الكلام: 22/155-156.
2- المكاسب: 2/84.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 46، ح7.

القيامة، ويزهر نورهم لأهل السماوات كما يزهر نور الكواكب الدرية لأهل الأرض، أولئك من نورهم يوم القيامة تضيء القيامة، خلقوا –والله- للجنة وخلقت الجنة لهم فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أن لو شاء لنال هذا كله؟ قلت: بماذا، جعلت فداك؟ قال: يكون معهم فيسرنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا، فكن منهم يا محمد)(1).

كما جاء في الجزء الثاني (صفحة 354) وما بعدها في مسالة الصلاة والصوم في المناطقالقطبية ، في سياق مناقشة كلام للشيخ الفياض (دام ظله الشريف) انتهى فيه الى سقوط الصلاة والصيام عمن يسكن تلك المناطق ، فقال (دامت بركاته) في مناقشته:

المعروف عندهم عدم وجوب تحصيل المواقيت المذكورة ؛ لانها شروط للتكليف ، فيستطيع الذهاب الى بلد لا يتحقق فيه الشرط ليسقط الوجوب ، كما ان له الخروج من مكان سيحصل فيه خسوف او كسوف فيسقط عنه وجوب صلاتهما ، ولا يجب عليه التواجد في مكان فيه كسوف او خسوف لتجب عليه صلاة الآيات ، وكالذي يسافر فيسقط عنه الصوم وقد أجازوه جميعا ، ونحو ذلك.

وعليه فالذهاب الى تلك المنطقة لا يلزم منه تفويت الواجب ؛ لعدم وجود وجوب أصلا ، فالقول بحرمة الذهاب والمكث هناك لا وجه له. لذا فانهم في مشكلة حقيقية ؛ لانهم يعتبرون الأوقات شرط وجوب ومقتضى القاعدة سقوط الوجوب عند انتفائها ، وبنفس الوقت هم يرون ان تضييع الأوقات يلزم منه تضييع الواجب وان على المكلف تحصيل الأوقات بالذهاب الى بلد تتحقق فيه وهم لا يقولون بوجوب تحصيل المقدمات

ص: 405


1- رجال النجاشي: 331، ذيل ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع (رقم 893)، مع اختلاف في بعض الألفاظ.

الوجوبية ، ولتوجيه ذلك فلا بد ان يقربوا الأوقات على انها من المقدمات الوجودية اَي من شروط الواجب لذا فيجب تحصيل الأوقات بالانتقال الى بلد تتحقق فيه ، وهذا مما لا يقولون به ، نعم يمكن اعتبارها من شروط الواجب لكنها غير لازمة التحصيل. وعلى هذا تكون الصلاة حينئذ من الواجبات المعلقة نظير الحج الذي يتحقق وجوبه بمجرد تحقق الاستطاعة في اَي وقت من السنة لكن أداء الواجب معلق على تحقق وقته.

لكن هذا خلاف ما أسسوه من ان مقدمات الواجب يجب تحصيلها ، والتفريق بين المقدمات التي تقع تحت قدرة المكلف واختياره والتي لا تقع ليست من خصائص مقدمات الواجب والواجب بل من لوازم وجوب التحصيل وعدمه ولا ملازمة بينها بحسب ما قربناه.وعلى ما تقدم فان مقولة (اذا زالت الشمس فصّل) ونحوها تحمل على انها واردة لبيان تحقق الموضوع فعدم الصلاة عند عدم الزوال ليس لعدم وجوبها وانما لعدم تحقق موضوعها.

لذا قدمنا وجها لحل المشكلة حاصله: ان وجوب اقتران الصوم والصلاة بهذه الأوقات ليس مطلقا ليشمل المناطق التي لا تتميز فيها أوقات الصلاة وانما هو مختص بما يتحقق فيها ذلك ومنصرفة عن الافراد التي لا تتحقق فيها مثل المقام او في الفضاء خارج الأرض غير المعروفة يومئذ ، فوجوب الصلاة على اهل المناطق القطبية غير مشروط بالأوقات المتعارفة ، فلا تجب عليهم الهجرة من هذا المكان الى غيره طلبا للأوقات لان مراعاتها ليست واجبة عليهم ، وان وجوب الصلاة في أوقاتها مأخوذة على نحو تعدد المطلوب.

واذا لم نسلم انصراف ادلة الأوقات عنهم وان خروجهم على نحو التخصص فيمكن تصوير الحالة على نحو التخصيص ولاسقاط شرط

ص: 406

الوقت نظائر في الفقه كجواز تقديم دفع زكاة الفطرة قبل العيد او إسقاط شرط وقت غسل الجمعة لمن خاف أعواز الماء فيقدمه الى الخميس ، والامر يجري في غير الوقت من الشروط كإسقاط شرط الطهارة في بعض الفعل للمسلوس والمبطون ، وهكذا ، وهذا الإسقاط اقرب الى ذوق الشارع المقدس من الإلزام بمغادرة تلك المنطقة مع ما فيه من تفويت المصالح المتنوعة ولزوم الحرج و المشقة خصوصا على سكانها الأصليين.

لكن هذا التقريب لا يحل مشكلة الصوم لانه إمساك بين الحدين الموقوتين فلا يمكن الغاؤهما ، الا انه مما يهون الخطب ان صوم شهر رمضان وان كان من دعائم الإسلام الا انه مما لا يترك بحال لجواز السفر مثلا فيسقط عنه الصوم ، فله الذهاب الى بلد لا يتحقق فيه شهر رمضان مثلا.

المسألة الخامسة: مقدمة الحرام.

بعد ان بحث علماء الأصول في مسالة مقدمة الواجب ، بحثوا أيضا في ادراك العقل لحرمة مقدمة الحرام.

وقد تكلم سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في هذه المسالة في الجزء العاشر (صفحة 59 -60) في مسالة حرمة التصوير ، والظاهر من كلماته ان مقدمة الحرام حرام بشرط إتمام الفعل والا كان متجريا ، اذ قال:

ثم قرّب (قدس سرّه) الاستدلال عليه بقوله: «والمسألة مبنية على أن المحرم هو فعل التصوير (الذي هو فعل مركّب تدريجي الحصول) أو إيجاد الصورة (الذي هو أمر بسيط متحد مع وجودها) وبعبارة أخرى المحرم عنوان فعل مركب أو عنوان بسيط يكون الفعل الخارجي المركب محققاً ومحصلاً له وعلى الأول يكون حرمة الفعل نفسياً وعلى الثاني مقدمياً

ص: 407

بالأول لا يكون الإتمام حراماً لعدم كونه تصويراً إذ إيجاد البعض لا يكون إيجاداً للصورة التي مركبة بالفرض سواء كان البعض الأول من فعله أو من فعل غيره وسواء كان إيجاده له على الوجه المحرم كما لو كان بانياً على التصوير وبعد الإتيان بالبعض بدا له في الإتمام ثم بعد ذلك أتمه أو على وجه محلل وإن قلنا بالثاني يكون الإتمام حراماً في الجميع هذا والظاهر من الأخبار هو المعنى الأول كما لا يخفى وهو الظاهر من المصنف فيما ذكره في الفرع الآتي» (1).

أقول: بل الظاهر هو المعنى الثاني لما قدمناه من أن الحاكم هو العرف وهو يحكم بأن موضوع الحرمة أمر بسيط هو إيجاد الصورة وصنعها إما بالفعل المركب التدريجي فهو مقدمة لحصولها وإذا اشتغل بالفعل وابتدأ به قاصداً إتمامه ارتكب حراماً لكن الحرمة تكون مراعاةًبإتمام الفعل فلو بدا له في الإتمام لم يرتكب حراماً لكنه متجرٍ بفعل كما تقدم.

المسألة السادسة: الحرمة الغيرية.

قرروا في علم الأصول ان الواجب يقسم الى واجب نفسي واخر غيري ، حيث ان الواجب الغيري ليس فيه مصلحة في متعلقه ولا يثاب او يعاقب المكلف عليه بما هو ، وانما يوجبه المولى لاجل واجب اخر تكون المصلحة فيه ، ويكون الثواب والعقاب عليه.

ولكننا لم نجد هذا التقسيم في المحرم ؛ اذ لم تسلط الأضواء على ان المحرم قد يكون نفسيًا وقد يكون غيريًا ، فبعض المحرمات قد لا تكون هناك مفسدة في متعلقاتها وانما حرمت لاجل غيرها.

ص: 408


1- تعليقة السيد اليزدي (قدس سرّه) على المكاسب،ص19، ط.حجرية.

وهذا ما أشار اليه سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الثالث عشر (صفحة 159- 160) في مسالة حد المبيت الواجب في منى ، حيث بيّن ان الحرمة قد تكون غيرية وان هذا التقسيم يجري في المحرمات كما يجري في الواجبات. جاء هذا المعنى في سياق الكلام عن حرمة المبيت خارج منى حيث ذهب سماحته انها حرمة غيرية ومقدمة لوجوب المبيت في منى ، ونص الكلام هو:

وعلى أي حال فالصحيح وجوب الكفارة بترك الواجب وهو المبيت المجزئ في منى ؛ لان المعهود في الشريعة ان تكون الكفارة على ترك الواجب او انتهاك المحرم ، اما جعلها على من بات تمام الليل في خارج منى فانه بعيد لان المبيت خارج منى ليس موضوعًا للحكم الشرعي ولَم يلحظ في نفسه وانما نهى عنه مقدمة لوجوب المبيت في منى ، فحرمته غيرية ولا نتوقع ان الكفارة هي لحرمة المبيت في مكة ؛ للزوم وجود تكليفين في المقام وهما وجوب المبيت في منى وحرمة المبيت في مكة ولا قائل بذلك ، ولعدم الخصوصية في المبيت بمكة ؛ لذا اوجبت بعضالروايات الكفارة عن من بات بمكة غير منشغل بالعبادة وبعضها على من بات بغير منى وذكر بعضها من بات بالطريق والجامع بينها انه مبيت بغير منى او طريقها خارجًا من مكة.

وكان سماحته قد وضع هامشا عند عبارة (فحرمته غيرية) قال فيه:

لم يقسّم الاصوليون الحرام الى نفسي وغيري كما قسموا الواجب ، وهذا المورد يثبت صحة التقسيم ، ومن ثمراته انه يوقع التصالح في مسالة اقتضاء الامر النهي عن ضده فان الضد يكون محرمًا غيريًا ، فمن قال بالاقتضاء صح كلامه بناءً على ذلك ، ومن نفاه انصرف نفيه الى الحرام النفسي وتخلّص من شعوره الوجداني بالاقتضاء.

ص: 409

المسألة السابعة: ترك المستحب يقتضي الكراهة.

ناقش علماء الأصول في مباحث الدليل العقلي مسالة الملازمة بين ترك الواجب والحرمة ، والملازمة بين ترك المستحب والكراهة ، فهل يحرم ترك الواجب او يكره ترك المستحب ؟

ومما ذكره سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الأول (صفحة 130) في مسالة حكم نقل الميت بعد دفنه الى العتبات المقدسة ، في سياق تعليق له على كلام للسيد الخوئي (قدس سرّه) ، حيث بيّن ان الملازمة بينهما موجودة على نحو الموجبة الجزئية ، وذلك عندما يصدق على الضد العام انه فعل ، ونص الكلام:

تفكيكه (قدس سرّه) بين ترك المستحب وفعل المكروه يمكن أن يجاب حلاً ونقضاً، أما النقض فسنفرد له النقطة التالية، وأما الحل؛ فلأن الملازمة موجودة ولو على نحو الموجبة الجزئية كما في المقام عندما يصدق على الضد العام أنه فعل، فالتعجيل بتجهيز الميت مستحب، وتركه الذي هو التأخير في تجهيز الميت فعل مكروه. على أن الملازمة ثابتة على مستوى الآثار والنتائج فترك المستحب - كصلاة الليل- مكروه وترك المكروه -ككثرة الطعام- مستحب إذ المستحب زيادة في الفضل والمكروه نقصانفيه والعلاقة بينهما كالعلاقة بين الواجب والمحرم فترك الواجب حرام وترك الحرام واجب.

والاختلاف بينهما إنما هو باللحاظ فتارةً يلحظ المولى المصلحة في الفعل فيأمر بها وتارةً يلحظ المفسدة في الترك فينهى عن الترك وقد يصدر منه اللحاظان كما وردت الأحاديث الشريفة في الأمر بالصلاة والنهي عن تركها.

لكن الأصوليين لما حصروا الوجوب بالمصلحة في الفعل والنهي

ص: 410

بالمفسدة في الفعل فككوا بينهما.

قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «فلا اشتراك بينهما -أي الأمر بالشيء والنهي عن ضده العام- أما من ناحية المبدأ، فلأن الأمر تابع للمصلحة الإلزامية في متعلقه، والنهي تابع للمفسدة الإلزامية فيه»(1).

وينقض عليهم مثلاً بوجوب ما يسمّونه ب(المقدمات المفوتة) فإنه لا مصلحة في فعلها وإنما المفسدة في تركها لأن في الترك تفويتاً للواجب فوجبت بملاك المفسدة في الترك لا بملاك المصلحة في الفعل، وقد يكون النهي - الأعم من الحرمة والكراهة- لمصلحة في الترك ككراهة صوم يوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء فإن النهي لمصلحة في ترك الصوم حتى يقوى على الدعاء.

وقد اعترف السيد الخوئي (قدس سرّه) بوجود الملازمة في محل البحث وإن نفاها بمعنى آخر في مبحث اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام فقال (قدس سرّه): «فإن أُريد من العينية في مقام الإثبات والدلالة -أعني أن الأمر بالشيء والنهي عن تركه يدلان على معنى واحد، وإنما الاختلاف في التعبير فقط- فهذا مما لا إشكال فيه»(2).وتفصيل الكلام في علم الأصول.

كما جاء في مبحث التسامح في ادلة السنن الذي ذكرناه في الفصل الأول قوله (دامت بركاته):

إن العرف لا يرى ترك كل مكروه مستحباً حتى يصدق على الترك معنى الفعل والعمل، ولا يرى كل ترك للمستحب مكروهاً حتى يصدق عليه

ص: 411


1- محاضرات في أصول الفقه (من الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي): ج44/333.
2- موسوعة الإمام الخوئي (قدس سرّه)، محاضرات في أصول الفقه: ج44/331.

نفس المعنى، ففي مسألتنا كان التعجيل بتجهيز الميت فعلاً مستحباً والتأخير بتجهيزه فعلاً مكروهاً فإذا ورد خبر ضعيف في كراهة أمرٍ وصدق على تركه عنوان الفعل أمكن إجراء القاعدة على مبناهم.

المسألة الثامنة: إشكالية المقدمات المفوتة.

يسلم شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) بوجوب المقدمات المفوتة ؛ ولذلك شبّه غيرها بها ، اذ قال في الجزء الثاني عشر (صفحة 148):

أقول: قد عرفت عدم حرمة أكثر صور التلقيح الصناعي أو كلها فلا مانع على مستوى النتائج، وأما على مستوى الأسباب فيمكن القول أن المسوِّغ موجود وهو المساهمة في إنقاذ حياة زوجية تعاني من العقم ودفع حرج اجتماعي أو ضرر عن مؤمن أو مؤمنة ورفع اضطرارهما أو نحو ذلك، وإذا لم يمكن تحصيل الحيمن أو البويضة في وقت الحاجة فإن إيداعها في البنك يكون سائغاً؛ لأن عدم الإيداع يلزم منه الفوات عند الحاجة كالمقدمات المفوتة.

كما يمكن الاستفادة من عيّنات المني الكثيرة التي يجلبها أصحابها إلى المختبرات لإجراء التحاليل فيمكن الاحتفاظ بها بإذن أصحابها.

وقد اتضح مما نقلناه عن سماحته (دامت بركاته) في المسألة السابقة ، وهو قوله:

وينقض عليهم مثلاً بوجوب ما يسمّونه ب(المقدمات المفوتة) فإنه لا مصلحة في فعلها وإنما المفسدة في تركها لأن في الترك تفويتاً للواجبفوجبت بملاك المفسدة في الترك لا بملاك المصلحة في الفعل.

كيفية علاجه لمشكلة وجوب المقدمات المفوتة ؛ اذ ان وجوبها تابع لوجوب ذيها ، فكيف تجب مع ان ذي المقدمة لا يكون واجبا في ظرفها ؟

ص: 412

وعلاجه لتلك الإشكالية انه يذهب الى حرمة ترك المقدمات المفوتة ؛ اذ ان في تركها مفسدة ، وبالملازمة يثبت ان تلك المقدمات واجبة ، وقد شرح (دامت بركاته) هذا المعنى بقوله:

اشكل الأصحاب على وجوب المقدمات المفوتة وهي مقدمات الواجب التي يفوت الواجب في ظرفه اذا لم يأتِ بها المكلف في ظرفها لتوقفه عليها ومن موارد تطبيقها منع السيد الخوئي (قدس سرّه) من الذهاب الى المناطق القطبية التي فيها نهار مستمر او ليل مستمر لأنه يضيّع على المكلف أوقات الصلاة والصوم . فكان الواجب عليه استيطان مكان تتميز فيه أوقات الصلاة ليتمكن من اداء الفريضة في أوقاتها.

ومنشأ الاشكال: ان وجوب المقدمة مترشح من وجوب ذيها والمفروض عدم فعليه الواجب في ظرف المقدمة فكيف تجب المقدمة وقد كان الاشكال محكماً عند استاذنا السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) لذلك لم يلتزم بوجوب المقدمات المفوتة نظرياً على الأقل حتى باحثها فعرضت عليه وجهاً لوجوبها استحسنه وأقرّه حاصله: ان الاشكال مبني على ملاحظة وجوب الفعل في المقدمة ولنا ان ندعي ان الملحوظ فيها حرمة الترك لأن تركها في وقتها يؤدي الى تفويت الواجب في وقته كما هو مفروض التعريف، ولازم حرمة الترك الوجوب أو هو عينه وتعبير آخر عنه اثباتاً والفرق بينهما ثبوتاً في لحاظ الملاك هل هو مصلحة الفعل أم مفسدة الترك(1).

المسألة التاسعة: التخييري من اقسام الواجب لا الوجوب.

هناك أقوال متعددة في حقيقة الوجوب التخييري: فذهب البعض الى ان

ص: 413


1- راجع فقه الخلاف: 2/45-46.

متعلق الوجوب التخييري هو الجامع اما أفراد التخيير فليست متعلقة للوجوب وانما هي مجرد مصاديق يمتثل الواجب بها ، بينما ذهب بعض اخر الى ان الافراد هي الواجبة ولكن وجوب كل منها مشروط بترك الاخر ، او انها واجبة على نحو الفرد المردد.

ويبدو ان سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) يبني على القول الأول ، ولذا قال ان التخييري من اقسام الواجب لا الوجوب.

جاء ذلك في الجزء الثاني (صفحة 318) في مسالة حكم إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، اذ قال:

إن التخييري ليس من أقسام الوجوب حتى يحمل لفظه الوارد في الروايات عليه بل هو من أقسام الواجب والدليل صحة السلب عن فرد التخييري فلا يقال عتق الرقبة واجب على من أفطر متعمداً في شهر رمضان وإنما تعلق الوجوب بالعنوان الانتزاعي وهو عنوان الكفارة لكن عتق الرقبة وصوم شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكيناً أفراد يقع الإجزاء والامتثال للواجب بها ويسقط التكليف بأدائها فهي من أفراد الواجب. وحينئذٍ فلا يصحّ حمل ألفاظ الوجوب الواردة في الروايات على الجمعة باعتبارها فرداً تخييرياً وإنما باعتبارها واجباً تعيينياً.

وقد قال السيد الخوئي (قدس سرّه) مثل هذا في علم الأصول وفي الفقه؛ قال (قدس سرّه): «إن متعلق الوجوب إنما هو الجامع الانتزاعي المنطبق على كل من الطرفين أو الأطراف، وليس الطرف بنفسه متعلقاً للتكليف بوجه، وإنما هو محقق للامتثال ومسقط للأمر المتعلق بالجامع من أجل انطباقه عليه»(1).

ص: 414


1- المستند في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 21/352.
المسألة العاشرة: العيني والكفائي من تقسيمات الواجب.

مما تعارف عليه علماء الأصول ان الوجوب ينقسم الى عيني وكفائي ، والى تعييني وتخييري ، الا ان سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ذهب الى ان التخييري والتعييني من اقسام الواجب لا الوجوب كما أوضحنا في المسألة السابقة ، وذهب الى ان العيني والكفائي من اقسام الواجب لا الوجوب.

وكنا قد نقلنا هذا القول عن سماحته في مبحث حقيقة الوجوب الكفائي ، حيث قال:

فالفرق بين العيني والكفائي ليس في خطاب التكليف أي الوجوب، وإنما في طبيعة الواجب وسنخه وشأنيته المعروفة لدى الجميع، حتى تسالموا فقهياً وأصولياً على خصائصه، فإن الواجبات الكفائية مما يتحقق فيها غرض المولى بامتثال البعض، أما العينية فلا يتحقق غرض المولى إلا بامتثال كل فرد فرد.

ونصل بذلك إلى نتيجة مهمة، وهي أن التقسيم إلى العيني والكفائي هو من تقسيمات الواجب لا الوجوب، وعدم وجود فرق بينهما على مستوى التكليف والوجوب، وإنما الفرق في مرتبة الامتثال والإتيان بالواجب.

وهذه النتيجة المهمة قد توصلنا لنتيجة أهم منها في مسألتنا وهي أن بعض ما قيل من شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي شروط للواجب لا للوجوب كما سيأتي في الفصل الخاص بالشروط إن شاء الله تعالى.

وإذا صحّت هذه النتيجة فإنها تصحح منظومة فكرية أسست لسيرة عملية للفقهاء والحوزات العلمية اعتبرت الشروط المذكورة شروطاً للوجوب فهو يسقط بعدم تحققها، وبما أن تلك الشروط صعبة التحقق ولا يتحقق القطع بها غالباً، فتلاشى العمل بهذه الفريضة بعد أن أقنعنا أنفسنا

ص: 415

بسقوط الوجوب، وهذه المنظومة وجَّهت مسيرتهم خلال قرونمن الزمن، والله المستعان.

المسألة الحادية عشرة: افضلية بعض أفراد الوجوب التخييري.

في الوجوب التخييري يكون المكلف مخيرا من ناحية الامتثال بين أفراد الوجوب ، ولكن هذا لا يعني لزوم كونها بدرجة واحدة: فقد يكون لبعض الافراد افضلية على البعض الاخر ، وقد ذكر هذا الكلام سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الثاني (صفحة 272) وما بعدها في مسالة حكم إقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، اذ قال (دامت بركاته):

إن معنى الوجوب التخييري هو كون أفراده في عرض واحد من حيث الامتثال حتى وإن كانت لبعضها أفضلية على بعض وهو لا يكون إلا إذا دلّ الدليل عليه كخصال الكفارة حيث عطف الشارع المقدس بعضها على بعض ب(أو) وقرائن أخرى ذكرت في محلها ولا يوجد مثل هذا الدليل في المقام وإنما هو شيء تخيّله الفقهاء لحلّ المشكلة التي يواجهونها فمن جهة تدل النصوص على وجوبها التعييني ومن جهة يرون عدم الاهتمام بإقامتها فقالوا بالتخيير وعندئذٍ إذا حُلَّت المشكلة بما ذكرناه فلا مسوغ للقول بالوجوب التخييري لأنه تشريع من غير دليل.

وقد تقدم منا أن بدلية الظهر عن الجمعة طولية كخصال الكفارة المرتبة حيث أن من لم يتمكن من الفرد الأول يأتي بالثاني وهكذا فإن من لم يتمكن من أداء صلاة الجمعة لخوف أو لعدم وجود إمام يخطب -على تعبير بعض النصوص- أو لعدم اكتمال العدد فله أن يصلي الظهر بدلاً عنها.

ومن الترخيصات التي أذن بها الشارع المقدس نزول المطر واتفاق العيد يوم الجمعة فمن صلى العيد جماعة يُرخَّص في حضور الجمعة، دلّ

ص: 416

على الأول صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن الصادق (علیه السلام) أنهقال: (لا بأس أن تدع الجمعة في المطر)(1) ودل على الثاني صحيحة الحلبي أنه (سأل أبا عبد الله (علیه السلام) عن الفطر والأضحى إذا اجتمعا في يوم الجمعة، فقال: اجتمعا في زمان علي (علیه السلام) فقال: من شاء أن يأتي إلى الجمعة فليأت ومن قعد فلا يضرّه، وليصلّ الظهر، وخطب خطبتين جمع فيهما خطبة العيد وخطبة الجمعة) (2).

المسألة الثانية عشرة: مورد قاعدة الاشتغال اليقيني.
اشارة

ان قاعدة الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني من القواعد العقلية المتعارفة ، والتي يستدل بها كثيرا للزوم الاحتياط.

وقد أوضح سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) ان هذه القاعدة لا تجري عندما يكون الشك في اصل التكليف ، او ناشئا ومسببا عن الشك في اصل التكليف.

وهذا ما جاء في الجزء الثالث (صفحة 442) عند بيان ادلة مفطرية الكذب على الله (تبارك وتعالى) ، ورسوله (صلی الله علیه و آله) ، اذ قال:

الثاني: قاعدة الاشتغال

قال السيد المرتضى (قدس سرّه): «والحجة في ما ذهبوا إليه إجماع الطائفة، وطريقة الاحتياط واليقين ببراءة الذمة من الصوم» (3) وذكرها السيد الحكيم (قدس سرّه) ولم يبين وجهها، ويمكن تقريبها بشكلين:

أ- إن اشتغال الذمة اليقيني يستدعي فراغاً يقينياً ولا يتحقق الفراغ

ص: 417


1- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجمعة وآدابها، باب23، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصلاة، أبواب صلاة العيد، باب15، ح1.
3- الانتصار: 63.

اليقيني من اشتغال الذمة بوجوب الصوم إلا باجتناب هذا المفطر المحتمل.ب- إنه من الشك في المحصل وتجري فيه قاعدة الاشتغال.

ويرد عليها: بأن القاعدة لا تجري لأن الشك في أصل التكليف أي في أصل كون الكذب على الله ورسوله من المفطرات وليس في المكلَّف به، أو قل إن الشك في المحصل لامتثال المكلف به مسببي عن الشك السببي المتعلق بمفطرية الكذب التي لم تثبت إلى الآن بحسب الفرض.

المسألة الثالثة عشرة: الوجوب العقلي للنهي عن المنكر.

في كثير من الأحيان يدرك العقل وجوب فعل من الأفعال ، كوجوب طاعة الله (سبحانه وتعالى) ، وياتي الخطاب الشرعي إرشادا لحكم العقل ، كقوله تعالى: (وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون ) ال عمران / 132.

ومما تنازع فيه الفقهاء وجوب النهي عن المنكر: حيث ذهب بعضهم الى انه عقلي ، بينما ذهب الاخر الى كونه شرعيا.

والمهم في ذلك هو المناط الذي على أساسه نحكم بان الوجوب عقلي او شرعي ، وقد بيّن سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ذلك في الجزء الثامن (صفحة 70) وما بعدها ، اذ قال:

هل الوجوب عقلي أم شرعي؟

فإذا تمّ لدينا دليل من العقل كان وجوب هذه الفريضة عقلياً وتكون الأدلة الشرعية مؤكدة وإرشادية، وإن لم يتم فالوجوب شرعي لوفرة الأدلة عليه، وتقريب الاستدلال بالعقل بنحوين(1):

(الأول) ما في المصادر الآتية، وحاصله: أن الأمر بالمعروف والنهي عن

ص: 418


1- وقع في بعض المصادر خلط بينهما، راجع: فقه الصادق: 19/306.

المنكر من اللطف لأنهما يقرّبان إلى الطاعة ويبعّدان عن المعصية، واللطف واجب على الله تبارك وتعالى بما أوجب على نفسه، والمقدمتانظاهرتان –كما يقول العلامة (قدس سرّه) في المختلف- ، فهذه الوظيفة واجبة.

واستند إلى هذا الدليل الشيخ (قدس سرّه) في الاقتصاد(1)

والعلامة في المختلف والشهيدان الأول والثاني في اللمعة والروضة، وحكي عن غيرهم أيضاً كالمقداد، واستغنوا به عن الأدلة النقلية حتى قالوا أن وجوب الفريضة عقلي لا سمعي، أما أمر الشارع فهو تأكيد وإرشاد، وسبقهم إلى ذلك رؤساء المعتزلة كأبي علي الجُبّائي(2)

(توفي سنة 303 ه).

وذهب إلى كون الوجوب شرعياً السيد المرتضى «والمحقق الحلي والحلبي والخواجة نصير الدين الطوسي والكركي وفخر المحققين ووالده في بعض كتبه، بل عن المختلف نسبته إلى الأكثر، بل عن السرائر نسبته إلى جمهور المتكلمين والمحصّلين من الفقهاء»(3).

وأورد السيد المرتضى (قدس سرّه) على هذا الدليل: «بأنه لو كان واجباً بالعقل لم يرتفع معروف ولم يقع منكر، أو يكون الله تعالى مخلاً بالواجب، واللازم بقسميه باطل فالملزوم مثله.

ص: 419


1- قال الشيخ الطوسي في (الاقتصاد: 147): «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف بقول الأمة وإن اختلفوا في أنه هل يجبان عقلاً أو سمعاً: فقال الجمهور من المتكلمين والفقهاء وغيرهم: إنهما يجبان سمعاً، وإنه ليس في العقل ما يدل على وجوبهما، وإنما علمناه بدليل الإجماع من الأمة وبآي القرآن وكثر من الأخبار المتواترة، وهو الصحيح. وقيل طريق وجوبهما هو العقل. والذي يدلّ على الأول: أنه لو وجبا عقلاً لكان في العقل دليل على وجوبهما، وقد سبرنا أدلّة العقل فلم نجد فيها ما يدل على وجوبهما.. ويقوى في نفسي أنهما يجبان عقلاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما فيه من اللطف».
2- مجمع البيان: 1/807، تفسير الآية (104) من سورة آل عمران.
3- جواهر الكلام: 21/358.

بيان الشرطية: إن الأمر بالمعروف إذا كان هو الحمل عليه وحقيقة النهي عن المنكر هو المنع منه، فلو وجبا بالعقل لكان واجباً على اللهتعالى، لأن كل ما وجب بالعقل فإنه يجب على كل من حصل وجه الوجوب في حقه، فكان يجب على الله تعالى الحمل على المعروف والمنع من المنكر. فأما أن يفعلهما فلا يرتفع معروف ولا يقع منكر ويلزم الإلجاء، أو لا يفعلهما فيكون مخلاً بالواجب»(1)، وأضاف في المنتهى: «وبطلانه ظاهر لأنه حكيم لا يخل بالواجب»(2).

وأجاب العلامة (قدس سرّه) قائلاً: «وفيه نظر؛ لاحتمال أن يكون الواجب علينا في الأمر والنهي غير الواجب عليه، فإن الواجب يختلف باختلاف الآمرين والناهين، فالقادر يجب عليه بالقلب واللسان واليد، والعاجز يجب بالقلب لا غير، وإذا كان الواجب مختلفاً بالنسبة إلينا جاز اختلافه بالنسبة إلينا وإليه تعالى، فالواجب من ذلك عليه تعالى التوعد والإنذار بالمخالفة لئلا يبطل التكليف»، أي أن المكلف يبقى محتفظاً بإرادته للفعل والترك.

وارتضى الشهيد الثاني (قدس سرّه) في شرح اللمعة هذا الجواب وأضاف قائلاً: «ولا يلزم من ذلك –أي كونهما لطفاً واجباً- وجوبهما على الله تعالى،

ص: 420


1- مختلف الشيعة: 4/471، الروضة البهية: 1/453، وأورده المحقق الطوسي في آخر التجريد، والعلامة في شرحه للتجريد المسمّى كشف المراد: 428، المقصد السادس، المسألة السادسة عشرة.
2- وأورد إشكالاً قال فيه: «لا يقال: إن هذا وارد عليكم في وجوبهما على المكلف؛ لأن الأمر هو الحمل، والنهي هو المنع، ولا فرق في اقتضاء الحمل والمنع الإلجاء بين ما إذا صدرا من المكلف أو من الله تعالى، وذلك قولٌ بإبطال التكليف. لأنّا نقول: لا نسلّم أنه يلزم الإلجاء؛ لأن منع المكلف لا يقتضي الامتناع، أقصى ما في الباب أن يكون مقرّباً، ويجري مجرى الحدود في اللطفية، ولهذا تقع القبائح مع حصول الإنكار وإقامة الحدود» (منتهى المطلب: 15/237).

اللازم منه خلاف الواقع إن قام به، أو الإخلال بحكمته تعالى إن لم يقم، لاستلزام القيام به على هذا الوجه الإلجاء الممتنع في التكليف. ويجوز اختلاف الواجب باختلاف محالِّه خصوصاً مع ظهور المانع، فيكونالواجب في حقه تعالى الإنذار والتخويف بالمخالفة، لئلا يبطل التكليف وقد فعل».

أقول: هذا الإشكال على التقريب لا يرد؛ لأن إيجابهما من قبل المولى يعني إرادة تحققهما في الخارج إرادة تشريعية وليس إرادة تكوينية حتى يلزم الإلجاء، وبتعبير آخر: إن أمر الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيجاب ذلك عليهم هو في الحقيقة أمر الله بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأن الأمر بالأمر أمر، والأمر بالنهي نهي، ولا يلزم أزيد من ذلك كمباشرته ونحوه ذلك، فوجوبهما على الله تعالى كوجوبهما على المكلفين وليس على نحو الإلجاء والحمل الإجباري وسلب الاختيار منهم.

نعم يرد على هذا التقريب أمور:-

1- إننا نبحث هنا عن تكليف المخلوق لا تكليف الخالق فنتيجة التقريب غير مثمرة لنا.

2- إن العقل دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن، فغاية ما يلزم من حكمه الذي هو إدراكه كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لطفاً هو رجحان الدعوة إليه من دون تحديد كونهما على نحو الوجوب أو الاستحباب، فإنه تابع لكون الملاك ملزماً أو غير ملزم وهذا مما لا يدركه العقل.

3- لو تنزلنا وقلنا بأن نتيجة التقريب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الله تبارك وتعالى فهو يعني وجوب تشريعهما، وقد شرّعهما الله تبارك وتعالى فلا إشكال، لكن هذا لا يحدِّد شكل التكليف الموجَّه إلى الفرد فلا يتعين بمقتضاه وجوبهما على العبد.

ص: 421

(الثاني) مكون من مقدمتين: الصغرى: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يستقل العقل بالحكم بحسنه.

وأما الكبرى فيمكن أن تكون أكثر من واحدة:أولاهما: وكل ما كان حسناً فيجب صدوره من المولى؛ لأنه خالق العقل وهو الذي أودع فيه هذه القدرة على الإدراك، ومدح فاعل الحسن وذمَّ فاعل القبيح، وأكّده بقوله تعالى: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» (النحل:90).

وفيه: ما تقدَّم من النقاط، مضافاً إلى أن العقل قاصر عن معرفة ما يجب على المولى فعله أو تركه وأنه ليس من حقه التفكير في ذلك، فإنه جل وعلا «لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ» (الأنبياء: 23).

ثانيهما: وما كان كذلك يحكم الشرع بوجوبه لأن ما حكم به العقل حكم به الشرع فهذه الوظيفة واجبة.

وفيه ما قلناه في الأبحاث التمهيدية من أننا وإن كنا نسلّم بالحسن والقبح الذاتيين في الأفعال خلافاً لمن أنكرهما وجعلهما معاني نسبية بحسب موافقة ومنافرة الطبع، إلا أن صلاحية ذلك لاستنباط الأحكام الشرعية مشكوكة لعدة وجوه:

(منها): الشك في كون جملة مما ينسب إلى العقل من أحكام هي صادرة منه بما هو عقل، لذا حصل الخلاف في أحكام العقل المدعاة.

(ومنها) عدم قدرة العقل على استكشاف هذه الأحكام.

(ومنها) عدم تنجيزه للأحكام على نحو يترتب عليه الثواب والعقاب إلا أن ينجّزه أمر الشارع المقدس ونهيه.

وذهب السيد الخميني (قدس سرّه) إلى كون الوجوب عقلياً، قال (قدس سرّه): «وجوب النهي عن المنكر عقلي، كما صرّح به شيخنا الأعظم. وحكي عن شيخ الطائفة وبعض كتب العلامة وعن الشهيدين والفاضل المقداد أنه

ص: 422

عقلي.

وعن جمهور المتكلمين منهم المحقق الطوسي عدم وجوبه عقلاً بل يجب شرعاً.

والحق هو الأول، لاستقلال العقل بوجوب منع تحقق معصية المولىومبغوضه وقبح التواني عنه، سواء في ذلك التوصل إلى النهي أو الأمور الأخر الممكنة.

فكما تسالموا ظاهراً على وجوب المنع من تحقق ما هو مبغوض الوجود في الخارج، سواء صدر من مكلّف أم لا لمناط مبغوضية وجوده، كذلك يجب المنع من تحقق ما هو مبغوض صدوره من مكلّف ويرى العبد صدوره منه، فإن المناط في كليهما واحد، وهو تحقق المبغوض وإن اختلفا في أن الأول نفس وجوده مبغوض، والثاني صدوره من مكلّف مبغوض.

فإذا همّ حيوان بإراقة شيء يكون إراقته مبغوضة للمولى ويرى العبد ذلك وتقاعد عن منعه، يكون ذلك قبيحاً منه ويستحق للعقوبة لا لأهميته بل لنفس مبغوضيته، كذلك لو رأى مكلّفاً يأتي بما هو مبغوض مولاه، لاشتراكهما في المناط، والحاكم به العقل.

فإن قلتَ: على هذا لا يمكن تجويز الشارع ترك النهي عن المنكر.

قلتُ: هو كذلك لو كان المبغوض فعلياً ولم يكن للنهي مفسدة غالبة، فلو ورد منه تجويز الترك يكشف عن مفسدة في النهي أو مصلحة في تركه لو كان ذلك متصوراً في التروك والأعدام.

فدعوى الطباطبائي في تعليقته على المكاسب عدم قبح ترك النهي عن المنكر، في غير محلها»(1).

ص: 423


1- المكاسب المحرمة: 1/203-204 في النوع الثاني من القسم الثاني.

أقول: أورد على تقريب الاستدلال بالعقل بأن «الفعل عرض والحسن والقبح العقليان من قسم العرض أيضاً، والعرض لا يعرض عليه عرض ولا يتصف به»(1).

وأجيب بالفرق «بين العرض الوجودي والعرض الانتزاعي، والذي وقعمحل الكلام في عروضه على العرض إنما هو القسم الأول كالألوان، وأما القسم الثاني كالحسن والقبح والشدة والضعف، فليس لأحد دعوى عدم عروضها على الأعراض»(2).

أقول: الأولى صياغة الجواب بتعبير أدق بأن يقال أن وصف الأفعال بالحسن والقبح ليس عروضاً بل هو حكم عقلي وإدراك من العقل لاتصاف الأفعال بها، فتسميته بالعروض لا يخلو من تسامح إلا أن يراد به معنى آخر منتزعاً من الاتصاف، فلا يرد الإشكال.

والخلاصة أن العقل يحكم بمطلوبية هذه الوظيفة ويجزم بوجوبها في بعض الموارد كحفظ النظام الاجتماعي العام ودفع الضرر ودفع الظلم، أما ما سواها فتأتي عليه الإشكالات السابقة.

المسألة الرابعة عشرة: ثمرة البحث في كون الوجوب عقلياً أو شرعياً.

قد يقال: ما هي الثمرة التي تترتب على القول بالوجوب العقلي او الشرعي لفعل من الأفعال ؟

فيقال: ان الثمرة موجودة ، وقد ابرز سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) هذه الثمرة في الجزء الثامن (صفحة 76) بعد الكلام السابق مباشرة ، حيث قال:

ص: 424


1- فقه الصادق: 19/306.
2- فقه الصادق: 19/308

سنذكر عند الحديث عن وجوب الأمر والنهي بمخالفة الاحتياط الوجوبي ثمرة للفرق بين القول بوجوب هذه الفريضة عقلاً أو شرعاً أي بين من يكتفي بالدليل الشرعي على الوجوب وبين من يضيف إليه الاستدلال بالعقل، كما تظهر الثمرة بوجه من الوجوه في مسألة إلحاق وجوب دفع المنكر بوجوب رفعه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وما قاله (دامت بركاته)هناك هو:

فرع: في ما لو خالف مقتضى الاحتياط الوجوبي، وقد أثاره السيدالخميني (قدس سرّه) قال: «لو كان ما ارتكبه مخالفاً للاحتياط اللازم بنظرهما أو نظر مقلدهما فالأحوط إنكاره، بل لا يبعد وجوبه»(1).

ووافقه السيد الشهيد الصدر الثاني(2)

(قدس سرّه) واستدل عليه السيد السبزواري (قدس سرّه) «بإطلاقات الأدلة وعموماتها ولا منشأ للتشكيك إلا احتمال الانصراف عنها وهو بدوي غير معتنى به»(3).

أقول: نحن نوافق على ما قالوه لكن مع ملاحظة ما يلي:-

1- الظاهر من أدلة الأمر والنهي انصرافها عن الأحكام الاحتياطية أي أن المنكر الوارد فيها منصرف عن ارتكاب أحد أطراف العلم الإجمالي، فالتمسك بها غير تام والإشكال الذي ذكره صحيح، نعم يمكن الاستدلال بقبح التجري على أطراف العلم الإجمالي واقتحام موارد الاحتياط الوجوبي؛ لأن وجوب الأمر والنهي ليس بلحاظ المعروفية والمنكرية الثابتة لهما واقعاً، بل بلحاظ مخالفة الحكم الظاهري الثابت في حق الفاعل.

وهذا من ثمرات الفرق بين الاستدلال على الوجوب بخصوص الدليل

ص: 425


1- تحرير الوسيلة: 1/421، المسألة (6).
2- منهج الصالحين: 2/243، المسألة (910).
3- مهذب الأحكام: 15/193، ط. النجف، المسألة (25).

الشرعي وبين من أضاف إليه الاستدلال بالعقل والسيرة العقلائية، وإلا وجب عدم القول بوجوب الأمر والنهي باقتحام الطرف الأول لعدم تحقق موضوع الأمر والنهي.

المسألة الخامسة عشرة: التزاحم.

من المعلوم ان التزاحم لا يدخل في باب التعارض ؛ لان الإشكالية فيه ليست تنافي مدلول الدليلين وانما هي ضيق قدرة المكلف عن الجمع بينهما ، مع ان العقل يدرك استحالة التكليف بغير المقدور.ومن هنا كان لباب التزاحم قانونه الخاص به وهو تقديم الأهم على المهم ، ولا تجري فيه قوانين باب التعارض.

وقد ذكر شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) فوائد عن التزاحم في الجزء الثامن (صفحة 391) وما بعدها ، اذ قال:

الأولى: يلاحظ هنا أن مراعاة المصالح والمفاسد وتقديم الأهم على المهم موجود في الفقه الإسلامي وعلى صعيد التطبيقات العملية، ولا يختص بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ملاك حكومة قاعدة لا ضرر ونفي الحرج والأخذ بالتقية ونحوها من الأدلة الحاكمة، ومن مواردها في الأحكام النهي عن إقامة الحد على من كان في أرض العدو وخشية التحاقه بمعسكر الأعداء(1)

مع أنه لا تأخير في الحد(2)، فقد روى إسحاق بن عمار عن الصادق (علیه السلام) قوله: (إن علياً (علیه السلام) كان يقول: لا تقام الحدود بأرض العدو مخافة أن تحمله الحميّة فيلتحق بأرض العدو)(3).

ص: 426


1- مسالك الأفهام: 14/381.
2- وسائل الشيعة: أبواب مقدمات الحدود، باب 25.
3- وسائل الشيعة: 18/318، أبواب مقدمات الحدود، باب 10، ح2.

الثانية: ذكرنا في البحث عدة عناصر تلحظ لتمييز الأهم والمهم بين الضرر ومفسدة ترك الأمر والنهي كقوة احتمال الضرر وأهمية متعلقه كالنفس وموقعية المأمور والمنهي وقدرات الآمر والناهي ونحو ذلك، ونضيف الآن:

إن من العناصر التي تلاحظ في الترجيح بين المتزاحمين هنا: احتمال تأثير الأمر والنهي في المأمور المنهي، فالقدر المتيقن مما قلناه من إعمال المرجحات مورده إحراز تأثير الأمر والنهي فتلاحظ تلك المرجحات، أما مع عدم إحراز التأثير فإنه يضعّف من ملاك تقديمه عندالتزاحم، ويكون الإقدام على الضرر في تلك الحالة قبيحاً عند العقلاء، ولا يكون محلاً للترجيح إلا إذا كان المحتمل من الأهمية بحيث يعمل بمطلق الاحتمال فيه.

الثالثة: إن تنفيذ قواعد باب التزاحم في العمل الاجتماعي يواجه صعوبتين، نظرية وعملية:

أما النظرية: فنقصد بها التمييز بين الأهم والمهم وتحديد قائمة الأولويات وهذا يحتاج إلى ذوق فقهي سليم وسعة اطلاع على أحكام الشريعة وكيفية تعاطي المعصومين (علیهم السلام) معها وموقف الفقهاء منها، فمثلاً تجد الذهنية التقليدية تلحظ المنكرات الفردية ولا تلتفت إلى المنكرات الاجتماعية سواء كانت عقائدية أو سياسية أو اقتصادية ونحو ذلك عدا ما رأينا من بعض العلماء العاملين كالشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد الخميني والشهيدين الصدرين الأول والثاني (قدس الله أسرارهم جميعاً) في العصر الحديث.

وأما العملية: فنعني بها ظروف التطبيق وملابساته الزمانية والمكانية وظروفه الأخرى، فقد يكون أهم فقهياً من الناحية النظرية لكن العمل به يلزم منه مفاسد أكبر؛ فمثلاً يقرّون أن صلاة الجمعة أفضل من صلاة الظهر

ص: 427

إلا أنهم لا يقيمونها بدعوى خوف الفتنة وحصول التنافس ونحو ذلك.

أو تراهم يلحظون التزاحم على صعيد الفرد ولا يلتفتون إلى تأثيره على الإسلام أو التشيع أو المسلمين كبعض الطقوس الدخيلة على الشعائر الحسينية فيناقشون جواز الإضرار بالبدن ونحوه مع أن المشكلة أكبر من ذلك.

وورد عن المعصومين (علیهم السلام) في هذا المجال قول الإمام الصادق (علیه السلام):(العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(1).

واللوابس هي الأمور المتشابهة المتلبسة ببعضها.

ووجود هاتين الصعوبتين وجه لاشتراط الفقهاء (قدس الله أسرارهم) إذن الفقيه العارف بزمانه في ممارسة الأمر والنهي على بعض مستويات اليد وكذا الجهاد ولا يجوز لأي أحد غيره التصدي لهذه الأعمال؛ لأن المكلف لا يقدّر الأهم والمهم، وهذا أيضاً يفسّر مواقف الأئمة (علیهم السلام) من الحركات المسلحة التي كانت تخرج على الأنظمة الحاكمة بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا مجال واسع للبحث وأخذ الشواهد من الواقع ومراعاة اختلاف الأنظمة السياسية القائمة مما يسمّى ديمقراطية تعددية أو دكتاتورية مستبدة ونحو ذلك، فقد يكون التحرك الشعبي بإقامة المهرجانات أو التظاهرات والاحتجاجات هو الطريق الوحيد لإيصال صوت المطالبة برفع الظلم والفساد وإصلاح أحوال الرعية إذا كان النظام مستبداً لا يستمع لصوت الحكمة والعدل ومحجوباً عن الشعب مع ما يتسبب ذلك فيه من الضحايا والخسائر، وقد يكون ذلك غير صحيح عندما يكون النظام

ص: 428


1- الكافي: 1/27.

ديمقراطياً يمكن التغيير فيه من خلال صناديق الاقتراع، وهذا كله يحدده الفقيه العالم بزمانه.

في صحيحة العيص بن القاسم قال: (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم(1) بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثم كانتالأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم، إن أتاكم آتٍ فانظروا على أي شيء تخرجون)(2).

المسألة السادسة عشرة: التزاحم والطولية الرتبية.

ذهب بعض العلماء الاعلام الى ان التزاحم لا يجري بين واجبين احدهما متقدم على الاخر زمانا الا ان شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ذهب الى ان هذا الكلام لا يختص بالترتيب الزماني وانما يعم الطولية الرتبية ، اذ نقل مبنى ورد في تقريرات بحث الشيخ النائيني (قدس سرّه) في الجزء التاسع (صفحة 202) يقول فيه:

«إذا وقع التزاحم بين واجبين طوليين متساويين ملاكاً كما في دوران الأمر بين القيام في الركعة الأولى من الصلاة والقيام في الركعة الثانية مثلاً أو بين ترك واجب متوقف على محرم مساوٍ معه في الملاك وارتكاب

ص: 429


1- يغفل الفقهاء التقليديون عن هذه (الأعلمية) التي هي في إدارة شؤون الأمة ورعاية مصالحها.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح1.

المقدمة المحرمة فبناءً على التخيير الشرعي يثبت التخيير فيهما أيضاً (وأما) على المختار فالتكليف بالمتقدم هو الذي يكون فعلياً دون المتأخر لأن سقوط كل من التكليفين المتزاحمين بناءً عليه لا يكون إلا بامتثال الآخر وبما أن امتثال التكليف بالمتأخر متأخر خارجاً لتأخر متعلقه على الفرض فلا يكون للتكليف بالمتقدم مسقط في عرضه فيتعين امتثاله على المكلف بحكم العقل فيجب القيام في الركعة الأولى ويلزم اجتناب المقدمة المحرمة، نعم إذا كان ملاك الواجب المتأخر أقوى من ملاك الواجب الفعلي فوجوب حفظ القدرة فعلاً يكون مسقطاً لوجوب الواجب المتقدم»(1).ثم علّق شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) قائلاً:

أقول: هذه الكبرى صحيحة ولا يوجد تزاحم أصلاً لفعلية المتقدم دون معارض لكن علينا أن نفهم منها معنى واسع مما يظهر من حصرها بالطولية الزمانية ومحل بحثها علم الأصول؛ إذ تشمل ما يمكن تسميته بالطولية الرتبية كما لو كان أحد التكليفين مقيداً بشرط ودليل التكليف الآخر مطلقاً من ناحيته فيقدّم المطلق لفعليته فيسقط المقيد، كما نقلنا عن السيد الخميني (قدس سرّه) (صفحة 185 و 187)(2)

من كون وجوب الأمر والنهي

ص: 430


1- أجود التقريرات: 1/280.
2- جاء في صفحة 185 من الجزء التاسع من موسوعة فقه الخلاف: وقد طبّق السيد الخميني (قدس سرّه) هذه الكبرى هنا فقيّد بها إطلاق وجوب الأمر والنهي فقط دون الولاية المحرمة قال (قدس سرّه): «ويمكن إنكار إطلاق أدلة الأمر بالمعروف لمورد توقفه على الولاية من قبل الجائر بأن يقال: إن وجوب الأمر بالمعروف إنما هو لإقامة الفرائض ولا إطلاق فيها يشمل ما يوجب سقوط فريضة أو ارتكاب محرم –كالولاية للجائر-; فلا يقع التعارض بينها وبين أدلة حرمة الولاية» . وجاء في صفحة 187: «إن الولاية إن كانت محرمة لذاتها، كان ارتكابها لأجل المصالح ودفع المفاسد التي هي أهم من مفسدة انسلاك الشخص في أعوان الظلمة بحسب الظاهر وإن كان لاستلزامها الظلم على الغير، فالمفروض عدم تحققه هنا».

مقيداً بعدم الوقوع في محرم أما حرمة الولاية للجائر فهي مطلقة.

وقرّبها على مثل هذا بعض الأعلام المعاصرين (دام ظله الشريف) فيما نقلنا عنه (صفحة 181)(1)،

وانتهى إلى أن حرمة الولاية للجائر فعليةدون وجوب الأمر والنهي، ثم طبّق هذا المبنى هنا لينتج عدم جريان التزاحم، فقال: «إن هذا –أي التزاحم- يتم بناءً على عدم تمامية ما اختاره المحقق النائيني وتبعه جمع منهم السيد الخوئي من أنه إذا تزاحم تكليفان ولم يحرز أهمية أحدهما وكانا طوليين يكون التكليف بالمتقدم فعلياً دون المتأخر، مستدلاً عليه بأن سقوط كل من التكليفين المتزاحمين بناءً على كون التخيير بين المتزاحمين عقلياً لا يكون إلا بامتثال الآخر، وبما أن امتثال التكليف بالمتأخر متأخر خارجاً لتأخر متعلقه على الفرض فلا يكون

ص: 431


1- جاء في صفحة 181 من الجزء التاسع من موسوعة فقه الخلاف: ولعله لأجل هذا قرّب بعض الأعلام المعاصرين إشكال المحقق السبزواري (قدس سرّه) بنحو آخر فقال: «إن دليل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقيد بالقدرة الشرعية، ودليل حرمة الولاية مطلق من هذه الجهة، وقد حقق في محله أنه إذا تزاحم تكليفان أحدهما مشروط بالقدرة شرعاً دون الآخر يقدم المشروط عقلاً على المشروط بالقدرة شرعاً، إذ ملاك الحكم غير المشروط بالقدرة شرعاً تام لا قصور فيه، ولا مانع عن جعل الحكم على طبقه فيكون حكمه فعلياً وموجباً لعجز المكلف عن امتثال التكليف الآخر ومانعاً عن تحقق ملاكه المتوقف على القدرة عليه على الفرض. هذا بخلاف المشروط بالقدرة شرعاً، إذ جعله يتوقف على تمامية ملاكه، وهي تتوقف على عدم فعلية الحكم الآخر، فلو استند عدم فعليته إلى فعلية الحكم المشروط بالقدرة شرعاً لزم الدور، وهذا الوجه هو الذي أشار إليه في محكي الكفاية».

للتكليف بالمتقدم مسقط في عرضه فيتعين امتثاله على المكلف بحكم العقل، وإلا ففي صورة عدم إحراز أهمية الوجوب يتعين البناء على حرمة الولاية وعدم جوازها، فضلاً عن الوجوب»(1).

أقول: ما ذكره (دام ظله الشريف) لا يستند إلى هذا المبنى الذي نقله عن المحقق النائيني (قدس سرّه)، لوضوح عدم رجوعه إلى الطولية الزمانية، وإنما يستند إلى مانع آخر عن التزاحم وهو ما سميناه بالطولية الرتبية بين المطلق والمشروط.

مضافاً إلى عدم وجود صغرى لهذا المبنى هنا لعدم وجود الطولية، إذ هي كما قلنا إما زمانية كما في المثال الذي ذكره المحقق النائيني (قدس سرّه) أو أنها رتبية كما بنى عليه هذا المستشكل فيما نقلناه عنه (صفحة 181) (2)وناقشناه-، ولا يوجد شيء من مناشئ هذه الطولية في المقام.

المسألة السابعة عشرة: تقديم الأهم ملاكا على المهم وان لم يكن الأهم الزاميا.

ان القانون الذي يحكم باب التزاحم هو تقديم الملاك الأهم على الملاك المهم ، ومما ذكره العلماء ان معرفة الملاك الأهم تتم بعدة طرق منها ما لو تزاحم حكم إلزامي واخر غير إلزامي فان الحكم الإلزامي يكون مقدما لانه اهم ملاكا.

ولكن سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) أوضح ان هذا الامر ليس على إطلاقه ، فقد يكون الحكم غير الإلزامي اهم ملاكا من الحكم الإلزامي.

جاء هذا الكلام في الجزء الثاني عشر (صفحة 16) عند بيان العناوين الثانوية المبيحة للإقدام على عملية التلقيح الصناعي ، ونص الكلام هو:

ص: 432


1- فقه الصادق: 21/390.
2- راجع الهامش الذي ذكرنا فيه ما جاء في صفحة 181.

4-أمر من تجب طاعته كالإمام المعصوم (علیه السلام) في زمان الحضور أو الولي الفقيه في زمان الغيبة، كما لو تعرّض المسلمون في منطقة ما لقلة العدد والإصابة بالعقم بفعل فاعل(1) فيأمرهم الولي الفقيه بالمعالجة والتوجه إلى التلقيح الصناعي لتعويض النقص ونحو ذلك.

وهل تكفي في تحقق هذا الأمر الإطلاقات المرغبّة في كثرة النسل كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إن رسول الله | قال: تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة حتى أن السقط ليجيء محبنطئاً على باب الجنة فيقال له: ادخل الجنة فيقول: لا، حتى يدخل أبواي الجنة قبلي)(2).والجواب يتوقف على شكل العلاقة بين الدليلين، فقد يرى ذوق المشهور أن أدلة الحرمة مقيّدة لهذه الإطلاقات: فالإنجاب مستحب ومرغوب فيه ما لم يستلزم محرماً كما في التلقيح الصناعي.

وقد تكون العلاقة هي التزاحم فيقدم الأهم والأقوى ملاكاً، وإن كان الإنجاب مستحباً فيمكن أن يتقدم على الحكم الإلزامي، أما ما قيل من تقدم الإلزامي على غير الإلزامي فإنه ليس مطلقاً وقد يختص بما لو كانا من سنخ واحد كالصلاة المفروضة على المندوبة لحديث (لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض)(3).

ص: 433


1- توجد تقارير تتحدث عن سياسة (التعقيم) -أي إحداث العقم- التي طبقتها جهات معادية للمسلمين في بعض بلدانهم كمصر، أو هوس (تحديد النسل) الذي جرى التثقيف عليه في إيران مثلاً.
2- وسائل الشيعة: 20/14، أبواب مقدمات النكاح، باب 1، ح2 وفي 21/355 أبواب أحكام الأولاد وفيها أحاديث كثيرة.
3- وسائل الشيعة: 3/208، أبواب المواقيت، باب 60، ح7.
المسألة الثامنة عشرة: الغاية تبرر الوسيلة.

بعد ان اتفق علماء الأصول على ان القانون المحكم في باب التزاحم هو تقديم الأهم على المهم ، اثير التساؤل عن الفارق بين قاعدة تقديم الملاك الأهم وقاعدة الغاية تبرر الوسيلة ؟

وقد أجاب شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) عن هذا التساؤل في الجزء الثامن (صفحة 407 – 408) ، اذ قال:

وقد نبهنا في أكثر من موضع في البحث إلى وجوب التفريق بين ما أسسه الشارع المقدس من مراعاة المصالح والمفاسد وتقديم الأهم على المهم عند التزاحم وبين مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» التي يعتمدها الوصوليون والانتهازيون سواء أكانوا أفراداً أو أحزاباً أو حكومات للوصول إلى أغراضهم ومآربهم. ويتضح الفرق من أكثر من جهة:-

إنهم يعملون بهذا المبدأ لتحقيق مآربهم الشخصية ومصالحهم الذاتية بينما يتحرى الفقهاء من تطبيق هذه القواعد مرادات الشارع1- المقدس والملاكات والمصالح العليا التي يتوخّاها.

2- إن ما أسسه الشارع المقدس مستند إلى قوانين إلهية وأحكام عقلية وسيرة عقلائية أما أولئك فلا مستند لعملهم إلا اتباع الهوى والأنانية.

3- إن الشارع المقدس يهتم بمشروعية الوسيلة ونظافتها كما يهتم بسمو الغاية ومشروعيتها؛ لأن هدفه إقامة العدالة والحياة الكريمة، ولا يطلب الحق بالجور كما ورد عن أمير المؤمنين(علیه السلام)، أما أولئك فلا يهمهم شرعية الوسيلة لبلوغ الغاية، ولا أهميتها فقد يرتكبون أفظع الجرائم من أجل نزوة أو شهوة أو طمع.

4- إن استعمالهم لهذه المقولة مطلق أما عند الشارع المقدس فإن الرخصة مقيدة بالموارد التي لا يرضى الشارع المقدس والعقلاء بإهمالها

ص: 434

كحفظ النفس المحترمة ونحو ذلك.

5- ومن الفروق محافظة الشارع المقدس على حرمة الطرف الآخر وكرامته وعدم إهانته وجرح مشاعره ومراعاة ألين الطرق وأرفقها وأيسرها كما سيأتي في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى.

وهذه كلها لا يلتزم بها أهل تلك المقولة.

المسألة التاسعة عشرة: اجتماع وجوبين على موضوع واحد.

ذهب الكثير من علماء الأصول الى استحالة اجتماع وجوبين على موضوع واحد ، الا ان سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ذكر في الجزء الثامن (صفحة 91 -92) إمكانية ذلك ، اذ قال:

وفي ضوء ما استظهرناه من كون (من) بيانية يتضح التطابق بين هذه الآية وسابقتها (1)،

إلا أن الأكثر لما بنوا على كون (من) تبعيضية في الآيةالسابقة فقد أوردوا إشكالية عدم التوافق بينهما، ونحن لا نرى الإشكال وارداً حتى على هذا الاحتمال؛ لأن آية «وَلْتَكُنْ» ليس لها مفهوم ينفي خطاب آية «كنتم»، ولا مانع من كون التكليف موجهاً للأمة جميعاً، وتفهمه جماعة معيّنة على أنها مخاطبة أكثر من غيرها لخصوصية فيها كالحوزة العلمية أو الوجهاء المتنفذين أو السلطات التنفيذية ونحوها، فيكون خطاب «ولتكن» تذكيراً وتأكيداً للوجوب العام وإشعاراً لهذه الجماعة بالوجوب

ص: 435


1- يقصد قوله تعالى: « وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » [ال عمران / 104 ] وقوله تعالى: « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ » [ ال عمران 110].

الخاص عليها.

هذا على الفرض المشهوري من وجود إشكال في اجتماع وجوبين على موضوع واحد، وإلا فإننا لا نرى مانعاً من توجه خطاب بالوجوب لعموم الأمة، وخطاب لجماعة خاصة بالوجوب؛ لتذكيرها بالمسؤولية الخاصة، وموارده في الفقه كثيرة.

المسألة العشرون: عدم استحالة الفرد المردد.

المشهور بين علماء الأصول ان الفرد المردد مستحيل وليس له وجود في الخارج ، الا ان شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ذكر في الجزء الثامن في (هامش صفحة 172) في مبحث حقيقة الوجوب الكفائي فائدة بيْن فيها امكان الفرد المردد ، اذ قال:

فائدة: حينما أورد السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) هذا الجواب على السيد الخوئي في بحثه الشريف (محاضرة بتأريخ 2/ج1/1417) قلت له: إن الفرد المردد له مصاديق يمكن أن تكون موضوعاً للأحكام الشرعية كما لو كان مردداً ضمن مقدار معين على نحو الكلي في المعين فهذا المقدار من التعيّن يصدق معه تحقق الموضوع رغم أنه مردد، كمقدارالزكاة في المال الزكوي قبل عزله، وقد أوجب أحكاماً شرعية كعدم جواز التصرف في تمام المال الزكوي، فهو غير مستحيل ما دامت بعض أفراده غير مستحيلة، فأجاب (قدس سرّه) بالإيجاب.

المسألة الحادية والعشرون: حجية العلم ليست ذاتية.

مما لا شك فيه ان القطع حجة ، بل ان مسائل علم الأصول تعتمد في حجيتها على حجية القطع ، ولكن اختلف العلماء في منشأ هذه الحجية: فذهب

ص: 436

بعضهم الى انها ذاتية ، وانكر البعض الاخر ذلك فذهب الى ان القطع حجة اذا كان قطعا بما جاء عن المولى. وقد صرح شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) بان حجية العلم بمعنى المنجزية والمعذرة ليست ذاتية فهي قابلة لجعل جاعل ، نعم كاشفيته ذاتية ولا تحتاج الى جعل جاعل.

جاء هذا الكلام في الجزء الرابع (صفحة 16 -17) في مسالة طرق ثبوت الهلال ، عند الكلام عن طرق تحصيل العلم بالرؤية:

نحن لا نلتزم بالقول المشهور: أن حجية العلم ذاتية الذي يعني أن المعذرية والمنجزية من اللوازم الذاتية للقطع بحيث أنها تترتب على العلم والقطع تلقائياً.

نعم إن كاشفيته وطريقيته للكشف عن الواقع عند القاطع ذاتية، أي أن محركية هذا العلم والقطع لا تحتاج إلى جعل واعتبار لأن الإنسان إذا قطع عمل على طبق قطعه سواء كان مطابقاً للواقع أم لا.

أما المعذرية والمنجزية فإنها قابلة للجعل بلحاظ منشأ القطع وسببه فلا تثبت للقطع إلا بعد ثبوت مشروعية أصله ومنشأه ولزوم ترتيب الأثر عليه.

فيمكن للمولى عدم اعتبار قطع القطاع حجة باعتبار حصوله من أسباب غير عرفية وعقلائية.

وإن أبيت إلا تعبير مشهور الأصوليين فنقول: إن المولى لم يعتبر مثل هذا القطع قطعاً.ومن ثمرات هذه النكتة الأصولية دفع إشكال معذرية أهل العقائد الفاسدة القاطعين بصحة عقائدهم.

ص: 437

المسألة الثانية والعشرون: الموضوع التقديري للأحكام.

من الثابت في علم الأصول ان فعلية الحكم تابعة لفعلية موضوعه ، ولكن سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) طرح فكرة إمكانية كون الموضوع شأنيا او تقديريا او تنزيليا فلا تتوقف فعلية الحكم حينئذ على فعلية الموضوع.

جاء هذا الكلام في الجزء الثاني (صفحة 360) في مسالة الصلاة والصوم في المناطق القطبية ، اذ قال (دامت بركاته):

ان الوقت هناك (1)

وان كان نهارا مستمرا والشمس طالعة الا ان حركة الشمس من الشرق الى الغرب موجودة وبدل غروبها فانها تعود من الغرب الى الشرق في الدائرة المقابلة فالحركة الأولى تقابل النهار والثانية تقابل الليل مع كون الشمس طالعة في جميع الوقت. ويمثل اول انطلاقها من الشرق الى الغرب شروق الشمس ويمثل اخر ما تصل اليه من جهة الغرب قبل عودتها الى الشرق غروب الشمس. وعبورها منتصف دائرة الحركة الأولى هو منتصف النهار وعبورها نصف دائرة الحركة الثانية منتصف الليل ، ويكون الفجر الجزء الأخير من الحركة الثانية قبل ان تعود الى الحركة الأولى من الشرق الى الغرب ، فيصلي في جزء من هذه الفترة بمقدار أدائها.

فهذه هي الأوقات الشرعية التقديرية ، فتؤدى صلاة الظهرين عند بلوغ الشمس منتصف الدائرة الأولى ويمتد وقتها الى نهايتها وعندما تبدأ الشمس بحركة العودة في الدائرة الثانية تحل صلاة العشائين الى منتصفها ويؤدي صلاة الصبح في نهاية الدائرة الثانية الى حين البدء بالدائرة الأولى، وياتي بها جميعا بنية الاعم من الأداء والقضاء.

ص: 438


1- يقصد في حالة الليل المستمر والنهار المستمر

والبناء على الموضوع التقديري محل الموضوع الفعلي عند تعذره وارد في الحكام الشرعية الثابتة ، ويحضرني هنا قوله تعالى: « حتى يبلغ الهدي محله » « البقرة: 196» ولا يتسنى للمحصور معرفته بالفعل لاحتمال حصول عارض عن ذبح الهدي في زمانه ومكانه المحددين وانما يفترض تحققه في اليوم الذي واعد أصحابه (1).

وقد ذكرنا في بحث (تحديد أوقات الفجر في البلاد التي لا يتحقق فيها) كيفية تحديد الأوقات التقديرية في فترة عدم التميز بدلالة الأوقات المعروفة زمن تحققها

وذكر (دامت فيوضاته) هنا سانحة قال فيها:

المعروف ان الموضوع يجب ان يتحقق فعلا ليتحقق الموجوب لكن يمكن ان لا يكون كذلك بأن يكون:

أ- تقديريا كالامثلة المذكورة في هذا البحث.

ب- ظنيا كصيام الأسير والمحبوس الذي لا يمكنه التعرف على شهر رمضان فيصوم شهرا يتوخاه كما في الصحيحة(2).

ص: 439


1- كما في صحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (علیه السلام) ، وفي موثقة زرعة قال: (سالته عن رجل احصر في الحج ، قال: فليبعث بهديه اذا كان مع أصحابه ، ومحله ان يبلغ الهدي محله ، ومحله منى يوم النحر اذا كان في الحج ، وان كان في عمرة نحر بمكة فانما عليه ان يعدهم لذلك يوما ، فاذا كان ذلك اليوم فقد وفى وان اختلفوا في الميعاد لم يضره ان شاء الله تعالى) (وسائل الشيعة: 13/ 182، أبواب الانحصار والصد ، باب 2، ح2).
2- أبان بن عثمان، عن عبد الرحمن، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قلت له: رجل أسرته الروم ولم يصم شهر رمضان ولم يدر أي شهر هو؟ قال: يصوم شهرا [و] يتوخاه ويحسب فإن كان الشهر الذي صامه قبل شهر رمضان لم يجزه وإن كان بعد رمضان أجزأه). الكافي: 4/ 180.

أ- تنزيليا ويمكن تقريبه على ما ورد من ان من صام ثلاثة ايّام من الشهر فكأنما صام الشهر كله ، فيحصل صائم الثلاثة على الاثار المترتبة على صيام الشهر.

المسألة الثالثة والعشرون: الواجبات النظامية.

من اهم ما يميز فكر سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) نظرته الواسعة للأحكام الفقهية ، فهو يرى ان الواجبات لا تقتصر على الواجبات الفردية ، وانما هناك واجبات تشمل المجتمع بما هو مجتمع والتي اسماها بالواجبات النظامية.

فقد نقل سماحته في الجزء الثامن في مبحث حقيقة الوجوب الكفائي (صفحة 176) كلاما للسيد الشهيد الصدر (قدس سرّه) ثم علق عليه بما يوضح هذا المعنى ، ونص الكلام:

«جعل مجموع المكلفين مكلفاً واحداً بالوحدة الاعتبارية يكون منه امتثال واحد وعصيان واحد، فلو فعل أحدهم فكأن هذا المجموع قد صدر منه الفعل ولو بجزء منه، نظير المكلف الواحد قد يحرك الحجر بيده وقد يحركه برجله، فكما أنه لا ينافي ذلك صدور الامتثال الواحد منه كذلك في المقام.

ورد عليه: أن هذه الوحدة الاعتبارية إنما تتعقَّل في طرف متعلق التكليف أي المكلف به كما في الأمر بمجموع أجزاء مركب اعتباري كالصلاة لأن المقصود منه إيجاده، وإيجاد المركب كذلك معقول، حيث يمكن انقداح الداعي نحوه، وأمّا في جانب المكلف فعنوان مجموع المكلفين الواحد بالاعتبار ليس مكلّفاً حقيقة صالحاً لتشغيل ذمته بالتكليف وإنما المكلّف حقيقة إنما هو كل فرد فرد فلا يعقل افتراض امتثال واحد وعصيان كذلك

ص: 440

للمجموع»(1).

أقول: وهذا التقريب أيضاً ممكن، ويوجد ما يدل عليه في النصوصالقرآنية والروايات الشريفة من اعتبار الأمة كياناً واحداً كقوله تعالى: «مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ» (الحجر:5) وقوله تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» (الأعراف:34) فللأمة أجل بغضّ النظر عن أفرادها، وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ» (الصف:4) والبنيان يلحظ فيه مجموع الأجزاء كشيء واحد ولا تلحظ أجزاؤه ومكوناته، وكذا ما ورد في الروايات من اعتبار المؤمنين كالجسد الواحد(2)،

وراكبي السفينة (3).

ص: 441


1- مباحث الدليل اللفظي: 2/427.
2- عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ميزان الحكمة: 4/2837 عن كنز العمال: 765، 737. وورد نفس المضمون بألفاظ قريبة في بحار الأنوار: 58/150، ح28 و ج109/173.
3- كان (دامت بركاته) قد قال في ص78 ج 8: «وفي بعض الروايات أن النبي (صلی الله علیه و آله) أثار هذه الحقيقة العقلائية ليدعو الناس للعمل بهذه الفريضة، فقد روي عنه (صلی الله علیه و آله) قوله: (مثل القائم على حدود الله والمرهن فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها –فقال الذين في أسفلها: إننا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمعنوهم نجوا جميعاً، وإن تركوهم غرقوا جميعاً» كما قال في ص 130 من نفس الجزء: وورد بعضها في أبواب لا تناسب هذا المعنى، فقد أورد البخاري في صحيحه في كتاب الشركة، باب 6 «هل يُقرع في القسمة والاستهام فيه؟» قول النبي (صلی الله علیه و آله): (مثل القائم على حدود الله والواقع «وفي سنن الترمذي (والمدهن)» فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).

ومن مصاديق هذا التفسير الواجبات النظامية التي يحفظ بها النظامالاجتماعي العام، فإن الفرد عليه تكليفان، أحدهما: بما هو فرد، وهي الواجبات العينية، وثانيهما: بما هو جزء من المجتمع، فيوجّه التكليف إلى المجموع بما هو عنوان للأفراد من دون نظر خاص إلى أحدهم وإنما يراد من المجموع أن يصدر منهم هذا الفعل بأي نحوٍ كان، فإذا فعل وتحقق الغرض فيكون المجموع قد أدى ما عليه، وإن لم يتحقق الفعل خارجاً أثم الجميع لإلقاء التكليف في عهدتهم.

المسألة الرابعة والعشرون: الترجيح بالسبق الى العمل.

كثيرا ما نقرأ في علم الأصول الحكم باستحالة شيء ؛ لانه من الترجيح بلا مرجح.

وقد نبّه شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) الى ان بعض تطبيقات هذه القاعدة ليست صحيحة ؛ فان السبق الى اداء العمل يعد مرجحًا من المرجحات.

جاء هذا المعنى في الجزء الثامن في مبحث حقيقة الوجوب الكفائي (صفحة 165)حيث كان احد الاقوال في المسالة انه وجوب متعلق بفرد معين ، فأجيب بان هذا من الترجيح بلا مرجح ، ورد سماحته بأن السبق الى العمل الذي يكشف عن الاستحقاق هو المرجح ، واليك نص الكلام:

وأجيب بأنه «يلزم التخصيص بلا مخصص والترجيح من غير مرجّح، فإن نسبة ذلك الغرض الواحد إلى جميع المكلفين على صعيد واحد، وعليه فتخصيص الواحد المعيَّن منهم بتحصيله لا محالة يكون بلا مخصص»(1).

ص: 442


1- محاضرات في أصول الفقه: 45/238.

أقول: بناءً على ما افترضناه آنفاً من كون تعيين الواحد يكون بسبقه إلى الامتثال، فليس إذن هو تخصيص بلا مخصص؛ لأن المخصِّص هو السبق. وليس هو من الترجيح بلا مرجح؛ لوجود المرجّح وهواستحقاق الألطاف الإلهية الخاصة أكثر من غيره، ولو كان المورد من الترجيح بلا مرجّح لأحد الفردين أو الأفراد فإننا لا نجد إشكالاً فيه؛ لأن المرجح هو نفس الحاجة إلى الترجيح وإرادة تحقق الفعل، كأحد قرصي الجائع وطريقي الهارب، مضافاً إلى أننا نتحدث عن طاعات وأوامر إلهية يُرجى منها الثواب والقرب من الله تعالى وقد أمرنا باستباقها والمسارعة إليها، فالمرجح هو الاستحقاق الذي يكشف عنه السبق، قال تعالى: «فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ» (البقرة:148) وقال تعالى: «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ» (الأنبياء:90) وقال تعالى: «وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ» (آل عمران:114) وقال تعالى: «أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ» (المؤمنون:61) وقال تعالى: «وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (آل عمران:133).

ص: 443

الأصول العملية
اشارة

بعد ان تكلمنا في الدليل المحرز ننتقل الى ما جاء في موسوعة فقه الخلاف من الكلام عن الدليل غير المحرز ، او ما يصطلح عليه بالأصول العملية: التي ينتهي اليها الفقيه عند عدم وجدان الدليل على الحكم الشرعي ، فتاتي الأصول العملية لتبين لنا الموقف العملي تجاه الاحكام الشرعية المشكوكة.

واهم الأصول العملية التي بحثت في علم الأصول: اصل البراءة ، والعلم الإجمالي ، والاستصحاب.

اصل البراءة الشرعية

استدل علماء الأصول بحديث الرفع على ان الأصل عند الشك في التكليف هو عدم التكليف وهو ما يعرف بأصل البراءة الشرعية. وسنذكر بعض ما جاء في موسوعة فقه الخلاف عن البراءة في ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: جريان البراءة في الاحكام الوضعية.

المسألة الثانية: البراءة عن وجوب إصابة عمود الجمرة في الحج.

المسألة الثالثة: اجراء الأصول في الألفاظ.

وتفصيل هذه المسائل:

ص: 444

المسألة الأولى: جريان البراءة في الاحكام الوضعية.

مما لاشك فيه ان اصل البراءة يجري في الاحكام التكليفية ، ولكن اختلف علماء الأصول في جريانه في الاحكام الوضعية.

وكلمات سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء التاسع (صفحة 253 – 254) ظاهرة في قوله بعدم جريان حديث الرفع في الاحكام الوضعية ، حيث قال:

فرع:

على القول بجواز الإضرار بالغير مطلقاً أو في الجملة فهل عليه الضمان؟.

علّلَ الشيخُ الانصاري (قدس سرّه) في بعض المطالب الآتية الضمان ب «عدم الإكراه المانع من الضمان أو استقراره»(1)

وهو صريح بأن الإكراه مانع من أصل الضمان أو من استقراره.

أما عدم الضمان عند الإكراه فإنه مبني على تقريبه السابق للمُكرَه كالآلة وأنه سبب ضعيف ولا يصح إسناد الفعل اليه فيكون الضمان على السبب الفاعل وهو المُكرِه، وقد أجبنا بأن المُكرَه ليس كذلك فإنه فاعلٌ مختارٌ ومباشر للفعل ويتمكن من تحمّل الضرر بدل إيقاعه بالغير.

أو أنه مبني على كون حديث الرفع مسقطاً للأحكام الوضعية ومنها الضمان وليس مختصاً بالأحكام التكليفية، لكن هذا التعميم غير تام وزائد عن مفاد الحديث وللنقض عليه بضمان مال الغير عند الاضطرار إلى أكله في المخمصة، وما دل على فساد بعض الأحكام الوضعية كطلاق المكره لا يصحح التعميم.

ص: 445


1- المكاسب: 2/94.

وأما عدم استقرار الضمان على المُكرَه فهو صحيح لأنه فعلَ ما فعل بإكراه الجائر، فالسبب هنا أقوى من المباشر ويستقر عليه الضمان.

الا ان سماحته بيّن في الجزء الثالث عشر في مسالة حد المبيت الواجب في منى(صفحة 174- 187 ) - عند بحثه في وجوب الكفارة على من لم يبت جهلًا او نسيانًا او اضطرارًا - ان في المسالة تفصيلًا ، وان البراءة الشرعية تجري في بعض الاحكام الوضعية دون بعضها الاخر، اذ قال ( دامت بركاته ) :

الرابعة: هل تجب الكفارة على من خالف جهلاً أو نسياناً أو اضطراراً.

حكي عن المشهور عدم سقوطها عنهم لكن هذه النسبة محل إشكال لظهور كلمات بعضهم في عدم الوجوب كتقييد الوجوب بالعمد وهو يعني خروج هؤلاء منه لعدم صدق العمد عليهم، كقول ابن الجنيد: «وليس للحاج أن يبيت ليالي منى إلا بمنى، فإن فعل ذلك عامداً، فعليه لكل ليلة دم»(1).

وقال الشيخ في النهاية: «من بات الثلاث ليال بغير منى متعمداً كان عليه ثلاثة من الغنم»(2).

وقال المحقق النراقي (قدس سرّه) وفاقاً لجملة من الأصحاب ككاشف اللثام: «إطلاق النصوص والفتاوى في الفداء يشمل العالم والجاهل والمضطر والناسي فيجب عليهم أيضاً، ويكون جبراناً لا كفارة، وعن الشهيد في بعض الحواشي(3): استثناء الجاهل، ووجهه غير معلوم»(4).

أقول: لعل وجهه ما ورد في صحيحة عبد الصمد عن أبي عبد الله(عليه

ص: 446


1- مختلف الشيعة: 4/313، مركز الأبحاث الإسلامية.
2- النهاية: 266.
3- حواشي الشهيد (قواعد الأحكام): 1/90 بحسب هامش كشف اللثام: 6/240.
4- كشف اللثام: 6/240، مستند الشيعة: 13/36، وسبقهما في النسبة إلى الشهيد: المحقق الكركي في جامع المقاصد: 3/263 وتلاه في مدارك الأحكام: 8/224.

السلام) من قوله: (أي رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه)(1) أو ما سيأتي من صحيحة معاوية بن عمار (2)، أو لعل وجهه ما احتمله بعضهم كصاحب المدارك(3) وكاشف اللثام من حمل صحيحة العيص عن الإمام الصادق (عليه السلام) (عن رجل فاتته ليلة من ليالي منى، قال: ليس عليه شيء وقد أساء) على الجاهل وقد تقدم عرضه ومناقشته (4).

أقول: ما ورد في صحيحة عبد الصمد وارد في سياق الجاهل الذي لبس ثوباً لا تنطبق عليه شروط الإحرام فلعل الحكم خاص به أو يتعدّاه إلى مخالفة شيء من تروك الإحرام كما في صحيحتي معاوية بن عمار وزرارة الآتيتين فلا تشمل ما نحن فيه، والاختلاف في وجوب الكفارة على الجاهل وعدمها وارد في أفعال الحج وتروكه.

وتردد صاحب الجواهر (قدس سرّه) في شمول المضطر بالكفارة قائلاً: «بل قيل إن فيه وجهين، أظهرهما العدم، للأصل وانتفاء العموم في النصوص، ولأن الفدية كفارة عن ترك الواجب، ولا وجوب عليه، وفيه أن الأصل مقطوع بالإطلاق الذي هو بمنزلة العموم، ولعل الفدية جبران لا كفارة، نعم قد يقال بانسياق غير المضطر من الإطلاق المزبور، إلا أن الأحوط ثبوتها»(5).

ص: 447


1- وسائل الشيعة: 12/488، أبواب تروك الإحرام: باب 45، ح 3.
2- صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (اعلم أنه ليس عليك فداء شيء أتيته وأنت محرم جاهلاً به إذا كنت محرماً في حجك أو عمرتك إلا الصيد فإن عليك الفداء بجهل كان أو عمد) وسائل الشيعة: 13/69، أبواب كفارات الصيد، باب 31، ح1، 4.
3- مدارك الأحكام: 8/224، كشف اللثام: 6/240.
4- راجع موسوعة فقه الخلاف : 13 / 166- 168 .
5- جواهر الكلام: 20/6.

ومال السيد الخوئي إلى عدم الوجوب في الجميع بعد أن ناقشفي الإجماع المدعى على ثبوت الكفارة مطلقاً، قال (قدس سرّه): «ولا ريب أن الإجماع غير تام والقول بعدم وجوب الكفارة في جميع الموارد المزبورة هو الصحيح. أمّا بالنسبة إلى الاضطرار فلحديث الرفع، فإنه لا يختص بمجرد التشريع، بل يرفع كل ما يترتب على الفعل المضطر إليه إلاّ إذا قام دليل خاص على الخلاف.

وكذلك الحال بالنسبة إلى الجهل كما في صحيحة عبد الصمد (أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه)(1) ولذا ذكرنا أنه لا كفارة على الجاهل في باب الصوم(2)، فإذا كان يرى جواز المبيت خارج منى فليس عليه شيء بمقتضى صحيح عبد الصمد المتقدم.

وهكذا في مورد النسيان، فإنه يرتفع في مورده كل حكم مترتب على الفعل، فكأن الفعل الصادر من الناسي لم يقع وهو في حكم العدم، والأحوط ثبوت الكفارة في هذه الموارد خروجاً عن شبهة الخلاف»(3).

أقول: والتحقيق أن يقال أن الكلام تارة يكون على مستوى القواعد وأخرى على مستوى الأدلة الخاصة فالكلام في مقامين:

المقام الأول: من الواضح أنه (قدس سرّه) قد مضى في استدلاله على المستوى الأول فبنى سقوط الكفارة على أن حديث الرفع يسقط الأحكام

ص: 448


1- وسائل الشيعة: 12/488، أبواب تروك الإحرام: باب 45، ح 3، و 13/158، أبواب بقية كفارات الإحرام، باب 8، ح3.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 21/307. أقول: قياس المورد على الجاهل في كتاب الصوم مع الفارق لأن الصوم ورد فيه أن ما يبطله هو تناول المفطر عن علم وعمد فالجاهل خارج تخصصاً ولم يرد مثله في المقام.
3- موسوعة السيد الخوئي: 29/390-391.

التكليفية والوضعية إلا إذا دل دليل خاص على ثبوت الحكمالوضعي -كما قال (قدس سرّه)-.

وفي كلامه (قدس سرّه) مبنيان قابلان للمناقشة:-

أ- إن عدم جريان حديث الرفع في الموارد المستثناة إنما هو بالتخصيص والصحيح أنه بالتخصص كما اختار (قدس سرّه) في علم الأصول، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ب- إطلاق جريان حديث الرفع في جميع الأحكام الوضعية والصحيح أنه يجري في بعضها دون بعض وفق ضابطة سنحققها إن شاء الله تعالى.

إذ الظاهر عدم شمول حديث الرفع ونحوه لجميع الأحكام الوضعية بل فيه تفصيل، وقد أفتى السيد الخوئي (قدس سرّه) ببعض الكفارات حتى مع الاضطرار كتظليل المحرم قال (قدس سرّه): «لا فرق في ثبوت الكفارة بين حالتي الاختيار والاضطرار، فإن الاضطرار يرفع المنع وأما الكفارة فغير مرتفعة»(1). واستدل (قدس سرّه) على ذلك بإطلاق صحيحة علي بن جعفر (أظلل وأنا محرم، فقال: نعم، وعليك الكفارة)(2) ومعتبرة عبد الله بن المغيرة قال: (قلت لأبي الحسن الأول (علیه السلام): أظلل وأنا محرم؟ قال: لا، قلت: أفأظلل وأكفّر، قال: لا، قلت: فإن مرضت؟ قال: ظلل وكفّر)(3).

واحتاط (قدس سره) بلزوم الكفارة على المحرم إذا لبس ما يحرم عليه لبسه اضطراراً للإجماع المستند ظاهراً إلى صحيحة محمد بن مسلم (سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن المحرم إذا احتاج إلى ضروب من الثياب يلبسها،قال:

ص: 449


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 28/501.
2- وسائل الشيعة: 13/154، أبواب بقية كفارات الإحرام، باب 6، ح 2.
3- وسائل الشيعة: 12/516، أبواب تروك الإحرام: باب 64، ح3.

عليه لكل صنف فداء)(1) بناءً على تفسير الاحتياج بالاضطرار.

وتوجد أحكام وضعية كثيرة نجزم بعدم سقوطها بحديث الرفع كنجاسة الملاقي للنجاسة مكرهاً أو مضطراً كمن اضطر لأكل الميتة أو شرب النجس فإن الحرمة ترتفع لكن نجاسة الملاقي تثبت، أو وجوب قضاء الصلاة على من فاتته اضطراراً أو إكراهاً، أو حصول الحدث الأكبر الموجب للغسل فإن من أجنب مضطراً أو مسَّ ميتاً مكرهاً وجب عليه الغسل، وكذا حصول الحدث الأصغر الموجب للوضوء أو وجوب الخمس والزكاة في المال لو اضطر؛ لتحقق موجبهما، أو أكره على ذلك، أو من نسي نجاسة ثوبه أو بدنه فصلى فلا يسقط القضاء.

وقد تقدم منا في بعض المباحث السابقة(2) أن عدَّ هذه الاستثناءات تخصيصاً في العام ليس أولى من كونها نقضاً على عموم العام المدعى -أي كبرى شمول الأحكام الوضعية بحديث الرفع- فتبطله، أي عدم صحة سقوط الأحكام الوضعية مطلقاً بأدلة الأحكام الثانوية، فقوله (قدس سرّه) عن حديث الرفع: «فإنه لا يختص بمجرد التشريع، بل يرفع كل ما يترتب على الفعل المضطر إليه إلا إذا قام دليل خاص على الخلاف» الظاهر في كون خروج هذه الاسثناءات بالدليل تخصيصاً هو محل مناقشة؛ لأن هذه الموارد خرجت بدليلها وليس بدليل خاص استثناها من حديث الرفع، لذا ذهب (قدس سرّه) في بحثه الأصولي إلى خروجها بالتخصص.

والخروج بالتخصيص مختار الشيخ النائيني (قدس سرّه) على ما حكاه السيد الخوئي(3) (قدس سرّه) والسيد الشهيد الصدر (قدس سرّه) عنه من أن خروج هذه

ص: 450


1- وسائل الشيعة: 13/159، أبواب بقية تروك الإحرام، باب 9، ح1.
2- راجع موسوعة فقه الخلاف : 12/ هامش صفحة 264 .
3- مصباح الأصول من الموسوعة الكاملة: 47/312.

الموارد بالتخصيص للإجماع، واعترضا عليه، وذهبا (قدس سريهما) إلىخروجها بالتخصّص(1)، ويميّز بينهما بأن نكتة خروج هذه الموارد ثبوتية وليست إثباتية، وقال (قدس سرّه) في وجهه: «لأن الاضطرار في نظر العرف فعل للمضطرّ إليه، فإن كان هناك حكم مترتب على نفس الفعل، كالكفارة المترتبة على الإفطار ارتفع بالاضطرار والإكراه، وأما إذا كان الحكم مترتباً على عنوان الملاقاة مثلاً كما في النجاسة، أو أي عنوان آخر غير الفعل فهو لا يرتفع بحديث الرفع؛ لأن ما يتصف بالاضطرار وهو الفعل ليس هو موضوعاً للحكم، وما يكون موضوعاً للحكم ليس متصفاً بالاضطرار إليه».

فلا بد من القول بالتفصيل ووضع ضابطة للأحكام الوضعية التي تسقط بحديث الرفع مضافاً إلى شرط تحقق الامتنان بتطبيقه لذا لم يسقط الضمان بالإتلاف عن اضطرار أو إكراه.

ومن تلك الشروط: كون الفعل المضطر إليه هو موضوع الحكم الشرعي وهو ما قاله السيد الخوئي (قدس سرّه) في كلامه الآنف.

ومن الشروط في هذه الضابطة ما قاله السيد الشهيد الصدر (قدس سرّه) بأن «يكون في دليله -أي الحكم الوضعي- ما يقتضي دخل الاختيار في ترتب الحكم على موضوعه، وأن يكون فعلاً من أفعال المكلف»(2)، فنجاسة الملاقي تترتب على الملاقاة ولا علاقة لها بفعل المكلف، فلو ألقت الريح ثوباً في ماء نجس تنجّس ولم يترتب الحكم على فعل المكلف، وكذا قضاء الصلاة مترتب على عنوان الفوت.

ص: 451


1- مباحث الأصول: الجزء الثالث من القسم الثاني: 210، وهي تقريرات الشهيد الصدر (قدس سره) بقلم السيد كاظم الحائري، ط2، 1425.
2- تقريرات بحث الشهيد الصدر في علم الأصول بقلم الشيخ حسن عبد الساتر: 11/170، الطبعة الأولى 1426 هج.

ولا يُتوهم أن الضابطة في جريان حديث الرفع وعدمه هو وقوع فعل المكلف متعلقاً للتكليف فيجري، وقوعه موضوعاً له فلا يجري لذا صحّتطبيقه على حرمة أكل النجس دون سريان النجاسة بالملاقاة، فهذا التفريق غير صحيح لجريان حديث الرفع فيهما معاً كسقوط حرمة الإفطار في شهر رمضان ووجوب الكفارة معاً عن المضطر والناسي.

فالنقوض التي ذكرناها أعلاه لا دخل لاختيار المكلف فيها وإنما أخذ كل منها -كالملاقاة والفوت وموجبات الغسل ونواقض الوضوء ونصاب الزكاة وموجبات الخمس وغير ذلك- موضوعاً لترتب الحكم لذا لم يشملها حديث الرفع، ويعرف ذلك من مناسبات الحكم والموضوع.

وتطبيق هذه الكبرى في المقام ان الكفارة ان كانت عقوبة فهي مترتبة على فعل المكلف ويجري فيها حديث الرفع، وإن كانت جبراناً فموضوعها النقص وهو ليس فعلاً للمكلف فلا يجري فيها حديث الرفع، فلا بد من التحقيق لترجيح أحدهما.

والأقوى أنها جبر للنقص لوجهين:-

أ- الروايات الدالة على كراهية ترك المبيت بمنى وإن أدى الواجب، أو امتثل بغير المبيت كقضاء الليل بالنسك في مكة كصحيحة صفوان عن أبي الحسن (علیه السلام) في من شغله نسكه من طواف وسعي قال: (وما أحبّ أن ينشق له الفجر إلا وهو بمنى)(1) وتقريبه: أن قضاء الليل بالنسك يسقط وجوب المبيت ويجزي عنه ومع ذلك فقد أحبَّ له الإمام (علیه السلام) أن يعود إلى منى ليدرك شيئاً يسيراً من الليل ويصبح فيها ويتجنب نقص ترك المبيت في منى.

ص: 452


1- وسائل الشيعة: 14/253، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح5.

وكذا رواية أبي الصباح الكناني في الدلجة من منى قال (علیه السلام): (لا، حتى ينشق الفجر كراهية أن يبيت الرجل بغير منى)(1)، ولذا أوجبجماعة الفدية على المعذورين شرعاً في ترك المبيت.

ب- مناسبات الحكم والموضوع، ويمكن استفادة المناسبة في المقام من وجوبها على من غلبته عينه فنام في الطريق فإنه تجب عليه الشاة رغم أنه فعل ليس باختياره بعد قضاء ثلاثة أيام شاقة في أعمال الحج وقطع المسافات الطويلة، ففي صحيحة جميل في التهذيب «المرسلة في الكافي» عن أبي عبد الله (علیه السلام) (من زار فنام في الطريق فإن بات بمكة فعليه دم)(2) وفي رواية علي عن أبي إبراهيم (علیه السلام) قال: (سألته عن رجل زار البيت فطاف بالبيت والصفا والمروة ثم رجع فغلبته عينه في الطريق فنام حتى أصبح قال: عليه شاة)(3).

ومن الغريب أن السيد الخوئي (قدس سرّه) لم يستحضر ما قاله في علم الأصول هنا ولم يبنِ المطلب على ما ذكره من التفصيل في جريان حديث الرفع والتفريق بحسب ملاك وجوب الفدية وكذا تلامذته(4) خصوصاً وأن هذا التفصيل ملتفت إليه لدى الأعلام السابقين كقول الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك: «وفي سقوط الفدية -عن المضطر- نظر من إطلاق

ص: 453


1- وسائل الشيعة: 14/253، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح7.
2- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسي محمد بن الحسن: 5/259، ط. دار الكتب الإسلامية - طهران، وسائل الشيعة: 14/256، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح16.
3- وسائل الشيعة: 14/215، أبواب الحلق والتقصير، باب 2، ح2.
4- كالشيخ الفياض (دام ظله الشريف) في تعاليق مبسوطة: 10/627، والأغرب منه أنه أوقع التعارض بين إطلاقي حديث الرفع والروايات الدالة على وجوب الكفارة فيتساقطان وتجري أصالة البراءة مع أن حديث الرفع في مورد جريانه يكون حاكماً على الأدلة الأولية.

النص بوجوبها على من لم يبت، ومن ظهور العذر وكونها كفارة عن ترك الواجب وهو منتفٍ، ويمكن كونهافدية فتجب وإن انتفى الإثم»(1)، وقوله (قدس سرّه) في الروضة: «مقتضى الإطلاق عدم الفرق بين المختار والمضطر في وجوب الفدية، وهو ظاهر الفتوى والنص، وإن جاز خروج المضطر منها - أي منى- ويحتمل سقوط الفدية عنه، وربما بني الوجهان على أن الشاة هل هي كفارة أو فدية وجبران، فتسقط على الأول دون الثاني»(2).

أقول: فكان ينبغي للسيد الخوئي (قدس سرّه) أن يؤسس مختاره على هذا التفصيل ليقول: أن الفداء بشاة إن كان عقوبة على ترك المبيت فإنها تسقط بحديث الرفع لعدم استحقاق المضطر والناسي والجاهل العقوبة ولتحقق الشرط وهو كون المضطر إليه من فعل المكلف كسقوط كفارة الصوم عمن تناول المفطر مضطراً أو مكرهاً، وإن كانت الشاة جبراناً للنقص فإن موضوع الحكم ليس من فعل المكلف، ولا دخل لاختيار المكلف فيه، وهو المناسب لإطلاقات وجوب الكفارة، فلا يجري حديث الرفع، ولو شككنا جرت إطلاقات وجوب الفداء عند عدم المبيت بلا معارض.

والنتيجة على المستوى الأول عدم صلاحية أدلة العناوين الثانوية لإخراج محل البحث من إطلاق أدلة وجوب الكفارة؛ لذا لا مانع من التمسك بإطلاق وجوب الكفارة على المضطر والناسي والجاهل وإن لم يكن عاصياً لأن ذبح الشاة قد يكون جبراناً للنقص الحاصل في الملاك وليس عقوبة على العصيان.

المقام الثاني: على مستوى الأدلة الخاصة، ولا يوجد في الروايات ما

ص: 454


1- مسالك الأفهام: 2/364.
2- الروضة البهية: 1/401.

يدل على تفصيل الحكم في هذه العناوين وإنما نحاول اقتناصه من روايات متفرقة في أحكام مختلفة، فيحسن بحث العناوين كلا على حدة:-

1- الجاهل: قال المحقق الكركي (قدس سرّه) في جامع المقاصد: «في حواشي الشهيد: إن الجاهل لا كفارة عليه، وظاهر الأخبار العموم، فلا يفرق بينه وبين العامد، ويؤيده أن الجاهل مأمور بالتعلم، وإخلاله به لتقصيره لا يُعدُّ عذراً، مع احتمال الفرق وقوفاً مع أصل البراءة إلا في موضع الوفاق»(1).

ووصف صاحب الحدائق (قدس سرّه) استثناء الجاهل بأنه جيد وقال في وجهه: «لما عرفت من تضاعيف الأبحاث المتقدمة والأحاديث المتكررة من معذورية الجاهل»(2).

أقول: استُدل على سقوط الكفارة عن الجاهل بإطلاق صحيحة عبد الصمد المتقدمة (أي رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه)(3) بعد تجريدها عن الخصوصية وهو ظاهر استعمال (أي) وتنكير ما بعدها، فتشمل كل أمر يرتكب بجهالة على ما خرج بدليل كفداء الصيد.

وبالتقريب الذي احتمله صاحب المدارك وكاشف اللثام لصحيحة العيص بن القاسم وقد تقدم (4) .

ويمكن الاستدلال بصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (اعلم أنه ليس عليك فداء شيء أتيته وأنت محرم جاهلاً به إذا كنت محرماً في حجك أو عمرتك إلا الصيد فإن عليك الفداء بجهل كان أو عمد)(5).

ص: 455


1- جامع المقاصد: 3/263.
2- الحدائق الناضرة: 17/298.
3- وسائل الشيعة: 12/488، أبواب تروك الإحرام، باب 45، ح3.
4- راجع موسوعة فقه الخلاف : 13/ 167 .
5- وسائل الشيعة: 13/69، أبواب كفارات الصيد، باب 31، ح1، 4.

أقول: قد يشكل على الاستدلال بالرواية بأنها تنفي ما يترتب من الكفارة بسبب ارتكاب شيء من المحرمات فلا تشمل ما يترتب منها عند ترك الواجب كما في المقام.

إلا أنه يمكن رده بأن عدداً من الروايات دلت على أن موجب الكفارة هو المبيت في غير منى وهو منهي عنه ولو بالحرمة الغيرية(1) مقدمة لتحقق المبيت في منى، ولو تنزلنا فإن ترك الواجب حرام بالملازمة أو بالعينية، ولعدم القول بالفصل.

وقد يشكل بأن الرواية واردة في ما يجب من الكفارات على مخالفة تروك الإحرام خاصة لا مطلق الكفارات فهي نظيرة صحيحة زرارة قال: (سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: من نتف إبطه أو قلَّم ظفره أو حلق رأسه أو لبس ثوباً لا ينبغي له لبسه أو أكل طعاماً لا ينبغي له أكله وهو محرم، ففعل ذلك ناسياً أو جاهلاً فليس عليه شيء، ومن فعله متعمداً فعليه دم شاة)(2). فشمولها المقام يحتاج إلى دليل.

وجوابه: إن التوسعة يمكن تحصيلها بتقريبين:-

أ- شمول عنوان المحرم لمحل البحث لأنه ما زال في إحرام من الطيب والنساء قبل زيارة البيت ومن الصيد ما دام في الحرم.

ب- التجريد عن الخصوصية بتنقيح المناط، ويشهد له سقوطها عن ما هو أعظم منه كالجماع ففي صحيحة زرارة قال: (سألته عن محرم غشي امرأته وهي محرمة، فقال: إن كانا جاهلين استغفرا ربّهما ومضيا علىحجتهما وليس عليهما شيء)(3)، ولا نتوقف عند احتمال أن الشيء هو فساد

ص: 456


1- هذه من ثمرات القول بالحرمة الغيرية التي تقدم بيانها ( صفحة 409) .
2- وسائل الشيعة: 13/157، أبواب بقية كفارات الإحرام، باب 8، ح1.
3- وسائل الشيعة: 13/108، أبواب كفارات الاستمتاع، باب 2، ح1.

الحج أو إعادته من قابل، فتأمل(1).

2- المضطر: دلّت النصوص على عدم سقوط الفدية عن المضطر في عدة موارد كالصيد ففي موثقة يونس بن يعقوب قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن المضطر إلى الميتة وهو يجد الصيد؟ قال: يأكل الصيد وعليه فداؤه، قلت: فإن لم يكن عندي؟ قال: فقال: تقضيه إذا رجعت إلى مالك)(2).

وكفارة التظليل كما في صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: (قلت للرضا (علیه السلام): المحرم يظلل على محمله ويفدي إذا كانت الشمس والمطر يضران به؟ قال: نعم، قلت: كم الفداء؟ قال: شاة)(3).

وكفارة لبس ما لا يصح للمحرم كما في صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن المحرم إذا احتاج إلى ضروب من الثياب يلبسها، قال: عليه لكل صنف فداء)(4)، بناءً على تفسير الاحتياج بالاضطرار.

وهذه الموارد وإن كانت لا تمتّ إلى ما نحن فيه بصلة إلا أنها تقرِّب إمكان عدم جريان حديث الرفع في الأحكام الوضعية المترتبة علىالمضطر.

وقد رفع الإمام الرضا (علیه السلام) التعجب لدى شيعته من تساوي الحكم بين هؤلاء والعامد في صحيحة ابن أبي نصر قال: (قلتُ: جُعلت فداك، ألستَ قلت: إن الخطأ والجهالة والعمد ليسوا بسواء؟ فبأي شيء يفضل المتعمد

ص: 457


1- وجهه: أنه قياس مع الفارق لأن كفارة الجماع مما يسقطها حديث الرفع دون محل البحث كما تقدم في المقام الأول.
2- وسائل الشيعة: 13/97، أبواب كفارات الصيد، باب 50، ح 2، و 13/85، باب 43، ح2.
3- وسائل الشيعة: 13/155، أبواب كفارات الإحرام، باب 6، ح5.
4- وسائل الشيعة: 13/159، أبواب بقية تروك الإحرام، باب 9، ح1.

الجاهل والخاطئ؟ قال: إنه أثم ولعب بدينه)(1).

ويظهر من كلمات بعض الأصحاب عدم وجوب كفارة على من لم يبت في منى اضطراراً، مستفيدين من وحدة المناط مع العناوين المستثناة من وجوب المبيت في منى فإن مناط إعفائهم الاضطرار مع ضم الملازمة بين إذن الشارع لهم بترك المبيت وسقوط الفدية، فقد صرّح صاحب الحدائق بسقوطها عنهم وقال معلّقاً على رواية الإذن للعباس بأن يبيت في مكة ليالي منى لأجل سقاية الحاج: «وهي صريحة في جواز المبيت لأجل السقاية في مكة تلك الليالي من غير دم ولا إثم»(2).

وهو ظاهر المحقق الكركي (قدس سرّه) لقوله: «لو كان مضطراً إلى المبيت بغير منى كما لو دعته حاجة ما، أو حفظ مال، أو تمريض، أو كان من أهل السقاية جاز الخروج من منى إلى غيرها والمبيت هناك»(3).

أقول: إطلاق كلامه (قدس سرّه) وعدم تعرضه لوجوب الكفارة مع الحاجة إلى البيان يعني عدم الوجوب.

ويرد عليهم بعدم تمام الملازمة فالمضطر إلى التظليل ولبس ما لا يحل له لبسه عليه الكفارة، ولذا تردد الشهيد الأول في الدروس فيسقوط الكفارة عن غير من قام عنده الدليل على استثنائهم وهم الرعاة وأهل السقاية، قال (قدس سره): «وتسقط الفدية عن أهل السقاية والرعاة، وفي سقوطها عن الباقين نظر»(4).

ص: 458


1- وسائل الشيعة: 13/169، أبواب كفارات الصيد، باب 31، ح2.
2- الحدائق الناضرة: 17/304.
3- جامع المقاصد: 3/264.
4- الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي: 1/460، ط. جماعة المدرسين - قم.

3- الناسي: ويمكن التمسك بعموم التنزيل الوارد في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) (في المحرم يأتي أهله ناسياً، قال: لا شيء عليه وإنما هو بمنزلة من أكل في شهر رمضان وهو ناسٍ)(1)، وما تقدم (2) في صحيحة زرارة في الجاهل. وفيه أنه قياس مع الفارق لما ذكرناه من التفصيل في جريان حديث الرفع.

وخلاصة ما تقدم أن عدم وجوب الكفارة على الجاهل والناسي والمضطر يمكن أن يتحقق إذا ثبت شيء مما يلي:-

أ- انصراف أدلة وجوب الكفارة في المقام عن الجاهل والناسي والمضطر أو عن بعضهم كما احتمله صاحب الجواهر (قدس سرّه) في المضطر في كلامه المتقدم.

ب- إن الفداء كفارة لارتكاب ترك الواجب وليست جبراً للنقصان فلا تشمل هؤلاء؛ لأن فعلهم كلا فعل.

ج- شمول حديث الرفع ونحوه من أدلة العناوين الثانوية إما لمطلق الأحكام الوضعية إلا ما خرج بدليل فيشمل المقام لعدم وجود ما يخرجه كما خرجت كفارة الصيد ولبس ما يخالف ثوب الإحرام والتظليل.

أو لخصوص ما دخل في ضابطة جريانه وكون المقام منه.

د- تنقيح مناط الروايات التي أوردناها في البحث أعلاه وتعميمعناوينها كالذي ذكره بعض الأجلاء في المضطر أو صحيحة معاوية بن عمار في الجاهل.

ه- وجود إطلاق في صحيحة عبد الصمد المتقدمة (3) كما فعل السيد

ص: 459


1- وسائل الشيعة: 13/109، أبواب كفارات الاستمتاع، باب 2، ح7.
2- راجع موسوعة فقه الخلاف : 13/ 168 .
3- راجع موسوعة فقه الخلاف : 13/ 183 .

الخوئي (قدس سرّه) بحيث أنه استدل بها على عدم بطلان الصوم إذا تناول المفطر جهلاً(1).

ومع عدم تمامية شيء مما يخرج هذه العناوين فيجب التمسك بإطلاق وجوب الدم على من ترك المبيت في منى وهو الأحوط، واختار الوجوب عليهم من المعاصرين السيد الخميني(2)، بلا فرق بينهم، أما السيد السبزواري (قدس سرّه) فقد أوجبها على الجاهل والناسي دون المضطر لكنه احتاط فيه «لاحتمال شمول الأدلة له أيضاً، واحتمال كونه من الوضعيات غير المختصة بحال دون حال»(3).

المسألة الثانية: البراءة عن جوب إصابة عمود الجمرة في الحج.

اختلف الفقهاء في وجوب إصابة العمود في رمي الجمرات: فمنهم من قال بالوجوب ، ومنهم من قال بعدمه.

وقد بيّن سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء السابع (صفحة 265 -266) في مسالة رمي الجمرات ان الأصل العملي الجاري في المقام هو البراءة عن إصابة العمود ، فاذا لم يتم الدليل المحرز على وجوب إصابته جرت البراءة ، حيث قال:

لو تنزلنا وافترضنا حصول حالة الشك، فإن الأصل الجاري في المقامهو البراءة من تعيّن وجوب إصابة العمود حصراً، والاكتفاء بإصابة موضع اجتماع الحصى.

وتقريبه: إننا بعد أن قربنا كون العمود بطوله المناسب جزءاً من

ص: 460


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سره): 21/307.
2- تحرير الوسيلة: 1/408، ط. دار التعارف.
3- مهذب الأحكام: 14/359، ط. 4 انتشارات فجر الإيمان، 1424.

الموضع المخصوص عرفاً كما أن عمود الحصى فوق تلك الأرض هو موضع للرمي مهما كثر وارتفع رأسه ولا يقول أحد بوجوب كشف الحصى وإصابة نفس الأرض.

وحينئذٍ فإن وجوب إصابة العمود (تارة) يُنظر إليه على أنه قيد زائد على وجوب إصابة الموضع المخصوص فيكون الواجب إصابة خصوص العمود من هذا الموضع، وهو وجوب مشكوك للوجوه التي ذكرناها وأحدها عدم إحراز وجودها في زمن المعصومين (علیهم السلام) فينفى هذا القيد الزائد ويكتفى بإصابة كل أجزاء الموضع المخصوص، ويمكن تنظير المورد بمن علم بوجوب أداء صلاتي الظهر والعصر في الوقت الممتد من الزوال إلى الغروب لكنه شك في كون الامتثال مقيداً بكونه في أول الوقت أي وقت الفضيلة فينفى هذا القيد بأصالة البراءة.

و(تارةً) يُنظر إليه على أنه وجوبٌ ثانٍ مستقل عن الأول على نحو تعدد المطلوب، أي أنه علم بوجوب إصابة الموضع المخصوص من الأرض لكنه شك بوجوب ثانٍ يتعلق بإصابة خصوص العمود من هذه البقعة، نظير من علم بوجوب صوم يومٍ لنذرٍ ونحوه وشك في كونه متعيناً بأول خميس من الشهر، فحينئذٍ يكون المورد صغرى لدوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين، ومختارنا فيها جريان أصالة البراءة، والأقل هنا إجزاء إصابة أي جزء من الموضع، والأكثر كون الواجب متعيناً بإصابة خصوص العمود.

المسألة الثالثة: اجراء الأصول في الألفاظ.

من إثارات شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ما ذكره في الجزء الثامن في بحث حقيقةالوجوب الكفائي ، اذ نقل كلمة للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) عن اجراء الأصول العملية في الألفاظ ، ثم ذكر (دامت بركاته) في (هامش الصفحة

ص: 461

231 -232):

عرضت عليه (قدس سرّه) بعد الدرس فكرة متعلقة بهذا الباب قلت فيها كما هو مسجل في هامش تقريراتي: «إن جريان بعض القواعد والأصول في الألفاظ مما انقدح في ذهني سابقاً ولم أحقق فيه، فمثلاً ذكر الشهيد في اللمعة خلافاً حاصله أن المبطل للصلاة هل هو (البكاء) أم (البكا) والأول خروج الدمع بصوت، والثاني بدونه، فعندنا هنا قدر متيقن من اللفظ وهو (البكا) فهل نأخذ به ونجري البراءة من الزائد وهي الهمزة، كما نفعل في دوران الأمر بين الأقل والأكثر.

قال (حفظه الله): لا ثمرة في ذلك لأن النظر قبل إجراء هذا الأصل في الأمارات وهو النص المفروض وجوده.

قلتُ: أما الثمرة العملية فموجودة كما في المثال، وأما النص فالمفروض اختلاف النسخ فيه بحيث لم يترجح أحدها.

قال (حفظه الله): فتتعارض وتتساقط.

ثم قلت: على القول بجريان القاعدة فيه أي نفي الزيادة في اللفظ، فكيف نتصرف عندما تكون نتيجة إجراء القواعد في مدلول اللفظ أي الحكم عكس ذلك، كما في المثال، فإن القدر المتيقن من المبطل خروج الدمع بصوت وهو يثبت معنى البكاء، وإجراء القاعدة في اللفظ يثبت (البكا) فأيهما يقدَّم؟

قال (حفظه الله): تجري في اللفظ لأنه بمنزلة العلة للمعنى.

قلت: لكن اللفظ غير ملحوظ بنفسه بل لحاظه طريقي للمعنى وهو قالب له وفانٍ فيه، أما الملحوظ أولاً وبالذات فهو المعنى فهو المقدَّم.

قال (حفظه الله): بل في اللفظ لمدخلية القالب في اللحاظ، والقالب إنما هو اللفظ».

أقول: انتهى الحوار إلى هنا وسجّلت في ذيله: «يقوى في نفسي عدم

ص: 462

جريان ذلك في اللفظ لأن أفراده دائماً متباينة وليست من الأقل والأكثر فلا يوجد قدر متيقن، وربما تجرأت وقلت بعدم جريان مثل هذه القاعدة في الموضوعات وإنما في الأحكام فقط».

ص: 463

أصالة الاحتياط
اشارة

جعلت العنوان هنا هو أصالة الاحتياط ؛ لان الكلام سيكون اعم من العلم الإجمالي ، فسأنقل كلمات شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) التي تبين موارد الاحتياط كأصل عملي ومنها حالة العلم الإجمالي.

وقد ذكر سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) عددًا من مسائل مباحث العلم الإجمالي، وما يكون الموقف العملي فيه هو الاحتياط ، نذكر منها تسع مسائل:

المسألة الأولى: اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية للعلم الإجمالي.

المسألة الثانية: العلم الإجمالي في التدريجيات.

المسألة الثالثة: انحلال العلم الإجمالي الكبير بالصغير.

المسألة الرابعة: العلم الإجمالي بعد امتثال احد أطرافه.

المسألة الخامسة: انقلاب الأصل.

المسألة السادسة: الدوران بين التعيين والتخيير العقلي.

المسألة السابعة: الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي.

المسألة الثامنة: الاحتمال المنجز للاحتياط.

المسألة التاسعة: لا علم اجمالي بين تكليف الشخص وتكليف غيره.

وتفصيل هذه المسائل:

ص: 464

المسألة الأولى: اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية للعلم الإجمالي.

عندما بحث علماء الأصول أصالة البراءة بحثوا البراءة العقلية والبراءة الشرعية ، وفي البراءة العقلية ظهر مسلكا قبح العقاب بلا بيان و حق الطاعة ، واتفق الاصوليون على البراءة الشرعية سواء في الشبهات الحكمية او الموضوعية.

ولكن في الشك المقرون بالعلم الإجمالي ذهب المشهور الى استحالة الترخيص في أطراف العلم الإجمالي ، وذهب الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) الى إمكانه عقلا وعدم مقبوليته عقلائيا ؛ ولذا اطبق الجميع على منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية.

وانصب البحث في منجزيته لوجوب الموافقة القطعية ، ومشهورهم ان لم يكن إجماعهم هو منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية.

الا ان سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) اثار في الجزء الرابع (صفحة 429) في مسألة صوم الاسير والمحبوس نكتة مهمة في هذا المقام ، وهي ان الروايات ترشدنا الى اكتفاء الشارع المقدس بالموافقة الاحتمالية في حالات العلم الإجمالي ، حيث قال:

فائدة: الصحيحة في المقام (1)

وما تقدّم عن قبلة المتحيّر (2)

تكشف عن قاعدة كبروية في مباحث العلم الإجمالي وهي تنجيزه لحرمة المخالفة

ص: 465


1- يراد بها صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قلت له: رجل أسَرته الروم ولم يصحّ له شهر رمضان ولم يدر أي شهر هو؟ قال: يصوم شهراً يتوخى ويحسب، فإن كان الشهر الذي صامه قبل شهر رمضان لم يجزه، وإن كان بعد شهر رمضان أجزأه). من لا يحضره الفقيه: 2/ 125.
2- يجوز للمتحير الذي لا يعرف جهة القبلة الصلاة الى اَي اتجاه شاء اذا تحرى ولَم يترجح عنده شيء.

القطعية فقط وعدم وجوب الموافقة القطعية فتكفي الموافقة الاحتمالية ومنه يُعلم أن كثيراً من الاحتياطات التي نلتزم بها وفقاً للقواعد هي عسر منفي في الشريعة السمحاء ومنه يُعلم النظر في قولالمستمسك: «لا مصحح للقول بالاكتفاء بالامتثال الاحتمالي» (1) لأن مبناه وهو اختصاص صدق التوخي على الظن خاصة.

ونستذكر هنا أن الإمام الصادق (علیه السلام) لم يلفت أنظار أولاد عمه من بني الحسن (علیه السلام) في رسالته إليهم وهم في سجن المنصور العباسي المظلم إلى الاحتياط والإعادة وكانوا يقسمون أوقات الصلاة بناءً على أوراد وتسبيحات علي بن الحسن بن الحسن.

ويلاحظ هنا أن السيد الخوئي (قدس سرّه) قوّى الاجتزاء بالتخيير في مبحث قبلة المتحيّر(2) وأنه يصلي إلى أية جهة شاء إذا تحرى ولم يترجح لديه اتجاه ولم يقل بلزوم الصلاة إلى أربع جهات أو ثلاث ليضمن وقوع صلاته باتجاه القبلة استناداً إلى النصوص، والموردان من سنخ واحد، والنص في الموردين بنفس المضمون واستعملت لفظ التحري والتوخي وهما مترادفان.

المسألة الثانية: العلم الإجمالي في التدريجيات.

صرح سماحة الشيخ الأستاذ في الجزء الرابع (صفحة 428) في مسالة صوم الأسير والمحبوس ان العلم الإجمالي في التدريجيات لا ينجز وجوب الموافقة القطعية ، وغاية ما ينجزه هو وجوب الموافقة الاحتمالية ، ولذا ذهب

ص: 466


1- مستمسك العروة الوثقى : 8/477 .
2- موسوعة السيد الخوئي: 11/457.

الى كفاية صوم الأسير لبعض الأشهر التي يحتمل وقوع شهر رمضان فيها وعدم وجوب صيام كل الشهور ، اذ قال (دامت بركاته) في سياق بيان الاقوال في المسالة:

ثانيهما: صيام كل الشهور ليدرك شهر رمضان الواقعي لتنجّز العلم الإجمالي، ومقتضاه الاحتياط في أطرافه: وذهب إليه السيد الخوئي(1)

(قدس سرّه)وتبعه تلميذه الشيخ الفياض(2)

(دام ظله الشريف) باعتبار أن «مقتضى العلم الإجمالي بوجوب صيام في أحد هذه الشهور هو الاحتياط وصيام كل الشهور بأمل أن يدرك الواقع بنية ما في الذمة أعم من الأداء والقضاء، وأما إذا لم يمكن هذا الاحتياط واضطر إلى تركه في بعض الشهور ولو من جهة أن الاحتياط التام يوجب العسر والحرج فيجب عليه حينئذٍ الاقتصار في تركه بمقدار الضرورة وهو ما يدفع به العسر والحرج دون الأكثر باعتبار أن الاضطرار في أطراف العلم الإجمالي إذا كان إلى بعض غير المعين لا يوجب سقوطه عن التنجيز، فمن أجل ذلك لا بد من الاحتياط في الباقي»(3).

ويرد عليه:-

1- لا وجه للعمل بما تقتضيه القواعد بعد ورود النص الخاص وتحقق الامتثال على أساسه.

1- ولو تنزّلنا وفرضنا عدم شمول الصحيحة بإطلاقها لمورد تساوي المحتملات فإن الالتزام بالاحتياط التام في المقام الذي هو من التدريجيات محل نظر إذا اضطر لبعض أطرافها؛ لأن العلم الإجمالي في التدريجيات ينجّز وجوب الموافقة الاحتمالية وليس الموافقة القطعية.

ص: 467


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 22/127.
2- تعاليق مبسوطة: 5/201.
3- تعاليق مبسوطة: 5/201.

وفي مسالة جواز تأخير الأسير والمسجون صيام شهر رمضان عند عدم علمه به حتى يتيقن من فواته ومضيه فيقضيه ، قال (دامت بركاته):

وعلّل السيد الخوئي (قدس سرّه) القول بالجواز بأنه «مبني بحسب الظاهر على عدم تنجيز العلم الإجمالي لدى تعلّق الاضطرار ببعض الأطراف غير المعين وأنه لا فرق بينه وبين تعلّقه بالبعض المعين في عدم التنجيز على ما صرّح به صاحب الكفاية. إذن لا ملزم له في الإتيان بالصوم فعلاً، بل يؤخر حتى يتيقن بمضي رمضان ثم يقضيه.ولكنه بمراحل عن الواقع، بل فاسد جزماً كما بيّناه في الأصول، للفرق الواضح بين التعلق بالمعين وغير المعين»(1).

ويرد عليه:-

1- لم يفرض في كلام المصنف (قدس سرّه) الاضطرار حتى يبني الاستدلال عليه.

2- الصحيح هو انحلال العلم الإجمالي في التدريجيات إذا اضطر إلى بعض أطرافه بلا فرق بين المعين منها وغير المعين وفاقاً لصاحب الكفاية وغيره فما ذكره (قدس سرّه) من التفصيل بين المعيّن فينحل وغير المعين فلا ينحل لا نوافق عليه.

المسألة الثالثة: انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الصغير.

من تطبيقات هذه الكبرى ما ذكره سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في مسالة صوم السجين والأسير الذي لا يتميز عنده شهر رمضان عن غيره من الأشهر ، فبينما ذهب البعض من العلماء الى لزوم الاحتياط بصيام كل الأشهر

ص: 468


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 22/133.

لمنجزية العلم الإجمالي ، نبّه (دامت بركاته) انه على القول بمنجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية فان هذا العلم منحل بعلم اصغر منه ، فلا يجب صيام كل شهور السنة ، ونص كلامه في الجزء الرابع (صفحة 429):

إن هذا العلم الإجمالي ينحلّ إلى علم إجمالي أصغر منه باشتباه شهر رمضان في ثلاثة أشهر لعلم المكلف بأنه يقع في الصيف أو الشتاء مثلاً وشك بدوي في الباقي.

المسألة الرابعة: العلم الإجمالي بعد امتثال احد أطرافه.

قد يحصل العلم الإجمالي قبل امتثال احد أطرافه ، وفي هذه الحالة يكون منجزاً ، وقد يحصل بعد امتثال احد أطرافه ، وعندئذ لا ينجز باقي الأطراف.

ومن تطبيقات هذه القاعدة ما ذكره سماحة شيخنا الأستاذ (دام ظله) في الجزء الرابع (صفحة 429) في مسالة صيام السجين والأسير ، اذ قال:

إن العلم الإجمالي بوجوب صيام شهر في السنة وإن كان منجزاً في المقام وهو يمنع من جريان الأصول المؤمّنة في أطرافه سواء كانت استصحاباً أو غيره، إلا أن المكلف لما صام شهراً توخاه فاختاره، فإن هذا العلم ينحل ويمكن إجراء الأصول المؤمّنة في الباقي؛ لأن الشك فيها يصبح بدوياً.

المسألة الخامسة: انقلاب الأصل.

قد يكون الأصل الأولي في مسالة من المسائل هي البراءة – مثلا - ولكن قد ينقلب هذا الأصل الى الاحتياط لنكتة ما ، كما لو كان هذا الفعل ملازما لارتكاب محرم ، وهذا ما بيّنه سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء التاسع (صفحة 139) عند بيان وجوه القول بالحرمة الذاتية لولاية الجائر ، اذ قال:

ص: 469

إن المورد مجرى لأصالة الحرمة أو قاعدة الحرمة بتقريب أن الولاية للجائر لا تنفك عن الظلم والمعصية كما يظهر من عدة روايات منها صحيحة داوود بن زربي الصريحة في استحالة الانفكاك حيث جعل تناول النجوم أيسر من تجنب المعصية في ولاية الجائر، وكذا غيرها من الروايات التي تجعل الولاية منافية لسلامة الدين، وعليها بنى الشيخ الأنصاري اعترافه بعدم الانفكاك فيكون الأصل في هذه المسألة الحرمة وأن الوظيفة العملية هي الاجتناب.إن قلتَ: إن الأصل العملي الجاري هي البراءة وهي تقتضي الجواز الذاتي وأن الحرمة عرضية أي فيما إذا ارتكب في ولايته ما يخالف الشرع.

قلتُ: إن الأصل العملي البدوي الذي تقتضيه القواعد في المقام وإن كان يقتضي البراءة من الحرمة الذاتية عند الشك فيها، إلا أنه بنكتة الملازمة الآنفة وعدم الانفكاك عن الوقوع في المعصية يصبح لا موضوع للبراءة ولا يمكن الرجوع إليها لتحديد الوظيفة العملية –وهو المقصود من إجراء الأصل العملي- عند الشك في التكليف، فكأن الأصل الذي يرجع إليه في تحديد الوظيفة العملية ينقلب من أصالة البراءة إلى أصالة الحرمة لهذه النكتة، ويمكن تسميتها بقاعدة الحرمة.

وهذا مطلب تفصيله في علم الأصول خلاصته أن الأصل العملي الأولي قد ينقلب لنكتةٍ ما إلى خلافه في مرتبة العمل به فيكون الأصل الفعلي الذي يجب الرجوع إليه عملياً غير الأصل البدوي الأولي، وله نظائر في موارد عديدة في الفقه مرَّ أحدها في البحث السابق عن جواز أخذ الأجرة على الواجبات عندما تمسّك المحقق النراقي (قدس سرّه) بأصالة عدم النقل والانتقال عند الشك في جواز أخذ الأجرة، ورددنا عليه بأن هذا الأصل محكوم لأصالة الجواز الحاصلة من ضم الوجدان إلى الأصل؛ لأن الوجدان يحكم

ص: 470

بحصول سبب للنقل والانتقال وهي الإجارة ويُضم إليها أصالة صحة ما تعارف عليه الناس من عقود ما لم يرد عنها نهي من الشارع المقدس فتنتج أصالة الجواز.

كما بيّن سماحته في الجزء السادس (صفحة 275) ان الأصل قد ينقلب بسبب الغلبة ، فالأصل في المراة ان تكون غير مدخول بها ، ولكن هذا الأصل ينقلب في الزوجة والاماء لان أغلبهن مدخول بهن ، قال (دامت بركاته):

إن قلت: نتمسك بأصالة عدم الدخول عند الشك في حصول الدخول بها قبل الطلاق وعدمه فيرتفع الإجمال.قلت:

1- إن الأصول لا تثبت لوازمها فأصالة عدم الدخول لا تثبت موضوع مسألتنا وهي الباكر.

2- إن الغالب كون الزوجة مدخولاً بها وهذه الغلبة بدرجة تخرجنا عن الأصل أو قل تقلب الأصل عما هو عليه وله موارد في الفقه(1).

المسألة السادسة: الدوران بين التعيين والتخيير العقلي.

بحث شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الحادي عشر (صفحة 388) في مسالة ميراث الزوجة من العقار ، وجاء فيها كلام عن دوران الامر بين التعيين والتخيير العقلي ، وقد ذهب (دامت بركاته) الى ان مرجع هذا الدوران الى الدوران بين الأقل والأكثر فتجري فيه البراءة عن الأكثر ، ونص كلامه هو:

ولو شككنا واحتكمنا إلى الأصل، فإن المسألة صغرى لدوران الأمر بين التعيين والتخيير فإما يتعين إخراج القيمة من غير عين الأبنية والآلات -

ص: 471


1- كالاصل في النساء البكارة إلا أنه لغلبة الثيبوبة في الإماء انقلب الأصل، لذا لا تعد الثيبوبة عيباً في الأمة المشتراة.

على القول بالعزيمة- أو التخيير بين إخراجها من نفس العين أو غيرها، وهو يؤول إلى دوران الأمر بين الأقل -وهو كفاية إخراج القيمة مطلقاً- والأكثر -وهو مع خصوصية كون القيمة من غير العين-، ونلتزم هنا بكفاية إخراج القيمة من العين وغيرها وجريان البراءة من الخصوصية الزائدة -وهي تعين إعطاء القيمة من غير العين- ونتيجته القول بالرخصة.

ويمكن تقريب المسألة على نحو آخر حاصله أن دفع القيمة يتيقن معه ببراءة الذمة من الاشتغال اليقيني، أما دفع نصيب الزوجة من العين فلا يتيقن معه براءة الذمة فالمورد مجرى لقاعدة الاشتغال ومقتضاها دفعالقيمة. لكن الأول وارد على الثاني.

وعلى أي حال فالأحوط للورثة دفع حق الزوجة من القيمة لا العين، ولكن إذا دفع الورثة من العين فالأحوط للزوجة عدم الامتناع والتراضي معهم عليها.

المسألة السابعة: الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي.

جاء في الجزء الرابع (صفحة 436) كلام عن الدوران بين التعيين والتخيير في مسالة صوم الاسير والمحبوس، وذهب سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) انه مورد للاحتياط ، اذ قال:

وردّ السيد الخوئي (قدس سرّه) على اليقين بوجوب صوم الشهر الثاني عشر بناءً على دخول المسألة في دوران الأمر بين التعيين والتخيير قال (قدس سرّه): «فإنا وإن علمنا إجمالاً بوجوب الصوم في هذا اليوم يقيناً إما تعييناً لكونه من رمضان، أو تخييراً بينه وبين سائر الأيام لو كان الشهر قد انقضى -إلا أن في موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير تجري البراءة عن التعيين.

إذن فوجوب الصوم في خصوص هذا اليوم مشكوك فيه فتجري فيه

ص: 472

البراءة عنه»(1).

ويرد عليه:-

1- عدم جريان مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير في المقام لأن القضاء واجب موسع وليس تخييرياً، والتخيير بين أفراد الموسع عقلي لا شرعي بخلاف التخييري ونسبة الوجوب إلى بعض الأفراد الطولية في الواجب الموسع من قبيل الواسطة في العروض وهو من أوضح المجازات إذ الواجب قضاء يوم إلى آخر العمر.

2- إن الوجوب في الواجب التخييري متعلق بالعنوان الانتزاعي وهوعنوان أحدهما وفي التعييني نفس أحد الأمرين فلا يوجد قدر متيقن ينحلّ إليه العلم الإجمالي حتى تجري البراءة في الزائد.

أما التقريب الذي ذكروه لجريان البراءة فيجري «فيما يصح فيه تصوير الحالة على أنها أقل أو أكثر وهذا ينطبق على الكلي الحقيقي لا الانتزاعي.

3- ما ذكره بعض من حضرنا بحثه الشريف من أن المسألة تجري فيما إذا وجدت ماهية واحدة فشك في وجوبها هل على نحو التعيين أو التخيير، أما المقام فليس الأمر كذلك بل بين وجود ماهيتين، ماهية وجوب الصوم أداءً لشهر رمضان وماهية وجوب قضائه فهنا واجبان لا واجب واحد متردد فحينئذٍ يكون من قبيل دوران الأمر بين المتباينين ولا يتعين أحدهما بجريان أصالة البراءة»(2).

وفي الجزء الثاني (صفحة 322) وما بعدها في مسالة حكم إقامة صلاة

ص: 473


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 22/131.
2- محاضرة بتأريخ 29/ج2/1417.

الجمعة في عصر الغيبة يوجد نقاش مهم من سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) للسيد الخوئي (قدس سرّه) فيه نكات مهمة في مسالة دوران الامر بين التعيين والتخيير ، جاء فيه:

وعلى أي حال فقد قال (قدس سرّه) في بيان هذه الصور(1):

الأولى: «ما إذا شككنا في أن الجمعة هل هي في عصر الغيبة واجبة بالوجوب التعييني أو أنها واجبة تخييرية؟ بأن نقطع بمشروعيتها ووجوبها ونتردد بين قسمي الوجوب.

وبما أن أمر صلاة الجمعة في هذه الصورة يدور بين التعيين والتخيير فلا مناص من الرجوع إلى البراءة عن اعتبار الخصوصية والتعيين، وذلك لما قررناه في جريان البراءة العقلية والنقلية عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وقلنا إن مقتضى كلتا البراءتين عدم اعتبار الخصوصية والتعيين فيما يحتمل تعيينه للعلم بالجامع والشك في اعتبار الخصوصية الزائدةكخصوصية التعيينية في المقام ونتيجة ذلك هو الوجوب التخييري لا محالة».

وفيه:

إن ما ذكره (قدس سرّه) غير مستوعب لصور الشك في هذه المسألة، فإن الترديد، تارة يكون بين التعيين والتخيير كصفة للوجوب وتارة بين التعييني والتخييري كصفة للواجب، لأن الشك قد يتعلق بأصل الجعل فلا نعلم أن حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة هو الوجوب التعييني أو التخييري وحينئذٍ نجري أصالة البراءة عن التعيين لأنها تتطلب مؤونة زائدة فننفيها بالأصل. وهي الحالة التي أشار إليها (قدس سرّه) ومختاره فيها

ص: 474


1-

صحيح.

لكن المقام ليس منها لأننا نعلم بوجوب صلاة الجمعة ولكننا شككنا في أن وجوبها تعييني أو تخييري ومقتضى الأصل اللفظي فيها التعييني، والوجه في ذلك ما قاله (قدس سرّه) في علم الأصول: «لأن مرجع الشك في التعيين والتخيير إلى الشك في متعلق التكليف من حيث السعة والضيق يعني أن متعلقه هو الجامع أو خصوص ما تعلق به الأمر، كما إذا ورد الأمر مثلاً بإطعام ستين مسكيناً وشككنا في أن وجوبه تعييني أو تخييري، يعني أن الواجب هو خصوص الإطعام أو الجامع بينه وبين صيام شهرين متتابعين، ففي مثل ذلك لا مانع من الأخذ بإطلاقه لإثبات كون الواجب تعيينياً لا تخييرياً، فإن بيانه يحتاج إلى مؤونة زائدة وهي ذكر العدل بالعطف بكلمة (أو) وحيث لم يكن فيكشف عن عدمه في الواقع، ضرورة أن الإطلاق في مقام الإثبات يكشف عن الإطلاق في مقام الثبوت»(1).

وفي ضوء هذا فإن نتيجة دوران الأمر بين التعييني والتخييري لها تقريبان فتارة تقرَّب على دوران الأمر بين الأقل والأكثر فتجري أصالةالبراءة عن الزائد كمسألة تقليد الأعلم فإن الأمر يدور بين الاجتزاء بتقليد المجتهد العادل مطلقاً أو اشتراط خصوصية زائدة فيه وهي الأعلمية وتكون نتيجته وجود القدر المتيقن من الأدلة وهو وجوب الرجوع إلى المجتهد العادل والشك في وجوب الخصوصية الزائدة وهي الأعلمية فتنفى بأصالة البراءة.

هذا في التقليد ابتداءً أما مع العلم بالمخالفة فإن الأمر يدور بين فتوى الأعلم المعلومة حجيتها وفتوى غير الأعلم المشكوك في حجيتها لاقتضاء

ص: 475


1- محاضرات في أصول الفقه (من الموسوعة الكاملة): 44/6.

نفس الدليل (وهي السيرة العقلائية) ذلك، فتعين الأخذ بقول الأعلم والدليل قائم على ذلك بلا حاجة إلى الأصل.

وتارة أخرى: يقرب على المتباينين حيث لا قدر متيقن؛ نعم، يوجد قدر مشترك ولكن ليس هو من قبيل الأقل والأكثر وإن كان في عالم الامتثال كذلك إلا أنه في عالم التشريع من قبيل المتباينين فلا يوجد قدر متيقن وتجري أصالة الاشتغال لا البراءة لوجود العلم الإجمالي باشتغال الذمة فيأتي بما يتيقن معه براءة الذمة ومنه الشك في الكفارة بين المرتبة والمخيرة فإن أمر الامتثال يدور بين عتق رقبة خاصة (لو كانت مرتبة) أو المخير بينه وبين الأفراد الأخرى كالإطعام والصوم فحينئذٍ يجب الامتثال للعتق لأنه مجزٍ على كل حال وعدم الاجتزاء بالآخر للشك بالاجتزاء به ومسألتنا من النحو الثاني فإنه ما يبرئ الذمة عند الزوال يوم الجمعة هو أما صلاة الجمعة خاصة (على القول بوجوبها التعييني) أو الفرد المخير بينها وبين صلاة الظهر (على القول بالوجوب التخييري) فيتعين الإتيان بصلاة الجمعة لليقين بالاجتزاء به أما صلاة الظهر فمشكوك فيها.

لكنه (قدس سرّه) قال بالبراءة عن التعيين «للعلم بالجامع والشك في اعتبار الخصوصية الزائدة كخصوصية التعيينية في المقام» لأن تصويره للمسألة لم يكن تاماً حيث طبقها على النحو الأول وهي من النحو الثاني إذ لا جامع وإن أراد بالجامع هو المخير بين الظهر والجمعة فهو ليس جامعاً وإنماهو عين أحد الفردين أي الوجوب التخييري، فالصحيح انطباق المسألة على النحو الثاني.

وقد تقدم منه (قدس سرّه) اختيار ذلك في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في كفارة الصوم وقال (قدس سرّه) به أيضاً في مسألة من شك في اليوم الذي أفطره كان من شهر رمضان أو من قضائه بعد الزوال حيث رد على قول

ص: 476

صاحب العروة بالاكتفاء بالعشرة لأنها المتيقنة مع الستين بأننا «نعلم إجمالاً بتعلق الطلب أما بالعنوان الجامع- أعني: إحدى الخصال من إطعام الستين وأخويه- أو بإطعام عشرة مساكين، ومن الضروري أن العشرة مباينة مع الجامع المزبور وليس أحدهما متيقناً بالإضافة إلى الآخر ليؤخذ به ويدفع الزائد بالأصل. نعم العشرة متيقنة بالإضافة إلى الستين، ولكن الستين ليس متعلقاً للتكليف جزماً إنما المتعلق هو الجامع المنطبق عليه وعلى غيره، والجامع مباين مع العشرة.

وعليه فكما أن مقتضى الأصل عدم تعلق التكليف بالجامع كذلك مقتضاه عدم تعلقه بالعشرة، فيسقطان بالمعارضة، فلا بد من الاحتياط ويتحقق بأحد أمرين: أما بالجمع بين العشرة وبين العتق أو الصيام، وأما باختيار الستين للقطع بتحقق الامتثال في ضمنه، أما لكونه عدلاً للواجب التخييري، أو لأجل اشتماله على العشرة وزيادة، فالستون متيقن في مقام الامتثال لا في مقام تعلق التكليف»(1)

وأما العشرة فليست بمتيقنة حتى في مقام تعلق التكليف.

وقد جاء في الجزء الثالث عشر في مسالة مقدار دية القتل عند اختلاف الأصناف في القيمة كثيرا تطبيق اخر للدوران بين التعيين والتخيير جاء فيه:

ان الصحيح جريان أصالة البراءة في المقام لأنه من دوران الأمر بين التعيين والتخيير الاستقلاليين، وفي مثله تجري أصالة البراءة من التعيينوله أن يختار أحدها لأن المتيقن اشتغال ذمته بدفع أحد الأصناف التي ينطبق على كل منها عنوان الدية ويتحقق بها الامتثال ولم يتعلق حق ولي الدم بالعنوان الجامع لها حتى يقال بقاعدة الاشتغال، أما التعيين بأحدها

ص: 477


1- المستند في شرح العروة الوثقى (من الموسوعة الكاملة): 21/353.

فمشكوك ابتداءً، وقد بيّنا وجه التشكيك، فالصحيح القول بالتخيير.

وقد أورد بعض الفقهاء المعاصرين (قدس سرّه) إشكالاً على التخيير وأجابه بمضمون ما ذكرناه، قال (قدس سرّه): «لا يقال: إن مقتضى استصحاب بقاء شغل ذمة الجاني بالدية على إجمالها ما لم يدفع محتمل التعيين إنما هو التعيين والخروج اليقيني عما اشتغلت ذمته به للمجني عليه. فإنه يقال: ليس الواجب تفريغ الذمة عن الدية بهذا العنوان الانتزاعي، وإنما الواجب أداء واقع ما يستحقه المجني عليه ويملكه على الجاني، وهو مردّد بين ما هو مقطوع الأداء -لو كان الجامع واجباً بنحو التخيير- وما هو مشكوك أصل استحقاقه واشتغال الذمة به من أول الأمر -وهو أحد الأصناف بخصوصيته- والأصل عدمه»(1).

أي أن ذمة الجاني اشتغلت بعنوان الدية المنطبق على كل من هذه الأصناف لأنها هي واقع الدية الذي تعلّق به حق ولي الدم وليس على العنوان الانتزاعي، وكونه متعيناً بأحدها مشكوك ابتداءً فيُنفى بالأصل.

المسألة الثامنة: الاحتمال المنجز للاحتياط.

مع ان الشك في التكليف مجرى لأصالة البراءة ، الا ان احتمال بعض التكاليف يكون مجرى لأصالة الاحتياط كما لو اظهر الشارع اهتمامه بها.

وقد جاء هذا المعنى في الجزء الحادي عشر (78) في مسالة ميراث أولاد الأولاد مع وجود الولد المباشر ، اذ قال سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته):ولا أقل من تحقق الاحتمال المنجّز للاحتياط خصوصاً في حق الأيتام الذين وردت الوصايا الكثيرة بهم كقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ

ص: 478


1- قراءات فقهية معاصرة: 1/181.

الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (النساء:10).

وفي الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) (شرّ المآكل أكل مال اليتيم ظلماً)(1).

وفي موثقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (اتقوا الله في الضعيفين يعني بذلك اليتيم والنساء)(2).

المسألة التاسعة: لا علم اجمالي بين تكليف الشخص وتكليف غيره

جاء في الجزء الثامن في مبحث حقيقة الوجوب الكفائي (صفحة 162) ذكر تفسيرات العلماء لتلك الحقيقة ، وكان التفسير الثاني منها يقول: ان التكليف موجه الى واحد معين ، ولكنه يسقط عنه بفعل غيره.

ومن مناقشات الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) لهذا المعنى ان هذا الفرد المعين سيحصل عنده شك في اصل توجه التكليف له فيمكنه ان يجري البراءة ؛ اذ لا يوجد ما ينجز التكليف عليه ؛ لان العلم الإجمالي بتوجه التكليف له او لغيره لا ينجز شيئا.

ونص الكلام:

(التفسير الثاني) «أن يقال إن التكليف متوجّه إلى واحد معين عند الله، ولكنه يسقط عنه بفعل غيره لفرض أن الغرض واحد فإذا حصل في الخارج فلا محالة يسقط الأمر»(3).وفيه:-

1- إنه مخالف لظواهر الأدلة من كون التكليف موجهاً إلى عدد غير

ص: 479


1- أمالي الصدوق: 577، ح788.
2- وسائل الشيعة: 20/167، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب 86، ح3، عن الفقيه و 20/170 باب 88، ح 2 عن الكافي.
3- محاضرات في أصول الفقه: 45/237 من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سرّه).

معين خصوصاً فيما نحن فيه –أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-.

2- لما كان كل مكلف شاكاً في كونه الفرد المعين فيحصل عنده شك في أصل ثبوت التكليف عليه، ويكون مجرى لأصالة البراءة، والعلم الإجمالي بتوجه التكليف إما إليه أو إلى غيره لا أثر له، لأن تكليف الغير ليس داخلاً في عهدته، فلا يكون هذا علماً إجمالياً منجزاً، بل هو احتمال وشك بدوي تجري فيه أصالة البراءة، وحينئذٍ تكون خطابات الوجوب الكفائي غير منجّزة للتكليف، ويكون صدورها لغواً وهو قبيح.

ص: 480

الاستصحاب
اشارة

من اكثر الأصول العملية التي يستفيد منها الفقهاء في تحديد الموقف العملي تجاه الحكم الشرعي المجهول هو الاستصحاب وذلك عندما يكون الشك مسبوقا بيقين ، فقد ثبت بالدليل استصحاب اليقين السابق والعمل على وفقه.

ولسماحة شيخنا الأستاذ آراء مهمة ونكات كثيرة في باب الاستصحاب ، ذكرنا أولها في الفصل الأول وهو: التفصيل بين حالة الشك في الرافع فيجري الاستصحاب ، والشك في المقتضي فلا يجري.

اما باقي ما ذكر في موسوعة فقه الخلاف فسنذكره في اربع عشرة مسالة ، وهي:

المسألة الأولى: ادلة حجية الاستصحاب.

المسألة الثانية: وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.

المسألة الثالثة: الأثر الشرعي للمستصحب.

المسألة الرابعة: الاستصحاب التعليقي.

المسألة الخامسة: استصحاب الاحكام الكلية.

المسألة السادسة: استصحاب الكلي من القسم الثالث.

المسألة السابعة: الاستصحاب في التدريجيات.

المسألة الثامنة: استصحاب العدم الازلي.

المسألة التاسعة: الشك السببي والمسببي.

المسألة العاشرة: استصحاب مجهولي التاريخ.

المسألة الحادية عشرة: الاستصحاب في الموضوع المشتبه مفهوماً.

المسألة الثانية عشرة: الأصل المثبت.المسألة الثالثة عشرة: الاستصحاب في مبادئ الحكم.

ص: 481

المسألة الرابعة عشرة: الاستصحاب القهقرائي.

وتفصيلات هذه المسائل:

المسألة الأولى: ادلة حجية الاستصحاب.

ذكر سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) تعليقًا في الجزء الأول (صفحة 377) في مسالة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة من جسد الانسان يظهر منه ان ادلة حجية الاستصحاب عنده هي السيرة العقلائية و الرواية الصحيحة ، اذ قال:

الاستصحاب الذي ذكره (قدس سرّه) في الثانية والثالثة لا وجه له لأن أدلة حجية الاستصحاب وهي الرواية الصحيحة وسيرة العقلاء لا تشمله فهي منصرفة عن مثل هذه الحالات، فالصحيح عدم جريانه فيهما.

وكنت قد سألت سماحته عن مقصوده من الرواية الصحيحة ، هل هي رواية زرارة الأولى او الثانية او الثالثة او كلها ؟ فكان جوابه (دامت بركاته):

المعتمد في دليل حجية الاستصحاب سيرة العقلاء. والروايات الصحيحة امضاء له ، وإرشاد اليه ، ومؤكدة له.

المسألة الثانية: وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.

للاستصحاب اركان أربعة اذا اجتمعت جرى الاستصحاب والا فلا ، ومن أركانه وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.

ومن تطبيقات هذه المسالة ما جاء في الجزء السادس (صفحة 201) في مسالة من لاط بغلام فاوقب حرمت عليه امه وبنته وأخته ، اذ قال شيخنا الأستاذ (دامت بركاته):

عدم جريان الاستصحاب لا لأنه تعليقي والتعليقي ليس بحجة كما قرب

ص: 482

(قدس سرّه) وإنما لا يجري لعدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة فانالمتيقن هو حلية المرأة وصحة الزوجية بقاءً واستدامة أو ما سماها (قدس سرّه) الزوجية الفعلية، أما المشكوكة فهي إنشاء الزوجية الابتدائية التي يراد عقدها بعد الطلاق أو ما سماها الزوجية الشأنية أي انه حينما حصل اللواط لم يكن عليه حراماً الإمساك بزوجته وعدم انفساخ الزوجية لا حلية العقد عليها والتزوج منها لأنها زوجة فعلاً وبعد الطلاق نشك في إمكانية العقد عليها وإنشاء زوجية جديدة معها.

المسألة الثالثة: الأثر الشرعي للمستصحَب.

من اركان الاستصحاب وجود الأثر الشرعي للمستصحَب ، فان الشارع لا يعبدنا بشيء ان لم يكن له اثر شرعي ، وقد جاء في الجزء الأول (صفحة 376- 377) في مسالة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة من جسد الانسان تطبيق لهذا الموضوع حيث بيْن سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) جريان الاستصحاب مع وجود الأثر الشرعي ، وعدم جريانه عند عدم الأثر ، وثمرة ذلك في عدم التعارض بين الاستصحابين:

الصورة الثانية: ما إذا كان تاريخ البرودة والموت معلوماً وتاريخ المسّ مجهولاً فالصحيح عدم وجوب الغسل في حقّه، وذلك لاستصحاب عدم تحقق المسّ بعد البرودة أو الموت الّذي هو الموضوع المرتب عليه وجوب الغسل، للصحيحة المتقدمة الدالّة على وجوب الغسل بالمس بعد ما برد.

والسرّ في جريانه أن وقوع المسّ قبل البرودة أو الموت أو عدم وقوعه ممّا لا أثر له شرعاً، لأنّ الأثر إنّما هو للمس الواقع بعد الحياة أو الحرارة.

إذن فاستصحاب عدم المسّ إلى حين البرودة أو الموت غير جار، لأنّه لا

ص: 483

أثر له إلاّ بلحاظ لازمه العقلي وهو وقوعه بعد البرودة أو الموت، إلاّ أنّه من الأصل المثبت ولا نقول به، ومع عدم جريانه نشك فيتحقق الموضوع لوجوب الاغتسال، والأصل عدمه، وهو غير معارض بشيء.

المسألة الرابعة: الاستصحاب التعليقي.

اتضح من المسألة الثانية ان شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) لا يقول بحجية الاستصحاب التعليقي ، وهذا ما أكده في الجزء الأول (صفحة 113) في مسالة مطهرية الشمس ، اذ قال:

ويمكن الاستدلال بالاستصحاب بأن يقال ان هذه الألواح حينما كانت جزءاً من الأرض كان يمكن تطهيرها بالشمس والآن بعد اقتلاعها نشك فنستصحب إمكان تطهير الشمس لها أو يقرّب بالاستصحاب التعليقي بان هذه الألواح لو كانت جزءاً من الأرض كان يمكن تطهيرها فإذا شككنا الآن حينما لم تكن جزءاً نستصحب إمكان التطهير.

والاستصحاب على كلا التقديرين لا يجري لأنه بالتقريب الأول من استصحاب الكلي من القسم الثالث وعلى الثاني من الاستصحاب التعليقي ولا نقول بحجيته في أمثالهما.

وجاء في الجزء الأول (صفحة 363) وما بعدها في مسالة وجوب غسل القطعة المبانة من جسد الانسان ما يؤكد مبناه (دامت بركاته) في عدم حجية الاستصحاب التعليقي ، عند ذكر الأصول العملية التي يمكن جريانها عند الشك في حكم القطعة المبانة من الميت ، وفي هذا المقطع نكات ظريفة ومهمة لذا سننقله بطوله ، وهو:

«استصحاب وجوب الغسل بمسّها، لأن تلك القطعة المنفصلة كان مسّها قبل انفصالها موجباً للغسل، والأصل أنّها بعد انفصالها كذلك توجب

ص: 484

الغسل» (1).

وأجاب (قدس سرّه) بأنه «من الاستصحابات التعليقية، لتوقف الحكم بوجوبالغسل حال كون الجزء متصلاً على مسّه وأنه لو مسّها وجب الغسل، وهو حكم تعليقي، فلا حكم فعلي في البين، وقد بنينا في محلّه على عدم جريان الاستصحاب في التعليقيات.

على أنا لو قلنا بجريانها فالموضوع غير باقٍ، لأنه كما عرفت عبارة عن مسّ الميت، وقد كان مسّ القطعة حال اتصالها من مسّ الميت بلا كلام، وهذا بخلاف ما إذا كانت منفصلة، إذ لا يصدق مس الميت على مسّها، واتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة فيها مما لا بد منه في جريان الاستصحاب كما هو ظاهر».

أقول: لعله يرد بذلك على السيد الحكيم (قدس سرّه) الذي استدل «بالاستصحاب التعليقي بناءً على حجيته»(2) واستدل به السيد الخميني (قدس سرّه) قال: «مقتضى الأصل أن مسّ القطعة المبانة من الميت موجب للغسل، سواء كانت مشتملة على العظم، أو لا، أو عظماً مجرداً، حتى السن والظفر، فكل ما يوجب مسّه الغسل حال الاتصال يوجبه حال الانفصال. لاستصحاب الحكم التعليقي، وقد فرغنا عن جريانه إذا كان التعليق شرعياً كما في المقام»(3).

أقول: يرد على الاستصحاب ما ذكره السيد الخوئي (قدس سرّه) من عدم حجيته لكونه تعليقياً ومن عدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة فإن موضوع وجوب الغسل حينما كانت جزءاً هو مسّ الميت، وبعد الانفصال

ص: 485


1- الموسوعة الكاملة لاثار السيد الخوئي (قدس سرّه):8/220-221.
2- مستمسك العروة الوثقى: 3/473.
3- كتاب الطهارة للسيد الخميني (قدس سرّه): 3/185.

أصبح مسّاً للقطعة المبانة.

مضافاً إلى النقض على الاستصحاب بقطعة اللحم الخالية من العظم التي كان يجب الغسل بمسّها حين الاتصال ولا يجب قطعاً عند الانفصال، وكذا العظم المجرد على القول به.

ويمكن رد الوجهين الثاني والثالث بعد كون الأول خلافاً مبنائياً (أما)الثاني فبأن يقال إن هذا المقدار من التغيّر في الموضوع لا بد منه لتحقق الاستصحاب وهو الشك اللاحق ولو كان الموضوع نفسه فلا معنى للشك فيه، وبتعبير صاحب الجواهر (قدس سرّه) إن «نفي احتمال مدخلية الاتصال ثمرة الاستصحاب، فلا يقدح حينئذٍ انسباق الاجتماع إلى الذهن من الأدلة»(1).

و(أما) الثالث فإن قطعة اللحم ونحوها مما يقطع بعدم وجوب الغسل بمسّها إجماعاً فلا يوجد شك حتى يُجرى الاستصحاب فهي خارجة عن الاستصحاب تخصصاً.

وقد صحّح السيد الخميني (قدس سرّه) جريان الاستصحاب ودفع الإشكال عليه في معرض ردّه على المحقق الهمداني، قال (قدس سرّه): «وقد يتوهم عدم جريانه، لأنه فرع إحراز الموضوع، والقدر المتيقن الذي علم ثبوته عند اتصال العضو بالميت إنما هو وجوب الغسل بمس الميت المتحقق بمس عضوه، وهو مفروض الانتفاء عند الانفصال، وسببية العضو من حيث هو لم يعلم في السابق حتى يستصحب.

وفيه: أن موضوع الاستصحاب ليس عين الدليل الاجتهادي حتى يشك فيه مع الشك في الثاني، ويعلم انتفاؤه مع العلم بانتفائه، ضرورة أن موضوع الأدلة الاجتهادية هو العناوين الأولية مثل (الميت) و(العنب)

ص: 486


1- جواهر الكلام: 5/340.

و(العالم) وغيرها.

وأما الاستصحاب فجريانه يتوقف على صدق نقض اليقين بالشك ووحدة القضية المتيقنة والمشكوك فيها.

فإذا أشير إلى موضوع خارجي كالعنب ويقال: (إن هذا الموجود إذا غلى عصيره يحرم)، ثم يبس وخرج عن عنوان العنبية لكن بقيت هذيته وتشخّصه عرفاً - بحيث يقال: (إن هذا الموجود عين الموجود سابقاً وإنتغير صفة)- فلا شبهة في جريان الاستصحاب فيه، مع العلم بتبدل موضوع الدليل الاجتهادي كما في المثال؛ لأن موضوعه عصير العنب وهو لا يصدق على الزبيب جزماً، لكن العنب الخارجي متيقن الحكم بهذيته، لا بمعنى تعلق الحكم على عنوان هذيته، بل بمعنى تعلق اليقين بأن هذا الموجود الذي هو مصداق العنوان ذو حكم بتشكيل صغرى وجدانية وكبرى اجتهادية.

ففي المقام يصح أن يقال مشيراً إلى كف الميت المتصلة به: (إذا مسست هذه يجب علي الغسل) فإذا قطعت منه وانفصلت لا تتغير إلا في بعض الحالات، فالقضية المتيقنة عين المشكوك فيها، وهو الميزان في جريان الاستصحاب، وأما تغيير موضوع الدليل الاجتهادي فأجنبي عن جريانه ولا جريانه، وهذا الخلط يسد باب جريانه في كثير من الموارد.

والعجب من قوله أخيراً: (إن سببية مس يده من حيث هو لم تعلم في السابق حتى تستصحب) لأنه إذا علم سببيته من حيث هو بلا دخالة شيء آخر فيتمسك بإطلاق الدليل لا الاستصحاب، إلا مع دعوى قصور الأدلة عن إثبات الحكم حال الانفصال ولو في الفرض»(1).

ص: 487


1- كتاب الطهارة: 3/185-186.

وعلله في موضع آخر - وهو نجاسة الجزء المنفصل من الميت- بأن «الاتصال والانفصال من حالات الموضوع ولا يوجبان تبدله»(1).

أقول: يمكن القول بعدم تمامية كلامه (قدس سرّه) كبروياً لأن الحاكم في مداليل الألفاظ في الدليل الاجتهادي هو الحاكم في وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة وهو العرف فكيف يتباين حكمه؟ أما المثال الذي ضربه فإن الفارق في الحكم بدوي يزول عند الالتفات أو الإلفات.

ويرد على تقريبه (قدس سرّه) أنه غير تام صغروياً؛ لأن وجوب الغسل بمسّ اليد حال الاتصال لا بما أنها يد وإنما باعتباره مسّاً للميت من يده فلم يحلّالإشكال على الاستصحاب.

وعلى أي حال فلو تنزلنا وقلنا بالاستصحاب فإنه لا ينفع إلا القليل ممن قالوا بالتفصيل بين القطعة المبانة من الحي فلا يجب الغسل بمسها ومن الميت فيجب، أما المشهور القائل بالوجوب مطلقاً فلا يتم مطلوبه، إلا أن يتممه بعدم القول بالفصل -كما سننقل عن جامع المقاصد - وفيه ما فيه، أو يستدل بدليل آخر.

المسألة الخامسة: استصحاب الاحكام الكلية.

ذهب السيد الخوئي (قدس سرّه) الى عدم جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية ، الا ان شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) يبني على حجيته ، اذ قال في الجزء الثاني (صفحة 320) في مسالة وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة عند بيان الأصول العملية الجارية في المقام:

ص: 488


1- كتاب الطهارة: 3/117.
الأصول العملية الجارية في المقام

ولو فرض عدم وجود إطلاق فوقاني فالمرجع حينئذٍ الأصول العملية.

وقبل الدخول فيها أودّ إلفات النظر إلى أنه (قدس سرّه) وغيره يصرح بالوجوب التعييني في عصر الحضور ثم يسعى لتأسيس الأصل في زمن الغيبة من دون أن يفسّر لنا سبب عدم إقامة المعصومين من لدن غصب حقهم في الخلافة للصلاة خصوصاً عند من ينفي أن يكون المانع هو التقية، فهل الوجوب تخييري حتى في عصرهم (سلام الله عليهم)؟ هذا ما لم نجده في كلماته (قدس سرّه) مع أن له مدخلية في تأسيس الأصل كالاستصحاب.

ثم إنه (قدس سرّه) طبق المورد مباشرة على مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير وكان ينبغي له (قدس سرّه) أن يطبق أصل الاستصحاب على المسألةلوجود حالة سابقة وهي الوجوب التعييني في عصر الحضور واشترط (قدس سرّه) - وهو الصحيح- عدم جريان الاستصحاب لجريان هذه المسألة قال (قدس سرّه): «إن محل الكلام إنما هو فيما إذا لم يكن في البين أصل لفظي من الإطلاق ونحوه، ولا استصحاب موضوعي يرتفع به الشك، كما إذا علمنا بالتعيين ثم شككنا في انقلابه إلى التخيير أو بالعكس، فإنه مع وجود أحد الأمرين يرتفع الشك فلا تصل النوبة إلى البراءة أو الاحتياط»(1).

إلا أنه (قدس سرّه) أخّر الكلام في الاستصحاب واستعمل أصلاً آخرَ وقد يكون معه حق من جهته باعتبار أن مبناه عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية فلا يجري الاستصحاب في المقام لذا عليه أن يؤسس أصلاً آخر وهو ما سار عليه ونحن بما أننا نرى جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية لإطلاق أدلة حجيته من هذه الجهة ولعدم صلاحية ما ذكر من الموانع عن

ص: 489


1- مصباح الأصول (من الموسوعة الكاملة): 47/520.

جريانه في هذه الحالة فمقتضاه ثبوت الوجوب التعييني لأنه الحالة السابقة المتيقنة وقد أيّد (قدس سرّه) ذلك فقال: «وعلى المشهور من جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية يستصحب وجوبها التعييني في عصر الغيبة».

وكان يمكنه (قدس سرّه) الإشكال على جريان الاستصحاب من جهتين غير ما ذكر من مبناه الخاص في علم الأصول من عدم جريانه لأن الخلاف مع القائل به سيصبح مبنائياً وهما:

الأولى: عدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة باعتبار أن المتيقن هو الوجوب التعييني زمن الحضور والمشكوك هو الوجوب زمن الغيبة، لكن هذا الإشكال مردود لأن هذا المقدار من الشك لا بد من وجوده لتتم شروط الاستصحاب.

الثانية: إنه من استصحاب الكلي من القسم الثالث لأن الوجوبالتعييني زمن الحضور متيقن الارتفاع بغيبة الإمام الثاني عشر (علیه السلام) والوجوب في زمن الغيبة مشكوك الحدوث فلا يجري الاستصحاب وهذا الإشكال في الاستصحاب مفيد للقائل بالوجوب التخييري لأنه اشترط في الوجوب التعييني حضور الإمام المعصوم، ولعل صاحب الجواهر (قدس سرّه) أراد هذا حين رد على الاستدلال بالاستصحاب قائلاً: «إن الحكم قد تعلق بالحاضرين الواجدين للشرط- وهو الحضور- فاستصحابه بحيث يثبت الحكم على غيرهم غير معقول»(1).

لكن هذا الإشكال مردود على مختارنا بعدم اليقين بارتفاع الوجوب في زمن الحضور لعدم وجود الدليل على تقييد الوجوب بحضور الإمام وإن

ص: 490


1- جواهر الكلام: 11/177.

كانت إقامتها من وظائفه (علیه السلام) لكنها ليست من مختصّاته.

وقد ناقشنا أدلة ذلك في مناقشة القائلين بعدم المشروعية في زمان الغيبة.

المسألة السادسة: استصحاب الكلي من القسم الثالث.

اتضح من المسألة السابقة الرابعة ان شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) لا يقول بحجية استصحاب الكلي من القسم الثالث ، اذ قال:

والاستصحاب على كلا التقديرين لا يجري لأنه بالتقريب الأول من استصحاب الكلي من القسم الثالث وعلى الثاني من الاستصحاب التعليقي ولا نقول بحجيته في أمثالهما.

كما صرح (دامت بركاته) بهذا المبنى في الجزء الثامن في بحث حقيقة الوجوب الكفائي (صفحة 228) ، اذ قال:

المناقشة في الكبرى إذ لا نقول بجريان الاستصحاب في الكلي من القسم الثالث، والقول بجريانه خلاف التحقيق

المسألة السابعة: الاستصحاب في التدريجيات.

مما اختلف الأصوليون فيه ، هو جريان الاستصحاب في التدريجيات ، والذي يظهر من كلمات شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) حجية الاستصحاب فيها اذ انه قال بإمكانية استصحاب بقاء النهار، ومن كلماته في هذا المقام:

1- ما جاء في الجزء الثاني (صفحة 68) في مسالة تحقق الغروب بسقوط القرص ام بذهاب الحمرة:

ص: 491

أما الرواية الحادية عشرة (1)

فتناقش دلالتها من حيث احتمال كون السائل شاكاً في غياب القرص لوجود الحائل وهو الجبل وعدم وثوقه بالمؤذنين من العامة فيرشده الإمام (علیه السلام) إلى الاحتياط في الشبهة خصوصاً مع جريان استصحاب بقاء النهار عند الشك فالشبهة هنا موضوعية وليست حكمية ليلزم حمله على التقية من أجل امتناع إرداته - أي الاحتياط – من الإمام العالم بالأحكام الواقعية بحسب تقريب صاحب الجواهر (قدس سرّه) المتقدم.

2- ما جاء في الجزء الثاني أيضا (صفحة 95 – 96) عند بيان الرأي المختار في مسالة تحقق الغروب بسقوط القرص ام بذهاب الحمرة.

حمل الأمر بالانتظار حتى ترتفع الحمرة للاحتياط، لأن الأصل الجاري عند الشك في غروب الشمس هو استصحاب بقاء النهار ولا ينقطع العمل به إلا باليقين بغروبها، وهو ما أشارت إليه صحيحة عبد الله بن وضاح، وهو وجه قاله الشيخ الطوسي (قدس سرّه) في الاستبصار لتفسير أخبار القول الثاني بعدأن ابتدأ بأخبار سقوط القرص وقد قال في مقدمة الكتاب: (وأن ابتدىء في كل باب بإيراد ما أعتمده من الفتوى والأحاديث) فقال في تفسيرها: (أن يكون إنما أمرهم أن يمسوا بالمغرب قليلاً ويحتاطوا ليتيقن بذلك سقوط الشمس لأن حدّها غيبوبة الحمرة عن ناحية المشرق لا

ص: 492


1- المقصود بها صحيحة عبد الله بن وضاح قال: (كتبت إلى العبد الصالح (علیه السلام) يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعاً، وتستتر عنا الشمس، وترتفع فوق الجبل حمرة، ويؤذن عندنا المؤذنون، أفأصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائماً؟ أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إلي: أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة، وتأخذ بالحائطة لدينك). وسائل الشيعة: 4/ 176.

غيبوبتها عن العين)(1).

المسألة الثامنة: استصحاب العدم الازلي.

يعد مبحث استصحاب العدم الازلي من اهم المباحث التي ناقشها العلماء في مسالة الاستصحاب ، اذ ذهب البعض الى عدم جريان العدم النعتي في قبال العدم الأصلي ، ، وذهب الاخر الى عدم جريانه مطلقا ، ومن كلمات شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في هذا الموضوع ما جاء في الجزء الأول (صفحة 342) في مسالة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة من جسد الانسان:

وإن نجاسة بدن الميت عينية من جهة وحكمية من جهة أخرى فلا يصدق الغسل حتى يتم في جميع البدن لأنه كلٌّ ارتباطي نظير اشتراط الوجوب ببرد الميت وهو لا يتحقق إلا ببرده جميعاً، وصدقه بالإضافة إلى الجزء - لو تم- فإنه لا يجدي بعد الذي ذكرناه من أن ظاهر الروايات اكتمال الغسل.

ولو شككنا في الوجوب وعدمه جرى استصحاب الوجوب، وليس المورد مجرى لأصالة البراءة لسبق اشتغال الذمة - إلا عند من لا يقول بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية كالسيد الخوئي (قدس سرّه)- ومنع المحقق النراقي (قدس سرّه) من جريان الاستصحاب هنا «لمعارضته معاستصحاب العدم»(2).

أقول: ويقصد به استصحاب العدم الأصلي كما صرّح به في غير مورد، والكبرى غير تامة.

وجاء في موضع اخر من الجزء الأول (صفحة 373 – 374) في مسالة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة من جسد الانسان:

ص: 493


1- الاستبصار: ج1، الباب 149، وقت المغرب والعشاء الآخرة، ح16.
2- مستند الشيعة: 3/65.

الثانية: الشك في كون الميت الممسوس إنساناً أو غيره:

سواء كان ذلك الغير حيواناً أو غيره:

والحكم هنا عدم الوجوب لعدم تحقق موضوع الوجوب أيضاً وهو مس الإنسان الميت لأن أصالة عدم كون الميت إنساناً جارية، بلا معارض بعد عدم جريان أصالة عدم كون الميت الممسوس ليس إنساناً لعدم ترتب أثر عليها، ولو جرى فعدم التمسك بهذا الأصل لسقوطه بالمعارضة وليس لعدم وجود «أصل يشخَّص به كون الممسوس إنساناً أو غيره»(1)

كما أفاد السيد الحكيم (قدس سرّه).

ولا نعلم مراده هل عدم وجود أصل أصلاً وقد تقدم خلافه، أم وجود أصلٍ لكنه سقط بالمعارضة مع الآخر وقد أوضحنا جريانه بعد سقوط المعارض.

واستدل السيد الخوئي (قدس سرّه) على عدم الوجوب ب«أصالة عدم كون الممسوس إنساناً» بناءً على مختاره من «جريان الأصل في الأعدام الأزلية من غير فرق في ذلك بين الأوصاف الذاتية والعرضية.

وتقريبه في المقام أن ذات الممسوس وإن كانت معلومة الحدوث والتحقق إلا أنا نشك في إضافته إلى الإنسان وغيره، وحدوث الإضافة مشكوك، وهي أمر حادث مسبوق بالعدم، فالأصل عدم تحقق الإضافة إلى الإنسان. أو يستصحب عدم وقوع المس على الإنسان، وبه يرتفعوجوب الغسل لا محالة.

ثم لو منعنا جريان الاستصحاب في المقام فلا بد من الرجوع إلى استصحاب الحالة السابقة في المكلَّف، فإذا كان متطهراً قبل مسِّه ثم مسّ

ص: 494


1- مستمسك العروة الوثقى: 3/475.

شيئاً وشك في أنه إنسان أو غيره فيشك في انتقاض طهارته بطروء الحدث بالمس وعدمه، والأصل بقاؤه على طهارته وعدم طروّ الحدث في حقه»(1).

وفي كلامه عدة موارد للنظر:

1- إن صفة الإنسانية ليست شيئاً مضافاً إلى الذات أي ليست صفة مجعولة وإنما هي توجد معه، فإما أن توجد الذات إنساناً أو غيره، فلا يمكن تصور الانفكاك ومن ثم الإضافة كما قالوا في كلمتهم المشهورة: (ما جعل الله المشمشة مشمشة).

2- إنه (قدس سرّه) اختار في الأصول في مبحث «هل يمكن إحراز دخول المشتبه في أفراد العام بإجراء الأصل في العدم الأزلي بعد عدم إمكان التمسك بالعام بالإضافة إليه» واختار الجريان إلا «في كل مورد يكون المخصِّص موجباً لتعنون العام بعنوان وجودي وتقيده به فلا يمكن إثباته بالأصل»(2).

أقول: المورد من المستثنى، إن لم نقل بأنه أولى منه لما قلناه من عدم تصور الانفكاك.

1- المفروض معارضة استصحاب عدم وقوع المس على الإنسان باستصحاب عدم وقوع المس على غير الإنسان فكان عليه (قدس سرّه) بيان وجه جريان هذا الاستصحاب كما فعلنا، نعم له أن يتمسك بأصالة عدم وقوع المس أصلاً، لكنه خروج عن المسألة التي تفترض وقوع المس.كما جاء في الجزء العاشر (صفحة 407) في مسالة التذكية الشرعية بمكائن

ص: 495


1- التنقيح من الموسوعة الكاملة لآثار السيد الخوئي (قدس سرّه): 8/224.
2- محاضرات في أصول الفقه من الموسوعة الكاملة: 46/360.

الذبح الحديثة:

إن جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية وإن كان صحيحاً كبروياً، إلا أن المقام ليس منه لعدم وجود حالة متيقنة سابقة لعدم التذكية إلا على نحو استصحاب العدم الأزلي وهو غير تام، أو تستصحب حالة عدم التذكية في حال حياته، وهو لا يجري أيضاً لعدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، بل لا معنى لوصف حالة الحياة بعدم التذكية.

إضافة الى عدة موارد ذكرناها في مبحث حقيقة الوجوب الكفائي.

المسألة التاسعة: الشك السببي والمسببي.

قد يكون الشك في بعض الحالات سببا للشك في حالة أخرى ، وعندئذ يعرف الأول بالشك السببي والثاني بالمسببي ، فاذا انتفى الأول انتفى الثاني ؛ ولذا يكون جريان الاستصحاب في الشك السببي مقدما على جريان الاستصحاب في الشك المسببي ؛ لانه ينفي موضوعه.

ومن تطبيقات هذا الموضوع التعليقة الرابعة لشيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في المسألة السابقة المذكورة في الجزء الأول (صفحة 375) ، اذ قال:

1- لولا ما يظهر من كلامه (قدس سرّه) بأنه تنزلي لقوله: «ثم لو منعنا» لكان استصحاب الحالة السابقة للمكلف غير تام لأنه شك مسببي ولا تصل إليه النوبة بعد إجراء الأصل في الشك السببي لأن الثاني وارد على الأول، نعم إذا تعذَّر جريان الأصول في رتبة الشك السببي أو جرت لكنها سقطت بالتعارض جاز الانتقال إلى الأصول الجارية في رتبة الشك المسببي.

كما جاء في الجزء الحادي عشر (صفحة 442) في مسالة ميراث المفقود:

ولو رجعنا إلى الأصول الجارية في المقام لوجدنا أكثر من أصل بعضهاعلى نحو الشك السببي وبعضها على نحو الشك المسببي والأول متقدم

ص: 496

رتبة على الثاني فيكون وارداً عليه بالمعنى المعروف في علم الأصول للورود، وكلها تؤدي إلى نتيجة واحدة:

1- استصحاب حياته حتى يحصل العلم والاطمئنان بموته بوسائل الإثبات المتوفرة سواء كانت وجدانية كالبينة وإخبار الثقة والتواتر والعلم أو تعبدية بحكم الشارع المقدس.

2- استصحاب حرمة التصرف في أمواله إلا بإذنه بكل أنحاء التصرفات ومنها تقسيمه على ورثته.

3- أصالة عدم انتقال ماله إلى غيره.

ومقتضى هذه الأصول التربص بماله خلال غيبته حتى يحصل خلاف ما تقتضيه هذه الأصول.

وجاء في الجزء الثاني (صفحة 322) ، في مسالة الوجوب التعييني لصلاة الجمعة عند بيان الأصول الجارية في المقام تطبيق لتقديم الشك السببي على المسببي ، اثناء مناقشته للسيد الخوئي (قدس سرّه) التي نقلناها في المسألة الخامسة ، وجاء في تتمتها قوله (دامت بركاته):

ثم شرع السيد الخوئي (قدس سرّه) في بيان الصور المحتملة في المسألة الناشئة من دوران الأمر بين الأقوال الثلاثة في المسألة (الوجوب التعييني لصلاة الجمعة، الوجوب التخييري بينها وبين صلاة الظهر، عدم مشروعية صلاة الجمعة) وجزّء الصور بافتراض مسألة لكل احتمالين منهما وهنا نقول إن المسألة ليست قابلة للتجزئة وإنما هي واحدة يدور الأمر بين احتمالاتها وتناقش كمسألة واحدة لأن الشك المتصور فيها هو هكذا يدور بين أطراف ثلاثة، وحينئذٍ يتعارض الأول والثالث لأنها من دوران الأمر بين المحذورين الوجوب والحرام وتُختار صلاة الظهر من فردي التخيير إن كان المراد بالحرمة الذاتية كما لو وجد ضرر محقق في إقامتها ويأتي بالفردين

ص: 497

معاً إن كان المراد الحرمة التشريعية أي عدم الصحةلانتفاء الشرط وهو حضور الإمام وإنما وجب الإتيان بهما معاً لإمكانه بلا محذور.

إن قلتَ: إن صلاة الظهر تعاني من نفس التعارض لأن أمرها يدور بين المحذورين وهما الحرمة (على القول بالوجوب التعييني لصلاة الجمعة) والوجوب (على القول بعدم مشروعية صلاة الجمعة).

قلتُ: الأمر مختلف لأن هذه الأحكام لصلاة الظهر أُخذت على نحو اللوازم لأحكام صلاة الجمعة ولم يرد عليها دليل فلا دليل على حرمة صلاة الظهر في زمن الغيبة أو قل إن هذا الشك مسببي والشك في صلاة الجمعة بين التعيين والحرمة سببي والأصل يجري في السببي لتقدمه رتبة على المسببي.

المسألة العاشرة: استصحاب مجهولي التاريخ.

من الموارد التي يناقشها علماء الأصول إمكانية استصحاب مجهولي التاريخ ، وقد افاد شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الأول (صفحة 377) في مسالة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة من جسد الانسان ان هذا الاستصحاب لا يجري ؛ لان ادلة حجية الاستصحاب منصرفة عن هذه الحالة ، اذ قال (دامت بركاته):

الصورة الثالثة: ما إذا كان التاريخان مجهولين معاً، ولا بدّ حينئذٍ من الحكم بعدم وجوب الغسل لاستصحاب عدم تحقق المسّ بعد البرودة أو الموت، وذلك لعدم كونه معارضاً باستصحاب عدم تحققه قبلهما، لأنّه لا أثر له كما عرفت»(1).

ص: 498


1- التنقيح في شرح العروة الوثقى من المجموعة الكاملة: 8/226-227.

أقول:

1- يوجد تعليق عام وهو أنه (قدس سرّه) أسّس سابقاً لوجود عام وهو وجوبالغسل على من مسَّ ميتاً إنسانياً، وخاصٍ هو إخراج الميت إذا كان حاراً، فالمفروض أنه في جميع صور الشك في البرد تناقش المسألة في ضوء النزاع حول أيّهما يقدَّم: هل عموم العام - باعتبار الشك في دخول الفرد تحت الخاص- أم استصحاب الخاص؟.

2- الاستصحاب الذي ذكره (قدس سرّه) في الثانية والثالثة لا وجه له لأن أدلة حجية الاستصحاب وهي الرواية الصحيحة وسيرة العقلاء لا تشمله فهي منصرفة عن مثل هذه الحالات، فالصحيح عدم جريانه فيهما.

كما جاء في الجزء الحادي عشر (صفحة 470) في مسالة توريث من يموتون بحادث جماعي ، قوله (دامت بركاته):

(الثاني) استصحاب حياة كل منهما إلى حين موت الآخر، وافترضنا عدم المانع من جريانهما معاً؛ باعتبار اختلاف الموضوع، فنتيجتهما توريث كل منهما من صاحبه.

وفيه:-

1- إننا نستشكل في جريان مثل هذا الاستصحاب –أي استصحاب حياة زيد إلى حين وفاة عمرو- وأنه خارج عن مفاد أدلة الحجية.

المسألة الحادية عشرة: الاستصحاب في الموضوع المشتبه مفهوما.

ذكر سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الرابع (صفحة 277) عند بيان الأصل العملي في القول باشتراط وحدة الأفق لثبوت الهلال في بلد عند رؤيته في اخر تطبيقًا مهما من تطبيقات عدم جريان الاستصحاب في حالة عدم احراز الموضوع ، فبيّن عدم إمكانية استصحاب شهر رمضان في البلد

ص: 499

الذي لم يُرَ فيه الهلال وكان قد رؤي في بلد اخر ؛ لأننا عندئذ نشك في نفس الموضوع مفهوما ، ونص كلامه:

استصحاب بقاء الشهر السابق، ويرد عليه: أنه لا يجري لوجود الشك في مفهوم دخول الشهر الجديد وثبوت الهلال وهل أنه يتحقق برؤيتهفي البلاد القريبة الخاصة أم تكفي رؤيته في البعيدة، والصحيح عدم جريان الاستصحاب فيه لعدم جريان الاستصحاب في الموضوع المشتبه مفهوماً، ومثاله الشك في بقاء العدالة عند فعل الصغيرة مع اليقين بزوالها عند فعل الكبيرة.

ويمكن تقريب عدم جريان الاستصحاب على مبنانا من عدم جريانه عند الشك في المقتضي وهذا من موارده لأننا نشك في مقتضي بقاء الشهر إلى اليوم الثلاثين عند تحقق الرؤية في البلد البعيد دون القريب، فإذا كانت الرؤية في البلد البعيد كافية فالشهر متيقن الارتفاع وإن كانت غير كافية فالشهر متيقن البقاء فلا يجري استصحاب بقاء الشهر.

ب- استصحاب بقاء حكم الشهر السابق، وهذا أيضاً لا يجري؛ لأن الحكم متعلق بعنوان الشهر السابق -كرمضان مثلاً- على نحو القيد لوجوب الصوم والمفروض عدم إحرازه برؤية الهلال في بلد بعيد، وإنما يحتمل ذلك، واحتمال زواله وارتفاعه يكون من عدم إحراز الموضوع، ووجوب الصوم ثابت لشهر رمضان بهذا العنوان، فلا يجري استصحاب بقاء وجوب الصوم ليوم الشك من شوال.

إن قلتَ: لكن الاستصحاب يجري في اليوم المردد بين الثلاثين من شعبان والأول من رمضان فيحكم بعدم وجوب الصوم.

قلتُ: إنما يجري استصحاب عدم وجوب الصوم الثابت في شعبان في يوم الشك لرمضان؛ لأنه ليس ثابتاً لعنوان شعبان بل من جهة عدم دخول

ص: 500

رمضان، فهو من استصحاب عدم الحكم لا بقاء الحكم.

المسألة الثانية عشرة: الأصل المثبت.

من المعلوم ان الأصول العملية لا تثبت الا لوازمها الشرعية ، وأنها لا تثبت لوازمها العقلية. وقد اصطلحوا على اثبات الأصل العملي للازمه العقلي بالأصل المثبت.ومن تطبيقات عدم القول بالأصل المثبت ما ذكره سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء العاشر (صفحة 41) في مسالة حرمة التصوير:

وبعد هذه الوجوه قال صاحب الجواهر (قدس سرّه): «ومن ذلك كله يقوى حينئذٍ القول بالجواز في غير المجسمة الموافق للأصل وإطلاق الآيات والروايات، في الاكتساب والمشي في طلب الرزق بأي نحو كان»(1).

أقول: يرد عليه (قدس سرّه) عدة أمور:

1- لا وجه للرجوع إلى الأصول والعمومات الفوقانية بعد قيام الدليل على الحرمة كما تقدم من الشيخ الأنصاري (قدس سرّه).

2- إن غاية ما يثبت هذا الأصل -لو طبّقه (قدس سرّه) على حلّيّة الاكتساب- جواز التكسب به ولا يثبت حلّيّة العمل إلا بناءً على القول بالأصل المثبت ولا نقول به.

المسألة الثالثة عشرة: الاستصحاب في مبادئ الحكم.

تقدم في مبحث حقيقة الوجوب الكفائي كلام عن استصحاب مبادئ الحكم ، فاذا ثبت وجوب فعل ما دلنا ذلك على وجود مصلحة وإرادة لذلك الوجوب ،

ص: 501


1- جواهر الكلام: 22/42.

فهل يمكننا استصحاب تلك المبادئ لترتيب بعض الاثار ؟ هذا ما أشار اليه سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الثامن (صفحة 336 – 337) ، اذ قال:

«استصحاب عدم تعلق الإرادة من قبل المولى بالعينية، لفرض كون الكلام مجملاً من هذه الناحية»(1).

وفي تقريراتي «أن ننظر إلى مرتبة إرادة المولى التي أصبحت علة في صدور هذا الأمر الذي ترددنا في كونه عينياً أو كفائياً، فهي محرزة لكننا نشك في كونها مقيدة بمنشأ انتزاع العينية أم الكفائية، فنجري أصالة عدمتقييد الإرادة بمنشأ انتزاع العينية فنضم لها أصلاً آخر في مقام الامتثال وهو البراءة عن التكليف الزائد فتثبت نتيجة الكفائية».

أقول: يشكل عليه بما أورد على نفسه (قدس سرّه) بأن أصالة عدم تقييد الإرادة بمنشأ انتزاع العينية يعارضه أصالة عدم تقييد الإرادة بمنشأ انتزاع الكفائية.

وأجاب في منهج الأصول: «قلنا: كلا لأن الكفائية مرجعها إلى إسقاط التكليف (إن كان الشك بعد الامتثال) فأصالة عدمها لا يكون سبباً لثبوت التكليف، أو قل لثبوت العينية؛ لأنه لازم عقلي، بخلاف أصالة عدم العينية، فإنها تعني بالمطابقة فراغ الذمة».

أما في تقريراتي فقد اعترف (قدس سرّه) بوجاهة الإشكال في عالم الثبوت إذا اعتبرنا كلا منهما قيداً، أما في عالم الإثبات فأجاب عن الإشكال «بسقوط المعارضة لأن التكليف الكفائي ليس له امتثال أكثر من امتثال واحد والمفروض تحققه –لأن الشك بعد امتثال الغير- فتكون أصالة عدم تقييد

ص: 502


1- منهج الأصول: 4/224.

الإرادة بمنشأ انتزاع الكفائية مما لا أثر له شرعاً، في حين يكون في مقابله أثر شرعي لأن العينية اشتغال ذمم كثيرة فينتج إفراغ الذمة».

أقول: يكفي أن نناقشه بنقطتين:-

1- إنه لم يأخذ بنظر الاعتبار ما اختاره من تفسير الوجوب الكفائي على نحو العموم الاستغراقي فيكون شاغلاً لذمم الجميع أيضاً.

2- إننا على يقين بوجود إرادة المولى وتعلقها بصدور هذا الفعل ونشك بارتفاعها عند امتثال البعض فنستصحب بقاءها وهو يقتضي العينية.

هذا ولكن أصل الأطروحة وهي إجراء الأصل في مبادئ الحكم لا جدوى منه لأمرين على الأقل:-

1- إن هذا الاستصحاب لا ثمرة فيه لأن الإرادة وسائر مبادئ الحكم مما لا تجب طاعته، فلا ثمرة تترتب على استصحاب بقائها.

2- تقدم في مناقشة التفسير الأول للوجوب الكفائي أنه على مستوى مبادئ الحكم –كالإرادة- يمكن تعلق إرادة المولى بالفعل دون ارتباطهبالفاعل لعدم وجود تكليف حتى يتطلب عهدة وذمة لإلقائه عليه، ففي هذه المرتبة لا توجد ذمة مشغولة بأي نحو من الأنحاء حتى تستصحب.

وبنفس التقريب يصوَّر على مستوى الغرض ويأتي عليه نفس الرد أيضاً.

المسألة الرابعة عشرة: الاستصحاب القهقرائي.

ان الظهور الحجة للألفاظ الواردة في الأدلة هو ظهورها في عصر صدورها لا في عصرنا الحالي ، فاعتمد البعض على الاستصحاب القهقرائي عند الشك ان الظهور الحالي لم يكن هو نفسه في عصر النص ؛ ليثبت بذلك ان هذا الظهور

ص: 503

هو نفس ذلك الظهور.

ولكن شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) لا يقول بحجية هذا الاستصحاب ؛ لعدم دلالة ادلة الحجية عليه.

ومما جاء في هذا المقام ما نقلناه عنه في مبحث الحقيقة الشرعية ، اذ قال (دامت بركاته) في الجزء الأول (صفحة 265):

ومنه يُعلم ما في كلام السيد الحكيم (قدس سرّه) بقوله: «إن الحقيقة الشرعية وإن لم تثبت، لكن الاستعمال الشرعي في تلك المفاهيم ثابت، ولأجله جرت الاستعمالات عند المتشرعة عليه حتى صارت حقيقة عند المتشرعة»(1)

فإن الآلية التي ذكرها (قدس سرّه) لتشكل المصطلحات الشرعية وإن كانت صحيحة إلا أنها بدأت بعد زمان النبي (صلی الله علیه و آله) أما في زمانه فقد كانت التعبيرات بغير هذه الألفاظ ، ولو فرضنا الاستعمال في المعنى المصطلح فإن هذا المقدار لا يكفي لتشكل ظهور للفظ في هذا المعنى حتى يتبادر إليه.

وإذا كان كلامه (قدس سرّه) يستبطن الاستدلال بالاستصحاب القهقرائي -كماورد في كلمات بعضهم- فإن كبراه غير تامة لعدم حجية هذا الاستصحاب، وصغراه غير تامة لأنه قد ثبت عكس نتيجته بالاستقراء المذكور.

كما جاء في نفس الجزء (صفحة 90):

«عدم إمكان حمل (طاهر) في كلام الامام (علیه السلام) على المعنى الاصطلاحي الفقهي لأنه اصطلاح متأخر لا تفهم في ضوئه الروايات فيحمل على الطهارة اللغوية والعرفية السائدة آنذاك وهو يعني النظافة من الوسخ أي ان قذارته غير موجودة ولا تحمل على الطهارة الحكمية»

وكأنه (قدس سرّه) لم يكتف بهذا المقدار من البيان فأضاف في اليوم التالي:

ص: 504


1- مستمسك العروة الوثقى: 1/369.

«يجب ان نلتفت إلى ان النجاسة بالمعنى الفقهي تستفاد من لسان واحد: ارق عليه الماء أو اغسله ولا يستفاد من الأعم من قبيل (لا تصلِّ فيه) فلا يستفاد الخاص من العام لاحتمال وجود مانع آخر كعرق الجنب من حرام الذي ورد فيه (لا تصلِّ فيه) وهو اعم من النجاسة كما ان نقيضه (صلِّ فيه) لا يدل على الطهارة وان حمل ألفاظ المعصومين (علیهم السلام) على المصطلح الفقهي يحتاج إلى إثبات، وبالاستقراء يثبت ذلك لو تم حسياً اما بالغفلة والاستصحاب القهقرائي فعهدته على مدعيه، كقوله (الجاف على الجاف ذكي) ليس يعني طاهر بل لا تسري النجاسة وهو احد المحتملات هنا ويحتمل ان (طاهر) بمعنى صلاته صحيحة، ومن اطمأن فاطمئنانه بسبب التربية الحوزوية ويستصحبه قهقرائياً إلى زمن المعصومين (علیهم السلام)».

وكلامه (قدس سرّه) صحيح كبروياً أي ان المعنى الذي تحمل عليه الألفاظ الواردة في كلام المعصوم (علیه السلام) يجب ان يكون مما تعارف عليه أهل اللغة في ذلك الزمان ولا يصح حملها على معانٍ ومصطلحات مستحدثة ومع الشك لا يمكن التمسك بالاستصحاب القهقرائي الا ان ينضمّ إليه ما يثبت ذلك كالاستقراء ونحوه.

ومن الصحيح ايضاً ما قاله (قدس سرّه) من انه لا يمكن التمسك بمدلول عام لإفادة معنى مخصوص كاستفادة طهارة المكان من الإذن بالصلاة فيهلان الصلاة تجوز في المكان النجس مع أمن السراية.

ص: 505

التعارض
اشارة

من اهم المباحث الابتلائية والمهمة في علم الأصول هو مبحث التعارض ، حتى أُلفت فيه الكثير من الرسائل المنفردة ؛ اذ لا يستغني الفقيه عن كليات باب التعارض في استنباطه للأحكام الشرعية.

وبما ان درس شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) هو فقه الخلاف ، فهذا يعني ان كل المسائل التي يبحثها فيها خلاف وتعارض في الأدلة ؛ ولذا كانت هذه الموسوعة حافلة بذكر قواعد باب التعارض وتطبيقاتها.

وبما ان التعارض منه ما هو غير مستقر وتجري فيه قواعد الجمع العرفي ، ومنه ما هو مستقر ويرى العرف تمام التنافي والتكاذب فيه ، ولا تجري فيه قواعد الجمع العرفي ؛ سنتكلم أولا عما جاء في فقه الخلاف عن التعارض غير المستقر ثم عن التعارض المستقر.

وقبل الخوض في مسائل التعارض غير المستقر والمستقر لا بد من بيان نظرية شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في التعامل مع الأدلة وكيفية النظر اليها ، والتي تمثل منهجًا وفكرًا يمتاز به شيخنا الأستاذ ، وأرسى أسسه وقواعده في كل مسالة من مسائل فقه الخلاف.

وسنلخص هذه النظرية في مسائل ثلاثة:

المسألة الأولى: تقنين الاحكام.

المسألة الثانية: الاحكام الدستورية.

المسألة الثالثة: عدم التفريط بروايات اهل البيت (علیهم السلام).

واليك هذه المسائل بالتفاصيل:

ص: 506

المسألة الأولى: تقنين الاحكام.

يرى شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ان الشريعة المقدسة تشكل منظومة قانونية مترابطة ، وان تشريعاتها لم تاتِ متجزئة او متباينة ، فهذه التشريعات تمثل بنيانا متكاملا ولكل اية او رواية في مقام تشريع الحكم مكانها المناسب في تلك المنظومة.

ومن هذا المنطلق فانه يرفض فكرة النظر الى كل دليل بمعزل عن غيره من الأدلة ، فهو (دام ظله) في قراءته لتلك الأدلة يبحث عن النكتة الثبوتية التي تجمع شتات الاحكام ، وتنظمها على أساس قواعد واقعية.

وقد صرح (دام ظله) بهذا المنهج في الجزء العاشر (صفحة 243) في مسالة حلية السمك اذا مات في الماء محبوسًا ، اذ قال:

وقد حاولت ان افهم كيف دفع القائلون بحلية الكل هذا التعارض البدوي ولا يوجد بين يديّ مصدر معتدّ به لهم، لذا توجهت بواسطة احد الإخوة باستفتاء خطي إلى شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله) حاصله انه «توجد مسألتان في باب تذكية السمك:

الأولى: لو صاد سمكة وأخرجها من الماء ثم ربطها بخيط أو حبل وأرسلها إلى الماء فماتت فيه لم يحل أكلها.

الثانية: إذا وضع شبكة في الماء فدخلها السمك ومات فيه حل أكله.

والسؤال هو: انه إذا كان سبب الحرمة في الأولى انها ماتت في الذي فيه حياتها فإنه موجود في الثانية، وان كان سبب الحلية في الثانية انها ماتت تحت اليد فهذا موجود في الأولى».

فأجاب دام ظله «ان الفرق بين المسألتين من جهة النص الخاص الدال على ان السمك إذا مات في الشبكة أو الحظيرة حلال».

وتاريخه 15 شعبان 1425 أي بعد كتابتي لأصل البحث بشهرين.

ص: 507

وجوابه (دام ظله) غير مقبول ولا يمكن الاكتفاء به إذ لا بد من تقنين الأحكام كالذي قدمناه بفضل الله تبارك وتعالى. أما إحالة كل حالةعلى النص فهذا يعني توقف عملية الاجتهاد للحاجة إلى تفسير كل واقعة على حدة والجزئيات لا تنتهي.

وكرر (دام ظله) هذه الفكرة في الجزء الثاني عشر (صفحة 264) عند مناقشة جواز قطع عضو من الانسان الميت ، اذ قال:

ويمكن النظر(1) إلى هذه الموارد من ناحية إثباتية بأنها تخصيص في حكم الحرمة ونقول إنها خرجت بالدليل الخاص ويبقى عموم الحرمة على حاله في غيرها، لكننا نعتقد أن هذه النظرة قاصرة لأمور:-

1- إن المقيس عليه وهو الحي لم تكن حرمة القطع منه مطلقة وإنما في الجملة بلحاظ القيود المذكورة هناك فلا يكون المقيس أوسع من المقيس عليه.

2- يلزم منه تخصيص الأكثر لكثرة الموارد المستثناة من الحرمة الداخلة في العناوين الآتية.

3- للإحساس الوجداني بأن هذه الموارد خرجت من الحرمة لا لخصوصية فيها وإنما بني خروجها على نكتة ثبوتية علينا اكتشافها من

ص: 508


1- هنا نؤسس لمطلب أصولي: وهو أن خروج بعض الموارد من تحت عام أو مطلق قد لا يعبِّر عن مجرد تخصيص أو تقييد فيهما وإنما يكون كاشفاً عن أن العموم والإطلاق غير تام في نفسه والخارج عنهما لا يقتصر على المذكورات أي أن نكتة الخروج ثبوتية يمكن أن تعمِّم الخارج لا إثباتية بالدليل الخاص مقتصرة على المذكورات فيُنظر في الأدلة لاكتشاف النكتة الثبوتية. ويتفرع على هذا المطلب أن ما أسسناه في علم الأصول من دخول الفرد المشكوك تحت العام إذا لم يتيقن دخوله تحت الخاص صحيح إلا أن يكشف الخاص عن ضيق دائرة العام.

الأدلة لأن هذا الإحساس ليس دليلاً بمفرده وإنما هو منبّه ومحرِّك للبحث باتجاه اكتشاف حقيقة ما.

وحاصل هذه النكتة الثبوتية: أن إطلاق الحكم بعدم جواز القطع غيرتام في نفسه؛ لوضوح أن مناطه هو احترام الميت وأن حرمته كحرمة الحي فيحرم من القطع ما انطبق عليه عنوان هتك الحرمة، فالموارد السابقة لم تخرج تخصيصاً وإنما تخصصاً لعدم دخولها في العنوان المحرّم.

المسألة الثانية: الاحكام الدستورية.

يرى شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ان هناك أحكاما عامة تعتبر هي الأطر والمحددات لباقي الاحكام اَي ان الاحكام الأخرى يجب ان لا تخرج عن إطارها ومقتضياتها ، وشبّه تلك الاحكام العامة بمواد الدستور ، وبقية الاحكام بالقوانين التي يجب ان لا تخالف الدستور.

وصرح سماحته بهذه الرؤية في الجزء الثاني عشر (صفحة 17 – 18) الذي جاء فيه:

بعض الأحكام العامة أُطُر ومحددات للأحكام الأخرى:

وهنا توجد أطروحة لعلاقة من نوع آخر بين الأدلة:

حاصلها: أن بعض الأحكام يُنظر إليها على أنها محددات وأُطُر عامة للأحكام الأخرى فلا يجوز أن تخرج عنها، ومثاله في القوانين الوضعية: العلاقة بين مواد الدستور والقوانين، فإن القوانين يجب أن لا تخالف الدستور ولا تخرج عن إطاره، فلو أقرَّ البرلمان قانوناً يقضي بتفضيل بعض الشرائح الاجتماعية على بعض أو التمييز بينهم فإنه قانون باطل لأنه يتنافى مع مادة في الدستور تقول أن المواطنين كافة متساوون في الحقوق والواجبات ونحو ذلك.

ص: 509

ومثاله في الشرعيات قوله تعالى: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» (النساء:19) فإنه يحدد أحكام العلاقة الزوجية فلو كان الحكم المعروف بجواز ترك وطء المرأة الشابة بما لا يزيد عن أربعة(1)

أشهر مخالفاً للآية الكريمة فإنه لا يجوز العمل به ويحمل الدليل على وجه مناسب أو حالة خاصة.ويمكن على نحو الأطروحة أن تكون الآية الكريمة أيضاً محدداً لعنوان العدالة المشروط لجواز التزويج بثانية فيشترط فيه أن لا يكون سبباً للإهانة الاجتماعية للزوجة الأولى والانتقاص منها وهو مخالف للآية الكريمة.

وهذه العلاقة بين الأدلة شكل آخر لما أراده الأئمة (علیهم السلام) من عرض الروايات على كتاب الله تعالى بأن يكون إطاراً ومحدداً لها.

وهذه العلاقة أي الإطار والتحديد قد تؤدي نتيجة العلاقات المعروفة كالتخصيص أو التقييد أو التزاحم إلا أنها ليست هي لأن ملاكها مختلف كما هو واضح.

ومثالها الآخر قوله تعالى: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» (النحل: 90) فإنها إطار عام لكثير من الأحكام، مثلاً قد يكون حكمان في قضية وكلاهما عدل إلا أن أحدهما أقرب إلى الإحسان فيؤخذ به.

ويحضرني هنا تطبيق لها من قضاء النبيين الكريمين داود وسليمان (علیهما السلام) في القضية التي ذكرها القرآن الكريم «وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ» (الأنبياء: 78) ففي مجمع البيان للطبرسي «قيل: إنه زرعٌ وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته.

ص: 510


1- راجع تفصيله في جواهر الكلام: 29/115.

وقيل: كان كرماً وقد بدت عناقيده، فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله ! قال: وما ذاك ؟ قال. يدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم، فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان، ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله، وروي ذلك عن أبي جعفر، وأبي عبد الله (علیه السلام)»(1).

وقد عبّرت الآية «لحكمهم» ويمكن أن يكون وجهه أنه حكم واحد صدر منهما (علیهما السلام) مطابق للعدل ولم يقل لحكميهما لكن الثاني كان أرفق بحال الضامن.والمثال الآخر قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ» (الإسراء:70) فإنها إطار يحدّد جملة من الأحكام تقدمت الإشارة إليها في بعض البحوث السابقة.

ومحل الشاهد في المقام أن الروايات التي تحثّ على الإنجاب تشكّل إطاراً محدداً لأدلة حرمة اللمس والنظر ونافية لها بعدة تقريبات:-

أ- إن ملاكها أقوى.

ب- إنها تنقّح موضوع الضرورة المبيحة لارتكاب الحرمة.

ج- انصراف أدلة الحرمة عن مثل المورد لذا يجيز بعض الفقهاء العلاج عند الطبيب المخالف وإن لم يبلغ حدّ الضرورة بل بملاك العلاج نفسه.

المسألة الثالثة: عدم التفريط بروايات اهل البيت (علیهم السلام).

قلنا ان المنهج الذي يتبعه شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في التعامل مع الروايات انها جاءت ضمن منظومة قانونية مترابطة ، وان بعضها يكمل بعضا ، وان لكل رواية موقعها المناسب في تلك المنظومة التشريعية.

ولذا فانه يرفض فكرة التفريط بهذه الروايات التي تمثل لبنات أساسية في

ص: 511


1- مجمع البيان: 7/91.

بناء المنظومة القانونية للتشريعات.

وهذه الفكرة لشيخنا الأستاذ (دامت بركاته) تعتبر دستورا حاكما في كيفية التعامل مع الروايات.

ومن كلماته في هذا المقام ما جاء في الجزء الحادي عشر (صفحة 184) في مسالة ارث الزوج والزوجة عند عدم وارث سواهما ، اذ قال:

نصرة القول المشهور:

يمكن إثبات صحة قول المشهور بعدة مستويات:

المستوى الأول: منع وقوع المعارضة أصلاً وسقوط المعتبرتين بنحو وآخر عن المعارضة كقول ابن إدريس: «إن الجمع إنما يكون مع التعارض وإمكان الجمع، وهو منفي هنا؛ لأن فتوى الأصحاب لا يعارضهاخبر الواحد» (1).

أقول: عبارته الأخيرة قاسية على من يؤمن بعصمة أهل البيت (علیهم السلام) وهي وأمثالها في جانب التفريط بالروايات دفعت إلى نشوء المنهج الأخباري الذي وقع في جانب الإفراط، وستأتي مناقشة ما ذكره (قدس سرّه) من المرجّح وتوجيهه إن شاء الله تعالى.

وكقول المحقق الأردبيلي (قدس سرّه): «ولو سُلّم دلالتها ومعارضتها يمكن حذفها بواحدة أو بالكل مما يعارضه، ويبقى الباقي وظاهر القرآن على حالها»(2).

أقول: نحن لا نعتمد طريقة تسقيط الروايات المتعارضة واحدة بواحدة واعتماد الباقي لعدم الدليل عليها، بل الدليل على خلافها حيث لا تضر بالاعتبار قلة وكثرة الروايات.

ص: 512


1- السرائر- ابن ادريس:3/243، جواهر الكلام: 39/82.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 11/435.
التعارض غير المستقر
اشارة

وهنا سنذكر اهم ما جاء في فقه الخلاف من مسائل الجمع العرفي في اثنتي عشرة مسالة:

المسألة الأولى: دليل حجية الجمع العرفي.

المسألة الثانية: الجمع الاستنباطي.

المسألة الثالثة: المرجح المساوي.

المسألة الرابعة: تقديم المرجح المساوي على مرجحات التعارض.

المسألة الخامسة: تعارض الشرطيتين بالعموم من وجه.المسألة السادسة: الجمع أولى من الطرح.

المسألة السابعة: حمل الظاهر على النص.

المسألة الثامنة: الحكومة.

المسألة التاسعة: تقديم المانع على المقتضي.

المسألة العاشرة: تعارض المطلقين في إطلاقهما.

المسألة الحادية عشرة: انقلاب النسبة.

المسألة الثانية عشرة: المدار في التخصيص والتقييد على الظهور.

وتفصيلات هذه المسائل:

ص: 513

المسألة الأولى: دليل حجية الجمع العرفي.

عندما يبحث علماء الأصول مسائل علاج التعارض المستقر فانهم يستعينون بالروايات التي تبين كيفية علاج هذا التعارض.

اما مسائل التعارض غير المستقر فيعتبرون العرف والفهم العرفي للكلام هو الدليل عليها.

الا ان شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ابرز في الجزء الأول (صفحة 214) في مسالة طهارة الكحول دليلا روائيا على حجية هذا الجمع ، اذ قال:

إن هذا الجمع داخل في أمر الأئمة (علیهم السلام) بتعلّم أساليب أهل المحاورة ومعرفة وجوه الكلام ومنها هذا الجمع المعتمد عند أهل العرف وقد ذكرنا سابقاً أكثر من رواية ومنها خبر داوود بن فرقد قال: (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، إن الكلمة لتنصرف على وجوه فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب)(1) وحمل المطلق على المقيد والمجمل على المبيَّن والعام على الخاص من هذه الوجوه، ومنها صرف الخبر عن ظهوره إلى الاحتمال الآخر بقرينة.

كما جاء في الجزء الخامس (صفحة 440 -441) في مسالة زكاة أموال الصغير:

فاعتبار الحالة من المتعارضين -كما أفاد (قدس سرّه)- غير عرفي إلا في الموارد التي يتحير العرف في الجمع بينها بحيث لا يعرف مرادهم (علیهم السلام).

وحكى السيد السيستاني (دام ظله الشريف) هذا الاعتراض الكبروي عن «جمع من العلماء (قدس الله أرواحهم) منهم صاحب الكفاية فقال: إن الجمع بين الروايات بما يسمى بالجمع الدلالي مما لا يمكن الموافقة عليه فإنه

ص: 514


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 9، ح27.

مخالف للأدلة الدالة على المرجحات؛ فإن غالب الروايات المتعارضة مما يمكن فيها مثل هذا الجمع مع أنهم (علیهم السلام) لم يتعرضوا للإرشاد إلى هذا الجمع، وإنما ذكروا المرجحات فقط كموافقة الكتاب ومخالفةالعامة، وذكر صاحب الكفاية: اللهم إلا أن يقال إن مثل حمل المطلق على المقيد لا بد من الالتزام به، وهكذا جمعٌ آخر كصاحب الدرر الغوالي وهكذا فإن الروايات الواردة عن الأئمة (علیهم السلام) التي نرى نوع تعارض بينها وقد ألقي كل منهما إلى جمع فتعد الروايات من المتعارضين، فحمل الدالة على الوجوب على الاستحباب مراعاة للدالة على الترخيص تكلف»(1).

أقول: ذكرنا الدليل على هذا الجمع مضافاً إلى كونه مما يعرفه أهل المحاورة. ومن خلالها يعرف أن مورد الجمع العرفي غير مورد التعارض واستعمال المرجحات، فالأول في ما يفهمه العارف بذوق اللغة وأساليبها بحيث لا يرى تردداً في الجمع بينها واستخلاص النتيجة، مما أوجب عدَّ مثل هذا فقيهاً في كلامهم (علیهم السلام) فعن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: (ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا، وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج)(2)،

أما الثاني ففي مورد العجز عن ذلك والبقاء متحيراً كما يقال.

وصدور هذا ليس مستغرباً على مثل الأئمة (علیهم السلام) في كثرة أعدائهم وتنوعهم من سلطات وفقهاء سائرين بركابهم وحاسدين وكفار ومنافقين مع جهل العامة الذين تعتريهم الشبهات والفتن.

ص: 515


1- محاضرة بتأريخ 3/شعبان/1419.
2- معاني الأخبار، صفحة 2، ح3 من الباب الأول.
المسألة الثانية: الجمع الاستنباطي.

قد يتبادر الى الذهن اننا عندما نقول قواعد الجمع العرفي فاننا نريد بالعرف عامة الناس ، ولكن سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) نبّه في الجزء الخامس (صفحة 224) في مسالة ما تجب فيه الزكاة على ان المقصود من العرف هنا العارفين بأساليب اللغة ، وكلام الائمة (علیهم السلام).وقد جاء ذلك في مناقشته لكلام السيد السيستاني (دام ظله) ، اذ قال:

وذكر بعض من حضرنا بحثه الشريف وجه المشهور بالجمع بين الروايات وقرّبه بقوله (دام ظله): «إن النظر في الطائفتين يلزم منه حمل الثانية على الاستحباب، إذ الأولى توجب العفو وهو إشارة إلى وجود الملاك لكن المصلحة التسهيلية أوجبت عدم جعل الزكاة على ما سوى ذلك، والروايات المثبتة للوجوب ظاهرة فيه صريحة في الرجحان فتحمل المثبتة على الاستحباب»(1).

ثم قال في اليوم التالي عن وجه المشهور: «إنه في نفسه غير بعيد من جهة ملاحظة الطائفتين فإن القدر المسلم من النافية والصحيح منها نفي الزكاة فيما وراء الأربع على نحو ثبوتها في الأربع، خصوصاً ما عُبّر عنها بعنوان النفي، فإن ما يدل على نفي الزكاة منصرف إلى الوعيد الشديد على تاركها، وما ورد من الحث عليه وإن في إعطائها يحقن دم الشخص، وهذا كله في الواجب وهو القدر المسلم من المنفي، غاية الأمر أنه قد يدعي أحد أنه ينفي مطلق الزكاة، فيقال أن ما دلّ على الإثبات صريح في الثبوت وظاهر في المماثلة للأربع فينفى الظهور بالنص.

وقد يرد بأنه جمع تبرعي لا عرفي، باعتبار أن المناط في العرفي فيما

ص: 516


1- محاضرة 8 صفر 1420.

إذا كان الجمع ممكناً في كلام واحد بحيث إذا جمع الكلامان يخرج منه كلام واحد مفهوم عرفاً، وما لا يكون كذلك فهو من التعارض المستقر عند العرف كما في المقام ففي بعضها ينفي (لا زكاة فيما سوى الأربع) وفي بعضها يثبت فإذا جمعا فإن العرف يتحير لذا فإنه جمع غير مقبول –كما في المستند- وقد مرّ سابقاً أن المعيار في الجمع ليس ما ذكر بل ما سمّيناه بالجمع الاستنباطي(1)، وهو أن الفقيه العارف بلحن الأئمة(علیهم السلام) حين إلقاء الحكم وملاحظتهم لجميع ما يقتضي الكتمان وعدمه، فإذا فُرض أن الفقيه لا يتحير أمام الطائفتين فليس تعارضاً وإنما يكون كل منهما قرينة على المراد الجدي من الآخر، وهذا جمع معتبر ، لذا نرى أن المشهور هو الحكم بالاستحباب ففهموا أن نفي الزكاة في روايات الطائفة الأولى ظاهر في تلك التي هي من دعائم الإسلام وهي التي كان يُبعث العمال لجمعها أما ما دلّ على ثبوت الزكاة في الطائفة الثانية فهو على نحو آخر فلا يرى العرف تنافياً ولا يتحيّر فهذا الجمع معتبر».

أقول: مضافاً إلى ما ناقشنا به هذا الجمع من تأخره رتبةً فإنه يرد على كلامه (دام ظله) أمور:

1- إن الحمل الذي ذكره ممكن في مثل صحيحة محمد بن مسلم التي جاء فيها: (كل هذا يزكّى وأشباهه) أو في خبر أبي مريم: (كل هذا مما يزكّى) التي تفيد مطلق الرجحان ولا يجري في الروايات الأخرى كقوله (علیه السلام): (فعليه الزكاة) أو تحديد النسب في صحيحة محمد بن إسماعيل أو التعليل في صحيحة أبي بصير.

2- إن تقريبه (دام ظله) - لو تم- فإنه مختص بما سوى الأربع من

ص: 517


1- قررنا كلامه (دام ظله الشريف) في هذا المطلب في مسألة سابقة.

الغلات فالصحيح عرضه هناك وليس هنا حيث الكلام عن نفي الوجوب في ما سوى التسع، بل لا يستقيم له النقاش هنا لأنه يذهب إلى الاحتياط الوجوبي في زكاة أموال التجارة(1).

3- إن إضافة مصطلح «الجمع الاستنباطي» غير مجدٍ، لأن الفقهاء حينما يشيرون إلى الجمع العرفي فإنهم لا يقصدون عامة الناس وإنما الفقهاء العارفين بقواعد المحاورة وفنون أهلها لأنهم وحدهم الذين لهم حق النظر في الروايات دون غيرهم، فالمعيار في صحة الجمع إمكانه عندهم وعدم تحيرهم.

المسألة الثالثة: المرجح المساوي.

من اهم ابداعات سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) فكرة المرجح المساوي للجمع بين الأدلة المتعارضة ، وقد شرح سماحته هذه الفكرة في الجزء السادس (صفحة 285) في مسألة حكم العقد المنقطع على الباكر من دون اذن وليها ، قائلا:

المرجّح المساوي: وأعني به روايات في عرض الروايات المتعارضة وليست عموماً فوقانياً لها ولكنها لا تبتلى بالمعارضة لأنها غير مسوقة لبيان محل النزاع بالدلالة المطابقية وإنما هي بصدد بيان أحكام أخرى ويستفاد منها حكم محل النزاع بشكل عرضي((2).

ص: 518


1- منهاج الصالحين: 1/353.
2- (2) وما دامت غير مسوقة للبيان من هذه الجهة فلا يمكن التمسك بالإطلاق في المرجح المساوي فمثلاً في التعارض المتقدم في الجهة الأولى من البحث في كون الولاية في تزويج البكر لنفسها أمْ لأبيها قد تُتَّخذ صحيحة أبي عبيدة مرجّحاً لولاية الأب على البكر؛ قال: (سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن رجل كُنَّ له ثلاث بنات أبكار فزوَّج إحداهن رجلاً ولم يسمِّ التي زوّج للزوج ولا للشهود، وقد كان الزوج فرض لها صداقها، فلما بلغ إدخالها على الزوج بلغ الزوج أنها الكبرى من الثلاثة، فقال الزوج لأبيها: إنما تزوّجت منك الصغيرة من بناتك، قال: فقال أبو جعفر (علیه السلام): إن كان الزوج رآهنَّ كلهن ولم يسمِّ له واحدة منهنَّ فالقول في ذلك قول الأب، وعلى الأب فيما بينه وبين الله أن يدفع إلى الزوج الجارية التي كان نوى أن يزوجها إياه عند عقده النكاح، وإن كان الزوج لم يرهُنَّ كلهن ولم يسمّ له واحدة منهنّ عند عقده النكاح فالنكاح باطل) (وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب15ح1). بتقريب ظهور الرواية في عدم رجوع الأب إلى بناته في أمر التزويج. لكن هذا الاستدلال إنما يكون بالإطلاق والرواية بصدد البيان من هذه الناحية إذ لعل الأب استأمرهن جميعاً في تزويجهن فكان تصرفه بالإذن والوكالة عنهن.

ووجه عدم دخولها في المتعارضين خلوّها من ملاك التعارضلعدم توجه الدليل لبيان الحكم محل التعارض مباشرة، فمثلاً إن من أسباب التعارض ما يلقيه الأئمة (علیهم السلام) من الخلاف بين أصحابهم صيانة لهم من الطواغيت وهذا معنى دقيق للتقية التي وردت في باب الترجيح بين الأدلة المتعارضة يضاف إلى ما ذكروه، ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (سألته عن مسالة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت يا ابن رسول الله: رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبتَ كل واحدٍ منهما بغير ما أجبتَ به صاحبه؟ فقال: يا زرارة إن هذا خيرٌ لنا وأبقى لنا ولكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ولكان أقلَّ لبقائنا وبقائكم. قال: ثم قلتُ لأبي عبد الله (علیه السلام): شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب أبيه)(1).

ص: 519


1- أصول الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، ح5.

وهذه نكتة لم تذكر في باب التعارض والتراجيح.

ومن تطبيقات المرجح المساوي التي ذكرها شيخنا الأستاذ ما جاء في الجزء الأول (صفحة 301) وما بعدها في مسالة طهارة غير المسلمين عند علاج التعارض بين الروايات الدالة على طهارة الكتابي ، والأخرى الدالة على نجاسته ، حيث قال (دامت بركاته):

علاج التعارض:

إذا تمت الروايات الدالة على المعنيين - النجاسة والطهارة- سنداً ودلالةً ولو في الجملة فإنه يقع التعارض بينهما، ويعالج التعارض من خلال عدة مراتب:

الأولى: وجود دليل خاص يحل هذا التعارض ويبيّنه، وهو هنا موجود وأعني به صحيحة إسماعيل بن جابر قال: (قلت: لأبي عبد الله (علیه السلام): ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لاتأكله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تأكله ولا تتركه تقول: إنه حرام، ولكن تتركه تتنزه عنه إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير)

فإنها تبيّن أن الاجتناب والنهي إنما هو للتنزّه. ويلحق به كل الروايات التي عللت اجتناب آنيتهم وطعامهم بمباشرتهم النجاسات.

لكن هذا الدليل لا يستوعب كل نواحي التعارض لعدم شموله لقضية المصافحة والسؤر والاغتسال في ماء واحد ونحوها.

نعم، يمكن القول بوجود المرجح في نفس روايات الطهارة باعتبارها معللة للنجاسة بأنهم يأكلون الخنزير ويشربون الخمر أو يضعونها في آنيتهم ولا يتطهرون من النجاسات، ومعللة للطهارة بأنها تغسل يديها ونحوها، والمعلل يُقدَّم على المطلق لأنه يفسر وجوب الاجتناب وغسل الملاقي المذكور في روايات النجاسة ويفسر عدم وجوب الاجتناب في

ص: 520

روايات الطهارة فهي حاكمة على روايات النجاسة ومقدمة عليها ولا تصل النوبة إلى التعارض أصلاً.

الثانية: وجود ما سمّيناه في مسألة سابقة بالمرجح المساوي وقصدنا به الدليل الذي يكون مسوقاً لبيان حكم معين غير مادة التعارض –وهذه نكتة عدم شموله بالتعارض- ويستفاد منه حكم آخر في مادة التعارض، وهذا المرجح لإحدى الطائفتين يقتضي التصرف في ظهور الطائفة الأخرى وحملها على ما لا ينافي المجموعة الراجحة.

والمرجح المساوي في مسألتنا موجود ومتحقق بعدة وجوه:

1- الروايات الدالة على جواز النكاح المنقطع بالكتابية كصحيحة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في الرجل المؤمن يتزوج اليهودية والنصرانية، فقال: إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية؟ فقلت له: يكون له فيها الهوى، قال: إن فعل فليمنعها من شرب الخمر وأكل لحمالخنزير، واعلم أن عليه في دينه غضاضة)(1)

وخبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (سألته عن نكاح اليهودية والنصرانية، فقال: لا بأس به أما علمت أنه كان تحت طلحة بن عبيد الله يهودية على عهد النبي (صلی الله علیه و آله))(2).

بتقريبين:
اشارة

أ- إن الإمام (علیه السلام) نبّه معاوية في الصحيحة إلى منعها عن مباشرة النجاسات، وكان الأولى الإشارة إلى نجاستها الذاتية لو كانت موجودة.

ب- إن الروايات «على كثرتها واشتهارها وعمل الأصحاب بها لم

ص: 521


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالكفر،باب 2، ح1.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب ما يحرم بالكفر،باب5، ح4.

تتعرض للتنبيه على نجاستها، فإن الملابسات والملامسات التي تكون بين الزوج والزوجة لا تمكن مع نجاسة الزوجة ولم يتعرض في تلك النصوص للإشارة إلى ذلك»(1).

2- الروايات الدالة على تغسيل أهل الكتاب للميت المسلم إذا افتقد المماثل أو أحد المحارم كموثقة عمار بن موسى عن أبي عبد الله (علیه السلام) في حديث قال: (قلت: فإن مات رجلٌ مسلم، وليس معه رجل مسلم ولا امرأة مسلمة من ذوي قرابته ومعه رجال نصارى ونساء مسلمات ليس بينه وبينهن قرابة؟ قال: يغتسل النصارى ثم يغسّلونه فقد اضطر، وعن المرأة المسلمة تموت وليس معها امرأة مسلمة ولا رجل مسلم من ذوي قرابتها ومعها نصرانية ورجال مسلمون، قال: تغتسل النصرانية ثم تغسّلها)(2).

وموثقة عمرو بن خالد(3) عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (علیهم السلام) قال:(أتى رسول الله (صلی الله علیه و آله) نفرٌ فقالوا: إن امرأة توفيت معنا وليس معها ذو رحم، فقال: كيف صنعتم بها؟ فقالوا: صببنا عليها الماء صباً، فقال: أما وجدتم امرأة من أهل الكتاب تغسّلها؟ قالوا: لا، فقال: أفلا يممتموها)(4)، وهذا الحكم هو «المشهور كما عن جماعة. وعن التذكرة: أنه مذهب علمائنا. وفي الذكرى: لا أعلم لهذا مخالفاً من الأصحاب سوى المحقق في المعتبر»(5).

وقد حاول القائلون بنجاسة أهل الكتاب التخلص من إشكالية هذه

ص: 522


1- مستمسك العروة الوثقى: 1/376.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب تغسيل الميت، باب 19، ح1.
3- عمرو بن خالد هو أبو خالد الواسطي بحسب القرائن وقد وثّقه ابن فضال (راجع معجم رجال الحديث: 13/104).
4- الاستبصار، ج1، كتاب الطهارة، باب 118: الرجل يموت في السفر، ح14.
5- مستمسك العروة الوثقى: 4/92.

النصوص الدالة على طهارة الكتابي، فقال بعضهم: «إن نجاستهم - أي أهل الكتاب- لا تنافي صحة الغسل، إذ يمكن أن يكون الوجه في الصحة العفو عن هذه النجاسة أو عدم تنجس الماء المستعمل في الغسل ولا بدن الميت من مباشرته».

أقول: وقد أجبنا عن هذا الوجه - أي عدم الانفعال بملاقاة النجس- فيما سبق، أما احتمال العفو عن النجاسة فغير وارد لأن المطلوب التطهير ولو عجزوا عن الماء الطاهر فالوظيفة التيمم.

ثم ذكر أن كل الروايات الدالة على طهارة أهل الكتاب يمكن ترك العمل بها لإعراض الأصحاب عنها أما هذه فاعترف بأنه «لا يمكن فيها ذلك لما عرفت من عمل الأصحاب بها»(1).

أما السيد الحكيم (قدس سرّه) فإنه بعد أن ذكر أن «الإشكالات التي تتوجه على العمل بالنصوص ترجع إلى أمور: (الأول) عدم تأتّي النية من الكافر من جهة عدم اعتقاده بمشروعية التغسيل. (الثاني) عدم صلاحية الكافر للتقرب. (الثالث) أنها ضعيفة السند. (الرابع) أن الكافر نجس فلا يفيد غيره طهارة لان الفاقد لا يعطي» ودفعها جميعاً قال (قدس سرّه): «ويدفع الرابع: أنالكافر إنما يفيد غيره الطهارة بتوسط الماء، ولا مانع من تأثير الماء النجس في رفع حدث الميت وحصول الطهارة له، لاختلاف السنخ، فلا ينافي قاعدة (إن الفاقد لا يعطي). وأما الطهارة الخبثية الحاصلة من التغسيل. فلأنها من آثار ارتفاع الحدث لا من تأثير الماء النجس، لأن النجاسة الخبثية قائمة بالحدث فتزول بزوال موضوعها. وأما تنجس بدن الميت بالماء النجس، فلا يهم، لأن النجاسة عرضية، وهي أخف من النجاسة الذاتية الزائلة

ص: 523


1- فقه الصادق: 4/445، 446.

بالتغسيل»(1).

أقول: قد وصفنا هذه المحاولات بأنها لفك ضيق الخناق وإلا فإنه (قدس سرّه) يعلم أن من شروط رفع الحدث طهارة الماء المستعمل فكيف يكفي اختلاف السنخ في رفع الحدث بماء نجس، والله المسدِّد.

3- الفهم المرتكز لدى أصحاب الأئمة (علیهم السلام) لطهارة أهل الكتاب الذي تكشف عنه أسئلتهم فقد كانوا يثيرون المشكلة من جهة مباشرتهم للنجاسات كالخمر ولحم الخنزير ولو كانت نجاسة أهل الكتاب معروفة عندهم لسألوا من ناحيتها، والإمام (علیه السلام) كان يقرّ هذا الفهم عندهم ومن الروايات في هذا الباب … صحيحة معاوية بن عمار قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الثياب السابرية يعملها المجوس وهم أخباث وهم يشربون الخمر ونساؤهم على تلك الحال ألبسها، ولا أغسلها وأصلي فيها؟ قال: نعم، قال معاوية: فقطعت له قميصاً وخطته وفتلت له أزراراً ورداءً من السابري، ثم بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار، فكأنه عرف ما أريد فخرج بها إلى الجمعة)(2)

وغيرها.

ومن تطبيقاته أيضا ما جاء في الجزء الثالث (صفحة 68) في مسالة صوم المسافر ، اذ قال (دامت بركاته):ويرجّح المنع –على نحو ما قلناه في المرجح المساوي- ما ورد من عدم صوم ثلاثة أيام المسنونة لكل شهر في السفر وقضائها لاحقاً وهي من أوضح الصوم المندوب، فلو كان جائزاً لكان صوم الثلاثة أيام أولى من

ص: 524


1- مستمسك العروة الوثقى: 4/93.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 73، ح1.

مصاديقه، ومما ورد في ذلك موثقة(1) عبد الله بن سنان في حديث قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الرجل يصوم (صوماً وقد وقّته على نفسه أو يصوم من)(2)

أشهر الحرم فيمر به الشهر والشهران، يقضيه؟ قال: فقال: لا يصوم في السفر ولا يقضي شيئاً من صوم التطوع إلا الثلاثة الأيام التي كان يصومها في كل شهر، ولا يجعلها بمنزلة الواجب إلا أني أحب لك أن تدوم على العمل الصالح)(3).

المسألة الرابعة: تقديم المرجح المساوي على مرجحات باب التعارض.

بما ان نتيجة المرجح المساوي هو العمل بكلا الدليلين المتعارضين بتأويلهما فهذا يعني انه دليل خاص يعالج التعارض ويحله ؛ ولذا فانه يقدم على مرجحات باب التعارض ؛ ومن ثَمَ قال سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الخامس (صفحة 231) في مسالة ما تجب فيه الزكاة:

ما كررناه في ترتيب أساليب حل التعارض والجمع بين الروايات وتتقدمها رتبة الدليل الخاص وهو موجود في المقام، وكذا الجمع العرفي وكلاهما متقدمان على الحمل على التقية ونحوها من المرجحات فلا تصل النوبة إليها.

المسألة الخامسة: تعارض الشرطيتين بالعموم من وجه.

ناقش شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الثالث (صفحة 122) وما

ص: 525


1- في السند عمرو بن عثمان وهو مشترك بين الثقة وغيره، ويُعلم أنه الثقفي الثقة بقرينة الطبقة ورواية ابن فضال عنه (راجع رجال النجاشي).
2- هذه الزيادة رواها في ح6، باب10، أبواب من يصح منه الصوم، وتركها هنا.
3- وسائل الشيعة: كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 23، ح2.

بعدها مسالة سفر الصائم بعد الزوال ، وكان القول الأول في المسالة هو: اعتبار الزوال فان خرج قبله افطر ، وان خرج بعده صام ؛ استنادا الى روايات اسماها روايات الطائفة الأولى. فيما كان القول الثاني اعتبار تبييت النية وقصد السفر قبل الفجر فان بيتها وجب الإفطار في اَي وقت خرج والا فيصوم ، واستند هذا القول الى روايات اسماها بروايات الطائفة الثانية ، وكانت هناك أقوال أخرى في المسالة مناقشة.

اما هذان القولان المستندان الى الطائفتين ، فقد عرض سماحته عدة محاولات للجمع بينها ، وفي المحاولة الثانية طرح عدة اشكال للجمع و في الرابع منها بيّن انه في حالة تعارض احد المنطوقين مع المفهوم المستظهر من الاخر وبالعكس يجمع بينهما ب (او) اما اذا صرح بالمفهوم فلا ، اذ قال:

(الرابع): العمل بكلتا الطائفتين والأخذ بكلا الشرطين للإفطار على نحو البدلية أي بالجمع بينهما ب(أو) كما ذهب إليه صاحب الوسائل (قدس سرّه)، فيكفي تبييت النية أو الخروج قبل الزوال للزوم الإفطار، نظير ما قيل في الأخذ بعلامتي حد الترخص وهما خفاء الجدران وخفاء الأذان فيكتفى بتحقق أحدهما، جمعاً بين دليلي (إذا خفي الأذان فقصّر) و (إذا خفيت الجدران فقصّر).

وفيه: إن هذا النحو من الجمع إنما يمكن الأخذ به لو كان كلٌ من الدليلين متكفلاً ببيان أحد جزئي الحكم ويؤخذ الآخر من المفهوم كما في مثال حد الترخص، فيُقيَّد مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر.

أما في المقام فإن كلاً من جزئي الحكم مبيَّن في النص (إذا خرج قبل الزوال أفطر، وإذا خرج بعد الزوال أتم صومه) (إذا بيّت نية السفر أفطر، وإذا لم يبيّت أتم صومه) وهو ظاهر في كون هذا الشرط سبباً وحيداً للإفطار والصوم لجعله وحده المناط فيهما نفياً وإثباتاً، فلا يقبل الجمعمع

ص: 526

أي سبب آخر، وإذا ورد دليل على سبب آخر فيكون معارضاً له.

وفي الشكل الخامس من اشكال الجمع قال (دامت بركاته):

(الخامس): الأخذ بكلا الشرطين في جانب الإفطار أيضاً ولكن بضمهما وجمعهما ب(و)، ويكون كل منهما جزء السبب، فيكون شرط الإفطار تبييت النية والخروج قبل الزوال معاً، فإذا تخلّف أحدهما أو كلاهما وجب إتمام الصوم، وهو قول مدرسة الشيخ الطوسي (قدس سرّه) في المبسوط كما تقدم.

ووجه مثل هذه الأشكال من الجمع ما عُبِّر عنه بأن (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح)(1) ونحوه من الحرص على العمل بما صحّ من روايات أهل البيت (علیهم السلام) والتوفيق بينها بما يمكن من المحامل.

وفيه:-

1- إن قاعدة (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) محكومة بقواعد الجمع من كونه عرفياً جارياً لدى أهل المحاورة ومستنداً إلى قرائن، ولا يصح أي جمع ولو كان تبرعياً، والجمع المذكور مما تأباه نصوص الطائفتين؛ لأن كلاً من الشرطين قد ذُكر بجزئيه نفياً وإثباتاً، وهو ظاهر في كون هذا الشرط سبباً تاماً للإفطار والصوم، ولا يقبل الانضمام إلى أي سبب آخر، كالذي قلناه عن الجمع ب(أو)، وإذا ورد دليل على سبب آخر فيكون معارضاً له، نعم لو ذُكر أحد شقّي الشرط وحُصِّل الآخر من المفهوم أمكن فرض تقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر.

2- إن أصحاب هذا القول لم يبيّنوا لنا الوجه في اختيار الجمع بين السببين في جانب الإفطار، ولم يجمعوا بينهما في جانب الصوم فيشترطون الخروج بعد الزوال وعدم تبييت النية معاً لوجوب إتمام

ص: 527


1- نسبت الكلمة إلى ابن أبي جمهور الأحسائي صاحب كتاب (غوالي اللئالي).

الصوم.وتظهر الثمرة في تخلف أحدهما، فعلى ما قالوه يلزم إتمام الصوم، وعلى الآخر يلزم الإفطار، وكلا الشقين منصوصان، ولا وجه لتقديم أحد اللحاظين على الآخر.

وكان شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) قد بيّن في الجزء السادس (صفحة 142) عند علاج التعارض بين الروايات في مسالة زواج المرأة في عدتها ، ان تعارض منطوق الدليل مع المفهوم المستظهر من الاخر وبالعكس يجمع بينهما ب (او) ، اذ قال:

والصحيح في الجمع بحسب ما يفهمه العرف أن يأخذ بالجزء الايجابي من كل من الطائفتين ويقيد الجزء السلبي من كل منهما بالجزء الايجابي من الآخر كما لو لم يبين في المنطوق وإنما أخذ من المفهوم، فالطائفة الثالثة تؤول إلى قضية (إذا تحقق الدخول تحرم) والطائفة الرابعة تؤول إلى (إذا تحقق العلم تحرم) وفي مثلها تكون نتيجة الجمع بين السببين ب(أو) أي (إذا تحقق الدخول أو العلم فتحرم) نظير الجمع بين خطابي (إذا خفيت الجدران فقصر) و(إذا خفي الآذان فقصر) ويكون الموجب للحرمة احد الأمرين (الدخول، العلم) فضلاً عن انضمامهما، وتكون حينئذٍ ثلاث حالات محرمة هي حالة اجتماعهما أو وجود أحدهما وحالة غير محرمة وهي صورة انتفائهما معاً وهو مضمون الطائفة الخامسة الآتية، ولحن الروايات لا يأبى ذلك فصحيحة علي بن جعفر في الطائفة الثالثة التي قالت بالحلية في صورة عدم الدخول يلوح منها جهل المرأة فإنها اعتدّت بوضع الحمل ولم تكن تعلم أن عدة الوفاة ليست كعدة الطلاق وان الآية الشريفة (وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (الطلاق: من الآية4) خاصة بعدة الطلاق أما الوفاة فعدتها ابعد الأجلين.

ص: 528

كما جاء في الجزء العاشر (صفحة 361) في مسالة التذكية بمكائن الذبح الحديثة:

وقال عنه المحقق (قدس سرّه) في الشرائع: «وهو أشبه» بالأصول والقواعد المتبعة باعتبار أنه إذا وردت قضيتان شرطيتان منفصلتان بينهما عموم منوجه فإنه يقيد مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى التقييد المعبّر عنه ب(أو) وليس ب(و) وبتعبير أوضح: إن القواعد المتبعة في مثل المقام أي حينما ترد علامتان منفصلتان لموضوع معين في النصوص - وهو هنا ما يدل على كون الحيوان حياً- يجمع بينهما ب(أو) لا ب(و) كما في علامتي حد الترخّص.

المسألة السادسة: الجمع أولى من الطرح.

تقدم في المسألة السابقة ان الجمع بين الروايات أولى من طرح بعضها ، ولكن بشرط ان يكون هذا الجمع عرفيا ، وقد ذكر سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) هذه القاعدة في الجزء الثاني (صفحة 388) في مسالة صلاة الرجل والمرأة متحاذيين ، مضيفًا ان الجمع الذي لا يستلزم طرح اَي رواية أولى من الجمع الذي يستلزم طرح بعض الروايات ، اذ قال:

وأفاد صاحب الجواهر (قدس سرّه) مرجحاً آخر «لأدلة الجواز زائداً على الأصل والإطلاقات والشهرة المتأخرة وغير ذلك مما عرفته، وهو أنه بناءً على العمل بها يتجه حمل نصوص المنع على الكراهة التي هي مجاز شائع حتى ادعي مساواته للحقيقة، بخلاف العكس المقتضي لطرح أدلة الجواز التي هي أكثر عدداً وأوضح سنداً بل ودلالة»(1).

ص: 529


1- جواهر الكلام: 8/308.

وفيه عدة تعليقات:

أحدها: أن الجمع الذي ذكرناه لم يستلزم طرح أدلة الجواز وإنما استظهرنا منها معاني لا تنافي ما اخترناه فهو أولى من الجمع الذي اختاره (قدس سرّه)

وثانيها: أن أدلة الجواز ليست كما وصف (قدس سرّه).

المسألة السابعة: حمل الظاهر على النص.

اذا تعارض دليلان ولكن كان احدهما نصا في معناه بينما كان الآخر ظاهرًا ، فان العرف يحمل الظاهر على النص ، كما لو كان عندنا دليل نص في الإباحة ، واخر ظاهر في المنع فنحمل الثاني على الكراهة.

ومن تطبيقات هذه المسالة ما جاء في الجزء السادس (صفحة 284) في مسالة حكم العقد المنقطع على الباكر دون اذن وليها ، اذ قال (دامت بركاته):

حمل روايات المنع على الكراهة وهو مقتضى القاعدة عند اجتماعها مع ما يدل على الجواز ويدعم هذا الاتجاه روايات عديدة كان الإمام (علیه السلام) فيها ينفر أصحابه عن الزواج المنقطع ففي صحيحة علي بن يقطين قال: (سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن المتعة فقال: ما أنت وذاك قد أغناك الله عنها)(1)

وكانوا ينهون أصحابهم عن الإلحاح في المتعة لما يترتب على ذلك من محاذير أخلاقية واجتماعية ويطلبون منهم الاكتفاء بها ضمن الموارد التي ذكروا فيها مصالح معينة فقد كتب أبو الحسن (علیه السلام) إلى بعض مواليه: (لا تلحّوا على المتعة إنما عليكم إقامة السنة فلا تشتغلوا بها عن فرشكم

ص: 530


1- وسائل الشيعة:كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب5، ح1، وروايات أخرى في نفس الباب.

وحرائركم فيكفرن ويتبرّين ويدعين على الآمر بذلك ويلعنونا)(1)

وعن المفضل قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول في المتعة: (دعوها أما يستحيي أحدكم أن يُرى في موضع العورة فيحمل ذلك على صالحي إخوانه وأصحابه)(2) .

المسألة الثامنة: الحكومة.

للحكومة معنى اصطلاحي خاص واخر اعم ، فالمراد من الحكومة في علم الأصول تقديم احد الدليلين على الاخر ، فاذا كان ملاك التقديم نظر الدليل الحاكم الى المحكوم كانت حكومة بالمعنى الإصلاحي ، ولكن قد يطلق لفظ الحكومة ويراد به تقديم الخاص على العام او المطلق على المقيد.

وقد بيّن سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) المعنى الاصطلاحي للحكومة في الجزء الخامس (صفحة 467) في مسالة زكاة أموال الصغير ، اذ قال:

الأول: الحكومة، قال المحقق الهمداني (قدس سرّه): «أما العمومات فيجب تخصيصها بالمستفيضة المصرحة بأنه (ليس في مال اليتيم زكاة) الحاكمة على تلك العمومات وكون النسبة بين الأخبار النافية وبين العمومات المثبتة الواردة في كل نوع من الأجناس كالغلات والمواشي وغيرهما العموم وجه غير قادح بعد ما أشرنا إليه من حكومة تلك الأخبار على الأدلة المثبتة ولذا لا يتوهم أحد ممن سمع بهذه الأخبار المعارضة بينهما»(3)

وأيده السيد الخوئي (قدس سرّه) قال: «ولو سلّمنا أن النسبة عموم من وجه،

ص: 531


1- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 5، ح4، 3.
2- وسائل الشيعة: كتاب النكاح، أبواب المتعة، باب 5، ح4، 3.
3- مصباح الفقيه: 4/4.

كان الترجيح مع هذه الرواية لأنها بلسان الحكومة كما لا يخفى»(1).

أقول: إن أرادا الحكومة بمعناها المصطلح فليس لسان الدليل النافي لسان حكومة؛ لأن الحكومة تعني نظر الدليل الحاكم إلى موضوع الدليل المحكوم بصورة غير مباشرة كما يقال، وذلك بأن يُنظر إلى حيثية لم يتعرض لها دليل المحكوم، لكنها تتصرف في موضوعه، ونكتة التقدم أن الحاكم سيكون بمنزلة الشارح للمراد من المحكوم، بل يكون كالمصحح لما يفهمه المتلقي من دليل المحكوم. فإذا قال المولى: (أكرم العلماء)فإن المتلقي يعتقد وجوب إكرام كل عالم، فإذا ورد دليل آخر يقول فيه: (الفاسق ليس بعالم) أو (النسّابة ليس بعالم) أو (المتقي عالم) فهذا بيان لمراد المتكلم وتصحيح لفهم المتلقي توسيعاً أو تضييقاً، ويتصرف في موضوع الدليل المحكوم من دون أن يتعرض لنفس قضيته وهو وجوب الإكرام.

وهذه النكتة غير موجودة هنا لأن دليل النفي يتعرض لنفس قضية دليل الإثبات وهي الزكاة على مال اليتيم، نعم لو كان لسان الدليل النافي (الصغير لا يملك) مثلاً فإنه سيكون مورداً للحكومة؛ لأن الزكاة لا تجب إلا في الملك، أو ورد (ليس على اليتيم زكاة) فإنه من الحكومة لأن الموضوع هو اليتيم وليس المال فتكون الحيثية الملحوظة في الحاكم غيرها في المحكوم.

وإن أرادا من الحكومة معناها العام أي مطلق تصرف الحاكم بالمحكوم فيشمل التخصيص وغيره، فهو صحيح ويمكن انطباقه على بعض الوجوه الآتية.

ص: 532


1- المستند في شرح العروة الوثقى: 23/8.
المسألة التاسعة: تقدم المانع على المقتضي.

من موارد الجمع العرفي التي لم يسلط الضوء عليها كثيرا تقديم المانع على المقتضي: فاذا ورد دليلان يثبت احدهما الحكم لشيء بسبب وجود المقتضي بينما ينفي الاخر الحكم عن ذلك الشيء بسبب وجود المانع ، فلا يعد هذا تعارضا بنظر العرف ؛ لان المانع يقدم على المقتضي.

واعتبر الشيخ المنتظري (قدس سرّه) عدم ثبوت الزكاة في مال اليتيم من تطبيقات هذه المسالة ، الا ان شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) وافق على كبرى تقديم المانع على المقتضي وناقش في التطبيق.

جاء هذا الكلام في الجزء الخامس (صفحة 469) في مسالة زكاة أموال الصغير ، اذ جاءفيه:

أحدهما: للشيخ المنتظري (قدس سرّه) قال: «إن لسان أدلة الزكاة لسان الاقتضاء للزكاة ولسان قوله: (لا زكاة في مال اليتيم) لسان بيان المانع عنها، وفي أمثال ذلك يحكم العرف بتقديم الثاني، فيكون المراد أن اليتم مانع من تعلق الزكاة مطلقاً»(1)

وقال (قدس سرّه) في موضع آخر: «إن وجود المال مقتضٍ للزكاة، واليتم مانع عنها وفي أمثال ذلك يقدَّم الدليل المانع عرفاً، فهذا جمع عرفي يحكم به العرف بمناسبة الحكم والموضوع»(2) .

أقول: الكبرى تامة إذ لا شك في تقديم المانع على المقتضي ومنعه من التأثير، لكن كون العلاقة بين الدليلين كما بين المقتضي والمانع محل النزاع بشهادة النقض الذي ذكرناه آنفاً.

ص: 533


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سرّه): 1/30-32.
2- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري (قدس سرّه): 1/30-32.
المسألة العاشرة: تعارض المطلقين في إطلاقهما.

قد لا يكون هناك تنافٍ بين نفس مدلولي الدليلين ولكن يكون التنافي بين اطلاقيهما ، وفي هذه الحالة نرفع اليد عن اطلاق كل من الدليلين ، وهذا ما بيّنه سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الثالث (صفحة 143) في مسالة صوم المسافر ، اذ قال:

(التاسع) أن نجرّد كلا الطائفتين من إطلاقيهما، باعتبار أن من مقدمات الحكمة التي يثبت بها الإطلاق: عدم البيان، وفي المقام تصلح كل طائفة بياناً يمنع من استمرار الإطلاق في المقدار الذي ينافي الطائفة الأخرى بعد أن انعقد ابتداءً لعدم ورود المقيِّد، فتكون كل قضية مهملة في هذا المقدار وتتحول إلى قضية موجبة جزئية بالقدر الذي لا يتنافى مع الطائفة الأولى، فمن سافر قبل الزوال أفطر ولكن ليس مطلقاً كما إذا لم يبيت وتكون ساكتة عن محل الاستثناء، ومن سافر بعد الزوال صام ولكنليس مطلقاً كما إذا بيّت حيث تكون مهملة في هذا المستثنى.

نعم من سافر قبل الزوال وبيّت النية أفطر جزماً، ومن سافر بعد الزوال ولم يبيت صام جزماً لأنهما قدر متيقن تشترك فيه الطائفتان، وبذلك يزول التعارض من أصله لزوال موضوعه وهو إطلاق الطائفتين.

إن قلتَ: قد تقدم أن تقييد كل من الطائفتين بالأخرى محال للزوم التناقض، فهذا الوجه محال.

قلتُ: هذا الوجه لا يُلزِم بتقييد كل من الطائفتين بالأخرى، بل يقف عند عدم الأخذ بإطلاقيهما، فبين الوجهين فرق، ولا توجد استحالة في ما ذكرناه.

ص: 534

المسألة الحادية عشرة: انقلاب النسبة.

من الأبحاث التي تناولها علم الأصول مبحث انقلاب النسبة بين الأدلة بمعنى انه لو كان هناك تعارض بين دليلين متباينين مثل (اكرم العلماء) و (لا تكرم العلماء) ثم جاء دليل مخصص للأول مثل (لا تكرم علماء الأنساب) ، فقيل بان النسبة بين الأولين ستنقلب من التباين الى العموم والخصوص المطلق.

ولقد ناقش شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) هذه الكبرى في الجزء الحادي عشر (صفحة 329 -330) في مسالة ارث الزوجة من العقار ، اذ قال:

(الخامس) كبرى انقلاب النسبة:

عندنا ثلاث طوائف من الروايات:-

1- عمومات استحقاق الزوجة من كل ما ترك الزوج.

2- روايات حرمان الزوجة مطلقاً.1- مقطوعة ابن أذينة (1).

وقد حاول البعض الوصول إلى حكم التفصيل في الزوجة بين ذات الولد وغيرها بتطبيق كبرى انقلاب النسبة؛ فقد حكى السيد محمد بحر العلوم (1261 -1326) ما «قد توهمه بعض المعاصرين من تخصيص المطلقات بغير ذات الولد مع قطع النظر عن مقطوعة ابن أذينة» أي الاستدلال على التفصيل بين الزوجة ذات الولد وغير ذات الولد وذلك بالاستفادة من كبرى انقلاب النسبة ويراد بها أنه قد يوجد متعارضان ويرد عليهما دليل نسبته إلى أحدهما العموم والخصوص المطلق، فإذا أعملنا هذه العلاقة بينهما انقلبت النسبة بين نتيجة العام بعد تخصيصه والعام الآخر بحيث

ص: 535


1- مقطوعة ابن أذينة: التي رواها الشيخ الصدوق في الفقيه بسنده عن ابن أبي عمير، والشيخ في التهذيب والاستبصار بسنده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة (في النساء إذا كان لهن ولد أعطين من الرباع)

يزول التعارض بينهما، قال (قدس سرّه) في شرح هذه الكبرى: «لو ورد عن المولى الأمر بإكرام العلماء وورد عنه النهي عن إكرامهم، وورد عنه: لا تكرم النحويين، فالتعارض بين أكرم العلماء، ولا تكرم العلماء من تعارض المتباينين، إلا أنه بعد تخصيص عموم (أكرم العلماء) بخصوص النهي عن إكرام النحويين، لكونه أخص منه مطلقاً، انقلبت النسبة بين عموم (أكرم العلماء) بعد إخراج من خرج منهم بالخاص، وبين عموم (لا تكرم العلماء) إلى العموم والخصوص المطلق، فيحمل العام منهما على الخاص، المنتج بعد الحمل عليه لوجوب إكرام غير النحويين من العلماء، وحرمة إكرام النحويين منهم، وفيما نحن فيه كذلك»(1).

أقول: يوجد تقريبان للاستدلال بهذه الكبرى هنا بحسب وضع طرفي النسبة:أحدهما: ما ذكره السيد بحر العلوم من تقريب للمتوهم من دون المرور بمقطوعة ابن أذينة «بدعوى اقتضاء الترتيب في علاج الأخبار المتعارضة، وذلك بتقريب أن الأخبار الآمرة بإرثها مطلقاً من كل شيء، مخصصة –أولاً- بالإجماع على حرمان غير ذات الولد، الخارجة به عن عمومها، وبعده تنقلب النسبة، وتكون بينها وبين المطلقات النافية للإرث نسبة العام والخاص المطلق، فتخصص تلك المطلقات بها، المنتج للتفصيل بعد الحمل عليه»(2).

أقول: يرد على الكبرى:-

1- عدم صحة انقلاب النسبة لعدم مساعدة العرف عليها، فإنه لا يجمع بين الخطابات بهذه الطريقة التي هي أقرب إلى العمليات الحسابية، وليس

ص: 536


1- بلغة الفقيه: 3/100.
2- بلغة الفقيه: 3/99-100، وأورد هذا التقريب الشيخ محمد تقي البروجردي في رسالته (نخبة الأفكار في حرمان الزوجة من الأراضي والعقار)، ص 14، وقد حررها سنة 1361 ه).

في النصوص ما يدل على ترتيبها وأي منها ورد بلحاظ الآخر، كما في المقام إذ رُتِّب العامان مع الخاص في التقريب الأول بنحو متباين مع ما في التقريب الثاني. نعم لو لاحظنا زمان صدور النصوص وعرفنا المتقدم والمتأخر أمكن معالجة الأول بالثاني وهو مبنى آخر غير انقلاب النسبة.

إن العام يبقى على ظهوره بعد التخصيص، ولا ينقلب إلى ظهور آخر كما تفترض هذه الكبرى من ملاحظة الظهور الجديد بعد التخصيص، وملاحظة النسبة بين الأخبار إنما هو بين ظهوراتها، وقد علمنا أن نسبة ظهور العام إلى كل واحد من الأدلة الأخرى باقية كما هي نسبة واحدة، فعمومات توريث الزوجة مطلقاً لها مخصّصان في مفروض المسألة وهما الإجماع والأخبار النافية الأول بلحاظ الموضوع وهي الزوجة والثاني بلحاظ الحكم وهو الحرمان من العقار فيعمل بهما معاً، إلا1- أن يوجد مانع كتخصيص الأكثر وهو قبيح أو إلغاء العام بالكلية فيقع التعارض بينه وبينها، ولا وجه لملاحظة النسبة بين العام وبعضها ثم ملاحظة النسبة بين الباقي بعد التخصيص وبين البعض الآخر منها.

2- إن هذه العملية غير مثمرة ولا تأت بجديد، ففي المثال المفروض خرج بنتيجة تخصيص (أكرم العلماء) ب(لا تكرم النحويين) وهو جمع عرفي اعتيادي لا علاقة له بالنظرية، وحمل (لا تكرم العلماء) على النحويين وهو يحتاج إلى قرينة وشاهد ولا يكفي فيه تطبيق هذه النظرية لعدم عرفيتها، ولعدم التنافي بين (لا تكرم العلماء) و (لا تكرم النحويين) حتى تحمل عليه، وإلا فإنه يمكن أخذ حصة من (أكرم العلماء) مثل (أكرم الفقهاء) وجعلها مخصصاً للعام الآخر (لا تكرم العلماء). وحقيقة ما جرى أن خطاب (لا تكرم النحويين) أصبح شاهد جمع بين

ص: 537

الخطابين المتعارضين ويعود الإشكال إلى كونه تبرعياً.

ويرد على الصغرى:-

1- إن روايات المسألة ليست صغرى لانقلاب النسبة التي تفترض التعارض بين العامين؛ لأن النسبة بين العمومات المورّثة والنافية هي العموم والخصوص المطلق وليس التعارض كما هو واضح، ويبدو أن رواج هذه النظرية يومئذٍ دفعهم إلى حشرها في المقام أما المقطوعة فهي جزئية داخلة في عمومات التوريث وحصة منها، نعم مفهومها مخصِّص لهذه العمومات لكننا قلنا أنها لا مفهوم لها إلا في الجملة.

2- ولو تنزلنا فإن العملية لا محصّل منها؛ لأن نتيجتها نفس معقد الإجماع الذي استدل به.

إن الإجماع مدركي ولا يوجد إجماع بمعزل عن الأخبار ولولا مقطوعة ابن أذينة فإنه لا يوجد عندنا مثل هذا التفصيل أصلاً، وهذا خلاف فرضه بالاستغناء عن المقطوعة. بل لا يوجد إجماع على شيء إلا أصل الحكم في الجملة فلا وجه1- للاستدلال به وإنما يجب ملاحظة مدركه، وهذا ما قررناه في أول البحث، فلم يحرم الشيخ الصدوق والسيد المرتضى الزوجة من شيء سوى تعويض حقها في عين العقار بالقيمة، مع تخصيص الشيخ الصدوق الحكم بغير ذات الولد، وحكي الخلاف عن ابن الجنيد وصاحب الدعائم في أصل الحكم.

2- إن مقتضى هذه العملية عدم العمل بروايات الحرمان مطلقاً؛ لأن توريث ذات الولد كان بعمومات التوريث، ومنع غير ذات الولد كان بالإجماع، وإلغاء روايات الحرمان مشكل.

3- «منع انقلاب النسبة بعد التخصيص بالإجماع إلى كون المورِّثة مطلقاً أخص مطلقاً من النافية، بل الانقلاب إلى العموم من وجه؛ وذلك لأنّ

ص: 538

المورِّثة وإن كان موضوعها -بعد التخصيص بالإجماع- هو خصوص ذات الولد، فتكون أخص من النافية من هذه الجهة؛ لأنّ موضوع النافية الزوجة أو النساء أو نحو ذلك إلاّ أنّها أعم من وجه آخر؛ للحكم فيها بالتوريث من كلّ شيء مطلقاً، بينما روايات الحرمان تنفي استحقاقها من العقار خاصة، نعم لو كان الحكم في كليهما على موضوع واحد وهي ذات الولد مع الاختلاف المذكور بين الحكمين كان اللازم تقديم المفصِّلة؛ فإنّه أخص، نعم احتمل بعضهم أنه حتى لو كان بينهما العموم من وجه فالتقديم لو قلنا به يكون للنافية، لكونها أظهر وأكثر وأشهر»(1).

هذا وقد أجاب السيد بحر العلوم (قدس سرّه) عن الاستدلال على التفصيل بكبرى انقلاب النسبة بقوله: «إلا أنه توهم فاسد، وإن كانت الكلية مسلّمة في التخصيص بالمتصل وما يجري مجراه من كلام الأئمة (علیهم السلام) المنزل منزلة كلام واحد من متكلم واحد، إلا أنها لا تجري في المقام، لعدم قيامالإجماع عليه بعنوانه المخصوص، والأخذ بالقدر المتيقن لا يكشف عن رأي المعصوم عليه، فلعل رأيه موافق لما يعمه، وعليه فيكون مبايناً لتلك الإخبار لا أخص منه، وهو واضح».

أقول: يرد عليه:-

1- تسليمه صحة الكبرى في المخصص المتصل لا موضوع له لأن الكبرى موضوعها المخصِّص المنفصل ففرض المتصل خارج عن الموضوع لأن الظهور ينعقد مباشرة في المخصَّص.

2- ما ذكره (قدس سرّه) من المناقشة في الإجماع عودة إلى الأخبار، وإلا فإنه لا يشترط في القدر المتيقن أن يكون بشرط لا عن غيره.

ص: 539


1- السيد الحكيم (قدس سرّه)، مصدر سابق، العدد 43، صفحة 200.

ثانيهما: ما ذكره بعض الأعلام المعاصرين لتقريب الاستدلال على قول الشيخ الصدوق (قدس سرّه) المتقدم (1)،

وبمساعدة مقطوعة ابن أذينة، قال: «نعم، لو قلنا بمبنى انقلاب النسبة أمكن أن يقال في المقام بأن روايات الحرمان بعد تخصيصها برواية ابن أذينة تكون أخص من رواية ابن أبي يعفور (2)؛

لأنها تختص بغير ذات الولد وتثبت حرمانها من إرث الأرض عيناً وقيمة، ورواية ابن أبي يعفور تشمل ذات الولد وغيرها وتنفي الحرمان فيهما مطلقاً، فبناءً على قبول كبرى انقلاب النسبة لا بد من تخصيص رواية ابن أبي يعفور وإخراج غير ذات الولد من عمومهابمقتضى روايات الحرمان بعد اختصاصها بغير ذات الولد»(3).

أقول: في هذا التقريب تعديل للتقريب الأول بتغيير أطراف مرحلتي تطبيق الكبرى وترك الاستدلال بالإجماع والرجوع إلى المقطوعة وكأنه التفت إلى بعض ما أوردناه من الإشكالات، ولعله لما ذكرناه من عدم جدوى التقريب الأول ومع ذلك فإنه ترد عليه جملة الإشكالات المتقدمة:-

1- عدم صحة كبرى انقلاب النسبة.

2- الإشكالات الكثيرة المتقدمة على تخصيص روايات الحرمان بمقطوعة ابن أذينة.

ص: 540


1- قال الشيخ الصدوق تعليقاً على الصحيحة: «هذا إذا كان لها منه ولد أما إذا لم يكن لها منه ولد فلا ترث من الأصول إلا قيمتها، وتصديق ذلك ما رواه محمد بن أبي عمير عن ابن أذينة».
2- ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سألته عن الرجل هل يرث من دار امرأته أو أرضها من التربة شيئاً؟ أو يكون في ذلك بمنزلة المرأة فلا يرث من ذلك شيئاً؟ فقال: يرثها وترثه من كل شيء ترك وتركت). من لا يحضره الفقيه: 4/ 349.
3- السيد محمود الهاشمي، مصدر سابق، العدد 46، صفحة 23-24.

3- إباء صحيحة ابن أبي يعفور لحملها على ذات الولد خاصة لأن فيه إخراجاً لمورد السؤال وهي غير ذات الولد كما قدّمنا.

4- عدم جدوى العملية لأن النتيجة التي وصل إليها وهي أن (ذات الولد ترث من الرباع) هو عين ما بدأ به أولاً وهي مقطوعة ابن أذينة.

وفي الحقيقة فإن ما قام به هو جعل المقطوعة شاهد جمع بين الطائفتين بحمل الروايات المورّثة على ذات الولد وروايات الحرمان على غيرها، وقد قلنا أنه غير تام لأن المقطوعة لا مفهوم لها.

وكان شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) قد قال ببطلان كبرى انقلاب النسبة في الجزء التاسع (صفحة 197) في مسالة المشاركة في ولاية الجائر ، اذ قال:

أقول: ظهر من بطلان القول بانقلاب النسبة عدم وجود دليل على الاستحباب النفسي خصوصاً عند القائل بالحرمة الذاتية، فإذا ثبت الوجوب المقدمي بنحو أو بآخر فلا يوجد معه استحباب نفسي له بعنوانه، نعم يمكن تقريب الاستحباب النفسي باعتبار أن هذا الوجوب المقدمي كفائي ولا يتعين على أحد، ولما كان طاعة في نفسه فيستحب التنافس فيهوالمبادرة إليه.

المسألة الثانية عشرة: المدار في التقييد والتخصيص على الظهور.

بحث علماء الأصول المدار في مسالة التقييد والتخصيص ، واختلفوا في ان الخاص يخصص لاخصيته ام لقوة ظهوره ، وكذا البحث في التقييد.

والظاهر من بعض كلمات شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) انه يبني على ان اقوائية الظهور هي المدار في التخصيص والتقييد ، فالخاص لا يخصص بما هو خاص بل بما هو اظهر.

وهذا ما فهمناه مما جاء في بحث روايات من بلغ ، والذي جاء فيه:

ص: 541

إن الاستحباب الناشئ من القاعدة بحسب ما عرضوه لمّا كان مبنياً على التسامح فلا يصلح أن يتصرف في ما ثبت بدليل معتبر كتخصيص العام أو تقييد المطلق لأنه ليس أقوى ظهوراً منها.

ص: 542

التعارض المستقر
اشارة

في حالات الجمع العرفي والتعارض غير المستقر يتم الأخذ بكلا الدليلين ويبنى على صدورهما معا ، غايته يتم التصرف في ظهور احدهما او كليهما.

اما في التعارض المستقر فيتم الأخذ بأحد الدليلين فقط ، ويبنى على صدور احدهما وعدم صدور الاخر. والمرجح للقول بصدور احد الدليلين دون الاخر روايات الترجيح خاصة ، ولكن حصل الأشكال في تحديد هذه المرجحات و تقديم اَيها على الاخر ، وسنذكر ما جاء عن هذا الموضوع في فقه الخلاف في ضمن احدى عشرة مسالة:

المسألة الأولى: التعارض فرع الحجية.

المسألة الثانية: الشهرة المرجحة.

المسألة الثالثة: مدخلية الشهرة الفتوائية في الترجيح.

المسألة الرابعة: الترجيح بين الأكثر والأقل.

المسألة الخامسة: موافقة الكتاب الكريم.

المسألة السادسة: تقدم الترجيح بموافقة الكتاب على باقي المرجحات.

المسألة السابعة: الجمع بين الروايات المختلفة في التحديدات.

المسألة الثامنة: الرجوع للعموم الفوقاني.

المسألة التاسعة: الترجيح لخبر الامام المتأخر زماناً.

المسألة العاشرة: تعارض الدليلين المثبتين.

المسألة الحادية عشرة: تقدم أصالة الجهة على أصالة الظهور.

ص: 543

والتفصيل في هذه المسائل:

المسألة الأولى: التعارض فرع الحجية.

لكي نقول بوجود التعارض بين مدلولي دليلين يجب ان نثبت في المرتبة السابقة ان كلا الدليلين حجة ، كما اننا لا يمكن ان ننتقل الى المرجحات الا اذا امتنع الجمع العرفي ، فيكون الترتيب هو: حجية الدليلين المتعارضين ثم عدم امكان الجمع العرفي ثم اعمال المرجحات ، وهذا ما بيّنه شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الأول (صفحة 308) في مسالة طهارة غير المسلمين ، اذ قال:

أقول: إذا كان هذا الإعراض معتبراً بأن كان تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم (علیه السلام) - وسنناقشه إن شاء الله تعالى- فلابد أن يُتعامل معه على النحو الثاني لا الأول، لأن الإعراض المعتبر يلغي حجية الخبر فلا يعود حجة حتى نفترض التعارض بينه وبين الحجة الأخرى، ولو كان الإعراض من النحو الأول لما وصلت النوبة إليه لأن الترجيح بين المتعارضين لا يصحّ إلا إذا استحكم التعارض، أو قل: إن التعارض بين الدليلين واستعمال المرجّحات فرع ثبوت حجيتهما وعدم إمكان الجمع العرفي بينهما. والمفروض إمكان الجمع العرفي بينهما في المقام فلابد من تقديم المانع عن الأخذ بهذا الجمع في المرتبة السابقة عن حجيتها، فبين النحوين رتبتان وإن الجمع العرفي كأسلوب للتعاطي مع الروايات المتعارضة بدواً معروف بين الأصحاب.

ومن هنا يظهر الإشكال على منهجية بحث المسألة عند صاحب الحدائق والشيخ الأنصاري (قدس الله سريهما) وغيرهما الذين تعاملوا مع إعراض الأصحاب عن نصوص الطهارة كمرجح وهي مرتبة لاحقة للحجية وإمكان الجمع العرفي بينهما، فالصحيح اعتبار إعراض الأصحاب قادحاً في حجية

ص: 544

روايات الطهارة.

المسألة الثانية: الشهرة المرجحة.

مما لا اشكال فيه ان الشهرة لاحد الدليلين تعد من المرجحات ، ولكن للشهرة انحاء عدة فهناك شهرة فتوائية وثانية عملية وثالثة روائية ، وكثيرا ما يحصل الخلط في التطبيق فيرجح احد الدليلين بسبب الشهرة الفتوائية مع ان المرجح هو الشهرة الروائية حصرا ، ومن الموارد التي ذكر فيها شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) هذه المسالة:

1- ما جاء في الجزء الثالث (صفحة 270) في مسالة صوم المسافر ، اذ قال:

ان هذه الشهرة فتوائية فلا تصلح للترجيح الذي يتحقق بالشهرة الروائية وهي متحققة في الطائفة الثانية بما لا يقل عن الأولى.

إن الشهرة إنما تكون مرجحة في ما لو أعرض الأصحاب عن الطائفة الأخرى بحيث كانت من الشاذ النادر، وكان إعراضهم تعبدياً، وروايات الطائفة الثانية لم يعرض عنها الأصحاب حتى من لم يعمل بها فإنه تأوّلها واجتهد في فهمها على غير ظاهرها جمعاً بينهما وبين الطائفة الأولى.

فالشهرة التي تمسكوا بها في المقام غير معتبرة.

2- ما جاء في الجزء العاشر (صفحة 237) في مسالة حلية السمك اذا مات في الماء محبوسًا:

ان الطائفة الثانية ليست أقل شهرة من الأولى عند الأصحاب إلا أنه لم يشتهر العمل بها فالشهرة فتوائية لا روائية والثانية هي المرجحة في باب التعارض.

3- ما جاء في الجزء الأول (صفحة 312) في مسالة طهارة غير المسلمين:

ص: 545

إن الشهرة المرجحة في باب التعارض هي الشهرة الروائية لا الفتوائية وشهرة العمل بأحد المتعارضين، والموجودة في المقام الثانية لا الأولى فإن الروايات الدالة على الطهارة لا تقل شهرة عن الأخرى.

المسألة الثالثة: مدخلية الشهرة الفتوائية في الترجيح.

مع اننا عرفنا فيما سبق ان الشهرة الروائية هي المرجحة لاحد الدليلين على الاخر ، الا ان شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) ابرز نكتة مهمة في الجزء السادس (صفحة 257) في مسالة حكم العقد المنقطع على الباكر من دون اذن وليها مفادها ان الشهرة الفتوائية قد تكون مرجحة ولكن بصورة غير مباشرة ، وذلك بتحديد الشاذ النادر ؛ فان ما أفتى على طبقه الاصحاب لا يسمى شاذا نادرا ، والشهرة الروائية تكون في قبال الشاذ النادر ، اذ قال:

لا حاجة إلى إقحام الشهرة الفتوائية فإن ما قاله أولاً كافٍ من أن دليل الترجيح بالشهرة الروائية مختص بما إذا كان المقابل شاذاً ونادراً والمقام ليس كذلك فإن الروايات الدالة على استقلال البنت عديدة ومعتبرة اللهم إلا أن يقال أن معنى الشاذ والنادر هو ما لم يجرِ العمل عليه فتكون مدخلية الشهرة الفتوائية في الترجيح ليست مباشرة وإنما لتنقيح معنى الشاذ النادر وهو صحيح إلا أنك قد علمت شهرة العمل بهذه الروايات حتى ادعي الإجماع ثم أنه بناءً على هذا تعرف المناقشة في قوله: «إلا أن يقال بعدم الترجيح بعمل الأصحاب» (1) فإن الترجيح ليس به مباشرة.

ص: 546


1- ماوراء الفقه: 6/188، طبعة بيروت.
المسألة الرابعة: الترجيح بين الأكثر والأقل.

بنى العديد من العلماء على ان الشهرة الفتوائية المرجحة تعني وجود عدد كبير من الروايات في قبال عدد اقل ، فَلَو كان عندنا عشرة روايات في قبال خمسة لقدمنا العشرة على الخمسة.

ولكن شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) يرفض هذا المعنى ويذهب الى ان المراد من الشهرة خصوص الشهرة في قبال الشاذ النادر ، ولذا قال في الجزء العاشر (صفحة 304) عند معالجة التعارض في الروايات الدالة على شرطية إسلام الذابح:ومن الوجوه التي عرضوها لترجيح روايات الحرمة ما قاله الشيخ الطوسي (قدس سرّه) في التهذيب «فأول ما في هذه الأخبار: أنها لا تقابل تلك لأنها أكثر، ولا يجوز العدول عن الأكثر إلى الأقل لما قد بين في غير موضع، ولأن ممن روى هذه الأخبار قد روى أحاديث الحظر التي قدمناها، وهم: الحلبي وأبو بصير ومحمد بن مسلم، ثم لو سلمت من هذا كله لاحتملت وجهين: أحدهما: أن الإباحة فيها إنما تضمنت في حال الضرورة دون حال الاختيار وعند الضرورة تحل الميتة، فكيف ذبيحة من خالف الإسلام، والذي يدل عليه ما رواه زكريا بن آدم. والوجه الثاني: أن تكون هذه الأخبار وردت للتقية لأن من خالفنا يجيز أكل ذبيحة من خالف الإسلام من أهل الذمة والذي يدل عليه ما رواه بشر بن أبي غيلان الشيباني»(1).

أقول: تضمن كلامه (قدس سرّه) عدة وجوه:

1- طرح الروايات الدالة على الحلّية لكونها أقل عدداً ونحوه قال السيد صاحب الرياض (قدس سرّه): «ويرد عليها قصور سند أكثرها وضعف جميعها

ص: 547


1- تهذيب الأحكام: 9/69-70، كتاب الصيد والذبائح، باب الذبائح والأطعمة وما يحل وما يحرم، الحديث 34.

عن المقاومة لما قدمناه من وجوه شتى، أعظمها اعتضادها بالشهرة العظيمة التي كادت تكون بالإجماع ملحقة، دون هذه لندرة القائل بها»(1)،

وهو مردود كبروياً بعدم اعتماد هذا المرجح، وصغروياً لوضوح كثرتها وأقوائية سندها. أما الاعتضاد بالشهرة العظيمة فلا حجية فيه بل لو ادعي الإجماع فإنه كذلك لما تقدم من النقاشات.

المسألة الخامسة: موافقة الكتاب الكريم.

جاء في الجزء العاشر (صفحة 303) تطبيق لترجيح الروايات لمطابقتها للقران الكريم في مسالة اشتراط إسلام الذابح ، اذ قال (دامت بركاته):

وفيه:

1- إن مرتبة الترجيح تكون بعد فشل وجوه الجمع العرفي واستقرار التعارض والمدعى إمكان الجمع.

2- إن الشهرة المرجحة هي الروائية، وهي لا تختص بروايات الحرمة بل إن روايات الحلية لا تقل عنها في الشهرة ونقاوة السند ووضوح الدلالة. أما الشهرة الفتوائية فهي ليست من المرجحات، مضافاً إلى أنها لم تكن عند القدماء، وإنما حصلت لاحقاً بسبب تراكم الفتوى بالحرمة، ومثلها لا تكون حجة لأنها تعبّر عن فهم أصحابنا، ويمكن أن يكون منشأها الاحتياط، وعدم الحاجة للخروج عن القدر المتيقن، أو التقية من الرأي العام في الحوزة والمجتمع ونحوها من الدواعي.

3- لو افترضنا عدم إمكان الجمع واستقرار التعارض فإن الترجيح يكون لروايات الحلية لموافقتها للكتاب الكريم، فإن الآيات مطلقة لم تشترط

ص: 548


1- رياض المسائل: 13/309.

إسلام الذابح بل أهملته وجعلته مبنياً للمجهول في إشارة إلى عدم مدخليته والمهم تحقق التسمية، بقرينة الآيات في ذبح الأضاحي حيث وجّهت الخطاب إلى المسلمين في ذبح الهدي كما سنشير إلى هذه النكتة القرآنية بإذن الله تعالى (1).

نعم إذا حصل الاطمئنان بأن روايات الحلية لم تصدر لبيان الحكم الواقعي لوجه أو لآخر، وأنها كانت من (جراب النورة) فتسقط عن الاعتبار وتبقى روايات الحرمة بلا معارض، لكن أنى لهم بذلك، وقد رواهاكبار أصحاب الأئمة (علیهم السلام) المطلعون على فقههم ومثلهم لا يروونها إذا كانت كذلك، بل وجدنا إصراراً من مثل أبي بصير - في صحيحة شعيب العقرقوفي (2)-

على الحلية وأنه سمع ذلك من الإمامين الباقر والصادق (علیهما السلام) مع أنه سمع جواب الإمام (علیه السلام) في المجلس بالنهي إلا أن أبا بصير فهم للنهي وجوهاً غير حرمة الذبيحة كالتنزه أو عدم تحقق التسمية لمعروفية أهل الجبل بقلة المبالاة بأمور الدين، ونحو ذلك.

ثم فصّل (دام ظله الشريف) بيان موافقة روايات حل ذبيحة اهل الكتاب للقران الكريم ، حيث قال (دامت بركاته) في الجزء العاشر (صفحة 315 – 316):

ص: 549


1- سنذكر نص ما قاله بعد هذا المقطع ان شاء الله تعالى.
2- صحيحة شعيب العقرقوفي قال: (كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) ومعنا أبو بصير وأناس من أهل الجبل يسألونه عن ذبايح أهل الكتاب فقال لهم أبو عبد الله (علیه السلام) قد سمعتم ما قال الله عز وجل في كتابه، فقالوا له: نحب أن تخبرنا، فقال لهم: لا تأكلوها، فلما خرجنا قال أبو بصير: كلها في عنقي ما فيها، فقد سمعته وسمعت آبائه جميعاً يأمران بأكلها، فرجعنا إليه فقال لي أبو بصير: سله فقلت له: جعلت فداك ما تقول في ذبائح أهل الكتاب؟ فقال: أليس قد شهدتنا بالغداة وسمعت؟ قلت: بلى فقال: لا تأكلها)
الترجيح بموافقة الكتاب

لو افترضنا استقرار التعارض فإن الترجيح يكون للحكم بالحلية لموافقته للكتاب الكريم لإطلاق الذابح في الآيات الكريمة، وهو إطلاق لحاظي كما قربنا فيمكن التمسك به.

وللتشييد العلمي الذي بنينا عليه جملة من مطالب هذا البحث، ولتوجيه كلام الشهيد الثاني (قدس سرّه) في المسالك الذي سيأتي بإذن الله تعالى، نقول:

يمكن أن نقرب الاستدلال على الحلية من القرآن الكريم بقوله تعالى:(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ) (المائدة: 5) قال الشيخ الطبرسي (قدس سرّه): «اختلف في الطعام المذكور في الآية، فقيل: المراد به ذبائح أهل الكتاب، عن أكثر المفسرين وأكثر الفقهاء، وبه قال جماعة من أصحابنا، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: أراد به ذباحة كل كتابي ممن أنزل عليه التوراة والإنجيل ومن دخل ملتهم ودان بدينهم، عن ابن عباس و.. ومنهم من قال: عني به من أنزلت التوراة والإنجيل عليهم أو كان من أبنائهم، فأما من كان دخيلاً فيهم من سائر الأمم ودان بدينهم فلا تحل ذبائحهم، وقيل المراد بطعام الذين أوتوا الكتاب ذبائحهم وغيرها من الأطعمة، وقيل إنه مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية، وهو المروي عن أبي عبد الله (علیه السلام)، فأما ذبائحهم فلا تحل»(1).

أقول: وتقريب الاستدلال على إرادة الذبائح خاصةً أو عموم الطعام الشامل لها: قوله تعالى: (اليومَ) التي فيها إشعار إلى حالة جديدة كقوله تعالى: (اليَومَ يَئِسَ الذِينَ كَفَرُوا) وقوله تعالى: (اليَومَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم) في نفس السياق من سورة المائدة، وليست هذه الحالة الجديدة إلا نسخ حكم

ص: 550


1- مجمع البيان، المجلد الثاني: 251.

سابق، وليس هو إلا حرمة ذبائحهم، إذ أن الحبوب وأشباهها لم تكن محرمة، وربما كان منشأ هذه الحالة الجديدة ظهور الإسلام وبسط سلطنته على أهل الديانات الأخرى في السنتين الأخيرتين من حياة النبي (صلی الله علیه و آله) - حيث أن سورة المائدة التي تضمنتها هي من أواخر السور نزولاً-، وحينئذٍ انتفى حكم المقاطعة والمقابلة بالمثل ونحوها.

إن قلتَ: إن الروايات دلت على أن المقصود بالآية الحبوب.

قلت: الروايات الواردة في هذا المعنى(1)

إما من تطبيق العام علىبعض مصاديقه فلا يكون لها مفهوم ينفي ما عداها كموثقة سماعة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سألت عن طعام أهل الذمة ما يحلّ منه؟ قال: الحبوب) بقرينة تعميم الخصم للحلية إلى غير الحبوب إلا اللحوم، وإما أن فيها ما يمكن دخول اللحوم فيه كقوله (علیه السلام) في صحيحة هشام بن سالم: (العدس والحمص وغير ذلك) فالحل يعم اللحوم، وإما أن إخراج اللحم لعارض كالذي ورد في الأخبار الدالة على حرمة ذبائحهم بسبب عدم التسمية ونحوها، كرواية علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادق (علیه السلام) قال: (عنى بطعامهم هاهنا الحبوب والفاكهة غير الذبائح التي يذبحون فإنهم لا يذكرون اسم الله عليها)(2)

وحتى صحيحة قتيبة الأعشى (في الطائفة الثانية) تدخل في معنى رواية علي بن إبراهيم بقرينة تعليل الإمام (علیه السلام) المنع عن ذبائحهم بعدم ائتمانهم على التسمية.

وعندما سالت سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) عن المقصود من موافقة الروايات للقران الكريم أجاب:

ص: 551


1- ذكرها الحر العاملي (قدس سرّه) في الباب 51 من أبواب الأطعمة المحرمة من كتاب وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح46.
2- وسائل الشيعة: كتاب الصيد والذباحة، أبواب الذبائح، باب 27، ح46.

الموافقة للكتاب تعني الانسجام مع مضامينه ودلالته التي قد يُعبّر عنها بنص لفظي ، وقد تستفاد من القرائن او السياق او ضم بعض الآيات الى بعض ونحو ذلك.

وكنا قد نقلنا عن سماحته تفسيرًا لعرض الروايات على الكتاب لمعرفة موافقتها له تحت عنوان الاحكام الدستورية ، اذ قال (دامت بركاته) في الجزء الثاني عشر (صفحة 17):

وهنا توجد أطروحة لعلاقة من نوع آخر بين الأدلة:

حاصلها: أن بعض الأحكام يُنظر إليها على أنها محددات وأُطُر عامة للأحكام الأخرى فلا يجوز أن تخرج عنها، ومثاله في القوانين الوضعية: العلاقة بين مواد الدستور والقوانين، فإن القوانين يجب أن لا تخالف الدستور ولا تخرج عن إطاره، فلو أقرَّ البرلمان قانوناً يقضي بتفضيل بعضالشرائح الاجتماعية على بعض أو التمييز بينهم فإنه قانون باطل لأنه يتنافى مع مادة في الدستور تقول أن المواطنين كافة متساوون في الحقوق والواجبات ونحو ذلك.

ومثاله في الشرعيات قوله تعالى: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» (النساء:19) فإنه يحدد أحكام العلاقة الزوجية فلو كان الحكم المعروف بجواز ترك وطء المرأة الشابة بما لا يزيد عن أربعة(1)

أشهر مخالفاً للآية الكريمة فإنه لا يجوز العمل به ويحمل الدليل على وجه مناسب أو حالة خاصة.

ويمكن على نحو الأطروحة أن تكون الآية الكريمة أيضاً محدداً لعنوان العدالة المشروط لجواز التزويج بثانية فيشترط فيه أن لا يكون سبباً

ص: 552


1- راجع تفصيله في جواهر الكلام: 29/115.

للإهانة الاجتماعية للزوجة الأولى والانتقاص منها وهو مخالف للآية الكريمة.

وهذه العلاقة بين الأدلة شكل آخر لما أراده الأئمة (علیهم السلام) من عرض الروايات على كتاب الله تعالى بأن يكون إطاراً ومحدداً لها.

المسألة السادسة: تقدم الترجيح بموافقة الكتاب على باقي المرجحات.

صرّح سماحة الشيخ الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء السادس (صفحة 257) في مسالة حكم العقد المنقطع على الباكر من دون اذن وليها ان الترجيح بموافقة الكتاب الكريم مقدم على الترجيح بالشهرة الروائية ، وبما ان الترجيح بالشهرة مقدم على باقي المرجحات فهذا يعني ان الترجيح بموافقة الكتاب مقدم على كل المرجحات الاخرى ،اذ قال:

إن الترجيح بالشهرة الروائية متأخر عن الترجيح بموافقة الكتاب كما حقق في محله

المسألة السابعة: الجمع بين الروايات المختلفة في التحديدات.

كثيرا ما تواجهنا روايات في مقام تحديد كمية او مسافة او حجم او ما شابه ، كروايات تحديد حجم الكر ، وروايات تحديد المسافة التي يجب ان تفصل بين الرجل والمرأة في الصلاة ، وروايات تحديد الصاع وما شابه.

والمشكلة ان هذه الروايات تختلف في تحديد هذه المقادير والأحجام ، واختلفت معها الاقوال في كيفية الجمع بينها ، ومما جاء في فقه الخلاف عن هذه المسالة:

1- تحديد الصاع: اذ جاء في الجزء الخامس (صفحة 163 – 164):

ص: 553

وفي مقابل ذلك (1)يوجد

نظرياً قولان يمكن استخلاصهما من الروايات كأطروحة:

الأول: إن الصاع خمسة أمداد وقد ورد هذا في أكثر من رواية:

منها: موثقة سماعة؛ قال: (سألته عن الذي يجزي من الماء للغسل، فقال: اغتسل رسول الله (صلی الله علیه و آله) بصاع، وتوضّأ بمدّ، وكان الصاع على عهده خمسة أمداد وكان المد قدر رطل وثلاث أواق)(2).

ومنها: رواية سليمان بن حفص المروزي؛ قال: (قال أبو الحسن موسى بن جعفر (علیه السلام): الغسل بصاع من ماء والوضوء بمد من ماء، وصاع النبي (صلی الله علیه و آله) خمسة أمداد)(3).

والثانية ضعيفة سنداً، أما الموثقة فقد قال عنها شيخنا الأستاذ الفياض أنها «معارضة للروايات المتقدمة التي تحدد الصاع بأربعة أمداد وتنفي الزائد، والموثقة تدل على أن الصاع خمسة أمداد فتثبت الزائد فتكون المعارضة بينهما في الزائد فتسقطان من جهة المعارضة، فلا يثبت الزائد» (4).وهو جمع لا يساعد عليه العرف لأن الخمسة مأخوذة على نحو الحد فلا يقبل العرف تجزئتها فليس المقام من صغريات مسألة دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين حتى يجري فيها ما ذكر (دام ظله) وإنما هي من مسألة المتباينين؛ كما لو ورد دليلان أحدهما مفاده أن الصلاة الكذائية ثلاث ركعات والآخر مفاده أنها أربع ركعات.

2- الفاصل بين الرجل والمرأة في الصلاة: اذ جاء في الجزء الثاني (صفحة

ص: 554


1- اَي في مقابل ان الصاع أربعة امداد.
2- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب 50، ح4، 2.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، باب 50، ح4، 2.
4- تعاليق مبسوطة: 5/136.

(390 – 391):

وكرر شيخنا الأستاذ الفياض (دام ظله الشريف) المعنى الذي ذكروه وزاده بياناً فقال: «إن الروايات الناهية عن صلاة الرجل بمحاذاة صلاة المرأة وبالعكس ظاهرة في نفسها في مانعية المحاذاة، ولكن لا يمكن الحفاظ على هذه الظاهرة العرفية وذلك لأن مانعية المحاذاة في بعض هذه الروايات قد حددت بالمسافة بينهما بأقل من شبر، وفي الآخر بأقل مما لا يتخطى، وفي الثالث بأقل من ذراع، وفي الرابع بأقل من رجل، وفي الخامس بعظم الذراع فصاعداً، وفي السادس بأقل من عشرة أذرع... ومن الواضح أنه لا يمكن تحديد مانعيتها بهذه المراتب المتفاوتة طولاً وقصراً حيث يلزم من فرض وجوده عدمه، فإذن بطبيعة الحال يكون هذا الاختلاف بنفسه قرينة على أنها في مقام بيان الحكم الترخيصي وهو الكراهة، واختلافها يكشف عن اختلاف مراتبها في الشدة والضعف.

فإذن لابد من علاج ذلك بأحد أمرين:

الأول: أن ترفع اليد عن ظهور تلك الروايات في شرطية تلك الأبعاد ما عدا ظهورها في شرطية البعد الأول وهو الحد الأدنى منه(1).

الثاني: أن ترفع اليد عن ظهورها في الجميع وحملها على بيان الحكم الترخيصي وهو الكراهة باعتبار أن لها مراتب مختلفة، واختلاف الرواياتفي تحديد مراتب البعد بينهما يكشف عن اختلاف مراتب الكراهة.

الظاهر هو الثاني، بل هو المتعين لمجموعة من القرائن:

الأولى: أن لازم الفرض الأول هو إلغاء كافة الروايات المتضمنة لاعتبار سائر مراتب البعد بينهما على كثرتها من جهة معارضتها للروايات

ص: 555


1- أقول: هذا ما اختاره السيد الخوئي (قدس سرّه) كما قدمنا.

المتضمنة لاعتبار المرتبة الأولى، ومقتضى القاعدة إلغاؤها نهائياً، وهو في نفسه بعيد، وحملها على الكراهة بحاجة إلى قرينة تدل على التفكيك بينها وبين الروايات المتضمنة للمرتبة الأولى من البعد، فإن كانت القرينة اختلاف تلك الروايات في مراتب البعد فهي قرينة على حمل الجميع على الكراهة لا خصوص تلك الروايات وإن كانت شيئاً آخر فهي غير متوفرة.

الثانية: أن الفرض الأول لا يمكن تطبيقه بالنسبة إلى بعض الروايات كصحيحة زرارة(1) التي هي ناصة في تخيير المكلف في الفصل بينه وبين المرأة بما لا يتخطى أو قدر عظم الذراع فصاعداً، وذلك لاستحالة تقييد شرطية الفصل بينهما بأحد البعدين على نحو التخيير، فإذن يكون نص الصحيحة قرينة على أن مدلولها حكم ترخيصي لا إلزامي.

الثالثة: أن صحيحة الفضيل عن أبي جعفر (علیه السلام): قال: (إنما سميت بكة لأنه تبك فيها الرجال والنساء والمرأة تصلي بين يديك وعن يمينك وعن يسارك ومعك ولا بأس بذلك وإنما يكره في سائر البلدان) تدل بوضوح على أن المراد من الكراهة فيها إنما هي في مقابل الحكم الإلزامي، بداهة أنه لو كان المراد منها الحرمة لم يكن فرق بين مكة وغيرها، إذ لا يحتمل أن يكون الفصل بينهما بقدر شبر أو أكثر شرطاً في سائر البلدان دون مكة.

فإذن لا محالة يكون المراد الفصل من الكراهة الحكم الترخيصي واختلاف مكة مع سائر البلدان إنما هو في ذلك، فإن صلاة المرأة عنيمين الرجل أو يساره أو أمامه وإن لم يكن بينهما بمقدار شبر لم تكن مكروهة فيها، وأما في سائر البلدان فهي مكروهة.

فالنتيجة: إن اختلاف الروايات في مراتب الفصل سعة وضيقاً وطولاً

ص: 556


1- يعني بها الرواية الرابعة من الصنف الثاني.

وقصراً بنفسه قرينة على أنها لا تتضمن حكماً إلزامياً بل في مقام بيان الحكم الترخيصي وهو الكراهة»(1).

أقول: اتضح مما تقدم من التقريبات والردود المناقشة في كل كلامه (دام ظله الشريف) ونلخصها بنقاط:

1- إن المقادير ليست مسوقة لبيان مورد واحد وما ورد لتحديد مقدار تقدم الرجل متقارب عرفاً، ولا يوجد تفاوت فاحش ليلزم من وجوده عدمه كما قال (دام ظله).

2- على ما قربناه لم تبق مشكلة تحتاج إلى علاج، إذ أن التعارض قد حل بعدم المنافاة التي ذكرناها.

3- القرائن التي ذكرها (دام ظله) لحمل المنع في روايات الطائفة الأولى على الكراهة كلها غير تامة:

أما القرينة الأولى فلوجوه:

أ- أن ما استبعده (دام ظله) هو مقتضى القاعدة - بعد غض النظر عما قلناه في النقطة الأولى - وقد أخذ به السيد الخوئي (قدس سرّه) وأجروا هذه القاعدة في حساب الكر بالمساحة مع أن التفاوت فاحش أيضاً كما قدمناه.

ب- إن القرينة على حمل ما زاد على الشبر على الكراهة موجودة وهو الجمع بين اشتراط تلك المقادير لرفع المانعية وبين الترخيص فيما زاد عن الشبر الذي هو مفهوم ما دلّ على اشتراط الشبر فيحمل المنع في الزائد عنه على الكراهة.ج- إن ما اخترناه من الجمع لا يتضمن إلغاء الروايات المبينة لمقادير البعد لأنها متقاربة وإن اختلفت التعابير ويحمل الأزيد على الاستحباب.

ص: 557


1- تعاليق مبسوطة: 3/119-120.

وأما القرينة الثانية:

1- فلأن التخيير ليس في الحد وإنما في كيفية حسابه، فإذا حسب بالرجل كان ما لا يتخطى وإن حسب باليد كان ذراعاً وهي متقاربة عرفاً في النتيجة.

2- ولانه (دام ظله الشريف) قبل بالتخيير مع تفاوت أكبر بكثير من هذا في مسألة الكر بين تقديري الوزن والحجم فالشيخ الفياض (دام ظله الشريف) اختار مقدار الكر وزناً (399) كيلو غراماً وبالحجم (^img7.png 42) شبراً مكعباً وباعتبار أن متوسط طول الشبر (23) سنتمتراً فإن حجم الكر يساوي (522) لتراً أي (522) كيلو غراماً والتفاوت فاحش كما هو واضح، مع أنهم قالوا أن الكر لو نقص يسيراً عن المقدار المذكور لم تجر عليه أحكام الكرية.

وأما القرينة الثالثة وهي صحيحة الفضيل فلوجوه أيضاً:

1- إننا ناقشنا الاستدلال بها على الكراهة، وإن لفظ (يكره) يستعمل في الأعم من الحرمة والكراهة المصطلحة ويتعين هنا بالحرمة.

2- القرينة التي جعلها (دام ظله) بديهة لتعين المعنى بالثاني غير تامة إذ احتمال الفرق في الحكم بين مكة وغيرها محتمل بل وارد لشدة الازدحام في الحرم المكي فيوجب الإلزام بهذا الحكم حرجاً على المكلفين فاقتضى التخفيف عنهم، والأحكام تعبدية تؤخذ من الأدلة.

3- لم يفسر لنا الفرق بين قبوله التفريق بين مكة وغيرها بالكراهة وبين عدم قبوله التفريق بالحرمة.

وفي ضوء هذا فإنه لم يتم الدليل الكافي على الجواز مقابل ما استدل به على المنع من المحاذاة التامة لا مطلق المحاذاة.1- ما جاء في الجزء الثالث (صفحة 138) من ان اختلاف الاحكام يدل على التوسعة:

ص: 558

دلّت الروايات على أن الإمام (علیه السلام) قد يعطي أجوبة مختلفة في مورد الأحكام الموسعة كالتخيير والترخيص مراعاة لبعض المصالح العامة والخاصة، وهذا يقتضي أنه إذا وردت أحكام مختلفة في موردٍ ما، فهذا كاشف عن كون الحكم موسعاً، والمقام منه؛ لأن الإمام (علیه السلام) لا يرخص في الأحكام الإلزامية كما سيأتي في رواية الميثمي (1)

إلا لخوف ضرورة وهي غير متوفرة هنا.

المسألة الثامنة: الرجوع للعموم الفوقاني.

لو كان لدينا عام ثم جاءه مخصص معارض بمخصص اخر فسيتساقط المخصصان ، ونرجع الى العموم الفوقاني.

ص: 559


1- ورواية العيون بسنده عن أحمد بن الحسن الميثمي (أنه سأل الرضا (علیه السلام) يوماً وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في الشيء الواحد) إلى أن قال: (قلت: فإنه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول (صلی الله علیه و آله) مما ليس في الكتاب وهو في السنة ثم يرد خلافه فقال كذلك قد نهى رسول الله (صلی الله علیه و آله) عن أشياء نهي حرام فوافق في ذلك نهيه نهى الله، وأمر بأشياء فصار ذلك الأمر واجباً لازماً كعدل فرايض الله ووافق في ذلك أمره أمر الله تعالى، فما جاء في النهى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نهي حرام ثم جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك، وكذلك فيما أمر به، لأنا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله)، ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلا لعلة خوف ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) أو نحرم ما استحل رسول الله (صلی الله علیه و آله) فلا يكون ذلك أبداً؛ لأنا تابعون لرسول الله (صلی الله علیه و آله) مسلّمون له كما كان رسول الله (صلی الله علیه و آله) تابعاً لأمر ربه عز وجل مسلماً له، وقال عز وجل [ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا]، وإن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نهى عن أشياء ليس نهي حرام بل إعافة وكراهة، وأمر بأشياء ليس بأمر فرض ولا واجب بل أمر فضل ورجحان في الدين، ثم رخص في ذلك للمعلول وغير المعلول فما كان عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) نهي إعافة أو أمر فضل، فذلك الذي يسع استعمال الرخصة فيه) الحديث. وسائل الشيعة: 27/ 114.

وقد افاد شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) صحة هذه الكبرى في الجزء الثاني (صفحة 167) في مناقشة له مع السيد الحائري (دام ظله) في مسالة تعدد الوطن ، اذ جاء ما نصه:

وقد رجّح السيد الحائري (دام ظله الشريف) الوجهين الثاني والثالث وكأنه سلّم بعدم امكان الوجه الاول اي تقييد الطائفة الاولى بالثانية , اما الرابع فقال فيه: «ولنا بحث مبنائي في الاصول في اصل فكرة تساقط المتعارضين والرجوع الى المطلق الفوقاني من ابداء احتمال جعل التعارض ثلاثي الاطراف»(1),

ولم يتسن لنا الحصول على بحثه الشريف في الاصول لنطبق هذه الكبرى في المقام.

لكن المظنون انه لا يريد بكلامه هذا نفي الكبرى - وان كان وصفه بأنه مبنائي ومبحوث في علم الاصول يوحي بذلك - اي وجود عمومات فوقانية يجب الرجوع اليها عند تعارض المخصّصين, لأنها كبرى ثابتة وصحيحة , فإذا ورد دليلان متعارضان في حرمة شيء وعدمه تساقطا ويجري الاخذ بعمومات الحل وهكذا, فيكون نقاشه صغروياً, اي ان في بعض الموارد التي يفرض فيها عموم فوقاني فإنه ليس كذلك وانما هو طرف ثالث إما لأنه ليس عموماً اصلاً او ليس فوقانياً وانما هو في عرض الدليلين المتعارضين. وهذا المعنى في نفسه صحيح لكن المورد ليس من تطبيقاته فإن عندنا اطلاقات ادلة التقصير في السفر , خرج منها تخصيصاً من مرّ بضيعة او منزل مملوك له بحسب الفرض ولكن هذا المخصص ابتلي بالمعارض , وهي الطائفة الثانية , فتساقط وبقي الدليل الاصلي وهو وجوب التقصير سالماً من المعارض لأن موضوعه وهو السفر متحقق

ص: 560


1- مجلة فقه اهل البيت (علیهم السلام) , العدد 45 , ص46.

بحسب الفرض , فليس التعارض ثلاثي الاطراف.

المسألة التاسعة: الترجيح لخبر الامام المتأخر زمانًا.

من المرجحات التي ذكرها الاصحاب: الأخذ بالخبر الوارد عن الامام المتأخر زمانا عندما يتعارض مع خبر وارد عن امام سابق له ، وقد ناقش سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) هذا المرجح وبيّن عدم الأخذ به على إطلاقه ، وانما هو مرجح في بعض الحالات ، وقد جاء هذا النقاش في الجزء الأول (صفحة 213) في مسالة طهارة الكحول ، اذ قال:

«السادس: إنه قد ورد عنهم (علیهم السلام) من القواعد أنه إذا جاء خبر عن أولهم وخبر آخر عن آخرهم فإنه يجب الأخذ بالأخير وهذه القاعدة قد صرّح بها الصدوق في الفقيه في باب (الرجل يوصي إلى الرجلين) حيث قال: (ولو صحّ الخبران لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر الصادق (علیه السلام)). ولا ريب أن صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران قد تضمنتا ذلك، فالواجب بمقتضى هذه القاعدة الرجوع إلى قول الإمام الأخير وهو الحكم بالنجاسة»(1).…

والوجوه كلها قابلة للمناقشة:

ثم قال (دامت بركاته) (صفحة 216):

وأما (السادس) فيناقش كبروياً من جهة عدم صحة إطلاقها حيث يجب تقييدها بما إذا كان الأخير حاكماً على الأول بنحو النسخ أو بيان المجمل أو التقييد أو التخصيص، وهو ثابت ودلت عليه صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن

ص: 561


1- الحدائق الناضرة: 5/107-109.

رسول الله (صلی الله علیه و آله) ولا يتّهمون بالكذب فيجيئ منكم خلافه؟قال: إن الحديث يُنسخ كما يُنسخ القرآن)(1)،

وكما لو كانت معالجة لحالة شخصية أو للتقية ونحوها فإنه لا يلغي الحكم الأول الذي يكون هو الحكم الواقعي ومثال الأول نهي الإمام (علیه السلام) لاثنين من أصحابه عن زواج المتعة في المدينة وتقدم ذكر الرواية في مسألة سابقة(2)،

ومثال الثاني الصحيحة إلى هشام بن سالم عن أبي عمرو الكناني قال: قال لي أبو عبد الله (علیه السلام): (يا أبا عمرو أرأيتك لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثم جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت: بأحدثهما وأدع الآخر، فقال: قد أصبت يا أبا عمرو، أبى الله إلا أن يُعبد سرّاً، أما والله لئن فعلتم ذلك إنه لخير لي ولكم، أبى الله عز وجلّ لنا في دينه إلا التقية)(3)، وفي هذا الإطار يأتي قول الإمام الصادق (علیه السلام) في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألته عن الصرف) إلى أن قال: (فقلتُ له: أشتري ألف درهم وديناراً بألفي درهم، فقال:لا بأس بذلك إن أبي كان أجرأ على أهل المدينة مني، فكان يقول هذا فيقولون: إنما هذا الفرار، لو جاء رجلٌ بدينار لم يُعطَ ألف درهم ولو جاء بألف درهم لم يُعط ألف دينار، وكان يقول لهم: نِعم الشيء الفرار من الحرام إلى الحلال)(4).

أقول: الجرأة تعني قدرته - وفق الظروف المتاحة له- على بيان الحكم الواقعي بوضوح من دون إجمال أو تقيّة، والمتأخر مبتلى بذلك.

ص: 562


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9، ح4.
2- فقه الخلاف، الجزء الاول، المسألة الثانية، في معرض الحديث عن أنحاء أوامر المعصومين (علیهم السلام) ونواهيهم.
3- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9، ح17.
4- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب الصرف، باب6، ح1.

وفي ضوء هذا التفصيل بفهم ما دلّ على تقديم الحديث المتأخركمرسلة الحسين بن المختار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيهما كنت تأخذ؟ قال: كنت أأخذ بالأخير، فقال: رحمك الله)(1).

أما ما نقله عن الصدوق (قدس سرّه) في باب (الرجل يوصي إلى الرجلين) فهو أجنبي عن المقام لأن الوصية المتأخرة تنفي الوصية المتقدمة لما دلّ على جواز الرجوع بالوصية كصحيحة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (للموصي أن يرجع في وصيته إن كان في صحة أو مرض)(2) أما ما نقله عن الشيخ الصدوق (قدس سرّه) فلو كان تامّاً لاتّضح ذلك وأنه لا يخرج عمّا قلناه فإن بقية كلامه هكذا: «وذلك أن الأخبار لها وجوه ومعانٍ وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه من غيره من الناس»(3).

وقد توسّعنا نسبياً في إيضاح هذه الكبرى لما وجدناه من إطلاق في كلام الأصحاب (قدس الله أرواحهم).

المسألة العاشرة: تعارض الدليلين المثبتين.

من الكلمات الشائعة في علم الأصول ان الدليلين المثبتين لا يتعارضان ، فاذا قال الدليل الأول: (اكرم العالم) وقال الاخر: (اكرم الفاسق) لم يكن بينهما اَي تعارض وتكاذب ، فيكرم كل من العالم والفاسق.

وانما يثبت التعارض اذا كان احد الدليلين مثبتا والآخر نافيا ، كما لو قال الدليل الأول: (اكرم العالم) وقال الاخر: (لا تكرم الفاسق) فسيتعارضان في

ص: 563


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب9، ح7.
2- من لا يحضره الفقيه، ج4 كتاب الوصية، باب (الرجل يوصي إليهما...).
3- من لا يحضره الفقيه، ج4 كتاب الوصية، باب (الرجوع عن الوصية).

العالم الفاسق.وقد نبه شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الخامس (صفحة 369) في مسالة زكاة العملات المتداولة ان الدليلين المثبتين إنما يتعارضان اذا استظهرنا وحدة الجعل ، اذ قال:

الثالث: إن العمومات والإطلاقات التي استدل بها على التعميم كعنوان (المال) و(الثمن) و(الصامت المنقوش) يمكن أن يراد بها خصوص الدينار والدرهم فتكون من باب استعمال العام ويراد منه الخاص.

ويرد عليه: أن العنوانين مثبتان فلا يُقيّد أحدهما بالآخر كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) وقال: (أكرم زيداً) إلا أن يكون الجعل متحداً وهذا غير ظاهر في المقام.

ومن تطبيقات هذه القاعدة ما جاء في الجزء الثاني (صفحة 331 – 332) في مسالة شرط الفرسخين في وجوب صلاة الجمعة ، اذ قال (دامت بركاته):

ومقتضى الجمع بين الطائفتين حمل المطلق على المقيد - وهو المعلل- فيكون سقوط وجوب الحضور إلى صلاة الجمعة على من كان على رأس فرسخين مختصاً بمن كان خارج المدينة ولا يشمل من كان على هذه المسافة وهو مستوطن في نفس المدينة التي تقام فيها صلاة الجمعة لسعتها -كبغداد أو طهران مثلاً- فإن أبناء هذه المدينة مشمولون كلهم بالوجوب وإن بعدوا أزيد من هذه المسافة.

إن قلت: لا يوجد تناف بين الخطابين حتى يحمل الأول على الثاني إذ يمكن الأخذ بهما معاً، نظير الخطابين المثبتين (أعتق رقبة) و (أعتق رقبة مؤمنة) فإنه لا تعارض بين الخطابين ويمكن الأخذ بهما معاً، وتحمل الصفة الزائدة على عناية زائدة كالاستحباب.

وبتعبير آخر: إنما يقع التنافي لو كان للجملة المقيدة مفهوم فيُقيّد به

ص: 564

إطلاق الآخر، والجملة هنا ليس لها مفهوم.

قلت: هذا الكلام صحيح كبروياً لو كان الجعل متعدداً، كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) وقال: (أكرم العلماء العلويين) فهنا يجب إكراممطلق العلماء مع عناية زائدة بالعلويين منهم ولا يقيَّد الأمر الأول بهذا القيد الزائد.

أما إذا كان الجعل متحداً؛ كما لو قال: (أكرم طلبة العلم) وقال: (أكرم طلبة العلم المشتغلين) فإننا نعلم أن الأمر واحد وهو إكرام طلبة العلم، لكن ليس مطلق من حمل عنوانهم وارتدى زيّهم وإنما خصوص المشتغلين منهم.

والمقام من الثاني لظهور كون خطاب الشرط واحداً ولكنه تارة أُطلق لبيان أصل الشرط، وتارة ذُكر معللاً لبيان مورد تطبيقه.

إن قلت: كيف يمكن التمييز بين النوعين؟

قلت: يستظهر وحدة الجعل أو تعدده من قرائن في نفس الخطابين أو مما يعرف بمناسبات الحكم والموضوع المؤثرة في الظهور.

وتفصيل البحث في مبحث المطلق والمقيد من علم الأصول.

ومن التطبيقات التي رفضها سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) لهذه القاعدة ما جاء في الجزء السادس (صفحة 96) في مسالة وجوب الخمس في الميراث:

الوجه الرابع: «ما أفاده المحقق العراقي (قدس سرّه) من أن مقتضى الجمع بين الروايات المشتملة على عنوان التجارات والزراعات والاستفادة من ضروب المكاسب وبين الروايات المطلقة هو التقييد من باب حمل المطلق على المقيّد، لأنهما وإن كانا مثبتين في المقام، إلا أنه حيث يحرز وحدة الجعل وعدم تعدده جزماً، كيف وإلا لزم تعلق خمسين بالأرباح نظراً إلى انطباق عنوانين عليه وليس كذلك جزماً، فلا محالة تقع المعارضة بين العنوانين، لأن الحكم الواحد ليس له إلا موضوع واحد، فيتعين الجمع بالتقييد، لأن

ص: 565

ظهور القيد في الدخالة أقوى من إطلاق المطلق على ما قرر في محله»(1).وفيه:

1- إن الروايات التي ذكرت العناوين الخاصة كالتجارة والزراعة ذكرت معها عنواناً عاماً كالاستفادة والإفادة والمتاع مما يعني أن ذكر هذه العناوين الخاصة لم تؤخذ على نحو التقييد وإنما على نحو المثال والمصاديق، لاحظ كمثال مصححة أحمد بن محمد بن عيسى (2)

فإنه (علیه السلام) ذكر موضوع الخمس وهو (الفائدة) عموماً ثم بيّن بعض مصاديقها.

نعم، ورد في بعضها سؤال الراوي عن أشياء محددة بحسب ابتلائه كصحيحة الريان بن الصلت (3) وهي لا تعني التقييد قطعاً.

2- لو تنزلنا وسلمنا ظهور العناوين الخاصة في التقييد فإن هذا الظهور بدوي، إذ يوجد بإزائه في الروايات «ما كان ناظراً إلى التعميم وصريحاً في ثبوت الخمس على مطلق الفائدة ، ولا شك في أن هذا الظهور أقوى من ظهور ذكر العناوين المذكورة في التقييد حتى إذا سلّمنا أصل الظهور المذكور من ورودها في لسان الروايات، فيكون الجمع العرفي في خصوص المقام برفع اليد عن هذا الظهور وحمل العناوين المذكورة على

ص: 566


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/112، ونقل كلام العراقي عن شرح التبصرة: 3/183.
2- مصححة أحمد بن محمد بن عيسى عن (ابن) يزيد قال: (كتبت جعلت لك الفداء، تعلمني ما الفائدة وما حدها؟ رأيك أبقاك الله أن تمن علي ببيان ذلك لكي لا أكون مقيماً على حرام لا صلاة لي ولا صوم، فكتب: الفائدة مما يفيد إليك في تجارة من ربحها، وحرث بعد الغرام، أو جائزة)
3- صحيحة الريان بن الصلت قال: (كتبت إلى أبي محمد (علیه السلام): ما الذي يجب علي يا مولاي في غلة رحى أرض في قطيعة لي، وفي ثمن سمك وبردي وقصب أبيعه من أجمة هذه القطيعة؟ فكتب: يجب عليك فيه الخمس، إن شاء الله تعالى).

بيان المصاديق المتعارفة للفائدة.

وإن شئت قلت: قاعدة حمل المطلق على المقيد إنما تصح فيما إذا كانت دلالته بالإطلاق ومقدمات الحكمة لا بالصراحة والنظر إلى العمومفضلاً عن التنصيص على ثبوت الحكم في مورد الافتراق، فإن هذا الظهور يكون عندئذٍ أقوى من ظهور العنوان الخاص في التقييد»(1).

3- لا يوجد عندنا تعدد في الجعل وإنما هو جعل واحد لكن موضوعه تارة يذكر بالعنوان الجامع له ولغيره وتارة يذكر بعنوانه الخاص لنكتة أو غيرها، كما لو قال المولى: (أكرم العلماء) ثم قال: (أكرم زيداً العالم) فإن الجعل واحد وإن زيداً داخل في العنوان العام لكن ذكره خاصة ببيان آخر قد يكون لنكتة ما.

4- لو سلّمنا بتعدد الجعل فإن «غايته ثبوت الخمس في المال الواحد من جهتين، من جهة كونه فائدة، ومن جهة كونه كسباً، ولا يلزم تعدد الخمس، لأن ثبوت الخمس مفاد وضعي قابل للتداخل وليس حكماً تكليفياً، فيثبت خمس واحد في المال الواحد بسببين وعنوانين، نظير ثبوت النجاسة في الملاقي لنجاستين.

بل سوف يأتي من الماتن (قدس سرّه) وهو المشهور والصحيح أيضاً كفاية خمس واحد لمن يتخذ الغوص أو استخراج المعدن كسباً لنفسه، مع أن عنوان المعدن والغوص غير عنوان التكسب جزماً»(2) فلا يتعين الجمع بالتقييد الذي ذكره (قدس سرّه).

ص: 567


1- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/114.
2- كتاب الخمس للسيد محمود الهاشمي: 2/114.
المسألة الحادية عشرة: تقدم أصالة الجهة على أصالة الظهور.

اذا دار الامر بين التصرف في ظهور الرواية وبين حملها على التقية ، فالمقدم هو التصرف في ظهورها ، وهذا ما بيّنه شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الحادي عشر (صفحة 259) في مسالة ارث الزوجة من العقار ، اذ قال:

إن الصحيحة يمكن حملها على معنى صحيح وإذا أمكن التصرف فيظهورها لم يجز حملها على التقية، وقد قيل في علم الأصول أنه إذا دار العمل بين أصالة الظهور وأصالة الجهة فالعمل بأصالة الجهة مقدَّم؛ لذا جرى الفقهاء على تخصيص العمومات إذا صحّ قبل حملها على التقية.

ص: 568

خاتمة في القواعد الفقهية

خاتمة في القواعد الفقهية
اشارة

بعد ان ذكرنا الدرر الأصولية التي نثرها شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في طيات موسوعة فقه الخلاف ارتأينا ان نختم الكلام بذكر بعض القواعد الفقهية التي تكلم عنها سماحته ببعض التفصيل ، وسنذكر منها سبع قواعد:

القاعدة الأولى: الاحتياط في الفروج في الجملة.

القاعدة الثانية: الولد للفراش.

القاعدة الثالثة: ملكية الانسان لأعضائه.

القاعدة الرابعة: عدم اشتراط المالية في المبيع.

القاعدة الخامسة: ضمان الطبيب وذوي المهن.

القاعدة السادسة: اخذ العوض على الواجبات.

القاعدة السابعة: تقديم الأيسر.

والتفصيل في هذه القواعد:

ص: 569

القاعدة الاولى: الاحتياط في الفروج في الجملة
اشارة

بحث شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الثاني عشر (صفحة 20) وما بعدها أصالة الاحتياط في الفروج ، وجاء في كلامه:

أصالة الاحتياط في الفروج في الجملة

إن الأصل في الأشياء وإن كان الحلية والإباحة وهو المناسب ليسر الشريعة وسماحتها، قال تعالى: «يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (البقرة: 185) وفي الحديث النبوي الشريف (لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية ولكن بعثني بالحنفية السمحة)(1).

إلا أن هذا الأصل قد ينقلب إلى أصالة عدم الجواز والاحتياط في ما لو اشترط الشارع المقدس أمراً وعلّق الرخصة على وجوده فإنها لا تثبت إلا بإحرازه والعرف يقضي بذلك، ومثاله اشتراط التذكية في حلية تناول اللحم فأصبح الأصل فيه عدم الجواز.

قال السيد صاحب العروة (قدس سرّه) في وجه انقلاب الأصل لتقريب وجوب اجتناب النظر إلى أطراف الشبهة غير المحصورة من النساء إذا شك في كونها من المماثل أو من المحارم النسبية معللاً ذلك بأن «الظاهر من آية وجوب الغضّ أن جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلاً أو من المحارم، فمع الشك يعمل بمقتضى العموم، لا من باب التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية بل لاستفادة شرطية الجواز بالمماثلة أو المحرمية».

ص: 570


1- رواه الكليني بسند فيه سهل بن زياد (الكافي: 5/494 باب كراهية الرهبنة)، ورواه ابن ماجة وأحمد والحاكم والطبراني بلفظ (تركتكم، أو جئتكم بها بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).

وعلق الشيخ النائيني (قدس سرّه) قائلاً: «ويدل نفس هذا التعليق على إناطة الرخصة والجواز بإحراز ذلك الأمر وعدم جواز الاقتحام عند الشك فيه ويكون من المداليل الالتزامية العرفية وهذا هو الوجه في تسالمهم على أصالة الحرمة في جميع ما كان من هذا القبيل وعليه يبتني انقلاب الأصل في النفوس والأموال والفروج في كل من الشبهات الموضوعية والحكمية وكذا أصالة انفعال الماء بملاقاة النجاسة عند الشك في العاصم وغير ذلك مما علق فيه حكم ترخيصي وضعي أو تكليفي على أمر وجودي وليس شيء من ذلك مبنيا على التمسك بالعموم في الشبهة المصداقية»(1).

أقول: افتراض الانقلاب وعدمه مبني على كيفية تشكيل الأصل أو العام المستفاد من الروايات في المسألة، فقد يصاغ على أنه حرمة النظر إلى النساء إلا إذا كانت محللة كالزوجة والمحارم، وقد يصاغ على أنها حلية النظر إلى النساء إلا ما ثبتت حرمتها، وعلى الثاني لا يحرم النظر إلى مجموعة من النسوة اختلطت فيهن امرأة يحرم النظر إليها ما لم يصل الفعل إلى المخالفة القطعية.

فالماتن والمعلق (قدس الله سريهما) بنيا على أن العام هو «يجوز النظر إلى المماثل والمحارم» فالفرد المشكوك لا يجوز النظر إليه لعدم تحقق شرط الحكم بالجواز.

وهذه الصياغة صحيحة إلا أنها لا تستوعب حكم المسألة فإن حرمة النظر إلى غير المماثل والمحارم لا يستفاد منها إلا بالمفهوم والجملة ليس لها مفهوم، فلا بد أن تكون العبارة «لا يجوز النظر إلا إلى المحارم أو المماثل والمحللة شرعاً» وحينئذٍ يشمل الفرد المشكوك بأحكام العام

ص: 571


1- العروة الوثقى مع تعليقات المراجع العظام: 5/500.

والخاص وبقاء الفرد المشكوك دخوله في الخاص تحت العام ونحوذلك.

والمشهور هنا انقلاب الأصل إلى الاحتياط، قال المحقق الثاني (قدس سرّه) في جامع المقاصد في تقريب حرمة بنت الزنا على أبيها وإن لم يثبت النسب: «لأن حلّ الفروج أمر توقيفي فيتوقف فيه على النص، وبدونه ينتفي بأصالة عدم الحل، فلا يكفي في حل الفروج عدم القطع بالمحرم، لأنه مبني على كمال الاحتياط»(1).

فلا بد إذن أولاً من تحرير الأصل أو العام الموجب للانقلاب، وفي المقام يمكن أن يقال ان ما يوجب انقلاب الأصل عن الحلية والبراءة إلى الاحتياط أمران:-

1- التشدد والاحتياط في الفروج.

2- حفظ الأنساب من الاختلاط.

وقد استدل على (الأمر الأول) بالإجماع والروايات، ويمكن مناقشة الإجماع بأنه مدركي مستند إلى الروايات، أو أنه اكتشاف لمذاق الشارع منها.

أما الروايات فقد جمع صاحب الوسائل جملة منها في باب عنونه «وجوب الاحتياط في النكاح فتوى وعملاً زيادة على غيره»(2)

وقال في نهايته: «وأحاديث الأمر بالاحتياط كثيرة جداً يأتي بعضها».

ومن الروايات:-

1- معتبرة أبي بصير قال: (سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن رجل تزوج امرأة فقالت: أنا حبلى وأنا أختك من الرضاعة وأنا على غير عدة، قال: فقال: إن

ص: 572


1- جامع المقاصد: 12/192.
2- وسائل الشيعة: 20/258، أبواب مقدمات النكاح، باب 57.

كان دخل بها وواقعها فلا يصدّقها، وإن كان لم يدخل بها ولميواقعها فليختبر وليسأل إذا لم يكن عرفها قبل ذلك)(1).

أقول: وفي رواية الصدوق مثله إلا أنه قال: (فليحتط وليسأل عنها) والظاهر أن الأمور التي ذكرها من باب المثال للإخبار عما يوجب حرمة النكاح وعدم قابلية الموضوع ففصّل الإمام (علیه السلام) بين ما قبل الدخول وما بعده فأمر بالسؤال والاحتياط في الأول دون الثاني فهو أخصّ من المدعى وإن نفس التفصيل دليل على عدم لزومه.

2- معتبرة شعيب الحداد قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) رجل من مواليك يقرئك السلام، وقد أراد أن يتزوج امرأة وقد وافقته وأعجبه بعض شأنها وقد كان لها زوج فطلقها على غير السنة، وقد كره أن يقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون أنت تأمره؟ فقال أبو عبد الله (علیه السلام): هو الفرج وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد ونحن نحتاط فلا يتزوجها)(2).

أقول: حمل الاحتياط على ما نحن فيه غير متصور في عقيدتنا بالإمام المعصوم لأنه لا تردد عنده في الأحكام، والمطلقة لغير السنة لا مانع من زواجها إذا كانت مورداً لقاعدة الإلزام، وإن لم تكن كذلك فيحرم الزواج منها. فلعل الاحتياط هنا أمر إرشادي لترك الزواج من مثل هذه المرأة أو أنه نهي عمّا كان عليه فقهاء العامة من جواز الطلاق لغير السنة وجاء (علیه السلام) به بتعبير الاحتياط تقية.

3- معتبرة مسعدة بن زياد عن جعفر (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) أن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (لا تجامعوا في النكاح على الشبهة. يقول: إذا بلغك أنك قد

ص: 573


1- وسائل الشيعة: 20/296، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 18، ح1.
2- وسائل الشيعة: 20/258 أبواب مقدمات النكاح، باب 57، ح1.

رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما أشبه ذلك، فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)(1).أقول: لعل قوله: «يقول..» إلى آخره من شرح الراوي فالحديث مقتصر على الجزء الأول ولعله مختص بالجماع فلا يشمل كل صور البحث، وسيأتي ما يعارض هذه الرواية في الطائفة المقابلة من الروايات.

4- خبر الفقيه بسنده عن(2)

العلاء بن سيابة قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن امرأة وكّلت رجلاً بأن يزوّجها من رجل فقبل الوكالة فأشهدت له بذلك، فذهب الوكيل فزوجها ثم إنها أنكرت ذلك الوكيل، وزعمت أنها عزلته عن الوكالة فأقامت شاهدين أنها عزلته، فقال: ما يقول من قبلكم في ذلك؟ قال قلت: يقولون: ينظر في ذلك فإن كانت عزلته قبل أن يزوج فالوكالة باطلة والتزويج باطل، وإن عزلته وقد زوجها فالتزويج ثابت على ما زوج الوكيل، وعلى ما اتفق معها من الوكالة إذا لم يتعد شيئاً مما أمرت به واشترطت عليه في الوكالة، قال: ثم قال: يعزلون الوكيل عن وكالتها ولم تعلمه بالعزل؟ قلت: قلت: نعم يزعمون أنها لو وكّلت رجلاً وأشهدت في الملأ وقالت في الخلا(3):

اشهدوا إني قد عزلته، أبطلت وكالته بلا أن يعلم في العزل، وينقضون جميع ما فعل الوكيل في النكاح خاصة وفي غيره لا يبطلون الوكالة إلا أن يعلم الوكيل بالعزل، ويقولون: المال منه عوض لصاحبه والفرج ليس منه عوض إذا وقع منه ولد فقال (علیه السلام)، سبحان الله ما

ص: 574


1- المصدر السابق، باب 57، ح2.
2- فإن العلاء لم يوثق في كتب الرجال لكن السيد الخوئي وثّقه بناءً على وروده في تفسير القمي ووثقه غيره لرواية ابن أبي عمير عنه في موضع من الفقيه لكننا صححنا هذه الكبرى في المراسيل دون المسانيد.
3- في التهذيب (الملأ).

أجور هذا الحكم وأفسده إن النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط فيه وهو فرج، ومنه يكون الولد.. الحديث)(1).أقول: بتقريب الإنكار الشديد من قبل الإمام (علیه السلام) على ما يفتون به وهذا كاشف عن وجوبه.

ويرد عليه أن الإنكار راجع لاعتمادهم القياس والاستحسان في استنباط الأحكام فلا مجال لاستنباط وجوب الاحتياط وإلا فإن إمضاء العقد وعدمه مخالف للاحتياط.

5- صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم (علیه السلام) (سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة، أهي ممن لا تحل له أبداً؟ فقال: لا، أما إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك، فقلت: بأي الجهالتين يعذر؟ بجهالته أن يعلم أن ذلك محرم عليه أم بجهالته أنها في عدّة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأخرى، الجهالة بأن الله حرم ذلك عليه وذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها)(2)

بتقريب أن الاحتياط أخذ مسلّماً وإنما الكلام في إمكانه.

وتوجد روايات يُفهم منها هذا المعنى من خلال الأمر بالسؤال عن المرأة والفحص عن حالها إذا أراد التمتع بها، مثل:-

1- معتبرة أبي مريم عن أبي جعفر (علیه السلام) أنه سُئل عن المتعة فقال: (إن المتعة اليوم ليست كما كانت قبل اليوم، إنهن كنّ يومئذٍ يؤمَنّ، واليوم لا

ص: 575


1- وسائل الشيعة: 11/286، من ط. الإسلامية، أبواب الوكالة، باب 2، ح2. وفي 19/163 من ط. مؤسسة آل البيت غيّر لفظ (الخلا) في المتن بما يوافق التهذيب لكن الأول أنسب بموضع المسألة الذي هو صحّة تصرّف الوكيل إذا لم يكن يعلم بالعزل.
2- وسائل الشيعة: 20/450، أبواب ما يحرم بالمصاهرة، باب 17، ح 4. ط. آل البيت.

يؤمنّ فاسألوا عنهن)(1).

2- صحيح ابن أبي يعفور قال: (سألته عن المرأة ولا يدري ما حالها، أيتزوجها الرجل متعة؟ قال: يتعرض لها، فإن أجابته إلى الفجور فلا يفعل)(2).

3- صحيحة أبي عبيدة عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في الرجل يتزوج المرأةالبكر أو الثيب فيرخي عليه وعليها الستر أو غلق عليه وعليها الباب ثم يطلقها، فتقول: لم يمسّني، ويقول هو: لم أمسّها؟ قال: لا يصدقان، لأنها تدفع عن نفسها العدة ويدفع عن نفسه المهر)(3)

ومثلها رواية أبي بصير وفي نهايتها (يعني إذا كانا متّهمين).

ويستدل على (الأمر الثاني) بعدة روايات منها:-

1- صحيح ابن سنان قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الرجل يشتري الجارية ولم تحض؟ قال: يعتزلها شهراً إن كانت قد مست (يئست) قلت: أفرأيت إن ابتاعها وهي طاهر وزعم صاحبها أنه لم يطأها منذ طهرت، فقال: إن كان عندك أميناً فمسّها، وقال: إن ذا الأمر شديد فإن كنت لا بد فاعلاً فتحفظ لا تنزل عليها)(4).

2- صحيح ابن بزيع قال: (سألت أبا الحسن (علیه السلام) عن الجارية تشترى من رجل مسلم يزعم أنه قد استبرأها، أيجزئ ذلك أم لا بد من استبرائها؟ قال يستبرئها بحيضتين، قلت: يحلّ للمشتري ملامستها؟ قال: نعم ولا يقرب

ص: 576


1- وسائل الشيعة: 21/23، أبواب المتعة، باب 6، ح1.
2- وسائل الشيعة: 21/27، أبواب المتعة، باب 8، ح2.
3- وسائل الشيعة: 21/325، أبواب المهور، باب 56، ح3، 1.
4- وسائل الشيعة: 21/89، أبواب المتعة، باب 6، ح2.

فرجها)(1).

3- خبر أبي بصير في حديث أنه قال لأبي عبد الله (علیه السلام): (الرجل يشتري الجارية الصغيرة التي لم تطمث وليست بعذراء يستبرؤها؟ قال: أمرها شديد إذا كان مثلها يعلق فليستبرئها)(2).

فإن تشريع العدة والفحص عن كون المرأة ذات بعل أو لا وأنها استبرأت أو لا، واجتناب الإنزال خاصة دون سائر الاستمتاعات بالأمة، ونحو ذلك كلها دالة على المطلوب، حتى أن الفقهاء جعلوا حرمة إنزال الزاني حكماً آخر غير حرمة الزنا نفسه وأوجبوا على الزاني أن يتجنبالإنزال.

روايات معارضة لأصالة الاحتياط:

وفي مقابل هذه الروايات توجد روايات لا توجب الفحص بل في بعضها توبيخ عليه، منها:-

1- رواية مسعدة بن صدقة المتضمنة لقاعدة الحل فإنها طبقت القاعدة على ما نحن فيه ولولا ذلك لقلنا بتخصيصها، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة والمملوك عندك لعله حرّ قد باع نفسه أو خُدِع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يتبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة)(3).

ص: 577


1- وسائل الشيعة: 21/90، أبواب المتعة، باب 6، ح5.
2- وسائل الشيعة: 21/85، أبواب المتعة، باب 3، ح9.
3- الكافي: 5/313، ح 40، وسائل الشيعة: 17/89، ط. آل البيت، 20/60 ط. الإسلامية، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب4، ح4.

2- معتبرة عمر بن حنظلة قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إني تزوجت امرأة فسألت عنها فقيل فيها، فقال: وأنتَ لمَ سألت أيضاً؟ ليس عليك التفتيش)(1).

3- صحيح ميسّر قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): ألقى المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد فأقول لها: لك زوج؟ فتقول: لا، فأتزوجها؟ قال: نعم، هي المصدّقة على نفسها)(2).

أقول: يمكن القول أن رواية أبي مريم المتقدمة مخصصة لها.

4- رواية إسحاق بن عمار عن فضل مولى محمد بن راشد، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قلت: إني تزوجت امرأة متعة فوقع في نفسي أن لها زوجاً ففتشت عن ذلك فوجدت لها زوجاً، قال: ولم فتشت؟)(3).ونحوها مرسل مهران ورواية محمد بن عبد الله الأشعري في نفس الباب.

5- موثقة سماعة قال: (سألته عن رجل تزوج جارية أو تمتع بها فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال: إن هذه امرأتي وليست لي بيّنة؟ فقال: إن كان ثقة فلا يقربها، وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه)(4).

6- موثقة زرارة قال: (اشتريت جارية بالبصرة من امرأة فخبّرتني أنه لم يطأها أحد فوقعت عليها ولم استبرئها، فسألت عن ذلك أبا جعفر (علیه السلام) فقال: هو ذا أنا قد فعلت ذلك وما أريد أن أعود)(5).

ص: 578


1- وسائل الشيعة: 20/301، أبواب أولياء العقد، باب 25، ح1.
2- وسائل الشيعة: المصدر السابق، ح2.
3- وسائل الشيعة: المصدر السابق، ح 3.
4- وسائل الشيعة: 20/300، أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، باب 23، ح2.
5- وسائل الشيعة: 21/91، أبواب المتعة، باب 7، ح2.

7- رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: (سألت الرضا (علیه السلام) عن امرأة أحلّت لزوجها جاريتها فقال: ذلك له، قلت: وإن خاف أن تكون تمزح؟ قال: وكيف له بما في قلبها؟ فإن علم أنها تمزح فلا)(1).

8- معتبرة صالح بن عبد الله الخثعمي قال: (كتبت إلى أبي الحسن موسى (علیه السلام) أسأله عن أم ولد لي ذكرت أنها أرضعت جارية لي فقال: لا تقبل قولها ولا تصدقها)(2).

9- معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سألته عن امرأة تزعم أنها أرضعت امرأة وغلاماً ثم تنكر بعد ذلك: قال: تصدَّق إذا أنكرت ذلك، قلت: فإنها قالت: قد أرضعتهما، قال: لا تصدق ولا تنعم)(3).

والجمع بين الطائفتين يكون على وجوه:-

1- حمل الاحتياط على الاستحباب، وممن ذهب إليه صاحبالجواهر (قدس سرّه) وقد صرّح بذلك في مواضع عديدة من كتابه منها قوله (قدس سرّه): «وقاعدة الاحتياط في الفروج التي لا يجب مراعاتها»(4).

أقول: لسان بعض الروايات المتقدمة لا يناسب الاستحباب.

2- أنه أمر إرشادي لمنع حصول آثار يصعب تحمّلها فيما لو ظهر أن الاحتمال في محله، كما لو احتمل أنها أخته بالرضاعة فإنه إذا أقدم عليها وأصبحت له عائلة وأولاد ثم ظهر صحة الاحتمال ولازمه وجوب الانفصال وهو قرار صعب التنفيذ وكان يمكن تجنبه من البداية لو احتاط ولم يقدم على مثلها، أو ظهر أنها ذات بعل فتحرم عليه مؤبداً؛ لذا فرّقت بعض

ص: 579


1- وسائل الشيعة: 20/301، كتاب النكاح، أبواب عقد النكاح، باب 24، ح2.
2- وسائل الشيعة: 20/401، أبواب ما يحرم بالرضاع، باب 12، ح4.
3- وسائل الشيعة: 20/400، ح1، الباب السابق.
4- جواهر الكلام: 30/178.

الروايات بين ما قبل الزواج وما بعده فاحتاطت في الأول دون الثاني باعتبار أن الأمر أصبح واقعاً.

3- الإذعان بالتشدد ووجوب الاحتياط لأن بعض نصوصه آبية عن حملها على الاستحباب ولكن نحمله على موارد محددة كوجود علم إجمالي ولو في شبهة غير محصورة، أو إنها من موارد قاعدة الإلزام أو رجحان الظن بالشبهة الحكمية أو الموضوعية وعدم الوثوق بخبر الحلية.

أما إذا كانت الشبهة بدوية ومجرد احتمال فلا داعي للتثبت والسؤال والفحص، وإن الاحتياط في مثله خروج عن يسر الشريعة وسماحتها ونقض للغرض الإلهي المعبَّر عنه في الحديث الشريف (إن الله يحب أن يؤخذ برُخَصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه)(1)، ولعله يدخل في تحريم ما أحلّ الله تعالى فيكون تشريعاً محرّماً، «قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون» (يونس:59).

والوجه الأخير أقوى في مورده والوجهان الآخران قريبان في موردهما.قال بعض المعاصرين: «مقتضى تعليل الاحتياط في الفرج والنكاح بكونه منشأ للولد هو لزوم الاحتياط في التلقيح الصناعي، ولا مجال للرجوع إلى البراءة في مثله.

فالمستفاد من هذه الروايات هو لزوم الاحتياط في الشبهات الموضوعية والحكمية في النكاح والاستيلاد، ويعتضد ذلك بما تقرر في محله من عدم جواز الرجوع إلى البراءة العقلية والشرعية في الشبهة الموضوعية والمصداقية في باب الدماء والفروج والأعراض والنفوس مستدلاً باهتمام الشارع بحفظ هذه الموارد، وهو يمنع عن الترخيص في

ص: 580


1- وسائل الشيعة: 1/108، أبواب مقدمة العبادات، باب 25، ح1.

الاقتحام في شبهاتها وكاشف عن إيجاب الاحتياط؛ فلهذا لو رئي شبح من بعيد لم يُعلم أنه مهدور الدم أو محقونه لا يجوز رميه»(1).

ويرد عليه ما قدّمناه من عدم الدليل على وجوب الاحتياط، أما حرمة الرمي في المثال المذكور فليس السبب منحصراً بالاحتياط في الدماء وإنما لأمر آخر كغلبة الأفراد المحقونة، أو لمنافاته لوجوب التحفظ ونحو ذلك، لذا لو كان في معركة وأراد رمي العدو أمامه واحتمل وجود رهائن أو أسرى مسلمين بينهم فإن ذلك لا يمنع من جواز الرمي ولا يجب الاحتياط لهذه الشبهة، فتأمل(2).

ولو وجد امرأة على سرير الزوجية في غرفة نومه وكانت مظلمة فلا يجب عليه التبيّن لاحتمال أنها ليست زوجته(3).

ص: 581


1- السيد محسن الخرازي، مجلة فقه أهل البيت (علیهم السلام)، العدد 16، ص 111.
2- لعل وجهه منافاته لقوله تعالى: [وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً] (الفتح: 25)، ويمكن دفع المنافاة بوجود علم إجمالي في مورد الآية، أما المثال ففيه شبهة بدوية.
3- حكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف والحنابلة الحد عليه إذا بانت أنها ليست امرأته لوجوب التثبت عليه «ومجرد وجود المرأة على الفراش لا يصلح شبهة مسقطة للحد، ولا يلحقه النسب» (موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة: 13/603).
القاعدة الثانية: الولد للفراش.
اشارة

بحث شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الثاني عشر (صفحة 54) وما بعدها قاعدة الولد للفراش ، وجاء فيه:

قاعدة الولد للفراش

وهي مستفادة من الحديث النبوي الشريف (الولد للفراش وللعاهر الحجر) المتضمن في روايات كثيرة كصحيحة سعيد الأعرج عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال (سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد لمن يكون الولد؟ قال (علیه السلام): للذي عنده؛ لقول رسول الله |: الولد للفراش وللعاهر الحجر)(1) ولا نحتاج سرد المزيد من الروايات لشهرتها بين الفريقين، ولا التحقيق في السند للقطع بصدور الحديث.

ومن روايات العامة ما تقدم (2) في قضية عتبة بن أبي وقاص وعبد بنزمعة.

وساعد على انتشار الحديث الحماقة التي ارتكبها معاوية بإلحاقه زياداً بنسبه مما حفّز الكثير من الصحابة لنقل هذا الحديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله)

ص: 582


1- وسائل الشيعة: 21/174، أبواب نكاح العبيد، باب 58، ح4.
2- ما ورد في الصحيحين عندهم وغيرهما حتى عدّه السيوطي من الأحاديث المتواترة عن عائشة قالت: كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة منّي، فاقبضه، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص، وقال: ابن أخي قد عهد إليَّ فيه، فقام عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه.. فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله): هو لك يا عبد الله بن زمعة، ثم قال (صلی الله علیه و آله): الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة -زوج النبي (صلی الله علیه و آله)- احتجبي منه يا سودة؛ لما رأى شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله تعالى).

وعدّ الفعل من مثالب معاوية وموبقاته كما في رسالة الإمام الحسين (علیه السلام) له حيث قال: (أولستَ المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك وقد قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): الولد للفراش وللعاهر الحجر، فتركت سنة رسول الله (صلی الله علیه و آله) تعمداً وتبعت هواك بغير هدى من الله)(1).

وحاصل مفاد الحديث أن الولد يُنسب إلى صاحب الفراش إذا نازعه فيه غيره فادعاه لنفسه وللعاهر -أي الزاني- الحجر كناية عن الخيبة والخسران وعدم الاستفادة، كما لا يستفاد من الحجر، أو كناية عن الطرد واللعن كما يرمى الكلب بالحجر لطرده.

وقيل إن معنى المراد بالحجر الرجم به أي استحقاق العاهر -وهو الزاني- للرجم، والأول أظهر لأن الزاني قد لا يكون محصناً حتى يكون حكمه الرجم.

ولا يخفى ظهور الجملة في الحصر بقرينة تعريف المبتدأ بالألف واللام كقولهم: (الكرم والفصاحة في العرب).

والجملة وإن كانت خبرية إلا أنها تفيد الإنشاء أي وجوب إلحاق الولد بصاحب الفراش، فهي في مقام بيان الحكم الشرعي لتخلف الصدق عن الإخبار واقعاً وخارجاً أحياناً.

والمراد بالفراش الموجب لنسبة الولد إلى صاحبه الكناية عن وجود لقاء جنسي بين الطرفين ممضى شرعاً سواء كان بسبب النكاح بقسميه أوالملك وإنما قلنا: «وجود» للتأكيد على عدم كفاية الافتراش الشأني ومجرد وجود حق الافتراش شرعاً، وأن المراد بالفراش الافتراش الفعلي

ص: 583


1- رجال الكشي، ترجمة عمرو بن الحمق، رقم 13، الحديث 99.

خلافاً لما «يقوله العامة(1) من -كفاية- الافتراش شرعاً بمعنى أنه يحل له وطؤها فلو ولدت وإن لم يفترشها فعلاً ألحق به الولد، إذ هو مع ما فيه من فتح باب الفساد للنساء أشبه شيء بالخرافات»(2).

ويلحق بالفراش وطء الشبهة لاحترامه شرعاً قال صاحب الجواهر (قدس سرّه): «فالمتجه حينئذ الحكم به -أي لحوق الولد- لذي الوطء المحترم ما دام ممكناً»(3).

وقد يستدل على الإلحاق بأنه مقتضى المقابلة في الحديث مع العاهر وهو الزاني فيدخل في الجزء الأول من الحديث كل ما ليس بعهر وزنا.

لكن واطئ الشبهة ليس فراشاً وليس له هذا الحق، غاية الأمر أنه لا عقوبة عليه لجهله ولا تترتب عليه أحكام الزاني.

وينبغي بيان المراد من القاعدة وموارد تطبيقها من خلال أمور:

الأول: إن الإلحاق بصاحب الفراش مشروط بإمكانه شرعاً أو عادة أو عقلاً كأهلية صاحب الفراش للإنجاب فلو كان الرجل خصياً غير قادر على توليد الحيامن لم يلحق الولد به، ويتحقق إمكان الإلحاق باجتماع عدة أمور:-

1- أن تكون ولادته بعد مضي مدة أقل الحمل وهي ستة أشهر عن المباشرة الجنسية فإذا ولد تاماً سوياً قبل ذلك فهو من غيره، واستُدل عليه بضمّ قوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً» (الأحقاف:15) وقوله تعالى: «وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ» (لقمان:14) والروايات في ذلك مستفيضة بل

ص: 584


1- أي بعض العامة وهو ابو حنيفة دون غيره من علماء الجمهور (راجع الفه الاسلامي وأدلته: 7/639-646).
2- جواهر الكلام: 31/223.
3- جواهر الكلام: 31/249، 34/29.

متواترة(1).

2- أن لا تزيد المدة بين المباشرة الجنسية والوضع على أقصى مدة الحمل وهي تسعة أشهر من حين العلوق وزيادة أسبوعين تقريباً من أول الطهر الذي حبلت فيه وهو الأظهر من الروايات، ويؤكده علم الطب، وإذا وجدت حالة نادرة لأكثر من ذلك فيمكن العمل بها لأهمية الموضوع وتداعياته الخطيرة. وقد أفرط بعض العامة حتى أوصلوها إلى أربع سنين وست ونحو ذلك من الخرافات التي جعلوها مناقب لبعض أئمة مذاهبهم وقد كذّبهم الإمام الباقر (علیه السلام) في مرسلة عبد الرحمن بن سيّابة(2).

3- أن يحصل بين طرفي الفراش ما يمكن أن يكون سبباً للحمل وإن لم يكن على مستوى إلقاء المني في الفرج فلو ألقى خارجه على نحو يمكن أن تدخل الحيامن إلى الفرج كفى كما في رواية أبي البختري في قرب الإسناد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي (علیه السلام) قال: (جاء رجل إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: كنت أعزل عن جارية لي فجاءت بولد، فقال (صلی الله علیه و آله): إن الوكاء قد ينفلت، فألحق به الولد)(3).

وفي قرب الإسناد أيضاً بنفس السند عن جعفر بن محمد عن أبيه (علیه السلام) (أن رجلاً أتى علي بن أبي طالب (علیه السلام) فقال: إن امرأتي هذه حامل وهي جارية حدثة وهي عذراء، وهي حامل في تسعة أشهر ولا أعلم إلا خيراً وأنا شيخ كبير ما افترعتها وإنها لعلى حالها، فقال له علي (علیه السلام): نشدتك الله هل كنت تهريق على فرجها؟ قال: نعم.. إلى أن قال (علیه السلام): وقد ألحقت بك

ص: 585


1- وسائل الشيعة: 21/380، أبواب أحكام الأولاد، باب 17.
2- وسائل الشيعة: 21/380، أبواب أحكام الأولاد، باب 17، ح 3.
3- وسائل الشيعة: 21/378، أبواب أحكام الأولاد، باب 15، ح1.

ولدها)(1).

فلا بد من وجود هذا الاحتمال وإن لم يتأكد منه أو كان احتمالاً ضعيفاً، قال صاحب الجواهر (قدس سرّه): «مع فرض إمكان سبق المني وعدم الشعور به لا سبيل حينئذٍ للقطع بنفي الاحتمال ولو بعيداً مع تحقق مسمى الدخول، على أنه يمكن التولد من الرجل بالدخول وإن لم ينزل، ولعله لتحرك نطفة المرأة واكتسابها العلوق من نطفة الرجل في محلها أو غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا رب العزة»(2).

أقول: قوله: «ولعله لتحرك» إلى آخره غريب وبعيد عن الواقع إذ كيف يمكن حصول التلقيح من دون التقاء(3) إلا على نحو المعجزة كما حصل للصدّيقة مريم بنت عمران (علیها السلام)، ولعله تأثر بما «نُسب إلى ابن سينا أنه قال: يمكن أن يتحقق الانعقاد من كثرة معاشرة العاشق مع معشوقه وإن لم يتحقق دخول أصلاً كما في بعض الأمراض المعدية مثلاً، وعن العلامة أن النطفة والرحم جذابتان، وللجذب مراتب كثيرة»(4).

والخلاصة: أن مورد جريان القاعدة فيما إذا ولدت المرأة وشك في تكوّنه من ماء صاحب الفراش ليلحق به أو من ماء الزاني فإنه يلحق بصاحب الفراش ما دام ذلك ممكناً، فلا معنى لجريانها عند القطع بالخلاف لانتفاء موضوعها وهو الشك، ولا عند القطع بالوفاق لأنها من تحصيل الحاصل، نعم تجري عند الشك ووجود دعوى مخالفة لما تقتضيه الفراشية بل تجري حتى عند الظن بالخلاف كما لو وجد شبه بين الولد

ص: 586


1- وسائل الشيعة: 21/378، أبواب أحكام الأولاد، باب 16، ح1.
2- جواهر الكلام: 31/223.
3- قيل إن مثله يحصل في التلقيح العذري لبعض الحيوانات الثدية!!.
4- مهذب الأحكام للسيد السبزواري: 25/280.

والزاني أو قال القافة ذلك أو تحليل الحامض النووي DNA ونحو ذلك؛ لأنالشارع المقدس ألغى هذا الظن بل إن القاعدة شرعت لهذا كما في قضية ابن أبي وقاص.

وفي ضوء ما تقدم فإن زرق حيامن الزوج في رحم الزوجة من دون جماع أو إجراء التلقيح خارجاً مما يصحح إجراء القاعدة لصدق الفراشية عليه.

الثاني: الأقرب أنَّ هذه القاعدة أصل وليست أمارة خلافاً لبعض المحققين الذين ألّفوا في القواعد الفقهية كالسيد البجنوردي(1)

لأن لسانها ليس الكشف عن الواقع وإنما بيان الوظيفة العملية للشاك تعبداً كالاستصحاب ولا يكفي في اعتبارها أمارة كونها «غالب المطابقة، وهذا مناط جعلها أمارة»(2)

بل المناط ما ذكرناه.

ومن لطيف ما يشهد على أنها أصل: قضية عتبة بن أبي وقاص وابن عبد بن زمعة فقد ثبتت الفراشية لابن زمعة إلا أنه لم يثبت لوازمها كجواز تكشف أم المؤمنين سودة بنت زمعة فأمرها بالحجاب منه وهو أخوها بحسب القاعدة، وإن كان يمكن إرجاع الأمر إلى الاحتياط وهو حسن وأليق بعفاف نساء النبي (صلی الله علیه و آله)، لكن التردد الموجب للاحتياط غير متصور في حق النبي (صلی الله علیه و آله)، أو أنه من باب عمل النبي (صلی الله علیه و آله) بعلمه الواقعي وإن كان يجري القاعدة ظاهراً.

ومن باب فتح الذهن على كل الاحتمالات ننقل ما ذكره بعض العلماء من أن قاعدة الفراش «حكم حكومي من ناحيته (صلی الله علیه و آله) حفاظاً على مصالح

ص: 587


1- القواعد الفقهية: 4/37-40.
2- القواعد الفقهية للبجنوردي: 4/27.

النظام وصوناً للنسب والميراث؟ فإنه أوفق بظواهر الأحاديث، مثل حديث البحار حيث قال ابن عباس: (فإني لم أنفه بل نفاه رسول الله (صلی الله علیه و آله)؛ إذ قال (صلی الله علیه و آله):..) فإن نسبة النفي إليه (صلی الله علیه و آله) دون الله تعالى يكشف عن كونه من أحكامه (صلی الله علیه و آله) التي تجب إطاعته فيها بحكم قوله تعالى: «وَأَطِيعُوا الرَسُولَ»ومثل قولهم (علیهم السلام): (وليصبر؛ لقول رسول الله (صلی الله علیه و آله)..) كما في رواية الصيقل، وعلي بن جعفر، وسعيد؛ فإنه لو كان من حكم الله تعالى لكان الصبر لحكم الله، وكذا مثل قوله (صلی الله علیه و آله): (هو لك) كما في رواية عائشة، فإنه ظاهر في إنشاء الحكم في موارد التنازع. ويؤيد الوجه الأول أمره (صلی الله علیه و آله) باحتجاب سودة بعد قوله (صلی الله علیه و آله): (هو لك) كما في حديث عائشة؛ فإنه نوع احتياط حفظاً للواقع ولو في بعض آثاره»(1).

أقول: توجد هنا عدة تعليقات:-

1- إننا ناقشنا حمل تصرف رسول الله (صلی الله علیه و آله) على الاحتياط فيما سبق وقدّمنا وجهاً لفهمه.

2- إن لازم هذه الأطروحة أخذ القاعدة على نحو الموضوعية وهي ليست كذلك وإنما هي طريق للواقع فلو قطع بأن الولد من الزنا كما لو كان الزوج منقطع عن التواصل مع الزوجة فلا يمكن تطبيق القاعدة وإلحاقه بالزوج لذا تقدم اشتراط فعلية الفراش. نعم تجري القاعدة مع احتمال الفراش ولو كان ضعيفاً وهذا يعطيها شائبة موضوعية كما سنشير إليه (صفحة 594).

الثالث: لو ادعى الولد صاحب الفراش وواطئ الشبهة سواء كانت الشبهة حكمية كما لو تزوج امرأة قد طُلّقت طلاقاً غير صحيح، أو

ص: 588


1- الشيخ محسن حرم بناهي في مجلة فقه أهل البيت، العدد 10، ص 86.

موضوعية كما لو لم يعلم أنها أخته من الرضاعة، وهو وطء محترم شرعاً وليس عهراً، ففي المسألة وجوه:-

1- ما حكي عن «ظاهر الأصحاب أنه يُقرع بينهما»(1)؛

لأن القاعدة لا تجري باعتبار أن مورد جريانها كون التعارض بين دعوى صاحب الفراش ودعوى الزاني مع إمكان كل منهما فهذا التقابل شرط في جريانالقاعدة، والمقام ليس منه لأن الدعويين محترمتان شرعاً، ولا مرجّح لأحدهما على الأخرى وقد دلّت عليه عدّة روايات مثل صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) إلى اليمن فقال له حين قدم: حدثني بأعجب ما ورد عليك، قال: يا رسول الله، أتاني قوم قد تبايعوا جارية فوطئوها جميعاً في طهر واحد فولدت غلاماً واحتجّوا فيه كلهم يدعيه، فأسهمت بينهم وجعلته للذي خرج سهمه، وضمّنته نصيبهم، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنه ليس من قوم تنازعوا ثم فوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم المحق)(2).

أقول: مورد الرواية التنازع بين أصحاب فراش لأنهم وطأوا في الملك وإن خالف المشترون اللاحقون فوطأوا من غير استبراء، نعم يمكن تقريب كونه وطء شبهة باعتبار الوطء في مدة الاستبراء كوطء المعتدة جهلاً لكنه قياس مع الفارق لأن الجارية خلال مدة الاستبراء مما تحلّ له أما المعتدة فلا تحلّ له.

وتوجد روايات كثيرة توجب الرجوع إلى القرعة عند الاشتباه بالولد استدل بها على قول المشهور لكنها كلها خارجة عن فرض المسألة لأنها إما

ص: 589


1- القواعد الفقهية للبجنوردي: 4/43.
2- وسائل الشيعة: 21/172، أبواب نكاح العبيد، باب 57، ح4. ط. آل البيت.

بين أصحاب فراش أو زناة مثل صحيحة معاوية بن عمار وصحيحة سليمان بن خالد وصحيحة محمد بن مسلم والحلبي(1) وصحيحة أخرى للحلبي(2).

2- أن يقال بجريان القاعدة في المقام ويكون الولد لصاحب الفراش مطلقاً تمسكاً بإطلاق الجزء الأول من الحديث والنظر إليه كقاعدة مستقلة وأن الولد ما دام يمكن أن يكون من الفراش فهو للفراش خاصة سواءكانت الدعوى المقابلة للزاني أو لواطئ الشبهة الذي هو ليس صاحب فراش كما قلنا سابقاً ولا حاجة لتقييد الجزء الأول من الحديث بالجزء الثاني الذي جيء به لرد دعوى الزاني ولا يقيد إطلاق الأول، ومما يستدل به على ذلك رواية علي بن جعفر الآتية (صفحة 592) فالاحتمال دائر فيها بين صاحبي فراش أو فراش وشبهة باعتبار أن وطء المرأة في مدة الاستبراء كوطء المعتدة وإن كانت تحلّ له، ومع ذلك طبق النبي (صلی الله علیه و آله) الحديث بجزئه الأول إذ لا يوجد عاهر في البين.

وحينئذٍ لا وجه للقول بالقرعة لأنها لكل أمرٍ مشكل، والمفروض أن إجراء القاعدة قد حلّ الإشكال وألحق الولد بصاحب الفراش فلا موضوع للقرعة.

3- ترجيح صاحب الوطء الأخير سواء كان هو صاحب الفراش أو واطئ الشبهة ونقصد بالواطئ الأخير من لم يفصل وطؤه عن الوضع بوطءٍ آخر والذي وصفه الإمام (علیه السلام) بأنه الذي عنده المرأة، وقد دلّت عليه الروايات كصحيحة جميل بن دراج في الفقيه ومرسلة الشيخ في التهذيب عن أحدهما (علیهما السلام) (في المرأة تتزوج في عدتها، قال: يُفرَّق بينهما وتعتد عدة واحدة

ص: 590


1- المصدر السابق، ح1، 2، 3.
2- وسائل الشيعة: 26/280، أبواب ميراث ولد الملاعنة، باب 10، ح1.

منهما جميعاً فإن جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر فهو للأخير وإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر فهو للأول)(1).

ومحل الشاهد قوله: (فإن جاءت بولد) فإن مجيء الولد بعد ستة أشهر يجعله محتمل الانتساب إليهما لكن الإمام (علیه السلام) نسبه لواطئ الشبهة لأنه الأخير.

وصحيحة سعيد الأعرج عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سألته عن رجلين وقعا على جارية في طهر واحد لمن يكون الولد؟ قال: للذي عنده لقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): الولد للفراش وللعاهر الحجر)(2). وتقريب الاستدلال بناءًعلى أن الثاني وطأها بعد أن اشتراها أو عقد عليها من دون استبرائها.

الرابع: لو تعارضت دعويان لصاحبي فراش وكان بالإمكان إلحاق الولد بكليهما كما لو ولدت بعد مرور ستة أشهر من وطء الثاني وقبل انتهاء تسعة أشهر من وطء الأول بأن طلقها الأول واعتدّت بثلاثة قروء استمرت أقل من ثلاثة أشهر وتزوجت آخر ، حكى السيد البجنوردي (قدس سرّه): «بناء الأصحاب على الإلحاق بالثاني»(3)

واستدل له بأن المراد بالفراش هو الفراش الفعلي، ولا شك أن الفراش الفعلي هو الثاني دون الأول. وأشكل عليه بأن «لزوم الفعلية في الفراش أمر مسلَّم، ولكن في زمان الوطء لا في زمان الوضع، والمفروض أنه في زمان الوطء كان كلاهما فعليين».

وفيه: أنه بعد فرض فعلية الفراش لكليهما حين الوطء يكون المقدّم صاحب الفراش عند الوضع الذي اتصل وطؤه بالوضع، ويدل عليه عدة روايات كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا كان للرجل منكم الجارية يطؤها فيعتقها فاعتدت ونكحت، فإن وضعت لخمسة أشهر فإنه من

ص: 591


1- وسائل الشيعة: 21/383، أبواب أحكام الأولاد، باب 17، ح13.
2- وسائل الشيعة: 21/174، أبواب نكاح العبيد، باب 58، ح4.
3- القواعد الفقهية للبجنوردي: 4/45.

مولاها الذي أعتقها، وإن وضعت بعد ما تزوجت لستة أشهر فإنه لزوجها الأخير)(1)،

ورواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (علیه السلام) قال: (سألته عن رجل وطأ جارية فباعها قبل أن تحيض، فوطأها الذي اشتراها في ذلك الطهر، فولدت له، لمن الولد؟ قال (علیه السلام): للذي عنده، فليصبر لقول رسول الله (صلی الله علیه و آله): (الولد للفراش وللعاهر الحجر))(2)

ومثلها رواية الحسن الصيقل.

ويمكن أن يقال بالقرعة لصحيحة أبي بصير المتقدمة (3)

فإن الواطئينأصحاب فراش وإن كنّا قرّبنا وجهاً لاعتبار وطئهم شبهة. وعلى أي حال فما ذهب إليه المشهور أقرب ومعه لا يبقى موضوع للقرعة.

الخامس: لو تنازع في الولد واطئا شبهة أو أكثر أقرع بينهما مع إمكان الإلحاق بهما وقد يقال بإلحاقه بالأخير بنحو ما ذكرناه بمقتضى الروايات المتقدمة.

ولو تنازع واطئ شبهة مع زاني فهنا وجهان:-

1- إلحاق الولد بواطئ الشبهة تمسّكاً بإطلاق الحديث الشريف في جزئه الثاني؛ لأنه يقتضى طرد الزاني ولا يُسمع ادعاؤه مطلقاً سواء كان المدعي المقابل صاحب فراش أو واطئ شبهة ولا نسب للزاني مع الوليد،

ص: 592


1- وسائل الشيعة: 21/174، أبواب نكاح العبيد، باب 58، ح1.
2- وسائل الشيعة: 21/173، أبواب نكاح العبيد، باب 58، ح7، 3.
3- صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (بعث رسول الله (صلی الله علیه و آله) علياً (علیه السلام) إلى اليمن فقال له حين قدم: حدثني بأعجب ما ورد عليك، قال: يا رسول الله، أتاني قوم قد تبايعوا جارية فوطئوها جميعاً في طهر واحد فولدت غلاماً واحتجّوا فيه كلهم يدعيه، فأسهمت بينهم وجعلته للذي خرج سهمه، وضمّنته نصيبهم، فقال النبي (صلی الله علیه و آله): إنه ليس من قوم تنازعوا ثم فوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم المحق)

وقد حكي اتفاق الأصحاب عليه(1) خصوصاً مع تعبير الإمام (علیه السلام) في مكاتبة محمد بن الحسن القمي (الولد لغية) أي أن نسب ابن الزنا ملغى لكننا قلنا أن هذا الإلغاء بلحاظ الميراث لا مطلقاً بحسب ما ورد في نص الرواية.

2- الاقتراع بينهما إذا اقتصرنا على مورد الحديث وهو التقابل بين دعوى الفراش والزنا، ووطء الشبهة ليس منهما.

والأول أظهر.

فائدة: في جميع الموارد التي حكم فيها بالرجوع إلى القرعة يجب اليوم الاستفادة من (البصمة الوراثية) وهي البنية الجينية -نسبة إلى الجينات أي المورثات- التي تدل على هوية كل إنسان بعينه؛ لأن القرعة لكل أمر مشكل، والمفروض أن هذه الوسيلة العلمية تعطي نتائج دقيقة في إسناد العينة - التي يمكن أخذها من خلية بشرية سواء من الدم أواللعاب أو المني أو البول وغيرها - إلى صاحبها، وبذلك يرتفع موضوع القرعة بزوال الإشكال والحيرة، فقاعدة القرعة هنا محكومة على نحو الورود.

إن البصمة الوراثية وسيلة علمية يطمأن إليها(2)

في إسناد العينة إلى صاحبها وتقوم دليلاً على العلاقة النسبية بين الوالدين وأولادهما إلا أنه لا يجوز العمل بنتيجتها عند وجود حكم شرعي أو قاعدة شرعية حاكمة كقاعدة الولد للفراش لأن هذه القاعدة حاكمة على النتائج العلمية حيث:

ص: 593


1- القواعد الفقهية للبجنوردي: 4/47.
2- قال بعض المتخصصين أن نسبة الخطأ أي احتمال تشابه بصمتين وراثيتين بين شخص وآخر هو واحد من 64 مليار وقيل واحد من تريليون مع أن سكان الأرض لا يصلون إلى 8 مليار (موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة: 13/62)، لكن أخطاء القائمين على عملية الفحص وقراءة النتائج محتملة.

أسّسها الشارع المقدس لحفظ النظام الاجتماعي العام بغضّ النظر عن الواقع، كما في رواية ابن زمعة حيث ألحقه النبي (صلی الله علیه و آله) بصاحب الفراش مع شبهه بالزاني وعلمه (صلی الله علیه و آله) الواقعي بكونه من الزنا لذا أمر أم المؤمنين سودة بنت زمعة بالتحجب منه.

ويشترط في الاستفادة منها ومن سائر الوسائل العلمية إفادة العلم أو الاطمئنان وعدم وجود دليل شرعي حاكم في المورد فلا يثبت بالبصمة الوراثية انتفاء نسب ولد على فراش الزوجية، ولا يثبت الزنا في ما لو كشف تحليل البصمة على أن هذا الماء الموجود في مهبل المرأة من أجنبي أو أن بصمة الولد طابقت بصمة رجل أجنبي لاشتراط الشهود في إثبات العملية وهكذا.

إن قلتَ: تقدم أن قاعدة الفراش مأخوذة على نحو الطريقية فلو قطع بأن الولد ليس من الزوج فإنه لا يجوز إلحاقه به، وعلى هذا فالوسائل العلمية القطعية حاكمة عليها فلماذا لا يصح إثبات النسب بالبصمة الوراثيةحتى في حالة وجود الفراش؟.

قلتُ: إن نسبة الخطأ في البصمة الوراثية وغيرها من الوسائل العلمية موجودة ولا يمكن إهمالها ولو من جهة القائمين على عملية الفحص وقراءة النتائج لغايةٍ ما خصوصاً مع تفشي الفساد المالي والإداري، ومع وجود هذا الاحتمال فإن قاعدة الفراش محكّمة.

وبتعبير آخر: إن قاعدة الفراش تجري طالما وجد احتمال لنسبة الولد إلى صاحب الفراش ولو كان ضئيلاً وهو موجود.

وهذه القوة من الحجية حتى في مورد الاحتمال الضعيف يعطيها شائبة موضوعية تممت هذه الكاشفية الضعيفة مراعاة لحفظ النظام الاجتماعي.

والخلاصة أنه يستفاد من البصمة الوراثية كوسيلة إثبات في المواضع

ص: 594

التي لا يوجد فيها دليل شرعي حاكم، ومن تلك الموارد(1):-

1- التعرف على الجاني لتبرئة غيره عندما تتطابق العينة مع صاحبها، أما ثبوت العقوبة على المتهم صاحب العيّنة فيمكن دفعه بقاعدة (الحدود تدرأ بالشبهات).

2- تمييز حالات الاشتباه بين المواليد كما في المستشفيات ومراكز رعاية الأطفال وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب.

ومن النصوص الواردة في تمييز مثل هذا الاشتباه بوسائل الإثبات المعروفة صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (كان لرجل على عهد علي (علیه السلام) جاريتان فولدتا جميعاً في ليلة واحدة، فولدت إحداهما ابنا والأخرى بنتاً، فعمدت صاحبة البنت فوضعت بنتها في المهد الذي فيه الابن وأخذت ابنها، فقالت صاحبة البنت: الابن ابني، وقالت صاحبةالابن: الابن ابني فتحاكما إلى أمير المؤمنين (علیه السلام)، فأمر أن يوزن لبنهما، وقال: أيتهما كانت أثقل لبناً فالابن لها)(2).

بتقريب تجريد ثقل اللبن عن الخصوصية وإنما هو وسيلة للتمييز فيُعمَّم إلى الوسائل الأخرى.

3- حالات التنازع على مجهول النسب في موارد عدم جريان قاعدة الولد للفراش وانتفاء الأدلة أو تساويهما كما لو دار أمر الولد بين زانيين أو واطئ شبهة، أو بين صاحب فراش وواطئ شبهة كما ذهب إليه المشهور باعتبار عدم وجود عاهر حتى يطرد حيث أوكل الفقهاء الحل إلى القرعة.

4- حالات ضياع الأطفال واختلافهم بسبب الحوادث أو الحروب وتعذر

ص: 595


1- التزم بأكثرها «مجلس المجمع الفقهي الإسلامي» في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة 21-26/10/1422 الموافق 5-10/1/2002.
2- وسائل الشيعة: 27/286، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 21، ح6.

معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين.

5- تنقيح موضوع حرمة النكاح بين رجل وامرأة بأن ادعى شخص أن هذه المرأة أخت الرجل فتحرم عليه ونفى الآخر، فإذا ثبت بالبصمة الوراثية أنها أخته -بغضّ النظر عن جريان قاعدة الفراش في المرتبة السابقة- حرم نكاحها، وإنما خصصنا العنوان بحرمة النكاح دون بقية آثار النسب للإجماع على حرمة النكاح بالمحارم وإن كانت من الزنا، أما لو كان الأثر لا يترتب إلا على الابن من الفراش فإن نتيجة البصمة لا تنفع لأنها لا تميّز بين ابن الفراش وابن الزنا، كما لو ادعى أحد استحقاقه من الميراث وثبت بالبصمة أنه ابن فهذا لا يكفي في اشتراكه بالميراث لاحتمال أنه ابن من الزنا.

6- لزيادة الاطمئنان وإزالة الشك بانتساب ولده الذي ولد على فراشه إليه وقد وردت بعض الروايات في إفادة الشبه بين الرجل وولده هذه النتيجة كصحيحة يعقوب بن يزيد قال: (كتبت إلى أبي الحسن (علیه السلام) في هذاالعصر: رجل وقع على جاريته ثم شك في ولده؟ فكتب (علیه السلام): إن كان فيه مشابهة منه فهو ولده)(1)

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (علیه السلام) في من كان يطأ جاريته ثم شك في حملها من غيره قال (علیه السلام): (إن كان الولد لك أو فيه مشابهة فلا تبعهما، فإن ذلك لا يحل لك، وإن كان الولد ليس منك ولا فيه مشابهة منك فبعه وبع أمه) (2)،

فالمشابهة هنا تعزّز الانتساب بقاعدة الفراش وليست دليلاً مستقلاً، وقوله (علیه السلام): (وإن كان الولد ليس منك) أي

ص: 596


1- وسائل الشيعة: 21/168، أبواب نكاح العبيد، باب 55، ح5، 4.
2- وسائل الشيعة: 21/168، أبواب نكاح العبيد، باب 55، ح5، 4.

لم يولد على فراشك.

وفي ضوء هذا الحمل يُعلم النقاش في استدلال فقهاء العامة ببعض الروايات الواردة في صحاحهم كالمروي عن عائشة قال: (إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري مجزّراً -المدلجي الكناني- نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) (1)

وكان زيد أبيضاً وأسامة أسود على حجية قول القائف وإن اختلفوا في التفاصيل(2)

وهو ليس صحيحاً وإن الحجة هي قاعدة الفراش وإنما يفيد الشبه هنا سكون النفس واطمئنانها.

ومن الغريب مناقشة بعض فقهاء العامة المعاصرين في حجية البصمة الوراثية مع ذهابهم إلى حجية قول القائف لوضوح الفرق في قوة الإثبات بين القيافة -وهي إثبات النسب بالشبهة- التي تفيد الظن والبصمة الوراثية التي تفيد العلم.

إن قلتَ: لعل الفرق وجود النص على حجية القيافة دون البصمةالوراثية.

قلتُ: إن المشكلة ليست إثباتية حتى يكون الفيصل هو النص وإنما هي ثبوتية باعتبار أن حجية القيافة من باب أنها طريق للواقع ووسيلة للإثبات فيلاحظ هذا الملاك في البصمة الوراثية.

ص: 597


1- مسند أحمد: 6/38. صحيح مسلم: 4/172. سنن أبي داود: 1/505، باب في القافة، ح 2267. سنن الترمذي: 3/298، باب ما جاء في القافة، ح 2212. وغيرها.
2- موسوعة الفقه الإسلامي والقضايا المعاصرة: 13/68.
القاعدة الثالثة: ملكية الإنسان لأعضائه.
اشارة

تعتبر ملكية الانسان لأعضائه واحدة من المسائل التي لاقت اهتماما وبحثا في الفترات المتأخرة ولاكثر من سبب ، منها: جواز تبرع الانسان بأعضائه ، وبيعه لها ، وجواز قطعها او جرحها ، وما شابه ذلك ، فكل هذه التصرفات موقوفة على طبيعة العلاقة الرابطة بين الانسان وأعضائه.

وقد بحث سماحة شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) هذه المسالة في الجزء الثاني عشر (صفحة 242) وما بعدها ، اذ قال سماحته:

لا شك لدى العقلاء أن للإنسان سلطة على نفسه وأعضائه، بل هو عين نفسه ولا يمكن التفكيك بين أجزائه، لذا فهو يتصرف فيها بما يشاء لا يوقفه عن ذلك إلا نهي الشارع كقتل النفس والإضرار بها أو إذا منعته القوانين العقلائية والوضعية.

وقد بنى الشارع المقدس على هذه السلطنة كما في قوله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ» (الأحزاب:6) التي تسلِّم بولاية الإنسان على نفسه وتريد أن تثبت أولوية النبي (صلی الله علیه و آله) من أي شخص بالولاية على نفسه وأن ولاية المعصوم أشد وأأكد، وأشهدَ النبي (صلی الله علیه و آله) أصحابه على ذلك وأخذ إقرارهم بها حيث استنشدهم في خطبة الغدير المتواترة (ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم)(1) فقالوا: (بلى)، وكقوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ» (البقرة: 207) ولا يصح بيع نفسه -بأي معنى أريد من البيع هنا- إلا إذا كان أمرها موكولاً إليه.

ومن الأحاديث موثقة سماعة قال: (قال أبو عبد الله (علیه السلام): إن الله فوّضإلى

ص: 598


1- وسائل الشيعة: 29/356، أبواب ديات الأعضاء، باب 48.

المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يذل نفسه ألم تسمع لقول الله عز وجل: «ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين» فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً، يعزه الله بالإيمان والإسلام)(1).

ولذا استحق دون غيره الدية والقصاص إزاء أي جناية تجري عليه أو العفو عن الجاني.

ولذا أيضاً لم يجز التصرف في أعضائه إلا بإذنه مهما كان التصرف بسيطاً حتى على مستوى غمز اليد كما في صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) -من حديث- قال: (إن عندنا الجامعة، قلت: وما الجامعة؟ قال: صحيفة فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الأرش في الخدش، وضرب بيده إلي فقال: أتأذن يا أبا محمد؟ قلت: جعلت فداك إنما أنا لك فاصنع ما شئت، فغمزني بيده وقال: حتى أرش هذا)(2).

واستدل بعض أعلام العصر بمفهوم الموافقة والأولوية من قاعدة «الناس مسلطون على أموالهم»(3)

بتقريب «إن مقتضى سلطنة الناسعلى

ص: 599


1- وسائل الشيعة: 16/157، أبواب الأمر والنهي، باب 12، ح2. الكافي: 5/63.
2- وسائل الشيعة: 29/356، أبواب ديات الأعضاء/ باب 48
3- بحار الأنوار: 2/272 عن عوالي اللئالي: 1/457، ح 198 عن النبي مرسلاً، و 2/138، ح383، و 3/208، ح 49، وأرسله الشيخ في الخلاف (3/176) وورد في مصادر العامة مثل (السنن الكبرى: 6/100، سنن الدارقطني: 3/26، حديث 91) إلا أنها لم ترد كرواية في جوامع الأحاديث وإن ألمح صاحب الوسائل إلى تواترها (وسائل الشيعة: 19/68، ط. أهل البيت) وعلى أي حال فإن مضمونها صحيح دلّت عليه روايات معتبرة كثيرة كرواية الكليني عن الإمام الصادق (علیه السلام) (الرجل يكون له الولد أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال: هو ماله يصنع به ما يشاء إلى أن يأتيه الموت) وقوله: (إن لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حياً إن شاء وهبه، وإن شاء تصدق به، وإن شاء تركه إلى أن يأتيه الموت) (الكافي: 7/7-10، باب: إن صاحب المال أحق بماله).

أموالهم سلطنتهم على أنفسهم بطريق أولى، بل يكون ذلك من شؤون هذا»(1).

أقول: الأولوية بعيدة عرفاً ومتشرعياً؛ للقطع بأن مساحة التصرف بالمال أوسع من النفس فقد يقال بسلطنة الإنسان على ماله ولا يلزم منه القول بسلطنته على نفسه، ولعله (قدس سرّه) لاحظ فيها جانب النفي لا الإثبات أي أنه إذا لم يجز التصرف بالمال إلا برضا مالكه، فمن باب أولى لا يجوز التصرف في نفسه إلا بإذنه لأن حرمة النفس أشد من حرمة المال في الجملة، وهو معنى صحيح، لكن لا يصلح الاستدلال به في المقام.

نعم يمكن تصوّر أن السلطة على النفس أوسع من السلطة على المال لأن في المال نحو حق للمجتمع لذا حرم اكتنازه وجعلت ضريبة -وهي الزكاة- على تجميده وعدم استثماره في تحريك عجلة الاقتصاد، فافهم(2).

ولمعرفة جواز تصرفه بأعضائه من التبرع بها أو الوصية بها بعد وفاته ينبغي أن نحقق في شكل سلطنته على أعضائه.

ولا شك أن سلطنة الإنسان على أعضائه ليست على نحو الملكية الحقيقية التكوينية لأنها خالصة لله تعالى الخالق العظيم «وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا» (المائدة: 17) فله حق الإيجاد والإعدام والتصرف المستقل، وقد استخلف الإنسان على ما في يده «وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ» (النمل:62) حتى ملكية أمواله فإنها في طول هذاالاستخلاف، قال

ص: 600


1- كتاب الزكاة للشيخ المنتظري: 4/263.
2- لعل وجهه أن النفس كذلك فللآخرين حق عليه في قضاء حوائجهم وإغاثة ملهوفهم والدفاع عن مظلومهم إلى حد القتال والقتل، قال تعالى: [وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً] (النساء:75).

تعالى: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» (الحديد:7).

ومقتضى هذا الاستخلاف والسلطنة والولاية على النفس جواز التصرف بالبدن إلا ما ورد النهي عنه وممن اختار هذا المعنى السيد الخميني، قال (قدس سرّه): «وربما تعتبر السلطنة في بعض الموارد، ولا يعتبر الحق ولا الملك، كسلطنة الناس على نفوسهم، فإنها عقلائية، فكما أن الإنسان مسلط على أمواله، مسلط على نفسه، فله التصرف فيها بأي نحو شاء، لولا المنع القانوني لدى العقلاء، والشرعي لدى المتشرعة»(1).

وهذا المعنى أوسع مما قاله بعض الأعلام من أن قاعدة السلطنة: «لا تدل بنفسها على جواز كل تصرف، بل تدل على جوازه في كل مورد ثبت جوازه ومشروعيته من الخارج»(2) للقطع بجواز ما لا يحصى من التصرفات من دون ورود دليل شرعي على جوازها بخصوصها سوى هذه السلطنة، فأجاز الفقهاء بيع الدم مثلاً لغرض عقلائي وهو جزء من البدن.

فهذه هي حدود ملكية الإنسان للتصرف في أعضائه بغضّ النظر عن العناوين والمصطلحات التي جرت على ألسن العلماء ثم صارت محلاً للنزاع فسمّيت (الملكية الذاتية) و(الملكية الاعتبارية) و(العلاقة التمليكية) وغير ذلك.

ونفى بعض الأعلام أن يكون الإنسان مالكاً لماله فضلاً عن بدنه، وإنما هي أمانة عنده، وحكي عنه أنه وصف من يقول غير ذلك بالنظرة القارونية، ولعله يشير إلى القول المحكي عن قارون «قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى

ص: 601


1- كتاب البيع من الموسوعة الكاملة: 1/33.
2- السيد محسن خرازي: مجلة فقه أهل البيت (علیهم السلام)، العدد 19، ص 86.

عِلْمٍ عِندِي» (القصص: 78)، ولكن مراجعة كلماته تكشف عن نفيه الملكية المستقلة عن الله تعالى لا مطلق الملك، وإنما وصف بالقارونية مناعتقد باستقلال ملكه عن الله تعالى، قال: «المسألة الأخرى في مجال معرفة الحقوق الإنسانية هي موضوع ملكية الإنسان. ولا شك أنّ الإنسان صاحب عقل وإرادة وقدرة على اتخاذ القرار، وقادر على القيام بالعمل، لكن هل يملك تقرير مصيره أيضاً بحيث يمكنه أن يرسمه وفقاً لما يريد؟ وهل يملك أمواله ملكاً تامّاً بحيث يمكنه إنفاقها حيث يرغب ويحب؟ وهل يملك حياته ملكية مستقلّة، وهو مختار أن ينهي حياته متى شاء وبأيّة طريقة شاء؟ وهل للإنسان ولاية وملكية مطلقة على نفسه وماله وعرضه وأبنائه بحيث له الحق في التصرّف فيها بالبيع والهبة أو الإجارة والرهن؟.... عقيدتنا الدينية قائمة على أنّ وجود الإنسان وهويته ومصيره أمانة إلهية، وهو أمين لله، فلا يمكنه أن يتدخّل ويتصرّف في مصيره بأيّ نحو أراد، فشخصية الإنسان وهويته هي من الحقوق الإلهية... والحاصل: أنّه وفقاً لمبنى الأمانة فإنّ حقوق وتكاليف الإنسان تُنَظَّم بنحو توجهه في مسار كونه أميناً على ماله، وهويته ومصيره...».

«وأمّا الذي تكون نظريته الاعتقادية قائمة على أساس الملكية، وليس الأمانة؛ فإنّه يحمل فكراً قارونياً وفرعونياً... والقرآن الكريم يعرض المجابهة بين منطقي الملكية والأمانة بنحو رائع، ويخبرنا عن قوم شعيب (علیه السلام) قائلاً: «قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ»، فمنطق النبي شعيب (علیه السلام) هو أنّكم أمناء على الأمانة الإلهية، ومنطق قومه هو أنّه بما أنّنا كسبنا هذا الأموال فيحق لنا أن نتصرّف فيها كيف نشاء... وفي مسألة الحياة فالأمر أيضاً كذلك؛ أي إذا رأى الشخص نفسه مالكاً لحياته ولنفسه فربّما يرى أنّ

ص: 602

له الحق في الانتحار، أو حينما يتصور أنّه مالك لجسمه فسوف يرى أنّ حقه البديهي هو جواز بيعه أو رهنه أو إجارته للآخرين، أو أن يسلّمجسمه للرذيلة...»(1).

أقول: يظهر من كلامه (دام ظله) أنه يقصد بالأمانة الإلهية معنى الاستخلاف الذي ذكرناه المتضمن للملكية غير المستقلة عن الله تعالى، وليس المعنى الشرعي مقابل الملكية، ولو كان مراده من الأمانة هذا المعنى لما جاز للأمين التصرف فيها بأي نحو كان لأن واجبه حفظها كما هي وهو ما لا يقول به (دام ظله).

والخلاصة أن العقلاء يرون أن ملكية الإنسان لجسده ملكية حقيقية لأن البدن جزء من حقيقته فإنه حينما يقول: أنا يريد بها مجموع بدنه وروحه ولا يمكن التفكيك بينه وبين أجزائه، وهذه الملكية وجدت معه باستخلاف الله تعالى له عليه وليست اعتبارية نشأت من الجعل والاعتبار من أحد ببيع أو شراء أو هبة أو إباحة أو غيرها، لكن مع الالتفات إلى أمور:-

1- إن هذه الملكية ليست مستقلة عن ملك الله تعالى الخالق البارئ؛ لذا عليه أن يتقيد بحدود الاستخلاف التي يضعها له الشارع المقدس كعدم إلقاء النفس في التهلكة وعدم الإضرار بها والإذلال لها، مما ذكره الأعلام وسنشير إليها في المطلب الآتي إن شاء الله تعالى.

ولا بد أيضاً أن نضيف قيداً آخر لهذه الملكية، إذ ليس للإنسان سلطة على بدنه بحيث يستعمله في المعصية كسقيه خمراً أو إطعامه الميتة أو خروج المرأة سافرة فضلاً عن تسليم جسدها للرذيلة.

ص: 603


1- حكاه في مجلة أهل البيت (علیهم السلام)، العددان: 71-72، ص 145-146 عن الشيخ جوادي آملي في كتاب (الحق والتكليف في الإسلام) بالفارسية: 95-98.

2- وبما أن الدليل على هذه السلطنة هو بناء العقلاء فلا بد أن نضيف إلى القيود قيداً آخر وهو أن لا يكون هناك مانع عقلائي بحيث يُعَدُّ الفعل سفهياً أو عبثياً أو غير عقلائي كقطع جزء من جلده أو لحمه أو إحداثجرح في رأسه أو في أي جزء آخر ونزف الدم منه أو التقلب في الأوحال الآسنة أو ضرب الظهر بسكاكين حادة أو ممارسة بعض الرياضات العنيفة كالملاكمة، فإنها كلها مما تتوفر فيها القيود المذكورة عند الفقهاء ويكون مقتضى كلماتهم جوازها وهو كما ترى، إذ لا يتردد العقلاء في استهجانها وتشديد النكير على فاعليها، فسلطة الإنسان على نفسه لا تتسع لمثل هذه التصرفات، وما ذكروه من القيود غير كافٍ للمنع من أفعال كثيرة يقضي وجدان الفقهاء وارتكازهم بالمنع منها.

3- إنها ليست كملكية الإنسان للأموال وإنما هي ملكية الزمام والسلطنة على التصرف فيها فلا يقال إن القول بالملكية يلزم وجوب الخمس عليه وتحقق الاستطاعة للحج وخروجه عن حد الحاجة والفقر لأنه يملك يداً بكذا وعيناً بكذا وكلية بكذا.

أو يقرَّب الجواب بأن ملكية هذه الأعضاء شأنية كملكيته للجاه الاجتماعي الذي يستطيع أن يجني به أموالاً كثيرة، بينما يتوقف تنجيز الأحكام المذكورة على فعلية التملك.

ويصدق عنوان الملكية على السلطنة بهذا النحو نظير ملكية الرجل لزمام الزوجية وعصمة المرأة فإنها بيده وقد عبّرت الروايات عنها بالملك كموثقة معمر بن يحيى آل سام عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (لا يطلّق الرجل إلا ما ملك، ولا يعتق إلا ما ملك، ولا يتصدق إلا بما ملك)(1)،

وهي

ص: 604


1- وسائل الشيعة: 22/34، أبواب مقدمات الطلاق، باب 12، ح10، 11.

متحدة المعنى مع الحديث النبوي الذي جمع الأمور كلها في لفظ واحد وهي رواية عامية عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (لا يجوز طلاق ولا بيع ولا عتق ولا وفاء نذر في ما لا يملك)(1).

حكم قطع أعضاء الإنسان

بعد ان تبين مما سبق تبني شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) وجود سلطنة للإنسان على أعضائه ؛ يأتي البحث في مسالة جواز قطعه لتلك الأعضاء باعتباره مستخلفا عليها ، وليس له حرية التصرف فيها كيفما شاء.

وقد بحث (دامت بركاته) هذه المسالة تارة فيما اذا قطع العضو من إنسان حي ، واُخرى فيما اذا قطع من إنسان ميت.

وقد جاء هذا البحث في الجزء الثاني عشر (صفحة 249) وما بعدها ، ونص ما جاء فيه هو:

انتهينا في المطلب الأول إلى أن الإنسان له سلطنة على أجزاء بدنه ونتيجته جواز تصرفه فيها بأنحاء التصرفات ومنها منحها إلى آخر وأن القطع مشروط بإذنه وإلا كان تصرفاً في سلطان الغير من دون إذنه وهو أولى من أخذ الأموال بالحرمة، وكان هتكاً لحرمته وهو فعل محرم.

لكن هذا الجواز مقيد بعدم ورود النهي عنه في الشريعة لأن الإنسان مستخلف على بدنه وليس حرّاً يعمل فيه ما يشاء.

ولمعرفة هذه القيود نقسِّم الكلام إلى جهتين:

(الجهة الأولى) إذا كان المقطوع منه حيّاً وكان مسلماً أو غيره من محترم النفس والمال، وهنا عدة قيود:

ص: 605


1- مسند أحمد: 2/190.
القيد الأول: أن لا يؤدي إلى قتل النفس

فإن حرمة قتل النفس من المسلَّمات لأن إيجاد الحياة وإعدامها من مختصات الخالق تبارك وتعالى تكويناً وتشريعاً، ومن الآيات الكريمة الدالة على الحرمة قوله تعالى: «وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً» (النساء: 29) وقال تعالى في تعظيم قتل النفس «أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» (المائدة:32) وهي شاملةبإطلاقها لقتل نفسه.

والنهي لا يقتصر على قتل النفس مباشرة أي الانتحار بل تعم الأفعال المسببة لقتل النفس كإلقاء نفسه وسط الأعداء ليقتلوه قال تعالى: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (البقرة: 195) وأوضح مصاديق التهلكة السبب المؤدي إلى قتل النفس كأن يذهب إلى موضع وباء قاتل بلا إجراءات وقائية، فهو تعبير أبلغ عن حرمة قتل النفس بالنهي عن أسبابها ومقدماتها كما في معتبرة محمد بن مسكين عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: (قيل له: إن فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه فمات، فقال: قتلوه، ألا سألوا؟! ألا يمموه؟! إن شفاء العيّ السؤال)(1) فإنهم قتلوه بجهلهم باعتبار أنهم لم يكونوا يعلمون أن الغسل سيؤدي إلى الموت لكنهم أقدموا على مظنة الخطر.

وقد دلّت الروايات على حرمة قتل النفس ومنها صحيحة أبي ولاد الحناط عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (من قتل نفسه متعمداً فهو في نار جهنم خالداً فيها)(2) وفي رواية ناجية عن الإمام الباقر (علیه السلام) (إن المؤمن

ص: 606


1- وسائل الشيعة: 3/346، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، باب 5، ح1.
2- وسائل الشيعة: 19/378، كتاب الوصايا، باب 52، ح1.

يبتلى بكل بلية ويموت بكل ميتة إلا أنه لا يقتل نفسه)(1)، وفي رسالة الحقوق للإمام السجاد (علیه السلام) قال: (وحقّ السلطان أن تعلم أنك جُعلت له فتنة وأنه مبتلى فيك بما جعله الله عز وجل له عليك من السلطان، وأن عليك أن لا تتعرض لسخطه فتلقي بيدك إلى التهلكة، وتكون شريكاً له فيما يأتي إليك من سوء)(2).والروايات التي دلّت على حرمة قتل النفس ووجوب حفظها مما لا يُحصى كثرة وهي شاملة بإطلاقها لمن قتل نفسه، روي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)(3) وفي الحديث (المؤمن أعظم حرمة من الكعبة)(4).

القيد الثاني: حرمة الإضرار بالبدن

والكبرى ثابتة والصغرى متحققة لأن فقدان العضو ضرر.

بيان الكبرى: أن الحديث المتواتر عن النبي (صلی الله علیه و آله) (لا ضرر ولا ضرار)(5) جملة خبرية فهو ينفي وجود حكم ضرري في الإسلام ولو بلسان نفي الموضوع، وأنه لا يشرع للمكلفين حكماً فيه ضرر عليهم، ولو أدّى حكم عند تطبيقه إلى ضرر فإنه غير داخل في إطار الشريعة وليس منها ولا بد أن خللاً ما في التطبيق قد حصل كما في قضية سمرة بن جندب.

ويمكن أن يكون جملة إنشائية فيفيد النهي عن كل ما يوجب الضرر

ص: 607


1- وسائل الشيعة: 29/24، أبواب القصاص في النفس، باب 5، ح3.
2- وسائل الشيعة: 15/174، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، باب 3، ح1.
3- كنز العمال: ح 39880.
4- الخصال: 1/16.
5- الكافي: 5/293، باب (الرجل يتكارى البيت والسفينة)، ح2. وسائل الشيعة: 18/32، أبواب الخيار، باب 17، ح3.

بالنفس والإضرار بالآخرين؛ لأن النهي عن المعلول أبلغ في الدلالة عن النهي عن العلة، ولأن «الضرر معلول لعلل وأسباب مختلفة، فنفي المعلول نفي لجميع أنحاء علله سواء كانت العلة هي الأحكام الشرعية، فإن العمل بها ربما يكون موجباً للضرر، أو إطلاق السلطنة على المال والنفس، فإنه ربما يؤدي إلى الضرر، أو لزوم بعض المعاملات، أو عدم جعل حق الشفعة وغير ذلك. فإطلاق نفي المعلول يدل على نفي العلل»(1).ولو قيل بأن «مفاد الفقرة الأولى أنه لا يتوجه إلى المكلف في محيط الشرع ضرر فهي ناظرة إلى ورود الضرر عليه من الخارج ومنصرفة عن ورود الضرر على الإنسان من ناحية نفسه، فلازمها أنه لا يصل إلى الإنسان ضرر في محيط القانون، فلم يحمّل عليه ما يضرّ به، ولم يجوّز للغير إيراد الضرر عليه وأما إضرار الإنسان بنفسه فهو خارج ومنصرف عنه.

كما أن ظاهر المصدر في الفقرة الثانية أيضاً هو الإضرار بالغير وإيراد الضرر عليه فلا يعم إيراد الشخص للضرر على نفسه»(2).

قلنا: لا وجه لدعوى الانصراف مع ظهور الحديث في الإطلاق، ولو تنزّلنا فإن ما قيل لا يضرُّ بالاستدلال لأن الحديث حينئذٍ يدل بالأولوية على حرمة إيقاع الضرر على النفس لأن الحديث مبني على استثارة هذه الحقيقة المركوزة في الفطرة، فكما أن الإنسان لا يرضى بإيقاع الضرر على نفسه منه بل يتحرى لها كل خير ومنفعة وسعادة ورفاهية ودعة، وإن الشريعة أقرَّت ذلك وبنت عليه وتوقفت عن تشريع أي حكم ضرري، كذلك على الإنسان أن لا يتسبب بإيقاع الضرر على الآخرين، ولا يجوز للآخرين أن

ص: 608


1- السيد محسن الخرازي في مجلة فقه أهل البيت (علیهم السلام)، العدد 19، ص 62.
2- كلمات سديدة في مسائل جديدة، الشيخ محمد المؤمن القمي: 158. ط. جماعة المدرسين، 1415 هج.

يلحقوا الضرر به أيضاً.

ومن الروايات الدالة على حرمة الإضرار بالبدن الروايات الدالة على أن ملاك الأحكام الشرعية هي المصالح والمفاسد فلا بد أن تدور أفعال الإنسان في مدارها، وهي من الروايات التأسيسية لفقه المصالح، كرواية محمد بن عذافر عن أبيه عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قلت له: لمَ حرم الله الخمر والميتة ولحم الخنزير والدم؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما وراء ذلك من رغبة في ما أحل لهم، ولا زهد فيما حرمه عليهم، ولكنه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله لهم وأباحه لهم وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه، ثم أحلهللمضطر في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به)(1).

ومثلها رواية تحف العقول عن الصادق (علیه السلام) في حديث عمّا يحل أكله مما أخرجت الأرض قال: (كل شيء من الحب مما يكون فيه غذاء الإنسان في بدنه وقوته فحلال أكله، وكل شيء يكون فيه المضرة على الإنسان في بدنه فحرام أكله إلا في حال الضرورة. والصنف الثاني ما أخرجت الأرض من جميع صنوف الثمار كلها مما يكون فيه غذاء الإنسان ومنفعة له وقوة به فحلال أكله وما كان فيه المضرة على الإنسان في أكله فحرام أكله. والصنف الثالث جميع صنوف البقول والنبات وكل شيء تنبت من البقول كلها مما فيه منافع الإنسان وغذاء له فحلال أكله وما كان من صنوف البقول مما فيه المضرة على الإنسان في أكله نظير بقول السموم القاتلة ونظير الدفلى وغير ذلك من صنوف السم القاتل فحرام أكله.. الحديث)(2).

ص: 609


1- وسائل الشيعة: 25/9، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، باب1، ح1.
2- وسائل الشيعة: 25/84 أبواب الأطعمة المباحة، باب 42، ح1. تحف العقول: 337، ط. جماعة المدرسين، 1404 هج.

بتقريب أن الرواية دلّت على أن علّة تحريم ما نهاهم عنه هو ضرره على الإنسان وهي كبرى كلية تدلّ على حرمة الإضرار بالنفس وضعف سند الرواية مجبور بإطباق جوامع الحديث على روايتها.

ومثلها رواية العلل عن محمد بن سنان عن الإمام الرضا (علیه السلام) وفيها (إنه لم يحلّ إلا لما فيه من المصلحة للأبدان، وحرَّم ما حرّم لما فيه من الفساد)(1).

ومنها ما دلّ على سقوط الواجبات الشرعية مثل الصوم والغسل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أضرّت بالإنسان كحديث الإمام الصادق(علیه السلام) في الفقيه قال: (كل ما أضرّ به الصوم فالإفطار له واجب)(2) وصحيحة البزنطي عن الرضا (علیه السلام) (في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح، أو يكون يخاف على نفسه من البرد؟ فقال: لا يغتسل ويتمم)(3).

وغيره من الأحاديث في نفس الباب.

والخلاصة أن كبرى حرمة الضرر ثابتة شرعاً في الجملة وعند العقلاء وحكي عليها الإجماع وهو حكم موافق للفطرة السليمة وحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل إذا كان ذا أهمية وقد زوَّد الله تعالى الإنسان بما يستشعر به الخطر ويدفعه للابتعاد عنه كالمثال الذي ذكرناه في كتاب الرياضيات للفقيه(4).

وإنما قلنا (في الجملة) للقطع بأن ليس كل ضرر حراماً ولو كان بسيطاً يتسامح به العقلاء، كالتملّي من الطعام فتقيَّد الحرمة بالضرر المعتد به،

ص: 610


1- علل الشرائع: 592.
2- جامع أحاديث الشيعة: 9/284 عن الفقيه.
3- وسائل الشيعة:3/347، كتاب الطهارة، أبواب التيمم، باب 5، ح7.
4- الرياضيات للفقيه: 88، ط 5.

ويمكن أن يستدل على هذا التقييد بأكثر من وجه:-

أ- ظهور الروايات المتقدمة لاستعمالها ألفاظاً تعبّر عن هذا المستوى من الضرر كقوله (علیه السلام) في رواية العلل (فيه الفساد).

ب- بناء العقلاء على ذلك مما يشكل دليلاً لبّياً ارتكازياً على التقييد.

وأما الصغرى: فلأن كل عضو في جسم الإنسان يؤدي وظيفة معينة فقطعه يلزم منه الإخلال بتلك الوظيفة ونقص في البدن، وما الضرر إلا هذا النقص في النفس كالمال، ومن أمثلته التبرع باليدين أو الرجلين أو العينين أو اللسان، وأمثال ذلك مما يفهم عدم جوازه من مذاق الشارع، أو التعرض للإصابة بأمراض خطرة مضرة بحياته وأهله -كالشلل مثلاً- أو أوبئة سارية مضرّة لغيره من المسلمين وهو لا يقدر على ضبطها وعدمنشرها.

ويرد عليه:-

1- ليس كل قطع يسبب نقصاً في الوظيفة كالتبرع بكلية واحدة فإن الكلية الأخرى تتكيف لإنجاز الوظيفة وحدها فلا يحرم، لكن إذا خاف الضرر لاحتمال فشل هذه الكلية أو عدم قدرتها على أداء الوظيفة بشكل جيد ولو مستقبلاً حرم التبرع بها لأن وجوب دفع الضرر عن النفس ثابت ابتداءً واستدامةً أي في الحال والمستقبل.

2- ليس كل نقص في النفس أو المال يعدّه العقلاء ضرراً فلو كان لغرض عقلائي فإنه ليس كذلك كالتبرع بالمال في وجوه البر والإحسان أو التضحية بالنفس من أجل غاية نبيلة، ومنها منح أحد أعضائه لقضاء حاجة مهمة وبإذنه واختياره.

3- ولو عُدّ ضرراً فقد لا يكون الضرر حراماً أو قبيحاً إذا تحقق بارتكابه غرض أهم منه مادي أو معنوي كصرف المال في سفرة سياحية للنزهة، وكذهاب التجار في أسفار مخيفة خصوصاً في الأزمنة السابقة من أجل

ص: 611

تحقيق أرباح مالية؛ لذا لم يحرّم أغلب الفقهاء التدخين مع إقرارهم بمضارّه لأن المدخن يجد فيه راحة نفسية أو تهدئة للبال ونحو ذلك مما ذكروه.

فإطلاق الصغرى غير تام في المقام وإنما تصحّ في الجملة عندما يكون الضرر معتداً به عند العقلاء فلا مانع من قطع العضو مع ما فيه من الضرر وإدخال النقص على بدنه إذا كان لغرض عقلائي راجح ولم يكن الضرر مما يتسامح به العقلاء لولا هذا الغرض، أي أنه ضرر لكن يجوز ارتكابه فلا يقال «إن الدواعي العقلائية لا تخرج التنقيض عن كونه ضرراً»(1) لأن النظر إلى الحكم وليس إلى الموضوع.

القيد الثالث: عدم إذلال النفس

فلو تسبَّب التبرع بالعضو في إذلال المؤمن وتحقيره حَرُم كقطع الأنف مثلاً أو قطع اليد مما يوهم بأنه سارق أو قطع الأذن عندما كان يشير إلى ارتكاب جريمة ما ونحو ذلك ، حيث ورد في الروايات الكثيرة أن الله تعالى حين استخلف الإنسان على ما خوّله به فإنه لم يأذن له بأن يذلّ نفسه:

(منها) موثقة سماعة، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): (إن الله عز وجل فوّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، أما تسمع لقول الله عز وجل: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً؛ يعزّه الله بالإيمان والإسلام)(2).

(ومنها) موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إن الله فوض إلى

ص: 612


1- السيد محسن الخرازي، مصدر سابق: ص 81.
2- الكافي: 5/63، ح2، وسائل الشيعة: 16/157، أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما، باب 12، ح2.

المؤمن كل شيء إلا إذلال نفسه)(1).

فإذا أحدث قطع العضو شيناً يوجب ذلّه للمؤمن فإنه منهي عنه.

تتميم: هذه هي القيود التي ذكرها الأعلام لعملية قطع عضو من البدن، وقد تحصَّل من البحث في هذه الجهة جواز القطع بعد مراعاة القيود المذكورة، لكن إطلاق هذه النتيجة وسعتها فيه محذور التشجيع على بيع الأعضاء البشرية والمتاجرة بها مما يستهجنه العقلاء، كما أنها لا تمنع من التصرفات غير العقلائية التي أشرنا إليها (2)

لذا لا بد من إضافةقيد آخر وهو:

القيد الرابع: وجود مسوِّغ شرعي وغرض عقلائي كإنقاذ نفس محترمة أو التخلص من حرج شديد أو أمر الولي الفقيه ونحو ذلك.

ويستدل على هذا التقييد بأمور:-

1- ارتكاز المتشرعة على عدم سعة النتيجة التي ذكروها لأن وجدانهم يقضي بالمنع من كثير من التصرفات التي لا تقع ضمن هذه القيود الثلاثة

ص: 613


1- المصدر السابق: ح3.
2- يقصد قوله (دامت بركاته): وبما أن الدليل على هذه السلطنة هو بناء العقلاء فلا بد أن نضيف إلى القيود قيداً آخر وهو أن لا يكون هناك مانع عقلائي بحيث يُعَدُّ الفعل سفهياً أو عبثياً أو غير عقلائي كقطع جزء من جلده أو لحمه أو إحداث جرح في رأسه أو في أي جزء آخر ونزف الدم منه أو التقلب في الأوحال الآسنة أو ضرب الظهر بسكاكين حادة أو ممارسة بعض الرياضات العنيفة كالملاكمة، فإنها كلها مما تتوفر فيها القيود المذكورة عند الفقهاء ويكون مقتضى كلماتهم جوازها وهو كما ترى، إذ لا يتردد العقلاء في استهجانها وتشديد النكير على فاعليها، فسلطة الإنسان على نفسه لا تتسع لمثل هذه التصرفات، وما ذكروه من القيود غير كافٍ للمنع من أفعال كثيرة يقضي وجدان الفقهاء وارتكازهم بالمنع منها.

وقد ذكرنا أمثلة عليها هنا وفي (صفحة 247) (1).

2- بناء العقلاء الذي هو الدليل على السلطنة مطابق لهذا الارتكاز كما تقدم.

3- انصراف أدلة السلطنة عن هذه السعة.

لذا يجب أن نفهم ما جوّزه السيد الخوئي (قدس سرّه) في كلامه الآتي: من قطع الجلد والفخذ على أساس هذا القيد أي لغرض شرعي أو عقلائي وليس مطلقاً، إذ أنه بدون هذا القيد يكون العمل مستنكراً لدى العقلاء.

لذا ذكر الأصحاب جواز قطع شيء من لحم الفخذ ونحوه من الأجزاءاللحمة في باب الاضطرار المؤدي إلى الهلاك المبيح لأكل الميتة وستأتي بعض كلماتهم في الفرع الآتي.

نكتة: نقارن فيها بين ما ذكرناه هنا من قيود جواز قطع الأعضاء مع ما ذكرناه (صفحة 247) (2) من حدود سلطنة الإنسان على نفسه حيث ذكرنا هناك عدم وجود مانع عقلائي أما هنا فاشترطنا وجود غرض عقلائي والأول أوسع من الثاني للتسالم على جواز موارد عديدة كالتملّي من الطعام أزيد من الحاجة لإقامة أوده حيث ورد في الحديث الشريف (حسب

ص: 614


1- يقصد قوله (دامت بركاته) إن هذه الملكية ليست مستقلة عن ملك الله تعالى الخالق البارئ؛ لذا عليه أن يتقيد بحدود الاستخلاف التي يضعها له الشارع المقدس كعدم إلقاء النفس في التهلكة وعدم الإضرار بها والإذلال لها، مما ذكره الأعلام وسنشير إليها في المطلب الآتي إن شاء الله تعالى. ولا بد أيضاً أن نضيف قيداً آخر لهذه الملكية، إذ ليس للإنسان سلطة على بدنه بحيث يستعمله في المعصية كسقيه خمراً أو إطعامه الميتة أو خروج المرأة سافرة فضلاً عن تسليم جسدها للرذيلة.
2- اَي ما نقلناه في الهامشين السابقين.

ابن آدم لقيمات يقمن صلبه)(1) وغيره من الأفعال الكثيرة التي لا يمانع العقلاء من ممارسة الإنسان سلطنته على نفسه في مواردها مع عدم وجود غرض عقلائي فيها بينما لا يسمحون بقطع العضو ونحوه من التصرفات بالبدن إلا عند وجود غرض عقلائي راجح.

تنبيه: قسّم السيد الخوئي (قدس سرّه) الأعضاء التي يجوز قطعها والتي لا يجوز بلحاظ كون العضو رئيسياً أم لا، قال (قدس سرّه): «هل يجوز قطع عضو من أعضاء إنسان حي للترقيع إذا رضي به؟ فيه تفصيل: فإن كان من الأعضاء الرئيسية للبدن كالعين واليد والرجل وما شاكلها لم يجز، وأما إذا كان من قبيل قطعة جلد أو لحم فلا بأس به، وهل يجوز له أخذ مال لقاء ذلك؟ الظاهر: الجواز»(2).

أقول: في كلامه (قدس سرّه) عدة مواضع للنظر:-

أ- ظهر مما تقدم عناوين القيود الموجبة للحرمة وليس منها ما ذكره (قدس سرّه)، فالعبرة بتلك العناوين، فالعين من الأجزاء الرئيسية ولا يجوز التبرع بها ولكن إذا كان الشخص فاقد البصر لسبب ما ولا أمل في شفائه لكنبعض أجزاء عينه كالقرنية أو الشبكية يمكن لغيره الاستفادة منها لمعالجة بصره فقد يقال بجواز التبرع بها لعدم منافاة القيود المذكورة فالعبرة بها، اللهم إلا أن يكون عنوان (العضو الرئيسي) انتزاعياً جامعاً للأعضاء التي ينافي قطعها أحد تلك القيود ولا بأس بذلك.

ب- التعليق الآنف على إطلاق الجواز في قطع شيء من الجلد أو اللحم.

ج- الظاهر أن ذكره قطعة الجلد واللحم في الشق الثاني ليس من باب

ص: 615


1- بحار الأنوار: 63/329 عن عدة الداعي، لأحمد بن فهد الحلي: 74.
2- المسائل المنتخبة: 418، مسألة (40). منهاج الصالحين: 1/428، مسألة (40).

المثال وإنما هو تنظير لمستوى الأجزاء التي يجوز قطعها وأكّد هذا في جواب استفتاء وُجِّه إليه: «ما المقصود من الأعضاء الرئيسية للبدن التي لا يجوز قطعها» فأجاب (قدس سرّه): «هي في قبال قطعة لحم أو جلد من الأجزاء اليسيرة»(1) فيكون الجواز عنده أضيق لكن مقتضى المقابلة مع الأعضاء الرئيسية أوسع من ذلك، وقد صرّح به في موضع آخر، فقد سُئل: «هل يجوز للإنسان أن يتبرع إلى أخيه المؤمن بإحدى عينيه أو إحدى كليتيه أو بعض أعضاء جسمه التي يمكن الاستغناء عنها؟» فأجاب (قدس سرّه): «أما التبرع بإحدى الكليتين أو بعض أعضاء الجسم مما لا يكون من الأعضاء الرئيسية كاليد أو الرجل فلا بأس به، وأما التبرع بإحدى العينين فهو غير جائز»(2).

فرع: قد يجب قطع العضو من البدن عندما يكون تركه سبباً لسريان الضرر إلى أجزاء البدن الأخرى فضلاً عما لو كان يؤدي إلى الهلاك فكان حفظ حياته متوقفاً على قطعه.

أو لتوقف إنقاذ حياته على قطع شيء من جسده ليأكله عند الاضطرار لحفظ الحياة، قال صاحب الجواهر (قدس سرّه) في شرح عبارة الشرائع: «(ولو لم يجد المضطر ما يمسك رمقه سوى نفسه) بأن يقطع قطعة من فخذهونحوه من المواضع اللحمة فإن كان الخوف فيه كالخوف على نفسه في ترك الأكل أو أشد حرم القطع قطعاً، وإن علم السلامة حل قطعاً، بل وجب. وإن كان أرجى للسلامة (قيل:) جاز له أن (يأكل من المواضع اللحمة كالفخذ) لأنه إتلاف بعض لاستبقاء الكل، فأشبه قطع اليد مثلاً بسبب الآكلة. (وليس شيئاً) عند المصنف (إذ فيه دفع الضرر بالضرر، ولا كذلك جواز قطع

ص: 616


1- المسائل الشرعية: 2/318، السؤال (73).
2- المسائل الشرعية: 2/305، السؤال (15).

الآكلة، لأن الجواز هناك إنما هو لقطع السراية الحاصلة، وهنا إحداث سراية).

لكن قد يناقش بأن حدوث السراية على هذا التقدير غير معلوم، والفرض كون المضطر خائف الهلاك بسراية الجوع على نفسه كسراية الآكلة».

أقول: لا وجه للمنع حتى لو احتملنا السراية لأنه يدفع بذلك ضرر الهلاك عن نفسه. وقوله (قدس سرّه): «وهنا إحداث سراية» ظاهر في المنع من مطلق قطع الأعضاء فهو (قدس سرّه) يسدّ باب عملية زرع الأعضاء من أولها لكن كلامه (قدس سرّه) يدل على أن التحريم لأجل العنوان الثانوي وهو سراية الجرح وليس لأصل القطع، فلو كانت العملية الجراحية تجرى بإتقان كما في الأزمنة المعاصرة فلا مانع من القطع.

ثم بيّن صاحب الجواهر (قدس سرّه) حكم قطع شيء من جسد الآخر لينقذ به حياته أو قطع شيء من جسده لإنقاذ حياة الآخر فقال (قدس سرّه): «نعم لا يجوز له أن يقطع من غيره ممن هو معصوم الدم اتفاقاً، كما في المسالك، إذ ليس فيه إتلاف البعض لإبقاء الكل، بل الظاهر ذلك وإن قطع بسلامة المقطوع منه. وكذا لا يجوز للإنسان أن يقطع جزءاً منه للمضطر وإن قطع بالسلامة إلا أن يكون المضطر نبياً، فإنه يجوز وإن قطع بالسراية، والله العالم»(1).أقول: فهو (قدس سرّه) يمنع قطع الأعضاء لإنقاذ الآخرين مطلقاً وينسبه إلى اتفاق الأصحاب.

ويلاحظ على كلامه (قدس سرّه) أن الجواز لا يختص بما ذكره (قدس سرّه) من كون النفس المراد إنقاذها للنبي بل مطلق النفس المحترمة؛ لأن مما لا شك فيه

ص: 617


1- جواهر الكلام: 36/442-443.

أن من أعظم ما اهتم به الشارع المقدس حفظ حياة الناس ووجودهم قال تعالى: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» (المائدة: 32) ولأجل ذلك أوجب تعلّم مهنة الطب وجوباً كفائياً لمعالجة مرضاهم حتى أوجب القتال للدفع عنهم قال تعالى: «وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً» (النساء: 75) وفي خبر السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (علیهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) من سمع رجلا ًينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم)(1)، وبالأولوية من قول أمير المؤمنين (علیه السلام): (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): من ردّ عن قومٍ من المسلمين عادية ماءٍ أو نار، وجبت له الجنة)(2).

فيكون المقام حينئذٍ من موارد التزاحم بين حرمة القطع ووجوب حفظ النفس، والثاني أهم، فيقدم.

ومن الواضح فقهياً جواز ارتكاب المحرّمات لحفظ النفس كالحلف كاذباً والتصرف بالمغصوب وجواز تقطيع الولد الميت في بطن الأم وإخراجه لحفظ حياتها، وجواز شق بطن الأم الميتة لإنقاذ الجنين الحي في بطنها؛ بضميمة عدم الفرق في حرمة القطع بين الحي والميت.وهذا العمل يقرّه بناء العقلاء فقد جوزوا اقتحام المخاطر كالحريق ولجج الماء لإنقاذ الغريق والمحترق والمهدّد بالقتل ويعدّونه فعلاً نبيلاً يستحق المدح والثناء.

ص: 618


1- وسائل الشيعة: 16/337، أبواب فعل المعروف، باب 18، ح3.
2- وسائل الشيعة: 15/142، أبواب جهاد العدو، باب 60، ح1.
(الجهة الثانية) إذا كان المقطوع منه ميتاً

يمكن الاستدلال على حرمة قطع شيء من أعضاء الميت بعدد كبير من الروايات يمكن تقسيمها إلى طائفتين:

الطائفة الأولى: الروايات الدالة على حرمة التمثيل بالميت حتى لو كان كافراً محارباً وقد تكرّر هذا النهي في وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لقادة الجيوش والسرايا التي كان يرسلها كما في صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله (علیه السلام) وخبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (علیه السلام)(1) وفيهما قول رسول الله (صلی الله علیه و آله): (لا تغلّوا ولا تمثّلوا).

ومما ورد في وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لولديه الحسن والحسين (علیهما السلام) لما ضربه اللعين قال (علیه السلام): (انظروا إن أنا متّ من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثّلوا بالرجل فإني سمعت رسول الله | يقول: إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور)(2).

أقول: يرد على الاستدلال بها بما في معاجم اللغة من أن التمثيل هو القطع بهدف التنكيل والمبالغة في العقوبة فالدليل أخص من المدّعى الذي هو حرمة القطع مطلقاً.

الطائفة الثانية: الأحاديث الشريفة الدالة على حرمة الميت كحرمة الحي بمعنى أن كرامة الميت واحترامه مصونان محفوظان كما لو كان حياً، ومنها:-1- صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في رجل قطع رأس الميت؟ قال: عليه الدية لأن حرمته ميتاً كحرمته وهو حي)(3).

ص: 619


1- وسائل الشيعة: 15/58-59، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 15، ح2، 3.
2- نهج البلاغة: 3/77، قسم الكتب والرسائل، العدد 47.
3- وسائل الشيعة: 29/327، كتاب الديات، أبواب ديات الأعضاء، باب 24، ح4.

بتقريب أن وجوب الدية لا يلازم عرفاً حرمة الفعل، أو أن الإمام (علیه السلام) لم يشر إلى حرمة الفعل لوضوحه فانتقل إلى بيان وجوب الدية.

2- صحيحة مسمع كردين قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل كسر عظم ميت؟ فقال: حرمته ميتاً أعظم من حرمته وهو حي)(1).

3- صحيحة جميل وصفوان عن رجالهم قال: (قال أبو عبد الله (علیه السلام): أبى الله أن يظن بالمؤمن إلا خيراً، وكسرك عظامه حياً وميتاً سواء)(2).

4- رواية محمد بن مسلم في الكافي عن أبي جعفر (علیه السلام) في حديث وفاة الحسن (علیه السلام) ودفنه، قال: (إن الله حرم من المؤمنين أمواتاً ما حرم منهم أحياء)(3).

5- رواية العلا بن سيابة وفيه: (قال رسول الله |: حرمة المسلم ميتاً كحرمته وهو حي سواء)(4).

6- معتبرة الحسين بن خالد -بطريق البرقي- قال: (سئل أبو عبد الله (علیه السلام) عن رجل قطع رأس ميت؟ فقال: إن الله حرّم منه ميتاً كل ما حرَّم منه حيّاً)(5).

وحاصل هذه الروايات حرمة كل تصرف في بدن الميت كما يحرم ببدن الحي إلا بإذنه حتى على مستوى غمز اليد كما تقدم في رواية أبيبصير حيث استأذنه الإمام في ذلك.

فلا يجوز قطع عضو من الميت كما لا يجوز من الحي، وفي بعض

ص: 620


1- المصدر السابق، باب 25، ح 5.
2- المصدر السابق: باب 25، ح4.
3- المصدر السابق: باب 25، ح3.
4- وسائل الشيعة: 3/219، كتاب الطهارة، أبواب الدفن، باب 51، ح1.
5- وسائل الشيعة: 29/325، أبواب ديات الأعضاء، باب 24، ح2.

الروايات يشمل النهي حتى الشعر والظفر ففي معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الميت يكون عليه الشعر فيحلق عنه أو يُقلَّم، قال: لا يمسّ منه شيء، اغسلْه وادفنه)(1) ومصححة ابن أبي عمير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (لا يُمَسُّ من الميت شعرٌ ولا ظفر وإن سقط منه شيء فاجعله في كفنه)، فيجب دفن جميع أجزائه معه.

ومقتضى إطلاق هذه الروايات حرمة قطع أعضاء الميت مطلقاً سواء كانت للعدوان والتشفي والعبث أو لأغراض عقلائية كتعليم طلبة الطب أو لزرعها في إنسان آخر.

لكن هذا الإطلاق منقوض بما دلّ على الرخصة في بعض الحالات كموت الولد في بطن أمه فيقطَّع ويخرج، أو عند موت الأم وبقاء الجنين حياً فتُشَقُّ بطن الأم ويخرج، ففي مصححة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه(2) عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في المرأة تموت ويتحرك الولد في بطنها، أيُشق بطنها ويخرج الولد؟ قال: فقال: نعم ويخاط بطنها)(3) وفي موثقة علي بن يقطين عن العبد الصالح (يُشَق بطنها ويخرج ولدها) ومثلها روايات عديدة، وفي صحيحة أبي البختري عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في المرأة يموت في بطنها الولد فيتخوف عليها، قال: لا بأس أن يدخلالرجل يده فيقطعه ويخرجه)(4).

ص: 621


1- وسائل الشيعة: 2/500، أبواب غسل الميت، باب 11، ح3.
2- هذا في الكافي وقد عُرِّف في نفس الرواية في التهذيب أنه ابن أذينة مما يقوي استقراء أن ابن عمير لا يرسل إلا عن ثقة خصوصاً عند استعمال مثل هذا التعبير.
3- وسائل الشيعة: 2/470، أبواب الاحتضار، باب 46، ح1، 2.
4- وسائل الشيعة: 2/470، أبواب الاحتضار، باب 46، ح3.

ومنقوض برواية الحسين بن زرارة (1) في جواز فعل من أخذ سنّ الميت ووضعه في أسنانه.

ويمكن النظر(2) إلى هذه الموارد من ناحية إثباتية بأنها تخصيص في حكم الحرمة ونقول إنها خرجت بالدليل الخاص ويبقى عموم الحرمة على حاله في غيرها، لكننا نعتقد أن هذه النظرة قاصرة لأمور:-

1- إن المقيس عليه وهو الحي لم تكن حرمة القطع منه مطلقة وإنما في الجملة بلحاظ القيود المذكورة هناك فلا يكون المقيس أوسع من المقيس عليه.

2- يلزم منه تخصيص الأكثر لكثرة الموارد المستثناة من الحرمة الداخلة في العناوين الآتية.

3- للإحساس الوجداني بأن هذه الموارد خرجت من الحرمة لا لخصوصية فيها وإنما بني خروجها على نكتة ثبوتية علينا اكتشافها من الأدلة لأن هذا الإحساس ليس دليلاً بمفرده وإنما هو منبّه ومحرِّكللبحث باتجاه اكتشاف حقيقة ما.

وحاصل هذه النكتة الثبوتية: أن إطلاق الحكم بعدم جواز القطع غير

ص: 622


1- الحسين بن زرارة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سأله أبي وأنا حاضر عن الرجل يسقط سنّه، فيأخذ سنّ إنسان ميت فيضعه مكانه، قال: لا بأس). تهذيب الاحكام: 9/ 78.
2- هنا نؤسس لمطلب أصولي: وهو أن خروج بعض الموارد من تحت عام أو مطلق قد لا يعبِّر عن مجرد تخصيص أو تقييد فيهما وإنما يكون كاشفاً عن أن العموم والإطلاق غير تام في نفسه والخارج عنهما لا يقتصر على المذكورات أي أن نكتة الخروج ثبوتية يمكن أن تعمِّم الخارج لا إثباتية بالدليل الخاص مقتصرة على المذكورات فيُنظر في الأدلة لاكتشاف النكتة الثبوتية. ويتفرع على هذا المطلب أن ما أسسناه في علم الأصول من دخول الفرد المشكوك تحت العام إذا لم يتيقن دخوله تحت الخاص صحيح إلا أن يكشف الخاص عن ضيق دائرة العام.

تام في نفسه؛ لوضوح أن مناطه هو احترام الميت وأن حرمته كحرمة الحي فيحرم من القطع ما انطبق عليه عنوان هتك الحرمة، فالموارد السابقة لم تخرج تخصيصاً وإنما تخصصاً لعدم دخولها في العنوان المحرّم.

وهذا المعنى ظاهر من معتبرة الفضل بن يونس الكاتب عن أبي الحسن موسى (علیه السلام) في حديث (إن حرمة بدن المؤمن ميتاً كحرمته حياً، فوارِ بدنه وعورته وجهّزه وكفّنه وحنّطه واحتسب ذلك من الزكاة)(1) فإن الإمام (علیه السلام) فرّع وجوب هذه الأفعال على حرمة الميت.

فإذا لم يصدق على المورد هتك لحرمة الميت كما في الروايات المتقدمة جاز القطع كما جاز للحي الذي نُزِّل منزلته في الحرمة، فلا بد من تقييد الحرمة.

هذا ولكن يمكن أن يستظهر أن حرمة القطع من الميت مطلقة ولا تدور مدار الهتك وجوداً وعدماً لمساواة حرمته مع حرمة الحي في الروايات المتقدمة وهي مطلقة وأن ما ورد آنفاً في معتبرة الفضل بن يونس، وفي حديث العلل للفضل بن شاذان عن الرضا (علیه السلام) قال: (فإن قال: فلمَ أمر بدفنه؟ قيل: لئلا يظهر الناس على فساد جسده وقبح منظره وتغيّر رائحته)(2) فهو من قبيل الحكمة لا العلة؛ لذا وجب دفن ظفره وشعره وليس في بقائها هتك لحرمته، وإن دفنه واجب وإن لم يستلزم بقاؤه بلا دفن هتكاً لحرمته كما لو حفظ في مكان مناسب فالهتك ليس علة ينتفي الحكم بانتفائها.

ويرد عليه أن حرمة الحي منوطة أيضاً بصدق هذا العنوان فلا يزيد

ص: 623


1- وسائل الشيعة: 3/55، أبواب التكفين، باب 33، ح1.
2- وسائل الشيعة: 3/141، أبواب الدفن، باب 1، ح1.

المقيس على المقيس عليه، فإذا لم يتحقق فيه هذا العنوان لأذنه مثلاًجاز كمن يصفع إنساناً آخر فإنه عمل محرم لكنه لو كان جزءاً من عملٍ مسرحي أو فيلم بالاتفاق مع الممثل وبإذنه ومقابل أجر فإنه سيكون جائزاً، ويخرج من كونه إذلالاً للمؤمن.

أو وضع الرجل على رأس الشخص وهو ملقى على الأرض فإنه تحقير محرَّم لكنه جائز بإذنه لغرض عقلائي كالمروي(1) عن فعل علي بن يقطين

ص: 624


1- عن محمد بن علي الصوفي قال: (استأذن إبراهيم الجمال رضي الله عنه على أبي الحسن علي بن يقطين الوزير فحجبه، فحج علي بن يقطين في تلك السنة فاستأذن بالمدينة على مولانا موسى بن جعفر فحجبه، فرآه ثاني يومه فقال علي بن يقطين: يا سيدي ما ذنبي؟ فقال: حجبتك لأنك حجبت أخاك إبراهيم الجمال وقد أبى الله أن يشكر سعيك أو يغفر لك إبراهيم الجمال، فقلت: سيدي ومولاي من لي بإبراهيم الجمال في هذا الوقت وأنا بالمدينة وهو بالكوفة؟ فقال: إذا كان الليل فامض إلى البقيع وحدك من غير أن يعلم بك أحد من أصحابك وغلمانك واركب نجيباً هناك مسرّجاً، قال: فوافى البقيع وركب النجيب ولم يلبث أن أناخه على باب إبراهيم الجمال بالكوفة فقرع الباب وقال: أنا علي بن يقطين. فقال إبراهيم الجمال من داخل الدار: وما يعمل علي بن يقطين الوزير ببابي؟! فقال علي بن يقطين: يا هذا إن أمري عظيم وآلى عليه أن يأذن له، فلما دخل قال: يا إبراهيم إن المولى (علیه السلام) أبى أن يقبلني أو تغفر لي، فقال: يغفر الله لك فآلى علي بن يقطين على إبراهيم الجمال أن يطأ خده فامتنع إبراهيم من ذلك فآلى عليه ثانياً ففعل، فلم يزل إبراهيم يطأ خده وعلي بن يقطين يقول: اللهم اشهد، ثم انصرف وركب النجيب وأناخه من ليلته بباب المولى موسى بن جعفر (علیه السلام) بالمدينة فأذن له ودخل عليه فقبله) (البحار: 48/85 عن كتاب عيون المعجزات). ورويت حادثة قريبة منها عن أبي ذر (رضوان الله عليه) في البحار عن كتاب الحسين بن سعيد الزهد أو المؤمن عن أبي جعفر وأبي عبد الله (علیهما السلام) قال: (إن أبا ذر عيّر رجلاً على عهد النبي | بأمه فقال له: يا ابن السوداء، وكانت أمه سوداء، فقال له رسول الله |: تعيره بأمه يا أبا ذر؟ قال: فلم يزل أبو ذر يمرّغ وجهه في التراب ورأسه حتى رضي رسول الله | عنه) (بحار الأنوار: 22/411).

(رضوان الله تعالى عليه) عندما صدر منه ما أزعج الإمام الكاظم (علیه السلام)، فرضي (سلام الله عليه) عنه ولم يعترض على فعله فيكون إقراراً من المعصوم وغير داخل في الإذلال المحرّم.

وعلى أي حال فقد قيل باستثناء عدة موارد من حكم الحرمة فيجوز فيها القطع حتى مع صدق عنوان الهتك في بعضها لملاك أهم:

أولها: توقف إنقاذ حق للغير سواء كان مادياً أو معنوياً، كما لو مات بجناية وتوقف التحقيق في القضية وتبرئة غير الجاني وإدانة القاتل على تشريح الجثة لتحصيل حقوق ذوي المجني عليه منه، فإن ملاكه أقوى عند التزاحم إلا أن يتنازلوا رعاية لحرمة الميت، وقد لا يستطيع ولي الميت الامتناع إذا أمرت السلطات الحاكمة بذلك.

أما إذا كان التشريح لأجل معرفة ما يستحق ذوو المجني عليه أو ما يجب على الجاني دفعه بالدقة كما لو كانت المرأة القتيلة حاملاً ولم يعرف أنه ذكر أو أنثى فلا يجوز التشريح لورود صحيحة عن كتاب ظريف عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (وإن قتلت امرأة وهي حبلى متم فلم يسقط ولدها ولم يعلم أذكر هو أو أنثى ولم يعلم أبعدها مات أم قبلها فديته نصفين نصف دية الذكر ونصف دية الأنثى ودية المرأة كاملة بعد ذلك)(1) التي تلزم الطرفين بالتصالح على نصف دية ذكر ونصف دية أنثى، ويمكن أن يكون هذا الدليل الخاص كاشفاً عن نكتة ثبوتية أوسع من مورده تمنع من التشريح كالذي قلناه (2).

ص: 625


1- وسائل الشيعة: 29/312، أبواب ديات الأعضاء، باب 19، ح1.
2- يقصد قوله (دامت بركاته) قبل صفحات: للإحساس الوجداني بأن هذه الموارد خرجت من الحرمة لا لخصوصية فيها وإنما بني خروجها على نكتة ثبوتية علينا اكتشافها من الأدلة لأن هذا الإحساس ليس دليلاً بمفرده وإنما هو منبّه ومحرِّك للبحث باتجاه اكتشاف حقيقة ما. وحاصل هذه النكتة الثبوتية: أن إطلاق الحكم بعدم جواز القطع غير تام في نفسه؛ لوضوح أن مناطه هو احترام الميت وأن حرمته كحرمة الحي فيحرم من القطع ما انطبق عليه عنوان هتك الحرمة، فالموارد السابقة لم تخرج تخصيصاً وإنما تخصصاً لعدم دخولها في العنوان المحرّم.

هذا وقد تناول الفقهاء مسألة ضمن هذا المجال في من بلع ماله أو مال غيره فمات، فإن تلف فلا موضوع لتشريحه وإن بقي في جوفه، قال الشيخ (قدس سرّه) في الخلاف: «إذا بلع الحي جوهراً ومات، فإن كان ملكاً لغيره قال الشافعي: يشق جوفه ويخرج، وإن كان ملكاً له: فيه قولان: أحدهما: يُشق جوفه لأنه ملك للورثة، والثاني: إنه لا يشق لأنه بمنزلة ما أكل من ماله. وليس لنا في هذه المسألة نص، والأولى أن نقول لا يشق جوفه على كل حال، لما روي عنهم ^ أنهم قالوا: حرمة المؤمن ميتاً كحرمته حياً. وإذا كان حياً لا يُشق جوفه بلا خلاف، فينبغي أن يكون ذلك حكمه بعد موته»(1).

أقول: إن كان المال ماله حين بلعه فهو تصرف في ماله مسلط عليه ولا حق للورثة فيه لأنه بحكم التالف عليهم وإن كانت عينه باقية، أما إذا كان المال لغيره فيقع التزاحم ويقدَّم الأهم وعلى القاطع الدية.

ونشير هنا إلى ما رواه صاحب المناقب في قضايا أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه أمر بنبش قبر ميت وإخراج ضلع من أضلاعه لإثبات حق الميراث لشخص ادعى أنه ولده(2).

ثانيها: ما لو تطلبت دراسة المرض الذي مات به تشريح جثة الميت

ص: 626


1- الخلاف: 1/730، مسألة (559).
2- بحار الأنوار: 40/255، ح5 عن مناقب آل أبي طالب: 2/359، فصل: قضاياه (علیه السلام) في عهد عمر.

لمعرفة أسبابه وطرق علاجه لحماية الناس الآخرين من الابتلاء به.

ثالثها: ما لو توقف إنقاذ حياة مسلم على ترقيع بدنه بجزء من الميت؛للتزاحم بين وجوب حفظ حياة المسلم وحرمة قطع عضو من الميت فيقدم الأول لأهميته، إذ أن حفظ النفس أقوى ملاكاً من كل واجب وحرام.

ويمكن استفادة تقريب لذلك من كلمات بعض الأعلام(1)، إذ أن التقية تسوِّغ ترك كل واجب وارتكاب كل حرام لما ورد في صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله)(2). وورد في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (إنما جعل التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فلا تقية)(3)، فحرمة الدم أقوى من التقية التي يباح فيها كل محذور.

قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «لا يجوز قطع عضو من أعضاء الميت المسلم كعينه أو نحو ذلك لإلحاقه ببدن الحي، فلو قطع فعليه الدية. نعم لو توقف حفظ حياة مسلم على ذلك جاز، ولكن على القاطع الدية، ولو قطع وارتكب هذا المحرم فهل يجوز الإلحاق بعده؟ الظاهر جوازه، وتترتب عليه بعد الإلحاق أحكام بدن الحي نظراً إلى أنه أصبح جزءاً له»(4).

أقول: أشكل بعض الفقهاء على الاستثناء المذكور باعتبار أن هذا الجواز لم يثبت في حق الأحياء ومقتضى الاشتراك في الروايات عدم ثبوته في الأموات أيضاً، وربما يشفع له ما تقدم من كلام المحقق (قدس سرّه) في حرمة قطع شيء من الحي لإنقاذ نفس وتقييد صاحب الجواهر (قدس سرّه) الجواز بكون

ص: 627


1- كلمات سديدة: 175.
2- وسائل الشيعة: 16/214، أبواب الأمر والنهي، باب 25، ح2.
3- وسائل الشيعة:16/234، أبواب الأمر والنهي، باب 31، ح1، 2.
4- منهاج الصالحين: 1/426، مسألة (39).

المنقذ نبياً.

وقد رددنا عليه بما دلَّ من الشرع المقدس ومن تباني العقلاء علىالجواز ما لم يكن القطع منافياً لأحد القيود المذكورة ككونه سبباً للهلاك (1).

مع الالتفات إلى أنّ هذا الاشتراك بين الحي والميت بلحاظ حفظ الاحترام والكرامة وعدم جواز الهتك لا مطلقاً، فإن قيود جواز القطع من الحي تختلف عن الميت، مثلاً يحرم قطع العضو إذا كان سبباً لهلاكه وهذا

ص: 628


1- نص ما قاله (دامت بركاته) قبل صفحات هو: قال صاحب الجواهر (قدس سرّه) في شرح عبارة الشرائع: «(ولو لم يجد المضطر ما يمسك رمقه سوى نفسه) بأن يقطع قطعة من فخذه ونحوه من المواضع اللحمة فإن كان الخوف فيه كالخوف على نفسه في ترك الأكل أو أشد حرم القطع قطعاً، وإن علم السلامة حل قطعاً، بل وجب. وإن كان أرجى للسلامة (قيل:) جاز له أن (يأكل من المواضع اللحمة كالفخذ) لأنه إتلاف بعض لاستبقاء الكل، فأشبه قطع اليد مثلاً بسبب الآكلة. (وليس شيئاً) عند المصنف (إذ فيه دفع الضرر بالضرر، ولا كذلك جواز قطع الآكلة، لأن الجواز هناك إنما هو لقطع السراية الحاصلة، وهنا إحداث سراية). لكن قد يناقش بأن حدوث السراية على هذا التقدير غير معلوم، والفرض كون المضطر خائف الهلاك بسراية الجوع على نفسه كسراية الآكلة». أقول: لا وجه للمنع حتى لو احتملنا السراية لأنه يدفع بذلك ضرر الهلاك عن نفسه. وقوله (قدس سرّه): «وهنا إحداث سراية» ظاهر في المنع من مطلق قطع الأعضاء فهو (قدس سرّه) يسدّ باب عملية زرع الأعضاء من أولها لكن كلامه (قدس سرّه) يدل على أن التحريم لأجل العنوان الثانوي وهو سراية الجرح وليس لأصل القطع، فلو كانت العملية الجراحية تجرى بإتقان كما في الأزمنة المعاصرة فلا مانع من القطع. ثم بيّن صاحب الجواهر (قدس سرّه) حكم قطع شيء من جسد الآخر لينقذ به حياته أو قطع شيء من جسده لإنقاذ حياة الآخر فقال (قدس سرّه): «نعم لا يجوز له أن يقطع من غيره ممن هو معصوم الدم اتفاقاً، كما في المسالك، إذ ليس فيه إتلاف البعض لإبقاء الكل، بل الظاهر ذلك وإن قطع بسلامة المقطوع منه. وكذا لا يجوز للإنسان أن يقطع جزءاً منه للمضطر وإن قطع بالسلامة إلا أن يكون المضطر نبياً، فإنه يجوز وإن قطع بالسراية، والله العالم».

غير موجود في الميت لانتفاء الموضوع.

رابعها: ما إذا كان القطع بأمر الولي الفقيه، قال بعض الفقهاء: «أن ولي أمر المسلمين بما أنه وليّهم فله أن يعزم في كل ما فيه صلاح للأمة، ويكون عزمه وتصميمه قائماً مقام عزم المولَّى عليهم ورضاهم، وليس للناس حينئذٍ إلا التسليم في قبال عزمه، وإن كان اللازم عليه ولا محالة يراعي في عزمه مصلحة الأمة الإسلامية.

وعليه فإذا رأى الأصلح بالأمة الإسلامية أن يعالج مريض من مرضاهم بترقيع بعض أعضائه مما لا يتوقف عليه أصل حياته، كما إذا كان من رؤساء الجند وأمرائهم فابتلي بنقص في بعض أعضائه، كأن فقدت إحدى عينيه وكان علاجها بالترقيع أولى للأمة بملاحظة مقابلته لأمراء جنود الكفر، فإذا رأى المصلحة في ترقيع عينه جاز له الأمر بأخذها من بعض آخر من الأمة.

ولا محالة يأمر بأن يكون هذا المأخوذ من الموارد المعدّة الجائزة في نفسها، ولا يتعدّى إلى ما لا يجوز، إلا إذا توقّفت عملية الترقيع على أخذ عضو خصوص من لا يرضى بأخذه، فإذا أذن وليّ الأمر فيه قام إذنه مقام إذن صاحب العضو، وجاز بل وجب أخذه والترقيع به»(1).

أقول: حررنا في مباحثنا عن ولاية الفقيه أنه يتحرك في الحدود التي أجازها الشارع المقدس لأن ولايته تنفيذية وليست تشريعية أي أن ولايته لا تجيز له إنشاء حكم بالعنوان الثانوي مستقلاً عن عنوان شرعي مبيح كرفع الضرر أو حفظ النظام أو تقديم الأهم على المهم عند التزاحم وغير ذلك، وليس منها جلب مصلحة ما إلا إذا صدق عليه أحد تلك العناوين.

ص: 629


1- كلمات سديدة: 176.

خامسها: ما لو اقتضت حرمة الميت أو مصلحته ذلك كما لو مات تحت الأنقاض بسبب قصف أو زلزال ولم يمكن إخراجه إلا بقطع بعض أعضائه فإنه يجوز القطع لإخراجه وإجراء الأحكام الشرعية عليه حفظاًلكرامته وصوناً لحرمته.

سادسها: ما لو أوصى الشخص بالتبرع بأعضائه بعد وفاته، قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «وهل يجوز ذلك -أي القطع- مع الإيصاء من الميت، فيه وجهان:

الظاهر جوازه ولا دية على القاطع أيضاً»(1).

وفي جواب سؤال ورد فيه «بعض الأفراد هنا يوصون بإعطاء عين أو عضو آخر من الجسم بعد وفاتهم لمستشفى أو شخص محتاج، فهل يجوز اقتلاع العضو من الميت ولو بوصيته؟ وهل يجوز للموصي الوصية بذلك؟ وإذا وقعت على أي حال من الأحوال هل يجب إنفاذها وهل تصح هذه الوصية شرعاً؟» قال (قدس سرّه): «الوصية المذكورة صحيحة، ويجب إنفاذها»(2).

ويمكن المناقشة في جواز الوصية بالأعضاء باعتبار أن الجسد يعود إلى خالقه بعد الموت وينتهي استخلاف الإنسان عليه الذي بمقتضاه تصرّف فيه فلا ولاية له عليه بعد موته ويشير الإمام السجاد (علیه السلام) إلى ذلك لما سُئل: كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟ فأجاب: (أصبحت مطلوباً بثمانٍ، الله يطالبني بالفرائض) إلى أن قال: (والقبر بالجسد)(3) فيصبح الجسد مجرى للأحكام التي أمر الله بها من وجوب التغسيل والصلاة ثم

ص: 630


1- منهاج الصالحين: 1/426، مسألة (39).
2- المسائل الشرعية: 2/133، السؤال (12) مؤسسة الخوئي الإسلامية.
3- أمالي ابن الشيخ: 410.

الدفن، ودلّت الروايات المتقدمة على وجوب إلحاق كل أجزاء الميت به حتى الشعر والظفر (1).

واستُدلّ على الجواز بوجهين:-1- ما ذكره السيد الخوئي (قدس سرّه) وتبعه بعض تلامذته(2) وغيره من عدم شمول أدلة الحرمة له، باعتبار أن الحرمة الواردة في الروايات المتقدمة لوحظ فيها الهتك وعدم حفظ الكرامة الإنسانية أما إذا لم يستلزم القطع شيئاً من ذلك فيجوز كما لو أوصى الشخص بالتبرع بأعضائه بعد موته أو باعها في حياته على أن تؤخذ منه بعد موته، قال (قدس سرّه): «الوجه في حرمة قطع عضو من أعضاء الميت هو هتكه وعدم احترامه، ولا هتك مع إيصائه بنفسه بذلك»(3).

ويرد عليه:-

أ- ما استظهرناه من احتمال حرمة القطع من الميت مطلقاً وأن الهتك حكمة للحرمة وليس علة فلا يدور الحكم مداره.

ب- قضاء العرف بتحقق عنوان الهتك وإن كان القطع بإذنه لأن احترامه وحفظ كرامته باقيان وليس له الإذن في هتك حرمته، كما أن الحي لو أذن باغتيابه وإهانته وإذلاله لم يجز لغيره فعل ذلك معه، لكنه لو هتك حرمته بنفسه كالفاسق المتجاهر جازت غيبته لسقوط حرمته.

2- عمومات الوصية فإنها تدل على جواز الوصية بكل ما يقع تحت تصرفه وسلطنته فكما تجوز الوصية بالأموال كذلك تجوز بالأعضاء؛ لأن حرمتهما واحدة وقد قرنت الأحاديث الشريفة بينهما كقول النبي (صلی الله علیه و آله) في

ص: 631


1- يقصد بها روايات الطائفة الثانية الدالة على ان حرمة الميت كحرمة الحي.
2- الشيخ آصف محسني (رحمه الله)، الفقه ومسائل طبية: 1/156.
3- المسائل الشرعية: 2/318، السؤال (74).

منى حين قضى مناسكها في حجة الوداع: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم)(1).

قال بعض الفقهاء المعاصرين (قدس سرّه): «فثبوت هذه الحرمة للميت علىحد ما كانت ثابتة له زمن حياته يوجب فيما نحن فيه تعلّق حق له بأعضائه حذو ما كان له قبل موته، ولا محالة ليس لأحد أن يبادر إلى نقل شيء من أعضائه للترقيع به أو غيره.

نعم إذا أوصى مثلاً بأن يعطى عضو منه مستشفى الترقيع ليستفاد منه في ترقيع المحتاجين فالمتَّبَع هو وصيته، فإن المستفاد عرفاً من أدلة الوصية أنها إدامة لاختيارات الإنسان الثابتة له في حياته لما بعد وفاته»(2) وقال: «فإذا كان من حقه أن يعطي عضواً له إنساناً آخر لينتفع بترقيعه فهكذا له أن يوصي بذلك، ويجب العمل بوصيته كما أوصى».

أقول: الذي نسلّمه من ظهور أدلة الاشتراك في الحرمة بين الحي والميت هو عدم جواز تصرّف الغير في أعضاء الميت كالحي أي العقد السلبي للقضية، أما جواز تصرف الحي بأعضائه الثابت له حال الحياة -وهو العقد الإيجابي للقضية- فلا نسلِّم دلالة الروايات على الاشتراك فيه مع الميت أي انتقاله له في ما بعد الوفاة بالوصية لوجود الموانع التي تقدّم بيانها، كما أن أمواله التي كانت له سلطة التصرف بها جميعاً في حياته لم يأذن الشارع المقدس بالتصرف بها في ما يزيد عن الثلث.

مضافاً إلى ما ذكرناه من انتهاء حالة الاستخلاف بالموت وعودة الجسد

ص: 632


1- وسائل الشيعة: 29/10، أبواب القصاص في النفس، باب 1، ح3.
2- كلمات سديدة، مصدر سابق: 171.

إلى خالقه، ولم يثبت أن له حق الوصية بكل ما كانت له سلطنة عليه في حياته كالمال.

وفي ضوء هذا تُعلم المناقشة في الملازمة التي أوردها الفقيه المذكور بقوله (قدس سرّه): «ولا محالة فحدود وصية الإنسان إنما هي حقوقه الشرعية الثابتة له في حياته ليعمل على ما أراد بعد وفاته، فإذا كان من حقّه أن يعطي عضواً له إنساناً آخر لينتفع بترقيعه فهكذا له أن يوصي بذلك، ويجب العمل بوصيته كما أوصى» فإنها غير ثابتة في الأموال كما ذكرنا آنفاً فضلاًعن النفوس.

نعم يمكن النقض على ما ذكرناه من انتهاء حالة الاستخلاف بجواز إعادة العضو المقطوع من البدن إلى موضعه، وهذا الجواز ثابت بلا خلاف ولا إشكال فتأمل(1)، وهذا كاشف عن استمرار سلطنة الإنسان على أعضائه بعد القطع فيما إذا وجد غرض عقلائي للاستفادة منه وتكون أدلة إجراء الأحكام الشرعية منصرفة عن مثل المورد حيث إنها تجري عندما لا يمكن تصور أي غرض عقلائي من أجزاء بدن الميت.

كما أن النقض بتحديد سلطة الميت على الوصية بماله بمقدار الثلث قياس مع الفارق لأن المال يراد له أن يتوزّع على الورثة بميزان عادل ليديموا الحياة، أما أعضاء الميت فلا يتصور فيها ذلك.

ولو شككنا فإن مقتضى الاستصحاب جواز القطع من الميت كما كان ثابتاً له في حال الحياة.

إن قلتَ: لا يصح إجراء الاستصحاب هنا لعدم وحدة القضية المشكوكة

ص: 633


1- وجهه: أن صاحب العضو حي بحسب الفرض فالمورد من سلطنة الحي على أعضائه وليس من سلطنة الميت على أعضائه فلا يصح النقض به إلا أن نقول بأن كل عضو ينتهي الاستخلاف عليه بقطعه وموته.

فبدن الحي غير بدن الميت عرفاً.

قلتُ: نعم هذا الفرق موجود لكنه لا يؤثر على جريان الاستصحاب لوضوح عدم الفرق بين الحياة والموت في جواز القطع للروايات الكثيرة الدالة على اشتراكهما في الحرمة، بلا فرق بين العقد الإيجابي والسلبي لأن الأول متضمن في الثاني لاستثنائه من النفي (لا يجوز إلا بإذنه) وهو يعني: يجوز بإذنه، بل إن الجواز في الميت أولى لعدم وجود الموانع والقيود كحرمة إزهاق النفس وإلحاق الأذى ونحو ذلك.

فالقول بجواز الوصية بالأعضاء ليس بعيداً، لكن التبرع يجب أن يكون مقيداً بأمور:-1- تحقق ملاك أهم يغلب حرمة القطع كإنقاذ حياة إنسان فلا يكفي قطع العضو لتجميل الآخر به مثلاً.

2- أن لا يصدق هتك حرمة الميت عرفاً كما لو أوصى بأعضاء عديدة كأنفه ومذاكيره وغيره مما يؤدي إلى تمزيق جسده وتشويهه.

3- الوجود الفعلي لمسوّغات القطع التي ذكرناها لأن الإنسان لا يملك سلطنة على نفسه أكثر من ذلك، فلا تجوز الوصية بمنح الأعضاء إلى مستشفى الترقيع أو وضع العضو في البنوك؛ لأن الجواز مشروط بالوجود الفعلي للمسوِّغ، خلافاً لإطلاق كلام السيد الخوئي (قدس سرّه) المتقدم بجواز التبرع إلى المستشفى (1)،

وما قاله بعض الفقهاء من جواز التبرع به

ص: 634


1- وهو: وفي جواب سؤال ورد فيه «بعض الأفراد هنا يوصون بإعطاء عين أو عضو آخر من الجسم بعد وفاتهم لمستشفى أو شخص محتاج، فهل يجوز اقتلاع العضو من الميت ولو بوصيته؟ وهل يجوز للموصي الوصية بذلك؟ وإذا وقعت على أي حال من الأحوال هل يجب إنفاذها وهل تصح هذه الوصية شرعاً؟) قال (قدس سرّه): (الوصية المذكورة صحيحة، ويجب إنفاذها».

لمستشفى الترقيع.

وهذا الشرط تجده في كلماتهم عن مسألة تشريح الميت، كقول السيد الخميني (قدس سرّه): «لو توقف حفظ حياة المسلم على التشريح ولم يمكن تشريح غير المسلم فالظاهر جوازه، وأما لمجرد التعلم فلا يجوز ما لم تتوقف حياة مسلم عليه»(1) فاشترط فعلية المسوّغ علماً بأن تعلم الطب فيه شأنية إنقاذ المسلم والاحتياج إليه في وقت ما، وقال مثله الشيخ المنتظري(2) (قدس سرّه).

تنبيه: قد يفرغ هذا الشرط الوصية من أثرها ومفعولها ما دام الجواز يدور مدار الضرورة والأهمية.فروع

1- لو جاز قطع الأعضاء من الميت بالوصية أو غيرها فإنه تتحقق عدة أحكام:-

أ- إن الجواز يشمل حتى الأعضاء التي تتوقف عليها حياته كالقلب أو تلافيف الدماغ ونحو ذلك لانتفاء المانع وهو الإلقاء في التهلكة أو الضرر.

ب- لا دية على منفّذ الوصية لأنه مأذون كقطع العضو من الحي بإذنه ولأن الدية وصفت في الروايات بأنها غرامة ولا غرامة مع الإذن، ففي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (علیه السلام) في السن إذا ضربت قال (علیه السلام): (وإن لم تقع واسودّت أُغرِم ثلثي ديتها)(3) وفي صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قضى أمير المؤمنين (علیه السلام) في رجل قطع فرج

ص: 635


1- تحرير الوسيلة: 2/565، المسألة (3)، ط. دار المعارف.
2- الأحكام الشرعية: 572، المسألة (3074).
3- وسائل الشيعة: 29/340، أبواب ديات الأعضاء، باب 40، ح1.

(ثدي) امرأته قال: إذن أغرمه لها نصف الدية)(1).

ج- تجب الدية على القاطع إذا كان القطع لغير الوصية من المسوِّغات كإنقاذ حياة المسلم؛ لإطلاقات وجوبها بالقطع ولا إذن من صاحب العضو بإسقاط حقه، وهذه المسوِّغات لا تلغي الحكم الوضعي وإنما تبيح مخالفة الحكم التكليفي فقط أي أن حرمة القطع من الميت باقية وترخِّص في ارتكابها.

أو يقال: إن سقوط الحكم التكليفي للتزاحم لا يلزم منه سقوط الحكم الوضعي وهو ضمان الدية كما أن الاضطرار إلى أكل شيء من الغير لا يسقط ضمانه.

نعم قد يُقال أن روايات شق بطن المرأة الميتة وإخراج طفلها الحي أو تقطيع الطفل الميت في بطن أمه وإخراجه سكتت عن ضمان الدية معالحاجة إلى البيان في حين أن الروايات أوجبت الدية في حالات القطع الأخرى كصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (2) ، فالقطع من الميت لحفظ حياة الحي مما لا يوجب الدية.

وفيه: أنه قياس مع الفارق وتجريد عن الخصوصية في غير محلّه لأن الميت في هذه الروايات سبب لهلاك الحي لو لم يقطّع وما نحن فيه ليس كذلك، ولو تنزّلنا باعتبار اشتراك الموردين في تقطيع الميت لإنقاذ الحي فإن الدليل مختص بالمورد دون موارد القطع الأخرى.

د- ويكون وجوب الدية من باب أولى فيما لو قطع أحد عضواً من الميت من دون مسوّغ شرعي وإن كان لغرض عقلائي كتعليم مهنة الطب وليس

ص: 636


1- وسائل الشيعة: 29/340، أبواب ديات الأعضاء، باب 36، ح2.
2- صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في رجل قطع رأس الميت؟ قال: عليه الدية لأن حرمته ميتاً كحرمته وهو حي)

للتشفّي أو العبث ونحوهما للإطلاق الوارد في الروايات كصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة مع التجريد عن خصوصية الرأس، وتصرف الدية في وجوه البر والإحسان لمصلحة الميت بحسب صحيحة(1) الحسين بن خالد عن الإمام موسى بن جعفر.

2- قيل إن حرمة قطع الأعضاء تختص بمحقون الدم المحترم شرعاً، فلو كان الميت كافراً غير محترم شرعاً أمكن اقتطاع عضو منه وإلحاقه ببدن الحي وليس عليه دفع شيء من ثمنه وتترتب عليه أحكام البدن الجديد بالانتقال، قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «يجوز قطع عضو من بدن ميت كافر أو مشكوك الإسلام للترقيع ببدن المسلم»(2)، وفي جواب استفتاء عن التشريح، قال (قدس سرّه): «وأما الكافر أو المشكوك إسلامه فلا بأسبتشريحه مطلقاً»(3)، وقال السيد الخميني (قدس سرّه): «لا يجوز تشريح الميت المسلم، فلو فعل ذلك ففي قطع رأسه وجوارحه دية، وأما غير المسلم فيجوز ذمّياً كان أو غيره ولا دية عليه ولا إثم فيه»(4).

أقول: أما الكافر الحربي فالحكم فيه واضح لعدم حرمته شرعاً، وأما الذمي فلانتهاء الذمة بموته.

ورُدَّ على هذا الإطلاق بأن لأهل الذمة حرمة فلا يجوز الاعتداء عليهم وقطع أعضائهم فضلاً عن قتلهم؛ للروايات الكثيرة الدالة على ذلك ووجوب دفع الدية على من فعل ذلك من المسلمين كموثقة سماعة قال: (سألت أبا

ص: 637


1- وسائل الشيعة: 29/325، أبواب ديات الأعضاء، باب 24، ح2. وهي صحيحة السند بحسب البرقي في المحاسن دون الكتب الأربعة فإن سندها فيها ضعيف.
2- منهاج الصالحين: 1/427، مسألة (42).
3- المسائل الشرعية: 2/309، السؤال (33).
4- تحرير الوسيلة: 2/561.

عبد الله (علیه السلام) عن مسلم قتل ذمياً؟ فقال: هذا شيء شديد لا يحتمله الناس فليعط أهله دية المسلم حتى ينكل عن قتل أهل السواد، وعن قتل الذمي، ثم قال: لو أن مسلماً غضب على ذمي فأراد أن يقتله ويأخذ أرضه ويؤدي إلى أهله ثمانمائة درهم -وهي دية الذمي- إذن يكثر القتل في الذميين(1)، ومن قتل ذمياً ظلماً فإنه ليحرم على المسلم أن يقتل ذمياً حراماً ما آمن بالجزية وأداها ولم يجحدها)(2) ومنها صحيحة بريد العجلي، قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل مسلم فقأ عين نصراني فقال: إن دية عين النصراني أربعمائة درهم)(3).

بل يصل الحكم إلى استحقاق المسلم القتل إذا لم يرتدع عن قتل الذميين واعتاد عليه ففي موثقة إسماعيل بن الفضل قال: (سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن دماء المجوس واليهود والنصارى، هل عليهم وعلى من قتلهم شيء إذا غشوا المسلمين وأظهروا العداوة لهم؟ قال: لا، إلا أن يكون متعوداً لقتلهم، قال: وسألته عن المسلم هل يُقتل بأهل الذمة وأهل الكتاب إذا قتلهم؟ قال: لا إلا أن يكون معتاداً لذلك لا يدع قتلهم، فيقتل وهو صاغر)(4).

فإذا انضم إلى هذه الصغرى إطلاق كبرى الملازمة بين حرمة الميت والحي في الروايات المتقدمة كمعتبرة الحسين بن خالد وفيها (سئل أبو عبد الله (علیه السلام) عن رجل قطع رأس ميت؟ فقال: إن الله حرّم منه ميتاً كل ما حرّم

ص: 638


1- تصلح الرواية لجعلها مثالاً للحاجة إلى تأسيس (الفقه الاجتماعي) واستحداث البحث في (فقه المصالح والمفاسد).
2- وسائل الشيعة: 29/221، أبواب ديات النفس، باب 14، ح1.
3- وسائل الشيعة: 29/218، أبواب ديات النفس، باب 13، ح4.
4- وسائل الشيعة: 29/107، أبواب قصاص النفس، باب 47، ح1.

منه حياً)(1) كانت النتيجة حرمة القطع من الذمي الميت أيضاً.

أقول: روايات الملازمة ظاهرة في المسلم بقرينة مقدار الدية المذكور في بعضها، وتعميم الملازمة إلى غيره محل إشكال لعدم الدليل عليها، بل الدليل على خلافها لأن هذه الحرمة هي للذمة وليس لأهل الذمة فلا يكون مشمولاً بإطلاق الملازمة بين حرمة الحي والميت، لاحظ قوله تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ» (التوبة: 6) بعد التغليظ الذي ذكره تعالى في الآية السابقة «فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» (التوبة: 5)، مما يعني أن الواجب هو مراعاة العهود والمواثيق التي تعقد مع غير المسلمين.

وفي ضوء ما تقدم فإن حرمة قطع الأعضاء من الذمي محددة بإطار الذمة الإسلامية فقد تكون له ما دام حياً ثم ينتهي عقد الذمة وقد تكون لهحتى بعد وفاته كما لو تضمن عقد الذمة مراعاة طقوسهم الدينية في الموتى من احترام وتوديع ودفن ونحو ذلك.

فجواز أخذ العضو من الذمي لا بد أن يلحظ فيه مقتضى العقد مع دولة الإسلام فقد يتضمن غير ذلك فيجب الالتزام بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ» (المائدة: 1)، أما في غير الذمي فإطلاق الجواز في محله إلا أن يكون له عقد معهم فيعمل بمقتضاه.

ويلاحظ في كل ذلك أن لا يصدق عنوان المثلة على نتيجة التقطيع سواء قصدها القاطع أو لم يقصدها لحرمة المثلة مطلقاً كما تقدم.

3- تترتب على العضو المزروع أحكام البدن الجديد المنقول إليه إذا

ص: 639


1- وسائل الشيعة: 29/325، أبواب ديات الأعضاء، باب 24، ح 2.

أصبح جزءاً منه وسرت فيه الحياة فإن كان مسلماً طهر بالانتقال إليه، قال السيد الخوئي (قدس سرّه) في ذيل المسألة الآنفة: «وتترتب عليه بعده أحكام بدنه، لأنه صار جزءاً له، كما أنه لا بأس في الترقيع بعضو من أعضاء بدن حيوان نجس العين كالكلب ونحوه، وتترتب عليه أحكام بدنه وتجوز الصلاة فيه باعتبار طهارته بصيرورته جزءاً من بدن الحي».

قال بعض المعاصرين (قدس سرّه): «إذا كان العضو المطلوب قطعه من الداخل -كالكلية والقلب والرئة والكبد مثلاً- جاز قطعه قبل غسل الميت وبعده، وإذا كان من الظاهر -كاليد مثلاً- فلا بد من أخذه ونزعه بعد الغسل جمعاً بين الحكمين، إلا إذا كان تأخير قطعه إلى ما بعد الغسل مفسداً لزرعه في الحي»(1).

أقول: إن كان هذا الإجراء لأجل المنقول إليه فإنه لا يفرق فيه كون العضو داخلياً أو خارجياً؛ لأن العضو الداخلي سيكون بعد القطع قطعة مبانة محكومة بالميتة فتجب أحكامها فلا فرق بين الداخلي والخارجي من هذه الناحية.نعم بعد زرع العضو الداخلي كالكلية والكبد يكون من المحمول النجس ولا إشكال فيه من ناحية الصلاة.

أما إذا كان بلحاظ المنقول منه فقد قلنا بأن أحكام ما بعد الموت إنما تجب في ما لو لم يوجد مسوِّغ لزرع العضو المقطوع في بدنه أو بدن آخر كما في رواية إعادة أمير المؤمنين (علیه السلام) يد المقطوع بالسرقة إلى صاحبها (2)حيث

لم يجر عليها الأحكام الشرعية، نعم يحسُن الاحتياط بإجراء ما

ص: 640


1- الفقه ومسائل طبية: 1/157.
2- روي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (أن أسوداً دخل على علي (علیه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين إني سرقت فطهرني، فقال: لعلك سرقت من غير حرز، ونحى رأسه عنه، فقال: يا أمير المؤمنين سرقت من حرز فطهرني، فقال (علیه السلام): لعلك سرقت غير نصاب، و نحى رأسه عنه، فقال: يا أمير المؤمنين سرقت نصاباً، فلما أقر ثلاث مرات قطعه أمير المؤمنين (علیه السلام) فذهب وجعل يقول في الطريق: قطعني أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين ويعسوب الدين وسيد الوصيين، وجعل يمدحه، فسمع ذلك منه الحسن والحسين ‘ وقد استقبلاه، فدخلا على أمير المؤمنين (علیه السلام) وقالا: رأينا أسوداً يمدحك في الطريق، فبعث أمير المؤمنين (علیه السلام) من أعاده إلى عنده، فقال (علیه السلام): قطعتك وأنت تمدحني؟ فقال يا أمير المؤمنين: إنك طهرتني وإن حبك قد خالط لحمي وعظمي، فلو قطعتني إرباً إرباً لما ذهب حبك من قلبي، فدعا له أمير المؤمنين (علیه السلام) ووضع المقطوع إلى موضعه فصح و صلح كما كان). بحار الانوار: 76/ 188.

تقتضيه القطعة المبانة من أحكام ثم زرعها جمعاً بين الحكمين كما أفاد (قدس سرّه)، وتشهد له معتبرة الحلبي ورواية عبد الله بن سنان (1) وليس في رواية الحسين بن زرارة (2)

إطلاق من هذه الجهة ليدل علىجواز أخذ العضو قبل الغسل.

4- الأقوى اشتراط إذن ولي الميت بالقطع منضمّاً إلى المسوّغات المتقدمة في جواز القطع لتعلق حق الولي بشؤون الميت في الجملة ولاحتمال لحوق شين اجتماعي بهم بسبب القطع ونحو ذلك، ولو منع الولي من القطع لمانع ذكره فيلحظ تقديم الأهم على المهم من المسوِّغ والمانع، إلا في الوصية فليس للولي المنع من إنفاذها.

ص: 641


1- معتبرة الحلبي قال: (سألته عن الثنية تنفصم وتسقط، أيصلح أن يجعل مكانها سنّ شاة؟ فقال: إن شاء فليضع مكانها سنّاً بعد أن تكون ذكية). المحاسن: 2/ 644. ورواية مكارم الأخلاق عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سألته عن الرجل ينفصم سنّه أيصلح أن يشدَّها بالذهب؟ وإن سقطت، أيصلح أن يجعل مكانها سنّ شاة؟ قال: نعم إن شاء وليشدّها بعد أن تكون ذكية). المحاسن: 2/ 645.
2- الحسين بن زرارة عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سأله أبي وأنا حاضر عن الرجل يسقط سنّه، فيأخذ سنّ إنسان ميت فيضعه مكانه، قال: لا بأس). تهذيب الاحكام: 9/ 78.

أما إذن ولي الميت مستقلاً عن المسوّغات المذكورة فإنه غير مبيح للقطع، ولم يكن حال الحياة حتى يستصحب. أما ما دلّ من الروايات على جواز شق بطن المرأة الميتة لإخراج الجنين الحي فهي ناظرة إلى أمر آخر كما هو واضح.

وتسميته ولياً في النصوص الشرعية كقوله تعالى: «وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ» (الإسراء: 33) فإنه بلحاظ القصاص واستحقاق الدية ونحو ذلك، وكذا قول أمير المؤمنين (علیه السلام): (يغسِّل الميت أولى الناس به، أو من يأمره الولي بذلك)(1) ومصححة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (يصلّي على الجنازة أولى الناس بها، أو يأمر من يجب)(2) فإنها بلحاظ إجراء الأحكام المتعلقة به بعد وفاته ولا تدل على الولاية المطلقة للوارث على الميت.

5- الميت سريرياً وهو المصاب بموت الدماغ بحكم الحي ما دامالقلب والرئتان تعملان ولو بمساعدة الأجهزة بحسب ما يفهمه العرف من معنى الموت، وهو المرجع في فهم مداليل الألفاظ التي تكون موضوعات لأحكام شرعية وإن كان رأي الطب غير ذلك، وتجري عليه أحكام الحي لا الميت، أما إذا كان القلب متوقفاً ويتحرك الدم بواسطة مضخة والرئتان متوقفة ويتنفس بواسطة جهاز تنفس اصطناعي مثلاً فهو في عداد الموتى.

6- لو شك في كون المورد مما تصح الوصية به وعدمه فلا يجوز التمسّك بعمومات الوصية لتجويزه لأنه من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.

ص: 642


1- وسائل الشيعة: 2/535، أبواب غسل الميت، باب 26، ح2.
2- وسائل الشيعة: 3/114، أبواب صلاة الجنازة، باب 23، ح1.
القاعدة الرابعة: عدم اشتراط المالية في المبيع.
اشارة

ناقش سماحة الشيخ الأستاذ (دامت فيوضاته) حكم اخذ الأموال إزاء أعضاء الجسم التي يمنحها الانسان لشخص اخر ، ولو قلنا بالجواز فهل سياخذ المانح تلك الأموال باعتبار هذا العقد عقد بيع او لسبب اخر ؟

وقد تضمن هذا البحث أموراً مهمة جدا ، منها:

1- عدم اشتراط المالية في المبيع.

2- مناقشة قاعدة لا بيع الا في ملك.

3- حكم بيع الميتة.

4- حكم بيع الأعيان النجسة.

5- حكم بيع المني والبويضة.

وقد بحث سماحته هذه القاعدة في الجزء الثاني عشر (صفحة 296) وما بعدها ، وكان نص كلامه فيها هو:

يمكن تصور عدة أنحاء لأخذ المال:الأول: أخذ المال مقابل موافقة صاحب العضو المقطوع على إجراء العملية والقيام ببعض مقدماتها كالذهاب إلى المستشفى وهذا جائز بلا خلاف، ومن الفقهاء من حدَّد جواز أخذ المال بهذا النحو كالسيد الخوئي (قدس سرّه) في كلامه الآتي.

الثاني: أخذ المال بإزاء إسقاط حقه في العضو واختصاصه به وإنهاء سلطنته على التصرف فيه بعد قطعه، وقد اتفقوا على جوازه أيضاً.

وقد تقدّم الإشكال على مثله لاحتمال أن هذا الحق وهذه السلطنة تسقط تلقائياً عند القطع لانتهاء أمد التخويل وانتفاء موضوعه لأن الله تعالى استخلفه على بدنه وخوّله التصرف فيه ما دام حياً وما دام العضو في بدنه

ص: 643

فإذا قطع فإنه يعود إلى مالكه الحقيقي.

ويمكن دفع الإشكال بتقريبين:-

أ- إن الاستخلاف قابل للتمديد إلى ما بعد الموت إذا أراد الشخص ذلك كما في الوصية فلو أوصى خرج ما أوصى به مما يقتضيه انتهاء الاستخلاف من توزيع المال على الورثة، وكتدبير العبد الذي يقول له مولاه أنت حرّ دبر وفاتي فينال حريته بوفاة مالكه فهو تصرف في ما بعد الموت وانتهاء الاستخلاف.

ب- ولو انتهى الاستخلاف فإن جريان أحكام ما بعده كدفن أعضاء الميت منصرف عن حالة إمكان انتفاع أحد آخر به، أما مع إمكان الانتفاع فلا تجري تلك الأحكام ويجوز نقل العضو إلى الغير للانتفاع به فالدليل على وجوب إجراء أحكام الميت ليس مطلقاً وهو منصرف عن مثل المورد، ونقل هذا الحق إلى الغير مختص به لزوال المانع عنه.

الثالث: أخذ المال بإزاء بيع العضو وأخذه عوضاً عنه، ودخول المورد في عمومات «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا» (البقرة: 275) و «إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ» (النساء:29) وقد منعه جمع كالسيد الخوئي (قدس سرّه) فقد سئل عن شراء بعض أعضاء الإنسان كالقرنية من البنوك في الدولالأجنبية إن كان محتاجاً إليها، فأجاب (قدس سرّه): «نعم يجوز إن كانت تنفع المشتري أن يقتني بغير عنوان البيع فيدفع ثمناً لأخذها ولا يقصد الشراء به»(1).

وقد اختلفوا في جوازه حيث أشكلوا من عدة جهات:

أولاها: أن الإنسان الحر ليس مالاً لذا لا يجوز بيعه وهبته ولا تصح

ص: 644


1- المسائل الشرعية: 5/315، السؤال (63).

معاوضته بأي نحو كان، فأعضاؤه كذلك، ويشترط في المبيع أن يكون مالاً.

وفيه: إن عدم كون الإنسان مالاً بلحاظ حريته وكرامته لا ينفي كون أجزائه المقطوعة مالاً لعدم الملازمة بينهما شرعاً وعرفاً بعد اقتطاعها منه وانتفاء جزئيتها والحرية والكرامة راجعتان إلى مجموعه المتكون من روحه وبدنه ولم يثبت أن بيع جزئه المقطوع منافٍ لكرامته، والعقلاء يرون أن عضو الإنسان المقطوع مالٌ أو أنه يقوَّم بالمالية لما فيه من انتفاع وسد حاجة، وما رواه العياشي عن محمد بن مسلم، عن أحدهما قال: في كفارة اليمين: (وصوم ثلاثة أيام إن شئت أن تصوم، إنما الصوم من جسدك ليس من مالك ولا غيره)(1) ناظر إلى معنى آخر أي أن الصوم فعل بدني وليس مالياً.

ولا نحتاج أن نستدل على ماليته بفرض الدية في الجناية عليه؛ لأن الدية غرامة مالية -كما صرّحت به الروايات التي ذكرناها (2)-

لفوات منفعة العضو وليست قيمة العضو ولذا كان الحكم الأولي في الجناية هو القصاص.

ولو تنزّلنا فإنه لا يشترط في المبيع أن يكون مالاً والشرط أن يصحّ بذل المال بإزائه بأن ينتج من عملية البيع حصول المشتري على ما ينتفعبه منفعة محللة مقصودة عند العقلاء وتخرج المعاملة عن كونها سفهية وهي متحققة في المقام، قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «لا يعتبر في البيع أن يكون العوضان مالاً أي مما يرغب فيه العقلاء، بل لو اشترى شيئاً لغرض

ص: 645


1- تفسير العياشي: 1/337.
2- ذكر سماحته عدة روايات تدل على ذلك في الجزء الثاني عشر صفحة 277 فليراجع.

شخصه وإن لم يرغب فيه العقلاء كان بيعاً صحيحاً، كما إذا اشتاق إلى خط جدّه وكان ذلك عند أحد معدوداً من الزبالات واشتراه منه بثمن كذا»(1).

« مناقشة قاعدة لا بيع الا في ملك »

ثانيتها: ما دلّ على أنه لا بيع إلا في ملك ، والإنسان لا يملك أعضاءه فبيعها باطل.

أما الكبرى فقد قيل أنه حديث نبوي مشهور لكن بعض المتتبعين أفاد بأنه مضمون عدة روايات في مصادر العامة ترجع إلى رواية واحدة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومنها ما رواه البيهقي في سننه بالإسناد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (ليس على الرجل طلاق في ما لا يملك، ولا بيع في ما لا يملك، ولا عتق في ما لا يملك)(2).

أقول: فالرواية غير تامة سنداً، ومن الوضوح بمكان -خصوصاً مع ملاحظة قوله (علیه السلام): (ليس على الرجل) النافية للعهدة والالتزام-: أن الرواية أجنبية عن المراد في المقام إذ أنها ظاهرة في عدم نفوذ هذه المعاملات وإلزامها قبل أن يكون أمرها بيد المتعاقد ليستطيع نقلها إلى الطرف الآخر وإلا فإنه سيكون أجنبياً عن العقد كالفضولي، وقلنا: «أمرها» أي أمر هذه المعاملات المذكورة كالطلاق والبيع لأن القضية أوسع من ملكية العين المبحوث عنها بقرينة دخول الطلاق في المعاملات المذكورةوالرجل لا يملك زوجته كما تملك الأموال.

والروايات التي نهت عن بيع الشيء قبل ملكه أرادت هذا المعنى أي

ص: 646


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 36/18.
2- سنن البيهقي: 7/318، كتاب الخلع والطلاق.

النهي عن بيع الشيء قبل أن يكون أمر المبيع بيده وتحت سلطته واختياره ليتمكن من تسليط المشتري عليه كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (سألته عن رجل أتاه رجل فقال: ابتع لي متاعاً لعلي أشتريه منك بنقد أو نسيئة، فابتاعه الرجل من أجله، قال (علیه السلام): ليس به بأس إنما يشتريه منه بعد ما يملكه)(1) وصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في رجل أمر رجلاً يشتري له متاعاً فيشتريه منه، قال (علیه السلام): لا بأس بذلك إنما البيع بعد ما يشتريه)(2).

وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن العينة فقلت: يأتيني الرجل فيقول: اشتر المتاع واربح فيه كذا وكذا فأراوضه على الشيء من الربح فنتراضى به. ثم أنطلق فأشتري المتاع من أجله لولا مكانه لم أرده، ثم آتيه به فأبيعه، فقال: ما أرى بهذا بأساً لو هلك منه المتاع قبل أن تبيعه إياه كان من مالك، وهذا عليك بالخيار إن شاء اشتراه منك بعدما تأتيه، وإن شاء ردّه فلست أرى به بأساً)(3).

ورواية جعفر بن غياث عن أبي عبد الله (علیه السلام) (قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل أيجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له فلعله لغيره، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): أفيحل الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد الله (علیه السلام): فلعله لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك؟ ثم تقول بعد الملك: هو لي وتحلف عليه ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثم قال أبو عبد الله (علیه السلام):

ص: 647


1- وسائل الشيعة: 18/51، أبواب أحكام العقود، باب 8، ح8.
2- المصدر السابق، ح6.
3- المصدر السابق، ح9.

لولم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق)(1).

فليس في هذه الروايات دلالة على أزيد مما ذكرناه من كون أمر البيع والمعاملات الأخرى بيده، وقد تقدم بيان لهذا الأمر (2).

فالمصحح للبيع القدرة على التمليك وتسليط المشتري على العين، ولا حاجة لاشتراط أزيد من ذلك أي ملكية العين كملكيته لأمواله، وهذا واضح من تعريفهم البيع بأنه مبادلة مال بمال، وبه عرّف جملة من الأعلام لقول الشيخ النائيني (قدس سرّه): «هو تبديل عين بعوض»(3) وقال السيد الخوئي (قدس سرّه): «والملاك في صدق البيع عنوان المعاوضة»(4)

وعبارة المحقق الإيرواني أوضح في ما نريد، قال (قدس سرّه): «تبديل متعلق سلطان بمتعلق سلطان»(5).

فلا دليل إذن على صحة الكبرى وهي اشتراط كون المبيع مملوكاً، بل الدليل على خلافها للنقض ببيع الأوقاف العامة في موارد الرخصة والأعيان الزكوية والمدفوعة خمساً وكلها لا مالك لها، وكذا بيع الفضولي فإنهم لم يبطلوه لعدم الملكية وإنما لعدم إذن المالك فإذا أجازه صحّ وإجازته لا

ص: 648


1- وسائل الشيعة: 27/292، كتاب القضاء: أبواب آداب القاضي، باب 25، ح2.
2- حيث قال (دامت بركاته): ويصدق عنوان الملكية على السلطنة بهذا النحو نظير ملكية الرجل لزمام الزوجية وعصمة المرأة فإنها بيده وقد عبّرت الروايات عنها بالملك كموثقة معمر بن يحيى آل سام عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) قال: (لا يطلّق الرجل إلا ما ملك، ولا يعتق إلا ما ملك، ولا يتصدق إلا بما ملك) ، وهي متحدة المعنى مع الحديث النبوي الذي جمع الأمور كلها في لفظ واحد وهي رواية عامية عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (لا يجوز طلاق ولا بيع ولا عتق ولا وفاء نذر في ما لا يملك).
3- حاشية المكاسب: 1/38. (ضمن محصل المطالب)
4- مصباح الفقاهة: 1/67.
5- حاشية المكاسب، مصدر سابق: 1/37.

تملّك البائع الفضولي وإنما تجعل له سلطنة على تمليك المشتري.

واضاف السيد الخميني (قدس سرّه) «بيع الكلي في الذمة مع عدم مالكيةالشخص له، إذ لا يعتبر العقلاء مالكية الإنسان لما في ذمته، ولا يعدُّ مالاً له، لكن لما كان للذمم اعتبار على حسب اختلافها فيه، يكون لصاحبها سلطنة على تمليك كلي فيها حسب مقدار الاعتبار العقلائي، فيكون ذلك تمليك مال، لا تمليك مالٍ مملوك»(1).

وقال بعض الأعلام (قدس سرّه): «ليس قوام البيع الذي هو تمليك مال بعوض إلا بأن يكون اختيار المبيع بيد البايع. كما يظهر ذلك لمن تدبّر أمر الزكاة فإن الظاهر أن الزكاة زكاة لا غير، فهي مال وليست ملكاً لأحد، والموارد الثمانية المذكورة في الكتاب العزيز إنما هي مصارف معيّنة لها شرعاً، لا أنّها أو بعضاً منها مالكة لها، ومع ذلك فلا ينبغي الشك في أنه إذا باع وليّ الأمر الزكاة التي أخذها -بما أنه ولي أمر المسلمين- فالبيع بيع حقيقة، بل وصحيح عرفاً وشرعاً»(2).

أقول: هذا تنظير لطيف في المقام، لكن بعض العلماء حاول توجيه المورد بما لا ينافي اشتراط الملكية الاعتبارية في المبيع فقال: «إنّ القول باشتراط الملكية الاعتبارية في المبيع لا يلزم منه القول ببطلان بيع ولي الأمر لما أخذه زكاةً وخمساً، بعد إمكان القول بتملّك عنوان الفقراء للزكاة وعنوان السادة للخمس، وهكذا فإنّ الجهات العامّة التي عبّر عنها بالمصرف في الزكاة أو الخمس تصلح للمالكيّة، ومع إمكان المالكية بالنسبة إلى الجهات العامّة لا ملازمة بين اشتراط الملكية الاعتبارية والقول ببطلان بيع

ص: 649


1- كتاب البيع: 1/19، من الموسوعة الكاملة.
2- كلمات سديدة: 178.

ولي الأمر؛ إذ للولي ولاية على الجهات العامّة، فله بيعها بعد تحقّق شرط صحّته من المملوكية والملكية الاعتبارية»(1).

أقول: هذه المحاولة غير تامة لأن هذه العناوين لا تملك الزكاة وإنما هي مصرف لها ولو قلنا بملكيتها فإنها ليست على نحو الملكية الاعتباريةالتي اشترطها في المبيع وإن سلطنة الإنسان على أعضائه أقوى من هذه الملكية المفترضة.

وأما الصغرى فقد تقدم في المطلب الأول أن الإنسان يملك أمر أعضائه والتصرف فيها بحيث يستطيع تمكين المشتري من العين وتسليطه على التصرف فيها.

والنتيجة عدم صحة الإشكال على بيع الأعضاء من هذه الناحية.

« بيع الميتة »

ثالثها: إن العضو المقطوع ميتة لا يجوز بيعها

ويستدل على الصغرى بوجوه مرّ تفصيلها في بحث سابق(2)

نذكر منها:-

1- رواية أيوب بن نوح عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا قطع من الرجل قطعة فهي ميتة، فإذا مسّه إنسان فكل ما كان فيه عظم فقد وجب على من يمسّه الغسل، فإن لم يكن به عظم فلا غسل عليه)(3)،

ففي الرواية تصريح بأن القطعة المبانة ميتة.

ص: 650


1- السيد محسن الخرازي في مجلة فقه أهل البيت (علیهم السلام)، العدد 21، ص 47.
2- فقه الخلاف: 6/219، (مسألة وجوب الغسل بمس القطعة المبانة)، الطبعة الأولى.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب غسل المس، باب 2، ح1.

وفيه: إن الرواية ضعيفة السند بالإرسال، والشهرة لا تجبرها، نعم قلنا في بعض المطالب السابقة أن نسبة المرسل عنه إلى أصحابنا لا تخلو من توثيق للراوي عرفاً ولا يلقي هذا الوصف جزافاً مثل أيوب بن نوح الذي قال عنه النجاشي: «كان وكيلاً لأبي الحسن وأبي محمد ‘، عظيم المنزلة عندهما مأموناً، وكان شديد الورع، كثير العبادة، ثقة في رواياته» (1) وكانت عدة ظروف يومئذٍ تقتضي إخفاء بعض الأسماء.نعم يمكن أن يقال أن الفقرة الأولى من الرواية لو كانت مستقلة لأمكن التمسك بإطلاقها لكل أحكام الميتة لكن سوقها كمقدمة للحكم اللاحق يجعلنا نحتمل أن إضافة وصف الميتة إلى القطعة المبانة هي بلحاظ وجوب الغسل بمسّها لا مطلقاً كما يشهد تفريع الحكم على هذا التنزيل، مضافاً إلى التفصيل الوارد فيها بين ذات العظم وغيرها ولو كانت القطعة المبانة ميتة مطلقاً لما صحّ التفصيل، وعلى أي حال فلا تصلح الرواية للاستدلال في المقام.

2- الروايات الواردة في كون القطعة المبانة من الحيوان ميتة فيستدل بها أو يُستأنس بها على «تنزيل القطعة المبانة منزلة الميتة المقتضي لجريان أحكامها عليها»(2) كخبر أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: (في إليات الضأن تقطع وهي أحياء: إنها ميتة)(3)،

وصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (علیه السلام): ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يداً أو رجلاً فذروه فإنه ميت) وموثقة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (ما أخذت الحبالة فقطعت منه شيئاً فهو

ص: 651


1- رجال النجاشي: ص102، ترجمة رقم(254).
2- جواهر الكلام: 5/341.
3- وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، باب 62، ح1.

ميت «ميتة»)(1).

أقول: يأتي هنا الاحتمال الذي أوردناه في الوجه السابق، وأن وصف هذه الروايات التي وصفت قطعة الحيوان بالميتة ليس مطلقاً، وإنما بلحاظ ترتب الأثر الذي أريد من الخطاب –كالنجاسة وحرمة الأكل-، أي أنها بيّنت الحكم المناسب للمورد بلسان ذكر الموضوع وهو عنوان الميتة بقرينة قوله (علیه السلام): (فذروه) أي ذروا أكله ولبسه مثلاً لا مطلقاً إذ لا قائل بوجوب رمي الميتة.وبناءً على ذلك: لا يجوز التمسك بإطلاقها لإثبات التعميم لكل الآثار.

ولو تنزلنا وقبلنا بإطلاق عنوان الميتة على القطعة المنفصلة من الحيوان، فإنه لا يصح الاستدلال به على كون القطعة المبانة من الإنسان ميتة؛ لأنه ثبت بالاستقراء أن هذا العنوان يراد به ميتة غير الإنسان، أما ميتة الإنسان فيسمى (ميت). بحيث تحول هذا إلى ارتكاز وظهور في مقام التخاطب، كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السلام) (في رجل مسَّ ميتة أعليه غسل؟ قال: لا، إنما ذلك من الإنسان)(2)،

فكان لفظ (الميتة) في كلام السائل متعين أو ظاهر في ميتة غير الإنسان.

نعم ورد التعبير بلفظ الميتة في رواية أيوب بن نوح على القطعة المبانة من الإنسان فتحمل على الظاهر أعلاه ولا يجب الغسل بمسّها لولا بقية الرواية التي أوجبت الغسل، وهذا عود إلى الاستدلال برواية ابن نوح وليست دليلاً مستقلاً كما هو مفروض هذا الوجه.

هذا ولكن يمكن دعوى صدق عنوان الميت عليها ولو بالتعبد الشرعي

ص: 652


1- وسائل الشيعة: 23/376، كتاب الصيد والذباحة، أبواب الصيد، باب 24، ح1.
2- المصدر نفس الموضع.

بكاشفية جريان أحكامه عليها ولذا استدل صاحب الجواهر (قدس سرّه) «بفحوى وجوب جريان أحكام الميت عليها بناءً عليه من التغسيل والتكفين ونحوهما»(1).

إذن فالصغرى غير بعيدة.

أما الكبرى -أي حرمة بيع الميتة- فلوجوه نذكرها باختصار:-

1- الإجماع، قال المحقق النراقي (قدس سرّه): «حرمة بيعها وشرائها والتكسب بها إجماعي»(2) ويرد عليه أنه مدركي مستند إلى أحد الوجوه التالية.

2- إنها لا مالية لها لحرمة الانتفاع بالميتة فبذل المال بإزائها فعلسفهي وأكل للمال بالباطل.

ويرد عليه ما تقدم من جواز الانتفاع بالميتة (3)،

وتقدم عدم اشتراط المالية في العوضين (4)، والمطلوب أن تكون المعاملة عقلائية غير سفهية وذلك بوجود غرض عقلائي في المعاملة وهو الذي يقوِّم المالية عند المتعاقد وإن لم يكن كذلك لدى النوع.

3- الروايات، كموثقة أبي نصر البزنطي عن الإمام الرضا (علیه السلام) في الأليات المقطوعة من الغنم وهي أحياء (نعم يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها)(5).

ورواية السكوني (السحت ثمن الميتة)(6) ومثلها مرسلة الصدوق والجعفريات في نفس الباب، وما ورد في وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لعلي

ص: 653


1- جواهر الكلام: 5/340.
2- مستند الشيعة: 14/78.
3- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 234 الطبعة الثانية.
4- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 298 الطبعة الثانية.
5- وسائل الشيعة: 17/98، أبواب ما يكتسب به، باب6، ح6، و 17/93، باب 5، ح5.
6- وسائل الشيعة: 17/93، أبواب ما يكتسب به، باب5، ح5.

(علیه السلام).

أقول: الاستدلال بها لا يخلو من نقاش في السند أو الدلالة، أما الأولى فلأن حرمة البيع من جهة حرمة الأكل لا مطلقاً فلو أعلم المشتري بعدم التذكية وأنها تستعمل في ما لا يشترط فيه التذكية كاتخاذ جلود الميتة غمداً للسيف فلا بأس كما في رواية أبي القاسم الصيقل وولده (1).

وأما الثانية فلضعف السند تارة بالنوفلي في طريق الكافي، وبموسى بن عمر عند الصدوق المشترك بين الثقة وهو ابن بزيغ مولى المنصور والمجهول وهو ابن يزيد بن ذبيان الصيقل والظاهر كونه الثاني وهو لم يوثق، مضافاً إلى عدم تمامية الإطلاق فيها لتشمل ميتة الإنسان لأنها واردة في بيان معنى السحت وذكر مصاديق له حيث أوردها علي بنإبراهيم في تفسيره لقوله تعالى: «لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» (المائدة: 63)، فيكفي فيها الصدق في الجملة.

وفي مقابلها توجد روايات مجوّزة كرواية أبي القاسم الصيقل أعلاه، وقد تقدم بعضها (2) كرواية أبي بصير التي تحكي فعل الإمام السجاد (علیه السلام) فإنه كان يرسل إلى العراق من يشتري له الفرو المتخذ من جلود الميتة.

مضافاً إلى الروايات الدالة على جواز الانتفاع بالميتة (3)

كرواية زرارة قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن جلد الخنزير يجعل دلواً يستقى به الماء؟ قال: لا بأس)(4) أي يسقي الزرع والحيوانات بعد ضم الملازمة بين جواز الانتفاع والبيع.

ص: 654


1- وسائل الشيعة: 17/173، أبواب ما يكتسب به، باب 38، ح4.
2- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 235 الطبعة الثانية.
3- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 234 الطبعة الثانية.
4- وسائل الشيعة: 1/175، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، باب 14، ح16.

ووجه هذه الملازمة أن الشيء إذا كانت له منفعة محللة مقصودة من العقلاء فإن بذل المال إزاءها سيكون عقلائياً وليس سفهياً حتى يدخل في عموم «وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ» (البقرة: 188) فتصح المعاملة عليه، وقد أرسل الفقهاء هذه الملازمة في كلماتهم كالمسلّمات قال في الخلاف: «إن النبي (صلی الله علیه و آله) أذن في الاستصباح بالزيت النجس وهذا يدل على جواز بيعه»(1)

وقال العلامة (قدس سرّه) في المنتهى: «يجوز إجارة الكلب، وهو قول الشافعية، وقال بعضهم: لا يجوز، لنا أنها منفعة مباحة فجازت المعاوضة عنها»(2)

وقال في التذكرة: «إن سوّغنا بيع كلب الصيد، صحّ بيع كلب الماشية والزرع والحائط؛ لأن المقتضي -وهو النفع- حاصل»(3) وقال (قدس سرّه): «يجوز بيع كل ما فيه منفعة، والمنفعة المباحة كما يجوزاستيفاؤها يجوز أخذ العوض عنها»(4) وغير ذلك كثير.

ولو تنزّلنا فيقع التعارض بين الروايات فإما أن تطرح المانعة لموافقتها للعامة كما ذهب إليه السيد الخوئي (قدس سرّه) أو تحمل «على صورة البيع ليعامل معها معاملة المذكّى إذا بيعت بغير إعلام»(5)

أو تحمل المانعة على الكراهة كما يظهر من رواية علي بن جعفر عن أخيه (علیه السلام) قال: (سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها، يصلح له بيع جلودها ودباغها ولبسها؟ قال: لا، لو لبسها فلا يصلّي فيها)(6) فإن فرض لبس المحرم بعيد

ص: 655


1- الخلاف: 3/187.
2- منتهى المطلب: 15/357.
3- تذكرة الفقهاء: 15/27.
4- تذكرة الفقهاء: 10/33.
5- مصباح الفقاهة من الموسوعة الكاملة: 35/107.
6- وسائل الشيعة:: 24/186، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، باب 34، ح6.

مضافاً إلى إشعار لفظ لا يصلح بذلك، أو على عدم إعلام المشتري فيقع في محذور استعمالها في ما يشترط فيه الطهارة.

وإذا استقر التعارض فتتساقط ونرجع إلى الأصول المبيحة.

ويلاحظ هنا أن السيد الخوئي (قدس سرّه) انتهى إلى نتيجة جواز بيع الميتة في تقريرات بحثه(1) لكنه حرّم المعاملة عليها في رسالته العملية ولا يصعب إيجاد وجه للجمع في ضوء ما ذكرناه في البحث.

« بيع الأعيان النجسة »

رابعها: إن الأعضاء المبانة نجسة وقد ثبت بالاستقراء حرمة بيع النجاسات كالخمر والكلب والخنزير والعذرة، قال بعض الأعلام: «إن الأعضاء المبانة محكومة بالنجاسة الذاتية، وقد دلّ الدليل على عدم جواز بيع النجاسات الذاتية وإن كانت لها منافع شائعة، كقوله (علیه السلام): (ثمن العذرةمن السحت)(2).

فالعذرة وإن كانت لها منفعة شائعة كالتسميد لكن لا يجوز بيعها وشراؤها، وحيث لا خصوصية للعذرة فكل نجاسة ذاتية تكون كذلك»(3).

وفيه - بعد التسليم بكون القطعة المبانة نجسة-: أنه يجاب نقضاً وحلاً:

أما نقضاً فلإطباقهم -بحسب تعبير الشيخ الأنصاري(4)-

على جواز بيع بعض الأعيان النجسة كالعبد الكافر وكلب الصيد.

ص: 656


1- مصباح الفقاهة من موسوعة السيد الخوئي: 35/107، منهاج الصالحين: 2/3.
2- وسائل الشيعة: 17/175، أبواب ما يكتسب به، باب 40، ح1.
3- السيد محسن الخرازي، مصدر سابق، 41.
4- المكاسب: 1/35، ضمن الموسوعة الكاملة.

وأما حلاً فلأن حرمة بيع النجس محمولة على صورة استعماله في ما يُشترط فيه الطهارة من دون إعلام المشتري، ويظهر هذا المناط من صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الفراء أشتريه من الرجل الذي لعلي لا أثق به، فيبيعني على أنها ذكية، أبيعها على ذلك؟ فقال: إن كنت لا تثق به فلا تبعها على أنها ذكية، إلا أن تقول: قد قيل لي أنها ذكية)(1).

أو من جهة عدم الانتفاع بها منفعة محللة مقصودة لدى العقلاء، فلو وجدت مثلها فلا إشكال في الجواز مع إعلام المشتري، فلا مانع من بيع الدم لنقله إلى جسم المحتاج إليه، أو الزيت النجس للاستصباح به مطلقاً أو تحت السماء أو لتزييت المكائن، وقد ورد في ذلك روايات عديدة معتبرة كموثقة أبي بصير (عن الفأرة تقع في الزيت فتموت فيه؟ قال: إن كان جامداً فاطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي، وإن كان ذائباً فأسرج به وأعلمهم إذا بعته)(2).وما ورد من النهي كالمروي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: (إذا حرّم الله شيئاً حرم ثمنه)(3) ناظر إلى ما حرم أكله وشربه ونحو ذلك من كون المنفعة المقصودة منه بالشراء محرمة لاشتراط الطهارة في استعماله فيها.

أما النهي عن بيع العذرة فلعدم تصور منفعة لها يومئذ، أما التسميد بها فهي حالة لم تكن معروفة يومئذٍ في مجتمع المدينة بحسب الظاهر لأن زراعتهم كانت النخيل ولم يعرف تسميدها بالعذرة فلا يصلح النقض بها، مضافاً إلى وجود روايات تجيز بيع العذرة كرواية محمد بن المصادف (لا

ص: 657


1- وسائل الشيعة: 17/172، أبواب ما يكتسب به، باب 38، ح2.
2- وسائل الشيعة: 17/98، أبواب ما يُكتسب به، باب 6، ح3.
3- بحار الأنوار: 55/103، ح29.

بأس ببيع العذرة)(1).

وجمع الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) وفاقاً للشيخ (قدس سرّه) في الاستبصار بحمل المحرم على عذرة الإنسان والمحلل على عذرة البهائم وجعل رواية سماعة شاهداً على ذلك قال: (سأل رجل أبا عبد الله (علیه السلام) -وأنا حاضر -عن بيع العذرة، فقال: إني رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال: حرام بيعها وثمنها، وقال: لا بأس ببيع العذرة)(2) بتقريب «أن الجمع بين الحكمين في كلام واحد لمخاطب واحد يدل على أن تعارض الأولين ليس من حيث الدلالة فلا يرجع فيه إلى المرجحات السندية أو الخارجية»(3).

أقول: لا دليل على وحدة الرواية وما بناه عليها من الجمع، فقد دأب الرواة على جمع الحديثين المتحدين في الموضوع والراوي والمروي عنه في رواية واحدة ويفصل بينهما بوضع «وقال» ويضمر المسؤول في بقية النصوص وبه أجيبَ الإشكال على مضمرات سماعة.

فالأظهر ما قرّبناه وإن استبعده الشيخ الأنصاري قال: «وأبعد منه ماعن المجلسي من احتمال حمل خبر المنع على بلاد لا ينتفع به والجواز على غيرها»(4).

« بيع المني والبويضة »

خامسها: وهو يتعلق ببيع المني والبويضة فقيل بالحرمة من جهة

ص: 658


1- وسائل الشيعة: 17/175، أبواب ما يكتسب به، باب 40، ح3.
2- وسائل الشيعة: 17/175، أبواب ما يُكتسب به، باب 40، ح2.
3- المكاسب: 1/24 من الموسوعة الكاملة.
4- المكاسب: 1/24 وفي هامش التحقيق: حكاه العلامة المجلسي في ملاذ الأخيار: 10/379، ح202 عن والده العلامة المجلسي الأول (قدس سرّه).

نجاستها وقد تقدمت المناقشة فيها مضافاً إلى عدم وجود دليل على نجاسة البويضة.

ومن جهة أنها فضلات لا مالية لها فيكون الثمن أكلاً للمال بالباطل ونحو ذلك وهو مردود لعدم المانع من بيع الفضلات إذا وجدت لها منفعة محللة مقصودة لدى العقلاء كالعذرة للتسميد والدم للتزريق ونحو ذلك، والمالية غير مشترطة في المبيع كما تقدم، والمهم أن لا تكون المعاملة سفهية.

ولو فرضنا أن بيع المني والبويضة غير جائز فإن أخذ المال بإزاء رفع اليد عن حق اختصاص صاحبها بها لا مانع منه كما تقدم في النحو الثاني من هذا الفصل.

والنتيجة عدم تمامية أي دليل على حرمة بيع الإنسان بعض أعضائه حال حياته.

نعم يبقى الإشكال من الجهة التي ذكرناها… وهي عودة الجزء إلى مالكه الحقيقي بعد القطع وانتهاء الاستخلاف ولا يصح بيع ما ليس له (1).

لكننا ذكرنا هناك وجهاً لحل الإشكال وأن هذه الأحكام إنما تجب في العضو المقطوع لو لم يكن هناك غرض لاستعماله والاستفادة منه وإلافإن عمليات جراحية تتطلب انتزاع العضو مؤقتاً كالقلب المفتوح فهل نقول بوجوب إجراء الأحكام عليه.

وعلى أي حال فالأحوط ما ذكرناه من أن أخذ العوض يكون مقابل موافقته على إجراء العملية والقيام ببعض مقدماتها كالذهاب إلى المستشفى.

فلو قطع العضو منه بدون فعل منه كما لو ذهب بحادث أو حرب أو

ص: 659


1- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 296 الطبعة الثانية.

تفجير والعياذ بالله فإنه ليس له أخذ مال على النحو الأول؛ لأن القطع قد حصل فيكون من تحصيل الحاصل. لكننا ذكرنا أيضاً في النحو الثاني بإمكان أخذ المال للتنازل عن حق الاختصاص به.

وقد أجاز بعض الفقهاء بيع الأعضاء، قال السيد الخميني (قدس سرّه): «لو قلنا بجواز القطع والترقيع بإذن صاحب العضو زمان حياته فالظاهر جواز بيعه لينتفع به بعد موته»(1)،

لكنه (قدس سرّه) قال بعد أن قوّى جواز بيع الدم لنقله إلى من يحتاجه: «والأحوط أخذ المبلغ للتمكين على أخذ دمه مطلقاً لا مقابل الدم، ولا يُترك الاحتياط ما أمكن».

أقول: لا نعلم وجهاً للتفريق بين الموردين فكلاهما نجسان ويزيد الأول بأنه ميتة، اللهم إلا أن يبني (قدس سرّه) على عدم كون القطعة المبانة من الحي ميتة أو أنها تطهر بالتغسيل ونحو ذلك.

فرع: مما تقدم يظهر أن للإنسان أن يوصي بمنح أعضائه بعد وفاته وله أن يأخذ مالاً إزاء ذلك؛ لعدم المانع من كل ذلك بمقتضى الأبحاث المتقدمة.

فائدة: لو وقعت جناية على الحي فقطع عضو منه واستحق الدية فلا مانع من أخذه مالاً إزاء منح هذا العضو للغير والجمع بينهما جائز لأن الدية ليست عوضاً عن الجزء المقطوع وإنما هي غرامة وقد تقدم الدليلعلى ذلك فلا يقاس على المتلفات التي يستحق فيها الضامن ما بقي من التالف بعد أن ضمن قيمته لصاحبه.

ولنفس التعليل يمكن أن تنضمّ دية قطع العضو إلى دية النفس ولا تنافيها كما لو قتل شخصاً ثم قطع رأسه أو أحد أعضائه، قال السيد المرتضى (قدس سرّه): «ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من قطع رأس ميت

ص: 660


1- تحرير الوسيلة: 2/565، مسألة (7).

فعليه مائة دينار لبيت المال. وخالف باقي الفقهاء في ذلك، دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه: الإجماع المتردد. وإذا قيل: كيف يلزمه دية وغرامة، وهو ما أتلف عضوا لحي؟ قلنا: لا يمتنع أن يلزمه ذلك على سبيل العقوبة لأنه قد مثّل بالميت بقطع رأسه فاستحق العقوبة بلا خلاف، فغير ممتنع أن تكون هذه الغرامة من حيث كانت مؤلمة له، وتألمه يجري مجرى العقوبة ومن جملتها»(1).

ص: 661


1- الانتصار: 272، ط. المطبعة الحيدرية في النجف - 1391.
القاعدة الخامسة: ضمان الطبيب وذوي المهن
اشارة

من المعروف ان أصحاب المهن ، ومنهم الأطباء قد يتسببون في احداث ضرر او تلف اثناء ممارسة عملهم.

وقد ناقش الفقهاء (رضوان الله عليهم) حكم ضمان ذوي المهن للضرر الذي ينتج عن عملهم نتيجة تقصيرهم او لأسباب خارجة عن اختيارهم.

ولأهمية هذه المسالة ، وكثرة الابتلاء بها فقد بحثها سماحة الشيخ الأستاذ (دامت فيوضاته) في ملحق لبحث زرع الأعضاء التناسلية في الجزء الثاني عشر (صفحة 312) وما بعدها.

ونص ما ذكره في هذه القاعدة هو:

قد يحصل عند ممارسة الطبيب عمله تلف جزئي أو كلي لبعض الأعضاء وربما يموت المريض، فهل يضمن الطبيب هذا التلف؟.

لا خلاف ولا إشكال في ضمان الطبيب إذا تصدّى لمعالجة مريض أو إجراء عملية جراحية له فتلف عنده عضو أو مات إذا كان غير متخصص في هذا المجال وغير ماهر وحاذق فيه أو تعدّى عن حدود عمله المأذون فيها أو قصّر في عمله كما لو لم يجرِ الفحوصات والتحليلات الكافية أو لم يستعن بالأجهزة والآلات الضرورية للتشخيص كالأشعة والسونار والتخطيط ونحو ذلك أو قصّر في تهيئة ظروف العملية كعدم تعقيم القاعة والأدوات وعدم توفير الأجهزة المطلوبة لإجراء العملية أو عند الطوارئ لمثل هذه العمليات كالإنعاش الرئوي والقلبي.

كما لا خلاف في عدم ضمان الطبيب إذا لم يكن التلف بسببه كما لو أصيب المريض بسكتة قلبية خلال عملية جراحية لا علاقة لها بها، أو أن المريض أخفى علةً فيه تضرّ بالعملية فهنا السبب وهو المريض أقوى من

ص: 662

المباشر وهو الطبيب المعالج.والكلام في ما لو حصل تلف جزئي أو كلي في أحد أجزاء البدن أو أدّت المعالجة إلى الموت وكان الطبيب حاذقاً وماهراً ولم يقصّر في عمله فالمشهور عند الإمامية الضمان، قال المحقق الحلي (قدس سرّه): «الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه إن كان قاصراً، أو عالج طفلاً أو مجنوناً لا بإذن الولي، أو بالغاً لم يأذن» وهذه موارد للضمان بلا خلاف لكن يمكن الاستثناء من وجوب الإذن عند معالجة الحالات الحرجة الطارئة كالمصابين في الحوادث المرورية أو العمليات الإرهابية التي لا تحتمل انتظار أخذ الإذن وستأتي الإشارة إليها إن شاء الله تعالى.

ثم تعرّض (قدس سرّه) لمطلبين:

الأول: ما نحن بصدده وهو ضمان الطبيب فقال (قدس سرّه): «ولو كان الطبيب عارفاً، وأذن له المريض في العلاج، فآل إلى التلف، قيل: لا يضمن لأن الضمان يسقط بالإذن، لأنه فعل سائغ شرعاً، وقيل: يضمن لمباشرته الإتلاف، وهو أشبه. فإن قلنا لا يضمن، فلا بحث. وإن قلنا يضمن، فهو يضمن في ماله».

الثاني: تخلّص الطبيب من الضمان بالإبراء قبل العلاج، قال (قدس سرّه): «وهل يبرأ بالإبراء قبل العلاج؟ قيل: نعم، لرواية السكوني عن أبي عبد الله (علیه السلام). قال: (قال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: من تطبب أو تبيطر، فليأخذ البراءة من وليه، وإلا فهو ضامن)(1)،

ولأن العلاج مما تمس الحاجة إليه. فلو لم يشرَّع الإبراء، تعذر العلاج، وقيل: لا يبرأ لأنه إسقاط الحق قبل

ص: 663


1- وسائل الشيعة: 29/260، أبواب موجبات الضمان، باب 24، ح1.

ثبوته»(1).

المطلب الأول: ضمان الطبيب وهو القول المشهور عند الإمامية واعتبروه قتلاً شبيهاً بالعمد باعتبار أن الطبيب قصد الفعل ولم يقصد القتلفديته على الجاني نفسه وهو الطبيب(2)

خلافاً لمشهور فقهاء العامة، فقد ذهبوا إلى عدم ضمان الطبيب قال ابن قدامة: «ولا ضمان على حجّام ولا ختان ولا متطبب إذا عرف منهم حذق الصنعة ولم تجن أيديهم، وجملته أن هؤلاء إذا فعلوا ما أُمروا به لم يضمنوا بشرطين:

أحدهما: أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم ولهم بها بصارة ومعرفة.

الثاني: أن لا تجني أيديهم فيتجاوزا ما ينبغي أن يقطع»(3)

وفي جوامع الحديث عند العامة ما يدل على ذلك فقد روى أبو داوود والنسائي والحاكم عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) قوله: (من تطبَّب ولم يعلم منه طبّ فهو ضامن) ويوجد غيره أيضاً.

واستدل على قول المشهور بالضمان بأنه أشبه بأصول المذهب وقواعده في ضمان المتلفات حتى لو وقع خطأ محضاً «لحصول التلف المستند إلى فعل الطبيب»(4)، وعموم المروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (لا يبطل دم امرئ مسلم)(5) وحكي عن المحقق (قدس سرّه) في نكت النهاية قوله:

ص: 664


1- شرائع الإسلام: مج 2/491، القسم الرابع، كتاب الديات، موجبات الضمان.
2- غاية المراد في شرح الإرشاد للشهيد الأول (قدس سرّه): 4/446، رياض المسائل: 16/374.
3- المغني: 6/120، كتاب الإجارة.
4- غاية المراد في شرح الإرشاد للشهيد الأول (قدس سرّه): 4/446.
5- وسائل الشيعة: 27/350، كتاب الشهادات، باب 24، ح1، و 29/106، أبواب القصاص في النفس، باب 46، ح2.

«الأصحاب متفقون على أن الطبيب يضمن ما يتلفه بعلاجه»(1).

وأضاف صاحب الجواهر (قدس سرّه): «وفي الغنية الإجماع على ذلك أيضاً، وهو الحجة بعد قاعدة الضمان على المتلف، والإذن في العلاج ليس إذناً في الإتلاف -أي أن إذن المريض للطبيب تعلق بالعلاج لا بالإتلاف حتى يسقط حقه في الضمان-، والجواز الشرعي -لممارسة مهنة الطب- لا ينافي الضمان كما في الضرب للتأديب، نعم لما لم يكن ذلك عمدا له لميقتص منه مضافا إلى خبر السكوني -الذي تقدم ضمن كلام المحقق الحلي (قدس سرّه)-، بل قيل: وإلى -أي مضافاً إلى- ما حكي من تضمينه (علیه السلام) الختان القاطع لحشفة الغلام(2)، بل عن ابن إدريس نفى الخلاف عن صحة مضمونه، وإن كان فيه أنه قضية في واقعة محتملة لتفريط الختان بقطع الحشفة الذي لم يؤمر به، وعدمه، ولكن ما ذكرناه كافٍ في إثبات المطلوب»(3).

أقول: رواية السكوني المتقدمة ضمن كلام المحقق (قدس سرّه) صريحة بأن الطبيب ضامن في ما لو لم يأخذ إبراءً قبل المعالجة، ووردت رواية بمضمونها في كتب العامة عن الضحاك بن مزاحم قال: (خطب علي (علیه السلام) فقال: يا معاشر الأطباء البياطرة والمتطببين من عالج منكم إنساناً أو دابة فليأخذ لنفسه البراءة فإنه إن عالج شيئاً ولم يأخذ لنفسه البراءة فهو ضامن)(4).

وقد تعرّض الفقهاء لضمان الطبيب في موضع آخر مع أهل المهن

ص: 665


1- نكت النهاية: 3/421.
2- روى السكوني عن جعفر عن أبيه (علیهما السلام) (أن علياً (علیه السلام) ضمّن ختّاناً قطع حشفة غلام) (وسائل الشيعة: 29/261، موجبات الضمان، باب 24، ح2).
3- جواهر الكلام: 43/46.
4- كنز العمال: 15/85، المصنف لعبد الرزاق: 9/471.

الأخرى كالختان والحجام وغيرهما في كتاب الإجارة فقالوا بضمان الطبيب كما يضمن هؤلاء(1)، وسنشير إليه في ما يأتي إن شاء الله تعالى.

قال الشيخ في الخلاف: «الختّان والبيطار والحجام يضمنون بأفعالهم، ولم أجد أحداً من الفقهاء ضمنهم، بل حكى المزني: أن أحداً لم يضمنهم، دليلنا إجماع الفرقة»(2)

وتردد جماعة في قبول قول المشهور وقال آخرون بعدم ضمان الطبيب؛ سنذكر جملة منهم مع بعض كلماتهم «للأصل ولسقوطه بإذنه،ولأنه فعل سائغ شرعاً فلا يستعقب ضماناً»(3)،

قال ابن إدريس (قدس سرّه) في السرائر «من تطبب، أو تبيطر فليأخذ البراءة من ولي من يطببه، أو صاحب الدابة، وإلا فهو ضامن إذا هلك بفعله شيء من ذلك. هذا إذا كان الذي جنى عليه الطبيب غير بالغ، أو مجنوناً، فأما إذا كان عاقلاً مكلفاً، فأمر الطبيب بفعل شيء، ففعله على ما أمره به، فلا يضمن الطبيب، سواء أخذ البراءة من الولي، أو لم يأخذ، والدليل على ما قلناه، إن الأصل براءة الذمة، والولي لا يكون إلا لغير المكلف. فأما إذا جنى على شيء لم يؤمر بقطعه، ولا بفعله، فهو ضامن، سواء أخذ البراءة من الولي أو لم يأخذها»(4).

وأجاب الشهيد الأول (قدس سرّه) على الاستدلال بقوله: «ويمكن الجواب بأن أصالة البراءة لا تتم مع دليل الشغل. والإذن في العلاج لا في الإتلاف، ولا منافاة بين الجواز وبين الضمان كالضارب للتأديب»(5).

ص: 666


1- انظر مثلاً جواهر الكلام: 27/324.
2- الخلاف: 3/503، كتاب الإجارة، المسألة (26).
3- غاية المراد في شرح الإرشاد للشهيد (قدس سرّه): 4/447.
4- السرائر: 3/373.
5- غاية المراد: 4/447.

وعلى أي حال فإنه يمكن الاستدلال على عدم الضمان بوجوه، وهي:-

1- إن الدية إنما تجب مع صدق عنوان الجناية، والتلف الذي يحصل في عمل الطبيب من دون قصور أو تقصير منه وبإذن المريض لا يصدق عليه هذا العنوان فلا دية فيه قال المحقق الحلي (قدس سرّه) في نكت النهاية: «والمجني عليه إذا أذن في الجناية سقط ضمانها فكيف بإذنه في المباح المأذون في فعله»(1)

أي أن الفعل لم يعد موجباً للضمان ويخرج تخصصاً عن عمومات ما يوجب الضمان، كما أن تقديم الطعام إلى الضيوف لا يعتبر إتلافاً حتى يوجب ضماناً، ولا يجري في الطبيب أيضاً ما ذكروه في ضمان ذوي المهن وأهل الصنائع ما يتلف بأيديهم لأن الضمان متوقف علىصدق عنوان الإتلاف لا التلف أي الإفساد بحسب ما نطقت به الروايات المعتبرة ولا يصدق عنوان الإفساد على فعل الطبيب.

وهذه الالتفاتة تحلّ العقدة التي توقَّف عندها المشهور حيث لم يستطع تصور عدم وجوب الدية لإزهاق نفس محترمة مع أنها تجب حتى في الخطأ المحض، وهم اعتبروا الموت الذي يحصل أثناء عمل الطبيب شبيهاً بالعمد، والآن عرفنا الفرق لأن القتل حتى لو وقع خطأً محضاً فإنه يصدق عليه عنوان الجناية فتجب الدية ولا يصدق هذا العنوان على ما يحصل بفعل الطبيب المأذون في عمله، وبهذا التفريق نخرج من عموم ضمان المتلفات و(لا يبطل دم امرئ مسلم)، وسنذكر ذلك لاحقاً إن شاء الله تعالى.

والخلاصة أن هذه الأدلة على ضمان المتلفات ووجوب الدية منصرفة عن المورد، قال صاحب الجواهر (قدس سرّه) في كلامه عن ذوي المهن: «ولكن قد يناقش بعدم صدق الجنابة على ذلك ونحوه مما بين مستأجر عليه

ص: 667


1- نكت النهاية: 3/421.

ومأذون فيه، بل لعل ذلك هو التحقيق في المسألة»(1)، وشمل الطبيب بكلامه.

ولنا على ذلك شواهد من الروايات كصحيحة عبيد بن زرارة قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل وقع على رجل فقتله، فقال: ليس عليه شيء)(2)

بتقريب أن القتل وإن وقع بفعله إلا أنه لا يمكن اعتباره فاعلاً لأن السقوط لم يكن باختياره كما لو انهار السقف أو دفعته ريح عاصف غير محتسبة من دون اختياره فلا يكون ضامناً؛ لإقوائية السبب فيكون القتل قضاءً وقدراً ولا دية للقتيل.2- رواية إسماعيل المتطبب المتقدمة بتقريب سكوت الإمام عن وجوب الدية مع شديد الحاجة إلى البيان وهو يكشف عن عدم وجوبها على الطبيب، وكذا الروايات الأخرى (3)

بل إن رواية ابن إسحاق صريحة في عدم وجوب شيء عليه.

3- إن الطبيب محسن في عمله خصوصاً إذا كان عمله بلا أجر مع التسليم باكتمال شروط التصدي للعمل وقد قال تعالى: «مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ» (التوبة: 91) فنتمسّك بإطلاق الآية لنفي كل عهدة على ذمة المحسن ومنها الدية ولا يختص بانتفاء الإثم والعقوبة والقصاص ونحو ذلك، وهو ما يشعر به ذيل رواية ابن إسحاق (4)

وشواهد أخرى كمعتبرة

ص: 668


1- جواهر الكلام: 27/323.
2- وسائل الشيعة: 29/56، أبواب القصاص في النفس، باب 20، ح1.
3- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 288 الطبعة الثانية.
4- خبر حمدان بن إسحاق قال: (كان لي ابن، وكان تصيبه الحصاة فقيل لي: ليس له علاج إلا أن تبطَّه، فبططته فمات، فقالت الشيعة: شركت في دم ابنك، قال: فكتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر فوقَّع: يا أحمد ليس عليك في ما فعلت شيء، إنما التمست الدواء، وكان أجله في ما فعلت). الكافي: 6/ 53.

الحسين بن خالد عن أبي عبد الله (علیه السلام) (قلت: فإن أراد رجل أن يحفر له -أي الميت- ليغسله في الحفرة (فسدر الرجل مما يحفر فدير به فمالت) مسحاته في يده فأصاب بطنه فشقه، فما عليه؟ فقال: إذا كان هكذا فهو خطأ وكفارته عتق رقبة، أو صيام شهرين، أو صدقة على ستين مسكيناً مد لكل مسكين بمد النبي |)(1)،

بتقريب سقوط دية قطع أعضاء الميت عن الفاعل المحسن، فتأمل(2).ورواية السكوني عن جعفر عن أبيه (علیهما السلام) (أن رجلاً شرد له بعيران فأخذهما رجل فقرنهما في حبل فاختنق أحدهما ومات، فرفع ذلك إلى علي (علیه السلام) فلم يضمّنه، وقال: إنما أراد الإصلاح)(3).

4- سيرة المتشرعة فإننا لم نعهد منهم مطالبة الطبيب بالدية عند حصول وفاة أو تلف في الأعضاء، بسبب المعالجة أو إجراء العملية إذا لم يكن ناتجاً عن قصور أو تقصير.

ويمكن أن يكون هذا التصرف منهم لا بما هم متشرعة وإنما بما هم عقلاء وقد تبانوا على ذلك، ولا بأس بهذا ويبقى دليلاً على عدم الضمان لأن

ص: 669


1- وسائل الشيعة: 29/326، أبواب ديات الأعضاء، باب 24، ح2.
2- وجهه: أن الإحسان يصدق مع عدم أخذ الأجرة وهو معنى يمكن تحصيله من مجموعة من الروايات كرواية يونس بن عبد الرحمن عن الإمام الرضا (علیه السلام) في رجل استنجد به قوم لدفع عدو عنهم فأنجدهم بسلاحه وفي طريقة تسبّب بقتل إنسان خطأ قال (علیه السلام): (ديته على القوم الذين استنجدوا الرجل فأنجدهم وأنقذ أموالهم ونساءهم وذراريهم، أما إنه لو كان آجر نفسه بأجرة لكانت الدية عليه وعلى عاقلته دونهم) (وسائل الشيعة: 29/264، أبواب موجبات الضمان، باب 28، ح1).
3- وسائل الشيعة: 29/274، أبواب موجبات الضمان، باب 35، ح1.

بناء العقلاء حجة إذا لم يردع عنه الشارع المقدس، بل يصلح لتقييد المطلقات وتخصيص عمومات ضمان المتلفات وعدم بطلان الدم، كما أن عموم عدم حجية الظن مخصّص ببناء العقلاء على حجية خبر الواحد الثقة، ولا يصلح هذا العموم للردع عن السيرة العقلائية كما هو واضح.

5- إن أذن المريض بالعملية وعرض نفسه على الطبيب أذن بلوازمها وتعهد بكل تبعاتها وآثارها التي تحصل من دون تعدٍ وتفريط؛ لأن المريض يقدم على العلاج بعد أن يُعلمه الطبيب بنسبة نجاحها وما قد ينجم عنها من أضرار وأعراض جانبية حتى ورد عن أبي الحسن (علیه السلام) قوله: (ليس من دواء إلا ويهيج داءً)(1)،

فهذه الموافقة لازمة للإذن، وكان الأطباء في زمان صدور النص يعرفون جملة مما تسببه المعالجة أو العمليةالجراحية كما في الروايات المتقدمة وغيرها(2).

ومنه يُعلم النظر في قول الشهيد (قدس سرّه) في شرح الإرشاد وصاحب الجواهر (قدس سرّه) المتقدم وغيرهما «والإذن في العلاج ليس إذناً في الإتلاف».

بل إن الشيخ الأصفهاني (قدس سرّه) فسَّر أخذ البراءة المسقط للضمان في رواية السكوني بأخذ الإذن وحينئذٍ تكون الرواية صريحة في عدم الضمان مع الإذن، قال (قدس سرّه): «وأما الطبيب الحاذق المباشر، فتارة نقول إنه مكلف

ص: 670


1- وسائل الشيعة: 2/408، أبواب الاحتضار.
2- قالوا في خبر محاولة اغتيال معاوية: «فأما صاحب معاوية فإنه قصده فلما وقعت عينه عليه ضربه فوقعت ضربته على أليته فجاء الطبيب فنظر إلى الضربة فقال: إن السيف مسموم فاختر أن أحمي لك حديدة فأجعلها في الضربة (فتبرأ) وإما أن أسقيك دواءً فتبرأ وينقطع نسلك، فقال: أما النار فلا أطيقها وأما النسل ففي يزيد وعبد الله ما يقرّ عيني وحسبي بهما، فسقاه الدواء وعالج جرحه حتى التأم ولم يولد له بعد ذلك» (بحار الأنوار: 42/233 عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6/113).

بحفظ النفس المحترمة بعلاج المرض، فمثل هذا يستحيل أن يستلزم الضمان، فإن التلف لا يكون إلا بخطأ منه، فالموضوع وهو علاج واقعاً وإلا لانسد باب الطبابة وعلاج المرضى مع مسيس الحاجة إليه، ومثله لا ضمان معه، وعليه ينزل أخذ البراءة من المريض أي الإذن في العلاج على نحو لا ضمان معه، وإلا فإشكال البراءة عن الضمان قبل حدوث موجبه موجه، والإذن في إتلاف نفسه أو طرفه غير سائغ شرعا، فلا محيص عما ذكرناه. هذا مختصر القول فيما تقتضيه القاعدة»(1).

وما قيل من أن المريض أعطى الإذن بشرط السلامة لا معنى له لأنها أمرٌ لا يحرزه إلا الله تعالى، وإنما أذن بشرط أن يبذل ما بوسعه ويستعملكل حذقه ومهارته لتحصيل السلامة والمفروض أنه قد حقق ذلك «نعم لا يبعد كون السلامة من قبيل الداعي الذي لا يقدح تخلفه في حصول الإذن»(2).

6- إذن الشارع المقدس بالمعالجة حتى مع احتمال الوفاة بحسب الروايات المتقدمة (3)، بل إنه يوجب المعالجة إذا كان فيها إنقاذ للنفس أو إذا كان في تركها ضرر بالغ على النفس، وهو أولى من الناس بأنفسهم، فإيجاب الدية حتى مع المهارة والكفاءة وعدم التقصير والتفريط ينافي كل هذا الحث على المعالجة وفيه نقض للغرض، وتحريض على عدم المعالجة، وقد ورد النهي عن تركها في الروايات كما في رواية أبان بن تغلب(4)

حيث

ص: 671


1- بحوث في الفقه، الشيخ محمد حسين الأصفهاني، الإجارة: 284، ط. الثانية، جماعة المدرسين، 1409 هج.
2- مستمسك العروة الوثقى: 12/79.
3- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 288 الطبعة الثانية.
4- أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (كان المسيح (علیه السلام) يقول: إن التارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة " إلى أن قال: " فكذلك لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا، ولا تمنعوها أهلها فتأثموا، وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعا لدوائه وإلا أمسك ) . ( وسائل الشيعة : 16/ 128 / ح5 ، ط ال البيت ) .

ساوى بين تارك المعالجة والجاني.

7- ما ذكروه في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عدم الضمان إذا حصل تلف بسبب امتثال الفريضة، وقد بحثنا المطلب مفصلاً في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1) ونقلنا قول الأصحاب بعدم الضمان على الآمر والناهي إذا أتلفا ما يجب إتلافه أداءً لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطها وحدودها. نعم لو تعدّى بفعله كما لو استعمل يده في مرتبة اللسان أو تصرّف بدون مراجعة الحاكم الشرعي في موارد لزومه ضمن للتعدي.فهذا المورد دليل على عدم الضمان في المقام لأنهما من باب واحد فقد عملا بإذن الشارع المقدس بل بأمره وما تعدّيا الحدود، استدلالهم على الضمان بالضرب للتأديب إن كان من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(2)،

كقول الشهيد في شرح الإرشاد المتقدم (3) وقول صاحب الجواهر (قدس سرّه): «بل لو جوّزنا المباشرة للحاذق بلا إذن لقاعدة الإحسان أو أوجبناها عليه مقدمة لحفظ النفس المحترمة كما في خبر أبان بن تغلب عن الصادق (علیه السلام) لا ينافي ذلك الضمان الذي هو من باب الأسباب كما في تأديب الزوجة والصبي ونحوهما فتأمل»(4)،

والأولى أن يكون دليلاً على

ص: 672


1- فقه الخلاف: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القسم الثاني، ص8.
2- يمكن تصحيح استدلالهم بأن يقال إن التأديب حق للأب وللزوج وليس حكماً واجباً مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والضمان يأتي على القول بالأول لا الثاني.
3- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 316 الطبعة الثانية.
4- جواهر الكلام: 43/45.

عدم الضمان.

8- إن الطبيب أمين ولم يتصرف في بدن المريض إلا بعد إذنه وإذن الشارع المقدس، والأمين لا يضمن إلا مع التعدي والتفريط مثل سائر موارد الأمانة، الشرعية أو المالكية، كأهل الصنائع وذوي المهن الأخرى الذين يدهم يد أمانة، قال المحقق السبزواري (قدس سرّه) في أهل الصنائع: «والصانع أو غيره إذا تلف شيء في يده فالأشهر أنه لا يضمن إلا بالتعدي والتفريط، وليس يده يد ضمان وغصب بحيث يضمن مطلقاً، بل يد أمانة مالكية للأصل، ولأنه أمين متصرف بإذن المالك»(1).

9- إن تحميل الطبيب دية التلف مع كونه حاذقاً وبصيراً ولم يقصّر في عمله ظلم له والظلم قبيح لا يأذن به المولى، إلا أن يشترط الضمان على الطبيب بنصٍّ شرعي أو قانوني بنحو ما سنشرح معنى رواية السكوني.

10- أظن أن موضوع الضمان غير واضح في ذهن القائلين به لأنفرض المسألة بأن الطبيب حاذق بصير ولم يقصّر في عمله ولم يتعدَّ حدوده، وهذا يجعل سبب التلف ليس راجعاً إليه وإنما إلى نفس العملية فإن فيها نسبة من النجاح والفشل فهذا التلف اقتضاه تحقق الفشل المحتمل كعملية القلب المفتوح التي يمكن أن يتوقف فيها القلب أو عملية الفقرات والظهر التي يمكن أن تضر بالحبل الشوكي، وباختصار فإن التلف وإن باشره الطبيب إلا أن السبب وهو اقتضاء العملية لنسبة من الفشل كان أقوى وإليه ينسب التلف.

وبتعبير دقيق: إن نسبة التلف إلى الفعل لا يكفي للقول بالضمان إلا أن ينسب إلى الفاعل، لذا فحينما يكون السبب أقوى من المباشر يضمن

ص: 673


1- كفاية الفقه: 1/664.

المسبِّب مع أن التلف حصل بفعل المباشر، وفي المقام فإن التلف حصل من الفعل وهي المعالجة من دون أن ينسب إلى الفاعل وهو الطبيب لأن طبيعة العملية تقتضي نسبة من التلف لا يكون الطبيب مسؤولاً عنها، قال الشيخ النائيني (قدس سرّه) في تعليقته على العروة عند مسألة ضمان الحمّال إذا عثر من دون تقصير منه فانكسر ما يحمل: «الأظهر عدم الضمان وكونه من التلف دون الإتلاف»(1)،

وعلّق بمثل ذلك جملة من المحشّين العظام.

فالقول بالضمان لا وجه له؛ لأن الطب علم حسّي تجريبي ويعمل الطبيب بما أفادته التجارب ودقة النظر وقد تكون التجربة ناجحة مع شخص ولا تكون كذلك، أو يكون هذا العلاج المجرب ناجحاً مع شخص ومضرّاً لآخر مع أنهما يعانيان من نفس المرض لأن تركيب جسم الإنسان معقد وتوازنات عمل الأعضاء دقيقة للغاية ولا يمكن أن يضبطها جميعها أحد من الأطباء.

11- النقض عليهم بما لو جيء بمريض بحالة حرجة ويحتاج إلىتداخل جراحي أو إجراء علاجي خطير فوري لتعرضه إلى حادث سيارة أو قصف أو زلزال فبادر الأطباء إلى معالجته وحصل تلف، فإن قالوا بعدم الضمان فهو نقض عليهم لأن الاضطرار لا يسقط الضمان وإن قالوا به فهو كما ترى.

12- القانون الجاري بين ذوي المهن الطبية يتضمن عدم ضمان الطبيب إذا كان من أهل الكفاءة والمهارة ولم يقصّر في عمله، وغفلة المريض عنه لا تعطيه حق المطالبة.

مناقشة أدلة المشهور:

ومما تقدم يُعلم النظر في ما استدل به المشهور فإن الوجوه التي

ص: 674


1- العروة الوثقى بتعليق المراجع العظام: 5/68، المسألة (7)، كتاب الإجارة.

ذكرناها تصلح لتقييد القواعد والأصول المقتضية لضمان المتلفات التي هي قاعدة مقتنصة من الأحكام الواردة في الروايات وليست رواية حتى يتمسك بإطلاقها.

بل إدخال المورد في ضمان المتلفات مما لا يمكن المساعدة عليه شكلاً ولا مضموناً، (أما) شكلاً فإن تلف الأعضاء يدخل في باب الجنايات والغرامة عليه يسمى دية وليس ضماناً ونحو ذلك، و(أما) مضموناً فلأن المتلفات إنما تضمن حتى لو حصل التلف خطأً محضاً باعتبار أن الفعل لم يكن بإذن من وقع عليه التلف، أما الفعل هنا فهو بإذنه.

فالإتلاف الموجب للضمان لا يصدق على فعل الطبيب أي أنه خارج تخصصاً عن هذه القاعدة؛ لأن ما حصل من التلف لا الإتلاف.

وذكر السيد الخوئي (قدس سرّه) في بعض كلماته ما يعبّر عن هذا المعنى، قال (قدس سرّه): «وأما إذا لم يصدق الاستناد بوجه- أي استناد الفعل إلى الفاعل اختياراً أو بغير اختيار كالنائم- بل كان الشخص المزبور كآلة محضة والفعل مستند إلى سبب آخر، كما لو كان على سطح بيت فوقعت زلزلة أو هبّت ريح عاصف فسقط من الشاهق على إناء زيد فكسره، بل على نفسه فقتله، حيث لا يعدّ هذا فعله وعمله عرفاً حتى غير الاختياري منه، ولا يرونهقاتلاً حتى خطأً، ففي مثله لا إتلاف ولا ضمان، وإنما يُعدُّ ذلك من التلف بآفة سماوية أو أرضية، ويؤكده ما ورد في جملة من الصحاح(1)

فيما إذا سقط شخص على آخر فمات: إن الساقط لا يضمن شيئاً والظاهر أن المسألة مما لا خلاف فيها، فلا دية بمقتضى هذه النصوص»(2).

ص: 675


1- كصحيحة عبيد بن زرارة المتقدمة (صفحة 668).
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 30/248.

وهذه القاعدة منقوضة بسائر أيدي الأمانة التي لا تضمن إلا بالتعدي والتفريط، كالمستعير فإنه لا يضمن العين إذا تلفت بيده وتصرَّف فيها بحدود ما تقتضيه الإعارة، إلا مع التعدي والتفريط أو الشرط؛ ففي صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (قضى أمير المؤمنين (علیه السلام) في رجل أعار جارية فهلكت من عنده ولم يبغها غائلة، فقضى أن لا يغرمها المعار، ولا يُغرَّم الرجل إذا استأجر الدابة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة)(1)، وفي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنه إلا أن يكون اشترط عليه) وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (سألته عن العارية يستعيرها الإنسان فتهلك أو تُسرَق؟ فقال: إن كان أميناً فلا غرم عليه).

وأقرَّ المحقق الأردبيلي (قدس سرّه) بأنه لم تثبت على نحو الموجبة الكلية قاعدة أن كل تالف مضمون، قال (قدس سرّه): «وما ثبت شرعاً أن كل إتلاف موجب للضمان»(2).

ولو قيل بأن الإذن تعلق بالمعالجة لا بالتلف قلنا أن المعالجة كانت تقتضي احتمال التلف فالإذن بها إذنٌ بما تحتمله من نتائج وأن الإذن في الفعل يكفي لسقوط الضمان عن يد الأمانة الشرعية والمالكية.

وكذا يخرج المورد تخصّصاً من عموم (لا يبطل دم امرئ مسلم):-أ- لعدم صدق عنوان الجناية الموجب للدية على فعل الطبيب.

ب- وإن سياق الرواية التي تضمنت هذا العموم شاهد على ذلك لأنها وردت في سياق التهمة بالقتل ووجود لوث.

ص: 676


1- والروايتان بعدها في وسائل الشيعة: 19/93، كتاب العارية، باب 1، ح1، 7، 9.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 14/229.

ج- وإن نفس لفظ (دم) ظاهر في الدم الذي أُطلَّ بجناية. فيكون نظير دم من وجب قتله بحدٍّ أو قصاص مطلول بأمر الشارع، وهو خارج تخصصاً.

د- كذلك يمكن القول بأن الوجوه السابقة تُخصَّص عموم (لا يبطل دم امرئ مسلم) ولا ضير فيه، فإن دمه لا يضمن إذا مات قضاءً وقدراً كما لو حدث زلزال أثناء إجراء العملية أو سقط شيء معلق في السقف على يد الجرّاح أثناء العملية فزلّت وأحدثت تلفاً فلا ضمان على أحد.

أما رواية السكوني فهي ضعيفة السند لعدم توثيق النوفلي وإن ذكر وجه لقبول روايته(1)، وهي مما انفرد السكوني بروايتها فلا يعمل بهاالأصحاب قال المحقق في نكت النهاية: «الأصحاب متفقون على أن الطبيب

ص: 677


1- حاصله أن الأصحاب قبلوا رواية السكوني كما صرّح به الشيخ (قدس سرّه) في العدة وأن أغلب رواياته عن النوفلي فهذا يعني قبول روايات النوفلي وإلا لم تصدق هذه المقولة. وفيه: إن عبارة الشيخ ظاهرة في أن معنى قبول رواية السكوني وعموم أبناء العامة أي أن انحراف عقيدته لكونه من أبناء العامة لا تضر بعد ورود التصريح بوثاقته كغيره من العامة، أما قبول روايته فهي غالباً لموافقتها لروايات الإمامية أو قواعد المذهب فتكون حجة لرواية الإمامي والقواعد، أما أخبار السكوني التي رواها عنه النوفلي ولا يوجد ما يوافقها ولا ما يخالفها في كتب الإمامية -كمحل البحث- فهي قليلة جداً فقد روى كثيرون عن السكوني كالربيع بن سليمان الذي أكثر عنه بحسب النجاشي (الترجمة 465) وأمية بن عمرو الشعيري الذي قال فيه النجاشي إن أكثر كتابه عن السكوني (الترجمة 263) وعبد الله بن المغيرة وغيرهم، وذكر الإسناد غالباً عن النوفلي لا يعني قلة ما رواه غيره عن السكوني لأن الأصحاب يكتفون عادة بذكر طريق واحد كما هو المعروف للمتابعين، وكمثال على ذلك الرواية في حرمة ثمن الميتة (وسائل الشيعة: 17/93، أبواب ما يكتسب به، باب 5، ح5) فقد رواها الكليني بسنده عن النوفلي ورواها الشيخ الصدوق في الخصال بسنده عن موسى بن عمر عن عبد الله بن المغيرة عن السكوني.

يضمن ما يتلف بعلاجه، فالعمل على هذا الأصل لا على هذه الرواية؛ لأن الأكثرين يطرحون ما ينفرد به السكوني»(1).

وفيها ما لا يوافق القواعد عند بعض الأجلاء من إسقاط ما لم يجب لذا اعترض عليه ابن إدريس وغيره ممن سنذكرهم إن شاء الله تعالى.

وإن أخذ البراءة من ولي المريض دونه هو يشعر بأن موردها خاص لذا حملها ابن إدريس في كلامه المتقدم على معالجة الصغير أو المجنون بغير إذن وليه فيكون ضامناً ولو كان المريض عاقلاً لوجب أخذ الإذن منه لا من وليه.

وما قيل من توجيه ذكر الولي «لأنه هو المطالب على تقدير التلف، فلمّا شرّع الإبراء قبل الاستقرار لمكان الضرورة، صرف إلى من يتولى المطالبة بتقدير وقوع ما يتبرأ منه»(2):

بعيد وأبعد منه ما قيل من أن ذكره بلحاظ أحد الفردين وهو الحيوان لذكر البيطرة في الحديث فإنه مما لا ينبغي أن يقال وأن صاحب الحيوان لا يعبر عنه بالولي وإنما بالمالك ونحوه.

وانقدح في ذهني حملها على معنيين:

أحدهما: أنه على نحو الحكم التدبيري والقانون الاجتماعي بأن الطبيب يلزم بالدية ما لم يأخذ البراءة لحث الأطباء على المزيد من اليقظة والحذر والمهارة لذا نسب الحكم إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) باعتباره مارس قيادة الدولة، مع ملاحظة أن كثيراً من الأطباء البارزين كانوا غير مسلمين مثل أثير السكوني الذي كشف على جرح أمير المؤمنين (علیه السلام) «وكانمطبباً صاحب الكرسي يعالج الجراحات»(3)

وهو من سبي عين التمر، فيكون

ص: 678


1- نكت النهاية: 3/421.
2- غاية المراد: 4/449.
3- بحار الأنوار: 42/234، عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6/114-119.

الحكم تدبيرياً صادراً من الولي الفقيه والحاكم الأعلى لتنظيم أمور الرعية.

ثانيهما: تحمل على الأثر الإثباتي وهو الانتفاع منها في الخصومة أي رد دعوى ذوي المجني عليه لو طالبوا بالضمان لا الثبوتي أي اشتغال ذمة الطبيب بالدية واقعاً للوجوه التي ذكرناها فلا تدل على وجوب الضمان إذا لم يأخذ البراءة، فيكون حكماً إرشادياً لتخليصهم من الضمان عندما لا يكون التلف بتعدٍ أو تفريط، والشاهد على هذا المعنى من نفس الرواية تفريع الضمان على عدم أخذ البراءة (وإلا فهو ضامن) ولو كان الحكم في المسألة هو الضمان لكان مطلقاً ولم يتوقف على أخذ البراءة، وكذا تضمنت روايات ضمان ذوي المهن والصنائع هذا المعنى(1).

مضافاً إلى معارضتها برواية إسماعيل المتطبب، والوجوه الأخرى.

والاستدلال برواية السكوني الأخرى في ضمان الختّان قابل للمناقشة لاحتمال أنها في واقعة خاصّة تصدّى فيها غير المؤهل أو أنه تعدّى حدود العمل لأن عملية القص في الختان ليست قرب الحشفة فلا بد أن التلف حصل بتقصير منه فيضمن ولا تدل على محل البحث.

أما الإجماع فيحتمل أنه مدركي مستند إلى رواية السكوني أو قاعدة ضمان المتلفات أو عموم لا يبطل دم امرئ مسلم ونحو ذلك.

بل يمكن نفي وجوده لعدم وحدة الموضوع في كلماتهم فمنهم من بنى الضمان على عدم حصول الإذن قال الشهيد في شرح الإرشاد: «واعلم أن كثيراً من الأصحاب لم يقيِّد بالإذن وإن كان ظاهرهمالإذن»(2)، بل صرح المحقق الأردبيلي (قدس سرّه) بأن حكم الأصحاب بالضمان ناظر إلى عدم الإذن

ص: 679


1- راجع وسائل الشيعة: 19/145، كتاب الإجارة، باب 29.
2- غاية المراد: 448.

قال (قدس سرّه): «بل قد يحمل كلام الأصحاب أيضاً على عدم الإذن»(1).

ومنهم من افترض التقصير في عمل المعالج، قال السيد الخوئي (قدس سرّه) في حال موت المختون: «وهذا القتل بالآخرة يستند إلى الختّان»(2)؛

لذا استدل بصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) في أصحاب الصنائع قال (علیه السلام): (كل عامل أعطيته أجراً على أن يصلح فأفسد فهو ضامن)(3) وهي ظاهرة في إفساده ولا خلاف في الضمان وبه صرّح صاحب العروة في كلامه الآتي (صفحة 683) واقتصر عليه وكأنّه يتوقّف في محل البحث أو يقول بعدم الضمان.

أما إدخال الطبيب في مسألة ضمان أصحاب الصنائع كالخياط والنجار والحمال ففيه جهة افتراق لأن تعاملهم مع ما بأيديهم وهي جمادات لا تملك لنفسها شيئاً فلا يتصور سبب التلف إلا من الصانع وهو ليس كتعامل الطبيب مع المريض صاحب الجسم المعقد فيوجد ألف سبب وسبب للتلف مما نعلم أو لا نعلم لا يكون الطبيب مسؤولاً لها.

على أن القائلين بعدم الضمان في أهل الصنائع ليسوا قلة كما نقلنا عن بعضهم وتوقف جماعة(4) منهم صاحب العروة (قدس سرّه)، وإن الروايات التي أوجبت الضمان ظاهرة بل صريحة في كون الصانع مسؤولاً عن التلف لقول الإمام (علیه السلام) فيها: (فأفسد) كصحيحة الحلبي المتقدمة ومثلها صحيحة أبي الصباح ورواية أبي الصباح عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سألته عن الثوبأدفعه إلى القصّار فيخرقه؟ قال: أغرمه فإنك إنما دفعته إليه

ص: 680


1- مجمع الفائدة والبرهان: 14/229.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 30/244، مسألة (4)، كتاب الإجارة.
3- وسائل الشيعة: 19/147، كتاب الإجارة، باب 29، ح19.
4- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 30/243، مسألة (4).

ليصلحه ولم تدفع إليه ليفسده)(1).

قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «لظهوره -أي صحيح الحلبي- فيمن لم يعمل ما كان مأذوناً فيه فكان أجيراً على أن يصلح فأفسد، لا أنه أتى ما أُمر به وترتّب عليه الفساد خارجاً»(2).

لذا نفت عدة روايات الضمان إذا لم يكن متّهماً بالتقصير كصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلا أن يكونوا متهمين)(3) وصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (سألته عن الصبّاغ والقصّار؟ قال: ليس يضمنان) قال الشيخ: يعني إذا كانا مأمونين، فأما إذا اتهما ضمنا حسب ما قدمنا، وقد ينصرف المورد إلى دعوى أن التلف بسبب خارجي كالسرقة أو الحرق أو الفقدان ونحو ذلك إلا أن الأصحاب لم يفرقوا في أسباب التلف.

وفي رواية بكر بن حبيب عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (لا يضمن القصّار إلا ما جنت يداه، وإن اتهمته أحلفته)(4)

دلالة على عدم الضمان مع عدم صدق عنوان الجناية، واعترف صاحب الجواهر بأن مقتضى التحقيق ذلك، قال (قدس سرّه) بعد أن نقل قول الأصحاب بضمان أهل الصنائع لاستناد التلف إلى فعلهم: «ولكن قد يناقش بعدم صدق الجناية على ذلك، ونحوه مما بين مستأجر عليه ومأذون فيه، بل لعل ذلك هو التحقيق في المسألة، وبين ضمان الصناع لما يجنيه أيديهم وإن كان من غير تقصير منهم، بل وكذا الطبيب والبيطار إذا حصل التلف بالطبابة والبيطرة، ولعل ذلكمقتضى

ص: 681


1- وسائل الشيعة: 19/143، كتاب الإجارة، باب 29، ح8.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 30/244، مسألة (5)، كتاب الإجارة.
3- والرواية التي بعدها في وسائل الشيعة: 19/145، كتاب الإجارة، باب 29، ح11، 14.
4- وسائل الشيعة: نفس الموضع السابق، ح17.

القاعدة فضلاً عن النصوص التي سمعت جملة منها. وفي خبر بكر بن حبيب عن أبي عبد الله (علیه السلام) (لا يضمن القصار إلا ما جنت يداه، وإن اتهمته أحلفته) وحينئذ لا ضمان مع عدم الفساد من حيث الصنعة والعمل، وإن اتفق نقصان قيمة الثوب مثلاً بحصول العمل منه، وكذا المأمور بالختن والحجامة ونحوهما، ولم يكن منه فساد وخيانة من حيث العمل المأمور به، وإن اتفق التلف به»(1)

ثم رجع (قدس سرّه) إلى القول بضمان الطبيب لنفس الوجوه التي ذكرها في باب الديات وقد تقدمت.

ويمكن أن يقال: إن الحكم بالضمان هو حكم تدبيري وقانون اجتماعي اتخذ لضمان أموال الناس وتشديد الحرص عليها من أهل الصنائع ويدل عليه صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (كان علي (علیه السلام) يضمّن القصّار والصائغ يحتاط به على أموال الناس)(2)، وهو وجه نسبة الحكم إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) مارس قيادة الدولة وتنظيم أمور الرعية.

المترددون والمخالفون للمشهور:

ولعله لأجل هذه الوجوه أو بعضها تردد المحقق (قدس سرّه) حسب ما يُشعر به قوله: «فإن قلنا لا يضمن، وإن قلنا يضمن» والعلامة (قدس سرّه) في الإرشاد قال (قدس سرّه): «وإن أذن له البالغ فآل إلى التلف ضمن على رأي» وتمسّك ابن إدريس بالأصل الذي هو وظيفة الشاك لنفي الضمان، وجزم العلامة في التحرير بعدمه، قال (قدس سرّه) في الختّان والحجّام: «ولو لم يتجاوز محل القطع مع حذقهم في الصنعة فاتفق التلف فإنهم لا يضمنون»(3).

واحتمل المحقق الأردبيلي عدم الضمان بل يظهر منه الميل إليه، قال

ص: 682


1- جواهر الكلام: 27/323.
2- وسائل الشيعة: 19/145، ح4، 12.
3- تحرير الأحكام، للعلامة الحلي: 3/116، ط. الأولى، اعتماد، 1420 هج.

(قدس سرّه): «إن عدم الضمان مع الإذن محتمل لأنه ما قصد الإتلاف وما قصّر مع أنه استأذن وحاصله أنه يفعل ما يقتضيه علمه ولم يكن عليه بهشيء. وإن ذلك قد يجب عليه، إذ قد يكون ذلك من الواجب الكفائي بل قد يصير عينياً. وما ثبت شرعاً أن كل إتلاف موجب للضمان -أي لم يثبت على نحو الموجبة الكلية-، ورواية الختان قد تحمل على ما حملها ابن إدريس من التفريط بعد تسليم الصحة، بل قد يحمل كلام الأصحاب أيضاً على عدم الإذن» وقال (قدس سرّه): «وإنك قد عرفت ما في أمثال هذه الإجماعات»(1). واستقربه المحقق السبزواري (قدس سرّه) في كلامه الآتي (2)

وذهب الشيخ الأصفهاني إلى استحالة القول بضمان الطبيب في كلامه المتقدم (3).

ويظهر من السيد صاحب العروة (قدس سرّه) أنه يستشكل في الضمان فإنه بعد أن ذكر الحجّام والكحّال والبيطار والختّان قال: «وكل من آجر نفسه لعمل في مال المستأجر إذا أفسده يكون ضامناً إذا تجاوز عن الحد المأذون فيه، وإن كان بغير قصده لعموم من أتلف وللصحيح عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في الرجل يعطى الثوب ليصبغه فيفسده، فقال (علیه السلام): (كل عامل أعطيته أجراً على أن يصلح فأفسد فهو ضامن)(4)

بل ظاهر المشهور ضمانه وإن لم يتجاوز عن الحد المأذون فيه، ولكنه مشكل فلو مات الولد بسبب الختان مع كون الختان حاذقاً من غير أن يتعدى عن محل القطع بأن كان أصل الختان مضراً به في ضمانه إشكال»(5).

ص: 683


1- مجمع الفائدة والبرهان: 14/229.
2- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 333 الطبعة الثانية.
3- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 319 الطبعة الثانية.
4- وسائل الشيعة: 19/147، كتاب الإجارة، باب 29، ح1، 19.
5- العروة الوثقى بحواشي المراجع العظام: 5/66، المسألة (4).

أقول: سنذكر في ما ننقله عن الرسالة العملية أن عدم الضمان في هذه الحالة إذا كان الختّان مستأجراً لإجراء عملية الختان ولم يكن من وظيفته الكشف عن صحة الطفل ومعرفة قابليته لإجراء الختان، أما إذا كانمن وظيفته ذلك كالطبيب الجراح فإنه ضامن لو ختن الطفل من دون ملاحظة هذه الجهة ثم تضرر الطفل.

ومن الواضح أن الإشكال يعم القول بضمان الطبيب.

وقال السيد صاحب العروة (قدس سرّه) في المسألة التالية: «الطبيب المباشر للعلاج إذا أفسد ضامن وإن كان حاذقاً» وهو ظاهر في خصوص حصول الفساد بسببه، وإلا يُسأل (قدس سرّه) عن الفرق بين الطبيب وغيره من أهل الصنائع الذين أشكل على ضمانهم.

واستظهر السيد الحكيم (قدس سرّه) في رسالته العملية عدم الضمان ووافقه الشهيد الصدر الأول في تعليقته(1)

واشترطا في ضمان الطبيب صدق الإفساد.

وعلق السيد الخميني (قدس سرّه) في حاشيته على العروة الوثقى على الإشكال بقوله والأقوى عدم الضمان، وكذا السيد الخوئي (قدس سرّه) إلا أنه قال: «ومع ذلك الظاهر هو الضمان في مسألة الختان» وكذا قال في مسألة لاحقة بضمان الطبيب.

إيقاظ: الخلاف لا موضوع له:

ويمكن أن يكون الخلاف بلا موضوع لأن التلف إما أن يحصل بقصور أو تقصير من الطبيب فعليه الضمان بلا إشكال، أو من المريض كما لو أخفى مرضاً عنده لا يجوز معه تخديره كلياً فلما خدروه مات، وحينئذٍ لا ضمان

ص: 684


1- منهاج الصالحين: 2/134، المسألة (35).

على الطبيب، وهكذا.

وقد يكون التلف مما تقتضيه نفس العملية لأن الطبيب حينما يقول إن نسبة النجاح 60 بالمائة فهذا يعني أن فيها نسبة فشل بمقدار 40 بالمائة وهذا مما لا يضمنه الطبيب لأنه ليس هو سبب الإتلاف وإنما تقتضيه طبيعة العملية كتوقف القلب في عملية القلب المفتوح مثلاً، وهو ما تشمله روايةالسكوني عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (أنه كان لا يضمن من الغرق والحرق والشيء الغالب)(1).

ونستطيع أن نقول إن هذا هو السبب في قول بعض الأصحاب بعدم الضمان أو ترددهم فيه وأنه ظاهر من كلماتهم كالمحقق السبزواري (قدس سرّه) في الكفاية فإنه بعد نقل قول العلامة في التحرير: «لو لم يتجاوز -يعني الختّان- محل القطع مع حذقهم في الصنعة واتفق التلف فإنهم لا يضمّنون»(2) قال (قدس سرّه): «وهو غير بعيد ويجري مثله في الطبيب، بل قيل إنه يجري في الصانع بأن فُرِض أنه ما فرّط ولا تعدى في القصر والصبغ أصلاً، إلا أن الثوب كان بحيث لو لم يصبغ ولم يقصّر لم يمزّق، وكان متهيئاً لقبول ذلك وهو غير بعيد»(3).

ولعله أيضاً السبب في توقف السيد صاحب العروة (قدس سرّه) في الضمان عندما قال: «بأن كان أصل الختان مضرّاً به» (4) أي أن نفس العملية موجبة للضرر والتلف، فدقّق.

وأرجع إلى التعبير الدقيق الذي تقدم في النقطة التاسعة ليزداد الأمر

ص: 685


1- وسائل الشيعة: 19/143، كتاب الإجارة، باب 29، ح6.
2- تحرير الأحكام: 3/116، مصدر سابق.
3- كفاية الفقه: 1/664.
4- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 331 الطبعة الثانية.

وضوحاً.

ونفس السبب يرد في أهل الصنائع أيضاً كما لو أن التيار الكهربائي المشغّل لماكنة الخياط أو الحداد جاء إلى الجهاز بفرط عالٍ غير محتسب فأسرعت الماكنة بقوة وتلف القماش فلا ضمان على الخياط لأن السبب أقوى من المباشر. قال المحقق (قدس سرّه) في الشرائع: «أما لو تلف في يد الصانع لا بسببه، من غير تفريط ولا تعدّ لم يضمن على الأصح» وقوّاه في المسالك، ونفى عنه الخلاف في الجواهر(1)

وهو مطلق شامل لما لو حصلالتلف بسبب نفس العمل أو العملية ولم يكن الصانع والمباشر إلا أداة.

المطلب الثاني: ذهب المشهور إلى إمكان تخلص الطبيب من الضمان بأخذ البراءة من المريض قبل العملية إذا كان بالغاً عاقلاً وإن كان صغيراً أو مجنوناً أخذها من وليه وحكى صاحب الجواهر (قدس سرّه) عن ظاهر الغنية أو صريحها الإجماع عليه لرواية السكوني المتقدمة والتعليل الذي ورد في كلام المحقق (قدس سرّه) المتقدم (2)،

وحاصله أن حاجة المجتمع إلى الطبيب تقتضي إيجاد وسيلة لبراءته من الضمان لو حصل تلف من دون تعدٍّ أو تفريط، وإلا سوف لا تجد من يتطبَّب.

وقال (قدس سرّه) في نكت النهاية: «ولا أستبعد الإبراء من المريض فإنه فعل مأذون فيه، والمجني عليه إذا أذن في الجناية سقط ضمانها، فكيف بإذنه في المباح المأذون في فعله»(3).

أقول: لكن قول المشهور قابل للمناقشة لقصور المقتضي ووجود المانع.

ص: 686


1- جواهر الكلام: 27/325.
2- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 313 الطبعة الثانية.
3- نكت النهاية: 3/421.

أما المقتضي وهي رواية السكوني فإنها غير تامة السند وتحتمل عدة معانٍ غير ما ذكره المشهور كتحصيل البراءة بعد وقوع التلف كما عن الجواهر أو أنها في مورد خاص وهو معالجة الصغير والمجنون بقرينة ذكر الولي فلا إطلاق لها يستدل به المشهور، أو أن أخذ البراءة بمعنى أخذ الإذن كما نقلنا عن الأصفهاني وهو حاصل، أو أنه أمر تدبيري أو إرشادي كما احتملنا ونحو ذلك.

وأما المانع فمن جهتين:-

1- إنه إسقاط ما لم يجب وهو على خلاف القواعد.

2- لأن الإنسان لا يملك مثل هذه السلطنة على نفسه مطلقاً أو في خصوص الوفاة وتلف الأعضاء الرئيسية كما سيأتي إن شاء الله تعالى،فكيف يجوز له منح البراءة مما لا حق له فيه، قال الشيخ الأصفهاني (قدس سرّه) في ما نقلناه عنه: «والإذن في إتلاف نفسه أو طرفه غير سائغ شرعاً».

لذا جزم الشهيد الثاني (قدس سرّه) في حاشيته على إرشاد العلامة (قدس سرّه) بعدم البراءة(1).

وحكي عن ابن إدريس عدم سقوط الضمان لأنه إسقاط الحق قبل ثبوته ولنفس التعليل تأمل الشيخ ضياء العراقي في السقوط بالبراءة(2)،

وقال الشيخ الأصفهاني (قدس سرّه) في ما نقلناه (3): «فإشكال البراءة عن الضمان قبل حدوث موجبه موجه»، وسلَّم السيد الخوئي (قدس سرّه) بالإشكال على طبق القواعد إلا أنه احتج برواية السكوني التي بنى على اعتبارها، قال (قدس سرّه): «ولا موقع للاستشكال بأنه من قبيل إسقاط ما لم يجب حيث أن الضمان

ص: 687


1- الحاشية المطبوعة في هامش غاية المراد: 4/446.
2- العروة الوثقى بحواشي المراجع العظام: 5/68، المسألة (6).
3- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 319 الطبعة الثانية.

إنما يكون بعد الإفساد فقبله لا موضوع للبراءة.

إذ فيه: إن هذا إنما يتم لو كان الحكم مستنداً إلى القاعدة والموازين العامة، وأما مع الاستناد إلى الرواية الخاصة الناطقة بذلك فلا وجه له»(1).

لذا تردد المحقق (قدس سرّه) واكتفى بنقل القولين، وتردد العلامة (قدس سرّه) أيضاً حيث قال في الإرشاد: «وهل يبرأ بالإبراء قبله؟ فيه قولان» ولم يرجّح أحدهما وكذا الشهيد الأول (قدس سرّه) في شرحه.

وبنى الشهيد الصدر الثاني (قدس سرّه) على هذا الإشكال إلا أنه قدَّم معالجة له فقال: «إذا أعطى المريض أو وليه أو صاحب الدابة البراءة من نتائج المداواة وحصل التلف، فهل يضمن الطبيب أم لا؟ ذكرنا في بعض المسائل السابقة أنه لا أثر لهذه البراءة، إلا أن تعود استدامتها عرفاً إلىإفراغ ذمة الطبيب من الضمان بعد انشغالها به»(2).

أقول: حينئذٍ يجب أخذ البراءة من المريض ووليه لأن الدية تكون للورثة على تقدير حصول الوفاة فاستدامة البراءة إلى ما بعد اشتغال الذمة يجعل حق منحها بيد الورثة.

وناقش صاحب الجواهر (قدس سرّه) في ما استدل به على عدم ضمان الطبيب بأخذ البراءة قبل العملية من جهتين:-

1- «احتمال الخبر المزبور البراءة بعد الجناية مجاناً أو على مال احتمالاً ظاهراً، وربما يرشد إليه لفظ (وليه) على أنه ضعيف».

أقول: في هذا تأكيد للضمان على الطبيب وإنما أراد معالجة إشكال إسقاط الحق قبل ثبوته. بأن تؤخذ البراءة بعد ثبوت الحق أو أن المريض

ص: 688


1- موسوعة السيد الخوئي: 30/247، المسألة (6)، كتاب الإجارة.
2- منهج الصالحين: 5/214، المسألة (899).

قاصر، لكن هذا الاحتمال خلاف الظاهر.

2- «الحاجة بمجردها لا تصلح دليلاً لشرع الحكم المخالف للأدلة ومن هنا قال في المسالك وهو الوجه»(1).

وفيه: يمكن تقريب الحاجة على أن خلافها نقض للغرض ومخالفة للأمر بالتداوي وخروجاً عن بناء العقلاء وسيرتهم ونحو ذلك مما قلنا فيصلح أن يكون دليلاً.

وأجاب صاحب الجواهر (قدس سرّه) عن هذه المناقشات بقوله: «ولكنه كما ترى ضرورة عدم منافاة الاحتمال المزبور في الخبر الظاهر الذي هو الحجة في الأحكام الشرعية، كعدم منافاة ضعفه، بعد انجباره بما عرفت، وتأييده بمسيس الحاجة. وذلك كله كاف للخروج به عن قاعدة عدم إسقاط الحق قبل ثبوته، على أنه ينبغي الجزم به إذا أخذ بعنوان الشرطية في عقد إجارة الطبيب مثلاً إذ هو حينئذ يكون كاشتراط سقوط خيار الحيوان والمجلس ونحوهما مما يندرج تحت قولهم ^: (المؤمنون عندشروطهم) بل ربما ظهر من الأردبيلي الاكتفاء بالشرط مطلقاً، وإن كان فيه أنه إن لم يكن في ضمن عقد وعداً أو كالوعد لا يجب الوفاء به. كل ذلك مضافاً إلى إمكان القطع به في مثل الأموال التي منها ما هو محل البيطرة ضرورة أنه إذن في الإتلاف على وجه يجري مجرى أفعال العقلاء نحو غيره من الإتلافات. ومنه يعلم الوجه في غير المال مما له الإذن فيه إذا كان جارياً مجرى أفعال العقلاء كما في العلاج. وليس هذا من الإبراء قبل ثبوت الحق، بل من الإذن في الشيء المقتضية لعدم ثبوته، نحو الإذن في أكل المال مثلاً، والظاهر اعتبار إذن المريض في ذلك مع فرض كونه كامل العقل، ولا يكفي إذن الولي، إذ لا ولي له في هذا الحال، وإنما هو أولى بنفسه، وكون الولي هو المطالب بعد ذلك لا يرفع سلطنته الآن على نفسه، وما في الخبر المزبور محمول على إرادة الولي في ذلك الشامل للمريض ورب المال. وقول الشهيد في غاية المراد وغيره باعتبار

ص: 689


1- جواهر الكلام: 43/47.

إذن الولي أو المريض، محمول على التفصيل الذي ذكرناه، لا أن المراد، الاكتفاء بإذن الولي مع كمال عقل المريض. وقال المصنف في النكت في الخبر: «وإنما عدل إلى الولي لأنه هو المطالب على تقدير التلف، فلما شرع الإبراء قبل الاستقراء لمكان الضرورة صرف إلى من يتولى المطالبة بتقدير وقوع ما يبرء منه، ولا أستبعد الإبراء من المريض فإنه يكون فعلاً مأذوناً فيه والمجني عليه إذا أذن في الجناية سقط ضمانها، فكيف بإذنه في المباح المأذون في فعله فتأمل جيداً»(1).

أقول: يمكن تلخيص الجواب على إشكال عدم صحة إسقاط الحق قبل وجوبه بوجوه:-

1- تصريح رواية السكوني بذلك بعد انجبار ضعف سندها وتأييدهابالحاجة الماسّة، وردّ ما قيل من الاحتمالات المخالفة لظهورها فتكون مخصِّصة لقاعدة عدم صحة إسقاط الحق قبل ثبوته وحاكمة عليها، وهو ما بنى عليه السيد الخوئي (قدس سرّه) كما تقدم.

2- إن وجود مقتضيه وهو عقد الإجارة مع الطبيب الذي يتضمن التعرض للعلاج الموجب للتلف كافٍ لصحة البراءة فإذا جعلت البراءة شرطاً في عقد إجارة الطبيب كفت لعموم (المؤمنون عند شروطهم)، كما أن إسقاط بعض الخيارات في عقد البيع صحيح قبل أن يتحقق موضوعها فعلاً كخيار التأخير، أو إسقاط بعض حقوق الزوجية في العقد كذلك، أو إسقاط

ص: 690


1- جواهر الكلام: 43/47-48.

حق القسم في النهار.

3- لا شك في أن الإذن بإتلاف المال يبرئ ذمة المتلف والحيوان المعالج مال، وهكذا إتلاف العضو إذا كان ضمن الحدود العقلائية لأن الإذن في الجناية يسقط ديتها.

4- إن سقوط الضمان ليس من باب الإسقاط وإنما لأن المعالجة والعملية الجراحية تخرج من كونها موجبة للضمان بأخذ البراءة وبينهما فرق فدقق، كما أن الإذن في أكل المال فإنه ليس مسقطاً لضمانه وإنما يجعل الإتلاف غير مضمون، وورد هذا المعنى في كلمات آخرين كالمحقق الأردبيلي، قال (قدس سرّه): «ولا استبعاد في لزوم الوفاء به بمعنى عدم ثبوت حق حينئذٍ»(1).

وقال السيد الحكيم (قدس سرّه): «لا يتم -أي الإشكال- لو كانت البراءة شرطاً في عقد الإجارة؛ لأنه ليس من الإسقاط قبل الثبوت، بل هو من شرط السقوط كما في شرط سقوط الخيار»(2)

فيكون من قبيل شرط النتيجة ولا بأس به.

أقول: هذا كله على فرض كون المتصدي للمعالجة طبيباً ماهراً مؤهلاً لممارسة هذا العمل وإلا فإن البراءة لا أثر لها ولا يحق للمريض أن يسلِّمنفسه إلى مثله.

هل تقيَّد البراءة في حدود سلطنة الإنسان على نفسه:

قد يرد هنا إشكال بأننا حددنا سلطنة الإنسان على نفسه بأنها مقيدة بعدم إزهاق النفس وعدم إحداث ضرر بالغ في البدن، وهذا يتنافى مع إطلاق الحكم بسقوط الدية في ما لو أخذ الطبيب البراءة حتى لو حصل

ص: 691


1- مجمع الفائدة والبرهان: 14/231.
2- مستمسك العروة الوثقى: 12/81.

الموت أو إتلاف عضو رئيسي فيه؛ لأن المريض ليس له هذه السلطنة حتى يُبرئ الطبيب منها.

ورواية السكوني لا تصلح للاستدلال على الإطلاق لضعف سندها أو لعدم تمامية الإطلاق فيها بلحاظ ما ذكرناه سابقاً.

والنتيجة الاقتصار في سقوط الدية عن الطبيب بالبراءة على غير الموت وتلف الأعضاء الرئيسية، وتضمنت كلمات السيد الخوئي (قدس سرّه) ما يقرب من هذا المعنى فقال في ضمان الختّان حتى لو أبرأه ولي الصغير: «إذ ليس له حق البراءة بعد أن لم تثبت له هذه الولاية»(1).

ووجدت قولاً بهذا التفصيل للشيخ الفياض (دام ظله الشريف) قال فيه: «لا تسقط الدية عن الطبيب بالإذن والإبراء من المريض إذا كان موته مستنداً إلى العملية وإن لم يكن الطبيب مقصراً فيها إذ ليس بإمكان أي أحد أن يأذن بالعملية مطلقاً وإن كانت مؤدية إلى موته، ضرورة أن هذه السلطنة غير ثابتة للإنسان على نفسه وعليه فلا قيمة لإبراء المريض ذمة المريض عن الدية، بل هي ثابتة إذا كانت العملية مؤدية إلى موته وإن أخذ الإبراء من المريض نفسه.

وأما بالنسبة إلى تلف الأعضاء، فالأمر كذلك إذا كانت الأعضاء من الأعضاء الرئيسية وأما إذا كانت من الأعضاء غير الرئيسية، فلا دية علىالطبيب مع الإذن وإبراء المريض إذا لم يكن الطبيب مقصراً فيه»(2).

أقول: إن السلطنة على مستوى إزهاق النفس أو تلف أحد الأعضاء الرئيسية وإن لم تثبت للإنسان كما تقدم، إلا أن إبراء ذمة الطبيب على هذا

ص: 692


1- موسوعة السيد الخوئي: 30/244، كتاب الإجارة، المسألة (5).
2- المسائل الطبية: 96.

المستوى حق مكتسب للمريض مضافٌ إلى سلطنته نشأ من عدة مصادر:-

1- الروايات الآمرة بالتداوي والمعالجة حتى لو أدّت إلى الوفاة كصحيحة يونس بن يعقوب وروايتي إسماعيل المتطبب وحمدان بن إسحاق وغيرها وقد تقدمت (1)

فهي تمنح الإذن الشرعي بالفعل والشارع المقدس أولى من الناس بأنفسهم.

2- بناء العقلاء على الإقدام على المعالجة حتى مع احتمال التلف والوفاة إذا كان ملاكها أهم كعملية القلب المفتوح أو زرع الكبد.

3- رواية السكوني بناءً على اعتبارها بانجبار ضعفها بعمل المشهور أو لقبول رواية النوفلي عن السكوني للوجه الذي تقدم أو لما أفاده الشيخ في العدة من عمل الطائفة بمنفردات السكوني إذا لم يوجد ما يخالفه من أحاديث الإمامية كما في المقام.

4- التعليل الذي ذكره المحقق (قدس سرّه) في الشرائع في كلامه المتقدم حيث قال: «لأن العلاج مما تمسّ الحاجة إليه، فلو لم يشرع الإبراء تعذّر العلاج» وقال الشهيد في حاشية الإرشاد: «لمسيس الحاجة إليه، فإنه لا غنى عن العلاج وإذا عرف البيطار أو الطبيب أنه لا مخلص له من الضمان توقَّف في العلاج مع الضرورة إليه، فوجب أن يُشرَّع الإبراء لضرورة الحاجة»(2) بأن يتوقف الأطباء عن المعالجة خشية وقوع التلف أو الوفاة وهو احتمال وارد في كثير من العمليات فينتقض الغرض الذي ذكرناه فيالنقطة الأولى.

مضافاً إلى مناقشتين أخريين تجعلان الإشكال سالبة بانتفاء الموضوع وهما:-

ص: 693


1- راجع موسوعة فقه الخلاف: 12/ 288 الطبعة الثانية.
2- غاية المراد: 4/449.

5- إن المنافي للسلطنة هو الإذن في القتل أو إتلاف الأعضاء الرئيسية وهو ما نمنعه لذا لا يجوز التسبب في وفاة حتى الميت سريرياً، لكن المورد ليس من هذا القبيل، فإن الإذن تعلق بالمعالجة وإجراء العملية الجراحية مع براءة من التلف لو حصل اتفاقاً وأين هذا من ذاك!.

6- الوجوه المتقدمة التي استدللنا بها على عدم ضمان الطبيب أصلاً سواء أخذ البراءة أم لم يأخذها وفاقاً لابن إدريس (قدس سرّه) وخلافاً للمشهور.

ومن مجموع البحث عُرف الدليل على ما قلناه في الرسالة(1)

العملية:

مسألة (159): الختّان لا يضمن الضرر الذي يقع على الطفل حتى لو مات إذا كان من أهل الخبرة في المهنة ولم يقصّر في عمله كعدم تحضير اللوازم الكافية أو عدم تشخيص قابلية الطفل للختان - إن كان الأمر موكولاً إليه كالطبيب الجراح دون ما إذا كُلِّف بعملية الختان فقط كالختّان المتعارف-، ولم يتعدَّ كتجاوز الحد المتعارف للقطع، ولم يفرّط بعلمه المسبق بالضرر.

مسألة (160): لو عالج الطبيب المريض مباشرة أو أجرى له عملية جراحية وكان ماهراً في مهنته وبذل وسعه في التشخيص الصحيح والعمل الدقيق لكن اتفق تضرر المريض أو موته فلا ضمان على الطبيب، والأحوط له أن يتبرأ من الضمان قبل العملية والمعالجة.

ولو ادعى المريض أو ذوو المتوفى بأن التلف أو الموت قد حصل بسبب تقصير الطبيب فيشكّل القاضي الشرعي لجنة من المختصّين للتحقيق في السبب والنظر في الدعوى.

ص: 694


1- منتخب سبل السلام، المعاملات: 46.
القاعدة السادسة: اخذ العوض على الواجبات.
اشارة

بحث شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء التاسع (صفحة 18) وما بعدها مسالة اخذ العوض على القيام بوظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاء فيه:

أخذ العوض على القيام بالوظيفة:

هل يجوز للآمر الناهي أخذ الأجرة على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ويترتب على هذا البحث ثمرات عديدة:

منها: إمكان قيام المؤسسة الدينية أو السياسية بتعيين أشخاص لأجل القيام بهذه الوظيفة مقابل عوض مالي.

ومنها: إمكان اتخاذ دفع العوض آلية وأسلوباً لإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدفع الأجرة لتارك المعروف للقيام بهذا المعروف الواجب عليه أو ترك المحرم ونحو ذلك.

والأجرة معروفة وهي مقدار معلوم يستحقه الأجير بموجب عقد الإجارة مقابل قيامه بعمل معين –وهو هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-.

وقد لا يكون ما يأخذه الآمر الناهي بإزاء عمله على نحو عقد الإجارة وإنما على نحو ما يسمى بالارتزاق وهو مقدار غير معلوم يجعله القائم بأمور المسلمين من موارد بيت المال المخصصة للمصالح العامة لمن يلي مصلحة أو أمراً من شؤون المسلمين ومصالحهم لتحفيزه على القيام بهذا العمل أو لكفالة معيشته باعتبار تفرغه لهذا العمل وعدم تمكنه من الكسب ونحو ذلك؛ باعتبار أن بيت المال مخصص لمصالح المسلمين العامة وسد احتياجاتهم.

وعلى هذا تظهر عدة فروق بين الإجارة والارتزاق وردت فيكلمات

ص: 695

الأصحاب(1):-

1- إن الأجرة مقدار معلوم في عقد لازم جامع للشروط كتقدير العمل والعوض وضبط المدة يستحقها الأجير مقابل عمله، أما الارتزاق فهو مقدار غير معلوم منوط بنظر الحاكم الشرعي وليس لازماً ولا يكون عوضاً لعمله لذا لا يلحظ فيه أجر المثل ونحوه، وإن كان عمله داعياً لدفع الرزق إليه: ولا فرق بين أن يكون تعيين الرزق قبل قيامه بالوظائف المقررة أو بعده.

2- إن مال الإجارة بعد العمل وقبل القبض يورث، دون الرزق فإنه لا يورث؛ لأنه لا يملك إلا بالقبض.

3- إن الرزق يصرف في الأهم من المصالح فالأهم بخلاف الأجرة.

أقول: الإشكال في جواز أخذ الأجرة على الواجبات –كفريضة الأمر والنهي- جارٍ في الارتزاق أيضاً؛ لجهات سنذكرها إن شاء الله تعالى، فالبحث لا بد أن يتناولهما.

وقد وضع الشيخ الطوسي (قدس سرّه) في المبسوط ضابطاً عاماً لما يجوز أخذ الأجرة أو الرزق عليه وما لا يجوز، قال: «كل عمل جاز أن يفعله الغير عن الغير تبرعاً جاز بعقد إجارة كالخياطة والبناء. وكل ما لا يجوز أن يفعله الغير عن الغير، ولكنه إذا فعله عن نفسه عاد نفعه إلى الغير جاز أخذ الرزق، ولا يجوز أخذ الأجرة كالأذان والإقامة والإمامة والقضاء والخلافة.

وكل ما لا يجوز أن يفعله الغير عن الغير وإذا فعله عن نفسه لم يعد نفعه إلى الغير لم يجز أخذ الرزق عليه ولا الأجرة كصلاة الفرض وصلاة

ص: 696


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/92، كتاب القضاء للشيخ الأنصاري: 106 من الموسوعة الكاملة لآثار الشيخ الأنصاري: ج22، مصباح الفقاهة: 1/415، 731 ومن الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي: ج35، وراجع أيضاً موسوعة الفقه الإسلامي: 8/466.

التطوع وحِجة الفرض»(1).

وعلى أي حال فالكلام يكون في مقامين:

المقام الأول: الارتزاق

وقد تقدم في كلام الشيخ (قدس سرّه) ذكر بعض موارد الارتزاق، ومثّل بعض الأصحاب بالإفتاء وتجهيز الميت وتعليم القرآن والآداب كالعربية وعلم الأخلاق الفاضلة ونحوها من الواجبات المستحبة(2).

والوجه في ذلك أن بيت المال في النظام الإسلامي له عدة مصادر كالخمس والزكاة والخراج والمقاسمة والرسوم والضرائب والثروات الطبيعية والاستثمارات العامة وغيرها.

وقد حدد الشارع المقدس مصرف بعض هذه الموارد على الفقراء والمحتاجين ووظف البعض الآخر للمصالح العامة للمسلمين التي بها قوام الدين وانتظام أمور المسلمين وإعمار البلاد كشق الطرق وإنشاء المستشفيات وبناء المدارس واستخراج المعادن ورواتب الموظفين وتموين الجيش والشرطة والإنفاق على من هم في رعاية الدولة كالسجناء والعجزة والأيتام المقطوعين والمرأة الغائب عنها زوجها ودفع دية المقتول في الزحام ونحو ذلك.

ومحل كلامنا ليس القسم الأول لأن مصرفه محدَّد من قبل الشارع المقدس، ولعله أو ما يجب توزيعه على المسلمين بالتساوي هو المقصود بما ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه كان يوزعه على مستحقيه من دون

ص: 697


1- المبسوط للشيخ الطوسي: 8/161.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 8/94.

تأخير ويكنس البيت ويصلي فيه ركعتين.

أما ما يُنفق منه لمصالح البلاد والعباد فمن التدبير عدم تفريغ بيتالمال منه دفعة واحدة لأن احتياجات الدولة والشعب مستمرة، وهو معدّ لمصالح المسلمين، كالموارد التي ذكرنا وكذا غيرها.

وهذا هو ديدن العقلاء والمتشرعة في إدارة المجتمعات المتحضرة، وقد أكدت الروايات مسؤولية بيت المال عن تأمين هذه المصارف:

(منها) مرسلة حماد بن عيسى عن العبد الصالح (علیه السلام) الطويلة في الخمس والأنفال والغنائم والأراضي والزكاة وحصة العاملين إلى أن قال: (ويؤخذ الباقي، فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله، وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة)(1).

(ومنها) ما في عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) لمالك الأشتر لما ولاه مصر وجاء فيه (واعلم أن الرعية طبقات: منها جنود الله، ومنها: كتّاب العامة والخاصة، ومنها: قضاة العدل –إلى أن قال:- ولكلٍ على الوالي حق بقدر ما يصلحه) ثم قال -بعد أمره باختيار أفضل رعيته للقضاء-: (وأكثِر تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيح علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره)(2).

(ومنها) ما في الدعائم عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنه قال: (لا بد من إمارة ورزق للأمير، ولا بد من عريف ورزق للعريف، ولا بد من حاسب ورزق للحاسب، ولا بد من قاضٍ ورزق للقاضي، وكره أن يكون رزق القاضي على

ص: 698


1- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب القاضي، باب 8، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب القاضي، باب 8، ح9.

الناس الذين يقضي لهم ولكن من بيت المال)(1).

أما الروايات الدالة على الحرمة في بعض الموارد كصحيحة عبد الله بنسنان (عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق؟ فقال: ذلك السحت)(2).

وصحيحة عمار بن مروان (من السحت أجور القضاة)(3).

فإنها لا تنافي جواز الارتزاق لأنها إما ناظرة إلى قضاة الجور من قبل السلطات كالأولى، أو أنها ظاهرة في الإجارة كالثانية بناءً على المشهور من حرمة أخذ الأجرة على الواجبات.

أقول: لا شك أن تخصيص أفراد أو تشكيل هيئات ومؤسسات ولجان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرشاد والتبليغ من المصالح المهمة للدين والأمة فيجوز ارتزاقهم من بيت المال. قال الشهيد الثاني (قدس سرّه): «بيت المال محله مصالح المسلمين التي من جملتها القاضي لقيامه بنظام النوع وأخذ الحق من الظالم للمظلوم والأمر بالمعروف»(4).

الإشكال من جهتين أو أكثر:

لكن الجواز اشترط في كلمات بعض الفقهاء بشرطين، قال العلامة (قدس سرّه) في الإرشاد: «ولا بأس بالرزق من بيت المال على الأذان والقضاء مع الحاجة وعدم التعيين» فالإشكال في جواز الارتزاق من بيت المال يمكن تصوره من جهتين:

ص: 699


1- مستدرك الوسائل: كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، باب 28، ح3، وأبواب آداب القاضي، باب 8، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، باب 8، ح1.
3- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 5، ح12.
4- مسالك الأفهام: 13/348.

أولاها: تقييد بعض الفقهاء جواز الارتزاق بالحاجة والمراد بالحاجة –كما في مجمع الفائدة- الاحتياجات المتعارفة لا بمعنى توقف الحياة عليها، ووصفه في المسالك بأنه الأشهر، وعلق المحقق الأردبيلي (قدس سرّه) على كلام العلامة السابق بقوله: «ولا شك في جواز الارتزاق من بيت المال على الكل، مع الحاجة التي هي شرط الآخذ من بيت المال الذيهو للمصالح»(1).

واستدل له الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) في كتاب المكاسب بأن مقتضى القاعدة ذلك، قال (قدس سرّه): «مقتضى القاعدة عدم جواز الارتزاق إلا مع الحاجة على وجه يمنعه القيام بتلك المصلحة عن اكتساب المؤونة فالارتزاق مع الاستغناء ولو بكسب لا يمنعه القيام بتلك المصلحة غير جائز»(2).

ولم يذكر خلافه هنا فتوهم البعض أنه يختار عدم الجواز، وقرّب في كتابه عن القضاء أن وجه عدم الجواز «لأن الآخذ منه مع الغنى لا مصلحة فيه فهو تضييع له مع أنه إذا لم يدخل في باب الحسبة لرفع حاجة القاضي، دخل في باب الأجرة المحرمة بما تقدم من صحيحة ابن سنان»(3).

وفيه: عدم وجود موضوع للتضييع لأن الإعطاء من جهة كونه يقوم بما فيه مصلحة للمسلمين وبيت المال معد لها ولا دخل للحاجة فيه فهي عنوان مستقل لجواز الارتزاق، أما صحيحة ابن سنان وهي المتقدمة (4)

فقد حملناها على ما لا ينافي الجواز.

لذلك فإنه (قدس سرّه) منع من هذا التقريب في كتابه عن القضاء وقوّى الجواز

ص: 700


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/94.
2- المكاسب: 2/154 من موسوعة تراث الشيخ الأعظم.
3- القضاء من موسوعة الشيخ الأعظم: 22/104.
4- صحيحة عبد الله بن سنان (عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق؟ فقال: ذلك السحت). الكافي: 7/ 409.

مطلقاً، قال (قدس سرّه): «وفيه منع ذلك لأنه يوجب زيادة الرغبة فيه وعدم التقاعد عنه والاشتغال بغيره حيث لا يجب إلا كفاية فالأقوى جواز أخذه مع عدم الحاجة بما يراه الإمام (علیه السلام) أو من هو وكيله على بيت المال، حتى أنه لو كان بيد نفس القاضي جاز له أن يأخذ منه مقداراً يعلم أنه لو كان في يد غيره لم يقنع منه بما دون ذلك»(1).واختار الجواز مطلقاً أيضاً في المكاسب، قال (قدس سرّه): «وأما الارتزاق من بيت المال فلا إشكال في جوازه للقاضي مع حاجته، بل مطلقاً إذا رأى الإمام المصلحة فيه، لما سيجيء من الأخبار الواردة في مصارف الأراضي الخراجية»(2).

وقال السيد الخوئي (قدس سرّه) في الرد على من اشترط الحاجة في جواز الارتزاق: «فإنه –أي بيت المال- معد لمصالح المسلمين فيجوز صرفه في أي جهة ترجع إليهم وتمس بهم، بل يجوز لهؤلاء المتصدين للجهات المزبورة أن يمتنعوا عن القيام بها بدون الارتزاق من بيت المال إذا كان العمل من الأمور المستحبة، وعليه فلا وجه لاعتبار الفقر والاحتياج في المرتزقة كما ذهب إليه جمع كثير من أعاظم الأصحاب» (3).

أقول: وعلّل صاحب الجواهر (قدس سرّه) القول بعدم الجواز مطلقاً من جهة «عدم الدليل، وإنما المسلم الارتزاق مع الحاجة إليه ولو بسبب القيام بالمصلحة المانع له من التكسب، سواء تعين عليه ذلك أو لا، وليس هو في الحقيقة عوض معاملي، بل لأن بيت المال معد للمحاويج سيما القائمين

ص: 701


1- القضاء: 104.
2- المكاسب: 1/245 من موسوعة الشيخ الأعظم، ج14.
3- موسوعة الامام الخوئي (قدس سرّه): 35/731.

بمصالح المسلمين الذين يمنعهم القيام بذلك عن التكسب للمعاش»(1).

أقول: تقدم الدليل من الروايات وسيرة العقلاء والمتشرعة وأن الروايات دالة بإطلاقها على الصرف في عموم مصالح المجتمع بغضّ النظر عن الحاجة وعدمها، فهذا التقييد في مصرف بيت المال بكل مصادره خلاف المعروف من مصارف بيت المال كما تقدم فلا وجه للاقتصار على القدر المسلم، وقد اعترف (قدس سرّه) بإطلاق رواية الدعائم إلا أنه استشكل لعدم وجود الجابر.ويظهر من بعض كلماته (قدس سرّه) أن القول بالاختصاص نشأ من نظره إلى مصادر بيت المال، قال (قدس سرّه) في موضع آخر: «مضافاً إلى إمكان دعوى اختصاص بيت المال المجتمع من نحو الزكاة والصدقات وغيرهما بذوي الحاجات لا الأغنياء»(2).

أقول: تقدم ذكر مصادر أخرى لبيت المال لا يتعين صرفها على المحتاجين.

وخلاصة البحث في هذه الجهة أن ما قيل في وجه الاشتراط من عدم الدليل ومن كونه تضييعاً لحقوق المسلمين غير تام.

ثانيها: التعين به إما لأمر الإمام أو نائبه إياه تعييناً أو لعدم وجود آخر جامع للشرائط فيتعين عليه وجوب التصدي وحينئذٍ قد يقال بحرمة أخذ الرزق عليه كالأجرة لحرمة ذلك على الواجبات العينية، هذا مع كونه ذا كفاية أما إذا كان محتاجاً فإنه يجوز له مطلقاً لأن هذا العنوان من موارد الصرف، قال المحقق (قدس سرّه) في الشرائع: «وإن تعين للقضاء ولم يكن له

ص: 702


1- جواهر الكلام: 40/52.
2- جواهر الكلام: 40/51.

كفاية جاز له أخذ الرزق، وإن كان له كفاية قيل: لا يجوز له أخذ الرزق، لأنه يؤدي فرضاً».

وقال العلامة (قدس سرّه) في القواعد مع شرح كاشف اللثام: «وكذا يجوز له الارتزاق منه إذا تعين عليه ولم يكن ذا كفاية لجوازه لغيره ممن لا كفاية له فله أولى، ولو كان ذا كفاية لم يجز له الأخذ منه عليه؛ لأنه يؤدي بالقضاء واجباً ولا أجرة على الواجب»(1)، ووصفه الشهيد الثاني (قدس سرّه) بأنه الأشهر(2)

ووجّه المنع لأنه بمنزلة الرشوة المنهي عنها.

أقول: تعينه عليه لا يغير في الوجوب شيئاً؛ لأنه أيضاً كان واجباً قبل التعين لكونه من أهم الواجبات النظامية غاية الأمر أنه كان كفائياً وأصبحعينياً، فأصل الوجوب ثابت في كلا الحالين ولا معنى للتعليل بكونه أصبح واجباً، فكان عليهم التعليل بهذا اللحاظ لو كان مؤثراً.

والصحيح الجواز مطلقاً لأن الرزق شيء يقدمه ولي الأمر لإقامة هذه المصالح العامة وليس عوضاً عن –العمل- كالأجرة حتى تلاحظ هذه الاعتبارات، ولا يؤثر تعيّن الوجوب عليه على الحكم بالجواز.

وذهب الشيخان المفيد في المقنعة والطوسي في المبسوط وغيرهما إلى الجواز مطلقاً حتى مع التعيّن «لعدم خروجه بالوجوب عن كونه من المصالح بل أهمها، ومنع كون فعل الواجب يمنع من أخذ الرزق عليه مطلقاً، ولهذا يأخذ المجاهدون وهم قائمون بأهم الواجبات»(3).

تتميم: توجد حيثيتان أخريان لعدم جواز الارتزاق، نذكرها بنفس التسلسل:

ص: 703


1- كشف اللثام: 10/23.
2- مسالك الأفهام: 13/348.
3- مسالك الأفهام: 13/348.

ثالثها: ما قاله صاحب الجواهر (قدس سرّه): «لو قلنا بكون القضاء من العبادات كما عساه يظهر من بعضهم أشكل أخذ العوض عليه مطلقاً أيضاً لما فيه من الجمع بين العوض والمعوض عنه»(1).

أقول: هذا الخلاف مبنائي، وعلى القول به فسيأتي إن شاء الله تعالى في المقام الثاني البحث في مانعية العبادية من أخذ الأجرة.

رابعها: ما اشترطه البعض من عدم وجود المتطوع، قال الشيخ الأنصاري: «وكذا يجوز إعطاء القاضي الغني إذا علم أنه يتطوع بالقضاء من دون التماس رزق، فإن وجد متطوعاً لم يجز له إعطاء من يطلب عليه الرزق كما صرّح به في المبسوط والسرائر فإطلاق بعضهم جواز إعطاء الغني محمول على ذلك»(2).

أقول: قد يكون هذا الاشتراط صحيحاً ظاهراً لأن في بذل الرزق معوجود المتطوع تضييعاً لحقوق المسلمين إلا أنه قد يضر بالمصالح العامة من جهة أخرى لقلة المتطوعين المحتسبين الذين عملهم لوجه الله «لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً» (الإنسان:9) وقلة الحافز على التصدي لهذه الوظائف، فالأولى ربط الحكم في المسألة بقانون مراعاة الأهم، فينظر ولي الأمر فيما تقتضيه المصلحة العامة من بذل الرزق للمتصدين للواجبات النظامية مع وجود المتطوع وعدمه.

المقام الثاني: الإجارة

المسألة صغرى لكبرى جواز أخذ الأجرة على الواجبات التي تبحث

ص: 704


1- جواهر الكلام: 40/51.
2- القضاء: 105.

مفصلاً في باب المكاسب المحرمة وفي كتاب الإجارة، وبعض التفاصيل في مواضع أخرى وقد تعدّدت الأقوال فيها واختلفت بشكل كبير حتى اعتبروها من مزالّ الأقدام(1)،

ومن معضلات الفن عند الفقهاء(2).

وقد تراوحت الأقوال فيها بين عدم الجواز مطلقاً –الذي وصفه الشهيد الثاني (قدس سرّه) بأنه المشهور بين الأصحاب(3)

بل ادعي الإجماع عليه- وبين الجواز مطلقاً وهو ما اختاره صاحب الجواهر(4)

والسيد الخوئي (قدس الله سريهما) مع استثناء سنذكره إن شاء الله تعالى.

وبينهما أقوال بالتفصيل:

منها: بين التعبدي فلا يجوز، والتوصلي فيجوز.

ومنها: التفصيل في التفصيل السابق بين الكفائي التوصلي فيجوز، وبينغيره فلا يجوز، وكأن كلاً من التعبدية والعينية مانع من الجواز.

ومنها: بين الواجبات التي تجب على الأجير عيناً أو كفايةً وجوباً ذاتياً فلا يجوز، وبين الواجبات الكفائية التوصلية فيجوز، كالصناعات الواجبة كفاية لانتظام المعاش(5).

ص: 705


1- جواهر الكلام: 22/121.
2- تحرير المجلة، للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء: 2/156، المادة (570).
3- مسالك الأفهام: 3/130.
4- جواهر الكلام: 22/118، مصباح الفقاهة: 1/698 وهو الجزء (35) من الموسوعة الكاملة.
5- هذا القول للسيد صاحب الرياض (قدس سرّه) (رياض المسائل: 8/180)، وجعله التوصلي مقابل الذاتي لا يخلو من إشكال إذ أنه يجعل الذاتي بمعنى التعبدي مع أن بعض الواجبات الذاتية ليست تعبدية كوجوب إرضاع اللبا، مضافاً إلى أنه يجعل هذا القول كتفصيل فخر المحققين بين التعبدي والتوصلي وهو ما ردّ عليه المحقق النراقي (قدس سرّه) قال: «وتوهم اتحاد القولين الأخيرين باطل، لأن الذاتي قد تكون فيه النية وقد لا تكون كردّ الأمانة وأداء الدين ومضاجعة الزوجة ونحوها» (مستند الشيعة: 14/176)، لذلك فصّل (قدس سرّه) في الذاتي بين ما تجب فيه النية أو لا تجب.

ومنها: بين التعبدي فلا يجوز مطلقاً وبين التوصلي وفيه تفصيل بين الكفائي والعيني، فيجوز في الكفائي منه مطلقاً وفصّل في الثاني بين ما كان وجوبه للضرورة أو لحفظ النظام وغيره، فجوَّز في الأول ومنع في الثاني سواء كان الوجوب ذاتياً أو غيرياً.

ومنها: التفصيل بين العيني التعييني والكفائي التعبدي فلا يجوز، وبين الكفائي التوصلي والتخييري فيجوز، والتردد في التخييري التعبدي.

وغير ذلك من التفاصيل(1).

إن وجود واجبات أجمعوا على جواز أخذ الأجرة عليها كالواجبات النظامية يعتبر نقضاً على قول المشهور بالحرمة مطلقاً نتيجته أن اعتبار الوجوب هو ملاك الحكم بالحرمة غير دقيق؛ لذا ذهبوا إلى التفاصيل المتقدمة لتقنين الخارج والداخل في جواز أخذ الأجرة وعدمه.

وفي ضوء القول المختار في هذه المسألة يُعرف حكم المورد أيجواز أخذ الأجرة على أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد أن حددنا صفة هذا الوجوب أنه عيني أو كفائي، تعبدي أو توصلي، وهكذا.

تنقيح موضوع الحكم وتحرير محل النزاع:

توجد عدة أمور ينبغي الالتفات إليها لتنقيح موضوع الحكم، وتحرير محل النزاع، منها:

(الأول) فرض اشتمال عقد الإجارة على جميع شرائط الصحة كوجود منفعة محللة مقصودة لدى العقلاء، وتحقق المعاوضة ونحو ذلك لينحصر

ص: 706


1- راجعها في كتاب مكاسب الشيخ الأنصاري: 2/132-133 وهو الجزء (15) من الموسوعة الكاملة. مصباح الفقاهة: 1/697-698.

البحث في كون صفة الوجوب مانعة عن أخذ الأجرة.

(الثاني) عدم وجود دليل على اشتراط الإتيان بالواجب الذي تعلق به عقد الإجارة على نحو المجانية، وإلا فلا خلاف في حرمة أخذ الأجرة عليه.

ولمزيد من التوضيح نقول: إن القائلين بالجواز مطلقاً لما نُقض عليهم بواجبات أجمعوا على حرمة أخذ الأجرة عليها كتجهيز الميت ودفنه، حاولوا تنقيح موضوع الجواز وإخراج هذه الموارد ليسلموا من النقض، فاشترطوا في الجواز «عدم ظهور دليل الوجوب في المجانية» وأنه لو «فهم مما دل على الوجوب كونه بصفة المجانية اتجه المنع»(1) «وأن المناط في المنع هو فهم المجانية من غير فرق بين كونه حقاً أو حكماً بل وجوباً أو استحباباً وعينياً أو كفائياً أو تخييرياً»(2) أي أن «موضوع البحث في المقام إنما هو جهة العبادة وجهة الوجوب فقط ومانعيتهما عن صحة الإجارة وعدمها، بعد الفراغ عن سائر الجهات والحيثيات التي اعتبرها الشارع المقدس في عقد الإجارة، كأن لا يكون العمل المستأجر عليه ممااعتبرت المجانية فيه عند الشارع»(3).

أقول: يوجد في هذا الطرح إشكال فني؛ لأن في هذا الاشتراط –أي جعل عدم المجانية شرطاً في الجواز- مصادرة على المطلوب؛ لأن اشتراط المجانية تعبير آخر عن حرمة أخذ الأجرة الذي هو محل البحث، كما أن القول بحرمة ترك الصلاة تعبير آخر عن وجوبها، فإثبات المجانية هو محور هذا البحث لأنه يعني إثبات حرمة أخذ الأجرة على الواجبات، والقائل بحرمة أخذ الأجرة مشترط للمجانية؛ لأنه يرى أن الوجوب مانع عن أخذ

ص: 707


1- جواهر الكلام: 22/118.
2- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/150، التعليقة (213).
3- مصباح الفقاهة: 1/699، وقال مثله في كتاب الإجارة (راجع الموسوعة الكاملة: 30/373).

الأجرة، كما يرى أنه موجب للمجانية وهو منشأهما معاً، فهذه الحيثية –أي إثبات المجانية- داخلة في محل البحث ولا يصح إخراجها، لذا فإن بعض الوجوه التي قيلت لتوجيه عدم الجواز وتحديد مساحة غير الجائز ناظر إلى هذه العلة، كالمحكي عن الشيخ كاشف الغطاء (قدس سرّه) في شرحه على القواعد(1)

وسنبينه إن شاء الله تعالى.

نعم، لهم أن يستثنوا من القول بالجواز مطلقاً ما ثبت بدليل خاص حرمة أخذ الأجرة عليه لظهور دليله في المجانية، وفرّق بين جعله شرطاً، واستثنائه من القول بالجواز.

ثم إنهم لم يبينوا لنا كيفية التعرف على هذه المجانية، وإنما هو أمرٌ فهمه المستدل، وتعبير صاحب الجواهر (قدس سرّه) صريح بذلك، ولم يؤسسوا لنا قاعدة لإخراج هذه الموارد وليس فيها مورد منصوص ثبتت مجانيته بدليل يمكن الوثوق به كما سنبين إن شاء الله تعالى، فاشتراطه تعويل على أمر مبهم؛ لأنها جميعاً محل التردد والبحث مثل ما نحن فيه أي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فلا بد إذن من تقييد القول بالجواز مطلقاً كقول السيد الخوئي (قدس سرّه): «وقدظهر من جميع ما ذكرناه سقوط جميع الأقوال المتقدمة غير ما بنينا عليه من القول بالجواز على وجه الإطلاق»(2)

بموارد المنع وعدم التعويل على الاشتراط المذكور.

إلا أن يريد بالجواز في الجملة أي عدم المانعية الذاتية لصفتي الوجوب والعبادية من أخذ الأجرة، ولا ينفي إمكان عدم الجواز بوجه عارض آخر كما

ص: 708


1- مكاسب الشيخ الأنصاري (قدس سرّه): 2/130، مصباح الفقاهة: 1/714.
2- مصباح الفقاهة: 1/716.

سنبين إن شاء الله تعالى، وهذا جواب صحيح إلا أنه يتنافى مع التزامه بالفراغ من الحيثيات الأخرى في كلامه الذي نقلناه في الصفحة السابقة.

(الثالث) ما أورده بعض الأعلام تبعاً لأستاذه المحقق النائيني (قدس سرّه) من «أن هذا الذي نقول من عدم جواز أخذ مطلق العوض على الواجبات فيما إذا كان الشيء واجباً بالمعنى الاسم المصدري، وأما إذا كان واجباً بالمعنى المصدري فلا مانع من أخذ الأجرة عليه»(1).

أقول: سيتضح مراده (قدس سرّه) من هذا الكلام عند إيراد وجهه لتقريب جواز أخذ الأجرة على الواجبات النظامية –وهو السابع- بإذن الله تعالى.

إلفات: توجد أمور أخرى ترتبط بتنقيح الموضوع كوحدة متعلق الإجارة وموضوع الوجوب سنذكرها في التتميم إن شاء الله تعالى.

الاستدلال على عدم الجواز:

لا يوجد دليل من النصوص على حرمة أخذ الأجرة على الواجبات كقاعدة كلية، وإنما استدلوا عليها بالإجماع، وقد اعترفوا بذلك كالمحقق الأردبيلي (قدس سرّه) فإنه بعد أن استظهر عدم الخلاف في الحكم بالحرمة، قال(قدس سرّه): «فكأنَّ الإجماع دليله»(2)

وكذلك صاحب الرياض (قدس سرّه) وإن حصر موضوعه بالواجبات الذاتية –أي غير التوصلية- قال (قدس سرّه): «بلا خلاف بل عليه الإجماع وهو الحجة»(3)،

وبالغ الشيخ كاشف الغطاء (قدس سرّه) فقال:

ص: 709


1- القواعد الفقهية للسيد البجنوردي: 2/158، والأصل في منية الطالب: 1/46.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 8/89، سواء اعتبرنا (كان) فعلاً أو حرفاً وإن كان على الأول أوضح.
3- رياض المسائل: 8/180.

«ودعوى المحصَّل غير بعيدة عند المحصِّل»(1)

وفي مفتاح الكرامة «لم يعرف الخلاف إلا من علم الهدى» لكن قال: «حكي عن علم الهدى جواز الأجرة على مثل التكفين والدفن لأنه واجب على الولي ولا يجوز لغيره إلا بإذنه»(2)

«ولذا جوّز استئجاره عليه، وكأن الذي دعاه إلى ذلك ظهور الأدلة في توقف صحة فعل الغير على إذن الولي، فظن أن الوجوب على الولي»(3) وعلى هذا فإنه لا يكون مخالفاً في المسألة؛ لأن هذه الأعمال غير واجبة أصلاً على غير الولي.

وأول من حكى الإجماع المحقق الكركي (قدس سرّه) قال: «فإن الوجوب مطلقاً مانع من جواز أخذ الأجرة وهو صريح كلام الأصحاب»(4)

وردَّ على تفصيل فخر المحققين بين التعبدي والتوصلي بأنه «مخالف لما عليه الأصحاب».

لكن جمعاً من الأصحاب شككوا في هذا الإجماع كصاحب الجواهر (قدس سرّه) قال: «إلا أني لم أجده وهو إن تم الحجة»(5) وقال الشيخ الأنصاري (قدس سرّه): «لا يخفى أن الفخر أعرف بنص الأصحاب من المحقق الثاني، ومع هذا فمن أين الوثوق على إجماع لم يصرّح به إلا المحقق الثاني، مع ماطعن به الشهيد الثاني على إجماعاته بالخصوص في رسالته في صلاة الجمعة»(6).

ويناقش الإجماع صغروياً أيضاً بذهاب جماعة إلى جواز أخذ الأجرة في بعض الواجبات كالقضاء وبما نقلناه من الاختلاف الواسع في الأقوال فإنه

ص: 710


1- شرح القواعد: 75، الخامس: ما يجب على الإنسان فعله.
2- مفتاح الكرامة: 4/92، القسم الخامس مما يحرم التكسب به، ما يجب على الإنسان فعله.
3- جواهر الكلام: 22/121.
4- جامع المقاصد: 7/181.
5- جواهر الكلام: 22/116.
6- المكاسب: 2/134.

دليل على عدم تمامية دعوى الإجماع على هذا القول أو ذاك أي أن صغراه غير تامة، لكنه لا يمنع من وجود إجماع منقول –تلويحاً أو تصريحاً- على الحرمة في بعض الموارد كالشهادة وتعليم صيغة النكاح أو إلقائها على المتعاقدين كتجهيز الميت ودفنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

مضافاً إلى وهن الكبرى بمدركية الإجماع واستناده إلى أمر غير معتبر فلا يكون حجة وذلك بإجراء مراجعة لتأريخ المسألة فقد قال الشيخ المفيد (قدس سرّه) في المقنعة: «والتكسب بتغسيل الأموات وحملهم ودفنهم حرام، لأن ذلك فرض على الكفاية أوجبه الله تعالى على أهل الإسلام»(1)

وتبعه على ذلك تلميذه الشيخ الطوسي في النهاية وابن البراج في المهذب وصاحب المراسم(2)،

والنص صريح في كونه خاصاً بهذه الواجبات وليس عاماً لكلها والشاهد على ذلك قوله (قدس سرّه) بعد سطرين: «ولا بأس بالأجر على الحكم والقضاء بين الناس والتبرع بذلك أفضل وأقرب إلى الله تعالى» مع أن القضاء من الواجبات أيضاً كفاية أو عيناً مع الانحصار، وذهب إلى مثله الآخرون ممن ذكرنا، فلا يمكن فهم عموم التعليل من قوله (فرض على الكفاية) للشاهد المذكور فيحمل قوله هذا على معنى أن هذا العمل استحقاق كفائي للميت على عموم المسلمين ولا يُعمَّم إلى كل فرض.فيكون معنى تعليله (قدس سرّه) أن تجهيز ودفن موتى المسلمين من الحقوق التي أوجبها الله تعالى على سائرهم لحفظ كرامتهم أمواتاً كالأحياء، ولا معنى لأخذ الأجر على إعطاء الآخرين حقوقهم.

ص: 711


1- المقنعة: 588.
2- النهاية: 365، كتاب المكاسب. المراسم: 169. المهذب: 1/345.

ولعله (قدس سرّه) أراد بعبارته «أهل الإسلام» الرد على قولٍ كان موجوداً في عصره وحكي عن السيد المرتضى (قدس سرّه) يذهب إلى «جواز أخذ الأجرة على مثل التكفين والدفن لأنه واجب على الولي ولا يجوز لغيره إلا بإذنه»(1).

فمن هذه الكلمات انطلق الأصحاب ليعمموا الحكم بعدم الجواز إلى سائر الواجبات بعد الالتفات إلى مقدمتين:-

1- حسن الظن الأكيد بالسلف الصالح بأن كلماتهم مأخوذة من نصوص عن المعصومين (علیهم السلام) وإن لم تصل إلينا وأنهم لا يعتمدون على الظن والاستحسان وتنقيح المناط من غير دليل، فلا بد أن هؤلاء الأعلام من القدماء استظهروا الحرمة من نصوص وصلت إليهم.

2- تجريد المورد عن الخصوصية وعموم التعليل كما صرّح الشيخ كاشف الغطاء (قدس سرّه) قال: «وفي الإجماع المنقول من جماعة على المنع في خصوص ما ذكر في المتن –وهو تجهيز ودفن الموتى- كفاية، ويفهم العموم من تعليلهم ذلك بالوجوب الكفائي»(2) أي قولهم: «لأن ذلك فرض على الكفاية».

وكانت النتيجة أن قرأ الأصحاب نص الشيخ المفيد والطوسي والآخرين على أنه كبرى عامة تقتضي حرمة أخذ الأجرة على جميع الواجبات.

لكن هذه النتيجة غير صحيحة لعدم تمامية المقدمتين إذ المقدمةالأولى أمرٌ فهموه من بعض النصوص –في أحسن الأحوال- وفهمهم حجة عليهم، والثانية لا دليل عليها، بل نقلنا مخالفة قائليها أنفسهم ونقضهم على التعميم من خلال قولهم بالجواز في بعض الموارد، لذا حملنا عباراتهم على شكل معين من الواجبات.

ص: 712


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/90.
2- شرح القواعد: 76، القسم الخامس مما يحرم التكسب به.

هذا هو منشأ الإجماع المدعى أو الشهرة بين القدماء فلو سلمنا بوجوده فإن أصله غير تام بل لا أصل له.

واحتمل صاحب الجواهر (قدس سرّه) أن منشأ الإجماع لدى الأصحاب على حرمة أخذ الأجرة على الواجبات استظهار لزوم إتيانها مجاناً من أدلتها وبتعبيره (قدس سرّه): «ظهور الأدلة في وجوب هذه الأعمال مجاناً، إذ قد عرفت أن محل البحث فيما لم يظهر من الدليل مجانيته وإلا حرم التكسب به، لكن للظهور المزبور، لا للمنافاة المذكورة –بين الوجوب وأخذ الأجرة- التي عرفت انتفاءها»(1).

أقول: لا يظهر من كلماتهم ذلك، وهذه الأدلة بين أيدينا ولا نرى فيها دليلاً على المجانية من قريب ولا بعيد، إلا أن يكون مراده (قدس سرّه) قريباً مما قلناه من أنهم بعد أن استظهروا المجانية من دليل وجوب تجهيز المسلم ودفنه بنكتة استحقاقه ذلك على المسلمين عمموا التعليل، وقد قلنا أن هذا التعميم لا دليل عليه.

نعم سننقل عن المحقق النراقي (قدس سرّه) مثل هذا الاستظهار مع بيان المزيد عن المجانية بإذن الله تعالى.

تقريب المنع على مقتضى القواعد:

وعلى أي حال فإنه لما لم يجد الأصحاب نصوصاً تدل على حرمة أخذ الأجرة على الواجبات حاولوا تخريج القول على القواعد بوجوه تعرّضت للنقض والإبرام، وقبل عرضها ومناقشتها يُسجّل على طريقة عرضها عدةإشكالات فنية أهمها أنهم عرضوا عدة وجوه واختار كلٌّ منهم ما يراه من

ص: 713


1- جواهر الكلام: 22/120.

دون تصنيف إلى موانع ذاتية وعرضية(1).

وتظهر الثمرة في التمييز بين مقتضى القاعدة والاستثناء، فإذا كان المانع ذاتياً فيكون الأصل ومقتضى القاعدة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات بشكل مطلق، وأما إذا كان المانع عرضياً فإن الأصل يكون هو الجواز ولا يحرم أخذ الأجرة إلا إذا دلّ الدليل عليها.

بيانه: إن مقتضى التحقيق تصنيف الموانع المحتملة عن أخذ الأجرة إلى صنفين:

(الأول) الموانع الذاتية: ونبحث فيها ما يفسِّر مانعية نفس صفة الوجوب عن أخذ الأجرة، باعتبار أن عنوان المسألة حرمة أخذ الأجرة على الواجبات، فالمانع من أخذ الأجرة كونه واجباً لا غير، وقد وجدت هذا التعبير عند الشيخ كاشف الغطاء (قدس سرّه) وإن لم يصنّف الموانع المحتملة كما قرّبنا، قال (قدس سرّه): «ظهر أن المانع الذاتي من المعاوضات جارٍ في الواجبات والمحرمات»(2).فإذا ثبت مانعية صفة الوجوب فيقال حينئذٍ بعدم الجواز مطلقاً؛ لأن

ص: 714


1- راجع مثلاً مصباح الفقاهة للسيد الخوئي: 1/699-716، ويلاحظ عليه (قدس سرّه) ومثله السيد الخميني (قدس سرّه) في المكاسب المحرمة: 2/258 أنه قدّم البحث في مانعية صفة العبادية على البحث في مانعية صفة الوجوب مع أن مقتضى التحقيق لحوق الأول للثاني؛ لأن من وجوه حرمة أخذ الأجرة على الواجبات منافاتها للإخلاص وهي خاصة بالتعبديات، ثم أصبح الثاني مستقلاً لدخول العبادات المستحبة في الإشكال فبينهما عموم من وجه، لكنه (قدس سرّه) صحّح ترتيب البحث في كتاب الإجارة (راجع الموسوعة الكاملة: 30/375). والإشكال الفني الآخر هو تداخل الوجوه وأجوبتها في كلماتهم بينما تتحلل بالدقة إلى عدة وجوه لأن بعض ما يذكرونه في الجواب يصلح لإشكالات أخرى، لاحظ كمثال وجه الشيخ الأنصاري (صفحة 46)
2- شرح القواعد: 77، القسم الخامس مما يحرم التكسب به.

ملاك الحرمة ذاتي وهي صفة الوجوب، وإن لم تثبت المانعية الذاتية، أي أن الوجوب لا يقتضي بذاته حرمة أخذ الأجرة ويكون الأصل عدم الحرمة، وحينئذٍ يأتي البحث في:

(الثاني) وهي الموانع العرضية، كقيام الدليل التعبدي من إجماع ونحوه على الحرمة، أو وجود عناوين في الواجب تمنع من أخذ الأجرة ككونه تعبدياً وأن صفة العبادية مانعة لذا قال بعضهم بالتفصيل بين التعبدي والتوصلي، أو كظهور دليل الوجوب في كونه مجانياً ونحو ذلك، وهذا يعني أنه في أي مورد لم يثبت وجود المانع من أخذ الأجرة فإن الأصل فيه الجواز.

(الصنف الأول) الموانع الذاتية

وقد قيلت فيها عدة تقريبات:-

(الأول) إن التنافي بين صفة الوجوب وتمليك الفعل بالإجارة ذاتي؛ لأن وجوب الفعل يعني ملكيته لله تبارك وتعالى ويخرج عن ملك الأجير فكيف يملكه للمستأجر بمقتضى عقد الإجارة، قال المحقق الأردبيلي (قدس سرّه): «إنه لما استحق فعله لله لغير غرض آخر، يحرم عليه فعله لذلك الغرض ويحرم الأجر عليه، هذا ظاهر»(1)،

وقال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سرّه): «لأن المملوك والمستحق لا يُملَّك ولا يستحق ثانياً»(2)،

وقال المحقق النراقي (قدس سرّه): «إن منافع العبد بأسرها ملك لله سبحانه، وهو وإن أذن له في بعض التصرف

ص: 715


1- مجمع الفائدة والبرهان: 8/89.
2- شرح القواعد: 75.

فيها بأنحاء التصرفات، إلا أن إيجابه سبحانه لفعل له عز شأنهيوجب عدم الإذن للعبد في التصرف في تلك المنفعة وأخذ العوض عنها ونقلها إلى الغير، بل الإيجاب تفويت تلك المنفعة وإخراجها من يده، لأن إيجاب المنفعة طلب من الله سبحانه هذه المنفعة لنفسه وعدم كونها مملوكة للعبد، فلا يجوز أخذ العوض عنها»(1).

ووصف الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) هذا التقريب بأنه أقوى الوجوه التي قيلت في الحرمة، وقال في توضيحه: «إن الذي يقابل المال لا بد أن يكون كنفس المال مما يملكه المؤجر حتى يملكه المستأجر في مقابل تمليكه المال إياه، فإذا فرض العمل واجباً لله ليس للمكلف تركه، فيصير نظير العمل المملوك للغير، ألا ترى أنه إذا آجر نفسه لدفن الميت لشخص لم يجز له أن يؤجر نفسه ثانياً من شخص آخر لذلك العمل، وليس إلا لأن الفعل صار مستحقاً للأول ومملوكاً له، فلا معنى لتمليكه ثانياً للآخر مع فرض بقائه على ملك الأول، وهذا المعنى موجود فيما أوجبه الله تعالى، خصوصاً فيما يرجع إلى حقوق الغير، حيث إن حاصل الإيجاب هنا جعل الغير مستحقاً لذلك العمل من هذا العامل، كأحكام تجهيز الميت التي جعل الشارع الميت مستحقاً لها على الحي، فلا يستحقها غيره ثانياً»(2).

وقال (قدس سرّه) في جوابه: «هذا، ولكن الإنصاف أن هذا الوجه لا يخلو عن الخدشة، لإمكان منع المنافاة بين الوجوب الذي هو طلب الشارع الفعل، وبين استحقاق المستأجر له، وليس استحقاق الشارع للفعل وتملكه المنتزع من طلبه من قبيل استحقاق الآدمي وتملكه الذي ينافي تملك الغير

ص: 716


1- مستند الشيعة: 14/177.
2- المكاسب للشيخ الأنصاري: 2/130، وهو الجزء (15) من الموسوعة الكاملة.

واستحقاقه».

توضيحه: أن ملكية الواجب لله تعالى في ذمة المكلف بمعنى إلزامه بالإتيان بالفعل واستحقاق العقوبة على تركه وهذا لا ينافي تمليك الفعللشخص آخر بل هو من قبيل تعدد أسباب الوجوب، نظير ما أجمعوا عليه من جواز نذر الواجب والحلف عليه وأمر الوالد والسيد به وجعله شرطاً في عقد لازم، وإنما تتحقق المنافاة لو كان التملك على نحو الملكية الاعتبارية وهذه لا تحصل بإيجاب الفعل على المكلف كما هو واضح.

أقول: هذا الجواب غير كافٍ لأن عدم المنافاة ليس منشأها كون الأول وهو الوجوب طلباً من الشارع المقدس والثاني تمليك؛ لإمكان وقوع المنافاة بينهما كما لو استأجر شخصاً للعمل من الزوال إلى الغروب فإنه لا يملك عليه الوقت الكافي لأداء صلاتي الظهرين وكذا لو حصل كسوف مثلاً فتحصل المنافاة بين الطلب والتمليك.

والصحيح أن المناط في حصول المنافاة وعدمه كون تمليك المستأجر للعمل في طول طلب الشارع واستحقاقه وعدمه، فعدم حصول المنافاة في المقام لأن الشارع المقدس طلب إيجاد هذا العمل في الخارج لله تعالى، والمستأجر طلب ذلك أيضاً، كما لو قال الوالد لابنه: (صلّ لله تعالى) فإن الصلاة مطلوبة لله تعالى وهي بعنوان كونها مطلوبة لله تعالى مطلوبة للوالد، ومثالها الشرعي ما نحن فيه من مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الأمر بالمعروف وهو طلب من قبل الآمر لا ينافي طلب الفعل من الله تعالى.

ولو فرض كونهما في عرض واحد كما لو قال المستأجر: (اجعل الفعل الواجب لي) وكان تعبدياً حصلت المنافاة لعدم إمكان الإتيان بالفعل بداعيين مختلفين في عرض واحد، وإن كان استحقاق الله تعالى له من باب

ص: 717

الطلب واستحقاق المستأجر من باب التمليك.

وعلق السيد اليزدي (قدس سرّه) على قول الشيخ الأنصاري في تقريبه لكلام المستدل «لا بد أن يكون مما يملكه..» بقوله: «لا يعتبر في متعلق الإجارة كونه مملوكاً للمؤجر بل اللازم أن يكون مما يمكنه تمليكه وإن لم يكن مملوكاً له فعلاً، ولا مملوكاً لمن له عليه ولاية، فإن عمل الحر ليسمملوكاً لنفسه ومع ذلك يجوز له أن يملكه»(1).

(الثاني) وهو أيضاً للشيخ كاشف الغطاء (قدس سرّه) قال: «أن الإجارة لو تعلقت به –أي الواجب- كان للمستأجر سلطان عليه في الإيجاد والعدم على نحو سلطان الملاك، وكان له الإبراء والإقالة والتأجيل، وكان للأجير قدرة على التسليم، وفي الواجب يمتنع ذلك»(2).

وردّ صاحب الجواهر (قدس سرّه) بأن «السلطان من حيث الإجارة بالإبراء والإقالة ونحوهما متحقق هنا والأجير له قدرة على التسليم في الواجبات التي تعتبر فيها النية»(3).

وبيانه: أن هذه الاستحقاقات التي تقتضيها الإجارة موجودة وللمستأجر الإقالة والإبراء وسائر الحقوق الأخرى، فإذا أقال أو أبرأ انتفى وجوب الوفاء من حيث الإجارة، أي إسقاط الحقوق اللازمة من جهة الإجارة، أما بقاء العمل في ذمة المكلف فهو من حيث الوجوب الشرعي وهذا شيء آخر.

تذييل: في وقوع الفعل عن الأجير أم المستأجر:

مضافاً إلى ما اعترف به المستدل من اختصاصه بالواجب العيني

ص: 718


1- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/141، الفقرة: 193.
2- شرح القواعد: 75، القسم الخامس مما يحرم الاكتساب به.
3- جواهر الكلام: 22/117.

وحاول تقريبه على الواجب الكفائي قال (قدس سرّه): «وهو في العيني بالأصل والعارض واضح، وأما الكفائي فلأنه بفعله يتعين له فلا يدخل في ملك آخر، ولعدم نفع المستأجر فيما يملكه أو يستحقه غيره» وهذا الذيل سنجعله وجهاً مستقلاً إن شاء الله تعالى.

وأجاب الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) ب«منع وقوع الفعل له بعد إجارة نفسه للعمل للغير، فإن آثار الفعل حينئذ ترجع إلى الغير، فإذا وجب إنقاذ غريقكفاية أو إزالة النجاسة عن المسجد، فاستأجر واحداً غيره، فثواب الإنقاذ والإزالة يقع للمستأجر دون الأجير المباشر لهما. نعم، يسقط الفعل عنه، لقيام المستأجر به ولو بالاستنابة، ومن هذا القبيل الاستئجار(1)

للجهاد مع وجوبه كفاية على الأجير والمستأجر»(2).

أقول:-

1- هذا إذا قصد المستأجر نيابة الأجير عنه وعود نفعه اليه، أما إذا كان قصده مجرد حصول الفعل خارجاً كما لو قصد بإنقاذ الغريق حفظ النفس لا النيابة ولا تحصيل الثواب فلا يصح كلام الشيخ (قدس سرّه).

2- إن ما ذكره (قدس سرّه) من الآثار لا تشمل وقوع الفعل عن المستأجر الذي منعه المستدل (قدس سرّه)، إذ يمكن استبعاد وقوع الفعل عن المستأجر بأن يكون هو الممتثل ما دام الأجير يؤدي فعلاً واجباً عليه ولو كفاية فيقع تلقائياً عنه، وغاية ما تدل عليه الرواية في نيابة الجهاد –بغض النظر عن ضعف

ص: 719


1- روى الشيخ في التهذيب والحميري في قرب الإسناد بسند فيه ضعف عن جعفر بن محمد عن أبيه (علیهم السلام): (أن علياً (علیه السلام) سُئل عن أجعال الغزو، فقال: لا بأس أن يغزو الرجل عن الرجل ويأخذ منه الجعل) (وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 8، وباب 63.
2- المكاسب: 2/131.

سندها- إجزاء امتثال الأجير عن الآخر وسقوط الوجوب عنه بذاك الامتثال، وتحصيل ثواب الفعل، فما ذكره المستدل من تعيّن العمل للأجير بفعله قريب، إلا أن الكلام في وجه مانعية ذلك من أخذ الأجرة.

وذهب السيد اليزدي (قدس سرّه) إلى أبعد من ذلك وقال: «إن الاستئجار في الواجب العيني متصور على الوجهين، إذ قد يكون الشيء واجباً عينياً على كل منهما فيستأجره ليأتي به نيابة عنه، وإذا أتى به كذلك فتفرغ ذمة المستأجر وتبقى ذمة النائب مشغولة بفرد آخر»(1).أقول: البعد فيه واضح لوقوع الفعل عن فاعله تلقائياً، ولذا قالوا بعدم وقوع صوم غير شهر رمضان في رمضان إلا عن نفسه حتى لو نوى غيره.

(الثالث) وهو للشيخ كاشف الغطاء أيضاً في شرح القواعد، قال (قدس سرّه): «ولعدم نفع المستأجر فيما يملكه أو يستحقه غيره، لأنه بمنزلة قوله: استأجرتك لتملك منفعتك المملوكة لك أو لغيرك»(2).

وببيان من السيد الخوئي (قدس سرّه) قال: «أن من شرائط الإجارة أن تكون منفعة العين المستأجرة عائدة إلى المستأجر، ورتّب عليه بطلان إجارة المكلف لامتثال فرائضه من الصلاة والصوم والحج وغيرها، وبطلان الإجارة للإتيان بالمستحبات لنفسه، كالنوافل اليومية والليلية، وغير ذلك من الموارد التي يكون النفع فيها راجعاً إلى الأجير أو إلى شخص آخر غير المستأجر.

والوجه في ذلك: أن حقيقة الإجارة هي تبديل منفعة معلومة بعوض معلوم فلا بد من وصول المنفعة إلى المستأجر، لأنه الدافع للعوض

ص: 720


1- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/145/ تعليقة: 145.
2- شرح القواعد: 75، القسم الخامس مما يحرم الاكتساب به.

المعلوم، وإلا انتفت حقيقة الإجارة، إذ يعتبر في التبديل أن يقوم كل من العوض والمعوض مكان الآخر بحيث يدخل كل منهما في المكان الذي خرج منه الآخر، وسيأتي اعتبار ذلك أيضاً في حقيقة البيع.

وفي البلغة أن الإجارة بدون هذا الشرط سفهية، وأكل للمال الباطل، ولذا لا تصحّ الإجارة على الأفعال العبثية، وإبداء الحركات اللاغية، كالذهاب إلى الأمكنة الموحشة، ورفع الأحجار الثقيلة، انتهى ملخص كلامه»(1).

ويرد عليه:-

إن هذا الوجه خروج عن محل البحث الذي هو كون مجرد1- وجوب الشيء من قبل الله تعالى مانعاً من أخذ الأجرة بعد التسليم بالشرائط الأخرى المعتبرة في العمل المستأجر عليه، أي أننا نفرض واجباً يعود نفعه إلى المستأجر كالقضاء العائد نفعه إلى المتحاكمين، وكالإتيان بالواجبات الكفائية الموجب لسقوط التكليف بها عن المستأجر.

2- ما أوردناه في جواب الوجه الثاني من أنه إذا نوى النيابة كان الفعل وما يترتب عليه من آثار للمنوب عنه وهو المستأجر وليس لنفس الأجير.

3- إن المهم في صحة الإجارة وجود منفعة عقلائية مقصودة للمستأجر من العمل، وليس من الضروري رجوع النفع إلى نفس المستأجر أو غيره فله أن يستأجر لخياطة ثوب زيد أو تنظيف داره.

وقال السيد الخوئي (قدس سرّه) في جوابه: «والتحقيق أن يقال: إن حقيقة الإجارة لا تقتضي إلا دخول العمل في ملك المستأجر قضاءً لقانون المبادلة، وأما كون المنفعة راجعة إليه فلا موجب له».

4- إن الدليل أخصّ من المدعى لإمكان انتفاع المستأجر من فعل الأجير

ص: 721


1- مصباح الفقاهة: 1/699-700، وهو المجلد (35) من الموسوعة الكاملة.

لما يجب عليه، حتى في مثل الفرائض اليومية، قال السيد اليزدي (قدس سرّه): «إن مثل فعل الشخص صلاة الظهر عن نفسه أيضاً يمكن أن يكون متعلقاً لغرض المستأجر، إذ لا أقل من أن يكون قصده أن يكون الله مطاعاً»(1).

وقال السيد الخوئي (قدس سرّه): «إن المستأجر قد ينتفع بعود النفع إلى غيره، كما إذا استأجر شخصاً على امتثال فرائض نفسه لكي يتعلم المستأجر منه أحكام فرائضه، أو كان المستأجر من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وأراد باستئجار المكلفين على امتثال فرائضهم إظهار عظمة الإسلام وإخضاع المتمردين والعاصين».أقول: مثالها في مسألتنا ما لو كان المستأجر غير قادر على كسر قناني الخمر أو حبس العاصي عن ظلمه ونحو ذلك فيستأجر القادر وهو مشمول بالوجوب أيضاً فينتفع المستأجر بامتثال الواجب وسقوط التكليف عنه وإقامة حكم الله تعالى.

تذييل: علق السيد الخوئي (قدس سرّه) على كلام صاحب البلغة بقوله: «وأما حديث سفهية المعاملة فيرد عليه أنه لا دليل على بطلان المعاملة السفهية، وإنما الدليل على بطلان معاملة السفيه، والدليل هو كونه محجور التصرف في أمواله».

أقول: الظاهر أن هذا الجواب غير تام؛ لأن مراد المستدل بالسفهية غير العقلائية وقيام الإنسان بالواجب الملقى في عهدته لا منفعة فيه للمستأجر نظير بيع المتاع بشيء لا قيمة له فيكون أكلاً للمال بالباطل وهو غير مشروع، فالبطلان من هذه الجهة لا من جهة بطلان معاملات السفيه.

أما الآية الشريفة فالظاهر «كون الباء في قوله تعالى: «وَلاَ تَأْكُلُواْ

ص: 722


1- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/132، فقرة: 183.

أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ» للسببية لا للمقابلة فيراد النهي عن أكل مال الغير بالأسباب الباطلة من القمار والرشا ونحوهما»(1).

(الرابع) ما اختاره الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) في الاستدلال على حرمة أخذ الأجرة على خصوص الواجب العيني(2) التعييني بقوله: «لأن أخذ الأجرة عليه مع كونه واجباً مقهوراً من قبل الشارع على فعله، أكل للمال بالباطل، لأن عمله هذا لا يكون محترماً، لأن استيفاءه منه لا يتوقف على طيبنفسه، لأنه يقهر عليه مع عدم طيب النفس والامتناع. ومما يشهد بما ذكرناه: أنه لو فرض أن المولى أمر بعض عبيده بفعل لغرض، وكان مما يرجع نفعه أو بعض نفعه إلى غيره، فأخذ العبد العوض من ذلك الغير على ذلك العمل عد أكلاً للمال مجاناً بلا عوض»(3).

أقول: هذا نموذج لتداخل الاستدلال على الوجوه فقوله: «ومما يشهد» يرتبط بوجه آخر، أما أصل استدلاله فموضعه قوله: «لأن عمله هذا».

ويجاب هذا الوجه بجوابين، إجمالي وتفصيلي، أما الإجمالي، فلأن المقهور عليه غير المستأجر عليه لأن الأحكام تتعلق بالعناوين وهي غير ما تعلقت به الإجارة وهو المعنون أي الفرد الخارجي.

وبتعبير آخر: إن المقهور عليه هو العنوان الذي تعلق به الوجوب، أما ما يأتي به خارجاً وفاءً بالإجارة فهو المعنون او الفرد وهو ليس مقهوراً عليه، ونتيجته جواز أخذ الأجرة حتى على الواجب العيني التعييني لأنه له

ص: 723


1- دراسات في المكاسب المحرمة للشيخ المنتظري (قدس سرّه): 3/179.
2- تقييد المستدل مورد الاستدلال بالواجب العيني التعييني دليل على اعترافه بأن ملاك الحرمة أمر غير أصل الوجوب –وهو ما نبحث عنه- بل صفة عارضة عليه وهي كونه عينياً تعيينياً.
3- المكاسب: 2/135.

أفراد عديدة لامتثاله أي أنه واجب تخييري بالتخيير العقلي بين أفراده، وقد جوّز (قدس سرّه) أخذ الأجرة على الواجب التخييري، فيأخذ الأجرة مقابل اختياره لفرد دون آخر فهذا نقض عليه (قدس سرّه).

وأما التفصيلي فنقول فيه، إن استدلاله (قدس سرّه) بكون الفعل مقهوراً عليه يمكن أن يقرِّب بعدة صياغات:-

إن الواجبات من الأفعال غير الاختيارية للمكلف لأنه مقهور عليها فهي ضرورية الحصول نظير الأعمال الاضطرارية الصادرة من غير إرادة واختيار كالتنفس وحركة القلب(1) وأعمال غدد البدن وأجهزته فيكون أخذ الأجرة من أكل المال بالباطل.1- وفيه: أنه تجنٍّ على الواقع؛ لأن الواجبات ليست بهذه المثابة وليس الإنسان مسلوب الاختيار بإزائها، وما استحق الثواب والعقاب إلا لأنه مختار فله أن يفعل وله أن يترك، فلا يكون جعل المال بإزائه أخذاً للمال بالباطل لإمكان أن تصير الأجرة محركة للمكلف نحو الفعل بحيث لولاها لا نحتمل تحركه للواجب.

2- ما سنذكره في الوجه الرابع من الموانع العرضية (2)

وملخّصه أن المستأجر له أن يلزم الأجير بالفعل ويقهر عليه لأنه واجب عليه ولو من جهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فدفع الأجرة له على فعل مقهور عليه عبث.

وهذه الصياغة أليق بالمثال الذي ذكره (قدس سرّه). وجوابه: بالفرق بين الإلزامين فإن الأول الثابت قبل الإجارة كان نوعياً عاماً

ص: 724


1- ممن مال الى هذا التفسير السيد حسن البجنوردي (قدس سرّه)في القواعد الفقهية ، راجع موسوعة فقه الخلاف: 9/ 50.
2- راجع موسوعة فقه الخلاف: 9/ 61.

واجباً على كل الناس من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما ما يثبت بالإجارة فهو حق شخصي يملكه بالعقد وله مقاضاة الأجير إذا أخل به.

3- إن المسلم مقهور على أداء الواجبات ولا خيار له في تركها، وفعلها ليس منوطاً برضاه ولا دخل لإذنه في أدائها فلا يكون عمله محترماً ومع عدم احترامه فلا ضمان بإزائه؛ لأن الضمان مقابل العمل المحترم.

وقد أجيب هذا الوجه بما حاصله «أن لمال المسلم حيثيتين من الاحترام:

إحداهما: حيثية إضافته إلى المسلم، ومقتضى احترامه بهذه الحيثية أن لا يتصرف أحد فيه بغير إذنه وله السلطنة على ماله وليس لأحدٍ مزاحمته في سلطانه.ثانيتهما: حيثية ماليته، ومقتضى حرمتها أن لا يذهب هدراً وبلا تدارك، ومن الواضح أن الإيجاب والمقهورية وسقوط إذنه موجبة لسقوط احترامه من الحيثية الأولى دون الثانية، ولذا جاز أكل مال الغير في المخمصة بلا إذنه مع بقائه على احترامه، ولهذا يضمن قيمته بلا إشكال(1).

مضافاً إلى أن هدر المال غير هدر المالية، والمضر الثاني لا الأول، ولهذا يصح المعاملة مع الكافر الحربي مع سقوط احترام ماله من الحيثيتين وذلك لعدم هدر مالية ماله»(2).

ص: 725


1- وكذا لا ضمان فيما لا مالية له وإن لم يجز أخذه بدون إذن مالكه كالإناء المكسور والخمر.
2- رسالة (أخذ الأجرة على الواجبات) للشيخ الأصفهاني: 25 وقرّره السيد الخميني (قدس سرّه) في المكاسب المحرمة: 2/286 عن حاشية الشيخ محمد حسين الإصفهاني على المكاسب: 1/79-80 في المقبوض بالعقد الفاسد.

وقد رد السيد الخميني (قدس سرّه) بأنه «ليس للمملوك إلا إضافة واحدة إلى مالكه هي إضافة المملوكية، ولها أحكام عقلائية وشرعية واحترامات كذلك، ومع الغض عن تلك الإضافة لا حرمة له مطلقاً ضماناً كانت أو غيره، فالحيثية الثانية في كلامه أي ذات المالية مقطوع الإضافة لا حرمة لها، وعدم الذهاب هدراً من آثار إضافة المال إليه ومن الأحكام العقلائية المترتبة على إضافة المالكية، لا حيثية مقابلة لها. فإضافة المال إلى المسلم أو المال المضاف إليه موضوع تلك الآثار.

وجواز الأكل في المخمصة بلا إذن صاحبه وقهراً عليه ليس من جهة سقوط احترام الإضافة إلى المسلم، لأن لازم سقوط احترامها عدم الضمان بلا ريب، لأن موضوع دليل الضمان الإتلافي وغيره هو مال الغير المتقوم بالإضافة.

وليس الضمان من جهة احترام ذات المال ساقط الإضافة أو مع سلباحترام إضافته، بل لأجل أن حكومة دليل رفع الاضطرار إنما هي على بعض الأحكام المترتبة على إضافة المالكية، وهو حرمة التصرف فيه بلا إذنه ورضاه، دون الحكم الوضعي وهو الضمان، لأن المضطر إنما يضطر إلى الأكل وهو يسد رمقه، لا الأكل المجاني، فليس مضطراً إلى الأكل المجاني. فليس في الأكل في المخمصة سقوط الإضافة إلى المسلم وتحقق الضمان بإتلاف ذات المال بلا إضافة إلى مالكه وهو واضح».

أقول: جواب الشيخ الإصفهاني صحيح ولا يضره ما قاله السيد الخميني (قدس سرّه) لأنه مبني على إيهام في التعبير وإلا فإن الشيخ الإصفهاني (قدس سرّه) لم يفترض الحيثية الثانية منفصلة عن الإضافة إلى المسلم لأنه صرح بأن مقسم الحيثيتين هو مال المسلم فإذن هو يريد بالحيثيات الآثار التي ذكرها السيد الخميني (قدس سرّه)، فملخص الجواب عندهما أن الإيجاب

ص: 726

والإلزام لا ينافي بقاء احترامه وإضافته وصحة الاستئجار عليه.

(الخامس) ما أورده المحقق النائيني (قدس سرّه) في منية الطالب وحاصله أنه «يعتبر في الإجارة أن يكون العمل الذي يأخذ الأجير بإزائه الأجرة ملكاً له بأن لا يكون مسلوب الاختيار بإيجاب أو تحريم شرعي، لأنه إن كان واجباً عليه فلا يقدر على تركه، وإن كان محرماً فلا يقدر على فعله –لنهي الشارع عنه كشهادة الزور- ويعتبر في صحة المعاملة على العمل كون فعله وتركه تحت سلطنته واختياره»(1).

أقول: تقريبه أن القدرة معتبرة في متعلق الإجارة، وحقيقتها القدرة على الفعل والترك معاً، فكما لا تجوز الإجارة على المحرمات لسلب الشارع القدرة على فعلها، فكذلك لا تجوز الإجارة على الواجبات لسلب القدرة على الترك، وعدم القدرة الشرعية كعدم القدرة العقلية التي هيشرط في صحة التكليف.

وأصرّ بعض تلامذته المحققين على هذا الوجه للحرمة، قال: «يشترط في صحة عقد الإجارة –بل في سائر العقود المعاوضية التي تقع على الأعمال- أمور» ثم قال: «الثالث: أن يكون العمل مقدوراً للعامل تكويناً وتشريعاً وفعلاً وتركاً» ووضحه بأن «معنى مقدورية فعل من الأفعال هو أن يكون الفعل والترك بإرادته وتحت اختياره، وإلا لو كان الفعل ضرورياً، كحركة الارتعاش في اليد مثلاً، لا يقال أن هذا الفعل مقدوراً له» وخلص إلى أن «العمدة في عدم صحة أخذ الأجرة على الواجبات بحيث يكون وافياً بجميع أقسام الواجب هو هذا الوجه»(2).

ص: 727


1- منية الطالب: 1/45، مؤسسة النشر الإسلامي، وهي تقريرات الشيخ النائيني (قدس سرّه) بقلم الشيخ موسى الخوانساري.
2- القواعد الفقهية للسيد حسن البجنوردي: 2/158-159.

وجوابه:-

1- أن مثل هذه القدرة غير معتبرة قطعاً، وإنما المعتبر في صحة الإجارة القدرة على تسليم المعوّض وهي حاصلة في الواجبات.

2- النقض عليهم بالإجماع على جواز جعل الواجب شرطاً في ضمن العقد أو متعلقاً لنذر أو يمين أو عهد، والقدرة معتبرة فيها جميعاً، فلو صحّ ما قالوه من عدم القدرة لما جاز كل هذا، مع أنه لم يقل أحد ببطلان شيء منها.

أما بطلان الاستيجار على الفعل المحرم فإنه ليس لأنه مسلوب الاختيار وأنه لا يملك فعله لشهادة الوجدان بخلاف ذلك وتملكه لحرية الفعل والترك، وإنما لأن صحة العقد تعني لزوم الوفاء به وهو لا يجتمع مع تحريم العمل.

وهذه النكتة غير موجودة في الواجبات لما قلناه من أن وجوب الفعل لا يخرجه عن تحت اختياره ولا يصيّره ضروري الحصول ولا يجعله مملوكاً للآمر.

نتيجة المناقشة:

تبيّن مما تقدم عدم وجود مانع ذاتي في الواجبات عن أخذ الأجرة، أي أن صفة الوجوب ليست مانعة بنفسها عن أخذ الأجرة.

ومع عدم وجود مانع تكون عمومات الإجارة ووجوب الوفاء بالعقود جارية، واختار هذا القول جملة من الأساطين (قدس الله أسرارهم جميعاً) قال صاحب الجواهر (قدس سرّه): «بل هو –أي جواز الإجارة مطلقاً- مقتضى القواعد والضوابط جمعاً بين ما دل على وجوب بذل المال أو العمل، وبين ما دل على احترام القاضي بضمانهما، إذا فرض عدم ظهور دليل الوجوب في المجانية، إذ كما أن الإذن الشرعية في الأموال والأنفس لا تنافي الضمان

ص: 728

كذلك الأمر الشرعي بدفع المال أو العمل لا ينافي الضمان، فالمتجه حينئذٍ القول بعدم المنافاة ذاتاً، نعم لو حصل مانع خارجي كالجمع بين العوض والمعوض عنه، ونحوه مما تكون المعاملة به سفهية عبثية، ولو من جانب واحد، أو فُهم مما دل على الوجوب كونه بصفته المجانية، اتجه المنع»(1).

ووافقه الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) في تأسيس مقتضى القاعدة في المسألة الا أنه اختلف معه في الاستثناء الخارج عن القاعدة، قال (قدس سرّه): «فالذي ينساق إليه النظر: أن مقتضى القاعدة في كل عمل له منفعة محللة مقصودة، جواز أخذ الأجرة والجعل عليه وإن كان داخلاً في العنوان الذي أوجبه الله على المكلف.

وأما مانعية مجرد الوجوب عن صحة المعاوضة على الفعل، فلم تثبت على الإطلاق»(2).

وقال السيد اليزدي (قدس سرّه): «فالمناط في المنع هو فهم المجانية من غير فرق بين كونه حقاً أو حكماً. بل وجوباً أو استحباباً وعينياً أو كفائياً أوتخييرياً»(3).

أقول: لكنه خالف نفسه في العروة فقال: «لا يجوز الإجارة لإتيان الواجبات العينية كالصلوات الخمس، والكفائية كتغسيل الأموات وتكفينهم والصلاة عليهم»(4).

تتميم: ويشهد للقول بالجواز جملة من النصوص والفتاوى الدالة على الجواز في عدة موارد فيكون نقضاً على القائل بالمنع، فإن «جواز أخذ الأم

ص: 729


1- جواهر الكلام: 22/118.
2- المكاسب: 2/135.
3- الحاشية على المكاسب: 1/150، التعليقة (213).
4- العروة الوثقى: كتاب الإجارة، المسألة (13) بعد فصل إجارة الأرض بما يحصل منها.

الأجرة على إرضاع الولد اللبا مع وجوبه عليها، كاستحقاق أخذ العوض عما يدفعه للمضطر من المال، وما يأخذه الوصي عوضاً عن عمله –مع وجوب العمل بها عليه-، أوضح شاهد على عدم منافاة صفة الوجوب للتكسب»(1).

مضافاً إلى موارد أخرى كالواجبات النظامية التي أجمعوا على جواز أخذ الأجرة فيها، و «وجوب إعلاف الملتقط للضالة مع جواز رجوعه في قيمة العلف إلى صاحبها بل وأجرة الإعلاف أيضاً»(2).

وقد حاول القائلون بالحرمة توجيه هذه الموارد لمنع المنافاة بوجوه غير تامة أي لا تصلح لجعل هذه الموارد استثناءً وتخصيصاً للقاعدة التي تقتضي الحرمة وإنما هي شواهد على أن مقتضى القاعدة الجواز. ومن تلك المحاولات قول الشيخ الأنصاري (قدس سرّه): «وأما أخذ الوصي الأجرة على تولي أموال الطفل الموصى عليه، الشامل بإطلاقه لصورة تعيّن العمل عليه، فهو من جهة الإجماع والنصوص المستفيضة على أن له أن يأخذ شيئاً» (3).

أقول: يرد عليه:-1- إن المانع عن أخذ الأجرة الذي ذكره ثبوتي فلا يدفع بوجه إثباتي.

2- جعْله (قدس سرّه) استحقاق الأجرة من جهة حكم الشارع لا من باب المعاوضة مخالف لظاهر النصوص والفتوى كصحيحة هشام بن الحكم قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عمن تولى مال اليتيم ما له أن يأكل منه؟ فقال (علیه السلام): يُنظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم فليأكل بقدر ذلك)(4).

ص: 730


1- جواهر الكلام: 22/117.
2- دراسات في المكاسب المحرمة للشيخ المنتظري (قدس سرّه): 3/182.
3- المكاسب: 2/141.
4- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يُكتسب به، باب 72، ح5.

3- مضافاً إلى النقض عليه بأن لازم توجيهه أنه لو مات قبل الأخذ فلا يجوز لوارثه أخذ العوض بناءً على كونه حكماً تعبدياً من الشارع، لكن الفتوى على الجواز وهذا يعني أن الحكم مبني على العوضية.

ثم قال (قدس سرّه): «وأما باذل المال للمضطر فهو إنما يرجع بعوض المبذول، لا بأجرة البذل، فلا يرد نقضاً في المسألة».

وفيه: إن ما ذكره (قدس سرّه) لا يصلح للتفريق لأن العوض في المقام أيضاً مقابل المبذول الذي هو العمل «فكما أن الواجب هناك بذل الطعام، والعوض إنما هو في مقابل الطعام، ففي المقام أيضاً الواجب بذل العمل، والعوض في مقابل نفس العمل»(1).

ثم قال (قدس سرّه): «وأما رجوع الأم المرضعة بعوض إرضاع اللبأ مع وجوبه عليها –بناءً على توقف حياة الولد عليه- فهو إما من قبيل بذل المال للمضطر، وإما من قبيل رجوع الوصي بأجرة المثل من جهة عموم آية «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» فافهم»(2).

أقول: اتضح ما في كل منهما.

(الصنف الثاني) الموانع العرضية

ويمكن تقريب عدة موانع:

(الأول) قيام الدليل التعبدي على حرمة أخذ الأجرة على العبادات إلا ما استثني.

وفيه: أن الدليل المفروض في كتب الأصحاب أمور:-

ص: 731


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سرّه) على المكاسب: 1/149، التعليقة: 211.
2- المكاسب: 2/142.

1- الإجماع وقد تقدم نقله والرد عليه.

2- جريان السيرة على عدم أخذ الأجرة على الواجبات. وجوابه: إنكار هذه السيرة لجريان العمل على أخذ الأجرة على كثير من الواجبات كالواجبات النظامية والقضاء وغيرها من الموارد التي ذكرناها. نعم قد يخص الدليل بالعبادات ويناقش حينئذٍ باحتمال كونها مدركية لاستنادها إلى قول المشهور بالحرمة. مضافاً إلى أنها دليل لبّي يقتصر منه على القدر المتيقن وهو عدم القيام بها وهو أعم من عدم الجواز. على أننا لا نجد مانعاً من اتخاذ بذل العوض والمكافأة أسلوباً لتحفيز الآخرين على الطاعة واجتناب المعصية إقامة لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3- الأصل، قال الشيخ كاشف الغطاء (قدس سرّه): «لأن الظاهر عدم الدخول في عمومات المعاملات في الكتاب والسنة، فيبقى على أصل عدم الانتقال عن الحالة الأولى»(1) وقال المحقق النراقي: «عموم أدلة الإجارة بحيث يشمل المورد غير معلوم، والأصل في المعاملات الفساد»(2).

ويرد عليه:-أ- لم يتبين منشأ الشك في دخول المورد في عمومات الإجارة أو العقود حتى يسوغ الرجوع إلى الأصل بعد رد تقريبات المنع فنتمسك بعمومها وإطلاقها.

ص: 732


1- شرح القواعد: 75، القسم الخامس مما يحرم الاكتساب به.
2- مستند الشيعة: 14/177، وتقدم في كلام صاحب الجواهر مثله ، راجع موسوعة فقه الخلاف:9/52.

ب- المناقشة في الكبرى لأن الأصل وإن كان عدم الانتقال عن الحالة الأولى عند الشك في حصول السبب الناقل، إلا أن هذا السبب متحقق هنا بضم الوجدان القاضي بحصول عقد معاوضة على الفعل الواجب مع الأصل الذي يقتضي الصحة في المعاملات المتعارفة لدى الناس والتي تراضوا عليها إلا إذا ثبت النهي عنها شرعاً وهو منتفٍ.

ج- لو تنزلنا وقلنا ببطلان عقد الإجارة فإن غايته عدم استحقاق الأجرة المسماة لكنه يستحق أجرة المثل لأن عمله محترم ومضمون ولم يقدم على المجانية.

د- ما ذكره المحقق النراقي (قدس سرّه) مستدركاً: «إلا أن ذلك لا يثبت إلا فساد عقد الإجارة في غير ما دل الدليل على صحتها فيه، نحو الصنائع وما يشبهها من الواجبات الكفائية، أو الحج والصلاة ونحوهما من الغير، وأما عدم جواز أخذ الأجرة وحرمتها فلا».

أقول: تقريب كلامه (قدس سرّه): أن المنع من أخذ الأجرة من لوازم الأصل في المقام، والأصول لا تثبت لوازمها.

ولكن يرد عليه أن استحقاق الأجرة فرع صحة العقد فإذا ثبت بطلانه بالأصل فيسقط استحقاق الأجرة.

(الثاني) فيما لو دل دليل الواجب على أن الفعل يؤتى به على نحو المجانية أي اشتراط الشارع إتيانه بلا مقابل، كما قيل في «الإفتاء والقضاء حيث أن الظاهر أنهما من شؤون تبليغ الرسالة وقد قال الله تعالى: «قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» (الأنعام:90) فلا يجوز أخذ الأجرة عليه»(1).أقول: لا شك أن هذا مانع إذا ثبت بدليل ويمكن تقريب المانعية بأكثر

ص: 733


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 30/379، كتاب الإجارة.

من وجه (منها) سقوط مالية هذا الفعل شرعاً بهذا الشرط فيكون أخذ المال بإزاء هذا الفعل من أكل المال بالباطل أو أن المعاملة تكون سفهية، (ومنها) أن أخذ الأجرة يجعل الفرد المأتي به غير مطابق للمأمور به المقيّد بالمجانية فلا يتحقق الوفاء بالإجارة ونحو ذلك من التقريبات.

لذا أخرج جملة من الأعلام هذا المورد عن محل النزاع كما تقدم، ولكن المشكلة في الدال على المجانية إذ أن أدلة الواجبات لم تتضمن هذا المعنى، وليس هو مما تتضمنه حقيقة الوجوب، نعم توجد موارد ادعي فيها ثبوت المجانية بدليل خاص كالإجماع ونحوه.

أما المحقق النراقي (قدس سرّه) فقد وسّع دائرة الواجبات المجانية، قال: «إن المتبادر عن إيجاب شي طلبه مجاناً، ولذا لو أمر المولى عبده بأمر فأخذ الأجر من شخص ولو كان له فيه نفع يذم عرفاً، إلا أن تكون قرينة على جواز الأخذ»(1).

أقول: هذه دعوى لا تلزم إلا مدعيها وما ذكره (قدس سرّه) من المثال لا يجري في ما نحن فيه للفرق الذي ذكرناه في الأول من الموانع الذاتية، فملكية المولى لعبده ليست كملكية الله تعالى للواجبات في ذمة عباده؛ لذا لم تثبت المجانية عندهم إلا في موارد خاصة وردت فيها روايات أو ادعي عليها الإجماع.

فمن الأمور التي وردت في الروايات قوله (علیه السلام): (السحت أنواع كثيرة منها ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة ومنها أجور القضاة)(2)

وقوله (علیه السلام): (لا يصلي خلف من يبغي على الأذان والصلاة الأجر ولا تقبل شهادته)(3)وما

ص: 734


1- مستند الشيعة: 14/178.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 5، ح12.
3- وسائل الشيعة: أبواب الشهادات، باب 35، ح2، 6.

ورد في أخبار فساد دين الناس ودخولهم في الفتن كقوله (علیه السلام): (ورأيت الأذان بالأجر والصلاة بالأجر)(1) وخبر زيد بن علي عن آبائه عن علي (علیه السلام) (أنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين والله إني أحبك لله، فقال له (علیه السلام): لكني أبغضك لله، قال: ولمَ؟ قال: لأنك تبتغي في الأذان كسباً، وتأخذ على تعلم القرآن أجراً وسمعت رسول الله | يقول: من أخذ على تعليم القرآن أجراً كان حظه يوم القيامة)(2).

أقول: بعض هذه الروايات قاصرة سنداً وبعضها دلالة كالأولى الدالة على قضاة الجور؛ لذا لم يستشكل كثيرون على جواز أخذ القاضي الأجرة، وبعضها يحمل على الكراهة، ولو تنزلنا فإنها لا تصلح للخروج بقاعدة كلية تفيد حرمة أخذ الأجرة على عموم الواجبات فلا بد من الاقتصار على مواردها فقط لتخصيص العمومات والإطلاقات.

وبعض الأمور استدلوا على مجانيتها بالإجماع، كتجهيز(3)

الميت، قال الشيخ الأنصاري (قدس سرّه): «ثم إنه قد يُفهم من أدلة وجوب الشيء كفاية كونه حقاً لمخلوق يستحقه على المكلفين، فكل من أقدم عليه فقد أدى حق ذلك المخلوق، فلا يجوز له أخذ الأجرة منه ولا من غيره ممن وجب عليه أيضاً كفاية، ولعل من هذا القبيل تجهيز الميت وإنقاذ الغريق، بل ومعالجة الطبيب لدفع الهلاك»(4)،

وقال السيد الحكيم (قدس سرّه): «فالعمدة في حرمة أخذ

ص: 735


1- وسائل الشيعة: أبواب آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب 41، ح6.
2- وسائل الشيعة: كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 30، ح1.
3- ورد في كلمات جملة من الأعلام «إلا ما نص الشارع على تحريمه كالدفن» (إيضاح الفوائد: 2/263، ونقله من دون تعليق عليه في جامع المقاصد: 7/181، المكاسب: 2/133) ولم نجد مثل هذا النص.
4- المكاسب: 2/137.

الأجرة هنا ما قد يدعى من أن المستفاد من أدلة وجوب التجهيز أنه حق من حقوق الميت على المكلفين الأحياء فهو مملوك لهعليهم وليس مملوكاً للفاعل كي يمكن أخذ الأجرة عليه، أو ما يدعى من الإجماع على الحرمة»(1).

ومثل تعليم الزوجين صيغة النكاح وأداء الشهادة قال في جامع المقاصد: «أما إلقاء الصيغة على المتعاقدين فلا يجوز أخذ الأجرة عليه إجماعاً لأنه من الواجبات الكفائية»(2) وقال (قدس سرّه): «وأما الشهادة تحملاً وأقامةً، فلأنها من الواجبات إما العينية أو الكفائية».

بل عموم الجاهل بالأحكام الشرعية لأفعاله لأن «الظاهر انعقاد الإجماع على وجوب تعليم الأحكام مجاناً فيما كان محل الابتلاء»(3).

أقول: يمكن المناقشة في هذه الإجماعات لأن الظاهر أنها مدركية خصوصاً في مسألة تجهيز الميت ودفنه؛ لأن مستنده النكتة التي ذكروها وهو كونه حقاً للمخلوق ويناقش بأن هذا الوجوب لم يثبت على عامة المسلمين والظاهر من روايات الباب أنه موجّه إلى الولي أو يأذن هو لغيره وبه قال السيد المرتضى وصاحب الحدائق(4) (قدس الله سريهما).

ولو سلمنا العموم فإنه غير كافٍ لإثبات مجانيته إلا أن يدل عليها دليل إذ لا مانع من الجمع بين كونه حقاً للغير واستحقاق الأجرة على الإتيان به بمقتضى احترام عمل المسلم، لذا لا نرى تهافتاً في الكلام لو صرّح في نفس دليل الوجوب بعدم المانع من أخذ العوض، فإن أعطي وإلا أجبر الطرف المقابل إن كان له مال وإلا فيبقى في ذمته كما في وجوب بذل الطعام في

ص: 736


1- مستمسك العروة الوثقى: 4/141.
2- جامع المقاصد: 4/37.
3- مستمسك العروة الوثقى: 6/229.
4- الحدائق الناضرة: 18/212.

المخمصة.

فالنتيجة أن مجرد كونه واجباً أو حقاً لا يلزم منه المجانية إلا أن تثبت بدليل، وما عدا ذلك فإنه لا يمكن التعرف على المجانية فيجوز أخذ الأجرة للأصل، بل قرّب بعض الفقهاء جواز أخذ الأجرة حتى على أوضحالواجبات في كونها مجانية كالفرائض اليومية وقد تقدم التقريب في كلمة السيد الخوئي (قدس سرّه) (1) وقال الشيخ المنتظري (قدس سرّه): «إذا استأجر أحداً ليصلي صلاته في حضور أولاد المستأجر ليتعلموا كيفية الصلاة وآدابها فهذه منفعة محللة مقصودة»(2).

(الثالث) إن الإجارة على فعل واجب تقتضي جمع العوض والمعوض للأجير، وهذا ينافي مقتضى العقد فيكون باطلاً؛ لأن حقيقة الإجارة مبادلة منفعة معلومة بعوض معلوم قال صاحب الجواهر (قدس سرّه): «نعم لو حصل مانع خارجي كالجمع بين العوض والمعوض عنه ونحوه مما تكون المعاملة به سفهية عبثية ولو من جانب واحد اتجه المنع»(3).

أقول: يتحلل كلامه (قدس سرّه) إلى وجهين، أحدهما ما نحن بصدده والآخر هوالآتي إن شاء الله تعالى.

ويرد عليه:-

1- إن فيه خروجاً عن محل البحث الذي هو مانعية الوجوب عن أخذ الأجرة، وليس منه افتراض بطلان العقد لتخلف شرط أو جزء.

تقدم في مواضع من هذا البحث أن كون متعلق الإجارة فعلاً واجباً على الأجير لا يعني عدم وجود منفعة فيه للمستأجر وتكون هي المعوض،

ص: 737


1- راجع موسوعة فقه الخلاف: 9 / 45.
2- دراسات في المكاسب المحرمة: 3/180.
3- جواهر الكلام: 22/118.

فهو يقبض منفعة إزاء ما يبذله، وقد ذكرنا أمثلة لتقريب انتفاعه بقيام الأجير بما يجب عليه حتى في مثل الصلوات الخمس المفروضة. بل لا يشترط في الإجارة أن يكون النفع عائداً للمستأجر حيث يمكن عوده للأجير نفسه أو لطرف ثالث كما لو آجره لخياطة ثوب غيره أو لكنس المسجد أو لخدمة طلبة العلوم الدينية والمهم وجود منفعة محللة1- مقصودة لدى العقلاء وهي متحققة.

(الرابع) ما احتمله الشيخ الأصفهاني (قدس سرّه) ونسبه إلى أستاذه –الشيخ الآخوند- في مبحث القضاء وهو أن بذل العوض بإزاء ما تعيّن فعله على الأجير لغو محض فلا يكون مشمولاً للعمومات(1).

أقول: ربما أراد صاحب الجواهر (قدس سرّه) بالعبثية والسفهية في ذيل كلامه السابق هذا المعنى.

وتقريب الوجه: أن العمل إذا كان واجباً فإن الأجير المكلف به ملزم بإتيانه ويجبر على فعله ولو من دون رضاه لوجوبه عليه شرعاً، وحينئذٍ تصبح الإجارة لغواً وعبثاً ولا جدوى منها، ويكون أخذ الأجرة على الواجب بلا مقابل.

وأجابه الأصفهاني بما مضمونه(2):

أن اللغوية إنما تكون عند اليقين بصدور العمل من المكلف لكن تعيّن العمل عليه شرعاً لا يساوق اليقين بصدوره منه إذ أن مجرد الإيجاب لا يلزم منه صدور الفعل، فلا لغوية حينئذٍ لو أوقع الإجارة معه لدفعه للعمل أو لتعجيله له.

ونضيف: أن الثمرة من الإجارة متحققة من خلال إيجاد حق مكتسب

ص: 738


1- مصباح الفقاهة: 1/716.
2- رسالة (أخذ الأجرة على الواجبات): 19.

للمستأجر يقضي بإلزام الأجير بالواجب ويكون دافعاً ومحركاً إضافياً للإتيان بالفعل كالدافع الذي يولده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا قائل هناك باللغوية، ولا أدري كيف غفل القائلون باللغوية هنا عن إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار متعلقه واجباً تلقائي الحصول فتشريع الفريضة لغو بناءً على ما قالوه.

نعم الفرق أن الدافع في المقام اكتسب بالإجارة واستحق هناك بالأمر والنهي، بل إن السلطة المكتسبة بالإجارة أقوى تنفيذياً من سلطة الأمر والنهي لأنها حق خاص بالمستأجر ومطلق لم يقيد بشيء وله مقاضاةالأجير عليه إذا لم ينفذ، بينما واجب الأمر والنهي عام لا يتعين به ولكل واحد من المكلفين أمره به وأنه مقيد بالشروط المذكورة للوجوب فيكون محدود القدرة على التنفيذ، وبذلك تصلح الإجارة كوسيلة لإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(الخامس) منافاة أخذ الأجرة للإخلاص في المأمور به.

ويرد عليه: أنه لو تم فإنه أخص من المدعى لاختصاصه بالعبادات المشروطة بقصد القربة دون التوصليات وهو تفصيل فخر المحققين، وهو أعم من جهة أخرى لشموله للمستحبات التعبدية فأصبحت النسبة بين مانعية صفة الوجوب ومانعية صفة العبادية العموم من وجه.

ومن هذا الوجه نشأ بحث مستقل في إشكال أخذ الأجرة على الواجبات العبادية، ووُسّع إلى المستحبات بتقريب «أنه يعتبر في دواعي امتثال العبادات كونها جهات قربية بحيث تنتهي سلسلة العلل والدواعي فيها بجميع حلقاتها إلى الله تعالى، ومتى كان فيها داعٍ غير قربي خرج العمل عن العبادية وعن تمحضه لله تعالى، وإن لم يكن الداعي غير القربي في عرض

ص: 739

الداعي الإلهي»(1).

وبتقريب آخر: «إن دليل صحة الإجارة هو عموم «أَوْفُوا بِالعُقُوْدِ» ويستحيل شموله للمقام، لأن الوفاء بالشيء عبارة عن إتمامه وإنهائه، فالوفاء بعقد الإجارة هو الأتيان بالعمل المستأجر عليه أداءً لحق المستأجر وواضح أن هذا لا يجتمع مع الإتيان به أداءً لحق الله تعالى وامتثالاً لأمره، إذن لا بد من قصد أحد الأمرين: إما الوفاء بالعقد، أو الامتثال لأمر المولى، وحيث لا يعقل اجتماعهما في محل واحد فلا بد من رفع اليد من الأمر بالوفاء، فتصبح الإجارة بلا دليل على الصحة»(2).

وبتعبير مختصر إن العبادات يشترط في صحتها أن يؤتى بها بقصدالقربة وأخذ الأجرة عليها ينافي القربة والإخلاص؛ لأن الداعي إلى الفعل سيكون أخذ الأجرة وليس الإخلاص، فيلزم من صحة الإجارة فسادها «فالمانع حقيقة هو عدم القدرة على إيجاد الفعل الصحيح بإزاء العوض»(3).

وسلّم الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) بوجود الإشكال مطلقاً قال (قدس سرّه): «مورد الإجارة لا بد أن يكون عملاً قابلاً لأن يوفى به بعقد الإجارة ويؤتى به لأجل استحقاق المستأجر إياه ومن باب تسليم مال الغير إليه وما كان من قبيل العبادة غير قابل لذلك»(4).

أقول: يكفي في الرد على هذه التقريبات وإثبات جواز أخذ الأجرة على العبادات في الجملة وقوعها في النصوص والفتاوى.

ص: 740


1- مصباح الفقاهة: 1/702.
2- مصباح الفقاهة: 1/705.
3- المكاسب للشيخ الأنصاري (قدس سرّه): 2/127.
4- المكاسب: 2/129.

أما من النصوص ففي عدة طوائف من الروايات:

أولاها: ما دل على صحة النيابة في العبادات كأداء الصلاة والصوم والحج عن الأموات، بل الحج عن الحي كصحيحة عمار وعبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إن أمير المؤمنين صلوات الله عليه أمر شيخاً كبيراً لم يحج قط ولم يطق الحج لكبره أن يجهّز رجلاً يحج عنه)(1).

ورُدّ هذا النقض بالفرق بين الموردين «فالأجير إنما يجعل نفسه –لأجل استحقاق الأجرة- نائباً عن الغير في إتيان العمل الفلاني تقرباً إلى الله، فالأجرة في مقابل النيابة في العمل المتقرَّب به إلى الله التي مرجع نفعها إلى المنوب عنه، وهذا بخلاف ما نحن فيه؛ لأن الأجرة هنا في مقابل العمل تقرباً إلى الله لأن العمل بهذا الوجه لا يرجع نفعه إلا إلى العامل، لأن المفروض أنه يمتثل ما وجب على نفسه بل في مقابل نفس العمل فهو يستحق نفس العمل، والمفروض أن الإخلاص إتيان العمل لخصوص أمرالله تعالى، والتقرب يقع للعامل دون الباذل، ووقوعه للعامل يتوقف على أن لا يقصد بالعبادة سوى امتثال أمر الله تعالى»(2).

وأُجيبَ بأن «هذا خلاف الواقع في الخارج، كيف؟ وإلا لزم الاستحقاق للأجرة من دون العمل أيضاً إذا قصد النيابة ولم يفعل شيئاً.

وإن أراد من ذلك النيابة في العمل التي لا تتحقق في الخارج إلا به فرجع إلى أخذ الأجرة على العمل إذ ليست النيابة شيئاً والعمل شيء آخر

ص: 741


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب وجوب الحج، باب 24، ح1، 6.
2- المكاسب: 2/128.

كما تفطن له في ما بعد»(1) مضافاً إلى عدم تحقق الإخلاص –أي خلوص النية لله تعالى- على هذا فلا يصح على مبناه.

ثانيها: الروايات الكثيرة التي حثت على الإتيان بعبادات معينة كالصلاة والصوم بكيفيات مخصوصة أو مطلقة لحاجات دنيوية كسعة الرزق وطلب الولد وشفاء المرض وإزالة الهم وقضاء الحوائج ونحو ذلك، ولم يتوهم أحد منافاتها للإخلاص.

بل إن الآيات الكريمة والروايات الشريفة المتواترة التي تحث العباد على الطاعة وتجنب المعصية بذكر الثواب والعقاب تصلح للنقض على الإشكال، لأن الدافع للعبادة سيكون مصلحة راجعة إلى النفس وهي جلب المصلحة ودفع المفسدة، وأكثر عبادات الخلق من هذا القبيل كما في تصنيف أمير المؤمنين (علیه السلام).

وما قيل في التفريق بين «الغرض الدنيوي المطلوب من الخالق الذي يتقرب إليه بالعمل، وبين الغرض الحاصل من غيره، وهو استحقاق الأجرة من جهة أن طلب الحاجة من الله سبحانه ولو كانت دنيوية محبوب عندالله فلا يقدح في العبادة بل ربما يؤكدها»(2)

لا يفيد لأن نفس الإشكال يأتي عليه لأن العامل لا يكون قاصداً للقربة في هذا الطلب بمعنى أن غرضه ليس امتثال أمر طلب الحاجة من الله، بل مجرد حصول المطلوب.

ثالثها: ما دل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بتقريب أن

ص: 742


1- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/135، والمورد المقصود في المكاسب: 2/145 قال (قدس سرّه): «وليست النيابة عن الميت في الصلاة المتقرب بها إلى الله تعالى شيئاً ونفس الصلاة شيئاً آخر حتى يكون الأول متعلقاً للإجارة والثاني مورداً للإخلاص».
2- حكاه في مصباح الفقاهة: 1/708 عن الشيخ الأنصاري في المكاسب وعن غيره من الأعاظم كصاحب البلغة.

المعروف لو كان من العبادات «والمكلف التارك كان غير منبعث عن أمر الله تعالى فأمره والده أو من يحتشم منه أو من يحبه ولا يرضى بمخالفته واقعاً، فأتى بالتكليف الإلهي وامتثل أمر الله إطاعة لوالده أو غيره، لا بد وأن تقع صحيحة، وإلا لزم أن يكون الأمر بالمعروف مُعدماً لموضوعه، بل موجباً لانقلابه بالمنكر، فإن إتيان العمل العبادي لغير الله من المنكرات. وليس المراد بالأمر بالمعروف الموعظة الحسنة، بل المراد به وما هو الواجب الأمر المولوي لغرض البعث به، ولهذا لا يجب إذا لم يحتمل التأثير، فإن معه لا يمكن الأمر حقيقة.

وبالجملة لا شبهة في وجوب الأمر بالمعروف، فلا بد وأن يكون الانبعاث ببعث الآمر في طول الإتيان بالعمل عبادة وإطاعة لله تعالى غير مضرّ بالعبادية، وهو المقصود»(1).

رابعها: ما دل على وجوب طاعة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأولي الأمر، قال السيد الخميني (قدس سرّه): «ويؤيد عدم مضريّة وقوع الشيء طاعة وامتثالاً مع عدم رجوع جميع السلسلة إلى المطاع أمر الله تعالى بإطاعة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأولى الأمر (علیهم السلام)، فلو خرج المأتي به بواسطة كون الغاية إطاعة أمرالله تعالى عن طاعة الرسول (صلی الله علیه و آله) وأولي الأمر (علیهم السلام) لزم امتناع تعلق الأمر بها لكونه معدماً لموضوعه.

وليس المراد بإطاعتهم أخذ الأحكام منهم أو العمل بالأحكامالشرعية الإلهية التي كانوا مبينين لها، لأن كل ذلك ليس إطاعة لهم، بل المراد إطاعة أوامرهم السلطانية الصادرة منهم بما هم حكام وسلاطين، كالأمر بالغزو

ص: 743


1- المكاسب المحرمة للسيد الخميني (قدس سرّه): 2/278-279.

والجهاد وغيرهما من شؤون السلطنة»(1).

وأما في الفتوى فلإجماعهم على صحة تعلق النذر أو العهد أو اليمين بالعبادات وصحة اشتراطها في العقود اللازمة فتصير لازمة بذلك من دون أن يستشكل في ذلك أحد ويتوهم منافاة إتيانها وفاءً بالنذر أو الشرط للإخلاص.

وقد ذكرت عدة تقريبات لإجابة الإشكال وتصحيح أخذ الأجرة على العبادات، نذكر منها:-

1- إن الأجير يستحق الأجرة بمجرد العقد وتشتغل ذمته بالعمل، فيكون إتيانه بالعمل لأجل إبراء الذمة وهو دافع لا ينافي الإخلاص، وليس أن الأجير يستحق الأجرة بالعمل حتى يكون إتيانه بالواجب لأجل تحصيل الأجرة(2).

أقول: هذا الجواب نافع في الجملة لكنه قد يخدش من عدة جهات:-

أ- إن الأجير حينما يأتي بالعمل إبراءً للذمة بعد استحقاقه الأجرة بالعقد فإن غرضه الكامن في أعماقه تثبيت استحقاق الأجرة وعدم استردادها منه، فرجع الغرض إلى أخذ الأجرة وهو أمر غير قربي بحسب الفرض.

ب- إن وجوب الوفاء بالإجارة أمر توصلي فكيف تتحقق العبادية بإتيان الفعل بقصده؟ إلا أن يوجه بجواب الإشكال الذي سنذكره (3).ج- النقض عليه بما لو كان العوض على نحو الجعالة فإنها لا تملك إلا

ص: 744


1- المكاسب المحرمة للسيد الخميني (قدس سرّه): 2/279.
2- ممن تبناه السيد الخوئي (قدس سرّه) في مصباح الفقاهة: 1/707، وفصّله في كتاب الإجارة (راجع الموسوعة الكاملة: 30/380).
3- راجع موسوعة فقه الخلاف: 9/ 69.

بالعمل وليست هي كالإجارة ومع ذلك فإنه يقول فيها بالجواز ولذا لا بد فيها من التمسك بوجه آخر(1).

1- إن هذا العقد صحيح لأنه تام الأجزاء والشرائط فالمنفعة المحللة المقصودة للعقلاء موجودة، والأجير قادر على الإتيان به فإذا كان هذا الفرد وذاك غير قربي لمنافاته مع الإخلاص فنتيجته عدم صلاحيته للوفاء بمقتضى العقد من دون بطلانه، وعلى الأجير أن يأتي بفرد قربي غيره، نعم لو ادعي عدم الانفكاك بين أخذ الأجرة وعدم الإخلاص بحيث كانت المنافاة ذاتية بطل العقد لعدم إمكان الوفاء به والإتيان بمقتضاه لكن من البعيد القول باستحالة إتيان الأجير بفرد قربي لما استأجر عليه.

وتأتي هنا أيضاً مناقشة من اشترط في صحة الإجارة بأن لا يكون الأجير مسلوب الاختيار بإيجاب أو تحريم شرعي عليه، وقد تقدمت مناقشته في الخامس من الموانع الذاتية.

2- إن الإجارة تعلقت بالعمل مشروطاً بقصد القربة، وهو عين ما تعلق به الأمر العبادي فلا تنافيها كما لو صلى قربة إلى الله تعالى في مكان معين لبرودته أو توضأ قربة إلى الله تعالى أو لأداء الصلاة وكان غرضه أيضاً من هذا العمل القربي التبريد والتنظيف فإنه لا ينافيه.

نعم لو كانت الأجرة بإزاء ذات الفعل من دون ملاحظة كونه قربياً وأتى الأجير بها على هذا النحو فلا تتحقق به القربة، لكن المفروض على خلافه لتعلق الإجارة بالفعل القربي.

ص: 745


1- كعدم اشتراط كون الداعي إلى الداعي القربي قربياً وقد رجع إليه في المصدر السابق: 30/381.
تأكُّد القصد القربي بالإجارة:

وإلى هنا يكون الجواب كافياً، لكن جملة من الأعلام تقدموا خطوةوقالوا بتأكد الوجوب والعبادية والإخلاص في المقام «ووجهه أن أخذ الأجرة حينئذٍ صار سبباً لوجوبها عليه ومعه يتحقق الإخلاص في العمل لكونه حينئذٍ لمجرد الإطاعة والامتثال لله سبحانه وإن صارت الأجرة منشأ لتوجه الأمر الإيجابي إليه وهو واضح»(1).

وعلى هذا تكون «الإجارة مؤكدة له باعتبار تسبيبها الوجوب أيضاً»(2)، حيث أن «متعلق الأمرين شيء واحد، فلا محالة يندك أحدهما في الآخر ويكون الوجوب مؤكداً»(3)،

«إذ بتعدد سبب الوجوب مع فرض كون الداعي كليهما يتأكد الإخلاص»(4).

وأشكل الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) على تأكد الوجوب من جهة أن وجوب الوفاء بالإجارة توصلي فلا يؤكد اشتراط الإخلاص كما أنه لا يحققه من العامل لأن ما لا يترتب عليه أجر دنيوي أخلص مما يترتب عليه ذلك بحكم الوجدان(5).

ولكن هذا الإشكال غير تام لأن الأمر التوصلي –كالوفاء بالإجارة هنا- وإن لم يشترط فيه قصد القربة بمعنى أنه لا يعتبر في تحقق الامتثال قصد القربة، إلا أنه لا يعتبر فيه عدمه، فإذا أتى به بقصد الامتثال يكون عبادة

ص: 746


1- رياض المسائل: 8/181.
2- جواهر الكلام: 8/556، وقال مثله في مفتاح الكرامة: 4/92 القسم الخامس مما يحرم التكسب به.
3- مصباح الفقاهة: 1/707.
4- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/132، فقرة (185).
5- مكاسب الشيخ الأنصاري: 2/127.

قطعاً، فهذا التقسيم بين التعبدي والتوصلي ليس للتمايز بينهما وإنما لتصحيح الأعمال التي يؤتى بها من دون قصد القربة أو تقع لا إرادياً كتطهير الثوب.

وحينئذٍ نقول: إن قصد القربة لا ينفك عن العبادات الاستئجارية حين الامتثال لصدور الفعل منه بقصد طاعة الأمر الإلهي وعلى هذا فإنها تكونقربية.

وبتعبير آخر إن امتثال الأجير لما استأجر عليه من العبادات لا بد أن يكون بنية ويكون قربياً؛ لأن الدافع للامتثال ليس إلا أمر الله تعالى، وإلا كان يمكنه أن يدعي الامتثال أمام المستأجر من دون أن يؤدي الفعل، أو لا يأتيه تام الأجزاء والشرائط. وأشكل السيد الخميني (قدس سرّه) على تأكد الوجوب بالإجارة بما ملخّصه: أن الأجير «إذا أوجد الصلاة وفاءً بإجارته وقلنا بصحة الاستئجار يكون مصداق الصلاة معنوناً بعنوانين: ذاتي هو الصلاة وعرضي هو الوفاء بالإجارة، وكذا في النذر وإطاعة الوالد ونظائرهما.

وما كان هذا شأنه لا يمكن أن يكون مؤكداً؛ لأن موطن تعلق الأوامر موطن اختلاف الموضوعات والمتعلقات، وموطن اتحادها وهو الخارج لا يكون موطن تعلقها»(1).

أقول: هذا الإشكال وارد عليهم (قدس الله أرواحهم) بناءً على ما هو الصحيح من تعلق الأوامر بالطبائع لا بالأفراد أو قل بالعناوين لا بالمعنونات فموطن تعلق الأوامر وهي العناوين تكون فيها الموضوعات والمتعلقات مختلفة كما قربنا، وموطن اتحادها وهو الفعل الخارجي لا يكون

ص: 747


1- المكاسب المحرمة: 2/260.

متعلقاً للأوامر فكيف يتأكد الوجوب؟.

ولكن الذي يهون الخطب أن المتقرَّب به والمدعى تأكد الإخلاص فيه هو العمل في الخارج وهما متحدان فيه كما اعترف (قدس سرّه) وحينئذٍ يتحقق التأكد، فالإشكال يأتي على تعبيرهم بتأكد الوجوب، ولو عبّروا بتأكد الباعث والداعي لكان صحيحاً لأن موطنهما متحد، وكلاهما قربيان.

إن قلتَ: «إن الأمر الإجاري متعلق بعنوان الوفاء بالعقد، وهو أمرتوصلي؛ لعدم اعتبار العبادية في متعلقه، ولو قصد الامتثال به يتقرّب بعنوان امتثال أمر الوفاء بالعقد، ولا يعقل أن يكون مجرد ذلك موجباً لامتثال الأمر الصلاتي أو مقرّباً لأجل أمرها، بل لو تعبّد بالأمر الإجاري من غير التعبد بالأمر الصلاتي لا يصير مقرّباً مطلقاً، إذ لم يأت بمتعلق الإجارة ولم يمتثل الأمر الإجاري أيضاً، ومجرد اتحاد العنوانين في المصداق لا يوجب أن يصير إيجاد أحد العنوانين بداعوية أمره موجباً للتقرب بعنوان آخر متحد معه ولو لم يكن مأتياً به بداعوية أمره أو بداع قربيّ آخر مربوط به»(1).

أقول: مثاله: ما لو كان مكلفاً بغسل الجنابة وهو تعبدي ووجب عليه غسل مثله ولكن ليس تعبدياً بنذر أو بأمر من تجب طاعته فأتى به بداعي الثاني لا يجزئه عن الأول.

هذا ولكن لا يرد الإشكال لأننا لم نقل بكفاية أحدهما أو بدلية أحدهما عن الآخر حتى يتم ما ذكره (قدس سرّه) وإنما قلنا بإمكان الجمع بينهما وتأكدهما.

ما أورده المحقق النائيني (قدس سرّه) في تصحيح النيابة في العبادات الاستئجارية وهي تشترك مع ما نحن فيه من هذه الجهة، قال (قدس سرّه): «إن

ص: 748


1- المكاسب المحرمة: 2/262.

فعل النائب فعل تسبيبي للمستأجر، وقصد المستأجر التقرّب في استئجاره كافٍ في العبادة»(1)،

«وبعبارة أخرى: العمل الصادر من الأجير له نسبتان: نسبة إلى الأجير باعتبار أنه مباشر له ونسبة إلى المستأجر باعتبار أنه مسبب له، فيصح إسناد العمل إلى كل واحد منهما وأن يقال لكل واحد منهما: أنه فاعل لهذا العمل، فله فاعلان: فاعل تسبيبي وفاعل مباشري. وفي وقوع الفعل على صفة العبادية يحتاج إلى قصد القربة من الفاعل، وهاهنا حيث لا يمكن قصد التقرب من الفاعل المباشر فيقصد1- الفاعل الآخر أي الفاعل المسبب أعني المستأجر»(2).

أقول: مثاله صحة قولنا: (فتح الأمير البلد) مع أن المباشر للفتح هو قائد العسكر، وكصحة التقرب ببناء المسجد مع أنه لم يباشر البناء وأن الباني المباشر لم يقصد إلا أخذ الأجرة وإنما صحّ قصد القربة بصدورها من الفاعل التسبيبي وهو الباذل للأموال. وقد أجاب الشيخ النائيني (قدس سرّه) نقضاً من حيث «أنه لا إشكال في صحة التبرع عن الغير، مع أن المتبرع عنه غافل عن فعل المتبرع فكيف يكون فعلُ النائب فعلَ المنوب عنه وكيف يقصد المتبرع القربة الكافية من المنوب عنه».

وفيه: أن المستدل اكتفى بصدور قصد القربة من المستأجر كما يكتفي بصدوره من الأجير، وإنما يصح النقض لو اشترط صدورها من المستأجر خاصة، نعم قد يقال أن الانحصار متحقق فعلاً بتعذر صدور قصد القربة من الأجير للمانع الذي ذكروه.

ص: 749


1- منية الطالب: 1/51.
2- القواعد الفقهية للسيد البجنوردي: 2/163.

وأجاب (قدس سرّه) حلاً بأن «مجرد كون داعي العامل أمر المستأجر لا يجعل فعله مسبِّباً توليدياً، فإن المسبِّب التوليدي هو الذي لا يكون بين فعل الفاعل والأثر المترتب عليه واسطة اختيارية، نعم قد يطلق المسبِّب التوليدي في مثال الأمير لكنه بالعناية وخارج عن باب المسبِّب التوليدي»(1).

وبتعبير أوضح: إن اتصاف الفعل بكونه قربياً يتطلب تحقق هذا القصد بالمباشرة ومن نفس الفاعل ولا يصح بالتسبيب، ويتوسط فاعل مختار، فهو ليس كنسبة الفعل إلى فاعليه الطوليين.

وأما مثال بناء المسجد فهو أجنبي لأن قصد القربة فيه بنفس البذل وهي متحققة من الباذل.1- عدم ورود الإشكال أصلاً لعدم لزوم المنافاة بين قصد القربة وأخذ الأجرة على العمل.

بيانه: أنه لا يشترط في سلسلة دواعي العمل الطولية أن تكون كلها لله تعالى، وإنما يشترط أن يكون الداعي المباشر المحرّك للفعل هو القربة إلى الله تعالى، أما الداعي إلى هذا الداعي فلا مانع من كونه جلب منفعة أو دفع مضرّة في الدنيا أو الآخرة، وإن البشر جميعاً –عدا من ندر- يعبدون الله تعالى طمعاً في جنته أو خوفاً من ناره أو لتحصيل مطلب معين وهكذا، وهذا لا ينافي الإخلاص ولا يضرّ بصحة العبادة، في الكافي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (العباد ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم

ص: 750


1- منية الطالب: 1/52.

عبدوا الله حباً له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة)(1)

وأصلها مناجاة أمير المؤمنين (علیه السلام): (ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)(2).

ويكون هذا المورد نظير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أتى المأمور بالفعل عبادياً جامعاً للشرائط ولكنه كان بداعي الخوف من الآمر أو احترامه أو حبّه مراعاة للقوانين المعمول بها فلا إشكال في وقوعه صحيحاً لوقوع الداعي غير القربي في طول القربي، وتحقيق غرض الآمر.

نعم لو كان الداعي عرضياً ودلّ الدليل على فساد العبادة به لم تصح كالرياء الذي ورد فيه أنه لا يدخل عملاً إلا أفسده(3).

وقد اعتمد هذا الوجه جملة من المحققين على اختلاف في بيان التفاصيل، لكن المحقق النائيني (قدس سرّه)اعتبر هذا الجواب تعزيزاً للإشكال،قال: «إنه لو كان هذا إشكالاً لكان أولى وأحق من أن يكون جواباً، فإنه لولا الأجرة لما حصل للعامل الداعي إلى إتيان الفعل لله سبحانه، فصار محرّكه إلى العمل بالآخرة هو الأجرة»(4)

«وبعبارة أخرى: في باب الدواعي الطولية الداعي الحقيقي والعلة الأصلية للعمل هو الداعي الأول فإنه هو المحرك للفاعل على فعله بحيث لو لم يكن لم يقدم على الفعل أصلاً. فإن اعترفت هيهنا أيضاً بأنه لو لم يكن أجرة في البين لما كان يقدم على هذا العمل فقد اعترفت بعدم تحقق الإخلاص ولعمري هذا واضح جلي»(5)

وذكر

ص: 751


1- وسائل الشيعة: 1/62، أبواب مقدمات العبادات، باب 9، ح1.
2- بحار الأنوار: 67/234، مرآة العقول: 8/89.
3- وسائل الشيعة: 1/70، أبواب مقدمات العبادات، باب 11، 12.
4- منية الطالب: 1/51.
5- القواعد الفقهية: 2/162.

مثالاً لذلك من «يحفر القناة لأجل الماء ويريد الماء لأجل الزرع ويزرع لأجل تحصيل الحنطة ويريد تحصيل الحنطة لأجل قوته وقوت عياله ففي الحقيقة العلة المحركة لحفر القناة ليس إلا قوت نفسه وعياله بحيث لو كان قوته وقوت عياله حاصلاً لم يقدم على الحفر أصلاً»(1).

أقول: إن هذه الوجوه إنما نذكرها لتفسير الجواز وفق القواعد لا للاستدلال عليه لأنه قد ثبت شرعاً بمقتضى الروايات الكثيرة المتقدمة، فالرد على هذه الوجوه لا يضر القول بالجواز.

وعلى أي حال فإن جواب هذا الإشكال نقضاً وحلاً:

أما نقضاً فلأن من أمر عبده أن يطيع زيداً من الناس فالتزم العبد وأطاع زيداً فإنه يصدق عليه أنه مطيع لزيد وإن كانت طاعته تنتهي إلى طاعة سيده إلا أن هذا لا يلغي صدق طاعته لزيد فالداعي الأول لا يلغي الدواعي الطولية المتتالية

وأما حلاً فمن جهة ما قررناه في هذا الوجه من كفاية إضافة الفعل إلى الله تعالى وإن كان الداعي المحرك لهذا الفعل القربي غير الله تعالىكمحركية الفوز بنعيم الجنة والنجاة من آلام النار إلى فعل الواجبات وترك المحرمات باعتبارها أموراً مرتبطة بالله تعالى، ولو لم تكن مضافة إلى الله تعالى لما قصدها لذا فقد اجتنب خمر الدنيا والحور العين فيها ونحو ذلك فهو لم يطلبها لذاتها.

قال السيد الخميني (قدس سرّه): «لا يعتبر فيها –أي العبادة- إلا كون العمل لله تعالى خالصاً بلا شركة شيء معه، فإذا صار شيء دنيوي سبباً لإيجاد عمل لله تعالى، ولا يكون في إتيان الفعل بداعي الله شريكاً وإن كان الإتيان بداعي

ص: 752


1- القواعد الفقهية: 2/161.

الله معلولاً لداعي غير الله، يقع الفعل عبادة»(1).

واعتبر الواقع شاهداً على ذلك إذ «لا يمكن حصول تلك المرتبة الرفيعة إلا لخلّص أولياء الله تعالى والمحبين المجذوبين له تعالى، بحيث كان تمام نظرهم إليه لا إلى غيره، وكان ما وراءه تعالى من الجنة وغيرها مغفولاً عنها، وهم غافلون عن غير الله ويشتغلون به عن غيره صلى الله عليهم.

وأما غيرهم من متعارف الناس فلا يكون محرّكهم إلا النتائج ومتعلقات الإضافات»(2).

«فلو فرضنا أن مفاتيح الجنة والنار بيد عدو الله الشيطان الرجيم والعياذ بالله، وكان هو معطي الجنة ومُدخل النار، وكانت طاعة الله تعالى وعصيانه بلا جزاء أصلاً، لكنه تعالى أمر أن يعبدوه بلا جزاء وأن لا يعصوه بلا عقاب على عصيانه، وأمر بمخالفة الشيطان ونهى عن طاعته، وكان الشيطان أمر بمخالفة الله تعالى ونهى عن طاعته، وأعطى للمخالفين له تعالى الجنة وأدخل المطيعين له تعالى النار، لعلم أولو الألباب أن المطيع لله تعالى على الفرض كالكبريت الأحمر أو أندر منه.

ولعمري أن هذا واضح لمن تأمل في غايات أفعاله وتدبر في حالاتنفسه ومكائدها، وليس هذا معنى دقيقاً عرفانياً خارجاً عن فهم الناس، بل شيء يعرفونه مع التنبيه على المحرك الأصلي في الأعمال وتميّزه عن غيره».

وأثار (قدس سرّه) منها وجداناً آخر نذكره للاستئناس بإفاداته قال (قدس سرّه): «إن

ص: 753


1- المكاسب المحرمة: 2/273.
2- المكاسب المحرمة: 2/275.

في الآيات والروايات ما تدل على أن للأعمال الحسنة آثاراً ولوازم في النشأة الآخرة، كظاهر قوله تعالى: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» (الزلزلة:7).

وقد ورد حديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام): أن هذه الآية أحكم آية في كتاب الله فعليه يكون ظاهرها مراداً بلا تأوّل. والظاهر منها أن عمل الخير بنفسه مورد الرؤية.

ويؤكده قوله: «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ» (الزلزلة:6).

فيظهر منها أن الأعمال نفسها متجسدة مرئية فيها والناس ملتذ بها.

فلو فرض أن الآتي بالصلاة لله تعالى والمجيب لدعوة «أَقِمِ الصَلاةَ» إنما يأتي بها ويطيعه تعالى طمعاً للوصول إلى الصورة البهية اللازمة لعمله، فهل يمكن أن يقال: عمله باطل؟»(1).

نتيجة البحث في موانع أخذ الأجرة:

ونتيجة ما تقدم وجود الدليل على صحة أخذ الأجرة على العبادات وتقريب عدة وجوه لعدم منافاة ذلك للقربة، وأن المهم صدور الفعل مرتبطاً بالله تعالى، بغض النظر عن الداعي المحرك له وإن كان دنيوياً؛ لأن الله تعالى يريد صلاح العباد ويحرّك كل الدواعي لذلك ما دام لم يرد نهي عنه حتى جعل سهماً من الزكاة للمؤلفة قلوبهم الذين يجلبون للإسلام من خلال الأموال التي تُعطى إليهم واعتبر إسلامهم صحيحاً.

وبذلك ينتهي البحث في ما ذكروه من الموانع الذاتية والعرضية عنأخذ الأجرة على الواجبات، وقد اتضح عدم تمامية شيء منها، نعم من الواضح أن العمل حينما يكون مجرداً عن أخذ الأجرة أو أي مصلحة

ص: 754


1- المكاسب المحرمة: 2/277.

شخصية سواء كانت من قبيل جلب منفعة أو دفع مفسدة في الدنيا والآخرة فإن العمل يكون أخلص وأقرب إلى الله تعالى كما في تصنيف أمير المؤمنين (علیه السلام).

تتميم: في ختام البحث في الأدلة على حرمة أخذ الأجرة على الواجبات توجد عدة مطالب بها تمام البحث:

(الأول) ظاهر استدلالهم على بطلان الإجارة وحرمة أخذ الأجرة عليها أن مورد الحكم ما لو تعلقت الإجارة بنفس ما تعلق به الوجوب، أما إذا كانا متغايرين فلا مانع، ولهذا حصراً الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) الحرمة بما إذا كان الوجوب عينياً تعيينياً، هذا ولكن لما كان الوجوب متعلقاً بالعناوين، وهو عالم الاختلاف بينها، فإنه لا يبقى مورد لحرمة أخذ الأجرة.

وهذا المطلب يمثل جانباً من جوانب تنقيح الموضوع وتحرير محل النزاع الذي أشرنا إليه في بداية البحث، وبنفس الوقت يصاغ دليلاً على جواز أخذ الأجرة على الواجبات لتغاير متعلقي الإجارة والوجوب دائماً، قال السيد الخوئي (قدس سرّه): «لا مانع من صحّة الإيجار المتعلّق بأحد الفردين فيما إذا كان الواجب تخييريّاً، لوضوح تغاير المتعلّقين، فإنّ الواجب إنّما هو الجامع بين الفردين، ومورد الإجارة خصوص أحدهما المباح اختياره للمكلّف، فلم يكن من أخذ الأُجرة على الواجب ولا ينسحب إليه شيء من وجوه المنع المتقدّمة كما لا يخفى.

كما لا مانع من صحّته فيما إذا كان الواجب كفائيّاً، لأنّ موضوع الوجوب إنّما هو طبيعي المكلّف –كما أنّ متعلّقه هو الطبيعي في الواجب التخييري- لا خصوص هذا الفرد، ومن ثمّ يسقط التكليف بامتثال واحد وإن أثم الكلّ بترك الجميع، فالشخص بما هو شخص لا يجب عليه شيء،فلا مانع له من أخذ الأُجرة».

ص: 755

أقول: ناقشنا هذا التصور للوجوب الكفائي عند البحث عن حقيقة الوجوب الكفائي.

ثم قال (قدس سرّه): «كما لا مانع من صحّته أيضاً في الواجب العيني التعييني فيما إذا كانت له أفراد طوليّة أو عرضيّة وقد وقعت الإجارة على اختيار صنف خاصّ منها، لما عرفت من تعلّق الوجوب بالجامع، وكون المكلّف مخيّراً في التطبيق على أيّ منها شاء بالتخيير العقلي –لا الشرعي- والمفروض تعلّق الإجارة بحصّة خاصّة، فحصل التغاير بين المتعلّقين ولم يجتمعا في مورد واحد، فينحصر مورد الإشكال بما إذا كان الواجب عينيّاً تعيينيّاً وكان متعلّق الإجارة هو متعلّق الوجوب على سعته، أو بما إذا لم يكن له فرد إلاّ ما تعلّقت به الإجارة. وهذا نادر التحقّق جدّاً، بل هو نادر في نادر»(1).

أقول: من هذا يُعلم النظر في ما قاله (قدس سرّه) عن تأكد الوجوب من أن «متعلق الأمرين –أي الإجارة والوجوب – شيء واحد فلا محالة يندكّ أحدهما في الآخر ويكون الوجوب مؤكداً»(2).

هذا ولكن بعض الأعلام لا يرى لهذا الشرط وجهاً لأن موضوع المسألة منحصر بما لو تعلقت الإجارة بما تعلق به الوجوب فمورد التغاير خارج عن محل البحث، قال (قدس سرّه): «موضوع البحث هو أن يكون معروض الوجوب ومتعلق الإجارة شيئاً واحداً، بحيث لو قلنا بالجواز يحصل للأجير أمران: أحدهما: سقوط الواجب عن ذمته، والثاني: استحقاقه للأجرة»(3).

أقول: أخذ هذه الفكرة من كلام السيد اليزدي (قدس سرّه) في المطلب التالي،

ص: 756


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 30/378-379، كتاب الإجارة.
2- مصباح الفقاهة: 1/707.
3- القواعد الفقهية للسيد البجنوردي: 2/171.

وربما كان وجهه مبنياً على وضع الألفاظ للفرد الصحيح وليسللأعم، فالواجب في عنوان المسألة يراد به ما يبرئ الذمة، أو أنهم استظهروا من عنوان المسألة أن المراد بالواجب المقابل للأجرة في عقد الإجارة منحصر بما يتحقق به الامتثال أي أن العقد يقع على إتيان المكلف بما يبرئ ذمته من الواجب المطابق للمأمور به.

ويرد عليه أن هنا مأمورين بهما: أحدهما من قبل المولى بصفته واجباً، وهذا ظاهر في الصحيح وهو مورد تطبيق كبرى حمل اللفظ على الصحيح، والآخر من قبل المستأجر لتعلق عقد الإجارة به، وهذا ليس مورداً لإجراء الكبرى المذكورة لارتباطه بغرض المستأجر، ولاينحصر في الصحيح إذ قد يتحقق غرض المستأجر بغير الفرد الصحيح الموجب لبراءة الذمة، لذا قلنا بإمكان التفكيك وسيتضح أثر ذلك في المطلب التالي إن شاء الله تعالى.

(الثاني) هل تحصل بهذا الفعل براءة ذمة الأجير من الواجب عليه الذي قبض الأجرة عليه؟ قال الشيخ الأنصاري (قدس سرّه): «ثم إن صلح ذلك الفعل المقابل بالأجرة لامتثال الإيجاب المذكور أو إسقاطه به أو عنده، سقط الوجوب مع استحقاق الأجرة، وإن لم يصلح استحق الأجرة وبقي الواجب في ذمته لو بقي وقته، وإلا عوقب على تركه».

ووضّح السيد اليزدي (قدس سرّه) كلام الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) قائلاً: «أما الامتثال فكما إذا استأجره لدفن الميت عن نفسه –أي الأجير- فدفنه كذلك، وأما الإسقاط به –أي الفعل- فكما إذا استأجره للدفن نيابة عنه، فإنه لو أتى به عنه يسقط عنه الوجوب بسبب هذا الفعل، وأما السقوط عنده فلم أفهم المراد منه»(1).

ص: 757


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سرّه) على المكاسب: 1/145، التعليقة: 198.

أقول: التمثيل بهذا المورد ليس صحيحاً لأن المفروض عدم صحة الإجارة عنده على دفن الميت وتجهيزه فلا يتحقق بها امتثال لعدممطابقة المأتي به للمأمور به، مضافاً إلى أن افتراض النيابة خروج عن محل البحث الذي هو في الإجارة على ما يجب على نفس الأجير، وليس النيابة على ما يجب على غيره وإن ترتب على فعله سقوط الوجوب عنه، كما لو استأجره للنيابة عن والد الأجير الميت والأجير هو ولده الأكبر.

هذا لكن أصل الإشكال يرجع إلى مشكلة في تعبير الشيخ (قدس سرّه) لذا وصفه البعض بالاضطراب أو بالغموض، وسيشير إليه المعلّق، وإذا أردنا أن نسير مع التعبير كما هو فيمكن فهم مراد الشيخ (قدس سرّه) بتصور أن الحالات ثلاثة تترتب عليها الفقرات الثلاثة المذكورة فتارة يسمح المستأجر للأجير أن ينوي به إتيان الواجب عن نفسه فيأتي به الأجير كذلك فيتحقق الامتثال ويستحق الأجرة كما لو أمره بتطهير المسجد بقصد امتثال أمر المولى ففعل، فيكون ممتثلاً للأمر الوجوبي ومستحقاً للأجرة لأن وجوب الوفاء بالإجارة توصلي.

وتارة يطلب المستأجر من الأجير الإتيان بالفعل نيابة عنه، فيفعل، فإنه يستحق الأجرة لقيامه بالفعل ويسقط الوجوب عنه بهذا الفعل لكونه كفائياً.

وقد يسقط الوجوب عند الفعل لا لامتثاله من قبل الأجير أو نيابة عن المستأجر، بل لارتفاع موضوعه كما لو كان الفعل مقيداً بالمجانية وأتى به مقابل أجرة، أو طهر المسجد بماء مغصوب فإن الامتثال لم يتحقق؛ لعدم مطابقة المأتي به للمأمور به، وكذلك فإن الوجوب لم يسقط به لأنه ليس فرداً صالحاً للامتثال الذي يسقط به الوجوب، لكن الوجوب سقط عنده لانتفاء موضوعه.

ص: 758

أما قول الشيخ (قدس سرّه): «وبقي الواجب..» فقد أشكل عليه السيد اليزدي (قدس سرّه) من جهة عدم تعقل استحقاقه الأجرة على إتيان الواجب مع فرض بقائه في ذمته بعد الإتيان وقال (قدس سرّه) في بيان ذلك: «إذا فُرض كون الواجب مما يمكن استحقاق الأجرة به مع كونه باقياً في ذمته، فلا بد أنيفرض فيما كان ذا أفراد بحيث يجب على كل منهما إيجاد فرد؛ فأتى بفرد منه نيابة عن المستأجر، فإنه حينئذٍ يبقى عليه الإتيان بفرد آخر، لكن على هذا يشكل جعله من قبيل أخذ الأجرة على الواجب؛ إذ الفرد الواجب عليه باقٍ بعد، وما أتى به عن غيره ليس من الواجب عليه، ولا ينبغي الإشكال فيه بناءً على قابليته للنيابة، بل لو فرض من قبيل الحج بعد الاستطاعة –حيث إنه يجب عليه في العام الأول- إذا فرض أنه عصى وصار أجيراً لغيره لا يكون من قبيل المقام»(1).

أقول: أخذ الفكرة منه بعض الأعلام وأسس الكبرى التي أوردناها له في المطلب السابق، وبنى عليها الإشكال على ذهاب الشيخ (قدس سرّه) إلى «إمكان التفكيك بين الاستحقاق للأجرة وسقوط الواجب عن عهدة الأجير»(2)،

وذكر (قدس سرّه) في موضع آخر منشأ الإشكال، قال: «فتصوير استحقاق الأجير للأجرة مع عدم سقوط الواجب في غاية الإشكال؛ لأن الإجارة على الفرض وقعت على إتيان ما هو واجب على نفسه، فلو أتى ما هو الواجب على نفسه سقط الوجوب واستحق الأجرة بناءً على الجواز وإلا لم يستحق الاجرة أيضاً، فالتفكيك بينهما لا نعقله»(3).

أقول: يمكن تصوّر التفكيك بين متعلقي الوجوب والإجارة، كما لو تعلق

ص: 759


1- حاشية السيد اليزدي (قدس سرّه) على المكاسب: 1/145، التعليقة: 199.
2- القواعد الفقهية: 2/172.
3- القواعد الفقهية: 2/170.

غرض المستأجر بخصوصية في فعل الواجب لا ترتبط بإبراء الذمة وكون الفرد المأتي به صحيحاً، كما لو استأجره لتعليم أولاده الصلاة أو ليتعلم هو الصلاة الخاشعة فأتى بها الأجير تامة الأجزاء والشرائط لكن رياءً فإنه استحق الأجرة لأنه وفى بعقد الإجارة وحقق غرض المستأجر لكن ذمته لم تبرأ من الواجب لبطلان العمل ووجب عليه إعادة الصلاة امتثالاً للأمر المتعلق بها، وإنما صحّ التفكيك بين المتعلقين؛ لأن الأوامرتتعلق بالطبائع وهي كليات ذات أفراد عديدة، أما الإجارة فتتعلق بالأفراد والخصوصيات فالمتعلقان مختلفان.

وقد اتضح لنا الفرق بين الإجارة والنيابة لتعلق الثانية بالفرد الصحيح الموجب لإبراء ذمة المنوب عنه.

(الثالث) أخذ الأجرة على الواجبات النظامية:

انتهينا في البحث السابق إلى أن الوجوب بذاته لا يمنع من أخذ الأجرة وكذا العبادية غير منافية، إلا أن يوجد مانع عرضي يُلحظ في كل مورد بحسب دليله والقرائن المتوفرة فيه، لذا لا حاجة إلى البحث في الواجبات النظامية؛ لوجود إجماع على جواز أخذ الأجرة «توصلاً إلى ما هو المقصود من الأمر بها، وهو انتظام أمر المعاش والمعاد، فإنه كما يوجب الأمر بها كذا يوجب جواز أخذ الأجرة عليها، لظهور عدم انتظام المقصود بدونه، مع أنه عليه الإجماع نصاً وفتوى»(1).

وكذا لا إشكال في الجواز عند من اختار التفصيل في الحكم على نحو يؤدي إلى القول بالجواز هنا كما لو ذهب إلى الجواز في الواجبات

ص: 760


1- رياض المسائل: 8/180.

التوصلية أو الكفائية، والواجبات النظامية منها.

إلا أن مشهور الأصحاب لما ذهبوا إلى الحرمة مطلقاً وجدوا أنفسهم في مشكلة، قال الشيخ الأنصاري (قدس سرّه): «ثم إن هنا إشكالاً مشهوراً، وهو أن الصناعات التي يتوقف النظام عليها تجب كفاية؛ لوجوب إقامة النظام، بل قد يتعيّن بعضها على بعض المكلفين عند انحصار المكلف القادر فيه، مع أن جواز أخذ الأجرة عليها مما لا كلام فيه، وكذا يلزم أن يحرم على الطبيب أخذ الأجرة على الطبابة؛ لوجوبها عليه كفاية، أو عيناً كالفقاهة»(1).ثم قال (قدس سرّه): «وقد تُفصّيَ منه بوجوه:

أحدها- الالتزام بخروج ذلك بالإجماع والسيرة القطعيين» وقد التزم (قدس سرّه) به ولذا اختار التفصيل في المسألة بلحاظ قيام الدليل على الجواز، قال (قدس سرّه): «إن الواجب إذا كان عينياً تعيينياً لم يجز أخذ الأجرة عليه ولو كان من الصناعات فلا يجوز للطبيب أخذ الأجرة على بيان الدواء أو تشخيص الداء(2)،

وأما أخذ الوصي الأجرة على تولي أموال الطفل الموصى عليه الشامل بإطلاقه لصورة تعيّن العمل عليه فهو من جهة الإجماع والنصوص المستفيضة(3) على أن له أن يأخذ شيئاً»(4).

وفيه: إن عدم الجواز إن كان مبنياً على وجه ثبوتي كالتنافي الذاتي بين

ص: 761


1- المكاسب: 2/137.
2- إلا أنه بعد ذلك جوّز له «أخذ الأجرة على حضوره عند المريض إذا تعيّن عليه علاجه، فإن العلاج وإن كان معيناً عليه إلا أن الجمع بينه وبين المريض مقدمة للعلاج واجب كفائي بينه وبين أولياء المريض، فحضوره أداء للواجب الكفائي إلا أنه لا بأس بأخذ الأجرة عليه» (المكاسب: 2/142) وفيه ما لا يخفى.
3- وسائل الشيعة: 12/184، أبواب ما يُكتسب به، باب 72.
4- المكاسب: 2/141.

الوجوب المقتضي للتملك وأخذ العوض أو كونه آكلاً للمال بالباطل فلا ينفع فيه الدليل الإثباتي.

وبتعبير آخر: إن أدلة المنع تكون حينئذٍ آبية عن التخصيص والتقييد؛ لأن أخذ الأجرة على الواجبات إذا كان أكلاً للمال بالباطل أو أن الواجب مملوك لله تعالى فلا يجوز تمليكه لأحد ونحو ذلك مما قالوه فإنه لا يقبل التخصيص بموارد يجوز فيها ذلك، وإنما يجب إعادة قراءة أدلة تلك الموارد وفهمها على نحو لا يتنافى مع ذلك الملاك الثبوتي.

وفصّل الشيخ الأصفهاني (قدس سرّه) بين وجوه الاستدلال فقال: «نعم إذا كان العمل مملوكاً لله تعالى وقلنا بأن تمليك مال الغير بإذنه صحيح صح استكشاف الإذن من الشارع المالك للعمل في تمليك العمل، بحيثيكون العوض للعامل»(1).

ويجاب حلاً بأن هذا تهديم لأصل الدليل إذ لا يبقى تملك الله تعالى للفعل بإيجابه في ذمة العبد مانعاً عن أخذ الأجرة كما أراده المستدل ويرجع الدليل إلى وجه آخر وهو قيام الدليل الخاص على المجانية أو عدمها.

ويجاب نقضاً بما ورد في قوله (قدس سرّه): «وأما إذا كان إيجاب العمل للغير موجباً لاستحقاق الغير له فلا يصح أصلاً، سواء أكان إذن من مالكه أم لا، وسواء أكان بعوض أو بلا عوض فإن تمليك مال الغير له محال لأنه من باب تحصيل الحاصل».

وإن كان الوجه إثباتياً كالإجماع أو أي دليل تعبدي فيمكن تخصيصه بالإجماع والسيرة ولزوم اختلال النظام ونحو ذلك، ولا محل للإشكال

ص: 762


1- رسالة أخذ الأجرة على الواجبات: 87.

حينئذٍ، ولكن هذا الوجه لم يثبت كما تقدم مضافاً إلى أن الفرض بعيد بأن يكون أخذ الأجرة حكماً تعبدياً بأمر الشارع وليس من باب المعاوضة.

ثانيها- ما في جامع المقاصد من «أن كل ما كان من الواجبات الكفائية إنما يجوز الاستئجار عليه عند عدم وجوبه بحال» «ويمكن حمله على ما إذا عُلِم أو ظُنَّ قيام من فيه كفاية، أو كان المؤجر ممن لا تجب عليه أصلاً»(1).

وفيه:-

1- إنه تسليم بالإشكال في حال عدم العلم أو الظن المقتضي للوجوب.

2- إنه مبني على كون الوجوب الكفائي وجوباً مشروطاً بعدم قيام الغير، وقد أثبتنا بطلانه في البحث عن حقيقة الوجوب الكفائي.1- إن مجرد قيام وتصدي من به الكفاية لا يسقط الوجوب إلا إذا أتى بالفعل، فإذا فعل فلا يبقى موضوع حتى نسأل عن جواز أخذ الأجرة عليه.

2- إن «ظاهر العمل والفتوى جواز الأخذ ولو مع بقاء الوجوب الكفائي بل ومع وجوبه عيناً بالانحصار»(2).

وحكى الشيخ الأنصاري (قدس سرّه) وجوهاً(3)

أخرى نذكرها بنفس الترتيب:

ثالثها- «ما في مفتاح الكرامة من أن المنع مختص بالواجبات الكفائية المقصودة لذاتها، كأحكام الموتى وتعليم الفقه، دون ما يجب لغيره كالصنائع»(4)

وكذا عن الرياض.

أقول: هذا ليس تقريباً لحل الإشكال وإنما هو قول بالتفصيل أخرج

ص: 763


1- جامع المقاصد: 7/182.
2- المكاسب: 2/138.
3- المكاسب: 2/138-141.
4- مفتاح الكرامة: 4/85، 92 (من المصدر)، رياض المسائل: 5/37.

المورد من دائرة الحرمة وعلى صاحبه أن يقدّم الدليل على هذا القول. قال الشيخ (قدس سرّه): «وفيه: أن هذا التخصيص إن كان لاختصاص معاقد إجماعاتهم أو عنوانات كلامهم، فهو خلاف الموجود منها، وإن كان لدليل يقتضي الفرق فلا بد من بيانه»(1).

مضافاً إلى ما حكي من الجواب عن بعض الأعاظم، قال (قدس سرّه): «إن فعل الصنائع بالنسبة إلى ما يترتب عليها من حفظ النظام من قبيل المقدمة المتحدة مع ذيها في الوجود، كالإلقاء في النار والإحراق، والضرب والإيلام، ومثل هذه المقدمة ليس لها وجوب، بل هناك وجوب واحد نفسي، إذ لا معنى لإيجاب الشيء للتوصل إلى نفسه ونتيجته أن أخذ الأجرة حينئذٍ من باب أخذ الأجرة على الواجب النفسي الأصلي دون الواجب الغيري التبعي»(2).وفيه: بناءً على تعلق الأحكام بالعناوين فإن هذه عناوين متغايرة حتى لو كانت متحدة في الوجود، فيصح التفريق المذكور.

رابعها- «أن المنع عن أخذ الأجرة على الصناعات الواجبة لإقامة النظام يوجب اختلال النظام، لوقوع أكثر الناس في المعصية بتركها أو ترك الشاق منها والالتزام بالأسهل، فإنهم لا يرغبون في الصناعات الشاقة أو الدقيقة إلا طمعاً في الأجرة وزيادتها على ما يبذل لغيرها من الصناعات، فتسويغ أخذ الأجرة عليها لطف في التكليف بإقامة النظام».

أقول: هذا الوجه مأخوذ من كلام صاحب الرياض المتقدم (3)وهو

صحيح فإن منع أخذ الأجرة لا يبقي حافزاً للناس كي يتصدوا للواجبات النظامية

ص: 764


1- المكاسب: 2/138-141.
2- حكي عن حاشية الميرزا محمد تقي الشيرازي: 1/153.
3- راجع موسوعة فقه الخلاف: 9/ 68.

لحاجتهم إلى المال كي يكفوا به أنفسهم وعيالهم، إلا إذا افترضنا قيام مجتمع تتوفر فيه كل حاجات الإنسان مجاناً.

والإشكال الذي يأتي عليه ما ذكرناه في جواب الوجه الأول من أن أدلتهم على الحرمة آبية عن التخصيص فلا بد أن يعدلوا عن القول بالحرمة مطلقاً ثم يقدموا مثل هذه التقريبات.

وأجاب الشيخ قائلاً: «وفيه: أن المشاهَد بالوجدان أن اختيار الناس للصنائع الشاقة وتحملها ناش عن الدواعي الأخر غير زيادة الأجرة، مثل عدم قابليته لغير ما يختار، أو عدم ميله إليه، أو عدم كونه شاقاً عليه، لكونه ممن نشأ في تحمل المشقة، ألا ترى أن أغلب الصنائع الشاقة من الكفائيات كالفلاحة والحرث والحصاد وشبه ذلك لا تزيد اجرتها على الأعمال السهلة؟».

أقول: هذا الجواب لا يضرّ بأصل هذا الوجه لما قلناه في تقريب الصحة سواء كانت هذه الواجبات شاقة أو لا.

خامسها- «أن الوجوب في هذه الامور مشروط بالعوض. قال بعضالأساطين(1) – بعد ذكر ما يدل على المنع عن أخذ الأجرة على الواجب-: أما ما كان واجباً مشروطاً فليس بواجب قبل حصول الشرط، فتعلق الإجارة به قبله لا مانع منه ولو كانت هي الشرط في وجوبه، فكل ما وجب كفاية من حرف وصناعات لم تجب إلا بشرط العوض بإجارة أو جعالة أو نحوهما، فلا فرق بين وجوبها العيني، للانحصار، ووجوبها الكفائي، لتأخر الوجوب عنها وعدمه قبلها، كما أن بذل الطعام والشراب للمضطر إن بقي على الكفاية أو تعين يستحق فيه أخذ العوض على الأصح، لأن وجوبه مشروط،

ص: 765


1- الشيخ كاشف الغطاء في شرحه على القواعد: 76.

بخلاف ما وجب مطلقا بالأصالة كالنفقات، أو بالعارض كالمنذور ونحوه، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه: أن وجوب الصناعات ليس مشروطاً ببذل العوض، لأنه لإقامة النظام التي هي من الواجبات المطلقة، فإن الطبابة والفصد والحجامة وغيرها – مما يتوقف عليه بقاء الحياة في بعض الأوقات - واجبة، بذل له العوض أم لم يبذل».

أقول: ربما كان قصد صاحب الوجه أن العمل ليس مشروطاً بالمجانية أي أنه يقبل اشتراط الأجرة، لكنه صاغه بعبارة اشتراط الوجوب بالأجرة وهو يعلم بأن الوجوب مطلق ولو لم يبذل بإزائه الأجر، فيكون هذا المعنى قريباً من الوجه الآتي.

سادسها- «أن وجوب الصناعات المذكورة لم يثبت من حيث ذاتها، وإنما ثبت من حيث الأمر بإقامة النظام، وإقامة النظام غير متوقفة على العمل تبرعاً، بل تحصل به وبالعمل بالأجرة، فالذي يجب على الطبيب لأجل إحياء النفس وإقامة النظام هو بذل نفسه للعمل، لا بشرط التبرع به، بل له أن يتبرع به، وله أن يطلب الأجرة، وحينئذ فإن بذل المريض الأجرة وجب عليه العلاج، وإن لم يبذل الأجرة – والمفروض أداء تركالعلاج إلى الهلاك - أجبره الحاكم حسبة على بذل الأجرة للطبيب، وإن كان المريض مغمى عليه دفع عنه وليه، وإلا جاز للطبيب العمل بقصد الأجرة فيستحق الأجرة في ماله، وإن لم يكن له مال ففي ذمته، فيؤدى في حياته أو بعد مماته من الزكاة أو غيرها.

وبالجملة، فما كان من الواجبات الكفائية ثبت من دليله وجوب نفس ذلك العنوان، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه، بناء على المشهور، وأما ما أمر به من باب إقامة النظام، فإقامة النظام تحصل ببذل النفس للعمل به في

ص: 766

الجملة، وأما العمل تبرعاً فلا، وحينئذ فيجوز طلب الأجرة من المعمول له إذا كان أهلاً للطلب منه، وقصدها إذا لم يكن ممن يطلب منه، كالغائب الذي يعمل في ماله عمل لدفع الهلاك عنه، وكالمريض المغمى عليه.

وفيه: أنه إذا فرض وجوب إحياء النفس ووجوب العلاج، لكونه مقدمة له، فأخذ الأجرة عليه غير جائز»(1).

أقول: وبتعبير آخر: إن كون وجوب التطبيب مقدمياً لا يغيّر من الحكم لعموم حرمة أخذ الأجرة على الواجبات بحسب الفرض، ومنه يُعلم النظر في تعليقة السيد اليزدي (قدس سرّه) بقوله: «بل يمكن دعوى أن خلافه باطل، لانتفاعه بعمل الغير –الذي هو محترم- بلا دفع عوض، وهو يعدّ من الأكل بالباطل، إذ الأكل في كل شيء بحسبه»(2)، إلا أن يكون كلامه مستقلاً عن هذا السياق ومبنياً على مختاره وهو عدم حرمة أخذ الأجرة على الواجبات.

سابعها- ما أورده المحقق النائيني (قدس سرّه) وبناه على شرطه في صحة عقد الإجارة من كون متعلقها مقدوراً للأجير وتحت سلطنته فعلاً وتركاً، ووجههالتفريق بين تعلق الوجوب بفعل المكلف بالمعنى المصدري وبين تعلقه به بالمعنى الاسم المصدري.

قال (قدس سرّه): «إن الواجب على الأجير هو بذل عمله، أي تعلق التكليف أو الوضع بالمعنى المصدري، لا بنتيجة عمله التي هي المعنى الاسم المصدري، فإن الطبيب وإن وجب عليه الطبابة عيناً إلا أنه مالك لعمله، والأجرة تقع بإزاء العمل الذي هو مناط مالية المال، لا بإزاء قوله من حيث الإصدار، وهما وإن لم يكونا أمرين خارجيين متمايزين إلا أنهما شيئان

ص: 767


1- المكاسب: 2/141.
2- حاشية السيد اليزدي على المكاسب: 1/149، التعليقة (209).

اعتباراً، فللشارع التفكيك بين وجوب المصدر وملكية اسم المصدر، وليس الطبيب والصباغ والخياط كالقاضي، فإن في باب القضاء تعلّق التكليف بنتيجة عمله وهو فصله الخصومة، وهذا إذا خرج عن ملكه فلا يجوز له الأجرة عليه. وأما الصباغ ونحوه فما وجب عليه هو بذل عمله لا أثره»(1).

وبيّنه بعض تلامذته بقوله: «لو تعلق الوجوب بجهة إصدار فعل عن المكلف لا بما هو الصادر – أي كان المطلوب منه والذي يلزم به هو أن يصدر عنه هذا الفعل وأن لا يمتنع عن الاشتغال به وإلا فنفس الفعل وذاته يقع للفاعل ولا يخرج بهذا الطلب عن حيطة سلطانه - فلا يمنع عن أخذ الأجرة عليه لأن المفروض أن المطلوب في هذا القسم هو اشتغال المكلف بالفعل وعدم امتناعه عنه، وهذا هو الذي ألزم به فما خرج عن تحت قدرته في عالم التشريع ليس إلا صرف الاشتغال وعدم الامتناع عن العمل، وأما نفس العمل الصادر فليس بمطلوب فلم تخرج عن ملكه وحيطة سلطانه فيكون كوجوب بيع الحنطة مثلاً وعدم جواز احتكاره في باب الأموال، فكما أنه هناك وجوب صدور البيع وعدم جواز الاحتكار لا يخرج الحنطة عن ملكه وحيطة سلطانه فكذلك هاهنا وجوب صدورالعمل عنه لا يخرج ذات العمل عن ملكه وسلطانه، فيجوز أخذ العوض على العمل الصادر لا على جهة الإصدار.

فما هو الواجب شيء – أي جهة الإصدار والمعنى المصدري - وما هو يؤخذ العوض عليه شيء آخر أي نفس الصادر والمعنى الاسم المصدري.

هذا كله فيما إذا تعلق الوجوب بالمعنى المصدري كجميع الواجبات النظامية التي بتركها عن الجميع وعدم اشتغال من به الكفاية بها يتحقق

ص: 768


1- منية الطالب: 1/46.

اختلال النظام.

وأما لو تعلق الوجوب بما هو الصادر أي تعلق بما هو الفعل بالمعنى الاسم المصدري فيخرج ذات الفعل ونفس العمل الصادر عن تحت قدرته تشريعاً ويكون ملزماً بإتيانه، وليس له أن يتركه ولا يأتي به بل يجبر على الفعل إن أراد الترك من باب الأمر بالمعروف»(1).

أقول: يرد عليه (قدس سرّه):-

1- إن هذا التقريب غير مستوعب لأن جملة من موارد جواز أخذ الأجرة يراد بها المعنى الاسم المصدري كإرضاع الأم لظاهر قوله تعالى: «فَإنْ أرضَعنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أجُورَهُنَّ فَرِيضَةً» (الطلاق:6) أو كعمل الوصي حيث يظهر من الروايات أن الأجرة على العمل، وقد تقدم ذلك (2).

2- إن المانع عن أخذ الأجرة عنده (قدس سرّه) هو عدم السلطنة والقدرة على الفعل فعلاً وتركاً إذا كان واجباً، وإذا كان السبب واجباً ولا يصح تعلق الإجارة به، فإن المسبَّب عنه –وهو المعنى الاسم المصدري- يكون غير مقدور له فعلاً وتركاً بالتبع له.

3- «لا معنى محصّل لعدم بخله عن الطبابة عملاً إلا فعل الطبابة»(3)، فلا ثمرة في هذا التفريق.ثامنها- وهو قريب من سابقه، حاصله «أن الواجب كفاية فيها ليس هو العمل سواء أراد الغير أم لا كما في الواجبات الكفائية أو العينية الأخرى، بل الاستعداد له بنحو القضية الشرطية، بحيث لو أراده الطالب لوجده، وهذا

ص: 769


1- القواعد الفقهية: 2/176-177.
2- راجع موسوعة فقه الخلاف: 9 / 53.
3- رسالة أخذ الأجرة على الواجبات للشيخ الأصفهاني: 50.

لا ينافي مع أن يكون الطلب له بأجرة لا مجاناً، فالوجوب هنا وجوب تحصيل العمل بنحو القضية الشرطية لا الفعلية، أي لو طلبه المستأجر ودفع أجره لكان موجوداً، ومثله لا ينافي صحة الإجارة، وإنما المنافي لها –على القول ببطلان الإجارة على الواجبات – الوجوب الفعلي على كل تقدير، سواءً أراده المستأجر أم لا»(1).

نتيجة البحث وخلاصة الاستدلال على الجواز

تحصل من مجموع البحث جواز أخذ الأجرة على الواجبات حتى العبادية منها، لوجود المقتضي وعدم المانع.

أما المقتضي فأمور:-

1- عمومات وإطلاقات الوفاء بالعقود والإجارة وتداول المال بالتراضي، وقد أدّى الأجير عملاً محترماً ووفى بمقتضى العقد فحرمانه من الأجر ظلم وأكل للمال بالباطل بلحاظ حرمانه.

2- النصوص الدالة على الجواز في واجبات عديدة ذكرناها كأخذ الأم الأجرة على إرضاع ولدها اللباء، وأخذ الوصي الأجرة على عمله والواجبات النظامية وغيرها، ولا يمكن فرضها استثناءً من القول بعدم الجواز وتخصيصاً للحرمة؛ لعدم صحة ماذكروه من تقريبات الاستثناء باعتبار أن ملاكات الحرمة آبية عن التخصيص وإنما هي نقض على عدم الجواز وكاشفة عن مقتضى القاعدة وهو الجواز.

اختلاف متعلقي الوجوب والإجارة دائماً وشرط الحرمة وحدة1- المتعلقين، وقد تقدّم بيان ذلك بالتفصيل.

ص: 770


1- كتاب الإجارة للسيد محمود الهاشمي: 2/290.

2- دخول المورد في محرمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل الوسائل المتاحة لأن بحثنا في الواجبات وهي داخلة في المعروف، ومن تلك الوسائل بذل العوض سواءً على نحو الإجارة أو الجعالة لحث الآخرين على فعل المعروف واجتناب المنكر ما لم يرد نهي عنه والمفروض عدمه، وبذل هذه الحوافز والمكافئات لجلب الناس إلى الهداية والصلاح أمر معروف من سيرة الشارع المقدّس كجعل المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة لحثّهم على الإسلام وهو أسلوب ناجح لإقامة هذه الفريضة.

3- أصالة صحة ما تعارف عليه الناس من معاملات وتراضوا عليه ما لم يرد نهي من الشارع؛ لأن دور الشارع المقدس في المعاملات ترشيد وتهذيب وإمضاء ما تعارف عليه الناس والمفروض عدم ثبوت ما يمنع من هذه الإجارة.

أما عدم المانع فلعدم تمامية جميع التقريبات التي ذكروها لحرمة أخذ الأجرة على الواجبات حتى العبادات.

نعم لو ورد دليل على الحرمة في موردٍ ما اختُص الحكم بذلك المورد.

وبتطبيق هذه الكبرى على مسألتنا نستنتج عدم وجود مانع من ارتزاق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من بيت مال المسلمين أو استيجاره للقيام بهذه الوظيفة من قبل ولي الأمر.

نعم إذا فرض استيجاره من قبله فليس له تأجير نفسه لغيره لعدم جواز أن يؤجر نفسه من شخصين مستقلين لعمل واحد بأن يأخذ في قباله أجرتين.

وعرفنا من خلال هذه النتيجة إمكان اعتماد دفع العوض عن القيام بالواجب كوسيلة تحفيزية لإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 771

ص: 772

القاعدة السابعة: قاعدة تقديم الأيسر.
اشارة

بحث شيخنا الأستاذ (دامت بركاته) في الجزء الثامن (صفحة 470) وما بعدها قاعدة تقديم الأيسر ، وجاء في هذا البحث:

قاعدة تقديم الأيسر

المعروف بين الفقهاء (قدس الله أسرارهم) لزوم مراعاة الترتيب في وسائل امتثال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيبدأ بأيسر الوسائل، فإن لم تؤثر انتقل إلى التي تليها وهكذا، قال صاحب الجواهر (قدس سرّه): «صرح الفاضل وابن سعيد والسيوري والشهيدان وغيرهم على ما حكي عن بعضهم بوجوب مراعاة الأيسر فالأيسر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل نسبه بعض الأفاضل إلى الشهرة، بل لم أجد من حكى الخلاف في ذلك»(1).

أقول: وهذا الترتيب تجب مراعاته بين المراتب الثلاث، وفي ضمن كل مرتبة أيضاً، فإذا حصل المطلوب بالكلام اللين فلا يجوز الأمر والنهي بالكلام الخشن، وإذا أمكن النهي عن المنكر بالحيلولة بينه وبين فاعله فلا يجوز ضربه، مع أن الأسلوبين من مرتبة واحدة وهكذا.

وهنا عدة أمور ينبغي التعرض لها:

(الأول) الترتيب الذي ذكرناه والذي اشتهر في كلمات الفقهاء ليس متفقاً عليه وإن تسالموا على أصل المراتب، فقد ورد اختلاف في ترتيب الوسائل في كلمات الفقهاء فعن الشيخ وابن حمزة «يجب أولاً باللسان ثم باليد ثم بالقلب» وعن سلار «باليد أولاً فإن لم يمكن فباللسان، فإن لميمكن

ص: 773


1- جواهر الكلام: 21/378.

فالقلب» وبعضها غير ظاهر في الترتيب أصلاً وإنما يكتفي بذكر وسائل الامتثال».

وعن الحلبي في إشارة السبق «يجب باليد واللسان، فإن فقدت القدرة أو تعذّر الجمع فيه بين ذلك فباللسان والقلب خاصة، فإن لم يمكن الجمع فيه بينهما لأحد الأسباب المانعة فلا بد منه باللسان، ولا يسقط الإنكار به شيء»(1).

(الثاني) في الاستدلال عليه

ونقرّب الاستدلال على ترتيب المشهور بوجوه:

أولها: الإجماع، وهو مخدوش صغروياً لما ذكرناه من الخلاف، وكبروياً لاحتمال استناده إلى الروايات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ثانيها: الروايات:

فإنها ذكرت المراتب على هذا النحو كالروايات (3، 4، 5) (2)،

لكن هذا الاستدلال غير تام؛ لأن الروايات –مضافاً إلى كون بعضها غير ظاهر في الترتيب أصلاً (كالرواية 3)(3)

وأن بعضها غير ظاهر في اللزوم كما هو المفروض (كالروايتين 4، 5) (4)

فإنها مختلفة من هذه الناحية، وفيبعضها

ص: 774


1- جواهر الكلام: 21/379.
2- راجع موسوعة فقه الخلاف: 8/ 424 - 425.
3- عن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (من ترك إنكار المنكر بقلبه ولسانه (ويده خ) فهو ميت بين الأحياء). وسائل الشيعة: 16/ 132.
4- : يقصد بالرواية الرابعة: ما رواه ابن ابي ليلى قال: (إني سمعت علياً (علیه السلام) يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون إنه من رأى عدواناً يُعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق، ونور في قلبه اليقين). وسائل الشيعة: 16/ 133. والمقصود بالرواية الخامسة: وقال الشريف الرضي: (وقد قال (علیه السلام) في كلام له يجري هذا المجرى: فمنهم المنكر للمنكر بقلبه ولسانه ويده فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه التارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير، ومضيع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميت الأحياء). وسائل الشيعة: 16/ 134.

تقديم اللسان ثم القلب ثم اليد، كالرواية (14) (1)

إذ بدأت بالإنكار باللسان ثم الهجران، وقد ذكروه في مراتب القلب، ثم الإيذاء حتى الترك وهو من مراتب اليد.

وفي خبر يحيى الطويل (رقم 2) (2)

جمع اليد واللسان معاً في مرتبة واحدة، وقدّم بعضها اليد ثم اللسان ثم القلب كما في الروايات (7، 9، 10) (3).

ص: 775


1- الظاهر ان المقصود هي الرواية (15) وهي: عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال: (إنه قد حقّ لي أن أأخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحقُّ لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يتركه). تهذيب الاحكام: 6 / 181- 182.
2- رواية يحيى الطويل عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد، ولكن جعلهما يبسطان معاً ويُكفان معاً). الكافي: 5/ 55.
3- الرواية 7: ما جاء في تفسير الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) عن آبائه عن النبي (صلی الله علیه و آله) في حديث إلى أن قال: (فقالوا يا رسول الله فكيف بنا ونحن لا نقدر على إنكار ما نشاهده من منكر؟ فقال رسول الله |: لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليعمنّكم عذاب الله، ثم قال: من رأى منكم منكراً فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره). وسائل الشيعة: 16/ 135. اما الرواية 9: رواية الدعائم عن علي بن الحسين ومحمد بن علي (علیهم السلام) أنهما ذكرا وصية علي (صلوات الله عليه) فقالا: (أوصى إلى ابنه الحسن (علیه السلام) –إلى أن قال:- إن رسول الله (صلی الله علیه و آله) عهد إليّ فقال: يا عليّ مُرْ بالمعروف وانهَ عن المنكر بيدك فإن لم تستطع فبلسانك فإن لم تستطع فبقلبك وإلا فلا تلومنّ إلا نفسك). مستدرك الوسائل: 12/ 192. والرواية 10: خبر العوالي عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال: (من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ليس وراء ذلك شيء من الإيمان) وفي صحاح العامة بالإسناد عن أبي سعيد الخدري (وذلك أضعف الإيمان). مستدرك الوسائل: 12/ 192.

نعم يمكن افتراض التعارض بينها والترجيح بموافقة الكتاب، ويستفاد هنا من قوله تعالى: «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (الحجرات:9) بتقريب أن الآية قدّمت الإصلاح أولاً وهو عنوان واسع يشمل المراتب القلبية أولاً كالهجران والصد وعبوس الوجه ثم المراتب اللسانية لإنشاء الأمر والنهي، فإن لم تؤثر التجأ إلى مراتب اليد ومنها القتل.

والآية تؤدي هذا المقدار من الدلالة وإن لم يصح الاستدلال بها على الترتيب التفصيلي الذي ذكروه، وبذلك نتجنب الإشكال الذي أثير على من استدل(1)

بالآية على لزوم التدرج بالمراتب فأشكل عليه بأن الآية أجنبية لأنها خاصة بالباغين الخارجين عن الطاعة ولا تعم كل موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما نحن فجعلناها مرجحاً فيمكن أن تكون وافية بهذا المقدار لأن فحواها ذلك، لكن هذا في الحقيقة استدلال بنفس الآية.

وللمحقق العراقي مسلك آخر في جواب الإشكال، قال (قدس سرّه): «وهذا المعنى –أي القتال- وإن لم نقل بمشروعيته في غير مورد البغي، لكن هذا المقدار لا ينافي الاستشهاد به على تقديم مراتب الأسهل على الأشد، فيلاحظ مثل هذه المراتب في جميع المقامات، المتعلقة بزجر الغير وردعهعن

ص: 776


1- كما في جواهر الكلام: 21/379 وغيره.

المنكر بالفحوى»(1).

أقول: هذه الاستفادة الإجمالية لا تصلح للاستدلال على ترتيب المشهور.

ثالثها: «قاعدة حرمة إيذاء المؤمن وإضراره المقتصر في الخروج منها على مقدار ما ترتفع به الضرورة»:

وتقريبه أن «التعارض بين إطلاق الأمر بالمعروف وبين النهي عن الإضرار بالمؤمن والإيذاء له من وجه، والمعلوم من تخصيص الأخير بالأول حال الترتيب الذي ذكرناه، وحينئذٍ فالمتجه الاقتصار فيهما على أول مراتب الإنكار بالقلب على وجه يظهر للمأمور والمنهي ذلك، ثم المرتبة الأخرى منه الأيسر فالأيسر إلى أن تنتهي مراتبه بأقسام الهجر وتغير الوجه ونحوهما فإن لم يجد استعمل اللسان أيضاً بمراتبه الأيسر فالأيسر، فإن لم يجد استعمل اليد أيضاً بمراتبها»(2).

أقول:-

1- هذا التقريب خاص بما لو اجتمع مع الأمر والنهي عنوان محرم فلزوم الترتيب غير مطلق.

2- إنه (قدس سرّه) لم يبين لنا وجه تقديم إطلاقات الأمر والنهي مع أن التعارض من وجه، إذ يمكن أن يكون التقديم بالعكس ونتيجته عدم جواز استعمال أي وسيلة محرمة في الأمر والنهي، ويمكن أن يقال بعدم وقوع التعارض أصلاً لأنه بين إطلاقين –كما هو مبنى السيد الخوئي (قدس سرّه)- فيرجع إلى أدلة أخرى أو الأصل العملي، ويمكن اعتبار المورد من التزاحم

ص: 777


1- شرح التبصرة: 4/459.
2- جواهر الكلام: 21/378.

فيقدَّم الأهم ملاكاً كما قرّبنا سابقاً.

رابعها: سيرة المتشرعة ويمكن أن يكون هذا الوجه مدركياً مبنياً على الوجه السابق، ويأتي عليه ما قلناه هناك من اختصاص لزومه بحالةالاجتماع مع عنوان محرم، نعم يمكن تطوير هذا الوجه لتجنّب المدركية فيعنون بسيرة العقلاء وبنائهم على ذلك فيكون دليلاً مستقلاً ولكن مفاده غير مطلق أيضاً كما هو واضح.

تم ولله الحمد والمنة.

بتاريخ 22/1/ 2021.

الموافق 9 جمادى الاخرة 1442

بقلم حيدر السعدي.

ص: 778

الفهرس

المقدمة..... 3

تسمية علم (أصول الفقه)....... 7

الفصل الأول: المطالب الأصولية المفصلة..... 9

المطلب الأول: حقيقة الوجوب الكفائي..... 11

القول المختار:..... 50

مقتضى الأصل عند الشك في العينية والكفائية... 54

(المقام الأول) مقتضى الأصل اللفظي:..... 54

(الأصل الأول: الاستصحاب):... 60

وجه لمنع جريان الاستصحاب:....... 63

تقريبان آخران للاستصحاب:.... 64

(الثاني: قاعدة الاشتغال):.... 71

(الثالث: أصالة البراءة):...... 73

المطلب الثاني : الدوران بين التخصص والتخصيص....... 75

الرأي المختار....... 82

المطلب الثالث: التسامح في ادلة السنن..... 86

تنبيهات في مفاد أخبار (من بلغ)...... 86

المطلب الرابع: التفصيل في حجية الاستصحاب بين الشك في الرافع والشك في المقتضي 95

الفصل الثاني: المباني والتطبيقات الأصولية...... 110

تمهيد المطالب الأصولية..... 111

ص: 779

أولا: الحكم الشرعي... 112

المسألة الأولى: انحاء أوامر ونواهي المعصومين (علیهم السلام)..... 113

المسألة الثانية: إلزامية بعض الافعال ضمن فعل مستحب...... 119

المسألة الثالثة: الكراهة بالمعنى الاعم...... 120

المسألة الرابعة: مدخلية العلم بإرادة المولى في تنجيز الحكم....... 121

المسألة الخامسة: سقوط الوجوب لا يثبت الاستحباب... 123

المسألة السادسة: دلالة الأوامر على الاحكام الوضعية.... 125

المسألة السابعة: الاستحباب والكراهة الوضعيان..... 126

المسألة الثامنة: الفرق بين الفساد والبطلان...... 129

المسألة التاسعة: بقاء الوجوب حتى مع انعدام موضوعه....... 129

المسألة العاشرة: تأثير الزمان والمكان على الحكم الشرعي.... 130

المسألة الحادية عشرة: جعل الاحكام على نحو القضية الحقيقية... 133

المسألة الثانية عشرة: فتوى الفقيه وحكم الحاكم الشرعي..... 134

المسألة الثالثة عشرة: احكام الولي الفقيه... 139

المسألة الرابعة عشرة: حدود ولاية الفقيه... 148

المسألة الخامسة عشرة: موارد اعمال ولاية الفقيه.... 155

المسألة السادسة عشرة: شروط إنفاذ الفقيه لولايته... 160

المسألة السابعة عشرة: احكام الحاكم الشرعي...... 163

أنواع الحكم بثبوت الهلال:..... 164

ثانيًا: التقية.... 169

المسألة الأولى: روايات جراب النورة...... 170

المسألة الثانية: إلقاء الخلاف بين الشيعة... 171

المسألة الثالثة: معايير صدور الخبر تقية.... 173

ص: 780

المسألة الرابعة: لا تقية في تحديد الموضوعات الخارجية..... 184

المسألة الخامسة: معنى اخر للتقية.... 186

ثالثاً: تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية....... 188

رابعًا: حجية الاكتشافات العلمية...... 195

خامسًا: رجوع المجتهد الى مجتهد اخر... 201

سادسًا: تصرف الشارع في الحقائق التكوينية والعرفية..... 202

سابعًا: معنى حديث لا ضرر..... 203

ثامنًا: المباشرة والتسبيب..... 208

تاسعًا: الحقيقة الشرعية...... 209

عاشرًا: الصحيح والأعم..... 214

حادي عشر: استعمال اللفظ في اكثر من معنى...... 216

ثاني عشر: القاعدة العامة للاستنباط... 218

الأدلة المحرزة..... 219

دلالات الدليل الشرعي اللفظي....... 219

اولاً: الأوامر والنواهي... 221

المسألة الأولى: الوجوب امر بسيط... 222

المسألة الثانية: دلالة الامر على الوجوب بحكم العقل... 224

المسألة الثالثة:إشكالية دلالة الترخيص المنفصل على الاستحباب...... 228

المسألة الرابعة: دلالة لفظ الوجوب... 230

المسألة الخامسة: الامر بصيغة النهي والعكس....... 231

المسألة السادسة: الامر بالأمر... 232

ثانيًا: الاطلاق..... 236

المسألة الأولى: الاطلاق مدلول لفظي.... 237

ص: 781

المسألة الثانية: الشمولية المستفادة بالاطلاق.... 240

المسألة الثالثة: توقف الاطلاق على عدم القيد المنفصل..... 241

المسألة الرابعة: حكم الاطلاق عند إرادة المقَيَّد.... 242

المسألة الخامسة: الاطلاق والقرائن اللبية....... 244

المسألة السادسة: مانعية الارتكاز للإطلاق..... 245

المسألة السابعة: الاطلاق الذاتي واللحاظي..... 246

المسألة الثامنة: إثبات الوجوب التعييني بالاطلاق... 247

المسألة التاسعة: دلالة الأفعال على الزمان بالاطلاق..... 249

المسألة العاشرة: الاطلاق السكوتي....... 249

المسألة الحادية عشرة: الاطلاق المقامي....... 250

المسألة الثانية عشرة: الاطلاق المقامي دليل لبي.... 255

المسألة الثالثة عشرة: اطلاق الكل و إردة الجزء.... 255

المسألة الرابعة عشرة: حمل اللفظ على الفرد النادر...... 256

المسألة الخامسة عشرة: الانصراف... 256

المسألة السادسة عشرة: غلبة الوجود الخارجي لا توجب الانصراف.... 264

المسألة السابعة عشرة: الانصراف لا يصلح للتقيد... 266

المسألة الثامنة عشرة: التفريعات لا تقيد الاحكام... 269

المسألة التاسعة عشرة: مناسبات الحكم والموضوع...... 271

المسألة العشرون: التقييد بالمفهوم.... 280

المسألة الحادية والعشرون: تقييد الموضوع بمتعلق الحكم..... 281

المسألة الثانية والعشرون: نكات التقييد.... 283

المسألة الثالثة والعشرون: استعمال الاطلاق بمعنى الظهور.... 285

ثالثًا: العموم....... 287

ص: 782

المسألة الأولى: تنقيح المناط.... 288

المسألة الثانية: حجية استظهار المناط..... 290

المسألة الثالثة: العلة المنصوصة....... 292

المسألة الرابعة: الفارق بين العلة والملاك والحكمة....... 293

المسألة الخامسة: القول بعدم الفصل...... 295

المسألة السادسة: ضابط التعميم بالأولوية....... 297

المسألة السابعة: التجريد عن الخصوصية....... 298

المسألة الثامنة: الفرد المشكوك دخوله تحت الخاص..... 301

المسألة التاسعة: خروج الافراد الدال على عدم العموم... 303

المسألة العاشرة: التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.... 304

المسألة الحادية عشرة: الجمع بين العام الاستغراقي والمجموعي في كلام واحد. خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.

المسألة الثانية عشرة: المخصص المجمل مفهوما... 306

المسألة الثالثة عشرة: المورد لا يخصص الوارد...... 307

المسألة الرابعة عشرة: التطبيق لا يخصص العموم.... 308

المسألة الخامسة عشرة: تخصيص الكتاب بالسنة.... 309

رابعًا: المفاهيم..... 311

المسألة الأولى: دلالة تقدم الجزاء على الشرط....... 311

المسألة الثانية: الشرط المسوق لتحقق الموضوع..... 312

المسألة الثالثة: (اما) التفصيلية بقوة الشرطية..... 315

المسألة الرابعة: حجية مفهوم الغاية.... 315

المسألة الخامسة: مفهوم الوصف..... 318

المسألة السادسة: استفادة المفهوم من القرينة....... 321

ص: 783

المسألة السابعة: الفرق بين الوصف واللقب.... 324

الدليل الشرعي غير اللفظي...... 326

المسألة الأولى: اتصال السيرة بزمن المعصوم... 327

المسألة الثانية: قيام سيرة المتشرعة على المرجوح احيانًا...... 329

المسألة الثالثة: شرطية الالتفات للحكم الشرعي في حجية السيرة....... 330

المسألة الرابعة: دلالة فعل المعصوم....... 331

إثبات صدور الدليل الشرعي..... 333

المسألة الأولى: حجية خبر الواحد بدلالة السيرة..... 334

المسألة الثانية: حجية خبر الثقة في الاحكام والموضوعات... 335

المسألة الثالثة: الاطمئنان بالصدور... 336

المسألة الرابعة: دور الاستفاضة في اثبات الصدور... 337

المسألة الخامسة: تاثير إعراض الاصحاب على حجية الخبر... 338

المسألة السادسة: التفريق بين الإعراض وعدم العمل بالظاهر....... 340

المسألة السابعة: الشهرة لا تجبر ضعف السند... 341

المسألة الثامنة: الشهرة الجابرة لضعف السند... 343

الظهور....... 344

المسألة الأولى: ظهور عصر النص هو الحجة....... 345

المسألة الثانية: دراسة ظروف النص....... 346

المسألة الثالثة: علاقة الظهور بالمعاني الاصطلاحية...... 348

المسألة الرابعة: تاثير وحدة السياق في الظهور....... 349

المسألة الخامسة: ظهور الاستشهاد بالكبرى.... 350

المسألة السادسة: الاحتمال والاجمال...... 351

المسألة السابعة: مورد أصالة الحقيقة....... 353

ص: 784

المسألة الثامنة: ظهور الألفاظ في مفاهيمها لا في مصاديقها....... 354

المسألة التاسعة: مرجعية العرف في ظهور الألفاظ....... 355

المسألة العاشرة: تأويل الظهور لمانع ثبوتي..... 356

المسألة الحادية عشرة: الزيادة والنقيصة.... 361

الدليل المحرز غير الشرعي...... 363

الإجماع والشهرة....... 364

المسألة الاولى: الاجماع الحجة...... 365

المسألة الثانية: الإجماع والشهرة المدركيان.... 365

المسألة الثالثة: الإجماع والشهرة المدركيان لا يكون منشؤهما رواية ضعيفة...... 366

المسألة الرابعة: الاجماع الأوسع من النصوص...... 368

المسألة الخامسة: الاجماع المتأخر عن زمن المعصوم... 369

المسألة السادسة: اختلاف أصحاب الائمة..... 370

المسألة السابعة: الاجماع المركب.... 371

المسألة الثامنة: الاجماع المنقول..... 373

المسألة التاسعة: الاجماع السابق على النص.... 374

المسألة العاشرة: المسألة الاجماعية... 375

المسألة الحادية عشرة: الاجماع الكاشف عن الدليل..... 381

الدليل العقلي...... 383

المسألة الأولى: الخلط بين مقدمات الواجب والوجوب....... 384

المسألة الثانية: تحصيل مقدمات الوجوب..... 390

المسألة الثالثة: انحاء شروط الوجوب...... 400

ص: 785

المسألة الرابعة: مناقشة كبرى التكليف بمقدمات الواجب وعدم المسؤولية عن مقدمات الوجوب. 401

المسألة الخامسة: مقدمة الحرام....... 407

المسألة السادسة: الحرمة الغيرية...... 408

المسألة السابعة: ترك المستحب يقتضي الكراهة..... 410

المسألة الثامنة: إشكالية المقدمات المفوتة..... 412

المسألة التاسعة: التخييري من اقسام الواجب لا الوجوب...... 413

المسألة العاشرة: العيني والكفائي من تقسيمات الواجب....... 415

المسألة الحادية عشرة: افضلية بعض أفراد الوجوب التخييري...... 416

المسألة الثانية عشرة: مورد قاعدة الاشتغال اليقيني....... 417

المسألة الثالثة عشرة: الوجوب العقلي للنهي عن المنكر....... 418

المسألة الرابعة عشرة: ثمرة البحث في كون الوجوب عقلياً أو شرعياً... 424

المسألة الخامسة عشرة: التزاحم...... 426

المسألة السادسة عشرة: التزاحم والطولية الرتبية...... 429

المسألة السابعة عشرة: تقديم الأهم ملاكا على المهم وان لم يكن الأهم الزاميا... 432

المسألة الثامنة عشرة: الغاية تبرر الوسيلة... 434

المسألة التاسعة عشرة: اجتماع وجوبين على موضوع واحد... 435

المسألة العشرون: عدم استحالة الفرد المردد... 436

المسألة الحادية والعشرون: حجية العلم ليست ذاتية....... 436

المسألة الثانية والعشرون: الموضوع التقديري للأحكام... 438

المسألة الثالثة والعشرون: الواجبات النظامية..... 440

ص: 786

المسألة الرابعة والعشرون: الترجيح بالسبق الى العمل..... 442

الأصول العملية.... 444

اصل البراءة الشرعية... 444

المسألة الأولى: جريان البراءة في الاحكام الوضعية...... 445

المسألة الثانية: البراءة عن جوب إصابة عمود الجمرة في الحج.... 460

المسألة الثالثة: اجراء الأصول في الألفاظ...... 461

أصالة الاحتياط.... 464

المسألة الأولى: اكتفاء الشارع بالموافقة الاحتمالية للعلم الإجمالي...... 465

المسألة الثانية: العلم الإجمالي في التدريجيات..... 466

المسألة الثالثة: انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الصغير... 468

المسألة الرابعة: العلم الإجمالي بعد امتثال احد أطرافه... 469

المسألة الخامسة: انقلاب الأصل..... 469

المسألة السادسة: الدوران بين التعيين والتخيير العقلي..... 471

المسألة السابعة: الدوران بين التعيين والتخيير الشرعي.... 472

المسألة الثامنة: الاحتمال المنجز للاحتياط..... 478

المسألة التاسعة: لا علم اجمالي بين تكليف الشخص وتكليف غيره.... 479

الاستصحاب...... 481

المسألة الأولى: ادلة حجية الاستصحاب....... 482

المسألة الثانية: وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة... 482

المسألة الثالثة: الأثر الشرعي للمستصحَب...... 483

المسألة الرابعة: الاستصحاب التعليقي..... 484

المسألة الخامسة: استصحاب الاحكام الكلية... 488

الأصول العملية الجارية في المقام.... 489

ص: 787

المسألة السادسة: استصحاب الكلي من القسم الثالث.... 491

المسألة السابعة: الاستصحاب في التدريجيات...... 491

المسألة الثامنة: استصحاب العدم الازلي....... 493

المسألة التاسعة: الشك السببي والمسببي... 496

المسألة العاشرة: استصحاب مجهولي التاريخ....... 498

المسألة الحادية عشرة: الاستصحاب في الموضوع المشتبه مفهوما...... 499

المسألة الثانية عشرة: الأصل المثبت....... 501

المسألة الثالثة عشرة: الاستصحاب في مبادئ الحكم.... 501

المسألة الرابعة عشرة: الاستصحاب القهقرائي....... 503

التعارض....... 506

المسألة الأولى: تقنين الاحكام... 507

المسألة الثانية: الاحكام الدستورية.... 509

المسألة الثالثة: عدم التفريط بروايات اهل البيت (علیهم السلام)..... 511

التعارض غير المستقر....... 513

المسألة الأولى: دليل حجية الجمع العرفي...... 514

المسألة الثانية: الجمع الاستنباطي..... 516

المسألة الثالثة: المرجح المساوي..... 518

المسألة الرابعة: تقديم المرجح المساوي على مرجحات باب التعارض...... 525

المسألة الخامسة: تعارض الشرطيتين بالعموم من وجه.... 525

المسألة السادسة: الجمع أولى من الطرح....... 529

المسألة السابعة: حمل الظاهر على النص....... 530

المسألة الثامنة: الحكومة.... 531

المسألة التاسعة: تقدم المانع على المقتضي.... 533

ص: 788

المسألة العاشرة: تعارض المطلقين في إطلاقهما.... 534

المسألة الحادية عشرة: انقلاب النسبة...... 535

المسألة الثانية عشرة: المدار في التقييد والتخصيص على الظهور....... 541

التعارض المستقر....... 543

المسألة الأولى: التعارض فرع الحجية..... 544

المسألة الثانية: الشهرة المرجحة...... 545

المسألة الثالثة: مدخلية الشهرة الفتوائية في الترجيح...... 546

المسألة الرابعة: الترجيح بين الأكثر والأقل..... 547

المسألة الخامسة: موافقة الكتاب الكريم....... 548

الترجيح بموافقة الكتاب.... 550

المسألة السادسة: تقدم الترجيح بموافقة لكتاب على باقي المرجحات....... 553

المسألة السابعة: الجمع بين الروايات المختلفة في التحديدات..... 553

المسألة الثامنة: الرجوع للعموم الفوقاني... 559

المسألة التاسعة: الترجيح لخبر الامام المتأخر زمانًا....... 561

المسألة العاشرة: تعارض الدليلين المثبتين...... 563

المسألة الحادية عشرة: تقدم أصالة الجهة على أصالة الظهور....... 568

خاتمة في القواعد الفقهية... 569

القاعدة الاولى: الاحتياط في الفروج في الجملة..... 570

أصالة الاحتياط في الفروج في الجملة..... 570

القاعدة الثانية: الولد للفراش..... 582

قاعدة الولد للفراش.... 582

القاعدة الثالثة: ملكية الإنسان لأعضائه..... 598

حكم قطع أعضاء الإنسان....... 605

ص: 789

القاعدة الرابعة: عدم اشتراط المالية في المبيع....... 643

« مناقشة قاعدة لا بيع الا في ملك »..... 646

« بيع الميتة »..... 650

« بيع الأعيان النجسة »..... 656

« بيع المني والبويضة ».... 658

القاعدة الخامسة: ضمان الطبيب وذوي المهن...... 662

القاعدة السادسة: اخذ العوض على الواجبات....... 695

المقام الأول: الارتزاق...... 697

المقام الثاني: الإجارة....... 704

الاستدلال على عدم الجواز:.... 709

(الصنف الأول) الموانع الذاتية... 715

(الصنف الثاني) الموانع العرضية...... 731

(الثالث) أخذ الأجرة على الواجبات النظامية:....... 760

نتيجة البحث وخلاصة الاستدلال على الجواز....... 770

القاعدة السابعة: قاعدة تقديم الأيسر....... 773

قاعدة تقديم الأيسر.... 773

الفهرس....... 779

ص: 790

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.