ظاهرة تدجين الشعوب

هویة الکتاب

ظاهرة تدجين الشعوب

بيان لأهم أسباب وعلاجات هذه الظاهرة في المجتمع العراقي

وفق مدرسة الثقلين ورؤى المرجع اليعقوبي (دام ظله) والشواهد التأريخية

بقلم

الشيخ فيصل التميمي

من إصدارات جامعة الصدر الدينية فرع كربلاء المقدسة

ص: 1

اشارة

ص: 2

من عادةِ الناسِ للأصنامِ تعبدُها

مِن خسّةِ الناسِ لا من رفعةِ الصنمِ

شيخ الخطباء

الشيخ محمد علي اليعقوبي

(رحمه الله تعالى)

ص: 3

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الكتاب

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم, والحمد لله كما هو أهله, وأفضل الصلاة وأتم السلام على خير خلقه محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

يتكفل هذا الكتاب بدراسة ظاهرة اجتماعية خطيرة ألا وهي ظاهرة التدجين والخنوع والقبول بحالة الاستسلام للقوى الظالمة المستبدة، وخصوصاً في المجالين الديني والسياسي، كما يتعرض لأهم أسباب هذه الظاهرة ومناشئها الفكرية والاجتماعية والتربوية والسياسية والنفسية، سواء في أوساط المجتمع العراقي أو في غيره من المجتمعات الأخرى.

ويضم الكتاب بين طياته عرضاً لبعض الحلول والعلاجات التي من شأنها تخليص المجتمع من براثن هذه الظاهرة المرضية الفتاكة، مستنيراً بهدي المدرسة القرآنية والسنة الشريفة للنبي الأعظم وأهل بيته الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

كما استفدنا بشكل رئيسي في هذا الكتاب من فِكر المرجع اليعقوبي (دام ظله) حيث استشهدنا بالكثير من خطاباته وكلماته المباركة، التي تناول فيها هذه الظاهرة من قريب أو من بعيد، للحيلولة دون إصابة المجتمعات بهذا الداء الاجتماعي

ص: 5

الوبيل،ومن دواعي اهتمامه (دام ظله) بعلاج هذه الظاهرة إنه دعا الكتّاب والمفكرين والباحثين للتأليف والكتابة بالتفصيل في هذه الظاهرة، وبيان أسبابها وعلاجها، في أكثر من مناسبة حيث قال(دام ظله): (إنني أدعو العلماء والمفكرين والمثقفين والكتّاب إلى تفعيل الدراسات الاجتماعية والنظر فيها بعمق والاستفادة منها لنرقى بمستوى أمتنا حتى تكون مستعدة لاحتضان دولة الإمام الموعود (علیه السلام) وقيادته المباركة التي تنطلق من هذه الأرض المعطاء، ويجب أن تكون هذه الدراسات صريحة وشفافة ومخلصة لنتمكن من التأسيس عليها وسنجد حينئذٍ أن كثيراً من المظاهر التي تعد إيجابية هي سلبية وبالعكس [وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ]).(1)

وقد أقدمنا مع قلة الشأن وضعف الهمة على هذه الخطوة بما يجود به قلمنا القاصر وفهمنا المحدود، في كتابة هذه الوريقات المتواضعة تلبية لنداء المرجعية الرشيدة الشاهدة، وهذا الدعوة من مرجعيتنا المباركة في الخروج من ذل التدجين والاذلال هي ليست دعوة للتقاتل أو التمرد ونشر الفوضى بل هي صرخة لتحريك الوعي ولإحداث التغيير في الواقع الفاسد، ولأجل الخروج من هذه حالة المزرية التي أصابت الشعب، باستخدام الحكمة والتعقل وبالرجوع إلى العلماء المخلصين والحكماء الواعين من وجهاء المجتمع.

وسنحاول في هذه الدراسة أن نكون حياديين وموضوعيين وأن لا ننظر إلى الأمور بعين واحدة، لكي لا نظلم أحداً في تشخيصنا للأسباب أو تحديد النتائج التي أدت بالمجتمع العراقي للإصابة بهذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة، سألين الله تعالى

ص: 6


1- - ينظر خطاب المرحلة،ج6، صفحة 95 وصفحة 275.

أنيوفق الجميع وأيانا لما فيه الخير والصلاح، ويغفر لنا الهفوات والزلات إنه هو الغفور الرحيم.

فيصل التميمي

كربلاء المقدسة

25 ذ.ج 1437

ص: 7

ص: 8

تعريف مصطلح التدجين

من الضروري بيان التعريف اللغوي والاصطلاحي لمصطلح (التدجين) لكي يكون القاريء الكريم على بينة من المعنى المراد منه في هذا الكتاب.

يُعرف مصطلح التَدجين لغةً: بأنه (اسم) مصدر دَجَّنَ، وتَدْجِينِ الحَيَوَانَاتِ، أي القيام بتَلْيِينِ طَبَائِعِهَا وَتطْوِيعِهَا وإِخْضَاعِهَا، وجَعَلَهَا ألِيفَةً دَاجِنَةً وخَاضِعَةً ومروضة.

أما المراد من مصطلح (التدجين) في هذا الكتاب: فهو مصطلح يشير إلى سياسة التخويف والاستضعاف التي تمارسها جهات معينة، سواء أكانت جهات حكومية سلطوي أو جهات دينية أو غير ذلك، ضد المجتمع ككل أو ضد فئة معينة منه لأجل تركيعه وإذلاله ونهب خيراته، فتجعل المجتمع حينئذ طيع ومستسلم وغير معترض على الظلم الذي يقع عليه، وإن لم يرضَ به المجتمع في داخل، ويتم للحكومات الظالمة تحقيق هذه الأهداف الشيطانية من خلال وسائل عدة سنتعرض لها إن شاء الله تعالى، كما إنّ (الفرق بين المستضعف والضعيف واضح وجلي، فالضعيف هو من كان معدوم القدرة والقوّة، والمستضعف هو من أصابه الضعف بسبب ظلم وجور الآخرين، سواء كان الإِستضعاف فكرياً أم ثقافياً أم كان أخلاقياً أو اقتصادياً أم سياسياً أم إجتماعياً، فالعبارة هنا جامعة شاملة تستوعب جميع أنواع الإِستضعاف).

ص: 9

أنواع التدجين

توجد عدة أنواع من التدجين استعملت ضد المجتمع، وفي ميادين مختلفة، وقد ينبع التدجين والخوف من داخل النفس الإنسانية بسبب عوامل وظروف قاسية تجعل الإنسان عرضة لها، فضلاً عن الأسباب الخارجية التي تحيط بالإنسان وتؤثر على سلوكه وحياته بشكل عام، ونحن سنُبين هذه الأنواع كالآتي:

1. التدجين الديني: وهو التدجين الذي يمارسه علماء السوء باسم الدين، الذي تلفع به قساوسة القداسة المزيفة، فضحكوا وعلى مر العصور على ذقون الناس وراحوا يستعبدونهم ويجعلونهم مطية لشهواتهم وأنانياتهم ومصالحهم الشخصية، وقد يُعبّر عنهم أحياناً ب-(وعاظ السلاطين) أو (حاشية بلاط السلطة)، وهؤلاء يمثلون الظاهرة المنحرفة التي أطلق عليهم المفكر الاسلامي السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في كتابه المجتمع الفرعوني ب-(الرهبانية الجادة) و(الرهبانية المزيفة) ولهؤلاء شواهد عديدة نذكر منهم على سبيل المثال علماء السوء في البلاد الإسلامية زمن الدولة الأموية والدولة العباسية ورجال الكنيسة أيام العصور المظلمة في أوربا وصولاً إلى أروقة الحوزة الانتفاعية في الزمن الحاضر، ولهذه المؤسسة الدينية الفاسدة عدة نشاطات سيئة تجاه المجتمع سنتعرض لها بشكل مفصّل ومستقل في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، نظراً لشدة خطرها على الأمة، ولأنها تشكل السبب الرئيس والأول في تدجين الناس وعبوديتهم.

2. التدجين السلطوي: وهو الذي يمارسه الحكًام تجاه شعوبهم بتطبيق الأنظمة الدكتاتورية التي تسلب الناس حريتهم وتقهر ارادتهم ضمن إطار الاذلال

ص: 10

والاستضعاف وتركيع إرادة الشعوب، لأجل خدمة مصالح الحاكم وحاشيته وحزبه.

3. التدجين الفكري: وهو من نتائج الفهم الخاطئ لبعض الأفكار والمعتقدات سواء أكانت دينية أو غير دينية كعدم وعي المفاهيم الإسلامية والنصوص الدينية الواردة في الكتاب العزير أو على لسان المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم) كالتي تدعو إلى ممارسة أسلوب التقية مع الظلمة وعدم إظهار المعتقد الحقيقي الذي يتبناه الفرد أمامهم للأمن من شرهم وبطشهم، أو الفهم الخاطئ لمفهوم الانتظار للإمام المهدي(علیه السلام) في زمن غيبته المباركة الذي ترجمه البعض بشكل سلبي ففهمه البعض على أن هذه النصوص تحث على الانكماش والعزلة عن الناس وتعطيل فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة للصبر والتسليم بما يفعله الظلمة انتظاراً للفرج الذي سيحققه الامام المهدي (علیه السلام) عند خروجه. كما وينتج التدجين الفكري أيضاً من جهة أخرى بسبب مطالعة النصوص الدينية المكذوبة على المعصومين (عليهم السلام) كالأحاديث المنسوبة زوراً للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي تناقلتها كتب أبناء العامة، وهذه الروايات المكذوبة هي من صنيعة حكّام الجور الذين وضّفوا الأقلام المأجورة من علماء السوء لتسطير هذه المنظومة الفكرية الخاطئة، وترسيخها في عقول الناس، وهذا الإسلوب يطلق عليه أسلوب التجهيل، وبهذا يكون التجهيل مقدمة لتدجين الأمة ومن هنا نتعرف على أهمية العلم وضرورة تسلح أبناء الأمة بنور الوعي والمعرفة، فالأمة الجاهلة يعتاش على خيراتها وثرواتها الانتهازيون وأصحاب المطامع والنفوس الضالة، وهناك لوناً آخر من التدجين الفكري وهو التدجين الفكري على أساس مذهبي أو قومي أو عِرقي فالأنظمة الغربية المعادية للإسلام وللعرب تريد أن تُصدر لنا منظومة فكرية خاطئة

ص: 11

(الأكراد والعرب)، (المسلمين وغيرهم)، (الدول المتقدمة والدول النامية) نحن العرب أغبياء وليس لنا حضارة ولن تقوم لنا قائمة، وأن والابداع وعالم الاختراعات هو بيد الغرب وعلمائهم وكل ما لدينا هو عيال عليهم.

4. التدجين الأسري: ونقصد بها عوامل القسوة التربوية الخاطئة الذي يمارسها بعض أولياء الأمور تجاه أبنائهم، مما سبب في زرع حالة الخوف والروح الانهزامية في نفوسهم، وقتل روح الحماسة والشخصية الثورية الرافضة للظلم والاستبداد.

5. التدجين المدرسي: وينتج بسبب التعامل السيء الذي يمارسه بعض المعلمين مع تلاميذهم، فيسببون لهم عقد نفسية تدعوهم إلى الخجل من ممارسة النشاط الصفي أمام زملائهم، والخوف من مواجهة الجمهور أو من طرح الأسئلة أو الإشكالات العلمية على الاستاذ. ونحوها من مضاعفات سلبية، تؤدي بالنتيجة إلى قتل الابداع في نفوسهم.

6. التدجين الأمني: وهو الذي ينتج بسبب ممارسة الأعمال الإجرامية في المجتمع من قِبل العصابات الارهابية أو غيرها والتي تمارس أساليب العنف المختلفة، من تهجير واغتصاب وقتل فردي وجماعي وبصور بشعة ومروعة، مما يبث في نفوس الناس رعباً شديداً، يجعل بعضهم مشلولين عن المقاومة، ويدعوهم للهرب من هذا الواقع المخيف أو الرضا بحياة الذل والاستسلام والخنوع.

7. التدجين النفسي: ويتضمن الملف النفسي عدة أمراض منوعة في هذا المجال، تدعو الإنسان إلى عدم امتلاك مقومات الشخصية الإنسانية السليمة وفق المعايير الطبيعية، فضلاً عن فقدانه لسمات الشخصية المتميزة والقوية، كعدم التحلي بروح الشجاعة والإقدام على مواجهة المخاطر واقتحام الأهوال

ص: 12

والصعوبات وكمرض الرهاب الاجتماعي وأمراض الفوبيا وعقد الحقارة وفقدان الثقة بالنفس وغيرها من الأمراض والعقد النفسية.1. التدجين الاقتصادي؛ وهو الذي تمارسه الدول الكبرى في العالم لأجل الهيمنة على الدول الضعيفة الأخرى من خلال عدة أساليب منها الجانب الاقتصادي لتجعلها دولاً مستوردة ومحتاجة لها على الدوام، بل وتعرقل عجلة الزراعة والصناعة والتجارة فيها، حتى تبقى هذه الدول النامية -- كما يسمونها هم --- بقرة حلوب تدر عليهم بالأرباح والمكاسب المالية، وهذا ما يجعلها بالتالي تحت هيمنة الضغط الاقتصادي بل والسياسي لتلك الدول المستكبرة ف-(نحن الشعوب العربية شعوب استهلاكية وليس لنا أية مصادر أو نتاجات إبداع لكي نصدرها للعالم، سوى الخيرات التي تنتجها بركات الأرض والذي يقع على رأسها البترول).

2. التدجين السياسي: والذي يُعرف اليوم بثقافة الانبطاح؛ وهي ثقافة تقوم على أساس من الخوف أو المجاملة أو المحابة والطمع والمحسوبيات لأجل الحصول على مكاسب سياسية أو شخصية، ويجمع هذه الثقافة المدجِنة للفكر والقيم الإنسانية مصطلح واحد بحسب المعيار الاسلامي هو مصطلح النفاق (من المؤسف ضعف كثير من المتصدين لقيادة الحركة الإسلامية في البلاد العربية والإسلامية وهزيمتهم داخل نفوسهم إما مجاملة للغرب وكسب ودهم أو لتيسير وصولهم إلى السلطة وعملاً بالبراغماتية التي تتطلبها السياسة من وجهة نظرهم).(1)

10. التدجين الإعلامي: حيث يُعد التلفاز وشبكات الأنترنت وما تحوي من قنوات للتواصل الإجتماعي، بالإضافة إلى الصحف والمجلات والسينما والمسرح وسائر

ص: 13


1- - خطاب المرحلة، ج7، خطاب بعنوان: (عصر انتصار الإسلام وإيمان الشعوب به).

وسائل الدعاية والإعلان، من أخطر الادوات لتلويث أفكار الناس وصياغة عقولهم وفق الرؤية التي تريدها القوى الظالمة في العالم، وللمزيد من المعلومات في هذا المجال يُنظر كتاب (الإعلام قراءة في الإعلام المعاصر والإسلامي، للدكتور محمد منير سعد الدين).

11. التدجين العشائري: ونقصد به بعض النُظم العشائرية الظالمة والقاسية التي تحكم الأفراد ضمن نطاق العشيرة من أعراف وتقاليد وعادات الاجتماعية، التي يخاف الفرد من الخروج عنها خشية الفضيحة أو خشية مصادرة السمعة الطيبة، على الرغم من خطائها ومخالفتها للعقل والدين في بعض الأحيان، فيسعى الفرد لمجاملتها ولو على حساب راحته، والمرأة لها النصيب الأوفر في هذا المجال من المتاعب والصعوبات، قال سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله): (من الآلهة الأخرى الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي يضعها الناس ثم يعطونها قداسة وأهمية بحيث لا يستطيع الفرد الخروج عنها خشية العار والفضيحة والضغط الاجتماعي ونحوها).(1)

12. التدجين الشيطاني: إن الشيطان يريد أن يستعبِد الإنسان بكل ما أوتي من قوة وهو لا يرضى منه الغواية والمعصية بالقليل من طاعته والسير خلف خطاه، بل دائماً يطمع بالكثير من معصية الله تعالى ومخالفة أوامره، فإبليس كان يطمع بإغواء الأولياء فكيف بحال من هو دونهم، لذا فالشيطان يجند أوليائه وأتباعه لكي يجعل بني آدم في عداد أتباعه خاضعين وطائعين، وضمن حواضر داجنة تخضع لأوامره بتأثير الشهوات والأهواء والميول الدنيوية، وله في هذا الباب أساليب وطرق عدة، تعرض القرآن الكريم لذكرها، قال تعالى:

ص: 14


1- - خطاب المرحلة،ج6، ص346.

أ- (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).(1)

ب- (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا).(2)أ- (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ).(3)

ب- (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ).(4)

ت- (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً).(5)

ووِفقاً لما مرّ من بيان لأنواع التدجين الذي يتعرض له البعض في ميادين الحياة المختلفة، فإن القاسم المشترك لهذه الأنواع المختلفة هو الاتصاف بالتكبّر والتجبر وروح التعالي على الأخرين، بسبب ما يراه الإنسان من الغنى عنهم، ويذكر المرجع اليعقوبي (دام ظله) تطبيقات لملازمة الغنى والاستغناء مع ظاهرة التعالي والتكبر

ص: 15


1- - آل عمران/ 175.
2- - الاسراء/ 62.
3- - يس /61.
4- - الاعراف/ 17.
5- - الإسراء / 62.

على الآخرين، انطلاقاً من قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى }(1) حيث يقول: (إنّ هذه المتلازمة المنافية لمنطق العقل تتجلى في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً، ولنبدأ من داخل الأسرة حيث يغترّ الرجل بسلطته وقيمومته فيطغى ويظلم أهل بيته وكم رأينا من رجال لما صار بأيديهم مال أهملوا أهلهم وتوجهوا إلی الله و والمتعة أو الوقوع في أسر الشهوات الجنسية أو عدم مراعاة مشاعر زوجته ونحو ذلك فيخرّببيته بيده. والمرأة تعتدّ بنفسها لجمالها أو لأنها من الأسرة الفلانية أو لأن لها مرتباً شهرياً جيداً أو لشهادتها الراقية ونحو ذلك فتشعر بالاستغناء عن الرجل وتطغى وتتمرد وتتعالى وتقصّر في واجباتها فتنهدم أواصر العلاقة الزوجية. ومن الأمثلة على ذلك طغيان بعض حملة العلم واستعلاؤهم وترفعهم عن الآخرين ورفضهم النصح والتذكير واستهزاؤهم بمن يقوم بذلك، وفرض وضع خاص للتعامل معهم كعدم الرضا الا بتقبيل اليد وإظهار التبجيل والتعظيم لهم ونحو ذلك. أما طغيان الزعامات ومن بيدهم شيء من السلطة فقد ملأ التاريخ بمصائبه وكوارثه، وكذا الزعامات الاجتماعية كبعض رؤساء العشائر والمتنفذين وأمثالهم).(2)

ص: 16


1- - العلق/ 6 -- 7.
2- - خطاب المرحلة، خطاب بعنوان: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).

بنو اسرائيل والاستضعاف الفرعوني

(رؤية قرآنية)

تعاقبت الأنظمة الفرعونية بتسلطها على رقاب بني إسرائيل مدة زمنية طويلة ذاقوا فيها أقسى أنواع الذل والهوان ومختلف ألوان الاستضعاف والظلم، وقد تطرّق القرآن الكريم لذلك في عدة آيات شريفة، منها قوله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(1)، (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)(2)، (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ). (3)

وبعد هذه الحقبة من البلاء والتمحيص أراد الله تعالى أن ينجيهم من هذا الاستعباد والتدجين الفرعوني فأرسل أنبيائه الكرام وفي طليعتهم نبيه الكليم موسى وأخيه هارون (عليهما السلام) لكي ينقذهم من الجهالة وحيرة الظلالة، ويحرّرهم من هذا الظلم المطبِق ببراثنه على أنفاسهم، وبالفعل فقد تم ذلك، حيث أهلك الله تعالى على يد نبيه الكليم موسى (علیه السلام) طاغية عصره (فرعون) الذي أهلك الحرث والنسل فأغرقه الله تعالى في البحر هو وجنوده ومراكبه، قال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ).(4)

لكن المشكلة لم تكمن في شخص الحاكم الظالم فحسب، بل في المجتمع المحكوم أيضاً، فبعدما تعايش المجتمع الإسرائيلي ولعدة أجيال متعاقبة حالات

ص: 17


1- - القصص / 4.
2- - البقرة /49.
3- - الشعراء / 22.
4- - القصص/ 40.

الذل والتدجين والاستعباد الفرعوني ألِف هذه الحالة وترسخت في نفسه، وانطبعت معالم الاستسلام للظلم في محيى هذا المجتمع بشكل كبير وأصبحوا أسارى العبودية والانقياد السلبي، فأصبح من الصعب اقتلاع جذور هذه الأمراض الإجتماعية والنفسية، وتطهيره منها بسهولة، إلا بعد مرور مدة من الزمن وانقراض هذا الجيل المصاب بهذه الأدواء الوبيلة، ف-(الاُمّة التي تتحرر بعد عصر من الذّل والاستضعاف والاستعباد، لا تستطيع أن تتخلى تماماً عن حالتها النفسية والثقافية الموروثة عن عصر الطاغوت، ولابدّ من فترة برزخية تمر بها كي تكون قادرة على إقامة حكم الله في الأرض، وفق معايير إلهية بعيدة عن مؤثرات عصر الطاغوت، وسواء امتدت هذه الفترة البرزخية أربعين عاماً كما حدث لبني إسرائيل، أو أقل أو أكثر، فهي فترة عقاب إلهي هدفها التزكية والإِصلاح والبناء لأنّ مجازاة الله ليست لها جنبة انتقامية، ولابدّ أن يبقى بنو اسرائيل فترة أربعين عاماً من (التيه) في الصحراء ليتربّى جيل جديد حامل لصفات توحيدية ثورية، ومؤهل لإقامة الحكم الإِلهي في الأرض المقدسة).(1)و(إن أسوأ ما ينتجه حكم الطواغيت والمتجبرين هو تحطيم الإنسان وسحق كرامته وتدمير القيم الصالحة في المجتمع، فالتغيير في السلطة لابد أن تستهدف إعادة كرامة الإنسان وبناء المجتمع الصالح والحكم العادل، ليشعر الناس بالتغيير فعلاً، وأن الظلم قد زال وحلّ العدلُ محلّه، أما مجرد تغيير الظالم والاتيان بآخر فلا قيمة له).(2)لذا فإن الأنبياء والعلماء يسعون دائماً إلى تغيير الظلم إلى العدل والإنصاف والمساواة وحرية وكرامة الإنسان، لا تغيير الظلم فحسب.(3)

ص: 18


1- - تفسير ألأمثل،ج1، ص232.
2- - خطاب المرحلة بعنوان: (ليكن هدفكم بناء الانسان الصالح والدولة الكريمة).
3- - يُنظر خطابات المرحلة، ج5، خطاب بعنوان: (حوارات سياسية في الذكرى الخامسة لسقوط صدام المقبور).

ومن ارهاصات هذه الإمراض التي تتولد من اضطهاد المتسلطين هو الخوف من بطش الظلمة والاتصاف بالروح الانهزامية والاتكالية والميل إلى عبادة الآلهة المصطنعة والذوات المتجبرة وغيرها من المضاعفات السيئة، وسنعطي بعض الشواهد القرآنية التي تكشف حقيقة إصابة بني إسرائيل بهذه الأمراض الاجتماعية والنفسية، وهي:

أولاً/ الرغبة في عبادة الآلهة المصطنعة:

بعدما هلك فرعون وخرج بنو إسرائيل من البحر ، رأوا مجموعة من الناس يسجدون لأصنام لهم, فطلبوا من النبي موسى(علیه السلام) أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه، كحال هؤلاء القوم، قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(1)، فلاحِظ سخافة هذا الطلب، وهم للتو رأوا الآيات الكبرى بنجاتهم وانفلاق البحر كالطود العظيم، وإغراق من يدعي أنه الرب الأعلى، لكنهم لم يعيروا لكل ذلك أي اهتمام ولم يؤثر في نفوسهم، بل تجاوزوا على الساحة الإلهية وصادروا اتعاب نبيهم الكليم (علیه السلام) بتفوههم بهذه الترهات الفارغة ولما تجف أقدامهم من ماء البحر بعد، وهذا الطلب الأحمق منهم يرجع - في حدود ما نفهم - إلى ثلاثة أسباب رئيسة، وهي:

السبب الأول: قلة الإيمان بالله الواحد الذي وضعف معتقدهم بالغيب والاذعان لربوبية الله تعالى،

السبب الثاني: نزعة التدجين والاذلال وحب العبودية التي تجذرت في نفوسهم جراء طول المدة التي عايشوا فيها الانظمة الفرعونية المستبدة، فأرادوا إلهاً محسوساً ومادياً يسجدون له ويبدون له الخضوع والذل.

ص: 19


1- - الأعراف/ 138.

السبب الثالث: الجهل، وهذا هو السبب الذي ذكره النبي موسى (علیه السلام) رداً على طلبهم‘ عندما أرادوا إلهاً مصطنعاً (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).(1) ولعل هذا السبب يرجع أيضاً للخلفية الثقافية والفكرية التي ورثها بنو اسرائيل من مخلفات سياسة التجهيل الفرعوني، وهذه الأسباب مجتمعة شكلت عائقاً كبيراً أمام الاصلاحات التي بادر إليها النبي موسى (علیه السلام) في المجتمع الإسرائيلي واتعباه أيما تعب، وتوجد شواهد قرآنية عديدة تبين ذلك.

ثانياً/ عبادة العجل واتباع القيادة المزيفة:

والمشهد القرآني الثاني الذي نستعرضه في هذا الباب هو عبادة بني إسرائيل للعجل واتباع القيادة المفسدة وهو (السامري) واستضعاف القيادة النائبة المُصلحة وهو (النبي هارون(علیه السلام))، قال تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)(2)

وخلاصة القصة (إن موسى(علیه السلام) بعد نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة اُمر بالذهاب إلى جبل الطور مدة ثلاثين ليلة لتسلم ألواح التوراة، ثم مُدّت هذه الليالي إلى أربعين ليلة من أجل اختبار قومه. واستغل السامريّ الدّجال هذه الفرصة، فجمع ما كان لدى بني إسرائيل من ذهب الفراعنة ومجوهراتهم، وصنع منها عجلاً له صوت خاص، ودعا بني إسرائيل لعبادته. فأتبعه أكثر بني إسرائيل، وبقي هارون(علیه السلام) أخو موسى(علیه السلام) وخليفته مع أقلية من القوم على دين التوحيد، وحاول هؤلاء الموحّدون الوقوف بوجه هذا الإِنحراف فلم يفلحوا، وأوشك المنحرفون أن يقضوا على حياة هارون (علیه السلام) أيضاً).(3) وفي هذا المشهد المؤلم عدة عظات وعِبر نقف عندها، تؤكد في مجملها

ص: 20


1- - الأعراف/ 138.
2- - البقرة/ 92.
3- - تفسير ألأمثل،ج1، ص 226.

النظرة التحليلية التي تطرقنها لها آنفاً حول تركيبة العقلية الفكرية والبنى الاجتماعية والتربوية لبني إسرائيل، منها؛ إن بني إسرائيل الذين كانوا فيما سبق مُستضعَفين، أصبحوا بعد استنشاق نسيم الحرية وهلاك الظلمة يكفرون بعقيدة التوحيد ويستضعِفون القيادة النائبة الصالحة (هارون) ويركعون للآلهة المزيفة (العجل الذهبي) وينخدعوا بالقيادات الكاذبة (السامري)، وهذه الجرائم منشؤها وأسبابها هو ما ذكرناه أنفاً بالإضافة إلى أسباب أخرى:

* انعدام الإيمان بالله سبحانه، قال تعالى: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).(1)

* الجهل، قال تعالى: (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(2). لذا انطلت عليهم حيل السامري وانخدعوا بالقداسة المزيفة له ولإلهه المزعوم.

* التأثر بالتدجين الفرعوني الذي عبّد بني إسرائيل، قال تعالى: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)(3)

* عدم الثقة بالقيادة النائبة الصالحة.

* حُب الدنيا والميل إلى بريقها الأخاذ، والتعلق بالماديات، لذا فضّلوا السجود للذهب الذي صاغوه بأيديهم عجلاً بدلاً من السجود لله الواحد المتعال، الذي أراهم آياته الواضحة والباهرة على يد نبيه المخلص موسى (علیه السلام).

ص: 21


1- - البقرة/ 93.
2- - الأعراف/ 138.
3- - الشعراء / 22.

ثالثاً/ الامتناع من دخول الأرض المقدسة والخوف من الظلمة:

على الرغم من مرور عدة أعوام على مجيء المخلص الإلهي وهو النبي موسى (علیه السلام) وهلاك الطاغية فرعون وزمرته الظالمة، بقيت آثار التدجين الفرعوني مستمكنة من قلوب مجتمع بني إسرائيل ومتجذرة في نفوسهم، وقد ظهر ذلك جلياً بتمنعهم من دخول الأرض المقدسة (فلسطين) التي أمرهم الله تعالى بالذهاب إليها، خوفاً من القوم الجبارين الساكنين فيها وهم العمالقة، قال تعالى: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ )(1) لكن هؤلاء عصوا هذا الأمر، وأصروا على عدم الذهاب مادام فيها قوم جبارين (العمالقة)، (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ)(2) ، وأكثر من ذلك تركوا أمر مواجهة هؤلاء الظالمين لموسى (علیه السلام) وحده قائلين له: (فَاذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ) تألم موسى لهذا الموقف ودعا ربه (قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْس-ِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فكتب الله تعالى عليهم التيه أربعين عاماً في صحراء سيناء،(3)عقوبة لهم وبعد مرور هذه المدة التي انقرض فيها هذا الجيل الذي لا يستحق دخول هذه الأرض المقدسة، جاء أحفادهم الذين أُهلوا لدخولها، فدخلوا الأرض المقدسة.

وهذا التيه في الصحراء (تيه مكاني) كان نتيجة طبيعية لتيه سبقه وانتجه، وهو التيه والانحراف عن طاعة القيادة الحقة، قال المرجع اليعقوبي مبيناً سبباً من أسباب تيه الأمة: (قد يشتبه على الأمة أمرها وتختلط عليها الأوراق فتضع

ص: 22


1- - المائدة /21
2- - المائدة/ 22.
3- - ينظر تفسير ألأمثل،ج1، ص231,

التصرف في مورده غيرالمناسب وهذا ما يحصل باستمرار عندما تبتعد الأمة عن قيادتها الحقيقية فتتيه في أودية الفتن).

رابعاً/ استضعاف القيادة النائبة المتمثلة بالنبي هارون (علیه السلام):

إن المجتمع الذي تربى ولسنوات عديدة تحت مطرقة النظام الديكتاتوري الفرعوني المملوء بأساليب الاستعباد والتدجين والابتزاز والاذلال وامتصاص خيرات الآخرين ونهب ثرواتهم، ولا يعرف للقيمة الانسانية أي معنى، بل يدعي فيه الحاكم أنه الرب الأعلى للكون ويلهث وراء مصالحه الشخصية، فمن الطبيعي أن يكتسب هذا الشعب المستضعف بعض هذه المميزات والخصائص السيئة بشكل مباشر أو غير مباشر ، ويتأثر بهذه الخصال، فالناس على دين ملوكهم كما يقولون، فكما إن المجتمع يكون مستضعَفاً من قِبل القوي الظالم فهو من جهة أخرى وتطبيقاً لهذه التربية الفاسدة يستضعِف بعضهم بعضاً.

وظاهرة الاستضعاف التي ورثها المجتمع الإسرائيلي من الانظمة الفرعونية الظالمة تعامل بها مع قادته المصلحين، حيث نقل لنا القرآن الكريم مجريات الاحداث التأريخية التي حصلت للنبي هارون (علیه السلام) والتي ذكرناها قبل قليل، وهي عندما غاب عنهم النبي موسى (علیه السلام)أربعين يوماً بسبب ذهابه إلى ميقات ربه، عَمَد السامري خلالها إلى إضلال بني إسرائيل، وهذه الواقعة التاريخية تشابه وتحاكي حادثتين وقعتا في الأمة الإسلامية:

الواقعة الأولى/ بعد رحيل النبي القائد (صلى الله عليه وآله) حيث عَمَد أقطاب السقيفة الى مؤامرة الانقلاب على البيت النبوي الطاهر واعتدوا على حرمته وغصبوا حق الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام) في الخلافة وكادوا أن يقتلوه، وانتهكوا حرمة بيت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهذه الحادثة

ص: 23

تكشف انعكاسات النفسية التربوية والاجتماعية لبعض من دخل الإسلام ظاهراً، فالقوم كانوا في عهد الجاهلية مُستضعَفين كما بينت ذلك السيدة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها المباركة حيث بينت حالهم في حقبة ما قبل الإسلام، قائلة: (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّار مُذْقَةَ الشّارِبِ وَنُهْزَةَ الطّامِعِ وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ وَمَوْطِىءَ الأَقْدام، تَشْرَبُونَ الطَّرَقَ وَتَقْتاتُونَ القَدَّ أَذِلّةً خاسِئيِنَ، تَخافُونَ أنْ يتخطّفكُمُ النّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَانْقَذَكُمُ الله بِأبي مُحَمَّدٍ بَعْدَ اللتَيّا وَالتي)(1) وبعد مجيء الإسلام على يدي النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) أصبحوا ملوك الحجاز وانعطفت عليهم الدنيا بعد شماسها لكنهم ما إن رحل عنهم النبي القائد (صلى الله عليه وآله) حتى مارسوا أسلوب الاستضعاف الذي اكتسبوه إيام الجاهلية مع أهل بيته وشيعتهم طلباً للرئاسة والحكم واستجابة لعبودية الذات والنفس الأمارة بالسوء.

وهذا المشهد المؤلم يترجمه الحديث النبوي الشريف الوارد في حق الامام علي (علیه السلام): (أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى)(2) وفيما نفهمه من هذا الحديث، إن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) شبهه الامام علي(علیه السلام) بالنبي هارون(علیه السلام) لعدة جهات منها؛ من جهة المنزلة الرفيعة ومن جهة الشراكة في مهام الرسالة الإلهية ومن جهة الوصاية والخلافة من بعده ومن جهة إن ما جرى على النبي هارون (علیه السلام) سيجري على أمير المؤمنين (علیه السلام) بعد رحيله (صلى الله عليه وآله) لذا قال الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) عندما اخرجه القوم من بيته مقيداً وهو

ص: 24


1- - الزّهَراء فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) تأليف عبد الزهراء عثمان محمد. ص 184.
2- - بحار الأنوار ،ج5 ،ص 69.

ينظر إلى قبر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) شاكياً حاله له: (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي).(1)

وجاء في الخبر المنقول عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) الرواية الأتية التي تؤكد أيضاً مشابهة أفعال حزب السقيفة للضالين من بني اسرائيل، حيث قال (علیه السلام): كنت أمشي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بعض طرق المدينة، فأتينا على حديقة فقلت: يا رسول الله ما أحسنها من حديقة ؟ قال (صلى الله عليه وآله): ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها، ثم أتينا على حديقة اخرى فقلت: يا رسول الله ما أحسنها من حديقة؟ قال: ما أحسنها ولك في الجنة أحسن منها، حتى أتينا على سبع حدائق أقول يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أحسنها؟ ويقول: لك في الجنة أحسن منها. فلما خلاله الطريق اعتنقني ثم أجهش باكياً، وقال: بأبي الوحيد الشهيد، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك ؟ فقال ضغاين في صدور أقوام لا يبدونها لك إلا من بعدي أحقاد بدر وترات أحد، قلت: في سلامة من ديني؟ قال في سلامة من دينك، فأبشر يا على فان حياتك وموتك معي، وأنت أخي وأنت ووصيي وأنت صفيي ووزيري ووارثي والمؤدي عني وأنت تقضي ديني وتنجز عداتي عني، وأنت تبرئ ذمتي وتؤدى أمانتي، وتقاتل على سنتي الناكثين من امتي والقاسطين والمارقين، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ولك بهارون أسوة حسنة إذ استضعفه قومه وكادوا يقتلونه، فاصبر لظلم قريش إياك، وتظاهرهم عليك، فانك بمنزلة هارون من موسى ومن تبعه، وهم بمنزلة العجل ومن تبعه، وإن موسى أمر هارون حين استخلفه عليهم إن ضلوا فوجد أعوانا أن يجاهدهم بهم، وإن لم يجد أعوانا أن يكف يده ويحقن دمه، ولا يفرق بينهم. يا على ما بعث الله رسولا إلا وأسلم معه قومه طوعا وقوم آخرون كرها فسلط الله الذين أسلموا كرها على الذين أسلموا

ص: 25


1- - الأعراف /150.

طوعا، فقتلوهم، ليكون أعظم لأجورهم، يا على إنه ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها، وإن الله قضى الفرقةوالاختلاف على هذه الامة، وساق الخبر إلى قوله وصبرا على بلائه وتسليما ورضا بقضائه) (1).

الواقعة الثانية/ ما جرى للقيادة الدينية الصالحة زمن الطاغية صدام وما بعد سقوطه حيث عمدت بعض الجهات الدينية والسياسية والتي كانت مستضعفة أبان النظام الديكتاتوري البعثي إلى استضعاف المرجعية الناطقة التي تمثلت بالسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وبالخلف من بعده وهو المرجع اليعقوبي (دام ظله) الذي تكالب على تسقيطه وتحجيم دوره والقضاء على مشروعه الرسالي عدة جهات، حتى ممن ادعى الانتساب إلى خط أستاذه الصدر الشهيد (قدس سره)، فضلاً عما سواهم من الجهات الأخرى لأنهم حسب فهمهم يرون فيه منافساً لسلطانهم ورقماً صعباً يزاحمهم على منصب المرجعية والقيادة الدينية في الساحة العراقية والإقليمية.

وبنظرة واحدة واعية نجمع فيها كلا الحادثتين نفهم إن الأحداث التاريخية الجارية في الأمة بل سائر الأمم ماهي إلا سُنن جارية تتكرر عبر الأجيال، فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يكون في هذه الأمة كل ما كان في الأمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة).(2) وهذا ما أشار إليه المرجع اليعقوبي (دام ظله) في حديثه عن حاثة السقيفة باعتبارها ظاهرة وحالة تتكرر على مر الأعوام وليست حادثة تأريخية استثنائية (إن السقيفة مفتوحة كحالة وان انتهت كحدث أي إن النفوس الحالمة بالسلطة والجاه والاستئثار والرئاسة على العباد موجودة في كل زمان ومستعدة لأنها ترتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه الأولون ولا تصغي إلى وصية

ص: 26


1- - بحار الأنوار ،ج28 ، ص54-- 55.
2- - بحار الأنوار، ج25 ،ص135.

القائد الحق فتترتب على مثل هذا التصرف نفس النتائج السيئة التي ترتبت على حادث السقيفة والتي اشرتإلى جملة منها في محاضرة (ماذا خسرت الامة حينما ولت أمرها من لا يستحق) والكلام عبارة عن إلفات نظر لحالة عامة تعيشها الامة كلما ابتعدت عن المنهج الالهي).(1)

ونذكر فيما يأتي بعض المقتطفات من خطاب المرجع اليعقوبي الموسوم ب-(قابلية الشعوب على الاستعباد) الذي حلّل فيه ظاهرة تدجين الشعوب وفق رؤية قرآنية دقيقة سلّط فيها الضوء على مسيرة الظلم الفرعوني وكيفية استعباده لبني إسرائيل، إنطلاقاً من الآية الشريفة: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) حيث قال (دام ظله): (إن فرعون استخف بعقول قومه ووجدهم سلسي القياد طائشين نزقين لا حكمة لهم ولا رشد ولا وعي ولا بصيرة ينعقون مع كل ناعق فمضى في مشروعه الاستكباري والاستعلائي واستعباد الناس وتسييرهم وفق هواه، وهم صدّقوا ظنه فيهم حين أطاعوه ورضوا بحالة العبودية ... وتعلّل الآية الكريمة: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) هذه الحالة عند قوم فرعون بأنهم كانوا فاسقين خارجين عن حدود العقل والفطرة ومجردين من الخصائص الإنسانية الكريمة، ورضوا لأنفسهم حياة الذل والهوان والعبودية.. وهذا يعني إنهم لو لم يكونوا فاسقين خارجين عن صراط الحق طائعين لأهوائهم لما استطاع فرعون ان يستعبدهم ويستخف بهم... والتأمل في سلوك فرعون مع شعبه الذي حكته الآيات الشريفة السابقة يشير الى الأساليب التي يتبعها الطواغيت والمستكبرون لتدجين الشعوب واستخفافها وهي لا تختلف عن أساليب اليوم إلا من حيث الشكل والأدوات التي تتغير تبعاً للزمان وإلا فالحقيقة واحدة، قال تعالى: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي

ص: 27


1- - المعالم المستقبلية للحوزة العلمية، المرجع اليعقوبي.

أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَاالَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ، فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ)) والأساليب هي:

1- سلب حالة الوعي والادراك والفطنة التي عبّر عنها القرآن الكريم ب-(البصيرة) وتكريس حالة الجهل والتخلف والانقطاع عن أسباب المعرفة الحقيقية والاهتمام بالقشور وقلب موازين التقييم من معنوية حقيقية جوهرية الى مادية سطحية زائفة وهكذا ضمن عملية غسل دماغ تسلب عقولهم ووعيهم ويتحولون الى قطيع منفذ للأوامر، ولذا قال لهم

(أَفَلَا تُبْصِرُونَ) فدعاهم الى النظر الحسّي ولم يدعوهم الى التأمل والتدبر والتفكر لئلا تظهر الحقائق ويُفتضح المخادع، والأمور التي دعاهم فرعون الى إبصارها قريبة محسوسة أما موسى (علیه السلام) فيدعوهم الى الايمان بأمور غيبيةٍ بعيدة عن إدراك الناس الغافلين، وتحاط عملية غسل الدماغ احياناً بالقدسية والخطوط الحمراء التي لا تقبل النقاش، وهنا يكون دور لعلماء الدين المحبين للدنيا والواجهات المؤثرة في المجتمع (السحرة ومعبرو الاحلام في قوم فرعون) لإضفاء هذه القدسية وشرعنة ما يفعله الطغاة وإدامة سلطتهم وهيمنتهم وإحكام الطوق على الشعوب المستعبدة باسم الدين وشعائره، لكن أي دين؟ لقد وصفهم أمير المؤمنين (علیه السلام) بأنهم (لبسوا الإسلام لبس الفرو مقلوباً)((1)) وهذا ما يدفع الزعامات الحريصة على مواقعها الى استخدام كل أساليب البطش والقسوة المادية والمعنوية بحق المصلحين الواعين الذين ينهضون لإيقاظ الأمة وتبصرتها

ص: 28


1- - شرح نهج البلاغة ج7 ، ابن أبي الحديد ص191.

وترشيد سلوكها, وتحريرها من الاغلال والآصار التي تُحجرّ على عقولهم وتلّوث باطنهم وفطرتهم((1)).

2- استحقار الآخر (فرداً او شعباً) والاستهزاء به لسحق شخصيته وإظهار عجزه وضعفه ليقتنع بأنه مخلوق ليكون تابعاً لغيره فموسى (عليه السلام) عند فرعون (مهين) لأنه من بني إسرائيل المستضعفين المواطنين من الدرجة الثانية الذين لا يحق لهم العمل إلا في المجالات المتدنية كرعي الأغنام وخدمة الأغنياء والمترفين، وكان المظهر الخارجي لموسى (علیه السلام) متواضعاً قال أمير المؤمنين في وصفه (وَلَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ عليه السلام عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَبِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَدَوَامَ عِزِّهِ فَقَالَ أَلا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْ-رِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَبَقَاءَ الْمُلْكِ وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ فَهَلا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَجَمْعِهِ وَاحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَلُبْسِهِ).

3- ووصفه فرعون ثانية بأنه (ولا يكاد يبين) مستغلاً ما كان معروفاً عن موسى (عليه السلام) قبل خروجه من مصر بأنه كانت له عقدة في لسانه فلا يكاد يبّين ما يريد قوله بوضوح فخدعهم بهذه الحالة التي كانت قبل بعثه بالنبوة، فلما بعثه الله تعالى بها شكى حاجته (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ)، (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً) ودعا ربّه بإطلاق لسانه (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي) وقد استجاب الله تعالى دعاءه وأطلق لسانه (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى).

ص: 29


1- - راجع خطاب المرحلة ج 9 ص 202 تحت عنوان: (ويضع عنهم أصرهم والاغلال التي كانت عليهم).

4.إقناعهم بحاجتهم لهؤلاء المستكبرين وانهم لا يستطيعون الحياة بدونهم وخلق حالة رعب وقلق وخوف (فوبيا) من البديل (وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) كان نهر النيل والانهار والجداول المتفرعة عنه التي روي إنها وصلت الى 360 فرعاً مصدر حياة المصريين ورخائهم وازدهارهم وفخرهم وعزتهم، فصّور لهم ان هذه الشبكة الإروائية تجري بأمره ووفق تدبيره وهي تحت سلطته وقدرته، وموسى (عليه السلام) لا يملك شيئاً من هذا والذهاب معه يحرمكم من هذه العزة والرخاء.

5- خلق حالة الانبهار به لدى الطرف الآخر وجعله باهتاً امام هذه الجبروت والعظمة التي هي زائفة في الحقيقة فتأخذ بألباب الناس ومجامع قلوبهم وعقولهم ويكون غاية هم الناس أن ينالوا شيئاً من فتات دنياهم (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْ-رَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي)، (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) وحالة الانبهار تولد تبعية وانقياد لما أنبهر به: ولا يفكر المنبهرون حينئذٍ في الخروج عن طاعتهم فضلاً عن التفكير في إزالتهم وإقامة النظام البديل،فالمستكبرون يوهمون الناس بأن من يتطلّع الى القيادة والأمرة لابد ان يكون كالفراعنة متزيناً بالذهب والفضة ويملك الثروة طائلة، وهذا غاية الاستخفاف بالناس أن يجعل دليل صدق النبوة والسفارة الإلهية وتبليغ رسالة الله تعالى حيازته للثروة والذهب والاعراض عن الآيات والبينات التي جاءهم بها وهو نفس إشكال قريش في الآية (31) من سورة الزخرف (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).

وكان سرد هذه الحكاية عن آل فرعون هو موعظة وتحذير لقريش من سلوك هذا المنهج الضال، ولا شك ان عملية الإصلاح في المجتمع المترف اقتصادياً والمستقر يكون أصعب ويواجه عقبات جمة ورفضاً من عامة الناس فضلاً عن المتسلطين،

ص: 30

وكرّر فرعون الاشكال الذي أثارته الأمم المكذّبة على انبيائها بأن الله تعالى لو شاء أن يبعث رسولاً لجعله ملكاً ولو اختاره انساناً فلابد أن تأتي معه الملائكة (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً) ولم يغب عن فرعون إثارة النعرات والعصبيات الجاهلية بقوله (يا قوم) وهم الاقباط المتسيّدون قوم فرعون لعزل موسى ومن معه من بني اسرائيل، وهنا يأتي قوله تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)وفيه إشارة إلى أن فرعون كان يعرف انه مخادع وأن أدلته لا قيمة لها لكنه استخف بعقول قومه واستصغر شأنهم واستعمل وسائل الخداع والمكر مع الاغراء والترهيب فوجدهم طائعين ومسلّمين له.(1)

ص: 31


1- 36- ينظر خطاب (قابلية الشعوب على الاستعباد).

المجتمع الفرعوني وأقسامه

وفق نظرة المفكر الاسلامي الشهيد الصدر الأول (قدس سره)

ولكي تكتمل للقاءي الكريم ملامح صورة المجتمع الظالم والمستعبِد نذكر فيما يأتي طوائف هذا المجتمع الممزق وفق نظرة المفكر الاسلامي الشهيد الصدر الأول (قدس سره) الذي اتخذ من المجتمع الفرعوني نموذجاً لهذه الظاهرة البائسة، حيث جاء فيها، إن الفرعونية على مرّ التاريخ التي تبني العلاقات بين الانسان وأخيه الانسان على أساس الظلم والاستغلال, ومن هنا تهدر ما في الانسان من قدرة على الإبداع والنمو الطبيعي على سلامة علاقات الانسان مع الطبيعة و عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع تفرز عدة أقسام:

الجماعة الأولى: ظالمون مستضعَفون, في نفس الوقت الظالمون الثانويون أو بحسب تعبير أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أعوان الظلمة . فهؤلاء يشكلون حماية للفرعون والفرعونية وسنداً في المجتمع لبقاء الفرعونية واستمرار وجود إطارها.

الجماعة الثانية: ظالمون يشكلون حاشية ومتملقون, أولئك الذين لا يمارسون ظلما بأيديهم بالفعل ولكنهم دائما وابدأ على مستوى نزوات فرعون . يسبقونه بالقول من اجل ان يصمموا مسلكه ومسيرته

الجماعة الثالثة: وهم الذين عبر عنهم الامام علي (علیه السلام) ب(همج رعاع) جماعة هم مجرد آلات مستسلمة للظلم, ولا تدرك ان في المجتمع ظلما , هذه الفئة طبعا تفقد كل قدرة على الإبداع البشري في مجال التعامل مع الطبيعة

ص: 32

الجماعة الرابعة: وهم أولئك الذين يستنكرون الظلم في انفسهم اولئك الظلم في انفسهم اولئك الذين لم يفقدوا لبهم امام فرعون والفرعونية فهم يستنكرونالظلم لكنهم يهادنونه ويسكتون عنه فيعيشون حالة توتر وقلق في انفسهم وهذه الحالة ابعد ما تكون عن حالة تسمح للإنسان بالإبداع والتجديد والنمو على ساحة علاقات الانسان مع الطبيعة وهؤلاء يسميهم القران ظالمي انفسهم.

الجماعة الخامسة: وهي الطائفة التي تتهرب من مسرح الحياة تبتعد عن المسرح وتتهرب منه وهذه الرهبانية موجودة في ملء مجتمعات الظلم على مر التاريخ وهي تتخذ صيغتين: الأولى: صيغة جادة ,رهبانية جادة تريد ان تفر بنفسها لكي لا تتلوث بأوحال المجتمع هذه الرهبانية الجادة عبر عنها القران بقول (ورهبانية ابتدعوها) وهذه الرهبانية يشجبها الإسلام لأنها موقف سلبي تجاه مسؤولية خلافة الانسان على الأرض وهناك صيغة مفتعلة يترهب ويلبس مسوح الرهبان ولكنه ليس راهبا في أعماق نفسه وإنما يريد بذلك ان يخدر الناس ويشغلهم عن فرعون وظلم فرعون ويسطوا عليهم نفسياً وروحياً.

الجماعة السادسة: وهم المستضعَفون، فإن الفرعونية حينما جزأت المجتمع الى طوائف استضعفت طائفة معينة منهم لأنها هي الطائفة التي يتوسم أن تشكل إطاراً للتحرك ضده ولهذا استضعفها بالذات. وقد علّمنا القران الكريم ضمن سنن التأريخ أيضاً إن موقع أي طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم يتناسب عكسياً مع موقعه بعد انحسار الظلم وهذا معنى قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).

ص: 33

مقارنة بين إصلاحات الإمام السجاد (علیه السلام) والرئيس الأمريكي (إبراهام لنكولن)

إن الأساليب الإصلاحية التي انتهجها الأئمة الأطهار والأنبياء الكرام (عليهم الصلاة والسلام) تتميز عن سائر الأساليب الإصلاحية التي يمارسها بقية البشر من ناحية العمق وقوة التأثير والإخلاص في أداء الرسالة ونُبل الأهداف وسموها وما إلى غير ذلك من مميزات، لما يمتلكونه من رصيد غيبي وإمداد إلهي في الدعوة إلى الله تعالى وشريعته السمحاء.

ونخص بالذكر كشاهد تأريخي ينفعنا في هذا البحث هو ما حققه الإمام السجاد (علیه السلام) لتخليص العبيد من ربقة العبودية وذل الابتعاد عن الإسلام الأصيل ولأجل استنشاق نسيم الحرية الحقيقية في ظل طاعة الله تعالى وعبوديته، حيث كان (الامام زين العابدين(علیه السلام) يشتري العبيد ويقوم بتربيتهم ثم يعتقهم ويتركهم في المجتمع، ليطالبوا بالعمل والحرية ويضحوا من أجل ذلك، لقد كان يربي ويغذي جيل الثورة الرسالية ليس الثورة السياسية فقط، وانما الثورة على جميع المستويات وجميع الأصعدة... ويقوم(علیه السلام) في ذات الوقت بنشر الإسلام والتوعية الإسلامية بين العبيد الذين جلبتهم فتوحات بني أمية غير العقلانية، وكانون يشكلون خطراً على الدولة الإسلامية وعلى الإسلام، الامام(علیه السلام) كان يبث في هؤلاء روح الدين ويربي فيهم مبلغين حقيقيين ويقوم بثورة من نوع آخر).(1) بالإضافة إلى الأدعية التي كان الإمام (علیه السلام) يبثها في ربوع الأمة حيث كانت تتمتع بعضها (بخلفيات الفكر الثوري فقد كانت الامة الاسلامية بحاجة الى خلفية ثورية

ص: 34


1- - يُنظر التاريخ الاسلامي، السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله).

متكاملة ، وليس الى الكلام والشعر الذي يبث حقداً ، أو يثير العواطف المرتجلة والآنية . لقد كانت الامة بحاجة الى نظرية متكاملة للثورة).(1)

في حين إن الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية (ابراهام لنكولن) فشل في تحقيق الحرية الحقيقية لمجتمع العبيد على الرغم من إلغائه لقانون الرق حيث (انقذ (ابراهام لنكولن) العبيد في الولايات المتحدة الامريكية أبّان الحرب المعروفة بين الشمال والجنوب، وألغى قانون الرق من الدستور، وأخرج العبيد الذين كانوا يعملون عند أسيادهم البيض في مصانعهم واراضيهم وتجارتهم، الى الحياة الحرة المستقلة، وانتهت بذلك سلطة السادة على العبيد، ولكن الكثير من هؤلاء كانوا قد تعودوا على الذل والعبودية، فذهب الكثيرون منهم الى اسيادهم ليبقوا تحت سلطتهم رغم الذل الذي كانوا يلاقونه، إن سبب ذلك يكمن في أن نفوسهم قد استعبدت).(2) وكان المنهج الذي سار عليه الإمام زين العابدين (علیه السلام) في هذا المضمار يتمثل بما يأتي:

1-إن الإمام زين العابدين (علیه السلام) كان يشتري العبيد والإماء، ولكن لا يُبقي أحدَهم عنده أكثر من مدّة سنة واحدة فقط، وأنه كان مستغنياً عن خدمتهم، فكان يعتقهم بحجج متعدّدة ، وبالمناسبات المختلفة، إذن، فلماذا كان يشتريهم ? ولماذا كان يعتقهم ?

2-إنه (علیه السلام) كان يعامل الموالي، لا كعبيد أو أمأ، بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية، ممّا يغرزُ في نفوسهم الأخلاق الكريمة ، ويحبّب إليهم الإسلام ، وأهل البيت الذين ينتمي إليهم الإمام (علیه السلام).

ص: 35


1- - يُنظر المصدر نفسه.
2- - يُنظر المصدر نفسه.

3-إنّه (علیه السلام) كان يُعلم الرقيق أحكام الدين ويملؤهم بالمعارف الإسلاميّة ، بحيث يخرج الواحد من عنده محصّناً بالعلوم التي يفيد منها في حياته ، ويدفع بها الشبهات ، ولا ينحرف عن الإسلام الصحيح .4- إنه (علیه السلام) كان يزود كلّ مَنْ يُعتقه بما يُغنيه ، فيدخل المجتمع الجديد ليزاول الأعمال الحُرَة ، كأي فرد من الاُمَة ، ولا يكون عالة على أحدٍ، إن المقارنة بين هذه الملاحظات ، وتلك ، تعطينا بوضوح القناعة بأنّ الإمام كان بصدد إسقاط السياسة التي كان يُزاولها الأمويون في معاملتهم مع الرقيق.

كما ورد عن سعيد بن مرجانة، وجدنا أن الإمام (علیه السلام) قد أعتق غلاماً اسمه (مطرف) وجاء في ذيل الحديث، أن عبدالله بن جعفر الطيَار كان قد أعطى الإمام زين العابدين (علیه السلام) بهذا الغلام (ألف دينار) أو (عشرة آلاف درهم) ففي إمكان الإمام (علیه السلام) أن يبيع الغلام بهذا الثمن الغالي، ويعتق بالثمن مجموعة من الرقيق أكثر من واحد، ولكن الإصرار على إعتاق هذا الغلام بالخصوص مع غلاء ثمنه يحتوي على معنى أكبر من العتق: فهو تطبيق لقوله تعالى : (لن تَنَالُوا البرّ حتّى تُنفِقوا ممّا تُحِبون)(1) وهو إيماء إلى أن الإنسان لا يعادَل بالأثمان ، مهما غلت وعلت أرقامها، ولعلّ السبب الأساسي هو: أن غلا ثمن الغلام لا يكون إلاّ من أجل أدبه ، وذكائه ، وحنكته، وقوّته ، وغير ذلك مما يجعله فرداً نافعاً ، فإذا صار حرّاً ، وهو متّصف بهذه الصفات ، يفيد المجتمع ككلّ ، فهو أفضل عند الإمام عليه السلام من أن يكون عبداً يستخدمه شخص واحد لأغراضه الخاصَة ، مهما كانت شريفة وبهذا واجه الإمام زين العابدين (علیه السلام) مشكلة الرقّ، واستفاد منها، في صالح المجتمع والدين.(2)

ص: 36


1- - آل عمران / 92.
2- - راجع جهاد الامام السجاد، السيد محمد رضا الجلالي، ص154.

لذا (بعث الله تعالى الانبياء (عليهم السلام) من أجل بناء الانسان، وجاهدوا من أجل بناء بشر مثاليين، وهؤلاء هم الذين قاموا بالثورات وضحوا من اجل التعبير ، وهذا هو العمل الاساسي الذي قام به الامام علي بن الحسين (علیه السلام) لقد بثّ ( u) في الامة الاسلامية ، روح الدين التي تحتوي - فيما تحتوي - على رفض الطواغيت والتهيئة منأجل إقامة حكم الله، والعمل من اجل انقاذ الانسان من براثن الظلم والعبودية... ولو كان الائمة المعصومين (عليهم السلام) والنبي (صلى الله عليه وآله) من قبلِهم وكذلك انبياء الله قبله، لو كانوا يتركون الناس، إذن لكان الناس يستعبدون من قبل الطواغيت، ولما كانت هناك ثورات ولا حركات ولا تغيير وبالتالي لم يحدث تقدم ولا اية حضارة، انما انبياء الله هم الذين حرروا الانسان منذ أول حقب التاريخ، وبثوا في روحه حب الحرية والتضحية من أجلها، فربوا رجالا صالحين كأصحاب الحسين (علیه السلام) الذين حاربوا معه في كربلاء وابلوا كل ذلك البلاء ، ولو كان اولئك الرجال كسائر من في الكوفة ، لكانوا يحاربون الى جانب يزيد، إنما الائمة هم الذين ربوهم على حب الحرية والجهاد في سبيل الله والايمان بالآخرة والتضحية من أجلها).(1)

ص: 37


1- - يُنظر التاريخ الاسلامي، السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله).

رجال الدين المزيفين وشرعنة الطغيان والاستبداد

--- الكنيسة في العصور الوسطى نموذجاً --

لم يجد رجال السلطة أحداً للقيام بتدجين الشعوب وتخديرها أفضل من رجال الدين المزيفين الذين باعوا الله وباعوا دينه وباعوا عباده وخانوا أمانته واشتروا بآياته ثمنا قليلاً، وتاريخيا لم يستطع أحد أن ينافس المتلبسين بزي الدين في دورهم الشيطاني ذلك لما للدين من هيبة وقدسية وإجلال في قلوب الجماهير، فقد نقل لنا التاريخ كيف قام رجال الدين المسيحيين بتولي رجال السلطة في أوروبا، ففي القرن الرابع الميلادي اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية وقام بفرضها على الإمبراطورية فرضاً، ثم بمرور السنين سجل التاريخ أحداثاً عن ذلك النزاع المرير الذي كان ينشب من حين لآخر بين رجال الدين ورجال السلطة حول من يجب أن يكون له السلطان المطلق على الناس، رجال الدين أم رجال السلطة؟، حتى أن البابا (نقولا الأول) أصدر بيانا في العصور الوسطى قال فيه: إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاما كانوا أو محكومين.

وفي القرون الوسطى مارست السلطة الدينية ذلك السلطان بالفعل أبشع ممارسة على الحكام والمحكومين، مما نشر الطغيان والفساد في الأرض باسم الله وبالتحايل على نصوص الدين، وعاشت أوروبا في ظلام دامس ما يقرب من ألف عام، وتم ذلك حين قام رجال الدين يفسرون الدين وفق مصالحهم وأطماعهم،

ص: 38

كفهمهم لكلام السيد المسيح(علیه السلام) الذي يقول: (أعطوا إذاً ما لقيصر لقيصر وما لله لله) حيث زعموا آنذاك أن قيصر يحكم عالم الناس بما شاء وكيف شاء ومتى شاء، ويبقى الله بعيدا عن شئون الحكم لا يتدخل فيما يفعل قيصر بالناس، وبهذا التفسير الإجرامي لكلام السيد المسيح تم إعطاء قيصر المشروعية الدينية المطلقة في أن يفعل بالجماهير ما يحلو له من تنكيل واضطهاد وفرض ضرائب وقهر واستغلال واستبداد وإقطاع.(1)

وقال مصطفى إنشاصي في مقال له بعنوان: (طغيان الكنيسة في العصور الوسطى الأوروبية) جاء فيها:

(توجت الكنيسة تصرفاتها الشاذة وبدعها الضالة بمهزلة لم يعرف تاريخ الأديان لها مثيلاً، عندما احتاجت إلى مزيد من السلطة الدينية والنفوذ المالي لمواجهة أعدائها، وقد كان ألد وأخطر أعدائها (المسلمين) أثناء الحروب الصليبية التي بدأت تلوح علامات هزيمتها فيها بعد أن بلغ ضعف الحماس الديني في نفوس الأوربيين مبلغاً كبيراً وفقد المقاتلون ثقتهم في الكنيسة نتيجة لخيبة أملهم في النصر الذي وعدتهم به وعداً قاطعاً، ففكرت في وسيلة تجعل المقاتل يندفع للاشتراك في الحملة الصليبية فكانت تلك الوسيلة هي (صكوك الغفران)! حيث أصدر المجمع الثاني عشر المعروف باسم (مجمع لاتيران) سنة 1215م قراراً يمنح البابا حق امتلاك الغفران للمذنبين!).

ويقول ول ديورانت: (إن صكوك الغفران كانت توزع على المشتركين في الحروب الصليبية ضد المسلمين. ولم يكن يحظى بالحصول على صك الغفران إلا أحد أثنين؛ الأول؛ رجل ذو مال يشترى الصك من الكنيسة حسب التسعيرة التي تحددها هي، والثاني؛ رجل يحمل سيفه ويبذل دمه في سبيل نصرة الكنيسة

ص: 39


1- - قصة الحضارة، ول ديورانت، ج14، ص352.

والدفاع عنها وحراسة مبادئها، وقد مثل ذلك ذروة الطغيان الكنسي ضد الفقراء والأمراء على حد سواء،وكانت أول أمرها من أسباب قوة الكنيسة ودعائم شموخها، حيث قويت الكنيسة وتدعمت سلطتها بالجحافل البربرية التي تطوعت للقتال في سبيلها من أجل الحصول على الغفران. ومن مظاهر الطغيان الكنسي أيضاً:

1- الطغيان الديني: بتأسيس (محاكم التفتيش) وهذه المحاكم هي ديوان أو محكمة كاثوليكية نشطت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، مهمتها اكتشاف مخالفي الكنيسة ومعاقبتهم بشدة.

2- الطغيان السياسي: حيث تحول رجال الدين إلى طواغيت وسياسيين محترفين، وتملكتهم شهوة عارمة للتسلط ورغبة كبيرة في الاستبداد، بزعم تطبيق الشريعة وأن البابا ظل الله على الأرض.

3- الطغيان المالي: نستطيع أن نقول دون أدنى مبالغة أن الأناجيل (المسيحية) لم تنه عن شيء نهيها عن اقتناء الثروة والمال، ولم تنفر من شيء تنفيرها من الحياة الدنيا وزخرفها، وجاءت القرون التالية فشهدت مفارقة عجيبة بين مفهوم الكنيسة عن الدنيا وبين واقع الكنيسة العملي.

وقد انتج هذا الطغيان والاستبداد من جانب الكنيسة آنذاك إلى ردة فعل عنيفة من قِبل المجتمع الأوربي تمخض عن ولادة ما يسمى ب-(العلمانية) التي تقضي بفصل سلطة رجال الدين (رجال الكنيسة) عن السياسة، وإبعاد مفاسدهم عن المجتمع من خلال تقييد هيمنتهم السياسية، لكن للأسف تطور هذا المفهوم ليشمل مصطلح (العلمانية) كل حركة أو جهة معادية للدين وليس لرجال الدين المزيفين والمستبدين فحسب، ف-(إن العلمانية ليست كما يشاع مجرد فصل الديّن عن الدولة، بل هي في نهاية الأمر وحقيقته؛ فصل الديّن عن الحياة ، ليتصرف

ص: 40

الحاكمون بأمرهم على إشاعة الباطل وتدجين الأمة على قبول الهوان والتبعية للأعداء بتقنين الباطل وحكم الطاغوت ومن العجب أن يتحدث نفر من المنسوبين للإسلام بكل سذاجة وبورع باردحينما يدعوننا ألا نتحدث عن خطر العلمانية، وألا نفضح العلمانيين، وألا نتهمهم بالخروج والضلال المبين).(1)

وصحّح المرجع اليعقوبي في إحدى كلماته مصطلح (العلمانية) ليبرز المعنى الحقيقي لها، قائلاً: (العلمانية.. صوّرها خصومها الذين يتاجرون بالدين ويتخذونه وسيلة لتحقيق مصالحهم على أنها محاربة الدين ومعاداته وحينئذ سيكون رد الفعل السريع هو الرفض والمواجهة، لكن البعض يعرّفها على أنها إلغاء سلطة رجال الدين الذين يسيئون استخدام الفتوى الدينية والقداسة لتحقيق مصالحهم اللامشروعة بدفعٍ من المستفيدين منهم، فهم - أي العلمانيون - لا صراع لهم مع الدين كتعاليم سامية تتكفل بإسعاد الإنسان وضمان حقوقه في حياة حرةٍ كريمة. وهم بذلك يصلون إلى نصف الحقيقة وعليهم السعي لتحصيل النصف الآخر لأننا جميعاً نرفض استغلال الدين للدنيا وجعله جسراً يعبرون عليه لتحقيق نزواتهم وأهوائهم الشخصية، بل إن أئمتنا المعصومين (سلام الله عليهم) قادوا حملة توعية واسعة لفضح المتسترين بلباس الدين والذين يرفعون اللافتات الإسلامية نفاقاً وقد وصفهم الإمام الحسين (علیه السلام): (عبيد الدنيا، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحِصّوا بالبلاء قلَّ الديانون) وحذّروا الأمة من اتباع رجال الدين المزيفين (إذا رأيتم العالم مكبّاً على دنياه فاتهموه في دينه).

والذي يراجع تاريخ نشوء العلمانية التي انطلقت من أوربا قبل قرون يجد أكثر من شاهد على أنها كانت تمرداً على دكتاتورية رجال الدين وتخلّفهم واستعباد الناس وسرقة أموالهم بسلطان الفتوى والتحالف مع الملوك الظالمين المستبدين لكنهم في

ص: 41


1- - مجلة البيان، المكتبة الشاملة.

خضمّ صراعهم مع التطبيقات السيئة للدين تخلّوا عن الدين نفسه وخسروا المبادئ السامية التي تركزها عقيدة التوحيد لأنهم لم يستطيعوا التفكيك بين الدين - كتعاليم وشريعة وعقيدة - والمتلبسين به من طلاب الدنيا).(1)

ص: 42


1- - خطابات المرحلة، ج5، رقم(169)، خطاب بعنوان: حوارات في الفكر الإسلامي، الحوزة العلمية والتيارات الوافدة.

أساليب التدجين البعثي الصدامي مع الشعب العراقي

يرى المرجع اليعقوبي إن من بين أبرز الأسباب التي جعلت الشعب العراقي يقبل بحالة الظلم والاضطهاد ويستسلم لجشع المتسلطين ولا يرفع عقيرته في وجوههم محتجاً عليهم، هي طول مدة تسلط الحكومة البعثية على العراق والتي مارست ضده مختلف الجرائم وأبشعها، مما أصاب الشعب حالة من (التدجين وعدم الاحتجاج على الظلم) لذا فلنأخذ جولة سريعة مع هذه الأساليب القمعية والإذلالية التي مارستها السلطة البعثية مع الشعب العراقي منذ مجيئها للحكم سنة 1968 ونبين كيف أمعنت في ظلمه وراحت ترتكب أبشع أنواع الجرائم وأساليب التركيع لإرادته لكي نتعرف ولو شيئاً بسيطاً على حجم الأضرار التي لازال المجتمع العراقي يعاني من موروثاتها السلبية:

1. القيام بفرض التجنيد العسكري الإلزامي:

كانت المؤسسة العسكرية الصدامية من أكثر المؤسسات --- بعد المؤسسات القمعية --- انتهاكاً لحقوق الإنسان وكرامته، وقد تعددت تشكيلات الجيش إلى صنوف عديدة كالجيش النظامي والحرس الخاص والجيش الشعبي وجيش القدس وقوات النخوة وفدائيو صدام وقوات الانضباط العسكري وقوات الطوارئ وغيرها، وكان النظام الصدامي يلزم الشباب بالانخراط في السلك العسكري بعد اتمام الدراسة الاكاديمية، أو بعد الفشل في عبور مراحلها، فيلزم من أكمل الدراسة الجامعية (سنة وستة أشهر) في حين يلزم من لم يتم المرحلة الثانوية ب-(ثلاث سنوات) يعاني منها الشاب العراقي شتى صنوف الظلم والاحتقار والاذلال والقهر والحرمان والابتزاز، فيخرج بعد هذه المدة منهك القوى بدنياً ونفسياً وذهنياً.

ص: 43

ففي تلك المؤسسة المسماة ب-(العسكرية) يتم أمتهان العلم والعقل والمعرفة وأصحاب الشهادات والخبرات، بشعارات سوقية لا ينم ألا عن الانحطاط الفكري والاخلاقي لتلك المؤسسة واستهتارها بقيم العلم والانسان العراقي، فمن هذه الشعارات: (خريج مريج كله بالإبريج) وشعار أخر (أنزع كرامتك خارج الوحدة العسكرية ثم ادخل) وشعار أخر يقول: (الجندي هو ذلك الخط الوهمي بين البيرية والبسطال مروراً بالنطاق) فأي أمتهان وأي وصف يوصف به الشاب العراقي الذي يتم استدعائه بحجة (خدمة العلم والوطن) أما المتخلف والهارب من الخدمة العسكرية ومن جوّر السلطة، فحدث ولا حرج فأنه يستباح مصيره ويتعرض إلى المطاردة والسجن والاعتقال وحتى لحكم الإعدام أو السجن المؤبد، حتى جسده لم يسلم من العبث والتشويه.

هذه المواقف والمصطلحات المنحطة كنا نسمعها ونراها في فترة مايسمى (بالخدمة العسكرية) وهو غيض من فيض أما مراكز ومعسكرات التدريب وساحات المعارك فحدث ولا حرج ففيها تَعرض الفرد العراقي إلى أبشع أنواع الجرائم والانتهاكات والاعتداءات وسلب للحريات وقُيد عقله لسنوات طويلة ضاعت فيها أحلى مراحل العمر والحياة باسم خدمة العلم والدفاع عن الوطن من العدوان الخارجي، في حين إن العدو الحقيقي هو جاثم على صدور العراقيين في الداخل.

2. اجبار الشعب بالانتماء -- ولو صورياً -- لحزب البعث الكافر، وكان المقبور صدام يردد كلمته الشهيرة قائلاً: (المواطن العراقي بعثي وإن لم ينتمِ) ولعل الانتماء الشكلي (الصوري) الذي كانت السلطة تريده من الشعب هو لعدة غايات منها فتح المجال على أوسع نطاق أمام الناس ليفسح لهم الطريق في التفكير بالانضمام بشكل جدي وفعلي للحصول على بعض الامتيازات، وثانياً ربط الناس بالحزب والدولة وعدم قطع العلاقة بها، فإن الحيادي في نظر السياسة الصدامية بمثابة

ص: 44

معارض لها، وثالثاً هو نوع من أنواع الاذلال والهيمنة والتسلط، ورابعاً لكي يُشعر الطاغية شعبه بأنه لا يسمح وبشكل قاطع وعملي بأي متنفس لحزب أو جهة أخرى بالعمل في العراق، ولسان حال ومقام السلطة كل العراقيين هم بعثيون وأن لم ينتموا لصفوفه،

3. توظيف مجموعة كبيرة من الدوائر والمؤسسات الحكومية التي تُعنى بالجانب القمعي والإرهابي، وكان أفرادها يحصون على الناس أنفاسهم، ويمارسون مع المعتقلين أبشع أنواع العنف والتعذيب النفسي والجسدي.

4. المعاقبة وبشدة على أي استفسار يصدر من المواطن العراقي كما يعاقب من يطالب السلطة ببيان سبب عمل تمارسه، فضلاً عن مخالفتها، ولسان حال ومقال السلطة (نفذ ولا تناقش) ونتج من ذلك بث حالة من الرعب الشديد خوفاً من مخالفة نظام السلطة الصارم لدرجة إن البعض كان يخاف من التحدث مع زوجته أو أولاده ضد الطاغية أو أزلامه، خشية الوشاية به، بل إن البعض لفرط خوفه الشديد راح يبالغ في تمجيدهم حتى أصبحوا – كما يقال - ملكيين أكثر من الملك، حفاظاً على حياتهم ومصالحهم من بطش السلطة، ومن الغريب العجيب في هذا المجال ما أقدمت عليه النظام الصدامي في معاقبة حتى من رأى في منامه ما يشير إلى مخالفة السلطة أو التخطيط لذلك، وكذلك معاقبة من شتم رمز السلطة أو تلفظ بمزحة مضحكة تتهكم بالطاغية أو أحد أزلامه أو تسخر منهم، وقد تعرّض البعض للمسألة والاستجواب بسبب تعليمه صيغة الأذان أو كتابة الصلاة لصديقه، فما هو ظنك بمن يخطط فعلاً لتشكيل خلية حزبية أو تنظيم سري!؟ كما (سنّ الطاغية صدام خلال فترة حكمه بعض القوانين الفارضة للإعدام ومنها قرار مجلس قيادة الثورة المرقم 840 في 4/11/1986 الذي ينص على عقوبة السجن المؤبد ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة من أهان بإحدى طرق

ص: 45

العلانية رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه أو مجلس قيادة الثورة أو حزب البعث العربي الاشتراكي أو المجلس الوطني أو الحكومة.1. وتكون العقوبة الإعدام إذا كانت الإهانة أو التهجم بشكل سافر وبقصد إثارة الرأي العام ضد السلطة. ويعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس أو الغرامة من أهان بإحدى طرق العلانية المحاكم أو القوات المسلحة أو غير ذلك من السلطات العامة أو الدوائر أو المؤسسات الحكومية).(1)

2. قطع صلة الشعب العراقي بالعالم الخارجي إعلامياً واجتماعياً، وبهذا بات العراق أشبه ما يكون بزنزانة سجن كبير يضم خلف قضبانه آهات المحرومين والمظلومين الذي لا ناصر لهم ولا معين.

3. استخدام السلطة الظالمة لأساليب الإذلال النفسي مع الشعب، ونذكر منها على سبيل المثال:

* الجباية المالية الاجبارية أو شبه الاجبارية، بحجج وذرائع مختلفة، كالتبرع للمجهود الحربي أيام الحرب العراقية الايرانية، ودفع المبلغ الشهري كاشتراك في تنظيم حزب البعث، وتارة بعنوان جمع التبرعات لترميم الحضرة الكاظمية المقدسة، وغيرها من الأهداف التي يَعرف الناس كذبها، وإن هذه الأموال تذهب إلى جيوب المنتفعين من السلطة لإرضاء غرورهم وشهواتهم ليس إلا، وهذه المحاولات المتكررة بالإضافة إلى تحقيق حالة الإذلال النفسي، فهي أيضاً تهدف إلى استنزاف الشعب اقتصادياً.

* الاستجواب والتفتيش الدوري لعوائل المتهمين والمعدومين، ووضعهم تحت المراقبة من قِبل الجواسيس ووكلاء الأمن وممارسة أساليب الابتزاز معهم

ص: 46


1- - يُنظر موسوعة ويكيبيديا الالكترونية.

ومحاربتهم في ارزاقهم والتضييق عليهم، ليكونوا عبرة لمن يفكر بمعرضة السلطة أو ينضم إلى صفوف خلايا المعارضة.المحاربة بالرزق أو ما يسمى ب-(التركيع الاقتصادي) من خلال تجويع الشعب وتقليل موارده المالية، والقيام بصرف رواتب محدودة لموظفي الدولة، التي بالكاد تلبي حاجات المواطن الشهرية، لكي يبقى الشعب في دوامة البحث عن لقمة العيش وتوفير مستلزمات الحياة الضرورية له ولعائلته، للحيلولة دون التفكير بالمعارضة أو الثورة، فضلاً عن التقدم نحو ذلك عملياً، كما أقدمت السلطة على قتل واعتقال بعض التجّار الكبار والأغنياء والمتمولين اقتصادياً ممن لا ينتمون أو يوالون أو يتعاطفون معها(1)، والسلطة البعثية اتخذت بهذه الأساليب النهج الشيطاني والمثل الشعبي القائل: (جوع كلبك يتبعك)، كما (قضى النظام الصدامي على غالبية النشاط الاقتصادي الذي يدار من قبل القطاع الخاص من أجل إنهائه والسيطرة على أي مصدر للقوة لدى الشعب حيث هيمنة الدولة على التجارة الخارجية والداخلية والمعامل والمصانع والشركات والبنوك وبسبب هيمنة الدولة على مجمل النشاط الاقتصادي تناما عدد العاملين والموظفين في دوائر الدولة بشكل كبير فجرى ربط قطاع كبير من العاملين في المجتمع بالدولة حيث

ص: 47


1- - نذكر على سبيل المثال ما أقدمت عليه السلطة من اعتقال ل-(42) شخصاً من كبار تجار بغداد مع عدد من العاملين معهم وتم اقتيادهم مباشرة إلى قاعة المحكمة وإصدار حكم الإعدام بحقهم بتهمة احتكار السوق، وبعد سقوط الطاغية تم التحقيق في وثائق الجريمة، فتبين إن الطاغية صدام أصدر توجيهاته يوم 25من تموز/ يوليو 1992 إلى وزير الداخلية ومدير الأمن العام للقيام بحملة كبيرة لاعتقال تجار المواد الغذائية في سوقي الشورجة وجميلة في بغداد، ما أسفر عن اعتقال أكثر من مائتي تاجر، انتقي منهم (40) تاجراً أرسلوا عصر نفس اليوم إلى المحكمة وهماك تم إصدار حكم الإعدام على جميع المتهمين، ونفذ الحكم في اليوم التالي مباشرة دون منحهم فرصة مقابلة ذويهم أو توديعهم وبدون حضور الادعاء العام أو رجل دين.

صارت هي مصدر رزقهم الوحيد فاصبح الموظف يحرص على لقمة عيشه ويحتمل كل الضغوط و الممارسات السلطوية ضده وضد الشعب دون أن يبدي معارض قوية وقد أنيطت مهام أخرى* بالموظف إضافة إلى وظيفته، وتم إخضاعه لضغوط نفسية ومعيشية بهدف الانتماء إلى حزب السلطة، ليمارس دور المخبر ).(1)

* مطالبة عوائل ضحايا السلطة ممن قضوا في سجون التعذيب بثمن رصاصات الإعدام، كإسلوب وقح من أساليب الإهانة والإذلال النفسي، ويطلبون منهم أن يأخذوا أبنهم الشهيد، ويعبرون عن مطلبهم هذا بأسلوب ملئه الحقد والضغينة قائلين: (تعالوا وخذوا كلبكم).

1. القضاء على الحركة الدينية في العراق، وذلك من خلال عدة أساليب شيطانية، أبرزها:

أ- اعتقال الرموز الدينية والقيادية البارزة، وتصفيتهم جسدياً، ف-(ما إن وصل حزب البعث إلى السلطة عام 1968 حتى جعل نصب عينيه هدفاً أساسياً وهو القضاء على الحركة الإسلامية في العراق واستهل حكمة في بداية السبعينات بإعدام مجموعة من الحركيين وهم أقطاب القيادة في حزب الدعوة (عبد الصاحب دخيل) وخمسة آخرون ممن سموا بعد ذلك ب-(قبضة الهدى) وأنهى المرحلة الأولى من حملته بإعدام قائد الحركة الإسلامية في العراق السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) سنة 1980 ولم ينته الأمر عند هذا الحد فقد شهدت السنوات اللاحقة عمليات إبادة جماعية منظّمة ومقابر جماعية لعشرات الآلاف من المنتسبين وغير منتسبين لتنظيمات سياسية إسلامية ..).(2)

ص: 48


1- - المشروع السياسي والاجتماعي للسيد محمد الصدر، هاني النجار، ص180
2- - قيادة الحركة الإسلامية في العراق، الشيخ عباس الزيدي والشيخ عبد الهادي الزيدي، ص9.

ب.منع المظاهر الدينية وحضّر كل الممارسات العبادية وخصوصاً العلنية منها، ومنع ترويج الكتب والمجلات والمنشورات الدينية، ومحاسبة الشباب على ابقاء لحاهم، لأن اللحية تعطي معنى رمزي للتدين، والسعي الحثيث في تقليص دور المسجد وابقاء اشرافه بيد كبار السن والمعتوهين والمرضى والمعاقين وأضرابهم، والمنع من إقامة صلاة الجماعة وعدم السماح للخطباء بارتقاء المنبر، لأجل تجميد دور المنبر الرسالي الواعي، علماً إن الكثير من العلماء والخطباء وطلبة الحوزة قد نالهم البطش البعثي فلم يبقى منهم إلا القليل، بالإضافة إلى أساليب أخرى في هذا المضمار يطول شرحها.

ب- ممارسة سياسة التجهيل، والقضاء على أي حركة فكرية وثقافية، وذلك بتقليص منابع العلم والمعرفة ومحاربة المبدعين، وتصفية النخب الواعية حتى ممن لم ينتسب للجهات الدينية ليتمكن الجهل والتخلف من أبناء المجتمع فيبقون أذلاء تحت وطئة السلطة (ونشر السذاجة والتمسك بالعادات البالية وجعل الدين متنفس فقط دون أن تكون فيه ثورة وإصلاح اجتماعي)(1) ومن جهة أخرى عمدت السلطة إلى نشر المفاسد الأخلاقية والعقائدية والانحرافات الفكرية والاجتماعية، وبأساليب وطرق متعددة ومختلفة، لكي تنخر في جسد المجتمع وتمزق قيمه الأصيلة ومبادئه النبيلة.

ث. القضاء على الجيل المعاصر لحركة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) من خلال التصفية الجسدية أو بالتهجير أو بزجهم في الحروب، كالحرب الطاحنة التي دارت مع الجمهورية الاسلامية الايرانية، حيث كانت (السلطة الحاكمة مع مطلع السبعينيات بملاحقة واعتقال أبناء الحركة الإسلامية وعرضتهم إلى تعذيب وحشي إلى حد الاستشهاد.. وفي سنة 1972م توسعت حملة الاعتقالات لتشمل

ص: 49


1- - المشروع السياسي والاجتماعي للسيد الشهيد محمد الصدر، هانئ النجار، ص222.

العلماء والأساتذة والأطباء والمهندسين وطلاب الجامعات وغيرهم، وكان المفكر الاسلامي السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) من بينهم)(1)، كما (كانت المحاكمات الصورية تجري في كل يوم وكانت الإحكام تشمل جماعة تلو الأخرى حيث بلغ إعداد المعدومين آنذاك (300-400) شاباً يومياً كما ذكرت الصحافية المصرية صافيناز كاظم، وكان كل من يصلي في مسجد أو حسينية وكان من يطلق لحيته وكان من يشارك في زيارة للمراقد المقدسة وكل من يشتري كتاباً شيعياً وكل من يلتقي بمتهم بالانتماء لحزب الدعوة أو أحد افراد أسرته ومن له درجة قريبة من صلة القرابة فهو متهم بالانتماء إلى حزب الدعوة وقد يعدم بهذه التهمة والحقيقة إن معظم المتهمين والمعدومين لم تكن لهم صلة مباشرة بحزب الدعوة، والنظام كان على علم بذلك ولكن هدفه كان أوسع من ذلك كما قلنا في السابق هو القضاء على جيل كامل تأثر وستلهم من السيد محمد باقر الصدر) (2)،

ب- الوقوف بوجه المد الإسلامي الذي انطلق من الجهورية الإيرانية بعد انتصار الثورة الاسلامية فيها بقيادة الإمام الخميني (رضوان الله عليه) للحيلولة دون وصول التوعية الدينية إلى المجتمع العراقي، لذا ركّزت السلطة البعثية على تشويه سمعة الإمام الخميني (رضوان الله عليه) وسمعة ثورته الإسلامية المجيدة، بواسطة توظيف الماكنة الإعلامية المضلة، لتتمكن من تشويه الحقائق وتضليل الرأي المحلي والعالمي تجاهها، حتى لا يتأثر بها الشعب العراقي أو شعوب العالم، بل وأكثر من ذلك فقد أقدم الطاغية صدام بالاعتداء العسكري على إيران، واقحام

ص: 50


1- - يُنظر المصدر نفسه، ص54.
2- - يُنظر قيادة الحركة الإسلامية في العراق، الشيخ عباس الزيدي والشيخ عبد الهادي الزيدي،ص29.

البلدين في حرب إقليمية واسعة النطاق، امتدت إلى ثمان سنوات، طالت الأخضر واليابس، وراح ضحيتها مئات الآلاف من الضحايا من كلا الطرفين.

ح. القيام بتهجير عدد كبير من العلماء ومراجع الدين وطلبة العلوم الدينية غير العراقيين إلى خارج العراق، ضمن حملة التسفير القسري، فقامت السلطةأ- العراقية ابتداءا من سنة 1970 وانتهاءا بسنة 1975، فهجّر من العراق في تلك الحقبة المظلمة عشرات الآلاف الذين تم ترحيلهم بطرق لاإنسانية، عبرت فيها السلطة عن وحشيتها وبغضها لهذه الجاليات التي رحلت عن العراق بصورة غاية في المأساوية.

ب- تحجيم دور الحوزة العلمية في النجف الأشرف وإلغاء الحوزة في كربلاء المقدسة، وإغلاق وهدم العديد من المدارس والمساجد والحسينيات ومراقبة تحركات علماء الحوزة وطلبتها، ومنعهم من مزاولة نشاطاتهم، مما أنتج تخلي الكثير منهم عن أداء وظائفهم الدينية، كصلاة الجماعة والتدريس وإلقاء المحاضرات وإقامة الندوات التثقيفية، والمحافل الإسلامية، ونحو ذلك، ومحاسبتهم على الصغيرة والكبيرة، مما أدى بالبعض لترك هذه الوظيفة الشريفة والتخلي عن الزي الديني، أو الهجرة إلى خارج العراق وهذا ما فعله جملة منهم، فلم يبق في الحوزة النجفية إلا القليل، حتى مجيء السيد الصدر الثاني (قدس سره) بنهضته الإصلاحية التي قارع بها النظام الظالم فأعاد للحوزة هيبتها ودبت الحياة فيها من جديد، بفضل الله تعالى وتسديده.

8. القضاء على المعارضة المسلحة والخلايا السرية المناهضة للسلطة، وإخماد بوادر أي نار تتقد في البلاد ضدها (حتى خلت الساحة العراقية من مواجهة

ص: 51

السلطة، حيث ذهب المعارضون للسلطة الظالمة إلى المنافي هربا من بطشها، وتُرك الشعب العراقي يواجه مصيره في الموت البطيء على يد النظام المتسلط).(1)

9. القضاء على أي رمز ديني رسالي يتمتع بمواصفات قيادية، للحيلولة دون التفاف الشعب حوله وافراغ الساحة العراقية من الشخصيات القيادية، لذا تعاملت السلطة مع هذا النوع من أبناء الشعب بوحشية وقسوة بالغة فمارست سياسة التصفية الجسدية والسجن وسياسة التهجير والاقامة الجبرية ونحوها من الأساليب القمعية مع من تشك بتمتعه بمثل هذه الصفات ولو في المستقبل البعيد، فضلاً عمن يتمتع بها فعلياً، لأن السلطة تعلم بخطر هذه النماذج القيادية على مسيرتها الظالمة، فالقيادات الدينية الاصلاحية تعد من أعظم العقبات في طريق الظلم البعثي آنذاك، لذا عمدوا إلى اقتلاع جذورهم من أرض العراق فور وصولهم إلى السلطة، يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين: (أن المجتمع الذي خضع طويلاً لتأشير السياسية الظالمة التوجيه من الظالم لا يمكن أن يصلح بالكلام فهو آخر شيء يمكن أن يؤثر فيه إن الكلمة لا يمكن أن تؤثر شيئاً في النفس الميتة والقلب الخائر والضمير المنحدر، كان لابد للجميع من مثال يهزه هزأ عنيفاً) وهذا المثال والقدوة هم القادة الرساليون.

10. المساهمة في نشر عنصر الجريمة، وإنشاء العصابات الاجرامية في المجتمع كعصابة (أبو طبر) و(أبو موس)(2)، وفسح المجال أما من يسمون ب-(الشقاوات)(3)

ص: 52


1- - ينظر المصدر نفسه.
2- - يروى إن شخصية السفاح (أبو طبر) ظهرت في فترة (1972 و1973) وبتخطيط من المخابرات العراقية لتنفيذ عدد من الاغتيالات والاعتقالات لعدد من الشخصيات السياسية المعارضة لنظام حكم البعث وخصوصاً إنها جاءت بعد فترة من حادث الانقلاب الفاشل الذي تزعمه السفاح ناظم كزار مدير الأمن العام، للإطاحة بنظام حكم البكر وصدام، ما دعا غالبية المقاهي والنوادي الليلية والأسواق التجارية أن تقفل محالها في أول الليل خوفاً من مداهمة الأجهزة الأمنية وادعائها بأن السفاح متواجد في هذا المكان أو ذاك.
3- - أي الفتوات.

لممارسة دورهم التخريبي في المجتمع، وإزعاج العوائل وإذائهم من خلال تصرفاتهم الهوجاء والعدوانية، ف-(حاول النظام طيلة عقد الثمانينات مسخ وتشويه الأخلاق في هذا الحي (أي مدينة الثورة والذي سمي فيما بعد بمدينة الصدر) الذي يعد من أكبر التجمعات السكانية في العراق، فانتشرت فيه مظاهر انحلال الشباب وكثرت فيه ظاهرة (الشقاوات) ولا يكاد يخلو قطاع أو شارع منهم وكانوا يفرضون وجودهم على الناس ويسببون الكثير من المشكلات حتى أصبحوا يشكلون خطراً على الوضع العام في الحي).(1)

2. تربية الطلبة في المدراس الابتدائية على حُب الطاغية (صدام) كقائد رمز ورئيس محبوب، وتمجيده في الحياة الدراسية الإبتدائية، والسبب وراء التركيز على هذه المرحلة بالذات، هو لجعل الأطفال ومنذ نعومة أظفارهم ينشؤون على حب شخص (الرئيس القائد) وإطاعته، وتركيز روح الولاء له ولحزبه الحاكم، لأن الإنسان ضمن هذه الفئة العمرية يكون أكثر تقبلاً للأفكار والعادات من السن المتقدمة، ومن جملة الأساليب التي تم التخطيط لها في هذا المجال الدراسي هي:

* تطعيم المناهج الدراسية بذكر الطاغية وتمجيده وتمجيد حزبه وانجازاته، بل والقيام بتخصيص درس مستقل يثقف الطلبة في هذا الاتجاه الحزبي أطلق عليه (التربية الوطنية) أو (الثقافة القومية والاشتراكية) وهذا الدرس يستمر مع الطالب إلى المرحلة الثانوية.

ص: 53


1- - قيادة الحركة الإسلامية في العراق، الشيخ عباس الزيدي والشيخ عبد الهادي الزيدي،ص33.

* يجب رفع الصوت بمدح الطاغية عند دخول المعلم إلى الصف، وبهتافات معينة مثل (عاش القائد صدام).

* يجب عند ذكر أسم الرئيس تسطير جملة من الألقاب الرنانة قبل ذكر اسمه ثم الدعاء له بالحفظ والرعاية، والمباشرة بالتصفيق له بمجرد ذكره .

* يجب وضع صورة لشخص (للرئيس القائد صدام) في كل الصفوف الدراسية بل وحتى في غرف المدراء والكوادر الدراسية، لتركيز معاني الولاء والطاعة والخضوع بشكل حسي في نفوس الطلبة والمعلمين.

* إقامة الاحتفالات بمناسبة مولد الطاغية ومولد حزب البعث الكافر في شهر نيسان بالإضافة إلى المناسبات الأخرى المرتبطة بهما.* المحاول بربط الطلبة بتنظيمات شبه حزبية -- لو صح هذا التعبير -- خارج نطاق الدوام الرسمي للمدرسة، أطلق عليه (الفتوة) و (الطلائع) يمارسون فيه فعاليات معينة، ويكون المشرف عليها أعضاء من حزب البعث، يتم من خلالها تسميم أفكار الطلبة وإنشاء جيل يحب الطاغية وحزبه الحاكم.

1. تحجيم دور العشائر واستضعافها وعلى أقل التقادير تحييدها، والسعي الحثيث في ربطها ولائياً بالسلطة من خلال دس البعثيين والعملاء بين صفوفهم واعتقال واغتيال كل الرموز العشائرية التي تتمتع بمواصفات قيادية وشعبية جيدة في الأوساط الاجتماعية، والمحاولة بفصلها عن الدين والقيم الإنسانية النبيلة، ومسخ هويتها العربية الأصيلة وتقاليدها وأعرافها الحسنة والقيام باستبدال زعماء العشائر الملتزمون بالشريعة بنكرات المجتمع أو بشخصيات موالية للبعث البغيض، وكان النظام البعثي يهتم بشكل كبير بمسألة كسب ولاء العشائر والحصول على طاعتها، حتى إن الطاغية (صدام) قد عيّن نجله الأصغر مسؤولاً عن تنظيم العشائر لأجل هذا الموضوع، ومع ذلك لم تتمكن السلطات المتعاقبة في

ص: 54

حكم العراق من مسخ شخصية أبناء العشائر بالكامل حيث بقي هناك ولاء تقليدي تجاه العلماء ومراجع الدين.

13. إدخال الشعب في دوامة حروب إقليمية استنزافية واسعة النطاق كحرب الخليج الأولى مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي دامت ثمان سنوات فأهلكت الحرث والنسل، وحرب الخليج الثانية سنة 1991م وما نتج عنها من حصار اقتصادي مفروض من قِبل الولايات المتحدة الامريكية (وعاش الشعب العراقي بعد ضربتين طاحنتين الحرب العراقية الإيرانية عام 1980م وحرب العراق بعد اجتياح الكويت عام1990م، وتأمر النظام الحاكم في العراق وبعض حكّام الدولة العربية من أجل القضاء على تاريخ ومبادئ الشعب العراقي، حيث كانت حياته صعبة من جميع النواحي وقد فُقِد فيها الأخ والأب والصديق وقد فُقِد فيها استقلاله الحقيقي، خاصة بعد حرب الخليج، وقد عاش الشعب العراقي أثناء فرض الحصار على العراق ما بين عامي(1991م ----- 2003م) مشكلات داخلية كثيرة زادت من نسبة الفقر والجوع وافتقاد الناس لفرص العمل مما سبب بطالة كبيرة وواضحة عجزت السلطة الحاكمة عن استيعابها ومن هنا وكنتيجة طبيعية ظهرت العوامل السلبية في المجتمع فكثرت السرقة وارتفعت معدلات الجريمة بشكل سريع وملحوظ والأغلب كان يطمح في الثراء السريع والذي كان لا يحتاج إلى مقدمات فإن المطلوب هو ممارسة الغش والخداع في بيع السلع والتحايل على الناس، وهكذا أبتعد الكثير من الناس عن روح الدين والتدين وعن العلاقات الاجتماعية الرصينة والمتينة).(1)

2. ممارسة أسلوب التمييز العنصري على أُسس طائفية وعرقية وقومية بين أفراد الشعب، لأجل إضعافهم والسيطرة عليهم، وفقاً للمبدأ الإنكليزي السيء الصيت القائل: (فرّق تسُد) وقد تُرجمت هذه السياسة الصدامية على عدة نواحي، منها؛

ص: 55


1- - المشروع السياسي والاجتماعي للسيد الشهيد محمد الصدر، هانيء النجار، ص214.

منح الامتيازات المادية والوظيفية في الدولة للمقربين من الطاغية وأزلامه وتسنمهم مناصب عالية في السلطة، وإقصاء أبناء الجنوب من الشيعة عن كل المراكز الحساسة في الدولة، وتفضيل أبناء العامة عليهم في هذا المجال وغيره، واستضعاف العشائر غير الموالية للنظام فضلاً عما لو شاركت بحركات المعارضة، وتفضيل العشائر المنطوية تحت الولاء للبعث بالمنح والهبات المادية وتكريم رؤساءها، لضمان استمرار طاعتهم وخضوعهم للسلطة الظالمة.

ص: 56

المخططات اليهودية لتركيع الشعوب وتدجينها

إن لليهود حلم كبير وقديم في السيطرة على العالم وقد وضعوا لأجل تحقيق ذلك الكثير من الخطط الشيطانية كما عقدوا العديد من المؤتمرات والندوات السرية وألفوا جمعاً من الكتب ورصدوا المبالغ الطائلة سعياً وراء تحقيق هذا الحلم الشيطاني الإستكباري، والذي يتقوّم على أسس شريرة عديدة أبرزها هو؛ استضعاف الشعوب واستعبادها، ونهب ثرواتها، وتسخر طاقاتها لخدمة الدولة اليهودية العالمية المرتقبة ---- كما يعتقدون ---- ونشر الفساد بشتى أصنافه كالفساد العقائدي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي وغيره، بالإضافة إلى إشاعة الجهل والفوضى واختلاق الحروب وافتعال الخلافات والنزاعات وأيضاً سلب الشعوب حالة الشعور بالمسؤولية وروح المقاومة والثورة ضد الظلم ونحوها من مظاهر الفساد الأخرى، وهذه المظاهر من شأنها أن تركع الشعوب وتضعفها، وتجعلها أمماً مستضعفة من قِبل الدول المهيمنة على العالم، وتصبح مُدجنة ومستعبدة وخاوية الإرادة،

لذا سنستعرض بعضاً من هذه المخططات اليهودية لأجل التنبه لها وعدم الوقوع في شراكها، ونستشهد ببعض الوثائق والنصوص الواردة في هذا المجال ومن مصادر مختلفة، فنذكر منها على سبيل المثال ما جاء في (بروتوكولات حكماء صهيون) المنسوبة إلى بعض كبار رجالات اليهود، حيث جاء فيها:

* إننا نقرأ في شريعة الأنبياء إننا مختارون من الله لنحكم الأرض وقد منحنا الله العبقرية كي نكون قادرين على القيام بهذا العمل .

ص: 57

* في أيدينا تتركز أعظم قوة في الأيام الحاضرة فإن كل الذهب الذى ظللنا نكدسه خلال قرون كثيرة جدًا لا بد أن يساعدنا فى غرضنا الصحيح وهو إعادة النظام تحت حكمنا .* إن السياسة لا تتفق مع الأخلاق في شيء والحاكم المقيد بالأخلاق ليس بسياسي بارع وهو لذلك غير راسخ على عرشه ولا بد لطالب الحكم من الالتجاء إلى المكر والرياء وسندبر أمثال هؤلاء الرؤساء ممن تكون صحائفهم السابقة مسودة بفضيحة أو صفقة مريبة. إن رئيسًا من هذا النوع سيكون منفذًا وافيًا لأغراضنا لأنه سيخشى التشهير.

* يجب أن يكون شعارنا كل وسائل العنف والخديعة ويتحتم ألا نترك لحظة واحدة فى أعمال الرشوة والخيانة إذا كانت تخدمنا في تحقيق غايتنا .

* إنما توافق الجماهير على التخلي عما تظنه نشاطًا سياسيًا إذا أعطيناها ملاهي جديدة وسرعان ما سنبدأ الإعلان في الصحف داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى فى أنواع المشروعات كالفن والرياضة وهذه المتع الجديدة ستلهى ذهن الشعب حتمًا عن المسائل التي سنختلف فيها معه .

* خير النتائج في حكم العالم ما ينتزع بالعنف والإرهاب لا بالمناقشات الأكاديمية.

* إن الغاية تبرر الوسيلة وعلينا ونحن نضع خططنا ألا نلتفت إلى ما هو خير وأخلاقي بقدر ما نلتفت إلى ما هو ضروري ومفيد.

* من رحمة الله أن شعبه المختار مشتت وهذا التشتت الذى يبدو ضعفًا فينا أمام العالم قد ثبت أنه كل قوتنا التي وصلت بنا إلى عتبة السلطة العالمية.

* سنفرض على النشر ضرائب ودمغات وتأمينات مضاعفة سيضطر الكُتَّاب أن ينشروا كتبًا طويلة ستقرأ قليلاً بين العامة من أجل طولها ومن أجل أثمانها العالية وقبل طبع أي نوع من الأعمال سيكون على الناشر أو الطابع أن يلتمس من

ص: 58

السلطات إذنًا بنشر العمل المذكور وبذلك سنعرف سلفًا كل مؤامرة ضدنا ونعتبر أن الكتب القصيرة أعظم سموم النشر فتكًا ونحن أنفسنا سننشر كتبًا رخيصة الثمن كي نعلم العامة ونوجه عقولها في الاتجاهات التي نرغب فيها.

* لقد عنينا عناية عظيمة بالحط من رجال الدين من الأمميين فى أعين الناس وبذلك نجحنا فى الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كئودًا في طريقنا وسنقصر رجال الدين وتعاليمهم له على جانب صغير جدًا من الحياة.

* ستكون لنا جرائد صحف شتى تؤيد الطوائف المختلفة من أرستقراطية وجمهورية وثورية بل وفوضوية أيضًا.

* يجب أن نكون قادرين على إثارة عقل الشعب عندما نريد وتهدئته عندما نريد .

* سوف ندمر الحياة الأسرية بين الأمميين ونفسد أهميتها التربوية .

* إن أمنيتنا هي تنظيم جماعة من الناس يكونون أحرارًا جنسيًا، نريد أن نخلق الناس الذين لا يخجلون من إظهار أعضائهم التناسلية.

* سوف ندمر الحياة الأسرية بين الأميين - أي غير اليهود - ونفسد أهميتها التربوية.

ولما علم أولئك القوم أن سراً من أسرار قوتنا وترابطنا، واستعصاء أجيالنا على مخططات التدجين والتهوين والتهويد إنما هو إلى أولئك الأمهات العظيمات المربيات، قالوا : لا بد أن نلغي دور هذه الأم المربية ، والزوجة الراعية ، والبنت الحانية .. وأن نفسد هذه اللبنة القوية المتماسكة.

كما دأب اليهود بشكل محموم في السيطرة على الاقتصاد العالمي، وامتلاك أكبر قدر ممكن من ثروات الشعوب وخيراتها، لأنها تعد من أهم مصادر السيطرة والقوة والهيمنة على البلدان، ولما للجانب الاقتصادي من أهمية عظمى في حياة الشعوب كما هو واضح، فكان اليهود يجمعون في مدة وجيزة ثروات طائلة نتيجة ممارساتهم التجارية غير النزية فأصبحوا ضمن الطبقات الاجتماعية العليا عند

ص: 59

الشعوب بسبب ثرائهم الفاحش على الرغم من تشتت أفرادهم وتوزعهم في البدان المختلفة، حتى أصبحت كلمة (اليهودي والتاجر مترادفتين)(1)

كما اتجه المرابون والتجار اليهودبصورة لا تقاوم إلى السيطرة على التجارة التي كانوا يمتلكون بالنسبة إليها مؤهلات خاصة منها؛ تشبعهم في كل مكان وارتباطاتهم ببعض، ومنها؛ تعلقهم الشديد بالمال، وكانت التجارة في القرون الوسطى في أيديهم بصورة رئيسية ولا سيما تجارة العبيد.(2)

وقد ذكر التأريخ بأن السيطرة اليهودية على اقتصاد الإمبراطورية الرومانية أدى إلى انهيارها وسقوطها، بالإضافة إلى أن روما كانت مليئة بالفساد الأخلاقي (واستمرت السيطرة اليهودية على التجارة والمبادلات التجارية الشرعية وغير الشرعية في العصور المظلمة واشتدت وطأتها واتسع نطاقها حتى وصلت إلى درجة أصبحت فيها اقتصاديات كل بلد في أوربا بدون استثناء في أيديهم وحدهم). (3) ومن مخططات اليهود أيضاً هو؛ (الاعتماد على دولة أو أكثر في تطبيق بعض خطط المؤامرة وخصوصاً في ما يتعلق بالحروب التي يريد زعماء اليهود افتعالها بين البشر كون تلك الدول ستقوم بالأعمال القذرة نيابة عن اليهود لأنهم لا يستطيعون القيام بها بصورة علنية).(4)

كما ملأ زعماء اليهود التوراة المحرفة والتلمود والكتب اليهودية الأخرى بالنصوص التي تدفع اليهودي لأن يحتقر الناس ويستغلهم أية وسيلة، وبما أن للعقيدة تأثير كبير على سلوك الإنسان فقد أصبحت المعتقدات التي ينص عليها التوراة هي الدليل الذي ينهل منه اليهودي للتعامل مع المحيط الذي من حوله،

ص: 60


1- - تاريخ القرون الوسطى، جامعة كمبريدج، ص644.
2- - يُنظر الإسلام وبروتوكولات حكماء صهيون، محمد يوسف حسين الزبيدي،
3- - اليهود وراء كل جريمة، وليم كار، ص47.
4- - الإسلام وبروتوكولات حكماء صهيون، ص 50

وقد جاء في التوراة المحرفة والكتب الأخرى نصوصاً تقر بالعنصرية والتمييز العرقي وتأصيل الاعتقاد بان اليهود هم شعب الله المختار وما سواهم من شعوب خدم وعباد لهم(1)، وهذه بعض النصوص الواردة في هذه المجال:* (ليستعبد لك شعوب، وتسجد لك قبائل).(2)

* (لأنك انت شعب مقدس للرب الهك اياك قد اختار الرب الهك لتكون له شعبا اخص من جميع الشعوب الذين على وجه الارض).(3)

* (الرب انما التصق بآبائك ليحبهم فاختار من بعدهم نسلهم الذي هو انتم فوق جميع الشعوب).(4)

وهكذا نجد في كتب اليهود ما يحتقر الشعوب ويدفعهم إلى العمل على استعبادها وإذلالها.

ولكي نقف على حجم الخطر اليهودي الذي يهدد كيان العالم عموماً والأمة الإسلامية خصوصاً، نذكر على سبيل الإيجاز عناوين برتوكولات الصهاينة الحاقدين، لنتعرف بوضوح على مدى الهجمة الشرسة التي يخططونها ضد البشرية:

البروتوكول الأول: نشر الارهاب والحروب والفوضى وسائر أساليب العنف.

البروتوكول الثاني: الهيمنة على التعليم والصحافة والرأي العام.

البروتوكول الثالث: إسقاط الحكومات وتقسيم البلدان إلى دويلات صغيرة,

البروتوكول الرابع: السيطرة على التجارة وتدمير الدين.

ص: 61


1- - ينظر المصدر نفسه، ص26.
2- - سفر التكوين، الاصحاح 27 ص 43.
3- - سفر التثنية، الاصحاح 7، ص290.
4- - سفر الأوابين، الاصحاح 20، ص191.

البروتوكول الخامس: ابعاد السياسة عن مضمونها وزرع الخلافات بين جميع القوى السياسية.

البروتوكول السادس: الهيمنة على الصناعة والزراعة وترتيب واعداد احتكارات هائلة للاستيلاء على الثروات، لكى تتلاشى تلك الثروات ويتلاشى أيضاً ثقة الشعب بحكومته.البروتوكول السابع : التحريض على الحروب العالمية بين الدول.

البروتوكول الثامن : إبعاد القوانين عن مضمونها الصحيح والنافع.

البروتوكول التاسع : بذر العملاء وتدمير الأخلاق، من خلال تغيير أخلاق الشعب الخاصة بكل أمة مهما كان تماسكه بها، حتى وأن استغرق ذلك العشرات من السنين، حتى تصبح حينها هذه الأمة خاضعه لليهود واستخدام الكلمات التحررية البراقة كالحرية والمساواة والإخاء.

البروتوكول العاشر : انشاء الدساتير المهملة.

البروتوكول الثاني عشر: الهيمنة على النشر والصحافة.

البروتوكول الثالث عشر: تغييب الوعى لدى الشعوب من خلال محاولة الهاء الشعوب بالرياضة والألعاب والملاهي والأفلام والأغاني والرقص والمسابقات وأمور الدنيا التافهة.

البروتوكول الرابع عشر : المحاولة في إبعاد الناس عن الدين ونشر جميع أنواع اللهو وهو ما يسمى اللهو الخفة لكى يبعدوا الناس عن دينهم.

البروتوكول الخامس عشر: تنظيم الخلايا السرية والانقلابات.

البروتوكول السادس عشر: إفساد التعليم ونشر الجهل.

البروتوكول السابع عشر: التخلص من السلطات الدينية.

ص: 62

البروتوكول التاسع عشر: إشاعة الشغب السياسي والإعلان عن الجرائم السياسية.

البروتوكول العشرون: ركود رأس المال واغراق الدول في الديون.

كما ذكر الجاسوس البريطاني في البلاد الاسلامية (همفر) والذي بعثته وزارة المستعمرات البريطانية -- آنذاك -- للتجسس: إن سكرتير وزارة المستعمرات البريطانيةأخبره بالأوامر السرية لتحطيم الإسلام، نذكر أهم ما جاء في هذه الأوامر، مع شيء من التصرف في مضامينها، عسى أن ينتبه المسلمون إلى عدوهم الحقيقي:

* إثارة النزاعات والخلافات الشديدة بين القبائل والشعوب الإسلامية وإحياء المذاهب الدينية حتى البائدة منها وإثارة النزاعات فيما بينها.

* نشر الفساد الأخلاقي بين أبناء الأمة الإسلامية كالزنا، واللواط، والخمر، والقمار، والمحاولة في تمييع شباب المسلمين بناتاً وأولاداً وتشكيكهم في دينهم وتفسيد أخلاقهم عن طريق الكتب والنوادي والنشرات والأصدقاء الفاسدين.

* إشعال الحروب والثورات الداخلية والحدودية بين المسلمين وغير المسلمين وبين المسلمين أنفسهم .

* تحطيم اقتصاد البلدان الاسلامية.

* هدم القباب والأضرحة والأماكن المقدسة عند المسلمين والمحاولة بالاستهانة بشخصية نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) وخلفاءه وسائر رجال الإسلام.

* نشر الفوضى والإرهاب في البلاد.

ومن جانب آخر فقد عمدت الإدارة اليهودية على تحسين سمعتها أمام أنظار العالم من خلال وسائل الإعلام المتعددة لكي تخدع الحكومات والشعوب، وتظهر للرأي العام بإن إسرائيل دولة تحب السلام وتدعوا إلى الديمقراطية، حيث وظفت برامجاً إعلامية (.. تُظهر حُسن معاملتهم للعرب في فلسطين, ومساعدتهم في إيجاد

ص: 63

فرص العمل, أو مساعدتهم في الزراعة والفلاحة.. الخ، وهناك برامج تظهير الجيش اليهودي بصورة الجيش المتطور الذي لا يمكن قهره، مما يؤدي إلى تحطيم نفوس المشاهدين العرب, واليأس من قتال اليهود، والرضا بالواقع المر, والاستسلام لإرادة اليهود، وهناك برنامج تعرض التقدم العلمي والتكنولوجي الذي وصل إلى اليهود, وتظهر الفرق الشاسع بيننا وبينهم، وبخاصة في الصناعات العسكرية المتقدمة, ولا يخفى تأثير ذلكفي انهيار نفوس المشاهدين، وتحطيمها, بل يتعدى الأمر إلى تمني طلب التعاون معهم لتطوير اقتصدنا وصناعات، وهناك برامج تظهر الجو (الديمقراطي) الذي يتمتع هذه اليهود بحيث يظهر فرق شاسع بين واقعهم وواقعنا ، الأمر الذي قد يؤدي إلى أن يطمع بعض الناس أن يحكمنا اليهود بديمقراطية بدلا من حكامنا).(1) أ

وقد تحدث المرجع اليعقوبي في كتابه (نحن والغرب) محذراً الأمة الإسلامية من خطر المد الغربي عموماً، حيث قال: (تحدثت نظرية صِدام الحضارات عن المستقبل وتنذر بخطر المواجهة والحرب، وتدعو إلى الاستعداد للدفاع عن النموذج الأمريكي وعن المصالح التي يقوم عليها، وبالتالي تخصيص أموال لذلك، قد سمعنا إن ميزانية هذا العام (2002م) تضمنت زيادة 48 مليار دولاراً على الشؤون العسكرية، وما كانوا يستطيعون إقناع شعبهم بهذه الزيادة إلاّ من خلال هذه الحرب الحضارية، وتقول تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا عام 1991م: لقد قضينا على الشيوعية وبقي علينا أن نقضي على الإسلام.

وحربهم هذه على الإسلام ليست جديدة وإن تركزت اليوم وتوسعت، فمن قبل قال رئيس الوزراء البريطاني تشرشل بعدما رفع المصحف لجنوده: (انزعوا هذا الكتاب من حياة المسلمين أضمن لكم السيطرة عليهم) وقال لويس التاسع

ص: 64


1- - الإعلام قراءة في الإعلام المعاصر والإسلامي، د. محمد منير سعد الدين، ص160 -- 161.

ملك فرنسا عند هزيمته في الحملة الصليبية وإطلاق سراحه عام 1250 مخاطبا جنده: (إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح، ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم) وقال المبشر وليم جيفورد: (متى توارى القرآن ومدينة مكة من بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربييتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه)(1) فهدفهم إخراج المسلمين من قيمهم ودينهم وتفتيت الوحدة الإسلامية وتمزيقها، وماذا يريدون من حربهم الحالية ضد الإسلام والمسلمين؟ يقول البروفسور (ريتشارد كروسمان) المسؤول السابق لقسم الحرب النفسية في بريطانيا: (هدف هذه الحرب تحطيم أخلاق العدو وإرباك نظرته السياسية، ودفن جميع معتقداته ومثله التي يؤمن بها، والبدء بإعطائه الدروس الجديدة التي نود إعطاءَها له ليصار بالتالي إلى أن يعتقد بما نعتقد به نحن)، فانظر إلى الكلمات المرعبة التي اختارها: (حرب - تحطيم - عدو - إرباك - دفن) فهل نحن في مرحلة الحرب أم الإرباك أم الدفن والعياذ بالله؟.

ص: 65


1- - جاء في هامش كتاب (نحن والغرب) تعليقاً على هذه المقولة: (فركّز على القرآن الكريم، لأنه رمز قيمهم ومبادئهم وأخلاقهم وعلى مكة لأنها رمز وحدتهم ولم صفوفهم).

عالم الاجتماع (ناعوم تشومسكي)

عالم الاجتماع (ناعوم تشومسكي)(1)واستراتيجيات التحكّم العشر بالشعوب(2)

كشف هذا العالم الأمريكي ضمن مقال له أطلق عليه (استراتيجيات التحكّم والتوجيه العشر) والذي اعتمدته دوائر النفوذ في العالم لأجل التلاعب بجموع النّاس وتوجيه سلوكهم والسيطرة على أفعالهم وتفكيرهم في مختلف بلدان العالم. ويبدو أنّ تشومسكي استند في مقاله إلى (وثيقة سريّة للغاية) يعود تاريخها إلى سنة 1979, وتمّ العثور عليها سنة 1986م عن طريق الصدفة, و تحمل عنواناً مثيراً هو (الأسلحة الصّامتة لخوض حرب هادئة) وهي عبارة عن كتيّب أو دليل للتحكّم في البشر وتدجين المجتمعات والسيطرة على المقدّرات, ويرجّح المختصّون أنّها تعود إلى بعض دوائر النفوذ العالمي التي عادة ما تجمع كبار الساسة والرأسماليين والخبراء في مختلف المجالات عموما المقال مثير جدّا بما فيه من فضح لخطط مفزعة يمكن تلمّس تطبيقاتها العينيّة بوضوح في السياسة الدولية, وحتّى المحليّة , وفي الخيارات الاقتصادية والتعليميّة أيضاً.

ص: 66


1- - (أفرام نعوم تُشُومِسْكِي) هو أستاذ لسانيات أمريكي إضافة إلى أنه عالم إدراكي وعالم بالمنطق ومؤرخ وناقد وناشط سياسي. وهو أستاذ لسانيات فخري في قسم اللسانيات والفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والتي عمل فيها لأكثر من خمسين عاماً، إضافة إلى عمله في مجال اللسانيات فقد كتب تشومسكي عن الحروب والسياسة ووسائل الإعلام وهو مؤلف لأكثر من مئة كتاب. وفقاً لقائمة الإحالات في الفن والعلوم الإنسانية عام 1992 فإنه قد تم الاستشهاد بتشومسكي كمرجع أكثر من أي عالم حي خلال الفترة من 1980 حتى 1992م، كما صُنف بالمرتبة الثامنة لأكثر المراجع التي يتم الاستشهاد بها على الإطلاق في قائمة تضم الإنجيل وكارل ماركس وغيره وقد وُصف تشومسكي بالشخصية الثقافية البارزة، حيث صُوت له ك- "أبرز مثقفي العالم" في استطلاع للرأي عام 2005.
2- - منقول بتصرف بسيط من إحدى المواقع الالكترونية على شبكة الإنترنت.

ويجيب (نعوم تشومسكي) على سؤال مفاده، كيف يؤثر الإعلام علينا نفسياً بهذا الشكل؟ من خلال بلورة عشر استراتيجيات يسلكها الإعلام الموجّه لإحداث تلك التأثيرات النفسية، وعلى الرغم من أن بعض هذه الأدوات واضحة إلى أنه لايزال على قدر كبير من الفاعلية والتأثير على الناس، ومن وجهة نظر البعض فإن هذه الأدوات مهينة وتعزز الغباء، وقد استند تشومسكي في كشفه لتلك الاستراتيجيات إلى وثيقة سريّة للغاية يعود تاريخها إلى مايو 1979، وتمّ العثور عليها سنة 1986، و تحمل عنوان: (الأسلحة الصّامتة لخوض حرب هادئة) وهي عبارة عن كتيّب أو دليل للتحكّم في البشر السيطرة على المجتمعات، وفيما يأتي نذكر هذه الاسترتيجيات ال-عشر التي يسلكها الإعلام المعادي للإلهاء والتحكم في الشعوب:

1-استراتيجية الإلهاء:

حافظوا على تحويل انتباه الرأي العام بعيداً عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية والهوه بمسائل تافهة لا أهمية لها. أبقُوا الجمهور مشغولا، مشغولا، مشغولا دون أن يكون لديه أي وقت للتفكير، ويقول (تشومسكي) أن عنصراً أساسياً في التحكم الاجتماعي هو إلهاء انتباه العامة للقضايا والتغييرات الاجتماعية الهامة التي تحددها النخب السياسية والاقتصادية، من خلال تصدير كم كبير من الإلهاءات والمعلومات التافهة، وتتضمن تلك الاستراتيجة أيضا منع العامة من الاطلاع والمعرفة الأساسية بمجالات العلوم والاقتصاد وعلم النفس والعلوم البيولوجية.

2- اخلق المشكلة ووفر الحل:

تستخدم هذه الاستراتيجة عندما يريد من هم في السلطة أن يمرروا قرارات معينة قد لا تحظى بالقبول الشعبي إلا في حضور الأزمة التي قد تجعل الناس أنفسهم يطالبون باتخاذ تلك القرارات لحل الأزمة، وتعرف بطريقة (المشكلة – رد الفعل – الحل) من خلال اختلاق موقف أو مشكلة يستدعي رد فعل الجمهور فعلى سبيل

ص: 67

المثال: دعالعنف ينتشر في المناطق الحضارية أو قم بالتحضير لهجمات دموية، مما يجعل الجمهور هو الذي يطالب السلطة باتخاذ إجراءات وقوانين وسياسات أمنية تَحُد من حريته، أو اختلق أزمة اقتصادية للقبول بحل ضروري، يجعل الناس يغضون الطرف عن حقوقهم الاجتماعية وتردي الخدمات العامة باعتبار ذلك الحل “شر” لابد منه.

3- التدرج:

لتحقيق ما يمكن قبوله من تدابير عليك، يمكنك تقبله تدريجيا قطرة بقطرة، فخلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي تم فرض عدد من الظروف الاجتماعية والاقتصادية الجديدة والمختلفة بشكل جذري عن سابقتها تدريجيا، وأدت إلى ازدياد نسبة البطالة، ومرتبات غير لائقة، وعدم الاستقرار، واللامركزية والتوسع في الخصخصة، ونقل الملكيات من إدارة لأخرى، والعديد من التغييرات الجذرية التي كانت ستتسبب في ثورة لو تم تطبيقها دفعة واحدة.

4- التأجيل:

واحد من الطرق التي يتم استخدامها لتمرير قرار غير مقبول شعبيا، هو تقديمه على أنه (موجع ولكنه ضروري) فمن الأسهل أن يتقبل العامة قراراً مستقبليًا على أن يتقبلوا قرارًا فوريًا، وذلك لأن المجهود المطلوب من العامة لن يتم بذلك بشكل فوري، كما أن هناك اتجاه عام لديهم بأن (المستقبل دائماً أفضل) ومن الممكن أن نتجنب التضحية المطلوبة، وهذا يعطي مزيدًا من الوقت للعامة كي يتأقلموا مع القرار وقبوله حتى يحين وقت تنفيذه.

5- خاطب العامة كأنهم (أطفال):

ص: 68

إذا تمَّ التوجه إلى شخص ما كما لو أنه لم يتجاوز بعد الثانية عشرة من عمره، فإنه يتم الإيحاء له بأنه فعلاً كذلك؛ وبسبب قابليته للتأثر، من المحتمل، إذن، أن تكونإجابته التلقائية أو ردُّ فعله مفرغة من أيِّ حس نقدي كما لو أنه صادر فعلا عن طفل ذي اثني عشر سنة، دائما ما تستخدم معظم الإعلانات الدعائية الموجَّهة لعامة الشعب خطبا وحججا وشخصيات نبرةً طفولية ضحلة وسطحية، كما لو كان المشاهدَ طفلًا صغير أو معاقًا ذهنياً.

6- استخدم الجانب العاطفي بدلا من الجانب التأملي:

استخدام الجانب العاطفي هو أسلوب كلاسيكي للقفز على التحليل المنطقي والحس النقدي للأفراد بشكل عام، فاستخدام الجانب العاطفي يفتح المجال للعقل الباطني اللاواعي لغرس الأفكار والرغبات والمخاوف والقلق والحض على القيام بسلوكيات معينة.

7- إبقاء العامة في حالة من الجهل والغباء:

يجب أن تكون جودة التعليم المقدم للطبقات الدّنيا، رديئة بشكل يعمق الفجوة بين تلك الطبقات والطبقات الراقية التي تمثل صفوة المجتمع، ويصبح من المستحيل على تلك الطبقات الدّنيا معرفة أسرار تلك الفجوة – دليل (الأسلحة الصامتة لخوض حروب هادئة) وبذلك يصبح المجتمع عاجزًا عن فهم التقنيات والأساليب المُستخدمة للسيطرة عليه واستعباده من قبل من هم في السلطة.

8- تشجيع العامة على الرضا بجهلهم:

تشجيع الجمهور على أنه من الطبيعي والمألوف أن يكونوا جهلة وأغبياء وغير متعلمين.

ص: 69

9- تحويل التمرد إلى شعور ذاتي بالذنب:من خلال جعل كل فرد يشعر بأنه السبب في تعاسته وسوء حظه، وذلك بسبب قصور تفكيره وذكائه وضعف قدراته، وقلة الجهود المبذولة من جانبه، وهكذا بدلا من أن يتمرد ضد النظام، ينغمس في الشعور بالتدني الذاتي الذي يؤدي لحالة من الاكتئاب تحبط أي محاولة للفعل لديه وبدون القيام بأي فعل، لا يمكن أبدا للثورة أن تتحقق.

10- معرفة الأشخاص أكثر مما يعرفون أنفسهم:

أدى التقدم العلمي المتسارع، الذي شهدته ال-خمسون عاماً الأخيرة، إلى توسيع الفجوة بين المعرفة العامة والمعرفة التي تمتلكها النخب الحاكمة، فبفضل علوم الأحياء والأعصاب وعلم النفس التطبيقي، تمكن (النظام) من معرفة الكائن البشري جسدياً ونفسياً، فالنظام يستطيع معرفة الشخص العادي بشكل أفضل مما يعرف هو نفسُه، وهذا يعني أن النظام، في أغلب الحالات، هو الذي يملك أكبرَ قدر من السيطرة والسلطة على الأفراد أكثر من الأفراد أنفسهم.

ص: 70

علماء السوء وسياسة تدجين الأمة وتجهيلها

إن من أبرز أسباب تدجين المجتمع العراقي وإصابته بالاستسلام للخنوع وعدم شهيته للمبادرة بالتغيير والإصلاح، حسب تشخيص المرجع اليعقوبي هو بسبب الفساد الذي يمارسه علماء السوء، وشرعنتهم لظلم المتسلطين، فهم أصل كل الأزمات، حيث قال (دام ظله) في وصفهم: (..فأخذوا في شرعنة ظلم الظالمين وفسادهم وطغيانهم واستئثارهم بأموال الشعب والتدمير والخراب تحت عناوين مختلفة ودعوة الناس إلى الاستسلام والرضا بالقتل والتشريد والذل والحرمان، وبحسب فطرة الناس وإيمانهم بمرجعيتهم وأنها تقودهم إلى الهدى والصلاح فإنهم يسلّمون لمواقفها بلا نقاش، تصوروا أنه حينما كان يحاسب وزير التجارة بكل شفافية وموضوعية أمام البرلمان على الفساد والتلاعب بقوت الشعب وأمام أنظار الناس وبالوثائق وأعطي الفرصة الكاملة للدفاع عن نفسه وكان الرد البائس لزملاء الوزير المهزومين أمام تلك الحجج: إن هذا استجواب لأهداف سياسية، يخرج إمام الجمعة في مكان مقدس ليردد نفس هذه الكلمة التي قالها السياسيون بدلاً من أن يصطف إلى جانب المحرومين والمظلومين والمطالبين بالعدالة ومكافحة الفساد، وهكذا يتحول حملة العلم من قادة إلى الهدى والصلاح إلى وعاظ سلاطين يتخذونهم جسراً للوصول إلى مآربهم بتطويع الشعب المغلوب على أمره، بينما كان المفروض بهم أن يوعّوا الشعب ويبصرونهم بالصالحين الذين يعملون بإخلاص لخدمة الناس وإسعادهم ورفع الظلم عنهم لينتخبوهم عسى أن تكون صناديق الاقتراع باباً للتغيير نحو الأحسن).(1)

وهذه الحالة الممقوتة (ابتلي بها المسلمون من غير أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بالفقهاء السائرين في ركاب السلطة والذين لا

ص: 71


1- - يُنظر خطابات المرحلة،ج6،ص95.

يستطيعون الخروج عندائرة أوامرها ورغباتها لأنهم كانوا موظفين عند السلطة ويقبضون رواتبهم منها ويُعيّنون في وظائفهم بموجب قرار من الحاكم، لذا كانوا لا يملكون الإرادة في تصحيح أخطاء الحكومات ورفض ظلمها وجرائمها، وبسبب هذا فقد حُررّت الكثير من الفتاوى لإسناد السلطة وتبرير الواقع الموجود).(1)

وقد تعرّض العلماء والمراجع المصلحون وعلى مرّ التأريخ للكثير من الأذى، حالهم حال من سبقهم من الأنبياء والأوصياء (صلوات الله عليهم) من قِبل أدعياء الدين والقداسة المزيفة، ففي كل زمان هناك بلعم بن باعوراء يعادي موسى عصره، كما هناك فرعون زمانه وهامان زمانه وقارون زمانه وسامري زمانه، وعاشوراء الإمام الحسين (علیه السلام) تتكرر في كل جيل ليذبح الظالمون أهل الحق في كربلاء الشهادة، وسقيفة الأمس يحييها أهلها الإنقلابيون المتلبسون بلباس الدين في كل زمان، وهذه الحقيقة أكدها لنا التأريخ عبر الأجيال المتعاقبة، وأكدها أيضاً مرجعنا اليعقوبي(دام ظله) بقوله: (إن السقيفة مفتوحة كحالة وإن انتهت كحدث أي إن النفوس الحالمة بالسلطة والجاه والاستئثار والرئاسة على العباد موجودة في كل زمان ومستعدة لان ترتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه الاولون ولا تصغي إلى وصية القائد الحق فتترتب على مثل هذا التصرف نفس النتائج السيئة التي ترتبت على حادث السقيفة).(2)

وعندما سُئل (دام ظله)؛ هل القدسية التي يمنحها البعض لنفسه ويطالب الآخرين بمراعاتها هل لها من أساس ديني؟ أجاب قائلاً: (لا أساس لهذه الحالة في الدين بل الموجود هو العكس فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرون(عليهم السلام) يجالسون الفقراء والضعفاء والعبيد ويؤاكلونهم، وكان الإعرابي يدخل المسجد فيسأل أيّكم محمد؟ لأن النبي (صلى الله

ص: 72


1- - يُنظر خطابات، ج6، ص369.
2- - المعالم المستقبلية للحوزة العلمية، المرجع اليعقوبي (دام ظله).

عليه وآله وسلم) لم يكن يتميز بين أصحابهبمجلس أو ملبس. لكن بعض رجال الدين يصنعون حولهم هالة وقدسية انسياقاً وراء أهوائهم وأنانيتهم في الغرور والتكبر والاستعلاء واستدرار ما في أيدي الناس كالذي كان يفعله سدنة الأصنام والكهنة وغيرهم وأنا أرفض هذه المظاهر وأحاربها، وهكذا كان السيد الشهيد الصدر(قدس سره) فقد استنكر بشدة قضية تقبيل اليد ونحوها من المظاهر الزائفة، والمرجع وغيره من العلماء ورجال الدين ليسوا معصومين فليس لهم موقع أعلى من الناس، قال الله تبارك وتعالى: [إنَّ أكْرَمَكُم عِندَ اللهِ أتقَاكُمْ] وأنا أواصل صنع ثقافة لدى المجتمع وهي شهادة الأمة على المرجعية في موازاة شهادة المرجعية على الأمة لأن المرجع ليس معيناً بالنص من السماء وإنما وضع المشرّع شروطاً وصفات لمن يستحق هذا الموقع الشريف فمن توفرت فيه رجعت إليه الأمة وإلا تركته إلى غيره ممن يجمعها. ولكن تبقى في المجتمع طبقة ساذجة جاهلة تنطلي عليها الألاعيب وهذه الحالة مزمنة عبر التاريخ، وقد كان أحد أهداف الأنبياء والرسل والمصلحين فضح المتاجرين باسم الدين والذين يمارسون القيمومة على عقول الناس وحرياتهم ويستغلون أسوأ استغلال).(1)

كما عدّ سماحته ظاهرة القداسة المزيفة من أخطر القضايا التي تواجه الأمة، حيث قال(دام ظله): (كثُر في هذا الزمن مدعو الزعامات سواءً على الصعيد الديني أو السياسي أو الاجتماعي، وهي قضية خطيرة بل لعلها أخطر القضايا التي تواجهها الأمة، لأن بها صلاح الأمة وفسادها في دينها ودنياها وآخرتها، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله ومن هما؟ قال (صلى الله عليه وآله

ص: 73


1- - خطابات المرحلة، ج5، خطاب بعنوان: (حوارات سياسية، في الذكرى الخامسة لسقوط صدام المقبور).

وسلم): الفقهاء والأمراء) .. ومن أساليب الخداع التي يتبعها الطامعون في الرئاسات التظاهربالقداسة والابتعاد عن الدنيا، وهم إنما يتركون بعض متع الدنيا الزهيدة ليفوزوا بدنيا أهم وأوسع. وهنا رواية مهمة عن الإمام السجاد (علیه السلام) يجب أن نستفيد منها دائماً؛ روي عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (قال علي بن الحسين (علیه السلام) إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرامٍ اقتحمه. وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنّكم، فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما. فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويداً لا يغركم حتى تنظروا ما عقده عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله. فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغركم حتى تنظروا أمع هواه، يكون على عقله أو يكون مع عقله على هواه، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللّة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة حتى إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله ويحرّم ما أحلّ الله لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مهيناً. ولكنّ الرّجل كلّ الرجل نِعْمَ الرجل، الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد من

ص: 74

العزّ في الباطل، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد، وأنَّ كثير ما يلحقه من سرَّائها - إن اتبّع هواه - يؤدِّيه إلى عذابٍ لاانقطاع له ولا يزول، فذلكم الرجل نِعْمَ الرجل، فبه فتمسّكوا، وبسنّته فاقتدوا، وإلى ربّكم به فتوسّلوا، فإنّه لا تُردّ له دعوة، ولا تخيب له طلبة. أقول (والكلام لا زال لسماحة الشيخ (دام ظله)): يبيِّن الإمام السجاد (علیه السلام) في هذه الرواية بعض أساليب المكر والخداع للوصول إلى الزعامة والرئاسة، وهي متنوعة وعديدة، ومحورها جميعاً أناس يفشلون في الوصول إلى المرتبة التي تؤهلهم لقيادة الأمة، فيبتدعون الطرق التي تستهوي العامة وتنطلي عليهم، فبعضهم يتجه إلى معارضة السلطة وحمل السلاح لمواجهتها كبعض العلويين في زمان الأئمة (عليهم السلام) وواجهوا أئمتنا بكلمات وقحة. وبعضهم يدعي الانتساب إلى الإمام المهدي(علیه السلام) مع أن مراجعة بسيطة لسجل الأحوال المدنية يكشف زيف دعواه. وبعضهم يلتجئ إلى الغَيبة والاحتجاب عن الناس وإطلاق الادعاءات الغيبية. وبعض يتلفع بثياب القداسة والزهد في الدنيا لخداع الناس ويشتري ضمائر جماعة يضفون عليه أسمى الألقاب طمعاً بفتات الدنيا الذي يرميه إليهم. ناهيك بأساليب بعض أبناء مراجع الدين عند وفاة آبائهم فيبتكرون الأفكار التي تحافظ على استمرار استفادتهم من امتيازات واستحقاقات المرجعية مع وضوح أن هذه الامتيازات هي للموقع فتنتقل إلى المؤهل له، وليست لشخص المرجع حتى يرثها أبناؤه. والعجب كل العجب ليس من هؤلاء المدّعين المتقمصين ما ليس لهم، وإنما ممن يصدقهم ويتبعهم بغير دليل ولا مراجعة وفحص عن مصداقيتهم، ومع وضوح بطلان دعاواهم لتنافيها مع ما أسّسه الأئمة الأطهار(عليهم السلام) من الرجوع إلى العلماء المجتهدين العاملين الذين وصفهم الحديث السابق بأنّهم يشفقون على الأمة كالوالد الرحيم. لذا وصفهم الحديث الشريف بأن أشد الناس حسرة يوم القيامة

ص: 75

من باع آخرته لدنيا غيره، فالله الله في دينكم ولا تقعوا في فخوخ الدجالين).(1)كما أوعز (دام ظله) إلى أن من أسباب الانحراف والتغيير في الديّن والتخاذل والنكوص عن الحق ومساندة الباطل، أمران، هما:

الأول: بعض رجال الدين بانقيادهم لأهواء النفس وميلهم لحب الدنيا وتزيين الشيطان وحسدهم لأهل الحق وتصدّيهم لمواقع ليسوا مؤهلين لها (فوسمتم غير إبلكم ووردتم غير مشربكم) حتى طُبع على قلوبهم فحرموا من التدبر في الآيات الكريمة والروايات الشريفة فأخذوا يأوّلونها ويحرفون معانيها.

والثاني: عامة الناس بجهلهم وحماقتهم وسذاجتهم وميلهم إلى الدعة والراحة وتخاذلهم عن نصرة من تجب طاعته وسكوتهم عن المنكر والباطل، ونعيقهم مع كل ناعق وخوضهم مع الخائضين وإسراعهم إلى الشبهات والقيل والقال وتصديق المدّعين وعدم تصحيحهم للأخطاء التي يقعون فيها وعدم توبتهم من الذنوب التي يرتكبونها. وهذه الأسباب لحصول الانحراف وابتعاد الناس عن الحق موجودة في كل زمان).(2) وقال في خطاب آخر: (إن الذين يدّعون الانتساب إلى فئة شريفة ولا يلتزمون بتعاليمها هم أشد خطراً عليها من أعدائها الخارجيين لأنهم ينخرون بناءها من داخلها فلابد من فضحهم والبراءة منهم لدفع خطرهم).(3) وهؤلاء الفاسدون قد حذّر منهم أيضاً الامام الخميني (قدس سره) حيث قال: (إن خطر المتحجرين والقشريين الحمقى في الحوزات العلمية ليس قليلاً، وعلى الطلبة الأعزاء أن لا يغفلوا لحظة واحدة عن هذه الأفاعي المخططة المرقطة). وقد حذّر أيضاً الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) من هؤلاء حيث قال: (قصم ظهري رجلان من الدنيا رجل عليم

ص: 76


1- - خطابات المرحلة، ج7، خطاب بعنوان: (احذروا مدّعي الزعامة بغير حق).
2- - يُنظر خطابات المرحلة، ج8، خطاب بعنوان: (الصدّيقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) تحمل هذا الدين وتحميه).
3- - خطابات المرحلة،ج5،ص227.

اللسان فاسق ورجل جاهل القلب ناسك هذا يصد بلسانه عن فسقه وهذا ينسكه عن جهله فاتقوا الفاسق منالعلماء والجاهل من المتعبدين اولئك فتنة كل مفتون فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله) يقول: يا علي هلاك امتي على يدي كل منافق عليم اللسان) وقد جاء في الحديث القدسي: (أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى دَاوُدَ: يَا دَاوُدُ، لَا تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَالِمًا مَفْتُونًا، فَيَصُدَّكَ بِسُكْرِهِ عَنْ طَرِيقِ مَحبَّتِي ، أُولَئِكَ قُطَّاعُ طَرِيقِ عِبَادِي).

ومن خلال ما تقدم نعلم بأن المرجعية التي لا تتحرك بمشرع الإسلام العظيم وإصلاح المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتمهيد لدولة الإمام المنتظر (أرواحنا له الفداء) لا تصلح لقيادة الأمة ولا لنيابة المعصوم وتبقى ضمن دائرتها وهي البحث والتدارس وربما الإفتاء وقبض الحقوق الشرعية وهي ساحة ليست قليلة من المسؤولية وإثراء الحركة العلمية ،لكنها غير كافية للتصدي لقيادة الأمة، وتشهد الساحة عند تصديها خمولاً وركوداً وتراجعاً في الحركة الدينية وتجهيلاً، وقد نعت الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) هذه المرجعية ب-(المرجعية الصامتة) وب-(الحوزة القديمة والتقليدية)، ونعت رموزها ب-(الصامتين)(1)،

كما نعتهم الإمام الخميني (قدسسره) ب-(المتحجرين)، وب-(المتدينين القشريين)(2) ، أما المرجع

ص: 77


1- - ينظر خطب صلاة الجمعة للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره).
2- - ذكر كتاب (الكلمات القصار مواعظ وحكم من كلام الإمام الخميني (قدس سره)) . صفحة 106: (لقد وجهت للإسلام ضربة من قبل المتدينين القشريين لم توجه مثلها من قبل أية طبقة أخرى، والمثال الواضح على ذلك مظلومية وغربة أمير المؤمنين (علیه السلام) الواضحة في التاريخ). وقال (قدس سره) في موضع آخر:( إن خطر المتحجرين والقشريين الحمقى في الحوزات العلمية ليس قليلاً ، وعلى الطلبة الأعزاء أن لا يغفلوا لحظة واحدة عن هذه الأفاعي المخططة المرقطة. وقال (قدس سره) في موضع آخر: ( إن الضرر الذي ألحقه العلماء غير المتقين بالإسلام قد يفوق ما ألحقه به الناس العاديون). كما حث على تحصين الحوزة وعدم إفساح المجال أمام - ما أسماهم ب- - المتحجرين من العلماء المتظاهرين بالقداسة الذين يروجون لأفكار تدعو للخنوع والباطل وعدم الثورة عليه . ينظر كتاب الإمام الخميني الفكر والثورة، صفحة 100.

اليعقوبي فقد عبّر عن هذه المرجعية ب-(المرجعية الفردية) وشبهها ب-(الأم غير الحنونة) مع أولادها.(1)

وربما اعتقد البعض إن المرجعية التي تدخل نفسها في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الأمة وتشخص المشكلات وتضع الحلول والبدائل وتمارس النشاطات المختلفة في الحوزة هي مرجعية ليست دينية بل مرجعية سياسية وهي أقل شأناً وكفاءة من المرجعية الدينية ، لذا حاول سماحته (دام ظله) إزالة هذا اللبس عن أعين الناس الذي يريد البعض تعميقه في أذهانهم ليعتاشوا على سذاجتهم وجهلهم ، حيث قال (دام ظله) :(لا توجد مرجعيات دينية وأخرى سياسية في ضوء الدور المهم الذي تؤديه المرجعية في حياة الأمة امتداداً لدور المعصومين (عليهم السلام) فالمرجعية واحدة، كما توجد العديد من الأساليب الأخرى التي اتبعها مدعو القداسة الدينية المزيفة والتي أضرت بحال المصلحين خصوصاً والمجتمع عموماً، نذكر جملة منها، وهي كالآتي:

تشويه صورة المصلحين الذين يحاولون تغيير الواقع الفاسد والهجوم ضدهم بحملة شعواء مسعورة من خلال التسقيط والافتراء، وممارسة سياسة الإقصاء والتهميش لدورها في المجتمع ونحوها من الأساليب الشيطانية. فإذا أحس سدنةالقداسة الفاسدة بأن هناك من يريد أن يسحب بساط شعبيتهم ومقبوليتهم لدى الناس عمدوا بالكيد له، وتسقيطه حوزوياً واجتماعياً، وإذا اقتنع الناس بعالم مصلح ما وراحوا يلتفون حوله، فإنهم لا يتورعون عن الكذب والغيبة والافتراء والبهتان للانتقاص منه، لكي يقتلوا شخصيته معنوياً، وهي أعظم من قتل

ص: 78


1- - ينظر كتاب (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين) للمرجع اليعقوبي .

الشخص مادياً [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ] وقد ورد في تفسير قوله تعالى [وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ] أي يكذبونهم ويستهزئون بهم ويحاولون إماتة دعوتهم وتنفير الناس عنهم. قال المرجع اليعقوبي(دام ظله): (ورد في تفسير قوله تعالى: (ويقتلون النبيين) عن الإمام (علیه السلام) إن ذلك بتحريف تعاليمهم وتمييع دعوتهم وعزلهم عن مؤيديهم، وتشويه صورتهم في أعين الناس، وهو أسلوب أخطر في القضاء على الدعوات الإصلاحية وعلى المصلحين من القتل الجسدي الذي يصنع من الضحية بطلاً شعبياً تلتف الجماهير حوله وتزداد إعجاباً به وأخذاً بأفكاره) وقال (دام ظله) أيضاً في بيان موقف بعض الجهات الدينية مع السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) ومن نهضته الإصلاحية: (كان موقف (الأوساط الدينية داخل الحوزة وخارجها) سلبياً ومعادياً واتخذ أشكالاً متعددة من الأساليب الخبيثة.. وليست الأسباب (في ممارسة ذلك) إلهية صحيحة طبعاً، ولو كان هدف الجميع مخلصاً لله تبارك وتعالى لاتحدوا واجتمعوا على طاعته، أما الجهات الدينية فلأنها ترى في مرجعيته الصاعدة والآخذة بالاتساع مزاحماً لسلطتها التي تعتقد أنه حق خالص لها، وبهذا الصدد قال بعض ذيول أحدى المرجعيات: (مالهم ينازعون الناس سلطانهم) أي ما للسيد الصدر (قدس سره) ينازع الناس الذوات الذين يجب أن تبقى المرجعية منحصرة فيهم هذا السلطان؟ وهذه نظرة أنانية جاهلية استعلائية قديمة، فقد كان الأمويون المحدقون بالخليفة الثالث يرون فيء المسلمين حقاً خالصاً لهم وأنّه بستان قريش لا يجوز لأحد منازعتهم فيه، وأن السلطة قميص ألبسهم الله تبارك وتعالى إياه وغيرها، أما نظرة الشريعة فإن المرجعية مرتبةشريفة لها شروط فمن توفّرت فيه كان أهلاً لها مهما كان جنسه وقومه).(1) وقال أيضاً (دام ظله): (من السنن الجارية في الأمم عبر التاريخ تعرّض المصلحين

ص: 79


1- - ينظر خطابات المرحلة، ج5، خطاب المرحلة ، 188(بتصرف بسيط).

والعاملين الرساليين وعلى رأسهم الأنبياء والرسل والأئمة المعصومون (صلوات الله عليهم أجمعين) إلى الإيذاء المادي والمعنوي من قبل المتسلطين والطواغيت وأصحاب النفوذ (الذين يسميهم القران بالملأ) وأتباعهم من الجهلة والمنتفعين والغوغاء [مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قبلك)، (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كثيراً] ويبدي الله تبارك وتعالى على لسان أوليائه الحسرة والألم والتفجّع لهذا الموقف السلبي [يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون] ويحكي القران الكريم فصولاً عديدة من هذه المواجهة تضمنت أقسى ألوان البطش والقسوة والانحطاط من قبل المعسكر الآخر وأسمى ألوان الصبر والمصابرة والجهاد والرحمة والشفقة من أولياء الله وعباده الصالحين، ورغم أن الإيذاء المادي المشتمل على القتل والتشريد والتعذيب الجسدي والسجن والتجويع وغيرها كان قاسياً إلا أن ما يؤلم الصالحين أكثر هو الإيذاء المعنوي بالإعراض عن الاستماع إلى الحق وإتباعه وخلط الأوراق على الناس بالافتراء والكذب وقتل الشخصية بالتسقيط والتشويه لان الثاني هو الذي يحول دون نجاح مشروعهم الرسالي ويضع الحواجز بينهم _أي المصلحين_ وبين الناس فيؤلمهم ابتعاد الناس وعدم اهتدائهم إلى الحق وتنعّمهم بالرحمة التي جاؤوهم بها من ربهم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] أما الأول فإنه يؤدي إلى التعاطف معه والالتفاف إليه واعتناق مبادئه ولو بعد حين للشعور بمظلوميته، ومما يزيد في شدة وطأة الإيذاء المعنوي أن أتباع نفس الرسل والمصلحين يساهمون فيه عن علم وعمد أو عن جهل وغرور وأنانية بسوء تصرفهم وبعصيانهم وعدم الالتزام بتعاليم قادتهم وبضعفهم وتشتتهم والخلافات1. بينهم ونحوها، بينما لا يتوقع صدور النوع الأول من الأتباع والموالين).(1)

ص: 80


1- - خطابات المرحلة، ج5،ص338.

2. إدعاء الزعامة بغير حق وتقمص رداء القداسة المزيفة، التي تُسكِر عقول البعض، وتكميم أفواه الآخرين، ف-(إن المكر المستخدم لتحصيل المواقع الدينية المقدّسة.. ما تقوم به بعض الجهات المتنفذّة بصناعة الزعامة التي يريدون ويسوّقونها الى الاتباع والمريدين الذين لا يتمكنون من المناقشة والتأمل لطول سياسة التجهيل المتبعة معهم ولأنهم أوهموهم بأن في ذلك خروجاً عن الدين ونحو ذلك فيسلّمون بالنتيجة وهذه أخطر حالات المكر التي تتعرض لها الأمة وهي راضية بحالها مستسلمة للأغلال التي كبلّوها بها ولا تسمع إلى العلماء المخلصين العاملين الواعين).(1) وقال سماحة الشيخ المرجع اليعقوبي أيضاً: (من أساليب الخداع التي يتبعها الطامعون في الرئاسات التظاهر بالقداسة والابتعاد عن الدنيا، وهم إنما يتركون بعض متع الدنيا الزهيدة ليفوزوا بدنيا أهم وأوسع، وهنا رواية مهمة عن الإمام السجاد (علیه السلام) يجب أن نستفيد منها دائماً؛ روي عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (قال علي بن الحسين إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرامٍ اقتحمه وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنّكم، فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويداً لا يغركم حتى تنظروا ما عقده عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغركم حتى تنظروا أمع هواه، يكون على عقله أو يكون مع عقله على هواه، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللّة، فيترك ذلك أجمعطلباً للرئاسة حتى إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ،

ص: 81


1- - خطابات المرحلة، ج8، خطاب بعنوان: (أمير المؤمنين (علیه السلام) ومكر طلّاب الزعامات).

فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله ويحرّم ما أحلّ الله لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مهيناً ولكنّ الرّجل كلّ الرجل نِعْمَ الرجل ، الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد، وأنَّ كثير ما يلحقه من سرَّائها - إن اتبّع هواه - يؤدِّيه إلى عذابٍ لا انقطاع له ولا يزول، فذلكم الرجل نِعْمَ الرجل، فبه فتمسّكوا، وبسنّته فاقتدوا، وإلى ربّكم به فتوسّلوا، فإنّه لا تُردّ له دعوة، ولا تخيب له طلبة) أقول (والكلام لازال لسماحته (دام ظله)): يبيِّن الإمام السجاد (علیه السلام) في هذه الرواية بعض أساليب المكر والخداع للوصول إلى الزعامة والرئاسة، وهي متنوعة وعديدة، ومحورها جميعاً أناس يفشلون في الوصول إلى المرتبة التي تؤهلهم لقيادة الأمة، فيبتدعون الطرق التي تستهوي العامة وتنطلي عليهم، فبعضهم يتجه إلى معارضة السلطة وحمل السلاح لمواجهتها كبعض العلويين في زمان الأئمة (عليهم السلام) وواجهوا أئمتنا بكلمات وقحة، وبعضهم يدعي الانتساب إلى الإمام المهدي(علیه السلام) مع أن مراجعة بسيطة لسجل الأحوال المدنية يكشف زيف دعواه، وبعضهم يلتجئ إلى الغيبة والاحتجاب عن الناس وإطلاق الادعاءات الغيبية، وبعض يتلفع بثياب القداسة والزهد في الدنيا لخداع الناس ويشتري ضمائر جماعة يضفون عليه أسمى الألقاب طمعاً بفتات الدنيا الذي يرميه إليهم، ناهيك عن أساليب بعض أبناء مراجع الدين عند وفاة آبائهم فيبتكرون الأفكار التي تحافظ على استمرار استفادتهم من امتيازات واستحقاقات المرجعية مع وضوح أن هذه الامتيازات هي للموقع فتنتقل إلى المؤهل له، وليست لشخص المرجع حتى يرثها أبناؤه، والعجب كل العجب ليس من هؤلاء المدّعين المتقمصين ما ليس لهم، وإنما ممن يصدقهم ويتبعهم بغير دليل ولا مراجعة وفحص عن مصداقيتهم، ومع وضوح بطلان دعاواهم لتنافيها مع ما أسّسه الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من الرجوع إلى

ص: 82

العلماء المجتهدين العاملين الذين وصفهم الحديث السابق بأنّهم يشفقون على الأمة كالوالد الرحيم، لذا وصفهم الحديث الشريف بأن أشد الناس حسرة يوم القيامة من باع آخرته لدنيا غيره، فالله الله في دينكم ولا تقعوا في فخوخ الدجالين).(1)

2. الهيمنة على القرار الديني، والمحاولة المحمومة بالتمسك والتشبث بكرسي الزعامة الدينية حتى وإن كانوا غير مؤهلين له علمياً أو صحياً، وعدم فسح المجال للآخرين بالتصدي لخدمة الدين والمسلمين، وهذه الصفة الذميمة التي يتصف بها علماء السوء دعت مرجعنا اليعقوبي ينبههم ويحذرهم من ضررها على الدين حتى إنه (دام ظله) راح يشيد بموقف بابا الفاتيكان الذي تنازل عن منصبه بسبب تقدمه بالعمر، وسوء حالته الصحية، حيث قال (دام ظله): (هذا موقف كبير ينم عن شعور بالمسؤولية تجاه الموقع الذي هو فيه، والمفروض أن تكون كل المرجعيات الدينية والقيادات السياسية الحاكمة هكذا، أما التشبّث بالموقع حتّى لو بلغ به العمر عتيا، ويصبح وجوده كعدمه، ولا يعي ما حوله، ولم يعد قادراً على مجاراة تحديات عصره والقيام بمسؤولياته التي يتطلّبها موقعه لا التي هو قرّرها لنفسه، فهذه حالة بائسة ومتردّية، وسيصبح عقبة في طريق الإصلاح، لأنّ عملية الإصلاح والتغيير تمرّ عبر مصادر القرار، فإذا كان مصدر القرار عاجزاً فسوف تتوقف هذه العمليّة، وهذا واحد من الأسباب التي أدّت إلى ما نحنُ فيه من التردّي والفوضى والظلم وضياع الحقوق).(2)

ص: 83


1- - خطاب المرحلة، ج7 ،بعنوان: (احذروا مدّعي الزعامة بغير حق).
2- - خطابات المرحلة، ج8، خطاب بعنوان: (على المرجعيات الدينية والقيادات السياسية أن تتنازل لمن هو أكفأ).

3. محاولة إفشال النشاطات والمشاريع التي تحاول المرجعية الرشيدة انجاحها أو ابتكارها لخدمة الدين والمجتمع، لأن الجهات المقابلة ترى في وجود المصلحين يسبب ضرراً على مصالحهم ويقلل من شعبيتهم عند الناس.1. ممارسة سياسة تجهيل الأمة وتسطيح عقولهم، لأن الجاهل يسهل قياده، ولا يرفع عقيرته في وجوههم ليُشكل عليهم أو يحاسبهم ونحو ذلك، ولا يذكرون للناس وظائف ومسؤوليات المرجع بل يذكرون وظائف المكلف فقط، وهذا يخالف صفة (المرجعية الحركية الواعية التي تمثل الامتداد الحقيقي للأئمة (سلام الله عليهم) التي تمتاز بالصراحة والشفافية في التعامل مع الأمة والعمل على رفع مستوى الوعي والمعرفة والبصيرة لديها بعكس المتقمصين لهذا الموقع الشريف فإنهم يرون استمرار وجودهم بإبقاء الأمة على حالة السذاجة والجهل والتخلف ليستطيعوا تضليلها وخداعها بالهالة المقدسة التي يصطنعونها).(1)

2. سرقة الانجازات والمشاريع التي أشارت لها المرجعية الصالحة أو حثت على تفعيلها، لكي تحسب لصالحهم وتزيد من شعبيتهم ومقبوليتهم من قبل عامة الناس.

3. ممارسة أسلوب الخداع والكذب والضحك على الذقون --- كما يقال --- من خلال إسكات صيحات الاعتراض إذا منا صدرت من المجتمع بواسطة الأساليب التخديرية عن طريق إصدار الوعود الكذبة بالإصلاحات والتوصيات الشكلية التي تصدرها المؤسسة الدينية للجهات الحاكمة ونحوها من القرارات التي يظن الشعب بانها جادة وستغير واقعه نحو الأفضل مما يؤدي خدر الهمة وضمور العزيمة في التحرك ضد المسؤولين الفاسدين.

ص: 84


1- - خطابات المرحلة، ج5، ص229.

8. عدم تولي شؤون الأمة وترك حبلها على غاربها في الكثير من شؤونها المهمة، لكي تقرر هي مصيرها بنفسها وعدم التدخل لحل مشكلات الأمة حفاظاً على سمعتها ومصالحها، وهم بذلك يصبحون قدوة سيئة، حيث سيتخذهم الناس أسوة في الإنعزال عن الاصلاح وممارسة الانكماش الاجتماعي وعدم التدخل لحل مشكلات الناس والتصدي لمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الصفة قد (دأبت عليها مرجعيات كثيرة على مدى قرون ومقلّدوهم من الإنزواء والانكماش والسلبية والعزوف عن العمل بالآليات الممكنة لإيجاد بيئة مشجّعة على الدين والصلاح فإنه تقصير غير مبرَّر وله عواقب وخيمة فلابد من استثمار كل فرصة لإيجاد هذه البيئة بل صنع الفرصة لها وليس انتظارها لاستثمارها).(1)

2. التسلط على رقاب الناس، وجعل المجتمع في حالة مستمرة من الاحتياج لهم، والحرص على إبقاء الناس كالعبيد والاتباع المطيعين الخانعين، يقدسونهم ويلعقون قصاعهم، ويمنعونهم من حالة الاكتفاء الذاتي والانتعاش الاقتصادي.

3. شراء الذمم والضمائر، والتركيز على الشخصيات المرموقة من الناحية الحوزوية والعلمية والاجتماعية والسياسية لكي يكونوا تبعاً لهم وأبواقاً إعلامية تنفخ في هالة القداسة المزيفة التي يصطنعونها لأنفسهم.

ممارسة التقية من عوام الناس، ومجاملتهم والتحرز من إغضابهم طلباً لرضا العامة حتى وإن أدى ذلك للإخلال بالمصلحة الإسلامية، ومخالفة بعض الضوابط والمتبنيات الفقهية التي يؤمنون بها، وفي الحقيقة إن هذا نوع من أنواع التدجين والاستضعاف المتبادل الذي هو في واقعه استضعاف من قِبل الأهواء النفسية طلباً للسمعة والجاه والرئاسة والتسلط على الآخرين ف-(إن فساد العلماء لا يتمظهر بشرب الخمر وممارسة الزنا ونحو ذلك فإنهم لا يفعلون ذلك حفاظاً على مكانتهم

ص: 85


1- - خطابات المرحلة،ج8، خطاب بعنوان: (الإصلاح: رسالة الإمام الحسين(علیه السلام)).

الاجتماعية وإنما بحبهم الدنيا والتملق لأهلها والصراع على الجاه والزعامة ومجاملة أهل الباطل وكتمان الحق والبغي والحسد والتكبر والتعالي وتغليب أنانياتهم والتخلي عن مسؤولياتهم في إقامة الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) وعدم الانفتاح على الناس والاستماع الى همومهم وقضاء حوائجهم ومساعدتهم وانصافهم فيما لهم وماعليهم، روي عن أمير المؤمنين(علیه السلام): (اعرفوا.. أولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل الاحسان)).(1) وقال (دام ظله) في خطاب آخر حول نفس هذا الموضوع: (فقهاء الشيعة وإن لم يُبتلوا بمسايرة السلطة بفضل هذا التخطيط المبارك أو لأن السلطة لم تقع بأيديهم ولو وقعت لما اختلفوا كثيراً عن علماء العامة كالذي نشهده اليوم حيث ذاب جملة منهم في مصالح مع الحكومات التي أخذت منهم المشروعية وساقوا الناس لتأييدهم فخلّفوا وراء ظهورهم المبادئ والوظائف الإلهية وعلى رأسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى صار العراق يتصدر دول العالم في الفساد.. إن فقهاء الشيعة وإن لم يتعرضوا لفتنة السير في ركاب السلطة إلا أنهم ابتلوا بشيء آخر وهو مسايرة عوام الناس باعتبارهم يمثلون القواعد الشعبية ومصدر التمويل التي تؤسس للزعامة، فراحوا يحسبون ألف حساب قبل بيان موقف أو إصدار حكم فيه إغضاب لهؤلاء العوام خوفاً من تحولهم عن تقليدهم واتباعهم، ومن الشواهد على ذلك الموقف من قضية التطبير في عاشوراء فبالرغم من أن جملة منهم يرى حرمته لإضراره بالبدن ولجلبه منقصة على الدين إلا أنه لا يجرؤ على التصريح بموقفه هذا ويعترف بأنه لا يملك الشجاعة لاتخاذ مثل هذا الموقف، لذا كان من أهدافنا في بيان موقفنا بكل صراحة هو بعث الشجاعة في نفوس العلماء وتحرير فتاواهم من مداهنة

ص: 86


1- - خطبة صلاة العيد بعنوان: (اَللّهُمَّ اَصْلِحْ كُلَّ فاسِد مِنْ اُمُورِ الْمُسْلِمينَ).

العوام ومسايرة أهوائهم، وإلا فإن المسؤولية عظيمة أمام الله تبارك وتعالى [وَقِفُوهُم إنَّهُمْ مَسؤُولُونَ].(1) وقال (دام ظله) أيضاً: (إن السكوت عن الانحراف يؤدي إلى توسّعه وانحداره أكثر فأكثر، وإن المؤدّين للشعائر بعواطف مخلصة وصادقة وبفتاوى مرجعية يحظون بحبنا واحترامنا، وانما ننكر فعل من يتاجر بقضية الحسين (علیه السلام) حتى حوّلها إلى دكاكين يستدرّ بها الدنيا، واني أشفق على البعض حينما أراه1. مهووساً على المنبر ويدعو بحركات مبالغ فيها إلى الإصرار على فعل بعض الطقوس المبتدعة لأغراض يعلمها الله تبارك وتعالى.. إننا نخشى أن يتحول ديننا إلى دين عوام يحتوي على تشريعات ما أنزل الله بها من سلطان يفتي بأحكامه منشدو المراثي الحسينية).

التظاهر بالقداسة المزيفة وتوظيف بعض الأبواق الاعلامية المُضلّة التي تصنع لهم هالة كاذبة من القداسة تجر لهم المزيد من التبجيل والهيبة المصطنعة، وإن نجاحهم في هذا المكر راجع أيضاً إلى سذاجة الناس وقلة وعيهم، لذا قال مرجعنا اليعقوبي منبهاً على هذه الأساليب الخطيرة، وأرشد إلى كيفية التعرف على الشخصية الصادقة: (من أساليب الخداع التي يتبعها الطامعون في الرئاسات التظاهر بالقداسة والابتعاد عن الدنيا، وهم إنما يتركون بعض متع الدنيا الزهيدة ليفوزوا بدنيا أهم وأوسع، وهنا رواية مهمة عن الإمام السجاد (علیه السلام) يجب أن نستفيد منها دائماً؛ روي عن الإمام الرضا (علیه السلام) قال: (قال علي بن الحسين إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرامٍ اقتحمه وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنّكم،

ص: 87


1- - خطابات المرحلة، ج6، ص370 خطاب بعنوان: (الفتوى التي قتلت الإمام الحسين (علیه السلام)).

فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما. فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويداً لا يغركم حتى تنظروا ما عقده عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله. فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغركم حتى تنظروا أمع هواه، يكون على عقله أو يكون مع عقله على هواه، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسةالباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللّة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة حتى َإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله ويحرّم ما أحلّ الله لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مهيناً ولكنّ الرّجل كلّ الرجل نِعْمَ الرجل ، الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في رضى الله، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد، وأنَّ كثير ما يلحقه من سرَّائها - إن اتبّع هواه - يؤدِّيه إلى عذابٍ لا انقطاع له ولا يزول، فذلكم الرجل نِعْمَ الرجل، فبه فتمسّكوا، وبسنّته فاقتدوا، وإلى ربّكم به فتوسّلوا، فإنّه لا تُردّ له دعوة، ولا تخيب له طلبة)(1)، وقال (دام ظله) أيضاً: (إن معركة التأويل هي المعركة الأصعب التي تزلّ فيها الأقدام وتضلّ فيها العقول لأن الخصوم يلبسون نفس الثوب أي ثوب الدين ويدّعون لأنفسهم نفس الهالة من العناوين والألقاب والمقدّسة، وكلٌ يدّعي وصلاً بصاحب الرسالة

ص: 88


1- - خطابات المرحلة، ج7، خطاب بعنوان: (احذروا مدّعي الزعامة بغير حق).

والمشروع، ويضفي على حركته المشروعية ويستدل على أحقيته من نفس المصادر، فهناك تختلط الأوراق وتعصف الفتن وتكثر الشبهات)(1) وجاء في خطاب آخر له (دام ظله): (إننا مبتلون في هذا الزمان وفي كل زمان بأدعياء العناوين الكبيرة كذباً وزوراً ليطلبوا بها الدنيا وليخدعوا السذج والجهلة والمهوسين، وأذكر من هؤلاء أصحاب الدعوات المرتبطة بالإمام المهدي الموعود(علیه السلام) والسياسيين الذين يحملون اللافتات الإسلامية).(2) وقد1. سُئل سماحته هل القدسية التي يمنحها البعض لنفسه ويطالب الآخرين بمراعاتها هل لها من أساس ديني؟ فأجاب (دام ظله) قائلاً: (لا أساس لهذه الحالة في الدين بل الموجود هو العكس فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) يجالسون الفقراء والضعفاء والعبيد ويؤاكلونهم، وكان الإعرابي يدخل المسجد فيسأل أيّكم محمد؟ لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يتميز بين أصحابه بمجلس أو ملبس لكن بعض رجال الدين يصنعون حولهم هالة وقدسية انسياقاً وراء أهوائهم وأنانيتهم في الغرور والتكبر والاستعلاء واستدرار ما في أيدي الناس كالذي كان يفعله سدنة الأصنام والكهنة وغيرهم وأنا أرفض هذه المظاهر وأحاربها، وهكذا كان السيد الشهيد الصدر (قدس سره) فقد استنكر بشدة قضية تقبيل اليد ونحوها من المظاهر الزائفة، والمرجع وغيره من العلماء ورجال الدين ليسوا معصومين فليس لهم موقع أعلى من الناس، قال الله تبارك وتعالى [إنَّ أكْرَمَكُم عِندَ اللهِ أتقَاكُمْ] وأنا أواصل صنع ثقافة لدى المجتمع وهي شهادة الأمة على المرجعية في موازاة شهادة المرجعية على الأمة لأن المرجع ليس معيناً بالنص من السماء وإنما وضع المشرّع شروطاً وصفات لمن يستحق هذا الموقع الشريف فمن توفرت فيه

ص: 89


1- - خطابات المرحلة، ج8، خطابا بعنوان: (أسبوع أمير المؤمنين ومعركة التأويل).
2- - خطابات المرحلة، ج7، خطاب بعنوان: (لا تُقبل الدعوى إلا بدليل).

رجعت إليه الأمة وإلا تركته إلى غيره ممن يجمعها ولكن تبقى في المجتمع طبقة ساذجة جاهلة تنطلي عليها الألاعيب وهذه الحالة مزمنة عبر التاريخ، وقد كان أحد أهداف الأنبياء والرسل والمصلحين فضح المتاجرين باسم الدين والذين يمارسون القيمومة على عقول الناس وحرياتهم ويستغلون أسوأ استغلال طاعة الناس للمرجعية).(1)

السكوت عن الباطل المستشري في الأروقة السياسية، ومجاملة الظالمين والسرّاق والمتلاعبين بثروات الشعب، وشرعنة عمل بعض السياسيين المفسدين، لأن إبداء الرأي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصراحة ووضوح مع أي جهة من الجهات، سوف يخلق لهم أعداء ومناوئين ومعارضين وهم في سياستهم المتبعة يحاولون على الدوام البقاء على الحياد وفي حالة وسطية لا تزعزع علاقتها مع أحد لأجل الحفاظ على مكانتها وقدسيتها ومصالحها الشخصية الدنيوية، لذا يؤثرون مصالحهم ويعطلون فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسكتون عن الكثير من المفاسد والانحرافات المستشرية في جسد الأمة، ويعيشون حال من الكسل والتقصير في أداء المسؤولية الملقاة على عاتقهم في توعية الناس وارشادهم، وقد شخّص المرجع اليعقوبي(دام ظله) بأن فساد المجتمع إنما هو بفساد علمائه الذي يمكن تصوره على شكلين:

الاول: التقصير في اداء المسؤوليات من ارشاد الامة وتوجيهها والامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو الضامن لسلامة الامة من الانحراف (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقد انّبَ الله سبحانه العلماء على هذا التقصير بقوله (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ

ص: 90


1- - خطابات المرحلة، ج5، ص320.

عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) وقد حذّر القرآن الكريم من خطر ترك هذه الفريضة المهمة في مواضع عديدة.

الثاني: انحراف رجال الدين المتصدين للمجتمع وتغير نواياهم واهدافهم من ربانية مخلصة إلى دنيوية محضة وحب الدنيا رأس كل خطيئة وباب المفاسد والشرور فيستشري الطمع والاثرة والحسد والبغضاء والخلاف والقطيعة والكيد والمكر وتنشأ هوَّة بعيدة بينهم وبين الامة فتضلّ الامة بضلالهم وقد قيل (اذا فسد العالِم فسد العالَم) وهذه هي الطامة الكبرى حين ينعدم الاخلاص فتنفصم العروة الوثقى وهي حبل الامداد والتوفيق الالهي. وقد اكد الائمة على اجتناب مثل هؤلاء ونبذهم وعزلهم، فعن الامام الصادق (علیه السلام): (اذا رأيتم العالم محبّاً لدنياكم فاتهموه علىدينكم، فان كل محب لشيء يحوط ما أحب) كما يرى سماحة الشيخ(دام ظله) إن نجاة الأمة على يد العلماء العاملين والسعادة والنجاة لا تتحقق بالقعود والكسل والاكتفاء بتعاطي المصطلحات العلمية، وإنما تتحقق بالعمل الدؤوب ورصد الثغور التي يتسلل منها شياطين الإنس والجن ليثيروا الشبهات والفتن والفساد، وليحرفوا مسيرة الأمة عن صراطها المستقيم الذي حدده لها الله تبارك وتعالى، وفي ذلك قال إبليس: [قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ].. إن الله تبارك وتعالى ذم المتقاعسين المتواكلين الذين لا يريدون أن يقدّموا جهداً أو تضحية وينتظرون من الغير إنجاز العمل وينشغلون هم بالتشكيك والاعتراض، ولقد ذكر الله تبارك وتعالى مثالاً لهم من قوم موسى [يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ] لكن الله تبارك وتعالى أثنى على

ص: 91

المبادرين إلى العمل المستجيبين لأوامر نبيهم [قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] فكانت عاقبة التخاذل والتمرد والتشكيك التيه جيلاً كاملاً حتى استبدل بهم ربهم غيرهم [قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ]، لذا فإننا بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود لننهض بهذه المسؤوليات الإلهية.(1)

عدم النهوض بواقع الحوزة العلمية أو بواقع البلاد والبقاء في خانة الركود والكسل. ويرى (دام ظله) إن من أسباب عدم نهوض المرجعية بالمجتمع إلى مستوى أفضل مما هو عليه خلاف الحقبة الزمنية الماضية؟ يرجع ذلك إلى عاملين: ذاتي1. وموضوعي، والذاتي هو القصور والتقصير لدى المتصدي للمرجعية نفسه. وبالموضوعي، الظروف المحيطة به فعلى صعيد الأول تستطيع ان تستقرأ عدة نقاط:

1- غياب الحس الاجتماعي والوعي الحركي.

2- تركز الانانية وحب الذات.

3- قلة الثقافة العامة.

4- عدم مواكبة العصر والانفتاح على مستجداته.

5- عدم الاحتكاك بالناس وانما تجده ينطلق من محبسه بين الكتب إلى قمة هرم المرجعية.

6- احاطة نفسه بحاشية تبحث عن مصالحها لا ورع لهم بل ولا دين مع قلة البصيرة.

ص: 92


1- - ينظر خطابات المرحلة، ج6، خطاب بعنوان: (الحوزة العلمية وأداء شكر النعمة).

7- عدم فهم واستيعاب مسؤولية الموقع الذي يتصدون له فيخلطون بين فهم المرجعية كموقع علمي وفهمها كموقع قيادي.

8- عدم القدرة على تشخيص الداء ومن ثم العلاج.

9- عدم الاستفادة من تجارب القادة والمصلحين وعلى رأسهم رسول الله (صلى الله عليه وآله).

10- التفكير الفردي في عمل المرجعية وعدم تحولها إلى مؤسسة ثابتة، فيبدأ كل منهم مستقلاً عن الآخر ومن الصفر بدلاً من تكاتف الجهود وتظافرها....إلخ).(1)وبما إن هؤلاء المتلبسين بزي الدين والقداسة المزيفة يتمتعون بحظوة عند شريحة كبيرة من عامة الناس، وشعبية عريضة في أوساط أبناء الأمة، لذا أنتج هذا الأمر مسألتين:الأولى: الهيمنة على القرار الديني الذي من شأنه إصلاح حال البلاد، وتغيير الأوضاع السياسية والمصيرية فغالبية الشعب يسمع لهم ويطيع، ولهم تأثير كبير على المسؤولين في الدولة.

ثانياً: راح الناس يقتدون بهم في بعض سلوكياتهم وجعلوهم قدوة سيئة لهم، كالقبول بحالة الذل والهوان، وعدم الاعتراض على الظلم وعدم التدخل بالسياسة وتعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من السمات التي ذكرناها آنفاً.

ومما تقدم يتبين للقاريء حجم الخطر الذي يتهدد الأمة من هذه الطائفة السرطانية، لذا أولى السيد الشهيد الصدر الثاني

ص: 93


1- - يُنظر المعالم المستقبلية للحوزة العلمية، للمرجع اليعقوبي.

(قدس سره) مسألة تحذير الأمة من خطرهم أهتماماً كبيراً، ونعتهم بنعوت قاسيا وكلمات لاذعة، كما بيّن معالم القيادة الدينية الصالحة لكي تفرق الأمة بين القيادتين والمنهجين، حيث قال (قدس سره): (المهم في المرجع الاتجاه نحو العدالة الاجتماعية وانصاف الناس من نفسه وادراك المصالح العامة .. ولكن الانانية في المرجعية هي العنصر الغالب مع الاسف جيلاً بعد جيل) ثم اتجه الى الأمة قائلاً: (اتبعوا شخصا له اتجاه بذل النفس والنفيس في سبيل الدين الحنيف.. إن هناك اتجاهين في الحوزة العلمية والمرجعية اتجاه المرجعية (الناطقة) واتجاه المرجعية (الساكتة) ولا يوجد اي عذر لسكوتها سوى انها تخاف من الموت) ويضيف قائلاً عليه الرحمة والرضوان: (لابد من الالتفات الى موقف الحوزة السكوتية والسلبية في موقفها اسالوهم عن صمتهم الذي هو كصمت القبور ... وكان أفضل مافعله بعضهم هو السكوت والاعتذار ،والبعض الاخر أخذ بالطعن والتشنيع والتجريح)(1) وهذه الغدة السرطانية --- أعني المؤسسة الدينية الفاسدة --- التي تعتاش على جسد الأمة وتضر بمصالحها ففي الحقيقة (تتحمل الأمة مسؤولية صناعتها ، وتمكينها من مقاليد الأمور وخلق هالات عظيمة حولها قد لا تكون أهلاً لها، وهذا هوسبب فشلنا وتراجعنا وتحكّم شذّاذ الآفاق فينا، حتى صرنا - ونحن أغلبية- نستجدي رضا غيرنا وهم أقلّية..).(2)

ص: 94


1- - صلاة الجمعة الخطبة الخامسة والثلاثون.
2- - خطابات المرحلة، ج8، خطاب بعنوان: (محافظة المثنى نموذج بائس لتردّي أحوال شعبنا).

السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ونهضة التحرير الأولى

كانت حركة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) حركة نخبوية تعتمد على المفكرين والمثقفين من طلبة الحوزة والأكاديميين والشباب الرسالي وذلك بإثراء الفكر الإسلامي وإشعال حماسة الشباب وتأجيج لهيب الثورة ضد الظلم في قلوب أبناء الأمة بعدما سادت حالة من الركود والاستسلام للظلم بسبب الاجراءات التعسفية التي تمارسها السلطات المتعاقبة على الحكم، ويمكننا أن نلخص أبرز معالم المد الثوري الذي غذى به السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) للأمة لإخراجها من حالة الركود والاستسلام هذه، هي الأمور الآتية:

1. امتنع السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) عن إعطاء أي مشروعية للسلطة البعثية، حيث رفض وبشكل قاطع مدح مشاريعها ولم يستجب لمطالبها فامتنع (قدس سره) عن سحب فتواه بتحريم الانتماء لحزب البعث ولو صورياً، كما لم يتراجع في تأييده للثورة الإسلامية في إيران، ولم يحرم الانتماء لحزب الدعوة، على الرغم من محاولات الترغيب وترهيب المتكررة التي عمدت إليها السلطة.

2. قدّم (قدس سره) نفسه وأخته العلوية الطاهرة بنت الهدى قرباناً لأجل تفجير الروح الثورية في قلوب أبناء الشعب وليجعل من دمه الزاكي شرارة انطلاق نحو تغيير واقع العراق المظلم.

3. القضاء على التبعية للغرب والحركات الإلحادية والشيوعية الضالة من خلال إصدار بعض المؤلفات، مثل كتاب (فلسفتنا) و (اقتصادنا).

ص: 95

تربية جيل واعي من طلبة الحوزة والشباب الرسالي يتمتع بالثقافة الفكرية العالية والحس الثوري التغييري الذي يحمل هم الرسالة الإسلامية، ويفعّل دور1. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع، ويجاهد أعداء الدين ويعمل على تحرير الشعب من ربقة الجهل والاستعباد والاستضعاف، ومن نتائج هذه الأهداف هو ما تمخض لاحقاً من تأسيس جناح سياسي للحوزة تمثل بحزب الدعوة الإسلاميية.

2. تقوية دعائم المؤسسة الدينية المتمثلة بالحوزة العلمية وتقوية أواصر العلاقة بين مراجع الدين والعلماء حيث كان (قدس سره) حلقة الوصل الرئيسة والمهمة لتنفيذ هذا المشروع الوحدوي والفعال وكان من انجازاته (قدس سره) في هذا المجال تأسيسه ل-(جماعة العلماء) التي تُعنى بجملة أمور منها هو ربط المجتمع بالمرجعية الدينية، كما انبثقت منها مجلة باسم هذه الجماعة،

3. توحيد صفوف أبناء الطائفتين الشيعية والسنية وتقوية اللحمة بينهما ف- (إن السيد محمد باقر الصدر كان من دعاة الوحدة بين المسلمين وخاصة في فترة احتجازه حيث وجه خطابه إلى أهل السنة يدعوهم للوقوف مع الشيعة بوجه النظام ألبعثي؛ حيث قال: (فأنا معكم يا أخي وولدي السني بقد رما معك يا أخي وولدي الشيعي أن معكم بقدر ما أنتم مع الإسلام وبقدر ما تحملون من هذا المشعل العظيم الإنقاذ العراق من كابوس التسلط والذي والإضطهاد).(1)

4. توجيه خطابات الاستنهاض للشعب العراقي للحيلولة دون الاستسلام والرضوخ للطاغية صدام وحزبه والقيام بالثورة ضده.

ص: 96


1- - المشروع السياسي والاجتماعي للسيد محمد الصدر، هاني النجار، ص187.

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) ونهضة التحرير الثانية

من الضروري أن نأخذ جولة سريعة مع شيء من التحليل في السيرة الإصلاحية للنهضة التحررية التي قادها السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) أيام الطاغية المقبور (صدام) لنقف على حجم التضحيات والمعاناة التي أصابت شخصه الشريف أبان تلك الحقبة المظلمة من عُمر العراقيين المظلومين، ولكي نأخذ أيضاً دروساً عملية نستفيد منها في واقع حياتنا المعاصرة، وتعيننا في حل مشكلاتنا ومعاناتنا مع الاستكبار العالمي وأذنابه في الداخل والخارج، ونبدأ بالقول بأن شهيدنا الصدر (قدس سره) حرّر الشعب العراقي -- ولو نسبياً --- من خطر تدجينين رئيسيين:

الأول: تدجين السلطة البعثية الظالمة.

والثاني: تدجين المؤسسة الدينية الفاسدة والتي من أبرز مصاديقها: (الحوزة المعادية للخط الرسالي وسدنة المراقد المقدسة وأصحاب طريق السلوك المنحرف).

وخط المواجهة الذي اتبعه السيد الشهيد (قدس سره) لأجل القضاء على روح هذا التدجين، لم يكن نمطاً دفاعياً على طول الخط، بل كان ملفقاً بين الدفاع والتقية النسبية من جهة وبين مهاجمة مظاهر الانحراف السلطوي والحوزوي من جهة أخرى، بل إن الصفة الغالبة له لاسيما في أواخر عمر نهضته كانت هجومية، كمطالباته العلنية بالإفراج عن المعتقلين، وقراره حول المحكمة القضائية الشرعية وتعريفه المجتمع بحقيقة سدنة المراقد المقدسة، وتحجيم دورهم، ومطالبته بالمشي لزيارة مرقد الإمام الحسين (علیه السلام) في الزيارة الشعبانية وتحريمه رمي الأموال في الأضرحة المقدسة، والمطالبة بتولي الحوزة الإشراف على المراقد الشريفة لأنها من مختصاتها ومسؤولياتها الشرعية، وغير ذلك، وبهذا أخرج السيد

ص: 97

الشهيد (قدس سره) المجتمع من حالة الخنوع والخوف من بطش السلطة بشكل ذكي وتدريجي وربى العراقيين علىمواجهة الصعاب والتحلي بقوة القلب وعدم الرهبة من الظلمة مادام العمل الحركي والإصلاحي ممكناً وفق الضوابط الشرعية التي لا تخالف التقية التي أوصى بها المعصومون (عليهم السلام).

وهذه الظاهرة الصدرية الاستثنائية التي شقت غبار الصمت والخوف، مارسها الشعب بقيادة المرجعية الدينية وشارك فيها بشكل ميداني وعملي، وليس فقط بالكلام والشعارات، مما زاد في نفوس المجتمع الحماسة والشجاعة وزال الخوف من قلوبهم، وهذا ما أشار إليه الشيخ محمد مهدي شمس الدين قائلاً: (أن المجتمع الذي خضع طويلاً لتأشير السياسية الظالمة التوجيه من الظالم لا يمكن أن يصلح بالكلام فهو آخر شيء يمكن أن يؤثر فيه إن الكلمة لا يمكن أن تؤثر شيئاً في النفس الميتة والقلب الخائر والضمير المنحدر، كان لابد للجميع من مثال يهزه هزأ عنيفاً).

وهذا النجاح الباهر الذي حققه شهيدنا الصدر لم يكن مهمة سهلة، فقد (ورِث (قدس سره) إرثاً ثقيلاً حيث البلد المحاصر اقتصادياً وسياسياً وتحكمه سلطة تمارس سياسة البطش والقمع في أعتى صورها، شعباً محاصر أمنياً و اقتصادياً تفشى فيه الفقر والجوع والمرض .. كل هذه الظروف مثلت مقدمات للتفكير في مشروع نهوض وسياسي واجتماعي، يزاد على ذلك ضعف الإمكانيات الذاتية كانت تشكل بحد ذاتها تحديداً كبيراً أمام أي حركة تغييرية، هذا الإرث الثقيل مثل التحدي الأكبر أمام السيد الصدر لبناء مشروعه التأسيسي فقد كان عليه تجاوز العديد من المعوقات والمعالجات كلاً على حدى من أجل النهوض بالمجتمع ومن أجل البناء على أسس قوية متراصة)(1)، (ويمكننا أن نتلمس منهجه الإصلاحي في

ص: 98


1- - يُنظر المصدر نفسه، ص122.

هذه المرحلة بصورة مجملة في كلمات قالها لأحد طلابه حينما سأله: سيدنا ماهي خطتكم لقيادة الحوزة، فأجاب (قدس سره) قائلاً: (سأسعى جاهداً وبكل ما أتيت من قوة لتحقيق ثلاثة أمور: الأولأن أعيد للحوزة والمرجعية هيبتها، والثاني أن أكسر الحواجز بين الجماهير والمرجعية، والثالث أن أقول وانشر الحقائق مهما كلفني ذلك).(1) وفيما يأتي نذكر أبرز معالم النهضة الصدرية الشريفة، التي حرّرت الأمة من قيد التدجين المفتعل ضدها:

1) مواجهة الحوزة التقليدية الساكتة:

والتي نستطيع أن نطلق عليها مصطلح (الرهبانية الجادة) حسب تسمية السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) في تقسيمه لفئات المجتمع الفرعوني، حيث واجهها الصدر الثاني من خلال عدة جهات، منها؛ تعريف المجتمع بحقيقتها ومعالمها وفصلها عن الحوزة الرسالية المخلصة، مع بيان فضّلها وأفضليتها على الحوزة التقليدية، التي تعيش القصور والتقصير في أداء مهامها الحوزوية، ويُعد السيد الشهيد (قدس سره) هو أول (على أقل التقادير في العصر الحاضر) مَن فَصَل بين هذين الحوزتين وأطلق على الحوزة غير الرسالية بالحوزة (التقليدية والساكتة والصامتة).

كما نَقَد (قدس سره) جملة من الظواهر والسلوكيات التي تنتشر في أوساط الحوزة التقليدية --- غالباً --- كظاهرة تقبيل اليد والجلوس في صدر المجلس ورفع الصوت بالصلوات عند دخول رجالاتها، وقد تحدث (قدس سره) بشكل مفصّل في خُطب الجمعة عن هذه الظواهر للحد منها، حيث قال: (إن تقبيل اليد، يكون بالنسبة إلى من تُقبّل يده، نحواً من التكبر والانانية، والشعور بالأهمية بالنفس الأمارة بالسوء، وشكل من أشكال الاستعلاء بالباطل، وعلى غير الحق، وفي يوم

ص: 99


1- - المصدر نفسه، ص137.

القيامة يحشر الفرد ويسأل لماذا قدمت يدك للتقبيل؟ فماذا يجيب؟ مع إن حبال الدنيا يومئذ كلها متقطعة، هل يقول كان ذلك طلباً للدنيا، أو للشهرة، أو للمال، أو للتعارف الاجتماعي أو للتكبر؟ طبعا كل ذلك منقطع في يوم القيامة، ولا يقبله الله سبحانه وتعالى، ومنهنا ورد كما سمعنا، (إنها لا تكون إلا لنبي أو وصي نبي) أي للمعصومين بالذات، أو واجبي العصمة، عليهم أفضل الصلاة والسلام. وهم الانبياء والاولياء عليهم السلام، لان نفوسهم ليست أمارة بالسوء، لانهم معصومون. أما أنا وأمثالي، من ذوي النفوس الضعيفة، والقلوب المخلوطة، فهي مؤثرة لامحالة، (أي تقبيل اليد) تأثيراً دنيوياً متسافلاً، حتى وإن كان قصد الطرف الاخر (أي المقبل) قصداً حسناً وبنية حسنة، الا إن فيه جانبا سيئا ايضا حتى على الاخر، لان الفرد الذى تُقبل يده إذا تورط أمام الله سبحانه، فإن الذى ورطه إنما هو هذا الذي قبل يده، فهو يضره في الآخرة، فيصير واسطة على ضرره، فيكون هو متورطاً أيضاً لأنه يضر المؤمن من هذه الجهة).(1)

2) المطالبة بسدانة المراقد المشرّفة:

كانت إدارة الأوقاف الشيعية بيد وزارة الأوقاف العراقية ذات الصبغة السنية وعلى الرغم من أن المراقد المقدسة تعتد من المؤسسات الكبيرة فإنها كانت بعيدة عن مسؤولية المرجعية، لذا طَالب السيد الشهيد (قدس سره) بهذا الحق وجعل المراقد المقدسة تحت إشراف الحوزة ومرجعيتها الدينية، وهذا ما صرح به في إحدى خطب الجمعة قائلاً: (...أريد أن أفتح أعينكم عليه والظاهر انكم كلكم غافلون عنه. فكروا في امور دينكم اكثر مما انتم تفكرون. ما هو؟ حبيبي .. مقتضى القاعدة الشرعية أن تكون المساجد والمراقد المقدسة للمعصومين (عليهم السلام) وغير المعصومين (رضوان الله عليهم) أن تكون المساجد والمراقد تحت سيطرة

ص: 100


1- - خطبة الجمعة التاسعة عشر ، للسيد الشهيد الصدر (قدس سره).

وإشراف الحوزة الشريفة والمرجعية الجليلة وليس لاحد حق ان يتصرف فيها الا بإذنها وتوجيهها لان المسألة بالأساس هي مسألة دينية والدين كله بيد الحوزة جيلا بعد جيل فليس من الانصاف ان يكون بعض الدين بيد الحوزة وبعض الدين خارج عن يد الحوزة. وقد كان ذلك فعلا موجودا منذ زمان المعصومين سلام الله عليهم الى عصر الشيخ صاحبالجواهر (قدس الله روحه) حيث كان العلماء ردحا طويلا من الزمن وعلى مرور قرون - في الحقيقة - هم الذين يعينون السادن أو الكليدار الذي هو المسؤول الرئيسي في العتبة، في هذه العتبة او تلك او في هذا المسجد أو ذاك، بيد العلماء صرف حتى آل الامر الى مرجعية الشيخ صاحب الجواهر (قدس سره) فعين شخصاً (فلان يسموه انا لا احفظ الاسماء بالضبط) جعله كيلداراً لصحن أمير المؤمنين (علیه السلام) ثم توفي الشيخ صاحب الجواهر (قدس سره) وكان المفروض بهذا السادن ان يأخذ الاذن من المرجع الذي بعده او ان يعطيه الحق بعزله ولربما ان الذي جاء بعد الشيخ صاحب الجواهر ما كان راضياً عن تصرفات هذا الرجل وأراد تغييره فعصى وبقي على السدانة والكليدارية وتسلسل الامر الى الآن وخرجت الكليدارية في كل العراق عن الحوزة الشريفة. ونحن نعلم إن السادن في بعض الدول المسلمة رجال دين كما في إيران والسعودية وكل واحد حسب مذهبه، ولذا كان يعتقد العوام ولعلهم لا زالوا - أنت إرجع إلى وجدانك - اليس تجد إن السادن والخدمة إنما هم رجال دين كثير هذا الاعتقاد موجود، كأن الحوزة بدرجة عالية تمثل رجال الدين والخدمة والسدنة يمثلون رجال الدين بدرجة ادنى فلذا يعطوهم الحقوق ويسألونهم عن الفتاوى والمشاكل الدينية ونحو ذلك فهل هذا المطلب صحيح ؟ انا هذا الذي اريد ان احذركم منه، إلا ان المسألة منذ وفاة الشيخ صاحب الجواهر الى الان، قد انفصلت عن الحوزة وعن المرجعية الى ان سيطرت عليها وزارة الاوقاف من حوالي ثلاثين سنة والى الان

ص: 101

واصبح السدنة والخدمة مجرد موظفين لا يقيمون وزنا لأي امر ديني او دنيوي الا لوظائفهم الحكومية وأوامر وزارة الاوقاف فيتوجهون ك-(زار) اللعبة بيد الموجه لهم، وهم منقطعوا الصلة بالمرة عن الحوزة وعن العلماء والحوزة منهم براء وهم أيضا براء من الحوزة).(1)

3) الوقوف بوجه السدنة وتعريف المجتمع بحقيقتهم:

نستطيع أن نطلق على هذه الفئة من المجتمع مصطلح (رجال الرهبانية المزيفة) حسب تسمية الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في تقسيمه لفئات المجتمع الفرعوني، وقد أمرهم شهيدنا الصدر(قدس سره) بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى وذلك لما يرتكبونه من مخالفات ومحرمات، فقال (قدس سره) في إحدى خطبه الشريفة: (إننا لو التفتنا اليهم وتعرفنا على حقائقهم لوجدناهم جميعا الا من ندر ربما اقل من واحد بالمائة منهم خوش آدمي، له باب وجواب انا لا اريد ان استغيب الكل، لكن عمومهم ليسوا كذلك. اننا لو تعرفنا على حقائقهم لوجدناهم جميعا الا من ندر فسقة فجرة شاربي الخمر وزناة واهل لواط ويأكلون المال الحرام ويخدعون الزوار بمختلف انواع الخداع لمجرد الحصول على المزيد من المال، ويعملون امورا لم ترد في الكتاب والسنة اطلاقا ك-(الدود) الذي يوزع - يكسب عليه فلوس - انما هو يشتريه من البزاز ويبيعه على الزائر وليس فيه اية شرفية ولا بركة أصلاً، اصلا من يده النجسة يكون هذا نجس. اعلنه الان امامكم جميعاً والخيوط التي يلفونها حول الضريح الشريف ويلمسون النساء بعنوان التبرك وكثير هذا يحدث ربما يوميا يحدث مع شديد الاسف، وكذلك اغلبهم لا يصلون ولا يصومون ولا يخمسون ولا يزكون، رأيت واحدا داق بابك يعطيك خمس، حق الإمام - اتحدى ذلك منذ مئات السنين وليس الآن، اما الان تحت الصفر بكثير من الناحية الدينية.

ص: 102


1- - صلاة الجمعة الخطبة السادسة عشر.

ولا يصومون ولا يخمسون ولا يزكون وكيف شارب الخمر يصلي او يخمس أو يزكي، وهم يسرقون اموال الحرم، وما يوقفه الزوار يسرقونه بكثافة شديدة وخاصة السدنة والخدمة المهمون، فمثلا انا اعطي زولية تفرش في الحرم يوم واحد او يومين او ثلاثة ما دام الزائر موجودا قبل ان يسافر حتى يراها، بمجرد ان ركب السيارة ودار ظهره وراح فان هذه الزولية (تتلفلف) وإلى الأبد لا يراها أحد وكل الأشياء هكذا، كل الموقوفات هكذا، واذا ذهبت الى بيوتالسدنة واضرابهم تجد التحف والمعلقات والصور والفرش والذهب، كله من السرقة من المعصومين (سلام الله عليهم) وهذا متواتر وقد يصدف انني انا رأيته بعيني ربما كان في سنين قديمة عنده تعزية او كذا واحد منهم نروح فنجد ذلك عيانا وهذا ما يبديه وما عنده مانع ان يروه الناس فكيف ما يخفيه الذي هو اكثر واكثر بطبيعة الحال، ومن هنا ملكوا البيوت الفارهة والسيارات الثمينة والذهب الكثير. واما الذبائح والغنم وغيرها مما يسحبه الخدم من الزوار فحدث عنه ولا حرج وفي كل يوم على الاطلاق يحصل ذلك ولا يعلم الزائر البسيط إنه لم تبرأ ذمته وانه وصلت ذبيحته إلى انسان شارب الخمر وتارك الصلاة وغير متورع بل هو من اعداء الله بكل تأكيد حتى اننا نسأل هل ظاهرهم الصلاح ؟ كلا، بل ظاهرهم الفساد وانت بمجرد ان تنظر الى وجوههم وعيونهم والتفاتاتهم تجد فيها الضلال والطمع بالدنيا والبعد عن الاخرة، وكان بعض الخدمة يقوم بقراءة الزيارة لعدد من الزائرين ويأخذ على ذلك مالاً وهذا جيد إلا ان الامر تقلص واصبح يأخذ المال بدون مقابل قهرا على الزائرين وبخدعة الزائرين، فالمهم هو الحذر الحذر من هذا الوضع الفاسد المنحرف فان اعطاءهم المال باطل وغير مفرغ للذمة وليس عليه ثواب بل عليه عقاب لأنه تأييد للظلم والاثم ولإعداء الله سبحانه وتعالى. ويكفي ان يحذر الناس منهم فيقاطعونهم

ص: 103

لعلهم يتذكرون او يتفكرون او يتوبون وهيهات ان يتوبوا لانهم غير مستحقين للتوبة).(1)

4) أما الجبهة الثالثة والفاسدة ضمن الإطار الديني فهم (السلوكيون المنحرفون) الذين انحرفوا عن الجادة وراحوا يعملون ما يضنونه حقاً، لذا وقف السيد الصدر في وجوههم وعرف الناس بانحرافهم وتبرأ منهم ومن أعمالهم ومعتقداتهم بشكل علني،في إحدى خطب صلاة الجمعة حيث قال (قدس سره): أريد الآن أن أذكر لكم جانباً من عقائدهم الفاسدة باختصار:

أولاً: انهم تاركون لتعاليم الشريعة للصلاة والصيام وغيرها تأويلا للآية (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) وقد جاءهم اليقين بزعمهم اذن فلا موجب للعبادة.

ثانياً: انهم يرون انفسهم اعظم من النبي والقرآن اذن فلا موجب لطاعة النبي (صلى الله عليه واله) وطاعة القرآن.

ثالثاً: إنهم ينكرون يوم القيامة والثواب والعقاب في الجنة والنار. وانما الثواب والعقاب في نظرهم نفسي وباطني وليس كما يقول الدين الاسلامي الحنيف من انه هناك حشر ونشر وقيامة وثواب وعقاب وجنة وجهنم، كل ذاك غلط اي في نظرهم الفاسد.

رابعاً: انهم يأمرون الناس بالتخلي عن عقولهم وعزل تفكيرهم والطاعة العمياء لهم اي لهم بصفتهم شيوخ سلوك وطريقة، مع ان النتيجة الصريحة والاولية لذلك اي للتخلي عن العقل هو الكفر والالحاد لان العقل هو الدليل أو الدال الرئيسي على وجود الله سبحانه. فاذا زال العقل او زال الاعتماد عليه انسد باب الاستدلال بالخالق فيصبح الفرد في لحظة من حيث يعلم أو لا يعلم ملحدا. وفي الرواية : ان الله تعالى خلق العقل وخاطبه : بك أُعبد وبك اثيب وبك اعاقب. فاذا رفضناه كنا

ص: 104


1- - المصدر نفسه.

من الخاسرين بطبيعة الحال. وكذلك في الرواية ان العقل نبي من الباطن والانبياء أنبياء من الخارج، يعني ماذا؟ يعني كل واحد الله تعالى مرسل له نبي في باطنه عليه اتباعه فاذا ازالونا وفرغونا من عقولنا معناه قتلوا النبي الذي الله تعالى أرسله إلينا وعلينا ان نطيعهم صرفا على شهواتهم وانحرافاتهم.

خامساً: انهم يؤمنون بالحلول وان روح علي حلت بفلان وروح سلمان حلت بفلان وروح ابو ذر حلت بفلان وروح الزهراء حلت بفلانة وهكذا يقسمون الوظائف فيما بينهم وهذا من المضحكات المبكيات والذي ترفضه الشريعة بصراحة.. .(1)

3) إنعاش الحوزة الدينية في النجف الأشرف وفتح الباب لقبول الطلبة ودعمهم واحتضانهم:

عانت الحوزة العلمية الشريفة في النجف الأشرف أبان الحكم البعثي المتغطرس ظلماً وتضييقاً كبيرين، حيث هُجرت أفواج غفيرة من علماء الحوزة وطلبتها من الجنسيات غير العراقية، بالإضافة إلى الاعتقالات المتكثرة التي طالت العديد من أبنائها، فقضوا خلف قضبان السجون، يعانون آلام الحبس والتعذيب، كما مارس البعث الكافر أسلوب الاغتيالات والتصفية الجسدية لأبرز رموزه الحركة الفكرية، ناهيك عن أساليب المراقبة والمحاربة النفسية التي قيدت حركة العلماء والطلبة العاملين، وكان قصد الحكومة البعثية هو القضاء على المد الديني في العراق، وتجفف منابع الهداية والت-أثير الحوزوي على المجتمع العراقي، وبالفعل تم لحكومة البعث ذلك لولا همت بعض الغيارى من أبناء الحوزة الرسالية الشريفة، وفي مقدمتهم السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) الذي قاد النهضة الفكرية والثورية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حتى قضى شهيداً على يد الطاغية صدام في 1980، كما سبقه للشهادة كوكبة من الشهداء الذي واكبوا نهضته من

ص: 105


1- - خطبة صلاة الجمعة السادسة عشر.

قريب ومن بعيد، واستمرت تصفية أبناء الخط الديني حتى بعد استشهاد زعيمها الصدر، سواء من داخل الحوزة أو خارجها، وبهذا تصدع الجيل المعاصر لحركة الصدر الأول، الذي أمعنت السلطة في القضاء عليه، بشكل متعمد ومدروس، فأحكمت السلطة قبضتها على الحوزة وضيقت الخناق وبشدة عليها خصوصاً والشعب عموماً، فكان العمل بالتقية المكثفة عنوانلكل مؤمن يعيش في العراق، وخصوصاً من يلبس الزي الديني أو ينتمي إلى عائلة علمائية أو حوزوية، وكادت تختفي مظاهر التدين من الشارع العراقي لولا ألطاف الله تعالى، واستمر الحال هكذا مع شيء يسير من التغير في نمط التقية قوة وضعفاً حسب الظروف وتقلبات الأحوال، حتى بزوغ فجر الرحمة وانبثاق الأمل من جديد، بمجيء السيد الصدر الثاني لقيادة الحركة الدينية وزعامة الحوزة النجفية، فأعاد الحياة من جديد ليس للحوزة فحسب بل وللشارع العراقي ككل، فأرجع هيبة الحوزة، وقاد نهضتها وفق استراتيجية مدروسة وخطى ثابتة، بشكل تدريجي لا يثير حساسية السلطة الغاشمة، على الرغم من كل الصعوبات والمعوقات التي كانت تكتنف طريقه الشائك والمحفوف بالمخاطر، فلا يعتقد أحد إن السلطة الصدامية هي وحدها كانت العائق الوحيد أمام صدرنا الشهيد، بل هناك العديد من المعوقات والمصاعب الأخرى كالأعداء المتربصين به (قدس سره) الدوائر سواء من جهة السلطة أومن الحوزة الأخرى أو من المعارضة التي تمركزت خارج العراق أو غيرهم ممن يضرهم وجود السيد الشهيد وحده في الساحة العراقية، لقيادة المجتمع وخطف الأضواء والسمعة -- كما يظنون -- ناهيك عن الصعوبات الطبيعية الأخرى.

فكان في مقدمة الإصلاحات التي بادر السيد الصدر (قدس سره) إلى العمل عليها هو إصلاح الواقع الداخلي للحوزة، وإنعاشها وبث الروح فيها من جديد، وبالفعل تم له ذلك بفضل الله تعالى وهمت الغيارى من المؤمنين الواعين الرساليين،

ص: 106

وبعدما رأى المجتمع تغير الحال، بعد مجيء السيد الصدر (قدس سره) وقيادته للمرجعية الدينية وحوزتها المباركة، تأثروا به كثيراً، لاسيما بعدما لمسوا منه إخلاصه وتواضعه وشجاعة الملفتة وقوة القلب التي يتعامل بها مع السلطة، بالإضافة إلى أخلاقه الحسنة وطيبته المتميزة عن سائر العلماء، التي تسببت بشكل سريع في انجذاب الناس إليه، وهذه التأثير الاجتماعي، والمغناطيسية الأخلاقية -- لو صح التعبير --- أشار لها القرآن الكريم فيمعرض وصفه للخُلق نبينا الكريم (صلى الله عليه وآله)، وبيانه للجاذبية المحمدية، حيث قال سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) فكشف القرآن الكريم عن سر نجاح التفاف الناس حول نبي الإسلام، وهذا هو أيضاً أحد أسباب نجاح الحركة الصدرية، التي كما قلنا قبل قليل إنه (قدس سره) ابتدأ بالنهوض بها من داخل إطار الحوزة الشريفة لكي ينطلق بها نحو هداية سائر المجتمع وإصلاح شأنه.

لذا كانت إحدى الآليات العملية التي انتهجها السيد الشهيد (قدس سره) هو إنه (اشترط على الطلبة عدم التخلي عن اللباس الحوزوي أثناء سفرهم إلى محافظاتهم وكان يهدف بهذا إلى الإبقاء على الزي الديني الذي تضائل كثيراً نتيجة الخوف من ارتداءه كما كان يسعى إلى جعل الزي الديني يشكل تحدياً حقيقياً للنظام وكان السيد الصدر يقول: (إن مجرد ارتداءك الزي الحوزوي كاف لمشروعية الراتب الحوزوي) يضاف إلى ذلك تشجيع الكثير من الفضلاء الذي تخلوا عن الزي الحوزوي نتيجة سياسة النظام مما أدى إلى افتقار الحوزة إلى الدرس كما أن هذا الأمر أعاد الأمل إلى الأمة وهو بقاء الدين على ما هو عليه حتى صار ارتداء الزي في هذه الفترة شعيرة من الشعائر الدين... كما شجع (قدس سره) المجتمع بالانتماء للحوزة العلمية في لقاءاته وخطبه وكتاباته وكان يركز على بعض المناطق والمدن أكثر من غيرها حيث كان يرى أن مجرد زيادة عدد المعممين في هذا

ص: 107

الوقت هو ناجح لهدفه ويدخل في مشروعه وكان يعلم أن بعض الطلاب لا يلبي الحاجة ولا يفي بالغرض ولكنه كان يخطط في بناء نواة من المخلصين الراغبين داخل هذا الجسم فأن العدد الكبير يمكن أن يكون قشرة يستطيع أن يخفي فيها النوعية الواعية... كما قام (قدس سره) بافتتاح أول مدرسة وهي مدرسة الإمام الصادق (علیه السلام) (الشبرية) عام 1993 فكانت فاتحة خير وكان ذلك طبعا دون إذن من أحد وأسكن فيها بعض الطلبة ثم بعد مدة قام بافتتاح مدرسةأخرى وهكذا كانت تفتح المدارس الواحدة تلو الأخرى... وقام السيد الصدر من جهته بعطاء الدروس في تفسير القرآن في يومي الخميس والجمعة, وفي أيام التعطيل الأخرى كان يلقي محاضرات عن ثورة الإمام الحسين(علیه السلام) وذلك من أجل تنشيط الحركة العلمية في النجف، أعادة دروس التغيير التي أهملت, أيجاد منهية جديد في البحث والتدقيق والتفكير السليم).(1)

4/ التعامل الحكيم والمدروس مع السلطة الصدامية الظالمة:

تعامل السيد الصدر الثاني (قدس سره) بحذر وحكمة شديدين مع السلطة الصدامية التي لا تتوانى في القضاء على خصومها، حتى إن الطاغية (صدام) يتبجح ويفتخر قائلاً بما مضمونه بأنه قادر على قتل عشرة آلاف إنسان دون أن يرمش له جفن أو تحرك هذه العملية الإجرامية مشاعرة، فما بالك بمن ينهض بأعباء القيادة الدينية وينتشل الشعب من مستنقع الظلم والظلام البعثي ويلغي دور السلطة ويعاند قراراتها.

وعلى الرغم من كل الهالة المخيفة التي تتمتع بها السلطة الصدامية الفولاذية آنذاك إلا أنها لم تهز كيان السيد الصدر الثاني (قدس سره) ولم تخيفه زعقات

ص: 108


1- - يُنظر المشروع السياسي والاجتماعي للسيد محمد الصدر، هاني النجار، ص140. ص155. ص159. ص 236.

الأبواق الإعلامية التي راحت تبرق وترعد لكي تدب الرعب في قلوب العراقيين، وبفضل الله تعالى وحنكة السيد الشهيد (قدس سره) استطاع أن ينزع هذا الخوف من الشعب ويزرع فيهم قوة القلب شيئاً فشيئاً، مما أذهل ذلك القريب والبعيد، بل استطاع أن يؤثر حتى في من يعمل في مؤسسات الدولة وينتسب إليها، ويجذبهم إلى شخصه الكريم ليحررهم من ربقة ذل الاستعباد والضلالة، ويجعلهم يستنشقون نسيم الحرية والهداية بالرجوع إلى الله تعالى، حتى نُسب إليه أنه قال (قدس سره) معرباً عن نجاحهفي القضاء على هيمنة السلطة الصدامية على الشعب: (أنا سحبت البساط بنسبة 75% وبقيت 25%).

ويرجع سبب ذلك النجاح الكبير الذي حققه السيد (قدس سره) في هذا الجانب والجوانب الأخرى، هو أولاً إخلاصه في العمل لأجل الله تعالى، وثانياً حنكته السياسية والادارية وخبرته في التعامل مع الأشخاص والأحداث وثالثاً معرفته الدقيقة بطبيعة النظام الحاكم وأيدولوجيته وأهدافه وكيفية تفكيره، فهو (قدس سره) قد عجن بخبرته الأحداث وعاصر الكثير من الشخصيات والأزمات والحوادث التي مرت عليه سواء أبان الحكم البعثي الظالم أو قبله، فأصبح رجلاً مخضرماً يحمل تراكمات الماضي المرير وأهداف المستقبل.

كما أسعفته تقلبات الظروف بفضل الله تعالى ومشيئته بعد وفاة السيد الخوئي (رحمه الله) الذي كان يتزعم قيادة الحوزة النجفية، فاستثمر (قدس سره) الفرصة لبدأ نشاطه الديني والنهوض بمشروعه الاصلاحي والرسالي، وبحمد الله وفضله تنامت حركته شيئاً فشيئاً مع بدايات مطلع عقد تسعينيات القرن المنصرم، إلى أن كللها بالشهادة هو ونجليه في عام 1999م لتنتهي بذلك مرحلة ذهبية من عمر النهضة الدينية في العراق التي قل نضيرها، وسنستعرض باختصار كيفية تعمل السيد الشهيد (قدس سره) مع السطلة الظالمة في تلك الحقبة الرهيبة، حيث

ص: 109

وضع (قدس سره) جملة من الأمور والارشادات التي وجهها للمجتمع، تقضي بموجبها سحب البساط من تحت السلطة دون إثارة حساسيتها أو ايجاد تصعيد في الموقف معها، ونذكر منها على سبيل المثال الأمور الآتية:

أولاً/ ربّط الناس بالمرجعية الدينية وبالحوزة الشريفة:

وجعلهما مرجعاً لهم في أمور الدين والدنيا وفي حل مشكلاتهم ومتعلقاتهم، ولذا نلاحظ إن السيد الشهيد (قدس سره) راح يردد وصيته الشهير علناً وبتكرار علىمسامع الناس في خطب الجمعة المباركة، قائلاً: (لا تقل قولاً ولا تفعل فعلاً إلا بعد السؤال عن الحوزة العلمية).(1)

ثانياً/ تدريب المجتمع على الطاعة والولاء للحوزة الشريفة ومرجعيتها الدينية وقطع علاقتها بالسلطة الظالمة:

حيث (تمكن السيد الصدر (قدس سره) من تفريد مفاهيم الطاعة والولاء في نفوس الجماهير خلال فترة وجيزة ويعد هذا الأمر حيوياً لأنه مقبل على حركة تغيرية كبيرة ومواجها حاسمة مع النظام وقد علّق (قدس سره) على ولاء الأمة للمرجعية في إحدى خطب صلاة الجمعة --- عندما منعت السلطة الزيارة الشعبانية إلى كربلاء --- قائلاً: (هذه بادرة ناجحة وحسنة لأنكم اثبتم بالتجربة إن الحوزة اذا قالت لكم اذهبوا تذهبون واذا قالت لكم اجلسوا تجلسون واذا قالت لكم تكلموا تتكلمون واذا قالت لكم اسكتوا تسكتون. وانتم بعونه سبحانه والحمد لله اثبتم انكم على مستوى المسؤولية وعلى مقتضى الطاعة ووفقكم الله جميعا الى احسن ما يحب ويرضى) وهنا دون شك تتضح مقاصد السيد (قدس سره) بالرد على مقولة البعثية التي سادت العراق ويوم ذاك قائلة: (إذا قال صدام قال العراق) ، وقد قال بهذا الخصوص: (بالنسبة الى عوام الشيعة جزاهم الله خير جزاء المحسنين هو

ص: 110


1- - صلاة الجمعة الخطبة الثانية والاربعون.

ان لا يعملوا عملا او لا يقولوا قولا الا بإذن المراجع الكرام والقادة العظام الله يديم ظل الموجودين منهم. لا تتحرك ولا تنطق ولا تنظر بل ولا تفكر الا بإذن الله الا بالشيء الذي يرضي الله سبحانه وتعالى. واما اذا كان شيئا مشبوها او مشكوكا، او فيه زيادة او نقيصة او احتمال الخطر او احتمال السوء او احتمال الذنب او احتمال (الزلق) كما يقولون امتنع عنه بكل صورة، نحن لم نر الله سبحانه ولا سمعناه وانما سمعنا عنه وكتابه المفتوح عنه هم العلماء، فلا ينبغي ان الانسان يتصرف اطلاقا إلا بادن العلماء، حبيبي .. (مو أنا قلبي محروق)اقول للجماعة ابتعدوا ولا يبتعدون، فانت اذا كنت تقر بولايتي فما معنى عدم ابتعادك ؟ اليس المفروض اطاعتي. اذا انتم في القليل هكذا فكيف ستكونوا في الكثير ؟! ليس له معنى حبيبي. اطيعوا علمائكم فقط والا فلا) كما تحدث السيد عن ضرورة الالتزام بسيرة أهل البيت والإقتداء بالمرجعية قائلاً: (كالميت بين يد الغاسل , وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان أمام المعصومين ليس في حياتهم فقط دائماً وهؤلاء المشككون الموجودون في كل عصر للتشكيك بالمراجع عموماً وبالسيد محمد الصدر خصوصاً وعدم حملهم على الصحة وعدم طاعتهم إلا بعد الاقتناع ولن يحصل الاقتناع بها هم فيه ومن ثم سوف تفشل كثير من المصالح العامة والحقيقة بإرجاف المرجفين واشكاك المشككين ولو أنهم التفوا حول حوزتهم ووثقوا بآمر مرجعهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)).(1)

كما (أستخدم السيد الصدر عدة أساليب ومفردات ساهمت في تعبئة الجماهير من خلال الإيحاءات والشعارات التي يطلب من الجمهور ترديدها خلفه خلال خطب صلاة الجمعة مما عزز حالة الانتماء الجماهيري للمرجع وتمسكوا به لأنهم

ص: 111


1- - يُنظر المشروع السياسي والاجتماعي للسيد محمد الصدر، هاني النجار، ص163.

يتفاعلون معه عبر المشهد البصري والاستجابة السمعية لخطب. وكان هنالك هتافات جديدة لم يسمع بها الشارع العراقي مثل (نعم نعم للإسلام ) و(نعم نعم للمذهب ) و(نعم نعم للجمعة) مقابل شعارات السلطة القائلة: (نعم نعم للقائد صدام حسين) وشعار (لا شيعة بعد اليوم) الذي رفعته الدولة بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991، وقابلها السيد الصدر بشعار:(كلا كلا للباطل, كلا كلا أمريكا, كلا كلا إسرائيل كلا كلا استعمار ...). (1)ثالثاً/ تأسيس المحاكم القضائية الشرعية برعاية مرجعيته الشريفة:

(قام السيد الصدر (قدس سره) بتأسيس المحكمة الشرعية في سنة 1998م مقابل محاكم السلطة الظالمة، لافتاً بذلك أنظار المجتمع إلى هويتهم الدينية من جهة، وأشار إلى أن السلطة بعيدة عن أحكام الدين من جهة ثانية، من أجل إظهار المسافة بين السلطة وبين الأمة وحكام دينها وهو من جملة الأمور التي اختلطت على بعض شرائح المجتمع خاصة بعد أن تهيب الكثير من العلماء وترددوا في بيانه وإظهاره للناس بشكل واضح وصريح وأمام طاغية متفرعنة وظالمة).(2) و(بعد الإقبال الكبير من المجتمع على المحكمة الشرعية في النجف، والقضاء الشرعي الحوزوي.. فَكَر (قدس سره) بتوسيع هذا الظاهرة من خلال فتح مشروع في المحافظة ابتداء بالبصرة وبغداد، وبالفعل أرسل قضاة لهاتين المدينتين، ولما علم النظام الحاكم, بعث على القضاة وهددتهم بالرجوع إلى النجف, وحذرتهم من العودة الممارسة القضاء).(3) و(لكثرة المرجعين الذين يعرضون مشكلاتهم وخصوماتهم على السيد الشهيد الصدر كان مكتبه الشريف يضج بالناس في السنة

ص: 112


1- - المصدر نفسه ص169. بتصرف.
2- - ينظر المصدر نفسه ،ص255.
3- - المصدر نفسه، ص257.

الأخيرة من حياته، فاضطر لتنصيب بعض الفضلاء للتصدي لحل مشكلات الناس على طبق فتواه (قدس سره) وكانت اغلبها تحسم بالتراضي فكان هذا المشروع يلبي لحاجة فرضتها الظروف, ولكنها أنتجت نتائج باهرة وغير متوقعة منها:

1) إن الناس بدأت تترك المحاكم الرسمية التي تطول فيها الدعوى وتهرع إلى المحكمة التي أسسها السيد الصدر, ولكثرة الزخم على هذه المحكمة اضطر( قدس سره ) لفتح بعض الفروع في المحافظات.2) إن هذا الخطوة بالرغم من أنها عفوية ألا أنها أرعبت سلطة النظام الحاكم وشعرت من خلالها أن السيد بدا يسحب البساط من تحتها , فتصرفت بشكل هستيري , وأغلقت الفروع في محافظات بطرد القضاة الذي عينهم السيد( قدس سره ) وحذرتهم من العودة).(1)

رابعاً/ دعوة موظفي الدولة إلى التوبة والرجوع إلى الله سبحانه

حيث وجّهه (قدس سره) إلى طبقة الموظفين والسياسيين خطاباً من خلال صلاة الجمعة يدعوهم فيه إلى التوبة وإعلان الندم والرجوع إلى الله سبحانه، ونبذ المحرمات والمخالفات الشرعية، قائلاً: (أوجه كلا مي إلى فئة أخرى من المجتمع نتوقع منها الخير والرجوع إلى الصلاح والفلاح وهم موظفوا الدولة والعاملون فيها في أي عمل كانوا أو اختصاص أو رتبة أو أهمية من وزراء ومدراء وعسكريين ومدرسين ومعلمين ومصلحين وأطباء ومن مختلف مذاهب المسلمين حتى عامل البلدية على ما يعبرون فإنهم بطبيعة الحال كسائر أفراد المجتمع يتوقع الدين منهم ويتوقع الله منهم الصلاح والفلاح ويتوقع المجتمع العدل ولإنصاف ويتوقع المؤمنون النجاة من عذاب النار)(2) وتُعد هذه الخطوة من قِبل السيد (قدس سره) خطوة

ص: 113


1- - المصدر نفسه، ص258.
2- - صلاة الجمعة الخطبة الحادية والثلاثون.

هجومية تجاه السلطة، لأن الموظفين على مختلف مراتبهم ووظائفهم وأماكنهم يعدون شريحة مهمة من حيث اعتماد السلطة عليهم في تنفيذ رقابتها وهيمنتها على الشعب العراقي، وخصوصاً الدوائر القمعية ومؤسسات وزارتي الدفاع والداخلية، وكأن السيد الشهيد (قدس سره) أراد خللت قوام السلطة الحاكمة والقضاء على البنية البشرية التي تعتمد عليها في تنفيذ سلطتها على الشعب، ومن جهة أخرى أراد أيصال صوت الهداية إلى هذهالفئة الضالة لأجل تحريرهم من ذل العبودية، وإرشادهم وإنقاذهم من معصية معونة الظالمين.

5) ملأ الفراغ القيادي في الساحة العراقية بعدما خلت -- تقريباً -- من وجود القيادات الرسالية المخلصة جراء التصفية البعثية التعسفية التي طالت أغلب رموز الحركة الدينية في العراق، منذ مجيء البعث الكافر للسلطة عام 1968م، فحاول (قدس سره) كخطوة أولى أن ينمي وجوده الحوزوي والقيادي ويحظى بتأييد شعبي في الشارع العراقي ويتملك زمام القرار الديني الذي يحدد مصير الأمة، ثم يعمد بعد ذلك إلى سحب البساط من تحت السلطة تدريجياً، وهذا ما حصل بالفعل بفضل الله تعالى وكاد أن ينجح بإسقاطها نهائياً لولا أن حالت دون ذلك بعض الأسباب من داخل العراق وخارجه للأسف الشديد(1)،إلا أنه (قدس سره)

ص: 114


1- - من جملة الأسباب الرئيسية التي حالة دون نجاح السيد الشهيد (قدس سره) في قلب نظام الحكم والسيطرة عليه عسكرياً هو استضعاف الحوزة الساكتة له، حيث أمعنت في قطع دعمها وتأييدها لها بل راحت توظف أبواقاً إعلامية مضادة لتشويه صورته أمام الأمة سواء من داخل العراق أو خارجه. والسبب الثاني هو عدم وعي بعض اتباعه لأبعاد حركته (قدس سره) وأهدافه القريبة والبعيدة وكيفية التعامل مع السلطة مداً وجزراً لخدمة الحركة الرسالية، وهناك أسباب أخرى كالموقف السلبي من المعارضة العراقية في الخارج تجاه شخصه الشريف، لأنها اعتقدت إن وجود هذا الرمز الديني الكبير داخل العراق قد سحب البساط من تحتها، لأنه حصل على شعبية كبيرة بين أوساط الشعب، وجعلهم مفلسين من هذه الناحية، فراحت تكيل له التهم والافتراءات وتصطف مع أعداءه ضده، وهذا ما أكده المرجع اليعقوبي (دام ظله) في إحدى كلماته، حيث قال: (إن الجهات السياسية فلانكشاف زيفها وإنها تتاجر بمظلومية الشعب العراقي وما يتعرض له من بطش من جلاوزة صدام فقد سحب البساط من تحت أرجلهم ولاح لكل مراقب أن السيد الصدر (قدس سره) هو الذي يقود المعارضة الحقيقية للنظام وجها لوجه داخل العراق وأنه يقوّض أركان النظام تدريجياً، فبدأت القوى المخلصة في إحداث التغيير تلتف حوله وتعرض عليه الاشتراك معه أما أصحاب الدكاكين البائسة فقد كسدت بضاعتهم وكانوا يرون في السيد الصدر كابوساً يجثم على صدورهم فوجهوا سهام غدرهم إليه وكشفوا ظهره للنظام وطوقوه وحاصروه وتركوه وحيداً في مواجهة النظام) يُنظر خطابات المرحلة،ج5، خطاب رقم (188)، بعنوان: (المشروع السياسي للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)).

على الرغم من ذلك فقد نجحفي جعل القيادة البعثية في بغداد قيادة سلطوية هزيلة فقدت الكثير من هيمنتها على الشعب، حتى بات المواطن العراقي يشعر بوجود دولة دينية داخل دولة أخرى.

وقد عزّز السيد (قدس سره) ارتباطه بالأمة من خلال عدة قنوات كان في مقدمتها صلاة الجمعة المباركة في مسجد الكوفة المعظم وصلاة الجماعة التي أقامها في الحرم العلوي الطاهر، بالإضافة إلى قنوات عديدة أخرى، كنشر الأشرطة الفيديوية والصوتية المسجلة للقاءاته، وتوزيع استفتاءاته التي راح الناس يقبلون عليها بلهفة (1)، ليتعرفوا على معالم دينهم، بالإضافة للقائه اليومي مع الأمة في مكتبه الشريف (البراني) ومسجد الرأس في رواق الحرم العلوي الطاهر، الذي يلقي

ص: 115


1- - لقد كانت الاستفتاءات التي أجاب عند السيد الصدر (قدس سره) الأثر الكبير في حل الكثير من المشكلات الاجتماعية كما ساهمت أيضاً في تنمية الوعي الديني بين الناس في معالجة النزاعات الحاصلة بين أبناء المجتمع والتي وصل بعضها إلى حد القتل حيث نتيجة الحرب الأخيرة في العراق أصبحت الاقتصاد العراقي مرتبطاً بالدولار وقد كان ارتفاعه وانخفاضه في السوق يؤدي إلى حصول كثير من المشاكل حيث قام السيد (قدس سره) بحلها فقهياً وبشكل يضمن العدالة الكاملة بين جميع الأطراف مما شجع جميع الاطراف المتنازعة إلى اللجوء للحوزة الشريفة في حل قضاياهم. يُنظر المشروع السياسي والاجتماعي للسيد محمد الصدر، هاني النجار، ص221.

فيه دروسه وابحاثه العالية، وهذا الاتصال المباشر وغير المباشر بالأمة ساهم بشكل كبير وسريع في انتشار حالة الوعي الديني لدى الأمة، وعزز أواصر الارتباط بالقيادة الدينية المتمثلة بشخصه المبارك بشكل أذهل جميع المراقبين للساحة العراقية.

6) إحياء المناسبات الدينية، بعدما طالها الإهمال والتضييع والتغييب:

حيث(وجهه السيد (قدس سره) دعوة إلى جميع الشعراء والرسامين والنحاتين إلى المشاركة في الوعي الديني الذي حصل في المجتمع فطلب من الشعراء أن ينظموا قصائد المدح بمناسبة بيعة الغدير والمشاركة في المسابقات الشعرية التي تنظمهاالحوزة الناطقة وكذلك دعا الرسامين والنحاتين إلى المشاركة في تخليد صلاة الجمعة في العراق وإقامة معرض بذلك بتاريخ (19/9/ 1998)).(1)

7) إقامة صلاة الجمعة التي تمثل رأس الحربة في مشروعه الرسالي وفي أكثر من سبعين مكاناً مختلفاً في وسط وجنوب العراق، وقد أسهمت هذه الصلاة بكسر حاجز الخوف الذي سيطر على قلوب العراقيين جراء الممارسات القمعية والاجرامية من قِبل السلطة، حتى إن السيد (قدس سره) كان يقول في إحدى لقاءاته المسجلة: (في الحقيقة أنا أعتقد بأننا بُعِثنا من جديد بأننا أحُيينا بعد الموت في وجود صلاة الجمعة المقدسة في الحقيقة حتى لو كنا نقول كما هو الصحيح طبعاً الجمعات مقامة في لبنان وفي غيرها وفي البحرين وفي باكستان وفي إيران لكنه ليس كالجمعات التي هي موجودة الآن ونفذت بعون الله).(2) فقام السيد الصدر (قدس سره) بنقل الجماهير نقلة نوعية من خلال إقامته لصلاة الجمعة المباركة، حيث كانوا بحاجة إلى متنفس. ولهذا تمسك السيد الشهيد

ص: 116


1- - المشروع السياسي والاجتماعي للسيد محمد الصدر، هاني النجار، ص223.
2- - إحدى اللقاءات المسجلة صوتياً للسيد الشهيد الصدر (قدس سره).

(قدس سره) بها بعد أن وجد ضالته فيها رغم كل التهديدات والوعيد الأمني بالتصفية والاعتقال .. ولكن هذا لم يفت السيد الشهيد فملك قلوب أتباعه وأصبح الأمر والناهي والحاكم الحقيقي لتلك القواعد الشعبية وتاهت السلطة الحاكمة في هذا المد والجزر.. ويمكننا أن نذكر عدة آثار أوجدتها صلاة الجمعة بين الحوزة الشريفة والأمة منها:

* كانت الصلة ضعيفة بين المرجعية الدينية وحوزتها في النجف وبين الأمة، فجاءت صلاة الجمعة لتكسر طوق العزلة وضعف الصلة بين الجماهير والمرجعية الدينية.

* أوجدت هذه الصلاة المليونية الوعي العقائدي والفقهي والأخلاقي بين صفوف المصلين وعوائلهم مما جعلها مدرسة لتعليم فكر أهل البيت (عليهم السلام) .* إنها خلقت عند الجماهير حافز الطاعة للمرجعية وعززت روح المبادرة عند المصلين على اختلاف مستوياتهم الإيمانية .

* دربت الكوادر الرسالية على أساليب العمل وأكسبتهم الخبرة اللازمة لقيادة الجماهير.

* كما أكدت بحضورها القوي على تقوية الروح الجماعية للمسلمين وإطاعة جميع التوجيهات والمبادرات الصادرة من قبل السيد الصدر .

* أخرجت المجتمع العراقي وخاصة المذهب الشيعي من حالة الدفاع السلبي وتلقي الضربات المعادية بشكل مستمر إلى حالة الدفاع الايجابي المرتكز على الجماهير المليونية .

* إنها أعطت الفرصة الكافية للعمل الاصلاحي وقد أصبح من الواضح تماماً رؤية ذلك التأثير الإصلاحي في البنية الاجتماعية للمجتمع العراقي .

ص: 117

* إنها ساهمت في زيادة أعداد المقلدين والأتباع للسيد الصدر (قدس سره) مما أدى إلى توسع القاعدة الجماهيرية له بمرور الأيام وبشكل ملحوظ.

* سببت صلاة الجمعة خوفاً شديداً لأعداء الإسلام وعلى جميع المستويات وقد كتبت بعض الصحف الغربية والإسرائيلية تقاريراً عن شخص السيد الصدر (قدس سره) وعن مشروعه الإصلاحي.

* نجحت صلاة الجمعة بإقامة المشروع الإيماني الحضاري الذي استوعب الجميع، وكان من ثمارها (المحكمة الشرعية، ولوائح العشائر المنظمة, والمؤسسة الإعلامية الرسالية).* أوصلت صوت السيد الشهيد بقوة إلى أغلب أبناء المجتمع في داخل العراق وخارجه وقد تأثر به الكثير فسارع جملة منه إلى تقليده والعمل بارشاداته. (1)

8) تحرير المجتمع من ربقة المخالفات الشرعية والانحرافات الاخلاقية والاجتماعية والانشغال بالرياضة والفن والاعلام المضل وسائر الوسائل الملهية عن المسؤوليات الفردية والاجتماعية، بالإضافة إلى مبادرته (قدس سره) بتحويل الفن المُجير لخدمة السلطة وللأغراض الدنيوية والسطحية الفارغة إلى أغراض رسالية واصلاحية هادفة، وكمحاولة منه (قدس سره) في هذا الاتجاه قام بتوظيف هذا الفن في عرض النجاح الذي حقّقته صلاة الجمعة المباركة (فأخذ يحث أئمة الجمع على انتقاد الظواهر السلبية في المجتمع من خلال صلاة الجمعة مؤكداً إلى ضرورة انتقاد النظام بين فترة وأخرى وأن لا يكونوا مهادنين على طول الخط، وكان يعبر عن ذلك بقوله: (إذا أرخو الحبل فشدوا وإذا شدوا فأرخوا) وكان يحث الطلبة جميعاً على ذلك ثم أمر بعد ذلك جميع أئمة الجمع بارتداء الكفن أثناء الخطبة

ص: 118


1- - يُنظر المشروع السياسي والاجتماعي للسيد محمد الصدر، هاني النجار،ص168و ص270. بتصرف

فكانت لهذه الخطوة إثارة كبيرة على المجتمع والنظام، حيث كان السيد (قدس سره) يريد من وراء ذلك أن يقول للجميع: إن عليكم أن تنصروا دينكم من خلال إقامة الشعائر الدينية مادام الموت حتمياً, ومعالجة محاولات النظام الرامية إلى منعها والقضاء عليها وكذلك إعلام النظام بأننا على أتم الاستعداد لمواجهة الموت في سبيل إحياء الدين والدفاع عنه وهذه أنفسنا مشروعة لذلك وقد قدّم أولئك الوكلاء الكثير من الشهداء قبل وبعد استشهاد السيد الصدر وكان تأثيرهم واضحاً في تلك الجموع الحاشدة التي استطاعوا أن يجعلوها تتبنى الإسلام وتنفذ شعائره بتوصيات وتوجيهات المرجع في جو يسودهالخوف والقمع).(1) ومن جهة أخرى (أوعز السيد الصدر (قدس سره) إلى مكتبه بإصدار مجلة دينية ثقافية تهتم بشؤون المجتمع والحوزة على أساس المسموح به من السلطة .. وذلك من أجل تقوية العلاقة وتوثيقها بين الشباب الواعي والمركز الديني أو المرجعية الدينية في النجف الأشرف فضلاً عن استقطاب المثقفين العراقيين الذين حمتهم السلطة من أي لون من الوان الثقافية الإسلامية ألأصيلة بعد حظر السلطة للكتاب الإسلامي وإتلافه ومنعه وملاحقة الحائزين عليه حتى كتب الأدعية والزيارات، وبشكل كبير).(2)

كما تحدث السيد (قدس سره) عن موضوع الرياضة في إحدى صلوات الجمعة قائلاً: (الرياضة بنفسها مباحة إذا كانت مجانية والتدريب عليها بالمجان أيضاً جائز لأجل تربية البدن وقوته او قضاء الوقت بالمباحات، ولكنها مع ذلك مرجوحة اخلاقيا لان فيها طلبا للدنيا وصدا عن ذكر الله سبحانه وتعالى حتى المجانية فضلا عن التي يكتسب بها المال، وإنما تمسك بها الغرب الكافر - هي في الحقيقة جاءتنا

ص: 119


1- - المصدر نفسه، ص157.
2- - المصدر نفسه، ص 258.

من الغرب الكافر ليس أكثر من ذلك، وهم يريدون أن نتصف بصفاتهم يسحبونا لهم. نقول لهم رغما على انفكم انتم اعداءنا ولا نخضع لكم ولا طرفة عين - . وانما تمسك بها الغرب الكافر لعدة أسباب:

السبب الاول: إنهم فارغون من الوازع الاخلاقي والديني ومن الاعتقاد بالآخرة، فهم يودون قضاء فراغ الوقت بما هو مؤنس ومفرح. وليس لديهم إلا الرياضة والالعاب الجماعية، في حين انه في الدين والاخلاق لا يوجد فراغ في الوقت للمؤمن اصلا لا يوجد وقت الا وفيه طاعة لله سبحانه وتعالى الا اذا كان الفرد من الغافلين.السبب الثاني: انهم يطلبون الربح بكل سبب. ومن هنا نجد إنهم لا يتورعون طبعاً، ربح من أي سبب. ومن هنا نجد إن المصارف ربوية وهي محرمة بضرورة الدين، ونجدهم يعملون على أي ربح حتى السرقة، وكثير من طبقات المجتمع تسرق وشركات السرقة في امريكا وايطاليا كالنار على المنار وأشهر من أن تذكر.

السبب الثالث: .. أفضل طريقة في نظر السياسة الغربية هو الهاء شعوبهم عن مشاكلهم ومظالمهم لتلافي المظاهرات والاحتجاجات عندهم، ومنع العنف المحتمل عندهم على اية حال. ومن هنا تكثر الملاهي والحانات والسينمات وأنواع الرياضة وأنواع اللعب، ثم سرت أساليب الرياضة إلينا عن علم منهم وعمد ونحن نجهل بحالنا وبعلاقتنا معهم وتخيلناها شيئاً جيداً وحسبناها عزا وفخرا ولم نلتفت إن فيها عبودية وذلاً من ناحية، وخروجنا عن تعاليم ديننا الحنيف من ناحية أخرى، والغرب دعم ذلك وأيده فينا وفي بلادنا لعدة نتائج:

أولا: إلهاء المسلمين عن واقعهم المعاش ومشاكلهم وترك الاحتجاج والمناقشة والعنف وخاصة التغافل عن البلاء الوارد علينا من جانب الغرب الاستعماري نفسه، ومطالبة المسلمين والشعوب المستضعفة بحقوقها.

ص: 120

ثانيا: صد المسلمين عن دينهم فإنها سبب (أي الرياضة) سبب واضح لعدة أمور ضد الدين كترك الصلاة والصيام واجتماع الجنسين بشكل غير مشروع وابراز الاعضاء الداخلية للرجل والمرأة وهكذا .. وهذا كله مما لا ترضاه الشريعة.

ثالثاً: اسقاط أهمية الدين والهدف الديني في نظرنا. الهدف الديني في نظرنا صحيح لكن هذا ينبغي في نظرهم إن يسقط ويتحول نظرنا من الهدف الديني إلى هدف كرة القدم! (خزيا لنا وعارا !!) وجعل الهدف الأسمى في نظر الأكثر هو أخذ الأهداف في كرة القدم. وإذا كان الهدف هو هذا الهدف فأتعس به كم قال الشاعر:

لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاهارابعاً: منع التكامل لإفراد المجتمع في المجتمع المسلم، لأن الفرد عندئذ يقضي الوقت كله أو اغلبه في لعب الرياضة او التفرج عليها او سماع اخبارها او الذهاب الى الملاعب او السفر اليها، ويبقى الوقت الباقي لديه يقضيه في ضرورات حياته واسرته ولا يبقى لديه وقت آخر لكي يقضيه في تكامله العلمي والعقلي والديني والروحي. وبهذا يخطط الغرب الكافر ان يكون الجهل والتدني هو الصفة العامة للمجتمع في العالم كله وليس على العراق والشرق الاوسط فقط وانما كل الشعوب المستضعفة حتى (يبلعهم ويشرب عليهم الماي) يكونون لقمة سائغة له ولارباحه ولاطماعه ولكبريائه. وبهذا يخطط ان يكون الجهل والتدني هو الصفة العامة للمجتمع في العالم ليسهل للمخططات الاستعمارية التفشي فيها وانجاحها عسكريا واقتصاديا وعلميا وغير ذلك فالنصيحة الاكيدة لشبابنا الناهض الواعي ان يلتفت الى مصالح نفسه ومجتمعه ويسقط اهمية الرياضة والرياضيين عن نظر الاعتبار ويخاف الله سبحانه وتعالى فقط. فان كل هذه الدعايات والعنايات انما هي مصيدة له لإدخاله في فخ الشيطان ويكون حب الرياضة انما هو حب للمخططات

ص: 121

الاستعمارية من حيث نعلم او لا نعلم ونكون قد اعنا الاستعمار الغاشم الظالم على انفسنا وامكناه من بلادنا من حيث نعلم ولا نعلم.(1)

وبهذا استطاع السيد (قدس سره) أن يربط الناس بالمسلك الديني الذي ينتشل الناس من مستنقعات الضلالة والجهل والاستعباد ومن بين أهم مظاهر هذا الارتباط هو الارتباط بالقيادة الدينية المتمثلة بالمرجعية الصالحة كما (استطاع (قدس سره) أن ينتشل الجماهير من مستنقع التغريب والتحريف الذي مارسه الاستعمار والنظام في عمليته التثقيفية وغسل الدماغ على مدى العقود طويلة لفصل الناس عن الإسلام وجعله مجرد اسم في حياة الناس لا تأثير له لذلك فقد قال السيد (قدسسره) عن حركته الإصلاحية: (لقد هدمت مخططات ألف سنة) فقد أعاد الإسلام إلى واقع الحياة وأعاد الإنسان إلى ذاته وإلى إسلامه وبيان حقيقته وهو عن طريق يجسده سلوكياً وأن يعيش مظاهر الإسلامي في كل مستويات حياته وقد اظهر العقيدة والفقه بالمظهر الأخلاقي العظيم لتنفذ مباشرة إلى قلوب الناس فتجذبهم إلى الإسلام من خلال الاندكاك في مشروعه والتسابق لاحتلال الموقع والمشاركة العملية فيه.(2)

9) الاهتمام الكبير بالمجتمع العشائري وربطه بالمرجعية والحوزة الدينية، لأجل المحافظة عليه من خطر المسخ التربوي والاجتماعي والديمغرافي الذي مارسته السلطة مع العشائر و(يمكن اعتبار السيد الصدر (قدس سره) من أوائل الفقهاء الذي وضعوا فقهاً خاصاً للعشائر العراقيين عالج فيه التناقض في البنية الفكرية لتعدد الولاءات فيقول بهذا الخصوص: (نوجه كلامنا إلى العشائر عامة، والى رؤساء العشائر ومشايخها خاصة، من حيث ان الكل يعلم، ان النظام الذي

ص: 122


1- - صلاة الجمعة الخطبة الثالثة عشر.
2- - المصدر نفسه، ص 146.

يمشون عليه في عشائرهم، ويطبقونه هناك بينهم، اغلبه بل كله نظام باطل، وغير شرعي، وغير مرضي لله عز وجل. ونحن لا نريد من اي احد مؤمن وشيعي ان يرتكب شيئا خطا، أو عصيانا بل نريد من المجتمع كله عامة، ومن العشائر خاصة، ان يكونوا صالحين ومتورعين وسائرين باتجاه رضا الله سبحانه، وشفاعة المعصومين (عليهم السلام)) وقال قدس سره أيضاً: (ينبغي الإشارة, هذا مالم اقله في الخطبة أن المسلة لا تعين مذهبا ودينا معينا حتى العشائر من أبناء العامة لا ينبغي أن يلتزموا بغير الإسلام أنا ما أقول يلتزموا بالتشيع وأن كان هذا بيننا وبين الله صحيح, لكنه قد يلتزمون بأحكام علماهم لا بأحكام ظلمتهم في الحقيقة, ليس لها معنا سوى كانوا سنة أو شيعة أو زيديه أو أي شيء من المذاهب وألا دينا الأخرى... ) وهذا دون شك أحد مظاهر خلافة ضد السلطة آنذاك... كما نجح السيد الشهيد (قدس سره) في إعادة توازن العلاقة بين الحوزةوالعشيرة التي كانت قد خضعت إلى انكماش بسبب التحولات السياسية في العراق كما استطاع من سحب الورقة العشائر من يد السلطة وفق منهج صراع هادئ ومتدرج معها كما تمكن من إيجاد نوع من التكامل في دور الوسط العشائري في بقية أدوار الشرائح الاجتماعية الأخرى في مشروعه الاجتماعي السياسي العام).(1)

10) لم شمل المجتمع طائفياً ومذهبياً، ودفع المجتمع بتجاه الوحدة الدينية والقومية ودحر أسلوب التفريق الاجتماعي الذي يتعمده الحزب البعثي مع أبناء الشعب لذا (حازت خطوات السيد الصدر الثاني (قدس سره) هذه استحسان ورضا الكثير من طبقات المجتمع ولاسيما من أخو أننا أبناء السنة والنصارى فضلاً عن أبنا المذهب وعبّر البعض منهم عن مشاعرهم هذه قائلين: (إننا لم نسمع بمرجع شيعي بهذه العدالة وبهذا الذكاء والشجاعة والروح الأبوية والتفاني من

ص: 123


1- - يُنظر المصدر نفسه، ص182، ص185.

أجل المجتمع... ويبدو أن السيد الصدر(قدس سره) بنى علاقات مع أهل السنة .. وأصدر توصياته بالانفتاح على الأوساط السنية من أهل الجماعة والتعاون معهم وحضور مساجدهم والصلاة خلفهم .لذلك فقد استطاع قدس سره من بناء علاقات وثيقة مع أهل السنة بشكل جعلهم يأتون إلى مسجد الكوفة للمشاركة في صلاة الجماعة وكان يستقبلهم ويحييهم في خطبة صلاة في الجماعة لذلك نرى أنه صرح في أحدى خطبه أن الملحوظ في هذه الأيام أن كثيرين من إخواننا من أهل السنة من رجال الدين وغيرهم يحضرون صلاة الجماعة والجمعة عندنا أو يحتمل قيام أي فرد ذلك في يوم من الأيام مع شديد الأسف إني خاطبت أهل السنة والجماعة بالصداقة والعلاقة والحق أن تجاوب واضح ومسر ومنتج و أفضل النتائج ويلاحظ أنه قد ظهر تأثير تلك العلاقة الوطيدة بعد استشهاد السيد الصدر بصورة واضحة ومن أئمة الجمعة في المحافظات الأخرى فقد اتخذت السلطات إجراءات شديدة لمنع صلاة الجمعة في مناطق الشيعة أو فيالمساجد الشيعية فأخذ المصلون الشيعة يحضرون صلاة الجمعة في المساجد السنية حيث يجدون كل ترحيب وتفاعل من قبل أئمة جمعة السنة ويئدون أنصار ومقلدين ووكلاء الشهيد الصدر مما أضطر السلطات إلى غلق بعض المساجد السنية وعندما شن النظام حملة اساءة ضد الشيعة أدان بعض علماء السنة وخبائهم في الرمادي و الاعظمية تلك الخطة التي تستهدف الوقيعة بين السنة والشيعة).(1)

11) الحث الأكيد على عدم الارتباط به (قدس سره) شخصياً بل الارتباط به كشخصية قيادية تولت منصب زعامة وقيادة الحركة الدينية في هذه المرحلة، ويجب على الأمة طاعة من ينوبه ويخلفه بعد رحيله عن الدنيا وعدم التمسك بالشخص والتيبس على اعتاب طاعته وتصنيمه وتأليهه حتى بعد موته، وعلى الأمة

ص: 124


1- - يُنظر المصدر نفسه، ص188، ص231.

أن تشعر بولائها وطاعتها للدين وللحوزة لا لعبادة الذوات والأشخاص، لكي لا تتقوقع أو تنكمش أو تتراجع عن الاستمرار في المشروع الرسالي بعد رحيله، لأن ذلك يؤدي إلى ضياع الكثير من الانجازات التي تم تحقيقها ويبعثر الامكانيات وفي ذلك خذلان للقائد السابق وكذلك للقائد اللاحق أيضاً، وكان (قدس سره) يؤكد على الارتباط بالله تعالى وبقرآنه المجيد وبالمعصومين الأطهار (عليهم السلام) قائلاً: (... لا يجوز لكم، ان تجعلوا موت السيد محمد الصدر سببا وذريعة لذلة الإسلام والتشيع، وتفرق الكلمة وكثرة المشاكل. بل الحوزة الشريفة تبقى بعون الله، وجملة من المراجع يبقون بعون الله. فتمسكوا بالحوزة، واستمروا على شرفكم، وعزتكم الدينية، وشجاعتكم القلبية، وعنايتكم بالمصالح العامة. ولا يجوز ان يحول دون ذلك أي شيء، حتى موت هذا العبد الخاطئ، الذي هو السيد محمد الصدر. وكذلك يوجد فيكم الكثير ممن يخطب على حد تعبير الروايات، ومن هو صالح لإمامة الجماعة والجمعة، وليس انه حين يموت السيد محمد الصدر، يموت الكل أعوذ بالله أولاً وبكم من ذلك، وبالأساس فانالحوزة هي التي تستطيع ان تبادر إلى ذلك، والمرجع الجديد --- لو صح التعبير -- وان لم يكن متفقا مع السيد محمد الصدر بكل التفاصيل، إلا ان المهم فيه، هو الاتجاه نحو العدالة الاجتماعية، وانصاف الناس من نفسه، كما قيل في الحكمة: (قل الحق ولو على نفسك) وادراك المصالح العامة. فإن وجدتموا شخصا من هذا القبيل فتمسكوا به، وإلا فدعوه إلى غيره. فان الانانية في المرجعية، هي العنصر الغالب مع الاسف جيلا بعد جيل، وهذا هو المضر حقيقة في الحوزة خاصة، وفي المجتمع عامة. فاتبعوا شخصا من المجتهدين ليس له مثل هذا الطبع، بل له اتجاه التضحية في سبيل الاخرين، وبذل النفس

ص: 125

والنفيس في سبيل دينه ومذهبه. وهذا امر يطول فيه الحديث وليس الان محل الاستمرار فيه).(1)

12) القضاء على محاولات التدجين الأمريكي للشعب العراقي والخضوع للهيمنة الأمريكية العالمية:

لم يهمل السيد الشهيد الصدر(قدس سره) ذكر وتحليل التدخل الأمريكي السافر في الشأن العراقي وسائر دول العالم، وما ترمي إليه الإدارة الأمريكية، من مخططات شيطانية في المنطقة، وعلى الرغم إنه (قدس سره) كان يعيش تحت وطئة التقية في ظل النظام الصدامي الظالم الذي يحتم عليه السكوت عن المطالب السياسية إلا أنه تطرق إلى هذا الموضوع في إحدى خطب الجمعة المباركة بشكل لا يثير السلطة الحاكمة، بل جعل خطابه الشريف حسب ما يبدو ظاهراً يناغم رؤى السلطة في معاداتها لأمريكا، في حين إنه (قدس سره) كان يقصد النظام الحاكم بالذم ويشير إلى ذلك بإشارات خفية يفهمها أوالوا الألباب، حيث قال(قدس سره): (من جملة المشكلات التي مر بها الشعب العراقي خاصة والمجتمع في العالم عامة القصف الامريكي الذي تعرض له المجتمع هنا ولا ينبغي ان تكون الحوزة الناطقة المجاهدةساكتة عن ابداء رأيها فيه ولا شك انه لا يمكن ابراز جميع النتائج المتيسرة والعبر المتوفرة ولكن نقول بمقدار ما هو ممكن وعلى الله التوكل في الشدة والرخاء وذلك ضمن عشرة نقاط:

النقطة الاولى: ان هذا الوضع العالمي القائم على انقاض ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي والذي سمته امريكا في حينه بالنظام العالمي الجديد انما هو نظام استعماري مشؤوم قائم على تفرد امريكا بالعالم وهيمنتها عليه وفرض ارادتها على كل جهاته من دول وشعوب واحزاب ومنظمات. وكل من يخالفها فإنها تكيل له

ص: 126


1- - صلاة الجمعة الخطبة السابعة والعشرون.

الصاع صاعين كما يعبرون. هذا النظام يجعل منها الطاغوت الاول والشيطان الاكبر ويخرجها عن الانسانية وحسن التصرف إلى الظلم الكاملوا الطغيان المحض.

النقطة الثانية :ان امريكا وان زعمت تحكيم سيطرتها على كل العالم حتى اصبح العالم تجاهها كالقرية الصغيرة كما يعبرون الا انها لن تستطيع ازالة ايمان المؤمنين وقوة الشجعان المجاهدين فإنها ان استطاعت السيطرة على اجسادنا فإنها لن تستطيع السيطرة على قلوبنا وعقولنا ونفوسنا (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً).

النقطة الثالثة :انها انما تتذرع بالسلاح الدنيوي الذي مهما بدى لنا مهما وعظيما فانه مؤت وزائل لأنه انما يمثل طرف الدنيا وما فيها ومن فيها وهو طرف مضمحل وهين وحقير واما المؤمنون فناصرهم الله سبحانه وتعالى كما قال في كتابه الكريم (ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم) وهم المؤمنون واثقون به ومعتصمون به ومتوكلون عليه ويعلمون انهم لم يخلقوا لهذه الدنيا الفانية بل لأجل الاخرة الباقية وفي الرواية (ان الدنيا والاخرة ضرتان لا تجتمعان)) وكذلك فان الحوزة والاستعمار ضرتان لا يجتمعان).النقطة الرابعة : ان امريكا تحاول تسخير اكبر مقدار من عدد الدول تحت ارادتها وسيطرتها وربما كل الدول على الاطلاق وكل من وافق على ذلك وتعاون معها فهو لعبة في يديها وتحت استعمارها بكل تأكيد حتى الدول الاوربية التي تود الاستقلال عن النظام الامريكي فإنها تبدو في كثير من الاحيان لعبة بيد هذا النظام المشؤوم فمثلا بريطانيا التي كانت لها الزعامة في العالم حتى كانت تسمي نفسها بريطانيا العظمى اصبحت الان مستعمرة بسيطة بيد امريكا تستخدمها متى تشاء لانجاز مصالحها الخاصة وفي اعتقادي ان هذا منها تنازل مقيت وذلة لا موجب لها.

ص: 127

النقطة الخامسة: اننا نعتقد ان هذا النظام الظالم غير دائم بل هو الى زوال مهما كانت نتائجه وذلك من عدة جهات منها:

أولاً : انه يقول في الحكمة: (ان الظلم لا يدوم).

ثانياً : إن الله تعالى يهلك ملوكاً ويستخلف آخرين.

ثالثاً: إنها الآن وبكل وضوح موكولة الى نفسها وملتفتة إلى جبروتها فتكون مصداقاً واضحاً من قوله تعالى : (حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ). اذا فهذا الوعد آت من الله سبحانه وتعالى لا محال لوكن الجدل في كونه قريبا او بعيداً.

رابعاً: إننا نعتقد إن مستقبل البشرية الى خير وصلاح وعدالة حينما يظهر القائد المنتظر فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ولن يقوم اي ظلم ولا إلى أي قسوة بعدها قائمة ولا امريكا ولا غيرها وفي الروايات ما يدل على أن اليهود سيعانون من الذلة والقسوة بيد المؤمنين قبل ذلك حتى ان الحجر ينادي المؤمن ويقول هذا يهودي خلفه فاقتله.النقطة السادسة: إن أمريكا تريد بهذه الاعمال ان تجعل عدوها كبش الفداء بحيث يكون عبرة للعالم كله باعتبار انها كما صنعت به يمكنها ان تصنع بغيره وبذلك تضرب حجرين في هدف واحد وليس بإزاء ذلك الا قوة الارادة وقوة الايمان والصمود والاتحاد ضد هذا النظام الغاشم الظالم عن الوجود.

النقطة السابعة: حسب علمي فان الامر بالهجوم في اي وقت وعلى اية دولة موكول الى القرار الذي يصدره الرئيس الامريكي الموجود في اي وقت وهذا يعني ان القرار الظالم سوف يعود بالحكمة الالهية والقدرة الالهية على نفس هذا الرجل الذي

ص: 128

اصدر هذا القرار بالوبال والخسران كما سبق ان حصل فعلا لكارتر وبوش بما فعلا من مظالم على المؤمنين في الشرق المسلم لا اقل اننا نلتفت ان من حق اي رئيسي امريكي ان ينتخب لفترتين من الرئاسة في حين يخسر الظالم منهم فترته الثانية بكل تأكيد بقدرة الله وحسن توفيقه كما خسرها كارتر وبوش فعلا (كولوا لا !) وهذا ما يتوقع حصوله لكلنتون بالتأكيد بل الأمر اكثر من ذلك فانه من المتوقع ان يحاكمه مجلس الشيوخ الامريكي لفضيحة اخلاقية ويعزله عن الرئاسة ويخسر حتى فترة رئاسته الاولى فضلا عن الثانية.

النقطة الثامنة : إننا نجد باستمرار ان كل مؤامرة يقوم بها الغرب والاستعمار ضد الايمان والمؤمنين فان الله تعالى يجعلها حسرة في صدورهم ويجعل نتائجها الى مصلحة الدين وشريعة سيد المرسلين وهذا ما رأيناه في القريب والبعيد مما حصل من دسائس ومشاكل حتى هذا القصف الامريكي الاخير فنه طور المؤمنين بفضل الله سبحانه وتعالى عقلياً ونفسياً وايمانياً وفتح اعينهم على حقائق كان يمكن ان تكون غائمة او مجهولة فيما سبق ونشعر فعلا انه سبب عزة الحوزة والمذهب وشجاعتها وحدية هدفها اكثر من ذي قبل وان خسأ الكافرون. نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم الا ان تقطع قلوبهم والله عليم حكيم.

النقطة التاسعة : انه من الواضح في التجربة ان كل حروب امريكا ومؤامراتها نها تجارية تفتعلها لاجل استنزاف الشعوب البائسة اقتصاديا واجتماعيا لأجل ايفاء النقائص التي قد تحصل في ميزانيتها خلال اي عام وبالطبع انه كما قيل في الحكمة (ان السياسة لا قلب لها) فكلما كان الامر يجر لها نفعا اندفعت نحوه وورطت نفسها فيه سواء مع اعدائها او مع اصدقائها على حد سواء وتعود النتائج السلبية

ص: 129

حقيقة على الشعوب المظلومة المهتضمة عامة وعلى المؤمنين خاصة وهي متعمدة في ذلك.

النقطة العاشرة : انهم زعموا ان القصف قد حقق اهدافه وقد كذبوا وانما كان انتهاؤه تنازلا وتخاذلا من قبلهم. نعم هو قد حقق اهدافه في الحكمة الالهية من حيث لا يدرون من باب ما نسمع من الحديث القدسي الذي يقول : (الظالم جندي انتقم به انتقم منه) فهو كما كان انتقاما للذنوب والعيوب الكثيرة المتفشية في المجتمع يكفي ان نلاحظ ونلتفت اننا قد قصرنا تجاه الامام الحسين (علیه السلام) فجاء رد الفعل في الحكمة الالهية سريعا وقويا وننتظر من رحمة الله سبحانه وتعالى ان يطبق الفقرة الثانية من هذه الحكمة لأنه يقول (انتقم به وانتقم منه).(1)

13) إن تحلي السيد الشهيد الصدر (قدس سره) بصفة قوة القلب وامتلاكه لكاريزما القائد الشجاع المسدد بالإضافة إلى السمات القيادية الأخرى، جعلت المجتمع العراقي يتأثر به ايحائياً ونفسياً، وساعد المجتمع في الخروج تدريجياً من حالة الركود والخوف والاستسلام التي انتجها النظام الصدامي طيلة مدة حكمه التعسفي الظالم، حيث لمس المجتمع العراقي وبمختلف انتماءاته وتوجهاته من السيد الشهيد(قدس سره) هذه الصفات الثورية فهو لم يقبع في زاوية الدفاع وممارسة التقية المكثفة من السلطة بل راح يتقدم خطوات حثيثة نحو مهاجمة السلطة، وأبدى رأيه وموقفه بصراحة من أمريكا وإسرائيل وبريطانيا والوهابية وحركة طالبان الافغانية ومنظمةمنافقي خلق الايرانية ومن جهة أخرى صرّح بمؤازرته وتأييده للشعب الفلسطيني المظلوم ولحزب الله في لبنان، فكان (قدس سره) (يؤكد على أتباعه للبحث عن صفتين في المرجع القائد ويدعو إلى تحقيقهما بدرجة من الدرجات ويعتبرهما خلاصة وصايا الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم

ص: 130


1- - صلاة الجمعة الخطبة السابعة والثلاثون.

أجمعين) والعلماء الصالحين وهما طيبة القلب وقوة القلب. وإنهما لتستحقان هذا الاهتمام والتركيز لأنهما مبعث حصول خصال الخير والكمال ومنهما تترشح، فطيبة القلب تبعث على الرحمة وحب الآخرين والتسامي عن الحقد والغل والأنانية والحرص وغيرها وتدعوا إلى بذل الوسع في قضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم، ووصاياه (قدس سره) في تحصيل هذه الصفة كثيرة من خلال خطاب الجمعة ولقاءاته الأخرى وورد في رسالته الكريمة الموجهّة إلي قبل استشهاده بعام ونصف تقريبا وجاء فيها (أنت تعلم إنني كنت ولا زلت أعتبرك أفضل طلابي وأطيبهم قلبا وأكثرهم إنصافا للحق بحيث لو دار الأمر في يوم من الأيام المستقبلية بين عدة مرشحين للمرجعية ما عَدوتك لكي تبقى المرجعية في أيدي منصفين وقاضين لحوائج الآخرين لا بأيدي أناس قساة طالبين للدنيا) وقوة القلب مبعث الشجاعة والإقدام والحزم وقوة الإرادة والغضب لله تبارك وتعالى ورفض الظلم والباطل والانحراف ونحوها من الصفات، وكان (قدس سره) يصرح بان لدي من قوة القلب ما يكفي لاتخاذ القرارات التي يعجز الآخرون عن اتخاذها ولكشف الحقائق التي يداهن الآخرون في إخفائها. وفي إحدى خطبه المباركة في مسجد الكوفة قال ما مضمونه أن الاستقامة على جادة الشريعة صعبة للغاية لكنها في نفس الوقت سهلة للغاية لأن حقيقتها قوة الإرادة والعزم الصادق، وهاتان الملكتان (طيبة القلب وقوة القلب) هما قوام القلب السليم الذي ينجو من أتى الله به يوم القيامة [إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ].وكان (قدس سره) يحذر من الرجوع إلى الأنانيين وطلاب الدنيا المتلفعين بعباءة القداسة المصطنعة ليحتجبوا بها عن عامة الناس، لأنهم لا ينظرون إلى هؤلاء الناس إلا كهمج رعاع يقبّلون أيديهم ويدفعون إليهم أموالهم التي تضيع في فيافي بني سعد كما قال (قدس سره) في بعض حواراته المسجلة. وليس لهم هم إلا مداراة

ص: 131

مصالح الخاصة من ذوي النفوذ والمال والجاه الذين يسميهم القرآن الكريم (الملأ) والذين كانوا يقفون دوما ضد الحركات الرسالية الإصلاحية وعلى رأسها رسالة الإسلام المباركة ولا يريدون للأمة أن تكون واعية بصيرة بالأمور لان ذلك يعني رفضها للتخلف والجهل والتكبر والاستئثار والامتيازات غير المنصفة للمستبدين.

فعمل (قدس سره) بشكل لا يعرف المداهنة والمجاملة على فضح هذه العلاقة غير الشريفة التي يحصل من خلالها الملأ على مصالحهم وإدامة نفوذهم وشرعية استئثارهم مقابل صنع الهالة المقدسة الزائفة لأصنامهم البشرية مخالفين بذلك وصايا أئمتنا سلام الله عليهم في بذل الوسع لخدمة عامة الناس وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم، وإن سخط المترفون والمستأثرون ومنها ما ورد في عهد أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فإن سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ

بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ. وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ

الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلأَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ) ومن ضمن تحذيراتهقوله(قدس سره): (لقد حررتكم من مخططات ألف عام فلا يستعبدكم احد بعدي).(1)

14) نشر الوكلاء وفضلاء الحوزة بشكل مكثف وسريع بين أبناء المجتمع حتى نُقل عنه إنه قال(قدس سره): (أريد ان اجعل في كل بيت طالب علم معم) وذلك لأجل خلق جو ايماني يدفع المفاسد والانحرافات التي تسببت بها السلطة، وقد حرص

ص: 132


1- - خطابات المرحلة، ج6، ص141.

السيد على أن يكون وكلائه والمرتبطون به من شريحة الشباب المثقف الرسالي لأجل سهولة التأثير بباقي شباب الأمة وتوعيتهم وهدايتهم ف(حاول السيد الشهيد (قدس سره) أن ينظم عدد المقبولين في الحوزة بحسب توزيعهم الجغرافي لمناطق سكناهم وذلك من لأجل ربط المجتمع بالحوزة عن طريق رجال الدين لذلك تقرر قبول عدد معين من كل منطقة على أن يكون هذا العدد كافياً من أجل التوعية وأراد الناس كذلك حث الكثير من الطلبة على إقامة صلاة في مناطقهم وفي قابلة مع الشيك كاظم العبادي الناصري تحدث يقول أن عدد الطلبة زمن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وصل حوالي إلى أربعة آلاف طالب في النجف وحدها وهذا العدد لم تألفه الحوزة في ظل النظام القائم آنذاك، كما لم يجز السيد (قدس سره) للطلبة خلع زيهم الديني أثناء سفرهم إلى محافظاتهم وذلك لأن الزي الديني يضفي جواً إيمانياً بين المجتمع ويذكرهم بالحلال والحرام بالإضافة إلى عامل التحدي الذي يشكله ارتداء هذا الزي ضد أعداء الدين والتدين ... فقد أولى السيد الصدر (قدس سره) شريحة الشباب اهتماماً كبيراً وذلك بعد نقد اغلب مصادر الانحراف والانحلال والثقافة المنحرفة التي تسوغ للشباب والا نحراف والانحلال الاخلاقي حيث أخذ يوجه نقده للغرب واعتبره كافراً أو جاعلة المسؤول الأول عن بعض مظاهر الانحراف في المجتمع فيقول: (تسربت ألينا هذه العادات (الملاهي والحانات) عن قصد وعمد من المغرب ونحن بنفس الوقت نجهلماذا وراء القصد من ذلك من ذل وعبودية من ناحية وخروج من تعليم ديننا الحيف من ناحية أخرى . والغرب دعم ذلك وأيده فينا وفي بلادنا) وأخذ يؤكد (إن شغل الفرد بأمور بعيدة عن تعاليم الدين الحنيف وشؤون مجتمعه ودينه تؤدي إلى مسخ المجتمع وابتعاده عن الإبعاد العلمية والدينية والروحية) كما انتقد (قدس سره) حالة الانشغال الكبير في الرياضة التي تؤدي حسب رأيه إلى: (منع التكامل في

ص: 133

المجتمع المسلم لآن الفرد في المجتمع المسلم يقضي الوقت كله بلعب الرياضة أو إلا انشغال في التنقل في السفر لمتابعة أنشطتها و يبقى الوقت الباقي يقضيه لضر ورأت حياته وسرته بحيث إنه لا يبقى له الوقت أو حتى متسع من الوقت يقضيه لبناء جانبه العالمين والدين والروح).(1)

15) وفي نهاية المطاف قدّم السيد الشهيد الصدر (قدس سره) نفسه وولديه قرباناً لله تعالى من أجل نصرة دينه الحق، لتكون شهادته هي آخر رسالة يوصلها للأمة حتى تستفيق من غفلتها وثانياً يثبت براءته من التهم الباطلة الموجهة إليه من أذناب الحوزة الساكتة والسلطة البعثية وثالثاً لكي يلتحق بركب الأبرار والصالحين في أعالي الجنان عند ربه الرحيم، قال الشيخ محمد مهدي شمس الدين (أن المجتمع الذي خضع طويلاً لتأشير السياسية الظالمة التوجيه من الظالم لا يمكن أن يصلح بالكلام فهو آخر شيء يمكن أن يؤثر فيه إن الكلمة لا يمكن أن تؤثر شيئاً في النفس الميتة والقلب الخائر والضمير المنحدر، كان لابد للجميع من مثال يهزه هزأ عنيفاً).

وبعد هذا الحراك الشعبي الواسع الذي انتجه السيد الصدر الثاني (قدس سره) من خلال نهضته الاصلاحية في المجتمع العراقي تزحزحت صخرة التدجين من مكانها لتفتح الطريق أمام نهر التحرر من قيود الذل والاستسلام، وبالفعل فقد دبت قوة القلب والحماسة وعدم الرهبة من بطش السلطة في قلوب العديد من أبناء الشعب العراقي،لاسيما اتباعه ومريديه لكن الشيء السلبي في هذا الأمر هو إن البعض وللأسف الشديد لم يحسنوا التصرف مع السلطة الحاكمة فأثاروا حفيظتها بسبب بعض التصرفات غير الحكيمة وغير المدروسة والتي لم يرجعوا فيها

ص: 134


1- - يُنظر المشروع السياسي والاجتماعي للسيد محمد الصدر، هاني النجار، ص177 و ص221 .

حتى الى السيد نفسه كالخروج مشياً لزيارة الامام سيد الشهداء (علیه السلام) في زيارة النصف من شعبان، وكالتصعيد الذي احدثه بعض خطباء الجمعة في الناصرية مع السلطة وبالتحديد التحدي مع دائرة الأمن، مما افقد السلطة توازنها وانتابتها حالة هستيرية جعلتها تُعجل في القضاء على رمز القيادة الدينية وتصفية جسدياً، علماً إن هذه التصرفات غير الحكيمة وأمثالها نبّه السيد الشهيد (قدس سره) منها عدة مرات إلى ضرورة صرف الشجاعة والحماسة وقوة القلب بحذر وحكمة ولا ينبغي أن يتعاملوا مع الأمور بالعواطف والاندفاع حتى على مستوى الاهازيج والشعارات عند انصرافهم من صلاة الجمعة فضلاً عما هو أعظم من ذلك.

وقد ظلت في جعبت السيد الشهيد الصدر (قدس سره) الكثير من الأعمال الاصلاحية التي أراد القيام بها لهداية الأمة، حتى نُقل عنه (قدس سره) أنه قال: (لو بقيت الحياة لرأوا مني الكثير) لكن الأجل كان الأسبق من أنجازها، هذه هي إرادة الله تعالى، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

ص: 135

المرجع اليعقوبي وعلاج ظاهرة التدجين

اهتم المرجع اليعقوبي (دام ظله) بعلاج ظاهرة التدجين والاستسلام للذل التي أصابت الشعب العراقي، حيث حذّر (دام ظله) من مغبة هذه الظاهرة الخطيرة التي يتعرض لها هذا الشعب المعروف برفضه للظلم وعدم استسلامه للهوان، كما بيّن (دام ظله) أبرز الأسباب التي أنتجت هذه الظاهرة، وأيضاً أشار إلى جملة من العلاجات لاستئصالها من جسد الأمة، ونذكر فيما يأتي بعض المقتطفات من الكلمات والخطابات لسماحته (دام ظله) التي تناول فيها ذلك:

* (مع الأسف إن العالم ينظر إلى الشعب العراقي باستغراب، لأن الشعب العراقي يعيش حالة لم يصلها أي شعب في العالم ولم نجد منه مظاهرة اعتراض أو تجمع استنكار أو مطالبة بحقوق، فالعالم لحادثة واحدة من الحوادث التي تصيب الشعب العراقي تهب الملايين بالخروج للاعتراض ولا يخافون بطش الحكام، فما الذي يحصل في العراق هنا، يعيش كل هذه الحالة من شعوب العالم ولا يتحرك، هذه الحالة تحتاج إلى دراسة، الشعب العراقي معروف برفضه للظلم، ومعروف بعدم خنوعه وبعدم استسلامه، أعتقد عن السبب الرئيسي في ذلك هو أن العمامة - مع الأسف - دجنت الشعب، وعلمته على الخنوع، وعلى الاستكانة، وكلما يريد الشعب أن يتحرك، لكي يرفض هذا الظلم ويزيله، تقابله بالكلمات التي تعيده إلى السبات وإلى النوم. دور سلبي كبير تؤديه - مع الأسف - العمامة الشيعية، بعدما مارسته العمامة السنية طيلة ألف وأربعمائة عام، والذين نسميهم وعاظ السلاطين).

(المسألة أخطر من مسألة تطبير الخطر هو في خنوع العلماء والفقهاء الى رغبات العامة كما ابتلي الفقه السني بمسايرة السلطة ابتلي فقهاء الشيعة بمسايرة

ص: 136

* العوام... وهو ما يسمى بفقه (البازار)(1) .. فقد تكون الفتوى بحسب الدليل الفقهي شيء لكنها حسب العوام تسايرهم بشيء... فالفقه السني أُبتلي بمسايرة السلطة حتى سمّوا ب(وعاظ السلاطين) لكننا لسنا بمنأى عنهم، نحن لم نبتلَ بالسلطة ولا بمساير السلطة... لكننا ابتلينا بفقه مسايرة العوام، فمن جاء بالتطبير، فعندما نقول إن التطبير من الشعائر الحسينية، فمن الذي جعلها من الشعائر الحسينية.... فيجب أن نحرر عقلية الفقهاء والعلماء من الخضوع والخنوع والاستسلام إلى رغبات العوام، فالعوام العلماء يسرونهم وليس العوام يسيرون العلماء، إذن فلنمتلك الشجاعة ونقف..).

* (المظالم والكبائر التي يرتكبها الطغاة ليسوا فقط هم المسؤولين عنها، وإنما تتحمل الشعوب جزءاً من المسؤولية إزاء ما يحلّ بها لأنها مكنّتهم من ذلك بفسقها وانحرافها، واستسلموا لخداع ومكر الزعامات والمتسلطين، فأعانوا عدوهم – من شياطين الانس والجن – على أنفسهم، أما المؤمنون المتبعون للقيادة الحقة فأنه يصعب خداعهم وسوقهم).(2)

(إن الشعوب المستضعفة والمستعبدة من قبل الطواغيت أو القوى الخارجية المحتلة لا تسقط في هذه الانتكاسة إلا لأنها تتوفر فيها قابلية الاستعباد، وعلى تعبير بعضهم قابلية الاستعمار، وعلى تعبير آخر، قابلية الاستحمار لأن الشعوب حينئذٍ تُقادُ إلى حيث يريد مستعبدوها بلا بصيرة ولا وعي وإدراك لمصيرها البائس الذي تسير إليه بحيث تغفل هذه الشعوب عن أشد المظالم وأوضح الجرائم بحقها

ص: 137


1- - (البازار) كلمة فارسية تعني (السوق) أي فقه تمشي الحال، وإن لم يستند إلى دليل علمي وفقهي صحيح.
2- - خطاب بعنوان: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) قابلية الشعوب على الاستعباد

وتصرّ على* السير خلف الظالمين المستبدين فيسوقونهم الى الموت ويسلبون أموالهم ويُسخرونهم لتحقيق نزواتهم وهم يصفِّقون لهم ويقدسونهم ويطيعونهم طاعة عمياء، والأساليب، هي:

أولاً/ سياسة التجهيل:

وذلك بسلب حالة الوعي والادراك والفطنة عند الأمة وتكريس حالة الجهل والتخلف والانقطاع عن أسباب المعرفة الحقيقية والاهتمام بالقشور وقلب موازين التقييم من معنوية حقيقية جوهرية الى مادية سطحية زائفة وهكذا ضمن عملية غسل دماغ تسلب عقولهم ووعيهم ويتحولون الى قطيع منفذ للأوامر... وتحاط عملية غسل الدماغ احياناً بالقدسية والخطوط الحمراء التي لا تقبل النقاش، وهنا يكون دور لعلماء الدين المحبين للدنيا والواجهات المؤثرة في المجتمع لإضفاء هذه القدسية وشرعنة ما يفعله الطغاة وإدامة سلطتهم وهيمنتهم وإحكام الطوق على الشعوب المستعبدة باسم الدين وشعائره، لكن أي دين؟ لقد وصفهم أمير المؤمنين (علیه السلام) بأنهم: (لبسوا الإسلام لبس الفرو مقلوباً)((1)) وهذا ما يدفع الزعامات الحريصة على مواقعها الى استخدام كل أساليب البطش والقسوة المادية والمعنوية بحق المصلحين الواعين الذين ينهضون لإيقاظ الأمة وتبصرتها وترشيد سلوكها, وتحريرها من الاغلال والآصار التي تُحجرّ على عقولهم وتلّوث باطنهم وفطرتهم((2)).

ثانياً/أسلوب الاستخفاف والاستهزاء بالمصلحين وهو ما نُعبّر عنه ب(التسقيط الاجتماعي) ويتم ذلك من خلال:

ص: 138


1- - شرح نهج البلاغة ج7 ابن أبي الحديد ص191.
2- - راجع خطاب المرحلة، ج 9، ص 202 ، بعنوان: (ويضع عنهم أصرهم والاغلال التي كانت عليهم).

(استحقار الآخر (فرداً او شعباً) والاستهزاء به لسحق شخصيته وإظهار عجزه وضعفه ليقتنع بأنه مخلوق ليكون تابعاً لغيره).

ثالثاً/أسلوب خديعة الشعوب وإخافتها:

إقناعهم بحاجتهم لهؤلاء المستكبرين وانهم لا يستطيعون الحياة بدونهم وخلق حالة رعب وقلق وخوف (فوبيا) من البديل.

رابعاً/ التضليل والتزييف الإعلامي:

خلق حالة الانبهار به لدى الطرف الآخر وجعله باهتاً امام هذه الجبروت والعظمة التي هي زائفة في الحقيقة فتأخذ بألباب الناس ومجامع قلوبهم وعقولهم ويكون غاية هم الناس أن ينالوا شيئاً من فتات دنياهم ...وحالة الانبهار تولد تبعية وانقياد لما أنبهر به: ولا يفكر المنبهرون حينئذٍ في الخروج عن طاعتهم فضلاً عن التفكير في إزالتهم وإقامة النظام البديل.

* قال تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) وفيه إشارة إلى أن فرعون كان يعرف إنه مخادع وأن أدلته لا قيمة لها لكنه استخف بعقول قومه واستصغر شأنهم واستعمل وسائل الخداع والمكر مع الاغراء والترهيب فوجدهم طائعين ومسلّمين له، هذا السلوك الفرعوني هو ديدن الطواغيت والمستكبرين والطامحين إلى الزعامة والتسلط على رقاب الناس في كل زمان ومكان وأدواتها في تطور مستمر، لاحظ سلوك الحكومات الغربية تجاه شعوبنا الإسلامية من أجل السيطرة عليها وسلب خيراتها والتحكم في شؤونها مما يسمى بالاستعمار، فهم:

أولاً) يسحقون شخصية هذه الشعوب ويشعرونها دائماً بالدونية.

ثانياً) وجعلهم مستهلكين غير قادرين على بناء حضارة متينة قادرة على البقاء والتقدم وإن كانوا من حيث المظاهر المادية في أرقى صورها – كدول الخليج مثلاً – فهم دائماً مرتهنون لأولئك المتحكمين.

ص: 139

ثالثاً) كما استطاعوا أن يبهروا شعوب المنطقة بإبراز مظاهر التقدم العلمي والتكنولوجي وهذا الانبهار أدى الى الانسياق وراء كل ما يصدرّونه إلينا من تقاليد وأفكار وسلوكيات كشرب الخمر والانحلال الخلقي تحت شتى العناوين وإشاعة الفاحشة باسم الفن أو الرياضة او الحرية، والبحث عن اللهو والعبث واللعب وهكذا في سائر أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، حتى سوقوا أكثر الجرائم انحطاطاً كزواج المثليين بقوانين رسمية تحت عنوان الحرية الشخصية وامثالها والاعتداء على الإسلام ورسوله الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بذريعة حرية التعبير عن الرأي وأمثالها من الامور التي جعلوها مقدسة لا يجوز المساس بها ما دامت تصب في مصالحهم بينما يعاقبون بشدة من يتحدث بمظالمهم ويفضح ادعاءاتهم – كمعاداة السامية – ولا يشفع له حرية التعبير عن الرأي.

رابعاً) استغلوا أنس الناس الغافلين بالماديات المحسوسة وسرعة التصديق بها لينكروا الغيبيات وما وراء المادة، والناس لا تفرّق بين ما يدرك بالحواس المادية وما يدرك بالعقل والفطرة الإنسانية السليمة.

خامساً) ولجعل الشعوب في غفلة دائمة وإشغال فكرهم اعتمدوا سياسة الالهاء من خلال:

أ/ السباقات الرياضية التي ما إن تنتهي واحدة حتى تبدأ الأخرى.

ب/ وبالحرية الجنسية.

ج/ وبوسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات وسائل الاعلام والمواقع الالكترونية وشبكة الانترنت التي تقدّم باستمرار الجديد والمثير والجذّاب.

فينشغل الناس بهذه ولا يفكرون في مناقشة أوضاعهم الاجتماعية وإصلاحها ولا يبقى عندهم وقت للتأمل والتدبر قال تعالى: (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ

ص: 140

مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ) خذ مثلاً تصويت أغلب البريطانيين قبل أيام لصالح انسحابهم من الاتحاد الأوربي مع انه قرار ليس لصالحهم لكن الدوائر الاستكبارية التي تريد تمزيق الاتحاد الأوربي نجحت في خداع هذه الاغلبية بالأكاذيب والمخاوف المفتعلة والغريب ان البريطانيين بعد أن صوتوا للخروج ذهبوا بالملايين الى المواقع الإلكترونية ليسألوا عن ماهية الاتحاد الأوربي والفوائد التي تجنيها بريطانيا من بقاءها فيه، فكيف صوتوا وهم لا يعرفون شيئاً عن أصل الموضوع.

* (إن علاج هذه الحالة –أي قابلية الاستعباد- التي تؤسس للانحطاط يبدأ باجتثاثها من عقل الانسان وقلبه ونفسه وقد اختصره أمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً) أياً كان هذا الغير: أهواء النفس الأمّارة بالسوء او الطواغيت والزعامات المصطنعة، أو شياطين الجن والإنس).

* (إذا أردنا أن نحلّل سبب حصول هذه الظاهرة السيئة فسنجد أسباباً عديدة كطول زمان القهر والإذلال التي مارسته الديكتاتورية واليأس من الإصلاح والتغيير وغيرها، وعلى رأس الأسباب التدجين الذي مارسه بعض من يسمّون بعلماء الدين ويوجد من يسمع لهم في الشارع فأخذوا في شرعنة ظلم الظالمين وفسادهم وطغيانهم واستئثارهم بأموال الشعب والتدمير والخراب تحت عناوين مختلفة ودعوة الناس إلى الاستسلام والرضا بالقتل والتشريد والذل والحرمان، وبحسب فطرة الناس وإيمانهم بمرجعيتهم وأنها تقودهم إلى الهدى والصلاح فإنهم يسلّمون لمواقفها بلا نقاش).(1)

وقال سماحته (دام ظله) في حديث له مع رئيس جمعية أطباء الأمراض النفسية والعصبية، حول هذه الظاهرة ملتمساً للشعب العراقي العذر في سكوتهم

ص: 141


1- - خطاب المرحلة، بعنوان: (تدجين الشعب العراقي ليستسلم للظلم والإذلال).

وتحملهم للظلم: (وإن كان صبر العراقيين في الموارد التي يُحمد فيها الصبر ناشئ من إيمانهم وتأسيهم بعظماء صبروا على أقسى المصائب والكوارث فسنّوا طريق الصبر لشعبهم* وهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسن والحسين(عليهم الصلاة والسلام) وأهل بيتهم، إلا أن الصمت والسكوت إزاء مظالم كبيرة يراه ليس من الصبر المحمود، بل هو من الخنوع والاستسلام للذل والهوان، ولم يكن أهل البيت(عليهم السلام) خانعين مستسلمين ولا رضوا بالذل والهوان، وما أكثر المظالم اليوم حيث يُقتل الأبرياء ويعتقلون ويسرق قوتهم ويهجّرون ويسكنون العراء ويحرمون من أبسط حقوق الإنسان كخدمات الماء والكهرباء ويأكلون ويشربون مالا يصلح للاستهلاك البشري ويعيشون في حالٍ بئيس من دون أن يقولوا (لا) لمن ظلمهم وإذا تحدثوا فيقولون [حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] مع أن الله تعالى لا يرضى لعباده الذل والهوان والحرمان وقد أوكل إلى الإنسان كل شيء إلا كرامته فليس من حقه أن يتنازل عنها، في حين نرى شعوباً حية في المنطقة وفي العالم تمتاز بالشجاعة وقوة الإرادة تنتفض وتزلزل الأرض تحت أقدام الظالمين إذا أهينت وصودرت إراداتها أو اتخذت قرارات مجحفة في حقهم كرفع أسعار المواد الغذائية والأساسية كالمشتقات النفطية، فهلاّ كانوا كتلك الشعوب الحية التي يفتخر بمواقفهم الأحرار في العالم).(1)

ص: 142


1- - يُنظر المصدر نفسه

أسباب تدجين الشعب العراقي ورضوخه للظلم

عند دراسة طبيعة المجتمع العراقي المركّب من عدة شرائح اجتماعية مختلفة، يتضح لنا بعض الأسباب التي جعلت هذا الشعب يرضخ للخروقات الصارخة من قبل المسؤولين في الدولة، وعند تتبع هذه الأسباب نجد إن بعضها يقع في خانات متعددة فبعضها دينيي وبعضها فكري وبعضها الآخر نفسي، واجتماعي... وغير ذلك، كما توجد أسباب فرعية وأخرى ثانوية تسببت بتفاقم هذه الظاهرة ونشؤها بشكل ملحوظ، وقد أشار المرجع اليعقوبي إلى ذكر ثلاثة أسباب رئيسة منها، حيث قال(دام ظله): (لو أردنا أن نحلّل سبب حصول هذه الظاهرة السيئة فسنجد أسباباً عديدة كطول زمان القهر والإذلال التي مارسته الديكتاتورية واليأس من الإصلاح والتغيير وغيرها، وعلى رأس الأسباب التدجين الذي مارسه بعض من يسمّون بعلماء الدين ويوجد من يسمع لهم في الشارع فأخذوا في شرعنة ظلم الظالمين وفسادهم وطغيانهم واستئثارهم بأموال الشعب والتدمير والخراب تحت عناوين مختلفة ودعوة الناس إلى الاستسلام والرضا بالقتل والتشريد والذل والحرمان)(1) ونحن سنذكرها بمشيئة الله تعالى مع شيء من التفصيل، بالإضافة إلى ذِكر الأسباب الأخرى التي توصلنا إليها بلطف الله تعالى ورعايته، وهي كالآتي:

1/ إن من الأسباب الرئيسة لهذه الظاهرة هو مرور الشعب العراقي بحقبة تحكم الطواغيت وطول زمان القهر والإذلال التي مارستها الأنظمة الديكتاتورية لاسيما النظام الصدامي، منذ عقد ستينيات القرن الماضي، حيث تسربت إلى قلوب المجتمع حالة من إلفت الاستضعاف وتقبُل الظلم وعدم معارضته، الأمر الذي جعل الشعب يستسيغه ولا ينكره، وقد مرّ عليك في هذا الكتاب ما أفردناه من

ص: 143


1- - خطابات المرحلة، ج6،ص95.

دراسة مختصرةوسرداً تأريخياً يكشف مدى الظلم والاستبداد الذي أمعن الطاغية صدام وأزلامه في ممارسته مع الشعب العراقي قرابة ثلاثين سنة، لكي نقف على حجم الظلم والاستبداد الذي نال هذا الشعب الجريح، ومن جهة أخرى لنتعرف على مدى حجم التأثير النفسي والتربوي والاجتماعي والسياسي الذي لحق العقلية والذهنية العامة للعراقيين جراء هذه الحقبة المظلمة.

2/ (وعلى رأس أسباب تدجين المجتمع العراقي هو علماء السوء وما يقمون به من ممارسات تجعل المجتمع خانعاً وذليلاً، وللأسف يوجد الكثير ممن يسمع لهم ويطيع، فأخذ هؤلاء العلماء المفتونون بحب الدنيا بشرعنة ظلم الظالمين وفسادهم وطغيانهم واستئثارهم بأموال الشعب والتدمير والخراب تحت عناوين مختلفة ودعوة الناس إلى الاستسلام والرضا بالقتل والتشريد والذل والحرمان).(1) وسنفرد لهذا السبب لخطورته على المجتمع فصلاً خاصاً نتناول فيه دواعي ونتائج هذه الحالة بشيءٍ من التفصيل.

3/ يأس الشعب من الإصلاح وفقدان الأمل بتحقيق التغيير لواقع المجتمع العراقي، لأن السياسيين الفاسدين قد احكموا قبضتهم على خناق الشعب، فإذا أراد الشعب أن يغير هذه الوجوه السياسية المتحكمة في القرار السياسي في العراق والتي عاثت في الأرض فساداً ونهبت ثروات وخيرات البلد لا يستطيع ذلك لأن (فرصة التغيير ضعيفة لأن الأحزاب الحاكمة تمتلك كل عناصر التأثير على الناخبين أو المرشحين بالترهيب والترغيب، فبأيديهم السلطة، ويحتكرون وظائف الدولة، ولديهم المال الذي هو ثروة الشعب، ويسيطرون على القوى الأمنية التي تُوَظَّف في كثير من الأحيان لتنفيذ أجندات الأحزاب لتصبح مليشيات بلباس رسمي,

ص: 144


1- - ينظر المصدر نفسه.

ويستطيعون أيضاً استغلال الدينواسم المرجعية الدينية أو القومية أو الطائفية، فالتعويل على تداول حقيقي للسلطة احتمال ضعيف، والديمقراطية التي يتحدثون عنها وصفتُها بالعوراء، لأنهم يتمسكون بها بمقدار ما يقوي سلطتهم ويحقق مصالحهم ويتركون الجانب الآخر منها)(1) وكل مسؤول كبير في الدولة له فئة جماهيرية موالية له تنتخبه في كل دورة انتخابية وهو بدوره يغدق عليها بعطاياه السخية من منح وامتيازات ومناصب حكومية ونحو ذلك.

ومن أسباب فقدان العراقيين للأمل بتحقيق التغيير والإصلاح هو وجود شخصيات ظالمة بوجوه جديدة، حلت محل الطاغية صدام ولكن بأسماء وعناوين جديدة ف(العراقيون لا يشعرون بأن شيئاً من الظلم قد تغيّر بدرجة ملحوظة، وأن كثيراً من المظالم والتقصيرات التي أوجبت رفض نظام صدام والوقوف في وجهه كُرِّست في النظام الحالي، مثل تقريب العشيرة وأبناء المدينة والحزب وإعطائهم المناصب العليا على حساب الكفاءة والنزاهة والوطنية ومثل الاستئثار بثروات الشعب وحرمانه من حقوقه في حياة حرة كريمة ومثل اعتقال الأبرياء وقتل الآمنين بجريرة غيرهم، نعم، الشيء الحسن الذي تحقق هو الأمل بغدٍ أفضل، أما في عهد صدام فلم يكن هناك أمل وكان المصير مظلماً).(2)

وقد أدى هذا اليأس والإحباط وفقدان الأمل بالتغيير إلى انعزال الكثير عن العمل الاجتماعي الاسلامي، وهذه الحالة هي بدورها حالة سلبية أفرزتها حالة اليأس والإحباط لدى العراقيين، وقد حذّر الشيخ المرجع (دام ظله) من آثار هذا الانعزال السلبي قائلاً: (من آثر الانعزال والانكفاء على الذات وأصيب بالخمول وفقَدَ همته وحماسه للعمل، وجعل أقصى همه شؤونه الخاصة، أما بسبب فشل تجربة الفريق الأول فانعكس سلباً عليه

ص: 145


1- - خطابات المرحلة، ج5، ص356.
2- - خطابات المرحلة،ج5،ص 312 .

حيث لحق به عاره أو لعجزه عن أداءرسالته أو ليأسه من الإصلاح والتغيير فحصل عنده شعور بالإحباط فكان رد فعله التخلي عن العمل الاجتماعي).(1)

ثم استعرض (دام ظله) علاجاً لحالة انعزال العاملين المخلصين، واعتبر هذا هروباً عن أداء المسؤولية ومن يفعل ذلك فقد (تخلى عن هموم أمته وقد ورد في الحديث: (من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم) وتخلى عن مسؤوليته في إعلاء كلمة الله تعالى ونشر تعاليم دينه لأن لديه العلم والمعرفة ومن تحمل العلم كانت عليه مسؤولية تبليغه وإيصاله إلى الآخرين، خصوصاً مع توفر الفرصة اليوم بأوسع أبوابها للعمل الإسلامي المبارك، وإذا فشل شخص أو جهة ممن يحمل لافتة إسلامية في عمله فهذا لا يعني التراجع والنكوص مهما كانت العوائق والأشواك كما نقرأ في زيارة أبي الفضل العباس (علیه السلام): (أشهد انك لم تهن ولم تنكل) وهذه هي الأمة الوسط التي أرادنا الله تبارك وتعالى أن نكون منها ولا يخلو أي زمان من هذه الأمة مهما غلت التضحيات وعظمت العقبات والضغوط والتشكيكات والإحباطات [مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]).(2)

وكما أن الجماهير هي أقوى من الطغاة، كذلك الجماهير هي التي تصنعهم وذلك بالخوف منهم، وبطاعتهم، وتعظيم شأنهم أكثر من الحد المطلوب وعدم الاعتراض على ظلمهم، وهذا هو أحد أسباب تدجين الأمة وقبولها بالظلم، وفساد بعض السياسيين الذين استأثروا بالسلطة وغلب عليهم طابع اللهث وراء الدنيا والمصالح الشخصية فأساؤوا للشعب بشكل متتابع ومتكثر، أدى إلى إنهاك قوى الشعب وإجهاد حالته النفسية، فخمدت روح المعارضة تجاه الانتهاكات المتكررة والمتعددة

ص: 146


1- - خطابات المرحلة،ج5، ص361.
2- - خطابات المرحلة،ج5، ص362.

وقلت تدريجياً الاعتصامات والتنديدات والمظاهرات الشعبية في الشارع وساعد عليها سكوتالقيادات الدينية الفاسدة التي شرعنة ظلم هؤلاء الساسة الفاسدين ومن جهة أخرى لم تمد الشعب بروح رفض الظلم ولم تؤيدهم أو تنصرهم على هذه الروح النضالية الثورية، فبقي الشعب مبهوتاً لكثرة الخروقات والاختلاسات والمفاسد التي يرتكبها السياسيون، ولا يدري على أي خرق أو انتهاك من هذه الانتهاكات يتظاهر أو يعترض ويندد، وإلى الله تعالى المشتكى وعليه المعول في الشدة والرخاء، حتى عبّر المرجع اليعقوبي بمرارة عن نظرة السياسيين للعراق وفهمهم للعمل السياسي، قائلاً: (الذي يفهمونه من العراق أنه بقرة حلوب يتسابقون على استلاب خيراته)(1)، ومن جانب آخر فإن السياسيين أنفسهم هم مدجنون من قِبل نفوسهم الأمار بالسوء واللاهثة وراء الدنيا، ومدجنون أيضاً من قبل بعض الجهات التي ما برحوا يرضونها طلباً لحماية مصالحهم، لذلك نرى إنهم(في كل مؤتمر مما يسمى ب(مؤتمرات المصالحة الوطنية) تُقدّم تنازلات ذليلة للإرهابيين والصداميين كقرار العفو عنهم وإعادة أزلام صدام من الفدائيين وجلاوزة الأمن ودفع رواتبهم بقرار رجعي ونحوها).(2) كما ذَكَرَ المرجع اليعقوبي جملة من الأساليب التي يمارسها المسؤولون الفاسدون في البلاد، لأجل خداع الشعوب، وهي:

أولاً/ ما يسمى بالمصطلح (ركوب الموجة) بأن يستغل السياسيون مطالباً حقيقية ومشروعة للشعب فينادي بها لكسب الجماهير اليه والتقوّي بهم للضغط على خصومه لتحصيل مكاسب أكبر سواء كانوا داخل الحكومة أو خارجها.

ثانياً/ إلهاء الشعوب بالألعاب والمتع واللهو والعبث لأشغالهم عّما يجري من فساد

ص: 147


1- - خطاب المرحلة،ج5،ص317.
2- - خطاب المرحلة،ج5، ص60.

وظلم وطغيان وتحويل انتباههم الى اللهو واللعب بدلاً من القضايا الحيوية والاهداف الحقيقية والحركة الواعية البناءة الى ترفض ظلم وفساد أولئك الحكام ,وهذهالسياسة يسمونها (استراتيجية الالهاء) وتشمل سيلاً لا ينتهي من الألعاب والبطولات والمسابقات والمهرجانات ونحو ذلك.

ثالثاً/ خلق المشكلات وافتعال الأزمات لتمرير سياسات معينة تكون مرفوضة في الوضع الطبيعي مثلاً يريدون تخفيض دعم السلع الأساسية أو الضمان الاجتماعي أو الخدمات العامة كالصحة والتعليم فيخلقون أزمات مالية ليقنعوا الشعب بضرورة اتخاذ هذه الاجراءات، أو يريدون مثلاً وضع الشعب تحت المراقبة والتجسس عليه وجمع المعلومات التفصيلية عنه وتقييد حرياته وحركته، أو اعتقال وتصفية المعارضين، فيفتعلون مشكلة أمنية كتفجيرات مثلاً او اظهار اعترافات شبكة تجسس وهمية وهكذا مما يجعل اتخاذ تلك الاجراءات أمراً مقبولاً وتسمى هذه السياسة (ابتكر المشاكل ثم قدّم الحلول).

رابعاً/ استراتيجية التدرّج :باعتماد التدريجية في تطبيق التكتيكات حتى يصلوا إلى النتيجة التي يريدونها ولو فعلوها مباشرة لأحدثت ضجة وثورة عارمة كبعض الاجراءات الاقتصادية والاجتماعية ,وقد تطول المدة أو تقصر بحسب أهمية القضية ،مثلاً يريدون تقليل الرواتب فيتركون حالة البطالة تزداد ويستقدمون عمالة أجنبية رخيصة فيرضى المواطن بأقل ما يمكن.

خامساً/ استثارة العاطفة بدل الفكر لتعطيل حالة الوعي والتأمل والتحليل وتمييز ما هو عقلاني عن غيره فيفقد الإنسان قدرته على النقد البنّاء الذي يقود عملية الاصلاح كما ان استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور إلى اللاوعي حتى يتم زرعه بأفكار ورغبات ومخاوف ونزعات او سلوكيات.

سادساً/ إبقاء الشعب في حالة جهل وحماقة بطريقة يكون غير قادر على استيعاب

ص: 148

الطرق المستعملة للتحكم به واستعباده بأن تكون نوعية التعليم المقدّم للطبقات السفلى هي النوعية الافقر حتى تبقى الهوّة المعرفية التي تفصل الطبقات السفلى عنالعليا غير مفهومة من قبل الطبقات السفلى.

سابعاً/ التعويض عن الثورة ورفض الظلم والفساد بالإحساس بالذنب بجعل الفرد يعتقد انه المسؤول الوحيد عن تعاسته وان سبب مسؤوليته تلك هو نقص في قدراته وقابلياته او تقصير في جهوده فيقوم بامتهان نفسه بدل التحرك للتغيير والاصلاح.(1)

ويمكننا إضافة بعض الأساليب والمميزات الأخرى التي أتصف بها أبناء المؤسسة السياسية الفاسدة، وهي:

أ- سياسة التخدير، وتوظيف الماكنة الإعلامية المضلّة لأجل خدمة مصالحهم من خلال بث الاخبار والتقارير السياسية التي تُخدّر المجتمع بالوعود الكاذبة وبإنجاز الاصلاحات المستقبلية في البلاد، فإن كل - أو على أقل تقدير أغلب - الاحزاب الحاكمة تمتلك كل واحد منها قناة فضائية أو أكثر لترويج بضائعها الكاسدة، وتجمل مكانتها في نفوس الناس، وكأن لسان حالهم يقول:

نامي جياعَ الشَّعب نامي حرسَتْكِ آلِهة ُالطَّعامِ نامي فانْ لم تشبَعي مِن يَقْظَّةٍ فمِنَ المنام نامي على زبدِ الوعود يُدافُ في عَسل ِ الكلام(2)

ب- رضوخ السياسيين أنفسهم لسياسيي الدول الأخرى.

ت- عدم التعامل بالشفافية والمصداقية والصراحة سواء مع الشعب أو مع الفرقاء السياسيين الآخرين.

ص: 149


1- - خطاب المرحلة،ج8، خطاب بعنوان: (أمير المؤمنين (علیه السلام) ومكر طلّاب الزعامات).
2- - مطلع قصيدة للشاعر محمد مهدي الجواهري.

ث- عدم محاسبة المفسد والتعامل بالمجاملة والمحاباة وفق نظام المحاصصة المقيت، وتعطيل دور القضاء لمحاسبة المقصرين، وإذا حصل ذلك فيكون بمحاكمات خجولة لا تتوانى عن تبرئة المفسدين.أ- عدم الإهتمام بالقضايا المصيرية والانزواء لمصالحهم، والتفرغ لكسب الغنائم، ومناقشة القضايا الهامشية.

وهذه الحالة السياسية المزرية ينطبق عليها قول الشاعر معروف الرصافي في قصيدة له يصف فيها فساد الحكومة آنذاك:

أهل بغداد أفيقوا من كرى هذي الغرارة إن ديك الدهر قد باض ببغداد وزاره هي للجاهل عزّ, ولذي العلم حقاره حبّبت للوطني الحرّ ان يهجر داره كم وزير ٍ هو كالوزر على ظهر الوزارة ووزير ملحق كالذيل في عجز الحمارة أمع الذلة كبر, أم مع الجبن جساره كيف لا تخشون للأحرار في البطش مهارة

4/ ومن أسباب تدجين الشعب العراقي أيضاً هو تعدد العناوين والجهات المتناحرة وعدم وجود روح التعاون بين أفراد الشعب بسبب انتشار الفرقة والتناحر فيما بينهم وعدم الانصهار في بوتقة واحدة وأهداف مشتركة تحفز الجميع على العمل المشترك الموحد، بل على العكس من ذلك تماماً فترى حالات التسقيط والافتراء والتهميش وإفشال مشاريع الآخرين منتشرة بين أوساط أبناء المجتمع بشكل واضح لاسيما بعض الجهات الحوزوية في المؤسسة الدينية والأحزاب السياسية وبعض

ص: 150

العشائر ، وغيرها من العناوين والجهات التي تكثرت في البلاد (وهذا التعدد في العناوين التي تطاع من دون الله تبارك وتعالى هو الذي أوجب هذا التشتت والضياع والتفرقة بين أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد وحتى البيت الواحد، ولو كانوا أحراراً في دنياهملا يطيعون إلا من أمر الله بطاعته لتوحّدوا ولكنهم تفرقوا فسُلِبت البركات منهم والعياذ بالله، إن الحرية التامة والانعتاق الحقيقي هي في العبودية التامة والتسليم المطلق لله تبارك وتعالى فكلما أزاد العبد طاعة وتسليماً لله تبارك وتعالى تحرر من الرق لغيره أكثر [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً]).(1)

5/ إعراض المجتمع عن أوامر القيادة الدينية الصالحة المخلصة الرسالية التي خلفوها وراء ظهورهم، ولو أنهم أطاعوها واتبعوها (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) كما عبّرت السيدة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها الغراء، لكنهم للأسف ولّوا أمرهم من لا يستحق، واتبعوا من لا ينفعهم في تغيير واقعهم منخدعين بالقداسة المزيفة لبعض الشخصيات الدينية التي أضفتها لهم الماكنة الإعلامية الظالمة والأحزاب السياسية الوصولية والحواشي الانتفاعية، وهذا التقهقر الإصلاحي والتقدم في مسيرة تعديل اعوجاج الأمة و(هي نتيجة طبيعية تحصل للأمة حينما ترجع في أمورها إلى من هو ليس بأهل وتختار عن غير بصيرة وتستسلم للظلم والانحراف، وقد حذّرت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء في خطبتها من هذه النتيجة فقالت (عليها السلام): (ويحهم أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدّي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون؟! أما لعمري لقد لقحت، فَنَظِرةٌ

ص: 151


1- - خطابات المرحلة،ج6، ص107.

ريثما تنتج) إلى أن قالت (عليها السلام): (وأبشروا بسيف صارمٍ، وسطوة معتدٍ غاشم واستبداد من الظالمين: يدَعْ فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم! وأنى بكم وقد عميت عليكم، أنُلزِمكموها وأنتم لها كارهون)((1))).(2)وقد دأب (دام ظله) في مناشدة الأمة واستصراخ أصحاب التغيير والهم الرسالي في المجتمع، حيث أعرب عن ذلك قائلاً: (ولطالما استنهضت هممهم منذ عدة سنوات في خطابات وفعاليات، فلم يسمع ولم يستجب إلا النزر القليل الذين لا يدفع بهم باطل ولا يُصلح بهم ما فسد من أمور المسلمين، وقلت في بعض تلك الكلمات أن هؤلاء السياسيين لا ضمير لهم ولا يحبونكم وإنما يحبّون أنفسهم قد أعماهم حب الدنيا، ولا يتحركون إلاّ عندما تُحرق الأرض تحت أقدامهم وتُهدّد مصالحهم، لكن الشعب لم يفقه ما يقوله المخلصون له، وجاءته فرصة التغيير في الانتخابات ليختار من يعرف كفاءته ونزاهته وإخلاصه لكن الأغلبية الساحقة اختارت نفس المفسدين المستأثرين، ثم جاؤوا اليوم ليتظاهروا ويطالبوا بالحقوق(3) وهم من ضيّعوها على أنفسهم، وقد حذرت في بعض خطاباتي قبيل الانتخابات أن الله تعالى لا يستجيب دعوة شعب سلّط من لا يرحمه عليه ثم يدعو الله تعالى مطالباً بتغييره، فهذه اليقظة وهذه المطالبات جاءت متأخرة وبعد فوات الفرصة لكنها مع ذلك تنفع في إيجاد ضغط على مسؤولي البلاد لكي يتحركوا ويقدّموا شيئاً لشعبهم، وعلى أبناء الشعب أن يكونوا واعين ولا يسمحوا للانتهازيين بمصادرة جهودهم

ص: 152


1- - الاحتجاج، ج1، ص148. وشرحنا الفكرة بالتفصيل في بحث: (ماذا خسرت الأمة حينما ولت أمرها من لا يستحق) المنشور في كتاب (الأسوة الحسنة).
2- - خطابات المرحلة، ج5، ص 148.
3- إشارة إلى الدعوات التي رُوِّجت على مواقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك، تويتر، واليوتيوب) للالتحاق بثورات الربيع العربي وإعلان يوم الجمعة 25/شباط/2011 جمعة الغضب.

وتضحياتهم، ورفع شعارات غير ما خرج المتظاهرون من أجله، وأن يعرفوا قيادتهم بالخير والصلاح ولا يسيروا خلف مجهولين لا تُعرف أجنداتهم ولا الجهات التي يعملون لحسابها ويريدون توجيه الشعب عبر مواقع الفيسبوك واليوتيوب والتويتر).(1)

وتوجد أيضاً جملة عوامل تجعل الأمة متخاذلة عن نصرة قادتها الحقيقيين وعن مواكبة مشاريعهم الإصلاحية عبر الزمن، وكما هي عادة المرجع اليعقوبي (دام ظله)فهو كما يُبين للأمة مواطن الخلل كذلك يصف لها العلاج، حيث أشار (دام ظله) في خطاباته المباركة إلى ذكر أهم هذه العوامل المزمنة والمهلكة التي تكون سبباً لنكوص الأمة وتخاذلها وتنكرها للحق لنقتبس منها دروساً حركية جمة، ينبغي الالتفات إليها ومطالعتها بدقة ووعي، وهذه الأسباب أوجزها (دام ظله) ضمن خمس نقاط هي: (... شقوتها وسوء اختيارها ولانسياقها وراء الشهوات وتزيين الشيطان وتضليل الأعداء)(2).

وقد ذكرها (دام ظله) ضمن تعليقة له على حديث للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام): (قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك) حيث قال: (وهو (علیه السلام) حينما يقول (رجلان) يقصد تيارين في المجتمع يمثلهما هذان العنوانان وهما الخضوع للنفس الأمارة بالسوء وعدم تربيتها التربية الصالحة والانسياق وراء شهواتها والثاني هو الجهل والسذاجة والتخلف فتنعدم عند كليهما القدرة على اتخاذ الموقف الصحيح لأنهما يفتقدان البصيرة التي تدلهما على الهدى.

ص: 153


1- خطاب المرحلة، ج7 ،بعنوان: (الطاقة الكامنة عند الشعوب).
2- - ينظر خطبة صلاة عيد الفطر للمرجع اليعقوبي بعنوان: درس حركي من كلمة أمير المؤمنين (فزت ورب الكعبة) وصلح الإمام الحسن (علیه السلام) .

وهاتان الظاهرتان هما سبب ضعف الأمة وتمزقها وتمكن الأعداء الخارجين وسيطرتهم على الأمة ، ويساهم هذان الرجلان في إبعاد الأمة عن مسيرتها الصحيحة وقيادتها الحقيقية ويضللان الناس. أما الأول فبعمله الذي لم يوظفه للهدى والصلاح، والثاني بنسكه الظاهر وتقدسه الفارغ من الوعي والبصيرة والحكمة وشواهد هذين التيارين كثيرة عبر التاريخ. وهذا ما تعيشه الأمة إلى اليوم فكيف سنستطيع مواجهة الأعداء الخارجيين ونحن نختزن هذين المرضين اللذين ينخران في جسد الأمة حتى يقضيا عليها ويجعلاها فريسة للطامعين).(1) وسنحلل هذه النقاطونرجعها إلى عللها مناشئها من داخل الأمة، مستعرضين ومستقرئين لكلماته (دام ظله) السابقة في هذا الموضوع:

أ. شقاء الأمة:

إن الأمة هي عليها أن تقرر مصيرها بنفسها حينما تختار قادتها، واختيارها هو الذي يحدد لها طريق السعادة أو طريق الشقاء، وهناك عوامل تؤثر في اختيار الأمة منها الابتعاد عن الحق والالتهاء بالأمور الباطلة (فالأُمم التي لا تفكر بنفسها وتتلّهى بالأُمور التافهة غير الصائبة، ولا تعالج جذور شقائها ولا تطمح لأسباب الرقّي، ليس لها آذان سامعة ولا أعين باصرة )(2) كما يُعد الابتعاد عن القيادة الحكيمة والرضوخ للزعامات الباطلة في مقدمة أسباب شقاء الأمم. قال صاحب تفسير الأمثل في تفسير قوله تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنّه طغى) عندما تعرض لمسألة القيادة الطاغوتية: (... فإنّه سبب كلّ الشقاء والتعاسة .. وما لم يتمّ إصلاحه فسوف لا ينجح أي عمل، لأنّ عامل تقدّم الاُمّة أو تخلّفها، سعادتها أو شقائها

ص: 154


1- - خطابات المرحلة، خطاب: (قصم ظهري رجلان) .
2- - تفسير الأمثل. الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

وبؤسها هو قادتها وحكّامها، ولذلك يجب أن يكونوا هدفكما(1) قبل الجميع).(2) وعلى الرغم من أن الإمام الحجة (علیه السلام) رحمة للعالمين فهو لا يجبرها على اختيارها بل هي التي تقرر مصيرها كما قلنا وهذا ما أكده المرجع اليعقوبي (دام ظله) حيث قال: (..الرحمة الكبيرة التي يحملها الإمام (علیه السلام) للبشر جميعاً من أتباعه ومن غيرهم لا تسمح بان يترك البشرية معذبة وتعيش الشقاء بل يتدخل لإنقاذها ولكن ماذا يفعل لها إذا اختارت الشقاء بنفسها كما قال تعالى (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ)) .(3)

ب. سوء اختيار القائد :

وهو ناتج بسبب الجهل بصفات شخصية القائد النموذجي والجهل بوظائفه ومسؤولياته وناتج أيضاً بسبب قلة وعي الأمة وانبهارها بهالة القداسة المزيفة التي يتصنعها البعض، كما ساعدت اليوم وسائل الإعلام في ترويج هذه البضاعة الفاسدة، فانطلت الحيلة على السذج والبسطاء، وهذا ما أوعز إليه المرجع اليعقوبي (دام ظله) (...على الأمة أن تلتفت إلى هذين العدوين الكامنين في داخلها وهما إتباع الهوى وقلّة الوعي وإلا فإن الأمة سوف لا تهتدي إلى طريقها ولا تتعرف على قيادتها الحقيقية التي تريد لها الخير والتي وصفتهم الأحاديث الشريفة بأنهم سفن النجاة ).(4)

ج. الانسياق وراء الشهوات:

إن طبيعة النفس في الانسياق وراء الملذات تجعلها خاملة بطلب الحق وأهل الحق ومتلكئة في طاعتهم، لذلك نرى إن أهل الهوى وأصحاب النفوس المريضة هم الذين يتصدرون قائمة العداء للمصلحين، وهذا ما نلمسه بوضوح في قصص الأنبياء

ص: 155


1- - يقصد النبي موسى والنبي هارون (عليهما الصلاة والسلام).
2- - تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
3- - خطابات المرحلة، خطاب بعنوان: (الإيدز نذير انهيار الحضارة الغربية).
4- - خطابات المرحلة، خطاب بعنوان: (قصم ظهري رجلان) .

والمرسلين (عليهم السلام) التي ترويها لنا آيات القرآن الكريم .لأن العاكفين لإشباع شهواتهم لا يروق لهم أمر من يعكر عليهم صفو ذلك بقيودهم وقوانينهم وأخلاقهم الشرعية والتربوية، بل يريدون قيادات لا تبعدهم عن دنيا الشهوات واللهو وتحملهم بالتكاليف والمسؤوليات كما هو ديدن القيادة الرسالية.

د. تزيين الشيطان:

يقوم شياطين الأنس والجن بذلك من خلال تزيين الدنيا بأعين الناس وترغيبهم بالركون إليها وإلى طلب الدعة والراحة وتخويفهم من أمر الجهاد والعمل الرسالي والنمط التغييري في الأمة الذي يتطلب جداً واجتهاداً وتعباً قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وقال تعالى: (وَيُرِيدُالشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)، وقال تعالى: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا).

ه. تضليل الأعداء:

وهذا العامل يلعب دوراً خطيراً في إبعاد الأمة عن قادتها الحقيقيين، لأن تسقيط شخصية القائد في أعين الناس يجعلهم يزهدون به، بل أكثر من ذلك يبغضونه ويسيئون الظن به ويعادونه وبالتالي ينتج عدم طاعته والتنكر له وخذلان مشروعه الإصلاحي الذي بذله لخدمتهم، وهذه الحقيقية يؤيدها تأريخ المصلحين، وأكدها القرآن الكريم في آياته الشريفة عبر استعراضه لقصص الأنبياء العظام (عليهم السلام) وغيرهم، كالذي تعرضت له السيد مريم العذراء (عليها السلام) من تسقيط لشخصيتها باتهامهما في عفتها وشرفها، حتى إنها تمنت الموت بسبب خشيتها من ذلك (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) ناهيك عما تعرض له الأنبياء (عليهم السلام) من افتراءات وتهم وتشويه للسمعة فوصفوهم بالكهانة والكذب والسحر والشعوذة ...إلخ القائمة التي ورثها اليوم ورثة الأنبياء وهم المراجع

ص: 156

القادة المصلحون، وهذه بعض النماذج من كلمات المرجع اليعقوبي (دام ظله) بهذا الخصوص:

* إنها واحدة من خطط الكفار لفصل الأمة عن علمائها حتى تضل وتتيه بتسقيط العلماء وتشويه صورتهم والإفتراء عليهم ونسج الأكاذيب عنهم وكثير من أبناء المجتمع لجهلهم وسذاجتهم يصدقون، كما قال القرآن: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) .(1)

* تكاد الدعوات الضالّة رغم تباين مناهجها وتقاطعها في عملها تتحد على قاسم مشترك تجتمع عليه هو ضرب المرجعية وتسقيطها وتشويه صورتها وإلغاء دورها في المجتمع .(2)* ورد في تفسير قوله تعالى: (ويقتلون النبيين) عن الإمام (علیه السلام) إن ذلك بتحريف تعاليمهم وتمييع دعوتهم وعزلهم عن مؤيديهم وتشويه صورتهم في أعين الناس وهو أسلوب أخطر في القضاء على الدعوات الاصلاحية وعلى المصلحين من القتل الجسدي الذي يصنع من الضحية بطلاً شعبياً تلتف الجماهير حوله وتزداد اعجاباً به وأخذاً بأفكاره وقد رأيتم كلا الشكلين في حياة الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) فقد كان القتل المعنوي لتشويه سمعته وانه عميل للدولة وانه زرع الفتنة وشككوا في إجتهاده كان اقسى عليه من القتل المادي الذي رفعه مكاناً عليَاً وادى إلى التفاف الجميع عليه عكس الأول وقد عبّر (قدس سره) عن فترة القتل المعنوي أوائل مرجعيته بأنني عشتها بأعصابي فكونوا واعين لهذه المخاطر فاني أرى ان كثيراً من الناس قد وقعوا في هذا الفخ الخطير.(3)

ص: 157


1- - يُنظر المعالم المستقبلية للحوزة العلمية، للمرجع اليعقوبي (دام ظله).
2- - خطابات المرحلة، خطاب رقم (147) بعنوان: (المرجعية حصن يحمي عقائد الأمة ويصحح سلوكها من الفتن الضالّة) .
3- - خطابات المرحلة، خطاب بعنوان: (هل لأمريكا الفضل في حصول التغيير ؟) .

* سمعت كثيراً من الكلمات التي حاولت تحريف كلامي وعرضه بالشكل الذي يستفز إخواننا الذين عاشوا معاناة الغربة والتهجير ، وهذا ضمن حملة بعض الحاسدين والمنافقين لتشويه صورتي ، وانطلت الكلمات على البعض ...(1)

لماذا كل هذا الحماس والاندفاع والهمة في تشويه صورتي وتسقيطي في أعين الناس؟ اسألوهم هل ان هذا لله تعالى؟ سيجيبون بالنفي في داخل نفوسهم وان لم يعلنوها! اذاً هو الخوف على مصالحهم ودنياهم وقد ذكرتهم فما ذّكروا ووعظتهم فما اتعظوا وتكفيهم رواية واحدة عن أهل بيت العصمة لو وعوها لأقشعرت منها أبدانهم ولبكوا على حالهم قال (علیه السلام): (من روى رواية على أخيه المؤمن يبتغي بها شينه وهدم* مروّته وليسقطه في أعين الناس أخرجه الله من ولايته الى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان).(2)

وينتج بسبب تضليل الأعداء أمران خطيران هما: الأول: تشويه صور القادة المصلحين في أعين الأمة والثاني: انزلاق الأمة وراء ما يخططون من أفكار منحرفة وضالة تكون حجر عثرة في طريق المصلحين وتبعدهم عن الصواب والسعادة.

6/ والسبب السادس وراء وجود ظاهرة تدجين المجتمع هو الخوف من تضرر المصالح الشخصية, إذاما رفضوا ظلم المستأثرين ووقفوا بوجهه واعتراضوا على القرارات المنحرفة والمخالفة للدين والمنتهكة لحقوق المواطنين، ولهذا اتسمت بعض الشخصيات والجهات بصفة التملق والنفاق الديني والنفاق السياسي في التعامل مع المسؤولين حفاظاً على المصالح والمكتسبات الدنيوية، وللأسف فقد

ص: 158


1- - خطابات المرحلة، خطاب بعنوان: (حوارات سياسية في الذكرى الخامسة لسقوط صدام المقبور).
2- - خطاب بعنوان: (جواب بعض الإشكالات عن اجتهاد ومرجعية الشيخ اليعقوبي(دام ظله)).

استشرى هذا الداء حتى في صفوف بعض الشخصيات الإسلامية الرسالية، وهذا ما حذّر منه سماحة الشيخ (دام ظله) قائلاً: (إن تذويب الرسالي لخصوصياته مجاملة أو خوفاً أو طمعاً فإنه يمنع عنه اللطف الإلهي وتفسيره واضح من وجهة نظر طبيعية لأن المشروع الرسالي ما لم يتميز وتظهر معالمه على مستوى النظرية والتطبيق فكيف سيطلّع عليه الآخرون ليقتنعوا به فالتقصير في إيصال رؤى المرجعية الرشيدة غير مغتفر وسيحرم الأمة الكثير من الحلول والمعالجات لأزماتها ومشاكلها وما أكثرها في عالم اليوم).(1) وإنّ الخوف من الحكام وبطشهم والخوف على الأرزاق ولقمة العيش. والخوف على النفس والحياة. والخوف على الأبناء والنساء. والخوف على متاع الدنيا. هو الذي فتح الطريق أمام الطغاة والجبابرة ليستعبدوا الشعوب ويدجنوها فلو استقاموا على الهدى وما تخاذلوا عن الحق، وثاروا على الباطل وما سكتوا عليه، وتمرّدوا على الظلموما ركنوا له، ما كانوا ليحيوا حياة الذل والهوان. ولما تسلط عليهم أعداء الله وأعوانهم. فعنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله سَلَّمَ: (يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ) وفي حديث آخر عن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله سَلَّمَ: ( ِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ).

7/ خوف الإتهام فلعل بعض الناس أو بعض الجهات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية لا ترفع عقيرتها في وجه الظلم ولا تحث الناس للخروج إلى الشارع

ص: 159


1- - خطابات المرحلة، ج5، ص394.

وتتظاهر أو تعتصم أو نحو ذلك خوفاً من أن يشار إليها بأصابع الإتهام فتوصف بالرياء أو طلب الدنيا أو لحيازة المصالح والمكاسب الشخصية وأنها تجر النار إلى قرصها كما يقولون ونحو ذلك من الاتهامات، لذا آثر البعض السكوت على الظلم دفعاً لهذا الأقاويل, وهناك خوف آخر وهو الخوف من الفشل ومن استهزاء الآخرين لعدم النجاح في تعبئة الناس أو اخراج أعداد قليلة منهم إلى الشارع للتظاهر مثلاً ضد قرار ما أو للمطالبة بشيء ما, وهذا الخوف مناشئه غير مخلصة لأن الخوف على السمعة الشخصية خشية أن يقول الناس أنظروا إلى الجهة الكذائية فإن أتباعها قليلون وليس لهم تمثيل شعبي واجتماعي في أوساط المجتمع ونحو ذلك، هي من الاعتبارات الدنيوية الزائفة، فعلى الإنسان أن يسعى بكل جهده أما النتائج وتحقيق الأهداف فهي بيد الله تبارك وتعالى، وليس من الصحيح أن يستصغر الأنسان نوع تأثيره في المجتمع لقلته أو ضعفه أنحو نحو ذلك، قال الشاعر:

على المرء أن يسعى ويبذل جهده وليس عليه أن يساعده الدهر

فإن نال بالسعي المنى تم أمر وإن غلب المقدور كان له عذركما ضرب لنا القرآن الكريم نموذجاً رائعاً من إحدى كبار أنبيئه الطاهرين لكي نقتدي بهم في هذا المجال، حيث قال جل ذكره: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }.(1)

8/ اتصاف البعض بالروح الانهزامية، التي تخاف معارضة الظلم وتخشى المطالبة بحقوقها ومحاسبة ظالميها، ولهذه الشخصية المهزوزة أسباب نفسية وتربوية واجتماعية عديدة، ومن الجدير بالذكر أن نشير هنا إلى قصة مفادها إن مدينة

ص: 160


1- - النحل120.

يحكمها أحد الولاة وهذه المدينة يجري في منتصفها نهر يقسمها إلى نصفين، ويوجد على النهر جسر واحد للعبور وفي إحدى المرات أمر الوالي بأخذ درهم واحد من كل شخص يريد العبور على الجسر وعندما شاهد الوالي عدم اعتراض أهل هذه المدينة أمر بزيادة المبلغ فأصبح خمسة دراهم، وأيضا لم يشاهد الوالي أي صيحات اعتراض من الشعب، فأمر بزياده المبلغ الى عشرة دراهم ولم يعترض اي من سكان المدينة أيضاً، فاستغرب الوالي، ثم أمر بأخذ عشرة دراهم وضرب كل من يعبر الجسر بعصى، فلم يعترضوا أيضاً، فاستغرب الوالي بشده وأمر بجمع بعض الاشخاص من المدينة لمعرفه إذا كان لهم شكوى، فقام أحدهم معترضاً، ففرح الوالي بذلك وقال: ما هو اعتراضك: فقال: نريد أن تجعل شخصين بدلاً من شخص واحد على الجسر، حتى يقوم أحدهم بأخذ المبلغ والثاني يضرب بالعصى حتى نعبر بسرعة لأننا نتأخر كثيراً جراء وجود طابور طويل من الناس؟!!. رغم إن القصة تعود للعصور الغابرة، إلا أنها شديدة الشبهة بواقعنا للأسف الشديد.

وقد حث سماحة الشيخ (دام ظله) إلى ضرورة تحرك الشعب وإخراج صوته بالاعتراض على المفسدين منذ أمد بعيد حيث قال: (إن الشعب إذا لم يتحرك ويُعليصوته للمطالبة بحقوقه فإن أحداً سوف لا يهتم به أو يفكّر في إنقاذه من محنته، وأنت ترى حلولاً تُطرح من قبل الكتل السياسية المتنفذة ومن الخارج وكلها تراعي مصالحها وتبحث عن الحلول الكفيلة بديمومة تلك المصالح، ويتضح ذلك من تفاصيل وأهداف المشاريع التي يقدمونها فإنها جميعاً لا تتضمن تحسين الخدمات أو رفع مستوى معيشة المواطن العراقي أو إعادة المهجرين إلى ديارهم أو توفير الأمن والسلام، وغاية أهدافهم البقاء مدة أطول في الحكم وتمرير القوانين التي تصب في مصالحهم الشخصية، ولا يلوم الشعب إلا نفسه لأنه لا يُسمِع العالم

ص: 161

صوته وكأنه لا يعاني من مشكلة، فإذا غيّب نفسه فهل سيلتفت إليه الآخرون؟).((1)) .

9/ الفهم الخاطئ لبعض الروايات الشريفة الواردة عن المعصومين الأطهار (عليهم السلام) التي تحث على العفو والمسامحة عن المسيئين والمقصرين في الحقوق، أو الحاثة إلى ضرورة التحلي بالصبر وتحمل الأذى من الغير، ومدارة الظالم والتقية منه للأمن من خطره وضرره، وكذلك الروايات التي ترشد إلى الرضا بالقضاء والقدر الإلهي، وانتظار النصر الإلهي للمظلوم من ظالمه أو الروايات الحاثة على وجوب الانعزال والكون في أحلاس البيوت أو الالتزام بمبدأ الانتظار لحين خروج المنقذ المخلص وتحمل الشدائد جراء الظلم والفساد والجور ونحوها من الروايات الشريفة، ففسّر البعض هذه الروايات الشريفة تفسيراً سلبياً لا ينسجم مع رؤى مدرسة الثقلين المباركة، لذا علّل المرجع اليعقوبي (دام ظله) مناشيء الصبر الذي تحلى به العراقيون حيال المظالم التي تصيبهم إلى هذا الجانب، قائلاً: (إن صبر العراقيين في الموارد التي يُحمد فيها الصبر ناشئ من إيمانهم وتأسيهم بعظماء صبروا على أقسى المصائب والكوارث فسنّوا طريق الصبر لشعبهم وهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسن والحسين (عليهم السلام) وأهل بيتهم، لكن الصمت والسكوت إزاء مظالم كبيرة ليس من الصبر المحمود بل هو من الخنوع والاستسلام للذل والهوان ولم يكن أهل البيت (عليهم السلام) خانعين مستسلمين ولا رضوا بالذل والهوان وما أكثر المظالم اليوم حيث يُقتل الأبرياء ويعتقلون ويسرق قوتهم ويهجّرون ويسكنون العراء ويحرمون من أبسط حقوق الإنسان كخدمات الماء والكهرباء ويأكلون ويشربون مالا يصلح للاستهلاك

ص: 162


1- - خطابات المرحلة، ج5، ص186.

البشري ويعيشون في حالٍ بئيس من دون أن يقولوا: (لا) لمن ظلمهم وإذا تحدثوا فيقولون (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) مع أن الله تعالى لا يرضى لعباده الذل والهوان والحرمان وقد أوكل إلى الإنسان كل شيء إلا كرامته فليس من حقه أن يتنازل عنها).(1)

كما نُقل عن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قوله في تحديد أنواع الصبر: (أن الصبر صبران, صبر سلبي وصبر ايجابي الصبر السلبي هو؛ الصبر على الظلم والصبر الإيجابي هو الصبر على مقارعة الظلم والظالمين أو الصبر المأمورون به والمأمورين عليه هو الصبر الإيجابي وهو مقارعة الظلم والظالمين وأما السلبي فهو كناية عن الخضوع والخشوع والذل وهو صبر مذموم لا يؤجر عليه إنسان بل قد يأثم إن أدى إلى نقص في دينه أو ضياع حقوقه).(2) ووضح سماحة الشيخ المرجع (دام ظله) مفهوم المظلومية الإيجابية التي جاءت في معرض حكمة الزعيم غاندي، قائلاً: (كثيراً ما يتردد قول غاندي (تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر) على السنة المتحدثين دليلاً على عالمية وإنسانية أهداف الإمام الحسين (علیه السلام) والظاهر من مرادهم أحياناً ومقصودهم من الكلمة هو أنه تعلم من الحسين كيف يسعى ليكون مظلوماً حتى ينتصر، وهو معنى سلبي ينافي أهداف الإمام الحسين (علیه السلام) فإنه القائل:(يأبى الله لنا و رسوله أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام) وورد في الدعاء: (اللهم كرِّه إليَّ أن أكون مظلوماً كما كرّهت إليَّ أن أكون ظالماً)، والمظلوم الذي يستكين إلى الظلم ويستسلم إليه ولا يتحرك لرفعه لا ينتصر أما المعنى الصحيح للعبارة فهو إنني تعلمت من الحسين (علیه السلام) كيف أحوّل مظلوميتي إلى انتصار، تلك المظلومية التي يريد الطغاة والمستكبرون بما أوتوا من

ص: 163


1- - خطابات المرحلة، خطاب بعنوان: (تدجين الشعب العراقي ليستسلم للظلم والإذلال).
2- - المشروع السياسي والاجتماعي للسيد الشهيد محمد الصدر، هانئ النجار، ص 127.

أموال قارونية وسلاح فتاك و ألوف مؤلفة من الجنود وإعلام مضلل أن يفرضوها على المستضعفين المحرومين العُزّل من أسباب القوة المادية).(1)

أما مفهوم (التقية) وبيان متى تضيق دائرة خطوطها الحمراء في العمل الإسلامي ومتى تتسع فقد أسهب (دام ظله) بشرح ملابستها الموضوعية بشكل يزيل الغشاوة والفهم الخاطئ عن أذهان المسلمين، للحيلولة دون إنعكاس ذلك سلباً في سلوكياتهم وتعاملهم مع الآخرين لاسيما الجهات الحاكمة، حيث قال: ((التقية) مبدأ قرآني صرحت به الآية الشريفة التي نزلت في الحادثة المعروفة لعمار بن ياسر (رضوان الله تعالى عليه) عندما عذبته قريش وقتلت أباه وأمه قال تعالى: [لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ] وقد تواترت فيها الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) كقول الإمام الباقر (علیه السلام) (التقية من ديني ودين آبائي ولا إيمان لمن لا تقية له) وقول الإمام الصادق (علیه السلام): (من كانت له تقية رفعه الله، من لم تكن له تقية وضعه الله). فلا قيمة بعد ذلك لمن يشنّع على الشيعة باعتقادهم بهذا المبدأ ويصفهم بما هم بريئون منه... فبعد أن كان الأئمة المعصومون (عليهم السلام) يعيشون في تقية شديدة بحيث لا يستطيعون أن يسلموا على أحد ويسلّم عليهم أحد كما في الرواية في الكافي عن حماد بن واقد اللحام قال: (استقبلت أبا عبد الله (علیه السلام) فيطريق فأعرضت عنه بوجهي ومضيت، فدخلت عليه بعد ذلك، فقلت: جُعلت فداك إني لألقاك فأصرف وجهي كراهة أن أشقّ عليك فقال لي: رحمك الله ولكن رجلاً لقيني أمس في موضع كذا وكذا فقال: عليك السلام يا أبا عبد الله، ما أحسن ولا أجمل) تجد الإمام الصادق (علیه السلام) نفسه يؤسس جامعة كبرى ويتخرج على يديه آلاف العلماء في شتى حقول

ص: 164


1- - خطابات المرحلة، ج5، ص432.

العلم والمعرفة فهل خالف الإمام التقية؟ الأمر ليس كذلك بالتأكيد ولكن الجواب باختصار أن من وظائف القائد العمل على خلق أجواء وظروف يضيّق بها دائرة التقية ويوسع بها دائرة العمل الممكن وبتعبير آخر: يرجع الخطوط الحمراء التي كان يقف العمل عندها مراعاة للتقية).(1) وقال (دام ظله) أيضاً في موضع آخر حول موضوع التقية: (لا تعني التقية الانزواء والانكماش وترك العمل، وإنما تعني العمل بالممكن حتى تنفتح فرص الأزيد).(2)

أما مفهوم الانتظار الذي فهمه الكثير من الناس بشكل سلبي، فقد صحّح سماحة (دام ظله) فهمه في عدة خطابات وكلمات وضح فيها المعنى الصحيح لمفهوم الانتظار، حيث قال: (وردت أحاديث كثيرة في فضل انتظار الفرج منها ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج) وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفضل العبادة انتظار الفرج) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله فإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل انتظار الفرج ما دام عليه العبد المؤمن، والمنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله) وقد فهم الكثيرون من هذه الأحاديث معنىً سلبياً هو الانكماش والعزلة وعدم التحرك لإزالة الظلم والانحراف وتذرّعوا لذلك بفهم غير ناضج لبعض المفاهيم كالتقية ولبعض الأحاديث الشريفة كروايات (كل راية قبل ظهور القائم فهي راية ضلالة)، فعطّلوا فريضة الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر، مما أوجب اتهام الشيعة بالخنوع والاستسلام والركون للظلم والذل، مع أن واقع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) على عكس ذلك تماماً فهي التي تتصف بالحركية والنطق بالحق والتفاعل مع قضايا الأمة ابتداءً من زمن المعصومين (عليهم السلام) حتى

ص: 165


1- - خطابات المرحلة، ج6،ص 309.
2- - خطابات المرحلة، ج5،ص6.

عصرنا الحاضر ولم تتخلف عن ذلك إلا فترات بسيطة لسبب أو لآخر. بينما كان الآخرون منساقين وراء رغبات الحكّام سائرين في ركابهم حتى بدأ عندهم الوعي الإسلامي منذ أقل من قرنين من الزمان وسمّوه بالصحوة الإسلامية، ولا يخلو التعبير بالصحوة من إشارة إلى حالة سابقة من الخمول والركود، إن الانتظار حالة إيجابية وهو يستبطن عملياً معنى الاستعداد ولو لم يكن كذلك لما حظي بالمنزلة الرفيعة في الأحاديث المتقدمة. ولنأخذ أمثلة من حياتنا على هذا المعنى.

فحينما نقول أننا ننتظر الإمتحانات العامة فإن هذا يعني أن يكون الطلبة في ذروة الاستعداد لها فيجدّون ويجتهدون ويوفّر لهم ذووهم كل الظروف التي تساعدهم على تحقيق أفضل النتائج، وتنهمك إدارات المدارس في إعداد القاعات والأسئلة والمشرفين وغيرها، وهكذا تجد كل من له علاقة بالموضوع منهمكاً في أداء عمله وما تقتضيه وظيفته.

وحينما تنتظر دولة إقامة فعالية ضخمة كدورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت قبل أسابيع في الصين فتجد الدولة كلها مستنفرة في الاستعداد لإقامتها بأحسن حال وتنفق الحكومة المليارات في بناء الملاعب والفنادق وتهيئة المدن وغيرها، وهذا كله مع أن كثيراً من هذه الألعاب عبارة عن سراب يحسبه الظمآن ماءً أو أوهام صنعها الإنسان ليخدع بها نفسه وتتضمن كثيراً من المعاصي زيّنها لهم الشيطان: [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ..]، [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَعَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ].

فإذا كانت الأوهام الباطلة تستحق كل هذا الاستعداد وتحشيد الطاقات وإنفاق

ص: 166

الأموال الطائلة، فماذا يعني انتظار اليوم الموعود وأمل الإنسانية الذي لا يعني فقط انتظار إمام عظيم هو بقية الله في أرضه وحجته على عباده – وهذا بحد ذاته يتطلب استعدادات ضخمة-، بل يعني إضافة إلى ذلك انتظار مشروع عظيم مبارك يتوّج جهود الأنبياء والرسل والأئمة والصالحين ويحقق الوعد الإلهي بإقامة دولة الحق والعدل ومحق الفساد والانحراف والظلم. لا شك أن استقبال قائد عظيم كالإمام (أرواحنا له الفداء) ومشروع خالد كدولته المباركة يستحق منا شيعته التوّاقين لرؤية طلعته المباركة ونصرته والكون في طليعة جنده أن نستعد بحسب ما تقتضيه وظيفتنا وموقعنا.

فالحوزة العلمية والفضلاء والمبلغون ينتشرون في كل ناحية لنشر تعاليم الدين والأخلاق الفاضلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يساعدهم في ذلك الشباب الواعي الرسالي مستفيدين من وسائل الاتصال المتقدمة وشبكات الإنترنت لإيصال صوت أهل البيت (عليهم السلام) إلى كل مكان في العالم. والمتصدّون للحكم يبذلون قصارى جهودهم في بناء دولة المؤسسات المزدهرة المتحضرة التي تسودها العدالة والإنصاف والرحمة وبذل الوسع في خدمة الناس وإسعادهم. والطلبة يجدّون ويجتهدون لبناء مجتمع يمتلك الطاقات المبدعة القادرة على الإعمار والبناء في كل نواحي الحياة ويُغَطّون مختلف الاحتياجات. والأغنياء والمتمولون ورجال الأعمال يكثّفون جهودهم في الاستثمار لإعمار الحياة وتهيئة أسباب السعادة للناس وخلق فرص العمل وتفجير الطاقات وتشغيل العاطلين ويساهمون في دعم هذه الحركةالمباركة، وهكذا.

إن الفهم الخاطئ لفكرة الانتظار والتقية والعزلة وغيرها تُعدُّ من الأغلال الفكرية التي تقيّد حركة الإسلام المباركة مضافاً إلى القصور والتقصير الذاتيين، وما لم نحطّم الأغلال ونكسر القيود فإننا لا نستطيع أن نتحرك، وما بِعثة الأنبياء والرسل

ص: 167

(صلوات الله عيهم أجمعين) إلا لكسر هذه القيود وتحرير الإنسان من الأغلال الفكرية والنفسية والاجتماعية التي تعيق حركته، قال تعالى: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] تصور لو أن إنساناً مكبلاً بالحديد في يديه ورجليه وهو في سجن محكم وأننا نطلب منه النهوض والحركة والتخلص من سجنه والإفلات من سجّانه، أترى يستطيع ذلك من دون أن يكسر هذه القيود ويفكّ هذه الأغلاق ولو بمساعدة الآخرين؟ والتأريخ يروي لنا عن أشخاص -كأحد زعماء مشركي قريش- طُلب منه - حين الاحتضار- أن يقول كلمتين ما أيسرهما (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فلم يقدر وقال: إنهما أثقل من الجبال على صدري. لأنه مكبّل بالموروثات الاجتماعية التي تمنعه من مخالفة طريقة الآباء، هكذا الإنسان لا يستطيع أن يرتقي سلم الكمال ويستجيب لدعوة الله تبارك وتعالى ورسوله إلا عندما يتحرر من هذه الأغلال قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] فما هي هذه الحياة التي يدعونا الله تبارك وتعالى إليها؟ وما هي صفتها؟ قال تعالى: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] إذن أساس الحياة الطيبة والانتظار والاستعداد لليوم الموعود الذي يؤسس هذه الحياة الطيبة ركنان: الإيمان المبني علىالعلم والمعرفة، والعمل الصالح المبني على التقوى؛ ففي الكافي عن أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): جُعلت فداك متى الفرج؟ فقال: يا أبا بصير وأنت

ص: 168

ممن يريد الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فُرِّج عنه لانتظاره).(1)

وعندما أورد سماحة الشيخ (دام ظله) في خطاب له بعض الروايات التي قد تُفهم بشكل خاطي من قِبل المجتمع في هذا السياق نراه قد علّق عليها ولم يتركها دون توضيح وبيان، لكي لا يدع مجالاً للفهم الخاطيء بالتسرب إلى أذهان الناس، والروايات هي: (أوحى الله إلى نبي من أنبيائه.. إذا ظُلمتَ بمظلمةٍ فارض بانتصاري لك فإن انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) قال: (لا يكبرّن عليك ظلم من ظلمك فانه يسعى في مضرّته ونفعك وليس جزاء من سرَّك أن تسوءَه) فأردف (دام ظله) بالتوضيح قائلاً: (ولابد أن نلتفت إلى أن هذا التغاضي وعدم الرد فيما يتعلق بالمظالم الشخصية، أما إذا كان الظلم يتعلق بالحقوق العامة خصوصاً إذا انتهكت محارم الله تعالى فالنهي عنه واجب والسكوت قبيح ، روى في كنز العمال عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) منتصراً من ظلامة ظلمها قطّ إلا أن يُنتهك من محارم الله شيء، فإذا انتُهك من محارم الله شيء كان أشدَّهم في ذلك).(2)وهذا هو واجب العلماء والمفكرين والخطباء في بيان وتحليل مضامين الروايات الشريفة لكي لا يساء فهما، ويأخذ الناس منحى معاس لفهم الشريعة المباركة.

والخلاصة إن ظاهرة قلة الوعي وعدم الفهم العميق لروايات أهل البيت (عليهم السلام) تعد ظاهرة خطيرة تسبب للأمة الكثير من المشكلات، لذا دعى المرجعاليعقوبي(دام ظله) إلى ضرورة فهم المبادئ والمفاهيم الاسلامية فهماً سليماً لأجل السير بالأمة نحو بر الأمان لاسيما من بيدهم القرار السياسي من الأحزاب

ص: 169


1- - خطابات المرحلة، ج5، ص366.
2- - المصدر/ خطاب المرحلة،ج8،بعنوان: (الوصية الأخيرة للإمام الحسين والإمام السجاد(عليهما السلام) إيّاكَ وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله تعالى).

السياسية التي تدعي التمثيل الإسلامي في السلطة، حيث قال(دام ظله): (كشفت تجربة الذين يرفعون اللافتات الإسلامية من أحزاب وحركات ومؤسسات عن نقص مريع في فهم الإسلام الناصع الأصيل لذا فنحن بحاجة إلى إحياء حالة الوعي الإسلامي وإعادة التذكير بحقائقه ومفاهيمه وتعاليمه). (1)

وفي هذا السياق يَنقل لنا التأريخ إن المنصور الدوانيقي خَطَب يوماً وقال في خطبته: أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وأنا خازنه على فيئه أعمل بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه قد جعلني الله عليه قفلاً إذا شاء أن يفتحني لاعطياتكم وقسم فيأكم وأرزاقكم فتحني وإذا شاء أن يقفلني أقفلني ...(2) فلاحظوا كيف يشرعن الحكّام سلطتهم الظالمة على الناس، ويكسبوها قداسة مزيفة، حتى لا يعترض على ظلمهم أحد، وهذه العملية هي عين سياسة التجهيل التي تكمم أفواه الناس، إذا ما غب عنهم الوعي والدراية بحقائق الأمور، فإن (السلاطين في عهودهم الغابرة، يستخدمون نوعين من الجلاوزة (جلاوزة السيف) و(جلاوزة القلم) وكانوا يبذلون من الأموال في رعاية جلاوزة القلم مثلما يبذلون في رعاية (جلاوزة السيف) فهم يبنون الثكنات والقلاع ومرابط الخيل في نفس الوقت الذي يبنون فيه المساجد والمدارس ورباطات الدراويش).(3)

وروى التأريخ أيضاً إنه عندما اغتصب معاوية بن أبي سفيان الخلافة الإسلامية وقضى على الشورى وحول سلطة الخلافة إلى ملك وراثي ظلوم غشوم آثر به نفسهوأبنائه من بعده، وحينما شَعرَ بجرمه هذا قام باستدراج بعض الصحابة من ضعاف النفوس وأغراهم بالمال والمناصب حتى يشرعنوا له اغتصابه للخلافة

ص: 170


1- - خطابات المرحلة، ج5، ص396.
2- - يُنظر تاريخ الطبري، ج6.
3- - وعاظ السلاطين، الدكتور علي الوردي.

ويبرروا للناس استئثاره بالسلطة هو وأبنائه من بعده من دون الناس جميعاً، فقاموا يروون الكثير من الأحاديث وينسبونها للنبي (صلى الله عليه وآله) وهي أقوال تجعل من الحاكم ما يشبه الإله الذي لا يًسْئَل عما يفعل، وعلى الناس جميعاً أن يسمعوا ويطيعوا حتى ولو نهب الحاكم أموالهم وجلد ظهورهم، وجميع هذه الروايات توجه الناس نحو التدجين وتجعلهم تحت ذل الاستعباد والجهل، وهذه بعض النماذج من هذه الروايات الموضوعة الواردة في كتب أبناء العامة:

* (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، فقال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضُرِبَ ظهرك وأُخِذَ مالك, فاسمع وأطع).

* (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ عَلَانِيَةً وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ).

* (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ فقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاَتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلاَ تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ).

* (مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِن السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)

* (إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَان).

* (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)* (السلطان ظل الله في الأرض فمن أكرمه أكرمه الله ومن أهانه أهانه الله).

ص: 171

* (إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض).

* (يد الله مع الجماعة والشيطان مع من خالفهم يركض).

* (اسمع وأطع في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثره عليك وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك).

* (أطيعوا أمرائكم مهما كان فإن أمروكم بشيء مما جئت به فإنهم يؤجرون عليه وتؤجرون عليه ذلكم بأنكم إذا لقيتم ربكم قلتم ربنا لا ضره فيقول لا ظلمه فيقولون ربنا أرسلت إلينا رسلا فأطعناهم واستخلفت علينا خلفاء فأطعناهم وأمرت علينا أمراء فأطعناهم فيقول صدقتم هو عليهم وأنتم منه براء).

* (ما من قوم مشوا إلى سلطان الله ليذلوه إلا أذلهم الله قبل يوم القيامة).

* (عن أبى الدرداء قال : أوصاني رسول الله بتسع لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت أو حرقت ولا تتركن الصلاة المكتوبة متعمدا ومن تركها متعمدا برئت منه الذمة ولا تشربن الخمر فإنها مفتاح كل شر وأطع والديك وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج لهما ولا تنازعن ولاة الأمر وإن رأيت أنك أنت ( أي رأيت أنك أفضل منهم) ولا تفرر من الزحف وإن هلكت وفر أصحابك وأنفق من طولك على أهلك ولا ترفع عصاك على أهلك وأخفهم في الله عز و جل).

* قال رسول الله لما سأله رجل: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا؟ فقال: (اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم).

وظلت هذه الروايات هي الأعمدة والقواعد التي قام عليها الفكر السلفي وكل المؤسسات الدينية الرسمية التابعة للسلطة في شتى عصور التاريخ الإسلامي وحتى الآن، وقد تبنت السلطات الحاكمة الآن في الدول العربية ترويج هذه الأفكار من خلالوسائل الإعلام لأجل إضفاء الشرعية الدينية لحاكميتها المستبدة، بدعوى

ص: 172

وجوب طاعة ولي الأمر، وحرمة الخروج على ولاة الأمر مهما فعلوا بالأمة من ظلم وطغيان وسرقة وفساد وتنكيل.

10/ السبب العاشر من أسباب تدجين المجتمع، هو الرضا بأنصاف الحلول والقبول بالحلول الترقيعية والتغييرات الشكلية، ويرجع ذلك إلى عدم وعي المرحلة والأخذ برأي القيادة الدينية الواعية المخلصة وعدم التحلي بروح المثابرة وطول النَفَس بخلاف ما حصل في البلدان العربية الأخرى كتونس ومصر وليبيا واليمن، التي اجتاحتها رياح التغيير بفضل هذه الروح النضالية والثورية التي اتسمت بطول الأمد والاصرار والثبات على الموقف والتغيير الجدي الراديكالي وعدم الانخداع بالقرارات أو الوعود الكاذبة التي اطلقها الزعماء العرب المخلوعين بعدما احسوا بخطر اجتثاثهم من جانب شعوبهم.

لذا فإن عدم تحلي الشعب العراقي بروح المثابرة والمواصلة وإكمال مسيرة معارضة الظلم والفساد إلى نهاية المطاف، هو الذي يجعلنا نلاحظ بين الفينة والأخرى خروجه للشارع متظاهراً للمطالبة بحقه في أمرٍ ما ولكن سرعان ما يسكن وتخمد ثورته بعد فترة وجيزة كالمطالبة بتوفير الكهرباء أيام الصيف اللاهب والمطالبة بتصليح أنابيب الصرف الصحي أيام الشتاء الممطر أو غيرها من المطالب الخدمية والوظيفية الأخرى، ولكن بمجرد ذهاب الداعي والمحفز لذلك، ترى الشارع العراقي يفتر عن المطالبة وتبرد نار ثورته ضد المفسدين، ومن الشواهد التي نسجلها هنا أيضاً ظاهرة الهجرة الفردية والجماعية لبعض العراقيين، فبعد سقوط الطاغية صدام ومجيء قوات الاحتلال الامريكي سنة 2003م، عمت أرجاء العراق فرحة غامرة بسبب سقوط حكومة الظلم والاستبداد، ورسم الكثير من العراقيين أحلاماً وردية - كما يقال - لمرحلة ما بعد صدام، وزوال جمهورية الخوف التي كانت جاثمة على صدورهم لعدة عقود منالزمان، إلا أن فساد بعض المتسلطين على القرار

ص: 173

الديني والسياسي في البلاد، حال دون تحقيق الحياة الكريمة للعراقيين، وظلت العملية السياسية متعثرة ومتعرقلة إلى يوم كتابة هذه الأوراق، فلم يدم صبر العراقيين طويلاً في هذه المرحلة، لأجل إحداث حالة التغيير الحقيقي من خلال اتباع القيادة الدينية الحقة وانتخاب المسؤول السياسي الأصلح، ضمن العملية الديمقراطية الجديدة كما يقال، حتى بدأت قوافل الهجرة الجماعية بإعلان مغادرتها العراق إلى البلاد الأجنبية، بعد مرور سنوات قليلة من سقوط الطاغية، وهذه البوادر الأولى للسفر خارج العراق حذّر منها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) سنة 2007م في خطاباته المباركة(1) إلّا أن أصحاب القرار في البلاد المنهمكون بجمع الغنائم الدنيوية لم يصغوا إليه، حتى تفاقمت هذه الحالة الخطيرة في سنة 2015م وضجّت وسائل الإعلام بالتحذير من مخاطر هذه الظاهرة، ومحل شاهد الكلام إن العراقيين بادروا إلى الهجرة خارج العراق لعدة أسباب أبرزها:

ü ما ذكراه آنفاً من عدم التحلي بروح المثابرة والمطاولة على تحقيق الأهداف، والصبر على المطالب حتى نهاية المطاف.

ü إن العراق في زمن الطاغية كان يمثل سجناً كبيراً للشعب المظلوم، وبسقوط الطاغية تم الإفراج عنه ليستنشق نسيم الحرية - حسب ظنه - في الدول الأخرى، فسارع الكثير للهجرة ليتنفس الصعداء في بلاد الغربة.

إن الشعب العراقي سأم حالة تردي الأوضاع الداخلية لبلاده، ولم يلمس المصداقية الحقيقية من السياسيين الجُدُد، على الرغم من الوعود المتكثرة، ولم يرى الفرق الكبير بين عهد صدام وعهد من بعده، لذا راح يبحث عن بلد بديل

ص: 174


1- - ينظر خطابات المرحلة. ج5، خطاب بعنوان: (العجز عن حل مشاكل العراق بسبب عدم وجود رمز كبير يفرض الحل على السياسيين) وغيرها من الخطابات.

ووطن آخرü يَنعم بالأمن والحرية والعيش الرغيد يسكن فيه، ويوفر له مستلزمات الحياة الكريمة حسب ظنه، ولكن العكس هو الذي حصل.

وهذا هو إحدى الأسباب التي أشار إليها المرجع اليعقوبي، حيث قال: (توجد ظاهرتان في العلاقة بين السلطة والشعب هما السبب في حصول الفجوة والافتراق بينهما وتعمل عدة عوامل أخرى على توسيعها وتأجيجها، هما استئثار الحكام وعدم صبر المحكوم، فإذا التفت المتسلطون إلى أنانياتهم وكرّسوا جهدهم للتفرد بمغانم السلطة وجني المكاسب الشخصية مما يسبّب الحيف والظلم والجور على عامة الشعب الذين قد يصبرون على مستوى معين من الحرمان والتعسف لكن صبرهم لا يستمر إلى ما لا نهاية، وعندما يصل الحرمان من أبسط حقوق الحياة الإنسانية الكريمة إلى درجة لا تطاق فإن الصبر والتصبّر لا يجدي حينئذٍ وينفجر الوضع، وهذا ما عبر عنه الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري (عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج شاهراً سيفه).(1)وقد جاءت العديد من الروايات الشريفة التي تدفع المؤمنين على الصبر والثبات على الحق وتحمل الأذى وعد التزلزل أو التنازل عن الحق. ففي الحديث الشريف: (عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ

ص: 175


1- - خطابات المرحلة، ج5،ص61

الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَحَضْرَمُوتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ).(1)

11/عدم وجود رمز قيادي موحد تجتمع عليه كل أطراف الشعب وتستمع إلى نصائحه في حل مشكلاتهم، وتلتف حول كل أطياف المجتمع العراقي، فالمرجع اليعقوبي لديه علاج لمشكلات العراق إلا أن أصحاب القرار في البلاد لا يسمعون منه، لأنهم ركنوا إلى أنانياتهم ومصالحهم الشخصية، وليس كل أطياف الشعب تطيعه في أوامره، لذا وكلوا أمرهم لمن أوصلنا إلى ما نحن فيه، وهذه الحقيقة أشار إليها مرجعنا اليعقوبي قائلاً: (إن العجز عن حل مشكلة العراق اليوم يرجع في بعض أسبابه المهمة إلى عدم وجود رمز وطني أو ديني كبير له هيبة وانقياد يستطيع فرض الحل على السياسيين وإرغامهم على الرضوخ إلى الحق، وهنا يكون واجب النخبة كبيراً فعليهم تحمل مسؤولياتهم لتوعية الشعب وتوجيهه نحو قيادته الحقيقية والتصدي لتحمل المسؤولية وتقديم البديل الصالح ليأخذ محل الفاسدين والظالمين).(2) خلافاً للتجربة الإيرانية التي كان رائدها الإمام الخميني (قدس سره) الذي قاد الشعب الإيراني بأسره للتخلص من الحكم الشاهنشاهي المستبد ومن الهيمنة الصهيونية والأمريكية، بعد أن توحدت جميع القوى والأحزاب والجماهير تحت لوائه، ومن الشواهد التأريخية أيضاً في هذا المجال التفاف الشعب الهندي تحت قيادة المهاتما غاندي الذي حررهم من التبعية البريطانية المستعبدة فعندما جعل الشعب الهندي (غاندي) زعيماً روحيا ورمزاً قيادياً لهم يلوذون به لحل مشاكلاتهم تمكنوا من التحرر من الهيمنة الإنكليزية، أما الزعيم الأفريقي المعروف (نيلسون مانديلا) الذي قاد شعبه للتحرر من الطامعين

ص: 176


1- - حلية الأولياء ،أبو نعيم الأصبهاني، ج1، ص144.
2- - خطابات المرحلة، ج5،ص147.

في بلادهم، والسعي للقضاء على العنصرية والاستعباد فهي من الأمثلة الواضحة والقريبة المؤكدة لهذه الحقيقة، لذا ثمّن المرجع اليعقوبي (دام ظله) في خطاب مستقل جهود هذا الزعيم الثائر الفذ.(1)ويرى السيد الشهيد محمد باقر الصدر (إن الأمة التي تأكلها التناقضات ولا يجمعها مثل أعلى فأنها تتحول إلى (شبح أمة) كما يقول, وفي ضل هذا الشبح سوف ينصرف كل فرد في هذه الأمة إلى همومه الصغيرة وإلى قضاياه المحدودة, وذلك بعد أن (يفتقد المثل الأعلى الذي تلتف حوله الطاقات وتحشد من أجله التضحيات وحين يسقط هذا المثل, تسقط الراية التي توجد الأمة ويبقى كل إنسان مشدوداً إلى حاجاته المحدودة وإلى المصالح الشخصية وإلى تفكيره في أموره الخاصة أي أن كل واحد من الأمة يبدأ يفكر, كيف يصبح؟ كيف يمسي؟ كيف يأكل؟ كيف يشرب؟ كيف يوفر الراحة والاستقرار له ولأولاده وعائلته...؟) وعندها تضمحل هذه الأمل وتنتهي وتنكسر شوكتها ويزول عزها لأن النصر كما يقول السيد الشهيد أيضاً(ليس حقاً لكم وإنما النصر حق طبيعي لكم بقدر ما يمكن أن توفروا الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب سنن التاريخ التي وضعها الله سبحانه تعالى كونياً لا تشريعياً) وأكثر من ذلك وفي مرحلة التقسيم الفرعوني لأمم والشعوب يرى السيد الشهيد أن الأمم تتحمل المسؤولية الكبرى في سيطرة هذه المرحلة أو هذا التقسيم، وأنها غير معذورة في الاستسلام لهذا الفرعون أو ذاك رغم أن هذا الفرعون أول من يحاسب على فرعونيته وأول من سيحل عليه غضب الله سواء كان في الدنيا والآخرة حسب قرب أو بعد هذه الأمة أو هذا الفرعون من أثار مرحلة السنن التاريخية المذكورة ولكن دور الأئمة يبقى شاخصاً (فالأمة حين

ص: 177


1- - يُنظر خطابات المرحلة، ج8، خطاب بعنوان: (نيلسون مانديلا.. الثائر الفذّ).

تتنازل عن أرادتها وشخصيتها لجبار من الجبابرة حينئذٍ تكون عرضة للذوبان والتميع فتحترق في أتون الفرعون (أي الفرعون).(1)

12/ كثرة مصاعب الحياة وتواليها من مرض وبطالة وفقر، وما يفرزه من إنشغال مُلح بطلب الرزق للعائلة وما تحتاجه من لوازم المعيشة الضرورية، بالإضافة إلى الكوارثالأمنية من تفجيرات واغتيالات واختطاف وتهجير قسري ونحوها، كل هذه العوامل وغيرها انهكت قوة الشعب وفتت من صبره وصموده على مواجهة التحديات لاسيما وإنه قد خرج للتو من محنة ظلماء هي حومة البعث البغيض المتوحش الذي أحال العراق إلى رماد وخلّف في صدور العراقيين آلاف الآهات والآلام، التي يصعب شفائها، ناهيك عن ما أفرزه تنظيم داعش الإجرامي التكفيري في الآونة الأخيرة حيث فرض على المجتمع العراقي هموماً جديدة كالهجرة والنزوح القسري وماترتب عليه من تدهور اقتصادي وتدني صحي ونفسي وربما تسبب بتصدع في المنظومة الأسرية بالكامل فأثقل كاهل المجتمع العراقي بهموم سياسية واقتصادية وأمنية كثيرة وتكبد أيضاً (عنتاً وشدة وكوارث يندر أن يمر بها شعب آخر من قطع الرؤوس والتمثيل بالأجساد وقتل النساء والأطفال وتدمير دور العبادة والمدارس وتخريب البلاد وكل مظاهر الحياة المتحضرة).(2)

13/ كثرة الملهيات وتوفر العديد من وسائل الغفلة واللعب والترفيه كالمقاهي والكازينوهات وصالات الألعاب الرياضية والحدائق السياحية التي من شأنها إنزواء الإنسان عن همومه ومسؤولياته الدينية والاجتماعية والوطنية، ولعل هذه المظاهر الملهية التجأ إليها المجتمع لمزاولة الترفيه الشكلي، لكي يتناسى آلام الحياة،

ص: 178


1- - الشهيد الصدر بين أزمة التأريخ وذمة المؤرخين، مختار الأسدي، ص120.
2- - خطابات المرحلة، ج5،ص3.

وقلة الخدمات، كما تنتشر في أوساط المجتمع أمور أخرى أدت إلى حالة الخدر والإنكماش الإجتماعي كانتشار الأجهزة الذكية الحديثة كالهواتف النقالة ونظائرها، مع ما فيها من خدمات للتواصل الاجتماعي، فهي بيئة جيدة للإنعزال عن المجتمع، والاكتفاء بالتواصل معه إلكترونياً - لو صح التعبير - وإطلاق صيحات التنديد والاعتراض والاستهزاء والتندر والتهكم على مفاسد السياسيين، من خلال هذه القنوات الإعلاميةلتكون متنفساً وساحة لتفريغ شحنات الاحتقان الداخلي ضدهم وعدم تفعيل هذه الاعتراضات بشكل عملي.

يضاف إلى هذه القائمة حالة الهوس الشعبي من قِبل شريحة كبيرة من المجتمع بالجانب الرياضي، لاسيما لعبة كرة القدم، حتى إن شوارع المدن لتخلو في بعض الأحيان من المارة والسيارات جراء اعتكاف الناس خلف شاشات التلفاز لمشاهدة لعبة كرة القدم، فتتسمر الأعين وتُصم الآذان عما سوى مشاهدة المباريات، ليتناسى البعض آلامه، أو لأن هذه الهواية هي بمثابة كماله المنشود الذي يصبو إليه، بحيث إن البعض ليفرح بفوز فريقه المفضل ويبدي معالم البهجة والسرور لدرجة اطلاق العيارات النارية، على الرغم من مآسي الشعب جراء التفجيرات المتواصلة، أو مزامنته لشهادة أحد المعصومين الكرام (صلوات الله عليهم) وتصل النوبة بإثارة الخلافات والمشكلات والعِراك بالأيدي جراء هذا الهوس والتحمس بتشجيع هذا الفريق أو ذاك وهذا بطبيعة الحال ناتج من قلة الوعي وسطحية التفكير وعدم الشعور بالمسؤولية وعدم سعة الأفق والانغماس بطاعة الذات وما تشتهيه، والسقوط فريسة سهلة لسياسة الغرب الماكر الذي أوجد هذه الحالة والتي يطلق عليها بسياسة (إلهاء الشعوب) ، أما طائفة الشباب المراهقين فبعضهم منشغل اليوم بعالمهم الخاص، ولا يشعرون إنهم ينتمون إلى هذا البلد بالبتة، لقد

ص: 179

نحجت فيهم تجربة التسلية والالهاء التي تقودها الصهيونية العالمية فتجد إن اغلبيتهم لا يستطيعون التنازل عن المزرعة السعيدة خوفاً على وفاة بقراته.

ومما يزيد الطين بلة والمشكلة تعقيداً إن حالة انشغال المجتمع بالملهيات وموارد اللعب واللهو ليست أموراً اعتباطية بل من ورائها أجندات مغرضة تهدف إلى إسقاط الأمة في مستنقع الانحرافات، والتمكن من الهيمنة على مصيرها وثرواتها حيث (إن المنهمكين في الحياة المادية والساعين وراء إشباع شهواتهم ونزواتهم والنهمين في جمع المال يتفننون في ابتكار رياضات وفعاليات أخرى لا قيمة لها سوى شد الناس وجذبهمللاستمرار في استدرار أموالهم فما إن يأفل نجم رياضة ويعزف عنها الناس حتى يبتكروا غيرها وربما كان بعضها يشبه أفعال المجانين لا العقلاء، وتوجد خلفهم مؤسسات تخدم مصالح استكبارية تريد للشعوب أن تبقى غافلة لاهية مشغولة عن قضاياها المصيرية وأهدافها الحقيقية ولا يلتفتون إلى مكائد المستكبرين ونهبهم لثروات الشعوب فعلى هذه الشعوب أن لا تنخدع بهم).(1) وقد شبه سماحة الشيخ المرجع (دام ظله) حال الأمة اليوم بعصر الإمام أمير المؤمنين والإمام المجتبى (عليهما الصلاة والسلام)، حيث قال: (إذا أردت تشبيه حالة الأمة اليوم بحالة سابقة فإنها تحكي حالتها في أخريات أيام أمير المؤمنين (علیه السلام) وزمان الإمام الحسن (علیه السلام) حين عصفت بها الفتن والشبهات ولعب حب الدنيا بعقولها، ومالت إلى الدعة والراحة والسكون والترهل والاكتفاء بترتيب أحوالها الخاصة واللامبالاة بأمور الدين والمصالح العامة).(2)

14/ حُب الراحة والدعة والركون إلى الدنيا، فآثر البعض الاستسلام للظلم طلباً لذلك، ولكيلا يجلب لنفسه -حسب فهمه – ما يُصدّع رأسه ويذهب براحة باله، ويحبذ أكثر الناس حالة الدعة والسكون على الحركة والرفض حتى وإن لم يحصلوا على أبسط حقوقهم, فالمهم لديهم هو العيش ولو بمواجهة ظروف صعبة،

ص: 180


1- - خطابات المرحلة، ج5،ص259.
2- خطاب المرحلة، ج6 ،بعنوان: (كيف نخرج من حالة الفشل والتقاعس).

والنتيجة هو أن (يبقى الشعب المسالم البريء الأعزل الذي يمنعه دينه وأخلاقه وتقاليده عن ارتكاب الظلم والفساد يبقى محروماً من أبسط حقوقه ويعيش دون خط الفقر في مدنٍ تسبح على بحار من النفط).(1)

15/ وجود حالة من الطيبة الزائدة, والعقلية السطحية الساذجة التي لا ترقى لفهم مجريات الأحداث وتقييم الأشخاص اللاعبين في الساحة، والمسؤولين عن القرارالديني والسياسي والاجتماعي, وعدم تمييز الصالح عن الفاسد منهم، والعجز عن قرائه ما بين السطور كما يعبرون، وهذه الظاهرة هي من نتائج قلة الثقافة والوعي، وبسبب ما تقدم تنطلي على مَن هذه صفته الأكاذيب والخداع ويصدقون بكل الوعود والالتزامات التي يُصرح بها بعض السياسيين في وسائل الإعلام، فإن انتشار حالة الجهل وقلة الوعي بالأوضاع التي تُحاك تجاه الشعب من قبل أصحاب النفوذ في المؤسسة الدينية الفاسدة وأصحاب المطامع في المؤسسة السياسية هي أحد العوامل الرئيسة التي مكنت ظاهرة التدجين من التغلغل في المجتمع، ولكي يكون المجتمع واعياً وبصيراً عليه أن يلجأ إلى الحل الجذري وهي صناديق الاقتراع في الممارسة الانتخابية التي تعد من مظاهر الديمقراطية المتحضرة لانتخاب الأصلح ولمن يمثل تطلعات الشعب ومصالحهم، وأن لا يبادر في بيع صوته بالمال وحطام الدنيا الزائلة، كما حصل للأسف الشديد.

وقد حذّر المرجع اليعقوبي في خطاب له من مغبة الجهالة والضلالة وإنهما سببان رئيسيان لهلاك الأمة، حيث قال (دام ظله): (فما دام هذان الداءان الوبيلان يفتكان بالأمة فيجب أن يستمر العمل الدؤوب في سبيل الله تعالى لاستنقاذ الأمة منهما وإلا فإنهما سيؤديان إلى هلاكها وموتها المعنوي وستدخل في تيه الضلالة

ص: 181


1- - خطابات المرحلة، ج5،ص59.

وتبتعد عن المنهج السليم، وان كانت بحسب الظاهر تعيش حياتها المادية ولكن [إنْ هُمْ إلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً] والجهالة أوسع من المصطلح المعروف في مقابل العلم، واستقراء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة يكشف عن أنها تعني فعل الشيء بخلاف ما حقّه أن يُفعل فيمكن أن تكون في الاعتقادات [وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ] ويمكن أن تكون في القوانين والتشريعات [أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُون] ويمكن أن تكون في التصرفاتوأنماط السلوك [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى]).(1)

وكما يمكن أن يكون الجهل والضلال أساساً للهلاك يمكن أن تكون الثقافة الخاطئة هي الأخرى سبباً أخراً للمشكلات التي تعصف بالمجتمع، وهذا ما أكده المرجع اليعقوبي حيث قال (دام ظله): (إن الثقافة يمكن أن تكون أساس المشكلة ويمكن أن تكون أساس الحل فإذا سادت ثقافة العنف والاحتراب والصراع في المجتمع تحول أبناءه إلى العنف وإذا نُشرت ثقافة الحب والتسامح والأخوة نزع المجتمع إلى هذه الخصال).(2) ومن هنا نرى إصرار الأجندات المغرضة والمعادية للعراق كيف تصر على تجهيل المجتمع، وتحاول مجاهدة السير قدماً في سياسة التركيع الحضاري للشعوب وتحقيق سلخ الهوية الحضارية والفكرية عن الأمة، وهذا يفسّر لنا بعض الخروقات الأمنية التي تحصل في الحواضر العلمية كالتفجيرات المتعمدة قرب الجامعات واستهداف الكوادر والشخصيات العلمية والأكاديمية، بالإضافة إلى استهداف المظاهر الفكرية والثقافية في البلاد كشارع

ص: 182


1- - خطابات المرحلة، ج5،ص276.
2- - خطابات المرحلة، ج5،ص408.

المتنبي ومدينة الكرادة في بغداد، ف(إن استهداف الكرادة بهذا الشكل المتواصل ليس اعتباطياً وإنما لأنها الوجه الحضاري المشرق في بغداد والمُنجبة للعلماء والمفكرين والشباب الرساليين وهي مفخرة بغداد التي تباهي بها وتتجلى فيها وحدة الشعب العراقي وانسجام مكوناته من مختلف الطوائف والأعراق).(1)

16/ إن الكثير من الشخصيات القيادية المخلصة والنزيهة قد تم القضاء عليها من قِبل النظام البعثي البائد، فاصبحوا بين شهيداً أو مُهجر، ولم يبقى منهم إلا القليل،وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت الإمام علي (علیه السلام) يتحسّر عندما اشتاق لرؤية الشخصيات الفذة والمخلصة آنذاك، والتي كان لها دور بارز في عملية إصلاح الأمة، ومساعدته في نشر الدين، ومقاومة الظالمين والمفسدين، حيث قال (علیه السلام): (أين اخواني الّذين، ركبوا الطّريق، ومضوا على الحقّ، أين عمّار و أين إبن التّيهان، وأين ذو الشّهادتين، وأين نظراؤهم) ولعله (علیه السلام) يقصد أمثال سلمان المحمدي والمقداد وأبو ذر ومالك الأشتر هاشم المرقال وغيرهم، وقد شكّلت مسألة نُدرة الأتباع العاملين المخلصين مشكلة كبيرة في طريق المصلحين مُنذ زمن الأنبياء الكرام (عليهم السلام) وامتداداً بأسلافهم من العلماء الرساليين، وهذا ما جعل المرجع اليعقوبي يتسأل قائلاً: (فهل من الصدفة أن يصل السيدان الشهيدان الصدران الأول والثاني (قدس الله سريهما) في ذروة المواجهة مع النظام الطاغوتي إلى نتيجة واحدة وهي قلة الواعين المخلصين؟ فمثل هذه التجارب سواء كانت مرجعية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية لا بد أن تُمحّص ويستفاد منها).(2) ومن جهة أخرى يُبيّن (دام ظله) أهمية دور الثلة القيادية المخلصة في ساحة العمل الحركي والرسالي، قائلاً: (إن بقاء الثلة الصالحة المؤمنة التي تديم الوجود المبارك لأتباع

ص: 183


1- - خطابات المرحلة، ج5،ص399.
2- - خطابات المرحلة، ج5،ص396.

أهل البيت (عليهم السلام) هو أعظم رد على كل الأعداء لأنهم يريدون إخلاء الساحة منهم كما فعلوا بعد قتل الشهيد الصدر الأول (قدس سره) عام 1980م، ونجحوا في فصل الناس عن دينهم حتى أذن الله تبارك وتعالى بانبعاث الحياة وانتفاض الروح من جديد, ألم يقل صدام أني لا أسلم العراق إلا أرضاً جرداء بلا إنسان، وها هم أيتامه يكملون صفحات جرائمه فكونوا منهم على وعي وحذر، وإذا كان في يوم ما تكليف المؤمنين هي التضحية في سبيل الله فأنهم سوف لا يقصرون ولا يترددون وسيكونون كما قال الشاعر:

لبسوا الدروع على القلوب واقبلوا يتهافتون على ذهاب الأنفسِوهذا يتطلب منهم إدامة الروح الثورية والتواجد في الساحة والتواصل مع تعاليم دينهم تعليماً وتطبيقاً، والحذر والوعي لما يحاك لهم من مؤامرات، والالتفاف حول قيادتهم الرشيدة التي هي أمان لهم من الوقوع في المزالق).(1)

17/ ومن الأسباب التي أدت إلى نشؤ ظاهر ة التدجين في الأمة هو ابتعاد المجتمع عن طاعة الله تعالى، والتورط في الكثير من المخالفات الشرعية، وارتكاب المحرمات وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم نصرة القيادات الدينية المخلصة الحقة، فكانت النتيجة أن تولى الحُكم من يذيق الأمة العاصية، ألم الظلم والإضطهاد ويستضعفها ويدجنها، وقد مارس ذلك العديد من حكام الجور في أزمة مختلفة ومتعاقبة، فقد ورد عن الإمام علي (علیه السلام) في وصيته للحسنين (عليهما السلام): (لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم) كما (يلفت الإمام المهدي (عجل الله فرجه) نظرنا إلى بعض هذه الأسباب، ويعطينا الوصفات العلاجية الدقيقة في رسالته إلى الشيخ

ص: 184


1- - خطابات المرحلة، ج4، خطاب بعنوان: (أي خدمة للأعداء قدمها مرتكبو جريمة بقيع سامراء؟).

المفيد (قدس سره) ومما جاء فيها عن سبب الذل والهوان (ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون)، (ولو أن أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم) ومن الحلول التي وردت فيكلام الإمام (علیه السلام): (فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم).(1)

كما وردت العديد من الآيات المباركة والروايات الشريفة التي تحذّر من مغبة الإعراض عن طاعة الله تعالى والتورط بمعاصيه، لأن ذلك سيجر عليها الويلات والبلاءات المتكثرة، وفيما يأتي نماذج من تلك النصوص الشريفة:

* قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).

* وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

* وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

* وقال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).

* وقال تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا).

* وقال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ).

ص: 185


1- - خطابات المرحلة، ج5، ص6.

* عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): فمن ترك الجهاد ألبسه الله ذلا في نفسه، وفقرا في معيشته، ومحقا في دينه، إن الله تبارك وتعالى أعز امتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها.

* وعنه (صلى الله عليه وآله): (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أدخل الله عليهم ذلا لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم).* عن أمير المؤمنين(علیه السلام): (مَنْ تَلَذَّذَ بِمَعاصِي اللّهِ أوْرَثَهُ اللّهُ ذُلاًّ).

* وعنه (علیه السلام): (أعْظَمُ النّاسِ ذُلاًّ الطّامِعُ الحَريصُ المُريبُ).

* وعنه(علیه السلام): (هَلَكَ مَنِ اسْتَنامَ إلَى الدُّنيا، وَ أمْهَرَها دينَهُ فَهُوَ حَيْثُما مالَتْ مالَ إلَيْها ،قَدِ اتَّخَذَها هَمَّهُ وَ مَعْبُودُهُ).

* عن الإمام الصادق (علیه السلام): (من أحب الحياة ذل).

18/ تفشي حالة الخدر والرضا بحصة التغيير الجديدة الناتجة بزوال كابوس الطاغية، وانفتاح البلاد على ممارسة نظام جديد ذي صبغة ديمقراطية، وحريات مفتوحة، وهذا النظام الجديد هو الذي أرادت الولايات المتحدة الأمريكية تطبيقه في العراق عقب النظام الديكتاتوري وذلك للمخططات مدروسة سلفاً، فمُنح العراقيين حريات متعددة كحرية ممارسة الطقوس الدينية بكافة أشكالها وحرية السفر خارج العراق وحرية التعبير الإعلامي، وحرية التعددية الحزبية والمشاركة في السلطة وحرية المعارضة والاحتجاج وغيرها. وهذه الحريات كما هو معلوم كانت ممنوعة في زمن حكومة البعث، لذا اعتبر الشعب ذلك من أكبر المغانم والمكتسبات التي حصل عليها بعد 2003م بالإضافة إلى بعض التطورات على الساحة الاقتصادية من جهة امتلاك السلع الاستهلاكية التي لم يعهدها المواطن العراقي

ص: 186

وزيادة رواتب الموظفين التي تؤهله للإنهماك في شراء البضائع والأجهزة الكهربائية التي حُرم منها لسنوات عديدة، على الرغم من قلة الخدمات الأخرى كتوفر الكهرباء اللازمة والماء الصافي ومد أنابيب الصرف الصحي وتصليح الفاسد منها، وتعبيد الشوارع وتعويض عوائل الشهداء وضحايا النظام البائد، وغيرها، وبشكل عام فإن هذه الحريات العريضة والواسعة التي مُنحت للعراقيين بعد طول قهر وإذلال وظلم وجدوا فيها سلوتهم وغفلوا أو تناسوا القضايا السياسية الأخرى، في حين إن هذا الشعب الأبيعندما كان تحت مطرقة الحُكم البعثي الظالم، وفي حقبة البلاء والشدة تراه ينتفض عدة مرات ضد الحكم الديكتاتوري المستبد ويمارس أسلوب الكفاح المسلح أو المعارضة الثورية بمجرد احساسه بفرصة سانحة للتعبير عن رأيه ومعارضة الحكم، كالانتفاضة الصفرية في سنة 1977م، وكالانتفاضة الشعبانية في آذار 1991م، والحراك الثوري الشعبي الغاضب في سنة 1999م على أثر استشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره)، بالإضافة إلى حركات المعارضة التي حصلت في المجتمع الكردي شمال العراق، في نهاية عقد الثمانينيات وفي بدايات مطلع عقد التسعينيات، لذا يبدو إن من أسباب الخمود والركود الذي أصاب الشارع العراقي وأقعده عن إبداء صيحات الاعتراض بوجه السياسيين الفاسدين على كثرتها، موجه رخاء الحرية، واستنشاق نسيمها الذي خدّر الحس الثوري لدى المجتمع، على الرغم من امتعاض المجتمع ونقمته الداخلية تجاه سياسييه الفاشلين.

19/ عدم الشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية، تجاه مجريات الأحداث في العراق، وما يصيب المجتمع من ويلات، وقد أنتج ذلك عدة أمور:

أ/تفشي حالة من اللامبالاة وعدم وعي خطورة الأمور والمرحلة وقلة الإيمان بالله تعالى والحساب بالآخرة لم يحفز الناس للتغيير .

ص: 187

ب/ عدم الغيرة على الآخر ولسان حال البعض - للأسف الشديد - (فما دام بيتي في أمان فلا يهمني ما يجري على جاري) لكن الناس يجهلون الحكمة القائلة: (إذا حلقت لحية جارك فاسكب الماء على لحيتك) ويظهر من سياق الحوادث التأريخية التي مر بها الشعب العراقي إنه شعب تعَصُّبي وولائي يتقوقع ضمن إطار الولاء لجماعته وفئته الدينية أو المذهبية أو حوزوية أو العشائرية التي ينتمي إليها ويدافع عن حريمها ولا يهتم لما يصيب الجماعات الأخرى ولا يتضامن معهم ولا يتقاسم معهم همومهم ومشكلاتهم.ج/ انتشار حالة الاتكالية الناشئة بسبب عدم الشعور بالمسؤولية وعدم الاعتزاز بالهوية الوطنية وفقدان الشعور بالانتماء الوطني والانتماء الديني. حيث ساهمت هذه الظاهرة في توسع رقعة الظلم لأن كل فرد لا يشعر بالمسؤولية ينتظر غيره بالنهوض للقيام بعملية التغيير بدلاً عنه، وبالتحديد إن الفرد العراقي ينتظر جهتين للتغيير، الاولى القيادة الدينية الفاسدة التي هي في الحقيقة أساس الظلم والفساد والجهة الثانية هم بقية أبناء الشعب وهنا ينتج الدور المنطقي كما يعبرون وهو توقف عملي على عملك على عملي و هكذا، قال المرجع اليعقوبي (دام ظله): (إن الله تبارك وتعالى ذم المتقاعسين المتواكلين الذين لا يريدون أن يقدّموا جهداً أو تضحية وينتظرون من الغير إنجاز العمل وينشغلون هم بالتشكيك والاعتراض، ولقد ذكر الله تبارك وتعالى مثالاً لهم من قوم موسى [يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فإن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ] لكن الله تبارك وتعالى أثنى على المبادرين إلى العمل المستجيبين لأوامر نبيهم [قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]. فكانت عاقبة

ص: 188

التخاذل والتمرد والتشكيك التيه جيلاً كاملاً حتى استبدل بهم ربهم غيرهم [قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ]).(1)

20/عوامل مساعدة أخرى، ساعدت على انتشار حالة الخضوع والاستكانة في المجتمع، وهي:أولاً/ عدم وعي أهداف القضية الحسينية المباركة والاهتمام بالأمور الشكلية فقط وعدم التأثر بالروح النضالية والثورية التي تشع من شمس ملحمة عاشوراء الخالدة ومن شعائرها المباركة، في حين إن القضية الحسينية هي خير علاج لظاهرة تدجين الشعوب، وهذا ما جعل المرجع اليعقوبي يستغرب قائلاً: (أسجل استغرابي واستنكاري من حصول بعض حالات الفساد في المجتمع كالذي ينقل عما يجري في المقاهي من أعمال منكرة وتعاطي مخدرات، أو ما يجري في محلات المساج والعلاج الطبيعي من اختلاط منكر ودعوة إلى الرذيلة، أو انتشار الفساد المالي وهدر الأموال العامة التي هي ملك الشعب، أو وجود مافيات وميليشيات القتل والاختطاف والابتزاز والسرقة، كل ذلك يحصل في مدن وسط وجنوب العراق التي فيها أغلبية ساحقة من الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) فإذا كان المشاركون في شعائر الحسين (علیه السلام) ثمانية ملايين أو أكثر بحيث نستطيع أن نقول إن كل شيعي موالي لأهل البيت (عليهم السلام) في هذه المدن يشارك بشكل أو بأخر في الشعائر كالمشي إلى مرقده الشريف أو خدمة الزوار أو المشاركة في مواكب العزاء أو المجالس الحسينية، إذن فمن الذي يقوم بتلك الأفعال المنكرة في المجتمع التي ذكرنا نماذج منها، وماذا استفاد هؤلاء من مبادئ الحسين (علیه السلام) وماذا فهموا من حركته

ص: 189


1- - خطابات المرحلة، ج6، ص 197.

المباركة؟ وهل يتوقعون قبول أعمالهم من الله تبارك وتعالى في ضوء الآيات الكريمة والروايات الشريفة؟!).(1)

لذا أكد (دام ظله) على ضرورة الإنتهال من عبق عاشوراء الإمام الحسين (علیه السلام) وتضحياته العظيمة والإقتداء به في مقارعة الظلم وعدم السكوت على الباطل والمنكر في المجتمع، وعد هذا الأمر لوناً من ألوان النصرة والتأسي العملي والفاعل بالإمام سيد الشهداء (علیه السلام) حيث قال (دام ظله): (...ولنقوم بشكل من إشكال النصرة التيطلبها الإمام السبط الشهيد (علیه السلام) بإبراز القيم السامية و المثل العليا التي عمل (علیه السلام) على إقامتها وترسيخها ودعوة الناس إليها... وأول تلك المبادئ وأهمها وأرقاها والتي تتقوم بها إنسانية الإنسان هي الحرية ونعني بها الانعتاق من عبودية ما سوى الله تبارك وتعالى، من خلال السعي لتحقيق العبودية الحقة لله تبارك وتعالى بالتوحيد الخالص وطاعته تبارك وتعالى وطاعة من أمر الله تبارك وتعالى بطاعته. وقد كان تحرير الأمة من عبودية الطواغيت ومن أغلال الخنوع والاستكانة والركون إلى الدنيا وضعف الهمة ومن الجهل والنفاق أهم نتائج النهضة الحسينية، حتى أصبح الإمام (علیه السلام) سيد الأحرار ورمزهم ورائد كل حركات التحرر إلى يومنا هذا وإلى قيام القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وما كان (علیه السلام) يستطيع تحقيق ذلك لولا أنه امتلأ معرفة بالله تعالى، وتجرد من كل ما سوى الله تعالى، وعاش عبداً مخلصاً لله تبارك وتعالى، وكيف لا يكون كذلك وهو من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً بنص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة).(2)

ص: 190


1- - خطابات المرحلة،ج7، خطاب بعنوان: المشارطة والمحاسبة في أول السنة وآخرها وإحياء الشعائر الحسينية.
2- - خطاب المرحلة،ج8،بعنوان: (النهضة الحسينية والدفاع عن حقوق الإنسان).

ثانياً/ وجود محاولات محمومة ومن عدة جهات مغرضة لأجل فصل الديّن عن السياسة وعن واقع الحياة وتطبيق المقولة القائلة: (ما لقيصر لقيصر وما للشعب للشعب) وهذه الظاهرة أشار إلى خطرها المرجع اليعقوبي، حيث قال: (لقد تعمد أعداء الإسلام والشعب الفصل بين الحوزة والدين وتنفير كل منهما من الأخر فتصّور الحوزة العلمية للجامعيين وكأنها كيان متخلف رجعي متحجر لا يفقه من المدنية شيئاً وتصور الجامعيين للحوزة العلمية وكأنهم شباب فارغون متميعون بعيدون عن الدين وأنهم لاهثون وراء شهواتهم ، وكان على مدى الأجيال في الكيانين ثلة واعية رسالية استطاعت كسر هذا الإسفين وأزالت الحواجز).(1)ثالثاً/ الاختلاف الطبقي ووجود حالة من الطبقية الاجتماعية والاقتصادية, فبعض الوجهاء والأغنياء من المجتمع لما رأوا أنهم في مأمن من الحالات الفقر والاحتياج وتضرر المصالح الشخصية، آثروا السكوت على مظالم الآخرين، طلباً للراحة أو تحقيقاً لمجاملة أسيادهم أو غير ذلك، فمن لا دين له ومن لا شعور بالمسؤولية لديه تجاه الآخرين حاله حال الناس الذين عبّر عنهم الإمام الحسين (علیه السلام) في مقولة الشهيرة: (النّاسُ عَبيدُ الدُّنْيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلى اَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مادَرَّتْ مَعايِشُهُمْ للّه فَاِذا مُحِّصوا بِالْبَلاءِ قَلَّ الدَّيّانُونَ) فكمّمت المصالح والثراء أفواه الأغنياء والوجهاء إلا في بعض الموارد.

رابعاً/ الإعلام المضلّ:

يُعد خطر وسائل الإعلام بكل قنواته سبباً فعالاً من أسباب التأثير على صياغة عقلية المجتمع ونفسيته وطريقة تفكيره ونمط سلوكياته وكيفية تعامله مع الأحداث والوقائع من خلال ما يقوم به الإعلام من غسيل للأدمغة وبلورة الأفكار بالإتجاه الذي يريده صانعوا وموجهوا الإعلام المضلّ، ونقصد بالإعلام هنا هو كل

ص: 191


1- - خطابات المرحلة، ج5،ص72.

ما يرد على المجتمع من توجيه جماعي سواء عبر الوسائل المرئية والمسموعة أو عن طريق ما يتناقله الناس من أخبار وإشاعات، ويعتمد نجاح المجتمع في التخلص من خطر هذه المؤامرات على مدى وعي المجتمع، فالمجتمع الساذج تنطلي عليه الأكاذيب والإشاعات المغرضة بسهولة وينسى الحيل السابقة التي انطلت عليه، أما المجتمع الوعي فيصعب على أعداء الإنسانية اختراقه، ومن هنا فإن للإعلام مساهمة فعالة في تلقين الناس وتوجيههم ويقع الإعلام أيضاً ضمن سلسلة ما يبني شخصية الإنسان بعد دور الأبوين والأصدقاء والمدرسة وسائر أفراد المحيط الاجتماعي وفي بعض الأحيان قد يتفوق تأثيره على هذه القنوات المؤثرة في شخصية الإنسان من حيث يشعر أو لا يشعر.لذا نجد الاستكبار العالمي قد إهتم بهذا الجانب أيما اهتمام وسخر له الكثير من القدرات والإمكانيات المادية والمعنوية، وما ذلك إلا لأجل التأثير على عقول الشعوب وإراداتها وسهولة قياداتها وترويضها بالشكل الذي يرغبون فيه، فالأخبار والإشاعات على سبيل المثال يمكن أن تساهم بشكل كبير في صناعة النصر لجيش ما, وتعزيز الروح القتالية لديه وترفع من مستوى الثقة بنفسه، ويمكن أن يكن الأمر بالعكس تماماً حيث يمكن لإشاعة واحدة هزيمة جيش جرار ومقتدر ، كما حصل بالفعل في العديد من المواقف والأحداث التي نقلها لنا التاريخ إذن ينبغي على قادة المجتمع وأولياء الأمور دراسة وتحليل ومراقبة ما يصل إلى المجتمع عبر وسائل الإعلام بشكل عام لاسيما بعد الهجوم الكاسح والانفتاح الإعلامي الكبير الذي شهده المجتمع العراقي بعد سقوط الطاغية المقبور في سنة 2003 الذي أحكم خناقه على الشعب وعزله عن العالم إعلامياً واجتماعياً وبمجرد زوال هذا الكابوس بدأت مرحلة جديدة من الإنفتاح الإعلامي تمثلت في بادي الأمر باقتناء

ص: 192

جهاز (الستلايت) و تلقي ماتبثه القنوات الفضائية المختلفة بما فيها من غث وسمين وحلال وحرام ونافع وضار .

وهذه الظاهرة لم تكن عفوية بل هي من ضمن تخطيطات الإستكبار العالمي وفي مقدمتهم الإدارة الأمريكية التي تزامن مع دخولها الاحتلال العراقي دخول هذا المد الإعلامي الهائلة دفعة واحدة والهدف منه تغيير أفكار الشعب وبناء آيدلوجية جديدة ونمطية جديدة للشخصية عراقية تتناغم مع متطلبات الغرب الهدامة وتهدف إلى مسخ لهويته العقائدية والوطنية والاجتماعية.

لذا كان أول هدية قدمها المحتل الأمريكي للشعب العراقي هو جهاز (الستلايت) وهذا الظاهرة بكل تفاصيلها لم تفت مرجعنا القائد الشيخ اليعقوبي(دام ظله) الذي يعيش محنة شعبه فنبه المجتمع منذ ذلك الحين إلى هذا الخطر المقبل والمواجهةالجديدة مع الاستكبار العالمي الذي جاء هذا المرة بكل ثقله في الساحة ليمارس مهامه التدميرية والتخريبية في المنطقة.

لذا أصد سماحته (دام ظله) وقبل دخول قوات الاحتلال أرض العراق بيانا بعنوان (الاستماع إلى الأخبار في أوقات ألازمات) بتاريخ ( 26 ذو القعدة 1423 الموافق 30/1/2003 ) وهذا ينم عن سعة وعيه واستيعابه للمرحلة وما ستؤول إليه الإحداث المستقبلية، فتصدى (دام ظله) للمؤامرات والانحرافات قبل وقوعها (فالوقاية خير من العلاج) ثم أردف سماحه (دام ظله) خطاباً أخر في نفس الصدد بعنوان (جهاز الستلايت أول هدية بعد سقوط النظام) هذا الخطاب كان من أوائل الخطابات التي ألقاها سماحته (دام ظله) بعد سقوط (صدام) المقبور مباشرة حيث كانت أول هدية قدمها الاحتلال للشعب العراقي هي مليون جهاز ستلايت لإفساده وقد لخص الخطاب من عدة كتب ألفت تحت إشرافه (دام ظله) منها

ص: 193

(احذر في بيتك شيطان) و(الأفلام والمسلسلات مشكلة وعلاج) ناهيك عن المحاضرات والكتب الأخرى التي أصدرها في هذا الصدد

وبعد هذه المقدمة التي أردنا فيها بيان خطر الإعلام على المجتمع، إن نوجه الأنظار على مدى تأثير الإعلام المفتوح وكيف أريد للمواطن العراقي أن يكون في تعامله مع نفسه ومجتمعه ووطنه وحتى أعدائه وخصومه في هذه المرحلة المهمة في الإنفتاح على الثقافات الجديدة، والتغير الجذري في نظام الحكم وإدارة البلاد، ومجيء شخصيات وجهات دينية وسياسية كانت خارج العراق للمشاركة والتأثير في نظام حكم الشعب.

علاج ظاهرة تدجين المجتمع

نذكر فيما يأتي جملة من العلاجات الأساسية والثانوية لظاهرة تدجين الشعوب واستضعافها:

1) أول أمرٍ لعلاج هذه الظاهرة هو (بناء النفس وتنمية الذات):

فيجب أن نبدأ من النفس ثم ننطلق نحو الآخرين، فلو أردنا علاج أي حالة مرضية تُصيب الإنسان فيجب أن نبدأ من الانسان نفسه وننتهي إلى الأمور الخارجية الأخرى التي سخرها الله تعالى لصالحه، فإن (علاج ظاهرة قابلية الشعوب الاستعباد التي تؤسس للانحطاط يبدأ باجتثاثها من عقل الإنسان وقلبه ونفسه، وقد اختصره أمير المؤمنين (علیه السلام) بقوله: (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)

ص: 194

أياً كان هذا الغير؛ أهواء النفس الأمّارة بالسوء أو الطواغيت والزعامات المصطنعة، أو شياطين الجن والأنس).(1) و(النصر والغلبة إنما ينطلق من داخل النفس فمن انتصر على نفسه وعزّز قواه المعنوية الداخلية من التقوى والصبر والمصابرة كان هو المنتصر حقيقة، ومن عاش الهزيمة في داخله فلم يلتزم بما أمره الله تعالى كان هو المهزوم في الخارج، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ) وكذلك الحرية والعزة والكرامة يحياها الإنسان في داخله فتنعكس على حياته الخارجية في المجتمع، من مناجاة أمير المؤمنين (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي ربا) فالعزة كلها في تحرير النفس مما سوى الله تعالى، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ولا يُستعبد الإنسان والمجتمع من قبل الطواغيت والمستكبرين إلا بعد أن تتكبل نفوسهم بأغلال الخوف والجهل والطمع والشهوة والوهم والشك والتمرد فيصبح سلس القياد لغيره، قال الله تعالى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُفَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) فإن فرعون لم يستعبد قومه ويصادر حرياتهم ويستخف بعقولهم إلا بعد أن أصبحت نفوسهم أسيرة الشهوات والخوف والقلق).(2)

2) تفعيل دور العشائر:

أما العلاج الآخر الذي ينبغي وضعه لعلاج حالة الخنوع والاستسلام والتدجين هو تفعيل دور العشائر وفق رؤى المرجعية الرشيدة واستنهاض روح الغيرة والنخوة العربية الأصيلة فيها وإحياء الشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية من خلال استثارة هذه المعاني في الأوساط العشائرية الكريمة، وتحييدها عن الانتماءات الحزبية، التي تؤدي إلى تكمم الأفواه ضد المفسدين وتخرس السنة البعض بسبب

ص: 195


1- 190- يُنظر خطاب المرحلة، خطاب بعنوان: (قابلية الشعوب على الاستعباد).
2- - خطاب المرحلة،ج8،بعنوان: (ميدانكم الأول لتحصيل المعنويات أنفسكم).

المجاملة أو الطمع بالحصول على المغانم والمكاسب الشخصية، وهذه الحقيقة أكدها المرجع اليعقوبي(دام ظله) في إحدى خطاباته الشريفة حيث قال: (إن مما يؤسف له أن الكثير من القيادات الدينية والسياسية تعي حقيقة الوضع البالي الذي يعيشه حوالي نصف المجتمع العراقي ولكنهم لا يتحركون لإصلاحه، بل قد يعملون على إبقائه ودعم رؤساء العشائر من أجل المحافظة على مواقعهم وسلطتهم كما يحصل قبيل الانتخابات، فيتحمل هؤلاء وزر هذا الوجود ودوامه وإذا كانوا لا يعون ذلك فالمصيبة أعظم).(1) كما استنهض سماحته (دام ظله) روح الإباء وصفة الغيرة العربية في نفوس أبناء العشائر العراقية من خلال خطاباته لهم حتى لا يرضخوا لأطماع أصحاب الأهواء والخداع من السياسيين الماكرين، وحتى لا يصبحوا ألعوبة بأيديهم يحركوهم كيفما شاؤوا، حيث قال(دام ظله): (إن دور العشائر لا يقتصر على مواجهة الإرهاب بل إن لهم القدرة على المساهمة في بناء البلد وفرض سلطة القانون وحماية مؤسسات الدولة وهذه مطلوبة في كل أنحاء العراق، وإن هذه العشائر تأبى حياةالضيم والذل فكيف ترضى بأن يبلغ بها الحال أن تطرق أبواب الأحزاب وتستجدي موافقتها على تعيين أبنائها الأصلاء في سلك الجيش والشرطة ولا يجدون أذاناً صاغية وهذا ابسط حق لهم على تلك الأحزاب التي تسللّت إلى المناصب بأصوات العشائر).(2)

3) الثناء على أصحاب التغيير والاصلاح ومساندهم وتثمين مواقفهم البطولية:

ينبغي تثمين دور بناة البلد من العاملين المخلصين لاسيما في المجال السياسي الذين انتفضوا لتغيير واقع الشعب المؤلم ولم يهتموا للوم اللائمين والوقوف إلى جنبهم وموازرتهم لإكمال المسيرة الاصلاحية، وحثهم في العمل على المزيد من تحقيق

ص: 196


1- - خطاب المرحلة،ج6، ص 303.
2- - خطاب المرحلة،ج5، ص251.

الانجازات والخدمات للشعب، وإن تقاطعت مع مصالح الأحزاب أو الجهات التي ينتمون إليها، لأننا إذا تركنا أهل التغيير والإصلاح وحدهم في الساحة ولم نساندهم واصحرناهم في معترك الحياة القاسية، فإنهم سيستوحشون من قلة الناصر وسيخمد نور الإصلاح في المجتمع وتعلوا أصوات المنحرفين وأهل الباطل والأهواء المضلة في المجتمع، لذا نرى المرجع اليعقوبي (دام ظله) لا تفوته بادرة الثناء على عمل المخلصين والمبدعين من أبناء العراق الغيارى، ويشد على أيديهم للمزيد من العطاء، ونذكر على سبيل المثال تأييده (دام ظله) لأعضاء مجلس محافظة بغداد الذين أصدروا قراراً يقضي بغلق النوادي الليلية ومحلات الخمور العلنية غير المرخصة، ونادي اتحاد الأدباء الذي يقدم الخمور فقام هؤلاء بإحداث ضجة ومظاهرات في شارع المتنبي وتحشّد معهم اللادينيون ورفعوا شعارات تشبّه القرار بحكومة طالبان في أفغانستان، لذا أصدر (دام ظله) خطاباً يؤيد فيه هذا القرار ويشد على أيدى السياسيين الذي وقفوا بحزم ضد هذه المخالفات الشرعية الصارخة في مجتمعنا المحافظ، جاء فيه: (نشدّ على أيدي أعضاء مجلس محافظة بغداد، خصوصاً رئيس المجلس الذي تحمل مسؤولية القرار بشجاعة ودافع عنه في وسائل الإعلام، ولميتعامل معه بخجل، ونبارك لهم هذه الخطوة التي تعيد إلى ناخبيهم الثقة بهم وتعزّز مكانتهم. ونهيب بأبناء بغداد الحبيبة، خصوصاً من تأذّوا بالتصرفات الشاذة لأولئك الأشرار أن يظهروا تأييدهم لهذا القرار المبارك بأي وسيلة، كنشر اللافتات المؤيدة له والمستنكرة لفعل المعترضين والرافضة لسلوك الفسقة، وأن يقوم أئمة المساجد والخطباء والكتّاب والمفكّرون والمنظمات الإنسانية، المدافعة عن حقوق الإنسان بتحمل مسؤولياتهم في الحفاظ على كرامة الأمة ومقدساتها وصيانتها من الفساد والانحراف الذي هو من أقوى أسباب توليد الجريمة والإرهاب ونخر كيان المجتمع. [إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]).(1) وكذلك بادر (دام ظله) إلى تأييد قرار منع تصنيع وبيع الخمور الذي أصدره البرلمان العراقي عام 2016م.

ص: 197


1- - خطابات المرحلة،ج6،ص357.

كما أبدى سماحة (دام ظله) أسفه لعدم نصرة المبدعين وأصحاب التغيير، حيث قال: (مما يُؤسف له أن أمتنا لا ترعى الإبداع، وأن المبدعين ضائعون بين ظهرانيها فيهاجرون أو يتخلون عن المجالات التي يبدعون فيها، وربما تتذكرهم بعد وفاتهم فتقيم لهم مجالس التأبين وتعدّد فضائلهم وآثارهم وإسهاماتهم، وفي هذا بعض وفاءٍ لهم لكنه غير كافٍ لتشجيعهم وتفجير طاقات غيرهم، قال الشاعر:

لا ألفينّك بعد الموت تندُبني وفي حياتي ما زودّتني زادي

كان المرحوم الشيخ عبد المحسن الكاظمي شاعراً مبدعاً أهمله مجتمعه فاضطر للهجرة إلى مصر حتى توفي سنة 1935 فأقيمت له مجالس التأبين في بغداد واشترك في أحدها جدي الشيخ محمد علي اليعقوبي والشاعران معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وأنشدوا قصائدهم وقد اتّفقوا على معنى واحد من باب (توارد الخواطر) من دون اتفاق مسبق، وهو المعنى التالي الذي تضمنته قصيدة جدي اليعقوبي (رحمه الله):

ومن عجبٍ بكتك وأنت ميتٌ بلاد ضيّعتك وأنت حيُّوموت الإبداع يعني موت الأمة، فإذا أرادت الأمة أن تكون حيّة فعليها رعاية المبدعين وأن تكرِّمهم في حياتهم وتوفر كل الإمكانيات التي تكشف عن هذه الكنوز وتستثير ما فيها).(1)

4) التمسك بالقيادة الرسالية الواعية المخلصة:

إن ولاية الفقيه في نظر المرجع اليعقوبي هي اختيار وانتخاب الناس بنفسها للقائد الديني لأجل إعمال ولاية الفقيه في الأمة، وتفعيل دوره مرهون بوعي الأمة وخروجها من حالة الحيرة والجهال والانتصار على حالات الاستضعاف الفكري والتجهيل الذي يمارسه بعض من تزيى بلباس الدين، قال (دام ظله): (إن القيادة ليست شيئاً يُدّعى ولا ينال بالقهر والتسلط بالقوة وإنما هي علاقة تنشأ بين القائد

ص: 198


1- ينظر جريدة الصادقين ، العدد77 ،(مسؤولية الأمة عن رعاية الإبداع).

والآخرين يحددها عاملان هما حاجة الآخرين إلى الشخص وإحسانه إلى الآخرين، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): (أحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره) وقيل لأحد العلماء ما هو الدليل على إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) فقال: (حاجة الناس إليه واستغناؤه عن الناس) فكلما كان الإنسان معطاء في حياته ومحسنا إلى الناس كل أشكال الإحسان فإن حاجة الناس إليه ستزداد وستختاره لقيادتها ، على إننا تعلمنا من أئمتنا المعصومين عليهم السلام الزهد في المناصب واحتقار الدنيا التي تُنال بالظلم والعدوان والمكر والخديعة، ولا نرى المناصب إلا وسيلة للإحسان إلى الناس ورفع الظلم عنهم وإسعادهم وتوجد كلمات جليلة لأمير المؤمنين (علیه السلام) في هذا الصدد في نهج البلاغة لا ينبغي لأحد أن يغفل عنها).(1)فإن القيادة الدينية الواعية والمخلصة هي التي تخلق حالة التغيير في المجتمع وتقوده نحو الهداية والصلاح، و(القائد هو الذي يصنع المستقبل ويحدّد مسار الأحداث ومآل الأمور بلطف الله تبارك وتعالى من خلال المشروع والبرنامج الذي يسير عليه، وهنا أتذكر - والكلام للمرجع اليعقوبي - أن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) سألني في اليومين الأولين من الانتفاضة الشعبانية عام 1991 عن موقف المرجعية المعروفة يومئذٍ من الأحداث فقلت يسوده الترقب وانتظار ما ستؤول إليه الأحداث، قال (قدس سره): (حبيبي ومن الذي يصنع الأحداث؟!).(2)

أما إذا خلفت الأمة قيادتها الحقة خلف ظهرها، فإنها لا تجني سوى العناء والخسران، وسيتسلط عليها حينئذ من يدجنها ويستعبدها ويمتص ثرواتها، وهذا

ص: 199


1- - خطابات المرحلة، ج5، خطاب رقم(140) بعنوان: (القيادة الحكيمة تضع أصابعها على العلة وتصف العلاج).
2- - خطابات المرحلة،ج6، ص146.

ما حذّر منه مرجعنا اليعقوبي حيث قال: (إنّ مما يسعد إبليس اللعين إعراض أغلب الناس عن نصرة واتباع المرجعية الرسالية العاملة المخلصة المتأسيّة بوصف أمير المؤمنين (علیه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله) (طبيب دوّار بطبّه) ورجوعهم في المرجعية والقيادة إلى الحوزة المتقاعسة عن تحمّل مسؤولياتها اتجاه الدين والأمة مع اعترافنا بأنّها تقيم طقوس الدين، إلاّ أنّها لا تهتم بأمور الإسلام ولا المسلمين ولا تشعر بالغيرة عليهما والرحمة بهما وهذه أوصاف مأخوذة من طبيعة عملها ومنهجها الذي اختارته فلا ينبغي لها الاستياء من هذا التوصيف ولقد دلّت الأحاديث الشريفة على أنّ المرجعية الأولى أشدّ على إبليس من الثانية عن معاوية بن عمّار قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) رجل راوية لحديثكم يبُثُّ ذلك في الناس ويشدّده في قلوبكم وقلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيّهما أفضل، قال: الراوية لحديثنا يشدُّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد) ومن المعلوم أنّ شدّ قلوب الشيعة لا يتحقّق بمجرد كتابة الرسالة العملية، عن الإمام الهادي (علیه السلام): (لولا من يبقى بعدغيبة قائمنا (علیه السلام) من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك ابليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحدٌ إلاّ ارتدّ عن دين الله ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجل) وهذا ما تقوم به المرجعية الرسالية العاملة كما هو واضح، والأدلة كثيرة، فإنّ قولهم (عليهم السلام): (الفقهاء قادة) وأنّم نوّاب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الذين هم (ساسة العباد) لا ينطبق إلاّ على المرجعية العاملة).(1)

ص: 200


1- - خطابات المرحلة،ج8، خطاب بعنوان: (ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتبعوه).

لذا يجب على الأمة أن تختار القائد المصلح صاحب القلب الطيب، ومن ثم تطيعه وتنصره وتدافع عنه وعن مشرعه الإصلاحي الرسالي، بالإضافة إلى واجبها الآخر وهو (الشهادة) بأن تكون شاهدة ومراقبة على دور هذا المرجع القائد، فتكون معه في خط النصرة والاسناد له مادام في خدمة المسلمين وخدم مشروعه الرسالي، وعليها أن تتخلى عنه ساعة تراه تراجع في أداء دوره ومسؤولياته تجاهها أو لأنه فقد شرطاً من الشروط التي تؤهله لهذا المنصب العظيم، فلها حينئذ اختيار غيره من القيادات التي تتمتع بالصلاح والكفاءة لإدارة شؤونها، وهذا ما يعتقد به المرجع اليعقوبي (دام ظله) في نظرته حول إعمال ولاية الفقيه في الأمة، وحول شهادتها عليه في أداء مسؤوليته، حيث قال (دام ظله): (...المرجعية باعتبارها غير معصومة فهي لا ترث كل وظائف الإمامة وامتيازاتها فشهادة القيادة المعصومة لا تقابلها شهادة من الأمة عليها بينما الأمة شاهدة على المرجعية بمعنى انها تراقب حركة المرجعية وتتأكد على الدوام من قيامها بوظائفها، لأن المرجع لم يعيَّن بالاسم وإنما بالشروط والأوصاف فمن انطبقت عليه رجعت اليه الأمة ولو تجرد عنها تخلّت عنه).(1) وهذا الحق (حق الشهادة)متبادل أيضاً بين الأمة وقيادتها الدينية فإن (من خصائص المرجعية الرشيدة الوارثة والنائبة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أنها شاهدة على الأمة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ولا يمكن أن تكون شاهد زور لذاً فإنها لا تستطيع أن تبارك أي انحراف أو تسكت عنه أو تعطي الشرعية له ولابد أن تعلن للأمة عدم إمضائها لمثله..).(2)

ص: 201


1- - خطابات المرحلة، خطاب بعنوان: (الشهادة المتبادلة بين المرجعية والأمة).
2- - خطابات المرحلة، خطاب بعنوان: (المرجعية الشاهدة تدين ردود أفعال كتلة الائتلاف).

ولكي تكون الأمة في حصانة من الانحراف عن الخط الرسالي وإتباع القيادة الرشيدة، يجب عليها أن تتحلى بعدة مواصفات أخلاقية وتربوية، وأن تبتعد عن رذائل الأخلاق وأتباع الشهوات والأباطيل، وبخلافه فهي لن تهدي لنور الحق ولن توفق لطاعته، وهذه الحقيقة أكدها القرآن الكريم في العديد من آياته المباركة ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) وتقع صفة التقوى في مقدمة هذه الصفات المُحصِنة للفرد والمجتمع من الانحراف ، هذه الصفة التي يتحدث عنها أمير المؤمنين (علیه السلام) قائلاً: (فصونوها وتصونوا بها) وقال أيضاً (علیه السلام): (اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنَّ اَلتَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ وَاَلْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ لاَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَ لاَ يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ أَلاَ وَبِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ اَلْخَطَايَا).

ومن المهلكات في هذا الباب هو إتباع الهوى فهو يصد عن الحق، وهذه الحقائق قد أشار لها المرجع اليعقوبي في خطاباته وكلماته لكي يعظ الأمة وينبهها لتتحصن من مهاوي الانحراف، حيث قال: (...وإذا سألتم كيف ندرك ذلك؟ وكيف ينبلج نور الفرقان هذا في قلوبنا حتى نستطيع به هذا التمييز، فان الله تبارك وتعالى يجيبكم من قبل أن تسألوه تفضّلا منه وكرماً، قال تبارك وتعالى: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَيَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) إنها تقوى الله تبارك وتعالى التي تفجّر ينابيع المعرفة في القلب، لان التقوى تزيل تأثير الهوى الذي يصدّ عن الحق ويحجب القلب عن رؤيته بما يجعل من الحجب فتعمى القلوب التي في الصدور، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل، أما الهوى فانه يصدُّ عن الحق،

ص: 202

وأما طول الأمل فينسي الآخرة، وهذه الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وهذه الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فان استطعتم أن تكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فافعلوا، فإنكم اليوم في دار عمل ولا حساب وانتم غداً في دار حساب ولا عمل) .(1)

وقال أيضاً (دام ظله) في خطاب آخر: (إن القلب مالم يعمر بالتقوى وينفض عنه غبار الهوى وأغلال الشهوات لا يمكن أن يهتدي إلى الحق ولو أقمت له ألف دليل (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ) لأن الدليل مهما كان مفحماً ومسكتاً فانه لا يكون مؤثراً إذا لم تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب. إن من لا يمتلك هذا الفرقان يتخبط ويسير على غير هدى ويضلّ نفسه والآخرين ولا يميّز بين ما يضرُّه وما ينفعه ولا بين العدو وغيره كالثور المستعمل في حلبات مصارعة الثيران يجعل همّه في نطح قطعة القماش الحمراء غافلاً عن عدوّه المصارع الذي يطعنه بالخناجر حتى يصيب مقتله. (2)

كما أشار (دام ظله) إلى نموذج مشرق وقدوة حسنة في مجال إتباع الحق وتمييزه عن الباطل وهذه القدوة هي الصديقة الزهراء (عليها السلام) التي كانت بمثابة الفرقان وجعل يوم شهادتها مناسبة للتذكير بذلك، حيث قال (دام ظله) موضحاً هذه الحقيقة في خطابه الجماهيري: (إن يوم الزهراء (عليها السلام) فرقاناً أوضح معالموصفات الإمام الحقّ وميّزته عن المتقمص له ... وما أحوجنا اليوم إلى هذا الفرقان ليميّز لنا الحق من الباطل، والهدى من الضلال في كل عقيدة أو دعوة أو فكرة. وما أحوجنا إلى هذا الفرقان ليفرّق لنا بين الصحيح والخطأ في آرائنا وتصوراتنا. وما أحوجنا إلى هذا الفرقان ليميز لنا السلوك والتصرف الذي يرضي

ص: 203


1- - خطابات المرحلة، خطاب رقم (160) بعنوان: (يوم الزهراء عليها السلام يوم الفرقان).
2- - المصدر نفسه.

الله تبارك وتعالى من الذي يسخطه حيث اختلطت الأوراق وكثر المدّعون واشتبهت الأمور).(1)

وتعد حادثة انقلاب الأمة وانحرافها عن خط القيادة الرسالية يوم السقيفة حالة عامة تحكي حالة أي انقلاب من نفس النوع وإن حصلت في عهد صدر الرسالة الإسلامية، قال (دام ظله): (إن السقيفة مفتوحة كحالة وان انتهت كحدث أي ان النفوس الحالمة بالسلطة والجاه والاستئثار والرئاسة على العباد موجودة في كل زمان ومستعدة لان ترتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه الأولون ولا تصغي إلى وصية القائد الحق فتترتب على مثل هذا التصرف نفس النتائج السيئة التي ترتبت على حادث السقيفة والتي أشرت إلى جملة منها في محاضرة (ماذا خسرت الأمة حينما ولت أمرها من لا يستحق)... فالكلام الفات نظر لحالة عامة تعيشها الأمة كلما ابتعدت عن المنهج الإلهي).(2) ونفهم من ذلك إن حادثة انقلاب السقيفة حالة متكررة تُعبر فيها الأمة عن تنكُرها للحق وأهله، كلما توفرت لها الظروف الملائمة، وقد حمّل (دام ظله) الحلقة الوسطية الرسالية شيئاً من المسؤولية للقيام بدورها في هذا الميدان، ليكونوا قادة في المشروع الإلهي العظيم ، ليأخذوا بيد الأمة نحو الهداية والاختيار الأمثل وليساعدوا الأمة في عملية (الفرقان) أعني التفريق بين الحق والباطل، وقد أوجزها بعدة نقاط منها:1 الوحدة و التآلف والتنوع في أداء الأدوار و التسامي عن التقاطع و التشاحن والتزاحم المؤدي إلى الفرقة والتشتت0

2 تهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة وتطهير القلب حتى يأتي الله بقلب سليم.

ص: 204


1- - المصدر نفسه.
2- - كتاب المعالم المستقبلية للحوزة العلمية، للمرجع اليعقوبي (دام ظله).

3 تخليص الأمة من الجهل والتخلف و سوء الظن وخلق حالة الوعي والتدين والورع .

4 التنظيم و الدقة في العمل المؤسساتي بحيث ينصهر الجميع في خلية عمل متكاملة .

5 مقاومة الفساد والانحراف والظلم والأنانية والاستئثار والتسلّط بغير حق وإنصاف المظلومين بكل الآليات المتاحة .(1)

5) نبذ الخلافات الداخلية والترفع عن الدخول في مشكلات شخصية أو انتمائية أو عشائرية أو قومية لهذا الطرف أو ذاك، لأنه هذا التشرذم والتفرق مما يضعف شكيمة الشعب في مواجهة المصاعب والتحديات التي يواجهها، خصوصاً على الصعيدين السياسي والامني فهذه النزاعات والخصومات لا تخدم الشعب بل هي في النتيجة النهائية تصب في صالح اعدائه، ومن النتائج السلبية الأخرى لهذه الحالة هو بعثرة الإمكانيات والقدرات والطاقات في الأماكن غير الصحيحة.

6) على الحلقة الوسطية من فضلاء الحوزة تفعيل دورهم في استنهاض الأمة، فإن نجاح القيادة الصالحة مرهون بمعونة العاملين المخلصين من الحلقة الوسطية (فالحالة التي تشكو منها الجماهير طبيعية وتاريخية و إن كانت سيئة في نفسها، وما دمنا ممهدين للظهور الميمون فعلينا أن نعمل لبناء هذه الحلقة الوسطية القادرة على إنجاح المشروع الإلهي).(2)و(إن إحدى مسؤوليات المرجعية الدينية التي هي امتداد لدور الائمة المعصومين (عليهم السلام) في حياة الأمة رعاية الناس وهدايتهم

ص: 205


1- - خطاب رقم (142) بعنوان: (اسعوا لتكونوا قادة في المشروع الرسالي وليس فقط جزءاً منه).
2- - خطابات المرحلة،ج5،ص21.

وإرشادهم لما فيه صلاح الدين والدنيا، لكنها وحدها لا تستطيع أن تقوم بهذه المهمة الواسعة مالم يتعاون معها العاملون الرساليون المخلصون الذين وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله [الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ]).(1)

7) استخدام اسلوب الضغط النفسي على الشخصيات الفاسدة من خلال ممارسة سياسة المقاطعة الجماعية، بالإضافة إلى استثمار الاعتصامات الفاعلة والمظاهرات السلمية في ذلك، كما يمكن مقاطعة السياسيين المفسدين أيضاً بعدم انتخابهم مجدداً وانتخاب الكفؤ النزيه، وهذا الأمر هو ما أكد عليه المرجع اليعقوبي، ونبّه الأمة إلى ضرورة اتخاذ قرار التغيير عن طريق العملية الانتخابية، فإن كان الشعب معذوراً في انتخاب غير الأصلح في المرة الأولى، فإنه غير معذور في المرة الثانية بعدما لمس الشعب من بعض السياسيين التقصير والظلم، قال (دام ظله): (الانتخابات ستجري بإذن الله تعالى وحينئذٍ سيقول الشعب كلمته في من يمثله وإذا كان معذوراً في المرة السابقة بسبب قلة الخبرة والمعرفة بالأشخاص وحداثة التجربة والمزايدات الطائفية والقومية والمتاجرة ببعض الرموز الدينية وغيرها من المؤثرات فاختار أشخاصاً لم يكونوا أمناء على المسؤولية ولم يعملوا لمصلحة شعبهم فانه هذه المرة غير معذور في عدم اختيار أبنائه الكفوئين النزيهين الوطنيين الذين يتفانون في حب وطنهم وخدمة شعبهم، بعد أن ذاقوا الأمرّين من الموجودين وحرموهم من ابسط حقوقهم في الحياة الحرة الكريمة، تتحدث الروايات الشريفة عن حالات لا يُعذر فيها الناس ولا يُسمع لهم دعاء برفع البلاء لأنهم مسؤولون عن الظلم الذي وقع بهم ومنها رواية صحيحة عن الوليد بن صبيح عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (كنت عنده وعنده جفنة من رطب فجاء سائل

ص: 206


1- - خطابات المرحلة،ج5،ص309.

فأعطاه ثم جاء سائل آخر فأعطاه، ثم جاء آخر فأعطاه، ثم جاء آخر فقال: وسَّع الله عليك، ثم قال: إن رجلاً لو كان له مال يبلغ ثلاثين أو أربعين ألفاً، ثمشاء أن لا يبقى منه شيء إلا قسّمه في حقٍ فعل فيبقى لا مال له، فيكون من الثلاثة الذين يُردّ دعاؤهم عليهم، قال: قلت: جُعِلت فداك من هم؟ قال: رجل رزقه الله عز وجل مالاً فأنفقه في وجوهه ثم قال: يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل أولم أرزقك، ورجل دعا على امرأته وهي ظالمة له فيقال له: ألم أجعل أمرها بيدك، ورجل جلس في بيته وترك الطلب، ثم يقول: يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل: ألم أجعل لك السبيل إلى طلب الرزق، ويفهم الفقيه العارف بالروايات ومن مناسبات الحكم والموضوع -كما يصطلحون عليها- أن القضية غير مقتصرة على هؤلاء الثلاثة، لذا ذكر حديث آخر مثله خمسة عناوين وإنما يترتب هذا الأثر - وهو عدم استجابة الدعاء برفع الظلم وعدم المعذورية- لكل من رضي بالظلم وخنع له وهو ممن شارك في جلب هذا الظلم وإقامته فإذا أعطيتم أصواتكم في الانتخابات المقبلة سواء كانت المحلية أو العامة للذين لا تعرفون منهم مؤهلات التصدي للمسؤولية فلا تلوموا إلا أنفسكم إذا جوّعوكم وأعطوكم مواداً غذائية مسرطنة وغير صالحة للاستهلاك البشري، أو إذا حرموكم من خدمات الماء والكهرباء والنفط والغاز وغيرها، أو إذا اعتقلوا أبناءكم لا لذنب إلا لأنهم يخالفون رؤاهم، أو إذا قسّموا الوطن الواحد وجعلوا أهله شيعاً، أو إذا أطلقوا يد ميليشياتهم وجماعاتهم المسلحة لينشروا القتل والدمار والخطف والسرقة، أو إذا وزّعوا على المرضى أدوية ملوثة بفيروسات الايدز وغيرها من الأمراض الفتاكة، أو إذا حرموا أبناءكم من فرصةٍ للعمل يكسبون منها قوتهم مادامت لا تنتمي إلى أحزابهم، أو إذا باعوا الوطن إلى الأجنبي بصفقات بخسة، أو إذا جعلوكم ضحية ووقوداً لتنفيذ أجندات إقليمية ودولية وغيرها من المآسي التي فاقت التصور والحصر وسوف لا يسمع الله

ص: 207

تعالى لكم دعاءاً لأنكم قادرون على رفع كل هذه المظالم بوعيوإدراك أهمية أصواتكم التي تلقونها في صناديق الاقتراع وأتعبتم أنفسكم في التعرف على من يخدمكم ويخلص لكم).(1)

8) تأسيس وتفعيل دور المؤسسات والهيئات واللجان الرقابية للعملية السياسية، ولكي تؤدي هذه اللجان دورها بشكل صحيح وفاعل يجب أن تكون مستقلة إدارياً وسياسياً عن هيمنة الأحزاب المشاركة في السلطة للمحافظة على نزاهتها واخلاصها، كما ذكر المرجع اليعقوبي إن من ضمن أهداف مؤسسات المجتمع المدني هي: (ممارسة دور الرقابة على عمل المؤسسات الرسمية جميعاً بعد أن تخلت الجهات المختصة بهذا المجال عن ممارسة دورها في حسابات المصالح والمحاصصات والتوافقات السياسية).(2) لأن (الأحزاب السياسية قد فقدت مصداقيتها و ثقة الناس بها بسبب سوء تصرفاتها واهتمامها بمصالحها دون مصالح الشعب الذي يتطلع إلى الجهات النظيفة الصادقة في القول و العمل وحينئذ ستكون هذه المؤسسات جهة موثوقة لدى الشعب لترشيح الشخصيات القادرة على نفع البلد و الشعب).(3)

9) مطالعة حياة الثوار والأحرار في العالم الذين قادوا حركات تغييرية واصلاحية لأممهم سواء في التاريخ العربي أو الغربي والاستفادة من تجاربهم والمحاولة لاستلهام القيم الجيدة التي فيها كمعاني البطولة والإيثار والتضحية والشجاعة والاقدام وعدم الاستسلام للظلم ونحوها من القيم الانسانية النبيلة، والتركيز على سيرة علمائنا المعاصرين المجاهدين الذين انتفضوا على الواقع الظالم وحققوا

ص: 208


1- - خطابات المرحلة، ج5، ص 342 – 344.
2- - خطابات المرحلة، ج5، ص24.
3- - خطابات المرحلة، ج5، ص25.

انتصارات مشهوده على أعداء الإنسانية أمثال؛ الإمام الخميني والشهيدين الصدرين والسيدموسى الصدر والسيد الحبوبي والسيد الشيرازي صاحب فتوى التنباك والشيخ الشيرازي صاحب ثورة العشرين والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء مروراً بالمناضل عبد القادر الجزائري في الجزائر وعمر المختار في ليبيا بالإضافة إلى زعماء وقادة الأمم الأخرى أمثال المهاتما غاندي في الهند ونيلسون مانديلا في أفريقيا ومارتن لوثر كنغ في أمريكا، وغيرهم الكثير، فإن التعمق في مطالعة حياة هؤلاء القادة يؤثر نفسياً على الفرد ويكسبه حالات من الاندفاع والتعزيز النفسي نحو التغيير والتكامل، والاقتداء بمن هو ناجح في مسيرته الحياتية، قال المرجع اليعقوبي: (إن مطالعة سير الصالحين تؤثر في روحية الإنسان وتدله على طريق الكمال، وان لم يسمع ولم يلتقِ بصاحب الكلام في الكتاب لكنه يلتقيه روحياً من خلال هذه الكلمات فكأنما يعيش معه).(1)

10) استشارة الشخصيات النزيهة والمخلصة من الحكماء والمفكّرين من فضلاء الحوزة العلمية وأساتذة الجامعات وسائر الوجهاء في المجتمع الذين يُعرفون بإخلاصهم وتفانيهم في خدمة الشعب ومحاولة التنسيق بينهم وبين المرجعية الرشيدة للخروج من مآزق المشكلات التي نتعرض لها، فقد ورد عن الإمام زين العابدين (علیه السلام): هلك من ليس له حكيم يرشده، وذل من ليس له سفيه يعضده) وفي هذا السياق فقد دعا المرجع اليعقوبي (دام ظله) إلى تأسيس مجلس للأعيان والحكماء وفق تقنين دستوري، يضم حكماء المجتمع وزعماء العشائر وأعيان البلد على التحرك والمشاركة في حل المشاكل ومعالجة القضايا المهمة، وقد بيّن سماحته (دام ظله) أهم وظائف هذا المجلس في بيان خاص جاء فيه:

ص: 209


1- - خطابات المرحلة، خطاب بعنوان: (بركة الاقامة عند امير المؤمنين (علیه السلام) في العشر الاواخر من شهر رمضان).

أ. حل النزاعات والصراعات التي تحصل بين العشائر كالذي حصل مؤخرا في شمال البصرة وادى الى مقتل وجرح العديد من الاشخاص وترويع المدنيين والابرياء وانقطاع ارزاق المئات من الناس وفصل عدد كبير من الموظفين وطلبة الجامعات لعدم قدرتهم على الدوام وغير ذلك من التداعيات.

ب- المشاركة في تعبئة المقاتلين لصد الارهاب ودحره وحماية النفوس والاعراض والممتلكات من الفساد والتخريب .

ت- بذل الجهود في اقناع الكثير من الشباب الذي تورطوا في الانضمام الى الجماعات الارهابية بسبب غسيل الدماغ الذي تعرضوا له والحرمان الذي يعيشونه فيقوم المجلس بترشيدهم وكفالتهم واعادة دمجهم في المجتمع والسعي لإيجاد حياة كريمة لهم .

ث- حفظ وحدة المجتمع وتماسكه وردم الفجوات التي يصنعها البعض لمصالح يراها، ولأن الكثير من العشائر تضم تنوعاً طائفياً داخلها وعلاقات المصاهرة وروابط اجتماعية فيما بينها على تمام مساحة العراق فإنها أقدر من ألف مؤتمر للمصالحة الوطنية على حفظ هذه الوحدة وإعادة كلمة الاخوّة لأبناء الوطن الواحد، ولدينا نموذج صالح على ذلك في التعاون الصادق بين اهالي بلد والضلوعية مما جعلهم قادرين على مقاومة كل هجمات الارهابيين الشرسة على الضلوعية طيلة ستة اشهر حتى قضوا عليها تمام بفضل الله تبارك وتعالى .

ج- بث الروح الوطنية ومقاومة مشاريع التقسيم والتفتيت التي ينادي بها البعض في داخل العراق وخارجه، وان انتشار العشائر على تمام محافظات العراق كفيل بحفظ وحدة العراق والشعور بالهوية الوطنية .

ح- ممارسة الدور الرقابي على أداء السياسيين وسائر موظفي الدولة باعتبارهم سلطة خامسة يستطيعون من خلالها خلق رأي عام وموقف موحد لتصحيح

ص: 210

الفساد والانحراف وفضح المسيئين، وحينئذٍ سنستطيع الحد من الفساد الذي خرّب مؤسسات الدولة وأهدر المال العام وأضاع مصالح البلاد.أ- إيصال صوت المحرومين والمظلومين واصحاب الحقوق من عامة الشعب الذين لا يستطيعون ايصال صوتهم ولا يصغي اليهم احد من المسؤولين.

إن هذه الاعمال التي يؤديها المجلس وغيرها تُجعل في نظامه الداخلي كوظائف له وكأغراض موجبة لتأسيسه، وأعتقد انها كافية لإقناع الجميع بضرورة قيام هذا المجلس ونترك للمعنيين مهمة وضع التفاصيل.

11) ممارسة الضغط الإعلامي، فمن محاسن كثرة القنوات الإعلامية هذه الأيام هو سهولة ايصال الأفكار والأخبار البناءة والصالحة للمجتمع وهي متيسرة للكثير من أبناء المجتمع فمن (وظائف وسائل الإعلام صناعة الرأي العام ليتخذ موقفاً إزاء مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والدينية وغيرها فإنها تساهم مع الكتّاب والخطباء وأئمة المساجد وغيرهم في صنع هذا الموقف العام. ونحن نعاني من أزمات على كل هذه الأصعدة ويتطلب الحل نشر ثقافةٍ خاصة للتمهيد له فمثلاً هذه (الصحوة) التي حصلت لكثير من العشائر وأبناء الوطن الغيارى لم تولد بين عشية و ضحاها وإنما جاءت حصيلة تحشيد وتثقيف باتجاه حب الوطن والناس جميعاً والتسامي عن الأنانية والخروج عن التخندقات الطائفية واستشعار العواقب الوخيمة التي يولدها العنف والاقتتال، ومثلما حصل في الحركة المباركة لسيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) حينما استطاع بفضل الله تبارك وتعالى أن يقضي على كثير من الظواهر المنحرفة والموبقات التي تفشت في المجتمع عن طريق تعبئة الرأي العام وحشده ضد هذه المفاسد من خلال الخطب الجمعة المباركة فحوصر الفساد والانحراف واضطر فاعلوا المنكر لتركه إما اقتناعاً وانسياقاً مع التوجه العام أو حياءً من الآخرين

ص: 211

بحيث اعترف مسؤولو النظام بأن الجرائم قلت بدرجة 90% وهي نسبة عالية جداً عجزت كل الوسائل التنفيذية للقضاء على الجريمة عن تحقيقها. وهذه الطريقة مستفادة من سيرة المعصومين(سلام الله عليهم) فإنهم لم يستعملوا العنف للقضاء على المنكر وإنما عملوا على إشاعة الفضائل وخصال الخير وإقناع الناس بطريق الصواب بحيث غدا المنكر مفضوحاً وعاراً على صاحبه... ولكي تنجح وسائل الإعلام في أداء هذه الوظيفة لا بد لها أن تنشئ قسماً يقوم بتشخيص القضايا التي تتطلب حشد الرأي العام باتجاهها ودراستها ووضع الحلول لها وآليات إقناع الرأي العام بالأخذ بهذه الحلول).(1)

12) عدم التواني في محاسبة المقصرين والمفسدين والتنديد بهم حتى وإن كانوا من الجهة التي ينتمي إليها الفرد، أو كان من الاشراف والوجهاء وأصحاب الحصانة الدينية أو الاجتماعية أو السياسية أو العشائرية، بدأ من أصغر موظف في الدولة إلى قمة الهرم السياسي وهكذا في سائر المؤسسات والبنى الاجتماعية ... فإن (سبب نزول البلاء على الأمم الذي ورد في الحديث الشريف: (إنما هلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد) وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يسمي السارق الأول شريفاً بلحاظ المعايير الاجتماعية التي تعتبر مثل أبي جهل وأبي لهب وأبي سفيان شريفاً في قومه لا بلحاظ الواقع لأن السارق ليس شريفاً، وهذا الذي حذّر منه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نعيشه في العراق حرفياً..).(2)ومن جهة أخرى يجب أن تكون الأمة شاهدة ومراقبة على دور المؤسسة الدينية والسياسية، ولها الحق في الاعتراض على المقصرين في أداء وظيفتهم، بل ومحاسبتهم إذا استلزم الأمر، وبخلاف ذلك تجري الأمور وفق أهواء أصحاب المطامع حيث لا رقيب ولا حسيب.

13) إقامة المهرجانات السنوية والندوات الثقافية والأدبية التي تمجد وتخلد المواقف والأدوار البطولية والتأريخية، التي حققها عظماء الأمة، وبيان كيفية نجاحهم في أداء

ص: 212


1- - خطابات المرحلة،ج5، ص411.
2- - خطابات المرحلة، ج5، ص146.

العمليات التغييرية والإصلاحية، والكشف عن مدى حماستهم في رفض الظلم وعدم الاستسلام لأعداء الدين والإنسانية، بالإضافة إلى ضرورة نشر اللافتات والبوسترات التي تحمل الروايات الشريفة والحِكم المؤثرة التي من شأنها الحث على محاسبة المقصرين ورفع روح الهمة وتأجيج المعاني الثورية الرافضة للظلم في النفوس.

14) على المفكّرين والباحثين وأصحاب الأقلام الواعية المخلصة والمنصفة كتابة بحوث ومؤلفات حول هذه الظاهرة، وهذا ما أكد عليه مرجعنا اليعقوبي في أكثر من مناسبة، ومنها ما سطره في خطابه الموسوم (تدجين الشعب العراقي ليستسلم للظلم والإذلال)(1) الذي أصدره على أثر لقاءه برئيس جمعية أطباء الأمراض النفسية والعصبية، الذي تحدث معه حول ظاهرة السكون وعدم اتخاذ أي رد فعل لدى العراقيين إزاء الكوارث التي تحلُّ بهم. فدعا (دام ظله) مجدداً إلى دراسة هذه الحالة وضرورة الكتابة فيها بالتفصيل مع بيان لأسبابها وكيفية علاجها، فإن هذه الظاهرة تُعد ظاهرة غريبة على الشعب العراقي المعروف برفضه للظلم، ومعروف بعدم خنوعه وبعدم استسلامه على حد تعبيره (دام ظله).

ص: 213


1- - يُنظر خطابات المرحلة، ج6.

15) ضرورة تصدي الكفاءات الجامعية (التكنوقراط) المخلصة لتولي السلطة في البلاد:فعلى الشريحة الواعية والمخلصة من أبناء الجامعات والمعاهد ممن لهم الأهلية الكافية التصدي لإدارة دفة البلاد، فإن هذه الشريحة المهمة من المجتمع تمتلك قدرة كبيرة على التغيير والإصلاح لذا أهتم بها المرجع اليعقوبي (دام ظله) وخصص لها حيزاً من خطابته الشريفة: (أيها الجامعيون أساتذة وطلاباً وخريجين وإداريين وفنيين: مَن أولى منكم بتفعيل هذه الحركة المباركة لتحرير الإنسان من أغلال الذل والهوان والحرمان، فاستلهموا من الحسين (علیه السلام) كل تلك القيم النبيلة وأنتم تجتمعون في حضرته الشريفة على تربة كربلاء المقدسة وتظلكم شآبيب رحمة الله تبارك وتعالى وألطاف إمامكم العظيم... وأنتم من تستحقون قيادة البلد نحو الازدهار وليكون في مصاف الدول المتقدمة والمتحضرة وهو له أهل فمن المعيب على أي بلد أن يقوم أساتذة الجامعات أو المهندسون أو الأطباء وغيرهم من الكفاءات باحتجاجات واعتصامات مطالبين بحقوقهم من مسؤولي البلاد وهم أحقّ منهم في هذه المواقع).(1)

16) ممارسة أسلوب التكلّف والإيحاء النفسي الإيجابي على المستوى الفردي:

فقد طرح علماء النفس وعلماء الأخلاق طريقة لأجل الخلاص من الصفات الذميمة، وللتحلي بدلاً منها بالصفات الفاضلة، وهذه الطريقة هي؛ (التكلف) فإذا لم يكن الإنسان بطبيعته ممتلكاً لخصلة ما ضمن أخلاقه الشخصية - لو صح هذا التعبير - فيمكنه أن يمارس أسلوباً تربوياً ونفسياً يستطيع من خلاله أن يتملك هذه الخصلة وذلك بالتحامل على النفس والتحايل عليها لأجل الحصول بشكل تدريجي

ص: 214


1- - خطابات المرحلة، ج5، ص269- 270.

على هذه الخصلة التي يفتقدها الإنسان، وهذا ما يطلق عليه ب(التخلق) حيث عُرِف الخُلق بأنه: عبارة عن هيئة في النفس راسخةٍ تصدُرُ عنها الأفعالُ بسهولةٍ ويُسرٍ، من غير حاجة إلى فكرٍ ولا رويَّة، وهذه الهيئة إما أن تصدُرَ عنها أفعالٌ محمودة، وإما أن تصدُرَعنها أفعالٌ مذمومةٌ، فإن كانت الأولى، كان الخُلُق حسَنًا، وإن كانت الثانية، كان الخُلُق سيِّئًاً، أما (التخلُّق)؛ فهو التكلُّف والتصنُّع، وهو لا يدوم طويلاً، بل يرجع إلى الأصل، والسلوك المتكلَّف لا يسمَّى خُلقًا حتى يصير عادةً وحالةً للنفس راسخةً، يصدُرُ عن صاحبِه في يُسر وسهولة؛ فالذي يصدُقُ مرة لا يوصَفُ بأن خُلقَه الصدقُ، ومن يكذِبُ مرَّةً لا يقال: إن خُلقَه الكذب، بل العبرةُ بالاستمرار في الفعل، حتى يصيرَ سجية عامة في سلوكه.

فعلى سبيل المثال لو كان المرء بخيلاً، ويريد التخلص من هذه الصفة الرذيلة فيمكنه أن يوحي لنفسه بأنه كريم، ويرغم نفساً (تكلفاً) بالإنفاق على المحتاجين والإغداق على الأهل والأحبة، حتى ولو كان ذلك إبتداءا بمبالغ مالية قليلة، ويحاول دائماً أن يعزز هذا الإيحاء في نفسه، فيخاطبها قائلاً أنا كريم، أنا معطاء، أنا جواد، أنا سخي، وهكذا، ويردف هذا الإيحاء عملياً بالسبق إلى البذل والعطاء إلى أن تصبح صفة الكرم ملكة راسخة في نفسه، وإذا كان الفرد يعاني - مثلاً - من صفة سرعة الغضب، فعليه أن يتكلّف صفة الحلم والتروي وكظم الغيظ وإن شق عليه ذلك إبتداءا، فبالاستمرار يمكن أن يكتسب الفرد صفة الحلم تدريجياً من حيث يشعر أو لا يشعر، وهذه الطريقة النفسية التربوية حثت عليها مدرسة أهل بيت العصمة( صلوات الله عليهم) وأكدت عليها في أكثر من رواية، حيث وردت العديد من الروايات التي تشير إلى ضرورة استعمال هذه الطريقة (التكليفية) لأجل الخلاص من الصفات الرذيلة والتحلي بالفضائل ومكارم الأخلاق، وهذه بعض منها:

ص: 215

* عن الإمام علي (علیه السلام): (إن لم تكن حليماً فتحلم، فإنه قل من تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم).

* وعنه (علیه السلام): (خير الحلم التحلم).

* وعنه (علیه السلام): (من لا يتحلم لا يحلم).* وعنه (علیه السلام): (من تحلم حلم).

* وعنه (علیه السلام): (قد يتزيى بالحلم غير الحليم).

* وعن الإمام الصادق (علیه السلام): (إذا لم تكن حليماً فتحلم).(1)

وبهذا يمكن لأبناء الأمة أن يستعملوا هذه الطريقة بشكل فردي لأجل التخلص من صفة الخوف والركون إلى الذل والتدجين والاستسلام للظلم.

17) المحاولة في فهم الآيات والروايات الشريفة و سيرة المعصومين (صلوات الله عليهم) بشكلها الصحيح والواعي:

فقد ذكرنا في بحث أسباب ظاهرة التدجين هو عدم فهم الأمة لبعض الروايات الشريفة بشكلها الصحيح، حيث ترجم البعض إن الروايات الحاثة على العزلة - مثلاً - إلى ضرورة السلبية والانكماش الاجتماعي والانكفاء على الذات، والروايات الحاثة على الصمت، هو استحباب الالتزام بالسكوت دائماً وعدم ممارسة التدخل اجتماعياً لإصلاح الأخرين، وهكذا في بقية الروايات، التي أكدت على مفاهيم معينة أخرى مثل ممارسة (التقية) و(الانتظار) و(الانعزال في البيت) و(مداراة الناس) و(التغافل) ونحو ذلك، فإن هذه المفاهيم إذا فهمت بشكلها المغلوط تؤدي إلى أضرار على الفرد والمجتمع، لذا يجب لأجل فهمها فهماً صحيحاً هو الرجوع إلى

ص: 216


1- - يُنظر ميزان الحكمة، للشيخ محمد الري شهري ، باب الحلم.

العلماء والمفكرين والأخذ من معينهم لأجل إستيعابها وعدم الاعتماد على التصورات الأولية والثقافة الشخصية في فهم هذه الآيات المباركة والروايات الشريفة.

18) مطالعة الروايات الشريفة والقصص الهادفة والأشعار الحماسية من التأريخ الإسلامي والعالمي التي تزيد من الوعي الثوري، ومن جانب آخر ينبغي على أبناء الأمةأن يشحذوا هممهم لرفض الظلم، من خلال مطالعة المدرسة القرآنية، ومدرسة النبي الخاتم وأهل بيته الأطهار(صلوات الله عليهم أجمعين) والنظر بعمق في سيرتهم ودورهم لإحياء الأمة، بالإضافة سائر المعارف المبثوثة في التراث الإسلامي، الذي يحوي الكثير من القيم السامية والمعاني الثورية، التي تعزز في النفوس الروح النضالية، والقيم الإنسانية الأصيلة التي تأبى الركون للظالمين والاستسلام لحياة الذل والرضا بأنصاف الحلول، ف(إن الله تبارك وتعالى حثّ في القران الكريم على دراسة التأريخ والاعتبار به وأخذ الدروس والمواعظ من أحداثه لأن سنن الله تعالى في خلقه لن تجد لها تبديلاً ولن تجد عنها تحويلا فلا ينبغي لعاقل أن يبدأ من حيث بدأ الآخرون من دون أن يستفيد من تجاربهم).(1)

و(إن الثقافة والعلم من مقومات حياة الامم فالآية الكريمة؛ (إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) تدعونا الى التجاوب مع كل مصدر يزودنا بهما. فعلى كل شخص أن يقرأ ويصاحب الكتاب وكل مصادر المعرفة الأُخرى ويتزود منها ليكون إنساناً بمعنى الإنسان الحقيقي لا الشكلي وليكون حياً فاعلاً في المجتمع، ولينسجم مع متطلبات الفطرة التي تنزع نحو الكمال، وليحظى برضى الله تبارك وتعالى ويتأسى برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن وجهة نظري - بغض النظر عن التعريفات التي

ص: 217


1- - خطابات المرحلة، ج5، ص396.

قيلت- فإن الثقافة هي منظومة الأفكار التي تجعل للإنسان رؤية فيما حوله ولا يكون إمّعًة من غثاء الناس ينعق مع كل ناعق ويسيّرَه السلوك الجمعي بلا رؤية وتأمل فيما يفعل).(1)ونذكر

فيما يأتي - على سبيل المثال - بعض الروايات والأبيات الشعرية، التي تنفع في هذا الصدد:

ü عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من أقر بالذل طائعا فليس منا أهل البيت).

ü عن أمير المؤمنين (علیه السلام): (الناس من خوف الذل متعجلوا الذل).ü وعنه (علیه السلام): (ساعة ذل لا تفي بعز الدهر).

ü وعنه (علیه السلام): لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا

ü وعنه (علیه السلام): الحر حر وإن مسه الضر، العبد عبد وإن ساعده القدر

ü لما عبأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين (علیه السلام)... وأحاطوا به من كل جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة... فقام الحسين (علیه السلام) ثم قال: ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات ما آخذ الدنية، أبى الله ذلك ورسوله، وجدود طابت، وحجور طهرت، وانوف حمية، ونفوس أبية، لا تؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام).

ü عن الإمام الحسين (علیه السلام): موت في عز خير من حياة في ذل، وأنشأ (علیه السلام) يوم قتل:

الموت خير من ركوب العار والعار أولى من دخول النار

ü عن الإمام الصادق (علیه السلام): (إن الله تبارك وتعالى فوض إلى المؤمن كل شيء إلا إذلال نفسه).

ص: 218


1- - خطابات المرحلة، خطاب بعنوان: (لنكن أمة (إقْرَأْ)).

ü وعنه (علیه السلام): خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثير مستمتع، أولها: الوفاء، والثانية: التدبير، والثالثة: الحياء، والرابعة: حسن الخلق، والخامسة - وهي تجمع هذه الخصال -: الحرية

ü وعنه (علیه السلام): إن الحر حر على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره وإن اسر وقهر واستبدل باليسر عسرا، كما كان يوسف الصديق الأمين صلوات الله عليه لم يضرر حريته أن استعبد وقهر واسر.

ü وجاء في الرواية الشريفة أيضاً: (اريحوا اجسادكم بالتعب ولا تتعبوها بالراحة).

قال الإمام الخميني (قدس سره): (عند لمسكم الحجر الأسود بايعوا الله على أن تكونوا أعداءً لأعدائه ولأعداء رسله، ولأعداء الصالحين والأحرار. ولا تخضعوا لأولئك الأعداء - مهما كانوا وأينما كانوا - وانزعوا الخوف والخنوع من قلوبكم، فإنّ أعداء اللهü - وعلى رأسهم الشيطان الأكبر - هم الخانعون، مهما تفوقوا في معدات القتل والقمع والإجرام).

قال الشاعر أبو القاسم الشابي:

إِذا

الشعبُ يوماً أرادَ الحياةَ

فلا

بُدَّ أن يستجيبَ القَدَرْ

ولا

بُدَّ لليلِ أن ينجليْ

ولابُدَّ

للقيدِ أن ينكسرْ

ومن

لم يعانِقْهُ شوقُ الحياةِ

تبخرَ

في جَوِّها وانْدَثَرْ

ومن

لا يحب صعودَ الجبالِ

يعيشْ

أبد الدهرِ بين الحفرْ

هو

الكونُ حيٌ يحبُّ الحياة

ويحتقرُ

الميتَ المندثرْ

فويلٌ

لمن لم تشقه الحياةُ

ومن

لعنةِ العدمِ المندثرْ

19) التوجه بالدعاء والطلب من الله تعالى لتغيير الواقع الفاسد:

إن الدعاء هو سلاح الأنبياء والمؤمنين، والدعاء هو طلب من الله تعالى الذي بيده مقادير الأمور كلها، وقطعاً يمكن للإنسان أن يغير واقعه السيء نحو الأفضل من

ص: 219

خلال الارتباط بالله سبحانه، والطلب منه في إصلاح أمورنا بشرط تقديم المقدمات الصحيحة واللازمة لذلك، فإن الدعاء وحده يمثل جزء العلة في التغيير والإصلاح، ونذكر فيما يأتي بعض الشواهد التأريخية التي تنفع كدليل على أهمية الدعاء في حياة المجتمع:

روي إن أهل بغداد اشتكوا إلى المعتصم العباسي من الإساءات والأذى الذي لحقهم من جيشه الأتراك، الذين أكثر المعتصم من شرائهم ليقوي بهم الجيش، حتى ملأوا بغداد وكانوا أناساً جفاة، عندها قدِم وفد من الصالحين للمعتصم وقالوا له: (تحول عنا بجيش الأتراك هذا وإلا قاتلناك!) فقال لهم المعتصم: وكيف تقاتلونني وفي عسكري ثمانون ألف دارع؟ فقالوا: نقاتلك بسهام الليل (يقصدون بذلك الدعاء ليلاً). فقال: لا طاقة لي بذلك. وتحول بجيشه إلى مدينة سامراء.وينقل أيضاً إن أحد الوزراء في عهد بني العباس غره منصب الدولة وأعطيات الحكومة فتجبر وظلم أحد الناس وسجنه ونكل به فأتت أم المظلوم تريد ابنها فنهرها وتكلم عليها فقالت: اتق الله وإلا حاربناك! فضحك وقال: عجوز؟! بماذا تحاربينني؟! قالت سنحاربك بالدعاء! فقال مستهزئاً: عليك بثلث الليل الآخر. قالت: ستعلم. وبعد مدة انقلب الحاكم العباسي عليه وسجنه وعذبه ثم أمر بقتله بقطع عضو من جسده كل يوم، وفي آخر يوم وهو على خشبة الصلب ولم يبق إلا لحظات على حياته أتته تلك العجوز فسلمت عليه وسألت عن حاله مستهزئة، ثم قالت: كيف وجدت الدعاء؟! قال: أتشمتين بي في هذه الساعة؟! قالت: إنما جئت لأخبرك أن ثلث الليل الآخر ينفع وله فوائد عظيمة ومنافع عديدة.

ويُنقل إن دولة الأغالبة كانوا هم الحكام على إفريقيا أيام الدولة العباسية, وكان الوالي عليها حينئذ (عبد الله بن الأغلب) وكان سيئ السلوك والأخلاق ظلوماً غشوماً, وأسرف في ظلم الناس, فجاءه عالم إفريقيا وقتها وهو (حفص بن حميد)

ص: 220

وقال له: يا أيها الأمير اتق الله في شبابك وأرحم جمالك وأشفق على بدنك من النار, وارفع هذه الضرائب الجائرة عن الرعية, وخذ بكتاب الله وسنة رسول الله. فأعرض الوالي (عبد الله بن الأغلب) عن سماعه ولم يأخذ بنصيحته بل غالى في المكوس والضرائب كرد فعل عكسي للوعظ والإرشاد, فقال حفص بن حميد: قد يئسنا من المخلوق فلا نيأس من الخالق فاسألوا المولى وتضرعوا إليه في زوال ظلمه عن المسلمين، فقام الناس فتوضئوا وساروا إلى المصلى ودعوا الله بعد صلاة العشاء أن يكف عن المسلمين أذى هذا الولي الظالم وأن يريحهم من أيامه, فإذا بهذا الظلوم تصيبه قرحة تحت أذنه لم يستطع أن يصمد أمام وجعها سوى خمسة أيام فقط وخلالها تغير لون بشرته البيضاء وكان من أجمل أهل زمانه حتى ضربوا به الأمثال في الوجاهة والوسامة إلىاللون الأسود كأنه زنجي بعد هذه الخمسة أيام مات غير مأسوف عليه ولا مبكى. قال الشاعر:

تنام عيناك والمظلوم منتبه

يدعو عليك وعين الله لم تنم.

20) وعي أهداف القضية الحسينية، ودورها في إصلاح الفرد والأمة:

تُعد ملحمة عاشوراء من أعظم الملاحم التي يتعلم منها الإنسان قيم الإباء ورفض الظلم والثورة على الباطل، فمدرسة عاشوراء بما تحويه من تعاليم وشعائر تُعد أغنى مدرسة عرفها التأريخ الإنساني فضلاً عن التأريخ الإسلامي، ولم يقتصر تأثير هذه المدرسة المعطاءة على الشعوب الإسلامية والعربية فحسب بل تعدت في تأثيرها الواسع إلى شعوب العالم الغربي وقادتهم ومفكريهم، فصدرت منهم العديد من الكلمات التي تبدي أعجابهم وتأثرهم بشخصية الإمام الحسين (علیه السلام) وبنهضته المباركة، حتى جعل بعضهم الإمام سيد الشهداء (علیه السلام) قدوة ونبراساً له في مسيرته

ص: 221

الثورية والنضالية ضد الطامعين والمتسلطين. ونذكر على سبيل المثال بعض هذه الكلمات التي قيلت في حق الامام الحسين (علیه السلام):

* الزعيم الهندي (غاندي): (أن أردنا أن ننتصر، فعلينا أن نقتدي بالحسين)، وقال أيضاً: (تعلمت من الحسين، كيف أكونُ مظلوماً فأنتصر) وله أيضاً: (لقد طالعت بدقة حياة الحسين، شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء، فاتضح لي أن الهند إذا أرادت النصر، فلا بدّ لها من اقتفاء سيرة الحسين(.

* الكاتب المسيحي (انطوان بارا): (لو كان الحسين منا لنشرنا له في كل أرض راية، ولأقمنا له في كل أرض منبر، ولدعونا الناس إلى المسيحية بإسم الحسين).* الكاتب الإيرلندي (جورج برنارد شو): (ما من رجل متنور إلا وعليه الوقوف وقفة اجلال واحترام لذلك الزعيم الفذ حفيد الإسلام، الذي وقف تلك الوقفة الشامخة أمام حفنة من الأقزام الذين روعوا واضطهدوا أبناء شعوبهم).

* الثائر الأرجنتيني الشهير (جيفارا): (على جميع الثوار في العالم الاقتداء بتلك الثورة العارمة التي قادها الزعيم الصلب الحسين العظيم والسير على نهجها لدحر زعماء الشر والاطاحة برؤوسهم العفنة).

* الباحث الإنكليزي (جون أشر): (إن مأساة الحسين بن علي تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي).

* الزعيم البريطاني (ونستون تشرشل): (مادام للمسلمين قرآن يتلى وكعبة تقصد وحسين يذكر فأنه لا يمكن لأحد أن يسيطر عليهم).

* الزعيم الصيني (ماوتسي تونغ): (عندكم تجربة ثورية قائدها الحسين وهي تجربة إنسانية فذه وتأتون إلينا لتأخذوا التجارب).

* الزعيم الالماني (أدولف هتلر): (اثبتوا في القتال كما ثبت الحسين بن علي سبط محمد وأصحابه في كربلاء في العراق، وهم نفر قليل بين ألوف تفوقهم فنالوا بذلك

ص: 222

المجد الخالد).وقال أيضاً مخاطباً جنوده: (عليكم أيها الجنود الأبطال الاقتداء بتلك النخبة المثابرة التي التفت حول زعيمها الحسين الذي تمكن من أن يهز مضاجع اركان دولة قوية ذهبت فيما بعد إلى الهاوية بعد أن تضعضعت أسسها جراء الأعمال البطولية التي قامت بها هذه المجموعة الصامدة).

* المفكر الروسي (تولستري): (مما لاريب فيه ان الحسين كان من اعظم الرجال الثائرين من اجل تقويم الحكام الذين انحرفوا عن جادة الصواب فنال بوقفته تلك الشهادة التي طالما يتمناها الأحرار).* الرئيس الأمريكي (ابراهام لونكولن): (مامن عظيم إلا ويخلد إلا أن خلود الحسين كان مميزاً بأفكاره النيرة وعشق الناس له في شرق الأرض وغربها إن القرآن ومحمد والحسين ثالوث مقدس يجب النظر إليهم نظرة تقديس لأن فيهم الكثير من المثل العليا واحترام حقوق الإنسان).

* الكاتب الياباني (كويانا): (ثورة الحسين اضاءت للمظلومين درب خلاصهم ورسخت لهم مواطئ أقدامهم وانتشلتهم من الضلالة وأبانت لبصائرهم مسالك الحق).

في حين إن بعض المنتمين لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وممن يتشيعون عقائدياً للإمام سيد الشهداء (علیه السلام) لم يستثمروا للأسف الشديد هذه الخصال الثورية والنهضوية كما ينبغي، بل راح بعضهم يمارس الشعائر الحسينية بشكل سطحي، أو يقوم هو عمداً أو جهلاً بتسطيحها وابتداع طرق جديدة تفرغها عن أهدافها الثورية والتربوية وعن محتواها السامي، هذا في الجانب الشعائري وممارسة الطقوس الحسينية، أما في جانب فهم الفكري الحسيني والأبعاد الثورية والإنسانية في مدرسة عاشوراء فهم قلة ممن وعوها كما يجب، واستفادوا منها في تغيير الواقع، فالبعض لا يُحسن سوى ترديد الشعارات الحسينية والهتافات

ص: 223

الثورية الواردة على لسان سيد الشهداء (علیه السلام) ولا يعي أبعاد ما تنطوي عليه هذه الحِكم والكلمات المباركة، التي تعلوا الأصوات بذكرها لكي تلهب مشاعر الناس، ليس إلا، وما تنفك أن تتبخر حماستهم بمجرد انتهاء الطقوس والمواسم الحسينية، ولا يوظفونها لإصلاح الحياة وتعمير الأرض، بل يُقصرون المد الحسيني الإصلاحي في بعديه الفكري والشعائري على ممارسات شكلية فلكلورية تؤدى بشكلٍ روتيني رتيبٍ في مواسم معينة من السنة، ويحبسون النور الحسيني الوهّاج في زنزانة ضيقة من العاطفة والبكاء واللطم، بسببالمنهج الخاطئ الذي سار عليه تجّار الدين من علماء السوء ورواديده، وهذا ما حذر منه المرجع اليعقوبي حيث قال في إحدى خطاباته المباركة: (... أصبح أداء الكثير من المراثي والمواليد مطابقاً لألحان الغناء المحرم وطرقه وتصاحبه حركات و آلات موسيقية، وبعض ما يسمى (فيديو كليب) لا يختلف عما ينتجه أهل الفسق، وخلت من الأجواء القدسية التي تضفيها ذكرى أبي عبد الله الحسين (علیه السلام) وأما بالمضمون فقد تحول الكثير من المراسيم خصوصاً في زيارة الأربعين والشعبانية إلى ما يشبه الفلكلور الشعبي الذي اعتادته كثير من الأمم ووضعت له برامج وفعاليات من دون أن يستلهم معاني الثورة الحسينية، والأهداف التي سعى الإمام (علیه السلام) لتحقيقها وطالب الأجيال كلها بنصرته في تحقيقها، بل إن الكثير من المشاركين مخالفون لتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) وتاركون للواجبات ومرتكبون للمحرمات فواجبنا اليوم تنقية هذه الشعائر المقدسة وصيانتها من الانحراف عن مسارها الذي وضعه لنا أهل البيت (عليهم السلام) وترسيخ القيم والمبادئ التي شادتها الثورة الحسينية المباركة، وهي إصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة السنة وإماتة البدعة وتحرير العباد من طاعة الشيطان والأهواء و الطواغيت ليعودوا إلى عبادة الله تعالى

ص: 224

وحده، وهذه مسؤولية تقع على الجميع: سواء الخطباء على المنابر أو الشعراء الذين ينظمون القصائد أو الذين يتلونها أو غيرهم).(1)

إذن علينا أن نحرر عاشوراء في وجداننا أولاً لكي تحررها هي من الظلم والاستعباد، فلا نظلم الإمام الحسين (علیه السلام) بقتل ثورته وحبسها في أطر ضيقة وخانقة، كما أراد لها ذلك أعدائها، في حين إنه يمكننا أن نصلح العالم وننقذه من براثن الظلم والفساد بتصديرنا أفكار وشعائر الإمام الحسين (علیه السلام) فضلاً عن إصلاح شؤوننا، ف(نحن اليوم نعيش محنة سوق الخداع والرياء والنفاق والكذب والتسقيط والافتراء والتجهيلرائجة، وحمّى التنافس على الدنيا والصراع على المغانم في أشدها، ولا احد يهتم بالوعي والثقافة والإصلاح والقضايا المعاصرة وحركة التجديد والنهضة، وتخلى عن هذه المفاهيم حتى أهلها الذين طالما تحدثوا بها، لكن الوضع ليس يائسا بل الأمل موجود وتوجد جذوة من فكر وهي آخذة بالنمو والازدهار كما أن لطف الله تعالى بعباده متواصل فجعل معالم تعيد للأمة إيمانها وكرامتها وثقتها بنفسها وعلى رأسها الشعائر الحسينية المباركة).(2)

أفلا يدعونا واقعنا المرير للعجب والدهشة على ما نحن فيه من تردي وفساد، ونحن نمتلك هذه الثروة العملاقة التي غيرت مجرى التأريخ وأطاحت بعروش الأكاسرة وتيجان الأباطرة، وقد اختصر الإمام الخميني الراحل (رضوان الله عليه) الكلام لنا في هذا الباب بمقولته الشهيرة: (كل ما لدينا هو من عاشوراء(، كما ذَكَر المرجع اليعقوبي(دام ظله) عدة خطابات وكلمات تناول فيها هذا الموضوع بشكل مركز، نذكر فيما يأتي بعض منها:

ص: 225


1- - خطابات المرحلة،ج6، ص 366.
2- - خطابات المرحلة، ج8، خطاب بعنوان: (التجديد في الخطاب الديني).

* (إن قضية الإمام الحسين (علیه السلام) لو عرضت بالطريقة التي تناسبها لأمكن تأصيل قيم الحرية والمحبة والسلام والعدالة والمساواة وكل القيم الإنسانية العليا لدى البشر جميعاً).(1)

* (إن من أهم ألقاب الإمام الحسين(علیه السلام) (أبيّ الضيم) فعلى أتباعه والموالين له والذين يقيمون شعائره أن يكونوا أباةً للضيم والخنوع والاستسلام وأن يرفضوا كل من يحاول تجهيلهم وتدجينهم وإخضاعهم مهما كان موقعه ومقامه المزعوم).(2)* (إن شعائر الإمام الحسين (علیه السلام) يجب أن تكشف بوضوح عن المعاني التي جسدها (علیه السلام) في مواقفه من الشجاعة والإنسانية والإخلاص لله تبارك وتعالى والسمو والتحرر من عبادة الذات والطواغيت ومن الحب والرحمة ورفض الباطل والفساد بكل أشكاله ولنجعل من شهر محرم الحرام –كما هو كذلك- مظهراً لكل تلك المعاني النبيلة، وما اصطحابه (علیه السلام) لعقائل النبوة والإمامة وتعريضهن للسبي إلا لإعلان تلك المبادئ الإنسانية والإسلامية العليا بعد أن كمّمت السلطات القمعية أفواه الرجال عن الكلام).(3)

* (النهوض بواقع الشعائر الدينية وخصوصاً الشعائر الحسينية لتكون محققة للأهداف التي سالت تلك الدماء الزواكي الطواهر من أجل تحقيقها، لأننا نلمس مع الأسف تسطيحاً لهذه الشعائر وتراجعاً في الممارسات لتصبح غالباً خالية من تلك الأهداف ولا تترك تأثيراً حقيقياً على نفوس الملايين إلا في وقت ممارستها، مع الإشادة التامة بالنبل والمواقف الكريمة التي تجلت في الزيارة الأربعينية والتي

ص: 226


1- - خطابات المرحلة،ج5، ص76.
2- - خطابات المرحلة، ج8، خطاب بعنوان: (محافظة المثنى نموذج بائس لتردّي أحوال شعبنا).
3- - خطابات المرحلة،ج5، ص421- 422.

تستحق أن يُفرد لها كتاب خاص لتطلع البشرية على التجليات الإنسانية فيها. لكن هذه المسيرة المليونية يمكن أن تساهم بشكل كبير في تعجيل الظهور الميمون المبارك إذا أبرَزت بشكل أكبر الأهداف والمبادئ التي أعلنها الإمام الحسين (علیه السلام)، وإنما يتحقق التأسي به(علیه السلام) بمقدار تجسيد تلك المبادئ والمحافظة عليها وليس بمقدار شجّ الرؤوس بالسيوف وإدماء الظهور بالسلاسل والمشي على الجمر وبعض الممارسات التي تشوه الصورة الناصعة لمدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم)).(1)

(إن قيمة العبادات والشعائر التي نؤديها بمقدار تحقيقها لتلك المضامين العالية، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ]، [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ* عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] [لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ]، [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ]. فإذا تجردت عن المضامين فإنها ستفرغ من القيمة إلا أن يتداركها الله تعالى بفضله وكرمه. خذ لذلك مثالاً قشور الفاكهة فإنها ما دامت محتوية على اللب وحافظة له فلها كل القيمة، ولكنها إذا نزعت عنها فلا قيمة لها وترمى في سلة النفايات. فالمأمول هو أحياء هذه الشعائر بشكل واعٍ مع استحضار للأهداف التي أسست من أجلها، والمبادئ التي أراد الأئمة المعصومون (عليهم السلام) تركيزها من خلال إحيائها، فلم يستشهد الإمام الحسين(علیه السلام) من أجل أن نبكي عليه فقط أو لنتفجّع ونحزن، وإن كان هذا مطلوباً في نفسه، ولكن الهدف هو توظيف هذا الحزن والبكاء والألم في رفض الظلم والانحراف والفساد والسعي بهمة عالية نحو الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمأمول أيضاً

ص: 227


1- - خطابات المرحلة،ج6،ص199.

إدامة هذه الآثار المباركة التي عاشها الجميع خلال أيام المناسبة لتكون خصالاً ثابتة في سلوكنا)،(1)

لو كان الإمام الحسين (علیه السلام) موجوداً بشخصه بيننا لقاد هذه المسيرة المليونية (يقصد (دام ظله) الزيارة الأربعينية المباركة) إلى حيث يقبع الظالمون المستبدون ليجتث جذور الفساد والظلم والاستبداد والاستئثار ويحاسب المفسدين ويعاقبهم ويقيم المبادئ التي تحرك من أجل تحقيقها ولوّجه هذه الملايين لتصوّت في صناديق الاقتراع للكفوئين النزيهين المخلصين المتفانين في عملهم. ولا يكتفي باللطم والمناداة بالويل والثبور، انظروا إلى هذه الشعوب التي حولنا والتي لا تملك مثل الإمام الحسين (علیه السلام) لكنها تأثرت به ولو من بعيد ومن دون أن تشعر بسريان الروح الحسينية الرافضة للظلم والمنكر والبغي والاستبداد والاستئثار، فلم يكن مصادفة انطلاق ثورة شباب مصر يوم 25 يناير (كانون الثاني) الذي كان يوم الزيارة الأربعينية حيث تابع كثير منهم ما يُنقل عن الشعائر الحسينية ومعانيها عبر الفضائيات خلال الأيام* التي سبقتها، فتأثر بحركة سيد الشهداء وأباة الضيم ورافضي الظلم والمنكر والبغي..أيها الأحبّة: أنتم شريحتان مهمتان في المجتمع وعليكم المعوَّل في إحداث التغيير والإصلاح: الشباب الذي هم قلب الأمة النابض الذي يتدفق بالحياة في جسدها، والحوزة العلمية التي هي عقل الأمة المفكر والمخطط والقائد لها خصوصاً الحوزة النجفية التي تتسع مسؤولياتها لتشمل العالم كله).(2)

وقال (دام ظله) حول فوائد المشي للزيارة الشريفة: (إنّ المسيرات السلمية وسيلة حضارية تتبعها كل الأمم المتحضرة لإلفات النظر إلى قضاياها والمطالبة بحقوقها ودفع الآخرين للسؤال والفحص عن المشروع المحرِّك لها، وهذا ما تحقق إذ صار العالم كله يتساءل اليوم عن الإمام الحسين (علیه السلام) وأهل البيت (عليهم

ص: 228


1- - خطابات المرحلة،ج6، ص191.
2- خطاب المرحلة، ج7 ،بعنوان: (المبادئ الحسينية وثورات الشعوب).

السلام) والشيعة، والسؤال مفتاح الوصول إلى الحقيقة، إنها تحبط محاولات الأعداء المتنوعين التي تستهدف الشعب العراقي الأبي وهذا البلد الكريم، لإفساده وإخضاعه وإرعابه وتدجينه وسلخه من هويته الإسلامية الأصيلة، فقد حاول الإرهابيون بكل وسائل القتل والتدمير والجريمة إخافته، وحاول الاحتلال تدجينه وتحويله إلى جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير بل رأس الحربة فيه، وحاولت تقنيات الإغراء والغواية والتضليل إفساده وإبعاده عن إسلامه الأصيل ففشل الجميع، ببركة هذه المسيرات المليونية، إنها ممارسة تعبوية تحافظ على جاهزية الأمة وحضورها في الميدان على الدوام وبدونها يصاب الشعب بالخمول والكسل والاسترخاء فيكون مكشوفاً وهدفاً سهلاً لكل استهداف، إنها تقوّي الإرادة والتحمل وتوطين النفس على الصعاب مما يعجز عن تحقيقه أي ممارسة أخرى وتشكّل بذلك فقرة مهمة من* عملية الاستعداد لنصرة الإمام الموعود(علیه السلام) والمشاركة الفاعلة في التمهيد لدولته المباركة ونصرته).(1)

* كما تساءل (دام ظله)عن سبب عدم احتجاج الناس على ظالميهم وسالبي حقوقهم، قائلاً: ( إن بضعة آلاف من الناس أخذوا امتيازات غير مستحقة، وبأثر رجعي حتى 2003م،(2) رغم إنهم كانوا هم الجلادين، فيما لايزال الملايين من الضحايا لم ينالوا حقوقهم ؟! ، مشيراً إلى أن تظاهرات بضعة الاف من الجلادين اخذت من المكاسب ما لا تستحق ، بينما إن الملايين من الموالين لأهل البيت الذين يزحفون نحو كربلاء سنويا، لنصرة الحسين (علیه السلام) وثورته، ويفخرون بأنه (أبي الضيم) يفشلون من أن يكونوا هم أباة الضيم، ولا يزحفون لاستنقاذ حقوقهم ! وقد شخّص (دام ظله) بعض الأسباب الكامنة وراء هذه المشكلات، والتي من

ص: 229


1- - خطابات المرحلة، ج8، خطاب بعنوان: (إلى المشكّكين بجدوى الزيارات المليونية).
2- - يشير سماحته (دام ظله) إلى أزلام النظام السابق.

أبرزها تدجين الناس، وتجهيلهم، وتقاعس الناس أنفسهم، وخضوع هذه الملايين لسياسة التدجين والتجهيل بصورة إرادية غريبة، تظهر ارتياحهم لهذا النوع من العيش البائس، متسائلا عن سبب رفض الناس لمن يريد أن يأخذ بأيديهم نحو الهدى وجادة الصواب، لاستنقاذهم من هذه الظلامات).

ومما يجدر الإشارة إليه هنا أيضاً هو إن بعض الناس يمارس الطقوس الحسينية لأجلها لا لأجل أهدافها وغاياتها السامية، فيلطمون لأجل اللطم، ويمشون للزيارة لأجل المشي، ويقيمون المجالس لأجل المجالس وهكذا، فيتخندقون في أطر ضيقة تحبسهم عن استنشاق نسيم الأخلاق والقيم والأهداف الحسينية التي من أجلها سنّ لنا أئمة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) هذه الشعائر المباركة، حتى إني لأتذكر حادثة غريبة شاهدتها بأم العين في كربلاء المقدسة أيام الطاغية (صدام) فيإحدى المناسبات الحسينية الكبيرة، تنفع كشاهد على ما أقول، حيث رأيت مجموعة معتد بها من الرجال والنساء قد تجمعوا وسط الشارع وهو يلطمون ويرددون هتافاً غريباً، حيث يقولون بصوت واحد ومتكرر: (صدام حسين امخلينه) فهؤلاء بكل صورة يريدون اللطم للطم حتى وإن أفرغ من محتواه الثوري والقيمي الأصيل، وحتى وإن استلزم اللطم وإقامة المجالس محاذير ومخالفات شرعية؟! وهذه الحادثة تتكرر هذه الأيام ولكن بطرق وأساليب مختلفة، والحكيم تكفيه الإشارة.

21) وعي المرحلة الراهنة وتحصيل القناعة بالتغيير والتعاون الجاد والنزيه:

إذا أردنا أن نعالج ظاهرة التدجين فينبغي علينا أن نقوم بخلط ثلاثة عناصر مهمة مع بعضها البعض، لكي نحصل على علاج شافي وسريع لهذا المرض الفتاك، وهذه العناصر، هي:

أولاً: (وعي المرحلة الراهنة).

ص: 230

ثانياً: (تحصيل القناعة بالتغيير).

ثالثاً: (التعاون الجماعي الجاد والنزيه).

فبهذه العناصر العلاجية الثلاث نستطيع أن نتخطى حواجز التدجين والتجهيل، ويمكننا القضاء على براثن الفساد الصادرة من تجار الدين ودهاقنة السياسة، وهذه العناصر مرتبة مع بعضها طولياً، ونعني بذلك، إن الأمة في المرحلة الأولى يجب أن تعي حقيقة وأبعاد المرحلة التي تعيش فيها، وماهية مجريات الأحداث ومن هو المؤثر الحقيقي ورائها، والمسبب للمشكلات التي يمرون بها، وهذا يعتمد على مدى وعي أبناء الأمة وفطنتهم وثقافتهم، واطلاعهم على الساحة الدينية والسياسية والإجتماعية، أما المرحلة الثانية، فهي مرحلة تحصيل القناعة التامة بالتغيير وإصلاح الأخطاء وحل المشكلات التي تُسبب ضرراً على الأمة، وبدون هذه القناعة لا يمكن تحقيق حالة التغير والإصلاح، أما المرتبة الثالثة فهي خطوة عملية، حيث يستلزم من أبناء الأمةالتكاتف والتعاون لدفع المشكلات وإزالة الشخصيات المفسدة في المجتمع مهما كلف الأمر، وعدم الرضوخ للعناوين الكبيرة أو التسامح معها على حساب الحق مجاملة أو مداهنة أو طمعاً طلباً لإرضائها، وهذا التعاون بين أفراد المجتمع لكي يؤتي ثماره لابد أن يكون تعاوناً حقيقياً وليس تعاوناً وتكاتفاً شكلياً، كما هو حال الكثير من التكتلات والائتلافات السياسية اليوم.

ص: 231

ص: 232

الفرق بين تجربة الشعب العراقي والشعب الإيراني في إسقاط رموز الظلم

لو ألقينا نظرة تحليلية على ما مربه كل من الشعب العراقي والشعب الإيراني من مأسي وظلم من قِبل الحكومات الجائرة التي تسلطت عليهما في القرن الماضي، لوجدنا فرقاً واضحاً بين كيفية تعامل كل من الشعبين مع ظالميهم، والسؤال هو؛ كيف نجح الإيرانيون في التغلب على الشاه البهلولي وأسقطوا عرشه على الرغم من كل الوسائل والإمكانيات التي يتمتع بها في داخل البلاد وخارجها في حين إن الشعب العراقي ظل قابعاً تحت الهيمنة البعثية الجائرة لعقود عدة ولم يستطع الإنتصار على هذه الجرثومة الخبيثة ولم يكتب له النجاح في إسقاطها على الرغم من وجود قيادات دينية صالحة مخلصة جادت بها الحوزة النجفية كالشهيدين الصدرين (رضوان الله عليهما) ووجود قواعد شعبية عريضة موالية لهم؟ وللجواب عن هذا السؤال لابد من معرفة الفوارق بين التجربتين (التجربة العراقية والإيرانية) لكي نضع أيدينا على الخلل، ومن ثمة ندرسها بإنصاف وموضوعية، لكي نستفيد منها في هذه الحقبة التأريخية المهمة من حياة هذين الشعبين المسلمين المكافحين، ولو أردنا أن نشخص أسباب وعوامل انتصار الشعب الإيراني في ثورته الإسلامية المباركة فإن ذلك يعود - في حدود ما نرى - لعدة عوامل أبرزها خمسة عوامل، هي:

1. التحلي بالروح الثورية والنضالية الطافحة التي أستلهما المجتمع الإيراني من مدرسة عاشوراء الإمام الحسين (علیه السلام) ويعود الفضل في ذلك إلى وجود ثلة مخلصة من العلماء والخطباء الواعين والإحياء المكثف للشعائر الحسينية الهادفة التي عمقت في نفوسهم قيم الثورة ضد الظالمين.

ص: 233

2. إتباع المجتمع الإيراني للقيادات الدينية الصالحة وطاعة أوامرها بشكل منقطع النظير، حيث كانوا يطبقون حرفياً كل ما يوجه إليهم من أوامر وإرشادات، فكان الشعب في طاعة كبيرة لمراجعهم الكرام وفي مقدمتهم مرشد الثورة وقائدها الإمام الخميني (قدس سره) التي كانت أوامره تنفذ بسرعة كالنار في الهشيم، حتى في أيام وجوده خارج إيران.

3.التكاتف واللحمة الوطنية والإجتماعية التي أنصهر فيها الشعب ضمن بودقه واحدة لمواجهة النظام البهلوي الظالم.

4.الإتصاف بروح المثابرة والمصابرة والمرابطة وطول النَفَس في تحمل المصاعب والبلاءات، وعدم اليأس من التغير، على الرغم من طول مدة الثورة وتقديمهم الكثير من الشهداء، فظلت الجماهير الإيرانية صامدة حتى حققت إنتصارها الكبير في سنة 1979م.

5.المميزات القيادة الفريدة التي كانت تتمتع بها شخصية الإمام الخميني الراحل (قدس سره) حيث كان يمتلك (كاريزما) قلّ نظيرها في العالم، نضراً لارتباطه العميق بخالقه تعالى، ولإخلاصه في أداء رسالته الإسلامية، مما جعل القلوب والنفوس تهوي وتنجذب إليه بشكل غريب، فجعل (قدس سره) الشعب الإيراني المسلم يذوبون فيه حباً ويطيعونه بشكل كبير.

وهذه المميزات والعوامل في التجربة الإيرانية لم يكن الشعب العراقي فاقداً لها ولكن كل ما في الأمر إنه تحلى بها بنسب متفاوتة ومن جهة أخرى إن هذه العوامل لم تجتمع كلها دفعة واحدة في زمن واحد، لكي يُحدث الشعب حالة التغيير والإصلاح، فإن وجود هذه العوامل مجتمعة في زمان واحد يمكن أن تأدي دورها الفاعل، وتحقق عناصر قوة تمكن الشعب حينئذ من الإنتصار على ظالميه، ولكي نقرب الفكرة نضرب مثالاً للتوضيح، عندما اندلعت الانتفاضة الشعبانية المباركة

ص: 234

ضد الطاغية صدام فيسنة 1991م أفلح الشعب في إسقاط العديد من المحافظات، وكاد أن ينتصر بشكل نهائي، ويقطع رأس الأفعى، لولا فقدان سبب رئيسي مهم، وهو عدم وجود قيادة صالحة وموحدة تقود الثورة وتوصلها إلى بر النصر(1)، فالجماهير الثائرة كانت تواقة وبشغف إلى وجود قيادة دينية تمسك بزمام الانتفاضة، إلا أن ذلك لم يحصل للأسف الشديد، سوى يوم واحد قاد فيه الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) الانتفاضة ثم اعتقل بعدها في اليوم الثاني .

بالإضافة إلى ذلك فإن الإدارة الأمريكية منعت من مساندة الانتفاضة من خارج العراق، فبقي الثوار يقاتلون بصمود وبسالة بالرغم من ذلك، وبالرغم من قلة الإمكانيات الغذائية والعسكرية، على أمل مجيئ قيادة تمسك بزمام الأمور، فظلت تحت رحمة الأحداث التي صنعتها فيما بعد يد السلطة التي لملمت جراحها وانقضت على الثائرين ببركان من الغصب الهائج فاسقط في يد الثوار واحترقت ورقة الانتفاضة ونكل بأصاحبها أشد التنكيل وأبشعه.

إذن فالشعب العراقي لديه طاقة ثورية هائلة والدليل على ذلك إنه تحدى أعتى طاغية عرفه العصر الحديث، ولم يتهيب ترسانته المسلحة المعروفة ببطشها وفتكها، وللشعب أيضاً كما يبدو من تاريخ الانتفاضة الشعبانية طاعة وولاء كبيرين للقيادة الدينية وللحوزة العلمية ومراجعها وله أيضاً همة كبيرة ويمتلك روح المثابرة على الرغم من الصعوبات والأزمات التي مر بها أبان الحصار الإقتصادي الخانق، ولكن العنصر الأساسي الذي فُقد آنذاك هو وجود القيادة الصالحة، ولو تحقق هذا العنصر لقلب المعادلة وانتصرت الانتفاضة.

ص: 235


1- - نعم فُسح المجال للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بقيادة الانتفاضة وإدارة أمورها في النجف الأشرف، والتفت جموع الثوار حوله لكن عامل الزمن لم يسعفه للأسف الشديد، لأنه زاول مهام القيادة ليوم واحد فقط، ولولا ذلك لقلب الطاولة على النظام الحاكم كما يقال، وللمزيد من التفاصيل في هذا المجال راجع خطابات المرحلة للمرجع اليعقوبي.

ومما يجدر الإشارة إليه أيضاً إن حالة الوعي الديني والحس الرسالي لم يكن عند جميع الثوار على درجة واحد وبالشكل المطلوب، ففي حادث مؤسفة حصلت أيام الانتفاضة سجلها مرجعنا اليعقوبي بحكمه شاهد عيان عليها، يكشف من خلالها مستوى وعي الأمة الديني والرسالي، حيث قال (دام ظله): (أتذكر إننا في أيام الانتفاضة الشعبانية المباركة عام 1991م كان الصحن الحيدري الشريف مليئاً بالناس المتحمسين الذين يلوحون بالسلاح فرحين بالنصر ومتهيّئين لأية مواجهة، والحناجر تصدح بالشعارات، ولكن حينما يرتفع صوت المؤذن بالصلاة لم يكن يحضر صلاة الجماعة خلف سيدنا الشهيد الصدر (قدس سره) في داخل الروضة المطهرة إلا عدد الأصابع فهل يمكن أن نعتبر هذا نجاحاً حقيقيا؟! وأنا لا أريد أن أوبخ أولئك الثائرين بقدر ما أريد إلفات النظر إلى عناصر التربية المتكاملة بينما يقيم الإمام الحسين (علیه السلام) صلاة الظهر جماعة يوم عاشوراء وسط صليل السيوف واصطكاك الأسنة وأشلاء الشهداء، وفي معركة صفين وفي ليلة الهرير بالذات التي شهدت اعنف المعارك يفتقد جيش الحق إمامهم أمير المؤمنين (علیه السلام) وبعد البحث وجدوه يصلّي والحرب مشتعلة فقال له مالك الأشتر: أفي مثل هذا الحال تنشغل بالصلاة يا أمير المؤمنين؟ قال: (علیه السلام) وهل قاتلناهم إلا من أجل الصلاة؟).(1)

وهنا قد يقول قائل: إن العراق شهد بوجود قيادات دينية صالحة وواعية وذات (كاريزما) قيادية مميزة جادت بها الحوزة النجفية، أمثال؛ السيدين الشهيدين الصدرين (قدس الله سريهما)، فلماذا لم يكن النصر النهائي حليفاً لهما في إسقاط طاغية العراق؟، والجواب؛ إن السبب وراء ذلك هذه المرة هو عدم وعي الأمة لمتطلبات المرحلة آنذاك بشكل كافي، وعدم وجود الولاء والطاعة المطلقة

ص: 236


1- - خطابات المرحلة، ج4، خطاب: (الأمة في تكامل فمتى يلحق بها المسؤولون).

لهما، بل إن بعض شرائح المجتمع المهمة وقفت ضدهما، ممن ينتسبون للصف الشيعي بل الحوزوي،فضلاً عن باقي الصنوف الأخرى، لذا (وصل السيدان الشهيدان الصدران الأول والثاني (قدس الله سريهما) في ذروة المواجهة مع النظام الطاغوتي إلى نتيجة واحدة وهي قلة الواعين المخلصين).(1)

والأن يستطيع الباحث البصير أن يمعن النظر ليكتشف أي العوامل يفتقدها الشعب العراقي هذه الأيام مما جعلته يصبح على ما هو عليه من تعاسه وتردي، على الرغم من وجود قيادة صالحة وواعية ومخلصة ووجود ظرف أمني مناسب جداً، والدولة تحكم باسم الديمقراطية، بل أن السلطة بيد أغلب الكتل الشيعية، والشارع العراقي حسه وولائه ديني، إذن أين تكمن المشكلة ؟!

ص: 237


1- - يُنظر ج5، ص396 (دور السيد الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) في الانتفاضة الشعبانية) (بتصرف).

خصائص ومميزات المجتمع العراقي

في الميزان

قال المرجع اليعقوبي (دام ظله) معلّقاً على الدراسات التي صدرت قديماً وحديثاً والتي تناولت دراسة طبيعة المجتمع العراقي، وتحليل الشخصية العراقية، بعدما أطلع على خلاصة محاضرة ألقاها عالم اجتماع عراقي مغترب في ندوة أقيمت في لندن بعنوان (التحولات البنيوية وتأثيرها على الشخصية العراقية):

(صدرت الكثير من الكتب والدراسات منذ عقود من الزمن وإلى الآن عن طبيعة المجتمع العراقي والشخصية العراقية وتحليلها وتشخيص العناصر المؤثرة فيها.. وأول ملاحظة تسجل على مثل هذه الدراسات وجود نقاط ضعف كثيرة منها:

1- إنها مبنية على الاستقراء وهو ليس تاماً وقد يهمل الباحث في دراسته شرائح بأكملها فلا تكون النتائج دقيقة أي لا يمكن تعميمها وإنما هي تصح على شريحة معينة.

2- إن تحليلاتها ونتائجها تتأثر بنفسية الباحث وتوجّهاته حتى لو حاول أن يكون موضوعياً، فإذا كان الكاتب علمانياً - كما هو الغالب - اتهم الظاهرة الدينية وألقى اللوم على المؤسسة الدينية، وإن كان فئة عانت الإقصاء من الحكم، حمّل السلطات المسؤولية، وقد يعيش عقداً باتجاه ما فتؤثر على كتابته.

3- إن بعض هذه الدراسات مدفوعة الثمن من قبل جهات معينة فيضطر الباحث إلى مناغمتها والانسجام معها ويصوغ البحث بشكل يدفع إلى اعتناق الأفكار والتصورات التي تريدها تلك الجهات.

ص: 238

4- إنها لا تنطلق من الواقع أحياناً، وإنما يطبق ما يشبه المعادلات الرياضية، فيقول: إن الشعب العراقي ما دام قد عانى من بطش وقسوة وديكتاتورية فإنه سيكون عنيفاً صِدامياً إقصائياً خائفاً كئيباً جنائزياً ونحوها.

والحال أن الظروف المعاشة ليست هي الوحيدة التي تصنع شخصية الإنسان وتؤثر فيه، فهناك العقيدة والقيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية النبيلة وغيرها، فقد ولد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعاش في مجتمع جاهلي حوى المنكرات جميعاً ثم كان أفضل المخلوقات وأكملها، وهناك الكثير من الصالحين الذين نشأوا في مجتمعات فاسدة). (1) ثم ذكر سماحته (دام ظله) النقاط الايجابية لهذه الدراسات، إذا صدرت من باحثين متخصصين ومحايدين، حيث قال: (ورغم نقاط الضعف المذكورة فإن هذه الدراسات مفيدة خصوصاً إذا صدرت من باحثين متخصصين محنكين لأنها تساعد في إلفات النظر إلى ظواهر إيجابية بناءة عديدة ينبغي تدعيمها وترسيخها، وظواهر سلبية هدامة يجب مكافحتها والقضاء عليها).(2)

كما نبّه (دام ظله) إلى ضرورة عدم تعميم الخصائص والصفات التي توصل لها الباحثون ضمن دراستهم لطبيعة المجتمع العراقي، وأنماط الشخصية العراقية، وفق استقراءات واستحسانات معينة، وإن الكثير من هذه الخصائص التي نُسبت للشعب العراقي يمكن أن تنسب إلى غيره من الشعوب نظراً لما تمر به من ظروف، حيث قال (دام ظله): (إن كثيراً من الخصائص التي تُنسب إلى الشخصية العراقية لا تختص بها، بل يتصف بها كل شعب يتعرض لما يتعرض له الشعب العراقي، مثلاً

ص: 239


1- خطابات المرحلة، ج6،ص275،خطاب بعنوان: (تقييم الدراسات الاجتماعية عن الشخصية العراقية).
2- - المصدر نفسه.

ظاهرة العنف أو ما يسمى بالحواسم والفرهود أو الفتنة الطائفية ونحوها، موجودةفي المجتمعات التي يعدونها راقية، فقد استمرت الحروب الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت في أوربا منذ قرون إلى الآن، وتوجد أحياء في العاصمة الأمريكية واقعة تحت سيطرة العصابات والجماعات المسلحة ولا تستطيع قوات الشرطة الدخول إليها، فضلاً عن بسط الأمن فيها، وفضائح الفساد المالي والإثراء من المال العام في الغرب عموماً لا تكاد تنقطع وتجاوزت المليارات وأدّت إلى إفلاس مؤسسات ضخمة، ونفوذ المافيات في عدة دول من الواضحات وكذا تجارة المخدرات وغيرها. هذا غير ما سبّبوه من إزهاق ملايين الأرواح وتدمير الممتلكات في عمليات الغزو والاحتلال والإبادة التي عمّت بني البشر، وعلى العكس من ذلك فإن قيماً نبيلة ومبادئ سامية تتجسد في الشخصية العراقية كانت سداً منيعاً حال دون حصول المزيد من الانهيار والتردي الذي خطّط لحصوله في ظل الظروف التي أقحم فيها الشعب العراقي، نعم توجد خصوصيات في الشخصية العراقية إيجابية أو سلبية، بعضها على نحو العلل والأسباب، وبعضها على نحو المعلولات والآثار والنتائج.

ومنها: على المستوى الأول، شدة الصراع والتناقض الذي يعيشه بداخله بين داعي الدين والإيمان والمبادئ التي آمن بها وتوارثها وتربى عليها وهي التي تدفعه بقوة إلى السمو والكمال، وداعي النفس التي تريد الاستئثار والانتقام والتسلط وحب الشهوات، بينما أكثر الأمم الأخرى لا يوجد لديها الوازع الأول فتنساق تلقائياً وراء الثاني ولا تجد مشكلة في ذلك.

ومنها: على المستوى الثاني، إن مصدر ما حل بالعراقيين من جهل وفقر وقتل ودمار وكوارث هي قياداته فقد ابتلوا عبر التاريخ بزعامات فاسدة متخلفة ظالمة حمقى سواء على صعيد الزعامات الاجتماعية - كرؤساء العشائر عدا من عصم

ص: 240

الله تعالى - أو سياسية فقد سوّدت السلطات وجه التاريخ الماضي والحاضر بأفعالهاالشنيعة، وحتى الدينية فإن الكثير من الزعامات الدينية تطلب الدنيا باسم الدين المقدس وهي لا تتورع عن ارتكاب الكبائر لتحقيق مآربها والعياذ بالله).(1)

أما عالم الاجتماع العراقي المعروف الدكتور (علي الوردي) فقد ذَكَر جملة من الخصائص والمميزات التي يتصف بها المجتمع العراقي، نذكر بعضاً منها بغض النظر عن قبولها أو رفضها، وهي:

1. الكرم البدوي كالعناية بالضيوف وإكرامهم وتهيئة الطعام الجيد لهم.

2. التماسك العائلي القوي، ويمتاز أفراد العائلة بالتضامن وقوة الرابطة والوقوف مع بعضهم البعض أثناء الأزمات والمشكلات. فالعائلة تشعر كأنها عشيرة صغيرة تجاه غيرها. وكل عار أو فخر يصاب به أحد أفرادها لابد أن يصيب بقية الأفراد فيها.

3. ظاهرة الإزدواجية في الشخصية العراقية إزدواج الشخصية ظاهرة اجتماعية موجودة في كثير من المجتمعات البشرية، وهي قد تكون ضعيفة أو قوية تبعاً لتفاوت الظروف في كل مجتمع. وسببها وقوع المجتمع تحت تأثير نظامين متناقضين من القيم ، فيضطر بعض الأفراد من جراء ذلك إلى الإندفاع وراء أحد النظامين تارة، ووراء الآخر تارة أخرى. فهم يناقضون أنفسهم دون اكتراث ظاهر. والفرد العراقي يعاني من هذه الظاهرة بشكل كبير ، فهو يهيم بالمثل العليا والدعوة إليها في خطابه ومجادلاته وكتاباته ، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس بعداً عن تلك المثل في سلوكه وواقعه.

ص: 241


1- - المصدر نفسه.

4. العراقيون يميلون إلى الجدل والولع به، وأن النزعة الجدلية قوية في الشخصية العراقية . ولعلها أقوى من أي بلد عربي أو إسلامي آخر. كما أن لها جذورها التاريخية، حتى أن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) قد قال عنهم أنهم ملؤوا قلبه قيحاً، وليس جميع العراقيين على درجة واحدة في هذا الإزدواج.كما انتقد الدكتور (علي الوردي) ظاهرة التقليد التي كثيراً ما يقع فيها الباحثون والأكاديميون في تفكيرهم وأسلوب تنفيذهم لبرامجهم أو آرائهم، فيقول: (فنجد أحدهم مثلاً يدرس علم الإجتماع في جامعة أجنبية فيرجع إلى مجتمعه يريد أن يدرسه في ضوء ما درس هناك حرفياً، ناسياً الفرق بين مجتمعه والمجتمع الذي درس فيه، إنه قد يظن أن الظواهر التي درسها هناك "قوانين عامة" تصدق على جميع الشعوب في العالم من غير تفريق).(1)

ونذكر فيما يأتي جملة من المميزات الأخرى للمجتمع العراقي، والتي يتصف بها البعض دون البعض الآخر، بطبيعة الحال، فلا يمكننا تعميم هذه الصفات على جميع شرائح المجتمع العراقي، ولكن يمكن أن تكون بعضها أكثر انتشاراً من غيرها، وهذه الصفات نذكرها بحسب فهمنا القاصر وهي قابلة للنقاش والتحليل، وهي:

1. كثرة التخاصم وروح التنازع والتسقيط المتبادل والمعاداة حتى داخل الصف الواحد.

2. كثرة التبرم واللوم والشكوى.

3. روح المغالبة.

4. عدم التحلي بروح المطاولة والمثابرة، والثبات على الموقف، ومن نتائجها الرضا بأنصاف الحلول.

ص: 242


1- - يُنظر دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص20.

5. الجهل بمعرفة القادة الحقيقيين القادرين على حل المشكلات والأزمات، والتشبث بمن هم ليسوا أهلاً للقيادة.

6. سرعة الانغماس بالملذات الدنيوية والتلوث بذنوب الرخاء.

7. ظاهرة الانبطاح والمجاملة للخصوم الطائفيين والسياسيين الانتفاعيين.1. ظاهرة التعميم (أي تعميم صفة شخص ما على جميع من في شاكلته ووظيفته دون استثناء).

2. سرعة نسيان المواقف والأحداث التأريخية التي يمر بها الشعب مما يسبب عدم الحذر منها مستقبلاً.

3. شدة التعصب والولاء للجهة التي ينتسب إليها أحدهم وهذه الصفة من صفات الجاهلية لدرجة أن يرون شرارهم أفضل من خيار غيرهم.

4. عدم الاستفادة من التجارب السابقة والسقوط في نفس الأخطاء السابقة.

5. الانخراط المتسرع المتأثر بالسلوك الجمعي الذي ينافي الثبات على القيم الصالحة وتعقل الأمور قبل الولوج فيها.(1)

6. سرعة تصديق الإشاعات والاكاذيب وعدم التحقق والتثبت مما يتناقله الناس.

7. إهمال وتهميش المبدعين وسرقة إبداعهم أو السخرية منهم أحياناً.

8. الخجل من إظهار الهوية الدينية أو المذهبية وممارسة طقوس أمام الآخرين.

9. احتقار الهوية الوطنية، وعدم الشعور بالاعتزاز بالانتماء الوطني والقومي،

ص: 243


1- - وهذا ما يترجم التحول المتكرر والكثير في أسماء الأشخاص والمعالم المختلفة في البلاد عبر الأزمنة المتعاقبة، والحكومات والتيارات المتسلطة، كأسماء المقاهي مثلاً، فتغيرت أسمائها من مقهى (غازي) الى مقهى (الشعب) ثم الى مقهى(العروبة) ثم الى مقهى(بركات العباس) أو مقهى (الخلفاء) وحَفَل سجل المواليد بتغير أسماء الأشخاص من (فيصل) إلى (كريم) الى (ناصر) إلى (صدام) إلى (باقر( ونحو ذلك.

10. بيع الذمم مقابل الأموال وعروض متع الدنيا الرخيصة والتنازل عن القيم الدينية والمبادئ الانسانية بسهولة كما حصل في الانتخابات المتكررة.

تقديس الذوات وعبادة الرموز الشخصية، سواء أكانت دينية أو سياسية او عشائرية أو غير ذلك، وفي هذا الإطار نذكر استغراب المرجع اليعقوبي حيال انتخاب الشعب لنفس الفاسدين، واتباع القيادات الدينية المهملة لمصالحهم، الذي لعلهنتج بسبب هذه الصفة السيئة، حيث قال (دام ظله): (الغريب هو انصياع الأغلب لتلك الزعامات والانسياق ورائها من دون عذر أو مبرر، بل حتى لو أعطوا حق الاختيار فإنهم يختارون نفس الظالمين والمقصرين والفاسدين، ونتائج الانتخابات – في عصر الديمقراطية المزعوم- شاهدة على ذلك، هذا على صعيد السياسة، أما على صعيد الزعامة الدينية فالأمر كذلك إذ أن اختيار مرجع التقليد بأيديهم، ومع ذلك يختار الأكثر أتباع من لا يعبأ بهم ولا ينظر إليهم ويصنعون لهم قداسة مزيفة ثم يصدقونها ويتمسكون بها ويتركون المرجعيات الرسالية المخلصة لله تعالى ولهم حتى تمضي إلى ربها شاهدة شهيدة).(1) يقول أحد الباحثين: (العراقيون مولعون إلى حد الهوس في صناعة الرموز القيادية ومن ثم عبادة الرمز الذي يصنعونه . وقد اثبتت الوقائع بأن العراقيين لا يمكن أن يعيشوا من دون رمز، بل انهم يتفننون في خلق الوسائل التي من شأنها ان تصنع الرموز،

والرمز المعني هنا هو اختيار شخصية معينة تنسب اليها صفات أو اعتبارات معينة بما يجعلها مؤهلة للقيادة او الزعامة . وتختلف الصفات او الاعتبارات المختارة حسب طبيعة الظرف المحيط وطبيعة الفئة التي تخلق الرمز . فقد تكون هذه صفات شخصية كالشجاعة والذكاء والحكمة والحنكة , أو قد تكون قدسية كالتدين والمكانة

ص: 244


1- - خطابات المرحلة، ج6،ص275،خطاب بعنوان: تقييم الدراسات الاجتماعية عن الشخصية العراقية.

الدينية أو معنوية كالأصل والزهد ... إلخ، أما عبادة الشخصية فهي تأتي من المبالغة في اطلاق الصفات على شخصية الرمز والتمادي في مديحه والتملق المفرط له . وعادة ما يكون الرمز هو رأس الدولة , لكن في حالات معينة يمكن ان يكون غير ذلك, كأن يكون رئيس لحزب او زعيم لحركة او قائد لفئة من الناس).(1)1. تجذّر مُخلفات ومورثات حكومة البعث المقيتة في بعض النفوس المريضة، ونذكر فيما يأتي أبرزها:

أ- الانصياع للقيادة المتشددة والمتزمتة بآرائها التي تضرب بيد من حديد لمن يخالفها، وحب القائد المتفرد بالسلطة والمهيمن بشخصيته عليها، الذي يطلق عليه لقب (القائد الضرورة) والرضا بقراراته دون تفكير ومناقشة والتصفيق له ولحزبه، وعدم الرضا بالتعددية القيادية والحزبية.(2)

ب- ظاهرة الاستسلام بسهولة للذل والهوان، والذي يُصطلح عليه بظاهرة (التدجين).

ت- انتشار المحسوبيات وظاهرة الوساطة في دوائر الدولة.

ث- عدم الشعور بالغيرة الوطنية والقومية.

ج- الفوضوية وعدم التخطيط في انجاز الأعمال.

ح- تعاطي الرشوة من قِبل موظفي الدولة.

خ- الاتكالية وعدم الشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية.

ص: 245


1- - الكاتب وسام الشالجي.
2- - ولعل هذه الصفة هي التي جعلت الجماهير تحمل سيارة الملك فيصل الثاني احتفاءا بزيارته لإحدى المدن العراقية في 1953ثم تخرج جموعها تهزج للثورة في 14 تموز هاتفة (عمال السكك فدوه لبن قاسم) ثم تسكن مذعورة أمام رشاشات شراذم الحرس القومي في 1963، ثم تهتف لعبد السلام ولعودة البعث في 1968… وهكذا.

د- احتقار كل شريحة من المجتمع الشرائح الأخرى المخالفة لها في الدين أو المذهب أو القومية أو العشيرة، والاستهزاء والسخرية بمعتقداتهم وعاداتهم.

ذ- الاستهانة بالمبدعين وإهمال انجازاتهم أو ابتكاراتهم بدلاً من تشجيعهم على ذلك.

أما الصفات الطيبة التي يمتاز بها المجتمع العراقي فهي كثيرة، ويأتي في مقدمتها الكرم والغيرة والنخوة والشهامة، فإن (العراقيين مشهورون بهذه الصفات وهم يتميزون بها على سائر شعوب العالم، وترتبط هذه الصفات في الواقع بصفة الكرمالتي يتمتع بها أغلب العراقيين، فالعراقي لا يتردد أو يتأخر في الاحسان للفقير ومساعدة المحتاج واطعام الجائع ونصرة الضعيف والتبرع لأعمال الخير والعطف على الصغير . ليس هذا فقط بل إن الأمر يمتد لجميع شؤون الحياة , فاذا رأى العراقي على سبيل المثال امرأة تحمل اغراض ثقيلة بادر مسرعاً إلى مساعدتها حتى دون ان تطلب ذلك . واذا صعد الى الباص رجل مسن او امرأة سارع الشبان الى القيام وترك المجال لجلوسهم . وهناك مثل عراقي قديم يطلق على من يحمل هذه الصفات هو: (اخو هدله). وفي ظروف ما بعد عام 2003 الاستثنائية وما صاحبها من أعمال عنف وتفجيرات ارهابية حصلت الكثير من القصص التي تعبر عن هذا الواقع . فعند حصول اي تفجير إرهابي نجد إن العراقيين يهبّون على الفور إلى مساعدة الجرحى, بالرغم ما في ذلك من مخاطر ويسارعون الى نقلهم الى المستشفيات بكل وسيلة متوفرة والتبرع لهم بالدم إن الزم . وهناك كثير من القصص بهذا الشأن, ومن هذه القصص قيام الشاب عثمان من أهالي الاعظمية بإنقاذ ستة اشخاص سقطوا في نهر دجلة في حادثة جسر الائمة ببغداد ومن ثم

ص: 246

غرقه في المرة السابعة حين حاول انقاذ امرأة سمينة مما يدلل بوضوح على صفة الشهامة التي يتمتع بها العراقيين) .(1)

وإن صفة الكرم والسخاء يعدان من صفات الشعب العراقي البارزة، حيث احتل المركز الأول من بين دول العالم في هذا المجال (على الرغم من الظروف الاستثنائية والعنف والحروب، إلا أن العراق هو البلد الأكثر سخاء في العالم مع الغرباء المحتاجين، وفقاً لمؤشر عالمي جديد للعمل الخيري، وفي استطلاع عالمي أشرفت عليه المؤسسة الخيرية (CAF) وللمرة الأولى منذ بدأت CAF الاستطلاع في عام 2010 قال: إن أكثر من نصف المشاركين في 140 بلدًا شملهم الاستطلاع إنهم ساعدوا غرباء من البلدان التي تضررت بشدة من الكوارث والحروب،

وعلى الرغم من معاناة عدم الاستقرار والعنف، حافظ العراق للمرة الثانية على المرتبة الأولى من حيث مساعدةالغرباء، وحلت ليبيا مع الصراع الداخلي الخاص بها، في المركز الثاني على القائمة هذا العام، وحلت الكويت في المركز الثالث بينما الصومال المتورطة في حرب أهلية لمدة 25 عامًا حازت المركز الرابع.

وعلى الرغم من الكوارث والمصائب التي يمر بها الشعب العراقي إلا أن ذلك لم يثلم لديه روح الكرم المجبول عليه العراقيون، ولنا في حصار التسعينيات مثال حي، فما دخل ضيفٌ بيتا، وقت الغداء او العشاء، إلا ويقدم له الطعام، حتى لو لم تأكل العائلة كلها بعدئذ، وهذا إنموذج الكرم العراقي المتعارف عليه شعبيا، والذي أكده إستطلاع مؤسسة كلوبال الأمريكية، فبرغم الفساد الذي أرمض العظم مبددا ثروات العراقيين، في جيوب ثلة متسلطة، والإنفجارات التي أودت بحياة الآلاف وقطعت أرزاق مئات الإلوف، والعنف المستشري، في البلاد، يكاد يشظيها، وهبوط أسعار النفط، بالتزامن مع الحرب على "داعش" لتحرير الاراضي العراقية الطاهرة التي إحتلتها، إلا أنه ما زال الشعب الأكثر سخاء في العالم مع الغرباء والمحتاجين،وما زال العراق يتقدم في كل إستطلاع وإستفتاء يجرى بشأن الكرم.

ص: 247


1- - الكاتب وسام الشالجي.

وقد نشرت وكالة الانباء والاخبار العالمية (Reuters) يوم 24 تشرين الاول 2016، تحت عنوان: "العراقيون اكرم الناس للغرباء" ناشرة مع نتائج الاستفتاء، صورا لسوق شعبي عراقي، واللافتات التي علقها أكثر من بائع، كاتبا عليها (من لا يمتلك نقودا، فليأخذ ما يحتاجه ويذهب)، وهذا ما أعادت التذكير به "مؤسسة تومسون" اللندنية، قائلة: "على الرغم من أن العراق تمزقه الحروب والإحتقانات الطائفية، إلا أن شعبه الأكثر سخاء في العالم تجاه الغرباء المحتاجين" مؤكدة: "مع كل الويلات والانقلابات والحصار والتعسف منذ مائة عام ومع كل الشر الذي يأتيه من دول الجوار ومن غير الجوار.. عربا و كردا، يبقى الشعب العراقي عزيزاً كريما حتى مع الغرباء؛ لان الاصالة نمت في جيناته منذ اقدم الازمان.. ولم تنقطع عندما عانى ظلام العثمانيين، خمسة قرون، بل بقي العراقيون من اكرم الشعوب". وتضيف التقارير الدولية: "على الرغم من كل المعاناة و عدم الاستقرار والعنف، بقي الشعب العراقي في المرتبة الاولى من حيث مساعدة الغرباء". إذن يحق لكل العراقيين.. عربا وكوردا أنيفخروا بنكتة "الإطفاء" وحكاية "النعجة".. يتشرفون كلهم، بجنون السخاء الذي فطرهم الرب عليه، حتى عد "الكرم شجاعة" في العراق.(1)

ص: 248


1- منقول من شبكة الانترنت الالكترونية.

الاستضعاف الإيجابي

نقصد بالاستضعاف الإيجابي هو الاستضعاف الذي يقع على الفرد أو المجتمع فيأتي إليهم بمردودات إيجابية وهذه المردودات هي حصول حالة إيمانية وتكاملية، في نفوس المستَضعَفين، بسبب البلاء الذي يقع عليهم من قِبل المُستَضعِف، كالتحلي بالصبر المحمود، والرجوع إلى الله تعالى، والافتقار والدعاء والتضرع إليه، بالإضافة إلى سمات تكاملية أخرى كغفران الذنوب ورفع المقام والاعتماد على النفس والشعور بالمسؤولية، ومعرفة قيمة نعمة الرخاء، وحصول التكاتف الجماعي والوحدة الإجتماعية وغير ذلك. وهذه السمات والمردودات التكاملية تفرزها قهراً امتحانات الشدة والبلاء، في حين إن المجتمع قد يسقط في امتحانات الرخاء، بسبب الركون إلى الغفلة والانخداع بزخارف الدنيا ومباهجها الخداعة، وهذا ما أكدت عدة آيات قرآنية مباركة، كقوله تعالى:

* (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

* (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ).

* (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ).

* (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).

ص: 249

كما أشار المرجع اليعقوبي في خطاب له إلى ايجابية البلاء على الناس حيث جاء فيه: (.. إن الله تعالى يخبر عن غالب البشر أنهم حينما تعود إليهم حالة الرخاء والدعة فإنهم ينسون حالة الحاجة والاضطرار [فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ]، وقال تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ، أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ] وحينئذٍ إذا كانت النعمة سبباً لشقاء الإنسان سيكون من المناسب بحال الإنسان الرضا بحياة البلاء والمشقة وبهذا نفسر كلام الإمام الصادق (علیه السلام): (لن تكونوا مؤمنين حتى تكونوا مؤتمنين وحتى تعدوا نعمة الرخاء مصيبة، وذلك أن الصبر على البلاء أفضل من الغفلة عند الرخاء) وورد: (إذا رأيت ربك يوالي عليك البلاء فاشكره) وورد: (إذا رأيت الله يتابع عليك البلاء فقد أيقظك). (1)

وهذا لا يعني أن على الإنسان أن يطلب من ربه البلاء لما فيه من الايجابيات التي ذكرناها، فهذا مخالف لما دعت إليه الشريعة السمحاء التي أمرتنا بعدم تمني البلاء أو طلبه، بل ينبغي على العبد أن يسأل من الله تعالى العافية دائماً، ففي الحديث: (سلوا الله العافية من جهد البلاء، فإن في جهد البلاء ذهاب الدين) وفي حين حل به البلاء فعلى العبد حينئذ الرضا والتسليم لخالقه.

وهناك نوعان من البلاء والاستضعاف الذي يقع على الناس، أما الاستضعاف الأول فهو الاستضعاف الذي يقع على المؤمنين من طرف الظالمين المتسلطين، وقد

ص: 250


1- - خطابات المرحلة،ج5، خطاب رقم (135) بعنوان: (أسباب البلاء الذي يحل بالعراقيين ونتائجه).

بَشَّر الله تعالى المؤمنين في هذه الحالة بالنصر والغلبة ووراثة الأرض بالإضافة إلا أن المصاعبوالابتلاءات بسبب وجود الظالمين ستزيد ذلك من طاقتهم في التحمل والصبر والمثابرة على دفع هذا الظلم والاستضعاف المفروض، قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)، أما إذا كانت السلطة بيد المؤمنين الواعين المخلصين فهنا ينبغي عليهم أن يسعون بأنفسهم لعمارة الأرض وعمل الصالحات، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) وعليهم أيضاً أن يمارسوا ما أطلقنا عليه ب(الاستضعاف الايجابي مع الكافرين) فيجب عليهم أن لا يمكنوا الظلمة أو الكفّار من السيطرة على إدارة دفة الحياة، وسيعون أن لا يمكنوهم من أي نوع من أنواع الهيمنة سواء الهيمنة الدينية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، بل يجب أن تكون يد المسلمين هي العليا، ورد عن الإمام الصادق(علیه السلام): (إني لأسارع إلى حاجة عدوي خوفاً أن أرده فيستغني عني) وورد عن الإمام الكاظم (علیه السلام): (إن خالطت الناس فإن استطعت أن لا تخالط أحدا منهم إلا من كانت يدك عليه العليا فافعل).

ولا يعني هذا أن نعاملهم بقسوة ونمنعهم من حقوقهم، بل على العكس تماماً، فلابد أن نعرض لهم سماحة الإسلام ورأفته ونتعامل معهم بأخلاق حسنة، ونعطيهم حقوقهم كاملة وفق المساحة التي سمح لنا الإسلام بها، ونمع عنهم الموارد التي أمرنا الاسلام بمنعها عنهم، ليحسوا بعزة الايمان ويحسوا بالذل الذي جلبه الكفر لهم، وذلك لكي ننقذهم من الظلم والكفر الذي هم فيه، الذي عبّر عنه القرآن الكريم بأنه هو الموت حقيقة، حيث قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) وفي نفس الوقت يجب أن تكون

ص: 251

مقدرات الدولة بيد المؤمنين وتحت تسلطهم ويمنعون الكافرين من ذلك، قال تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا).

وسنذكر فيما يأتي أبرز الموارد الفقهية التي أمرت الشريعة الإسلامية بوجوب منعها عن الكافرين أو بوجوب أخذها منهم، لأجل حصول الغرض الذي ذكرناه، وهذه الموارد جاءت في أبواب فقهية متعددة ك(الربا) و(الشفعة)و (الارث)و (الزواج) و(وجوب إعطاء الجزية) و(الصيد) و(الذباحة) و(حرمة بيع السلاح ) و(المنع من اعطاءه الحقوق المالية الشرعية) و(تولي القضاء) و (كفارة القتل)، وفيما يأتي لبض تفاصيلها:

1. لا يجوز إعطاء الكافر ولا المخالف من سهم الفقراء ولا غيره.

2. الكافر الحربي لا حرمة لماله.

3. جواز التعامل مع الكافر بالربا (وفقاً لرأي مشهور الفقهاء).(1)

4. لا شفعة للكافر على المسلم. (2)

5. لا يجوز للمسلمة أن تتزوج الكافر، وكذا لا يجوز للمسلم أن يتزوج بغير الكتابية من أصناف الكفار، وأما الكتابية - أي اليهودية والنصرانية التي تدين

ص: 252


1- - أما سماحة الشيخ المرجع اليعقوبي (دام ظله) فيبدئ رأيه المخالف للمشهور في هذه المسألة حيث جاء في رسالته العملية (سبل السلام) الخاصة بالمعاملات، مسألة رقم(29): (تحرم المعاملة الربوية مطلقاً حتى مع غير المسلم وقد استثنى المشهور جملة موارد منها: بين المسلم والكافر حربياً كان أو ذمياً وبين الوالد وولده وبين الزوج وزوجته والظاهر أنها ليست استثناءات وإنما هي موارد لجواز أخذ الزيادة لعناوين خاصة بموردها وليس مطلقاً، فيجوز أخذ الزيادة من الكافر الحربي ومن الكافر الذمي لأنه يرى صحة هذه المعاملة فتجري فيه قاعدة الإلزام، أما بين الوالد وولده، أو الزوج وزوجته فليست مطلقة وإنما حينما يكون أخذ هذا المال متعارفاً ولا يحتاج إلى إذن لأن (جيبهم واحد) كما يقال في لغة العامة).
2- - إذا باع أحد الشريكين حصته على ثالث كان لشريكه أخذ المبيع بالثمن المقرر له في البيع، ويسمى هذا الحق بالشفعة.

بالتوحيد - فالأظهر جواز تزويجها متعة بل وكذلك دواماً اذا لم تتوفر لديه زوجة مسلمة ولم يكن عازفا1. عن المسلمات والاحوط تركه، ولا يجوز للمؤمن أو المؤمنة نكاح بعض المنتحلين لدين الإسلام المحكومين بالكفر، كالخوارج والغلاة والنواصب دواماً ومتعة.

2. لا تحل ذبيحه الكافر وان كان كتابيا. الا ان الظاهر حلية ذبحه اذا ذكر الله كما يذكره المسلم.

3. لا يحل صيد الكافر ومنه المعلن بعداوة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم.

4. لا يرث الكافر من المسلم وإن ورث المسلم الكافر.

5. يحرم بيع السلاح إلى اعداء الدين حال مقاتلتهم مع المسلمين, بل حال مباينتهم معهم, بحيث يخاف منهم عليهم, بل يحرم اية نحو من المساعدة ما دام هذا الخوف قائما, كفارا كانوا اومسلمين. لايختلف في الخوف بين ان يكون عسكريا أم ثقافيا أم اجتماعيا أم اقتصاديا. ولايبعد التعدي من اعداء الدين الى أي شخص أو جهة, يخاف منها كذلك على الايمان أو المؤمنين, بما فيهم اللصوص وقطاع الطرق, أو الشركات المتاجرة بالحرام او الممارسة للاجرام.

6. جوائز الظالم حلال اذا كانت من ماله الخاص، الا اذا كان في اخذها تاييدا له, مالم تنتفي الحرمة بالتقية ونحوها،

7. لا يجوز التشبه بالكافرين والكافرات في أي قول أو عمل, وخاصة في الزي والباس.

8. يجوز استرقاق الأسير الكافر بالحرب المشروعة في الإسلام بإذن قائده الشرعي.

9. لا يملك الكافر المسلم إبتداءاً مهما كان السبب. ولو أسلم عبد الكافر قهر على بيعه من مسلم وأعطي ثمنه.

10. لا ينفذ قضاء الكافر , ولو كان على طبق حكم الاسلام.

ص: 253

يجب على القاضي التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والانصات والعدل في الحكم. ولا تجب التسوية في الميل القلبي لتعذره غالباً. ولكن انما1. تجب التسوية بينهما، مع التساوي في الاسلام او الكفر , ولو كان احدهما كافرا والاخر مسلما , جاز ان يكون المسلم جالسا والكافر واقفاً , أو ان يجلس المسلم أعلى منزلاً.

2. لا كفارة في قتل الكافر، من دون فرق بين الذمي وغيره.

3. لا ولاية للدم لمن لا يرث, كالكافر عن المسلم والعبد والقاتل.

4. أخذ الجزية من أهل الكتاب، وذلك لأنهم سوف يعيشون في الدولة الإسلامية دون أن يدفعوا لها أي مقدار من المال لأن الزكاة والخمس غير واجبة عليهم بخلاف المسلمين الذين يجب عليهم دفع الزكاة والخمس وسائر الحقوق المالية، فكان من المناسب أن تفرض عليهم الشريعة ضريبة مالية على الرجال منهم وتعيد التوازن إلى حركة انتقال الأموال بين المجتمع الواحد، هذا من وجهة اقتصادية ومن وجهة أخرى إن فيها تصغير لشأنهم بأن يكونوا مواطنين منقادين لقوانين الإسلام حتى تحفظ لهم أنفسهم وأموالهم، وأيضاً ليرتفع عنهم القتال والاستعباد ، ويقَرون على دينهم، ويسمح لهم بالسكنى في دار الاسلام آمنين على أنفسهم وأموالهم.

ص: 254

أقوال بعض مشاهير العالم حول ظاهرة الخنوع والعبودية للأسياد

وفي ختام هذا الكتاب سنأخذ جولة مختصرة في أقوال بعض مشاهير العالم، حول ظاهرة الخنوع والعبودية للأسياد وضرورة التحرر من قيود المستبدين:

* من أقوال الدكتور الشهيد علي شريعتي:

1. من كان أكثر وعيا، كان أكثر مسؤولية.

2. الأفكار مشلولة.. العقول مخدرة.. الأوفياء يعيشون الوحدة .. الشباب يائس ومنحرف .. كسروا الأقلام .. كمموا الأفواه .. هذه سمات هذا العصر.

3. إن شئت التمرد على الديكتاتورية وعدم الرضوخ للظلم , ما عليك سوى أن تقرأ وتقرأ وتقرأ.

4. إذا كنت لا تستطيع رفع الظلم, فأخبر عنه الجميع على الأقل.

5. أقول إنه كما تصنع الاواني اليوم من مادة المطاط, بعد وضع مادتها الخام في جرة, فتذوب, ثم تصب في حفر أعدت على أشكال الأواني, ليستنتج منها الإبريق والقدح والكأس وغير ذلك من الادوات التي تعرض في السوق للبيع؛ هكذا أخذوا يصنعون الإنسان.

6. إن الشيء الذي ينجي الإنسان والأمة من شؤم الاستنزاف الفكري في طريقته القديمة والحديثة، هو النباهة الإنسانية، التي يتحدث عنها الدين الراقي الذي تجاوز العلم، والدراية الاجتماعية التي تتحدث عنها الرسالة العقائدية النبوية.

لا شك ان الجيل الذي يحتقر نفسه بنفسه يكون حقيرا حقا، فسياسة الاستعباد والاسترقاق، تقتضي التحقير اولا، اي ان يُحتَر الذي يراد استرقاقه، حتى يظن انه1. من طبقة دنيا وأسرة منحطّة، ثم يتقبل الذل بكامل الرحب، ويلجأ للعبودية والاسترقاق.

ص: 255

2. إن أكبر قيم الانسان تلك التي بدأ منها وهي الرفض وعدم التسليم وما يلخص بكلمة "لا" حيث منها بدأ ادم أبو البشر , لقد اُمر أن لا يأكل من تلك الثمرة لكنه اكل فصار بعدئذ ادم وصار بشرا وهبط الى الارض ولولا ذلك لصار ملكاً وصار غيره آدم.

* من أقوال سيد قطب نقلاً عن كتابه دراسات إسلامية:

1. ليس العبيد هم الذين تقهرهم الاوضاع الاجتماعية والظروف الاقتصادية على ان يكونوا رقيقا يتصرف فيهم السادة كما يتصرفون في السلع والحيوان انما العبيد الذين تعفيهم الاوضاع الاجتماعية والظروف الاقتصادية من الرق ولكنهم يتهافتون عليه طائعين .

2. العبيد هم الذين يملكون القصور والضياع وعندهم كفايتهم من المال ولديهم وسائل للعمل والانتاج ولا سلطان لأحد عليهم في اموالهم او ارواحهم وهم من ذلك يتزاحمون على ابواب السادة ويتهافتون على الرق والخدمة ويضعون بأنفسهم الاغلال في اعناقهم والسلاسل في اقدامهم ويلبسون شارة العبودية في مباهاة واختيال

3. العبيد هم الذين يقفون بباب السادة يتزاحمون وهم يرون بأعينهم كيف يركل السيد عبيده الاذلاء في الداخل بكعب حذائه كيف يطردهم من خدمته دون انذار او اخطار كيف يطأطئون هامتهم له فيصفع اقفيتهم باستهانة ويأمر بألقائهم خارج الاعتاب ولكنهم بعد هذا كله يظلون يتزاحمون على الابواب يعرضون خدماتهم بدل الخدم المطرودين وكلما امعن السيد في احتقارهم زادوا تهافتا كالذباب.

ص: 256

1. العبيد هم الذين يهربون من الحرية فاذا طردهم سيد بحثوا عن سيد اخر لان في نفوسهم حاجة ملحة الى العبودية لان لهم حاسة سادسة او سابعة.. حاسة الذل.. لابد لهم من اروائها فاذا لم يستعبدهم احد احست نفوسهم بالظمأ الى الاستعباد وتراموا على الاعتاب يتمسحون بها ولا ينتظرون حتى الاشارة من اصبع السيد ليخروا له ساجدين.

2. العبيد هم الذين اذا أُعتقوا وأُطلقوا حسدوا الارقاء الباقين في الحظيرة لا الاحرار المطلقي السراح لان الحرية تخيفهم والكرامة تثقل كواهلهم لان حزام الخدمة في اوساطهم هو شارة الفخر التي يعتزون بها ولان القصب الذي يرصع ثياب الخدمة هو ابهى الازياء التي يتعشقونها.

3. العبيد هم الذين يحسون النير لافي الاعناق ولكن في الارواح الذي لا تلهب جلودهم سياط الجلد ولكن تلهب نفوسهم سياط الذل الذين لا يقودهم النخاس من حلقات في اذانهم ولكنهم يقادون بلا نخاس لان النخاس كامن في دمائهم

4. العبيد هم الذين لا يجدون انفسهم الا في سلاسل الرقيق وفي حضائر النخاسين فاذا انطلقوا تاهوا في خضم الحياة وضلوا في زحمة المجتمع وفزعوا من مواجهة النور وعادوا طائعين يدقون ابواب الحظيرة ويتضرعون للحراس ان يفتحوا لهم الابواب والعبيد – مع هذا- جبارون في الارض غلاظ على الاحرار شداد يتطوعون للتنكيل بهم ويتلذذون بإيذائهم وتعذيبهم ويتشفون فيهم تشفي الجلادين العتاة

5. إنهم لا يدركون بواعث الاحرار للتحرر فيحسبون التحرر تمردا والاستعلاء شذوذا والعزة جريمة ومن ثم يصبون نقمتهم الجامحة على الاحرار المعتزين الذين لا يسيرون في قافلة الرقيق

ص: 257

إنهم يتسابقون الى ابتكار وسائل التنكيل بالأحرار تسابقهم الى ارضاء السادة ولكن السادة مع هذا يملونهم فيطردونهم من الخدمة لان مزاج السادة يدركه السأم من1. تكرار اللعبة فيغيرون اللاعبين ويستبدلون بهم بعض الواقفين على الابواب ومع ذلك كله فالمستقبل للأحرار لا للعبيد ولا للسادة الذين يتمرغ على اقدامهم العبيد المستقبل للأحرار لان كفاح الانسانية كلها في سبيل الحرية لن يضيع ولان حظائر الرقيق التي هدمت لن تقام ولان سلاسل الرقيق التي حطمت لن يعاد سبكها من جديد.

* من أقوال جمال الدين الأفغاني:

1. خائن الوطن من يكون سبباً في خطوة يخطوها العدو في أرض الوطن.

2. الشرقي متواضع، قنوع، جزوع، كثير الذكاء، سريع التقلب، قليل الصبر.

3. لن تنبعث شرارة الاصلاح الحقيقي في وسط هذا الظلام الحالك الا اذا تعلمت الشعوب العربية وعرفت حقوقها، ودافعت عنها بالثورة القائمة على العلم والعقل.

4. أمة تطعن حاكمها سرا وتعبده جهرا لا تستحق الحياة.

5. العار الذي لا يمحوه كر الدهر هو أن تسعى الأمة أو أحد رجالها أو طائفة منهم لتمكين أيدي العدو من نواصيهم، إما غفلة عن شئونهم أو رغبة في نفع وقتي.

6. بالضغط والتضييق تلتحم الأجزاء المبعثرة.

7. العبيد هم الذين يهربون من الحرية فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر.

8. قالوا لجمال الدين الأفغاني: إن المستعمرين ذئاب، فقال : (لو لم يجدوكم نعاجاً لما كانوا ذئاباً).

ص: 258

* عبد الرحمن الكواكبي: ( إن الحرية هي شجرة الخلد، وسقياها قطرات من الدم المسفوك(.* وقال أيضاً: (الإنسان في ظل الاستبداد لا يحب قومه لأنهم عون الاستبداد عليه، ولا يحب وطنه لأنه يشقى فيه).

* أفلاطون: (لو أمطرت السماء حرية .. لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات).

* ميخائيل نعيمه: (الحرية أثمن ما في الوجود، لذلك كان ثمنهاً باهظاً).

* محمود درويش: )من رضع من ثدى الذل دهرا رأى في الحرية خراباً و شراً).

* مصطفى محمود: (هناك من يناضلون من أجل التحرر من العبودية، وهناك من يطالبون بتحسين شروط العبودية).

* نيلسون مانديلا: (العبيد فقط يطلبون الحرية أما الأحرار فيصنعونها).

* مارتن لوثر كنغ: (إذا لم يجد الإنسان ما يضحي لأجله، فهو لا يستحق العيش).

* وقال أيضاً: (لا يستطيع أحدٌ ركوب ظهرك إلا إذا انحنيت).

* جورج برنارد شو: (الحرية تعني المسؤولية، ولهذا يخافها معظم الناس).

* جميل شيخو: (العبودية عبر العصور كانت جريمة العبيد أكثر من كونها جريمة الأسياد).

* جان جاك روسو: (لا حرية دون مسؤولية).

* دريه موروا: (الحرية و المسؤولية توأمان، لو انفصل أحدهما عن الآخر ماتا جميعاً).

* تشي جيفارا: (إذا فرضت على الإنسان ظروف غير إنسانية ولم يتمرد سيفقد إنسانيته شيئاً فشيئاً).

ص: 259

* وقال أيضاً: (إن أبشع استغلال للإنسان هو إستغلاله باسم الدين.. لذلك يجب محاربة المشعوذين والدجالين حتى يعلم الجميع أن كرامة الإنسان هي الخط الأحمر الذي دونه الموت).

وقال أيضاً: (الذي باع بلاده وخان وطنه مثل الذي يسرق من بيت أبيه ليطعم اللصوص فلا أبوه يسامحه ولا اللص يكافئه).*

* وقال أيضاً: (الذي باع بلاده وخان وطنه مثل الذي يسرق من بيت أبيه ليطعم اللصوص فلا أبوه يسامحه ولا اللص يكافئه).

* وقال أيضاً: (خير لنا أن نموت ونحن واقفين مرفوعي الرأس من أن نموت ونحن راكعين).

* أبراهام لينكون: (انهضوا أيها العبيد، فإنكم لا ترونهم كبارا إلا لأنكم ساجدون).

* مثل انجليزي: (أن تموت جوعاً و أنت حر خير من أن تعيش عبداً و أنت سمين).

ص: 260

الفهرس

مقدمة الكتاب.... 5

تعريف مصطلح التدجين... 9

أنواع التدجين......... 10

1-التدجين الديني...... 10

2-التدجين السلطوي........ 10

3-التدجين الفكري.... 11

4-التدجين الأسري.... 12

5-التدجين المدرسي.... 12

6-التدجين الأمني....... 12

7-التدجين النفسي.... 13

8-التدجين الاقتصادي...... 13

9-التدجين السياسي......... 13

10-التدجين الإعلامي........ 14

11-التدجين العشائري...... 14

12-التدجين الشيطاني..... 14

بنو اسرائيل والاستضعاف الفرعوني..... 17

المجتمع الفرعوني وأقسامه وفق نظرة المفكر الاسلامي الشهيد الصدر الأول (قدس سره) 32

مقارنة بين إصلاحات الإمام السجاد (علیه السلام) والرئيس الأمريكي (إبراهام لنكولن)....... 34

رجال الدين المزيفين وشرعنة الطغيان والاستبداد - الكنيسة في العصور الوسطى نموذجاً - 38

أساليب التدجين البعثي الصدامي مع الشعب العراقي.... 43

ص: 261

المخططات اليهودية لتركيع الشعوب وتدجينها........ 57

عالم الاجتماع (ناعوم تشومسكي)واستراتيجيات التحكّم العشر بالشعوب... 66

علماء السوء وسياسة تدجين الأمة وتجهيلها... 71

السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ونهضة التحرير الأولى.... 95

السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) ونهضة التحرير الثانية........ 97

المرجع اليعقوبي وعلاج ظاهرة التدجين........ 136

أسباب تدجين الشعب العراقي ورضوخه للظلم..... 143

علاج ظاهرة تدجين المجتمع... 194

الفرق بين تجربة الشعب العراقي والشعب الإيراني في إسقاط رموز الظلم... 233

خصائص ومميزات المجتمع العراقي في الميزان........ 238

الاستضعاف الإيجابي.... 249

أقوال بعض مشاهير العالم حول ظاهرة الخنوع والعبودية للأسياد.... 255

الفهرس......... 261

ص: 262

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.