السبيل الى المعنويات

هویة الکتاب

السبيل الى المعنويات

رشحات من المواعظ الأخلاقية

وقواعد السير الى الله تعالى

من خطب

سماحة المرجع الديني

الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

جمع وترتيب

ثامر حكيم الساعدي

ص: 1

اشارة

ص: 2

المقدمة: ميدانكم الأول لتحصيل المعنويات أنفسكم

اشارة

ص: 3

ص: 4

ميدانكم الأول لتحصيل المعنويات أنفسكم

ميدانكم الأول لتحصيل المعنويات أنفسكم(1)

الإنسان معنوي بالفطرة:

يبحث الإنسان بطبعه وفطرته عن الأمور المعنوية والكمالات الروحية، ويظنّ أنه يحصل عليها من خارجه فيتحرك نحو الأسباب الموجبة لها بحسب ظنّه، لكنه يكتشف أنه لم يصل إلى ما يريد، لأنه لا يعلم إنها موجودة في باطنه وداخل نفسه فعليه استثارتها واستخراجها من داخله، فالساحة الأولى للعمل والميدان الأول للانطلاق هي النفس، حكي عن أمير المؤمنين قوله (ميدانكم الأول أنفسكم فحاسبوها قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر)، وهذا المعنى مكرّر كثيراً في كلمات المعصومين (عليهم السلام) حتى أصبح متواتراً كقول علي (عليه السلام): (سياسة النفس أفضل سياسة).(2)

السعادة تأتي من داخل النفس:

خذ مثلاً السعادة التي هي مطلوب كل إنسان والغاية التي يريد أن يصل إليها، يظن كثير من البشر أنها في كثرة المال، والحياة المترفة أو في مواقع السلطة والنفوذ، أو أنها في قضاء الوقت في اللهو والمتعة، ونحو ذلك، وقد تتحقق لهم بذلك لذة وراحة آنية لكنهم يشعرون في النهاية أنهم لم يحققوا السعادة المرجوّة، ولا نستغرب من وجود أعلى نسب للانتحار والمصابين بالأمراض النفسية في دول الغرب المترفة مادياً.

ص: 5


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في تجمع أئمة الجمعات في محافظات العراق يوم الأحد 20 شعبان 1434 المصادف 2013/6/30.
2- غرر الحكم: 5589.

وهذا شيء طبيعي لأن السعادة من الأمور المعنوية التي لا تتحقق بالأسباب المادية للزوم وجود مشاكله بين الأسباب والنتائج فلا تصلح الأسباب من عالم معين لتحقيق نتائج في عالم آخر وهكذا كل الأمور المعنوية لابد أن تتحقق بأسباب معنوية من سنخها -بحسب المصطلح- كالمعرفة بالله تعالى التي هي أصل الدين والغرض من إيجاد الإنسان {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّالِيَعْبُدُونِ }الذاريات56،فإنها تنبع من داخل النفس بتهذيبها وكبح جماحها وشهواتها إلاّ فيما أحلّ الله ورخّص ففيه، وتطهير القلب من الرذائل الخلقية كالحسد والغل والحقد والأنانية، حينئذٍ تشرق المعرفة الإلهية في قلب الإنسان، ورد في الحديث (من عرف نفسه فقد عرف ربّه)(1) فالطريق إلى معرفة الله تعالى يمرّ عبر معرفة النفس وما يصلحها ويهذّبها.

أسباب التوفيق من داخل النفس:

والتوفيق أيضاً استعداد في النفس للاستجابة لداعي الهداية فمن طلبها عليه أن يوفّر أسبابها في نفسه، ومن لا تتوفر فيه لا تزيده الموعظة والإرشاد والنصيحة إلاّ عتوّا واستكباراً، قال تعالى (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة/ 124-125) وقال تعالى (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً) (المدثر/31)، فأسباب الهداية والتوفيق تعرض على الجميع لكن المواقف إزاءها متباينة بحسب الجهة الغالبة في النفس هل هي جنود الرحمن أم جنود الشيطان، ومن لا يناله التوفيق والهداية فبسببه وهو الذي لم يؤهل نفسها لتلقيها (نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ) (التوبة/67) كذبذبات الراديو والتلفزيون أو اتصالات الأجهزة

ص: 6


1- البحار: ج2 ص32

المحمولة فإنها موجودة في الفضاء إلاّ أنّه لا يستقبلها إلا الجهاز الذي يحمل المواصفات المناسبة لتلك الموجات.

الانتصار الحقيقي:

وهكذا النصر والغلبة إنما ينطلق من داخل النفس فمن انتصر على نفسه وعزّز قواه المعنوية الداخلية من التقوى والصبر والمصابرة كان هو المنتصر حقيقة، ومن عاش الهزيمة في داخله فلم يلتزم بما أمره الله تعالى كان هو المهزوم في الخارج، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ) (القرآن/155).

الحرية والعزة تبدأ من داخل النفس:

وكذلك الحرية والعزة والكرامة يحياها الإنسان في داخله فتنعكس على حياته الخارجية في المجتمع، من مناجاة أمير المؤمنين (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي ربا)(1) فالعزة كلها في تحرير النفس مما سوى الله تعالى، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/8)، ولا يُستعبد الإنسان والمجتمع من قبل الطواغيت والمستكبرين إلا بعد أن تتكبل نفوسهم بأغلال الخوف والجهل والطمع والشهوة والوهم والشك والتمرد فيصبح سلس القياد لغيره، قال الله تعالى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (الزخرف/54) فإن فرعون لم يستعبد قومه ويصادر حرياتهم ويستخف بعقولهم إلا بعد أن أصبحت نفوسهم أسيرة الشهوات والخوف والقلق.

الدولة الكريمة حينما يكون رعاياها أحراراً:

ص: 7


1- مفتيح الجنان: ص164.

ومحل الشاهد من هذه الفكرة تطبيقها على علاقتنا بإمامنا المهدي الموعود (عجل الله تعالى فرجه) (فحينما نطلب في الدعاء (اللهم إنا نرغب إليك بدولة كريمة...)(1) فهذا لا يعني أن أملنا يتحقق ودعاءنا يستجاب بقيام حكومة يترأسها وتضمّ رجالاً يرفعون لافتات إسلامية أو يتظاهرون بالارتباط بالمرجعية الدينية، وإنما تتحقق الدولة الإسلامية بأن نعيش الإسلام في كل تفاصيل حياتنا ونحكّمه في كل أمورنا وقضايانا وتصرفاتنا {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}النساء65،وهذا واضح من أوصاف هذه الدولة في الدعاء (تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتُذلُّ بها النفاق وأهله) ووصف الله تعالى الذين يقومون بشؤون هذه الدولة الكريمة بقوله سبحانه (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) (الحج/41) فلا تكون الدولة كريمة إلا حينما يكون رعاياها أحراراً يعيشون بعزة وكرامة وأعداؤهم أذلاء مقهورين.

الفرج الحقيقي:

وقد يتحقق هذا المعنى للدولة الكريمة عند المؤمنين وهم بعيدون عن الحكم وليس لهم في السلطة نصيب، كما كان عند أهل البيت (سلام الله عليهم))(2).((وهكذا فحينما ندعو لإمامنا المهدي (عليه السلام) بالفرج وتعجيل الظهور فان الفرج الحقيقي يبدأ من داخل أنفسنا حينما نهذّبها بطاعة الله تبارك وتعالى وتسير نحو الكمال، وإلا فما الذي نجنيه من ظهور الإمام (عليه السلام) إذا لم نحقق هذه الدرجات في داخلنا؟ ربما سنكون في الصف المعادي له أو مع المتخاذلين عن نصرته حرصاً على مصالح دنيوية أو وضع اجتماعي أو مكاسب سياسية ونحوها.

ص: 8


1- إقبال الأعمال: ج1 ص127.
2- خطاب المرحلة: 3/ 129.

فالدولة الكريمة والفرج يبدأن من داخل النفس ثم يشرقان على الآخرين فإذا عاش المجتمع أجواءً إسلامية وكان سلوكه إسلامياً، وتفكيره مبنياً على أساس الإسلام فهذه هي الدولة الكريمة وهذا هو الفرج الحقيقي.

وهذا لا يتحقق إلا بمواصلة العمل الدؤوب على صعيد تهذيب النفس وعلى صعيد إقامة المشاريع الإسلامية الإصلاحية في المجتمع وإدامتها وأن لا يكتفي بالعمل الارتجالي الذي دافعه وهج العاطفة أو ردود الأفعال)).(1)

(ففي الكافي عن أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعلت فداك متى الفرج؟ فقال: يا أبا بصير وأنت ممن يريد الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فُرِّج عنه لانتظاره)(2).

لا تطلبوا الفرج للدنيا:

((ولا يخفى ما في جواب الإمام (عليه السلام) من توبيخ لمن ينتظر الفرج طلباً للدنيا مثلاً لكي يكون الحكم لأتباع أهل البيت (سلام الله عليهم) فتكون له حصة من (الكعكة) كما يقولون فيكون الوصول إلى الحكم غاية وهدفاً وليس وسيلة لإحقاق الحق وإقامة العدل فيقع أمثال هؤلاء في الظلم والانحراف ولا يحققون الهدف المنشود، وهذا أحد وجوه معنى الرواية الشريفة (كل راية قبل المهدي فهي راية ضلالة) لأنها تتحرك لتغيير الظالم وأخذ موقعه والتمتع بالجاه والسلطة والثروة وليس لتغيير الظلم وخدمة الناس وإصلاح أحوالهم وتأسيس الدولة الكريمة التي تضمن الحياة السعيدة لكل إنسان.))(3)

ونندب الإمام (عليه السلام) وندعوه لإزالة الظلم والجور وإقامة العدل (أين المعدُّ لقطع دابر الظلمة، أين المنتظر لإقامة الأمت والعوج أين المرتجى لإزالة الجور والعدوان)، ولا

ص: 9


1- خطاب المرحلة: 3/130.
2- الكافي: ج1 ص371.
3- خطاب المرحلة: 4/ 370- 371.

يكون الإنسان جزءاً من هذه الحركة المباركةإلاّ إذا أقام حياته وعلاقاته على العدل والإنصاف الآخرين، فليراجع الإنسان نفسه هل هو عادل في علاقته مع زوجته وأسرته ووالديه أو جيرانه أو أصدقائه في العمل أو من هم في رعايته إذا كان في مواقع المسؤولية، أم إنه جائر عليهم مقصر في حقوقهم ويظلمهم كالذي يحصل كثيراً في مجتمعنا؟ وحينئذٍ فلا يمنّي نفسه بإتباع الإمام والانخراط في جماعته الميمونة.

ص: 10

الفصل الأول: مع التوحيد والإخلاص والصناعة الإلهية للإنسان

اشارة

ص: 11

ص: 12

من أين نبدأ

اشارة

من أين نبدأ (1)

أهمية المجالس:

إن مثل هذه اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات مهمة وذات فوائد عظيمة، أولها نفس الاجتماع والتلاقي وتبادل الأفكار ووجهات النظر بغض النظر عما تسفر عنه من نتائج، وهي تندرج في مصاديق قول الإمام الباقر (عليه السلام): (أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا)(2).

وهي فرصة للمراجعة والتقييم والنقد البنّاء وتحديد مواطن النجاح والفشل.

من معاني المحاسبة:

وقد اخترت عنواناً لحديثي هو (من أين نبدأ) وهو لا يعني طبعاً إننا لازلنا لم نبدأ بعد، فإن جهوداً مشكورة كثيرة قدمّت ولا زالت، ولكننا أمرنا بمراجعة أنفسنا (ليس منّا من لم يحاسب نفسه)(3) والنفس التي تحاسب شاملة لنفس الفرد والمؤسسة والكيان والمشروع وحتى الدولة، وبعد كل محاسبة تكون هناك بداية لانطلاقة جديدة نحو العمل وفق نتائج هذه المحاسبة فنديمكل عناصر الخير والنجاح وننميها، ونعالج كل مواطن الفشل وتصليحها، فعن هذه البداية أتحدث وأقول من أين نبدأ.

كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة:

ص: 13


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع الفضلاء والخطباء المشاركين في ملتقى أئمة الجمعة والجماعة في محافظات العراق يوم الثلاثاء 10/ ربيع الثاني / 1430 ه المصادف 2009/4/7
2- هداية الأمة الى أحكام الأئمة، الحر العاملي: ج5 ص127.
3- الكافي: ج2 ص453.

ووجدت كلمة مختصرة لبعض الأعاظم- وهو العالم العامل المرحوم الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (قدس سره) - تصلح أن تثبت هذه البداية والأساس الذي ننطلق منه نحو النجاح والفلاح، قال (قدس سره) : (بني الإسلام على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ) وقد لخصها (قدس سره) ببلاغته المعروفة من وصايا القرآن الكريم والأئمة الطاهرين (عليهم السلام).

وأقول هنا إن الأساس والمنطلق بالدقة هو واحد وهي كلمة التوحيد أما توحيد الكلمة فهو أثر من آثار الصدق في تبني عقيدة التوحيد، والقائل يعرف ذلك لكنه أراد إلفات النظر إلى أهمية توحيد الكلمة في بناء الجماعة الصالحة المؤمنة وتشييد كيانها.

توحيد الله تعالى:

وقد نبهنا أمير المؤمنين إلى هذه الحقيقة بقوله (عليه السلام) (أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له )(1) فمن هنا يبدأ البناء وعلى هذا الأساس يستقر، إنها المعرفة بالله سبحانه المستندة إلى توحيده تبارك وتعالى، وعلامة التوحيد الصادق الذي يتجاوز مرحلة لقلقة اللسان إلى انعقاد القلب على التسليم لله تعالى والإخلاص له، فأصبح الإخلاص هو خلاصة التوحيد الذي هو تمام المعرفة بالله سبحانه وكمالها.

معنى الإخلاص لله تعالى:

والإخلاص - لغة- يعني التصفية، قال تعالى «بيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ» (النحل:66)، أي مصفى من الفرث والدم وآثارهما اللذين خرج من بينهما.

ولكن معنى الإخلاص هنا في المصطلح تجريد النية والغرض والهدف عن كل ما

ص: 14


1- نهج البلاغة: الخطبة: 1.

سوى الله تبارك وتعالى سواء على مستوى الأفعال والسلوكيات والعلاقات مع الآخرين، أو على مستوى المشاعر والأحاسيس التي تكتنف القلب وتملأه فيكون الحب في الله والبغض في الله، والغضب لله، والعمل لله، وهكذا.

مراتب الإخلاص لله تعالى:

والإخلاص له مراتب، كما أن ضدّه وهو الشرك له مراتب قال تعالى: «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ» (يوسف:106)، وقد تختلط مراتبهما وتتداخل وتتشابك في أعماق الإنسان في عملية معقدة تخفى حتى على صاحبها، لذا سمي بالشرك الخفي وشبهه رسول الله (صلی الله علیه و آله) بقوله: (دبيب الشرك في أمتي كدبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء)(1).

ولذا وصف الصراع داخل الإنسان من اجل تحقيق الإخلاص بأنه (الجهاد الأكبر) ومحلهما معاً القلب الذي إن نقي عما سوى الله تبارك وتعالى كان قلباً سليماً، قال تعالى «إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (الشعراء:89).

والحديث عن تعريف الإخلاص وحقيقته وحدوده ومراتبه وكيفية امتحان تحققه وما هي معوّقات الحصول عليه، ومسارب الشيطان لتشويشه ومعالجة هذه المشاكل حديث طويل تعرضت له كتب الأخلاق والمعرفة وقد نصحنا بمراجعتها باستمرار كموسوعة الفيض الكاشاني (قدس سره) (المحجّة البيضاء) وجامع السعادات والقلب السليم.

أهمية الإخلاص:

وتدل الأحاديث على أن الإخلاص هو مفتاح الفلاح والفوز بالألطاف الإلهية ففي الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) (ما أخلص العبد الإيمان بالله عز وجل أربعين يوماً

ص: 15


1- منتخب الأنوار للنيلي: ص16.

إلا زهّده الله في الدنيا وبصرّه داءها ودواءها، فأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه)(1).

لذا أمرنا بالإخلاص في إعمالنا ونيّاتنا، قال تعالى : «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (البينة:5)، وقال عزمن قائل «أَلا لِلَّهِ الدِّينُالْخَالِصُ» (الزمر:3)، وقال تعالى «إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لله» (النساء:146).

ولا ينجو إنسان أو شريحة من البشر من هذا الصراع حتى العلماء والمنشغلون بالعمل الإسلامي إلا من عصم الله تبارك وتعالى، قال سبحانه حكاية عن إبليس اللعين «قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (ص:82-83). فقد يطلب بعضهم العلم ليستأكل به أو ليماري به الناس أو ليبرز ويشار إليه وغيرها من النيات الباطلة والعياذ بالله.

ص: 16


1- البحار: ج67 ص240.

تعرضوا لنفحات ربكم

اشارة

تعرضوا لنفحات ربكم(1)

النفحات الخاصة:

ورد حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرّضوا لها لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقُّوُنَّ بعدهاأبداً)(2)وفي حديث مماثل (اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده)(3).

والحديث يشير إلى نوع خاص من الألطاف الإلهية وليست الألطاف العامة الشاملة لكل الناس، والدليل عليه وجهان:

1- التعبير بالنفحات، والنفحة هي القطعة من الشيء أو هي الدفعة منه وليس كله ولا معظمه، كما في قوله تعالى «وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ» (الأنبياء:46) وهذا القول منهم إذا كان رجوعاً وتوبة في وقت قبولها فهو موقف حسن وإلا فإن الأغلب يكون موقفهم التمادي والاستكبار، قال تعالى «وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ» (هود:8).

2- الأثر العظيم المترتب على التعرض لها والتوفيق للشمول بها بحيث أن من تناله تلك النفحات لا يحتاج إلى ابتلاء ويحسم آمره في الصالحين والسعداء بحيث لا يشقى بعدها أبداً ولتوضيحه بمثال نقول أنه يصبح كالطالب الذي

ص: 17


1- تقرير لحديث سماحة الشيخ اليعقوبي في حشد من الإخوة والأخوات الذين تعوّدوا منذ سنتين أن ينطلقوا مشياً من الكوفة إلى كربلاء لإحياء ذكرى وفاة العقيلة زينب وزيارة النصف من رجب وتأسياً بالعقيلة التي قطعت هذه المسافة، وكان اللقاء يوم 11 رجب 1430 المصادف 4/7/ 2009.
2- كنز العمال : 21324 ، 21325.
3- كنز العمال : ج2 ص74 ح3189

يحرز درجات عالية في السعي السنوي فيُعفى من الامتحانات النهائية ولا يحتاج إلى اختبارات أخرى كأقرانه.

على أي حال فالمراد من النفحات ألطاف إلهية خاصة بدلالة التعبير عنها بالنفحات إذ أن الألطاف الإلهية العامة متواصلة على طول الدهر ولولاها لما خلق الإنسان والكون ولا استمر وجودهما.

لنتعرض لكل سبل الطاعة:

وفي ضوء هذا فقد حث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على التعرض لتلك النفحات، ويكون ذلك بالتعرض لأسبابها واقتناص فرصها وهي غير معروفة بالتحديد لأن الله تبارك وتعالى أخفى رضاه في طاعته كما أخفى سخطه في معصيته لذا فحريٌّ بطالب الكمال والسعادة أن يتعرض لكل ما يتيسر له من سبل الطاعة وفرص الخير عسى أن تكون إحداها سببا لنيل تلك الألطاف الخاصة، ولذا جاء في الحديث عنه (صلى الله عليه وآله):(تعرضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته)(1)

وفي الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا همّ أحدكم بخير فلا يؤخره فإن العبد ربما صلى الصلاة أو صام اليوم فيقال له: اعمل ما شئت بعدها فقد غفر الله لك)(2) وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخّره فإن الله عز وجل ربما اطلع على العبد وهو على شيء من الطاعة فيقول: وعزّتي وجلالي لا أعذبك بعدها أبداً، وإذا هممت بسيئة فلا تعملها، فإنه ربما اطلع على العبد وهو على شيء من المعصية فيقول: وعزّتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً) كالطالب الذي يفشل خلال السنة الدراسية فيحرم من فرصة المشاركة في الامتحانات العامة فكأن تقصيره ذلك أوجب نهايته مبكراً ولم يسمح له باستمرار فرصة الامتحان والسعي لنيل النجاح.

ص: 18


1- تنبيه الخواطر ونزهة الناظر (مجموعة ورام): ص439.
2- الكافي: ج2 ص142.

وعنه (عليه السلام) (إذا أردت شيئاً من الخير فلا تؤخره، فإن العبد يصوم اليوم الحار يريد ما عند الله فيُعتقهُ الله به من النار، ولا تستقلّ ما يُتَقرّبُ به إلى الله عز وجل ولو شقَّ تمرة)(1).

المسارعة الى الخير:

وهذه المسارعة إلى فعل الخير لها ما يبررها من أكثر من جهة:

1- إن الفرص تمرُّ مرّ السحاب وقد لا تتكرر بل هي فعلاً لا تتكرر لأن الفرصة الثانية هي غير الأولى وإضاعة الفرصة غصة وإن عمر الإنسان هو رأس ماله في المتاجرة مع الله تبارك وتعالى وكل ثانية من عمره يمكن أن ترفعه درجة عند الله تبارك وتعالى.

2- إن التأخير يعطي فرصة للشيطان والنفس الأمارة بالسوء للوسوسة والتثبيط وإضعاف الهمّة، عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): (من همَّ بشيء من الخير فليعجّله، فإن كل شيء فيه تأخير فإن للشيطان فيه نظرة)(2).

3-إن القلوب لها أحوال متغيرة فتارة تكون في إقبال على الطاعة وأخرى في إدبار فإذا لم يستغل الحال الأول - أي حال إقبال1- القلب- فقد يقع في الثاني - أي حال إدبار القلب - فلا يجد في نفسه إقبالا على الطاعة، سأل حمران بن أعين الإمام الباقر (عليه السلام): (أخبرك –أطال الله بقاءك لنا وأمتعنا بك- أنّا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترقَّ قلوبنا وتسلوَ أنفسنا عن الدنيا ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرُجُ

ص: 19


1- هذا الحديث واللذان سبقاه في أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب تعجيل فعل الخير.
2- نفس المصدر.

من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنما هي القلوب مرة تصعُبُ ومرةً تسهُل)(1).

2- إن الطاعة مهما تبدوا شاقة فإنما هي جهد اللحظة التي أنت فيها، ومهما تبدو المعصية لذيذة فإنما هي لذة اللحظة التي هو فيها وهذا ييّسر المضي على الطاعة واجتناب المعصية ففي موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سمعته يقول اصبروا على طاعة الله، وتصبّروا عن معصية الله فإنما الدنيا ساعة فما مضى فليس تجد له سروراً ولا حزناً وما لم يأت فليس تعرفه فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنك قد اغتبطت)((2).

أشكال النفحات:

وسببية التعرض للنفحات للحصول عليها وشمولها أمر طبيعي، كما أن البائع الذي يتعرض للناس ببضاعته فينوّعها ويتفنن في عرضها ويحاكي أذواق الناس بها يكون الإقبال عليه أكثر من التاجر الساكن الجامد الخامل، مع أن الله تبارك وتعالى قد تكفّل للجميع بالرزق، ولكن ألطافاً خاصة تعطى للمتعرض لها دون غيره.

ومع أن الطاعات كلها شكل من أشكال التعرض للنفحات الإلهية إلا أن لبعض الموارد مزيد عناية ومظنّة لتلك النفحات، وبعض هذه الموارد (مكانية) كالمساجد والعتبات المقدسة وفي حلقات العلم ومجالس الموعظة والإرشاد، وبعضها (زمانية) كليلة الجمعة ويومها والأشهر الشريفة رجب وشعبان ورمضان، و بعضها (حالية) كاجتماع المؤمنين والدعاء للغير وحال التوجّه والاضطرار وانكسار القلب خصوصا إذا امتزج الحزن بالبكاء وعند مجالسة العلماء وبعد الصلوات المفروضة وفي حال السجود.

لطف الله تعالى للجميع:

ص: 20


1- المصدر، باب: في تنقل أحوال القلب.
2- («2» ) المصدر، باب: محاسبة العمل.

ولا شك أن لطف الله تبارك وتعالى وكرمه متاح لكل أحد كما في أدعية شهر رجب (يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة) (بابك مفتوح للراغبين، وخيرك مبذول للطالبين، وفضلك مباح للسائلين، ونيلك متاح للآملين، ورزقك مبسوط لمن عصاك، وحلمك معترض لمن ناوآك)(1) لكن بعض النفحات تتطلب تعرضاً لها وصعوداً إليها.

أتذكر أنني عندما كنت أحضر بحث الأصول للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في مباحث المشتق وكان يفسر آية «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (البقرة:124) فقال (قدس سره): ((إن الآية عبّرت «لا ينال» ولعل في ذلك إشارة إلى هذه المراتب وغيرها من مراتب الكمال إنما تنال بالتكامل والتصاعد في عالم الملكوت الأعلى فكلما تكامل الفرد إلى درجة معينة استحق فيضاً مناسباً لتلك الدرجة ومنها الإمامة فهم يصعدون إليها لاهي تنزل إليهم))((2)

فقلت له بعد الدرس على هذا لا بد من أن يكون ذيل الآية (الظالمون) ليكون فاعلاً وساعياً لنيل العهد وعهدي مفعول به وليس العكس كما في الآية، فأيّد الاعتراض لكنه - لإيمانه بصحة فكرته- عرض حلاً وسطاً يجمع بين الفكرة والإشكال وهو أن الألطاف تنزل من الله تعالى إلى مرتبة معينة ويصعد إليها الفرد إلى تلك المرتبة.

وإذا تهيّب الفرد أو تردّد ولم يقتنص الفرصة ويبادر إليها فإنه سيحرم بركتها ففي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، والفرصة تمر مر السحاب فانتهزوا فرص الخير)(3).

طلبات جامعة:

وليكن تعرّضك وطلبك مناسباً لكرم الله تعالى، وتوجد في بعض الأدعية طلبات جامعة لخصال الخير كله كما في أدعية رجب (أعطني بِمَسْأَلَتي إِيّاكَ جَميعَ خَيْرِ الدُّنْيا وَجَميعَ خَيْر

ص: 21


1- مفاتيح الجنان: ص229.
2- («2» ) المشتق عند الأصوليين: 343.
3- الوسائل: ج16 ص84.

ِ الآخرة، وَاصْرِفْ عَنّي بِمَسْأَلَتي إِيّاكَ جَميعَ شَرِّ الدُّنْيا وَشَرِّ الآخرة، فَاِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوص ما أعطيت، وَزِدْني مِنْ فَضْلِكَ يا كَريمُ )(1) وفي دعاء آخر (اللهم إني أسألك أن تدخلني في كل خير أدخلت فيه محمد وآل محمد (صلى اله عليه وآله وسلّم) وان تخرجني من كل سوءأخرجت منه محمد وآل محمد (صلى اله عليه وآله وسلّم) )(2)، وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان نزل على رجل بالطائف قبل الاسلام فأكرمه فلما أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) إلى الناس قيل للرجل: أتدري من الذي أرسله الله عز وجل إلى الناس؟ قال: لا، قالوا له: هو محمد بن عبد الله يتيم أبي طالب وهو الذي كان نزل بك بالطائف يوم كذا وكذا فأكرمته، قال: فقدم الرجل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسلم عليه وأسلم، ثم قال له: أتعرفني يا رسول الله؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا رب المنزل الذي نزلت به بالطائف في الجاهلية يوم كذا وكذا فأكرمتك فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): مرحباً بك سل حاجتك، فقال: أسألك مأتي شاة برعاتها، فأمر له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما سأل، ثم قال لأصحابه: ما كان على هذا الرجل أن يسألني سؤال عجوز بني إسرائيل لموسى (عليه السلام) بما سأل، فقالوا: وما سألت عجوز بني إسرائيل موسى؟ فقال: إن الله عز ذكره أوحى إلى موسى أن أحمل عظام يوسف من مصر قبل أن تخرج منها إلى الأرض المقدسة بالشام فسأل موسى عن قبر يوسف (عليه السلام) فجاءه شيخ فقال: إن كان أحد يعرف قبره ففلانة، فأرسل موسى (عليه السلام) إليها فلما جاءته قال:تعلمين موضع قبر يوسف (عليه السلام)؟ قالت: نعم، قال: فدليني عليه ولك ما سألت: قال: لا أدلك عليه إلا بحكمي، قال: فلك الجنة، قالت: لا إلا بحكمي عليك، فأوحى الله عز وجل إلى موسى لا يكبر عليك أن تجعل لها حكمها فقال: لها موسى فلك حكمك، قالت: فإن حكمي أن

ص: 22


1- مفاتيح الجنان: ص170.
2- مفاتيح الجنان: ص285.

أكون معك في درجتك التي تكون فيها يوم القيامة في الجنة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما كان على هذا لو سألني ما سألت عجوز بني إسرائيل)(1),

ص: 23


1- الكافي: ج8 ص155.

لا يستعبدكم غيركم وقد أرادكم الله أحراراً شعار مشترك للبعثة النبوية والنهضة الحسينية

اشارة

لا يستعبدكم غيركم وقد أرادكم الله أحراراً شعار مشترك للبعثة النبوية والنهضة الحسينية((1)

من معاني (حسين مني وأنا من حسين):

نعيش اليوم بين مناسبتين عظيمتين هما ذكرى البعثة النبوية المباركة وذكرى ميلاد الأمام الحسين (عليه السلام).

فما هي المشتركات يبين هاتين المناسبتين، أو قل بين هاتين الشخصيتين العظيمتين؟

ويكفينا لمعرفة سعة الاشتراك والتطابق بل الاتحاد قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سبطه الحسين (عليه السلام): (حسين مني وأنا من حسين) (2).

الهدف هو تحرير الإنسان مما سوى الله تعالى:

ولكنني أستغل هذه الأيام الشريفة للإشارة إلى الهدف المشترك لهاتين الحركتين المباركتين حركة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في البعثة النبوية وحركة الإمام الحسين (عليه السلام) نحو الشهادة في كربلاء، والهدف هو تحرير الإنسان قال تعالى «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (الأعراف:157) فالهدف تخليص الإنسان وتحريره من القيود والأغلال والأوزار التي تكبله وتثقل ظهره نتيجة تخبطه في الجاهلية الظلماء وإتباع الهوى وشياطين الإنس والجن لذا كانت أول كلمة صدع بها رسول الله(صلى الله عليه وآله

ص: 24


1- («1» ) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من أبناء مدينة الشعلة والجوادين والرحمانية وفدوا لزيارة سماحته يوم السبت 2 شعبان 1430/المصادف 2009/7/25.
2- المستدرك على الصحيحين: ج3 ص177.

وسلم) أمام قريش وأهل مكة (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)(1) وهذه الجملة فيها محتويان أو عقدان كما يقال في المصطلح، عقد سلبي وهو نفي الإلوهية عن كل شيء، وعقد إيجابي وهو إثبات الإلوهية لله تبارك وتعالى، والتوحيد ينعقد بضمهما والاعتقاد بهما معاً، وإلا فإن المشركين كانوا يعتقدون بالإلوهية والربوبية لله تبارك وتعالى لكنهم أشركوا حينما لم يسلبوا هذه الصفات عن غيره تبارك وتعالى.

رفض العبادة والطاعة لغير الله تعالى:

وهذا ما فهمه طواغيت قريش من دعوة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التوحيد فإنه لو اكتفى بعبادة الله وحده ولم يتعرض لرفض عبادة غيره لتركوه، فقد كان الأحناف(2) بين ظهرانيهم مدة طويلة يتعبدون لله تبارك وتعالى على دين إبراهيم الخليل (عليه السلام) ولم يتعرض المشركون لهم.

وقد جاؤوا بعرض أو صفقة مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يعبدوا إلهه يوماً ويعبد آلهتهم يوماً لكن الجواب الإلهي جاء حاسماً لا مجالفيه لأنصاف الحلول «بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحِيمِ، قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ» فهم إذن لم يكن عندهم اعتراض على عبادة الله تبارك وتعالى. وإنما تصدوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رفض العبادة والطاعة لغير الله تبارك وتعالى من الآلهة التي صنعوها بأيديهم وخدعوا الناس بالقداسة المزيفة التي منحوها لها، للمتاجرة بها والتنعم بالامتيازات التي يحصلون عليها مما يقدمه المخدوعون

ص: 25


1- السيرة الحلبية: ج1 ص303، وتاريخ الطبري: ج2 ص65.
2- الأحناف: هم الذين كانوا على دين إبراهيم الخليل، وتنقل المتون التاريخية العديد منهم: كعبد مناف بن قصي، وعبد المطلب، وكعب بن لؤي بن غالب، وعمير بن جندب الجهني، وأبو قيس صرمة بن أبي أنس، وأمثالهم. وفي السيرة الحلبية إن كتاباً لعبد مناف بن قصي وجد مكتوباً عليه: (أنا المغيرة بن قصي أوصي قريشاً بتقوى الله وصلة الرحم). السيرة الحلبية: ج1 ص80.

بها من نذور وهدايا والتزامات وطقوس، فالقضاء عليها يعني تجريدهم من كل تلك الامتيازات لذا قاوموا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكل وسائل البطش والقسوة واللؤم.

هدف النهضة الحسينية:

وهذا –أي تحرير الإنسان- هو الهدف الذي سعى لتحقيقه الإمام الحسين (عليه السلام) وصرّح به في كلماته كقوله (يا شيعَةَ آلِ أَبي سُفْيانَ ! إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دينٌ، وَكُنْتُمْ لا تَخافُونَ الْمَعادَ ، فَكُونُوا أَحْراراً في دُنْياكُمْ هذِهِ ، وَارْجِعُوا إِلى أَحْسابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ عُرُباً كَما تَزْعُمُون .... أَنَا الَّذي أُقاتِلُكُمْ، وَتُقاتِلُوني، وَالنِّساءُ لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ، فَامْنَعُوا عُتاتَكُمْ وَطُغاتَكُمْ وَجُهّالَكُمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِحَرَمي ما دُمْتُ حَيّاً)(1).

وقال (عليه السلام): (ألا وإن الدَّعيَّ ابن الدَّعيَّ قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة، يأبى الله ذلك لنا، ورسوله، والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن تُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)(2).

وقال (عليه السلام): (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قلَّ الديّانون)(3).

معنى العبادة:

ولأجل أهمية العبادة والتي تعني الطاعة والانقياد ولزوم تكريسها لله تبارك وتعالى ومن أمر بطاعتهم فقد تكفل القرآن الكريم والأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) إيضاح معناها وشرح أبعادها، فقد ورد في تفسير قوله تعالى «اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْإِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ

ص: 26


1- مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي: 2 : 33، الفتوح لابن الأعثم 5 : 134، تأريخ الطبري 3 : 333.
2- اللهوف: ص97.
3- البحار: ج44 ص382.

عَمَّا يُشْرِكُونَ» (التوبة:31) قول الإمام الصادق (عليه السلام) في الكافي: (أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون)(1). وقد وصل التدقيق لديهم (عليهم السلام) في هذا المعنى إلى حد قول الإمام الباقر (عليه السلام): (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الله، فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان، فقد عبد الشيطان)(2).

كونوا أحراراً:

أيها الأحبة: علينا أن نأخذ هذا المعنى ونستفيد من هذا اللطف الإلهي ونحن نحيي هذه المناسبات الشريفة، ونستحضره دائماً ما دام هو الهدف من بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحركة الإمام الحسين (عليه السلام) لنكون أحراراً لا نطيع إلا الله تبارك وتعالى ولا نعبد إلا إياه، هذه العبودية التي يفتخر بها مثل أمير المؤمنين (عليه السلام) ويعتز بها، قال (عليه السلام): (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب) (3).

وهذه هي الدعوة التي أطلقها الأئمة المعصومون (عليهم السلام) (متى تعبّدتم النّاس وقد ولدتهم امّهاتهم أحراراً)(4)، فقد خلقكم الله تبارك وتعالى أحراراً واقتضت إرادته ذلك ويسّر لكم كل أسباب الحرية، فمن الغريب أن يكون هذا عبداً لأهوائه وأطماعه وأنانيته، وذاك عبد لشياطين الإنس والجن يزيّنون له المعاصي والموبقات فيقتحمها ويعرض عن

ص: 27


1- الكافي: ج1 ص53.
2- السابق: ج6 ص434.
3- مفاتيح الجنان: ص171
4- منهاج البراعة: ج14 ص134.

طاعة ربه الكريم، وآخر رضي لنفسه أن يكون عبداً للطواغيت والظالمين وجندياً مخلصاً لهم يأتمر بأمرهم ولا يرقب في الله تعالى إلاً ولا ذمة، ورابع خدعته القداسات المزيفة لهياكل بشرية صنعتها لها أبواق الكهنة والسدنة والمستفيدين وأموالهم وسلطانهم فصار المعروف ما عرفوه والمنكر ما أنكروه وجعلوا تلك الهياكل مقياساً لمعرفة الحق وليس الحق معياراً لمعرفة الرجال، وخامس اتخذ رئيسعشيرته رباً يعبده ويطيعه من دون الله تبارك وتعالى فالمهم طاعة هذا الرئيس والالتزام بالسنينة العشائرية وإن كان مخالفة لله تبارك وتعالى وما جاء به الذكر الحكيم، والله تعالى يقول: «وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» (التوبة:31).

سبب التشتت والضياع:

وهذا التعدد في العناوين التي تطاع من دون الله تبارك وتعالى هو الذي أوجب هذا التشتت والضياع والتفرقة بين أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد وحتى البيت الواحد، ولو كانوا أحراراً في دنياهم لا يطيعون إلا من أمر الله بطاعته لتوحّدوا ولكنهم تفرقوا فسُلِبت البركات منهم والعياذ بالله.

إن الحرية التامة والانعتاق الحقيقي هي في العبودية التامة والتسليم المطلق لله تبارك وتعالى فكلما أزاد العبد طاعة وتسليماً لله تبارك وتعالى تحرر من الرق لغيره أكثر «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً» (النساء:65).

نسأل الله تبارك وتعالى أن يستخلصنا لنفسه وأن لا يجعل لغيره سلطاناً علينا ًأبداً ولا طرفة عين.

ص: 28

قولوا لا إله إلا الله تفلحوا

اشارة

قولوا لا إله إلا الله تفلحوا(1)

البشرية التائهة وحلول الإسلام لمشاكلها:

تعيش أمتنا بل الإنسانية جميعاً الكثير من المشاكل والتعقيدات سواء على الصعيد الشخصي أو العائلي أو على الصعيد الاجتماعي أو السياسي وغيرها، فالقلق والخوف والضيق ضارب بأطنابه في كل أرجاء الحياة،والبشر في حيرة من أمرهم لا يعرفون كيفية حل الأزمات ومعالجة المشاكل والخروج من هذه المعضلات، وكلما قدمت عقولهم القاصرة حلاً بحسب ظنهم وجدوا أنفسهم أكثر غرقاً في المشاكل فما هو المخرج؟

لقد أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحل قبل ألف وأربعمائة عام وفي أول كلمة قالها لقريش في بدء رسالته المباركة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) (2)، فالفلاح والسعادة في التخلي عن طاعة وإتباع ما سوى الله تبارك وتعالى من أهواء وشهوات وشياطين الإنس والجن.

ولا تعني كلمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الاكتفاء بقول هذه الكلمة بل العمل بمقتضاها وهذا ما فهمته قريش ووقفت بكل قوة في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن في العمل بهذه الكلمة تهديداً لمصالحهم وزوالاً لوجوداتهم الزائفة، ولذلك فهم لم يكونوا يواجهون الأحناف الموحدين الذين كانوا بين ظهرانيهم قبل بعثة

ص: 29


1- لبى سماحة الشيخ (دام ظله) دعوة حملة (الشهاب) لحجاج القطيف في مكة المكرمة مساء الخميس 5/ذ.ح./1431 الموافق 2010/11/11، وكان في استقباله مجموعة من الفضلاء والمؤمنين، وألقى سماحته هذه الكلمة فيهم.
2- السيرة الحلبية: ج1 ص303، وتاريخ الطبري: ج2 ص65.

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم لم يكونوا يتحركون لتجسيد هذه الحقيقة على الأرض.

التوحيد الخالص قضية الإسلام الكبرى:

وكان ترسيخ هذه الحقيقة والعمل على نشرها هي قضية الإسلام الكبرى التي واصل إرسائها الأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحينما اجتمع أربعة آلاف من العلماء ورواة الحديث حول الإمام الرضا (عليه السلام) في نيسابور وهو في طريقه من المدينة المنورة إلى خراسان وطلبوا منه حديث يروونه عنه عن آبائه الطاهرين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فماذا كان حديثه (عليه السلام) قال بعد أن ذكر السند المبارك الذي قيل فيه انه لو قرئ على مجنون لبُرئ عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل عن الله تبارك وتعالى قال (لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي) وهمس (عليه السلام) (بشروطها وأنا من شروطها)(1).

عندما نكتفي بالنظريات ولا نعمل:

لكن الناس الذين آمنوا بهذه الحقيقة نظرياً ولم يحولوها إلى واقع يعيشونه في حياتهم هم الذين أوقعوا أنفسهم في هذه الحياة النكدة المعقدة، فقد آمنوا بالله تعالى نظرياً وعبدوه شكلياً لكنهم في كثير من تفاصيل حياتهم يعبدون ويطيعون آلهة أخرى . قال تعالى «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ» (يوسف:110).

قال تعالى «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى» (طه:124) وقال تعالى «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ

ص: 30


1- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص145.

قَرِينٌ» (الزخرف:36) فتصوروا شقاء الإنسان إذا كان قرينه الذي يصاحبه شيطاناً يضلّه ويصده عن سواء السبيل.

لكن من يحيا حياة الإيمان ويحسدّها في حياته بالأعمال الصالحة فإن حياته تكون سعيدة طيبة، قال تعالى «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» (النحل:97).

ص: 31

الحل والعلاج في العودة إلى الله تبارك وتعالى

اشارة

الحل والعلاج في العودة إلى الله تبارك وتعالى(1)

علة البلاء:

من الحقائق التي بينها الله تبارك وتعالى من خلال القرآن الكريم لتثبيتها في قلوب وعقول المؤمنين أن ما يصيبهم من بلاء وعنت وضيق وشدة فإنما هي نتيجة أعمالهم السيئة «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير» (الشورى: 30) «فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ»(النحل:34) «مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»(النساء: 79)، ويلفت أنظار المسلمين من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم في قمة المواجهة العسكرية مع مشركي قريش في معركة أحد أن هزيمتهم كانت بسبب عدم تهذيب أنفسهم فهذا هو السبب الحقيقي وليس الأسباب المادية «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا» (آل عمران: 155).

الله تعالى يعلمنا طريق الحل:

وفي نفس الوقت يعلمنا الحل وسبيل النجاة من هذه المعاناة.

انه بالعودة إلى الله تبارك وتعالى والتضرع إليه والتوسل إليه تبارك وتعالى وتصفية القلوب مما فيها من غلٍّ وضغائن ورذائل كالحسد والعجب والكراهية والأنانية «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى

ص: 32


1- من النصائح والمواعظ التي كان يوجهها سماحة الشيخ (دام ظله) إلى الأمة من خلال أئمة الجمعة خلال فترة المواجهات المسلحة، عام 2004.

قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» (الأعراف:96-100).

والمراد بالبأس هنا ليس الاستئصال كما كان يحصل للأمم السابقة على الإسلام، فإن مثل هذا العذاب قد رُفع عن هذه الأمة ببركة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن الأمة بقيت معرضة -بسوء تصرفها- لألوان أخرى من العذاب: نقص الثمرات، وقوع الفتن والحروب بينهم فيذيق بعضهم بأسبعض، تداعي الأمم الأخرى عليهم لاستعبادهم، وهذه البلاءات كلها قد نزلت بالأمة والعياذ بالله. وقال تعالى «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» (الطلاق:2-3)، ويخاطب الأمم التي تتخبط في جهلها وغفلتها وبعدها عن الطريق الحقيقي «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» (سبأ: 46) أي أن تلتفتوا إلى أنفسكم فتعودوا إلى الله تبارك وتعالى أفراداً وجماعات وتجأرون إلى الله بالدعاء والاستغاثة.

وهذا لا يعني أن هذا القيام لله تبارك وتعالى واللجوء إليه مختص بحال الاضطرار، إذ المطلوب أن يكون الإنسان في كل حالاته ذاكراً لله تعالى مستجيراً به طالباً منه التوفيق والتثبيت على الإيمان والزيادة من عمل الخير والتأييد، بل إنه سبحانه يعرض مستغرباً مثل هذا النموذج الذي لا يعرف الله إلا في أوقات الضيق والشدة كانقطاع السبل في البحر الهائج «فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُون» (العنكبوت: 65)، ولا يقصد الشرك الظاهري أي عبادة الأصنام ونحوها لأنه خلاف دعوتهم لله مخلصين، وإنما يريد الشرك الخفي أي الإعراض عن الله والالتجاء إلى الأسباب من دونه.

ويضرب لنا مثلاً في قوم يونس فإنهم قد أحيطوا بعذاب، وظن نبيهم أنهم قد أُخذوا ولم تبق فرصة لنجاتهم، فغادر المدينة إلا أنهم عادوا إلى الله وخرجوا جميعاً مستغيثين بالله أن يرفع عنهم البلاء، فاستجاب الله تبارك وتعالى لهم ونجاهم «فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ» (يونس:98).

ص: 33

وابتغوا إليه الوسيلة:

ولا يتم هذا الاتصال بالله تبارك وتعالى وينتج ثمراته إلا بولاية أهل البيت والتوسل بهم إلى الله تبارك وتعالى وإدامة ذكرهم وإقامة شعائرهم والاستغاثة بالإمام القائم بالأمر (عجل الله تعالى فرجه)، قال تعالى «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى» (طه:124) وقد ورد في الروايات أن الذكر هي ولاية أهل البيت (عليهم السلام) فمن لم يتمسك بهم يكن في عيشة ضيقة تعيسة خالية من الإمدادات الروحية.

يروى عن الإمام الهادي (عليه السلام) قوله عن دعاء (يا من تحل بهعقد المكاره …) (إنه دعاء آل محمد (عليهم السلام) عند إشراف البلاء وظهور الأعداء وخوف الفقر وضيق الصدر)(1).

وهو من أدعية الصحيفة السجادية ويوجد في كتاب مفاتيح الجنان.

هكذا علمنا الله تبارك وتعالى وهكذا أدبنا أهل البيت (عليهم السلام) فأين نحن من ذلك التأديب الذي يراد منه نفعنا وسعادتنا ؟

الانفعال والارتجالية:

أنا لا أنكر تقدم المستوى الإيماني لدى هذا الجيل بفضل الله تبارك وتعالى بشكل أذهل الأعداء وأصاب خططهم بالخيبة والخسران، إلا أنه مع الأسف في كثير من حالاته عبارة عن وهج عاطفي وحرارة متدفقة غير مقترن بوعي عميق وتربية راسخة للقلب والنفس، مما يجعل هذه الاندفاعة في مهب الريح -والعياذ بالله- إذا لم نتداركها بما يصلحها.

وإلا بماذا تفسر انتشار الافتراء والبهتان والتسقيط والتشويه بين المؤمنين بل أصبح شغل الكثير من أهل الغفلة هو ذم العلماء والمراجع والقدح فيهم وانتقادهم، ولا أدري من

ص: 34


1- مفاتيح الجنان: ص148.

أين نال هؤلاء القيمومة على الآخرين ليعطوا لأنفسهم الحق في تقييم أعمال المراجع والمفكرين ؟! ألم يسمعوا الحديث الشريف (إن حرمة المؤمن أعظم من الكعبة)(1)، فالاعتداء على سمعة المؤمن وكرامته وتشويه صورته اشد من الاعتداء على الكعبة، أو على العتبات الطاهرة للأئمة المعصومين (عليهم السلام) -رغم أنها من الجرائم الشنيعة-، فهل التفت المؤمنون إلى هذه الكبائر التي تورطوا فيها، وعميت بصائرهم عن رؤيتها حتى تنشر صحائف أعمالهم أمام الحكم العدل «فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (قّ: 22).

هل غضبنا لله تعالى أم لأنفسنا؟

وهل غضبوا لانتهاك حرمات المؤمنين أم على العكس إنهم خاضوا في هذه الكبائر وشربوا كأسها حتى الثمالة، حتى أن بعض أئمة الجمعات استغلوا هذا الموقع الآلهي الذي يعبر عنه الإمام (عليه السلام) (اللهم إن هذا مقام أوليائك وخلفائك)(2) استغلوه للمهاترات الكلامية وتصفية الحسابات الشخصيةولانتقاد العلماء.

التربية الى نصف الطريق:

عن هذا النقص في تربية المشتغلين بالعمل الاجتماعي الإسلامي والأسف من عدم اكتمال التربية قال الشهيد السيد محمد باقر الصدر رائد الحركة الإسلامية في العراق(3). (إننا استطعنا أن نربي الآخرين إلى نصف الطريق) وعلق عليه الشهيد السيد محمد الصدر (قده): (ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك لما حصل أي شيء من تلك النتائج.

ص: 35


1- مستدرك سفينة البحار: ج2 ص271.
2- أنظر: مصباح الزائر: ص44 ، وراجع البحار: ج100 ص160.
3- (1) من بحث بعنوان (التربية الدينية) كتبه السيد الشهيد الصدر الثاني أيام إقامته الجبرية في الثمانينات وهو مخطوط محفوظ عندي، ونشر ضمن سلسلة (حديث الروح).

ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، وما رسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس ونور القلب وعمق الإخلاص وقوة الإرادة وعفة الضمير لما عانوا ما عانوا، بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم» (محمد: 38) ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ» (الحج:41)، وليس ذلك إلا لان الأفراد التامين من جميع الجهات والأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير)(1).

المعركة الكبرى:

إننا مطالبون بمحاربة الشياطين في أنفسنا الأمارة بالسوء قبل كل شيء، ومهما تعاظمت شياطين الجن والأنس فإنها دون هذا العدو الأكبر الذي وصفه الحديث الشريف (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)(2)،

بل إن كل شياطين الإنس هي ثمرة هذا الشيطان ولو أصلحنا ما في نفوسنا لم يبق شيء من تلك الشياطين؛ لذا سمى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جهاد النفس بالجهاد الأكبر ومعناه أن العدو في هذا الجهاد هو العدو الأكبر. وجهادالأعداء الآخرين مهما تفرعنوا بالأصغر.

النصر الحقيقي:

إن نصرنا الحقيقي حينما نستطيع سحق أهوائنا وأنانياتنا ونزيل الغل والحقد والكراهية وحب الدنيا بكل أشكالها (وأخطرها حب الرئاسة والتسلط وتصفيق الجماهير) والحسد والرياء والعجب والتكبر والعنجهية والاستعلاء وغيرها من الرذائل، ونملأ قلوبنا

ص: 36


1- الشهيد الصدر (قدس سره) كما أعرفه: ص302.
2- البحار: ج67 ص36.

بالحب والرحمة والشفقة والعفو والصفح والتآلف والمودة والصبر وكظم الغيظ وغيرها من الفضائل.

هذه هي وصايا أهل البيت (عليهم السلام) وهذه تربيتهم، حتى حينما كان يظن شيعتهم أن الفرصة قد حانت وان الثمرة قد آن قطافها، كانوا (عليهم السلام) دائماً يذهبون في الاتجاه الآخر غير الذي يفكر به الآخرون مهما قربوا من الإمام (عليه السلام)، وهو اتجاه محاسبة النفس ومراقبتها وعرضها على الميزان الذي نصبه أهل البيت (عليهم السلام)، وأقرأ كشواهد على ذلك أقوال الإمام الصادق (عليه السلام) لمن عرضوا عليه النصرة وتسليم مفاتيح السلطة بعد القضاء على الأمويين، ونصائح الإمام الرضا (عليه السلام) للذين خرجوا لاستقباله على طول الطريق من المدينة المنورة إلى مرو.

ابتعادنا عن أدب السلف الصالح:

إننا ضيعنا حتى الحد الأدنى من ذكر الله تعالى وهو الالتجاء إليه عند الاضطرار، فها هو البلاء يحيق بنا والأعداء يتربصون بنا ولا أجد المؤمنين يعقدون مجالس الدعاء والتوجه إلى الله تعالى والاستغاثة بالمعصومين (عليهم السلام) والتوسل إلى صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه) كي يتولانا برعايته مع عدم الإخلال بالواجبات الأخرى طبعاً، يروي لنا سلفنا انه إذا مر بهم بلاء اجتمعوا في المساجد والحسينيات للدعاء ولذكر مصائب أهل البيت (عليهم السلام) وزيارتهم، وكان طلبة العلم في النجف يتوجهون مشياً على الأقدام إلى مسجد السهلة مستغيثين بالإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) أو كربلاء لزيارة الحسين (عليه السلام) أو أي مسجد جامع لأبناء المدينة فيرفع الله عنهم البلاء، كما فعل بقوم يونس، بل ما حصل لنفس النبي يونس (عليه السلام) فانه لما نادى «لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» (الأنبياء: 87) جاءه الغوث والخلاص «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَالْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» (الأنبياء:88) وقال تعالى «فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (الصافات:143 -

ص: 37

144).

لذا يبين الإمام المهدي (عليه السلام) امتعاضه من شيعته لأجل هذه الغفلة عن الله تعالى وعن أهل البيت (عليهم السلام) في كثير من اللقاءات معه (عليه السلام) ومنها قصة السيد الرشتي المذكورة في مفاتيح الجنان لما ضلَّ الطريق في ظروف صعبة قال له موبخاً لماذا تتركون زيارة عاشوراء والنافلة وزيارة الجامعة الكبيرة(1).

هذا هو الحل وهذا هو طريق النجاة أن نقوم لله تعالى مثنى وفرادى متآلفين ومتحابين أنقياء القلوب أصفياء النفوس ونعمل بوصايا المعصومين (عليهم السلام) ونتأدب بأدبهم ونترك التعصب والتشنج والتطرف والأنانية وحب الدنيا.

«قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ»

ص: 38


1- تفصيل الكلام في كتاب (شكوى الإمام (عليه السلام)). وانظر مفاتيح الجنان، قصة السيد الرشتي: ص595.

الصناعة الإلهية للإنسان

اشارة

الصناعة الإلهية للإنسان(1)

أهمية الطفولة:

من المعلوم أن فترة الطفولة لدى الإنسان هي أطول من كل الكائنات الحية، وما ذلك إلا لينال التربية الكاملة والكافية التي تؤهله لممارسة دوره كخليفة لله تعالى في أرضه وليستطيع بناء كل قواه البدنية والعقلية والفكرية والنفسية حتى يتمكن من تلقي التشريف الإلهي ويبلغ سن التكليف الذي يتأخر عن السنة التاسعة عند الإناث وأكثر من ذلك عند الذكور.

ولاشك أنه كلما تتوفر للإنسان عوامل أقوى لتربيته وبنائه فإن فرصته لبلوغ الكمال والرقي أفضل وأوسع، وكلّما كان الدور المناط بالشخص والمسؤولية التي سيضطلع بها أهم وأوسع، كان نوع المربي المطلوب متصفاً بكمالات أرقى.

التربية الإلهية:

ولما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكمل البشر وأفضلهم ومعداً لأداء أعظم الرسالات الإلهية، فلم يكن هناك من هو جدير بتربيته وتأديبه، لذا تكفل الله تبارك وتعالى بذلك، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أدبني ربي فاحسن تأديبي)(2) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) (أنا أديب الله وعلي أديبي)(3).

ص: 39


1- الكلمة التي ألقاها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) على أساتذة وطلبة مدرسة الإمام الجواد (عليه السلام) الدينية في النجف الأشرف يوم الثلاثاء 15/ع2/1434 المصادف 2013/2/26.
2- البحار: ج68 ص382.
3- ميزان الحكمة: 1/80.

وفي نهج البلاغة يصف أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الصناعة بقوله (ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله وسلم) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره)(1).

وأرّقَ تعبير وألطفه وأعظمه لهذه الفكرة هو ما وردفي القرآن الكريم في حق نبي الله تعالى وكليمه موسى (عليه السلام) ، قال تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه/39) وقال تعالى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) طه41،,حينما يحظى الإنسان بلحظة من العناية الإلهية والألطاف الإلهية فإنها تغنيه وتكفيه، فكيفبمن يُصنع كله بعين الله تعالى ورعايته ولطفه، وليس هذا فقط بل يصطعنه لنفسه خالصاً مخلصاً ليحمل رسالته الكريمة إلى البشرية فليس له نظرٌ إلى ما سوى الله تبارك وتعالى، ولا يطمع فيه أحد من شياطين الجن والإنس، والصنع كما في المفردات (إجادة الفعل) أما الاصطناع فإنه (المبالغة في إصلاح الشيء)(2).

نتيجة الاصطفاء الإلهي:

وكانت النتيجة أن يكون موسى (عليه السلام) مخلصاً لله تبارك وتعالى نبياً رسولاً من أولي العزم {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً }مريم51، هكذا تتدخل الألطاف الإلهية في صناعة الأفذاذ المؤهلين للأدوار العظيمة، والمستحقين للمقامات السامية، ومنهم أهل البيت (عليهم السلام)، فقد أراد الله تعالى أن يكونوا معصومين مطهرين مخلصين له تبارك وتعالى، قال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب/33) وإذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، ولا رادّ لقضائه.

ص: 40


1- نهج البلاغة، الخطبة، 192 المسماة بالقاصعة.
2- المغردات: ص286.

هل تساءل أحد كيف يمكن أن توجد مثل خديجة بنت خويلد التي لُقِّبت بالسيدة الطاهرة في ذلك المجتمع الجاهلي المملوء بالجرائم والموبقات والمفاسد التي لم يسلَم منها إلا الأفذاذ من بني هاشم؟ وهل يوجد تفسير لذلك إلا الصناعة الإلهية لتلك القدّيسة الطاهرة؟.

وهكذا يجد من يراجع سير العظماء ان يداً من وراء الغيب تتولى أمرهم وتنعم بحب وشفقة واتقان لتعدّهم للدور الكبير الذي يراد لهم.

كيف ننال الاصطفاء الإلهي؟

والذي يهمّنا من ناحية عملية هو هل يمكن أن نحظى بهذه الألطاف الإلهية ونكون ممن يصنعهم الله تعالى على عينه ويصطنعهم لنفسه بدرجة من الدرجات؟ ومن الواضح اننا نتحدث هنا عن التربية الإلهية الخاصة، لأنالعامة شاملة للجميع، فهو (رب العالمين) و(مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) (هود/56).

والجواب واضح بإمكان ذلك إذ أن الله تبارك وتعالى لا بخل في ساحته –كما قيل- ولا يحتجب عن خلقه، إلا أن تحجبهم الذنوب دونه –كما في الدعاء.

والسؤال الأهم في كيفية تحصيل ذلك، ويمكن ان نستفيد معنيين من نفس الآيات الشريفة.

الأول: من نفس الآية الأولى (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه/39) فالطريق أن تحبّ الله تعالى ويحببك الله تعالى، وقد شرحنا علامات هذا الحب المتبادل وطريقة تحصيله في خطاب سابق، وورد في كلمات الحكماء (إن الله إذا أحبّ عبداً تفقّده كما يتفقّد الصديق صديقه)(1).

الثاني: من الآية الثانية (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى* وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه/ 40-41) فعندما يكون الإنسان ذا همّة عالية وطموح كبير

ص: 41


1- مفردات الراغب ص321.

للعمل في إعلاء كلمة الله تعالى ونشر علوم أهل البيت (عليهم السلام) واصلاح النفس والمجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله يستخلصه لنفسه وسيصلح شأنه ويتولاه بنفسه ويعينه على هذه الرسالة ويؤهله لأدائها.

ما يوجب الصناعة الإلهية:

ويستفاد من الروايات الشريفة ما يوجب تلك الألطاف الإلهية.

(منها) صحيحة أبان بن تغلب عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) –في حديث- (إن الله جلّ جلاله قال: ما يتقرب إلي عبدٌ من عبادي بشيء أحبُّ إليّ مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته)(1).

(منها) ما في الحديث القدسي (أيما عبد اطلعتُ على قلبه فرايت الغالب عليه التمسك بذكري تولّيتُ سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه)(2).(ومنها) ما في الحديث الشريف: (ما يتقرب الىّ عبد من عبادي بشئ أحبّ الىّ ممّا افترضتُ عليه و إنّه ليتقرّب الىّ بالنافلة حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت اذاً سمعه الذي يسمع به ، و بصره الذي يبصر به ، و لسانه الذي ينطق به ، و يده التي يبطش بها ، إن سألني أعطيته)(3).

وفي البحار عن إرشاد الديلمي وغيره (فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث خصال: أعرفه شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين.

فإذا أحبّني أحببته، وأفتح عين قلبه إلى جلالي، ولا أخفي عليه خاصّة خلقي، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي

ص: 42


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب17، ح6.
2- البحار: ج90 ص162.
3- الكافي: ج2 ص352 ح8.

وكلام ملائكتي، وأعرّفه السر الذي سترته عن خلقي، والبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق كلهم، ويمشي على الأرض مغفوراً له، وأجعل قلبه واعياً وبصيراً، ولا أخفي عليه شيئاً من جنة ولا نار، وأعرّفه ما يمرُّ على الناس في القيامة من الهول والشدّة، وما أحاسب به الأغنياء والفقراء والجهّال والعلماء، وأنوّمه في قبره، وأنزل عليه منكراً ونكيراً حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت وظلمه القبر واللحد وهول المطّلع، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ثم لا أجعل بيني وبينه ترجماناً، فهذه صفات المحبين)(1).

الدعاء يوصل الى الصناعة الإلهية:

ولا شك أن الدعاء وطلب معالي الأمور يوشك أن يوصل إلى ذلك فليجتهد العبد في الطلب والدعاء، من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في طلب مكارم الأخلاق (2)(واصلحني بكرمك وداوني بصنعك) وورد في دعائه (عليه السلام) الذي أوله (يا من تحلّ به عقد المكاره)(3) (وأذقني حلاوة الصنع فيما سألتُ) ومن دعائه (عليه السلام) في طلب العفو (اجعلني... وخلّصته بتوفيقك من ورطات المجرمين، فأصبح طليق عفوك من أسار سخطك، وعتيق صنعك من وثاق عدلك)(4).خصوصاً أنتم معاشر الشباب ما دمتم في مقتبل العمر وبداية الطريق لصناعة مستقبلكم المعنوي والمادي، فاسألوا الله تعالى أن يختاركم لأعظم الأدوار وأرقى المسؤوليات وأن يصنعكم بيده سبحانه لأدائها، وواظبوا على طلب ذلك بإخلاص ولسوف يعطيكم ربكم ذلك كما حكى سبحانه عن عباد الرحمن أن من دعائهم (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان/74).

ص: 43


1- البحار: ج74 ص29.
2- مفاتيح الجنان: ص105.
3- السابق: ص148.
4- الصحيفة السجادية، من دعائه (عليه السلام) في طلب العفو والرحمة: ص170.

شكوى الإمام (عليه السلام) من قلة المخلصين

اشارة

شكوى الإمام (عليه السلام) من قلة المخلصين(1)

أصحاب القائم (عليه السلام):

ورد في الروايات أن أصحاب الإمام المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء) الذين يبدأ بهم حركته المباركة هم ثلاثمائة وثلاثة عشر كما روى الشيخ الطوسي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: (يبايع القائم بين الركن والمقام ثلاثمائة ونيف عدة أهل بدر، فيهم النجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشام والأخيار من أهل العراق، فيقيم ما شاء الله أن يقيم) (2).

وفي حديث عن أمير المؤمنين ع جاء فيه (... وبقي المؤمنون، وقليل ما يكونون ثلاث مائة أو يزيدون)(3).

أين المشكلة؟

ومثل هذه الروايات تدفعنا إلى السؤال بتعجب: ألا يوجد في هذه الملايين من الموالين لأهل البيت (سلام الله عليهم) ثلاثمائة وثلاثة عشر ممن يقتنع بهم الإمام (عليه السلام) لينطلق بحركته المباركة خصوصاً وإنهم يمتلكون السلطة والنفوذ في أكثر من دولة ويرفعون فيها شعار طاعة المرجعية الدينية وولاية الفقيه النائب عن الإمام (عليه السلام)؟! فأين المشكلة؟

ص: 44


1- من حديث سماحة الشيخ مع وفد من مدينة الحلة يوم 16/ع1 ووفود من الناصرية وطلبة مدينة تلعفر المهجرين إلى جامعة الكوفة وكلية الهندسة في جامعة البصرة يوم 18/ع1/1428المصادف 2007/4/7 .
2- الغيبة للطوسي: 477، ح502.
3- بحار الأنوار للمجلسي: 52/137.

والجواب توضّحه الروايات فقد روى جابر الجعفي قال: (قلت لأبي جعفر عليه السلام متى يكون فرجكم؟ فقال: هيهات هيهات لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا يقولها ثلاثاً حتى يذهب الكدر ويبقى الصفو) (1).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال (كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى، ولا علم، يبرأ بعضكم من بعض فعند ذلك تميَّزون وتمحصَّون وتغربلون إلخ) (2).

وشبّه الإمام الباقر (عليه السلام) هذه الصفوة المنتجبة بطعام في بيت (فأصابه آكل – أي تسوّس- فنقّي ثم أصابه آكل فنُقّي حتى بقي منه ما لا يضرُّه الآكل، وكذلك شيعتنا يُميَّزون ويُمحصَّون حتى يبقى منهم عصابة لا تضُّرها الفتنة) (3).

الإخلاص شرط النهوض:

فلا زالت سنة التمحيص والغربلة جارية حتى يثبت المخلصون وقليلٌ ما هم، من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليوم والشواهد كثيرة، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي عاش بين أظهرهم (23) سنة يبلغهم رسالات ربهم ويخبرهم بما في خلجات أنفسهم وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى من لدن ربهم الذي هو أقرب إليهم من حبل الوريد ويعلم ما توسوس به أنفسهم، ولم يردعهم ذلك عن قول (إن الرجل ليهجر)(4) حينما طلب منهم قرطاساً ودواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلَّوا من بعده أبداً، وانقلبوا على الأعقاب ولم يستجب لدعوة أمير المؤمنين (عليه السلام) لنصرته واسترداد حقه إلا عدد الأصابع.

ص: 45


1- الغيبة للطوسي: 339، ح278.
2- كمال الدين: 348 ، ح 36.
3- غيبة النعماني: 211، باب 12 ، ح 18.
4- صحيح البخاري: ج 3 ص 60، وج 4 ص 5 و 173، وج 1 ص 21 و 22، وج 2 ص 115.

والإمام الحسن (عليه السلام) اضطر إلى مهادنة معاوية بعد فشل أصحابه في الثبات على الحق والإمام الحسين (عليه السلام) لم يثبت معه إلا سبعون من هذه الدنيا الواسعة، ورغم أنه عبّأ لحركته بمختلف الوسائل حيث أقام عدة أشهر في مكة والتقى بوفود مختلف المدن وبعث بالرسائل إلى الوجوه وكانت حركته معلنة وواضحة حتى قال (عليه السلام): (إن الناسعبيد الدنيا، والدين لَعِقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درَّت معائشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الدَّيّانون)(1).

ولقي عباد البصري علي بن الحسين (عليهما السلام) في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته، وأقبلت على الحج ولينه، وإن الله عز وجل يقول: «إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً» فقال الإمام (عليه السلام) : أتم الآية ، فقال: «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ» إلى قوله تعالى «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» فقال الإمام عليه السلام (إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج) (2).

هذه اللوعة وهذا الألم من قلة المخلصين عبّر عنه الإمام الصادق (عليه السلام) في كلامه مع سدير الصيرفي حين دخل على الإمام (عليه السلام) (فقال: يا أبا عبد الله ما يسُعُك القعود، فقال عليه السلام: ولِمَ يا سدير، فقال: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك، فقال (عليه السلام) : يا سدير وكم عسى أن يكونوا؟ قال: مائة ألف فقال الإمام (عليه السلام) مستغرباً: مائة ألف، قال: نعم ومائتي ألف، فقال (عليه السلام) له : لو كان عندي عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله في بدر لنهضت) (3).

ص: 46


1- تحف العقول: ص245، والمناقب: ج4 ص68.
2- وسائل الشيعة كتاب الجهاد باب 12، ح3.
3- دور الأئمة في الحياة الإسلامية: 329.

وهكذا تستمر الشواهد إلى أن نصل إلى عصرنا الحاضر وقد ذكرنا في حديث سابق ألم وأسف الشهيد الصدر الأول (قدس سره) قبيل استشهاده والشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991.

أزمة الإخلاص في حديث الشهيد الصدر (قدس سره):

إن الجهاد الذي يتبادر منه مواجهة الطواغيت والسعي لتغيير نظام الحكم، والانخراط في العمل الاجتماعي، ونشر الوعي الإسلامي، الذي قادته الحركة الإسلامية في العراق وغيره.

ولا شك أن هذه أعمال مباركة ثقيلة الميزان عند الله تبارك وتعالى؛ لكن بشرط أن تبنى على الإخلاص لله تبارك وتعالى، ولا يحصل ذلك إلاّ بعد جهد وجهاد طويلين في ميدان تهذيب النفس وتطهير القلب، والسير في مدارج الكمال، أمّا الانهماك في العمل الاجتماعي من دون النجاح في جهادالنفس، فإنّه يجعل صاحبه من الأخسرين أعمالاً {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} الكهف:104.

وقد أولى السيد الصدر الثاني (قد سره) هذا المعنى اهتماماً كبيراً وتذكيراً مستمراً، وكان يرثي لحال الغافلين عنه، وهو معنى مأخوذ من وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لسريّة من المقاتلين بالالتفات إلى الجهاد الأكبر - وهو جهاد النفس - وعدم الاقتصار على الجهاد الأصغر.

عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية، فلما رجعوا قال: مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس، وقال: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه)(1).

ومن كلماته (قد سره) في هذا المجال: (وبحسب فهمي وتجاربي من الاتجاه الإسلامي الاجتماعي هو اهتمامه بمصالح المجتمع أكثر من اهتمامه بمصالح الفرد، أو قل: اهتمامه

ص: 47


1- معاني الأخبار: ص160.

بتربية الآخرين أكثر من اهتمامه بتربية النفس، مع العلم أن النفس التي لم تصل في التربية إلى درجة معينة فإنها لا تكون صالحة لتربية الآخرين بالمرة، أو في حدود تربية ناقصة وفاسدة، ولن يكون التلميذ أحسن من أستاذه، ما لم تدركه رحمة الله عز وجل، أو حسن التوفيق، وهذا حسب فهمي من الأخطاء أو النقصان الذي عاناه ولا زال يعانيه الاتجاه الاجتماعي الإسلامي، الأمر الذي يجعل أفراده أقل صبراً وأضعف تحملاً من تحمل ما سيواجهون من مصاعب وبلاء في طريقهم الطويل.

وهناك نتيجة أخرى مهمة في هذا الصدد نفسه، وهو أن الهدف الأعلى للاتجاه الاجتماعي الإسلامي دنيوي بطبيعته، وهو الذي يجعله الناس مشجعاً ومرغباً للآخرين في تحمل المصاعب والصبر على الشدائد، وانك ستنال شهرة ومنصباً وقوة وكذا وكذا ... وسوف لن ينال الآخرون من خيراتنا ومن أنفسنا ومن التحكم فينا، ومع احترامي الشديد لهذه الأهداف، إلاّ أنها بطبيعتها دنيوية)(1).

وقال مستشهداً بكلام للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) منبهاً إلى النقص في التربية: (وأريد أن أقول كلاماً أكثر صراحة، وهو أن التجاربالسابقة مع المتدينين والواعين فيها وجدنا الأغلب منهم يتهاوون ويضعفون أمام الدنيا بمختلف الأسباب: أما المال أو الخوف في المجتمع أو التعذيب داخل السجون، وأكاد أقول: انه حتى كثير ممن قتل منهم إنما تم قتله بعد اخذ الاعتراف الكاذب منه، ثم إدانته المحكمة باعتبار اعترافه، ولم يكن صامداً على طول الخط!!

ولذا صدر من سيدنا الأستاذ –يعني الشهيد الصدر الأول (قدس سره): أننا استطعنا أن نربي الآخرين إلى نصف الطريق، ولم يقل إلى نهايته لأنه لو كان الأمر كذلك، لما حصلت أي شيء من تلك النتائج.

ولو كان أولئك المتدينون قد أصلحوا أنفسهم قبل إصلاح الآخرين، ومارسوا المقدمات المنتجة لصفاء النفس، ونور القلب، وعمق الإخلاص، وقوة الإرادة، وعفة الضمير، لما

ص: 48


1- من بحث بعنوان (في تربية الدين للنفس والمجتمع) نشر في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه): ص297.

عانوا ما عانوا، بل ولعلهم لم يحتاجوا في الحكمة الإلهية إلى كل هذا البلاء الذي وقع عليهم، وإنما كانوا مع شديد الأسف مصداقاً لقوله تعالى {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} محمد:38، ولم يكونوا مصداقاً لقوله تعالى {الذِينَ إنْ مَكّنَّاهُم في الأَرْضِ أَقَامُوا الصَلاةَ وَآتَوا الزَكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ} الحج:41، وليس ذلك إلا لأن الأفراد التامين الجهات الكاملين الأوصاف الجامعين للشرائط عددهم قليل، وأقل من الحاجة بكثير).(1)

الطمع وحب الدنيا في العمل السياسي:

والذي يراقب عمل المتصدين اليوم في الحكومات التي ترفع لواء التشيع والولاء للإمام (عليه السلام) (فضلا عن غيرهم) يصل إلى نفس النتيجة، فقد طغى حب الدنيا وقست القلوب «وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُحَّ» وشيئاً فشيئاً سقطوا في الفتنة، وتخلّوا عّما تعلمّوه من أهل البيت (سلام الله عليهم)، ولم يتورعوا عن ارتكاب المحرمات حتى ولغوا في الدماء التي شدّد الله تبارك وتعالى في حرمتها حتى جعلها اشد من حرمة الكعبة! ومن أجل ماذا؟ من أجل دنيا زائفة سمّوها مصالح عليا.

ولا زال دم العراقيين الأبرياء ينزف لأنه أريد له أن يكون كبش فداء لهذه المصالح العليا لمن يرفعون لافتات الإسلام في العراق ودول الجوار، ولا أعلم شيئا عند الله أكرم من الإنسان الذي خلق كل ما في الدنيا من أجل كماله ورقيه وسعادته.إن الإمام المهدي (سلام الله عليه) بمرأى وبمسمع من كل هذه الأفعال بنص الآية الشريفة «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» (التوبة105) حيث تعرض أعمال العباد عليه لأنه حجة الله على خلقه.

قد يقال أن هذا الكلام يزرع اليأس في قلوب الناس وأنا أقول العكس فإنه: يزرع الأمل ويدفعنا للعمل لنكون من تلك القلّة التي حماها الله تبارك وتعالى من الوقوع في

ص: 49


1- الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه: ص302.

الفتنة حتى تشملها ألطاف صاحب العصر (عليه السلام) وتحظى برضاه ونكون ممن يمهّد لدولته المباركة، ونزداد بذلك شكراً الله تبارك وتعالى.

وإنه يحذّر الأمة من الوقوع في شراك الشعارات البراقة فيجعلها الآخرون وقوداً يحترق لتستمر ماكنة مصالح أولئك الآخرين بالعمل فينالون بذلك خزي الدنيا وعذاب الآخرة ويكونون من أشد الناس حسرة وندامة يوم القيامة الذين باعوا دينهم لدنيا غيرهم كما في الحديث الشريف.

وإنه يخفّف عن الرساليين العاملين حين يطمأنون بأن ما يجري خاضع لسنة الله في خلقه «فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً» (فاطر43) وليتيقنوا أن المعيار الحقيقي هو بناء الإنسان الصالح المخلص وليس ما يلهث وراءه الآخرون من دنيا زائلة وإن رفعوا شعارات برّاقة.

العدو الحقيقي:

إن الاحتلال والإرهاب وغيرهما أعداء حقيقيون لكنهم واضحون، والأخطر منهم عدو خفي يكمن في النفوس الأمارة بالسوء ولذا سمّى النبي (صلى الله عليه واله) مواجهته بالجهاد الأكبر، فلا يحق لإنسان يطمح إلى الكمال أن ينشغل بذاك عن هذا.

وليعلم السبب الحقيقي الذي يعطّل حركة الأئمة نحو بناء المجتمع الذي يقوم على أساس الحق والعدل، أما الأعداء الآخرون فهم كما وصفهم الله تبارك وتعالى «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» (العنكبوت41).

تذكروا أنكم بمحضر الله تعالى والمعصومين(علیهم السلام)

تذكروا أنكم بمحضر الله تعالى والمعصومين(علیهم السلام)(1)

ص: 50


1- يوم الاثنين 2/ذو الحجة الموافق 2010/11/8 زار وفد من إحدى حملات الكرادة الشرقية في بغداد مقر بعثة سماحة الشيخ (دام ظله) في مدينة مكة المكرمة، وألقى مرشد الحملة كلمة بهذه المناسبة وطلب من سماحة الشيخ كلمة إرشادية فاستجاب (دام ظله) لطلبهم وألقى هذه الكلمة فيهم.

لنستشعر الرقابة الإلهية:

غالباً ما يدفع الشعور بالمراقبة من قبل الغير بالإنسان إلى سلوك معين مختلف عن سلوكه لو لم يكن يشعر بكونه مراقباً، وهذا أمر واضح وله عدة أمثلة وتطبيقات في الواقع، فالإنسان يفعل في السر أموراً يخشى ويخجل من فعلها في العلن، ولو علم حينها أنه مراقب لما فعلها بكل تأكيد، فسائق السيارة مثلاً حين يواجه إشارة المرور في طريقه لا يجد أثراً لشرطي المرور فإنه يتجاوز الإشارة الحمراء دون تردد، لكنه لو كان يعلم بأن هناك كاميرات خفية تقوم برصده وأن هناك من يراقبه لما أقدم على تجاوز حدوده في الشارع، وهكذا كثير من أفعال الإنسان التي يقوم بها في السر وهو في غفلة عمن يراقبه فيها.

وأوضح مصاديق ذلك وأشدها غفلة وخسارة هي عدم الشعور بكون الله تعالى رقيباً عليه، فتجد الإنسان قد يؤمن نظرياً بأن الله تبارك وتعالى يراه «وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ» (يونس:61) لكن من حيث التطبيق لا تجد هذا الاعتقاد منعكساً على أفعاله، وهو علامة على أن إيمانه لم يكن واقعياً، وإلا لو كان كذلك لظهر أثر واقعية الإيمان في فعله.

وقد أشارت بعض نصوص الأدعية الشريفة إلى هذه المفارقة، فمن ذلك قول الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة: (يا من سترني من الآباء والأمهات أن يزجروني، ومن العشائر والإخوان أن يعيروني، ومن السلاطين أن يعاقبوني، ولو اطلعوا يا مولاي على ما اطلعت عليه مني إذن ما أنظروني، ولرفضوني وقطعوني)(1).ومنه قول الإمام السجاد (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة: (فلو اطلع اليوم على ذنبي أحد غيري ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنك أهون الناظرين إلي وأخف المطلعين عليّ، بل لأنك يا رب خير الساترين وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين،

ص: 51


1- مفاتيح الجنان: ص311

ستار العيوب، غفار الذنوب، علام الغيوب، تستر الذنب بكرمك، وتؤخر العقوبة بحلمك، فلك الحمد على حلمك بعد علمك، وعلى عفوك بعد قدرتك)(1).

من مصاديق الغفلة:

ومن مصاديق ذلك أيضاً الغفلة عن الموت مع الاعتقاد به يقيناً، حتى قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما رأيت يقيناً أشبه بشك من الموت)(2)، فنحن نؤمن بأن الموت حق، وأنه لا بد أن يختطفنا في أية لحظة من لحظات العمر، ولكن كم واحد منا يؤمن بذلك عملياً، بمعنى أنه استعد له وتهيأ وأدى ما عليه واجتنب كل ما حرم الله عز وجل، والحال أنك تجد العكس من ذلك، فالكثير منا يعمل وكأنه سيظل خالداً في هذه الدنيا.

الغفلة عن إمام الزمان (عليه السلام):

ومن مصاديق الغفلة والتصرف بخلاف وجود المراقبة ما ذكرته الرواية الشريفة: (والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه)(3) وهي رواية موجودة وصحيحة، إذن نحن بمرأى من الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، فمن يستشعر الخجل والحياء من فعل أمر أمام الناس علناً في حين يفعله في السر، مثل هذا الإنسان كيف به إذا اعتقد أن إمامه يراه دائماً، بالتأكيد إن ذلك سيدفعه إلى أن يكون أكثر مراقبة لنفسه في تعاملاته وتصرفاته، وبطبيعة الحال إن مثل هذه الأحاديث حين يمر بها الإنسان ويستشعر كل هذه الكاميرات التي تراقبه فإنه لن يتعامل مع الآخرين وكأنه في مغالبة على الدنيا، وسعي إلى الحصول على الغنائم والمكاسب الدنيوية، بل يستشعر مسؤوليته أكثر، ويحاسب نفسه أكثر، لأننا لن نُترَك سدىً وليس الأمر منتهياً، صحيح أن

ص: 52


1- السابق: ص224
2- بحار الأنوار: 75/246.
3- الغيبة: 9/18.

حلم الله تبارك وتعالى طويل لكنه يؤجلهم إلى يوم «لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» (الكهف: 49).نسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على طاعته وأن ينقذنا من الغفلة وأن نكون ذاكرين لله تبارك وتعالى ولإمامنا عجل الله فرجه الشريف، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

ص: 53

موجبات الرحمة الإلهية

اشارة

موجبات الرحمة الإلهية (1)

سعة الرحمة الإلهية:

ورد في الدعاء الشريف (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك)(2) وطلب الرحمة أمر طبيعي لأنه لا نجاة ولا توفيق إلا برحمة الله تعالى، عن النبي(صلى الله عليه وآله) قال (لن يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني)(3).

فما هي موجبات الرحمة الإلهية؟ وهل تحتاج الرحمة الإلهية إلى موجبات وأسباب وقد وسعت كل شيء؟

في الحديث الشريف عن الإمام السجاد (عليه السلام) قال (لا يهلك مؤمن بين ثلاث خصال: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وشفاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسعة رحمة الله عز وجل)(4).

(وقيل له (عليه السلام) يوماً أن الحسن البصري قال: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا، فقال (عليه السلام): أنا أقول ليس العجب ممن نجا كيف نجا، وإنما العجب ممن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله)(5).

وتصديق هذا في كتاب الله تعالى فإن السؤال يوم القيامة لا يكون عن الناجين كيف نجوا، وإنما «عَنِ الْمُجْرِمِينَ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» (المدثر: 41-42).

ص: 54


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي في المواكب التي تجمّعت يوم الخميس 11 رجب 1431 المصادف 2010/6/24 للانطلاق من النجف الأشرف إلى كربلاء مشياً على الأقدام لإحياء ذكرى وفاة العقيلة زينب وزيارة النصف من رجب للإمام الحسين (عليه السلام).
2- البحار: ج83 ص63.
3- كنز العمال : 10407.
4- بحار الأنوار: 78/ 159.
5- المصدر: 78/ 153.

وقد أشارت عدة آيات كريمة إلى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، قال عز من قائل «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ» (الأعراف156).

وقال تعالى «ربَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ» (غافر:7).

مثال في الرحمة الإلهية:

ويقرّب لنا النبي (صلى الله عليه وآله) سعة رحمة الله تعالى بقوله (إنّ لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)(1) فتصوروا سعة رحمة الله تعالى التي كتبها على نفسه وألزم تبارك وتعالى نفسه بها، قال تعالى «قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (الأنعام:12) وقال تعالى «وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْكَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (الأنعام:54) بل إن الله تعالى إنما خلق الخلق ليرحمهم بأن يجعلهم أمة واحدة متفقة على التوحيد، قال تعالى «وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ» (هود 118- 119).

الرحمة العامة والخاصة:

ولكن - اعلموا أيها الأحبة- أن لله تبارك وتعالى رحمة عامة لكل مخلوقاته وهي التي أشير إليها في موارد كثيرة كما في أدعية رجب (يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة)(2)، وفي دعاء آخر (ورزقك مبسوط لمن عصاك،

ص: 55


1- كنز العمال: ج4 ص249، ح10382.
2- إقبال الأعمال: ج3 ص211.

وحلمك معترض لمن ناواك، عادتك الإحسان إلى المسيئين وسبيلك الإبقاء على المعتدين)(1) فجميع خلقه حتى الذين يبارزونه بالمعصية والإنكار يرفلون بنعمه التي لا تعد ولا تحصى.

وهناك رحمة خاصة يمنُّ بها على عباده المؤمنين الذين عرفوه ودلّهم عليه بفضله وكرمه وهداهم إلى طاعته فراحوا يتحروّن رضاه، وهي التي أشير إليها في الحديث النبوي الشريف (اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرّضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) (تعرّضوا لرحمة الله بما أمركم به من طاعته)(2) والتعرض لها يعني التعرض لأسبابها وموجباتها، كما في الدعاء (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك) (3).

تعرضوا لرحمة الله تعالى:

وقد ورد في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ذكر الكثير من هذه الموجبات للرحمة الإلهية، فنحن لا يمكن أن نعرفها ونهتدي إليها إلا أن يهدينا الله تبارك وتعالى «الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ».وبعض هذه الأسباب لا يكون الإنسان مسؤولاً عن توفيرها وإنما جعلها الله بكرمه وفضله وليس على العاقل الكيِّس إلا استثمارها والتعرض لها كالأضرحة المقدسة للمعصومين (سلام الله عليهم) وقد حبانا الله تعالى نحن العراقيين بالعديد من أبواب الرحمة هذه، ومنها عموم المساجد، ومنها صلاة الجمعة والجماعة وحلقات العلم والمذاكرة، وعموم التجمعات الإيمانية، والأزمنة الشريفة كليلة الجمعة ويومها، ومنها هذا الشهر الشريف: شهر رجب الذي لقب في الأحاديث الشريفة بالأصّب لأن الرحمة تُصبّ فيه صبّاً.

ص: 56


1- السابق: ص210.
2- تنبيه الخواطر : ج2 ص120.
3- البحار: ج83 ص63.

ما تستدر به الرحمة الإلهية:

ومن أسباب الرحمة الإلهية ما يوفرها الإنسان بفضل الله تبارك وتعالى، وقد وجدت من أهل تلك الموجبات الاتصاف بالرحمة بحيث تكون محركة لأفعاله ومنبعاً لمشاعره وتبنى عليها علاقاته مع الآخرين من خلال الرحمة بهم والشفقة عليهم والرفق بهم ومداراتهم والتفاعل مع قضاياهم وحوائجهم عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (أبلغ ما تُستّدر به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة)(1)، لأن الرحمة من صفات الله تبارك وتعالى، وقد وصف الله عباده الذين رضي عنهم بأنهم «رُحَمَاء بَيْنَهُمْ» (الفتح:29) «وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» (البلد:17) «وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً» (الحديد: 27) وقال تعالى «إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ» (الأعراف: 56).

وفي الأحاديث الشريفة عن النبي (صلى الله عليه وآله): (من لا يرحم لا يُرحم)(2) (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)(3) (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله)(4) (الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة، أرحم من في الأرض يرحمك من في السماء)(5) (قال رجل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أحب أن يرحمني ربّي قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله)(6).والرحمة بالآخرين تبدأ من رحمة نفسه بأن يجنبّها ما يضرّها في الدنيا ككثير من الحماقات والأفعال اللاعقلائية كالتدخين وصرف الأموال الطائلة في اللهو والعبث، وما يضرّها في

ص: 57


1- ميزان الحكمة: ج2 ص1050.
2- الوسائل: ج4 ص197.
3- البحار: ج79 ص91.
4- كنز العمال: ج6 ص263.
5- البحار: ج74 ص167.
6- كنز العمال: ج16 ص128.

الآخرة كارتكاب المعاصي والعياذ بالله وصرف العمر في التفاهات وعدم التفقه في أمور الدين والمعرفة الضرورية.

ثم تتوسع الرحمة إلى من يليه في بيته كوالديه، قال تعالى «فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً» (الإسراء 23-24).

ثم الرحمة بالزوجة والزوج بالنسبة للمرأة، قال تعالى ممتناً على عباده «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (الروم:21) وورد في الحديث الشريف (اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة)(1) ثم الرحمة بالأقرباء وقد اشتق لهم اسم من الرحمة فيقال لهم الأرحام والأوامر في صلة الرحم كثيرة والنواهي عن قطعه شديدة.

ثم الرحمة بالآخرين خصوصاً إذا كانوا من ذوي الحاجة والمرضى والفقراء والمبتلين ببلاء ما، وهكذا حتى يمتلئ قلبه رحمة وشفقة على كل الموجودات، ومنبع هذه الرحمات كلها تقوى الله تبارك وتعالى وحب الله تبارك وتعالى، فالتقوى تردعه عن ظلم الآخرين والإساءة إليهم والتقصير في أداء حقوقهم وحب الله يترشح منه حب الخير لجميع الخلق حتى أعدائه بأن يسأل الله تعالى لهم الصلاح والهدى لأن الجميع عيال الله تبارك وتعالى، وخلقه فيحبهم حباً لخالقهم وربّهم ومدبر شؤونهم وفي بعض الأحاديث ما مضمونه (الخلق عيال الله، فأحب خلقه إليه أنفعهم لعياله) وفي حديث آخر عن الإمام الكاظم عن مثل هذا الشخص أنه معنا في درجتنا.

كالوالد الرحيم:

وكلما ازدادت ساحة مسؤولية الفرد، ازداد مقدار الرحمة الواجب توفرها، سواء كانت المسؤولية دينية - كالمرجعية الدينية ومعتمديها- أو سياسية - ككبار مسؤولي الدولة- أو اجتماعية - كزعماء العشائر أو وجهاء المجتمع- أو إدارية - كمدير

ص: 58


1- البحار: ج76 ص268.

الدائرة أو المدرسة- أو تعليمية- كالمدرس مع طلبته- في كتاب الخصال بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) قال (إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزهعن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من وُلّيَ حتى يكون له كالوالد الرحيم)(1) والحديث مطلق يشمل أي إمامة ورئاسة وزعامة مما ذكرنا.

من موجبات الرحمة:

وللرحمة الإلهية موجبات أخرى، وهي كثيرة نذكر منها شيئاً مختصراً لإلفات نظركم.

منها: طاعة الله ورسوله قال تعالى «وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (آل عمران: 132) وقال تعالى «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (النور: 56) وقال تعالى «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً» (النساء: 175).

ومنها: الصبر على المصائب قال تعالى «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (البقرة: 156-157).

ومنها: الاستغفار قال تعالى «لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (النمل:46).

ومنها: الإصلاح بين الإخوة المتخاصمين، قال تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ»(الحجرات: 10).

ومنها: ما ورد في الأحاديث الكثيرة من قولهم (عليهم السلام) رحم الله امرءاً كذا وكذا، كقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (رحم الله امرءاً أحيا حقاً وأمات باطلاً، وأدحض الجور وأقام العدل) وقوله (رحم الله امرءاً علم أن نفسه خطاه إلى أجله فبادر عمله وقصّر أمله)

ص: 59


1- الكافي: ج1 ص407.

ومنها: ما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أنه قال (سبعة يُظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظلّ إلا ظلُّه: إمام عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان كانا في طاعة الله عز وجل فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله عز وجل خالياً ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل، ورجل دعته امرأة ذاتحسب وجمال، فقال: إني أخاف الله عز وجل، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما يتصدق بيمينه)(1) .

نسأل الله تعالى أن يتغمدنا برحمته في الدنيا والآخرة وأن يوفقنا لموجبات رحمته إنه لطيف بعباده.

ص: 60


1- الخصال للصدوق: 2/342

الفصل الثاني:مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين علیهم السلام

اشارة

ص: 61

ص: 62

لنتأسى بالأخلاق النبوية

ما هي الأمور التي يمكن أن نتأسى بها؟

إن حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حافلة بالكثير مما يتأسى به، وكيف لا يكون كذلك وهو صنو القرآن الذي هو «تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ»(النحل:89) و«مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(الأنعام:38) وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك، والقرآن شفاء وهدى ورحمة ونور وبيان وذكر ومبارك وحكيم وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك، وقد أشبعنا البحث عن هذه الملازمة في كتاب (شكوى القرآن)(1).

ولكي نختصر الوقت ونخفف عنكم المؤونة نلفت أنظاركم إلى بعض ما يمكن أن نتأسى به من حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعيننا على أداء مسؤولياتنا، وسنجعله على شكل نقاط، وهي عبارة عن سلسلة محاضرات بعنوان (الأسوة الحسنة في بناء الذات وإصلاح المجتمع)(2) لكني أختصرها لكم بذكر بعض عناوينها وقد ذكرت بعضها في مناسبات متعددة، لكن تذكرها ضروري، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ومنها:

المعرفة بالله تعالى:

لمعرفة بالله تعالى والإخلاص له، فما من كلمة يقولها أو فعل يفعله أو ترك يتركه إلا لله تبارك وتعالى، ولو خيًر بين أمرين اختار أرضاهما لله، وكان على ذكر دائم لله دلً عليه ما روى من مكارم أخلاقه، حيث تجد له في كل

ص: 63


1- وأنظر كذلك: خطاب المرحلة: ج1 ص83.
2- طبعت لاحقاً في كتاب بعنوان (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين). أنظر: خطاب المرحلة: ج1 ص263.

حالٍ ذكراً، فللأكل دعاء، وللنوم1- دعاء، وللتخلي دعاء، وللوضوء دعاء، وللسفر دعاء، فكانت حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) كلها عبادة وفناء تام في الله سبحانه، وإذا اقتضت طبيعته البشرية وجسده المادي أن يعطيه حقه من النوم والأكل ونحوهما مما يراه (صلى الله عليه وآله وسلم) غفلة عن الله تبارك وتعالى وتقصيراً في وظائف العبودية، فكان يستغفر الله سبحانه من ذلك حتى نزل الوعد من قبل المولى تبارك وتعالى: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» (الفتح:1-2) وإن كان الاعتقاد أنهم (عليهم السلام) إذا ناموا نامت أعينهم فقط، أما قلوبهم فهي واعية متصلة ببارئها، كما هو المنقول عنهم (عليهم السلام).

وقد ربًى أصحابه المخلصين على هذه العبودية الكاملة، فيوصي أبا ذر (رضي الله عنه): (يا أبا ذر، اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(1)، ويقول له ما معناه: يا أبا ذر إنك تستطيع أن تجعل كل حياتك طاعة لله تبارك وتعالى حتى أكثر الأمور ارتباطاً بشهوات النفس كإتيانك امرأتك، فقال أبو ذر (رضي الله عنه): وكيف يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ -فبينها (صلى الله عليه وآله وسلم) له-: أليس في هذا العمل إدخال السرور على أهلك وتحصين نفسك وزوجتك من الحرام وزيادة عدد النسمات الموحًدة لله، وكل تلك النيات وغيرها طاعات وقربات إلى الله تعالى).

ص: 64


1- أمالي الطوسي: ص526.

ولمعرفته بحقيقة العبودية لله سبحانه كان كثير العبادة لا يفتر عنها(1)، وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (قرًة عيني في الصلاة)(2) لأنها معراجه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقربانه واتصاله بالحبيب، يصلي حتى تتورم قدماه فيقف على واحدةويرفع الأخرى لتستريح قليلاً فأشفق الله عليه بقوله: «طه ، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى»(طه:1-2).

الإعراض عن الدنيا المحللة:

2- الإعراض عن الدنيا وعدم الاغترار بها، وطبعاً نقصد بالدنيا المحللة منها لا المحرمة، لأن اجتناب المحرمات من أول شروط العصمة المتحققة فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) والاهتمام بالأعمال الصالحة، يوصي قيس بن عاصم المنقري: (يا قيس؛ إن مع العز ذلاً، وإن مع الحياة موتاً، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكلّ شيء حسيباً وعلى كل شيء رقيباً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكلّ سيئة عقاباً، وإن لكلّ أجل كتاباً، وإنه يا قيس لا بدَّ لك من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك، لا يحشر إلاّ معك ولا تحشر إلاّ معه، ولا تُسأل إلاّ عنه، ولا تبعث إلاّ معه، فلا تجعله إلاّ صالحاً، فإنه إن كان صالحاً لم تأنس إلا به، وإن كان فاحشاً لا تستوحش إلاّ عنه، وهو عملك)(3).

نزل جبرائيل الأمين (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً وقال له: (إنّ العلي الأعلى يُقرؤك السلام ويخصك بالتحية والإكرام وهو

ص: 65


1- واعلم أن باب الله تعالى مفتوح للجميع حيث لا بخل في ساحته تعالى ولكن الأمر يحتاج شيئاً من الالتفات والهمة والمواظبة على العبادة وخصوصاً قراءة القرآن وأدعية المعصومين (عليهم السلام) فإنها تؤثر تأثيراً نورانياً في النفس وإن لم تقرأ بخشوع.
2- وسائل الشيعة: ج2 ص144.
3- الخصال: ص114.

يقول لك أن لو شئت صيرت لك تهامة ذهباً وفضةً وأنت على ما أنت عليه من المقام الرفيع عند الله تبارك وتعالى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حبيبي جبرائيل ثم ماذا؟ قال: الموت، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إذن دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً، أما اليوم الذي أجوع فيه فأسأل ربي وأصبر، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأشكر ربي)(1)، فما الذي يضرنا لو قللنا إقبالنا على الدنيا واكتفينا منها بالضروري لنكون من المخفًين الذين يقال لهم جوزوا، لا المثقلين الذين يقال لهم حطوا.

وينبغي الالتفات إلى أن الدنيا التي أعرض عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست الدنيا المحرمة، فهذا أوضح مصاديق العصمة ومتطلباتها، بل هو الحد الأدنى من تكليف أي مسلم، وإنماكان إعراضه عن الدنيا المحللة، ولما سئل (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك قال (صلى الله عليه وآله وسلم): تواضعاً لله سبحانه(2)؛ فإعراضه كان تعظيماً لله سبحانه وإجلالاً له أن يجعل في قلبه حباً وشغلاً غيره تبارك وتعالى.

جاء يوماً لزيارة فاطمة (عليه السلام) فوجد على باب دارها إزاراً ملوّناً، فرجع عن زيارتها، فبلغها الخبر فتصدقت به على المسلمين، فعاد إلى زيارتها وضمها إلى صدره وهو يقول: ذرية طيبة بعضها من بعض.

الاهتمام بالقرآن الكريم

1- الاهتمام بالقرآن الكريم شغفاً به، لأنه رسالة الحبيب وهل تُمَل رسالة الحبيب؟ وامتثالاً لأمره تبارك وتعالى: «يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ

ص: 66


1- بحار الأنوار: 42 / 276.
2- أنظر الكافي: ج8 ص130.

أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً ، أوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً» (المزمل:1-5).

وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلب من ابن مسعود أن يتلو القرآن عليه، فيقول ابن مسعود: اقرأه عليك وقد نزل عليك، فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (أحب أن أسمعه منك)، يريد أن يمتع جميع جوارحه بكلام الله تعالى، فيقرأ ابن مسعود وعين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تفيض من الدمع.

وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينام حتى يقرأ سور المسبّحات(1)، أي التي تبدأ بكلمات التسبيح، ويوصي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتلاوة القرآن وتدبر معانيه والعمل به، ويبين الثواب العظيم لذلك، وقد بينا بعضاً منه في كتاب (شكوى القرآن).

وإنك لتشعر أنّ أي مصلح اجتماعي أو قائد عظيم لا يكون ناجحاً إلا إذا عاش في ظل القرآن وتربى في أحضانه وتفاعل مع آياته.

التواضع:

4- التواضع(2) بحيث كان الأعرابي يدخل إلى المسجد فيقول: أيكم محمد؟(3) لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتميز عن أصحابه بمجلس أو ملبس أو أي

ص: 67


1- أنظر مستدرك الوسائل: ج4 ص289.
2- روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتاب غرر الحكم هذه الروايات: 1 - لو رخص الله سبحانه في الكبر لأحد من الخلق لرخص فيه لأنبيائه لكنه كره إليهم التكبر ورضي لهم التواضع. 2 - ثلاث يوجبن المحبة حسن الخلق و حسن الرفق و التواضع. 3 - أشرف الخلائق التواضع و الحلم و لين الجانب.
3- البحار: ج43 ص334.

شيء آخر، يواسي في حياته أدناهم، وهو يفعل ذلك أدباً مع الله تعالى واستشعارا للحقارة في حضرة الربوبية.

سعة الصدر:

5- سعة الصدر وتحمل الناس على اختلاف مستوياتهم وطبائعهم، وفي الحديث (آلة الرئاسة سعة الصدر)(1)،

وأية رئاسة أعظم من منصبه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويوصي عمه العباس: (يا بني عبد المطلب، إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم)(2).

يقول مالك خادم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (خدمت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر سنين ما قال لي يوماً لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لِمَ لمْ تفعله؟)(3)،وهي قابلية إعجازية ومن معجزاته أخلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد وصفه الله تبارك وتعالى: «لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ»(التوبة:128)، من رحمته كان يود أن يؤمن جميع الناس ويحرص على ذلك حتى نزل قوله تعالى: «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ – بعد توليهم عنك - إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِأَسَفاً»(الكهف:6) وقال تعالى: «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»(الشعراء:3).

عدم الاستماع الى النميمة:

ص: 68


1- نهج البلاغة: الحكمة 176.
2- أنظر: أمالي الصدوق: ص62.
3- أنظر: أنساب الأشراف: ج1 ص464، وتاريخ بغداد: 6 ص393.

6- عدم الاستماع إلى النميمة ونقل الكلام السيئ عن أصحابه خصوصاً من المتزلفين وضعيفي النفوس، فكان إذا أراد أحد أصحابه أن ينقل كلاماً سيئاً عن أحد منعه، وقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً،فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)(1).

الالتزام بالأخلاق الفاضلة:

7- الالتزام بالأخلاق الفاضلة، وقد امتدحه الله تبارك وتعالى عليها قائلاً: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(القلم:4)، وفي وصيته لأمير المؤمنين (عليه السلام): (عليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، عليك بمساوي الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومن الا نفسك)(2)، وقد جعلها (صلى الله عليه وآله وسلم) محور رسالته قائلاً: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(3)، وهذه النقطة وحدها تستوعب مجلدات من الكلام والمصادر حافلة بالشواهد التفصيلية(4).

الإكثار من ذكر الموت

ص: 69


1- البحار: ج16 ص231.
2- الوسائل: ج15 ص182.
3- البحار: ج16 ص210.
4- جاء في كتاب أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) تعريف حسن الخلق: هو حالة نفسية تبعث على حسن معاشرة الناس ومجاملتهم بالبشاشة وطيب القول، وكما عرّفه الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن حده فقال: (تلين جناحك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حسن). وقال (عليه السلام): (إن شئت أن تُكرَم فَلِن وإن شئت أن تُهان فأخشن) تحف العقول. وقال (عليه السلام): (إنكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم). من لا يحضره الفقيه.

8- الإكثار من ذكر الموت(1)، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يسميه هادم اللذات، ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء قيل: وما جلاؤها؟ قال: كثرة ذكر الموت، وتلاوة القرآن)(2)، وروي أن أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر، فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: (لا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر؟ إن أسامة لطويل الأمل، والذي نفس محمد بيده ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي، ولا رفعت طرفي وظننت أني خافضه، حتى أقبض، ولا تلقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها((3) حتى أغص بها من الموت ثم قال: يا بني1- آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده، إن ما توعدون لآت، وما

ص: 70


1- إتماماً للفائدة نورد هذه الرواية من كتاب مصباح الشريعة ص171: قَالَ الصَّادِقُ (عليه السلام): (ذِكْرُ الْمَوْتِ يُمِيتُ الشَّهَوَاتِ فِي النَّفْسِ وَيَقْطَعُ مَنَابِتَ الْغَفْلَةِ وَيُقَوِّي النَّفْسَ بِمَوَاعِدِ اللَّهِ وَيُرِقُّ الطَّبْعَ وَيَكْسِرُ أَعْلامَ الْهَوَى وَيُطْفِئُ نَارَ الْحِرْصِ وَيُحَقِّرُ الدُّنْيَا وَ هُوَ مَعْنَى مَا قَالَ النَّبِيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فِكْرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ وَذَلِكَ عِنْدَ مَا يَحُلُّ أَطْنَابَ خِيَامِ الدُّنْيَا وَيَشُدُّهَا فِي الآخرة وَلا تَسْكُنْ بِزَوَالِ الرَّحْمَة عِنْدَ ذِكْرِ الْمَوْتِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَمَنْ لا يَعْتَبِرْ بِالْمَوْتِ وَ قِلَّةِ حِيلَتِهِ وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ وَطُولِ مُقَامِهِ فِي الْقَبْرِ وَتَحَيُّرِهِ فِي الْقِيَامَةِ فَلا خَيْرَ فِيهِ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) اذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ قِيلَ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الْمَوْتُ فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي سَعَةٍ إِلا ضَاقَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا وَلا فِي شِدَّةٍ إِلا اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَالْمَوْتُ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ وَآخِرُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الدُّنْيَا فَطُوبَى لِمَنْ أُكْرِمَ عِنْدَ النُّزُولِ بِأَوَّلِهَا وَطُوبَى لِمَنْ أُحْسِنَ مُشَايَعَتُهُ فِي آخِرِهَا وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ الأشْيَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَهُوَ يَعُدُّهُ أَبْعَدَ فَمَا أَجْرَأَ الإنسان عَلَى نَفْسِهِ وَمَا أَضْعَفَهُ مِنْ خَلْقٍ وَفِي الْمَوْتِ نَجَاةُ الْمُخْلِصِينَ وَهَلاكُ الْمُجْرِمِينَ وَلِذَلِكَ اشْتَاقَ مَنِ اشْتَاقَ الْمَوْتَ وَكَرِهَ مَنْ كَرِهَ قَالَ النَّبِيُّ(صلى الله عليه وآله وسلم) مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءهُ).
2- كنز العمال: الخبر 42130.
3- («3» )أساغ الطعام أو الشراب : سهل له دخوله في الجوف.

أنتم بمعجزين)(1)، ولذكر الموت فوائد عديدة: العظة والاعتبار وتحقير الدنيا وعدم الإكتراث بها، ترقيق القلوب، استباق الخيرات، والإكثار من الأعمال الصالحة، وغيرها.

عدم الاغترار بالمنصب:

9-عدم الاغترار بالمنصب والجاه وكثرة الأتباع والمريدين في أي موقع كنت (مرجعا دينياً أو إمام جماعة أو مدرسا حوزوياً أو خطيب منبر)، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فو الله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك)(2)، إن هذا الداء إذا تمكن من قلب المتصدي، فإنه يؤدي به إلى الانحدار، لأنه أولاً منشأ لعدة رذائل قلبية أولها الرياء، فإنه يبدأ بالتصنع والتكلف ليجتذب إليه الناس وسيكون هدفه رضا الناس لا رضا الله تبارك وتعالى. وثانياً: أنه سيسير وفق أهواء الناس ومشتهياتهم، لأنه يخشى انفضاضهم عنه، لذا حذره الله تبارك وتعالى: «وَتَخْشَى النَّاسَ - أي انفضاضهم عنك- وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ»(الأحزاب:37)، وما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليجامل أحداً على حساب الحق، ولكنها على أية حال نصيحة وموعظة ضرورية يجب تقديمها إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى كل حملة الرسالات وتحذيره من عواقبها، وقال الله تعالى: «وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ»(الأنعام:116)، وقال تعالى: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ»(المؤمنون:71). ويستحوذ هذا الداء على تفكير المبتلى به ويأخذ عليه مجاميع تفكيره، فلا يرى غيره حتى يصبح مسيّراً

ص: 71


1- البحار: ج70 ص166.
2- الكافي: ج2 ص297.

من قبل العامة لا مسيراً لهم، وفي مقابل ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) تلميذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأول: (لا يزيدني كثرة الناس معي1- عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة)(1)، وهذا الصحابي الرسالي الواعي عمار بن ياسر يقول في معركة صفين: (والله لو ضربونا بسيوفهم حتى أبلغونا سعفان هجر لعلمنا أننا على الحق وأنهم على الباطل)(2). وثالثاً إنه يبدأ بالكيد والحسد لمن يزاحمه في هذا المكان، أو اذا اقتنع الناس بغيره فسوف لا يتورع عن الكذب والغيبة والافتراء والبهتان للانتقاص من ذلك الغير والصعود على حساب قتل الشخصية المعنوية للآخرين، وهي أعظم من قتل الشخص «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ»(البقرة:191)، وقد ورد في تفسير قوله تعالى «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ» (البقرة:61) أي يكذبونهم ويستهزئون بهم ويحاولون إماتة دعوتهم وتنفير الناس عنهم.

ص: 72


1- البحار: ج34 ص24
2- أمالي الطوسي: ص142.

أسلوب عملي للتأسي برسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)

اشارة

أسلوب عملي للتأسي برسول الله (1)

الحث على التأسي:

بمناسبة المولد النبوي الشريف وميلاد حفيده الإمام الصادق (عليه السلام) فإنني أكلفكم بعمل لله فيه رضا ولكم فيه صلاح تستثمرون من خلاله الحالةالمعنوية التي تعيشونها في هذه الذكرى المباركة، حيث توزع فيها (عيديات) على المؤمنين وتتعرضوا لنفحات الله تبارك وتعالى وألطافه.

فإن الله تعالى يحثكم على التأسي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» (الأحزاب:21)، ولتحقيق هذه الحالة ليقرأ أحدكم سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والحوادث التي مرت به وما نقل عنه من أقوال وأفعال ويحاول أن يستنبط منها دروساً في جميع المستويات، ابتداءً من حياته الخاصة إلى علاقته مع الله تبارك وتعالى وعلاقته داخل بيته ومع الآخرين وهكذا، فستجتمع عندكم حصيلة من الدروس التربوية تكون نبراساً لكم في العمل الصالح وإذا ضممتم ما استفاده بعضكم إلى ما استفاده البعض الآخر ويُنقح المجموع فسيتم لدينا كتاب مفيد للأجيال عنوانه (دروس تربوية) مستفادة من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واضرب لك أمثلة:

1- لو أن أحدكم أمر زوجته أو ولده بأن يأتيه بقدح من الماء أو أي شيء آخر فلم يفعل لسبب أو لآخر فإنه غالباً سيزجره ويعنفه وربما يضربه وقد تحصل خلافات زوجية تؤدي إلى الطلاق لمثل هذه الأسباب، وقد يتقبل الأمر بروح

ص: 73


1- ورد هذا الكلام في حديثه (دام ظله) مع موكبي مالك الأشتر من مدينة الصدر في الناصرية وموكب السراج المنير من القرية العصرية في الناصرية وحشد آخر من المدينة وغيرها من المدن العراقية، ونشر في الصفحة الثانية من العدد (22) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 26 ربيع الأول 1426 الموافق 5 آيار 2005.

رياضية ويقوم بنفسه ليشرب الماء وحينئذٍ ستشعر الزوجة أو الولد بالتقصير وستعتذر وتندم وتتحمس للقيام بما يسعد الزوج، وهو الأسلوب الصحيح للتربية وعلى مثل هذا يربينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث نقل خادمه أنس بن مالك: (خدمت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر سنين ما قال لي يوماً لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لِمَ لمْ تفعله؟)(1)،

فهذا درس في الحلم وسعة الصدر ومداراة الآخرين وعدم إزعاجهم.

ودرس آخر في الرحمة بالآخرين حتى بالحيوانات فقد رأى أحد أصحابه رمى حيواناً بحجر فقال له: استعد للمساءلة أو ذبح عصفوراً عبثاً فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم) له: أن هذا العصفور سيقودك للقصاص يوم القيامة أمام الحكم العدل ويقول: يا رب سل هذا لِمَ ذبحني وهو لا يستفيد من لحمي، وأوقف جيشاً كان يقوده عن مسيرته لأنه علم أن أحد أفراد الجيش قد اخذ1- صغار طير أثناء مسيرهم وأمهم تحوم فوق الجيش لا تستطيع مفارقة صغارها فأمر ذلك الرجل أن يعيد الصغار إلى عشها ليطمئن الطير ثم تحرك الجيش، وهؤلاء أدعياء حقوق الإنسان والديمقراطية يسحقون شعوباً بأكملها ويهلكون الحرث والنسل من أجل أهوائهم ومصالحهم.

ونستفيد منه (صلى الله عليه وآله وسلم) درساً في إنصاف الآخرين ورد مظالمهم ومحاسبة النفس حينما جمع (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه وخطب خطبة، وجلت منها القلوب وبكت العيون. ثمّ قال: أيّها الناس، أيّ نبيّ كنت لكم؟ فقالوا: جزاك الله من نبيّ خيراً، فلقد كنت لنا كالأب الرحيم، وكالأخ الناصح المشفق ... فقال لهم: معاشر المسلمين! أنشدكم بالله وبحقّي عليكم من كانت له قبلي مظلمة فليقم فليقتصّ منّي قبل

ص: 74


1- أنساب الأشراف: ج1 ص464، وتاريخ بغداد: 6 ص393.

القصاص في القيامة . فقام من بين المسلمين شيخ كبير يقال له: عكاشة، فتخطّى المسلمين حتّى وقف بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: فداك أبي وأُمّي لولا أنك نشدتنا بالله مرّة بعد أُخرى ما كنت بالذي أتقدّم على شيء من هذا، كنت معك في غزاة ، فلمّا فتح اللّه عزّ وجلّ علينا ونصر نبيّه (صلى الله عليه وآله )، وكنّا في الانصراف، حاذت ناقتي ناقتك، فنزلت عن الناقة ودنوت منك لأقبّل فخذك، فرفعت القضيب فضربت خاصرتي، ولا أدري أكان عمداً منك، أم أردت ضرب الناقة؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أُعيذك بجلال الله أن يتعمّدك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالضرب، يا بلال انطلق إلى بيت فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق . فخرج بلال من المسجد يده على أُمّ رأسه وهو ينادي: هذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعطي القصاص من نفسه!! فقرع الباب على فاطمة (عليها السلام) فقال: يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)! ناوليني القضيب الممشوق. فقالت فاطمة (عليها السلام): يا بلال ! وما يصنع أبي بالقضيب، وليس هذا يوم حجّ ولا يوم غزاة ؟ فقال: يا فاطمة! ما أغفلك عمّا فيه أبو ك، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يودع الدين الناس ويفارق الدّنيا ويعطي القصاص من نفسه! فقالت فاطمة (عليها السلام) : يا بلال! من ذا الذي تطيب نفسه أن يقتصّ من رسول الله (صلى1- الله عليه وآله)!؟ يا بلال! إذاً فقل للحسن والحسين يقومان إلى هذا الرجل فيقتصّ منهما ولا يدعانه يقتصّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله). فدخل بلال إلى المسجد ودفع القضيب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) القضيب إلى عكاشة ... فقام الحسن والحسين (عليهما السلام) فقالا: يا عَكاشَةُ! أَلَيْسَ تَعْلَمُ أنّا سِبْطا رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَالْقِصاصُ مِنّا كَالْقِصاصِ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)؟!

ص: 75

فقال لهما النبيّ (صلى الله عليه وآله): اقعدا يا قرّة عيني! لا نسي الله لكما هذا المقام، ثمّ قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): يا عكاشة اضرب إن كنت ضارباً. قال: يا رسول الله! ضربتني وأنا حاسر عن بطني. فكشف (صلى الله عليه وآله) عن بطنه، وصاح المسلمون بالبكاء وقالوا: أترى عكاشة ضارب رسول الله (صلى الله عليه وآله)!؟ فلمّا نظر عكاشة إلى بطن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كأنه القباطي لم يملك أن أكبّ عليه، فقبّل بطنه وهو يقول: فداك أبي وأُم! ومن تطيب نفسه أن يقتصّ منك!؟ فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله): إمّا أن تضرب وإمّا أن تعفو؟ قال: قد عفوت عنك يا رسول الله! رجاء أن يعفو الله عنّي في يوم القيامة)(1)

وهكذا يمكن أن نتعلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكثير من الدروس العملية في الأخلاق والسلوك.

ص: 76


1- المعجم الكبير: ج3 ص58، حلية الأولياء ج4 ص73، مجمع الزوائد ج9 ص27.

احذروا عرض أعمالكم على رسول الله

اشارة

احذروا عرض أعمالكم على رسول الله(صلی الله علیه و آله)(1)

ورد في رواية معتبرة عن الإمام الصادق أنه قال: (ما لكم تسوؤن رسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال له رجل كيف نسوؤه؟ فقال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤا رسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسروه)(2).

وفي رواية أخرى عنه قال : (تُعرض الأعمال على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) أعمال العباد كلَ صباح أبرارها وفجارها فاحذروها وهو قول الله تعالى: «اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ» وسكت )(3).

أقول مادام الأمر كذلك وتعرض أعمالنا أولا بأول على رسول الله والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم )، فماذا سيجدون في أعمال أمتهم اليوم؟ وكم يكون الالتفات إلى هذه الحقيقة مؤثراً على مراقبتنا لأنفسنا والمحاسبة على ما يصدر منها؟ لا شك إن أعمال الأمة اليوم سيئة تؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يطلع عليها ويرى فيها كيف غلب حب الدنيا على أمته حتى انتهكت المقدسات وارتكبت المحرمات.، وهذه مدينة الصدر ببغداد أحد الشواهد حيث بلغ عدد ضحايا المواجهات(4)

المستمرة منذ أكثر من شهر أكثر من ألف قتيل وثلاثة آلاف جريح وشرِدت آلاف الأسر ويعاني مليونا إنسان الأمرّين.

الحذر من الاغترار بالدنيا:

ص: 77


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع ثلة من طلبة جامعة الصدر الدينية / فرع بغداد الجديدة الذين ارتدوا الزى الديني يوم 22 ع2 1429 المصادف 2008/4/29.
2- الكافي: ج1 ص219.
3- أصول الكافي /ج1 / كتاب الحجة / باب عرض الأعمال على الله والأئمة (صلوات الله عليهم).
4- لمعرفة المقصود: راجع خطاب المرحلة: ج5 ص323. .

يقول أمير المؤمنين في أحدى مواعظه (عِبَادَ اللَّهِ إِنَّكُمْ وَ مَا تَأْمُلُونَ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا أَثْوِيَاءُ مُؤَجَّلُونَ وَ مَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ أَجَلٌ مَنْقُوصٌ وَ عَمَلٌ مَحْفُوظٌ فَرُبَّ دَائِبٍ مُضَيَّعٌ وَ رُبَّ كَادِحٍ خَاسِرٌ وَ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لا يَزْدَادُ الْخَيْرُ فِيهِ إلا إِدْبَاراً وَلا الشَّرُّ فِيهِ إلا إِقْبَالا وَ لا الشَّيْطَانُ فِي هَلَاكِ النَّاسِ إلا طَمَعاًفَهَذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ وَ عَمَّتْ مَكِيدَتُهُ وَ أَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ)(1).

ثم يصنف الناس إلى عدة أصناف فيقول (اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ فَهَلْ تُبْصِرُ إلا فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً أَوْ بَخِيلا اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللَّهِ وَفْراً أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً)(2).

ندرة الصالحين:

ثم يتأسف لندرة الصالحين في الأمة ويهزأ بمن يمنّي نفسه بالجنة من دون عمل صالح فيقول عليه السلام (أَيْنَ أَخْيَارُكُمْ وَ صُلَحَاؤُكُمْ وَ أَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَ سُمَحَاؤُكُمْ وَ أَيْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ فِي مَكَاسِبِهِمْ وَ الْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهِمْ أَ لَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً عَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَ الْعَاجِلَةِ الْمُنَغِّصَةِ وَ هَلْ خُلِقْتُمْ إلا فِي حُثَالَةٍ لا تَلْتَقِي إلا بِذَمِّهِمُ الشَّفَتَانِ اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ وَ ذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ فَ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ظَهَرَ الْفَسَادُ فلا مُنْكِرٌ مُغَيِّرٌ وَلا زَاجِرٌ مُزْدَجِرٌ أَ فَبِهَذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللَّهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ وَ تَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ هَيْهَاتَ لا يُخْدَعُ اللَّهُ عَنْ جَنَّتِهِ وَلا تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إلا بِطَاعَتِهِ لَعَنَ اللَّهُ الآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ وَ النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ)(3).

ونجد كلمات أمير المؤمنين عليه السلام صادقة على المجتمع اليوم والناس هم الناس والتصنيف منطبق عليهم. فنسمع أن في البصرة بعد أن منَّ الله عليهم بالخلاص من سطوة العصابات المسلحة وجرائمها انتشرت الخمور على أرصفة الشوارع وأصبحت علامة النصر

ص: 78


1- نهج البلاغة: الخطبة: 129.
2- السابق.
3- السابق.

المزعوم المجاهرة بمعصية الله تبارك وتعالى وسبّ العلماء والمباهاة بفعل المحرمات فهذا نموذج لمن بدّلو نعمة الله كفراً، قال تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ» (إبراهيم: 28-29).

ص: 79

لا تنسوا الغاية في كل الحالات

اشارة

لا تنسوا الغاية في كل الحالات(1)

درس من سورة النصر:

القرآن الكريم رسالة هداية وإصلاح وتكامل من الله تبارك وتعالى إلى خلقه، فما أحرى بالعباد أن يطيلوا النظر والتعمق والتأمل والإعادة في سطور هذه الرسالة الصادرة من الحبيب جل وعلا.

ومن دروس القران الكريم ما أدب به نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله) في سورة النصر، حيث أن للنصر نشوة وسكرا تتبعها غفلة وانسياقاً وراء نزوات النفس وشهواتها خصوصا في مثل النصر الذي تحقق لرسول الله (صلى الله عليه وآله) على طواغيت قريش ودخل مكة فاتحا منتصرا وأذعنت له جزيرة العرب، فماذا كان التوجيه الذي صدر من الله تبارك وتعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) وهو في ذروة ذلك النصر «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّاباً». أن تسبح الله وتنزهه عن كل ما يخالط النفس من أهواء ونزوات وشياطين تطاع من دون الله، وان تحمد ربك الذي ماأصابك من خير إلا بلطفه ورعايته، واستغفره من كل ما خالطك من غفلة أو شعور بالزهو والخيلاء، واعتقاد بأن لك يداً في تحقيق النصر أو ما صادف من تصرف لا يليق بالعبد في محضر ربه المتعال.

من أدب رسول الله(صلی الله علیه و آله):

وقد كان رسول الله صلى الله عليه واله الذي يقول (أدبني ربي فأحسن تأديبي)(2) في مستوى ما يريده الله تبارك وتعالى منه، ففي الروايات انه صلى الله عليه واله دخل مكة

ص: 80


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي يوم 29 ربيع الأول 1431ه المصادف 2010/3/13 م مع حشد من أبناء المرجعية جاؤوا للتعبير عن سرورهم بفوز مرشحيهم بالانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت يوم 2010/3/7.
2- البحار: ج16 ص210.

وقد طأطأ رأسه الشريف حتى يكاد يلصق برحله تواضعا لله تبارك وتعالى وامتناناً لفضله واحتراما لبيته وخشية منه تبارك وتعالى. والقاسم المشترك لكل هذه التوجيهات هو أن تتذكر الهدف والغاية الحقيقية التي خلقت لأجلها، ولا يشغلك شيء عنه مهما كان ذلك الشيء مهماً وعظيما كالنصر المؤزر على الخصوم، لأن قيمة ما تناله من الأشياء إنما تكون بمقدار ما تؤدي إلى تلك الغاية وهو رضا الله تعالى والقرب منه والزلفى لديه.

الغفلة عن الهدف:

أما الغافلون عن ذلك الهدف فتراهم سادرين في غيّهم فرحين بما لا يدوم لهم بل يكون وبالاً عليهم، وربما ساقهم ذلك إلى التنافس غير الشريف والصراع المحموم الذي تنتهك فيه الحرمات ويُعتدى خلاله على المقدّسات ويُظلم الأبرياء، وهذا هو شأن الفريقين، فريق يعمّر دار

آخرته ويوظف كل ما عنده لإعمار حياته الباقية، وآخر يعمّر دار فنائه التي وصفها الإمام الحسين (علي السلام) بأنها (دار بلاء وزوال متغيرة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته)(1).

ويشبّه بعض الأخلاقيين حال الفريقين بصورتين من السجناء الذين تدفع لهم الحكومات عادة مبالغ يسيرة أو كبيرة كمصروف جيب، فمنهم من يصرف منها بمقدار الضرورة على نفسه ويرسل الباقي مع أهله عندما يأتون لمواجهته ليشتروا له داراً أو يفتحوا له مشروعاً تجارياً ينفعه عند خروجه من سجنه ويصرف منه على أهله فعندما يخرج يجد له وضعاً مريحاً ويبدأبحياة سعيدة، وفريق آخر من السجناء يصرف كل ما يأتيه على إعمار موضعه من السجن وتزيينه ووضع النقوش عليه وفجأة يقال له أخرج من السجن فلا يجد أمامه شيئاً يمكن أن يبدأ به حياته فيندم على ما ضيّع من أموال وجهود على شيء لا يدوم له.

ص: 81


1- السابق: ج45 ص5.

وهكذا نحن في هذه الدنيا، فإنها سجن للبشر لا بد أن يتحرّر منه الإنسان في يومٍ ما ويموت وينتقل إلى العالم الآخر «وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ» «وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ» وقد ضرب الله تبارك وتعالى لنا في القرآن الكريم الكثير من الأمثلة، وحث على التدبر فيها والتأمل في حقائقها، ومن فائدة الأمثال أنها تقرّب الفكرة وتقنع الإنسان بها لأنسه بالصورة المحسوسة عنده.

مثال عن الإنسان المغرور:

فالإنسان المغرور الذي يقول (أنا ربكم الأعلى) ويعتقد أنه قادر على فعل ما يريد ويعيش نشوة السلطة وسكر الجاه والقوة وكثرة الأتباع، ولا يقتنع بحقيقته العاجزة القاصرة التي لا تملك ضراً ولا

نفعاً، ولكن إذا ضرب له مثل لضعفه وعجزه «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» (الحج:73) فإنه يصحو من غروره وجهله ويذعن إلا من يجحد الحقائق، وقد استيقنت بها أنفسهم ظلماً وعتوّا.

ومما يضرب به الأخلاقيون من أمثال لحقيقة الفريقين الذين ذكرناهما، بشخصين كتب عليهما السفر لأداء فريضة الحج واتخذا راحلتيهما للسفر، فواحدٌ جهّز راحلته بما يحتاج لسفره وحينما حان وقت السفر خرج إلى مقصده فوصل وأدى ما عليه وبلغ أمنيته، وآخر انشغل بتزيين دابته والاعتناء بها وبمظهرها حتى فاته وقت السفر وفاتته الرحلة، فانشغل بالوسيلة عن الهدف.

هذه الأمثلة قد تبدوا غريبة لكنها حاكية بدقة عن واقع الناس اليوم فهم ينشغلون بالوسائل التي مكنّهم الله تبارك وتعالى منها كالمال والجسد ويغفلون عن الهدف الذي خلقوا من أجله وهو رضا الله تبارك وتعالى، فلا بد من اليقظة من الغفلة، ولا بد من المعرفة ومن المراقبة ومن الموعظة المستمرة، ونشر هذه المواعظ والمعارف في المجتمع خصوصاً من قبل

ص: 82

الفضلاءوالمبلّغين وأئمة الجماعة وخطباء الجمعة والمنبر، و المثقفين الرساليين، والله الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 83

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ اِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ

اشارة

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ اِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ(1)

عوامل نجاح الدعوة الإلهية:

إن نجاح أي دعوة مرتبط بجهتين: الداعي والمدعو، فقد يمتلك الداعي أرقى وسائل الإقناع ومنهجاً متكاملاً يدعو إليه لكنه لا يستطيع هداية كل الناس وإصلاحهم مهما بذل من جهود مضنية كالذي قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى خاطبه ربُّه «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» (الكهف:6) ومع ذلك لم يهتدِ به عمه أبو لهب لا لتقصير في أداء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - معاذ الله- ولكن لقصور في قابلية أبي لهب، ويُسمّى العامل الأول (فاعلية الفاعل) والثاني (قابلية القابل) ولا بد من انسجام العاملين لنجاح الدعوة.

استجابة الناس لما يحييهم:

وفي ضوء هذين العاملين نستطيع تشخيص سبب حصول درجة من درجات الفشل في أداء المرجعيات لوظائفها المتمثلة بتفعيل مشروع الإسلام في هداية الناس وإصلاحهم وإسعادهم في الدنيا و الآخرة.

قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (الأنفال:24) والدعوة متحققة من الرسول (صلى الله عليه وآله) أكيداً لأنه لا يتصور أنه يقصر في أداء الرسالة فلا بد أن تقابلها استجابة من الناس لما يحييهم. ويكون سبباً لسعادتهم في حياتهم المادية والمعنوية.

ص: 84


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد من أساتذة وطلبة من جامعتي بابل والقادسية يوم 4 ج1 1429 المصادف 2008/5/10.

وصف الرسول:

وقد قلنا في أكثر من مناسبة إن استعمال وصف (الرسول) يعني أن هذا التوجيه مرتبط بالموقع وليس بالشخص أما لو كان عنوان الخطاب (النبي) أو اسمه الشريف كقوله تعالى «مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ» أو قوله «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ...» فهذا خاص بشخصه الشريف (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا يعني أن الأمر متوجه لجميع الأجيال أن تستجيب لقادتها العظام إذا دعوهم لما يحييهم والمفروض أن هؤلاء القادة يؤدون ما عليهم في دعوة الأمة إلى الهداية والصلاح ورفع الظلم وفتح كل الفرص الممكنة التي توصل إلى رضا الله تبارك وتعالى وسعادة الإنسان. وعلى كل من الطرفين أن يعي مسؤوليته ويحاسب نفسه على القيام بها.

ص: 85

معجزة النبي (صلی الله علیه واله) في أخلاقه

اشارة

معجزة النبي (صلی الله علیه واله) في أخلاقه(1)

معجزة لرسول الله (صلی الله علیه و آله):

روى لنا أمير المؤمنين (علیه السلام) معجزة تحققت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) وكان شاهداً عليها، نذكرها تبركاً وإحياءاً لهذه المنقبة العظيمة ولنأخذ منها بعض الخصائص النفسية والسمو الأخلاقي عند رسول الله (صلی الله علیه و آله)، فمن خطبة جليلة لأمير المؤمنين(علیه السلام) تسمى القاصعة قال (ولَقد كُنتُ مَعَهُ صلى اللّه عليه و آله لَمَّا أتاهُ المَلأُ مِن قُرَيشٍ، فَقالوا لَهُ: (يا مُحَمَّدُ، إنَّكَ قَدِ ادَّعَيتَ عَظيما لَم يَدَّعِهِ آباؤكَ، ولا أحَدٌ مِن بَيتِكَ، ونحنُ نَسأ لُكَ أمرا إن أنتَ أجَبتَنا إلَيهِ، وأرَيتَناهُ عَلِمنا أ نَّكَ نَبِيٌّ ورسولٌ، وإن لَم تَفعَل عَلِمنا أ نَّكَ ساحِرٌ كَذَّابٌ). فَقالَ صلى اللّه عليه و آله: (وما تَسألونَ؟) قالوا: (تَدعو لَنا هذهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنقَلِعَ بِعُروقِها وتَقِفَ بَينَ يَدَيكَ)، فَقالَ صلى اللّه عليه و آله: (إنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَي ءٍ قَديرٌ، فَإن فَعَلَ اللّهُ لَكُم ذلِكَ أتُؤمنونَ وتَشهَدونَ بِالحَقِّ؟) قالوا: (نَعَم). قالَ: (فَإنِّي سَأُريكُم ما تَطلُبونَ، وإنِّي لَأعلَمُ أ نَّكُم لا تَفيؤونَ إلى خَيرٍ، وإنَّ فيكُم مَن يُطرَحُ فِي القَليبِ، ومَن يُحَزِّبُ الأحزابَ) ثُمَّ قالَ صلى اللّه عليه و آله: (يا أيَّتُها الشَّجَرَةُ إن كُنتِ تُؤمنينَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وتَعلَمينَ أنِّي رَسولُ اللّهِ، فَانقَلِعي بِعُروقِكِ حَتَّى تَقِفي بَينَ يَدَيَّ بِإذنِ اللّهِ!).فَوَالَّذي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَانقَلَعَت بِعُروقِها، وجاءَت ولَها دَوِيٌّ شَديدٌ، وقَصفٌ كَقَصفِ أجنِحَةِ الطَّيرِ، حَتَّى وَقَفَت بَينَ يَدَي رَسولِ اللّهِ صلى اللّه عليه و آله مُرَفرِفَةً، وألقَت بِغُصنِها الأعلى عَلى رَسولِ اللّهِ صلى اللّه عليه و آله، وبِبَعضِ أغصانِها عَلى مَنكِبي، وكنتُ عَن يَمينِهِ صلى اللّه عليه و آله. فَلَمَّا نَظَرَ القَومُ إلى ذلِكَ قالوا عُلُوَّا وَاستِكبارا: (فَمُرها فَليَأتِكَ

ص: 86


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع عدد من الوفود، بينهم مدرسة الإمام الصادق (علیه السلام) في مدينة الصدر ببغداد ومدرسة أئمة البقيع للفتيان يوم الثلاثاء 21/ع1/1433 المصادف 2012/2/14م.

نِصفُها ويَبقى نِصفُها)، فَأمَرَها بِذلِكَ، فَأقبَلَ إلَيهِ نِصفُها كَأعجَبِ إقبالٍ وأشَدِّهِ دَوِيَّا، فَكادَت تَلتَفُّ بِرَسولِ اللّهِ صلى اللّه عليه و آله، فَقالوا كُفرا وعُتُوَّا: (فَمُر هذا النِّصفَ فَليَرجِع إلى نِصفِهِ كَما كانَ، فَأمرَهُ صلى اللّه عليه و آله فَرَجَعَ، فَقُلتُ أنا: (لا إلهَ إلا اللّهُ، إنِّي أوَّلُ مُؤمنٍ بِكَ يا رَسولَ اللّهِ، وأوَّلُ مَن أقرَّ بِأنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَت ما فَعَلَت بِأمرِ اللّهِ تَعالى تَصديقا بِنُبُوَّتِكَ، وإجلالا لِكَلِمَتِكَ)، فَقالَ القَومُ كُلُّهُم: (بَل ساحِرٌ كَذَّابٌ، عَجيبُ السِّحرِ خَفيفٌ فيهِ، وهَل يُصَدِّقُكَ في أمرِكَ إلا مِثلُ هذا؟) (يَعنونَني))(1).

ما الذي نستفيده؟

أقول: مما نستفيده منها باختصار:-

1- أدبه (صلی الله علیه و آله) مع ربه تبارك وتعالى ومعرفته التامة بالله تعالى وأنه لا يملك شيئاً أمام ربّه وأنّه (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) فيقول للمشركين لما سألوه (فإن فعل الله لكم ذلك) ولم ينسب الفعل إلى نفسه فما من شيء يتحقق له إلا بلطف الله تعالى وفضله وكرمه، بعكس منطق الغافلين والبعيدين عن الله تعالى فإنّهم يرون لأنفسهم شيئاً ويتبجحون به ويتفاخرون ويطغون، كما حكى الله تعالى عن قارون قوله (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) (القصص/78)، ويأتي التعليق الإلهي (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص/78).

والقرآن الكريم حرص كثيراً على ترسيخ هذه المعرفة قال تعالى (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى) (الأنفال/17) وقال تعالى في فرعون وقومه (فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ*وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍكَرِيمٍ) (الشعراء/57-58) مع أن فرعون وجيوشه هم الذين قرروا الخروج لكن بتدبير إلهي.

ص: 87


1- نهج البلاغة: 2/412 الخطبة/ 190.

2- عدم اليأس من هداية الناس والدعوة إلى الله تبارك وتعالى وإصلاح الأمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والإرشاد والتوجيه، حتى لو كان يعلم بعناد الآخر وإصراره على الخطأ فيقول (صلی الله علیه و آله) (وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير) فلم يتوقف ويقول ما الفائدة من دعوة هؤلاء وهم لا يُرجى منهم خير؟ لأن الأمور والنتائج والعواقب بيد مدبّرها الحقيقي، وليس على الإنسان إلا السعي الحثيث بكل ما أتاه الله تعالى، وقد مدح الله تعالى قوماً وأنجاهم من العذاب لأنّهم لم يتقاعسوا عن أداء وظائفهم الإلهية مع اليأس ظاهراً من هدايتهم، قال تعالى (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأعراف/164).

3- اعتماد لغة الحوار والحجة والبينة مع الآخر لتحصيل القناعة بالأمر وعدم إكراههم على شيء أو استخدام وسائل العنف والضغط لإجبارهم على اعتناق ما تعتقد به، ولو كنت تملك القوى الخارقة الغيبية، وهذا هو منطق القرآن الكريم (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/256) (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الأحقاف/4).

4-قساوة القوم الذين بُعث لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) وهمجيتهم بحيث يجري لهم كل هذه المعجزات وهم يصرّون على عنادهم واستكبارهم قال تعالى فيهم (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ) (البقرة/74) وقلوب أولئك كانت من القسوة بحيث لم تسمح بتفجير شيء من ينابيع المعرفة والإيمان فيها، فالجبل يتصدع من هذه الكلمات وهم موتى لا حراك فيهم (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر/21) وإلى اليوم نرى مثل هؤلاء الأقوام الذين تقام عليهم الحجج والبيّنات الدامغة، ولا

ص: 88

جواب لهم إلا العناد والاستكبار والمضي على منهجهم المنحرف ومثل هؤلاء أتذكرهم عندما أصل إلى قوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَن1- يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة/75) .

5- شفقة رسول الله (صلی الله علیه و آله) التي لا حدود لها وقلبه الكبير بحيث لا يتوانى عن تقديم أي عمل ما دام يُرجى منه صلاح الآخرين وهدايتهم رحمةً بهم لانقاذهم مما هم فيه من الضلال حتى لو كانوا من أسوأ خلق الله تعالى وأقساهم فلم يكن (صلی الله علیه و آله) كأسلافه الصالحين من الأنبياء الذين دعوا على أقوامهم بالهلاك (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً) (نوح/26) وغاية ما كان يقول (صلی الله علیه و آله) عندما يصيبوه بالأذى والتكذيب (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ولم يثنه (صلی الله علیه و آله) عن المضي معهم استهزاؤهم وسخريتهم الواضحة من مطلبهم التعجيزي وكأنهم يتهكمون برسول الله (صلی الله علیه و آله) ويسفّهون دعوته.

إن وجود مثل هذا القلب الشفيق الرحيم خير حافز على العمل الإنساني النبيل، وهو موجود لدى الكثيرين ولكنه يحتاج إلى تحريك وإثارة والدليل على ذلك انه عندما يوجد انسان مبتلى أو مصاب بنكبة أو عاهة أو معدم يحتاج إلى مساعدة فإن الكثيرين تهتز قلوبهم بالشفقة والرحمة ويهبون لنجدته ومساعدته، وهذا عمل عظيم ولكن أليس أهم منه أن نهَّب لهداية الضّال وفاقد البصيرة والمنحرف والجاهل وهؤلاء أولى بالمساعدة والشفقة والرحمة، لأن حياتهم الباقية الدائمة في خطر، وهي أهم من حياتهم الدنيا.

6- والدرس الأخير نأخذه من أمير المؤمنين (علیه السلام) بروايته لهذه المنقبة النبوية الشريفة، ولعلها كانت تضيع علينا لو لم ينقلها لنا أمير المؤمنين (علیه السلام)، فلنتعلم منه أن لا نبخل على الناس بما نتعلمه من مسألة شرعية أو موعظة أو

ص: 89

نصيحة أو منقبة وفضيلة لأهل البيت (علیهم السلام) أو شيء من سيرتهم الصالحة وأخلاقهم السامية، أو كلمات العلماء ومواقفهم ومآثرهم وبذلك تنتشر الهداية ويزكو العلم والعمل الصالح وينمو ففي الحديث (العلم يزكو بالإنفاق)(1).

ص: 90


1- البحار: ج75 ص76.

الألطاف الإلهية في البعثة النبوية الشريفة

اشارة

الألطاف الإلهية في البعثة النبوية الشريفة(1)

معنى (اللطيف) من اسماء الله تعالى:

من الأسماء الحسنى (اللطيف) ومنشأه أكثر من وجه:

الأول: إن اللطيف هو كل ما دقّ وصغر وشف بحيث تعجز العين عن إدراكه، والله تبارك وتعالى لطيف بهذا المعنى فهو لا تدركه الأبصار وبعُد حتى عن خطرات الظنون، وهو لطيف لعلمه بالأشياء اللطيفة فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وفي الحديث (الله لطيف لعلمه بالشيء اللطيف)(2).

الثاني: من اللطف وهو الرفق، والله لطيف بعباده ومخلوقاته أي رفيق بهم.ويمكن إرجاع أحد المعنيين إلى الآخر، فالألطاف الإلهية بالعباد خفية لا يدركونها وهم يتنعمون فيها ولذا قيل (وكم لله من لطف خفي).(3)

واللطف في المصطلح هو كل ما يقرّب من الطاعة ويبعّد عن المعصية من دون أن يصل إلى درجة الإلجاء وسلب الاختيار ولذا ورد في الرواية (لا جبر ولا تفويض، قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك)(4).

ألطاف الله تعالى:

وألطاف الله تبارك وتعالى على العبد لا تعد ولا تحصى، فوجوده لطف إذ لو كان معدوماً لما استطاع أن يعمل ويتكامل، والهداية إلى الإيمان بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله

ص: 91


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع طلبة الجامعات الذين انتظموا في دورات سريعة خلال العطلة الصيفية لتحصيل العلوم الدينية في الحوزة العلمية في النجف يوم الأحد 28 رجب 1431 المصادف2010/7/11.
2- مستدرك سفينة البحار: ج9 ص256.
3- وفي الدعاء: (اللهم إني أسألك يا من له لطف خفي). البحار: ج73 ص215. وفي البيت الشعري المشهور: فكم لله من لطف خفي ** يدق خفاه عن فهم الذكي اعيان الشية: ج7 ص306.
4- الكافي: ج1 ص159.

وسلم) لطف، فلو لم يهدنا الله تبارك وتعالى لما عرفنا الطريق الموصل إلى الكمال (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)، وأعضاء البدن لطف إذ لو لم يكن له بدن لما استطاع أن يقوم بالعبادات المقرّبة لله تبارك وتعالى، والمال لطف فبدونه لا يستطيع الإتيان بالكثير من القربات كالحج والزيارة والإنفاق في سبيل الله تعالى والتوسعة على العيال إلى مالا يحصى من الألطاف المقربة من الطاعة والمعينة عليها.

الذكر والمناجاة لطف:

والأدعية والمناجاة وسائر الأذكار لطف، إذ بدونها لا نعرف ماذا نقول بين يدي الله تبارك وتعالى وما هو مقتضى آداب العبودية، بل لا نعلم هل يحق لنا أن نقف بين يديه تبارك وتعالى ونخاطبه، ونحن نرى أن إنساناً وضيعاً يتبوأ موقعاً لا قيمة له كوزير أو ملك، يوضع (أتكيت) لزيارته ومحادثته والآداب الواجب إتباعها بحضرته، بينما نخاطب رب العالمين متى شئنا وبما شئنا وبأي لغة نشاء وهو جل جلاله يقبل علينا ويسمع منا ويبادلنا من الحب والرحمة أكثر مما نعطي، لذا ورد في مناجاة الذاكرين (ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألسنتنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك)(1).

البعثة النبوية أعظم الألطاف:

ومن أعظم الألطاف الإلهية البعثة النبوية الشريفة التي نعيش عبق ذكراها، فقد شكلت أعظم نقلة في تاريخ البشرية لأمة كانت متهرئة متخلفة يقتل بعضها بعضاً وتتفاخر بالموبقات والجرائم كوأد البنات والزنا وشرب الخمر وهي مشتتة متفرقة أحاطت بها دول قوية تنهشها، حوت جميع المنكرات والمفاسد، فأصبحت ببركة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمة متحضرة مدنية تقود العالم وتهدي البشرية وتقدم لبني الإنسان أعظم قانون يكفل السعادة والصلاح.

ص: 92


1- مفاتيح الجنان: ص222.

ولو لم يبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتُركت الجاهلية على حالها فإنه لا يعلم إلا الله تعالى ما صرنا إليه اليوم، إذا كان حال أولئك وهم أقرب عهداً للرسالات والديانات السماوية ولهم فرص أقل من الفساد هو ما ذكرناه فكيف إذا طال بهم الأمد إلى اليوم من تنوع أدوات الضلال والفساد والجريمة وتقنينه بالشكل الذي نعاصره.

فكل خير يصل إلينا وكل مكرمة يمكن أن توجد فينا بل كل وجودنا فنحن مدينون بفضله لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبركات بعثته الشريفة، التي هي من الألطاف الإلهية الخاصة لهذه الأجيال، فاعرفوا حق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأكثروا من الصلاة عليه والدعاء له.

نكتة قرآنية:

وهنا نشير إلى نكتة وهي أن اسم (اللطيف) يستعمل في موارد اللطف، وهذا من بلاغة القرآن الكريم حيث تنتهي الآية بما يناسب مضمونها، فإذا كان المضمون حكماً صارماً وموقفاً حازماً –كآية القطع في السرقة- فإنها تنتهي بالعزيز الحكيم، وإذا كان مورد رحمة ورفق انتهت بالرؤوف الرحيم، وعلى هذا جرت السنة الشريفة، فدققوا في الموارد التي ذكر فيها اسم (اللطيف) لتعرفوا موارد اللطف، وأوضحها في أذهانكم حديث الثقلين المشهور الذي ألزم الأمة بالتمسك بالثقلين وفيه (وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)(1).

وأي لطف أعظم على الأمة بعد البعثة النبوية الشريفة من لطف حبلي القرآن والإمامة؟

لنتخلق بأخلاق الله تعالى ونقرب الناس من الطاعة:

ونريد هنا أن نأخذ درسين من هذا الاسم المبارك (اللطيف):

ص: 93


1- أنظر: المراجعات: ص73، الغدير: ج1 ص27، فضائل الخمسة من الصحاح الستة: ج2 ص47.

1- إننا أمرنا بالتخلق بأخلاق الله تبارك وتعالى وأن نتصف بأسمائه الحسنى، ومنها هذا الاسم المبارك (اللطيف) فإن الله تعالى لطيف بعباده يقربهم من الطاعة ويبعدهم عن المعصية، قال تعالى «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ» (الحجرات:7) وخصوصاً أنتم أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فإنكم تحظون بألطاف خاصة دون غيركم لذا تجدون هذا الحماس والاندفاع والتضحية في سبيل الله تعالى مما لا يوجد عند غيركم وهذا يكشف عن هذه الألطاف الخاصة.

وقد مرّت علينا في الأسبوع الماضي ذكرى وفاة الإمام الكاظم (عليه السلام) ورأيتم قد زحفت الملايين رغم الحر الشديد الذي تجاوزت فيه درجة الحرارة نصف درجة الغليان - كما وصفت بعض القنوات- في الظل أما في الشمس فتتجاوز 70 درجة مئوية ورغم عمليات القتل الذي نفذها المجرمون طيلة ثلاثة أيام المناسبة، ومع ذلك لم يتوقف هذا الزحف المبارك، فهذا كله ناشئ من هذا التزيين الذي لطف به الله تبارك وتعالى.

فليكن كل منا لطيفاً بهذا المعنى أي يكون مقرباً للناس من الطاعة ويزينها لهم ويحثهم عليها، ويبعدهم عن المعصية ببيان مساوئها وأضرارها وأخطارها في الدنيا والآخرة ويوجد البدائل الصالحة عنها، وليعرف من يعمل على عكس ذلك أنه بعيد عن الله تعالى وغير متصف بأسمائه، كما نرى من بعض المتدينين صدور بعض التصرفات المنفرة عن الدين بحيث أن البعض ممن يراد هدايتهم ودعوتهم إلى الالتزام بالدين يجيب: لا حاجة لي بالدين وانظر إلى المتدينين كيف يفعلون كذا وكذا.

وهو مخطئ طبعاً بهذا التصور، ولكن هذه النتيجة قد حصلت على أي حال.

وقد يحصل التنفير من الطاعة بأن نحمل الناس ما لا يطيقون ولا نراعي الدرجات المتفاوتة لإيمانهم، فنثقل مثلاً على الشباب المهتدي حديثاً للإيمان

ص: 94

بقائمة طويلة من المستحبات والمكروهات ونحاسبه على بعض تصرفاته التي يمكن غض النظر عنها فينفر منها ومن الواجبات أيضاً.إن كلاً منكم يستطيع أن يحقق صفة (اللطيف) بحسب عنوانه وموقعه ومساحة تأثيره ولا أقل من نفسه أولاً ثم أسرته وأصدقائه وزملائه في العمل، ولعل الحوزة العلمية تتمتع بأوسع الفرص من هذه الناحية، وأنتم كذلك يا طلبة الجامعات الذين قضيتم دورة سريعة في العلوم الدينية في رحاب الحوزة العلمية في النجف الأشرف خلال العطلة الصيفية فتزودّتم بما يعينكم على هداية الناس وتقريبهم للطاعة.

المرجعية لطف من الله تعالى:

2- إن اللطف واجب على الله تعالى كما يقولون في كتب العقائد. بمعنى أنه نفسه قكتب على نفسه اللطف بعباده وقد ظهر هذا - فيما ظهر في بعث الأنبياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثم واصلها بنصب الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم).

ولا ينقطع اللطف بانقطاع الوجود الظاهري للائمة (عليهم السلام) لأن أسماء الله الحسنى ثابتة له تبارك وتعالى، فاللطف يقتضي وجود امتداد لهذه السلسلة المباركة من الأنبياء والأئمة متمثلاً بالعلماء السائرين على نهجهم والمقتفين لآثارهم ولا تخلوا الأرض منهم، ومرور أربعة عشر قرناً حافلة بالأساطين منهم شاهد على ذلك وسيبقى حتى ظهور القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وحينئذٍ فمن يقول: أننا لا نحتاج إلى المرجعية، أو أنه لا توجد مرجعية نقلدها، أو أن لدينا فقه يكفينا لكذا من السنين فلا نحتاج للرجوع إلى احد، فمثل هذا بعيد عن الصواب ولو حللنا كلامه فإنه ينكر هذا الاسم من الأسماء الحسنى والعياذ بالله.

ص: 95

إنما بلغ علي (علیه السلام) منزلته بالصدق وأداء الأمانة

اشارة

إنما بلغ علي (علیه السلام) منزلته بالصدق وأداء الأمانة(1)الحمد لله والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيراً، وأعوذ به من شر نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي.

والصلاة والسلام على أشرف خلق الله تبارك وتعالى وأحبِّهم إليه وأكرمهم عليه أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين.

منزلة علي (علیه السلام):

لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) منزلة عند الله تبارك وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعرفها إلا الله تعالى ورسوله، كما ورد في الحديث الشريف عن سول الله (صلى الله عليه وآله) : (يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، ولا عرفني إلا الله وأنت، ولا عرفك إلا الله وأنا)(2). ونختصرها بأنه نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنص القرآن الكريم في آية المباهلة: «وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ» (آل عمران: 61)، فبمَ بلغ علي (عليه السلام) هذه المنزلة؟ وأي طالب للكمال لا يريد أن يعرف كيف أصبح علي (عليه السلام) بهذه المنزلة ليتأسى به ويقتفي آثاره.

لا يحق لنا أن نجيب لأننا لا نعرف علياً (عليه السلام) حق معرفته، ولولا أن الجواب جاءنا عن أهل بيت العصمة (سلام الله عليهم) لما أجبنا، فقد روى الكليني (رضوان الله عليه) بسنده عن أبي كهمس (الهيثم بن عبد الله الشيباني) قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): عبد الله بن أبي يعفور يقرؤك السلام، قال: وعليك وعليه

ص: 96


1- الخطبة الأولى لصلاة عيد الفطر السعيد عام 1430 المصادف 2009/9/21، وأصلها كلمة تحدث بها سماحته إلى حشد من الزوار ليلة استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) في 21 رمضان 1430.
2- مستدرك سفينة البحار: ج7 ص182.

السلام، إذا أتيت عبد الله فاقرأه السلام وقل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به علي عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فالزمه، فإن علياً (عليه السلام) إنما بلغ ما بلغ عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) بصدق الحديث وأداء الأمانة)(1).

تعاليم السلوك الى الله تعالى:

وهذا جزء من برنامج عملي ومنهج للتكامل وضعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتربية أمير المؤمنين (عليه السلام) وصناعته «وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَينِي» (طه: 39) ومن أهل البيت (عليهم السلام) تؤخذ وسائل التكامل وليس من أدعياء السلوك والمعرفة الذين يبتدعون مناهج وبرامج لا وجود لها في سنة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وهذه الوصفة الإلهية التي قدّمهاالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) رويت بسند صحيح في أصول الشيعة كالكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب وكتاب المحاسن للبرقي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها، ثم قال: اللهم أعنه، أما الأولى: فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة أبداً، والثانية الورع لا تجترين على خيانة أبداً، والثالثة الخوف من الله كأنك تراه، والرابعة كثرة البكاء من خشية الله عز وجل يبنى لك بكل دمعة بيت في الجنة، والخامسة بذل مالك ودمك دون دينك، والسادسة الأخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي، أما الصلاة فالخمسون ركعة، وأما الصوم فثلاثة أيام في كل شهر خميس في أوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، وأما الصدقة فجهدك حتى يقال: أسرفت ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، وعليك بالسواك عند كل وضوء وصلاة، وعليك بمحاسن الأخلاق فاركبها، وعليك بمساوئ الأخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا

ص: 97


1- وسائل الشيعة: كتاب الوديعة، باب 1، ح1.

تلومنّ إلا نفسك)(1).

معنى الأمانة ومصاديقها:

ونعود إلى الحديث الذي بدأنا به وأن علياً (عليه السلام) بلغ ما بلغ بالصدق وأداء الأمانة، وحينئذٍ قد يقال بأن هاتين الخصلتين مما يتيسر الاتصاف بهما مع أن منزلة علي مما لا يبلغها أحد من بعده كما قال (عليه السلام): (ألا وأنكم لا تقدرون على أن تصيروا مثلي) لذا فإن الأمر يحتاج إلى شيء من الإيضاح والتفصيل، وسنتحدث هنا عن أداء الأمانة، حيث ينصرف الذهن إلى قضية وضع أموال الناس وممتلكاتهم عند بعضهم واستردادهم عند مطالبة أصحابها، فأداء الأمانة يعني رد الحقوق وإيصالها إلى أهلها.

وبهذا المعنى يتساوى كثيرون مع علي بن أبي طالب، لكن الأمانة لها معنى أوسع من هذا بكثير وأداء الأمانة يقتضي مسؤوليات كبرى.

أمانة العهد والميثاق:

وأول أمانة وأعظمها هي تلك التي عرضها الله تبارك وتعالى على جميع المخلوقات فاعتذرت عن تحملها وحملها الإنسان قال تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً» (الأحزاب:72) وهي أمانة العهد والميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى على عباده ليمنحهم بمقتضاه خلافة الله تعالى في الأرض بأن يكون الإنسان مخلوقاً عاقلاً رشيداً ويُسخَّر له الكون كله على أن يكون موحداً لله تبارك وتعالى ومن ثم تعريضه للجزاء والحساب ليثاب على إحسانه بجنة عرضها السماوات والأرض ويحاسب على سيئاته، قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» (الأعراف:172).

ص: 98


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 4، ح2.

ويعيد الإنسان التأكيد على هذا الميثاق عندما يصافح الحجر الأسود فيقول: (اللهم أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة)(1).

تخلقوا بأخلاق الله:

تلك الخلافة التي تعني أن يكون الإنسان مظهراً للصفات الإلهية والأسماء الحسنى فيجعل الله تعالى المثل الأعلى الذي يبذل وسعه للاتصاف بصفاته «وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى» (النحل: 60) وورد في الحديث الشريف (تخلقوا بأخلاق الله) وهي لا تقتصر على الأسماء الحسنى كالرحيم والكريم والغفار والعليم، بل تشمل كل الصفات الإلهية التي نطق بها القرآن الكريم والأدعية الشريفة والروايات المأثورة كقوله (عليه السلام) في دعاء الافتتاح: (فلم أرَ مولىَ كريماً أصبرَ على عبدٍ لئيمٍ منك عليّ يا ربِّ إنك تدعوني فأولّي عنك، وتتحبب إليّ فأتبغّضُّ إليك، وتتودد إلي فلا أقبل منك، كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي والإحسان إلي، والتفضل علي بجودك وكرمك)(2)، فهذه صفة لله تبارك وتعالى علينا أن نسعى للتخلق بها وهكذا غيرها.

وبأداء هذه الأمانة أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) من خطبة له: (ثم أداء الأمانة، فقد خاب من ليس من أهلها، إنها عُرضت على السماوات المبنية والأرضين المدحوة، والجبال ذات الطول المنصوبة، فلا أطول ولاأعرض ولا أعلى ولا أعظم منها. ولو امتنع شيء بطول أو عرض أو قوة أو عز لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة، وعقلن ما جهل من هو أضعف منهن، وهو الإنسان «إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً»)(3).

وقد تمثلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) كل الصفات الحسنى المتاحة للمخلوقات فقد ورد في الحديث أن أهل البيت (عليهم

ص: 99


1- البحار: ج6 ص97.
2- مفاتيح الجنان: ص215.
3- نهج البلاغة من الخطبة (199).

السلام) حازوا اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأعظم ذي الثلاثة والسبعين حرفاً وبقي حرف واحد اختص تبارك وتعالى به لنفسه(1) وكانوا مظهراً لكل الصفات الإلهية المتاحة لهم كمخلوقين، فأدى أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الأمانة خير أداء.

ويعني أداء هذه الأمانة الإيمان والالتزام بكل العقائد الحقة التي أشهد الله تبارك وتعالى عباده عليها «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» (الأعراف:172) والأحكام الشرعية التي حدها لعباده والشهادة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة والنبوة ولأمير المؤمنين (عليه السلام) بالولاية ولأهل بيته بالمودة والإتباع، ولذا ورد في الكافي تفسير الآية، فعن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قلت له : لم سمي أمير المؤمنين؟ قال : الله سماه وهكذا أنزل في كتابه «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ»وأن محمدا رسولي وأن عليا أمير المؤمنين)(2).

نفسك التي بين جنبيك:

ومن مصاديق الأمانة نفسك التي بين جنبيك، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (عباد الله، الله الله في أعز الأنفس عليكم، وأحبها إليكم: فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق وأنار طرقه، فشقوةٌ لازمة، أو سعادة دائمة! فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء، قد دُللتم على الزاد وأمرتم بالظعن وحُثثتمعلى المسير)(3)، فهي أعز أمانة استودعك الله إياها أو ائتمنك عليها لتهذبها وتحميها من إتباع الهوى ونزغات الشيطان وأن لا تسلس القياد لها

ص: 100


1- أنظر الكافي: ج1 ص330، باب ما أعطي الأئمة عليهم السلام من اسم الله الأعظم.
2- الكافي: ج1 ص412.
3- نهج البلاغة، الخطبة (157).

فتوردك موارد الهلكة فإن إعطاءها ما تريد –وهي الأمارة بالسوء- يقود إلى الهلاك. في دعاء الصباح لأمير المؤمنين (عليه السلام): (فبئس المطية التي امتطت نفسي من هواها، فواهاً لها لما سولت لها ظنونها ومناها)(1).

وهي قد تبدو مفارقة أن تكون رعاية النفس والإحسان إليها بمنعها مما تشتهيه وكبح جماحها، وعدم إطلاق العنان لها في اللهو واللعب كالذين قضوا ساعات شهر رمضان المباركة –التي جعلها الله تبارك وتعالى ميداناً لأوليائه يتسابقون فيها إلى رضوانه- يقضونها بمتابعة المسلسلات الماجنة ولعبة المحيبس وأمثالها، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في المناجاة الشعبانية: (إلهي قد جُرتُ على نفسي في النظر لها، فلها الويل إن لم تغفر لها)(2) ويقول (عليه السلام): (وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبُت على جوانب المزلق)(3)، وقال (عليه السلام): (وأيمُ الله - يميناً أستثني فيها بمشيئة الله- لأرُوضَنَّ نفسي رياضةً تَهِشُّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً)(4) وفي ذلك يوصي الإمام الصادق (عليه السلام) شيعته خصوصاً الذين يسوّفون التوبة والندم والاستغفار والذين يتلفون أنفسهم فيما يسمونه (جهاداً) أو (ثورة) أو (مقاومة) ونحوها دون الرجوع إلى البصير بأمور الشريعة وما يصلح الأمة، قال (عليه السلام): (عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم، فوالله إن الرجل لَيكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها، ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا

ص: 101


1- مفاتيح الجنان: ص87.
2- مفاتيح الجنان: المناجاة الشعبانية: ص192.
3- نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد: 45.
4- المصدر السابق، نفس الموضع.

لأنفسكم، إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أي شيء تخرجون) (فنحن نشهدكم أنا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمعمنا)(1).

الجسد من مصاديق الأمانة:

ومن مصاديق الأمانة: جسدك الذي ائتمنك الله تبارك وتعالى وصنعه لك بأحسن تقويم لتتخذه وسيلة للكمال والوصول إلى الغاية وأمرك بالاعتناء به وحفظه وتوظيفه لهذا الهدف السامي وهو طاعة الله تبارك وتعالى وعبادته فهو وسيلة وليس غاية، ومما ورد في مناجاة الخائفين للإمام السجاد (عليه السلام): (إلهي هل تسوّدُ وجوهاً خرَّتْ ساجدة لعظمتك، أو تُخرسُ ألسنةً نطقت بالثناء على مجدك وجلالتك، أو تطبع على قلوبٍ انطوت على محبتك، أو تُصِمُّ أسماعاً تلذذت بسماع ذكرك في إرادتك، أو تغلّ أكفاً رفعتها الآمال إليكَ رجاء رأفتك، أو تعاقب أبداناً عملت بطاعتك حتى نحلت في مجاهدتك، أو تعذب أرجلاً سعت في عبادتك)(2).

فمن الخيانة توظيف الجسد في الحرام كاللواتي يتاجرن به أو الذين يستخدمون بعض جوارحهم في الحرام ومن الخيانة إيلام الجسد وإيذاؤه ولو بمثل التدخين الضار فضلاً عن المحرمات كشرب الخمر والزنا أو إيذاؤه تحت عناوين مبتدعة كبعض ما يأمر به أدعياء السلوك إلى الله تعالى والمعرفة ولو كان في ما يفعلونه خيراً لما توقف الأئمة المعصومون (عليهم السلام) عن بيانه وهم كجدهم (صلى الله عليه وآله وسلم) «بِالمُؤمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ» فلا يحبسون عنهم ما ينفعهم، ومن الإيذاء ما يفعله البعض باسم شعائر الحسين (عليه السلام) والتفجّع لمصابه وهي براءٌ منه «قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ» (يونس: 59).

ص: 102


1- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13، ح1.
2- مفاتيح الجنان: ص153.

ومن الخيانة إغراق الجسد في الراحة والترف والاعتناء بمتع الجسد وكمالياته بعيداً عن الهدف، لأنه وسيلة وليس غاية، فلا يعقل إمضاء الوقت المقرر للسفر بالاعتناء بواسطة النقل وترتيبها وتجميلها حتى ينتهي الوقت المقرر لبلوغ الغاية. وهكذا عمر الإنسان المخصص للسفر إلى الملكوت فلا يقضيه في إمتاع الجسد وراحته، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أريحوا أجسادكم بالتعب ولا تتعبوها بالراحة)، وكان (عليه السلام) لا يعطي لجسده إلا ما يقويه على طاعة الله تبارك وتعالى لذلك كان جسده قوياً متيناً قادراًعلى الانسجام مع ما يقتضيه مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) من الفناء في طاعة الله تبارك وتعالى والجهاد في سبيله حتى قال بعض المتخصصين عندما اطلع على نظام حياة أمير المؤمنين (عليه السلام) وغذائه: ((لولا ضربة ابن ملجم لكان من الممكن أن يعيش علي (عليه السلام) إلى آخر الدهر)) ويجيب (عليه السلام) على من يستشكل عليه ويرى أن قوة الجسد في الترف والتنعم، قال (عليه السلام): (وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان، ألا وإن الشجرة البرّيّة أصلب عوداً والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً)(1)، ويقول (عليه السلام): (فما خُلقتُ ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقمُّمها تكترش من أعلافها وتلهو عما يُراد بها، أو أترك سدى، أو أهملَ عابثاً، أو أجُرُّ حبل الضلالة أو أعتسف طريق المتاهة)(2).

أداء الأمانة:

وإذا انتقلنا إلى أداء الأمانة للآخرين؛ فمن مصاديقها الزوجة فإنها أمانة عند زوجها كما ورد في الدعاء المأثور عند إدخال الزوجة على زوجها: (اللهم على كتابك تزوجتها،

ص: 103


1- نهج البلاغة قسم الرسائل، العدد: 45.
2- نهج البلاغة، قسم الرسائل، نفس الموضع.

وفي أمانتك أخذتها، وبكلماتك استحللت فرجها) إلخ(1)، ولم تأتِ إلى بيت الزوج إلا بعقد وصفه الله تبارك وتعالى بأنه ميثاق غليظ قال تعالى: «وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً» (النساء: 21) وهو وصف ميثاقه تبارك وتعالى مع الأنبياء والرسل «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً» (الأحزاب:7) وواجبه تجاه هذه الأمانة إكرامها ومعاشرتها بالمعروف ففي الحديث: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)(2) (ما أكرم النساء إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم)(3) فمن ظلم زوجته وقصّر في إكرامها فقد خان الأمانة.

وعيالك أمانة عندك تنفق عليهم وتهذبهم وتحسن تربيتهم وتوجيههم إلىالأخلاق الفاضلة وفعل الخير.

والزوج أمانة عند زوجته تحفظه في ماله ونفسها وتطيعه إذا أمرها.

والعلم أمانة تعمل به وتبذله لمن يستحقه فإن بذل العلم لأهله صدقة وفي قصص بني إسرائيل أن جليساً لموسى (عليه السلام) وعى علماً كثيراً عذّبه الله تبارك وتعالى بمسخه قرداً في عنقه سلسلة فسأل موسى (عليه السلام) ربه عنه فأوحى إليه: (إني كنت حمّلته علماً فضيّعه وركن إلى غيره)(4).

أمانة الموقع السياسي والاجتماعي:

والموقع السياسي والإداري والاجتماعي والعشائري هو أمانة يُسأل الإنسان عن أدائها والقيام بحقوقها وليس غنيمة يستأكل بها، وإن الله تبارك وتعالى مسائله عن حسن سيرته مع من ولاه عليهم، وهذا المعنى ركّز عليه أمير المؤمنين (عليه السلام) لرسوخ معنى

ص: 104


1- الكافي: ج5 ص501.
2- الوسائل: ج20 ص117.
3- كنز العمال: ج16 ص371.
4- البحار: ج2 ص40.

الغنيمة و (تقاسم الكعكة) –بمصطلح الحكام والسلطات- ففي كتابه إلى عامله على آذربيجان أشعث بن قيس يقول (عليه السلام): (وإن عملك ليس لك بطعمةٍ ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعىً لمن فوقك. ليس لك أن تفتات في رعية، ولا تخاطرَ إلا بوثيقة، وفي يديك مالٌ من مال الله عز وجل، وأنت من خزانه حتى تسلمه إليّ، ولعلي ألا أكون شرّ ولاتك لك، والسلام)(1).

ويعلّم (عليه السلام) مالك الأشتر أوصاف الذين يختارهم للولاية والإدارة والحكم: (ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولّهم محاباةً وأثَرة، فإنهم جِماعٌ من شعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء)(2).

وكان يحاسب عماله أشدَّ المحاسبة إذا علم منهم تقصيراً أو خيانة، ولم ينقل التأريخ خيانة بعض عمال أمير المؤمنين (عليه السلام) إلا من خلال كشفه (عليه السلام) لهم، في حين أن الحكام الآخرين كانوا فاسدين لكنهم لم يحاسبهم من هو فوقهم، فقد كتب إلى زياد بن أبيه وهو خليفةُ عاملِه على البصرة وتوابعها كالأهواز وفارس وكرمان عبد الله بن عباس: (وإني أقسم بالله قسماً صادقاً، لئن بلغني أنك خُنتَ من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أوكبيراً لأشدَّنَّ عليك شدةً تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر، والسلام)(3).

وكتب (عليه السلام) إلى المنذر بن الجارود العبدي، وقد خان في بعض ما ولاه من أعماله: (أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني منك، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت –فيما رُقِّيَ إليّ عنك - لا تَدَعُ لهواك انقياداً ولا تُبقي لآخرتك عتاداً، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقاً، لَجَمَلُ أهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يُسَدَّ به ثغر أو يُنفَذَ به أمر، أو يُعلى له قدر أو يُشركَ في أمانة، أو يؤمن على جباية، فأقبل إليَّ حين يصل إليك

ص: 105


1- نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد: 5.
2- المصدر، العدد 53.
3- المصدر، العدد 20.

كتابي هذا، والسلام)(1).

معيار المؤمن:

أيها الأحبة:

هذا بعض ما يمكن أن نفهمه من معنى الأمانة التي أُمرنا بأدائها، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا» (النساء:58) والتي ورد في فضلها وأهميتها الكثير كقول الصادق (عليه السلام): (لا تغترّوا بكثرة صلاتهم ولا بصيامهم فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة)(2).

الخيانة قبال الأمانة:

وبإزاء هذا المعنى الواسع للأمانة وأدائها يكون معنى الخيانة واسعاً فهي تشمل كل تفريط أو تقصير في أداء حق واجب على الإنسان، وهو ظاهر قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (الأنفال:27) فعن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية: (فخيانة الله والرسول معصيتهما، وأما خيانة الأمانة فكل إنسانمأمون على ما افترض الله عز وجل)(3).

وقد وردت في الروايات أمثلة لخيانة الأمانة تتجاوز المعنى المتعارف كقول الصادق (عليه السلام): (أيما رجل من أصحابنا استعان به رجل من إخوانه في حاجة فلم يبالغ

ص: 106


1- المصدر، العدد 71.
2- وسائل الشيعة: كتاب الوديعة، باب 1، ح2.
3- تفسير نور الثقلين:2/144.

بكل جهده فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)(1)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الخائن من شغل نفسه بغير نفسه وكان يومه شراً من أمسه)(2).

وأعظم الخيانة خيانة الأمة في أي موقع ديني أو اجتماعي أو سياسي أو مالي أو إداري.

ومما كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بعض عماله بعد أن بيّن له ما يجب فعله قال (عليه السلام): (وإلا تفعل فإنك من أكثر الناس خصوماً يوم القيامة، وبؤسىً لمن خصمه عند الله: الفقراء والمساكين والسائلون والمدفوعون والغارمون وابن السبيل.

ومن استهان بالأمانة، ورتع في الخيانة ولم ينزه نفسه ودينه عنها؛ فقد أحل بنفسه الذل والخزي في الدنيا وهو في الآخرة أذلّ وأخزى، وإن أعظم الخيانة خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة، والسلام)(3).

ص: 107


1- بحار الأنوار: 72/177.
2- غرر الحكم للآمدي، الحديث 2013.
3- نهج البلاغة، قسم الرسائل، العدد 26.

من مواعظ الإمام الجواد(علیه السلام)

اشارة

من مواعظ الإمام الجواد(علیه السلام)(1)

التأثر بالموعظة علامة حياة القلب:

أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّ هذه القلوب –التي هي محل معرفة الله تعالى ووعاء الوصول إليه- يعروها الصدأ والرين بما يكتسب الإنسان من ذنوب ولكثرة مشاغله ومشاكله في هذه الدنيا، فإذا ازداد الرين طبع على القلب واسودّت صفحته فانغلق عن المعرفة وتلقّي الفيض الإلهي، إلى أن يتداركه الله بلطفه ورحمته، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله (إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء، قيل: وما جلاؤها؟ قال: كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن).(2)

لذلك أوصى أهل البيت (عليهم السلام) بتعاهد هذا القلب بالموعظة حتى تبقى فيه جذوة الحياة وتبقى فيه قابلية التكامل، من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) (احيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة).(3)

فإذا كنتم تبحثون عن الموعظة وتتحرون مواطنها وتتأثرون بها وتتفاعلون معها فهذا يعني أنّ قلوبكم ما زالت حيّة ويرجى منها الخير وهذه نعمة عظيمة تستحق الشكر المتواصل لله تبارك وتعالى.

الطاعات القلبية:

ص: 108


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من طلبة كلية الطب في جامعة البصرة وجمع من أطباء ومثقفي وأكاديميي مدينة العمارة ووفد من شيوخ عشائر ناحية الفجر في محافظة ذي قار يوم السبت 26 ذ.ق 1433 المصادف 2012/10/13.
2- منتخب ميزان الحكمة 533 رقم 5350.
3- نهج البلاغة، الكتاب: 31.

وما دمنا على أعتاب ذكرى استشهاد الإمام الجواد (عليه السلام) معجزة الإمامة فلنأخذ الموعظة منه (عليه السلام) من خلال بعض أحاديثه (عليه السلام)، وأولها ما يرتبط بما نحن فيه من ضرورة تعاهد أمر القلوب ومواصلة إحياءها:

قال (عليه السلام) (القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال)(1).نحن نهتم كل الإهتمام بطاعة الجوارح فنبادر إلى الصلاة الفلانية لأن فيها كذا وكذا من الثواب وإلى الصوم الفلاني لأن فيه كذا وكذا، وهذا كلّه حسنٌ جميل، ويعطي الله تعالى بكرمه هذا الثواب المذكور في الخبر وإن لم يقله المعصومون (عليهم السلام) كما أفادت الروايات الصحيحة، ولكنّ الإمام (عليه السلام) ينبّهنا إلى أنّ الطاعات الأسرع إنتاجاً وإيصالاً إلى الكمال هي الطاعات القلبية.

المعرفة متاحة لكل من طلبها:

وأهمّ الطاعات القلبية المعرفة بالله تعالى، ولا نتصور أن المعرفة والعرفان علمٌ خاص بنخبة نادرة من العرفاء الشامخين، وإنّما هي متاحة لكل من طلبها وسألها من الله تعالى، لذلك دعا الله تعالى جميع خلقه إليها من خلال التدبّر بالقرآن الكريم والأحاديث الشريف، ويعطينا الإمام الجواد (عليه السلام) واحدة من أشكال وأدوات هذه المعرفة لتتأكد أنّ هذه المعرفة ميسّرة لكل أحدٍ إذا صدق في طلبها.

لن تخلو من عين الله تعالى:

قال (عليه السلام) (إعلم أنّك لن تخلو من عين الله فانظر كيف تكون).(2)

هل توجد حقيقة أوضح من أن الله تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنّه على كل شيء شهيد، إذا كان الأمر كذلك –وهو كذلك بلا شك

ص: 109


1- ميزان الحكمة: 9/ 460.
2- تحف العقول: 336.

110ص

ولا ريب- فلنراقب أنفسنا ولنتأدب بحضرة الله تبارك وتعالى ولنتعلم كيف يجب أن نكون ما دمنا في جميع أحوالنا بمنظر منه تبارك وتعالى في أقوالنا وأفعالنا وخطراتنا وظنوننا ومشاعرنا وعواطفنا، فالذي يتصور أنّه قد غلب الآخر أو خدعه أو فعل شيئاً في السر والخلوة حيث لا يراه ولا يعلم به أحد إنّما يخدع نفسه لأنّ الله شهيد عليه، ويكون قد أعان على نفسه من حيث يعلم أو لا يعلم

بذل الوسع في السيطرة على الغرائز:

وفي ذلك قال (عليه السلام): (من أطاع هواه أعطى عدوَّه مناه)(1)، أي كأنه أهدى مقتله المعنوي مجاناً إلى أعدائه المتربصين به و بغوايته، وأولهم نفسهالأمّارة بالسوء (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)(2) وقال الإمام الصادق (عليه السلام) (لا تدع النفس وهواها، فإن هواها رداها، وترك النفس وما تهوى أذاها، وكفّ النفس عما تهوى دواها)(3)، وثانيهم الشيطان الذي أقسم على غواية البشر (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص/82-83) فلابد أن يبذل الإنسان وسعه في السيطرة على غرائزه ومشاعره وشهواته وعواطفه ويجعلها وفقاً لما يريده الله تبارك وتعالى، فيفعل ما يحبه الله تعالى، ويجتنب ما يكرهه تعالى، وليس عليه أن يكبتها ويقضي عليها، فإن الله تعالى خلق هذه القوى لنفع الإنسان واعمار الحياة وإدامة الوجود، وجعل ثواباً جزيلاً على من سيّرها وفق الشريعة المقدسة، كاستخدام الشهوة الجنسية في إقامة سنة الله تعالى وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) بالتزويج وتكثير النسل ونحوها.

وهكذا المال وغيرها من أمور الدنيا فإذا أخذ من حله وأنفق في حله فإنه يصبح من أمور الآخرة.

ص: 110


1- ميزان الحكمة: 9/ 460.
2- البحار: ج71 ص271.
3- الكافي: 2/336 ح4.

وها هو النبي الحكيم سليمان (صلوات الله عليه) يقول (وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي) (ص/35) مع أنه نبي معصوم، فلا ضير في طلبه ما دام يريد به إقامة شرع الله تبارك وتعالى.

حاجة المؤمن الى ثلاث:

واعلم ان ذلك لا ينال متى تحب وتشتهي، ولا تتصور انك قادرٌ بمفردك على اختيار الطريق الصحيح بما شئت إلا بمقومات يذكرها الإمام الجواد (عليه السلام):

قال (عليه السلام) (المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله، وواعظٍ من نفسه، وقبول ممن ينصحه).(1)

توفيق الله تعالى لعبده:

فأول تلك العناصر والمقوّمات: توفيق الله تبارك وتعالى ولطفه بعبده، ولذلك كان هناك تركيز في أدعية المعصومين (عليهم السلام) بطلب التوفيق (اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية)(2).

ومدخلية التوفيق وأسباب اللطف الإلهي واضحة في حياتنا، مثلاً تجد الاندفاع والحماس للصوم في شهر رمضان بروحية عالية وإقبال شديد مع انه في صيف لاهب ونهار طويل جداً، بينما يتكاسل عن صوم يوم مستحب في غيره ولو في نهار بارد قصير قليل المؤونة، مع ان بعض الصوم المستحب –كصيام ثلاثة ايام في الشهر والأفضل أن تكون أول خميس والأربعاء في العشرة الوسطى وآخر خميس الذي يعدل صوم الشهر والالتزام بهذه السُنّة

ص: 111


1- تحف العقول: 337.
2- مفاتيح الجنان: ص205.

يعدل صوم الدهر –مما سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحثّ على الالتزام به حباً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وإحياءاً لسنته الشريفة.

فاسألوا الله تعالى أن يمدّكم بتوفيقه دائماً وليس في أوقات محددة كالنشاط الذي نلمسه في ليلة القدر فيجتمع المؤمنون في المساجد الصلاة مئة ركعة وأكثر بينما يتكاسل البعض عن أداء نزر يسير من النوافل المهمة في غيرها من أيام السنة كركعتي الشفع وركعة الوتر من صلاة الليل وكصلاة الغفيلة من نافلة المغرب وكنافلة الصبح ونحوها.

ونحن مقبلون على أزمنة شريفة في شهر ذي الحجة منها العشر الأوائل، ومن أعمال الشهر وسائر الأشهر الحرم صوم ثلاثة أيام متتالية: الخميس والجمعة والسبت، فقد ورد في الحديث الشريف (أن من صامها في شهر من الأشهر الحرم كتب الله له عبادة تسعمائة عام)(1)، ويمكن لمن عليه قضاء أن ينوي الصوم للأمرين فيُعطى الأجر إن شاء الله تعالى وهذا الثواب فيه حافز كبير على العمل، وإن كان الأفضل أن نقوم بالفعل الحسن لمجرد أن الله تعالى يحبّه ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبّه بغضّ النظر عن مقدار الثواب المرصود له.

واعظ من نفسه:

والعنصر الثاني هو أن يكون له واعظ من نفسه وقلب يستجيب لما فيه حياته وسلامته وإذن واعية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَايُحْيِيكُمْ) (الأنفال/24)، وإلاّ فإن الهداية لا تحلّ قلباً منكوساً مُعرِضاً عن الحق ولهذا كان من اللازم إحياء القلوب دائماً بالموعظة وذكر الموت وتلاوة القرآن وتقليل العلائق بالدنيا.

الأخ الناصح:

ص: 112


1- مفاتيح الجنان: 172 في فضل شهر رجب وأعماله، الفقرة (16).

والعنصر الثالث: أن تبحث عن الأخ الناصح الذي يسدّدك بكلماته وأفعاله وتذكرّك رؤيته بالآخرة ويهدي إليك عيوبك ويدلّك على ما فيه صلاحك كهذه الكلمات التي نتحدث بها.

نعمة لا تشكر كسيئة لا تغفر:

واعلم أن هذا كله بعض نعم الله تعالى عليك فخذها وكن من الشاكرين، وإلا فإن الإمام الجواد (عليه السلام) يقول: (نعمة لا تشكر كسيئة لا تغفر).(1)

يا له من تشبيه خطير بحيث يكون عدم الشكر على النعمة سيئة لا تغفر –والعياذ بالله- وهذا الحديث فيه عموم لكل من ينعم عليك نعمة ويسدي اليك فضلاً حتى من المخلوقين، وإن كان الله تعالى هو المدبِّر الحقيقي ومسبِّب الأسباب، عن الإمام الرضا (عليه السلام) (من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل).(2)

بل في حديث آخر أن المشكورين ثلاثة، الله تعالى وهو المنعم الحقيقي، والشخص الذي أنعم وأسدى المعروف، والثالث الشخص الذي سعى وتوسّط لقضاء الحاجة عند من قضاها.

وهذا أدب قد افتقده أكثر الناس –مع الأسف- وهم بذلك يسيئون لأنفسهم، ويقطعون سبيل المعروف عن الإمام الصادق (عليه السلام) (لعن الله قاطعي سبيل المعروف، وهو الرجل يُصنع إليه المعروف فيكفره، فيمنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره).(3)

بذل النعم لمستحقيها:

ص: 113


1- ميزان الحكمة: 9/460.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 2/24، ح2.
3- منتخب ميزان الحكمة: 349ح 3343.

ومن تمام الشكر الذي يحفظ النعمة ويديمها، القيام بواجباتها وأداء ما افترض الله تعالى فيها، وإلا فإنها يخشى عليها الزوال، وفي ذلك يقول الإمام الجواد(عليه السلام): (إن لله تعالى عباداً يخصُّهم بالنعم، ويُقرُّها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها عنهم وحوّلها إلى غيرهم)

وهذا تحذير شديد مطابق لقوله تعالى (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد/38)

يدعونا إلى الانفاق مما أنعم الله تعالى به علينا من سائر النعم وليس المال فقط، فإن نعمة العلم أهم من المال، فمن حباه الله تعالى بشيء من العلم عليه أن يعلّمه من لا يعلمه فإنه زكاة له وصدقة.

أهل المعروف:

فأنت حينما تقوم بفعل المعروف في أي مجال فإنه يعود بالنفع عليك أولاً قبل من اسديت إليه المعروف، وفي ذلك يقول الإمام الجواد (عليه السلام): (أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه! لأن لهم أجره وفخره وذكره)(1).

أي له خير الدنيا والآخرة مضافاً إلى أن ما حصل عليه صاحب الحاجة شيء يفنى، أما ما حصل عليه المعطي فهو شيء باقٍ مذخور له عند الله تبارك وتعالى.

أهمية الكلمة:

ولنستمع إلى مزيد من مواعظه (عليه السلام) مصداقاً للعنصر الثالث المتقدم.

قال (عليه السلام): (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن لسان ابليس..).(2)

ص: 114


1- البحار: ج75 ص79.
2- تحف العقول: 336.

لأن العبادة تعني الطاعة والانقياد، فالإنصات إلى الناطق نوع من الانقياد فلينظر الإنسان إلى من يأخذ منه ونوع الكلام ومضمونه، وليعلم من يستمع إلى الغناء أو الغيبة أو الكلام البذيء أو تسقيط المؤمنين وتشويه صورتهم ونحوها أنه دخل في طاعة إبليس وعبادته.

وإذا كان للانصات هذا التأثير فما هي أهمية الكلمة نفسها وما مسؤولية المتكلم عمّا يصدر عنه من كلمات قد تؤدي إلى ما تؤدي من نتائج.

التحذير من الظلم:

قال (عليه السلام) (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء)(1).

هذا الظلم الذي وصف في الأحاديث أنه (ذنب لا يترك)(2) لا يختص بمسؤوليته من قام به بل يشترك معه من دفع إليه بكلمة أو فعل أو تحريض أو تشجيع أو تزيين أو خداع أو دعم مادي أو معنوي أو فتوى بلا حجة شرعية ونحوها، كما ورد في بعض الروايات أن شخصاً يؤتى به يوم القيامة وتقدّم له قارورة من دم ليحاسب عليها فيقول يا إلهي أنا لم أقتل ولم أسفك دماً في حياتي كلها، فيقال له هذا حصتك من دم فلان الذي قُتل ظلماً لأنك شاركت في دمه بكلمة قلتها.

بل الأمر أخطر من ذلك فإن من بلغه ذلك ورضي به ولم ينكره بقلبه على الأقل فهو شريك له، وإذا أردنا أن نذكر أمثلة على هذه الشراكة في الظلم من واقعنا، فيقف على رأسه ما يقوم به السياسيون والمتصدون لإدارة البلاد، وان شئت ثنّيت بما يجري بين العشائر من سنائن وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان أهانت الإنسان وسلبته كرامته وحريته وماله وشرفه فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

لنكسب الناس الى الدين:

ص: 115


1- كشف الغمة: ج 2 ص350، عنه البحار: ج 75 ص83 ،ح 83 .
2- انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: ج3 ص757.

وقال (عليه السلام) (من استفاد أخا في الله فقد استفاد بيتاً في الجنة)(1).

وهذا الحديث يحفّزنا كثيراً على التحرك في المجتمع لكسب الناس إلى الدين وإرجاعهم إلى الله تبارك وتعالى ما دام ثمن كسب أخ مؤمن واحد هو هذا العطاء العظيم.

إن امرأة فرعون تحمّلت تعذيباً قاسياً من دق جسّدها بالمسامير وصلبها وتعليقها وهي صابرة محتسبة حتى قضت شهيدة، وكان طلبها (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) (التحريم/11) وبغضّ النظر عن كون البيت (عندك) فإننا قد اُعطينا نفس الفرصة من دون ذلك الثمن الباهظ فنستطيع الحصول على بيت في الجنة بأن تكسب أخاً في الله تعالى وتهديه إلى الحق.

فليستثمر الشباب والطلبة الجامعيون هذه الفرصة وليتحركوا داخل أوساطهم وعلى أقرانهم ليرشدوهم ويخرجوهم من حالة الفسق والانحراف الذي نسمع عن تفشيّه داخل أوساط الجامعات، وليتحرك كل جنس على جنسه بالطريقةالتي أوصى بها الله تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل/125) كدعوته إلى مائدة طعام أو تزويده بمحاضرات فاتته أو أن تشرح له محاضرة لم يفهمها ونحوها من الأساليب التي تكسب بها مودته وتدخل إلى قلبه فيأخذ منك النصيحة وتكون مصداقاً للعنصر الثالث المتقدم بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 116


1- كشف الغمة للإربلي: ج3 ص137.

سعة كرم الله تعالى

اشارة

سعة كرم الله تعالى(1)

لا حدود لعطاء الله تعالى:

تذكر الروايات الشريفة ثواباً جزيلاً يُعطى لمن قام بطاعة ما كصلاة معينة أو زيارة المعصومين (علیهم السلام) أو صوم أيام معيّنة كاعتبار صوم اليوم يعادل صوم الدهر أو كفارة ستين سنة ونحوها، وهذا يشكّل حافزاً للمؤمنين لكي يندفعوا للقيام بهذا العمل المستحب غير الواجب، وهذا تحرك مرضي لله تعالى ولرسوله (صلی الله علیه و آله) ما دام قد رضيه الله ورسوله ودعا إليه المعصومون (علیهم السلام)، وإن كانت النية الأكمل أن يقوم العبد بالفعل لأن الله تعالى يحبّه ويريده ولأن المعصومين (علیهم السلام) دعوا إليه بغضّ النظر عمّا رصد له من ثواب.وعلى أي حال فإن سؤالاً هنا يجري تداوله قد يصل إلى مستوى الإشكال بأنه هل يُعقل إعطاء مثل هذا الثواب العظيم لعمل بسيط بالنسبة لذلك الثواب، ويدفع هذا الإشكال البعض إلى التشكيك في صحة هذه الروايات.

وهذا الاشكال مردود لأن العمل إذا حظي بالقبول والرضا من الله تبارك وتعالى فإنه لا حدود لعطائه ويزكيه وينميه حتى يكون مثل جبل أحد –كما في بعض الروايات- ويضرب الله تعالى لنا مثالاً لذلك قال تعالى «مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»البقرة261 (البقرة/261).

ص: 117


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع مئات من طلبة الجامعات والاعداديات أقلتهم ثمان حافلات كبيرة وقضوا ثلاثة أيام تضمنت زيارة أمير المؤمنين والمشاهد المقدسة في النجف والكوفة والزيارة المخصوصة للإمام الحسين (علیه السلام) في يوم عرفة والعيد وفق برنامج عبادي وثقافي، والتقوا بسماحة المرجع يوم عرفة 9/ذح/1432 المصادف 2011/11/6م.

قصة وعبرة:

يُحكى أن النبي الكريم يوسف الصديق (علیه السلام) لما استتب له ملك مصر كان له مجلس عام للناس يقضي حوائجهم ويرفع عنهم ظلاماتهم، وفي احد الأيام كان هناك شاب متواضع لا يُلتفت إليه وكان الروح الأمين جبرئيل إلى جانب النبي يوسف (علیه السلام) فسأله أتعرف هذا الشاب؟ قال (علیه السلام): ومن يكون؟ قال (علیه السلام) هذا الطفل الصغير الذي شهد ببرائتك عندما راودتك امرأة العزيز واستبقتما الباب وألفيتما العزيز لديها.

فاهتم به يوسف (علیه السلام) وأكرمه وخلع عليه الهدايا، وهنا تبسّم الروح الأمين وقال ليوسف: ان شهادة واحدة بالتنزيه والبراءة لك أوجبت هذا العطاء الكثير فكيف سيكرّم الله تعالى عباده الذين يشهدون له تبارك وتعالى يومياً عدة مرات بالتنزيه والبراءة من الشركاء ويسبّحونه.

أقول: لعلكم تتفقون معي ان يوسف الصديق (علیه السلام) مهما اعطى إلى هذا الشاب فإنه قليل بإزاء قيمة الشهادة التي أدلى بها ذلك الشاب عندما كان طفلاً حين انقذ يوسف (علیه السلام) مادياً من القتل ومعنوياً بتبرئته من الفاحشة والظلم وتنزيه ساحته. هذا ويوسف (علیه السلام) مهما كان ملكه عظيماً فهو مخلوق لا يملك لنفسه شيئاً، فكيف هو عطاء الله تبارك وتعالى الخالق العظيم مالك السماوات والأرض الجواد الكريم لعباده الذين يسبحون بحمده وله يسجدون.

لنعرف فضل النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام):

وفي ضوء هذا نعرف فضل النبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة المعصومين (علیهم السلام) لأنهم علّمونا ما نعبد الله تعالى به وما نسبحه به ونحمده، يكفي أن صلاة واحدة –وهي صلاة جعفر الطيار فيها ثلاثمائة تسبيحة: سبحان الله والحمد لله ولا إلهإلا الله والله أكبر بالكيفية المعروفة –وأفضل أوقاتها ضحى يوم الجمعة(1) ولا تأخذ وقتاً أزيد من ثلاثة أرباع الساعة بالمعدل فالمفروض

ص: 118


1- أنظرها في مفاتيح الجنان: ص72.

أن نشعر بالشكر والامتنان لرسول الله (صلی الله علیه و آله) كلما أدّينا هذه الصلاة لأنه (صلی الله علیه و آله) علمنا إياها وكذا بقية الاعمال.

عطاء الشهيد:

وتصوّروا حينئذٍ ان هذا العطاء لمن أدى الشهادة لله تبارك وتعالى بلسانه أو بقلبه وحركة بدنه، فماذا يكون عطاء الله تبارك وتعالى لمن أدى الشهادة بروحه ودمه وهو الشهيد في سبيل الله تبارك وتعالى وإنّما سُمّي شهيداً، لأنه يشهد على مبادئه ومعتقداته التي آمن بها بدمه وروحه ونفسه التي هي أعز ما عنده (والجود بالنفس أقصى غاية الجود) حينما اكتفى غيره بالشهادة باللسان أو حركات البدن.

وسُمّي شهيداً لأنه يشهد على الأمة ويقيم الحجة عليها بتضحيته بنفسه في سبيل الله تبارك وتعالى، فلا نستغرب ما أعدّ الله تبارك وتعالى من الكرامة والدرجة الرفيعة للشهداء، وأعظم هذا العطاء الذي لا حدود له استحقه سيد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام) لأن عطاءه كان بلا حدود، وجسّد شهادته لله تبارك وتعالى بنفسه الشريفة وأولاده وإخوته وعشيرته وأصحابه وتعريض نسائه للسبي وهُنَّ ودائع النبوة.

لماذا نزور الحسين (علیه السلام) في أغلب المناسبات؟

ولعل هذا يفسّر لنا تشريع زيارات مخصوصة للإمام الحسين (علیه السلام) في كل أيام الله تبارك وتعالى كالأول والنصف من رجب والنصف من شعبان وليلة القدر ويوم عرفة والعيدين لان شهادته (علیه السلام) أعظم شهادة على المبادئ الحقّة.

واجباتنا في يوم عرفة:

ونحن اليوم في واحد من تلك الأيام المباركة وهو يوم عرفة وقد قضيتم زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) في النجف الاشرف وعدداً من الأعمال الصالحة وانتم متوجهون الى كربلاء المقدسة

ص: 119

لزيارة الإمام الحسين (علیه السلام) المخصوصة ليوم عرفة والعيد فاشكروا الله تعالى على هذه النعم العظيمةوأكثروا من الدعاء لاخوانكم المؤمنين فإن الله تعالى تكفّل بالإجابة، ولتكن مطالبكم سامية تليق بكرم الله تعالى وشاملة لخصال الخير في الدنيا والآخرة كما ورد في بعض الأدعية (ربِّ أدخلني في كل خير أدخلت فيه محمداً وآل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين) وأخرجني من كل سوء أخرجت منه محمداً وآل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين) وما ورد في أدعية رجب (أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة، واصرف عني بمسألتي إياك جميع شر الدنيا والآخرة فإنه غير منقوص ما أعطيت وزدني من فضلك يا كريم).

ص: 120

كونوا من الكنوز التي يكشف عنها الإمام المهدي (علیه السلام)

اشارة

كونوا من الكنوز التي يكشف عنها الإمام المهدي (علیه السلام)(1)

الخبايا المدخرة لعصر الظهور:

هذه أيام مباركة شهدت بدء الإمامة الفعلية لإمامنا صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه الشريف) وقيامه بالأمر بعد استشهاد أبيه الإمام الحسن العسكري في الثامن من ربيع الأول، وبهذه المناسبة نذكر رواية من أخبار دولته المباركة.

فعن النبي ((صلی الله علیه و آله): (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل ذهب)(2)، وفي بعض الروايات (يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب)(3).

ومفاد هذه الروايات انه في عصر الظهور يكشف الفرات عن كنوز، والفرات كناية عن العراق لأنه النهر الأشهر كما يعبّر عن مصر ببلاد النيل ونحوه.

وقد فسّرتُ الكنوز بالأنصار الصالحين المخلصين للإمام (علیه السلام) لأن سياق الحديث واضح أن المراد بالكنوز شيء معنوي وليس مادياً(4).

قصة الغلام مع نبي الله عيسى (علیه السلام):

ص: 121


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من الأطباء وفدوا لزيارة سماحته والاستماع إلى توجيهاته من عدة محافظات يوم الجمعة 10/ع1/1433 المصادف 2012/2/3.
2- مجموعة ورام: ج1 ص76.
3- البخاري, ج9 ص73، ومسلم ج 8 ص175.
4- أنظر الغيبة الكبرى للسيد الشهيد محمد الصدر، في الأمر الثامن: أنه سوف يحسر الفرات عن كنز من ذهب: ص411 وما بعدها.

ووجدت في الأخبار ما يؤيد ذلك ففي كتاب البحار (أن عيسى (علیه السلام) كان مع بعض الحواريين في بعض سياحته ، فمروا على بلد، فلما قربوا منه وجدوا كنزا على الطريق، فقال من معه: ائذن لنا يا روح الله أن نقيم ها هنا ونحوز هذا الكنز لئلا يضيع، فقال (علیه السلام) لهم: أقيموا ها هنا وأنا أدخل البلد ولي فيه كنز أطلبه، فلما دخل البلد و جال فيه رأى دارا خربة فدخلها فوجد فيها عجوزة، فقال لها: أنا ضيفك في هذه الليلة، وهل في هذه الدار أحد غيرك؟ قالت: نعم لي ابن مات أبوه وبقي يتيما في حجري، وهو يذهب إلى الصحارى ويجمع الشوك ويأتي البلد فيبيعها ويأتيني بثمنها نتعيش به، فهيأتلعيسى (علیه السلام) بيتاً، فلما جاء ولدها قالت له: بعث الله لنا في هذه الليلة ضيفا صالحا، يسطع من جبينه أنوار الزهد والصلاح، فاغتنم خدمته وصحبته، فدخل الابن على عيسى (علیه السلام) وخدمه وأكرمه فلما كان في بعض الليل سأل عيسى (علیه السلام) الغلام عن حاله ومعيشته وغيرها، فتفرس (علیه السلام)(1) فيه آثار العقل والفطانة والاستعداد للترقي على مدارج الكمال ، لكن وجد فيه أن قلبه مشغول بهم عظيم، فقال له: ياغلام أرى قلبك مشغولا بهم لا يبرح فأخبرني به لعله يكون عندي دواء دائك، فلما بالغ عيسى (علیه السلام) قال: نعم في قلبي هم وداء لا يقدر على دوائه أحد إلا الله تعالى، فقال: أخبرني به لعل الله يلهمني ما يزيله عنك، فقال الغلام: إني كنت يوما أحمل الشوك إلى البلد فمررت بقصر ابنة الملك فنظرت إلى القصر فوقع نظري عليها فدخل حبها شغاف(2) قلبي وهو يزداد كل يوم ولا أرى لذلك دواء إلا الموت، فقال عيسى (علیه السلام): إن كنت تريدها أنا أحتال لك حتى تتزوجها، فجاء الغلام إلى أمه وأخبرها بقوله ، فقالت أمه: يا ولدي إني لا أظن هذا الرجل يعد بشيء لا يمكنه الوفاء به، فاسمع له وأطعه في كل ما يقول، فلما أصبحوا قال عيسى (علیه السلام) للغلام: اذهب إلى باب الملك، فإذا أتى خواص الملك ووزراؤه ليدخلوا عليه قل لهم: أبلغوا الملك عني أني جئته خاطبا كريمته، ثم ائتني وأخبرني بما جرى بينك وبين الملك، فأتى الغلام

ص: 122


1- الفراسة: التثبت والنظر والتأمل للشيء والبصر به، وتفرس في الشيء: توسّمه. (لسان العرب 10: 221).
2- غلاف القلب. (لسان العرب7: 146).

باب الملك، فلما قال ذلك لخاصة الملك ضحكوا وتعجبوا من قوله ودخلوا على الملك وأخبروه بما قال الغلام مستهزئين به، فاستحضره الملك، فلما دخل على الملك وخطب ابنته قال الملك مستهزئا به: أنا لا أعطيك ابنتي إلا أن تأتيني من اللآلي واليواقيت والجواهر الكبار كذا وكذا، ووصف له ما لا يوجد في خزانة ملك من ملوك الدنيا، فقال الغلام: أنا أذهب وآتيك بجواب هذا الكلام، فرجع إلى عيسى (علیه السلام) فأخبره بما جرى، فذهب به عيسى (علیه السلام) إلى خربة كانت فيها أحجار ومدر كبار(1)، فدعا الله تعالى فصيرها كلها من جنس ما طلب الملك وأحسن منها، فقال: يا غلام خذ منها ما تريد واذهب به إلى الملك، فلما أتى الملك بها تحير الملك وأهل مجلسه في أمره، وقالوا لا يكفينا هذا، فرجع إلى عيسى (علیه السلام) فأخبره، فقال:اذهب إلى الخربة وخذ منها ما تريد واذهب بها إليهم، فلما رجع بأضعاف ما أتى به أولا زادت حيرتهم، وقال الملك: إن لهذا شأناً غريباً ، فخلا بالغلام واستخبره عن الحال، فأخبره بكل ما جرى بينه وبين عيسى (علیه السلام) وما كان من عشقه لابنته، فعلم الملك أن الضيف هو عيسى (علیه السلام)، فقال: قل لضيفك: يأتيني ويزوجك ابنتي، فحضر عيسى (علیه السلام) وزوجها منه، وبعث الملك ثيابا فاخرة إلى الغلام فألبسها إياه وجمع بينه وبين ابنته تلك الليلة، فلما أصبح طلب الغلام وكلمه فوجده عاقلا فهما ذكيا ولم يكن للملك ولد غير هذه الابنة فجعل الغلام ولي عهده فلما كانت الليلة الثانية مات الملك فجأة وأجلسوا الغلام على سرير الملك وأطاعوه وسلموا إليه خزائنه، فأتاه عيسى (علیه السلام) في اليوم الثالث ليودعه، فقال الغلام: أيها الحكيم إن لك علي حقوقاً لا أقوم بشكر واحد منها لو بقيت أبد الدهر، ولكن عرض في قلبي البارحة أمر لو لم تجبني عنه لا أنتفع بشيء مما حصلتها لي، فقال: وما هو؟ قال الغلام: إنك إذا قدرت على أن تنقلني من تلك الحالة الخسيسة إلى تلك الدرجة الرفيعة في يومين فلم لا تفعل هذا بنفسك، وأراك في تلك الثياب وفي هذه الحالة فلما أحفى(2) في السؤال قال له عيسى

ص: 123


1- المدر: قطع الطين اليابس. (لسان العرب 13: 53).
2- أحفاه في المسألة: ألح عليه في المسألة: (لسان العرب3: 250).

(علیه السلام): إن العالم بالله وبدار كرامته وثوابه والبصير بفناء الدنيا و خستها ودناءتها لا يرغب إلى هذا الملك الزائل وهذه الأمور الفانية، وإن لنا في قربه تعالى ومعرفته ومحبته لذات روحانية لا نعد تلك اللذات الفانية عندها شيئاً، فلما أخبره بعيوب الدنيا وآفاتها ونعيم الآخرة ودرجاتها قال له الغلام : فلي عليك حجة أخرى لم اخترت لنفسك ما هو أولى وأحرى وأوقعتني في هذه البلية الكبرى؟ فقال له عيسى: إنما اخترت لك ذلك لامتحنك في عقلك وذكائك، وليكون لك الثواب في ترك هذه الأمور الميسرة لك أكثر وأوفى، وتكون حجة على غيرك، فترك الغلام الملك، و لبس أثوابه البالية، وتبع عيسى (علیه السلام) فلما رجع عيسى إلى الحواريين قال: هذا كنزي الذي كنت أظنه في هذا البلد فوجدته . والحمد لله).(1)

لنكن من هذه الكنوز:

أقول: حينما سرّدت هذه الرواية لا أريد منها تحبيب العزلة والترهب لأنها أمور مذمومة في الإسلام وإنما أريد أن نزيد همّتنا لنكون من هذهالكنوز التي ينتقيها الإمام ويصطفيها لنفسه ويجعلها من خاصّته، وهذا أمرٌ في متناول كل أحد، إذا صدق في إيمانه وبذل السعي المناسب للهدف وأدركته الألطاف الإلهية قال تعالى (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً) (الإسراء/19) كمن يريد أن يصبح طبيباً فإنه لابد أن يبذل السعي المناسب فيتفوق في دراسته الإعدادية ويحصل على معدلٍ عالٍ ثم يدرس في كلية الطب ويتابع بقية السعي حتى نهايته.

الطريق الموصل الى الله تعالى:

ولا نتصور أن السبيل الموصل إلى الله تعالى منحصر بالعبادات المتعارفة كالصلاة والصوم والحج والزيارة، بل يُفهم من الأحاديث الشريفة أنه يوجد ما يمكن أن يكون أسرع

ص: 124


1- بحار الأنوار: 14/280- 282.

في طي مراحل التكامل، قال الإمام الحسن العسكري (علیه السلام): (ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة وإنما العبادة كثرة التفكر في أمر الله)(1)

فالعبادة أن تشعر وتحسّ بوجدانك أن الله تبارك وتعالى حاضر عندك مطّلع عليك أقرب إليك من حبل الوريد يحنو ويشفق عليك ويحبّك ويداريك ويدفع عنك، ولازم ذلك أن تفعل كل ما يحبّبك إليه ويقرّبك منه وأن تتعرف إليه تبارك وتعالى أكثر وأكثر وتفهم حقائق أسمائه الحسنى وتسعى لتحقيق تلك الصفات في حياتك كالرحمة والعفو والعلم والكرم وغيرها.

قال رجل للصادق(علیه السلام): (يا ابن رسول الله دلني على الله ما هو؟ فقد أكثر علي المجادلون وحيروني، فقال له: يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم، قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم، قال: فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال :نعم، قال الصادق (علیه السلام): فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي، وعلي الإغاثة حيث لا مغيث)(2).أقول: هذا التعلق بالله تبارك وتعالى واللجوء إليه يجب أن تستشعره دائماً وليس فقط في وقت الاضطرار، وهذه العلاقة الطيبة العامرة مع الله تبارك وتعالى هي حقيقة الدين لا الشكليات والمظاهر.

مصطلح المتدين:

وهنا أودّ الإشارة إلى مصطلح مبتدع تحوّل إلى ظاهرة لا تنسجم مع هذا الفهم لحقيقة الدين حيث أسيء استخدامه وهو عنوان (المتدين) وجعلوه مرادفاً لعنوان (المؤمن)، وهو غير صحيح، لأن عنوان المؤمن مصطلح قرآني تكرّر كثيراً يعبّر عن سلوك صالح وعقيدة صحيحة وأخلاق سامية، أما عنوان المتدين فيركّز على شكليات ومظاهر كإطلاق اللحية

ص: 125


1- تحف العقول: 488.
2- البحار: ج3 ص41.

ومسك المسبحة ولبس الخاتم باليمين وأداء بعض الطقوس الدينية، وهذا كله من الشريعة بالتأكيد، لكن أن يكون هو المقياس بغّض النظر عن الجوهر وسلامة الباطن والاستقامة في التعامل مع الآخرين فهذا تديّن مزيّف روّج له من يريد خداع السذّج لتحقيق أجندات خاصة به والمتاجرة بالدين، حتى تحمّل الدين إساءات كثيرة بسبب تصرفات بعض المتديّنين.

أعظم القربات الى الله تعالى:

ومن أعظم القربات إلى الله تعالى الإحسان إلى خلقه لأنهم عياله وصنيعته والإحسان إليهم إحسان إليه تبارك وتعالى، قال الإمام الحسن العسكري (علیه السلام): (إن في الجنة لباباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا أهل المعروف... فإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة)(1).

ص: 126


1- البحار: ج71 ص414.

الفصل الثالث: تفعيل دور القرآن الكريم في حياتنا

اشارة

ص: 127

ص: 128

دعوة المؤمنين إلى أن تكون قلوبهم وعقولهم أودية كبيرة لمعارف القرآن الكريم

اشارة

دعوة المؤمنين إلى أن تكون قلوبهم وعقولهم أودية كبيرة لمعارف القرآن الكريم(1)

بالطهارة المعنوية ننال المعرفة:

قال تعالى «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا» (الرعد:17) ومعنى الآية الظاهري واضح ولا شك أن الأودية الكبيرة تستوعب وتتلقى كمية أكبر من مياه الأمطار النازلة على الأرض من الأودية الصغيرة.لكن القرآن الكريم يعبّر عن هذه الأوصاف بأنها أمثال يضربها للتعقل والتفكر والتدبر في حقائقها التي يرجع إليها تأويلها «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» (آل عمران: 7) فإن القرآن يصف نفسه بأنه عبارة عن حقائق واقعية محفوظة في اللوح الإلهي «إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ» (الواقعة: 77-78) أي كتاب محفوظ في علم الله تبارك وتعالى ويقول عنه «لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ» (الواقعة:79) أي لا يصل إلى حقيقته ومعرفة أسراره ألا المطهرون الذين طهروا قلوبهم من الرين ونفوسهم من الرذائل، والمصداق الأكمل لهم هم المعصومون «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» (الأحزاب: 33)، ولهذا فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً لأنه قال عن نفسه أنه تبيان لكل شيء وأنه «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» (الأنعام:38) فهل يعجز عن بيان معاني نفسه؟!

ص: 129


1- من كلمة مطولة تحدث بها سماحة الشيخ (دامت تأييداته) مع وفد ضم العشرات من ممثلية شهداء الفضيلة التابعة لتنظيم حزب الفضيلة في مدينة الصدر ببغداد يوم الثلاثاء 10 ربيع الأول 1426 ونشرت في الصفحة الأولى من العدد (23) من صحيفة الصادقين الصادر بتأريخ 10 ربيع الثاني 1426 المصادف 19 آيار 2005.

وفي ضوء هذا فإن الإنسان يتلقى هذه المعارف الحقيقية والمعاني الواقعية. بمقدار جهده في تطهير قلبه وتهذيب نفسه، وهذا أحد معاني الآية الشريفة التي افتتحنا بها الحديث، فإن الماء النازل من السماء مثل للمعارف والألطاف التي يمن بها الله تبارك وتعالى على عباده، والأودية تشير إلى العقول والقلوب وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (القلوب أوعية فخيرها أوعاها)(1)،

فينبغي للمؤمنين أن يتسابقوا في تطهير قلوبهم ونفوسهم لتزداد معرفتهم بالله تبارك وتعالى من خلال القرآن الكريم.

قصة عن علماء السلف:

ينقل(2) عن ثلاثة من كبار علماء الشيعة وهم السيد إسماعيل الصدر والسيد حسن الصدر والمحدث النوري، أنهم زاروا أحد العلماء في الليلة الأولى من شهر رمضان المبارك، ففسر لهم آية بتفسير وجدوه واضحالانطباق على الآية واستغربوا من عدم التفاتهم إليه، ثم زاروه في الليلة الثانية ففسر لهم نفس الآية بتفسير آخر بنفس الوضوح واستغربوا أيضا من عدم التفاتهم، وهكذا إلى نهاية الشهر, فهذه معارف وعلوم القرآن الكريم وهذا لطف الله تبارك وتعالى بعباده المخلصين في إراءتهم هذه المعاني في اللوح المحفوظ.

معنى ذكرنا لهذه الفكرة:

وإنني حين أذكر هذه الفكرة لأمرين:

ص: 130


1- نهج البلاغة: ج4 ص35.
2- رواها السيد محسن الحكيم (قدس سره) في كتابه (حقائق الأصول: 1/95) وذكر أن الآية هي «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» (الحجرات:7).

الأول: حثكم على التواصل مع القرآن الكريم والتفاعل مع معانيه ومعارفه وحقائقه لأن فيه مفاتيح الخير كله.

الثاني: دعوتكم إلى مضاعفة الهمة والحماس والشعور بالمسؤولية في العمل الإسلامي المبارك، والتمهيد لدولة العدل الإلهي ولتكونوا من الأودية الكبيرة التي لا تحمل هم نفسها أو مدينتها بل تتوسع فيه.

ص: 131

التواصي بالحق والتواصي بالصبر

اشارة

التواصي بالحق والتواصي بالصبر(1)

أهمية سمرة العصر:

سورة (العصر) قصيرة جداً في كلماتها لا تتجاوز السطرين لكنّها عظيمة في فضلها، خطيرة في مضمونها، وإنها مظهر من مظاهر إعجاز القرآن حينما يُقدِّم في سطر واحد منهجاً متكاملاً لنجاح البشريّة من أوّل الخلقة إلى نهايتها ويعرِّف هويّة الأمّة الرابحة الفائزة ويعلّمها وظائفها في هذا السطر.

روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (من قرأ (والعصر) في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقاً وجهه ضاحكاً سنّه، قريرة عينه حتّى يدخل الجنة)(2)، ولأهمية ما جاء فيها فقد ورد أن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانوا اذا اجتمعوا لا يفترقون إلاّ بعد تلاوة سورة (والعصر) ويتذاكروا في مضامينها(3).

معنى (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ):

يبتدئ الله تبارك وتعالى السورة بالقسم (والعصر) بمعانيه المختلفة كما وردت في التفاسير، فيقسم الله عزّ من قائل –وهو أصدق القائلين- لتأكيد الكلام ولإثارة انتباه المخاطب إلى الحقيقة التي سيقولها، لأنّها حقيقة خطيرة (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) ليس الإنسان بحسب تكوينه وأصل خلقته، لأنّه خُلق للكمال وللمعرفة بالله تعالى ولإخلاص الطاعة له سُبحانه

ص: 132


1- كلمة سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من منتسبي هيئة الحج والعمرة في بغداد والمحافظات يوم الخميس 2/ج1/1434 الموافق 2013/3/14.
2- ثواب الأعمال: 125.
3- الدر المنثور: 6/392.

والاستقامة على ما أراد منه، لذلك أسجد له ملائكته وقال تعالى (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/30) ، فليس الإنسان بالحمل الأولي –كما في المصطلح- هو في خسر، بل الإنسان الموجود على أرض الواقع أي بلحاظ سلوكه وسيرته أي أفراد الإنسان ومصاديقه بالحمل الشائع –كما في المصطلح- الذي يخالف فطرته حينما يخرج إلى هذه الدنيا وينسى عهده مع ربّه الذي واثقه عليه {وَإِذْأَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}الأعراف172.

فهذا الإنسان الذي خلق للسمو والتكامل، تراه ينحدر ويتسافل ويعرض عن ذكر ربّه، فيخسر رأس ماله وكلّ القوى التي زوّدها الله تعالى بها لتحقيق الغرض المنشود من حياة ووجود وعقل وفكر وبدن وثروة وجاه وعلاقات وأسرة وعشيرة وموقع وغيرها، حتّى الأشياء البسيطة الدقيقة التي يمكن أن تُكتسب بها الجنان (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) الزلزلة7، كتسبيحة أو ذكر مع كل شهيق وزفير و في كل طرفة عين.

وإذا به على العكس يسخّرها للشقاء والعذاب، فإذن هو فعلاً (في خسر)، بل خسر عظيم، قال تعالى {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }الزمر15 كمن يزوّد برأس مال عظيم وتوفَّر له كلّ فرص النجاح والاستثمار وتقدِّم له كلّ معونة والتسهيلات في السوق، لكنّه بحماقته وضيق نظره يخسر كلّ ذلك، عن الإمام الهادي (عليه السلام) (الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون)(1).

ثمن النفس هو الجنة:

ص: 133


1- بحار الأنوار: 72/366 ح1، تحف العقول: 361.

هذه الصفقة التي أنشأها الله تعالى مع عباده (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة/ 111) فلا ثمن لهذه النفس إلاّ الوفاء بهذه الصفقة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة فلا تبيعوها إلاّ بها)(1).

والتعبير يمزج مع التحذير والتهديد والتوبيخ استغراباً وعتاباً، لأنّ الله تعالى خلقهم للرحمة والسعادة والفوز وأعطاهم كلّ ما يوصلهم إلى هذه النتيجة من أسباب معنوية ومادّية قال تعالى (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود 119), وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله (يقول الله تعالى: يا ابن آدم، لم أخلقك لأربح عليك، إنّما خلقتك لتربح عليّ, فاتخذني بدلاً من كل شيء، فإني ناصر لك من كل شيء)(2).

لماذا يحصل الخسران؟

فلماذا يخسرون كلّ ذلك بتوظيفه في عكس الهدف الذي خلقوا من أجله {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون }(يس30)، لذلك يسجّل القرآن الكريم استغرابه من دخول أهل النار إليها، قال تعالى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ }المدثر42، ولم يسجّل استغرابه من دخول أهل الجنة فيها لأن وجودهم على القاعدة ومع الهدف الذي خُلقوا من أجله.

والمرعب في هذه الحقيقة إطلاقها وعمومها (إن الإنسان) مطلقاً فتكون كقوله تعالى (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ً) (مريم/71-72).

ص: 134


1- نهج البلاغة: قصار الكلمات، رقم 74.
2- ميزان الحكمة: 1/334 الحديث 1604 عن شرح نهج البلاغة: 20/319، 665.

المستثنون من الخسران:

نعم استثني من هذه النتيجة المهولة بعض توفّرت فيه أربع خصائص مجتمعة:

1- (إلاّ الذين آمنوا) واعتقدوا صدقاً وإخلاصاً بكل العقائد الحقّة بتوحيد الله تعالى والرسالة للنبي (صلى الله عليه وآله) وولاية أمير المؤمنين والأئمة المعصومين (عليهم السلام) وسائر العقائد الحقّة.

2- (وعملوا الصالحات) لأنّ الإيمان لا يكون حقيقياً وصادقاً إلاّ أن يظهر إلى الخارج بعمل صالح يكون موافقاً لما يريده الله تبارك وتعالى.

وهذا المقدار مفهوم وواضح وذكرته آيات عديدة، لكنّ الأهمية والخطورة التي أشرنا إليها في هذه السورة هي فيما أضافته الآية من شرطين للفوز والنجاة من الخسران، حيث لم تكتفي بالركنين السابقين، وهما

3- (وتواصوا بالحق) فلا يكتفون بكونهم صالحين في أنفسهم مؤمنين يعملون الصالحات بل يتحركون برسالتهم في المجتمع فيوصي بعضهم بعضاً بالتزام الحق والعمل به، والتعبير بالتواصي يتضمّن معنى الإستمرارية والتواصل، والحق الذي يتواصون به له مساحة واسعة، فكلّ خير وكل ما هو مثمر وكلّ ما يوصل إلى الله تبارك وتعالى ويعين على طاعته ويجنّب معصيته هو حق فيتواصون به.وهذا له مدى واسع فيشمل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والإسلام وولاية اهل البيت (عليهم السلام) ونشر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومظلوميتهم من الأعداء، ونشر أحكام الدين وتقديم النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحقوق التفصيلية الكثيرة كالتي تضمنتها رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام).

ولابد لمن يقوم بهذه الوظيفة أن يكون ملتفتاً قبل ذلك إلى نفسه فيتعاهدها ويتواصى معها ويشارطها على الهدى والصلاح والثبات، لأنّها أعز وأثمن من يتواصى معه.

إن الحقّ إذا لم يتم التواصي به والتواصل معه جيلاً بعد جيل وبين عامة الجيل الواحد أي التحرّك به أفقياً وعمودياً فإنّه يضيع كما ضاعت حقوق كثيرة وعلى رأسها حقّ الإمامة

ص: 135

وولاية أمر الأمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين).

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ حقوق الناس تثبت بشهادة شخصين، وقد أنكِرَ حق جدّي أمير المؤمنين (عليه السلام) وعليه سبعون ألف شاهد كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في غدير خم(1).

1- (وتواصوا بالصبر) فإنّ من يسير بهذا الطريق الذي تخلّى عنه أكثر الناس وأصبحوا ينظرون إليه بازدراء وسخرية سيلقى الكثير من المشقّة والعنت والأذى وسيتطلب منه تضحية كثيرة بأعز ما لديه فيحتاج إلى صبر ومصابرة ومرابطة وثبات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}آل عمران200، فيوصي هؤلاء الثلة القليلة بعضهم بعضاً بالصبر والمضي على هذا النهج المقدّس المبارك.

إصلاح الآخرين:

إنّ الحقيقة الخطيرة التي أضافتها هذه السورة المباركة أن الإيمان والعمل الصالح على مستوى النفس غير كافٍ للفوز وللنجاة من الخسران الشامل لأفراد الإنسان، بل لابد أن ينضم له التحرّك بهذه الوظيفة في المجتمع والاستمرار على ذلك والثبات عليه وتحمّل أعبائه.

وبتعبير مختصر أنّ صلاح الفرد الشخصي لا يكفي من دون أن يضم له العمل على إصلاح الآخرين، وهي مسؤولية كبيرة لكن منزلتها عظيمة لامكان فيها للمتقاعس والمتكاسل الذي لا يكترث بما يعجّ به المجتمع من مفاسد وظلم وانحراف وضلالات وشبهات وخرافات وجهل وغير ذلك.

حينئذٍ يتحقق صلاح الفرد وصلاح المجتمع أيضاً، ونجاة الفرد ونجاة المجتمع وعزّتهما معاً بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 136


1- بحار الأنوار: 37/158 باب52.

التواصي بالحق والتواصي بالصبر:

وإذا قابلنا هذه الآية مع الآيتين المتقدّمتين من سورة (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) مريم نحصل على تعريف للتقوى فتكون حقيقتها الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر بمقتضى المطابقة وتحقيق ما تحصل به النجاة من النار والخسران.

وهذه الحقيقة طبيعية لأنّ الإيمان يدعو إلى العمل الصالح، والعمل الصالح لا يعرف الإنزواء والجمود والتقوقع، وإنّما يدعو للحركة المثمرة لهداية الآخرين وإرشادهم ونصحهم ومساعدتهم، فإنّ من أعظم الأعمال الصالحة ما كانت مندرجة في هذه الحركة الاجتماعية لذا ورد في بعض الروايات تفسير عمل الصالحات بمواساة الإخوان(1).

إن مسؤولية التواصي بالحق والتواصي بالصبر لا تختص بالمبلغين والمرشدين من الحوزة العلمية بل هي شاملة لكل الناس خصوصاً مع توفّر سبل الهداية وقنوات الإصلاح والتأثير لكل العاملين على شبكات المعلومات وصفحات التواصل الاجتماعي والفضائيات.

ص: 137


1- كمال الدين وإتمام النعمة: 656 ح1.

قاعدة في السلوك المعنوي من سورة الحديد

اشارة

قاعدة في السلوك المعنوي من سورة الحديد(1)

أهمية المسبحات:

سورة الحديد من السور المباركة التي كان يهتم بها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم )، وروي انه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حينما يأوي إلى فراشه للنوم يتلو سور المسبّحات(2)، وهي السور التي تبدأ بكلمات التسبيح ، وأولها سورة الحديد ومعها سورة الحشر والصف والجمعة والتغابن وهي في الجزء الثامن والعشرين من المصحف الشريف.

وروى العلامة الطبرسي في مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: من قرأ المسبحات كلّها قبل ان ينام لم يمت حتى يدرك القائم (عليه السلام) وان مات كان في جوار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

سورة الحديد ومحاسبة النفس:

وسورة الحديد من السور النافعة في الموعظة وترقيق القلب، فإدامة تلاوتها قبل النوم يساعد على إجراء المراجعة مع النفس في نهاية كلِ يوم، وهي المحاسبة التي أمرنا المعصومون (عليهم السلام) بها.

موعظة من السورة:

ص: 138


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة الجامعات و المعاهد في البصرة وذي قار ووفود من ناحية الفجر في ذي قار والمعامل في بغداد يوم السبت 26/ربيع2/1434ه المصادف 2013/3/9.
2- أنظر مستدرك الوسائل: ج4 ص289.
3- مجمع البيان 9/345

ونأخذ منها اليوم مقطعاً يعطينا قاعدة في السلوك المعنوي خصوصاً لكم أيها الشباب الجامعيون ونستقي منه أيضاً درساً في الموعظة يعرض مشهداً من مشاهد يوم القيامة ، ذلك اليوم المهول الذي ورد وصفه في القران الكريم بأوصاف مذهلة {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} «الحديد : 12»يستعرض المشهد مقارنة بين حالي المؤمنين و المنافقين وحواراً، اما المؤمنون والمؤمنات فانهم {يَسْعَى نُورُهُمْ} في ذلك اليوم الذي تنكسف به الشمس وتنكدر النجوم وتكون الجبال كالقطن المنفوش وتشتد الظلمات بعضها فوق بعض، يلطف الله تعالى بالمؤمنين والمؤمنات فيوفّر لهم نوراً يسعى بهم الى الجنة والسعادة، والسعي هو السير الحثيث فهو يسرع بهم الى الجنة، ولما كان النور ينبعث منهم، فإنهم في الحقيقة هم الذين يسعون لأنهم مصدر النور، ونسب السعي إليه لأنه يتقدمهم.

{بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} هذا النور ينبعث من امامهم ومن ايمانهم، ولعل الذي من امامهم هو نور الايمان و عقائدهم الحقة في التوحيد والنبوة والإمامة، لذا ورد في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن النور قال (عليه السلام) (أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبإيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة)(1)،

ولعله نور ذواتهم الطيبة المحبوبة عند الله تعالى، أما النور من يمينهم فهو نور أعمالهم الصالحة حيث يؤتى المؤمن كتابه بيمنه (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ{19} إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ{20} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ{21} فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ{22} قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ{23} كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ{24} (الحاقة/19-24).

(بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وما دامت هذه عاقبتهم، فإنها بشرى حقيقية ويستحقون التهنئة على هذا الفوز العظيم وما أعظمه من فوز ومن خاتمة حسنة في تلك الحياة الخالدة.

ص: 139


1- الكافي: 1/151 ح5.

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) هذه هي الصورة المقابلة للبائسين الخاسرين من المنافقين والمنافقات فإنهم في ظلمات وخوف ورعب وعذاب وألم، فالتفتوا إلى المؤمنين والمؤمنات وهم في ذلك العيش الرغيد وطلبوا منهم أن يلتفتوا إليهم ويسعفوهم بقبس من النور يخفّف عنهم بعض الأهوال.(قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) فجاءهم الجواب إنّ الفرصة قد فاتت الآن لتحصيل النور لأنّه حصيلة أعمالكم الّتي اكتسبتموها في الدنيا، فكان عليكم أن تلتفتوا إلى هذه الحقيقة في الدنيا فتؤمنوا وتعملوا الصالحات لتتحول إلى نور في هذا اليوم، فإن استطعتم أن ترجعوا إلى الدنيا لتحصيل النور، وذلك مستحيل (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ) (ص:3).

(فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ) ففصل بينهم بجدار عازل كما كانوا في الدنيا منفصلين ومتباينين في سلوكهم واعتقاداتهم ونظرتهم إلى الحياة، وإن كانوا متعايشين في مجتمع واحد وبيئة واحدة فجُسِّدَت تلك المباينة بسور عازل (له باب) لينظر بعضهم إلى بعض من خلاله وليجري بينهم هذا الحديث وليقارن كل من الفريقين حاله مع حال الآخر فيزداد المؤمنون والمؤمنات شكراً لله تعالى على ما انعم، والمنافقون والمنافقات ألماً وحسرة وندامة على ما فرطوا في أمر آخرتهم.

(بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) صفة هذا السور أن ما بداخله الرحمة والسعادة والعيش الهنيء وهو محل المؤمنين، أما خارجه فالعذاب والوحشة والخوف والألم وهو محل المنافقين والمنافقات، ومثاله المدن في ذلك الزمان عندما كانت تحاط بسور متين يحميها من هجمات الأعداء واللصوص والمحتلين والمجرمين، فتجد داخل المدينة البيوت المريحة والشوارع المنظّمة والأسواق العامرة والمياه العذبة وسائر أسباب الرفاهية، أما خارجها فالصحراء والوحشة والمخاطر والجوع والظمأ والخوف، وهذا مثال حال الفريقين يوم القيامة.

ص: 140

(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ) وحينئذ نادى المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات، وعبَّر بالمناداة وليس (قالوا) ونحوها للبينونة البعيدة بينهما ولم تكن مواضعهم متقاربة، فخاطب المنافقون المؤمنين الذين يعرفونهم ألم نكن معكم في مدينة واحدة وجامعة واحدة ودائرة واحدة ومجتمع واحد بل ربما في بيت واحد كنا نعيش سوية فلماذا حصل هذا التفاوت العظيم بيننا.

ويظهر من بعض الروايات ان المراد بهم المنحرفون عن ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، عن الإمام الباقر (عليه السلام) (فيناديكم أعداؤنا وأعداؤكم من الباب الذي في السور ظاهره العذاب: ألم نكن معكم في الدنيا،نبيّنا ونبيّكم واحد، وصلاتنا وصلاتكم واحدة، وصومنا وصومكم واحد، وحجُّنا وحجُّكم واحد).(1)

(قالوا بلى) فأجاب المؤمنون نعم كنّا هكذا سوية بأبداننا لكن أرواحنا وعقائدنا وسلوكياتنا كانت متباعدة ومتباينة، ولنضرب مثالاً من واقعكم أنتم الشباب الجامعي فأنتم الموجودون هنا تأتون إلى زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) وتستمعون إلى المواعظ والتوجيهات بينما ذهب آخرون من زملائكم إلى حيث اللّهو والعبث والمجون، فيوجد انفصال بينكم في السلوك والرؤى وهذا هو الذي جسّد هذا التفاوت بيننا يوم القيامة.

(ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرّتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغرّكم بالله الغرور) ومن هنا يبدأ تعداد الأسباب التي جعلت مساراتنا في الحياة الدنيا متباينة، انكم فتنتم أنفسكم واتبعتم الشهوات وسرتم وراء أهوائكم من دون بصيرة وتعقل واتباع لشرائع الله تعالى.

ص: 141


1- تفسير البرهان: 9/ 225.

(وتربصتم) إذ كنتم تترقبون زوال الدين والقضاء على أهله وإسكات صوت الحق الذي كان يقض مضاجعكم ويسبب لكم ألماً باطنياً ووخز الضمير.

(وارتبتم) حيث كنتم تشككون بالعقائد والأحكام الإلهية وتثيرون الشكوك والشبهات حولها لتجعلوا لأنفسكم مبررات لعدم الالتزام بها، وتفاقم ارتيابكم ليشمل حتى أقدس المقدسات كما نسمع اليوم من بعض أدعياء الحداثة تشكيكات في أصل نبوة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكون القرآن نازلاً من الله وهم مسلمون!!!

(وغرّتكم الأماني) خدعتكم وعود الشيطان وأوليائه وعبيده بدنيا مزيّفة وأموال ومواقع وشهوات ونحوها.

(حتى جاء أمر الله) حتى فاجأكم الموت وطويت صفحة أعمالكم وانقطعت عنكم فرصة التدارك والتعويض والإصلاح والمراجعة.(وغرّكم بالله الغرور) ونجح الشيطان بخداعكم والمكر والتغرير بكم وأنتم تتحملون المسؤولية باتّباعكم إيّاه رغم التحذير الشديد من قبل الله تعالى (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً) (الإسراء/53) (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة/168).

(فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وكانت هذه النتيجة الحتمية لسوء أعمالهم أن يجتمعوا مع الكفّار في النار والعذاب الأليم لأنها هي الأولى بهم والأليق لخبثهم حتّى تطهرهم النار وتزيل أدرانهم.

وهنا يلتفت الله تعالى إلى المؤمنين والمؤمنات ويخاطبهم بعتاب رقيق وتساؤل ملؤه الحنان والشفقة بأن يستفيدوا من هذه المواعظ ويطهروا بها قلوبهم ويهذّبوا أنفسهم، وإلا فإنها تقسو وتسوَّد بطول الأعراض عن الموعظة وذكر الله تعالى والانغماس في الملذات واللهاث من أجل التوسع في الدنيا، حتى يطبع عليها فلا تنفع معها موعظة والعياذ بالله

ص: 142

تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد/16).

قدّمت لكم هذا النموذج مما أدعو إليه من التفسير المبسّط للقرآن الكريم الذي يعيننا على التدبّر في آياته من دون الحاجة إلى الكتب المعمّقة في التفسير.

قاعدة مهمة في السير الى الله تعالى:

وأريد أن أركّز من خلاله على الوصف الذي ورد في المقطع (بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) فهذه قاعدة مهمة في السلوك المعنوي إلى الله تعالى، وهي الالتفات إلى حقائق الأمور لاتخاذ المواقف الصحيحة، وعدم الانخداع بالظاهر وبناء القرارات عليه.

فإن كثيراً من الأفعال والمواقف تبدو في ظاهرها لذيذة ممتعة إلا أنّها تستبطن الشقاء والعذاب والألم، وعلى العكس من ذلك فإن بعضاً آخرمنها يبدو ظاهره متعباً مكروهاً إلا أن حقيقته السعادة والنعيم، لذا ورد في الحديث (حُفّت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات)(1).

أمثلة للشباب:

ولنأخذ أمثلة من واقعكم الشبابي الجامعي، فإن البعض قد يتصور ان إقامة علاقات غير مشروعة مع الجنس الآخر فيها لذة ومتعة وسعادة ولكن الحقيقة خلاف ذلك لأن المجتمع سيرفضهما خصوصاً البنت وسيؤثر ذلك على مستقبلها وتسبّب تلك العلاقة شقائها، وربما بعض ردود الأفعال المؤلمة، هذا في الدنيا أما ما بعد الموت وفي الآخرة فسيعيشون حالة الألم والندامة والعذاب.

ص: 143


1- بحار الأنوار: ج68 ص72.

والمثال الآخر بعض الشباب المهووسين بالسفر إلى بلاد الغرب ليعيش حياة مرفهة سعيدة لكنه يضيّع دينه وأسرته وتكون زوجته وأولاده متمردين عليه وخارجين عن إرادته بسبب القوانين المعمول بها هناك.

ومن أمثلتها من يلتحق بجهة سياسية أو دينية أو اجتماعية من دون أن يتحقق من إخلاصها واستقامة سيرتها ومصداقيتها في العمل بما يرضي الله تعالى، يغرونه بمواقع النفوذ وتحصيل المال والامتيازات فتزل قدمه ويبتعد عن جادة الاستقامة وتكون عاقبته زلل قدمه عن الصراط.

فهذه كلها امور ظاهرها أنيق وفيها الراحة والدعة والترف والانسياق مع التيار العام إلا أن عاقبتها وخيمة.

وفي مقابل ذلك توجد نماذج أخرى كتعرض الفتاة الجامعية المحجّبة العفيفة إلى ضغط اجتماعي بأن مظهرها غير أنيق وانها متخلفة أو معقدة ونحوها من الأوصاف الاستفزازية.

وكذا الشاب الذي يلتزم بالمظهر المهذّب أو يلتزم بالآداب والأحكام الشرعية فيضغط عليه بنفس الطريقة ليستسلم وينهار وينساق معهم، وربما يتبارى زملاؤه الفسّاق في استدراجه معهم وإنهاء مقاومته.أو الموظّف الأمين الملتزم الذي لا يخون الأمانة التي تحت يده فإنه يعاني من استفزاز أقرانه وانه سوف لا يستطيع أن يعيش كأقرانه ويبقى في الحضيض ولا يتقدم، وما ذلك إلا لحسدهم إياه على سمّوه وعجزهم وضعفهم عن الوصول إلى قمّته.

أو محاولة البعض لثني الملتزمين بالدين –كالصوم في الأيام الحارة أو القيام في الليل البارد للعبادة ونحوها - عن عمله وإيجاد المبررات لترك العمل.

ص: 144

فهذه كلها أمور قد تبدو مكلفة ومتعبة وتحتاج إلى صبر ومصابرة وتحمّل للمكاره، إلا أن فيها الفوز والفلاح وحسن الخاتمة.

الاختبار مستمر في الدنيا:

وهذا الاختبار مستمر ما دمنا في الحياة الدنيا، والنجاح فيه يكشف عن الفوز في الآخرة، وستتجلى هذه الحقيقة بوضوح في عصر الظهور، ففي الرواية (يخرج الدجال عدو الله ومعه جنود من اليهود وأصناف الناس ، معه جنة ونار ورجال يقتلهم ثم يحييهم ، ومعه جبل من ثريد ونهر من ماء . وإني سأنعت لكم نعته إنه يخرج ممسوح العين في جبهته مكتوب كافر يقرأه كل من يحسن الكتاب ومن لا يحسن، فجنته نار وناره جنة، وهو المسيح الكذاب ، ويتبعه من نساء اليهود ثلاثة عشر آلاف امرأة فرحم الله رجلا منع سفيهه أن يتبعه ، والقوة عليه يومئذ القرآن فإن شانه بلاء شديد ، يبعث الله الشياطين من مشارق الأرض ومغاربها فيقولون له استعن بنا على ما شئت)(1).

فالالتفات إلى القاعدة التي ذكرناها يعين على النجاح في تلك الاختبارات وبناء مستقبل معنوي متكامل بلطف الله تبارك وتعالى، وإنما سميناها قاعدة لأنها تعطي رؤية تبرمج حياة الإنسان وتنظم أموره والله المستعان.

القواعد من الأحاديث الشريفة

القواعد من الأحاديث الشريفة(2):

ص: 145


1- الدر المنثور : ج 5 ص 354.
2- من حديث سماحة الشيخ (دام ظله) مع حشد من طلبة الجامعات في بغداد يوم الأربعاء 22/ع1/ 1433 المصادف 2012/2/15.

والقواعد المأخوذة من القرآن الكريم كثيرة، وكذا الموجودة في الأحاديث الشريفة وأذكر مثالاً لذلك ما ورد في وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (يا أبا ذر: اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذه الوصية تؤسس لحالة مهمة في الحياة وهي أن تتعامل مع الله تعالى وتعبده وتطيعه وكأنك تراه لا بالعين لأنه لا تدركه الأبصار، ولكن بالبصيرة والوجدان وبالقلب السليم فتجده حاضراً عندك «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (فصّلت:53)، فإن لم تكن تراه لغشاوة أو رين أو ذنوب أو غفلة، فلا شك أنك تعتقد انه يراك وانك تحت نظره في كل حركاتك وسكناتك فانظر كيف تكون وأنت في محضر الرب المتعال. كتب رجل إلى الحسين (علیه السلام): عظني بحرفين، فكتب إليه: (من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيئ ما يحذر)(1). وهي كلمة تختصر الطريق وتحدّد وسائل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية بدل التورط في الوسائل غير الشريفة ثم لا يجني منها غير الخسران، كما لو أحب فتاة وحاول الارتباط بها بعلاقة غير شريفة يورّط نفسه ولا يحقق مبتغاه الذي يمكن تحقيقه من أبوابه المتعارفة.

وقد احتوت الأدعية الشريفة على كمٍّ كبير من هذه القواعد للسلوك والتربية والتهذيب والوصول إلى الكمال فراجعوا دعاء الصباح لأمير المؤمنين ودعاء عرفة للإمام الحسين ودعاء مكارم الأخلاق للإمام السجاد (علیهم السلام).

ولا نحتاج الإطالة في الأمثلة بعد أن اتضحت الفكرة فأتعبوا أنفسكُم في وضع سجل بهذه القواعد لتراجعوه باستمرار وتجدّدوا معنوياتكم بمطالعته.

هذا شرح مختصر لأصل الفكرة واستعراض سريع لبعض الأمثلة وإلا فإنها تحتاج إلى كتاب مفصل يشرح لنا معنى أن نضع لأنفسنا قواعد،والحاجة إلى مثل هذه القواعد، ومن

ص: 146


1- الكافي: ج2 ص373.

أين تؤخذ، وشرح مفصل لجملة من تلك القواعد لتكون خارطة طريق لمريد الكمال والسمو بإذن الله تعالى.

ص: 147

القرآن الكريم يخفف آلام العاملين الرساليين

اشارة

القرآن الكريم يخفف آلام العاملين الرساليين(1)

المواجهة مع الملأ من السنن الإلهية:

من السنن الجارية في الأمم عبر التاريخ تعرّض المصلحين والعاملين الرساليين وعلى رأسهم الأنبياء والرسل والأئمة المعصومون (صلوات الله عليهم أجمعين) إلى الإيذاء المادي والمعنوي من قبل المتسلطين والطواغيت وأصحاب النفوذ (الذين يسميهم القران بالملأ) وأتباعهم من الجهلة والمنتفعين والغوغاء «مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قبلك)فصلت43 (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كثيراً» (آل عمران: 186)، ويبدي الله تبارك وتعالى على لسان أوليائه الحسرة والألم والتفجّع لهذا الموقف السلبي «يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون» (يس:30).

صعوبة الإيذاء المعنوي:

ويحكي القران الكريم فصولاً عديدة من هذه المواجهة تضمنت أقسى ألوان البطش والقسوة والانحطاط من قبل المعسكر الآخر وأسمى ألوان الصبر والمصابرة والجهاد والرحمة والشفقة من أولياء الله وعباده الصالحين، ورغم أن الإيذاء المادي المشتمل على القتل والتشريد والتعذيب الجسدي والسجن والتجويع وغيرها كان قاسيا إلا أن ما يؤلم الصالحين أكثر هو الإيذاء المعنوي بالإعراض عن الاستماع إلى الحق وإتباعه وخلط الأوراق على الناس بالافتراء والكذب وقتل الشخصية بالتسقيط والتشويه لان الثاني هو الذي يحول دون نجاح مشروعهم الرسالي ويضع الحواجز بينهم _أي المصلحين_ وبين

ص: 148


1- من حديث سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع وفد مؤسسة الأنوار الثقافية في منطقة المعامل ببغداد يوم 15 ربيع الثاني 1428 المصادف 2007/5/3 جواباً على شكواهم مما يتعرضون له من عدوان وتسقيط وحرمان من أبسط الحقوق من قبل إخوانهم المتسلطين في كتلة الائتلاف العراقي الموحد.

الناس فيؤلمهم ابتعاد الناس وعدم اهتدائهم إلى الحق وتنعّمهم بالرحمة التي جاؤوهم بها من ربهم «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء:107)، أما الأول فإنه يؤدي إلى التعاطف معه والالتفاف إليه واعتناق مبادئه ولو بعد حين للشعور بمظلوميته.

ومما يزيد في شدة وطأة الإيذاء المعنوي أن أتباع نفس الرسل والمصلحين يساهمون فيه عن علم وعمد أو عن جهل وغرور وأنانية بسوء تصرفهم وبعصيانهم وعدم الالتزام بتعاليم قادتهم وبضعفهم وتشتتهم والخلافات بينهم ونحوها، بينما لا يتوقع صدور النوع الأول من الأتباع والموالين.

القرآن الكريم يطيب قلب النبي (صلی الله علیه و آله):

وكان الإيذاء المعنوي أشد على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي وصفه الله تبارك وتعالى «لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» (التوبة:128)، لذا كان ربّه الكريم الرحيم يسلّي قلبه ويخفف عن آلامه ويطيّب خاطره «وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ» (النحل:127)، «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» (الحجر: 97-99).

مع سورة القصص:

بل إن سوراً كاملة نزلت لهذا الغرض كسورتي القصص ويوسف (عليه السلام)، فالأولى تصف حالة الاستضعاف التي كان عليها قوم موسى (عليه السلام) حيث كان فرعون يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم وفي ذلك البلاء العظيم ولد موسى (عليه السلام) فكان من لطف الله به وتدبيره له أن يأخذه فرعون الطاغية نفسه ويرعاه حتى أصبح رجلاً رافضاً لما عليه فرعون وقومه ثم غادر مصر خوفاً من القتل حتى ورد ماء مدين وتزوج هناك ثم عاد نبياً رسولاً كليماً لله تبارك وتعالى بمعجزة عظيمة يدعو فرعون إلى عبادة الله تبارك وتعالى

ص: 149

واستطاع أن يهدي بمعاجزه سحرة فرعون وآمن به من آمن حتى عبّأ له فرعون من الجيوش ما لا قبل لموسى والمؤمنين بهم ففلق الله تبارك وتعالى لموسى البحر وأنجاه ومن معه وأغرق فرعون وجنوده لينتصر موسى (عليه السلام) ويقيم الحق والعدل وقد عبّر الله تبارك وتعالى عن هذا التدبير بتعبير رقيق «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي» (طه:39)، أي لتُصنع هذه القيادة الفذة برعاية وتدبير مباشرين من الله تبارك وتعالى، وفي نهايتها تصل السورة إلى الهدف وهو تطييب قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتخفيف عن آلامه التي اشتدت في السنين الأخيرة من وجوده المبارك في مكة حيث حوصر ثلاث سنين في الشعب حتى فقد ناصريه خديجة وأبا طالب ثم أُمِر بالهجرة ومغادرة مكة التي تعلق بها قلبه فوعده الله تبارك وتعالى بأنه عائدٌ إليها «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ» (القصص:85)، وما مرت إلا ثمان سنوات - وهي ليست كثيرة في عمر الزمن- حتى تحقق الوعد الإلهي بفتح مكة.

مع سورة يوسف:

وتتحدث سورة يوسف عن ذلك الغلام الصغير الذي حسده أخوته فالقوه في الجب ليهلك ولم يكن هناك أمل بنجاته لكن التدبير الإلهي أتاه بقافلة لتستقيفخرج مع الدلو وباعوه في مصر إلى عزيزها الذي رباه واعتنى به ثم قرّبه لما وجد عنده علماً وحكمة وتدبيراً وأمانة وصار بيد النبي الكريم مقاليد أمور الولاية بعد وفاة عزيزها وجاء نفس أخوته الذين كادوا له معترفين بجريمتهم طالبين العفو والصفح فتعامل معهم بسمو الأخلاق.

هكذا يلطف الله تعالى بعباده وهكذا يصنع أولياءه ويدبّر شؤونهم، وهكذا يخيب كيد الباغين والحاسدين والمنافقين والكافرين «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ» (فاطر:43).

الدعوة الى أن نعيش في كنف القرآن الكريم:

ص: 150

إن ما يمرّ بنا اليوم من بلاء وما مرّ بنا أيام صدام وغيره من الطواغيت لا يستحق أن يذكر في جنب ما أصاب أولياء الله الصالحين في الأمم السالفة حيث ورد في الروايات أنهم نشروا بالمناشير وقرضوا بالمقاريض وحفرت لهم أخاديد النار والقوا فيها فقضوا حرقاً، والمتوقع من المتهالكين على السلطة وحب الدنيا أن يفعلوا ما هو أسوا لولا لطف الله تبارك وتعالى، فخير ما يسليكم ويطمئن قلوبكم وينوّر بصائركم ويثبت أقدامكم هو القران الكريم فاتخذوه قائداً وهادياً. وقد عشت مثل هذه التجربة مع القرآن ولا زلت أعيش لذة الأيام التي قضيتها في كنفه في ثمانينات القرن الماضي حينما كنت حبيساً في الدار لا ادري في أي لحظة يقبض عليَّ الطغاة ويعدمونني الحياة.

نحو بناء دولة الحق والعدل:

وإن مما يخفّف الآلام والمصاعب ويدفعنا إلى بذل المزيد من الجهود هو أن نلتفت إلى النعمة التي منحنا الله تبارك وتعالى إياها في هذا الزمن حيث تتوفر أعظم فرصة لبناء المستقبل الزاهر لامتنا وننفض غبار السبات الذي أصابها منذ أكثر من ألف عام، ونمهّد لدولة الحق والعدل ببناء أنفسنا ومجتمعنا ومؤسساتنا على أسس الإخلاص والتقوى والعمل الصالح بعيداً عن المتصارعين على الدنيا الفانية الزائلة. لقد كان أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) يتسابقون إلى الموت فرحين مسرورين لان الإمام (عليه السلام) كشف لهم عن بصائرهم فرأوا منازلهم في الجنة أي رأوا نتائج تضحياتهم والمستقبل العظيم لما يقومون به فصغُر في أعينهم ما يلاقون من ألم الجراح وهذا التفسير منسجم مع ما نعتقده من تجسّم الأعمال.وإذا كانت تلك التضحيات لإبقاء الحياة وجذوة الضمير في جسد الأمة فإن تضحيات اليوم ستؤدي إلى بعثها من جديد وحركتها نحو بناء دولة الحق والعدل.

ص: 151

القرآن الكريم يوقظ الإنسان من غفلته عن نفسه

اشارة

القرآن الكريم يوقظ الإنسان من غفلته عن نفسه(1)

التدبر في القرآن الكريم:

لا ينبغي لكم وأنتم مثقفون واعون وشباب رساليون أن تكتفوا من قراءة القرآن بتلاوة حروفه، بل لابد من التدبر في معانيه للوصول إلى حقائقه، وقد قدّمت في أحاديث سابقة أنماطاً للتدبر، ومنها ما أذكره اليوم وذلك بأن تلتفت بلطف الله تعالى إلى قضية معينة لها مساس بالواقع المعاش، ثم تجمِّع ما ورد فيها من آيات شريفة حتى تكتمل صورتها، وسيفتح الله عليك وستظهر أمامك حقائق عن تلك القضية، لم تكن ملتفتاً إليها عندما كنت تقرأ كل آية على حدة فتعرف كيفية تشخيصها، وأسباب حصولها، والأثار المترتبة عليها وهكذا.

وليس من الصعب تجميع الآيات المتعلقة بقضية معينة من خلال مراجعة معاجم وفهارس ألفاظ القرآن الكريم كفهرس الألفاظ الملحق بتفسير شير او تفسير المعين.

ثم تنتقل بنفس الطريقة إلى معاجم كلمات المعصومين ككتاب (غرر الحكم) و (ميزان الحكمة) لتأخذ منها ما يزيد الأمر وضوحاً.

غفلة الإنسان عن نفسه:

ص: 152


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة كليتي الطب والقانون في جامعة البصرة، وطلبة جامعة الصدر الدينية في مدينة الصدر ببغداد ومعهد الإمام الصادق (علیه السلام) للعلوم الدينية في الناصرية يوم الخميس 13/ج1/1433 الموافق 2012/4/5.

وأشير اليوم إلى واحدة من هذه القضايا المهمة وهي غفلة الإنسان عن نفسه، فالإنسان في هذه الدنيا في غفلة (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)(1) وقد تحدثنا في خطاب سابق عن غفلة الإنسان عن قيادته الحقة وهو أمر متصور بسبب الجهل والتشويش والشبهات، ولكن أن يغفل الإنسان عن نفسه أعز الأنفس عليه وأثمن شيء عنده لأنه يستطيع أن يكتسب بها الجنان، فهذا أمر مستغرب.

التعاطي مع النفس:

ومن خلال الآيات الكريمة ستجد التباين الواسع بين البشر في التعاطي مع أنفسهم، فمن مستثمر لها كأفضل ما يكون يقول عنه الله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ) (البقرة/270) فتساعده نفسه على الطاعة والتثبيت على الاستقامة (يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ) (البقرة/265) فيخاطبهم الله تعالى (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/27- 28- 29 -30).

إلى آخرين فشلوا في الاستفادة منها فكانوا كما وصفهم الله تعالى (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (الأنعام/26) (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل/118) (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم) (البقرة/9) (قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) (الأعراف/53)، ويبيّن القرآن الكريم سبب انحدارهم إلى هذه النتيجة وذلك لانهم (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/19) (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) (البقرة/9)، (انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) (الأنعام/24) فهذه أسباب خسران الإنسان نفسه من خلال مخادعة الإنسان نفسه ونسيان

ص: 153


1- البحار: ج4 ص43.

الله تبارك وتعالى والركون إلى الدنيا، عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) (إن الصفاة الزلال الذي لا تثبت عليه أقدام العلماء الطمع)(1).

وتنتهي النتيجة إلى أعظم الخسارة وهي خسارة الإنسان نفسه، فيجعل ثمنها نار جهنم وكان يستطيع أن يجعلها سبباً لنيل جنات المقربين (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الزمر/ 15) .

مواعظ عن النفس من كلمات أهل العصمة (علیهم السلام):

وإذا انتقلنا إلى أحاديث المعصومين (علیهم السلام) فسنجد مواعظ قيمة، فعن علي أمير المؤمنين (علیه السلام) (إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها) وعنه (علیه السلام) (من باع نفسه بغير الجنة فقد عظمت عليه المحنة) وعنه (علیه السلام) (من باع نفسه بغير نعيم الجنة فقد ظلمها)(2) وفي نهج البلاغة (عباد الله... الله الله في أعزّ الأنفس عليكم، وأحبّها إليكم، فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق، وأنار طرقه فشقوة لازمة، أو سعادة دائمة).(3)

وعن أمير المؤمنين (علیه السلام) (أما ترحم من نفسك، ما ترحم من غيرك، فلربما ترى الضاحي من حر الشمس فتظلله، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له، فما صبرك على ذاتك، وجلدك على مصابك، وعزاك عن البكاء على نفسك، وهي أعز الأنفس عليك).(4)

وعن الصادق (علیه السلام): (كتب رجل إلى أبي ذر (0): يا أبا ذر أطرفني بشيء من الحكمة، فكتب إليه أن العمل كثير، ولكن إن قدرت أن لا تسيء إلى من تحبّه فافعل.

ص: 154


1- ميزان الحكمة : 2/ 1740.
2- غرر الحكم
3- نهج البلاغة، خطبة 157.
4- نهج البلاغة: خطبة 233.

قال: فقال الرجل: وهل رأيت أحداً يسيء إلى من يحبّه؟ فقال له: نعم، نفسك، أحب الأنفس إليك، فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها).(1)

وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (عجبتُ لمن ينشد ضالته، وقد أضلَّ نفسه فلا يطلبها).

الواعظ الداخلي:

ولرحمة الله تعالى الواسعة بعباده فإنه لم يكتفِ بالواعظ الخارجي وهم الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) وحملة علومهم، فجعل لهم واعظاً من داخل أنفسهم ينبِّههم إلى الخطأ وهو ما يعرف ب(الضمير) يحذره من الخطأ قبل وقوعه، ويؤنبه بعد ارتكابه لردعه عن تكراره، بحيث انتشر مصطلح (وخز الضمير) أو (تأنيب الضمير) وهي عبارة عن حالة تألمورفض داخل النفس تؤدي إلى كربة في القلب، تدعو صاحبها لمراجعة نفسه والعودة إلى رشده.

ولكن الإنسان لسوء اختياره يصمّ أذنه عن سماع الواعظ الخارجي ويكبت واعظه الداخلي، اما بمخادعة نفسه وقلب الحقائق ليوهم نفسه إنه ليس على خطأ، وربما يحاول الهروب من صراعه الداخلي من خلال احتساء الخمر وتناول المخدرات، أو بالتكثير من ارتكاب الأخطاء ليعتاد عليها ويميت ضميره.

قصة في من يخدع نفسه:

كثير من الناس يتصور أنه يخدع الآخرين ولكنه في الحقيقة يخدع نفسه، مثلاً شابٌ ينشئ علاقة غير شريفة مع فتاة فيتبجح أمام زملائه بذلك وكأنّه حقق انتصاراً واستدرج هذه الفتاة، ولا يعلم انها هي التي استدرجته وخدعه الشيطان بها لأنها سلبت منه دينه وخسر نفسه.

ص: 155


1- الكافي: 2/458.

يروى أن أحد الوعّاظ في بلد مقدس يقصده الزوار من دول العالم جمع التجار والكسبة في السوق وقال لهم إنني أحذركم من هؤلاء الزوار أن يخدعوكم، قالوا: كيف ذلك وهم غرباء لا يعلمون شيئاً ونحن نخدعهم ونبيع إليهم الأشياء بأضعاف سعرها، قال لهم: هذا ما عنيته بكلامي فلا يخدعونكم ويورطونكم في المعصية.

وأنتم –أيها الشباب- أكثر المراحل العمرية عرضة للانخداع والغفلة عن النفس، فقد ورد في الحديث الشريف (السكر في أربعة) أحدها سكر الشباب، فمرحلة الشباب سبب للغفلة والطيش والغرور.

إن الشباب والفراغ والجده *** مفسدة للمرء أي مفسدة

ولا نغفل تأثير الجو الاجتماعي العام الذي يساهم بشكل كبير في هذا التمويه والخداع وقلب الحقائق فيقول لك أنت شاب وعليك أن تتمتع وتلهو وتلعب، ليس هذا وقت الجدِّ والعمل، وإذا أراد الموظف أن يكون نزيهاً قيل له: حشر مع الناس عيد، وهل تستطيع بنزاهتك أن تقضي على الفساد، وهكذا حتى يموت الضمير ويخمد بريقه.

ص: 156

أعطوا للقرآن الكريم دوراً متميزاً في حياتكم

اشارة

أعطوا للقرآن الكريم دوراً متميزاً في حياتكم(1)

نظم القرآن ومعانيه:

بعض المتحدثين حينما ترد الآيات القرآنية في كلامه يميّزها بالإلقاء عن بقية كلامه فيرتّلها، وكذلك دأبت دور النشر في السنين الأخيرة على تمييز الآيات القرآنية بالخط عن بقية الكتاب فتوضع بنفس الرسم القرآني، ولعل غرضهم في ذلك لتنبيه القارئ إلى عدم مسِّها إلا بطهور ونحوها من الأغراض.

وهذا الفعل المبارك وهو تمييز النصوص القرآنية عن غيرها في محلّه لكننّا نفهم منه معنى أوسع من هذا الذي أرادوه، لأنّ نظم القرآن ومعانيه من صنع الخالق تبارك وتعالى فمن الطبيعي أن تتميّز عن صنع المخلوقين مهما كانوا متقنين للفصاحة والبلاغة.

قصة لسيد قطب:

يروي المرحوم سيد قطب في كتابه (في ظلال القرآن) انه كان على ظهر باخرة مسافراً إلى الولايات المتحدّة وفي يوم الجمعة أقام صلاة الجمعة وألقى خطبتيها، وكان المسافرون من أديان شتّى ولغات مختلفة، فوقف غير المسلمين ينظرون إلى هذا المشهد الغريب عنهم، بينهم سيّدة يوغوسلافية كانت تنصت وتتابع حتى انتهى من الصلاة فسألها عن معنى انشدادها وهي لا تفهم العربية، فقالت: لا أدري لكنّني وجدت نفسي منجذبة إلى الجو الذي أوجدته كلماتك وقالت أن الذي لم أستطع تفسيره هو أن كلمات تخللتها خطبتك كانت تشدّني وتجذبني أكثر ولا أعرف لماذا؟ يقول سيد قطب لكنني أعرف أنها الآيات القرآنية التي كنت أضمّنها في خطابي.

ص: 157


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة الجامعات والشباب من السماوة وهيئة الوعي للجميع من بغداد يوم السبت 5/ع2/1434 المصادف 2013/2/16.

هذا هو القرآن الكريم في تأثيره على النفوس وبشفائه للروح وانسجامه مع الفطرة وتطهيره القلب الذي لم يطبع عليه الرين حتى وإن لم يكن يفهم ألفاظه، وهذا هو القرآن الكريم في تميّزه عن كلام المخلوقين، وهذا مظهر من مظاهر إعجازه، وربّانية صنعه ومصدره.

خلافاً لما يرد في الإشكال الذي واجهه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويردّده اليوم مدّعو الحداثة والتجديد الفوضوي غير المنضبط، وهو أن القرآن من صنع البشر سواء كان النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه أو غيره ممن يزعمون أنّه علّمه، وأجاب القرآن بوضوح (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (النحل/103) وقال تعالى (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء/82).

لننطلق في حياتنا من القرآن الكريم:

هذا التمييز للقرآن الكريم يجب أن نحافظ عليه في حياتنا فنعطيه هذا الدور المتميّز عن غيره من سائر أولوياتنا فنواظب على تلاوته ونتدبر في آياته ونتخذه دستوراً في حياتنا لا نحيد عنه، ونبراساً يضيء لنا الدرب، ومرجعاً لنا في كل قضايانا وحل مشاكلنا.

فلا نبخل على القرآن بدقائق يومياً في أوقات صلواتنا أو فراغنا لنتلو عدداً من الآيات الكريمة، وقلت مراراً أن الأولى أن تكون في مصحف مؤطّر بتفسير بسيط لمفرداته وآياته كتفسير شبر لنحيط ولو إجمالاً بالمعاني العامة للقرآن الكريم، وهو كتاب جليل وضعه مؤلفه بعد مراجعة عدة تفاسير واطّلع على الأقوال المختلفة. وليكن لكل فرد من الأسرة نسخة واحدة على الأقل من المصحف تختص به، والأفضل أكثر من نسخة، هذا غير المصاحف الأخرى الموجودة في الدار.

وأؤكد عليكم أيها الشباب بالعمل بهذه النصيحة فإنكم في بداية حياتكم ونقطة الانطلاق لتأسيس مستقبلكم، فعندما يكون الأساس هو القرآن الكريم وعلومه ومعارفه فإن المستقبل يكون سعيداً قوياً مثمراً بلطف الله تبارك وتعالى، وفي كل الميادين سواء في

ص: 158

دراستك أو عملك وكسبك أو في علاقاتك مع أهلك والآخرين، فضلاً عن العلاقة السامية مع ربك والنبي وآله الطاهرين (صلى الله عليه وآله وسلم).وقد جّربت ذلك في حياتي عندما كنت في بداية العشرينيات من عمري ومنّ الله تعالى عليّ بالأنس بالقرآن وملازمة له ولازلت أحيى بركاته والحمد لله وحده.

ص: 159

معاني القرآن لا تنتهي

اشارة

معاني القرآن لا تنتهي(1)

لا تحصى عجائبه:

وصف النبي (ص) القرآن بأنه (لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه)(2) فالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة لأهل البيت (عليهم السلام) غنية بالمعاني وعميقة الفهم، وهي متجدّدة ومفتوحة لا تنتهي، وكل جيل منالعلماء يأتي يبين شيئاً يسيراً منها وما يخفى عليه أكثر بكثير، ويأتي الجيل الآخر ويغترف منها شيئاً وهكذا من دون أن تنتهي تلك المعاني.

وقد يستغرب البعض كيف يكون لكلام مؤلف من هذه الحروف الثمانية والعشرين في اللغة العربية التي نتداولها يمكن أن تكون لها هذه السعة من المعاني، وهذا الاستغراب منشأه القصور والتقصير في معرفة معاني القرآن الكريم وعدم الالتفات إلى من أودعها في هذه القوالب اللفظية وقدرته وعظمته وعلمه.

مثال من الاستصحاب:

ص: 160


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع المؤسسة القرآنية في الغزالية ببغداد يوم الخميس 23/ج1/1434 المصادف 2013/4/4.
2- الكافي: ج2 ص599.

واضرب لكم مثالاً قد يعرفه طلبة الحوزة العلمية أكثر من غيرهم وهي ما يعرف بقاعدة الاستصحاب التي هي من أهم الأبحاث المعمّقة في علم الأصول وكتبت فيها مجلدات ولا زال البحث فيها مستمراً والتفريعات تتكثر، واصلها حديث من ثلاث كلمات للمعصوم (عليه السلام) ( لا تنقض اليقين بالشك)(1)، أي إذا كنت على يقين من حالة معينة ككونك على طهارة أو أن زيداً حيّ، فتبني على هذا اليقين وترتّب آثاره حتى لو حصل لك شك فيها ولا تنقض حالة اليقين إلا بيقين مثله، هذه الكلمات أصبحت محوراً لإبحاث معمّقة تملأ مجلدات ولازال البحث فيها مفتوحاً، فإذا كانت ثلاث كلمات في علم ظاهري تفتح هذه الآفاق الواسعة للبحث، فماذا سينفتح من علوم ومعارف إلهية من كلمات القرآن الكريم وانى للبشر استيعابها وبلوغ كنهها؟

ديمومة التفاسير والنهضة القرآنية:

لذلك تجد العلماء لا يتوقفون عن التدبر في آيات القرآن الكريم واكتشاف ما يهتدون إليه من معانيها وإيداعها في التفاسير، ومع ذلك لا زالت حقائقه كثيرة خافية على العلماء

ص: 161


1- الفوائد الطوسية للحر العاملي: ص209.

فضلاً عن غيرهم، وحكي عن السيد الطباطبائي (قده) صاحب تفسير الميزان قوله اننا نحتاج في كل سنتين إلى تفسير، وقد أنهى (قده) تفسيره في عشرين عاماً فهذا يعني أن محاولات التفسير لابد أن تكون متعدّدة ومتواصلة في الجيل الواحد فضلاً عن الأجيال المتتالية.

إننا نشهد في هذا العصر نهضة قرآنية لا بأس بها ونسأل الله تعالى ان يوسّعها ويزيدها، لكنها غالباً تقتصر على التجويد وتحسين الصوت ومخارج الحروف والنغمات ونحوها، وهذا شيء جيدٌ في نفسه لأن حلية القرآن الصوت الحسن، لكن الاقتصار عليه والوقوف عنده من دون الانطلاق إلى فهم معاني القرآن الكريم واكتشاف أسراره ومعرفة حدوده

ص: 162

الفصل الرابع:الصلاة والتحصين من الأمراض المعنوية

اشارة

ص: 163

ص: 164

الصلاة والتحصين من الأمراض المعنوية

اشارة

الصلاة والتحصين من الأمراض المعنوية(1)

شكوى الشباب:

كثيراً ما ألتقي بوفود الشباب وطلبة الجامعات وأستمع إلى أسئلتهم وهمومهم ومشاكلهم، والسؤال الأكثر تردداً هو: كيف نستطيع مقاومة المغريات والشهوات وأساليب الإفساد وهم يعيشون في بيئة مليئة باسباب الفتنة والإغراء متزامنة مع فورة الشباب وعنفوان القوى وهيجان العواطف.

وفي الحقيقة فإنّ المشكلة لا تختص بالشباب، فإنّه مادام الإنسان في هذه الدنيا فهو مبتلى بالإغراءات والشهوات والفتن ويخوض (جهاداً أكبر) لمواجهتها كما سمّاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث المشهور(2)، ويعزّز قوة هذه الضغوط الميل العارم للنفس الأمّارة بالسوء نحو الاستجابة لها، مع تزيين الشيطان لها (إلهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمّارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة) (إلهي أشكو إليك عدواً يضلني وشيطاناً يغويني.. يعاضد لي الهوى ويزيّن لي حب الدنيا)(3).

الصلاة وسيلة للتحصين:

ص: 165


1- الكلمة التي تحدّث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) من خلال شاشة قناة النعيم إلى الآلاف من طلبة الجامعات والمعاهد العراقية المشاركين في فعاليات ومواكب الوعي الفاطمي مساء السبت 2/ج2/1434 الموافق 2013/4/13.
2- معاني الأخبار : ص160
3- من مناجاة الشاكين للإمام السجاد (عليه السلام).

والإنسان في هذه المواجهة يحتاج إلى معونة ومناعة وتحصين كالتطعيم الصحي ضد الأوبئة والأمراض الجسدية، وهذه المعونة يحتاجها الإنسان قبل التعرض للامتحان وأثناءه وبعده، فما هي الوسيلة لتحصيل هذه المعونة والتطعيم والتحصين؟ والجواب بكلمة واحدة إنّها (الصلاة)، ومن دلائل عظمة الصلاة إنها هي هذه الوسيلة التي توفر الحصانة والمناعة في جميع تلك المراحل المترتّبة في الفضل والسمو، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (عباد الله، إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله جل ذكره: الإيمان بالله وبرسله وما جاءت به من عند الله،... وإقامة الصلاة فإنها الملة)(1).

الحماية من المعاصي:

ولبيان ذلك نقول أما قبل الامتحان فيحتاج الإنسان إلى اللطف الإلهي والعناية الإلهية لتحميه من الابتلاء بالمعاصي أصلاً، أو حمايته منها عند عروضها عليه حيث يبصّره الله تعالى بحقائق تلك المعاصي المنفرّة الموجبةللاشمئزاز والتقزّز وليس الاقبال والرغبة، وهذا ما توفره الصلاة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الصلاة تستنزل الرحمة)(2) وعنه (عليه السلام): (ما دمت في الصلاة فإنك تقرع باب الملك الجبار ومن يُكثِر قرع باب الملك يُفتَح له)(3) وعنه (عليه السلام) (إذا قام الرجل إلى الصلاة أقبل إبليس ينظر إليه حسدا، لما

ص: 166


1- نهج البلاغة: الخطبة: 110.
2- الأحاديث المذكورة هنا نقلها عن مصادرها في جامع أحاديث الشيعة: 4/29 وما بعدها، وفي ميزان الحكمة: 5/107- 135.
3- السابق.

يرى من رحمة الله التي تغشاه)(1)، وعنه (عليه السلام): (لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله ما سره أن يرفع رأسه من سجوده).(2)

ومن تغشته رحمه الله وأحاط به جلاله فهو في أمن وأمان وحصن وثيق من الوقوع في شراك إبليس، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الصلاة قربان المؤمن) وكلما اقترب الإنسان من ربّه ابتعد عن الشيطان وموجبات الوقوع في المعصية، وإذا وُفِّق الإنسان إلى هذه المرحلة فهي الأكمل والأسمى والأعظم عند الله تعالى حينما لا يجد في نفسه أي ميل للمعصية ولا رغبة له فيها، وبالتالي فهو لا يجد أي مشكلة في اجتنابها.

الثمرة الأبرز لإقامة الصلاة:

وفي المرحلة الثانية أي عند الابتلاء بما يوجب المعصية وحينما يكون بين خيارين أحدهما كبح جماحِ النفس والفوز بطاعة الله، وثانيهما الانسياق وراء الشهوة والوقوع في المعصية، وهنا يأتي دور الصلاة في زيادة مناعته وتحصينه من الوقوع في المعصية بل أن الثمرة الأبرز لإقامة الصلاة هي هذه، قال تعالى (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت/45)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (اعلم أن الصلاة حُجزةُ الله في الأرض، فمن أحبّ أن يعلمَ ما أدركَ من نفعِ صلاته، فلينظر: فإن كانت حَجَزَتهُ عن الفواحش والمنكر فإنما أدرك من نفعها بقدرِ ما احتجزَ).وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) (الصلاة حصن من سطوات الشيطان)، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله (لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن هائباً له ما حافظ على

ص: 167


1- السابق.
2- السابق.

الصلوات الخمس، فإذا ضيّعهن اجترأ عليه)، وهذه المرحلة وإن كانت أقل درجة من سابقتها لأن الإنسان يجتنب المعصية بمعاناة ومشقّة وجهاد، إلاّ انها مرحلة عظيمة أيضاً.

الصلاة حبل النجاة:

أما في المرحلة الثالثة: وهي ما بعد الفعل ونفترض أن العبد لم يستفد من بركات صلاته مما أدى إلى سقوطه في الخطأ لسبب أو لآخر فإن الصلاة هي التي تمدّ حبل النجاة لإنقاذه على نحوين:

أولهما: إعادته إلى الحالة الصحيحة وتطعيمه من جديد ضد الانحراف والمعصية وزيادة مناعته بجرعة أكبر، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال - في رجلٍ يُصلّي معه ويرتكبُ الفواحش-: (إنّ صلاته تنهاهُ يوماً ما، فلم يلبث أن تابَ)، وعنه (صلى الله عليه وآله) قال - في رجل يُصلّي بالنهار ويسرقُ بالليل-: (إنّ صلاته لتردعهُ).

ثانيهما: إنها تكفّر الإثم الذي ارتكبه وتبيّض صفحته التي اسودّت بفعل المعصية وتمنحه فرصة التكامل من جديد، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه أخذ غصناً من شجرة كانوا في ظلّها فنفضه فتساقط ورقهُ ثم فسّر لأصحابه ما صنع فقال: (إن العبد المسلم إذا قام إلى الصلاة تحاتّت عنه خطاياه كما تحاتَت ورقُ هذه الشجرة).

وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول أرجى آية في كتاب الله (َأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ) هود114، وقال يا علي والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا إن أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته

ص: 168

أمه فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس ثم قال يا علي إنمامنزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات أكان يبقى في جسده درن فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي).

موقع الصلاة في الدين:

لهذا كله احتلت الصلاة موقعاً مهماً من الدين.

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (مثلُ الصلاةِ مثلُ عمودِ الفُسطاط؛ إذا ثبتَ العمودُ نفعت الأطناب والأوتاد والغشاءُ، وإذا انكسرَ العمودُ لم ينفع طُنبٌ ولا وتدٌ ولا غشاء).

ولهذا كانت الصلاة مقياس دين الإنسان والتزامه بما فرض الله تعالى عليه، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لكل شيء وجهٌ، ووجهُ دينكم الصلاة) ، وعنه (صلى الله عليه وآله): (أولُ ما ينظر في عمل العبد في يوم القيامة في صلاته، فإن قبلت نُظر في غيرها، وإن لم تُقبل لم ينظر في عمله بشيء)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الصلاة ميزانٌ، فمن وفّى استوفى).

ولذا كثرت الوصايا بها، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (ليكن أكثر همِّكَ الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين)، ومما جاء في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لأولاده قبيل وفاته (الله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (أحب الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة، وهي آخرُ وصايا الأنبياء)، وعنه (عليه السلام) (إن طاعة الله خدمته في الأرض فليس شيء من خدمته يعدل الصلاة).

ص: 169

التشديد على تارك الصلاة:

فليس غريباً التشديد في قضية ترك الصلاة، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (ما بين المسلم وبين الكافر إلاّ أن يتركَ الصلاة الفريضة متعمداً، أو يتهاون بها فلا يصلّيها)، وعنه (صلى الله عليه وآله): (الصلاة عِمادُ الدين، فمن ترك صلاته متعمّداً فقد هدم دينه، ومن ترك أوقاتها يدخل الويل، والويلُوادٍ في جهنّم كما قال الله تعالى (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) وعنه: (من ترك الصلاة لا يرجو ثوابها ولا يخافُ عِقابها، فلا أُبالي أن يموتَ يهودياً أو نصرانياً أو مجوسيّاً).

كيفية الصلاة التي تؤدي دورها الكامل في حياة الإنسان؟

ولكي تأخذ الصلاة دورها الكامل في حياة الإنسان لابد أن يؤتى بها بحدودها وشروطها.

(ومنها) الإتيان بها في أول وقتها، عن الإمام الصادق (ع): (لكل صلاة وقتان: أوّلٌ وآخرٌ، فأول الوقت أفضلُه، وليس لأحدٍ أن يتّخذ آخر الوقتين وقتاً إلا من علّةٍ، وإنما جُعِل آخر الوقت للمريض والمعتل ولمن له عذرٌ، وأولُ الوقت رضوان الله، وآخرُ الوقت عفو الله). وعنه (عليه السلام): (فضل الوقت الأول على الآخر كفضل الآخرة على الدنيا)، وعنه (عليه السلام): (لفضل الوقت الأول على الآخر خيرٌ للمؤمن من ماله وولده).

وروى الشيخ الصدوق في الفقيه بسنده عن حماد بن عيسى: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) يوماً: (تُحسِنُ أن تُصلّيَ يا حمّاد؟... قُم فصلِّ، قال: فقمتُ بين يديه متوجّهاً إلى القبلة فاستفتحتُ الصلاة وركعتُ وسجدتُ، فقالَ: يا حمّاد، لا تُحسن أن تصلّي؟! ما أقبح بالرجل ان تأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامّة)؟!

ص: 170

(ومن) شروط تأثيرها الورع عن محارم الله تعالى، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لو صلّيتم حتّى تكونوا كالأوتارِ، وصُمتم حتى تكونوا كالحنايا، لم يقبلِ الله منكم إلاّ بورعٍ).

موانع تأثير الصلاة في حياة الإنسان:

(ومن) أبرز الموانع من قبولها وتأثيرها:1-عقوق الوالدين، عن الإمام الصادق (عليه السلام) (من نظر إلى أبويه نظر ماقتٍ وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة).

2- الغيبة، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله تعالى صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة، إلاّ أن يغفر له صاحبه).

نصيحة وتوصية:

فاهتموا بصلاتكم أيها الأحبّة وحافظوا على أول وقتها وواظبوا على أدائها جماعة في المسجد مهما تيسر لكم لتزدادوا نوراً على نور واستزيدوا منها فوق الفرائض اليومية، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال لأبي ذر لما سأله عن الصلاة (خير موضوع، فمن شاء أقلّ ومن شاء أكثر) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) لما سئل عن أفضل الأعمال بعد المعرفة قال (عليه السلام): (ما من شيء بعد المعرفة يعدل هذه الصلاة)، وعن الإمام الكاظم (عليه السلام): (صلوات النوافل قُربات كل مؤمن).

ص: 171

خصوصاً صلاة الليل ولو بأقل عدد من الركعات، قال تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) (الإسراء79).

لقد لخّصَتْ الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الأهمية للصلاة ودورها في تهذيب الإنسان وتكامله بقولها في خطبتها (فجعل الله... الصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر) فالصلاة تنزّه الإنسان وتطهّره من التكبر والعتوّ والتمرّد والإستكبار والفرعنة التي هي أساس الوقوع في المعاصي وإتّباع الشيطان والابتعاد عن الله تعالى ولشدّة اهتمامها (سلام الله عليها) بالصلاة سألت أباها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (يا أبتاه ما لمن تهاون بصلاته من الرجال والنساء؟ قال: يا فاطمة: من تهاون بصلاته من الرجال والنساء ابتلاه الله بخمسة عشر خصلة، ستّ منها في دار الدنيا،وثلاث عند موته، وثلاث في قبره، وثلاث في القيامة إذا خرج من قبره) ثم عدّدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فراجع المصدر(1).

ص: 172


1- مستدرك وسائل الشيعة: 3/23.

المحافظة على الصلوات: آخر وصية للإمام الصادق (عليه السلام)

اشارة

المحافظة على الصلوات: آخر وصية للإمام الصادق (عليه السلام)(1)

لا تنال شفاعتنا مستخفاً بالصلاة:

في ذكرى استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) نتوقف عند آخر وصية له (عليه السلام).

عن أبي بصير قال : دخلت على أُمّ حميدة أُعزّيها بأبي عبد الله (عليه السلام) ، فبكت وبكيت لبكائها ، ثمّ قالت : يا أبا محمّد ، لو رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) عند الموت لرأيت عجباً ، فتح عينيه ثمّ قال : (اجمعوا كلّ مَنْ بيني وبينه قرابة ، قالت : فما تركنا أحداً إلاّ جمعناه ، فنظر إليهم ثم قال : إن شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة).(2)

ويظهر أن هذه وصية النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته جميعاً، روي عن زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) (قال: لا تتهاون بصلاتك ،فإنّ النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) قال عند موته : ليس منّي من استخفّ بصلاته ، ليس منّي من شرب مسكراً ، لا يرد عليّ الحوض لا والله)(3)، بل هي وصية كل الأنبياء (عليهم السلام)، عن الإمام الصادق (عليه السلام) (أحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل الصلاة، وهي آخر وصايا الأنبياء).(4)

فلا يغتر البعض بما يقال له أنّه إذا فعل كذا فقد وجبت له الجنة، أو دخل الجنة بغير حساب مما يكثر منه الخطباء على المنابر من دون ذكر قيوده وشروطه.

ص: 173


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في ذكرى استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) يوم 25 شوال/1434 الموافق: 2012/9/13.
2- الوسائل ج4 ص26-27.
3- الوسائل ج4 ص23- 24.
4- من لا يحضره الفقيه: 1/210 ح638.

أهمية الصلاة:

إنّ للصلاة أهمية كبرى في الدين ودوراً مهماً في حياة الإنسان ومصيره، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما بين المسلم وبين أن يكفر إلاّ ترك الصلاة الفريضة متعمّداً أو يتهاون بها فلا يصلّيها).(1)

وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: (الصلاة عمود الدين ، مثلها كمثل عمود الفسطاط ، إذا ثبت العمود ثبت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب).(2) وعن علي (عليه السلام) قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إنّ عمود الدين الصلاة ، وهي أوّل ما يُنظر فيه من عمل ابن آدم ، فإن صحّت نُظر في عمله ، وإن لم تصحّ لم يُنظر في بقيّة عمله).(3)

لذا كان مقياس صلاح الإنسان عند أهل البيت (عليهم السلام) هو اهتمامه بصلاته، عن هارون بن خارجة قال : (ذكرت لأبي عبدالله (عليه السلام) رجلا ً من أصحابنا فأحسنت عليه الثناء ، فقال لي : كيف صلاته؟).(4)

فضل الصلاة وثوابها:

وقد ورد في فضل المصلي وثواب الصلاة شيء كثير، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قام العبدالمؤمن في صلاته نظر الله عزّ وجلّ إليه ، أو قال : أقبل الله عليه حتى ينصرف ، وأظلّته الرحمة ، من فوق رأسه إلى أُفق السماء ، والملائكة تحفّه من حوله إلى أًفق السماء ، ووكّل الله به ملكاً قائماً على رأسه

ص: 174


1- الوسائل ج4 ص 43.
2- الوسائل ج4 ص27.
3- الوسائل ج4 ص34-35.
4- الوسائل ج4 ص32.

يقول له : أيّها المصلّي ، لو تعلم من ينظر إليك ومن تناجي ما التفتّ ولا زلت من موضعك أبداً).(1) وعن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال : للمصلّي ثلاث خصال : إذا هو قام في صلاته حفّت به الملائكة من قدميه إلى أعنان السماء ، ويتناثر البّر عليه من أعنان السماء إلى مفرق رأسه ، وملك موكّل به ينادي : لو يعلم المصلّي من يناجي ما انفتل)(2).

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) (قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرّات ، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا : لا ، قال : فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري ، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب).(3)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (إذا قام الرجل إلى الصلاة أقبل ابليس ينظر إليه حسداً، لما يرى من رحمة الله التي تغشاه).(4)

الصلاة التامة:

إن الصلاة التي تكون لها هذه القيمة لابد أن تكون تامة في أجزائها وشرائطها التي يذكرها الفقهاء في رسائلهم العملية. عن الإمام الباقر (عليه السلام) (قال : بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس في المسجد إذ دخل رجل فقام يصلّي ، فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : نقر كنقر الغراب ، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ على غير دين).(5)

المحافظة على أوقات الصلوات:

ص: 175


1- الوسائل ج4 ص32.
2- الوسائل ج4 ص33.
3- الوسائل ج4 ص12.
4- الخصال: 632 ح10.
5- الوسائل ج4 ص31-32.

ومن المهم جداً لكي تؤدي الصلاة غرضها المنشود وتتحقق منها الآثار المباركة: المحافظة عليها في أوقاتها، عن الإمام الصادق (عليه السلام)(قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يزال الشيطان ذعراً من المؤمن ما حافظ على الصلوات الخمس لوقتهنّ فإذا ضيّعهنّ تجرّأ عليه فأدخله في العظائم)(1). و عن الصادق (عليه السلام) - في حديث - : (إنّ ملك الموت يدفع الشيطان عن المحافظ على الصلاة ، ويلقّنه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، في تلك الحالة العظيمة)(2)، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (ما من عبد اهتم بمواقيت الصلاة ومواضع الشمس إلا ضمِنتُ له الرَوْحَ عند الموت، وانقطاع الهموم والأحزان، والنجاة من النار)(3).

من خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة انه قال في كلام يوصي أصحابه : (تعاهدوا أمر الصلاة ، وحافظوا عليها ، واستكثروا منها ، وتقرّبوا بها ، فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سئلوا: ( ما سلككم في سقر ، قالوا لم نك من المصلّين ) وإنّها لتحتّ الذنوب حتّ الورق ، وتطلقها إطلاق الربق ، وشبّهها رسول الله بالحمّة تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرّات ، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن ، وقد عرف حقها رجال من المؤمنين ، الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ، ولا قرة عين من ولد ولا مال ، يقول الله سبحانه: ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نصباً بالصلاة بعد التبشير له بالجنّة ، لقول الله سبحانه ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ) فكان يأمر بها أهله ويصبر عليها نفسه).(4)

ص: 176


1- الوسائل ج4 ص28.
2- الوسائل ج4 ص29.
3- بحار الأنوار: 83، 9ح 5.
4- الوسائل ج4 ص30- 31.

علموا أولادكم الصلاة:

ولأجل أن تصبح الصلاة جزءاً أساسياً من حياة الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدونها فقد أمر المعصومون بإلزام الصبيان بالصلاة من وقت مبكر كعمر (6-8) سنين بحسب استعداداته الذهنية وفهمه لما يقال له.روى محمد بن مسلم: أنه سأل أحد الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) (في الصبي ، متى يصلّي؟ فقال : إذا عقل الصلاة قلت : متى يعقل الصلاة وتجب عليه؟ قال : لستّ سنين).(1)

ويستغرب الإمام (عليه السلام) من الآباء والأمهات الذين لا يتابعون أداء أطفالهم للصلاة، روى أحدهم قال (سألت الرضا (عليه السلام) أو سئل وأنا أسمع ، عن الرجل يجبر ولده وهو لا يصلّي اليوم واليومين؟ فقال : وكم أتى على الغلام؟ فقلت : ثماني سنين ، فقال : سبحان الله ، يترك الصلاة؟! قال : قلت : يصيبه الوجع ، قال : يصلّي على نحو ما يقدر.).(2)

الفرق بين الزاني وتارك الصلاة:

إن المتابع لحال المسلمين –خصوصاً في البلدان المترفة والتي تكون فيها فرص المغريات والشهوات كثيرة- يجد عند كثير منهم إهمال أمر صلاتهم، وعدم الالتزام بها في أوقاتها وهذه قضية حيوية وشيء خطير لابد من معالجته بالالتفات إلى ما ذكرناه من أهمية الصلاة والعقوبة الغليظة على من ضيّعها وأهملها، بحيث لا يُقاس به حتى مرتكب الكبائر كالزنا وشرب الخمر، ويعلّل الإمام الصادق (عليه السلام) ذلك بقوله (لأن الزاني وما أشبهه إنما يفعل ذلك لمكان الشهوة لأنها تغلبه، وتارك الصلاة لا يتركها إلاّ استخفافاً بها)(3).

ص: 177


1- الوسائل ج4 ص18- 19.
2- الوسائل ج4 ص20.
3- الوسائل: باب11، 2.

حملة لتفعيل الصلاة في حياتنا:

إن من تكليفنا اليوم وفي كل يوم أن نطلق حملة شاملة لإعادة المسلمين إلى صلاتهم بالإقناع أو بالإلزام لمن كانت له سلطة وقيمومة، كالوالدين على أبنائهم، أو إدارات المدارس على الطلبة، وأن نقوم بتيسير السبل لذلك من خلال إنشاء المصليات داخل الجامعات والمدارس والمؤسسات الحكومية، وتفعيل دور المساجد ونحوها من الآليات لنكون ممن تناله شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام جعفر الصادق (عليه السلام).

لذة الصلاة:

إن من استشعر العبودية لله تبارك وتعالى واعتزّ بها يجد في الصلاة لذة كبيرة، ولا يجد للحياة طعماً ولا معنى إذا خلت من الصلاة، ولا يكتفي بالصلوات المفروضة لأنه يجد الأوقات بينها كثيرة لا يتحملها بلا صلاة فيتنفل بما يسَّر الله تعالى له خصوصاً في الليل، فإن ما بين المغرب والفجر وقت طويل.

عن الإمام الصادق (عليه السلام) –لما سُئل عن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله – قال: (ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم قال: (وأوصاني بالصلاة) (مريم/31)(1) وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (ليكن أكثر همك الصلاة، فإنها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين).(2)

ولما سأل أبو ذر الغفاري رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الصلاة، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (خير موضوع، فمن شاء أقلَّ ومن شاء أكثر).(3)

ص: 178


1- الكافي: 3/ 264، ح1.
2- بحار الأنوار: 77/127 ح33.
3- معاني الأخبار: 333 ح1.

ولاشك أن الكلام عن الصلاة لا يستوعبه مجلس واحد، ولكننا أحببنا إثارة أصل الموضوع لأهميته ليكون فاتحة لعمل واسع بإذن الله تعالى، فلنحرص جميعاً على أن نكون ممن أحسن صلاته وأكثر مها وحافظ عليها في أوقاتها.

ص: 179

ص: 180

الفصل الخامس: تربية النفس

اشارة

ص: 181

ص: 182

نوازع الخير والشر كامنة في داخل النفس وتستثيرها العوامل الخارجية

اشارة

نوازع الخير والشر كامنة في داخل النفس وتستثيرها العوامل الخارجية(1)

إن وجود القيادة والزعامة الجامعة للشروط في الأمة لا يكفي وحده لإحداث التغيير والإصلاح وبلوغ الأهداف المنشودة ما لم تتحرك وتتحفز نوازع ودوافع الخير لدى الإنسان بداخله، وبالمقابل فإن عوامل الفساد والتخريب الخارجية لا يمكن أن تؤثر إذا لم تجد استجابةً لها من قبل بعض النفوس المريضة المنحرفة.

وهي سُنّة ثابتة في هذه الخليقة ويضرب القرآن الكريم أمثلة لها فامرأتا النبيين العظيمين نوح ولوط (صلوات الله عليهما وعلى نبينا الكريم وعلى جميع الأنبياء) أتيحت لهما أعظم فرصة للهداية والاستقامة «ضَرَبَاللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ» ولكنهما لم تستثمرا هذه الفرصة ولم تستفيدا منها «فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» (التحريم: 10) وبالمقابل امرأة فرعون التي عاشت في بيت الطاغية فرعون الذي يريد أن ينازع الله تبارك وتعالى في الربوبية لكنها استثارت عوامل الصلاح ونوازع الخير في داخلها فأصبحت مثلاً للنجاح «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» (التحريم: 11) وعناصر كلا الاتجاهين موجودةٌ في داخل النفس «وَهَدَينَاهُ النَجْدَينِ» (البلد:10) وهو الذي يغلّب بعضها على بعض بإرادته ونوع استجابته للمؤثرات الخارجية قال تبارك وتعالى في الزوجين المتخاصمين «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا» أي الزوجان «إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً»

ص: 183


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد مدينة الدغارة التابعة لمحافظة القادسية معزين سماحته باستشهاد الشيخ ناظم البديري مدير مكتب جماعة الفضلاء في الديوانية، جرى اللقاء يوم 25/شعبان/1428 المصادف 2007/9/8.

(النساء: 35) فالإنسان بإرادته يستطيع أن يمنح النصر في هذا الصراع الداخلي لأحد المعسكرين.

مشاكلنا هي بسبب عدم التهذيب والتربية الصالحة:

بالأمس القريب شهدت كربلاء المقدسة إلى جوار الحضرة الحسينية المطهرة وفي أشرف ليلة بعد ليلة القدر هي ليلة النصف من شعبان، وأعظم مناسبة هي ذكرى ولادة أمل البشرية الموعود المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أحداثاً(1) دامية ذهب ضحيتها (52) شهيداً ومئاتالجرحى ستبقى وصمة عار في جبين كل الأطراف الذين خططوا ونفذوا وشاركوا في تلك الأعمال المشينة التي ستقف أمامها الأجيال الآتية مدهوشة عاجزةً عن استيعاب ما حصل.

ومهما قيل من أسباب خارجية كالاحتلال وتدخل دول الجوار والصداميين فإنها لا تبرر ما حصل لأن الذين جرت على أيديهم الأحداث هم ممن ينتسبون للتشيع ويدينون بالولاء للإمام الحسين (عليه السلام) والإمام المهدي (عجل الله فرجه) وهذه العوامل

ص: 184


1- كانت مجاميع من الشباب الأحداث تدخل كربلاء قادمة من بغداد بأهازيج تمجّد قائدها مما دفع قوة الحماية قرب الحرمين الموالية لجهة أخرى إلى استفزازهم وقال مراقبون أنها عملية مدبرة لاستدراجهم فحصل إطلاق نار من قوة الحماية فقتل (6) على الأقل وجرح العشرات وأكثرهم من الزوار المحتشدين استعدادا لزيارة النصف من شعبان، وقع هذا الحادث بعد ظهر 13/شعبان/1428 المصادف 2007/8/27 وانقطعت الاصطدامات مساءً وظن الزوار انتهائها فعادوا إلى== ==نسكهم ولكنها اندلعت نهار اليوم التالي بشكل أعنف وأوسع حيث استعد الطرفان لها وانتشرت مجاميع المتمردين بين الحرمين وأحرقت عدة فنادق وسيارات شرطة وكان القنّاصون يستهدفونهم من أعلى أسطح البنايات والروضة الحسينية الشريفة التي أغلقت أبوابها واحترقت جدرانها مما يلي باب القبلة وكانت حصيلة المواجهات في كربلاء المقدسة)(52) قتيلاً و(200) جريحاً ، وامتدت العمليات الانتقامية بين الطرفين إلى عدة مدن من العراق.

الخارجية مهما بالغنا في وصف تأثيرها فإنها لا تكون فاعلة إذا لم تجد استجابةًً من النفوس المتبعة للهوى وحب الدنيا والسائرة على غير هدى من الله تبارك وتعالى.

العلاج بعيد عن شغاف الحقيقة:

وحتى حينما تقدم مشاريع لمعالجة المشاكل التي تعصف بالبشرية وتفتك بها فإنها لا تمس شغاف الحقيقة لأنها لا تهتم ببناء النفوس الصالحة والنوايا الخيرة والضمائر الحيّة، ولا ينفع ألف حلٍ من الخارج إذا لم يستند إلى عملية تغيير من داخل النفس وهذا ما وجدناه في سيرة الأئمة الأطهار (سلام الله عليهم) فإنهم لم يسعوا إلى تسلم الحكم بالانقلابات والثورات وغيرها، وحتى حينما وصلت إليهم في فترات نادرة لم يعبئوا بها لأن المهم عندهم (عليهم السلام) بناء الإنسان الصالح ومن ثم المجتمع الصالح، أما تسلم الحكم من دون إنشاء هذه القاعدة الرصينة فسيحول الحالة إلى صراع على الدنيا والنفوذ والاستئثار بالثروات وهذا ما نشهده على الساحة السياسية اليوم ويفسر أحداث كربلاء الأليمة.

ولا أجد جهة اليوم تهتم بهذه الركيزة الأساسية لذا فالمعوَّل عليكم أنتم أتباع المرجعية الرشيدة أن تلتفتوا إلى هذا النقص الخطير وتقودوا حركة بناء المجتمع الصالح تأسياً بما قام به الأنبياء والمرسلون والأئمة المعصومون (سلام الله عليهم) وقد حظي هذا الخط الشريف بنخبة المجتمع من المثقفينوالأكاديميين والمتدينين الواعين المخلصين واعترف الخصم قبل الصديق بهذه الحقيقة والآمال معقودةٌ عليكم.

صحيحٌ أن هذا العلاج طويل الأمل ولا يؤتى ثمره في الزمن القريب لكنه هو الطريق الصحيح للوصول إلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة (وإنما يعجلُ من يخاف الفوت) ولا يخاف الفوت من سار بهذا الطريق على هدى الصالحين ، وان تسبب في تحمل التضحيات والحرمان والإقصاء الذي يمارسه الحاسدون المستأثرون، فإن العاقبة لعباد الله

ص: 185

المخلِصين «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ» (القصص:5).

ص: 186

مواجهة التحديات بمعرفة قيمة النفس

اشارة

مواجهة التحديات بمعرفة قيمة النفس(1)

الجهاد الأكبر طويل حتى نهاية العمر:

لعلماء الأخلاق جهود وآثار قيمة في تهذيب النفس من الرذائل وتحليتها بالفضائل وبيان الوسائل والآليات التي تعين الإنسان على النجاح في (الجهاد الأكبر)(2) - وهو جهاد النفس كما سمّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)- وهو الصراع الذي ميدانه الأول النفس الإنسانية الذي تتصارع فيها الأهواء والميول والنزعات والإرادات بين العقل والشهوة وبين الخير والشر وبين الحق والباطل وهو صراعٌ مرير طويل يستمر إلى أن تبلغ النفس التراقي وقد ورد في الحديث: (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)(3) وقد يتخلص الإنسان من رذيلة في مرحلة معينة لكنه لا يلبث أن يجد نفسه مبتلى بغيرها، فمثلاً تراه بعد أن يجتاز مرحلة الشباب تقوى عنده السيطرة على ميوله الجنسية لكنه قد يبتلى بالطمع أو الأنانية أو حب الجاه والسلطة، وهذه أمراض أخطر وأشد فتكاً بالأمة وما الدماء التي تسفك بغير حق والبلاد التي تُخرّب إلا بسبب هذه الرذيلة.

معالم التحلي بالخلاق:

وقال العلماء والعارفون إن كل فضيلة تقع بين رذيلتين يمثلان جانبي الإفراط والتفريط فيها، فالشجاعة فضيلة بين رذيلتي التهوّر والجبن، والكرم فضيلة يقع بين الإسراف والبخل، وهكذا...

ص: 187


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة كلية الطب في جامعة البصرة ومواكب عشيرة البدور في الناصرية يوم 9 ذ.ق 1429 المصادف 2008/11/8.
2- معاني الأخبار: ص160.
3- البحار: ج67 ص36.

ورسموا برامج لعلاج الرذائل وقسموها إلى علاج نظري وعملي، ويريدون بالأول مجموعة التصورات والعقائد والمفاهيم التي تسهم معرفتها والاقتناع بها في الحل، أما الثاني فيقصد به الخطوات العملية والتطبيقية التي تؤدي إلى القضاء على الرذيلة الخلقية كإجبار النفس على الإنفاق لكسر البخل، وكالإكثار من الصوم لكبح جماح الشهوة الجنسية. وهكذا.

من عرف قدر نفسه:

ونحن نريد أن نشير اليوم إلى مفردة في العلاج النظري تعينكم على تقوية إرادتكم وعزمكم في مواجهة التحديات وقمع الأهواء والشهوات وذلك بأن يعرف الإنسان قدره، كما ورد في الحديث: (من عرف قدر نفسه لم يوردها موارد الهلكة) فيمكن أن يفهمه كل شخص بحسب مستواه ومجاله، فالقائد العسكري عليه أن يعرف عدد قواته وعدّتها قبل أن يخوض أيَّ معركة وإلا فإنه سيهلك نفسه وجيشه وهكذا.

ونريد نحن الآن تطبيقه عليكم لنستفيد منه في التقويّ على تجاوز الصعاب والنجاح في مواجهة التحديات الأخلاقية والاجتماعية والفكرية التي تتعرضون لها في الجامعات. فإن الواحد منكم إذا التفت إلى قدر نفسه وكرامته عند الله تبارك وتعالى بحيث ورد في الحديث أن الله تبارك وتعالى يباهي الملائكة بالشاب المؤمن الذي نشأ في طاعة الله تعالى، فهل يرضى شاب يفخر الله تعالى به ويباهي الملائكة وتقرّ به عينا الإمام الحجة المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف) قد ملأ قلبه حب الله تعالى والنبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين) وعُجنت طينته بولايتهم المباركة، وقد نجح في حياته حتى بلغ الدراسة الجامعية وأنتم في أرقاها، أقول: هل يمكن لهذا الشاب بعد التفاته لهذه المعاني أن يكون أسير شهواته أو يقع ضحيّة لغواية من شياطين الجن والإنس وهم لا سلطة لهم على الإنسان إلا بمقدار التزيين والدعوة إلى المعصية حيث يحكي القرآن الكريم: «وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ

ص: 188

أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم» (إبراهيم:22) ويلخّص هذه الفكرة الحديث الشريف (من كرُمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا)(1).

ولذا يوصي الإمام الكاظم (عليه السلام): (وإن أعظم الناس قدرا الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطرا أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها)(2) إذ لا يملك الإنسان نفسين وحياتين حتى يمكن أن يفعل ما يحلو له في الأولى ويجرب النتائج ثم يصحّح في الثانية، وإنما هي حياة واحدة ونفسواحدة فلا بد أن يبرمجها على ما ثبت بالدليل الصحيح أنه طريق للفوز والفلاح.

الاستعاذة وطلب العون من الله تعالى:

إن الله تبارك وتعالى يقدّر شدة الابتلاءات التي يتعرض لها الإنسان في جهاده الأكبر، وقد أشار الأئمة المعصومون (عليهم السلام) إلى جملة منها لإلفات نظرنا إليها والحذر والاستعاذة بالله تبارك وتعالى منها وطلب العون منه عظمت آلاءه للصمود في وجهها لاحظ على سبيل المثال مناجاة الشاكين للإمام السجاد (عليه السلام) في كتاب (مفاتيح الجنان) ويقول (عليه السلام) فيها (إِلهي إليك أشكو نَفْساً بِالسُّوءِ أمارة، وَإِلَى الْخَطيئَةِ مُبادِرَةً، وَبِمَعاصيكَ مُولَعَةً، وَلِسَخَطِكَ مُتَعَرِّضَةً، تَسْلُكُ بي مَسالِكَ الْمَهالِكِ، وَتَجْعَلُني عِنْدَكَ أهون هالِك) ويقول (عليه السلام) فيها (إِلهي أشكو إليك عَدُوّاً يُضِلُّني، وَشَيْطاناً يُغْويني...) ويقول (عليه السلام) (إِلهي: إليك أشكو قَلْباً قاسِياً مَعَ الْوَسْواسِ مُتَقَلِّباً، وَبِالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ مُتَلَبِّساً، وَعَيْناً عَنِ الْبُكاءِ مِنْ خَوْفِكَ جامِدَةً، و إلى ما يَسرُّها طامِحَةً)(3).

ص: 189


1- تحف العقول: ص278.
2- الوافي: ج1 ص93.
3- مفاتيح الجنان: ص152.

الدولة الكريمة والفرج الحقيقي يبدآن من داخل النفس

اشارة

الدولة الكريمة والفرج الحقيقي يبدآن من داخل النفس(1)

معنى الفرج:

حينما نطلب في الدعاء (اللهم إنا نرغب إليك بدولة كريمة...) فهذا لا يعني أن أملنا يتحقق ودعاؤنا يستجاب بقيام حكومة يترأسها وتضمّ رجالاً يرفعون لافتات إسلامية أو يتظاهرون بالارتباط بالمرجعية الدينية، وإنما تتحقق الدولة الإسلامية بأن نعيش الإسلام في كل تفاصيل حياتنا ونحكّمه في كل أمورنا وقضايانا وتصرفاتنا «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَبَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أنفسهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً» (النساء:65)،وهذا واضح من أوصاف هذه الدولة في الدعاء (تُعزُّ بها الإسلام وأهله، وتُذلُّ بها النفاق وأهله)، فلا تكون الدولة كريمة إلا حينما يكون رعاياها أحراراً يعيشون بعزة وكرامة وأعداؤهم أذلاء مقهورين.

من معاني الدولة الكريمة:

وقد يتحقق هذا المعنى للدولة الكريمة عند المؤمنين وهم بعيدون عن الحكم وليس لهم في السلطة نصيب، كما كان عند أهل البيت (سلام الله عليهم) ومن الشواهد على ذلك –وإن كانت القضية لا تحتاج إلى شاهد- ما روي عن الإمام الهادي (عليه السلام) لما جلبه المتوكل العباسي من المدينة إلى سامراء وأنزله خان الصعاليك فدخل عليه أحد أصحابه وهو صالح بن سعيد، فبكى رقّةً لحال الإمام (عليه السلام) حيث لم يكتفِ

ص: 190


1- يعود تاريخ هذه الكلمة إلى صيف عام 2003 حينما أقيمت في جامع المنتظر في مدينة الحرية ببغداد دورات للأطفال في العطلة، وفي نهاية الدورة استقبل سماحة الشيخ المشرفين عليها ومعلمات الأطفال المشاركين، حيث قام البراعم ببعض الفعاليات في مكتبه ثم تحدّث سماحته، كان ذلك بتاريخ 2003/8/28.

الظلمة بجلبه وإبعاده عن مدينة جده (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أنزلوه هذا المكان البائس فهوّن عليه الإمام (عليه السلام) عن صالح بن سعيد قائلاً له: (ههنا أنت يا ابن سعيد؟ ثم أومأ بيده وقال: انظر فنظرت، فإذا أنا بروضات آنقات وروضات باسرات (1)، فيهن خيرات عطرات وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون وأطيار وظباء وأنهار تفور، فحار بصري وحسرت عيني، فقال (عليه السلام): حيث كنا فهذا لنا عتيد، لسنا في خان الصعاليك)(2).

الفرج الحقيقي يبدأ من النفس:

وهكذا فحينما ندعو لإمامنا المهدي (عليه السلام) بالفرج وتعجيل الظهور فإن الفرج الحقيقي يبدأ من داخل أنفسنا حينما نهذّبها بطاعة الله تبارك وتعالى وتسير نحو الكمال، وإلا فما الذي نجنيه من ظهور الإمام (عليه السلام) إذا لم نحقق هذه الدرجات في داخلنا؟ ربما سنكون في الصف المعادي له أو مع المتخاذلين عن نصرته حرصاً على مصالح دنيوية أو وضع اجتماعي أو مكاسب سياسية ونحوها.فالدولة الكريمة والفرج يبدآن من داخل النفس ثم يشرقان على الآخرين فإذا عاش المجتمع أجواءً إسلامية وكان سلوكه إسلامياً، وتفكيره مبنياً على أساس الإسلام فهذه هي الدولة الكريمة وهذا هو الفرج الحقيقي.

متى يتحقق الفرج؟

وهذا لا يتحقق إلا بمواصلة العمل الدؤوب على صعيد تهذيب النفس وعلى صعيد أقامة المشاريع الإسلامية الإصلاحية في المجتمع وإدامتها وأن لا يكتفي بالعمل

ص: 191


1- لأنق : الفرح والسرور : والبسر بضم الموحدة الغض من كل شئ والماء الطري القريب العهد بالمطر والبسرة من النبات أولها وفى بعض النسخ بالياء المثناة بمعنى الحسن والجمال.
2- الكافي: ج1 ص498.

الارتجالي الذي دافعه وهج العاطفة أو ردود الأفعال وعلينا أن نفهم الأعداء قبل الأصدقاء من الكبار والصغار.

إن اندفاعة هذا الشعب الكريم نحو الإسلام ونشر تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) ليس رد فعل على طول حرمانهم من ممارسة شعائرهم من قبل الطواغيت كما ربما يصوّر البعض، ولا إنها فرار من الواقع المرير وتعلّق بالغيب للشعور العميق بالإحباط واليأس كما يصوّر البعض الآخر، وإنما هو نزوع نحو الكمال مبني على القناعة والمعرفة، ولا يمكن إيصال هذه الرسالة إلا بإدامة هذه المشاريع المباركة وبذل الوسع في تأصيلها وترسيخها.

ص: 192

البنية التحتية للإنسان

اشارة

البنية التحتية للإنسان(1)

رواية عن القلق من المستقبل:

روى الشيخ الصدوق (0) في كتابه (من لا يحضره الفقيه) بسند صحيح عن أبي هاشم الجعفري(2) أنه قال: (أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (علیه السلام) فاستأذنت عليه فأذن لي فلما جلستُ قال: يا أبا هاشم أيُّ نعم الله عليك تريدُ أن تؤديَّ شكرها؟ قال أبو هاشم: فوجمت فلم أدرِ ما أقولُ له، فابتدأني (علیه السلام) فقال: ان الله عز وجل رزقك الإيمان فحرّم به بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذل، يا أبا هاشم إنما ابتدأتك بهذا لأني ظننت أنك تريدُ أن تشكو لي من فعل بك هذا، قد أمرتُ لك بمائة دينار فخذها) (3).

بدأت حديثي بهذه الرواية لأنني قرأت في عيونكم قلقاً على مستقبلكم من حيث صعوبة الحصول على وظيفة حكومية اليوم حيث أصبحت ملكاً للأحزاب المتسلطة، وقلقاً على مستقبل البلد حيث تحدّث الأخ في كلمته التعريفية عن إناطة مواقع المسؤولية بأُناس غير كفوئين ولا مخلصين لبلدهم وشعبهم بل إن كثيرين منهم مزورون لشهاداتهم وهمهم ملأ بطونهم وأرصدتهم من المال الحرام.

ص: 193


1- أقام حشد من طلبة كليات الطب والهندسة والعلوم من جامعة البصرة حفلاً لتخرجهم في النجف الأشرف يوم الجمعة 26/ ربيع الثاني/ 1432 المصادف 2011/4/1 ضمن برنامج أعدّه لهم زملاؤهم في جامعة الكوفة على مدى يومين كاملين تضمن زيارة أمير المؤمنين (علیه السلام) والحسين (علیه السلام) والمشاهد المشرّفة الأخرى، وبعد انتهائهم من الحفل وأدائهم صلاة الظهرين يوم الجمعة، زارهم سماحة الشيخ اليعقوبي في مقر إقامتهم في جامعة الصدر الدينية تثميناً لهذه المبادرة الكريمة في مقابل حفلات التخرج الماجنة، وألقى سماحته فيهم كلمة، وهذا تقرير لبعض ما جاء فيها.
2- وهو داود بن القاسم بن اسحاق بن عبد الله بن جعفر الطيار من أجلاء أصحاب الأئمة (علیهم السلام).
3- من لا يحضره الفقيه: ج4 ص401.

القلق المشروع:

وهذا القلق مشروع ومستحسن على كلا الصعيدين أي إيجاد فرصة العمل المناسبة للكسب المشروع وتمكين الرجل المناسب من الموقع المناسب، فهذا سلمان الفارسي الذي قال فيه رسول الله (صلی الله علیه و آله): (سلمان منا أهل البيت)(1)

لما استغربوا منه ادخار بعض المواد لمؤونته في البيت وهو الزاهد في الدنيا (فقيل له: يا أبا عبد الله أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لا تدري لعلك تموت اليوم أو غداً، فكان جوابه أن قال: مالكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم علي الفناء، أما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت)(2).

ولأن كل غيور على بلده وشفيق على اخوانه يحب لهم أن يكونوا سعداء بأفضل حال ويتمتعون بالحرية والكرامة والرفاه التي هي من حقوق كل إنسان.

النعم العظيمة:

أيها الأحبّة: رويت لكم هذا الحديث لأخفف عنكم هذا القلق ولألفت نظركم إلى وجود نعم هي أعظم من كل ما تفكرون به لكن الإنسان يغفل عنها لاعتياده عليها، فيكون تذكرها جزءاً من الحل لأنه يسلّي النفس وينعش الروح ويزرع الأمل بغدٍ أفضل ويرقي الطموح، ولنسدّ على إبليس والنفس الأمّارة بالسوء وشياطين الإنس منافذ إقناع الإنسان بسوء الظن بالله تعالى الرب الرحيم الكريم الحكيم العليم –وهذا ما توخّاه الإمام الهادي (علیه السلام) عندما ابتدأ أبا هاشم الجعفري بهذه الكلمات لأنه (علیه السلام) نظر إليه بعين الله تعالى وقرأ فيه القلق والتبرّم من الحال، والشكوى من تقدير الله تعالى بسبب الغفلة عمّا أنعم به من نعم عظيمة لا تُعدّ ولا تُحصى.

ص: 194


1- الوافي: ج3 ص897.
2- الكافي: ج5 ص68.

أصول النعم الإلهية:

فيذكّر (علیه السلام) أن ربّك الذي تريد أن تشكوه أعطاك الإيمان بالله وما يتبعه من الإيمان برسوله وبولاية أهل البيت (علیهم السلام) المنجية من النار ومفتاحكل خير، وأعطاك الصحة والعافية التي بها قوام السعادة في الدنيا والآخرة، وأعطاك الكرامة والتفضيل على سائر مخلوقاته «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ »الإسراء70، وهذه النعم هي أصول كل النعم الأخرى ولا تهنأ حياة الانسان الا بها مهما تكاثرت النعم الأخرى، أي أن هذه الثلاث يصلح أن نسميها بمصطلح اليوم (البنية التحتية للإنسان)، وهي ما يستحق أن يفرح الانسان بحصوله عليها ويحزن إذا فقدها.

الفضل الحقيقي:

نحن الآن في يوم الجمعة وبعد الظهر وهي ساعة مباركة، وفي سورة الجمعة يقول الله تبارك وتعالى بعد قوله (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) إلى أن قال تعالى ({ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الجمعة/ 2 -4) وقال تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس : 58) فتزكية النفس وتطهير القلب والمعرفة بالله تعالى وتدبير شؤون الحياة بالحكمة هو الفضل الحقيقي من الله تعالى الذي يُفرح به.

وعلى هذه البنية التحتية ومن هذه الأصول تنطلق الأمور الأخرى فتتوفر عندك هذه المحبة للناس والسعي لإسعادهم، وهذا الإخلاص والجد والهمة العالية والنزاهة في العمل، وهذه الغيرة على البلد وشعبه، وهذا الإبداع وإيجاد كل ما هو أفضل، وهذا الطموح المشروع الذي لا يقف عند حد لأن الكمال لا متناهي.

المسؤولية أمام هذه النعم:

ص: 195

وهذا الحديث الشريف يحمّلنا عدة مسؤوليات أمام هذه النعم التي سميناها البنية التحتية وهي:

1- المحافظة عليها وتعزيزها وتنميتها وتعمقها في النفس والروح والعقل والجسد، وعدم الغفلة عنها والانشغال بأمور أخرى مهما تبدو مهمة فإنها ليست بأهمية هذه.2- إنكم على أبواب التخرج وتحملون شهادات تؤهلكم لفرص عمل جيدة، و ستعرض عليكم مثل هذه الفرص إن عاجلاً أو آجلاً بإذن الله، فعليكم أن تختاروا من تلك الفرص ما لا يتنافى وهذه النعم مهما كانت العروض مغرية، فإنها صفقة خاسرة أن تُشترى دنيا زائلة فانية بدين قويم يوجب السعادة الأبدية، فراقبوا ربّكم وحاسبوا أنفسكم وكونوا أمناء على ما ائتمنكم عليه.

3- ان لا تكرّسوا كل اهتمامكم في تحصيل الوظيفة، فإن مؤسسات الدولة لا تستطيع أن تستوعب كل الشعب في الوظائف الحكومية فعليكم أن تعملوا عقولكم المبدعة لإيجاد منافذ للكسب المشروع في ما يسمى بالقطاع الخاص، وقد تناولنا أهمية هذا التوجه في أحد خطاباتنا السابقة.

الأمل بالشباب الرسالي:

إن وجود أمثالكم بين أبناء الشعب يجدّد فينا الأمل بغدٍ أفضل، وان سوء الحال لا يمكن أن يستمر وان الإصلاح والتغيير نحو الأحسن واقع لا محالة، ومن دون هذا فإن الإحباط واليأس سيقضي على كل أمل نتيجة تسلط المفسدين والمستبدين والمستأثرين الذين اتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً، وكأن قدر هذه الشعوب أن تكون مرتهنة بنزوات وأطماع وشره حفنة من السيئين، وقد عشنا التجربة المرة مع صدام المقبور ورأينا كيف

ص: 196

سخّر ثروات هذا البلد المادية والبشرية لنزواته وحماقاته، وأدخل العراق والمنطقة في حروب وكوارث لا طائل تحتها.

وبين أيديكم الآن ما يفعله صعلوك ليبيا المثير للاشمئزاز والتقزز بتصرفاته الرعناء كيف جعل الشعب الليبي وثرواته دروعاً لحماية نفسه وبقائه في السلطة رغم استبداده بها منذ 42 عاماً.

إن تسلط مثل هؤلاء واستبدادهم بمقدرات الشعوب مظهر من مظاهر تفاهة هذه الدنيا وهوانها على الله تعالى وحماقة من طلبها وركن إليها وجعلها هدفاً له، كما ورد في الحديث الشريف (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى فيها كافراً شربة ماء). فالمغرور من غرّته، والشقي منفتنته كما قال الإمام الحسين (علیه السلام) ولو كانت لها قيمة لمكّن أنبياءه وأولياءه منها، ولما زهدهم فيها.

لكن هذا في نفس الوقت يلقي على الجميع خصوصاً الشباب مسؤولية التغيير والإصلاح لأنه يبدأ منكم وقد مضت السُنّة الإلهية على (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/11) وهذا ما استشعره شباب العرب والمسلمين اليوم فسرى فيهم دم النهضة واليقظة لانتزاع حقوقهم وكرامتهم وحريتهم، وتهاوت أمام هذه النهضة عروش الطواغيت.

أيها الأحبة: إن كل تقدم ونجاح تحققونه يدخل السرور على قلب إمامكم المهدي الموعود (علیه السلام) لأنكم ذخيرته وعُدّتُه وهو (علیه السلام) ينتظركم أكثر مما تنتظرونه، ويتابع أخباركم كما عبّر (علیه السلام) في رسالته إلى الشيخ المفيد (0) في كتاب الاحتجاج إنه (لا يعزب عنا شيء من أخباركم)(1).

ص: 197


1- الاحتجاج: ج2 ص598.

الحاجة إلى الموعظة ودروس الأخلاق

التوجه الى الله تعالى:

إن مجرد تذكر الإنسان انه في شهر رجب أو شعبان أو رمضان أو يوم الجمعة ونحوها فإنه ينال بذلك بركة وألطافاً إلهية. ومن بركات هذه الأزمنة الشريفة ازدياد الهمة والتوجه نحو طاعة الله تعالى وتزداد كلما ازدادت الأيام شرفاً فتكون في شعبان أفضل منها في رجب وهكذا. فعلى المؤمنين أن يستثمروا هذه الفرص لتهذيب النفس وتطهير القلب الذي يمثل النتيجة المطلوبة من كل الممارسات والعقائد التي أمر الله تعالى بها فجعل سلامة القلب معيار الفوز في الآخرة «إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (الشعراء:89).

تطهير القلب:

وجعل تبارك وتعالى من أعظم نعمه على أهل الجنة نزع ما في قلوبهم من أدران وتعلّق بالدنيا وحب للأنا «وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ» (الحجر:47). لأنها تنغّص حياته وتكدر صفو معيشته وتشغل فكره، فالأجدر بالمؤمن أن يسعى وهو في الدنيا بتطهير قلبه من هذه الأغلال لكي لا يحرم ولو لحظة من نعيم الجنة.

أن القيمة الحقيقية للأعمال والطاعات التي يؤديها الإنسان هي بمقدار ما تثمر من سلامة القلب وتزكية النفس، لذا حينما يسال أحدهم الإمام الصادق (عليه السلام) عن كيفية التعرف على مقدار قبول صلاته فأجابه عليه السلام : انه بمقدار ما نهتك هذه الصلاة عن الفحشاء والمنكر.

تهذيب سلوك المجتمع:

ص: 198

لقد كان السلف الصالح مهتمين بتهذيب سلوك المجتمع من خلال إلقاء المواعظ والدروس الأخلاقية، وكان لبعضهم منابر معروفة في الصحن الحيدري الشريف كالشيخ حسين قلي الهمداني والشيخ جعفر الشوشتري (قدس الله روحيهما) ويحضر عندهم العلماء المجتهدون والفضلاء وعامة الناس، ولا زال أبناء النجف يروون بعض تلك المواعظ والدروس، وأنا اروي بعضها عن أبي عن جدي عن أبيه الشيخ يعقوب الذي كان من خرّيجي هذه المدرسة الأخلاقية (رحمهم الله جميعاً).

موعظة من تراث الجد الشيخ يعقوب:

ومما يروى من مواعظه أنه قال يوماً لحضّار المجلس: لقد أخبرني ثقة لا يكذب أن لصّا دخل بينكم يريد أن يسرق الأشياء الثمينة منكم فأخذ الحضور غاية الحيطة والحذر وتفقد كل منهم جيوبه، وبعد برهة قال لهم: ألا تصحون من غفلتكم؟! أتحذرون كل هذا الحذر من أجل دراهم بخسة ولا تحذرون من الشيطان الذي يريد أن يسرق منكم دينكم وآخرتكم ويريد أن يضلكم ويغويكم وقد أخبركم بذلك الله تبارك وتعالى أصدق القائلين وتواتر عليه مئة وأربعة وعشرون ألف نبي إضافة إلى الأئمة والعلماء والصالحين!!

المراجعة والتقويم:

لقد ابتلي أتباع أهل البيت اليوم بالسلطة والمواقع والجاه فبرزت عندهم الأمراض القلبية والنفسية بشكل مريع يدعو إلى التشكيك بأصل الإيمان،ورموا عرض الجدار كل تلك الجهود التي بذلها العلماء والشهداء من اجل تربية الأمة وخصوصاً المتصدين منهم للمسؤولية الاجتماعية، مما يدعونا إلى التوقف للمراجعة والتأمل والتقويم حتى لا نتخبط ونسير على غير هدىً وذلك هو الخسران المبين.

طي مراحل السير الى الله تعالى:

ص: 199

ويمكن للإنسان بلطف الله تعالى بالنية المخلصة والإرادة الصادقة والعزم الراسخ أن يختصر طريق التكامل فيقطع في لحظة ما يقطعه غيره في سنة أو أكثر فإن (طيّ المسافة) المذكور في كرامات الأولياء لا يختص بالبعد الجغرافي، وإنما يمكن تحقيقها بلطف الله تعالى في البعد المعنوي كالحُر الرياحي فبالرغم من انه عاش عمره في خدمة الطواغيت إلا أن موقفاً عُمرُه لحظات اتصف بما تقدم جعله في أعلى عليين ودخل في زمرة الشهداء بين يدي أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).

قصة عن الإخلاص:

وأعرف شاباً كان أستاذاً في الجامعة التكنولوجية في منتصف السبعينيات وكان مسيحياً وملذّات الدنيا كلها متاحة بين يديه فهداه الله إلى الإيمان وولاية أهل البيت (عليهم السلام) وتعمق في مدرسة التشيع لهم عليهم السلام حتى أصبح يعقد الحلقات في مساجد الكرادة الشرقية لتدريس علوم أهل البيت وأخلاقهم فغاظ ذلك جلاوزة النظام فأعدموه والتحق بالرفيق الأعلى شهيداً محتسباً راضياً مرضياً.

ص: 200

تذكير للمشغولين بالعمل الرسالي

اشارة

تذكير للمشغولين بالعمل الرسالي(1)

معنى الرسالي:

عرّفنا المؤمن الرسالي بأنه من لا يتوقف عند حدود إصلاح نفسه وإرادة الخير له وإن كان في هذا كفاية لمن يروم النجاة، ولكنه بما يحمل من حب ورحمة بالآخرين يتحرك بعمل دؤوب لإصلاح مجتمعه وتحقيق السعادة لهم ، وهذا هو ديدن الرسل والعلماء الصادقين مع الله تبارك وتعالى «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً» (الأحزاب:39)، «لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» (الجن:28).

وهذه النية الصادقة والعمل المخلص لهداية الآخرين وإصلاحهم هي من أعظم القربات إلى الله تبارك وتعالى وقد وردت أحاديث كثيرة في تفضيل العالم العامل على العابد الزاهد المنزوي والمنكفئ على ذاته. فالعمل الرسالي يمثل مرحلة متقدمة على مرحلة إصلاح النفس وتهذيبها .

إصلاح النفس وتهذيبها:

وهنا أريد أن اذكَر العاملين الرساليين بأنهم أحيانا ينهمكون في العمل الاجتماعي بكل حماس وهمّة ويغفلون في خضّم ذلك عن أمور يفترض فيهم أنهم حققوها في المرحلة السابقة أي مرحلة إصلاح النفس وتهذيبها، وهذا نقصٌ بالتأكيد.

الغفلة عن البر بالوالدين:

ص: 201


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد كبير من طلبة الدراسة الإعدادية المنضوين في رابطة الطالب الرسالي في الناصرية يوم 4/شوال /1428 المصادف 16/10 /2007.

ومادمتم شباباً في مقتبل العمر فإنني أذكر لكم مثالاً لتلك الغفلة ، إذ لا يخفى عليكم اهتمام الشارع المقدس ببر الوالدين وحرمة إيذائهما حتى على مستوى قول ( أُفٍ ) لهما، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (لو يعلم الله شيئاً أدنى من أفٍ لنهى عنه ، وهو من أدنى العقوق ، ومنالعقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحدَ النظر إليهما)(1) وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أحزن والديه فقد عقّهما)(2) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ثلاثة من الذنوب تعجّل عقوبتها ولا تؤخَر إلى الآخرة: عقوق الوالدين والبغي على الناس وكفر الإحسان)(3) وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من أسخط والديه فقد أسخط الله، ومن أغضبهم فقد أغضب الله، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فأخرج ولا تحزنهما)(4) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) (عقوق الوالدين من الكبائر لأن الله عز وجل جعل العاقَ عصياً شقياً)(5) وعنه (عليه السلام) (من نظر إلى والديه نظر ماقت –وهما ظالمان له- لم تقبل له صلاة)(6).

وقد عايشت الكثيرين ممن عملوا بحماس في الحركة الإسلامية منذ أكثر من ثلاثين عاماً فوجدت منهم تفريطاً في هذه الخصلة الكريمة ((بر الوالدين)) التي قرنها الله تبارك وتعالى بتوحيده وعبادته في قوله عزَ من قال: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً» (الإسراء: 23) طبعاً نحن لا نتحدث عن مستوى فيما لو أمر الوالدان بمعصية الله تعالى كشرب الخمر أو نزع الحجاب ولا فيما إذا نهيا عن طاعة كالصلاة المفروضة

ص: 202


1- الوسائل: ج21 ص502.
2- النوادر للراوندي: ص93.
3- أمالي الطوسي: ص13.
4- مستدرك الوسائل: ج15 ص193.
5- الوسائل: ج15 ص328.
6- مستدرك الوسائل: ج15 ص195.

وصوم رمضان فإن حقوقهما تقف عند هذه الحدود كما ورد (لا طاعة لمخلوق بمعصية الخالق)(1).

ولكننا نتحدث عما هو دون ذلك إذ إن الإباء قد يقدّمون نصائح وتوجيهات إلى أبنائهم انطلاقاً من طول تجربتهم بالحياة وخبرتهم بأحداثها والوضع الاجتماعي العام والولد لا يقتنع بذلك فيخالفهما ويعاندهما فيتورط في هذه الكبيرة وهي إيذاء الوالدين، وهذا مضرٌ بعلاقته مع ربّه وبعاقبته.

وإذا أردت أن أتحدث عن مثال في تلك الفترة فهو أن الظرف الذي عشناه كان قاسياً من جهة بطش جلاوزة صدام وأمثاله، وكما عبّر هو نفسه –يقتل عشرة ألاف دون أن يرفَ له جفن-، وكان الشباب مندفعين بأعماليراها الآباء لا تستحق الاصطدام مع ذلك النظام الجائر، وإنهم يمكن أن يحافظوا على دينهم وحياتهم من دون إعلان، لكن بعض الشباب كان يعارض أباه وينتقده على هذا الخنوع من وجهة نظره الحماسية، بينما ينطلق الأب من خبرته بقسوة وبطش هؤلاء الطواغيت منذ أن حكموا عام 1963 ثم عادوا إلى الحكم عام 1968 فلم يتورعوا عن التذويب بأحواض التيزاب والقتل بثرامة اللحم والدفن أحياء واغتصاب الحرائر وجلد الأطفال الرضّع بالأرض حتى يتناثر دماغهم، وعلى أي حال فقد حصل الذي حصل ولله عاقبة الأمور.

مع السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره):

وأتذكر أنني سألت السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) –وهذا مثبّت في كتاب قناديل العارفين- عن سبب عدم ممارسته لدورٍ ميداني في حركة السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وانعزاله في الأيام الأخيرة فقال: لسببين، أحدهما إن أبي (وهو العلامة السيد محمد صادق الصدر الذي صلى على جثمان السيد الشهيد الأول) كان يمنعني من ذلك وكانت له هيبة وطاعة عليّ وعلى السيد الشهيد الأول نفسه ، فانظر إلى

ص: 203


1- نهج البلاغة: الحكمة: 165.

عاقبته حيث أطاع أباه كيف قيّض الله تباك وتعالى له الدور الكبير في بعث روح الإسلام والعودة إلى الله تبارك وتعالى حينما حانت له الفرصة بعد انتفاضة العام 1991 .

قصة سعد بن معاذ:

كان سعد بن معاذ من سادة الأنصار الذين بايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في العقبة قبل الهجرة وعاهدوه على النصرة والفداء وطلبوا منه الهجرة إليه، وكان بيته مقراً للحركة الإسلامية ودعوة الناس إلى الإسلام في يثرب قبل الهجرة، وخاض مع رسول الله صلى الله عليه واله معارك الإسلام الكبرى بدراً و أحداً والأحزاب وأصيب بسهم في معركة الخندق

وبقي جريحاً إلى أن توفي وشيّعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه، وعن الصادق (عليه السلام) انه قال: أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقيل له: إن سعد بن معاذ قد مات. فقام رسول الله (صلى الله عليهوآله) وقام أصحابه معه فأمر بغسل سعد وهو قائم على عضادة الباب(1)، فلما أن حنط وكفن وحمل على سريره، تبعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلا حذاء ولا رداء، ثم كان يأخذ يمنة السرير مرة ويسرة السرير مرة حتى انتهى به إلى القبر، فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى لحده وسوى اللبن عليه وجعل يقول: ناولوني حجراً، ناولوني تراباً رطباً، يسد به ما بين اللبن، فلما أن فرغ وحثا التراب عليه وسوى قبره، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني لأعلم أنه سيبلى ويصل البلى إليه، ولكن الله يحب عبدا إذا عمل عملا أحكمه. فلما أن سوى التربة عليه قالت أم سعد: يا سعد، هنيئا لك الجنة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أم سعد مه، لا تجزمي على ربك، فإن سعداً قد أصابته ضمة. قال: فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورجع الناس، فقالوا له: يا رسول الله، لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد، إنك تبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء ؟ فقال (صلى الله عليه وآله): إن

ص: 204


1- عضادتا الباب: الخشبتان المثبتتان على جانبي الباب.

الملائكة كانت بلا رداء ولا حذاء، فتأسيت بها، قالوا: وكنت تأخذ يمنة السرير مرة ويسرة السرير مرة؟ قال: كانت يدي في يد جبرئيل (عليه السلام) آخذ حيث يأخذ. قالوا: أمرت بغسله، وصليت على جنازته ولحدته في قبره، ثم قلت: إن سعدا قد أصابته ضمة؟ قال: فقال (صلى الله عليه وآله): نعم، إنه كان في خلقه مع أهله سوء)(1).

انتبهوا لتهذيب أنفسكم:

وأقول لكم إن كل الذين لم ينتبهوا إلى إصلاح أنفسهم وتطهير قلوبهم وتهذيب أخلاقهم فإن عملهم منقوص وبائس مهما تصدّروا الواجهات الإسلامية وحملوا من ألقاب دينية أو اجتماعية ، وربما أدى بهم خبثهم الباطني إلى الهلاك بعد العمر الطويل ، وكل الذين لم يلتفتوا إلى هذه التربية فأنهم ذاقوا بدرجة من الدرجات ألواناً من العذاب عاجلاً أم آجلاً وفضحوا .

وأنت ترى اليوم الكثيرين ممن كانوا في عمركم قبل ثلاثين أو أربعين عاماً ويزعمون أنهم انخرطوا في العمل الإسلامي منذ ذلك الزمان تراهم اليوم قد تخلّوا عما امنوا به وراحوا يتصارعون بقسوة الحيوانات المفترسة على الدنيا وينتهكون من اجل تحقيق مأربهم الأنانية ما حرمه الله تبارك وتعالى، ولو كانت أسس بنائهم سليمة لبقوا مستقيمين.فانتبهوا أيها الأحبة لإصلاح أنفسكم وتحليتها بالأخلاق الفاضلة ولا تغفلوا عن هذا (الجهاد الأكبر) مهما انهمكتم في العمل الرسالي وخدمة المجتمع فإنه يبقى (جهاداً اصغر) وان الله تعالى يعينكم ما دمتم في طاعته، واعلموا أن النفس بعيدة الأغوار معقدة التأثيرات والتجاذبات ولا يفلح في ترويضها وكبح جماحها وتوجيهها إلى الله تبارك وتعالى إلا من أدركه الله سبحانه بلطفه وتولاه برعايته لتجتازوا الامتحان الصعب، كما اجتازه الحر الرياحي حينما وقف يوم عاشوراء وكان قائداً كبيراً في جيش الخليفة الأموي يخيّر نفسه بين الجنة التي هي مع الحسين وأصحابه وان كان ثمنها الصبر على الموت ساعة، وبين

ص: 205


1- أمالي الصدوق: ص468.

النار التي هي مع جيش يزيد وكانت مزخرفة بالشهوات والسلطة والنفوذ والدنيا الواسعة فاختار الجنة ومضى شهيدا ووقف الإمام الحسين على مصرعه وقال له (حرٌ كما سمتك أمك حر،حرٌ في الدنيا وسعيدٌ في الآخرة)(1) فكانت هذه الشهادة وساماً قلّده إياه سيده ومولاه ليأخذ الجائزة فوراً من رب العزة والجلال.

وهكذا بقي الحر الرياحي رمزاً لكل من انتصر على نفسه حينما يتعرض لمثل هذا الامتحان الصعب ، كما بقي في تاريخنا المعاصر الشهيد الشيخ عارف البصري رمزاً لكل العاملين الرساليين الذين ترفّعوا عن الدنيا واخلصوا لله تبارك وتعالى وتفانوا في إعلاء كلمته ونصرة المحرومين والمستضعفين فمضى شهيدا وهو في ريعان الشباب وخلف هذا الذكر الخالد.

ص: 206


1- تاريخ الأمم والملوك: ج 3 ص325، واللهوف: ص 104، وبحار الأنوار: ج 45 ص14.

مما يقوّي عزيمة الفتيان والشباب في مواجهة المغريات

اشارة

مما يقوّي عزيمة الفتيان والشباب في مواجهة المغريات(1)

عناصر الحصانة في المؤمن:

مما يقوّي عزيمتكم على طاعة الله تعالى و مواجهات المغريات الكثيرة التي تتعرضون لها في هذا العمر المرهف بالإحساسات والذي يموج بالأماني والأحلام:

أن تستحضروا صور الفتيان والشباب الرساليين الذين امتلأت قلوبهم بحب الله تعالى فتنازلوا عن كل ملذاتهم الدنيوية لعلمهم بأنها فانية ليفوزوا باللذة الدائمة كالمسلمين الأوائل الذين واجهوا عتو قريش وطغيانها وإغراءاتها والتحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعرضوا معه لألوان العذاب والأذى ومنهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) (10 سنوات) وصحابة آخرون في عمر (16 سنة) ومنهم الفتى المدلل المترف مصعب بن عمير الذي عاش في وسط أسرة ثرية لكنه تنازل عن كل ذلك وتحمّل الجوع والفقر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصاحبه حتى استشهد في معركة أحد ورقّ له رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو تستحضر صور فتيان الحسين (عليه السلام) كعلي الأكبر والقاسم وعبد الله ابني الحسن السبط والفضل بن العباس بن أمير المؤمنين وأبناء مسلم بن عقيل بين الحادية عشرة والتاسعة عشرة من العمر، وكان أحدهم يبرز وحده لمقاتلة سبعين ألفاً غير مكترث بجمعهم حتى أن القاسم يقف ليصلح شسع نعله غير آبه بأمة الضلال التي احتشدت لتقطيع أوصاله، أو ذلك الفتى من الأصحاب الذي دفعته أمه ليستأذن من الإمام الحسين (عليه السلام) ويذهب للقتال، وكان أبوه قد قتل في المعركة، (فقالت له: يا بني أخرج فقاتل بين يدي

ص: 207


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد كبير قارب المائتين من طلبة المدارس الإعدادية في الناصرية الذين وفدوا لزيارته وتهنئته بالعيد يوم السبت 10 ذ.ح 1430 الموافق 2009/11/28.

ابن رسول الله حتى تقتل، فقال: أفعل! فقال الحسين (عليه السلام): هذا شابٌ قتل أبوه، ولعل أمه تكره خروجه، فقال الشاب: اُمي أمرتني يا بن رسول الله1- ... ثم قاتل حتى قتل، وحُزَّ رأسه ورمي به الى عسكر الحسين (عليه السلام)، فأخذت أمه رأسه وقالت: أحسنت يا بني! يا قرة عيني وسرور قلبي!...)(1). فحينما يشعر الشاب والفتى انه بطاعة الله تبارك وتعالى يكون جزءاً من هذا المعسكر الشريف الناصع فلا شك انه سترتفع همته للحاق بهم خصوصاً وانه لم يكلف بما كُلف به أولئك من التضحية بالنفس وخوض المواجهة الرهيبة.

2- أن تتذكر أن اللذة التي تحصل لكم بتجنبكم لبعض اللذات التي تقترن بالمعاصي هي أكبر وأحلى فإن لذة المعصية زائلة وتبقى تبعتها وتكون مشوبة بالكدر وخوف الفضيحة وغيرها من الآثار السيئة. بل هي في الحقيقة لا لذة فيها ولكن الشيطان والنفس الأمارة بالسوء تزيّن المعصية، أما إذا انتصر الشاب على نفسه فسيجد في قلبه حلاوة ولذّة سامية كما ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله): (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها خوفا من الله أعطاه إيماناً يجد حلاوته في قلبه)(2).

3- ما قلناه في بعض أحاديثنا (3)وهو الالتفات إلى عظمة مقامكم وسمو منزلتكم بحيث ورد في الحديث (إن الله تعالى يباهي بالشاب العابد الملائكة)(4) فهل يليق بمن يباهي به ربه ملائكته أن يجده ربه على معصية؟ أو أن يهبط إلى مستوى الأشرار والسيئين.

4- التزود المستمر من الألطاف الإلهية والدفعات الإيمانية التي تشملكم حينما

ص: 208


1- مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي: ج2 ص21، والمناقب لابن شهر آشوب: ج4 ص104.
2- مستدرك الوسائل: ج14 ص268.
3- مر في الفصل السابق تحت عنوان: مواجهة التحديات بمعرفة قيمة النفس.
4- كنز العمال: 43057.

تتعرضون لها بزيارة مراقد المعصومين (عليهم السلام) والحضور في المساجد والاستماع إلى مجالس الوعظ والإرشاد والتوجيه والمشاركة في الشعائر الدينية وأمثالها.

ص: 209

تزوّدوا بالموعظة والوعي

اشارة

تزوّدوا بالموعظة والوعي((1)

المراجعة والتقييم خلال العام:

نحن في نهاية عام هجري هو 1430 ونتطلّع مع هلال محرم الحرام إلى عام جديد هو 1431 بناء على ما هو الجاري بين الناس، وإلا فإن في بعض الأدعية ما يشير إلى أن بداية العام تكون في أول رمضان، وقيل أن العام الهجري يبدأ من الأول من ربيع الأول باعتبار أن هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت في ذلك التاريخ.

وعلى أي حال فإن نهاية العام تمثل محطة للمراجعة وتقييم الأعمال والاتعاظ بما مرّ خلال العام وتصحيح الأخطاء والاستزادة من الأعمال الصالحة، وهو أقل ما يمكن من المحاسبة المأمور بها شرعاً، ومن غفل عنها كثرت سيئاته وتراكم الرين على قلبه حتى يسوّد والعياذ بالله فلا تنفع الموعظة عندئذٍ، كماترون كيف أن كثيراً من المتدينين بحسب الظاهر لما تصدّوا للحكم وأقبلت عليهم الدنيا واستطيبوا طعمها انهمكوا في اتباع الهوى ولم تنفع فيهم الموعظة حتى انتشر الفساد والظلم وحانات الخمور والملاهي بشكل لم يسبق له نظير حتى في العصور السابقة.

تزودوا من الموعظة:

فاجعلوا زادكم الموعظة واحيوا بها قلوبكم ولا تغفلوا عن ذكر الله تبارك وتعالى. واعقدوا العزم على أن تكون الصفحات البيضاء التي تنشر لكم مع بداية السنة الجديدة مليئة بالأعمال الصالحة وكل ما يقربكم إلى الله تعالى. والجأوا إلى الله تبارك وتعالى بطلب الصفح والمغفرة عما مضى فانه غفور رحيم ويغفر الذنوب جميعاً لمن عزم بصدق على التوبة.

ص: 210


1- («1» ) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد كبير من طلبة كلية الطب/ جامعة البصرة وجامعة الصدر الدينية في كربلاء المقدسة يوم الخميس 29 ذي الحجة 1430 المصادف 2009/12/17.

الفرح لمن بلغ الأهداف:

ومع بداية العام الجديد اعتاد الناس على إقامة الأفراح وتبادل التهاني، خصوصاً في بداية العام الميلادي حيث يعمّ الفسق والفجور ولا أدري بماذا يفرحون، وهل جزاء فضل الله تعالى عليهم بإبقائهم أحياء أصحاء معافين أن يعصوه بهذا الفظائع؟

إن من يحقّ له الفرح هو من بلغ الهدف وحقق النتائج المرجوّة كالطالب الذي نجح في الامتحان ويتفوّق فانه يفرح أما أن يفرح الفاشل فهذا ضرب من الجنون، فهؤلاء الفرحون بالعام الجديد هل نجحوا في امتحانهم في هذه الدنيا؟ وهل حققوا الأهداف التي خلقوا من أجلها؟ الجواب: لا طبعاً فبماذا يفرحون؟.

افتتا ح السنة بذكرى الحسين (عليه السلام):

أما شيعة أهل البيت (عليهم السلام) فإنهم يفتتحون العام الجديد بذكرى استشهاد أبي عبد الله (عليه السلام) فيحيون شعائرها ويستلهمون الدروس من تلك الثورة المباركة.

وكيفية التعاطي مع قضية أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) تختلف أشكالها بحسب الأشخاص فقد يُقبل من العامة ما لا يقبل من النخب المثقفة الواعية، وعلى الإنسان أن لا ينساق وراء بعض السلوكيات الاجتماعية مهما كانت صالحة في نفسها ويغفل عن دوره المطلوب منه، ونحن في عالم مليءبالتحديات المتنوعة فلا يعذر أحد عندما يترك موقعه من العمل اللائق به ويذهب ليؤدي دور غيره فتحصل ثغرة في كيان الإسلام والمسلمين وإضرار بالمصالح العامة وأقرب مثال اذكره لذلك هو هل يجوز لرجل الأمن المكلف بحماية الزوار من هجمات الإرهابيين المتوحشين أن يذهب للمشاركة في توزيع الطعام أو اللطم على الصدور ويترك ظهور المؤمنين معرضة لرصاص الغدر؟

انصروا الحسين (عليه السلام) بوعيكم:

ص: 211

فانتم من الطلائع الواعية للمجتمع ولا بد أن تكون نصرتكم لأبي عبد الله الحسين (عليه السلام) بالشكل الذي يناسبكم والذي يُعرف من خلال القراءة الواعية لتلك الثورة المباركة، مثلاً مواجهة الشبهات التي يلقيها أعداء أهل البيت (عليهم السلام) والفتن التي تعصف بالمجتمع، فلا يزال يوجد من يتهم الشيعة بتحريف القرآن ويظهر على شاشات الفضائيات وهو يعلم أنه مفتر آثم فها هي إذاعات القرآن الكريم والفضائيات في البلاد الشيعية هل تتلو غير هذا القرآن الموجود في أيدي جميع المسلمين والمطبوع في القاهرة ودمشق والرياض، ويحجّ مئات الآلاف من الشيعة إلى الديار المقدسة فهل وجدوا عندهم غير هذا القرآن؟ وها هي كتب الشيعة وأحاديثهم التي تستدل بآيات القرآن فهل وجدوا فيها حرفاً زائداً؟

وعلى صعيد آخر ترون كيف أن أدعياء المهدوية والمولوية والسفارة والسلوكية لا يقطع منهم رأس حتى يبرز آخر مستغلين الجهلة والقلقين والمندفعين والمتعصبين وأمثالهم.

وترون الدول المستكبرة كيف تخلق الأزمات لشعوب العالم لابتزازها وإخضاعها فمن أنفلونزا الطيور إلى أنفلونزا الخنازير إلى أنفلونزا الماعز الذي أعلنوا عنه قبل أيام بعد أن كسبوا المليارات من إشاعة الرعب والقلق من سابقه.

وخلاصة ما تقدم أن تتسلحوا لصلاح دنياكم والفلاح في أخراكم بالموعظة والوعي، وتوجد مصادر كثيرة لتحصيلهما كالكتب والمحاضرات والمجالس الحسينية فاستفيدوا منها.

ص: 212

فرص التكامل للشباب أكثر

اشارة

فرص التكامل للشباب أكثر(1)

إصلاح النفس من أول العمر:

مما قاله لي السيد الصدر الثاني(قدس سره) في مراسلاته الأخلاقية - وأنا كنت في العشرينيات من عمري - أن من نعم الله عليك أن تلتفت إلى تهذيب نفسك وتربيتها في وقت مبكر، لأن العمر كلما طال ازداد الرين على القلب، مما يؤدي إلى قسوته واستكباره عن سماع الموعظة وقبول الحق حتى يطبع عليه والعياذ بالله تعالى، لذا ورد في أدعية الإمام السجاد عليه السلام (َويْلِي كُلَّما كَبُرَ سِنِّي كَثُرَتْ ذُنُوبِي ! وَيْلِي كُلَّما طالَ عُمْرِي كَثرَتْ مَعاصِيَّ!)(2)، فهذه أول الفرص للشباب أنهم قريبون إلى الفطرة والنقاء لم يطبع على قلوبهم فتكون استجابتهم للحق سريعة كما تشهد بذلك الحركات الرسالية عبر التاريخ.

فرص الشباب:

والفرصة الأخرى: الامتيازات التي تعطى إليهم، فقد ورد في الحديث (إن الله تبارك وتعالى يباهي الملائكة بالشاب الذي ينشأ في طاعة الله) فعندكم فرصة أن تكونوا ممن يباهي به الله ملائكته ويحتج بكم عليهم، وهذا يزيد من دافعكم نحو الالتزام بالدين وحسن السيرة.

والفرصة الثالثة: وجود موارد للطاعة عندكم لا تتوفر لغيركم كبرّ الوالدين وأكثر الشباب لهم والدان وهذه تمثل فرصة عظيمة للطاعة من خلال البر بهما والإحسان إليهما

ص: 213


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة إعدادية الحنانة في النجف الأشرف ومدرسة الإمام الصادق(عليه السلام) في مدينة الصدر ببغداد يوم السبت 4 ع2 1431 المصادف 2010/3/20.
2- مفاتيح الجنان: ص605.

بينما من هو مثلي لا والدين له يكون قدحُرم من هذه الفرصة إلا من خلال الإحسان إليهما بعد وفاتهما بالأعمال الصالحة.

والفرصة الرابعة: قلة المشاغل والمشاكل التي تورث الهم وتشوش البال وهذه كلها معوقات للتكامل فالشباب في سلامة منها لأنه عادة مكفول المعيشة وكل لوازم الحياة بوالديه حيث يأتيه رزقه من طعام وشراب وملبس ومصروف يومي جاهزاً بلا مؤونة في الغالب.

والفرصة الخامسة: أنه غالباً في صحة وقوة بدنية ونشاط وهمة عالية وهذه كلها من مقوّمات الأعمال الصالحة أما من تقدّم به السن فإن الأمراض تظهر عليه وقوته تضعف فيعجز عن أداء الكثير من الطاعات.

وهكذا تتكاثر فرص الخير أمام الشباب، لذا ورد في وصايا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر(رضوان الله تعالى عليه): (يا أبا ذر اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)(1).

فإن إضاعة أي من هذه الفرص للطاعة غصة توجب الحسرة والندامة.

الانتصار أمام المغريات:

نعم إن المغريات أمام الشاب كثيرة، لكن هذه كلها ليست معوقات للتكامل بلطف الله تعالى، بل ربما هي مفيدة للتكامل لأنها تزيد من الهمة والإرادة لمواجهتها حتى يشعر بزهو الانتصار عليها.

ص: 214


1- البحار: ج74 ص75.

فالشباب يحبون اقتحام الصعوبات حتى يحققوا الانتصارات ويفرحوا بها ولا يحتاج الأمر من الشباب إلا إلى الاعتصام بالله تبارك وتعالى وتقوية إرادته. فإذا جعل أمام عينيه مثلاً الحديث الشريف: (النظر سهم مسموم من سهام إبليس، فمن تركها خوفا من الله أعطاه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه)(1) فإنه سيكون أكثر إصراراً على مواجهة هذه الإغراءات.

دونوا ما ينفعكم:

ومن الوسائل التي تعينكم في حياتكم التكاملية هذه أن تتخذوا لأنفسكم مفكرة أو دفتر ملاحظات يدوّن فيها أحدكم ما يؤثر فيه ويتفاعل معه من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والكلمات الحكيمة القصيرة كالذي يعرض في الشريط أسفل الشاشة على بعض الفضائيات، فإن مثل هذا التفاعل يعني أن هذه الكلمة رزق ساقه الله إليك.

من الخواطر التي كتبتها:

وأقول لكم هذه الخاطرة لأنني استفدت منها في صباي قبل أن أبلغ الحلم، ولا زلت احتفظ ببعضها وكنت اكتب التاريخ تحت كل كلمة مختارة والموجود عندي مؤرخ شهر 11/1974، وكنت أقلبها بين حين وآخر فتتجدد المعنويات وتتحفز الهمم بلطف الله تبارك وتعالى. وقد ضمّ حديثنا اليوم عدداً من هذه الأحاديث التي توجّه بوصلة حياتكم إلى ما يرضي الله تبارك وتعالى.

يقول بعض الأخلاقيين إن أول صدمة يواجهها الإنسان حين موته قبل صعوبات القبر والبرزخ وغيرها، هو حينما يعلم أن ما نزل به هو الموت وإن عمره قد انتهى وهذا يعني أن باب العمل قد أغلق عليه، فلا يستطيع أن يستزيد ولو ذرة من عمل الخير إلا ما يهدى إليه من أهله أو أحبائه، فيصاب بالذهول والألم والندامة والحسرة على كل لحظة أضاعها بغير

ص: 215


1- البحار: ج104 ص38.

عمل صالح، فبينما أفنى عمره في اللهو والغفلة والانشغال بالدنيا الزائلة وزينتها وقضى عمره يخطط لأفكار ومشاريع لا تنتهي حتى خطف منه الموت كل تلك الأحلام، فيضغط عليه هذا الألم بقوة وتعصره الندامة، فيكون ممن قال فيهم رب العزة والجلال «أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» (الزمر:5658).

من حاول شيئاً في معصية الله:

ومما انصح أن تثبتوه في دفتر ملاحظاتكم قول الإمام الحسين (عليه السلام) : (من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيئ مايحذر)(1)، لأنكم قد تعرض عليكم رغبات وأمور تريدون تحقيقها وربما يحاول البعض ذلك ولو بأساليب محرمة ككسب المال، أو العلاقة مع الجنس الآخر فينشئان علاقة حب غير شرعية ويتواعدان ويخلوان خلوة محرمة وهكذا تزل بهم الأقدام، بينما يمكنهم أن يصبروا ويطرقوا البيوت من أبوابها التي أحلها الله تبارك وتعالى، فهذه الكلمة القصيرة من الإمام الحسين (عليه السلام) توفر عليكم الوقت والجهد وتعطيكم النتيجة قبل العمل، بأن من حاول أن يحقق ما يريد بأساليب محرمة فإن ما أراد تحقيقه سيفوته، ويتحقق له عكسه وهي النتائج التي يحذر منها، فمثل هذين الشابين الذين خدعهما الشيطان سيفتضح أمرهما ويتعرضان للإهانة الاجتماعية وربما للعقوبات ويدمّر مستقبلهما ولا يحققان ما أرادا، وإن صوّر لهما الشيطان غير ذلك، فهذه الكلمات المباركة هي خلاصة معرفة إلهية وخبرة حياة وحكمة عميقة.

ص: 216


1- الكافي: ج2 ص373.

الدنيا بحر عميق فما هي سفينة النجاة؟

الدنيا بحر عميق فما هي سفينة النجاة؟(1)

من مواعظ لقمان الحكيم:

اشارة

كان لقمان الحكيم كثير المواعظ لولده وحكى لنا القرآن الكريم جملة منها في سورة لقمان، ونقل الأئمة المعصومون سلام الله عليهم لنا عنه مواعظ كثيرة، ومن تلك المواعظ ما أحفظه منذ أربعين عاماً عندما كنت أرافق والدي (رحمه الله تعالى) في مجالسه، وهي مروية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن لقمان وعظ ولده فقال (يا بني أن الدنيا بحر عميق، قد هلك فيه عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الإيمان بالله، واجعل شراعها التوكل على الله، واجعل زادك فيها تقوى الله، فإن نجوت فبرحمة الله وان هلكتفبذنوبك)(2).

معنى تشبيه الدنيا بالبحر:

نعم الدنيا بحر متلاطم الأمواج، بحر في مغرياته وشهواته وأهوائه وميوله وأحلامه فمن حب المال إلى حب النساء إلى حب الجاه والسلطة إلى اللهو واللعب وغيرهما مما يزيّنه الشيطان.

وبحر في مسؤولياته، فالإنسان مكلف بواجبات ومسؤوليات أمام خالقه العظيم وأمام إمام زمانه (عليه السلام) وأمام نفسه وعائلته ومجتمعه وأمام الملائكة والتاريخ وغيرها.

وبحر في تحدياته التي تتجاذب الإنسان في كل اتجاه وتجعله يعيش صراعات متنوعة.

فالدنيا بحر عميق حقاً لا يقوى الإنسان وحده على امتطائه بسلام ليصل إلى الغاية

ص: 217


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من الوفود والزوار، بينهم هيئة الشباب الرسالي في الشعلة والغزالية، وأساتذة وطلبة جامعة الصدر الدينية – فرع مدينة الصدر ببغداد، وموكب شباب أنصار المصطفى في ذي قار يوم الخميس 15 ع2 1431 المصادف 2010/4/1.
2- بحار الأنوار: 13/411.

لذا (هلك فيه عالم كثير) ولم يكتب النجاة إلا لقلة القليلة، كما أخبر تعالى («ثُلّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ» «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَكُورُ» «وَمَا أكثَرُ النَاسِ وَلَوْ حَرَصَتَ بِمُؤمِنِينَ».

وتستطيع أن تدقّق بلغة الأرقام فدّون عدد البشر اليوم ثم أبدأ بإنقاص أهل الملل والنحل والديانات لتصل إلى النتيجة المرعبة.

كيف ننجو من الدنيا؟

وإذا عرفنا أن الدنيا بحر عميق ونحن في عمق هذا البحر، فإن السؤال الطبيعي هو كيف ننجو؟ أو ما هي سفينة النجاة؟ وهنا يكمل لقمان الحكيم فيذكر السفينة وهي الإيمان بالله تعالى وتوحيده حقاً وفعلاً، وهذا ما ورد في أول كلمة أطلقها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وردّدها أبناؤه المعصومون (عليهم السلام) (لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمِنَ من عذابي)(1) وشراعها التوكل على الله «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» وزادك فيها التقوى «وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ».

سفن النجاة:

وهذه الكلمات العميقة من لقمان الحكيم تحتاج إلى من يفسّرها ويفصّل معانيها ويُبيِّن تطبيقاتها وحدودها وأحكامها، وهذا ما تميزت به شريعة الإسلام حتى جعلها الله تعالى خاتمة الرسالات وأكملها، فهي تتواصل مع الشرائع السماوية السابقة بالمبادئ السامية والقيم النبيلة إلا أنها تزيد عليها تفصيلاً وبياناً وسعة وشمولاً، وهذا العنوان في مواعظ

ص: 218


1- أمالي الصدوق ص253.

لقمان وهي (السفينة) وردت على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق)(1).

وسُميّ العلماء الصالحون الهداة في الأحاديث (سفن النجاة)(2) لأنهم خلفاء الأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) والأمناء على شريعتهم والمبلغون لرسالتهم.

وهكذا تجد التواصل والوراثة مستمرة بين حلقات هذه السلسلة الكريمة من الرسل والأنبياء والأئمة والعلماء الصالحين.

كونوا من سفن النجاة:

ويستطيع كل واحد منكم أن يكون سفينة نجاة بدرجة من الدرجات حينما يعلِّم غيره مسألة شرعية يجهلها أو يوصل له موعظة ينتفع بها، أو يصدّه عن معصية أو انحراف أو ظلم، أو يهديه إلى ما فيه رضا الله تبارك وتعالى وصلاح العباد.

ولا ينال ذلك أيها الأحبة إلا بلطف الله تبارك وتعالى وتوفيقه لأنه من الأرزاق المعنوية التي لا تنال بالأسباب الطبيعية، أي أنها تختلف عن الأرزاق المادية، قال تعالى «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ» (الأنبياء:73) «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» «وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً».

فمن شمله هذا اللطف أضاء في قلبه وعقله وجوارحه نور من الله تبارك وتعالى، «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ» وستزل قدمه، ويضل الطريق في دنياه وآخرته. «قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً».

وكونوا - أيها الأحبة - على ثقة بأن الله تعالى كريم يعطي من غيراحتساب،

ص: 219


1- المستدرك على الصحيحين: ج3 ص163، كنز العمال: ج12 ص94 ح34144، البحار: ج33 ص105.
2- انظر البحار: ج29 ص140.

وهو رحيم بعباده، وكلما ظن العبد أن الأبواب مغلقة في وجهه، ولا سبيل إلى النجاة، وإذا بباب رحمة الله تعالى تفتح له «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» (يوسف 110).

ويشبّه بعض الأخلاقيين الحالة بما موجود اليوم في الأبنية الراقية حيث تكون الأبواب الخارجية مغلقة فإذا وصل القادم أليها انفتحت تلقائياً، فالعارف بالحال يتوجه نحو الباب وإن رآها مغلقة لأنه يعلم أنها ستفتح له عندما يتوجه إليها، أما الجاهل فيرى عدم الجدوى في التوجه نحو الباب لأنها موصدة في وجهه.

ص: 220

من البلاء ما تستطيع دفعه بنفسك

اشارة

من البلاء ما تستطيع دفعه بنفسك(1)

بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ:

كلنا أصحاب حوائج ندعو الله تبارك وتعالى قضاءها، فالبعض يعاني من مرض ويسأل الله الشفاء والعافية، وآخر حرم من الذرية ويسأل الله تعالى أن يرزقه ذرية صالحة، وآخر يمر بضيق وشدة ويدعو الله تعالى بالفرج، وآخر يعاني من فقر وصعوبات مالية ويدعو الله تعالى بالغنى وسدِّ الحاجة، ونحوها كثير مما لا يخفى عليكم.

ولكن الذي يخفى على الكثيرين أن جملة من هذه الصعوبات التي يمرّ بها الإنسان هي من صنعه وكسب يديه، فلو أراد التخلص منها فليتجنب الأسباب التي أدّت إليها.

قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (الروم:41) والباء هنا سببية أي بسبب ما كسبوا، وإن ما حصل لهم هو نتيجة لبعض ما جنت أيديهم، وإلا فإن استحقاقهم أكثر لكن الله تعالى يعفو بكرمه وحلمه عن كثير، قال تعالى «أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ» (الشورى:34) أي يهلكهن –وهي السفن في البحر- بأهلهن بإرسال الرياح العاتية عليها بما كسبوا من الذنوب، ولكن الله تعالى يعفو عن الكثير وقال تعالى «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ» (الشورى:30).

دفع البلاء قبل حصوله:

ص: 221


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع طلبة جامعة الصدر الدينية فرع السماوة، وموكب عشاّق الحسين (عليه السلام) من الناصرية الذين زاروا سماحته يوم السبت 6 رجب 1431 المصادف 19/6/ 2010.

والخلاصة أن كثيرً من البلاء يستطيع الإنسان دفعه قبل حصوله، وليس فقط دفعه بعد حصوله من خلال اجتناب مسبّباته، ولكن الإنسان لا يلتفت إلى هذه الحقيقة، أو لا يلتفت إلى ما تكسبه يداه من أعمال، وإذا التفت فإن الكثيرين يستصغرون ما يصدر منهم ولا يقدّرون عواقبها، بينما حذر المعصومون من الاستهانة بالذنوب (لا تنظر إلى ما عصيت ولكن انظر من عصيت)(1)، فيتساهلون فيما يصدر منهم من كلام مع أن كلمة غير مسؤولة قد تقال هنا وهناك تسبّب سفك الدماء وهتك الأعراض وإهلاك الحرث والنسل وكما يتساهلون في التجاوز على المال العام، الذي هو ملك عموم الناس الذين هم أيتام آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المقطوعون عن إمامهم فمن أكل أموالهم كان مشمولاً بالآية الشريفة «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (النساء:10)، ولكي نقرب فكرةأن خطأً بسيطاً قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، بما يحصل أحيانا من أن غفلة صغيرة من سائق السيارة أو التفاته تؤدي إلى حادث مفجع.

ولذلك تجد في الكثير من الأدعية أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) يعلموننا الاستغفار مما نعلم ومما لا نعلم من الذنوب، وما ظهر منها وما بطن.

قواعد في فهم سنة البلاء:

وهنا نبيّن عدة ملاحظات لإيضاح الفكرة المتقدمة:

1- إن بعض البلاء يجريه الله تعالى على عباده الذين اصطفاهم ليرفع درجاتهم ولينالوا المقام المحمود عند الله تعالى قال تعالى «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً» وفي أخبار مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) إن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال

ص: 222


1- مستدرك الوسائل: الباب 43 من أبواب جهاد النفس، الحديث: 8 من كتاب الجهاد.

له: (إن لك في الجنة درجات لن تنالها إلا بالشهادة)(1) فهذا نوع آخر من البلاء لا تجري فيه الفكرة السابقة.

2- إن الله تبارك وتعالى حينما يؤاخذ العباد ببعض ذنوبهم فليس ذلك انتقاماً منهم سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً وإنما يريد لهم الخير وما يصلح حالهم فقد يكون الفقر أصلح لحال شخص من الغنى لأن الغنى يبطره ويبعده عن الله تعالى ويوقعه في المعاصي، ويحرم آخر من الذرية لأنه لو رزق منها لكانت شريرة وبالاً عليه بسبب الظروف المحيطة بهم وهكذا.

نعم إن الله تعالى ينتقم من الظالمين لتعد يهم على الآخرين، ولو كانت ذنوبهم بينهم وبين الله تعالى لكان لها حساب آخر.

3-بعض الذنوب اجتماعية عامة لا تقتصر في آثارها على مرتكبيها فقط بل تشمل كل الناس حتى الصالحين قال تعالى «وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً» ومثل هذه الابتلاءات يدفع ضريبتها ناسٌ لم يكونوا السبب فيها. فهذه العواصف الترابية التي تحصل ويقال أنها ستستمر لسنين طويلة بسبب التصحر، وهذا الجفاف في الأنهار، وهذا الارتفاع في درجات الحرارة كلها بسبب حماقات وسياسات ظالمة لبعض المتصدين لكن شرها عمّ1- الجميع وإن كان أكثر الناس يستحقون ذلك لأنهم هم من انتخب أولئك الحمقى الأنانيين وأجلسوهم في مواقع المسؤولية.

ص: 223


1- البحار: ج58 ص182.

في الصراع على الدنيا ثلاث آفات

اشارة

في الصراع على الدنيا ثلاث آفات(1)

مشاكل البشرية اليوم:

من يراقب حال البشر اليوم وقبل اليوم من لدن خلق البشرية: يجدهم في صراع مستمر وتنازع وتنافس على كل الأصعدة والمستويات، وتثار الأزمات لأتفه الأسباب، ولنيل مغانم دنيوية لا قيمة لها حقيقة , كالصراع على زعامة العشيرة أو ليكون مختار المحلة أو للاستيلاء على مكسب ما ، أو الصراع على السلطة والحكم والنفوذ والجاه، وتنتهك في هذا الصراع كل المحرمات والمقدسات وأولها سمعة المسلم من خلال التسقيط والافتراء والبهتان والكذب وإنتهاءاً بالصراعات المسلحة التي تهلك الحرث والنسل.

ومهما خدع الإنسان الآخرين فانه لا يستطيع أن يخدع الله تعالى ولا نفسه بان هذا الصراع هو نتيجة نزوات وشهوات وأهواء النفس الأمارة بالسوء وطاعة لأوامرها التي يحرّكها الشيطان كيف يشاء، فالدخول في هذه الصراعات والتنافسات انحدار وسقوط وابتعاد عما أراده الله تبارك وتعالى، ومنشأه جهل وغفلة عن غرض وجوده في هذه الدنيا وما يراد منه ومسؤولياته أمام الله تبارك وتعالى وحجته على خلقه.

فليراجع الكيِّس العاقل نفسه وليحاسبها أشد مما يحاسب الشريك شريكه كما ورد في الأحاديث الشريفة .

حديث في الموعظة:

واذكر لكم هنا حديثاً في الموعظة روي عن النبي الكريم عيسى بن مريم سلام الله عليه قال: (في المال ثلاث آفات: أن يأخذه من غير حلِّه , فقيل إن أخذه من حلِّه؟ قال (علیه السلام): يضعه في غير حقه، فقيل: إن وضعه في حقه، فقال: يشغله إصلاحه عن الله تعالى )(2).

ص: 224


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد ضمّ فضلاء مدن محافظة واسط وأبناء الفضيلة فيها يوم السبت 17/ج2/1432 ه المصادف 2011/5/21.
2- كتاب (عقبات الدنيا) من (المحجة البيضاء) للفيض الكاشاني/261.

أقول : ذُكر المال باعتباره أوضح أشكال الدنيا، وإلا فانه ليس الوحيد الذي يقع عليه الصراع، فالسلطة والجاه والنفوذ أقوى تأثيراً من المال، والصراع عليها أشد وأشرس، وأشار الحديث الشريف الى ثلاث أفات تكفي الواحدة منها لإهلاك الإنسان والتسبب الى شقاوة دائمة والعياذ بالله.

في الحلال عتاب:

أولها مصدر هذه الدنيا المطلوبة أي المال هنا بحسب المثال هل إن كسبه مشروع ليس فيه فساد ولا غش ولا أي سبب محرم آخر , وهذه عقبة كؤود ورد فيها أن طلب الدرهم الحلال أهون من ألف ضربة بالسيف وقد لا يحسُّ الشخص بهذه الصعوبة ويجد في الوصف شيئاً من المبالغة لجهله وقصوره وتقصيره، ولكن الحقيقية هي هذه.

وإذا افترضنا أن المصدر كان حلالاً وطريقة الكسب شرعية مئة بالمئة، تأتي المشكلة الثانية وهي كيفية إنفاقه وموارد صرفه، لان الإنسان مستخلف على هذا المال من قبل الله تعالى قال عز من قائل (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) الحديد7 والخليفة المؤتمن على المال يجب أن لا يتجاوز ما حدّده له المالك الحقيقي للمال، وإلا فسيتعرض للمساءلة والعقوبة على المخالفة، كما لو بخل عن الصرف في مورد الأمر، أو صرف في مورد النهي، وحتى لو صرف في مورد محلل لكنه تجاوز الحد المسموح في الصرف بحيث أصبح مسرفاً فقد جاء فيه قوله تعالى(وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأنعام141، أو صرفه في غير مسوّغ عقلائي أو شرعي فأصبح مبذراً قال تعالى فيه (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً , إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) الإسراء26/27، وهذه مرتبة شنيعة أن يكون أخاً وقرينا للشيطان.

الانشغال بالدنيا:

ص: 225

ولو فرضنا انه كان دقيقاً في صرفه وتجنب تلك العقبات المهولة، فانه توجد مشكلة أخرى لا يمكنه التخلص بها وهي الانشغال بمداراة هذا المال وتنميته واستثماره ومداولته ومتابعة السوق والتعامل مع الناس بكل ما يعنيه ذلك من خلافات ونزاعات وحيل ومشاكسات فيشغله ذلك عن ذكر الله تعالى وعن العروج في ملكوته، وكل ما يشغل العبد عن الله تعالى فهو خسران وانحطاط والعياذ بالله تعالى.

هذه هي الدنيا، وهذه ضريبة اللهاث وراءها، والصراع والتنافس على كُل شأن من شؤونها، وأقل ضريبة يدفعها هي انشغال الفكر بالأخذ والرد وتهيئة طرق التغلب على الآخر والتخطيط ووضع المقدمات وحساب النتائج.

الصلاة أول الضحايا:

وأول ضحية هي الصلاة بين يدي الله تعالى وذكره والتفكير في شكره على نعمه , ويضاف إليها القلق والهم , وما يستتبع هذه الخصومة من الكيد والحسد والإيقاع بالآخر , وتستمّر قائمة الموجبات للتعاسة , في أمالي الشيخ الطوسي (v) بسنده عن الإمام الباقر (علیه السلام) عن أبائه (علیهم السلام) قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله) من كثر همه سقم بدنه , ومن ساء خلقه عذَّب نفسه , ومن لاحى الرجال سقطت مروءته وذهبت كرامته , ثم قال (صلى الله عليه وآله) لم يزل جبرئيل ينهاني عن ملاحاة الرجال كما ينهاني عن شرب الخمر وعبادة الأوثان)(1)

ص: 226


1- أمالي الطوسي : 512 المجلس 18 الحديث 1119/بحار الأنوار : 72/326 .

.

التواز ن بين سُبل الإيمان ووسائل الانحراف

اشارة

التواز ن بين سُبل الإيمان ووسائل الانحراف(1)

الفساد ونتيجته:

يتحدث الشباب كثيراً عن انتشار وسائل الفساد والانحراف بتنوعها وتطورها وتأثيرها القوي وضغطها على النفوس، لكن التركيز على هذا الحديث والالتفات إليه فيه معنى إيجابي وآخر سلبي.

أما الإيجابي فهو أن نلتفت إلى هذا الخطر ونشخّص أسبابه ونضع العلاجات النظرية والعملية له، وهي جزء من وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما السلبي فهو ما نخشاه من كون الدافع إلى هذا الكلام هو إعطاء المبررات لضعف النفس وانسياقها وراء الشهوات والمعاصي بحجة الضغط القوي وعدم استطاعة المقاومة.

ونحن لا ننكر انتشار وسائل الفساد وقوة تأثيرها بعد الانفتاح الإعلامي وتطوّر وسائل الاتصالات وتقنياتها العالية، لكن مقتضى العدل الإلهي انه كلما قويت شوكة الفساد والانحراف والضلال فإن سبل الإيمان وطاعة الله تبارك وتعالى تقوى بموازاتها بحيث تحصل حالة من التوازن وتكون حالة الاختيار والإرادة متعادلة بكلا الاتجاهين تطبيقاً لقوله تعالى (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال42) (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد10) (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان 3).

اللطف الإلهي يقتضي زيادة سبل الإيمان:

ص: 227


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة الاعداديات في قضاء الرفاعي مع بعض أساتذتهم يوم الخميس 21/ذق/1432 الموافق 2011/10/20م.

بل أن مقتضى اللطف والكرم الإلهيين ورحمة الله الواسعة زيادة وسائل الإيمان وأدواته وتحبيبه إلى القلوب وتزيينه إلى النفوس (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) (الحجرات/7).

ومن الشواهد عليه ما نطقت به الآيات والروايات الشريفة من أن الحسنة بعشر أمثالها (وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ) البقرة261، ومن همّ بالحسنة ولم يفعلها كتبت له حسنة ومن عمل سيئة لم تكتب عليه واعطي مهلة للتوبة والاستغفار، فإن لم يتب ولم يندم كتبت عليه بواحدة ويمحوها الاستغفار والتوبة والقيام بالأعمال الصالحة، فالجزاء على الحسنة أضعاف العقاب على السيئة.إذن التركيز على قوة انتشار وسائل الفساد والانحراف مما لا ينبغي الانشغال به، وامام كل هذه الوسائل بدائل مشابهة للإيمان والصلاح، فإذا قلت انه توجد قنوات فضائية كثيرة للفسق والفجور فإن فضائيات كثيرة أيضاً للهداية والصلاح والوعظ وفيها تنوع في البرامج بين المحاضرات والحوارات النافعة والندوات وغيرها.

وإذا قلت أن مجلات وصحف الفساد منتشرة قلنا أن كتب ومجلات وصحف الهداية والرشاد أكثر منها وبتنوع كبير وتخاطب جميع الفئات والشرائح وفيها مرغّبات وإخراج فني جاذب. وهكذا، والإنسان باختياره يختار هذه القناة أو تلك، وهذه المجلة أو تلك.

موعظة للشباب: لنغتنم الفرص

أيها الأحبة: إن أول صدمة يواجهها الإنسان قبل ضغطة القبر ووحشته وحساب منكر ونكير وكل هذه الشدائد العظيمة هو عندما يُفاجأ أنه قد مات، لأنه لا يدري أنه ميّت ويظن أن حالة من الإغماء أو النوم أو فقدان الوعي ونحوها مما تعودّه في الدنيا قد طرأت عليه، حتى ينبّهه الملقن أنه ميت وأن أيامه في الدنيا قد انتهت وهو في أول أيام الآخرة، وحينئذ سيصاب بالصدمة لأن فرصة العمل قد أغلقت أمامه وترك خلفه الكثير مما كان

ص: 228

يستطيع أن يقدمه في سبيل الله تبارك وتعالى لكنه بخل به واليوم تركه وذهب إلى الآخرة (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ...) (الأنعام/94).

وانتم أيها الشباب في قمة العطاء والعمل وعندكم فرصة أن تكونوا ممن يفاخر بكم الله الملائكة إذا استقمتم على طاعة الله تبارك وتعالى والتزمتم بأحكام الشريعة كما ورد في الحديث الشريف، لأن الملائكة مجبولة على الطاعة ومخلوقة لها، أما الشباب فتتنازع فيه قوى الخير والشر وهو بإرادته ولطف الله تبارك وتعالى ينحاز إلى قوى الخير فيكون أفضل عند الله تعالى من الملائكة.

أما إذا كبرتم وتجاوزتم مرحلة الشباب فإن هذا التنافس سيزول موضوعه وتفقدون الفرصة لنيل مثل هذه الخطوة عند الله تبارك وتعالى، ولا تعاد الفرصة ولا تتكرر ولا ينفع الندم والتأسّف فاغتنموها، خصوصاً وإنكم تتمتعون بحرية لا حدود لها من عمل الخير، عكس الفترة التي عاشها الشبابفي ثمانينات القرن الماضي حيث كانت أكثر الفرص معدومة لقسوة النظام وبطشه بكل ما يمّت إلى الدين بصلة، وكنّا نتوقع كل سيء من جلاوزة صدام حينما كنا نقتني الكتاب الديني أو نؤدي الشعائر الدينية، فاشكروا الله تعالى حق شكره واعملوا ما يرضيه سبحانه.

ص: 229

قواعد بناء المستقبل المعنوي للشباب

اشارة

قواعد بناء المستقبل المعنوي للشباب(1)

أسسوا لمستقبلكم المعنوي:

إن الناس خصوصاً الشباب يهتمون عادة ببناء مستقبلهم في هذه الدنيا لضمان حياة كريمة سعيدة لائقة فيسعون لإكمال دراستهم وتحصيل مهنة مناسبة وزوجة صالحة ودار فارهة وسيارة مريحة ونحوها، وهو حق مشروع كفله الله تعالى لكل إنسان لأنه أكرم مخلوق «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...» (الإسراء:70) وضمن له كل ما يحقق له الحياة الكريمة، وهي صفة الدولة الموعودة على يد الإمام المهدي (عج الله تعالى فرجه الشريف) (اللهم إنّا نرغب إليك في دولة كريمة)(2).هذا كله واضح والذي نريد أن نؤسس له في حديثنا هذا هو أنه على الإنسان أن يلتفت إلى وجوب ضم التفكير في إعمار مستقبله المعنوي لتضمين الحياة الكريمة في الآخرة.

أدوات البناء المعنوي:

وهذا البناء له أدوات نظرية وعملية، أي معرفية وتطبيقية، وحديثنا اليوم في الأولى من خلال وضع أُطر و محددات وقواعد تضبط بوصلة حياته وسلوكه العملي، وهذه الأطر والقواعد العامة تُؤخذ من القرآن الكريم والسنة الشريفة والأدعية المباركة وكلمات الحكمة الصادرة من العلماء والعارفين.

ص: 230


1- من حديث سماحة الشيخ (دام ظله) مع حشد من طلبة الجامعات في بغداد يوم الأربعاء 22/ع1/ 1433 المصادف 2012/2/15.
2- مصباح المتهجد: ص581.

القاعدة الأولى:

إن أول آية في القرآن الكريم وهي «بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحِيمِ» هي أول هذه القواعد تتعلم منها أن تفتتح كل أعمالك ومشاريعك وخطواتك باسم الله تعالى ليكون عملك مباركاً، وفي سبيل الله تعالى حتى يكون صالحاً مقبولاً منتجاً، لذا ورد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله): (كُلُّ أمْر ذِي بَال لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ اسْمُ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ)(1)

منقوص لا يحقق أهدافه المرجوّة. فإذا أردت أن تبدأ الطعام فافتتح بالبسملة، وإذا أردت الانطلاق من دارك إلى عملك أو أي شيء آخر فابدأ بالبسملة، وإذا تحركت بالسيارة فابتدأ بالبسملة وهكذا لتكون في رعاية الله تعالى ولطفه وتأييده، وقد ورد في كل ذلك روايات شريفة فراجعها.

القاعدة الثانية:

والآية الثانية بعد البسملة «الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ» قاعدة أخرى، أن الحمد والثناء فعلاً وحقيقة هو لله تبارك وتعالى لأنه مسبب الأسباب ومدبّر الأمور وهو الذي يجري الأمور على يد من يشاء من خلقه، فالحمد والشكر له تبارك وتعالى، فمن الخطأ الشائع أن يقول البعض (لولا فلان لما قضي لي الأمر الفلاني ولما حصل الشيء الكذائي) لأن الله تعالى هو السبب، وهؤلاءالمخلوقون وسائط لإنفاذ التقدير الإلهي، وينبغي شكرهم لما ورد في الحديث عن الإمام الرضا (عليه السلام): (من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل)(2) ولتشجيع سبيل المعروف، لكن في ضمن شكر الله تعالى، وليس على نحو الاستقلالية فقد عُدَّ هذا في بعض الأحاديث من أقسام الشرك الخفي.

ص: 231


1- بحار الأنوار، ج 16، باب 58. نقلا عن تفسير البيان، ج 1، ص 461.
2- عيون أخبار الرضا: ج2 ص24.

فالله تعالى هو الذي أجرى الأمور وفق هذه السنن الطبيعية فالالتفات إليها من دون الله تعالى هو نصف الحقيقة، وتمام الحقيقة أن الله تعالى هو المحرّك الأول وهو المخطّط الأول وهو المدبّر الأول.

القاعدة الثالثة:

وقوله تعالى «إيَّاكَ نَعبُدُ وَإيَّاكَ نَستَعِينُ» قاعدة أخرى، فلا عبادة ولا طاعة إلا لله تبارك وتعالى، ولا نطيع أحداً سواه إلا إذا كانت طاعته من طاعة الله ي معرفية وتطبيعيقيةتبارك وتعالى، قال تعالى في الوالدين «وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا» (العنكبوت:8)، فلا انسياق وراء الشيطان ولا وراء الشهوات ولا وراء التقاليد والأعراف البالية ولا وراء الأيدلوجيات والأجندات البعيدة عن الله تعالى، ولا طاعة لمن يحكم بغير ما أنزل الله تعالى ومن دون الرجوع إلى شريعة الله تبارك وتعالى سواء كانوا قادة سياسيين أو زعماء عشائر أو وجهاء مجتمع أو حتى قادة متلبسين بالدين فإنهم جميعاً أئمة ضلال «يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» (هود: 98).

فأنت أيها الموظف إذا دعاك مدير دائرتك إلى إنجاز عمل فيه فساد وهدر لأموال الشعب فلا تطعه، وأنت أيها الطالب الجامعي وغيره إذا دعتك فتاة إلى علاقة غير شرعية فأرفضها، وأنتِ أيتها المرأة إذا أمركِ زوجكِ بخلع الحجاب أمام الأجانب فأعصيه، وهكذا.

ولا استعانة إلا بالله تعالى لأن بيده أزمّة الأمور وهو المدبّر الحقيقي فالاستعانة بغيره لجوء إلى العاجز الذي لا يملك لنفسه شيئاً إلا ضمن الوسائل الطبيعية التي جعلها الله تعالى، فحينما يمرض الإنسان يذهب إلى الطبيب للمعالجة ولكن مع الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى هو مسبّب الأسباب وهوالطبيب الحقيقي، فإنه هو خلق المواد التي يُصنع منها الدواء وأعطاها القدرة على المعالجة، وهو الذي جعل الجسم يبدي أعراضاً تساعد الطبيب

ص: 232

على تشخيص المرض بدقة، وجعل الجسم يتفاعل مع الطبيب، وأودع في الإنسان القدرات الذهنية التي تمكنه من أن يصبح طبيباً وهكذا فمفاتيح الأمور بيده تبارك وتعالى.

القاعدة الرابعة:

وقوله تعالى «وَتَزَوَّدُواْ فإن خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى» (البقرة:197) تؤسس قاعدة أخرى، فأمامنا رحلة طويلة إلى العالم الآخر الذي نجهل كل شيء عنه، والمسافر يحتاج أن يهيئ مقدمات السفر ولوازمه في هذه الدنيا مع انه سفر قصير معلوم يمكن تلافي أي نقص فيه ولو بمساعدة الآخرين، أما سفر الآخرة فهو حياة دائمة ينشغل فيها كل إنسان عن أمه وأبيه وبنيه وكل متعلقاته، فمن الذي يُعلمنا بما يجب أن نتزود به لهذا السفر؟ إنه الله تبارك وتعالى العالم بحقائق الأمور، فيخبرنا بصدق رحمة بنا أن «خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ» (البقرة:197).

القاعدة الخامسة:

وقوله تعالى «إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ» (البقرة:156) قاعدة أخرى تعلمك أن لا تأسى على شيء يفوتك ولا تبخل بشيء يريده الله تعالى منك حتى نفسك في الجهاد ومالك في دفع الحقوق الشرعية لأنك بالنتيجة أنت وكل ما هو لك يرجع إلى الله تعالى ولا تملك شيئاً من ذلك ولا يبقى لك شيء منه

ص: 233

ما أقبح المؤمن أن تكون له رغبة تُذلُّه

اشارة

ما أقبح المؤمن أن تكون له رغبة تُذلُّه(1)

عرضت في حديث سابق فكرة مهمة وهي توجيه الشباب إلى بناء مستقبلهم المعنوي وأحب الآن أن أستمر في بيانها، وقلنا أن من وسائل ذلك التعرف على الأطر العامة والقواعد التي تحدّد كيفية إعمار هذا المستقبل المعنوي، وهي تؤخذ من القرآن الكريم وأحاديث المعصومين (علیهم السلام) وما رشح من كلمات حكيمة عن العلماء العارفين.

المؤمن عزيز بعزة الله تعالى:

هذا كله ذكرته سابقاً، واليوم أود التعرض لقاعدة أخرى من تلك الأطر والمحددات، وهي كلمة للإمام الحسن العسكري (علیه السلام) قال (ما أقبح المؤمن أن يكون له رغبة تُذّله)(2)، فالكلام مع المؤمن لأنه عزيز بعزة الله تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون/8)، ولا يحق للمؤمن أن يفرط بعزته وكرامته ويمتهنها، فعن الإمام الصادق (علیه السلام) (إنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن كل شيء إلا إذلال نفسه)(3)، أما غير المؤمن فيكفيه ذلة: أنغماسه في المعاصي وانسياقه وراء شهوات النفس وطاعة الشيطان.

ليست المشكلة في أن تكون لنا رغبات:

والحديث الشريف لم ينكر على الإنسان أن تكون له رغبة، لأن الرغبات من النوازع النفسية التي أودعها الله تبارك وتعالى لدى الإنسان –كالخوف- لتدفعه إلى ما ينفعه ويُصلح شأنه ويحميه من الخطر والضرر ولتحفزّه على طلب الكمال، مضافاً إلى ما يأمر به

ص: 234


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع تجمع المهندسين الإسلامي فرع البصرة يوم الجمعة 1/ع2/1433 الموافق 2012/2/24.
2- تحقق العقول: 363.
3- ميزان الحكمة للريشهري: 3/ 441.

العقل، وكأن القناعة التي تحصل من النظر العقلي غير كافية لدفع الإنسان ما لم تتحرك النفس بذلك الاتجاه فانضمت إليه الرغبة، وهذا ما يوحي به معناها الأصلي فإن (أصل الرغبة: السعة في الشيء، يقال: رَغُبَ الشيء: اتسع، والرغبة والرغب: السعة في الإرادة)(1) قال تعالى (وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً) (الأنبياء/ 90).فالمشكلة ليست إذن في أن تكون لك رغبات، وإنما المشكلة في أن تكون للمؤمن رغبة تُذله وتحط من كرامته وتعيق سعيه نحو الكمال، وليس المقصود الرغبة في المعاصي والمحرمات فهذه خارجة عن نطاق الحديث الشريف لأنها غير متصورة في المؤمن، وإنما الكلام في الرغبات المباحة التي تأسر صاحبها وتضغط عليه وتشوش عليه فكره حتى ينهار تحت إلحاحها وضغطها فيرتكب ما لا يليق به.

كالشخص الذي يحب أن تكون له حياة مرفهة كالآخرين من دار مزخرفة وسيارة بأحدث موديل ومصالح مالية ونحوها، فيكرّس تفكيره في الحصول عليها بغضّ النظر عن مشروعية الوسيلة المتخذة لتحقيقها، فيقع في المحرّمات الشرعية والمخالفات القانونية ويتعرض لخسارة الدنيا والآخرة والعار الاجتماعي، كهذا الفساد الذي فاحت رائحته التي تزكم الأنوف من بعض المتصدّين لإدارة أمور العباد والبلاد.

مفهوم الرغبة في القرآن والحديث:

ولذا نزلت الآية الكريمة في وقت مبكر لتحذّّر من هذه الرغبات، قال تعالى (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه/ 131) فالآية الشريفة تشير إلى أن التوسع في طلب الدنيا يكون على حساب الفوز في الآخرة ويكون ثمنه النصب والتعب في الدنيا من أجل أمور زائلة.

من غرر كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) (الرغبة مفتاح النصب) وقال (علیه السلام) (الرغبة في الدنيا توجب المقت) وقال (علیه السلام) (الراغب: دعته إلى الدنيا نفسه فأجابها، وأمرته بإيثارها فأطاعها، فدنّس بها عرضه، ووضع لها شرفه وضيَّع لها آخرته) وقال (علیه السلام) (إن النفس

ص: 235


1- المفردات للراغب: ص358 مادة (رغب).

التي تطلب الرغائب الفانية لتهلك في طلبها وتشقى في منقلبها) وقال (علیه السلام) (أكرم نفسك عن كل دنيّة وإن ساقتك إلى الرغائب فإنك لن تعتاض عما تبذل من نفسك عوضاً) وقال (علیه السلام) (إن الدنيا كالشبكة تلتف على من رغب فيها)(1).

الحذر من الانسياق وراء الرغبات:

إن الكثير من الوقائع والحوادث تشهد على نتيجة مفادها أنّ من ينساق وراء رغباته بدون تعقل وحكمة وحساب للعواقب يخسر ويسقط في النهاية كبعضالطامحين بالشهرة الذين يقومون بمغامرات الصعود إلى هملايا أو مصارعة الحيوانات الهائجة أو قيادة السيارات بجنون، أو القفز من ارتفاع شاهق ونحوها فيُقتلون دونها، وكالكثير من المصابين بجنون العظمة الذي يريدون أن يتسيدوا على الناس ويتسلطوا فيهلكون الحرث والنسل ويهلكون أنفسهم من أجل هذه النزوات الحمقاء.

ما الذي دفع بأولئك المتمردين على رسول الله (صلی الله علیه و آله) حتى منعوه من كتابة وصيته في رزية يوم الخميس ثم انقلبوا على أعقابهم بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وفتحوا باب الفتنة والشقاق والخلاف والتقاتل إلى قيام يوم الساعة فحملوا على ظهورهم كل هذه الأوزار: انه الانسياق وراء الرغبات المذلّة المهينة رغم مخالفتها لشريعة الله تبارك وتعالى.

قصة عن الرغبة المذلة:

وإذا أردتُ أن أذكر مثالاً على هذا الحديث الشريف فهم بعض المبتلين بالعادة المشهورة التي تحولّت إلى ظاهرة تسعى كل الدول إلى تحجيمها والتحذير منها وهي التدخين، يروي بعض أفاضل الخطباء والكتّاب انه في موسم من مواسم الحج المباركة حدّثه أحد المؤمنين الذين كانوا قد عانوا آلام السجون ومحنة التعذيب، أن مؤمناً كان ثابتاً على موقفه، وواجه جلاّديه بشجاعة نادرة أذهلت الجميع، ولما تعب أحد الجلاّدين من تعذيب هذا المؤمن،

ص: 236


1- هذا الحديث والأحاديث التي سبقته في غرر الحكم: 25، 48، 86، 132، 179، 191.

راح يترجم حنقه على هذا المعذب بشرب سيكارة، وإذا بالمعذَّب ينهار لرؤية الدخان، فناداه متوسلاً، سيدي ناولني سيكارة!! فدهش الجلّاد وقال: على أن تتكلم بما تعرف! فقال: أجل وما هي إلا لحظات حتى اعترف ذلك الرجل على خمسين مؤمناً جاء بهم إلى ساحات التعذيب وأثكل عوائلهم وسبب الألم واليتم لأطفالهم.

اعرضوا رغباتكم على رضا الله تعالى:

فعلينا –أيها الأحبة- أن نعرض رغباتنا على ما يريده الله تبارك وتعالى فننفذ منها ما يرضيه عز وجل ونعرض عمّا يسخطه أو يبعدنا عنه ويعرقل سيرنا نحو تبارك وتعالى، فالرغبة في الشيء بقدر الأعراض عن نقيضه، قال أميرالمؤمنين (أصل الزهد حسن الرغبة فيما عند الله) وقال (علیه السلام) (إن الزهد في الجهل بقدر الرغبة في العقل).(1)

وهذه الرغائب الحقيقية يمكن نيلها بالتقوى والصبر والعمل الدؤوب والمعرفة، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (إن تقوى الله.. بها تنال الرغائب) وقال (علیه السلام) (بالصبر تدرك الرغائب) وقال (علیه السلام) (توكّلوا على الله عند ركعتي الفجر بعد فراغكم منها ففيها تعطى الرغائب).(2)

نحتاج الى الإرادة لنسيطر على الرغبات:

وتحتاج أيضاً إلى إرادة للسيطرة على جموح الرغبات، يروى أن أحد العلماء أصيب بمرض صدري فأمره الطبيب بالإقلاع عن التدخين، فقال العالم: لا أستطيع ذلك، فاستغرب الطبيب منه، وقال أنتم تطالبون شارب الخمر بتركها وقد أدمن عليها وأصبحت جزءاً من بدنه، وتطالبون معاقري اللهو والمجون والليالي الحمراء بتركها وهو يجد لذته وأنسه فيها

ص: 237


1- غرر الحكم: 160، 174.
2- غرر الحكم: 186، 322، 345.

وأنت تقول: لا استطيع، فاستحيا العالم وأصر على ترك التدخين، ومن الله تعالى نستمد العون والتسديد والتوفيق.

ص: 238

على الخريجين أن يخططوا لمستقبلهم بالمشاريع المادية و المعنوية

اشارة

على الخريجين أن يخططوا لمستقبلهم بالمشاريع المادية و المعنوية(1)

رسم معالم المستقبل:

لاشك إنكم ترسمون لأنفسكم الآن مستقبلاً يتضمن تلبية احتياجاتكم الأساسية في الحياة الدنيا كالوظيفة الشريفة والزواج السعيد والسكن اللائق وهو حق وضروري، ولا تتكامل سعادة الإنسان التي هي هدف الشرائع السماوية إلا بها.

ولكن لا تغفلوا عن مشاريعكم المعنوية أيضاً بزيادة العلم والمعرفة والبصيرة بالأمور والسعي في أعمال الخير للأمة ودعم المشاريع الصالحة والمشاركة فيها.

وليس صحيحاً أن أقول إن المشاريع الأولى للدنيا وهذه للآخرة بل إنها جميعاً يمكن توظيفها للآخرة والقرب من الله تعالى مع توفر النية المخلصة والسلوك النظيف لذا سميتها المادية والمعنوية.

الاهتمام بالزواج:

واهتموا كثيراً بالزواج وسهّلوا متطلباته بالتعاون مع النساء وأولياء الأمور، كما نقل لي إن عدد من المؤمنات الموظفات في سلك التعليم نظمن سلفة بينهن بمليوني دينار يعطينها للرجل الذي يتقدم لخطبة أي واحدة منهن، وقد أكبرت هذه الخطوة الشجاعة الحكيمة التي تساهم في حل المشكلة الجنسية كما يسمونها.

ص: 239


1- نشر في الصفحة الأولى من العدد (25) الصادر بتأريخ 9 جمادى الأولى 1426 الموافق 16 حزيران 2005. حيث التقى سماحة الشيخ (دامت تأييداته) فيها بعدد من طلبة المعهد التقني في الكوفة والذين اشرفوا على التخرج.

محدودية الأهداف الدنيوية:

إن الأهداف الدنيوية محدودة وتنتهي، ويصل الإنسان إلى اللحظة التي يشعر انه كان يجري وراء سراب ووهم، إما الأهداف المعنوية فهي مفتوحة نحو الكمال ولا حدود لها لأنها تتوجه نحو اللامحدود.

من الأمثلة لذلك:

مثلاً أغنى رجل في العالم الملياردير (بيل غيتس) مالك شركة مايكروسوفت فهو يملك مليارات الدولارات لكنه قال لأطبائه النفسيين ومستشاريه أني متألم لأني لا أجد فرقاً بيني وبين من يملك مئات الملايين من الدولارات فكلانا يركب احدث سيارة ويسكن أجمل قصر ويتمتع بألذ المأكولات وأنا أريد أن أتميّز عنهم فقال له أحد استشاريه يمكنك الامتياز عنهم بالتوجه نحو مشاريع الخير والإحسان والأعمال الإنسانية فأنها واسعة، وهي نصيحة حكيمة.

ويروى أن عبد الملك بن مروان الطاغية المتكبر الذي يمثل الحجاج الثقفي المجرم السفاك إحدى سيئاته اطلع من شرفة قصره قبيل موته فرأى قصّاراً يغسل الثياب على النهر، فتمنى لو كان مثله ولا يتورط بهذا الملك الظالم المهلك، ولما وصلت الكلمة إلى القصّار قال الحمد لله الذي جعلهم يتمنون ما نحن فيه عندما ينزل بهم الموت ولا نتمنى ما هم فيه إذا نزل بنا الموت.

ص: 240

الفصل السادس: مواعظ وتوجيهات في رأس السنة

اشارة

ص: 241

ص: 242

موعظة في ورأس السنة الميلادية

اشارة

موعظة في ورأس السنة الميلادية(1)

يحتفل الأخوة المسيحيون وغيرهم في مثل هذه الأيام بعيد ميلاد السيد المسيح ورأس السنة الميلادية، ويعبّرون عن فرحهم باحتفالات صاخبة تتضمن الكثير من المعاصي والموبقات الكبيرة والأفعال الجنونية التي لا يجد لها العقلاء مبرراً، ولم يقف أحد وقفة تأمّل ليرى هل أن هذه المظاهر تعبير صحيح عن الفرح في هذه المناسبة؟ وما هي المشاعر الحقيقية التي يجب أن تغمرنا ونحن نعيش هذه الذكريات المرتبطة بواحدٍ من أعظم البشر على الإطلاق، النبي الكريم والرسول العظيم، وأحد أولي العزم الذين أمر الله تعالى نبيّه الكريم محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتأسى بهم قال تعالىفي حقه (عليه السلام): «فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ»(الأحقاف:35).

الأمور التي يجب الالتفات لها:

لذا وجب الالتفات إلى عدة نقاط:

أحذروا المعاصي:

النقطة الأولى: إنّ إتيان المعاصي والمنكرات أمر مرفوض دائماً تعاقب عليه الشرائع ويستهجنه العقلاء، فليس جزاء من أحسن إليك وأغدق عليك النعم حتى فاقت حدّ الإحصاء، كما في قوله تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تحْصُوهَا»(النحل:18) ويكفي أن تتخيّل صعوبة فقدان نعمة واحدة(2) من التي حباك الله بها لتحس بعظمتها.

ص: 243


1- من محاضرتين ألقيتا بتأريخ 1- 2/ذي القعدة/1423 ه المصادف 5- 6 / 1 / 2003م في مسجد الرأس الشريف على حشد كبير من طلبة العلوم الدينية.
2- كنعمة الصحة والأمان.

أقول: فليس جزاءه أن تعصيه وبنفس النعم التي منّ بها عليك، قال تعالى مؤنّباً ومعاتباً: «هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلاّ الإحْسَانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ»(الرحمن:60-61)، فالمرجو من الإنسان العاقل أن يشكر الله على نعمته بطاعته ومحبته، والعمل بما يرضيه وتجنب ما يسخطه، وأولها ديمومة النعم وزيادتها (بالشكر تدوم النعم)، وقال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُم»(إبراهيم:7)، ويوم رأس السنة من مواطن الشكر حيث أطال الله عمر هذا (المحتفل) وأبقاه إلى سنة جديدة ليعطيه فرصة إضافية للتوبة والعودة للطاعة، وزيادة القرب من الله تعالى، ولم يكن ممن اختطفهم الأجل خلال العام المنقضي وانسدّ عليهم هذا الباب، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال: (من مات فقد قامت قيامته)(1)؛ لأنّ فرصته للعمل وكسب الحسنات قد انتهت وختم على كتابه قال تعالى: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(الجاثية:29)، فهل يكون الجزاء العصيان والتمرد؟ وإلى أمثال هؤلاء يشير القرآن الكريم: «أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ»(إبراهيم:28-29).

والمعاصي التي تُرتكب في ليلة رأس السنة تفوق كلّ الليالي والأيام ويُعدّ لها منذ مدة إعداداً شيطانياً محكماً لا يُبقي للعقل أي وجود، ويبقى الإنسانالمخدوع أسير شهوته وأهوائه لا يستطيع النجاة من فخوخ شياطين الإنس والجن.

كيف يجب أن تكون مشاعرنا:

إنّ مشاعرنا ونحن نستقبل سنة جديدة يجب أن تكون مزيجاً من اتجاهين:

الأول: توجّس وقلق من حساب الله تعالى على ما صدر منّا من أعمال خلال العام الماضي، وقد ذهبت لذّته، وبقيت تبعته وعقابه، وقد نسيه العبد لغفلته، ولكن الله أحصاه وأحاط به، ولن يغفل عنه ويأتي اليوم الذي يحاسبه فيه على كلّ ما قدم.

ص: 244


1- البحار: ج58 ص7.

الثاني: التفاؤل والأمل وحسن الظن بالله تعالى أن يلطف بنا ويوفقنا ويأخذ بأيدينا في العام الجديد ليجعله خيراً من العام الماضي، فيجنّبنا فيه المعاصي ويزيدنا من الطاعات قدر الإمكان انطلاقاً من الحديث الشريف عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (من اعتدل يوماه فهو مغبون ومن كان غده شراً من يومه فهو ملعون)(1).

فإن كلّ سنة تمثل سجلاً وكتاباً يضم صحائف أعماله، وفي مثل ليلة رأس السنة يطوى سجل ويفتح سجل، يطوى سجل العام الماضي ويختم عليه بما فيه - وما أدراك ما فيه - ليعرض يوم النشور ويُحاسب على كلّ صغيرة وكبيرة، قال تعالى: «وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً»(الكهف:49)، ويفتح سجل للعام اللاحق بصحائف بيضاء؛ فبماذا سيملؤها هذا الإنسان المسكين؟ هل سيعود إلى نفس حياته السابقة أم أنهّ يثوب إلى رشده ويأخذ العبرة من الماضي؟

العمر رأس مال الإنسان:

بالالتفات إلى أن زيادة كلّ ثانية ودقيقة إلى عمره يعني إعطاء فرصة إضافية للطاعة، فإن العمر رأس مال الإنسان يستطيع أن يستثمره في الطاعة، فيكسب رضا الله تبارك وتعالى والمنازل الرفيعة في الجنان، وصحبة خير خلق الله أو يقضيها بالمعاصي فيجرّ إلى نفسه عذاب الجحيم، وهذه الفرصة الإضافية التي تعطى للإنسان كالطالب الذي يُعطى حظاً ثانياً في امتحاناتالدور الثاني لعلّه ينجح(2)، فهل يُعقل منه أن يعود إلى نفس التقصير والإهمال وهو يعلم الكارثة التي تترتب على السقوط والفشل؟!

ص: 245


1- تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام): ص349.
2- أليس هذا فضلاً من إدارة المدرسة ولطفاً منها لتستطيع أن تعوض ما ضيعته في الدور الأول، وهكذا نحن إذا لم نستطيع أن نحصل على درجات رفيعة سنة 2002م، فلنسعَ للحصول عليها سنة 2003م.

موعظة قرآنية:

وأرى من المناسب أن أعظ نفسي وأعظكم بنقل هذا المشهد من مشاهد يوم القيامة كما يعرضه القرآن الكريم، وهو عبارة عن محكمة إلهية يقف فيها المذنب - وهم هؤلاء الذين قضوا حياتهم بالمعاصي والموبقات - وأمامه الشهود وهم نفس أعضائه التي مارس بها تلك المعاصي لكي لا يستكبر وينكر، ثمّ يُصدر عليه الحكم العادل الذي جناه هو على نفسه، قال تعالى: «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون ،وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون ، وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، فإن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ،وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ»(فصلت:20-25).

هذه هي المشاعر التي يجب أن نحياها في ليلة رأس السنة، لا ما يفعله هؤلاء الغافلون السادرون في أودية الغي تسوقهم شياطين الإنس والجن أنىّ يشاءون، فيهدوهم إلى عذاب السعير.

المطلوب محاسبة النفس كل ليلة:

وفي الحقيقة فإن المطلوب أن نحاسب أنفسنا في كلّ ليلة(1)؛ حيث نختلي بأنفسنا مع خالقنا ونستعيد ما صدر منا خلال اليوم، فما كان من حسنةاستزدنا الله منها وسألناه القبول ومضاعفة الأجر، وما كان من سيئة استغفرناه منها وعاهدناه تبارك وتعالى على عدم

ص: 246


1- وذلك لأن الإنسان معرض للنسيان فإذا ما أهمل محاسبة نفسه فستفوته فرصة قد تنجيه من عذاب أليم ولهذا حرص أهل البيت (عليهم السلام) على أن يربوّا أصحابهم على محاسبة النفس كلّ يوم.

العود، وإذا تعلق بمظالم العباد استعنّاه على رد الظلامات إلى أهلها، وما كان من تقصير في عمل صالح سألناه المعونة والتوفيق والتسديد، فلقد جاء عن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: (ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه)(1)، وأيضاً من وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر (رضي الله عنه) إنهّ قال: (يا أبا ذر، حاسب نفسك قبل أن تحاسب؛ فإنه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية - إلى أن قال - يا أبا ذر، لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشّد من محاسبة الشريك شريكه؛ فيعلم من أين مطعمه ومن أين مشربه، ومن أين ملبسه؟ أمن حلالٍ أو من حرام؟ يا أبا ذر، من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أين أدخله النار)(2)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: (ما من يوم يأتي على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فافعل فيَّ خيراً واعمل فيَّ خيراً أشهد لك يوم القيامة فإنك لن تراني بعدها أبداً)(3)، وهذه المحاسبة تكون في نهاية السنة أشمل وأوسع كما يفعل الإعلاميون حين يصدرون ملفاً بأهم الأحداث السياسية أو الرياضية أو الاجتماعية التي شهدها العام المنقضي، وعلى كلّ واحد منّا أن يُراجع ملف أعماله في نهاية العام.

الموعظة ليست للمسلمين فقط:

وهذه الموعظة لا أوجهها للمسلمين فقط، بل للاخوة المسيحيين، بل وحتى غيرهم، فقد أدّبنا الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) أن نضمر الخير والرحمة ونسعى لتحقيقه لجميع البشر، قال تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً

ص: 247


1- بحار الأنوار: 68 / 259، ح3.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 96، ح7.
3- بحار الأنوار: 7 / 325، 20.

لِلْعَالَمِينَ»(الأنبياء:107)، فبركته (صلى الله عليه وآله وسلم) لجميع الإنسانية، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يوصي مالك الأشتر بجميع رعيته حينما ولاّه مصر: (فالناسصنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق)(1) لأنّ البشر جميعاً سيقومون للحساب يوم القيامة، ويُسألون عن أعمالهم، فلقد جاء في الذكر الحكيم: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً»(مريم:71-72)، فنحن نريد لهم النجاة، وقال تعالى: «وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً»(النساء:60) فقد غرّر بهم الكثير من أحبارهم ورهبانهم، وزيّنوا لهم المعاصي، وأحلوا لهم الحرام وحرّموا الحلال، وبّدلوا شريعة الله، ثمّ أوهموهم بعقائد فاسدة كفداء السيد المسيح، وصكوك الغفران التي جرأتهم على العصيان، وقد حذّرهم الله تعالى من هذه الطاعة للذين اتخذوا الدين وسيلة لنيل الدنيا التافهة، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»(التوبة:34)، وطاعة مثل هؤلاء شرك بالله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه»(التوبة:31)

وقد فسّرها الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: (أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم(2) من حيث لا يشعرون)(3).

وأعتقد أنّ كلّ مسيحي نقي القلب والسريرة يعرف بوضوح أنّ الكثير مما غضّ عنه رجال دينهم أنظارهم هي معاصي لله تبارك وتعالى، ويتساءل سيدنا الأستاذ (قدس سره) في بعض خطبه: هل كان السيد المسيح يشرب الخمر، أو يزني، أو يستبيح دماء البشر من أجل المصالح الشخصية وحب الأنا؟ أم هل كانت مريم العذراء ترتمي في أحضان الرجال

ص: 248


1- نهج البلاغة: ج3 ص84، من عهده (عليه السلام) لمالك الأشتر.
2- والعبادة هي الطاعة والإتباع وقد تبعوا الرهبان ولم يتبعوا الله تعالى.
3- الميزان في تفسير القرآن: 9 / 254، عن الكافي.

وتمشي وسطهم خليعة متبرجة؟ فالمسيحي الصادق يقتدي بهؤلاء الأنقياء العظماء، ولا يجد دستوراً كاملاً للصفات الكريمة التي تلحق بهم إلا في الإسلام إذا أراد لنفسه النجاة.

ص: 249

الاحتفال في رأس السنة لمن استثمر وقته خلالها

اشارة

الاحتفال في رأس السنة لمن استثمر وقته خلالها(1)

لنستحضر الموعظة في كل الأوقات:

من كلمات الإمام الحسن السبط المجتبى (علیه السلام) وقد مرّ في يوم فطر بقومٍ يلعبون ويضحكون، فوقف على رؤوسهم فقال: (إنّ الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه فيستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وقصّر آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من ضاحك لاعبٍ في اليوم الذييُثابُ فيه المحسنون ويخسرُ فيه المبطلون، وأيم الله لو كشف الغطاء لعلموا أنّ المحسن مشغولٌ بإحسانه والمسيء مشغولٌ بإساءته)(2) ثمّ مضى (علیه السلام).

علينا أن نستحضر هذه الموعظة في كل لحظات حياتنا، لأنّها كلّها مضمار للتنافس واستباق الخيرات لنيل أفضل الدرجات عند الله تعالى وها نحن اليوم في نهاية سنة ميلادية 2011 –وفق حساباتهم- وعلى أبواب سنة جديدة 2012 بإذن الله تعالى وقد كانت السنة المنقضية مضماراً تسابق فيه الخلق فالعجب كل العجب مما يشهده العالم من شرقه إلى غربه من احتفالات صاخبة بمناسبة يسمونها رأس السنة الميلادية، وتهدر فيها المليارات من الدولارات، وتُعطّل فيها الأعمال عدة أيام في بعض الدول، وهذه خسائر إضافية، وتعرض الفعاليات المنوّعة كالألعاب النارية والرقص والغناء والحفلات الماجنة، ويشارك

ص: 250


1- من حديث سماحة الشيخ (دام ظله) مع طلبة جامعة الصدر الدينية فرع الكرخ الثانية في بغداد/ حي المعارف يوم الثلاثاء 2/صفر/1433 الموافق 2011/12/27 ومع فرع كربلاء وحشد من ابنائها يوم الأحد 7/صفر/1433 الموافق 2012/1/1.
2- البحار: ج75 ص110.

فيها المسلمون أيضاً من دون مراعاة لأخلاقهم وتعاليم دينهم ووصايا أئمتهم، وفي مثل هذه السنة 2012 سيكون أولها يوم استشهاد الإمام الحسن السبط المجتبى (علیه السلام).

وقد توسّع الاحتفال ليشمل كل شخص بعيد ميلاده السنوي.

الفرح المذموم:

وبغضّ النظر عن الأخطاء المتعددة في التاريخ الميلادي الذي بيّناه في بعض محاضراتنا السابقة من حيث السنة والشهر واليوم، فإننا نريد أن نتساءل عن معنى هذا الاحتفالات والفرح والسرور، وهل لها واقعية أم لا؟

إذ إننا نجد أن الأحرى بهم أن يحزنوا ويندموا ويتأسفوا لأن سنة مرّت عليهم ونقصت من أعمارهم، مما يعني أنهم اقتربوا من آجالهم من دون أن يستعدوا لها، بل عملوا على عكس ما يراد منهم وضيّعوا هذا الرصيد الذي تُشترى به الجنة ورضا الله تبارك وتعالى، واشتروا به سخط الله تعالى والنيران إلا من شملهُ الله تعالى بلطفه ورعايته الخاصة، فكانت الحياة لمثله زيادة له في كل خير كما في أدعية الإمام السجاد (علیه السلام)، ومع ذلك فإنه (علیه السلام) يقف بين يدي ربّه ذليلاً متواضعاً ويقول (ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن استحيي من ربي)(1).

إنما أنت عدد أيام:

إن الإنسان عبارة عن رصيد من السنين والأيام يقدرها الله تبارك وتعالى فكلما انقضى يوم أو مرّت سنة فانه يعني أنه فقد جزءاً منه حتى ينتهي بالموت ويصبح بلا قيمة إلا بمقدار ما قدّم لآخرته، مثل رصيد الهواتف المحمولة الذي يساوي عدداً من الدقائق فكل دقيقة من الاتصال تعني ذهاب جزء منه، قال أمير المؤمنين (علیه السلام) (إنما أنت عدد أيام فكل

ص: 251


1- الصحيفة السجادية: ص177..

يوم يمضي عليك يمضي ببعضك فحفّض في الطلب وأجمل في المكسب) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (علیه السلام) (العمر أنفاس معددة)(1) وعنه (علیه السلام) (نفس المرء خطاه إلى قبره)(2).

اهتمام الشارع المقدس بالوقت:

وقد تحدثنا في كلمة سابقة عن أهمية الوقت وضرورة اشغاله بما يحقق رضا الله تبارك وتعالى ويقرّبنا منه لأنه هو الثمن الوحيد الذي يستحق صرف العمر فيه.

وقد اهتمّ الشارع المقدس بالوقت وربط به أغلب فعالياته ليكون الانسان ملتفتاً إليه ومراقباً له حتى لا يضيع منه، فالصلاة التي هي عمود الدين لها أوقات خمسة محددة يومياً تجب مراعاتها وفي ذلك قول الإمام الصادق (علیه السلام) (امتحنوا شيعتنا... عند مواقيت الصلاة)(3) أي ليس المطلوب منه المحافظة على أصل الصلاة فقط بل على أوقاتها الخمسة، وهكذا بقية الطاعات فالصوم مرتبط بشهر رمضان في عدد أيامه وبالفجر والغروب يومياً، والحج مرتبط بأشهر الحج وأيامه، والخمس والزكاة مرتبطان بالحول، وهناك الشعائر الدينية والمناسبات والأدعية والزيارات المرتبطة بالأوقات، حتى جعل لكل يوم من أيام الأسبوع دعاء وكل يوم من أيام الشهر دعاء بل لكل ساعة من ساعات الليل والنهار دعاء، وكانت بعض الأوقات تعرف ببعض الأوراد المقرّرة لها، كالذي نقل عن بني الحسن (علیه السلام) في سجن المنصور العباسيأنهم كانوا يعرفون أوقات الصلاة بأوراد مرتبة لعلي بن الحسن المثلث حفيد الإمام السبط (علیه السلام).

الوصية بالاهتمام بالوقت:

ص: 252


1- ميزان الحكمة: ج3 ص2112.
2- نهج البلاغة: الحكمة: 74.
3- الخصال: ص103.

وللقيمة الكبرى للوقت فقد وردت الوصايا باغتنامه واستثماره، كما في وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (0) (يا أبا ذر: اغتنم خمساً قبل خمس، شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك)(1) وفيها (يا أبا ذر نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)(2).

إنما أنت ابن ساعتك:

قد يتصوّر الإنسان صعوبة الاستمرار على الطاعة وان ادامتها شاقة لا تطاق وهذا نابع من غفلته، ويهوّل الشيطان له هذا الأمر، اما الواقع فهو خلاف ذلك لأنه لا يعيش عمره كله في هذه اللحظة حتى يستحضر كل الصعوبات فيها، بل هو يعيش لحظته وهي مما لا يعسر تحمّل العمل فيها، أما الزمان السابق فقد مرّ وانتهى، والزمان اللاحق لم يأت بعد فلماذا يحمل همَّه، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) (إن عمرك وقتك الذي أنت فيه)(3) وقال (علیه السلام) (المرء ابن ساعته)(4). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (انما الدنيا ثلاثة أيام يوم مضى بما فيه فليس بعائد ويوم أنت فيه يحق عليك اغتنامه ويوم لا تدرى من اهله ولعلك راحل فيه، واما أمس فحكيم مؤدب واما اليوم فصديق مودع واما غداً فإنما في يديك منه الامل ... وإياك والاغترار بالأمل ولا يدخل عليك اليوم هم غد ... أو لا ترى ان الدنيا ساعة بين ساعتين ساعة مضت وساعة بقيت وساعة أنت فيها)(5). وفي الحديث الشريف: (الطاعة صبر ساعة).

مضيعات العمر:

ص: 253


1- جامع أحاديث الشيعة: ج1 ص423.
2- السابق: ج14 ص316.
3- ميزان الحكمة: ج3 ص2112.
4- عيون الحكم والمواعظ: ص50.
5- جامع أحاديث الشيعة: ج13 ص261.

ولأن الله تعالى يعلم إن الإنسان تعتريه الغفلة والنسيان والكسل مما يضيع عليه كثيراً من رأسماله الثمين وهو عمره ووقته، مضافاً إلى النوم الذي هو ضروري للبدن لكن كثرته مذمومة وهو من أوسع أسباب تضييع العمر فإنه يستغرق ثلث العمر أو أكثر أي عشرين سنة ممن عمره ستون سنة، لذا ورد عن الإمام الكاظم (علیه السلام) (إن الله عز وجل يبغض العبد النوّام الفارغ)(1) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (علیه السلام) (اربعٌ القليل منها كثير: النار والنوم والمرض والعداوة)(2) وفيها (بئس الغريم النوم يفني قصير العمر ويفوّت كثير الأجر)(3).

مزيدات العمر:

أقول لأن الله تعالى يعلم ذلك من الإنسان فقد دلّه بكرمه على ما يحوّل هذا النوم إلى وقت مثمر بأن ينام على طهور حتّى ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (من تطهر ثم آوى الى فراشه بات وفراشه كمسجد)(4)، وعن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من نام على الوضوء ان أدركه الموت في ليله مات شهيداً)(5)، خصوصاً إذا سبقه بتلاوة بعض الآيات والأدعية المباركة وان لا يتجاوز المقدار اللازم لتجديد نشاط البدن، وورد في نوم الصائم في شهر رمضان (ونومكم فيه عبادة)(6).

كما ورد التطمين بلطف الله تعالى وكرمه أن من ضيّع جزءاً من عمره بما لا ينفع وقد يضرّ فإن الله تعالى سيكتبه عمراً صالحاً إذا رجع إلى ربّه والتفت وأصلح حاله فيما استقبل من عمره، عن النبي (صلی الله علیه و آله) (من أحسن فيما بقي من عمره لم يؤاخذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر)(7)، قال تعالى: «إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً

ص: 254


1- الكافي: ج5 ص84.
2- أنظر:عيون الحكم والمواعظ للواسطي: ص73، البحار: ج75 ص205.
3- مستدرك الوسائل: ج13 ص44.
4- الوافي: ج9 ص1399.
5- مستدرك الوسائل: ج1 ص296.
6- مفاتيح الجنان: خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ص208.
7- بحار الأنوار: ج77 ص113.

»(الفرقان:70)، هذا كله مضافاً إلى ما ذكرناه في المحاضرة السابقة من إعطاء عمر جديد فوق العمر الطبيعي يستزيد فيه من الخيرات بعد الموت ولا ينقطع عمله به.

العمر الطويل:

ولأهمية حياة الإنسان وعمره في اكتساب الطاعات وإنه كلما زاد عمره كثرت فرص الطاعة عنده وتحقيق السعادة قال النبي (صلی الله علیه و آله): (خير الناس من طال عمره وحسن خلقه)(1) وفي غرر الحكم لأمير المؤمنين (علیه السلام) (من سعادة المرء أن يطول عمره ويرى في أعدائه ما يسرّه)(2).

مطولات العمر المادية:

لقد قدّم لنا الأئمة المعصومون الأسباب المادية والمعنوية لإطالة العمر، وأعني بالمادية: ما يحفظ صحة البدن ويجنّبه ما يضرّه ويديم قدرته على القيام بالطاعات كالتوازن في الطعام والشراب كما وكيفا قال تعالى «وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»الأعراف31.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما ملأ الآدمي وعاءً شراً من بطنه) والوصية بالصوم، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (صوموا تصحوا)(3) واستحباب صيام ثلاثة أيام في الشهر وهو عين ما توصل إليه العلم الحديث تواً حيث نصحوا بالامساك عن الطعام يوماً كل عشرة أيام للحفاظ على الصحة، مضافاً إلى الوصايا الكثيرة في تناول

ص: 255


1- سنن الترمذي: 2330.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج20 ص302.
3- البحار: ج59 ص267.

أطعمة وأشربة معينة وتجنب غيرها وكذلك الأمر ببعض الحالات والفعاليات الحياتية وتجنب غيرها مما لسنا بصدده(1).

مطولات العمر المعنوية:

وأما الوصايا المعنوية فمنها الدعاء باطالة العمر في خير وعافية وسعة رزق وسلامة في الحواس وأن يكون كل ذلك مكرساً لطاعة الله تعالى وطلب رضاه (اجعل قوتي في طاعتك ونشاطي في عبادتك) (سلامة أقوى بها على طاعتك)(2) ومن المعنوية لإطالة العمر ما ذكرته الأحاديث الشريفة كقول النبي (صلى الله عليه وآله) (اكثر من الوضوء يزيد الله في عمرك)(3) وقوله (صلی الله علیه و آله) (من سرّه أن يُبسَط في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه)(4) وعن أمير المؤمنين (علیه السلام): (مَن أرادَ البَقاءَ - ولا بَقاءَ - فَليُباكِرِ الغِذاءَ، وَليُؤَخِّرِ العَشاءَ، وَليُقِلَّ غِشيانَ النِّساءِ، وَليُخَفِّفِ الرِّداءَ)(5) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) (من حسنت نيته زيد في عمره) (6) وعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (من حسن بره بأهل بيته زيد في عمره)(7).

الطريق الأمثل لاستثمار الوقت:

ص: 256


1- راجع كتاب (مكارم الأخلاق) للطبرسي وكتاب الأطعمة والأشربة من وسائل الشيعة.
2- من دعائي الأربعاء والخميس في الصحيفة السجادية.
3- بحار الأنوار: 69/ 396.
4- بحار الأنوار: 74/89.
5- عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ): ج 2 ص 38.
6- بحار الأنوار: 69/ 408.
7- بحار الأنوار: 70م 205.

إن الطريق لتحقيق الاستثمار الأمثل للوقت هو في المبادرة إلى العمل وعدم التسويف والتأجيل لأن الفرص تمرّ مرّ السحاب ومن وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (إياك والتسويف بعملك، فإنك بيومك ولست بما بعده، فإن يكن غدٌ لك فكن في الغد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غداً لك لم تندم على ما فرّطت في اليوم)(1).

وكذلك في تنظيم الوقت وتوزيعه بدقة على الأولويات بعد تحديدها طبعاً فتبرمج أولاً أوقات الفرائض اليومية وما يتيسر معها من مقدماتها وتعقيباتها وتلاوة القرآن، ووقت العمل والكسب، ووقت العائلة ومسؤولياتها، ووقت المطالعة وتجديد المعنويات والتأمل والتفكير، ووقت الالتزامات الاجتماعية الأخرى وهكذا.هذا على صعيد وظائفه الفردية، وهناك وظائف اجتماعية لعلها الأكثر إيصالاً إلى رضوان الله تبارك وتعالى كالعمل الإنساني والخدمي وقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم وكفالة الأيتام ورعاية المحتاجين والمسنين وإصلاح ذات البين بين الأفراد أو العشائر وغيرها كثير وقد شجّعنا مراراً على تأسيس منظمات المجتمع المدني لبلورة جهد جماعي يغطّي هذه الفعاليات والنشاطات.

وفي وصايا النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً –أي قاصداً ومتحركاً- الا في ثلاث: تزوُّدٌ لمعاد، أو مرّمة لمعاش، أو لذة في غير محرّم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه)(2) هذا هو الإطار العام لما يجب أن يكون عليه الإنسان في جميع حالاته ليكون في الاتجاه الصحيح بفضل الله تبارك وتعالى.

الاستفادة من التجارب:

ص: 257


1- مكارم الأخلاق: ص459.
2- أمالي الطوسي: ص540.

ويُحسن الاستفادة من تجارب وخطط العلماء الأكاديميين المتخصصين في إدارة الوقت (TIME MANAGEMENT) وهم وإن كانوا يقصدون بها وقت العمل والكسب والإنتاج إلا انها في خطوطها العامة يمكن أن تنفع في المجالات الأخرى من حيث كيفية تقسيم الوقت على الأعمال ووضع سقف زمني لإنجاز كل منها وهكذا، وإن كنّا مستغنين عنها لو التزمنا بوصايا أهل البيت (علیهم السلام) وتعليماتهم.

ومن دون تنظيم الوقت ومراقبته يضيع الكثير في الفوضى وعدم التخطيط والارتباك بحيث تفقد القدرة على استثمار الوقت إذا لم تضع برنامجاً، ويتحقق الغبن في العمر الذي تحدّث عنه رسول الله (صلی الله علیه و آله).

في بعض الروايات ان أجزاء عمر الإنسان وأوقاته تعرض عليه يوم القيامة على شكل صناديق فما قضاه في خير سرّه منظره، وما قضاه في سوء أفزعه مرآه، والأكثر يراها فارغة ضاعت عليه ولم يستثمرها فتشتد حسرته لكثرة ما ضاع منه وكان يكفيه اليسير منها لو شغلها بالطاعة كتسبيحه في ثوانٍ أو الصلاة على النبي وآله أو قراءة سورة قصيرة منالقرآن الكريم أو استماع لموعظة أو التحدث بأمرٍ مفيد والعاقل هو من اتعظ بهذا وهو في الدنيا ليتمكن من التعويض. في غرر الحكم عن أمير المؤمنين (علیه السلام) (لو اعتبرت بما أضعتَ من ماضي عمرك لحفظت ما بقي)(1).

إن لقاءنا هذا وحديثنا هو نمط مثمر لما يمكن أن تكون عليه الاحتفالات أي اننا احتفلنا أيضاً لكن بطريقتنا الخاصة كما يقال.

ص: 258


1- غرر الحكم: 3083.

المشارطة والمحاسبة في أول السنة وآخرها وإحياء الشعائر الحسينية

اشارة

المشارطة والمحاسبة في أول السنة وآخرها وإحياء الشعائر الحسينية(1)

آليات للوصول الى الاستقامة:

ذكر علماء الأخلاق ثلاث آليات للوصول إلى الاستقامة والثبات عليها التي ندعو الله تبارك وتعالى بالهداية إليها يومياً في صلواتنا، وهي المشارطة والمراقبة والمحاسبة، فالأولى قبل العمل والثانية أثناء العمل والثالثة بعده.

ولنوضّح الفكرة بتطبيقها على مفردة في حياتنا وهو اليوم والليلة، فعندما يقوم الفرد من نومه صباحاً يشارط نفسه على أن لا يفعل إلا خيراً وطاعة ويجتنب كل ما يسخط الله تبارك وتعالى ويتعهد أمام الله تعالى بأن يبذل ما بوسعه لتحقيق ذلك فهذه هي المشارطة.

ثم يأتي دور المراقبة أثناء الفعاليات اليومية بالالتفات إلى كونها مطابقة للشريعة ولا يغفل عن شيء منها، وهكذا في كل مفردات حياته وبرنامجه اليومي وتكون المراقبة أكمل لو لاحظ حتى المستحبات والمكروهات، فيؤدي الأولى ويجتنب الثانية، والمراقبة المستمرة تضمن هذه المطابقة والموافقة.

وبعد انتهاء اليوم يأتي دور المحاسبة ليراجع نفسه وما قدّمت خلال اليوم، فإن وجد عملاً صالحاً شكر الله تعالى وسأله القبول والزيادة، وإن وجد سيئة استغفر الله تعالى وعقد العزم على عدم العودة بالاعتصام بالله تبارك وتعالى.

فوائد مراقبة النفس:

ص: 259


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة جامعتي ميسان وواسط يوم 29/ذ.ح/1432 الموافق 2011/11/26.

وإذا التزم الإنسان بهذه الآليات الثلاث فإنه سيقلّل الفجوات التي ينفذ منها الشيطان فيوقعه في الخطأ، والمطلوب الالتفات إليها يومياً، ولكن هذهالمحطات اليومية تتعرض للغفلة والقصور والتقصير لذا أضيفت إليها محطات أخر.

محطات للتزود المعنوي:

إذ يظهر من آداب الشريعة إن الأسبوع والشهر والسنة لها أيضاً كيانات وشخصيات غير كيان اليوم، ولكل واحد منها التزاماته وتطبيق الآليات الثلاث عليه لتكثيفها وغلق المزيد من فرص الغفلة وغلبة الهوى والشيطان , فتوجد مثلاً للأسبوع محطة تجديد ومراجعة وانطلاق للأسبوع المقبل يوم الجمعة منها صلاة ركعتين بالحمد مرة والتوحيد سبعاً لكل منها ثم دعاء من سطر(1) واحد ليوم الجمعة بين الظهر والعصر وصلاة جعفر الطيار ضحى يوم الجمعة(2) وللشهر مثل ذلك من خلال صلاة أول الشهر بالحمد مرة والتوحيد ثلاثين في الأولى، والحمد مرة والقدر ثلاثين في الثانية. فإذا أتمّها تصدق بما تيسّر فإنه يشتري بذلك سلامة الشهر.

وفي ضوء هذا المنهج توجد صلاة (3) في اليوم الأخير من ذي الحجة باعتباره اليوم الأخير من ذي الحجة باعتباره اليوم الأخير من السنة علىالمشهور يكون بمثابة مراجعة

ص: 260


1- في مفاتيح الجنان (ص73 أعمال يوم الجمعة): (قال الشيخ في المصباح: روي عن الأئمة (علیهم السلام) أن من صلّى الظهر يوم الجمعة وصلى بعدها ركعتين، يقرأ في الأولى الحمد والتوحيد سبعاً وفي الثانية مثل ذلك وبعد فراغه يقول: (اللهم اجعلني من أهل الجنة التي حشوها البركة وعمّارها الملائكة مع نبيّنا محمد (صلی الله علیه و آله) و أبينا إبراهيم (علیه السلام) لم تضرّه بلية ولم تصبه فتنة إلى الجمعة الأخرى وجمع الله بينه وبين محمد (صلی الله علیه و آله) وبين إبراهيم (علیه السلام).
2- راجع تفاصيل هذه الأعمال في مفاتيح الجنان: أعمال يوم الجمعة.
3- في مفاتيح الجنان (أعمال اليوم الأخير من ذي الحجة/ ص325) (ذكر السيد في الإقبال طبقاً لبعض الروايات، أنه يُصلّى فيه ركعتان بفاتحة الكتاب والتوحيد عشراً وآية الكرسي عشراً ثم يُدعى بعد الصلاة بهذا الدعاء. (اللهم ما عملت في هذه السنة من عمل نهيتني عنه ولم ترضه، ونسيُته ولم تنسه، ودعوتني إلى التوبة بعد اجترائي عليك اللهم فإني أستغفرك منه فاغفر لي وما عملت من عملٍ يُقرّبني إليك فاقبله مني ولا تقطع رجائي منك يا كريم). فإذا قلت هذا قال الشيطان: يا ويلي ما تعبت فيه هذه السنة هدّمه أجمع بهذه الكلمات، وشهدت له السنة الماضية انه قد ختمها بخير).

ومحاسبة ووقفة تأمل فيما صدر من العبد خلال العام، ونقطة انطلاق جديدة لعام جديد، فيسأل الله تعالى أن يغفر له ما سلف في عامه المنصرم وأن يعينه على ملأ الصحائف البيضاء للعام الجديد بما يرضي الله تبارك وتعالى، فإن العبد هو الذي يملي على الملكين ما يكتبان في صحيفة أعماله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» الحشر18. ومن ثمرات هذه الصلاة والدعاء بعدها أن السنة تشهد عند الله تعالى أن هذا الرجل قد ختمها بخير.

مشاعر المؤمن في رأس السنة:

فالمؤمن في مثل هذا اليوم الأخير من سنة منقضية سيُغلق ملفها ويحفظ إلى أن يعرض يوم النشور ويشهد بما فيه على صاحبه. وعلى مشارف سنة جديدة لم يسوّد صحائفها شيء، تكون له عينان، عين إلى تلك السنة المنصرمة هي عين المراجعة والمحاسبة فيها ندم على ما صدر منه من ذنوب وتقصيرات وشكر على ما وفق له من طاعات لكنه لا يصل إلى درجة الفرح للقلق من كونه مقبولاً أو لا.

وعين راجيه راغبة إلى السنة المقبلة هي عين المشارطة تسأل الله تعالى أن تكون أفضل من سابقتها وثقيلة الميزان بما يرضي الله تبارك وتعالى. والأمر راجع إلى العبد نفسه فهو الذي بيده قلم العمل يملي به صحائف الليالي والأيام بكامل إرادته.

ص: 261

لطف الله تعالى بنا بأيام الحسين (علیه السلام):

ومن لطف الله تعالى أن سنتنا تفتتح بذكرى الإمام الحسين (علیه السلام) وفي اجواء التضحية والفداء والعشق الإلهي حيث نحر الإمام الحسين (علیه السلام) وأهلبيته وأصحابه في محراب الحب والفناء في الله تبارك وتعالى، وهذه الأجواء لها أثرها الذي لا ينكر في تقريب النفوس إلى الطاعة، حتى الفسقة والعصاة يتركون آثامهم في هذه الأيام ببركة الإمام الحسين (علیه السلام)، فتكون هذه الأيام في مفتتح السنة حافزاً لنجاح المشارطة والتعهد أمام الله تبارك وتعالى بأن لا نفعل في سنتنا إلا خيراً مستمدين العزم وقوة الإرادة والتضحية بشهوات النفس وأهوائها وإدامة ذكر الله تعالى من الإمام الحسين (علیه السلام).

ويندرج في ذلك أن يكون إحياؤنا لشعائر الإمام الحسين (علیه السلام) واعياً ملتفتاً إلى الأهداف الإصلاحية التي تحرك الإمام (علیه السلام) لتحقيقها لأن قيمة الأعمال بمضامينها وتحقيق أغراضها وليس بأشكالها، فهذه الصلاة التي هي عمود الدين واستشهد الإمام الحسين (علیه السلام) لإقامتها حق إقامتها (أشهد أنك قد أقمت الصلاة) لا تكون لها قيمة إذا خلت من مضمونها الذي ذكرته الآية الشريفة (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) العنكبوت 45 وقد ورد في رواية صحيحة عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (والله إنه ليأتي على الرجل خمسون سنة وما قبل الله منه صلاة واحدة، فأي شيء أشدُّ من هذا، والله إنكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلي لبعضكم ما قبلها منه لاستخفافه بها، إن الله لا يقبل إلا الحسن، فكيف يقبل ما يستخف به)(1).

شروط القبول في العمل:

ص: 262


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب 26 ح2.

فلابد أن نفهم إن المشاركة في الشعائر الحسينية والبكاء على الحسين (علیه السلام) لا يكفي وحده ما لم تجتمع فيه شروط القبول كما قال تعالى (إنما يتقبل الله من المتقين) المائدة 27 ولن تنال شفاعة الحسين (علیه السلام) وجده وأبيه وأمه وأخيه والأئمة المعصومين من بنيه (صلوات الله عليهم أجمعين) إلا بالتقوى ومن علاماتها الإهتمام بالصلاة في أوقاتها وأن يحسن أداءها، ففي رواية صحيحة عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال (لا تتهاون بصلاتك فإن النبي (صلى الله عليه وآله) قال عند موته: ليس مني من استخف بصلاته لا يرد علي الحوض لا والله)(1) .وعنه (علیه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لكل شيء وجه ووجه دينكم الصلاة فلا يشيننّ أحدكم وجه دينه).(2)

فما يصوّره بعض الخطباء من أن اللطم على الإمام الحسين (علیه السلام) والبكاء عليه ولو جناح بعوضة يدخل الجنة بغير حساب وان ملأ الشخص صحيفة أعماله بالآثام كلام مخالف للقرآن الكريم والروايات الثابتة عن المعصومين (علیه السلام) وانحراف في الفهم وخداع للعامة، وهذا الطرح خطير على الدين لأنه يشوهه ويمحقه ، وخطير على المجتمع لأنه يؤدي إلى التمادي في الانحراف ويعطي مشروعية للعكوف على المعاصي ما داموا قد حصلوا على صك الغفران.

فاحذروا أيها الأخوة من هذا الطرح المضلل.

استنكار المنكر:

ص: 263


1- من لا يحضره الفقيه: ج17 ص60، وعلل الشرائع: ج2 ص356.
2- المصدر السابق، نفس الباب,.

وهنا أسجل استغرابي واستنكاري من حصول بعض حالات الفساد في المجتمع كالذي ينقل عما يجري في المقاهي من أعمال منكرة وتعاطي مخدرات، أو ما يجري في محلات المساج والعلاج الطبيعي من اختلاط منكر ودعوة إلى الرذيلة، أو انتشار الفساد المالي وهدر الأموال العامة التي هي ملك الشعب، أو وجود مافيات وميليشيات القتل والاختطاف والابتزاز والسرقة، كل ذلك يحصل في مدن وسط وجنوب العراق التي فيها أغلبية ساحقة من الموالين لأهل البيت (علیهم السلام) , فإذا كان المشاركون في شعائر الحسين (علیه السلام) ثمانية ملايين أو أكثر بحيث نستطيع ان نقول ان كل شيعي موالي لأهل البيت b في هذه المدن يشارك بشكل أو بأخر في الشعائر كالمشي إلى مرقده الشريف أو خدمة الزوار أو المشاركة في مواكب العزاء أو المجالس الحسينية، إذن فمن الذي يقوم بتلك الأفعال المنكرة في المجتمع التي ذكرنا نماذج منها، وماذا استفاد هؤلاء من مبادئ الحسين (علیه السلام) وماذا فهموا من حركته المباركة؟ وهل يتوقعون قبول أعمالهم من الله تبارك وتعالى في ضوء الآيات الكريمة والروايات الشريفة.إن هذا الذي نقوله لا يقلل من أهمية إقامة هذه الشعائر المباركة وفضلها عند الله تبارك وتعالى وعند النبي وآله الكرام (صلى الله عليهم أجمعين) ولا من تأثيرها في هداية الناس إلى ولاية أهل البيت (علیهم السلام)، بل بلغني أن غير المسلمين تأثروا بها من خلال متابعتها على الفضائيات واعتنقوا عقيدة أهل البيت (علیهم السلام) ببركة هذه المسيرة الصامتة التي تتوجه إلى زيارة الأربعين التي لا يمكن تأويلها وتفسيرها بغير المبادئ الانسانية النبيلة التي انطلقت من أجلها تلك الثورة المباركة ولا يمكن التشكيك فيها أو تزييفها.

هل من ناصر؟

إن الحسين (علیه السلام) عندما كان يردد يوم عاشوراء (هل من ناصر) لم يكن يتوقع من أولئك الطغاة الذين طبع الله على قلوبهم هداية ولا صلاحاً وإنما كان يريد لها أن تبقى صرخة مدويّة لجميع الأجيال على مدى الأزمنة والدهور لينصروه في تحقيق أهدافه، ويبقى

ص: 264

النداء ما دام الواقع الفاسد والظلم الذي قام الإمام الحسين (علیه السلام) لتغيره وانشاء البديل الصالح عنه –فلينصره كلٌ بحسبه ومن موقعه وبما يناسبه من عمل.

فقد يُقبل من البعض شكل من أشكال إحياء الشعائر الحسينية ولا يقبل من آخر لأن المطلوب منه غير ذلك فالتفتوا جيداً.

وبما أنكم من طلبة الجامعات فأذكر لكم شكلاً من أشكال النصرة لله ولرسوله وللإمام (علیه السلام) بأن تنظموا في الأقسام الداخلية أي محل إقامتكم وسكنكم ثلاث محاضرات اسبوعياً على مدى ثلاثة أيام وسط الأسبوع، كل يوم محاضرة بعد صلاة المغرب والعشاء جماعة أحداها في الفقه والأخرى في العقائد والثالثة في السيرة والأخلاق والمعارف القرآنية، ومن يحب يواصل تحصيل العلوم الدينية، وقد أبدى فضلاء الحوزة العلمية استعدادهم للقيام بهذه الخدمة إن شاء الله واعلموا أنكم بذلك تقتربون من معرفة الإمام الحسين (علیه السلام) لينطبق عليكم ما ورد في زيارته (علیه السلام) (عارفاً بحقه) وفقنا الله تعالى وإياكم لأن نكون من أنصار الإمام الحسين (علیه السلام) وممن يدخل السرور على قلبه الشريف بالسعي لتحقيق أهدافه بفضل الله تبارك وتعالى.

ص: 265

ص: 266

الفصل السابع: الاستعداد لدار الآخرة

اشارة

ص: 267

ص: 268

وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدّمَتْ لِغَدٍ

اشارة

وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدّمَتْ لِغَدٍ(1)

لنراجع أنفسنا:

قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (الحشر: 18-19).(ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ) هذا الغد ليس يوماً واحداً وإنما هو زمان واسع فسيح يبدأ من موت الإنسان ولا ينتهي عند عرصات القيامة والحساب بل هم فيها خالدون: فريق في الجنة وفريق في السعير نعوذ بالله.

فالله تبارك وتعالى يدعونا في هذه الآية إلى أن نراجع أنفسنا وننظر ماذا قدمنا لهذا الغد المجهول العصيب الذي فيه أهوال وصعوبات لا يعلمها إلا هو تبارك وتعالى، لا نعرف نحن عنه شيئاً ولا نعرف ما معنى أن ننظر لهذا الغد حتى نستعد له ونهيئ له ما يناسبه، لكن الله تبارك وتعالى هو ولي هذا الغد وملك هذا الغد وخالق هذا الغد بيّن لنا ما ينفعنا في تلك الحياة وحاشا لله تبارك وتعالى الرحيم الرؤوف بعباده المحسن إليهم أن يتركهم سدى، قال تعالى «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ» (البقرة: 197).

ص: 269


1- في يوم الجمعة 27/ذو القعدة/1431 ه الموافق 2010/11/5 م أقدم سماحة الشيخ (دام ظله الشريف) على خطوة تأريخية مباركة وغير مسبوقة –على الأقل في العقود القريبة المنصرمة- فقد أقام سماحته أول صلاة جمعة في مكة المكرمة في مقر إقامته، وقد ألقى سماحته خطبتي صلاة الجمعة مرتدياً ثوب إحرامه حيث أعاد إلى الأذهان تلك الأجواء التي عاشها المؤمنون في العراق أيام إقامة صلاة الجمعة في مسجد الكوفة المعظم من قبل السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وبكى فيها (دام ظله) وأبكى العيون لأكثر من مرة لما تضمنته الخطبة من مواعظ. وما في المتن الخطبة الأولى منها.

سفر الآخرة:

خذوا مثالاً: سفركم هذا إلى الحج وهو سفر قصير لا تتجاوز مدته الشهر ومعكم إدلاء يرشدونكم ومتعهدون يتولون إدارة شؤونكم ورفقة وإخوان وجهات توفر لكم الخدمة والمنزل والطعام ومع ذلك فإن أحدكم يستعد له منذ مدة طويلة ويتحسب لكل احتمال ويُعدّ كل ما يحتاجه من دقائق الأمور ويعيد النظر في جهازه خشية أن يكون قد نسي شيئاً.

فكيف بسفر الآخرة الذي لا أمد له ولا مُعين ولا رفيق ولا زاد إلا عملك فإنه قرينك صالحاً كان أو سيئاً والعياذ بالله تعالى وزادك التقوى التي يطلبها الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء يوم عرفة (اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك وأسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك)(1).

وهذا المستوى الذي يطلبه الإمام الحسين (عليه السلام) ويحثّ على الوصول إليه هو مستوى «اتّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ» وهو لا يتيسر إلا لعباد الله المخلصين ولكن لا مانع من طلبة والسعي لتحصيله من خلال تطبيق الآية الأخرى «اتّقُوا اللهَ مَا استَطَعتُمْ» فإن الله تعالى تكفّل لمن يعمل بما يتيسّر له أن يوفقه ما لم يكن يستطيعه بلطفه وكرمه.

التقوى حركات وسكنات:

وهذه الفريضة الإلهية التي وفقكم الله تعالى إليها فدعاكم لضيافته والوفود إلى بيته الآمن المحرم هي من أعظم مصاديق التقوى و أوثق الأسباب لتحصيلها بل أن آية «وتزوّدوا» وردت في سياقها قال تعالى «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ» (البقرة: 197).

ص: 270


1- مفاتيح الجنان: ص413.

والتقوى عنوان يتحلل إلى الكثير من الحركات والسكنات: الحركات باتجاه الأعمال الصالحة سواء كانت على نحو الواجبات أو المستحبات وهي أضعاف الأولى، والسكنات أي التوقف إزاء الأعمال غير الصالحة سواء كانت على نحو المحرمات أو المكروهات، وقد حفلت الكتب بتسجيلها جميعاً حتى دقائقها ولا يستطيع أحد استقصائها.

من حكمة الله تعالى تنوع القابليات:

ومن حكمة الله تعالى ورحمته بعباده أنه نوّع القابليات والقدرات والمؤهلات عند خلقه لتُغطّي كل مساحات عمل الخير ولكي لا يحرم أحد منها، فأعطى للبعض ثروة مالية فهو يتصدق منها ويساعد الفقراء والمحتاجين ويزوّج الشباب المعسرين ويحج ويزور ويبني المساجد ويشيّد المشاريع الخيرية وآخر لم يعطه مالاً لكنه أعطاه علماً نافعاً فهو يرشد الناس ويهديهم ويصلح ما فسد من أمور دينهم ودنياهم ويوجههم ويعلمهم أمور دينهم.وآخر لم تعط مالا ولا علماً لكنه أعطى أخلاقا حسنة فهو يعاشر الناس بالمعروف ويفشي السلام ويتصدق بالكلمات الطيبة، كما ورد في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمه العباس: (يا بني عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم)(1).

ففرص الطاعة والتقرب إلى الله تعالى متكافئة للجميع لكنها منوّعة بحسبهم، روي أن مجموعة من النسوة شكت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تفضيل الرجال عليهن بإعطائهم فرصة الجهاد الذي هو (باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه)(2)

–كما وصفه أمير المؤمنين- وسقط عنهنّ، فأجاب النبي (صلى الله عليه وآله) بأن (جهاد

ص: 271


1- بحار الأنوار: 71/169.
2- نهج البلاغة: خطبة 27.

المرأة حسن التبعّل)(1)فالتساوي في فرص التكامل مكفولة للجميع. وكذلك فرصة الحج التي منحت للمستطيعين لم يُحرم منها الفقراء فورد فيهم (صلاة الجمعة حج المساكين)(2).

وهذه من عدالة الله تبارك وتعالى ومن حكمته لتُملأ كل مساحات عمل الخير بحسب اختلاف إمكانيات الناس وتوجهاتهم، وإذا قال أحد أنه لم يعطني الله شيئاً فليراجع نفسه وسيجد ما يتقرب به وتلقي ما ورد في الحديث الشريف (ما عُبِد الله بشيء كالفرائض)(3). ونعود إلى ما بدأنا به من قوله تعالى (ولتنظر نفس ما قدمت لغد).

ص: 272


1- بحار الأنوار: 18/107.
2- بحار الأنوار: 86/199.
3- تحف العقول: 286 وفيه (ولا طاعة كأداء الفرائض).

من أراد الآخرة فليسعَ لها سعيها

الأمور بخواتيمها:

مما يوجب حذر المؤمن في هذه الحياة الدنيا ويجعله في توجّس ويدفعه إلى مزيد من الاعتصام بالله تعالى، هو أن لا يختم له بخير، وإن كان عمله بحسب الظاهر صالحاً الآن إلاّ أنه لا تعرف خاتمته والأمور بخواتيمها،روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله ((لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة لا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له)).(1)

وقد ينجح الإنسان في امتحانات عديدة لكنه يسقط في أحدها سقوطاً نهائياً والعياذ بالله، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (أن العبد ليعمل عمل أهل الجنة فيما يرى الناس وإنه لمن أهل النار، وإنه ليعمل عمل أهل النار فيما يرى الناس وإنه لمن أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم)(2) وعنه (صلى الله عليه وآله سلم): (الأمور بتمامها والأعمال بخواتيمها).

قصة أحمد بن هلال العبرتائي:

وهذه الحقيقة لها شواهد قرآنية تاريخية كثيرة، ولنذكر مثالاً (حوزوياً) وهو أحمد بن هلال العبرتائي من كبار العلماء والرواة فقد قال عنه الشيخ الطوسي ((روى أكثر أصول أصحابنا)) ناهز التسعين من العمر (180-267)، حجّ (54) حجة، عشرون منها ماشياً على قدميه، قال عنه الكشي ((وقد كان رواة أصحابنا بالعراق لقوه، وكتبوا منه)) وقال العلامة (قد) أنه سمع منه ((جل أصحاب الحديث واعتمدوه فيها)).

ص: 273


1- بحار الأنوار: 71/366 ح13.
2- كنز العمال ح950.

وكان من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) إلاّ أنّه مرّ بامتحان بعد استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام) ففشل فيه وغلبه هواه وحسده وحبّه للرئاسة والزعامة فورد التحذير أولاً من الإمام المهدي (عليه السلام) من الانخداع بظاهره فقد كتب الإمام (عليه السلام) إلى نوابه (قوّامه) بالعراق في ابتداء أمره (احذروا الصوفي المتصنّع) ثم جاء لعنه من الإمام المهدي (عليه السلام)، فقد ورد في كتاب الغيبة في ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابية ((قال أبو علي بن همام: كان أحمد بن هلال من أصحاب أبي محمد(عليه السلام)، فأجمعت الشيعة على وكالة محمد بن عثمان (رضي الله عنه) بنص الحسن (عليه السلام) في حياته، ولما مضى الحسن (عليه السلام)، قالت الشيعة الجماعة له: ألا تقبل أمر أبي جعفر محمد بن عثمان، وترجع إليه، وقد نصّ عليه الإمام المفترض الطاعة؟ فقال لهم لم أسمعه ينصّ عليه بالوكالة، وليس أنكر أباه، يعني عثمان بن سعيد، فأمّا أن أقطع أنّ أبا جعفر وكيل صاحب الزمان فلا أجسر عليه، فقالوا: قد سمعهُ غيرك،فقال: أنتم وما سمعتم، ووقف على أبي جعفر، فلعنوه وتبرئوا منه، ثم ظهر التوقيع على يد أبي القاسم حسين بن روح، بلعنه، وبالبراءة منه في جملة من لُعن)).

ولم يتحمل كثير من الأصحاب هذا الخبر في حق ابن هلال لما ذكرنا من منزلته عندهم وأنكروا ما ورد في مذمّته ((فحملوا القاسم بن العلاء على أن يُراجع في أمره فخرج إليه توقيع طويل جاء فيه (ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ابن هلال لا رحمه الله وممن لا يبرأ منه، فأعلم الإسحاقي وأهل بلده مما أعلمناك من حال هذا الفاجر، وجميع من كان سألك ويسألك عنه)(1).

أهمية حسن الخاتمة:

ص: 274


1- هذه النصوص نقلها من مصادرها: السيد الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث: 2/367- 370.

فهذا وأمثاله كثير ممن كان له ظاهر تمتد إليه الأعناق، لكن قدمه زلّت ولم يتب ولم يصلح خطأه وأصرّ عليه فكان من الملعونين لذا ورد في الحديث النبوي الشريف (لا عليكم أن تُعجبوا بأحدٍ حتى تنظروا بما يُختمُ له، فإنّ العاملَ يعمل زماناً من عمره أو بُرهة من دهره بعملٍ صالحٍ لو مات عليه دخل الجنة، ثمّ يتحوّل فيعمل عملاً سيئاً)(1) وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثمّ يختم له بعمل أهل النار)(2).

ولأهميّة حسن الخاتمة فقد أشير إليها كثيراً في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وتكرّر طلبها في الأدعية المباركة، وأجاب القرآن الكريم باختصار عن كيفية ضمان الفوز بحسن الخاتمة في قوله تعالى (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص/83) وبتفصيل أكثر قال تعالى (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً) (الإسراء/19).

متطلبات الفوز بالآخرة:

فالفوز بالآخرة يتطلب بحسب الآية الشريفة:

1- إرادة جديّة وقصد حقيقي لنيل رضوان الله تبارك وتعالى وليس مجرد لقلقة لسان كما وصفهم الإمام الحسين (عليه السلام) (الناس عبيد الدُنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم يحيطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحصّوا بالبلاء قلّ الديانون)، وأن تكون إرادته مبنية على قصد الوصول إلى الهدف الحقيقي وهو رضا الله تبارك وتعالى وليس طاعة لغيره أو لأي هدفٍ آخر سواه.

ص: 275


1- منتخب ميزان الحكمة: 206 عن كنز العمّال: 545، 589.
2- السابق.

2- السعي الجاد الدؤوب بما يصلح الآخرة ويضمن الفوز فيها، فقوله تعالى (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) يتضمن عدة خصائص لهذا السعي منها كونه حثيثاً ودؤوباً فقد قيل في معنى السعي أنّه ((المشي السريع ويستعمل للجد في الأمر))، ((وأكثر ما يُستعمل السعي في الأفعال المحمودة)) ولتأكيد ذلك فقد أضافت الآية السعي إلى الآخرة أي أن يكون السعي مناسباً للآخرة بكل ما يعني ذلك، لتختصر كل ما تطلبه الآخرة من نوع السعي ومقداره وخصوصياته، قال السيّد صاحب الميزان ((والمعنى وسعى وجدّ للآخرة السعي الذي يختص بها ويُستفاد منه أنّ سعيه لها يجب أن يكون سعياً يليق بها ويحقّ لها كأن يكون يبذل كمال الجهدِ في حسن العملِ وأخذه من عقلِ قطعي أو حجة شرعية))(1).

3- أن يقترن ذلك بالإيمان بالله تعالى وبرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّه شرط القبول ونيل الجزاء لأنّ باب الله الذي لا يُؤتى إلاّ منه (وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) (البقرة/189) وأن يتعزز الإيمان بالمعرفة بالله تعالى وإخلاص النية له سبحانه، وهذا الإيمان والمعرفة لابد أن تكون لها حقيقة، فيعتقد أن هذا كله لطفٌ من الله تعالى وأنّه لا يستقل بشيء عن ربّه، وأن يكون خائفاً مشفقاً إذا نظر إلى العمل من زاويته الشخصية، فإذا قُبل عمله بفضل الله ورحمته وهذا ما أكدته الآية اللاحقة (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً) (الإسراء/20) ونحو ذلك من المعاني.

ما يؤمنك من سوء العاقبة:

ص: 276


1- الميزان في تفسير القرآن: 13/65.

وقد بيّنت الروايات الشريفة بعض مظاهر هذه المعرفة وهذه الأعمال الصالحة: عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إذا أردت أن يؤمنك الله سوء العاقبة فاعلم أن ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره إياك وحلمه وعفوه عنك).(1) ومن كلام الإمام الصادق (عليه السلام) لبعض الناس (إن أردت أن يُختم بخير عملك حتّى تُقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه أن تبذل نعمائه في معاصيه، وأن تغتر بحلمه عنك، وأكرم كلّ من وجدته يذكر منّا أو ينتحل مودّتنا).(2) عن الإمام الكاظم (عليه السلام): (إنّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج اخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم وإلاّ لم يُقبل منكم عمل، حنّوا على اخوانكم وارحموهم تُلحقوا بنا)(3).

فمثل هؤلاء يكون سعيهم مشكوراً، وقد أطلق لفظ الشكر ليكون لا حدود له لأنّ صفات الله تبارك وتعالى لا حدود لها، ومن أسمائه الشكور.

لا بد أن يقترن الدعاء بالسعي:

وشدّدت الآية على أن الجزاء لا يتخلف عن السعي بل يكون نتيجة حتمية له، بعكس من يطلبون الدُنيا الذين ذكرتهم الآية السابقة على هذه، قال تعالى (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً) (الإسراء/18) فلا يتحقق له ما يريد بل ما يريده الله تبارك وتعالى، وليس لكل أحدٍ بل لمن يشاء الله تعالى أن يعطيه.

وبهذا المعنى الذي شرحناه لسعي الآخرة لابد أن نفهم معنى انتظار الإمام صاحب الأمر (عليه السلام) والدعاء بقيام دولته المباركة، فلابد أن يقترن بالسعي الخاص به والمناسب له، فتقيّد أحاديث ثواب الانتظار والمنتظرين بأن يُسعى له سعيه.

ص: 277


1- بحار الأنوار: 70/392 ح60.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام): 2/4 ح8 .
3- بحار الأنوار، 75/379.

وهكذا كل قضية في حياتنا يُراد تحقيقها فلابد أن يسعى لها سعيها المناسب لها كمن يريد أن يصبح طبيباً أو مهندساً فلابد أن يبذل الجهد المطلوب كماً ونوعاً ويسير وفق الآليات التي توصله إلى هدفه، ولا ينال كل ذلك إلاّ بلطف الله تعالى وتوفيقه ومدده.

ص: 278

كيف نكون من المقرّبين

اشارة

كيف نكون من المقرّبين(1)

التفاوت في الدرجات يوم القيامة:

أهل الجنة ليسوا على نمط واحد من النعيم يوم القيامة وإن كانت الآيات الكريمة تقسّمهم إلى (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (الشورى/7)، وفي سورة الواقعة إلى (المقرّبين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال) وإنما تتفاوت منازلهم يومئذ على أنماط ومراتب لا حصر لها ، وهذا كله فرعتفاوتهم في كيفية استثمار فرصة وجودهم في الحياة الدنيا (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) (الإسراء/21)

وقد وردت الاحاديث الشريفة في مراتب الأسلام و الأيمان و الورع و التقوى مما يعطي رؤية عن التفاوت الواسع في درجات الناس في الدنيا .

و المؤمن الطامح للكمال يرنو ببصره إلى أعلى تلك الدرجات ويسعى إليها، وهو متيسّر لكل أحد بكرم الله تعالى وفضله، وقد وصل الى تلك الدرجات ناس ليسوا من المعصومين (علیهم السلام) حتى يقال إننا لا نصل إلى درجتهم (صلوت الله عليهم) ، وكان وصولهم بأسباب ووسائل متعددة ، فبعضهم بموقف جهادي والشهادة في سبيل الله تعالى كأنصار الحسين (علیه السلام)

قد جاوروه هاهنا بقبورهم *** وقصورهم يوم الجزا متدانية

عجوز بني اسرائيل:

وبعضهم بعلوا الهّمة وحسن الظّن بالله تعالى كعجوز بني إسرائيل التي روى النبي (صلی الله علیه و آله) قصتها مع كليم الله موسى (على نبينا وعليه الصلاة و السلام) وقال لها أطلبي ما تشائين

ص: 279


1- من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع رابطة خطباء وأئمة مساجد مدينة الحرية ببغداد في يوم السبت 8/ربيع الثاني/1433 ومع جمع من أساتذة وطلبة المرحلة الثانية في جامعة الصدر الدينية في النجف يوم الثلاثاء 23/ج2/1433 الموافق 2012/5/15.

فأني أرجو ان يحقق الله تعالى لك، فقالت أريد ان أكون معك في درجتك في الجنة، فأثنى النبي (صلی الله علیه و آله) على علو همتها(1).

وبعضهم بالمعرفة الكاملة باهل البيت (علیهم السلام) وولايتهم كسلمان الفارسي الذي ورد فيه الحديث النبوي الشريف (ان الجنة لأعشق لسلمان من سلمان للجنة )(2).

مراتب الإيمان:

وعن عبد العزيز القراطيسي قال : (دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فذكرت له شيئا من أمر الشيعة ومن أقاويلهم، فقال: يا عبد العزيز الأيمان عشر درجات بمنزلة السلم له عشر مراقي وترتقى منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنَّ صاحب الواحدة لصاحب الثانية لست على شئ ، و لا يقولنَّ صاحب الثانية لصاحب الثالثة لست على شئ حتى انتهى إلى العاشرة قال: وكان سلمان في العاشرة، وأبو ذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة يا عبد العزيز لا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، إذا رأيت الذي هو دونك فقدرت أن ترفعه إلى درجتك رفعا رفيقا فافعل، ولا تحملنَّ عليه ما لا يطيقه فتكسره فإنه منكسر مؤمنا فعليه جبره، لإنك إذا ذهبت تحمل الفصيل حمل البازل فسخته)(3).

كفالة الأيتام:

ومنهم من يصل تلك الدرجات السامية بكفالة الأيتام فاقدي الأبوين او الأيتام المعنويين وهم الناس المقطوعون عن إمام زمانهم فيأخذ بأيديهم ويرشدهم ، وورد في ذلك الحديث

ص: 280


1- نقلت القصة بطولها في ما الخطاب: تعرضوا لنفحات ربكم، تحت عنوان طلبات جامعة.
2- بحار الأنوار : 22/ 341
3- الخصال للصدوق باب العشرة ج2 ص 448، الفصيل: ولد الناقة إذا فُطِم من اللبن وانفصل عن أمّه، والبازل إذا بلغ 8-9 سنوات من العمر.

النبوي الشريف (انا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة اذا اتقى الله عز وجل)(1) وأشار بالوسطى و التي تليها، فقد خصصنا خطابا لبيان هذا المعنى في إحدى الزيارات الفاطمية (2).

وانتم – يا طلبة العلوم الدينية – ممن هيأ الله تعالى لهم هذا السبيل للأرتقاء إلى درجات المقربين ، وفي ذلك يقول الأمام الحسن العسكري (علیه السلام) ( حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلی الله علیه و آله) انه قال : اشدُّ من يتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول اليه ولا يدري كيف حكمه فيما يُبتلى به من شرائع دينه ، ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا وهذا الجاهل في شريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ، ألا فمن هداه وارشده وعلمّه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى )(3).

وكلما ذكرنا مثل هذه المعاني استغربنا كيف لا يلتحق كل الناس بالحوزات العلمية الدينية لينالوا هذه المرتبة العظيمة.

مرتبة بكير بن أعين:

واذكر لكم أحد المباركين الذين نالوا هذه الدرجة، ولم يكن من سادات بني هاشم ولا من علية القوم ولا من الأسر المعروفة ، انه بُكير بن اعين ، وكان أبوه عبداً رومياً لرجل من بني شيبان تعلم القران ثم اعتقه فكان من موالي بني شيبان ولم يلتحق بنسبهم وكان جده راهبا في بلد الروم، وأنجب اعين أولاد فقهاء أفذاذ وهم زرارة وبكير وعبد الملك وحمران، ورووا عن الإمام السجاد و الباقر و الصادق (صلوات الله عليهم أجمعين)، لما بلغ خبر موتبكير الإمام الصادق (علیهم السلام) قال (أما والله لقد أنزله الله بين رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما) (4).

ص: 281


1- نور الثقلين: ج5 ص597.
2- خطاب المرحلة : 6/228
3- بحار الأنوار: 2/ 2-6 الباب 8 من كتاب العقل و الجهل الاحاديث 1-11
4- معجم رجال الحديث: 3/353

فهذا قدوة وأسوة لكم وفقه الله تعالى لمسلك أهل العلم فتحّمل علوم أهل البيت (علیهم السلام) ونشرها بين الناس بحسب استطاعته، اذ لم تكن الفرصة متاحة لقسوة الأمويين و العباسيين وبطشهم بكل من يتشيع لعلي واله (صلوات الله عليهم أجمعين) ، فثبت هذا الفقيه الكبير وواصل نشر علوم اهل البيت (علیهم السلام) وكان لهم الفضل الكبير على كل أجيال المسلمين إلى قيام يوم الساعة بما حفظوا ونقلوا من احاديث اهل البيت (علیهم السلام) ولولاهم لضاعت تلك الأحاديث.

تضحية العلماء (محمد بن أبي عمير نموذجاً):

لقد بذل العلماء وحملة الاحاديث الكثير من الجهود و تحمّلوا أذى كثيرا على هذا الطريق ولكنهم ثبتوا و واصلوا، طلب هارون العباسي من محمد بن أبي عمير – وهو من الرواة الأجلاء الثقات الذين قبل الأصحاب رواياتهم وان لم يسندها – ان يلي القضاء فرفض فراراً بدينه، فحبسه وعذبوه في السجن ليدل على مواضع الشيعة وأصحاب الإمام موسى بن جعفر(علیهم السلام) فلم يخضع، حتى بلغ منه الألم مبلغا عظيما فكاد ان يقرّ فسمع محمد بن يونس بن عبد الرحمن وهو يقول : اتق الله يا محمد ابن أبي عمير، فصبر ففرّج الله تعالى (1).

ونحن اليوم وإن زال عنّا بلاء السجن والاعتقال والإعدام بالقضاء على المجرم المقبور، إلاّ أن ألواناً من البلاء تحفُّّ بنا قد تكون أشد من ذلك.

وانتم فاشكروا الله تعالى على توفيقه لكم لحمل هذه الرسالة (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (عبس/20) واثبتوا (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران/200) (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس/58).

ص: 282


1- معجم رجال الحديث : 14/296

الفصل الثامن: السنن والمستحبات

اشارة

ص: 283

ص: 284

صورة العبادة لا تكتمل إلا بالمستحبات

اشارة

صورة العبادة لا تكتمل إلا بالمستحبات(1)

ضرورة المستحبات:

توجد سنن ومستحبات تسبق الصلاة المفروضة كالأذان والإقامة والجلوس في محل الصلاة انتظاراً لدخول الوقت وفسرت المرابطة في الآية الشريفة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (آل عمران:200) بحالة الانتظار هذه، وتوجد سنن ومستحباتتلحق الصلاة كالدعاء والاستغفار وتسبيح الزهراء (عليها السلام) الذي ورد فيه أنه يعدل ألف ركعة(2).

وهذه الأعمال وإن كانت مستحبة يمكن تركها إلا أنها ضرورية لإتمام تأثير الفرائض وإنتاجها للأغراض المطلوبة منها، ولو اقتصر الإنسان على أداء الواجب من الصلاة لكانت خاوية.

التخطيط الإلهي لحفظ الفرائض:

ص: 285


1- توقف سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) عند المعبر الحدودي بين العراق والكويت في صفوان أثناء سفره لأداء فريضة الحج المباركة وأقام صلاة الجماعة التي شارك فيها عدد من الحجاج والمودعين، وصادف يوم الجمعة 1/ ذي الحجة/1424 ه الموافق 2004/1/23 وتحدث إلى المصلين بعد الصلاة وقد وقع بأيدينا تسجيل الحديث فأحببنا ذكر هذا الملخّص لحديث سماحته. تضمن برنامج الرحلة السفر براً إلى البصرة يوم الخميس آخر ذي القعدة 1424 ثم عبور الحدود الكويتية عصر الجمعة 1/ذ.ح./1424 المصادف 2004/1/23 حيث استضافت الحكومة الكويتية الحجاج العراقيين في مدينة الحجاج في الجهراء، وغادر سماحة الشيخ اليعقوبي مطار الكويت قبيل فجر الأحد إلى جدة ومن ثم إلى ميقات الجحفة والإحرام منه ودخل مكة المكرمة منتصف ليلة الاثنين.
2- عن الصادق (عليه السّلام) انه قال: (تسبيح فاطمة (عليه السّلام) في كل يوم في دبر كل صلاة أحب إلي من صلاة ألف ركعة في كل يوم). الكافي: ج3 ص343.

ويمكن لأي شخص أن يقارن النتائج بين صلاتين، الأولى بمستحباتها ومقدماتها وتعقيباتها، وأخرى خالية من كل ذلك ليدرك عظيم الفرق بين الحالتين.

وهذا التخطيط الإلهي للحرص على أداء الفرائض بأفضل صورها لا يختص بالصلاة وإنما هو جارٍ في العبادات الأخرى، فإلى جنب واجبات كل فريضة توجد أضعافها من المستحبات والسنن، فإن الصوم الواجب هو رمضان فقط لكن المستحب أكثر منه خصوصاً في رجب وشعبان لتطهير القلب وتهذيب النفس وتأهيلهما لتلّقي النفحات الإلهية في شهر رمضان.

والشعائر الحسينية مستحبة وقد يعترض كثيرون على بعض مظاهرها لكنها ضرورية لحماية أصل الدين، ولم يستطع النظام الصدامي البطش بالدين وأهله إلا بعد أن أوقف تلك الشعائر في منتصف سبعينيات القرن الماضي بحجة أنها قشور لا قيمة لها، وكنّا ندافع عنها بأن القشور ضرورية لحفظ اللب وإذا ترك اللب بدون قشور تحفظه فإنه يتلف.

المكروهات ودورها في اجتناب المحرمات:

والأمر كذلك في المحرمات حيث جعل الشارع المقدس إزائها أكثر منها من المكروهات وعبّر عنها بالحمى والحدود وأن من يقتحمها يوشك أن يقع في المحرمات، فمنعَ الاختلاء بالأجنبية أو المسامرة معها خشية الوقوع في الحرام، ولأن ضغط الشهوة الجنسية وتأثيرها قوي فقد وصل التحصين منها إلى مستوى كراهية أن يقعد الرجل في مكان جلست فيه المرأة قبل أن يبرد من حرارة جسمها خشية أن يذهب خياله بعيداً ويحرّك شهواته.

السعي لإقامة المستحبات:

فمن غير المناسب لمن يسعى لنيل رضا الله تبارك وتعالى أن يدخل في الصلاة من دون مقدمات ولو الإقامة على الأقل، أو يقوم من مصلاه فور التسليم والانتهاء من صلاته دون الإتيان بالتعقيبات ولو تسبيح الزهراء وسجدة الشكر.

ص: 286

خصوصاً في مثل هذه الساعة الشريفة من يوم الجمعة التي قال فيها الله تبارك وتعالى «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (الجمعة: 10) وفضل الله تعالى لا يختص بالرزق المادي وإنما يشمل الرزق المعنوي واستنزال الألطاف الإلهية بالدعاء والذكر.

ص: 287

الاهتمام بفعل المستحبات وتركالشبهات والمكروهات

اشارة

الاهتمام بفعل المستحبات وتركالشبهات والمكروهات (1)

ضرورة الالتزام بالمستحبات وترك المكروهات:

عندما نمارس وضيفتنا في الهداية والإصلاح وتبليغ الأحكام ندعو للقيام بفعل ما ونحثّ عليه ونشرح ثواب العمل والآثار المباركة له في الدنيا والآخرة، فيُقال لنا: قل لنا هل هو واجب لا يجوز تركه حتى نفعله، وكأنّنا ليس علينا أن نؤدي إلاّ ما كان واجباً جزماً لا رخصة في تركه، أما المستحبات –وبعضها مؤكدة- أو الأمور التي يؤتى بها على نحو الاحتياط الاستحبابي فلا نشعر بالمسؤولية اتجاه القيام بها.

وهكذا عندما ننهى عن فعل معيّن ونبيّن الآثار السيئة على النفس والمجتمع عامة، فيقال لنا: قُل لنا هل هو حرام جزماً حتى نجتنبه، وإلاّ فلا مانع من فعله، وطبعاً ليست كل الأفعال المنهي عنها جزمية الحرمة، فبعضها شبهات، وبعضها يوجد احتياط بتركها، وبعضها ليست حراما لكنّها يمكن أن تكون باباً يؤدي إلى الحرام، فكأنّ هذه كلها مما يمكن اقتحامه ولا يجب اجتنابه.

إنّ منهج عدم فعل شيء إلاّ إذا كان واجباً جزماً، وعدم ترك شيء إلا إذا كان حراماً جزماً، منهج غير منتج ولا يوصل إلى الفلاح، ومن يسير وفق هذا المنهج فإنّه يسقط في الهاوية وتزلّ قدمه.

والمثال الواضح لذلك هو شق الطرق فإنه يوضع إلى جانب الطريق كتف ترابي يسمى حمى الطريق ليشعر قائد السيارة بالاطمئنان والثبات ولتحقيق الأمان للسيارة عندما تزل

ص: 288


1- من حديث لسماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في يومين متتاليين مع وفود من طلبة الجامعات في بغداد وذي قار وجامعة الصدر الدينية فرع خور الزبير في البصرة ومؤسسات مجتمع مدني من بغداد والحلّة يوم 25-26/ ع1/1434 ه المصادف 6-2013/2/7.

إطاراتها عن الشارع المعبّد بسبب غفلة السائق أو لتعرضه لموقف مفاجئ، ويتأكد الأمر لدى المهندس حينما يصمّم طريقاً في منطقة جبلية وعرة، وإلى جانبها وادٍ سحيق، فإن هذا الكتف يكون ضرورياً، ولو وضع حد الشارع على حافة الوادي فإن السقوط فيه سيكون وارداً جداًخصوصاً عندما تضايقه سيارة قادمة أو تأخذه سِنة او غفلة، بل ان قائد السيارة يكون مرتبكاً وقلقاً وغير متزن إذا لم يوجد هذا الحمى إلى جانب الطريق ويؤدي به ارتباكه إلى السقوط في المحذور، وهذا جانب نفسي لا يمكن انكاره.

وهذا هو حال من يزعم أنه يسير وفق الأحكام الإلزامية فقط من واجبات ومحرمات ولا يعزّزها بفعل المستحبات وترك الشبهات والمكروهات بمقدار ما يستطيع وبمقدار ما يوفّقه الله تعالى إليه.

وقد وُصفت الشبهات بنفس لفظ الحمى في الأحاديث الشريفة.

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فمن رعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).(1)

حُكي أن عالماً سأل أحد علماء السلف الصالح أنه لماذا ندعو فلا يستجاب لنا، بينما كان دعاء السلف الصالح مستجاباً، قال في جوابه: لأننا كنّا نقسّم أحكام الأشياء على قسمين فقط: ما نلتزم بفعله وهي الواجبات والمستحبات، وما نلتزم بتركه وهي المحرمات والمكروهات، أما أنتم فقسمتموها إلى خمسة أقسام: واجب ومستحب ومباح ومكروه وحرام ولم تلزموا أنفسكم إلاّ بفعل الأول وترك الأخير فسبّب لكم هذه القسوة والابتعاد عن الله تعالى.

أهمية الواجب والمستحب:

صحيح أن الواجبات أهم من المستحبات بدليل جعلها واجبات أي أن المصلحة في الفعل الواجب ملزمة –كما يعبّرون- وتفيد بعض الروايات أنها أكثر ثواباً عند الله تعالى

ص: 289


1- مجموعة ورّام: 1/52.

من المستحبات، لكنّنا بصدد الحديث عمّا هو أكثر إنتاجاً وإيصالاً في طريق التكامل، والمستفاد من بعض الروايات أن النوافل هي الأكثر فاعلية، ويساعد عليه الوجدان، لأن الإنسان يؤدي الفرائض بدافع الخوف من العقوبة إذا تركها غالباً باعتبارها واجبة، أما المتسحبات فيؤديها رغبة في ثواب الله تعالى والتقرب إليه والفوز بمحبته ورضاه، وهذه النية الثانية موجبة أكثر من الأولى للتقرب من الله تبارك وتعالى.

وأذكر شاهداً على هذا التأثير للنوافل وهي حكاية رواها أحدهم عن المرحوم السيد علي القاضي صاحب المدرسة الأخلاقية المعروفة قال فيها أنه أيام إقامته في النجف الأشرف كان هناك شاب منحرف يشرب الخمروتارك للصلاة، لكنه كان يحب السيد القاضي كثيراً ويساعده إذا رآه ويحمل عنه حاجاته إلى داره، وكان السيد ينصحه بأن يتوب إلى ربّه ويلتزم بالصلاة ويترك الخمر، لكنه لم يأخذ بالنصيحة وبعد سنين قال له السيد إنني طلبت منك طلباً منذ سنين ولم تستجب لي، فقال الشاب: لا أقدر على الالتزام، فقال السيد له: إذن أطلب منك أن تفعل في ليلة واحدة بأن تقوم في منتصف الليل والناس نيام فتتوضأ وتصلي صلاة الليل، فقال الشاب أن نومي عميق ولا أستطيع الاستيقاظ في منتصف الليل، قال السيد، لا بأس أنا أضمن لك استيقاظك وواعدني بفعل ما طلبت، فوعده بذلك ولما انتصف الليل استيقظ الشاب فجأة وجاء إلى حوض الماء ليتوضأ وفكّر وتدبّر وتأمّل طويلاً وراجع نفسه واستحيا من خالقه فأدركته الألطاف الإلهية، وهنا خاطب ربّه بكلمة اشتهرت لاحقاً (يا رب إني وإن تأخرت في الوصول إلا إنني أرجو أن لا أفارقك) ومن ذلك اليوم استقام في سيرته وأصبح من مشاهير الصالحين في النجف.

ثمرات الالتزام بالمستحبات:

وقد تبين مما سبق وجود أكثر من ثمرة للإتيان بالمستحبات، منها.

1- انها صيانة ووقاية للواجبات، فمن كان مؤدياً للنوافل والمستحبات، فإنه بالطبع أشدّ التزاماً بالواجبات، أما من اقتصر على الواجبات فإنه معرّض لفواتها بسبب أو آخر.

ص: 290

2- إن النوافل والمستحبات أسرع إيصالاً في سلّم الكمال، ومن الأحاديث الواردة في ذلك صحيحة ابان بن تغلب عن الإمام الباقر (عليه السلام) في الحديث القدسي (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّب إليَّ بِالنَوَافِلِ حَتَى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)(1).

3-إن بها إتمام نقص الفرائض من حيث القبول، لأن الناس غالباً لا يأتون بالفريضة بالشكل الموجب للارتقاء، كالصلاة الخاشعة مثلاً، فشرعت النوافل لإتمام هذا النقص، وقد وردت في هذا المعنى روايات عديدة،1- كصحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: (إنَّ العبد ليرفع له من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها، فما يرفع له إلا ما أقبل عليه منها بقلبه، وإنما أمرنا بالنافلة ليتم لهم بها ما نقصوا من الفريضة).(2)

وروى أبو بصير نفس الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) وقال بعده: ما أرى النوافل ينبغي أن تترك على حاله، فقال الإمام الصادق (عليه السلام): (أجل لا)(3).

4- الثواب الكبير المرصود لمن أتى بالمستحبات بشكل مذهل أوجب عدم تصديق الكثيرين، ولم تتحمل عقولهم أن يكون مثل ذلك الثواب لمن صلى ركعتين أو قرأ سورة قصيرة من القرآن أو قضى حاجة لأخيه المؤمن أو تصدق بمبلغ يسير، لكن كرم الله تعالى واسع وخزائنه لا تنفد، وقد حفل القرآن الكريم والروايات الشريفة(4) بأمثال ذلك، حتى ان بعض ذلك الثواب لم يذكر تعظيماً لشأنه كثواب صلاة الليل، قال تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ

ص: 291


1- كنز العمّال : 1 / 229 / 1155، المعجم الكبير : ج8 ص206.
2- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب17 ح3.
3- السابق.
4- راجع (مفاتيح الجنان) ونحوه.

مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (السجدة/17)، ومثل هذا الثواب العظيم لا يفرّط به عاقل، ونحن في هذه الدنيا الزائلة نزرع لنحصد في الآخرة وفي تجارة لن تبور، والربح الجنة، ولذلك كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجهد نفسه في النوافل والمستحبات، لأنه وعى قوله تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) (الإسراء/79) ومن لا يريد أن يبعثه الله تعالى في المقام المحمود؟، وإنما ينال بامتطاء الليل(1) كما عبّّر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).

وقد أجهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه الشريفة حتى أشفق عليه ربه وخاطبه (طه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه/ 1-2) وقيل له: يا رسول الله أتتعب هكذا بالعبادة وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أفلا أكون عبداً شكوراً.

آثار ترك المكروهات:

وفي الطرف المقابل فإن نفس الآثار المباركة تحصل من ترك الأمور المشتبهة والمكروهات، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (حلال بيِّن وحرام بيِّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان منه اترك).(2)

وعنه (عليه السلام) (إياك والوقوع في الشبهات، والولوع بالشهوات، فإنهما يقتادانك إلى الوقوع في الحرام وركوب كثيرٍ من الآثام).(3)

وروى الإمام الصادق (عليه السلام) حديثاً عن جدّه رسول اله (صلى الله عليه وآله) جاء فيه (فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم)(4).

ص: 292


1- انظر البحار: ج75 ص379.
2- من لا يحضره الفقيه: 4/75 ح5149.
3- غرر الحكم: 2723.
4- الكافي: 1/ 68 ح10.

الاتيان بالمستحبات على قدر الإمكان:

ينبغي الالتفات إلى أنه ليس من المقدور إتيان كل ما مذكور من المستحبات واجتناب كل ما ورد من المكروهات، لكننا ذكرنا في خطاب آخر عن سنن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انك تبذل وسعك في فعل ما تستطيع وسيوفقك الله تعالى إلى ما لم تكن تستطيع، فلنتعاون على البر والتقوى كما أمر الله تبارك وتعالى.

ومن الواضح أيضاً اننا لا نريد من الاهتمام بالمستحبات أن يكون على حساب الفرائض، لأنه (لا قربة بالنوافل إذا أضرّت بالفرائض)(1) كما في الحديث الشريف كمن ينفق في الإطعام واستضافة الزوار وهو لا يؤدي الحق الشرعي، وإنما نتكلم عن الاهتمام بالمستحبات بعد الفراغ من الالتزام بالواجبات.

عدم الشعور بالمسؤولية ينتج تضييع الفرائض العظيمة:

إنّ هذا المنهج من التفكير الذي نريد معالجته في هذا الحديث منتشر مع الأسف وهو عقبة في طريق الإصلاح بل عطّل فرائض مهمة في الإسلام كفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنها ذابت بسبب عدم شعورالفرد بالمسؤولية أمامها، وأحد أسباب ذلك ذهاب المشهور إلى كون وجوبها كفائياً فاتّكل كلٌ على الآخر باعتبار أن الوجوب ليس متعيناً به.

وكذا صلاة الجمعة المباركة حيث قال المشهور أن وجوبها تخييري والمكلف مخيّر بين إقامتها أو أداء صلاة الظهر، فضيّعوها طيلة هذه القرون لأنهم اعطوا لأنفسهم الرخصة في الاختيار بين الظهر والجمعة مع أنهم يعترفون انها أفضل من صلاة الظهر حتى لو قلنا بمقالتهم، وحرمنا بسبب ذلك من بركات هذه الفريضة العظيمة.

مشكلة عدم الحضور لصلاة الجمعة:

ص: 293


1- نهج البلاغة: الحكمة: 39.

حينما نتفقّد أخبار الحضور في صلوات الجمعة نخرج بنتائج إن عدد الحاضرين معتدّ به إلا أنه بلحاظ عدد من يتوقع منهم الحضور غير مرضي وحينما نسأل عن السبب يعتذر البعض بأنه يبعد أزيد من 11 كيلومتراً عن موضع الصلاة فيسقط عنه الوجوب، ويعتذر الآخر بأنه يرجع إلى مرجعية تقول بالوجوب التخييري فلا يتعين عليه الحضور، وهذه نماذج لهذا التفكير غير المثمر الذي يفرط بأعظم القربات إلى الله تبارك وتعالى، فأين ذهبت مئات الأحاديث الشريفة التي تلزم بالحضور في صلوات الجمعة وتحث على الحضور فيها وتذكر الثواب العظيم والمغفرة الواسعة لمصلّي الجمعة، وهب أن الحضور ليس واجباً بالتعيين على الفرد، لكن أليس هو واجباً تخييرياً وانه أفضل الفردين، فلماذا هذا الزهد بالفضل العظيم والتجارة التي لن تبور.

لبس (المانتو) من قبل النساء:

ونفس الشيء نواجهه عند النهي عن بعض الأفعال، فحينما نقول لبعض النساء المحجبات بالثوب الذي ينزل إلى الركبة المعروف ب(المانتو) مع السروال: ان هذا النمط من اللباس يبتعد عن حجاب العفاف والحياء ويشكّل خطوة نحو التسامح والتحلّل، يقال لنا: انه ساتر للبدن ولا إشكال فيه اقتصاراً على الحدود الدنيا من الواجب.

الشباب ومشكلة الحوار مع الجنس الآخر:

أو بعض الشباب والشابات من طلبة الجامعات أو الذين يجرون حوارات على الجات وأمثاله ننهاهم عن إنشاء علاقات حتى لو كانت (شريفة) على مستوى تبادل المحاضرات ومناقشة شؤون الدراسة، لأنه فخ من فخوخالشيطان ومظنة للانجرار نحو الحرام، فإن الشيطان يخطط بمكر وخبث ليصل إلى مراده ويبدأ بمقدمات ليس فيها حرام واضح حتى يخدع المؤمن بإتباعه ثم تتدرج الخطوات ويبتعد المخدوع عن جادة الصواب شيئاً فشيئاً.

ص: 294

ففي البداية تبادل محاضرات وأحاديث عن شؤون الدراسة والحياة العامة ثم إعجاب من الطرفين ببعضهما ثم (مودّة) قلبية ثم تكثيف اللقاءات والمواعيد ثم الاختلاء ببعضهما في أماكن بعيدة عن الرقيب، ولا نعلم ما يحدث بعد ذلك وهذا ما حذّرَنا منه الله تبارك وتعالى فقال (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة/168) لأن الشيطان يتخذ خطوات متدرجة تنتهي إلى الوقوع في الحرام وقد لا تكون هذه النتيجة واضحة من أول الأمر.

أقول: حينما نقدّم هذه التوجيهات للشباب والشابات يقولون لنا أنهم لم يفعلوا حراماً وان علاقتهم (شريفة) وأحاديثهم مقتصرة على شؤون الدراسة والأمور العامة ولا يعلمون أنهم يسيرون على حافة الطريق وإلى جنبهم وادي سحيق ومن دون منطقة حماية لهم على الجوانب.

منهج عدم الاعتناء بالمستحبات والمكروهات:

إن السير بهذا المنهج من عدم الاعتناء بالمستحبات وترك الشبهات والمكروهات يؤدي إلى تضييع الدين شيئاً فشيئاً، لأنه سيترك قراءة القرآن وزيارة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) والإحسان إلى الآخرين والحضور في المساجد باعتبارها ليست واجبة، وسيقترب من الشبهات لأنها ليست محرمة جزمية فماذا بقي من الدين؟ وأين التقوى والورع الذي هو خير الزاد ليوم المعاد؟.

والخلاصة أنه علينا أن نعطي أهمية كبيرة لترك الشبهات وما نستطيع من ترك المكروهات، وأن نهتم بفعل ما يوفّقنا الله تعالى إليه من المستحبات خصوصاً المؤكدة منها كبعض النوافل اليومية وقراءة القرآن ولو لبضع دقائق يومياً والحضور إلى المساجد لأداء صلاة الجمعة والجماعة، وزيارة المعصومين (عليهم السلام) بحسب المتيسّر، ويحسن زيارتهم (عليهم السلام) عن بعد يومياً بسلام خفيف (السلام عليك يا سيدي ومولاي يا رسول الله صلى الله على روحك الطيبة وجسدك الطاهر، وعليك السلام يا مولاي يا حجة الله في أرضة وسمائه ورحمة الله وبركاته) وهكذا لجميع المعصومين مع ذكر اسم كل

ص: 295

واحد منهم، فإنه يصل إليهم لأنهم (يسمعون الكلام ويردّون الجواب)(1) كما في الزيارة الشريفة.

ص: 296


1- أنظر البحار: ج98 ص330.

من سُنن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) :

اشارة

من سُنن النبي :(1)

التأسي بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم):

حثّنا الله تبارك وتعالى على الأخذ بسنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال الله تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَوَالْيَوْمَ الْآخِرَ) (الأحزاب/21) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال (إني لأكره للرجل أن يموت وقد بقيت خلة من خلال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأت بها)(2).

وجعل الإمام (عليه السلام) سنن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرته ميزاناً يعرف بها الإنسان درجة صلاحه، فقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إنّ الله خصّ رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا وارغبوا إليه في الزيادة منها).(3)

وهذا يدعونا إلى البحث والتحري عن سنن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نتمكن من التأسي بها، ونحن لا نتوقع التمكن من الإتيان بها جميعاً، لكن علينا أن نسعى إلى تحقيق أكبر مقدار نستطيعه ونحافظ عليه وعندئذٍ يوفّقنا الله تعالى لا زيد من ذلك فنلتزم به ونحافظ عليه فنوفّق للمزيد وهكذا بالتدريج.

السنن النبوية في القرآن الكريم:

وسنن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومكارم أخلاقه تفوق حد الحصر، وما بين أيدينا هو ما نقل لنا منه عبر الروايات أما مقاماته وخصاله وملكاته فلا يعرفها إلا الله تبارك وتعالى.

ص: 297


1- محاضرة ألقاها سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) من قناة النعيم الفضائية، لإحياء ذكرى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ربيع الأول/1434 الموافق: كانون الثاني/2013.
2- بحار الأنوار: 16/254 عن مكارم الأخلاق للطبرسي: 39.
3- وسائل الشيعة كتاب جهاد النفس أبواب جهاد النفس باب4 ح1.

ونحاول في هذه العجالة أن نقف عند بعض هذه السنن وأول مصدر لسننه (صلى الله عليه وآله وسلم) وآدابه التي أدّبه بها ربّه هو القرآن الكريم، وقد سجّل لنا جملة منها كقوله تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }آل عمران159

وقوله {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }الأعراف199

وقوله {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }النمل91

وقوله {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ }الروم60وقوله {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً . إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ }الكهف23-24.

وقوله {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً }الإسراء79

وقوله وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/45).

وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأمير المؤمنين g:

ومن الروايات الجامعة لمكارم أخلاقه (صلى الله عليه وآله) وسننه: وصيته لأمير المؤمنين (عليه السلام) التي رويت في الكتب المعتبرة عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): (يا علي اوصيك في نفسك بخصال فاحفظها ثم قال: اللهم اعنه، اما الاولى فالصدق لا يخرجن من فيك كذبة ابدا، والثانية الورع لا تجترأنّ على خيانة ابداً، والثالثة الخوف من الله كأنك تراه، والرابعة كثرة البكاء من خشية الله عزّ وجلّ يبني لك بكل دمعة بيت في الجنة، والخامسة بذل مالك

ص: 298

ودمك دون دينك، والسادسة الاخذ بسنتي في صلاتي وصيامي وصدقتي، اما الصلاة فالخمسون ركعة، واما الصوم فثلاثة ايام في كل شهر خميس في اوله، وأربعاء في وسطه، وخميس في آخره، واما الصدقة فجهدك حتى يقال: اسرفت ولم تسرف، وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل وعليك بصلاة الليل، وعليك بصلاة الزوال، وعليك بقراءة القرآن على كل حال، وعليك برفع يديك في الصلاة، وتقليبهما، عليك بالسواك عند كل صلاة، عليك بمحاسن الاخلاق فاركبها، عليك بمساوئ الاخلاق فاجتنبها، فإن لم تفعل فلا تلومن الا نفسك)(1).

وقد تضمنت هذه الوصية عدّة محاور من سنته الشريفة منها على صعيد الصفات القلبية -كالورع والخوف من الله تعالى- ومنها على صعيد الخصالالنفسية – كالصدق- ومنها على صعيد الأعمال الخارجية كالصوم والصلاة والصدقة.

الاستمداد من الله تعالى:

ويعلمنا النبي (صلی الله علیه و آله)أن العمل بهذه السنن والأخذ بها لا يتحقق إلاّ بألطافٍ إلهية خاصة، لذلك فإنّه 2 يدعو لأمير المؤمنين (عليه السلام) (اللهمّ أعنه).

وقد علمنا الأئمة المعصومون (عليهم السلام) أن ندعو نحن أيضاً بهذا الدعاء كالذي ورد في الدعاء اليومي لشهر شعبان (اللهم فأعنّا على الاستنان بسنته 2 فيه)(2).

صفة العبودية لله تعالى:

كان (صلى الله عليه وآله) يجتهد في العبادة فقيل له (يا رسول الله غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخّر وأنت تجهد هذا الاجتهاد؟ فقال 2: (أفلا أكون عبداً شكورا)(3)، وصفة

ص: 299


1- وسائل الشيعة كتاب الجهاد أبواب جهاد النفس، باب 4 ح1.
2- إقبال الأعمال: ج3 ص300.
3- وسائل الشيعة كتاب الجهاد أبواب جهاد النفس، باب 4 ، ح2.

العبودية لله تعالى وحده والتحرّر من طاعة غيره هي مصدر كل الكمالات الأخرى لذلك اختارها الله لتكون الصفة التي يسلّم عليه بها يومياً في صلواتنا (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

لكي نعمل بسنن النبي (صلی الله علیه و آله):

وأذكر لكم عملاً عبادياً بسيطاً لو واظبتم عليه تكونون ممن أخذ بسنة النبي (صلی الله علیه و آله) وجدّه إبراهيم الخليل (عليه السلام) حيث أمرنا بالتأسي به أيضاً قال تعالى (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) (الممتحنة/4) وهي صلاة ركعتين يوم الجمعة بين الظهر والعصر، تقرأ في كلٍ منهما بالحمد مرة والتوحيد سبع مرات فإذا فرغت منها تقول (اللهمّ اجعلني من أهل الجنة التي حشوها البركة وعمّارها الملائكة مع نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأبينا إبراهيم عليه السلام)، روي عن الأئمة (عليهم السلام): أنّ من صلاّها لم تضره بليّة ولم تصبه فتنة إلى الجمعة الأخرى، وجمع الله بينه وبين محمدٍ وبين إبراهيم (عليهما السلام).(1)

الزواج من سنن النبي (صلی الله علیه و آله):

ومن سنن النبي (صلی الله علیه و آله) التي أكّد عليها وذمّ تركها الزواج وحبذا أن يكون مبكّراً روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (تزوّجوا فإنّ التزويج سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّه كان يقول: من كان يحبّ أن يتّبع سنتي فإنّ من سنّتي التزويج، واطلبوا الولد فإنّي مكاثر بكم الأمم).(2)

نقل الكلام الجارح:

ص: 300


1- مفاتيح الجنان: 90 أعمال يوم الجمعة فقرة 26.
2- وسائل الشيعة، كتاب النكاح، أبواب مقدماته، باب1 ح6.

ومن سننه (صلى الله عليه وآله وسلم) منع نقل أي كلام عن الآخرين يؤدي إلى إيجاد حزازة في الصدر على الإخوان لذلك روى عن ابن مسعود عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال (لا يبلغني أحدٌ منكم عن أصحابي شيئا فإنّي أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر).(1)

الكذب أبغض الخصال:

وكانت أبغض خصلة له (صلى الله عليه وآله وسلم) الكذب فقد رُوي عن أمّ المؤمنين عائشة قولها (كان أبغض الخلق إليه الكذب) وقالت: (كانت (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا اطّلع على أحدٍ من أهل بيته كذبَ كذبةً لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة).(2)

الرحمة للناس:

وكان يحبّ صفة الرحمة للناس والشفقة عليهم والعفو عن إساءاتهم وقضاء حوائجهم. قال تعالى (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة/128).وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول (أيّها الناس إنّما أنا رحمة مهداة).(3)

وسُئلَ الإمام الصادق (عليه السلام) (بِمَ ساد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الخَلق، فأجابَ بما مضمونه: بخصلتين العفو عمن ظلمه وأنّه لا يرد سائلاً.

ص: 301


1- بحار الأنوار: 16/ 231 عن مكارم الأخلاق: 17.
2- ميزان الحكمة: 8/ 571 عن كنز العمال: ح18379 و 18381.
3- ميزان الحكمة: 8/542 عن الطبقات الكبرى: 1/ 192.

الحل يبدأ من الالتفات الى هذه المبادئ:

تصوروا لو أنّ هذه الصفات (الصدق، الرحمة، العفو إلى المسيء، العمل على تحقيق مصالح الناس وإسعادهم) توفّرت في قادة البلاد هل تصل الحال إلى ما نحنُ عليه الآن من التمزّق والتناحر والصراع الطائفي والعرقي والفساد والعبث بأموال الشعب، فإذا أردنا الحل فإنّه يبدأ من الالتفات إلى هذه المبادئ السامية والأخلاق الكريمة حتى تتحوّل إلى خلق ثقافة عامة مبنيّة عليها، والعمل الجاد لترسيخها والله تعالى وليّ التوفيق.

سنن عند النوم:

ومن سُننه (صلى الله عليه وآله) ما روته السيدة الزهراء (صلوات الله عليها) قالت: (دخل عليَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد افترشتُ فِراشي للنوم، فقالَ لي يا فاطمة: لا تَنامي إلاّ وقد عملتِ أربعة: ختمتِ القرآن، وجعلتِ الأنبياء شُفعائكِ، وأرضيتِ المؤمنين عن نفسكِ، وحججتِ واعتمرتِ، قال هذا وأخذَ في الصلاة، فصبرتُ حتّى أتمّ صلاته، قلت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أمرتَ بأربعة لا أقدر عليها في هذا الحال، فتبسّم (صلى الله عليه وآله)، وقال: إذا قرأتِ (قُل هو الله أحد) ثلاث مرات فكأنكِ ختمتِ القرآن، وإذا صلّيتِ عليَّ وعلى الأنبياء قبلي كُنّا شُفعائكِ يوم القيامة، وإذا استغفرتِ للمؤمنين رضوا كلّهم عنكِ، وإذا قُلتِ: سُبحانَ الله، والحمدُ لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر فقد حججتِ واعتمرتِ)(1).

ومن مستحبات ما قبل النوم تسبيح الزهراء (عليها السلام) والنوم على طهور وقراءة سورة التكاثر للوقاية من فتنة القبر كما رويَ عنه (صلى الله عليه وآله).

ص: 302


1- أنظر مفاتيح الجنان: ص 777.

الفصل التاسع: الذنوب: آثارها والعصمة منها وكفاراتها

اشارة

ص: 303

ص: 304

كيفية الاعتصام من الذنوب

اشارة

كيفية الاعتصام من الذنوب(1)

كيف نحافظ على حالة التوبة؟

سألني أحدكم أن أتحدث عن كيفية المحافظة على حالة التوبة والاعتصام من الذنوب التي يتوجه إليها الإنسان في يوم عرفة يوم الدعاء وطلب التوبة، وقد ذكّرني سؤاله بفقرة وردت في أحد أدعية شهر رجب((2) وهي (واعصمنا منالذنوب خير العصم) وهذا يعني وجود أشكال عديدة من العواصم عن الذنوب بعضها خير من بعض، وهو معنىً صحيح إذا التفتنا إلى أنَّ من العواصم أن يفقد الإنسان النعمة التي يرتكب بها الذنب كفقد نعمة البصر فيتخلص من النظرة المحرمة، أو يفقد الإحساس بالشهوة الجنسية التي هي نعمة أودعها الله تبارك وتعالى في الإنسان ليدفعه نحو الزواج والإنجاب ولولاها لما أقدم البعض على تحمل مسؤولية الأسرة والأطفال ومشاق التربية والرعاية، فإذا فقد هذه النعمة فستزول تلقائياً فرصة ارتكاب جريمة الزنا والعياذ بالله تعالى.

لكن الإنسان لا يريد بالتأكيد هذه الطريقة من الاعتصام من الذنوب لأنه يدعو الله تبارك وتعالى أن يمتعه بالعافية وبحواسه من السمع والبصر وغيرهما (اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارثين )(3)..إلخ.

ومع ذلك قد تكون هذه الطريقة هي ما يختارها الله تبارك وتعالى لبعض عباده، يروى أن أبا بصير –وهو مكفوف- دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) وسأله أن يدعو الله

ص: 305


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من طلبة كلية العلوم/ جامعة ذي قار الذين التقوا سماحته يوم الخميس 8 ذو الحجة 1430 المصادف 2009/10/27 قبل توجههم إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة، ووردت بعض الفقرات في حديث سماحته مع وفود من كلية الهندسة / جامعة ذي قار يوم الجمعة 2/ذ.ح/ ومن كلية الهندسة جامعة البصرة يوم 3 ذ.ح.
2- («2» ) وهو الدعاء الوارد عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بواسطة سفيره محمد بن عثمان بن سعيد وأوله (اللهم إني أسألك بمعاني...) إلخ.
3- مفاتيح الجنان: ص413.

تبارك وتعالى ليرفع عنه البلاء ويعيد إليه بصره، فدعا الإمام (عليه السلام) له فردّ الله تعالى بصره وصار يبصر وفرح بذلك، فقال له الإمام (عليه السلام) إن شئت مضيت على حالتك الجديدة هذه وتحاسب يوم القيامة كما يحاسب الخلق أو ترجع إلى حالتك الأولى وتدخل الجنة بغير حساب، فاختار أن يعود إلى حالته الأولى ليضمن له الإمام (عليه السلام) الجنة.

رادع الحياء والخوف من الله تعالى:

وعلى أي حال فهذا شكل من أشكال الاعتصام من الذنوب، ومن الأشكال الأخرى أن يكون للإنسان رادع من نفسه عن الذنوب أما حياءً من الله تعالى لما انعم عليه من النعم التي لا تعد ولا تحصى، أو خوفاً منه عز وجل، أو خشية الفضيحة والعار خصوصاً يوم القيامة عندما تعرض الأعمال أمام الأشهاد وتبدو السرائر، نسأل الله تعالى عفوه وستره، وهذا الرادع يؤتاه الإنسان بفضل الله تبارك وتعالى حينما يخلص لله تعالى ويكون صادقاً معه ففي الحديث الشريف (إذا أحبَّ الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه)(1).

من العواصم: ذكر الله تعالى:

ومن العواصم عن الذنوب ذكر الله تعالى على كل حال والتفات الإنسان إلى أنه دوماً في محضر ربّه وإن ربّه مطّلع عليه «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» «مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» «مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا» فمع حالة الالتفات هذه لا يُقدم الإنسان على الذنب وإلا كان مستخفاً بربه، وإنما يرتكب الذنب بغفلة وجهالة فإذا التفت وتذكّر ندم وتاب «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ».

ص: 306


1- بحار الأنوار: ج70 ص26.

الالتفات الى قبح الذنب:

ومن العواصم أن يلتفت الإنسان إلى قبح الذنب ونتن صورته الواقعية التي تُدرك بالبصيرة لا بالبصر كما ورد في القرآن الكريم من تصوير الغيبة بأكل لحم الأخ ميتاً وهي صورة مقززة تنفر منها النفوس، وكتصوير الدنيا في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالجيفة لميتة الحيوان وحولها الكلاب تنهشها وتقطعها فمن يرضى أن يشارك الكلاب في هذه الجيفة، أو تصوير أكل الحرام بأنهم «يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» أو تصوير حبس الحقوق الشرعية والبخل بها بأنها «يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ» (التوبة : 35) وغيرها من الصور المرعبة التي وردت في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة فكيف يُقدم عليها الإنسان بعد معرفته بحقيقتها؟

الانشغال بالمباحات:

ومن العواصم أن يشغل الإنسان نفسه بالمباحات والأعمال الأخرى فضلاً عن الطاعات كالدراسة ومطالعة الكتب واللقاء مع الإخوان وحينئذٍ لا يبقى مجال ولا فرصة للمعصية والذنب لأن من أسباب

ارتكابها الفراغ، قال الشاعر:

إن الشباب والفراغ والجِدَة ***مفسدة للمرء أي مفسدة

ولله تبارك وتعالى مع أوليائه حالات من العصمة عن الذنوب لا يعرفها إلا أهلها، ولا يُنال كل ذلك إلا بالاعتصام بالله تعالى والتوسل إليه بطلب التسديد كما ورد في الدعاء (اللهم ارزقني توفيق الطاعة وبعد المعصية)(1).

ص: 307


1- مفاتيح الجنان: ص205.

ذنوبٌ قلّما نلتفت إليها

اشارة

ذنوبٌ قلّما نلتفت إليها(1)

الرضا عن النفس:

في ذكرى ولادة الإمام السجاد (علیه السلام) نتحدث عن حالة وردت في أدعية الصحيفة السجادية وهي إلفات نظر العبد إلى ذنوبٍ يغفل عنها تماماً، فقد يرضى البعض عن نفسه، ويعتقد أنه على خير ما دام قد أدّى الواجبات الرئيسية كالصلوات المفروضة وصيام شهر رمضان ودفع ما بذمته من خمس ونحوه من الحقوق الشرعية، وما دام قد اجتنب المحرّمات الرئيسية كالزنا وشرب الخمر واللواط والسرقة والقتل بغير حق ونحوها.

وهو لعمري خيرٌ كثير أن يلتزم العبد بذلك، لكن حالة الرضا عن النفس حالة غير صحيحة لأنّ أموراً أخرى كثيرة لا يلتفت إليها الإنسان، لكنّها مؤثرة في ميزان أعماله، وقد تقلب هذا الميزان رأساً على عقب باتجاه الفوز أو باتجاه السقوط والعياذ بالله تعالى.

وكلامنا في الحالة الثانية إذ قد يظنّ الإنسان أنه على خير، ولا يعلم ما سوّد به صحائفه، ولا يلتفت إليها أصلاً إمّا لغفلته، أو لجهله بأنّ هذه ذنوب، أو انّه يعلم ذلك ولكنه يتساهل فيها ويقلّل من شأنها وتأثيرها، ولذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام) التحذير من المحقّرات من الذنوب قال (علیه السلام) (اتقوا المحقرات من الذنوب فإنّها لا تغفر ، قلت : وما المحقرات ؟ قال : الرجل يذنب الذنب فيقول : طوبى لي إن لم يكن لي غير ذلك .)(2).

درس عملي من رسول الله (صلی الله علیه و آله):

ص: 308


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع طلبة الجامعات الذين انضمّوا إلى الدورة السريعة التي تنظمها جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف خلال العطلة الصيفية، وقد التقى بهم سماحته بعد صلاة الظهرين يوم الجمعة 6/شعبان/1432 المصادف 2011/7/8.
2- ، (2) وسائل الشيعة كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 43، حديث 1، 3.

وأعطى رسول الله (صلی الله علیه و آله) درساً عملياً في ذلك التأثير لأصحابه كما في الرواية عن الإمام الصادق (علیه السلام) قال (أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) نزل بأرضقرعاء، فقال لأصحابه: «ائتوا بحطب، فقالوا: يارسول الله، نحن بأرض قرعاء! قال: فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاؤوا به حتّى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله (صلی الله علیه و آله). هكذا تجمع الذنوب، ثمّ قال: إيّاكم والمحقّرات من الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وإنّ طالبها يكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين)((1).

أقول: هكذا تجتمع الذنوب التي يستصغرها صاحبها ويقدم عليها بلا اكتراث وتترك آثارها عليه حتّى تطبع على قلبه فتورده النار والعياذ بالله.

حُكيَ أنّ أحد التجّار كان يصنع القماش ليبيعه فيعاد عليه لعيب يوجد فيه، ففرّغ نفسه مدة وأتقن صنع القماش لكيلا يرد عليه، وباعه بعد أن تأكّد من سلامته من العيوب، وما لبث أن رجع إليه المشتري وأخبره بعيوب قماشه، فجلس التاجر يبكي والمشتري يطيّب خاطره ويقول له سأقبل القماش ولا أرجعه فلا تتأثّر، لكن التاجر (الواعي) قال: ما لإرجاع القماش أبكي، ولكن أبكي لأعمالي إذا عُرضت على الناقد البصير، كم سيجد فيها من العيوب، وكيف سيردّها عليّ، وما موقفي غداً، إذا كان المخلوق القاصرُ يجد كل هذه العيوب في قماش أتقنت صُنعه.

وقد يبقى الإنسان على غفلته ولا يلتفت منها حتى يأتيه الموت (لقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق/22) وقال تعالى (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة/6) وقال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) (الأنعام/60).

العلاج الناجع:

ص: 309


1-

وقد ذكرنا آنفاً أسباب هذه الحالة، أمّا علاجها فيمكن أن يكون بعدّة إجراءات وردت في الأحاديث الشريفة منها:

1- الإستغفار المستمر وطلب التوبة مما يعلم ومما لا يعلم من الذنوب، وقد وردت دعوات كثيرة يومية للاستغفار في تعقيبات الفرائض اليومية وفي صلاة الليل.

أداء الصلاة في أوقاتها لأنّها كفّارة لما بينها ولأن فيها تذكيراً بالله تعالى وعودة إليه (وأقم الصلاة لذكري) وفي الرواية عن الإمام الباقر (علیه السلام) قال: (قال رسول الله لو كان على باب دار أحدكمنهر فاغتسل في كلّ يوم منه خمس مرّات ، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء ؟ قلنا : لا ، قال : فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري ، كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب).(1)

2- الإكثار من الطاعات لأن الحسنات يذهبن السيئات، قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود/114) وقال تعالى (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الفرقان/70).

3- تجنّب الغفلة لأنّها الأصل في الوقوع بالمعاصي.

4- محاسبة النفس يومياً، لأن المحاسبة والتدقيق والمراجعة تكشف أموراً يغفل عنها لو لم يُجرِ هذه المحاسبة، وهذا معلوم بالتجربة لرجال الأعمال، وفي وصية النبي (صلی الله علیه و آله) لأبي ذر (يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه)(2) وعن الإمام الكاظم (علیه السلام) قال

ص: 310


1- وسائل الشيعة، كتاب الصلاة، أبواب اعداد الفرائض ونوافلها، باب2 ح3.
2- الوسائل: ج16 ص98.

(ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب عليه)(1).

5- مطالعة كتب الأخلاق والموعظة، وزيادة المعرفة بالله تعالى لأنّها أصل الدين وأساسه.

6- مجالسة الصالحين والتردد على المساجد والمشاهد الشريفة.

7- الإعتراف أمام الله بالتقصير وكثرة الذنوب مما نعجز عن عدّه وإيكال الأمر إلى عفوه ومغفرته وصفحه وإحسانه وكرمه.

بعض السيئات تحرق الحسنات:

وكما أنّ الحسنات يذهبن السيئات، فإنّ بعض السيئات تُذهب الحسنات وتُحرقها، ففي كتاب الأمالي(2) للشيخ الصدوق (v) بسنده عن الإمامالصادق (علیه السلام) عن آبائه (علیهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) من قال سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة، فقال رجلٌ من قريش يا رسول الله إنّ شجرنا في الجنة لكثير، قال نعم ولكن إيّاكم أن تُرسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك إنّ الله عزّ وجل يقول: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تُبطلوا أعمالكم) (محمد/33) ومن تلك النيران المناسبة للرجل من قريش إنكار ولاية علي بن أبي طالب (علیه السلام) وبقرينة الآية التي استدل بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) الآمرة بطاعة الله تعالى

ص: 311


1- الوسائل: 16 ص95.
2- أوردها عنه في البحار: 93/ 168.

ورسوله (صلی الله علیه و آله)، ومن تلك الذنوب الغيبة فعن الإمام الصادق (علیه السلام) قال رسول الله (صلی الله علیه و آله) الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه)(1).

مع الصحيفة السجادية:

وأنقل لكم نصاً من الصحيفة السجادية يلفت نظرنا إلى ذنوب نغفل عنها وهي تتعلق بالعلاقات مع الآخرين، ولك أن تقيس عليها غيرها مما لا يعلمه إلاّ الله تبارك وتعالى، قال (علیه السلام) في الاعتذار من تبعات العباد ومن التقصير في حقوقهم (اللهم إنّي اعتذر إليك من مظلوم ظُلم بحضرتي فلم أنصره، ومن معروف أسدي إليّ فلم أشكره، ومن مسيئٍ اعتذر إليّ فلم أعذره، ومن ذي فاقة سألني فلم أوثره. ومن حقّ ذي حقٍ لزمني فلم أوّفره، ومن عيب مؤمن ظهر لي فلم أستره، ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره)(2)، فالسيئات لا تقتصر على ما صدر منه من أمثالها، بل على ما فوّت مما ينبغي فعله، فلا ينشغل الإنسان بالنظر إلى ما قدّم من طاعة أو معروف بين الناس، بل إلى ما كان يجب عليه فعله ولم يفعله. كالشخص يفرح بما أنفق في سبيل الله، ويغفل عن مورد قصده فيه صاحب حاجة وكان قادراً على قضائها فلم يفعل، ووردت في ذلك روايات شديدة كالذي روي عن أبي الحسن(علیه السلام) قال(من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنّما هي رحمة من الله تبارك وتعالى ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله بولايتنا وهو موصول بولاية الله وإن ردّه عن حاجتهوهو يقدر على قضائها سلّط الله عليه شجاعاً من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو مُعذّباً فإن عذره الطالب(3) كان أسوأ حالاً)(4).

ص: 312


1- أصول الكافي، ج2، باب الغيبة والبهتان، ح1، وفي القاموس المحيط: أنّ الآكلة داء في العضو يأتكل منه.
2- الصحيفة السجادية: ص166.
3- قال الشارع: (أي المطلوب منه الحاجة، ووجهه إنه إذا عذره صاحبها لم يندم ولم يتب ولم يستغفر، بل ظن عدم تقصيره في حق الطالب فاجترأ على منع غيره).
4- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب 25، ح9.

فهذا شكل من السيئات يخفى على الإنسان، مضافاً إلى ما صدر منه فعلاً، ومن دعاء الإمام السجاد (علیه السلام) ليوم الإثنين (وأسألك في مظالم عبادك عندي، فأيّما عبد من عبيدك أو أمةٍ من إمائك كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه في نفسه أو في عرضه أو في ماله أو في أهله وَولده، أو غيبةٌ اغتبته بها، أو تحامل عليه بميل أو هوى، أو أنفة أو حميّة أو رياء أو عصبية، غائباً كان أو شاهداً، وحيّا كان أو ميتاً، فقصرت يدي، وضاق وسعي عن ردّها إليه، والتحلل منه، فأسألك يا من يملك الحاجات وهي مستجيبة لمشيئته، ومسرعة إلى إرادته، أن تصلّي على محمد وآل محمد وأن ترضيه عني بما شئت، وتهب لي من عندك رحمة)(1).

وفي ضوء هذه الحقيقة التي لا يلتفت إليها إلاّ الأقلّون، يمكن أن نفهم ما ورد في الحديث الشريف عن النبي (صلی الله علیه و آله) قال (لم يعبد الله عز وجل بشيء أفضل من العقل، ولا يكون المؤمن عاقلاً حتى يجتمع فيه عشر خصال) إلى أن قال (صلی الله علیه و آله) (والعاشرة وما العاشرة لا يرى أحداً إلا قال هو خير مني وأتقى)(2) وقد شرحت بعض فقرات الحديث في محاضرة سابقة(3).

نسأل الله تعالى أن ينبّهنا من نومة الغافلين المُبعدين بعفوه وكرمه.

ص: 313


1- مفاتيح الجنان: ص47.
2- الخصال للشيخ الصدوق (0): ص433.
3- أنظر خطاب المرحلة: ج7 ص76. الخطاب: (أول رجب بداية السنة المعنوية: ص76).

الذنوب وآثارها والعصمة منها وكفاراتها

اشارة

الذنوب وآثارها والعصمة منها وكفاراتها(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

موعظة:

قال الله تعالى: «وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ» (البقرة:197).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (عبادَ الله، الله الله في أعزِّ الأنفس عليكم، وأحبِّها إليكم، فإن الله قد أوضح لكم سُبُل الحق، وأنار طُرُقَه، فَشَقْوَةٌ لازمة، أو سعادةٌ دائمة، فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء، قد دُللتم على الزاد، وأمرتم بالظعن، وحثثتم على المسير، فإنما أنتم كركبٌ وقوف، لا يدرون متى يؤمرون بالسير، ألا فما يصنع بالدنيا من خُلق للآخرة، وما يصنع بالمال من عمّا قليل يُسلَبُه، وتبقى عليه تبعته وحسابه.

عبادَ الله، احذروا يوماً تُفحص فيه الأعمال، ويكثُر فيه الزلزال، وتشيب فيه الأطفال)(2).

ومن خطبة له (عليه السلام): (أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاذ، زاد مبلغ، ومعاذ منجح) (فبادروا العمل، وخافوا بغتة الأجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق، ما فات اليوم من الرزق رُجي غداً زيادته، وما فات أمس من العمر لم يُرجَ اليوم رجعته، الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي ف«اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ» (آل عمران:102) )(3).

ص: 314


1- خطبتا عيد الفطر السعيد للعام 1433 المصادف 2012/8/20، والعنوان كلمة لأمير المؤمنين وردت في نهج البلاغة، الحكمة (428).
2- نهج البلاغة: الخطبة (157).
3- نهج البلاغة: الخطبة (114).

سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن معنى التقوى وتفسيرها، فاختصر (عليه السلام) الجواب بقوله: (أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك)(1).

فللتقوى ركنان:

(الأول) ترك ما يكره الله تبارك وتعالى ويسخطه، وهو أوسع من المحرمات فيشمل المكروهات المؤثرة في تكامل الإنسان وتقربه من الله تعالى.

(الثاني) فعل ما يحبه الله تعالى ويرضاه وهو أعم من الواجبات فيشمل المستحبات الموجبة لرضا الله تبارك وتعالى ومحبته.

فمن أراد الكمال سار بهذين الطريقين معاً، ولا يغني أحدهما عن الآخر، فمن قام ببعض الطاعات لكنه لم يجتنب المعاصي والعياذ بالله، فإنه يهدم ما بناه بتلك الطاعات وسوف لا يقوم له بناء أبداً، روي عن المعصومين (عليهم السلام) قولهم: (جدّوا واجتهدوا، وإن لم تعملوا فلا تعصوا، فإن من يبني ولا يهدم يرتفع بناؤه وإن كان يسيراً، وإن من يبني ويهدم يوشِك أن لا يرتفع بناؤه)(2).

ونفس المعنى يجري في الأمراض البدنية، فإن من ابتلي بمرض معين –كالسكري أجاركم الله تعالى منه- فإن الطبيب يأمره بأخذ بعض العلاجات وينهاه عن ارتكاب بعض الأفعال أو تناول أطعمة تضره بكميتها أو نوعها، فإذا أراد الحفاظ على صحته فلا بد أن يأخذ بهما معاً.

ولو حاولنا ترجيح أحد الركنين على الآخر أو قل بيان أيهما أهم وأكثر تأثيراً في تحصيل التكامل فإن الجواب يكون لصالح الاجتناب عما يسخطه الله تبارك ويكرهه، وقد دلّت عليه بعض الأحاديث الشريفة كقول أمير المؤمنين (عليه السلام) (عليه السلام):

ص: 315


1- بحار الأنوار: 70/285، ح8.
2- بحار الأنوار: 70/286، ح8.

(اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات)(1)، ومنها ما ورد في خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر جمعة من شعبان لاستقبال شهر رمضان، وسأله علي (عليه السلام) عن أفضل الأعمال في هذا الشهر قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الورع عن محارم الله).

معرفة الذنوب:

فمعرفة الذنوب –بمداها الواسع ومراتبها الكثيرة بحسب مستويات الأشخاص- وتحصيل القدرة على اجتنابها –صغيرها وكبيرها- مما يهتم به الساعون إلى الكمال، لذا فقد شُغل حيز كبير من القرآن الكريم ببيان الذنوبوآثارها في الدنيا وعاقبتها في الآخرة والتحذير منها وبيان ما يكفّرها ويزيل آثارها، وقصص الأمم التي عكفت على المعاصي ولم تجتنبها وما حلّ بها من العذاب بسبب ذلك، والحياة السعيدة لمن اجتنبها، ولو حاولنا جمعها لوجدنا أن القرآن الكريم كله يعالج هذه القضية بشكل مباشر أو غير مباشر.

لماذا يذنب العبد؟

لا يمكن التقليل من قوة ضغط الذنوب والخطايا على الإنسان حتى يندفع إلى ارتكابها مع كثرة ما يعرف عن آثارها الوخيمة في الدنيا وعاقبتها الفظيعة في الآخرة، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) (عليه السلام): (ألا وإن الخطايا خيلٌ شُمُسٌ حُمل عليها أهلها وخُلعت لُجُمها فتقحّمت بهم في الناس)(2) فالخطايا كالخيول العنيدة المتمردة على صاحبها ولا لجام لها ليمسك بها فتقتحم بصاحبها إلى المخاطر.

وهنا يأتي السؤال: من أين جاءت هذه القوة للخطايا؟ أو قل: إذا كانت الذنوب بهذه الخطورة وهذا التأثير المدمر في حياة الإنسان فلماذا يرتكبها، وهذا بحث نفسي

ص: 316


1- غرر الحكم: 1522.
2- بحار الأنوار: 78/3، ح51.

واجتماعي وقد يحتاج إلى إجراء استبيان، ولكن يمكن استفادة بعض مناشئ الذنوب مما ورد في الروايات الشريفة، ينفع الالتفات إليها في اجتنابها وتوقيها، عن الإمام الباقر (عليه السلام): (توقّي الصرعة خير من سؤال الرجعة)(1):-

1- الجهل بمقام الربوبية ووظائف العبودية، فإن من يعرف الله تعالى يتجنب المعاصي بمقدار تلك المعرفة ويؤتيه الله تعالى فرقاناً يميز به بين الحق والباطل «إنْ تَتقوا اللهَ يَجعَل لَكُم فُرقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ» (الأنفال:29)، حتى إذا اكتملت عنده المعرفة –كالمعصومين (عليهم السلام)- أصبح عبداً خالصاً لله تعالى ينفر بطبعه من المعصية ويتقزز منها، فمن رأى الغيبة على حقيقتها ووجدها أكلاً للحم أخيه ميتاً هل يقدم عليها؟ ومن رأى الدنيا جيفة قد اجتمعت عليها الكلاب هل يتنافس عليها، وهكذا.

ثم الجهل بأمور الدين، فما دام الإنسان لم يتفقه في دينه ولم يتعرف على ما يقربه إلى الله تعالى ويجنبه سخطه فإنه يتورط فيالمعاصي من حيث يعلم أو لا يعلم، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (جهل المرء بعيوبه من أكبر ذنوبه)(2)؛ وكتطبيق لهذا المبدأ فقد ورد في التجارة قول الإمام الصادق (عليه السلام): (من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحلُّ له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات)(3).

والتحذير لا يختص بالتجارة وإنما يعم كل شؤون الحياة؛ لأنها كلها مقنَّنة بأحكام في الشريعة، فالجهل بها يوقع في المعصية كجهل ربِّ الأسرة بأن كثيراً مما يفعله في البيت هو ظلم لزوجته وأسرته، والظلم ذنب لا يغفر حتى يرضى المظلوم.

ص: 317


1- بحار الأنوار: 78/18، ح31.
2- بحار الأنوار: 78/91، ح 95.
3- وسائل الشيعة: 12/283، كتاب التجارة، أبواب،/ آداب التجارة، باب 1، ح4 .

2- وجود الدوافع وأصول الذنوب في النفس الإنسانية المعبَّر عنها بالغرائز والشهوات والتي خلقت أصلاً لتؤدي أدواراً إيجابية في حياة الإنسان ولتكمّل قواه الأخرى كالعقلية والجسدية والقلبية، لكنها إذا خرجت عن حدّها إلى جانب الإفراط أو التفريط كان سبباً للوقوع في المعاصي، أشار إلى هذه القوى هشام بن الحكم في ما نقل عنه ابن أبي عمير في الاستدلال على عصمة الإمام (عليه السلام) قال: (إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة، فهذه منتفية عنه –أي المعصوم- ثم بيّن ذلك) فراجعه(1).

3-ويعاضدها الشيطان بالتزيين والإغواء والتطمين والتهوين من الأمر حتى يقارف الذنب والمعصية قال تعالى حاكياً عن إبليس: «قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (الحجر: 3-40). وفي دعاء للإمام السجاد (عليه السلام): (فلولا أن الشيطان يختدعهم عن طاعتك ما عصاك عاصٍ، ولولا أنه صوَّر لهم الباطل في مثال الحق ما ضلَّ عن طريقك1- ضال)(2). وقد ورد التحذير من إغراء الشيطان وإغوائه كثيراً في القرآن الكريم والروايات الشريفة مما لا يخفى على أحد.

هذا التزيين الشيطاني وهذه الموافقة لأهواء النفس وشهواتها جعل للخطايا تأثيراً ساحراً يسكر صاحبه حتى يتورط فيها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (احذروا سكر الخطيئة، فإن للخطيئة سكراً كسكر الشراب، بل هي أشدُّ

ص: 318


1- بحار الأنوار: 25/192، ح1 عن كتب الشيخ الصدوق (قدس سره) معاني الأخبار والعلل والأمالي والعيون.
2- الصحيفة السجادية: الدعاء 37.

سكراً منه، يقول الله تعالى: «صُمٌّ بُكمٌ عميٌّ فهم لا يرجعون» (البقرة: 18))(1).

4- الاغترار بالستر الإلهي على العاصين وعدم فضح الإنسان بذنبه (فلو اطلع اليوم على ذنبي غيرك ما فعلته ولو خفتُ تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنك أهون الناظرين إليّ وأخفُّ المطلعين عليّ بل لأنك يا ربِّ خير الساترين.. وأكرم الأكرمين .. تستر الذنب بكرمك وتؤخر العقوبة بحلمك) (الحمد لله الذي يحلم عني حتى كأني لا ذنب لي)(2).

وذلك كله لسعة رحمة الله وطول أناته على ذنوب عباده رحمة بالعباد وإعطاءهم مزيداً من الفرص للندم والرجوع والإقلاع عن الذنب، وحبّاً من الله لعباده وشفقة عليهم، فيتمادى الإنسان ويغتر، ظاناً أن الفرصة مفتوحة على الدوام، ولا يعلم أنه قد يوصله تماديه واغتراره إلى حد هتك الستر وانغلاق الباب وسدّ الفرصة، قال تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً، وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً» (النساء: 17-18).

5-استصغار الذنب والاستخفاف به لما ارتكز في الذهن من أن الذنوب الموعود بها النار هي الكبائر أما غيرها فيمكن ارتكابها، وهذا التفكير بحد ذاته من الكبائر لما فيه من الجرأة على الله تعالى وعدم الاعتبار بعظمته وعلو شأنه وهو موجب لسخط الله وسلب اللطف1- عن العبد فتؤدي به هذه الصغائر إلى الوقوع في الكبائر والعياذ بالله.

ص: 319


1- بحار الأنوار: 77/102، ح1.
2- المقطعان من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي.

لذا كثر التحذير من استصغار أي ذنب، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا تستصغروا قليل الآثام فإن الصغير يُحصى ويرجع إلى الكبير)(1)، وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل بأرض قرعاء فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، قال: فليأت كل إنسان بما قدر عليه، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب، فإن لكل شيء طالباً، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين)(2)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: أعظم الذنوب عند الله سبحانه ذنب صغر عند صاحبه)(3) وعنه (عليه السلام): (إن الله أخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغروا شيئاً من معصيته، فربما وافق سخطه وأنت لا تعلم)(4).

6-الغفلة، فإن كثيراً من الذنوب –وبعضها من الكبائر- ترتكب لا للجهل بها وإنما للغفلة كالغيبة التي يُعلم أنها من الكبائر ووصفها الله عز وجل بأشنع الأوصاف وهي إدام أهل النار، ومع ذلك فقد أصبحت الغيبة فاكهة المجالس والمادة الرئيسية للأحاديث، فينبغي للمؤمن أن يتجنب الغفلة بترك المقدمات الموجبة لها، وإذا عرضت عليه فليخرج منها فور التفاته؛ بذكر الله تعالى، قال عز وجل: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ» (الأعراف:201) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (الغفلة

ص: 320


1- الخصال: 616، ح10.
2- الكافي: 2/288، ح3.
3- غرر الحكم: رقم 3141.
4- بحار الأنوار: 73/349، ح43.

ضلالة)(1) وعنه (عليه السلام): (إياك والغفلة والاغترار بالمهلة، فإن الغفلة تفسد الأعمال)(2). ومن وصايا النبي (صلى الله عليه وآله1- وسلم) لأبي ذر: (هُمَّ بالحسنة وإن لم تعملها لكيلا تكتب من الغافلين)(3).

7- سوء الخلق، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (لكل ذنب توبة إلا سوء الخلق، فإن صاحبه كلما خرج من ذنب دخل في ذنب)(4).

8- الاختلاط الكثير مع الناس ومجالسة البطّالين، والخوض في فضول الكلام، فهذه الأمور كلها مظنة الوقوع في الذنوب والمحرمات؛ لذا ورد التحذير من حضور هذه المجالس والمشاركة في اللغو الباطل «وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ» (المدثر:45)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (مجالسة أهل الهوى منسأة(5) للإيمان ومحضرة للشيطان)(6)، وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أكثر الناس ذنوباً أكثرهم كلاماً في ما لا يعنيه)(7) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إياك والهذر، فمن كثر كلامه كثرت آثامه)(6) وعنه (عليه السلام): (الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورِقك، فرُبّ كلمة سلبت نعمة وجلبت نقمة)(7).

ص: 321


1- غرر الحكم: 196، 2717.
2- ميزان الحكمة: 3/2287.
3- مكارم الأخلاق: 2/378.
4- بحار الأنوار: 77/48، ح3.
5- منسأة بفتح الميم والهمزة: أي تأخير وتأجيل.
6- نهج البلاغة: الخطبة: 86.
7- و (6) و (7) منتخب ميزان الحكمة: 552.

9-سوء فهم بعض ما ورد في الروايات الشريفة من الثواب على بعض الأفعال كدخول الجنة بالبكاء على الحسين (عليه السلام) وإقامة شعائره وشفاعة أهل البيت (عليهم السلام)، فقد أعطى الله تعالى هذه الكرامات لأهل البيت (سلام الله عليهم) رحمة بالعباد لكي تسدّ الخلل والتقصير والقصور مع حسن النية والعزم على فعل الخير والطاعة وبذل الوسع في ذلك، وليس بأن تكون سبباً للتمادي والجرأة والعناد واللجاجة، قال تعالى: «وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى» (الأنبياء:28) وقال تعالى: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ» (الأعراف: 156)، وكما عبّر الإمام الرضا (عليه السلام) عن1- إعطاء هذه الدرجات أنه (بشرطها وشروطها) في حديث سلسلة الذهب المعروف.

وقد حذّر الإمام الصادق (عليه السلام) في وصيته عند وفاته وقد جمع أقرباءه ومتعلقيه: (إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة)(1) وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (لا تتهاون بصلاتك، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال عند موته: ليس مني من استخف بصلاته)(2).

وقد لخّص الإمام السجاد (عليه السلام) ذكر هذه الأسباب لمقارفة الذنوب بما ورد عنه في الدعاء المعروف بدعاء أبي حمزة الذي يدعى به في أسحار شهر رمضان، قال (عليه السلام): (إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف ولا لعقوبتك متعرض ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي وأعانني عليها شقوتي، وغرّني سترك المرخى عليّ) وقال (عليه السلام): (إلهي ما لي كلما قلت قد صلحت سريرتي، وقرب من مجالس التوابين مجلسي، عرضت لي بلية

ص: 322


1- مستدرك الوسائل: 3/25، ح2923.
2- الكافي: 3/269، ح7.

أزالت قدمي ... سيدي لعلك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيتني، أو لعلك رأيتني مستخفاً بحقك فأقصيتني أو لعلك رأيتني معرضاً عنك فقليتني، أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني، أو لعلك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني، أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني أو لعلك لم تحب أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلك بجرمي وجريرتي كافيتني أو لعلك بقلة حيائي منك جازيتني..)(1).

كيف نحصل القدرة على اجتناب الذنوب؟

إن اجتناب الذنوب يحتاج أولاً إلى معرفة تفصيلية بها لأن بعضها وإن كان معلوماً كالكبائر إلا أن الكثير منها غير معلوم وبعضها لا يلتفت إليها أحد كعدم قضاء حوائج المؤمنين والاهتمام بها، ففي رواية عن الإمام الصادق وولده الكاظم (عليهما السلام): (من أتاه أخوه في حاجة يقدر علىقضائها فلم يقضها له سلّط عليه شجاعاً ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو معذباً)(2) وهكذا غيرها مما ذكرناه في خطاب سابق وذكرنا أمثلة عليها من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في الاستغفار من كل نعمة لم يشكرها أو ظُلم أحدٌ عنده فلم ينصره وهكذا، ناهيك بالمحرمات المعروفة، وهذا يتطلب تفقهاً واطلاعاً مستمراً على كتب السلف الصالح والاستماع دائماً إلى المحاضرات الإرشادية والوعظية.

ومما يقلل فرصة ارتكاب الذنب زيادة المعرفة بالله تعالى وتقوية العلاقة به تبارك وتعالى، كتذكر أنه محسن إلينا بما لا يعد ولا يحصى من النعم، و «هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ» (الرحمن:60) و«أَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (القصص:77) وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام):

ص: 323


1- دعاء أبي حمزة الثمالي، تجده في مفاتيح الجنان، أعمال أسحار شهر رمضان.
2- وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب فعل المعروف، باب 25، ح5، 9، 10.

(لو لم يتوعد الله على معصيته لكان يجب ألا يُعصى شكراً لنعمته)(1)، وعن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث قال: (ولو لم يخوِّف الله الناس بجنة ولا نار لكان الواجب عليهم أن يطيعوه ولا يعصوه لتفضله عليهم وإحسانه إليهم وما بدأهم به من إنعامه الذي ما استحقوه)(2).

أو الالتفات إلى أن الذنوب تمنع بعض عطاء الله تبارك وتعالى ونحن محتاجون إليه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) المؤمنين (عليه السلام): (لو لم يرغّب الله سبحانه في طاعته لوجب أن يطاع رجاء رحمته)(3).

أو تذكر أنك بمحضر الله تبارك وتعالى وتحت نظره ولا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ» (غافر:19)، فمعصيته والحال هذه جرأة على جبار السماوات والأرض وتحدٍ لعظمته، من وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر: (يا أبا ذر لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت) ومن كلماته(صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تنظروا إلى صغر الذنب ولكن انظروا إلى من اجترأتم)(4).

أو أن يلتفت إلى أن هذا الذنب قد يوجب هتك الستر الذي ضربه الله تعالى عليه فتفضحه الذنوب، أو أن ينال به سخط الله تعالى وغضبه بحيث لا تنفعه توبة ولا تدركه الألطاف الإلهية، فقد أخفى الله غضبه في معصيته، فلا يُعلم أي معصية توجب ذلك فعلى العبد أن يتوفاها جميعاً، من دعاء الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد وكلني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان). في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (للمؤمن اثنان وسبعون ستراً فإذا أذنب

ص: 324


1- نهج البلاغة: الحكمة 290.
2- عيون أخبار الرضا: 2/180.
3- غرر الحكم: 7564.
4- بحار الأنوار: 77/168، ح6.

ذنباً انهتك عنه ستر، فإن تاب رده الله إليه وسبعةً معه، وإن أبى إلا قدماً قدماً في المعاصي تهتك أستاره، فإن تاب ردها الله إليه ومع كل ستر منها سبعة، فإن أبى إلا قدماً قدماً في المعاصي تهتك أستاره وبقي بلا مستر وأوحى الله تعالى إلى ملائكته أن استروا عبدي بأجنحتكم)(1).

وفي الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (من همّ بسيئة فلا يعملْها فإنه ربما يعمل العبد السيئة فيراه الرب تعالى ويقول: وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعد ذلك أبداً)(2).

ومما يساعد على تجنب المعاصي أن يعلم بأن في ارتكاب الذنب إيذاءً وإساءة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأمير المؤمنين (عليه السلام) ولفاطمة الزهراء (عليها السلام) والأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) ونحن نحبهم ولا نريد إيذاءهم وهم مطّلعون على أعمال العباد، كما نطقت به الآية الكريمة: «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» (التوبة:105)، روي عن الإمام (عليه السلام) قال: (ما لكم تسوؤون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال رجل: جُعلتُ فداك وكيف نسوؤه؟ قال: أما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه فإذا رأى فيها معصية الله ساءه ذلك، فلا تسوؤوا رسول الله وسرّوه)(3).

ومن المعرفة الموجبة لتجنب المعاصي الالتفات إلى الهدف من وجودنا في هذه الدنيا وما ينبغي أن نصرف أعمارنا فيه مما يوصل إلىالغاية، وحينئذٍ سوف لا يكون للإنسان مجال للعب والعبث واللهو فضلاً عن ارتكاب المعاصي، عن الإمام الكاظم (عليه

ص: 325


1- بحار الأنوار: 73/63، عن نوادر الراوندي: 6.
2- سفينة البحار: 3/216، بحار الأنوار: 73/308.
3- مجالس المفيد: 196، المجلس 23، ح29.

السلام): (إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب؟ وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض)(1).

آثار الذنوب في الدنيا والآخرة:

ومما يحفّز على ترك الذنوب معرفة آثارها في الدنيا والآخرة، ونتعرض هنا لبعض آثارها في الدنيا، أما في الآخرة ابتداءً من الموت وما بعده من أهوال البرزخ والحساب ويوم القيامة فإن في القرآن الكريم ما يكفي لبيان تلك العظائم «يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» (الحج:2) «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً» (المزمل:17) «بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (البقرة:81) «قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» (الأنعام:15) «وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» (النمل:90) وأهون ما يذكر من تلكم الآثار الحجب عن النعيم مدة قد تطول كثيراً، في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن العبد ليُحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام وإنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن)(2).

إن معرفة هذه الآثار الوخيمة للذنوب توجب على كل عاقل اجتنابها، عن الإمام علي (عليه السلام): (عجبت لأقوام يحتمون الطعام مخافة الأذى كيف لا يحتمون الذنوب مخافة النار)(3) وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار)(4).

ص: 326


1- بحار الأنوار: 78/301، ح 1.
2- الكافي: 2/272، باب الذنوب، ح19.
3- تحف العقول: 204.
4- بحار الأنوار: 62/269، ح 60.

وقد حصلنا من الروايات على جملة من تلك الآثار:

1- قصر العمر وتعجيل الفناء بحيث يظهر من أقوال المعصومين شيء عجيب وهو: أن أكثر الناس لا يبلغون أعمارهم المقدرة بسبب الذنوب مما يسمى بالأجل المخروم، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (موت الإنسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل، وحياته بالبر أكثر من حياته بالعمر)(1)، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال، ومن يعيش بالإحسان أكثر ممن يعيش بالأعمار)(2)، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (تجنبوا البوائق يُمَدُّ لكم في الأعمار)(3).

ومن الذنوب التي اشتهر أنها تعجل الفناء قطيعة الرحم، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ثلاثة من الذنوب تعجل عقوبتها ولا تؤخَّر إلى الآخرة، عقوق الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الإحسان)(4).

2-إن الذنوب سبب للمصائب والآلام والنكبات التي يتعرض لها الفرد والمجتمع، في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أما إنه ليس من عرق يُضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب، وذلك قول الله عز وجل في كتابه: «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ» (الشورى:30)

ص: 327


1- سفينة البحار: 3/217، بحار الأنوار: 78/83.
2- سفينة البحار: 3/217، بحار الأنوار: 5/140.
3- عيون أخبار الرضا: 2/36.
4- ميزان الحكمة: 3/383، ح6857.

ثم قال (عليه السلام): (وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به)(1)، وفي الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن أحدكم ليكثر به الخوف من السلطان وما ذلك إلا بالذنوب فتوقوها ما استطعتم ولا تمادوا فيها) وقد تستحدث لهم بلاءات لم يكن يعرفونها من قبل، في الكافي عن الإمام الرضا1- (عليه السلام) قال: (كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون)(2).

3- إنها توجب اسوداد القلب وانغلاقه فلا يستجيب للهداية، في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كان أبي يقول: ما من شيء أفسد من خطيئة، إن القلب ليواقع الخطيئة فلا تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله)(3) أي يصبح كالإناء المقلوب فلا يحتفظ بشيء من الحق والهدى ولا تؤثر فيه الموعظة، وفيه عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً) وشاهده من كتاب الله قوله تعالى: «كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (المطففين:14).

4- نقص الرزق، في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (إن العبد ليذنب الذنب فيُزوى –أي يقبض ويصرف- عنه الرزق)(4) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا غضب الله عز

ص: 328


1- أصول الكافي: 2/269، باب الذنوب، ح3، وللمزيد من الاطلاع راجع قائمة بالذنوب التي تغيّر النعم والتي تنزل النقم والتي تهتك العصم والتي تعجل الفناء والتي ترد الدعاء في بحار الأنوار: 73/375-376 عن معاني الأخبار للصدوق: 270-271.
2- الكافي: 2/272، باب الذنوب، ح29.
3- أصول الكافي: 2/268، باب الذنوب، ح1.
4- أصول الكافي: 2/268، باب الذنوب، ح 8.

وجل على أمة ولم يُنزل بها العذاب غلت أسعارها وقصرت أعمارها ولم تربح تجّارها ولم تُزك ثمارها ولم تغزر أنهارها وحبس عنها أمطارها وسُلِّط عليها شرارها)(1).

5- الحرمان من الطاعات خصوصاً المهمة منها كصلاة الليل أو النوم عن صلاة الصبح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الرجل يذنب الذنب فيُحرم من صلاة الليل وإن العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم)(2).

6-زوال النعم، قال تعالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد:11) في الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن الله قضى قضاءً حتماً ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها حتى1- يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة)(3) وعنه (عليه السلام): (إن الله عز وجل بعث نبياً من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء فتحولوا عما أحب إلى ما أكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون، وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عما أكره إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون).

وضرب القرآن الكريم مثلاً في سبأ(4) «لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا

ص: 329


1- ثواب الأعمال: 305، الخصال: 2/360، الباب 7، ح 48.
2- أصول الكافي: 2/268، باب الذنوب، ح 16.
3- أصول الكافي: 2/273، باب الذنوب، ح22.
4- بيان الشاهد: أنه كان لأهل سبأ بساتين ورياض غنّاء عن يمين بلادهم وشمالها وطلب منهم ربّهم أن يشكروا نعمه فأعرضوا فأرسل عليهم سيلاً من المطر الشديد والجرذ الذي نقب السد جزاءً لتمردهم، وجعل لهم على طول المسافة بينهم وبين الشام قرىً ليستريحوا ويتزودوا لسفرهم فكانوا يقيلون في قرية ويبيتون في أخرى حتى يصلوا آمنين من المخاوف والمضار فقال العصاة: باعد بين أسفارنا أي أزل القرى واجعل المسافات شاسعة في الصحراء ليصعب على غير التجار والمتمولين والمترفين السفر والتجارة ويحرموا الفقراء ويتباهون عليهم باتخاذ المراكب.

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ، فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» (سبأ: 15-21).

وقد ورد في الأحاديث الشريفة أن من الذنوب التي تغيِّر النعم وتعجَّل عقوبتها البغي على الناس.1- 7-عدم استجابة الدعاء والإبطاء في تحقيق ما يطلبه الداعي، قال الباقر (عليه السلام): (إن العبد ليسأل الحاجة من حوائج الدنيا فيكون من شأن الله قضاؤها إلى أجل قريب أو وقت بطيء فيذنب العبد عند ذلك ذنباً فيقول الله للملَك الموكَّل بحاجته لا تنجز له حاجته واحرمه إياها فإنه تعرَّض لسخطي واستوجب الحرمان مني)(1).

8- نكد الحياة وشقاؤها وتعاستها، قال تعالى: «وَمَن أَعرَضَ عَنْ ذِكرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أعمَى» (طه:124) وقال تعالى: «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ

ص: 330


1- الاختصاص: 31.

مُشْتَرِكُونَ» (الزخرف: 36-40) فمن يتعامى عن الحق واتباعه يخلّي الله تعالى بينه وبين شيطانه يغويه ويصده (عليه السلام) سبيل الله ويكون ملازماً له فيشقيه ويتعبه «وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ» (فصلت: 25).

9- تشوّش الفكر وانشغال الذهن وسوء الحفظ والحرمان من العلم النافع المقرِّب إلى الله تعالى، بسبب الصراع الذي يعيشه ووخز الضمير وخوف الفضيحة والعقاب، والذلة الباطنية التي يحسّ بها، ولحرمانه من لطف الله تعالى، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (اتقوا الذنوب فإنها ممحقة للخيرات، إن العبد ليذنب الذنب فينسى به العلم الذي كان قد علمه)(1)، وهو ما عبّر عنه الشاعر:

شكوتُ إلى حكيمٍ سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي

وعلّله بأن العلم نورٌ*** ونور الله لا يؤتى لعاصي

10-ويعم أثر الذنوب حتى يتضرر به الآخرون وربما المجتمع كله، قال تعالى: «وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً» (الأنفال: 25)، وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)1- قوله: (الذنب شؤم على غير فاعله، إن عيَّره ابتلي، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه)(2).

والخلاصة:

أنه إذا أراد الإنسان أن يوفقه الله تعالى للمزيد من طاعته فليترك الذنوب.

وإذا أراد أن يحيى حياة مطمئنة سعيدة صافي البال فليترك الذنوب.

وإذا أراد طول العمر بخير وعافية وسعة رزق فليترك الذنوب.

ص: 331


1- بحار الأنوار: 73/377، ح14.
2- منتخب ميزان الحكمة: ح2420.

وإذا أراد أن تدوم عليه نعم الله وتقل عليه المصائب فليترك الذنوب.

وإذا أراد سلامة القلب واللحاق بالصالحين فليترك الذنوب.

ولذا كان يوم العيد الحقيقي هو كل يوم لم تجترح فيه ما يكرهه الله تبارك وتعالى، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض الأعياد: (إنما هو عيدٌ لمن قبِل الله صيامه وشكر قيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد)(1).

العواصم من الذنوب:

وعلى رأس العواصم من الذنوب –وهو الأصل فيها- اللطف الإلهي الذي به عصم الله تعالى أنبياءه ورسله والصالحين من عباده قال تعالى: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ» (يوسف:24)، وقال تعالى: «وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً» (الإسراء: 74).

في رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى داوود النبي (عليه السلام) أن ائت عبدي دانيال فقل له: إنك عصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك، قال: فأتاه داوود (عليه السلام) فقال له: يا دانيال، إني رسول الله إليك وهو يقول لك: إنك عصيتني فغفرت لك وعصيتني فغفرت لك، وعصيتني فغفرت لك، فإن أنت عصيتني الرابعة لم أغفر لك. فقال له دانيال: قد بلغت يا نبي الله.قال: فلما كان في السَحَر قام دانيال وناجى ربه فقال: يا رب إن داوود نبيك أخبرني عنك: إني عصيتك فغفرت لي، إني عصيتك فغفرت لي، وأخبرني عنك أني إن عصيتك الرابعة لم تغفر لي، فوعزتك لأعصينك ثم لأعصينك، ثم لأعصينك، إن لم

ص: 332


1- نهج البلاغة: الحكمة 428.

تعصمني)(1)، أي: يا رب إنك إن وكلتني إلى نفسي فإني لا أستطيع أن أعصمها من الذنوب إلا أن تعصمني أنت برحمتك.

ومن العواصم الدعاء والذكر واليقظة كلما اعترته، قال تعالى: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (النحل:99)، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أكثر الدعاء تسلم من سَورة الشيطان)(2)، وقال (عليه السلام): (تحرّز من إبليس بالخوف الصادق)(3).

(ومنها) تجنب الحضور والتواجد في الأجواء المساعدة على المعصية لقطع منافذ الشيطان والنفس الأمارة بالسوء بحيث يصبح ارتكاب المعصية متعذراً، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ثلاث من حفظهن كان معصوماً من الشيطان الرجيم ومن كل بليةٍ: من لم يخلُ بامرأة ليس يملك منها شيئاً، ولم يدخل على سلطان، ولم يُعِن صاحب بدعة ببدعته)(4)؛ والإكثار من الوجود في المساجد ومجالس الصالحين فإنها تمنع من الوقوع في الذنب، قال علي (عليه السلام): (من العصمة تعذر المعاصي)(5)، وعنه (عليه السلام): (من اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان: ... أو يترك ذنباً خشيةً أو حياءً)(6).

(ومنها) المراقبة والمحاسبة الدقيقة والمستمرة للنفس، والأحاديث الآمرة بذلك كثيرة، روى الشيخ الطوسي (قدس سره) في كتاب الغيبة بسنده إلى أبي هاشم الجعفري قال: (سمعت أبا محمد (عليه السلام) يقول: من الذنوب التي لا تغفر قول الرجل: ليتني لا أؤاخذ إلا بهذا، فقلت في نفسي: إن هذا لهو الدقيق ينبغي للرجل أن يتفقد من أمره

ص: 333


1- بحار الأنوار: 73/362، ح90.
2- بحار الأنوار: ج78/9، ح64.
3- بحار الأنوار: 78/64، ح1
4- بحار الأنوار: 74/197، ح32.
5- نهج البلاغة: 535، الحكمة 345.
6- الخصال: ج2، باب الثمانية، ح10.

ومن نفسه كل شيء، فأقبل عليَّ أبو محمد (عليه السلام) فقال: يا أبا هاشم صدقت فالزم ما حدثت بهنفسك فإن الإشراك في الناس أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء ومن دبيب الذر على المسح الأسود)(1).

(ومنها) استعظام الذنب واستفضاع عاقبته، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً جعل ذنوبه بين عينيه ممثلة والإثم عليه ثقيلاً وبيلاً، وإذا أراد بعبدٍ شراً أنساه ذنوبه)(2).

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن المؤمن ليرى ذنبه كأنه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه، والكافر يرى ذنبه كأنه ذباب مرَّ على أنفه).

(ومنها) عدم الإعجاب بالنفس، وما يصدر منها من طاعات؛ لأن ذلك يوجب إيكال العبد إلى نفسه فيذنب حتى يكون له واعظاً ومؤدباتً من نفسه، في الكافي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب ولولا ذلك ما ابتلي مؤمن بذنب أبداً)(3).

مكفّرات الذنوب:

إن الله تعالى يعلم ضعف العبد عن مسك زمام نفسه الأمّارة بالسوء ومقاومة غواية الشيطان وتزيين الشهوات ويعلم بجهل الإنسان بعواقب أفعاله، وهو أشفق على عباده وأرحم بهم من أنفسهم، وأكرم من أن يقابلهم على سيئاتهم بمثلها، قال تعالى: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ

ص: 334


1- بحار الأنوار: 73/359، ح78.
2- والذي بعده تجدهما في ميزان الحكمة: 3/375، ح 6794، 6795.
3- أصول الكافي: 2/313، باب العجب، ح1.

مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً» (فاطر:45)، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به)(1)، في تفسير قوله تعالى: «وَمَا أصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أيدِكُم وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ» (الشورى: 30).

فضاعف سبحانه وتعالى لهم الحسنات وتمهل في تسجيل السيئات، في الخصال عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا همّ العبد بحسنةكتبت له حسنة، فإذا عملها كتبت له عشر حسنات، وإذا همّ بسيئة لم تكتب عليه فإذا عملها أُجّل تسع ساعات فإن ندم عليها واستغفر وتاب لم تكتب عليه وإن لم يندم ولم يتب كتبت عليه سيئة واحدة)(2)، وفي رواية أخرى: قال الله تبارك وتعالى: (قد جعلت لهم التوبة أو بسطت لهم التوبة حتى تبلغ النفس الحنجرة، قال يا ربّ حسبي)(3) أي قال آدم (عليه السلام) حسبي تلك الفضائل لذريتي مما كان للشيطان من التأثير عليهم.

ثم لم يكتف سبحانه بكرمه ورحمته بذلك بل جعل لهم مكفرات لذنوبهم حتى يخفف عنهم أوزارهم التي احتملوها على ظهورهم بسوء أفعالهم ويلاحظ على تلك المكفرات أن بعضها اختيارية وبعضها غير اختيارية، فالاختيارية أفعال ينبغي للإنسان أن يقوم بها ليكفّر بها عن سيئاته وإن لم يفعل ابتلي بغير الاختيارية وهي أشق عليه، لذا ورد في بداية دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام السجاد (عليه السلام): (إلهي لا تؤدبني بعقوبتك)، أما غير الاختيارية –كالأمراض- فهي أمور تعرض للإنسان بسبب منه أو من غيره فيعتبرها الله تعالى بكرمه كفارة لذنوب من تعرض لها، فعلى الإنسان أن يسعى بجد في طلب المغفرة والتكفير عن ذنوبه بالأسباب الاختيارية، وأن لا يجزع إذا حصل له ما يكفّر الذنوب، فإن بقاء ذنب واحد عليه إلى يوم القيامة كافٍ لفضيحته وإيلامه.

ص: 335


1- أصول الكافي: 2/269، باب الذنوب، ح3.
2- الخصال: 2/418، باب التسعة، ح11.
3- بحار الأنوار: 71/249، ح11.

لذا ورد في أدعية شهر رمضان الاستعاذة من انقضائه أو انقضاء الليلة التي هو فيها وقد بقي عليه ذنب أو تبعة يؤاخذه بها: (إلهي وأعوذ بوجهك الكريم وبجلالك العظيم أن ينقضي أيام شهر رمضان ولياليه ولك قبلي تبعة أو ذنب تؤاخذني به أو خطيئة تريد أن تقتصها مني لم تغفرها لي سيدي سيدي سيدي)(1).

من وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لابن مسعود: (يا ابن مسعود: لا تحقرن ذنباً ولا تصغّرنّه، واجتنب الكبائر، فإن العبد إذا نظر يوم القيامة إلى ذنوبه دمعت عيناه قيحاً ودماً، يقول الله تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» (آل عمران:30)، يا ابن مسعود: إذا قيل لك: (اتقِ الله) فلا تغضبفإنه يقول: «وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ» (البقرة:206))(2).

أما مكفرات الذنوب فهي:

1- التوبة والاستغفار بصدق:

والتي تتضمن بحسب بيان أمير المؤمنين (عليه السلام) لمعنى الاستغفار الندم على ما صدر منه وعقد العزم بصدق على عدم العود ورد المظالم إلى أهلها وتدارك ما فاته من التقصير، وحينئذٍ يكفّر الله سيئاته وينسي الملائكة الحافظين ما كتبوا وكل الشهود بما فيهم جوارحه ويمحو عنه آثار تلك الذنوب والخطايا، ويكتب له بدل ذلك كله حسنات، قال تعالى: «إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً» (الفرقان:70).

2- القيام بالأعمال الصالحة والطاعات:

ص: 336


1- من أدعية العشر الأواخر في شهر رمضان.
2- بحار الأنوار: 77/101.

قال تعالى: «وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ» (هود:114) «ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً» (الطلاق:5).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحها)(1)، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (أوصيكم بتقوى الله .. وارحضوا بها ذنوبكم وداووا بها أسقامكم).

وورد هذا الأثر في أعمال كثيرة كزيارة الحسين (عليه السلام) وإحياء ليلة القدر وصوم بعض الأيام المعينة وبعض الصلوات المستحبة، وهي مذكورة في كتب السنن والمستحبات، نذكر منها ما روي عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (ثلاث ليالي من زار فيها الحسين (عليه السلام) غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر: ليلة النصف من شعبان والليلة الثالثة والعشرونمهر رمضان وليلة العيد) وورد في صوم ثلاث أيام الخميس والجمعة والسبت من الأشهر الحرم وهي (محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة) أنها كفارة ذنوب تسعمائة عام وهكذا.

3- الصلاة في أوقاتها:

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لو كان على باب أحدكم نهر فاغتسل منه كل يوم خمس مرات هل كان يبقى على جسده من الدرن شيء؟ إنما الصلاة مثل النهر الذي ينقي، كلما صلى صلاة كان كفارة لذنوبه إلا ذنب أخرجه من الإيمان مقيم عليه)(2).

وننبه دائماً إلى أن مثل هذه الأمور تلحظ مع شروطها كقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو صلّيتم حتى تكونوا كالأوتار، وصمتم

ص: 337


1- الحديثان تجدهما في ميزان الحكمة: 3/387-388، ح6893، 6895.
2- بحار الأنوار: 82/236، ح66.

حتى تكونوا كالحنايا لم يقبل الله منكم إلا بورع)(1)، وكقول الإمام الصادق (عليه السلام): (من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما، انصرف وليس بينه وبين الله ذنب)(2).

4- الابتلاءات والمصائب والمصاعب في الدنيا:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن المؤمن إذا قارف الذنوب ابتلي بها بالفقر، فإن كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلا ابتلي بالمرض، فإن كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلا ابتلي بالخوف من السلطان يطلبه، فإن كان في ذلك كفارة لذنوبه وإلا ضيق عليه عند خروج نفسه، حتى يلقى الله حين يلقاه وما له من ذنب يدعيه عليه فيأمر به إلى الجنة)(3).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا أراد الله بعبد خيراً عجّل عقوبته في الدنيا، وإذا أراد بعبد سوءاً أمسك عليه ذنوبه حتى يوافي بها يوم القيامة)(4).

5- رعاية حرمة شهر رمضان:

من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في وداع شهر رمضان (السلام عليك ما كان أمحاك للذنوب وأسترك لأنواع العيوب) (السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات وغسلت عنا دنس الخطايا) حتى روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (سمّي شوال شوالاً لأنّ فيه شالت –أي ارتفعت

ص: 338


1- بحار الأنوار: 84/258، ح65.
2- الكافي: 3/226، ح12.
3- ميزان الحكمة: 3/385، ح6869.
4- ميزان الحكمة: 3/385، ح6873.

وذهبت- ذنوب المؤمنين فلم يبق فيه ذنب إلا غفره الله تعالى ببركة صيام شهر رمضان فإن أجر كل أجير يعطى عند ختمه للعمل)(1).

6- الأمراض:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (السقم يمحو الذنوب)(2)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ساعات الوجع يذهبن ساعات الخطايا)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (حمى ليلة كفارة سنة).

7- الأحزان والهموم:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا كثرت ذنوب المؤمن ولم يكن له من العمل ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها به عنه)(3)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ساعات الهموم ساعات الكفارات، ولا يزال الهم بالمؤمن حتى يدعه وما له من ذنب).

8- إتيان المساجد:

عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض، ومن أتاها متطهراً طهره الله من ذنوبه وكتب من زوّاره، فأكثروا فيها من الصلاة والدعاء)(4).

9- العفو والصفح عن أخطاء الآخرين وتقصيراتهم:

لأن هذه من أخلاق الله تبارك وتعالى وهو يجازي من اتصف بها بأكثر منها، قال تعالى: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُلَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (النور:22)، روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

ص: 339


1- مصابيح الجنان: 599 عن السيد في الإقبال.
2- الأحاديث الثلاثة في ميزان الحكمة: 3/386، ح6876، 6877، 6868.
3- الحديثان تجدهما في ميزان الحكمة: 3/386-387، ح6885، 6888.
4- منتخب ميزان الحكمة: 307، ح2928.

قوله: (من عفا عند المقدرة عفا الله عنه يوم العسرة)(1)، ولكن مع الالتفات إلى معنى العفو ومنه ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما عفا عن الذنب من قرَّع به)(2). وفي دعاء الإمام السجاد (عليه السلام): (اللهم إنك أنزلت في كتابك العفو وأمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا وقد ظلمنا أنفسنا فاعفُ عنا فإنك أولى بذلك منا)(3).

10- اتباع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والاستنان بسنته الشريفة في الأفعال والأقوال:

قال تعالى: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (آل عمران:31).

11- إغاثة الملهوف:

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من كفارات الذنوب العظام: إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب)(4).

12- كفارات خاصة:

إن بعض الذنوب والتقصيرات لها كفارات خاصة، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (إن من الذنوب ذنوباً لا يكفّرها صلاة ولا صوم، قيل يا رسول الله، فما يكفرها؟ قال: الهموم في طلب المعيشة)(5).

وما ورد في القول المشهور: (كفارة عمل السلطان الإحسان إلى الإخوان).

ص: 340


1- منتخب ميزان الحكمة: 439، ح 4329.
2- غرر الحكم: 9567.
3- من دعاء أبي حمزة الثمالي.
4- ميزان الحكمة: 3/388، ح6899.
5- ميزان الحكمة: 3/387، ح6886.

وما في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (من الذنوب ذنوب لا تغفر إلا بعرفات)(1).

ومن الكفّارات الخاصة ما ورد عند القيام من أي مجلس أو انفضاض أي لقاء أو اجتماع كان مشوباً بالغفلة عن الله تعالىفيقول: «سُبحَانَ ربِّكَ رّبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى المُرسَلِينَ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ».

13- حسن الخُلُق:

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن حسن الخلق يذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل)(2).

14- كثرة السجود:

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: (يا رسول الله كثرت ذنوبي وضعف عملي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أكثر من السجود فإنه يحط الذنوب كما تحط الريح ورق الشجر)(3).

15- الحج والعمرة:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحجة المتقبلة ثوابها الجنة، ومن الذنوب ذنوب لا تغفر إلا بعرفات)(4)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إن أفضل ما توسل به

ص: 341


1- ميزان الحكمة: 3/389، ح6902.
2- ميزان الحكمة: 3/388، ح6898.
3- ميزان الحكمة: 3/389، ح6901.
4- الحديثان تجدهما في ميزان الحكمة: 3/389، ح6902، 6903.

المتوسلون إلى الله .. حج البيت واعتماره، فإنهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب).

16- افتتاح صحيفة العمل واختتامها بالخير:

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): (إن الملك الموكل على العبد يكتب في صحيفة أعماله فأملوا بأولها وآخرها خيراً يغفر لكم ما بين ذلك)(1).

17- الصلاة على محمد وآله:

قال الإمام الرضا (عليه السلام): (من لم يقدر على ما يكفر به ذنوبه فليكثر من الصلاة على محمد وآله فإنها تهدم الذنوب هدماً)(2).

18- سكرات الموت:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الموت كفارة لذنوب المؤمنين)(3).

ص: 342


1- ميزان الحكمة: 3/389، ح6904.
2- ميزان الحكمة: 3/389، ح6905.
3- ميزان الحكمة: 3/389، ح6906.

الفصل العاشر: كيف نحقق السعادة؟ وعناصر اكتمالها ومواقف تصنع الحياة السعيدة

اشارة

ص: 343

ص: 344

بمَ تتحقق السعادة؟

اشارة

(1)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على أشرف خلقه وأكرمهم أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

أهمية السعادة:

السعادة: حلم كل الناس والهدف الذي تسعى إليه البشرية، ولذلك كان كل اهتمام الأنبياء والرسل والفلاسفة والمفكرين والعلماء هو الوصول إلى ما تتحقق به السعادة، ونحن حينما نتبادل التهاني في العيد، يدعو بعضنا لبعض: (أسعد الله أيامكم) وإن كنا نحن في العراق نقولها وقلوبنا تعتصر ألماً لما يمرُّ به شعبنا من قتل ودمار ونقص مريع في الخدمات الأساسية، وانتشار الفقر والبطالة والمرض والجهل والفساد وأمثالها من الأمراض الاجتماعية الفتاكة التي تنخر بنية المجتمع وتدمره إلا من عصم الله تعالى.

ولا زالت دماء الضحايا والأبرياء لم تجف بعد في بغداد والبصرة والكوت وكربلاء والأنبار وغيرها من المدن العراقية المحرومة المنكوبة. وقد مرّت ستة أشهر على الانتخابات من دون تحقيق خطوة تذكر لتشكيل الحكومة، والزعماء السياسيون منهمكون بالصراع على السلطة وغنائمها وامتيازاتها.

وأقل من هذه البلاءات بكثير دفعت شاعراً مثل المتنبي إلى القول:

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ *** بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ

ويوجد اليوم في الكتّاب والمثقفين من يخاطب العيد بقول المتنبي، ويسخر ممن يقول

ص: 345


1- بمَ تتحقق السعادة ؟الخطبة الأولى التي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) لصلاة عيد الفطر السعيد يوم الجمعة عام 1431 الموافق 2010/9/10 م.

(أيامك سعيدة) و(أسعد الله أيامكم) مع أنها كلمات دعاء وطلب من الله تعالى بجعل أيام العمر سعيدة وهانئة وليست إخباراً عن الواقع المعاش حتى يجد البعض أنها غير لائقة وغير منطبقة على هذا الواقعالمؤلم.

الفوز الحقيقي:

وأين المتنبي وأمثاله من سمو أهل البيت (عليهم السلام) وحياتهم السعيدة وهم الذين لم يؤذَ أحدٌ كما أوذوا، انظروا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يسقط مضرجاً بدمائه في محراب مسجد الكوفة وهو يقول: (فُزتُ وربّ الكعبة)، والإمام الحسين (عليه السلام) يقول وهو يرى جمع الأعداء كالسيل وقد يبلغوا عشرات الآلاف وهو وأصحابه لا يتجاوزون المائة يقول (عليه السلام): (ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً)(1).

والإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) يشكر الله تعالى وهو في قعر السجون وظلمات المطامير ويقول (إلهي طالما طلبت منك أن تفرّغني لعبادتك وقد فعلتَ).

روى صالح بن سعيد قال: (دخلت على أبي الحسن - الهادي- (عليه السلام) يوم وروده - سامراء- فقلت له: جُعلتُ فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا المكان الأشنع خان الصعاليك.

فقال (عليه السلام): ها هنا أنت يا ابن سعيد، ثم أومأ بيده فإذا أنا بروضات أنيقات وأنهار جاريات وجنات فيها خيرات عطرات وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي، فقال (عليه السلام) لي: حيثُ كنّا فهذا لنا، يا ابن سعيد لسنا في خان الصعاليك)(2).

ص: 346


1- بحار الأنوار: 44/192.
2- بحار الأنوار: 50/202 رواها الشيخ المفيد والكليني (رضوان الله عليهما).

علامة السعادة:

إنها الحياة السعيدة في رحاب الله تبارك وتعالى التي تشغله عن كل شيء «أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الرعد:28) فاطمئنان القلب الذي هو علامة السعادة يتحقق بأن تجعل الله تعالى محور حركاتك وسكناتك وهدفك الذي تسعى إليه، ولا تنال تلك السعادة إلا بالتقوى؛ لذا يعلمنا الأئمة (عليهم السلام) أن نطلبها في الدعاء كما طلبوها لأنفسهم، من دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة: (اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك، وأسعدنيبتقواك.

فالسعادة الحقيقية هي الفوز بالجنة وهي ثمرة التقوى والعمل بما يرضي الله تبارك وتعالى ويقرب منه، قال تعالى: «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ» (هود:108).

متى تحصل الشقاوة؟

وتحيط الشقاوة بالإنسان - والعياذ بالله- حينما يعصي الله تبارك وتعالى ويبتعد عنه قال تعالى: «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ، حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ» (الزخرف: 36-38). فتصوروا أي حياة شقية تكون للشخص الذي يلازمه فيها شيطان يكون قريناً له يخلّي الله بينه وبينه ليرديه في الضلالات والمهالك وفي حياة تعيسة ضيقة يصفها قوله تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى» (طه: 124) ولذا تكون النتيجة يوم القيامة قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ» (هود:106-107).

السعادة والشقاوة تنبعان من النفس:

ص: 347

أيها الأحبة..

إن السعادة والشقاوة تنبعان من داخل الإنسان، وهي من حالات عالمه المعنوي ووصف لباطنه، فالسعيد من كان كذلك في باطنه، والشقي من كان كذلك في داخله؛ فلا تتحقق إلا بأمور من جنسها أي معنوية، وليس بأمور مادية كالمال والجنس وترف الدنيا، فكم من شخص لا تتوفر له أسباب السعادة المادية الدنيوية بفقر أصابه أو مرض ابتلي به أو مصيبة نزلت به لكنك تراه سعيداً متفائلاً مبتسماً، وآخر يعيش في ترف وتتوفر له كل أسباب المتعة والعيش الرغيد لكنه عبوس كئيب وقد ينتهي به الأمر إلى الانتحار، وهذه النشرات والإحصائيات تطلعنا باستمرار على أن أكثر حالات الانتحار موجودة في أكثر الدول رفاهية.

الدنيا للعبور والسعادة من المساعدة:

ولا يعني كلامنا هذا تقليلاً من أهمية توفير متطلبات الحياة الهنيئة السعيدة، فإن لها دوراً في تحقيق تلك السعادة إذا أُخذ منها بالمقدار المناسب للحاجة ووُظّفت لتحقيق الهدف، فإنها خير معين لها بفضل الله تبارك وتعالى.

وإنما اشتق اسم السعادة أصلاً من المساعدة وهي المعاونة على ما تتحقق به السعادة الحقيقية التي سميت سعادة لما فيها من معاونة الألطاف الإلهية للإنسان حتى وُفق إلى الخير والجنة ورضا الله تبارك وتعالى، ولذا نجد في الروايات الشريفة المأثورة عن المعصومين (عليهم السلام) إرشادات إلى ما تتحقق به السعادة الأخروية وما يستعان به على تحقيقها من أمور الدنيا.

مخاطبة عوالم الإنسان:

وهذا الانسجام مع الفطرة والتوازن في مخاطبة كل عوالم الإنسان، وتلبيته كل احتياجاته الروحية والنفسية والعقلية والجسدية هي من مختصات شريعة الله تبارك وتعالى

ص: 348

الخالق العظيم والبصير بما يصلح حال الإنسان ويسعده، بينما تاهت النظريات البشرية في تفسير السعادة وبيان ما تتحقق به لأن تحقيق السعادة حلم كل البشر ولم تنته بهم تلك النظريات إلا إلى الشقاء والقلق والخوف والكآبة والصراعات والشرور والآثام، بين أصحاب النظريات المادية الذين حددوا السعادة بالمتعة وتلبية الغرائز واحتياجات الجسد إلى حد الإفراط –كما في الغرب- من دون التفات إلى حاجة الروح إلى الكمال، ونزوع النفس إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، وبين أصحاب النظريات الفلسفية والروحية الذين جعلوا السعادة في تحقق الكمالات النفسية ولو على حساب التفريط في احتياجات الجسد، بل يجعل بعض أهل الرياضات الروحية تعذيب الجسد وإيلامه سبباً لنيل تلك الكمالات وتحقيق السعادة.

السعادة بالتوازن بين الإفراط والتفريط:

ويتغافلون بذلك عن حقيقة أن من تمام السعادة تحقيق التوازن في متطلبات كل جوانب الإنسان. وهذا ما وجدناه في شريعة الإسلام دين الفطرة «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَ