حد المبيت الواجب في منى

هویة الکتاب

الکتاب: حد المبيت الواجب في منى

تألیف: سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

الموضوع: الفقه

عدد الصفحات: 199

الطبعة الأولی

التاریخ: 1442 ه - 2021 م .

طبع و نشر: دار الصادقین للطباعة والنشر و التوزیع.

العنوان: العراق - النجف الأشرف - شارع الرسول(ص) - هاتف: 009647810195480

النجف الأشرف

1442ه-/2021م

ص: 1

اشارة

ص: 2

بحوث مختارة من موسوعة فقه الخلاف

(8)

حد المبيت الواجب في منى

بحث فقهي استدلالي

سماحة المرجع الديني

الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

النجف الأشرف

1442ه-/2021م

ص: 3

حد المبيت الواجب في منى

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 5

ص: 6

حد المبيت الواجب في منى

من المناسك الواجبة التي يؤديها الحجاج المبيت في منى ليلتي الحادي عشر والثاني عشر من أيام التشريق، وقد يجب المبيت ليلة الثالث عشر، في حالات خاصة نشير إليها لاحقاً إن شاء الله تعالى، أما في النهار فلا يجب عليه المكث في منى إلا بمقدار رمي الجمرات.

وقد حكي عن المشهور تحقق الواجب بالمبيت في النصف الأول من الليل تعييناً وللناسك الذهاب إلى أي مكان شاء بعد انتصاف الليل، وذهب بعضٌ إلى التخيير بين النصفين الأول والثاني فله أن يكون في أي مكان يشاء أول الليل لكن عليه الحضور في منى عند منتصف الليل، ويمكث فيها حتى طلوع الفجر، وقال بعضٌ بكفاية المكث جزءاً من الليل ولو كان يسيراً إذا كان متصلاً بالفجر، ويوجد قولٌ نادر بعدم وجوب المبيت في منى أصلاً.

وقد عنون الفقهاء الباب ((أعمال العود إلى منى)) وفي كتب الحديث كالوسائل ((أبواب العود إلى منى))، ولا عبرة بعنوان ((العود إلى منى)) لأن الحاج يمكن أن يمكث في منى بعد إتمام مناسكه يوم النحر ليبيت فيها، وإنما عنونوا المسألة

ص: 7

بهذا لأنهم يفترضون أن الناسك بعد أن أدى أعمال منى يوم العاشر من الرمي والذبح والحلق والتقصير فإنه يذهب إلى مكة لأداء طواف الحج وسعيه وطواف النساء لاستحباب تعجيل طواف الحج يوم النحر، ثم يعود إلى منى للإتيان بالمبيت ليلاً ورمي الجمرات نهاراً.

أو لاستحباب الحضور في منى يوم التروية والمبيت فيها ليلة عرفة ثم الخروج منها إلى الموقف ثم يعودون يوم العاشر إليها، قال الشهيد الثاني (قدس سرّه) في الروضة: ((لأن مناسك مكة متخللة بين مناسك منى أولا وآخراً))(1).

فهل يجب المكث تمام الليل ليتحقق عنوان المبيت كما حكي عن بعض أهل اللغة؟ أم يكفي المبيت في جزء من الليل؟ وما هي حدود هذا الجزء؟.

وقبل البحث في المسألة نمهّد ببيان عدة مطالب:

(المطلب الأول): الدليل على وجوب المبيت في منى

استدل على الوجوب بوجوه:-

1- الروايات.

2- الإجماع.

ص: 8


1- الروضة البهية: 400/1، ط. ثامن الحجج، 1423.

3- السيرة القطعية لدى المسلمين جميعاً فإنهم يلتزمون بالمبيت كفعل واجب، وهذه السيرة متصلة بزمان المعصومين (علیهم السلام) فتكون حجة.

قال المحقق الحلي (قدس سرّه) في الشرائع مع بيان صاحب الجواهر (قدس سرّه): ((اعلم أنه (إذا قضى الحاج) ما عرفته من (مناسكه بمكة من طواف الزيارة والسعي وطواف النساء فالواجب العود إلى منى للمبيت بها، ويجب عليه أن يبيت بها ليلتي الحادي عشر والثاني عشر) مطلقاً والثالث عشر على تفصيل تسمعه إنشاء الله بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، بل عن أكثر العامة موافقتنا عليه، مضافاً إلى النصوص التي إن لم تكن متواترة فهي مقطوعة المضمون))(1).

أقول: وكذا عبارات الآخرين، وأضاف صاحب الحدائق: ((ونسبه في المنتهى إلى علمائنا أجمع مؤذناً بدعوى الإجماع عليه))(2).

وقال عنه صاحب الرياض (قدس سرّه): ((بإجماعنا، ووافقنا

ص: 9


1- جواهر الكلام، محمد حسن النجفي: 3/20، ط. دار الكتب الإسلامية - طهران.
2- الحدائق الناضرة: 292/17، ط. دار الكتب الإسلامية.

عليه أكثر من خالفنا كما عن المنتهى، وهو الحجة، مضافاً إلى الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة التي كادت تبلغ التواتر، بل لعلها متواترة))(1) وفي المستند أنه إجماع محقق ومنقول(2).

أقول: أما الإجماع فيمكن أن يكون مدركياً مستنداً إلى الروايات الكثيرة، ويمكن أن لا يكون متصلاً بزمان المعصومين لكثرة الأسئلة الواردة في الروايات من أصحاب الأئمة (علیهم السلام) عن حكم المسألة فكأنه لم يكن معروفاً لديهم.

وأما سيرة المسلمين فيمكن النقاش فيها من جهة وجود قائلين بعدم الوجوب لدى العامة كما سيأتي، ومنها قول الحنفي في بدايع الصنائع: ((يكره أن يبيت في غير منى في أيام منى فإن فعل لا شيء عليه ويكون مسيئاً لأن البيتوتة بها ليست واجبة بل هي سنة))(3).

فلعل مبيتهم للاستحباب كإقامتهم يوم التروية فيها، لكن هذه السيرة يمكن أن تكون كاشفة عن الوجوب لالتزام

ص: 10


1- رياض المسائل: 139/7، ط. مؤسسة آل البيت (علیهم السلام).
2- مستند الشيعة: 30/13، ط. مؤسسة آل البيت (علیهم السلام).
3- بدائع الصنائع، لأبي بكر الكاشاني: 159/2، ط. الأولى مكتبة الحبيبية، 1409.

الحجيج بها رغم أنهم يذهبون يوم النحر إلى مكة لأداء بقية مناسك الحج ثم يعودون إلى منى على ما فيهم من التعب والأذى للمبيت فيها، وهذا كاشف عن التزامهم بوجوب المبيت.

وعلى أي حال فعمدة الدليل على وجوب المبيت في منى الروايات كما يمكن الاستدلال بالآية الكريمة «وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى» (البقرة:203) وتقريب الاستدلال بنفي الإثم عمن بقي أيام التشريق بمنى بضميمة ما دل من الروايات على أن المراد بالأيام المعدودات أيام التشريق وبقية التفاصيل.

ومن الروايات(1) الدالة على وجوب المبيت في منى:-

1- صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (لا تبت ليالي التشريق إلا بمنى، فإن بت في غيرها فعليك دم، فإن خرجت أول الليل فلا ينتصف الليل إلا وأنت في منى إلا

ص: 11


1- الروايات السبعة تجدها في وسائل الشيعة: 250/14-258، كتاب الحج والعمرة، أبواب العود إلى منى ورمي الجمار والمبيت والنفر، باب 1، ح 8، 1، 4، 3، 19، 20. بنفس الترتيب، ط. مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث.

أن يكون شغَلك نُسكك أو قد خرجت من مكة، وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرك أن تصبح في غيرها).

2- صحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا فرغت من طوافك للحج وطواف النساء فلا تبيت إلا بمنى إلا أن يكون شغلك في نسكك، وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرك أن تبيت في غير منى).

3- صحيحة العيص بن القاسم قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام): عن الزيارة من منى؟ قال: إن زار بالنهار أو عشاء فلا ينفجر الصبح إلا وهو بمنى وإن زار بعد نصف الليل أو السحر فلا بأس عليه أن ينفجر الصبح وهو بمكة).

4- صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السلام) أنه قال في الزيارة: (إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلا بمنى).

5- صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: (إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلا بها).

6- رواية جعفر بن ناجية، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: (إذا خرج الرجل من منى أول الليل فلا ينتصف له الليل إلا وهو بمنى وإذا خرج بعد نصف الليل فلا بأس أن يصبح

ص: 12

بغيرها).

7- رواية مالك بن أعين عن أبي جعفر (علیه السلام) (إن العباس استأذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) أن يبيت بمكة ليالي منى، فأذن لهرسول الله (صلی الله علیه و آله) من أجل سقاية الحاج) وقد ورد عنه (صلی الله علیه و آله) قوله: (خذوا عني مناسككم)(1).

بتقريب أن تعليل الاستثناء وتخصيصه يكشف عن عموم الوجوب، ومثله ما ورد عن طرق العامة عن ابن عباس قال: (لم يرخّص النبي (صلی الله علیه و آله) لأحد أن يبيت بمكة إلا العباس من أجل السقاية)(2).

وتضاف إليها الروايات(3) الدالة على وجوب ذبح شاة لمن لم يبت في منى بقرينة ما دل في الروايات السابقة على أن الكفارة وجبت لترك الواجب إن ناقشنا في الملازمة بين

ص: 13


1- عوالي اللئالي: 215/1، ح 73، و 34/4، ح 118، ومن مصادر العامة: سنن النسائي: 27/5، مسند أحمد: 318/3، سنن البيهقي: 125/5.
2- السنن، محمد بن يزيد بن ماجة القزويني: 1019/2، باب 80، من أبواب المناسك، ح 3066. ط. دار الفكر- بيروت، حققه وعلّق عليه محمد فؤاد عبد الباقي.
3- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح 10، 5، 14، 16، بنفس الترتيب.

وجوب الفعل ووجوب الكفارة عند تركه في أعمال الحج، كقول المحقق الأردبيلي (قدس سرّه): ((في الروايات الدالة على وجوب الشاة على تارك المبيت دلالة أيضاً على وجوب المبيت))(1)، وسنذكر الروايات في الفرع الأول الآتي إن شاء الله تعالى، ومنها:-

1- صحيحة علي بن جعفر عن أبي إبراهيم (علیه السلام) قال: (سألته عن رجل زار البيت فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم رجع فغلبته عينه في الطريق فنام حتى أصبح؟ قال: عليه شاة).

2- وروايته عن أخيه موسى بن جعفر (علیه السلام) قال: (سألته عن رجل بات بمكة حتى أصبح في ليالي منى؟ فقال: إن كان أتاها نهاراً فبات حتى أصبح فعليه دم شاة يهريقه، وإن كان خرج من منى بعد نصف الليل فأصبح بمكة فليس عليه شيء).

3- صحيحة صفوان قال: (قال أبو الحسن (علیه السلام): سألني بعضهم عن رجل بات ليالي منى بمكة فقلت: لا أدري، فقلت له: جعلت فداك ما تقول فيها؟ فقال (علیه السلام): عليه دم

ص: 14


1- مجمع الفائدة والبرهان: 335/7، تحقيق جماعة المدرسين - قم.

شاة إذا بات، فقلت: إن كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه لم يكن لنوم ولا لذة، أعليه مثل ما على هذا؟ قال: ما هذا بمنزلة هذا، وما أحب أن ينشق له الفجر إلا وهو بمنى).

4- صحيحة جميل عن أبي عبد الله (علیه السلام)

قال: (من زار فنامفي الطريق فإن بات بمكة فعليه دم، وإن كان قد خرج منها فليس عليه شيء وإن أصبح دون منى).

أقول: السند صحيح على ما في التهذيب والاستبصار، لكن الشيخ الكليني (قدس سرّه) أرسلها في الكافي عن جميل عن بعض أصحابنا؛ لذا احتمل السيد الخوئي (قدس سرّه) إرسالها واعتبرها مؤيداً في بعض مطالبه(1)، لكننا قلنا في بعض الأبحاث السابقة(2) أن هذا التعبير من مثل جميل عمن روى عنه لا يجعل الإرسال مضرّاً بصحة الرواية لأن العرف يفهم منه من الوصف ببعض أصحابنا أنه ثقة معتمد.

هذا من حيث السند أما من حيث المتن فالنص الموجود في الكافي أقرب للقبول وورد فيه (في رجل زار البيت فنام في

ص: 15


1- موسوعة السيد الخوئي: 390/29.
2- راجع كتاب فقه الإنجاب الصناعي من موسوعة فقه الخلاف: 211/12.

الطريق، قال: إن بات بمكة فعليه دم، وإن كان قد خرج منها فليس عليه شيء ولو أصبح دون منى).

أقول: التشقيق في كلام الإمام (علیه السلام) مناسب هنا جواباً على السؤال أما في رواية التهذيب فالتشقيق ورد بعد فرض نوم الزائر في الطريق فيكون في التعبير شيء والله العالم.

وهنا ملاحظات:-

1- قول بعدم الوجوب لدى العامة والخاصة:

المشهور عند العامة القول بالوجوب لكن المحكي عن أحمد في إحدى روايتيه الاستحباب وبه قال الحسن البصري ((احتجّ أحمد بما رواه عن ابن عباس قال: إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت، ولأنه قد حلّ من حجّه فلم يجب عليه المبيت كليلة الحصبة.

والجواب عن الأول: أنه لا حجة فيه، مع أنه معارض بقول ابن عباس لا يبيتنَّ أحد من وراء العقبة من منى ليلاً.

وعن الثاني: بالفرق؛ لبقاء بعض المناسك عليه، وهو الرمي في صورة النزاع))(1).

ص: 16


1- منتهى المطلب في تحقيق المذهب، للعلامة الحلي: 373/11، تحقيق مجمع البحوث الإسلامية - مشهد، 1429 هج-.

وحكى جملة من الأعلام(1) القول باستحباب أعمال منى كرمي الجمار والحلق والتقصير والمبيت عن الشيخالطوسي في تفسير التبيان والطبرسي في مجمع البيان، قال الشيخ (قدس سرّه): ((والحج هو القصد إلى البيت الحرام، لأداء مناسك مخصوصة بها في أوقات مخصوصة. ومناسك الحج تشتمل على المفروض، والمسنون. والمفروض يشتمل على الركن، وغير الركن، فأركان الحج أولاً: النية، والإحرام، والوقوف بعرفة، والوقوف بالمشعر، وطواف الزيارة، والسعي بين الصفا والمروة. والفرائض التي ليست بأركان: التلبية، وركعتا طواف الزيارة، وطواف النساء، وركعتا الطواف له. والمسنونات: الجهر بالتلبية واستلام الأركان، وأيام منى، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير، والأضحية إن كان مفرداً. وإن كان متمتعاً فالهدي واجب عليه، وإلا فالصوم الذي هو بدل عنه، وتفصيل ذلك ذكرناه في النهاية، والمبسوط، والجمل

ص: 17


1- الحدائق الناضرة: 292/17، رياض المسائل: 139/7، ط. مؤسسة آل البيت (علیهم السلام) لإحياء التراث، جواهر الكلام: 4/20، وسبقهم إلى ذلك العلامة في مختلف الشيعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والعقود، لا نطول بذكره))(1) وتبعه الشيخ الطبرسي على ذلك -كما هو معروف عنه- فذكر الواجبات الركنية وغير الركنية ولم يذكر فيها أعمال منى بل أحالها إلى الكتبالمصنفة في الحج(2).

أقول: أُجيب الإشكال بما عُرف عن المتقدمين أنهم يقصدون بالمسنونات التكاليف التي ثبتت بالسنة ولم ترد في الكتاب وليس ما اصطلح عليه الفقهاء والأصوليون بإرادة المستحبات، وقد وجّه ابن إدريس (قدس سرّه) كلام الشيخ بهذا، قال (قدس سرّه): ((وإنما أراد الشيخ بقوله: مسنون، أن فرضه عرف من جهة السنة لأن القرآن لا يدل على ذلك، والدليل على صحة هذا الاعتبار والقول ما اعتذر به شيخنا أبو جعفر الطوسي في كتابه الاستبصار وتأول لفظ بعض الأخبار فقال في وجوب غسل الميت وغسل من مسَّ ميتاً: المراد في إضافة هذا الغسل إلى السنة أن فرضه عرف من جهة السنة، لأن

ص: 18


1- التبيان في تفسير القرآن، للشيخ محمد بن الحسن الطوسي: 154/2، عند تفسير الآية «196» من سورة البقرة. ط. إحياء التراث العربي.
2- مجمع البيان، للشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي: 23/2، عند نفس الآية.

القرآن لا يدل على ذلك وإنما علمناه بالسنة))(1)، قال العلامة في المنتهى: ((لا نعلم خلافاً في وجوب الرمي، وقد يوجد في بعض العبارات أنه سنة، وذلك في بعض أحاديث(2) الأئمة عليهمالسلام وفي لفظ الشيخ في الجمل والعقود، وهو محمول على أنه ثابت بالسنة لا أنه مستحب))(3).

أقول: خالف العلامة (قدس سرّه) في المختلف ما قاله في المنتهى وحمل كلام الشيخ على الاستحباب فقال: ((قال الشيخ في التبيان: الحلق أو التقصير مندوب غير واجب وكذلك أيام منى ورمي الجمار))(4).

ص: 19


1- السرائر: 611/1.
2- كصحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: (سألت عن رمي الجمار لم جُعلت؟ قال: لأن إبليس اللعين كان يتراءى لإبراهيم عليه السلام في موضع الجمار، فرجمه إبراهيم عليه السلام فجرت السنة بذلك) (وسائل الشيعة: 263/14، أبواب العود إلى منى، باب 3، ح3) ورواه في قرب الإسناد عن علي بن جعفر أيضاً (ح7).
3- منتهى المطلب، للعلامة الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي: 382/11.
4- مختلف الشيعة، للعلامة الحلي: 307/4، المسألة (259)، ط. جماعة المدرسين - قم.

أقول: ويؤيده تعبيره بالواجب عن هدي المتمتع بعد عد المسنونات، لذا لم يرتض صاحب الحدائق هذا التوجيه فقال (قدس سرّه): ((ما ذكره من تأويل السنة بالحمل على ما ثبت وجوبه بالسنة جيد بالنسبة إلى الروايات متى وجد فيها هذا اللفظ مع معلومية الوجوب بدليل آخر، وأما في عبائر الفقهاء فإنهم إنمايطلقونه على المعنى الأصولي المتعارف، وتصريح الشيخ في الجمل والعقود بكون الرمي سنة إنما جرى على ما قدمنا نقله عن التبيان من حكمه باستحباب هذه المناسك، ومثله ما تقدم في كلام أمين الإسلام الطبرسي في تفسيره مجمع البيان))(1).

أقول: ربما يشفع لتوجيه العلامة (قدس سرّه) أن الشيخ (قدس سرّه) عدل في عبارته إلى عدّ الهدي واجباً للمتمتع؛ لأن وجوب الهدي مما نص عليه الكتاب.

لكن يبقى الإشكال في عدِّه الحلق والتقصير من المسنونات وهما مما نصّ عليهما القرآن الكريم. وعلى أي حال فإن الرأي الفقهي يؤخذ من الكتب الفقهية، أما ما يرد في التفسير فهو مجمل لبيان أصل المطلب أو على نحو العجلة لأنه ليس موضعه أو أنه على نحو الاختصار وإن كان مخلاً أحياناً ويحيل التفاصيل إلى الكتب الفقهية؛ لذا يمكن عدم

ص: 20


1- الحدائق الناضرة: 304/17.

الاعتداد بخلاف الشيخ (قدس سرّه) هنا.

وتوجد عبارات أخرى ربما يلوح منها عدم الوجوب، قال كاشف اللثام: ((ولا ينافيه -أي الوجوب- ما في بعض الكتب من جعله من السنة أو حصر واجبات الحج في غيره، أو الحكم بأنه إذا طاف للنساء تمت مناسكه، أو حجُّه لجوازخروجه عنه -أي خروج النسك عن الحج- وإن وجب، ونص الحلبي(1) على كونه من مناسكه(2)، ولذا اتفقوا ظاهراً على وجوب الفداء لو أخلّ به))(3).

أقول: ليس في هذه التعابير ما ينافي الوجوب -كما أفاد (قدس سرّه)

ص: 21


1- حكاه عن الكافي في الفقه: 198.
2- الكافي، لأبي الصلاح الحلبي: 198، قال: ((ومن مناسك الحج المبيت بها -أي منى- ليالي أيام التشريق إلى حين الإفاضة منها فإن بات بغيرها مختارا لغير عبادة فعليه دم، ويجوز الخروج منها للبائت بها بعد مضي النصف الأول من الليل، والتصبح بها أفضل. وإذا عاد إليها قبل أن يمضي النصف الأول فهو بائت بها، ونزولها قبل غروب الشمس أفضل)) ط. تحقيق رضا أستادي، الهيئة العامة لمكتبة أمير المؤمنين (عليه السلام) العامة- أصفهان.
3- كشف اللثام: 237/6، ط. الثانية، 1422، تحقيق جماعة المدرسين.

ولو من جهة السنة.

هذا وتوجد رواية يظهر منها عدم الوجوب وهي معتبرة سعيد بن يسار قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): فاتتني ليلة المبيت بمنى من شغل، فقال: لا بأس)(1)، وقد ردّهاالأصحاب بحملها على نفي البأس عن الحج ونفي الإثم لأنه معذور بعدم المبيت لأجل الاضطرار أو العذر المسوِّغ لترك الواجب لدى العقلاء وإن لم يبلغ حد الضرورة أو نفي الكفارة باعتباره مشتغلاً بالعبادة وإن كان التعبير بنفي البأس يناسب الحكم التكليفي ولا يناسب سقوط الكفارة، وسيأتي الكلام عنه إن شاء الله تعالى.

ولولا شذوذ الرواية وإعراض الأصحاب عنها وشيء من الإجمال فيها لاحتمالها عدة وجوه كما قدمنا، وعدم صلاحيتها لمعارضة الروايات الصحيحة الكثيرة الدالة على وجوب المبيت في منى، لكان مقتضى القواعد الاستدلال بها على عدم وجوب المبيت وحمل مطلوبية المبيت في الروايات الأخرى على الاستحباب، وسنجد أن بعض الأصحاب -كالمحقق الأردبيلي (قدس سرّه)- عمل بهذا في استحباب الكفارة.

ص: 22


1- وسائل الشيعة: 255/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح12.

وربما يؤيد هذا الجمع بترخيص(1) النبي (صلی الله علیه و آله) لعمّه العباس بالمبيت في مكة لأجل السقاية وعدم الخروج إلى منى ولو كان المبيت في منى واجباً لما رخّص له به.

وفيه: إن ((ذلك قضية شخصية في واقعة رخّص النبي(صلی الله علیه و آله) لعمّه وهو ولي الأمر وله أن يرخّص لكل أحد))(2).

أقول: التعليل في ذيل الرواية (من أجل سقاية الحاج) يفند كونها قضية شخصية لذا عممها جماعة إلى مطلق السقاة كما سيأتي. ويجب تخصيص ولي الأمر بالمعصوم لئلا يُفهم أن للولي الفقيه ذلك بحسب مختارنا في ولاية الفقيه.

2- ذهب جماعة إلى أن المبيت ليس من الحج وإن كان واجباً على الحاج، كما احتمل كاشف اللثام في عبارته المتقدمة (صفحة 21) خلافاً للحلبي معللاً باتفاقهم على الفداء لو أخلّ به، وعلّق عليه صاحب الجواهر (قدس سرّه) قائلاً: ((وإن كان فيه أن ذلك لا ينافي خروجه عن الحج))(3).

أقول: الأقوى الأول أي أنه ليس مقوّماً لماهية الحج وثمرته أن الإخلال به عمداً لا يفسد الحج نظير طواف النساء من هذه

ص: 23


1- تقدمت رواياته (صفحة 13).
2- موسوعة السيد الخوئي: 392/29.
3- جواهر الكلام: 40/20.

الجهة، وفي الروايات ما يدل على ذلك وإن كان آثماً بتركه كصحيحة العيص بن القاسم قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل فاتته ليلة من ليالي منى؟ قال: ليس عليه شيء وقد أساء)(1) بناءً على أن المراد أنه ليس عليه في حجّه شيءومثلها معتبرة سعيد بن يسار قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): فاتتني ليلة المبيت بمنى من شغل، فقال: لا بأس) أي في حجّه، ورواية أبي البختري في قرب الإسناد (عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام قال في الرجل أفاض إلى البيت فغلبت عيناه حتى أصبح، قال: لا بأس عليه ويستغفر الله ولا يعود).

وما ورد في صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) في مناسك الحج بعد يوم النحر فذكر زيارة البيت وطواف الحج وصلاته وسعيه وطواف النساء وصلاته ثم قال: (قد أحللت من كل شيء وفرغت من حجك كله وكل شيء أحرمت منه)(2)، وقوله (علیه السلام) في صحيحة سعيد الأعرج: (ثم يرجعن إلى البيت ويطفن أسبوعاً ثم يرجعن إلى منى وقد

ص: 24


1- وسائل الشيعة: 253/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح7.
2- وسائل الشيعة: 249/14، أبواب زيارة البيت، باب 4، ح1.

فرغن من حجهن)(1).

ومثلها الروايات الواردة في بيان كيفية الحج وأقسامه(2).

واختاره السيد الخوئي (قدس سرّه) قائلاً: ((إن أعمال منىخارجة عن أعمال الحج ولا يضرّ تركها بالحج وإن كان آثماً))(3).

وكذا الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه) قال: ((إذا ترك المبيت في منى رأساً بدون عذر لم يبطل بذلك حجه وعليه أن يكفّر بشاة عن كل ليلة))(4).

(المطلب الثاني): هل الحكم الملحوظ في المسألة وجوب المبيت في منى أو حرمة المبيت بمكة أو بغير منى عموماً والآخر تبع له؟

ومنشأ السؤال أن بعض الروايات أوجبت الكفارة على المبيت بمكة وهذا يعني أنه فعلٌ محرَّم، وأوجبتها أخرى على

ص: 25


1- وسائل الشيعة: 28/14، أبواب الوقوف بالمشعر، باب 17، ح2.
2- وسائل الشيعة: 212/11، أبواب أقسام الحج، باب 2، ح1 وغيره.
3- موسوعة السيد الخوئي: 375/29.
4- موجز أحكام الحج: 177، الفقرة (141).

ترك المبيت بمنى وهذا يعني أن المبيت بمنى واجب، ونحن نعلم من المتفاهم العرفي أن العقوبة إذا جعلت على ترك الفعل فالفعل واجب كالصلاة حيث توعد تاركها بالعذاب فهي واجبة، وإذا جعلت العقوبة على فعل الشيء فهذا يعني أنه حرام كشرب الخمر.

وفي الجواب نقول: ظاهر الروايات بل صريحها أنالحكم هو وجوب المبيت في منى المعبَّر عنه في بعضها بحرمة المبيت في غيرها كما في صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا فرغت من طوافك للحج وطواف النساء فلا تبيت إلا بمنى) وصحيحته الأخرى (لا تبت ليالي التشريق إلا بمنى، فإن بتَّ في غيرها فعليك دم) وفي رواية أبي الصباح الكناني في النهي عن الدلجة في الليل إلى مكة قال (علیه السلام): (كراهية أن يبيت الرجل بغير منى) وصحيحة جميل عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: (إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلا بها) ورواية جعفر بن ناجية عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا خرج الرجل من منى فلا ينتصف له الليل إلا وهو بمنى) وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (علیهما السلام) أنه قال في الزيارة: (إذا خرجت من منى

ص: 26

قبل غروب الشمس فلا تصبح إلا بمنى)(1).

ويظهر من صحيحة سعيد بن يسار أن وجوب المبيت بمنى مفروغ منه حتى عرفت ليالي التشريق بهذا الحكم، قال (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): فاتتني ليلة المبيت بمنى من شغل) وصحيحة علي بن جعفر (بات بمكة في ليالي منى).أما الروايات الدالة على النهي عن المبيت بمكة ووجوب ذبح شاة على من خالف وسقوط الفدية عنه لو خرج من مكة في طريق منى وإن لم يصل إليها ونام في الطريق كصحيحة صفوان عن أبي الحسن (علیه السلام) (عليه دم إذا بات) أي بمكة، وصحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (علیه السلام) (فإن بات بمكة فعليه دم، وإن كان قد خرج منها فليس عليه شيء وإن أصبح دون منى)، وصحيحة محمد بن إسماعيل عن أبي الحسن (علیه السلام) (في الرجل يزور فينام دون منى، فقال: إذا جاز عقبة المدنيين فلا بأس أن ينام) باعتبار أن عقبة المدنيين حد بيوت مكة يومئذٍ كما سنذكر إن شاء الله تعالى.

ورواية علي عن أبي إبراهيم (علیه السلام) قال: (سألته عن رجل زار البيت فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم رجع فغلبته

ص: 27


1- الروايات كلها في وسائل الشيعة: 251/14، أبواب العود إلى منى، باب 1.

عينه في الطريق فنام حتى أصبح؟ قال: عليه شاة) بناءً على أن نومه كان في الطريق قبل الخروج من مكة، وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (علیه السلام) (عن رجل بات بمكة في ليالي منى حتى أصبح، قال: إن كان أتاها نهاراً فبات فيها حتى أصبح فعليه دم يهريقه)، والروايات النافية لوجوب الدم إذا خرج من مكة ولو نام في الطريق كصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (علیه السلام) (إذا زار الحاج من منى فخرج من مكةفجاوز بيوت مكة فنام ثم أصبح قبل أن يأتي منى فلا شيء عليه).

فهي محمولة على الحرمة الغيرية مقدمة لوجوب الكون في منى ولا نتوقع أن على من بات بمكة حرمتين واحدة للمبيت في مكة والأخرى لترك المبيت في منى وأن عليه شاتين ونحو ذلك؛ لعدة قرائن:-

1- إن المنهي عنه ليس المبيت في مكة فقط حتى نظن الخصوصية فيه وإنما عموم غير منى كما ورد في صحيحة معاوية بن عمار (فإن بت في غيرها -أي منى- فعليك دم) وغيرها مما مر في الطائفة الأولى، فالنهي لا يختص بالمبيت في مكة بل في غير منى عموماً ومكة من مصاديقه، وهو يناسب ما قلناه، إذ لا معنى لأن يكون الحكم بحرمة المبيت في غير

ص: 28

منى مأخوذاً على نحو الاستقلال إلا أن يكون تعبيراً عن وجوب المبيت في منى، ولا يلتفت إلى دعوى أنه تعبير آخر عن النهي عن المبيت في مكة لأن أمر الحجيج يدور يومئذٍ بين المبيت في مكة أو منى فإنه تقييد لإطلاق (غيرها) بلا وجه.

2- إن الروايات فصّلت في أحكام المبيت بمنى فرخّصت لمن بات النصف الأول أن يغادرها وألزمت من لم يبت النصف الأول بأن يحضر عند منتصف الليل أو يصبح فيها وهذا يعنيأن الملحوظ هو المبيت في منى, ولم يؤخذ على نحو التبعية.

3- إن المبيت في مكة ليس منهياً عنه أصلاً إذا أدى الواجب وهو مبيت أحد النصفين، ففي صحيحة العيص بن القاسم عن أبي عبد الله (علیه السلام) (وإن زار بعد نصف الليل أو السحر فلا بأس عليه أن ينفجر الصبح وهو بمكة) ورواية قرب الإسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (علیه السلام) (وإن كان خرج من منى بعد نصف الليل فأصبح بمكة فليس عليه شيء).

وإطلاق قوله (علیه السلام) في صحيحة معاوية بن عمار: (وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرك أن تصبح في غيرها) الشاملة لمكة وفي رواية جعفر بن ناجية (وإذا خرج بعد نصف الليل فلا بأس أن يصبح بغيرها.

ص: 29

بل إن المبيت بمكة مشتغلاً بالعبادة أحد فردي الامتثال ويسقط المبيت في منى، وهو الفرع الثامن الآتي(صفحة 182)، ومع هذا كله كيف يقال بأن الحكم في المسألة هو حرمة المبيت في مكة.

4- ومن القرائن على ذلك أن الخلاف الدائر يومئذٍ لدىفقهاء العامة كان يدور حول وجوب المبيت في منى وعدمه(1). وقد قلنا مراراً أن كثيراً من أسئلة أصحاب الأئمة (علیهم السلام)

ورواياتهم كانت ناظرة لما يدور في الساحة من جدل وخلاف بحيث يُعدُّ هذا الخلاف قرينة على المراد منها.

5- لو كان الحكم هو حرمة المبيت في مكة لكان الضد المطلوب هو المبيت في غيرها ولا وجه لتخصيصه بمنى، أما لو كان الحكم وجوب المبيت بمنى فيصبح النهي عن كل ما ينافيه ومنه المبيت بمكة، وهذا هو الوارد في الروايات.

فالقول بأن الحكم هو حرمة المبيت في مكة وليس وجوب المبيت في منى وهمٌ وشبهة مقابل البديهة.

وكفاية النوم في الطريق خارجاً من مكة عن المبيت في منى لا يرجح كون التكليف هو حرمة المبيت في مكة وإنما هو

ص: 30


1- راجع المحلى: 184/7، والمغني: 473/3, والمجموع: 247/8, وفتح العزيز: 290/7.

توسعة من قبل الشارع لعنوان المبيت في منى ليشمل الطريق ما دام قد قصدها خارجاً من مكة تفضلاً من الله تعالى ورعاية لوضع الحاج المتعب، ولعله من مصاديق قوله تعالى: «وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ» (النساء:100)؛ لذا اختصالحكم بالطريق من مكة المؤدي إلى منى ولا يشمل أي خروج من مكة، ولو كان الحكم حرمة المبيت في مكة لاكتفى بالخروج منها في أي اتجاه.

نعم المبيت في مكة حرام بالحرمة الغيرية مقدمة لدفع الناسك نحو أداء الواجب وهو المبيت في منى وقد عدَّ الفقهاء المبيت في منى من أعمالها كأعمال عرفة ومزدلفة وهذا يعني أنه واجب بنفسه، ولا يناسبه أن يكون النسك حرمة المبيت في مكة.

ويظهر من فتاوى بعض الأصحاب أن حرمة المبيت في مكة حكم مستقل غير وجوب المبيت في منى كالشيخ الطوسي وابن إدريس وغيرهما (قدس الله سريهما) على ما يشعر به الحكم بعدم دخول مكة بعد امتثال الواجب بالمبيت في منى في النصف الأول من الليل، قال الشيخ (قدس سرّه): ((وإن خرج من منى بعد نصف الليل جاز له أن يبيت بغيرها، غير أنه لا

ص: 31

يدخل مكة إلا بعد طلوع الفجر))(1)، وسيأتي عرضه ومناقشته في التنويه (صفحة 179).

لكن الذي نستطيع أن نقوله هنا كاحتمال ونؤجل بحثهإلى الفروع الملحقة، وهو وجود حكمين في المسألة أحدهما تكليفي بوجوب المبيت في منى بالتفصيل المذكور، وثانيهما وضعي يتعلق وجوب الشاة على من بات تمام الليل خارج منى سواء في مكة أو غيرها، وهو ما سنبحثه في الملاحظة الثالثة في الفرع السادس.

فائدة أصولية:

لم يقسِّم الأصوليون الحرام إلى نفسي وغيري كما قسّموا الواجب، وهذا المورد يثبت صحّة التقسيم، ومن ثمراته الأصولية أنه يوقع التصالح في مسألة اقتضاء الأمر النهي عن ضدّه فإن الضد يكون محرماً غيرياً، فمَن قال بالاقتضاء صحّ كلامه بناءً على ذلك، ومن نفاه انصرف نفيه إلى الحرام النفسي وتخلّص من شعوره الوجداني بالاقتضاء.

ومن ثمراته الفقهية ما سيأتي في الإشكال (صفحة 163) من أن الكفارة قد تجب على فعل الحرام فلا تعمّ ترك

ص: 32


1- النهاية في مجرد الفقه، للشيخ الطوسي محمد بن الحسن: 265، ط. قدس محمدي - قم.

الواجب فيقال هنا أن المبيت بمكة حرام ولو بالحرمة الغيرية فيشمله دليل وجوب الكفارة لو كان موضوعه حرمة المبيت في مكة، والفكرة تحتاج إلى تدقيق لسنا بصدده.

(المطلب الثالث): صدق المبيت لغةً وعرفاً وشرعاً:

في المصباح: ((بات يبيت بيتوتة ومباتاً فهو بائت، وتأتينادراً بمعنى نام ليلاً، وفي الأعم الأغلب بمعنى فعل ذلك الفعل بالليل، كما اختص الفعل في ظلَّ بالنهار، فإذا قلت: بات يفعل كذا فمعناه يفعل بالليل ولا يكون إلا مع سهر الليل، قال الأزهري: قال الفراء: بات الرجل إذا سهر الليل كله في طاعة أو معصية، وقال الليث: البيتوتة دخولك في الليل و : من قال بات بمعنى نام فقد أخطأ، ألا ترى أنك تقول: بت أراعي النجوم، معناه بت أنظر إليه فكيف ينام وهو ينظر إليها))(1).

وقال الشيخ رضي الدين الاسترآبادي في شرحه على الكافية: ((وقولك: بات زيد مهموماً، أي كان في جميع الليل كذلك، فاقترن همّ زيد بزماني (بات) وهما: جميع الليل

ص: 33


1- معجم: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للفيومي أحمد بن محمد بن علي (ت 770): 67، مادة (بات)، ط. الثانية دار المعارف، جامعة الأزهر- القاهرة.

والزمن الماضي))(1).

وفي مجمع البحرين: ((البيات هو الإيقاع بالليل، وقوله: «فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً» (الأعراف:4) أي ليلاً، وتبيّت العدو أنيقصد في الليل من غير علم فيؤخذ بغتة، ومنه الخبر (ما بيّت رسول الله (صلی الله علیه و آله) عدواً) وفي الحديث (لا يأمن البيات من عمل المعاصي) ))(2).

أقول: فالتبييت فيه معنى زائد عن المبيت وهو المباغتة والأخذ على غفلة والتخفي في الأمر ومنه قوله تعالى: «وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً» (النساء:108)، وقوله تعالى: «قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ» (النمل:49) حين عزم رهط ثمود على قتل نبي الله صالح (علیه السلام)، ولعل المناسبة في الاستعمال أن وقوع الفعل في الليل يجعله مظنة للخفاء والمباغتة.

وفي النهاية ((وكل من أدركه الليل فقد بات يبيت، نام

ص: 34


1- شرح الرضي على الكافية، رضي الدين الأسترآبادي: 195/4، ط. جامعة قاريونس، 1398 ه - 1978 م.
2- معجم: مجمع البحرين، للطريحي فخر الدين (ت 1085): 268/1، مادة (ب ي ت)، تحقيق محمود عادل.

أو لم ينم))(1).

وفي لسان العرب ((بيّت الأمر عمله ليلاً أو دبّره ليلاً،وكل ما فكّر فيه أو خيض فيه بليل فقد بُيّت، وبيّتَ القومَ والعدوَ: أوقعَ بهم ليلاً وقال الزجّاج: كل من أدركه الليل فقد بات، ومنه ما روي عن ابن عباس: (من صلّى بعد العشاء الآخرة ركعتين فقد بات لله ساجداً وقائماً)(2) ))(3).

وفي الكشاف: ((البيتوتة أن يدركك الليل نمت أو لم تنم وقالوا من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجداً وقائماً، وقيل هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء))(4).

ص: 35


1- معجم: النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير المبارك بن محمد الجزري (ت 606): 167/1، باب الباء مع الياء، ط. المكتبة العلمية- بيروت.
2- تفسير: معالم التنزيل، للبغوي الحسين بن مسعود (ت 510): 93/6، ط. الرابعة، دار طيبة للنشر والتوزيع- السعودية، 1417-1997.
3- معجم: لسان العرب، لابن منظور محمد بن مكرم: 16/2، مادة (بيت)، ط. أدب الحوزة- قم.
4- تفسير: الكشاف، للزمخشري محمود بن عمر بن أحمد (ت 538): 751/9، في تفسير قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً» (الفرقان : 64)، ط. دار المعرفة-بيروت.

وقال العلامة المجلسي (قدس سرّه): ((والحق أن بات في غالب الاستعمال يُعتبر فيه كون الفعل بالليل ولا يعتبر فيه النوم ولا السهر كما يظهر من الشيخ الرضي (0) وغيره))(1).والتحقيق أن يقال أن البيتوتة تقتضي وقوع الفعل في الليل ولو كان نوماً وليس من الضروري أن تستوعب الليل كله، ويمكن أن نستفيد ذلك من قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً» (الفرقان: 64) فإنه لا ينافي صدق البيتوتة وقوع بعض الأمور المعتادة مثل نومهم عند غلبة النعاس، أو بمقدار استعادة النشاط أو تناول الطعام أو القيام بفعل ضروري أو الاستراحة، ويمكن جعل آيات سورة المزّمّل قرينة على المراد من المبيت سجّداً وقياماً؛ لقوله تعالى: «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً» (المزّمِّل:2-4)؛ لأن المأمور في سورة المزّمّل هو إمام المحمودين في سورة الفرقان، فإذن استغراق العمل نصف الليل أو قريباً منه يصدق عليه المبيت.

وفي رواية الشيخ الصدوق في الفقيه عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (ملك موكل يقول: من بات عن العشاء الآخرة

ص: 36


1- بحار الأنوار، للعلامة المجلسي: 145/84. ط. دار إحياء التراث العربي - بيروت.

إلى نصف الليل فلا أنام الله عينه)(1).

والعرف يساعد على ذلك، قال المحقق الأردبيلي (قدس سرّه):((ويمكن تنزيل الليل إلى نصفه على تقدير الإطلاق))(2) بل لعله يكتفي بأقل منه خصوصاً إذا كان متصلاً بطلوع الفجر، ويشهد له ما في صحيحة العيص المتقدمة (وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرك أن تبيت في غير منى)، فأطلق المبيت على أقل من نصف الليل الثاني، وفي صحيحة معاوية عن أبي عبد الله (علیه السلام) (إذا جاء الليل بعد النفر الأول فبتَّ بمنى فليس لك أن تخرج منها حتى تصبح)(3) فأطلق المبيت على إدراك جزء من الليل بقرينة الروايات الأخرى الآتية في الفرع الثاني إن شاء الله تعالى، وفي رواية معاوية عن أبي عبد الله (علیه السلام) في الوقوف عند المشعر الحرام قال (علیه السلام): (ثم بات حتى إذا صلّى الصبح أراه الموقف ثم أفاض به إلى منى)(4) والوقوف في المزدلفة لا يتطلب أزيد من مقدار من الليل

ص: 37


1- وسائل الشيعة: 184/4، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، باب 17، ح3.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 334/7، تحقيق جماعة المدرسين- قم.
3- وسائل الشيعة: 277/14، كتاب الحج، أبواب العود إلى منى، باب 10، ح2.
4- وسائل الشيعة: أبواب أقسام الحج، باب 2، ح35.

متصل بالفجر، وما ورد(1) في تبييت نية السفر كشرط للإفطار وهو يعني حضور النية في الليل المتصل بالفجر.وفي ضوء هذه الشواهد فإنه يصدق المبيت عند العرف على جزء من النصف الثاني من الفجر متصل بالفجر، ولذا يكتفي بعض المتشرعة بالحضور في مشهد الإمام الحسين (علیه السلام) ساعة أو ساعتين قبل الفجر ويشتغل بالعبادة حتى طلوعه لامتثال الحديث الشريف عن الإمام الصادق (علیه السلام) (من بات عند قبر الحسين (علیه السلام) ليلة عاشوراء لقي الله ملطّخاً بدمه يوم القيامة كأنما قتل معه في عرصته)(2).

ويؤيده قول النبي (صلی الله علیه و آله) في صحيحة حمران عن أبي جعفر (علیه السلام)

قال: (قال رسول الله (صلی الله علیه و آله): لا يبيتن الرجل وعليه وتر)(3)، أي لا ينقضي عليه الليل حتى يصبح؛ لأن فوات الوتر الذي هو موضوع النهي لا يتحقق إلا بانقضاء

ص: 38


1- وسائل الشيعة: 185/10، كتاب الصوم، أبواب من يصح منه الصوم، باب 5.
2- كامل الزيارات، ابن قولويه جعفر بن محمد: 323، الباب 71/ح1، ط. مؤسسة نشر الفقاهة - قم.
3- علل الشرائع: 330/2، باب 26، ح3، ط. المكتبة الحيدرية -النجف.

الجزء الأخير من الليل المتصل بالفجر، قال في مجمع البحرين: ((يريد الركعتين من جلوس بعد العشاء الآخرة؛ لأنهما يعدّان بركعة وهي وتر، فإن حدث بالمصلي حدث قبل إدراك آخر الليل وقد صلاهما يكون قد بات على وتر، وإن أدرك آخرالليل صلى الوتر بعد صلاة الليل))(1).

وقد تحقق لدينا إلى الآن أن المبيت يصدق عرفاً وشرعاً وعند جمع من أهل اللغة على استغراق الفعل نصف الليل بحدّيه أو جزء معتدٍ به من آخر الليل متصل بالفجر، ما لم تحدد روايات الباب شيئاً آخر.

ص: 39


1- مجمع البحرين: 462/4.

حد المبيت الواجب

قد يلوح من بعض الروايات أن المبيت يقتضي المكث تمام الليل كقوله (علیه السلام) في صحيحة معاوية بن عمار: (لا تبتليالي التشريق إلا بمنى)(1) وما في رواية أبي الصباح الكناني من النهي (عن الدلجة إلى مكة أيام منى حتى ينشق الفجر كراهية أن يبيت الرجل بغير منى)(2)، وما تقدم من عدم ترخيص النبي (صلی الله علیه و آله) بالمبيت في غير منى إلا لعمّه العباس من أجل السقاية، ونحو ذلك، وقد اشترطه بعض أهل اللغة لصدق المبيت كما تقدم، إلا أن هذا المعنى مدفوع بالروايات الصريحة الدالة على جواز الخروج من منى إذا مكث فيها النصف الأول وعلى أنه إذا كان خارج منى أول الليل أجزأه الرجوع إليها عند منتصف الليل أو الإصباح فيها ونحو ذلك من الروايات.

لذا اتفق الأصحاب على عدم وجوب قضاء الليل كله في منى تبعاً للروايات، عدا ما استظهره صاحب كشف اللثام من كلام العلامة في المنتهى قال: ((وكلام المنتهى يعطي فهم

ص: 40


1- و (2) وسائل الشيعة: 254/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح8، 11.

الاستيعاب لقوله: لأن المتجاوز عن النصف هو معظم ذلك الشيء ويطلق عليه اسمه وظاهره الاستيعاب))(1) وعلق عليه صاحب الجواهر (قدس سرّه) بأنه لا وقع له ((ضرورة أن ذلك كله لايوافق ما سمعت بل يمكن دعوى الإجماع على عدم وجوب الاستيعاب وعلى عدم كفاية المسمى))(2).

أقول: يجب أن لا نبخس حق كاشف اللثام لأنه حينما نقل هذا الاحتمال كان بصدد تأسيس الأصل في المسألة وهو يعني أنه إذا وجد دليل خاص في المقام فهو المتبع أما إذا لم يوجد أو كان مجملاً فيُرجع إلى الأصل لبيانه، قال (قدس سرّه) قبل هذا: ((نعم يبقى الكلام في أن الأصل هو المبيت جميع الليل، فلا يستثنى منه إلا ما قطع باستثنائه ويبقى الباقي على الوجوب، أم أن الأصل الكون بها ليلاً فلا يجب إلا ما قطع بوجوبه وهو النصف، وهو مبني على معنى البيتوتة؟)) ثم نقل (قدس سرّه) كلمات اللغويين وهو يريد أن يقول أنه إن كان الأول فما نسب إلى المشهور من القول بتعيين النصف الأول هو الصحيح، وإن كان الثاني فالصحيح هو التخيير بين النصفين، ففي كلامه (قدس سرّه) إرجاع إلى الروايات بعد تحديد الأصل

ص: 41


1- كشف اللثام: 245/7.
2- جواهر الكلام: 12/20.

وليس الاستدلال به مستقلاً، وأرى أن ما فعله عين التحقيق كما مهّدنا نحن بتحقيق معنى المبيت لغةً وعرفاً وشرعاً لأنه موضوع الحكم بالوجوب فينقّح أولاً، وقد انتهى (قدس سرّه) إلى نتيجة قال فيها: ((فالظاهر أنه لا إشكال في أن الواجب هنااستيعاب النصف من الليل أو كله، ولا يكفي المسمى))(1).

وقد اتفق الأصحاب أيضاً على كفاية البقاء نصف الليل الأول مع دخول حديه والروايات مستفيضة في ذلك تقدم بعضها، وإنما الكلام في تعيّن النصف الأول أو التخيير بينه وبين الثاني بحدّيه أو عدم لزوم المكث تمام النصف أصلاً فالأقوال الرئيسة في المسألة ثلاثة وتتضمن أقوالاً فرعية أخرى:

القول الأول: تعيّن البقاء في النصف الأول وهو المحكي عن المشهور، قال صاحب الرياض (قدس سرّه): ((ظاهر الأصحاب انحصاره -أي المبيت الواجب- في النصف الأول فأوجبوا عليه الكون بها قبل الغروب إلى النصف الثاني، وصريح شيخنا في المسالك والروضة ذلك، وزاد فأوجب مقارنة النية لأول الليل))(2).

ص: 42


1- كشف اللثام: 245/6.
2- رياض المسائل: 147/7.

واختاره من المعاصرين السيد محمود الهاشمي الشاهرودي (قدس سرّه) قال: ((المستفاد من الأخبار هو أن المبيت الواجب بمنى هو في النصف الأول من الليل لا الأخير منه،وقال: ((إن الخروج من منى في أول الليل حرام))(1).

وكذا السيد الخميني (قدس سرّه) قال: ((إذا قضى مناسكه بمكة يجب عليه العود إلى منى للمبيت بها ليلتي الحادية عشرة والثانية عشرة، والواجب من الغروب إلى نصف الليل))(2)، وأوجب الكفارة على المخالفة قال (قدس سرّه): ((وإن خرج قبل نصفه، أو كان مقداراً من أول الليل خارجاً فالأحوط لزوم الكفارة عليه))(3) وكلامه شامل بإطلاقه لمن بات النصف الثاني لأنه ليس من المستثنين من وجوبها.

والسيد السبزواري قال (قدس سرّه): ((الواجب من المبيت في منى من أول الليل إلى أن يمضي النصف منه، ويجوز أن يخرج من منى بعد نصف الليل))(4).

ص: 43


1- تقريرات كتاب الحج بقلم السيد إبراهيم الجناتي: ج5، ق س، ص 55، ط. النجف 1391 هج-.
2- تحرير الوسيلة: 407/1، المسألة (1)، ط. دار التعارف.
3- تحرير الوسيلة: 407/1، المسألة (8).
4- مهذب الأحكام: 362/14، المسألة (11).

واستظهره بعضهم من المحقق النائيني قال (قدس سرّه): ((القدر الواجب من المبيت في كل ليلة هو أن تغرب عليه الشمس فيها، ويبقى بها إلى أن ينتصف الليل، ويجوز له الخروج بعدذلك))(1).

أقول: ظهور العبارة في التعيين لا يُنكر إلا أن بقية كلامه (قدس سرّه) تشير إلى غير ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى

ولو رجعنا إلى الروايات فإنها لا تدل على ما نُسب إلى الأصحاب من تعيّن المكث في النصف الأول وغاية ما تدل عليه إجزاؤه عن المبيت وامتثال الواجب به والترخيص بمغادرة منى لمن مكثه فيها، كقوله (علیه السلام) في صحيحة معاوية بن عمار: (وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرك أن تبيت في غير منى)(2) وفي صحيحته الأخرى (وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرك أن تصبح في غيرها)، وقوله (علیه السلام) في صحيحة العيص (وإن زار بعد أن انتصف الليل أو السحر فلا بأس عليه أن ينفجر الصبح وهو بمكة) ورواية عبد الغفار الجازي (فإن خرج من منى بعد نصف الليل لم يضره شيء)

ص: 44


1- دليل الناسك، للسيد الحكيم، محسن الطباطبائي: 432، المتن. ط. مؤسسة المنار.
2- الروايات كلها في وسائل الشيعة: 251/14، أبواب العود إلى منى، باب 1 كما تقدم.

ورواية جعفر بن ناجية (وإذا خرج بعد نصف الليل فلا بأس أن يصبح بغيرها) ورواية علي بن جعفر في قرب الإسناد عن أخيه موسى بن جعفر (علیه السلام) (وإن كان خرج من منى بعدنصف الليل فأصبح بمكة فليس عليه شيء).

أقول: الملحوظ في ألسنتها جميعاً نفي البأس والضرر عمن غادر منى بعد مكثه النصف الأول، ولعل التعبير بنفي البأس والإضرار بالخروج بعد منتصف الليل له أكثر من معنى:-

1- إن المطلوب هو بقاء جزء من الليل متصل بالفجر ليتحقق به عنوان المبيت كما تقدّم، فنفي البأس عن مبيت النصف الأول يعني أن هذا الفعل يسقط وجوب المبيت وإن لم يصدق عليه عنوانه، كما أن قضاء الليل بالعبادة في البيت الحرام مسقط للواجب، ولذا جاء في هذا الفعل نفس التعبير كما في صحيحة معاوية بن عمار قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل زار البيت فلم يزل في طوافه ودعائه والسعي والدعاء حتى طلع الفجر، فقال: ليس عليه شيء كان في طاعة الله عز وجل)(1).

أقول: هذا الوجه لنفي البأس بعيد فهمه من الروايات خصوصاً مع ورود ما دلّ على الاجتزاء بالإصباح في منى مبنياً على فرض عدم مبيته النصف الأول فلا يظهر أنه هو

ص: 45


1- وسائل الشيعة: 255/14، أبواب العود إلى منى، باب1، ح13.

المطلوب أولاً.

2- الرخصة في عدم وجوب استيعاب الليل إذا امتثلوا الأمر ومكثوا النصف الأول وعدم وجوب الكفارة عليهم بالمغادرةبعد منتصف الليل، وإن الأزيد من ذلك إلى الفجر مستحب وتركه مكروه كما في رواية(1) أبي الصباح الكناني قال:

ص: 46


1- لا إشكال في سند الرواية إلا من جهة اشتراك عنوان محمد بن الفضيل فيها بين ابن كثير الأزدي الكوفي الصيرفي الذي ضعّفه الشيخ واتهمه بالغلو ولم يعرّفه النجاشي في رجاله، وبين محمد بن القاسم بن الفضيل الثقة فتكون الرواية غير معتبرة. وفي كتب الرجال عدة محاولات لتصحيح ما رواه عنوان محمد بن الفضيل عن أبي الصباح الكناني وأنه محمد بن القاسم بن الفضيل الثقة كالتي ذكرها السيد التفريشي في (نقد الرجال: 92/1-94، في ترجمة إبراهيم بن نعيم العبدي، ط. الأولى، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث) والأردبيلي في (جامع الرواة: 177/2) مضافاً إلى ما قاله الشيخ المفيد (قدس سرّه): ((محمد بن الفضيل من الفقهاء والرؤساء الأعلام الذين يؤخذ منهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام ولا يطعن عليهم بشيء، ولا طريق لذم واحد منهم)) (معجم رجال الحديث: 153/18) مضافاً إلى أن تضعيف الشيخ له يحتمل أن مرجعه إلى رميه بالغلو وهو قابل للنقاش وقد روى عنه صفوان والبزنطي وهو توثيق له عند بعض، وقد وصفها بعض الفقهاء بالصحة (كالسيد السبزواري في مهذب الأحكام: 363/14).

(سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الدُلجة(1) إلى مكة أيام منى وأنا أريد أن أزور البيت، فقال: لا حتى ينشقَّ الفجر كراهية أن يبيت الرجل بغير منى)(2).

أو قل: إن التعبير بنفي البأس والإضرار لعله لدفع ارتكاز وجوب استيعاب الليل الناشئ من ظهور الروايات كما قدمنا، أو من فهم العرف لمعنى المبيت كما عن بعض

ص: 47


1- قال ابن فارس في المقاييس: ((الدَلَج: سير الليل، ويقال أدلج القوم: إذا قطعوا الليل كله سيراً، فإن خرجوا من آخر الليل فقد ادَّلجوا بتشديد الدال)) (معجم مقاييس اللغة، لابن فارس أحمد بن فارس بن زكريا: 343، مادة (دلج)، ط. دار إحياء التراث العربي). وقال ابن منظور في لسان العرب: ((الدُلجة -بالضم- : سير السحر، والدَلجة -بالفتح- سير الليل كله)) (لسان العرب: 272/2، مادة (دلج). وقال ابن السكيت: ((أدلج القوم: إذا ساروا الليل كله فهم مدلجون، وادّلجوا إذا ساروا في آخر الليل)) نقله عن ابن السكيت الأزهري أبو منصور في معجم: تهذيب اللغة، ويقال خرجنا بدُلجة إذا خرجوا في آخر الليل ونقل عن الجوهري مثله. (نقله ابن منظور).
2- وسائل الشيعة: 255/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح11.

أهل اللغة كالفراء الذي قال: ((بات الليل إذا سهر الليل كلهفي طاعة أو معصية))(1) فكأن المطلوب أو المأمول أو المتوقع من الحاج هو الحضور أول الليل في منى بقصد المبيت فيها امتثالاً للواجب فإن تجاوز نصف الليل رخّص له الشارع في الباقي قال المحقق الأردبيلي (قدس سرّه): ((إنه إن بقي إلى الفجر فهو واجب ولكن رخّص له الخروج))(2) كمريد الصوم في شهر رمضان يجب عليه أن يكون حاضراً في بلده أول الوقت حين الفجر ولكن إذا صار عليه الزوال رُخِّص له في السفر.

وتعابير الفقهاء (قدس الله أرواحهم) تشير إلى ذلك كقول الشيخ (قدس سرّه) في المبسوط: ((ولا يبيت ليالي التشريق إلا بمنى، وإن خرج من منى بعد نصف الليل جاز له أن يبيت بغيرها وإن تمكن أن لا يخرج منها إلا بعد طلوع الفجر كان أفضل))(3)، وهذا ما اشترطه الشهيد الثاني قال (قدس سرّه): ((ويجب فيه النية مقارنة لأول الليل بعد تحقق الغروب، وقصد الفعل بعد تحقق الغروب، وقصد الفعل وهو المبيت

ص: 48


1- نقله عنه في المصباح المنير: 67/1، مادة (بات).
2- مجمع الفائدة والبرهان: 334/7.
3- الينابيع الفقهية: 252/30، ط. مؤسسة فقه الشيعة.

تلك الليلة))(1), وقال مثله في الروضة أيضاً(2).ويمكن أن نقرّب الاستدلال على هذا القول بوجوه:-

1- ما استفاده السيد الشاهرودي(3) (قدس سرّه) واستفاده السيد الخوئي (قدس سرّه) من الأصل الذي أسسه كاشف اللثام في ما تقدم فقال السيد الخوئي (قدس سرّه): ((أن المنصرف من البيتوتة والمبيت بقاء مجموع الليل وتمامه في منى، ولكن خرجنا عن ذلك بجواز الخروج بعد انتصاف الليل. وبعبارة أخرى: مقتضى ظاهر الأدلة وجوب البقاء من أول الغروب إلى آخر الليل، خرجنا عن ذلك بجواز الخروج بعد نصف الليل، فيبقى الباقي على الوجوب. وهذا الكلام في نفسه لا بأس به، لأن المنصرف من البيتوتة بقاء تمام الليل واستيعابه ويساعده اللغة وكثير من موارد استعمالاته، ولكن نخرج عن ذلك بالنص، فإن الظاهر الاكتفاء بالمبيت بأحد النصفين وتساوي

ص: 49


1- مسالك الأفهام: 364/2، تحقيق مؤسسة المعارف الإسلامية.
2- الروضة البهية: 400/1.
3- كتاب الحج: ج5، القسم الأول، ص 53، تقريرات السيد محمود الشاهرودي (قدس سرّه) بقلم الشيخ إبراهيم الجناتي، ط. النجف، 1391 هج-.

النصفين في تحصيل الامتثال))(1).أقول: يؤخذ عليه (قدس سرّه) تسليمه بأن المبيت يشترط في صدقه استيعاب الليل، وهو ما لم يثبت، إذ تقدم أن المبيت لغة وعرفاً وشرعاً لا يقتضي وجوب البقاء تمام الليل.

2- وقُرِّب الاستدلال على هذا القول بضم مقدمتين:-

أ- إن امتثال الأمر بوجوب المبيت يدور بين النصفين الأول والثاني من الليل بحسب الروايات ولصدق المبيت لغة وعرفاً على قضاء نصف الليل بحدّيه.

ب- إن الأصحاب أعرضوا عن العمل بالنصف الثاني ولم يذكروه وهذا موهن لرواياته.

والنتيجة تعيّن الامتثال بمبيت النصف الأول من الليل.

وستأتي مناقشة هذا التقريب في القول الثاني إن شاء الله تعالى.

3- ويظهر من العلامة في المنتهى وجه آخر قال (قدس سرّه): ((ظهر من الأحاديث التي تلوناها جواز الخروج من منى بعد نصف الليل ولا كفارة؛ لأن المتجاوز عن النصف هو معظم ذلك

ص: 50


1- موسوعة السيد الخوئي: 382/29، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي.

الشيء ويطلق عليه اسمه))(1).

ويرد عليه:-

إنه لا بد أن يقصد بالشيء تمام الليل ولم يثبت فيأ- اللغة والعرف لزوم مكثه لصدق المبيت حتى يكتفي بالمعظم.

ب- لو تم فإن نتيجته جواز البقاء في أحد النصفين على التخيير لا تعين الأول إذا صحّت نسبة القول بالتعيين إلى ظاهر الأصحاب ومنهم العلامة (قدس سرّه).

ج-- إن لازمه إجزاء البقاء مقدار نصف الليل ولو كان ملفقاً من الأول والثاني لصدق المعظم عليه، وهو مما لم يقل به أحد ومخالف للروايات.

وعلى أي حال فلا حاجة لهذا الاستدلال بعد بيان الروايات للمقدار الواجب من المبيت إلا أنها خالية من أي دليل على التعيّن بالأول.

وقد اعترف بذلك جملة من الأعلام، قال السيد صاحب الرياض (قدس سرّه) عقب كلامه المتقدم عن شهرة هذا القول: ((فإن تم إجماعاً، وإلا فاستفادة ذلك من الأخبار بعد

ص: 51


1- منتهى المطلب: 378/11.

ضم بعضها إلى بعض مشكل))(1)، ولذا ذهب إليه صاحب الجواهر (قدس سرّه) من باب الاحتياط، قال (قدس سرّه): ((فالأحوط والأولى مراعاة ما سمعته من الأصحاب من الكون بها قبلالغروب إلى نصف الليل))(2)

أقول: بل الدليل على عدم تعيّن النصف الأول موجود وهي الروايات الدالة على كفاية مكث النصف الثاني والدالة على كفاية الإصباح في منى، بل الدالة على كفاية مغادرة مكة باتجاه منى ولو نام في الطريق فإنها تعني أنه لم يكن في أول الليل بمنى، كصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا زار الحاج من منى فخرج من مكة فجاوز بيوت مكة فنام ثم أصبح قبل أن يأتي منى فلا شيء عليه)(3)، وغيرها مما يأتي في القولين الآتيين إن شاء الله تعالى.

وهذا يفسّر امتعاض المحقق النراقي (قدس سرّه) في عبارته فإنه بعد أن أكّد وضوح الروايات في الدلالة على تساوي النصفين

ص: 52


1- رياض المسائل: 147/7.
2- جواهر الكلام: 12/20.
3- وسائل الشيعة: 257/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح17.

في الامتثال كما عن الحلبي وجمع من المتأخرين قال: ((ولا يُعبَأ بما ذكره بعضهم -وهو صاحب الرياض (قدس سرّه)- من أن ظاهر الأصحاب انحصار الوقت المجزي في النصف الأول، إذ لا يترك مدلول الأخبار المعتبرة مع وجود القائل به بمجردادعاء ظاهر الأصحاب غير ذلك))(1).

أقول: ولعل نسبة القول به إلى ظاهر الأصحاب غير دقيق فإن عباراتهم -غير من صرّح بالتخيير كالصدوق في الهداية والحلبي في الكافي- ظاهرة في كفاية قضاء النصف الأول وسقوط الواجب به من غير تعيين به وفاقاً لظاهر الروايات كقول المحقق الحلي (قدس سرّه): ((فلو بات بغيرها كان عليه عن كل ليلة شاة، إلا أن يبيت بمكة مشتغلاً بالعبادة، أو يخرج من منى بعد نصف الليل))(2) وقول العلامة الآنف في المنتهى وقال في القواعد: ((ولا يبيت ليالي التشريق إلا بها -أي منى- إلا أن يبيت بمكة مشتغلاً بالعبادة أو يخرج من منى بعد نصف الليل))، وقال الشهيد الأول في اللمعة مع بيان الشهيد الثاني في الروضة: ((ويكفي في وجوب المبيت بمنى أن يتجاوز

ص: 53


1- مستند الشيعة: 41/13.
2- شرائع الإسلام، للمحقق الحلي جعفر بن الحسن: 205/1، ط. الثانية، 1409، انتشارات استقلال – طهران.

الكون بها نصف الليل فله الخروج بعده منها ولو إلى مكة)) وقال المحقق الأردبيلي (قدس سرّه) عن الاشتغال بالعبادة في مكة: ((ولا يبعد كفاية نصف الليل كما في أصل المبيت وجوازالخروج من منى بعد نصف الليل))(1)، وقال المحقق الثاني (قدس سرّه): ((ولو خرج من منى بعد نصف الليل جاز))(2).

نعم قد يظهر ذلك من عبارة ابن حمزة في الوسيلة قال: ((ولا يخرج ليالي التشريق منها إلا بعد نصف الليل على كراهية))(3) والمحقق الحلي في المختصر النافع ((حد المبيت أن يكون بها ليلاً حتى يجاوز نصف الليل))(4) وهذا لا يكفي لنسبة القول إلى ظاهر الأصحاب.

ويمكن إيقاع التصالح بين الفريقين بقول آخر في المسألة وهو أن المطلوب أولاً وبالذات هو الحضور في منى عند غروب يوم العاشر لأجل المبيت فيها؛ لأن لسان الروايات

ص: 54


1- مجمع الفائدة والبرهان: 333/7.
2- جامع المقاصد، للشيخ الكركي علي بن الحسين: 264/3، تحقيق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام).
3- الوسيلة، لابن حمزة الطوسي: 187-188، ط. الأولى، مطبعة الخيام - قم.
4- الينابيع الفقهية: 679/8، ط. مؤسسة فقه الشيعة.

الدالة على وجوب مبيت النصف الثاني ظاهر في الترتب على عدم مبيت النصف الأول كصحيحة معاوية ورواية جعفر بن ناجية، فإذا جاوز النصف رُخّص له في مغادرتها، فإن لميتيسّر له ذلك في أول الليل لانشغاله بالطواف والزيارة أو لأي سبب أمكنه الرجوع إلى منى قبل منتصف الليل ليكون فيها حتى الفجر، فالنصفان مرتبّان وليس التخيير بينهما ابتدائياً، والناسك إن لم يؤدِّ الأول وجب عليه الثاني، قال السيد الخميني (قدس سرّه): ((من لم يكن في منى أول الليل بلا عذر يجب عليه الرجوع قبل نصفه، وبات إلى الفجر على الأحوط))(1).

أقول: قيّد (قدس سرّه) وجوب الحضور عند منتصف الليل بعدم العذر ولم يبيّن حكم ذي العذر إذا كان قادراً على الحضور في هذا الوقت أو بعده كمن شغله نسكه في البيت الحرام أول الليل وهو ليس من المستثنين عن وجوب المبيت، فهل يعرف حكم من لم يتيسر له المبيت في النصف الأول بعذر بالأولوية مثلاً؟، أي أن إجزاء مبيته في النصف الثاني يكون من باب أولى، ولعلنا سنتبرع له (قدس سرّه) بوجه للتفصيل في ما يأتي

ص: 55


1- تحرير الوسيلة، للسيد الخميني روح الله: 408/1، القول في المبيت بمنى، المسألة (4)، ط. دار التعارف.

(صفحة 72) إن شاء الله تعالى.

وعلى أي حال فإن جملة من التساؤلات المثيرة للاستغراب توجّه إلى المشهور:-1- لماذا لم يعملوا بالروايات المعتبرة الكثيرة الدالة على الحضور عند منتصف الليل في منى لمن لم يتيسّر له ذلك في أول الليل، والدالة على كفاية الإصباح في منى؟، وما سبب سكوتهم عن حكم من لم يتيسّر له الحضور أول الليل في منى لعذر أو لغير عذر؟.

2- إذا كان وجوب المبيت متعيّناً بالنصف الأول فلماذا لم يرد في الروايات على كثرتها أي اعتراض من الأئمة (علیهم السلام) على من ترك المبيت في النصف الأول؟ واكتفوا ببيان الفرد الآخر للامتثال وهو النصف الثاني أو الإصباح في منى أو الاشتغال بالعبادة في البيت الحرام.

3- قولهم بالتعيين يعني عدم امتثال الواجب إذا لم يحضر أول الليل وقد قالوا بوجوب الكفارة عند ترك المبيت في منى المتحقق عندهم بترك النصف الأول ولازمه وجوب الكفارة إذا ترك مبيت النصف الأول وإن بات النصف الثاني وهو ما لم يقولوه وإن بيّنه السيد الخميني (قدس سرّه) بوضوح، قال (قدس سرّه): ((من لم يكن تمام الليل في خارج منى فإن كان مقداراً من

ص: 56

أول الليل إلى نصفه في منى لا إشكال في عدم الكفارة عليه، وإن خرج قبل نصفه، أو كان مقداراً من أول الليل خارجاًفالأحوط لزوم الكفارة عليه))(1).

أقول: كلامه (قدس سرّه) شامل بإطلاقه لمن بات النصف الثاني فتجب عليه الكفارة حتى لو شغله نسكه عن مبيت النصف الأول؛ لأنه ليس من العناوين المستثناة من وجوبها في مسألة سابقة كمن قضى الليل مشتغلاً بالعبادة في البيت الحرام.

وفيه: إنه خلاف ظاهر الروايات بل قال جمع بوجوبها إذا ترك المبيت في تمام الليل وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

القول الثاني: التخيير بين النصف الأول والثاني

وأول من صرّح به بوضوح الشيخ الصدوق في الهداية قال (قدس سرّه): ((فإن خرجت أول الليل فلا تنصف الليل إلا وأنت بها، وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرك الصبح في غيرها))(2) وقال أبو الصلاح الحلبي (قدس سرّه) في كتابه الكافي: ((ومن مناسك الحج المبيت بها ليالي أيام التشريق إلى حين

ص: 57


1- تحرير الوسيلة: 408/1، المسألة (8).
2- الينابيع الفقهية: 58/7.

الإفاضة منها فإن بات بغيرها مختاراً لغير عبادة فعليه دم، ويجوز الخروج منها للبائت بها بعد مضي النصف الأول منالليل، والتصبّح بها أفضل. وإذا عاد إليها قبل أن يمضي النصف الأول فهو بائت بها، ونزولها قبل غروب الشمس أفضل))(1).

وحكى صاحب المستند ميل ((كلام بعض آخر من المتأخرين))(2) إليه، ولعله يشير إلى مثل قول المحقق الأردبيلي (قدس سرّه): ((لا نعلم وجوب الدم لو بات بعض الليل بغير منى))(3) وقول السيد صاحب المدارك (قدس سرّه): ((واعلم أن أقصى ما يستفاد من الروايات ترتب الدم على مبيت الليالي المذكورة في غير منى بحيث يكون خارجاً عنها من أول الليل إلى آخره))(4).

وإنما احتملنا إشارته إلى مثل هذه الكلمات؛ لأن صاحب الجواهر (قدس سرّه) اعتبرها -تبعاً لصاحب الرياض- دليلاً على هذا القول إذ قال بعد أن ذكر دلالة الأخبار على

ص: 58


1- الكافي في الفقه: 198، تحقيق رضا أستادي.
2- مستند الشيعة: 41/13.
3- مجمع الفائدة والبرهان: 345/7.
4- مدارك الأحكام: 224/8، تحقيق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام).

تساوي النصفين: ((بل قد عرفت سابقاً أن أقصى ما يستفاد من النصوص ترتب الدم على مبيت الليالي المذكورة في غير منىبحيث يكون خارجاً عنها من أول الليل إلى آخره كما اعترف به بعض واستحسنه آخر))(1)، وتقريبه: أنه لو كان يقول بالتعيين لوجبت الكفارة بترك المبيت في النصف الأول، فجعْله الكفارة على مجموع الليل يعني أنه يقول بكفاية أحد النصفين تخييراً، فتجب الكفارة بتركهما معاً وهي عبارة قالها غيرهما من الأعلام، فتأمل(2).

واختاره المحقق النراقي في المستند، وقال صاحب الجواهر: ((قد يستفاد من خبر ابن ناجية وخبر معاوية تساوي نصفي الليل في تحصيل الامتثال))(3) وهو مشهور مَن تأخر عنهما إلى اليوم، قال السيد الخوئي (قدس سرّه): ((ولا يجب عليه المبيت في مجموع الليل، فيجوز له المكث في منى من أول الليل إلى ما بعد منتصفه أو المكث فيها قبل منتصف الليل إلى

ص: 59


1- جواهر الكلام: 10/20، رياض المسائل: 147/7.
2- وجهه: أن موضوعهما مختلف لذا قد لا تجب الكفارة رغم عدم امتثال الواجب كمن خرج من منى قبل منتصف الليل.
3- جواهر الكلام: 10/20.

الفجر))(1).

وقال السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سرّه):

((ويكفيالتواجد المطلوب في كل ليلة أن يكون في منى من أول الليل إلى أن يتجاوز منتصفه، أو أن يكون فيها قبل منتصف الليل إلى الفجر، فيُسمح لمن بقي أول الليل إلى منتصفه في منى أن يغادرها إلى مكة أو غيرها، وكذلك يُسمح له بالتغيّب عن منى إلى قبيل نصف الليل مع التواجد فيها حينئذٍ من ذلك الوقت إلى الفجر))(2).

ويمكن الاستدلال عليه بتقريبين:-

1- ما حررناه من معنى المبيت لغةً وعرفاً وصحّة إطلاقه على النصف، وإليه يشير قول العلامة (قدس سرّه) الآنف بأن ((المتجاوز عن النصف هو معظم ذلك الشيء ويطلق عليه اسمه))، أو ما قاله المحقق الأردبيلي (قدس سرّه): ((ويمكن تنزيل الليل إلى نصفه على تقدير الإطلاق))(3) وهذا التقريب وحده لا يكفي إلا بضميمة عدم تعيّن الواجب في النصف الأول كما تقدم،

ص: 60


1- مناسك الحج: 182، المسألة (427).
2- موجز أحكام الحج: 175، الفقرة (140).
3- مجمع الفائدة والبرهان، للمحقق أحمد المقدس الأردبيلي: 334/7، ط. جماعة المدرسين- قم.

وبعد فرض انصرافه عن النصف الملفق من النصفين، ونتيجته التخيير بين النصفين.

2- ما دلّ على جواز الاكتفاء بالنصف الثاني بعد التسليمبكفاية الأول كقوله (علیه السلام) في صحيحة معاوية بن عمار: (فإن خرجت أول الليل فلا ينتصف الليل إلا وأنت بمنى)(1)، ورواية(2) جعفر بن ناجية (إذا خرج الرجل من منى أول الليل فلا ينتصف له الليل إلا وهو بمنى)(3).

ونفى السيد الشاهرودي (قدس سرّه) أن يكون في هاتين الروايتين دلالة على التخيير من جهتين:

أولاهما: قوله عن خبر ابن ناجية: ((إنه وإن كان دالاً ظاهراً على جواز الخروج من منى أول الليل إذا كان يرجع إليها قبل النصف فيستفاد منها الاجتزاء بأحد النصفين الأول أو الأخير، إلا أنه يمكن أن يقال بعدم دلالته على جواز الخروج منها قبل انتصاف الليل، بل إنما يدل على حكم من

ص: 61


1- وسائل الشيعة: 257/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح8.
2- وصفها بعضهم بالمعتبرة بناءً على انجبار ضعف سندها بعمل الأصحاب.
3- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح20.

خالف وخرج منها أول الليل))(1).

أقول: يرد عليه-1- لم يتم دليل على تعيين المبيت بالنصف الأول بحيث يكون تركه مخالفة.

2- لا يوجد في الرواية ولا في غيرها وهي كثيرة ما يدل على أن السائل ارتكب مخالفة بتركه النصف الأول كالزجر أو النهي وغاية ما تدل عليه ترتب مبيت النصف الثاني على ترك الأول ولو لأفضلية مبيت الأول.

3- إذا كان خروجه أول الليل حراماً كما صرّح (قدس سرّه) بقوله: ((وكذلك من خرج منها في أول الليل، لأن خروجه منها وإن كان حراماً عليه إلا أنه لا يجب عليه بعد خروجه منها العود فوراً وإنما يجب عليه أيضاً أن يصبح وهو بمنى)) فلازمه بطلان نسكه في البيت الحرام إذا ذهب لأداء النسك أول الليل؛ لأن النهي في العبادة يفسدها ولم يقل هو (قدس سرّه) ولا غيره بذلك.

4- إنه (قدس سرّه) أجاز الخروج من منى نهاراً وإن استلزم عدم مبيت النصف الأول ولا نرى وجهاً للفرق لأن في كليهما

ص: 62


1- كتاب الحج من تقريرات السيد الشاهرودي (قدس سرّه): ج5، ق 1، ص 55.

تفويتاً للواجب وهو مبيت النصف الأول، قال (قدس سرّه): ((وأما الخروج منها نهاراً فلا ينبغي الإشكال في عدم حرمته عليه لعدم الدليل على وجوب بقائه فيها ولكن يجب عليه أنيصبح وهو بمنى فقط))(1).

ثانيهما: قوله (قدس سرّه): ((مضافاً إلى أن إعراض الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) عنه مانع من البناء عليه))(2).

وأورد السيد الحكيم (قدس سرّه) نفس الإشكال وقال: ((ظاهر خبر ابن ناجية وغيره جواز الخروج من منى أول الليل إذا كان يرجع إليها قبل النصف فيستفاد منها الاجتزاء بأحد النصفين، لكن إعراضهم عنه مانع عن البناء عليه))، إلا أنه (قدس سرّه) تأمل في هذا الإشكال وقال في وجهه: ((فإن ثبوت الإعراض غير معلوم، ومجرد النسبة إلى ظاهر الأصحاب غير كافية في رفع اليد عن النصوص التي فيها الصحيح وغيره))(3).

أقول: لم يعرض الأصحاب عن الروايات فقد أثبتوها في جوامع الحديث وهم يقولون أنهم لا يثبتون إلا ما يرونه حجة

ص: 63


1- المصدر السابق، نفس الموضع.
2- المصدر السابق، نفس الموضع.
3- دليل الناسك (التعليق) : 422.

بينهم وبين الله تعالى. نعم هم لم يتعرضوا لمضمونها في فتاواهم، أي لم يذكروا حكم من لم يبت النصف الأول وهو واضح لمن تتبع كلماتهم وذكرنا جملة منها، فهذه النسبةمحققة وليست محكية عن صاحب الرياض (قدس سرّه). وعدم ذكرهم هذا لا يكون مسقطاً لحجية الروايات المعتبرة لعدم تحقق الإعراض فضلاً عن عدم ثبوت كونه تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم، بل هو اجتهادي مبني على ما فهموا من معنى المبيت لغةً وعرفاً أن المطلوب الحضور في منى من حين الغروب لأجل امتثاله ولكن رخِّص لمن أمضى نصف الليل الأول أن يغادرها كالصائم الذي يشترط عليه الحضور في بلده من الفجر لكنه يرخّص له بعد الزوال بالسفر، وإن مبيت النصف الثاني خاص بمن كان له عذر عن مبيت النصف الأول ونحو ذلك، وتبقى التساؤلات التي أثرناها باستغراب على المشهور عند التعليق على القول الأول، ومنها عن سبب إهمالهم حكم من لم يبت النصف الأول مع وروده في الروايات.

نعم يمكن المناقشة في دلالة صحيحة معاوية ورواية ابن ناجية التي استدل بها على هذا القول من جهتين:-

أ- أنها حددت البداية وهو منتصف الليل ولم تحدد

ص: 64

الانتهاء بالفجر، اللهم إلا أن تضم إليها الروايات الآتية الدالة على لزوم الإصباح في منى، ويرد عليه أن موضوعهما مختلف كما سنبين إن شاء الله تعالى.أو يقال أن تقوّم صدق المبيت بقضاء شيء من الليل متصل بالفجر مرتكز في ذهن العرف بقوة بحيث لا يحتاج إلى بيان بحيث يُفهم من قول اللغوي: ((من أدرك الليل فقد بات)) أي الجزء الأخير منه المتصل بالفجر لا مطلقاً وهي دعوى عهدتها على مدعيها، ويلزم منه أن إجزاء المكث في النصف الأول ليس من باب تحقق الامتثال وصدق المبيت لأنه ليس من أفراده وإنما يتحقق به سقوط الواجب وهو غير ظاهر من الروايات.

ب- أنها غير واضحة في جواز المبيت في النصف الثاني اختياراً لأنها ذكرت الحكم على فرض أنه لم يمتثل المبيت في النصف الأول وهي مجملة من حيث كون عدم المبيت لعذر أو لغير عذر وهل أنه جائز أو غير جائز كما تقدم عن السيد الشاهرودي (قدس سرّه)، فما استظهره السيد الحكيم (قدس سرّه) من جواز التخيير في كلامه السابق يحتاج إلى ضميمة ليتم ظهوره.

ص: 65

القول الثالث: كفاية جزء من النصف الثاني متصل بالفجر

ويدل عليه إطلاق صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما(علیه السلام) (أنه قال في الزيارة: إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلا بمنى)(1)، قال المحقق الأردبيلي (قدس سرّه) تعليقاً عليها ((هذه تدل على أنه يكفي الكون فيه ليلاً في الجملة ولو كان من آخره)).

وصحيحة العيص بن القاسم قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الزيارة من منى؟ قال: إن زار بالنهار أو عشاءً فلا ينفجر الصبح إلا وهو بمنى).

وصحيحة صفوان قال: (قال أبو الحسن (علیه السلام): سألني بعضهم عن رجل بات ليالي منى بمكة فقلت: لا أدري، فقلت له: جعلت فداك ما تقول فيها؟ فقال (علیه السلام): عليه دم شاة إذا بات، فقلت: إن كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه لم يكن لنوم ولا لذة، أعليه مثل ما على هذا؟ قال: ما هذا بمنزلة هذا، وما أحب ينشق له الفجر إلا وهو بمنى).

ص: 66


1- الروايات تقدمت مصادرها في الوسائل: 252/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح3، 4، 5، 19.

وموثقة إسحاق بن عمار قال: (قلت لأبي إبراهيم (علیه السلام): رجل زار فقضى طواف حجه كله أيطوف بالبيت أحب إليك أم يمضي على وجهه إلى منى؟ قال: أي ذلك شاء فعل ما لميبت)(1). بتقريب أن ما ينهى عنه الناسك في ليالي التشريق هو مبيت تمام الليل خارج منى فالمطلوب منه إدراك شيء من الليل في نهايته.

وصحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنه قال: (إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلا بها).

ويمكن أن يقرّب الاستدلال أيضاً بصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) (فإن خرجت أول الليل فلا ينتصف الليل إلا وأنت في منى، إلا أن يكون شغلك نسكك)(2) بتقريب أن الاستثناء من لزوم الحضور عند منتصف الليل باعتباره الأقرب وليس من وجوب المبيت في منى لتدل على بدلية النسك عن المبيت.

والنتيجة: أن من شغله نسكه أول الليل فلا يجب عليه الحضور في منى عند منتصف الليل ويجزيه جزء بعده متصل

ص: 67


1- وسائل الشيعة: 260/14، أبواب العود إلى منى، باب 2، ح 4.
2- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح8.

بالفجر بضميمة الارتكاز المتشرعي والفهم العرفي.

بل دلّت الروايات على أن الإصباح في طريق منى كافٍ ما دام قد خرج من مكة كصحيحة هشام بن الحكم المتقدمةوصحيحة محمد بن إسماعيل(1) عن أبي الحسن (علیه السلام) (في الرجل يزور فينام دون منى، فقال: إذا جاز عقبة المدنيين فلا بأس أن ينام)(2) باعتبار أن عقبة المدنيين تقع خارج بيوت مكة، وصحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من زار فنام في الطريق فإن بات بمكة فعليه دم، وإن كان قد خرج منها فليس عليه شيء وإن أصبح دون منى)(3).

إن قلتَ: هذه الروايات لا إطلاق لها حتى يتمسك به للاكتفاء بجزء من الليل متصل بالفجر ولو كان يسيراً؛ لأنها بصدد بيان نهاية حد المبيت وهو طلوع الفجر وهي مجملة من حيث بدايته والمنبّه الوجداني على الإجمال أن مستمع الحديث قد يشعر أنه بحاجة إلى سؤال ثانٍ بعد الأمر بالإصباح في منى بأن هذا هو المنتهى فمن أين يبدأ الواجب

ص: 68


1- الذي هو إما ابن بزيع أو البرمكي وكلاهما ثقتان.
2- وسائل الشيعة: 256/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح 15.
3- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح 16.

ويرتفع هذا الإجمال ببيان الروايات المتقدمة في القول الثاني إذ أنها اشترطت كونها من منتصف الليل.

قلتُ: الإمام (علیه السلام) في مقام بيان المطلوب من المبيت ولايناسبه إجمال أحد الحدين، فإطلاق الاجتزاء بطلوع الصبح عليه مع شيء من الليل -ولو كان يسيراً- متحقق.

نعم قد يبعد الإطلاق من جهة أن القول به يلزم منه حكومته على روايات القول الثاني ومقتضى الجمع حمل تلك الروايات على استحباب الكون من منتصف الليل وهي آبية عن الحمل على الاستحباب.

وقد يجمع بين روايات القولين الثاني والثالث بحمل التالية على المضطر الذي خرج إلى زيارة البيت في أول الليل ومثله يتعذر عليه العود عند منتصف الليل إلى منى.

لكن هذا الوجه مردود لتصريح صحيحة العيص بأنه (إن زار بالنهار أو عشاءً فلا ينفجر الصبح إلا وهو بمنى) وإطلاق بعض الروايات الخروج قبل غروب الشمس وحينئذٍ يتيسَّر لهؤلاء العود إلى منى عند منتصف الليل.

وعلى أي فإن مما يبعّد الإجمال في روايات الإصباح ويقرّب الإطلاق أمران:-

أ- ورود روايات عديدة في هذه المسألة وكلها خالية من

ص: 69

ذكر البداية فالقول بإجمالها كلها بعيد.

إن رواتها من أجلاء الصحابة كمحمد بن مسلم والعيص الذي وُصف بأنه ثقة عين وجميل بن دراجأ- ومثل هؤلاء لا يغفلون عن السؤال الثاني لو كان جواب الأول غير كافٍ فهم قد فهموا إطلاق الجواب.

وفي ضوء ما تقدم فإن الإطلاق أقرب، ويؤيد هذا القول أمران:-

1- ما استظهرناه من فهم العرف لمعنى المبيت وأنه ينطبق على من بقي مقداراً من الليل متصلاً بالفجر، وقد استعمل في هذا المعنى في الروايات التي ذكرناها في المطلب التمهيدي الثاني.

واتصال الجزء بالفجر شرط في كفايته؛ للإجماع على عدم كفاية أي جزء إذا كان أقل من نصف الليل فضلاً عما لو كان يسيراً ما لم يكن متصلاً بالفجر، وقد دلّت عليه الروايات الناهية عن الخروج قبل منتصف الليل ومنها رواية عبد الغفار الجازي قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل خرج من منى يريد البيت قبل نصف الليل فأصبح بمكة؟ قال: لا يصلح له حتى يتصدق بها صدقة أو يهريق دماً)(1).

2- ما دل على أن كفارة ترك المبيت إنما تجب إذا أمضى الليل

ص: 70


1- وسائل الشيعة: 256/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح 14.

كله خارج منى، كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (علیه السلام) (عن رجل بات بمكة في ليالي منى حتى أصبح، قال: إنكان أتاها نهاراً فبات حتى أصبح فعليه دم يهريقه)(1).

وتقريب الاستدلال: إن تحقق وجوب الكفارة بقضاء تمام الليل خارج منى يعني أن المحرّم هو المكث تمام الليل خارج منى وهو يقتضي أن الواجب المسقط للإثم ولوجوب الكفارة يتحقق بالمكث بعض الليل وأن يكون متصلاً بالفجر لأن الفوات لا يصدق إلا بحلوله من دون أداء الواجب، فتأمل(2).

نكتة دقيقة:

ظاهر صحاح محمد بن مسلم والعيص وصفوان وصحيحة معاوية بن عمار بالتقريب الذي ذكرناه مع حمل صحيحة جميل عليها: أن كفاية الإصباح في منى مختصّة بما إذا كان سبب تخلفه عن مبيت النصف الأول من الليل هو ذهابه إلى المسجد الحرام لأداء الطواف وبقية المناسك وليس مطلقاً، بل إن صحيحة صفوان وموثقة إسحاق المتقدمتين صريحتان بأن الإصباح في منى يشرَّع لمن

ص: 71


1- وسائل الشيعة: 251/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح 2.
2- وجهه: أن موضوعهما مختلف لذا قد لا تجب الكفارة من دون امتثال الواجب كمن خرج من منى قبل منتصف الليل.

قضى الليل بالعبادة في البيت الحرام لأجل عدم فوات المبيت عليه ولو بإدراك هذا المقدار اليسير من الليل لكراهية تركالمبيت في منى حتى لمن اشتغل بالعبادة في مكة.

أما من تخلف لغير زيارة البيت والطواف فيجب عليه الحضور في منى عند منتصف الليل، ولذا تجد الروايات الآمرة به كصحيحة معاوية بن عمار ورواية جعفر بن ناجية التي تقدمت في القول الثاني خالية من ذكر كونه في زيارة البيت.

فتحققت لدينا الآن عدة نتائج:-

1- إن المطلوب من الحاج الحضور في منى من حين غروب الشمس ليلة المبيت والبقاء فيها إلى أن ينتصف الليل وحينئذٍ له الخروج من منى بعده لكن يستحب له البقاء إلى الفجر.

2- لو لم يحضر عند غروب الشمس في منى فهنا حالتان:-

أ- أن يكون تأخره بسبب زيارة البيت وأداء طواف الحج وتوابعه فهذا يجزيه الحضور في منى مقداراً من الليل متصلاً بالفجر بحيث يطلع عليه الفجر فيها، ولا يجب عليه الحضور من منتصف الليل. نعم يستحب له الحضور من منتصف الليل جمعاً بين الروايات.

ب- إذا كان غيابه لغير هذا الشغل فعليه أن يحضر في منى

ص: 72

عند انتصاف الليل ويبقى فيها إلى طلوع الفجر.

ولعل هذا التفصيل يكمل ما لم يذكره السيد الخميني(قدس سرّه) عن حكم من لم يحضر في منى في النصف الأول من الليل بعذر وهو الطواف والزيارة، ويبرز فرقاً بين حالتي العذر وعدم العذر في كلامه المتقدم (صفحة 55).

وقد وجدت أن أقرب تعبير عن هذه النتائج وتفاصيل المسألة هو ما قاله المحقق النائيني (قدس سرّه) ووافقه تلميذه السيد الحكيم (قدس سرّه) في تعليقته على مناسكه، قال (قدس سرّه): ((القدر الواجب من المبيت في كل ليلة هو أن تغرب عليه الشمس فيها، ويبقى بها إلى أن ينتصف الليل، ويجوز له الخروج بعد ذلك، وإن كرهت الدلجة قبل الصبح منها، لكنه لو كان بمكة وشغله نسكه عن الرجوع قبل الغروب إليها جاز، بل يجوز البقاء بمكة مشتغلاً بالعبادة إلى الفجر، ويجزئ عن المبيت بمنى، وإن كان الأولى والأفضل هو الرجوع إليها قبل أن ينشقّ الفجر، بل قبل أن ينتصف الليل، ويجب البقاء حينئذٍ إلى الفجر، فيكفي في المبيت الواجب بمنى أحد الأمرين: إما أن تغرب عليه الشمس بها، أو يطلع عليه الفجر فيها وقد شغله نسكه بمكة عن الرجوع إليها قبل ذلك، وفي الصورة الأولى يجب البقاء فيها إلى انتصاف الليل، وفي الثانية يجزي

ص: 73

الرجوع إليها قبل الفجر قدر المسمى بل يجزي الاشتغالبالعبادة بمكة عن المبيت بمنى من أصله))(1).

أقول: بالرغم من متانة الفتوى وإحاطتها بتفاصيل المسألة إلا أنها خلت من حكم من شغله غير النسك عن حضور أول الليل في منى وفق التفصيل الذي ذكرناه.

ويحسُن الاحتياط في بقاء تمام النصف الثاني إلى الفجر لمن لم يقضِ النصف الأول مطلقاً حتى لمن شغله نسكه في أول الليل، ووجهه:-

أ- لقوة دلالة روايات القول الثاني المتقدمة (صفحة 61) على إطلاق وجوب الحضور في منى عند منتصف الليل لمن فاته النصف الأول، وإنَّ حمْلَها على الاستحباب بعيد.

ب- لاحتمال الإجمال الذي ذكرناه في الإشكال السابق من حيث مبدأ المبيت والشك في تمامية الإطلاق في دلالة روايات القول الثالث على كفاية الإصباح مع جزء يسير من الليل، فلا بد من رفع الإجمال ببيان مبدأ المبيت الذي حددته روايات القول الثاني بمنتصف الليل.

ج-- ما تقدم من أن المبيت عرفاً وفي النصوص الشرعية

ص: 74


1- دليل الناسك (المتن) : 433.

يتحقق بقضاء نصف الليل.د- الخروج من عهدة ما حكاه جماعة من نفي الخلاف بين الأصحاب عن عدم كفاية المسمى والبقاء في منى جزءاً يسيراً من الليل، قال صاحب الجواهر (قدس سرّه): ((يمكن دعوى الإجماع على عدم وجوب الاستيعاب وعلى عدم كفاية المسمى))(1) وإطلاقها شامل حتى لجزء الليل المتصل بالفجر.

أقول: يمكن دفع هذا المحذور -مضافاً إلى مخالفته لروايات الإصباح في منى بناءً على إطلاقها من حيث البداية- بأنه إجماع مركب من وجوب مبيت أحد نصفي الليل تعييناً أو تخييراً، والإجماع المركب لا يكون نافياً للقول الثالث إلا إذا كان هذا النفي من القدر المتيقن لأنه دليل لبّي فيقتصر منه عليه، أو يشمله معقد الإجماع ولا نجزم بتحققهما هنا، خصوصاً وأن المشهور القائل بتعين النصف الأول سكت عن حكم من لم يبت فيه لعذر أو لغير عذر، وهل يكتفي منه بالإصباح في منى أو يلزمه بالحضور عند منتصف الليل.

ولعل هذه النكتة غير معروضة في علم الأصول إلا أن

ص: 75


1- جواهر الكلام: 12/20.

مبحثاً قريباً منها مذكور هناك وهو عدم نفي الدليلينالمتعارضين لثالث إلا إذا كان فيهما دلالة التزامية على نفيه كما اختار السيد الخوئي (قدس سرّه)، وإلا فإن ((الإخبار عن الملزوم وإن كان إخباراً عن اللازم، إلا أنه ليس إخباراً عن اللازم بوجوده السعي، بل إخبار عن حصة خاصة هي لازم له، فإن الإخبار عن وقوع البول على الثوب ليس إخباراً عن نجاسة الثوب بأي سبب كان، بل إخبار عن نجاسته المسببة عن وقوع البول))(1).

وعلى أي حال فإنه يبقى فهم العرف للمبيت على أنه يتضمن بقاء وقت معتد به من الليل ولا يكفي مجرد الإدراك؛ فإن الإصباح مقابل المبيت ولا يتحقق به بمجرده وصرّحت به روايات عديدة كصحيحة علي بن جعفر (رجل بات بمكة في ليالي منى حتى أصبح)(2) وصحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (على الإمام أن يصلي الظهر بمنى ثم يبيت بها ويصبح حتى تطلع الشمس ثم يخرج إلى

ص: 76


1- مصباح الأصول من الموسوعة الكاملة للسيد الخوئي (قدس سرّه): 445/48.
2- وسائل الشيعة: 258/14، أبواب العود إلى منى، باب1، ح22.

عرفات)(1).وينبغي الالتفات هنا إلى أن هذا الاحتياط استحبابي إذا تم إطلاق روايات القول الثالث لأنها ستقيد إطلاق روايات القول الثاني وتجعلها خاصة بمن لم يشغله نسكه عن مبيت النصف الأول وسوف لا تحمل على الاستحباب حتى يقال باستبعاده.

ويكون هذا الاحتياط وجوبياً إذا لم يتم إطلاق روايات الإصباح في منى لأنها ستكون حينئذٍ مجملة من حيث المبدأ وتبيّنها روايات وجوب الكون في منتصف الليل.

لكننا في النهاية قرّبنا الإطلاق فالاحتياط استحبابي.

وثمرة كون الحكم احتياطياً -حتى لو كان وجوبياً- في الحالة الأولى عدم وجوب الكفارة بشاة إذا وصل إلى منى بعد منتصف الليل من زيارة البيت لعدم علمه بتحقق المخالفة مضافاً إلى ما قيل من أن موجب الكفارة غياب تمام الليل عن منى، وسيأتي التفصيل في مطلب مستقل إن شاء الله تعالى.

ويكون المختار في مسألة مقدار المبيت الواجب في منى كالتالي:

ص: 77


1- وسائل الشيعة: 525/13، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، باب 4، ح6.

المطلوب والمأمول من الحاج أن يكون حاضراً في منى عند غروب شمس اليومين العاشر والحادي عشر ليمتثل وجوب المبيت في منى، ويبقى فيها إلى منتصف الليل، ولهبعد ذلك أن يغادرها إلى أي مكان شاء، وإن كان الأفضل له البقاء فيها إلى طلوع الفجر.

أما من لم يحضر في هذا الوقت في منى فله حالتان:-

1- أن يكون ممن شغله أداء بقية المناسك عند البيت الحرام كطواف الحج وسعيه وطواف النساء، فله أن يبقى مشتغلاً بالعبادة إلى الفجر ويجزيه عن المبيت في منى، وإن كان الأفضل العودة إلى منى ليدرك مقداراً معتداً به من الليل تجنباً لمخالفة الإجماع على عدم كفاية مسمى الليل ويبقى في منى حتى يطلع عليه الفجر فيها، والأحوط استحباباً لمن قرّر العودة إلى منى أن يكون فيها عند منتصف الليل، ولو تأخّر وصوله عن منتصف الليل وأدرك مقداراً يسيراً منه إلى الفجر فلا كفارة عليه.

2- أن يكون ممن شغله أمر آخر غير النسك كالاستراحة في محل السكن أو التسوّق فهذا عليه أن يحضر في منى عند منتصف الليل ويبقى فيها إلى حين طلوع الفجر.

وبهذا القول:-

ص: 78

أ- أخذنا بإطلاق روايات القول الثالث.

ب- لم نحمل روايات القول الثاني على الاستحباب.

ج-- وافقنا الفهم العرفي.د- تجنبنا مخالفة الإجماع على عدم كفاية المسمى وإن كنا قلنا بعدم المحذور في مخالفته لأنه إجماع مركب.

ص: 79

فروع

(الفرع الأول) المقصود بأول الليل لابتداء المبيت هو غروب قرص الشمس لأنه أول الليل حقيقة، وفي رواياتالفرع التالي تصريح بذلك، ولما حققناه من أن المغرب الشرعي يتحقق به، خلافاً للمشهور الذي يشترط فيه زوال الحمرة المشرقية، ونقلوا ما قالوه هناك إلى هنا كقول الشهيد الثاني (قدس سرّه): ((والمراد بغروب الشمس هنا هو الغروب المعتبر في حل الصلاة وإفطار الصائم))(1) ومثله قول صاحب الجواهر (قدس سرّه): ((ضرورة كون المراد بغروب الشمس هنا هو الغروب المعتبر في حل الصلاة والإفطار))(2).

وهذا التعميم إلى ما نحن فيه يعني أنهم يعتبرون الشارع قد جعل حداً جديداً للمغرب والغروب غير التكويني ولا يختص الأمر بالصلاة، وهو كما ترى، فإن معنى غروب الشمس الوارد في النصوص هو ما يفهمه العرف وأهل اللغة وهو غياب قرص الشمس.

ويمكن إيقاع التصالح بما قلناه هناك من أن ذهاب الحمرة

ص: 80


1- مسالك الأفهام: 366/2.
2- جواهر الكلام: 14/20.

المشرقية ليس حداً للمغرب الشرعي وإنما هي علامة كاشفة عن تحقق غروب الشمس لمن يتعذر عليه رؤية سقوط القرص.

والمراد بالإصباح في الانتهاء هو طلوع الفجر وليسشروق الشمس.

أما منتصف الليل شرعاً فهو وسط الوقت بين الغروب والفجر وهو الأحوط لمن يريد الابتداء منه لمبيت النصف الثاني، أما من يريد الانتهاء به بمبيت النصف الأول فالأحوط له أن يجعله وسط الوقت بين الغروب وطلوع الشمس لأنه الليل تكويناً.

(الفرع الثاني) يتخيّر الحاج بين أن ينفر من منى يوم الثاني عشر بعد إكمال الرمي وهو النفر الأول، أو يتأخر إلى اليوم الثالث عشر، قال تعالى: «وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى» (البقرة:203) والفرق أن النفر الأول مشروط بأن يكون بعد الزوال أما الثاني فيمكن أن يكون في أول النهار إذا أكمل الرمي.

وقد يجب مبيت ليلة الثالث عشر على عدة عناوين:-

1- من لم يغادر منى في نهار اليوم الثاني عشر بعد الزوال -

ص: 81

وهو النفر الأول- حتى حل عليه الغروب وهو في منى وعليه الإجماع بقسميه(1)، ويستفاد من قوله تعالى: «فَمَن تَعَجَّلَ فِييَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» فالتعجيل المأذون به ينتهي بنهاية اليوم أي عند غروب الشمس، فمن غربت عليه فهو لم يأخذ بالرخصة وعليه أن يبقى إلى الثالث.

ودلّت عليه عدة روايات كصحيحة الحلبي ومعاوية بن عمار -حيث رويت بطريقين صحيحين عنهما- عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من تعجّل في يومين فلا ينفر حتى تزول الشمس، فإن أدركه المساء بات ولم ينفر)، وفي صحيحة معاوية بن عمار (إذا جاء الليل بعد النفر الأول فبِتْ بمنى وليس لك أن تخرج منها حتى تصبح)(2).

ورواية أبي بصير قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الرجل ينفر في النفر الأول، قال: له أن ينفر ما بينه وبين أن تصفر الشمس، فإن لم ينفر حتى يكون عند غروبها فلا ينفر، وليبت بمنى حتى إذا أصبح وطلعت الشمس فلينفر متى

ص: 82


1- مستند الشيعة: 76/13.
2- وسائل الشيعة: 277/14، أبواب العود إلى منى، باب 10، ح 1، 2.

شاء)(1).

أقول: سند هذه الرواية في التهذيب فيه محمد بن سنان ولا نرى بأساً في قبول روايته إذا لم يعارضها ما هو أقوى.ورواها الشيخ الصدوق في الفقيه بسنده إلى أبي بصير وهو إن كان يحيى بن أبي القاسم -كما هو الراجح بقرينة الراوي عنه وهو علي بن أبي حمزة الذي كان يقوده- فسنده المذكور في المشيخة ضعيف وإن كان ليث المرادي فسنده إليه مجهول لأنه لم يذكره رغم أنه روى بضع روايات مبتدئاً باسمه.

هذا ولكن يمكن تصحيح طريق الشيخ الصدوق إلى أبي بصير المرادي بتعويض السند لأن سنده في المشيخة إلى عبد الكريم بن عتبة الهاشمي صحيح وهو ينتهي إلى ليث المرادي عن الهاشمي، ومن البعيد أن يروي أبو بصير روايات الهاشمي بهذا الطريق الصحيح ولا يروي أحاديثه هو بنفس الطريق، فرواية الفقيه عن أبي بصير -إن كان هو ليث المرادي- تكون معتبرة.

استدراك: تبيّن أن أدلة الوجوب تامة للروايات الصحيحة

ص: 83


1- وسائل الشيعة: 277/14، أبواب العود إلى منى، باب10، ح4.

الصريحة، إلا أننا وجدنا السيد السبزواري (قدس سرّه) يعيد قراءتها وفق متغيرات الزمان فقال بعدم الوجوب وأن الأمر إرشادي ليتجنب الحجاج الخروج من منى ليلاً خوفاً عليهم من مخاطر الطريق، قال (قدس سرّه): ((ويمكن التشكيك في أصل الوجوب في هذه الأزمان؛ لأن الوجوب في الأزمنة القديمة كان لأجل أنلا يضل الحاج في طريقه في الليل، ولا تصبه عارضة أخرى في البر فيقع في الحرج والمشقة لا في مثل هذه الأزمان التي اتصلت بلدة منى بمكة المكرمة وليلهما كنهارهما من كثرة الزحام والأضواء إلا أن يقال: إن ذلك من الحكمة لا العلة))(1).

أقول: ويرد عليه:-

أ- إن المراد بالتأثير المقبول للزمان والمكان في تغير الحكم الشرعي يتحقق من خلال تغيّر الموضوع أو استحداث عنوان ثانوي أو المزاحمة بملاك أهم أو بأمر الولي الفقيه أو بانتهاء أمد الحكم إذا كان مؤقتاً أو بزوال علّته إذا ورد الحكم معللاً في النص ونحو ذلك مما دلّ الدليل على اعتباره شرعاً، فإنه تأويل على خلاف ظهور النصوص في الإطلاق ولا يوجد فيها مثل هذا

ص: 84


1- مهذب الأحكام: 365/14.

الملاك ولو وجد فإنه من الحكمة لا العلة كما قال (قدس سرّه)، فلا يدور الحكم مدارها، ولعله (قدس سرّه) انطلق من أبوّته وشفقته على الناس.

ب- ما استفدناه من الاستدلال بالآية الكريمة وهو مما لا يتطرق إليه هذا التأويل.ج-- الروايات الصحيحة الكثيرة التي رخّصت بترك منى بعد منتصف الليل أو أوجب العود إليها عند منتصف الليل لمن كان خارجها وهي تتضمن قطع المسافة بين مكة ومنى في الليل، ولم نجد في أي منها إرشاداً إلى هذا المعنى.

د- إن الطرق كانت تؤمَّن في موسم الحج وإن زحام الحجاج شديد في المشاعر المقدسة ومنها الطريق بين مكة ومنى في ليالي المبيت بحيث أن الحجاج كانوا ينامون في الطريق كما ورد في عدة روايات ولم يتخوف عليهم المعصوم (علیه السلام) من ذلك، وإذا وُجد تخوّف ما فإنه عذر شخصي يسقط التكليف كمن وجب عليه مبيت ليلة الثالث عشر لكن الحجاج نفروا يوم الثاني عشر وبقيت منى موحشة.

ص: 85

وهنا فوائد:-

إن المساء والمغرب الذي يوجب مبيت ليلة الثالث عشر هو غروب الشمس لما تقدم في الفرع الأول، ولما قربناه في الاستدلال بالتعجيل في يومين أول هذاأ- الفرع، وفي رواية أبي بصير تصريح بذلك، فهي ترجح ما حرّرناه في كتاب الصلاة من تحقق المغرب بسقوط القرص على نحو المرجح المساوي بحسب ما اصطلحناه، وقد صرّح جماعة بأن الحد هو غروب الشمس كالعلامة في الإرشاد، قال (قدس سرّه): ((إلا أن تغرب الشمس بمنى)) فلا بد أن يكون هذا هو المراد من عبارة المسالك وصاحب الجواهر (قدس سرّه) كما قرّبنا.

ب- من تهيأ للنفر من منى يوم الثاني عشر وتحرّك من مكانه لكنه لم يتمكن من مغادرتها قبل الغروب للزحام ونحوه وجب عليه المبيت؛ لإطلاق النص، لكن العلامة قال في التذكرة: ((ولو رحل من منى فغربت الشمس وهو راحل قبل انفصاله منها، فالأقرب: عدم وجوب المبيت، لمشقة الرفع

ص: 86

والحط))(1)، وقال في المنتهى: ((لم يلزمه المقام على إشكال))(2).

وفيه: عدم وجود دليل على التقييد فيشملهإطلاق الوجوب، وأن الحرج وسائر العناوين الثانوية أعذار شخصية تسقط التكليف عن المتلبس بها ولا تغيّر حكم اللزوم إلى الجواز، والفرق بينهما أن عليه شاة إذا لم يبت للحرج مع وجوب الفعل، لما سيأتي من عدم سقوط الكفارة بالعناوين الثانوية.

ولأن علة السقوط هو الحرج، فقد قال (قدس سرّه) في تكملة المسألة: ((ولو كان مشغولاً بالتأهب فغربت الشمس فالأقرب لزوم المقام))(3)، وإلا فلا وجه للفرق بين المسألتين؛ لشمول إطلاق الوجوب لهما؛ لذا لم يوافقه أكثر الأعلام كالشهيد الأول (قدس سرّه) في الدروس والشهيد الثاني (قدس سرّه) في المسالك وقال صاحب الجواهر (قدس سرّه) تبعاً له: ((من غير فرق بين من

ص: 87


1- تذكرة الفقهاء، للعلامة الحلي، الحسن بن يوسف بن المطهر: 374/8، ط. مؤسسة آل البيت (علیهم السلام).
2- منتهى المطلب: 415/11.
3- تذكرة الفقهاء: 375/8.

تأهب للخروج وغربت عليه قبل أن يخرج وغيره، وبين من نفر ولم يتجاوز حدود منى وغيره لصدق الغروب عليه بمنى فإن أجزاءها متساوية في وجوب المبيت بها))(1).

ج-- لو نفر بعد الزوال ورجع إلى منى بعد الغروب فلايجب عليه المبيت قطعاً، ولو رجع قبل الغروب لتدارك واجب عليه فيها، أو لأخذ متاع أو لقاء مؤمن فغربت عليه الشمس وهو في منى فهل يجب عليه المبيت أم لا؟ قال الشهيد الثاني (قدس سرّه): ((في وجوب الإقامة وجهان، وقرّب العلامة الوجوب))، وشرح السيد الخوئي (قدس سرّه) وجه ذلك فقال: ((الأقرب الوجوب لأنه برجوعه يستكشف أنه لم ينفر حقيقة ولا عبرة بمجرد الخروج من منى بعد الزوال وإطلاق الخبرين مِن إدراك المساء وهو بمنى أو مجيء الليل يشمله فالنفر الأول ليس بنفر حقيقة بل ذهاب ومجيء، فما قرّبه العلامة من الوجوب في هذه الصورة هو الصحيح))(2)، وجزم السيد الشاهرودي (قدس سرّه)

ص: 88


1- مسالك الأفهام: 366/2، جواهر الكلام: 14/20.
2- موسوعة السيد الخوئي: 381/29.

بالوجوب فقال: ((يجب عليه المبيت بها، لصدق عنوان غروب الشمس عليه وهو بمنى))

أقول: لعل الأصح عدم الوجوب لانصراف أدلته عن مثل هذه الحالة لصدق النفر عليه؛ لأنه قد خرج من النسك، وإن عودته بعد ذلك إلى منى لغرضٍ ما يكون خارج النسك فهو كمجيء الأجنبي غيرالناسك إلى منى لأمرٍ ما فلا أحد يقول بوجوب المبيت فيها إذا غربت الشمس.

ولو اختلفنا في كون الخروج نفراً أو عدمه فيمكن جعل القصد هو الضابطة للتفريق وإن لم يكن القصد مشروطاً في أصل تحقق النفر، فإذا قصد النفر بخروجه بعد زوال اليوم الثاني عشر فقد وقع وإلا فلا، كالذي قيل في جواز إخراج رحله قبل زوال يوم الثاني عشر ثم ينفر بعد الزوال لعدم جواز النفر قبله فكأن النفر لم يصدق عليه بمجرد الخروج لأنه لم يقصده، ومنشأ جعل هذه الضابطة أنه وجه الجمع بين طائفتين من الروايات فقد روى الشيخ الصدوق في الفقيه عن الحلبي (أن أبا عبد الله (علیه السلام) سُئل عن الرجل ينفر في النفر الأول قبل أن تزول الشمس، فقال: لا،

ص: 89

ولكن يخرج ثقله إن شاء ولا يخرج هو حتى تزول الشمس) قال: (وروي أنه من فعل ذلك فهو ممن تعجَّل في يومين)(1).

أقول: ظاهر الروايتين أن إخراج الثقل ليس نفراً لأنهلم يقصد النفر بخروجه من منى وإن كانتا غير صريحتين بأنه من أخرج أثقاله.

وروى الشيخ الكليني بسنده عن أبي الفرج -وهو مجهول- عن أبان بن تغلب قال: (سألته أيقدِّم الرجل رحله وثقله قبل النفر؟ فقال: لا، أما يخاف الذي يقدِّم ثقله أن يحبسه الله تعالى؟)(2) وحملها صاحب الوسائل على الكراهة وكذا في الوافي حيث علل المنع بقوله: ((لعل الوجه في خوفه الحبس اعتماده على وصوله إليه مع أنه ليس في يده))(3)، وهذا يعني أن

ص: 90


1- من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق محمد بن بابويه، 481/2، ح 3023. ط. جماعة المدرسين- قم.
2- الكافي: 520/4، ح2، ط. الثالثة، دار الكتب الإسلامية -طهران، وسائل الشيعة: 283/14، أبواب العود إلى منى، باب 13، ح2.
3- الوافي: 17/14، ح 14257، ط. مكتبة أمير المؤمنين (عليه السلام)- أصفهان.

مثل هذا الخروج من منى قبل موعد النفر لا يُعدُّ نفراً لذا جاز على كراهة.

وفي مقابل ذلك فإن في التهذيب رواية تدل على أنه نفر فقد روى بسنده عن علي عن أحدهما (علیهما السلام) أنه قال: (في رجل بعث بثقله يوم النفر الأول وأقام هوإلى الأخير، قال: هو ممن تعجل في يومين)(1).

وما نسبه -تبعاً للشهيد الثاني (قدس سرّه) في المسالك وصاحب الجواهر(2) وغيره- إلى العلامة (قدس سرّه) من القول بالوجوب لا يظهر من عبارته، إذ قال (قدس سرّه) في التذكرة مطلقاً زمن الرجوع: ((لم يلزمه المقام))(3) وكذا قال (قدس سرّه) في المنتهى: ((لو رحل منها قبل الغروب ثم رجع إليها لم يلزمه المقام بها لأنه قد ترخّص في التعجيل فلم يلزمه بعد ذلك المقام))(4) أما ما قرّبه من الوجوب فقد ذكره (قدس سرّه) عقب عبارته السابقة: ((ولو كان مشغولاً بالتأهب فغربت

ص: 91


1- تهذيب الأحكام: 490/5، ح 1757.
2- جواهر الكلام: 15/20.
3- تذكرة الفقهاء: 375/8.
4- منتهى المطلب: 415/11.

الشمس، فالأقرب لزوم المقام)) والحكم ناظر إلى من بقي في منى ولم ينفر منها، ولعلهم حكوا النسبة عن المحقق الكركي(1) (قدس سرّه).

2- من لم يتق الصيد أي لم يجتنب قتل الصيد وأخذه،وحكي الإجماع عليه(2) وهي دعوى لا يمكن التحقق منها لإغفال جملة من المتقدمين ذكر الحكم كابن أبي عقيل وابن الجنيد، ولم يذكره الشيخ الصدوق في المقنع والهداية ولا المفيد في المقنعة والمرتضى في جمل العلم والعمل وأبو الصلاح الحلبي في الكافي وسلار في المراسم وغيرهم.

واستدل عليه ببعض الروايات، منها صحيحة معاوية بن عمار قال: (سمعته يقول في قول الله عز وجل: «فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى» (البقرة:203) فقال: يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى إلى النفر الأخير)(3) وذيل صحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (ومن أصاب

ص: 92


1- جامع المقاصد: 264/3.
2- مستند الشيعة: 74/13.
3- وسائل الشيعة: 280/14، أبواب العود إلى منى، باب 11، ح 6.

الصيد فليس له أن ينفر في النفر الأول)(1).

أقول: الرواية الأولى لا دلالة فيها على المطلوب إذ هي بمضمون صحيحته الأخرى عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (ينبغي لمن تعجل في يومين أن يمسك عن الصيد حتى ينقضياليوم الثالث).

وأما الثانية فللشك في كون هذا المقطع جزءاً من صحيحة جميل(2) لأنه فصل جزأها الثاني عن الأول بقوله: ((وقال)) فاحتمل بعضهم أنها رواية أخرى لجميل فهي مرسلة كما عبّر المحقق النراقي (قدس سرّه) عنها بمرسلة الفقيه(3) ويقوّي ذلك أن التهذيب والكافي رويا الجزء الأول من

ص: 93


1- وسائل الشيعة: 280/14، الباب السابق ح 8، ونقلها عن الفقيه: ج2، باب النفر الأول والأخير، حديث 3026.
2- الرواية في الكافي والتهذيب بسندين صحيحين هكذا (لا بأس أن ينفر الرجل في النفر الأول ثم يقيم بمكة) (وسائل الشيعة: 14/ 274، أبواب العود إلى منى، باب 9، ح و : 278/14، باب 10، ح 3) وأضاف الصدوق (وقال: كان أبي يقول: من شاء رمى الجمار ارتفاع النهار ثم ينفر، قال: فقلت له: إلى متى يكون رمي الجمار؟ فقال: من ارتفاع النهار إلى غروب الشمس، ومن أصاب الصيد فليس له أن ينفر في النفر الأول).
3- مستند الشيعة: 13/ 56، 73.

الرواية فقط، وحكي عن بعض الأعلام أن المقطع الأخير في ذيل الجزء الثاني وهو محل الشاهد من تعليق الشيخ الصدوق لذا لم يثبتوه في الرواية(1) وفي أحسن الأحوال يكون محل الشاهد جزءاً من المرسلة، فوصفها بالصحة من قبل بعضالأعلام(2) والاستدلال بها لا يخلو من تأمل، نعم هي تصلح كمؤيد.

ولأجل هذا فقد اكتفى السيد الخوئي (قدس سرّه) في الاستدلال برواية الشيخ في التهذيب بسنده عن محمد بن عيسى عن محمد بن يحيى عن حماد عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا أصاب المحرم الصيد فليس له أن ينفر في النفر الأول، ومن نفر في النفر الأول فليس له أن يصيب الصيد حتى ينفر الناس، وهو قول الله عز وجل: «فَمَن تَعَجَّلَ فِي

ص: 94


1- حكي عن الشيخ حسن في منتقى الجمان: 424/3.
2- كالشيخ الفياض (دام ظله الشريف) في تعاليق مبسوطة: 617/10، ط. الأولى، 1433 هج-. دار منشورات العزيزي - قم.

يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى»، فقال: اتقى الصيد)(1)، وذكر ملاحظتين:-

إن قوله تعالى: «لِمَن اتَّقى» لم تأت عقب هذا المقطع بل بعد قوله تعالى: «وَمَن تَأخَّر فَلا إِثمَ عَلَيهِ لِمَن اتَّقَى» ثم قال: ((فذكره في هذا الموضع إما اشتباه من الراوي وإما أنه نقل بالمعنى لا نقل نفسأ- الآية))(2).

أقول: الأقرب أنه لا هذا ولا ذاك وإنما من باب اقتطاع محل الشاهد من الآية والمعروف اليوم وضع نقاط بدل ما لم يذكر كما في الطبعة الحديثة، وقد ورد نفس الشاهد في صحيحة معاوية بن عمار.

ب- ((إن الرواية صحيحة، فإن محمد بن يحيى الراوي عن حماد وإن كان مردداً بين محمد بن يحيى الخزاز، ومحمد بن يحيى الخثعمي وهما ثقتان، وبين

ص: 95


1- وسائل الشيعة: 280/14، أبواب العود إلى منى، باب 11، ح 3، عن تهذيب الأحكام: ج5 (آخر باب الزيادات في فقه الحج، ح 404).
2- المعتمد في شرح المناسك من موسوعة السيد الخوئي: 377/29.

محمد بن يحيى الصيرفي وهو غير موثق، ولكن الظاهر انصرافه إلى الخزاز؛ لاشتهاره وممن له كتاب والخثعمي وإن كان له كتاب أيضاً ولكن لا ريب أن الخزاز هو الأشهر بحيث أن الشيخ ترجمه في الفهرست من دون أن يذكره مقيداً بالخزاز. وبالجملة: لا ريب أن محمد بن يحيى في هذه الطبقة ينصرف إلى الخزاز كما هو كذلك في سائر الروايات التي ذكر محمد بن يحيى على الإطلاق))(1).أقول: هنا عدة تعليقات:-

أ- الظاهر أن محمد بن يحيى هو الصيرفي الذي قال بجهالته؛ لاتحاد هذه الرواية التي أوردها الشيخ (قدس سرّه) في باب الزيادات مع أخرى رواها الشيخ أيضاً في التهذيب في باب النفر من منى بإسناد آخر صرح فيه عن محمد بن يحيى الصيرفي عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (علیه السلام) في قول الله عز وجل: «فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» لمن اتقى الصيد -يعني في إحرامه- فإن أصابه لم يكن له أن ينفر في النفر

ص: 96


1- المصدر السابق، نفس الموضع.

الأول)(1).

فهذه القرينة الخاصة مقدّمة على القرينة العامة التي ذكرها (قدس سرّه)، نعم هذه الرواية الثانية غير معتبرة لأن فيها يحيى بن المبارك الذي لم يرد فيه توثيق لكن السيد الخوئي (قدس سرّه) وثّقه من جهة وروده في تفسير القمي وهي كبرى لا نعتمد عليها.

ب-إن محمد بن يحيى الصيرفي الذي قيل بجهالته هوأ- محمد بن يحيى الخثعمي الثقة ودليل ذلك أن الخثعمي يروي عن حماد بن عثمان وقد عرّفه النجاشي بأنه ((أخو مغلِّس))(2) وورد في كتاب ثواب الأعمال(3) في استحباب صوم ثلاثة أيام من الشهر رواية محمد بن يحيى أخي مغلِّس الصيرفي

ص: 97


1- وسائل الشيعة: 279/14، أبواب العود إلى منى، باب 11، ح 2، تهذيب الأحكام: ج5، باب 20، العود إلى منى، ح8.
2- رجال النجاشي: 359، رقم الترجمة (963).
3- ثواب الأعمال، للشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي: 80. ط. الثانية، منشورات الرضي- قم، 1368، وأورد السند في وسائل الشيعة: 416/10، أبواب الصوم المندوب، باب 7، ح2.

عن حماد بن عثمان، فالصيرفي هو الخثعمي.

ويشهد له أن النجاشي اكتفى بذكر الخزاز والخثعمي ولم يذكر الصيرفي ولو كان يرى المغايرة لذكر كتابه فإنه صاحب كتاب مذكور في فهرست ابن بطة الذي كان من مصادر النجاشي.

ولا مانع من هذا من حيث اختلاف الطبقات بين الخثعمي والصيرفي أخي مغلِّس باعتبار أن الشيخ ذكر الخثعمي في رجال الإمام الصادق (علیه السلام) وذكر محمد بن يحيى أخا مغلِّس في أصحاب الرضا(علیه السلام)، فإن معاصرة ثلاثة من الأئمة المعصومين (علیهم السلام) حالة موجودة بكثرة، ولأن كلا العنوانين يرويان عن أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام).

لكن قد يبعّده ما قيل من أن محمد بن عيسى لم يرو عن الخزاز ولا عن الخثعمي، وأن الشيخ ذكر عنوان الصيرفي مستقلاً عن الخثعمي والخزاز

ص: 98

في الفهرست(1)، وأن الطبقة التي روى عنها الخثعمي متقدمة على الطبقة التي روى عنها الصيرفي.

ولا نريد أن نذهب أبعد من هذا فنقول باتحاد الخثعمي والخزاز كما احتمله أبو علي الحائري، قال: ((وروايته عن غياث بن إبراهيم كما وقع التصريح به في عدة روايات تشعر باتحاده مع ابن يحيى الخزاز لما مرّ في غياث، ولوقوع التصريحبالخزاز في بعض الروايات))(2).

أقول: وحكى السيد الخوئي (قدس سرّه) تبني الوافي لهذا القول، قال: ((حيث نقل الكليني رواية بسنده عن أحمد بن محمد عن محمد بن يحيى الخثعمي عن غياث بن إبراهيم (الكافي: ج6، كتاب 3: العتق والتدبير والكتابة، باب 19، الإباق، ح5) ورواها

ص: 99


1- الفهرست: 417، رقم (635): الصيرفي، وذكر الخثعمي في ص 419 تحت رقم (643) وذكر محمد بن يحيى المنصرف إلى الخزاز ص 437 تحت رقم (698).
2- منتهى المقال في أصول الرجال: 228/6، مؤسسة آل البيت (علیهم السلام).

الشيخ في التهذيب (ج6، باب اللقطة والضالة، الحديث 1202) إلا أن فيه محمد بن يحيى الخزاز بدل الخثعمي، ونقل الوافي صدر الرواية في مورد وفيه الخزاز وذيلها في مورد آخر وفيه الخثعمي وقال في هامشه بأنهما واحد))(1).

أقول: وهذا لا يمكن الالتزام به بعد أن علمنا وضوح تغايرهما من كلام النجاشي وغيره وأن الذي يروي كتاب غياث هو الخزاز. وقال أبو علي: ((في اتحاده مع الخزاز تأمل ظاهر ومما يبعّده أن الخزاز يروي عن أصحاب أبي عبد الله (علیه السلام)ولم يذكروا روايته عنه، والخثعمي صرحوا بروايته عنه (علیه السلام) )).

وأشكل عليه من جهة عدم ورود لفظ الصيرفي في نسخة البحار(2) واحتمال أن توصيف الصيرفي في سند الصدوق لمغلّس وليس لمحمد بن يحيى، والكلام في مناقشة هذه الاحتمالات وغيرها طويل، والمعلومات في المصادر لا تخلو من تشويش

ص: 100


1- معجم رجال الحديث - السيد الخوئي: 38/19.
2- بحار الأنوار: 101/94.

والأسماء من تصحيف، ولا نجد حاجة للدخول في هذه التفاصيل.

ج-- دعوى انصراف العنوان المشترك إلى المشهور ومن له كتاب لا يمكن التسليم بها على إطلاقها خصوصاً مع كون الآخر مشهوراً أيضاً وله كتاب، والشاهد الذي أورده من كتاب الفهرست غير كافٍ لاحتمال أن عدم تقييده ليس بسبب الاستغناء عن التقييد بل بسبب أنه لما كان راوياً لكتاب غياث بن إبراهيم ومعروف أن من يروي كتاب غياث بن إبراهيم هو الخزاز وقد ذكر الشيخ(قدس سرّه) ذلك في كتاب الرجال(1)، فلما وصل إلى عنوان محمد بن يحيى وذكر أنه روى كتابه عن غياث بن إبراهيم(2) فاكتفى الشيخ بهذا التمييز ولم يذكر لقب الرجل وليس من جهة أنه كان مستغنياً عن التقييد.

وعلى هذا فإن رواية حماد الثانية التي نقلها الشيخ

ص: 101


1- رجال الشيخ: 355، رقم العنوان (561) تحقيق السيد عبد العزيز الطباطبائي.
2- رجال الشيخ: 437، رقم العنوان (698).

بسنده عن محمد بن عيسى عن محمد بن يحيى عن حماد يمكن أن تكون معتبرة، والمناقشة من جهة محمد بن عيسى اليقطيني أو طريق الشيخ إليه وسوسة لوضوح جلالة قدره، ونقل الشيخ من مصادر معتمدة عنه.

وتؤيدها الرواية الأخرى عن حماد التي فيها يحيى بن المبارك، ومرسلة العياشي عن حماد عنه (علیه السلام) (في قوله: «لمن اتقى» الصيد فإن من ابتلى شيئاً من الصيد ففداه فليس له أن ينفر في يومين)(1)، وتعدد طرق الرواية عن حماد قد يحصّلوثوقاً بصدورها عنه.

وذيل صحيحة جميل المتقدمة التي يحتمل أنها رويت بنفس الطريق الصحيح إلى جميل، ومرسلة الكليني عقب رواية محمد بن المستنير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من أتى النساء في إحرامه لم يكن له أن ينفر في النفر الأول) قال الكليني: (وفي رواية أخرى الصيد أيضاً)(2)، ومرسلة العياشي الأخرى عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (علیه السلام) أنه قال: (لمن اتقى منهم الصيد واتقى الرفث والفسوق

ص: 102


1- تفسير العياشي: 119/1، ح 281، ط. الأعلمي.
2- الكافي: 523/4.

والجدال وما حرّم الله عليه في إحرامه)(1) وقد أوردها الشيخ الصدوق في الفقيه(2) من دون ذكر الصيد وأوردهما صاحب تفسير البرهان(3) معاً.

3- من لم يتجنب الجماع وادعي عليه الإجماع(4) قال العلامة في المنتهى والتذكرة: ((إنما يجوز النفير في النفر الأوللمن اتقى النساء والصيد في إحرامه فلو جامع في إحرامه أو قتل صيداً فيه لم يجز له أن ينفر في الأول))(5).

أقول: لا يوجد في الروايات ما يدل عليه إلا رواية محمد بن المستنير عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من أتى النساء في إحرامه لم يكن له أن ينفر في النفر الأول)(6) وهي ضعيفة ((لأن محمد بن المستنير لا ذكر له في الروايات إلا هذه الرواية

ص: 103


1- تفسير العياشي: 1/ ح287.
2- من لا يحضره الفقيه: 288/2، ح 1416. ط.
3- البرهان في تفسير القرآن: 84/2، ح6، 19. ط. دار إحياء التراث العربي.
4- رياض المسائل: 166/7، جواهر الكلام: 36/20.
5- تذكرة الفقهاء: 372/8، المسألة 690، تحقيق مؤسسة أهل البيت (علیهم السلام).
6- وسائل الشيعة: 279/14، أبواب العود إلى منى، باب 11، ح1، عن التهذيب: ج5، باب 20، النفر من منى، ح7.

كما لا ذكر له في الرجال))(1).

أقول: عدم ذكره لا يدل على عدم وجوده خصوصاً وأن التهذيب والكافي روياه عن محمد بن المستنير، ويحتمل أن يكون الصحيح محمد بن المثنى فقد أشار محقق نسخة تفسير القمي(2): إلى وجود نسخة أخرى من التفسير مطبوعة في إيران عام 1313 فيها (محمد بن المثنى) ويؤكده أنها مروية عنمحمد بن المثنى أيضاً في تفسير فرات الكوفي(3)، وقد نقل السيد الخوئي (قدس سرّه) وقوع نفس الخطأ عند تفسير قوله تعالى: «وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُوراً» (الفرقان:8) فقد روى القمي في تفسيره عن محمد بن المثنى عن أبيه، وهو الموافق لتفسير البرهان(4)، لكن في الطبعة الحديثة (محمد بن المستنير)(5) ومحمد بن المثنى هو الحضرمي ولم يرد فيه توثيق.

ص: 104


1- موسوعة السيد الخوئي، الموضع السابق.
2- تفسير القمي: 112/2، ط. مؤسسة دار الكتاب للطباعة - قم.
3- تفسير فرات الكوفي، لفرات بن إبراهيم الكوفي: 291، ط. الأولى 1990 - طهران.
4- البرهان: 87/7، وكذا في تفسير نور الثقلين، للحويزي علي بن جمعة: 7/4، ح22 من سورة الفرقان، ط. إسماعيليان - قم.
5- معجم رجال الحديث: 193/18، رقم الترجمة 12691 محمد بن المثنى.

قال الشهيد الثاني (قدس سرّه) في الروضة والمسالك: ((والمراد باتقاء النساء عدم جماعهن في حال الإحرام، وفي إلحاق باقي المحرمات المتعلقة بهن كالقبلة واللمس بشهوة والعقد وشهادته نظر، من صدق عدم الاتقاء لغة في جميع ذلك، ومن دلالة ظاهر النص على إرادة المعنى الأول. وبه صرّح بعض الأصحاب))(1).أقول: كقول المحقق الكركي (قدس سرّه): ((لأن المتبادر إلى الفهم من اتقاء النساء وعدمه هو مجانبة الوطء وعدمها))(2).

أقول: لم يرد لفظ اتقاء النساء في الروايات حتى يكون المعوَّل على صدقه، نعم ورد لفظ الإتيان فلا بد أن يقال أن الوطء هو ظاهر لفظ الإتيان الوارد في النص المتقدم.

ومن جهة أخرى فقد توسَّع بعض الأصحاب إلى وقوع الفعل في العمرة أيضاً، فقالوا بعدم الفرق بين وقوع الإتيان في الإحرام بين الحج وعمرة التمتع لإطلاق الرواية، قال المحقق الكركي (قدس سرّه): ((وفي عمرة التمتع بالإضافة إلى حجه في وجه قوي لأنها جزء من حج التمتع لا العمرة المبتولة على الظاهر

ص: 105


1- جامع المقاصد: 262/3.
2- جامع المقاصد: 262/3.

لعدم الارتباط المقتضي لمبادرته إلى الفهم))(1).

ويرد عليه: إن إحرام الحج غير إحرام العمرة الذي قد تحلل منه فلا يسري الحكم المترتب على الأول بمقتضى النص إلى الثاني، قال صاحب المدارك: ((وقد نصَّ الأصحاب على أن الاتقاء معتبر في إحرام الحج، وقوّى الشارح اعتباره في عمرة التمتع لارتباطها بالحج ودخولها فيه، والمسألة قويةالإشكال))(2).

كما أن الحديث عن العمرة المفردة يجعل الحكم سالبة بانتفاء الموضوع؛ لأن العمرة المفردة ليست مرتبطة بالحج فليس فيها مبيت في منى وفي حج الإفراد تكون العمرة المفردة بعد الحج.

وعلى أي حال فإنه يمكن شمول اتقاء غير الجماع في عموم رواية سلام بن المستنير عن أبي جعفر (علیه السلام) أنه قال: (لمن اتقى الرفث والفسوق والجدل، وما حرّم الله عليه في إحرامه)(3).

ص: 106


1- جامع المقاصد: 263/3.
2- مدارك الأحكام: 248/8.
3- وسائل الشيعة: 280/14، أبواب العود إلى منى، باب 11، ح 7.

ويرد عليه:-

أ- أن سلام بن المستنير لم يوثَّق وإنما وصفها السيد الخوئي (قدس سرّه) بالمعتبرة لأنه من رجال تفسير القمي وهي كبرى لا نعتمدها, أو يجبر ضعف السند بعمل المشهور بحسب مبنى جماعة، ولم يثبت أن المشهور عمل بها بل حكي عن ابن إدريس وابن سعيد كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

إطلاق مفهوم الروايات الدالة على وجوب مبيت ليلةأ- الثالث عشر إذا أصاب الصيد المتقدمة في الفقرة الثانية فإن مفهومها ((إذا اتقى الصيد فله أن ينفر في النفر الأول)) وهو مطلق شامل لمن أتى النساء وغيره، إلا أن يتم دليل على التقييد والمفروض عدمه، فتحمل هذه الرواية على الاستحباب لأنها لا تصلح للتقييد إلا أن تتم حجية الإجماع صغرى وكبرى فتكون مقيداً لإطلاق المفهوم وهو ما لم يثبت.

ج-- ما قيل من أن هذا التقريب يؤول إلى حمل جواز النفر الأول على الفرد النادر لأنه من النادر عدم ابتلاء الحجاج بمخالفة شيء من تروك الإحرام، ولو لم نقل بالندرة فلا شك في أنه عدد كثير يستوجب صدور

ص: 107

نصوص عديدة في المسألة لأنها ابتلائية.

د- السيرة القطعية على جواز النفر الأول ولو لم يجتنب تروك الإحرام إلا الصيد، ولو كان ارتكابها موجباً لمبيت ليلة الثالث عشر لعُرف ذلك في سيرتهم ومن فتاوى الفقهاء إلا ما حكي عن ابن سعيد(1) من اتقاء كل ما حرم عليه في إحرامه.

4- ومما ذكرنا أعلاه يظهر ضعف بعض الأقوال الشاذة فيالمسألة كاشتراط ابن سعيد اتقاء كل ما حرم عليه في إحرامه، أو وجوب المبيت على الصرورة مطلقاً قال الحلبي في الكافي: ((ولا يجوز للصرورة أن ينفر في الأول، ويجوز ذلك لغيره))(2) وكذا الغنية والإصباح ولا دليل عليه بل هو مخالف لإطلاق التخيير في قوله تعالى: «فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى» (البقرة: 203)، أو ما ذكره ابن إدريس في باب زيارة البيت والرجوع إلى منى من إلحاق المحرمات التي توجب الكفارة ونفى عنه الخلاف، حيث قال: ((وذلك أن من عليه كفارة لا يجوز له أن ينفر في النفر

ص: 108


1- الجامع للشرائع: 218.
2- الكافي في الفقه، للحلبي أبي الصلاح: 198، تحقيق رضا أستادي - أصفهان.

الأول بلا خلاف))، لكنه وافق المشهور ظاهراً في الباب الذي بعده وهو باب النفر من منى حيث قال: ((فإن كان ممن أصاب النساء في إحرامه أو صيداً لم يجز له أن ينفر في النفر الأول))(1)، وكالقول بعدم جواز النفر الأول أصلاً إلا للضرورة كما حكي عن الحلبي(2).نعم يمكن القول باستحباب ذلك مطلقاً لعموم صحيحة معاوية بن عمار (لا تبت ليالي التشريق إلا بمنى) وغيرها وهي شاملة للّيالي الثلاث، سقط الوجوب للرخصة في موارد جواز النفر الأول، وبقي ملاك الرجحان غير الإلزامي لا من جهة أن الوجوب مركب فإذا سقط فصل الإلزام بقي جنس الطلب المفيد للرجحان، وإنما لما قرّبناه من حسن المبيت حتى لمن امتثل الواجب بغيره وأن عدم المبيت فيه نقص لذا استحب المبيت في منى إلى الفجر رغم الرخصة بمغادرتها بعد انقضاء النصف الأول، واستحب لمن قضى الليل بالنسك في مكة أن يعود إلى منى ليصبح فيها رغم أنه بديل عن المبيت.

وقد ذهب المحقق النائيني (قدس سرّه) إلى الاحتياط

ص: 109


1- السرائر، للحلي محمد بن منصور: 605/1-612، ط. جماعة المدرسين.
2- الكافي في الفقه: 198.

الاستحبابي، قال: ((وإن كان الأولى بل الأحوط أن لا يتركه من ارتكب ما عدا الصيد والنساء من محرمات الإحرام أو اقترف كبيرة أخرى. والصرورة بل هو الأفضل لكل ناسك))(1)، ولعل الوجه في ذلك -مضافاً إلى ما ذكرناه- صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في قول الله عز وجل: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ» فقال: إن الله اشترط على الناسشرطاً وشرط لهم شرطاً، قلت: فما الذي اشترط عليهم، وما الذي اشترط لهم؟ فقال: أما الذي اشترط عليهم فإنه قال: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ» وأما الذي شرط لهم فإنه قال: «فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى»، قال: يرجع لا ذنب عليه)(2).

أقول: فالمراد بالاتقاء مطلق محرمات الإحرام وبنفي الإثم أنه يرجع مغفوراً له، وهذا لا ينافي ما تقدم من أحكام عدم الاتقاء لو تم بدليل معتبر؛ لأنه من التفسير المعنوي ككثير من

ص: 110


1- دليل الناسك: 431، (المتن)
2- الكافي: 337/3، معاني الأخبار: 295، ورواها في الفقيه: 212/2 عن محمد بن مسلم والحلبي جميعاً.

الروايات الواردة في مثل هذه المعاني للآية(1)، وإلا فإن معنى الاتقاء بينته الروايات في أول الفرع بناءً على تماميتها.وخلاصة الكلام في هذا الفرع: أن وجوب مبيت ليلة الثالث عشر لم يثبت بدليل معتبر إلا في من غربت عليه شمس اليوم الثاني عشر، وقد حاولنا معالجة دليل الوجوب على من لم يتق الصيد، أما من لم يتق النساء والموجبات الأخرى فلم نجد عليها دليلاً معتبراً، حتى وصف صاحب المدارك المسألة بأنها ((قوية الإشكال))(2) مشيراً إلى جملة من الروايات في تفسير الآية.

لذا شكك جملة من الأعلام في الوجوب كقول المحقق الأردبيلي (قدس سرّه) مشيراً إلى جملة من الروايات الواردة في تفسيراته: ((وأما شرط الاتقاء من الصيد والنساء فلا أرى له

ص: 111


1- جمعها في تفسير البرهان: 83/2-87، ومنها ما في الفقيه (وسُئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل «فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» قال: ليس هو على أن ذلك واسع إن شاء صنع ذا وإن شاء صنع ذا، لكنه يرجع مغفوراً له لا إثم عليه ولا ذنب له) (من لا يحضره الفقيه: ج2، باب النفر الأول والأخير، ح 3027.
2- مدارك الأحكام: 248/8.

دليلاً صالحاً لأن الآية الكريمة مجملة وقابلة للمعاني فإنه يحتمل أن يكون معناها من نفر من النفر الأول أو الثاني فلا إثم عليه يعني لما أتى بأفعال الحج كلها ما بقى عليه ذنب سواء نفر في الأول أو الثاني وحينئذ لا يتعلق به «لمن اتقى» ولا يقيده بقيد المراد فيحتمل أن يكون معناه كون الحج كذلك مكفراً للذنوب كلها لمن اتقى في الحج جميع ما نهى الله عنه. أو أنه ينتفع بذلك من اتقى في بقية عمره إذ لو ارتكب المعاصي فلا يخلصه محو الذنوب المتقدمة بسبب الحج. وإليه أشار في روايةفي الكافي عن أبي عبد الله (علیه السلام) (في حديث) ومنهم من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وقيل له: أحسن فيما بقي من عمرك وذلك قوله عز وجل «فمن تعجل..» الآية. أو أن ذلك للمتقين يعنى شيعة أهل البيت، كما نقل في الكافي. في رواية إسماعيل بن نجيح الرياح، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: كنا عند أبي عبد الله (علیه السلام) بمنى ليلة من الليالي، فقال: ما يقول هؤلاء في من تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه؟ قلنا: لا ندري، قال: بلى يقولون: من تعجل من أهل البادية فلا إثم عليه ومن تأخر من أهل الحضر فلا إثم عليه وليس كما يقولون قال الله جل ثنائه: «فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ألا لا إثم... عليه ومن تأخر فلا إثم عليه»

ص: 112

ألا لا إثم عليه لمن اتقى، إنما هي لكم والناس سواد وأنتم الحاج. وإن معناها أن ذلك لمن اتقى المعاصي، كما قال الله: إنما يتقبل الله من المتقين. ففيها إشارة إلى أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده الخاص وأنه مفسد للعبادة فلا يصح حج من كان في ذمته حق مضيق مع القدرة، فينبغي الاجتناب له، فتأمل))(1).

ثم قال (قدس سرّه): ((والاحتمالات في الآية كثيرة، نعم أحدهاما يفيد التقييد المذكور ولكن يحتاج إلى نص صريح صحيح)) ثم قال (قدس سرّه) بعد كلام مفصل: ((والاحتياط هو التوقف إلى النفر الثاني لمن لم يتق، والأفضل لغيره النفر الثاني لتحصيل عبادة أخرى، ولرعاية ظاهر الأخبار، وكذا الإقامة بمنى في أيام التشريق))(2).

أقول: ومنه يُعلم النظر في دفع صاحب الجواهر، قال (قدس سرّه): ((والمناقشة بضعف السند كما في المدارك وبإجمال المراد بالاتقاء المحتمل ما سمعت مدفوعة بالانجبار بما سمعت، وبمرجوحية المنافي منها، على أنه لو سُلِّم الإجمال في المراد بالآية كان في ما سمعته من الإجماع على الحكم مؤيداً بما

ص: 113


1- مجمع الفائدة والبرهان: 339/7-340.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 342/7.

سمعته من النصوص كفاية))(1).

تتميم: في حكم من لم يتق الصيد والنساء جهلاً أو نسياناً

قال المحقق الكركي (قدس سرّه): ((وهل يفرق بين العامد والناسي في الأمرين -الصيد والنساء- معاً، فيكون الناسي متقياً، أم في النساء فقط، إذ لا شيء على الناسي لو جامع،بخلاف قتل الصيد سهواً، أم لا يُعَدُّ متقياً فيهما؟ أوجه، ولم أظفر بذلك في كلام الأصحاب))(2).

وقال الشهيد الثاني (قدس سرّه): ((وهل يُفرّق بين العامد والناسي والجاهل. في ذلك نظر، من العموم، وعدم وجوب الكفارة على الناسي في غير الصيد، وعدم مؤاخذته فيه، ويمكن الفرق بين الصيد وغيره فيثبت الحكم فيه مطلقاً بخلاف غيره، أما الجاهل فالظاهر أنه كالعامد، مع احتمال خروجه أيضاً لعدم وجوب الكفارة عليه في غير الصيد، ثم قال (قدس سرّه): ((وكلام الجماعة في هذه الفروع غير محرر))(3).

وقال صاحب الجواهر (قدس سرّه): ((الأحوط إن لم يكن

ص: 114


1- جواهر الكلام: 37/20 -40.
2- جامع المقاصد: 263/3.
3- مسالك الأفهام: 367/2.

الأقوى عدم الفرق بين العامد والناسي والجاهل، وربما فُرِّق بين الصيد وغيره لوجوب الكفارة في الأول على كل حال))(1).

أقول: المناط في صدق عنوان اتقاء الصيد وإتيان النساء المنصوصين وعدمه، ولا ربط له باستحقاق الكفارة وعدمه. إلا أن يقال إن العنوانين منصرفان عن الناسي والجاهل فلايجب عليه مبيت ليلة الثالث عشر، وقد يكون استحقاق الكفارة وعدمه قرينة على الانصراف وعدمه، أو شمول النصوص وعدمه.

(الفرع الثالث) هل تختص الرخصة في كفاية المقدار الواجب من الليل ببعض ليالي المبيت أم تشملها جميعاً.

اتضح مما تقدم كفاية المبيت في منى في النصف الأول أو الثاني أو الإصباح فيها لمن قضى أول الليل في النسك بمكة، وإن استظهر بعضهم من قولهم (علیهم السلام): (لا تبت ليالي التشريق إلا بمنى) لزوم قضاء تمام الليل في منى بحسب المعنى اللغوي أو العرفي إلا أن الروايات المعتبرة دلّت على كفاية هذا المقدار لتحقق المبيت الواجب، وهي شاملة بإطلاقها

ص: 115


1- جواهر الكلام: 40/20.

لليالي أيام التشريق جميعاً حتى ليلة الثالث عشر لأن الواجب فيها عنوان المبيت أيضاً كصحيحتي(1) الحلبي ومعاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (من تعجّل في يومين فلا ينفر حتى تزول الشمس فإن أدركه المساء بات ولم ينفر)(2)، فيكفي هذاالمقدار في مبيت ليلة الثالث عشر أيضاً.

ولعله لهذا أطلق المشهور وجوب المبيت من دون بيان خصوصية لليلة الثالثة عشرة، فيكون المورد مشمولاً بما دلّ على كفاية نصف الليل ونحوه، قال السيد الخوئي (قدس سرّه): ((ومن لم يجتنب الصيد في إحرامه فعليه المبيت ليلة الثالث عشرة أيضاً وكذا من أتى النساء على الأحوط))(3)، وقال: ((إذا بقي في منى إلى أن دخل الليل وجب عليه المبيت ليلة الثالث عشر أيضاً))، بل صرح السيد الخميني (قدس سرّه) بذلك،

ص: 116


1- في وسائل الشيعة عن ابن أبي عمير عن حماد عن الحلبي والصحيح كما في الكافي عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار، وعن حماد عن الحلبي فهي رواية بطريقين صحيحين.
2- وسائل الشيعة: 277/14، أبواب العود إلى منى، باب 10، ح1.
3- وما يليها في موسوعة السيد الخوئي: 357/29، 380.

قال: ((يجب المبيت ليلة الثالثة عشرة إلى نصفها))(1).

هذا ولكن دلّت أكثر من رواية معتبرة على لزوم البقاء إلى الفجر لمن وجب عليه مبيت ليلة الثالث عشر كصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال فيها: (إذا جاء الليل بعد النفر الأول فَبِتْ بمنى وليس لك أن تخرج منها حتى تصبح)(2)، وورد في رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (علیه السلام) البقاء إلى طلوع الشمس لقوله (علیه السلام)

فيها: (فإن هو لم ينفرحتى يكون عند غروبها فلا ينفر، وليبت بمنى حتى إذا أصبح وطلعت الشمس فلينفر متى شاء)(3).

فهذه الروايات تكون مقدّمة على ما دلّ على الرخصة في كفاية بعض الليل؛ لأنها صريحة في المطلوب وتقديم روايات الرخصة عليها يعني إلغاءها، وهي وإن وردت في خصوص من وجب عليه المبيت لغروب شمس اليوم الثاني عشر عليه وهو في منى إلا أنها تُعمَّم لموجبات المبيت الأخرى

ص: 117


1- تحرير الوسيلة: 408/1، المسألة (2).
2- وسائل الشيعة: 278/14، أبواب العود إلى منى، باب 10، ح2.
3- وسائل الشيعة: 278/14، أبواب العود إلى منى، باب 10، ح4.

لأن ظهور صحيحة معاوية في العموم قريب خصوصاً على ما في الوسائل التي فيها (فليس لك) ويناسبه أن تكون ما قبلها (فبتَّ بمنى) كما هو ظاهر.

ولا يضر بما قلناه من أن حد المبيت هو طلوع الفجر ورود قوله (علیه السلام): (وطلعت الشمس) في رواية أبي بصير، لا لضعف سندها بوجود محمد بن سنان في سند التهذيب وضعف أو جهالة طريق الشيخ الصدوق إلى أبي بصير، إذ تقدم في الفرع الثاني (صفحة 81) أنه يمكن معالجة المشكلتين لجواز العمل بروايات محمد بن سنان إلا أن يعارضها ما هو أقوى منها، وقد صححنا طريقاً للشيخ الصدوق إلى ليث بن البختري المرادي في طريقه إلى عبد الكريم بن عتبة الهاشميبناءً على أن المراد من أبي بصير هو المرادي وليس يحيى بن أبي القاسم كما رجّح السيد الخوئي (قدس سرّه) بقرينة الراوي عنه.

وإنما لأن دلالتها غير واضحة على ما قيل فلا تزيد على صحيحة معاوية بن عمار لأن ذكر (وطلعت الشمس) لبيان إمكان النفر من منى يوم الثالث عشر أول النهار بعد الرمي مباشرة ولا يجب تأخر النفر إلى ما بعد الزوال كما في نفر اليوم الثاني عشر، وفيه تخفيف على المكلف بإنهاء رمي

ص: 118

الجمرات أول النهار ما دام قد بقي إلى الفجر ومغادرة منى بعد طلوع الشمس، وقد دلّت الروايات على أن النفر الثاني يمكن أن يكون أول النهار وليس كالنفر الأول الذي يجب أن يكون بعد الزوال كصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا أردت أن تنفر في يومين فليس لك أن تنفر حتى تزول الشمس، وإن تأخرت إلى آخر أيام التشريق وهو يوم النفر الأخير فلا عليك أي ساعة نفرت قبل الزوال أو بعده)(1).

هذا وقد حكي عن بعض المعاصرين(2) أن رخصةالخروج من منى لا تشمل مبيت ليلة الثاني عشر أيضاً لأن قوله (علیه السلام): (لا تبت ليالي التشريق إلا بمنى) ظاهر في لزوم استيعاب تمام الليل وإنَّ ما دلّ على الرخصة منصرف إلى ليلة

ص: 119


1- وسائل الشيعة: 274/14، أبواب العود إلى منى، باب 9، ح3.
2- حكي عن المحقق الداماد (قدس سرّه) في مناسك الحج: 299 وعن السيد الشبيري الزنجاني في بحثه الشريف، وقال في مناسكه: ص 299: ((وأما بالنسبة إلى الليلة الثانية عشرة والثالثة عشرة على من يجب فيها المبيت فالأحوط وجوباً أن يبيت في منى من غروب الشمس إلى طلوعها ولا يخرج منه في هذه الفترة حتى لإتيان أعمال مكة الواجبة)).

الحادي عشر لأنها ناظرة إلى تمكين الحاج من أداء طواف الحج والنساء وتوابعهما إذا لم يؤدها في نهار يوم العاشر فلا تشمل ليلة الثاني عشر والثالث عشر.

وهي كما ترى دعوى بعيدة عن الصواب ومنافية للإطلاقات الدالة على الرخصة في ترك منى إلى غيرها مطلقاً بعد قضاء النصف الأول من الليل فيها، ولا يشترط فيها الذهاب لأداء النسك في مكة كما في صحيحة معاوية بن عمار (وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرك أن تصبح في غيرها) ومثلها صحيحته الأخرى ورواية جعفر بن ناجية (وإذا خرج بعد نصف الليل فلا بأس أن يصبح بغيرها)(1).

ولأن مناسك البيت الحرام لا تختص باليوم العاشر وليلةالحادي عشر، وغير ذلك من مواطن الخلل فيها فإنها كثيرة اتضحت من الأبحاث المتقدمة.

(الفرع الرابع) المستثنون من وجوب المبيت

يستثنى من وجوب المبيت ذوو الأعذار المسقطة للتكليف كالمريض والممرِّض(2) ومن خاف على نفسه أو ماله من المبيت

ص: 120


1- تقدمت (صفحة 11-26).
2- قرّبنا في كتاب (التلقيح الصناعي: 12) وجوهاً لسقوط التكليف عنه مع أنه ليس هو ذا العذر.

بمنى، وجميع موارد الضرورة كالضرر والحرج، قال صاحب الجواهر (قدس سرّه): ((وأما ذوو الأعذار فلا أجد خلافاً بين الأصحاب في جواز المبيت لهم بغير منى، ولعله لنفي الحرج في الدين وفحوى الرخصة للرعاية والسقاية))(1).

حيث استثنى جماعةٌ السقاةَ من المبيت مستدلين برواية مالك بن أعين(2) عن أبي جعفر (علیه السلام) (إن العباس استأذن رسول الله (صلی الله علیه و آله) في أن يبيت بمكة ليالي منى فأذن له رسول الله (صلی الله علیه و آله) من أجل سقاية الحاج)(3) بتقريب التجريد عنالخصوصية ولو لظهور ذيلها في التعليل.

وردّ السيد الخوئي (قدس سرّه) بأن ((السقاة لا وجه لاستثنائهم لعدم وجود رواية تخرجهم عن الحكم))، وقال عن الرواية الآنفة: ((أنها قضية شخصية في واقعة رخصَّ النبي (صلی الله علیه و آله) لعمه وهو ولي الأمر وله أن يرخّص لكل أحد فالتعدي إلى كل مورد مشكل، ولا يستفاد من ترخيصه (صلی الله علیه و آله) لعمه العباس تعميم الترخيص لجميع السقاة))(4).

ص: 121


1- جواهر الكلام: 12/20.
2- وهو الجهني وليس أخا زرارة ولم يرد فيه توثيق.
3- وسائل الشيعة: 258/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح 21.
4- موسوعة السيد الخوئي: 392/29.

أقول: هذا الحمل خلاف الظاهر لأن الإمام (علیه السلام)

ذكرها على نحو بيان الحكم في المسألة وليس حكاية عن واقعة تأريخية، ويؤكده عموم التعليل في نهايتها.

وكذا استثنوا الرعاة، قال العلامة (قدس سرّه) في المنتهى: ((وقد رُخِّص للرعاة المبيت في منازلهم وترك المبيت بمنى ما لم تغرب الشمس عليهم في منى فإنه يلزمهم المبيت بها ولا نعلم خلافاً في الترخيص))(1).

أقول: وهو عنوان لم يرد في الروايات، لذا علل العلامة الرخصة بأن ((المبيت لمثلهم يشق عليهم فيكون منفياً)).

أقول: فالرخصة ليست له بعنوانه وإنما بالعنوان الثانوي فتدورالرخصة مداره ويشترك فيها مع غيره؛ لذا فرّق العلامة بين الرعاة وأهل السقاية، قال (قدس سرّه): ((لو غربت الشمس على أهل سقاية الحاج بمنى لم يجب عليهم المبيت بها، بخلاف الرعاة؛ لأن الرعاة إنما يكون رعيهم بالنهار وقد فات، فتفوت الضرورة، فيجب عليهم المبيت، وأما أهل السقاية فشغلهم ثابت ليلاً ونهاراً فافترقا))(2).

أقول: رعي الأنعام وإن كان في النهار إلا أن حفظها

ص: 122


1- منتهى المطلب: 380/11، تحقيق مجمع البحوث الإسلامية.
2- منتهى المطلب: 380/11.

وحراستها في الليل مطلوب أيضاً فالرخصة لا تختص بالنهار، فالصحيح ترك الحكم إلى علّته وليس إلى العناوين ليكون أدق لذا قال صاحب الجواهر (قدس سرّه): ((المدار على ارتفاع العذر وعدمه، وإلا فلو فرض احتياج الرعاة إلى الرعي ليلاً كان لهم ذلك وإن غربت الشمس لهم بمنى، ومن هنا ألحقنا جميع ذوي الأعذار بهم))(1).

وعلّق السيد الخوئي (قدس سرّه) على استثناء الرعاة بأنه ((لا يمكن المساعدة على ما ذهبوا إليه، أما الرعاة فاستثناؤهم لعله غفلة من الأعلام، لأن الراعي عمله في النهار وأما في الليل فحاله وحال بقية الناس سواء ولذا استثنى الراعي من الرميفي النهار. نعم: قد يضطر الراعي إلى المبيت خارج مكة لحفظ أغنامه وهذا عنوان آخر يدخل بذلك في عنوان المضطر إلى المبيت خارج منى لحفظ نفسه أو ماله ويؤكده ما ذكرناه أنه لم يذكر استثناء الرعاة في شيء من الروايات))(2).

أقول: ليس في كلام الأعلام غفلة لأنهم ناظرون إلى حالة ابتلائية خاصة كانوا يمرون بها، إذ لعل الراعي المراد هنا خصوص الذي جاء مع أغنام الهدي أو القلائد المساقة من

ص: 123


1- جواهر الكلام: 13/20.
2- موسوعة السيد الخوئي: 392/29

الميقات أو التي تشترى مبكراً من تجار مكة أو التي ترافق الحجاج لأجل التغذي من لبنها أو نحرها للإطعام في موسم الحج أو الإبل التي تأتي بها القوافل للسفر، فإنها جميعاً تحتاج إلى الرعاية في أيام الحج ولا سيما وأن مكة في وادٍ غير ذي زرع فيحتاج راعيها إلى الذهاب بها إلى أماكن بعيدة، ولا يَعرِف ولا يستطيع كل حاج التفرغ عن عباداته لرعيها وتوفير ما يبقيها حية إلى يوم النحر، ولو أنه بات في منى لتعرضت للخطر، فلا بد من أحد يبيت معها، ويكون استثناؤه مما عرف عند الحجاج كل سنة فإنها مشكلة قائمة.

وروى العامة عن عاصم بن عدي أن النبي (صلی الله علیه و آله)

رخّصللرعاة أن يتركوا المبيت بمنى(1).

ومن المعذورين عن المبيت في منى من اشتغل بالنسك في مكة حتى الفجر أو قضى شطراً من الليل في ذلك ثم عزم على العود إلى منى لإدراك المبيت فغلبته عينه فنام في الطريق بعد خروجه من حدود مكة باتجاه منى وسيأتي الموردان

ص: 124


1- فتح العزيز بهامش المجموع: 393/7، وبتفاوت في الألفاظ، يُنظر: سنن أبي داوود: 202/2، ح 1975، سنن ابن ماجة: 1010/2، ح 3037، سنن الترمذي: 289/3، ح 954، 955، سنن النسائي: 273/5، سنن البيهقي: 150/5-151.

والأدلة عليهما إن شاء الله تعالى.

(الفرع الخامس) دلّت جملة من الروايات الصحيحة على أنه إذا نام في طريق عودته من مكة بعد خروجه من حدودها فلا كفارة عليه، كصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (إذا زار الحاج من منى فخرج من مكة فجاوز بيوت مكة فنام ثم أصبح قبل أن يأتي منى فلا شيء عليه)(1).

وصحيحة محمد بن إسماعيل عن أبي الحسن (علیه السلام) (فيالرجل يزور فينام دون منى، فقال: إذا جاز عقبة المدنيين فلا بأس أن ينام)(2).

أقول: باعتبار أن عقبة المدنيين هي حد بيوت مكة من جهة منى كما ورد في صحيحة معاوية بن عمار (وحد بيوت مكة التي كانت قبل اليوم عقبة المدنيين وإن الناس قد أحدثوا بمكة ما لم يكن)(3).

وصحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (علیه السلام) في

ص: 125


1- وسائل الشيعة: 257/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح17.
2- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح 15.
3- وسائل الشيعة: 389/12، أبواب الإحرام، باب 43، ح1.

التهذيب والاستبصار، وفي الكافي عن بعض أصحابنا عنه (علیه السلام) (في رجل زار البيت فنام في الطريق قال: إن بات بمكة فعليه دم وإن كان قد خرج منها فليس عليه شيء ولو أصبح دون منى)(1).

ولا يعارضها إلا رواية علي عن أبي إبراهيم (علیه السلام) قال:(سألته عن رجل زار البيت فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم رجع فغلبته عينه في الطريق فنام حتى أصبح ؟ قال: عليه شاة)(2).

أقول: ولا تصلح للمعارضة للخدشة في سندها ولاحتمال أن نومه كان في الطريق قبل تجاوز عقبة المدنيين؛ لذا حكي القول به عن الاسكافي والشيخ في التهذيبين، قال صاحب الرياض (قدس سرّه): ((ولا يخلو من قوة إن لم ينعقد الإجماع على خلافه لوضوح دلالتها مضافاً إلى صحتها وكثرتها، مع عدم وضوح

ص: 126


1- الكافي: 514/4 ووسائل الشيعة: 256/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح16. واعتمد صاحب الوسائل على رواية (التهذيب: 259/5) و (الاستبصار: 294/2) وفيها رواية جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) بدون واسطة بعض أصحابه.
2- وسائل الشيعة: 254/14، الباب السابق، ح 10.

معارض لها إلا إطلاق بعض الصحاح المتقدمة، ويقبل التقييد بها))، ثم قال: ((هذا ولكن الأحوط ما عليه الأصحاب))(1).

أقول: لكن صاحب الجواهر (قدس سرّه) قال: ((إلا أنه -مع الطعن في سند بعضها ولا جابر بل والدلالة إذ لم نجد من أفتى بشيء منها عدا ما سمعته من أبي علي والشيخ في كتابي الأخبار - لا تقاوم تلك النصوص المعتضدة بالعمل، وإن توقف لأجلها في المدارك حتى قال: إن المسألة قوية الإشكال))، ثم نقل كلام صاحب الرياض، وقال: ((لكن لايخفى عليك ما في ذلك كله بعد الإحاطة بما ذكرناه سيما عمل الأصحاب))(2).

أقول: يجب أن يحاكم الإجماع في ضوء هذه الروايات الصحيحة لا العكس ويكون في الحكم توسعة على الحجاج بلحاظ المشقة والإجهاد الذي تعرضوا له خلال أيام المناسك.

ويلاحظ هنا أن صاحب الرياض وكذا صاحب الجواهر عبَّرا عن الحكم بجواز النوم في الطريق اختياراً، وهو ظاهر إطلاق الروايات ولا يضرّه ما في رواية من غلبه النوم، اللهم

ص: 127


1- رياض المسائل: 144/7.
2- جواهر الكلام: 7/20.

إلا أن يقال بأن الجعل واحد فتكون وحدة الجعل قرينة على تقييد النوم بغلبته وهو أنسب بجعل الرخصة.

(الفرع السادس) دلّت روايات معتبرة عديدة على أن من لم يبت في منى وبات في غيرها فعليه كفارة إهراق دم وعيّنت أخرى بأنها شاة ومقتضى الجمع بلحاظ وحدة الجعل أن الكفارة شاة، كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (علیه السلام) (عن رجل بات بمكة في ليالي منى حتى أصبح؟ قال: إن كان أتاها نهاراً فبات فيها حتى أصبح فعليه دم يهريقه)(1).وصحيحة صفوان قال: (قال أبو الحسن (علیه السلام): سألني بعضهم عن رجل بات ليلة(2) من ليالي منى بمكة؟ فقلت: لا أدري، فقلت له: جُعلت فداك، ما تقول فيها؟ قال (علیه السلام): عليه دم شاة إذا بات).

وصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (لا تبت ليالي التشريق إلا بمنى فإذا بت في غيرها فعليك دم).

وصحيحة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال:

ص: 128


1- هذه المجموعة من الروايات في وسائل الشيعة: 251/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح2، 5، 6، 8، 10، 16.
2- هكذا في التهذيب والاستبصار لكن الوسائل ليس فيها (ليلة من).

(من زار فنام في الطريق فإن بات بمكة فعليه دم، وإن كان قد خرج منها فليس عليه شيء وإن أصبح دون منى).

ورواية علي ((بن أبي حمزة)) عن أبي إبراهيم (علیه السلام) قال: (سألته عن رجل زار البيت فطاف بالبيت وبالصفا فغلبته عينه في الطريق ((الطواف في نسخة من الاستبصار)) فنام حتى أصبح، قال: عليه شاة).

ورواية جعفر بن ناجية قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عمن بات ليالي منى بمكة؟ فقال: عليه ثلاثة من الغنم يذبحهن).

ويدل عليه أيضاً مفهوم الروايات الدالة على عدموجوب الشاة إذا نام في الطريق بعد خروجه من مكة في طريق منى وكان مشغولاً بالنسك فتدل على ثبوتها إذا بات في مكة أو خارجها في غير طريق منى، كصحيحة محمد بن إسماعيل عن (أبي الحسن (علیه السلام) في الرجل يزور فينام دون منى، فقال: إذا جاز عقبة المدنيين فلا بأس أن ينام) باعتبار أن عقبة المدنيين حدود مكة كما تقدم.

وصحيحة هشام (عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: إذا زار الحاج من منى فخرج من مكة فجاوز بيوت مكة فنام ثم

ص: 129

أصبح قبل أن يأتي منى فلا شيء عليه)(1)، بتقريب أن المقصود نفي الكفارة.

ولا يعارض تعيّن الكفارة بالشاة ما ورد في رواية عبد الغفار الجازي عن أبي عبد الله (علیه السلام) وفيها قوله: (لا يصلح له حتى يتصدق بها صدقة أو يهريق دماً)(2) لأنها ضعيفة السند ولا يوجد ما يجبرها لإعراض الأصحاب عنها.

فائدة: ليس من الضروري كون الفداء بشاة كفارة عن ترك واجب أو فعل شيء منهي عنه، إذ يمكن أن يكون إهراقالدم لأجل جبران النقص المعنوي لا الكفارة كما عن الشهيد الثاني (قدس سرّه) في المسالك والروضة(3)، وكاشف اللثام(4) (قدس سرّه) وقال صاحب الجواهر (قدس سرّه): ((ولعل الفدية جبران لا كفارة))(5).

ص: 130


1- وسائل الشيعة: 256/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح 15، 17.
2- وسائل الشيعة: 256/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح14.
3- مسالك الأفهام: 364/2، الروضة البهية: 401/1.
4- كشف اللثام: 240/6.
5- جواهر الكلام: 6/20.

وهنا ملاحظات:-

اشارة

الأولى: وردت روايات معارضة لما دل على وجوب الكفارة، وهي:-

1- صحيحة العيص بن القاسم قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل فاتته ليلة من ليالي منى؟ قال: ليس عليه شيء وقد أساء)(1).

2- معتبرة سعيد بن يسار قال: (قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): فاتتني ليلة المبيت بمنى من شغل »في الاستبصار: في شغل« فقال: لا بأس)(2).

3- رواية أبي البختري في قرب الإسناد عن جعفر عن أبيهعن علي (علیهم السلام) (قال في الرجل أفاض إلى البيت فغلبت عيناه حتى أصبح، قال: لا بأس عليه ويستغفر الله ولا يعود)(3).

أقول: مقتضى القواعد الجمع بين الروايات بحمل إهراق الدم على الاستحباب، ونصوص المسألة لا تأباه فمن لم يبت في منى أثم لترك الواجب ولا كفارة عليه بمقتضى هذا الجمع.

وقد احتمل السيد صاحب المدارك (قدس سرّه) استحباب

ص: 131


1- وسائل الشيعة: 253/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح7.
2- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح12.
3- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح 22.

الكفارة بمقتضى هاتين الروايتين المعتبرتين قال (قدس سرّه): ((لولا تخيل الإجماع على هذا الحكم لأمكن القول بمضمونها وحمل ما تضمن لزوم الدم على الاستحباب))(1).

أقول: هذا الإجماع موجب للاحتياط خصوصاً مع ما قيل من قصور هاتين المعتبرتين عن المعارضة لاحتمالات عديدة:-

أ- ما حكاه صاحب الجواهر عن بعضهم من حمل المعتبرتين على الجاهل الذي استثناه بعض من وجوب الكفارة كالمحكي عن الشهيد في الحواشي(2). لكن هذاالتوجيه لا يناسب صحيحة العيص لأن الجاهل لا يقال عنه (أساء)، أو حملها على أي عذر بدعوى قرينية قوله: (فاتته ليلة) على ذلك ((وأما قوله (علیه السلام): (أساء) فلصدقه فيما لو كان مقصراً في منشأ الفوت فتأمل))(3).

ب- حمل نفي البأس والشيء على عدم الإخلال بحجه وإن

ص: 132


1- مدارك الأحكام: 224/8 وحكاه عنه في جواهر الكلام: 6/20.
2- جامع المقاصد: 263/3، تحقيق مؤسسة آل البيت، جواهر الكلام: 6/20
3- تقريرات كتاب الحج، للسيد الشاهرودي (قدس سرّه): ج5، القسم الأول: 61.

أثم لتركه واجباً.

ج-- إن دلالة الجواب على نفي الكفارة بالإطلاق فلا تُنافي ما دل على وجوب الكفارة؛ لأنها تقيّد إطلاقها وتكون نتيجة الجمع بينهما أن لا شيء عليه إلا الشاة.

د- ولو تنزلنا وقلنا بدلالتهما على عدم وجوب الكفارة فيقع التعارض وتحمل الروايتان على التقية قال صاحب الحدائق (قدس سرّه): ((الأقرب حملهما على التقية لأن مذهب أبي حنيفة أنه لو ترك المبيت لا شيء عليه، وللشافعي قول بأنه إذا ترك المبيت ليلة واحدة فعليه مد وفي قول آخر درهم ويشير إلى ذلك في صحيحة صفوان فإنه من المعلوم أن السائل من هؤلاء، وعدولهعن جوابه إنما هو لما ذكرناه))(1) وقال السيد الخوئي (قدس سرّه): ((والعبارة المذكورة في صحيح العيص عين العبارة المحكية عن أحمد كما عن المغني(2), ومما يؤكد الحمل على التقية صحيحة صفوان المتقدمة من أنه (علیه السلام) لما سأله بعض العامة فلم يجبه وقال: لا أدري)

ص: 133


1- الحدائق الناضرة: 298/17.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 388/29 عن المغني لابن قدامة: 482/3.

)).

أقول: وعبارة صحيحة العيص مطابقة لعبارة ابن حزم الظاهري في المحلى قال: ((ومن لم يبت ليالي منى بمنى فقد أساء ولا شيء عليه))(1).

ه-- حملهما على من بات بمكة مشتغلاً بالعبادة أو من خرج من منى بعد نصف الليل وهو ما احتمله الشيخ(2) (قدس سرّه) ونفى عنه صاحب الحدائق البأس(3), ووصفه السيد الخوئي (قدس سرّه) بأنه غريب جداً لأن مَن خرج من منى بعدانتصاف الليل أو قضاه مشتغلاً بالعبادة في مكة فقد عمل بما يجب عليه فكيف يقول (علیه السلام): (وقد أساء)؟ وكيف يقول السائل فاتته ليلة.

أقول: يمكن أن تكون الإساءة بلحاظ المقدمات والمناشئ وهي أفعال اختيارية، وعلى أي حال فإنه يمكن حمل معتبرة سعيد بن يسار على من بات مشتغلاً بالعبادة في مكة لأن كلمة الشغل أصبحت مصطلحاً خاصاً في المقام لتداولها في

ص: 134


1- المحلى، لابن حزم محمد بن علي بن سعيد بن حزم: 184/7. ط. دار الفكر.
2- تهذيب الأحكام: 258/5، ط. دار الكتب الإسلامية.
3- الحدائق الناضرة: 298/17.

الروايات، أما صحيحة العيص فتجاب ببعض الوجوه المذكورة وسنذكر في الملاحظة الثالثة وجهاً مفيداً لها، ولا نعلم مبرراً لردها بضعف السند وعدم جبر ضعفه بعمل الأصحاب كما عن السيد الشاهرودي(1) (قدس سرّه).

الثانية: فهم المشهور من الروايات أن عليه شاة لكل ليلة وقد صرّحوا به في كلماتهم كقول ابن حمزة: ((فإن بات بها -أي مكة- أو بغيرها لغير العبادة ولم يعد إلى منى ليبيت بها لزمه عن كل ليلة من الليلتين الأولتين من ليالي التشريق دم))(2) وقول المحقق الحلي (قدس سرّه) في الشرائع: ((فلو بات بغيرها كانعليه عن كل ليلة شاة))، وورد مثله عن العلامة في القواعد وغيره، بل قال في الجواهر نقلاً عن الرياض: ((بل عن صريح الخلاف والغنية وغيرهما وظاهر المنتهى وغيره الإجماع عليه))(3)

أقول: صحيحتا علي بن جعفر ومعاوية بن عمار ظاهرتان في أن الدم يتعلق بمن بات الليالي خارج منى ولم توجب تعددها بتعدد الليالي، ولذا أطلق بعض الأساطين وجوب

ص: 135


1- تقريرات كتاب الحج: الموضع السابق.
2- الينابيع الفقهية: 446/8.
3- جواهر الكلام: 4/20، رياض المسائل: 140/7.

الكفارة في ترك المبيت من دون تحديد شاة لكل ليلة مستعملين نفس تعبير الروايات، كقول الشيخ الصدوق في الهداية: ((ولا تبت ليالي التشريق إلا بها فإن بتَّ في غيرها فعليك دم شاة))(1).

وقول الشيخ المفيد في المقنعة: ((ثم ليرجع إلى منى ولا يبيت ليالي التشريق إلا بمنى، وإن بات في غيرها فعليه دم شاة))(2).

وقول السيد المرتضى في جمل العلم والعمل: ((ولا يبيت ليالي التشريق إلا بمنى فإن لم يبت بمنى فعليه دمشاة))(3) وقال الشيخ في النهاية وأبو الصلاح الحلبي وسلار مثل ذلك في الكافي والمراسم العلوية(4) وابن إدريس في السرائر(5).

أقول: هذا اللفظ يصدق على عدة معانٍ فيمكن أن يراد به ما فهمه المشهور، لذا فإن ابن إدريس الذي وافقهم بالعبارة بيَّن

ص: 136


1- الينابيع الفقهية: 58/7.
2- الينابيع الفقهية: 83/7.
3- الينابيع الفقهية: 107/7.
4- الينابيع الفقهية: 148/7، 207، 244.
5- السرائر: 609/1.

بعد ذلك خلال نقاشه مع المبسوط بأن الصحيح وجوب الفداء بشاتين إذا لم يبت ليلتين.

ويمكن أن يراد به أن الدم لمن بات مجموع الليالي من دون شرط المجموع فيجب دم واحد لمن بات ليلة أو ليلتين خارج منى، لذا احتمل كاشف اللثام (قدس سرّه) من كلام هؤلاء الأعلام ما يوافق المشهور لأنه مطلق كصحيحتي معاوية وابن جعفر المتقدمتين وقال: ((ولعله أظهر))(1) ووجه الأظهرية -كما عن صاحب الجواهر (قدس سرّه) وغيره- أنها محمولة على إرادة الجنس ولو بقرينة الروايات الأخرى، لكنه (قدس سرّه) أيضاً احتمل ((الخلاف إما بالتسوية بين ليلة وليلتين وثلاث، أو بأن لايجب الدم إلا بثلاث))(2).

أقول: الاحتمال الثاني من احتمالي الخلاف -وهو اشتراط وجوب الشاة بالمبيت جميع الليالي خارج منى- مردود؛ لتصريح صحيحة صفوان -على ما في التهذيب والاستبصار لا على ما في الوسائل- ورواية جعفر بن ناجية بوجوبها لليلة واحدة وهو ظاهر صحيحة جميل ورواية علي، لكن الاحتمال الأول -وهو وجوب الشاة بوقوع المبيت خارج منى

ص: 137


1- كشف اللثام: 239/6.
2- جواهر الكلام: 5/20.

بلا فرق بين الواحدة والاثنتين- وارد بحسب ظاهر الروايات، ولا يوجد ما يردّه في الروايات عدا رواية جعفر بن ناجية قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عمّن بات ليالي منى بمكة، فقال: عليه ثلاثة من الغنم يذبحهن)(1).

وفيه: إن السند غير تام وانجباره بعمل الأصحاب كما عن بعض الأعلام(2) قابل للنقاش صغرى وكبرى، ومبيت ليلة الثالث عشر لا يجب عليه لأنه ليس ممن لم ينفر من منى بعد زوال اليوم الثاني عشر لافتراض مبيته ليالي التشريق في غير منى، وحمله على من لم يتق الصيد والنساء حمل علىالفرد النادر.

بل يمكن القول أن ظاهر الروايات هو الاحتمال الأول من فردي الخلاف؛ لأنها لم تفرق في الجواب عن وجوب الدم بين فرض الترك في ليلة أو أكثر، ولا تنافيه صحيحة صفوان لأن موضوعها من أفراده أي أن مبيت ليلة خارج منى يوجب الكفارة فالقدر المتيقن منها نفي شرطية المجموع للوجوب لا أن كل ليلة موجبة للكفارة.

ويمكن تصوره على اعتبار أن المبيت في مجموع الليالي

ص: 138


1- وسائل الشيعة: 253/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح6.
2- رياض المسائل: 146/7.

هو نسك واحد فمخالفته في ليلة أو أكثر هي مخالفة واحدة كعدم تكرر الكفارة بتظليل المحرم عدة مرات في الإحرام الواحد، فتجب شاة واحدة، ولو شككنا فالأصل عدم وجوب الزائد عن الواحدة لأنه من دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلاليين.

نعم إذا كان لصحيحة صفوان (المتقدمة صفحة 128) ظهور في إطلاق وجوب الكفارة لكل ليلة وجب العمل به، أو استظهرنا كون مبيت كل ليلة سبباً مستقلاً لوجوب الشاة فتجري أصالة تعدد السبب بتعدد المسبب(1)، ويؤيده روايةجعفر بن ناجية مجبورة بعمل الأصحاب، وهو الأحوط.

الثالثة: هل يتحقق موجب الكفارة بالمبيت خارج منى في تمام الليل أم بترك الواجب

وتظهر الثمرة في من مكث أقل من المقدار الواجب كمن مكث في منى أول الليل ثم غادرها قبل منتصفه، أو مكث مدة تعادل نصف الليل لكنها كانت مبعضة من النصفين فإنه تجب عليه الكفارة على الثاني لأنه لم يمتثل الواجب دون

ص: 139


1- واستدل بهذا الأصل السيد عبد الأعلى السبزواري (قدس سرّه) في مهذب الأحكام: 358/14.

الأول.

اختار الأول جمع من الأصحاب، قال المحقق الأردبيلي (قدس سرّه): ((لا نعلم وجوب الدم لو بات بعض الليل بغير منى))(1) وهي عبارة تحتمل بمفهومها ما قلناه، وأوضح منها قول صاحب المدارك (قدس سرّه): ((واعلم أن أقصى ما يستفاد من الروايات ترتب الدم على مبيت الليالي المذكورة في غير منى بحيث يكون خارجاً عنها من أول الليل إلى آخره))(2)، واستحسنه صاحب الرياض (قدس سرّه) لكنه احتاط بالآخر ((أخذاً بالمتيقن))(3) واستظهره صاحب الجواهر من نصوص القولالثالث، قال (قدس سرّه): ((بل قد تومئ هذه النصوص -وهي روايات كفاية الإصباح في منى- إلى إدراك المبيت بمنى بذلك فلا تجب الشاة حينئذٍ إلا بالمبيت تمام الليل في غيرها، ولكن لم أجد من أفتى به))(4).

أقول: لعله (قدس سرّه) أراد بقوله: ((لم أجد)) كفاية الإصباح لإدراك المبيت وليس لوجوب الشاة على المبيت تمام الليل في

ص: 140


1- مجمع الفائدة والبرهان: 345/7.
2- مدارك الأحكام: 224/8، تحقيق مؤسسة آل البيت (علیهم السلام).
3- رياض المسائل: 147/7.
4- جواهر الكلام: 9/20.

غير منى.

وقال (قدس سرّه): ((إن أقصى ما يستفاد من النصوص ترتب الدم على مبيت الليالي المذكورة في غير منى بحيث يكون خارجاً عنها من أول اليل إلى آخره، كما اعترف به بعض، واستحسنه آخر))(1).

أقول: الرخصة في هذه الروايات تتعلق بحالة خاصة وهي قضاء الجزء الأول من الليل في النسك فيكفيه الإصباح في منى، ولا يستفاد منها تعميم عدم وجوب الكفارة لبقاء أي جزء من الليل في منى، ومنه يعلم النظر في قول المحقق الأردبيلي (قدس سرّه): ((هذه تدل على أنه يكفي الكون فيه ليلاً فيالجملة ولو كان من آخره))(2) وكذا كلام جملة من الأعلام الذين مضوا على مثل هذا التفكير(3)؛ لأن إدراك شيء من الليل والإصباح في منى من مصاديق المبيت لغة وعرفاً، أو لكفايته لمن قضى أول الليل في النسك بمكة فتسقط الفدية لامتثال الواجب لا لكفاية الجزء اليسير؛ لذا لا يلزم منه

ص: 141


1- جواهر الكلام: 10/20.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 334/7.
3- كالسيد الشاهرودي (قدس سرّه) في تقريرات الحج: ج5، القسم الأول: 64.

سقوطها إذا مكث جزءاً من أول الليل مثلاً دون منتصفه.

ونسب السيد الخوئي (قدس سرّه) هذا القول إلى أستاذه الشيخ النائيني (قدس سرّه) قال (قدس سرّه): ((وقد احتمل شيخنا الأستاذ في مناسكه(1)

ثبوت الكفارة على المبيت في مجموع الليل وتمامه خارج منى، فمن خرج بعد أول الليل من منى وبات في مكة غير مشتغل بالعبادة يكون آثماً لترك المبيت في منى وعدم اشتغاله بالعبادة، ولكن لا تجب عليه الكفارة لأن الكفارة إنما تثبت فيما إذا بات تمام الليل خارج منى)).

أقول: في نسبة هذا القول إلى الشيخ النائيني (قدس سرّه) نظر بل منع سيأتي وجهه، ولعله (قدس سرّه) حمل كلام الشيخ النائيني على هذاالمعنى متأثراً بتعليقة السيد الحكيم (قدس سرّه) على قوله الآتي: ((لما قد يظهر من نصوص الفدية من اختصاصها بصورة المبيت تمام الليل بغير منى))(2).

ثم ردَّ عليه السيد الخوئي (قدس سرّه) بأن ((المستفاد من النص أنه لو رجع إلى منى بعد انتصاف الليل يثبت عليه الكفارة مع أنه لم يبت تمام الليل خارج منى كصحيحة معاوية بن عمار (فإن بت في غيرها فعليك دم فإن خرجت أول الليل فلا

ص: 142


1- متن دليل الناسك: 434.
2- دليل الناسك: 436.

ينتصف الليل إلا وأنت في منى إلا أن يكون شغلك نسك) فإن المستفاد منه إن رجع بعد انتصاف الليل إلى منى ولم يكن شغله نسكه يجب عليه الدم وكذلك من صحيحته الأخرى لقوله: (عن الرجل زار عشاءً فلم يزل في طوافه ودعائه وفي السعي بين الصفا والمروة حتى يطلع الفجر، قال: ليس عليه شيء كان في طاعة الله) فإنه صريح في أنه إذا زار عشاء أي مضى شطر من الليل في منى وزار عشاء فإن كان في طاعة الله فليس عليه شيء وأما إذا لم يكن في طاعة الله فعليه الكفارة وكذلك يستفاد من خبر جميل المتقدم لقوله: (من زار فنام في الطريق فإن بات بمكة فعليه دم) لإمكان أن يزور البيت بعد أول الليل وقبل انتصافه ولكن الرواية كما عرفتلم يثبت كونها مسندة بل نحتمل إرسالها كما رواها الكليني مرسلة فتصح للتأييد))(1).

أقول: في نسبة هذا القول إلى الشيخ النائيني (قدس سرّه) نظر، ولا يظهر من عبارته ذلك، بل إن كلامه صريح في أن الكفارة تجب لترك الواجب لقوله (قدس سرّه): ((ولو فاته جزء من أول الليل -لا في نسكه- لكنه أدرك البيتوتة بها إلى الفجر ففي وجوب الفدية إشكال وكذا في سقوطها عمن بات بغيرها ثم

ص: 143


1- موسوعة السيد الخوئي: 389/29-390.

رجع قبل أن ينشق الفجر إليها))(1).

أقول:

إشكاله وتردده (قدس سرّه) يعني أنه يحتمل ذلك، ولو كان يرى أن المبيت في تمام الليل خارج منى موجب للكفارة لما تردد واستشكل في عدم وجوبها ولجزم بعدم وجوبها لأن فرض المسألة أنه أدرك جزءاً من الليل فيها، وإشكاله الأول على المشهور حيث يلزم من قولهم وجوبها إذا لم يبت النصف الأول، وأما إشكاله الثاني فمن جهة ما اختاره من كفاية الإصباح في منى لمن لم يكن فيها أول الليل لانشغاله بالعبادة في البيت الحرام خاصة دون من اشتغل بغير النسك فاستشكل في غيره من جهة ما دل على لزوم الحضور عندمنتصف الليل كما بينا في التفصيل المختار، وهو يتضمن مراعاة القول بالتخيير مطلقاً أو لخصوص من لم يقضِ أول الليل بالنسك؛ لأن مدرك الإصباح لم يبت أياً من النصفين.

كما أن في ردّه (قدس سرّه) نظراً أيضاً فإن الروايات التي أوردها غير ظاهرة في ما قال، فإن الفقرة الأولى من صحيحة عمار في وجوب الدم مستقلة عن الفقرة الثانية في وجوب الحضور عند انتصاف الليل، والاستثناء من هذا الوجوب لا من وجوب الدم، وكذا صحيحته الثانية ناظرة إلى هذا

ص: 144


1- دليل الناسك، (المتن) : 436.

الوجوب.

وعلى أي حال فإن النظر في الروايات يقتضي وجوب الشاة على من بات تمام الليل خارج منى لأنها كلها نصّت على هذا ولم تجعل الشاة بإزاء ترك واجب المبيت في منى إلا ما يظهر من خبر الجازي كما سيأتي.

ففي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (علیه السلام) (عن رجل بات بمكة في ليالي منى حتى أصبح، قال: إن كان أتاها نهاراً فبات فيها حتى أصبح فعليه دم يهريقه) ومثلها روايته في قرب الإسناد.

وصحيحة صفوان (عن رجل بات ليالي مكة بمنى)، قال (علیه السلام): (عليه دم شاة إذا بات).وصحيحة جميل عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (فإن بات بمكة فعليه دم) ورواية جعفر بن ناجية قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عمن بات ليالي منى بمكة؟ فقال: عليه ثلاثة من الغنم يذبحهن).

أقول: هذه الروايات صريحة أو ظاهرة في وجوبها على من بات تمام الليل في مكة، وعليها تحمل رواية علي عن أبي إبراهيم (علیه السلام) قال: (سألته عن رجل زار البيت فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم رجع فغلبته عينه في الطريق فنام

ص: 145

حتى أصبح؟، قال: عليه شاة) أي في الطريق قبل أن يغادر مكة؛ للصحاح الدالة على عدم وجوب شيء عليه إذا خرج من مكة.

هذا وقد أطلقت صحيحة معاوية بن عمار الوجوب على من بات في غير منى، عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (فإن بت في غيرها فعليك دم)، ونقيّد (غيرها) بما سوى الطريق بعد الخروج من مكة إلى منى.

أقول:

الروايات كلها دالة على ما ذكرناه ولا يدل على القول الآخر إلا خبر الجازي قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل خرج من منى يريد البيت قبل نصف الليل فأصبح بمكة؟ قال: لا يصلح له حتى يتصدق بها صدقة أو يهريقدماً).

أقول: الرواية ظاهرة في أن وجوب الدم على من أخلَّ بالمبيت الواجب في منى وقد بات بعض الليل في منى أي لم يبت تمام الليل خارج منى لكن الرواية ضعيفة سنداً كما أن فيها ما لم يقل به أحد وهو كفاية الصدقة فلا تصلح لمعارضة الروايات الصحيحة الصريحة.

فالأقوى ما اختاره صاحب المدارك واستحسنه صاحب الرياض واحتمله المحقق الأردبيلي وصاحب الجواهر والمحقق

ص: 146

النائيني (قدس الله أسرارهم) من أن الدم يجب على من بات تمام الليل خارج منى وليس على من أخلَّ بواجب المبيت في منى وقد أوضحنا ثمرة الفرق بين القولين.

والخلاصة أن عندنا في المسألة حكمين:-

1- حكم تكليفي بوجوب المبيت في منى، ومن خالفه فقد أثم.

2- حكم وضعي بوجوب الشاة على من بات تمام الليل خارج منى، وقد قلنا في المطلب التمهيدي الثاني أن فيه حكماً بالحرمة الغيرية.

ولعل هذه النتيجة توفّر وجهاً لفهم صحيحة العيص بن القاسم قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن رجل فاتته ليلة من ليالي منى؟ قال: ليس عليه شيء وقد أساء)، وحاصل الوجهأن من فاته المبيت في منى أساء لأنه ترك الواجب لكنه لا فدية عليه لعدم العلم بأنه بات تمام الليل خارج منى فلعله قضى الجزء الأول من الليل ثم غادرها قبل منتصفه فتجري الأصول المؤمّنة، فهذا الوجه يعالج الصحيحة بغير ما ذكره المشهور من وجوه قابلة للنقاش.

وقد يُشكل على هذا القول بأن حرمة المبيت خارج منى غيرية كما تقدم، ولم نعهد في الشريعة وجوب فدية على فعل محرم بالحرمة الغيرية، إذ أنها إما أن تكون لترك واجب أو

ص: 147

فعل حرام.

وجوابه أن الفدية قد تكون جبراناً للنقص وليس عقوبة فلا تقتصر على ما ذكر كالمضطر إذا ظلل فإنه معذور إلا أنه عليه أن يكفّر، وحينئذٍ يكون ما قويناه هنا قرينة إضافية على أن الفدية جبران وليس عقوبة.

نعم هذه النتيجة مخالفة للمشهور، لذا فالأحوط ولو استحباباً جعل الشاة على من أخلّ بالواجب.

الرابعة: هل تجب الكفارة على من خالف جهلاً أو نسياناً أو اضطراراً.

حُكي عن المشهور عدم سقوطها عنهم بل لوّح بعضهم بالإجماع، لكن هذه النسبة محل إشكال لظهور كلماتبعضهم في عدم الوجوب كتقييد الوجوب بالعمد وهو يعني خروج هؤلاء منه لعدم صدق العمد عليهم، كقول ابن الجنيد: ((وليس للحاج أن يبيت ليالي منى إلا بمنى، فإن فعل ذلك عامداً، فعليه لكل ليلة دم))(1).

وقال الشيخ في النهاية: ((من بات الثلاث ليال بغير منى متعمداً كان عليه ثلاثة من الغنم))(2).

ص: 148


1- مختلف الشيعة: 313/4، مركز الأبحاث الإسلامية.
2- النهاية: 266.

وقال المحقق النراقي (قدس سرّه) وفاقاً لجملة من الأصحاب ككاشف اللثام وصاحب الرياض (قدس الله أسرارهم): ((إطلاق النصوص والفتاوى في الفداء يشمل العالم والجاهل والمضطر والناسي فيجب عليهم أيضاً، ويكون جبراناً لا كفارة، وعن الشهيد في بعض الحواشي(1): استثناء الجاهل، ووجهه غير معلوم))(2)، وبتعبير صاحب الرياض ((وجههغير واضح))(3).

أقول: لعل وجهه ما ورد في صحيحة عبد الصمد عن أبي عبد الله (علیه السلام) من قوله: (أي رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه)(4) أو ما سيأتي من صحيحة معاوية بن عمار، أو لعل وجهه ما احتمله بعضهم كصاحب المدارك(5) وكاشف اللثام من حمل صحيحة العيص عن الإمام الصادق (علیه السلام)

ص: 149


1- حواشي الشهيد (قواعد الأحكام): 90/1 بحسب هامش كشف اللثام: 240/6.
2- كشف اللثام: 240/6، مستند الشيعة: 36/13، وسبقهما في النسبة إلى الشهيد: المحقق الكركي في جامع المقاصد: 263/3 وتلاه في مدارك الأحكام: 224/8.
3- رياض المسائل: 142/7.
4- وسائل الشيعة: 488/12، أبواب تروك الإحرام: باب 45، ح3.
5- مدارك الأحكام: 224/8، كشف اللثام: 240/6.

(عن رجل فاتته ليلة من ليالي منى، قال: ليس عليه شيء وقد أساء) على الجاهل وقد تقدم عرضه ومناقشته.

أقول: ما ورد في صحيحة عبد الصمد وارد في سياق الجاهل الذي لبس ثوباً لا تنطبق عليه شروط الإحرام فلعل الحكم خاص به أو يتعدّاه إلى مخالفة شيء من تروك الإحرام كما في صحيحتي معاوية بن عمار وزرارة الآتيتين فلا تشمل ما نحن فيه، والاختلاف في وجوب الكفارة على الجاهل وعدمها وارد في أفعال الحج وتروكه.

وتردد صاحب الجواهر (قدس سرّه) في شمول المضطر بالكفارة قائلاً: ((بل قيل إن فيه وجهين، أظهرهما العدم، للأصلوانتفاء العموم في النصوص، ولأن الفدية كفارة عن ترك الواجب، ولا وجوب عليه، وفيه أن الأصل مقطوع بالإطلاق الذي هو بمنزلة العموم، ولعل الفدية جبران لا كفارة، نعم قد يقال بانسياق غير المضطر من الإطلاق المزبور، إلا أن الأحوط ثبوتها))(1).

ومال السيد الخوئي إلى عدم الوجوب في الجميع بعد أن ناقش في الإجماع المدعى على ثبوت الكفارة مطلقاً، قال (قدس سرّه): ((ولا ريب أن الإجماع غير تام والقول بعدم وجوب

ص: 150


1- جواهر الكلام: 6/20.

الكفارة في جميع الموارد المزبورة هو الصحيح. أمّا بالنسبة إلى الاضطرار فلحديث الرفع، فإنه لا يختص بمجرد التشريع، بل يرفع كل ما يترتب على الفعل المضطر إليه إلاّ إذا قام دليل خاص على الخلاف.

وكذلك الحال بالنسبة إلى الجهل كما في صحيحة عبد الصمد (أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه)(1) ولذا ذكرنا أنه لا كفارة على الجاهل في باب الصوم(2)، فإذا كانيرى جواز المبيت خارج منى فليس عليه شيء بمقتضى صحيح عبد الصمد المتقدم.

وهكذا في مورد النسيان، فإنه يرتفع في مورده كل حكم مترتب على الفعل، فكأن الفعل الصادر من الناسي لم يقع وهو في حكم العدم، والأحوط ثبوت الكفارة في هذه الموارد

ص: 151


1- وسائل الشيعة: 488/12، أبواب تروك الإحرام: باب 45، ح 3، و 158/13، أبواب بقية كفارات الإحرام، باب 8، ح3.
2- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 307/21. أقول: قياس المورد على الجاهل في كتاب الصوم مع الفارق لأن الصوم ورد فيه أن ما يبطله هو تناول المفطر عن علم وعمد فالجاهل خارج تخصصاً ولم يرد مثله في المقام.

خروجاً عن شبهة الخلاف))(1).

أقول: والتحقيق أن يقال أن الكلام تارة يكون على مستوى القواعد وأخرى على مستوى الأدلة الخاصة فالكلام في مقامين:

المقام الأول: من الواضح أنه (قدس سرّه) قد مضى في استدلاله على المستوى الأول فبنى سقوط الكفارة على أن حديث الرفع يسقط الأحكام التكليفية والوضعية إلا إذا دل دليل خاص على ثبوت الحكم الوضعي -كما قال (قدس سرّه)-.

وفي كلامه (قدس سرّه) مبنيان قابلان للمناقشة:-

أ- إن عدم جريان حديث الرفع في الموارد المستثناة إنما هوبالتخصيص والصحيح أنه بالتخصص كما اختار (قدس سرّه) في علم الأصول، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ب- إطلاق جريان حديث الرفع في جميع الأحكام الوضعية والصحيح أنه يجري في بعضها دون بعض وفق ضابطة سنحققها إن شاء الله تعالى.

إذ الظاهر عدم شمول حديث الرفع ونحوه لجميع الأحكام الوضعية بل فيه تفصيل، وقد أفتى السيد الخوئي

ص: 152


1- موسوعة السيد الخوئي: 390/29-391.

(قدس سرّه) ببعض الكفارات حتى مع الاضطرار كتظليل المحرم قال (قدس سرّه): ((لا فرق في ثبوت الكفارة بين حالتي الاختيار والاضطرار، فإن الاضطرار يرفع المنع وأما الكفارة فغير مرتفعة))(1). واستدل (قدس سرّه) على ذلك بإطلاق صحيحة علي بن جعفر (أظلل وأنا محرم، فقال: نعم، وعليك الكفارة)(2) ومعتبرة عبد الله بن المغيرة قال: (قلت لأبي الحسن الأول (علیه السلام): أظلل وأنا محرم؟ قال: لا، قلت: أفأظلل وأكفّر، قال: لا، قلت: فإن مرضت؟ قال: ظلل وكفّر)(3).واحتاط (قدس سرّه) بلزوم الكفارة على المحرم إذا لبس ما يحرم عليه لبسه اضطراراً للإجماع المستند ظاهراً إلى صحيحة محمد بن مسلم (سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن المحرم إذا احتاج إلى ضروب من الثياب يلبسها، قال: عليه لكل صنف فداء)(4) بناءً على تفسير الاحتياج بالاضطرار.

وتوجد أحكام وضعية كثيرة نجزم بعدم سقوطها بحديث

ص: 153


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 501/28.
2- وسائل الشيعة: 154/13، أبواب بقية كفارات الإحرام، باب 6،ح2.
3- وسائل الشيعة: 516/12، أبواب تروك الإحرام: باب 64، ح3.
4- وسائل الشيعة: 159/13، أبواب بقية تروك الإحرام، باب 9، ح1.

الرفع كنجاسة الملاقي للنجاسة مكرهاً أو مضطراً كمن اضطر لأكل الميتة أو شرب النجس فإن الحرمة ترتفع لكن نجاسة الملاقي تثبت، أو وجوب قضاء الصلاة على من فاتته اضطراراً أو إكراهاً، أو حصول الحدث الأكبر الموجب للغسل فإن من أجنب مضطراً أو مسَّ ميتاً مكرهاً وجب عليه الغسل، وكذا حصول الحدث الأصغر الموجب للوضوء أو وجوب الخمس والزكاة في المال لو اضطر؛ لتحقق موجبهما، أو أكره على ذلك، أو من نسي نجاسة ثوبه أو بدنه فصلى فلا يسقط القضاء.

وقد تقدم منا في بعض المباحث السابقة أن عدَّ هذه الاستثناءات تخصيصاً في العام ليس أولى من كونها نقضاً على عموم العام المدعى -أي كبرى شمول الأحكام الوضعيةبحديث الرفع- فتبطله، أي عدم صحة سقوط الأحكام الوضعية مطلقاً بأدلة الأحكام الثانوية، فقوله (قدس سرّه) عن حديث الرفع: ((فإنه لا يختص بمجرد التشريع، بل يرفع كل ما يترتب على الفعل المضطر إليه إلا إذا قام دليل خاص على الخلاف)) الظاهر في كون خروج هذه الاسثناءات بالدليل تخصيصاً هو محل مناقشة؛ لأن هذه الموارد خرجت بدليلها وليس بدليل خاص استثناها من حديث الرفع، لذا ذهب

ص: 154

(قدس سرّه) في بحثه الأصولي إلى خروجها بالتخصص.

والخروج بالتخصيص مختار الشيخ النائيني (قدس سرّه) على ما حكاه السيد الخوئي(1) (قدس سرّه) والسيد الشهيد الصدر (قدس سرّه) عنه من أن خروج هذه الموارد بالتخصيص للإجماع، واعترضا عليه، وذهبا (قدس سريهما) إلى خروجها بالتخصّص(2)، ويميّز بينهما بأن نكتة خروج هذه الموارد ثبوتية وليست إثباتية، وقال (قدس سرّه) في وجهه: ((لأن الاضطرار في نظر العرف فعل للمضطرّ إليه، فإن كان هناك حكم مترتب على نفس الفعل،كالكفارة المترتبة على الإفطار ارتفع بالاضطرار والإكراه، وأما إذا كان الحكم مترتباً على عنوان الملاقاة مثلاً كما في النجاسة، أو أي عنوان آخر غير الفعل فهو لا يرتفع بحديث الرفع؛ لأن ما يتصف بالاضطرار وهو الفعل ليس هو موضوعاً للحكم، وما يكون موضوعاً للحكم ليس متصفاً بالاضطرار إليه)).

فلا بد من القول بالتفصيل ووضع ضابطة للأحكام

ص: 155


1- مصباح الأصول من الموسوعة الكاملة: 312/47.
2- مباحث الأصول: الجزء الثالث من القسم الثاني: 210، وهي تقريرات الشهيد الصدر (قدس سرّه) بقلم السيد كاظم الحائري، ط2، 1425.

الوضعية التي تسقط بحديث الرفع مضافاً إلى شرط تحقق الامتنان بتطبيقه لذا لم يسقط الضمان بالإتلاف عن اضطرار أو إكراه.

ومن تلك الشروط: كون الفعل المضطر إليه هو موضوع الحكم الشرعي وهو ما قاله السيد الخوئي (قدس سرّه) في كلامه الآنف.

ومن الشروط في هذه الضابطة ما قاله السيد الشهيد الصدر (قدس سرّه) بأن ((يكون في دليله -أي الحكم الوضعي- ما يقتضي دخل الاختيار في ترتب الحكم على موضوعه، وأن يكون فعلاً من أفعال المكلف))(1)، فنجاسة الملاقي تترتبعلى الملاقاة ولا علاقة لها بفعل المكلف، فلو ألقت الريح ثوباً في ماء نجس تنجّس ولم يترتب الحكم على فعل المكلف، وكذا قضاء الصلاة مترتب على عنوان الفوت.

ولا يُتوهم أن الضابطة في جريان حديث الرفع وعدمه هو وقوع فعل المكلف متعلقاً للتكليف فيجري، ووقوعه موضوعاً له فلا يجري لذا صحّ تطبيقه على حرمة أكل النجس دون سريان النجاسة بالملاقاة، فهذا التفريق غير صحيح

ص: 156


1- تقريرات بحث الشهيد الصدر في علم الأصول بقلم الشيخ حسن عبد الساتر: 170/11، الطبعة الأولى 1426 هج-.

لجريان حديث الرفع فيهما معاً كسقوط حرمة الإفطار في شهر رمضان ووجوب الكفارة معاً عن المضطر والناسي.

فالنقوض التي ذكرناها أعلاه لا دخل لاختيار المكلف فيها وإنما أخذ كل منها -كالملاقاة والفوت وموجبات الغسل ونواقض الوضوء ونصاب الزكاة وموجبات الخمس وغير ذلك- موضوعاً لترتب الحكم لذا لم يشملها حديث الرفع، ويعرف ذلك من مناسبات الحكم والموضوع.

وتطبيق هذه الكبرى في المقام أن الكفارة إن كانت عقوبة فهي مترتبة على فعل المكلف ويجري فيها حديث الرفع، وإن كانت جبراناً فموضوعها النقص وهو ليس فعلاً للمكلف فلا يجري فيها حديث الرفع، فلا بد من التحقيق لترجيح أحدهما.والأقوى أنها جبر للنقص لوجوه:-

أ- الروايات الدالة على كراهية ترك المبيت بمنى وإن أدى الواجب، أو امتثل بغير المبيت كقضاء الليل بالنسك في مكة كصحيحة صفوان عن أبي الحسن (علیه السلام) في من شغله نسكه من طواف وسعي قال: (وما أحبّ أن ينشق له الفجر إلا وهو بمنى)(1) وتقريبه: أن قضاء الليل

ص: 157


1- وسائل الشيعة: 253/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح5.

بالنسك يسقط وجوب المبيت ويجزي عنه ومع ذلك فقد أحبَّ له الإمام (علیه السلام) أن يعود إلى منى ليدرك شيئاً يسيراً من الليل ويصبح فيها ويتجنب نقص ترك المبيت في منى.

وكذا رواية أبي الصباح الكناني في الدلجة من منى قال (علیه السلام): (لا، حتى ينشق الفجر كراهية أن يبيت الرجل بغير منى)(1)، ولذا أوجب جماعة الفدية على المعذورين شرعاً في ترك المبيت.

ب-مناسبات الحكم والموضوع، ويمكن استفادة المناسبة في المقام من وجوبها على من غلبته عينه فنام في الطريق فإنه تجب عليه الشاة رغم أنه فعل ليسأ- باختياره بعد قضاء ثلاثة أيام شاقة في أعمال الحج وقطع المسافات الطويلة، ففي صحيحة جميل في التهذيب ((المرسلة في الكافي)) عن أبي عبد الله (علیه السلام) (من زار فنام في الطريق فإن بات بمكة فعليه

ص: 158


1- وسائل الشيعة: 253/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح7.

دم)(1) وفي رواية علي عن أبي إبراهيم (علیه السلام) قال: (سألته عن رجل زار البيت فطاف بالبيت والصفا والمروة ثم رجع فغلبته عينه في الطريق فنام حتى أصبح قال: عليه شاة)(2).

ج-- ما تقدم في الملاحظة الثالثة من كون موضوع وجوب الشاة هو المبيت تمام الليل خارج منى وليس الإخلال بواجب المبيت في منى وهذا الموضوع ليس فيه فعل حرام ولا ترك واجب فلا يكون عقوبة بل جبراناً.

وبتعبير آخر: ان الشاة لم تجعل بازاء ترك الواجب ليتصور كونها عقوبة, فلو أخل بالواجب بمبيته اقل من نصفالليل لم تجب عليه الشاة لأنه لم يبت الليل كله خارج منى, فالفدية ليست عقوبة.

ومن الغريب أن السيد الخوئي (قدس سرّه) لم يستحضر ما قاله في علم الأصول هنا ولم يبنِ المطلب على ما ذكره من

ص: 159


1- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسي محمد بن الحسن: 259/5، ط. دار الكتب الإسلامية - طهران، وسائل الشيعة: 256/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح16.
2- وسائل الشيعة: 215/14، أبواب الحلق والتقصير، باب 2، ح2.

التفصيل في جريان حديث الرفع والتفريق بحسب ملاك وجوب الفدية وكذا تلامذته(1) خصوصاً وأن هذا التفصيل ملتفت إليه لدى الأعلام السابقين كقول الشهيد الثاني (قدس سرّه) في المسالك: ((وفي سقوط الفدية -عن المضطر- نظر من إطلاق النص بوجوبها على من لم يبت، ومن ظهور العذر وكونها كفارة عن ترك الواجب وهو منتفٍ، ويمكن كونها فدية فتجب وإن انتفى الإثم))(2)، وقوله (قدس سرّه) في الروضة: ((مقتضى الإطلاق عدم الفرق بين المختار والمضطر في وجوب الفدية، وهو ظاهر الفتوى والنص، وإن جاز خروجالمضطر منها - أي منى- ويحتمل سقوط الفدية عنه، وربما بني الوجهان على أن الشاة هل هي كفارة أو فدية وجبران، فتسقط على الأول دون الثاني))(3).

ص: 160


1- كالشيخ الفياض (دام ظله الشريف) في تعاليق مبسوطة: 627/10، والأغرب منه أنه أوقع التعارض بين إطلاقي حديث الرفع والروايات الدالة على وجوب الكفارة فيتساقطان وتجري أصالة البراءة مع أن حديث الرفع في مورد جريانه يكون حاكماً على الأدلة الأولية.
2- مسالك الأفهام: 364/2.
3- الروضة البهية: 401/1.

أقول: فكان ينبغي للسيد الخوئي (قدس سرّه) أن يؤسس مختاره على هذا التفصيل ليقول: أن الفداء بشاة إن كان عقوبة على ترك المبيت فإنها تسقط بحديث الرفع لعدم استحقاق المضطر والناسي والجاهل العقوبة ولتحقق الشرط وهو كون المضطر إليه من فعل المكلف كسقوط كفارة الصوم عمن تناول المفطر مضطراً أو مكرهاً، وإن كانت الشاة جبراناً للنقص فإن موضوع الحكم ليس من فعل المكلف، ولا دخل لاختيار المكلف فيه، وهو المناسب لإطلاقات وجوب الكفارة، فلا يجري حديث الرفع، ولو شككنا جرت إطلاقات وجوب الفداء عند عدم المبيت بلا معارض.

والنتيجة على المستوى الأول عدم صلاحية أدلة العناوين الثانوية لإخراج محل البحث من إطلاق أدلة وجوب الكفارة؛ لذا لا مانع من التمسك بإطلاق وجوب الكفارة على المضطر والناسي والجاهل وإن لم يكن عاصياً لأن ذبح الشاة قد يكون جبراناً للنقص الحاصل في الملاك وليس عقوبةعلى العصيان.

المقام الثاني: على مستوى الأدلة الخاصة، ولا يوجد في الروايات ما يدل على تفصيل الحكم في هذه العناوين وإنما نحاول اقتناصه من روايات متفرقة في أحكام مختلفة، فيحسن

ص: 161

بحث العناوين كلا على حدة:-

1- الجاهل: قال المحقق الكركي (قدس سرّه) في جامع المقاصد: ((في حواشي الشهيد: إن الجاهل لا كفارة عليه، وظاهر الأخبار العموم، فلا يفرق بينه وبين العامد، ويؤيده أن الجاهل مأمور بالتعلم، وإخلاله به لتقصيره لا يُعدُّ عذراً، مع احتمال الفرق وقوفاً مع أصل البراءة إلا في موضع الوفاق))(1).

ووصف صاحب الحدائق (قدس سرّه) استثناء الجاهل بأنه جيد وقال في وجهه: ((لما عرفت من تضاعيف الأبحاث المتقدمة والأحاديث المتكررة من معذورية الجاهل))(2).

أقول:

استُدل على سقوط الكفارة عن الجاهل بإطلاق صحيحة عبد الصمد المتقدمة (أي رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه)(3) بعد تجريدها عن الخصوصية وهو ظاهراستعمال (أي) وتنكير ما بعدها، فتشمل كل أمر يرتكب بجهالة على ما خرج بدليل كفداء الصيد.

وبالتقريب الذي احتمله صاحب المدارك وكاشف اللثام وغيرهما لصحيحة العيص بن القاسم بحملها على الجاهل

ص: 162


1- جامع المقاصد: 263/3.
2- الحدائق الناضرة: 298/17.
3- وسائل الشيعة: 488/12، أبواب تروك الإحرام، باب 45، ح3.

وقد تقدم التقريب ومناقشته (صفحة 149).

ويمكن الاستدلال بصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (اعلم أنه ليس عليك فداء شيء أتيته وأنت محرم جاهلاً به إذا كنت محرماً في حجك أو عمرتك إلا الصيد فإن عليك الفداء بجهل كان أو عمد)(1).

أقول: قد يشكل على الاستدلال بالرواية بأنها تنفي ما يترتب من الكفارة بسبب ارتكاب شيء من المحرمات فلا تشمل ما يترتب منها عند ترك الواجب كما في المقام.

إلا أنه يمكن رده بأن عدداً من الروايات دلت على أن موجب الكفارة هو المبيت في غير منى وهو منهي عنه ولو بالحرمة الغيرية(2) مقدمة لتحقق المبيت في منى، ولو تنزلنا فإن ترك الواجب حرام بالملازمة أو بالعينية، ولعدم القول بالفصل.

وقد يشكل بأن الرواية واردة في ما يجب من الكفارات على مخالفة تروك الإحرام خاصة لا مطلق الكفارات فهي نظيرة صحيحة زرارة قال: (سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: من نتف إبطه أو قلَّم ظفره أو حلق رأسه أو لبس ثوباً لا

ص: 163


1- وسائل الشيعة: 69/13، أبواب كفارات الصيد، باب 31، ح1، 4.
2- هذه من ثمرات القول بالحرمة الغيرية التي تقدم بيانها.

ينبغي له لبسه أو أكل طعاماً لا ينبغي له أكله وهو محرم، ففعل ذلك ناسياً أو جاهلاً فليس عليه شيء، ومن فعله متعمداً فعليه دم شاة)(1). فشمولها المقام يحتاج إلى دليل.

وجوابه: إن التوسعة يمكن تحصيلها بتقريبين:-

أ- شمول عنوان المحرم لمحل البحث لأنه ما زال في إحرام من الطيب والنساء قبل زيارة البيت ومن الصيد ما دام في الحرم.

التجريد عن الخصوصية بتنقيح المناط، ويشهد له سقوطها عن ما هو أعظم منه كالجماع ففي صحيحة زرارة قال: (سألته عن محرم غشي امرأته وهي محرمة، فقال: إن كانا جاهلين استغفرا ربّهما ومضيا على حجتهما وليس عليهما شيء)(2)، ولا نتوقفأ- عند احتمال أن الشيء هو فساد الحج أو إعادته من قابل، فتأمل(3).

ص: 164


1- وسائل الشيعة: 157/13، أبواب بقية كفارات الإحرام، باب 8، ح1.
2- وسائل الشيعة: 108/13، أبواب كفارات الاستمتاع، باب 2، ح1.
3- وجهه: أنه قياس مع الفارق لأن كفارة الجماع مما يسقطها حديث الرفع دون محل البحث كما تقدم في المقام الأول.

2- المضطر: دلّت النصوص على عدم سقوط الفدية عن المضطر في عدة موارد كالصيد ففي موثقة يونس بن يعقوب قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن المضطر إلى الميتة وهو يجد الصيد؟ قال: يأكل الصيد وعليه فداؤه، قلت: فإن لم يكن عندي؟ قال: فقال: تقضيه إذا رجعت إلى مالك)(1).

وكفارة التظليل كما في صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: (قلت للرضا (علیه السلام): المحرم يظلل على محمله ويفدي إذا كانت الشمس والمطر يضران به؟ قال: نعم، قلت: كم الفداء؟ قال: شاة)(2).

وكفارة لبس ما لا يصح للمحرم كما في صحيحة محمد بن مسلم قال: (سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن المحرم إذا احتاجإلى ضروب من الثياب يلبسها، قال: عليه لكل صنف فداء)(3)، بناءً على تفسير الاحتياج بالاضطرار.

ص: 165


1- وسائل الشيعة: 97/13، أبواب كفارات الصيد، باب 50، ح 2، و 85/13، باب 43، ح2.
2- وسائل الشيعة: 155/13، أبواب كفارات الإحرام، باب 6، ح5.
3- وسائل الشيعة: 159/13، أبواب بقية تروك الإحرام، باب 9، ح1.

وهذه الموارد وإن كانت لا تمتّ إلى ما نحن فيه بصلة إلا أنها تقرِّب إمكان عدم جريان حديث الرفع في الأحكام الوضعية المترتبة على المضطر.

وقد رفع الإمام الرضا (علیه السلام) التعجب لدى شيعته من تساوي الحكم بين هؤلاء والعامد في صحيحة ابن أبي نصر قال: (قلتُ: جُعلتُ فداك، ألستَ قلت: إن الخطأ والجهالة والعمد ليسوا بسواء؟ فبأي شيء يفضل المتعمد الجاهل والخاطئ؟ قال: إنه أثم ولعب بدينه)(1).

ويظهر من كلمات بعض الأصحاب عدم وجوب كفارة على من لم يبت في منى اضطراراً، مستفيدين من وحدة المناط مع العناوين المستثناة من وجوب المبيت في منى فإن مناط إعفائهم الاضطرار مع ضم الملازمة بين إذن الشارع لهم بترك المبيت وسقوط الفدية، فقد صرّح صاحب الحدائقبسقوطها عنهم وقال معلّقاً على رواية الإذن للعباس بأن يبيت في مكة ليالي منى لأجل سقاية الحاج: ((وهي صريحة في جواز المبيت لأجل السقاية في مكة تلك الليالي من غير دم

ص: 166


1- وسائل الشيعة: 169/13، أبواب كفارات الصيد، باب 31، ح2.

ولا إثم))(1).

وهو ظاهر المحقق الكركي (قدس سرّه) لقوله: ((لو كان مضطراً إلى المبيت بغير منى كما لو دعته حاجة ما، أو حفظ مال، أو تمريض، أو كان من أهل السقاية جاز الخروج من منى إلى غيرها والمبيت هناك))(2).

أقول: إطلاق كلامه (قدس سرّه) وعدم تعرضه لوجوب الكفارة مع الحاجة إلى البيان يعني عدم الوجوب.

ويرد عليهم بعدم تمام الملازمة فالمضطر إلى التظليل ولبس ما لا يحل له لبسه عليه الكفارة، ولذا تردد الشهيد الأول في الدروس في سقوط الكفارة عن غير من قام عنده الدليل على استثنائهم وهم الرعاة وأهل السقاية، قال (قدس سرّه): ((وتسقط الفدية عن أهل السقاية والرعاة، وفي سقوطها عنالباقين نظر))(3).

3- الناسي: ويمكن التمسك بعموم التنزيل الوارد في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) (في المحرم يأتي أهله

ص: 167


1- الحدائق الناضرة: 304/17.
2- جامع المقاصد: 264/3.
3- الدروس الشرعية في فقه الإمامية، الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي: 460/1، ط. جماعة المدرسين - قم.

ناسياً، قال: لا شيء عليه وإنما هو بمنزلة من أكل في شهر رمضان وهو ناسٍ)(1)، وما تقدم (صفحة 163) في صحيحة زرارة في الجاهل. وفيه أنه قياس مع الفارق لما ذكرناه من التفصيل في جريان حديث الرفع.

وخلاصة ما تقدم أن عدم وجوب الكفارة على الجاهل والناسي والمضطر يمكن أن يتحقق إذا ثبت شيء مما يلي:-

أ- انصراف أدلة وجوب الكفارة في المقام عن الجاهل والناسي والمضطر أو عن بعضهم كما احتمله صاحب الجواهر (قدس سرّه) في المضطر في كلامه المتقدم (صفحة 150).

ب- إن الفداء كفارة لارتكاب ترك الواجب وليست جبراً للنقصان فلا تشمل هؤلاء؛ لأن فعلهم كلا فعل.ج-- شمول حديث الرفع ونحوه من أدلة العناوين الثانوية إما لمطلق الأحكام الوضعية إلا ما خرج بدليل فيشمل المقام لعدم وجود ما يخرجه كما خرجت كفارة الصيد ولبس ما يخالف ثوب الإحرام والتظليل.

أو لخصوص ما دخل في ضابطة جريانه وكون المقام

ص: 168


1- وسائل الشيعة: 109/13، أبواب كفارات الاستمتاع، باب 2، ح7.

منه.

د- تنقيح مناط الروايات التي أوردناها في البحث أعلاه وتعميم عناوينها كالذي ذكره بعض الأجلاء في المضطر أو صحيحة معاوية بن عمار في الجاهل.

ه-- وجود إطلاق في صحيحة عبد الصمد المتقدمة (صفحة 151) كما فعل السيد الخوئي (قدس سرّه) بحيث أنه استدل بها على عدم بطلان الصوم إذا تناول المفطر جهلاً(1).

ومع عدم تمامية شيء مما يخرج هذه العناوين فيجب التمسك بإطلاق وجوب الدم على من ترك المبيت في منى وهو الأحوط، واختار الوجوب عليهم من المعاصرين السيد الخميني(2)، بلا فرق بينهم، أما السيد السبزواري (قدس سرّه) فقد أوجبها على الجاهل والناسي دون المضطر لكنه احتاط فيه((لاحتمال شمول الأدلة له أيضاً، واحتمال كونه من الوضعيات غير المختصة بحال دون حال))(3).

الخامسة: وهل تجب الفدية على المستثنين من وجوب المبيت

ص: 169


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 307/21.
2- تحرير الوسيلة: 408/1، ط. دار التعارف.
3- مهذب الأحكام: 359/14، ط. 4 انتشارات فجر الإيمان، 1424.

كالرعاة وأهل السقاية ونحوهما؟

تقدم (صفحة 166) أن بعض الأصحاب صرحوا بعدم وجوب الفدية على المضطر للمبيت في غير منى، وهو ظاهر إطلاق عبارة المحقق الكركي (قدس سرّه) واختار الشهيد الأول (قدس سرّه) في الدروس التفصيل فأسقطها عن أهل السقاية والرعاة وتردد في غيرهما، قال صاحب الجواهر (قدس سرّه): ((ولعل الفرق ظهور خصوص الرخصة فيهما بذلك أما غيرهم فلعموم نفي الحرج الذي مقتضاه عدم الإثم دون الفدية التي عرفت سابقاً ظهور النصوص في وجوبها، ولا ريب في أنه الأحوط))(1)، ونقل كاشف اللثام وصاحب الرياض ((عن بعض العامة تعليل الفرق بأن شغل الأولين ينفع الحجيج عامة، وشغل الباقين يخصُّهم))(2) ولم يعلّقا عليه لكن صاحب الجواهر(قدس سرّه) قال: ((ولكنه كما ترى))(3).

أقول: تقدم عدم وجود دليل معتبر على استثناء العناوين وإنما سقط عنهم الوجوب للحرج والضرر المنفيين، فإذا كان المائز النصوص فالجميع سواء، وتُبنى المسألة على ما تقدم من

ص: 170


1- جواهر الكلام: 13/20.
2- رياض المسائل: 150/7.
3- جواهر الكلام: 13/20.

كون الشاة كفارة أم جبراناً.

ونقلنا (صفحة 160) تردد الشهيد الثاني (قدس سرّه) في غير أهل السقاية والرعي وبنائه المسألة على كون الفدية كفارة أم جبراناً، قال (قدس سرّه): ((فتسقط على الأول دون الثاني، أما الرعاة وأهل سقاية العباس فقد رُخّص لهم في ترك المبيت من غير فدية))(1).

وقال الشيخ النائيني (قدس سرّه): ((لا يجب الفدية على الرعاة والسقاة على الأقوى))(2) وتردد في الباقي، واستدل السيد الحكيم (قدس سرّه) على التفصيل بتوجيه صاحب الجواهر للفرق وقد علمت النقاش فيه، وعدم تمامية الدليل الخاص عليهما، وحينئذٍ لا يصح منه (قدس سرّه) التردد في وجوب الفدية لأنه أوجبها على الناسي والجاهل وغيرهما كالمضطر والمناط واحد.وأشكل السيد الخوئي (قدس سرّه) على استفادة النائيني (قدس سرّه) وغيره ممن أسقط الفدية عن الرعاة وأهل السقاية بأنه لا يمكن المساعدة عليه.

أقول: وهو مقبول بلحاظ الدليل الخاص وإلا فإنه ليس موافقاً

ص: 171


1- الروضة البهية: 401/1.
2- دليل الناسك: 437.

لمبانيه فقد اختار سقوط الفدية عن المضطر وهؤلاء مصاديق له حتى وإن لم يتم دليل خاص على إخراجهم من الوجوب، وقد صرّح (قدس سرّه) في كلمته في الصفحة السابقة بذلك.

والخلاصة: إن الرعاة والسقاة إن كان عدم وجوب مبيتهم للرخصة العامة من قبل الشارع كذوي الأعذار فإنها لا تسقط الفدية عنهم وتشملهم عمومات الوجوب كما حرّرنا في الملاحظة السابقة، وإن كان لإذن خاص من الشارع وتكليف منه بأداء هذه المصالح العامة كالرعي وسقي الحجيج فلا يناسبه وجوب الفدية، وإن قلنا بوجوبها فيجب على الحاكم الشرعي إخراجها، ومنه يظهر الوجه في التعليل الذي نقله صاحب الجواهر (قدس سرّه) آنفاً عن بعض العامة.

السادسة: يتخير من وجبت عليه الكفارة في ذبح الشاة في أي مكان شاء؛ لعموم موثقة إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (قلت له: الرجل يخرج من حجه وعليه شيء يلزمه فيه دم، يُجزيه أن يذبح إذا رجع إلى أهله؟ فقال: نعم، وقال- في ما أعلم- يتصدق به)(1)، ورواية علي بن جعفر في قرب الإسناد عن أخيه موسى بن جعفر (علیهما السلام) قال: (لكل

ص: 172


1- وسائل الشيعة: 97/13، أبواب كفارات الصيد، باب 50, ح1.

شيء جرحت ((خرجت) من حجك فعليك ((فعليه)) فيه دم تهريقه حيث شئت)(1).

ولأنَّ الكبرى الكلية التي أوجبت ذبح الفدية في مكة إن تحقق موجبها في العمرة ومحل الذبح منى إن وجبت في الحج مختصة بالصيد أو عموم المحرمات حال الإحرام فلا يدخل فيها محل البحث ففي صحيحة عبد الله بن سنان قال: (قال أبو عبد الله (علیه السلام): من وجب عليه فداء صيد أصابه وهو محرم فإن كان حاجّاً نحر هديه الذي يجب عليه بمنى، وإن كان معتمراً نحره بمكة قبالة الكعبة)(2).

السابعة: من لا يتمكن من الكفارة حتى عند رجوعه إلى أهله تسقط عنه ويستغفر الله تعالى كالذي قيل في كفارة إفطار شهر رمضان متعمداً، لقول أبي عبد الله (علیه السلام) في رواية داوود بن فرقد (إن الاستغفار توبة، وكفارة لكل من لم يجد السبيل إلىشيء

من الكفارة)(3) وغيرها.

ص: 173


1- وسائل الشيعة: 158/13، أبواب بقية كفارات الإحرام، باب 8، ح5.
2- وسائل الشيعة: 95/13، أبواب كفارات الصيد، باب 49، ح1.
3- وسائل الشيعة: 367/22، أبواب الكفارات، باب 6، ح 3.

(الفرع السابع) استحباب المبيت تمام الليل بل الإقامة في منى

صرّح الأصحاب باستحباب المبيت تمام الليل في منى ((كما في النهاية والسرائر، وعن المبسوط والكافي والجامع))(1)، قال الشيخ: ((وإن خرج من منى بعد منتصف الليل، جاز له أن يبيت بغيرها، غير أنه لا يدخل مكة إلا بعد طلوع الفجر، وإن تمكن أن لا يخرج منها إلا بعد طلوع الفجر))(2)، وقال في المبسوط: ((ولا يبيت ليالي التشريق إلا بمنى، وإن خرج من منى بعد نصف الليل جاز له أن يبيت بغيرها، وإن تمكن أن لا يخرج منها إلا بعد طلوع الفجر كان أفضل))(3).

واستدلوا على الاستحباب برواية أبي الصباح الكناني (قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الدلجة إلى مكة أيام منى وأنا أريد أن أزور البيت؟ فقال: لا، حتى ينشق الفجر كراهيةأن يبيت الرجل بغير منى)(4)، وفهم ابن حمزة منها كراهية الخروج، قال: ((ولا يخرج ليالي التشريق منها إلا بعد نصف

ص: 174


1- رياض المسائل: 148/7.
2- النهاية: 265.
3- الينابيع الفقهية: 252/30، ط. مؤسسة فقه الشيعة.
4- وسائل الشيعة: 255/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح11.

الليل على كراهية))، وعلّق العلامة بأن خبر الجازي -الذي فيه قوله (علیه السلام): (فإن خرج من منى بعد نصف الليل لم يضرّه شيء)(1) - ((يدل على الجواز وانتفاء الكراهة وإن كان الأفضل المبيت إلى الفجر))(2).

أقول: الخبر فيه نفي الضرر وهو يجتمع مع الكراهة لأن غايته عدم البطلان، فإن الضرر لا يشمل الكراهة.

ويمكن الاستدلال على الاستحباب بوجوه:-

أ- استحباب الإقامة في منى مطلقاً تأسّياً بالنبي (صلی الله علیه و آله) وقد أمر (صلی الله علیه و آله) أن نأخذ منه مناسك الحج، ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (حجَّ النبي (صلی الله علیه و آله) فأقام بمنى ثلاثاً)(3).

أقول: لكن المروي في كتب العامة عن عائشة قالت:

(ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق)(4) أي أن مقامه (صلی الله علیه و آله) كان في الليالي لا

ص: 175


1- وسائل الشيعة: 256/14، أبواب العود إلى منى، باب1، ح14.
2- مختلف الشيعة: 316/4، عن الوسيلة.
3- الكافي: 518/4، باب: (الصلاة في مسجد منى ومن يجب عليه التقصير والتمام بمنى)، ح3، ط. دار الكتب الإسلامية.
4- حديث عائشة (أفاض رسول الله (صلی الله علیه و آله) من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، كبّر مع كل حصاة يقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها) (سنن أبي داوود، سليمان بن الأشعث السجستاني: ج1، ص 440، ط. دار الفكر) (المستدرك على الصحيحين، للحاكم أبي عبد الله النيسابوري: 477/1، ط. دار المعرفة-بيروت) (السنن الكبرى، للبيهقي أحمد بن الحسين بن علي: 148/5، ط. دار الفكر).

الأيام فيدل على استحباب المبيت بالمطابقة، ويكفينا في الدلالة على استحباب الإقامة في منى أيام التشريق ما يأتي في النقطة (ج-).

أ- بقوله (علیه السلام) في صحيحة معاوية بن عمار: (فلا تبيت إلا بمنى)، وصحيحته الأخرى (لا تبت ليالي التشريق إلا بمنى)(1).

بالتقريب المتقدم (صفحة 115) وحاصله أن الروايات دلّت على أن ملاك رجحان المبيت باقٍحتى مع سقوط الوجوب لبقائه نصف الليل أو لقضائه الليل بالنسك في مكة فالاستحباب لمبيت تمام الليل ثابت؛ لما دلّ على كفاية النصف فالباقي من الليل مستحب.

ص: 176


1- وسائل الشيعة: 251/14، بواب العود إلى منى، باب1، ح1،8.

ج-- ما دلّ على استحباب المقام في منى أيام التشريق كرواية ليث المرادي أنه (سأل أبا عبد الله (علیه السلام) عن الرجل يأتي مكة أيام منى بعد فراغه من زيارة البيت فيطوف بالبيت تطوعاً؟ فقال: المقام بمنى أحب إليّ).

بتقريب الملازمة العرفية بين بقاء الأيام والليالي، أو الأولوية لوجوب المبيت في منى، أما بقاء النهار فلا حكم له إلا بمقدار أداء الرمي الواجب.

ويستثنى من استحباب المقام في منى أيام التشريق ولياليه: الخروج لأداء طواف الحج فإنه يستحب الإتيان به ليلة الحادي عشر أو يومه إن لم يتمكن من تقديمه يوم النحر بعد إكمال الرمي والنحر والرمي والحلق والتقصير كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: (سألته عن المتمتع متى يزور البيت؟ قال: يوم النحر) ، وصحيحة منصور بن حازم قال: (سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: لايبيت المتمتع يوم النحر بمنى حتى يزور)، وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (علیه السلام) قال: (ينبغي للمتمتع أن يزور البيت

ص: 177

يوم النحر أو من ليلته ولا يؤخر ذلك) (1)، وصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (علیه السلام) في زيارة البيت يوم النحر، قال: (زره فإن شغلت فلا يضرك أن تزور البيت من الغد، ولا تؤخر أن تزور من يومك، فإنه يكره للمتمتع أن يؤخره، وموسع للمفرد أن يؤخره)(2).

ودلّ على كراهة الخروج من منى لزيارة البيت غير زيارة طواف الحج صحيحة العيص بن القاسم قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الزيارة بعد زيارة الحج في أيام التشريق، فقال: لا)(3).

أقول: يحمل النهي على الكراهة لما دلَّ على الجواز، كصحيحة رفاعة قال: (سألت أبا عبد الله (علیه السلام) عن الرجل يزور البيت في أيام التشريق؟ فقال: نعم إن شاء)(4).ويلاحظ هنا أن الشهيد الثاني (قدس سرّه) علّق على عنوان المسألة وعلى قول المحقق الحلي (قدس سرّه) في الشرائع:

ص: 178


1- الأحاديث في وسائل الشيعة: 243/14، أبواب زيارة البيت، باب 1، ح 1، 5، 6.
2- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح7.
3- وسائل الشيعة: 260/14، أبواب العود إلى منى، باب2، ح5.
4- وسائل الشيعة: الباب السابق، ح 6.

((ويستحب أن يقيم الإنسان بمنى أيام التشريق)) فقال: ((لا ريب أن الإقامة ليلاً على الوجه المتقدم واجبة، وكذا وقت الرمي، وهي من جملة الأيام، فاستحباب الإقامة في الأيام إما محمول على ما زاد عن ذلك بتقدير حذف المضاف أي بقية أيام التشريق، أو أطلق في ذلك اسم الجزء على الكل؛ فإن الإقامة في باقي الأجزاء مستحبة، أو يكون الاستحباب متعلقاً بالمجموع من حيث هو مجموع وذلك لا ينافي وجوب بعض أجزاء المجموع فإنها مغايرة له من تلك الحيثية))(1) وأضاف في المسالك ((ويمكن إخراج الليالي من رأس بحمل الأيام على النهار، فإن في شمولها الليالي بحث، بل الظاهر من اللغة عدمه))(2).

أقول: الروايات في فضل المقام في منى والعبادة فيها كثيرة نذكر واحدة منها وهي ما رواه الشيخ الصدوق في الفقيه (إذا أخذ الناس مواطنهم بمنى نادى منادٍ من قبل الله عز وجل:إن أردتم أن أرضى فقد رضيت)(3).

ص: 179


1- غاية المراد: مج 1، ج2، ص 455، وذكر التوجيهَ الأخير المحقق الكركي في جامع المقاصد: 268/3.
2- مسالك الأفهام: 369/2.
3- من لا يحضره الفقيه: ج2، باب فضائل الحج، ح 2174.

تنويه: قال الشيخ: ((وإن خرج من منى بعد نصف الليل جاز له أن يبيت بغيرها، غير أنه لا يدخل مكة إلا بعد طلوع الفجر))(1).

أقول: وهو ظاهر في حرمة دخول مكة لمن أدى المبيت الواجب في مكة إلا بعد طلوع الفجر، وكأنه (قدس سرّه) يرى أن الحكم بحرمة المبيت بمكة مستقل غير وجوب المبيت في مكة، وقد تقدمت مناقشة هذا الاحتمال (صفحة 31).

وحكاه كاشف اللثام وصاحب الجواهر عن المبسوط والوسيلة والجامع(2).

وقال ابن إدريس مثله وأضاف ((على ما روي في الأخبار))(3).

أقول: لا يوجد في الأخبار ما يدلّ على هذا النهي بالخصوص إلا عموم النهي عن المبيت في مكة وقد قلنا أن حرمته غيرية لأجل وجوب المبيت في منى وهو يعم مكة وغيرها من دونخصوصية لها، فإذا أدى ما عليه من الواجب لا تبقى حرمة للمبيت خارج منى، وقد دلّت الروايات على أن له المبيت في

ص: 180


1- النهاية: 265.
2- كشف اللثام: 244/6، جواهر الكلام: 9/20.
3- السرائر: 604/1.

غير منى مطلقاً إذا قضى النصف الأول فتشمل المبيت في مكة كقوله (علیه السلام) في صحيحة معاوية بن عمار: (إن خرجت بعد نصف الليل، فلا يضرُّك أن تصبح في غيرها).

أقول: مكة أوضح مصاديق غير منى وأولاها وأفضلها لأن الكون بها عبادة والعبادة فيها أفضل، وفي رواية الشيخ الصدوق (قدس سرّه) عن الإمام السجاد (علیه السلام) قال: (تسبيحة بمكة تعدل خراج العراقين ينفق في سبيل الله عز وجل)(1).

بل في صحيحة العيص تصريح بجواز الذهاب إلى مكة والإصباح فيها، قال أبو عبد الله (علیه السلام): (وإن زار بعد نصف الليل أو السحر فلا بأس أن ينفجر الصبح وهو بمكة)(2) ورواية قرب الإسناد، فما نهى عنه الشيخ مخالف للرخصة الصريحة، لذا لم يوافق المشهور على ما قاله الشيخ ومن تبعه.

هذا وقد عرض كاشف اللثام تقريباً له قال فيه: ((ولعلهم استندوا إلى ما مرَّ من الأخبار الناطقة بأن الخارج من مكة ليلاً إلى منى يجوز له النوم في الطريق إذا جاز بيوتمكة؛ لدلالتها على أن الطريق في حكم منى، فيجوز أن

ص: 181


1- من لا يحضره الفقيه: ج2، 210، باب فضائل الحج، ح 2259.
2- وسائل الشيعة: 252/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح4.

يريدوا الفضل لما مرَّ من أن الأفضل الكون إلى الفجر))(1).

أقول: نقل صاحب الجواهر (قدس سرّه) هذا التوجيه وقال عنه: ((إنه مجرد تهجس لا يصلح مدركاً فضلاً عن أن يعارض ما عرفت))(2).

أقول: هذا الرد يصلح فيما لو قرب كاشف اللثام دلالة النهي على الحرمة كما هو ظاهر الشيخ (قدس سرّه) لأنه استحسان واجتهاد مقابل النص إلا أن كاشف اللثام حمل النهي عن دخول مكة على المرجوحية، وأن الأفضل له عدم دخولها وهذا لا يتنافى مع ما دلّ على الرخصة بدخولها.

نعم يرد على كاشف اللثام بأن الروايات دلّت على التوسعة الحكمية وإلحاق الطريق بمنى لخصوص الذاهب من مكة إلى منى حثّاً له على تحصيل المبيت فيها، ولا دليل على الإلحاق في طريق الإياب من منى إلى مكة ولا حكمة توجبه، بل الراجح خلافه لاستحباب مبيت تمام الليل في منى.

(الفرع الثامن)

يوجد فعل آخر يجزي عن المبيت في منى وهوقضاء الليل مشغولاً بالعبادة في مكة، وقد دلّت عليه

ص: 182


1- كشف اللثام: 244/6.
2- جواهر الكلام: 10/20.

روايات(1) عديدة كصحيحة صفوان التي تكررت، وكقوله (علیه السلام) في صحيحة معاوية بن عمار: (إذا فرغت من طوافك للحج وطواف النساء فلا تبيت إلا بمنى إلا أن يكون شغلك في نسكك)، ومثلها صحيحته الأخرى، وزاد في رواية الكافي (وسألته عن الرجل زار عشاءً فلم يزل في طوافه ودعائه وفي السعي بين الصفا والمروة حتى يطلع الفجر؟ قال: ليس عليه شيء كان في طاعة الله)، وقد جعلها الشيخ في التهذيب والاستبصار رواية مستقلة والأول أقرب؛ لوحدة الراوي والمروي عنه.

وقد يقال بأن مقتضى التعليل في قوله (علیه السلام): (كان في طاعة الله) أن الاشتغال بالطاعة مجزٍ مطلقاً وإن لم يكن في مكة، واحتمله المحقق الأردبيلي قال (قدس سرّه): ((الظاهر كونه بمكة كما قاله الأصحاب ويمكن العموم لعدم التصريح بالقيد))(2), وسيأتي في كلام المحقق النراقي (قدس سرّه) ما يشير إلى ذلك.

أقول: هذا التقييد مستفاد من ضم بعض الروايات إلى بعض

ص: 183


1- الروايات في وسائل الشيعة: 251/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح 1، 5، 8، 9، 13.
2- مجمع الفائدة والبرهان: 332/7.

باعتبار وحدة الجعل، ومن الارتكاز الثابت الذي يوجب الانصراف عما سواها، مضافاً إلى أن الاشتغال بالعبادة في مكة مذكور في السؤال وقد بني الجواب عليه، فالتعميم غير ظاهر والحكم مختص بمكة.

وظاهر الروايات استيعاب الليل بالعبادة، ويمكن أن يقال في وجه وجوب الاستيعاب: ((أن المسقط للمبيت ليست هي العبادة بما هي بل العبادة المانعة له عن المبيت بمنى كما هو واضح))(1).

أقول: لقوله (علیه السلام) في صحيحة صفوان: (إن كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه، وتمام التقريب: أنه لا يكون كذلك إلا إذا استوعب الليل.

هذا ولكن المبيت بمنى أفضل لما ورد في صحيحة صفوان قال: (قال أبو الحسن (علیه السلام): سألني بعضهم عن رجل بات ليالي منى بمكة فقلت: لا أدري، فقلت له: جعلت فداك ما تقول فيها؟ فقال (علیه السلام): عليه دم شاة إذا بات، فقلت: إن كان إنما حبسه شأنه الذي كان فيه من طوافه وسعيه لم يكن لنوم ولا لذة، أعليه مثل ما على هذا؟ قال: ما هذا بمنزلة

ص: 184


1- تقريرات بحث السيد الشاهرودي (قدس سرّه): ج5، القسم الأول: 68.

هذا، وماأحب أن ينشق له الفجر إلا وهو بمنى).

لذا قلنا بأنه إن أحب أن يشتغل بالنسك في البيت الحرام يستحب له العود إلى منى ليدرك شيئاً من الليل متصلاً بالفجر فيها، ولو غلبه النوم في الطريق أجزأه ما دام قد خرج من دور مكة بحسب ما صرحت به عدة روايات صحيحة تقدمت كصحاح جميل وهشام ومعاوية بن عمار الأولى والعيص ومحمد بن إسماعيل من أن النوم في طريق منى بمنزلة المبيت فيها فيجزئه عنه ما دام خارجاً من مكة وقد تجاوز عقبة المدنيين التي هي حدود مكة، فهذا معنى واضح ومصرَّح به في الروايات، لكن المحقق النراقي (قدس سرّه) قال في المستند: ((إلا أني لم أظفر بمصرح بذلك من الأصحاب، نعم جعله في الذخيرة إشكالاً والله العالم))(1)، ولذا حملنا رواية علي -الذي هو ابن أبي حمزة البطائني- عن أبي إبراهيم (علیه السلام) في وجوب الدم المتقدمة (صفحة 126) أنه نام قبل الخروج من حدود مكة.

ومما تقدم يُعلم النظر في قول المحقق النراقي (قدس سرّه): ((وإن دلت الأخبار المذكورة على ذلك، إلا أنه تعارضها رواية علي المتقدمة، فيرجع إلى عمومات وجوب الدم، مع أنه لو تمت

ص: 185


1- مستند الشيعة: 41/13.

دلالة تلك الصحاح لما اختصت بمن اشتغل في مكة بالعبادة، كما مرت إليه الإشارة))(1).

أقول: ناقشنا احتمال عدم اختصاص الاشتغال بمكة، وقلنا إن الصحاح مختصة بمن شغله النسك في مكة ثم عزم على العود إلى منى فغلبه النوم في الطريق بعد خروجه من مكة، ومقتضى الجمع حمل رواية علي على من نام في الطريق قبل خروجه من مكة أي تجاوز عقبة المدنيين، وعلى أي حال فمثلها -مع وجود ابن أبي حمزة والراوي عنه وهو الجوهري الضعيف- لا تعارض الصحاح.

ولا وجه لحمل تلك الصحاح على بعض المحامل أو طرحها، والقول بوجوب الفدية على من بات في طريق منى ولو بعد عقبة المدنيين -كما عن السيد السبزواري (قدس سرّه)- ((لعموم وجوب الدم على من لم يبت في منى وخصوص ما تقدم من خبر علي المنجبر))(2) إذ لم يثبت الانجبار صغرى وكبرى.

ومما تقدم يُعلم النظر في تردد الشهيدين قال الشهيد الأول (قدس سرّه) في الدروس: ((ولو فرغ من العبادة قبل

ص: 186


1- مستند الشيعة: 39/13-40.
2- مهذب الأحكام: 358/14-359.

الانتصافولم يرد العبادة بعده وجب عليه الرجوع إلى منى ولو علم أنه لا يدركها قبل انتصاف الليل على إشكال))(1).

أقول: لا وجه للتردد بل يحسُن منه ذلك بحسب صحيحة صفوان وغيرها، وإن لم يدرك منتصف الليل في منى ويكفيه الإصباح فيها كما بيّنا في الرأي المختار، بل يجزيه ولو نام في الطريق.

وقال الشهيد الثاني (قدس سرّه): ((وفي جواز رجوعه بعده إلى منى ليلاً نظر، من استلزامه فوات جزء من الليل بغير أحد الوصفين، ومن أنه تشاغل بالواجب، وهو الخروج إلى منى للمبيت. ويظهر من الدروس جوازه، وإن علم أنه لا يدرك إلا بعد انتصاف الليل، بل بعد الفجر))(2).

أقول: لا يوجد تفويت للواجب في قطع الطريق من مكة إلى منى بل هو أمر راجح، ولا بد أن يقيد ذيل كلامه بمن غلبه النوم في الطريق كما نطقت به الروايات لا مطلقاً أو يحذف ذيل العبارة كما فعل في الروضة بعد أن ذكر نفس المضمون السابق؛ لذا قال الشهيد في الدروس بعد تردده السابق: ((وأولى بعدم الوجوب -أي وجوب العود إلى منى- إذا علم

ص: 187


1- الدروس الشرعية: 459/1.
2- مسالك الأفهام: 365/2.

أنه لا يدركها حتى يطلع الفجر)).

.

وهنا ملاحظات:-

1- المكث في مكة مشروط بالاشتغال في العبادة لا مطلقاً وهو ظاهر الأصحاب كافة، لكن قيل إن صحيحة سعيد بن يسار عن أبي عبد الله (علیه السلام) (فاتتني ليلة المبيت بمنى من شغل، فقال (علیه السلام): لا بأس) تدل بإطلاقها على عدم الاشتراط، إلا أننا ناقشنا فيها باحتمال إرادة الاشتغال بالطاعة من كلمة (شغل) لأنه مصطلح خاص في المسألة فتدل حينئذٍ على المطلوب، ولو تنزّلنا فإن الرواية شاذة غير معمول بها لدى الأصحاب ((مع أن حمل الفوات على النسيان، ونفي البأس على العذاب - الذي هو منفي عن الناسي قطعاً- ممكن، ويمكن حمل الشغل على ما يضطره))(1)، والاضطرار مسقط للتكليف.

2- التعليل في الصحيحة الأخيرة لعمار يقتضي كفاية الاشتغال بكل طاعة وعدم الاختصاص بمناسك الحج وهو ظاهر التعبير بالنسك في الصحيحة الأخرى لأنه يعم كل

ص: 188


1- مستند الشيعة: 40/13.

طاعة، قال الشهيد الثاني (قدس سرّه) في حاشية الإرشاد: ((لا فرقفي العبادة بين الواجبة والمندوبة))(1), وقال في المسالك: ((لو فرغ منها -المناسك- قبل الفجر وجب عليه الإكمال بما شاء من العبادة))(2).

أقول: لكن سيد المدارك اعترض عليه بقوله: ((والأخبار لا تعطي ذلك))(3) ولعله رأى اختصاص الطاعة والنسك بذلك ولو بقرينة ورودها في السؤال، وأيّد صاحب الحدائق (قدس سرّه) اعتراضه بقوله: ((وهو كذلك، فإن الظاهر منها إنما هو الاشتغال بمناسكه الموظفة لا ما شاء من العبادات، وعلى هذا فالأولى المبادرة إلى الرجوع إلى منى بعد فراغه من مناسكه دون الاشتغال بشيء من العبادات الخارجة))(4).

أقول: هذه القرينة لا تكفي لتقييد إطلاق الطاعة والنسك فلا يقاس على ما ذكرناه من التقييد بمكة. ويبعّد اختصاص العبادة بالواجب أننا إذا سلمنا وجوب استيعاب الليل بالعبادة في مكة فإنه لا يجتمع مع وجوب الاقتصار على

ص: 189


1- غاية المراد: مج 1، ج2، ص 453.
2- مسالك الأفهام: 365/2.
3- مدارك الأحكام: 226/8.
4- الحدائق الناضرة: 300/17.

المناسك المعينة لأنها لا تتطلب أزيد من ثلث الليل أو أقلبحسب العادة ويلزم حمل الواجب على الفرد النادر.

3- احتمل الشهيد في الدروس ((أن القدر الواجب هو ما كان يجب عليه بمنى، وهو أن يتجاوز نصف الليل))(1)، وقال الشهيد الثاني (قدس سرّه) مثله(2).

وقال المحقق الأردبيلي (قدس سرّه): ((ولا يبعد كفاية نصف الليل كما في أصل المبيت))(3) وقال (قدس سرّه) في موضع آخر: ((الظاهر أنه يكفي الاشتغال إلى نصف الليل وقد مرَّ ما يدلُّ عليه وهو الظاهر من الأخبار المتقدمة والأصل يؤيده))(4).

أقول: لعله (قدس سرّه) يشير إلى ما قاله في موضع آخر: ((ويمكن تنزيل الليل إلى نصفه على تقدير الإطلاق))(5) تبعاً للعلامة (قدس سرّه) قال: ((المتجاوز عن النصف هو معظم ذلك الشيء

ص: 190


1- الدروس الشرعية في فقه الإمامية، للشهيد الأول محمد بن مكي العاملي: 459/1، ط. مؤسسة النشر الإسلامي، جماعة المدرسين- قم.
2- مسالك الأفهام: 364/2.
3- مجمع الفائدة والبرهان: 333/7.
4- مجمع الفائدة والبرهان: 346/7.
5- مجمع الفائدة والبرهان: 334/7.

ويطلق عليه اسمه)) لكن هذا مخالف لظهور الرواياتالمتقدمة في الاستيعاب وقد قربنا ذلك، وإن كفاية النصف في منى رخصة دلت عليها الروايات وإلا فإن ظاهرها قضاء الليل كله في منى كما قرّبنا سابقاً، ولم يرد مثل هذه الرخصة في المبيت بمكة، والبدلية لا تقتضيه.

نعم يستطيع أن لا يقضي الليل كله بالنسك بأن يذهب إلى منى لإدراك ولو شيء يسير من الليل والإصباح فيها بل يستحب له ذلك كما تقدم، ولا يضرّه أن يصل بعد منتصف الليل، وكذا لو غلبه النوم في الطريق بعد خروجه من مكة كما صرّحت به الروايات المعتبرة المتقدمة.

4- استثنى الشهيد الثاني (قدس سرّه) تبعاً للأول (قدس سرّه) في الدروس من وجوب قضاء الليل في العبادة ((ما يضطر إليه من أكل وشرب وقضاء حاجة ونوم يغلب عليه))(1), وتنظّر صاحب الرياض في الأخير، قال (قدس سرّه): ((وفيه نظر، إذ ليس في الخبر ما يرشد إليه، بل ولا إلى الأولين، وإنما استُثنيا حملاً لإطلاق النص على الغالب وليس في الخبر ما يخالف في النوم لظهوره في عدمه))(2) قال صاحب الجواهر (قدس سرّه): ((بل لعل الثالث

ص: 191


1- مسالك الأفهام: 364/2.
2- رياض المسائل: 145/7.

-أي النوم الغالب- أيضاً كذلك))(1) أي يستثنى حملاً للنص على الغالب.

وأجيب هذا النظر بوجوه:-

أ- أ ما عرضهُ المحقق الكركي (قدس سرّه) بقوله: ((ويستثنى ما لا بد منه من أكل وشرب ونوم يغلب عليه، أو يضرّ بحاله تركُه لأن الضرورة يسوغ معها ترك المبيت))(2).

وفيه: إن الاضطرار يسقط الوجوب ولم يثبت أنه يسقط الفدية.

ب- ما قاله المحقق النراقي (قدس سرّه) بأن ينوي ((بالأكل والشرب التقوي على العبادة فإنه يرتفع الإشكال))(3) لأنه سيكون طاعة، ولكن هذا المعنى لا يلتفت إليه إلا الأقلون فما حكم الباقي؟.

ج-- ما ذهب إليه السيد السبزواري (قدس سرّه) من كفاية الصدق العرفي للاستيعاب وهو يصدق حتى على ما دون تمام الليل فالمطلوب أن ((يصدق عليه أنه مشغول بنسكه، ولا فرق بعد الصدق المذكور بين استيعاب

ص: 192


1- جواهر الكلام: 8/20.
2- جامع المقاصد: 264/3.
3- مستند الشيعة: 38/13.

الليلةوعدمه، وتجاوز النصف وعدمه؛ لإطلاق الصحيحين -عن معاوية - الشامل للجميع))(1).

أقول: وفيه ما لم يقل به أحد وهو كفاية أقل من نصف الليل.

فالأولى في الجواب أن يقال: أن صدق عنوان الاشتغال بالطاعة والنسك الوارد في الروايات لا يقتضي الاستيعاب الدقي الكامل كما أن البيتوتة لا تقتضي ذلك لغةً وعرفاً وشرعاً كما ذكرنا في تقريب قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً» (الفرقان: 64) فالاشتغال بهذه الضرورات العرفية لا ينافي استيعاب الليل بالعبادة، مضافاً إلى إمكان دعوى وجود قرينة لبية ارتكازية واضحة على استثناء هذه الأمور، كما أن الاعتكاف في المساجد لا ينافي الخروج لأجل القيام بها.

ومع الشك والتردد في إجزاء غير المستوعب يجري العموم في المقام وهو وجوب الدم على من لم يبت في منى إلا ما خرج بدليل وهو المستوعب وما شُكَّ في دخوله في الخاص يبقى تحت العام، قال المحقق النراقي (قدس سرّه): ((ظاهر الصحاح المذكورة استيعاب الليل بها، ولا أقل من اختصاص موردها أو احتماله بالمستوعب، فيقتصر فيما يخالف أصل

ص: 193


1- مهذب الأحكام: 360/14.

لزوم الدم -على من بات بغير منى- على القدر الثابت))(1).

5- المبيت في مكة مشتغلاً بالعبادة مسقط لوجوب المبيت في منى ويتحقق به امتثال الواجب كما نصّت عليه الروايات، فهو أحد فردي الامتثال وإن كان المبيت في منى أفضل، فلا إثم عليه من ترك المبيت في منى ولا فدية عليه، وهذا هو قول المشهور، إلا أن ابن إدريس رجّح وجوب الكفارة على من بات مشتغلاً بالعبادة حيث أطلق الوجوب ولم يستثنه مستدلاً بالعموم، قال (قدس سرّه): ((فإن بات بغيرها -منى- كان عليه دم شاة، وقد روي أنه إن بات بمكة مشتغلاً بالعبادة والطواف لم يكن عليه شيء، وإن لم يكن مشتغلاً بهما كان عليه ما ذكرناه والأول أظهر))(2).

أقول: ردّ العلامة (قدس سرّه) على احتجاجه بعموم الأمر بوجوب الكفارة بأن ((الخاص مقدم على العام))(3) يعني بالخاص الصحاح المتقدمة الدالة على إجزاء المبيت بمكة للعبادة، وتصريحه (علیه السلام) في صحيحة معاوية بن عمار: (ليس عليه شيء).

ص: 194


1- مستند الشيعة: 38/13.
2- السرائر: 610/1.
3- مختلف الشيعة: 315/4.

واحتاط السيد السبزواري (قدس سرّه) بإهراق دم خروجاً عن خلاف ابن إدريس لكنه قال: ((والصحيحان -عن معاوية- حجة عليه))(1).

6- قال السيد الخوئي (قدس سرّه) تبعاً لبعض الأعلام: ((لا يلزم في الاشتغال بالعبادة أن يكون مشغولاً بالعبادة من أول الليل إلى آخره، بل يجوز له الخروج من منى بعد العشاء ويشتغل بالعبادة بقية الليل، وإن مضى شطر من الليل وهو في منى، ويدل على ذلك صحيحة معاوية بن عمار لقوله: (فإن خرجت أوّل الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنت في منى إلاّ أن يكون شغلك نسكك) فإنه يظهر من هذا بوضوح أنه يجوز له الخروج في الليل قبل النصف، وأنه لو خرج قبل النصف واشتغل بقية الليل بالعبادة، فليس عليه شيء، وإنما الممنوع أن يخرج ولا يرجع قبل النصف ولا يشتغل بالعبادة، وأمّا إذا خرج في الليل ورجع قبل النصف أو لم يرجع ولكن اشتغل بالعبادة فليس عليه شيء، وأيضاً يستفاد هذا المعنى من صحيحة أُخرى لمعاوية بن عمار (وسألته عن الرجل زار عشاء فلم يزل في طوافه ودعائه وفي السعي بين الصفا والمروة حتى يطلع الفجر؟ قال: ليس عليه شيء كان في طاعة الله)

ص: 195


1- مهذب الأحكام: 360/14.

فإن المتفاهم منه أنه بقي مقداراً من الليل -إلى زمان العشاء- في منى ثم خرج من منى وقت العشاء لزيارة البيت، فحكم (علیه السلام) بأنه ليس عليه شيء فهو في الحقيقة مزج مبيته بين البقاء في منى وبين البقاء في مكة للاشتغال بالعبادة))(1).

أقول: حمل الصحيحة على هذا المعنى لا يقوى على مخالفة ما أسسته الروايات الصحيحة من أن على الحاج مبيت أحد النصفين في منى أو قضاء الليل مشتغلاً بالعبادة في مكة، وأنه إذا خرج أول الليل من منى فعليه أن يحضر فيها عند منتصف الليل كقوله (علیه السلام) في رواية جعفر بن ناجية عن أبي عبد الله (علیه السلام): (أنه قال: إذا خرج الرجل من منى أول الليل فلا ينتصف له الليل إلا وهو بمنى)(2), وهذا لم يؤدِّ أياً منهما بل لفّق بينهما.

وما استفاده (قدس سرّه) ليس أقوى المحتملات في المراد من الصحيحة لغة وعرفاً للفصل بين المستثنى والمستثنى منه، فالمشهور فهم منها أن من فاته مبيت النصف الأول وكان خارج منى فعليه العود إليها لمبيت النصف الثاني كما تقدم في القول الثاني وأن قوله (علیه السلام): (وإن خرجت) مرتبط ب-(فلا

ص: 196


1- موسوعة السيد الخوئي (قدس سرّه): 384/29-385.
2- وسائل الشيعة: 257/14، أبواب العود إلى منى، باب 1، ح 20.

ينتصف الليل) دون (إلا أن يكون)، فالاستثناء في الذيل منقطع على نحو التخصص، أي إلا أن تكون من أول الأمر في مكة للاشتغال بالعبادة فلا يشملك هذا الحكم.

وقدمنا نحن وجهاً آخر وهو أن من لم يَبت النصف الأول في منى فعليه مبيت النصف الثاني والحضور في منى عند منتصف الليل وإلا إذا كان شغله العبادة في أول الليل فله العود في أي وقت من الليل والإصباح في منى، فالاستثناء إنما هو من وجوب الحضور في منى عند منتصف الليل وهو استثناء متصل على نحو التخصيص من الفقرة السابقة عليه بمقتضى الفهم العرفي والذوق اللغوي، وهو ما رجّحناه في الرأي المختار.

فما احتمله (قدس سرّه) لا يقوى على تأسيس قول مقابل ما أسسته الروايات الصحيحة.

وأما صحيحة عمار الثانية فهي أبعد في الظهور لأن زيارته عشاءً لا تعني أنه غادر منى عشاءً كما هو واضح.

(الفرع التاسع) من لم يشتغل بالنسك من أول الليل وإنما بعده فهل يكون مشمولاً بكفاية الإصباح في منى؟ والجواب: نعم؛ لصريح صحيحة العيص عن أبي عبد الله (علیه السلام) وفيها (إن زار بالنهار أو عشاءً فلا ينفجر الصبح إلا وهو بمنى)، ومنه يُعرف تكليف من لم يبت أول الليل في منى فإنه إما أن

ص: 197

يحضر فيها عند منتصف الليل ليبيت النصف الثاني، أو يشتغل بالنسك في مكة ويكفيه حينئذٍ الإصباح في منى.

وفي ضوء ما تقدم فإن عبادته تقع صحيحة لعدم النهي عنها ولا نحتاج إلى تصحيحها بما قال السيد الشاهرودي (قدس سرّه): ((من كان تكليفه الرجوع إلى منى لعدم اشتغاله بالعبادة في تمام نصف الليل من أوله بل اشتغل بها بعد مضي مقدار منه فيقع الكلام في أن عباداته هل تقع صحيحة أو لا؟ والظاهر أنه لا مانع من الحكم بصحة عباداته إما لمسألة الترتب وإما للقول بكفاية الملاك على ما حقق في محله))(1).

أقول: وجه عدم الصحة أنه لم يمتثل كلا الأمرين فلا هو بات النصف الأول في منى ولا هو استوعب الليل بالعبادة في مكة لفوات أوله عليه، فتكون عبادته منهياً عنها والنهي في العبادة يفسدها.

ويرد عليه: أن النهي هنا غير مستقر بل مراعى إذ بإمكانه أن يعود إلى منى لمبيت النصف الثاني، أو يشتغل بالعبادة ثم يعود آخر الليل إلى منى ليصبح فيها فلا وجه لفساد العبادة.

وقد تبين أن صحة العبادة لوجود الدليل على ذلك،

ص: 198


1- تقريرات بحث السيد الشاهرودي: مج 5، القسم الأول: 69.

والمسألة ليست مورداً للترتب لأن الفردين (وهما المبيت في منى والاشتغال بالعبادة في مكة) على نحو التخيير لا الترتب، ومحل فرض السؤال لا يصح منه الاشتغال بالعبادة بقية الليل لأنه فوّت شرطها وهو الاستيعاب. ولا نقول بكفاية الملاك ولا بد من إنشاء الحكم وجعله ليتحقق التكليف، ولأن الجعل كاشف عن وجود الملاك في المجعول وبدونه يكون الملاك ظنياً.

انتهينا من تحرير هذه المسألة يوم الاثنين 2/ شعبان/ 1442 الموافق 2021/3/16 بفضل الله تعالى ومنّه وكرمه.

ص: 199

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.