مالك الأشتر: حياته وجهاده

هویة الکتاب

مالك الأشتر

حياته وجهاده

تأليف

المفكر الإسلامي آية الله السيد محمد تقي الحكيم (قدس سره)

دراسة وتحقيق

الدكتور علاء الدين السيد محمد تقي الحكيم

الطبعة الثالثة-إصدار مؤسسة مسجد السهلة المعظم

1436ه- 

ص: 1

اشارة

مقدمة

مؤسسة مسجد السهلة المعظم

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيْم ِ

وصلاة وسلاماً على أشرف خلقه جدّنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

حفل تأريخ الإسلام العظيم بالكثير من الرجال الذين تركوا بصماتهم على صفحاته، بكل نقاوة وإشراق وسمو... وكان أولئك الرجال هم الصفوة وهم النخبة من التلامذة الحقيقيين الذين تلقفتهم يد الوصي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) ، فكانوا مقربيه وحوارييه.

على أول ملامح اللوحة السماوية الألقة بنور القدس تسطع صورة (مالك الأشتر) بكل عبقها الإلهي المتآلف مع المدرسة المحمدية العلوية، ليبرق على واجهتها وجود هائل من التأَلق والإشراق، هو الخلود بالحقيقة الحيّة لرسالات السماء، ولرسل السماء، ورجالات المبدأ والعقيدة... وقلّة هم أُولئك الذين ينفصلون عن آخر الزمان والمكان؛ ليكونوا مِلكاً للحياة والإِنسان, وقلَّة همْ أُولئك الذِين يتسنمون ذرى الخلود والسمو والعظمة، وما أَروع الخلود والسمو

ص: 2

والعظمة، إِذا كان خلوداً وسمواً وعظمة، صنعه إِيمان بِالله، وصاغته عقيدة السماء.

وإِذا كان للتأْريخ أَنْ يقف وقفة إِجلال أمام أُمثولة للشموخ، وإِذا كان للإنسانية أَنْ تنحني في خشوع أَمام أُمثولة للبطولة... فشموخ الأشتر وتضحية الأشتر، وبطولة الأشتر، غاية الأَمثلة التي شهدها تأْريخ الشموخ والتضحيات والبطولات، فقد تسامت روحه إِلى عوالم النبل والفضيلة، وتعالت على الحياة المثقلة بأَوضار الدنيا مكتسباً كل ذلك من إمامه الذي كان به لصيقاً ليستضيء من نوره، من المشكاة التي فيها المصباح الذي في الزجاجة التي كأنها كوكب دريّ يوقد من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، حتى كلّله أميره بتاج وصفه له فقال عنه: ((لقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلی الله علیه و آله) )) (1)، وعهد (علیه السلام) إليه عهده المبارك الذي تضمن كثيراً من المبادئ التي تبنى عليها سياسة الدولة ومثل دستوراً لعمل الولاة في كل مكان وزمان، فكان وعاءً للأسس التي يبنى عليها المجتمع، وتعرف منها كيفية التعامل مع الرعية وتحقيق العدل ورد المظالم وإعطاء كل ذي حق حقه، والوقوف بوجه الظلم والباطل من أية جهة أتى، وحماية دماء المسلمين

ص: 3


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج15 ص 98 فصل في نسب الاشتر وذكر بعض فضائله، وانظر خلاصة الأقوال: 277.واتقان المقال: 111.

والحفاظ على بلادهم والسعي للتوفيق برضا الله سبحانه وتعالى(1)، فهو قواعد دستور نظام الحكم والسياسة التي يسرها الأمير (علیه السلام) لتلميذه الذي عدّه الإمام الصادق (علیه السلام) (من الذين يخرجون مع الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) ويكونون بين يديه أنصاراً وحكّاماً(2).

وقد آثرت مؤسسة مسجد السهلة المعظم أن تتلقف جهداً كبيراً، وعطاءً جمّاًّ، ومبادرة سامية لأحد مفاخر النجف الأشرف ممّن نذر نفسه لبذل كل ما تمتلك عطاءً، وهو المفكر الإسلامي الكبير الراحل آية الله السيد محمد تقي الحكيم (قدس سره) الذي عرّفت كتبه ودرّست في الجامعات، في أقطار عربية وإسلامية عدة، وبما اشتهر عنه من موضوعية ومنهجية مميزة، وصولات في عالم المعرفة توزعت على حقول شتى منها الفقه والأصول والتأريخ والأدب وفلسفة اللغة والفلسفة.. وتوفي عن ألقاب ومواقع علمية احتلها بجدارة وأهلية عالية، ف-(ودّعنا فيه ومعه سيداً من أسياد النظر العلمي والمسلك التقوائي، والزيادة في إضفاء التنظيم على الحرية الموروثة في طلب العلوم الاسلامية، طموحاً إلى تشكيل ضمانات حداثة تحول دون تحويل الحرية الى فوضى، واتسعت رقعة التلمذة على يديه، بالتلقي المباشر منه في الكلية والحوزة، حتى بلغ تلاميذه

ص: 4


1- د. عبد الكاظم محسن الياسري -عهد الامام علي بن أبي طالب لمالك الاشتر -دراسة تحليلية في ضوء علم النص-ط1-ص 3
2- اُنظر: الإرشاد- الشيخ المفيد : 2/386.

المباشرون آلافا، فيهم المئات من المشاهير والعشرات من المفكرين، الذين يعرف أهل الخبرة تلمذتهم عليه وأثره فيهم، من خلال نشاطهم الفكري ذي العلامات الفارقة.. ومثلهم عدد ممن تتلمذوا على فكره من خلال المتابعة والاتباع المنهجي، المفيد أو المستفاد من دون تقييد، بسبب جاذبية أتت من موضوعيته ونشراته الحق والحقيقة، ونهجه الذي جمع بين التقانة العلمية، والإتقان في التعامل مع الموروث العلمي، وبين التقنيات الحديثة في البحث والقول والكتابة والمقارنة بين أنظمة المعرفة المختلفة..إلى ما عرف عنه واشتهر به، وتطابق فيه من نزوع نجفي الى الوحدة على مقتضى التوحيد.. حتى كان رائداً علما في مجال التقريب بين المسلمين.. وبلغ من الشفافية والتواضع، حدّ أنّه كان يلتبس بتلاميذه، لا ينزل إليهم، بل يرفعهم اليه بأناة وحرص ودربة على التربية العلمية، وأحيانا كانوا يصدقون، فيلغون المسافة بينهم وبينه، ويعتذرون في نهاية البحث، ولكنه يزدهي فرحاً علمياً بهم، ولا يخفي رغبته في دفعهم أو اندفاعهم الى مكانة علمية أعلى) (1)، وقد أَوقد صديقي الحبيب (د. السيد علاء) نجل الراحل المعظم في دراسته وتحقيقه لكتاب (مالك الأشتر) قناديلاً عند بعض محطات حياة السيد الراحل المباركة.. المحطات التي تطول بينها المسافات وتكبو أمام تسلق دروب الوصول إلى قممها همم

ص: 5


1- السيد هاني فحص – الأستاذ الحجة السيد محمد تقي الحكيم من عقول الأجيال إلى ذمة الله، مقالة، جريدة السفير، لبنان، في 9/ 5/ 2002.

المسارعين.. فهو الحكيم الذي ساهم مع مجموعة من المفكرين في تأسيس جمعية منتدى النشر في النجف، وواكب نشاطها لأكثر من ربع قرن، كما ساهم في تأسيس المجمع الثقافي للمنتدى سنة 1943(1)، وقد وجه انتقادات حادة للأحزاب التي ظهرت في ذلك الوقت؛ لأن أكثرها لم تنتهج في سيرها أسساً ديمقراطية، ولهذا لم يكتب لأكثرها النجاح ولم يتجاوب الشعب مع القائمين بها على الرغم من رفضه لأنظمة الحكم القائمة آنذاك(2)، وهو الذي تكررت دعواته لإصلاح التعليم ومناهجه عازياً سبب التدهور الحاصل فيهما إلى البريطانيين وسياستهم المقرفة التي خططوا لها وساروا عليها خدمة لمصالحهم الذاتية(3)، وطالب بإعادة النظر في دراسة التأريخ قائلاً : (إن علينا أن نعيد نظرتنا للتاريخ لنلتمس منه عطاءً آخر، عطاءً ثورياً صاعداً يوجه أبناءنا إلى أسمى ما نرجوه لهم من مثل، ويضع أمامهم من تجارب الشعوب وقوداً يلهب عواطفهم، للوقوف أمام أية محاولة تعسفية يرمي من ورائها المستعمرون إلى تخدير الشعوب للاستيلاء عليهم وفرض سيطرتهم عن طريق الأذناب والوصوليين...) (4)، وأكد على وجوب دراسة التأريخ من زاوية أخرى فقال : (إن علينا دراسة التاريخ من

ص: 6


1- السيد محمد تقي الحكيم: المدخل لدراسة الفقه المقارن، مقدمة الكتاب، ص2.
2- د. عز الدين السيد علي خان المدني -الاتجاهات الإصلاحية في النجف ال أشرف1932 – 1945 ط1، عن مجلة النجف، العدد 2، السنة الثالثة، 14 تموز، 1959، ص43.
3- المصدر نفسه، عن مجلة النجف، العدد 10، السنة الثانية، 31 تموز 1958، ص15 -17.
4- المصدر نفسه، عن مجلة النجف، العدد 13، السنة الثانية، 18 تشرين الأول 1958.

زاوية أخرى، زاويتي أنا وأنت زاوية الشعب وما فيه من إمكانيات تبعث على الإكبار... ) (1)، وجدد مطالبته بتغيير مناهج التأريخ وتحويل اتجاهها عن خط المألوف إلى خط آخر يصل إلى الإمكانيات الخيرة في نفسيات الشعوب ليبرز خصائصها العامة والخاصة ويضعها في موضعها من زمانها ومن أحداثه الكبرى (2).

والسيد محمد تقي الحكيم (قدس سره) هو ممن انتقد بشدة سياسة الحكومات وعدّها سياسة هوجاء، ولاسيما سياسة التفريق بين المذاهب وإذكاء نار الأحقاد في نفوس أبناء هذا البلد بين سني وشيعي، وعربي وكردي وجنوبي وشمالي، فضلاً عن المفارقات التي تبثها إرضاءً لنواياها، أريد بها إبعاد ذوي الكفاءات باسم الطائفية والعنصرية، وإحلال طبقة محلهم تنفذ ما يريد المستعمرون، وأكد السيد محمد تقي الحكيم عدم جدوى هذه السياسة فقال: (إن هذه السياسة، سياسة (فرّق تَسدْ) إذا ما نجحت بيد الإستعمار في يوم ما فإن نجاحها مؤقت وهي حتماً ستعصف بأصحابها متى استيقظ المارد الجبار في النفوس ) (3).

ص: 7


1- د. عز الدين السيد علي خان المدني -الاتجاهات الإصلاحية في النجف ال أشرف1932 – 1945 ط1، عن مجلة النجف، العدد 13، السنة الثانية، 18 تشرين الأول 1958.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه، عن مجلة النجف، العدد 10، السنة الثانية، 31 تموز 1958، ص15 -17.

وتناول السيد محمد تقي الحكيم (قدس سره) مفهوم الحرية ومجالاتها ومنها حرية الدين والعقيدة وحرية الرأي والتفكير وحرية التعبير وحرية التنقل وحرية العمل وأكد على حرية التفكير وعبر عنها بأنها عملية داخلية يقصد بها إبراز الفكرة أو الرأي أو العقيدة بمختلف الأساليب سواء في المجتمعات العامة أم الخاصة وافقت الحكم القائم أم خالفته(1).

وانتقد السيد محمد تقي الحكيم (قدس سره) السياسة الاقتصادية التي انتهجتها الحكومات السابقة مؤكداً أن سياستهم في تجويع الشعب وتبذير موارده هي الأخرى سياسة هوجاء لا يمكن أن تدوم مهما طال الزمن فإن للوعي الوطني دور في إبراز مساوئ الأنظمة والحكومات مشدداً على دور الجموع الوطنية في التصدي لتلك السياسات فقال: (وهذه الجموع التي ملأتم أحرارها السجون، ليس فيهم من يأتمر بأوامر دولة اجنبية وإنما هم أناس لا يطيقون الصبر على هذه السياسة) (2)، إلى غير ذلك من صور جهوده وجهاده.

فكان أن تبنت مؤسسة مسجد السهلة المعظم إعادة نشر هذا الإرث التاريخي الذي يمرّ بحياة القائد مالك الأشتر محطة محطة، مثبتاً لأحداثها ومصوراً

ص: 8


1- د. عز الدين السيد علي خان المدني -الاتجاهات الإصلاحية في النجف الأشرف1932– 1945 ط1، عن مجلة النجف، العدد 9، السنة الثانية، تموز 1958، ص1 -2.
2- المصدر نفسه, عن مجلة النجف، العدد 13، السنة 18، تشرين الأول 1958، ص15.

للحظاتها، بقدرة عالية وتثبت عميق، ضمن خطه المنهجي في التقريب واسلوبه المتفاني في التعامل مع النص، ومنهجيته في الحوار وأطروحته في اعتماد الأخلاقية في المعرفة بعيداً عن التعصب والتطرف، بفاعلية نقدية عالية تلتقي على مساحتها تعددية المقاربات ثقافياً وعقائدياً، ليكون كتاب (مالك الأشتر) تعبيراً واضحاً عن حكمة عليٍّ أمير المؤمنين من أن (قيمة كل امرئٍ ما يحسنه).

فالحمد لله على توفيقه لنا بطباعة هذا العطاء الثرّ بما يرجى به حسن المثوبة، وأن يكون عملنا تحت نظر ولي الله الأعظم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) .. اللهم تقبل منّا وأنزل شآبيب رحمتك وبركاتك ورضوانك وجزيل مغفرتك وإحسانك على الروح الصاعدة في عليين للسيد الراحل الكبير (قدس سره)

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

مضر السيد علي خان المدني

الأمين العام

لمسجد السهلة المعظم النجف الأشرف 1436

ص: 9

المقدمة

اشارة

السيد محمد تقي الحكيم

الجذور والامتدادات

1.ولادته ونشأته العلمية المبكرة.

2.روافد بنائه الفكري.

3.نتاجه الفكري.

4. الفصل الختامي من حياته.

ص: 10

أولاً: ولادته ونشأته العلمية المبكرة

ولادته

ولد السيد محمد تقي الحكيم، في العاشر من شهر رمضان المبارك عام 1341ه-، الموافق للسابع والعشرين من شهر نيسان عام 1923م (1) في محلة الحويش، وهي إحدى المحلات الأربع الرئيسة في النجف الأشرف (2) لأبوين ينتسبان لأسرة (آل الحكيم) وهي من الأسر العلوية الشريفة في حسبها ونسبها (3).

والده

أمّا والده فهو السيد سعيد بن السيد حسين بن السيد مصطفى الحكيم، فقد جمع بين الفقاهة والمنزلة الإجتماعية السامية، حتى عدّ عميداً للأسرة (4)، خرج إلى الجهاد من الكاظمية المقدسة في عام 1333ه-/1915م، برفقة السيد

ص: 11


1- تسالم أفراد الأسرة على ذلك وأنظر، الشيخ جعفر محبوبة، ماضي النجف وحاضرها، ج4، ص75.
2- أنظر، الشيخ جعفر محبوبة، ج1، ص25.
3- أنظر، الشيخ جعفر محبوبة، ج4، ص75.
4- السيد محمد باقر الحكيم، العلامة الحكيم ومركز الإصلاح في الحوزة العلمية في النجف، (بحث)، من كتاب السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية في النجف.

مهدي الحيدري الذي اصطفاه ليكون أميناً على أموال المجاهدين وكان له دورٌ بارزٌ في تعبئة العشائر العراقية وصولاً إلى البصرة.

نشأ السيد محمد تقي الحكيم برعاية والدٍ جُبل على حب العلم ومجالسة العلماء واجتهد في غرس هذه المبادئ في مدارك ولده الصغير، وحرص أشد الحرص على تذليل كل الصعوبات التي تجانب هذا المسعى، وتقف حائلاً دون إدراك هذه الأمنية.

ونشأ أيضاً في كنف أم صالحة علوية غذّته منذ نعومة أظفاره بغذاء الدين، وغرست في نفسه مكارم الأخلاق.

أمّا أسرة (آل الحكيم) فهي أسرة علوية طباطبائية (1) ترتفع بنسبها الشريف إلى الإمام السبط أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب (علیه السلام) وتلتقي تفريعاتها الكثيرة في النجف وبعض بلدان العراق ولبنان وإيران بالسيد الشريف إبراهيم بن السيد مير علي بن السيد مراد (2).

أنجبت هذه الأسرة عدداً كبيراً من الأعيان المعروفين بمكانتهم العلمية والفقهية، والإجتماعية، فكان منهم مراجع التقليد، وأساتذة البحث الخارج،

ص: 12


1- ((طباطبا)) لقب تلقب به إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أنظر الشيخ عباس القمي، الكنى والألقاب، ج2، ص401.
2- السيد محمد تقي الحكيم، آل الحكيم، ((بحث مخطوط، غير كامل))، (النجف الأشرف: مكتبة السيد محمد تقي الحكيم الشخصية، د.ت، و1).

وفضلاء الحوزات العلمية، وأساتذة جامعيون في مختلف الجامعات العراقية وغيرها وخطباء المنبر الحسيني، فضلا عن العديد من المؤلفين، والشعراء والأدباء، والسياسيين.

النشأة المبكرة

كان والده أول مؤدبيه ومعلميه، فقد نشأ في كنف بيت غمرت مجالسه بأحاديث دينية وعلمية وأدبية، وترعرع في وسط هذه المجالس واشتد عوده من غذائها الفكري، فكان محط أنظاره أفواج الداخلين والخارجين من ديوان أبيه، وهم يتلقون دروسهم فيه، وكانت تطرق سمعه كل أحاديثهم، وتجاذباتهم في نكات علمية وأدبية وتأريخية، وكان شاهد عيان حينما ترتفع الأصوات وتختلف الآراء وتتشابك الأفكار حتى يخيل لمن لم يخبر مثل هذه المجالس إن خلافات حادة نشبت وان مشكلة ما حدثت وقد تتطور إلى عراك فكري ثم يعمّ صمت مطبق يسترجع فيه كل طرف ذاكرته ويلملم شتات أفكاره ويستخبر كنه حجّة الخصم، وتهدأ النفوس بعد أن يذعن الطرف الآخر إذعاناً علمياً، مبنياً على أسس سليمة ومنطق صائب، وتمر الدقائق بسلام، ويعم الوئام، ويعود الجميع إلى لملمة الأفكار، وسرعان ما تثار مسألة علمية أخرى، ويعود الجميع إلى عراكهم الفكري، وتبدأ الأصوات بالارتفاع ولا تصمت إلّا بسماع تكبيرة الأذان من الحرم العلوي؛ إيذاناً للجميع بالإنصراف لتأدية الصلاة، وعلى مدار سنة

ص: 13

كاملة تعقد هذه المنتديات وكان روادها ثلة من العلماء والمجتهدين والأدباء والشعراء ممن كانوا يكوّنون الثقل العلمي والأدبي لهذه المدينة المقدسة وإن عددهم كان يبلغ العشرات.

وصف أحد الباحثين هذا المجلس بقوله: ((شهدت مدينة النجف الأشرف أيامه الحافلة بالمذاكرات العلمية والمناقشات الفكرية فقد كان ديوانه الشهير محجة الأفاضل والأعلام ودار ندوة يقصدها رواد العلم والفضيلة ممن كان له الأثر الفاعل في المستوى الفكري لمدينة النجف وتفاعلها مع الحركات الفكرية والتطورات الإجتماعية المعاصرة آنذاك)) (1).

عاش السيد محمد تقي الحكيم صباه وريعان شبابه في ظل هذه الأجواء مما حفزه للدخول في ميادين العلم والمعرفة من أوسع أبوابها، وذلك لتوفر البيئة الصالحة التي ساهمت في نمو شخصيته وتكاملها.

بدأ السيد محمد تقي الحكيم دراسته التقليدية وهو في الرابعة من عمره في محطتها الأولى (الكتاتيب) ليتعلم فيها مبادئ القراءة والكتابة وحفظ شيء من القرآن العزيز وبعد اجتيازه هذه المرحلة وهو في السنة السابعة من عمره تبنى تنشِئَته وتعليمه أخوه السيد محمد حسين الحكيم فدرس عنده علوم العربية

ص: 14


1- محمد جواد الطريحي، تطور دراسة الحوزة العلمية في النجف، من كتاب السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية في النجف.

وبالتحديد كتاب (قطر الندى وبل الصدى) لابن هشام الأنصاري و(ألفية ابن مالك) وكتاب (مغني اللبيب) لابن هشام أيضاً ودرس الفقه مقدمات وسطوحاً على أيدي ثلة من العلماء الأعلام كالسيد يوسف السيد محسن الحكيم والسيد موسى الجصاني والشيخ نور الدين الجزائري والسيد صادق السعبري ودرس علوم البلاغة على يد الشيخ علي ثامر.

ثانياً: روافد بنائه ونتاجه الفكري

اشارة

هناك محطات شكلت أهم الروافد الفكرية التي كونت شخصية السيد محمد تقي الحكيم لابد من الوقوف عندها وأهمها:

1. جمعية منتدى النشر

تأسست جمعية منتدى النشر في النجف الأشرف بتاريخ 10/1/1935م (1)، كان الهدف من تأسيس المنتدى تنظيم الدفاع الديني عما حمله العصر الجديد من تطورات واندفاعات متبلبلة من طبيعتها التأثير على الكيان القائم في الصروح الدينية، ولاسيما في مثل النجف الأشرف، التي هي جامعة إسلامية وعاصمة دينية.

ص: 15


1- جمعية منتدى النشر، منتدى النشر بعد 16 عاما، ص أ.

افتتحت المنتدى صفاً لدراسة العلوم العربية، والمنطق، والفقه، والأدب العربي(1) وذلك عام 1937م، وبتشجيع من والده السيد سعيد الحكيم الذي واكب مخاضات وولادة هذا المشروع الإصلاحي(2) ابتداءً من عقد بعض جلسات التأسيس السرية في داره، وانتهاءً بإعلان التأسيس، فكان أول المشرفين على هذا المشروع(3) وكان والده أول مشجعيه للدخول في هذه المدرسة، حيث انتظمت دراسته هناك فدخلها على أنه (طالب ذكي) في الصف الثاني ونُقل هو وآخرون(4)، بعد أسبوع إلى الصف الثالث حيث تخرج فيها في نفس السنة(5)، يقول الشيخ المظفر: ((ولقد كان يعزّ أيها الرجل الذي احتضنتك كلية المنتدى في أول تأسيسها طالباً ثم وفيت فاحتضنتها أستاذاً لعلوم البلاغة وعضواً في إدارتها، أقول: لقد كان يعزّ عليّ أن تضنّ بآثارك))(6) .

وبعد سنة من الدراسة المكثفة في كلية منتدى النشر، التي أضافت إلى آفاق معرفته كثيراً ووضعت اللبنات الأساسية في تكامل شخصيته العلمية، ونظراً

ص: 16


1- المصدر نفسه.
2- للتفاصيل، أنظر الشيخ محمد مهدي الآصفي، الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف، ص96.
3- السيد عبد الهادي الحكيم، حوزة النجف الأشرف، النظام ومشاريع الإصلاح، ص375.
4- للتفاصيل أنظر علي الخاقاني، شعراء الغري، ج9، ص233.
5- حديث شخصي مع السيد محمد تقي الحكيم (المحقق).
6- السيد محمد تقي الحكيم، مالك الأشتر، حياته وجهاده -المقدمة -، ص13.

لنبوغه المبكر اختير ليكون أستاذا للبلاغة، عيّن السيد مدرساً على الملاك الدائم في مدرسة منتدى النشر الدينية الأهلية بموجب قرار الهيئة الإدارية لجمعية منتدى النشر في 17/8/1944م (1)، وفي 25/7/1948م انتخب سكرتيراً عاماً لجمعية منتدى النشر، واستمر في شغل هذا المنصب في السنوات اللاحقة لحين حل الجمعية في عام 1954م (2).

2. المجمع الثقافي لجمعية منتدى النشر

كان (السيد) قطب الرحى في هذا المجمع ومن جملة أعضائه المؤسسين (3)يقول الشيخ المظفر: ((لقد رمزنا إلى حركة لجنة المجمع في المنتدى النشيطة فإن دريت فإنّ محورها هذا (الحكيم)، النابغ وهو في ريعان الشباب، وقد أوتي حظاً وافراً من قلم سيال وأدب عال، وأسلوب رصين، وخيال واسع)) (4).

بذل (السيد) جل وقته في سبيل إنجاح هذا المشروع الثقافي، وكان يراوده أمل كبير في انتصار أفكارهم الإصلاحية، التي تبنتها هذه المؤسسة (5).

ص: 17


1- أنظر مكتبة السيد محمد تقي الحكيم، الملف الوثائقي.
2- أنظر المصدر نفسه.
3- المجمع الثقافي الديني، أسبوع الإمام، ص 7.
4- السيد محمد تقي الحكيم، مالك الأشتر -المقدمة-، ص12.
5- جمعية منتدى النشر، حفلة وضع الحجر الأساسي لكلية منتدى النشر، ص19.

ومن المفيد أن نستشهد بما ذكره أحد الأدباء عن الروابط الروحية التي تربط (السيد) بالمجمع بالقول: ((انخرط في سلك المنتدى منذ مرحلة مبكرة من تأسيسه، وأوقف شبابه، وحياته، لخدمة الجمعية وفائدتها، وحرص منذ البداية على تنشيط حركة الجمعية الثقافية، ووضع مؤلفاته، وقابلياته النفسية والبدنية في خدمة أهداف المنتدى وتحت إشرافه)) (1).

3. الحوزة العلمية

تعد النجف من أقدم الحواضر الإسلامية التي عنيت بالدراسات الإسلامية التشريعية وربما اعتبرت مدرستها العلمية امتداداً زمنياً ومنهجياً لمدرسة الكوفة (2) حين بقيت الكوفة تصب في بحر النجف إلى القرن الثامن للهجرة (3) وأسلوب الدراسة في هذه الحاضرة يعتمد المنهج الحر أساساً له، وكان من أهم ميزاته تمكين الطالب من اختيار أستاذه على أساس من التوافق النفسي الذي

ص: 18


1- غالب الناهي، دراسات أدبية، ص93.
2- السيد عبد الهادي محسن الحكيم، عقد الفضولي -مقدمة السيد محمد تقي الحكيم -، ص18 -19.
3- الشيخ علي الشرقي، الأحلام، ص42.

يقوم على الإنسجام والثقة المتبادلة بينهما وهو من أهم الحوافز لجد الطالب واجتهاده في مراحل تكوين مساره الفكري (1) لذا اختار (السيد) أساتذته بعناية.

ووفق هذا المنظور المتقدم اختار أستاذه الإمام السيد محسن الحكيم الذي كان رافداً من روافد بناء شخصيته العلمية والتربوية، والذي كان يمتلك شخصية قوية فيها من الجاذبية، والواقعية، والجدية، والحنو، واليقظة، وسعة الصدر.

ووفقاً للمواصفات المتقدمة اختار أستاذه الشيخ حسين الحلي الذي تميز بين الفقهاء باهتمامه الخاص برعيل من فضلاء الحوزة من تلامذته الذين يتوسم فيهم الكفاءة والمستقبل العلمي الزاهر، وهناك كثير من العلماء الذين تضمنتهم مسيرة الفكر ولكن الذين تركوا بصماتهم على صفحات مسيرة (السيد) قليلون تغييراً وتطويراً منهم أستاذه الإمام السيد الخوئي الذي جاء اختياره له لملكات كان يتمتع بها تؤهله لان يكون أستاذاً ناجحاً من المدرسين الكبار في جيلنا، وهو في الحقيقة يتجاوز كونه مدرساً إلى أن يكون مربياً علمياً بصرف النظر عن تربيته الروحية والأخلاقية.

وفي بداية العشرينات من عمره غلب على نشاطه التوجه نحو علوم الشريعة فقد بذل وسعه وأتعب نفسه في الانشغال بها وصولاً إلى الإجتهاد،

ص: 19


1- السيد عبد الهادي محسن الحكيم، المصدر السابق -المقدمة -ص15.

ويصور (الشيخ المظفر) هذه المرحلة من حياة (السيد) العلمية وجهاده في تحصيل العلوم والمعارف بقوله: ((لقد كان يعز عليّ أن تضن بآثارك عن إذاعتها ونشرها، في الوقت الذي كان يجب أن يُبرهن على أن في السويدا رجالاً ولجامعة النجف كُتاباً يُفتخر بهم ولئن كنت تعتذر - وما ملوم من اعتذر- بالانشغال بتحصيل العلوم الدينية ودراسة الفقه وأصوله فإن ذلك يحول حقاً عن كثير مما يجب أن يعمله الطالب الديني، ومثلك على صواب إذ انصرف إلى أهم ما يجب أن يصنعه المحصل السالك طريق الإجتهاد))(1).

وبتحصيله وسلوكه هذا نال درجة الإجتهاد ودرس طلابه في مرحلة البحث الخارج ابتداءً من عام 1968 م وحتى عام 1975م حيث تخرج على يديه ثلة من العلماء الأعلام الذين أصبحوا فيما بعد أعمدة الحوزة العلمية وأساتذة البحث الخارج.

مَنَع جلاوزة أمن النظام البائد السيد من الاستمرار في تدريسه لطلاب البحث الخارج في حزيران 1975م وعاود درسه في سنة 1978م في مقبرة الأسرة في مسجد الهندي ومُنِع مرة أُخرى في نفس السنة.

4. المجمع العلمي العراقي

ص: 20


1- السيد محمد تقي الحكيم، مالك الأشتر، -المقدمة -ص 13.

تأسس المجمع العلمي العراقي في عام 1947م (1)، وحملت المادة السابعة كيفية انتخاب العضو العامل بتزكية مكتوبة من عضوين، وأن يحصل المزكّى بالانتخاب السري موافقة أكثرية الأعضاء (2)، وبترشيح من الشيخ محمد رضا الشبيبي رئيس المجمع، والدكتور مصطفى جواد عضو المجمع وبالاقتراع السري نال السيد عضوية المجمع بالإجماع في 14/ 6/1964م (3).

وبانضمامه إلى أعلى هيئة علمية في البلاد (4) ودخوله هذا الصرح العلمي الكبير توفرت فرصة علمية كبيرة للعاملين في الحقل العلمي، من خلال تلاقح الأفكار وسبر غور معضلات أمهات المسائل، فكان للحوزة العلمية بما تحمله من إرث علمي امتدت جذوره في أعماق المعرفة منذ مئات السنين، والجامعة التي تمثل مع الحوزة عقل الأمّة العلمي والمعرفي، فأثمر ثماره عبر لجان المجمع، وما أعطته هذه اللجان من خدمات جلى للغة الضاد.

ص: 21


1- سالم الآلوسي، المجمع العلمي في خمسين عاما، ص 47.
2- المصدر نفسه، ص 92 -94.
3- أنظر مكتبة السيد محمد تقي الحكيم، الملف الوثائقي.
4- سالم الآلوسي، المصدر السابق ص 108.

شارك (السيد) في لجنة الشريعة، ولجنة ألفاظ الحضارة، ولجنة إحياء التراث، ولجنة الأصول (1) وشارك في لجنة الزراعة التي أعدت مصطلحات علم البزل والري (2).

وكذلك اشترك في لجنة وضع مصطلحات علم الغابات (3)، ودائرة علوم اللغة العربية (4).

حُلَّ المجمع العلمي العراقي بقرار من مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم 471 في15/4/1979م، وعين بقرار آخر إنشاء مجمع علمي جديد، استبعد فيه (السيد) (5).

لاحظ المجمعيون أنه من الصعوبة بمكان الاستغناء عن خدمات (السيد) العلمية وجهوده في اللجان التي كان يعمل فيها، وبتوسط من الدكتور سعدون حمادي، الذي حمل رسالة من الدكتور صالح احمد العلي إلى ديوان رئاسة الجمهورية يرجوه فيها، تعديل قانون المجمع وإضافة (السيد) وآخرين إليه وذلك لمكانتهم العلمية التي لا يمكن الاستغناء عنها في تنشيط حركة المجمع

ص: 22


1- المصدر نفسه، ص111-119.
2- سالم الآلوسي، المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه، ص542.
4- المصدر نفسه، ص314.
5- أنظر مكتبة السيد محمد تقي الحكيم، الملف الوثائقي.

الثقافية ولجانه العلمية(1) فاستجاب المعنيون للرغبة الموضوعية في إصدار قرار آخر تم بموجبه إعادة السيد محمد تقي الحكيم وآخرين إلى المجمع العلمي العراقي(2) وقوبل هذا القرار بالترحاب والتقدير من قبل أعضاء المجمع(3).

وبتاريخ 2/ 5/ 1983م عقد المجمع العلمي جلسته الإعتيادية وألقى السيد على مسامع لجنة الأصول بحثه (الإجتهاد في اللغة القسم الأول) على أمل إكماله في الجلسة الآتية التي تغيب عنها السيد بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة الإمام الكاظم (علیه السلام) .

اعتقل (السيد) مع عدد كبير من أفراد الأسرة من قبل أجهزة النظام الأمنية في الساعة الحادية عشرة والربع من صبيحة يوم 9/5/1983م، وأطلق سراحه في 18/5/1983م، ليوضع تحت الإقامة الجبرية في منزله حتى يوم 23/2/1987م (4).

ص: 23


1- حديث شخصي بين (السيد محمد تقي الحكيم) والدكتور صالح احمد العلي في 16/3/1980م، سمعه (المحقق) من السيد مشافهة.
2- أنظر مكتبة السيد محمد تقي الحكيم، الملف الوثائقي.
3- المجمع العلمي العراقي، ((مجلة المجمع العلمي العراقي))، 1980، ج4، ص198.
4- للتفاصيل أنظر د. صاحب الحكيم، موسوعة قتل واضطهاد مراجع الدين (1968-2003)، ص2331.

أنهى السيد علاقته بالمجمع من طرف واحد، ولم يشارك في أي جلسة بعد رفع الإقامة الجبرية عنه.

تحدث الدكتور صالح احمد العلي في لقائي معه في المجمع العلمي العراقي بتاريخ 9/10/1990م عن دور (السيد) العلمي ومشاركته الفعالة في إثراء حركة المجمع العلمية منذ تعيينه وحتى احتجازه الذي شكل خسارة كبيرة للجهود العلمية والمعرفية، وعن علاقته الوطيدة به التي امتدت ما يقارب ثلاثة عقود لذا قرر إبقاءه في العضوية بكامل حقوقه القانونية تجاهلاً لقانون المجمع الذي يعد العضو مستقيلا إذا تخلف عن حضور ست جلسات متواليات بدون عذر مشروع (1).

وهكذا كان (السيد) الحاضر (الغائب) حتى 1 حزيران من عام 1996م، حيث حل المجمع بمرسوم جمهوري (2)، ويعد (السيد) وآخران من أكثر الأعضاء بقاءً في عضوية المجمع طيلة عمر المجمع البالغ (56) عاماً فقد شغل هذا المنصب طيلة (32) سنة بصورة مستمرة (3).

ص: 24


1- سالم الآلوسي، المصدر السابق ص126.
2- مكتبة السيد محمد تقي الحكيم، الملف الوثائقي.
3- هما د. عبد العزيز البسام، والشيخ محمد بهجة الأثري، أنظر سالم الآلوسي المصدر السابق، الصفحات 68، 73، 114، 311، 349.

وفي 18/10/1997م عين عضو شرف في المجمع العلمي العراقي(1) وإضافة إلى عضويته في المجمع العلمي العراقي فقد حاضر في معهد الدراسات العليا في جامعة بغداد - لدراسة الماجستير - بعد أن عادل مجلس جامعة بغداد درجته العلمية بدرجة الأستاذية واستمر بالتدريس فيه عدة سنوات، وكان للسيد إسهامات متميزة في مجمع البحوث الإسلامية الذي عقد في القاهرة سنة 1964م بدعوة من شيخ الأزهر حيث قدم للمعرفة الإسلامية المقارنة زاداً من المعرفة والتعريف بمذهب أهل البيت باستخدام المنطق العقلي القائم على الاستدلال المستضيء بالنصوص فجمع بين رحلة العقل ووثاقة النقل مما دعا العلماء المحاورين أن يقدروا فكره وأجوبته حق التقدير(2).

وتكشف رسالة شخصية احتفظ بها أرسلها السيد محمد تقي الحكيم إلى والده السيد سعيد الحكيم كيف استقبله أعضاء المؤتمر بالترحاب الشديد ناقلاً حديث رئيس المؤتمر: باكتمال نقص المؤتمر به، ثم معرفاً بأنه من علماء الشيعة في النجف وبه اكتملت وحدة الإسلام في هذا المؤتمر (3).

ص: 25


1- مكتبة السيد محمد تقي الحكيم، الملف الوثائقي.
2- السيد محمد تقي الحكيم، التشيع في ندوات القاهرة مقدمة الدكتور الدمرداش زكي العقالي، ص23.
3- مكتبة السيد محمد تقي الحكيم، الملف الوثائقي.

ويبدو جلياً تقدير مجمع البحوث الإسلامية واحترامه لرأيه من خلال رسالة تلقاها منه جاء فيها: ((إلحاقا بكتابنا المؤرخ 29/8/1967م بشأن التعرف على رأي سيادتكم في الحكم الشرعي لأنواع التأمين نرجو التفضل بموافاتنا بما استقر عليه اجتهادكم حيث يعلق مؤتمر البحوث الإسلامية بالقاهرة أهمية قصوى على رأيكم في هذا الشأن لما فيه من منفعة للإسلام والمسلمين)) (1). 

ص: 26


1- المصدر نفسه.

ثالثا: نتاجه الفكري:

اشارة

ومن المناسب إجمال نشاطه المعرفي ونتاجه الفكري من خلال مؤلفاته كما في الجداول الآتية:

جدول رقم (1) مؤلفاته المطبوعة

ت = اسم الكتاب = الموضوع = مكان النشر = تاريخ النشر = الملاحظات

1 = مالك الأشتر = تاريخ = مطبعة الغري، النجف = 1946 = طبع طبعة ثانية عام 2000م وأضيف إلى العنوان حياته وجهاده

2 = شاعر العقيدة السيد الحميري = أدب، تاريخ = دار الحديث، بغداد = 1949 = طبع طبعة ثانية عام 2000م

3 = كلية الفقه في النجف الأشرف = ثقافي = مطبعة النجف، النجف = 1960كتبه السيد تحت اسم بعض المدرسين

4 = نظام كلية الفقه في النجف الأشرف = ثقافي = مطبعة الآداب = بلا

5 = الأصول العامة للفقه المقارن = أصول = دار الأندلس، بيروت1963 = طبع عدة طبعات في بيروت وإيران

6 = الزواج المؤقت ودوره في حل مشكلات الجنس = اجتماعي ديني = دار الأندلس، بيروت = = 1963طبع عدة طبعات في بيروت وإيران

ص: 27

7 = قصة التقريب بين المذاهب = اجتماعي ديني = مكتبة المنهل، الكويت = 1978 = طبع عدة طبعات في الكويت وبيروت وإيران

8 = مناهج البحث في التأريخ = تاريخ = مكتبة المنهل، الكويت = 1978 = طبع عدة طبعات في الكويت وبيروت وإيران

9 = سنة أهل البيت = أصول عقائد = مكتبة المنهل، الكويت = 1978 = طبع عدة طبعات في الكويت وإيران، مستل من كتاب الأصول العامة للفقه المقارن

10 = قصة التقريب بين المذاهب وبحوث أخرى = عقائد، اجتماع = مكتبة النجاح، طهران = 1982

11 = السنة النبوية وسنة أهل البيت = أصول = طهران،.. = بلا = مستل من الأصول العامة للفقه المقارن

12 = مشكلة الأدب النجفي = أدب = بلا = بلا = نشر ضمن كتاب الغابة العذراء لحامد المؤمن

13 = تاريخ التشريع الإسلامي = تاريخ = معهد الدراسات العربية الإسلامية، لندن = 1998 = سقط من العنوان عبارة حتى استشهاد الإمام علي

14 = التشيع في ندوات القاهرة = عقائد = دار التجديد، بيروت = 1999

ص: 28

15 = من تجارب الأصوليين في المجالات اللغوية = أصول، لغة = مؤسسة الألفين، الكويت = 2000

16 = عبد الله بن عباس، حياته وسيرته = تاريخ = دار الهادي، بيروت = 2001 = طبع في إيران مطبعة ستاره عام 2001م، في جزأين

17 = القواعد العامة في الفقه المقارن = فقه = المؤسسة العلمية، بيروت = 2001

18 = مع الإمام علي في منهجيته ونهجه = إسلاميات = المؤسسة العلمية، بيروت = 2001

19 = الإسلام وحرية التملك والمفارقات الناشئة من هذه الحرية = اقتصاد = المؤسسة العلمية، بيروت = 2001

ص: 29

جدول رقم (2) مؤلفاته المخطوطة

ت = اسم الكتاب = الموضوع = تاريخ التأليف = الملاحظات

1 = زرارة بن أعين = تاريخ = بلا(1) = غير كامل

2 = زين الشباب أبو فراس الحمداني = تاريخ = بلا(2) = مفقود

3 = على هامش الكفاية = أصول فقه = بلا = جاء في المقدمة أنه درّسها لبعض طلابه، غير كامل

4 = ديوان شعري = أدب = 1944 = يحوي على 20 قصيدة اغلبها إخوانيات

5 = تقريرات دروس السيد الخوئي في الأصول = أصول فقه = 1956 = غير كامل

6 = انطباعاتي عن محاضرات الشيخ حسين الحلي في الأصول = أصول فقه = 1957 = غير كامل

7 = تعليقه على كتاب مستمسك العروة الوثقى للسيد محسن الحكيم = فقه = 1968 = غير كامل

ص: 30


1- يمكن إرجاع زمن التأليف إلى عام 1944.
2- يمكن إرجاع زمن التأليف إلى عام 1945.

رابعاً: الفصل الختامي من حياته

في مساء يوم الاثنين 2/5/1983م رن جرس باب دار (السيد) بشكل متتابع، والحديث لولده السيد عبد الهادي ((وما أن فتحتها تفاجأت بقوات الأمن شاهرة أسلحتها تدفعني وتنحيني لتقتحم البيت بقوة حيث صعد بعض أفرادها إلى السطح ليحتله وانتشر بعضها الآخر في جوانب الطابق الثاني وغرفه، وفي كل إرجاء البيت وقد احكموا سيطرتهم على الدار من الخارج والداخل ومن بيوت الجيران، تقدم قائد المجموعة شاهراً مسدسه ومعه جلاوزته إلى (السيد) واليَّ طالباً منّا الخروج معهم فوراً على الحالة التي كنّا عليها، فتدخلت مستمهلاً إياهم بعض الوقت لارتداء ملابس الخروج فرفضوا واستمهلتهم مرة أخرى أن نأخذ بعض ما نحتاجه فرفضوا، بل رفضوا حتى أن ألبس حذاء الخروج فخرجت بحذاء البيت، واقتادونا إلى الخارج تحت تهديد السلاح ليعلن قائد المجموعة عبر جهاز اللاسلكي بأن العملية (رقم واحد) قد تمت بنجاح، واركبونا سيارة معدة مسبقاً واقتادونا إلى مديرية أمن النجف فكنا أول المعتقلين الواصلين

ص: 31

وبعدها بدأ أفراد الأسرة بالوصول زرافات ووحداناً حتى إذا اكتمل الجمع بعشراته العديدة قيدونا بالسلاسل ولما لم يبق من السلاسل إلّا القليل وعددنا الباقي كثير قرروا أن يقيدوا كل اثنين منّا بسلسلة واحدة، فكان أن قيدوا يدي اليسرى ويد سيدي الوالد اليمنى حيث أصعدونا بسيارات الأمن متوجهين بنا إلى مديرية الأمن العامة في بغداد)).

أُفرج عن السيد محمد تقي الحكيم بتاريخ 18/5/1983م وأربعة من كبار رجالات الأسرة حيث فرضت عليهم الإقامة الجبرية، وترك خلفه في السجن أحد عشر ممن يمسونه بشكل مباشر بصلة قريبة يعانون الأمرين (1).

وفي مساء يوم 3/3/1985م، حدث ما لم يكن بالحسبان، إذ توقفت ثلاث سيارات تابعة لأجهزة الأمن أمام بيت (السيد) وترجل منها ضابط برتبة (رائد)، وطلب مقابلة (السيد) على الفور وأخبره بضرورة اصطحابه إلى مديرية أمن النجف حيث ينتظره هناك مدير أمن النجف، وبعد برهة وجيزة من وصوله قدم له فنجان قهوة شربه (السيد) وامتنع السيد محمد رضا نجل سماحة الإمام السيد محسن الحكيم من الشرب بحجة معينة، أخبرهم مدير الأمن بأنه تم إعدام (عشرة أشخاص) من الأسرة ردّاً على تزايد نشاط السيد محمد باقر الحكيم

ص: 32


1- وهم ولده السيد عبد الهادي، وأخواه السيد محمد حسين والسيد علي، وصهره السيد محمد رضا وأولاد أخويه، السيد محمد، السيد عبد الصاحب، السيد عزالدين، السيد أياد، السيد حسين، وابن بنته السيد جواد، وابن أخته السيد رضا.

السياسي وأن وجبات أخرى في طريقها إلى الإعدام في حالة رفضه التخلي عن هذا النشاط.

أثرت هذه الحادثة سلبياً على صحة (السيد) فكان بعدها قليل الأكل، قليل النوم، قليل الكلام متخذاً من الكتاب العزيز سلوة وتصبراً حيث كان يختمه كل ثلاثة أيام، ومن القراءة صحبة وصداقة، ولوحظ عليه تدهور في حالته الصحية بشكل عام.

وبتزايد الضغوط الخارجية قدمت في أواخر عام 1986م لجنة أمنية من مديرية أمن بغداد لزيارة المعتقلين من الأسرة وطلبت من المرضى تسجيل أسمائهم، وبعد شهرين وتحديداً في 19/2/1987م(1) أُفرج عن خمسة منهم ومن بين المفرج عنهم(2) أخوه السيد علي السيد سعيد الحكيم، وفي 1/3/1987م سمحت السلطات الأمنية بإجراء مواجهة للمسجونين من الأسرة، ووسط الفرحة والدموع، وشوق اللقاء وحرارته تم لم شمل الأسرة مرة أخرى ولكن هذه المرة في سجن أبي غريب وتحت مراقبة السجانين وأعينهم التقى

ص: 33


1- (مقابلة شخصية) مع السيد احمد جاسم الحكيم، من المطلق سراحهم من أفراد الأسرة، النجف الأشرف، بتاريخ، 22/4/2008م.
2- المفرج عنهم هم السيد علي السيد سعيد الحكيم، السيد محمد حسين السيد محمد صادق الحكيم، السيد احمد السيد جاسم الحكيم، السيد حسون السيد جاسم الحكيم، السيد فاضل السيد شاكر الحكيم.

السيد محمد تقي الحكيم بالأسرة، وجلس مليّاً مع ولده السيد عبد الهادي والمقربين منه، واطلع مفصلاً على حياتهم وما كانوا يعانون من سجانيهم.

استمرت المواجهة الأولى مدة ساعتين فقط، وتوادعوا على أمل اللقاء في الشهر القادم.

وقد لاحظ السجناء من الأسرة تدهوراً واضحاً في صحة (السيد)، من خلال بعض الصعوبات في النطق، وتباطؤ في تحريك عضلاته الإرادية.

وفي سابقة لم نعهدها من النظام تم إطلاق سراح المسجونين من الأسرة دفعة واحدة في 6/6/1991م (1).

وفي وسط الفرحة والذهول تخرج دموع الفرح لتلامس الخدود التي قيحتها الشمس وأذابتها سياط الجلادين، فرحة أمٍّ ادخرت ابنها لأيام الشدة، فادّخر لها ابنها ثماني سنين من العناء والسهر والهموم، وفرحة زوجة ما كانت تنام إلّا اللمم ووجل طفل من هذا الزائر (الغريب) الذي قيل له أنه أبوك وكان يتمنى أن يسمع هذه الكلمة منه.

وفي مقابل هذه المشاعر كانت هناك مشاعر أخرى مغايرة من زوجات مفجوعات .. مشاعر اليأس وفقدان الأمل وتعليل النفس طيلة هذه المدة علَّ الذي قيل غير صحيح ولكنهن اكتشفن الحقيقة الآن وما أمَّرها من حقيقة حيث

ص: 34


1- مكتبة السيد محمد تقي الحكيم، الملف الوثائقي.

ذهب من ذهب من الأسرة بأجمعهم إلى المعتقل وعادوا أثلاثاً بعد فقدان ثلثهم بالإعدام، ثمانية عشر شهيداً وثمانية أمهات ثكلى واثنتا عشرة زوجة رملت وسبعة وأربعون طفلاً تيتم (1) حصيلة ثمان سنين عجاف في حياة الأسرة، ولكنها أعطت ثمارها بعد حين بإذن ربها.

وفي 6/11/1996م وصل السيد إلى لندن للعلاج وغادرها إلى العراق بتاريخ 26/8/1997م، وفي 27/7/2001م زار السيدة زينب وعاد إلى العراق في 9/10/2001م.

وبتاريخ 23/4/2002م شعر السيد بحمى تنتابه عالجها طبيبه الخاص لكنها ظلت ملازمة له، اتصل (المحقق) بالدكتور عبد الهادي الخليلي وشرح له ما أهمّه وأهمّ (المحقق) فطلب إجراء بعض التحاليل التي يجدها ضرورية وإرسالها إليه.

وفي يوم الإثنين 29/4/2002م كنّا على موعد مع طبيبه الخاص في المستشفى لإجراء الفحوصات المطلوبة و(السيد) بكامل وعيه يسمع ويرى حيث انتهينا من فحص (الإيكو) ومن بعده أجرينا تخطيطاً للقلب، وكنا متجهين إلى الفحص الشعاعي للصدر حينها بان تغير مفاجئ على صحته فتم نقله على عجل

ص: 35


1- (مقابلة شخصية) مع عوائل أُسر المعدومين، 22/4/2008م.

إلى غرفة الطوارئ وكانت الساعة تشير إلى التاسعة والربع صباحاً عندها ألفينا روحه صاعدة شوقاً إلى لقاء الله.

انتشر الخبر كالبرق فجاءت الجموع زرافات ووحداناً إلى المستشفى، وكان من الذين حضروا ضابط من مديرية أمن النجف هكذا عرف نفسه فاختلى بي على انفراد مبدياً تعازيه ومحذراً من تكرار ما حدث عند تشييع السيد يوسف الحكيم (1).

نقل الجثمان الطاهر إلى المغتسل في الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم بمرافقة سيارة تابعة لمديرية الأمن، حيث كانت في الانتظار جموع غفيرة من الناس يرتسم على وجوهها الألم والحسرة، وبعد إكمال التغسيل من قبل أفراد الأسرة حمل الجثمان على الأكتاف في تشييع مهيب إلى مسجد الهندي حيث تم الإعلان عن عزم الأسرة على إقامة مراسيم التشييع في اليوم التالي الذي يصادف وفاة الإمام الرضا (علیه السلام) في 17/صفر.

وفي عصر ذلك اليوم انطلق المشيعون حاملين الجثمان الشريف متجهين صوب كربلاء في موكب جنائزي حزين ضم عشرات السيارات، وكانت تنضم إليهم وعلى طول الطريق قوافل أخرى، ولوحظ عدد من سيارات الأمن كانت تراقب الموكب وانسحبت فور وصولنا منتصف الطريق، لتصحبنا سيارات أمن

ص: 36


1- للتفاصيل أنظر د. صاحب الحكيم، المصدر السابق، ج4 ص2719.

أخرى تابعة إلى مديرية أمن كربلاء، وفي كربلاء جرى تشييع حافل قل نظيره في مثل هذه المناسبات.

وبعد أداء مراسيم الزيارة عاد الركب إلى النجف ووُضِع الجثمان الزاكي في مسجد الهندي.

وفي بواكير اليوم التالي الثلاثاء 30/4/2002م بدأ محبوه ومريدوه وطلابه بالزحف إلى مسجد الهندي لإلقاء نظرة الوداع عليه، ولاحظ المشيعون مدى الإستعدادات الأمنية من قبل الدولة والانتشار الواسع للجيش داخل المناطق المحيطة بالمسجد وقطع الطرق والمداخل الفرعية المؤدية إليه باستثناء طريق واحد، واتخاذ الشرطة والأمن أماكن لهم على سطوح المنازل المحيطة بطريق سير الموكب وكان لهم حضور مكثف لهم في وسط المشيعين، كما حضر محافظ النجف ومدير أمنها ليشرفا على مراسم التشييع.

عقدت الأسرة اجتماعا قبل يوم من التشييع للتخطيط له فاتفقنا بان يتولى حمل الجثمان طلبة العلوم الدينية من الأسرة حصراً، على أن يتولى آخرون إنشاء طوق يحيط بالجثمان لا يسمح لأي أحد اختراقه.

اضطررنا تحت ضغط السلطة وبإيعاز من محافظها إلى تقديم التشييع قبل وقته المحدد بعد امتلاء المسجد والمناطق المحيطة به بالمشيعين، شقّ الجثمان الشريف طريقه وسط الزحام حيث عبرت النجف عن مشاعرها اتجاه ابنها البار

ص: 37

بإغلاق حوانيتها وتعطيل الدراسة في مساجدها وخفوا سراعاً لتوديع رمزهم العلمي وصرحهم التجديدي في مسيرة ضمت آلاف المشيعين(1) وسط الدموع والعويل ويعلم الجميع كيف تغلبنا على مشاكل عديدة اعترضتنا وسط الطريق إلى الحرم حيث كان يقترب رجال الأمن من الجثمان لضمان عدم حدوث طارئ يقوض الأمن وإصرار المحيطين به والحاملين له بعدم السماح لهم، حتى أن بعضهم جاهر بهويته لرفع هذا الإلتباس ووسط مشي وئيد كانت تتخلله محطات توقف إجبارية أقامتها الزحمة قطع النعش رحلة المئة متر الواصلة بين الحرم والمسجد بساعتين فوصل عند بوابات الحرم في الساعة الحادية عشرة صباحاً، ووسط الشعور بالفجيعة والحماس البالغ أدخل الجثمان الشريف إلى الصحن الشريف لأداء مراسيم الزيارة والصلاة حيث امتلأت أروقة الصحن وباحاته بالمشيعين يتقدمهم المراجع العظام وطلبة العلوم الدينية حيث أمَّ المصلين المرجع الديني الكبير السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله) ليعود المشيعون بالجثمان إلى مبدأ منطلقه ثم إلى معاده حيث مثواه الأخير في مقبرة الأسرة الملاصقة لباحة مسجد الهندي في يوم حزين لم تشهد له النجف الأشرف مثيلاً منذ عقود، ومن الجدير بالملاحظة أن رجال الأمن لم يفارقوا الجسد الطاهر حتى أسرج عليه اللبن وأهيل التراب، ولثلاثة أيام حافلة بالمعزين من مختلف إنحاء العراق

ص: 38


1- د. السيد محمد بحر العلوم، السيد محمد تقي الحكيم، نافذة النجف على العالم، ((الصباح)) (جريدة)، 24/6/2004م، العدد 292.

أقامت الأسرة فاتحتها وأعلنت اكتفاءها بها منعاً لإقامة مثيلاتها، ومع ذلك فقد أقيمت فواتح مماثلة في محافظات الجنوب والوسط والشمال، في بغداد، والسماوة، والناصرية، والبصرة، والعمارة، والديوانية، وكركوك، وحيثما يكون مريدوه وتلامذته المنتشرون في كافة إنحاء العراق وخارجه في سورية، ولبنان، والأردن، والإمارات المتحدة، والسعودية، والبحرين، وعُمان، وبريطانيا، والدانمارك، والسويد، والنروج، وفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية، وأستراليا، وكندا وغيرها من بلدان العالم(1) ونعته المراجع العظام والشخصيات البارزة والمؤسسات الثقافية(2) على امتداد ما أثمرته أيادي تلامذته في نشر الفكر وبث الوعي الديني بين المجتمعات المختلفة، ورثاه جملة من الشعراء والأدباء(3) وأرّخ لوفاته جملة أخرى منهم(4)، فسلام عليه يوم ولد ويوم التحاقه بالرفيق الأعلى ويوم يبعث حيّاً.

ص: 39


1- المعلومات مستقاة من الملف الشخصي للسيد محمد تقي الحكيم.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه.

مصادر ومراجع الترجمة

أولاً: الوثائق:

1. مكتبة السيد محمد تقي الحكيم، الملفات الوثائقية.

ثانيا: المخطوطات:

1. الشيخ جعفر محبوبة، ماضي النجف وحاضرها، النجف الاشرف، مكتبة عبد الحسين محبوبة.

2. السيد محمد تقي الحكيم، آل الحكيم (بحث)، مكتبة السيد محمد تقي الحكيم.

3. السيد محمد تقي الحكيم، زرارة بن أعين، مكتبة السيد محمد تقي الحكيم.

ثالثا: المصادر والمراجع العربية

1. الشيخ عباس القمي، الكنى والألقاب، (صيدا: مطبعة العرفان، 1929م).

2. جمعية منتدى النشر، منتدى النشر بعد 16 عام، (د.م، د.ط، 1951م).

3. الشيخ محمد مهدي الآصفي، الشيخ محمد رضا المظفر وتطور الحركة الإصلاحية في النجف، (قم: مطبعة التوحيد، 1998م).

4. السيد عبد الهادي الحكيم، حوزة النجف الأشرف، النظام ومشاريع الإصلاح، (بغداد: دار العدالة، 2007م).

ص: 40

5. علي الخاقاني، شعراء الغري، (النجف الأشرف: المطبعة الحيدرية، 1956م).

6. السيد محمد تقي الحكيم، مالك الأشتر، حياته وجهاده، (بيروت: المؤسسة الدولية، 2001م).

7. المجمع الثقافي الديني، أسبوع الإمام، (النجف الأشرف: مطبعة الراعي، د.ت).

8. جمعية منتدى النشر، حفلة وضع الحجر الأساسي لكلية منتدى النشر، (النجف الأشرف: المطبعة الحيدرية، 1953م).

9. غالب الناهي، دراسات أدبية، (النجف الأشرف: مطبعة دار النشر والتأليف، 1954م).

10. السيد عبد الهادي محسن الحكيم، العقد الفضولي، (النجف الأشرف: مطبعة الآداب، 1970م).

11. الشيخ علي الشرقي، الأحلام، (بغداد: شركة الطبع والنشر، 1963م).

12. سالم الآلوسي، المجمع العلمي في خمسين عام، (بغداد: مطبعة المجمع، 1970م).

13. السيد محمد تقي الحكيم، التشيع في ندوات القاهرة، (بيروت: دار التجديد، 1999م).

ص: 41

14. الشيخ جعفر محبوبة، ماضي النجف وحاضرها، (النجف الأشرف: الآداب، 1958م).

15. الدكتور صاحب الحكيم، موسوعة قتل واضطهاد مراجع الدين (1968م -2003م)، (بغداد: منظمة حقوق الإنسان، 2003م).

رابعاً: المقالات والبحوث

1. محمد جواد الطريحي، تطور دراسات الحوزة العلمية في النجف الأشرف، من كتاب السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية، (لندن: معهد الدراسات العربية والإسلامية، 2003م).

2. السيد محمد باقر الحكيم، العلامة الحكيم ومركز الإصلاح في الحوزة العلمية في النجف الأشرف من كتاب السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية.

3. السيد محمد بحر العلوم، السيد محمد تقي الحكيم نافذة النجف ذات الأبعاد الفكرية على العالم الإسلامي، من كتاب السيد محمد تقي الحكيم وحركته الإصلاحية في النجف.

ص: 42

4. السيد محمد بحر العلوم، السيد محمد تقي الحكيم نافذة النجف على العالم، جريدة الصباح، العدد 392، تاريخ (24/ 6/ 2004م).

خامسا: المقابلات الشخصية

1. السيد محمد تقي الحكيم، حديث عائلي.

2. حديث شخصي بين السيد محمد تقي الحكيم والدكتور صالح احمد العلي بتاريخ (16 / 3 / 1980م)، بحضور (المحقق).

3. مقابلة (المحقق) لبعض اسر المعدومين بتاريخ (22 / 4 / 2008م).

4. مقابلة مع السيد احمد جاسم الحكيم (من المطلق سراحهم)، بتاريخ (4/ 8/ 2008م).

ص: 43

دراسة في كتاب مالك الأشتر

ص: 44

دراسة في كتاب مالك الأشتر:

أمّا بعد فقد بعثت إليكم عبداً من عبيد الله لا ينام أيام الخوف ولا يتكل عن الأعادي ساعات الروع، أشد على الكفار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج... (1).

بهذا النص المعبر قدَّم الإمام (علیه السلام) مالكاً إلى أهل مصر وقدَّمه (السيد) إلى قرّاءه، وكان بينهما كتاب قدّم له (الشيخ المظفر) بقوله:

((وأنا واثق أن نشره فتح جديد في تصوير بطل من أبطال الإسلام وسيف من سيوف الله كان أكثر ما يعرف عنه الناس أنه شجاع مدرب وحواري أمير المؤمنين... حقّاً أقدّم لكم شخص بطل الإسلام (مالك) ولكن في كتاب فإن هذا التصوير الذي استعمله الكتاب ولا أقول الكاتب فأخشى أن يجرفني ذكره إلى الاستمرار في حديثه يجعلك تتمثل هذا البطل المنزه كأنك عشت في عصره أو كأنه عاش في عصرك)) (2).

ص: 45


1- الإمام علي، نهج البلاغة، ص418.
2- محمد تقي الحكيم، مالك الاشتر – المقدمة – ص13.

يأتي اختيار (السيد) لهذا العنوان تتويجاً لما ذكره (الشيخ المظفر) من أن لجنة المجمع الديني لمنتدى النشر (1) كان همها الأول تهيئة اعضائها للتأليف وإلقاء المحاضرات النافعة ومبادلة الرأي فيما يجب العمل له في هذا السبيل، وقد فكرت بالأخير أن تعد مشروعاً ابتدائياً باكورة لأعمالها التي تنويها وهو إعداد سلسلة مؤلفات صغيرة نافعة فيها فائدة للخاصة وتثقيف للعامة وقد ظهر أول هذه السلسلة كتاب (الشيعة والإمامة) .... وهذا بين أيدينا الكتاب الثاني من السلسلة..(2).

وتلتقي هذه الدواعي وتتآلف بما ذكره (السيد) في خاتمة هذا الكتاب من أن تأليف هذه الفصول التي كان الدافع الأول لتدوينها هو الإستجابة لدعوة اللجنة (لجنة المجمع الديني) التي أخذت على عاتقها أن تقوم بتجديد ذكرى أبطال الإسلام والغرض من تجديدها هو إرسال سيرتهم بين الناس بما تحمل من أخلاق وقد رأت أن مالكاً من أعظم الشخصيات الإسلامية وأن العصر يقتضي دراسة أمثاله لتكون سيرتهم من المثل العليا للمجتمع، وفي عقيدتي أن في دراسة أمثاله ثروة كبيرة للمجتمع الحاضر الذي يحتاج - أكثر ما يحتاج - إلى

ص: 46


1- لجنة المجمع الديني، لجنة اسسها المجمع الثقافي لمنتدى النشر في عام 1944ه- للتفاصيل أنظر محمد تقي الحكيم، اسبوع الإمام (النجف، الراعي، د.ت).
2- المصدر نفسه، ص12.

أمثاله من الرجال المخلصين الذين توفرت فيهم عناصر الإيمان بالمبدأ والإخلاص له والتضحية في سبيله(1).

ألقى السيد بعض الأضواء على المصاعب التي كانت ماثلة أمامه ومعترضة سبيله وهو يجمع مادته ويصنفها وتتمحور بشكل رئيس حول إغفال التأريخ لبعض النواحي الحيوية التي تتعلق بتأريخ (مالك) فقد أغفل ترجمة أبيه فلم يتحدث عنه بحديث مفصل يمكنه الإطمئنان إليه وأغفل تعيين زمن ولادته وكيفية نشأته وتربيته بالقول:

((مع أننا- ونحن نريد أن نتعرف إلى دراسته التحليلية - أحوج ما نكون إليها وأنتم تعلمون بأن الدراسة التحليلية التي نريد أن نستعين عليها - بالسيكولوجية الفردية - يتوقف جلّها على معرفة الأدوار التي حشدت عقله الباطن بالصور التي كان لها كل الأثر في توجيه غرائزه وميوله، وهذه الأدوار التي تمرّ عليه وهو طفل وهي التي تكيفها البيئة والتربية وفيها تظهر تأثيرات الوراثة بشكل واضح فالتأريخ أغفل هذه الأمور وأغفل سنة دخوله في الإسلام وتفصيل حياته قبل أن يكون سياسياً يتدخل في شؤون السلطان وقبل أن يشارك في تدبير شؤون المسلمين))(2).

ص: 47


1- محمد تقي الحكيم، مالك الاشتر، ص120.
2- المصدر نفسه، ص16-17.

ولأجل ذلك كله عدّ أحد الباحثين تصدي (السيد) في الزمن المبكر من حياته الثقافية للكتابة عن (مالك) ضرباً من المغامرة الفكرية التي لا يقتحمها إلّا من هو على درجة عالية من الثقة بالنفس والاعتزاز بثقافته وقدرته على الخروج من الدراسة رغم صعوباتها الجمّة وقلة المصادر بموقف موضوعي سليم (1).

يتوافق زمن (تأليف) هذا الكتاب مع (زمن) نشره حيث لم يذكره (السيد) في تقديمه لكتاب (أسبوع الإمام) عام 1945م، وذكر كتابيه الأولين (زرارة بن أعين) و (أبو فراس الحمداني) حيث قال:

((وقد قامت لجنة المجمع بتأليف كتب علمية نجز منها...ولكاتب هذه السطور زرارة بن أعين، وأبو فراس الحمداني)) (2).

طبع الكتاب طبعتين أولهما في مطبعة الغري في النجف الأشرف عام 1946م، والثانية في (المؤسسة الدولية) في (بيروت) عام 2001م، حيث ورد سهواً أنها الأولى وأضيف فيها إلى العنوان عبارة (حياته وجهاده) (3).

شغل الكتاب في طبعته الأولى 144 صفحة من الحجم الصغير تصدرته مقدمة عن الكاتب والكتاب كتبها الشيخ محمد رضا المظفر، وشغل في طبعته

ص: 48


1- عبد المحسن الحكيم، مالك الاشتر، من كتاب للمرحوم العلاّمة السيد محمد تقي الحكيم، "الاصالة" (مجلة)، آب 2005م، ص20.
2- محمد تقي الحكيم، اسبوع الإمام، -المقدمة -، ص4.
3- محمد تقي الحكيم، مالك الاشتر، حياته وجهاده، (الغلاف).

الثانية 123 صفحة من الحجم المتوسط تصدرته مقدمة كتبها نجله الدكتور السيد عبد الهادي الحكيم.

وكان لهذا الكتاب فور صدور طبعته الأولى أصداء واسعة وترحيب بالغ عبرت عنها الصحافة الأدبية في ذلك الوقت (1) وكذلك كبار الشخصيات الأدبية والفكرية الذين نوهوا بقيمة الكتاب التأريخية وأسلوب مؤلفه الجديد في تناول سيرة (الأشتر) وجوانب شخصيته ودوره الفاعل في أحداث عصره (2).

ولعل من المفيد جداً أن نستشهد برسالة بعثها إليه محمد سعيد المانع أحد الأعضاء المؤسسين للمجمع (3) بتاريخ 4/10/1365ه- جاء فيها:

((أيها الأخ التقي، كنت أهتز طرباً كسائر إخواني مؤسسي المجمع بنشوة تحقيق آمالنا المنشودة كلما ألقيت علينا إحدى محاضراتك عن مالك أمّا اليوم فقد تم الكتاب -ولله الحمد -وتناولته أيدي العالم العربي بكل حفاوة وتقدير شاكرة لأخينا الفاضل إحياء شخصية هذا البطل الإسلامي.... وخطر لي أن أسبر تقاريض علمائنا الأعلام له وأطالع تقاريض الصحف فيه التي تمثل الرأي العام في القطرين العراقي والمصري، وما فرغت من مطالعة هذه وقراءة تلك حتى وجدتني أنظر إلى (مالك) وإلى السيد الحكيم بغير العين التي كنت أنظرهما من

ص: 49


1- أنظر، "البيان"، (مجلة)، آب 1946م، ص23.
2- عبد المحسن الحكيم، مالك الاشتر، ص20.
3- أنظر، منتدى النشر، نظام منتدى النشر، (النجف: مطبعة النجف، 1950م).

قبل وتناولت هذه المرة كتيبك الصغير الحجم الغزير المادة وكأني لم أطلع عليه مرات عديدة وكأنني أشاهده لأول مرة لأن آراء هؤلاء الأماثل من العلماء والأدباء وملاحظاتهم قد زادتني خبرة به، أجل تناولته ولا أكذبك يعلم ربي، أني ما أتممت قراءة فصل واحد من فصوله حتى توجهت بكلي إلى الحق الذي جاهد في سبيله مالك وانهمرت عيناي بدموع حارة لا أدري هل بعثها الفرح أم غيره طالباً أن يكثر في شباب عصرنا أمثالك... فقد رفعت والله رؤوسنا عالياً وحققت بمساعيك للمجمع أكثر ما كان يصبو إليه من أهداف سامية..))(1).

إكتفى السيد محمد تقي الحكيم بذكر المصادر التي اعتمدها في هذا الكتاب في خاتمته ولم يستعمل الهوامش(2) في توثيق معلومات المتن إلّا قليلاً(3)، ويلاحظ

ص: 50


1- ((الملف الشخصي)) للسيد محمد تقي الحكيم.
2- عرفت الهوامش بانها وعاء تصب فيه المعرفة الزائدة عن قدرة المتن على استيعابها وهو الإطار الذي يفصل فيه ما قد يغمض في المتن كما انه مرصد لمصادر البحث ومراجعه، وهي تمثل ادلة يضعها المؤلف ليبين بها صدق ما يقدم من معلومات منسوبة الى مصادرها، وبذا تكون قاعدة الصفحة او جذورها في ان تكشف للقارئ عن عمق المتن وغناه، للتفاصيل أنظر، عادل حسن غنيم وآخر، في منهج البحث التأريخي، (الاسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1998م)، ص82.
3- أنظر على سبيل المثال، 41، 99، 102.

(المحقق) بكل تواضع أن تعامل السيد محمد تقي الحكيم مع هوامش(1) مؤلفاته التوثيقية في طول مؤلفاته التأريخية مرّ بمراحل اكتملت في كتابه عبد الله بن عباس، حيث اتبع طريقة البحث الأكاديمي المتبع آنذاك في تعامله مع الهوامش وأول هذه المراحل هو استعماله للهامش قليلاً كما مرّ في تعامله مع هوامش مخطوطته (زرارة بن أعين) والتي يرجع زمن تأليفها إلى عام 1944م، وكذا في مؤلفه (مالك الأشتر) والذي طبع في عام 1946م، مع إضافة ذكر لقائمة المصادر والمراجع في خاتمة البحث(2)، ويمكن تمييز المرحلة الثانية من مراحل تعامله مع الهوامش في كتابه (شاعر العقيدة السيد الحميري) حيث قال:

((ويرجو مؤلفه أن ينال الجميع شرف ملاحظات قرّائه الأعزاء وتيسيراً لحضراتهم نقدم هذا الثبت من المصادر التي أخذ عنها كاتب الرسالة مادته التأريخية الأولية، ليتسنى لهم التثبت بأنفسهم منها مسجلين على أنفسنا أننا لم نعد ما جاء فيها وإن رجعنا في مقام التثبت إلى أضعافها من المصادر، وقد

ص: 51


1- للتفاصيل حول انواع الهوامش واستخداماتها أنظر، عبد الله فياض، التأريخ فكرة ومنهجا، (بغداد: مطبعة اسعد، 1972م)، ص91-93؛ د. علاء الرهيمي، منهجية البحث، (النجف الاشرف: دار الهلال، 2006م)، ص11-12.
2- أنظر على سبيل المثال، محمد تقي الحكيم، مالك الاشتر، ص122.

حذفنا الهوامش التي تشير إلى أرقام الصفحات رعايةً للإختصار وسنلحقها إن شاء الله فيما بعد إذا وفقنا إلى إعادة طبعته)) (1).

ويلاحظ أن (السيد) في هذا الكتاب كان يشير في بعض الأحايين إلى المصدر والصفحة في المتن (2).

وما دمنا في هذا المقام حيث تعود (بالمحقق) الذاكرة إلى الوراء حينما عهد إليه (سماحته) بمطابقة النصوص الواردة في كتابه عبد الله بن عباس من مصادرها مقدمة لطبعه، الذي ابتدأ بتأليفه في أواسط الأربعينات من القرن الماضي(3) يتذكر (الباحث) جيداً قولته التي تنمّ عن رضاه عن نفسه في تنبهها إلى أهمية إدراج الهوامش في توثيق معلومات المتن ناعياً على الدكتور (طه حسين) وغيره إغفالهم لها(4) موضحاً ما كان يلاقيه من الجهد في التوصل إلى المصدر الذي اعتمدوه فضلاً عن الصفحة التي اعتمدوها في مناقشتهم للرواية التأريخية مورد البحث؛ بغية الدخول معهم في نقاش علمي في مورد الإختلاف.

ولعل من المفيد وضع جدول يبين نماذج من مصادر كتابه:

ص: 52


1- محمد تقي الحكيم، شاعر العقيدة، ص155.
2- المصدر نفسه، ص104، 106.
3- أنظر، "البذرة" (مجلة)، 1948م، ص306.
4- أنظر على سبيل المثال، طه حسين، الفتنة الكبرى -علي وبنوه- (القاهرة: دار المعارف، 1953م).

جدول رقم (11)

نماذج من مصادر كتاب مالك الأشتر

ت = اسم المؤلف = عنوان الكتاب

1 = ابن الاثير = التأريخ الكامل

2 = ابن جرير الطبري = تاريخ الامم والملوك

3 = ابن حجر = الاصابة

4 = ابن ابي الحديد = شرح نهج البلاغة

5 = ابن عبد ربه = العقد الفريد

6 = ابن قتيبة = الإمامة والسياسة

7 = ابن قتيبة = عيون الأخبار

8 = أبو الفداء = التأريخ المختصر

9 = احمد بن داوود = الأخبار الطوال

10 = توفيق الفكيكي = الراعي والرعية

11 = عباس القمي = سفينة البحار

ص: 53

12 = عباس محمود العقاد = عبقرية الإمام

13 = عبد الله السبيتي = أبو ذر

14 = عبد الله المامقاني = تنقيح المقال

15 = لجنة المجمع الثقافي = اسبوع الإمام

16 = محسن الأمين = اعيان الشيعة جزء3

17 = المسعودي = مروج الذهب

18 = نصر بن مزاحم = وقعة صفين

قسَّم (السيد) كتابه إلى قسمين: شغل القسم الأول جل مساحة الكتاب وخصصه لدراسة سيرة (مالك)، والقسم الثاني لدراسة (شخصيته)، وتخللهما فصول حمل كل فصل رقماً(1)، وهي طريقة كانت متبعة منهجياً زمن تأليفه لهذا الكتاب(2) ويلاحظ أن هناك توازنا بين هذه الفصول حيث بلغت اثني عشر فصلاً ويلاحظ أيضاً أن في كلا القسمين حضوراً للمنهج السيكولوجي في دراسته هذه، متناولاً في القسم الأول منه أدق التفاصيل في حياة (صاحبه) منذ طفولته حيث

ص: 54


1- أنظر، محمد تقي الحكيم، مالك الاشتر، ص23، 29، 37.
2- على سبيل المثال لا الحصر أنظر، طه حسين، الفتنة الكبرى، المصدر السابق؛ علي الجارم، فارس بني حمدان، (سلسلة اقرأ، رقم 34، سبتمبر 1945).

حياة البداوة وأساليبها في التربية أساليب ايحائية في الغالب، فهم مثلاً عندما يريدون أن يتعاهدوا في نفسيته غريزة حب الظهور بالنماء يوقعون الرغبة في نفسه بالمسابقة في طراد الخيل أو الرماية على ان أوضاعهم الإجتماعية وحدها كافية في تنمية جميع الغرائز التي يمتاز بها العربي... وبهذه البيئة وهذه التربية يتأثر العقل الباطن ويمتلئ بالصور والأحاسيس التي تسيطر على ميوله وغرائزه فتوجهها كيفما تريد(1).

أمّا في القسم الثاني من هذا الكتاب والمخصص لدراسة شخصية (مالك) فقد حاول في بدايته بيان غموض كلمة (الشخصية) مستعيناً بعلمي (الفلسفة) و(المنطق) في تحديد مفهومها فهي كسائر ألفاظ العلوم التي فيها شيء من الغموض ولا تحكي عن مركب خارجي يتعذر على العالم تعريفها (بالحد التام)، وقديماً قالت الفلسفة: إن (الحدود التامة) لا يمكن ان تُدرَك لان الفصل- وهو الجزء المقوّم للماهية- يتعذر على المفن معرفته ولا يعرفه إلّا خالقه، ومن هنا قالوا: إن جميع الحدود الموجودة هي رسوم تامة وإن الفصول التي يمثل بها ليست هي بفصول وإنّما هي أعراض خاصة قريبة من الفصل، وعلى هذا

ص: 55


1- محمد تقي الحكيم، مالك الاشتر، ص20-21.

فالتعاريف التي ذكرها العلماء النفسيون للشخصية ليس هي إلّا (رسوماً ناقصة) لأنها لم تشتمل على (الجنس) كما يعبر أهل المنطق(1).

وفي ضوء هذا التعريف يحاول دراسة شخصية (مالك) وما اكتسبته في العصر الجاهلي الذي عاش فيه حيث كانت الشخصية تقاس بمقياس خاص حيث الشجاعة والكرم وقوة البيان والحكمة، وما اكتسبته في العصر الإسلامي حيث توفرت عناصر الإيمان والإخلاص إضافة إلى سابقتها، وبمجموعهما تكاملت شخصيته (2).

إستعمل السيد (الخيال) (3) أداة استعان في منهجه البحث التأريخي للوصول إلى حقائق وحوادث الماضي. فالخيال لازم للمؤرخ كما هو ضروري للعالم... ولا يمكن للمؤرخ أن يكون مؤرخاً ناضجاً إذا خلا من ملكات خاصة وفي مقدمتها النقد والقدرة على التخيل ومعايشة أحداث الماضي ويكون الخيال غالباً عملية ذهنية تتفاعل مع أدوات البحث التأريخي ووسائله في مهمة شاقة يروم

ص: 56


1- المصدر نفسه، ص104-105.
2- المصدر نفسه، ص106.
3- للتفاصيل عن الخيال العلمي أنظر، جميل النجار، دراسات في فلسفة التاريخ النقدية، ص28.

المؤرخ من ورائها الوصول إلى الحقيقة التأريخية بقدر المستطاع، إلّا أننا نجد إلى جانب ذلك أن (السيد) قد مارسها بصوت مسموع... (1).

وذلك حينما تصور حالة أبي ذر الغفاري (2) بعد نفيه من قبل (عثمان) فيتمثله وهو جالس على وسادته يشكر الله على ما ابتلي به ويشكر الله على صبره على البلاء ثم يتذكر أن ساعة الموت قد قربت فيأمر (زوجته) بأن تعدّ بقايا طعامه لضيوف جدد سيقدمون عليه فتعدّ الطعام ويجلس جلسة المنتظر ثم يأمرها أن تتطلع إلى قارعة الطريق لتنظر هل قدم عليهم الأضياف؟ وتتطلع فلا تجد ثم تتطلع فترى فتبشر الشيخ بذلك فيأمرها أن تدعوهم إليه فيقبلون عليه ويقبل عليهم... ثم يلتمس (السيد) الدلائل من الروايات التأريخية على ما (تصوره) عن حال (أبي ذر) فيقول بعد النص السابق مباشرة:

((ولكن الشيخ يحدثهم بحديث عن النبيّ فيطربون لسماع اسمه ويحنون لعهده الكريم وتطمئن نفوسهم لحديث الشيخ، قال: كنت في جماعة من الصحابة بين يدي صاحب الرسالة فقال: سيموت أحدكم في فلاة وسيشهد الصلاة عليه ودفنه

ص: 57


1- د. جميل موسى النجار، الفكر التاريخي للعلامة السيد محمد تقي الحكيم، ص125.
2- أبو ذر الغفاري (ت 32ه-)، صحابي من أقدم المؤمنين، اشتهر بتقواه وتقشفه، نعى على معاوية الترف والاسراف بمال المسلمين، نفاه الخليفة عثمان الى الربذة فمات هناك، للتفاصيل أنظر، محمد جواد الفقيه، ابو ذر الغفاري، (بيروت: مؤسسة الأعلمي، 1985م)، ص9-54؛ محسن الامين، ابو ذر الغفاري الصحابي المجاهد، (بيروت: دار المرتضى، 2003م)، ص5-83.

جماعة من المؤمنين... ثم يتشهد الشيخ ويتجه إلى القبلة ويلفظ نفسه الأخير...)) (1).

إستخدم (السيد) في كتابه المنهج التحليلي ويتجلى ذلك بوضوح في الفصل الذي عقده للوضع السياسي المتأزم بعد مصرع الخليفة (الثالث) حيث كانت حاضرة الخلافة الإسلامية تعج بالتيارات السياسية وتعدد الزعامات بعد (واقعة الدار) فيستقبل الناس أزمة من أشد الأزمات وأصعبها التي شاهدها الإسلام في تأريخ حياته المقدسة حيث أن الطوائف التي اشتركت في (واقعة الدار) كانت مختلفة في (البيئة) مختلفة في (المزاج) مختلفة في (المكانة الإجتماعية) مختلفة في (انتمائها للأحزاب) مختلفة في (أغراضها وأهدافها) من هذه الحركة ففيها المصري والكوفي والبصري والمدني وفيها السيد وفيها المسود وفيها من كان يخضع لأغراضه الفردية التي لا تمت إلى مبدئه الإسلامي بأبسط الصلات، وفيها من كان يخضع للاستجابة للدوافع الدينية إلى هذه الثورة وفيها فوق ذلك ايدي الزعماء للأحزاب السياسية تكيف الوضع كيفما تريد وان عقليتها مجتمعة عقلية (جمعية) تستجيب بطبعها لأضعف المؤثرات(2).

ومما عقَّد الأمور في نظر المؤلف الذي كان يستنطق واقع الأحداث وطبائعها تعدد التوجهات السياسية بتعدد زعاماتها البارزة والمرشحون للأمر كثيرون، لذا

ص: 58


1- محمد تقي الحكيم، مالك الاشتر، ص42-43.
2- محمد تقي الحكيم، مالك الاشتر، ص45.

فإن التوفيق بين هذه الزعامات بما يملكه كل واحد من قواعد شعبية متفاوتة كثرة وقلة أمر متعذر في ظل الفراغ السياسي بعد مقتل الخليفة لصعوبة الموقف العام وغموضه واحتمالات نشوب صراع مسلح بين هذه التيارات التي غلبت عليها الأهواء (1).

يتألف كتاب (السيد) مالك الأشتر من عدة فصول تكفلت بالتعريف الفكري والسياسي والديني والعلمي في الجاهلية والإسلام وأثر الإسلام في تغيير نمط التفكير والتصور لدى رجالاته الذين تميزوا بالإسهام كل في مستوى ثقافته وانتماءاته الإسلامية في تجديد الحياة العربية بمثل الإسلام الأساسية ومغالبة الجمود العقائدي الجاهلي الموروث، و(مالك الأشتر) جمع بين عمق الإيمان بحق أمير المؤمنين في الإمامة دون غيره من الصحابة والاستبسال البالغ في الحق (2).

ومالك هو ابن الحارث بن عبد يغوث النخعي وينتهي نسبه إلى مذحج الذي عرفت باسمه القبيلة المعروفة، ولد قبل الإسلام بقليل وأدرك زمان النبي (صلی الله علیه و آله) وإن لم يره ويسمع حديثه.

ص: 59


1- عبد المحسن الحكيم، مالك الاشتر، ص21.
2- المصدر نفسه.

ويحقق (السيد) زمن ولادته -بضم بعض الأحاديث بعضها إلى بعض-على وجه التقريب قبل البعثة بعقدين فوقه بسنوات أو دونه سنوات، ويتعرّف (السيد) على تربيته بالعودة إلى طبيعة العصر الجاهلي وأساليب التربية عندهم ولم تكن تربيته بدعاً من التربيات وحياة البادية حياة واحدة ذات لون واحد وصبغة واحدة تكاد لا تتغير ولا تتبدل.

فهو عربي في نسبه عربي في بيئته عربي في تربيته عربي في عاداته وتقاليده ويشب في هذه البيئة ويصادف الإسلام فيدخل فيه ويتأثر بتعاليمه وقد حصل في سبيل الذود عن الإسلام لقب الأشتر والشتر اختلال في العين (1) حدث بضربة جاءته من عدوٍ له في ميادين القتال.

خصص (السيد) الفصل الثاني في تصوير أيام عثمان وموقف (مالك) منها ثم يقرر ان هذه الصورة تظل ناقصة ما لم نعد إلى الوراء لندرس الظروف التي شاهدها الناس في زمن النبيّ والخلفاء وشاهدها (مالك) وهذه الأيام التي انكرها الناس وأنكرها (مالك)، فالعدالة الإجتماعية والمساواة في الحقوق وكتاب الله وسنة نبيه هما الفيصل في الحكم في زمن صاحب الرسالة ثم النص يوم الغدير، فلبّى جماعة وامتنع آخرون وكانت حروب مانعي الزكاة من المسلمين وحروب

ص: 60


1- أنظر، ابن منظور (جمال الدين محمد بن مكرم)، لسان العرب، (بيروت: دار صادر، 1955)، مادة شتر.

الردة، وتنتهي أيام الخليفة الأول فيترك العمل بنظام الإختيار ويأخذ بالنص فينص على ساعده الأيمن عمر بن الخطاب ولم تطل حياة الشيخ في أيامه وإنما طالت بالنسبة إلى إمامه والناس يتصورون أن الخليفة لا يعدل عن (عليٍّ) لقيمته السياسية والعلمية ولكن الناس استقبلوا حكما جديدا لم يألفوه حيث جعلها شورى بين ستة كان من بينهم (عليٌّ) و(عثمان) وهنا يقرر السيد بنظره الثاقب ما مر على طبيعة نظام الحكم الإسلامي من تغيير حيث يقول :

((فهو حكم لم يألفه الناس (فالنبي) (نَصّ) والأمّة رجعت إلى (الإختيار) و(أبو بكر) نصّ و(عمر) يجمع بين (النص) و(الإختيار) فهو يجعلها شورى في (ستة) ولكن يقرّبها من (النص) اذ يحدد حرية المنتخبين فليس لهم أن يميلوا عن كفة عبد الرحمن بن عوف وعبد الرحمن لا يميل عن عثمان، إذا فالخليفة نص على عثمان ولكنه بطريق ملتوية كونت للإسلام أحزاباً جديدة)).

ثم حدث نظام آخر مخالفا لتلك الأنظمة وهو العمل (بسيرة الشيخين) التي رفضها (الإمام) وقبلها (عثمان) على ان يطبق أحكام القرآن والسنة النبوية.

وفي زمن (عثمان) حدثت ظاهرة لم يألفها المسلمون وهي الإستجابة للنزعة القبلية وهذه الإستجابة لم تكن معهودة في زمن النبي (والعمرين) وإنما هي عاطفة جاهلية بعثها (عثمان) من جديد وتبرز هذه الظاهرة (أولاً) في نظرته لتوزيع العمال فقد كاد أن يستعمر الولاية عن الخليفة بنو أميّة وهذا ما لا

ص: 61

يهضمه سائر الصحابة والتأريخ يحفظ لنا في حناياه قضايا طريفة مخالفة لتعاليم الإسلام كشرب الخمر، وتعطيل الخليفة حدود الله في المخالفين، و(ثانياً) في توزيعه للأموال حيث كان يعطي (عثمان) عطاء من لا يخاف الفقر، وكثر الإنكار على الخليفة وتجاوز حد التهامس إلى الإعلان، وهنا يجب أن لا ننسى حديث الأحزاب التي تكونت من حادثة الشورى وعملها السري فقد كان لأعمالها أعظم الآثار، وصاحب الإمامة والسياسة(1) يحفظ لنا في ثنايا تاريخه وثيقة قيمة تصور لنا بعض تلك الأعمال.

شاهد (مالك) كل ذلك فكان من الطبيعي أن يتنكر المؤمن لما يشاهده من تدهور المظاهر الإسلامية الروحية والإجتماعية، و(مالك) سيد مطاع في قومه إذا تكلم لا يتكلم إلّا بقوة آلاف من السيوف تُشهَر بأمره وتُغمَد بأمره، حاول أن يجادل بالتي هي أحسن فكان جزاؤه من قبل الولاة مرّاً فقد سُيِّر إلى الشام ومن ثم إلى حمص ثم إلى المدينة، ومنها إلى الكوفة، وتحدث ملاحاة بينه وبين واليها ويطلب من الخليفة عزل هذا الوالي ولكن عثمان لا يستجيب للأمر مما اضطر (مالكاً) من أن يمنعه من دخول الكوفة فبايعه عشرة آلاف على ذلك وهذه الحادثة هي التي تركت في نفسه انفعالات فهي أثارت في نفسه غريزتين : غريزة الاحتفاظ بالكرامة لأنها كانت موجهة إليه، فهو الذي طلب عزله،

ص: 62


1- أنظر ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، ط3، (مصر: مطبعة مصطفى بابي الحلبي، 1963م)، ج1، ص35.

وغريزة الحفاظ على قداسة الدين فما كان معهودا أن يُؤمَّر على المسلمين من يخالف كتاب الله وسنة نبيه، ثم تتفاقم ثورته النفسية حينما يشاهد (أبا ذر) صاحب رسول الله وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة في ديار الغربة، فيجدّ السير إلى المدينة حيث يلتقي برؤساء الأمصار ويتداولون الامر فيتفقون على الوقيعة بعثمان أو يعتزل الامر، وينتهي الأمر بإعلان (عثمان) عن توبته على رؤوس الأشهاد ثم يعود عنها ويرسل (عثمان) إلى (الأشتر) ليسأل عما يريده الناس فيجيبه: واحدة من ثلاث إمّا أن تخلع لهم أمرهم، وإمّا أن تقتص من نفسك، فإن أبيت فالقوم قاتلوك، ولكن عثمان لا يجيب إلى واحدة من الثلاث فيستمر الحصار ويُقضى على (عثمان).

وهنا يقرر السيد امراً هاماً وهو ان (مالكاً) لم يباشر القتل بيده وكان شأنه شأن سائر المسلمين الذين طافوا بالدار (1).

ويعتبر أحد الباحثين أن الفصل الذي عقده (المؤلف) للوضع السياسي المتأزم بعد مقتل (عثمان) من أفضل الفصول تحليلاً فقد صور هذا المشهد المتأزم الدراماتيكي أصدق وصف وأروعه وبيّن أن (الإمام) هو رجل المرحلة الذي لا يُنازع والذي يمكن أن تلتقي على صعيده أكثر الناس رغم تشقق نزاعاتها مع أنه امتنع عن الإجابة لرغبة الجماهير في قبول بيعتها الفورية فإن جملة منهم

ص: 63


1- محمد تقي الحكيم، مالك الاشتر، ص4.

اتجه إلى (الأشتر) لحل معضلة الموقف الذي قد ينذر بالانفجار وقد وفق (الأشتر) بما له من شخصية سياسية واجتماعية مميزة وبما له من دالة لدى الإمام أن يقنعه بأحقيته لتولي زمام الأمور.

كل هذه الوقائع الرهيبة استطاع مؤلفنا أن يساير أحداثها خطوة خطوة حتى بلوغ ذروتها بمبايعة الإمام وتفكيك الأهواء المتضاربة في اختيار القيادة الجديدة المناسبة للظرف العصيب وقد واجه (الأشتر) تعارض الإرادات وتعدد الانتماءات واختلاف الآراء بقليل من الشدة وبعض التهديد بتبديل الرفق بالغلظة (1).

عقد (السيد) في فصول كتابه السادس والسابع والثامن لبيان دور (الأشتر) في الحروب التي خاضها الإمام في الجمل وصفين، مسجلاً لنا مواقفه العظيمة في صفحاته الخالدة التي لا تكاد تخلو كل واحدة منها عن ذكر موقف مشرف ولعل من أهمها انتدابه إلى الكوفة حيث كان واليها يثبط الناس عن الجهاد والخروج لحرب الجمل ويُخذلهم عن الإمام والناس مقبلون عليه، يقول:

((وماذا يصنع الأشتر وهل يكون أشد ذلاقة من الإمام الحسن-الذي أرسله الإمام لنفس المهمة-حتى يستطيع التأثير أنه نظر إلى منطق اللسان لا يؤثر في هذه الجماهير فاستعمل منطق السنان وقصد من حينه القصر فضرب الغلمان وأخرجهم من القصر... ويخرج (الأشتر) من الكوفة ومعه جيش جرّار تبلغ

ص: 64


1- عبد المحسن الحكيم، مالك الاشتر، ص21.

عدته اثني عشر ألفاً وهنا نعرف أثر (مالك) على أهل الكوفة الذي عرف نفسياتهم فقابلهم بعمل بسيط كان عندهم ابلغ من ألف خطاب)) (1).

وتنتهي أزمة وتقبل أزمة، وتنتهي أزمة البصرة وتقبل أزمة الشام ويكون من نصيب (مالك) أن يساهم في رفعها بما أوتي من قوة كما اسهم في رفع الأولى، ويقف (السيد) طويلاً في ليلة الهرير لتسفر عن صبح النصر وموقف (مالك) فيها وهو في الميمنة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة بالإقدام على التي تليها فلم يزل يفعل ذلك حتى أصبح والمعركة خلف ظهره وهو يقول لأصحابه: ازحفوا قيد رمحي فإذا فعلوا قال: ازحفوا قاب هذا القوس فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك، وتنتهي هذه الليلة عن سبعين ألف قتيل وأكثرهم من أهل الشام لذلك ضعفوا عن الاستمرار في الحرب وحاول معاوية الفرار بنفسه عندما ضايقه جيش (مالك) ودعا بفرسه لولا خدعة التحكيم ويأبى الإمام عليهم ويأبون عليه ويطلبون منه الإرسال إلى (الأشتر) ليخلي سبيل أهل الشام ويأبى (الأشتر) وهو يراقب النصر وما هي الا لحظات حتى يعانق الظفر، ولكن القوم اجبروا الإمام بالإرسال إلى (الأشتر) أو ليقتلوه بأسيافهم وهنا لا يرى (الأشتر) بدّاً من العودة إليهم ليسلم على حياة الإمام ويقول لهم أمهلوني فواقاً فإني قد احسست بالفتح(2).

أمّا الفصل التاسع فخصصه (السيد) لكتاب العهد:

ص: 65


1- محمد تقي الحكيم، مالك الاشتر، ص53-54.
2- محمد تقي الحكيم، مالك الاشتر، ص82-83، المصدر نفسه.

((وهو أول وثيقة تأريخية إسلامية في علم السياسة يضعها سياسي محنك فهم نفسيات الشعوب فهما تاماً فشرّع ذلك الدستور القويم.. وفي عقيدتي أن هذا العهد الذي ترجم إلى عدة لغات كان مما استعان به واضعو بعض النظم الحديثة، وحبذا لو تأثرت نظمنا الإسلامية بنظامه القديم مع أنه وضع من أجل هذه الأمّة المحرومة وكم كنت أود لو تساعدني الظروف لأدرس في هذا الكتاب ذلك العهد الكريم من الوجهة النفسية لنستطيع أن نفهم مقدار ما تلقاه (مالك) عن الإمام في فهم عقليات الشعوب ونفسياتهم ومقدار ما وضع من النظم لكيفية ادارتهم في ذلك العهد)) (1).

خصص (السيد) الفصل العاشر لشهادة (الأشتر) وتأبين الإمام له.

أمّا القسم الثاني من الكتاب فخصصه للحديث عن شخصية (الأشتر) بالتحليل الدقيق في ضوء دراسة الشخصية الإنسانية لعلماء النفس مبينا آراء بعض العلماء النفسيين في معناها وفي عناصرها، واكد أن شخصية الانسان القائد المجاهد تمتاز بثلاث صفات وهي الشجاعة والثقافة والإيمان، وعلى هذا الأساس درس(السيد) شخصية (مالك) وشجاعته ظهرت في الصراحة وضبط النفس ومواجهة الأمور الصعاب والتغلب عليها بقلب مطمئن وجأش رابط لا يتزعزع، ويذكر (السيد) أن الشجاعة ترجع في قسم منها إلى العوامل الوراثية

ص: 66


1- المصدر نفسه، ص89.

وأساليب التربية وإلى كثرة مزاولته للحروب ثم إلى تأثره بأستاذه الذي فتح للناس أبوابا في الفروسية والقيادة.

والصفة الثانية هي الإيمان فهو قدم نفسه ضحية لمبدئه وظهرت في مختلف مراحل حياته وحتى استشهاده، ويعلل (السيد) سر إيمانه الذي تنطق به كل جوارحه يعود إلى وفرة عقله وإلى سلامة تفكيره، والرجل المفكر الكامل لا يستطيع أن يتحلل من نوازع الإيمان الفطرية.

والصفة الثالثة هي الثقافة، و(مالك) وإن غلبت عليه مناقب الزعيم والقائد والخطيب والشاعر إلّا أن (السيد) يطمئن من خلال بحثه إلى العمق الثقافي الذي كان عليه الأشتر في الفقه والحديث والتفسير والسياسة.

فهو من اعاظم تلامذة الإمام، والإمام نفسه وجده أهلاً لتلقي كتابه في علم السياسة فألقاه عليه ولم يلقه على غيره، وسجلت كتب الدراية اسمه في عداد العلماء ثم يستشهد (السيد) بنماذج من شعره التي تغلب عليها الشعر الوصفي، وجوانب من خطبه التي تظهر عمق ثقافته.

ولعل خير ما نختم به هذا المبحث بما قيّم به أحد الباحثين هذا الكتاب بالقول:

((وكان أستاذنا المرحوم محمد تقي الحكيم في محاولته التعرف على شخصية (الأشتر) وتعدد مظاهرها وأسلوبه في مواجهة الأحداث في عصره واتخاذ المواقف منها في ضوء قواعد علم النفس هو مجرد مجاراة للثقافة المتبعة في

ص: 67

دراسة الأعلام والشخصيات السياسية والثقافية والعسكرية وكان توظيفه في فهم بطله المتعدد المظاهر والمتأثر مباشرة بشخصية قائد الأمّة الإمام قد أضفت على دراسته ما عُدّت في حينها دراسة من أحدث الدراسات المنهجية المتطورة في حقل دراسة العظمة الإنسانية ولم أعرف في تلك الفترة وقد كنت من أشد المهتمين بمتابعة صدى الكتاب في الأوساط الأدبية والثقافية والصحفية ممن اطلع على الكتاب وقرأه قراءة نقدية موضوعية - من عدّه دون مستوى أمثاله لكبّار كتّاب العرب في مصر ولبنان وغيرهما من حواضر الثقافة العربية في ذلك الحين))(1).

ص: 68


1- عبد المحسن الحكيم، مالك الاشتر، ص22.

مصادر ومراجع الدراسة

أولاً/ الملف الشخصي للسيد محمد تقي الحكيم.

ثانياً/ المصادر العربية:

- الإمام علي، نهج البلاغة، (شرح محمد عبدة، فم، دار الذخائر، 1412ه-).

- إبن منظور، لسان العرب (بيروت: صادر ،1955م).

- إبن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة(مصر،1963م).

- جميل النجار، دراسات في فلسفة التأريخ النقدية (بغداد، دائرة الشؤون الثقافية،2004م).

- طه حسين، الفتنة الكبرى، علي وبنوه، (القاهرة: المعارف، 1953م).

- عادل حسين غنيم وأخر، في منهج البحث التأريخي (الاسكندرية: دار المعرفة التأريخية، 1998م).

- عبد الله فياض، التأريخ فكرة ومنهجاً(بغداد،1972م).

-علاء الرهيمي، منهجية البحث (النجف الاشرف: دار الهلال، 2006م).

- علي الجارم، فارس بني حمدان (مصدر سلسلة أقرا،1945م).

- محمد تقي الحكيم، مالك الأشتر، (بيروت: المؤسسة الدولية، 2001م).

ص: 69

- محمد تقي الحكيم اسبوع الإمام، (النجف: الراعي د.ت).

- محمد تقي الحكيم شاعر العقيدة (بيروت: المؤسسة الدولية، 2001م).

- منتدى النشر، نظام منتدى النشر، (النجف، مطبعة النجف، 1950م).

- محمد جواد الفقيه، أبو ذر الغفاري (بيروت: الأعلمي،1985م).

- محسن الأمين، أبو ذر الغفاري الصحابي المجاهد (بيروت: المرتضى،2003م).

ثالثاً/البحوث:

- عبد المحسن الحكيم، مالك الأشتر من كتاب للمرحوم العلامة السيد محمد تقي الحكيم (الأصالة، مجلة آب 2005م).

- جميل النجار، الفكر التأريخي للعلامة السيد محمد تقي الحكيم (المبين، مجلة العدد 9 سنة 2005م).

رابعاً/المجلات:

- البذرة، النجف 1946م.

- البيان النجف 1946م.

ص: 70

ص: 71

منهجي في التحقيق

بعد أن ترجمت للمؤلف بشكل مقتضب قمت بوصف الكتاب ودراسته دراسة فنية على وفق منهج البحث التأريخي ثم قابلت النصوص الواردة فيه مع مصادرها ومراجعها المنقولة منها وترجمت باقتضاب شديد للأعلام الذين ورد ذكرهم وأشرت إلى بعض مصادر الأفكار التي طرحها المؤلف في ثنايا كتابه.

استخدمت الطريقة العربية في التحقيق. هذا ما استطعت عمله وما توفيقي إلّا بالله.

السيد

علاء الدين محمد تقي الحكيم

في غرة شهر رمضان 1435ه-

ص: 72

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله

مقدمة الطبعة الأولى

اشارة

بقلم سماحة آية الله الشيخ محمد رضا المظفر (1) (قدس سره) عميد كلية الفقه ورئيس جمعية منتدى النشر.

-1-

إن هاتفاً في دخيلة نفسي – لا أعرف مأتاه على التحقيق – يهتف بي منذ عشرين عاماً تقريباً إلى ضرورة تأليف مؤسسة تعنى بتوجيه حركة النشر والتأليف في النجف الأشرف، ولست أنا الوحيد أشعر بهذا الشعور فمعي جماعة غير قليلة كان همهم ذلك حتى كادوا أن يؤسسوا هذه المؤسسة قبل خمسة عشر عاماً.

ص: 73


1- محمد رضا بن الشيخ محمد بن عبد الله المظفر، نشأ في النجف وتتلمذ علي يد الشيخ محمد طه الحويزي وعلى يد اخيه الشيخ محمد حسن وحضر دروس الخارج على ايدي الشيخ محمد حسين النائنيي، والشيخ محمد حسين الاصفهاني، والشيخ ضياء الدين العراقي، للتفاصيل أنظر: محمد رضا المظفر، اصول الفقه، مقدمة الشيخ محمد مهدي الآصفي، (قم: مؤسسة النشر الاسلامي، د. ت)، ج1، ص1-49.

وبدافع فكرة هذه الجماعة شرع العلامة الجليل والحجة الكبير المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي (1) في تأليف كتابه ((آلاء الرحمن)) في تفسير القرآن (2)، ليكون باكورة أعمال المؤسسة التي خنقت في مهدها.

واستمر الشيخ المجاهد في تأليف كتابه حتى وافاه الأجل بعد نشره للجزء الأول في حياته على نفقته الخاصة.

ومرد الشعور بضرورة هذه المؤسسة إلى إدراك أن النجف بلاد علمية من قديم القرون، وعاصمة للمرجعية في التقليد، والجامعة الأولى لدراسة العلوم الدينية والعربية، ولها سوق رائجة للأدب العالي، وفيها في كل عصر مؤلفون وأدباء، ولها في كل فن كتب وآثار. فهي من هذه النواحي غنية لا يضارعها بلد إسلامي آخر، لاسيما قبل عصر النهضة الحديثة.

إلّا أن الذي ينقصها – ويجب الاعتراف به – تنظيم نشر ما تضم كنوزها من مؤلفات قديمة وحديثة، وتوجيه التأليف على النحو المرغوب فيه في هذا

ص: 74


1- محمد جواد بن حسن البلاغي (ت 1352ه-) حضر عند الشيخ محمد تقي الشيرازي يجيد لغات عديدة وتصدى للبابية ولليهود وألف العديد من المؤلفات من اهمها آلاء الرحمن، والهدى الى دين المصطفى وغيرها، للتفاصيل أنظر: محمد جواد البلاغي، الهدى إلى دين المصطفى - من مقدمة توفيق الفكيكي، ط3 (بيروت: الاعلمي، 1405ه-).
2- طبع الكتاب في 1351ه-).

العهد، وتشجيع المؤلفين والناشرين في عصر راجت فيه الطباعة واتسقت حركات الثقافة واتسعت دور النشر، وحرمت منه بلادنا المقدسة.

فهي على ما فيها من مادة غزيرة منكمشة على نفسها لا تظهر آثارها كما يجب أن تظهر، وما يتفق أن ينشر من منتجاتها – وان كان ليس بالقليل في حد نفسه – لا يبلغ الواحد من المائة إذا أردنا المبالغة، على أنه قد لا ينشر المنتخب والمختار من تلك المؤلفات، لأن ما يطبع على الأكثر إنما هو بنتيجة جهود فردية يقوم بها اشخاص المؤلفين أو من يمت إليهم بصلة.

وهذا ما أوجب الظن عند البعض بأن ما يقال عن العلم والأدب والتأليف في النجف الأشرف إنما هو من نوع الدعاية الفارغة، وقد يكون هذا معذوراً في ظنه، لأن طفرة العالم العربي فضلاً عن غيره في هذه الناحية – ناحية النشر والتأليف – لم تدع المجال للعذر في تأخر النجف عن ذلك، والمنتظر منها أن تصدر عل الأقل كل يوم مؤلَّفاً طريفاً حسب ما يتناسب مع سمعتها.

ولكن هذا الظن فيه من الحيف العظيم الذي لا يعرفه حقاً إلّا نفس أهل العلم بالنجف أو من يتصل بهم اتصالاً ثقافياً.

ص: 75

وينسب الدكتور مهدي البصير (1) في كتابه الحديث ((نهضة العراق الأدبية)) طمس تلكم الآثار إلى قلة ذات يد المؤلفين والأدباء فتقعد بهم عن إذاعتها (2). وقد يكون هذا صحيحاً إلى حد ما، ولكن له سبب آخر – فيما أرى – سبب الأسباب وهو عدم وجود مؤسسة كبيرة تعنى بذلك، والأصح هو عدم وجود شعور عام عندنا يقذف بالرجال إلى العمل المجدي في هذا السبيل وبتأسيس مشروع يليق بمكانة النجف العلمية والأدبية.

وقد كانت النجف تعتمد في نشر كثير من المؤلفات على مطابع إيران وتبرع المحسنين، ثم لما تأسست المطبعة التجارية فيها ثم كثرت المطابع من هذا النوع، لم تكن وافية بالغرض ولا محققة للواجب لأمور يطول شرحها، على أن هذه المطابع على كثرتها اليوم هي تدأب وتعج بالعمل ولا نراها بالغة شيئاً مما يصبى إليه.

ص: 76


1- محمد مهدي بن محمد البصير (ت 1394ه-)، اديب، شاعر، ولد في الحلة، ونشأ نشأة دينية، درس في بغداد وفي فرنسا، له العديد من المؤلفات منها (نهضة العراق الادبية في القرن التاسع عشر)؛ أنظر: الكريعي علي كاظم، محمد مهدي البصير ودوره السياسي في العراق، رسالة ماجستير (جامعة بابل: كلية التربية، 1427ه-).
2- أنظر: الكتاب المذكور (د. م. د. ط. د. ت)، المقدمة.

-2-

ولما تأسس منتدى النشر على أساس هذه الفكرة السالفة ظهر بسرعة أن الشعور العام في النجف بل في العراق بعد غير مهيأ لقبولها فكرة جديرة باهتمامه، على أن الرجال الذين اشتركوا فيه لم يكونوا في العدوة القصوى من محور النجف العلمي، بل هم في الصميم من جامعتها.

ومما يؤسف له أن الشعور العام لأجل ذلك لا يزال ينظر إلى من يدعو إلى هذه الأعمال الإصلاحية بنظر الريبة والشك، فقد يتصورهم أناساً استغلاليين لصالح أنفسهم، أو بالأصح يتصور أنها أعمال شخصية أكثر منها أعمالاً عامة، وكأنه لا يصِّدق أن الرجل يعمل للصالح العام إلّا إذا كان إنساناً كلياً مجرداً عن مشخصاته - والكليّ لا وجود له في الخارج - فيغفل الرأي العام عن أن كل عمل مهما كان عاماً ولصالح المجموع لابدّ أن ينهض به أفراد معيّنون، وأشخاص لهم مميزاتهم الشخصية، كما شاهدنا شعور الناس عن مشروع حماية الأطفال بالنجف.

على أن رجال المنتدى برهنوا طيلة هذه المدة التي مرت على تأسيسه على أنهم أبعد ما يكونون عن الإستغلال، بل ضحوا بأكثر من اللازم وأكثر مما يتصور أن يضحي به بشر اعتيادي، فبذلوا كل غال ورخيص في تسيير هذا

ص: 77

المشروع وتركيزه لأجل نضوج هذه الفكرة في مجتمعنا. وأكثر الناس – فيما نعتقد – لا يشكون في إخلاصهم وتضحيتهم، ولكنهم مع ذلك يعتبرون المشروع شخصياً لأن رجاله الناهضين معيّنون لهم مميزاتهم الشخصية.

فإذاً الواجب – يا رجال الإصلاح – أولاً خلق الشعور العام بضرورة الفكرة قبل تأسيس المشروع، على أن خلق الشعور العام يتوقف على مشروع ينهض بالدعوة ويعمل لأجل ذلك.

وهذا – حسب ما أعتقد – هو الأمر الملقى الآن على عاتق مؤسستنا. وتأسيس كلية المنتدى ومدارسه ما يعين إلى حد ما على تحقيق هذا الشعور.

وإذا كنت – اليوم – أنا المسؤول الأول عن المشروع فقد تكون هذه الصراحة المكشوفة عن تفكير جماعتنا مما أوآخذ عليها، ولكني شخصياً لا أجد ضيراً في إعلان الحقيقة، ويعلم الله أني لا اقصد انتقاد شخص معين بل أنا أكثر إخواني عذراً لجماعة كبيرة ممن وقف موقف المخاصم لمشروعنا، ولاسيما الذين نطمئن إلى حسن نواياهم ويطمئنون إلى حسن نوايانا وهم كثيرون ممن اشتغلوا معنا في المشروع وممن لم يشتغلوا.

ونحن مستعدون لتضحية جديدة بأنفسنا، فنتنحى عن العمل عندما نجد من يحبون أن ينهضوا به دوننا، خصوصاً إذا اعتقدوا أنهم سيعطون المشروع

ص: 78

صبغة عامة بدخولهم، وليثقوا أنّا عمال للمشروع أين ما كنّا ومهما كانت صبغتنا فيه. ولا نريد ان نبرهن بهذا القول على حسن نوايانا.

إن هذا لا يهمنا بقليل ولا كثير بعد الذي كان، إنما الذي يهمنا أن ينهض المشروع نهضة تليق بسمعة النجف ويؤدي الواجب الملقى على عاتقه كاملاً وبأي ثمن كان حتى إذا كان ثمنه ارواحنا، وما أرخصها في سبيل الواجب، وقد صرحنا مراراً أننا لم نخط حتى الآن إلّا خطوة قصيرة بالمشروع في سبيل ما يقصد من اهدافه.

-3-

ولما توسعت أعمال المنتدى بقي الغرض الأقصى ((النشر والتأليف)) يشبه أن يكون مهملاً في جل أعماله؛ ولكن ليس معنى ذلك أنه مهمل حقيقة؛ حتى تأسست له لجنة المجمع الديني منذ عامين تقريباً، وهمها الأول كان تهيئة أعضائها للتأليف وإلقاء المحاضرات النافعة ومبادلة الرأي فيما يجب العمل له في هذا السبيل؛ فتوفقت أن تجعل يوم الجمعة من كل اسبوع يوماً لاستماع محاضرات الأعضاء بصورة متوالية ثم توسعت حتى كان اجتماع يوم الجمعة يشبه أن يكون يوماً عاماً يشترك في الحضور فيه جماعة كبيرة غير اعضاء اللجنة من اعضاء المنتدى وغيرهم، وزادت على ذلك بإقامة الحفلات

ص: 79

والمحاضرات العامة في شتى المناسبات لفائدة العموم، وقد شهدت النجف الأشرف في اسبوع الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بمناسبة ذكرى وفاته مهرجاناً في مدة اسبوع كامل منقطع النظير.

وقد فكرت بالأخير أن تعد مشروعاً ابتدائياً كباكورة لأعمالها التي تنويها، وهو إعداد سلسلة مؤلفات صغيرة نافعة، فيها فائدة للخاصة وتثقيف للعامة.

وقد ظهر أول هذه السلسلة كتاب ((الشيعة والإمامة)) الذي لم تقصد فيه الربح المادي، وأكثر ما استفادت منه أن استرجعت ما صرفت عليه، وبقي الربح المعنوي يخلد لها وللناس، ولأن مؤلفه أخي وشقيقي (1) وأنا معه كنفس واحدة فلا يسعني أن أقول فيه كلمة إطراء وثناء.

وهذا بين أيدينا ((الكتاب الثاني من السلسلة)) ((مالك الأشتر)) الذي حلل فيه مؤلفه الأستاذ شخصية هذا البطل الإسلامي المجاهد بما يعطيك منه صورة واضحة تقصر عنها ريشة الرسام.

ص: 80


1- هو الشيخ محمد حسين المظفر (المحقق).

-4-

إن كان لحكيم مصر (توفيق) في النبوغ، فإن حكيمنا (تقي) في لوذعية ونابغة في صلاح نباهي به شبابها وكُتّابها، وهو مؤلف هذا الكتاب.

لقد رمزنا إلى حركة لجنة المجمع في المنتدى النشيطة (1) فإن دريت فإن محورها هذا ((الحكيم)) النابغ، وهو في ريعان الشباب، وقد أوتي حظاً وافراً من قلم سيال وأدب عال وأسلوب رصين وخيال واسع.

ولولا أنه مني ما يشعر المرء بأنه عندما يتحدث عنه إنما يتحدث عن نفسه لكنت أتيت لك – أيها القارئ – بما يوفي تعريفه عندك، على ان أقدم كتاباً ومؤلَّفاً لا مؤلِّفاً أترجم له، وأنت باستطاعتك أن تقرأه في هذه الصفحات التي تمثل لك نفسية المؤلف اللامعة، وروحه القوية، وأدبه الرفيع، وبحوثه القيمة.

لا يكاد يمر اسبوع على المجمع دون أن يسمع الحاضرون محاضرة ثمينة لهذا الكاتب المطبوع من سلسلة محاضراته عن ((زرارة بن أعين)) (2) أو محاضراته في ((ندوة السمر)) ونحوها أو محاضراته الأخيرة عن ((مالك الأشتر)) التي تألفت منها مجموعة كانت كتاباً نقدمه للقراء وأنا واثق أن في

ص: 81


1- يوجد سقط في العبارة (المحقق).
2- محمد تقي الحكيم، زرارة بن أعين، تحقيق ودراسة، علاء الدين السيد محمد تقي الحكيم، من منشورات مسجد الكوفة، 1434ه-.

نشره فتحاً جديداً في تصوير بطل من أبطال الإسلام وسيف من سيوف الله كان أكثر ما يعرف عنه الناس أنه شجاع مدرب وحواري أمير المؤمنين (علیه السلام) .

ولقد كان يعزّ عليّ – أيها الرجل – الذي احتضنتك كلية المنتدى في أول تأسيسها طالباً ثم وفيت فاحتضنتها أستاذا لعلوم البلاغة وعضواً في إدارتها.. أقول: لقد كان يعزّ عليّ أن تضن بآثارك عن إذاعتها ونشرها في الوقت الذي كان يجب أن يبرهن على أن في السويدا رجالاً ولجامعة النجف كتّاباً يفتخر بهم.

ولئن كنت تعتذر – وما ملوم من اعتذر – بالإنشغال بتحصيل العلوم الدينية ودراسة الفقه وأصوله فإن ذلك أمر يحول حقاً عن كثير مما يجب أن يعمله الطالب الديني، ومثلك على صواب، إذا انصرف إلى أهم ما يجب أن يصنعه المحصل السالك طريق الإجتهاد، لاسيما في هذه العصور؛ ولكني ممن يرى أن العصر أيضاً اقتضى أن يبرز رجال العلم في النجف بأقلامهم للكفاح، وأن ينشروا آثارهم لتنوير الأذهان، وقد تقدم نعيي على تسامح إخواننا في هذه الناحية.

ولماذا أسسنا منتدى النشر؛ ولماذا أسسنا بعد ذلك فيه لجنة المجمع؟

ص: 82

ما لي ولحديث الكاتب! أرجو – أيها القارئ – أن تعذرني من الاندفاع في الحديث عنه، فإن هذا الحبيب ينسيني نفسي، فيجذبها إليه كلما تحولت عنه إلى الحديث عن كتابه، على أني قد أخذت عليها أن أقدم الكتاب لا الكاتب.

أقول أقدم لكم ((مالك الأشتر)) حقاً. أقدم شخص بطل الإسلام (مالك)، ولكن في كتاب؛ فإن هذا التصوير الذي استعمله الكتاب ولا أقول الكاتب فأخشى أن يجرفني ذكره إلى الإستمرار في حديث يجعلك تتمثل هذا البطل المنزه كأنك عشت في عصره أو كأنه عاش في عصرك، ولئن كانت القنبلة الذرية – لو كان في عصرنا – لا نبقي قيمة لسيفه الصارم، فإن الخلق العام عندنا يبرزه مخلصاً مجاهداً فوق حدود الإخلاص والتضحية في سبيل الواجب اللتين عزتا في قومنا (الميامين).

وأحسب أني أعطيت لمحة كافية عن هذا التأليف، فاقف عند هذا الحد، وإن لم أوفيه حقه؛ ولكني أكتفي بمعرفة القارئ ليطلع بنفسه على قيمة هذا السفر الأدبية والسلام عليكم.

محمد رضا المظفر

ص: 83

الإمام يقدم الأشتر إلى أهل مصر

اشارة

((أمّا بعد: فقد بعثت إليكم عبداً من عبيد الله لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الأعادي حذار الدوائر، أشدّ على الكفار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له وأطيعوا، فإنه سيف من سيوف الله لا نابي الضريبة ولا كليل الحدّ.))

عليٌّ أمير المؤمنين

ص: 84

-1-

إن من عادة القدماء من العرب أن يحتفظوا لأنفسهم بسلسلة من النسب تربطهم بمن يعرفون بالانتساب إليه، وهذه العادة نجدها الآن شائعة بين القبائل الريفية العربية والعراقية على الأخص.

ولعل العلة في ذلك ترجع إلى عادات اجتماعية كانت متأصلة في نفوسهم، اذ ذاك يعود معظمها إلى الإعتزاز بالنسب الصراح لدلالته على الخلوص من شوائب الهجنة والبغاء (1)، ومن هنا نجد الشعر العربي حافلاً بهذا اللون من الفخر.

وهذه الظاهرة هي التي استفزت أنظار المؤرخين والنسابين من القدماء فاحتفظوا للعظماء من الرجال في حنايا الترجمة بسلسلة النسب الطويلة (2).

ولكن هذه الظاهرة لا تهم المؤرخ الحديث بقدر ما يهمه من الإحتفاظ بتلك السلسلة معرفة بعض الخصائص الفردية التي يمتاز بها بعض الاشخاص

ص: 85


1- للتفاصيل حول اهمية هذا العلم أنظر السمعاني، الانساب، تقديم عبد الله بن عمر البارودي (بيروت: دار الجنان، 1408ه-)، ج1، ص10 – 23.
2- أنظر البلاذري، انساب الاشراف (بيروت: الاعلمي، 1394ه-).

ليعرفوا مقدار ما أثّروا على المترجم بسبب الوراثة ومقدار ما نقبل من تلك التأثيرات.

ومن هنا نريد أن نلتمس في هذه السلسلة التي يذكرها المؤرخون لسيدنا مالك بعض خصائصها لنعرف مقدار تأثيرها عليه.

ومالك كما يذكر المؤرخون (1) هو ابن الحارث بن عبد يغوث، بن مسلمة بن ربيعة ابن () .....ابن () ....إلى أن ينتهي إلى جده النخع ثم إلى جده الأعلى مذحج (2) الذي عرفت باسمه قبيلة من أشهر قبائل العرب اليمانية وأكثرها قوة ومنعة.

والتأريخ لا يحدثنا عن إفراد هذه السلسلة حديثاً فيه شيء من التفصيل لنستطيع أن نتعرف إلى جميع ما يتعلق بها من الصفات الطيبة وإن كان قد حدثنا عن خصائصها العامة التي كانت تشيع في أغلب أفراد تلكم القبيلة كالكرم

ص: 86


1- أنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم (مصر: عيسى البابي الحلبي، 1382ه-)، ج1، ص98؛ ابن ماكولا، اكمال الكمال (بيروت: دار احياء التراث العربي، د.ت)، ج2، ص136.
2- أنظر: ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق علي شيري (بيروت: دار الفكر، 1415ه-) ج56، ص373؛ ابن حجر، الاصابة في تمييز الصحابة، تحقيق عادل احمد وآخر، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1415ه-) ج6، ص212؛ ومذحج اسمه مالك بن ادد بن كهلان من نسله قبائل سعد العشيرة، وعنس، ومراد، ونخع؛ للتفاصيل أنظر: الزركلي، الاعلام (بيروت: دار العلم، 1400)، ج7، ص198.

والشجاعة والشعر والخطابة فكان فيها الكريم المغدق، والشجاع الفتاك، والخطيب القدير، والشاعر الصّوال، و.... و..... وقد عد لنا التأريخ أبطالاً من رجالات هذه القبيلة العريقة في نسبها اشتهروا بتلكم الصفات (1).

كما إنه حدثنا عن أصل هذه القبيلة وعن انتقالها من اليمن إلى العراق (2) ثم إلى الكوفة بعد تمصيرها في أيام عمر بن الخطاب (3) وعن وصول الإسلام إليها واعتناقها لمبدئه وايفادها جملة من رجالاتها إلى النبي (صلی الله علیه و آله) وتكلم(4) صاحبها النخعي ولكنه أغفل تعداد الوافدين على النبي فلم نعرف هل كان في جملتهم الحارث أو الحرث – والد مالك – كما أغفل بعض النواحي الحيوية التي تتعلق بصاحبنا فلم يتعرض لها بقليل ولا كثير.

أغفل ترجمة أبيه فلم يتحدث عنه بحديث مفصل يمكننا الإطمئنان إليه، وأغفل تعيين زمن ولادته وكيفية نشأته وتربيته، مع أننا – ونحن نريد أن نتعرف إلى دراسته التحليلية – أحوج ما نكون إليه وأنتم تعلمون بأن الدراسة

ص: 87


1- كمحمد الزيدي (ت 379ه-)، الاديب والشاعر واللغوي والنحوي والاخباري والفقيه، أنظر: المصدر نفسه، ج9، ص198.
2- أنظر: الحموي معجم البلدان (بيروت: دار احياء التراث العربي، 1399ه-)، ج2، ص330.
3- أنظر المصدر نفسه، ج2، ص338.
4- كذا في المطبوع والصحيح (تكلم).

التحليلية التي نريد أن نستعين عليها – بالسيكولوجية الفردية – يتوقف جلّها على معرفة الأدوار التي حشدت عقله الباطن بالصور التي كان لها كل الأثر في توجيه غرائزه وميوله.

وهذه الأدوار هي التي تمر عليه وهو طفل، وهي التي تكيفها البيئة والتربية، وفيها تظهر تأثيرات الوراثة بشكل واضح.

فالتأريخ أغفل هذه الأمور وأغفل سنة دخوله في الإسلام وتفصيل حياته قبل أن يكون سياسياً يتدخل في شؤون السلطان وقبل أن يشارك في تدبير شؤون المسلمين في زمن عثمان.

وعلى هذا فسيدنا (مالك) كانت له في التأريخ الذي شاهدناه حياتان مختلفتان.

تبدأ إحداهما من زمن ولادته حتى مبدأ خلافة عثمان وهي مجهولة أو تكاد لولا أحاديث مبعثرة هنا وهناك بوسعنا أن نستند إليها في معرفة بعض شؤونه.

ص: 88

وتبدأ الأخرى من أيام عثمان وتنهي (1) بانتهاء حياة مالك رحمه الله وهي معلومة مفصلة لولا أحاديث مبعثرة هنا وهناك يمكن أن تكسبها شيئاً قليلاً من الغموض لا يثبت للدقة في التحليل.

وسنبدأ الآن في دراسة حياته الغامضة فنقول:

لقد اجحفنا في لوم التأريخ وتعنيفه على اغفاله بعض النقاط القيمة مع أن حجته ظاهرة إذا تصورنا بأن ولادته كانت متأخرة في الزمن عن ولادة مالك ونشأته وأن الذين تعاهدوا تغذيته لم يكن من همهم امر مالك قبل أن يتدخل في السياسة؛ ومع ذلك فقد حفظ لنا في حنايا ضلوعه اخباراً مبعثرة نستطيع أن نستفيد منها بعض ذلك، وترك بعض الشؤون التي يمكننا أن نستفيدها من طبيعة ذلك العصر.

فإذا أردنا أن نتعرف إلى زمن ولادته جاءنا بما يمكننا الإعتماد عليه في ذلك فهو يذكر: -

1-أنه ممن أدرك زمان النبي (صلی الله علیه و آله) (2) وإن لم يره ويسمع حديثه وأن النبي

ص: 89


1- كذا في المطبوع والصحيح (وتنتهي).
2- أنظر: ابن حجر، الاصابة في تميز الصحابة، المصدر السابق، ج6، ص212.

قال – وقد ذكر عنده مالك – [إنه المؤمن حقاً] (1) والذي يذكر – بحسب العادة – في مجالس العظماء وذوي النفوذ كالنبي (صلی الله علیه و آله) لابد وأن يكون كبير السن رفيع الشأن في قومه ولا اقل من كونه في سني الشباب.

2-وأنه شارك في بعض حروب الردة (2) ودار بينه وبين زعيمهم أبي

مسيكة (3) حديث تدل لهجته على أن صاحبه كان من رجال العرب المعدودين وكانت له في الحروب صولات وجولات، قال صاحب لباب الآداب (4) لما تواقف الجمعان في قتال الردة: دعا مالك الأشتر أبا مسيكة الأيادي فخرج له، قال: ويحك يا أبا مسيكة أبعد الإسلام والتوحيد أرتددت ورجعت إلى الكفر؟ فقال أبو مسيكة: يا مالك إياك عني أنهم يحرِّمون الخمرة ولا صبر لي عنها. فقال: فهل

ص: 90


1- أنظر الامين، اعيان الشيعة، تحقيق حسن الامين، (بيروت: دار التعارف، 1403ه-)، ج9، ص41.
2- حروب الردة حدثت بعد وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) / إذا اعلنت بعض القبائل العربية ارتدادها عن الاسلام، للتفاصيل أنظر: الطبري، تاريخ الطبري، ج2، ص504، اسعد وحبذ القاسم، ازمة الخلافة والامامة وآثارها المعاصرة (بيروت: الغدير، 1471ه-)، ص76؛ صادق النجمي، اضواء على الصحيحين، تحقيق يحيى كمال (قم: مؤسسة المعارف الاسلامية، 1419) ص373.
3- أبو مسيكة الايادي وهو من زعماء المرتدين كان مع جيش بني حنيفة، للتفاصيل أنظر المرتضى الشافي في الامامة ط2 (قم: مؤسسة اسما عليان، 1410ه) ج4، هامش ص263.
4- أنظر: اسامة بن منقذ، لباب الآداب، المكتبة الشاملة، موقع الوراق، وفيه توافق الفئتان دعا أبا مسيكة، علي الكوارني، جواهر التاريخ (قم: دار الهدى، 1426ه-) ج2، ص348.

لك بالمبارزة؟ فقال: نعم........الخ والذي يدعو الزعيم للمبارزة عادة ويحدثه بما سمعت ويجده الزعيم كفؤاً له ويبارزه لابد وأن يكون في سني الشباب على الأقل ولابد وأن تكون شهرته قد سبقته إلى ذلك الزعيم.

3-وأنه في واقعة الجمل صارع ابن الزبير (1) فصرعه وجثا على صدره وانفلت من بين يديه فسجَّل ذلك مالك بأبياته التي خاطب بها عائشة وعلل انفلاته بقوله:

ونجّاه مني شبعه وشبابهوأنّيَ شيخ لم أكن متماسكا (2)

إذاً كان في ذلك الزمان شيخاً غير متماسك الأعضاء وهبه كان في عقده الثامن ليصحّ لابن الزبير أن ينفلت من بين يديه مع أنه مالك وإذا ضممنا هذه الأحاديث بعضها إلى بعض استطعنا أن نستكشف زمن ولادته على وجه التقريب وليكن قبل بعثة النبي (صلی الله علیه و آله) بعقدين فوقه سنوات أو دونه سنوات ولا يهمنا من تحديد ولادته أكثر من هذا المقدار.

ص: 91


1- عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي (ت 73ه-) حكم مصر والحجاز واليمن عقب موت يزيد بن معاوية سنة 64ه- وقتل في مكة للتفاصيل أنظر الزركلي، الاعلام، ج4، ص87.
2- المجلسي، بحار الانوار، تحقيق محمد باقر البهبودي وآخر ط3 (بيروت: دار احياء التراث، 1403ه-) ج42 ص42، وأنظر تفاصيل الحادثة في كتاب الجمل لضامن بن شدقم المدني، تحقيق تحسين ال شبيب، (قم، محمد، 1419ه-) ص143.

وإذا أردنا أن نتعرف إلى تربيته عدنا إلى طبيعة العصر الجاهلي وإلى أساليب التربية عندهم فمالك - حسب ما أظن - لم تكن تربيته بدعا من التربيات ولم تكن لها ميزة خاصة تميزها عن تربيات سائر أولاد الزعماء.

وحياة البادية حياة واحدة ذات لون واحد وصيغة واحدة تكاد لا تتغير ولا تتبدل.

تغذية للطفل بلبن كريم تدرّه عليه والدة كريمة أو مرضعة من المراضع ولباس من الوبر أو الصوف، ثم أكل بسيط لا يتجاوز الخبز واللحم والسويق، وإذا تجاوزه فللرز وبعض الفواكه التي تمنحها طبيعة العراق الرخية، وتعويد على ركوب الخيل والفروسية، وإيحاء بعزة النفس واعتداد بها، واستهانة بالحياة إذا عارضت كرامته بنوع من المعارضة، ونجدة للمستجير، وتكريم للضيف، واهتمام في شؤونه و.... و..... إلى آخر ما عندهم من عادات وتقاليد يغرسونها في نفسية الطفل الصغير.

وأساليبهم في التربية أساليب إيحائية في الغالب فهم مثلاً عندنا يريدون أن يتعاهدوا في نفسيته غريزة حب الظهور بالنماء يوقعون الرغبة في نفسه بالمسابقة في طراد الخيل أو الرماية مع صديقه، على أن أوضاعهم الإجتماعية وحدها كافية في تنمية جميع الغرائز التي يمتاز بها العربي فالطفل أول ما يستقبل في صباحه المضيف ليسمع حديث الغزو والسلب والنهب وحديث الكرم

ص: 92

والشهامة والنجدة والحماية عن الذمار وحديث الشاعر الفلاني الذي احتفلت به قبيلته واقبلت القبائل عليه للتهنئة لأن هذا سيكون لسانها الصوّال وسيرفع من قيمتها في المجتمع بتسجيل مفاخرها والإشادة بذكرها والدفاع عنها وماذا عند العربي من الحديث غير هذا وأمثاله، ثم إذا هو أوى إلى مخدعه طلب إلى أمّه أن تحدثه بحديث يقتل به وحشة الليل – كما هي عادة الأطفال – فتهدهده أمّه بحديث آبائه الكرام وفتكهم وأسرهم لأعدائهم ونهبهم لأموالهم وحفظهم لأعراضهم التي تهون عندها أعزّ النفوس وأغلى النفوس وعلى هذا النحو يتلقى العربي دروسه في بيئته العربية التي تحمل طبيعتها طابع الجفاف من تخالف قبلات الشمس عليها ومن السموم الكاوي في الصيف والبرد القارص في الشتاء في تلك الخيام العربية التي لا تقي الجسوم من برد ولا حر، كل ذلك مما يزيد في خشونة العربي وقوة ساعده وسلام الله على الإمام، إذ يقول والشجرة البرية أصلب عوداً وأبطأ خموداً(1).

وبهذه البيئة وهذه التربية يتأثر العقل الباطن ويمتلئ بالصور والاحاسيس التي تسيطر على ميوله وغرائزه فتوجهها كيفما تريد.

ص: 93


1- في نهج البلاغة وغيرها من المصادر ((ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً))، أنظر: الإمام علي، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، (قم: دار الذخائر، 1412ه-) ج3، ص73.

وسيدنا الأشتر عربي كريم له ما للعرب من الخصائص الإجتماعية العظيمة.

فهو عربي في نسبه، عربي في بيئته، عربي في تربيته، عربي في عاداته وتقاليده.

نشأ في العرب وربي بتربية العرب وكانت فيه استعدادات نفسية تتقبل كل هذه الايحاآت (1) بقبولها الحسن مدة أيام تربيته فكان مثال العربي الصحيح في كل تلكم الصفات وسنرى في الأحاديث الآتية كيف تغلغلت فيه هذه الصفات والعادات وكيف مهدت لبلوغه هذه المكانة الرفيعة.

ويشب مالك ويدرج ثم يشب ويدرج فيصادف الإسلام ويدخل فيه ويتأثر بتعاليمه التي تعاهدت بعض تلكم العادات بالنماء من ناحية ولطّفت من بعضها الآخر من ناحية اخرى – ويكون هو – [المؤمن حقا] كما يقول النبي (صلی الله علیه و آله) وقد حصل في سبيل الذود عن الإسلام على لقب [الأشتر] المشرّف الذي طغى على اسمه فأغفله عن بعض الناس كما يظهر من حديث مالك مع ابن الزبير وذلك

ص: 94


1- كذا في المطبوع والصحيح (الإيحاءات).

عندما صرعه يوم الجمل وجلس على صدره وأخذ ابن الزبير يصيح – اقتلوني ومالكاً، اقتلوا مالكاً معي (1).

يقول مالك إن سبب سلامتنا أن القوم لم يكونوا يعرفون مالكاً ولو قال والأشتر لقتلنا الناس (2).

والشتر اختلال في العين (3) حدث بضربة جاءته من عدو له في أحد ميادين القتال (4).

وقد اختلف المؤرخون في تعيين الواقعة فقال جماعة منهم أنها شترت في واقعة اليرموك ويذكرون لها قصة(5)، وقال الاخرون أنها شترت في بعض حروب الردة(6) والقصة المتقدمة التي يذكرها صاحب لباب الآداب تنص على ذلك في تتمتها حيث يقول والتقيا – يعني مالكاً وأبا مسيكة – فتطاعنا بالرمحين

ص: 95


1- أنظر ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري (بيروت: دار احياء التراث العربي، 1408ه-) ج7، ص272.
2- أنظر: البلاذري، انساب الاشراف، المصدر السابق، ص242.
3- في اللغة انقلاب في جفن العين، أنظر الجوهري، تحقيق احمد عبد الغفور، ط4 (بيروت: دار العلم للملايين، 1407ه-) مادة شتر.
4- أنظر: المرتضى، الشافي في الامامة، المصدر السابق، ج4، هامش ص263.
5- أنظر: ابن اعثم، فتوح البلدان، تحقيق علي شيري، (بيروت: دار الاضواء، 1411ه-)، ج1، ص208؛ ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج56، ص380.
6- أنظر الامين، اعيان الشيعة، ج9، ص41.

وتضاربا بالسيفين وسبق سيف أبي مسيكة إلى رأسه فنزل فيه إلى عينه فشترها بالسيف وينسحب مالك من الميدان ريثما يطمأن من سلامة رأسه ويعود وقد عصب رأسه ويدعوه للمبارزة ويقبل عليه ويتصاولان ويتجاولان ولكن سيف مالك كان في هذه المرة اسبق إلى رأس غريمه وهكذا يعود وقد قتل غريمه وحصل على لقب الأشتر.

ولا يهمنا الآن أن نرجح أحد القولين على الآخر وما ندري لعل عينه الشتراء كانت قد تشرفت بمصافحة السيف مرتين في سبيل الذود عن الإسلام وإنما الذي يهمنا ان نسجل لمالك هذه المفخرة وان نسجل له بأنه ساهم في توسعه الرقعة الإسلامية في زمن أبي بكر وعمر، والتأريخ ان لم يحدد مقدار مساهمته في تلكم الحروب ولا مقدار علاقته بالخليفتين فقد سجل له كما سمعت بعض مواقفه في الردة واليرموك وسجل أنه كان من قواد حرب القادسية (1) وكانت له في هذه الحروب جولات وجولات ترتهب من صولتها الشجعان.

ص: 96


1- أنظر ابن أبي شيبة الكوفي، مصنف بن أبي شيبة، تحقيق سعيد اللحام، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر، 1409ه-) ج7، ص719.

-2-

وقبل أن أبدأ في تصوير أيام عثمان وفي موقف مالك منها، أحب أن أنبهكم بأن هذه الأيام لا نستطيع أن نفهمها ما لم نعد إلى الوراء إلى زمن النبي ثم إلى زمن الخلفاء، لندرس هذه الظروف التي شاهدها الناس واطمأنوا إليها وشاهدها مالك كما شاهدها الناس، ثم نعود لنقارن بينها وبين هذه الأيام التي أنكرها الناس وأنكرها مالك إنكاراً شديداً نحب أن نلمس أثره بهذا الحديث.

- قارئي الكريم – نحن الآن بين يدي صاحب الرسالة المقدسة ننظر المسلمين في جميع البقاع – ومن بينهم صاحبنا مالك – يمرحون في أجواء من العدالة الإجتماعية والمساواة في الحقوق الفردية، لا يميز فقير عن غني ولا يفرق ضعيف عن قوي ولا يسود عنصر عن عنصر، المؤمنون اخوة فلا فضل لعربي على عجمي ولا لقرشي على عربي ولا لهاشمي على قرشي وإنما الفضل للمتقي من المسلمين [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (1).

ثم ننظر إلى النظم التي يعملون عليها فلا نجد غير كتاب الله وسُنّة نبيه (صلی الله علیه و آله) وقد أوكل بهما جماعة من خيرة صحابته يعلمانها الناس الذين بعدوا عن النبي

ص: 97


1- سورة الحجرات آية 13.

إمّا لجهاد في سبيل الله وإمّا لبعد في المنزل وإمّا لحداثة عهدهم بالإسلام خصوصاً.

والفتوح الإسلامية قد بدأت في التوسع، فالناس بالنسبة إلى الإنتفاع بهما على حد سواء بسبب تلكم البعوث الإرشادية، والنبي (صلی الله علیه و آله) دائب على تعزيز مجتمعه وأحكام الروابط التي تربط بعضهم ببعض سواء بتعيين القواد الحازمين أو الولاة من ذوي الكفاية أو.... أو....

- قارئي الكريم – نترك النبي (صلی الله علیه و آله) وقد علم الناس معنى العدل والمساواة ومراعاة حقوق الضعفاء. ووكّل أمرهم من بعده إلى من يجد به الكفاية لإدارة شؤون الأمّة – في يوم الغدير (1) – نترك النبي على فراش الموت لننتقل إلى سقيفة بني ساعدة حيث يدبر المسلمون شؤون الخليفة من بعده، نتركه للنظر كيف يلقى حديث الغدير وكيف يدور الحديث حول اقرار مادة جديدة في نظمهم يسيرون عليها بالنسبة إلى التنصيب تكون ناسخة لحكم النبي، فهم بدلا من العمل بالنص حاولوا العمل بالإختيار ولكنه اختيار مخصوص من قبل أناس مخصوصين.

ص: 98


1- للتفاصيل حول واقعة الغدير أنظر الاميني، الغدير في الكتاب والسنة والادب (بيروت: دار الكتاب العربي، 1397ه-).

ولنتذكر دائماً أن حديث السقيفة لم يتجاوز المدينة إلى غيرها بل لم يتجاوز افراداً معدودين، وفُرض على الباقين فرضاً. فلبى جماعة وامتنع جماعة وكانت حروب الردة وكانت حروب مانعي الزكاة من المسلمين.

وهذا كله وصاحب الحق قابع في زاويته يندب النبي (صلی الله علیه و آله) ويندب حظوظ الناس لتأخرهم عن بيعته.

ونحن نعلم من حال إمامنا لا يهمه من أمر الخلافة إلّا أن يحفظ حقوق المجتمع والأفراد وإلّا ان يسير في العمل على رفع مستوى البشر على ضوء نظامية (1) الكتاب والسنة. ولا ننسى ان بيعة الإمام قد أخذت منه أخذاً فيه شيء من الشدة والصرامة (2) كما أخذت من قبل قسم من الصحابة امثال العباس الذين مناهم (3) بالأموال والسلطان، فلم ينجح بالنسبة إليهم وإن نجح بالنسبة إلى غيرهم أمثال أبي سفيان.

وهنا نلمح ظاهرة جديدة في توزيع المال والولاية نحتفظ بها لوقت الحاجة كما نحتفظ بظاهرة اخرى، نراها في تأخيره لعمر بن الخطاب عن جيش أسامة

ص: 99


1- كذا في المطبوع والصحيح نظاميه.
2- أنظر: ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة تحقيق طه محمد (مصر: الحلبي، د. ت) ج1، ص20.
3- كذا في المطبوع والصحيح (منوه).

(1) الذي أمر النبي بتنفيذه في حياته وكان فيه عمر بن الخطاب (2). ثم لا ننسى أن هذه الصور كلها أو جلها كانت تمر على صاحبنا مالك، وكانت تتأثر نفسيته الكريمة بها كما تتأثر سائر النفوس. ولكن الخليفة كان محكم السياسة صارم التنفيذ يعمل على طبق النظم المتقدمة مع شيء من الإجتهاد يفرضه بلباقة، فلا يتحسس المسلمون، أو يتحسسون فلا يجدون فيها شيئاً من المخالفة، أو يجدون فلا يستطيعون الحديث عنها بقليل أو كثير.

وتنتهي أيامه فيترك العمل بنظام الإختيار ويأخذ بالنص فينص لا على ولده عبد الرحمن (3) ولا على أحد من اقربائه - الذين كانت حالتهم في زمنه لا تفرق عن حالة سائر المسلمين فلم يكن لهم شيء من الإمتياز - ولا على صاحب يوم الغدير، بل على عمر بن الخطاب ساعده القوي في سقيفة بني ساعدة.

ص: 100


1- أسامة بن زيد بن حارثة (ت54ه-) صحابي ولد بمكة امره رسول الله على جيش المسلمين قبل ان يبلغ عمره العشرين لمقاتلة الروم للتفاصيل أنظر الزركلي، الاعلام، ج1، ص291.
2- كذا في المطبوع ولعل في العبارة سقط ويمكن ان يكون ((في تأخير تنفيذ جيش اسامة الذي امر النبي (صلی الله علیه و آله) / بتنفيذه في حياته وكان فيه عمر بن الخطاب)).
3- عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 53ه-) شهد بدراً مع المشركين ثم أسلم وشهد الجمل مع جيش طلحة والزبير، للتفاصيل أنظر ابن قتيبة، المعارف، تحقيق ثروة عكاشة (مصر: دار المعارف، د.ت) ص174.

ويتولى الخلافة فيزداد فَرَق الناس من درّته (1) ولكنه هو يأبى إلّا أن يعاملهم معاملة حسنة يهش لها القريب والبعيد فيعفو عن المسيء ويصفح عن المجرم ويدرأ الحد بلباقة غريبة عن بعض المسلمين ويسير بسيرة صاحبه تماماً. وهنا يجب أن لا ننسى حديث الفتوح في زمنه واتساع رقعتها وانشغال المسلمين في البعوث، مما قلل الارشاد وتعليم الناس بنظامي الإسلام – الكتاب والسنة – خصوصاً والمسلمون قد انشغل قسم منهم بالفتوح وضويق القسم الآخر عن الخروج من المدينة لأغراض سياسية (2)، وكان قد أسرّ بها أبو بكر لصاحبه وخليفته مع العلم لأن حقوقهم كانت تصل إليهم كما يريدون.

ولا يفوتنا أن نرى المظاهر العامة في العصرين فهي مظاهر هامة تشبه إلى حد بعيد ما كان عليه النبي (صلی الله علیه و آله) في أيام حياته.

وإنما قلت: تشبه، ولم أقل هي عينها لأن القارئ الكريم يعلم بأن النظام الذي كان سائداً في عصر النبي هو القرآن وسنته (صلی الله علیه و آله) أمّا الآن فقد حدث نظام آخر ربما يكون مخالفاً لتلكم الأنظمة، وهو (سيرة الشيخين) كما يعبر عنه عبد

ص: 101


1- أنظر المجلسي، بحار الانوار، ج31، ص28.
2- أنظر الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، تحقيق يوسف عبد الرحمن (د. م: د. ط، د. ت) ج3، ص120.

الرحمن بن عوف (1) في حديث الشورى حيث يقول للإمام علي (علیه السلام) : ((أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين)) (2).

ومن إباء الإمام ربما نستفيد أن في تلك شيئاً من المخالفة لهما والإمام عليٌّ صلب الإيمان لا يحضر لقبول أي شيء يخالف ذينك النظامين، وإلّا فما المانع من قبولها مع أن فيها تحقيقاً لغايته الكبرى التي خصه النبي الكريم بالخلافة من أجلها.

وهذه المخالفة لم تكن تهم احداً من المسلمين حسب ما يظهر وربما لم يلتفت إليها إلّا القليل، فقد فرضت بلباقة كبيرة نعرفها عند العمرين وحديث متعتان (التراويح (3) وصلة عائشة التي قللها عثمان فقالت قولتها تلك: ((اقتلوا

ص: 102


1- عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف (ت 32ه-)، ولد بعد الفيل بعشر سنين، شهد بدراً وسائر المشاهد، وأحد الستة: من اصحاب الشورى، للتفاصيل أنظر: ابن حجر العسقلاني، الاصابة في تمييز الصحابة، المصدر السابق، ج4، ص291.
2- أنظر: ابن الأثير: اسد الغابة في معرفة الصحابة، (بيروت: دار الكتاب العربي، د. ت) ج4، ص32.
3- أنظر: الكحلاني، سبل السلام، تحقيق محمد عبد العزيز، ط4 (مصر: مصطفى البابي الحلبي، 1380ه-) ج2، ص10.

نعثلاً فقد كفر)) (1) وتخلف عمر عن جيش أسامة تعطينا نموذجاً من تلكم السيرة التي فرضها عبد الرحمن وأباها الإمام علي (علیه السلام) .

ولم تطل حياة الشيخ في أيام خلافته كثيراً وإن طالت بالنسبة إلى صاحبه، فقد عاجله أبو لؤلؤة (2) رائد الحزب الاموي كما يقول العلائلي (3) بطعنة نجلاء كادت أن تأتي عليه في الوقت، ويحمل إلى الدار ويجتمع المشاورون عليه فيستشيرهم فيمن يخلف على الناس ويشيرون عليه بولده عبد الله ولكن سياسة عمر تأبى عليه ذلك، فيرد عليهم بقوله: إن عبد الله لا يحسن أن يطلق زوجته ومثله لا يليق بالخلافة وحسب آل أبي الخطاب أن يذهب بمسؤوليتها عمر (4).

وما أدرى ما كان رأي الناس إذ ذاك؟ أكانوا يتصورون أن الخليفة يمكن أن يعدل عن الإمام علي بعدما علل لهم تخلفهم عنه بصغر سنه (5)؟ وقد كبر الآن وأفرغ عن قيمته السياسية بقوله: (لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو

ص: 103


1- ابن الأثير، الكامل في التاريخ (بيروت: دار صادر، 1386ه-) ج2، ص206.
2- أبو لؤلؤة، غلام المغبرة بن شعبة قتل عمر بن الخطاب في سنة 23ه- للتفاصيل أنظر: اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج (بيروت: دار صادر، د. ت) ج2، ص159.
3- هو عبد الله العلائلي (ت 1416ه-)، ولد في بيروت وتخرج من الازهر في عام 1355ه-، للتفاصيل أنظر موسوعة اعلام الفكر العربي في كتابه سمو المعنى في سمو الذات.
4- أنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص27.
5- أنظر: الاميني، الغدير، ج10، ص5.

الحسن) (1)، وعن قيمته العلمية: بقوله: لا (يفتين أحد وفي المسجد علي)، أو قوله: (لولا علي لهلك عمر) (2).

ما أدري أكانوا يشكون بأن الأمر سيصير إليه بعد ابن الخطاب، خصوصاً وقد تألق نجمه في زمنه وازداد حب الناس له ورغبتهم في أن يعود إلى المنصب الذي اختاره الله له وحال صغر سنه دون ما يريد، وعلى الأخص أولئك الذين لا تعارض سياسة الإمام شيئاً من رغباتهم – وقد يكون من بينهم صاحبنا مالك – وما أدري بماذا استقبل الناس حكم عمر الأخير بقضية الخلافة؟

فهو حكم لم يألفوه قبل هذا، فالنبي نص والأمّة رجعت إلى الإختيار، وأبو بكر نص، وعمر يجمع بين النص والإختيار، فهو يجعلها شورى بين ستة كان من بينهم عليٌّ وعثمان ولكنه يقر بها من النص اذ يحدد حرية المنتخبين، فليس لهم أن يميلوا عن كفة عبد الرحمن بن عوف وعبد الرحمن لا يميل عن عثمان،

ص: 104


1- أنظر ابن عبد البر، الاستيعاب، تحقيق علي محمد البجاوي (بيروت: دار الجيل، 1412) ج3، ص1103.
2- الموفق الخوارزمي، المناقب، تحقيق مالك المحمودي، ط2 (قم: مؤسسة النشر الاسلامي، 1414ه-) ص81.

اذن فالخليفة نص على عثمان ولكنه (1) بطريق ملتوية كوّنت للإسلام أحزاباً جديدة.

ومن الطبيعي أن كل واحد من هؤلاء الستة كان قد غازلت نفسه أماني الخلافة كما غازلت أتباعه وأنصاره، وبهذا ضم إلى أحزاب أولاد الخليفتين أحزاباً أُخر سنلمح أثرها في الأحاديث الآتية.

ويموت عمر وقد كهرّب العقلية الجمعية بسيرته وسيرة صاحبه، فصارت في عداد الفروض على الخليفة الجديد.

وتجتمع الشورى والناس تتطلع بشوق ونهم إلى معرفة الخليفة، ويلمح المقداد (2) انصرافاً من عبد الرحمن عن صاحبه فيدوي بصيحته: ما رأيت مثل ما أوذي به أهل هذا البيت بعد نبيهم (3)، واخيراً نفترق (4) الشورى عن تنصيب عثمان ولكن بشروط ثلاثة:

الأول: أن يطبق أحكام القرآن.

الثاني: أن يطبق السنة النبوية.

ص: 105


1- كذا في المطبوع والصحيح (ولكن).
2- المقداد بن عمرو الكندي (ت 23ه-) صحابي أحد السبعة السابقين إلى الاسلام، للتفاصيل أنظر: الزركلي، الاعلام، ج7، ص282.
3- الاميني، الغدير، ج9، ص116.
4- كذا في المطبوع والصحيح (تفترق).

الثالث: أن يطبق سيرة الشيخين (1).

والآن فلننظر موقف الخليفة الجديدة (2) من هذه الشروط الثلاثة وموقف مالك من موقف الخليفة الجديد.

ص: 106


1- احمد بن حنبل، مسند احمد، المصدر السابق، ج1 ص75.
2- كذا في المطبوع والصحيح (الجديد).

-3-

أمّا موقف الخليفة من تلكم الشروط فقد كان موقفاً أغضب الكثير من المسلمين عليه وأرضى عنه جماعة بني أميّة ومن يلفّ لفّهم فقط.

وذلك أن الظاهرة التي اختص بها عثمان دون غيره من الخلفاء كانت ظاهرة غريبة لم يألفها المسلمون في تلكم العصور، وهي الإستجابة للنزعة القبلية، وقبيلة عثمان هم بنو أميّة (1) وبنو أميّة – كما يذهب جملة المؤرخين – لم ينصحوا للإسلام طرفة عين (2)، وقد عرفوا بين الناس بعدائهم لصاحب الرسالة، وحديث الحكم بن أبي العاص (3) ومروان بن

الحكم (4)

ص: 107


1- بنو أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي تولى قسم منهم الحكم منهم عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان سكنوا الحجاز ثم تفرقوا في بقاع المسلمين، للتفاصيل أنظر: عمر كحالة، معجم قبائل العرب، ط2، (بيروت: دار العلم للملايين، 1968م) ج1، ص42.
2- أنظر: المروزي، كتاب الفتن، تحقيق سهيل زكار (بيروت: دار الفكر، 1413ه-) ص72؛ اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي (المصدر السابق) ج2، ص172.
3- الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أسلم يوم الفتح وسكن المدينة، نفاه رسول الله الى الطائف وارجعه عثمان في خلافته، للتفاصيل أنظر: الزركلي، الاعلام، ج2، ص266.
4- مروان بن الحكم بن أبي العاص، (ت 65ه-) ولد بمكة لم يسمع رسول الله، اتخذه عثمان كاتباً له، وقاتل يوم الجمل مع طلحة والزبير، وشهد صفّين مع معاوية، تولى الحكم في الشام بعد اعتزال معاوية بن يزيد الحكم للتفاصيل، أنظر: المصدر نفسه، ج7، ص207.

مع النبي حديث مشهور (1)، ثم حديث أبي سفيان الذي كان يعتقد أن رسالة محمد انتصار لقبيلة على قبيلة لا دين على أديان كما صرح بقوله: أنظروا إلى ابن أبي كبشة – يعني رسول الله (صلی الله علیه و آله) – كيف سمت همته حتى قرن اسمه باسم الله في الأذان (2).

وكما أعرب عنها بفعلته النكراء وذلك عندما ولي الأمر عثمان، وطلب من خادمه أن يأخذ بيده إلى القبور – وكان أعمى – ويلمسه قبر حمزة اسد الله، ويأخذ الخادم بيده ويلمسه القبر فيركله برجله وتنفرج شفتاه عن أقبح كلمة يفوه بها ذلك الأعمى وهي: إيه أبا عمارة إن الذي كنا نتقاتل عليه بالأمس هو اليوم في أيدي صبياننا (3).

وتجتمع ندوة أمية ولم يكن فيها أجنبي وذلك بعد خلافة عثمان، فيدخل هذا الأعمى ويسأل الناس هل في الدار من يحتشم ثم يطمئن من عدم وجود الأجنبي،

ص: 108


1- أنظر: نص الحديث ((هذا والله الحدث العظيم ان يصبح عبد بني جمح على بنية أبي طلحة)) وذلك عندما سمع بلال يؤذن، أنظر: المقريزي في امتاع الاسماع، تحقيق محمد عبد الحميد، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1419ه-) ج1، ص396.
2- لم اعثر على هذا النص، وربما نقل المعنى (المحقق).
3- في المصادر يا ابا عمارة ان الامر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمسى في يد غلماننا اليوم يلعبون به، أنظر ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج16، ص127، محمد الريشهي، موسوعة الإمام علي في الكتاب والسنة والتاريخ، تحقيق مركز بحوث دار الحديث (قم: دار الحديث، 1421ه-)، ص160.

فيرسل كلمة تمثل لك عقيدته تماماً: تلقفوها يا بني امية تلقف الكرة فو الذي يحلف به أبو سفيان لا جنة ولا نار وإنما هو الملك (1).

والتأريخ لم يحدثنا عن إنكار الحاضرين من بني امية عليه إنكاراً جدياً، وربما تكون هذه الكلمة قد صادفت مواقع الرضا من نفوسهم فاطمأنوا إليها جميعاً.

والإستجابة للنزعة القبلية لم تكن معهودة في زمن النبي والعمرَين كما رأينا في الحديث السابق، وإنما كانت عاطفة جاهلية كان يظن أنها ماتت بموت ذلك العهد المظلم.

غير أن الخليفة عثمان يبعثها من جديد فيرسل على الحكم ويرسل على مروان بعد أن بعدهما (2) النبي ولعنهما وبعد أن أصر على تبعيدهما العُمران تبعاً لسنة النبي.

وهذه الظاهرة تبرز في مقامين هامين.

ص: 109


1- أنظر: الطبري، تاريخ الامم والملوك، ج8، ص185؛ المتقي الهندي، كنز العمال، ج11، ص168؛ القمي، الكنى والالقاب، ج1، ص88؛ ابن الصباغ، الفصول المهمة، ج1، ص354
2- كذا في المطبوع والصحيح (أبعدهما).

الأول: في نظرته إلى توزيع العمال على الأمصار. فقد كاد أن يستعمر الولاية عن الخليفة بنو امية، وهذا ما لا يستطيع أن يهضمه سائر الصحابة. خصوصاً وقد كان في امية امثال ابن أبي سرح (1) ممن أخبر النبي (صلی الله علیه و آله) عنهم بأنهم من أهل النار (2)، وكان توزيعه على هذه الصورة.

الوليد على الكوفة (3).

عبد الله بن أبي سرح على مصر.

معاوية بن أبي سفيان على الشام.

عبد الله بن عامر على البصرة (4).

سعيد بن العاص (5) على الكوفة بعد عزل الوليد.

ص: 110


1- عبد الله بن سعد بن أبي سرح، القرشي، هدر النبي (صلی الله علیه و آله) / دمه يوم فتح مكة واستعمله عثمان على مصر، للتفاصيل أنظر: ابن قتيبة، المعارف، المصدر السابق، ص200.
2- أنظر: الاميني، الغدير، المصدر السابق، ج9، ص143.
3- الوليد بن عقبة بن أبي معيط الاموي (ت 61ه-) أخو عثمان لامه أسلم يوم فتح مكة ولاه عثمان الكوفة، سنة 25ه- فشهد عليه جماعة عند عثمان بشرب الخمر، أنظر: الزركلي، الأعلام، ج8، ص122.
4- عبد الله بن عامر بن كريز الأموي (ت 59ه-) ولي البصرة ايام عثمان، وشهد الجمل مع عائشة ولم يحضر وقعة صفّين، مات بمكة، للتفاصيل أنظر: المصدر نفسه، ج4، ص94.
5- سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص (ت 59ه-) تربى في حجر عمر بن الخطاب وولّاه عثمان الكوفة، للتفاصيل أنظر: المصدر نفسه، ج3، ص97.

والتأريخ يحفظ لنا في حناياه قضايا طريفة عن أولئك الولاة الذين اعتقدوا بأنهم صاروا في نجوة عن تعاليم الإسلام، وسنختار الآن لك منها بعض ما يريحك من جد القول ومرارته في هذا الصيف القائض، ونحيلك على التأريخ في التعرف إلى سائر قصصهم التي تقترب كثيراً من هذه. وليكن هذا البعض من والي الكوفة لئلا نبتعد عن صاحبنا مالك الذي كان يشاهد أعمال ولاته عليها وينكرها في نفسه وقد يجاهر بالإنكار كما سنرى ذلك.

يذكر المسعودي في مروجه (1): أن الوليد بن عقبة كان يشرب الخمر مع ندمائه ومغنيه من الليل إلى أول الصباح، فلما أذنه المؤذنون بالصلاة خرج منفصلاً في غلائله فتقدم إلى المحراب في صلاة الصبح، فصلى بهم أربعاً وقال: تريدون أن ازيدكم، وقيل أنه قال في سجوده وقد أطال: إشرب واسقيني، فقال بعض من كان في الصف الأول: ما تريد لا زادك الله من (2) الخير، والله لا أعجب إلّا ممّن بعثك الينا والياً (3) وعلينا أمير.

ص: 111


1- أنظر: ج2، ص334.
2- في المصدر اضافة كلمة (يزيد).
3- في المصدر (وولّاك علينا).

وكان (1) هذا القائل عتاب بن غيلان الثقفي (2).

وخطب الناس الوليد فحصبه الناس بحصباء المسجد فخرج يترنح ويتمثل بأبيات تأبط شرا.

ولست بعيداً عن مدام وقينة *** ولا لصفا(3) صلد عن الخير معزل

ولكنني اروي من الخمر هامتي *** وامشي الملا بالساحب المتسلسل

وبذلك يقول الحطيئة:

شهد الحطيئة يوم يلقي ربه *** أن الوليد أحق بالعذرِ

نادى وقد تمت صلاتهم *** أأزيدكم ثملاً وما يدري

ليزيدهم اخرى ولو قبلوا *** لقرنت بين الشفع والوتر

حبسوا عنانك في الصلاة ولو *** خلوا عنانك لم تزل تجري(4)

وهذه الأبيات – مع ظرافتها – تحمل التهكم اللاذع الجميل وما أظنكم تغفلون عن ذلك وعن خصوص هذا البيت:

حبسوا عنانك في الصلاة ولو *** خلوا عنانك لم تزل تجري

ص: 112


1- كذا في المطبوع والصحيح (وكان).
2- لم اعثر على ترجمته. (المحقق)
3- في المصدر (بصفا).
4- أنظر المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص334.

ولو كنت ممن يقنعون بأحكام القدماء في النقد لقلت بأن هذا البيت الّذع بيت في اشعار العرب إذا صح هذا الإستعمال.

ويقول صاحب المروج (1): إن الكوفيين هجموا عليه وهو سكران مضطجع لا يعقل فأيقظوه من رقدته فلم يستيقظ ثم تقيأ ما شرب عليهم من الخمر، فانتزعوا خاتمه من يده وخرجوا من فورهم إلى المدينة فأتوا عثمان بن عفان فشهدوا عليه، فقال عثمان لأبي زينب الأزدي وابي جندب الأزدي: وما يدريكما أنه شرب خمراً، فقالا: هي الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية ودفعا إليه خاتمه، فرزأهما عثمان ودفع في صدورهما (2).

وهنا تظهر للناس ظاهرة جديدة وهي تعطيل حد من حدود الله بهذه الصراحة، ولا عذر في ذلك إلّا أنه من بني امية، ولكن الإمام يصر على إقامة الحد عليه ويدور حديث طويل (3) لا يهمنا تسجيله الآن.

وبعد لأىٍ عزله عثمان وولى عليها سعيد بن العاص، وكان هذا لا يقل شراً عن ذاك وقد دارت بينه وبين مالك ملاحاة منكرة سنأتي على تفصيلها.

ص: 113


1- أنظر المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص334.
2- المصدر نفسه باختلاف يسير.
3- المصدر نفسه.

وهذه السيرة لم يكن يألفها المسلمون في زمن النبي والشيخين من أحد من الولاة أياً كان، ولو كان فلم يألفوا أن يسكت الخليفة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات.

أمّا المقام الثاني: الذي برزت فيه هذه الظاهرة فهو نظرته إلى توزيع الأموال، فقد كان يألف الناس – كما رأينا في الفصل السابق – أن يوزع المال على السواء، وإذا تجاوز ذلك الحد في أيام الشيخين فذلك لأغراض سياسية لا تدوم وإلّا فابن الخطاب كان يحج مع ابنه ومجموع النفقة ستة عشر ديناراً ومع ذلك يقول لابنه: لقد أسرفنا في صرف المال (1).

وعثمان كان يعطي من بيت المال عطاء من لا يخاف الفقر. وحسبك أن تعلم بان البُدَر التي حملت إلى عثمان من تركة عبد الرحمن بن عوف - الذي اختاره للناس خليفة - كانت تحول بين عثمان والواقف كما يحدِّث صاحب المروج (2).

ص: 114


1- أنظر: ابن كثير، البداية والنهاية، المصدر السابق، ج7، ص152.
2- أنظر: المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص334.

وحسبك أن تعلم أن يعلى بن امية (1) خلّف بعد موته خمسمائة ألف دينار عدا ديونه (2).

وابن أبي الحديد (3) يسجل لنا بعض الأموال التي وزعها على قبيلته وهاكم قائمة الحساب:

مروان بن الحكم خمس أرمينية كله.

عبد الله بن خالد بن اسيد اربعمائة ألف درهم.

الحكم بن أبي العاص مائة ألف درهم.

عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله به من فتح افريقية.

أبو سفيان مائة ألف درهم.

الحرث بن الحكم مائة ألف درهم.

ص: 115


1- يعلى بن أمية بن أبي عبيدة (ت 37ه-) من الاغنياء حليف قريش، أسلم بعد الفتح، انضم إلى الزبير وعائشة في معركة الجمل وصار من اصحاب علي وقتل في صفّين، للتفاصيل أنظر: الزركلي، الاعلام، ج8، ص204.
2- المسعودي، مروج الذهب، المصدر السابق، ج2، ص334.
3- أنظر: ج1، ص199.

هذا عدا الإقطاعات التي أقطعها لهم، كفدك لمروان وسوق تهروز الذي تصدق به النبي (صلی الله علیه و آله) على المسلمين فأقطعه عثمان الحرث بن الحكم وعدا مال العراق الذي وزعه فيهم.

وهذا التوزيع نفسه لم يطق تحمل تبعته أمين ماله زيد بن ثابت (1)، فجاء إلى عثمان بالمفاتيح وهو يبكي ويستقيله وعثمان يقول: أتبكي لأني وصلت رحمي (2).

ثم مراعي المدينة التي حماها عن غنم المسلمين وخصها بهم، وهذه ارستقراطية فرضها عثمان لقبيلته على الناس، ولم تكن لتتحمل من قبل الأصحاب الذين شاهدوا النبي (صلی الله علیه و آله) وشاهدوا العمرين ولم يشاهدوا هذه الأرستقراطيات.

ومن هنا كثر الإنكار عليه وتجاوز حد التهامس إلى الإعلان، فكتبت صحيفة سجلت فيها المأخذ على عثمان وحملها عشرة من الصحابة (3) وتوجهوا

ص: 116


1- زيد بن الثابت بن الضحاك الانصاري (ت 45ه-)، صحابي، ولد بالمدينة ونشأ بمكة كان ابن عباس يأتي اليه للأخذ عنه، للتفاصيل أنظر: الزركلي، الاعلام، ج3، ص570.
2- نفس المصادر زيد بن أرقم، أنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص199؛ الغدير، ج8، ص260.
3- أنظر: ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص35.

إليه، غير أن سطوة الخليفة وسلطته وتنمره من أجل قبيلته وقف دون سير الصحابة، وسار عمار وحده يحمله إيمانه وثباته فلم تعترضه هذه العقبات ويدخل على الخليفة ويدور حديث طويل ينتهي بضرب عمار بالسوط الذي اتخذه للتأديب بدل الدرة التي كان يستعملها النبي والشيخان، ثم سحقه برجله حتى أصابه الفتق (1) مما اغضب حلفاء عمار عليه وسائر المسلمين.

وهذه العقوبات لم تكن لتستطيع أن تقف لعمار ولأمثاله كأبي ذر ومالك فتمنعهم من الإنكار، وهذا أبو ذر يبعد إلى الشام ويهان في الشام ويؤتى به على بعير يقلق به حتى أدمى ساقيه، وهو مع ذلك ما ترك الإنكار عليه حتى أبعد إلى الربذة (2) وحتى حرم على الناس مشايعته (3).

وهنا يجب أن لا ننسى حديث الأحزاب التي تكونت من حادثة الشورى وعملها السري، فقد كان لأعمالها أعظم الآثار وابن قتيبة (4) يحفظ لنا في ثنايا تاريخه وثيقة قيّمة تصور لنا بعض تلكم الأعمال.

ص: 117


1- أنظر: الاميني، الغدير، ج9، ص16.
2- الربذة، قرية من قرى المدينة على طريق الحجاز، أنظر: الحموي، معجم البلدان (بيروت: دار احياء التراث، 1399ه-) ج3، ص24.
3- أنظر: اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص172.
4- أنظر: ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص38.

وهذه الوثيقة كتاب أرسل من بعض رجالات الأحزاب إلى من بمصر من المسلمين، ولعله أرسل نظيره إلى العراق وإلى غيره من البلدان.

وحديث مالك الأشتر مع طلحة والزبير الذي جاء فيه أنه قال: وهذا كتابكم وصل الينا – يشير إلى ذلك الكتاب – وذلك في أحرج ساعات عثمان يدلنا دلالة واضحة على ما قلناه، وهاكم نص الكتاب.

بسم الله الرحمن الرحيم

من المهاجرين الأولين وبقية الشورى إلى من بمصر من الصحابة والتابعين.

أمّا بعد: أنْ تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها. فإن كتاب الله قد بدل وسنة رسوله قد غيرت وأحكام الخليفتين قد بدلت، فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية أصحاب رسول الله والتابعين بإحسان إلّا أقبلإ إلينا وأخذ الحق لنا وأعطاناه، فأقبلوا إلينا إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم وفارقكم عليه الخلفاء.

ص: 118

غُلِبْنا على حقنا واستولي على فيئنا وحيل بيننا وبين امرنا وكانت الخلافة خلافة نبوة ورحمة وهي اليوم ملك عضود (1) ((كذا)) من غلب على شيء أكله (2).

وهذا الكتاب كما ترون كتب بلهجة عاطفية تستثير كل من يحمل طاقة الإيمان بين جنبيه إلى الاستجابة إلى ما فيه. فالصحابي الكريم الذي يذكر عهد النبي فيذكر عدله ورأفته يخبر عن خليفة المسلمين عثمان بما يخالف كتاب الله وسنة نبيه فلا يثور للدفاع عن مبدئه، إن هذا لا يمكن أن يكون.

- قارئي العزيز – سقت هذا الكتاب بهذا التعليق البسيط لتطمئن معي إلى إن حديث الأحزاب كان من أهم العوامل المؤثرة على عثمان.

أمّا سائر العوامل التي شاركت في التأثير – ولم نذكرها – فكثيرة جداً وسنتعرض الآن للمهم منها بشيء من الإختصار:

أ-ضربة عبد الله بن مسعود (3) ..

ص: 119


1- في المصدر (عضوض).
2- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص38.
3- عبد الله بن مسعود بن غافل حليف بني زهرة (ت 33ه-)، صحابي جليل من السابقين، للتفاصيل أنظر: الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، تحقيق مصطفى عبد القادر (بيروت: دار الكتب العلمية، 1417ه-) ج1، ص161.

وغضب هذيل من أجله (1).

ب- درؤه الحد عن عبيد الله بن عمر (2).

ت- إتمامه الصلاة بمنى مع وجوب القصر (3).

ث-تقريب مروان وتقديمه على أصحاب رسول الله من أهل الشورى وغيرهم وأخذه بإشاراته (4).

ج-إعراضه عن الأخذ بما يشير به الإمام علي (علیه السلام) وسائر أصحاب الشورى (5).

ح-صيحة عائشة: أقتلوا نعثلاً فقد كفر (6).

خ-حديثه مع المصريين الذين كتب إلى وإليه أن ينكل بهم بدل أن ينعزل عن الولاية كما وعدهم عثمان (7).

ص: 120


1- أنظر: الاميني، الغدير، ج9، ص3.
2- عبيد الله بن عمر بن الخطاب (ت 37ه-) صحابي، أسلم بعد ابيه، رحل إلى الشام في ايام علي، شهد صفّين وقتل فيها أنظر: الزركلي، الاعلام، ج4، ص196، وأنظر: الحادثة في تاريخ الطبري، ج3، ص303.
3- ابن حجر، فتح الباري، ط2 (بيروت: دار المعرفة، د. ت)، ج2، ص464.
4- أنظر: الاميني، الغدير، ج2، ص174.
5- أنظر: المصدر نفسه.
6- أنظر: الحلبي، السيرة الحلبية (بيروت: دار المعرفة، 1400ه-) ج3، ص357.
7- أنظر: الطبري، تاريخ الطبري، ج3، ص405.

د-إعراض عبد الرحمن بن عوف عنه وقوله للإمام علي (علیه السلام) – وقد تطارحا حديث عثمان وقال له الإمام أنها منك يا عبد الرحمن -: إحمل سيفك وأحمل سيفي (1).

- قارئي العزيز - هذه صورة من أيام عثمان أحببت أن اسجلها كما يصورها التأريخ لأستطيع الإبتعاد عن الاستجابة للعواطف.

أمّا موقف مالك الذي مهدنا له بهذا الحديث الطويل من هذه الأيام فذلك ما سندرسه في الفصل الآتي.

ص: 121


1- أنظر: المرتضى، الشافي في الإمامة، ج4، ص264.

-4-

هذه الأدوار الثلاثة التي صورها لنا القلم في الفصلين السابقين، هي التي شاهدها مالك وشاهدها سائر المسلمين وهي التي تمثلت أمامه بلونين مختلفين.

أولاهما: كان يصور المظاهر الإسلامية بما فيها من العدل والإنصاف والاحتفاظ بالظواهر العامة الشائعة في عهد النبي (صلی الله علیه و آله) تماماً وفي عهد العمرَين في الجملة كما يعبر الفقهاء.

وثانيهما: كان يصور المظاهر العامة وفيها شيء من الجدة وشيء من القدم، فهي جديدة إذا قيست بما قبلها من أيام النبي والعمرَين، وهي قديمة إذا لوحظ قياسها بما قبل النبي، فهي أقرب ما تكون إلى المظاهر القديمة منها إلى المظاهر الحديثة.

فكان من الطبيعي أن يتنكر المسلم المؤمن بتقاليده الإسلامية لما يشاهده من تدهور المظاهر الإسلامية الروحية والإجتماعية.

ومالك هو المؤمن حقاً - كما يعبر النبي في شهادته السابقة -، له ما للمؤمنين من المواقف وعليه ما عليهم، والتأريخ لم يحدثنا عن مواقفه بأكثر مما حدثنا عن مواقف إخوانه من المؤمنين أمثال أبي ذر والمقداد وعمار، ولم يكن نصيبه من الألم في سبيل إنكاره عليه بأكثر من نصيب إخوانه هؤلاء.

ص: 122

وإذا اختلف عنهم بعض الاختلاف فذلك لضرورة كانت تدعو إليها ظروفه الخاصة، وذلك لأن مالكاً كان يختلف عن أولئك في القوة والمنعة.

فهو سيد مطاع في قومه وهو سيد مطاع في بلده وهو إذا تكلم فلا يتكلم إلّا بقوة آلاف من السيوف تشهر بأمره وتغمد بأمره، بينما كان أولئك الرجال لا يمثلون إلّا أنفسهم، ومن هنا اختلف حكمه عن أحكامهم.

فإذا كان واجب أولئك أن يجاهروا في الدفاع عن مبادئهم بألسنتهم، كان واجبه كذلك حيث ينفع اللسان، وإذا كان قد أعوز أولئك السلاح والرجال ليشنّوا على هذه التقاليد حرباً شعواء، كان قد توفر لديه ذلك السلاح وتلكم الرجال فواجبه أن يصرخ في شحرجة السلاح، إذا لم تنفعه صرخاته اللسانية السلمية وذهبت ادراج الرياح.

وهو كما عرّفه الإمام علي (علیه السلام) : ((لا يخاف وهنه ولا سقطته ولا يطؤه عمّا الإسراع إليه أحزم ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل)) (1).

حاول أن يجادل بالتي هي أحسن، فكان جزاؤه من قبل الولاة جزاء مراً لا يستساغ طعمه لأمثاله من الزعماء، ولكنه هو قابل ذلك باطمئنان وهدوء لعل الله يصلح بإنكاره السلمي حالاً من احوال الولاة والخليفة.

ص: 123


1- علي بن أبي طالب، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج3، ص14.

كان في الكوفة وكان من ولاتها سعيد بن العاص وكانت له مع الوالي أحاديث جمة، أنكر فيها عليه بعض الأعمال التي كانت تصدر منه. وينقل لنا صاحب المروج (1) بعض تلكم الأحاديث وإليكم أوجه نموذج منها: قال الوالي وقد جلس إليه سمّاره وكان فيهم مالك الأشتر: أن هذا السواد فطير لقريش.

قال مالك: وقد صعب عليه أن يسمع هذه الأنانية التي تميز قريشاً عن سائر المسلمين وتجعل لهم حقاً من حقوق المجتمع من دون أن تستند إلى مبرر نفسي: أتجعل ما أفاء الله علينا في ظلال سيوفنا ومراكز رماحنا بستاناً لك ولقومك.

وتلاحى معه في الكلام، فكتب سعيد إلى عثمان بشأنه فكان نصيبه نصيب أبي ذر عندما أنكر على عثمان، وكتب عثمان إلى سعيد ان سيّره إلى الشام، وكأنّ الشام هي المنطقة الوحيدة التي ربيت تربية اموية خالصة لا تؤثر عليها الدعايات كما يظهر من حديث معاوية مع عمار وعلي، وذلك حيث يقول له: إن في الشام مئة الف(2) فارس كل يأخذ العطاء - من مال المسلمين طبعاً - مع مثلهم من ابنائهم وعبدانهم لا يعرفون علياً ولا قرابته ولا عماراً ولا سابقته ولا الزبير

ص: 124


1- المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص346.
2- كذا في المطبوع والصحيح (مائة).

ولا صحبته ولا طلحة ولا هجرته ولا يهابون ابن عوف ولا ماله ولا يتقون سعداً ولا دعوته(1) الخ.

ويسير مالك ومعه جماعة من المؤمنين إلى الشام، فيستقبلهم معاوية بوجهه الكالح ويتنمر لهم وتقع بينه وبينهم ملاحاة تنتهي بقيامهم إليه وأخذهم برأسه (2).

واخيراً أعيت معاوية الحيل معهم فكتب إلى عثمان، فسيرهم إلى حمص ثم إلى الكوفة أو بالعكس (3)، وعلى حمص كان من قبل معاوية الشاب المتهور عبد الرحمن بن خالد بن الوليد (4)، وفيها شدد عليهم غاية التشديد فكان يسمعهم ألوان السباب وكان يركب الخيل ويتركهم يسيرون في ركابه ماشين (5).

وهكذا استمر على حالته تلك إلى أن أعتقد بأنه استطاع أن يميت إيمانهم وعقيدتهم في الدفاع عن مبدئهم في صدورهم، فكتب إلى عثمان في شؤونهم

ص: 125


1- أنظر: ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص32.
2- أنظر: الاميني، الغدير، ج9، ص32.
3- المصدر نفسه.
4- عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغبرة المخزومي (ت 46ه-) أدرك النبي ولم يحفظ عنه، كان متحرفاً عن علي وبني هاشم، شهد صفّين مع معاوية، دس اليه معاوية السم فمات، أنظر: ابن عبد بر، الاستيعاب، ج2، ص830.
5- أنظر: الاميني، الغدير، ج9، ص32.

فأمره أن يعيدهم إلى الكوفة وقيل إلى المدينة ثم إلى الكوفة، فعاد أولئك إليها وعاد إنكار مالك على الوالي والخليفة (1).

واخيراً لم يجد مالك بداً من الشخوص إلى المدينة بنفسه في نفر من أصحابه يطلبون من الخليفة أن يحول سعيداً عن ولاية الكوفة وليول عليهم من بعد ذلك من يشاء. ولكن الخليفة يمنيه ولا يبت بأمر قبل أن تجتمع ندوة امية المؤلفة من عماله على الولايات، ليطرح فيها ذلك الحديث وتجتمع الندوة وتدور المفاوضات وتنتهي عن اقرار كل واحد على ولايته، وإذا بالوعود التي كان يعطيها الخليفة تتلاشى في الأثير، ويخرج ابن العاص وكان قد دس نفسه بذلك المؤتمر ويستقبله طلحة والزبير ويسألانه عما وراءه كأنهما أرسلاه بالبحث عن مهمة.

وما يدريك لعله كان يقوم لهما بوظيفة التجسس على الخليفة باعتبارهم زعماء أحزاب، ويجيب عمرو بن العاص: ((الشرّ ما ترك شيئاً من المنكر إلّا أتى به وأمر به الخ)) (2).

وجاء الأشتر فقالا له: إن عاملكم الذي قمتم فيه خطباء قد رد عليكم وامر بتجهيزكم في البعوث وبكذا وكذا، فقال الأشتر: والله قد كنا نشكو سوء سيرته

ص: 126


1- المصدر نفسه.
2- المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص346.

وما قمنا به خطباء فكيف وقد قمنا! وايم الله على ذلك لولا أني أنفدت النفقة وأنضيت الظهر لسبقته إلى الكوفة حتى أمنعه دخولها، فقالا له: فعندنا حاجتك التي تقوتك في سفرك، قال: فاسلفاني اذن مئة ألف درهم، قال: فأسلفه كل واحد منهم خمسين ألف درهم.

وهذه الحادثة توضح لك عمل الأحزاب المنظم الذي كان يعمل من وراء الستار للقضاء على الخليفة وللكيد له، وإلّا فما عهدنا طلحة وما عهدنا الزبير يقرضان الأموال بهذه السهولة لو لم تكن المآرب تعمل عملها الجبار في نفوسهم.

ويسير مالك وقد قبض المال ووزعه على أصحابه ويجد الراحلة ليدخل الكوفة قبل سعيد بن العاص ويسبق سعيداً ويصعد المنبر وسيفه في عنقه ما وضعه بعد ويقول: أمّا بعد، فإن عاملكم الذي أنكرتم تعديه وسوء سيرته قد رد عليكم وأمر بتجهيزكم في البعوث، فبايعوني على أن لا يدخلها.

فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة ويُخْبَر سعيد بواقصة (1) فيعود من حيث أتى.

ص: 127


1- واقصة: منزل بطريق مكة يقال له: واقصة الحزون. أنظر: الحموي، معجم البلدان، ج5، ص353.

وهكذا بدأ مالك يستعمل السنان حيث اعياه تأثير لسانه الصوال - ولكنه رحمه الله كان كما يقول الإمام لا يخاف وهنه ولا سقطته - فلم يخرج بجيشه الجرار إلى الخليفة بل لم يقابل الخليفة بقليل ولا كثير حرصاً على المحافظة على الأمن والهدوء وحفظاً للدماء، وقد كتب إلى عثمان: إنّا والله ما منعنا عاملك إلّا ليفسد عليك عملك ولِّ من أحببت (1).

ولك أن تتصور حالة الخليفة اذ ذاك وتأثره النفسي من هذا التمرد عليه وإن كان قد اطمأن حسبما أظن لهذا الكتاب الذي كتب بلهجة بريئة يطفح عليها البر بالخليفة والشفقة على الدولة، الذين لم يرعهما الخليفة عند ما (2) ولى عليهم سعيداً. واخيراً يسأل الخليفة عمن كان في زمن عمر فيوليه وإذا هو أبو موسى الأشعري (3).

وهذه الحادثة - أعنى حادثة سعيد - تركت في نفس مالك انفعالات شديدة جديدة هي أعمق من جميع تلكم الانفعالات. وهذا امر طبيعي، فالحادثة قد أثارت في نفسه غريزتين؛ غريزة الاحتفاظ بالكرامة لأنها كانت موجهة لشخصه، فهو الذي طلب عزله وهو الذي وعد وهو الذي قوبل بهذا اللوم من المقابلة؛

ص: 128


1- في المصادر ((عاملك الدخول لنفسد عليك عملك ولكن لسوء سيرته فينا وشدة عذابه فأبعث إلى عملك من احببت))، أنظر: المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص346.
2- كذا في المطبوع والصحيح (عندما).
3- المصدر السابق.

وغريزة المحافظة على قداسة الدين باعتبارها من التقاليد المتغلغلة في نفسية المؤمن.

وهذه الحادثة تمس كرامة الدين الحنيف والا فما كان المعهود كما رأينا في زمن النبي والعمرين أن يعرض مجتمع للشقاء ليسعد فرد أو أفراد، وما كان المعهود أن يؤمر على المسلمين من يخالف الكتاب والسنة بصراحة ويصر على ابقائه لأغراض فردية.

ويحج (1) مالك وهو بعد في ثورته النفسية فيمر على الربذة، وإذا ذكرنا الربذة تذكرنا تلك القرية الحقيرة التي لا يسكنها غير ثلة من اليهود ولا يمر عليها غير بعض المنقطعين وهي تبعد عن المدينة غير قليل؛ وتذكرنا ذلك الشيخ الصادق الذي لم تكن الخضراء قد اظلت اصدق ذي لهجة منه، وقد عرّضه صدقه وامره بالمعروف ونهيه عن المنكر إلى أن ينقل في البلدان على اسوأ حال. فمن المدينة إلى الشام ومن الشام إلى المدينة ومن المدينة إلى الربذة القرية التي هي أبغض ما تكون إليه، لأنها تبعده عن بلدته التي ضاقت به ذرعاً فلفظته في العراء، ولأنها تبعده عن بيت الله الذي ود لو يقضي بقايا عمره في التنسك به بعيداً عن عالم السياسة، فأبى عليه.

ص: 129


1- وفي الطبري وابن الأثير ان حجته هذه كانت قد سبقت الحوادث المتقدمة(المؤلف).

تذكرنا كل ذلك وتذكرنا جلسة هذا الشيخ في كسر بيته ومعه ابنته الصغيرة وزوجته، وهو يتذكر ما عد له النبي من المصائب التي ستجري عليه وآخرها أنه سيموت في الربذة، كل ذلك في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات.

وكأني به أتمثله وهو جالس على وسادته يشكر الله على ما ابتلي به ويشكر الله على صبره على البلاء، ثم يتذكر أن ساعة الموت قد قربت منه فيأمر زوجته بأن تعد بقايا طعامه لضيوف جدد سيقدمون عليه، فتعد الطعام ويجلس جلسة المنتظر ثم يأمرها أن تتطلع إلى قارعة الطريق لتنظر هل قدم عليهم الأضياف، وتتطلع فلا تجد ثم تتطلع فترى الأضياف فتبشر الشيخ بذلك، ويأمرها أن تدعوهم إليه فيقبلون عليه ويقبل عليهم ويجلس الجميع فيتحدثون.

وكأني بأصوات الأضياف كانت تخرج مشفوعة بآهات لمنظر الشيخ البائس وأنات لحالة الإسلام، ولكن الشيخ يحدثهم بحديث عن النبي (صلی الله علیه و آله) فيطربون لسماع اسمه ويحنون لعهده الكريم وتطمئن نفوسهم لحديث الشيخ.

قال الشيخ: كنت في جماعة من الصحابة بين يدي صاحب الرسالة، فقال: سيموت احدكم في فلاة وسيشهد الصلاة عليه ودفنه جماعة من المؤمنين، ثم يعقب الشيخ فيقول وكلهم ماتوا في بلدة إلّا أنا، فأنتم المؤمنون(1) ثم طلب أن

ص: 130


1- نقل المؤلف هذا النص بالمعنى (المحقق)؛ أنظر: الطوسي، اختيار معرفة الرجال، تحقيق مهدي الرجائي (قم: ال البيت، 1404ه-)، ج1، ص283.

يكفن بثوب رجل لم يتدخل في وظائف السلطنة فلا يجد ذلك إلّا عند شاب أنصاري ومن هنا نعلم أن مالكاً كان قد زاول بعض الوضائف(1) الحكومية في أيام الخلفاء، واخيراً يتشهد الشيخ ويتجه إلى القبلة ويلفظ نفسه الأخير فيرتفع صوتا الطفلة والزوجة بالبكاء ويرجع صداه شيوخ جلسوا حول الجنازة، ثم يقوم هؤلاء بتجهيزه، ويقدم مالك للصلاة عليه، ويوارونه اخيراً في حفرته، ثم يقفون عليها ليودعوه بكلمات تأبينية.

ثم (2) أرسلها أولئك على القبر واحداً بعد واحد ويجيء دور مالك فيجرد سيفه ويمسح القبر بذيل السيف وكأنه يريد أن يقول: ما قيمة الفاظ ترسل في الأجواء فتتلاشى في الأثير ويذهب أثرها من النفوس، إن تأبين مثل هذا الشيخ الجليل سيف يجرد ليرسل كلمات التأبين في رؤوس مناوئيه الذين جلبوا عليه هذا البلاء.

واخيراً تكلم قال: اللهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله (صلی الله علیه و آله) عبدك في العابدين وجاهد فيك المشركين لم يغير ولم يبدل ولكنه رأى منكراً فغيره بلسانه وقلبه

ص: 131


1- كذا في المطبوع والصحيح (الوظائف).
2- كذا في المطبوع و(ثم) زائدة.

حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ثم مات وحيداً قريباً (1)، اللهم فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره وحرم رسول الله (صلی الله علیه و آله) (2).

وهذه الكلمات صورت لنا ما استفدناه من ثورته النفسية على رجال الحكم وتأثره الشديد لهذه الأوضاع، ثم رأيه في هذا الشيخ المجاهد الذي لم يغير غير المنكر بلسانه وقلبه فجفي وحرم من مجاورة قبر الرسول (صلی الله علیه و آله) ، كل ذلك في سبيل إنكاره للمنكرات.

ومن هذه الحادثة تتأزم انفعالاته النفسية وتزداد وتثور فيه ثائرة الإيمان فيجد السير إلى المدينة ومعه عيال الشيخ، وفي المدينة يلتقي برؤساء الأمصار ويتداولون الأمور فيتفقون على الوقيعة بعثمان أو يعتزل الأمر ويجيء دور الأحزاب، فيلعب لعبة (3) الكثير ولكن الإمام علياً كان يكره الفتنة فكان كلما اشتد الأمر توسط فيه، إلى أن اتفق الجميع بمعونة الإمام على أن يتوب عثمان عن كل ما أخذ عليه ويصلح شؤون الناس فيتركونه (4).

ص: 132


1- كذا في المطبوع والصحيح (غريباً)
2- المجلسي، بحار الانوار، ج22، ص400؛ علي خان المدني، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، ط2 (قم، بصيرتي، 1397ه-)، ص253
3- كذا في المطبوع والصحيح (لعبته).
4- أنظر: الاميني، الغدير، ج9، ص172.

ومن هنا نعرف أن ثورتهم كانت بدافع الإيمان الصحيح لا بدافع الأطماع، ويخرج عثمان ويخطب في المسجد ثم يعلن توبته على رؤوس الأشهاد فيضج الحاضرون بالبكاء ويرد على بكائهم بدمعة وتعهد بإصلاح شؤونهم ويقوم الجميع شاكرين للخليفة توبته، ولكن الشيخ قد سلّم زمام أموره بيد الشاب الطائش مروان ويقبل الشاب فيغزوه من نقطة الضعف في نفسه ويستدرجه بكلام خلاب إلى أن يعود عن توبته ويعود عن توبته على لسان مروان(1) فتزداد الحوادث شدة ويضايق في داره من جديد ويطلب الناس تسليم مروان إليهم فيمتنع (2) ويزداد تأثر الثوار وتزداد انفعالاتهم فيرسل عثمان إلى الأشتر: ما يريد الناس مني؟ فيجيبه الأشتر: واحدة من ثلاث ليس عنها بد، قال عثمان ما هي؟ قال الأشتر: يخيرونك بين أن تخلع لهم أمرهم فتقول هذا أمركم فقلدوه (3) من شئتم وإمّا أن تقتص من نفسك (4) فإن أبيت هاتين فالقوم قاتلوكم، ولكن عثمان لا يجيب إلى واحدة من الثلاث، فيستمر الحصار وأخيراً يقضى على عثمان.

ص: 133


1- أنظر: الاميني، الغدير، ج9، ص172.
2- أنظر: ابن حبان، كتاب الثقات (حيدر آباد: مجلس دائرة المعارف العثمانية، 1393ه-)، ج2، ص259.
3- في المصدر (فاختاروه) بدل فقلدوه، أنظر: ابن كثير، البداية والنهاية، ج7، ص206.
4- كلمة من نفسك (زائدة) أنظر: المصدر السابق؛ الهيثمي، مجمع الزوائد (بيروت: دار الكتب العلمية، 1408ه-) ج7، ص231.

أمّا صاحبنا مالك فلم يباشر القتل بيده وكان شأنه شأن سائر المسلمين الذين طافوا بالدار (1).

قارئي العزيز – هذه العوامل التي درسناها الآن هي أهم العوامل التي اثّرت على مالك فأوقفته مع عثمان موقفه ذاك وإلّا فجميع ما صدر من عثمان وأخذ عليه كما صور في الحديث السابق كان له تأثيره النفسي على مالك.

ص: 134


1- أنظر: ابن كثير، البداية والنهاية، ج7، ص206؛ الذهبي، تاريخ الاسلام، تحقيق عمر عبد السلام (بيروت: دار الكتاب العربي، 1407ه-)، ج3، ص445-446.

-5-

وتنتهي واقعة الدار فيستقبل الناس أزمة هي من أشد الأزمات وأصعب الأزمات التي شاهدها الإسلام في تاريخ حياته المقدسة وكيف ذلك.

تصوروا يا سادة هذه الطوائف الكثيرة من الناس التي اشتركت في واقعة الدار، وتذكروا أنها كانت مختلفة في البيئة، مختلفة في المزاج، مختلفة في المكانة الإجتماعية، مختلفة في انتمائها للأحزاب، مختلفة في اغراضها واهدافها من هذه الحركة، ففيها المصري والكوفي والبصري والمدني وفيها السيد وفيها المسود، ثم فيها من كان يخضع لأغراضه الفردية التي لا تمت إلى مبدئه الإسلامي بأبسط الصلات، وفيها من كان يخضع للاستجابة للدوافع الدينية إلى هذه الثورة حسبما يرى فيها كل ذلك، وفيها فوق ذلك أيدي الزعماء للأحزاب السياسية تكيّف الوضع كيفما تريد تذكروا ذلك وتذكروا أن عقليتها مجتمعة عقلية جمعية تستجيب بطبعها لأضعف المؤثرات، وإذا كان كذل كان علينا أن نتصور حالها بعد وصول نبأ خروج أهل الشام وقسم من الأمصار إلى المدينة لنصرة عثمان، وبعد قتلهم لعثمان وبعد استسلام كل واحد منهم لوعيه الفردي يعرض عليه هذا المقدمات ونتائجها وكأنني الآن أتمثلهم جميعاً وهم لا يتجاوزون في تأملاتهم هذه الضروب:

ص: 135

الأول: أهل الأحزاب وهؤلاء يعانون في أنفسهم عقداً نفسية شديدة اشتركت في تكوينها غرائز متعددة، الطمع في ما كانوا يؤملون، وغريزة الخوف من جيوش أميّة، والخوف من معارضة الأحزاب الباقية لو همّوا وربما أثرت عليها فسلبتها حقها.

والثاني: ويتمثل بالمؤمنين الذين استجابوا للدافع الإسلامي في تلك الحركة، يتأمل في نفسه ضعف الإسلام الروحي في ذلك اليوم وما بعد اليوم، وإذا شاع في البلدان أن الخليفة قد قتل ولم يبايع لأحد من الناس استحال أن يجتمع أهل الأمصار على خليفة من بعده وربما استقل كل في قطره فيتشقف (1) برد الدولة الإسلامية، ويكون هو من جملة الأسباب فتصيبه بلبلة نفسية شديدة تعود به إلى أشد الانفعالات اثراً في النفوس.

والثالث: ويتمثل في أصحاب الأطماع الفردية، يستعرض في نفسه ألوان الأطماع التي كان قد فوتها عليه عثمان، ويستعرض جيش الشام ثم يستعرض من يأمل أن يتولى الحكم فيخاف على أغراضه أن تفوت وقد عرض نفسه للهلاك فيصاب بدوار فكري وهكذا وهكذا.

ص: 136


1- كذا في المطبوع والصحيح (يتشقق).

ولكن هذه الضروب بأجمعها كانت تلتقي في تفكيرها عند نقطة واحدة وهي ضرورة اقالة الخليفة بسرعة وذلك إمّا ليسلموا من غائلة امية أو ليحفظوا الدين الإسلامي من الفوضى أو ليمهدوا السبيل لإشباع تلكم الرغبات، وتلتقي هذه الطوائف وكلها تهتف هتافاً لا شعورياً بضرورة الزعيم ومن ذا يكون؟

هنا المشكلة:

المرشحون للأمر كثيرون، فهذا طلحة وهذا الزبير وهذا عليٌّ وهذا سعد وهذا ابن عمر وهذا.... وهذا.... ولكن كيف السبيل إلى اتفاق الكلمة بسرعة قبل أن تعم الفوضى، والأهواء كما رأينا مختلفة وهب أن الكلمة أمكن أن تتفق على شخص واحد فأين الرجل الذي يستطيع أن يتحمل هذه المسؤوليات؟ وما يدري ما سيلاقي من عمال عثمان ومن أنصار عثمان الموزعين في سائر الأمصار؟ ثم ما يدري ما سيلاقي من هذه الطوائف المرشحة؟ وعقليتها كما قدمنا عقلية جمعية ربما تنقلب لأبسط الأشياء، هنا المشكلة أيضاً.

وعلى هذا فعندنا مشكلتان؛ مشكلة اتفاق الكلمة على الزعيم، ومشكلة تقبل الزعيم لهذه المسؤولية، ولننظر الآن ما تصنع هذه الطوائف في حل هاتين المشكلتين.

ص: 137

ينادي صوت في هذه الجماهير إلى الزبير إلى الزبير فيندفع الكوفيون(1) ، وينادي صوت إلى طلحة إلى طلحة فيندفع البصريون(2)، وينادي صوت إلى عليٍّ إلى عليٍّ فيندفع المصريون(3)، وهؤلاء هم أظهر المرشحين ولكن واحداً من هؤلاء لا يحضر لتحمل هذه الاعباء الثقيلة التي لا يأمل لصاحبها النجاح قال سيف بن عمر(4) عن جماعة من شيوخه: (بقيت المدينة خمسة أيام(5) بعد مقتل عثمان(6) والناس(7) يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر(8) والمصريون يلحون على علي وهو يهرب إلى الحيطان(9) ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه والبصريون طلحة فلا يجيبهم) إلى أن يقول (فمضوا(10) إلى سعد بن أبي وقاص فقالوا إنك من أهل الشورى فلم يقبل منهم ثم راحوا إلى ابن عمر فأبى عليهم

ص: 138


1- أنظر: سيف بن عمر الظبي، الفتنة ووقعة الجمل، تحقيق احمد راتب (بيروت: دار النفائس، 1391ه-) ص60.
2- أنظر: ابن عساكر، تاريخ دمشق، المصدر السابق، ج39، ص319.
3- أنظر: سيف بن عمر الضبي، المصدر السابق، ص91.
4- أنظر المصدر نفسه.
5- في النص واميرهم الغافقي بن حرب.
6- في المصدر بعد مقتل عثمان خمسة ايام)) أنظر: المصدر السابق.
7- كلمة (الناس) زائدة.
8- في المصدر (فلا يجدونه) ويأتي المصريون عليا فيختبئ منهم ويلوذ بحيطان المدينة.
9- في المصدر تتمة (فاذا لقوه باعدهم وتبرأ منهم ومن مقالتهم مرة بعد مرة).
10- في المصدر (فبعثوا).

فحاروا في امرهم)(1) واخيراً يجتمع الناس على الزبير فيقوم فيهم خطيباً ويقول فيما يقول: (أيها الناس إن الله قد رضي لكم الشورى فأذهب بها الهوى وقد تشاورنا فرضينا علياً فبايعوه)(2) ولعله يقصد بذلك أن يحمل هذه المسؤولية علياً في هذه الأزمة لاعتقاده – حسبما أظن – أن حاملها لا ينجح مهما كلف الأمر.

ويقوم الناس إلى عليٍّ فيمتنع ثم يعاودون فيمتنع وهكذا إلى ان يشتد عليهم الوضع وييأسون من حل هذه المشاكل فيتجهون إلى صاحبنا الأشتر ليقوم هو بحلها من بينهم ثم يعاودون عليه الكرة فماذا كان موقفه منها؟

نظر الأشتر في شؤون هؤلاء المرشحين فلم يجد بداً من الرجوع إلى علي (علیه السلام) ، فالزبير وطلحة كانا كعثمان في كثير من الصفات التي أخذت عليه فلا يأمن أن يطمئن الناس إليهما ولا يأمن من قدرتهما على حل هذه الأزمات التي ستتولد من هذه وتعقبها، وحال سعد وابن عمر حالهما غير أن النفوس كانت بعيدة عنهما بعض الشيء فكان حزباهما اضعف الأحزاب، وعلي (علیه السلام) بريء من المأخذ التي قيلت في حق عثمان، وهو صاحب الحق الأول وهو الوحيد الذي يستطيع أن يقف أمام التيارات، وهو في سابقته وإيمانه ومفاداته للنبي (صلی الله علیه و آله)

ص: 139


1- أنظر: المصدر السابق باختلاف يسير.
2- أنظر: ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص47.

وخدماته الجلّى للإسلام، ثم هو في تدبيره وحنكته وعلمه وشجاعته اظهر من جميع هؤلاء، وإذا بويع لا يحتمل الخلاف من أكثر الناس في أكثر البلدان، فهو بشوكته وحزمه وعدله بين الناس وحسن سياسته يستطيع أن يعيد للإسلام شوكته وقوته ومنعته ويتلافى ما حدث في هذه الواقعة. اذن لابد من الرجوع إليه لتتم له البيعة على كل حال.

ويقوم هو ويقوم الناس معه ويقبلون إلى الدار فيجثمون كربيضة الغنم والإمام في كل ذلك يأبى عليهم وهو يعلم (علیه السلام) كما صرح في حديث يذكره صاحب النهج(1) بأنه سيستقبل صاحبها امراً ذا وجوه والوان ولكن الناس يأبون أن يفارقوا الدار حتى (لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم)(2) كما يعبر الإمام، وأظن هذا التشبيه هو ابلغ تشبيه للجماعة بعقليتها وشدة انقيادها وتأثرها بقائدها أيّ كان وسرعة تقلبها وتحولها واخيراً يُلجئ الأشتر الإمام للبيعة فيجذب يده ويصفق عليها ويبايعه سائر الناس، وبهذا يحل قسماً من تلكم المشكلة ويبقى قسمها الآخر وهو أن الإمام كان لا يرضى أن تتم بيعته في زاوية وإنما يريد أن تكون في مسجد رسول الله (صلی الله علیه و آله) وأن يبايع هؤلاء المرشحون في المسجد فلننظر موقفه من القسم الثاني.

ص: 140


1- أنظر: ابن أبي الحديد، ج7، ص33.
2- الإمام علي، نهج البلاغة، ج1، ص36.

يخرج الإمام إلى المسجد ويخرج معه مالك وقوم مالك، ثم يقبل الصحابة إلّا نفراً قليلاً فيجلسون ويقوم الإمام فيخطب في الناس ويشرح لون سياسته، ثم يقوم مالك الأشتر فيجدد البيعة ويلتفت إلى طلحة والزبير فيقول: قوما وبايعا، ولكن هذين كانا قد تغيرت عزائمهما وفسدت نياتهما وغدرا به كما يقول ابن أبي الحديد فتقاعسا قليلاً، فقال مالك لطلحة وقد سل سيفه: قم يا ابن الصعبة فبايع، فقام طلحة وهو يجر رجليه جراً حتى بايع، ثم اتجه إلى الزبير وقال قم وبايع يا زبير والله لا ينازع أحد إلّا وضربت قرطه بالسيف فقام وبايع، ومن هنا أثر عن الزبير(1) أنه قال بايعت واللج على قفيَّ أي قفاي وهي لغة هذلية واللج سيف لمالك الأشتر(2).

وبماذا نعلل تلكؤ هذين عن البيعة بعد أن بايعا طوعاً كما يقول المؤرخون.

قد تكون العلة في ذلك هو ما كانا يتصوران من أن الأمر لا يتم له وقد لمحا بادرة التمام في لج مالك، وقد تكون ما تذكرا من خشونة علي (علیه السلام) في ذات الله وأنه لا يشبع رغباتهما كما يريدان، رغبة الزبير في ولاية الكوفة وطلحة في البصرة(3) أو اليمن، وقد تكون ما لمحا من رغبة الإمام في مالك

ص: 141


1- في المصادر طلحة بدل الزبير.
2- لم اعثر على هذا النص (المحقق).
3- أنظر شرح نهج البلاغة، المصدر السابق، ج11، ص16.

واحتمال أن يقدمه عليهما نظراً لوثوقه من إخلاصه وإيمانه وهذه القضية التي يرويها ابن أبي الحديد(1) قد تكون دالة على بعض ما تصورناه وهي: أن طلحة والزبير أرسلا محمد بن طلحة(2) إلى الإمام (علیه السلام) وقالا له فيما قالا: (قل للإمام: يا أبا الحسن لقد نال فيك رأينا وخاب ظننا أصلحنا لك الأمر ووطدنا لك الإمرة وأجلبنا على عثمان حتى قتل فلما طلبك الناس لأمرهم جئناك وأسرعنا إليك وبايعناك وقدنا إليك أعناق العرب - إلى أن قالا - حتى إذا ملكت عنانك استبددت برأيك عنا رفضتنا رفض التريكة(3) وأذللتنا إذلالة الإماء وملّكت امرك الأشتر)، فهي - كما ترون - تصرح بأن سبب انصراف هذين عن الإمام كان يعود لعاملين.

خيبة الآمال وتقديمه للأشتر، كما أنها تصرح بأمرين اخرين كانا محلاً لاختلاف الأقوال والمذاهب.

الأول: قتل عثمان وجريرته تقع على عاتقيهما لأنهما كما استظهرنا سابقاً كانا من أهم العوامل في ذلك، فهما اللذان أجلبا وهما اللذان سببا القتل كما يصرح الحديث.

ص: 142


1- أنظر المصدر نفسه.
2- محمد بن طلحة بن عبيد الله القرشي (ت36) صحابي، ولد في حياة النبي (صلی الله علیه و آله) /، قتل يوم الجمل، أنظر: الزركلي، ج6، ص175.
3- التريكة: المرأة التي تترك فلا يتزوجها أحد، أنظر: ابن السكيت، ترتيب اصلاح المنطق (مصر: مجمع البحوث الاسلامية، 1412ه-) (باب التريكة).

وثانيهما اقبالهما على البيعة ومسارعتهما لها (1) لا كما يظن بعض المؤرخين (2) من أنهما اجبرا على البيعة، نعم اجبروا (3) ولكن بعد أن بايعا طائعين (4).

ويبقى الأشتر في المسجد ينتظر بقية المرشحين ليطمئن من حل بقية المشكلة، وهو قابض على لجّه اللماع، ويأتي ابن عمر ويقبل على الإمام ولكنه يأبى أن يبايع فيدور بينه وبين الإمام حديث طويل يختمه بما يغضب الإمام(5)، فيقوم الأشتر ويقول: يا أمير المؤمنين إن هذا أمن سوطك وسيفك فدعني أضرب عنقه(6)، ولكن الإمام يأبى عليه ذلك ويأبى أن تغتصب بيعته اغتصاباً فيأمر بتخلية سبيله ولعل نظرة مالك في ذلك كانت نظرة ارهابية لا يقصد من ورائها غير تأديب الحاضرين، ولكن نظرة الإمام كانت أعمق من ذلك إذ أخلى

ص: 143


1- أنظر: ابن حجر، فتح الباري، ط2 (بيروت: دار المعرفة، د،ت)، ج13، ص45؛ ابن شبة النميري، تاريخ المدينة، تحقيق فهيم محمد شلتوت، ط2 (قم: دار الفكر، 1410ه-) ج4، ص1257.
2- أنظر: المرتضى، الشافي في الإمامة، ج4، ص311.
3- كذا في المطبوع والصحيح (اجبرا).
4- للتفاصيل أنظر: حسن بن فرحان المالكي، كتاب الرياض نحو انقاذ التاريخ الاسلامي (د. م: مؤسسة اليمامة الصحفية، 1418ه-) ص156.
5- أنظر: الاميني، الغدير، ج10، ص25.
6- أنظر: الاميني، المصدر نفسه؛ البلاذري، انساب الاشراف، ص207.

سبيله، خصوصاً والعقلية الجمعية بعد لّما تزل مسيطرة على هذه الطوائف من المبايعين وما يؤمن الإمام من انتفاضهم عليه لو ترك الأمر لمالك، وعبد الله هو ابن عمر الذي كانت تؤخذ سنة أبيه في جملة شروط البيعة على الخليفة.

ويؤتى بسعد (1) فيأمر الإمام بإطلاق سراحه بعد أن يطمئن إلى أنه لا تصدر منه أية مخالفة (2)، ثم يؤتى ببعض المسلمين ومالك واقف بين يدي الإمام وبين يديه لجّه القهار وبهذا يوفق مالك إلى المشاركة في حل هذه المشكلة من أكثر اطرافها، وهذا في اعتقادنا أجمل ما يتصور من الحل وإلّا فماذا ترون لو بويع غير الإمام؟ أكان يستقيم له أمر البلاد ما عدا الشام، ثم أكان يستقيم له امر هذه اللمة المجتمعة على قتل عثمان؟ قد يكون ذلك وإن كنت لا أعتقده.

أمّا موقفه من بقية الأزمات التي حدثت من هذه الأزمة فذلك ما سننظره في الأحاديث الآتية.

ص: 144


1- سعد بن أبي وقاص بن مالك بن اهيب القرشي (ت 55ه-) صحابي، شهد بدراً، وفتح العراق، كان والياً على الكوفة في خلافة عمر بن الخطاب، أنظر الزركلي، الاعلام، ج3، ص87.
2- أنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص9، انساب الاشراف، ص207.

-6-

وهذا الحل الذي انتهى إليه الأشتر في موقفه من تلكم الأزمة وإن كان هو الحل الموفق المتعين كما قلنا، ولكن ليس معنى ذلك أنه استطاع أن يميت العواطف في نفوسهم ويذهب عنها جميع الميول التي كانت تساورهم منذ حادثة الشورى، وكيف تذهب وكيف تموت وقد ضاعفتها هذه الحوادث تأزماً وشدة وعززتها بعواطف أخر كما قد لمسناها في حديث طلحة والزبير المتقدم، وهي - كما رأينا - كانت قد نشأت من تدخل مالك في شؤون الإمام وتقبل الإمام لذلك نظراً لوثوقه منه فكان من الطبيعي أن يستجيب طلحة والزبير لعواطفهما فينكثا البيعة ما داما لا يرتبطان بمبدأ ديني وثيق يستطيع ن يقف لتلكم العواطف بالمرصاد، وكان من الطبيعي أن تنضم إليهما عائشة ما دامت تشاركهما في بعض الميول وما دامت قد انفردت بعواطف نحو الإمام ربما تكون ناشئة من مقام علي (علیه السلام) من النبي (صلی الله علیه و آله) كما صرحت في حديث طويل(1) ومن رغبتها في

ص: 145


1- كما جاء سنن الترمذي: سألت عائشة: أي الناس كان أحب إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) / قالت: فاطمة، فقيل: من الرجال، فقالت: زوجها ان كان ما علمت صواماً قواماً، أنظر: الترمذي، سنن الترمذي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، ط2، (بيروت، دار الفكر، 2003م)، ج5، ص362. (المحقق).

خلافة قريبها طلحة(1)، ومن علمها بأن علياً (علیه السلام) لا يقيم لغير النظم الإسلامية في توزيع الأموال وزناً مهما كلف الأمر.

ولكن طلحة والزبير لم ينكثا البيعة إلّا بعد أن خرجا من المدينة (2) وإلّا لكان موقف اللج منهما موقفاً جباراً يحول بينهم وبين ما لهم من رغبات وأطماع، وعائشة نفسها لم تكن لتسلم من لجّ مالك المنطقي ولمنطق مالك لجّ هو أمضى من جميع السيوف وأفتك من جميع السيوف.

بعث إلى عائشة - وهو بالمدينة - كتاباً له جلجلة مطمئنة - إن صحّ هذا التعبير - توقع في نفسها الرعب والخوف وكأنه يعلم بأن لصوته دوياً يتجاوز الأسماع إلى القلوب فيعبث بها كيفما شاء.

بعث إليها: (أمّا بعد : فإنك ظعينة رسول الله (صلی الله علیه و آله) وقد أمرك أن تقرّي في بيتك، فإن فعلت هو خير لك، فإن أبيت إلّا أن تأخذي منسأتكِ - وتلقي جلبابك وتبدي للناس شعيراتك قاتلتك حتى أردّك إلى بيتكِ، والموضع الذي يرضاه لكِ ربكِ(3) وفي قوله: (قاتلتك) همسة من همسات البطولة في نفس هذا القائد

ص: 146


1- أنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص215.
2- أنظر: المفيد، الجمل، (قم: الداوري، د. ت)، ص142.
3- أنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص225؛ المجلسي، بحار الانوار، ج32، ص138.

الصوّال تبرز بهذه اللغة الهادئة لتقوم بتأثيرها على النفوس ولكن عائشة كانت قد قويت شوكتها ببني امية وبطلحة والزبير وبأوباش من العرب وبستمائة الف درهم وستمائة من الإبل كان قد امدهم بها أبو(1) يعلى بن أميّة(2)، فلم تضطرب كثيراً لهذا الكتاب وإن كان في جوابها ما يدلّ على شيء من الإضطراب فهي تقول فيه [وقد جاء كتابك وفهمت ما فيه] إلى أن تقول [وسيكفينك الله](3).

ثم ماذا؟

أسكتَ الأشتر بعد هذا الكتاب؟ لا.

أنه أراد أن يكون المحيط بحل هذه المشكلة من جميع أطرافها فساهم في حرب البصرة مساهمة كبيرة كان لها الأثر المحمود في تلكم الواقعة.

يخرج الإمام من المدينة ومعه العدة والعدد من المهاجرين والأنصار، وهو يقصد بذلك البصرة، وقيل الشام، ولكنه يخبر عن مسير جيش عائشة إلى البصرة، فيسارع إليها ليدخل قبلها، غير أن عائشة تسرع السير فتدخل قبل أن

ص: 147


1- كذا في المطبوع والصحيح يعلى بن أمية.
2- أنظر: سيف بن عمر الضبي، الفتنة ووقعة الجمل، ص113.
3- أنظر: ابن أبي الحديد، المصدر السابق، ج6، ص225.

يدخل الإمام، وتعبث كيف تشاء بواليها من قبله(1)، ويأتي الإمام الخبر وهو بذي قار(2) فيلتجئ لاستنفار الناس لحرب هؤلاء ويبعث ابن عباس إلى الكوفة(3)، والكوفة هي بلد الأشتر، وعليها أبو موسى من قبل الإمام(4)، وكان من قبل والياً من قبل عمر، ثم من قبل عثمان، فكان أهل الكوفة يطمئنون إليه ويركنون لما يقول، وهو كما نعلم من حاله من جملة من ينتمي إلى حزب ابن عمر، وابن عمر كان قد اعتزل البيعة كما رأيتم فيما تقدم، والإمام (علیه السلام) لم تكن من رغبته أن يظل واليها على الكوفة لولا أنه كان يرى المصلحة في ذلك، ولولا أن يرغب الأشتر في إبقائه هناك.

ويقبل ابن عباس على الناس في الكوفة فيدعوهم إلى نصرة الإمام (5)، ولكن الأشعري يقوم فيخطب هناك ويقول فيما يقول:

ص: 148


1- وهو الصحابي عثمان بن حنيف اذ نتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه، أنظر: الطبري، تاريخ الطبري، ج3، ص495. (المحقق).
2- أنظر: ابن حجر، فتح الباري، ج13، ص46.
3- أنظر: ابن أبي شيبة، الكوفي، ج8، ص720.
4- عبد الله بن قيس أبو موسى الاشعري، صحابي (ت 42ه-) تولى الكوفة ايام عمر وعثمان وعلي، كان حسن الصوت رحل إلى معاوية وسكن دمشق، أنظر ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج32، ص14.
5- أنظر الطبري، تاريخ الطبري، ج3، ص497.

(أيها الناس إن أصحاب رسول لله صحبوه في مواطن كثيرة فهم أعلم بالله ممن(1) لم يصحبه، وإنّ لكم عليِّ حقاً وأنا مؤديه إليكم، أمري(2) أن لا تستخفوا بسلطان الله وأن لا تجترؤوا أن تأخذوا كل من تقدم عليكم من أهل المدينة في هذا الأمر فتردوه إلى المدينة حتى تجتمع الأمّة على إمام ترتضي به، إنها فتنة صماء، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب، أغمدوا سيوفكم وأنصلوا أسنّتكم واقطعوا أوتار قسيكم حتى يلتئم هذا الأمر وتنجلي هذه الفتنة](3).

وهي خطبة فنية جداً خاطبت عقول المجتمع من وراء نقطة الضعف فيهم، فكان من الضروري أن يستجيب لها الناس، وماذا في تلكم الخطبة نصائح يبثها شيخ كبير كان قد ارتضاه عمر بلهجته العاطفية الرقيقة التي كان ملؤها الرأفة والرحمة بهم والاهتمام بشؤونهم ومن ذا يسمع نصيحة تجنبه من الوقوع في المآزق الحرجة فلا يستجيب.

ص: 149


1- كلمة (لم) ساقطة من المطبوع.
2- في المصدر (أمر).
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج14، ص19؛ الطبري، تاريخ الطبري، ج3، ص497.

وبهذا منع الأشعري الناس عن الجهاد فلم يكن ليستطيع ابن عباس - على ما في لسانه من ذلاقة - أن يؤثر على هؤلاء، ثم لم يكن ليستطيع أن يؤثر عمار على أن معه الإمام الحسن (علیه السلام) ، وعلى أنهما كلما الناس بألوان من الحديث الأخّاذ (1).

وأخيراً يسمع الإمام (علیه السلام) بتفصيل الحادثة فينتدب الأشتر الذي رغب في إبقاء الأشعري على الكوفة ليقوم بهذه المهمة، ويقبل الأشتر على الكوفة - وهو يجدّ السير - ويدخل الكوفة وأبو موسى الأشعري جالس على المنبر يخطب في الناس ويخذلهم عن الإمام والناس مقبلون عليه، خصوصاً وكتب عائشة كانت قد سبقت الأشتر فساعدت حديث الأشعري على استجلاب عواطف الناس.

وماذا يصنع الأشتر؟ وهل سيكون أشد ذلاقة من الإمام الحسن (علیه السلام) حتى يستطيع التأثير؟ إنه نظر أن منطق اللسان لا يؤثر على هذه الجماهير فاستعمل منطق السنان وقصد من حينه القصر فضرب الغلمان وأخرجهم منه فخرجوا يشتدون إلى أبي موسى، وأبو موسى يكلم الناس والإمام الحسن (علیه السلام) يزجره بقوله: (اعتزل عملنا وتنح عن منبرنا لا أمّ لك) (2)، ويدخلون عليه وهم في ارتباكة شديدة ينادون أيها الأمير هذا الأشتر قد جاء فدخل القصر فضربنا

ص: 150


1- أنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص228.
2- أنظر: المصدر نفسه.

وأخرجنا، ودخوله القصر خطة حكيمة سلكها القائد الجبار ليوقع الرعب في نفوس الجميع.

ويقبل أبو موسى على القصر فيستقبله الأشتر بقوله: (أخرج من قصرنا لا أمّ لك أخرج الله نفسك فو الله إنك لمن المنافقين قديماً)، ويقول أبو موسى: (أجلني هذه العشية(1) ويلمح الجماهير هذا الضعف منه فيهمون بانتهاب رحله، ولكن مالكاً يمنع الناس ويؤجله العشية (2)، وهنا تتجلى نفسية القائد الكريم الذي يعفو بعد الظفر والمقدرة.

ويخرج الأشتر من الكوفة ومعه جيش جرار تبلغ عدته اثني عشر ألفاً وواحداً كما أخبر الإمام قبل مقدم الجيش (3)، وهنا نعرف أثر مالك على أهل الكوفة الذي عرف نفسياتهم فقابلهم بعمل بسيط كان عندهم أبلغ من ألف خطاب.

ص: 151


1- إبراهيم بن محمد الثقفي، الغارات، تحقيق جلال الدين الحسيني (قم: بهمن، د. ت)، ج2، ص922.
2- أنظر الطبري، تاريخ الطبري، ج3، ص501.
3- أنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج14، ص21.

ويسير مالك بجيشه الجرار ويلتحق بالإمام فيساهم ذلك الجيش في حرب الجمل ويساهم مالك معه وهو يقوده إلى حيث النضال والجلاد وحيث ينتظر النصر مواقف الأبطال من أولئك المغاوير.

ويقف في ذلك اليوم صاحبنا الأشتر موقفاً يذهل العقول، فهو بآرائه الصائبة وهو في قيادته الحازمة وهو في بسالته الشديدة، يكاد أن يكون الوحيد في حزب الإمام بعد السادة الأشاوس من أولاد هاشم.

وتاريخ حادثة الجمل يسجل لنا مواقفه العظيمة في صفحاته الخالدة التي لا تكاد تخلو كل واحدة منها عن ذكر موقف مشرف تطرب له النفوس الكريمة، وسنعرض الآن لبعضها في هذا الحديث.

يبدأ القتال ويتحفز الأسد للوثوب، فيخرج من بين جيوش أهل العراق رجل يملأ فضاء المعركة بصوته الرنان: يا معشر فتيان قريش أحذركم الرجلين العابدين (1) جندب بن زهير (2) والأشتر فلا تقوموا لأسنتها (3) ثم يرتفع مرة

ص: 152


1- في المصادر احذركم رجلين، أنظر: ابن حجر، الاصابة، ج1، ص612، الامين، اعيان الشيعة، ج4، ص244.
2- جندب بن زهير بن الحارث الغامدي نزلت فيه آخر آية من سورة الكهف (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ... ( كان مع علي في الجمل وصفّين، أنظر: المصدر نفسه.
3- في المصدر (لسيوفهما)، المصدر نفسه.

ثانية ليعرف هذين الرجلين للناس: أمّا جندب ابن (1) زهير فرجل ربعه يجر درعه حتى يعفو أثره، وأمّا الأشتر فلأنيابه قعقعة في الحرب (2).

والتأريخ لا يحدثنا عن هذا المنادي بقليل ولا كثير ولكن الذي نعرفه من أمره أنه كان كثير العطف على فتيان قريش - وهم الأسد الضبارمة(3) - فهو يريد أن يجنبهم مبارزة هذين ليسلموا من سيوفهما وأسنتهما، ولكن بعض فتيانهم كان يأبى إلّا أن يبارز الأشتر هذا محمد بن طلحة - كما يحدث صاحب سفينة البحار(4) - يقبل على خطام الجمل فيقبله ويخاطب عائشة: فما تأمريني يا أمّاه، وتجيبه عائشة بأنني آمرك أن تكون خير بني آدم، فيترك الخطام ويخرج للميدان يطلب المبارزة ويأتيه المعكبر بن حدير(5) فيقتله ويعود إلى الخطام يقبله وقد انغمر في لجة من نشوة الظفر ثم يطلب المبارزة ويقبل عليه مالك ولأنيابه قعقعة، فينظر طلحة ذلك فلا يطيق الصبر على ولده ويقبل عليه فيقول: ارجع يا بني عن هذا الأسد الضاري ثم يتلو عليه آية من القرآن الكريم ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ

ص: 153


1- الصحيح (بن)
2- لم اعثر على هذا النص [المحقق].
3- الضبارمة: الرجال الجريئون على الأعداء، أنظر الزبيدي، تاج العروس مادة (ضبرم).
4- هو الشيخ عباس القمي (المحقق)، سفينة البحار (د.م. مروي.د.ت) مادة (شتر).
5- لم اعثر على ترجمته (المحقق).

تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ (1). ولكن الشاب القرشي محمد تأخذه العزة في الإثم وتثور فيه غريزة حب الظهور فتسوقه إلى هذا الأسد ويتصاولان في الميدان فيسبق رمح الأسد الشيخ إلى هذا فينهزم من بين يديه ويتبعه الرمح ويصل إلى كتفيه فيقع الشاب على وجهه وينزل الأشتر ليقتله فيذكره بالقرآن ويتلو عليه حماميم ولعله يريد أن يشير بذلك إلى شعار رسول الله (صلی الله علیه و آله) ((حم يتنصرون)) في أيام الحروب فيكفّ الشيخ عن الشاب احتراماً للرسول ولحاميم، ويقوم عنه ويركبه الفرس ويرسله إلى ابيه، ولكن ضربة الأسد كانت قد سبقت العذل كما يقول القدماء فلم تترك له مجالاً للمرح في أجواء الحياة ويموت في يومه الثاني فيقول الأشتر:

يذكرني حماميم والسيف مصلت(2) *** فهلا تلا حماميم قبل التقدم ِ

هتكت له بالرمح جيب قميصه *** فخر صريعاً لليدين وللفم

على غير شيء غير أن ليس تابعاً *** علياً ومن لا يتبع الحق يندم(3)

ص: 154


1- سورة الانفال، آية: 25.
2- وفي بعض المصادر والرمح شاجر، أنظر: يوسف حاتم العاملي، الدر النظيم (قم، مؤسسة النشر الاسلامي، د. ت) ص355، وفي بعض المصادر والرمح شارع، أنظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى (بيروت: دار صادر د. ت) ج5، ص54.
3- يوسف حاتم العاملي، المصدر السابق، ص355

وهذه أبيات نرجو أن لا يفوتنا الوقوف عندها في حديثنا عن ثقافته، لننظر جمالها من الوجهة الفنية فهي آية من آيات الفن.

ويبارز الأشتر في ذلك اليوم كعب بن سورة الأزدي فيقتله (1)، ثم يبارز ابن جفير الأزدي وهو من فرسان جيش أهل البصرة، وقد برز هذا الشجاع مدلاً بنفسه في الميدان وهو يقول:

قد رفع الأمر بما لم يحذرِ *** والنبل يأخذن وراء العسكرِ

وأمّنا في خدرها المشمرِ

ويرد الأشتر عليه بزمجرته:

إسمع ولا تعجل جواب الأشترِ *** وأقرب تلاقي كأس موت أحمرِ

ينسيك ذكر الجمل المشمرِ (2)

ثم يبدو إليه فيقتله ويقتل عمير الغنوي وعبد الله بن عتاب بن أسيد، ويضل الفارس وحده يصول في الميدان ويجول وهو يردد:

نحن بنو الموت به غذينا (3)

ص: 155


1- كذا في المطبوع والصحيح كعب بن سور الأزدي: قاضي البصرة أيام خلافة عمر وعثمان خرج يوم الجمل وفي عنقه المصحف، قتله الاشتر، أنظر: بحار الانوار، ج32، ص179.
2- المصدر نفسه.
3- ابن شهر اشوب، مناقب آل أبي طالب (النجف، الحيدرية، 1376ه-) ج2، ص344.

وتضطرم الحرب وتشتد، ثم تضطرم وتشتد ومالك يهدر كالفنيق (1) بين الصفّين وجمل عائشة واقف والأيدي تتسابق إلى خطامه فتتقطع، وإذا بصوت الإمام: يا مالك يا عمار ويا فلان - يدعو حماة أصحابه - إلى الجمل إلى الجمل اعقروا الجمل إنه شيطان (2)، ويسرع مالك إلى الجمل، وقد قبض على زمامه عبد الله بن الزبير فيلقي بنفسه عليه -وكانت عادته أن يطوي للحرب وكان طاوياً ثلاثة أيام - ثم يتصارعان فيصرعه الشيخ ويجثم على صدره وصوت عبد الله يرتفع في الأجواء:

أقتلوني ومالكاً *** اقتلوا مالكاً معي(3)

فيهب الأشتر عن فريسته إلى فرسه وقد اجتمع الناس عليهما ويركب الفرس ويستقبل الناس فينكشفون عنه.

وقد حدث ابن الزبير بعد تلك الواقعة - على ما يروي صاحب العقد (4) - قال: التقيت بالأشتر يوم الجمل فما ضربته ضربة حتى ضربني خمساً أو ستاً ثم

ص: 156


1- كذا في المطبوع والصحيح كالفتيق وهو الجمل الفحل، أنظر: الزبيدي، تاج العروس مادة (فتق).
2- أنظر: الاميني، اعيان الشيعة، ج1، ص461.
3- في المصادر واقتلوا، أنظر: ابن كثير، البداية والنهاية، ج7، ص272، ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص251؛ الذهبي، سير اعلام النبلاء، ج4، ص35.
4- هو ابن عبد ربه مؤلف كتاب العقد الفريد.

أخذ برجلي فألقاني بالخندق وقال: والله لولا قرابتك من رسول الله ما اجتمع منك عضو إلى آخر.

وتسأل عائشة عن صاحب عبد الله فيقال لها: الأشتر، فتصيح واثكل أسماء ويأتيها المبشر بسلامته فتدفع له أربعة آلاف درهم (1) ويعقر الجمل فتنتهي الحرب وتسفر عن قتلى من الطرفين كثيرة.

وتؤخذ عائشة إلى دار من ديار البصرة ويقبل عليها الناس ويكون من جملة المقبلين عمار ومالك ويدخل عمار ويدخل مالك فتسأل عائشة أبا اليقظان عن صاحبه ويجيب بأنه الأشتر فتذكر إذ ذاك ابن أختها عبد الله ويدور بينهم هذا الحديث:

عائشة - لمالك -: أنت فعلت بعبد الله ما فعلت؟

مالك - لعائشة -: نعم ولولا كوني شيخاً كبيراً وطاوياً لقتلته وأرحت المسلمين منه.

عائشة: أو ما سمعت قول النبي (صلی الله علیه و آله) : إن المسلم لا يقتل إلّا من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل النفس التي حرم الله قتلها؟

ص: 157


1- أنظر: ابن الدمشقي، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب، تحقيق محمد باقر المحمودي (قم: دانش، 1415ه-) ج2، ص22.

مالك: - يا أمّاه - على أحد الثلاثة قاتلناه (1).

ثم ينشد في ذلك شعراً يشرح الواقعة:

أعائش لولا أنني كنت طاوياً *** ثلاثاً لألفيت ابن أختك هالكا

غداة ينادي والرماح تنوشه *** كوقع الصياصي أقتلوني ومالكا

فلم يعرفوه إذ دعاهم وغمّه *** خدب(2) عليه في العجاجة باركا

فنجاه مني شبعه وشبابه(3) *** وأنّيَ شيخ لم أكن متماسكا

وقالت على أيّ الخصال صرعته *** بقتل أتى أم ردةٍ لا أباً لكا

أم المحصن الزاني الذي حلّ قتله *** فقلت لها: لا بدّ من بعض ذلكا(4)

وفي هذه المحاورة طرافة نلمحها جيداً بجواب مالك: على أحد الثلاثة قاتلناه وبقوله في الشعر: لابد من بعض ذلكا، ففي إبهامها نكتة حلوة تدل على بلاغة نفسية عميقة يطرب لها إخواني البيانيون.

ثم في أبياته جمال فني سنلمسه في حديثنا عن ثقافته.

ص: 158


1- ابن أبي فتح الاربلي، كشف الغمة، (بيروت: دار الاضواء، 1405ه-)، ج1، ص244؛ المجلسي، بحار الانوار، ج32، ص191، وفيهما وفي غيرهما ((لا يقتل الا عن كفر)).
2- الخدب: ضرب بالسيف، أنظر، الفراهيدي، العين، تحقيق مهدي المخزومي واخر، ط2 (قم: دار الصدر، 1410) مادة خدب.
3- في المصادر (اكله وشبابه).
4- الامين، اعيان الشيعة، ج1، ص460؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج1، ص263.

قارئي العزيز، هذه بعض مواقف مالك في يوم الجمل أحببت أن أسجلها لتعرف موقفه من هذه الأزمة التي نشأت من أزمة البيعة السابقة وهي - كما رأيتم - جهاد متواصل في سبيل تحقيق مبدئه مع إخلاص شديد لربّ ذلك المبدأ. ولعلنا نعود إلى بعضها الآخر في حديثنا عن بطولته.

ص: 159

-7-

وتنتهي أزمة وتقبل أزمة، وتنتهي أزمة البصرة وتقبل أزمة الشام ويكون من نصيب مالك أن يساهم في رفعها بما أوتي من قوى كما ساهم في رفع الأولى وكان من جملة من وفق إلى رفعها، ولننظر الآن هذه المساهمة.

يدخل الإمام الكوفة ليتخذها عاصمة له لأسباب قد يطول شرحها الآن. ويدخل معه مالك ويوزع الولاة على الأمصار المطيعة فيكون من نصيب مالك الموصل ونصيبين ودار أو سنجار وآمد وهيت وعانات وما غلب عليه من أرض الجزيرة (1).

ولعل السر في اختياره هذه البلدان على الخصوص هو ما يعلمه من الحزم في مالك وحسن السياسة والقدرة على إدارة مثل هذه الأمصار التي تتصل اتصالاً مباشراً بالبلدان التي يحكمها معاوية كحران والرقة والرها وقرقيسيا وما

ص: 160


1- أنظر: ابن مزاحم المنقري، وقعة صفّين، تحقيق، عبد السلام محمد هارون، ط2 (مصر، المؤسسة العربية، 1382ه-)، ص10.

استطاع أن يتغلب عليه من أرض الجزيرة (1) التي كانت تحت ولاية الضحاك بن قيس (2).

وأنتم تعلمون ما تحتاجه الشعوب المجاورة لأرض العدو من لباقة وحسن إدارة ليستطيع أن يحول بينها وبين تسرب العداوة من أعدائه إليها، والتأريخ لا يحدثنا عن لون سياسته في هذه الولاية.

ولكن الذي نعلمه من حال الإمام أنه لا يختار غير ذوي الكفاية من أصحابه.

وكلماته في تحديد سياسة مالك كثيرة جداً عرضنا لبعضها سابقاً وسنعرض لبعضها الآخر في الأحاديث الآتية.

وحسبنا الآن منها قوله فيه - أنه لا يخاف وهنه ولا سقطته (3) - والتأريخ يحدثنا أنه استطاع بعد ولايته أن يؤلف منهم جيشاً جراراً لمضايقة غريمه الضحاك وهذا الإنقياد إليه ربما يدلنا على ما يقوله الإمام.

ص: 161


1- المصدر نفسه.
2- الضحاك بن قيس بن خالد الفهري (ت 65ه-) القرشي، شهد صفّين مع معاوية وولاه معاوية على الكوفة سنة 53، وتولى ولاية دمشق وبايعه اهل دمشق وقتل في مرج راهط، أنظر: الزركلي، الاعلام، ج2، ص214.
3- الإمام علي، نهج البلاغة، ج3، ص14.

ويقبل على الضحاك بجيشه ويتخذ المهاجمة وربما يقصد بذلك أن يشغلهم عنه في دارهم وأن يوقع الإضطراب في نفوسهم وأن يتملك قسماً من بلادهم يضيق بها رقعة ما يملكه معاوية ويوسع بها دولة الإمام ويستنجد الضحاك بأهل الرقة - وأهل الرقة عثمانيو المبدأ - ومع ذلك يضايقه الأشتر ويلتقي بالضحاك بمرج مرينا - وهي بين حران والرقة - ويبدأ القتال ثم يشتد، ولكن المساء يفصل بين الفريقين فيلوذ الضحاك بالفرار إلى حران ويتبعه الأشتر إليها.

غير أن معاوية يسمع بالخبر فينجد الضحاك بجيش عظيم ربما يضعف عن مقاومته جيش مالك، ويعلم مالك بقدومه بقيادة عبد الرحمن بن خالد فيكتب الكتائب ويستعد للقتال ثم يرفع صوته بالخطاب لهؤلاء المتحجبين عنه بالقلاع: ألا تنزلون أيها الثعالب الرواغة احتجزتم احتجاز الضباب (1)، ولكنهم لا يجيبونه فينسحب عنهم إلى مقر إقامته من بين هذه البلدان الذي لا يحدث عنه التأريخ بقليل أو كثير.

ويظل مالك في ولايته مدة لم تطل كثيراً، فقد أرسل إليه الإمام ليكون ساعده القوي في حرب أهل الشام ويقبل مالك عليه والإمام يتأهب للخروج ويعد العدة.

ص: 162


1- في المصادر (احتجرتم، احتجار الضباب) وهو الصحيح، أنظر ابن مزاحم المنقري، وقعة صفّين، ص13؛ بحار الانوار ج32، ويقصد به اختفيتم في جحوركم اختفاء الضب.

ولكن الإمام - كما نعلم من حاله - لا يحب أن يبدأ في القتال قبل أن تكون له الحجة البالغة على غريمه وقبل أن يكون في نجوة من لمزات اللامزين فهو مع يأسه من انقياد معاوية إليه يكتب كتاباً ويبحث عن رسول يبلغه إليه ومن ذا يكون.

يقترح جرير بن عبد الله عامل عثمان على ثغر همدان (1) أن يكون هو الرسول لأنه أعلم بلغة معاوية وأدرى بالأساليب التي يستطيع أن يسلكها فيجذبه إليه فهو يمكنه أن يمنيه بولاية الشام ما دام يعمل بطاعة الله وهو يمكنه أن يخوفه من فتكة الإمام فيجمع بين الخوف والرجاء.

وأهل الشام قومه وأهل بلاده فهم أسرع ما يكونون إلى الانقياد إليه، ويشم مالك من حديثه رائحة التحزب إلى معاوية فيقول للإمام: لا تبعثه فو الله إني لأظن هواه هواهم.

غير أن الإمام كان أنفذ بصيرة من مالك حين أصر على إرساله وذلك أنه كان يعلم - حسبما أرى - أن معاوية لا يستجيب وعنده أهل الشام الذين رباهم بتلك التربية المقصودة التي كان يضرب فيها على وتر خاص، وما يدريك لو أرسل إليه غير هذا العثماني أكان يسلم من غائلته؟

ص: 163


1- جرير بن عبد الله البجلي (ت 51ه-) والي عثمان على همدان عزله الإمام علي وبعثه إلى معاوية، اعتزل صفّين وذهب الى قرقيسيا، أنظر: انساب الاشراف، ص175.

أترى أن معاوية يستطيع الظفر بمالك أو نظراء مالك من أصحاب الإمام فيتركهم يمرحون في الأحياء ليشنّوا عليه غارة شعواء مع الأومام (1) معاوية - كما نعلم من حاله - لا يهمه أن يخرج على التقاليد العربية، والإسلامية في الرسول، ما أظن ذلك!

وعبد الله من أهل الشام ومن عمال عثمان وممن كان هواه هوأهم (2) فهو أولى بحمل هذه الرسالة التي يأمن الإمام من عدم نجاحها ثم يأمن من حصول غرضه بها وهو إقامة الحجة على معاوية أمام المسلمين أجمع (3) وهو يحصل بهذا الرسول.

ويسير ابن جرير ويجد السير ويبلغ الشام بكتاب الإمام ويدور بينه وبين معاوية حديث لا يهمنا تسجيله الآن ويظل في الشام مدة كادت أن تُيئس الناس منه ويأتي بعدها بكتاب من معاوية ينذر فيه الإمام بالإستعداد للحرب ويجتمع الأشتر وابن جرير عند الإمام فيدور بينهم هذا الحديث:

ص: 164


1- كذا في المطبوع والصحيح (مع الإمام ومعاوية.... الخ).
2- كذا في المطبوع والصحيح (هواهم).
3- في الاصل (جمعاء).

الأشتر - للإمام -: أما والله يا أمير المؤمنين لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيراً لك من هذا الذي أرخى من خناقه وأقام حتى لم يدع باباً يرجو روحه إلّا فتحه أو يخاف غمّه إلّا سدّه.

ابن جرير - لمالك -: والله لو أتيتهم لقتلوك وقد زعموا أنك من قتلة عثمان، ثم شرع يخوفه بعمرو (1) وذي الكلاع (2) وحوشب ذي الظليم (3).

الأشتر: يا أخا بجلية (4) ما أنت بأهل أن تمشي فوق الأرض حياً إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يداً بمسيرك إليهم ثم رجعت إلينا تهددنا بهم، وأنت والله منهم ولا أرى سعيك إلّا لهم، ولئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليسحبنك (5).

ومن هذا الحديث يمكننا أن نصدق فراسة مالك في (6) جرير، فحديثه السابق ربما يدل على رغبته في معاوية واهتمامه بتهويل فتكه وفتك جيشه في

ص: 165


1- عمرو هو عمرو بن العاص (المحقق).
2- ذي الكلاع من قادة معاوية بن أبي سفيان يوم صفّين، قتله الاشتر للتفاصيل أنظر: ابن أبي الحديد، نهج البلاغة، ج8، ص19.
3- حوشب بن طخمة (ت 37ه-) ذو ظليم (بالتصغير) الحميري، تابعي يماني، شهد صفّين مع معاوية وقتل فيها، أنظر: الزركلي، الاعلام، ج2، ص288.
4- في المصدر ان عثمان اشترى منك دينك بهمدان والله ما انت...
5- ابن مزاحم، وقعة صفّين، ص61.
6- كلمة (بن) ساقطة.

أنصار علي، وقد استظهرنا سابقاً أن الإمام كان يعلم ذلك منه ومع ذلك فقد أرسله للغايات السياسية المتقدمة.

ويضطرب ابن جرير لإشارة مالك على الإمام فيخرج من الكوفة ثم يخرج معه رجال من قومه ويقصد إلى قرقيسيا من أعمال معاوية.

ويبلغ الإمام خبره فيقصد إلى داره ويهدم بعضها ويحرقها، ثم يقصد إلى دار ثوير بن عامر (1) فيهدم بعضها ويحرقها (2) كل ذلك من أجل خيانته ونكوله عن مجاهدة أعداء الإمام، وربما يكون الإمام قد قصد مع ذلك إيقاف حدود الخيانة من بقية الناس.

ويتهيأ الإمام للخروج فيرسل على المهاجرين والأنصار ثم يرسل على الزعماء من أهل الكوفة ويقوم فيهم خطيباً ويقول فيما يقول: {سيروا إلى أعداء السنن والقرآن سيروا إلى بقية الأحزاب وقتلة المهاجرين والأنصار}.

فيقوم في الأثناء رجل من فزارة يقال له: الأربد (3) - ولعله دسيسة من دسائس معاوية - ويقول: أتريد أن تسيرنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك

ص: 166


1- ثوير بن عامر لم تذكر عنه المصادر سوى انه كان شريفاً في قومه لحق بجرير بن عبد الله إلى مدينة قرقيسيا عند اعتزاله صفّين، أنظر: الامين، اعيان الشيعة، ج4، ص75.
2- أنظر: المنقري، وقعة صفّين، ص61.
3- في المصادر [اربد]

كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم، كلا، ها، الله اذن لا نفعل ذلك (1).

ويقوم مالك ولعله نظر أن هذه الكلمة قد يكون لها وقع في بعض النفوس التي تراودها نشوة حب السلامة فيتقاعدون عن الجهاد، وربما جهروا بأمثالها فيشيع في المحفل هذا اللون من الحديث وقد ينتهي إلى شغب كثير وما يدريه لعل دسائس معاوية كانت قد ملأت ذلك المحفل وقد هيأت هي ذلك الجو الذي مهد للفزاري هذا الحديث.

إذاً يجب عليه الآن أن يتدارك الوضع قبل أن يقع ما لا يحمد عقباه، ولكن كيف يتداركه؟ المقام يقتضي الشدة ليثير فيها غريزة الخوف في النفوس ويقتضي اللين ليثير فيها غريزة الخضوع والإستسلام لأوامر السلطان فليقم في المقامين وليقدم الشدة على اللين؛ فينادي: من لهذا أيها الناس؟ ويسمع الفزاري صوته فيستسلم للفرار ويقوم شؤبوب من الناس خلفه ويقبضون عليه في سوق البراذين فتختلف عليه الأيدي والأرجل وذيول السيوف إلى أن يموت ضحية للطيش والغرور والخيانة، ويسأل الإمام عن قاتله فيقال له: همدان وشوبة (2)

ص: 167


1- أنظر الدينوري، الاخبار الطوال، ص164، باختلاف يسير، الامين، اعيان الشيعة، ج1، ص473.
2- في بعض المصادر (وشوب من الناس).

من الناس، فيقول: قتيل عمية (1) لا يدري من قتله، ديته من بيت مال المسلمين (2).

وهذه الحادثة بالطبع أثرت على بعض النفوس فأماتت عواطفها في صدورها ولعل الشاعر التيمي يصور لنا بعض تأثيرها بقوله:

أعوذ بربي أن تكون منيتي *** كما مات في سوق البراذين أربدُ

تعاوره همدان خفق نعالهم *** إذا رفعت عنه يد وضعت يد(3)

ويبقى دور اللين فيقوم ويقول: يا أمير المؤمنين لا يهولنك ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن، إن جميع من ترى من الناس شيعتك وليسوا يرغبون بأنفسهم عن نفسك ولا يحبون بقاء بعدك، فإن شئت فسر بنا إلى عدوك والله لا ينجو من الموت من خافه ولا يعطى البقاء من أحبه وما يعيش بالآمال إلّا شقي وإنّا لعلى بينة من ربنا أن نفساً لن تموت حتى يأتي أجلها فكيف لا نقاتل قوماً هم كما وصف أمير المؤمنين وقد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين

ص: 168


1- قتيل عمية، أي لم يدر من قتله، أنظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، (د. م: مكتبة الاعلام الاسلامي، 1404ه-) مادة (عمى).
2- ابن أبي الحديد، ج3، ص174؛ الدينوري، الاخبار الطوال، ص164.
3- أنظر: ابن مزاحم المنقري، وقعة صفّين، ص95.

فأسخطوا الله واظلمت بأعمالهم الأرض وباعوا أخلاقهم (1) بعرض من الدنيا يسير (2).

وما أدرى ما رأيكم بهذا اللون من الحديث.. إنني أطرب كثيراً لهذا التبرع من مالك الذي تحدث به عن الناس فهم شيعته وهم محبوه وهم باذلو أنفسهم دونه وهم... وهم.... مع إرسال هذه الحكم الجليلة التي استقاها حسبما أعتقد من معينها الفياض - علي (علیه السلام) - لا ينجو من الموت من خافه.. لا يعطى البقاء من احبه (3).. ما يعيش بالآمال إلّا شقي (4).

وكأنه يريد أن يخاطب قلوب الناس بهذه الحكم فيقول: ما قيمة الحياة إذا كانت نتائجها ليست بيدك؟ فالموت والبقاء منوطان في الله (5)، فما قيمة الآمال التي لا يعيش بها إلّا الشقي من الناس؟

ص: 169


1- في المصدر (خلاقهم).
2- أنظر: الامين، أعيان الشيعة، ج1، ص473.
3- الإمام علي، نهج البلاغة، ج1، ص90.
4- لم أجد هذا النص في كلام للإمام علي (المحقق).
5- كذا في المطبوع والصحيح (بالله).

وما أدرى أيصح أن يسمع الناس هذه الحكم بهذا الأسلوب فلا ينصبغون بلونها ولا يتأثرون بها؟ ثم أيستطيع بعد هذا الكلام من تساور نفسه بعض الآمال أن يقوم فيرد على الإمام؟

أنا في ما أعتقد أن هذا الكلام قد قطع عن الإمام ألسناً عديدة كان يجابه بها لولا صدوره من مالك.

وقبل أن نتحول عن هذه الخطبة أحب أن نقف عند نقطتين منها:

الأول: قوله فكيف لا نقاتل قوماً هم كما وصف أمير المؤمنين.... الخ فهي تدل على ثقافة نفسية عميقة وتأدب مع الإمام يبعث الإطمئنان إليه في جميع النفوس.

والثانية: قوله إنّا لعلى بينة من ربنا فهي كلمة تدل على تغلغل الإيمان في نفسية هذا البطل الفتاك.

وخطبة مالك هذه كانت قد فتحت الباب لكثير من الزعماء، فقاموا ونسجوا على منواله وأخيراً يتفرق الناس عن (1) الإستعداد للخروج إلى الشام.

ويبلغ الإمام أن معاوية خرج إلى صفين فيخرج ويخرج مالك معه ويخرج

ص: 170


1- كذا في المطبوع والصحيح (على).

معهما الجيش الجرار وينتهي الإمام إلى (الرقة) (1)، والرقة - كما يقول المؤرخون - عثمانية المبدأ (2) وقد كان هواها مع معاوية وعليها من قبله سماك بن مخرمة الأسدي (3)، ويحاول الإمام أن يعبر عن جسرها فيمتنعون ويخفون عنه السفن.

فيتركهم الإمام ويقصد إلى منبج للعبور على جسرها ولكنه يخلف عليهم مالكاً. وكأن مالكاً رأى أن في ترك الإمام له على الرقة سراً من الأسرار لا يعدو استعمال لون من ألوان الشدة يضرب بها على أيديهم ليتسنى للإمام العبور من أقرب مكان، فينادي فيهم: إني اقسم بالله لئن مضى أمير المؤمنين ولم تجسروا عند مدينتكم حتى يعبر منها لأجردنّ فيكم السيف ولأقتلنّ مقاتلتكم ولأخربنّ أرضكم ولآخذنّ أموالكم (4)، ويسمع هؤلاء نداءه فيرتبك عليهم الأمر.

ويتضاعف عندهم الإرتباك عندما يتصورون أنه مالك، فيقول بعضهم لبعض: إن الأشتر يفي بما يقول وإن علياً إنما خلفه علينا ليأتينا منه الشر.

ص: 171


1- الرقة: مدينة معروفة بينها وبين حران ثلاثة ايام، معدودة من بلاد الجزيرة، للتفاصيل أنظر: الحموي، معجم البلدان، ج3، ص58.
2- أنظر: ابن مزاحم المنقري، وقعة صفّين، ص12.
3- سماك بن مخرمة الاسدي لم تذكر عنه المصادر سوى انه كان في طاعة معاوية، وفارق علياً ومعه مائة رجل من بني اسد، راجع المنقري، وقعة صفّين، ص146.
4- أنظر: الامين، اعيان الشيعة، ج1، ص468.

واخيراً يقر رأيهم الاستسلام فيستسلمون ويبعثون إليه إنّا ناصبون لكم جسراً فأقبلوا، ويرسل الأشتر على الإمام فيقبل وينصبون لهم الجسر فيعبرون ويتخلف مالك ومعه ثلاثة آلاف ويعبر بعد أن يعبر الجميع فتسقط قلنسوتان لعبد الرحمن بن الحسين وعبد الله بن الحجاج فيتفاءلان بالشهادة.

وبعد أن ينهي العبور يبعث الإمام على زياد بن النضر وشريح بن هاني ويرسلهما إلى معاوية طليعة لجيشه بأثني عشر الفاً، ويسير هذان ويلتقيان بأبي الأعور السلمي (1) بسور الروم في جند من الشام فيدعوانه إلى الدخول في طاعة الإمام ويأبى فيرسل هذان إلى الإمام ويعلمانه بالخبر (2).

فلا يجد الإمام بداً من إرسال نجدة إليهما وقائد يستطيع أن يدير الحركة بلباقة. ومن ذا يكون لها غير تلميذه الأشتر فليدعه اذن وليقل له فيما يقول: يا مالك أن زياداً وشريحاً أرسلا الي يعلماني أنهما لقيا أبا الأعور في جند من أهل الشام بسور الروم، ونبأني الرسول أنه تركهما متواقفين فالنجاء إلى أصحابك النجاء، فإذا اتيتهم فأنت الأمير عليهم وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلّا أن يبدوك (3)،

ص: 172


1- أبو الاعور السلمي عمرو بن سفيان بن عبد شمس غلبت عليه كنيته كان مع معاوية بصفّين وعليه كان مدار حرب معاوية، أدرك الجاهلية وليس له صحبة، أنظر: ابن عبد بر، الاستيعاب، ج3، ص1179.
2- أنظر: الامين، اعيان الشيعة، ج1، ص468.
3- كذا في المطبوع والصحيح يبدؤوك.

ولا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة، واجعل على ميمنتك زياداً وعلى ميسرتك شريحاً وقف في القلب ولا تدنو منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب ولا تتباعد منهم تباعد من يهاب البأس حتى أقدم عليك فإني حثيث السير إليك إن شاء الله (1).

ويقبل مالك ويستمع لهذه الدروس الثمينة ويتلقاها بوداعة واطمئنان كما اعتاد أن يتلقى نظائرها عن استاذه من الدروس التي خلقت منه هذا القائد الجبار الذي لم يراوده الفشل في حملة من الحملات.

وكم كنت أود لو تساعدني هذه الأزمة الشديدة (2) لأقف من هذه الدروس موقف من يريد أن يدرسها من الوجهة النفسية ليعرف مقدار تأثيرها على النفوس.

ويسير مالك وقد تأبط هذه الباقة من النصائح الثمينة وتأبط حزمه وعزمه وفروسيته وقوة إرادته ثم تأبط هذا الكتاب الخالد من الإمام إلى هذين القائدين: أمّا بعد فإني امّرت عليكما مالكاً فاسمعا له وأطيعا أمره فإنه ممن لا يخاف وهنه

ص: 173


1- أنظر: المنقري، وقعة صفّين، ص153.
2- لعله يشير (المؤلف) إلى تأزم الأوضاع السياسية في العراق والعالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (المحقق).

ولا سقطته ولا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم ولا الإسراع إلى ما البطؤ عنه أمثل (1).

وهذا الكتاب على إيجازه المعجز مَثَّل لنا صورة القائد المحنك الذي يستطيع أن يضع الأمور في مواضعها فلا يسرع في موضع الإبطاء ولا يبطئ في موضع الإسراع، ثم لا يخاف وهنه، ولا تخشى سقطته، وماذا يمكن أن يقال في تحديد القائد العظيم أكثر من هذا؟ ومنها تستطيع أن تعرف قيمة مالك الأشتر الذي صورته لك هذه الآيات.

ويلتقي بهما فيكون أميراً عليهما ويجري على الخطة التي رسمها الإمام له، فلا يبتعد ولا يقترب ولا يطمع ولا ييأس.

ولكن أبا الأعور كان لا يطيق هذه المضايقة فيخرج عليهم في الليل ويقتتلون، ثم ينصرف أهل الشام يتبعهم هاشم بن عتبة في خيل ورجال.

واخيراً يخرج عليهم الأشتر وهو ينادي أروني أبا الأعور أروني أبا الأعور.

ص: 174


1- أنظر: الإمام علي، نهج البلاغة، المصدر السابق، ج3، ص14.

ولكن أبا الأعور يختفي عنه فلا يراه ويرسل إليه الأشتر سنان بن مالك الشاب النخعي ليدعوه إلى المبارزة، ويتبادر إلى ذهن الشاب الفتى أنه يطلب إليه أن يبارزه هو لا مالك فيقول لمالك:

أدعوه لمبارزتي؟

مالك: ولو أمرتك بمبارزته فعلت؟

الشاب -وقد بدأت تتجلى من حديثه صفحة من صفحات البطولة الجبارة: - نعم والله الذي لا إله الا هو، لو أمرتني أن اعترض صفهم بسيفي فعلت.

مالك: يا ابن اخي أطال الله بقاءك قد والله ازددت فيك رغبة.. لا، ما أمرتك بمبارزته إنما أمرتك أن تدعوه إلى مبارزتي لأنه لا يبارز إلّا ذوي الكفاءة والاسنان والشرف، ولكنك حديث السن وليس يبارز الأحداث فاذهب فادعه لمبارزتي.

ويذهب الشاب فيدعوه للمبارزة، فيتذكر أبو الأعور أنه مالك فيحجم عنه ويعتريه شيء من الوجوم، ثم يفكر في سبيل يخلص به منه فلا يجد غير هذا الجواب الذي يدل على بلبلته النفسية:

ص: 175

إن خفة الأشتر وسوء رأيه هو الذي دعاه إلى إجلاء عمال عثمان من العراق، وافترائه عليه إلى أن سار إليه إلى داره فقتله فيمن قتل، لا حاجة لي بمبارزته.

ويطلب الشاب الجواب فلا يجد غير هذا، فيرجع إلى مالك وقد يئس منه. وما أدري ما يمنع أبا الأعور مع أنه يستطيع - لو كان له كفؤاً - أن يبارزه فيقتله ليثأر لعثمان منه ما دام هو قاتله، ولكنه العذر للتخلص من المبارزة ليس إلّا.

وهنا لا يجد الأشتر غير موافقته كما أمر الإمام، ويقبل الليل فينسحب أبو الأعور وهو متستر في ثياب الظلام (1).

ص: 176


1- أنظر: المصدر نفسه.

-8-

اشارة

ويصبح الصباح، فيلتحق جيش الإمام بجيش مالك ويسيران معاً إلى صفين وكان قد سبق إليها معاوية بجيش الشام وسبق إلى الماء فوضع عليه أبا الأعور السلمي ومعه جيش عظيم وينزل جيش الإمام على غير ماء فتبدأ المصادمات.

على الماء

فيقبل الأشتر ومعه قسم من مقدمة الجيش إلى الفرات فيصطدم بأبي الأعور، وتدور معركة شديدة تنتهي بانسحاب أبي الأعور عن الماء، وينظر معاوية ذلك فينهض بجميع أهل الشام ويقبل إلى الأشتر فيتراجع الأشتر عن الماء (1).

ويظل جيش الإمام يعاني العطش يومه ذاك فيراسل الإمام معاوية حول هذه القضية لعل الأمر ينتهي بسلم، ويشير جماعة على معاوية أن يستمر بمنعهم عن الماء لعلهم يرجعون عنه.

ص: 177


1- أنظر: المنقري، وقعة صفّين، ص166؛ الامين، اعيان الشيعة، ج1، ص489.

ويكثر الضجيج من أهل العراق، وتثور الحمية في الأشعث (1) فيقبل على الإمام ويطلب منه أن يمده بمالك الأشتر (2)، ويقف مالك (3) فينادي في الناس: من كان يريد الموت فميعاده الصبح فإني ناهض إلى الماء ويأتيه في ليلته تلك اثنا عشر ألفاً فيشد عليه سلاحه وهو يقول:

ميعادنا اليوم بياض الصبح *** هل يصلح الزاد بغير ملح؟ (4)

نعم أيها البطل المغوار لا يصلح الزاد بغير ملح، وملح البطولة جولة في ميادين الكفاح يصول بها الفارس الفتاك - تأملوا قوله: هل يصلح الزاد بغير ملح - فهو مثل عربي جليل لعله انتشر من هذا البيت الجميل.

ثم يعطي الراية للحارث بن همام النخعي (5) ويشجعه على الثبات في الميدان، ويهم أن يثير في نفسه غريزة الإحتفاظ بالكرامة وغريزة حب الظهور

ص: 178


1- الاشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي (ت 40ه-) امير كندة في الجاهلية والاسلام، شارك في حروب العراق، كان مع علي في صفّين، للتفاصيل أنظر: الزركلي، الاعلام، ج1، ص332.
2- أنظر الدينوري، الإمامة والسياسة، ص94؛ المنقري، وقعة صفّين، ص166.
3- الامين، اعيان الشيعة، ج1، بص480، وفي بقية المصدر ان المنادي كان الاشعث بن قيس، أنظر: المنقري، وقعة صفّين، ص 166؛ الدينوري، الإمامة والسياسة، ج1، ص94؛ البغدادي، خزانة الادب، ولب لباب لسان العرب، تحقيق محمد نبيل طريفي وآخر (بيروت: دار الكتب العلمية، 1418ه-)؛ ج3، ص192.
4- أنظر: المنقري، وقعة صفّين، ص166.
5- الحارث بن همام النخعي، ذكره الشيخ الطوسي في رجاله في اصحاب علي وقال صاحب لواء الاشتر؛ أنظر: الطوسي، رجال الطوسي، تحقيق جواد الفيومي (قم: مؤسسة النشر الاسلامي، 1415ه-) ص62.

فيقول: لو أني أعلم أنك تصبر على (1) الموت لأخذت لوائي منك ولم أحْبُكَ بكرامتي.

ويُسَر همام بهذا التشجيع ويتطاول قليلاً وهو يقول: والله لأسرنّكَ أو لأموتن ثم يسير ويبدأ في الحداء:

يا أشتر الخير ويا خير النخعْ *** وصاحب النصر إذا عم الفزعْ

وكاشف الأمر إذا الأمر وقع *** ما أنت بالحرب العوان بالجذع

قد جزع القوم وعموا بالجزع *** وجرعوا الغيظ وغصوا بالجرع

إن تسقنا الماء فما هي بالبدع *** أو تعطش اليوم فجد يقتطع

ما شئت خذ منها وما شئت فدع (2)

ويقف مالك فيقف الجيش ويلقي عليهم دروساً في الفروسية تدل على تعمقه في هذا الفن مع إرسال شيء من كلمات التشجيع يقول: فدتكم نفسي، شدوا شدة المحرج الراجي الفرج، فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها، وإذا عضتكم

ص: 179


1- في المصدر عند الموت.
2- الامين، اعيان الشيعة، ج1، ص481.

السيوف فليعض الرجل على نواجذه فإنه أشد لشؤون الرأس، ثم استقبلوا القوم بهاماتكم (1).

وكان الأشتر إذا ذاك راكباً على فرس له محذوف (2) أدهم كأنه حلك الغراب - كما يقولون (3) - يبارز الأقران ويصاول الأسود وهو يهدر بأراجيز فنية توقع الرعب في نفوس الأبطال فهو يقول:

لأوردن خيلي الفراتا *** شعث النواصي أو يقال ماتا (4)

وهذا البيت يصور لك كيف يجب أن تكون حياة البطل، فهو قصة حياة تتلخص بكلمات: إمّا أن يحصل على غايته أو يموت.

أو يقول في ترجمة نفسه لمبارزه الشامي الأجلح بن منصور الكندي (5):

بليت بالأشتر ذاك المذحجي *** بفارس في حلق مدججِ

كالليث ليث الغابة المهيج *** إذا دعاه القرن لم يعرج (6)

ص: 180


1- المنقري، وقعة صفّين، ص174.
2- المحذوف، الفرس المقطوع الذنب. أنظر: ابن منظور لسان العرب، مادة (حذف).
3- أنظر المنقري، وقعة صفّين، ص174، المصدر السابق.
4- ابن اعثم، كتاب الفتوح، ج3، ص10.
5- لم اعثر على ترجمته وذكر الموفق الخوارزمي في المناقب ((وكان من اعلام العرب وفرسانها)) ثم ذكر مصاولته للأشتر وقتل الاشتر له، أنظر: ص218 (المحقق).
6- المصدر نفسه.

وقد بلي هذا المسكين به كما أخبر - فقد صدق قوله فعله - فقتله:

أو يقول لإبراهيم بن الوضاح منازله في المعركة ومخاطبه بقوله:

هل لك يا أشتر في برازي *** براز ذي غشم(1) وذي اعتزازِ

مقاوم لقرنه لزاز (2)

يقول:

نعم نعم أطلبه شهيدا *** معي حسام يقصم الحديدا

يترك هامات العدا حصيدا (3)

ويأبى سيفه إلّا أن تكون هامة الوضاح من بعض ذلك الحصيد.

أو يقول لرياح بن عتيك الغساني الذي طلب مالكاً للبراز بقوله:

إني زعيم مالك بضربي *** بذي غرارين جميع القلبِ

عبل الذراعين شديد الصلب (4)

والذي أجابه بوادعة البطل الهادئ الذي لا يأبه لأمثاله في الميدان يقول:

ص: 181


1- ذي الغشم، ذي الغضب، أنظر: الفراهيدي، كتاب العين، المصدر السابق، مادة غشم.
2- اللزاز، الطعان، أنظر: المصدر نفسه، وذكر الابيات الخوارزمي في المناقب، ص217.
3- ابن اعثم الكوفي، الفتوح، ج3، ص16.
4- ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج18، ص265

رويد لا تجزع من جلادي *** جلاد شخص جامع الفؤادِ

يجيب في الروع دعا المنادي *** يشد بالسيف على الأعادي (1)

وتسرع ضربة مالك إلى رأس الغساني فلا تدع المجال للجزع في ذلك الفؤاد.

واخيراً يشرف على الماء وقد قتل عدة من القروم فينسحب جيش الشام ويرتوي مالك وأهل العراق من دماء الأعداء ثم من نهلة الفرات.

وهنا ما ترى الإمام يصنع بمعاوية؟ أتراه يقابله بالمثل فيمنعه عن الماء؟ لا.. إنه ترك الماء للجميع ينتهلون منه على حد سواء.

وتدور بعد هذه المعارك معارك طفيفة يكون مالك هو المجلي في جلاد الفرسان.

ثم يحتال معاوية في امر الماء بحيلة فيها شيء من الطرافة لم تكن لتخفى على الإمام - وإن خفيت على جل أهل العراق - وذلك أنه كتب على سهم ورماه نحو جيش الإمام بعنوان أنه مخبر سري على معاوية كتب عليه بأن معاوية عزم على أن يفجر عليكم الفرات ليغرقكم.

ص: 182


1- المنقري، وقعة صفّين، ص157.

ويخال أهل العراق بأن المخبر صادق - وهم في العراق يشاهدون لوعة الفيضان - فيحاولون الفرار.

وينادي الإمام: إنها خديعة إنها خديعة، فلم يجيبوه ونهض في آخرهم وسار، وسار معاوية إلى معسكر الإمام ونزل على الفرات.

ويدعو الإمام مالكاً والأشعث ويقول: ألم اقل لكما أنها حيلة ثم يقومان بالعودة إلى الماء ومعهما أبطال من أهل العراق ويزيحون معاوية وأهل الشام ويعود الإمام إلى مركزه في معسكره (1).

ثم تدور مناوشات طفيفة بين الطرفين ويبرز في الميدان في بعضها رجل شامي طويل عرف بالشجاعة والإقدام - يدعى بسهم بن أبي العيزار- فيدعو الناس إلى المبارزة ويحجم عن منازلته في الميدان جميع أهل العراق فيظل وحده يزمجر ويسوء مالك اسد العراق ذلك فيبرز له بنفسه - وقد أشفق عليه الناس - ويلتقيان فيتصاولان ويتجولان - والناس ينظرون إليهما واجمين - ثم يسرع كبش العراق وفارسه فينشب في غريمه سيفه الصارم ويعود وقد أسلم فحل الشام إلى معانقة الموت (2).

ص: 183


1- أنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج4، ص18.
2- في المصادر [فاستنقذوه جريحاً]. أنظر: المنقري، وقعة صفّين، ج1، ص483؛ الطبري، تاريخ الطبري، ج3، ص573.

ويقبل ذو الحجة فيترك القتال للأشهر الحرم وتدور مفاوضات بين الإمام ومعاوية رجاء الصلح ولكنها لا تنتج شيئاً (1) لأن معاوية كان قد قوي امله بالسلطان وتنتهي فيبدأ القتال:

بعد الهدنة

ويعبئ الإمام جيوشه ويكون الأشتر قائد الرجالة من أهل الكوفة ثم يلقي عليهم نصائح ودروساً، ويشرع الجيش في القتال فيخرج في اليوم الأول أهل العراق وهم بقيادة الأشتر ثم يخرج بعد أيام قائداً أيضاً ويلتقي في كل ذلك بجيش أهل الشام فيقتتلون قتالاً شديداً.

ويفصل الليل بين الطرفين فينفض الجلاد عن قتل جماعة كبيرة من زعماء أهل الشام جزع من مقتلهم معاوية فقام يدعو: اللهم اظفرني بالأشتر النخعي ثم يستعد الإمام للهجوم بجيشه عامة ويستعد أهل الشام، ويلتقي الجيشان ويقتتلون فتنهزم ميمنة أهل العراق ويلاحقها أهل الشام فيمرّ المنهزمون على الإمام فيدعوهم ويستنهضهم ولكنهم لا يجيبون فينادي مالك الأشتر.

مالك: لبيك يا أمير المؤمنين.

ص: 184


1- أنظر: المصدر نفسه.

الإمام: ائت القوم فقل لهم أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم (1).

ويبلغ الأشتر الناس الفارين بكلمات الإمام ثم يقول - وقد رفع صوته -: أيها الناس أنا مالك بن الحارث - ويظن أنهم لا يعرفونه بهذا الاسم فيقول: أيها الناس أنا الأشتر أنا الأشتر الي أيها الناس فتقبل عليه طائفة ثم يقول - وقد ثارت في نفسه نوازع الإيمان والجهاد -: يا أيها الناس غضوا الأبصار وعضوا على النواجذ واستقبلوا القوم بهاماتكم ثم شدوا شدة قوم موتورين بآبائهم وإخوانهم حنقاً على عدوهم وقد وطنوا على الموت أنفسهم كي لا يسبقوا بثارات(2) هؤلاء القوم، والله لن يقارعوكم إلّا عن دينكم ليطفئوا السُنّة ويحيوا البدعة ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة، فطيبوا عباد الله أنفساً بدمائكم دون دينكم، فإن الفرار فيه سلب العز والغلبة على الفيء وذل المحيا والممات وعار الدنيا والآخرة وسخط الله وأليم عاقبه(3).

وينادي مذحجاً قبيلته الخاصة فتجتمع عليه ثم يسترسل في إتمام خطبته بشيء من الغضب يخالط صوته وهو يوجه الخطاب إليهم: ما أرضيتم اليوم

ص: 185


1- أنظر: المنقري، وقعة صفّين، ص250.
2- كذا في المطبوع والصحيح كي لا يسبقوا بثأر ان هؤلاء.... أنظر: المصدر نفسه؛ الامين، اعيان الشيعة، ج1، ص487.
3- أنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج5، ص199.

ربكم ولا نصحتم له في عدوه فكيف بذلك وأنتم أبناء الحرب وأصحاب الغارات وفتيان الصباح وفرسان الطراد وحتوف الأقران ومذحج الطعان الذين لم يكونوا يسبقون بثأرهم ولا تطل دماؤهم ولا يعرفون في موطن(1) بخسف وأنتم(2) حد أهل مصر كم(3) واعد حي في قومكم وما تفعلوا في هذا اليوم فإنه مأثور بعد اليوم فاتقوا مأثور الأحاديث في غد واصدقوا عدوكم اللقاء فإن الله مع الصادقين، والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء - وأشار بيده إلى أهل الشام - رجل على مثل جناح بعوضة من(4) محمد (صلی الله علیه و آله) وأنتم والله ما أحسنتم القراع أجل سواد وجهي يرجع في وجهي دمي عليكم بهذا السواد الأعظم فإن الله عز وجل لو قد فضه تبعه من بجانبيه كما يتبع مؤخر السيل مقدمه(5).

وتنتهي خطبة مالك فتضج هذه الجماهير المتجمعة: خذ بنا حيث أحببت (6).

ص: 186


1- في المصادر موطن من المواطن.
2- كذا في المطبوع وفي المصادر أحد.
3- كذا في المطبوع والصحيح مصركم.
4- في المصادر جناح بعوضة في دين الله.
5- أنظر الطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص13؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص300؛ المنقري، وقعة صفّين، ص250.
6- أنظر المصادر نفسها.

ومن هنا نعرف تأثير كلامه على الناس، والحق أن في كلامه لفتات نفسية جميلة تدل على ثقافة عميقة وفهم لعقليات الجماعة تماماً فهو - كما سمعتم - جمع في كلامه بين التأنيب والتقريع والتذكير والترغيب وهو بكلامه هذا خاطب أغلب الغرائز في نفوسهم فاستثارها وحفزها للوثوب.

خاطب غريزة الاحتفاظ بالكرامة وغريزة المحافظة على التقاليد الإسلامية والعربية وغريزة الخوف من افتضاح امرهم بعد حين وغريزة الإستعلاء - فهم سادة العرب وهم فرسان الطراد وهم مذحج الطعان - مع استعمال هذه اللهجة التي تقرب من اللهجات العائلية التي تشيع فيها لغة العاطفة - أجل سواد وجهي يرجع في وجهي دمي -.

وإذا صح ما يقولون من أن العقل الواعي يفقد تأثيره في مثل هذه المواقف التي تجمع بين التحمس والغضب وأن العمل فيها للعقل الباطن - إذا صح هذا - فمالك ممن ملئ عقله الباطن إيماناً وإخلاصاً لمبدئه.

وهذه الخطبة مثال من الأمثلة لإيمانه فهو لا يتحدث إليهم بغير مراعاة التقاليد الدينية التي يخشى عليها أن تتقلص بهزيمتهم، وإذا تحدث فسرعان ما يعود إلى حديث الإيمان.

وهنا أحب أن لا يغفل سادتي القراء عما في هذه الخطبة من القرب من كلام الإمام مما يدل على أن مالكاً كان ممن تأثر بخطب الإمام.

ص: 187

ويسير مالك بقبيلته وبقسم من العرب الذين التحقوا به ويلتقي بقسم من اليمانية وكانوا في آخر المنهزمين فيعاقدهم على الموت أو النصر ثم يسيرون جميعاً فيمر عليهم جماعة وهم يحملون يزيد بن قيس (1)، فيقول الأشتر: من هذا؟ ويجاب بأنه يزيد بن قيس لمّا صرع زياد بن النضر رفع لأهل الميمنة رايته فقاتل حتى صرع، فيقول الأشتر: هذا والله الصبر الجميل والفعل الكريم (2).

وهنا يرسل كلمة تدل على تركيز الشجاعة في نفسه وهي في غاية السمو والجمال: أما يستحي الرجل أن ينصرف لم يقتل ولم يُقتل ولم يشف به على القتل.

ويستمر الأشتر في زحفه، وهو - كما وصفه من شهد المعركة - كان يقاتل على فرس له في يده صفيحة يمانية إذا طأطأها خِلْتَ فيها ماءً منصباً فإذا رفعها كاد يغشي البصر شعاعها وهو يضرب قدماً ويقول:

الغمرات ثم ينجلينا (3)

وبهذه البسالة استطاع أن يعيد الميمنة إلى مركزها.

ص: 188


1- يزيد بن قيس الأرحبي، كان عامل علي (علیه السلام) / على الري وهمدان واصبهان؛ أنظر: الطوسي، رجال الطوسي، ص86.
2- أنظر: الطبري، المصدر السابق.
3- الطبري، المصدر نفسه، ج4، ص15.

وتحتدم المعارك بين الجيشين فيقتل جماعة كبيرة من أصحاب معاوية، ويُقتل عمار بن ياسر وجماعة من أصحاب رسول الله فينشد مالك شعراً يعد فيه قتلى الشام ويذكر مقتل عمار:

نحن قتلنا حوشبا *** لما غدا قد أعلما

وذا الكلاع قبله *** ومعبدا إذ أقدما

إن تقتلوا منا أبا *** اليقظان شيخاً مسلما

فقد قتلنا منكم *** سبعين رأساً(1) مجرما

أضحوا بصفين وقد *** لاقوا نكالاً مؤثما(2)

ويقبل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد القائد العام لجيش معاوية ومعه اللواء الأعظم بجميع أهل الشام ويلتقي بجيش الإمام، ثم يتبعه بجيش آخر فينسحب عنه جيش الإمام قليلاً ويغم الإمام ذلك ويغم الناس فيقبلون على الأشتر ويقولون: يوم من أيامك الأول وقد بلغ لواء معاوية حيث ترى ويتحمس الأشتر فيأخذ اللواء ويحمل وهو يقول:

إني أنا الأشتر معروف الشترْ *** إني أنا الأفعى العراقي الذكرْ

لا من ربيعة ولا حي مضر *** لكنني من مذحج الغر الغرر(3)

ص: 189


1- في بعض المصادر (كهلا) أنظر ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج8، ص42.
2- أنظر: المنقري، وقعة صفّين، ص364.
3- أنظر: الامين، اعيان الشيعة، ج1، ص500، وفي بعض المصادر جاء في البيت الثاني لست من الحي ربيع او مضر، أنظر: المنقري، ص396؛ وفي بعضها لست من الحي ربيعة ومضر، أنظر: ابن اعثم، الفتوح، ج3، ص65. وفي بعضها ولست من حي ربيع او مضر، أنظر: الخوارزمي، المناقب، ص225.

ثم يلتقي بالقوم فينكشفون عنه ويلاحقهم بالسيف فيرجعون إلى مراكزهم. وتهز النجاشي (1) إذ ذاك الأريحية ويطرب لفعله فيقول:

رأينا اللواء لواء العقاب *** يقحمه الشاكئ(2) الأخزرُ

كليث العرين خلال العجاج *** وأقبل في خيله الأبتر

دعونا لها الكبش كبش العراق *** وقد خالط العسكر العسكر

فرد اللواء على عقبه *** وفاز بحظوتها الأشتر

كما كان يفعل في مثلها *** إذا الناس معصوصب(3) منكر

فإن يدفع الله عن نفسه *** فحظ العراق به(4) الأوفر

إذا الأشتر الخير خلّى العراق *** فقد ذهب العرف والمنكر

ص: 190


1- لم اعثر على ترجمته (المحقق).
2- في جميع المصادر الشانئ الاخزر، الشانئ، وهو المبغض والاخزر الذي انقلبت حدقتاه إلى انفه أنظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة (خزر).
3- المعصوصب قال ابن منظور: ورجل معصوصب الخلق كأنما لوي ليا، أنظر: المصدر نفسه، مادة (عصب).
4- في المصادر (بها).

ويبارز في تلكم الأيام عمرو بن العاص علياً ثم يبارزه بسر (1)، ويلوذان بسوأتيهما من حدة الفتاك (2). فيقوم الشاب ابن عم بسر ليثأر لابن عمه فيحمل على الإمام وهو يقول:

أرديت بسراً والغلام ثائره *** أرديت شيخاً غاب عنه ناصره

ويحمل الأشتر على الشاب وهو يقول:

أكل يوم رجل شيخ شاغره *** وعورة وسط العجاج ظاهرة

تبرزها طعنة كف واتره *** عمرو وبسر رمينا بالفاقرة

ولا أظنكم تغفلون عما في بيته الأول من التهكم اللاذع وعلى الأخص هذا الشطر: وعورة وسط العجاج ظاهرة.

ثم يطعنه مالك فيكسر صلبه (3).

ويغم معاوية أمر الأشتر فيدعو مروان بن الحكم ويطلب إليه أن يسير بخيل من كلاع ويحصب لقتاله فيقول مروان: ادع لها عمرو فإنه شعارك دون

ص: 191


1- بسر بن أرطاة عمر بن عويمر بن عمران ولد قبل وفاة النبي (صلی الله علیه و آله) / بسنتين، شهد صفّين مع معاوية، وقتل ابني عبد الله بن العباس بين يدي امهما، خرف في اواخر عمره، توفي بالشام ايام عبد الملك بن مروان، أنظر: ابن الأثير، اسد الغابة، ج1، ص179.
2- أنظر: ابن كثير، البداية والنهاية، ج7، ص293؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج8، ص96.
3- أنظر: المنقري، وقعة صفّين، ص461.

دثارك (1). ويطول الحديث فيدعى عمرو ويخرج بالخيل إلى مالك ويخرج إليه الأشتر وهو يقول:

يا ليت شعري كيف لي بعمرو *** ذاك الذي أوجبت فيه نذري

ذاك الذي اطلبه بوتري *** ذاك الذي فيه شفاء صدري

ذاك الذي إن ألقه بعمري *** تغل به عند اللقاء قدري

ويسمع عمرو صوت مالك فيتذكر مواقفه ويجبن عن لقائه ولكنه يستحي أن يرجع فتتنازع في نفسه عوامل الخوف والحياء، واخيراً تؤثر عوامل الحياء فيقبل وهو يقول:

يا ليت شعري كيف لي بمالكْ *** كم فارس قتلته وفاتكْ

هذا وهذا عرضة المهالك

ويلتقي عمرو بمالك فيغشاه مالك بالرمح ويروغ عنه عمرو فيصيب ذيل الرمح وجهه ويمسك بيده عليه ويستنجد بالفرار فيسلم نفسه إليه (2)، فيسوء ذلك شاباً من شباب الشام وتأخذه الحمية فتدفعه إلى الأشتر وهو يقول:

إن يك عمرو قد علاه الأشترُ *** بأسمر فيه سنان أزهرُ

فذاك والله لعمري مفخر *** يا عمرو يكفيك الطعان حمير

ص: 192


1- ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص132.
2- الامين، اعيان الشيعة، ج1، ص506؛ المنقري، وقعة صفّين، ص440، باختلاف يسير.

واليحصبي بالطعان أمهر *** دون اللواء اليوم موت أحمرُ

ويأنف الأشتر من مبارزته فيأمر ولده إبراهيم (1) فيبارزه ثم يعالجه إبراهيم بضربة فيقتله، ويقبل حديث:

ليلة الهرير

بعد أن يسأم الناس القتال فيوثبهم الإمام للنصر النهائي ويستعد لتلكم الليلة باستعدادات كافية وكذلك أهل الشام، ويكون موقف مالك هو الموقف الذي تطرب له النفوس.

ويتم الإستعداد ويخرج مالك من بين الصفوف - وقد لمح آثار السأم في جيش الإمام - وهو على فرس كميت ذنوب عليه السلاح لا يرى منه إلّا عيناه وبيده الرمح - كما يحدث من شاهده إذ ذاك - وهو يضرب رؤوس أهل العراق برمحه ويقول: سووا صفوفكم سووا صفوفكم.

وينظره الناس فتعتدل صفوفهم وتعتدل راياتهم وتأخذ كل مكانها فيستقبله (2) مالك بوجهه ويولي أهل الشام ظهره - كما يحدث نصر (3) - ثم يحمد الله

ص: 193


1- أنظر: المنقري، وقعة صفّين، ص441.
2- كذا في المطبوع ولعل الصحيح (فيستقبلهم).
3- أنظر: المصدر نفسه، ص447.

ويثني عليه ويكرر الحمد بقوله: الحمد لله الذي جعل فيكم ابن عم نبيكم أقدمهم هجرة وأولهم إسلاماً، سيف من سيوف الله صبه على أعدائه، فانظروا إليّ إذا حمي الوطيس وثار القتال (1) وتكسر المران وجالت الخيل بالأبطال فلا أسمع إلّا غمغمة أو همهمة.

تعجبني كثيراً هذه البطولة التي تقرؤها في حديثه، ففي كل كلمة من كلماته نفحة من نفحات الإقدام تتجلى في اختياره هذه الألفاظ للثناء على الإمام. فالإمام على كثرة ما اختصه الله به من الصفات الطيبة لم يختر منها بعد صفتي السبق إلى الهجرة والسبق إلى الإسلام غير أنه سيف من سيوف الله صبه على أعدائه.

والفارس في الميدان لا ينظر غير صفات الفروسية ليخلعها على صاحبه ثم في اختياره لكلمات الوطيس، المران، القتام، الغمغمة، الهمهمة، مما يدل على تغلغل هذه الصفة في نفسه وهذه الجمل المتعاطفة التي طلب إلى الأبطال أن يجعلوه القدوة بها في الميدان تكاد أن تكون مترادفة ولكنها تحمل في كل واحدة منها شواظاً من نار.

ص: 194


1- في المصدر [القتام] أنظر المصدر نفسه.

ويحمل بعد هذا الكلام على أهل الشام ويطعنهم برمحه حتى ينكسر الرمح، كما يحدّث الرواة (1).

وابن (2) نصر يحدثنا في كتابه (وقعة صفين) عن هذه الليلة الرهيبة، وعن النهار الذي سبق تلك الليلة، ثم عن النهار الذي لحقها وعن موقف مالك منها أحاديث مفصلة قد يضيق عن نقلها ما حددته لي اللجنة من الصفحات وسأقتطف لك الآن بعضها.

قال نصر (3): تراموا بالنبل - يعني أهل الشام والعراق - حتى فنيت نبالهم، ثم تطاعنوا بالرماح حتى تقصفت واندقت، ثم مشى بعضهم إلى بعض بالسيوف وقد كسروا جفونها وعمد الحديد فلم يسمع السامع إلّا تغمغم القوم وتكادم الأفواه وصليل السيوف في الهام ووقع الحديد بعضه على بعض لهو أشد هولاً في صدور الرجال من الصواعق ومن جبال تهامة يدك بعضها بعضاً وكسفت الشمس وثار القتام وضنت الألوية والرايات (4).

ص: 195


1- أنظر: المصدر نفسه.
2- كذا في المطبوع والصحيح (ونصر).
3- النص منقول من الامين، اعيان الشيعة، ج1، ص510، وورد في وقعة صفّين باختلاف يسير، أنظر: المنقري، ص479.
4- المصدر نفسه.

وقال: ثم استمر القتال من نصف الليل إلى ارتفاع الضحى وافترقوا على سبعين ألف قتيل (1) - وقد يكون هذا العدد قليلاً بالنسبة إلى ما وصف من هول المعركة وشدتها -.

وقد اقتطفت هذا الفصل تمهيداً لموقف مالك الذي يحدث عنه بقوله: والأشتر في ميمنة الناس وقد يسير ما بين الميمنة والميسرة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالإقدام على التي تليها.

فلم يزل يفعل ذلك حتى أصبح والمعركة خلف ظهره وهو يقول لأصحابه: ازحفوا قيد رمحي هذا فإذا فعلوا قال: ازحفوا قاب هذا القوس، فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتى مل أكثر الناس الإقدام (2).

كل ذلك وهو يصبرهم على فرسه الكميت المحذوف وقد وضع مغفره على قربوس السرج وهو يقول: إصبروا يا معشر المؤمنين فقد حمي الوطيس ورجعت الشمس من الكسوف واشتد القتال ألا من يشري نفسه لله ويقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق بالله.

ص: 196


1- أنظر: المنقري، ص479.
2- المصدر نفسه.

ولا يتصور الأشتر - كما عرفنا من نفسيته - غير هذين إمّا الظفر أو معانقة المنون.

ويعجب فعله هذا بعض من كان في نجوة عن القتال فيقول لصاحبه في تلكم الحال: أي رجل هذا لو كانت له نية؟ فيقول له صاحبه - وقد أزعجه هذا الحديث - وأي نية أعظم من هذه ثكلتك أمك وهبلتك، إن رجلاً فيما قد ترى قد سبح في الدماء وما أضجرته الحرب وقد غلت هامة الكماة من الحر وبلغت القلوب الحناجر وهو - كما ترى - يقول هذه المقالة: اللهم لا تبقنا بعد هذا (1)، ولعله يقصد الإمام أو اليوم.

وفي الأخير يطلب الأشتر إلى أصحابه أن يشدوا معه فيكلمهم بلهجة عاطفية: شدوا فداً لكم عمي وخالي شدة ترضون بها الله وتعزِّون بها الدين، فإذا شددت فشدوا، ثم يأمر صاحب رايته أن يتقدم ويشد، ويشد صاحب الراية ويشد مالك خلفه ويشد معه أصحابه إلى أن ينتهي إلى معسكر معاوية، وتدور معارك شديدة ويقتل صاحب رايته وهو ثابت، ويرى الإمام النصر مقبلاً من جانبه فيمده بالخيل والرجال (2).

ص: 197


1- الامين، أعيان الشيعة، ج1، ص510.
2- المصدر نفسه.

وهذه المواقف التي عرضنا لبعضها تصور لنا بلاء الأشتر في تلكم الليلة. والحق أن الأشتر كان محور الحركة في صفين بعد الإمام وكان لا يعمل إلّا عن عقيدة متغلغلة في نفسه تغلغلاً عظيماً.

وجواب الرجل لصاحبه المغفل الذي اتهم نية مالك، لفتة من لفتات الحقيقة الواقعة، وإلّا أفيمكن أن يعرض الرجل نفسه على هذا النحو ويتمنى لنفسه القتل وهو لا يعمل عن نية صالحة - لا أصدق ذلك -.

وتنتهي هذه الليلة عن سبعين ألف قتيل - كما حدثنا نصر (1) - ولكن الكثرة الغالبة من أهل الشام؛ لذلك ضعفوا عن الاستمرار في الحرب وحاول معاوية الفرار بنفسه عندما ضايقه جيش مالك ودعا بفرصة (2)، غير أن عمرو بن العاص يلتفت إلى:

خديعة التحكيم

فيدعو معاوية إليها ويهش لها معاوية، فيأمر برفع المصاحف على الرماح، ثم يأمر المنادين أن ينادوا: حاكمونا إلى القرآن حاكمونا إلى القرآن. وتدور أحاديث كثيرة تنتهي باجتماع اثني عشر ألفاً من أصحاب الإمام عليه

ص: 198


1- أنظر: وقعة صفّين، ص475.
2- كذا في المطبوع والصحيح (فرسه).

يدعونه إلى قبول التحكيم ويأبى الإمام عليهم فيضايقونه ويقولون فيما يقولون: إن لم تحاكم القوم إلى القرآن ألحقناك بعثمان (1)، وأرسل إلى الأشتر - وكان قائد الحملة - فليخل سبيل أهل الشام.

ويقول الإمام: إنها خديعة إنها خديعة، فيأبون عليه ويلتجئ أخيراً إلى الإرسال على الأشتر فيرسل إليه يزيد بن هاني (2) أن ائتني ويمضي ابن هاني إليه - وقد أوشك أن ينتصر على أهل الشام - ويقول له ذلك - فينفجر الأشتر غيظاً من أهل الكوفة وهو يراقب النصر فينظره في شفار السيوف وما هي إلّا لحظات حتى يعانق الظفر - ويقول لابن هاني: ائت الإمام وقل له ليس هذه الساعة الذي ينبغي لك أن تزيلني عن موقفي، إني قد رجوت الفتح فلا تعجلني (3)، ويعود يزيد بهذه الرسالة إلى الإمام.

وقبل أن يبلغها يرتفع الضجيج من قبل المعركة ويعلو الرهج وتظهر دلائل الفتح والنصر لمالك على أهل الشام، ويبلغ يزيد رسالة الأشتر فيظن القوم -

ص: 199


1- أنظر: ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص218.
2- يزيد بن هاني السبيعي من اصحاب علي ارسله الإمام إلى الاشتر حين رفعت المصاحف، أنظر: السيد الخوئي، معجم رجال الحديث، ج1، ص129.
3- أنظر: المجلسي، بحار الانوار، ج32، ص533.

وبعض الظن إثم - أن الإمام أرسل إليه أن يعجل عليهم ويظهر ذلك من حديثهم إذ يقولون: والله ما نراك أمرته إلّا بالقتال (1).

الإمام - وقد ساءته كثيراً هذه اللهجة -: أرأيتموني شاورت رسولي إليه؟ أليس إنما كلمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون؟

القوم: إبعث إليه فليأتك وإلّا فو الله اعتزلناك.

الإمام ليزيد: ويحك قل له أقبل فإن الفتنة قد وقعت.

ويسرع يزيد إلى الأشتر ويبلغه عن الإمام.

الأشتر: أبرفع هذه المصاحف؟

يزيد: نعم.

مالك - وقد رأى صدق فراسته في أهل العراق -: أما والله لقد ظننت أنها حين رفعت ستوقع خلافاً وفرقة.. إنها مشورة ابن النابغة، ثم ينظر إلى الفتح القريب وإلى ما يرى من أصحابه فيحتدم ويرفع صوته ويخاطب ابن هاني (2):

ص: 200


1- أنظر: ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص218.
2- في المصدر نفسه جملة ساقطة ((ويحك الا ترى إلى الفتح)).

ألا ترى إلى ما يلقون؟ ألا ترى إلى الذي يصنع الله لنا؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه؟

يزيد: أتحب أنك ظفرت ههنا، وأن أمير المؤمنين بمكانه الذي هو فيه يفرج ويسلم إلى عدوه.

مالك - وقد رجع إلى وعيه -: سبحان الله، لا والله لا أحب ذلك.

يزيد: إنهم قد قالوا له وحلفوا عليه لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك بأسيافنا كما قتلنا عثمان أو لنسلمنك إلى عدوك (1).

وهنا لا يرى الأشتر بداً من العودة إليهم ليسلم على حياة سيده الإمام. فيعود وقد امتلأ غيظاً وحنقاً على هؤلاء ويصل إليهم فينفجر بركانه بأشد من سفع النار: يا أهل الذل - ينادي تلكم الجماهير المخدوعة - والوهن، أحين علوتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون ورفعوا (2) المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها وتركوا سنة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم.

ثم يقول: أمهلوني فواقاً فإني قد أحسست بالفتح.

أصوات: لا نمهلك.

ص: 201


1- المصدر نفسه.
2- في المصدر [رفعوا].

هو: أمهلوني (1) عدوة الفرس فإني قد طمعت في النصر.

أصوات: إذاً ندخل معك في خطيئتك.

هو - وقد ازداد ارتفاع صوته -: حدثوني (2) عنكم وقد قتل أماثلكم (3)، متى كنتم محقين؟ أحين كنتم تقتلون أهل الشام فأنتم الآن حين أمسكتم عن قتالهم مبطلون؟ أم أنتم الآن في إمساككم عن القتال محقون؟ فقتلاكم إذاً الذين لا تنكرون فضلهم وأنهم خير منكم في النار.

أصوات: دعنا يا أشتر (4) إنّا لسنا نطيعك فاجتنبنا.

هو: خدعتم والله فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب الجباه السود كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقاً إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم إلّا إلى الدنيا من الموت ألا فقبحاً يا أشباه النيب الجلّالة ما أنتم برائين بعدها عزاً أبداً، فابعدوا كما بعد الظالمون (5).

ص: 202


1- في المصدر (فأمهلوني).
2- في المصدر (فحدثوني).
3- في المصدر (وبقي أراذلكم).
4- في المصدر (منك) يا اشتر قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله.
5- المصدر نفسه، ص218.

وهنا شاع في المجلس السباب فلم ير الأشتر جواباً غير أن يقابلهم بمثله ويضرب وجه دوابهم فيقابلونه بالمثل.

ويزداد غيظ الأشتر ويزداد غضبه فيتذكر النصر الذي كان بينه وبينه عدوة الفرس ثم ينظر هذه العقبة المعترضة في طريق النصر، فتبرز فيه نفسية القائد الهائج الواثق من كفاءته وكفاءة مخاطبه، ويلتفت إلى الإمام ويلفظ أعظم كلمة تدل على اطمئنان نفس ورباطة جأش:

احمل الصف على الصف تصرع القوم

تعجبني والله هذه النفسية التي لا تبالي في كثرة الأعداء حولها، ولا تزيدها كثرتها إلّا وثوقاً واطمئناناً.

تصوروا هذه الجماهير المجتمعة حول الإمام وقد ضايقته تلك المضايقة الشديدة، وتصوروا هذا البطل الفتاك وهو واقف على رؤوسهم، ثم تصوروا هذه الكلمة التي لفظتها شفتاه الكريمتان! تصوروا كل ذلك لتعرفوا كيف تركزت في نفسه ملكة الشجاعة كما يعبر القدماء.

ولكن الإمام يحسب للعاقبة حسابها، فيحجم عما أشار به مالك - وهو يتنفس الصعداء -.

ص: 203

وهنا يشيع في المجلس لغط لا يعرف دافعه - ولعله من دسائس معاوية - أن الإمام قد قبل ورضي.

ويسمع مالك بذلك فيتصور واجبه الديني ويعلن عن نفسه: إن كان أمير المؤمنين قد قبل ورضي فقد رضيت بما رضي به أمير المؤمنين (1).

وبعد حديث كثير - لا يهمنا التعرض له الآن - يستسلم الإمام إلى التحكيم.

فيسر أهل الشام ويضربون بينهم موعداً لاختيار الحكمين، ثم يجتمعون فيختار أهل الشام - بالإجماع - عمرو بن العاص ويختار أهل العراق أبا موسى (2).

ولكن أبا موسى - كما رأيتم فيما تقدم - كان من حزب ابن عمر وكان يخذل الناس عن الإمام ولم يكن معهم بصفين، فلم يقبل الإمام به وأراد أن يكون مكانه ابن عباس عبد الله (3).

فيمتنع العراقيون ويقولون: إنه منك ونريد أن يكون رجلاً حاله بالنسبة إليك كحاله بالنسبة إلى معاوية، فيشير عليهم بالأشتر (4).

ص: 204


1- أنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، المصدر السابق، ج2، ص219؛ المنقري، وقعة صفّين، ص492.
2- أنظر: المصدر نفسه، ص497.
3- أنظر: المصدر نفسه.
4- أنظر: المصدر نفسه.

فتثور في نفس الأشعث غريزة الحسد للأشتر وهو - كما رأينا - يعتبر نفسه من زعماء العراق الذين لهم مقامهم، وربما يرى نفسه كالأشتر في زعامته؛ لذلك يهمه أن لا يتقدم عليه ولا يكون هو من دونه، فيقول: وهل سَعَر الأرض علينا إلّا الأشتر؟ وهل نحن إلّا بحكم الأشتر؟

وتستفز الإمام هذه اللهجة، فيستفهم مستغرباً: وما حكم الأشتر؟

ويقول الأشعث: حكمه أن يضرب بعضنا بعضاً بالسيف (1) فيكون ما أراد وما تريد.

واخيرا يرسل أولئك على الأشعري - وكان في بلدة من بلدان الشام (2) - ويقبل فيدخل المعركة ويقبل الأشتر على الإمام - وهو يتميز غيظاً - ويقول: ألزّني يا أمير المؤمنين بعمرو بن العاص فو الذي لا إله غيره لئن ملأت عيني منه لأقتلنه (3).

ص: 205


1- في المصدر حتى يكون ما اردت وما اراد أنظر: المنقري، وقعة صفّين، ص500؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص206.
2- أنظر: المصدر نفسه.
3- أنظر: المصدر نفسه.

ويحدث نصر (1) عن آراء زعماء الكوفة في أمر التحكيم، فيحدث عن الأشتر يقول: أمّا كبش العراق - يعني الأشتر - فإنه لم يكن يرى إلّا الحرب، لكنه سكت على مضض.

وينتهي الأمر فيكتب كتاب الصلح بين الطرفين، ويجيء دور الأشتر في الشهادة فيه فيقول: لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها شمالي أن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة، أو لستُ على بينة من ربي ويقين من ضلالة عدوي؟ أو لستم قد رأيتم الظفر إن لم تجمعوا على الخور (2)؟

وهي كلمات تدل على ثورته النفسية من هذه الأوضاع، وأنا والله ما قرأتها إلّا وعلاني الوجوم؛ لأني أتصور ذلك الأسد الثائر الهائج وهو يبرز من خلال نوافذها مقهوراً مخذولاً، يريدون أن يضعوا في رجليه القيود وهو يتمنع حيث لا ينفع الإمتناع.

وماذا يريدون منه؟ يريدون أن يوقع على الصحيفة التي تدل على ظفر أهل الشام وهزيمة أهل العراق، إن هذا لا يكون ويقول رجل - وهو يحاول أن

ص: 206


1- أنظر: المنقري، وقعة صفّين، ص484.
2- الامين، اعيان الشيعة، ج1، ص514؛ الطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص36 باختلاف يسير.

يستدرجه إليها بلهجة الظافر -: ما رأيت خوراً ولا ظفراً هلم فاشهد على نفسك وأقر بما في هذه الصحيفة فإنه لا رغبة بك عن الناس.

ويسوء مالك ذلك فيجيبه - وهو بعد غضبان -: بلى والله إن بي لرغبة عنك في الدنيا للدينا وفي الآخرة للآخرة، ولقد سفك الله بسيفي دماء رجال ما أنت بخير منهم عندي ولا احرم دماً.

يقول عمار بن ربيعة: نظرت إلى ذلك الرجل وكأنما قطع على أنفه الحمم، وهو الأشعث بن قيس (1).

وأخيراً يتصور إمامه ويتصور عظم مقامه واستسلامه لهؤلاء بعد أن ألجأ إلى الإستسلام فيقول: ولكن قد رضيت بما صنع علي أمير المؤمنين ودخلت فيما دخل فيه وخرجت مما خرج منه، فإنه لا يدخل إلّا في هدى وصواب (2)، وهنا يستسلم الأسد للقيود بدافع الإيمان والانقياد لسيده ومولاه، فيوقع على الصحيفة على ما ينقل بعض المؤرخين (3).

ص: 207


1- أنظر: المصادر نفسها.
2- أنظر: المصادر نفسها.
3- الامين، أعيان الشيعة، ج1، ص514.

-9-

اشارة

وينتهي أمر التحكيم إلى ضرب موعد للحكمين، فيفترق الجيشان ويسير الإمام إلى الكوفة ويسير في ركابه مالك ويوزع ولاته على محل ولايتهم، فيعود الأشتر إلى محل ولايته بالجزيرة ونصيبين (1) ويباشر عمله هناك.

وتضطرب على الإمام مصر - لدسائس معاوية وعمل الدعاوة من قبل العثمانيين فيها وكان عليها من قبل الإمام محمد بن أبي بكر بعثه إليها بعد أن ضويق على عزل قيس - ويبلغ الإمام ذلك فلا يرى لمصر بداً من أحد اثنين، إمّا قيس أو الأشتر، فيترجح في ذهنه الأشتر ويرسل إليه وهو بنصيبين:

أمّا بعد: فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين وأقمع به نخوة الأثيم وأسدّ به الثغر المخوف، وكنت وليت محمد بن أبي بكر مصر فخرجت عليه بها خوارج وهو غلام حدث ليس بذي تجربة للحرب ولا بمجرب للأشياء فأقدم علي لننظر في ذلك فيما ينبغي واستخلف على عملك أهل الثقة والنصيحة من أصحابك والسلام (2).

ص: 208


1- أنظر: الامين، اعيان الشيعة، ج9، ص38.
2- أنظر: المحمودي، نهج السعادة (النجف، النعمان، 1388ه-)، ج5، ص46.

ويبلغ الأشتر الكتاب فيخلف عليها من قبله رجلاً يطمئن إليه، ويقبل على الإمام فيتحدثان عن أمر مصر وينتهي الحديث عن لزوم سفره إليها.

فيتأهب للخروج ثم يقبل على الإمام ليستمع إلى دروسه القيمة التي اعتاد أن يتلقاها في مثل هذه الأزمات.

ويشرع الإمام في إلقاء الدروس عليه فيفتتحها بكلمة تكشف لمالك عن رأي الإمام فيه، وهو رأي عرفناه مما تقدم من كلمات الإمام فيه، فهو ممن يستظهر به على إقامة الدين وهو ممن يسد به الثغر المخوف وهو أن تترك وصيته فللاكتفاء برأيه، كما يعبر عن ذلك في افتتاح هذه الدروس: أخرج رحمك الله فإني إن لم أوصك اكتفيت برأيك.

ولكنه مع ذلك يوصيه بكلمات يحدد بها مهمة السياسي الكبير الذي خبر عقليات المجتمع وفهم نفسيات الأفراد يقول: استعن بالله على ما أهمك، فاخلط الشدة بالين، وارفق ما كان الرفق أبلغ واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلّا الشدة.

وهذه الكلمات على إيجازها تمثل أصول السياسة العامة، أمّا كيفية التطبيق فذلك ما يقوم بإلقائه الإمام في كتاب العهد.

ص: 209

كتاب العهد

وإذا ذكرنا كتاب العهد فقد ذكرنا أول وثيقة تأريخية إسلامية في علم السياسة، يضعها سياسي محنك فَهِمَ نفسيات الشعوب فهماً تاماً فشرّع لها ذلك الدستور القويم.

وقد لاقى هذا الدستور عناية الشراح القدماء، فألف في شرحه جماعة كبيرة (1)، وقد شرحه من الأدباء المتأخرين الأستاذ المحامي توفيق الفكيكي (2) بكتاب قارن فيه بينه وبين بعض النظم الأوروبية الحديثة، فكان شرحاً موفقاً يلائم عقليات أدبائنا المحدثين الذين تأثروا بالثقافة الغربية (3).

وفي عقيدتي أن هذا العهد الذي ترجم إلى عدة لغات (الحديثة. وحبذا لو تأثرت نظمنا الإسلامية بنظامه القويم مع أنه وضع من أجل هذه الأمّة المرحومة.

ص: 210


1- منهم ماجد محمد البحراني (ت 1097ه-)، أنظر: اغا بزرك الطهراني، الذريعة، ج13، ص373؛ المجلسي ت (1111ه-) ضمن كتابة سلوك الولاة. أنظر: المصدر نفسه؛ الحسن بن علي الموسوي، شرح عهد امير المؤمنين، أنظر: المصدر نفسه.
2- توفيق بن علي الفكيكي (ت 1389ه-) مؤلف، تخرج من المدرسة الرشيدية ومن ثم من دار المعلمين، ومن كلية الحقوق، للتفاصيل أنظر: حسن الامين، مستدركات اعيان الشيعة (بيروت: دار التعارف، 1427ه-)، ج1، ص24.
3- أنظر: توفيق الفكيكي، الراعي والرعية (النجف: مطبعة الغري، 1358ه-).

وكم كنت أود لو تساعدني الظروف لأدرس في هذا الكتاب ذلك العهد الكريم من الوجهة النفسية؛ لنستطيع أن نفهم مقدار ما تلقاه مالك عن الإمام في فَهْمِ عقليات الشعوب ونفسياتهم ومقدار ما وضع من النظم لكيفية إدارتهم في ذلك العهد.

وسأقتطف للقارئ الكريم نماذج من ذلك العهد مع شيء من التعليق. وسأختار منه ما يمس حياتنا العامة لعلنا ننتفع أو ينتفع به أولو الأمر منّا:

يقول (علیه السلام) في افتتاح العهد بعد البسملة:

هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها - ثم يسترسل في أمره بطاعة الله - ويقول بعدها: ثم اعلم يا مالك أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل وجور وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم (1).

وهذه حقيقة نفسية يجب أن يلحظها الموظف الحكومي، فهو قبل أن يكون في ذلك المنصب كان ربما أخذ بعض المأخذ على ذلك الموظف الذي كان قبله،

ص: 211


1- الإمام علي، نهج البلاغة، ج3، ص87.

فإذا كان في منصبه وجب أن يلحظ تلك المأخذ فيرفعها عن نفسه ثم يبسط نفسه للناس ليسمع المأخذ عليه من قبلهم فيظهر نفسه منها.

وكم كان حظ الأمّة سعيداً لو كان يستمع السياسيون لنصيحة الإمام أو قل لنصائح الإمام في هذا العهد. فهو يقول:

واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم (1).

وإذا شعرت الرعية بعطف السلطان ولطفه وحبه لها، كانت أسرع للإنقياد، وهذه حقيقة نفسية لها تأثيرها على أفراد الشعوب، ويقول:

وليكن أحب الأمور ليك أوسطها في الحق وأعمّها في العدل وأجمعها لرضى (2) الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضى (3) الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة.

إلى أن يقول: العدة للأعداء، العامة من الأمّة فليكن صغوك لهم وميلك معهم.

ص: 212


1- الإمام علي، نهج البلاغة، ج3، ص87.
2- كذا في المطبوع والصحيح (لرضا)
3- الصحيح (برضا).

فالرأي العام كما رأيتم هو المقدم عند الإمام وهو الذي يجب أن يلاحظ، فمنه العدة والعدد وفيه يستقيم امر البلاد، ثم يعرض لبطانة الوالي وكيف يجب أن تكون، يقول:

وليكن ابعد رعيتك منك وأشنأهم عندك، أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك.

ثم يعود لذكر بطانته وحاشيته الذين يرجع إليهم في مقام المشورة إذ يقول:

ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله.

وهؤلاء - كما أبان الإمام - إذا دخلوا في المشورة، أفسدوا الحقائق لتغلب غرائزهم - المتركزة في نفوسهم المتغلبة على سائر الغرائز - على أحاديثهم في مقام المشورة.

ويحدث عن الوزراء وعن الصفات التي يجب أن تتوفر فيهم. يقول:

إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة وأنت واجد منهم خير

ص: 213

الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثماً على إثمه، أولئك أخف عليك مؤونة وأحسن لك معونة وأحنى عليك عطفاً وأقل لغيرك إلفاً، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعاً من هواك حيث وقع (1).

ثم يعرض لجلسائه الذين يجب أن تتوفر فيهم جملة من الصفات.. يقول:

وألصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من العزة.

وهنا يجب أن نتصور قيمة كلام الإمام، فالإطراء الكاذب والمدح الباطل هما مما ينميان بعض الغرائز السيئة التي تتقاعد بالإنسان عن النهوض بأبسط الأعمال القيمة، ومتى أشبع الوالي قسماً من الغرائز اطمأن إلى هذا اللون من الغذاء الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.

ويقول بعد هذا في تحديد سيرته مع الناس:

ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه،

ص: 214


1- الإمام علي، نهج البلاغة، ج3، ص87.

واعلم أنه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك.

ويعلل ذلك بقوله: فإن حسن الظن يقطع عنك نصباً طويلاً (1).

وما أدري ما كان شأن الأمّة لو كانت الولاة تحسن الظن بهم كما ينبغي - وهي بالطبع تقابلها بالمثل - أكان يجري بينهما ما نراه من الملاحاة التي تنتهي بضياع الثقة التي يتركز عليها بناء المجتمع وضياع قسم من أموال الحكام، كما هو الشأن في هذا الزمان.

ويفصِّل نظريته في النظام الطبقي. فيقول:

واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلّا ببعض (2)، فمنهم الجنود (3)، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة، وكل

ص: 215


1- الإمام علي، نهج البلاغة، ج3، ص87.
2- في المصدر ولا غنى بعضها عن بعض.
3- في المصدر (فمنهم جنود الله).

(1) قد سمى الله سهمه ووضع على حده فريضة في كتابه وسنة نبيه (صلی الله علیه و آله) عهداً منه عندنا محفوظاً (2).

وهنا يحيل الأشتر الوالي على النظم التشريعية الأولية التي نظمها مبدع الكون في كتابه المجيد أو سنة نبيه الكريم.

ويعود إلى هذه الطبقات فيبين صفاتها ومميزاتها بقوله:

فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاية (3) وعز الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلّا بهم، ثم لا قوام للجنود إلّا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوهم ويعتمدون عليه فيما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم (4).

وهو - كما ترى - يطلب إلى الوالي أن يوفر على الجنود أعطياتهم، لأن على كواهلهم تقوم المحافظة على البلاد وعلى الأمن، وإذا وفر عليهم استطاع أن يجتذبهم إليه تماماً فيعملون بإخلاص، والجندي إذا علم بأنه مكفول النعمة

ص: 216


1- في المصدر (وكلا).
2- أنظر: المصدر السابق، ج3، ص90.
3- في المصدر (الولاة).
4- المصدر نفسه.

وأنه لا يفكر بحياته المادية أخلص للجهاد وسمح بنفسه للتضحية في سبيل بلده الذي تكفل له بإدارة شؤونه.

ويقول الإمام بعد هذا - وهو يريد أن يربط بين هذه الطبقات:

ثم لا قوام لهذين الصنفين إلّا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب، لما يحكمون من المعاقد (1) ويجمعون من المنافع ويأتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها، ولا قوام لهم جميعاً إلّا بالتجار وذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم ويقيمونه من أسواقهم ويكفونه من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكل سعة ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه (2).

إلى أن يقول: فَوَلّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وأتقاهم جيباً وأفضلهم حلماً ممن يبطأ عن الغضب ويستريح إلى العذر ويرؤف (3) بالضعفاء وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف ولا يقعده (4) الضعف (5).

ص: 217


1- المعاقد، العقود (المحقق).
2- المصدر نفسه، ج3، ص89.
3- كذا في المطبوع والصحيح (يرأف).
4- في المصدر (يقعد به).
5- المصدر نفسه

وعلى ذلك النحو يربط بين تلكم الطبقات التي عدها وطلب إلى وإليه أن يختار منها الموظف الحازم، فتوظيفه لا يكون إلّا بعد اختبار كفاءته، وهو أول نظام ينص على اشتراط الكفاءة في الموظف.

وعلى هذا النحو ينظر إلى حال القضاة، فيضع لاختيارهم مادة خاصة يقول فيها:

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فَهْمٍ دون اقصاه، وأوقفهم في الشبهات وأخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم (1).

وينظر بعد ذلك حال الموظفين عامة فيضع لهم مادة مبينة على الكفاءة، فهو يقول:

ص: 218


1- المصدر نفسه.

ثم انظر (1) إلى عمالك فاستعملهم اختياراً ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوَّخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام (2).

وهذا لحاظ نفسي عظيم، فأهل البيوتات يكونون بالطبع أميل إلى العدل، لأن جملة من غرائزهم كغريزة السيطرة وغريزة النهم والجشع مما تتوفر عادة في سائر الناس، كان أولئك قد أشبعوها قبل أن يصلوا الحكم، والإمام نفسه يعلل ذلك بما يقارب هذا اذ يقول:

فإنهم أكرم أخلاقاً، وأصحّ أعراضاً، وأقل في المطامع إشرافاً، وأبلغ في عواقب الأمور نظراً (3).

ثم تأتي بعد هذا نظرته إلى رواتب الموظفين، فيضع لها هذه المادة:

ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت ايديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك (4).

ص: 219


1- في المصدر (في امر عمالك).
2- في المصدر الاسلام (المتقدمة).
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه، ج3، ص96.

وهذا صحيح كما ذكر الإمام، فالموظف إذا ازداد راتبه وقف عن ارتكاب جملة من الجرائم، وعلى الأخص الرشوة وسرقة اموال الدولة و....

وتأتي نظرته إلى ضرورة التفتيش فيخصها بهذه المادة:

ثم تفّقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم.

ويعلل ذلك بقوله:

فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة (1) لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية (2)، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة، اجتمعت بها (3) عندك أخبار عيونك، اكتفيت بذلك شاهداً، فبسطت عليه العقوبة (4).

والدواعي - كما رأيتم - كثيرة، لعل أهمها عدم تصديق الوشايات عليه ما لم تكن من العيون، ثم إقباله على الجد والعمل، فليتنبه سادتي من أولي الأمر.

لقد أطلت - يا سادتي القراء - فاسمحوا لي فإن هذا العهد الكريم ما تحولت عن نقطة فيه إلّا وجُذبت إلى نقاط، فما أدرى أيها أقتطف؟ وهاكم الآن خاتمة

ص: 220


1- حدوة أي حث (المحقق).
2- في المطبوع جملة ساقطة وهي ((وتحفظ من الاعوان)).
3- في المصدر (بها عليه).
4- المصدر نفسه، ج3، ص96.

اقتطافي، وهي نظرته إلى وجوب اعتماد الحكومة على التجارة والإصلاح والعمران أكثر من اعتمادهم على الضريبة فهو يقول:

وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا ينال (1) إلّا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلّا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم، ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم (2).

إلى أن يقول: وإنما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها.

وما أسعد إخواني الريفيين الذي أسعدوا البلاد بضرائبهم لو يطبق هذا النظام.

ويعرج على التجارة والتجار فيقول:

ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً.

ص: 221


1- في المصدر (فإن ذلك لا يدرك الا بالعمارة).
2- المصدر نفسه، ج3، ص96.

إلى أن يقول: فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق...الخ (1).

والتجار خير عضد للحكومة إذا مهدت الحكومة لهم باب العمل واستوصت بهم العمال. فأين من ينظر هذا ثم أين!

قارئي الكريم، هذه نبذ أرجو أن نقف عندها لنعتبر فيما يعود إلينا، ونجعلها أمام أعيننا لنتشجع على ما نريد، فاسمح لي يا سيدي أن أكتفي بها وأنتقل إلى ختام العهد حيث يقول:

وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة أن يوفقني وإياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه وإلى خلقه، مع حسن الثناء في العباد وجميل الأثر في البلاد وتمام النعمة وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إنّا إليه راجعون والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً والسلام (2).

ويشاء الله أن يستجيب للإمام دعاءه في مالك فيشرفه بالشهادة، وذلك حيث يخرج مالك من الإمام وهو متجه إلى مصر وقد زوده بهذه الإضمامة من الدروس القيمة، وبكتابه إلى أهل مصر:

ص: 222


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه.

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى أمّة المسلمين(1) الذين غضبوا لله حين عصي في الأرض(2) وضرب الجور بأرواقه على البر والفاجر، فلا حق يستراح إليه ولا منكر يتناهى عنه، سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلّا هو(3)، أمّا بعد: فقد بعثت إليكم عبداً من عبيد(4) الله لا ينام أيام الخوف ولا ينكل عن الأعادي حذار الدوائر(5)، أشد على الكفار من حريق النار، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج فاسمعوا له وأطيعوا(6)، فإنه سيف من سيوف الله(7) لا نابي الضريبة ولا كليل الحد(8)، فإن أمركم أن تقدموا فاقدموا(9)، وإن أمركم أن

ص: 223


1- جملة امة المسلمين غير موجودة في المصدر وفيه إلى القوم الذين غضبوا لله، أنظر الإمام علي، نهج البلاغة، ج3، ص63.
2- في المصدر في أرضه فضرب الجور سرداقه على البر والفجار والمقيم والظاعن فلا معروف.
3- من جملة: (سلام عليكم) إلى (ألّا إله إلّا هو) غير موجودة في المصدر.
4- في المصدر(عباد).
5- في المصدر (على الاعادي ساعات الروع).
6- في المصدر (امره).
7- في المصدر لا كليل الضبة ولا نابي الضريبة.
8- لا توجد في المصدر (ولا كليل الحد).
9- جملة (فإن امركم ان تقدموا فاقدموا) غير موجود في المصدر

تنفروا فانفروا، فإنه لا يقدم ولا يحجم(1) إلّا بأمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصحه لكم(2) وشدة شكيمته على عدوكم، عصمكم الله بالهدى وثبتكم على اليقين، والسلام (3).

ولغة الإمام في هذا الكتاب لغة تصور صاحبنا مالكاً أجمل التصوير، فهو - كما ذكر الإمام وكما رأينا - لا ينام أيام الخوف ولا ينكل عن الأعادي، ومواقفه المتقدمة تشهد له بذلك، وهو سيف من سيوف الله... الخ. وهنا أحب أن نقف عند قوله: وقد آثرتكم به على نفسي، فهي كلمة تدل على تركز مقامه في نفس الإمام (علیه السلام) .

ص: 224


1- في المصدر (ولا يؤخر ولا يقدم الا عن امري).
2- في المصدر لنصيحته.
3- جملة (عصمكم إلى والسلام) غير موجودة في المصدر ويبدو ان المؤلف اخذ النص السابق من المحمودي، نهج السعادة، ج5، ص49.

-10-

ويبلغ معاوية أن الأشتر خرج إلى مصر، فيغمه ذلك ويسوؤه وتكاد أمانيه وآماله في مصر وفي الإستيلاء على مصر تذهب أدراج الرياح، وذلك لأن الأشتر كان قوي الساعد قوي القلب قوي التفكير قوي الإرادة، وهو يعلم بهذه كلها من أيام صفين؛ فلم يكن له إلّا أن يدبر حيلة للقضاء على الأشتر قبل أن يبلغ مصر.

وكيف يقضي عليه؟ هذا ما يهمه كثيراً فليفكر فيه ويفكر، فينتهي إلى دسيسة السم، فهو خير وسيط للقضاء عليه، فليراجع إذاً رجلاً من أهل الخراج ليقف له بالطريق فيدس إليه السم، على أن يعفيه من الخراج ما دام (1).

ويبعث إليه ويتفق معه على هذه الصورة، فيسافر الجايستار (2) إلى القلزم - وهو منزل يقع في طريق مصر للراحل إليها (3) - لينتظر الأشتر هناك.

ص: 225


1- أنظر: الطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص71.
2- الجايستار اختلفت الكلمات حوله فهو: رجل من اهل الخراج او هو دهقان كان بالعريش، او هو مسؤول الخراج، أنظر: المصدر نفسه؛ المسعودي، مروج الذهب، ج2، ص455؛ علي الكوراني، جواهر التاريخ، ج2، ص370.
3- الحموي، معجم البلدان، ج1، ص344.

ويلتفت معاوية إلى أهل الشام فيقول: إن علياً وجه الأشتر إلى مصر فادعوا الله أن يكفيكموه (1).

يقول الراوي: فكان أهل الشام يدعون عليه في كل يوم (2)، وهي حيلة لمعاوية تعرف تأثير خداعها على الجماهير.

ويسير الأشتر إلى مصر ومعه حاشيته ويقبل على القلزم وفيه هذا الجايستار، وقد جلس هناك وأعدَّ عدته للقضاء عليه.

ويقبل على الأشتر فيعرض عليه أن يقوم بضيافته - وهو رجل من أهل الخراج - والأشتر رجل عربي كريم - ومن صفات العربي الكريم أن لا يمتنع من الضيافة لأن الإمتناع عندهم من علائم البخل - فكان من الطبيعي أن يلبي دعوة هذا الفقير، ومالك رجل متواضع شديد التواضع لا تهمه هذه الأنانيات التي يفنى فيها غيره من الولاة.

ويقدم هذا الجايستار عسلاً مدوفاً به السم بعد أن يقدم الطعام، فيأكله ويشرب السم ويسري السم إلى فؤاده فيعانق الشهادة التي طلبها له الإمام بدعائه المتقدم.

ص: 226


1- أنظر: الطبري، المصدر السابق، ج4، ص72.
2- أنظر: الطبري، المصدر نفسه.

ويذكر ابن أبي الحديد (1) وجوهاً أُخر لشهادته، منها أنه قتل بمصر (2). وليس من المهم التعرض لها الآن، ولعل الأرجح هو ما ذكرناه.

وبهذا يفقد العالم الإسلامي سيفاً من سيوف الله لا كليل الحد ولا نابي الضريبة - كما يعبر عنه الإمام - ويفقد شخصية كانت من أعظم الشخصيات التي جاهدت في سبيل استنقاذ الدين الإسلامي من براثن أعدائه، فرحمة الله عليه، ويكون ذلك في سنة 38 هجرية.

ويشيع خبره في الآفاق فتقال كلمات في تأبينه في مختلف الأصقاع وفي مختلف الأزمان، وهاكم شيئاً من الكلمات.

قال معاوية لمّا بلغه ذلك - وقد صعد المنبر وجمع الناس من أهل الشام: - أمّا بعد: فإنه كانت لعلي يمينان قطعت إحداهما بصفين وهو عمار، وقطعت الأخرى (3) وهو مالك.

وهي كلمة قد لا يخفى ما فيها من الشماتة في الإمام.

ص: 227


1- أنظر: ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص76.
2- المصدر نفسه.
3- في المصادر اضافة كلمة (اليوم) أنظر: الطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص72، ابن أبي الحديد، المصدر السابق، ج6، ص76، ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص353.

ويقول ابن العاص - وقد سرّ بموته -: إن لله جنوداً من العسل (1).

ويقول الإمام (علیه السلام) في تحديد علاقته به: ((كان لي كما كنت لرسول الله(2)) وهي كلمة نرجو أن نقف عندها بعد حين. ويقول (علیه السلام) أيضاً - وقد جاءه الخبر واظلمت في عينه الدنيا -: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللهم إني احتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر(3).

ويقول: رحم الله مالكاً فقد كان وفى بعهده وقضى نحبه ولقي ربه، مع أنّا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله (صلی الله علیه و آله) فإنها من أعظم المصيبات (4).

وهذه الكلمات تمثل لك لوعة الإمام وتأثره على مالك، وتصور لك مقدار ما أحدثه هذا المصاب في الإمام، فهو من مصائب الدهر التي لا تطاق لولا أن

ص: 228


1- البخاري، التاريخ الكبير (تركيا، ديار بكر، د. ت)، ج7، ص312؛ ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج56، ص389؛ الذهبي، سير اعلام النبلاء، ج4، ص35.
2- أنظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج3، ص454؛ المجلسي، بحار الانوار، ج42، ص176.
3- الثقفي، الغارات، ج1، ص265؛ المفيد، الأمالي، (تحقيق حسين الاستاد ولي، واخر، ط2 (بيروت، المفيد، 1423ه-)، ص83.
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص77؛ المجلسي، بحار الانوار، ج33، ص555.

يوطن الإمام نفسه على الصبر على كل مصاب بعد مصاب الرسول وهو من أعظم المصيبات ولكنه محتسب عند الله.

وقد حدّث جماعة من اشياخ النخع قالوا: دخلنا على أمير المؤمنين (علیه السلام) حين بلغه موت الأشتر فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه، ثم قال: لله درُّ مالك! وما مالك؟! لو كان من جبل لكان فنداً، ولو كان من حجر لكان صلداً، أما والله ليهدنّ موتك عالماً وليفرحن عالماً، على مثل مالك فليبك البواكي، وهل موجود كمالك؟!.

ويقول علقمة بن قيس النخعي فما زال علي يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب به دوننا وعرف ذلك في وجهه أياماً (1).

وبهذا اللون القاتم يواجه الإمام مصاب صاحبه الأشتر وهو يتلهف ويتأسف.

والإمام - كما نعلم من حاله - صبور عند الشدائد، ولكنه مع ذلك فقد ظهر عليه التألم لفقد ذلك القائد الجبار، ولعل قسماً من تألمه يعود إلى شماتة الأعداء به، فمصابه - كما ذكر الإمام - يهد عالماً ويفرح عالماً.

ص: 229


1- أنظر: الثقفي، الغارات، المصدر السابق، ج1، ص265؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص77؛ المجلسي، بحار الانوار، ج33، ص556.

وقد رأيت مقابلة معاوية لهذا المصاب بتلكم الشماتة: كانت لعلي يمينان. وهنا أحب أن نقف عند قوله: لو كان من حجر... الخ، فهي كلمة وحدها تمثل لك المثل الأعلى مجسماً في شخص مالك الأشتر فهو لا يكون إلّا صلداً أو فنداً لو كان من أقسام الأحجار أو الجبال.

ويقول أخيراً في كتابه إلى محمد بن أبي بكر بعد هذه الحادثة:

ألا إن الرجل الذي كنت وليته مصر كان رجلاً لنا مناصحاً وهو على عدونا شديد، فرحمة الله عليه فقد استكمل أيامه ولاقى حمامه ونحن عنه راضون، فرضي الله عنه وضاعف له الثواب وأحسن له المآب (1).

هنيئاً لك يا سيدي الأشتر ما لاقيته في حياتك من جهاد متواصل وإيمان ثابت يرضي عنك إمامك فيدعو لك بمضاعفة الثواب وحسن المآب. هنيئاً لك ذلك الأجر الذي حصلته في سبيل صراحتك وشدة اطمئنانك فإنك لم تحاب ولم تداجل ولم تترك واجباً من واجباتك من أجل أطماع هذه الدنيا التي تهافت عليها أولئك الماديون.

ص: 230


1- أنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص78؛ الطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص72، باختلاف يسير.

فحبذا يا سيدي لو جعلت سيرتك مثلاً للشباب في هذا اليوم، ليتعلموا منك الإخلاص والإيمان والتضحية في سبيل واجباتهم وفي سبيل الدفاع عن مبدئهم. ويا حبذا لو جعلت سيرتك من المثل العليا للشباب الذين انغمسوا في عالم المادة فانجرفوا بتيارها الصاخب، لعلهم بذلك يستعيدون شيئاً من مجدهم الروحي الغابر، وعسى أن يتوفقوا لذلك.

وتقول سلمى أمّ الأسود بن الأسود النخعي (1):

نبا بي مضجعي ونبا وسادي *** وعيني ما تَهُمُ إلى رقادِ

كأن الليل أوثق جانباه *** وأوسطه بأمراس شداد

أبعد الأشتر النخعي نرجو *** مكاثرة ويقطع بطن وادي

أكرّ إذا الفوارس محجمات *** وأضرب حين تختاف الهوادي(2)

وهنا أرجو أن لا يفوتنا ما في بيتيها الأولين من الجمال والتأثر الذي انبعث - حسبما أعتقد - عن عاطفة شديدة وانفعال مهم.

ويقول المثنى (3) يرثيه:

ص: 231


1- لم اعثر على ترجمتها [المحقق].
2- المحمودي، نهج السعادة، ج3، ص463 وفيه تختلف الهوادي، وذكر ابن أبي الحديد ان اخت مالك رثته بأبيات منها أبعد الاشتر النخعي.... أنظر: ج8، ص304.
3- لم اعثر على ترجمته [المحقق].

ألا ما لضوء الصبح أسود حالك *** وما للرواسي زعزعتها الدكادكُ

وما لهموم النفس شتى شؤونها *** تظل تناجيها النجوم الشوابك

على مالك فليبك ذو الليث معولاً *** إذا ذكرت في الفيلقين المعارك

إذا ابتدر الخطيّ وانتدب الملا *** وكان غياث القوم نصراً مواشك

إذا ابتدرت يوماً قبائل مذحج *** ونودي بها أين المظفر مالك

فلهفي عليه حين تختلف القنا *** ويرعش للموت الرجال الصعالك

ولهفي عليه يوم دبّ له الردى *** وديف له سمٌّ من الموت حانك

فلو بارزوه يوم يبغون هلكه *** لكانوا - بإذن الله - ميت(1) وهالك (كذا)

ولو مارسوه مارسوا ليث غابة *** له كالتي لا ترقد الليل فاتك

فقل لابن هند لو منيت بمالك *** وفي كفّه ماضي الضريبة بانك(2)

لألفيت هنداً تشتكي علق الردى *** تنوح وتجبوها(3) النساء العواتك(4)

سادتي سقت هذه الأبيات لتعرفوا كيف تؤثر العاطفة فتنتظم القلوب أشعاراً سائرة بين الناس، ولو كان الظرف مؤاتياً لوقفت عند كل بيت، وحسبنا الآن أن لا نغفل عما فيها من إبداع وأن لا نغفل عن خصوص أبياته التي

ص: 232


1- في المصدر (ميث) أي يذوب كما يذوب الملح في الماء، أنظر: ابن منظور، لسان العرب مادة (ميث).
2- في المصدر (بانك) أي القاطع وهو الصحيح أنظر: المصدر السابق مادة (ثبك).
3- في المصدر (تحبوها).
4- المحمودي، نهج السعادة، ج2، ص464.

ترجمت لنا مواقف مالك يوم ينادى في مذحج: أين المظفر؟ ثم عن خصوص قوله:

فلو بارزوه يوم يبغون هلكه *** لكانوا - بإذن الله - ميت وهالك

ولا ننسى جمال هذه الكلمة المعترضة: بإذن الله.

ويقول رجل - وقد سئل عن مالك: ما أقول في رجل هزم بحياته أهل الشام وفي موته أهل العراق (1)، وهي كلمة تكفلت بترجمة حياة.

ويقول ابن أبي الحديد (2) وقد عرض لترجمته بما ملخصه: لو سئلت عن أشجع أهل الأرض - ما عدا الإمام - لقلت مالكاً وأنا غير مبالغ.

ويقول العلماء من المحدثين والمؤرخين كلمات تناسب ما تقدم أضربنا عنها خوف الإطالة.

بقيت كلمة اللجنة في تأبين مالك التي رجوت المحاضرين من الإخوان أن يخصصوا لها يوماً من أيام المحاضرات، وستكون في دراسة شخصيته على ضوء ما درسناه سابقاً من سيرته وقد خصصت لها الفصل الآتي من الكتاب. 

ص: 233


1- في المصدر (هزمت حياته) وهزم موته اهل العراق، أنظر: الامين، اعيان الشيعة، ج9، ص39.
2- لم اعثر على النص وربما المؤلف نقله بالمعنى (المحقق).

-11-

اشارة

سادتي، من مجموع ما قرأناه في التأريخ عن سيرته ومن مجموع ما درسناه في هذا الكتاب، استفدنا أن لمالك شخصية هي من أعظم الشخصيات العالمية في عصره ومن أخصبها مادة وأوفرها عناصر.

وقد لمحنا آثارها في مقاماته في أيام عثمان، وفي أزمة البيعة، وفي أزمة الشام، وفي اهتمام عدوه به ذلك الاهتمام الشديد الذي انتهى بسمّه وشهادته. وليس المهم إثبات ذلك الآن، فمن يتفضل ويقرأ هذا الكتاب يهتدي بنفسه إلى توفر عناصر هذه الشخصية فيه، وإنما المهم أن نلحظ أسرار تكوّن هذه الشخصية أو قل أن نلحظ أهم العناصر التي اكتسبتها هذه القوة والحيوية.

وقبل أن ندخل في هذا الموضوع أحب أن أذكر على سبيل:

التمهيد:

آراء بعض العلماء النفسيين في معناها وفي عناصرها، واليكم أوجه البيان:

ص: 234

سادتي، هذه اللفظة - كسائر ألفاظ العلوم التي فيها شيء من الغموض ولا تحكي عن مركب خارجي - يتعذر على العالم تعريفها بالحد التام (1)، وقديماً قالت الفلسفة: إن الحدود التامة لا يمكن أن تدرك، لأن الفصل - وهو الجزء المقوم للماهية - يتعذر على المفن معرفته ولا يعرفه إلّا خالقه.

ومن هنا قالوا: إن جميع الحدود الموجودة هي رسوم تامة (2)، وإن الفصول التي يمثل بها ليست هي بفصول، وإنما هي أعراض خاصة قريبة من الفصل.

وعلى هذا فالتعاريف التي ذكرها العلماء النفسيون للشخصية (3)، ليست هي إلّا رسوماً ناقصة (4)؛ لأنها لم تشتمل على الجنس - كما يعبر أهل المنطق - وسنذكر لك الآن بعض تعاريفها التي نصّوا على أنها تعاريف بالآثار.

قالوا: إنها مجموعة الصفات العقلية والخلقية والجسمية والإرادية التي

يتوج بها الإنسان (5).

ص: 235


1- للتفاصيل حول هذا الموضوع، أنظر: محمد رضا المظفر، المنطق (قم: مؤسسة النشر الاسلامي، د. ت)، ص117
2- للتفاصيل حول الرسم التام، أنظر: المصدر نفسه، ص119.
3- للتفاصيل حول مفهوم الشخصية، أنظر: نوري الحافظ، تكوين الشخصية، (بغداد: المعارف، 1381ه-).
4- للتفاصيل حول مفهوم الرسوم الناقصة، أنظر: محمد رضا المظفر، ص119.
5- أنظر: يوسف مراد، مبادئ علم النفس العام (مصر: دار المعارف، 1386ه-)، ص363.

وهذا التعريف لا يثبت للنقد العلمي، ولا يهمنا ذلك ما داموا أنفسهم يقولون بأنها لا يمكن أن تعلل وحالها كحال الحب والكره، وإنما تلتمس غالباً فيمن توفرت فيه هذه العناصر.

1-الجاذبية.

2-النشاط العقلي.

3-المشاركة الوجدانية.

4-الشجاعة.

5-التفاؤل.

6-الحكمة.

7-التواضع.

8-حسن المظهر.

9-قوة البيان.

10-الثقة بالنفس.

11-اعتدال المزاج.

ويضيفونها صفات كمالية لعل أهمها هذه:

ص: 236

1-الذاتية.

2-الإخلاص.

3-الحماسة.

4-قوة الوجدان، أو الإحساس.

وقد اختلفوا فيما بينهم أفطرية هي أم مكتسبة؟ ولعل الصحيح أن عناصرها الأولية فطرية، ولكنها أشبه بالغرائز قابلة لتلقي التأثيرات الخارجية الناشئة عن البيئة والتربية فهي تضعف إلى حد يوشك أن تموت وتقوى إلى حد متناهٍ في القوة، كل ذلك تبعاً لتأثير المؤثرات.

وعلى هذا فالعصر قابل للتأثير والبيئة قابلة للتأثير والوراثة قابلة للتأثير.

ومن هنا ترى أن عناصرها تختلف في الضعف والقوة بالنسبة إلى الزمان والمكان، فرب شخصية تقوى فيها صفة الشجاعة أو قوة البيان وتضعف فيها بقية الصفات، ولا سبب في ذلك إلّا مقتضيات العصر أو المكان، ورب شخصية تخضع لعناصر أُخر غير هذه تبعاً لمقتضيات الزمان.

فالمسلم المؤمن قد يكون من عناصر شخصية تلبّسه بالمبدأ وتمسكه بالعبادة على نحو يعرف عنه ذلك أو توفر صفات الثقافة فيه.

ص: 237

وعلى هذا الضوء نجد كثيراً من الرجال لهم شخصيتهم العظيمة، ومنشؤها - حسبما أعتقد - تظاهرهم بهذه العناصر.

فنحن الآن إذا أردنا أن ندرس شخصية بعض الناس، وجب علينا أن نعود إلى عصره وبيئته وإلى تربيته لننظر عناصر الشخصية السائدة إذ ذاك ونطبقها على ما نتوفر (1) في تلك الشخصية من العناصر لنرى مقدار تركزها فيه.

وسيدنا مالك عاش - كما رأيتم في هذا الكتاب - في العصر الجاهلي حيث كانت الشخصية تقاس بمقياس خاص، فهي تتفاوت بتفاوت تركز هذه الصفات: الشجاعة، الكرم، قوة البيان، الحكمة، الغيرية أو المشاركة الوجدانية.

وعاش في العصر الإسلامي حيث توفرت هذه العناصر وأضيف إليها: الإيمان، والإخلاص، والتظاهر بهما، ولعل أهم هذه الصفات عند العرب إذ ذاك:

الشجاعة - الثقافة - الإيمان

ومن هنا كانت عناية المؤرخين بهذه الصفات أكثر من عنايتهم بسائر الصفات، وعلى هذا فنحن إذا أردنا أن ندرس شخصية مالك فإنما ندرس فيه هذه الصفات الثلاث، ونشير في حنايا حديثنا إلى بقيتها رعاية للإيجاز.

ص: 238


1- كذا في المطبوع والصحيح (تتوفر).

الشجاعة

ولا نقصد بها إلّا التغلب على قوى النفس جميعاً وتوجيهها كيفما يريد ويريده له المنطق الصحيح.

وتظهر هذه الصفة في مظاهر مختلفة تظهر في الصراحة وعدم المواربة في المقامات الهامة التي يلجأ فيها الإنسان للمصانعة إمّا لخوف أو رجاء.

ومالك - كما شاهدناه - صريح شديد الصراحة، لا يخاتل ولا يوارب، وحديثه المتقدم مع سعيد بن العاص الذي أنكر عليه قوله: إن هذا السواد فطير لقريش، وأحاديثه مع معاوية في أيام عثمان وأخذه برأسه مع أنه عنده في المنفى، ثم أحاديثه مع عثمان نفسه، أحاديث كلها مرت عليكم في ثنايا الكتاب، وهي تدل على تركز صفة الصراحة في نفسه تماماً، ثم حديثه مع عبد الله بن جرير عامل الإمام على همدان - مع دلالته على توفر الذكاء فيه وصدق الفراسة - دل على شدة صراحته، وقد مر عليك بطوله فلا حاجة إلى إعادته.

فالشجاعة تظهر في الصراحة وتظهر بضبط النفس في المقامات التي تحتاج إلى ذلك.

ص: 239

ومن تلكم المقامات ما اتفق لمالك - على ما يحدث صاحب السفينة (1) - أنه مرّ في السوق فسخر منه بعض الباعة ورماه ببندقة، فلم يلتفت إليه ولم يعره أي شيء من الاهتمام.

ويراه الناس فيأنبونه على ذلك ويقولون فيما يقولون: ما صنعت بصاحب الإمام - مالك الأشتر - ويضطرب الرجل ويخاف على نفسه، ومالك ممن سبقت شهرته إلى كل أذن فملأت فضاءها بأحاديث البطولة والفتك، فلحقه ودخل المسجد فوجده يصلي ويرمي الرجل بنفسه على رجله يقبلها ويستغفر الله مما فعله وهنا ما ترى يصنع مالك؟

إنه أجاب ذلك الشخص بكل هدوء ووداعة: لا بأس عليك إنما دخلت المسجد وصليت لأدعو لك بالمغفرة.

وهذه القضية بالإضافة إلى ما تدل على كثرة حلمه وشدة ضبطه لنفسه، دلت على شدة إيمانه، فهو - بدلاً من أن ينتقم منه لكرامته مع أنه زعيم مطلق - يقوم بالصلاة والدعاء له بالاستغفار.

ص: 240


1- هو الشيخ عباس القمي؛ أنظر: سفينة البحار، مادة (شتر).

وكلمة الإمام في حقه في كتابه إلى أهل مصر - حليم في الحذر (1) - هي وحدها كافية في التدليل على ضبطه لنفسه، على أن المؤرخين جميعاً وصفوه في أثناء الترجمة بالحلم (2).

ثم تظهر في اطمئنانه في لقاء الأقران في ساحة الميدان، ومالك أشهر من أن يقال في حقه ذلك، فمواقفه المسجلة في التأريخ من مبدأ ظهور أمره في حروب الردة إلى منتهى صفين مواقف كريمة - كما رأيناها - يطرب من ترجيعها القروم الأبطال، وقد أثر عن الإمام ما مؤداه لو كانت الجراحات تقتل احداً لقتلت مالكاً (3).

وحسبك أن تعلم بأن مقامه من الإمام كان كمقام الإمام من النبي (صلی الله علیه و آله) فالنبي كان لا يتكل في الميادين على غير سيف ذي الفقار، وكذلك الإمام كان لا يتكل على غير لجّ مالك.

وأذكر أنني وعدتك أن أعدّ لك شيئاً من مواقفه في صفين والجمل غير ما ذكرت ولكن الظرف أضيق من ذلك، فمعذرة يا قارئي الكريم على أن مواقفه كلها

ص: 241


1- أنظر: المفيد، الأمالي، ص82.
2- أنظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج6، ص75؛ ج15، ص98.
3- لم اعثر على هذا النص ويبدو ان المؤلف نقله بالمعنى (المحقق).

متشابهة فالإطلاع على بعضها اطلاع على الجميع، ونحن لا يهمنا من معرفة شجاعته غير أن نستكشف نفسيته الكريمة.

وتظهر بعد هذا كله في مواجهة الأمور الصعاب والتغلب عليها بقلب مطمئن وجأش رابط لا يتزعزع ولا يتحرك، ومالك من خير من يواجه الأمور الصعاب، وهو بهذه الصفات وموقفه بصفين عندما انهزمت ميمنة العراق ثم قوله في قضية التحكيم: إحمل الصف على الصف تصرع القوم، بل كل موقف من مواقفه يدل على تركز هذه الظاهرة فيه.

وعلى كل فمالك هو خير من توفرت فيه صفة الشجاعة بجميع مظاهرها بعد سيده الإمام كما يقول ابن أبي الحديد.

أمّا أسرار تركز الشجاعة فيه على هذا النحو فهو - في عقيدتي - راجع في قسم منه إلى العوامل الوراثية وفي قسمه الآخر إلى أساليب التربية عند العرب، كما رأينا في موضوعنا الأول، وإلى كثرة مزاولته للحروب ثم إلى تأثره بأستاذه الكريم الذي فتح للناس أبواباً في الفروسية والقيادة في الميادين.

وقد دَّربه هذا الأستاذ تدريباً فنياً واختبره مراراً فكان مثال التلميذ الصحيح الذي تأثر بأستاذه تأثيراً صحّ للأستاذ أن يعطيه أمثال تلكم الشهادات القيمة التي تدل على منتهى الكفاءة، فهو سيف من سيوف الله لا نابي الضريبة ولا كليل

ص: 242

الحد وهو.... وهو.... إلى آخر ما قال. وشهادات هذا الأستاذ لتلميذه لم تقتصر على درس واحد وإنما تجاوزته إلى بقية الدروس كدرس:

الإيمان

والإيمان صفة سايرت مالكاً من مبدأ ظهور الإسلام، فهو (المؤمن حقاً) كما يقول النبي (صلی الله علیه و آله) ، وقد رأينا في الفصول المتقدمة كيف قدم نفسه ضحية لمبدئه من أيام عثمان.

وما إنكاره على ولاة عثمان وتعريضه نفسه للإهانة والنفي - مع أنه زعيم العراق المطلق أو كما يقول بعض المؤرخين بأنه في الكوفة أسود من الأحنف في البصرة، ومع أنه يستطيع أن يصول بثلاثين الفاً من قبيلته مذحج - فمرة إلى الشام وأخرى إلى حمص وثالثة إلى المدينة، وهو في كل ذلك لا يسمع إلّا سّباً وشتماً وإهانة.

وقد مرَّ عليكم عمل عبد الرحمن بن خالد والي حمص به وبأصحابه، وما تعريضه هذا إلّا مثل لإيمانه، وإلّا فما الملجئ له إلى الإنكار مع أنه يستطيع أن يكون كسائر الزعماء يأخذ حقه من عثمان وهو في هدوء وسكون.

ص: 243

ثم ما تضحيته مع الإمام في حرب الجمل وصفين في تلك الوقائع التي يشيب من هولها الأطفال إلّا (1) بذلك الدافع الكريم.

وقد رأينا نحن أحاديثه في المواقف المهمة التي يختفي بها العقل الواعي، فرأينا أحاديث لا يشيع فيها غير حديث الإيمان وحديث التضحية في سبيل الدين الحنيف.

وعبادة مالك أشهر من أن تحتاج إلى تفصيل، فقد اشتهرت في زمنه وصارت في عداد صفاته التي يعرف بها بين الناس، وهذا الرجل الذي وقف بين الصَّفين في يوم الجمل وحذر فتيان قريش من صولته حين قال: أحذركم الرجلين العابدين جندب والأشتر - لم يعرفه للناس ابتداءً بغير العبادة.

ومن هنا عدَّ جملة من المؤرخين في صفاته صفة العبادة والإيمان. وحسب مالك أن يشهد النبي له في مقامين بالإيمان - وقد مرّا عليك - ثم حسبه أن يقول الإمام في حقه في كتابه إلى محمد بن أبي بكر: إن الرجل الذي كنت وليته مصر كان لنا نصيحاً وعلى عدونا شديداً وقد استكمل أيامه ولاقى حمامه ونحن عنه راضون فرضي الله عنه وضاعف له الثواب.

ص: 244


1- كذا في المطبوع والصحيح إلّا.

وما أدري بماذا أعلل هذا الإيمان الذي تنطق به كل جارحة من جوارحه؟ ولعله يعود معظمه إلى وفرة عقله وإلى سلامة تفكيره، والرجل المفكر الكامل لا يستطيع أن يتحلل من نوازع الإيمان الفطرية.

وقد رأيت أنا بنفسي شباباً تمردواً على الدين في مبدأ حياتهم، ولكنهم عندما استكملوا نضوجهم الفكري عادوا إلى الإستسلام إليه.

ومالك وافر العقل ناضج التفكير كما تدل عليه ثروته القيمة من الثقافة التي احتفظ التأريخ بنماذج منها، وقد رأينا في أحاديثه المتقدمة لفتات نفسية تدل على وفرة العقل والذكاء - وقد شاهد سخافات الجاهليين - ولعل عقليته الفتية كانت تأبى عليه الإستسلام لها.

ولما رأى الإسلام ورأى تعاليمه وجد نفسه منقاداً إلى عقله ليلقيه في أحضان الدين الذي خلصه من تلكم السخافات. والإنسان إذا وجد ضالته صعب عليه أن يتركها من يديه، لذلك يسوؤه أن يصاب الإسلام بأقل شيء، وقد تكون من العوامل ثقافته الواسعة.

فالإسلام كان قد غزى الناس من وجهة البلاغة فجاءهم بمعجزه الخالد القرآن، والمثقف بطبعه يدرك ما في القرآن من أسرار الإعجاز، فيخضع لعظمته ويستسلم للإيمان بمبدعه المجيد.

ص: 245

وهنا يجب ان نلحظ هذا العنصر الثالث في مالك لنرى مقدار تركزه فيه، عنصر:

الثقافة

ولا نريد بالثقافة إلّا معناها العام وهو العلم والأدب، ثم لا نريد بالعلم إلّا ما كان شائعاً في العصر الإسلامي كالفقه والحديث وكعلم التفسير وعلم السياسة. والتأريخ لم يحفل بتسجيل النماذج لعلمه كما احتفل في تسجيل النماذج لأدبه، لأنه لم ينظر الأشتر إلّا بعين الزعيم الصوّال والقائد المدرب والخطيب المفوه المبدع.

ونحن لا نطمئن إلى أنه كان بعيداً عن هذه العلوم وهو - كما رأيناه - من أعظم تلامذة الإمام. والإمام (علیه السلام) نفسه وجده أهلاً لتلقي كتابه في علم السياسة، فألقاه عليه ولم يلقه على غيره من الولاة - على كثرتهم وجلالة قدر بعضهم.

وكتب الدراية سجلته في عداد المحدثين من التابعين (1)، وسجل المترجمون اسمه الكريم في عداد العلماء الكبار من أصحاب الإمام، والنواميس الإجتماعية تقتضي ذلك، فمن ذا يصاحب باب مدينة العلم أقضى الناس وأعلم

ص: 246


1- أنظر: السيد الخوئي، معجم رجال الحديث، المصدر السابق، ج10، ص112؛ الاميني، الغدير، ج9، ص38.

الناس ولا يدخل المدينة من طريقها المقدسة؟ ومن ذا يحمل مثل ذلك العقل الجبار ولا يزينه بحلية العلم؟ على أن العصر والبيئة كانا يقتضيان ذلك.

ولكن التأريخ لا يسجل إلّا ما يهمّه، ولا يهمّه من مالك إلّا أحاديث بطولته وأدبه لأنها الصفات الغالبة على نواحي حياته.

فهو قد اعتنى بأدبه عناية خاصة كما اعتنى بشجاعته فسجل له شعراً قد يزيد على المئة بيت، ولكنه مع ذلك لم يسجل له من الشعر إلّا لوناً مخصوصاً وهو اللون الذي تشيع فيه أحاديث البطولة أو قل هو الذي يصور نفسية مالك القائد العسكري الهائج.

وقد مرت عليكم في الكتاب أراجيزه الفنية في ميدان القتال، وقد مرت عليكم في حرب الجمل أبياته في تصوير حديثه مع عائشة عندما سألته عن شؤونه مع ابن الزبير، ثم أبياته في تصوير حاله مع ابن طلحة التي يقول فيها:

هتكت له بالرمح جيب قميصه *** فخرّ صريعاً لليدين وللفمِ

وهي أبيات كنت أحب أن أقف عندها بشيء من التحليل، وكنت أحب أن أقف عند خصوص قوله: هتكت له بالرمح جيب قميصه.

ص: 247

ففي هذه الاستعارات - المتوالية: هتكت، جيب، قميص، مع هذه السلاسة في التعبير، إبداع يطرب لحسنه السادة من علماء البيان، وهذه الأبيات - كما قلت - تقرب من الشعر الوصفي ولكنها مع ذلك تحتفظ بطابعها العسكري.

وهناك أبيات لم نذكرها في أحاديثنا السابقة وهي نفسها تحمل ذلك الطابع الكريم، وهاكم الآن هذه الأبيات التي قالها في صفّين حين قال: إنني مناجز القوم إذا أصبحت:

قددنا(1) الفصل في الصباح وللسل- *** -م رجال وللحروب رجالُ

فرجال الحروب كل خدب(2) *** مقحم لا تهدّه الأهوال

يضرب الفارس المدجج بالسي- *** -ف إذا قلّ في الوغى الأكفال(3)

ثم يوجه الخطاب إلى ابن هند وهو يستعجزه بقوله:

يا ابن هند شد الحيازيم للمو *** ت ولا تذهبن بك الآمالُ

إنّ في الصبح إن بقيت لأمراً *** تتنادى من هوله الأبطال

فيه عزّ العراق أو ظفر الشا *** م بأهل العراق والزلزال

فاصبرن للطعان بالأسل السم- *** -ر وضرب تجري به الأمثال

ص: 248


1- كذا في المطبوع والصحيح قد دنا.
2- الخدب: الضارب بالسيف، أنظر: ابن منظور، لسان العرب مادة (خدب).
3- الكفل: الرجل الذي يكون في مؤخرة الحرب، أنظر المصدر نفسه، مادة (كفل).

إن تكونوا قتلتم النفر البي- *** -ض وغالت أولئك الآجالُ

فلنا مثلهم - وإن عظم الخط- *** -ب - قليل أمثالهم أبدال

يخضبون الوشيج(1) طعناً إذا جرّ *** للموت بينهم أذيال

طلبوا الفوز في المعاد وفي ذا *** تستهان النفوس والأموال(2)

وينتهي هذا الشعر إلى معاوية، فيصدر شهادته في حقه - شعر منكر من شاعر منكر رأس أهل العراق وعظيمهم ومسعر حربهم وأول الفتنة وآخرها (3) - وهي شهادة نرجو أن لا يفوتنا ما فيها من الإكبار لشعر مالك ولمقام مالك في ميادين القتال.

وأبياته هذه من خيرة الشعر العربي فقد جمعت إلى الطابع العسكري دقة الوصف بالأسلوب السهل الجميل وبيته الأول.

قددنا(4)الفصل في الصباح وللس- *** -لم رجال وللحروب رجال

ص: 249


1- الوشيج: شجر الرماح، الجوهري، الصحاح مادة (وشج).
2- المنقري، وقعة صفّين، ص469؛ ابن اعثم الكوفي، الفتوح، ج3، ص174؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج15، ص122.
3- المنقري، المصدر السابق، ص470.
4- كذا في المطبوع والصحيح قد دنا.

يحمل مثلين عربيين هما من أجل الامثال وأجمل الأمثال (للسلم رجال) (وللحروب رجال) (1) ثم وصفه لرجال الحروب ذلك الوصف الدقيق الذي صدر عن خبرة فنية كبيرة.

فرجال الحروب كل خدب لا تهده الأهوال، وهو لا يقابل إلّا الفارس المدجج بالسلاح يعلوه بالسيف.

وهذا الالتفات من الوصف إلى نداء ابن هند، ثم هذا التهديد الذي جمعه في أبياته، وهذه الذكرى للنفر البيض من أصحابه الذين قتلوا في حروب الشام وكان عندهم ابدال لهم على أن ابدالهم قليلون، وهذه اللفتة الأخيرة التي طفحت على لسانه ومهدت العذر للمؤرخين الذين لم يعتنوا بشيء كعنايتهم بذكر هذه الصفات: الإيمان، الشجاعة، الثقافة، هذه اللفتة الأخيرة التي دلت على تركز الإيمان في نفسه:

طلبوا الفوز في المعاد وفي ذا *** تستهان النفوس والأموال

هذه الأمور كلها مع هذا الأسلوب هي من خير ما سمعناه من الشعر العربي في صدر الإسلام، وما أدري كيف غفل نقادنا القدماء الذين يرسلون الأحكام لمجرد رغبتهم في الشعر كيف غفلوا عن خلع لقب اشعر الشعراء عليه؟

ص: 250


1- لم اعثر على هذين المثلين (المحقق).

فأبياته التي سجلها المؤرخون - كما رأيتم وسمعتم - لم تكن لتحمل غير هذا الطابع الوصفي وإن ضمت إليه في بعضها الطابع العسكري - كما قلت مراراً - ونحن لا نكاد نصدق أن الأشتر يستطيع أن يخصص شعره في هذا الفن ويترك سائر الفنون، وعلى الأخص الفنون التي كانت شائعة إذ ذاك كالفخر والكرم أو ما شاكل ذلك، وكبكاء الأطلال والغزل.

وإن كنت أعتقد أن جل شعره في أيام الشبيبة لم يعطه أهمية ليحتفل به التأريخ وربما ساعد هو على قبره في قلوب الأجيال فلم يعرف له خبر.

نعم احتفظ التأريخ بأبيات ربما تشير بطرف خفي إلى بعض هذه الفنون وقل إلى تركيز بعض الصفات - التي يفخر بها الشعراء من العرب كالمشاركة الوجدانية وطلب المعالي - في نفسه فهو يقول من أبيات:

بقيت(1) وفري(2) وانحرفت عن العلى *** ولقيت اضيافي بوجه عبوس

ان لم اشن على ابن هند غارة *** لم تخل يوماً من ذهاب(3) نفوس

ص: 251


1- في المصادر (لقيت).
2- الوفر المال الكثير. أنظر: ابن منظور لسان العرب مادة (وفر).
3- في بعض المصادر (نهاب). أنظر: المصدر نفسه مادة (شمس).

خيلا كأمثال السعالي شزبا(1) *** تغدوا(2) ببيض في الكريهة شوس(3)

حمي الحديد عليهم فكأنه *** ومضان برق أو شعاع شموس(4)

وأظن مثل هذا القسم بهذا الأسلوب من خير ما يستفاد منه نفسية هذا الرجل، فهو لا يقسم إلّا بارتكاب أصعب الاشياء عليه، وما هذه الأشياء: إبقاء وفرة، انحرافه عن العلى، لقاؤه لأضيافه بوجه عبوس.

وكأن هذه الصفات لا يتصور الأشتر أصعب منها، لذلك حاول أن يوطن نفسه على ارتكابها إن لم يشن الغارة على ابن هند.

وهذه الأبيات ربما نستفيد منها ما ينقله المؤرخون بإجماع أن صفة المشاركة الوجدانية كانت متوفرة فيه، فتبديد امواله يدل على أنه كان يعطي الأموال من دون حساب، وابتسامته للضيوف وطلبه للعلى، والعلى عند العرب عطف على الفقير واكرام للضيف ونجدة للمستجير و.... و..... كل ذلك مما يدل

ص: 252


1- شزبا: أي الخيل الضامرة. أنظر: المصدر نفسه مادة (شزب).
2- كذا في المطبوع والصحيح (تغدو).
3- شوس: الغضب او الحقد، المصدر نفسه مادة (شوس).
4- أنظر: الخوارزمي، المناقب، ص232؛ المرزباني، مختصر اخبار شعراء الشيعة، تحقيق، محمد هادي الاميني، ط2 (بيروت: الكتبي، 1413ه-)، ص55؛ ابن منظور: لسان المعرب مادة (شمس).

على توفر هذه الصفة فيه. وهذه اللهجة التي ساق بها هذا القسم مما تساعد على ما قلناه.

الأبيات هذه صادفت عناية النقاد قديماً فسطروها في كتبهم.

ومن طريف ما رأيت في كتاب الإصابة أن ناقداً من النقاد الذين ينسبهم صاحب الإصابة إلى المتأخرين يستهجن قوله - ابن هند - ويرى أن يكون مكانها - ابن حرب - احتفاظاً بمراعاة النظير، ولكن صاحب الإصابة (1) يقول: كلا بل بينهما فرق كبير، نعم هي أنسب (2) بطرائق المتأخرين وأمّا فحول الشعراء فإنهم لا يعتنون بذلك بل نسبة خصمه إلى امه [هند] أبلغ في نكايته (3).

وقد مثّل بها صاحب أنوار الربيع السيد علي خان لصنعة القسم من كتابه اذ يقول: ومن الغايات في ذلك قول مالك الأشتر.... ثم يسطر الأبيات ويعلق عليها بقوله: فتضمن هذا الشعر الوعيد بالقسم بما فيه الفخر العظيم من الجود والكرم والشرف والسؤدد والبسالة والشجاعة - إلى أن يقول - ولعمري لقد برّ بقسمه في صفين وأبلى بلاء لم يبله غيره.

ص: 253


1- أنظر: ابن حجر الاصابة، ج6، ص213.
2- في المصدر (من جهة النظير).
3- المصدر نفسه.

وفي معجم الشعراء أبيات له حلوة تدل على روح رقيقة تتجلى من خلال هذه الأبيات:

وما برحت مثل المهاة وسابح *** وخطارة(1) عبر السرى من عياليا

اقاسمهن العيش في الفقر والغنى *** وندفع عنهن السنين احتياليا

فهذا لأيام الهياج وهذه *** للهوي وهذه عدة لارتحاليا

وهذا الجمع على هذا النحو غاية في الإبداع.

بقيت الناحية النثرية وقد مرت عليكم نماذج كثيرة منها، ومنها خطبه بصفين وبعض كتبه ككتابه لعائشة.

والآن أسوق إليكم خطبة من خطبه قالها بقناصرين وهو على فرسه الأدهم لم أذكرها فيما تقدم وهي:

﴿تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأرض وَالسَّمَاواتِ الْعُلَى* الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى* لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الْأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ (2)، أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء حمداً كثيراً بكرة واصيلاً، من هداه الله فقد اهتدى ومن يضلل فقد غوى.

ص: 254


1- خطارة: الناقة التي تتبختر بمشيها، أنظر: ابن منظور مادة (خطر).
2- سورة ق، آية 4 – 6.

أرسل محمداً (صلی الله علیه و آله) بالصواب والهدى فأظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ثم قد كان مما قضى الله سبحانه وقدر أن ساقتنا المقادير إلى أهل هذه البلدة من الأرض فلفت (1) بيننا وبين عدو الله وعدونا، فنحن بحمد الله ونعمه ومَنّه وفضله قريرة اعيننا طيبة أنفسنا نرجو بقتالهم حسن الثواب والأمن من العقاب.

معنا ابن عم نبينا وسيف من سيوف الله علي بن أبي طالب (علیه السلام) صلّى مع رسول الله لم يسبقه إلى الصلاة ذكر حتى كان شيخاً لم يكون له صبوة (2) ولا نبوة (3) ولا هفوة ولا سقطة، فقيه في دين الله تعالى عالم بحدود الله ذو رأي اصيل وصبر جميل وعفاف قديم، فاتقوا الله وعليكم بالحزم والجد وأعلموا أنكم على الحق وأن القوم على الباطل، إنما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مئة بدري سوى ما (4) خولكم (5) من أصحاب محمد، أكثر ما معكم رايات فقد

ص: 255


1- لفت: جمعت، أنظر الزبيدي، تاج العروس مادة (لفف).
2- الصبوة: الميل إلى الهوى. أنظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة (صبا)
3- النبوة: الضعف، أنظر: المصدر نفسه مادة (نبا).
4- في المصدر سوى من حولكم.
5- كذا في المطبوع والصحيح (حولكم).

(1) كانت مع رسول الله. وعدونا (2) مع رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله، فمن (3) يشك في قتال هؤلاء إلّا ميت القلب.

أنتم على إحدى الحسنيين إمّا الفتح وإمّا الشهادة، عصمنا الله واياكم بما عصم به من أطاعه واتقاه وألهمنا إياكم طاعته وتقواه وأستغفر الله لي ولكم (4).

وهذه الخطبة - كسائر خطبه – فيها لفتات نفسية حلوة تدل على تعمقه في فن الخطابة.

فتنقلاته في حديثه تنقلات فنية جداً، فحمده حمد فني للغاية واختياره للألفاظ التي حمد الله بها تدل على تركز صفة البطولة في نفسه، فهو لا يختار من صفاته إلّا صفات الاستيلاء على العرش والاستيلاء على ما في السماوات وما في الأرض، والقائد أول ما يتصور صفة الاستيلاء. ثم انتقاله إلى النبوة التي أرسل بها محمداً فاظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون. كَرّهِ على هذا النحو من الانتقال واختياره لهذه الآية التي فيها الفاظ: أظهر، كَرِّهِ. يدل على كل ما قدمناه.

ص: 256


1- في المصدر (قد).
2- كلمة (وعدونا) غير موجودة في المصدر وفيه مع معاوية رايات.
3- في المصدر (فما).
4- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج5، ص191؛ المنقري، وقعة صفّين، ص238 باختلاف يسير.

وانتقاله اخيراً إلى الإمام ورأيه في الإمام واختياره لتلكم الصفات ثم هذا اللون من التسجيع والتثبيت، كل ذلك مما يصور لنا إيمانه وبطولته.

أمّا أسرار ثقافته والعوامل التي أثرت عليه فكونت منه ذلك المثقف القدير، فعوامل بيئية كما رأينا في أساليب التربية عندهم في موضوعنا الأول.

وقد صادفت في نفسه قابلية واستعداداً لتقبل التأثيرات عليه وساعدها على ذلك اقبال الإسلام بألوانه الثقافية الجديدة فتأثر بالقرآن وبالسنة النبوية ثم تأثر بعد ذلك كله بكلام استاذه الإمام الذي قيل في تحديد قيمته: فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق. فكانت تظهر آثار ذلك التأثر في خطبه وقد رأينا سابقاً أن خطبه جميعاً تقرب كثيراً من خطب الإمام (علیه السلام) .

سادتي، هذه أهم العناصر التي أثرت على شخصيته فأبرزتها بهذه الصورة العظيمة.

أمّا سائر العناصر التي عدها العلماء - النفسيون - فكلها موجودة فيه ومن يتصفح ما كتبناه لا يعدم الشواهد على ذلك - كما قلنا سابقاً وكما رأينا في ثنايا حديثنا هذا - وهاكم الآن شيئاً منها:

على سبيل المثال

ص: 257

وليكن هذا الشيء في الحديث عن جاذبيته فهي أهم العناصر بعد ما ذكرناه، وهي في مالك أظهر من أن يكتب عنها.

وحسبنا الآن أننا لا نستطيع أن نتصورها دون أن ننجذب إليها مأخوذين، والحوادث المتقدمة مملوءة بحديث الجاذبية فإرجاعه لميمنة العراق وتأثيره في خطبه على الناس مثالان من أمثلة ذلك، وكلمة بعض المؤرخين بأن الكوفة ما تقاعست عن الإمام إلّا بعد موت مالك خير ما يصورها تماماً (1).

سادتي - لقد أطلت في التحدث عن شخصيته وما سر ذلك إلّا انجذابي إليها - كما قلت - فاسمحوا لي أن أختم الحديث، والسلام عليكم.

ص: 258


1- لم اعثر على هذا النص وربما جاء النقل بالمعنى (المحقق).

-12-

هذه الفصول كان الدافع الأول لتدوينها هو الاستجابة لدعوة اللجنة التي أخذت على عاتقها أن تقوم بتجديد ذكرى أبطال الإسلام، والغرض من تجديدها هو إرسال سيرتهم بين الناس بما تحمل من اخلاق، وقد رأت اللجنة أن مالكاً كان من أعظم الشخصيات الإسلامية وأن العصر يقتضي دراسة أمثاله، لتكون سيرتهم من المثل العليا للمجتمع.

وفي عقيدتي أن في دراسة أمثاله ثروة كبيرة للمجتمع الحاضر، الذي يحتاج - أكثر ما يحتاج - إلى أمثاله من الرجال المخلصين الذين توفرت فيهم عناصر الإيمان بالمبدأ والإخلاص له والتضحية في سبيله.

والشرق اليوم محتاج إلى هذه العناصر الثلاث قبل احتياجه إلى أي شيء وما تقدم أسلافنا من القدماء - رحمهم الله - إلّا لتوفر هذه العناصر فيهم، وإلّا فنحن اليوم أقوى عدة وأكثر عدداً ولا ترانا صانعين بعض ما صنعوه.

وقد ساءني كثيراً أن تقوم بعض الدعايات التي لا يعرف مصدرها، فتجرف بعض شبابنا – حرسهم الله - إلى الإستهانة بمقدساتهم الروحية بحجة أن الدين لا يساير موكب الحياة.

ص: 259

لا يا إخوان، إن الدين لا ينافي أي تقدم علمي أو صناعي أو.... أو.... والدين ما خلق إلّا لتنظيم حياتنا تنظيماً ملائماً للمنطق الصحيح وإلّا لتركيز عناصر الأخلاق المثالية في نفوسنا.

فإلى الدين يا شباب، وإلى العلم يا شباب، وإلى الحضارة إلى الحضارة. فإن الحضارة الصحيحة هي التي تجمع بين هذين، ولا تضايقكم هذه الدعاوات فتجعلكم على الهامش.

قووا مراكزكم بالتمسك بمبادئكم، فو الله لن يغلبوكم على شيء ما دمتم كذلك ويأخذ الله بأيدي الجميع، أيها الشاب المسلم.

أيها الشاب العربي:

إن لجنة المجمع بما تضم من شيوخ وشباب، حاضرة لرفع أية شبهة تختلج في خاطرك حول مبدئك، وحاضرة إلى الاجابة عن كل سؤال يرد عليها حول هذا الموضوع، وهي لا تقول ذلك إلّا والمراجع المختصة في النجف وغيرها تساعدها وتعاضدها على مهمتها هذه.

أمّا بعد فقد آن لموكبنا أن يساير المواكب وأن يتقدمها إلى الإمام، فنحن - والحمد لله - ما تقدمت الحضارة إلّا وكشفت عن كنوز ثمينة كانت مخفية عندنا

ص: 260

قبل هذا اليوم، فاستيقظوا يا نائمين ووحدوا الهدف ولا تخبطوا خبط عشواء في دياجي الظلام.

ضعوا سيرة هذا البطل بين أعينكم وتأثروا بإيمانه وإخلاصه وتضحيته لمبدئه فإنها خير دليل.

أيها السادة، لقد رجعت في دراسة هذه السيرة إلى ما يقارب الخمسين مصدراً ولخصت جملة ما فيها بهذه الصفحات وقد حاولت جهدي أن اختصر رعاية لعواطف اللجنة التي حددت لي مقدارها على أني تجاوزتها بما يقارب الثلاثين صفحة.

ولا يفوتني أن اذكر بعض ما رجعت إليه من المصادر، وقبل أن أذكرها أحب أن اشكر الشاب الفاضل الشيخ أحمد المظفر، فقد استعنت بفهارسه التي صنعها لقسم من الموسوعات، فوفر عليّ بعض الوقت كما أنني استعنت بشيء من مذكراته في هذا الموضوع وإليكم أوجه أهم ما رجعت إليه:

أعيان الشيعة جزء 3، للسيد محسن الأمين.

شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي.

تاريخ الأمم والملوك، لابن جرير الطبري.

ص: 261

تاريخ الكامل، لابن الأثير.

العقد الفريد، لابن عبد ربه.

مروج الذهب، للمسعودي.

سمو المعنى، للعلائلي.

سفينة البحار، للشيخ عباس القمي.

أبو ذر، للشيخ عبد الله السبيتي.

التأريخ المختصر، لابي الفداء.

الاصابة، لابن حجر.

تنقيح المقال، للشيخ عبد الله المامقاني.

وقعة صفّين، لنصر بن مزاحم.

الإمامة والسياسة، لابن قتيبة.

الاخبار الطوال، لأحمد بن داود.

عبقرية الإمام، لعباس محمود العقاد.

الراعي والرعية، لتوفيق الفكيكي.

ص: 262

عيون الأخبار، لابن قتيبة.

أسبوع الإمام، لجنة المجمع الثقافي الديني.

ص: 263

الفهارس العامة

اشارة

1-فهرست الأعلام

2-فهرست الأعلام المترجمين في الهامش

3-فهرست مصادر ومراجع التحقيق

4-فهرست الموضوعات

ص: 264

فهرست الأعلام

ت.الأعلام - الصفحة

1.الأجلح بن منصور الكندي (قتله الأشتر في صفين)180

2.أبا عمارة = الحمزة بن عبد المطلب108

3.إبراهيم بن الوضاح (اشترك مع معاوية في صفين)181

4.إبراهيم بن محمد الثقفي (مؤلف)287

5.ابن أبي الحديد115 ، 141 ، 142 ، 227 ، 233 , 242

6.ابن أبي شيبة الكوفي (مؤلف)282

7.ابن أبي فتح الاربلي (المؤلف)158، 286

8.ابن أعثم (الكوفي)95، 180، 181، 190، 249، 284

9.ابن الأثير (الجزري)102،53، 103، 129، 150، 156، 186، 191، 227، 262، 284

ص: 265

10.ابن الخطاب = عمر بن الخطاب61 ، 87 ، 99 ، 100 ، 104 ، 114 ،

11.ابن الزبير = عبد الله بن الزبير91 ، 94 ، 95 ، 156 ، 247 ،

12.ابن الصباغ المالكي (المؤلف)109، 284

13.ابن جفير الأزدي (مقاتل في جيش الجمل)155

14.ابن حاتم العاملي (المؤلف)154

15.ابن حبان (المؤلف)133، 285

16.ابن حجر (العسقلاني)= صاحب الاصابة53 ، 253 ، 262

266

17.ابن عباس = عبد الله بن عباس29 ، 51 ، 148 ، 150 ، 204

18.ابن عساكر (المؤلف)86، 95، 138، 148 ، 181، 228، 286

19.ابن عمر (عبد الله)137 ، 138 ، 139 ، 143 ، 144 ، 148 ، 204

20.ابن عمر = عبد الله بن عمر137 ، 138 ، 139 ، 143 ، 144 ، 148 ، 204

21.ابن قتيبة (الدينوري)62 ،69، 99، 167، 168، 178، 286، 288

ص: 266

22.ابن كثير284

23.ابن ماكولا86

24.ابن منظور (اللغوي)60، 90، 180، 190، 232، 248، 251، 252، 254، 255

25.ابن هاني بن يزيد بن هاني199، 200

26.ابن هند = معاوية بن أبي سفيان65، 110، 124، 125،160، 162، 163،164، 165، 166،167، 170، 172،177، 182، 183،184، 189، 191،197، 198، 204، 208، 225 ،226،227 ،230

239 ،249 ،255

27.أبو الأعور (السلمي)175، 176

28.أبو الحسن = الإمام علي1 ،4 ،9 ،12، 28

29، 61 ،65 ،69

ص: 267

84، 102، 103، 104، 120، 121

123 ،124 ،128

137 ،138، 139

140، 141، 143

145، 154، 163

166، 169، 171

184، 191، 198

204، 207، 208

211، 222، 223

227، 229، 230

255، 282، 283

29.أبو اليقظان = عمار بن ياسر117، 122، 124، 150، 156، 157، 189، 227

30.أبو بكر (الخليفة)101، 104

31.أبو جندب الأزدي (صحابي)113

32.أبو ذر (الغفاري)57، 63، 70، 117 ، 122، 124، 131، 262

33.أبو زينب الأزدي (صحابي)113

34.أبو سبيكة الايادي (من زعماء المرتدين)

ص: 268

35.أبو سفيان (بن حرب)99، 108، 109، 110، 115

36.أبو لؤلؤة (قاتل عمر بن الخطاب)103

37.أبو موسى الأشعري (صحابي)128، 148، 150، 151، 204

38.احمد المظفر261

39.احمد بن حنبل288

40.احمد راتب (المحقق)289

41.احمد عبد الغفور (محقق)

42.اخا بجيلة = عبد الله بن جرير164، 165، 166

43.الأربد (رجل من فزارة)166

44.أسامة بن زيد (بن حارثة)99، 103

45.الأشعث = الأشعث بن قيس178، 183، 205، 207

46.الأشعث بن قيس178، 183، 205، 207

47.الأشعري = أبو موسى الأشعري128، 148، 150، 151، 204

48.اغا بزرك الطهراني289

49.الامين (محسن)54، 70، 261، 286

ص: 269

50.الاميني (عبد الحسين)286

51.البخاري (صاحب الصحيح)285، 287

52.بسر بن ارطاة191

53.البغدادي (الخطيب)287

54.البلاذري287

55.تحسين ال شبيب (المحقق)91

56.الترمذي (صاحب السنن)287

57.توفيق (الحكيم)81

58.توفيق الفكيكي (المحامي)53، 210، 262، 289

59.ثوير بن عامر166

60.ثروة عكاشة (المحقق)286

61.الثقفي (صاحب كتاب الغارات)287

62.الجايستار (رجل من أهل الخراج)225، 226

63.جرير بن عبد الله البجلي163، 239

64.جلال الدين الحسيني (المحقق)151

ص: 270

65.جندب بن زهير بن حارث (صحابي)152، 153

66.الجوهري (اللغوي)287

67.الحارث بن همام النخعي (الراوي)178

68.الحارث بن يغوث59، 86

69.الحر العاملي (صاحب كتاب وسائل الشيعة)

70.الحرث بن الحكم115، 116

71.حسن الامين (المحقق)286

72.الحسن بن علي الموسوي (المؤلف)210

73.حسن بن فرحان المالكي (المؤلف)290

74.حسين الشاكري (المؤلف)289

75.حسين الاستاد (المحقق)291

76.الحكم بن أبي العاص107، 115

77.الحكيم (محمد تقي)1، 4، 7، 8، 10، 11، 12، 14، 15، 23، 25، 32، 34، 40، 41، 42، 43، 50، 51، 67، 69، 70

78.الحلبي (صاحب السيرة)120 ، 288

ص: 271

79.الحموي (المؤلف)87، 117، 127، 171، 225، 288

80.حوشب بن طخمة165، 189

81.الخوارزمي (الموفق)104، 180، 181، 190، 252، 288

82.الدينوري (ابن قتيبة)62 ،69، 99، 167، 168، 178، 286، 288

83.الذهبي (المؤلف)134، 156، 228، 288

84.الزبيدي (اللغوي)153، 156، 255

85.زرارة بن أعين30، 40، 48، 51، 81

86.الزركلي86، 91، 100، 105، 107، 110، 115، 116، 120، 142، 144، 161، 165، 178، 289

87.زياد بن النضر (من قادة جيش الإمام)173،172، 188

88.زيد بن ثابت (الصحابي)116

89.سامي الغريري (المحقق)284

90.سعد = سعد بن أبي وقاص125، 137 ،138

139، 144

ص: 272

91.سعيد= سعيد بن العاص110، 113، 124

126، 127، 128

92.سعيد اللحام (المحقق)96، 284

93.سعيد دكار (المحقق)

94.سماك بن مخرمة الأسدي171، 273، 282

95.السمعاني (المؤلف)85، 289

96.سنان بن مالك النخعي (من أصحاب علي في صفين)175

97.سيف بن عمر الضبي = سيف بن عمر (الراوي)108، 138، 147، 289

98.شريح بن هاني (من قادة علي في صفين)172، 173

99.شعيب الارناؤوط (المحقق)289

100.صاحب العقد = ابن عبد ربه262، 273

101.صاحب النهج = ابن أبي الحديد53 ، 253 ، 262

102.صاحب سفينة البحار = عباس القمي12، 40، 109

153، 262، 277

291

ص: 273

103.ضامن بن شدقم المدني (المؤلف)91، 291

104.الضحاك = الضحاك بن قيس161 ، 162

105.الطبري (محمد بن جرير)90، 109، 120

129، 148، 149

151، 183، 186

188، 206، 225

226، 227، 230

274، 290

106.طلحة (بن عبيد الله)118 ،125، 126

127، 137 ، 138 ، 139، 141 ، 142 ، 145 ، 146، 147 ، 153، 247

107.طه محمد (المحقق)99 ،287

108.الطوسي (محمد بن الحسن)188، 274، 290

109.عادل احمد (المحقق)86، 274، 286

ص: 274

110.عائشة (ام المؤمنين)110، 115، 145

153، 156، 157

247، 254، 275

111.العباس (بن عبد المطلب)99

112.المسعودي (المؤلف)111، 112، 113

114، 115، 124

126، 128، 225

113.عبد الكاظم محسن الياسري4

114.عبد الرحمن بن أبي بكر (بن أبي قحافة)100

115.عبد الرحمن بن خالد بن الوليد125، 189، 243

116.عبد الرحمن بن عوف61، 101، 103

104، 105، 114

121

117.عبد الله بن أبي سرح110، 115

118.عبد الله بن خالد بن أسيد115

119.عبد الله بن عامر بن كريز110، 283

120.عبد الله بن عتاب (قتله الأشتر في الجمل) 155

ص: 275

121.عبد الله بن عمر البارودي29 ، 51 ، 148 ، 150 ، 204

122.عبد الله بن مسعود119، 276، 283

123.عبيد الله بن عمر بن الخطاب137 ،138 ، 139 ،143،144 ، 148 204

124.عثمان = عثمان بن عفان60، 61، 62

63، 88، 89

97، 102، 104

105، 107، 108

109، 113، 114

116، 118، 119

120، 121، 124

125، 128، 132

133، 134، 135

136، 137، 138

139، 142، 144

148، 163، 164

165، 176، 199

ص: 276

201، 239، 243

125.عثمان بن حنيف (صحابي)148

126.عز الدين علي خان المدني6، 7، 8

127.علال احمد (المحقق)

128.العلائلي (عبد الله)103

129.علقمة بن قيس النخعي229

130.علي الكوراني (المؤلف)225، 292

131.علي بن محمد البجاوي (المحقق)104، 287

132.علي خان المدني (المؤلف، مؤلف كتاب انوار الربيع)9، 132، 253

292

133.علي شيري (المحقق)86، 95، 286

288

134.عمر بن الخطاب117، 122، 124، 150، 156، 157، 189، 227

135.عمر عبد السلام (المحقق)134، 290

136.عمرو بن العاص126، 165، 191

ص: 277

198، 204، 205

137.عمرو بن معدي كرب178

138.عمير الغنوي (مقاتل في جيش معركة الجمل)155

139.فاطمة = فاطمة الزهراء145

140.الغافقي بن حرب (امير المدينة بعد مقتل عثمان....)138، 278

141.قيس = قيس بن سعد بن عبادة208

142.كعب بن سور الأزدي (القاضي)155

143.ماجد محمد البحراني (المؤلف)210

144.مالك المحمودي (المحقق)157، 208، 231

232، 286، 289

292

145.مالك بن أدد86

146.مالك بن الحارث (الأشتر)5، 8، 9، 27، 41

44، 45، 49، 51

53، 59، 60، 63

64، 65، 66، 67

ص: 278

69، 70، 80، 81

83، 84، 90، 94

95، 96، 118، 124، 126، 133، 139، 140، 141، 142

143، 145، 147

148، 150، 151

152، 153، 154

155، 156، 157

162، 164، 165

171، 172، 174

175، 176، 177

178، 180، 184

185، 188، 189

190، 191، 192

193، 196، 197

198، 199، 200

201، 203، 204

205، 206، 208

ص: 279

209، 216، 225

226، 229، 230

231، 233، 240

244، 246، 251

252، 253

147.محمد أبو الفضل إبراهيم (المحقق)86

148.محمد الريشهري (مؤلف)293

149.محمد الزيدي (اللغوي، الشاعر)87

150.محمد باقر البهبودي (المحقق)91

151.محمد بن أبي بكر (بن أبي قحافة)208، 230

152.محمد بن طلحة (بن عبيد الله)142، 153

153.محمد جواد البلاغي (مؤلف)74

154.محمد صادق النجمي (مؤلف)90

155.محمد عبد الحميد (المحقق)108، 296

156.محمد عبده (مؤلف)93، 123

157.المرتضى (السيد)90، 95، 121

143، 295

ص: 280

158.المرزباني (المؤلف)252، 295

159.مروان بن الحكم107، 109، 115

116، 120، 133

191

160.مصطفى عبد القادر (المحقق)119، 291

161.مضر علي خان المدني9

162.معاوية بن يزيد (بن معاوية)107

163.المعكبر بن حدير (كان مع علي في معركة الجمل)65، 110، 124، 125،160، 162، 163،164، 165، 166،167، 170، 172،177، 182، 183،184، 189، 191،197، 198، 204، 208، 225 ،226،227 ،230

239 ،249 ،255

164.المفيد (محمد بن النعمان)107

165.المقداد = المقداد بن عمرو (الكندي) 153

ص: 281

166.المقريزي (المؤلف)4، 146، 228، 241، 291

167.المغيرة (بن شعبة)105، 122

168.مهدي البصير (الدكتور)108، 291

169.نجاح الطائي (المؤلف)103

170.نعيم المروزي (المؤلف)76

171.نور الدين الحلبي (المؤلف)289

172.نوري الحافظ (الدكتور)107، 291

173.النيسابوري (الحاكم)120، 288

174.هشام بن عتبة235، 287

175.الهيثمي (المؤلف)101 ، 292

176.الوليد بن عقبة110، 111

177.يحيى كمال (المحقق)90

178.يزيد بن قيس الأرحبي188

179.يزيد بن معاوية (بن أبي سفيان)91، 107

180.يزيد بن هاني السبيعي (من أصحاب علي)199، 200، 201

267

ص: 282

181.اليعقوبي (صاحب التأريخ)103، 107، 117

296

182.يوسف بن عبد الرحمن (المحقق)101

183.يوسف مراد (الدكتور)236

184.

ص: 283

فهرست الأعلام المترجمين في الهامش

ت.الأعلام المترجمين - الصفحة

1.أبو الأعور السلمي172

2.أبو مسيكة الايادي90

3.أسامة بن زيد100

4.الأشعث بن قيس178، 183، 205، 207

5.بسر بن ارطاة191

6.بنو امية107

7.ثوير بن عامر166

8.جرير بن عبد الله البجلي163، 166

9.جندب بن زهير بن الحارث152

10.الحارث بن همام الحارثي179

11.الحكم بن العاص111، 165

12.ذي الكلاع165

13.زيد بن ثابت بن الضحاك116

ص: 284

14.سعد بن أبي وقاص144

15.سماك بن مخرمة171

16.الضحاك بن قيس116

17.عبد الكاظم محسن الياسري4

18.عبد الرحمن بن أبي بكر100

19.عبد الرحمن بن خالد بن الوليد125

20.عبد الرحمن بن عوف102

21.عبد الله بن الزبير91

22.عبد الله بن عامر بن كريز110

23.عبد الله بن قيس148

24.عبد الله بن مسعود119

25.عز الدين علي خان المدني6، 7، 8

26.كعب بن سور الأسدي155

27.محمد الزبيدي153،155، 255

28.مروان بن الحكم107

ص: 285

29.هاني فحص5

30.الوليد بن عقبة110

31.يزيد بن قيس الأرحبي188

32.يزيد بن هاني السبيعي199

33.يعلى بن امية115، 147

ص: 286

فهرست مصادر ومراجع التحقيق

القرآن الكريم

-الإمام علي: نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، (قم: دار الذخائر، 1412 ه-).

-ابن أبي الحديد: عز الدين عبد الحميد المدائني، (ت 656 ه-)، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، (مصر: عيسى البابي الحلبي، 1378 ه-).

-ابن أبي شيبة الكوفي: عبد الله بن محمد، (ت 235 ه-)، مصنف ابن أبي شيبة في الحديث والاثار، ضبط وتعليق سعيد اللحام، (بيروت: دار الفكر، 1409 ه-).

-ابن اعثم: احمد بن محمد، (ت 314 ه-)، الفتوح، تحقيق علي شيري، (بيروت: الأضواء، 1411 ه-).

-ابن الأثير: عز الدين بن الأثير الجزري، (ت 630 ه-)، اللباب في تهذيب الانساب، (بيروت: دار صادر، د.ت).

-.................، الكامل في التأريخ، (بيروت: دار صادر، 1386 ه-).

ص: 287

-................. ، اسد الغابة في معرفة الصحابة، (بيروت: دار الكتاب العربي، د. ت).

-ابن الدمشقي: محمد بن احمد، (ت 871 ه-)، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن ابي طالب، تحقيق محمد باقر المحمودي، (قم: دانش، 1415 ه-).

-ابن السكيت: يعقوب الاهوازي، (ت 244 ه-)، (مشهد: مجمع البحوث الإسلامية، 1412 ه-).

-ابن الصباغ: علي بن محمد، (ت 855 ه-)، الفصول المهمة في معرفة الائمة، تحقيق سامي الغريري، (قم: دار الحديث، 1379ه-).

-ابن حبان: محمد بن حبان بن احمد التميمي، (ت 354 ه-)، كتاب الثقات، (حيدر اباد: مطبعة دائرة المعارف العثمانية، 1393ه-).

-ابن حجر، احمد بن علي العسقلاني، (852 ه-)، ط2 (بيروت: دار المعرفة، د. ت).

-.................. ، فتح الباري، شرح صحيح البخاري، ط2 (بيروت: دار المعرفة، د. ت).

-.................. ، (ت 852 ه-)، الاصابة في تمييز الصحابة دراسة وتحقيق عادل احمد عبد الموجود، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1415 ه-).

ص: 288

-ابن سعد: محمد بن سعد، (ت 230 ه-)، (بيروت: دار صادر، د. ت).

-ابن شبة: عمر بن شبة النميري، (ت 262 ه-)، تاريخ المدينة المنورة، تحقيق فهيم محمد شلتوت، (قم: دار الفكر، 1410 ه-).

-ابن شهر اشوب، محمد بن علي، (ت 588 ه-)، مناقب آل أبي طالب، (النجف: الحيدرية، 1376 ه-).

-ابن عبد البر: يوسف احمد بن عبد الله، (ت 463 ه-)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق علي محمد البجاوي، (بيروت: دار الجيل، 1412 ه-).

-ابن عساكر: علي بن الحسن بن هبة الله، (ت 571 ه-)، تاريخ مدينة دمشق، دراسة وتحقيق علي شيري، (بيروت: دار الفكر، 1415 ه-).

-ابن فارس: احمد بن زكريا، (ت 395 ه-)، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، (قم: مكتبة الأعلام الإسلامي، 1404 ه-).

-ابن قتيبة الدينوري: عبد الله بن مسلم، (ت 276 ه-)، الإمامة والسياسة، تحقيق طه محمد الزيني، (مصر: الحلبي، د. ت).

-................. ، المعارف، تحقيق ثروة عكاشة، (مصر: دار المعارف، د. ت).

-ابن كثير: اسماعيل بن كثير الدمشقي، (ت 774 ه-)، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، (بيروت: دار احياء التراث العربي، 1408 ه-).

ص: 289

-الاربلي: علي بن عيسى، (ت 693 ه-)، كشف الغمة في معرفة الائمة، ط2 (بيروت: الأضواء، 1405 ه-).

-الامين: حسن، مستدركات اعيان الشيعة، (بيروت: التعارف، 1417 ه-).

-الامين: محسن عبد الكريم، (ت 1371 ه-)، تحقيق حسن الامين، (بيروت: التصارف، 1403 ه-).

-الاميني: عبد الحسين، (ت 1392 ه-)، الغدير في الكتاب والسنة والأدب، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1397 ه-).

-البخاري: محمد بن اسماعيل، (ت 256 ه-)، التأريخ الكبير، (تركيا: المكتبة الإسلامية، د. ت).

-البغدادي: احمد بن علي المعروف بالخطيب البغدادي، (ت 463 ه-)، دراسة وتحقيق مصطفى عبد القادر، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1417 ه-).

-البغدادي: عبد القادر بن عمر، (ت 1093 ه-)، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تحقيق محمد نبيل طريفي واخر، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1418 ه-).

-البلاذري: احمد بن يحيى، (القرن الثالث الهجري)، انساب الاشراف، تحقيق محمد باقر المحمودي، (بيروت: الأعلمي، 1394ه-).

ص: 290

-الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة، (ت 279 ه-)، سنن الترمذي، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، ط2 (بيروت: دار الفكر، 1403ه-).

-الثقفي، إبراهيم بن محمد الكوفي، (ت 383 ه-)، الغارات، تحقيق جلال الدين المحدث، (قم: بهمن، د. ت).

-الجوهري: اسماعيل بن حماد، (ت 393 ه-)، تحقيق احمد عبد الغفور، ط4 (بيروت: دار العلم للملايين، 1407 ه-).

-الحافظ نوري، تكوين الشخصية، (بغداد: المعارف، 1381 ه-).

-الحكيم: محمد تقي، (ت 1423 ه-)، شاعر العقيدة، ط2 (بيروت: المؤسسة العلمية، 2001 م).

-الحلبي: نور الدين، (ت 1044)، السيرة الحلبية في سيرة الامين والمأمون، (بيروت: المعرفة، 1400 ه-).

-الحموي: شهاب الدين ياقوت بن عبد الله، (ت 626 ه-)، معجم البلدان، (بيروت: دار احياء التراث، 1399 ه-).

-حنبل: احمد، (ت 241 ه-)، مسند احمد، (بيروت: دار صادر، د. ت).

-الخوارزمي: الموفق بن احمد، (ت 568 ه-)، تحقيق مالك المحمودي، ط2 (قم: مؤسسة النشر الإسلامي، 1411ه-).

-الدينوري: احمد بن داود، (ت 282 ه-)، الاخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر، (بيروت: دار احياء الكتاب العربي، 1380 ه-).

ص: 291

-الذهبي: محمد بن احمد بن عثمان، (ت 748 ه-)، تحقيق عمر عبد السلام، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1407 ه-).

-.................، سير اعلام النبلاء، تحقيق شعيب الارناؤوط (بيروت: الرسالة، 1413 ه-).

-الريشهري: محمد، موسوعة الإمام علي في الكتاب والسنة والتأريخ، تحقيق مركز بحوث دار الحديث، (قم: دار الحديث، 1421 ه-).

-الزركلي: خير الدين، الأعلام، ط5 (بيروت: دار العلم للملايين، 2000 ه-).

-السمعاني: عبد الكريم بن محمد، (ت 562 ه-)، الانساب (بيروت: دار الجنان، 1408 ه-).

-الشاكري: حسين، الكشكول المبوب، (قم: ستارة، 1481 ه-).

-الضبي: سيف بن عمر، (ت 200 ه- أو 180 ه-)، الفتنة ووقعة الجمل، تحقيق احمد راتب، (بيروت: النفائس، 1391 ه-).

-الطائي: نجاح، نظريات الخليفتين، (د. م: د. ط. د. ت).

-الطبري: محمد بن جرير، (ت 310 ه-)، تاريخ الطبري، (بيروت: الأعلمي، 1403 ه-).

-الطهراني: اغا بزرك، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ط3 (بيروت: الأضواء، 1403 ه-).

ص: 292

-الطوسي: محمد بن الحسن، (ت 460 ه-) اختيار معرفة الرجال، تحقيق مهدي رجائي، (قم: مؤسسة آل البيت لاحياء التراث،1404ه-).

-الفراهيدي: الخليل بن احمد، (ت 175 ه-)، كتاب العين، تحقيق مهدي المخزومي واخر، ط2 (إيران: دار الهجرة، 1409 ه-).

-الفكيكي: توفيق، الراعي والرعية، (ت 1389ه-)، (النجف: الغري، 1348 ه-).

-القمي: عباس، (ت 1359 ه-)، الكنى والالقاب، (طهران: مكتبة الصدر، د. ت).

-كحالة، عمر: معجم قبائل العرب، ط2 (بيروت: دار العلم للملايين، 1388 ه-).

-الكحلاني: محمد بن اسماعيل، (ت 1182ه-)، تحقيق محمد عبد العزيز، ط4 (مصر: البابي الحلبي، 1379 ه-).

-الكوراني: علي، جواهر التأريخ، (قم: دار الهدى، 1426 ه-).

-المالكي: حسن بن فرحان، كتاب الرياض نحو انقاذ التأريخ الإسلامي، (الرياض: اليمامة، 1418 ه-).

-المتقي الهندي: علاء الدين علي، (ت 975 ه-)، كنز العمال، (بيروت: الرسالة، 1409 ه-).

ص: 293

-المجلسي: محمد باقر، (ت 1111 ه-)، ط2 (بيروت: مؤسسة الوفاء، 1403 ه-)، ط3 (بيروت: دار احياء التراث، 298 ه-).

-المحمودي: محمد باقر، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، (النجف: النعمان، 1388 ه-).

-المدني: علي خان، (ت 1120 ه-)، ط2 (قم: بهيرتي، 1397 ه-).

-المدني: ضامن بن شدقم، (ت بعد 1082 ه-)، وقعة الجمل، تحقيق حسين ال شبيب الموسوي، (قم: محمد، 1420 ه-).

-مراد يوسف: مبادئ علم النفس العام، (مصر: دار المعارف، 1386ه-).

-المرتضى: علي بن الحسين الموسوي (ت 436 ه-)، الشافي في الإمامة، تحقيق عبد الزهراء الحسيني الخطيب، ط2 (طهران، الصادق، 1410ه-).

-المرزباني، محمد بن عمران الخراساني، (ت 384 ه-)، تحقيق محمد هادي الاميني، (بيروت: الكتبي، 1413 ه-).

-المروزي: نعيم بن حماد، (ت 229 ه-)، كتاب الفتن، تحقيق سهيل زكار، (بيروت: دار الفكر، 1414 ه-).

-المشغري، يوسف بن حاتم بن فوز، (أواخر القرن السابع الهجري)، (قم: مؤسسة النشر الإسلامي، د. ت).

ص: 294

-المظفر: محمد رضا (1384ه-)، المنطق، (قم: مؤسسة النشر الإسلامي، د. ت).

-المفيد: محمد بن النعمان، (ت 413 ه-)، الجمل، (قم: الداوري، د. ت).

-.................، الامالي، تحقيق حسين الاستاد ولي، ط2 (بيروت: المفيد، 1413ه-).

-المقريزي: تقي الدين احمد، (ت 845 ه-)، امتاع الاسماع، تحقيق محمد عبد الحميد، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1429 ه-).

-المنقري: نصر بن مزاحم، (ت 212 ه-)، وقعة صفين، تحقيق عبد السلام محمد هارون، ط2 (مصر: المؤسسة العربية الحديثة، 1382ه-).

-النمازي: علي، مستدركات علم رجال الحديث، (طهران، حيدري، 1406 ه-).

-النيسابوري: أبو عبد الله محمد بن عبد الله، (ت 405 ه-)، تحقيق يوسف عبد الله المرعشلي، (د. م: د. ط. د. ت).

-اليعقوبي: احمد بن أبي يعقوب، (ت 284 ه-)، تاريخ اليعقوبي، (بيروت: دار صادر، د. ت).

ص: 295

ص: 296

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.