المعالم المستقبلية للحوزة العلمية

هویة الکتاب

المعالم المستقبلية للحوزة العلمية

مجموعة محاضرات وافكار تتعلق بالوظيفة الاجتماعية للحوزة العلمية الشريفة وإصلاحات في نظامها.

الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

ص: 1

اشارة

ص: 2

مجموعة كتيبات وكلمات صدرت متفرقة ابان حكم النظام الصدامي المباد وألحقت بها ما يتحد معها في الموضوع مما صدر بعد سقوط النظام.

واختير للمجموعة عنوان أحدها وهو

(المعالم المستقبلية للحوزة العلمية الشريفة)

لانه عنوان جامع لافكارها.

ص: 3

ص: 4

الفصل الأول: المعالم المستقبلية للحوزة العلمية الشريفة

اشارة

ص: 5

ص: 6

المقدمة

يعود تاريخ الانتهاء من كتابة هذه الافكار إلى ليلة ميلاد الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) 20 جمادى الثانية 1420 أي بعد استشهاد سيدنا الاستاذ الصدر الثاني (قدس سره)(1) بعدة اشهر، فقد شعرت بعد غيابه (قدس سره) عن ساحة العمل الاجتماعي وعدم نهوض احد بهذه الوظيفة الالهية بتعين الحاجة للقيام بهذه المسؤولية التي تشمل مساحة عريضة وتحديات واسعة وتجاذبات بعدة اتجاهات فهي تطلّ من جهة على الحوزة العلمية باعتبارها حاضنتها ومنطلق حركتها، وهي تطلّ على المجتمع بمختلف شرائحه وفئاته وتنوعه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والديني باعتباره ساحة عملها، وهي تطل ايضاً على النظام الحاكم لانها ستكون تحت قبضته وعيون جلاوزته المتربصين بكل حركة واعية تستهدف تحرير الامة من عبادة الطاغوت وفك قيودها وإصلاح حالها، وهو النظام الذي لم يعرف له نظير في الجريمة والبطش والقسوة وقد خرج تواً من جريمة شنيعة هي قتل السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وولديه وهو نهم لقتل كل من يؤدي دوره ويواصل حمل رسالته ولكن ذلك كله لا يُقعد العاملين المخلصين باذن الله تعالى، فبادرت فور استشهاده رغم الزخم العاطفي الذي يملؤنا الى تسجيل ستراتيجية عملي للفترة المقبلة في نقاط(2) ثم بدأت بتوسيعها وتسجيل

ص: 7


1- استشهد المرجع الشهيد السيد محمد الصدر (قدس سره) مساء الجمعة 3 ذ.ق 1419 المصادف 1999/2/19 في النجف الاشرف.
2- دوّنت هذه النقاط في قصاصة ورق صغيرة ليمكن اخفاؤها ويظهر من بعض نقاطها كالمحافظة على صلوات الجمعة المتبقية أنها كتبت في الايام الاولى من استشهاد سيدنا الاستاذ الصدر الثاني (قدس سره) حيث منعت لاحقاً إقامة كل الصلوات واحتفظ عندي بنفس الورقة. وهذه هي النقاط التي مثلت الخطوط العريضة لبرنامجي المستقبلي ويستطيع المتابع معرفة مقدار ما انجز منها: 1- تنشئة قاعدة حوزوية واعية مخلصة. 2- توعية المجتمع وتثقيفه باصدار الكتب والنشرات والكراسات أو إصدار مجلة إن امكن ونشر المبلغين واحتضان الخطباء المخلصين. 3- معالجة الظواهر الاجتماعية المنحرفة والتصدي لها بالاستفتاء ونحوه. 4- رد الشبهات التي تُوجّه الى المذهب والدين. 5- استقطاب الطاقات الكفوءة المخلصة الواعية من الشباب الى الحوزة لتدارك النقص الذي حصل فيها وسد حاجة المجتمع الى المرشدين والمبلغين. 6- دعم مكتب السيد الشهيد (قدس سره) والمحافظة على استمرار نشاطه باعتباره أهم رموز السيد الشهيد (قدس سره) والمركز الذي يلتف حوله المجتمع الناطق وسعة مسؤولياته التي يباشرها وعدم تشتيت مراكز الحوزة الناطقة. 7- معالجة النقائص الموروثة في الحوزة على مستوى المناهج الدراسية او الادارة او المالية او غيرها. 8- النهوض بالمستوى العلمي للحوزة بالمباشرة الفعلية في الدراسة والتدريس وتشجيع الطلبة المتفوقين مادياً ومعنوياً. 9- بثّ روح الأخوّة والالفة وازالة الخلاف الحاصل بين مراكز الحوزة الرئيسية فان وحدة المجتمع من وحدة الحوزة وتفرّقه من تفرقها. 10- رعاية المجتمع النسوي سواء على مستوى الخطابة أو الحوزة وطلب العلوم الدينية أو احياء المناسبات الدينية والاجتماعية بشكل هادف. 11- دعم الجمعات المتبقية والسعي الى ارجاع غيرها ولو في الجملة كالمناطق التي ليس فيها موانع. 12- احياء المناسبات الدينية داخل الحوزة وخارجها بالاحتفالات واستغلالها لمناقشة امور الحوزة والمجتمع والاستفادة من المناسبات لتحقيق الاهداف المطلوبة. 13- احتضان وتشجيع الشرائح الاجتماعية النافعة كالشعراء وحملة الاقلام والفنانين وطلبة الجامعات وتوجيههم نحو الهدف الحقيقي.

تفاصيلأخرى حتى صار هذا الكتيب الذي اعتز به، ولا زالت حلاوة التحدّي الذي حملناه في تلك الفترة نستشعرها بين جوانحنا والفضل لله تبارك وتعالى وحده.

ولايماني العميق بان الاصلاح والعلاج لا يكون ناجحاً الا بعد تشخيص علل الخلل والفساد اما الاكتفاء بمعالجة الظواهر الفاسدة والمنحرفة التي هي معلولات ونتائج لتلك العلل فهذا علاج ناقص ومن هنا فكرت وتأملت ووضعت برنامجاً لعملي من دون ان اعلنه طبعاً لان الحديث عن مثل هذه الافكار يعني تجاوزاً كبيراً للخطوط الحمراء في منظور ذلك النظام المتوحش فكان الاحجى هو التنفيذ العملي لها والتدريجي بحسب ما تسنح الفرص.

وهذا الكتيب والذي يليه وهو (جامعة الصدر الدينية : الهوية والانجازات) يمثل بعض ما خططت له من عمل على صعيد النشاطات الحوزوية وقد تحقق الكثير منها بفضل الله تبارك وتعالى على يد الفضلاء والمثقفين والعاملين المخلصين.

واليوم وقد زال ذلك الكابوس امكن نشر تلك الافكار تباعاً لتقديمها بين يدي الساعين إلى الاصلاح والتغيير الايجابي، ولا شك ان هذه الفترة تسمح بنشاط اوسع وأهم مما كُتب لزوال ظرف التقية الذي أثر بوضوح على كتابة هذا البحث لانني كنت اخشى وقت كتابته من وقوعه في ايدي جلاوزة النظام لان دورنا كانت مهددة بالمداهمة في أي لحظة.

فلله وحده الحمد والثناء على ما انعم

وله الشكر على ما الهم

ونسأله الصدق والاخلاص والتوفيق

لما وفق له محمداً وآل محمداً

صلى الله عليهم اجمعين.

محمد اليعقوبي

النجف الاشرف

ص: 8

1 شوال 1424

ص: 9

حاجة الحوزة العلمية إلى التحديث

صلاح الأمة بصلاح الحوزة العلمية

روي في الخصال(1) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال صنفان من امتي اذا صلحا صلحت امتي واذا فسدا فسدت امتي، قيل يا رسول الله ومن هما ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الفقهاء والامراء.

والذي افهمه ان علاقة هذين الصنفين بفساد وصلاح المجتمع ليست بمرتبة واحدة من حيث العلية والمعلولية ففساد العلماء علّة لفساد المجتمع وفساد الامراء معلولة لفساد المجتمع فيكون فساد العلماء متقدماً برتبتين على فساد الامراء، وكذا صلاحهم طبعاً، لان الامراء حصيلة ونتاج المجتمع نفسه ولا يمكن لامير فاسد ان يبقى ويستمر اذا لم يكن المجتمع الذي يحكم فيه فاسداً والا كيف يتسنى للمجموعة الحاكمة القابعة في مركز الحكم كالامويين والعباسيين ان تبسط سلطتها على المجتمع بدون اذرعها المتعددة من الجلاوزة والعملاء والمأجورين وضعاف النفوس، وقوام هؤلاء هم افراد المجتمع نفسه ولا يستوردهم الحاكم من بلد آخر فلو كانوا صالحين لما بقي للامراء ذراع يصولون به، فتحصَّل من ذلك ان فساد العلماء هو سبب فساد المجتمع اما فساد الامراء فهو كاشف عن هذا الفساد لانه اثر من آثاره.

فمن اراد اصلاح الامراء وتغييرهم فليبدا بتغيير المجتمع ومن العبث والقاء النفس في التهلكة التفكير في الاول أي بالتزام المقاومة المسلحة ونحوها لتغيير انظمة الحكم من دون السعي لتحقيق الثاني اولاً، فان هذا وعد الله سبحانه (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(2) فكما ان الله سبحانه لا يسلب قوماً نعمة حتى يرتدوا نحو الأسفل وينحرفوا عن الصراط المستقيم كذلك فانه عز وجل لا ينقل حال قومٍ نحو الأحسن حتى يعودوا إلى ربهم ويثوبوا إلى رشدهم (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)(3).

ولنا في سيرة الائمة المعصومين (عليهم السلام) خير شاهد فقد عاش الامام الصادق (عليه السلام) فترة ضعف الدولة الأموية وانهيارها وعرض الثائرون نصرتهم عليه والمناداة باسمه لكنه ردّ قائد الثورة ابا مسلم الخرساني ببساطة: انك لست من اصحابي وهو لا يعني انك لست شيعياً جعفرياً وانما يعني ان هذا الرجل وبقية الامة لم تصل المستوى المطلوب من التربية الايمانية لكي تتقبل شريعة الله سبحانه وتحافظ عليها وتضحي من اجل بقائها حاكمة في المجتمع.

الم تسمع بالذنوب التي تديل الاعداء كما ورد في بعض الادعية الشريفة ؟ إنها الذنوب التي يؤدي حصولها في الأمة إلى تسلّط اشرارها واعدائها عليها ثم يدعون فلا يستجاب لهم فيكون زوال هؤلاء المتسلطين الاشرار بزوال تلك الذنوب وتطهير المجتمع منها.

وصلاح المجتمع وتغييره إنما يكون على يد علمائه فهم قادته وهداته ومرشدوه إلى الصواب والامناء على شريعة الله سبحانه والقيمون على تطبيقها لانهم ورثة الانبياء (عليهم السلام) وامتداد الأئمة (عليهم السلام) واليهم مفزع العباد بعد المعصومين (عليهم السلام) فلا تستطيع الامة لوحدها ان تلتمس الطريق إلى الله سبحانه من دون الادلاّء على طاعته.

ص: 10


1- باب الاثنين حديث 12.
2- الرعد : 11.
3- يونس : 98.

ومن هنا كان اصلاح المجتمع بصلاح الحوزة الشريفة وتحركها نحوه واحتضانه والشعور بهمومه وآماله وطموحاته والتفاعل معها بجدّية وعدم التقصير وان لا تأخذهم في الله لومة لائم.

وقد جربنا التأثير الفعال والسريع لتحرك الحوزة نحو المجتمع وايصال صوتها اليه عبر القنوات المتاحة ولا سيما منبر صلاة الجمعة(1)، واذا كان ذلك من مسؤولية المرجعية فكيف يتسنى لها وحدها ذلك فلا بد من وجود حوزة صالحة واعية من ورائها تكون عينها التي تبصر ولسانها الذي ينطق ويدها التي تبطش وقلبها الذي ينبض بالحركة والحياة.

كما ان فساد المجتمع والعياذ بالله إنما هو بفساد علمائه الذي يمكن تصوره على شكلين:

الاول: التقصير في اداء المسؤوليات من ارشاد الامة وتوجيهها والامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو الضامن لسلامة الامة من الانحراف (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(2)

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(3)

وقد انّبَ الله سبحانه العلماء على هذا التقصير بقوله (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(4)

وقد حذر القرآن الكريم من خطر ترك هذه الفريضة المهمة في مواضع عديدة نفرد لها بحثاً خاصاً ان شاء الله تعالى.

الثاني: انحراف رجال الدين المتصدين للمجتمع وتغير نواياهم واهدافهم من ربانية مخلصة إلى دنيوية محضة وحب الدنيا رأس كل خطيئة وباب المفاسد والشرور فيستشري الطمع والاثرة والحسد والبغضاء والخلاف والقطيعة والكيد والمكر وتنشأ هوَّة بعيدة بينهم وبين الامة فتضلّ الامة بضلالهم وقد قيل (اذا فسد العالِم فسد العالَم) وهذه هي الطامة الكبرى حين ينعدم الاخلاص فتنفصم العروة الوثقى وهي حبل الامداد والتوفيق الالهي. وقد اكد الائمة على اجتناب مثل هؤلاء ونبذهم وعزلهم فعن الامام الصادق (عليه السلام) (اذا رأيتم العالم محبّاً لدنياكم فاتهموه على دينكم، فان كل محب لشيء يحوط ما احب).

والنتيجة: انك اذا رأيت مجتمعاً صالحاً فاعلم ان من ورائه علماء صالحين واعين متحركين مخلصين، وان رأيت مجتمعاً فاسداً فاعلم ان سبب ذلك خلّو علمائهم من واحدة أو اكثر من هذه الصفات أي الاخلاص والصلاح والوعي والعمل، بل هم ليسوا علماء حقيقة فان علامة العلماء خشية الله سبحانه (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(5)

ومن ثمرات ذلك التصدي للمسؤوليات الملقاة على عاتقهم باخلاص ففي الحديث: (الفقيه حق الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذابه، ولم يرخّص لهم في معاصي الله) وليس الفقيه من احصى مسائل يندر الابتلاء بها واذا صادف وان تعرض لها شخص فيوجد من يفتي فيها لان وجوب الافتاء كفائي. وللمزيد راجع بحث (الفقه والفقيه في الكتاب والسنة)(6).

فكم من الصفات المذكورة تهتم بتربيتها الحوزة الشريفة في ظل نظامها الحالي ؟ استطيع ان اقول ان فيها تقصيراً كبيراً من عدة جهات فهي تهتم باعطاء حشد من المعلومات النظرية الخاوية من الحس الروحي الذي يشدُّ إلى الله سبحانه ومن الحس الاجتماعي الذي اعني به كيفية التعامل مع الواقع المعاش ورفعه إلى مستوى التطبيق الكامل للشريعة لا الهبوط بالشريعة إلى مستوى الواقع وتكييفها وفق متطلباته.

ص: 11


1- راجع كتاب (ثمار الخطابة بين منبر الجمعة والمنبر الحسيني).
2- آل عمران : 110.
3- آل عمران : 104.
4- المائدة : 63.
5- فاطر : 28.
6- تجد ملخصه في كتاب (شكوى القرآن).

وكل ذلك ناشئ من عدم وضوح وغفلة عن الهدف الحقيقي وكما نعلم فان الهدف هو الذي يرسم الطريق ويحدد معالمه لذا اهتمت الاحاديث الشريفة على خلوص النية وصلاحها وانها اساس العمل وانما الاعمال بالنيات فهدف طالب العمل ليس علمياً فقط بل هي رسالة عملية تكون امتداداً لرسالة الانبياء والائمة (عليهم السلام) فلا بد ان يؤهل الحوزوي لحمل هذه الامانة وادائها باحسن صورة.

عناصر شخصية طالب الحوزة العلمية

لذا كان من الواجب ان تشمل التربية الحوزوية ثلاثة اتجاهات:

الأول: الاتجاه العلمي: ونعني به تزويد الطالب بكل العلوم المكونة لشخصيته العلمية وبالعمق والتدقيق بحسب ارقى ما وصل اليه الفن فيما يتصل بوظيفته التي ترتقي حتى تصل إلى القدرة على استنباط الحكم الشرعي على مصادره التفصيلية وهي ملكة الاجتهاد وكذا لتهيئة اساتذة اكفاء قادرين على ايصال المعلومات في مفردات المنهج الدراسي بشكل دقيق وجيد.

الثاني: الاتجاه الاخلاقي: فلا بد من تهذيب النفس والسعي إلى تكميلها بالفضائل وتطهيرها من الرذائل وتوطيد الصلة بالله تعالى ومراقبته في كل صغيرة وكبيرة ويكون ذلك قبل التصدي لاية مسؤولية اجتماعية لان المنصب والجاه والامتيازات الاخرى التي يتمتع بها علماء الدين من اقوى فخوخ الشيطان واصعب شراكه ولا قيمة لاي عمل مهما كان عظيماً في نفسه اذا لم يكن مخلصاً لله سبحانه ومقبولاً لديه ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اسوة حسنة فقد جاهد نفسه وتعبد لله ردحاً طويلاً برعاية الله سبحانه حتى بُعث بالنبوة ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام) (ان الله عز وجل ادب نبيَّه فأحسن ادبه فلما اكمل له الادب قال: انك لعلى خلق عظيم، ثم فوض اليه امر الدين والامة ليسوس عباده، فقال عز وجل: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(1)

وان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مسدّداً موفَّقاً مؤيداً بروح القدس، لا يزلُّ ولا يُخطئ في شيء مما يسوس به الخلق)(2)

وقال (عليه السلام) في حديث آخر فما فوض الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد فوضه الينا(3).

واعلم ان الخروج إلى المجتمع قبل تحصيل السيطرة على النفس الامارة بالسوء والاخذ بعنانها وبما يتضمنه هذا الظهور من مزالق كحب الجاه والتعالي على الآخرين والعجب والرياء والكبر والحسد والمكر سيجعل الانسان فريسة سهلة للشيطان وللنفس الامارة بالسوء وعندئذٍ يخسر المبطلون وان صوّر له انه يعمل لله سبحانه وسيقع اجره عليه تعالى بل ربما منَّ عليه باعماله (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)(4).

الثالث: الاتجاه الاجتماعي والحركي: فلا بد من خلق الوعي لدى الحوزة بمشاكل المجتمع والمؤامرات والدسائس التي تعصف به والفتن المحدقة به تحت شتى العناوين واسلوب مواجهتها وتحصين الامة من الوقوع فيها وتنبيهه إلى اعدائه الحقيقيين والتحرك نحو المجتمع لا الانعزال عنه وارشاده وتوجيهه باستغلال كل القنوات المتاحة لذلك كالكتب والمنبر الحسيني والخطب والمحاضرات والندوات واللقاءات.

واستطيع القول باسف ان النقص والتقصير حاصلان في جميع هذه الاتجاهات: اما الثاني والثالث فالاهتمام به معدوم بالمرّة واما الاول فلا نبخس علماءنا حقهم اذ نقول ان الرقي

ص: 12


1- الحشر : 7.
2- اصول الكافي : كتاب الحجة، باب 51، حديث 5.
3- الحديث 11 من نفس الباب.
4- الكهف : 103-104.

والازدهار العلمي تواصل على ايدي المحققين بما يرفع رؤوسهم ويجعلهم في القمة لكن ذلك لا يعني عدم وجود ثغرات ونقائص تحتاج إلى اصلاح.

وليست الحاجة إلى التطوير والاصلاح مقتصرة على هذه الجوانب بل لها موارد اخرى.

ولا شك ان هذه الاشارات العابرة لا تكفي لبيان مواضع الداء الذي هو الخطوة الاهم لتحقيق العلاج وتشخيص الدواء فنحتاج إلى مزيد من الايضاح وسيكون الكلام مصنَّفا في عدة جهات:

الجهة الاولى: المواد العلمية ومناهج الدراسة

مناهج الدراسة

أولاً: في مناهج الدراسة المتداولة ويلاحظ فيها عدة نقاط:

أ- قِدَم المناهج الدراسية، حيث تطرح افكاراً بالية كُتِبت لتعالج قضايا في وقتها لم يعد لها وجود بعد ان نضجت العلوم وتقدمت، لاحظ كمثال بعض المطالب في كتاب المعالم والكفاية ومناقشات الرسائل مع الاخباريين وشرح الباب الحادي عشر.

ب- عدم استساغة الصياغة واسلوب العرض ككتاب الكفاية الذي تضيع افكاره بسبب التركيز على فك رموزه وعبارته الغامضة.

ج-- ان مطالبها غير مرتبة ترتيباً فنياً دقيقاً تنتشر فيه المطالب وتتوزع على ابواب غير مناسبة لها أو لا يتوقع وجودها فيها، قارن كمثال ترتيب كتاب أصول الفقه للمظفر (رحمه الله) مع غيره ويزيدها تشويشاً كثرة الاستطرادات التي ينافي وجودها البحث العلمي الرصين ويجب ادراج كل بحث في محله.

د- انها غير متدرجة في مستوى عرض المعلومات بحسب مراحل الدراسة وسببه واضح فان مؤلفيها لم يكونوا ضمن لجنة لوضع المناهج الدراسية بل ألفوا كتبهم لغاية البحث العلمي ولمناقشة نظرائهم من المحققين أو من يفترضونه كذلك ولم يكونوا ينظرون إلى ان الذي امامهم هو طالب في مرحلة علمية معينة يريد تلقي ذلك العلم، فيدرس الطالب بادئ ذي بدء في الفقه الرسالة العملية وهي خلاصة آخر ما توصل اليه الفكر الاستدلالي ويقرأ في أصول المظفر التي هي قبل الكفاية آراء اعمق وادق من الكفاية لانها تمثل آراء المحققين بعد الآخوند الذين تقدموا بالعلم خطوات عظيمة كالنائيني والاصفهاني والعراقي.

وبسبب عدم التدرج العلمي فان كثيراً من المطالب يصطدم بها الطالب لاول مرة حين مرورها عليه في البحث الخارج الذي يمثل ارقى ما وصل اليه التفكير ولم يكن قد اخذ ولو فكرة بسيطة عنها.

ه-- دخول مطالب علمية زائدة على اصل العلم وكان الداعي لها بعض مراحل الترف الفكري واظهار المقدرة الشخصية في اتجاه معين ثم اصبحت من مسائل ذلك العلم وعلى كل اللاحقين عرضها ومناقشتها وتوسيعها مما يزيد المشكلة كدخول بحوث فلسفية وكلامية كثيرة في علم الاصول(1) والمفروض مناقشتها في كتب مستقلة واستثمار نتائجها في هذا العلم أو غيره كما هو شأن العلاقة بين العلوم حيث لا يناقش في علم تفاصيل علم آخر وانما يستفاد من نتائجه كمبادئ تصورية أو تصديقية في العلم الآخر كما توصلنا بالرياضيات إلى نتائج فقهية واصولية مهمة لكن لا حاجة إلى اقحام التفاصيل الرياضية في هذين العلمين بل يبقى لكل علم مجاله الخاص به.

ص: 13


1- كمناقشة مبحث (الامر بين الامرين) مدة اشهر في علم الاصول وهو مبحث كلامي صرف.

وتعالج هذه المشاكل بتاليف مناهج دراسية تحت اشراف اساتذة اكفاء لهم خبرة وممارسة في التدريس وقدرة على مراعاة التسلسل الفكري للطالب ويكون كل منهج على ثلاث مراحل وبثلاثة مستويات: ابتدائي ومتوسط وعالي، ويراعى فيه اسلوب صياغة معاصرة وحذف للبحوث الزائدة ورفده باساسيات المطالب العالية وتكون معلوماتها مترتبة ترتيباً فنياً، ويمكن ان تكون الحلقات الثلاث (دروس في علم الاصول) نموذجاً لهذه التجربة يحذو حذوها الفضلاء والاساتذة في بقية العلوم خصوصاً الفقه والفلسفة والعقائد والنحو.

و- إهمال دروس اساسية في تكوين شخصية العالم الديني العلمية والاجتماعية كالتاريخ والتفسير والسيرة والعقائد والرجال والفلسفة وعلوم القرآن والحديث ولا أظن ان احداً يناقش في اهمية هذه العلوم فالعقيدة الراسخة هي راس مال المسلم واساس حياته وما عُبد الله بشيء كالمعرفة به واول الدين معرفته وهي أصول الدين والفقه الذي ندرسه فرعه وقد عاش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة ثلاث عشرة سنة كان جل همه ارساء العقائد الحقة بالله وانبيائه ورسله واليوم الآخر ولم تتكثف التشريعات إلا في المدينة بعد الفراغ من تكوين المسلم العقائدي الراسخ فجاء التطبيق والامتثال بيسر وسهولة وما احوجنا اليوم إلى ترميم هذا البناء وتشييد ما تداعى منه ورد الشبهات الموجهة الينا من كل جهة.

واما التاريخ فله الاثر البالغ في تعزيز الايمان بكثير من العقائد المرتبطة بتلك الاحداث المهمة في صدر الاسلام وما بعده كما ان الالمام بالتاريخ يعطينا المواعظ والعبر ويؤمننا من المزالق التي يسقط بها غيرنا وتقدم لنا الدروس النافعة والسير الخالدة للتأسي بها ولا حاجة أزيد من هذا لبيان اهمية الدروس الاخرى ومدخليتها في تكميل الشخصية العلمية للطالب الحوزوي. فينبغي اعادتها بالصيغ المناسبة وبحسب المراحل الدراسية وتوجد كتب تصلح كمناهج دراسية حديثة وقد اطلعتُ على جهود مشكورة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية الشريفة في قم المقدسة في هذا المجال.

الجانب الاخلاقي

ثانياً: الجانب الاخلاقي: وهو جانب مهم أوْلته الشريعة كل اهتمام، بل جاء في الحديث (إنما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) وقد سمي العمل على تطهير النفس من ادرانها وتهذيبها وتحليتها بالفضائل ب-(الجهاد الاكبر) في النصوص الشريفة، وهو واجب عيني ان كان طلب العلوم الاخرى بما -فيها الفقه- كفائياً، وكان السلف يقرن العلم بالعمل تبعاً للحديث الشريف (العلم مقرون إلى العمل فمن علم عمل ومن عمل علم والعلم يهتف بالعمل فإن اجابه وإلاّ ارتحل عنه)(1) وفي حديث آخر (العلماء رجلان: رجل عالم أخذ بعلمه فهو ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فهو هالك وإن اشد اهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقبل منه فاطاع الله فادخله الله الجنة وادخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الامل، اما اتباع الهوى فيصد عن الحق وطول الامل ينسي الآخرة). والعلم لا يساوى شيئاً بلا عمل وتطبيق بل يكون وبالاً على صاحبه وحجة عليه وحجاباً على قلبه، وما هذه المفاسد التي تحصل كالخلاف والبغضاء وتبادل الاتهامات والتمزق إلا نتيجة النفس الامارة بالسوء وعدم الامساك بقيادها، والا لو كان الجميع مخلصين لله سبحانه وهدفهم واحد هو رضا الله سبحانه. لتآخوا ولتحابوا ولشكر بعضهم بعضاً على معاونته إياه في هذا الطريق. اترى لو ان جميع انبياء الله سبحانه -وهم مئة واربعة وعشرون الفاً- جمعوا في مكان واحد وزمان واحد ماذا ستكون العلاقة بينهم ؟ هل الشجار والخلاف ؟ طبعاً لا لانهم مخلصون ومتآخون فيه فما اختلافنا اذن الا من اجل دنيا

ص: 14


1- اصول الكافي : كتاب فضل العلم، باب استعمال العلم، حديث2.

زائلة أو عناوين زائفة كحب الجاه أو حفنة من الاموال تذهب لذتها وتبقى تبعتها، وقد يتدخل الشيطان بمكره فيوهم كل طرف انه على الحق ويصور له من واهمته مبررات مشروعة يقنع بها نفسه ويسير وراءها ولا يزداد عن الحق إلا بعداً. ولو انصف الناس من نفسه ونظر بعينين مفتوحتين لا بعين واحدة هي عين اهوائه لرأى الحق واضحاً.

وتجد اهم شرط بيّنه المعصومون في العالم الواجب اتباعه انه المطيع لامر مولاه وصائن لنفسه عن الهوى، والا كيف يهدي غيره ويصلح غيره وهو بعد لم يحققهما في نفسه (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(1).

وينبغي الالتفات إلى ان الشخص كلما تعاظمت مسؤليته وجب ان تكون درجة تكامله بمقدارها وامامة الامة مرتبة سامية تفوق النبوة حسب ما يستفاد من الآية الشريفة (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)(2)

ففي الحديث ان الله تعالى اتخذ ابراهيم عبداً ثم نبياً ثم رسولاً ثم ابتلاهُ بعدة ابتلاءات فاتمهن وحينئذ قال له اني جاعلك للناس إماماً. والعلماء هم أئمة بالحمل الشايع أي انهم متصدون لمسؤلية الإمام. وفي الحديث عن الصادق (عليه السلام) عن ابيه (عليه السلام) قال: إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاثة خصال: ورع يحجزه عن المحارم وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من وُلِّي حتى يكون له كالوالد الرحيم)(3).

وعلم الاخلاق كغيره من العلوم -ان لم يكن اولى- باحتياجه إلى المعلم العارف بامراض النفس ومسالك انحرافها وعلاج كل منها ويعرف العلامات والاختبارات لتشخيص الداء فيصف الدواء لكل أحد بما يناسبه من غير افراط ولا تفريط. وكان العلماء السابقون لا يستنكفون من الحضور في دروس الاخلاقيين الناجحين رغم سمو مرتبتهم العلمية فقد كان للشيخ الانصاري العظيم مرب خاصٍ وكان المجتهدون يحضرون دروس الشيخ جعفر الشوشتري والشيخ حسين قلي الهمداني (قدس الله اسرارهم جميعاً) للوعظ والارشاد واحياء القلوب وتهذيب النفوس وتكميلها. وكانوا يراقبون انفسهم ولا يسيرون وراء شهواتهم ومطامعهم ، وسير العلماء طافحة بالشواهد على ذلك فالشيخ الانصاري رغم وصية استاذه صاحب الجواهر بالرجوع إليه الا انه رفض قائلاً انه كان معي ايام التلمذة من هو اعلم مني وهو سعيد العلماء فراسله وطلب منه التصدي للمرجعية لكن الاخير اخبره ان ذلك كان ايام الدراسة اما بعد انفصاله عن النجف وبقاء الشيخ فيها فان التفوق العلمي اصبح للشيخ وعندئذ قبل الانصاري العظيم المرجعية بعد ان لاذ بضريح امير المؤمنين (عليه السلام) متوسلاً إلى الله ان يسدده ويؤيده ويعصمه(4).

وكان المرحوم الشيخ زين العابدين المازندراني يقترض ليساعد الناس وعندما دنت منه الوفاة كان جلُّ همه انه كيف سيجيب اذا ساله الامام صاحب العصر (عليه السلام) انك لماذا لم تستخدم الجاه الذي اعطيناك اياه لتقترض وتقضي المزيد من حوائج الناس(5).

اما زهدهم وتقواهم وورعهم وتواضعهم وصفاء نفوسهم وطيبة قلوبهم ونقاء سريرتهم وحبهم للناس وقوة ايمانهم وشدتهم في امر الله سبحانه وشجاعتهم في تطبيق احكام الله سبحانه وعدم سكوتهم عن الباطل فالروايات والقصص المحكية عنها تملأ مجلدات كثيرة(6)،

وقبل هذا كله سيرة اهل البيت (عليهم السلام) الذين هم سادة السادة وقادة القادة.

ص: 15


1- يونس : 35.
2- البقرة : 124.
3- الخصال : للصدوق/ ابواب الثلاثة/حديث 97.
4- راجع ترجمة حياة الشيخ في مقدمة كتاب المكاسب بتحقيق السيد محمد كلانتر.
5- آراء في المرجعية الشيعية/422.
6- راجع كتاب (قصص وخواطر) وكتاب (سيماء الصالحين).

الوعي الاجتماعي

ثالثاً: في الوعي الاجتماعي: ومن الواضح ضعف الوعي الاجتماعي والحركي لدى الخط المشهور من العلماء، ومن يسير فيه فانه تكال له التهم رغم اليقين بان الاسلام ليس مقتصراً على العبادات الفردية وتنظيم علاقة الفرد بخالقه بل هو نظام اجتماعي متكامل لا يبلغ منتهى غايته إلا بتطبيقه في جميع شؤون الحياة والعلماء هم القيمون على الشريعة الحاملون لرسالتها الساعون لتطبيقها بشكل كامل فانها كلٌ متكامل لا تتحقق اغراضه كامله الا بالتطبيق الشامل خصوصاً وان الاحكام الاجتماعية (أو ما تسمى بالمعاملات) اضعاف احكام العبادات ومراجعة بسيطة لكتاب فقهي كشرح اللمعة تجد ان جزئين منه في العبادات وثمانية في المعاملات.

فلا ينبغي للفقيه ان يفهم دوره كمفتي ينتظر من يسأله عن مشكلة ما فيعطيه حلها أو يكتب رسالة عملية قلَّ من يفهمها بل يجب عليه ان يعرف انه قائد تنتظر منه الأمة الكثير وهي تلتف حوله وتتفانى في حبه بمقدار ما يؤدي من هذا الدور لا من الدور الأول مهما كان ثقله وعليه ان يتحرك نحو المجتمع ولا ينتظر ان يتحرك المجتمع اليه ويقصده وربما استدل لذلك بقوله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) فهم الذين يبدأون قومهم بالانذار وتبليغ الرسالة ويصف امير المؤمنين (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بانه (طبيب دوار بطبه) وليس يجلس في بيته ينتظر مجيء المرضى المصابين بالرذائل الخلقية والمعاصي والبعد عن الله تبارك وتعالى وشريعته المباركة.

ان المجتمع قد اعطانا كل ما عنده من الجاه والمال والتقديس والتفاني في الخدمة فيجب ان نعطيه كل ما عندنا وان كنا نأخذ أكثر من حقِّنا ونعطي الآخرين أقل من حقّهم فنحن مصداق واضح للمطففين وجزاءنا (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) وفي الرواية ان الامام الحسين (عليه السلام) كان يحج إلى بيت الله الحرام بعيداً عن الطريق العام الذي يسلكه الناس فقيل له في ذلك قال (عليه السلام): اخشى ان أأخذ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اكثر مما اعطيه، باعتبار ان سلوكه الطريق العام سيؤدي إلى التفاف الناس حوله فهذا يقبل يديه وذاك يمسح بثيابه وآخر يأخذ ماء وضوئه لانه ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخشى الامام (عليه السلام) ان يكون عطاؤه للامة اقل من هذا التكريم الذي يحظى به منها.

ان العلماء هم حراس الأمة وبتعبير الحديث (امناء الرسل وحفاظ الشريعة) فبقدر ما يكونوا يقظين تكون الامة في امان واذا ناموا احتوشتها اللصوص وعاثوا فيها فساداً وسرقوا منها الاهم من المال وهو دينها وعقيدتها وشرفها وعزتها وجعلوا اعزة اهلها اذلة.

ويمكن ان يستفاد من عدة كتب في هذا المجال لعدد كبير من المفكرين الاسلاميين كالشهداء السيد محمد باقر الصدر والشيخ مرتضى المطهري وسيد قطب والشيخ عبد الاعلى المودودي وتلخيص افكارها في مناهج مختصرة، كما يمكن ان يستفاد من درس التاريخ حيث تعرض المواقف والعبر والدروس المستفادة من سير المعصومين (عليهم السلام) في تربيتهم للأمة وتنظيم شؤونها وعلاقتهم مع الحكام والاساليب المختلفة التي سلكوها في هذه المجالات ومن مصادر ذلك (تاريخ الغيبة الصغرى والكبرى وسيرة الأئمة الاثني عشر) ومن المناسب جعل كتابنا (دور الأئمة في الحياة الاسلامية) منهجاً مقرراً مع مراعاة بعض المصادر الأخرى مما ذكرنا وغيرها.

كما ان من الضروري اضافة درس بعنوان (شبهات وردود) يتكفل بالدفاع عن الاسلام والمذهب ضد ما يوجه اليه من اتهامات وشبهات واباطيل وتحصين الامة ضدها وتمكينها من

ص: 16

الادوات التي تدافع بها عن عقيدتها فان الدعوات الضالة لا تنتشر الا في مواطن الجهل وحملات التشكيك لا تجد لها مكاناً الا في العقول الفارغة.

الاهتمام بالقرآن الكريم

رابعاً: ومن المؤسف حقاً غياب القرآن الكريم عن الدروس الحوزوية فقد نُظمت تلك الدروس بشكل لا يحتاج فيه الطالب إلى القرآن الكريم من أول تحصيله إلى نهايته ولا يمر به ولا سيما في الفقه والأصول وربما يبلغ مرتبة عالية في العلم وهو لا يحفظ مقداراً معتداً به من القرآن الكريم بشكل مضبوط مما ادى إلى اهماله وقلة الاهتمام به وقد تمر الايام والاسابيع ولا تجد طالب العلم يمسك المصحف الشريف ليتلو آياته ويتدبر فيها وهذه مصيبة عظيمة للحوزة والمجتمع فان الأمة لا تكون بخير الا اذا تمسكت بقرآنها واهتدت بهديه واستضاءت بنوره(1) وهو حبل الله الممدود إلى عباده لكنه عاد غريباً في المجتمع لا يُتلى الا في مجالس التعزية وعلى القبور من غير ان يُنصِت اليه أحد.

فتقع المسؤولية على الحوزة أولاً لاخراج القرآن من عزلته واعادته إلى الحياة إماماً وهادياً ورائداً للتغيير في النفس والمجتمع، وتجد تفاصيل ذلك في محاضرات كتبناها لهذا الغرض والقيت وطبعت بعنوان (شكوى القرآن).

العلوم العصرية

خامساً: الاستفادة من العلوم العصرية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والطب في الاستنباط الفقهي، فان العلوم ترتبط ببعضها ارتباطاً وثيقاً بحيث يتطلب التخصص في علمٍ ما الاحاطة -بما يناسب- بمجموعة من العلوم الأخرى تؤخذ فيه على نحو المبادئ التصورية أو التصديقية.

وعلم الفقه احد صغريات هذه القاعدة فلا بد ان يحتاج الفقيه لكي يبدع في اختصاصه إلى الالمام بعلوم عديدة.

ولم تكن هذه الفكرة غائبة عن اذهان الاجيال المتقدمة من فقهائنا حيث كان أحدهم يأخذ قسطاً وافراً من تلك العلوم وقد يكون بارعاً فيها كالشيخ البهائي والخواجة نصير الدين الطوسي والشهيد الثاني الذي اودع كتابه (شرح اللمعة الدمشقية) افكاراً ونظريات في مختلف العلوم تجدها مبثوثة فيه طي المسائل الفقهية، وينقل عن المجدد الشيرازي انه أنشئت برعايته في سامراء مدارس تُدرَّس فيها علوم الرياضيات والاجتماع والطب واللغات الحية واستعين في تدريسها بخريجي جامعات معروفة في العالم(2).

لكن العجب لا ينقضي من عزوف الاجيال الحاضرة عن ذلك برغم ازدياد الحاجة اليها، فكيف يتسنى للفقيه ان يستنبط الحكم في أي مسألة وهو لا يحيط علماً بموضوعها وقد قالوا (ان فهم السؤال نصف الجواب) فلا غرو ان تجدهم برغم العمق والتدقيق والابداع الذي وصلوا اليه واوصلوا به علمي الفقه والأصول إلى القمة السامقة، الا انهم لم يكونوا بالمستوى المطلوب في تلك الجوانب العلمية المكتنفة للمسألة، ولعل عذرهم واحد أو أكثر من الأمور التالية وكلها قابلة للمناقشة:

ص: 17


1- راجع كتاب (شكوى القرآن).
2- آراء في المرجعية الشيعية : 296.

1- قصور الانسان عن استيعاب كل ذلك خصوصاً بعد ان تعقدت العلوم وتوسعت وتفرعت، وجوابه أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، ونحن لا نريد الا معرفة مواضع الحاجة وما هو دخيل في الاستنباط.

2- الاكتفاء بالتحصيل الاكاديمي للطالب -واغلب الطلبة اليوم هم من خريجي الجامعات والمعاهد الفنية- وجوابه أنَّ هذا وان كان صحيحاً في الجملة الا انه ليس متوفراً دائماً وما توفر منه أي ما تلقاه الطالب في دراسته الجامعية لم يعرض بلحاظ العلاقة مع علم الفقه وانما بشكل عام وصرف فلا يستفيد منه الطالب الحوزوي بشكل واضح الا ان توضع له مناهج تبين له نقاط الارتباط بين الفقه وتلك العلوم كما فعلناه في كتاب (الرياضيات للفقيه) وكتاب (القول الفصل) الذي وظف الكيمياء لخدمة الاستنباط الفقهي.

3- امكان تحويل ذلك إلى لجان علمية متخصصة وجوابه أن هذا مما لا غنى عنه لكن تلك اللجان التي يفترض انها اكاديمية ليس لها نصيب وافر من التحصيل الحوزوي فهي لا تعرف ما هو دخيل في ملاك الحكم الشرعي وانما تبقى الكلمة الأخيرة والقول الفصل بيد الفقيه نفسه فلا بد من توفر الحد الادنى من تلك العلوم لديه.

وليست فائدة التزاوج بين الفقه والعلوم الأخرى منحصرة بفهم موضوع المسألة من كل جوانبه بل له ثمرة أخرى وهو ما يسمونه بتأسيس الأصل في المسألة حيث يصار اليه في غياب الدليل التعبدي الشرعي لان هذه النتائج العلمية -اذا حصل الاطمئنان بها- يمكن ان تكون دليلاً امارياً مقدماً على الأصول العملية عند الشك في الحكم بسبب غياب الدليل أو تعارضه أو إجماله وكم من مسألة حسم النزاع فيها بفضل النتائج العلمية الدقيقة كمسألة ان شهر رمضان كامل لا ينقص ابداً(1).

وتبقى هناك فوائد أخرى:

أ- انه يمكن بواسطة العلوم الحديثة اكتشاف الكثير من اسرار التشريع وحكمه ومصالحه مما يساعد على تثبيت الايمان في نفوس شريحة معتدٍ بها في المجتمع وهي تلك التي تؤمن بالنتائج العلمية، وقد كتب مجموعة من الكتاب والمفكرين في (الاسلام والطب الحديث) أو (التكامل في الاسلام) أو (الهيئة والاسلام) وغيرها.

ب- امكان تحصيل نتائج ومعلومات فقهية لا يستطيع الفقيه المجرد من هذه العلوم تحصيلها والتوصل اليها ويمكن الاطلاع على عدد منها توصلنا اليها بالعمليات الرياضية في كتاب (الرياضيات للفقيه) الذي فتحنا به باب هذه النهضة العلمية المباركة ونأمل ان يأتي اليوم الذي نرى فيه كتاباً ناضجاً بعنوان (الفيزياء للفقيه)، (الطب للفقيه)، الفلك للفقيه)، (الكيمياء للفقيه) ونحوها.

ج-- ان العالم الديني الذي يملك هذه الادوات المتعددة من العلوم يكون تأثيره في المجتمع أكبر وفهمه للواقع المعاش أوسع ورؤيته انضج كما ان تلقي الناس منه واقبالهم عليه يكون أفضل حينما يعلمون شهادته العلمية أو يرون من تطعيم احاديثه الدينية بافكار ونظريات علمية وهو سر نجاح عدد من الخطباء المرموقين.

د- انه وان كان من الصحيح في الجملة ان الفقيه غير مسؤول عن تشخيص الموضوعات وتطبيق الاحكام على صغرياتها الا انه قد يكون من الضروري تدخله في ذلك من جهة اهمية المسألة وضرورة وحدة القرار فيها وهذا يحتاج إلى المام واسع بالعلوم التي تشخص الموضوعات وبالاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية للمجتمع ففي مسألة الدخان التي حكم بها المجدد الشيرازي (قدس سره) وقطع يد الانكليز من التصرف في شؤون ايران كان يمكنه ان يذكر الفتوى بشكل عام كما هو شأن المسائل الفقهية بأن يقول: اذا كان كذا فالحكم كذا والا فلا، ويترك امر التطبيق على الصغريات بيد المكلفين حسب فهمهم

ص: 18


1- راجع مقدمة كتاب (الرياضيات للفقيه).

واهوائهم فتحصل فوضى وتشتت ويذوب الغرض المهم لذا تدخل بنفسه لتحديد الصغرى وجزم بحرمة الدخان.

ويلاحظ هنا ان المناهج المقررة لهذه الدروس يتوخى فيها أمران:

1- الاطلاع على اساسيات العلم ومعلوماته العامة التي تشكل ثقافة علمية.

2- استقصاء المسائل الفقهية المرتبطة بذلك العلم وبيان الحيثيات العلمية لتلك المسألة.

ويمكن ان تبدأ على شكل محاضرات تنضج باستمرار حتى تصبح كتاباً منهجياً.

وتصنف الدروس العلمية على مستويين:

الأول: ما يعطى بشكل متكامل نسبياً كالرياضيات واللغات الاجنبية حيث تستمر سنتين أو أكثر.

الثاني: ما يعطى على نحو الثقافة العامة مع تطبيقات فقهية لذلك العلم كالفلك والجغرافية والطب والفيزياء وغيرها مما هو مثبت في المنهج الدراسي.

وبعض هذه الدروس يستحق ان يكون سنوياً وبعضها نصف السنوي تبعاً لقوة وشيجته بالفقه وكثرة تطبيقاته، ويقوم بتدريس هذه العلوم اساتذة متخصصون من داخل الحوزة العلمية ومن خارجها وان كان الأول أولى لانه أعلم بمواضع الحاجة و(أهل الدار ادرى بالذي فيه).

ويمكن للدروس نصف السنوية ان تعطى باحدى صيغتين اما بعدد قليل من المحاضرات في الاسبوع كواحدة أو اثنتين ويستمر سنة كاملة أو بعدد أكبر كثلاثة أو اربعة اسبوعياً ويستمر نصف سنة والصيغة الثانية أولى لتقليل عدد المواد الدراسية على الطالب ولانه المناسب مع وضع المدرسين الحوزويين.

الأدب العربي

سادساً: الاهتمام بالادب العربي وعقد الندوات والمباريات الادبية وتكريم الادباء الواعين المتميزين والاعتناء بهم وصقل المواهب الأدبية، فان القرآن نزل بلسان عربي مبين، والسنة الشريفة القيت كذلك فلا يتوصل إلى فهمهما واستيعاب ما فيهما من اسرار ونكات الا من كان له ذوق ادبي رفيع وسليقة مستقيمة وقد جاء في الحديث (لا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا)(1)، وقد كان كثير من علمائنا على مستوى رفيع في نظم الشعر وتذوقه ولهم اساليب بلاغية راقية ولكن مما يؤسف له كساد سوق الادب في مجتمع اليوم بمن فيهم الحوزة الشريفة فلا تجد متذوقاً له ومهتماً به وقلة من يتعاطونه نظماً.

ويجب ان يكون الشعر هادفاً وخادماً للاغراض الحقيقية ويتحقق ذلك بتحديد محاور النظم للشعراء بحيث لا يتجاوزونها ويعقد لهم منبر اسبوعي يعرضون فيه نتاجاتهم أو تخصص الجلسة لواحد من الشعراء الكبار ليقدم نماذج من شعره وبين هذا وهذا يقوم الحضور أو لجنة مختصة بتوجيه النقد البناء لكي تتضح القابلية وتتكامل.

الفقه المتخصص

سابعاً: إنشاء الفقه المتخصص:

لم يعد التخصص في مجموع العلم كافياً للابداع فيه بكل فروعه لتشعب هذه الفروع واتساعها عرضاً وعمقاً لذلك نشأت التخصصات المتعددة في العلم الواحد فلا يكفي الطبيب ان يتخرج في كلية الطب وانما عليه ان يختص باحد فروعه ويتعمق فيه وقد يتطلب الأمر التخصص بشعبة من شعب هذا الفرع ففي كلية الهندسة -مثلاً- اقسام هي المدنية والمعمارية

ص: 19


1- معاني الأخبار : 2.

والكهربائية والميكانيكية وهكذا، وفي المدنية نفسها فروع: هندسة الطرق والجسور وهندسة المطارات وهندسة السدود وهندسة المنشآت الخرسانية والحديدية وهكذا. وفي الطب يُنقل ان احداً سأل طبيباً عن اختصاصه فقال في الانف، فسأله في أي المنخرين.

والفقه كبقية العلوم لا بد من التخصص في احد فروعه والتركيز عليه ليحصل الابداع والتطور والا فانه سيبقى على ما هو عليه لذلك ترانا نجتر مسائل مضى عليها قرون ولم نستطع اغناء الفقه بمسائل مبتكرة الا في حدود ضيقة فمن الضروري ان نعمل لاجل اليوم الذي نجد فيه مجتهدينا يبدعون ويتخصصون في (الفقه السياسي) و(الفقه الاقتصادي) و(الفقه الجنائي) و(الفقه الاجتماعي) إلى جنب (الفقه العبادي) ويندرج ضمن هذا المجال ما انجزه سيدنا الاستاذ (قدس سره) من (فقه العشائر) و(فقه الفضاء)، وستعتمد المرجعية عندئذ على مجموعة من العلماء المجتهدين المتخصصين وللمزيد راجع بحثنا (الاجتهاد بين التجزي والاختصاص).

فان قلت: يلزم على هذا التزام المجتهد بما لا يقتنع به لو افاده المختص وهو لا يرى صحة دليله.

قلنا: إن هذا ناشئ من عدم وضوح المساحة التي يتحرك فيها المجتهد أي اختصاصه وجوابه باختصار ان الاحكام على نوعين: عامة وفردية:

والأولى: هي مورد اعمال الولاية واصدار القرار العام ودليلها وهو حفظ النظام حاكم على كل الادلة الأخرى فيجب على المجتهد الالتزام به ولو خالف فتواه لحكومة ذلك الدليل على دليله المستند إلى القواعد الاصولية المتعارفة(1).

اما الثانية: فلكل الالتزام به بحسب ما يتوصل اليه اجتهاده.

اللغات الحية

ثامناً: تعليم مبادئ اللغات الحية كالفارسية والانكليزية فانها ضرورية لكي يقوم العالم الديني بوظيفته التبليغية أحسن قيام وينقل عن المرحوم البلاغي صاحب تفسير (آلاء الرحمن) انه كان يجيد الفارسية والانكليزية والعبرية حيث تعلم الاخيرة من يهود سامراء حيث هاجر اليها مع استاذه الشيخ محمد تقي الشيرازي، لكي يطلع على ثقافتهم ويرد عليها ويدافع عن الاسلام.

ومن المؤسف ان يحرم الانسان من تراث امة وتبقى امامه كتاباً مغلقاً لا لشيء الا لانه لا يعرف مفتاح كنوزها وهي اللغة.

وقد علمت ان هذه الفكرة ليست جديدة فقد اسس المجدد الشيرازي في سامراء مدارس لتعليم اللغات الحية باشراف اساتذة جامعيين.

الجهة الثانية : النظام الاداري

تفتقر الحوزة إلى هيئة تشرف على ادارة شؤونها المختلفة وتتمثل بعدة اتجاهات:

الاتجاه الأول: مواعيد الدراسة والعطل:

فلا توجد في الحوزة مواعيد محددة لبدء الدراسة وانتهائها ولا لالتحاق الطلبة بدروسهم بل المسألة مفتوحة على مدار السنة فيلتحق الطالب متى شاء بالدرس سواء كان الاستاذ في أول الكتاب أو آخره وقد ينتظر مدة طويلة بلا درس حتى يتسنى له الحصول على الدرس المناسب، فلا بد من تحديد مواعيد الدراسة والعطل على طول العام وموعد افتتاح العام الدراسي

ص: 20


1- راجع بحث (الفقه الاجتماعي ضرورة حضارية) وقد نشر في كتاب (نحن والغرب).

ويكون قبول الطلبة بفترة مناسبة قبل افتتاح العام الدراسي لتنظيم دروسهم، هذا بالنسبة للمرحلة الأولى، ويستمر النظام لبقية المراحل التي تتوزع على عدد من السنين بحسب المناهج المقررة وتحدد مرحلة الطالب باشراف لجنة معينة وتُقِّيم مستواه.

الاتجاه الثاني: الامتحانات وتقييم الطلبة:

لا تطبق الحوزة نظاماً لمعرفة مستويات الطلبة ودرجة استيعابهم للدروس وقابلياتهم على التدريس بحيث (تصدى الى التدريس كل مهوِّسِ) كما يقول الشاعر وكان الطالب ووقته الثمين هو الضحية.

والاعتبارات المتبعة كلها مغلوطة أو ناقصة، فالمفروض وجود لجنة لتقييم الطلبة باجراء المقابلات الشخصية معهم والامتحانات الموزعة على طول العام الدراسي ولا أقل امتحانين في نصف السنة ونهايتها حيث تظهر لها عدة منافع:

1- تقييم الطلبة ومعرفة مستوياتهم واكتشاف قابلياتهم.

2- تقييم الاساتذة لمنهجهم ومدى انتفاع الطلبة به.

3- انها فرصة للمراجعة فان التحدي يخلق فرصة لزيادة الهمة واستفراغ الوسع والامتحان يمثل تحدياً واضحاً.

4- تكريم المتفوقين وتشجيعهم وحث غيرهم على بذل المزيد من الجهد كما ورد في الحديث (عاقب المسيء بمكافأة المحسن).

ولا بد ان تكون أسئلة الامتحانات بشكل ينمي روح الفهم والتدقيق لدى الطالب وليس لاستكشاف قدرة حافظته على (الدرخ).

ويلاحظ في التقييم النهائي للطالب عدة عوامل: درجاته في الامتحانات، مشاركته في الدرس، التزامه بالحضور، نشاطه وتحضيره اليومي.

وتستحدث مراتب وشهادات علمية لتحديد مستويات الطلبة ومؤهلاتهم راجع كتاب (جامعة الصدر الدينية : الهوية والانجازات).

الاتجاه الثالث: مدراء المدارس أو ما يسمون بالمتولين:

هو منصب مهم لانهم الطريق والمفتاح لاصلاح وتطوير الحوزة الشريفة وأول خطوة في هذا المجال: هي تغيير الاسم من المتداول الآن وهو عنوان (متولي) إلى مدير مدرسة ليشعره هذا الاسم بكل ما يتضمنه من مسؤوليات، اما عنوان متولي فيلحقه بمتولي المساجد والاوقاف العامة التي لا تزيد مسؤوليته عن رعاية نفس الوقف والحفاظ عليه ولا شك في ان تغيير العنوان ليس مجرد تغيير لفظي وانما يحمل في طياته هذه المعاني ومن المؤسف حقاً ان يكون للمدرسة الابتدائية مدير ومعاونون وادارة ولا يكون لمدارس الحوزة مثل ذلك وهي اخطر واهم مؤسسة في المجتمع لانها المسؤولة عن تخريج القادة له والمسؤولين الحقيقيين فيه.

فالمتولي أو مدير المدرسة هو الشخص الذي يستطيع تطبيق كل أو بعض هذه الافكار في مدرسته وهو الذي يتولى الاشراف على شؤون الطلبة ورعايتهم وتوجيههم علمياً ودينياً واجتماعياً ويقوم بتوفير الاجواء اللازمة للنشاط العلمي، ولا تقتصر مهمته -كما هو الموجود الآن- على تصليح جهاز عاطل أو ترميم خراب، فينبغي ان يكون متولي المدرسة فاضلاً ورعاً واعياً مخلصاً لله سبحانه واسع الصدر بسعة مسؤولياته فإن (آلة الرئاسة الصدر) ليقوم بهذه المهمة خير قيام واذا استطعنا توفير مدراء للمدارس بهذا الشكل صلح حال المدارس وصلح حال الحوزة تبعاً لها ويُعيَّن لكل متولي شخص يساعده في القيام بامور البناية وخدماتها اذ لا ننتظر من المتولي -وهو بهذه الفضيلة- ان يشغل نفسه بهذه الأمور.

ويكون على مدير المدرسة القيام بالمهمات الآتية:

1- توفير الخدمات واسباب الراحة والتفرغ لطلب العلم.

2- رعاية بناية المدرسة وصيانتها، واذا بدأ التفكير بانشاء مدرسة جديدة فلا بد ان يراعي في تصميم البناية الظروف الصحية والنفسية والاجتماعية والبيئية للطلبة.

ص: 21

3- تهيئة الكتب والمصادر النافعة للطلبة بجميع المستويات.

4- توفير وسائل الايضاح والاجهزة التي تعين الطلبة على البحث والدراسة، ولعل أهمهما اليوم جهاز الكومبيوتر بما يسهل ويختصر من الجهود في البحث إلى حد بعيد ويغني عن مكتبة كاملة وكذا اشرطة التسجيل لدروس بعض الاساتذة الاكفاء.

5- الاشراف على الطلبة علمياً وتوجيههم وتحديد ما يحتاجونه من الدروس لكل بحسب ما يناسبه وتنبيههم إلى المدرسين النافعين في مختلف الدروس ومتابعة التزامهم بالدوام.

6- تقييم الطلبة ومعرفة وزن كل منهم لما يترتب عليه من آثار مالية وغيرها مما سيأتي.

7- احتضان الطلبة وشمولهم بالرعاية الأبوية ف-(كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) وطلبة المدرسة رعية مديرها.

8- تنفيذ وقفية المدرسة إن كان لها وقفية خاصة.

9- إقامة صلاة الجماعة واحياء المناسبات والشعائر الدينية.

10- انشاء مطعم يهيء وجبات الطعام الرئيسية للطلبة مجاناً أو باسعار رمزية ليوفر على الطلبة الوقت الذي يمضونه في إعداد الطعام.

11- العمل على نشر الحب والاخاء بين الطلبة والاتحاد بينهم ونبذ الفرقة وعدم السماح لاهل المطامع وملحقي الفتن بالتفريق بينهم.

الاتجاه الرابع: النظام المالي:

تشكو الحوزة من سوء توزيع الأموال وعدم مراعاة الاستحقاق فكم من طالبٍ مجدٍّ متفرغ للتحصيل ونافع للحوزة لا ينال حتى ما يسدُّ رمقه لانه لا يتملّق ولا ينافق وآخر تارك للدرس لكنه يعرف كيف يستدر الأموال فيعيش في رفاهية ودعة.

فيمكن علاج ذلك بإيكال امر توزيع الرواتب والمساعدات والمنح إلى مدراء المدارس ويفترض انهم من الفضلاء الواعين ويعطون كل ذي حقٍ حقه ويقوم مدير كل مدرسة بتوزيع الأموال وباشرافه يمنح المساعادات.

هذا بالنسبة لمصاريف الحوزة العلمية اما المصاريف الأخرى فتوكل إلى لجنة من الثقات الورعين الفضلاء ذوي البصائر في مصالح المجتمع، ويمكن التفكير بمشاريع اقتصادية لاستثمار الأموال وتوفير فرص العمل لابناء المجتمع وبدلاً من ان يكون الفقراء مستهلكين يكونون مستثمرين ومنتجين والتفكير في مشاريع خدمية وإسكانية متنوعة.

الاتجاه الخامس: انتقاء الطلبة:

إن الطلبة المراد قبولهم في الحوزة يجب اختبارهم وعدم الموافقة الا على من كانت له حصيلة ثقافية ودينية وعلمية وافية وشخصية مؤثرة وينبغي ان يكون من حملة الشهادات الاكاديمية خصوصاً العلمية لأمور:

1- ان حامل الشهادة خصوصاً الراقية كالهندسة والطب والصيدلة والعلوم والقانون وإدارة الاعمال يكون تأثيره في المجتمع أكبر لما يكنُّ له الناس من تقدير واكبار واحترام، وهذا مجرب فان الكلمة التي تصدر من عالم أو خطيب يحمل شهادة اكاديمية تكون لها قيمة وفاعلية اكبر عند الناس.

2- يكون متفهماً للواقع المعاش وظروف المجتمع وما يجري فيه بحكم اختلاطه بالمجتمع واندماجه بشرائح متعددة منه واطلاعه الواسع على تفاصيله.

3- انه يمتلك ذهنية معمقة صقلتها العلوم المختلفة التي درسها.

4- يكون مطلعاً على عدد كبير من العلوم العصرية وبمستويات معتدٍ بها وقد تقدمت أهمية العلوم العصرية ومدخليتها في الاستنباط الفقهي.

5- انه يكون منهجياً منظماً وذا نضج وخبرة.

ص: 22

وكما يتم انتقاء الطلبة ابتداءً فكذلك يجب احاطة الطلبة المتفوقين والكفاءات العلمية من طلبة الحوزة برعاية خاصة وتوفير كل ما يسهل لهم التفرغ للبحث والتحصيل فانهم خلاصة الحوزة ومعقد آمالها وهم الهدف من كل هذه الجهود والأموال المصروفة على الحوزة.

الاتجاه السادس: الهيئات التدريسية:

لا توجد في الحوزة ضوابط لتعيين المدرسين وانما تخضع المسألة لامور وعناوين اثباتية ظاهرية قد لا تكون مطابقة للواقع والثبوت، ومن الصحيح ما يُقال ان المدرس الناجح هو الذي يفرض نفسه على الساحة بما يمتلكه من قابليات و مؤهلات وطرق في التدريس الا ان هذا ليس صحيحاً دائماً فكثيراً ما يخضع الطلبة لتأثير العناوين والشهرة الفارغة والدعاية أو المكانة الاجتماعية وغيرها مما لا ربط له بالواقع العلمي وتكون النتيجة ضياع الطالب وضعف مستواه ويكون قد مر عليه وقت طويل لا يستطيع معه اعادة تلقي نفس المواد على يد اساتذة آخرين.

فيجب ان يكون تعيين المدرسين خاضعاً لضوابط علمية واخلاقية وشخصية معينة شرحناها وذكرنا محلها من سلم مراحل الدراسة الحوزوية في كتاب (جامعة الصدر الدينية : الهوية والانجازات) وتقدم لهم ادارة المدرسة مواعيد التحصيل الدراسي والعطل خلال السنة ليوزع عليها المنهج المقرر وبحسب عدد المحاضرات الاسبوعية وهو ما نسميه بالخطة الدراسية حيث يكون كل مدرس مسؤولاً عن تقديمها في بداية العام الدراسي وعن تنفيذها خلال العام.

وتتضمن الخطة ارشادات وتوجيهات تنظم العلاقة بين المدرس والادارة من جهة وبينه وبين الطلبة من جهة أخرى.

ويُقرر درس في المرحلة المناسبة بعنوان (طرق التدريس ومواصفات المدرس الناجح)(1) حيث يستفاد من الجهود الاكاديمية والخبرات الشخصية في اعداد المنهج المقررة لهذا الدرس لكي تقنن الجهود وتنظم وفق معايير علمية بدل الفوضى والتشتت والارتجالية.

الاتجاه السابع: الاتصال بالجامعات والحوزات والمعاهد العلمية الأخرى لتبادل الكتب والنشرات والاصدارات الجديدة وهذه مسؤولية كبيرة وواسعة وتحتاج وحدها إلى عدد كبير من الفضلاء المثقفين بالثقافة العصرية ويجيدون لغة الخطاب مع اساتذة وطلاب الجامعات لذا ينبغي التفكير في (مؤسسة الوحدة بين الحوزة والجامعة)(2) لافشال مخططات الذين يحاولون التفريق بينهما فتخسر كلٌ منهما خسارة عظيمة بهذا التباعد والافتراق.

الاتجاه الثامن: دعوة شخصيات فكرية وادبية وعلمية واجتماعية لالقاء المحاضرات في مختلف حقول المعرفة وعقد الندوات لتبادل الاراء في المحاور التي تهم المجتمع سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو علمية وغيرها.

الجهة الثالثة: قنوات الاتصال بالمجتمع

يمكن للحوزة ان تنفتح على المجتمع بعدة طرق منها ما هو معمول به كطبع الكتب وإجابة الاستفتاءات وارسال الوكلاء إلى مختلف المدن، وتُعرض هنا عدة ملاحظات:

ص: 23


1- صدر كتاب بهذا المضمون للمرحوم الشيخ صادق باقر الربيعي أحد فضلاء طلبة جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف.
2- ضمن هذا الاطار قامت عمادة الجامعة بطبع عدة أطاريح للدكتوراه والماجستير وأسست مواكب الوعي الحسيني لطلبة الجامعات والمعاهد العراقية في ذكرى عاشوراء وانبثق عنه ملتقى سنوي للعلم والدين في رحاب الحسين (عليه السلام).

الأولى: ينبغي اختيار الوكلاء وفق معايير علمية وثقافية واخلاقية معينة ولا يكون المعيار هو مقدار ما يجلب من المال فان الوكيل يمثل الأصيل فلا بد ان تكون الصورة التي يعكسها عن الحوزة مشرقة وان يكون اباً رحيماً للمنطقة التي هو فيها يهدي ضالهم ويعين فقيرهم ويقضي حاجة محتاجهم ويتفقدهم ولا يضيع أحدٌ منهم بحضرته، وقد لوحظ بالتجربة ان مدينة أو قرية تكون صالحة ببركات وآثار العالم الديني الذي فيها.

وينبغي ان يكون الوكيل متصلاً باستمرار بمركز الحوزة العلمية والمرجعية لمتابعة أي جديد أو لمواصلة الدرس والتحصيل وسيتضح من مجموع الكلام ان الوكيل يكون مسؤولاً عن عدة أمور:

1- الارشاد والتوجيه وتبليغ الاحكام والوعظ عن طريق الخطب والندوات والمحاضرات وأقل ما يجزيه خطبة أو محاضرة اسبوعياً ولتكن يوم الجمعة تطبيقاً لرغبة الامام (عليه السلام): (احب ان يفرغ الرجل نفسه كل جمعة ساعة ليتفقه في الدين) والزام المكلفين بنحو من الانحاء بحضور هذه المحاضرة الاسبوعية في المساجد يوم الجمعة ببيان أو فتوى يشير إلى أهمية التفقه في الدين ولو بهذا المقدار وليتضمن البيان قوله (عليه السلام): (ليت السياط على رؤوس اصحابي حتى يتفقهوا في الدين) ونظائره.

2- ابلاغ صوت الحوزة الشريفة وارائها في مختلف القضايا ونشر الاستفتاءات.

3- فتح الدورات الدراسية في العلوم الاساسية كالفقه والعقائد واللغة ويكفي لتحقيق ذلك توفير مجاميع الكاسيتات لمدرسي الحوزة وعليه اجابة الاشكالات وتوضيح الأمور الغامضة.

4- انتقاء الكفاءات العلمية وارسالها إلى النجف لمواصلة الدراسة.

5- قضاء حوائج المؤمنين ودعم المشاريع الخيرية وحل مشاكل الناس.

6- توفير الكتب المفيدة ومتابعة الاصدارات الجديدة.

7- ممارسة القضاء لفض الخصومات وحل النزاعات ولما كُنا نشترط الاجتهاد المطلق أو ما يقاربه في القاضي فلا يجوز التصدي الا لمن يحمل شهادة من الحوزة الشريفة تجوز له ذلك وبدونها له احد حلين:

أ- حل الخصومات بالصلح المستند إلى بيان الحكم الشرعي وبعد معرفته.

ب- النظر في القضية بمعنى تثبيت دعوى المدعي وسائر تفاصيل الدعوى وافادات الشهود وكل ما له دخل في الحكم الشرعي ويرسلها إلى لجنة مركزية من العلماء والفضلاء في النجف تنظر في القضايا وتبُت في الاحكام.

كل ذلك لتخفيف زخم المراجعين عن مركز الحوزة ولكيلا نحرم الفوائد المعنوية والدينية والاجتماعية من وجود دور القضاء الشرعي في المدن المختلفة.

8- ربط الأمة بالمرجعية ودفعها نحوها واظهار ولائها وتكثيف اتصالها به وإظهار الالتحام الكامل بها ولا اقل من استغلال المناسبات الدينية وايام الجمع لذلك وبذلك تؤدي الأمة عدة أمور:

أ- تعزيز التلاحم بين القيادة والقاعدة فانها كالروح والبدن ولا يحصل التكامل الا بانضمامهما.

ب- نقل صورة واقعية عن المجتمع ومعاناته ومشاكله وهمومه مما قد لا يوصلها الوكلاء عمداً أو غفلة أو تسامحاً.

ج-- ممارسة الأمة لدورها في الشهادة والقيمومة على المرجعية والقيادة ما دامت غير معصومة وقد رأينا بعض الوكلاء الواعين يقدم إلى النجف في المناسبات الدينية أو عند وفاة عالم كبير بوفدٍ له هيبته ولا يترك الناس يأتون اشتاتاً وامامه لافتة تعرف بالوفد وربما كان لهم خطيب أو شاعر يعبر لهم عن عواطفه وولائه الهادف ويقابله المرجع أو المتحدث باسمه فيبادله المشاعر الجياشة.

ص: 24

الثانية: لا ينبغي التوقف عند حدود ما يرد الحوزة من استفتاءات ومشاكل بل يجب ان تبادر الحوزة فتكتب استفتاءً وتجيبه وتنشره لمعالجة اية مشكلة اجتماعية أو ظاهرة منحرفة أو ضلالة يراد الحذر منها أو شخص فاسد يخشى من فتنته. وبذلك تكون هذه الاستفتاءات الحية الوسيلة المعبرة عن رأي الحوزة في مختلف قضايا المجتمع وعلى الطلبة والوكلاء نشرها وتوزيعها لتصل إلى أبعد نقطة، وبنفس الوقت تؤدي إلى شد المجتمع إلى مرجعيته الرشيدة وخلق حركة دينية وحيوية في المجتمع باعتباره يتوقع الجديد في كل آن.

الثالثة: الكتاب: وهو عنصر فعال في تثقيف الأمة وزيادة وعيها ولا بد للحوزة الا تكتب ما تشتهي وتريد بحيث يكون بعض نتاجها ممجوجاً لا نفع فيه بل عليها ان تحدد الهدف اولاً ومن ثم تصرف جهودها في ما يحتاجه المجتمع وسد الثغرات الثقافية والفكرية ودفع الشبهات وترسيخ المعارف الحقة وتربية المجتمع وهدايته.

ويستفاد في هذا المجال من نتاج الحوزات الأخرى بطبعها ونشرها فان فيها إغناءً للمكتبة الإسلامية.

الرابعة: الكاسيت: وهو اداة نافعة لإيصال صوت الحوزة إلى المجتمع وسريع الانتشار وسهل التلقي والاستفادة ويمكن استخدامه كقناة لايصال رأي الحوزة في مختلف القضايا الاجتماعية والدينية والثقافية وغيرها.

كما يستفاد من الكاسيت لتسجيل محاضرات الاساتذة الاكفاء في شرح وتوضيح المناهج الدراسية الاساسية وتوفرها للطلبة أو لمن لا يتسنى له متابعة الدراسة في النجف.

الخامسة: المجلات والنشرات الدورية: على مستوى الثقافة العامة أو تكون متخصصة في حقول العلم والمعرفة الحيوية بالنسبة للامة وإذا كان من الصعب تحصيل الإجازة الرسمية لها فيمكن استغلال بعض المجلات المجازة التي هي قريبة الصلة بالحوزة.

السادسة: إلقاء المحاضرات والخطب واستغلال صلوات الجماعة لذلك خصوصاً ظهر يوم الجمعة -على فرض تعذر إقامة صلاة الجمعة- وعقد الجلسات والندوات واحياء المناسبات الدينية وإقامة مجالس الفرح والمآتم ومجالس التعزية في ذكريات المعصومين (عليه السلام). واستغلال ذلك لبيان الاحكام الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والارشاد واحياء القلوب على ان تكون هذه المسؤوليات من صلب واجبات الوكلاء والتزاماتهم أمام الحوزة واقل ما يجزي مرة واحدة اسبوعياً كما قلنا.

السابعة: واوسع الابواب واشدها تأثيراً في النفوس هو (المنبر الحسيني) الذي يستمد قدسيته ومكانته من صاحب المناسبة، وقد فقدت الحوزة هذه القناة المهمة حين تخلت عنه وتركته بيد متطفلين همهم تحصيل الأموال واستدرار الدموع ولو بالكذب المهين لكرامة أهل البيت (عليه السلام) وعلو منزلتهم.

وفقد المنبر هو الآخر اهميته وهيبته في المجتمع بسبب هذه النظرة له وعدم توفير غطاء من الحوزة له، فاذا كسبنا المنبر الحسيني استطعنا تسخير هذه القناة لاسماع صوت الحوزة وقطع الطريق امام المرتزقة والجهلة، وشجعنا ذوي الكفاءات في هذا المجال على السير فيه باطمئنان لانه سيرى الضمانات التي توفرها له الحوزة بدلاً من القلق على مستقبله والحرص على تحصيل المجالس لتوفير المال أو الاكثار منها على حساب مستوى العطاء الفكري والاخلاقي.

كما ان المنبر حينئذ سيمتلك قوة في التأثير يستمدها من السلطة الروحية للمرجعية، ومن القابليات العلمية التي تتصدى له.

وان خطباء المنبر ليستطيعون اكثر من اية وسيلة اخرى على شد الناس إلى مرجعيتهم والالتفاف حولها وطاعتها كما تستطيع العكس من ذلك هز سمعة المرجعية والتشكيك فيها والقدح منها وتنفير الناس عنها وتوجد شواهد تاريخية على ذلك، وبالمقابل يذكر التاريخ الحديث كيف ساهم الخطباء في دعم الحركات الجهادية للمرجعية كالسيد الحبوبي في جهاد

ص: 25

الانكليز أو السياسية والاجتماعية كالشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (قدس سره) والسيد محسن الحكيم (قدس سره).

وتحصل هذه الرعاية من لدن الحوزة بانشاء درس لتعليم فن الخطابة ومقوماته ومؤهلات الخطيب وكيفية اعداد الخطب والمحاور التي ينبغي ان يدور الحديث عنها، ثم تعقد جلسات اسبوعية يرتقي الطلبة فيها المنبر ليتعلموا ويتدربوا ولتكون فرصة لتوجيههم وبيان نقاط القوة والضعف فيهم ويزود الخطيب الناجح بشهادة اعتراف وتأييد من قبل الحوزة العلمية وتقدم له الضمانات المالية كبقية طلبة الحوزة كما تقدم له الدعم المعنوي بالدعوة اليه والترويج لاسمه وتوجيه الوكلاء إلى التزامهم والتعامل معهم.

الثامنة: السعي لدى الجهات الرسمية لفتح فروع للحوزة الشريفة داخل الجامعات لتدريس العلوم الاسلامية وتكون باشراف الحوزة لكن تخضع لضوابط الجامعة وهذا يوفر عدة نتائج:

1- اختراق الجامعات التي تمثل اوسع قاعدة للشباب المثقف وايصال صوت الاسلام اليها.

2- تربية الشباب الجامعي وتوجيههم بعد ان تحولت الجامعات من معاهد علمية إلى دور للفساد وهتك القيم والاخلاق.

3- توفير فرصة للحوزويين لنيل الشهادات الرسمية والتمتع بامتيازاتها.

ص: 26

الجهة الرابعة: الدراسة الدينية للنساء

إن المرأة عنصر فعال في بناء المجتمع فهو نصفه عدداً وإن كان كله بالاهمية التربوية لانه المربي المباشر للأسرة التي هي نواة المجتمع ولقد صدق الشاعر اذ قال:

الأم مدرسة اذا اعددتها

اعددت شعباً طيب الاعراق

وقد ادى جهل الأم وضعف تربيتها إلى انحراف ابناء المجتمع وضياعهم ووقوعهم بايدي غير كفوءة لذا يجب التفكير في احتواء هذا العنصر ورعايته واعطائه العناية الكافية من التربية والوعي خصوصاً وان الكثير منهن الآن متعلمات مما يسهل مهمة التوجيه والتعليم لكن يجب مراعاة الشروط الدينية والتقاليد الاجتماعية في هذا المجال.

ويمكن تصور السعي في هذا المجال على مراحل:

الأولى: ان يتولى الطلبة تربية وتعليم ازواجهم واخواتهم وبناتهم وتثقيفهن وتدريسهن الكتب الاساسية (رسالة عملية، دروس في علم المنطق، عقائد الامامية)، ثم الترقي إلى المستوى التالي في هذه العلوم لتتكون بذلك نواة الهيئة التدريسية الأولى.

الثانية: تسجيل كاسيتات لدروس اساتذة اكفاء في منطق المظفر وقطر الندى والشرائع وتوفيرها لخريجات المرحلة الأولى وبعد الانتهاء من الدراسة تجرى لهن امتحانات وفي ضوئها يُعطين شهادات صادرة من احد الفضلاء تثبت كفائتهن وقدرتهن على تدريس المناهج المقررة للمرحلة الأولى.

الثالثة: بعد تهيئة الكادر التدريسي تشكل الهيئة الادارية للجامعة النسوية ولتكن باسم (جامعة الزهراء (عليها السلام) للعلوم الدينية) ويكون عملها باحدى صيغتين:

1- ان تفرغ احدى المدارس الدينية أو تؤجر بناية مستقلة لهن ويتم قبول الطالبات وفق المعايير العلمية والاخلاقية والاجتماعية والشخصية التي ذكرناها أو غيرها وتجرى لهن مقابلة من قبل الهيئة الادارية وتجري دراستهن وفق النظام الجديد للدراسة الحوزوية.

2- اذا لم يمكن تطبيق الصيغة الأولى فتبقى الدراسة خارجية -عبر الكاسيتات- ويخصص يوم -الخميس مثلاً- في نفس المدرسة تنعقد فيه الهيئة الادارية والتدريسية وتراجع فيه الطالبات للاجابة على اية مسألة أو شرح مطلب غامض أو حل مشكلة أو ايصال استفتاء أو تلقي اقتراح أو النظر في الشؤون الاخرى وتبادل الآراء لتطوير التجربة.

كما تحدد المناهج المقررة للمراحل الدراسية وليست بالضرورة كمنهج الذكور لاختلاف الاغراض المطلوبة من الطرفين والمسؤوليات الملقاة على عاتقهما، حيث تقوم مجموعة من الفضلاء والكتّاب باعداد مناهج في الاختصاصات المطلوبة منهن وبما يناسب مستوياتهن.

وتحدد مواعيد الامتحانات وكيفيتها من قبل الهيئة الادارية.

الرابعة: بعد تخرج الدفعة الأولى من الطالبات يمكن الاعتماد عليهن في نقل التجربة إلى مناطقهن، كما تناط بهن مسؤوليات عديدة:

1- التصدي لاحياء الشعائر الدينية كالمآتم الحسينية وحفلات المواليد والزفاف وتكريسه للهداية والتوجيه ومعالجة قضايا المرأة.

2- عقد الجلسات والندوات.

3- ايضاح الاحكام ونشرها وتعليمها.

4- ايصال صوت الحوزة وآرائها في مختلف القضايا.

وغيرها من المسؤوليات التي ظهرت مما سبق.

ص: 27

الفصل الثاني: جامعة الصدر الدينية الهوية والانجازات

اشارة

ص: 28

ص: 29

الحمد لله كما هو أهله وصلى الله على نبيه وآله وسلم تسليماً كثيراً.

شعرت المرجعية الرشيدة بوجود عدة نقائص في النظام المتداول في الحوزة العلمية الشريفة وبقصور عن مواكبة تحديات العصر واستيعاب ثقافاته فمن تلك النقائص:

1- عدم وجود بداية واضحة للعام الدراسي ولا نهاية كذلك، فالزمان مفتوح لكل طالب في ان يلتحق متى شاء بحلقات الدروس الموجودة، وقد يكون قد فاته الكثير من المادة ولا يتمكن من تداركها فيحصل ارباك وخلل في مسيرة تحصيله العلمي.

2- عدم خضوع الطالب لنظام دقيق في التقييم لغياب آلياته كالامتحانات ونحوها فلا تعرف مستويات الطلبة ولا كفاءاتهم حيث يستوي الجميع في التلقي من الاستاذ اللهم الا من خلال بعض المناقشات التي تحصل.

3- لا يوجد نظام اداري لضبط تحصيل الطلبة وسلوكهم والتزامهم وتنظيم دروسهم وانما المسألة متروكة للطالب والمدرس في ان يفعلوا ما يشاؤون وفق امزجتهم، ولعدم وجود مثل هذه الادارة فلا توجد جهة يمكن ان ترعى الطالب خصوصاً المبتدئ لتنظم له الدروس وترعاه وتحلّ مشاكله.

4- عدم وضع طرق صحيحة للتدريس يسير عليها المدرسون ولا خطة سنوية لتنظيم منهجهم في تدريس المادة.

5- غياب دروس اساسية ولها اهمية كبيرة في تكوين شخصية طالب العلوم الدينية الذي سيكون في يومٍ ما مصلحاً اجتماعياً وهادياً وقائداً للأمة كالاخلاق والتفسير والتاريخ وعلوم القرآن والحكمة والعقائد والوعي الاجتماعي.

6- اعتماد المصادر القديمة التي تفتقر الى المنهجية الفنية واحتوائها على مطالب لم تعد ذات قيمة وتعقيد عباراتها فينشغل بحل رموزها الطالب والاستاذ اكثر من انشغالهم في فهم المادة العلمية.

7- عدم الاستفادة من العلوم العصرية في المنهج الدراسي رغم وجود عدة ثمرات في تدريسها كالاطلاع على اسرار التشريع وتنقيح موضوع الحكم الشرعي وفهم الروايات بشكل دقيق في بعض الموارد وتساعد احياناً في تحديد الملاك الأهم عند التزاحم كما انها قد يستفاد منها احياناً في الاستنباط الفقهي نفسه(1)

مما لا يمكن تحصيله بدونها.

8- عدم وجود آلية ناضجة لتدرج الطالب في تحصيل علوم تهيء ذهنيته لتقبل المطالب بشكل جيد لان المناهج الدراسية لم تؤخذ في وضعها هذا الامر وانما هي مؤلفات لاصحابها ثم جعلت مناهج دراسية.

9- الزام الطلبة جميعاً بالسير على منهج واحد من دون مراعاة لقابلياتهم ولرغبتهم في التخصص في حقل علمي دون آخر وعدم مراعاة حاجة الأمة والرسالة الى مثل هذا التخصص.

10- عدم وجود ضوابط دقيقة لقبول الطلبة من حيث استعدادهم الذهني وسمعتهم الاجتماعية وتوزيعهم الجغرافي وثقافتهم العامة لهذا تجد التباين الواسع بين مستويات الطلبة وتغلغل الكثير من العناصر الفاسدة والضالة والمنّدسة.

11- تصدّي كل من هبّ ودبّ للتدريس لعدم وجود رادع، لا ذاتي ولا خارجي ولا جهة مشرفة تقيّم الاساتذة وتوجه الطلبة للحضور عندهم.

12- ضعف النشاط الاجتماعي للحوزة سواء على مستوى التبليغ او التلاقح مع الجامعات او الحوار مع الحضارات او الديانات والتيارات الثقافية والفكرية الأخرى.

ص: 30


1- راجع كتاب الرياضيات للفقيه وكتاب القول الفصل في احكام الخل.

13- عدم التعرف على قدرات الطلبة العلمية والاجتماعية والفكرية مما ادى الى تصدي من ليسوا بأهل لمسؤوليات مهمة كالوكالة عن المرجعية الشريفة او ارتقاء المنبر الحسيني او إمامة الجمعة والجماعة.

وبقي

السؤال الأهم انه كيف يمكن إصلاح كل نقاط الخلل هذه فان العوائق كثيرة ليس اهمها المانع الخارجي أي الاعداء المتربصين بالحوزة المراقبين لتحركاتها وتوجهاتها، وانما هناك مصاعب اخرى:

1- عدم وجود ادارة مركزية للحوزة تستطيع فرض قراراتها، فان المرجعية متعددة، والطالب يستطيع ان يمنح ولاءه لمن شاء ومتى شاء فاذا شعر ان مرجعية ما لا توافق اهواءه ومصالحه او تريد منه التزامات معينة فرَّ منها لتحتضنه أخرى وترفع عنه تلك القيود وينال الحظوة لديها.

2- التوجس من القيام بأي مشروع جديد خشية الفشل مما يضرّ بسمعة صاحب المشروع ومنزلته ونكون حسب تعبير احد المراجع (قدس سره) كالغراب الذي حاول تقليد مشية الطاووس فلم يفلح فاراد الرجوع الى مشيته الاولى فوجد نفسه قد نسيها فقيل عنه (ضيع المشيتين).

3- عدم الشعور بالحاجة أصلاً الى التغيير خصوصاً وان النظام المتداول قد ادى الغرض -من وجهة نظرهم- خلال القرون الماضية واستوفى حاجة المجتمع وانجب فقهاء وعلماء ومفكرين ولم يلتفتوا الى أنَّ هذه النتائج وإن كانت صحيحة وجزاهم الله خير الجزاء على جهدهم وجهادهم الا انها نتائج بسيطة مقابل ما يصرف على هذا الكيان المقدس ومقارنة بما يمكن ان ينتج لو أصلحت بعض جوانب الخلل.

4- عدم وجود الكفاءات العلمية الكافية التي تستطيع تنفيذ هذه الاصلاحات وتحويلها من حيز النظرية الى التطبيق بتأليف المناهج واتباع الاساليب المقترحة للاصلاح والقيام بالمسؤوليات المتعددة.

لهذه الاسباب وغيرها فشلت دعوات اصلاحية كثيرة حاولت مرجعيات متعددة ان تقوم بها لكن رسوخ الحالة الحوزوية ودفاع المتحجرين عنها اجهضها ولم يعًد بمقدور حتى المرجعيات المهمة ان تُحدِث ثورة اصلاحية في الحوزة، من هنا كان العلاج الانسب هو الاصلاح التدريجي، بمعنى اتخاذ مدرسة نموذجية تطبّق فيها الاصلاحات ويُقبل فيها طلبة بمواصفات خاصة وتدار بادارة كفوءة وتوفر فيها امتيازات اضافية وتوضع لها مناهج دراسية متكاملة ولو عن طريق تأليف كتب جديدة او تبديل كتب دراسية متعارفة وبعد نضجها وتكاملها تتوسع الى مدرسة أخرى وهكذا حتى تشمل تدريجياً أغلب مدارس الحوزة الشريفة من دون ان تثير غضب وحساسية الآخرين.

وحملت هذه المدرسة النموذجية اسم (جامعة الصدر الدينية) وفاءً لصاحب الفكرة الأصلية وهو الشهيد الصدر الأول (قدس سره) ولمن نفذ الفكرة وأسس الجامعة وهو الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عام 1417، وقد أَرَّخ افتتاحها المرحوم الشيخ عبد الامير الحسناوي بعدة ابيات قال فيها:

هذه جامعة دينية *** شادها الصدر معز المؤمنين

حجة الإسلام رمز للتقى *** آية الله منار المتقين

شادها للعلم والتقوى معاً *** فغدت تزهو بإيمان ودين

فبه قامت ومن افضاله *** قد سمت جامعة للدارسين

ص: 31

ولسان الدين أرخ (هاتف *** ادخلوها بسلام آمنين)

1417

لكن المشروع بقي في مكانه ولم يكن بمستوى الطموح حتى كان يوم الثلاثاء 21 صفر 1419 حيث استدعاني سيدنا الاستاذ الصدر (قدس سره) وقال لي: ان جامعة الصدر لا يستطيع أحد ان يتقدم بها غيرك وقد كانت تحوطها قبل الآن الكثير من المشاكل وقد زالت الآن فاستجبت لرغبته وتسلّمت إدارة الجامعة على بركة الله تعالى طالباً التسديد منه جلّت وعظمت قدرته.

وقد سعيت بمؤازرة الطلبة والاساتذة الذين لم يبخلوا عليَّ بالنصيحة واستفدت من افكارهم النيرة فحققنا في الجامعة من الاعمال ما لا يوجد في غيرها من مدارس الحوزة على عدة محاور:

الأول: الأداري:

فللجامعة عميد يرعاها ويدبّر امورها وله معاونون:

أحدهم لشؤون المدرسين والمنهج الدراسي: ومهامه اختيار المدرسين الكفوئين وتزويدهم بالخطة السنوية للدراسة ومتابعة التزامهم بها وقضاء حوائجهم وتوفير امتيازاتهم ومشاورتهم في تقييم المناهج الدراسية لتغييرها او استحداث غيرها بحسب ما تمليه المصلحة والتجربة.

ومعاون

شؤون الطلبة: يستمع لمشاكلهم واقتراحاتهم ويقضي حوائجهم ويوفر السكن والرواتب والمساعدات لهم ويتابع التزامهم بالتحصيل الدراسي ويتخذ الاجراءات المناسبة بحق غير الملتزم بالنظام الداخلي للجامعة، ومن طريف انجازات الجامعة بهذا الصدد إنشاء صندوق المظالم والمقترحات، الذي يحق للطلبة وضع مظالمهم وانتقاداتهم ومقترحاتهم تجاه الادارة والاساتذة او أي جهة أخرى من دون ذكر اسم الكاتب اذ ربما يمنعهم عن البوح بها الخجل ونحوه، ويفتح الصندوق اسبوعياً ليُنظر فيما فيه وتتخذ الاجراءات المناسبة.

ومعاون لشؤون البناية: حيث يتولى رعاية بناية الجامعة وصيانتها وتوفير مستلزمات الدراسة فيها، ويحافظ على وقفيتها إن كانت فيها وقفية خاصة.

ومعاون للوثائق والمستندات: يحتفظ بالاضابير الشخصية للطلبة والحاق كل الوثائق المتعلقة بهم من تكريم او انذار وشهادات تقييمهم خلال مراحل الدراسة والوثائق والبيانات الخاصة بالجامعة ككل.

ومعاون للشؤون المالية: يتولى تعيين الرواتب للاساتذة والطلبة والموظفين بحسب ضوابط الجامعة، وتقديم القروض للمحتاجين وتنفيذ اوامر المساعدات واستقطاع الديون وضبط سجلات الأموال الواردة والمصروفة.

وكل من هؤلاء يرتبط بالعميد مباشرة ويطلعه اسبوعياً على تفاصيل عمله.

الثاني: قبول الطلبة:

وضعت شروط لقبول الطلبة بأن يكون حاصلاً على شهادة جامعية ولا يتجاوز عمره (28) سنة ومعروف بحسن السيرة والسلوك بشهادة وكلاء المرجعية الشريفة، وتُجرى له مقابلة يشرف عليها العميد نفسه لاختبار ثقافته وافكاره وأهدافه، وتلاحظ عوامل أخرى في القبول كالتوزيع الجغرافي والنشاط الاجتماعي، وليس لعدد الطلبة المقبولين حد ثابت وإنما تحددّه الحاجة والامكانيات المتوفرة والظروف المحيطة.

الثالث: التقييم والامتحانات:

ص: 32

يجرى للطالب امتحانان شهريان في كل فصل وامتحان نهائي في آخر الفصل حيث تقسم السنة الى فصلين وتتوزع درجة الطالب النهائية على الامتحان النهائي والشهريين وسعيه ومشاركته اليومية في الدروس، ويوجد امتحان للدور الثاني وهو للطلبة الذين لم يحالفهم النجاح في الدور الأول، وقد يُرقَّن قيد الطالب من الجامعة اذا لم ينجح بنصف الدروس على الأقل، ويُكَّرم الطلبة المتفوقون بجوائز مالية وعينية مناسبة.

الرابع: مراحل الدراسة والشهادات العلمية:

قسمت الدراسة الى ثمان مراحل يتأهل الطالب بعدها لحضور البحث الخارج وتتألف الجامعة من ثلاث كليات مترتبة طولاً حيث تؤدي كل منها الى الاخرى لتكمل دورها وبنفس الوقت تمنح المتخرج فيها شهادة في الاختصاص المعين.

الأولى:

كلية (التوجيه الديني والاصلاح الاجتماعي) ويؤهل المتخرج فيها لإمامة الجماعة والجمعة والوكالة عن المرجعية الدينية والتصدي للمنبر الحسيني والوعظ والارشاد، وتمثل المراحل الثلاث الأولى للدراسة.

الثانية: كلية (إعداد المدرسين) وتهيئِّ المدرسين الحوزويين لكتب المقدمات والسطوح الابتدائية والمتوسطة وتُمنح الشهادة باجتياز المرحلة السادسة.

الثالثة: كلية (الاجتهاد المقيد) وتمثلها المرحلتان السابعة والثامنة حيث يؤمل بنهايتهما ظهور ملكة علمية استنباطية بمرتبة من المراتب عند الطلبة النابهين المجدين بإذن الله سبحانه وتمنح هذه الكلية شهادة (الاجتهاد المقيد) في ضمن اقوال محتملي الاعلمية.

وقد بينا تفاصيله وشرائطه وثمراته في بحث مستقل بنفس العنوان، لكن لغموض العنوان وتهافته البدوي نبيّن حاصل فكرته فنقول:

ان الطلبة الذين يصلون الى مستوى عالٍ من الفضيلة تقرب من الاجتهاد وبذلك يملكون المقدرة على النظر في استدلالات اساتذتهم وتقييمها ومعرفة الاقوى منها (بدليل جعلهم اهل الخبرة الذين يحدّدون الاعلم) فيقدّر هؤلاء باتاحة الفرصة لهم ان ينظروا في كل مسألة صاحب الدليل الأقوى من بين محتملي الأعلمية فيأخذون به ولا يتقيدون برأي فقيه واحد فهو نحو من انحاء الاجتهاد والنظر في الادلة لكن لا مباشرة وانما في حدود استدلالات محتملي الاعلمية لذا سميناه (اجتهاداً مقيداً) مقابل الاجتهاد المطلق الذي يستنبط الحكم فيه من مصادره الاصلية اما المقيد فباعتبار عدم وصولهم درجة الاجتهاد المطلق الذي يؤهلهم للاستقلال بالنظر في الادلة مباشرة واستنباط الاحكام.

إن إتمام هذه المراحل الثمان بتفوق مع التوفيق الالهي كافٍ لنمو الملكة الاجتهادية وصقلها عند من حباه الله بها بعد استيعابه لهذا المنهج المتكامل وعند اساتذة اكفاء وبعد اعطائه فرصة سنتين خلال المرحلتين الأخيرتين للحضور في بحث الخارج عند المراجع العظام، نعم، هو يحتاج المزيد من الحضور للانضاج والصقل وزيادة الخبرة، فان الاجتهاد كسائر الملكات النفسية عنوان كلي مشكك له مراتب عديدة من القوة والضعف ويزداد رسوخاً بالتجربة المستمرة والتمرين المتواصل.

ويلاحظ هنا ان ايَّاً من الشهادات الثلاث لا تمنح لمجرد اجتياز المراحل المعينة بل لا بد من الاختبارات الشخصية المباشرة لان المسألة تتوقف على مهارات وقابليات شخصية إضافة الى المستوى العلمي المطلوب.

الخامس: مفردات الدراسة:

قد ضم المنهج الدراسي مناهج حديثة كحلقات الشهيد الصدر الأول في الاصول وبداية الحكمة ونهايتها للسيد الطباطبائي والعقائد والالهيات للسبحاني ومصباح اليزدي، كما اضيف للمنهج مفردات غيبها النظام المتعارف في الحوزة كعلوم القرآن وتفسيره وعلم الرجال والقواعد الفقهية والتاريخ والاخلاق وعلم الحديث والفكر الاسلامي وبعض العلوم العصرية كالرياضيات.

ص: 33

السادس: مواعيد الدراسة ومدتها:

مدة الدراسة ثمان سنين حيث تستغرق كل مرحلة سنة هجرية تقويمية تبدأ في النصف الثاني من محرم وتنتهي في نهاية شهر ذي الحجة ويكون شهر رمضان والنصف الاول من شهر محرم عطلة إضافة الى ايام وفيات المعصومين (عليهم السلام) وبعض المناسبات الدينة المهمة والخميس والجمعة من كل اسبوع.

يستمر تقديم طلبات الانتماء خلال شهري ذي القعدة وذي الحجة حيث تعلن في نهايتها اسماء الذين ستجرى مقابلتهم خلال النصف الأول من محرم الحرام.

السابع: النشاط الثقافي والاجتماعي والانساني:

انكمش نشاط الحوزة الفكري والاجتماعي خلال السنين المتأخرة بحيث لم يعد يوجد في النجف عدد الاصابع ممن يكتب في هذه القضايا فتولت الجامعة رعاية الاقلام الفتية وتوجيهها وإنضاجها حتى برز عدد من الكتاب ساهموا مع عميد الجامعة في اصدار اكثر من مئة كتاب من الكتب التي ساهمت في رصد وتشخيص الامراض والظواهر الاجتماعية المنحرفة ومعالجتها باسلوب مقنع يمزج الحكم الشرعي بالموعظة والنصيحة وبالدراسة والتحليل للاسباب والنتائج، فكان لهذه الاصدارات الأثر الكبير في إصلاح المجتمع ورفده بالوعي الديني وسد الفراغ في المجتمع.

ومن النشاطات الانسانية، تأسيس صندوق (الزواج رحمة) الذي يقدّم تسهيلات مالية على نحو القرض والمساعدة لتشجيع الزواج وقد ذُكرِت تعليمات الصندوق قي كتاب (الزواج والمشكلة الجنسية).

ص: 34

النظام الأساسي للجامعة

ولمزيد من الاطلاع نعرض بعض مواد النظام الاساس للجامعة:

أولاً : هوية الجامعة:

المادة (1) : جامعة الصدر الدينية مؤسسة علمية دينية تهدف الى تهيئة علماء دين مؤهلين لحمل الرسالة ومواجهة تحديات العصر.

المادة (2) : تكون الجامعة تحت اشراف المرجعية الصالحة الرشيدة في النجف الاشرف اقتصادياً وفكرياً وترتبط بها اجتماعياً.

المادة (3) : مدة الدراسة ثمان سنوات بعدد المراحل الدراسية ولا تعتبر المرحلة منتهية حتى ينتهي الطالب من تحصيل مفردات المنهج المقرر للمرحلة فيمتد السقف الزمني المحدد للمرحلة اذا طرأت بعض المعوقات عن استمرار الدراسة.

المادة (4) : تمنح الجامعة للطالب ثلاث شهادات خلال سني الدراسة، الأولى في نهاية المرحلة الثالثة لتأهيل الطالب للتوجيه الديني والارشاد الاجتماعي والتبليغ، والثانية في نهاية المرحلة السادسة وهي الانضمام لجماعة مدرسي الحوزة العلمية، والثالثة في نهاية المرحلة الثامنة وهي التأهيل لحضور البحث الخارج في الفقه والاصول ويمنح اجازة تشريفية بالرواية عن المعصومين (عليهم السلام).

المادة (5) توجد فرصة للطلبة للتخصص في احد حقول المعرفة غير الاستمرار في دراسة الفقه والاصول ويحدد انسيابية الطلبة في هذه التخصصات عناصر متعددة: رغبة الطالب، الحاجة الى التخصص، توفر الامكانيات في هذا المجال، قابلية الطالب.

المادة (6) لا يرتدي الطالب الزي الديني الا بعد اجتياز المرحلة الثالثة الا اذا اقتضت مصلحة ما فيجوز تقديمه باذن العميد.

ثانياً:

نظام القبول في الجامعة:

المادة (7) القبول في الجامعة مقتصر الآن على الذكور فقط ويشمل الاناث اذا توفرت الآليات المناسبة.

المادة (8) يشترط في الطالب:

أ- ان يكون حاصلاً على شهادة جامعية او في المعاهد الفنية.

ب- لا يتجاوز عمره (30) عاماً.

ج-- شهادتان بحسن السيرة والصلاح من اثنين من وكلاء المرجعية الشريفة المعتد بهم اجتماعياً.

المادة (9) تقوم لجنة تتألف من العميد ومن يرشحهم معه بمقابلة الطلبة الجامعين لشروط القبول وفي ضوئها يتم انتقاء الطلبة المقبولين وتتضمن المقابلة اسئلة متنوعة في مختلف حقول المعرفة.

المادة (10) يبدأ تقديم طلبات القبول في شهري ذي القعدة وذي الحجة وينظر في الطلبات خلال شهر محرم حيث يكون الطلبة المقبولون جاهزين في بداية العام الدراسي.

ثالثاً: مواعيد الدراسة:

المادة (11) تبدأ الدراسة في النصف الثاني من شهر محرم من كل عام وتنتهي بنهاية ذي الحجة ويكون بقية شهر محرم وشهر رمضان عطلة.

المادة (12) تعطل الدراسة في ايام وفيات المعصومين (عليهم السلام) والمناسبات الدينية المهمة ويومي الخميس والجمعة من كل اسبوع يؤذن فيها للطلبة بمغادرة محل إقامتهم.

المادة (13) تتوزع المحاضرات في اليوم على طول النهار ولا تُعيَّن لهم محاضرة مسائية الا باذن العميد، ولا يزيد وقت المحاضرة عن (45) دقيقة ولا يقل عن (35) دقيقة.

ص: 35

المادة (14) يقيم الطلبة في المدرسة او الابنية التي تتعهدها ادارة الجامعة ولا يغادرونها الا في العطل او في مواعيد محددة لكل مرحلة بحسبها.

المادة (15) معدل عدد المحاضرات في المراحل الثلاث الاولى (30) محاضرة اسبوعياً.

رابعاً: ادارة الجامعة:

المادة (16) للجامعة عميد هو المسؤول الأول فيها وله معاونون للشؤون المختلفة.

المادة (17) ينصب العميد بامر المرجعية الرشيدة الصالحة اما بقية الجهاز الاداري فيعينّهم العميد نفسه.

المادة (18) للعميد ان يفعل كل ما فيه مصلحة الجامعة وله ان يغير في المنهج الدراسي بعد المشاورة مع ذوي الاختصاص وله ان يفصل أي طالب لا يلتزم بنظام الجامعة بعد إنذاره.

خامساً: الهيئة التدريسية:

المادة (19) يُعين المدرسون بامر العميد وفق شروط معينة منها الكفاءة العلمية والاخلاص في العمل والالتزام بنظام الجامعة وحسن السمعة.

المادة (20) لكل مدرس راتب شهري له حد ادنى ثابت ومقدار متغير بحسب عدد المحاضرات التي يلقيها.

المادة (21) تخصص سيارة او اكثر لنقل المدرسين من الجامعة واليها.

المادة (22) يُكلف طلبة الجامعة بعد المرحلة الخامسة بتدريس المراحل الأولى بحسب الكفاءة.

المادة (23) تكليف كل مدرس بتقديم خطة سنوية للتدريس تنسجم مع الخطة التي تعدها إدارة الجامعة.

سادساً : مواد الدراسة:

المادة (24) يضم منهج الدراسة في الجامعة ثلاثة اصناف من الدروس:

الأول: الدروس الحوزوية المعتمدة من مقدمات وسطوح وتتضمن علوم العربية من نحو وصرف واملاء وبلاغة ومنطق وسطوح الفقه والأصول وفق التدرج المعمول به في الحوزات العلمية الشريفة مع الأخذ بنظر الاعتبار بعض الافكار لتطويرها وتحديثها.

الثاني: الدروس الحوزوية التكميلية وتتضمن العقائد والتفسير وعلوم القرآن والرجال والاخلاق والتاريخ وعلم الكلام والفلسفة والحكمة.

الثالث: الدروس العلمية الاكاديمية وتتضمن الرياضيات واللغات الاجنبية والفلك والطب والجغرافية والفيزياء والكيمياء.

المادة (25) تُكثّف الدروس الاكاديمية في المراحل الأولى ليتفرغ الطالب في المراحل العالية للتعمق في الدروس الاساسية.

المادة (26) يعفى الطالب من الدروس العلمية التي يحمل شهادة اختصاص فيها على ان يقدم بحثاً نافعاً فيها او يساهم في وضع وتطوير المنهج المقرر لها او يقدم أي جهد علمي مثمر.

المادة (27) يعطى الطالب في بعض المراحل المناسبة دروساً في برمجة وتشغيل الحاسبات الالكترونية للاستفادة منها في المجال الحوزوي.

المادة (28) يلاحظ في المواد المقررة للمرحلة الأولى ان تؤدي نتيجتين:

الأولى: وقوعها ضمن التدرج العلمي لمراحل الدراسة في الجامعة.

الثانية: ان تهيء للطالب ثقافة حوزوية متكاملة لكن بشكل أولي فيأخذ فقهاً كاملاً وعقائد كاملة وكذا في النحو مع دروس أخرى مقومة لشخصية طالب العلم ليكون مستعداً بالحدود الدنيا بعد المرحلة الأولى لممارسة أي مهمة اجتماعية كإمامة الجمعة او الجماعة او الوعظ والارشاد الديني اذا اقتضت الحاجة.

ص: 36

المادة (29) الدروس القصيرة التي لا تحتاج الى الاستمرار سنة كاملة تُعطى في نصف السنة ويجري فيها امتحان نهائي.

سابعاً: التقويم والامتحانات:

المادة

(30) تُعين الجامعة مواعيد الامتحانات النهائية لكل فصل دراسي.

المادة (31) تقسم السنة الدراسية الى نصفين تُحَدّد الجامعة امتحاناً نهائياً في آواخر كل منها وامتحانين شهريين ضمن كل فصل وللمدرس ان يمتحن طلابه غير هذه وفق ما يراه مناسباً.

المادة (32) تقسم درجة الطالب كالاتي:

40% للامتحاني النهائي.

20% لكل من الامتحانين الشهريين.

20% للنشاط اليومي والالتزام ويحدد درجته المدرس.

المادة (33) تعتبر درجة النجاح 60%، ويحق للطالب الذي لم يحالفه حظ النجاح ان يعيد الامتحان في الدور الثاني.

المادة (34) يُرقن قيد الطالب الذي لا ينجح في نصف عدد الدروس.

المادة (35) يُطبق نظام العبور في حق من لم يحالفه النجاح فيما لا يزيد عن مادتين فيعبر الى المرحلة اللاحقة ويطالب بالامتحان بتلك المواد.

المادة (36) يُكافأ الطلبة المتفوقون بجوائز مالية وعينية.

ثامناً : نشاطات الجامعة:

المادة (37) تسعى الجامعة لاصدار مجلة متخصصة ومجلة ثقافية عامة.

المادة (38) تحاول الجامعة المشاركة في الندوات والملتقيات والمؤتمرات المحلية والدولية للمساهمة في الحوار الجدي البناء.

المادة (39) تُشجع الجامعة الكفاءات الادبية والعلمية وتدعمها بالاشكال المناسبة كتقديم الجوائز او طبع ونشر آثارهم واستضافتهم والاستماع اليهم في محاضرات وندوات وحوارات.

المادة (40) تساهم الجامعة في توعية الأمة وتثقيفها وحماية هويتها الاسلامية من المسخ والتمييع من خلال تزويد المجتمع بما يحتاج اليه من فكر وادب وسلوك وتشخيص الامراض الاجتماعية ومعالجتها ويكون ذلك بالوسائل المتعددة كالكتاب والمنشور والاقراص الليزرية واشرطة التسجيل.

تاسعاً : فروع الجامعة:

المادة (41) تسعى الجامعة لفتح فروع لها في مراكز المحافظات العراقية وخارج العراق.

المادة (42) تتبع الفروع نفس منهج وبرنامج عمل الجامعة الأصل مع ملاحظة بعض خصوصيات الزمان والمكان والظروف والحاجات لتلك الفروع.

المادة (43) تستمر الدراسة في الفروع داخل العراق حتى نهاية المرحلة الثالثة وينتقل بعدها من يريد الاستمرار الى النجف الأشرف لمواصلة الدراسة العالية فيها ومن لا يريد فيمكن الاستفادة منه في العمل الاجتماعي او التوجيه الديني او الخطابة الحسينية او الوكالة عن المرجعية الشريفة ونحوها.

المادة (44) الامتيازات والحقوق للطلبة في الفروع تكون بحسب نظر مدير الفرع اما الاساتذة فيعاملون بنفس سياق عمل الجامعة الأصل.

عاشراً : المراكز العلمية المرتبطة بالجامعة:

المادة (45) تحاول الجامعة سد احيتاجات الحوزة والمجتمع على مختلف الاصعدة بانشاء مراكز ومعاهد متخصصة في تلبية تلك الاحتياجات ويديرها ويشارك في اعمالها اساتذة

ص: 37

متخصصون ومنها:

أ- مركز البحوث والدراسات الاسلامية ويضم ثلاثة عشر قسماً كالدراسات القرآنية واللغوية وقسم المرأة والطفل وتحقيق المخطوطات وقضايا الفكر المعاصر والدفاع عن العقيدة.

ب- معهد اعداد الخطباء يتولى تهيئة خطباء كفوئين قادرين على مواكبة تحديات العصر ونفع الأمة والنهوض بها.

ج-- معهد القضاء ويتولى إعداد قضاة مستوعبين لاحكام الشريعة ولهم القدرة على تشخيص الحالات ومعرفة ما ينطبق عليها من الاحكام لتخرج قضاة شرعيين يعترف بهم رسمياً ويعملون الى جنب القضاة بالقوانين الوضعية في المحاكم المدنية الموجودة والتي لا تتحدد بحدود الشريعة وبذلك توفر الفرصة للمسلم الملتزم ان يراجع في قضاياه وخصوماته المحاكم الشرعية.

د- إنشاء مراكز وجمعيات ثقافية وإنسانية واجتماعية في كل تجمع سكاني ممكن.

المادة (46) تنظر الادارة في امكانية تحصيل اعتراف الجامعات الرسمية بشهادة الجامعة وشروطها وامتيازاتها بما فيها منح الشهادات العليا كالماجستير والدكتوراه.

حادي عشر : رعاية الطلبة ونشاطاتهم:

المادة (47) توفر الجامعة كل الخدمات الضرورية اللائقة بشأن طالب العلوم الدينية وكل ما يساعده على استفراغ الجهد للنشاط العلمي.

المادة (48) تحتوي الجامعة على مكتبة مستمرة في التطور والتوسع تضم المصادر الاساسية في جميع حقول المعرفة وكل ما يحتاجه الطالب من كتب تعينه على الدراسة والبحث.

المادة (49) يوجد في الجامعة مكتب للحاسبة الالكترونية يتدرب فيه الطلبة على استعمال الحاسبات ويشغّل لهم البرامج الثقافية ويستفاد منه في البحث العلمي والدراسة.

المادة (50) تضم الجامعة مكتبة صوتية فيها مجاميع اشرطة التسجيل لعدد من الدروس الاساسية ومحاضرات البحث الخارج وجهاز للتسجيل السريع يقدّم خدماته للطلبة.

المادة (51) تتكفل الجامعة بإنشاء مطعم للطلبة يوفر الوجبات الرئيسية مجاناً او بسعر زهيد.

المادة (52) تعمل الجامعة على تشكيل لجان علمية متخصصة تتألف من طلبتها بحسب اختصاصاتهم الاكاديمية المتنوعة تقوم بوضع المناهج الدراسية المقرّرة التي تربط الفقه بتلك العلوم واجراء البحوث والتحقيقات العلمية التي لها تطبيق فقهي وتقدم الجامعة مكافآت لمن يقدّم جهداً نافعاً في هذا المجال.

المادة (53) ينتخب طلبة كل مرحلة ممثلاً لهم ليكون اللسان الناطق باسمهم ولا يكون الكلام معّبراً عن لسان مجموع طلبة المرحلة الا اذا جاء من خلاله.

المادة (54) يشكل مجلس لشؤون الطلبة من مجموع ممثلي المراحل يجتمع اسبوعياً لتدارس وضع الطلبة وله الحق في دعوة أي من المسؤولين في الجامعة لمناقشته في أمور الطلبة ومنها:

أ- متابعة سير الحصص الدراسية وفق المنهج المقرر.

ب- ابداء الرأي في نمط اسئلة المدرسين وطريقتهم.

ج-- تطوير المناهج الدراسية واستبدالها.

د- تغيير المدرسين.

ه-- نقل آراء الطلبة فيما يواجهون من مشاكل داخل الجامعة وخارجها.

و- تجميع افكار ومشاريع الطلبة حول المشكلات المطروحة على ساحة المجتمع والسعي الى علاجها.

المادة

(55) يمنح الطالب راتباً شهرياً يحدده امران:

أ- المرحلة الدراسية.

ص: 38

ب- الاعالة الاجتماعية.

وتقدم الى الطالب مساعدات اضافية عند تجدّد حالة استثنائية له.

المادة (56) تتوفر للطالب كتب دراسية ومكتبة تضم مصادر متنوعة في حقول العلم المختلفة.

المادة (57) تأذن ادارة الجامعة بالدراسة الخارجية بآليات معينة للطلبة الذين تتوفر فيهم شروط خاصة ويُوضَّح كل ذلك ببيان منفصل.

ص: 39

الدراسة الخارجية

بسم الله الرحمن الرحيم

بالرغم من اعتقادي ان الانتماء إلى الحوزة العلمية وجوداً ووظيفة لا يمكن تحقيقه من خلال الدراسة على الكومبيوتر لجملة أمور ذكرتها في نصيحة بعنوان (الانتماء إلى الحوزة الشريفة). إلا ان الواقع الذي تعيشه الحوزة العلمية في النجف الأشرف الذي يعاني من عدة أزمات وتحديات، وبسبب ما يراد للحوزة النجفية من تسطيح وإضعاف وتهميش بأفعالٍ متعمدة أو غير متعمدة من داخل الحوزة الشريفة ومن خارجها، حتى بلغت أيام التحصيل في العام الماضي أربعة أشهر على ما قيل(1)

وفي ذلك هدرٌ وتضييع لجهود وأعمار الطلبة خصوصاً النابهين منهم، لذلك فقد رأينا أن أحد الردود العملية على هذا التقصير بفتح الدراسة الخارجية حيث يقوم طالب العلوم الدينية بتعويض التأخير والنقص بتلقي علومه على جهاز الكومبيوتر، وتُقنَّن العملية بالتوجيهات التالية:

1- استناداً الى المادة (57) من النظام الأساسي لجامعة الصدر الدينية، تتولى إدارة جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف تنظيم الدراسة الخارجية والإشراف عليها.

2- تختص الدراسة الخارجية بالطلبة الذين أكملوا المرحلة الثالثة في جامعة الصدر الدينية في النجف أو فروعها في المحافظات.

3- يجب توفر الشروط التالية في الطالب قبل قبوله في هذه الدراسة

أ- أن يكون من المتفوقين والمجدّين في تحصيله للمراحل السابقة.

ب- تعهّده بالوفاء بكافة الالتزامات التي تطلبها منه إدارة الجامعة.

ج-- تُجرى له مقابلة مع لجنة متخصصة للتعرف على أهليته وتوفّر الظروف المناسبة له.

4- بعد نجاح الطالب في المقابلة تحدد إدارة الجامعة الأستاذ المشرف للطالب بالتشاور معه ليتابع معه الاستحقاقات المطلوبة منه.

5- يمنح الطالب كافة الامتيازات التي تُمنح لطالب العلم في الحوزة العلمية إذا وفى بما يلي:

أ- استيفاء كل المواد العلمية المطلوبة منه بتلقيها عند احد الأساتذة المعروفين.

ب- تدوين الشرح الذي يستمع إليه من الأستاذ من خلال الجهاز في سائر الدروس الأساسية لان جودة التقرير جزء من تقييم درجة الطالب ولان هذا الشرح ينفعه لاحقاً عند تدريس المادة.

ج-- الحضور لأداء الامتحانات في السنة مرتين بالمادة التي يقررها الأستاذ المشرف.

د- ارتداء الزي الديني في المحافل الاجتماعية والفعاليات الدينية في النجف أو في غيرها.

ه-- الحضور في درس واحد على الأقل في الحوزة العلمية للمواصلة مع أجوائها.

ص: 40


1- حسبْتُ فترة التحصيل في السنة الأولى من القائي البحث الخارج من شعبان 1427 حتى شعبان 1428 فكانت (33) أسبوعاً أي حوالي ثمانية أشهر وهو معدل نادر حتى في الدراسات الأكاديمية المنتظمة.

و- تدريس المراحل الدنيا حينما يكلَّف بذلك أو توجد ضرورة له في جامعة الصدر أو خارجها.

ز- انجاز ما يُكلَّف به من بحوث ودراسات وملخصات ومنها ما يغطى العلوم التكميلية التي تطلب منه

6- لا تشمل الدراسة الخارجية بأي حالٍ من الأحوال مرحلة البحث الخارج.

ص: 41

فروع جامعة الصدر الدينية : الأهداف والاستحقاقات

فروع جامعة الصدر الدينية : الأهداف والاستحقاقات (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

(جامعة الصدر الدينية) مشروع طموح ولد قبل عشر سنين تقريباً استجابة للشعور بالحاجة الى تطوير مناهج وأداء وتنظيم الحوزة العلمية الشريفة والى معالجة عدة نقاط ضعف في الجوانب الادارية والمالية والعلمية والاخلاقية والفكرية والاجتماعية وقد اشرنا بشيء من التفصيل الى ذلك في كتاب (المعالم المستقبلية للحوزة الشريفة) الذي يمثل الصورة النظرية للمشكلة وعلاجها وكتاب (جامعة الصدر الدينية: الهوية والانجازات) الذي يمثل التطبيق لتلك الافكار. وزادت الحاجة الى هذا المشروع بعد أن أعلن الغرب صراعه الحضاري ضد الاسلام. ولا ينهض بهذه المواجهة الواسعة الشاملة المفتوحة على كل الجبهات إلا مشروع متكامل يشخص ببصيرة هذه الجبهات والثغرات وينشئ بأزائها المؤسسات التي تتكفل بإدارة الصراع.

وتمثل جامعة الصدر القلب الذي يدير هذا المشروع ويمدّه بالحركة والدماء المتدفقة فجميع أذرع المشروع الاسلامي من حزب الفضيلة الاسلامي الذي يمثل الواجهة السياسية ورابطة بنات المصطفى التي تمثل تنظيم العمل الاجتماعي للنساء وجامعة الزهراء التي تتكفل بنشر الحوزات العلمية للنساء الى سائر المؤسسات الأخرى تستند في عملها وتستمد وجودها ورصيدها الجماهيري من (جماعة الفضلاء) وهذه تزود بالعناصر القادرة على حمل الرسالة من مصنع الفضلاء الرئيسي وهي جامعة الصدر الدينية.

وقد بقي هذا المشروع حبيس النجف الاشرف مهد العلم والولاية حتى زوال الصنم حيث اتيحت الفرصة لتمدد الجامعة المباركة ونشر فروعها في المحافظات حيثما توفرت مقومات نجاح المشروع وديمومة عمله حتى بلغت اليوم ثمانية عشر فرعاً تضم حوالي (1500) طالب وتوجد طلبات عديدة بعد سنتين من البدء بتأسيس الفروع لفتح فروع من مدن اخرى داخل العراق وخارجه نلبّيها عند توفر المقدرة بلطف الله تبارك وتعالى.

ان دواعي انشاء هذه الفروع عديدة ويتولد من كل منها استحقاق على مديري الفروع ان يقوموا به:

الاول: توفير الفرصة لأكبر عدد من ابناء الاسلام ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون تطبيقاً للآية الشريفة إذ لا يتسنى لكثير من الراغبين في تحصيل العلوم الدينية القدوم والمكث في النجف الاشرف والمستفاد من الآية الشريفة ان يتصدى واحد من كل الف لدراسة العلوم الدينية هذا بلحاظ حاجة المجتمع نفسه اما اذا نظرنا الى الحاجة الاضافية الناتجة من مسؤولية الحوزة العلمية في النجف الاشرف عن نشر المبلغين والهداة الى الله تبارك وتعالى في سائر ارجاء العالم لما للنجف من خصوصيات في قلوب الناس.

الثاني: تخفيف العبء عن النجف الاشرف فإنها غير قادرة على استيعاب كل القادمين اليها خصوصاً اذا تحسنت الاوضاع في العراق وحينئذٍ سيزداد إقبال الراغبين من مختلف الدول للمجيء الى النجف الاشرف فلا داعي الى تحميل الحوزة النجفية دروس المقدمات والسطوح الاولية كما ان كثيراً من الذين ينهُون هذه المراحل الاولية يكتفون بها وينطلقون الى مدنهم للتوجيه والارشاد وامامة الجماعة والجمعة وحينئذٍ يمكن تأمين ذلك لهم في محافظاتهم وتبقى

ص: 42


1- من حديث سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع مدراء فروع جامعة الصدر الدينية في النجف الاشرف والمحافظات يوم 28 ج1 1426 المصادف 2005/7/5.

النجف للراغبين في مواصلة الدروس العالية.

الثالث: ان الحوزة العلمية حيثما تحل وتبسط وجودها فإن الهداية تنتشر معها ويتّسع الالتزام الديني ويتحرك العمل الاسلامي ويكفي مجرد وجودها وإن لم تتحدث بمشروعها وحينما يحدث انفصال بين المجتمع والحوزة العلمية تحصل حالة استرخاء وابتعاد عن الاجواء الدينية وحينئذٍ يجب علينا نشر الحوزات العلمية في كل مكان لتأمين منطلقات للعمل الاسلامي المبارك.

وتترتب على هذه الدواعي استحقاقات:

1- مراعاة التوزيع الجغرافي في قبول الطلبة بحيث يكون التنوع مستوعباً لمركز المحافظة والاقضية والنواحي والارياف والعشائر المحيطة بها ويتحقق ذلك بالاعلام الواسع عن فتح باب القبول والتأكيد على حث القرآن الكريم والاحاديث الشريفة على تحصيل العلوم الدينية للترغيب في الانضمام وتوفير مستلزمات النقل والخدمات الاخرى.

2- أن يتصف الطلبة بالشروط المطلوبة للقبول من حيث المستوى العلمي والفكري والاخلاقي.

3- اكتشاف قابليات الطلبة وتوجهاتهم ورغباتهم فالمتفوق علمياً يرسل الى النجف الاشرف لمواصلة الدروس العالية والذي له قدرة على الكتابة والتأليف تُنمى فيه هذه القابلية والمؤهل للوعظ والارشاد وارتقاء المنبر الحسيني او امامة الجمعة والجماعة توفّر له هذه الفرصة ليستفاد منه وهكذا. وعلى مدير الفرع ان يضع الآليات لتفجير الطاقات واكتشافها كتكليف الطلبة بكتابة بحث عن موضوع معين للتعرف على قدراتهم على التأليف كما ان نتائج الامتحانات كفيلة بإبراز الطاقات العلمية الجيدة وهكذا.

4- وضع خطة لاستيعاب الخريجين من فروع الجامعة وتوزيعهم بحسب المسؤوليات المناسبة لهم والتي اشرنا اليها في النقطة السابقة اذ لا يعقل ان تصرف هذه الجهود والاموال على الفروع ثم تذوب وتضمحل بعد تخرجهم.

5- ان يعي الطلبة في الفروع هذه الاهداف لأني ألمس في الكثير من المنتمين اليها شعوراً بأن هدف وجودهم هو نفع نفسه بالتفقه في الدين وهو هدف جيد في ذاته إلا أنه غير كافٍ ولا نرضى بالوقوف عليه وإنما عليه أن يعي ان الجامعة تريد منه أن ينفع المجتمع بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والعمل الصالح من اجل الامة وان يعي موقع جامعة الصدر من المشروع الاسلامي الحضاري الذي اشرنا اليه وقد قلنا في كلمة سابقة ان وعي المشروع من العوامل التي تحفز العاملين الرساليين وتستثير فيهم الهمة والحماس.

6- اهتمام الفروع بالنشاط الثقافي والاجتماعي من خلال اصدار النشرات والبيانات وعقد الندوات واستضافة الشخصيات والمشاركة في الفعاليات الفكرية والاجتماعية والدينية.

ان فروع الجامعة حالياً تتمكن بإمكانياتها المتوفرة من الوصول بالطالب الى نهاية المرحلة الثالثة ويمكن لها عند توفر القدرات المؤهلة ان تستمر حتى اكمال السطوح العالية واقتصار الدراسة في النجف الاشرف على البحث الخارج.

محمد اليعقوبي

28 جمادى الاولى 1426

ص: 43

ص: 44

الفصل الثالث: وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة

اشارة

ص: 45

وصايا ونصائح إلى الخطباء وطلبة الحوزة الشريفة

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الخلق أجمعين وعلى آله الطيبين الطاهرين.

اغتنم هذه الفرصة وهي قرب حلول شهر محرم الحرام حيث ينطلق الخطباء والمبلغون (أيدهم الله تعالى) إلى أصقاع الأرض ليرشدوا الناس ويعظوهم ويعلموهم شريعة سيد المرسلين مستفيدين من العاطفة الجياشة والروح الايمانية الوثابة التي زرعتها في النفوس ذكرى أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وما زالت وستبقى ان شاء الله تعالى تمد البشر على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم بالهمة الكبيرة والإخلاص والتضحية من أجل المبدأ الحق.

ص: 46

أغتنم هذه الفرصة لان إضاعة الفرصة غصة وفي الحديث: (اغتنموا الفرص فانها تمر مر السحاب) فلنجعل هذه الفرصة نقطةانطلاق للحديث عن دور الخطباء والمبلغين ومقومات شخصيتهم وما ينبغي ان تتوفر فيهم من مؤهلات وقابليات وإسداء بعض الوصايا والنصائح والتوجيهات مما خبر هذا العبد القاصر لتتحد جهودنا وتتكامل في إعلاء كلمة الله سبحانه وإرساء توحيده ولدحض كلمة الكفر والنفاق وإزهاقها.

ولا اقصد بالخطيب خطيب المنبر الحسيني فقط وان كان هو ابرز المصاديق وانما اقصد كل من يتصدي لايصال رأي الشريعة وصوت الحوزة مشافهةً ومباشرة الى المجتمع سواء كان خطيب جماعة أو جمعة أو من خلال الندوات والمحاضرات والحوارات فكل هذه قنوات مهمة للاتصال بالأمة.

والمنبر الذي يرتقيه أي واحد من هؤلاء والجمهور الذي يستمع اليه أمانة عنده وهو مسؤول عن رعايتها واداء حقها ف-(كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) فيحرم تصدي غير أهله له وإذا لم يكن كفؤاً قادراً على اداء الأمانة فانه خائن لها وسارق لوقت هؤلاء الجالسين وجهد القائمين بالمجلس وأموال الباذلين.

والمنبر الحسيني من مختصات الشيعة سنّه لهم الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وكان له الدور المهم في حفظ كيان المذهب ويحمل مقومات نجاحه في نفسه بضم الفكر الى العاطفة والولاء ويلبي كل حاجة إذ ليس له نمط معين ولا اختصاص واحد حتى يتحدد به وما يزيده نجاحاً ان الجماهير هي التي تختار خطيبها.

وليس يفرض عليها فرضاً فيكون صوتهم المعبر عن رأيهم وآمالهم وآلامهم فلا عجب أن أقبلت الجماهير بكلها على المجالس وبذلت الغالي والنفيس من أجل اقامتها وانجاحها وانك لتكبر هذه الهمّة فيهم حيث يجتمع الآلاف بل مئات الآلاف من دون سابق اعداد ولا اعلام بينما تجهد الدول على ان تقيم مؤتمراً يضم العشرات فقط ولا تنجح فيها مع سعة البذل والاعداد لا نجاحه.

من هنا ينبغي ان ندرك اهمية دور الخطباء في المجتمع وعظيم مسؤوليتهم فليس دورهم ابكاء الناس واستدرار دموعهم وان كان هذا مهماً ولكن الأهم ايصال الفكر اليهم لان مشكلتنا الرئيسية وعدونا الأول هو الجهل، الجهل بعقائدنا ومبادئنا واخلاقنا وشرائعنا.

ولا ينفك الحديث عن شخصية الخطيب والمبلغ عن الحديث عن طالب العلوم الدينية لأن الخطيب لا يكون ناجحاً ومتمكناً من اداء دوره في المجتمع إلا إذا تربى في احضان الحوزة العلمية ونهل من معين علومها الصافي، كما ان الحوزوي لا يتمكن من اداء رسالته كما ينبغي له إلا حينما يكون خطيباً ويواجه الجمهور بشكل مباشر، فكما انه من النقص في الخطيب ألا يكون حوزوياً فكذلك نقص في الحوزوي ان لايكون خطيباً، وسيأتي مزيد ايضاح لهذه النقطة ان شاء الله تعالى.

وقد جعلت الكلام من خلال نقاط تمثل كل نقطة جهة من جهات البحث:

مقومات شخصية الخطباء وطلبة العلوم الدينية

النقطة الأولى: وأول نقطة في هذا المجال هو: الحديث عن مقومات الخطيب و الحوزوي عموماً إذ يجب ان تشمل التربية الحوزوية ثلاثة اتجاهات متوازية وتسير في عرض واحد واي تقدم في أحدها على حساب الأخرى يؤدي الى خللٍ في توازن الشخصية وتقصير في السعي لتحقيق الهدف المنشود الذي هو رضاالله سبحانه و العمل على نشر شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) والمساعدة على هداية المجتمع وصلاحه و اية غفلة عن الهدف أو عدم الوضوح فيه تعني الانحراف والابتعاد عن الحق فلا بد من ملاحظة الهدف دائماً (وهو المعبر عنه بذكر الله تعالى على كل حال) وتدقيق العمل مع موازينه فما كان من العمل

ص: 47

يصب فيه فاستمر فيه وازدد منه وما ليس كذلك فاجتنبه (حاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا وزنوها قبل ان توزنوا) والاتجاهات الثلاثة هي:

الأول: الاتجاه العلمي: ونعني به التزود من العلوم والمعارف الاسلامية وعدم الاقتصار على ما اعتادت الحوزة في الأعصار المتأخرة في التركيز عليه كالفقه والاصول ومقدماتهما من المنطق وعلوم العربية بل لابد من اضافة العلوم الاخرى التي لا تقل أهمية عنها كالفلسفة والعقائد والتاريخ والرجال والتفسير وعلوم القرآن ويكون الحال اكمل لو اضاف اليها ثقافة عامة من العلوم العصرية كالفيزياء والكيمياء والرياضيات و الفلك وعلوم الحياة فانها كلها يمكن تسخيرها لخدمة الهدف (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).(1)

واقل ما يشترط في الخطيب والمبلغ اكمال دورة فقهية كالشرائع بإتقان ومعرفة بالقواعد المبتنية عليها ليستطيع التمييز بين فروع المسائل وتطبيق بعضها على بعضها ويتطلب ذلك اكمال دورة أصولية مبسطة كأصول المظفر أو الحلقة الثانية وقس على هذا المستوى من الكتب في المجالات الأخرى ويمكن طلب التوجيه من الفضلاء في هذا المجال ولا يجب التعبد بالمناهج القديمة فقد استحدثت كتب اعمق من حيث المادة واوضح في العبارة ومحتوية على مطالب الكتب القديمة مع ما اضيف اليها من تراكمات علمية في الاجيال المتأخرة عنها وتفصيل ذلك في موضع آخر.

الثاني: الاتجاه الأخلاقي: فلابد من تهذيب النفس والسعي إلى تكميلها بالفضائل وتطهيرها من الرذائل وتوطيد الصلة بالله تعالى ومراقبته في كل صغيرة وكبيرة ويكون ذلك قبل التصدي لاية مسؤولية اجتماعية لان المنصب والجاه والامتيازات الأخرى التي يتمتع بها علماء الدين من أقوى فخوخ الشيطان واصعب شراكه.

وان النفس الأمارة بالسوء قدتكون كامنة وخامدة باتجاه ما فإذا حصل ما يثيرها هاجت وأودت بصاحبها لذا تجد الإنسان عندما يدخل الى الحوزة الشريفة تنفتح للنفس مزالق جديدة منها العمامة واللحية والعنوان الذي يكتسبه فيحتاج الى جهد أكبر لمقاومتها فالنفس كالاخطبوط الذي يروى عنه انه كلما تقطع منه ذراعاً تولّد له أكثر من ذراع الا من عصم الله سبحانه.

ولا تقم بأي عمل قبل أن تنقي نفسك من الانانية ومن كل نيه وهدف مما سوى الله سبحانه فانه لا قيمة لاي عمل مهما كان عظيماً في نفسه إذا لم يكن مخلصاً لله سبحانه ومقبولاً(2)

ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اسوة حسنة وهو اكمل الخلق فقد جاهد نفسه وتعبد لله سبحانه ردحاً طويلاً برعاية الله سبحانه حتى بعث بالنبوة ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام): (ان الله عزوجل ادب نبيه فاحسن تأديبه فلما اكمل له الادب قال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(3)

ثم فوض اليه امر الدين والامة ليسوس عباده فقال عزوجل (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(4).

وان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس، لايزل ولايخطئ في شيء مما يسوس به الخلق.(5) وقال (عليه السلام) في حديث آخر: (فما فوض الله الى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد فوضه الينا).(6)

ص: 48


1- فصلت : 53.
2- وفي الحديث يؤتى يوم القيامة برجال أعمالهم كالجبال فترمى في وجوههم ويقال لهم انكم اردتم بها غير الله سبحانه، والعياذ بالله.
3- القلم : 4.
4- الحشر:7.
5- اصول الكافي، كتاب الحجة باب59 حديث 5.
6- الحديث 11 في نفس الباب.

واعلم ان الخروج الى المجتمع قبل تحصيل السيطرة على النفس الأمارة بالسوء والاخذ بعنانها بما يتضمنه هذا الظهور من مزالق كحب الجاه والتعالي على الآخرين والعجب والرياء والكبر والحسد والمكر سيجعل الانسان فريسة سهلة للشيطان و للنفس الامارة بالسوء وعندئذ يخسر المبطلون وان صور له انه يعمل لله سبحانه وسيقع اجره على الله تعالى (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)(1)

بل ربما منَّ عليه سبحانه باعماله (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).(2)

إن تكميل النفوس وتحليتها بالفضائل الاخلاقية وتنزيهها عن الرذائل(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)(3)

جانب مهم في شخصية الانسان المسلم لذا اولته الشريعة كل اهتمام بل جاء في الحديث: (إنما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) وقد سمي العمل على تطهير النفس من ادرانها ب-(الجهاد الأكبر) في النصوص الشريفة، وهو واجب عيني إن كان طلب العلوم الأخرى - بما فيها الفقه- كفائياً، ولا بد ان يعقّب العلم بالعمل فان (العلم مقرون الى العمل فمن علم عمل ومن عمل علم يهتف به فان اجابه والا ارتحل عنه) وفي حديث آخر: (العلماء رجلان: رجل عالم بعلمه فهو ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فهو هالك)(4)،

وطالب العلم أولى من غيره بهذه التربية لانه متصدٍ لتغيير المجتمع وقائم على اصلاحه فكيف ينجح وهو بعدُ لم يفلح في تكميل نفسه فان (فاقد الشيء لا يعطيه).

وما هذه المفاسد التي نعاني منها كالخلاف و البغضاء وتبادل الاتهامات والتمزق إلا نتيجة النفس الأمارة بالسواء وعدم الامساك بقيادها، والا لو كان الجميع مخلصين لله سبحانه وهدفهم واحد هو رضا الله سبحانه: لتآخوا ولتحابّوا ولشكر بعضهم بعضاً على معاونته اياه في هذا الطريق، اترى لو ان جميع الانبياء – وهم مئة واربعة وعشرون الفاً- جُمعوا في مكان واحد وزمان واحد ماذا ستكون العلاقة بينهم؟ هل الشجار والخلاف كما يحصل بيننا ونحن شرذمة قليلون ؟!

الجواب: لا طبعاً لانهم مخلصون ومتآخون فيه، فما اختلافنا اذن الا من اجل دنيا زائلة أو عناوين زائفة كحب الجاه أو حفنة من الأموال تذهب لذتها وتبقى تبعتها، وقد يتدخل الشيطان بمكره فيوهم كل طرف انه على الحق ويصور له من واهمته مبررات مشروعة(كالمصلحة الدينية) يُقنع بها نفسه ويسير وراءها ولا يزداد عن الحق الا بعداً ولو انصف من نفسه ونظر بعينين مفتوحتين لا بعين واحدة هي عين اهوائه لراى الحق واضحاً.

وتجد اهم شرط بيَّنه المعصومون (عليهم السلام) في العالم الواجب اتباعه انه مطيع لامر مولاه وصائن لنفسه عن الهوى، والا كيف يهدي غيره ويصلح غيره وهو بعدُ لم يحققهما في نفسه (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(5).

وينبغي الالتفات الى ان الشخص كلما تعاظمت مسؤوليته وجب ان تكون درجة تكامله بمقدارها ومن هنا يجب ان نفسر مصطلح (العدالة) الذي يشترط في الشاهد وإمام الجماعة ومرجع التقليد بدرجات متفاوتة، فالمستوى المطلوب منها في الشاهد ليس كإمام الجماعة وعند هذا ليست كما في مرجع التقليد الذي بيده مصير ملايين المسلمين نفوساً واموالاً واعراضاً وقد

ص: 49


1- الانفال : 48.
2- الكهف: 103-104.
3- الشمس: 9-10.
4- أصول الكافي : كتاب فضل العلم، باب استعمال العلم، حديث 2.
5- يونس : 35.

ورد في الحديث ما مضمونه: (ان الاسلام عشر درجات اعلاها الايمان والايمان عشردرجات اعلاها الورع والورع عشر درجات اعلاها اليقين) فقد يحل لشخص ما يحرم على غيره بحسب موقعه الاجتماعي، ولنعتبر بما قاله امير المؤمنين (عليهم السلام) وليطبقها كل منا على موقعه(أأقنع من نفسي ان يقال لي أمير المؤمنين ولعل في الحجاز أو في اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع).

وعلم الاخلاق كغيره من العلوم-ان لم يكن أولى- باحتياجه الى المعلم العارف بامراض النفس ومسالك انحرافها وعلاج كل منها ويعرف العلامات والاختبارات لتشخيص الداء فيصف الدواء لكل أحد بما يناسبه من غير افراط ولا تفريط، وكان العلماء السابقون لا يستنكفون من الحضور في دروس الاخلاقيين الناجحين في تربيتهم للآخرين رغم سمو مرتبتهم العلمية فقد كان للشيخ الانصاري مُربٍّ خاص وكان المجتهدون يحضرون دروس الشيخ جعفر الشوشتري والشيخ حسين قلي الهمداني (قدس الله اسرارهم جميعاً) للوعظ والارشاد واحياء القلوب وتهذيب النفوس وتكميلها.

واذا تعذر المربي الذي من اهم شروطه الصدق والاخلاص فيوجد البديل في الكتب المعبرة عن سمو مرتبة مؤلفيها ويمكن للمؤمن ان يتربى على يديها، ومن هذه الكتب(جامع السعادات) و(القلب السليم) وغيرها كثير مما كتب في تهذيب النفس وتكاملها في طريق الوصول الى الله سبحانه وهي بمستويات مختلفة يمكن التدرج في الاستفادة منها وتطبيق ما فيها وروح الكتب وخلاصتها احاديث المعصومين وكلماتهم حيث تعد الكلمة ذات السطر الواحد دستور حياة فراجع (نهج البلاغة، تحف العقول، المحاسن والخصال، ارشاد القلوب، وسائل الشيعة/ج11) وكذا ادعية المعصومين كالصحيفة السجادية ودعاء ابي حمزة ودعاء الامام الحسين (عليه السلام)يوم عرفة خصوصاً ملحقه ودعاء الصباح والمناجاة الشعبانية.

ان صلاح المجتمع بصلاح علمائه وفساده بفسادهم والعياذ بالله فقد روي في الخصال(1)

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال: صنفان من امتي اذا صلحا صلحت امتي واذا فسدا فسدت امتي، قيل: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن هما ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : الفقهاء والامراء.

والذي افهمه ان علاقة هذين الصنفين بفساد المجتمع وصلاحه ليست بمرتبة واحدة من حيث العلية والمعلولية ففساد العلماء علة لفساد المجتمع وفساد الامراء معلول لفساد المجتمع فيكون فساد العلماء متقدماً برتبتين على فساد الامراء وكذا صلاحهم طبعاً.

ان فساد العلماء يمكن تصوره على مستويين:

الأول: التقصير في اداء المسؤوليات من ارشاد الأمة وتوجيهها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هوالضامن لسلامة الأمة من الانحراف (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(2)

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(3)وقد

أنّب الله سبحانه العلماء على هذا التقصير بقوله: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(4) وقد حذر القرآن الكريم والسنة الشريفة من خطر ترك هذه الفريضة المهمة في مواضع عديدة وورد انه من الذنوب التي تديل الاعداء وتمنع من استجابة الدعاء وكفى بذلك شراً ووبالاً.

ص: 50


1- باب الاثنين، حديث 12.
2- آل عمران: 110.
3- آل عمران: 104.
4- المائدة:63.

الثاني: انحراف رجال الدين المتصدين للمجتمع وتغير نواياهم واهدافهم من ربانية مخلصة الى دنيوية محضة وحبُّ الدنيا رأس كل خطيئة وباب الفساد والشرور فيستشري الطمع والاثرة والحسد والبغضاء والخلاف والقطيعة والكيد والمكر وتنشأ هوَّة بعيدة بينهم وبين الأمة فتضل الأمة بضلالهم وقد قيل: (إذا فسد العالِم فسد العالَم) وهذه هي الطامة الكبرى حيث ينعدم الإخلاص فتنفصم العروة الوثقى وهي حبل الإمداد والتوفيق الإلهي، وقد أكد الأئمة (عليهم السلام) على اجتناب مثل هؤلاء ونبذهم وعزلهم فعن الإمام الصادق(عليه السلام): (إذا رأيتم العالم محباً لدنياكم فاتهموه على دينكم فان كل محب لشيء يحوط ما أحب)، فلنبدأ إذن باحياء القلوب والموعظة وتلاوة القرآن(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ).(1)

انه من المؤسف حقاً استهداف ما سوى الله سبحانه من مال أو جاه أو تسلط وقد علمنا علم اليقين حقارة ذلك مقابل ما اعد الله للمخلصين من عباده خصوصاً لطلبة العلم والعلماء والمرشدين ويكفي حديث واحد مضمونه (لا ينبغي لحامل القرآن ان يرى ان احداً قد حصل على خير مما حصل عليه) راجع للمزيد كتاب اصول الكافي فضل العلم.

الاتجاه الثالث: في الوعي الاجتماعي فلا بد من اتصاف الحوزوي بالوعي والحس المرهف لما يجري حوله والبصيرة فيما يدور في المجتمع من مشاكل وفتن وشبهات تعصف به وتبلبل افكاره تحت شتى العناوين مستفيدة من الجهل المتفشي بين ابناء الأمة وان يكون عارفاً باسلوب مواجهتها وتحصين الأمة من الوقوع فيها وتنبيهه الى الأخطار المحدقة به التي تريد ان تسلب اعز ما عنده دينه وكرامته وعزّته ومبادءه (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(2).

ولا بد ان يتحرك نحو المجتمع في حدود الفرصة المتاحة لا أزيد منها لانه افراط والقاء للنفس في التهلكة وتهور ولا أقل منها لانه تفريط في الواجب وتقصير ولا مبالاة وقد أخذ على العلماء الا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم أي لا يسكتوا على ذلك كماورد في الخطبة الشقشقية لامير المؤمنين (عليه السلام) ولا ينتظر ان يتحرك المجتمع اليه ويقصده ولربما يشعر بذلك قوله سبحانه: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)(3)

فهم الذين يبدأون قومهم بالانذار وتبليغ الرسالة ولا ينتظرون من المجتمع ان يبتدأهم فضلاً عن الانعزال عنه وترك حبله على غاربه، وإذا وردت أحاديث تحبب العزلة عن الناس فليست بمعنى التقوقع داخل البيوت وإنما بمعنى مباينة المجتمع الفاسد في تصرفاته وعدم الانسياق معهم واعلان البراءة من انحرافهم وهذه سنة الهية أكد عليها القرآن الكريم(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(4)ولا

ينزل النصر على عباده المؤمنين إلا بعد التجرد عن موالاة الكافرين والمنحرفين (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ).(5)

ان المجتمع قد اعطانا كل ما عنده من الجاه والمال والتقديس والتفاني في الخدمة فيجب ان نعطيه كل ما عندنا واذا كنا نأخذ اكثر من حقنا ونعطي الآخرين اقل من حقوقهم فنحن

ص: 51


1- الحديد: 16.
2- البقرة: 120.
3- التوبة : 122.
4- الكافرون : 6.
5- يونس : 41.

مصداق واضح للمطففين (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(1)

فويل لنا عندئذ.

ان من ثمرات الوعي الاجتماعي معرفة وطرح الاساليب المناسبة للتعامل مع الواقع المعاش ورفعه الى مستوى التطبيق الكامل للشريعة لا الهبوط بالشريعة الى مستوى الواقع وتكيفها وفق متطلباته.ويمكن الاستفادة من عدة كتب في هذا المجال منها التي تحدثت عن الأدوار المشتركة للأئمة (عليهم السلام) التي عاشوها في حياة الأمة الإسلامية.

ان العلماء هم حراس الأمة وبتعبير الحديث:

(امناء الرسل وحفاظ الشريعة) فبقدر ما يكونوا يقظين ملتفتين الى ما يوجَّه الى الدين والمذهب من شبهات وفتن مضلة فكرية واجتماعية على يد اعدائه تكون الأمة في أمان وعقيدتها في حصن منيع وإذا غفلوا وناموا احتوشها الأعداء وعاثوا فيها فساداً وسرقوا منها الأهم من المال اعني دينها وعقيدتها وشرفها وعزّتها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.

إذا عرفت معي أهمية هذه الاتجاهات الثلاثة في تكوين شخصية المرشد الديني في أي موقع كان شاركني الاسى والالم لتقصير حوزتنا في بناء هذه المقومات لدى طالب العلوم الدينية فالاتجاه الثاني والثالث غائبان والأول قاصر من حيث المادة المعطاة فلا زلنا نجتر معلومات قديمة، ومن حيث الاسلوب فكذلك وغابت دروس مهمة كالفلسفة والرجال والحديث والتاريخ والعقائد والعلوم العصرية التي ذكرنا في موقع آخر مدخليتها في تكوين الشخصية العلمية للمرشدين والمنهجة مفقودة والدراسة بلا ضوابط والحديث ذو شجون لكن يجب ان لا نقتصر على تجرع المرارة والاسى بل نعمل لتلافي هذا النقص وتدراكه وليشد بعضنا أزر بعض والله ولي المؤمنين.

الاهتمام بالقرآن الكريم

النقطة الثانية: الاهتمام بالقرآن الكريم فمن المؤسف حقاً غيابه عن الدروس الحوزوية فقد نظمت بشكل لا يحتاج فيه الطالب الى القرآن الكريم من أول تحصيله الى نهايته ولا يمر به الا لماماً وربما يبلغ مرتبة عالية في الفقه والاصول وهو لا يحسن قراءة القرآن الكريم بشكل مضبوط مما ادى الى اهماله وقلة الاهتمام به وقد تمر الايام والاسابيع ولا تجد طالب العلم يمسك المصحف الشريف ليتلو آياته ويتدبر فيها وهذه مصيبة عظيمة للحوزة والمجتمع، فإن الأمة لا تكون بخير إلا إذا تمسكت بقرآنها واهتدت به واستضاءت بنوره وهوحبل الله المدود إلى عباده والعروة الوثقى التي لا انفصام لها وثقل الله الاكبر مع اهل البيت (عليهم السلام) ثقل الله الاصغر ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا ابداً، فتقع المسؤولية على الحوزة أولاً لاخراج القرآن من عزلته واعادته الى الحياة اماماً وهادياً ورائداً للتغيير والاصلاح في النفس والمجتمع.

ان البشرية تعيش اليوم جاهلية جديدة بحسب المفهوم الذي يعطيه القرآن للجاهلية، اذ ليست هي فترة زمنية انتهت بطلوع شمس الاسلام بل هي حالة اجتماعية تتردى اليها الأمة وينتكس اليها المجتمع كلما اعرض عن شريعة الله سبحانه (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(2).

ص: 52


1- المطففين : 2- 6.
2- المائدة : 50.

وقد نبه القرآن الكريم الى حصولها حينما قال: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى)(1)وكأنه اشعار بوجود جاهلية ثانية هذه التي تعيش البشرية اليوم شؤمها وتعاستها بل جمعت جاهلية اليوم مساوئ الجاهليات القديمة جميعاً فالقوي ياكل الضعيف واللواط يُسند بقانون رسمي يجيزه ويرتضي الزواج بين الذكرين والزنايفوح برائحته الكريهة وهمجيته الحيوانية في كل ارجاء العالم والبخس في الميزان واتخاذ الاحبار والرهبان ارباباً من دون الله يحرّمون ما أحلّ الله ويحلّون ما حرّم الله، والآلهة التي تعبد من دون الله سبحانه قد تعدّدت وما زالت الذهنيات الشيطانية تتفتق عن المزيد، وشياطين الجن والأنس تصدّ عن صراط الله المستقيم (لأَقْعُدَنَّ

لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)(2)

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا)(3).

كل هذه من سمات وعلامات الجاهلية في كل زمان ومكان فما احوجنا إلى القرآن لينقذنامن حضيض الجاهلية إلى قمة الاسلام وقد جاء في الحديث ما مضمونه: (ان أواخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أوائلها) وقد صلحت اوائلنا بالقرآن فلنأخذبه فانه شفاء ونور وهدى ويصد عن العمى والضلالة، ولنكرس جهدنا في الاستفادة من قابلية القرآن وقدرته على علاج امراض البشرية والارتقاء بها في سلم الكمال فان القرآن خالد وحي ومعطاء الى يوم القيامة ومن خلوده قدرته على تشخيص الداء وتقديم الدواء لكل مجتمع في كل زمان ومكان.

ومن خطل تفكير هذه البشرية الضالة انها اذا عطل عندها ابسط جهاز أو اصابه خلل فانهم يراجعون في اصلاحه صانع الجهاز وعندما تصاب نفوس هذه البشرية التي هي اعظم المخلوقات واشدها تعقيداً بالانحراف يلتمسون العلاج من نفس المريض ويلجأون الى عقولهم القاصرة ليضعوا القوانين والتشريعات وهي عين الداء ولا يأخذون وصفة العلاج من خالق الانسان العظيم وهو هذا القرآن الكريم وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة أهل بيته العظام (عليهم السلام).

وما علينا الا ان نستشير كوامن القرآن ونلتمس منه دواء دائنا فاذا اصيب المجتمع بالتمزق والتشتت فاقرأوا عليهم قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)(4) وإذا اصيبوا بالجبن والخورفعلاجهم: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)(5) (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)(6) وإذا شكونا من سوء الادارة والتصرفات في الحوزة فأقرأوا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ - وهي الحواشي- لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا)(7)

وإذا مررنا بصعوبات في الحياة ومصائب ومشاق فالتمس الطمانينة والسكينة والتسلية في قوله تعالى: (الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(8)

و(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً

ص: 53


1- الاحزاب : 33.
2- الاعراف : 16- 17.
3- الاعراف : 86..
4- آل عمران : 103.
5- النساء : 78.
6- الجمعة : 8.
7- آل عمران : 118.
8- العنكبوت : 1-2.

وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(1).

واقرأ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُوَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)(2)

وإذا شعرت الأمة بالاحباط واليأس فعلاجه قوله تعالى: (وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(3)

و(مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ)(4)

واذا القينا مسؤولية الانحراف والظلم على غيرنا أوعلى الزمن فاقرأ: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)(5)

(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(6)

(وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(7)

وإذا انصاع الناس وراء الكثرة الكاثرة مما يسمى اليوم بالسلوك الجمعي أو الشياع أجابهم القرآن: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(8).

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ)(9)

(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)(10).

حفظ الوحدة الإسلامية

النقطة الثالثة: ومن الأهداف المهمة التي يجب على الخطباء(سددهم الله تعالى) تكريس أنفسهم لها: صيانة وحدة الحوزة و المجتمع والعمل على تحقيقها والوقوف بوجه كل المحاولات التي تؤدي الى تمزيق شمل الامة.

ان الاختلاف بوجهات النظر لا يستلزم التناحر والتشاجر ومن ثم التكفير وربما الحكم باستحقاق القتل، ان الاختلاف بالرأي سنة جارية بين ابناء البشر وقد قصَّ القرآن شواهد على ذلك حتى بين الانبياء وهم معصومون من الخطأ فعندما عبدت بنو اسرائيل العجل وكان موسى (عليه السلام) غائباً فلم يتخذ أخوه هارون (عليه السلام) إجراءً حاسماً خشية تفرق بني اسرائيل (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(11)

وفي موقع آخر(قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)(12)

فنفى السامري واحرق العجل، وكان الائمة (عليهم السلام) يتخذون اساليب متنوعة في سياستهم مع الحكام وعموم الأمة، لكن هدفهم كان واحداً لذا قيل (الأئمة (عليهم السلام): تنوع ادوار وهدف مشترك).

ان تحقق اية وحدة يجب ان يتضمن أمرين:

ص: 54


1- التوبة : 120-121.
2- البقرة : 214.
3- يونس : 87 .
4- الحجر : 56.
5- النساء :79.
6- الرعد :11.
7- المائدة : 117.
8- يونس : 103.
9- الانعام :116.
10- يونس :106.
11- الاعراف :150.
12- طه : 93.

1- احترام كل من الطرفين وجهة نظر الآخر ما دام الطرف الآخر مقتنعاً بها بالحجة المعتبرة عنده (لاإِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(1)

وحساب كل طائفة على الله سبحانه ولسنا نحن أولياء أمور الآخرة (وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(2)

و(لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)(3)

وإذا لم يكن الأمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف يكون لنا تكفير من يخالفنا الرأي ولا يشاركنا في قناعاتنا قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)(4).

2- التركيز على نقاط الالتقاء وغض النظر عن نقاط الاختلاف ولا شك ان نقاط الالتقاء كثيرة وتجمعنا اواصر عديدة هي اهم بكثير من المسائل الفرعية التي نختلف فيها.

وقد نهى الاسلام عن التنابز بالالقاب وقذف الآخرين بالصفات المشينة وهي توجب للقاذف ثلاثة آثار:

1- الجلد ثمانين.

2- الحكم عليه بالفسق.

3- عدم قبول شهادته.

فلنتق الله وليصُن بعضنا سمعة بعض وعرضه وشرفه وكرامته خصوصاً المتصدين للمنابر حيث تتلقف الجماهير منهم الكلمات بسرعة فمن اتقى واحسن فسييسره الله للحسنى ومن اساء فان له معيشة ضنكاً ويحشره الله يوم القيامة اعمى و عليه وزره ووزر من تسبب هو في ضلاله.

وليعلم الجميع ان وحدة المجتمع من وحدة الحوزة وتفرقه من تفرقها ولنتأدب بادب أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما سمع اثنين من اصحابه يشتمان معاوية واصحابه فنهاهما عن ذلك فقالا: اولسنا على الحق ؟ قال: بلى، ولكن اكره ان يكون اصحابي سبابين شتامين، قالا: إذن ادبنا بادبك يا أمير المؤمنين، قال ما مضمونه: بينوا لهم وجه الحق ليعرفوا اهله والباطل ليعرفوا اهله.

ان من اسباب الفرقة والتنازع التعصب لشخص أو اتجاه معين وهو سلوك باطل لان التعصب يجب ان يكون للحق، ولنتأمل طويلاً في قولهم(عليه السلام): (لا يعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف اهله) فليس الرجال معياراً لمعرفة الحق بل الحق معيار لتقييم الرجال، ان تقديس الذات شكل من اشكال العبادة والشرك والمبتلى بها يعمى عن رؤية الحق لان هذا التقديس يحجبه عن الرؤية الصحيحة.

والداهية العظمى سريان هذا الداء الى ابناء المذهب الواحد بل إلى افراد الحوزة نفسها التي يفترض ان هدفها واحد ومصيرها واحد وولاءها واحد لكن هذه الوحدة التي كان لها مركز هو ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وتشرذمت الى ولاءات شخصية متعددة ولم يَعُد أحد يفكّر بولائه الأصلي لله ورسوله ولامير المؤمنين بل لفلان وفلان ونشأت الفرق والأحزاب و(كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(5)

وتراهم يدعون الى الوحدة مع بقية مذاهب المسلمين بل مع البشرية جميعاً وهو شيء حسن دعانا اليه الاسلام فالناس صنفان اما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق-على تعبير أمير المؤمنين(عليه السلام)- لكن لماذا ننسى هذا الشيء فيما بيننا نحن ابناء

ص: 55


1- البقرة :256.
2- التوبة : 106.
3- آل عمران : 128.
4- الحاقة : 44-47.
5- المؤمنون : 53، الروم : 32.

الحوزة والمذهب الواحد انه للعجب العجاب !! هل يكفي مبرراً لذلك ان فلاناً رأى تكليفه ان يفعل كذا مما يراه الآخر تهوراً وان فلاناً رأى تكليفه ان يفعل كذا مما يراه الآخر تقصيراً وتخاذلاً ؟

ان جعل الهدف هو الأشخاص ينافي الاخلاص أولاً ويشوش الرؤية ثانياً وهو الخلط الذي وقع فيه المسلمون في صدر الاسلام عندما قارنوا علياً (عليه السلام) بغيره فقالوا كلّهم من السابقين للاسلام وبدريون واحديون وغيرها من الصفات ولئن تفوّق علي (عليه السلام) ببعضها فلم يجدوه فرقاً كبيراً فضاعت الحقيقة في ضبابية هذه الرؤية، ولكنهم لو قارنوا بين فكرتين ومبدأين، أحدهما: يقول ان الإمامة منصب الهي لا يعرف مستحقه الا العالم بالسرائر الذي يحول بين المرء وقلبه وهو اقرب اليه من حبل الوريد وبين يديه قوله تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)(1)

ومقتضاه ان تكون الإمامة لعلي (عليه السلام) وبنيه المنصوص عليهم، وثاني المبدأين يقول انها بالاختيار فهي متروكة للبشر يغلب القوي منهم الضعيف حتى آلت إلى من اشتهر فسقهم وكفرهم، ولا اعتقد ان احداً يتردد في اختيار احد الطرفين بينما عندما كان النزاع بين شخصين لم تكن النتيجة بهذا الوضوح.

فليكن حوارنا مبنياً على اسس وموازين علمية بعيداً عن التحزبات والاهواء والولاءات الشخصية لكن لا نفقد الرؤية الصحيحة (اللهم ارني الحق حقاً وارزقني اتباعه والباطل باطلاً وارزقني

اجتنابه ولا تجعله علي متشابهاً فاتبع هواي بغير هدى منك).

إن هذه الدعوة للم الشمل لا تعني المداهنة في أمر الله سبحانه وانما الذي، اقوله هو نبذ العنف والتفسيق والتكفير والسب والشتم وتبادل التهم والتعويض عنه بلغة الحوار والادلاء بالحجة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(2)

وقد دعانا القرآن لذلك مع الكفار فضلاً عن الأخوة المؤمنين (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(3)

(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي)(4)

(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(5)

و ان الذي يلجأ إلى العنف هو من لا حجة له فيصمّ اذنه عن سماع الحق كما كان يفعل المشركون والكفار عند مواجهة الانبياء والرسل لهم بالهدى والبينات اما المؤمن فهو قوي بحجته وإيمانه لا يتزلزل والقرآن الكريم حافل بالحوارات بين المؤمنين والكافرين فلنتأدب بادبه.

ثم ماذا ينتظر الخائضون في هذه الفتن غير سقوطهم جميعاً بسبب ما يكشف بعضهم من زيف البعض الآخر وما يلقى عليه من اتهامات وشكوك ولك ان تتصورالنتيجة عندما يسقط جميع العلماء من اعين المجتمع فتبقى الأمة بلا قيم عليها تسير بغير هدى ففي خطبة الزهراء (عليها السلام) عندما ذكرت بعضاً من اسرار التشريع قالت (عليها السلام) ما مضمونه: فجعل

طاعتنا نظاماً للملة وامامتنا اماناً للفرقة ( راجع كتاب الاحتجاج)، ان هذه المؤامرة خطرة وقذرة لا يشعل اوراها إلا جاهل أو مرتزق.

ان المؤمن الحقيقي إذا بلغه نقد أو توبيخ نظر فان كان الذي قيل موجوداً فيه حمد الله تعالى على هذه النصيحة والهدية الثمينة وسعى في تجاوز هذا الخطأ وعلاجه خصوصاً إذا كان صادراً من مؤمن، وان لم يكن فيه حمد الله على السلامة ولا يرد الصاع صاعين، كان أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يغضب لنفسه ولا يتأثر لها وانما يغضب لله وللحق وله كلمة في ذلك اني اسكت ما دام الظلم محدقاً بنفسي فقط ولا يتعداها الى الحق، وموقفه من عمر بن عبد ود

ص: 56


1- النحل : 68.
2- الأنفال : 42.
3- البقرة : 111.
4- هود : 283.
5- النحل : 125.

في معركة الخندق في الرواية المشهورة.

ان من أهم مشاكلنا عدم التمييز بين الاعداء والاصدقاء فهذه النفس الامارة بالسوء هي اعدى اعدائنا -كما في الحديث- وهي في داخلنا وبين جنبينا فهل انتهينا من قهرها حتى نتفرغ لمعاداة الآخرين.

يجب ان نلتفت الى ان المخالفين لنا في الرأي على صنفين:

الأول: وهو مجرد مخالف لنا في الرأي فهذا الذي ننظر إلى نقاط الالتقاء معه ونغض النظر عن نقاط الخلاف، وما لم نعاديه فانه لا يعادينا.

الثاني: الذي لا يكتفي بمجرد المخالفة وانما يتربص بنا الدوائر ويقف حجر عثرة في طريق الاصلاح ومهما حاولنا ثنيه عن ذلك لا ينثني، فهذا الذي نعاديه إذا استنفدنا كل الطرق للتقارب معه.

وبهذا التصنيف نستطيع ان نفهم طائفتين من الآيات الشريفة:

الأولى: مثل قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(1).

والثانية: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)(2)

(قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)(3).

انتماء المنبر للحوزة

النقطة الرابعة: جعل المنبر عموماً والمنبر الحسيني خصوصاً تحت اشراف الحوزة فانه اوسع ابواب الاتصال بالمجتمع واشدها تأثيراً في النفوس لانه يستمد قدسيته ومكانته من صاحب المناسبة، وقد فقدت الحوزة هذه القناة المهمة حين تخلّت عنه وتركته أحياناً بيد متطفلين همّهم تحصيل الأموال واستدرار الدموع ولو بالروايات المكذوبة التي تسيء الى أهل البيت (عليهم السلام) وعلّو منزلتهم.

وفقد المنبر هو الآخر اهميته وهيبته في المجتمع بسبب هذه النظرة له وعدم توفر غطاء من الحوزة له، فاذا كسبت الحوزة المنبر الحسيني استطاعت تسخير هذه القناة لاسماع صوتها وقطعت الطريق امام المرتزقة والجهلة وشجعت ذوي الكفاءات في هذا المجال على السير فيه باطمئنان لانه سيرى الضمانات التي توفرها له الحوزة بدلاً من القلق على مستقبله والحرص على تكثير المجالس لتوفير المال مما يؤثر على جودة عطائه.

كما ان المنبر سيمتلك قوة في التاثير يستمدها من السلطة الروحية للحوزة ومن القابليات العلمية التي ستتصدى له وهذه من النقاط التي جعلت قوة التأثير لمنبر الجمعة اكثر من المنبر الحسيني.

وان خطباء المنبر ليستطيعون أكثر من اية وسيلة أخرى على شد الناس إلى مرجعيتهم والالتفاف حولها وطاعتها كما تستطيع على العكس من ذلك هزّ سمعة المرجعية والتشكيك فيها والنيل منها وتنفير الناس عنها.

وتحصل هذه الرعاية من لدن الحوزة بانشاء درس لتعليم فن الخطابة ومقوماته ومؤهلات الخطيب وكيفية اعداد الخطبة والمحاور التي ينبغي ان يدور الحديث عنها، ثم تعقد جلسات اسبوعية يرتقي الطلبة فيها المنبر ليتعلموا ويتدربوا ولتكون فرصة لتوجيههم وبيان نقاط القوة والضعف فيهم ويزوّد الخطيب الناجح بشهادة اعتراف وتاييد من قبل الحوزة العلمية

ص: 57


1- البقرة : 256.
2- البقرة : 195.
3- التوبة : 122.

وتقدم له الضمانات المالية كبقية طلبة الحوزة كما تقدم له الدعم المعنوي بالدعوة اليه والترويج لاسمه وتوجيه الوكلاء في مختلف المدن الى التزامهم والتعامل معهم.

الخطابة النسائية

النقطة الخامسة: ان اصلاح (الخطابة النسائية) اذا صح التعبير وتهذيبها مشمول بما قلناه بل الحاجة فيه اشد لانها ما زالت متخلّفة وبعيدة عن الهدف فتحتاج الى نهضة قوية واذا كان منبر الرجال قد تقدم خطوات بتصدي الحوزة له فان عدم وجود حوزة للنساء يجعل المنبر النسائي متأخراً، من هنا تدعو الحاجة الى حث المرأة على التوجه الى الدراسات الدينية فان قضايا المرأة عندما تتصدى لبيانها ومعالجتها امرأة تكون ادق واصوب وادعى لانفتاح النساء عليها، فليبدأ اخواني الطلبة الذين منهم تكون البداية وعليهم تقع المسؤولية بتثقيف زوجاتهم واخواتهم وبناتهم ومن يليهم من النساء حتى

اذا اطمأنوا الى قدرتهن على ايصال العلم الى غيرهن وفّروا لهن هذه الفرصة من خلال مجالس التعزية أو حفلات الزواج وسائرالشعائر الدينية والمناسبات الاجتماعية.

ان تخلّف المرأة يعني تخلف نصف المجتمع بل كل المجتمع لانها المدرسة الأولى التي تحتضن الطفل وترعاه وتربّيه فإذا كانت متعلمة متدينة سهّلت المسير لابنائها نحو الكمال.

وعلى الكتّاب والمثقفين وحملة العلم ان يولوا هذا الجانب من هو جدير به من الاهتمام فيضعوا المناهج المناسبة التي تأخذ بيد المرأة وعدم الاكتفاء بما هو موجود لان الشعور بالمسؤولية والاندفاع نحو التطبيق تجاه الكتب المخصصة لها ولاية شريحة في المجتمع يكون أكثر بشكل ملحوظ مما لو كان الكتاب عاماً ويخاطب المجتمع فيتعب الشخص نفسه وهذا هو أحد المبررات المهمة التي تدفعنا الى انشاء (الفقه المتخصص) شأنه شأن سائر العلوم التي تعمقت وتوسعت بانشاء التخصصات فيها.

مكونات مادة الخطبة

النقطة السادسة: ان اختيار مادة الخطبة لا ينبغي ان يكون اعتباطياً ووفق ما تشتهيه نفس الخطيب أو ما يشعر انه يحسنه أو يتبارى لاظهار القدرات المختلفة حتى يقال عنه انه ماهر وانه ناجح، أو انه وجد موضوعاً جاهزاً في كتابٍ ما فاستوعبه لينقله الى الجمهور فكل هذه اهداف تنافي الاخلاص وهي بعيدة عن الهدف الحقيقي وقد يسيء صاحبها اكثر مما يحسن من حيث يشعر أو لا يشعر وقد ولى زمان (الترف الفكري) حيث لا تمثل المجالس-في احسن صورها- الا كمّاً من المعلومات التي تغذي العقل لا الروح ولا تترك اثراً على السلوك حتى لو دأبت على حضورها سنين طويلة ولا تنفع الا كثقافة عامة لا ازيد ولو لا ارتباطها بقضية الحسين (عليه السلام) لما كان فيها أي منفعة، فلابد من تحديد المحاور والخطوط العامة التي تندرج فيها الخطب بالامور العريضة التالية:

1- ترسيخ العقائد الحقة ومحاولة الاستدلال عليها بامور وجدانية أو برهانية مبسطة وردّ الشبهات الموجهة ضد الدين أو المذهب و التي علقت في اذهان العامة من دون اثارة شبهات واشكالات جديدة لا توجد الا في بطون الكتب وعقول السفسطائيين فقد تنقدح الشبهة في اذهان الجالسين ويصعب ردُّها وازالتها فيتحمل الملقي مسؤوليتها (ومن كسر مؤمناً فعليه جبره).

2- نشر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) وبيان حقهم وادوارهم في حياة المسلمين وعملهم على ترسيخ دعائم الاسلام الحقيقي وما عانوه من مصائب وويلات في سبيل الله

ص: 58

سبحانه واستعراض سيرتهم خصوصاً في مناسباتهم (عليهم السلام) وعدم الاكتفاء بالسرد التاريخي بل لابد من استخلاص العبرة واستلهام الدروس.

3- ما ذكرناه من الاستفادة من القرآن في بعث الهمة لدى المجتمع وتحفيزه الى طاعة الله سبحانه ونيل رضاه ومعالجة مشاكله وادوائه والاهتداء بهديه واستلهام الدروس منه في إصلاح النفس والمجتمع ولنأخذ من سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) درساً فانه طيلة مكثه في مكة وهي ثلاث عشرة سنة كرس عمله لترسيخ العقائد وتصفية النفوس ووعظ القلوب بما ينزل عليه القرآن من مشاهد يوم القيامة وعاقبة المؤمنين والكافرين وآيات الله تعالى في مخلوقاته وقصص الأمم السالفة لبيان سنن الله في خلقه حتى انقادت له (صلى الله عليه وآله وسلم) القلوب والنفوس قبل الابدان وعلم منهم الصدق و الطاعة والتضحية ثم حمّلهم التشريعات فاستسهلوا امرها رغم ثقلها وتستطيع ان تخرج بهذه النتيجة عن طريق المقارنة بين القرآن المكي والمدني.

4- الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والنقد البناء لاي سلوك منحرف فان هذين الواجبين هما صمام أمان المجتمع المسلم ولو التزمت الأمة بها لنالت خيراً كثيراً ولأكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم وتركهما يعني انحدار الأمة وانهيارها وبالمقابل فان النتائج المترتبة عليهما لا يحققها أي عمل آخر، كما ان المفاسد والشرور المترتبة على تركهما عظيمة قلما يوجد نظيرها في ترك غيرها والقرآن والسنة حافلان بالحث عليهما والتحذير من التفريط فيهما، بل جعلا ميزة هذه الأمة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)((1)

عكس الأمم السابقة التي ذاقت وبال تركها (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)(2)

وهما – كما في الحديث- لا يقرّبان أجلاً ولا يقطعان رزقاً ولم يخرج الحسين (عليه السلام) إلا لهما (اني ما خرجت اشراً ولا بطراً ولا مفسداً وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لآمر بالمعروف وانهى عن المنكر) وليكن تطبيقها في ضوء ادب القرآن (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).(3)

لا بالتعنيف والزجر واللوم والتقريع فان المجتمع كما يضم بعض السلبيات كذلك فان فيه بعض الايجابيات فليكن الخطيب منصفاً في عرضهما على المجتمع (وَلاتَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)(4).

5- التأكيد على ارتباط المجتمع بالمرجعية وان لا يخطوا خطوة ولا يفعل امراً ولا يحل عقدة الا بعد ان يعلم رأي المرجعية لأن العلماء (امناء الرسل وحفاظ الشريعة) وهم (ورثة الأنبياء) وهم –على تعبير الإمام الصادق (عليه السلام) (حجّتي عليكم وانا حجة الله والراد عليهم كالراد علينا).

ان عامة الناس يقودها الهوى وتسوقها العاطفة وعقلها العلماء المخلصون فإن قدمّوهم افلحوا وان تخلّفوا عنهم أو املوا عليهم ارادتهم وارغموا علماءهم على ان يسيروا وفق اهوائهم ضلوا فالعلماء عقل الامة المفكر والخطباء وطلبة العلم عيونها والمجتمع هو اليد واليد تنفّذ وتُدافع وتساعد واي اختلال في توزيع الادوار يؤدي الى الفشل.

ص: 59


1- - المائدة: 115.
2- المائد ة: 79- 81 .
3- النحل : 125.
4- الاعراف : 85 .

6- الوعظ وتهذيب النفوس وارشاد القلوب واحياؤها ففي وصية الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام): (يا بني احيي قلبك بالموعظة وامته بالزهادة) وورد الحث الكثير على ان تجعل زادك الموعظة فان القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد وجلاؤها في ذكر الموت وتلاوة القرآن وتوجد كتب نافعة في الموعظة كإرشاد القلوب للديلمي ونهج البلاغة. فكم سيكون المجلس نافعاً

لو كرسته لتتلوا على الجالسين خطبة أمير المؤمنين في وصف المتقين وتطلب منهم ان يطبق كل واحد منهم فقرات الخطبة على نفسه ليرى كم من تلك الصفات متحققة فيه.

ان هذا الجانب من الجوانب المهمة التي خلت منها مجالس (الترف الفكري) وقد كان السلف يهتمون بها لذلك تجد القلوب عامرة بالايمان والارواح تسمو في افق الكمال حتى ضاعت في المدارس الحديثة للخطابة وصرت لا تسمع إلا آية فيها عدة بحوث وفي كل بحث عدة اقوال فيخرج المستمع خالي الوفاض من أية فائدة روحية يفترض ان المنبر قد اسس لها إلا من ذكر أبي عبد الله (عليه السلام) الذي هو سر النجاح والبقاء والديمومة.

7- بيان الأحكام الشرعية والمسائل التي يكثر الابتلاء بها وتصحيح العبادات والمعاملات التي لا توافق الشريعة وتهذيب الواقع المعاش وفق القانون الالهي.

8- الاستفادة من المادة التاريخية خصوصاً تاريخ صدر الاسلام لانه الاساس الذي نشأت من اختلاف احداثه الفرق والمذاهب المتعددة فلا بد من دراسته وفحصه بعمق وتحقيق حتى يتبين الرشد من الغي ويعرف الحق لأهله.

الملكات النفسية والعقلية للخطيب

النقطة السابعة: ومن مقومات شخصية الخطيب بعض الملكات النفسية والعقلية ومنها:

1- الثقافة الواسعة والاطلاع العريض على مختلف حقول المعرفة من تاريخ و ادب وعلوم عصرية وتفسير

وسِيَر اضافة الى العلوم الحوزوية وسائر ما يتربط بمهمته، وان تكون معلوماته دقيقة و مأخوذة من المصادر الموثوقة ولو بان يتعب نفسه في تحقيقها وان يكون مستحضراً لمعلوماته حتى لا تخونه الذاكرة.

2- الاحساس المرهف والنظرة الصائبة لما يدور في المجتمع وتعانيه الأمة وتشخيص مشكلاتها وتلمّس العلاج لها.

3- الشجاعة والجرأة والحزم حتى لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يخشى في الحق شيئاً.

4- سعة الصدر فانه آلة الرئاسة ليستطيع استيعاب الناس بمختلف مستوياتهم واتجاهاتهم وقد امرنا بمداراة الناس وينبغي ان يتنازل عن انانيته ويتمتع بنفس كبيرة فيتقبل النقد والتوجيه.

5- الاخلاص والصدق فيما يلقيه فان ما يخرج من القلب الى القلوب ويؤثر في المستمعين وما يخرج من اللسان لا يتجاوز الآذان ولأمير

المؤمنين (عليه السلام) بهذا المضمون: (اني ما دعوتكم إلى طاعة الا كنت أول من يؤديها، ولا نهيتكم عن معصية الا وكنت أول من يجتنبها)، فعلى الخطباء ان يكونوا امثلة تطبيق لما يقولون (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)(1).

6- جودة الحفظ فان المجلس او الخطبة التي يلقيها تتطلب تعزيز الافكار بالشواهد من الآيات الشريفة والاحاديث والشعر النافع المؤثر.

ص: 60


1- الصافات : 2-3.

7- حسن الصوت وفصاحة اللسان وعذوبة البيان ويمكن تحسينها كسائر الملكات بالممارسة المستمرة والاطلاع على النصوص الكثيرة وحفظها والتطبع بها.

8- الفطنة في معرفة ما يناسب الحال وعدم تجاوزه فلكل مقام مقال وان تكون له المهارة في التقلّب بين التصريح والتلميح، ويتطلب ذلك ذكاءً شديداً وفراسة صائبة وبديهية سريعة يعالج بها المواقف المفاجئة.

9- التنزه عن متاع الدنيا الرخيص، وعلو الهمّة والرغبة بما عند الله سبحانه فان النظر الى ما في ايدي الناس والسعي الى تحصيل المال ينافي الاخلاص اولاً ويضعف من تأثير الخطباء في النفوس.

10- إجادة طرق الرثاء وحفظ المرثيات المشهورة حتى يتفاعل الجمهورمعها وتؤثر فيه مباشرة لذا تجد تجاوب المستمعين ضعيفاً مع ما لم تألفه اذهانهم.

11- المحافظة على وحدة الموضوع مهما جرّته بعيداً التفريعات والاستطرادات ويستعين على ذلك باعداد الموضوع مسبقاً وتثبيت رؤوس افكاره وخطوطه العامة في ورقة صغيرة يراجعها ويستحضر بها تفاصيل مجلسه.

12- ضبط قواعد اللغة العربية فان الاساءة في تطبيقها يؤدي الى اشمئزاز المستمعين ونفور نفوسهم عن الاستماع مما يضيع جهده.

13- تدقيق الآيات الكريمة وضبط نصوصها قبل الاستشهاد بها فن الخطأ فيها يعدُّ ذنباً كبيراً.

تحييد المنبر

النقطة الثامنة: (تحييد المنبر) وعدم اتخاذه واجهة لأية جهة دينية أو اجتماعية، ابتداءً من أعلى جهة وهي المرجعية وانتهاءً بما دونها وجعله معبراً عن الدين والمذهب كله وموصلاً لصوت المرجعية جميعاً فان من شأن انحيازه الى شخص ما أو جهة ان يحجّم دوره ليصبح مقتصراً على فئة معينة مضافاً الى ما يحدثه من تذويب للأهداف الرئيسية العامة في مصالح شخصية خاصة، بل يؤدي الى التشتت وجرّ الفئات الأخرى الى معارضته والعمل على إفشاله لانهم يرون نجاحه نجاحاً للجهات الاخرى، فالنجاة من هذه السلبيات بالارتقاء باهدافه فوق الانانية والاهواء الشخصية والولاءات الهامشية.

عدم التعرض إلى ما يؤدي إلى تعطيله

النقطة التاسعة: تجنيب وابعاد ليس المنبر فقط وانما الحوزة كلها عن كل ما يؤدي إلى الاضرار به أو انهائه وعدم اعطاء الذريعة والمبرر لتعطيله كالتعرض إلى السياسة فان مثل هذه التصرفات تكون تهوّراً واضراراً بلا نفع ويتحمل تبعتها من يشعل فتيلها ولا ينبغي لعاقل ان تقوده العاطفة وتسيّره الاهواء، ولا يفعل الا ما يراه حجة بينه وبين ربّه.

كيفية اعداد الخطبة

النقطة العاشرة:ان اعداد الخطبة لا يقلّ اهمية عن كتابة أي بحث يتناول موضوعاً معيناً أو يعالج مشكلة فلا بد ان تتوفر في الخطيب القدرة على الكتابة والتأليف وعرض الافكار بشكل متكامل ويتطلب ذلك ممارسة طويلة وجهداً مضنياً وبحثاً واسعاً.

وأول خطوة تكون بتحضير عنوان الموضوع الذي يريد ان يتناوله مما يندرج ضمن المحاور التي تقدم ذكرها وان يكون من الواقع المعاش ثم يفحص عمّا يخصه في كتاب الله

ص: 61

وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته ثم يجمع اراء المفسرين والكتاب والعلماء في هذا الموضوع ويستخلص من الجميع مادة الخطبة ويعزّزه بالشواهد والاحداث التاريخية والادب العربي والقصص الهادفة ومن خلال ذلك يتلّمس آية كريمة يجعلها عنوان بحثه ومفتتح مجلسه و بقصيدة من الادب الرفيع الذي يتذوقه الجمهور ان كانت المناسبة تخص ذكريات أهل البيت (عليهم السلام) أو خطبة مناسبة من نهج البلاغة أو كلمة مأثورة ثم يبدأ بالقاء البحث حتى يخلص إلى مصاب أبي عبد الله (عليه السلام) بحسب ما أوتي من مقدرة وفن.

ومن الغريب ما ذكره بعضهم أن تبدأ حين إعداد الخطبة بتعيين الآية ثم تفتش عن تفسيرها والأقوال فيها إلى آخر ما قال وكأن المقام درس تفسير حيث أتخذ الآية غاية وهدفاً والمفروض جعلها وسيلة لتعزيز الفكرة إن هذا الكلام من يسير على غير هدى وليس له وضوح في الهدف.

مثلاً تشخص حالة منكرة في المجتمع وهي الفرقة والتنازع والتشتت ونبز بعضهم بعضاً بما يشين، فتجعل عنوان محاضرة عن وحدة الامة وذم الفرقة بين ابنائها وتقلّب في المصادر عن هذا الموضوع كما ذكرنا وستجد من الشواهد قوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا

بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) فتجعلها افتتاح الموضوع وتستشهد بالمؤاخاة التي عقدها النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في بداية هجرته وقول الشاعر (تأبى العصيُّ إذا اجتمعن تكسّراً ...) ونحوها.

نصائح عامة

1- لا ينبغي للخطيب ان يشترط الأجرة لعدة أمور:

أ- إن قصد تحصيل المال ينافي الاخلاص ومن المؤسف ان يرتضي الانسان هذا الثمن البخس عوضاً عن العطاء الالهي الذي لا حدود له.

ب- إن ذلك يصغره في عين المجتمع فلا يقبل منه وتقلّ فائدته لانه في نظرهم أجير يعمل باجرته وليس داعياً إلى الله ومرشداً إلى دينه.

ت- ان الطمع بما في ايدي الناس يصدّه عن بيان الحق ويدفعه إلى مجاملتهم والمداهنة على حساب الحق فيعمل على ارضائهم لا رضا الله سبحانه وكفى بذلك خسراناً مبيناً.

وقد يحرم أخذ الاجرة إذا كان ما يؤديه واجباً كبيان الاحكام الشرعية وتعليم الجاهل، واذا اردنا ان نتوسع في الحكم فسنقول بالحرمة مطلقاً لان جميع ما يبيّنه يدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما واجبان وهذا الحكم على المستوى الاخلاقي أكيد وان لم يكن كذلك على المستوى الشرعي.

نعم، لا بأس بقبول الهدايا والصلات إذا لم يكن شيء من التأثير السلبي المتقدم.

2- عدم تكثير المجالس لانها ستؤثر سلباً على عطائه وتمنعه من تطوير الملكات والقابليات وتبقيه في دائرة اجترار القديم وهو نقص طبعاً وإذا كان عذره سد احتياجاته المادية فقد تقدم بعض الحلول لهذه المشكلة وهي رعاية الخطباء من قبل المرجعية باعتبارهم من افراد الحوزة الشريفة وتوفر حقوقهم كبقية طلبة العلوم الدينية.

3- عدم تصدّي إمام الجماعة للخطابة باجرة في المكان الذي يؤم الناس فيه لان أخذ الاجرة يجعل يده السفلى والمفروض فيه كإمام جماعة ان تكون يده العليا.

4- الجدّ والاجتهاد ومواصلة الدراسة والبحث سواء على مستوى الدروس الحوزوية أو العلوم المكمّلة لشخصيته ولا يضيع وقته في امور غير هادفة.

محمد اليعقوبي- النجف الاشرف

12-14 من ذي الحجة 1420

ص: 62

ص: 63

الفصل الرابع: ثمار الخطابة بين المنبر الحسيني ومنبر الجمعة

اشارة

ص: 64

ص: 65

تعريف بالكتاب

عقب استشهاد السيد الشهيد (قدس سره) عام 1419ه- - 1999م وغياب صوت الحق الهادر ساد المؤمنين شعور بالاحباط، ولم يعوض عن منبر الجمعة منابر الخطباء الكثيرة فأثار سماحة الشيخ اليعقوبي تساؤلاً امام طلبة المرحلة الأولى في جامعة الصدر الدينية آنذاك عن السر في ما احدثه منبر الجمعة من اصلاح وتغيير اجتماعي في اقل من سنة مما عجز عن احداثه المنابر الاخرى طيلة عقود وقرون، فما الفرق بينهما ؟ وعبّر كل واحد من الطلبة عن وجهة نظره وعلق سماحة الشيخ على ما كتبوه ثم دفعها الى اثنين من فضلاء طلبة جامعة الصدر وهما المرحوم الشيخ صادق باقر والسيد احمد الجيزاني ليعيدوا تنقيح الافكار وتهذيبها وفق هيكلية معينة اعدَّها لهما فكان هذا الكتاب الغني بالفوائد المعمقة، فبورك جهد الجميع.

الناشر

ص: 66

مقدمة الجمعة والنصر المبين

مما لاشك فيه أن المنبر الحسيني يحضى بقيمة عالية في التأثير وإيجاد الإصلاح في ربوع المجتمع وهذا متأتٍ من القيمة الكبيرة والتضحيات الجسيمة التي بذلها الإمام الحسين (عليه السلام) وذريته وأصحابه في سبيل ديمومة الدين الإسلامي وإيصال مبادئه إلى جميع الأجيال في كل ارض المعمورة .

وقد حاولت الدولة الأموية في حينها طمس معالم الحركة الحسينية المباركة وتشويه مظهرها وتهميش وجهها الناصع وتعطيل دورها ، لكن انبرى المنبر الحسيني يومئذٍ مدافعاً عن قيمته ومحتواه الثر.

وهذا المنبر يومئذٍ لا يتصور كما هو اليوم وإنما كان وجوده كمضمون متمثلاً بالخطب الأولى التي عقبت استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) كخطبة السيدة زينب (عليها السلام) في مجلس

عبيد الله ومجلس يزيد وخطبة أم كلثوم في الكوفة وخطبة الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الشام وأدعيته التي بث فيها فضائل أهل البيت (عليهم السلام).

فكانت هذه الأدعية تعد الباكورة الأولى في إعداد وإنشاء الصرح العظيم (المنبر الحسيني) الذي شق طريقه بنجاح في الثورة الحسينية وأبعادها وأهدافها وبواعثها ونتائجها وما احتوت من دروس وعبر . نعم شق طريقه يحافظ على دين الإسلام بعدما اجتاح منبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من كان ألد أعداء الإسلام واستمر يشق طريقه في أداء وظيفته الشرعية في إصلاح المجتمع الذي من اجله ثار أبو الشهداء (عليه السلام) وأزال الرين الذي غشى وجه المجتمع بسبب ابتعاد مقود القيادة عن أهل البيت (عليهم السلام) فلم يفتأ المنبر الحسيني الشريف يلهب الثورة الحسينية طاقة في جسد المجتمع المؤمن فكان له بادئ بدء الأثر الواضح في اندلاع الثورات وإيجاد الصحوات التي هدت وزعزعت أركان الدولة الأموية.

لكن القرون الاخيرة شهدت ابتعاد المنبر الحسيني عن جوهره الحقيقي وانحلت عراه عن عرى القضية الحسينية فعاش شيئاً من الأفول وحالة من الاضمحلال بسبب رائديه وأسباب أخرى ذكرناها في خلجات بحثنا هذا فصار المجتمع لا ينتهل من عبيره شيئاً وتضائلت الفائدة كثيراً لتفريغ المنبر من محتواه وصار المجتمع يعيش تيهاً فكرياً وتسيباً عقائدياً .

وربما لا يلتفت الكثيرون من أبناء المذهب الإمامي إلى ظاهرة انحسار المنبر الحسيني وتقهقره عن دوره الذي أُعِدَّ له ولكن بمجيء الجمعة فقد بان الفرق شاسعاً ولوحظت عوامل الخمود في المنبر الحسيني ومظاهر الركود الذي انتابته والجمود الذي حل فيه والركود الذي عمه فقد شاهد كل لبيب مدى التأثير الذي حققته الجمعة في أوساط المجتمع العراقي ومدى اتساع رقعة التغيير التي أجرتها الجمعة وفي زمن بسيط نسبياً.

فلماذا تباطأ المنبر الحسيني عن سيره في إيجاد المجتمع الصالح ؟ ولماذا يصدح المنبر الحسيني عشرات السنوات الأخيرة دون جدوى ؟ ولماذا تأخذ الجمعة بزمام الأمور وتُحدث ما أحدثت من تغير وتأثير في صفوف المجتمع بعدما أصبح يعيش في مدلهمّات الفتن ويحلق الشيطان في جوّه منحل العرى ضعيف القوي بعيداً عن ربه تاركاً لدينه متبعاً لغيّه ؟

ولذا شرعنا نفكر في إعطاء الأسباب التي آلت إلى هذا المصير فأجرينا هذه الدراسة عن معرفة ما يتمتع به المنبر الحسيني من خصائص في وقتنا الحاضر وما تتمتع به الجمعة من سمات أوجدت هذا النصر المبين.

وكان لدى إلقاء نظرة إجمالية على مجموعة من الاسباب ان تحصَّل لدينا أن هذه الأسباب متأتية من جوانب أربعة في صلاة الجمعة يمكن تصنيفها بالشكل التالي:

الجانب الأول: الآمر بها وهي المرجعية.

الجانب الثاني: الخطيب المنفذ.

ص: 67

الجانب الثالث: نقاط القوة في منبر الجمعة ويقابلها نقاط الضعف في المنبر الحسيني المتأتية من رائديه والمتصدين له.

الجانب الرابع : المجتمع المأمور.

ص: 68

الجانب الأول : المرجعية الفذّة التي دارت رحى هذه الفريضة المقدسة

1- الحضور القيادي : نزول القيادة المتمثلة بالمرجع نحو أحضان المجتمع وحضورها بين أفراد المجتمع وهذا الجانب ولّد مستويات مختلفة من الشعور في أذهان المجتمع وهي:

أ- شعوره بتكامل الحجة من قبل الله تعالى عليه وتهيؤ الأسباب لممارسة الإسلام بصورة عملية مما جعل خطب الجمعة تمسك بزمام الحياة وتُحدث في خلجات المجتمع من التغيير و التأثير ما شاهدناه.

ب- شعوره بأن هذه الفريضة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقائد الآمر بها خلافاً للمنبر الحسيني في ما مضى حيث امتاز بانتمائه إلى القيادات الكثيرة المتبعثرة المستقلة والتي لا تنتمي إلى قاعدة مركزية واحدة مثلما موجود في الجمعة .

ج-- والشعور أعلاه يُولد لدى الأفراد أن هذه التوجيهات الملقاة في خطبة الجمعة إنما هي متأتية من المرجع وذلك لأن هؤلاء الخطباء امتازوا بوجود الموجه له.

د- احترام المجتمع لأقوال العلماء وأعني به المذهب الشيعي على وجه الخصوص وعلى مر العصور كما هو مذكور ومشار إليه في كتاب الإمامة وقيادة المجتمع . فهم يرون صورة الإمام المعصوم الغائب - بمشيئة الله عنهم- ويحترمون أوامر المجتهد بل يتعاملون مع هذه الأوامر بالمعصومية على اختلاف في مستويات التزامهم وإخلاصهم وأفاق تفكيرهم وهذا ساعد على التفاعل مع مضمون خطب الجمعة.

وفذلكة لما مر نحصل على نتيجة في غاية الأهمية وهي: إن غياب القائد والموجه المتمثل بالمرجع الفذ له الأثر الكبير في خمود النصوص وجمود الشعائر وعدم فاعلية هذه المحاضرات الملقاة في المجالس الحسينية لعدم الحضور القيادي عن يمينها وشمالها خير شاهد على ذلك إن القران الكريم هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم وفيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا والحكم فيما بيننا ومع ذلك فهو لا يضيء الدرب لوحده ولا يروي الظامئ ما لم يكن إلى جانبه قرناؤه وتراجمته وهم آل محمد ومعلوم ان امتداد إمامتهم مناطة بالفقهاء العدول وليست المجالس الحسينية بأعلى شأنأً من القران الكريم لذا فلا يتوقع منها أن تؤتي أكلها مع عدم ارتباطها بالمرجع المشرف ولذا أصبحت توجيهات هذه المجالس غير عاملة في المجتمع بل كانت معطلة من حيث التطبيق.

2- إيجاد الظرف الموضوعي: انطلاقاً من مبدأ لا أمر لمن لا يطاع عمد السيد الصدر (رضوان الله تعالى عليه) إلى تهيئة النفوس وإعداد المجتمع لان يكونوا ظرفاً موضوعياً صالحاً لتنفيذ الأفكار والتوجيهات والأوامر المولوية كما كان الأمر في بدء الدعوة الإسلامية حينما عمد القران إلى بيان العقيدة الحقة ونقض الأوهام والخرافات البالية كما هو واضح في السور المكية ثم توجه القران في السور المدنية إلى بث التعاليم السماوية في المجتمع المدني بعد رسوخ أصول الدين لدى أفراده.

فقد تقدم على صلاة الجمعة سلسلة من المعالجات لمواطن الضعف والخلل والسلبيات التي انتابت الإنسان وعشعشت في نفسه وفكره وصيرته بعيداً عن ربه ودينه. فعمد السيد إلى استقطاب الجماهير وإجراء المعالجات بحكمة بالغة في بادئ بدء أدت إلى حركة إصلاحية متمثلة بإحياء الظاهرة الدينية في الشارع بقيادة السيد (رضوان الله تعالى عليه) فجاءت بعد ذلك توجيهات ومعالم مهمة اتخذت طريقها إلى المجتمع عن طريق خطب الجمعة. فكان أمام هذه التعاليم ارضاً خصبة وظرفاً موضوعياً يحتويها. ومن ثم صار التفاعل بين الأوامر والمجتمع فعالاً ومجدياً ونافعاً ومثمراً على نحو ما شاهدناه ولمسناه. وفي المقابل أوضحنا كيف كان المجتمع بعيداً عن ربه ودينه فكانت المحاضرات الملقاة في المجالس الحسينية تحاول هباء

ص: 69

أن تبني صرح الدين -المتصدع بفعل الطواغيت- على أنقاض المجتمع القديمة بعدما ساده الانحراف فكان من الطبيعي أن تقف هذه المحاضرات عاجزة عن تحقيق هدفها المنشود.

ص: 70

الجانب الثاني: الخطيب

3- قوة الطرح: انطلاقاً من مبدأ (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) لاحظنا عن كثب ما تمتع به خطباء المنبر الحسيني حيث التقليدية السائدة في هذه المجالس من إلقاء مفردات بعيدة عن صلب الواقع بينما شاهدنا في خطب الجمعة الحماس الفياض والشدة والقوة التي يتمتع بها كل من الخطيب ومفردات الموضوع وهذا ملاحظ ومعروف في صلاة الجمعة على نحوين:

فالأول: شمر هؤلاء الخطباء عن أذرعهم وأوضحوا للمجتمع مغبة الأفكار التي يعيشها فبينوا حقيقة كانت غائبة. وهي مدى قوة الفرد المؤمن مهما كان مستضعفاً لدى عدوه ذلك لان الفرد وان كان ضعيفاً إلا أن فيه نقاط قوة وان عدوه مهما كان قوياً فان فيه نقاط ضعف وعلى هذا يمكن أن ينقلب السحر على الساحر وهذا له الدور الواضح في رفع حاجز الخوف عن المجتمع من تقوقعه وواكب الحركة الإصلاحية التي أحيت الظاهرة الدينية في الشارع وهذا الأمر أندر من الكبريت الأحمر في المجالس الحسينية الشريفة.

واما النحو الثاني من معالم القوة في هؤلاء الخطباء: ما امتازوا به من شجاعة فائقة تمثلت بشن الحرب ضد المنحرفين الذين يعيشون وسط المجتمع ولم ينضموا إلى المسيرة الإصلاحية فشاهدنا كيف اخذ هؤلاء الخطباء ينادون إجمالاً بأسماء الفاسقين والمنحرفين وتشخيصهم ومطالبتهم بالتوقف عن ما يسمى الحرية الرعناء التي أخذت بهم إلى الحضيض وجرفتهم أهوائهم إلى مزالق الشيطان فكانوا وبالاً على المجتمع نعم قد شاهدنا كيف أن الخطباء يعرضون في بطون خطاباتهم عينات من هؤلاء المنحرفين محاولين صدهم عن غيهم وينذرون المجتمع من إعانتهم أو مماشاتهم فقد ندد الخطباء بالسحرة وأصحاب الحانات والمقاهي التي تتعاطى الأمور المحرمة ورصد الظواهر السلبية وتنبيه الناس عما غفلوا عنه ونددوا بأصحاب الحرف المحرمة والساعين في الأرض فساداً كالنساء الساعيات في جمع شمل الشباب على الوطء المحرم (القيادة) وبالذين كأنما ضاقت الأرض عليهم بما رحبت فاخذوا أسفاً يتواعدون سرا عند الأماكن المقدسة. نعم اخذ الخطباء بكشف ألاعيب وأباطيل هؤلاء وأضاليلهم ثم وضعوا الحلول لمثل هؤلاء ولم نشاهد هذا الأمر في المجالس الحسينية وكأنهم -المحاضرين في المجالس- في مجتمع لم تداهمه مثل هذه المحرمات فطووا دونها كشحاً وأسدلوا ستراً.

4- تنوع ادوار ووحدة هدف: لم تلتق أهداف خطباء المنبر الحسيني بصورة جلية وواضحة ولم تصب في مجرى واحد بل تنوعت وتفرقت غاياتهم وميولهم ودرجات تفكيرهم ومقدار معرفتهم بحاجيات العصر ومتطلباته وكذلك تفاوتت معرفتهم بالحقيقة الناصعة في الثورة الحسينية وسبر أغوارها ونلاحظ بازاء ذلك على نحو الأكثرية أن خطباء منابر الجمعة كانوا يمتازون بوحدة الهدف وإن تغيرت مضامين خطبهم فهم يتوقون إلى هدف واحد وهذه النقطة مربوطة بصورة واضحة بالنقطة الأولى وهو وجود الموجه وهو مرجع واحد يقنن لهم أي الخطباء الأفكار ويدلهم على ما فيه سعادة مجتمعاتهم. وهذا الأمر جعل الرؤى واحدة والاستشعار بوحدة القضية وان المجتمع يجب أن يتطلع رويداً رويداً نحو الهدف المرسوم له من قبل الخطباء الذين يمثلون المرجع الذي يمثل الإمام الغائب (عجل الله تعالى فرجه) وأما في الطرف المقابل فان المنبر الحسيني الشريف لوحظ فيه فقدان المنهجية والتنظيم بصورة واضحة خلافاً لخطبة الجمعة التي كانت بمستوى عال من التقنين وذات أهداف واضحة منشودة ومقصودة وصفها السيد الصدر (قدس سره) في إحدى خطبه بأنها الفتح المبين الذي ننشد من ورائه التكامل خلافاً لصلاة الجمعة عند غيرنا من الإمامية التي كانت عبارة عن نتائج تمخضت من واقع وصل له هذا الشعب أو عبارة عن إحدى المعطيات التي أفرزها واقعهم المعاش.

ص: 71

الجانب الثالث: نقاط القوة في الجمعة

5- الوجوب: فقد امتازت صلاة الجمعة بالإلزام وعدم الرخصة وهذا ملاحظ في وجوب إقامتها بالأمر المولوي أو وجوب أدائها ووجوب حضور الخطبة أو وجوب الاستماع إلى الخطبة.لا أقل من وجوب استماع مضمونها فان لهذه المؤكدات الشرعية المدخلية في خلق جوانب الظفر في صلاة الجمعة بينما نجد أن صلاة الجمعة تحظى بهذه التأكيدات إلا أننا نجد في الجهة المقابلة أن المنبر الحسيني منها خلاء حيث يكون الحضور إليه مستحباً ومؤكداً إلا انه ليس بواجب إلا بعنوان ثانوي كما لو اقتضت الضرورة التاريخية ولكن ليت شعري من يفهم؟ فيبقى الحضور مستحباً بل هذا الاستحباب لا يلتفت إليه العوام بسبب العوامل القهرية التي تكتنف المنبر الحسيني الشريف كما سيجيء بيانه لاحقاً. وعادة يكون الحضور إلى المنبر الحسيني من جانب عاطفي محض ويدلنا على ذلك تخلل المجلس الحسيني لأناس قليلي التدين وربما يكون الحضور كعادة اعتادها الأجيال من الآباء ونحو ذلك وهذه كلها أمور راجحة طبعاً ولكن لم تؤد التفاعل التام مع مضمون ما يلقى عليهم في هذه المجالس بل نجد الكثير من أصحاب المجالس بل وقسماً من المدعوين مشغولين عن المحاضرة بتدبير المجلس ومتعلقاته وإقامته على النحو المطلوب والمتعارف لديهم والجو لا يخلو من الاضطراب والضوضاء واللانظام وهذا أمر مشاهد في الكثير من المجالس المقامة. بل جل الحاضرين ينتظرون من المحاضرة موعد انتهائها كي يتجهوا الى غاياتهم المنشودة المتمثلة باللطميات ونحوها التي هي قد تكون في نظرهم أهم من المحاضرة فهم يتطلعون بشغف بالغ إلى نزول الخطيب الحسيني من منبره كي يباشروا مثل هاتيك الأعمال. بل والمشاهد عنهم بعد انفضاضهم من المجلس الحسيني الشريف انه لم يعلق في أذهانهم سوى القصائد التي قيلت هناك فالتفاعل كان مع قارئ المراثي الحسينية واضح وكبير نسبياً مقارنة مع التفاعل الذي يكون مع المحاضر وهكذا تكون المحاضرة في المجلس عبارة عن أمر اعتيد والسلام.

6- الجمعة تشريع سماوي: لا يخفى أن التشريعات وضعت طبقاً للمصالح الواقعية ودرء المفاسد إذن لكل تشريع حكمة بالغة في ترتب الآثار على تلك التشريعات ومن هذه التشريعات الجمعة بنص سورة الجمعة فمن المؤكد ان لها آثاراً جلية مهمة وإلا لماذا شددت وأكدت الآيات والروايات على إقامتها وبالتالي فان هناك جملة من الأمور ستجنى وهذا ما حصل للاعتبارين التاليين:

الاعتبار الأول:إن صلاة الجمعة تمثل التعليمات الإلهية الواسعة الشاملة العادلة الكاملة للشريعة الإسلامية ولها طبعاً استعدادها الزماني والمكاني في استيعاب كافة البشر.

الاعتبار الثاني: فكما ذكرنا أعلاه فان الله سبحانه وتعالى عندما شرع صلاة الجمعة وأنها واجبة إلى يوم القيامة لم يكن هذا التشريع على غير هدى كيف والمشرع هو اللطيف الخبير ؟ إذن ترك هذا التشريع -الجمعة- يعني إيجاد فراغ كبير لا يرتق في توجيه المجتمع نحو أهدافه السامية ومصالحه القويمة لان البشرية ليس لها القدرة على الإتيان بما قرره الله جل وعلا وهكذا بعد تعطيل هذه الجمعة أصبح هذا الفراغ وبالاً على الأمة لغياب الدور الخطابي الموجه في صفوفها والمؤثر فيها والذي إراده الله كإحدى الحكم من هذا التشريع في عاصمية الأمة من الانحراف والانخداع والابتعاد عن شاطئ رحمته، ولذا كان من الطبيعي جداً لدى عودة هذه الفريضة إلى مقرها بين شعائر الإسلام الأخرى أن تأتي أكلها وتعطي تأثيرها وسد الفراغ الذي حصل من غيبتها عن الأمة فكان التغيير والتأثير لازماً لوجودها.

7- إطلالة الإسلام: فقد اتضح جلياً أن الجمعة يمكن اعتبارها نافذة وإطلالة الإسلام برمته وعظمته وتعاليمه وشؤونه على أفراده الذين زيفت حقيقة الإسلام في نظرهم بسب أعدائه فصلاة الجمعة أثبتت لأفراده قبل غيرهم انه حي ناطق ينبض بالحياة مهما اجتاحه

ص: 72

أعداؤه بعدتهم وعددهم. ثم توجهت هذه النافذة إلى الأعداء واثبت لهم أن الإسلام ما زال يقود أفراده وأبناءه مهما تكن الظروف. فمن خلال التجمعات التي حوتها الجمعة والنداءات التي أطلقتها في خطبها وضحت بمقابيس من نور أن الإسلام موجود ومقتدر ولا زال يتحدى طواغيت الكون وفي المقابل كانت المجالس الحسينية قد اتسمت بالانعزالية والمحدودية ولم ترتق لتكون بمثابة النافذة الواسعة للإسلام نحو الخارج وربما حتى إلى أفرادها والسبب يكمن جزئياً في رائدي المنبر من جهة وبسبب ظرف المنبر نفسه من جهة أخرى فقد قلص المنبريون وظيفتهم على الأمور المذهبية والأجواء العاطفية من الأسى والحزن على مصائب أهل البيت (عليهم السلام) ولم ينطلقوا إلى ابعد من هذا الحد

8- الالتفات إلى نصف المجتمع المهمل: ونعني به النساء فان هذا النصف المهم من المجتمع كان معطل الدور تماماً وكأن السماء لم تول أي اهتمام به وكأنها لم تخاطب النساء إلى جانب الرجال على حد سواء. فأصبح هذا الكم من المجتمع مهملاً لا يحضى بأهميته من الجهة الدينية لو تنزلنا عن الجهات الأخرى مما خلق فجوة لا ترتقي في هدي الجيل الجديد الناشئ إلى معالم دينه وهكذا فان المجتمعات تبقى واهية مع بقاء هذا النصف معطلاً عن التفاعل في بناء المجتمع ولكن لم يبرح السيد الصدر (قدس سره) كثيراً حتى حانت التفاتة إلى هذا النصف فمد يده الأخرى لينتشل هذا النصف ويخرجه من الظلمات إلى النور بإذن ربه فشاهدنا الخروج العائلي والنزوح الأسري لأول مرة في هذه الفريضة بأبهى مظاهره التي لم نألفها في ما مضى بينما جردت الشعائر الأخرى من النساء وكأنه ليس لهن نصيب فيها ومن هذه الشعائر المجالس الحسينية التي كانت هي الأخرى تفتقر إلى حضور الجانب النسوي بل كن يؤدين هذه الشعائر بعيداً عن مصادر التوعية والإرشاد في مستوى غير مثمر البتة. وهكذا صار المجتمع تسوده العناية الإلهية وتحيطه الرحمة وتغشاه البركة نتيجة مواكبة أفراد المجتمع للحركة الإصلاحية حيث الطفل إلى جانب أبيه والفتاة إلى جانب أمها. انه توجه كتوجه قوم يونس (عليه السلام) حيث عادوا الى الله فعاد عليهم بالرحمة والبركة (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) يونس : 98.

9- الجمعة وسيلة إعلامية واسعة: فان منبر الإمام الحسين (عليه السلام) امتاز بأنه وسيلة إعلامية محدودة على عكس الجمعة التي كانت ذات شمولية في جهتها الإعلامية فإننا لاحظنا أن الخطبة أشبه برسالة موحدة وان اختلفت في مضمونها فكان مجموع الخطب يشكل شبكة اتصالات متحدة الهدف وإن تغير المضمون والأسلوب وهذه الشبكة هي المؤسسة الإعلامية التربوية التوجيهية التثقيفية فكانت المجالس الحسينية تتصف بالاستقلالية وعدم الارتباط فيما بينها خلافاً للجمعة التي كانت مرتبطة بهدف واحد والموجه لها هو مصدر واحد (المرجع) ومن هنا نقول أن الجهة الإعلامية في صلاة الجمعة متأتية من أمور:

الأول: كونها تمثل توجيهات مرجع واحد.

الثاني: كلها متوخية هدفاً منشوداً ومقصوداً وموحداً.

الثالث: أنها تعقد في زمن واحد أي يوم واحد.

الرابع: سعة الحجم الذي تحضى به.

ولذا شاهدنا كيف أن أبناء منطقة ما يتابعون مضامين الخطب في مناطق أخرى بل اتسع الأمر حتى وصل إلى متابعة ماذا قال السيد الصدر (قدس سره) في مسجد الكوفة المعظم. حتى تجد الفرد منا مطلعاً على عدد الجمع المقامة وأماكن تواجدها وخطبائها! مما خلق موجة دينية تعم المذهب وخلق جواً دينياً موحداً بين أبناء المذهب بعدما كنا نحيي الشعائر الحسينية في أجواء ضيقة منفصلة فربما يقام خمسون مجلساً في مدينة واحدة وفي أوقات متفاوتة بينما شملت الجمعة الواحدة الأحياء الساكنة في 11 كم تقريباً ولو اتسعت الشبكة في العراق فكيف يكون التأثير والتغيير في المجتمع ؟ ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.

ص: 73

10- الاتصال المستمر بالأمة: فان خطب الجمعة تعد عرى الاتصال الوثيق بين أفراد الأمة ومصدر التوجيهات المتمثلة بالمرجعية التي تدير رَحى الحركة الإصلاحية وقوة الاتصال المذكورة نابعة من التركيز المستمر الذي هو عبارة عن خطبتين في كل أسبوع بل نستطيع القول أنها مجموعة خطب إذا ضممنا لهذين الخطبتين ما يمكن نقله عن صلوات الجمعة الأخرى ، فالجمعة تعد لقاءً أسبوعياً متجدداً. أما المنبر الحسيني فانه في الغالب شهر في كل سنة فهذه الأسبوعية -في الجمعة- والشهرية –المجالس- في السنة لها أثرها في كمية التأثير ونوعه في النفوس البشرية (ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، ففي المجالس الحسينية ما أن تنتهي أيام شهر محرم وربما شهر صفر حتى تغلق هذه المجالس منافذها بوجه المجتمع وكأن الأمة قد وصلت إلى الكمال والشيطان قد غلت يده، وبسبب هذه المحدودية في الاتصال نجد أن المجتمع لا يروي ضماه من تلك المجالس وتجد بالطرف المقابل مدى قوة الاتصال مع أفراد المجتمع على وتيرة واحدة بل ونمو واضح وبذلك يبقى الفرد خاضعاً إلى هذا البرنامج التربوي الإصلاحي ولا تُدع الأهواء تقتحم أجواء الفرد المؤمن وتأخذ به بعيداً عن ربه ودينه ويمكن أن نقول باختصار أن الجمعة كانت مؤتمراً أسبوعياً لحل المشاكل الآنية التي تواجه الإنسان في عصره المعاش فأعطت الجمعة فضلاً عن الزخم المكاني المذكور في النقطة التاسعة زخماً آخر هو الزخم الزماني مما حدا بالجمعة إلى شاطئ النجاح.

11- العوامل غير المرئية: وفي ضوء المصطلحات الحديثة يمكن أن نسميها التقنيات التي كانت تتمتع بها الجمعة بشكل أو بآخر وقد تبدو لأول وهلة أموراً بسيطة، ولكن مع ذلك لا يمكننا الإعراض عن ذكرها فان لها المساس من قريب أو بعيد في إيجاد عوامل النجاح فان الفرد في وضع نفسي يختلف تماما عما هو عليه في المجلس الحسيني وهذا الوضع النفسي متأتٍ من عدة مؤثرات منها تحليه بالطهارة والتي هي واجبة في الخطبة والبدء بقراءة الأدعية الحمد والثناء في مقدمة الخطبة والمشاركة الحية من قبل المصلين في ترديد فقرات الدعاء في نفس حماسي تقشعر له بطون الصخور والهتافات المشيدة ببقاء الحوزة والجمعة فهذه الأمور لها شانها في تصعيد الجانب المعنوي في الفرد وتوجب تفاعله مع جو الجمعة، هذا الإنشداد الذي هو نتيجة هذه المؤثرات يفتقر إليه المجلس الحسيني الشريف.

12- اللطف الإلهي: ولعله في طليعة الأسباب التي أعطت ثمار النجاح وقد تجلى على مستويين هما:

المستوى الأول: وهو عائد إلى المرجع فانطلاقاً من الحديث القدسي الشريف المعروف (عبدي اطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون) وعلى هذا الأساس فان السيد الصدر (قدس سره) لما اخلص لله سبحانه وتعالى في عمله أولاً ولأن سبب إقامة الجمعة قد أنيطت به ثانياً فان الله سبحانه وتعالى أفاض بركاته على هذه الفريضة وغمر هذا العمل الذي كان معطلاً بالفيوضات الإلهية والألطاف الخفية . وهذه ليست أطروحة بعيدة إذ أن الله سبحانه إذا رأى الإخلاص في عمل إنسان مد يَد العون إلى هذا الإنسان وصب الخير في ثنايا الأعمال الصادرة منه.

المستوى الثاني: إن اللطف الإلهي توجه إلى المجتمع نفسه بعدما أحيط بإكليل من رضا الله جل وعلا فنحن شاهدنا التوجه في صفوف المجتمع نحو ربها في السنين الأخيرة التي سبقت إقامة الجمعة وهذا المشار إليه لم يكن ملحوظاً فيما مضى نعم كانت هناك قبل إقامة الجمعة عودة مشهودة من قبل المجتمع إلى حياض ربهم. والقاعدة المعول عليها في مثل هذا الظرف ثابتة وهي (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). ويمكن أن نعزو التغير الذي حل في ربوع المجتمع إلى العمليات الإصلاحية التي مر ذكرها في النقطة الثانية (إيجاد الظرف الموضوعي) فعندما بادر المجتمع العودة إلى الله جل وعلا بادر الله سبحانه وتعالى

ص: 74

العون التسديد في أعمالهم وخلع البركة على أفعالهم طبقاً لما ورد (الخطوة الأولى من العبد والثانية من الرب) وما ورد أيضاً (عبدي إذا دنوت مني شبراً دنوت منك ذراعاً) ولذا يتضح لنا جلياً انه كان لزاماً أن تتخلل الجمعة ثمار يافعة وأنوار بارعة.

نقاط الضعف في المنبرين للمجلس الحسيني

13- تجريد القضية الحسينية من محتواها الحقيقي: فقد تقوقع المنبر الحسيني بفعل رائديه على حياة واقعة الطف وعلى مواساة أهل البيت (عليهم السلام) فكان المظهر الغالب على هذه المجالس المعقودة هو البكاء وإفراغ شحنة من الحزن فكانت مواطن السلب تمكن في رواد هذه المجالس الشريفة بأسباب عديدة منها:

عدم دعم المجتمع من خلال المنبر بالفكر والعقيدة الحقة فأصبحت القضية الحسينية العظيمة على مر العصور من طراز القصص التراجيدية التي تدخل مستمعيها في جوٍ من الأسى.

عدم تحريك المحتوى للقضية عبر هذه المجالس مع كافة الأزمنة والأمكنة فهم -أي المنبريون- لم يصوروا قضية الإمام الحسين (عليه السلام) كقضية مرحلية يجب أن تعيشها الأجيال المعاصرة ولم يوجدوا حالة تطابق بين مبادئ الثورة الحسينية والواقع المعاش، بل أنهم جمدوا النصوص التاريخية على زمانها ومكانها القديمين ولم يوجدوا صورة التفاعل بين الماضي والحاضر وهنا لا يقع اللوم إلا على رائدي المنبر الحسيني.

14- فاقد الشيء لا يعطيه: وباختصار شديد نقول عدم الأهلية في ارتياد المنبر الحسيني لخلو رائديه من الإمكانيات التي ينبغي توفرها فيهم ويمكن تصور هذه النقطة في عاملين:

الافتقار إلى الفهم الصحيح:

فإن هناك نسبة معتداً بها من رواد المنبر الحسيني قليلي الثقافة والعلوم فهم لا يتمتعون بالحنكة والقدرة على تسخير المنبر الحسيني والقضية الحسينية في خدمة الإسلام ونحن بدورنا نسأل وهل الحسين إلا دين الإسلام ؟ نعم هو الإسلام (حسين مني وأنا من حسين)، بل نقول ان هؤلاء الخطباء في المجالس فهموا أمراً واحداً وهو إحياء الذكرى الحسينية فحسب وإن كانت بذاتها لا تخلو من أهمية ولكن كان ينبغي عليهم أن يستغلوا العاطفة الجمة في قلوب الناس في فهم الدين وتيسير تطبيقه أمامهم وشدهم عليه وبيان الجوانب العظيمة الدفينة فيه .

نعم كانت هناك إمكانيات جيدة فاهمة لأبعاد القضية الحسينية وتعي ما تقول للجماهير ولكن هذه الإمكانيات قليلة لا تفي بحاجة العصر من الثقافة والعلوم . وهكذا فإن القضية الحسينية شوهت على أيدي الكثيرين ممن جالوا في غرب الأرياف وشرقها والذين سعوا يحركون العبرة ولم يألوا اهتماماً لما هو أهم وهي العِبرة بل أخذوا يشيعون الخرافات هناك . ونحن نعلم مدى افتقار أهل الأرياف مثلا ً إلى فهم الحقيقة النورانية لقضية الإمام الحسين (عليه السلام) وهكذا بقيت القضية الحسينية مستورة الوجه عن غالبية الأمة

ولم يفهموا سوى أن الإمام الحسين (عليه السلام) استشهد مع أهل بيته ليستدر عطف الآخرين على مر الأجيال ولم يرم إلى ثبات العقيدة وبيان علو قدسيتها وأنها مما يهون دونها كل شيء حتى سبي بنات رسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

الأهداف الضيقة

فترسبت في أذهان الكثير وخاصة بعد الوعي الذي غمر المجتمع إن بعض الذين يمتطون المنبر هم أناس مشكوك في أهدافهم وأنهم ليس لهم سوى الشهرة ونيل المال

ص: 75

والوجاهة ، فهم وبالٌ وعبء ثقيل على الدين وإن صلتهم ضعيفة مع الله ورسوله وصاحب القضية العظيمة الحسين (عليه السلام). وبذلك لا نجد للكلمات الخارجة من أفواههم مروراً في أفئدة الجماهير طبق للقاعدة (ما يخرج من القلب يصل إلى القلب) . ومقابل هذا الخطيب الحسيني هناك خطيب الجمعة الذي لا نريد أن نضفي عليه صفة العصمة ولكن الأعم الأغلب أنهم كانوا مرتبطين بالمرجعية كجندي يفعل ما يؤمر فإطاعة الخطيب إطاعة المرجع وإطاعة المرجع إطاعة الإمام القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وإطاعته إطاعة لله وهذا في الأعم الأغلب واضح لدى أفراد المجتمع .

15- الطرح العقيم (اللا موضوعية): فإن الخطيب الحسيني لا يسرد في محاضرته غير المشاكل التي انتابت المجتمعات في سالف الزمان دون أي تطرّق يذكر لما يعانيه أبناء هذا العصر نعم فهم لم يتطرقوا إلى يزيد اليوم وحسين اليوم وحبيب اليوم وطَوعة اليوم وهذا الجانب السلبي خلق في نفوس المستمعين أنه لا جدوى من المجالس المعقودة ولا طائل تحتها فإن هذه المشاكل قد رحل أهالها ، فكثير ما نسمع كلمات التذمر على ألسنة المستمعين ويطالبون بالحديث عن مشاكلهم المعاشة وهم يرون أن هذه أمور قد تصرّمت أيامها بل ورسخ في أذهانهم أن ذات القضية الحسينية لا تحمل في ثناياها بلسماً شافياً لجرحهم بسبب الخطيب الحسيني الذي لم يحسن ترجمة القضية بأبعادها الحقيقية ولم يستخرج من معينها عطاءً ثراً يتبعوه في سيرهم فإننا لا ننفي الفائدة من تذكّر الحوادث السالفة وإلا فلماذا تصدح سور القرآن بحكايات الأقوام السالفة ولكن على المحاضر أن يجد من بين ثنايا بحثه ترياقاً نافعاً وثمراً يافعاً يوزعه حساء للجالسين وهذا الامر غاب كثيراً عن المجالس الحسينية ولم يجده المجتمع إلا في خطب الجمعة التي اتخذت التدابير والعوامل الوقائية لما حدث ويحدث بل وما سيحدث ، وهكذا وجد المجتمع ضالته في هذه الخطب فأخذ يصفق لها بكلتا يديه : فقد شهدت

خطب الجمعة تحرراً من القيود التي كانت واضحة في المجالس الحسينية والتي لا تخلو من الرتابة والملل في طرح أمور قد أكل الدهر عليها وشرب . وأخذت هذه الخطب تلقى على مسامع الحاضرين الكلمة المؤثرة وتعالج همومه وتصلح واقعه الفاسد بعدما أخذ التسيّب العقائدي والتيه الفكري كل جانب . بل لم يقتصر دور بعض الخطباء على إلقاء الكلمات فأخذوا يصلحون مواطن الضعف والفساد والانحلال دعاة إلى الله دعاة إلى الحق دعاة إلى الإنسانية فكان لزاماً لهذه الجهود أن يشمر المجتمع ساقيه إلى الجمعة ويرسل دلوه قائلاً يا بشرى هذا الدين قد أصبح يأتي أكله كل حين .

16- التقيّة المكثفة: وهذا عامل قهري خارجي غالباً لا مناص منه .فإن المجالس الحسينية غالباً تعيش في وسط سحاب من الضغوط المختلفة فكثيراً ما تنعقد في أجواء الخوف وهذا الأمر يحول دون استفادة الكثيرين. فمنهم من إذا دعوته لم يستجب بسبب خوفه وان كان ملتزماً ومنهم لا يدعوه أحد لعدم التزامه خشية أن يقع المحذور من كشف المجالس إلى من لا يرغب صاحب المجلس بمعرفته. ولذا انحصرت هذه المجالس في كثير من الأحيان بالأفراد المتدينين وتأطرت بإطار إحياء الذكر ففقدت هذه القضية العظيمة جوهرها مرة ثانية لهذا السبب ولم تلتفت هذه المجالس إلى السالكين لدروب الضلال لعدم حضورهم ففقدت أعظم أهمية متوخاة منها وهو الإصلاح . وهذا الإحجام عن الحضور الذي ذكرناه بسبب الخوف يعد دوراً لم تمر به الجمعة مطلقاً فهي منذ باكورة إقامتها ظاهرة علنية واضحة صادحة فشملت كل ربوع المجتمع الملتزمين منه وغيرهم وأما جانب الخوف فكاد أن يكون ملغى تماماً إن لم نقل بعدم وجوده وهكذا انحدرت الأفواج من كل حدب وصوب إلى الجمعة مع غض النظر عن غاية الحضور .

17- الإطار المذهبي: لدى طرح القضية الحسينية ينصرف في ذهن المخالف والمؤالف كونها قضية مذهبية لا تنطبق على كل آفاق المسلمين في مؤداها . وفي الحقيقة فقد ولد هذا الأمر غفلة لدى أبناء العامة فلم يتسنَ لهم الحضور إلى هذه المجالس بسبب تلك الغفلة بل

ص: 76

أخذوا يسخرون من تخليدها من قبل إخوانهم الشيعة وهذا لسوء فهمهم ولا ضير علينا . ولكن الأمر الذي قد يعذرون فيه ويلام عليه الخطيب الحسيني هو صياغة قضية الإمام الحسين (عليه السلام) إلى قضية مذهبية تختص بأبناء المذهب الشيعي فحسب أو قل أنها تعود إلى إحياء أمر احد عظماء المذهب الإمامي ليس إلا . ولم ترسم ملامح القضية بصورة جلية وبأبعادها الحقيقية ، هذه الصورة التي ينبغي أن توحي إلى العالم الإسلامي على الأقل بأن الحسين (عليه السلام) هو دين الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن ديمومة الإسلام وبقائه نيط بثورة الإمام الحسين (عليه السلام) وأن للثورة بواعث ونتائج نعيشها الآن ولولاها لما رفع لله أسم. وما هو تخطيط الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لها ولكن ينبغي أن لا نسترسل في الحديث رامين بسهام اللوم على خطباء المنبر الحسيني إذ أن المسلمين من أبناء الجمهور هم الذين لم يتفاعلوا في الغالب مع قضية الإمام الحسين (عليه السلام) كقضية إسلامية لها اليد الطولى في حفظ الإسلام . بل أخذوا كما أشرنا يشنون على إخوانهم الإمامية موجات الكفر والازدراء ناعتين لهم بالجنون تارة وبالشرك تارة أخرى ولكن ثلة منصفة من أبناء العامة عظمت بواعث ونتائج القضية الحسينية لكن مجموعة أخرى منهم لم يتفاعلوا مع القضية بل وصل الأمر أحيانا ً إلى أن يعتبروا الإمام الحسين (عليه السلام) خارجياً ولا أقل من أن يزيد خليفة قد اجتهد فأخطأ. وعموماً فإن الجمعة كانت لأول مرة كمنتدى عبادي يقيمه الإمامية ويحضر فيه أبناء العامة مذهولين من هول ما يرون ذلك بسبب الابتعاد عن الإطار المذهبي الذي يتصف به المجلس الحسيني .

ص: 77

الجانب الرابع : المجتمع

18- المحك الخطير : أدركت ثلة من المجتمع الواعي جانباً آخر من جوانب العظمة في الجمعة وهو جانب لا يلتفت إليه أحد إلا المخلصين وهو أن الجمعة تعد محكاً ابتلائياً ومنعطفاً في تاريخ المذهب يحدد في طياته حقيقة وإيمان الفرد، نعم، فإن الجمعة تعد كناقة صالح وكبقرة بني إسرائيل. فوقفت الثلة المؤمنة المخلصة تجاه هذا الامتحان والمنعطف تختار لنفسها أي الأمرين العير أم النفير فلم تجد سبيلاً إلا التمسك بهذه الفريضة فعضُّوا عليها بالنواجذ، الآن هم عرفوا أنها الطريقة الوسطى وأن السعادة في مسايرة هذا الركب المتمثل بهذه الظاهرة الإصلاحية المقدسة مستفيدين من سير التاريخ درساً في طبيعة الاختيار لدى مفترق الطرق وقد سمعت شخصياً كثيراً ما يتفوه به الشباب المتردد في أمر الحضور وعدمه والموقف من قضية اقامة صلاة الجمعة ثم يسأل نفسه: ان هذه الشعيرة مقامة أكيداً تحت نظر الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) وهو مطلّع عليها فما هو موقف الامام الحجة (سلام الله عليه) منها وهل هو راض عنها أم لا ؟ ثم يجيبون أنفسهم : أكيد هو راض ويسمع ويرى بل وحاضر معنا فأنعم بذلك خير مزيد . فكيف نتأخر عن ركب يسير فيه حجة الله على خلقه(عجل الله تعالى فرجه الشريف)

19- الوسط العامل (الشباب): فإن كل فكرة لا تحضى بالنجاح ما لم يكن هناك وسط مؤمن بها يؤدي دوراً في إذاعتها ونشرها والدفاع عنها وهذا ما حصل في قضية صلاة الجمعة وما سبقها من أفكار. فقد لاحظنا كيف كان العنصر الشبابي قد شحذ الهمم وسعى سعياً حثيثاً وأدى دوره البارع في جمع شتات المذهب. وربط المجتمع بالمرجعية في الأمور عامة وبالخطيب والمرجع في صلاة الجمعة وأخذ ينقل الأوامر إلى أفراد المجتمع . فقد زج الشباب المخلصون بعوائلهم في ركب الظاهرة الإصلاحية والمسيرة المولوية التي نادى بها سماحة السيد الصدر (رضوان الله عليه ) . فالفئة الشبابية وجدت ضالتها وهي المرجعية الرسالية الموجهة فتفاعلت معها بينما نجد في السابق كيف كانت هذه الفئة محرومة لا تأوي إلى ركن وثيق بسبب غياب القيادة الدينية من بين ظهراني المجتمع . وعن طريق هذه الشريحة الشبابية المؤمنة التي كانت تمتاز بوعيها وثقافتها وجدت فريضة الجمعة مناخاً خصباً في توجيه التعاليم وإنجاح المطالب وبالتالي فيمكن القول أن نتائج الجمعة المتحققة هي حصيلة جهود متظافرة من المرجع والخطيب والثلة الشبابية الواعية وهذا الثلاثي الرصين لم يكن حاضراً في ربوع المجالس الحسينية الشريفة كما هو معلوم وواضح بل المجالس الحسينية كانت جهود شخصية فردية .

20- الإيمان بالفكرة: وهذا من عوامل النجاح في كل قضية وهو أمر مشاهد بوضوح خلال حقب التاريخ المنصرمة . فمن خلال النقطة الأولى التي مر ذكرها وهي الحضور القيادي نتج إيمان شديد بفكرة الجمعة لم يسبق له نظير وذلك لأن غالبية المصلين والمؤيدين لإقامة صلاة الجمعة هم أناس مخلصون ومطيعون لسماحة السيد الصدر (قدس سره) وهم في الأعم الأغلب من مقلديه والمعجبين بخطه ومنهجه. وهم أناس آمنوا بكل ما يقول هذا الرجل وركنوا إلى كل ما يصدره أو يأمر به لأنهم لم يألفوا شخصاً من قبل يمد يد العون كما فعل هو فكان لزاماً أن يتعبدوا بأفعاله وأقواله وحرصوا كل الحرص على نصرته وتنفيذ أوامره ، فنصروا هذه الشعيرة المقدسة من خلال مد أيديهم نحو مولاهم الصدر (قدس سره) لينتشلوا هذه الفريضة المعطلة من الأودية السحيقة . ونتج عن تفاعل المؤمنين بهذه الفريضة أن تكون هناك مؤازرة واضحة بينه وبين هؤلاء وبين أئمة الجمعة وهذا واضح من خلال الأدلاء بالاقتراحات ورصد جهات السلب القابعة في جسد المجتمع فكانت النتائج الباهرة التي حققتها فريضة الجمعة

ص: 78

المقدسة هي وتحصيل بسبب إدارة المنبر من خلال ثلة مؤمنة واعية متعاونة ولذا نجد هنا غياب الفردية في قيادة المجتمع الموجودة هناك في المنبر الحسيني .

21- تذوق المجتمع لحقيقة الإسلام: متى كان العامة يفهمون الحقيقة الناصعة للدين التي كانت قابعة وراء السرد التاريخي في المجالس الحسينية وغيرها ، فإن الإسلام يخضع إلى دور التطبيق لكي يشاهده المجتمع عن كثب ولكن ما أن أخذ المرجع الشهيد (قدس سره) يترجم الإسلام إلى صورة حية متحركة واضحة بينة على أرض الواقع حتى انبهر الجيل في حقيقة الدين الناصعة وعرف أغواره . نعم هذا الجيل مُني بغياب الوضوح فلم يتسنَ له الاطلاع على المفاهيم والحقائق الإسلامية التي تستجلب كل فطرة سليمة وتدعوا كل نفس قويمة وهذا يعود إلى غياب الأضواء الكاشفة عن هذه الحقائق بسبب بعد الحوزة عن المجتمع وعدم تفاعلها مع الشارع ، فإن الحوزة كانت للحوزة ولم تكن للمجتمع يوماً، نعم، كانت تقطن في واد والمجتمع في واد آخر . ولذا شاع في صفوفنا الفهم الخاطئ للإسلام كما هو الحال قبل مجيء المرجعية الرسالية المتمثلة بالسيد الصدر (قدس سره)، حينما كان الأعم الأغلب منا يفهم من الدين أنه عبارة عن انعزالية تامة عن جسد المجتمع والسلام . وهكذا حينما ارتفعت الحجب ما بين المجتمع والدين ونشأ التعارف بينهما وتذوق الناس عبير الإسلام فصار التعانق قوياً وصعق المجتمع بمبادئ الإسلام الحقة . وهرع ينفذ ما يسمع فرحاً فخوراً.

22- المعية : كما يسميها أمير المؤمنين (عليه السلام) أو السلوك الجمعي كما يسميها أرباب علم الاجتماع اليوم . فإن الإنسان بطبيعته يساير أبناء جنسه في ميولهم وأفعالهم وينحى منحاهم في كل شاردة وواردة على الغالب وبهذا حصلت الجمعة لدى إقامتها على الجاذبية الإلهية لو صح التعبير . فشاهدنا كيف اتجهت الحشود من كل حدب وصوب زرافات ووحداناً ينسلون إلى الجمعة . نعم كان توجهاً غريباً لم نألفه من قبل في المجالس الحسينية الشريفة فنحن نتجه الآن إلى هدف منشود وخير موعود ولا نأبه بالمصاعب والمتاعب التي تواجهنا فما هو السر يا ترى ؟ وإن غاب عنا الجواب فلا يغيب عنا ذلك المنظر المهيب الذي يخطف العقول والهيبة التي تواكب الإنسان منذ استقراره على سجادة الصلاة . كيف لا يكون مثل هذا الانجذاب وسمة العمل العبادي الجماعي تتصدع لها القلوب وتستغل العقول . نعم لقد كانت صلاة الجمعة بودقة الأوامر المولوية التي تشع للمؤمنين توجيهاتها وتعاليمها والتي هي مستقاة بطبيعة الحال من المرجعية الرسالية . فكانت هذه المظاهر لها الأثر في إثارة الحفائظ نحو دينها وإيقاظ النفوس من سباتها العميق .

23- الترويض الروحي : وهو ما يحصل عليه الفرد المؤمن من هذه الفريضة المقدسة في كل جمعة بصورة متنامية من عوامل التشذيب والتهذيب التي ترتقي بالإنسان في مسيرته التصاعدية نحو الكمال . إذ بإمكاننا أن نصف الجمعة الأولى المرقاة الأولى في سلم الكمال والجمعة الثانية المرقاة الثانية وهكذا ..... وما بين جمعة وجمعة هو فترة الاستعداد والتهيؤ للانتقال إلى مراتب أعلى في سلم الكمال. فهذه المواكبة مع استمرار الجمعة في خطها التصاعدي منتجة للنضج المستمر المتصاعد ومزودة الإنسان بالإمكانيات والمناعات التي تقف أمامهما قوى الشيطان ضعيفة منهوكة . ومن مظاهر الإقبال بعد الخطبتين على مجهول نفقده وهو الله سبحانه وتعالى فيتوجه الكل عبر الركعتين إلى الله سبحانه وتعالى . وهناك في المجالس الحسينية يتجه الحاضرون بعد المحاضرة إلى اللطميات والأكل . ففي صلاة الجمعة يمتزج أمران هما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الخطبتين والصلاة في الركعتين و(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) فأنعم بذلك من مزيج .

الخاتمة

ص: 79

اليتيم: المعروف عن اليتيم هو من رحل أبوه الذي يعيله ويلي أمره وقد ورد في الحديث ( يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأمة ) وقد انتقلت هذه الأبوة عن طريق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإمام الحسين (عليه السلام) (حسين مني وأنا من حسين) ولم تمر الأيام حتى قتل هذا الأب مظلوماً وترك الأمة بعده أيتام . وفي المجلس الحسيني الشريف نواسي أنفسنا على هذا الحرمان الكبير والمصاب الجلل ونذرف الدموع تترى لتدب في أعماق النفس الطمأنينة والسكينة ونستذكر آلام اليتيم التي عانيناها على أرض المعمورة التي لم يتركها الله بدون حجة على خلقه وبقية له في أرضه وإلا ساخت بأهلها (بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ). ولكن ما يهوّن الخطب أننا نشعر بين الفينة والأخرى أن أبانا الروحي موجود بين ظهرانينا ، وسوف نراه يوم الزينة يوم يحشر الناس ضحى ونحن مرتقبون له ترقب الشمس التي غيبها السحاب فكان توجهنا إلى صلاة الجمعة كل جمعة هو ذهاب المرتقِب المنتظِر لأبيه المتوقع ظهوره . فننظر إلى خطيب الجمعة وهو نائب الإمام فنقول: متى يظهر الأصيل كشمس عند الأصيل فيكون نصراً وفتحاً قريباً .

والحمد لله رب العالمين

ص: 80

الملحق

وأخيراً أيها القارئ الكريم ، نود أن نضع بين يديك بعضاً مما قاله السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وهو يشرح أهداف وثمار وبركات صلاة الجمعة الميمونة .

· أفصح السيد الشهيد عن شعوره بعد أداء أول صلاة جمعة في مسجد الكوفة قائلاً:

الشعور الرئيسي هو الشهور بنعمة الله سبحانه وتعالى . لأن الله منان بجميع النعم ومن أعظم النعم وجود هذه الفريضة ، وبالأساس النعمة التي هي سبب هذه الفريضة والتي هي الفرصة المتاحة والحرية النسبية التي أعطيت بفضل الله لنا لإقامة مثل هذه الفريضة ، ولولا ذلك لكان متعذراً حقيقة . وكذلك الشيء الرئيسي الذي يلفت النظر هو هذا التبدّل الذي حصل لكثير من الناس كأنما يغلقون أمام أنفسهم أبواب بيوتهم ويبتعدون عن المصالح العامة ، الآن والحمد لله يقتربون من المصالح العامة ويضحون في سبيل المصالح العامة ، وهذه شجاعة الله منَّ بها على الكثيرين لم تكن موجودة وهي أيضاً من أعظم النعم . جل جلال الله وجل جلال نعمه ورحمته وسعت كل شيء وأنا أعتقد أن هذا من الرحمة العامة التي اريد لها ان تشمل الأجيال كلها إلا أننا نراها في جيلنا فقط على أية حال .

· وعن النتائج التي حصلت من أداء صلاة الجمعة قال :

في الحقيقة أنا أعتقد بأننا بعثنا من جديد . وأننا أحيينا بعد الموت في وجود هذه الصلاة المقدسة المباركة ....... وأنا حينما أمرت بالجمعة لم أكن اعرف حصول هذه النتائج وحصول هذا الزخم بعونه تعالى . فالله تعالى هو المعين وناصر من ينصره .

· وبعد ما مضي حوالي عام كامل على استمرار هذه الشعيرة المقدسة علّق السيد (قدس سره):

إنني اعتبر استمرارية الجمعة في كل جمعة وفي أي مكان من موارد إقامة الجمعة إنما هو نصر للدين وللمذهب ولولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فكيف إذا حصل ذلك في سنة كاملة وفي كثير من الأماكن إلى حد حينما اجتمعت بأئمة الجمعة عددناهم وكانوا سبعين واحداً . فكلما كثروا كان النصر أكثر ،وكلما تعدد الزمان وطال الزمان كان النصر أكثر وهذا كله إنما هو عمل مرضي لله ولرسوله ولأمير المؤمنين (عليه السلام) ولا يقتصر في الحقيقة على فكرة النصر الاعتيادية أو الفعلية- وإن كان هذا هو الصحيح - لكنه كان يقال في يوم ما ويناقش في وجود الجمعة، فقلت لهم يكفي أنني فتحت في العراق أكثر من سبعين فماً من الأفواه التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وكذلك تبلغ الأحكام الإسلامية إلى طبقة نستطيع أن نقول أنها جاهلة أو نصف جاهلة . هذا من جملة الفوائد الرئيسة.

ومن جملتها أيضاً الاتصال بالناس وبالشعب وبالطبقة العامة للمجتمع . وهذا كان ضرورياً ، في حين قبل ذلك لم أكن أستطيع أتصل بالناس قدر اتصالي في هذا الحين ... هذا كله من النعم الإلهية وأنا عبرت عنها بالنعم الخاصة لأننا لا نعلم أنها تتوفر في زمان آخر غير زماننا وكلما كانت النعم أطول واعم وأشمل كانت أفضل بطبيعة الحال .

· وفي الذكرى السنوية الأولى لإقامة صلاة الجمعة كانت خطبة السيد الشهيد مخصصة لشرح أبعاد ونتائج وبركات هذه الفريضة المقدسة التي من الله بها علينا . وإليك عزيزي القارئ بعضاً مما قاله السيد في هذا اليوم أمام مئات الآلاف من المؤمنين الذين جاءوا من كل

ص: 81

فج عميق تلبية لنداء الواجب ونصرة للحوزة الشريفة وإعلاء لكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله : -

أعوذ بالله السميع العليم من شر الشيطان الرجيم توكلت على الله رب العالميون وصلى الله على خير خلقه محمد وآله أجمعين بسم الله الرحمن الرحيم ... حياكم الله جميعاً والشكر من الله لكم وليس مني لأنكم تجشمتم الصعوبة في سبيل إقامة شعائر الله والدفاع عن الحق فجزاكم الله خير جزاء المحسنين ... الآن نحاول أن نستفيد العبرة من هذه التجارب الدينية والاجتماعية التي حصلت ومن خلال صلاة الجمعة في هذا العام ، فإن لكل شيء عبرة وموعظة مهما كان قليلاً أو كثيراً كما قال الله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).

وإذا كان الأمر مهماً كانت عبرته أكثر وتجاربه أعمق لا محالة ، وكان أولى بالتذكر والاعتبار . ولئن جعلنا هذه التجارب مرقاة - وإن شاء الله نجعلها مرقاة إلى رضاء الله تعالى - ومقدمة للمزيد من عبادته كان أفضل مما إذا أخذنا الفائدة الدنيوية فقط والتي فيها خسران الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين. وحينئذٍ نسأل ما هي العبرة ؟

أولاً : العزة والشرف والرفعة الاجتماعية والدينية التي حصلت للمذهب في كل العالم وفي العراق خاصة ، وفي كل العالم عامة ورفع ما كان من ذلة وقنوط وخنوع ، والاقتصار على اللذائذ الشخصية والارزاق التجارية ...

ثانياً : إن الذي حصل خلال هذه السنة المباركة هو ما قلته خلال هذه السنة عدة مرات والفضل لله سبحانه وحده يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . ولكن إذا نظرنا إلى الأسباب ، فقد فتحت أفواه جماعة من الخطباء قد يصلون إلى السبعين من خطباء الجمعة ، في الموعظة والإرشاد والترغيب والترهيب والتذكير بالأمور الدينية الفقهية ، بشكل يجب على الآخرين حضورها والإصغاء إليها . وهذا ما لا يحدث في سائر المواعظ ، إذ قد لا يتيسر لكثيرين الحضور إليها وقد لا يستمعون إلى الكلام ، ( أما هنا فالاستماع واجب - سبحان الله - ) إما عمداً أو غفلة في أي خطبة أو قصيدة أو تعزية أو حفلة وأنواعها وغيرها ، بخلاف صلاة الجمعة من هذه الناحية نظيفة من جميع الجهات . وتكون نتيجة ذلك هو زيادة الموعظة والتثقيف الديني والدخول إلى النفوس والقلوب . فحيا الله خطباء الجمعة الذين جاهدوا وأفادوا وحيا الله الحاضرين المخلصين في كل مكان وزمان ، وليس علي شكرهم بل على الله العليم الكريم .

ثالثاً: أنه قالت جماعة من الحوزة ، بل لعلها لا زالت تقول (إن إقامة صلا ة الجمعة فتنة) وأقول في جوابهم: إن الفتنة هم الذين فتحوها بإصرارهم على عدم حضورها ، ولو حضروا لكان الانتصار أكثر واتحاد الحوزة أكثر، حتى أنني قلت بغض النظر عن السلاح فإنه نستطيع عندئذٍ من الناحية المعنوية أن نواجه إسرائيل نفسها ونقول لها : كلا ثم كلا . ارجعي من حيث أتيتي فهم بعدم حضورهم قد ألقحوا الفتنة وأوجدوها ونصروا أعداء الدين والمذهب مع شديد الأسف من حيث يعلمون أو لا يعلمون ويوجد هناك نص واضح في أن صلاة الجمعة ليست فتنة في مصدر رئيسي من مصادرهم . (ثم يبدأ السيد بذكر المصدر ويشرح ما فيه) .

رابعاً: من النتائج والعبر التي حصلت بصلاة الجمعة الشجاعة التي حصلت في الحوزة الشريفة من ناحية وفي كثير من طبقات الناس جزاهم الله خير جزاء المحسنين. بل يمكن القول أنها وجدت حتى في خصوم السيد محمد الصدر ، وقد وصلت إليهم هذه الشجاعة من

ص: 82

حيث لايعلمون ، وكثير من الأمور وصلت إليهم وهم لا يعلمون .

خامساً: الوعي الديني والاجتماعي الذي حصل لكافة الناس في داخل الحوزة الشريفة وخارجها ، ولم يكن ذلك ممكناً أن يكون بدون هذا النشاط الديني الشريف ، اعني صلاة الجمعة المقدسة ، ويمكن أن نضرب له عدة أمثلة :-

المثال الأول : أن الناس عرفوا بوضوح أن عدداً من الحوزويين والوكلاء وأضرابهم الذين كانوا يحسبونهم كجبريل (عليه السلام) أو كأبي ذر عليه الرضوان في السداد والصلاح وكانوا يحملونهم على الصحة في كل أفعالهم وأقوالهم وينخدعون بمظاهرهم. أما الآن فقد أصبح بكل وضوح أن الأسلوب القديم قائم على القصور والتقصير وعلى الإسراف والتبذير وعلى السكوت الشائن على المحرمات مع أنه ورد (الساكت عن الحق شيطان اخرس) وورد ما مضمونه انه إذا كثر الفساد في المجتمع فإن على العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله . مع أنه ليس في الأسلوب القديم شيء من ذلك ، كما قال بعضهم نقلته أنا ولكن لا بأس بالتذكير أنه : لدينا أمور أربعة : الاستخارة والدرس وصلاة الجماعة وقبض الحقوق . فإن كنت تسأل عن واحدة منها فأهلاً وسهلاً وإلا فوَلِّ مدبراً !!! وأهمها في نظرهم طبعاً قبض الحقوق التي تصل بإذن الله للتوزيع في المجتمع وقضاء حوائج المحتاجين إلا أنهم لا يوزعونها في المجتمع ولا يقضون فيها حاجة المحتاجين إلا بنسبة ضئيلة جداً ونحو ذلك ، فقد انكشف الصديق من العدو والناصح من الفاضح بحسب توفيق الله سبحانه

وتعالى . ثم يذكر السيد الأجل مثالاً آخر ويقول : إن أكثر الناس أصبحوا يهتمون فعلاً بالمصالح الدينية والاجتماعية ، ويفضلونها فعلاً على مصالحهم الشخصية والأسرية بل يتمنون الشهادة في سبيل الله تعالى ، وهم بالمئات الآن على ما اعتقد أو أكثر والحمد لله رب العالمين.

ولا يفوت هذا المفكر العظيم أثناء هذه الخطبة المباركة أن يوصي الحاضرين وكل المؤمنين أينما كانوا بالمحافظة على صلاة الجمعة بكل وسيلة ممكنة قائلاً- ولأجل هذا قلت أكثر من مرة استمروا على صلاة الجمعة حتى لو مات السيد محمد الصدر لأنه لا يجوز لكم أن تجعلوا موت السيد محمد الصدر سبباً وذريعة لذلة الإسلام والتشيع وتفرق الكلمة وكثرة المشاكل .بل الحوزة الشريفة تبقى بعون الله ، فتمسكوا بالحوزة واستمروا على شرفكم وعزتكم الدينية وشجاعتكم القلبية وعنايتكم بالمصالح العامة. ولا يجوز أن يحول دون ذلك أي شيء حتى موت هذا العبد الخاطئ الذي هو السيد محمد الصدر . وكذلك يوجد فيكم الكثير ممن يخطب على حد تعبير الروايات ، ومن هو صالح لإمامة الجماعة والجمعة ، وليس أنه حين يموت السيد محمد الصدر يموت الكل ، أعوذ بالله أولاً وبكم من ذلك ، وبالأساس فإن الحوزة هي التي تستطيع أن تبادر إلى ذلك من قبل المرجع البديل الذي وان لم يكن متفقاً مع السيد محمد الصدر بكل التفاصيل ، إلا أن المهم فيه هو الاتجاه نحو العدالة الاجتماعية ، وإنصاف الناس من نفسه كما قيل في الحكمة (قل الحق ولو على نفسك) وإدراك المصالح العامة فإن وجدتموه شخصاً من هذا القبيل فتمسكوا به وإلا فدعوه إلى غيره، فإن الأنانية موجودة مع الأسف جيلا ً بعد جيل ، وهذا هو المضر حقيقة في الحوزة خاصة وفي المجتمع عامة ، فاتبعوا شخصاً من المجتهدين ليس له مثل هذا الطبع بل له اتجاه التضحية في سبيل الآخرين وبذل النفس والنفيس في سبيل دينه ومذهبه .

ص: 83

الفصل الخامس: أحاديث وحواريات تتعلق بشؤون المرجعية والحوزة العلمية

اشارة

- ما المراد من الاعلمية

- وظيفة المبلغين في شهر رمضان

- وظائف المرجعيات والعلاقة بينها

- دور الحوزة الشريفة في حياة الامة.

- مسائل في الولاية وقيادة الامة.

- الصلاحيات المالية لوكلاء المرجعية الدينية.

- كلمة شكر وتقدير من سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) الى طلبة الدورات السريعة.

- الحوزة والمجتمع.

- فقدان العلماء يدعونا الى التخطيط الجدي لاعداد البديل.

- قيمة العمل الفردي والجماعي للرساليين وطلبة الحوزة الشريفة.

ص: 84

ص: 85

ما المراد من الاعلمية ؟

سماحة المرجع الديني آية الله الشيخ الأستاذ محمد اليعقوبي (دام ظله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نرجو من سماحتكم الاطلاع على هذه المسألة والإجابة عنها سائلين الله ان يحفظكم استمراراً لنهج الشهيدين الصدرين ... يرى آية الله السيد محمود الهاشمي - وهو احد ابرز تلامذة الشهيد الصدر (قدس سره) ومن القلائل جداً الحاصلين على اجازة الاجتهاد الخطي منه ويشغل الآن منصب رئيس السلطة القضائية في الجمهورية الاسلامية - يرى انه لا يكون تعريف الاعلمية ما يقال من بذل الجهد الاكثر في ابحاث علم الاصول أو القواعد الفقهية أو الفلسفة أو علم الرجال أو اشبه ذلك مع ما يستتبع من ابتكارات علمية وما اشبه، ان هذه العلوم لها دور في الاعلمية وانعكاس في البحث الفقهي والاجتهاد لكن يجب مرعاة ما يلي:

أ- فهم روح الاسلام ويحصل عليه الانسان اثر الاحاطة الدقيقة بالآيات القرآنية والتصرورات الدينية والمسلمات الاسلامية والأولويات الفقهية والإلمام الكامل بما نفذه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة الاطهار (عليهم السلام).

ب- فهم الثقافة والأمور الحقوقية المعاصرة إلى حد ما ...

ج- - الوقوف على المعارف الصادرة عن أهل البيت المعصومين (عليهم السلام) في المسائل الكلامية والاخلاقية والمعارف الاخرى ... الخ. واستخلص السيد الهاشمي في النهاية تعريف الاعلمية وتعيين حدودها فقال ما نصه : أن جميع العوامل المؤثرة في الاستنباط السليم القوي والشفاف والاقرب إلى واقع الفقه والرأي المبارك للمعصومين (عليهم السلام) هي حدود الاعلمية ومقاييس الاعلمية والمقصود من الاعلمية – بالمعنى الذي اوضحناه – لان هذه الامور تؤثر كثيراً في تقريب الذهن إلى فهم اهداف الائمة الاطهار (عليهم السلام) وإلى فهم الاحاديث ويكون دورها في اصابة الواقع الشرعي اكثر من تلك الابحاث العقلية الاصولية أو الفلسفية ومن تلك القواعد الاخرى البعيد بعضها عن مقاصدهم (عليهم السلام) اذ من الممكن ان هذه الابحاث الفنية المعقدة تبعث في كثير من الاحيان إلى انحراف الذهن واعوجاجه والتوائه في الاستظهار من الرواية وفهمها..

ما رأي سماحتكم في هذا الرأي ؟ مفصلين الاجابة ما امكن واعتذر عن طول السؤال ...!

جمع من المؤمنين

15 جمادى الاولى 1425 ه-

بسمه تعالى

إذا اردنا معرفة وجوب اشتراط الاعلمية في مرجع التقليد او عدمه فلا بد أولاً من تحديد متعلقها وموضوعها أي الاساس الذي تقاس الاعلمية في ضوئه لان (أعلم) اسم تفضيل فلابد أولاً ان نحدد المعيار الذي نجري فيه هذا التفضيل والذي اراه ان عناصرالاعلمية هي كل ما له علاقة باستنباط الحكم الشرعي ولا يقتصر على الفقه والاصول المتعارفين بل يتعدى إلى التاريخ وفهم سيرة المعصومين (عليهم السلام) واشكال تصرفهم ازاء الحالات والقضايا المختلفة ومرادات القرآن الكريم وطريقة القرآن والأئمة في تربية الأمة وتبليغ الاحكام وحتى تشمل

ص: 86

الثقافة العامة والعصرية حيث ان لها دخلاً في فهم الموضوع وتنقيحه الذي هو نصف الطريق للوصول إلى الحكم، وكما قيل فان (فهم السؤال نصف الجواب).

فمثلاً : إذا اردنا ان نعرف متى يحمل الامام السلاح لمقاومة الظلم والانحراف وهي مسألة مصيرية في حياة الامة لا يستطيع ان يحدد الموقف منها إلا العالم الرسالي الذي وعى سيرة المعصومين (عليهم السلام) بالشكل الذي عرضناه في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

وقد اخترت لبحوثي الاستدلالية في كتاب (القول الفصل) و(بحوث استدلالية في الفقه المقارن) وكذا في كتاب (الرياضيات للفقيه) مسائل تحتاج إلماماً دقيقاً في الرياضيات والكيمياء والفيزياء والاجتماع والاحصاء لاثبت للفقهاء قبل غيرهم حاجة الفقيه إلى علوم ازيد مما تعرفوها لممارسة الحكم الشرعي.

خذ مثلاً مسألة : هل ان الفترة ما بين الطلوعين من الليل أو النهار ويترتب عليها آثار شرعية عديدة ذكرتها في كتاب (الرياضيات للفقيه) واختلف الفقهاء فيها على اقوال لكن التحليل الاحصائي الذي اجريته للبيانات فند اقوالهم ثم دعمت النتيجة بالروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) وأدلة اخرى.

فدعوى الاعلمية اذن دعوى نسبية وليست مطلقة لانه من النادر ان تحصل هذه الاحاطةلغير المعصومين (عليهم السلام) والكتب السابقة التي ذكرتها دليل على وجود عجز في جهة أو أكثر لدى الفقهاء مما لها دخل كبير في تحصيل الحكم الشرعي الموافق لرأي المعصوم (عليه السلام)، ولا يستطيع احد انكار تأثير العلم بها في المسائل التي عرضتها في هذه الكتب والذي عزز هذا الاستنتاج مطابقته لروايات واردة عن المعصوم (عليه السلام) لم توضع في مكانها الصحيح. لذا قد اهملها الفقهاء (راجع كمثال الحكم بحلية المحلول السكري الذي يتعرض للتخمر إلى مدة ثلاثة أيام)، وبهذا التفاعل الواسع مع النص من جميع جوانبه الذي يشبه البناء المتكامل ستجد لكثير من الروايات موقعها من الاستنباط الفقهي كاللبنة التي تجد مكانها الشاغر في البناء الذي يحتاجها.

وإذا اردت ان اقبل تفسيراً قريباً لما قلت للاعلمية فهو ما نقلتموه من كلام سماحة آية الله السيد محمود الهاشمي وهو معنى وعاه من استاذه العظيم آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) الذي وصفه سيدنا الاستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في احدى رسائله الخطية المحفوظة لديَّ بانه اعلم الاولين والآخرين، عدا المعصومين (عليهم السلام) وقد اجتمعت لديه بلطف الله تبارك وتعالى الاحاطة التي ذكرناها.

وعلى أي حال فتوجد نقاط اتفاق واختلاف مع الكلام المنقول عن آية الله السيد الهاشمي (دام ظله الشريف) ومما اتفق معه ان كثيراً من الابحاث - خصوصاً في علم الاصول- لا علاقة لها باستنباط الحكم الشرعي كبحث بساطة المشتق وتركيبه وبحث اتحاد الطلب والارداة ونظرية الامر بين الأمرين الذي هو بحث كلامي صرف يستغرق البحث فيها عدة أشهر تضيع من عمر الاستاذ والطالب وتشغله عن الاهتمام بما هو أهم.

وكنت اقول لطلابي ان الخوض فيها يحتاج إلى ركعتي استغفار ومعه -أي السيد الهاشمي- حق حينما قال ان بعض هذه الابحاث يوجب انحراف الفهم واعوجاج السليقة وهو مالمسه كل من مارس الاستنباط الفقهي أو اطلع عليه وهو من أهله.

اسأل الله تعالى ان نكون على درجة من الشجاعة والوعي والحكمة والورع بالمقدار الذي يؤهلنا لإصلاح المناهج العلمية واحترام وقت الطالب وتوجيهه بالاتجاه الذي ينفع الأمة ويعينها على تحمل مسؤولياتها العظيمة وممن ساهم في هذا الاتجاه الشهيد الصدر الأول (قدس سره) في كتابه (دروس في علم الاصول) المعروف بالحلقات وقد كتب بعض أفكاره الاصلاحية في هذا المجال في بحث (الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد) وهو منشور في العدد الاخير

ص: 87

من المجلد الثالث من مجلة الايمان التي كان يصدرها المرحوم والدي في النجف الاشرف في الستينات من القرن الماضي.

محمد اليعقوبي

16 جمادى الاولى 1425ه

ص: 88

وظيفة المبلغين في شهر رمضان

يتضمن العنوان جهتين من الكلام الاولى عن التعطيل والثانية عن شهر رمضان:

معاني التعطيل:

ففي الجهة الاولى نقول: ان للتعطيل معنيين:

أ- التعطيل المطلق بمعنى ان طالب العلم يخلد الى الراحة والنوم والكسل في العطلة -اية عطلة- وهو معنى غير صحيح اكيداً فان الانسان في هذه الحياة الدنيا في عمل دؤوب نحو الهدف وهو رضا الله سبحانه وبلوغ المزيد من درجات التكامل وراس ماله في هذا العمل وهذه التجارة ساعات عمره التي هي في انقضاء ومرور سريع وأية ساعة يضيعها الانسان من دون ان يوظفها في خدمة الهدف فانها سوف تكون حسرة عليه يوم القيامة ويشعر بالغبن حينما يرى غيره قد استغلها فنال مرتبة اعلى منه وفي الخبر ان ساعات عمر الانسان تعرض امامه على شكل خزائن تفتح له فان قضاها في خير وجد في تلك الخزينة خيراً أو في شر -والعياذ بالله- فيجد فيها شراً واذا قضاها في عمل غير هادف ولا مثمر فيجدها فارغة فيتحسر على فواتها عليه دون ان يملأها بما ينفعه (ولات حين مندم).

ويشبه بعضهم حال الانسان بانه كما لو كان مدلى بحبل في بئر عميق وفي قعره تنين عظيم فاتح فاه ينتظر اللحظة التي يسقط فيها هذا الانسان المسكين ليلتهمه وهناك جرذان في راس الحبل تقرض به وهو مع هذا الحال المرعب اقبل على عسل مخلوط بالتراب على جدران البئر يلعق به وينافس الزنابير والحشرات بدلاً من ان يفكر بنجاة نفسه، هذه الصورة الرهيبة تمثل حالنا فنحن متعلقون بحبل العمر ويقرض فيه الليل والنهار وتنين الموت ينتظرنا، فما يلبث عمرنا ان ينصرم حتى يلتهمنا الموت ونلاقي الدواهي العظمى وبدلاً من ان نفكر في الاستعداد له والنجاة من عقبته الكؤود نضيع وقتنا الثمين في الراحة والكسل وليس هذا من شأن المؤمن الذي يعيش بكل كيانه الهدف السامي، قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) والكدح في اللغة والعناء والتعب وفي نهج البلاغة (ليكدح المؤمن حتى يلاقي ربه).

ب- التعطيل المقيد بمعنى انه تعطيل عن الدروس الحوزوية المتعارفة فقط، وليس تعطيلاً عن كل عمل، وهذا المعنى هو الصحيح واللائق بالمؤمن الهادف الواعي.

كيف يريح الطالب عقله؟

فان الطالب قد يتعب من الدرس والتحصيل وهذا شيء طبيعي فكيف يريح عقله؟! يريحه بالقيام باعمال ومسؤوليات اخرى لا تقل وجوباً عن تحصيله الدراسي وهي في نفس الوقت راحة له عن الجهد العقلي الذي بذله، فراحة طالب العلم في هذا التنويع في المسؤوليات، وهذا التنقل بين المسؤوليات ضروري على الدوام لكي لا تجزع النفس وتتمرد، فان لها حدوداً وقابليات فاذا كلفها فوق طاقتها نخشى عليها ان تعصي صاحبها فيخسر كل شيء، والى هذا التنوع اشار عليه السلام (ان العقول لتمل او لتكل كما تكل الابدان، فروضوها بطرائف الحكم) فمن حقها ان ترتاح بعد ان تبذل جهوداً مضنية لكن راحتها ليس بالخمول والكسل وكثرة النوم وانما بممارسة مسؤوليات واداء واجبات مغايرة.

فما هي المسؤوليات التي يمارسها طالب العلم في التعطيل ؟

ص: 89

أولها وأهمها: نشر أحكام الله سبحانه وتوجيه المجتمع وإرشاده وتوعيته بالموعظة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال المنبر الحسيني أو القاء المحاضرات او عقد الندوات او اجراء الحوارات وهذا واجب الجميع والحوزة تكون مقصرة لو وجدت نقطة في اقصى البلاد لم تبعث اليها من يهدي اهلها ويرشدهم الى سواء السبيل وقد اكد القران كثيراً على هذا الدور المهم (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، وانتم يا رجال الحوزة القدر المتيقن من هذه الامة، وقال تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

وقد تفقهتم خلال سنة كاملة واستوعبتم كثيراً من المعلومات فبقي عليكم دور ايصالها الى المجتمع فاذا قمتم بهذا الدور فاستمعوا لما يعدكم الله ورسوله (صلى الله عليه واله) من الاجر الجزيل والثواب الجميل، قال امير المؤمنين (عليه السلام) (من قوى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصب فافحمه لقنه الله يوم يدلى في قبره أن يقول: الله ربي محمد نبيي وعلي وليي والكعبة قبلتي والقران لهجتي) وعن معاوية بن عمار قال: (قلت لابي عبد الله (عليه السلام) رجل راوية لحديثكم يبث ذلك بين الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية ايهما افضل؟ قال (عليه السلام): الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا افضل من الف عابد) وروي عن علي (عليه السلام) انه قال (من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فاخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم الى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور، يضيء لأهل جميع تلك العرصات وعليه حلة لا يقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها ثم ينادي مناد من عند الله تعالى يا عباد الله هذا عالم من بعض تلاميذ آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الا فمن اخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتلبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات الى نزهة الجنان فيخرج من كان علمه في الدنيا خيراً او فتح عن قلبه من الجهل قفلاً او اوضح له شبهة).

ثانيهما: الالتفات الى تنقية القلب وتطهير النفس، فاننا قد اعطينا السنة كلها لغذاء العقل وهو على اهميته الا انه لا يكفي وحده بل لا بد من الاهتمام بغذاء القلب من الموعظة والازدياد من المعرفة بالله سبحانه بالتدبر بالقران الكريم والادعية الشريفة وقراءة كتب الاخلاق والوعظ والتهذيب، فمن وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام) (يا بني أحيي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة) وذات مرة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لاصحابه (ان القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد ، قيل وما جلاؤها يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تلاوة القران وذكر الموت) فاذا تأمل الانسان في مبدأه ومنتهاه وما يؤول اليه امره من الموت وما بعد الموت فسيحصل على ثمار مهمة: الاستهانة بالدنيا وتحقير زخارفها، والسمو عن الاعمال الدنيئة والانشداد الى الله سبحانه والتعلق به.

شهر رمضان خير فرصة لتطهير القلب

وهذا العمل يعني اعمار القلب وتطهيره وان كان ضرورياً على مدى السنة كلها الا ان شهر رمضان خير فرصة له لما فيه من اجواء سمو روحي حيث تغل الشياطين وتخمد شهوات النفس الامارة بالسوء ويعيش الجميع اجواء الطاعة لله سبحانه وقد حشد الائمة (عليهم السلام) عدداً وافراً من الادعية والمناجاة لإعطاء هذا الشهر الشريف دفعة الهية ضخمة وليكرس الانسان نفسه لله سبحانه ويزداد هذا التكريس في العشر الاواخر من شهر رمضان حيث كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطوي فراشه -كناية عن اجتناب النساء- ويشد مئزره للعبادة وكان بعض المراجع ممن له مقام في العرفان يسد مكتبه في هذه الايام ولا يعرف احد اين يولي وجهه حتى نهاية الشهر.

ص: 90

ان غار حراء الذي دخله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومكث فيه متفرغاً للتأمل والعبادة والمناجاة والذكر الدائم مطلوب منا ان ندخله باستمرار ولا اقل من هذه العشرة ايام بالسنة كما كان يفعل (صلى الله عليه وآله وسلم) لنجلوا قلوبنا ونطهرها من الرين والصدأ المتراكم عليها من الذنوب والغفلة والاشتغال بفضول الدنيا من اكل او نوم او كلام قال تعالى(كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

ثالثها: مراجعة الدروس وتدارك ما فات منها، وسد الثغرات التي حصلت خلال المسيرة الدراسية.

رابعها: الاهتمام بالاتجاه الفكري او ما نسميه بالوعي الاجتماعي فانه من مقومات شخصية العالم الديني ومع ذلك فان منهاج الدراسة الحوزوية المتعارفة خالية منه، فعليك ان تعسى لتحصيله بجهدك وتوفيق الله سبحانه، ومن خلال مطالعة الكتب في هذا المجال لكبار مفكرينا المخلصين.

خامسها: تحصيل العلوم المكملة للدراسات الحوزوية مما لا يدخل في منهجها المألوف ، كالتفسير والعقائد والتاريخ والرجال ، مضافاً الى الثقافة العامة والعلوم العصرية.

سادسها: تبادل الزيارات واللقاءات خصوصاً مع الارحام وتحسين العلاقات مع من تدخل الشيطان بينك وبينه فحصل سوء تفاهم فتسعى لاصلاح ذات البين فانه افضل من عامة الصلاة والصوم كما عبر امير المؤمنين (عليه السلام).

سابعها: كتابة البحوث والدراسات وصقل هذه الموهبة فانه من المؤسف حقاً ان تعيش النجف حاضرة الفكر ومصنع العلماء والمفكرين عقدين من الزمان خالية ممن يشخص قضايا المجتمع وسلبياتها ويعالجها، فلم تصنع الحوزة خلال هذه المدة مفكراً واحداً وهذا مما لا يمكن قبوله فعلى الاخوة الفضلاء والطلبة شحذ الهمم والتصدي لدراسة ما يعصف بالمجتمع من مشاكل وانحرافات وشبهات وكتابة البحوث وعلاجها ومواجهتها ويفضل ان تكون البحوث بحجم كراسات وكتيبات يسهل قرائتها ولا يتعذر بذل الثمن بازائها ويكفي في هذه الكتابات تلخيص افكار علمائنا ومفكرينا الكبار وتجميعها وصياغتها بما يناسب واقعنا المعاش.

الجهة الثانية في استقبال شهر رمضان

لماذا جعل الله تعالى الاعمال في هذه الايام مضاعفة؟

قد يسال سائل لماذا عيَّن الله سبحانه ايام مباركة وليالي شريفة اهتم بها وجعل الاعمال بها مضاعفة، هل لعظمتها في نفسها؟ ام لارتباطها بحوادث معينة؟ ام لا هذا ولا ذاك ؟ وقد اتضح بعض الاجوبة او كلها وقد يوجد غيرها، الا ان احد الاجوبة الصحيحة انها فرصة منحها الله سبحانه بلطفه وكرمه وتوفيقه لعباده ليضاعف لهم العطاء نظير ما يفعله البعض بتوفير فرصة (الجوكر) للمتسابقين فيأخذ بها المتسابق لتضاعف له النقاط التي يحرزها.

وقد وفر الله سبحانه لعباده عدة فرص خلال السنة لكن اهمها واوفرها حظاً شهر رمضان ففي دعاء الامام السجاد (عليه السلام) في وداع شهر رمضان واني انصح بقراءته في استقبال شهر رمضان ليعرف الانسان قيمته قبل الدخول فيه ويزداد معرفة بعظمته وجلالة قدره وعظمة نعمة الله سبحانه بتوفير هذه الفرصة لعباده وبإبقائهم أحياء حتى أدركوا هذه الفرصة مجدداً، وإلا فان أشخاصاً عديدين كانوا معنا في شهر رمضان السابق ليسوا معنا الآن لكن الله بفضله ورحمته ولطفه ادرك بنا هذا الشهر العظيم وجدد لنا هذه الفرصة لينظر كيف نصنع.

دعاء الامام السجاد (عليه السلام) في وداع شهر رمضان

ص: 91

قال الامام السجاد (عليه السلام): (الذي زدت في السوم لعبادك، تريد ربحهم في متاجرتهم لك، وفوزهم بالوفادة عليك، والزيادة منك، فقلت تبارك اسمك وتعاليت (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا). وقلت ()مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) ، وقلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً )) الى ان يقول (عليه السلام) (اللهم وانت جعلت من صفايا تلك الوظائف، وخصائص تلك الفروض: شهر رمضان الذي اختصصته من سائر الشهور، وتخيرته من جميع الازمنة والدهور، وآثرته على كل اوقات السنة، بما انزلت فيه من القران والنور، وضاعفت فيه من الايمان وفرضت فيه من الصيام، ورغبت فيه من القيام، واجللت فيه من ليلة القدر التي هي خير من الف شهر. ثم آثرتنا به على سائر الامم، واصطفيتنا بفضله دون اهل الملل) الى ان يقول (عليه السلام):

(السلام عليك يا شهر الله الاكبر، ويا عيد الله اوليائه

السلام عليك يا اكرم مصحوب من الاوقات، ويا خير شهر من الايام والساعات.

السلام عليك من شهر قربت فيه الآمال، ونشرت فيه الاعمال.

السلام عليك من قرين جلَّ قدره موجوداً، وافجع فقده مفقوداً، ومرجو آلم فراقه.

السلام عليك من اليف آنس مقبلاً فسر، وأوحش منقضياً فمض.

السلام عليك من مجاور رقت فيه القلوب وقلت فيه الذنوب.

السلام عليك من ناصر اعان على الشيطان وصاحب سهل سبل الاحسان.

السلام عليك ما اكثر عتقاء الله فيك وما اسعد من رعى حرمتك بك.

السلام عليك ما كان امحاك للذنوب واسترك لانواع العيوب.

السلام عليك ما كان اطولك على المجرمين واهيبك في صدور المؤمنين.

السلام عليك من شهر لا تنافسه الايام.

السلام عليك من شهر هو من كل امر سلام.

السلام عليك غير كريه المصاحبة ولا ذميم الملابسة.

السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات وغسلت عنا دنس الخطيئات.

السلام عليك غير مودَّع برماً ولا متروك صيامه سأماً.

السلام عليك من مطلوب قبل وقته ومحزون عليه قبل فوته.

السلام عليك كم من سوء صرف بك عنا، وكم من خير افيض بك علينا..) الى آخر الدعاء المليء بهذه المعارف الالهية الجليلة.

ومما يستقبل به شهر رمضان ايضاً خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر جمعة من شعبان التي رواها امير المؤمنين (عليه السلام) والتي تمثل دستور عمل في هذا الشهر المبارك. اعاننا الله سبحانه على طاعته وجنبنا معصيته وجعلنا ممن ينال غاية رضاه، وختم لنا بالحسنى انه ولي النعم وهو حسبنا ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 92

بسم الله الرحمن الرحیم

وظائف المرجعيات والعلاقة بينها

سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دامت إفاضاته)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ادناه مجموعة من الأسئلة نضعها بين يديكم الكريمتين راجين التفضل بالإجابة عليها ولكم الاجر والثواب :

1- ما هو السبب -في نظركم- في عدم نهوض المرجعية بالمجتمع المسلم إلى مستوى افضل مما هو عليه خلاف الحقبة الزمنية الماضية؟

2- ما هو رأيك الشريف بمقام المرجعية، هل هو وسيلة أم غاية ؟

3- في الفترة الزمنية الحالية ظهرت اعراض مرض الحسد بين المرجعيات، فما هي خصوصية هذه الفترة التي اظهرت هذا المرض؟

4- البعض ممن يتسمون ب-(العلماء) يتقول على سماحتكم بأمور كثيرة من دون ذكر العلة الحقيقية الموجبة لذلك يرجى تسليط الضوء على ذلك بصورة واضحة ؟

ادام الله تعالى ظلكم الوارف على المؤمنين .. آمين

بسمه تعالى

ج1 : يرجع ذلك إلى عاملين : ذاتي وموضوعي، واقصد بالذاتي، القصور والتقصير لدى المتصدي للمرجعية نفسه. وبالموضوعي، الظروف المحيطة به فعلى صعيد الأول تستطيع ان تستقرأ عدة نقاط:

1- غياب الحس الاجتماعي والوعي الحركي.

2- تركز الانانية وحب الذات.

3- قلة الثقافة العامة.

4- عدم مواكبة العصر والانفتاح على مستجداته.

5- عدم الاحتكاك بالناس وانما تجده ينطلق من محبسه بين الكتب إلى قمة هرم المرجعية.

6- احاطة نفسه بحاشية تبحث عن مصالحها لا ورع لهم بل ولا دين مع قلة البصيرة.

7- عدم فهم واستيعاب مسؤولية الموقع الذي يتصدون له فيخلطون بين فهم المرجعية كموقع علمي وفهمها كموقع قيادي.

8- عدم القدرة على تشخيص الداء ومن ثم العلاج.

9- عدم الاستفادة من تجارب القادة والمصلحين وعلى راسهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

10- التفكير الفردي في عمل المرجعية وعدم تحولها الى مؤسسة ثابتة فيبدأ كل منهم مستقلاً عن الآخر ومن الصفر بدلاً من تكاتف الجهود وتظافرها.

وأما العامل الموضوعي فهو واضح تأريخياً ويمكن حصر عدة نقاط فيه:

1- ضغط الحكام ومحاصرتهم للمرجعية.

2- سلب ادوات القوة والنفوذ من ايديهم.

3- تشويه صورتهم والقدح في شخصياتهم واسقاطهم من اعين الناس.

4- فصل الأمة عنهم بالترغيب والترهيب وغيرهما.

5- العمل على ترسيخ الجهل لدى الناس وهو رأس المشاكل.

ص: 93

6- اشغال المرجعية بصراعات وتحديات هامشية كالجدال المذهبي أو المشاكل الاجتماعية.

7- اختراقها بعناصر غير مخلصة ولا امينة تسيء اليها وتضعف من دورها وتحجب عنها الرؤية الصحيحة.

8- الهاء المجتمع بمشاكل اقتصادية واجتماعية وغيرها تشغله عن متابعة مرجعيته.

والبحث في تفاصيل هذه الأمور يحتاج إلى فرصة اوسع من هذه لكن مجرد اثارة هذه النقاط كافٍ لفتح باب التفكير في الاسباب ووضع العلاج المناسب.

ج2 : عند أهل الله والآخرة : هي وسيلة لاحقاق الحق وابطال الباطل وهداية المجتمع واصلاحه ومساعدته على تكميل نفسه والتقرب إلى الله تعالى وقد عبر عن ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولولا ما أخذ الله على العلماء ان لا يقاروا على كظة ظالم وعلى سغب مظلوم لالقيت حبلها على غاربها ولوجدتهم دنياكم هذه عندي اهون من عفطة عنز) وفي كلامه (عليه السلام) لأبن عباس وكان يخصف نعله فرماه اليه وقال : ما تسوى هذه النعل يا بن عباس : قال : لا شيء قال : فان دنياكم اهون عندي منها إلا ان اقيم حقاً أو ادحض باطلاً.

اما عند أهل الدنيا: فهي غاية، بل غاية الغايات فانها اشرف موقع واعلى مرتبة تحلم بها النفوس لما فيها من قدسية وهيبة وجاه ومال واستعلاء على الناس وكفى بذلك غاية للنفوس الامارة بالسوء اعاذنا الله واياكم وبصَّرنا بحقائق الامور ورزقنا القدرة على التمييز بين الحق والباطل واعاننا على اتباع الأول ونبذ الثاني.

ج3 : لا خصوصية لهذه الفترة عن غيرها من حيث اصل وجود الحسد فان هذا الداء اكثر ما يستشري بين أهل العلم كما هو مفاد احد الاحاديث الشريفة وهو من الامراض المتأصلة في النفوس البعيدة عن الله تعالى وأول من هلك به ابليس -وهو كان من العلماء - حينما حسد ادم (عليه السلام) على سجود الملائكة له فاستكبر وكان من الخاسرين.

اما الجديد في هذه الفترة فهو اتساعه وظهوره على الساحة وترتيب الاثر عليه بعد ان كان كامناً في النفوس ولا يرتّب صاحبه عليه أثراً خارجياً، وأول اثر سيء له هو انتقاص المحسود ومحاولة تسقيطه رغم ان الحديث الشريف الذي يستنكر وجود الحسد في قلب المؤمن بقوله : (ثلاث لا يخلو منها مؤمن) احدها الحسد، لكنه وضع العلاج: (فاذا حسدت فلا تبغ) ولا تظلم ولا يدفعك حسدك إلى عصيان الله تبارك وتعالى في المحسود بغيبته والافتراء عليه وبهته بما ليس موجوداً فيه فهذا هو الجديد وهو ظهوره بعد ان كان كامناً وساعد على ذلك عدة أمور :

1- نجاح الاعداء في التقليل من هيبة المرجعية.

2- قلة الوازع الديني وغياب الرقابة من داخل النفس ومن خارجها.

3- تصدي عناصر سيئة لهذا الموقع الشريف في ظل عدم وجود ضوابط صارمة لمعرفة المؤهل لهذا الموقع وغيرها.

ج4 : إذا اردت ان احسن الظن بهم فاقول ان عذرهم صدورتصرفات من هذا القاصر لم يستطيعوا فهمها وفق القواعد والضوابط العامة فاستنتجوا انحراف هذا القاصر ووجوب التصدي له لكن هذا الوجه مردود لأننا أمرنا بنصيحة الأخ المؤمن سراً فكان عليهم قبل التشهير الاستماع إلى وجهة نظر هذا القاصر فان كانت صحيحة ومستندة إلى حجة شرعية اعذروه وان لم تكن كذلك قوموه فان امتنع قاوموه، فلماذا لم يتبعوا هذه الخطوات المخلصة.

وان اردت ان اسيء الظن قلت ان ذلك حسد منهم : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)(1)

والله تعالى هو الحكم العدل وان كنت دائماً اكرر الدعاء بان يجمع الله تعالى

ص: 94


1- النساء : 54.

كلمة عباده على طاعته ولا يفرقهم وان يوفق اولياء امورهم لما فيه صلاح عباده انه ولي النعم. واكرر اعتذاري عن هذا الاختصار.

محمد اليعقوبي

16 ربيع الاول 1424

ص: 95

دور الحوزة الشريفة في حياة الأمة

دور الحوزة الشريفة في حياة الأمة (1)

حينما قسم الفقهاء المسائل الفقهية إلى (عبادات) و(معاملات) وقسموا المعاملات إلى (عقود) و(ايقاعات) و(أحكام) فانهم انطلقوا من ناحية علمية وفنية لتبويب وتصنيف مسائل الفقه حتى يسهل اخذها فانطلقوا بتقسيمهم على اساس ان فعل المكلف اما مشروط بقصد القربة أو لا، فالأول هي العبادات والثاني المعاملات وهي اما متقومة بطرفين كالبيع والنكاح أو بطرف واحد كالعتق والطلاق أو غير متقومة بأي احد كالحدود والديات والمواريث فالأولى هي العقود والثانية هي الإيقاعات والثالثة هي الإحكام.

ولم يدُرْ في خلد هؤلاء الفقهاء ان هذا التقسيم الفني العلمي سيتحول إلى ممارسة خاطئة وفهم ضيق لدور الشريعة في حياة الأمة حيث رسخ هذا التقسيم في اذهان الناس ان عبادة الله تعالى ومراعاة الشريعة انما يختص بالقسم الأول وتراهم يسألون عن تفاصيل جزئية في الوضوء والصلاة والصوم وهو شيء حسن لكن السيء انهم اقصوا الشريعة عن المعاملات حين اصبحت قسماً مستقلاً عن العبادات وكأن الشريعة مختصة بالعبادات، ونتج عن ذلك انهم لم يحكموا دين الله فيها ويشرعون من انفسهم قوانين تحكم المعاملات كقوانين الاحوال الشخصية والسنينة العشائرية وسائر القوانين الوضعية الاخرى فتقوقع الدين وانحسر دوره خلافاً لقوله تعالى (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(2).

فهذا التسليم المطلق وتحكيم الشريعة جارٍ لكل شؤون الامة (3)

وانا هنا لا ادعي ان هذا التقسيم هو السبب الوحيد في هذه النتيجة السيئة وانما توجد اسباب اخرى لكنني اريد ان اتوصل إلى فكرة ان اختيار العناوين والمصطلحات مهم لأن أي خطأ فيه يسري إلى خطأ في المعنون والمضمون والتطبيق ولا يقتصر على الجهة النظرية فقط فليس صحيحاً ما يتردد في كتب الدراسة الحوزوية (لا مشاحة في الاصطلاح) فان عدم الدقة فيه يؤدي إلى مثل هذه النتيجة الخاطئة.

ومن هذا الشرح المختصر للفكرة والمثال عليها انطلق إلى القول بانَّ توصيف الحوزة الشريفة بالعلمية فيقال (الحوزة العلمية) وان كان له ما يبرره باعتبار ان النشاط الاوضح فيها هو تحصيل العلوم الدينية وتعميقها والابداع فيها ونشرها وتدوينها إلا ان هذا الوصف رسخ في أذهان أبنائها أن وظيفتهم هو طلب العلم وتدريسه ونحوه من الشؤون وصار الكثير من المرجعيات التقليدية واتباعهم يردد ان وظيفتهم الدرس ونحوه وعدم التدخل في شؤون الامة، وهو تحجيم لدورها وافراغ لمحتواها فهي ليست كالجامعات الاكاديمية عبارة عن كيان علمي

ص: 96


1- من حديث سماحة الشيخ (دامت تأييداته) في حفل تخرج دفعة جديدة من كلية التوجيه الديني والاصلاح الاجتماعي من جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف وارتدائهم الزي الديني يوم الاثنين 1 ذي الحجة 1426 ه- ومن حديث سماحته مع طلبة جامعة الصدر الدينية الفرع الأول في الرصافة من بغداد في اليوم التالي ومن حديث سماحته مع طالبات جامعة الزهراء الدينية فرع البصرة يوم الخميس 26 ذي القعدة 1426ه- .
2- النساء : 65.
3- تجد توضيحاً لهذه الاشكالية في كتاب (شكوى القرآن) بحث (الجاهلية الحديثة واسلوب مواجهتها) و (دليل سلوك المؤمن) في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما اعرفه).

صرف بل انها حوزة وعلى رأسها المرجعية تمثل الكيان القيادي للأمة بما تقتضيه القيادة من نشاط سياسي واجتماعي واخلاقي وتربوي وفكري وانساني وحتى اقتصادي.

وقد مارست القيادات الدينية الواعية والمخلصة هذه الادوار في حياة الامة فعلى الصعيد السياسي تجد ان كل حركات التحرر والنهضة الحديثة قادها علماء الدين ومعلمو القرآن كعمر المختار في ليبيا والخطابي في المغرب وابن باديس وعبد القادر الجزائري في الجزائر ومحمد عبده في مصر وعبد الرحمن الكواكبي في سوريا وأمين الحسيني في فلسطين وناهيك عن القيادات الشيعية في العراق وإيران ولبنان. وعلى الصعيد الاجتماعي فان الحوزة الشريفة تجد نفسها مسؤولة عن اصلاح ذات البين بين المتخاصمين من عشائر وافراد والسعي للتوفيق في تزويج المؤمنين والمؤمنات ومشاركة الامة في مناسباتها الاجتماعية، واما الدور التربوي والاخلاقي والاصلاحي فانه الدور الاوضح للفضلاء والخطباء وائمة المساجد والجماعات في حياة الامة.

وبفضل هذا الجهد المبارك حافظت الامة على اخلاقها واعرافها ولم يجد الانحراف والانحلال والانهيار الخلقي الذي تعاني منه مجتمعات الغرب مكاناً واسعاً له في المجتمعات المتدينة، يكفي ان تعلم ان مرض الايدز الذي فتك إلى الآن بعشرين مليون انسان لم يسجل له وجود يذكر في امتنا المحافظة. اما على الصعيد الانساني من باب الشاهد نقول ان المساعدات التي قدمتها المرجعية للبائسين والمحرومين ومعالجة المرضى في فترة الحصار خلال التسعينات من القرن الماضي كان لها أثر مهم في حفظ حياة هؤلاء ومصابرتهم وصيانة كرامتهم، وأما الجهد الفكري العلمي فان اكثر نتاج المطابع وما تتلاقفه دور البيع فهو من تأليف علماء الحوزة الشريفة وفضلائها ومفكريها. وقس على هذا نشاطهم في الحقول الحيوية الأخرى.

وفي ضوء هذا يجب على طلبة الحوزات الشريفة -رجالاً ونساءً- أن يستوعبوا مسؤولياتهم ووظائفهم التي يقتضيها وجودهم في هذا الكيان الشريف وهي ان بدت واسعة وثقيلة إلا انه مع الاخلاص لله تبارك وتعالى والهمة وقوة العزم والتعاون مع كل العاملين تكون يسيرة باذن الله تعالى.

بل قد يشعر الانسان ان سعة المسؤوليات وقوة التحدي دليل على ان ايمانه بخير وان مستواه ليس متدنياً حيث اختاره الله تبارك وتعالى لهذا الدور الكبير فهو من مواطن الشكر لله تعالى على لطفه بعبده حين اختاره لهذا الدور الشريف ووفقه لاستجابة دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(1)

انه مع هذه الثلة القليلة الصالحة استجابة من بين الملايين من المسلمين لقوله تعالى (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(2)

وحضي من دون كل أولئك بما اعد الله تعالى من الكرامات لطالب العلم الذي يستغفر له من في السماوات والأرض وان الملائكة تفرش له اجنحتها وان حلق العلم روضة من رياض الجنة وان من ترك ورقة فيها علم نافع كانت حجاباً بينه وبين النار وغيرها من الالطاف الالهية.

ولا بد ان لا نكتفي بالشكر اللساني فانه ادنى مراتب الشكر وانما علينا ان نؤدي الشكر العلمي بان نؤدي وظائف النعمة ونقوم باستحقاقاتها التي تقدم ذكرها مع الاعتراف بعجزنا عن شكر ولو نعمة واحدة لان كل شكر هو نعمة تستحق الشكر من جديد فأنّى للانسان ان يؤدي حق الشكر.

ص: 97


1- الأنفال : 24.
2- التوبة : 122.

انني اسمع عن البعض انه حين تعرض عليه مسؤولية دينية معينة كامامة الجماعة أو التدريس فانه يرفضها ظناً منه ان ذلك تورع وحفظ للنفس من الرياء والعجب ونحوها وهو قد يكون حسن النية وقد يكون تكليفه ذلك لكن هذا تصرف سلبي وتحقيق لمراد الشيطان بلباس الدين فان ابليس لا يريد ان يعبد الله تبارك وتعالى (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) فحينما تنسحب من الاعمال الايمانية فقد اعطيت لابليس مراده ووقعت في حبائل خداعه فان المسجد إذا خلى من صلاة الجماعة سوف لا يقصده المصلون وتعطل شعائر الله ويفتقد الناس الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والاخ المخلص حيث يوجد كل هذا في المسجد.

اما التصرف الايجابي فهو في اقتحام المسؤولية والاستعداد لها والحذر من المزالق التي يخاف منها من خلال تهذيب النفس وتأهيل الشخصية لممارسة هذه الوظائف ولا نكون كذاك الرجل الذي كانت زوجته تكره التدخين وعاش صراعاً بين الاحتفاظ بزوجته وعادة التدخين واخيراً قال لصاحبه لقد تركتها، قال الآخر : تقصد عادة التدخين قال الرجل : لا .. فقد تركت زوجتي، فهذا سير في الاتجاه الخاطئ في مثل هذه المنعطفات التاريخية فعليه ان يتوكل على الله ويخلص نيته ويشد عزمه ويكون ذا مصداقية فيطابق قوله عمله وحينئذٍ سيكون التصدي للمسؤولية فرصة لتحقيق التكامل.

إن الارتقاء في سلم التكامل قد يحصل من اعمال ورياضات فردية لكنه يتسارع بدرجة اكبر من خلال الانخراط في العمل الجماعي واداء الوظائف الاجتماعية، إذ ان المؤمن يشعر بدرجة من المسؤولية امام ربه فيؤدي الواجبات ويتجنب المحرمات حتى في السر فاذا انخرط في سلك الحوزة الشريفة وارتدى الزي الديني فان شعوره سيزداد وسيترك بعض التصرفات المحللة لمجرد انها غير لائقة بوضعه الجديد فإذا صار إماماً للجماعة فسيكون أكثر مراقبة لنفسه لانه صار محل ثقة عدد من الناس يصلون خلفه ويعتقدون بعدالته ولا بد من مطابقة ظاهره لباطنه لكي لا يصير منافقاً وهكذا يرتقي في السعي نحو الكمال حتى إذ بلغ المرجعية وقيادة الامة فانه سيكون في درجة عالية من النزاهة والعفة والطهارة لانه يشعر بمسؤوليته عن مصير ملايين المسلمين في ارواحهم واموالهم واعراضهم وعزتهم وكرامتهم.

انكم حين كرستم انفسكم لخدمة الدين واعلاء كلمة الله تعالى وحفظ مصالح الناس اصبحتم من انصار الامام الموعود والممهدين له فيحنما يدعو الامام (عليه السلام) كما دعا عيسى روح الله (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) ستجيبون كما اجاب الحواريون (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ).

ان يوم ارتداكم الزي الديني واعلانكم اتخاذ هذا السلك منهجاً لحياتكم هو أهم منعطف في حياتكم واعظم قرار تتخذونه وسيكافئكم الله بالحسنى لان موقفاً شجاعاً يقوم به الانسان يكون كافياً لملء حياته بالنفحات الالهية (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ)(1) (وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى)(2)

كما أني اعتقد ان بركات كثيرة نلتها في حياتي ببركة توفيق الله تعالى لي حينما رفضت خدمة النظام الصدامي المجرم ولو لحظة بعد تخرجي من الكلية عام 1982م.

محمد اليعقوبي

1 ذي الحجة الحرام 1426 ه

ص: 98


1- القصص : 60.
2- الضحى : 4.

بسمه تعالى

سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الوارف)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مسائل في الولاية وقيادة الأمة

ادناه مجموعة من الاسئلة نعرضها لسماحتكم يرجى التفضل بالاجابة عليها :

س1 : الولاية العامة : اختيار إلهي أم هي لكل فقيه يستطيع استنباط الأحكام الشرعية، وان قلتم اختيار إلهي فهل هي امتداد لولاية المعصوم، مسددة من الله. وما هي عقوبة المخالف لها في حالة معرفته وعدم معرفته ؟

س2 : الحديث الوارد : (ان السابق لهم مارق والمتخلف عنهم زاهق واللازم لهم لاحق) كيف يتم تفعيله بالنسبة للمكلف، والامام المعصوم غائب (عجل الله فرجه الشريف) ؟

س3 : في الرواية من ان الخراساني يقول للإمام (عليه السلام) ان لكم مئة الف أو يزيدون مستعدين للقتل بين يديك وحدث ما ذكر في الرواية حتى قال الامام (عليه السلام) إلى احد اصحابة ادخل في التنور، ففعل بلا تردد، وبطاعة تامة. فهل المطلوب ان تصل القواعد او الثلة إلى هذا المستوى من الطاعة ؟ وهل ان من المفروض ان تكون هذه الطاعة أو مستواها إلى نائب الامام العام في وقت الغيبة ؟ أو العمل على ايجادها ؟ وهل هذه الطاعة التي للنائب العام بمثابة طاعة للمعصومين (عليهم السلام) ؟

س4 : الحديث الوارد بان الفقهاء امناء الرسل، هل هو شامل لكل الفقهاء أم بفقيه واحد فقط، وهذا الشمول بالاصل وباقي الفقهاء الملتفين حول هذا الفقيه شمولهم بالعارض (أي سبب التفافهم حول هذا الفقيه) ؟

س5 : بما انكم قلتم في موضوع (كيف خطط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للخلافة من بعده) (ان حقكم غصب مثلما غصب حق أمير المؤمنين (عليه السلام)) فهل هذا التشبيه باعتبار الامتداد الطبيعي للنيابة عن المعصوم، وهل الحكم الذي شمل غاصبي حق أمير المؤمنين (عليه السلام) يشمل غاصبي حقكم ؟

اجيبونا مأجورين ادامكم الله ذخراً وملاذاً لنا وللمؤمنين

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسمه تعالى

1- تعيين الائمة المعصومين يكون بالنص من الله تبارك وتعالى وتوجد نصوص وفيرة تذكرهم على نحو المجموع وأخرى تعينهم فرداً فرداً وقد جمع عدداً كبيراً منها الشيخ الكليني في اصول الكافي اما نوابهم فهم معينون بالاوصاف والشروط فمن انطبقت عليه بحسب شهادة أهل الخبرة العارفين فهو نائبهم بالحق. والشروط هي، الاجتهاد والعدالة في اعلى صورها والكفاءة في القيادة، ومن اعتقد بحجية أوامر شخص لاجتماع الشروط فيه وجبت طاعته وحرمت مخالفته.

أما التسديد الذي من آثاره الرحمة واللطف بالعباد واجراء ما هو خير لهم فانه من الصفات الإلهية الذاتية وقد لا يستحق المتصدي لامر ذلك لانه ليس أهلاً وقد تقمصها بغير إستحقاق الا انه ما دام قناة لاجراء هذه الآثار للامة فان الله تعالى يجريها وهو احد نتائج الحديث الشريف: (ان الله يؤيد هذا الدين برجال لا خلاق لهم) لكن الذين يختارهم الله تعالى

ص: 99

لموقع المسؤولية الشريفة فان الله تعالى يتولاهم برعايته ويسددهم ويلهمهم الخير(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)(1)

لطفاً بهم وبالامة.

2- هي تنطبق أولاً وبالذات على المعصومين (عليهم السلام) وتمتد - مع بعض الفروق- إلى نوابهم كما اشرنا في جواب السؤال السابق، وانما قلت مع بعض الفروق بلحاظ ان من كانت له هذه اللوازم ذاتية ليس كمن اضيفت اليه.

3- المطلوب ان تتحقق هذه الطاعة مشروطة بالوعي والمعرفة التامة لقضية أهل البيت (عليهم السلام) ولا تكفي وصول القواعد إلى هذه الطاعة من دون معرفة لانه عمل بلا يقين وفي (مهب الريح) كطاعة الخوارج لامير المؤمنين (عليه السلام) في صفين فانهم قاتلوا معه وتحملوا معاناة الحرب ثم تزلزلوا برفع المصاحف.

وان تحقق هذه الحالة يكون حجة على الفقيه الجامع للشرائط للقيام بالمسؤوليات الكاملة التي يقتضيها هذا المستوى وعليه العمل على تربية الامة حتى تصل إلى هذا المستوى وهو ببصيرته يحدد درجة تكاملها وقدرتها على التفاعل والانسجام مع المشاريع الالهية العظيمة فان وصلت فهو الخير كله وإلا فان الفقيه سيقطع خطوات على طريق الاعداد ليوم الظهور المبارك.

4- إذا فهمنا من الامانة قيادة الامة وهدايتها فهي خاصة بمن جمعوا الشروط السابقة وان فهمناها بمستواها الاوسع فهي شاملة لكل فقيه بحسب درجته ونقصد بالمستويات الاوسع الاشكال المتنوعة لهداية الناس إلى الله تبارك وتعالى واصلاح حالهم وزيادة فرص الطاعة وتقليل فرص المعصية وهي كثيرة ومفتوحة لكل الخلق ولكن التأمل في الحديث واختيار مفردة (الرسل) دون (الانبياء) مثلاً للإشعار بأن الفقهاء مسؤولون عن حمل امانة الرسل وحمايتها وصيانتها من الانحراف وتحبيبها إلى الناس حتى يقنعوا بها بشتى وسائل الاقناع فلا يكون الفقيه جديراً بأن يكون اميناً للرسل حتى يؤدي هذه الوظائف في حياة الأمة وقد فصلت الحديث عنها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الاسلامية).

5- الكلام الذي قلته في المحاضرة كان عاماً لا يختص بشخص دون آخر وقد صرحت بان السقيفة مفتوحة كحالة وان انتهت كحدث أي ان النفوس الحالمة بالسلطة والجاه والاستئثار والرئاسة على العباد موجودة في كل زمان ومستعدة لان ترتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه الاولون ولا تصغي إلى وصية القائد الحق فتترتب على مثل هذا التصرف نفس النتائج السيئة التي ترتبت على حادث السقيفة والتي اشرت إلى جملة منها في محاضرة (ماذا خسرت الامة حينما ولت أمرها من لا يستحق) وقد القيتها بمناسبة رزية يوم الخميس فالكلام كما تراه عبارة عن الفات نظر لحالة عامة تعيشها الامة كلما ابتعدت عن المنهج الالهي.

ولا يوجد في كلامي ما ورد بين القوسين ولم اطبق الكلام على نفسي وراجعت كتاب (من وحي الغدير) فلم اجد هذا الكلام فربما اضافه احد الناشرين من عنده.

محمد اليعقوبي

11 ربيع الثاني 1425

ص: 100


1- الانبياء : 73.

بسم الله الرحمن الرحیم

الصلاحيات المالية لوكلاء المرجعية الدينية

جرى ديدن المرجعية على جعل جزء من الأموال التي ينقلها وكلاؤهم تحت تصرفهم لسد الاحتياجات الخاصة والعامة بحسب ما ورد في نص الوكالة التي تمنح اليهم.

وقد رسخ في اذهان الكثير من الوكلاء ان هذه (الحصة) التي تعطى اليهم هي ملك لهم يصرفونها كيف يشاؤون لذا توسَّع بعضهم في ظروف معيشته باعتبار سعة ما يصل اليه من الحقوق الشرعية.

لذا احببنا استيضاح بعض الامور حول هذه القضية:

أولاً : كيف نشأت فكرة إعطاء نسبة من الحقوق الشرعية إلى وكيل المرجعية الذي يتوسط في نقلها ؟

ثانياً : هل هذه القضية شاملة لطالب العلوم الدينية في النجف الاشرف الذي لا يمارس نشاطاً اجتماعياً وإنما هو متفرغ للدراسة ؟

ثالثاً : كيف يمكن التخلص من الآثار السيئة التي تحصل نتيجة عدم وضوح كيفية التعاطي مع هذه الصلاحيات ؟

ادامكم الله لحفظ الدين

بسمه تعالى

أولاً : أن فكرة اعطاء بعض الحق الشرعي الذي ينقله الوسيط مبنية على اساسين :

الأول : حاجة هذا الوسيط لكونه قد كرّس نفسه للدرس والقيام بالمصالح الاجتماعية ولم تبق لديه فرصة للكسب وتحصيل الرزق.

الثاني : حاجة الفقراء المؤمنين في المنطقة التي هو فيها فان المرجعية لا تصل إلى كل فقير في المجتمع فيكون هؤلاء الوكلاء عينها التي تراقب وتلاحظ ويدها التي تعطي وتمنح.

فالمال الذي يعطى إلى الناقل إنما هو تخويل له وتفويض في ان يقضي به حاجاته الخاصة بالمعروف والحاجات العامة وليست هي منحة له أو (دلالة) أو (عمولة) أو (حصة) أو أي لفظ دنيوي آخر.

ان منشأ هذا الفهم الخاطئ هو اعتبار انفسهم ممن يشملهم عنوان العاملين عليها فيستحقون جزءاً منها رغم ان مصارف الخمس محددة بوضوح (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى - فهذا سهم الامام (عليه السلام)- وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ -وهو لهذه العناوين من بني هاشم خاصة المعروف بحق السادة-) وليس منها عنوان العاملين عليها كما ان حق السادة ليس لكل سيد وان لم يكن محتاجاً أو كان عتبة بيته من ذهب - كما في المثل العامي- بل هو للمحتاجين منهم على نحو المصرف لا الملك أي أنهم مورد لصرفه لا انه ملك لهم يفعلون به ما يشاؤون.

أما عنوان (العاملين عليها) فقد ورد في الزكاة والمقصود بهم المخمنون وجباة الضرائب الذين كانوا يجوبون البلدان ويحسبون الأراضي والانعام ليستخرجوا مقدار الزكاة المتعلق بها ثم يعودون بالزكاة التي جمعوها إلى مركز بيت المال فهل الناقل -لو فرضنا وجود حصة للعاملين عليها- يقوم بمثل هذا العمل المضني.

إن سوء فهم هذه الفكرة ادى إلى الظن بان هذه (الحصة) خالصة للناقل يفعل بها ما يشاء يتصرف تصرف الملاك ويتوسع في الانفاق على حساب حاجات المجتمع ومصالحه وقد

ص: 101

ادى ذلك إلى تضييع حقوق الفقراء وعدم رعايتهم وإهمالهم والتنافس على الحقوق مما ادى إلى التباغض والتفسيق وقد اثبتت التجارب ان من يتوسع في صرف الحقوق الشرعية ذاق ذلاً وهواناً في الدنيا وفي الآخرة حسابه عند ربه، اما من ترَّفع عنها ولم يأخذ منها إلا بالمعروف أو بمقدار الضرورة فقد كرمه الله سبحانه واعلى ذكره وهو في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

ثانياً: هذه (الحصة) مجعولة بالاصل للوكلاء القائمين بالمصالح الاجتماعية في مدنهم لا لطلبة العلم الذين يفترض بهم التفرغ للدراسة لا التنافس على الحقوق الشرعية، أما هؤلاء الطلبة فيمنعون من اعطاء الحصة أو منافسة الوكلاء وإذا توسط احدهم بمبلغ فيعرض حاجته لاعطائه ما يناسب المقام، نعم. إذا كان طالب العلم متصدياً لمسؤولية اجتماعية في مدينته في أيام التعطيل فيمكن ان يعامل معاملة الوكلاء.

والحاصل انه من الضروري تعيين الوكلاء المخلصين القائمين بمصالح المجتمع وعدم قبول وساطة طالب العلم في المنطقة التي يتواجد فيها وكيل عامل ولو توسط فتعطى الحصة إلى الوكيل في منطقته لا اليه ليقضي هو حاجة طالب العلم هذا.

ثالثاً: إننا بعد ان اوضحنا فكرة هذه (الحصة) وانها باب من ابواب التعاون بين المرجعية وعيونها المنتشرين في المجتمع - اعني الوكلاء- فان يد المرجعية لا تصل اليهم جميعاً وفيهم المتعففون الذين تأبى نفوسهم ان يمدوا ايديهم إلى احد فتصان كرامة هؤلاء بايصال المساعدات اليهم في دورهم فيكون في حجب هذه الحصة تفويت لهذه المصلحة الاجتماعية وتعطيل لدور العالم العامل - اعني الوكلاء المخلصين- في رعايته للمجتمع اقتصادياً واجتماعياً ودينياً.

أذن ما هو الحل ؟

ان الحل يشترك فيه جميع الاطراف المعنية بالأمر وهم :

1- المرجعية من خلال عدة نقاط :

أ- متابعة الوكلاء والاشراف على تصرفاتهم والسؤال من الثقات عن استقامتهم وحسن اداء دورهم كما أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) عامله على مصر -مالك الاشتر- في عهده الذي كتبه اليه. ومدح المحسن والثناء عليه والاشادة به ومحاسبة المقصر وتوبيخه.

ب- تقييد فاعلية الوكالة بسنة واحدة قابلة للتجديد لتكون فرصة لسحب وكالة من يسيء التصرف.

ج-- تسجيل حسابات لكل وكيل واجراء كشوفات عن مقدار الاموال التي ينقلها ومقارنتها مع الحوائج التي يتولى قضاءها على الصعيدين الشخصي والاجتماعي فيحرم من الزائد أما الوكيل الذي لا تفي موارده بقضاء حوائجه أو المجتمع الذي هو فيه متعب اقتصادياً فتحول المرجعية اليه اموالاً غير التي توسط في نقلها ولا ينبغي ان يضييع المجتمع لمجرد ان المنطقة ليس فيها حقوق شرعية.

د- عدم اعطاء الوكالة لشخص إلا للأشخاص الفضلاء الذين يحملون قلوباً صافية ونفوساً نظيفه وشعوراً ناضجاً بالحال الاجتماعي وحساً مرهفاً لمعاناة الآخرين وبعيدين عن الانانية وحب الذات وسيطرة النفس الامارة بالسوء.

2- الوكلاء الناقلون : من خلال عدة نقاط :

أ- ان يجعلوا هدفهم رضا الله سبحانه ويدوسوا بارجلهم الأهداف الدنيوية الزائلة وهم قبل غيرهم يعلمون بان قيمتها صفر أمام ما أعدَّ الله سبحانه للعاملين في سبيله (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(1).

ص: 102


1- التبوبة : 105.

ب- ان يعلموا أنهم بوكالاتهم عن المرجعية التي هي وكالة عن الإمام صاحب العصر (عليه السلام) فهم وكلاء لصاحب العصر (عليه السلام) (والوكيل كالأصيل) كما يقال ويعتبر صورة له فليحاسبوا أنفسهم باستمرار هل هم يمثلون بتصرفاتهم صاحب الأمر (عليه السلام) وهل يعكسون صورته فان كانوا كذلك فطوبى لهم وحسن مآب وإلا فانه أول خصم لهم وحجتهم داحضة عند ربهم.

ج-- ان الحديث الشريف يقول(من اصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم) هذا في المسلم العادي فكيف بمن تصدى لمسؤولية المجتمع مهما كان واسعاً أو ضيقاً، فالمتصدي الذي لا تحرك مشاعره آهات الناس وآلامهم ولا يندفع لقضاء حوائجهم خارج عن ربقة الاسلام بنص الحديث الشريف فليبحث له عن ملة أخرى.

د- ان يبتعدوا عن المنافسات والمشاحنات فما داموا مخلصين في عملهم فالمفروض ان يفرح احدهم بمعونة الآخر ويشدّ بعضهم ازر بعض واي خلاف وتناحر يعني ان الهدف ليس مخلصاً وان حاول ان يظاهر بذلك، وقد قلت في مناسبة سابقة ان الشاهد على ذلك ان الانبياء -وهم مئة واربعة وعشرون الف نبي- لو اجتمعوا في مكان واحد وزمان واحد لوجدت قلوبهم واحدة وما هذا إلا ان هدفهم واحد وهو الله سبحانه فما بالنا نختلف ونحن شرذمة قليلون.

ه-- ان يقرّبوا اليهم المخلصين من الرساليين العالمين ليكونوا لهم عيوناً تشخص ذوي الحاجات وأيدي توصل اليهم ما يسدُّ احتياجاتهم وليأخذوا بالنصيحة منهم ويشجّعوهم على تقديم المقترحات والمشاريع النافعة.

3- أبناء المجتمع : من خلال عدة نقاط :

أ- ان يكونوا واعين ومتفهمين لمسؤوليتهم ودورهم ودور الوكلاء في المجتمع ليحاسبوا المقصر ووعظه بالحكمة والموعظة الحسنة فان خير ما اهدى المؤمن إلى اخيه النصيحة.

ب- عدم دفع الحقوق الشرعية إلى الوكلاء الذي ثبت لديهم سوء التصرف بالأموال ونقلها إلى مركز المرجعية مباشرة.

ج-- الاتصال المباشر بالمرجعية وايصال صوت المجتمع اليهم رأساً خصوصاً عندما لا يقوم الوكيل بدوره كحلقة وصل مخلصة بين المرجع وابناء المجتمع.

د- الالتفاف حول الفضلاء المخلصين لله سبحانه وعزل المسيئين لتأديبهم واعطاء الدرس لهم ولغيرهم.

وفي الختام اوصي نفسي وأخواني من طلبة العلم ووكلاء المرجعية الشريفة ان تكون اهدافهم سامية وهي نيل رضا الله سبحانه والقربة منه والزلفى لديه والعمل بكل ما يقرب الناس إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية وان يكونوا قدوة حسنة للناس باخلاقهم واعمالهم وان لم يتحدثوا بالسنتهم تطبيقاًَ للحديث الشريف (كونوا لنا دعاة صامتين) وفي حديث آخر (كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً) فهم ورثة الانبياء واولى من يتأسى برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي يتأوه ويتضرع إلى الله سبحانه من أي تقصير محتمل في ادائه للمسؤولية ويقول (أأقنع من نفسي ان يقال لي أمير المؤمنين ولا اشاركهم في جشوبة العيش ولعل في الحجاز أو في اليمامة من لاعهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص) ونحن نطلقها على أنفسنا فنقول أأقنع ان يقال لي حجة الاسلام والمسلمين أو أي لقب آخر ولا اشارك المجتمع في معاناته ولا اسعى في قضاء حوائجه ولا اتفهم مشاكله خصوصاً في هذا الظرف العصيب الذي يمر به مجتمعنا وبلدنا.

ولنتذكر دائماً اننا نسأل عن هذه الامانة وهذه المسؤولية هل اديناها وعن الاموال فيم صرفناها وحينئذ يكون في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب.

فأي هذه النتائج الثلاثة نتحملها، ان أي سوء تصرف في هذه الاموال سواء من خلال التوسع في الانفاق والصرف أو أي نحو آخر إنما هو (سرقة) يعاقب عليها فاعلها.

ص: 103

نسأل الله سبحانه العصمة والتسديد في القول والعمل وان يعيننا على طاعته ويجنبنا معصيته انه ولي النعم.

محمد اليعقوبي

6 ذ.ق 1421 ه

ص: 104

بسم الله الرحمن الرحیم

كلمة شكر وتقدير

من سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) إلى طلبة الدورات السريعة­(1)

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما الهم وصلى الله على سيد خلقه ومظهر رحمته وباب افاضاته محمد وآله الطيبين الطاهرين.

حينما تحدثت في محاضرة بمناسبة حلول العطلة الصيفية عن كيفية جعل العطلة مثمرة ونافعة بدلاً من أن يقضيها احبائي الطلبة بالضياع والتسكع كما يوحي اسمها بأنها (عطلة) والمفروض ان الإنسان الواعي لا يعرف التعطيل بل هو في عمل دؤوب ما دام انه يستطيع ان يستثمر كل لحظة في طاعة الله تعالى وفي تجارة لن تبور فلماذا تكون بعض اوقاته عاطلة عن الاستثمار ؟ هذه خسارة يأباها كل عاقل.(1)

وقد روي في سبب تسمية يوم القيامة بيوم التغابن لان الجميع يشعرون بالغبن والتقصير وضياع الفرصة حتى المؤمنين لانهم اضاعوا شيئاً ولو يسيراً من عمرهم من دون استثمار أي (عطلوه) وكان يمكنهم ان يستثمروه فينالوا درجة أعلى وقد عبر الله تعالى عن هذا الجهد المتواصل في الحياة الدنيا والممزوج بالعنت والمشقة والصعوبات بالكدح (يَا أَيُّهَا

ص: 105


1- الكلمة التي كتبها سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) بمناسبة انتهاء المئات من الطلبة الجامعيين من الدورة الصيفية المكثّفة لتحصيل العلوم الدينية وتلاها المشرفون على تلك المجاميع في نهاية العطلة الصيفية لعام 2002. وقد اشار سماحته الى تلك الفعالية المباركة في حديث لاحق فقال: (وبالرغم من ان الكلام لم يذكر على شكل دعوة واضحة للالتحاق بالحوزة العلمية في النجف الأشرف وإنما ذكر عَرَضاً الا ان الاستجابة من الشباب كانة مثيرة للاعجاب فزهت النجف بالمئات من الشباب الجامعيين من مختلف الاختصاصات حتى الراقية منها وبقدر ما افرح المؤمنين وعبّر الكثير من المراجع والعلماء والفضلاء والمفكرين عن سرورهم بهذه الخطوة فانه ازعج الطغاة وأقض مضاجعهم فراحوا يرفعون (التقارير) المتتالية إلى اسيادهم عن هذا النشاط. وقد بارك الله تعالى بذلك المشروع وسهّل لهم محلات السكن ورواتب شهرية تغطي نفقات سفرهم وإقامتهم بشكل لم تعهده الحوزة العلمية التي تشكو عجزاً وتقصيراً واضحاً في ادارة شؤون الطلبة وإسكانهم بهذه السرعة والتنظيم. وفي نهاية الدورة كتبت للمشاركين كلمة القاها المشرفون عليهم حيث قسموا إلى مجموعات تضم كل مجموعة (25) طالباً في المعدل ولهم مشرف يهيء لهم الاساتذة ويوجههم ويوفر لهم الخدمات وكانت تجربة تستحق الاكبار وتسجيل الشكر لكل المساهمين فيها. وسأذكر لكم نص هذه الكلمة لتحاولوا ان تعيشوا معنا تلك اللحظات القدسية والالطاف الالهية التي عاشها المؤمنون والتي ببركاتها وامثالها من المشاريع المخلصة منَّ الله تبارك وتعالى على الأمة بزوال الطاغوت المتجبّر بعد عدة أشهر لما علم الله من هذه الأمة الأخلاص له والعمل الصادق في سبيله.) ملامح من تاريخ وخطاب القيادة الدينية في العراق الجديد : ج1 ص332-333.

الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)(1)

وإذا كنت ملاقيه فيكف تحب أن يكون ؟ بالتأكيد تريده أن يكون مسراً ملؤه البشر (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)(2).

من أجل هذا كله لا تعني العطلة الصيفية تعطيلاً وكسلاً انما تعني صورة جديدة من العمل والكدح بعد ان تمضي اشهراً طويلة في الدراسة الاكاديمية فيحتاج إلى أن ينوع عمله وكدحه لئلا يسري الملل إلى النفس والعقل فيكلان ويملان لذا طرحنا في تلك المحاضرة عدة خيارات لاستثمار العطلة الصيفية وكان منها الالتحاق بالدورات المكثفة التي تقيمها الحوزة الشريفة لمدة (3) أشهر الصيف يعطى فيها الطالب دروساً يأخذها غيره في سنة كاملة لأننا نتوسم منهم القابلية الذهنية أولاً والهمة والاخلاص ثانياً وكفاءة القيمين على رعايتهم ثالثاً.

ونحن حينما ذكرنا هذه الافكار هناك وبشكل عرضي من غير تركيز عليها لم نكن نتوقع هذه الاستجابة الواسعة المثيرة للشعور بالفخر والاعتزاز والشموخ والتي ادخلت السرور على قلب ولي الله الأعظم وهو يرى هذه البراعم الفتية المخلصة بين احضان حوزته الشريفة فاستحققتم التهنئة والتبريك من جهتي العلل والمعلولات لهذه الاستجابة لدعوة الحق.

أما من حيث العلل فان تلبيتكم هذا النداء يكشف عن مستوى ليس بالقليل من الايمان والشعور بالمسؤولية والغيرة على الدين واهله وحب الاصلاح والتكامل على صعيد النفس والمجتمع بحيث تنازلتم عن الكثير من مشتهيات النفس وميولها للراحة والدعة واللهو واللعب وتغربتم عن اهلكم وتحملتم مشقة الذهاب والاياب وشظف العيش وصعوبة المقام.

وأما في جانب المعلولات فلما حصلتم عليه من عطايا ومنح الهية باستجابتكم لهذه الدعوة وحضوركم في هذه الحلقات العلمية الشريفة.

وأول هذه العطايا مجاورتكم لأمير المؤمنين ومولى المتقين ووجودكم تحت قبته الشريفة ولو ان في الوقت سعة لسردت لكم الاحاديث في فضل أرض النجف وساكنيها ويكفي ان احدها قوله (عليه السلام) (الصلاة عند علي بمئتي الف صلاة) هذه البقعة التي استجاب الله في صاحبها دعوة إبراهيم (عليه السلام) (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)(3)

وها هي قلوب المؤمنين من شتى بقاع العالم تبذل الغالي والنفيس لكي تصل هذه الأرض المقدسة وتلثم تربتها المباركة واروي لكم قصة صغيرة فقد جاء احد الملوك لزيارة النجف وما ان راى القبة الشريفة من بعيد حتى ترجل احتراماً لصاحبها وكان وزيره ناصبياً فتأذى من احترام أمير المؤمنين فقال للملك بخبث ان علياً كان خليفة في الأرض وأنت خليفة الله أيضاً فلا فرق بينكم فلماذا تترجل وكان الشك دخل نفس الملك فاحتكما إلى القرآن وإذا به يتلقى الآية الشريفة (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)(4)

فأمر بقتل الوزير ومشى حافياً إلى المرقد الشريف الذي قال الشاعر فيه :

يا صاحب القبة البيضا على النجف *** من زار قبرك واستشفى لديه شفي

وثاني العطايا، وجودكم في حلقات العلم التي هي روض من رياض الجنة كما في الحديث وان الملائكة لتفرش اجنحتها لطالب العلم ويستغفر له من في السموات والارض حتى حيوانات البر والبحر إلى غيرها من الأحاديث الشريفة.

وثالثها، الاتصال المباشر بعلماء وفضلاء الحوزة الشريفة والاستفادة منهم علماً وعملاً فتفعل ما يفعلون وتترك ما يتركون مما لا تحصل عليه لو قرأت الكثير من الكتب إذ يبقى الدور

ص: 106


1- الانشقاق : 6.
2- القيامة : 22-23.
3- إبراهيم : 37.
4- طه : 12.

الأهم للاسوة والقدوة الحسنة التي وجدتموها متمثلة في الكثير من أبناء الحوزة العلمية فتعلمتم منهم الكثير.

لقد عشتم الاجواء الروحية والقدسية هنا في النجف وانتم تتنقلون من مسجد إلى مسجد ومن روضة إلى روضة فهنا كان الشيخ الطوسي مؤسس الحوزة وهنا كان السيد بحر العلوم يلتقي بصاحب العصر وهنا وقف السيد محمد سعيد الحبوبي ليعلن الجهاد ضد الانكليز ويعبىء المؤمنين للقتال وهنا كانت تدور رحى المناقشات العلمية والادبية التي حفظت لنا الدين والمذهب طيلة اربعة عشر قرناً ونظل نستعيد ذكريات الفخر والاعتزاز والبطولة مما لا اعتقد انكم ستنسونها وان طال الزمن وستشكل لكم زاداً يكفيكم مدة طويلة ويحصنّكم من الفساد والانحراف الذي حاول اولياء الشيطان اشاعته في كل مكان خصوصاً في أروقة الجامعات لكنكم بمجيئكم إلى هنا انتصرتم عليهم وافسدتم عليهم احلامهم فاعز الله بكم الدين وقوى شوكة المؤمنين.

ونحن اذا اردنا ان نقيم مدى نجاح هذه التجربة المباركة فعلينا ان نلتفت إلى الاهداف وقد ذكرتها في المحاضرة التي اشرت اليها انفاً واعيدها ملخصاً :

أ- انه يسلح نفسه بالعلم والمعرفة التي تعينه على تكميل نفسه وقربه من الله تعالى وتحصنه من الوقوع في شباك الفساد والانحراف والعقائد الفاسدة والأفكار الضالة.

ب- انه سيكون عنصراً فعالاً في هداية الآخرين على صعيد المجتمع أو الجامعة أو المدرسة أو الأسرة وقد قلنا في مناسبة سابقة ان الاسلام محتاج إلى جميع ابنائه وهؤلاء الطلبة من خيرة ابنائه فلماذا يحرمون الإسلام من بركات جهودهم ويعود النفع بالنهاية لهم.

ج- انه سيجتاز عدة مراحل دراسية في الحوزة الشريفة خلال السنين من دون ان يفرط بدراسته الاكاديمية.

د- ستصبح له القابلية على الكتابة والتأليف والخوض بمختلف القضايا والمشكلات التي تواجه المتجمع مما يؤهله بشكل واسع لممارسة دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح الاجتماعي فيكون من الثلة المؤمنة المخلصة التي عناها الله تعالى في قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(1)

ولا شك ان المناهج الحوزوية تساعد على تنظيم الفكر وتقويمه وتعميقه وتجهيزه بادوات العلم والمعرفة.

وارجو أن تكون دراستكم ووجودكم في النجف قد حققت كل هذه الأهداف لكم ووفرت عندكم القابلية لتفعيلها.

ولابد ان اشكر أيضاً الأساتذة والفضلاء الذين تحمسوا للفكرة وساهموا في انجاحها بالتدريس وتوفير مستلزمات الاقامة والمساهمة في تذليل الصعوبات فاضافوا عناءً إلى عنائهم وجهداً إلى جهدهم علماً منهم بان هذا كله بعين الله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(2)

(وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(3).

واسجل شكري لعدد من المراجع العظام والاساتذة والفضلاء والمفكرين الذن استحسنوا هذه الخطوة وباركوا للعاملين عليها ودعوا الله لنجاحها.

واني لاشعر بالضعة والضآلة امام عواطف ومشاعر المؤمنين الذين عبروا عن دعم هذه التجربة بأشكال مختلفة خصوصاً تلك الأخت المؤمنة التي ارسلت مبلغاً بسيطاً من الناحية

ص: 107


1- آل عمران : 104.
2- التوبة : 120.
3- التوبة : 111.

المادية لكنه كبير من الناحية المعنوية حيث لم تجد ما تشارك به إلا هذا المبلغ الذي ادخرته من عمل منزلي مضنٍ تقوم به فبعثته مع رسالة تعبر فيها عن مشاعرها فأثرت في قلبي كثيراً وألقت الحجة عليّ وعلى كل المخلصين في ان لا نألوا جهداً في اعلاء كلمة الله فأمرت بتوزيع الأوراق النقدية التي بعثتها بنفسها على المتفوقين الأوائل للتبرك بها لأنها صدرت بإخلاص وذكرتني بنساء الإسلام الخالدات حيث لم تكن إحداهن تستطيع ان تشارك في الجهاد فتقطع ظفيرتها لتكون رباطاً لخيول المجاهدين.

اكرر شكري لله تبارك وتعالى ولي النعم ومفيضها وأساله ان يقع كل هذا منه موقع الرضا والقبول وان يحسن العطاء ويتجاوز عن الأخطاء انه ارحم الراحمين.

محمد اليعقوبي

1423/ج2/18

2002/8/27

ص: 108

بسم الله الرحمن الرحیم

الحوزة والمجتمع

أجرت مجلة الكوثر النجفية حواراً مع سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دامت بركاته) لاستكشاف رأي الحوزة الشريفة في عدد من القضايا التي تهم المجتمع، وقد رأينا من المفيد نشر الحوار مستقلاً لتعميم النفع.

سماحة حجة الإسلام والمسلمين البقية الصالحة لحبيب القلوب، الشيخ الفاضل محمد اليعقوبي (دام ظله) .. أرجو من سماحتكم التفضل علينا بالإجابة على الأسئلة التالية :

س1 : نعم للوحدة الإسلامية لا للتناحر الإسلامي، كيف تنظرون لهذا الشعار ؟ وما هي السبل الكفيلة التي تقدمونها للترابط والوحدة والتآزر فيما بيننا ؟

س2 : كيف تنظرون للدراسة في الحوزة ؟ وما هي اقترحاتكم لتطويرها ؟

س3 : نصائح مفيدة يقدمها سماحتكم لطلاب الحوزة الشريفة ؟

س4 : نصائحكم للشباب المسلم المؤمن ؟

س5 : السلوك إلى الله تعالى هو المطلوب من كل مسلم، نرجو منكم بيان وتوضيح كيفية السلوك إلى الله تعالى ؟

س6 : كيف تنظرون لمخططات أعداء الإسلام والمسلمين وترويج كل ما هو مضر للمسلمين، مع توضيحها والطرق اللازمة للرد عليها؟

س7 : هنالك من يريد أن يشق عصا المسلمين بالتكلم والتجريح برجال الدين الأجلاء وعلى عموم المسلمين بالكلام غير اللائق، نصيحة توجهونها لهم؟

ص: 109

بسمه تعالى

ج1 : هذا الشعار رفعه القرآن الكريم بقوله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)(1)،

وحرص الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) على إرساء الوحدة في المجتمع الإسلامي، فآخى بين المهاجرين، ثم بين المهاجرين والأنصار، ولم يرق ذلك لأعداء الإسلام من يهود ومنافقين فكانوا يثيرون الضغائن والعصبيات القبلية والقومية والعنصرية حتى أفلحوا في إيجاد التنازع بينهم وتواعدوا القتال خارج المدينة ليعيدوا أيام الجاهلية، فيخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم مغضباً يجر رداءه -حسبما تقول الرواية- للإسراع في إطفاء نار الفتنة حتى نجح في ذلك (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان لعلمائنا المخلصين (قدس الله اسرارهم) مواقف مشهورة ومساعي مشكورة لجمع الصف وتوحيد الكلمة، حتى اشتهرت كلمة أحدهم (بني الإسلام على كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة) وبحسب تجربتي فان لجمع الكلمة ركيزتين.

الأولى: الالتفات إلى ان القواسم المشتركة بيننا كثيرة، فربنا واحد ونبينا واحد وكتابنا واحد وقبلتنا واحدة وعدونا واحد وهمومنا واحدة ومصالحنا واحدة ومستقبلنا واحد وأسس ديننا واحدة، وهي التي اشارت اليه الآية المباركة السابقة بالاعتصام به وجعلته المحور الذي يجتمع عليه المسلمون، فلماذا نعرض عنها جميعاً ونركز على النقاط الفرعية جداً التي نختلف عليها.

الثانية: احترام كل طرف قناعة الآخر ورأيه مادام قد توصل إليه بطريق صحيح أو ما نعبر عنه بحجة شرعية تبرر له عند الحساب الاعتماد عليها، وأن نعلم أن الاختلاف في الرأي سنة طبيعية، فحتى داخل الأسرة الواحدة تجد القناعات مختلفة ولم يعكر ذلك صفو العائلة و(لم يفسد في الود قضية) كما يقول الشاعر، فلماذا لا نتصرف بنفس الأسلوب داخل أسرتنا الكبيرة وهو المجتمع فإنه أهم من أسرتنا الصغيرة واعظم شأناً.

وأنت ترى أعداء الله ورسوله اجتمعوا على باطلهم واتحدت كلمتهم ضد الاسلام والمسلمين فلماذا التفرق عن حقنا ؟ إنها لمفارقة لا يمكن التصديق بها (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) فعزة الاسلام في وحدة أبنائه التي يحبها الله تبارك وتعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ)(2)

فلماذا لا تفعلون ما يحببكم إلى الله تبارك وتعالى، ولا بد ان لا يقتصر فهمنا للقتال في سبيله على المواجهة المسلحة مع الكفار، بل مطلق المواجهة على صعيد النفس ومع الشيطان وفي ساحة التحديات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية الاقتصادية.

وبين يديك تعاليم الاسلام ومصادر تشريعه تجدها حافلة بكل ما يدعم الألفة والتقارب بين القلوب، فأمر بالخمس والزكاة لمساعدة الفقراء، وشجع على قضاء حوائج المؤمنين وإدخال السرور عليهم وتفريج كربهم والتراحم والتواد والتواصل بينهم والتخفيف عن آلامهم، حتى جاء في حديث (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم)، فيخرج من ربقة الإسلام وحصن الرعاية الإلهية من لا يحمل هذا الشعور تجاه أمته، وتفصيل الكلام في هذا المجال مما يتطلب فرصة أوسع، لكن الإشارة تغني اللبيب وتنفع المخلصين الصادقين، وقد سجلت بعض هذه التفاصيل في مقدمتي لكتاب (أصل الشيعة وأصولها) وبعض كتبي الأخلاقية والاجتماعية.

ج2: تحتاج الحوزة الشريفة إلى الكثير من الإصلاحات في عدة اتجاهات : مناهجها الدراسية، أساليب الدراسة، شؤونها الإدارية، نظام التقييم والشهادات فيها، توظيف العلوم

ص: 110


1- آل عمران : 103.
2- الصف : 4.

الحديثة في خدمة الاستنباط الفقهي، أداء مسؤولياتها، علاقتها بالمجتمع، وليس في هذا الكلام قدح فيها لأن التطوير والتغيير شيء طبيعي تبعاً للمتغيرات والمستجدات التي تحصل في المجتمع، فلا يعقل أن نبقى نفكر بوتيرة واحدة بالرغم من تغير الحاجات وتكثر التحديات، وأنا استغل بعض المناسبات لطرح الأفكار على الطلبة، كما أني بدأت فعلاً بتنفيذ بعضها مما يتيسر لي وما زال الطريق طويلاً، وقد وضعت الخطوط العريضة لهذه الأفكار في كتاب لم يطبع بعنوان (المعالم المستقبلية للحوزة الشريفة) وأشرت إليه في مقدمة كتاب (القول الفصل) المطبوع.

ج3 : وضعت هذه النصائح في كتاب (وصايا ونصائح إلى طلبة الحوزة الشريفة) وهو مطبوع، ولكي لا تخلو هذه الإجابات عن شيء منها أقول باختصار : إن مقومات شخصية الحوزة ثلاثة : البعد العلمي والبعد الأخلاقي والبعد الاجتماعي، ولكي تتكامل شخصيته ويكون ناجحاً في مهمته وينال الحظوة عند الله تبارك وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لابد أن يجد ويجتهد في المسارات الثلاثة بتوازن، فإن أي تقدم في أحدها على حساب الآخر يلزم منه خلل في شخصيته وهو معنى الحديث الشريف (قصم ظهري رجلان : عالم متهتك وجاهل متنسك) فالأول حاز العلم ولم يهذب نفسه ويطهّر باطنه والثاني يتفرغ للعبادة والنسك إلا أنه فارغ من العلم وفي كليهما نقص ففي الاتجاه الأول وهو العلمي لا بد أن يسعى لتحصل كل العلوم الحوزوية المتعارفة من مقدمات وسطوح ويضم اليها غير المتعارفة كالتاريخ والحكمة والتفسير والأولى أن يلمّ معها بالثقافة العامة، وفي البعد الأخلاقي يعمل على مراقبة نفسه ووعظها باستمرار ومحاسبتها وعرضها على الميزان الصحيح وان يكون الله حاضراً عنده في كل عمل وكل فكرة بل وفي كل خاطرة، ويجاهد في طريق تهذيب النفس وتطهير الباطن من الرذائل الخلقية وتحليته بالفضائل مما هو مدون في كتب الأخلاق المخلصة، وفي الاتجاه الاجتماعي يعمل على اصلاح مجتمعه وهدايته وتقريبه إلى الطاعة وتجنيبه المعصية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس أحكام دينهم في العبادات والمعاملات وأن يسعى لقضاء حوائجهم ورعايتهم اجتماعياً ويشاركهم في همومهم وآمالهم وطموحاتهم ويعمل على تحقيقها بقدر المستطاع.

ومن المهم لطالب الحوزة أن يقتدي بسيرة الأئمة والعلماء الصالحين ويهتدي بهداهم ويأخذ سمتهم وطريقتهم حتى في أبسط التفاصيل الحياتية، وأنا اعلم انها مسؤولية ضخمة وجسيمة لكن الأجر عظيم والنتائج كبيرة، وعلى حد تعبير الشاعر:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم

ج4 : ذكرت تفاصيل نافعة في كتاب (فقه الجامعات) الذي يخاطب الشباب الجامعي وهم نخبة هذه الشريحة وصفوتها، وأنا اعتذر عن هذه الاحالات على الكتب وعذري في ذلك ان كل سؤال من هذه الأسئلة الواعية التي تنم عن عمق لدى السائل للواقع المعاش تحتاج إلى كتاب لبيان تفاصيل الجواب، وعادة في كتاباتي اسعى لتعميق عدة مفاهيم لدى الشباب وعموم أبناء المجتمع لكن مطلوبيتها من الشباب أكثر.

1- العودة إلى الله تبارك وتعالى وتعاليم الإسلام فإنها سر قوتنا والتاريخ يشهد على ذلك وسر فلاحنا ونجاحنا في الآخرة وسعادتنا واطمئنانناً في الدنيا، وهذه كلها نتائج تستحق بذل الجهد في التمسك بها.

ص: 111

2- أن يكون الشاب هادفاً في حياته غير لاه ولا عابث كما وصفنا القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)(1)

والكدح هو العناء والتعب وأن تكون الأهداف التي نسعى من أجلها حقيقية لا وهمية.

3- الاعتزاز بشخصيتنا الأصلية التي تحمل الكثير من القيم والأخلاق والمثل التي تثير حسد الغرب وتدفعه إلى أن يكرس كل خبثه ومكره لينزعها منا فنصير أذناباً، ويؤسفني أن أرى الشباب وهم مقلدون للغرب في ملبسهم ومأكلهم وتصرفاتهم وحركاتهم وكأنهم لا يمكلون ذلك التاريخ العريق حتى يستنسخوا شخصية الغير في حياتهم.

4- التحذير من مكائد الغرب الكافر وخططه الخبيثة التي يريد من خلالها استعبادنا وتكريس تبعيتنا له.

5- أن يفكر بمجتمعه وأمته في الحاضر والمستقبل ويعمل على إعمار الحياة وإنجاحها في جميع نواحيها كما قال القرآن (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) أي في الأرض بمعنى أنه تعالى خلقكم فيها وطلب منكم اعمارها فلا يقصر أحد في أداء وظيفته ومسؤوليته في أي موقع مفيد كان.

6- تعميق الإرتباط بالحوزة الشريفة لان العلماء حصون الإسلام ومنار الهدى وقد قال عنهم الإمام (عليه السلام) (فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، والراد عليهم كالراد علينا).

ج5 : أشرت إجمالاً في جواب السؤال الثالث إلى البعد الأخلاقي وكيفية تعميقه وهو كلام شامل لكل مسلم مخلص يريد الوصول إلى الله تبارك وتعالى، وتوجد كتب نافعة في هذا المجال متدرجة في مستوى عطائها فأولها (القلب السليم) ثم (جامع السعادات) و (المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء) وغيرها مما هو معروف ولكن المربي الرئيسي هو القرآن وأحاديث المعصومين (عليهم السلام) الذي يغني السطر منها عن صفحات من كلمات غيرهم (عليهم السلام) وقد توجد كلمة واحدة تغير مجرى حياة الإنسان، وأنقل لك حديثاً واحداً وهو قول الإمام الحسين (عليه السلام) (من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأقرب لما يحذر) فلو وصل الناس إلى هذه القناعة لما تكالبوا على تحقيق مطالبهم بشتى الوسائل حتى المحرمة منها، فهذا الإمام (عليه السلام) يخبرك أن من حاول تحصيل مطلوبه بوسائل محرمة كان عمله أقرب لما يحذر وهو الفشل وتفويت المطلوب وأفوت لما يرجو من مطاليب، أليس هذا الحديث دستور حياة لنا ومثله قول الإمام (عليه السلام) (عجبت لمن يرجو عفو من هو فوقه كيف لا يعفو عمن هو دونه) فكلنا نرجو عفو الله سبحانه وكرمه فلماذا لا نعفو نحن ونصفح عمن أساء إلينا أو ظلم حقنا وكيف نرجو عفو الله تعالى ونحن نحاسب أمثالنا من المخلوقين بالملّيم كما يعبرون ؟! إنها مفارقة مرفوضة وتصور لو أن علاقة العفو هذه سادت بيننا كم ستصفو علاقات المجتمع ويكللها الود والإحترام والأخوة والتآلف.

ج6 : اشرت في استفتاءات عديدة إلى هذه الأساليب خصوصاً استفتاء (إحذروا الصناعات المستوردة) و (الحجاب الفرنسي) و (عصير الشعير المسمى بالبيرة الاسلامية) وغيرها، وهو المتوقع منها فإنهم لا يتركون فرصة لإبعادنا عن إسلامنا وقرآننا إلا استغلوها بوسائلهم الخبيثة المتعددة يساعدهم على ذلك جهلنا وانبهارنا بحضارتهم المادية الزائفة ولا نأخذ العبرة من أمم سابقة سادت العالم ولم تكن الشمس تغيب عن ممالكهم ثم سقطوا وانتهوا لعدم استنادهم إلى ركن وثيق، والذي يقرأ القرآن ويتمعن فيه يجد تحذيراً كثيراً منهم وقد أشرت إلى بعضها في كتابي (شكوى القرآن) و(فقه الجامعات) والخلاصة أنهم يريدون أن يعطونا أسوأ ما عندهم ويأخذوا منا أحسن ما عندنا فهل صفقة أخسر من هذه ؟! والمسلم الواعي يكون في حذر منهم في كل شيء ويتسلح بالقرآن وتعاليم الإسلام في مواجهة ما يفعلون.

ص: 112


1- الانشقاق : 6.

ج7 : لا يجوز القدح بالمسلم مطلقاً فكيف بالعلماء الذين خصهم الله تبارك وتعالى بالمنزلة الرفيعة حتى قيل أن أكثر من (500) آية في القرآن وردت في مدح العلماء وذم الجهلة وأفضلية صفة العلم ومن يحمله على جميع المميزات الأخرى، وجاءت السنة الشريفة لتعزز ذلك (مداد العلماء خير من دماء الشهداء) وورد عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله في العلماء والفقهاء: (إنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، والراد عليهم كالراد علينا) والواقع يشهد بذلك فإن أية أمة بلا علماء تكون كالغنم بلا راعي فهم يرشدونها ويهدونها إلى الطريق الصحيح ويتحملون التضحيات من أجلهم من دون أن يتوقعوا من الأمة جزاءً ولا شكوراً بل أفنوا حياتهم زاهدين معرضين عن حطام الدنيا فهل جزاء كل ذلك ذمهم والقدح فيهم والافتراء عليهم وتتبع عثراتهم ؟! إنها معاوضة غير منصفة والعقلاء يقولون والقرآن يؤكد (هل جزاء الاحسان إلا الإحسان) إنها واحدة من خطط الكفار لفصل الأمة عن علمائها حتى تضل وتتيه بتسقيط العلماء وتشويه صورتهم والإفتراء عليهم ونسج الأكاذيب عنهم وكثير من أبناء المجتمع لجهلهم وسذاجتهم يصدقون، كما قال القرآن: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) وهي خطة ليست جديدة فقد حاولوا تشويه صورة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لينفض المسلمون من حوله حتى اتهموه بشرفه فنزلت سورة النور لتخبر عن حديث الإفك والدفاع عن شرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واتهموا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه لا يصلي فشاء الله أن يستشهد عليٌ (عليه السلام) في محراب الصلاة لتتوجه صفعة إلى أولائك المنافقين، ولكن لماذا لا نعرف عظمة علمائنا إلا بعد موتهم ؟ وماذا ينفعنا الندم ؟ ثم ألا تكفينا المرة والمرتان من الخطأ فنصر على تكراره والمفروض أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ؟! إنها فتنة زرعها أعداء الإسلام فلا ينبغي للمسلمين الوقوع فيها وعليهم احترام علمائهم فهم حصون الإسلام الحافظون لحدوده والمرابطون في ثغوره لحماية المسلمين وكيان الإسلام من مكائد وخطط الكفار وإغواء إبليس.

أكرر اعتذاري عن الاختصار وأسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا جميعاً لنيل رضاه وإصلاح حالنا إنه ولي النعم.

محمد اليعقوبي

14 شوال 1422

ص: 113

فقدان العلماء يدعونا إلى التخطيط الجدي لإعداد البدائل

فقدان العلماء يدعونا إلى التخطيط الجدي لإعداد البدائل(1)

اعتاد المحتفلون برحيل احد العلماء أن يستشهدوا بالحديث الشريف (إذا مات العالم ثلم الإسلام ثلمةً لا يسُّدها شيء أبداً) وهو تعبير صادق عن عظم المصاب ونكبة الأمة بفقدان علمائها ، ولكن الحديث الشريف لم يقف عند هذا الحد و إنما بيّن للأمة كيفية سد هذه الثلمة بقوله (الا عالمٌ مثله) ليعلّم الأمة أن عليها عدم الاكتفاء بالانفعالات العاطفية للتعبير عن شعورها إزاء هذه الخسارة وإنما عليها أن تعَّد وتهيء البديل عن ذلك العالم الراحل ليقوم مقامه ويواصل مسيرته في تربية الأمة وقيادتها بحكمة نحو الكمال.

ولا يبدأ هذا الإعداد والتهيئة من حين وفاة العالم لان هذا الإعداد يتطلب ما لا يقلّ عن ثلاثين عاماً إلا لبعض الأفذاذ الذين توفرت لهم ظروف خاصة و قابليات نادرة ، ولا تستغرب من هذه المدة فان درجة الاجتهاد الذي هو أحد شروط المرجعية وقيادة الأمة وصفة العدالة التي تعني أعلى درجات السيطرة على أهواء النفس ونزغاتها والانضباط بتعاليم الشريعة حتى على مستوى المستحبات والمكروهات وصفة الوعي والنضج والبصيرة بشؤون الأمة وتفاصيل الحياة وتجارب القادة وغيرها من الصفات والشروط مما يعُسُر إدراكه إلا بلطف الله تعالى وجهد طويل ويمكن تقريبها على مهنة الطب فان الطبيب يدرس ست سنوات في كلية الطب غير دراسته الابتدائية والإعدادية ثم يقيم سنة في المستشفيات و أخرى في القرى والأرياف ثم يعود إلى المستشفيات كمقيم أقدم ويمارس لوناً من ألوان الاختصاص مدة ثم يدرس عدة سنوات لنيل شهادة البورد في ذلك الاختصاص ويدرس ما بعد الاختصاص ومع ذلك فانه لا يشار إليه ضمن الرموز الطبية المرموقة حتى يمارس اختصاصه عدة سنوات ويثبت كفاءة ومهنية عالية ونزاهة وإخلاص ليكون في مصاف المرجعيات الطبية وقد تستغرق هذه الرحلة أكثر من ثلاثين عاماً منذ بداية التحصيل ، هذا وهو يتعلق بطب الأبدان الذي مهما كان دقيقاً فانه يبقى محدوداً في تفاصيله ومساحة تأثيره فكيف بطب الأرواح ورعاية شؤون الأمة وقيادتها إلى الكمال والسعادة في الدارين.

لذا فإنّ على الحوزات العلمية الشريفة أن تخطط باستمرار لمستقبلها وتحسب كل الاحتمالات فان عدد المجتهدين اليوم الذي لا يتجاوز عدد الأصابع إنما هو حصيلة ألاف من طلبة العلوم الدينية كانوا قبل أربعين عاماً في النجف الاشرف فكم سيكون لدينا يا ترى من المجتهدين بعد عشرة أو عشرين عاماً مع هذا الوضع البائس الذي تعيشه الحوزة العلمية اليوم؟ هذه هي المسؤولية التي يجب أن نستشعرها ونتحملها باستمرار ويزداد الالتفات إليها والشعور بمرارتها في مثل هذه المناسبات حينما نجتمع لنتبادل التعازي بمناسبة رحيل العلماء العظماء.

حينما استشهد أستاذنا السيد محمد الصدر(قدس سره) في 3/ذ.ق/1419 المصادف 1999/2/19 عشت ومعي كل المحبين والموالين عواطف جياشة أشرت إليها إجمالاً في كتابي (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه) ولكن ذلك لم يكن عائقاً عن التفكير في آليات العمل لما بعد ذلك الحادث الأليم حيث إن كثيراً من القنوات التي تحرك بها السيد الشهيد (قدس سره) وعلى

ص: 114


1- تقرير بتصرف لحديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد مدينة الصويرة الذي زار سماحته يوم 7 ذ.ق 1427 معزياً بالذكرى الثامنة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) ووفاة المرجع الديني في مدينة قم المقدسة الميرزا جواد التبريزي (قدس سره) الذي وافاه الأجل يوم 28 شوال 1427 المصادف2006/11/20 عن عمرٍ ناهز (83) عاماً ومن حديث سماحته مع عدد من أعضاء أمانة حزب الفضيلة الإسلامي في محافظة بابل يوم 8 ذ.ق 1427.

رأسها صلاة الجمعة أصبحت متعذرة فقد ابلغنا جلاوزة النظام ونحن في مجلس العزاء بمنع إقامة صلاة الجمعة في الكوفة وقد كان بعض الأخوة معنا في المكتب رغبوا إليَّ في إقامتها باعتباره (قدس سره) قد اختارنا لإمامة الصلاة في مسجد الكوفة في حياته ويكون هو (قدس سره) احد المأمومين فيكون من الأولى إمامتها بعد استشهاده ، لكننا لم نجعل العواطف و الانفعالات هي مصدر القرار و أمامنا تجربة الإمام السجاد (عليه السلام) حينما خطب في الكوفة بعد استشهاد أبيه الحسين (عليه السلام) و وبّخهم وعّرفهم بعاقبة فعلتهم الشنيعة فعرضوا عليه النصرة والثورة على ابن زياد ولكنه (عليه السلام) كان له دور طويل يؤديه خلال (34) عاماً ورسالة عظيمة يؤديها للأمة لا تبتني على ردود الأفعال العاطفية.

وقد عشتُ مثل هذا الضغط الجماهيري الذي كان يطالبنا بالسير بنفس آليات السيد الشهيد (قدس سره) في تلك الأيام إضافة إلى ضغط الطغاة والقتلة المجرمين الذين كانت سيوفهم تقطر دماً وتراقب الحركات و السكنات وتتحسب لكل خطوة وحركة.

إضافة إلى ضغط التقاليد والمعايير الحوزوية التي عانى منها السيد الشهيد الصدر (قدس سره) منها قبلي وحاصرته ومنعت جزءاً من عطائه.

ورغم كل ذلك فقد وضعت برنامجاً لعملي في تلك الأيام العصيبة على شكل نقاط ورؤوس أقلام تصل إلى العشرة ثم بعد أشهر وضعتُ تفصيلات هذه النقاط(1) وسرتٌ عليها بمقدار ما يسّره الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وحسن توفيقه وتفاجأ العالم كله بعد السقوط بسعة و قوة الحركة الإسلامية المباركة في العراق وما كان لذلك أن يتحقق ويستمر لولا رعاية الله تبارك وتعالى وتوفيقه لثلّة من عباده الصالحين العاملين المخلصين.

ص: 115


1- طُبعت بعد سقوط النظام بكراس عنوانه (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية) ويمكن ملاحظة تأريخ كتابتهِا في نهايتهِ وهو لا يتضمن طبعاً مشاريع ما بعد سقوط النظام .

قيمة العمل الفردي والجماعي للرساليين وطلبة الحوزة العلمية الشريفة

قيمة العمل الفردي والجماعي للرساليين وطلبة الحوزة العلمية الشريفة(1)

يوجد دور للإنسان يؤديه كفرد وله دور آخر كجزء من المجتمع، ومن وظائفه على الصعيد الأول تهذيب نفسه وتربية أولاده وتحصيل الكسب للإنفاق على عائلته وغيرها ومن الثاني مشاركته في بناء الدولة والعمل الجماعي الذي تؤديه الأمة.

وما يقال ان جهود الأمة هي مجموع الجهود الفردية لأبنائها وان كل فرد لو أصلح نفسه فانه سينصلح المجتمع، إذا أريد بجهد الفرد وإصلاح نفسه على الصعيد الأول فقط فان هذه المقولة غير كافية لأنه لو تصورنا ان كل فرد أصبح صالحاً في نفسه فهذا لا يكفي لإقامة دولة صالحة ما لم يؤدوا وظيفتهم الثانية وهي دورهم في العمل الجماعي وأداء وظيفتهم في العمل المؤسساتي.

واضرب لكم مثلاً فيما لو وُجِد كتاب من عدة أجزاء وعرض عليك الكتاب بكامل أجزائه فانك تدفع فيه ثمناً معيناً، بينما لو عرضت أجزاء متفرقة منه وناقصة فانك لا تدفع في كل جزء منه مبلغاً مساوياً لنسبة ذلك الجزء من مجموع الأجزاء لنقصان قيمته حينما يكون منفرداً وتزداد فيما لو انضمّ إلى المجموع، وقد تنعدم قيمة الجزء إذا كان منفرداً كأحد مصراعي الباب فانه لا ينفع بإزائه شيء ولكنه إذا انضمّ إلى جزئه الآخر دفعت فيه قيمة معتبرة.

ولما كان الحديث الشريف يقول (قيمة كل امرئ ما يحسنه) فان الإنسان الهادف يسعى لإيجاد اكبر قيمة له فلا يتوقف عند قيمته كفرد مهما غلت وازدادت بما حوى من محاسن ذاتية وإنما يسعى لاكتساب القيمة الأخرى التي يحصل عليها من الانخراط في العمل المؤسساتي الجماعي، وهذه القيمة يخسرها الإنسان حينما ينعزل وينكمش ويبتعد عن أداء دوره ضمن المؤسسات النافعة.

وكما هو واضح فان احد الدورين لا يغني عن الآخر فالأول أساس للثاني والثاني كمال للأول، وهذا ما يميّز عمل المؤمن الرسالي عن غيره فان المؤمن غير الرسالي يقف عند حدود تربية ذاته وإصلاح نفسه وأداء دوره الأول وهو خير ويثاب عليه ولكنه ليس كالثاني الذي يتحرك في الأمة ويبذل كل ما في وسعه لإصلاح الآخرين وهدايتهم وإقامة الحق والعدل في البلاد.

ولما كانت الحوزة العلمية الشريفة في طليعة المؤسسات الرسالية فلا ينبغي لها أن تغفل عن تحصيل كلتا القيمتين، وللحوزوي دوره الفردي التقليدي من إمامة الجماعة والجمعة وتبليغ الأحكام ووعظ الناس وإرشادهم والتوسط بين المرجعية وأتباعها وأي نشاطات أخرى وهذا ما لا يمكن التخلي عنه وإنما تتنوع آليات تحقيقه بحسب ما يتيسر بلطف الله تبارك وتعالى.

وعليهم أيضاً أن لا يغفلوا عن دورهم الثاني ونحن ما أسسنا (جماعة الفضلاء) إلا لتكون الإطار التنظيمي لعمل الحوزويين بشكل جماعي ليقيموا المجتمع الصالح سعياً لإقامة دولة الحق والعدل.

وفي ضوء هذا فان من ينغمس في العمل المؤسساتي ويترك وظائفه الفردية يكون مضيعاً لأساس عمله ومن يطالب بإلغاء العمل المؤسساتي ويطالب بالاكتفاء بالطريقة التقليدية من أداء وكلاء المراجع فانه يكون مضيعاً للكمال (وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)، إذ لا يوجد تنافي

ص: 116


1- من حديث سماحة الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع إدارة وطلبة جامعة الصدر الدينية فرع كربلاء المقدسة يوم السبت 20 رجب 1428 المصادف 2007/8/4 وحديثه مع عدد من أعضاء مكتب جماعة الفضلاء في النجف الأشرف يوم 22 رجب 1428.

بين الدورين والدور الفردي محفوظ ويستطيع وكلاء المرجعية الرشيدة أن يقوموا به ويقتصروا عليه إذا لم يكن عندهم انسجام مع العمل الجماعي.

ويستطيعون التوسع بعملهم بحيث يصبح كل فرد منهم مؤسسة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)، فيقيمون الدورات الحوزوية الصيفية ودورات تعليم القرآن الكريم ورعاية الفرق الرياضية وتكريم المتفوقين في الدراسات الأكاديمية وإقامة الشعائر الدينية والحفلات الاجتماعية ومساعدة المحتاجين وتزويج الشباب وإيجاد فرص عمل للعاطلين وغيرها كثير مما يقرّب إلى الله تبارك وتعالى.

ولا يقعده عن أداء هذا الدور المبارك عدم وجود مسجد ينطلق منه في حركته فيمكن أن يكون داره أو دار أحد ممن يتعاون معه مسجداً ومجمعاً للناس ومحلاً لإقامة الشعائر المباركة ويضع على سطح الدار مكبرة صوت يرفع منها الأذان المبارك في أوقات الصلاة ليضيء داره في الأرض كالكوكب الدري كما يبدو لأهل السماء، ولا يُنال ذلك إلا بفضل الله تبارك وتعالى.

محمد اليعقوبي

ص: 117

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.