المرجعية الدينية ومهمات الواقع الإسلامي

هویة الکتاب

المرجعية الدينية ومهمات الواقع الإسلامي

عرض لدور القيادة الدينية

في الحياة الإسلامية

من خطب سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

الناشر : دار الصادقين

الطبعة : الأولى/2014م- 1435ه-

جميع الحقوق محفوظة لدار الصادقين للنشر والتوزيع

ص: 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

اسم الكتاب:المرجعية الدينية ومهمات الواقع الإسلامي

الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله)

الناشر : دار الصادقين

الطبعة : الأولى/2014م- 1435ه-

جميع الحقوق محفوظة لدار الصادقين للنشر والتوزيع

ص: 3

الفصل الأول: المرجعية الدينية في الحياة الإسلامية

اشارة

ص: 4

دور المرجعية في الحياة الإسلامية العراق نموذجاً:

موقعية المرجعية في الإسلام:

قبل الحديث عن العنوان لابد أن نتحدث عن موقع المرجعية في قلوب وعقول الأمة، إذ يعتقد المسلمون الذين تلقوا تعاليم الإسلام عن طريق أهل بيته المعصومين (صلوات الله عليهم) أجمعين إن الذي يمثل قمة الهرم في قيادة الدولة الإسلامية هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده الأئمة المعصومون الاثنا عشر الذين عينهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأسمائهم جيلاً واحداً بعد الآخر.

وقد سنحت الفرصة لممارسة هذا الدور لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة ولأمير

ص: 5

المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مدة خمس سنين بعد مقتل الخليفة الثالث ولولده الحسن بن علي سنة واحدة بعده، أما الأئمة المعصومون الآخرون (سلام الله عليهم) فلم تتوفر لهم هذه الفرصة .

وهم –بحسب ما تتمتع به قيادتهم من خصائص- لا يكرهون الناس على اتباعهم بالقوة بل يقنعون الأمة بمشروعهم فإذا اقتنعت الأمة بقيادتهم مارسوها، وإلا مارسوا دورهم الإيجابي المبني على الحوار و الإقناع .

ولما اقتضت المشيئة الإلهية خفاء الإمام الثاني عشر بعنوانه لا بشخصه وإلا فإنه موجود بين الناس ويعيش كما يعيشون لكن الناس لا تعرفه بشخصه خصوصاً بعد مرور هذه المدة الطويلة على وجوده، وقد ادخره الله سبحانه ليؤسس دولة الحق والعدل حينما تفشل كل النظم التي يبتدعها البشر ويقتنعون بها وسيتطلّعون تلقائياً إلى المنقذ العظيم.

ولأن حاله غياب القائد عن الاتصال المباشر بأتباعه غريبة عن الناس فلذا مهّد لها الأئمة الذي سبقوا الإمام الثاني عشر بالتثقيف والتوعية وبيان المبررات وبالممارسات العملية أحياناً كانقطاع الإمام عن جماهيره مدة ونصب وكلاء له حتى أصبحت الأمة قادرة على التعايش مع هذه الحالة، فوقعت غيبة الإمام الثاني عشر ووضّح لأتباعه معالم طريقهم فلم يعيّن له خلفاء محدّدين بالاسم وإنما وضع شروطاً فمن انطبقت فيه هذه الشروط كان هو النائب عن الإمام وعلى الأمة أن تتبعه كما تتبع

ص: 6

الإمام المعصوم حيث قرنت الأحاديث الشريفة طاعة المرجعية الدينية الجامعة للشروط الآتية بطاعة الإمام (عجل الله فرجه الشريف).

ومن هذه الشروط بلوغ أعلى الدرجات العلمية المعروفة ب- (الاجتهاد) وحصول القدرة على التوصل إلى الحكم الشرعي من مصادر التشريع الأصلية ولا يتلقاه تقليداً من الفقهاء السابقين مهما بلغوا من الرقي العلمي وهذا الشرط يتطلب اتقاناً وعمقاً في علوم عديدة.

والشرط الآخر: هو الدرجة العالية من ضبط جماح النفس وكبح شهواتها والعمل الجاد على تحليتها بفضائل الأخلاق وتهذيبها من الرذائل الخلقية التي تنافي إنسانية الإنسان ونهت عنها الشرائع الإلهية المقدسة .

والشرط الآخر: الخبرة بشؤون الحياة وتفاصيلها وما يكتنف الأمة من أحداث وتحديات. ويستعين بالخبراء في مختلف الاختصاصات إذا لم يكن محيطاً بها بالمقدار المطلوب.

وتقوم هيأة من العلماء القادرين على التحقق من توفر هذه الشروط في المجتهد لتعترف له بالمرجعية وتدعو الناس إلى تقليده والرجوع إليه في الأحكام الشرعية.

فالدور الذي تؤديه المرجعية الدينية في حياة الأمة هو امتداد لدور الأئمة المعصومين سلام الله عليهم الذي هو امتداد لدور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد عرضنا العشرات من محاور هذا الدور ووقائع تفصيلية كتطبيقات لها في كتاب (دور الأئمة في الحياة الإسلامية).

ص: 7

كما إننا شرحنا الخصائص النفسية والملكات الفاضلة التي ينبغي توفرها في شخصية القيادة الإسلامية من خلال دراسة سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتاب (الأسوة الحسنة للقادة والمصلحين).

الخطوط العامة لوظائف المرجعية الرشيدة:

ثم لخّصنا الخطوط العامة لدور المرجعية الدينية في حياة الأمة في مقدمة كتابنا (سبل السلام) الذي يتكفل ببيان الأحكام الشرعية وحلول المشاكل التي يمكن أن يواجهها المسلم في حياته ابتداءً من الطقوس العبادية التي يؤديها لربّه كالطهارة والصلاة والصوم ومروراً بعلاقاته الاجتماعية كالزواج والمعاملات الاقتصادية وانتهاء بالأحكام العامة كالقضاء وفضّ النزاعات.

وهذا كله مستند إلى نصوص وقواعد مأخوذة من مصادر التشريع الإسلامي التي ثبتت بطريق صحيح.

وهو يؤكد مصداقية الشريعة المقدسة في ادعائها القدرة على استيعاب كل تفاصيل الحياة وشؤون الناس ولذا قلنا في تلك المقدمة أن وظيفة الفقيه لا تنحصر بالفتوى وبيان الأحكام الشرعية وإنما له وظيفتان أخريان وهما:

1- القضاء بين الناس وفض الخصومات.

2- تدبير شؤون الأمة وولاية أمرها.

ثم ذكرنا ضمن النقطة الثانية الخطوط العريضة لهذه الوظيفة.

ص: 8

خصائص المرجعية الرشيدة:

ومن خصائص رسالة المرجعية الدينية:

1- اعتماد سياسة الحوار لإقناع الآخرين (راجع المسألة 30 والمسألة 31 ص28 من الجزء الأول من سبل السلام) وهذا هو مبدأ قرآني أصيل «لا إكْرَاهَ في الدِينِ» «ادعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بالَّتي هِيَ أحْسَن» (النحل:125) «ادْفَعْ بِالَتِي هِيَ أحسَنُ فَإذَا الذِي بَينَكَ وَبَينَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» (فصلت: 34).

العالمية: فهي تحس بآلام وهموم البشر جميعاً لأن قلبها مملوء بالرحمة وحب الخير لكل الناس تأسياً بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي خاطبه الله تبارك وتعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء:107) ومن كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى مالك الأشتر لما ولاّه مصر (وأشعِر قلبك الرحمة للرعية فإنهم صنفان، أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) فتجد مرجعية النجف حاضرة بتعليقاتها ومواقفها في إعصار

ص: 9

تسونامي في جنوب شرق آسيا(1) وإعصار كاترينا في الولايات المتحدة(2) والاضطرابات في فرنسا(3) ويَهنئ الحبر الأعظم بابا الفاتيكان بأعياد ميلاد السيد المسيح (عليه السلام) ويذكر القيمة المشتركة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية(4).

أما حضورها في قضايا المسلمين خاصة فمشهود ومن أمثلة ذلك رسالة المرجعية إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك حينما كان بصدد تشريع منع ارتداء الحجاب في المدارس الرسمية(5).

ورسالة أخرى إلى الشعب الفلسطيني المظلوم(6)

ويناقش بشفافية العلمانية(7)

ص: 10


1- راجع المجلد الثالث من كتاب خطاب المرحلة (صفحة 502) .
2- راجع المجلد الرابع كذلك (صفحة 403).
3- المجلد الرابع أيضاً (صفحة 420).
4- المجلد الرابع (صفحة 436) كذلك.
5- المجلد الثالث (صفحة 205).
6- المجلد الثالث (صفحة 187).
7- المجلد الثالث (صفحة 155).

ويتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان(1)، وغيرها.

3- الشمولية: أي شعورها بالمسؤولية إزاء كل القضايا التي تمر بها الإنسانية لأنها تمثل الشريعة والقانون ونحن نعتقد أن الشريعة الإسلامية غطّت كل شؤون الحياة بالنصوص المباشرة أو وضعت القواعد التي يُستنبط منها الحكم والحل والموقف إزاء مختلف القضايا، ولذا فإن الشريعة حينما أعطت هذا الدور الواسع للفقيه فإنها لم تعط له كشخص حتى يستكثر عليه وإنما أعطته للقانون الذي يمثله كالقاضي في النظم المتحضرة المعاصرة حيث لا سلطة للحكومة ولا لغيرها عليه وينفذ قراره على الجميع وهذه الهيمنة ليست له كشخص وإنما للقانون الذي يحكم به.

وانطلاقاً من هذه المسؤولية تجد المرجعية تشخص بدقة أسباب العجز عن مكافحة مرض الإيدز ونتائجه الوخيمة ثم تدل على العلاج في بيان بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة

ص: 11


1- المجلد الرابع (صفحة 38).

الإيدز(1)وكذا في اليوم العالمي لمكافحة التدخين(2).

4- المبدأية ونظافة الأساليب: والأهداف، فهي لا تؤمن بأن (الغاية تبرر الوسيلة) ولا تجعل القيمة العليا في أعمالها ومشاريعها وسياستها للمصالح بل للمبادئ وكل مصلحة تتعارض مع المبادئ فهي مفسدة وللمرجعية خطاب تفصيلي ردّت فيه على عقيدة السياسيين بأنه لا توجد صداقات ثابتة ولا عداوات ثابتة وإنما توجد مصالح ثابتة فكان الرد بأنه توجد مبادئ ثابتة(3).

5- الشفافية في التعاطي مع الجماهير وعدم اتباع سياسة الخداع والتجهيل والتضليل لأنها قوية بحقها فلا تخشى أحداً ولأنها لا تريد مكسباً لنفسها وإنما تريد الخير للآخرين(4).

ص: 12


1- المجلد الثالث (صفحة 441).
2- المجلد الرابع (صفحة 53).
3- المجلد الرابع (صفحة 45).
4- خطاب المرحلة (90) مبادئ الشفافية ومظاهرها، المجلد الرابع (صفحة 119).

6- الحرص على إعمار الحياة وإقامة النظام المتحضر للمجتمع والمحافظة على الدولة والمؤسسات التي تحفظ النظام الاجتماعي العام ونعتقد أن الشريعة هي الأصل والسابق لبناء المجتمع المدني المتحضر ومؤسساته ومنظماته (لاحظ مجموعة الخطابات عن ضرورة تأسيس منظمات المجتمع المدني)(1) ، والمرجعية تضحي بكل حقوقها وامتيازاتها من أجل هذا الهدف حتى لو لم يكن النظام السياسي مبنياً على الإسلام (المسألة 29 من سبل السلام).

دور المرجعية في العراق:

وتأسيساً على هذه النقاط فقد كان للمرجعية الدينية في العراق الدور الإيجابي والبناء في منع انهيار المجتمع وانزلاقه إلى دوامة العنف والاقتتال رغم شراسة المؤامرات التي استهدفته وحافظت المرجعية على ممتلكات الدولة ومؤسساتها ومنعت من الأخذ بالثأر الانفعالي في بيان وتوجيهات إلى الأمة صدرت يوم 2003/4/6 أي قبل

ص: 13


1- أنظرها في كتاب خطاب المرحلة.

سقوط النظام لما تعلمه وتتوقعه من حصول هذه التداعيات(1).

وفي ضوء ما تقدم يظهر أن عنوان هذا البحث يتحدث عن مفردة جزئية من حركة المرجعية الدينية ومسؤوليتها فإن وظيفتها أوسع من العمل السياسي، وهمومها تتجاوز حدود العراق .

برز الدور السياسي للمرجعية الدينية بعد سقوط النظام السابق عام 2003 وهذا لا يعني عدم وجود دور لها في التاريخ السابق ولكن الفرصة اتسعت بعد السقوط وحظيت حركة المرجعية بتسليط وسائل الإعلام.

وقد بادرت المرجعية إلى ممارسة دورها قبل 9/4 حينما بدأت إرهاصات الغزو والاحتلال وقبيل السقوط عندما بدأ النظام يترنح أصدرت توجيهاتها للشعب ركّزت فيها على وحدة الصف والحفاظ على الممتلكات العامة وحمايتها وتشكيل اللجان المحلية لمليء الفراغ بعد غياب الدولة وتحريم تصفية الحسابات بسبب ممارسات النظام السابق الإجرامية بحق الشعب وكان ذلك يوم 2003/4/6(2)، وقد نجحت المرجعية بما سمّاه الدكتور محسن عبد الحميد الأمين العام للحزب الإسلامي بالمعجزة في زيارته للمرجعية في النجف عندما كان رئيساَ لمجلس الحكم المؤقت .

ص: 14


1- المجلد الثالث (صفحة 16).
2- المجلد الثالث (صفحة 26).

ودعت في وقت مبكر إلى ضرورة إجراء انتخابات حرة نزيهة لاختيار ممثلين حقيقيين للشعب ولإنهاء ذرائع وجود الاحتلال بإقامة حكومة وطنية تقوم على أساس إرادة الشعب وقدّمت مشروعاَ متكاملاً لإدارة المرحلة الانتقالية في العراق إلى حين تهيئة الظروف لأجراء الانتخابات(1).

وقد أخذت به سلطات الاحتلال بعد عام تقريباً حينما اضطرت إليه وهكذا فإن السلطات الحاكمة (احتلالية أو عراقية) لا تأخذ بالنصائح والتوجيهات حتى تجد نفسها مضطرة إليها بعد أن يكون الشعب والبلد قد خسر الكثير، لعدم وجود إرادة حقيقية وصادقة للحل (راجع خطاباً بهذا العنوان وخطاب بعنوان إذا لم تحترق مصالح السياسيين بالنار فإنهم لا يفكرون في الحل(2).

وشجعت الكفاءات الوطنية النزيهة القادرة على ممارسة العمل السياسي إلى تأسيس الأحزاب للنهوض بمشروع وطني خالص لا يخضع للأجندات الأجنبية وقنّنت عمل الأحزاب وفق الشريعة الإسلامية وخوض العملية الديمقراطية باعتبارها النظام الأفضل الذي توصلت إليه المجتمعات البشرية(3).

ص: 15


1- نص المشروع تجده في المجلد الثالث (صفحة 112).
2- انظر: المجلد الرابع: ص303.
3- راجع المجلد الثالث (صفحة 289) : الأسس النظرية لحزب الفضيلة الإسلامي.

وظائف تقوم بها المرجعية الرشيدة:

وبقيت مواكبة للعملية السياسية تؤدي الوظائف التالية:

1- تقديم الأفكار والمشاريع والرؤى التي فيها صلاح للعملية السياسية ونجاحها وإعطائها دفعة للأمام كمشروع إدارة العراق للمرحلة الانتقالية المتقدم ومشروع الإصلاح الوطني وإنقاذ العراق(1)، ومشروع تفعيل دور المعارضة الإيجابية كجزء مقوّم للعملية الديمقراطية(2).

2-بيان الموقف الشرعي والوطني للجماهير إزاء مختلف الأحداث والقضايا التي تواجهه كالانتخابات وتفجير سامراء(3)،

وفي قمة تأجيج العواطف واشتعال الفتنة بعد هذا التفجير المروّع تتحدث المرجعية عن أن الأمة بحاجة إلى مشاريع إعمار الآن أكثر من حاجتها إلى مشاريع استشهاد(4).

3- تقويم العملية السياسية والتنبيه إلى الأخطاء لتصحيحها وتشخيص الخلل والإشادة بالمحسنين وتوبيخ المقصّرين ومساعدتهم في علاج التقصير وتجاوزه .

4- المساعدة في اختيار العناصر الكفوءة النزيهة القادرة على خدمة الشعب وترشيحها إلى مواقع المسؤولية

ص: 16


1- المجلد الثالث (صفحة 112).
2- المجلد الرابع صفحة (339).
3- المجلد الرابع (صفحة 216).
4- المجلد الرابع (صفحة 245).

مستندة في ذلك إلى معرفتها التفصيلية بكثير من هؤلاء بسبب الاحتكاك المباشر والعمل المشترك .

5- حشد الرأي العام وتثقيفه لدعم الخطوات الايجابية في العملية السياسية التي تصب في مصلحته وغيرها كثير وفي موازاة ذلك فإن المرجعية لا تغفل عن تربية الأمة على الأخلاق الفاضلة والتمسك بالتعاليم السامية وكل خصال الخير لأنها تعتقد أن (كل إناء ينضح بالذي فيه) فإذا كانت النفوس صالحة أفرزت مجتمعاَ صالحاَ وحكومة صالحة والعكس بالعكس.

ص: 17

دور الحوزة الشريفة في حياة الأمة

دور الحوزة الشريفة في حياة الأمة(1)

لكي لا نفهم الشريعة بفهم ضيق:

حينما قسم الفقهاء المسائل الفقهية إلى (عبادات) و(معاملات) وقسموا المعاملات إلى(عقود) و(إيقاعات) و(أحكام) فإنهم انطلقوا من ناحية علمية وفنية لتبويب وتصنيف مسائل الفقه حتى يسهل أخذها، فانطلقوا بتقسيمهم على أساس أن فعل المكلف إما مشروط بقصد القربة أو لا فالأول هي العبادات والثاني المعاملات وهي إما متقومة بطرفين كالبيع والنكاح أو بطرف واحد كالعتق والطلاق أو غير متقومة بأي أحد كالحدود والديات والمواريث فالأولى هي العقود والثانية هي الإيقاعات والثالثة هي الأحكام.

ولم يَدُرْ في خلد هؤلاء الفقهاء أن هذا التقسيم الفني العلمي سيتحول إلى ممارسة خاطئة وفهم ضيق لدور الشريعة في حياة الأمة، حيث رسخ هذا التقسيم في أذهان

ص: 18


1- من حديث سماحة الشيخ (دامت تأييداته) في حفل تخرج دفعة جديدة من كلية التوجيه الديني والإصلاح الاجتماعي من جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف وارتدائهم الزي الديني يوم الاثنين 1 ذي الحجة 1426 المصادف 2006/1/2 ومن حديث سماحته مع طلبة جامعة الصدر الدينية - الفرع الأول في الرصافة من بغداد في اليوم التالي ومن حديث سماحته مع طالبات جامعة الزهراء الدينية فرع البصرة يوم الخميس 26 ذي القعدة 1426 المصادف 2005/12/29.

الناس أن عبادة الله تعالى ومراعاة الشريعة إنما يختص بالقسم الأول وتراهم يسألون عن تفاصيل جزئية في الوضوء والصلاة والصوم وهو شيء حسن، لكن السيئ أنهم أقصوا الشريعة عن المعاملات ولم يحكّموا دين الله فيها، ويشرعون من أنفسهم قوانين تحكم المعاملات كقوانين الأحوال الشخصية والسنينة العشائرية وسائر القوانين الوضعية الأخرى فتقوقع الدين وانحسر دوره خلافا لقوله تعالى «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» (النساء:65) فهذا التسليم المطلق وتحكيم الشريعة جار ومطلوب في كل تفاصيل الحياة(1).

من المقولات المغلوطة (لا مشاحة في الاصطلاح):

وأنا هنا لا ادعي أن هذا التقسيم هو السبب الوحيد في هذه النتيجة السيئة وإنما توجد أسباب أخرى، لكنني أريد أن أتوصل إلى فكرة أن اختيار العناوين والمصطلحات مهم؛ لأن أي خطأ فيه يسري إلى خطأ في المعنون والمضمون والتطبيق ولا يقتصر على الجهة النظرية فقط، فليس صحيحا ما يتردد في كتب الدراسة الحوزوية من قولهم (لا مشاحة في الاصطلاح) فإن عدم الدقة فيه تؤدي إلى مثل

ص: 19


1- تجد توضيحاً لهذه الإشكالية في كتاب (شكوى القرآن) وبحث (الجاهلية الحديثة وأسلوب مواجهتها) و(دليل سلوك المؤمن) في كتاب (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه).

هذه النتيجة الخاطئة.

مصطلح (الحوزة العلمية):

ومن هذا الشرح المختصر للفكرة و المثال عليها انطلق إلى القول بان توصيف الحوزة الشريفة بالعلمية فيقال (الحوزة العلمية) وان كان له ما يبرره باعتبار أن النشاط الأوضح فيها هو تحصيل العلوم الدينية وتعميقها والإبداع فيها ونشرها وتدوينها، إلا أن هذا الوصف رسخ في أذهان أبنائها أن وظيفتهم هو طلب العلم وتدريسه ونحوه من الشؤون، وصار الكثير من المرجعيات التقليدية وأتباعهم يردد أن وظيفتهم الدرس ونحوه وعدم التدخل في شؤون الأمة، وهو تحجيم لدورها وإفراغ لمحتواها فهي ليست كالجامعات الأكاديمية عبارة عن كيان علمي صرف، بل أن الحوزة وعلى رأسها المرجعية تمثل الكيان القيادي للأمة بما تقتضيه مسؤوليات القيادة من نشاط سياسي واجتماعي وأخلاقي وتربوي وفكري وإنساني وحتى اقتصادي.

الدور الفاعل للقيادة الدينية:

وقد مارست القيادات الدينية الواعية والمخلصة هذه الأدوار في حياة الأمة، فعلى الصعيد السياسي تجد أن كل حركات التحرر والنهضة الحديثة قادها علماء الدين ومعلمو القرآن كعمر المختار في ليبيا والخطابي في المغرب وابن باديس وعبد القادر الجزائري في الجزائر ومحمد عبده في مصر وعبد الرحمن الكواكبي في سوريا وأمين الحسيني في

ص: 20

فلسطين وناهيك عن القيادات الشيعية في العراق وإيران ولبنان. وعلى الصعيد الاجتماعي فإن الحوزة الشريفة تجد نفسها مسؤولة عن إصلاح ذات البين بين المتخاصمين من عشائر وأفراد والسعي للتوفيق في تزويج المؤمنين والمؤمنات ومشاركة الأمة في مناسباتها الاجتماعية وحل مشاكلها.

وأما الدور التربوي والأخلاقي والإصلاحي فإنه الدور الأوضح للفضلاء والخطباء وأئمة المساجد والجماعات في حياة الأمة، وبفضل هذا الجهد المبارك حافظت الأمة على أخلاقها وأعرافها ولم يجد الانحراف والانحلال والانهيار الخلقي الذي تعاني منه مجتمعات الغرب مكانا واسعا له في المجتمعات المتدينة، يكفي أن تعلم أن مرض الايدز الذي فتك إلى الآن بعشرين مليون إنسان لم يسجل له وجود يذكر في امتنا المحافظة.

أما على الصعيد الإنساني من باب الشاهد نقول أن المساعدات التي قدمتها المرجعية للبائسين والمحرومين ومعالجة المرضى في فترة الحصار كان لها اثر مهم في حفظ حياة هؤلاء ومصابرتهم وصيانة كرامتهم.

وأما الجهد الفكري والعلمي فإن أكثر نتاج المطابع وما تتلاقفه دور الطبع فهو من تأليف علماء الحوزة الشريفة وفضلائها ومفكريها.

وقس على هذا نشاطهم في الحقول الحيوية الأخرى.

ص: 21

التناسب بين التحديات وقوة الإيمان:

وفي ضوء هذا يجب على طلبة الحوزات الشريفة -رجالاً ونساء- أن يستوعبوا مسؤولياتهم ووظائفهم التي يقتضيها وجودهم في هذا الكيان الشريف، وهي إن بدت واسعة وثقيلة إلا أنها تكون يسيرة مع الإخلاص لله تبارك وتعالى والهمة وقوة العزم والتعاون مع كل العاملين.

بل قد يشعر الإنسان أن سعة المسؤوليات وقوة التحدي دليل على أن إيمانه بخير وان مستواه ليس متدنياً حيث اختاره الله تبارك وتعالى لهذا الدور الكبير فهو من مواطن الشكر لله تعالى على لطفه بعبده حين اختاره لهذا الدور الشريف ووفقه لاستجابة دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (الأنفال:42)، وأنه مع هذه الثلة القليلة الصالحة التي استجابت من بين الملايين من المسلمين لقوله تعالى «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (التوبة:122) وحظي من دون كل أولئك بما اعد الله تعالى من الكرامات لطالب العلم الذي يستغفر له من في السماوات والأرض وأن الملائكة تفرش له أجنحتها وأن حلق العلم روضة من رياض الجنة وان من ترك ورقة فيها علم نافع كانت حجابا بينه وبين النار وغيرها من الألطاف الإلهية.

ولا بد أن لا نكتفي بالشكر اللساني فإنه أدنى مراتب الشكر وإنما علينا أن نؤدي الشكر العملي بان نؤدي وظائف

ص: 22

النعمة ونقوم باستحقاقاتها التي تقدم ذكرها مع الاعتراف بعجزنا عن شكر ولو نعمة واحدة بان كل شكر هو نعمة تستحق الشكر من جديد فأنى للإنسان أن يؤدي حق الشكر.

لا تتركوا مسؤولياتكم الدينية بخديعة الشيطان:

إنني أسمع عن البعض انه حينما تعرض عليه مسؤولية دينية معينة كإمامة الجماعة أو التدريس فإنه يرفضها ظناً منه أن ذلك تورع وحفظ للنفس من الرياء والعجب ونحوها، وهو قد يكون حسن النية وقد يكون تكليفه ذلك لكن هذا تصرف سلبي وتحقيق لمراد الشيطان بلباس الدين، فإن إبليس لا يريد أن يعبد الله تبارك وتعالى «لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ» (الأعراف:16) فحينما تنسحب من الأعمال الإيمانية فقد أعطيت لإبليس مراده ووقعت في حبائل خداعه، فإن المسجد إذا خلى من صلاة الجماعة سوف لا يقصده المصلون وتعطل شعائر الله ويفتقد الناس الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والأخ المخلص حيث يجد كل هذا المسجد.

التصرف الصحيح هو تهذيب النفس:

أما التصرف الايجابي فهو تهذيب النفس وتأهيل الشخصية لممارسة هذه الوظائف ولا نكون كذاك الرجل الذي كانت زوجته تكره التدخين وعاش صراعا بين الاحتفاظ بزوجته وعادة التدخين وأخيراً قال لصاحبه لقد تركتها، قال الآخر: تقصد عادة التدخين قال الرجل: لا.. فقد

ص: 23

تركت زوجتي، فهذا سير في الاتجاه الخاطئ في مثل هذه المنعطفات التأريخية فعليه أن يتوكل على الله ويخلص نيته ويشد عزمه ويكون ذا مصداقية فيطابق قوله عمله، وحينئذ سيكون التصدي للمسؤولية فرصة لتحقيق التكامل فإن الارتقاء في سلم التكامل يحصل من أعمال ورياضات فردية.، ويحصل بدرجة أكبر من خلال الانخراط في العمل الجماعي وأداء الوظائف الاجتماعية.

فإن المؤمن يشعر بدرجة من المسؤولية أمام ربه فيؤدي الواجبات ويتجنب المحرمات حتى في السر فإذا انخرط في سلك الحوزة الشريفة وارتدى الزي الديني فإن شعوره سيزداد وسيترك بعض التصرفات المحللة لمجرد أنها غير لائقة بوضعه الجديد، فإذا صار إماماً للجماعة فسيكون أكثر مراقبة لنفسه لأنه صار محل ثقة عدد من الناس يصلون خلفه ويعتقدون بعدالته ولا بد من مطابقة ظاهره لباطنه لكي لا يصير منافقاً، وهكذا يرتقي في السعي نحو الكمال حتى إذ بلغ المرجعية وقيادة الأمة فإنه سيكون في درجة عالية من النزاهة والعفة والطهارة لأنه يشعر بمسؤوليته عن مصير ملايين المسلمين في أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وعزتهم وكرامتهم.

نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ:

إنكم حين كرستم أنفسكم لخدمة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى وحفظ مصالح الناس أصبحتم من أنصار الإمام الموعود والممهدين له فحينما يدعو الإمام (عليه السلام) كما

ص: 24

دعى عيسى روح الله «مَنْ أَنْصَارِي إلى اللَّهِ» ستجيبون كما أجاب الحواريون «نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ» (آل عمران:52).

إن يوم ارتدائكم الزي الديني وإعلانكم اتخاذ هذا السلك منهجا لحياتكم هو أهم منعطف في حياتكم وأعظم قرار تتخذونه، وسيكافئكم الله بالحسنى لأن موقفا شجاعا يقوم به الإنسان يكون كافيا لملئ حياته بالنفحات الإلهية «وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ» (القصص:60) «وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولى» (الضحى: 4) كما أني اعتقد أن بركات كثيرة نلتها في حياتي ببركة توفيق الله تعالى لي حينما رفضت خدمة النظام الصدامي المجرم ولو لحظة بعد تخرجي من الكلية عام1982م.

ص: 25

الفصل الثاني: المرجعية حصن الأمة

اشارة

ص: 26

المرجعية حصن يحمي عقائد الأمة ويصحح سلوكها من الفتن الضالّة

المرجعية حصن يحمي عقائد الأمة ويصحح سلوكها من الفتن الضالّة (1)

الدعوات الضالة تجتمع على ضرب المرجعية:

تكاد الدعوات الضالّة رغم تباين مناهجها وتقاطعها في عملها تتحد على قاسم مشترك تجتمع عليه هو ضرب المرجعية وتسقيطها وتشويه صورتها وإلغاء دورها في المجتمع، يستوي في ذلك أدعياء المهدوية والسفارة والبابية والسلوكية وسائر العناوين المرتبطة بقضية الإمام المهدي (عليه السلام) وظهوره الميمون.

والسر في ذلك أن هؤلاء يراهنون في نجاح دعواتهم على سذاجة الناس وجهلهم وتخلّفهّم، ومع وجود مرجعية جامعة للشروط والتي من مهامها توعية الأمة وهدايتها إلى

ص: 27


1- من تعليقات سماحة الشيخ اليعقوبي على بعض الدعوات الضالة التي ظهرت مؤخراً والمقصود حركة (جند السماء) التي خاضت معركة ضارية مع القوات الحكومية والأمريكية في منطقة الزركة شمال النجف على طريق كربلاء وأسفرت عن قتل وجرح المئات يوم 8/محرم/1428 المصادف 28 /1/2007 .

الحق فإن مثل تلك الدعوات الضالة لا تجد طريقها إلى إغواء الناس وإضلالهم، لان من أوصاف العلماء بحسب ما ورد في الروايات الشريفة أنهم (حصون الإسلام) فكما إن الحصون توضع على حدود الكيان لتحفظ ثغوره وتصد هجمات الأعداء، كذلك دور العلماء والمرجعية الرشيدة فإن من وظائفهم حماية عقائد الناس وسلوكهم من الفساد والانحراف فهم مرابطون على هذه الثغور والفجوات العقائدية والفكرية ليردّوا الأعداء من الجن والإنس الذين يتسللون منها إلى عقول وقلوب ونفوس الناس.

مقام المرجعية محاط بالوضوح والتأريخ العريق:

والمرجعية لا يصل إليها الشخص بين عشية وضحاها ولا يتقمصها مجهول لا يعرف من أين جاء كما يتسلل هؤلاء النكرات الدجالون، وإنما يعرف تاريخ الشخص الذي يتصدى للمرجعية بوضوح لسنين طويلة تكون كافية للاطمئنان إلى علمه الذي يصل إلى درجة الاجتهاد وحسن سيرته المعبّر عنها بالعدالة ونقاء أصله المعرف بطهارة المولد، ومثل هذا الطريق الطويل المليء بالجهد والمثابرة وتزكية النفس لا يروق لأولئك المغرورين الحالمين بالجاه والثروة، فيركبون موجة الدعوات المهدوية والمسالك العرفانية وغيرها من الدعوات الغيبية التي تنطلي على السذج للوصول إلى أهدافهم.

فإذا أطمأنّت الأمة إلى تحقق الصفات في مرجعية ما فعليها أن تؤدي وظيفتها تجاه مرجعيتها وقد حددّها الإمام

ص: 28

الباقر (عليه السلام) بقوله (إنما كُلَّف الناس ثلاثاً: معرفة الأئمة، والتسليم لهم فيما ورد إليهم، والرد إليهم فيما اختلفوا فيه).

والمرجع هو نائب نوعي للإمام المعصوم وليس نائباً شخصياً أي انه محدد بالأوصاف والشروط من قبل المعصوم وليس بالاسم، وتوجد روايات عديدة عنهم (عليهم السلام) بهذا الصدد ومنها ما روي عن الإمام المهدي (عليه السلام) (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله).

وإذا كانت هذه وصية الإمام المهدي (عليه السلام) الذي يتاجر باسمه أصحاب تلك الدعوات الضالة فكيف يسقطون من نصّبه الإمام المهدي حجة عليهم وأمرهم بإتباعِهم؟ ومع هذا الانفضاح لدعواتهم الضالّة كيف تنطلي خدعهم على الناس؟ وكيف يصدقونهم من دون أن يعرفوا لهم تاريخاً مشرفاً فهم إما نكرات أو مجهولون ولا تعرف لهم سابقة في علم ولا دين؟

مسؤولية المرجعية عن بيان خصائص أتباعها

ص: 29

دروس مستفادة من حياة الإمام الصادق (عليه السلام)

دروس مستفادة من حياة الإمام الصادق (عليه السلام)(1)

لماذا نسمى بالجعفرية؟

تسمى الشيعة الأمامية الاثنا عشرية ب-(الجعفرية) نسبة إلى الإمام الصادق جعفر بن محمد (صلوات الله عليهما وعلى آبائهما) وهو شرف عظيم في الدنيا والآخرة «يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَ-ئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً، وَمَن كَانَ فِي هَ-ذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً» (الإسراء: 71-72).

فيُدعى الشيعة بأئمتهم من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ويدعى الآخرون بأئمتهم الذين أطاعوهم واتبعوهم من شياطين الإنس والجن ونعم الحكم الله تبارك وتعالى.

والسؤال هو أنه لماذا اختص الإمام الصادق (عليه السلام) بالانتساب إليه والشيعة أتباع جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وبقية الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم.

ص: 30


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام) في مدينة الفضيلية ببغداد يوم 26/شوال/1428 المصادف 2007/11/7 بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام).

وقد أجيب هذا السؤال بأن فقه الأمامية وأحكامهم وتفاصيل عقائدهم أخذت بشكل رئيسي من الإمام الصادق (عليه السلام) فيُعدّ هو مشيد أركان هذه الطائفة المباركة.

وهو جواب يشهد له الواقع فإن أكثر الأحكام الفقهية المروية عنه سلام الله عليه، باعتبار الفسحة الواسعة التي سنحت له أبان الدولة الأموية وانهيارها وبداية تأسيس الدولة العباسية وازدهار الحياة العلمية في تلك الفترة.

وذكر سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) في إحدى خطبه وجهاً آخر وهو أن تشكل المذاهب الإسلامية والطوائف بدأ في زمان الإمام الصادق وما بعده ومن الطبيعي أن تنسب كل طائفة إلى زعيمها المعاصر فنسبت الشيعة إلى الإمام الصادق (عليه السلام).

مسؤولية بيان خصائص الجماعة الإسلامية:

وهو وجه مقبول أيضا وبدأت هذه النسبة بالانتشار في نفس زمان الإمام (عليه السلام) بحيث يقال هذا جعفري وقد نشأت من هذه الحالة مسؤولية على الإمام (عليه السلام) أن يبين معالم مدرسته وخصوصياتها وصفات من ينتسب إليها؛ لأن أي حسنة تصدر من أصحابه تحسب له وأي سيئة -والعياذ بالله- تحسب عليه بشكل من الأشكال ويتحمل مسؤوليتها من وجهة نظر البعض، لذا ورد في تفسير قوله

ص: 31

تعالى مخاطباً نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» (الفتح:2)، عدة وجوه احدها أن الله تعالى يزيل عنه أثار التبعات التي تحسب عليه بسبب تصرفات أتباعه وهو برئ عنها ورافض لها.

وقد سبقه جدّه إبراهيم خليل الرحمن (صلوات الله عليه) بقوله: «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (إبراهيم:36).

روايات في خصائص الشيعة:

وفي هذا الصدد وردت روايات عديدة عن الإمام الصادق (عليه السلام):

منها: عن زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) (اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذوا بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عز وجل، والورع في دينكم والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها براً أو فاجراً، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري، فيسرّني ذلك ويدخل عليّ منه

ص: 32

السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل علي بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر)(1) الحديث.

وقال (عليه السلام): (إنما شيعة جعفر من عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه، وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر)(2).

ومن خلال هذا الحديث بيّن الأئمة سلام الله عليهم ما يجب أن تتوفر في المسلم من صفات ليكون شيعياً وألّف الشيح الصدوق (رضوان الله عليه) كتاباً في ذلك سماه (صفات الشيعة) وليقيموا الحجّة على المدّعين لهذا الشرف العظيم.

وكانت الحالة تقتضي أحياناً أن يصدر الإمام (عليه السلام) براءة ولعناً صريحين في بعض الأشخاص لعزلهم عن الأمة كالمغيرة بن سعيد الذي قال فيه الإمام الصادق (عليه السلام) (لعن الله المغيرة بن سعيد انه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حر الحديد).

لماذا يبين الإمام (عليه السلام) صفات شيعته؟

وفي الحقيقة فإن الإمام (عليه السلام) حينما يبين صفات شيعته بهذا الوضوح إنما يوجه رسائل لعدة فئات:-

1- شيعته ليبيّن لهم واجباتهم.

ص: 33


1- وسائل الشيعة: كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة في السفر، الباب1، ح2.
2- وسائل الشيعة: كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، باب 22، ح13.

2- الذين يدّعون الانتساب إليه نفاقا لتحقيق مآربهم وخداع الأمة لفضحهم وكشف زيفهم حينما يقارن الناس بين أفعالهم وبين ما يريده الإمام (عليه السلام) منهم.

3- الفئات الأخرى من غير أتباعه ليدعوهم إلى هذا الحق الصريح ويقيم الحجة عليهم وليقول لهم أن منهجاً بهذه التفاصيل أحق أن يتّبع.

4- أعدائه الذين يسعون إلى قتله معنويا ومحاربته وتصفيته جسدياً بأن من كان على هذا الهدى هل يستحق منكم ما تفعلون به؟

مسؤولية المرجعية عن بيان خصائص الجماعة:

وهذه مسؤولية لا تختص بالإمام الصادق لان هذه النسبة يمكن أن تحصل باستمرار لكثير من القادة والمرجعيات، فعلى المراجع الذين يُنظر إليهم كامتداد للائمة المعصومين (سلام الله عليهم) أن يعوا هذه المسؤولية ويتحمّلوها أمام الأمة فيوضحوا لهم ما يجب أن يتصفوا به ويتبرأوا ممن لا يلتزم بتلك الأوصاف، وإلا فإن الأخطاء والمظالم والذنوب ستحسب عليهم، كما ترون اليوم أن الذين تلفّعوا بعباءة المرجعية وتصدّوا للحكم فإن الناس لا تقتصر باللوم عليهم لسوء تصرفاتهم وإنما تنتقد المرجعية التي دعت الناس لانتخابهم ثم تخلت عن مسؤولياتها في تقويم المسيرة وردع المسيء وإنصاف المظلوم.

إن الذين يدّعون الانتساب إلى فئة شريفة ولا يلتزمون بتعاليمها هم اشد خطراً عليها من أعدائها الخارجيين لأنهم

ص: 34

ينخرون بناءها من داخلها فلابد من فضحهم والبراءة منهم لدفع خطرهم.

مسؤولية المرجعية عن منع الانتهازيين من التسلق باسمها

مسؤولية المرجعية عن منع الانتهازيين من التسلق باسمها(1)

لا توجد في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) مرجعيات دينية وأخرى سياسية ومحاولة الفصل بينهما يعد مصادرة للدور المهم الذي تؤديه المرجعية في حياة الأمة امتداداً لدور المعصومين (سلام الله عليهم)، فالمرجعية واحدة وتقوم بكِلا الدورين عبر التاريخ بحسب ما تقتضيه الظروف الموضوعية.

إن تدخل المرجعية الدينية في العملية السياسية هو من باب اهتمامها بأمور الناس ورعاية شؤونهم وجلب المصلحة لهم ورفع المظلومية عنهم ومعالجة الفساد والانحراف فهذا جزء من وظيفتها فقد أصبح اليوم كل شيء مرتبطاً بالسياسة كالخدمات والأمن وقوت الشعب وغيرها، نعم هي لا تتدخل في تفاصيل شؤون الدولة وعمل مؤسساتها، لأنها من وظائف المسؤولين الحكوميين، لكنها لا تجد نفسها معذورة إذا قصرت في مقاومة الظلم والفساد والانحراف

ص: 35


1- صحيفة الصادقين العدد (73) الصادر بتاريخ 25 رجب 1429 المصادف 29 تموز 2008.

بالوسائل المتيسرة ولم تقدّم النصائح والتوجيهات التي تسدّد عمل المتصدين لإدارة البلاد وفيها صلاح العباد والبلاد.

كما ونذكّر المراجع العظام (أدام الله وجودهم الشريف) بمسؤولياتهم في منع استخدام السياسيين الانتهازيين والوصوليين لكيانها الشريف للتسلق إلى مطامعهم، مؤكداَ على وجوب حماية الدين والمرجعية من السياسيين من دون تخلي المرجعية عن دورها في رعاية شؤون الأمة وتحري المصلحة لها.

فحماية الدين وعلمائه من انحراف السياسيين شيء وفصل الدين عن السياسة الإسلامية النقية شيء آخر.

إن المرحلة القادمة تختزن الكثير من التحديات المتنوعة التي ستنزل بقوة إلى الشارع، فماذا اعددنا لمواجهة هذه التحديات ونحن بهذا الحال البائس من التقاطع والخصام؟

ص: 36

الشهادة المتبادلة بين المرجعية والأمة

الشهادة المتبادلة بين المرجعية والأمة (1)

القيمومة على المسيرة:

من مسؤوليات المرجعية ووظائفها الشهادة على الأمة لأنها امتداد للإمامة التي هي وارثة الرسالة والنبوة وقد وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن الكريم بأنه (شاهد) بكل ما تعني الشهادة من هداية إلى الحق وإصلاح للخطأ والفساد وتقويم للاعوجاج وتشخيص للخلل وغيرها، ولكن المرجعية باعتبارها غير معصومة فهي لا ترث كل وظائف الإمامة وامتيازاتها فشهادة القيادة المعصومة لا تقابلها شهادة من الأمة عليها بينما الأمة شاهدة على المرجعية بمعنى أنها تراقب حركة المرجعية وتتأكد على الدوام من قيامها بوظائفها، لأن المرجع لم يعيَّن بالاسم وإنما بالشروط والأوصاف فمن انطبقت عليه رجعت إليه الأمة ولو تجرد عنها تخلّت عنه.

خلو وظائف المرجع في رسائل المرجعيات التقليدية:

ومن المفارقة أن الرسائل العملية للمرجعيات التقليدية تتضمن آلاف المسائل التي تعلّم أتباعها تكاليفهم ولكنها لم

ص: 37


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد الهندية في محافظة كربلاء يوم 2/ ذو القعدة/1428 المصادف 2007/11/13 و من لقاء سماحته مع وفود من حي العامل ومنطقة المعامل ببغداد وغيرهما يوم 13/ذو القعدة/1428.

تذكر مسؤوليات المرجعية في أول كتاب تبدأ به الرسالة العملية وهو (الاجتهاد والتقليد) وحينئذ كيف سيتسنى للأمة تدقيق قيام المرجعية بوظائفها.

ونحن بفضل الله تبارك وتعالى لم نغفل عن هذه النقطة وسجلناها في (سبل السلام) وكذا المرجعيات الواعية الحركية وضعت هذه المعالم في الرسائل العملية أو في كتبها الأخرى.

كما أننا ذكرنا العشرات من النقاط في (دور الأئمة في الحياة الإسلامية) والتي تمثل حركة المرجعية امتداداً لها وكذا في كتاب (الأسوة الحسنة)، وقد تضمّن كتاب نهج البلاغة جملة منها كقول أمير المؤمنين (ولولا ما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظةِ ظالم ولا سغب مظلوم) والحياة من حولنا مملوءة بالمظالم التي تعرضها وسائل الإعلام بشكل يومي فهل استجابت المرجعية لما أخذ الله تعالى عليها من عدم المقارّة عليها؟

القيادة المخلصة الطيّبة:

ونحن نعيش الذكرى التاسعة لاستشهاد سيدنا الأستاذ الشهيد السيد محمد الصدر (قدس) نتذكر انه كان يركّز على صفات في المرجعية يجدها –بعد تحقق الشروط العامة- هي الفيصل في الاختيار وهي الإخلاص وطيبة القلب حيث ذكرهما في خطبه ولقاءاته وفي مقدمة كتاب

ص: 38

المشتق حينما سأل الله تبارك وتعالى لكاتبه أن يكون من ( المراجع الطيبين والقادة المخلصين) لأن الإخلاص يسدد العمل ويبارك فيه وينميه ويثمره، وطيبة القلب تعني نكران الذات والتجرد عن الأنا والتفاني في خدمة الناس وقضاء حوائجهم وإيصال الحقوق إلى أهلها من غير استئثار أو منع. وكان (قدس سره) يحذّر من دفع الأموال إلى الجهات التي تضيّعها في (فيافي بني سعد) .

والخطاب موجّه إلى الجميع سواء استجابوا له أم لم يستجيبوا ولا تختص بالمقلدين «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا» (الإسراء: 7) كما أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين وولاية أمير المؤمنين فرض على الجميع لكن كم عدد الذين تمسكوا بها ففازوا؟ ولا يُعذر ُ المعرضون.

الصراحة والشفافية في الخط المرجعية الرسالية:

ومن صفات المرجعية الحركية الواعية التي تمثل الامتداد الحقيقي للأئمة (سلام الله عليهم) الصراحة والشفافية في التعامل مع الأمة والعمل على رفع مستوى الوعي والمعرفة والبصيرة لديها بعكس المتقمصين لهذا الموقع الشريف فإنهم يرون استمرار وجودهم بإبقاء الأمة على حالة السذاجة والجهل والتخلف ليستطيعوا تضليلها وخداعها بالهالة المقدسة التي يصطنعونها.

ص: 39

يذكر التاريخ أن أمير المؤمنين حينما كان يأتيه رسول من معاوية كان يأمر الرسول أن يصعد المنبر ويقرأ الرسالة علناً على الناس لأنه كان واضحاً وشفافاً معهم ولم يخف عليهم شيئاً من الحقيقة ولا كان خائفاً من شيء أخفاه على الناس بينما كان معاوية حينما يأتيه الرسول من أمير المؤمنين كان يأخذ الرسالة منه ولا يسمح لأحد أن يطلّع عليها إلا شريكه في المكر والخديعة عمرو بن العاص.

لذا فإن المرجعية الناطقة الصادقة الشاهدة تتحدث إلى الناس وتبيّن لهم ما لها وما عليها وتسمع منهم وتشرح لهم برنامجها ومشروعها «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ» (الانفال:42) من دون تدليس أو خداع أو تضليل لأنها مطمئنة إلى الحق الذي هي عليه.

ص: 40

الفصل الثالث: من مميزات القيادة الإسلامية

اشارة

ص: 41

ص: 42

الفقهاء ونيابة المعصومين (عليهم السلام)

الفقهاء ونيابة المعصومين (عليهم السلام)(1)

لا يمكن إطلاق لقب نائب الإمام على كل مجتهد:

مرّت علينا قبل أيام ذكرى استشهاد الإمام الصادق (عليه السلام) حيث استذكرنا فيها دوره الواسع في حياة الإنسانية جميعاً مما زخرت به الكتب الكثيرة، وبهذه المناسبة أودّ بيان معنى مرتكز في أذهان المتشرعة وتتداوله كتب العلماء والمفكرين وهو أن المجتهد العادل: نائب عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ويستمد شرعيته ووجوب طاعته من هذه النيابة العامة عن المعصومين (سلام الله عليهم).

وهذا المعنى يحتاج إلى توضيح وربما لشيء من التصحيح إذ لا يمكن إطلاق لقب نائب الإمام على كل مجتهد عادل حتى لو كان مرجعاً تتوفر فيه الشروط الأخرى المذكورة في الرسالة العملية، ما لم ينهض بأعباء ومسؤوليات الإمام الواسعة بحسب استعداداته وقابلياته الناشئة من الفوارق الذاتية بين المعصوم وغيره؛ لأن ذلك مقتضى معنى النيابة، وهذا واضح في سائر المواقع كالوظائف السياسية والإدارية فإن النائب يقوم بواجبات

ص: 43


1- الخطبة الأولى لصلوات الجمعة الموحدة في مدن العراق يوم 29 شوال 1431، المصادف 2010/10/10 في الذكرى الثانية عشرة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره).

المنوب عنه في غيابه، أما إذا كان يتمتع بالامتيازات أكثر مما يقوم به من الواجبات فهذا مصداق للمطففين الذين وعدهم الله عز شأنه بالويل.

حمّى الألقاب الرنانة:

وقد بالغ البعض فأطلق لفظ (الإمام) على مرجع تقليده في ظل حمّى الألقاب الرنانة والتعصب لهذا المرجع أو ذاك من دون استحقاق لتلك الألقاب ويفتقر إطلاقها إلى المصداقية بحيث يبدو نشازاً.

أتذكر أن أحد الأساتذة الأكاديميين في الجامعات ألّف كراساً بعد انطلاق صلاة الجمعة المباركة على يد السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) عنوانه: (الإمام والرئيس) يتحدث فيه عن مؤهلات القيادة للسيد الشهيد (قدس سره) وملامح مشروعه، وعرضه بواسطة أحد الفضلاء عليه (قدس سره) لتقييمه، وبمجرد وقوع نظره الشريف على لفظ )الإمام) في العنوان رفضه واعتبر ذلك من مختصات المعصوم (سلام الله عليه) مهما قيل فيه من مبررات.

إن الإمامة مرتبة أعلى من النبوة، وقد دلّت عليه الآية الشريفة: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً» (البقرة: 124) وقد كان ذلك بعد نبوته وبعد أن اتخذه الرحمن خليلاً، وهذا التقدم في الرتبة واضح من معنييهما فإن النبوة هي تحمّل العلم بالنبأ والمعرفة بالله تبارك وتعالى والتوحيد الخالص وممارسة تكليفه في إيصال ذلك إلى الناس على نطاق محدود كقومه أو مدينته، أما

ص: 44

الرسالة والإمامة فهي تعني الانطلاق بعد ذلك إلى المخلوقين عامة لهدايتهم وعدم الاكتفاء بإراءة الطريق لهم على نطاق محدود وإنما الأخذ بأيدي الناس كل الناس والسير بهم في طريق الكمال لكي يبلغوه بحسب استحقاقهم.

المرجع نائب عن الإمام (عليه السلام) لا وكيلاً عنه:

فالمرجع الذي لا يتحرك بالمشروع الإلهي ولا ينزل إلى أرض الواقع ليقنع الناس به ويأخذ بأيديهم في طريق الهداية والصلاح والتكامل لا يصلح أن يكون نائباً للمعصوم حتى لو طبع رسالة عملية تاركاً الخيار للمكلفين إن شاءوا أخذوا بها أو لم يأخذوا وينتظر من يراجعه ولا يتحرك هو إليه بشكل من الأشكال. لأن غاية ما تؤديه هذه الأمور إراءة الطريق والعمل على نطاق محدود وهي وظيفة الأنبياء وطوبى لمن وصلها، لكن الإمام هو من لا يقتصر دوره على ذلك وإنما يأخذ بأيدي الناس ويوصلهم إلى الهدف كمن لا يكتفي بدلالة التائه الذي لا يعرف الطريق الذي يوصله إلى ضالته، وإنما يصطحب هذا التائه ويوصله إلى هدفه، وهذه هي وظيفة أصحاب الرسالات وهم الرسل والأئمة (عليهم السلام)، فنائب الإمام يرث منهم هذه المسؤوليات الواسعة.

نعم يجوز - إذا اجتمعت فيه الشروط المذكورة في الرسالة العملية- أن يتصدى لبعض مسؤوليات نواب الإمام (عليه السلام) كقبض الحقوق الشرعية وصرفها في مواردها والإفتاء إن كانت له الأهلية لذلك، والقضاء بين

ص: 45

الناس، ويكون وكيلاً عن الإمام في القيام بهذه الوظائف، والوكالة له ليست كالنيابة لأنها تكون محدودة بمساحة معينة، كمن يوكّل شخصاً في شراء بضاعة أو تعقيب معاملة أو قبض مال وهذا لا يعني أنه نائبه في كل أموره، فكثير من المراجع والعلماء المجتهدين هم وكلاء الإمام وليسوا نوابه.

المرجع له مهام الرسالة لا مهام النبوة فقط:

ويتضح هذا الفرق عند التأمل في حديثين وردا في فضل العلماء، أحدهما قول الإمام (عليه السلام): (العلماء ورثة الأنبياء)(1)

وثانيهما (الفقهاء أمناء الرسل)(2) بضميمة ما رواه أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه: (الفقهاء قادة)(3)، فالعلماء بما تحملوا من علوم هم ورثة الأنبياء، أما إذا تحركوا بهذا العلم في واقع حياة الناس لإقناعهم بالرسالة الإلهية استحقوا أن يكونوا أمناء للرسل حملة الشرائع السماوية وامتداداً لدورهم الرسالي، فالفرق بين العالم والفقيه الذي يستحق قيادة الأمة وولاية أمورها كالفرق بين الأنبياء والرسل الذي هو معلوم، واستحقوا بذلك أن يكونوا قادة للأمة ونواباً لأصحاب الرسالات المعصومين (سلام الله

ص: 46


1- أصول الكافي، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم والمتعلم، ح1.
2- بحار الأنوار: 2/36 باب 9، ح38، ومستدرك الوسائل، ج17، ح21443.
3- بحار الأنوار: 1/201.

عليهم).

الدليل على أن نيابة المعصوم ليست لكل مجتهد:

وهذا الفرق بين نيابة المعصوم (عليه السلام) والوكالة عنه بالرغم من أنه على مقتضى القاعدة التي قربناها، وأنه لا دليل عندهم على أن كل عالم مجتهد عادل تتوفر فيه شروط التقليد هو نائب عن الإمام، وكل الذي ورد هو تخويله ببعض الأمور كالإفتاء والقضاء بين الناس –كما في مقبولة عمر بن حنظلة-. ولا تصلح النيابة إلا لمن تحمل وظائف الإمام (عليه السلام) في حياة الأمة، أقول بالرغم من ذلك كله فقد دلت عليه بدقة رواية معتبرة.

فقد روى المحقق الثقة الشيخ عباس القمي في كتابه المعروف (مفاتيح الجنان)(1) عن الميرزا حسين النوري (قدس سره) صاحب مستدرك الوسائل حادثة لقاء الحاج علي البغدادي (الذي وصفه بالسعيد الصالح الصفي المتقي) وأوردها النوري في كتابيه (جنة المأوى) و (النجم الثاقب)، ولها فوائد جليلة، ومحل الشاهد منها أن الحاج البغدادي لما أخبر صاحبه في الطريق –وهو لا يعرفه أنه الإمام المهدي (عليه السلام)- أنه أعطى جزءاً من حقوقه الشرعية إلى الشيخ الأنصاري (قدس سره) وجزءاً إلى الشيخ محمد حسين الكاظمي –صاحب هداية الأنام- وادّخر جزءاً لإعطائه إلى الشيخ محمد حسن آل ياسين الكاظمي، فقال له

ص: 47


1- مفاتيح الجنان، فضل زيارة الكاظمين (عليهما السلام).

(عليه السلام): (نعم قد أبلغت شطراً من حقنا إلى وكلائنا في النجف الأشرف).

النيابة والوكالة: الفروق الواقعية في المهام

إن هذا التفريق الذي نذكره بين العنوانين ليس مسألة اختلاف في الألفاظ أو العناوين بل له واقع وحقيقة من خلال المواقع والوظائف التي له الحق في التصدي لها، إذ ليس لغير من ينطبق عليه عنوان نائب المعصوم (عليه السلام) ولاية أمر المسلمين أو قيادة الأمة أو اتخاذ القرارات العامة ما لم يتحمل مسؤولية العنوان ويتحرك به في تمام ما يقتضيه من وظائف ولا يكفي فيه مجرد الادعاء.

ونحن نلقي عليكم هذه الأفكار لأننا نعتقد أن مستوى الثقافة والوعي الإسلامي العام قد تقدم كثيراً بفضل الله تبارك وتعالى ونحن تحدثنا على هذا المستوى، إلا أننا لم نتعمق في مستوى الاستدلال الفقهي لأنه موكول إلى محله.

نموذج في الفقيه النائب لا الفقيه الوكيل:

لقد ضرب لنا سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) مثلاً لتنوع الأدوار التي يؤديها نائب الإمام في حياة الأمة مضافاً إلى الإفتاء وكتابة الرسالة العملية ورعاية شؤون الحوزات العلمية من تهيئة الأمة وإعدادها لتحمل القضية المصيرية وهي التمهيد لدولة الإمام المهدي (عليه

ص: 48

السلام) المباركة، ونشر الوعي الإسلامي والمعارف القرآنية وتهذيب الأخلاق وتغيير الواقع الفاسد ومواجهة السلطات الظالمة وتحقيق التكامل للأمة وتفجير طاقاتها، وقضاء حوائج الناس، واحتضان شرائحهم كافة ومخاطبتهم بما يناسبهم. وتشهد له بذلك أعماله المباركة وموسوعاته الفكرية الضخمة ومحاضراته القيمة ومواقفه المشهودة، وقلّما يجود الزمن بمثل من يقدّم هذا العطاء الثرّ، فعند الله نحتسبه، وحشره الله تعالى مع أجداده الطاهرين وحسُن أولئك رفيقاً.

ص: 49

معايير التقليد في المدرسة الصدرية

معايير التقليد في المدرسة الصدرية(1)

المرجعية ليست علمية بل هي قيادة أيضاً:

تقليد المجتهد الجامع للشرائط منهج وسلوك عملي سنه الأئمة المعصومون (عليه السلام) لشيعتهم ليضبطوا حركتهم وفق الشريعة المقدسة في زمن غيبة الإمام الحجة (أرواحنا له الفداء) ولينالوا رضا الله تبارك وتعالى. وهو لا يخرج عن الإطار الذي سار عليه العقلاء في حياتهم بأن يرجعوا في كل اختصاص إلى الخبير فيه والفقه واحد من تلك الاختصاصات.

وفد ذكر الفقهاء (قدس الله أرواحهم) في رسائلهم العملية خصائص وصفات مرجع التقليد كالاجتهاد والعدالة والأعلمية ونحوها، لكن هذه الشروط تمثل الحد الأدنى مما يجب توفره لتحقيق براءة ذمم المكلفين ولذا فإن التواقين للكمال ولنشر راية الإسلام وإعلاء كلمة الله تبارك وإقامة دولة الحق والعدل في الأرض وإصلاح ما فسد من أمور المسلمين وإنصاف مظلوميهم ومحتاجيهم، أقول إن مثل هؤلاء لا يكتفون بتوفر تلك الخصائص لأنها وحدها لا تكفي

ص: 50


1- تقرير اللقاء الذي أجرته قناة (العراقية) الفضائية مع سماحة الشيخ مساء الخميس 2 ذ.ق 1430 المصادف 2009/10/22 عشية الذكرى الحادية عشرة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) وقد عُمّم ليكون خطبة صلاة الجمعة الموحدة التي صادفت 3 ذ.ق 1430.

لتحقيق تلك الأهداف السامية، ولان المرجعية الدينية في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ليست مقاما علميا فقط يكون مسؤولاً عن بيان الحكم الشرعي وطبع الرسالة العملية ونشرها. وإنما هي قيادة وارثة للائمة المعصومين (عليهم السلام) ووظيفة الإمامة لا تكتفي بإراءة طريق الحق والهدى للناس وإنما تأخذ بأيديهم وتوصلهم إلى الكمال، وفرق شاسع بين من يدل على الطريق وبين من يأخذ باليد ويوصل السائر إلى الغاية.

نزوع التقليد الى الكمال في المرجع:

وانطلاقا من هذا النزوع نحو الكمال فإن من المؤمنين من يقلد المجتهد لأنه عارف بالطرق الموصلة إلى الله تبارك وطبيب لأمراض النفس ومعالج لقساوة القلوب، قد سحق أنانية نفسه وهواه واعرض عن الدنيا بكل زخارفها ومظاهرها.

ومنهم من يقلد المجتهد لأنه ثائر مصلح رافض للظلم والفساد، ساع إلى تغييرهما، جاد في إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل ما توفرت لديه من وسائل لا تأخذه في الله لومة لائم.

ومنهم من يقلد المجتهد لأنه رسالي يتحرك بمشروع الإسلام (دوّار بطبه) على وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) ولا يقر له قرارا حتى يقيم دولة الحق والعدل أو يختار الله تبارك وتعالى له دار البقاء.

ص: 51

ومنهم من يقلد المجتهد لأنه مفكر مجاهد بقلمه وبيانه يدافع عن العقيدة والشريعة ويرد شبهات المضلّلين ويقوي قلوب المؤمنين من أيتام آل محمد (صلى الله عليه واله وسلم) كما وصفهم الحديث الشريف (ليهلك من هلك عن بينه ويحيى من حيي عن بينه).

من وظائف المرجعية:

وهذه التوجهات ليست عاطفية أو انفعالية تابعة للأهواء بل هي تستند إلى أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) الكثيرة. والتي لم يتم إبرازها بوضوح في المدرسة التقليدية لسبب أو لآخر.

فمما ورد في وظيفة الفقيه الأخلاقية قول رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم): ألا أخبركم بالفقيه حقا؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم من عذاب الله ولم يؤيسهم من روح الله...)(1) إلى آخر الحديث.

وفي الوظيفة الأخرى ورد قول الإمام الحسين (عليه السلام) وهو متوجه إلى كربلاء الشهادة عندما اعترضته طلائع الجيش الأموي في الطريق فخطب فيهم وقال: أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً

ص: 52


1- كتاب ثلاثة يشكون :73.

على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله وأنا أحق من غيري.

التأسيس لمعايير التقليد عند الشهيدين الصدرين:

وإذا كانت واحدة من هذه الصفات تقتضي التفاف الناس حول المرجع القائد فإننا وجدناها مجتمعه في أستاذنا الشهيد السيد محمد الصدر (قدس الله روحه الزكية)، وليس عسيراً على الباحث المنصف أن يجد الشواهد الكثيرة على ذلك في أقواله وسيرته المباركة.

وإذا كان الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس الله روحه الزكية) هو من أسس لهذه المعايير في عصرنا الحاضر وأرسى قواعد المدرسة الصدرية المباركة فإن الشهيد الصدر الثاني(قدس سره) هو من تقدم بالمسيرة إلى الأمام حينما لم يكتف بالعموميات والأطر العامة، وإنما وضع النقاط على الحروف وكشف الغبار عن هذه الحقائق وميز هذه المدرسة وأعطاها اسم (الحوزة الناطقة) وأرجع أصولها إلى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فوصفهم جميعا بأنهم من الحوزة الناطقة، ثم لم يكتف بذلك حتى لبس الكفن ونزل إلى الميدان ليخوض المواجهة مع الباطل وليقاوم الظلم والفساد والانحراف.

ص: 53

طيبة القلب وقوة القلب: قوام القلب السليم:

لقد كان (قدس سره) يؤكد على أتباعه للبحث عن صفتين في المرجع القائد ويدعو إلى تحقيقهما بدرجة من الدرجات ويعتبرهما خلاصة وصايا الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) والعلماء الصالحين وهما طيبة القلب وقوة القلب. وإنهما لتستحقان هذا الاهتمام والتركيز لأنهما مبعث حصول خصال الخير والكمال ومنهما تترشح.

فطيبة القلب تبعث على الرحمة وحب الآخرين والتسامي عن الحقد والغل والأنانية والحرص وغيرها وتدعوا إلى بذل الوسع في قضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم، ووصاياه (قدس سره) في تحصيل هذه الصفة كثيرة من خلال خطاب الجمعة ولقاءاته الأخرى وورد في رسالته الكريمة الموجهّة إلي قبل استشهاده بعام ونصف تقريبا وجاء فيها ((أنت تعلم إنني كنت ولا زلت أعتبرك أفضل طلابي وأطيبهم قلبا وأكثرهم إنصافا للحق بحيث لو دار الأمر في يوم من الأيام المستقبلية بين عدة مرشحين للمرجعية ما عَدوتك لكي تبقى المرجعية في أيدي منصفين وقاضين لحوائج الآخرين لا بأيدي أناس قساة طالبين للدنيا))(1).

وقوة القلب مبعث الشجاعة والإقدام والحزم وقوة الإرادة والغضب لله تبارك وتعالى ورفض الظلم والباطل والانحراف ونحوها من الصفات، وكان (قدس سره) يصرح

ص: 54


1- طبعت الصفحة الأولى من الرسالة في بداية كتاب قناديل العارفين.

بان لدي من قوة القلب ما يكفي لاتخاذ القرارات التي يعجز الآخرون عن اتخاذها ولكشف الحقائق التي يداهن الآخرون في إخفائها. وفي إحدى خطبه المباركة في مسجد الكوفة قال ما مضمونه أن الاستقامة على جادة الشريعة صعبة للغاية لكنها في نفس الوقت سهلة للغاية لأن حقيقتها قوة الإرادة والعزم الصادق.

وهاتان الملكتان (طيبة القلب وقوة القلب) هما قوام القلب السليم الذي ينجو من أتى الله به يوم القيامة «إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(الشعراء: 89).

بيان معالم المدرسة الصدرية:

إن السيد الشهيد الصدر (قدس سره) حينما بيّن هذه الحقائق كان ينطلق في مسؤوليته في بيان معالم المدرسة الصدرية التي وضع أسسها الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وشاد أركانها الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) والتي تجسّد مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في العصر الحاضر، وقد قدّم (قدس سره) لنا بذلك فهما للحديث المشهور (إن الإمام المهدي عليه السلام سيأتي بدين جديد وقرآن جديد) مع انه عليه السلام سوف لا يأتي بغير دين وقرآن جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنه عليه السلام سيزيل الغبار المتراكم عن حقائق هذا الدين المودعة في القرآن الكريم وآثار المعصومين وسيقدم الفهم الصحيح لها بعد أن يعود الإسلام غريبا والقرآن مهجورا في أوساط عدد هائل من المتسمّين باسمه فيتراءى لهم وكأنه

ص: 55

عليه السلام جاء بدين وقرآن جديدين.

فالسيد الشهيد الصدر (قدس سره) لم يبتدع هذه المعايير ولم يضفها من عنده وإنما أعاد الحياة إليها ولفت الأنظار إليها بعد طول الهجران.

المتلفعين بعباءة القداسة المصطنعة:

وانطلاقا من مسؤولياته هذه فقد كان (قدس سره) يحذر من الرجوع إلى الأنانيين وطلاب الدنيا المتلفعين بعباءة القداسة المصطنعة ليحتجبوا بها عن عامة الناس، لأنهم لا ينظرون إلى هؤلاء الناس إلا كهمج رعاع يقبّلون أيديهم ويدفعون إليهم أموالهم التي تضيع في فيافي بني سعد كما قال (قدس سره) في بعض حواراته المسجلة. وليس لهم هم إلا مداراة مصالح الخاصة من ذوي النفوذ والمال والجاه الذين يسميهم القرآن الكريم (الملأ) والذين كانوا يقفون دوما ضد الحركات الرسالية الإصلاحية وعلى رأسها رسالة الإسلام المباركة ولا يريدون للأمة أن تكون واعية بصيرة بالأمور لان ذلك يعني رفضها للتخلف والجهل والتكبر والاستئثار والامتيازات غير المنصفة للمستبدين.

لا مداهنة في فضح الملأ:

فعمل (قدس سره) بشكل لا يعرف المداهنة والمجاملة على فضح هذه العلاقة غير الشريفة التي يحصل من خلالها الملأ على مصالحهم وإدامة نفوذهم وشرعية استئثارهم مقابل صنع الهالة المقدسة الزائفة لأصنامهم

ص: 56

البشرية مخالفين بذلك وصايا أئمتنا سلام الله عليهم في بذل الوسع لخدمة عامة الناس وقضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم، وإن سخط المترفون والمستأثرون ومنها ما ورد في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر (وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فإن سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ. وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ ، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ. وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلأَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ

لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)(1) ومن ضمن تحذيراته قوله(قدس سره): (لقد حررتكم من مخططات ألف عام فلا يستعبدكم احد بعدي).

الوعي للزمان والتأسيس للحوزة الناطقة:

لقد وعى (قدس سره) ببصيرته النافذة أن هذا الزمان هو كزمان جده الإمام الصادق (عليه السلام) الذي تشكلت فيه المدارس والمذاهب والملل والنحل فانبرى الإمام (عليه السلام) لبيان معالم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وصفات شيعتهم لئلا تختلط الأوراق ويضيع أهل الحق ولا

ص: 57


1- نهج البلاغة / قسم الرسائل: رقم 53.

تميّز هويتهم وخصائصهم ويدعّي الانتساب إليها من هي بريئة منه. وبسبب هذا الجهد المبارك منه عليه السلام سمي المذهب باسمه.

وهكذا سميت الحوزة الناطقة في عصرنا الحاضر باسم الصدرين الشهيدين (قدس الله سريهما) فقيل المدرسة الصدرية لما قدمّاه من جهد وجهاد توجّاه بالشهادة من اجل إرساء دعائم هذه المدرسة المباركة.

إن من حق الذين وعوا مبادئ السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وعرفوه حق معرفته واتبعوه عن بصيرة والتزموا بوصاياه في حياته وبعد استشهاده (قدس سره) أن يفرحوا بفضل الله تبارك وتعالى وبرحمته «قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ» (يونس:58) وأن يرفعوا رؤوسهم ويطاولوا بها السحاب لأنهم نهلوا من المعين العذب والمنبع الصافي فليشكروا الله تبارك وتعالى وليثبتوا على ما هداهم إليه.

ص: 58

الشهيدان الصدران واستشراف المستقبل

الشهيدان الصدران واستشراف المستقبل(1)

من مميزات القائد استشراف المستقبل:

يتميز به القائد عن غيره استشراف المستقبل ومعرفة متطلباته فيستعد له وينجز الأعمال المناسبة له إضافة إلى ما يقتضيه الواقع الحاضر، ولأن هذا المستقبل مجهول عند غيره فإن من حوله سيعترض ويشكك ويتمرد

ص: 59


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع حشد من المواكب والوفود القادمة لزيارته وتعزيته يوم السبت 4 ذ.ق 1430 المصادف 2009/10/24.

وكان عليه الإذعان والطاعة لقائده مادام قد وثق به واعتقد بجدارته.

خذ لذلك مثلاً الإمام الحسين (عليه السلام) فإنه كُشف له وعَلِم النتائج الباهرة التي ستتحقق بناءاً على حركته المباركة المضمّخة بالدماء الزكية فأقدم (عليه السلام) مسروراً على الشهادة، ولم يكتف بذلك بل كشف عن بصائر أصحابه بعد أن امتحن إخلاصهم وثباتهم فأراهم منازلهم في الجنة التي تعني على بعض الوجوه الآثار المباركة المترتبة على نصرتهم وثباتهم وتضحيتهم يوم عاشوراء والمستمرة إلى يوم القيامة وهي حسنات تضاف إلى رصيدهم والجنة هي تلك الأعمال الصالحة التي يوفق إليها المؤمن.

ولأن هذه الصورة غير واضحة لغير الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه فقد اعترض عليه كثيرون ومنهم بعض أولاد عمومته ورأوا أن حركته لا جدوى منها إذ ليس من المعقول أن يغيّر نظاماً طاغوتياً تمتد سلطته على بلاد مترامية الأطراف بعشرات من الأصحاب ومثلهم من النساء والأطفال، واعتراضهم هذا ناشئ من اقتصار نظرهم على واقعهم الحاضر من دون استشراف المستقبل ومتطلباته.

القائد هو من يصنع المستقبل بلطف الله تعالى:

وإذا أردنا أن نتقدم خطوة إلى الإمام في هذا التفكير فنقول أن القائد هو الذي يصنع المستقبل ويحدّد مسار الأحداث ومآل الأمور بلطف الله تبارك وتعالى من خلال

ص: 60

المشروع والبرنامج الذي يسير عليه، وهنا أتذكر أن السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) سألني في اليومين الأولين من الانتفاضة الشعبانية عام 1991 عن موقف المرجعية المعروفة يومئذٍ من الأحداث فقلت يسوده الترقب وانتظار ما ستؤول إليه الأحداث، قال (قدس سره): حبيبي ومن الذي يصنع الأحداث؟!

البصيرة الثاقبة للشهيدين الصدرين:

من هذه المقدمة أريد أن أركّز على نقطة وردت في الخطاب الذي وجّهته إلى صلوات الجمعة الموحدة في أنحاء العراق أمس في ذكرى استشهاد السيد الصدر (قدس سره) وفحواها أن الشهيدين الصدرين (قدس الله روحيهما) أدركا ببصيرتهما الثاقبة أن هذا العصر وما يليه هو كزمان الإمام الصادق (عليه السلام) من حيث تشكّل المذاهب والمدارس والأيديولوجيات التي ستتصارع لاجتذاب البشرية وإقناعها بها والتأثير عليها وتوجيهها، والإسلام المحمدي الأصيل الذي نقله لنا أهل البيت (سلام الله عليهم) في وسط هذا التحدي بل هو المستهدف الأول، ولم يعُد كافياً أن نحيلهم إلى الرسالة العملية إذا سألونا عن مختلف قضايا الاقتصاد والاجتماع والسياسة والحكم والعلاقات الإنسانية والأخلاق وغيرها وسينفضّ الناس عن هذا الدين الحق إذا شعروا بالعجز عن إجابة الأسئلة وحل الإشكالات، فشعرا بالحاجة إلى بيان المعالم

التفصيلية لهذا الدين ومواقفه من كل شؤون الحياة حيث عنون الشهيد الصدر الأول (قدس

ص: 61

سره) عنوان أحد كتبه (الإسلام يقود الحياة).

عندما نستوحي من سيرة المعصومين (عليهم السلام):

كما أن مذهب التشيع لأمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البيت (سلام الله عليهم) كان معروفاً منذ عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت علامته الولاء لعلي وأهل بيت النبي (صلوات الله عليهم أجمعين) والأخذ عنهم لكن هذا البيان والطرح لم يكن كافياً في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) حيث بدأت الحضارات والأيديولوجيات تتلاقح وتتصارع فتصدى الإمام (عليه السلام) إلى بيان حكم كل حالة والموقف من كل قضية وعلى رأسها التوحيد والإمامة والأخلاق والعلاقات الاجتماعية وأحكام الحلال والحرام فكانت عصا موسى التي تلقف ما يأفكون.

وهكذا رأى الشهيدان الصدران (قدس الله روحيهما) أن المدارس تتصارع وقد ألقى أتباع كل مدرسة عصاهم التي يخيّل إليهم من سحرهم أنها تسعى ليسحروا الناس ويجتذبوهم فلا بد لقادة الإسلام أن يلقوا بعصاهم التي تلقف ذلك السحر وتفضحه وتبين معالم الحق وأهله.

وهذا الاستشراف هو الذي دفع السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) إلى أن يبيّن مجموعة من الحقائق ويضع خصائص منهج الحوزة الناطقة مما جهله الآخرون فنصبوا له العداوة والبغضاء وافتروا عليه وخذلوه.

وهو (قدس سره) حينما قال: (لقد حرّرتكم من مخططات ألف عام) لا يريد بذلك الإساءة إلى السلف

ص: 62

الصالح الذين بذلوا جهوداً جبارة في حفظ علوم أهل البيت (سلام الله عليهم) بمقدار ما سمحت به الظروف، ولكنه (قدس سره) أراد أنه وضع للأمة منهجاً جديداً مواكباً لتحديات العصر فيه إضافة للمنهج السابق الذي لا يغني الاقتصار عليه لتحقيق هذه المواكبة فلا يرجعوا إليه.

عوامل نجاح الحركة الإصلاحية المباركة للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)

عوامل نجاح الحركة الإصلاحية المباركة للسيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد

لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

لقد كان سيدنا الأستاذ الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) قائداً

ص: 63


1- كلمة ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في الحفل التأبيني الذي أقامه منتسبو مستشفى الصدر التعليمي في النجف الأشرف يوم الأربعاء 7 ذ ق 1424 المصادف 2003/12/31.

ناجحاً على أكثر من صعيد فقد استطاع بفضل الله تبارك وتعالى إيصال صوت الهداية والإيمان إلى أقصى مكان، وقلل من الانحراف والجريمة بدرجة كبيرة خصوصاً في مناطق وسط وجنوب العراق التي أقيمت فيها صلاة الجمعة، وأعاد للحركة الإسلامية نشاطها وحيويتها بعد أن جمدت روحها في الثمانينيات بعد استشهاد السيد الصدر الأول، وهز أركان النظام الطاغوتي وأسياده، وأدخل عليهم الرعب، وشد الجماهير إليه، ودخل قلوبها إلى حد العشق والفناء.

عوامل نجاح الشهيد الصدر الثاني:

فما السر في ذلك وما هي العوامل التي ساهمت في تحقيق هذا النجاح؟

عند تحليل شخصية السيد الصدر (قدس سره) وملاحظة الظروف المحيطة به نستطيع تحصيل عدة عوامل استعرضها باختصار لضيق الوقت، وهي في الحقيقة أسس نجاح كل قائد يريد أن يتصدى لإصلاح الأمة.

تهذيب النفس والسيطرة عليها:

1. تهذيبه لنفسه وسيطرته على غرائزها، وانتصاره على ذاته بحيث أصبح هو يملك زمام نفسه، وليست هي التي تملكه وكان معروفاً بنكران الذات، وطالما كان يكرر أنه يدوس ذاته بقدميه، ونجح بدرجة كبيرة في الجهاد الأكبر

ص: 64

مما سهل عليه النجاح في ساحة العمل الاجتماعي وهو الجهاد الأصغر، ومن كلماته (قدس سره): إن النجاح في الجهاد الأصغر لا قيمة له إذا لم يقترن بالانتصار في الجهاد الأكبر، وهو معنى قرآني ذكرته كثيراً في كلماتي، وفي الحقيقة فإن أي شخص يراد تأهيله لتحمل المسؤولية لا بد له من المرور بهذه المرحلة حتى يصل إلى درجة الإمساك بزمام نفسه، وقد خاض (قدس سره) هذه التجربة العملية على يد أكثر من شخص، وذكر لي في رسائله التي قاربت المائتي صفحة(1) نكتاً من هذه التربية.

وكان يحب الموعظة لأن فيها إحياءً للقلوب كما أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) ولده الحسن (عليه السلام): (يا بني أحيِ قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة)(2)

فكان يحث على مطالعة كتب الموعظة كإرشاد القلوب ومجموعة ورام وعموم جوامع الأحاديث الشريفة كتحف العقول والخصال، ولقد كانت هذه سيرته منذ نهاية السبعينيات، وحدثني انه كان ملازما لأستاذه وابن عمه الشهيد الصدر الأول الذي كان يحترم هذا المسلك ويدافع عنه، بل التزمه في أيامه الأخيرة كما هو واضح من محاضرته الأخيرة عن حب الدنيا ضمن محاضرات السنن التأريخية في القرآن الكريم، وكان (قدس سره) يود أن يأخذ من كل شيء عظة وعبرة تأسياً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمثلاً: حيث

ص: 65


1- نشرت في كتاب (قناديل العارفين).
2- نهج البلاغة: الكتاب: 31.

يدخل إلى الحمام ويرى الماء الحار يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (نعم البيت الحمام يذهب الدرن ويذكر النار)(1)، وقد فصلنا شيئاً من الكلام في محاضرات (الأسوة الحسنة).

الارتباط بالله تعالى:

2.ارتباطه بالله تعالى وإدامه ذكره وجعله الهدف الوحيد الذي يسعى من أجله، وقد انتقد في أحدى خطب الجمعة ما يفعله أئمتها من الاكتفاء بسطر واحد أو أقل من الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى ثم الخوض في موضوع الخطبة، أما هو (قدس سره) فكان ينقل مقطعاً من دعاء أو آيات قرآنية أو خطبة لأحد الأئمة (عليهم السلام) تعمق الصلة بالله تعالى وتعرف بصفاته الحسنى، وتبين حاجتنا وفقرنا إليه تبارك وتعالى، وكان مراقباً لله سبحانه، ومراعياً له في السر والعلن.

ومما أدبني به ما رواه عن أحد العلماء: أنه دخل عليه شخص فرآه بزيه الكامل وهو جالس وحده في البيت فسأله عن ذلك، قال: لأني بحضرة الله تبارك وتعالى، وكان آخر لا يمدد رجليه حتى لو كان وحده لنفس السبب، ومما حكاه (قدس سره) لي عن سيرته: أنه مرة صلى ركعتين استغفاراً لأنه قال لشخص التقى به وكان غائباً عنه مدة: مشتاقين، وهي كلمة متعارفة، ويمكن أن تبرر إلا أنه خشي أن يكون

ص: 66


1- شعب الإيمان للبيهقي: ج6 ص160.

كاذباً بهذه الدعوى.

وهذا – أعني العمل لله تبارك وتعالى – إحدى مميزات حركته عن قادة وعلماء آخرين عاشوا للإسلام، وأشربت قلوبهم حب الإسلام وهو عمل عظيم إلا أنه ليس كمن يعيش لله تبارك وتعالى، وبينهما فرق أوضحته في محاضرة سابقة، وهذا التعلق بالله تبارك وتعالى والإخلاص له ومحبته تجعل الشخص يفيض نوراً على الآخرين، ويلقي الله محبته وهيبته وتأثيره في قلوب الناس، وفي الرواية عن عن علي (عليه السلام) انه قال: (من أراد عزاً بلا عشيرة، وهيبة من غير سلطان، وغنى من غير مال، وطاعة من غير بذل، فليتحول من ذل معصية الله إلى عز طاعته، فإنه يجد ذلك كله)(1)، وفي الحديث القدسي: (ما تقرب إلى عبدي بمثل أداء فرائضي وإنه ليتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت رجله التي يمشي بها ويده التي يبطش بها ولسانه الذي ينطق به وقلبه الذي يعقل به إن سألني أعطيته وإن دعاني أجبته)(2)

فيكون دليلاً للخلق إلى الله تعالى.

معايشته للقرآن الكريم:

3. معايشته مع القرآن وتفاعله مع مضامينه، ففي وقت مبكر من حياته كان له دفتر يسجل فيه ما ينقدح في ذهنه من نفخات أثناء تلاوته للقرآن، ويثبت فيه الآيات التي

ص: 67


1- امالي الطوسي: ص524.
2- كنز العمال: ج1 ص230.

توحي له بخلق قرآني أو موقف إزاء حال معينة أو سلوك عليه أن يطبقه، وفي مرحلة أخرى أخبرني أن له نسخة من المصحف ثبت على هوامش صفحاته القراءات المتعددة للكلمات القرآنية، وقال (قدس سره): إنه كان يستفيد من هذه القراءات معاني لا توحيها الكلمات المرسومة، وأحياناً تحل له معضلة فقهية لا ينسجم حلها مع القراءة الموجودة لكنها تنسجم تماماً مع قراءات أخرى، وختم حياته (قدس سره) وهو يلقي محاضرات (منة المنان في الدفاع عن القرآن)، ويمكن مراجعة كتاب (شكوى القرآن) لتطلع على بركات الحياة في ظل القرآن ودوره في صنع القادة والمصلحين.

دراسة سيرة الأئمة (عليهم السلام) بدقة:

4. دراسة سيرة الأئمة (عليهم السلام) بدقة وعمق وشمولية لمعرفة أدوارهم التي أدوها والمسؤوليات التي قاموا بها، وكيف كانوا يتخذون المواقف المناسبة اتجاه مختلف القضايا، ومن حكمة الله تعالى وعظيم مننه على الأمة جعل أدوارهم تجربة للأمة وظروفهم مختلفة ومدة إمامتهم طويلة (مائتين وخمسين عاماً) لتنضج تجربة الأمة وتحصل على كل ما تريده من سيرتهم المباركة، فعرف (قدس سره) متى ينكمش ومتى يتحرك، وماذا عليه أن يفعل، وكيف يتعامل مع الآخرين أفراداً أو طوائف أو سلطات، فبينما يكتب لي في منتصف الثمانينيات وكنت شاباً متحمساً للعمل الإسلامي فيقول: إننا في ظروف لعلها أشد من ظرف الإمام الحسن (عليه السلام)، وحاجته إلى الصمت والتقية تجده في سنته

ص: 68

الأخيرة يقود تحركاً جماهيرياً مليونياً في وجه نفس السلطات العاتية.

الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم:

5. الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم، لأن العلم من الركائز الأساسية في بناء شخصية القائد المصلح حتى بلغ أسنى درجاته ونال ملكة الاجتهاد. كان يقول إنني اشتغل حوالي ثمان عشرة ساعة في اليوم بالدراسة والتدريس والكتابة والتأليف، وقال مرة (قدس سره): إنه أثناء اشتغاله بتأليف موسوعة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) كان ربما يكتب أربعين صفحة في اليوم الواحد وهو إنجاز ضخم يعرفه من مارس عملية التأليف والكتابة، وحتى حينما يذهب إلى بغداد لكي تزور زوجته أهلها فإنه لا يضيع الوقت بل يقضيه بالكتابة والتأليف، وقد أجمع زملاؤه وأقرانه على جده حيث بدأ بدراسة العلوم الدينية وانتمى إلى كلية الفقه سنة 1957 وهو في الرابعة عشر من العمر بعد امتحان أجراه له عميدها المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر وكان متفوقاً على أقرانه.

عدم الانفصال عن الواقع:

6. عدم انفصاله عن واقعهِ وما يجري فيه ومواكبته له،فتراه مثقفاً بثقافة العصر ويتابع تطوراته العلمية والسياسية والاجتماعية، ففي الثمانينيات نصحني بقراءة مجلة (علوم) العراقية التي كانت تعني بأحدث أخبار العلم

ص: 69

وانجازاته، وكان يهمه منها أكثر باب العلوم الباراسايكولوجية لأنها أولاً تنسجم مع توجهاته النفسية وتعلقه بما وراء المادة، ولأن فيها حسب تعبيره لطمة للمادية الغربية التي تؤمن بالمادة والمحسوسات فقط.

وكان يستمع إلى الإذاعة ويطلع على ما يدور في العالم حتى حصلت عنده رؤية رصينة للأحداث. ومن بحوثه التي كتبها وأهداها لي – وهي محفوظة لدي- بحث بعشرات الصفحات بعنوان (فلسفة الأحداث في العالم المعاصر والدروس والعبر المستفادة منه)(1)، وقد علقت عليه وأضفت إليه مثله فرغب إليَّ في أن أضمهما في كتاب.

وكان مهتماً بأخبار الجمهورية الإسلامية في إيران وخطابات قائدها العظيم السيد الخميني (قدس سره)، ويستمع مباشرة باللغة الفارسية، وقال (قدس سره) في ذلك: لأنه تجري على لسانه نكات عرفانية وأخلاقية لا تعرضها الترجمة التي تهتم بالمقاطع السياسية والمتعلقة بالعمل الاجتماعي.

وبعد تحرير الجمهورية الإسلامية لأراضيها من القوات العراقية في معركة (المحمرة) في آيار 1982 وانتقال العمليات الحربية إلى الأراضي العراقية في تموز 1982 سارت الحرب سنين عجاف رتيبة ثقيلة باهظة التكاليف بشرياً واقتصادياً، فكان من وجهة نظره (قدس سره): أنه لا جدوى من استمرارها لأنه استنزاف لطاقات بلدين شيعيين

ص: 70


1- طبع في كتاب (الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه).

(وهو توجه السيد الخامنئي رئيس الجمهورية آنذاك)، وعارضه الرأي القائل بضرورة استمرارها حتى القضاء على المعتدي ومحاسبته وكان (قدس سره) يتخذ الموقف الأول بينما كنت مع الثاني وأردد ما كان يقوله الساسة الإيرانيون الآخرون كالرفسنجاني والأردبيلي وتبناه السيد الخميني (قدس سره): أن السلم المفروض أسوأ من الحرب المفروضة، فطلب مني أن نفتح حواراً عبر المراسلة طبعاً - لأنه كان تحت الإقامة الجبرية – لمناقشة الرأيين فكتبت بحثاً بعنوان (نظرات في الحرب والثورة) وقد أتلفته حين داهمتنا القوات الصدامية عقب الانتفاضة الشعبانية المباركة.

نزوله الى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس:

7. نزوله إلى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس بما يناسبهم وعدم الابتعاد عنهم فقد كان، إلى حين تصديه للمرجعية يذهب بنفسه إلى السوق ليوفر الحاجات المنزلية، وكان يحب أن يطلع على آلام المجتمع وآماله وهمومه من دون أن يتخذ حاجباً أو (سكرتيراً).

نقل أحدهم: أنه قلد السيد الصدر (قدس سره) بسبب الطماطة، قيل له: وكيف؟

قال: لأني سألت عدداً من المراجع وأنا أبحث عمن أقلده كم هو سعر الطماطة في السوق، فكان جوابهم جميعاً هو الزجر وان هذا ليس من اختصاصنا، إلا السيد الصدر فقد أجاب بالتفاصيل عن سعر الجيدة منها والرديئة فعلمت –

ص: 71

والكلام له – إن هذا هو الرجل الذي يصلح لقيادة الأمة، وسواء صح هذا أو لم يصح لكن المهم أنه يعبر عن آلية للإيمان بالقيادة وصلاحيتها كما نقل عن ابن سينا وهو الفيلسوف العظيم: اللهم إيماناً كإيمان العجائز، أي أن هذه الوسائل الساذجة للإيمان بالحقائق قد تكون اثبت في القلب والنفس من طرق الاستدلال العقلية المتضخمة بالإشكالات والشبهات.

وقد رأينا في صلاة الجمعة كيف يتحدث بلغة المجتمع فيفهمه المجتمع ويشاركهم الحر والبرد ويعيش في أوساطهم بلا تمييز عنهم، ويشمل بخطاباته كل شرائح المجتمع فخاطب الحوزة والعشائر والمسؤولين السياسيين والديانات الأخرى حتى الغجر بحيث أحس الجميع انه منهم فيتأثرون به ولا يشعرون بالغربة والانفصال.

استثمار طبيعة العلاقة مع السلطة:

8. استثماره لطبيعة العلاقة مع السلطة الحاكمة التي شعرت بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة وامتداد الحركة الإسلامية في العراق، بالحاجة إلى الحوار مع المرجعية الشريفة والانفتاح عليها وتخفيف القبضة الحديدية عن بعض ممارساتها الدينية لكي تتجنب حصول ثورة شعبية عارمة قد لا تنجو منها هذه المرة، ولكي تبقي على وجود للقيادة الدينية في النجف لأن انحسارها التام يعني رجوع الشيعة في العراق إلى القيادات الدينية في إيران، وفي ذلك خطر عظيم عليهم، لذا كانوا حساسين جداً من مقولة انتقال

ص: 72

الحوزة إلى قم المقدسة، وحريصين على عدم حصوله.

وهاتان الحاجتان كانتا تمسكان يد النظام بدرجة من الدرجات عن التعرض لبعض النشاطات الإسلامية للحوزة، في حين لم تكن تسمح بها أولاً ولا بأقل منها قبل ذلك فاستثمر السيد الشهيد (قدس سره) هذا الوضع لينطلق بمشاريعه الاجتماعية،وكانت قمتها صلاة الجمعة، وحينما كان يحذر من بعض الخطوات التي يراها العارفون ببطش النظام أنها تؤدي إلى الخسارة كان يقول (قدس سره): إنما السلطة لنا كإشارات المرور، فنحن نسير حتى تشعل لنا ضوءاً أحمر فنقف ثم نتقدم وهكذاً.

هذا الاستغلال الدقيق الواعي للعلاقة مع السلطة أتاح الفرصة لانجازات عظيمة، في حين أن المتعارف على التصرف الشيعي أمام السلطات، أما المواجهة غير المتكافئة والتي نتيجتها إهلاك الحرث والنسل وإزهاق أرواح المؤمنين الذين تعبت أجيال من العلماء على تربيتهم، والذين يقول فيهم السيد الخميني (قدس سره) فيما ينقل عنه: (أن بعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو انتحار)، أو الانكماش والانسحاب الذي يفوت الكثير من المصالح، أو الخضوع للحكام والانسياق وراء رغباتهم وفي ذلك تضييع الدين وأهله.

هذا بعض ما استطعت أن أدوّنه بهذه العجالة، وهي أفكار ينفتح منا ألف باب لأولي الألباب.

أسأل الله تعالى أن يتغمد شهداءه خصوصاً العلماء الأعلام بالرحمة الرضوان، ويأخذ بيد الأمة والحوزة

ص: 73

الشريفة لتسير على منهاجهم وتأخذ بتعاليمهم وذلك هو الفوز العظيم.

ص: 74

الفجوة المصطنعة بين العلماء والشباب

الفجوة المصطنعة بين العلماء والشباب(1)

اصطناع الحواجز:

يحاول الكثيرون ممن لهم أجندات معيّنة أن يصطنعوا حواجز بين العلماء والمجتمع خصوصاً الشباب، فيشيعون بينهم أنّ العلماء في بروج مشيّدة ولا يمكن الوصول إليهم وإن لغتهم غير مفهومة، ولا يعرفون مخاطبتكم حتى لو وصلتم إليهم، وإنهم يعيشون في زمان وعوالم غير ما أنتم فيه ونحو ذلك من الأفكار، فيعزف الشباب عن الوصول إلى العلماء والجلوس معهم والتحدث إليهم والاستفادة منهم.

أهداف الأعداء من هذه الحواجز:

وهدف أولئك المخادعين مزدوج، فمن جهة يريدون عزل المرجعية عن الناس خصوصاً الشباب لتجريدها من أهم عناصر القوة لدى المرجعية وهي قوة تأثيرها ونفوذ كلمتها وسلطتها الروحية التي تعيق مشاريعهم الاستكبارية

ص: 75


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من طلبة إعدادية الجزيرة في النجف الأشرف الذين زاروا سماحته برفقة بعض أساتذتهم يوم السبت 15/ج1/1433 المصادف 2012/4/7.

الشيطانية في السيطرة على الشعوب ونهب خيراتها بتغيير هويتها لتسيير أبنائها وفق ما يريدون.

ومن جهة أخرى يريدون إبقاء الناس عرضة للسقوط في الفتن والشبهات والضلالات ويعبث بهم كل فاسد وضال، لأنّ العلماء حصون الأمة والدين فإذا ابتعد الناس عن العلماء كانوا مكشوفين للأعداء بلا حصون، تحمي عقائدهم من الشبهات والعقائد المنحرفة والدعوات الضالة، وتحمي أخلاق الأمة من الفساد والانحرافات والسلوكيات البعيدة عن الدين والأخلاق الفاضلة، وتحمي فكر الأمة من الأفكار الهدّامة والهجينة والمستوردة من الأعداء والتي يعلبونها بعناوين برّاقة ليسهل تسويقها على الناس ويخلطون عليهم الأمور، كالمنكرات التي يدعون إليها تحت عناوين الحداثة والحرية والمساواة والتحضّر والتقدم ونحوها.

لئلا تهجم علينا اللوابس:

وأنتم –أيّها الأحبة الشباب- بحضوركم في مجالس العلماء واستماعكم إلى توجيهاتهم تذوّبون هذه الحواجز المصطنعة وتزيلونها، وتنقلون إلى إخوانكم أنّ العلماء ولدوا من رحم هذه الأمة وهم جزء لا يتجزأ منها، بل لا

ص: 76

يستطيعون أن يمارسوا مسؤولياتهم ودورهم إلاّ حينما يكونون في وسط هذه الأمة فيتعلمون من معاناتها وتجاربها ويستفيدون من إبداعاتها وأفكارها، وفي بوتقة هذه الأمّة يصاغ العالم العامل ولا يُصنع في كوكبٍ آخر أو في الدهاليز المظلمة ويُفرض على الناس بالإكراه.

وحينما تلتفون حول العلماء وتأخذون منهم فإنّكم ستجدون عندهم العين البصيرة والفكر الثاقب والمعرفة بأحوال الناس والتمييز الدقيق بين الأمور فتسود تصرفاتهم الحكمة كما في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)(1).

وقد جعل الله تعالى للأمة أعلاماً منصوبة للهداية على الدوام من لدن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) ومن ثمّ مراجع الدين الجامعين للشرائط، وهذا هو صمام أمان الناس وحبل الله المتصّل بين الأرض والسماء الذي أمروا بالتمسّك به والاعتصام به، ولا يكونوا كالأمم السابقة التي لم تحظ بهذا الحبل المتين فضلّت وانحرفت.

وإذا حصلت هذه الفجوة فإن الجميع سيخسر ويفقد العلم أهميته عندما لا يجد ساحة للعمل به بابتعاد الناس عن العلماء وعدم عمل العلماء بعلمهم، وسيخسر الدين أيضاً

ص: 77


1- الكافي: ج1 ص27.

لأنّه يفقد تأثيره في حياة الناس ودوره الذي هو كالبوصلة التي توجّه أمورهم كلّها.

وما نشوء هذه الظواهر المنحرفة والدعاوى الباطلة إلاّ بسبب هذه الفجوة وهذا الابتعاد والعياذ بالله.

ص: 78

الفصل الرابع: احذروا مدّعي الزعامة بغير حق

اشارة

ص: 79

ص: 80

احذروا مدّعي الزعامة بغير حق

احذروا مدّعي الزعامة بغير حق(1)

كثر في هذا الزمن مدعوا الزعامات سواءً على الصعيد الديني أو السياسي أو الاجتماعي، وهي قضية خطيرة بل لعلها أخطر القضايا التي تواجهها الأمة، لأن بها صلاح الأمة وفسادها في دينها ودنياها وآخرتها، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل يا رسول الله ومن هما؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الفقهاء والأمراء)(2).

شروط القيادة:

فللزعامة والقيادة والرئاسة على الناس شروط ومواصفات وخصائص يجب توفّرها ليكون مؤهلاً لهذا

ص: 81


1- كلمة سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع حشد الطلبة والشباب الذي يقضون المعايشة، مدّتها عشرة أيام في العشر الأواخر من شهر رمضان إلى جوار مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام) وتعدّ لهم برامج دينية وتوعويّة وقد استقبلهم سماحته يوم الثلاثاء 25 رمضان 1433 الموافق 2012/8/14.
2- الخصال للشيخ الصدوق (قده)، باب الإثنين، حديث 12.

الموقع الشريف والروايات في ذلك كثيرة لا يسع المجال ذكرها، وإنما نورد شيئاً منها للاتعاظ والتدبر.

ملكة الاجتهاد:

ومن تلك الشروط: توفّر ملكة الاجتهاد والإحاطة العلمية التامة بأصول الشريعة وكيفية تحصيل الحكم الشرعي والموقف إزاء أي قضية تواجه الأمة من تلك المصادر، ففي رواية صحيحة في الكافي بسنده عن العيص بن القاسم قال: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام ) يقول : عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا لأنفسكم ، فوالله إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فاذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها ، والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرب بها ثم كانت الأخرى باقية تعمل على ما قد استبان لها ، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة فأنتم أحق أن تختاروا لأنفسكم ، إن أتاكم آت منا فانظروا على اي شيء تخرجون)(1).

وفي رواية صحيحة أخرى له بسنده عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن الإمام الصادق (عليه السلام)، جاء فيها (وأنتم أيها الرهط فاتقوا الله فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من

ص: 82


1- وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 13 ح1.

ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلّف)(1).

الملكات النفسية والمعنوية:

ومن مؤهّلات الزعامة: الخصائص والملكات النفسية والمعنوية، روى الشيخ الصدوق (قده) في الخصال بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليهم السلام) قال (إن الإمامة لا تصلح إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن المحارم، وحلم يملك به غضبه، وحسن الخلافة على من وُلّي حتى يكون له كالوالد الرحيم)(2).

التحذير من الزعامات الباطلة:

وقد ورد التحذير الشديد من دعوى الزعامة والقيادة والرئاسة بغير حق، والتحذير موجّه إلى الشخص نفسه ليثوب إلى رشده ويقلع عن فتنته ويتّقي ربَّه، وموجّه أيضاً إلى الناس لكي لا يتبّعوا مثل هذه الزعامات البائسة الخاوية الحمقاء، قال الإمام الصادق(عليه السلام) (إياكم وهؤلاء

ص: 83


1- وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب9، ح2.
2- الخصال: 116 أبواب الثلاثة ح97.

الرؤساء الذين يترأسّون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك)(1).

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) –بعد ما ذكر الإمام (عليه السلام) رجلاً وقال إنه يحب الرئاسة- (ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرّق رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من الرئاسة)(2).

ومما ورد فيما ناجى الله تعالى به موسى (عليه السلام) (لا تغبطنّ أحداً برضا الناس عنه حتى تعلم أن الله راضٍ عنه ولا تغبطنّ أحداً بطاعة الناس له فإنّ طاعة الناس واتباعهم إياه على غير الحق هلاك له ولمن تبعه))(3).

كونوا على حذر:

وهذا التحذير يجب أن نستحضره دائماً لكثرة الطامحين إلى مواقع الزعامة والرئاسة في هذا اليوم وفي كل يوم، وهم يعلمون أنهم ليسوا من أهلها، ولأنهم فاشلون لا يستطيعون السعي لبلوغ هذا الاستحقاق، فإنهم يسلكون أساليب ملتوية وماكرة تخدع السذّج من الناس والمهوسين باتباع كل ناعق من أصحاب هذه الدعوات، أو الذين يبحثون عن عناوين ومواقع تحقق لهم الجاه والامتيازات.

ص: 84


1- منتخب ميزان الحكمة: 263 عن أمالي الصدوق: 131.
2- منتخب ميزان الحكمة: 263 عن أمالي المفيد: 283.
3- بحار الأنوار: 73/ 72.

من اساليب الالتواء:

وهذه الأساليب الماكرة الخادعة للناس لا يصعب إيجادها مع وجود شياطين الجن والإنس، كالذي حدث بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، روى ابن هشام في السيرة بسنده عن أبي هريرة قال: ((لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام عمر بن الخطاب، فقال: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد توفى، وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات؛ ووالله ليرجعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات.

قال : وأقبل أبو بكر حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلم الناس ، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله سلم) مسجى في ناحية البيت ، عليه برد حبرة ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال : ثم أقبل عليه فقبله ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا . قال : ثم رد البرد على وجه رسول الله (صلى

ص: 85

الله عليه وآله وسلم) ، ثم خرج وعمر يكلم الناس ، فقال : على رسلك يا عمر ، أنصت ، فأبى إلا أن يتكلم ، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر ؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت . قال : ثم تلا هذه الآية : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .

قال : فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ ؛ قال : وأخذها الناس عن أبي بكر ، فإنما هي في أفواههم ؛ قال : فقال أبو هريرة : قال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات)(1).

لكي يقطعوا الطريق على أمير المؤمنين (علیه السلام):

أقول بهذه الحيلة قطعوا الطريق على كل من يفكر بتنفيذ وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخليفة من بعده حتى يحبكوا مؤامرتهم ويرتّبوا وضعهم ويأتي خليفتهم المزعوم الذي كان خارج المدينة، فهل كان الرجل يعتقد

ص: 86


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج4، ص224.

فعلاً أن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لن يموت؟ فهو جاهل بكتاب الله تعالى إذ يقول (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (الزمر/30) ويقول سبحانه (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (آل عمران/144) وبعمومات الكتاب (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (النساء/78)، وأين كان حين نعى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه مرات بقوله (يوشك أن ادعى فأجيب)(1) وذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) شاهداً على ذلك أن جبرئيل كان يعارضه بالقرآن في كل سنة مرة وعارضه هذه السنة مرّتين، ووصيته بالتمسك بالثقلين بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم).

وإذا كان جاهلاً بكل هذه الواضحات فكيف جاز له أن يكون خليفة على المسلمين وكيف يسيّر أمورهم؟

إذن هو لا يخفى عليه ذلك لذا كان من الفارّين يوم أحد حينما صاح أحدهم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد قتل، ولكن هذه الدعوى كانت لكسب الوقت حتى يجري ترتيب الأمور لمن يريدون، كالذي تفعله بعض الحكومات اليوم حينما تؤجّل إعلان موت الحاكم حتى تمهّد الأمور لولي عهده، وإلى اليوم توجد مثل هذه الحيل للاستمرار في خداع الناس وتوجيههم إلى ما يريدون.

ص: 87


1- البحار: ج23 ص113.

التظاهر بالقداسة:

ومن أساليب الخداع التي يتبعها الطامعون في الرئاسات التظاهر بالقداسة والابتعاد عن الدنيا، وهم إنما يتركون بعض متع الدنيا الزهيدة ليفوزوا بدنيا أهم وأوسع، وهنا رواية مهمة عن الإمام السجاد (عليه السلام) يجب أن نستفيد منها دائماً؛ روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال (قال علي بن الحسين إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتماوت في منطقه وتخاضع في حركاته فرويداً لا يغرنكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرامٍ اقتحمه.

وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنّكم، فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما.

فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويداً لا يغركم حتى تنظروا ما عقده عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.

فإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغركم حتى تنظروا أمع هواه، يكون على عقله أو يكون مع عقله على هواه، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة، يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرئاسة

ص: 88

الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللّة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة حتى َإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمده ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحل ما حرم الله ويحرّم ما أحلّ الله لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاباً مهيناً.

ولكنّ الرّجل كلّ الرجل نِعْمَ الرجل ، الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضى الله ، يرى الذلّ مع الحقّ أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل ، ويعلم أنّ قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وأنَّ كثير ما يلحقه من سرَّائها - إن اتبّع هواه - يؤدِّيه إلى عذابٍ لا انقطاع له ولا يزول ، فذلكم الرجل نِعْمَ الرجل ، فبه فتمسّكوا ، وبسنّته فاقتدوا ، وإلى ربّكم به فتوسّلوا ، فإنّه لا تُردّ له دعوة ، ولا تخيب له طلبة)(1).

العناوين البراقة:

أقول: يبيِّن الإمام السجاد (عليه السلام) في هذه الرواية بعض أساليب المكر والخداع للوصول إلى الزعامة والرئاسة، وهي متنوعة وعديدة، ومحورها جميعاً أناس

ص: 89


1- بحار الأنوار: 2/ 84-85 عن الاحتجاج وتفسير العسكري.

يفشلون في الوصول إلى المرتبة التي تؤهلهم لقيادة الأمة، فيبتدعون الطرق التي تستهوي العامة وتنطلي عليهم، فبعضهم يتجه إلى معارضة السلطة وحمل السلاح لمواجهتها كبعض العلويين في زمان الأئمة (عليهم السلام) وواجهوا أئمتنا بكلمات وقحة.

وبعضهم يدعي الانتساب إلى الإمام المهدي مع أن مراجعة بسيطة لسجل الأحوال المدنية يكشف زيف دعواه.

وبعضهم يلتجئ إلى الغيبة والاحتجاب عن الناس وإطلاق الادعاءات الغيبية.

وبعض يتلفع بثياب القداسة والزهد في الدنيا لخداع الناس ويشتري ضمائر جماعة يضفون عليه أسمى الألقاب طمعاً بفتات الدنيا الذي يرميه إليهم.

ناهيك بأساليب بعض أبناء مراجع الدين عند وفاة آبائهم فيبتكرون الأفكار التي تحافظ على استمرار استفادتهم من امتيازات واستحقاقات المرجعية مع وضوح أن هذه الامتيازات هي للموقع فتنتقل إلى المؤهل له، وليست لشخص المرجع حتى يرثها أبناؤه.

والعجب كل العجب ليس من هؤلاء المدّعين المتقمصين ما ليس لهم، وإنما ممن يصدقهم ويتبعهم بغير دليل ولا مراجعة وفحص عن مصداقيتهم، ومع وضوح بطلان دعاواهم لتنافيها مع ما أسّسه الأئمة الأطهار (عليهم السلام)

ص: 90

من الرجوع إلى العلماء المجتهدين العاملين الذين وصفهم الحديث السابق بأنّهم يشفقون على الأمة كالوالد الرحيم، لذا وصفهم الحديث الشريف بأن أشد الناس حسرة يوم القيامة من باع آخرته لدنيا غيره، فالله الله في دينكم ولا تقعوا في فخوخ الدجالين.

وإلى الله المشتكى وعليه المعوَّل في الشدة والرخاء.

الفصل الخامس: ماذا خسر الإسلام باتباع القيادات التقليدية؟

اشارة

ص: 91

ص: 92

ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتبعوه

ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتبعوه(1)

حينما يعرض الإنسان عن داعي ربه:

لما عصى إبليس أمر ربه تبارك وتعالى في السجود لآدم (عليه السلام) وطرد من زمرة الملائكة أطلق تهديداً خطيراً واستراتيجياً يستمر إلى يوم يبعثون (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الحجر/36) (ص/79) فهدّد بقوله الذي حكاه القرآن الكريم (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص/82-83) وفي آية أخرى (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر/ 39-40) وفي آية ثالثة (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف/ 16-17).

وهو -لعنة الله عليه- حينما أطلق هذا التهديد لم يكن يعلم الغيب ليجزم بهذه النتيجة، وإنّما كان يهدّد ويأمل أن يحقّق هذه النتيجة ويبذل وسعه لتحقيقها وهي غواية جميع البشر إلاّ عباد الله الذين استخلصهم لنفسه ، ولا أدري إن كان يحتمل نجاحه في هذه العملية وهو يعلم أنّه يُقابل

ص: 93


1- كلمة ألقيت من قناة النعيم الفضائية يوم 4 ذق 1434 المصادف 2013/9/11 بمناسبة الذكرى الخامسة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس).

حشداً إلهياً فيه لطف رباني عميم ورحمة واسعة وإرادة دائمة لهداية البشر وصلاحهم وتواتر الحجج والبيّنات ظاهرة وباطنة (لاتخلو الأرض من حجّة) مضافاً إلى مواسم كثيرة تُغلُّ فيها الشياطين خصوصاً في شهر رمضان ورميهم بالشهب الثاقبة، بينما لا يملك إبليس إلاّ الدعوة والتزيين (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (إبراهيم/ 22) لذا قال تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) (النساء/76).

لكن المفاجئة إن البشر أعرضوا عن الاستجابة لداعي ربّهم وأقرّوا عين إبليس ولم يخيّبوا ظنّه، قال تعالى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (سبأ/ 20-21) والمراد بظنّ ابليس الذي صدقوه تهديداته السابقة، بل ما أسرع استجابتهم له بمجرّد أن دعاهم.

شهادة السيدة الزهراء (عليها السلام) على الأمة:

وتسجّل السيّدة الزهراء (عليها السلام)هذا التعجّب والاستغراب في خطبتها: (وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين وللعزّة فيه ملاحظين، ثمّ

ص: 94

استنهضكم فوجدكم خفافاً وأحشمكم فألفاكم غضاباً) (1)،

أي وجدهم الشيطان مسارعين خفافاً للاستجابة له وترك وصيّة الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

التحذير من الاغترار:

لذا يحذّر أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس من الاغترار بهذه الدعوة والاستجابة لها، قال (عليه السلام): (فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ)(2)

ولم يأخذ بهذا التحذير.

ولم يأخذ بهذا التحذير إلاّ القلة (إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ/ 20) وبثبات هذه القلة وإخلاصها وعملها الدؤوب حفظ الله تعالى هذا الدين وبارك في عطائهم وجعلهم مناراً للأجيال، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (أولئك هم الأقلون عدداً والأكثرون عند الله قدراً)(3).

أمّا أكثر الناس فقد سقطوا في فخوخ الشياطين، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (يس/62).

سلب الاطمئنان بالآخرة:

ولم يكتفِ منهم اللعين بالغواية في موقف أو حالة أو زمان بل ظلّ يمعن في غوايتهم وإضلالهم حتّى نزع من

ص: 95


1- (الاحتجاج: 1/ 130)
2- نهج البلاغة، الخطبة 192.
3- نهج البلاغة، قصار الكلمات: 147.

قلوبهم الاطمئنان بالآخرة فجعلهم يشكون فيها، وعدم الإيمان بالآخرة تعني التحلّل من كلّ رادعٍ عن الفساد والانحراف والظلم والانحطاط والحيوانية.

وقوله تعالى في آية سورة سبأ المتقدّمة (لنعلم) ليس علماً بعد جهل تعالى الله عن ذلك، وإنّما معناه لنظهر لهم حقائقهم وبواطنهم حتى يعرفوا أنهم نالوا العذاب باستحقاق ولا يعترضوا لو عوقبوا بناءً على العلم الإلهي من دون إبراز لحقائق أعمالهم بأنهم لو اعطوا الفرصة لكانوا على خير.

ولكنّ الله تعالى يحذّرهم بحقيقة يجب أن ينتبهوا إليها وهي أنّه محيط بأفعالهم ونياتهم لأنّه تعالى حفيظ على كل شيء (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (سبأ/3) (يونس/61).

انحياز الناس الى ابليس:

وهكذا كان الناس في كلّ موقف وفي كل مفصل من مراحل التاريخ ينحازون إلى صفّ إبليس إلاّ قليل ممن عصم الله تعالى (إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (سبأ/20)، في تفسير القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام) (لما أمر الله نبيّه أن ينصّب أمير المؤمنين (عليه السلام) للناس في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) في علي بغدير خم فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر وحثوا التراب على وجوههم، فقال لهم إبليس:

ص: 96

مالكم؟ قالوا: إن هذا الرجل، قد عقد اليوم عقدة لا يحلها شيء إلى يوم القيامة. فقال لهم إبليس: كلا إنّ الذين حوله قد وعدوني فيه عدة، فأنزل الله على رسوله (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) (سبأ/20)(1).

ابعادهم عن الرضوان الإلهي:

ويجب أن نفهم من إقرار عين إبليس باتباعه له مراتب وإذا عجز اللعين عن المرتبة الشديدة للانحطاط فإنّه يقبل بما هو أهون منها والمهم عنده الإبعاد عن رضوان الله تعالى ولو درجة وإيجاد النقص في ما يقرّب إلى الله تعالى، فلا يقتصر عمله على الغواية إلى حدّ الكفر والشرك أو إلى حد ارتكاب المعاصي من المؤمنين، بل يعمل-في حالة عجزه عن ذلك- على التزيين لترك الأولى بفعل المكروه أو ترك المستحب.

روى الشيخ الطوسي في الأمالي عن الإمام الصادق (عليه السلام) إنّ إبليس كان يأتي الأنبياء من لدن آدم حتّى عيسى (صلوات الله عليهم أجمعين) ويحادثهم، وفي إحداها (قال يحيى بن زكريا (عليهما \السلام): فهل ظفرت بي ساعة قط، قال: لا، ولكن فيك خصلة تعجبني. قال يحيى: فما هي؟. قال: أنت رجل أكول فإذا أفطرت أكلت وبَشَمَت –أي امتلأت- فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل، قال يحيى (عليه السلام): فإنّي أعطي الله عهداً أن لا أشبع

ص: 97


1- البرهان: 8 /68 عن تفسير القمي: 2/ 201، الأمثل: 10/ 547.

من الطعام حتّى ألقاه، قال له ابليس: وأنا أعطي الله عهداً إني لا أنصح مسلماً حتّى ألقاه. ثمّ خرج فما عاد إليه بعد ذلك.)(1)

اعراض اغلب الناس عن المرجعية الرسالية:

هذا مثال على صعيد الفرد، أما على صعيد الأمة –وفي نفس المستوى من الحديث- فإنّ مما يسعد إبليس اللعين إعراض أغلب الناس عن نصرة واتباع المرجعية الرسالية العاملة المخلصة المتأسيّة بوصف أمير المؤمنين (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (طبيب دوّار بطبّه) ورجوعهم في المرجعية والقيادة إلى الحوزة المتقاعسة عن تحمّل مسؤولياتها اتجاه الدين والأمة مع اعترافنا بأنّها تقيم طقوس الدين، إلاّ أنّها لا تهتم بأمور الإسلام ولا المسلمين ولا تشعر بالغيرة عليهما والرحمة بهما وهذه أوصاف مأخوذة من طبيعة عملها ومنهجها الذي اختارته فلا ينبغي لها الاستياء من هذا التوصيف.

المرجعية العاملة شديدة على ابليس:

ولقد دلّت الأحاديث الشريفة على أنّ المرجعية الأولى أشدّ على إبليس من الثانية عن معاوية بن عمّار قال:

ص: 98


1- أمالي الطوسي: 348- 349، بحار الأنوار: 13/ 173.

(قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل راوية لحديثكم يبُثُّ ذلك في الناس ويشدّده في قلوبكم وقلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيّهما أفضل، قال: الراوية لحديثنا يشدُّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد)(1)

ومن المعلوم أنّ شدّ قلوب الشيعة لا يتحقّق بمجرد كتابة الرسالة العملية.

وفي الاحتجاج وتفسير العسكري عن الإمام الهادي (عليه السلام): (لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه والدالّين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك ابليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحدٌ إلاّ ارتدّ عن دين الله ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجل)(2)

وهذا ما تقوم به المرجعية الرسالية العاملة كما هو واضح، والأدلة كثيرة، فإنّ قولهم (عليهم السلام): (الفقهاء قادة) وأنّم نوّاب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الذين هم (ساسة العباد) لا ينبطق إلاّ على المرجعية العاملة.

خسارة الإسلام بتصدي المرجعيات غير العاملة:

إنّ تصدّي الحوزة غير العاملة للمرجعية، يتسبّب في نتائج خطيرة تساعد اللعين في مشاريعه، منها:

ص: 99


1- أصول الكافي، ج1، كتاب فضل العلم، باب فضل العلماء، ح9.
2- بحار الأنوار: 2/6.

1- تعطيل فرائض مهمة كصلاة الجمعة التي عُطّلت مئات السنين وهي عنوان عزّة الأمة وكرامتها ومصدر وعيها وتربيتها، وكفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي وصفها الإمام الباقر (عليه السلام) بأنّها أسمى الفرائض وأشرفها (وأنّها سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحلّ المكاسب وتردّ المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر)، والمتابع يلاحظ كيف أن المنكر يجري على مرأى منهم فلا يغيّرونه وفيهم نزل تقريع الله تبارك وتعالى وتهديده (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (المائدة/ 63) وقوله تعالى: (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المائدة/79) وقوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) (الأعراف/165).

2- تراجع العمل الإجتماعي للحوزة العلمية إلى حدّ الإصابة بالشلل أحياناً لأنّ كلّ مؤسسة تقوم برأسها وعقلها المدبّر، فالحوزة مرهونة بمرجعيتها وطريقة تفكيرها ومنهجها في التعاطي مع شؤون الأمة، فتجد في مرجعية الشهيدين الصدرين (قدس الله روحيهما) كيف انطلق

ص: 100

وكلاؤهما وطلبتهما في الإصلاح الاجتماعي وإيجاد يقظة وصحوة لدى المجتمع.

3- ضعف الحالة الدينية في المجتمع وانتشار الفساد والظلم والجهل وترك الواجبات الشرعية وهي نتيجة طبيعية للعاملين أعلاه، وكشاهد على ذلك نذكر وضع المجتمع العراقي في السبعينيات قبل نهضة السيد الشهيد الصدر الأول وقبل نهضة الشهيد الصدر الثاني في التسعينيات.

4- خمول الحركة الإسلامية وتعطيل المشاريع الإسلامية عن الانتشار والتوسع والنمو والإزدهار لتخلي سدنته وحفاظه عنه بينما في عهد مرجعية الشهيدين الصدرين (قدس الله سرهما) يقدّم الإسلام كمشروع يقود الحياة ويعيد للأمة هيبتها وعزّتها وكرامتها وريادتها ويقيم الحجّة على الأنظمة الوضعية الأخرى.

5- عدم وجود من يرعى شؤون الأمة ومصالحها ومن يستمع لهموم الناس ويقضي حوائجهم ويرفع الظلم عنهم ويدافع عن حقوقهم خلافاً للعهد الذي أخذ عليهم، قال أمير

ص: 101

المؤمنين (عليه السلام): (وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظّةِ ظالم ولا سغب مظلوم)(1).

6- بسبب تقوقع هذه الجهة وانكفائها على ذاتها وأنانيتها فيحصل لديها ضعف الوعي بقضايا الأمّة والظروف والملابسات المحيطة بها ونتيجته فقدان الرؤية الصحيحة لمعالجتها واتخاذ المواقف الحكيمة وفي ذلك مخالفة لتوجيهات أهل البيت (عليهم السلام) حيث ورد عنهم (العالم العارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس).

وغيرها من الأمور التي تظهر لمن يتابع حركة المرجعية في حياة الأمة وعلاقتها معها.

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ:

والأمر لا يقتصر على إبليس فإنّ شياطين الإنس أيضاً يصدق ظنهم على هؤلاء الناس فيستجيبون لهم بشكل غريب، هذا فرعون يحكي عنه القرآن الكريم (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) (الزخرف/54) أي أنّه بمجرد دعوته للناس لاتباعه والاستجابة لعبادته وجدهم يسارعون خفافاً لطاعته، لا لأهلية عند فرعون ولا لقوة ذاتية يملكها وإنّما لأنهم قوم فاسقون يسرعون إلى الباطل.

ص: 102


1- نهج البلاغة: 44 الخطبة الشقشقية.

وهذا عبيد الله بن زياد كان يتوقّع انقلاباً عليه من أهل الكوفة حينما وصل الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته لأنّه من غير المعقول أن تتخاذل الناس عن ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام المعصوم الطاهر وتنصر الخبثاء أولاد الحرام، فعبأ جيشاً يعادل ألف مرة أصحاب الحسين وأسنده بقوّاتٍ من كربلاء إلى الكوفة، لكن شيعة آل أبي سفيان – كما وصفهم الإمام (عليه السلام)- لم يخيّبوا ظنّ ابن زياد وصدّقوا عليهم ظنّه واتبعوه ونفّذوا إرادة ابن زياد بوحشية فاقت ما طلبه منهم.

ومن ذلك ما يجري اليوم من تكاثر أدعياء الزعامات والعناوين المقدّسة وكلّ منهم يصاحبه القلق في بداية دعوته لأنه يتوقع أنّ الناس ستسأله عن أصله ومؤهلاته وتوفّر الشروط فيه وإنّ الأمة ستراقب حركته ليتأكدوا من مصداقيته، لكن شيئاً من ذلك لا يحدث ويصدّق هؤلاء المدعون على الناس ظنّهم فيتخذونهم ألعوبة بأيديهم.

نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق والتأييد (وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان فقد أسلمني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان).

ص: 103

على المرجعيات الدينية والقيادات السياسية أن تتنازل لمن هو أكفأ

على المرجعيات الدينية والقيادات السياسية أن تتنازل لمن هو أكفأ(1)

من مصاديق الحديث: (مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه)

من الصفات الرئيسية التي أكد الأئمة المعصومون (عليهم السلام) على توفّرها في من يسوس أمر الأمة ويتولى القيادة والإدارة في أي موقع كان خصوصاً الفقهاء والأمراء، أي المرجعية الدينية والسلطة الحاكمة: أن يكون (مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه) كما في الحديث المروي عن الإمام العسكري (عليه السلام).

ومن أعلى موارد اختبار وجود هذه الصفة وأشدّها: تنازله عن الموقع إلى غيره ممن يراه أكفأ منه وأقدر على القيام بوظائف هذا الموقع، أما لتفوّق هذا البديل، أو لعجزه هو عن مواكبة التحديات وتحمّل المسؤوليات التي تتوسّع وتتعقّد بمرور الزمن، ومثل هذه الخطوة تحتاج إلى قوة قلب للتغلب على هوى النفس التي تصرّ على التمسّك بموقع النفوذ والجاه والسلطة والحصول على مزيد من الامتيازات.

ص: 104


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع عدّة وفود زارته بينها عدد من مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة يوم الخميس 10/ع2/1434 المصادف 2013/2/21.

التنازل عن الموقع في فكر الشهيد الصدر:

وقد عشنا تجربة مرجعية السيد الشهيد الصدر الثاني (قده) ورأينا فيه هذه الصفة فكان يخالف هوى نفسه ويؤدي ما يراه حجة بينه وبين ربّه وما فيه رضا الله تبارك وتعالى، كتصديه لصلاة الجمعة المباركة ووقوفه بين الجماهير المؤمنة وما يكلّفه ذلك من عنت وشقّة ومواجهة للسلطة وجهد مضاعف يضاف إلى مسؤوليته العلمية والعملية الكثيرة، لكنّه نهض بهذه المسؤولية كغيرها ولم يستسلم لما تهواه النفس من حياة الدعة والراحة.

وكانت عنده هذه الصفة بأعلى مستوياتها بحيث نعلم أنّه لو امتدّ به العمر ورأى بديلاً أفضل منه –كما كان يصرّح بأنه يسعى لإيجاده وتربيته- فإنه يتنازل له بكل رحابة صدر، وكان يربي طلاّبه ومريديه على ذلك.

كنّا معه (قده) مرّة وتذاكرنا أموراً من هذا القبيل وربّما ذكرنا كيف أنّ السيد الشهيد الصدر الأول (قده) كان يخالف هواه ويقهر نفسه حينما قرّر أن يطبع كتابيه (فلسفتنا) و (اقتصادنا) باسم جماعة العلماء ونحوه ولا يذكر انّه هو المؤلف، لأنّ هدفه إعلاء كلمة الله تعالى ورفعة الإسلام، فأكبر السيّد (قده) هذا الموقف، وسأل متحدياً: من يستطيع أن يقوم بمثل هذا؟ فقلتُ: أنّه فعل لا يحتاج إلى كثير مؤونة معتبراً ذلك أمراً طبيعياً عند المخلصين لله تعالى، فقال السيد (قده) باللهجة الدارجة: ((نعم أنت تسويها)) أي أنّه يُتوقّع منك القيام بمثل هذا الصنع.

ص: 105

بل قد وقع مني فعلاً مثل ذلك حينما طبع السيد الشهيد الصدر (قده) كتاب ما وراء الفقه طلب منّي أن يجعل كتابي (الرياضيات والفقه) في المجلد الثامن لمناسبته لكتاب الميراث، فقلت له: ((سيدنا آنه بخدمتك، وليكن من فصول الكتاب ولا حاجة لذكر اسم كاتبه))، لكنّه (قده) أصرّ على أن يكتب اسم المؤلف رعاية للأمانة العلمية وقال: (لانّ القرّاء يعلمون أنّه ليست لي القدرة على تقديم مثل هذه المطالب الرياضية).

مع الشيخ البهباني:

وعلى أيّ حال فقد شهد تأريخ المرجعية الشيعية بمثل هذه المواقف النبيلة من ذوي النفوس الكبيرة كالشيخ يوسف البحراني (قده)(1) الذي كان مرجعاً للشيعة ومقره في كربلاء المقدّسة، وكان من معاصريه الشيخ الوحيد البهبهاني (قده)(2)، وفي أحد الأيام قام البهبهاني وسط الجمع

ص: 106


1- مؤلف كتاب (الحدائق الناضرة) الموسوعة الفقهية الجليلة التي لا زالت من مصادر البحوث العليا ومربي عدد كبير من الأعاظم، توفي عام 1186.
2- مرجع الشيعة ومن أعظم الأساتذة الذي شهدتهم الحوزات العلمية، فقد تخرّج على يديه جملة من الأعاظم كالسيد بحر العلوم والشيخ كاشف الغطاء والمحقق النراقي صاحب مستند الشيعة والسيد علي الطباطبائي صاحب الرياض، توفي عام 1206 ه-.

واستأذن الشيخ البحراني في الكلام وقال: أنا حجة الله عليكم وأنا من يجب أن ترجعوا إليّ لأنّني أنا الأعلم، فما كان من الشيخ البحراني إلاّ أن أيّد كلامه بكل انشراح ورحابة صدر ودعاه إلى تسلّم المسؤولية والجلوس في موقعه.

كما أن ّ الشيخ الوحيد نفسه حينما شعر في سنينه الأخيرة أنّ مسؤولية المرجعية أكبر من أن ينهض بها دعا أبرز تلامذته ووزّع عليهم مسؤوليات المرجعية، ورجع هو يدرّس الكتب المتوسّطة في السلّم الدراسي الحوزوي وهو كتاب (شرح اللمعة).

دروس وعِبر من تنازل بابا الفاتيكان عن منصبه:

أقول هذا الكلام بمناسبة القرار الأخير لبابا الفاتيكان وزعيم الكنيسة الكاثوليكية حينما جمع المجلس الكنسي وأعلمهم بعزمه على الاستقالة وأمهلهم إلى نهاية شهر شباط الحالي/ 2013 وقال: ((بعد أن راجعت ضميري مرات عدّة أمام الله، وقد وصلت إلى التأكّد من أن قواي لم تعد تحتمل القيام بمهام الكنيسة البطرسية بسبب تقدّمي في العمر)).

وقال: (( في عالمنا اليوم، الذي هو عرضة لتغيرات هائلة، ويهتز بأسئلة ذات صلة عميقة بحياة الإيمان)) ووصف قواه بأنّها ((وهنت وتدهورت إلى الدرجة

ص: 107

التي أدركتُ فيها عدم قدرتي على الوفاء بالتزاماتي الموكلة إليّ لإدارة شؤون الكنيسة)).

أقول: هذا موقف كبير ينم عن شعور بالمسؤولية تجاه الموقع الذي هو فيه، والمفروض أن تكون كل المرجعيات الدينية والقيادات السياسية الحاكمة هكذا، أما التشبّث بالموقع حتّى لو بلغ به العمر عتيا، ويصبح وجوده كعدمه، ولا يعي ما حوله، ولم يعد قادراً على مجاراة تحديات عصره والقيام بمسؤولياته التي يتطلّبها موقعه لا التي هو قرّرها لنفسه، فهذه حالة بائسة ومتردّية، وسيصبح عقبة في طريق الإصلاح، لأنّ عملية الإصلاح والتغيير تمرّ عبر مصادر القرار، فإذا كان مصدر القرار عاجزاً فسوف تتوقف هذه العمليّة، وهذا واحد من الأسباب التي أدّت إلى ما نحنُ فيه من التردّي والفوضى والظلم وضياع الحقوق والله المستعان.

ص: 108

ص: 109

الفصل السادس: المرجعية الدينية وإعداد البديل

اشارة

ص: 110

فقدان العلماء يدعونا إلى التخطيط الجدي لإعداد البدائل

فقدان العلماء يدعونا إلى التخطيط الجدي لإعداد البدائل(1)

ص: 111


1- تقرير بتصرف لحديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع وفد مدينة الصويرة الذي زار سماحته يوم 7/ ذ.ق/1427معزياً بالذكرى الثامنة لاستشهاد السيد الصدر الثاني (قدس سره) ووفاة المرجع الديني في مدينة قم المقدسة الميرزا جواد التبريزي (قدس سره) الذي وافاه الأجل يوم 28/شوال/1427 المصادف2006/11/20 عن عمرٍ ناهز (83) عاماً، ومن حديث سماحته مع عدد من أعضاء أمانة حزب الفضيلة الإسلامي في محافظة بابل يوم 8/ ذ.ق/1427

صناعة العالم:

اعتاد المحتفلون برحيل أحد العلماء أن يستشهدوا بالحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) انه قال: (إذا مات العالم ثلم الإسلام ثلمةً لا يسُّدها شيء الى يوم القيامة)(1)

وهو تعبير صادق عن عظم المصاب ونكبة الأمة بفقدان علمائها، ولكن بعض الأحاديث الشريفة لم تقف عند هذا الحد و إنما بيّنت للأمة كيفية سد هذه الثلمة بقوله (إلا خلف مثله)(2)

ليعلّم الأمة أن عليها عدم الاكتفاء بالانفعالات العاطفية للتعبير عن شعورها إزاء هذه الخسارة وإنما عليها أن تعَّد وتهيئ البديل عن ذلك العالم الراحل ليقوم مقامه ويواصل مسيرته في تربية الأمة وقيادتها بحكمة نحو الكمال.

لا نبدأ بتهيئة العالم من وفاة العالم الذي قبله:

ولا يبدأ هذا الإعداد والتهيئة من حين وفاة العالم لان هذا الإعداد يتطلب ما لا يقلّ عن ثلاثين عاماً إلا لبعض الأفذاذ الذين توفرت لهم ظروف خاصة و قابليات نادرة ، ولا تستغرب من هذه المدة فإن درجة الاجتهاد الذي هو أحد شروط المرجعية وقيادة الأمة، وصفة العدالة التي تعني أعلى درجات السيطرة على أهواء النفس ونزغاتها

ص: 112


1- المحاسن: ج1 ص364.
2- الخصال: ص504.

والانضباط بتعاليم الشريعة حتى على مستوى المستحبات والمكروهات، وصفة الوعي والنضج والبصيرة بشؤون الأمة وتفاصيل الحياة وتجارب القادة وغيرها من الصفات والشروط مما يعُسُر إدراكه إلا بلطف الله تعالى وجهد طويل. ويمكن تقريبها على مهنة الطب فإن الطبيب يدرس ست سنوات في كلية الطب غير دراسته الابتدائية والإعدادية ثم يقيم سنة في المستشفيات و أخرى في القرى والأرياف ثم يعود إلى المستشفيات كمقيم أقدم ويمارس لوناً من ألوان الاختصاص مدة ثم يدرس عدة سنوات لنيل شهادة البورد في ذلك الاختصاص ويدرس ما بعد الاختصاص ومع ذلك فانه لا يشار إليه ضمن الرموز الطبية المرموقة حتى يمارس اختصاصه عدة سنوات ويثبت كفاءة ومهنية عالية ونزاهة وإخلاص ليكون في مصاف المرجعيات الطبية، وقد تستغرق هذه الرحلة أكثر من ثلاثين عاماً منذ بداية التحصيل ، هذا وهو يتعلق بطب الأبدان الذي مهما كان دقيقاً فانه يبقى محدوداً في تفاصيله ومساحة تأثيره فكيف بطب الأرواح ورعاية شؤون الأمة وقيادتها إلى الكمال والسعادة في الدارين.

على الحوزات أن تخطط لمستقبلها:

لذا فإن على الحوزات العلمية الشريفة أن تخطط باستمرار لمستقبلها وتحسب كل الاحتمالات فإن عدد المجتهدين اليوم الذي لا يتجاوز عدد الأصابع إنما هو حصيلة ألاف من طلبة العلوم الدينية كانوا قبل أربعين عاما

ص: 113

في النجف الأشرف فكم سيكون لدينا يا ترى من المجتهدين بعد عشرة أو عشرين عاماً مع هذا الوضع البائس الذي تعيشه الحوزة العلمية اليوم؟ هذه هي المسؤولية التي يجب أن نستشعرها ونتحملها باستمرار ويزداد الالتفات إليها والشعور بمرارتها في مثل هذه المناسبات حينما نجتمع لنتبادل التعازي بمناسبة رحيل العلماء العظماء.

وعي القيادة الرشيدة لزمانها:

حينما استشهد أستاذنا السيد محمد الصدر (قدس سره) في 3/ذ.ق/1419 المصادف 1999/2/19 عشت ومعي كل المحبين والموالين عواطف جياشة أشرت إليها إجمالا في كتابي (الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه)، ولكن ذلك لم يكن عائقاً عن التفكير في آليات العمل لما بعد ذلك الحادث الأليم حيث إن كثيرا من القنوات التي تحرك بها السيد الشهيد (قدس سره) وعلى رأسها صلاة الجمعة أصبحت متعذرة فقد ابلغنا جلاوزة النظام ونحن في مجلس العزاء بمنع إقامة صلاة الجمعة في الكوفة، وقد كان بعض الأخوة معنا في المكتب رغبوا إليَّ في إقامتها باعتباره (قدس سره) قد اختارنا لإمامة الصلاة في مسجد الكوفة في حياته ويكون هو (قدس سره) أحد المأمومين فيكون من الأولى إمامتها بعد استشهاده ، لكننا لم نجعل العواطف والانفعالات هي مصدر القرار و أمامنا تجربة الإمام السجاد (عليه السلام) حينما خطب في الكوفة بعد استشهاد أبيه الحسين (عليه السلام) ووبّخهم وعّرفهم بعاقبة فعلتهم

ص: 114

الشنيعة فعرضوا عليه النصرة والثورة على ابن زياد ولكنه (عليه السلام) كان له دور طويل يؤديه خلال (34) عاما ورسالة عظيمة يؤديها للأمة لا تبتني على ردود الأفعال العاطفية.

وقد عشتُ مثل هذا الضغط الجماهيري الذي كان يطالبنا بالسير بنفس آليات السيد الشهيد (قدس سره) في تلك الأيام، إضافة إلى ضغط الطغاة والقتلة المجرمين الذين كانت سيوفهم تقطر دماً وتراقب الحركات و السكنات وتتحسب لكل خطوة وحركة.

إضافة إلى ضغط التقاليد والمعايير الحوزوية التي عانى منها السيد الشهيد الصدر (قدس سره) منها قبلي وحاصرته ومنعت جزءاً من عطائه.

ورغم كل ذلك فقد وضعت برنامجاً لعملي في تلك الأيام العصيبة على شكل نقاط ورؤوس أقلام تصل إلى العشرة ثم بعد أشهر وضعتُ تفصيلات هذه النقاط(1) وسرتٌ عليها بمقدار ما يسّره الله تبارك وتعالى بلطفه وكرمه وحسن توفيقه وتفاجأ العالم كله بعد السقوط بسعة و قوة الحركة الإسلامية المباركة في العراق وما كان لذلك أن يتحقق ويستمر لولا رعاية الله تبارك وتعالى وتوفيقه لثلّة من عباده الصالحين العاملين المخلصين.

ص: 115


1- طُبعت بعد سقوط النظام بكراس عنوانه (المعالم المستقبلية للحوزة العلمية) ويمكن ملاحظة تأريخ كتابتهِا في نهايتهِ وهو لا يتضمن طبعاً مشاريع ما بعد سقوط النظام.

الشهيد الصدر الثاني (قدس سره)

ص: 116

وإعداد البديل

وإعداد البديل (1)

على أبناء الحوزة أن يحصلوا ملكة الاجتهاد:

إن التعبير عن المشاعر وردود الأفعال إزاء مثل هذه المناسبات الحزينة المؤلمة مختلفة بحسب مستويات الناس، فأنتم الفضلاء والأساتذة وطلبة البحث الخارج يكون تعبيركم المناسب هو ما نفهمه من ذيل الحديث الشريف (إذا مات العالم ثُلم في الإسلام ثُلمة لا يسدّها شيء إلا عالمٌ مثله) بوجوب مضاعفة الجهد وبذل الوسع لتحصيل ملكة الاجتهاد حتى نسدَّ هذه الثُلمة.

وهذا ما يقتضيه منهج أهل البيت (سلام الله عليهم أجمعين ) فإنهم أرجعوا الأمة في زمان غيبة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) إلى المجتهد الجامع للشرائط ليقوم ببعض وظائف ومسؤوليات الإمام وهي تلك التي لا يستطيع القيام بها لأنها تتنافى مع المصلحة في غيبته أما وظائفه(سلام الله عليه ) الأخرى فهو قائم بها وعلى رأسها لطف وجوده المبارك.

ص: 117


1- من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي مع الفضلاء الذين يحضرون بحثه الشريف في الفقه بمناسبة الذكرى العاشرة لاستشهاد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) في 3/ ذو القعدة /1429المصادف 2008/11/2.

مسؤولية المرجعية أن لا تخلي الأرض من المجتهدين:

إن اللطف الإلهي اقتضى أن لا تخلو الأرض من حُجة وإلا لساخت الأرض بأهلها كما ورد في الأحاديث الشريفة والمصداق الأكمل للحجة موجود (عجل الله تعالى فرجه) حتى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويقيم دولته المباركة، لكن الأمة بحاجة إلى نوع آخر من الحجة يكون نائباً للمعصوم (سلام الله عليه) ويقوم بتصريف الشؤون التي لا يستطيع مباشرتها بنفسه وبدونه تضّل الأمة عن الصراط المستقيم، لذا ورد في الدعاء (اللهم عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيَّك، اللهم عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرّفني حجتك فإنك إن لم تعرّفني حجتك ضللتُ عن ديني)(1).

فمن مسؤولية الحوزة العلمية وخصوصاً المرجعية أن لا تُخلي الأرض من حجة بهذا المعنى الثاني بلطف الله تبارك وتعالى.

دعوة للاستعداد المبكر لتحصيل شروط المرجعية، والإشادة بالنبوغ والإبداع:

نعم، هذا الوجوب كفائي وإذا تصدى أحد للمسؤولية فإنه يسقط عن الآخرين ويمكن أن يكتفي به غيره، لكن علينا الاستعداد المبكر لمثل هذا اليوم لأن شروط المرجعية لا تتوفر إلا بعد جهد وجهاد طويلين قد يستمران عقوداً ولا

ص: 118


1- مفاتيح الجنان: ص94.

تُعذر الحوزة العلمية أمام الله تبارك وتعالى إذا قصّرت في إعداد البديل، لقد كان السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) منصفاً في الإشادة بكل نبوغ علمي واجتهاد ويرى من مسؤولياته الإشارة إليه، ويشجّع السائرين الذين يؤمَّل لهم الوصول، كنتُ أناقشه باستمرار بعد انتهاء محاضرات البحث الخارج في الأصول وفي أحد الدروس سنة 1417هجرية عرض رأياً للسيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره) وناقشته (حيث كان يرّكز في بحثه على مناقشة آراء أستاذيه السيدين الصدر والخوئي (قدس الله سرهما) فقلت له بعد الدرس إن هذه المناقشة ليست تامة لكذا وكذا والصحيح أن يُردَّ على كلام الشهيد الصدر (قدس سره) بكذا وكذا فنظر إلي مبتسماً وعليه علامات الفخر بتلميذه (إن هذه المناقشات تفرحني لأنها تقربك من الاجتهاد) هذا غير الكلمات التي نشرت بقلمه وبصوته (قدس الله نفسه).

الحوزة النجفية لم تصدر شهادة اجتهاد واحدة منذ أكثر من ثلاثين عاماً:

وسأكون إن شاء الله تعالى منصفاً كأستاذي وكما أمر الله تبارك وتعالى فأشيد بكل نبوغ واجتهاد وأشير إليه تحملاً لهذه الأمانة لأن حبس الاعتراف باستحقاق الآخرين ظلم لهم والله لا يحب الظالمين فاغتنموا فرصة وجود المنصفين لأن العقود الأخيرة شهدت - بكل أسف - حبس هذا الحق لذا لم تصدر شهادة

اجتهاد واحدة في الحوزة النجفية منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فهل هذا يعني إفلاس هذه الحوزة وعجزها

ص: 119

عن أداء دورها فليعلنوا ذلك بشجاعة وموضوعية؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها، إذ أن الحوزة النجفية منجبة بفضل الله تبارك وتعالى وفيها عدد يُفتخر به من الطاقات الواعدة.

مفارقة مؤلمة:

إن من المفارقات المؤلمة أن نجد أساتذة الجامعات من الأكاديميين لا يبخلون على طلابهم بالاعتراف بنيل الشهادات العليا بعد الإشراف عليهم ومناقشة رسائلهم فيمنحونهم ما يستحقون وبتقديرٍ عال ٍ رغم أن ذلك يعني منافسة هؤلاء الأساتذة الجدد لهم في مواقعهم التدريسية والوظيفية ولم يمنعهم ذلك من الشهادة بإنصاف لهم، مع أنهم في الغالب علمانيون، فهل هؤلاء أنبل وأكثر إنصافا من مما يجري في أروقة الحوزة العلمية؟ هذا إذا عقدنا المقارنة على هذا المستوى وإلا فبين أيدينا شواهد على قيام كبراء الحوزة العلمية بقتل الإبداع والنبوغ ووضع العراقيل في طريقه وتسقيط صاحبها وتطويق مسيرته فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولكن الأمل بالله تبارك وتعالى أن يرعى بلطفه هذه الحوزة المباركة ويقيّض لها في كل جيل أمناء على حلاله وحرامه حتى يسلّموا الراية لبقيته وحجته في أرضه المهدي الموعود (أرواحنا له الفداء).

ص: 120

ص: 121

الفصل السابع: السيدة الزهراء (علیها السلام) توقظ الأمة لمعرفة قادتها

اشارة

ص: 122

السيدة الزهراء (عليها السلام) توقظ الأمة لمعرفة قادتها

السيدة الزهراء (عليها السلام) توقظ الأمة لمعرفة قادتها(1)

ص: 123


1- كلمة سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمناسبة ذكرى استشهاد الصديقة الزهراء (عليها السلام) يوم السبت 3/ج2/1432 الموافق 2011/5/7، التي ألقاها على الجموع القادمة لزيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) في المناسبة.

الغفلة الأخلاقية:

ورد في حديث مشهور (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)(1) فالناس وإن تراهم يعملون ويأكلون ويتحدثون إلا أنهم في نومٍ هو نوم الغفلة عن حقيقة وجودهم، وما يراد منهم والهدف الذي يجب أن يتوجهوا إليه، وما الذي ينتظرهم بعد موتهم والنتيجة التي سيحصلون عليها من السعادة أو الشقاء، فإذا ماتوا اكتشفوا أنهم كانوا في هذه الغفلة، وفوجئوا بعدم الاستعداد لتلك الحياة الجديدة الدائمة التي لا يستطيع أحد مهما أوتي من علم أن يدعي معرفة حقيقتها إلا من عرّفهم الله تعالى، وحينئذٍ سيصاب بالذهول وتأخذه الحسرة والندامة كما قال أمير المؤمنين (عليه

ص: 124


1- نسبه العلامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (4/43 وفي 50/134) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونسبه ابن ميثم البحراني في (شرح مائة كلمة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، الكلمة الثانية) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولم يذكر مصدراً لذلك فلعلها كلمة مشهورة مستفادة من أحاديث المعصومين (عليهم السلام) التي سترد في الخطبة، ولعلها مستفادة من قول الإمام علي (عليه السلام): (أهل الدنيا كركب يسار بهم وهم نيام) (نهج البلاغة، ج4).

السلام): (اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت)(1)، قال تعالى في ذلك: «وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ، وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ، لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (ق:19-22).

لقد كنت في الدنيا غافلاً عن هذه المشاهد وهذه العاقبة منهمكاً في مشاغلها من مالٍ ومتعة ولهو ولعب وعبث وصراعات وجدلٍ فارغ من غير استعداد لهذا اليوم، وبالموت انكشف عنك غطاء الغفلة فصرت ترى بعين البصيرة النافذة الحادة حقيقة أمرك وعاقبتك بعد زوال الحجاب عنها، فما كنت تعتقد أنه حقيقة من مشاغل الدنيا ولهوها ومتعها وجدت أنه خيال ووهم زائل وسراب كنت تتعلق به يحسبه الظمآن ماءً، وما كنت غافلاً عن الاستعداد له ولا تحسب حسابه –وهو الموت وما بعده من أهوال الآخرة- قد وجدته حقيقة ثابتة، فالغفلة باتجاهين «وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» (الزمر:47).

معنى الغفلة:

ص: 125


1- نهج البلاغة، خطبة 109.

وبقراءة ما بين سطور الآية الشريفة نستنتج أن هذه الحقائق موجودة في هذه الدنيا؛ لأن الغفلة لا تكون إلا عن شيء موجود، لكن الإنسان لا يرى تلك الحقائق بالعين وإن كانت مفتوحة وإنما بالبصيرة والقلب الطاهر من الرجس فإذا ضرب عليه بحجاب من الغفلة والقساوة والرين فإنه سوف لا يكون مرآةً قابلة لانعكاس الحقائق الموجودة في اللوح المحفوظ.

وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (انتباه العيون لا ينفع مع غفلة القلوب)(1) ، والخطاب في الآية الشريفة «لَقَد كُنتَ في غَفلَةٍ» لا يشمل من بلغوا من المعرفة أقصاها وزالت عن بصائرهم حجب الجهل والغفلة وغشاوتها لأنهم مبصرون وليسوا غافلين، لذا فهم يرون العالم الآخر ويتحدثون عنه كرسول الله(2)

(صلى الله عليه وآله وسلم)، فترى أمير المؤمنين (عليه السلام) استعمل نفس تعبير الآية الشريفة حينما قال: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً)(3)؛

لأنه (عليه السلام) لم يكن في

ص: 126


1- غرر الحكم: 909.
2- والشواهد على ذلك كثيرة كتكليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقتلى بدر وحكايته عما جرى لسعد بن معاذ من ضغطة القبر ولعبد الله والد جابر الأنصاري من النعيم بعد موتهما، ولعمرو بن لحي وغيرهم.
3- مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: 1/317.

غفلة عن هذه الحقائق بل كانت حاضرة عنده (عليه السلام).

إن الغفلة –وكذا النسيان- وإن كانت أمراً خارجاً عن إرادة الإنسان ظاهراً، إلا أن الإنسان هو الذي يوقع نفسه فيها لقلة تحفظه وانتباهه وبارتكابه مقدماتها وإيجاده الأسباب الموجبة لها، والتي نعرفها من مضاداتها أي علاج الغفلة التي ذكرها الأئمة (عليهم السلام).

الغفلة أضر الأعداء:

فالإنسان إذن هو الذي يحرم نفسه من معرفة الحقيقة ويحبسها في سجن الغفلة، حينما يرتكب ما يبعده ويشغله عن الله تعالى حتى يقسو قلبه فلا يتقبل المعرفة، عن الإمام الحسن (عليه السلام): (الغفلة تركك المسجد وطاعتك المفسد)(1)

وهذه بعض مصاديق ما يوجب الغفلة، وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (إياك والغفلة ففيها تكون قساوة القلب)(2)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في

ص: 127


1- بحار الأنوار: 78/115.
2- مستدرك الوسائل: ج12 ص93.

غرر الحكم: (من غلبت عليه الغفلة مات قلبه)(1) (دوام الغفلة تعمي البصيرة)(2).

ولقد ورد التحذير من الغفلة عن الله تبارك وتعالى قال سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (الحشر:19)؛ لذا وصفها أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن (الغفلة أضرُّ الأعداء)(3) لأن (الغفلة ضلال النفوس وعنوان النحوس)(4) وقال (عليه السلام): (ويل لمن غلبت عليه الغفلة فنسي الرحلة ولم يستعد)(5).

ما يوقظ من الغفلة:

وبينوا (عليهم السلام) لنا ما يوقظ من نوم الغفلة،كالقيام بالأعمال الصالحة ولو على مستوى النية وإن لم يفعلها، فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا

ص: 128


1- غرر الحكم: 5765.
2- غرر الحكم: 5146.
3- غرر الحكم: 5744.
4- السابق: 5746.
5- السابق: 2656.

أبا ذر: همّ بالحسنة وإن لم تعملها؛ لكي لا تكتب في الغافلين)(1).

وتلاوة القرآن، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): (من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين ومن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين)(2).

وتقوى الله تبارك وتعالى، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (أوصيكم بتقوى الله.. أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم)(3).

والإكثار من ذكر الله تعالى، فعنه (عليه السلام): (بدوام ذكر الله تنجاب الغفلة)(4).

والاستعداد للموت، قال (عليه السلام): (إن من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد)(5).

واستماع المواعظ، ومطالعة كتب الموعظة والتذكير بالآخرة، قال (عليه السلام): (بالمواعظ تنجلي الغفلة)(6) ، (أغفل الناس من لم يتعظ بتغير الدنيا من حال إلى حال)(7).

ص: 129


1- البحار: ج77 ص88.
2- أصول الكافي، كتاب فضل القرآن، باب ثواب قراءة القرآن، ح5.
3- نهج البلاغة: الخطبة:191.
4- غرر الحكم: 4269.
5- التوحيد: ص74.
6- غرر الحكم: 4530.
7- البحار: ج77 ص112.

وترك اللهو والعبث، والأمور الفارغة، والاشتغال بما هو مفيد، قال (عليه السلام): (إن كنتم للنجاة طالبين فارفضوا الغفلة واللهو والزموا الاجتهاد والجد)(1).

والالتزام بالصلاة والمحافظة على أوقات فضيلتها، عن الباقر (عليه السلام): (أيما مؤمن حافظ على الصلوات المفروضة فصلاها لوقتها فليس هذا من الغافلين)(2).

وقد تضمنت الأدعية المباركة طلب اليقظة من الغفلة كقولهم (عليهم السلام): (نبهني فيه من نومة الغافلين) (3).

الغفلة عن القيادة الرسالية:

أيها الإخوة المؤمنون: هذه الغفلة عن الله تعالى ترتبط بها غفلة أخرى لا تقل عنها ضرراً هي عدم الاهتداء إلى الحجة المنصوب من الله تعالى لأن بها الضلال عن الدين كما في الدعاء المعروف: (اللهم عرّفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني)(4) وفي ذلك يقول الإمام الحسين (عليه السلام): (معرفة الله هي معرفة كل أهل عصر إمامهم)(5).

ص: 130


1- غرر الحكم: 5749.
2- الكافي: ج3 ص270.
3- دعاء يقرأ في الأول من شهر رمضان،البحار: ج95 ص4.
4- مفاتيح االجنان: ص112.
5- علل الشرائع: ج1 ص9، والبحار: ج5 ص312.

فأخطر النوم الذي سيعرف الإنسان حقيقته عندما ينكشف عنه غطاء الغفلة بالموت، هو النوم عن معرفة السبيل الذي يوصله إلى معرفة ربّه ويهديه إلى الصراط المستقيم وفي دعاء الندبة (وقلتَ ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك)(1).

والغفلة عن القيادة الحقة للأمة قد تكون غفلة كاملة باتباع قيادة مناقضة تماماً لها كمن اتبع معاوية ويزيد ونظراءهما وعادى علي بن أبي طالب والحسن والحسين وأولادهم المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين)، وقد تكون على نحو الانحراف عنها باختيار غير الأكفأ والأقدر على تحمل المسؤولية.

وبحسب نوع الغفلة ودرجتها تتفاوت الآثار(2) المترتبة على ذلك ومقدار الابتعاد عمّا أمر الله تعالى، وإن كان الحق واحداً وصراطه مستقيم، وإنما تتكثر طرق الضلالة والانحراف «أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(يونس:35) «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» (يونس:32).

ص: 131


1- مفاتيح الجنان: ص606.
2- يوجد تفصيل لهذه الآثار في خطاب (ماذا خسرت الأمة حين ولّت الأمة من لا يستحق) المنشور في كتاب (من وحي الغدير).

لماذا خرجت السيدة الزهراء (عليها السلام)؟

أيها الإخوة المجتمعون على محبة الزهراء (عليها السلام) ونصرتها:لم تكن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) حين خرجت إلى مسجد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) راغبة في أن تخرج من دارها؛ لأنها القائلة حين سأل أبوها (صلى الله عليه وآ له) عما هو خير للنساء فأجابت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، وحينما تزوجها أمير المؤمنين (عليه السلام) وانتقلت من دار أبيها رسول الله إلى دار زوجها أمير المؤمنين (عليه السلام)، قسّم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العمل بينهما فجعل على علي (عليه السلام) ما خلف باب الدار وعلى فاطمة (عليها السلام) ما دون الباب، فقالت فاطمة (عليها السلام): (فلا يعلم ما داخلني من السرور إلا الله بإكفائي رسول الله (n) تحمّل رقاب الرجال)(1).

لكنها خرجت مرغمة لأداء واجبها في إيقاظ أمة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) من الغفلة التي اعترتهم والتفريط في وصية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرادت أن ترفع عنهم حجاب الغفلة، وتحذّرهم يوم يكشف الغطاء عنهم، وتذكرهم بلزوم طاعة الإمام الحق أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وكانت كلماتها (عليها السلام)

ص: 132


1- بحار الأنوار: 43/81 عن قرب الإسناد: 52/ح 170.

تقع كالصاعقة عليهم كقولها (عليها السلام): (معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل، المغضية على الفعل القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها؟ كلا بل رانَ على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأوّلتم، وساء ما به أشرتم، وشرٌّ ما منه اعتضتم(1) (اغتصبتم)، لتجدنَّ –والله- محمله ثقيلاً وغبَّه وبيلاً إذا كشف لكم الغطاء وبان ما وراءه الضراء وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون)(2).

وبيّنت (عليها السلام) للأمة من خلال نساء الأنصار اللواتي زرنها صفات المستحق لإمامة الأمة وقيادتها (ويحهم، أنّى زحزحوها! عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين(3)

بأمور الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين. وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ نقموا منه –والله- نكير سيفه وقلة مبالاته بحتفه وشدة وطأته ونكال وقعته وتنمّره(4)في

ص: 133


1- اعتضتم: من الاعتياض وهو أخذ العوض والمقصود هنا الاستبدال.
2- البحار: ج29 ص232، والاحتجاج: ج1 ص104، والمناقب: ج2 ص206.
3- الطبين الحاذق الفطن العارف.
4- التنمر: الغضب، والمقصود من ذات الله أي لوجه الله عز وجل.

ذات الله عز وجل. والله لو تكافّوا(1)

عن زمام نبذه رسول الله إليه لاعتقله ولسار بهم سيراً سُجُحاً(2)

لا يكلم خِشاشُه(3)

ولا يتعتع (4)

راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً فضفاضاً تطفح ضفتاه ولا يترنّق جانباه(5).

ولأصدرهم بِطاناً(6) ونصح لهم سراً وإعلاناً، ولم يكن يحلى (7) من الغنى بطائل ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ريِّ الناهل وشبعة الكافل(8). ولَبان لهم الزاهد من الراغب

ص: 134


1- تكافّوا: صرف بعضهم بعضاً، والزمام مقود البعير أو الخيط الذي يشد في ثقب أنف البعير، وفي رواية أخرى (لو تكافئوا على زمام نبذه رسول الله إليه لاعتقله..).
2- السير السجح: السهل اللين.
3- لا يكلم: لا يجرح، والخشاش: الخيط الذي يدخل في أنف البعير.
4- يتعتع راكبه: يقلق ويتحرك حركة عنيفة.
5- المنهل: محل ورود الماء، والنمير: الماء العذب السائغ النامي للجسد، والرويّ: الكثير، والفضفاض: الواسع، ويترنّق: يتكدر.
6- البطان: جمع بطين وهو عظيم البطن، وأوردهم: جاء بهم إلى الماء وأصدرهم: أي أرجعهم بعد الري.
7- يحلى: يصيب ويستفيد، والطائل: كثير فائدة.
8- الناهل: العطشان أو الشارب الذي روى فاعتزل فيكون شربه قليلاً بعدها، ويحتمل أن يكون الناهل بمعنى الذي ينهل قليلاً من الماء فالنهل هو أول الشرب، والكافل المسؤول عن العيال الذي يؤثرهم على نفسه فيقلل طعامه، وفي اللغة أيضاً أن الكافل هو الذي لا يأكل أو الذي يواصل الصيام. والتمثيل واضح أنه (عليه السلام) سوف لن يتناول من الدنيا إلا بما يقيم أوده كما فعلها في فترة حكومته (سلام الله عليه)، وفي اللغة أيضاً أن الكافل هو الذي لا يأكل أو الذي يواصل الصيام.

والصادق من الكاذب «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَ-كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ»)(1).

وحذّرتهم (سلام الله عليها) من عاقبة فعلتهم حينما صرفوا الأمر إلى غير أهله فقالت: (أما لعمري لقد لقحت فنَظِرةٌ ريثما تُنتج(2)، ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً(3)، وذعافاً مبيداً(4)، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبّ(5) ما أسسه الأولون، ثم طِيبوا عن دنياكم أنفساً(6)،

ص: 135


1- البحار: ج43 ص158، والاحتجاج: ج1 ص108.
2- لقحت الفتنة إذا استثيرت، تشبيهاً بتلقيح الدابة، وتنتج: تلد، والنظِرة: المهلة، أي انتظروا حتى تلد الفتنة قصدت بها (عليها السلام) ما ينتظر هذه الأمة من ويلات بسبب الفتنة التي حصلت يومها.
3- القعب: إناء ضخم، والدم العبيط: الطري.
4- الذعاف: السم السريع الإفناء، والمبيد المهلك.
5- الغب: العاقبة أو الجزاء.
6- طابت نفسه عن الشيء: أي نسيه ولم يفكر فيه، إشارة إلى أنكم ستخسرون أنفسكم وهو تعبير للسخرية منهم ولتهويل خسارتهم.

واطمئنوا للفتنة جأشاً(1)، وأبشروا بسيفٍ صارم وسطوة معتدٍ غاشم، وهرْجٍ(2) شامل، واستبداد من الظالمين يدعُ فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً. فيا حسرةً لكم، وأنّى بكم؟ وقد عميت عليكم(3)، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟)(4).

الأئمة (عليهم السلام) وإيقاظ الأمة تجاه القيادة الرسالية:

وهذا ما سار عليه أولادها المعصومون (عليهم السلام) فقد كانوا يوقظون الأمة وينبهونها إلى الإمام الحق، ومما ورد في كتاب الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أهل الكوفة يعْلمهم بإرسال ابن عمه مسلم بن عقيل: (فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله)(5).

ص: 136


1- هذا هو الموجود في المصدر الذي بين يدي، والأصل ربما (وطامنوا للفتنة جأشاً) يعرف ذلك من خبر اللغة وهو كلام سائر في كلام العرب وطامن القِدر وطأمنه أي سكّنه والجأش: القلب أو النفس من الاضطراب والروعان، وسبيل هذا التعبير من التشبيه سبيل سابقه من التهويل والاستهزاء نظير قوله تعالى: «فبَشّرهُمْ بعَذَابٍ أَلِيمٍ».
2- الهرج: الفوضى أو الفتنة.
3- أنى لكم: من أين لكم الهداية، أو: أين تذهبون وتتيهون مثل قوله تعالى: «فَأنّى يُؤفَكُونَ».
4- الاحتجاج: ج1.
5- مقتل الحسين (عليه السلام) للسيد المقرّم: 165.

وحذّرهم (عليه السلام) يوم كربلاء من مغبة اتباع القادة الضالين المنحرفين وترك أئمة الحق والهدى الذين تجب على الجميع نصرتهم ومن أقواله (عليه السلام): (تبّاً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم (1) موجفين(2)

سللتم علينا سيوفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا –لكم الويلات- تركتمومنا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستحصف(3)...

ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنا تتخاذلون، أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يُركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى

ص: 137


1- استصرخ: استنجد، وأصرخ: لبى الاستصراخ وأنجد المستصرخ، والواله: هو المتحير أو الخائف.
2- الوجيف سرعة السير، وربما يطلق على المشي الشديد ويستعمل في المشي بجد وقصد قال تعالى: «فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ» (الحشر: 6).
3- السيف مشيم: أي مغمد، والجأش طامن: تقدم المعنى، وهو تشبيه للنفس أو القِدر بأنه مطمئن كناية عن استقرار الأمر وهمود الفتنة، والرأي لما يستحصف: لم يصبح حصيفاً واضحاً جازماً بعد: أي رأي أعدائه في قتله أي لم يكونوا ليتجرأوا عليه ولكنكم سهلتم له ذلك (فتطايرتم عليها تطاير الدبا (وهو الجراد) وتهافتم عليها كتهافت الفراش).

وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدي رسول الله)(1).

وترجم الشهيد زهير بن القين هذا المعنى في خطبته التي وجهها إلى جيش الأمويين يوم عاشوراء ومما جاء فيها: (فإنكم لا تدركون منهما –أي يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد- إلا سوء عمر سلطانهما، ليَسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهاني بن عروة وأشباهه)(2).

نتائج الغفلة عن القيادة الحقيقية:

وهذا ما حصل ويحصل في كل زمان حتى يومنا الحاضر حيث لم تحصد الأجيال من تسلط وزعامة غير المؤهلين لقيادة الأمة إلا الفتن والضلال وتمزيق الشمل، والصراعات التي أهلكت الحرث والنسل، وتشويه صورة الإسلام، وضعف الوازع الديني بحيث لا يبقى من المتدينين إلا النزر اليسير، وتلكؤ حركة الإسلام لهداية البشرية، وحرمان الناس من ثروته المعنوية الهائلة، واستعباد الناس والاستئثار بثروات الأمة وهدرها على

ص: 138


1- مقتل الحسين للسيد المقرم: 286-288.
2- مقتل الحسين للسيد المقرم: 283.

نزوات وأطماع المتسلطين وفسادهم، وغيرها من الكوارث العظيمة.

النهضة الفاطمية:

يا أنصار الزهراء.. إننا نشهد اليوم ازدهار النهضة الفاطمية المباركة وانتصار موقفها، فبعد أربعة عشر قرناً من محاولات فقهاء السلطة إخضاع الناس لإرادة السلطان الذي يسمي نفسه أمير المؤمنين، وإجبار هم على طاعته باعتباره عندهم هو المقصود بأولي الأمر في الآية الشريفة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ» (النساء:59) وحرّموا الخروج عليهم مهما بلغ فسقهم وفجورهم وظلمهم حتى قالوا عن الحسين (عليه السلام) سبط النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) (أنه قُتل بسيف جده)(1)

لأنه خرج طلباً للإصلاح في الأمر وليصحح الانحراف في مسيرة الحكام.

ووقفت الزهراء (عليها السلام) من أول يوم لانقلاب الأمة لتكشف الانحراف ولتوقظ الناس من غفلتهم وترشدهم إلى الإمام الحق، وأن القيادة لا تكون

ص: 139


1- الكلمة للقاضي أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه العواصم من القواصم: ص214، وأنظر: فيض القدير: ج1:ص265 ح 281، ومقدّمة ابن خلدون: 171.

بالادعاءات وإنما بالاستحقاق والمؤهلات التي يريدها الله تبارك وتعالى لكن تزوير الحقائق الذي مارسه فقهاء السلطة عبر القرون رسخ في أذهان أتباعهم فرسّخوا عقيدة أن من يتسلط على رقاب الناس ولو بالسيف والقهر والانقلابات العسكرية هو ظل الله في الأرض وخليفته، وأن الله تعالى يأمر بطاعتهم ولا يزال الكثير منهم يرددها.

ثورة الشعوب وانتصار القيم الفاطمية:

لكن شعوب المنطقة اليوم بثورتها على حكامها الطواغيت ونزوعها إلى الحرية، رفضت ذلك التزوير للحقائق الذي مارسه علماء السوء فاضطر بعضهم إلى مجاملة حركة الشعوب وتأييدها، فأثبت الواقع على الأرض دحض نظرية أعداء السيدة الزهراء من أمويين وعباسين وأمثالهم، وآمن الجميع –شاؤوا أم أبوا- بصحة ما طالبت به الزهراء (عليها السلام) من تسليم الأمر إلى أهله ومستحقيه.

بل النصر أوسع من ذلك فإن ما يدور في أروقة الأكاديميات السياسية في أمريكا وأوربا هو فشل نظرياتهم في الحكم؛ لأن أساس الحكم هو العدل والهدف منه توزيع الحقوق والواجبات على الناس بالقسط والعدل، وهذا ما لم تستطع تحقيقه كل أنظمة الحكم الوضعية التي صنعتها البشرية لنفسها، ففشلت الدكتاتورية أولاً؛ لأنها تجمع الامتيازات بيد الفرد على حساب الأمة، فنادوا

ص: 140

بالديمقراطية واعتبروها أعظم الإنجازات البشرية في الحكم ثم ثبت لديهم فشلها لأنها ترعى مصالح النصف زائداً شيء على حساب النصف ناقصاً شيء، فعدلوا إلى فكرة الشراكة في الحكم ثم وجدوها بائسة تشلّ الحياة لأنها تتحول إلى محاصصة على حساب المهنية والكفاءة والنزاهة، وضاعت مؤسسات الدولة في أتون صراعات السياسيين ونخرتها أنانياتهم. فاقتنعوا الآن بما أسسه أهل البيت (عليهم السلام) بأمر الله تبارك وتعالى من ضرورة قيمومة شخص يمثل القمة في العلم والنزاهة والاستقامة والصفات الكريمة على السلطة ليوجّه عملها ويقوّم اعوجاجها ويصلح ما فسد من أمورها وهو عين ما نعتقده في من يستحق التصدي لهذا الموقع الشريف من الأنبياء والرسل والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، ومن بعدهم الفقهاء الجامعون لشرائط النيابة عن المعصوم (عليه السلام).

فضح النموذج الوضعي والغربي:

لقد أذعنت تلك الأكاديميات بصحة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في السلطة والحكم وحمّلوا شيعتهم مسؤولية بيان هذه الحقائق وإيصالها إلى العالم كله، فإن البشرية ستؤمن بها إذا وعتها.

وهذه من أعظم المسؤوليات التي يتوجب علينا القيام بها اليوم؛ لأن معركة الحق والباطل على مدى

ص: 141

التأريخ تتجلى بوضوح في معركة الحاكمية والقانون الذي يجب أن يحكم في الأرض، فالله تبارك وتعالى يريد لشريعة الحق والعدل أن تسود ويتصدى المصطفون الأخيار لقيادة البشرية، بينما يريد أولياء الشيطان وأتباع الهوى والأطماع، واللاهثون وراء السلطة والجاه والنفوذ أن يستأثروا ويستبدوا، ويتدافع هذان المعسكران عبر التأريخ بلا كلل أو ملل، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في جواب رجل قال له في وقعة صفين: ترجع إلى عراقك ونرجع إلى شامنا، قال (عليه السلام): (لقد عرفتُ إنما عرضتَ هذا نصيحةً وشفقة.. إن الله تبارك وتعالى لم يرضَ من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنم) (1).

النهضة الفاطمية امتداد للمواجهة بين الحق والباطل:

وامتداداً لهذه المواجهة خرجت الصديقة الزهراء (عليها السلام) إلى مسجد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) وألقت خطابها على المسلمين وخصمتهم بالحجج الدامغة، والتزاماً بهذا الواجب توجّه الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء حيث عبّر عن غرضه في عدة مواضع وأنه

ص: 142


1- نهج السعادة: 2/226.

ما خرج إلا طلباً للإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتصحيح الانحراف وتقويم اعوجاج السلطة، ومن كلماته (عليه السلام) في ذلك: (أيها الناس إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام الله ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله) (1).

وقال (عليه السلام): (إن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه) ثم قال (عليه السلام): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحطام ولكن لنحيي المعالم من دينك ونُظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك. فإنكم إن لا تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير) (2).

فهنيئاً لكم أيها السائرون على النهج الذي اختطته الصديقة الطاهرة (عليها السلام) فقد عرفتم الحق منذ عرفتم الزهراء (عليها السلام) وتمسكتم بها، فحافظوا على هذه النعمة، وكونوا يقظين، ولا تأخذكم غفلة عن

ص: 143


1- مقتل الحسين (علیه السلام) للسيد المقرم: 218.
2- تحف العقول: 172.

معرفة قادتكم الحقيقيين الذي يأخذون بأيديكم إلى الهدى والصلاح ورضا الله تبارك وتعالى «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ» (الأنبياء:73).

ص: 144

الفصل الثامن: حوارات حول دور الفقيه في قيادة الأمة

اشارة

ص: 145

الفقيه وقيادة الأمة

بسمه تعالى وبه نستعين

وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين

موقعية الفقيه في الحياة الإسلامية:

س1: الفقيه المجتهد المجاهد أين يضع نفسه في سياقات الحدث العراقي الفاعلة وتطوراتها وتعقيداتها؟

بسمه تعالى: الإنسان -كل إنسان- جزء من هذه الأمة فيتأثر بحركتها ويؤثر فيها، وقد شبه رسول الله (صلی الله علیه و آله) كيان الأمة

ص: 146

بركاب السفينة لا يستطيع أحد أن يقلع خشبته منها ويقول هذا ملكي وأنا حر بالتصرف فيها فإن مآل ذلك غرق الجميع وهو فيهم، لذا ورد عنه (صلی الله علیه و آله) (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(1) ولا يمكن أن يتكل أحد على آخر، بل يشترك الجميع في تحمل المسؤولية ومن هنا ورد في الأحاديث الشريفة (من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)(2).

وما دامت الأمة كياناً واحداً له معالمه وخصائصه فلحركتها – فعلاً أو تركاً – شريعة تنظمها غير التكاليف التي تتوجه إلى أفرادها كأفراد وهذا ما سميته بالفقه الاجتماعي في بحث (الأسس العامة للفقه الاجتماعي).

ولا شك أن المسؤوليات الملقاة على عاتق الناس تختلف سعة وضيقاً بحسب الموقع الذي يشغله الفرد.

ويقف الفقيه في قمة تلك المسؤوليات وأوسعها لأنه الكهف الذي تأوي إليه الأمة إذا نزلت بها عظائم الأمور، والنور الذي تستهدي به في حياتها، والمعين الذي تنهل منه معارفها وصمام أمان وحدتها و تماسكها، والقيادة التي تسير خلفها نحو ما يصلح شانها فمحله من الأمة محل الرأس من الجسد والقطب من الرحى.

وقد نبه الأئمة المعصومون (علیهم السلام) الأمة إلى هذا الموقع الشريف للفقيه الجامع للشرائط فوصفوا الفقهاء ب-

ص: 147


1- البحار: ج72 ص38.
2- السابق: ج71 ص338.

(أمناء الرسل)، (حصون الإسلام)، و(القادة) وإن الفقهاء – بحسب تعبير الإمام – (فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)(1).

ولعل من نافلة القول أن أشير إلى أن المراد بالفقيه الذي تنطبق عليه الأوصاف أعلاه ليس من اكتفى بتحصيل العلم حتى لو بلغ أسنى درجاته، وإنما يحتاج إلى ضم تهذيب النفس والمعرفة بالله تبارك وتعالى، والوعي العميق لهموم الأمة ومشاكلها وقضاياها والظروف المحيطة بها وان يحيط نفسه بمستشارين وعيون مخلصين واعين نزيهين.

وفي ضوء هذه المقدمة نقول إن الفقيه هو العقل الذي تجتمع عنده أفكار الأمة ورؤاها فيصوغها بما آتاه الله من مؤهلات في أفضل مشروع يمكن ان تستقيم به حياتها ويعرضه عليها لتسعى إلى تنفيذه، وهذه العلاقة بين الفقيه والأمة هي التي ترسم أدوار كل منها، فالفقيه ليس رئيس حكومة ولا رئيس دائرة ولا أي شيء من هذا القبيل، وإنما هو الأب والراعي لكل هؤلاء الذين يحققون الخير لأنفسهم ولأمتهم بمقدار أخذهم بتوجيهات المرجعية التي لا تكره أحداً على طاعتها وإنما تعمل على إقناع الناس بمنهجها ومشروعها.

هذا هو باختصار موقع الفقيه من فعاليات الأمة وقضاياها وآمالها وآلامها، وبقي على الأمة أن تتعرف على قياداتها الحقيقية وتفي لها بالتزامها.

ص: 148


1- الوسائل: ج27 ص140.

مقومات القرار السياسي:

س2: كما تعلمون أن القرار السياسي يحتاج إلى أهلية ومقومات فما هي هذه المقومات بنظر سماحتكم؟

بسمه تعالى: ليكون القرار السياسي صائباً أو قريباً من ذلك لا بد أن تتوفر في صاحبه عدة مؤهلات:

1- علمية: بمعنى الإحاطة بالعلوم التي لها دخل في هذا القرار، وعلى رأسها الفقه الذي يمثل الشريعة والقانون الذي ينظم حياة الفرد والمجتمع بأن يكون مجتهداً له القدرة على استنباط الأحكام والمواقف الشرعية لمختلف الحالات.

2- أخلاقية: بأن يكون مخلصاً لله تبارك وتعالى متجرداً عن الأنانية الفردية والفئوية نزيهاً في عمله محباً للناس شاعراً بهمومهم وآلامهم وآمالهم وتحصل هذه الصفات بتربية طويلة و (جهاد أكبر) مع النفس.

3- مهنية: أي الكفاءة والقدرة على إدارة العمل المناط به وتتحقق بعد ممارسة طويلة للعمل والاستفادة من خبرات السابقين وتجاربهم.

4- واقعية: بأن يكون ابن الحالة التي تعيشها الأمة ويولد من رحم المعاناة والظروف التي تمر بها ويكون واعياً للملابسات التي تحيط بالقضية التي يريد أن يتخذ قراراً بإزائها.

وقد أشارت الآية الشريفة إلى تشخيص بعض صفات القيادة في شخصية الرسول الكريم (صلی الله علیه و آله) قال تعالى: «لَقَد جَاءَكُم رَسُولٌ» يحمل رسالة وشريعة ربانية قد استوعبها علماً وعملاً «مِنْ أنفُسِكُم» عاش محنتكم وعرف مشاكلكم وهو

ص: 149

خبير بكم، وأنتم أيضاً تعرفونه في صدقه وأمانته وإخلاصه «عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم» يتألم لما يصيبكم من عناء وشقاء نتيجة الابتعاد عن المنهج الإلهي في الحياة، فله همة عظيمة في إنقاذكم من هذه الحياة النكدة، ولا يعيش هم نفسه فقط ومصلحته وأنانيته ومعزولاً عن الناس «حَرِيصٌ عَلَيكُم» يبذل كل ما في وسعه لإسعادكم ولا يدخر جهداً في إصلاحكم «بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ» يضحي من أجلهم ويؤثر على نفسه.

المسائل الاجتماعية والمسائل الفردية:

س3: لا يخفى على سماحتكم أن الإفتاء في الأمور السياسية أكثر تعقيداً من الأمور العبادية باعتبار أن المسائل السياسية متغيرة فما تقولون بهذه الرؤيا؟

بسمه تعالى: من الناحية الفنية فإن ممارسة الفقيه للاستنباط لها آليات موحدة كأي ممارسة مهنية، لكن المقدمات و الوسائل التي يستند إليها الفقيه في عمله قد تختلف من مسألة إلى أخرى، ومن هنا قد تنشأ الصعوبة في اتخاذ القرار في القضايا العامة التي تهم الأمة، وهذه الصعوبة لها عدة مناشئ:

أ- أنها تتعلق بمصير الأمة فالخطأ فيها تكون خسارته فادحة بعكس الشؤون الفردية التي لا ضرر فيها على الفرد لأنه معذور باتباعه لمرجعه حتى لو أخطأ ولا تترتب عليه أضرار تذكر. ولهذا كان التدقيق والفحص في المسائل

ص: 150

الاجتماعية أكبر والجهد المبذول أكثر.

ب- إن المسائل الفردية قد أشبعت بالبحث من قبل الفقهاء السابقين وبشكل معمق ومستوعب مما يقلل جهد البحث على الفقيه اللاحق بدرجة كبيرة عكس المسائل العامة التي تكون غالباً مستحدثة وذات ظروف موضوعية مختلفة ويكون البحث فيها مبتكراً ولا تخفى صعوبة مثله.

ج-- إن المسائل الفردية قد عولجت مباشرة بالنصوص من قبل المعصومين (علیهم السلام)، أما المسائل العامة فلا يوجد نص ينطبق عليها غالباً، وإنما توجد عمومات وإطلاقات لا تنظر إلى الواقعة بشكل مباشر مما يتطلب إحاطة وموسوعية ودقة نظر الفقيه واستحضار لكل تلك الأدلة، وقد يتطلب الأمر أحياناً ان يفهم الفقيه ذوق الشريعة وروحها وأسلوب عمل المعصومين وهو ما لا يؤتاه إلا ذو حظ عظيم ومن الصعب اكتشافه.

د- إن المسائل العامة تتطلب تعايشاً مع واقع الأمة والظروف المحيطة بها وهو لا يتسنى للفقيه بحسب طبيعة حياته المحافظة، ويمكنه أن يستعيض عنها بمستشارين إلا أن من الصعب أن يجد الفقيه عدداً كافياً من الناصحين الورعين الثقات الموصوفين بالبصيرة الثاقبة ونكران الذات، فمن الممكن أن يكون خطأ الفقيه بسبب الرؤية غير الدقيقة التي ينقلها إليه مستشاروه.

والحل طبعاً وإن كان صعباً على غير العلماء الرساليين الحريصين على إصلاح الأمة وإسعادها، هو أن يعيش الفقيه في أوساط الأمة ولا يحتجب عن أي أحد من أفرادها

ص: 151

ويستمع إلى الجميع ليكوِّن لنفسه رؤية خاصة مهما تكون نسبة الخطأ فيها فإنها أفضل من الاعتماد على رؤية الآخرين.

الفقيه وإشكالية نظام الحكم:

س4: ذكرتم في عدة لقاءات وبيانات أن مجمع السلطات تكون بيد الفقيه الجامع للشرائط في النظام الإسلامي، فأين محل الانتخابات التي تنادون بها وما هو دور الأمة في هذا النظام، وإذا اختارت الأمة رئيساً للجمهورية لا يتصف بملكة الاجتهاد فهل يكون أمرها في سفال كما جاء في بعض الأحاديث عن المعصومين (علیهم السلام)، باعتبار أن أمر الأمة قد تولاه من ليس أهلاً للولاية عليها.

بسمه تعالى: التولية التي مرجعها إلى المجتهد الجامع للشرائط هي التشريعية والقضائية أما التنفيذية كرئاسة الحكومة والوزراء -بحسب النظام السياسي المعمول به-، فيمكن تفويضه إلى الأمة لتختار النزيه الكفوء البصير بمصالحها، ويمضي المجتهد الجامع للشرائط هذا الانتخاب ليكتسب مشروعيته، وباختصار فإن ما هو مختص بالشريعة الإلهية كالتشريع والقضاء فإن مرجعه إلى المجتهد العادل، أما ما يرجع إلى شؤون العباد كإنشاء معمل في المدينة الفلانية وشق طريق بالمواصفات الكذائية فهي التي يمكن لممثلي الأمة في مجلس البرلمان النظر فيها، وليس من حقهم مثلاً أن يشرعوا مساواة المرأة للرجل في

ص: 152

الميراث، أو منع تعدد الزوجات ونحوها حتى لو كان التصويت بالأكثرية لصالح هذا القرار.

وعلى أي حال فإن النظام الإسلامي يفترض تطبيقه في مجتمع مقتنع بالإسلام وبقادته، ولذا فهو لا ينتخب إلا من هو ملتزم بالشريعة. وهذا الموضوع من الأمور التي تستحق الكثير من البيان والتفصيل.

محمد اليعقوبي

11 ذ.ق 1425

2004/12/24

ص: 153

المرجعية والعملية السياسية

المرجعية والعملية السياسية (1)

الانتخابات كحل سلمي:

س: كيف تنظرون إلى الانتخابات كحل للوضع الأمني المضطرب في العراق وهل ستعمل الانتخابات في حالة نجاحها على تحسين الوضع الأمني؟

سماحة الشيخ: إن كانت هناك إرادة جدية لدى الأطراف التي تحمل السلاح لإخراج المحتل، فإن الانتخابات هي خير مخرج للظرف الذي يعيشه الشعب العراقي، على اعتبار أن الانتخابات ستوفر حكومة وطنية يستطيع العراقيون من خلالها مطالبة المحتل بالخروج من البلد، وان لم يكن لديهم الإرادة الجدية في ذلك واستمروا في التخريب والإفساد فلا يسع الحكومة المنتخبة إلا مواجهتهم بالمثل ضمن الحدود الشرعية.

وهنا لا بد من التذكير بتجربة الجزائر عندما اختارت بعض الأطراف أن تلجأ إلى الحلول العسكرية والقتال المسلح ضد الحكومة على اعتبار أنها سلبتها حقوقها الانتخابية، واستمرت الحركة المسلحة في الجزائر أكثر من ست أو سبع سنوات إلا أنها لم تجد نفعاً بعدها رضخت إلى الحل

ص: 154


1- لقاء أجراه مراسل صحيفة الصباح الرسمية في النجف الأشرف ونشرته صحيفة الصادقين على الصفحة الرابعة من عددها (12) الصادر بتأريخ 2 ذ.ح 1425 الموافق 13 كانون الثاني 2005.

السياسي، لذا فإن تجربة الجزائر هي خير دليل على فشل الحل العسكري، ومع علمنا بعدم وجود رغبة جدية لدى هذه الأطراف للتوصل إلى حل إلا أننا نعتقد أن الانتخابات خطوة يجب أن تتخذ لسحب البساط من تحت أقدام هؤلاء، لأنها ستؤدي إلى تشكيل حكومة منتخبة من قبل أغلبية الشعب العراقي.

التحديات التي في عاتق المرجعية الدينية:

س: حديث الانتخابات والعملية السياسية والأحداث التي يمر بها العراق والعالم الإسلامي بشكل عام، يفرض على المرجعية الدينية تحديات جديدة ، كيف يمكن مواجهة هذه التحديات برأيكم؟

سماحة الشيخ: التحديات التي يشهدها العالم الآن تفرض على المرجعية الدينية أن تتبنى مشروعاً يوازي حجم التحديات الجديدة، ومن جانبنا فقد بدأنا بوضع مثل هذا المشروع الذي ارتكز على عدة مفاصل منها جماعة الفضلاء وحزب الفضيلة والروابط النسوية وجامعة الصدر الدينية، إذ يؤدي كل مفصل دوره المرسوم له في هذا المشروع سواء على الصعيد الديني أو الاجتماعي أو السياسي، إلا إننا لم نصل بهذا المشروع حتى الآن إلى مرحلة النضج، لأننا في بداية الطريق ولكننا نأمل أن يلبي هذا المشروع من خلال تطويره جزءاً من متطلبات هذه المرحلة والمراحل المقبلة.

ص: 155

تحديد القيادة الرشيدة للأمة:

س: كما نعلم أن المرجعية الدينية تعتمد على الأعلمية في الفقه فقط، وهو المنهج السائد منذ عشرات السنين، إلا أن المتغيرات التي تمر بها الآن تفرض على المرجعية أن تكون على دراية بكثير من الأمور غير الفقه، فهل ترون أن شخصاً بمفرده وهو المرجع الديني يمكن أن يلبي كل هذه الاحتياجات؟

سماحة الشيخ: من الطبيعي أن المقاييس السابقة لم تعد كافية في تحديد القيادة الرشيدة للأمة، وهذا الأمر لم نبتدعه نحن وإنما هي مصاديق للعناوين الأصلية، فالقرآن الكريم عندما دعا المسلمين إلى التسلح أمام أعدائهم كان السلاح هو السيف إلا إننا اليوم لا يمكن أن نسلح بالسيف فقد ظهرت مصاديق جديدة للسلاح كالبندقية أو الدبابة والصاروخ كذلك، فإن هناك مصاديق جديدة للمرجعية يجب النظر إليها حسب ما تقتضيه الظروف، إذ لم يعد المرجع قادراً بنفسه على مباشرة جميع الأمور لأن المسؤوليات تعددت والتعقيدات التي ظهرت في الحياة ليست كما كانت في السابق، لذا فإن اللجوء إلى تشكيل مؤسسات وجمعيات يمكن أن يفي بهذا الغرض، ولكن يبقى الفقيه هو قمة الهرم في ذلك مع وجود وكلاء له ومستشارين للتخفيف من العبء الواقع عليه.

ص: 156

المسائل التي تخص الشعب:

س: أكثر من نلتقي بهم ينتظرون من المرجعية أن تحدد لهم قائمة لينتخبوها، إلا ترون في ذلك تحجيما لدور الجماهير في الاختيار من خلال وعيهم وإدراكهم؟

سماحة الشيخ: هذه المسألة لها أسباب أهمها أن تجربة الانتخابات في العراق هي التجربة الأولى لذا فإن قلة الخبرة عند العراقيين جعلت الجماهير بحاجة إلى من يدلها على الاختيار الأصلح ولهذا فإننا نعطي العذر للجماهير في ذلك، أما السبب الثاني فهو أن الثقافة الشيعية مبنية على الرجوع إلى المرجعية الدينية في جميع الأمور، ومع ذلك فإن المرجعية تطمح إلى أن يرتفع مستوى الوعي لدى الناس بحيث تختار الجماهير من يمثلها دون الرجوع إلى من يرشدها، لأن هناك فرقا بين وجوب الرجوع إلى الفقيه في المسائل الشرعية التي يكون الالتزام بها واجبا لأنها من الفروض الدينية، وبين القضايا التي تخص الناس وشؤونهم أي السلطة التنفيذية والتي كان رسول الله صلى الله عليه وآله نفسه يلجأ فيها إلى التشاور مع أصحابه لأنها من المسائل التي تخص شؤون الشعب ومصالحه، قال تعالى: «وَأمْرُهُمْ شُورَى بَينَهُمْ» (الشورى:38) فضمير (هم) يعود إلى الشؤون الحياتية الراجعة إليهم.

التجربة الإسلامية في العراق:

س: هل تعتقدون سماحتكم من خلال كل هذه الظروف أن

ص: 157

التجربة الإسلامية يمكن أن تنجح في العراق؟

سماحة الشيخ: للنظام الإسلامي تجارب عديدة والنجاح والفشل يرتبط بنوع التجربة المراد تطبيقها، ونحن نرى أن النظام الديمقراطي في حالة تطبيقه بشكله الصحيح ووصول أشخاص أكفاء إلى الحكومة فهو يحتوي على 80% مما تمنحه التجربة الإسلامية.

أما بالنسبة للنظام الإسلامي المطبق في إيران فإن فرصة نجاحه ضئيلة في العراق حالياً كما أن فرصة القناعة به ضئيلة أيضاً، وثانياً لأن الخط العام للحوزة العلمية في النجف بمجمله يسير ضمن الخط الذي لا يؤمن بولاية الفقيه، وأكثر الأتباع في العراق هم أتباع هذا الخط، وقد أدى هذا إلى عدم تبلور نظرية ولاية الفقيه فكرياً وعملياً، ومع ذلك فإن هذه القناعة يمكن أن تزداد لدى الأمة مع زيادة وعيهم والتفاتهم إلى قيادتهم الحقيقية وفشل الحلول الأخرى.

ص: 158

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.