العتبة العباسية المقدسة
قسم الشوُونَ الفكرية والثقافية
www.alkafeel.net
info@alkafeel.net
nashra@alkafeel.net
كربلاء المقدسة
ص.ب (233)
هاتف: 322600، داخلي: 175-163
الكتاب: التعويضات الإلهية للإمام الحسين علیه السلام.
تأليف: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي.
الناشر: قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة معهد تراث الأنبياء للدراسات
الحوزوية الإلكترونية.
الاخراج الطباعي: علاء سعيد الاسدي.
المطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر.
الطبعة: الأولى.
عدد النسخ: 500.
ربيع الآخر 1442ه - تشرين الثاني 2020م
ص: 1
ص: 2
معهد تراث الأنبياء، مؤسسة علمية حوزوية تُدرس المناهج الدينية المعدَّة لطلاب
الحوزة العلمية في النجف الأشرف.
الدراسة فيه عن طريق الانترنيت وليست مباشرة.
يساهم المعهد في نشر وترويج المعارف الإسلامية وعلوم آل البيت السلام ووصولها إلى أوسع شريحة ممكنة من المجتمع، وذلك من خلال توفير المواقع والتطبيقات الإلكترونية التي يقوم بإنتاجها كادر متخصص من المبرمجين والمصممين في مجال برمجة
وتصميم المواقع الإلكترونية والتطبيقات على أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية. وبالنظر للحاجة الفعلية في مجال التبليغ الإسلامي النسوي فقد أخذ المعهد على عاتقه تأسيس جامعة متخصصة في هذا المجال، فتم إنشاء جامعة أُمّ البنين عنها البلادر الإلكترونية لتلبية حاجة المجتمع وملء الفراغ في الساحة الإسلامية لإعداد مبلغات رساليات قادرات على إيصال الخطاب الإسلامي بطريقة علمية بعيدة عن الارتجال في
على
العمل التبليغي، بالإضافة إلى فتح التخصصات العقائدية والفقهية والقرآنية. أنَّ المعهد لم يُهمل الجانب الإعلامي، فبادر إلى إنشاء مركز القمر للإعلام الرقمي، الذي يعمل على تقوية المحتوى الإيجابي على شبكة الانترنيت ووسائل الإعلام الاجتماعي، حيث يكون هذا المحتوى موجّهاً لإيصال فكر أهل البيت عليه السلام وتوجيهات المرجعية الدينية العليا إلى نطاق واسع من الشرائح المجتمعية المختلفة وبأحدث تقنيات الإنتاج الرقمي وبأساليب خطابية تناسب المتلقي العصري.
ص: 3
4
التعويضات الإلهية للإمام الحسين (عليه السلام)
والمعهد يقوم بطباعة ونشر الإنتاج الفكري والعلمي لطلبة العلم، في مختلف العناوين العقائدية والفقهية والأخلاقية التي تهدف إلى ترسيخ العقيدة والفكر والأخلاق، بأسلوب بعيد عن التعقيد، يستقي معلوماته من مدرسة أهل البيت الاالموروثة.
جزاءً
الكتاب الذي بين يديك، هو أحد إصدارات معهدنا، لمؤلفه الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي، والذي تعرض فيه للمنن الإلهية في تعويض الإمام الحسين لما قدمه للدين من تضحيات جسام، وقد تم بيان ذلك اعتماداً على آيات القرآن الكريم وروايات أهل البيت عليه السلام التي تعرضت لهذا المعنى. نسأل الله أن يجعل عملنا في عينه، وأن يتقبَّله بقبوله الحسن، إنه سميع مجيب.
إدارة المعهد
ص: 4
إلى سيدة الصبر وجَبلِه الأشمّ...
إلى العالمة غير المعلمة، والفاهمة غير المفهمة...
إلى لبوة أمير المؤمنين علیه السلام ، وبضعة الزهراء البتول علیهما السلام ...
إليكِ أنتِ، أيتها الأسيرة المتحيرة...
سيدتي، يا زينب الكبرى....
وإليك أنت يا كافلها... وراعيها...
إليك يا من جاهدت في سبيل الله تعالى... وواسيت أخاك بنفسك...
ومن بقتله انتُهكت حرمةُ الإسلام...
إليك يا أبا الفضل...
أهدي إليكما جهداً متواضعاً... راجياً القبول...
ص: 5
ص: 6
يهدف العاقل -في كل حركة يقوم بها- إلى الوصول إلى غاية معينة، وعظمة الغاية تتناسب مع عظمة الإنسان طرداً، فكلما كان الإنسان عظيماً في نفسه، كلما كانت الغايات التي يقصدها عظيمة، وأهدافه سامية، وهذا أحد أسباب اختلاف الناس فيما بينهم، فبينا تجد امرئاً قد رضي لنفسه أن يعيش بين الحفر، وجلُّ اهتمامه بطنه، ﴿كَالبَهِيمَةِ المَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ المُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا، تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا﴾(1)، تجد آخر لم يرض دون القِمة موضعاً لقدمه، فلا يهدأ له بال، ولا يستقر له حال، إلا إذا بلغ من الغايات أسماها، ومن الأهداف أعلاها، وما بين ذاك وذاك متوسطات كثيرة جداً...
ولقد شاءت القدرة الإلهية أن يكون عالمنا المادي هو عالم التزاحم، وبالتالي التنافس، وهذا لا يعني أن السماء شاءت أن يتصادم الإنسان مع أخيه الإنسان، وإنما يعني ضرورة تنظيم العمل وتقسيم الأدوار وتقنين التنافس، وهو ما دعا إليه الدين في الكثير من النصوص التربوية.
الملفت للنظر: أن للدين نظرته الخاصة في صياغة قانون التنافس، فلم يترك الأمر على عواهنه، وإنما رسم الطريق أبلجاً والسبيل واضحاً، وجعل للمؤمن هدفاً أسمى، يتمثل في تحقيق رضا الباري جل
وعلا، وجعل دون ذلك أهدافاً متوسطة، كل واحد منها يُقدم المؤمن خطوة نحو رضا الباري جل وعلا، وهو ما ينبغي التنافس عليه، قال تعالى ﴿إِنَّ الأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. عَلَىٰ الأَرائِكِ يَنْظُرُونَ. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ. يُسْقَوْنَ
ص: 7
مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ﴾.(1)
وقال تعالى ﴿وَما هذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾.(2)
وقال تعالى ﴿وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾.(3)
فالعاقل هو من يجعل من الدنيا وما فيها مركباً للوصول إلى رضا الباري جل وعلا، ويكون هدفه الآخرة.
من جهة أخرى، فإن الباري جل وعلا أخذ على نفسه أن يعوّض العاملين لأجله، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، إلا أنه جعل التعويض متناسباً مع العمل، والعدل والحكمة يقتضيان إعطاء العامل ما يتناسب مع جهده الذي بذله، وفي قانون السماء يُضاف إلى الجهد: الدوافع الذاتية والداخلية للعمل.
ومن هنا، صرحت العديد من الروايات الشريفة بأن الله تبارك وتعالى شاء أن يعوّض الإمام الحسين علیه السلام بالعديد من التعويضات والهبات التي تحكي كرمه وجوده جل وعلا من جهة، ومقدار وعظمة التضحية التي قدمها أبو عبد الله الحسين علیه السلام من جهة أخرى، وهو ما يُراد تسليط الضوء عليه في هذا الكتاب، مع محاولة بيان الركائز والملاكات العقائدية والسلوكية التي كانت وراء تلك التعويضات والتي تترتب عليها من ناحية أخرى، بالإضافة إلى بيان الجواب المناسب على ما قد يُثار حولها من تساؤلات عقائدية وأخلاقية، اعتماداً على الأصول العامة والمعتقدات الراسخة في مذهب أهل
ص: 8
البيت علیهم السلام .
جدير بالذكر أنه تم إلقاء مضامين هذا الكتاب ضمن إحدى عشرة محاضرة في محرم الحرام 1442 ه-/ أيلول 2020م في العاصمة بغداد/ حي الجهاد/ جامع وحسينية أمير المؤمنين علیه السلام .
اسأل الله تعالى أن يمن علينا برضاه، وبشفاعة أهل البيت علیهم السلام عموماً والإمام الحسين علیه السلام خصوصاً، وأن يجعلنا من الدعاة إلى مذهب الحق على بصيرة من ديننا ويقين من اعتقادنا، إنه سميع مجيب.
حسين عبد الرضا الأسدي/النجف الأشرف.
مساء الاثنين 18 محرم الحرام 1442ه-
7 أيلول 2020 م.
ص: 9
ص: 10
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين، محمد وآله الطيبين الطاهرين.
إن للعقل القدرة – بنحو الموجبة الجزئية – على إدراك حسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر، وعلى أساس حكم العقل جاء الفعل الإلهي، بمعنى أن فعل الله تعالى مقنن بقانون الحسن والقبح العقليين، فلا يمكن أن يصدر منه جل وعلا ما يحكم العقل بقبحه، بل إن كل ما يصدر منه تعالى هو موافق لما يحكم العقل بحسنه، بل إنه جل وعلا لا يفعل إلا الأصلح، وعلى جميع المستويات...
وهذا على خلاف بعض المدارس الإسلامية التي جعلت فعل الله تعالى هو القانون، فما فعله عزوجل هو حسن، ولا حكم للعقل في ذلك، لذا جوزوا أن يدخل الله تعالى الأنبياء النار والكفار الجنة من دون أن يكون للعقل حكم في ذلك... بحجة أنه تعالى لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون...
وتفصيل الكلام في هذا المسألة محله علم الكلام، ونأخذه هنا كأصل موضوعي.
نحن نؤمن بأن الله تعالى حكيم، والأدلة متعاضدة على ذلك عقلاً ونقلاً، وتفصيلها
ص: 11
في محلها، المهم هو أن نشير إلى أن عدم العلم بالحكمة لا ينفيها، ويكفينا الإيمان تعبداً بوجودها، ما دمنا نؤمن بحكمة الأفعال الإلهية طراً.
وهذا الاعتقاد يوفر لنا الإيمان العام بوجود حكمة في كل أفعال الله تعالى وإن لم نعلم بها، الأمر الذي يقطع السؤال عن الحكمة.
وهذا له نظائر في الروايات، من قبيل ما روي من خفاء علة الغيبة الحقيقية، فقد ورد عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لا بدَّ منها، يرتاب فيها كلّ مبطل»، فقلت له: ولِمَ جُعلت فداك؟ قال: «لأمر لم يُؤذَن لنا في كشفه لكم»، قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال: «وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدَّمه من حجج الله تعالىٰ ذكره، إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلَّا بعد ظهوره كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر علیه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، لموسىٰ علیه السلام إلَّا وقت افتراقهما. يا ابن الفضل، إنَّ هذا الأمر أمر من أمر الله تعالىٰ، وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتىٰ علمنا أنَّهU حكيم، صدَّقنا بأنَّ أفعاله كلّها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف»(1).
هذا الأصل ينفعنا في الجواب عن العديد من الأسئلة التي تُثار، من قبيل: لماذا جعل الله تعالى الأئمة من ذرية الإمام الحسين علیه السلام دون الإمام الحسن علیه السلام . وسيتبين الجواب في محله إن شاء الله تعالى.
هناك من الأفعال المشاهدة تتصف بالألم، وهي مستندة إلى فعل الله تعالى أو أمره
ص: 12
جل وعلا، وقد تتبلس بلباس يوهم الرائي بأنه ظلم أو عبث أو ما شابه... وحيث إن إيلامه جل وعلا وتسبيبه ما ظاهره الألم والظلم والعبث ينافي عدله تعالى وحكمته، كان مناسباً معرفة الجواب والمخلص من ذلك.
والجواب يكون واضحاً إذا عرفنا «ما يُخرج الفعل عن كونه إيلاماً أو ظلماً أو عبثاً»، ويمكن أن يذكر في هذا المجال التالي:
أولاً: إذا كان المتألم مستحقاً له، كما لو ارتكب العبد ما يخالف أمر مولاه، أو ارتكب جريمة وما شابه، فإن إيلامه آنذاك لا ينافي العدل ولا يوصف بالقبح، بل على العكس، يحكم العقل والعقلاء بحسن تأديبه ولو بإيلامه، وإلا فإن «من أمن العقوبة أساء الأدب».
قال تعالىٰ: ﴿ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم: 41).
ثانياً: قد يترتب إلى الإيلام نفع كثير للشخص، أو قد يُدفع به عنه ضرر بليغ، فإنه آنذاك يحكم العقل بحسن الإيلام، وإن لم يطّلع الشخص المتألم على ذلك النفع أو الضرر...
ومن ذلك ما أشار له أمير المؤمنين علیه السلام فيما يتعلق بالدعاء، حيث قال صلوات الله عليه:... «فَلَا يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِه، فَإِنَّ العَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، ورُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لأَجْرِ السَّائِلِ، وأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الآمِلِ، ورُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلَا تُؤْتَاه، وأُوتِيتَ خَيْراً مِنْه عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَه فِيه هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَه، فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُه، ويُنْفَى عَنْكَ
ص: 13
وَبَالُه...».(1)
ثالثاً: من المسلّمات هو أن الله تعالى قد خلق الكون وفق نظام الأسباب والمسببات، ومعه، فقد يكون الألم بسبب جريان القانون الإلهي والسنة الكونية التي أوجد الله تعالى على وفقها الكون... فإذا وقع طفل في النار، جرت عليه السنة الكونية، واحترق، وإن تألم أو تألم أبواه ومحبوه.(2)
عندما يأمرنا الله تعالى بأمر، وننفذه، فهل يلزم أن يعوضنا الله تعالى عن امتثال ذلك الأمر؟
عندما أمرنا الله تعالى بالصلاة، وصلينا، هل يجب على الله تعالى أن يعوضنا عن هذه
ص: 14
الصلاة؟
وهكذا عندما نتألم ألماً ظاهرياً بسبب أمر إلهي، كما لو أمرنا الله تعالى بالصوم وتألمنا، أو أمرنا بالجهاد وقتلنا، فهل يلزم على الله تعالى أن يعوضنا بدل ذلك؟
وعلى هذا قس ما سواه...
الجواب:
أولاً: لو تكلمنا بلغة الاستحقاق، فنحن لا نستحق على الله تعالى شيئاً، لعدة أسباب:
1 / إن الإنسان هو عبْدٌ قِنٌّ لله تعالى، فالإنسان وما يملك هو ملك صرف لله تعالى، والعبد لا يستحق على مولاه شيئاً.
2 / إن الأعمال التي يقوم بها الإنسان والتي يعتبرها عبادات، إنما يقوم بها عند إقدار الله تعالى له عليها، فلولا أن الله تعالى أعطاه القدرة والقوة على فعلها لما أمكنه أن يفعل أي شيء، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
3 / إن الآلات التي يعبد الإنسان بواسطتها الباري تعالى هي هبات مجانية من الله تعالى، فلا يستحق على إعمالها أي شيء على الله تعالى، فاللسان واليد والرجل والعين والأذن كل جوارحك هي من الله تعالى، فلا تستحق عليه أي شيء.
4 / إن أي عمل يقوم به العبد تجاه الله تعالى مهما عظم إنما يمثل حركة بسيطة جدا إزاء النعم التي أنعمها الله تعالى على الإنسان، والعقل يلزم الإنسان بأن يشكر من أحسن إليه، ولا محسن علينا كالله تعالى، قال تعالى ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم:34).
ص: 15
ثانياً: أما لو تكلمنا بلغة الكرم والرحمة والمنة الإلهية، حينئذ سيتغير الجواب، وهو محل الكلام، فإننا وإن كنّا لا نستحق شيئاً على الله تعالى، ولكنه جل وعلا رحمة بنا وكرماً منه كتب على نفسه أنه يثيب المطيع ويكافئه كأحسن ما تكون الإثابة والمكافأة... فهو جل وعلا كتب على نفسه الرحمة...وإلا فطاعتنا لا تنفعه أي شيء، يقول أمير المؤمنين علیه السلام : «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَه وَتَعَالَىٰ خَلَقَ الخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيًّا عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّه لَا تَضُرُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، وَلَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه»(1).
ومن هنا نجد أن الله تعالى كتب على نفسه أنه يعوض الإنسان على عدة أمور، نذكر منها:
1 / إن الإنسان إذا التزم الواجبات، فإنه سينال الثواب من الله تعالى، رغم أنها واجبات، يلزمه كعبد أن يلتزمها، لكن الكرم الإلهي أبى إلا أن يثيب عليها.
فعن يَزِيدَ بْنِ خَلِيفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام يَقُولُ: «إِذَا قَامَ المُصَلِّي إِلَى الصَّلَاةِ نَزَلَتْ عَلَيْه الرَّحْمَةُ مِنْ أَعْنَانِ السَّمَاءِ إِلَى أَعْنَانِ الأَرْضِ، وحَفَّتْ بِه المَلَائِكَةُ، ونَادَاه مَلَكٌ: لَوْ يَعْلَمُ هَذَا المُصَلِّي مَا فِي الصَّلَاةِ مَا انْفَتَلَ».(2)
2 / وإن الإنسان إذا ابتعد عن المحرمات فإن الله تعالى سيكافئه على ذلك أيضاً، رغم أنها محرمات عليه ويلزمه كعبد أن يبتعد عنها. وكمثال على ذلك النظر الحرام، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «النظر سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة»(3).
ص: 16
وعن الصادق علیه السلام قال: «من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء أو غمض بصره، لم ترتد إليه بصره حتى يزوجه الله من الحور العين».(1)
3 / وإذا التزم العبد ببعض المستحبات عوضه الله تعالى عنها بمكافئات عظيمة، فعن عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «إنَّ الله تعالىٰ يباهي بالشابِّ العابد الملائكة، يقول: اُنظروا إلىٰ عبدي، ترك شهوته من أجلي»(2).
4 / إن الله تعالى إذا ابتلى عبداً ببلاء وصبر العبد، فإن الله تعالى سيعوضه بدلاً منه تعويضاً عظيماً، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: شَكَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام مَا أَلْقَى مِنَ الأَوْجَاعِ وكَانَ مِسْقَاماً فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ الله، لَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ مَا لَه مِنَ الأَجْرِ فِي المَصَائِبِ، لَتَمَنَّى أَنَّه قُرِّضَ بِالمَقَارِيضِ.(3)
وعَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله وسلم : إِذَا قُبِضَ وَلَدُ المُؤْمِنِ واللهُ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ العَبْدُ قَالَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى لِمَلَائِكَتِه: قَبَضْتُمْ وَلَدَ فُلَانٍ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ رَبَّنَا. قَالَ: فَيَقُولُ: فَمَا قَالَ عَبْدِي؟ قَالُوا: حَمِدَكَ واسْتَرْجَعَ. فَيَقُولُ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: أَخَذْتُمْ ثَمَرَةَ قَلْبِه وقُرَّةَ عَيْنِه فَحَمِدَنِي واسْتَرْجَعَ، ابْنُوا لَه بَيْتاً فِي الجَنَّةِ وسَمُّوه: بَيْتَ الحَمْدِ.(4)
وعَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: إِنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُه لَيَعْتَذِرُ إِلَى عَبْدِه المُؤْمِنِ المُحْوِجِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا يَعْتَذِرُ الأَخُ إِلَى أَخِيه، فَيَقُولُ: وعِزَّتِي وجَلَالِي، مَا أَحْوَجْتُكَ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَوَانٍ كَانَ بِكَ عَلَيَّ، فَارْفَعْ هَذَا السَّجْفَ فَانْظُرْ إِلَى مَا عَوَّضْتُكَ مِنَ الدُّنْيَا.
ص: 17
قَالَ: فَيَرْفَعُ فَيَقُولُ: مَا ضَرَّنِي مَا مَنَعْتَنِي مَعَ مَا عَوَّضْتَنِي.(1)
5 / إذا دعا العبد ولم يستجب الله تعالى له، فإنه سيعوضه بدلاً منه تعويضاً عظيماً، فعن الإمام زين العابدين علیه السلام : «المؤمن من دعائه علىٰ ثلاث: إمَّا أن يُدَّخر له، وإمَّا أن يُعجَّل له، وإمَّا أن يُدفَع عنه بلاء يريد أن يصيبه»(2).
بل عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «إنَّ المؤمن ليدعو اللهU في حاجته، فيقول اللهU: أخَّروا إجابته، شوقاً إلىٰ صوته ودعائه، فإذا كان يوم القيامة قال اللهU: عبدي، دعوتني فأخَّرت إجابتك وثوابك كذا وكذا ودعوتني في كذا وكذا فأخَّرت إجابتك وثوابك كذا وكذا»، قال: «فيتمنّىٰ المؤمن أنَّه لم يستجب له دعوة في الدنيا ممَّا يرىٰ من حسن الثواب»(3).
إن الله تعالى شاء أن يعوض الإنسان على أعمال الخير رغم عدم استحقاقه التعويض على الله تعالى، كل ذلك رحمة من الله تعالى ومنة على عباده...
ص: 18
إن التعويض الإلهي يختلف من فرد لآخر تبعاً لدرجة الإخلاص ولكيفية العمل وكمِّه والآثار المترتبة عليه على مستوى الفرد والمجتمع...
ولذلك نجد أن التعويض الإلهي اختلفت درجاته:
فقد يكون التعويض دنيوياً: كما قال تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾(1)
وقد روي عن النبي الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم : «ما أحسن محسن من مسلم ولا كافر الا أثابه الله تعالى. قيل ما إثابة الكافر؟ قال: إن كان قد وصل رحماً، أو تصدق بصدقة، أو عمل حسنة، اثابه الله تعالى المال والولد والصحة، وأشباه ذلك. قيل وما إثابته في الآخرة؟ قال عذاب دون العذاب، وقرأ ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذابِ﴾(2)».(3)
وروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم :«...وأما الكافر فيعطيه حسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له بها حسنة يعطى بها خيراً».(4)
وهذا ما ربما نجده عند كثير من الناس الذين يعملون لأجل الحصول على الأوسمة والسمعة والصيت الذائع، لأعمال خيرة يقومون بها، ولكنهم في يوم القيامة يكونون
ص: 19
مفلسين، وذلك كمن يعمل الأعمال العظيمة من دون إخلاص أو من دون موالاة لأمير المؤمنين علیه السلام ، وقد ورد عن عباد بن زياد قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام : «يا عباد، ما على ملة إبراهيم أحد غيركم، وما يقبل الله الا منكم، ولا يغفر الذنوب الا لكم».(1)
وعن الحارث بن المغيرة، قال: كنت عند أبي عبد الله علیه السلام جالساً، فدخل عليه داخل فقال: «يا بن رسول الله ما أكثر الحاج العام؟! فقال: ان شاؤوا فليكثروا، وإن شاؤوا فليقلّوا، والله ما يقبل الله إلا منكم، ولا يغفر إلا لكم».(2)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ كَثِيرٍ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى المَوْقِفِ والنَّاسُ فِيه كَثِيرٌ، فَدَنَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام فَقُلْتُ لَه: «إِنَّ أَهْلَ المَوْقِفِ لَكَثِيرٌ، قَالَ: فَصَرَفَ بِبَصَرِه فَأَدَارَه فِيهِمْ ثُمَّ قَالَ علیه السلام : ادْنُ مِنِّي يَا أَبَا عَبْدِ الله، غُثَاءٌ يَأْتِي بِه المَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، لَا والله مَا الحَجُّ إِلَّا لَكُمْ، لَا والله مَا يَتَقَبَّلُ اللهُ إِلَّا مِنْكُمْ».(3)
وعن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «ان المرائي ينادى يوم القيامة: يا فاجر، يا غادر، يا مرائي، ضلّ عملك وبطل أجرك، اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له».(4)
وقد يكون التعويض أخروياً: كما هو حال أكثر الأعمال الصالحة للمرء، وكما لو ظُلم أحدٌ ولم يأخذ حقه ممن ظلمه إلى أن مات الظالم أو المظلوم.
وقد يكون التعويض دنيوياً وأخروياً: كمن يعمل أعمالاً حسنة، ويشاء الله تعالى أن يعجل له ثوابه في الدنيا ويدّخر له الثواب العظيم إلى الآخرة، كما ورد ذلك في حق النبي إبراهيم (على نبينا وآله وعليه السلام)، قال تعالى ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ
ص: 20
سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾.(1)
وقال تعالى ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلىٰ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(2)
وقال تعالى ﴿وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾(3)
وقد نصت الكثير من الروايات على هذا التعويض الذي يترتب على بعض الأعمال الصالحة، كصلة الرحم، وبر الوالدين.
«علىٰ أنَّ الأخبار عن الأئمَّة الأطهار علیهم السلام مستفيضة بأنَّ من الأعمال ما يوجب الثواب في الدنيا والآخرة، فمن ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسنده عن أبي جعفر علیهما السلام أنَّه قال: «صلة الأرحام تُزكّي الأعمال، وتُنمّي الأموال، وتدفع البلوىٰ، وتُيسِّر الحساب، وتُنسئ في الأجل»(4).
وعنه علیهما السلام ، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «أعجل الخير ثواباً صلة الرحم»(5).
وبسند صحيح عن أبي عبد الله علیه السلام أنَّه قال: «من أغاث أخاه المؤمن اللهفان اللهثان عند جهده، فنفَّس كربته، وأعانه علىٰ نجاح حاجته، كتب اللهU له بذلك ثنتين وسبعين رحمة من الله، يعجل له منها واحدة يُصلِح بها أمر معيشته، ويدَّخر له إحدىٰ وسبعين
ص: 21
رحمة لأفزاع يوم القيامة وأهواله»(1)...»(2).
عن أبي جعفر علیه السلام في قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنى وَزِيادَةٌ﴾: «فأمَّا الحسنىٰ فالجنَّة، وأمَّا الزيادة فالدنيا، ما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به في الآخرة، ويجمع لهم ثواب الدنيا والآخرة، ويُثيبهم
بأحسن أعمالهم في الدنيا والآخرة، يقول الله: ﴿وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾ [يونس: 26]»(3).
و«في أمالي الصدوق عن الصادق علیه السلام في قولهU: ﴿رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201]، قال: «رضوان الله والجنَّة في الآخرة، والسعة في الرزق والمعاش، وحسن الخُلُق في الدنيا»(4).
وفي النبوي: «الحسنة في الدنيا الصحَّة والعافية، وفي الآخرة المغفرة والرحمة(5)» (6).
وهذا الأخير هو ما حصل للإمام الحسين علیه السلام ، فقد عوضه الله تعالى تعويضات في الدنيا وتعويضات في الآخرة، وهو ما سنعرفه من ثنايا البحث إن شاء الله تعالى.
ص: 22
عندما نطالع الروايات الشريفة، نجد أنها ذكرت العديد من التعويضات الإلهية التي منّ الله تعالى بها على الإمام الحسين علیه السلام عندما استجاب لأمر الله تعالى وجاهر بالجهاد، ومن تلك الروايات الشريفة ما ورد عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد علیهما السلام يقولان: «إن الله (تعالى) عوض الحسين علیه السلام من قتله أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعا عند قبره، ولا تعد أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره.
قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي عبد الله علیه السلام : هذا الجلال ينال بالحسين علیه السلام فماله في نفسه؟ قال: إن الله (تعالى) ألحقه بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم فكان معه في درجته ومنزلته، ثم تلا أبو عبد الله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور 20]».(1)
وعن الإمام الصادق علیه السلام : «أوَّل من تنشقُّ الأرض عنه ويرجع إلىٰ الدنيا الحسين بن عليٍّ علیهما السلام »(2).
وعنه علیه السلام : «إنَّ أوَّل من يكرُّ في الرجعة الحسين بن عليٍّ علیهما السلام ، ويمكث في الأرض أربعين سنة حتَّىٰ يسقط حاجباه علىٰ عينيه»(3).
وعن أبي عبد الله علیه السلام قال: إن الذي يلي حساب الناس قبل يوم القيامة الحسين بن
ص: 23
علي علیهما السلام ، فأما يوم القيامة فإنما هو بعث إلى الجنة أو بعث إلى النار.(1)
وعن أبي الجارود، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: «كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم في بيت أم سلمة1، فقال لها: لا يدخل علي أحد. فجاء الحسين علیه السلام وهو طفل، فما ملكت معه شيئاً حتى دخل على النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، فدخلت أم سلمة على أثره، فإذا الحسين على صدره، وإذا النبي صلی الله علیه و آله وسلم يبكي، وإذا في يده شيء يقلبه، فقال النبي صلی الله علیه و آله وسلم : يا أم سلمة، إن هذا جبرئيل يخبرني أن هذا مقتول، وهذه التربة التي يقتل عليها، فضعيها عندك، فإذا صارت دماً فقد قتل حبيبي، فقالت أم سلمة: يا رسول الله، سل الله أن يدفع ذلك عنه. قال: قد فعلت، فأوحى الله عزوجل إلي: أن له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين، وأن له شيعة يشفعون فيشفعون، وأن المهدي من ولده، فطوبى لمن كان من أولياء الحسين، وشيعته هم والله الفائزون يوم القيامة..»(2)
والملاحظ في هذه التعويضات أنه يمكن تقسيمها بنوعين من التقسيم:
وهنا نجد التعويضات ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما تحصل في الدنيا، وقبل ظهور المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وهي: كون الأئمة من ذريته علیه السلام ، وإجابة الدعاء عند قبره، والشفاء في تربته، وعدم احتساب أيام زائريه من أعمارهم.
النوع الثاني: ما يحصل عند ظهور الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وبعده، وهي: رجعته علیه السلام مع أصحابه، وحسابه للناس قبل يوم القيامة.
ص: 24
النوع الثالث: ما يكون في الآخرة، وهو: أن له علیه السلام درجة لا ينالها أحد من المخلوقين، وأن شيعته لهم الشفاعة المقبولة، وأن لهم طوبى، وأنهم هم الفائزون.
وهنا نجد نوعين من التعويضات:
النوع الأول: ما يكون للإمام الحسين علیه السلام في نفسه، وهو أن له درجة في الجنة لا تكون لأحد من المخلوقين، لم يكن لينالها إلا بالشهادة.
النوع الثاني: ما تُنال بالحسين علیه السلام كما عبرت رواية محمد بن مسلم(1)، وهي بقية التعويضات المتقدمة.
وسيكون ترتيب ذكرها على النحو التالي:
العوض الأول: الإمامة في ذريته.
وبضمنه نذكر أن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف هو من ولد الإمام الحسين علیه السلام وما يمكن أن نستفيده من تركيز الروايات على التصريح بذلك.
العوض الثاني: الشفاء في تربته.
العوض الثالث: إجابة الدعاء عند قبره.
العوض الرابع: لا تعد أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره.
العوض الخامس: رجعة الإمام الحسين علیه السلام .
وبضمنه نذكر: حساب الإمام الحسين علیه السلام للناس قبل يوم القيامة
ص: 25
العوض السادس: شفاعة شيعة الإمام الحسين علیه السلام .
العوض السابع: طوبى لمن كان من أولياء الإمام الحسين علیه السلام .
العوض الثامن: درجة الإمام الحسين علیه السلام في الجنة.
ص: 26
حسب حديث الإمام الباقر والصادق علیهما السلام فإن الله تعالى وتعويضاً للإمام الحسين علیه السلام من قتله فقد جعل الأئمة من ولده دون ولد الإمام الحسن علیه السلام ، وهو ما أكدته الروايات الشريفة من أن الأئمة التسعة هم من أولاد الحسين علیه السلام ...
ومن ذلك ما روي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «لما ولدت فاطمة علیهما السلام الحسين علیه السلام ، أخبرها أبوها صلی الله علیه و آله وسلم أن أمته ستقتله من بعده... فقال: إن الله عزوجل قد أخبرني أن يجعل الأئمة من ولده...»(1)
وعن علي بن رئاب قال: قال أبو عبد الله علیه السلام : «لما أن حملت فاطمة علیهما السلام بالحسين علیه السلام قال لها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : إن الله عزوجل قد وهب لك غلاماً اسمه الحسين، تقتله أمتي... إن الله عزوجل قد وعدني فيه عدة... وعدني أن يجعل الإمامة من بعده في ولده».(2)
وهذه المسألة صارت محلاً للتساؤل وربما الإشكال من المخالفين، فلماذا صار الأئمة من ولد الحسين دون الحسن علیهما السلام ؟ لماذا كان ذلك رغم أن الإمام الحسن علیه السلام أفضل من الإمام الحسين علیه السلام وأكبر عمراً منه؟
وهل هذا يعني إضافة خصوصية للحسين ما كان الحسن ليحوز عليها؟
طبعاً هذه المسألة ليست وليدة اليوم، وإنما أثيرت حتى في زمن الأئمة علیهم السلام ، وقد
ص: 27
أجاب عنهه الأئمة علیهم السلام وكفونا المؤنة بحمد الله، وهنا نقطتان:
إن من أهم ما يعتقد به أتباع مذهب أهل البيت علیهم السلام هو أن مسألة اختيار الإمام هي كمسألة اختيار النبي، لا بد أن تكون باختيار إلهي، ولا دخل للاختيار البشري فيها، ذلك لأن الله تعالى هو المطلع على حقائق الأمور وهو الذي يعلم بالأصلح والأكفأ لمثل هذه المهام... فكان من المنطقي جداً أن يكون اختيار أفراد معينين للقيام بمسؤولية النبوة أو الإمامة خاصاً بالله تعالى دون غيره من البشر، قال تعالى: ﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضىٰ اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾.(1)
وهذه المسألة هي أس الخلاف بيننا وبين العامة الذين طرحوا عدة طرق لاختيار الإمام، كالشورى واختيار أهل الحل والعقد والاستيلاء بالقوة وما شابه...
ومعه، فالسؤال المطروح هو أنه لماذا كان الأئمة من ذرية الإمام الحسين دون الإمام الحسن علیهما السلام ليس سؤالاً منطقياً وليس صحيحاً بالموازين التي نعتقد بها.... وهذا جواب استفيد من بعض كلمات الأئمة علیهم السلام ...
عن محمد بن أبي يعقوب البلخي قال: سألت أبا الحسن الرضا علیه السلام قلت له: لأي علة صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن علیهما السلام ؟ قال: لأن الله عزوجل جعلها في ولد الحسين علیه السلام ولم يجعلها في ولد الحسن علیه السلام ، والله لا يسأل عما يفعل.(2)
وفي الحقيقة، فإن هذا الجواب يعتمد على أصل الإيمان بحكمة الله تبارك وتعالى،
ص: 28
والتي تعني أنه جل وعلا يضع الشيء في موضعه المناسب، وما دام كذلك فلا داعي للسؤال عن الحكمة، وإن لم نعلم بها، فإن عدم العلم بالحكمة لا ينفيها كما تقدم.
على أن الاعتقاد بفكرة التنصيب الإلهي للإمام، هو ما يورث الاطمئنان والوثوق والركون للإمام وإن كان صبياً، ولقد حفظ لنا التاريخ نماذج من التسليم المطلق للمعصوم وأمره، أمثال علي بن جعفر، فعن محمّد بن الحسن بن عمّار، قال: كنت عند عليِّ بن جعفر بن محمّد جالساً بالمدينة - وكنت أقمت عنده سنتين، أكتب عنه ما سمع من أخيه، يعني أبا الحسن علیه السلام -، إذ دخل عليه أبو جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا علیه السلام المسجد - مسجد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم -، فوثب عليُّ بن جعفر بلا حذاء ولا رداء، فقبَّل يده وعظَّمه، فقال له أبو جعفر علیه السلام : «يا عمّ، اجلس رحمك الله»، فقال: يا سيّدي، كيف أجلس وأنت قائم؟! فلمَّا رجع عليُّ بن جعفر إلىٰ مجلسه جعل أصحابه يُوبِّخونه ويقولون: أنت عمُّ أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟! فقال: اسكتوا، إذا كان اللهU - وقبض علىٰ لحيته- لم يُؤهِّل هذه الشيبة وأهَّل هذا الفتىٰ ووضعه حيث وضعه أُنْكِرُ فضله؟! نعوذ بالله ممَّا تقولون! بل أنا له عبد(1).
وعلى نفس المنوال ما روي عن ابن نوح: وسمعت جماعة من أصحابنا بمصر يذكرون أنَّ أبا سهل النوبختي سُئِلَ، فقيل له: كيف صار هذا الأمر إلىٰ الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: هم أعلم وما اختاروه، ولكن أنا رجل ألقي الخصوم وأُناظرهم، ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجَّة (علىٰ مكانه) لعلّي كنت أدلُّ علىٰ مكانه، وأبو القاسم فلو كانت الحجَّة تحت ذيله وقُرِّض
ص: 29
بالمقاريض ما كشف الذيل عنه - أو كما قال -(1).
إن كون الأئمة من ذرية الإمام الحسين دون الحسن علیهما السلام هو وإن كان يمثل خصوصية للإمام الحسين علیه السلام ، إلا أن ذلك لا يعني أنها تجعله أفضل من الإمام الحسن علیه السلام ، بل يبقى في اعتقادنا أن الإمام الحسن أفضل من الإمام الحسين علیهما السلام .... وهذه المسألة ليست خاصة بالإمامين الحسنين علیهما السلام ، وإنما هي قد جرت في بعض الأنبياء السابقين... وهذا ما ذكره الأئمة علیهم السلام أيضاً...
عن هشام بن سالم قال: قلت للصادق جعفر بن محمد علیهما السلام : الحسن أفضل أم الحسين؟ فقال: «الحسن أفضل من الحسين». [قال:] قلت: فكيف صارت الإمامة من بعد الحسين في عقبه دون ولد الحسن؟ فقال: «إن الله تبارك وتعالى أحب أن يجعل سنة موسى وهارون جارية في الحسن والحسين علیهما السلام ، ألا ترى أنهما كانا شريكين في النبوة كما كان الحسن والحسين شريكين في الإمامة وإن الله عزوجل جعل النبوة في ولد هارون ولم يجعلها في ولد موسى وإن كان موسى أفضل من هارون علیهما السلام ، قلت: فهل يكون إمامان في وقت واحد؟ قال: لا إلا أن يكون أحدهما صامتا مأموما لصاحبه، والآخر ناطقا إماما لصاحبه، فأما أن يكونا إمامين ناطقين في وقت واحد فلا».
قلت: فهل تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين علیهما السلام ؟ قال: لا إنما هي جارية في عقب الحسين علیه السلام كما قال الله عزوجل : ﴿وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ [الزخرف 28] ثم هي جارية في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى يوم القيامة.(2)
ص: 30
من الروايات التي بينت ما عوضه الله تعالى للإمام الحسين علیه السلام هو ما روي أنه قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لأم سلمة في حق الإمام الحسين علیه السلام : «أن له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين، وأن له شيعة يشفعون فيشفعون، وأن المهدي من ولده، فطوبى لمن كان من أولياء الحسين، وشيعته هم والله الفائزون يوم القيامة..».(1)
وقد يُتساءل فيُقال:
إن الروايات أكدت أن الأئمة التسعة كلهم من ذرية الإمام الحسين علیه السلام فلماذا أكدت الرواية على أن المهدي من ولده؟
في مقام الجواب سنتحدث في جهتين:
من المسلّم به والواضح أن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف هو من ذرية الإمام الحسين علیه السلام ، ولكن ذهب الشاذ النادر من العامة إلى أن المهدي علیه السلام هو من ذرية الإمام الحسن علیه السلام .
وفي الحقيقة، فإن الثابت بروايات الفريقين هو أن المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف من سلالة الإمام الحسين علیه السلام ، وإن كانت هنالك روايات ضعيفة غير معتمدة لدى أهل السُنة تذكر بأنه من سلالة الإمام الحسن علیه السلام ، وهذا:
1/إمّا هو محمول على الإمام الحسن أبيه أي الإمام الحسن العسكري بن الإمام علي الهادي علیهما السلام .
2/وإمّا هو من خطأ النُسّاخ، فإن الفرق ضعيف بين الحسن والحسين خصوصاً
ص: 31
قبل اختراع التنقيط على الحروف.
3/ويمكن أيضاً معالجة الرواية باعتبار: أن الإمام الحسن المجتبى علیه السلام هو أحد آباء وأجداد الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف من ناحية الأُم، وذلك أنّ أُمّ الإمام الباقر علیه السلام علوية من نسل الإمام الحسن المجتبى علیه السلام وهي السيدة فاطمة ابنة الإمام الحسن علیه السلام وكانت ذات منزلة رفيعة، فقد روي عَنْ أَبِي الصَّبَّاحِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «كَانَتْ أُمِّي قَاعِدَةً عِنْدَ جِدَارٍ، فَتَصَدَّعَ الجِدَارُ، وسَمِعْنَا هَدَّةً شَدِيدَةً فَقَالَتْ بِيَدِهَا: لَا وحَقِّ المُصْطَفَى مَا أَذِنَ الله لَكَ فِي السُّقُوطِ، فَبَقِيَ مُعَلَّقاً فِي الجَوِّ حَتَّى جَازَتْه، فَتَصَدَّقَ أَبِي عَنْهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ».
قَالَ أَبُو الصَّبَّاحِ: وذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام جَدَّتَه أُمَّ أَبِيه يَوْماً فَقَالَ: «كَانَتْ صِدِّيقَةً، لَمْ تُدْرَكْ فِي آلِ الحَسَنِ امْرَأَةٌ مِثْلُهَا».(1)
فلأجل تأكيد هذه الحقيقة، نجد أن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم بيّن أن مما عوضه الله تبارك وتعالى للإمام الحسين علیه السلام من قتله هو أن المهدي علیه السلام من ولده.
ولعل التأكيد على ذلك لأجل وجود العديد من أوجه الشبه بين الإمامين الحسين والمهدي علیهما السلام تكشف عن العلاقة التفاعلية بين حركتيهما، وسنقتصر على بيان وجه واحد هنا، يتعلق بمسألة تعامل الإمام الحسين علیه السلام والإمام المهدي علیه السلام مع الواقع والحياة، وما يترتب عليه من ضرورة قيام الناس بمهمة متابعتهم ومشايعتهم، وسيتبين: أن نصرة أبي عبد الله علیه السلام تتمثل بالقيام بالمسؤولية، وهي نفسها ما يلزم على المنتظرين القيام به تجاه الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف .
ص: 32
تختلف نظرة الناس في دور الدين في الحياة، وعلى أساس اختلاف هذه النظرة اختلفت طريقة التعاطي معه، إفراطاً وتفريطاً واعتدالاً، والذي يمكن رصده هنا هو ثلاثة توجهات:
بمعنى أنه وُجد على أرض الواقع من يتعامل مع الدين على أنه مجرد نظريات لا علاقة لها بالحياة، فاعتبروا الدين:
1/ مجرد طقوس تؤدى في مكان معين وفي زمان معين، ولا وجود له خارج ظرفه الزمكاني ذاك.
2/مجرد علاقة خاصة بين العبد وربه، فلا يجوز والحال هذي تنزيل الدين إلى تعامل الفرد مع الإنسان، فالتعامل مع الإنسان يكون وفق القانون البشري البحت، ووفق ما يتصالح عليه الناس، ولو كان هو الربا أو الاستعمار أو استنزاف طاقات الآخر.
3/ أن الدين عبارة عن علاقة غيبية بحتة، بحيث لا يكون المرء متديناً إلا إذا قطع جميع علاقاته بالبدن، واللذائذ المادية، فالدين هي الرهبنة.
وكل هذه الصور وأمثالها تسعى إلى قطع علاقة الدين بالحياة، وأن الحياة لا بد أن تسير بعيداً عن نظريات الدين.
وأن الله تعالى يقوم بكل شيء بدلاً عن الإنسان.
يظهر من بعض التصرفات والأقوال التي تصدر من هنا وهناك، أن البعض يتصور
ص: 33
أن الدين -وحتى يكون ديناً حقاً، وكاشفاً عن ارتباط مباشر بالسماء- فإنه لا بد أن يقوم بكل ما يريده الإنسان،
وبطريقة (كن فيكون)، بحيث يتصور أن الدين لو لم يوفر له ما يرغب به، فهذا كاشف عن كونه مزيفاً، أو على الأقل هو دين لا يفي بمتطلبات الحياة.
يتجلى هذا التوجه عندما ننظر مريضاً قد يئس الأطباء من علاجه، فيقول: أين الله؟ لماذا لا يعالجني وقد عجز الأطباء عني؟
وهكذا عندما نسمع أن يزيد أمر برمي الكعبة بالمنجنيق، فانهدمت، وأُحرقت بعض كسوتها(1)، فيأتي أحدهم ويقول: أين الله تعالى ليدافع عن الكعبة؟
أو عندما يعق الولد أباه أو أمه، فيرفع أحدهما يديه إلى السماء طالباً من الله تعالى تنفيذ أمره وبسرعة فائقة ليهلك ولده عاجلاً غير آجل! فإن لم تحصل الإجابة، عتب على السماء وأنها لم تقف إلى جانبه ضد ولده العاق!
وهكذا لو حصل مرض ما، وعجر البشر عن وجود علاج له، قد يعترض البعض فيقول: أين الخالق عنا ليتركنا نواجه المرض لوحدنا، لمَ لا يقف معنا في محنتنا؟!
أو عندما نجد شاباً فقيراً، وعندما نطلب منه أن يخرج للعمل، فيقول: أنا لا أخرج حتى يرزقني الله تبارك وتعالى، وكأنه يريد من الله تبارك وتعالى أن يرمي له الأموال ويتوسل له بأن يتفضل عليه بقبولها!
في الحقيقة، أن كل هذه التساؤلات ناشئة من تصور أن الدين والسماء لا بد أن يكون طوع أمر البشر، وأن عليه أن يستجيب لأي طلب يريده الإنسان.
ولا ريب في بطلان هذا التصور، ويكفينا الواقع شاهداً على ذلك، فالدين لم يتدخل بطريقة المعجزة في عامة مفردات الحياة.
ص: 34
وهو تبرير لكسل البعض وتعاجزهم عن خوض لجج الحياة.
وقد أشارت بعض النصوص الدينية إلى بطلان هذه النظرة تجاه الدين.
فقد روي عَنِ الوَلِيدِ بْنِ صَبِيحٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: صَحِبْتُه بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ، فَجَاءَ سَائِلٌ فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعُ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام :
يُشْبِعُكَ الله. ثُمَّ التَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: أَمَا إِنَّ عِنْدَنَا مَا نُعْطِيه، ولَكِنْ أَخْشَى أَنْ نَكُونَ كَأَحَدِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ دَعْوَةٌ: رَجُلٌ أَعْطَاه الله مَالاً فَأَنْفَقَه فِي غَيْرِ حَقِّه، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي فَلَا يُسْتَجَابُ لَه. ورَجُلٌ يَدْعُو عَلَى امْرَأَتِه أَنْ يُرِيحَه مِنْهَا، وقَدْ جَعَلَ الله عَزَّ وجَلَّ أَمْرَهَا إِلَيْه. ورَجُلٌ يَدْعُو عَلَى جَارِه، وقَدْ جَعَلَ الله عَزَّ وجَلَّ لَه السَّبِيلَ إِلَى أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ جِوَارِه ويَبِيعَ دَارَه. (1).
وعن الإمام الصادق علیه السلام : «أربعة لا يُستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟! ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟! ورجل كان له مال فأفسده فيقول: اللهمّ ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد؟! ألم آمرك بالإصلاح؟! ثمّ قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواما﴾(2)،
ورجل كان له مال فأدانه بغير بيِّنة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة؟!»(3).
وروي عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام : مَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ؟ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَقْبَلَ عَلَى العِبَادَةِ وتَرَكَ التِّجَارَةَ! فَقَالَ: وَيْحَه، أمَا عَلِمَ أَنَّ تَارِكَ الطَّلَبِ لَا يُسْتَجَابُ لَه، إِنَّ قَوْماً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله وسلم لَمَّا نَزَلَتْ ﴿ومَنْ يَتَّقِ الله
ص: 35
يَجْعَلْ لَه مَخْرَجاً ويَرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ أَغْلَقُوا الأَبْوَابَ وأَقْبَلُوا عَلَى العِبَادَةِ وقَالُوا: قَدْ كُفِينَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلی الله علیه و آله وسلم فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، تُكُفِّلَ لَنَا بِأَرْزَاقِنَا فَأَقْبَلْنَا عَلَى العِبَادَةِ. فَقَالَ: إِنَّه مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُسْتَجَبْ لَه، عَلَيْكُمْ بِالطَّلَبِ.(1)
التوجه الثالث: الأمر بين الأمرين.
بمعنى: أن الدين طرح نظريات تشبع الحاجات العامة للبشرية، ولم يتدخل بإرادته التي تسلب إرادة الإنسان في إدارة الحياة، بل ترك الأمر للإنسان ليقوم بما عليه من مسؤولية بإرادته، فيتدخل في مجالات معينة، ويترك المجالات الأخرى لإرادة الإنسان.
وبعبارة أخرى: أن هناك مساحتين:
مساحة الدين: وتتمثل ببيان النظريات التي ترسم لوحة السعادة على الأرض، وتخط الطريق للوصول إلى السعادة في الآخرة.
ومساحة إرادة الإنسان: وتتمثل بالتطبيق التام لنظريات الدين، وهي تقتضي فيما تقتضيه تفعيل إرادة الإنسان في خوض لجج الحياة واستكشاف أسرارها والعمل على ترويض الهائج منها.
فالمرض يستدعي استنفار الطاقات الطبية لاكتشاف العلاج المناسب له.
المشكلة الاجتماعية تقتضي مشاورة ذوي العقول لمعرفة المخرج منها.
الرزق له أبواب لا بد أن يطرقها الفقير كيما يحصل على شيء من متاع الدنيا.
وهكذا.
ص: 36
إن فهم هذه الحقيقة يوفر الجواب التفصيلي عن بعض التساؤلات التي نواجهها في علاقتنا مع الدين، من قبيل:
عدم اهتداء بعض الناس ممن عاصروا ظهور المعصوم، فإن تواجد المعصوم لا يعني أنه يجبر الناس على الهداية، وإنما هو يوضح الطريق لهم، على طريقة: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ﴾.(1)
﴿وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ﴾.(2)
﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.(3)
﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْراتِ إِلَىٰ اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾(4)
ص: 37
ثانياً(1): لماذا ينحرف البعض بعد وقوع الصيحة؟
مع قيام الصيحة على الإعجاز، كيف نُفسِّر إغواء إبليس بصيحته بعد تلك الصيحة، والفرض أنَّ صيحة إبليس ليست إعجازية، وقد وصفتها الروايات بأنَّها تصدر من الأرض في إشارة لذلك؟
إنَّ الروايات التي ذكرت قيام الصيحة، ذكرت إلى جنبها أنَّ إبليس سيقوم بصيحة مناوئة ومخالفة للصيحة الجبرائيلية، ممَّا يُؤدّي إلى انحراف البعض رغم سماعهم الصيحة الإعجازية، فقد ورد عن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «ينادي منادٍ من السماء: إنَّ فلاناً هو الأمير، وينادي منادٍ: إنَّ عليّاً وشيعته هم الفائزون»، قلت: فمن يقاتل المهدي بعد هذا؟ فقال: «إنَّ الشيطان ينادي: إنَّ فلانا وشيعته هم الفائزون - لرجل من بني أُميَّة -...»(2)
وعن زرارة بن أعين، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام : عجبت أصلحك الله! وإنّي لأعجب من القائم كيف يقاتل مع ما يرون من العجائب، من خسف البيداء بالجيش، ومن النداء الذي يكون من السماء؟ فقال: «إنَّ الشيطان لا يدعهم حتَّى ينادي كما نادى برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يوم العقبة...»(3)
ومن هنا، قد يتساءل البعض عن السبب الذي يعدم تأثير إعجاز الصيحة في بعض النفوس؟
ص: 38
الجواب:
إنَّ إعجازها إنَّما هو في صدورها لا في هدايتها، فتبقى الهداية تابعة لإرادة الإنسان نفسه، فهي لا تجبرهم على الهداية، فتبقى هدايتها فرع المعرفة المسبقة، وفرع إرادة الإنسان، وحتَّى مع المعرفة المسبقة، يبقى الإنسان معرَّضاً للضلال، بل وحتَّى الجحود.
وبعبارة أوضح: إنَّ قيام المعجزة لا يجبر الناس على الهداية، فإنَّ الجبر خلاف نظام التشريع، الذي يقوم على أن يكون للإنسان الدور الفعّال والمؤثِّر في عملية الهداية أو الضلال، فالإنسان هو صاحب القرار الأخير، وهو الذي يقوم بأفعال الخير أو الشرِّ، وهو المسؤول الأوَّل والأخير عنها، قال تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾.(1)
فقيام المعجزات لا يعني أكثر من دليل إثباتي على صدق الدعوة، ولا يعني بحالٍ جبر الأفراد وجرّهم لطريق الهداية رغماً عنهم، فقيامها لا يسلب الاختيار، وبالتالي تبقى الخطوة الأخيرة بعد قيامها من شأن الإنسان نفسه، فيمكن تصوّر انحراف البعض رغم صدور الصيحة، تماماً كما انحرف الكثيرون ممَّن عاصروا وعايشوا ورأوا بأُمِّ أعينهم عشرات بل مئات المعجزات تصدر من النبيِّ الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم ، ولكن قيامها لم يمنعهم من الانحراف، إلى الحدِّ الذي سيُذاد العديد منهم عن الحوض، لما أحدثوه بعد النبيِّ الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم .(2)
ص: 39
ثالثاً: لماذا طالت الغيبة؟
إن الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف يستعمل الطريق الطبيعي في عامة حركته، وهو ما يكشف عن واحد من أسباب طول الغيبة، فإنه لو كان يريد إقامة العدل بطريق المعجزة لفعل ذلك من أول يوم في إمامته، بل لفعله قبله رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، ولكنه يريد إقامة ذلك بالطريق الطبيعي، مما يعني أنه يريد للناس أن يصلوا إلى مرحلة يتحملون معها ما عليهم من مسؤولية مساندة الحق والتضحية من أجله والقيام بما تفرضه عليهم السماء تجاه ذلك، وهذا بطبيعته يستلزم وقتاً من الغربلة والتمحيص والاختبارات حتى يتميز الخبيث من الطيب، مما يعني أن جزءاً من علة الظهور المقدس ملقاة على عاتق الناس، وهو ما تشير إليه بعض الروايات الشريفة.
روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الصَّيْقَلِ عَنْ أَبِيه قَالَ: كُنْتُ أَنَا والحَارِثُ بْنُ المُغِيرَةِ وجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا جُلُوساً وأَبُو عَبْدِ الله علیه السلام يَسْمَعُ كَلَامَنَا، فَقَالَ لَنَا: «فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتُمْ؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، لَا والله لَا يَكُونُ مَا تَمُدُّونَ إِلَيْه أَعْيُنَكُمْ حَتَّى تُغَرْبَلُوا، لَا والله لَا يَكُونُ مَا تَمُدُّونَ إِلَيْه أَعْيُنَكُمْ حَتَّى تُمَحَّصُوا، لَا والله لَا يَكُونُ مَا تَمُدُّونَ إِلَيْه أَعْيُنَكُمْ حَتَّى تُمَيَّزُوا، لَا والله مَا يَكُونُ مَا تَمُدُّونَ إِلَيْه أَعْيُنَكُمْ إِلَّا بَعْدَ إِيَاسٍ، لَا والله لَا يَكُونُ مَا تَمُدُّونَ إِلَيْه أَعْيُنَكُمْ حَتَّى يَشْقَى مَنْ يَشْقَى ويَسْعَدَ مَنْ يَسْعَدُ».(1)
ومما يدل بوضوح على أن للمجتمع دورًا في ما يتعلق بالظهور، هو أن الروايات دلت على وجود حركات تمهد الأمر للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف قبيل الظهور، من قبيل حركة اليماني والخراساني، والموطئين وما ما شابه، فقد روي عن أبي جعفر علیه السلام أنه قال: «كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما سألوه فلا يقبلونه حتى يقوموا ولا
ص: 40
يدفعونها إلا إلى صاحبكم قتلاهم شهداء أما إني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر».(1)
إننا وإن كنا نؤمن بأن للمعصومين علیهم السلام الولاية التكوينية التي تعطيهم نوعاً من القدرة على التصرف في مجريات الكون بإذن الله تبارك وتعالى، ووفق هذه القدرة يمكن للمعصوم أن يتغلب على كل أعدائه بالمعجزة والكرامة من دون أن يجاهد وينصب ويتعب.
إلا أننا وجدنا أن المعصومين قاطبة – الأنبياء والأئمة- كانوا يتعاملون في الحياة وفق النظام الطبيعي العادي، وما كانوا يستعملون المعجزة إلا نادراً، وإلا إذا اقتضت الحكمة ذلك، ولذلك وجدنا أن الأنبياء قُتّلوا وشُرّدوا وأوذوا كثيراً... قال تعالى ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتىٰ نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾.(2)
روي عن أحمد بن سليمان القمّي الكوفي، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمّد علیهما السلام يقول: «إن كان النبيُّ من الأنبياء ليُبتلىٰ بالجوع حتَّىٰ يموت جوعاً، وإن كان النبيُّ من الأنبياء ليُبتلىٰ بالعطش حتَّىٰ يموت عطشاً، وإن كان النبيُّ من الأنبياء ليُبتلىٰ بالعراء حتَّىٰ يموت عرياناً، وإن كان النبيُّ من الأنبياء ليُبتلىٰ بالسقم والأمراض حتَّىٰ تتلفه، وإن كان النبيُّ من الأنبياء ليأتي قومه فيقوم فيهم، يأمرهم بطاعة الله ويدعوهم إلىٰ توحيد الله وما معه مبيت ليلة، فما يتركونه يفرغ من كلامه ولا يستمعون إليه حتَّىٰ
ص: 41
يقتلوه، وإنَّما يبتلي الله تبارك وتعالىٰ عباده علىٰ قدر منازلهم عنده»(1).
وعلى هذا الأساس، فإن الإمام الحسين علیه السلام كان يتعامل مع القوم في معركته وفق النظام العادي والطبيعي للعالم، ولذلك قُتل هو وأهل بيته علیهم السلام ، وإلا كان بإمكانه أن يتعامل معهم بالمعجزة ويفنيهم.
نعم، الإمام الحسين علیه السلام ومن باب إلقاء الحجة عليهم، فقد أراهم بعضاً من معجزاته وكراماته كما تذكر النصوص التاريخية، من قبيل:
ما روي من أنه أقبل رجل من معسكر عمر بن سعد، يقال له: مالك بن حوزة على فرس له حتّى وقف عند الخندق وجعل ينادي: أبشر يا حسين! فقد تلفحك النار في الدنيا قبل الآخرة. فقال له الإمام الحسين علیه السلام : «كَذِبْتَ يا عَدُوَّ اللهِ، إِنّي قادِمٌ عَلى رَبٍّ رَحيم وَشَفيع مُطاع، وَذلِكَ جَدّي رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه و آله وسلم ».
ثمّ قال الإمام الحسين: «مَنْ هذَا الرَّجُلُ؟» فقالوا: هذا مالك بن حوزة. [وفي نقل آخر أنه عبد الله بن حوزة]
فقال الإمام الحسين علیه السلام : «أللّهُمَّ! حُزْهُ إِلَى النّارِ، وَأَذِقْهُ حَرَّها في الدُّنْيا قَبْلَ مَصيرِهِ إِلَى الآْخِرَةِ!» قال: فلم يكن بأسرع أن شبت به الفرس فألقته في النار، فاحترق.
قال: فخرّ الإمام الحسين علیه السلام لله ساجداً مطيعاً، ثمّ رفع رأسه وقال: يا لَها مِنْ دَعْوَة ما كانَ أَسْرَعَ إِجابَتَها! قال: ثمّ رفع الحسين صوته ونادى: «اللهُمُّ، إنّا أَهْلُ نَبِيِّكَ وَذُرِّيَّتُهُ وقَرابَتُهُ، فَاقْصِمْ مَنْ ظَلَمَنا وَغَصَبَنا حَقَّنا، إنَّكَ سَميعٌ مُجيبٌ».(2)
وفي رواية أخرى أنه «أقبل رجل من عسكر عمر بن سعد على فرس له، يقال له:
ص: 42
ابن أبي جويرية المزني، فلما نظر إلى النار تتّقد صفق بيده، ونادى: يا حسين وأصحاب حسين، أبشروا بالنار، فقد تعجلتموها في الدنيا! فقال الحسين علیه السلام : من الرجل؟ فقيل: ابن أبي جويرية المزني. فقال الإمام الحسين علیه السلام : اللهم أذقه عذاب النار في الدنيا. فنفر به فرسه وألقاه في تلك النار فاحترق».
ثم برز من عسكر عمر بن سعد رجل آخر، يقال له: تميم بن حصين الفزاري، فنادى: يا حسين ويا أصحاب حسين، أما ترون إلى ماء الفرات يلوح كأنه بطون الحيات؟ والله لا ذقتم منه قطرة حتى تذوقوا الموت جرعاً. فقال الإمام الحسين علیه السلام : من الرجل؟ فقيل: تميم بن حصين. فقال الإمام الحسين علیه السلام : هذا وأبوه من أهل النار، اللهم اقتل هذا عطشاً في هذا اليوم. قال: فخنقه العطش حتى سقط عن فرسه، فوطأته الخيل بسنابكها فمات.
ثم أقبل رجل آخر من عسكر عمر بن سعد، يقال له محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، فقال: يا حسين بن فاطمة، أية حرمة لك من رسول الله ليست لغيرك؟ فتلا الإمام الحسين علیه السلام هذه الآية ﴿إِنَّ اللهَ
اصْطَفىٰ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَىٰ العالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(1)، ثم قال: والله إن محمداً لمن آل إبراهيم، وإن العترة الهادية لمن آل محمد، من الرجل؟ فقيل: محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، فرفع الإمام الحسين علیه السلام رأسه إلى السماء، فقال: اللهم أرِ محمد بن الأشعث ذُلاً في هذا اليوم، لا تعزه بعد هذا اليوم أبداً. فعرض له عارض فخرج من العسكر يتبرز، فسلط الله عليه عقرباً فلدغته، فمات بادي العورة.(2)
ولذلك أيضاً وجدنا أن الإمام الحسين علیه السلام ضحّى بأولاده وأهل
ص: 43
بيته وأصحابه، وجرى على عائلته ما جرى من بعده، كل ذلك لأن الدين لا يسلب إرادة الإنسان، وإنما يفسح المجال له لتفعيلها، والهدف: ﴿لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.(1)
ومن كل ذلك يتبين: أن من جهات الشبه بين الإمام الحسين علیه السلام والإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف هو أن للناس دوراً في قيامهما، وأنهما علیهما السلام يسيران بالناس وفق نظام الأمر بين الأمرين في العلاقة مع الدين، وبالتالي ينكشف لنا وجود علاقة تكاملية وتفاعلية بين حركتيهما علیهما السلام .
ص: 44
حتى نصل إلى معنى محصل من هذا التعويض الإلهي للإمام الحسين علیه السلام ، نذكر الأمور التالية:
من السنن التي أجراها الله تعالى في الكون هي سنة عدم الثبات، فالإنسان من اللحظة التي يولد فيها وإلى أن يموت لا يبقى على حال واحدة، بل الحياة متغيرة بأهلها من حال إلى حال، وهذا ما نشاهده
بالوجدان، وهو ما حكته لنا الروايات الشريفة بأساليب مختلفة، فمثلاً يقول أمير المؤمنين علیه السلام :... «أَولَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا، يُصْبِحُونَ ويُمْسُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى، فَمَيِّتٌ يُبْكَى وآخَرُ يُعَزَّى، وصَرِيعٌ مُبْتَلًى وعَائِدٌ يَعُودُ، وآخَرُ بِنَفْسِه يَجُودُ، وطَالِبٌ لِلدُّنْيَا والمَوْتُ يَطْلُبُه، وغَافِلٌ ولَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْه، وعَلَى أَثَرِ المَاضِي مَا يَمْضِي البَاقِي...».(1)
ولما تكاثر القوم على الإمام الحسين علیه السلام وتقدم إليهم ورأى صفوفهم كالسيل والليل، فخطب فقال: «الحمد لله الذي خلق الدنيا، فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور...».(2)
ومن تلك السنن التي جعلها الله تعالى في الحياة، والتي تعبر عن تغير مستمر في
ص: 45
حياة الإنسان هي: سنة الصحة والمرض، فالإنسان ليس دائماً في حالة واحدة منهما، فمرة يكون صحيحاً وأخرى يكون عليلاً... وهذه السنة واقعية ولا تحتاج إلى بيان...
إن هذه الحالة من التغير بين الصحة والمرض تشير فيما تشير إليه إلى ضعف الإنسان، وفقره في نفسه، فالإنسان لا يمكنه أن يدفع المرض عن نفسه، خصوصاً مع تنوع الأمراض ومفاجأتها للمرء ووجود أمراض عجز الطب البشري عن علاجها، فعندما يلتفت المرء إلى ذلك عليه أن يعيش حالة من الفزع والخوف، وفي نفس الوقت حالة من الرجاء والاستكانة إلى الله تعالى، وأن يسأله العافية...
إن الله تعالى جعل تمام النعمة في الحياة الدنيا هي في الصحة والأمان، كما أن تمام النعمة في الآخرة في دخول الجنة، وفي نفس الوقت جعل من المرض فرصة للإنسان ليعوضه الله تعالى عنه بأمور، فإن ساعات المرض يذهبن ساعات الخطايا.
فعن أبي عبد الرحمن، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: سمعته يقول: «من اشتكىٰ ليلة فقبلها بقبولها وأدّىٰ إلىٰ الله شكرها كانت له كفّارة ستّين سنة»، قال: قلت: وما معنىٰ قبلها بقبولها؟ قال: «صبر علىٰ ما كان فيها»(1).
وعن محمّد بن مسلم، قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله علیه السلام إذ دخل يونس بن يعقوب، فرأيته يئنُّ، فقال له أبو عبد الله علیه السلام : «ما لي أراك تئنُّ؟»، قال: طفل لي تأذَّيت به الليل أجمع، فقال له أبو عبد الله علیه السلام : «يا يونس، حدَّثني أبي محمّد بن عليٍّ، عن آبائه علیهم السلام ، عن جدّي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أنَّ جبرئيل نزل عليه ورسول الله وعليٌّ (صلوات الله عليهما) يئنّان، فقال جبرئيل علیه السلام : يا حبيب الله، ما لي أراك تئنُّ؟ فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : طفلان لنا تأذَّينا ببكائهما، فقال جبرئيل: مَهْ، يا محمّد فإنَّه سيبعث لهؤلاء القوم شيعة إذا
ص: 46
بكىٰ أحدهم فبكاؤه لا إله إلَّا الله إلىٰ أن يأتي عليه سبع سنين، فإذا جاز السبع فبكاؤه استغفار لوالديه إلىٰ أن يأتي علىٰ الحدِّ، فإذا جاز الحدَّ فما أتىٰ من حسنة فلوالديه، وما أتىٰ من سيِّئة فلا عليهما»(1).
عادة ما يخاف الإنسان من الأمراض البدنية، ودائماً ما يسأل الله تعالى أن يعافيه منها، وهذا لا ضير فيه، ولكن من المهم أيضاً أن نلتفت إلى أن هناك أمراضاً غير مادية تصيب الإنسان، وهي أشد خطراً وفتكاً بالإنسان، فهناك أمراض تصيب الروح، والقلب، والفكر، والعقل... قال تعالى ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ فالكذب مرض يصيب الروح، وكذا الرياء والعجب والتعصب الأعمى وقول الزور واليمين الغموس وعقوق الوالدين وإدمان النظر إلى الحرام واستماع الغناء والجبن والكره والنميمة وغيرها كثير.... وهذه الأمراض أخطر بكثير من أمراض البدن، وخطرها يكمن في عدة جهات:
1 / إن المرض البدني عادة ما تكون له آثار ظاهرة للعيان أو ملفتة للنظر... وليس كذلك أمراض الروح...
2 / عادة ما يعمل الإنسان على التخلص من مرض بدنه بالسرعة العاجلة؛ لأنه يعتقد أنه مضر بصحته، وأنه إذا أراد العيش الهنيء فعليه أن يتخلص من مرض بدنه، ولكنه عادة ما يغفل عن مرض روحه، لأنه قد لا يراه سيئاً، وقد يبرر لنفسه ما يفعله من خطأ...
3 / إن المرض البدني مهما صعب، لكن الحصول على طبيب يداويه ممكن، ولكن
ص: 47
من الصعب جداً أن نجد طبيباً لأرواحنا في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل.
نعم، ينبغي أن لا ننسى أن طبيب النفوس هو النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم فإنه طبيب دوار بطبه قد أتقن مراهمه، وأعطانا علاج الأرواح بأحاديثه وأحاديث أهل البيت.
فقد روي عن الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم : «إنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد»، قيل: فما جلاؤها؟ قال: «ذكر الله، وتلاوة القرآن»(1).
وعن الإمام الباقر علیه السلام : «إنَّ حديثنا يُحيي القلوب»(2).
وعن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «تذاكروا وتلاقوا وتحدَّثوا فإنَّ الحديث جلاء للقلوب، إنَّ القلوب لترين(3) كما يرين السيف جلاؤها الحديث»(4).
وأصل ذلك هو القرآن الكريم، قال تعالى ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىٰ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾. [يونس 57]
في الوقت الذي جعل الله تعالى من سنن الحياة المرض، فإنه تعالى لم يجعل مرضاً إلا جعل له دواء، فعن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا السام وهو الموت».(5)
وعنه صلی الله علیه و آله وسلم : «تداووا، فإن الله تعالى لم ينزل داء إلا وقد أنزل الله له شفاء، إلا السام
ص: 48
والهرم».(1)
الملاحظة المهمة هنا هي: أن جعل خاصية الشفاء في شيء مما خلقه الله تعالى هو أمر مختص به تعالى، بمعنى أن الله تعالى هو الذي يجعل الشيء الفلاني علاجاً للمرض الفلاني... وهو أمر تابع لنظام الأسباب والمسببات الذي خلقه الله تبارك وتعالى، والذي لم يكتشف الإنسان كل أسراره إلى الآن.
ومن هنا، نجد الروايات الشريفة تؤكد على أن الله تعالى جعل لتربة الإمام الحسين علیه السلام وتعويضاً لما قدمه علیه السلام في سبيل الله تعالى، جعل فيها خاصية الشفاء من كل داء، والتي قد يفهم منها أنها علاج لكل الأمراض البدنية والروحية أيضاً..
عن الحسين بن محمد الأزدي، عن أبيه قال: صليت في جامع المدينة وإلى جانبي رجلان على أحدهما ثياب السفر فقال أحدهما لصاحبه: يا فلان أما علمت أن طين قبر الحسين علیه السلام شفاء من كل داء؟ وذلك أنه كان بي وجع الجوف، فتعالجت بكل دواء فلم أجد فيه عافية، وخفت على نفسي وآيست منها، وكانت عندنا امرأة من أهل الكوفة عجوز كبيرة، فدخلت علي وأنا في أشد ما بي من العلة، فقالت لي: يا سالم ما أرى علتك إلا كل يوم زائدة، فقلت لها: نعم، فقالت: فهل لك أن أعالجك فتبرأ بإذن الله عزوجل ؟ فقلت لها: ما أنا إلى شيء أحوج مني إلى هذا، فسقتني ماء في قدح فسكنت عني العلة وبرئت حتى كأن لم يكن بي علة قط.
فلما كان بعد أشهر دخلت علي العجوز، فقلت لها: بالله عليك يا سلمة - وكان اسمها سلمة - بماذا داويتني؟ فقالت: بواحدة مما في هذه السبحة، من سبحة كانت
ص: 49
في يدها، فقلت: وما هذه السبحة؟ فقالت: إنها من طين قبر الحسين علیه السلام ، فقلت لها: يا رافضية، داويتني بطين قبر الحسين علیه السلام ؟ فخرجت من عندي مغضبة ورجعت والله علتي كأشد ما كانت، وأنا أقاسي منها الجهد والبلاء، وقد والله خشيت على نفسي، ثم أذن المؤذن فقاما يصليان وغابا عني.(1)
قال الإمام أبو عبد الله علیه السلام : «في طين قبر الحسين علیه السلام الشفاء من كل داء، وهو الدواء الأكبر».(2)
وقال الإمام أبو عبد الله الصادق علیه السلام : «طين قبر الحسين علیه السلام فيه شفاء، وإن أخذ على رأس ميل».(3)
وقال الإمام أبو عبد الله الصادق علیه السلام : «من أصابته علة فبدأ بطين قبر الحسين علیه السلام شفاه الله من تلك العلة، إلا أن تكون علة السام». (4)
وإنما ينتفع المريض بطين قبر الإمام الحسين علیه السلام إذا كان مؤمناً مطمئناً بذلك، بالإضافة إلى أن بعض الروايات ذكرت أن هناك أدعية ينبغي قراءتها عند استعمالها.
فقد قال ابن أبي يعفور إلى الإمام الصادق علیه السلام : يأخذ الإنسان من طين قبر الحسين فينتفع به، ويأخذ غيره فلا ينتفع به، فقال الإمام علیه السلام : «لا والله الذي لا إله إلا هو، ما يأخذه أحد وهو يرى أن الله ينفعه به إلا نفعه الله به..».
ص: 50
وعن الحارث بن المغيرة النصري، قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام : إني رجل كثير العلل والأمراض، وما تركت دواء تداويت به فما انتفعت بشيء منه.
فقال لي: أين أنت عن طين قبر الحسين بن علي علیه السلام ، «فإن فيه شفاء من كل داء، وأمناً من كل خوف، فإذا أخذته فقل هذا الكلام: (اللهم إني أسألك بحق هذه الطينة، وبحق الملك الذي أخذها، وبحق النبي الذي قبضها، وبحق الوصي الذي حلّ فيها، صلِّ على محمد وأهل بيته، وافعل بي كذا وكذا)».
قال: ثم قال لي أبو عبد الله علیه السلام : «أما الملك الذي قبضها فهو جبرئيل علیه السلام ، وأراها النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، فقال: هذه تربة ابنك الحسين، تقتله أمتك من بعدك، والذي قبضها فهو محمد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، وأما الوصي الذي حلّ فيها فهو الحسين علیه السلام والشهداء (رضي الله عنهم)».
قلت: قد عرفت -جعلت فداك- الشفاء من كل داء فكيف الأمن من كل خوف؟ فقال: إذا خفت سلطانا أو غير سلطان فلا تخرجنّ من منزلك إلا ومعك من طين قبر الحسين علیه السلام ، فتقول: «اللهم إني أخذته من قبر وليك وابن وليك، فاجعله لي أمناً وحرزاً لما أخاف وما لا أخاف» فإنه قد يرد ما لا يخاف.
قال الحارث بن المغيرة: فأخذت كما أمرني، وقلت ما قال لي فصح جسمي، وكان لي أماناً من كل ما خفت وما لم أخف، كما قال أبو عبد الله علیه السلام ، فما رأيت مع ذلك بحمد الله مكروهاً ولا محذوراً.(1)
وعن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: طين قبر الحسين علیه السلام شفاء من كل داء، وإذا أكلته فقل: بسم الله وبالله، اللهم اجعله رزقاً واسعاً، وعلماً نافعاً، وشفاءً من كل داء، انك على كل
ص: 51
شيء قدير.(1)
وعن مالك بن عطية، عن أبيه، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «إذا أخذت من تربة المظلوم ووضعتها في فيك فقل: (اللهم إني أسألك بحق هذه التربة، وبحق الملك الذي قبضها، والنبي الذي حضنها، والإمام الذي حل فيها، أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تجعل لي فيها شفاء نافعاً، ورزقاً واسعاً، وأماناً من كل خوف وداء)، فإنه إذا قال ذلك وهب الله له العافية وشفاه».(2)
إن لتربة الإمام الحسين علیه السلام عدة خصائص ذكرت في الروايات الشريفة والكتب الفقهية، نذكر منها:
الخصيصة الأولى: أنها أمان في السفر ومن الخوف.
فعن زيد أبي أسامة، قال: كنت في جماعة من عصابتنا بحضرة سيدنا الصادق علیه السلام ، فأقبل علينا أبو عبد الله علیه السلام ، فقال: إن الله (تعالى) جعل تربة جدي الحسين علیه السلام شفاء من كل داء، وأماناً من كل خوف، فإذا تناولها أحدكم فليقبلها وليضعها على عينيه، وليمرها على سائر جسده، وليقل: «اللهم بحق هذه التربة، وبحق من حل بها وثوى فيها، وبحق أبيه وأمه وأخيه والأئمة من ولده، وبحق الملائكة الحافين به إلا جعلتها شفاء من كل داء، وبرءً من كل مرض، ونجاة من كل آفة، وحرزا مما أخاف وأحذر» ثم يستعملها.
ص: 52
قال أبو أسامة: فإني استعملتها من دهري الأطول، كما قال ووصف أبو عبد الله، فما رأيت بحمد الله مكروهاً.(1)
وروي أنه بُعث إلى أبي الحسن الرضا علیه السلام من خراسان بثياب رزم(2)، وكان بين ذلك طين، فقلت للرسول: ما هذا، فقال: طين قبر الحسين علیه السلام ما يكاد يوجه شيئاً من الثياب ولا غيره إلا ويجعل فيه الطين، وكان يقول: هو أمان بإذن الله تعالى.(3)
الخصيصة الثانية: حرمة تربة قبر الإمام الحسين علیه السلام .
يستفاد من بعض الروايات الشريفة حرمة توهين وتحقير تربة الإمام الحسين علیه السلام ، وهو ما يُشير إليه تعبير بعض الروايات بأن للحسين علیه السلام حرمة حول قبره أو في حائره، من قبيل ما روي عن أبي عبد الله علیه السلام قال: حرمة قبر الحسين فرسخ في فرسخ من أربعة جوانبه.(4)
وعن إسحاق بن عمار، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «ان لموضع قبر الحسين بن علي علیهما السلام حرمة معلومة من عرفها واستجار بها أجير...».(5)
فقد روي عن بعض أصحاب أبي الحسن موسى بن جعفر علیه السلام قال: «دخلت إليه
ص: 53
فقال: لا تستغني شيعتنا عن أربع: خمرة(1)
يصلى عليها، وخاتم يتختم به، وسواك يستاك به، وسبحة من طين قبر أبي عبد الله علیه السلام فيها ثلاث وثلاثون حبة. متى قلّبها ذاكراً لله كتب له بكل حبة أربعون حسنة. وإذا قلبها ساهياً يعبث بها كتب له عشرون حسنة».(2)
وعن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري قال: كتبت إلى الفقيه(3) 8 أسأله هل يجوز ان يسبح الرجل بطين قبر الحسين علیه السلام ، وهل فيه فضل؟ فأجاب وقرأت التوقيع ومنه نسختُ: يسبح به، فما في شيء من التسبيح أفضل منه، ومن فضله أن المسبِّح ينسى التسبيح ويدير السبحة فيكتب له ذلك التسبيح.(4)
وعن الإمام الصادق علیه السلام :«... ومن كان معه سبحة من طين قبر الحسين علیه السلام كتب مسبحا وإن لم يسبح بها، والتسبيح بالأصابع أفضل منه بغيرها؛ لأنها مسؤولات يوم القيامة». (5)
قال الإمام الصادق علیه السلام : «السجود على طين قبر الحسين علیه السلام ينور إلى الأرض السابعة».(6)
ص: 54
المراد بالتحنيك إدخال ذلك إلى حنكه، وهو أعلى داخل الفم.(1)
عن الحسين بن أبي العلاء، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: حنكوا أولادكم بتربة الحسين علیه السلام ، فإنها أمان.(2)
يظهر من بعض الروايات الشريفة استحباب وضع شيء من تربة قبره علیه السلام مع الميت في قبره، فقد روي عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري قال: كتبت إلى الفقيه علیه السلام أسأله عن طين القبر يوضع مع الميت في قبره هل يجوز ذلك أم لا؟ فأجاب وقرأت التوقيع ومنه نسخت: يوضع مع الميت في قبره ويخلط بحنوطه إن شاء الله.(3)
هي التربة الوحيدة من بين أنواع التراب بل ومن بين أتربة قبور جميع الأنبياء والأئمة التي يجوز أكلها(4)،
ص: 55
ولكن أكلها مشروط بشرطين(1):
الأول: قصد الاستشفاء: فعن الإمام الصادق علیه السلام : «من أكل من طين قبر الحسين علیه السلام غير مستشف به فكأنما أكل من لحومنا».
الثاني: أن يؤخذ منها بقدر الحمصة المتوسطة الحجم لا أكثر.
ص: 56
للدعاء أهمية عظمى في المنظومة الدينية، وهو يمثل عصب الحياة الذي يمدّ الإنسان بالحيوية والفيض الإلهي، ولولاه لما وجدنا خيطاً رابطاً بيننا وبين الله تعالى بعد أن فقدنا المعصوم وغاب عنا، فهو الملجأ الذي جعله الله تعالى للبشر، قال (تعالى): ﴿قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً﴾.(1)
وقال تعالى ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾.(2)
وقال تعالى ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(3)
وقد صرحت رواية محمد بن مسلم بأن من التعويضات الإلهية للإمام الحسين علیه السلام ، هو أن الدعاء عند قبره مستجاب، وحتى تتضح الصورة أكثر نذكر النقاط التالي:
إن الله تعالى جعل العالم يسير وفق نظام الأسباب والمسببات –كما تقدم-، وهذه الأسباب منها مادي مشاهد، ككون الماء يروي، والنار تحرق، ومنها معنوي غيبي لا يُرى بالعين، وإن أمكن تلمُّسُ أثره، ومنه الدعاء.
ص: 57
ذكر علماء الكلام في مباحث التوحيد والعدل الإلهي -وتحديدًا في مبحث (لا جبر ولا تفويض وإنّما أمرٌ بين أمرين)- أنّ في كون الإنسان مختاراً أو لا ثلاثة آراء:
1/الجبر:
وقال به الأشاعرة المجبرة، الذين نفوا أنْ يكون للإنسان أيُّ دورٍ في ما يجري في الكون عمومًا وفي فعله خصوصًا، وحصروا العلة للفعل في الله عزوجل ، وأما الإنسان فهو مُجبرٌ و مجرد آلة.
وعلى هذا القول فما الغاية من الدعاء؟ فإنْك إنْ دعوت أو لم تدعُ فالأمرُ سيّان، إذ القدر الإلهي جارٍ على أيِّ حال، لذا لا نجد مظهرًا واضحًا للدعاء في عقيدة المجبرة.
2/التفويض:
وقال به المعتزلة، حيث ذهبوا إلى تجريد الله عزوجل من سلطانه في هذا الكون، فكانوا على طرفِ النقيض مع المجبرة، إذ قالوا: إنَّ كلَّ ما في هذا الكون من فعلٍ بصورةٍ عامة وفعل الإنسان بصورةٍ خاصة هو موكلٌ إلى الإنسان، أي إنَّ العلة التامة هي بيد الإنسان.
وبعبارةٍ فلسفية: إنَّ الله عزوجل علةٌ في حدوث العالم لا في استمراره، وهو هو ما قالت به اليهود كما حكاه الله تعالى عنهم بقوله عز من قائل: ﴿وَقالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ﴾.(1)
وعلى هذا الرأي فلا وجود للدعاء أو لا فائدة فيه أصلاً، إذ هم يقولون: إنَّ المؤثر في هذا العالم هو الأسباب المادية فقط، وحيث إنَّ الدعاء سببه غيبي، وبه يُطلب التدخل الإلهي لتغيير مجريات الكون، أو لدفع بلاء معين، أو لرزق معين، وما شابه، فلا تأثير له
ص: 58
في العالم، إذ لا دور لله تعالى في هذا العالم حسب معتقدهم البائس.
3/ الأمر بين أمرين.
وهو المذهب الحق لأهل البيت علیهم السلام ، ومؤداه: أنَّ الفاعل المستقل في هذا الوجود هو فقط الله عزوجل ، ولكنه أذن للإنسان أنْ يكون فاعلًا أيضًا، فالإنسان فاعلٌ بالإذن الإلهي. بمعنى أنَّ الإنسان يفعل الأفعال حقيقةً، لكن ضمن دائرة قدرة الله عزوجل وسلطانه وإرادته؛ فإرادته عزوجل لم تُسلب، بل هي متسلطة على هذا الكون، وفي الوقت عينه لم تسلبنا اختيارنا وتجبرنا على الاختيار، بل شاء الله تعالى أن يجعلنا مختارين في هذا العالم.
وعليه، فإن الله (تعالى) ترك لنا الخيار، لكن قدرته ما زالت جاريةً على حياة الإنسان وأفعاله، ومؤثرة فيها، بل في الكون كله، ولذا كان للدعاء أهميته البالغة، فالإنسان يتوسل بالأسباب المادية، ويبذل جهده فيها، لكن في نفس الوقت يرفع يديه للسماء ويدعو الله عزوجل طالبًا منه المدد الغيبي والتوفيق الإلهي.
والدعاء من أفعال الإنسان، وبما أنَّ سلطة الله عزوجل
ما زالت موجودة، فهو قادرٌ على أنْ يعطيه أو يغير من مجريات الحياة.
وعليه، فإنَّ فلسفة الدعاء الحقيقية وثمراته المرجوة منحصرةٌ بعقيدة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم)، وغيرهم وإنْ شاركهم فيه، إلا أن اعتقادهم بالدعاء أقرب إلى لقلقة اللسان منه إلى حقيقته.
لقد ألفتت النصوص الدينية إلى ثلاثة أخطاء في تعامل الإنسان مع الدعاء، وهي:
ص: 59
الخطأ الأول: الدعاء لرفع البلاء فقط.
والتعامل معه كوصفة دواء علاجية فقط.
بشكل عام نحن نتعامل مع الدعاء كحبة الدواء، أي لمعالجة مرض وإزالة طارئ أو مانع، فنحن نتعامل مع الدعاء والطلب من الله تعالى بطريقة الذهاب إلى الطبيب، وبطريقة البحث عن علاج لشيء طارئ على السلامة العامة، كالدعاء لطلب المغفرة من ذنب، أو طلب شفاء من مرض، أو لدفع بلاء فعلي.
وهذا وإنْ كان صحيحاً في حدّ نفسه، ولكن التعامل مع الدعاء بهذا الشكل فقط خطأ منهجي، فإن الحقيقة هي أن الدعاء وصفة وقاية وعلاج، فهو وقاية للموجود بأن يتم حفظه من الفقدان، وعلاج فيما لو وقع خطأ أو بلاء أو أمر سلبي.
والقرآن يشير إلى هذه الحالة بنوع من الانتقاد، قال تعالى ﴿وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَىٰ الإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأىٰ بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ﴾.(1)
وقال تعالى ﴿وَإِذا مَسَّ الإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾.(2)
﴿فَإِذا مَسَّ الإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾.(3)
ص: 60
الخطأ الثاني: الدعاء من دون حكمة.
قال تعالى ﴿وَيَدْعُ الإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالخَيْرِ وَكانَ الإِنْسانُ عَجُولاً﴾.(1)
تلفت الآية إلى أن الإنسان قد يدعو بالشر على نفسه كما لو كان يدعو لها بالخير، وحينئذٍ يُفترض به أن يوكل الأمر إلى الله تعالى، فحيث إن الإنسان قد يقع في الخطأ، حيث يدعو على نفسه وهو يظن أنه يدعو لها، كان مناسباً أن يدعو الله تعالى أن يجعل الإجابة موافقة للحكمة التي هو يراها جل وعلا، ولعله لأجل ذلك جاء في دعاء الافتتاح: «وصالح الدعاء والمسالة فاستجب لنا».
وعن مولانا الإمام السجّاد علیه السلام في دعائه في مكارم الأخلاق: «... وَعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمْرِيْ بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإذَا كَانَ عُمْرِي مَرْتَعَاً لِلشَّيْطَانِ فَاقْبِضْنِي إلَيْكَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ...»(2)
مما يعني أن طلب طول العمر لم يأت مطلقاً، وإنما على شرط، وهو الذي ندعو به «وأطل عمري في خير وعافية».
وفي ذلك يقول أمير المؤمنين علیه السلام : «إنَّ كرم الله تعالىٰ لا ينقض حكمته، فلذلك لا تقع الإجابة في كلِّ دعوة»(3).
الخطأ الثالث: عدم الدعاء إلا في حال الإصابة بالشر.
فإن هذا من التعامل المصلحي مع الدعاء، ويكشف عن عدم اهتمام بهذه العقيدة الارتباطية مع الله تعالى، وقد انتقد القرآن هذه الحالة بقوله عز من قائل: ﴿وَإِذا مَسَّ
ص: 61
الإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾.(1)
وروي عن أمير المؤمنين علیه السلام قوله: «وتقدموا بالدعاء قبل نزول البلاء».(2)
كثيراً ما يتساءل الناس عن مفارقة واقعية، طرفاها هما:
أ: أن القرآن يُصرح بأن الله تعالى سيستجيب لمن يدعوه، قال تعالى: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾.(3)
ب: أن الواقع يشهد أن الكثير من حالات الدعاء تقع من دون إجابة.
فما هو المخرج؟
الجواب: إن الدعاء ليس مجرد لقلقة لسان، تقع الإجابة بعده مباشرة، وإنما هو مركب من عدة أجزاء لا بد من توفرها لتقع الإجابة، وهناك عدد من النصوص تبين أن للدعاء شروطاً لا بد من توفرها حتى تحصل الثمرة منه، وحتى تتضح الصورة نذكر التالي:
أولاً: لا يتصورنّ أحدٌ أن إجابة الدعاء منحصرة بتنفيذ الطلب منه، وإنما الدعاء سبب غيبي لثلاثة أمور ذكرتها الروايات الشريفة، وهي: الإجابة، ودفع البلاء، وتأجيل الإجابة إلى يوم القيامة.
يقول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «ما من مسلم دعا الله تعالىٰ بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا
ص: 62
استجلاب إثم إلَّا أعطاه الله تعالىٰ بها إحدىٰ خصال ثلاث: إمَّا أن يُعجِّل له الدعوة، وإمَّا أن يدَّخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يرفع عنه مثلها من السوء»(1).
ويقول الإمام الصادق علیه السلام : قال النبيُّ صلی الله علیه و آله وسلم : «... فإذا أتيت بما ذكرت لك من شرائط الدعاء، وأخلصت بسرِّك لوجهه، فأبشر بإحدىٰ الثلاث: إمَّا أن يُعجِّل لك ما سألت، وإمَّا أن يدَّخر لك ما هو أعظم منه، وإمَّا أن يصرف عنك من البلاء ما إن لو أرسله عليك لهلكت»(2).
ويقول علیه السلام : «يتمنىٰ المؤمن أنَّه لم يُستَجب له دعوة في الدنيا ممَّا يرىٰ من حسن الثواب»(3).
ثانياً: قد لا تقع الإجابة بسبب تعارض الدعاء مع مصلحة عليا، مرتبطة بالفرد ذاته أو بالمجتمع، وهو ما أشار له الإمام زين العابدين علیه السلام بقوله: ﴿...يَا مَنْ لَا تُفْنِي خَزَائِنَه المَسَائِلُ. ويَا مَنْ لَا تُبَدِّلُ حِكْمَتَه الوَسَائِلُ﴾(4)
وهذا ما عبَّر عنه أمير المؤمنين علیه السلام كما تقدم بقوله: «إنَّ كرم الله تعالىٰ لا ينقض حكمته، فلذلك لا تقع الإجابة في كلِّ دعوة»(5).
ثالثاً: هناك ظروف معينة لها مدخلية في سرعة الإجابة، والتي ذكرت الروايات الشريفة العديد منها، تلك الظروف بعضها متعلقة بنفس الداعي، وبعضها بالهدف من الدعاء، وبعضها مرتبط بزمان الدعاء، وبعضها بمكانه.
ص: 63
عن أمير المؤمنين علیه السلام : «تفتح لكم أبواب السماء في خمس مواقيت: عند نزول الغيث، وعند الزحف، وعند الأذان، وعند قراءة القرآن، ومع زوال الشمس، وعند طلوع الفجر».(1)
ومن تلك الشروط المؤثرة سريعاً في إجابة الدعاء، والتي تمثل سبباً غيبياً للإجابة، هو التواجد عند قبر أبي عبد الله علیه السلام ، حيث جعله الله تبارك وتعالى سبباً من أسباب إجابة الدعاء، وهو ما تؤكده رواية محمد بن مسلم في ما عوضه الله تبارك وتعالى للإمام الحسين علیه السلام ، وتصرح به روايات أخرى، من قبيل(2):
ما روي عن أبي هاشم الجعفري، قال: بعث إلي أبو الحسن [الهادي] علیه السلام في مرضه والى محمد بن حمزة، فسبقني إليه محمد بن حمزة فأخبرني انه ما زال يقول: ابعثوا إلى الحائر، فقلت لمحمد: ألا قلت له: أنا أذهب إلى الحائر، ثم دخلت عليه فقلت له: جعلت فداك أنا أذهب إلى الحائر، فقال: انظروا في ذلك، ثم قال: إن محمداً ليس له سر من زيد بن علي(3)،
وانا أكره ان يسمع ذلك، قال: فذكرت ذلك لعلي بن بلال، فقال: ما كان يصنع
ص: 64
بالحائر وهو الحائر. فقدمت العسكر فدخلت عليه، فقال لي اجلس حين أردت القيام، فلما رأيته أَنِس بي، ذكرت قول علي بن بلال فقال لي: ألا قلت له: إن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر، وحرمة النبي صلی الله علیه و آله وسلم والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله أن يقف بعرفة، إنما هي مواطن يحب الله أن يذكر فيها، فأنا أُحبُّ أن يُدعى لي حيث يحب الله أن يُدعى فيها، والحائر من تلك المواضع.
وعن أبي هاشم الجعفري، قال: دخلت أنا ومحمد بن حمزة عليه نعوده وهو عليل، فقال لنا: وجهوا قوماً إلى الحائر من مالي، فلما خرجنا من عنده، قال لي محمد بن حمزة: المشير يوجهنا إلى الحائر وهو بمنزلة
من في الحائر، قال: فعدت إليه فأخبرته، فقال لي: ليس هو هكذا، إن لله مواضع يحب أن يُعبد فيها، وحائر الحسين علیه السلام من تلك المواضع.
ص: 65
ص: 66
هناك تأكيد شديد من الروايات الشريفة على ضرورة زيارة الإمام الحسين علیه السلام وأنها من متممات الإيمان ومن أهم صفات الشيعة ومن مقتضيات التشيع، فقد روي عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر علیه السلام قال: مروا شيعتنا بزيارة الحسين بن علي علیه السلام ، فإن زيارته تدفع الهدم والغرق والحرق وأكل السبع، وزيارته مفترضة على من أقرّ للحسين بالإمامة من الله عزوجل .(1)
وعن بشير الدهان قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام : ربما فاتني الحج فأعرفُ عند قبر الحسين علیه السلام ، قال: أحسنت يا بشير، أيما مؤمن أتى قبر الحسين علیه السلام عارفاً بحقه في غير يوم عيد، كتب الله له عشرين حجة وعشرين عمرة مبرورات متقبلات، وعشرين غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل، ومن أتاه في يوم عيد، كتب الله له مائة حجة ومائة عمرة ومائة غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل، ومن أتاه في يوم عرفة عارفاً بحقه كتب الله له ألف حجة وألف عمرة متقبلات وألف غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل.
قال: فقلت له: وكيف لي بمثل الموقف، قال: فنظر إلي شبه المغضب ثم قال: يا بشير، إن المؤمن إذا أتى قبر الحسين علیه السلام يوم عرفة، واغتسل في الفرات، ثم توجه إليه، كتب الله له بكل خطوة حجة بمناسكها. ولا أعلمه إلا قال: وغزوة.(2)
ص: 67
وعن أم سعيد الأحمسية، عن أبي عبد الله علیه السلام قالت: قال لي: يا أم سعيد، تزورين قبر الحسين؟ قالت: قلت: نعم، فقال لي: زوريه فان زيارة قبر الحسين واجبة على الرجال والنساء.(1)
وعن عبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر علیه السلام ، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: لو أن أحدكم حج دهره، ثم لم يزر الحسين بن علي علیهما السلام لكان تاركاً حقاً من حقوق رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، لأن حق الحسين علیه السلام فريضة من الله، واجبة على كل مسلم.(2)
وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر علیه السلام قال: قال: من لم يأت قبر الحسين علیه السلام من شيعتنا كان منتقص الإيمان منتقص الدين، وإن دخل الجنة كان دون المؤمنين في الجنة.(3)
وعن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: من لم يأت قبر الحسين علیه السلام وهو يزعم أنه لنا شيعة حتى يموت فليس هو لنا بشيعة، وإن كان من أهل الجنة فهو من ضيفان أهل الجنة.(4)
وهذه المسألة من الوضوح بمكان، وقد علّلت بعض تلك الروايات السبب في التأكيد على زيارته علیه السلام بأنه حق من حقوق الإمام الحسين علیه السلام افترضه الله تعالى على كل مسلم، وأنه من مقتضيات الإقرار بإمامة الإمام الحسين علیه السلام .
وحسب رواية محمد بن مسلم في ما عوضه الله تعالى للإمام الحسين علیه السلام من قتله،
ص: 68
فإن لمن زار قبره أن الزمن الذي يستغرقه في زيارته ذهاباً وإياباً لا يُعدّ من عمره، وقد يتساءل البعض عن معنى هذا الأمر، رغم أننا نجد أن عدّاد العمر ما زال يدقّ ويمضي.
فما هو معنى أن زيارة الإمام الحسين علیه السلام تزيد في العمر؟ وكيف نُكيّف بين هذا المعنى وبين ما صرح به القرآن الكريم من أن للإنسان أجلاً إذا جاء لا بد أن يقع، ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾(1)
هذا ما يحتاج إلى بيان، فنقول:
بناءً على ما تقدم من أصل: حكمة الله تعالى، وأصل: اختيار الإنسان على نحو الأمر بين الأمرين، ونفي الجبر والتفويض، وأن الله تعالى ما زال قادراً على التصرف في مجريات الكون، فإن هناك مفهوماً قرآنياً هو مفهوم:
إذ يؤكد القرآن الكريم على أن للإنسان أجلاً محتوماً لا يتأخر ولا يتقدم، ولكنّ هناك أجلاً آخر غير محتوم، وهو قابل للزيادة والنقصان، فما معنى هذين الأجلين؟
«هذا البحث يمكن توضيحه بمثال واحد بسيط وهو الآتي:
لو اشترى أحدهم سيارة جديدة بحيث يتوقع من صناعتها أن تدوم عشرين عاماً، بشرط المحافظة عليها وصيانتها، وفي هذه الحالة فإن الأجل الحتمي لهذه السيارة هو عشرون عاماً، ولكن لو لم تتحقق لها الصيانة المطلوبة وقام صاحبها بتسليمها إلى أشخاص لا مبالين وغير عارفين بقيادة السيارات، أو أن يحملها فوق طاقتها، أو أن يقودها بعنف في طرق وعرة يومياً، فإن أجلها المحتوم ذلك يمكن أن يهبط إلى النصف
ص: 69
أو العشر، وذلك هو الأجل المخروم».(1)
وواضح أن هذا الاعتقاد ينسجم مع عقيدة (الأمر بين الأمرين) حيث يكون للإنسان الاختيار في فعل ما يزيد في العمر أو يُنقص فيه، ولا يتأتّى مع عقيدة الجبر «التي تسلب اختيار الإنسان، فلا يكون له دور في صنع مصيره» ولا مع عقيدة التفويض «التي تسلب قدرة الله تعالى عن التدخل في مجريات الكون».
إذن، هناك أمور لو فعلها المرء فإن من شأنها أن تنقص من عمره ليموت قبل أجله المحتوم، كما أن هناك أعمالاً تؤثر في زيادة عمره، ومن أمثلة ذلك:
1/ نية العود أو عدم العود إلى مكة.
فقد ورد في الروايات الشريفة أن نية العود إلى مكة مما يزيد في العمر، وأن نية عدم العود إلى مكة المكرمة لمن كان فيها وخرج هي من قواطع الأجل، فقد روي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام يَقُولُ: «مَنْ رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ وهُوَ يَنْوِي الحَجَّ مِنْ قَابِلٍ، زِيدَ فِي عُمُرِه».(2)
وعَنْ حُسَيْنٍ الأَحْمَسِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وهُوَ لَا يُرِيدُ العَوْدَ إِلَيْهَا فَقَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُه ودَنَا عَذَابُه».(3)
ولذا أفتى الفقهاء باستحباب نية العود ووكراهة نية عدم العود إلى مكة المكرمة.
ص: 70
2/ صلة أو قطع الرحم.
فعنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام : «مَا نَعْلَمُ شَيْئاً يَزِيدُ فِي العُمُرِ إِلَّا صِلَةَ الرَّحِمِ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ أَجَلُه ثَلَاثَ سِنِينَ، فَيَكُونُ وَصُولاً لِلرَّحِمِ، فَيَزِيدُ الله فِي عُمُرِه ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَيَجْعَلُهَا ثَلَاثاً وثَلَاثِينَ سَنَةً، ويَكُونُ أَجَلُه ثَلَاثاً وثَلَاثِينَ سَنَةً، فَيَكُونُ قَاطِعاً لِلرَّحِمِ، فَيَنْقُصُه الله ثَلَاثِينَ سَنَةً، ويَجْعَلُ أَجَلَه إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ».(1)
وقد روي عن مُيسّر، عن أحدهما (الإمام الباقر أو الصادق علیهما السلام )، قال: قال لي: «يا مُيسّر، إنّي لأظنُّك وصولاً لقرابتك»، قلت: نعم جُعلت فداك، لقد كنت في السوق وأنا غلام وأُجرتي درهمان،
وكنت أُعطي واحداً عمَّتي وواحداً خالتي، فقال: «أمَا والله لقد حضر أجلك مرَّتين، كلُّ ذلك يُؤخَّر(2)
بصلتك قرابتك»(3).
وعن حنان بن سدير رضي الله عنهما قال: كنا عند أبي عبد الله علیه السلام وفينا ميسر فذكروا صلة القرابة. فقال أبو عبد الله علیه السلام : «يا ميسر قد حضر أجلك غير مرة ولا مرتين، كل ذلك يؤخر الله أجلك لصلتك قرابتك، وإنْ كنت تريد أن يزاد في عمرك فبُرّ شيخيك (يعني أبويه)»(4)
3/ الإحسان والذنوب.
فعن الإمام الصادق علیه السلام : «يعيش الناس بإحسانهم أكثر مما يعيشون بأعمارهم، ويموتون بذنوبهم أكثر مما يموتون بآجالهم».(5)
ص: 71
وقد أشبعت الروايات الشريفة هذا الجانب وذكرت العديد من الأسباب التي تزيد في العمر، والأخرى التي تنقص منه.
وفي هذا السياق نصّت الروايات الشريفة على أن من تلك الأسباب التي تزيد في عمر الإنسان هي زيارة الإمام الحسين علیه السلام .
فعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: «مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين علیه السلام ، فإن إتيانه يزيد في الرزق ويمد في العمر ويدفع مدافع السوء، وإتيانه مفترض على كل مؤمن يقر للحسين بالإمامة من الله تعالى».(1)
وعن منصور بن حازم قال: سمعناه يقول: «من أتى عليه حول لم يأت قبر الحسين علیه السلام انقص الله من عمره حولاً، ولو قلت: إن أحدكم ليموت قبل أجله بثلاثين سنة لكنت صادقاً، وذلك لأنكم تتركون زيارة الحسين علیه السلام ، فلا تدعوا زيارته يمد الله في أعماركم ويزيد في أرزاقكم، وإذا تركتم زيارته نقص الله من أعماركم وأرزاقكم، فتنافسوا في زيارته، ولا تدعوا ذلك، فإن الحسين شاهد لكم في ذلك عند الله وعند رسوله، وعند أمير المؤمنين وعند فاطمة علیهم السلام ».(2)
وعن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «من لم يزر قبر الحسين علیه السلام ، فقد حُرم خيراً كثيراً ونقص من عمره سنة».(3)
ص: 72
معنى «أن أيام زائري الحسين علیه السلام لا تحسب من أعمارهم ولا تعد من آجالهم»:
لقد صرّحت رواية محمد بن مسلم أن مما عوضه الله تبارك وتعالى للإمام الحسين علیه السلام هو أن من يزوره، فإن الأيام التي يقضيها في زيارته لا تُعد من عمره، وهو ما صرح به أيضاً ما روي عن الهيثم بن عبد الله الرماني، عن أبي الحسن الرضا علیه السلام ، عن أبيه علیه السلام ، «قال: قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق علیهما السلام : إن أيام زائري الحسين علیه السلام لا تُحسب من أعمارهم ولا تُعدُّ من آجالهم».(1)
وقد يُتساءل: ما هو معنى أن أيام زائري قبر أبي عبد الله علیه السلام لا تُعدّ من آجالهم ولا من أعمارهم؟
هنا عدة احتمالات، الأول منها هو الأظهر وربما المتعين، ولكن نذكر البقية كاحتمالات لا بأس بها:
الاحتمال الأول: وهو صريح الروايات من أن هناك أياماً إضافية تضاف على عمر الإنسان.
ولا ضير في ذلك بناءً على مفهوم الأجل المحتوم وغير المحتوم.
الاحتمال الثاني: أن المقصود هو ليست الزيادة الحقيقية لأيام العمر، وإنما هي بمعنى أنه يعطى أجر من عمل الأعمال الصالحة في عمر أطول.
الاحتمال الثالث: أن المقصود هو أن الأيام التي يقضيها المؤمن في زيارة الإمام الحسين علیه السلام لا يُحاسبه الله تعالى عليها، ففي يوم القيامة حيث سيحاسب الله تعالى
ص: 73
الإنسان على كل لحظة من لحظات عمره فإنه لا يحاسبه على الساعات التي قضاها في زيارة الإمام الحسين علیه السلام ، على غرار ما ورد من أن الله تعالى لا يحاسب الإنسان على الزوجة التي يتخذها والمسكن والملبس والمأكل... بشرط كونها بالحلال ومن دون إسراف محرم.
فعن الإمام الباقر علیه السلام : «ثلاث لا يُسئل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته، وكسرة يسدُّ بها جوعته، أو بيت يكنُّه من الحرِّ والبرد»(1).
وعن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «ثلاثة أشياء لا يُحاسَب عليهنَّ المؤمن: طعام يأكله، وثوب يلبسه، وزوجة صالحة تعاونه، ويحصن بها فرجه»(2).
ص: 74
العوض الخامس: رجعة الإمام الحسين عليه السلام(1)
يظهر من بعض الروايات أن من التعويضات التي جعلها الله تبارك وتعالى للإمام الحسين علیه السلام وأصحابه هي الرجعة في دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف ، إذ يُفهم من بعض الروايات أن رجعته علیه السلام وأصحابه مما يكون عوضاً عن تضحيته وأصحابه في كربلاء، ومن ذلك ما روي عن أبي جعفر الباقر علیه السلام : «أنّ الحسين علیه السلام قال لأصحابه: أَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ، فَوَاللهِ، إِنّا نَمْكُثُ ما شاءَ الله بَعْدَ ما يَجْري عَلَيْنا، ثُمَّ يُخْرِجُنَا اللهُ وَإِيّاكُمْ حَتّى يَظْهَرَ قائِمُنا، فَيَنْتَقِمَ مِنَ الظّالِمينَ، وَأَنَا وَأَنْتُمْ نُشاهِدُهُمْ فِي السَّلاسِلِ وَالأَْغْلالِ وَأَنْواعِ العَذابِ.
فقيل له: من قائمكم، يا ابن رسول الله؟!
قال: السّابِعُ مِنْ وُلْدِ ابْني مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ الباقِرِ، وَهُوَ الحُجَّةُ ابْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَر بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ ابْني، وَهُوَ الَّذي يَغيبُ مُدَّةً طَويلَةً، ثُمَّ يَظْهرُ وَيَمْلأ الأَْرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَما مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً.(2)
وحتى تتضح الصورة نذكر الأمور التالية:
ص: 75
تعني الرجعة باختصار: رجوع بعض الموتى إلى الحياة الدنيا، في زمن ظهور الإمام المهدي علیه السلام وبأبدانهم التي ماتوا فيها، يحيون فترة من الزمن، ثم يموتون.
وهذا المعنى في حدّ نفسه لا يخرج عن الأصول العامة للدين، وهو يدخل تحت مفهوم القدرة المطلقة لله تعالى، والحكمة التي تأبى إلا أن يكون للفعل الإلهي غاية وهدف، علمنا به أو لم نعلم.
ويظهر من بعض الروايات أن الترشح للرجعة والتخيير فيها، إنما يتوقف على بذل عمل صالح من الإنسان بإرادته، وبالتالي، تكون الرجعة نتيجة لأمرين: إرادة الإنسان، والقدرة المطلقة لله تعالى والمبسوطة في عالم الإمكان، غير المغلولة كما قالت المفوضة واليهود.
فلا يصح والحال هذي الحكم على من يقول بالرجعة بأنه يقول بمقالة غير إسلامية، كما يلوح ذلك من أمثال أحمد أمين، حيث حاول أنْ ينكر القول بالرجعة ويحاول الكيد بالتشيع فيقول: فاليهودية ظهرت في التشيع بالقول بالرجعة.(1)
وبعبارة أخرى واضحة:
إننا نحكم ببطلان عقيدةٍ ما في إحدى حالات:
الأولى: أن تكون مخالفةً لضرورة عقلية.
كقول النصارى: إنَّ الله (تعالى) في عين كونه واحدًا هو ثلاثة (الأب والابن وروح القدس)، وكادعاء بعض المجسمة -ومنهم الوهابية- أنَّ لله (تعالى) يدًا مادية وعينًا مادية وما شاكل ذلك، فإنَّ هذا يستلزم التركيب والجسمية والمحدودية، مما يعني
ص: 76
وجود الله (تعالى) في مكانٍ دون آخر، وهو محالٌ؛ لأنّ التركيب والجسمية والمحدودية من صفات الإمكان، وهو (جلّ في علاه) واجبٌ. تعالى الله عما يصفون علوًا كبيرًا.
الثانية: أن تكون مخالفةً لضرورةٍ نقلية.
كادعاء أنَّ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم يهجر أو يخطئ؛ لأنه مخالفٌ لقوله (تعالى): ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحىٰ﴾.(1)
أو أن يدّعي شخص عدم وجوب الحجاب على المرأة، أو سقوط وجوب الصلاة في مرحلة كمالية معينة.
وليس في الرجعة ما يخالف ضرورة نقلية ولا عقلية.
بل إنَّ العقل والنقل دلّا على إمكان البعث يوم القيامة، وهو رجوعٌ بصورةٍ شاملة وعامة وأكثر وأعقد من الرجعة، فكلُّ من آمن بالبعث والمعاد يلزمه أن يقول بإمكان الرجعة.
الثالثة: أن لا يدل على صحتها دليل عقلي ولا نقلي.
أشرنا إلى أن بعض الروايات بيّنت أن الرجوع إلى الدنيا زمن الظهور المبارك إنما هو فرع الوصول إلى مرحلة من الإيمان، تؤهل المؤمن للرجوع زمن الظهور المقدس، بل يظهر من بعضها أن الأمر سيكون اختيارياً للبعض.
أما ما هي مؤهلات تلك المرحلة؟
فالروايات صرّحت بمؤهلين، يرجعان إلى حقيقة واحدة، وهي التولي لأهل
ص: 77
البيت علیهم السلام والتسليم لأمرهم، والسير على نهجهم بما للكلمة من معنى.
المؤهل الأول: حب أهل البيت علیهم السلام .
وما يستلزمه هذا الحب من تنفيذ أوامرهم، والابتعاد عن نواهيهم، وموالاة أوليائهم، ومعاداة أعدائهم.
ففي بعض روايات سبب تسمية الاحتضار بهذا الاسم، أنه لأجل حضور النبي الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم وأمير المؤمنين علیه السلام للمؤمن تلك الساعة، وأنهم سيعملون على تخفيف عملية نزع الروح، وأن عزرائيل يبشر المؤمن بأنه سيرجع مع المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف .
روي عن أبي عَبْدِ الله علیه السلام أنه قال: «مِنْكُمْ والله يُقْبَلُ، ولَكُمْ والله يُغْفَرُ، إِنَّه لَيْسَ بَيْنَ أَحَدِكُمْ وبَيْنَ أَنْ يَغْتَبِطَ ويَرَى السُّرُورَ وقُرَّةَ العَيْنِ إِلَّا أَنْ تَبْلُغَ نَفْسُه هَاهُنَا -وأَوْمَأَ بِيَدِه إِلَى حَلْقِه- ثُمَّ قَالَ علیه السلام : «إِنَّه إِذَا كَانَ ذَلِكَ واحْتُضِرَ، حَضَرَه رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله وسلم وعَلِيّ علیه السلام وجَبْرَئِيلُ ومَلَكُ المَوْتِ علیه السلام فَيَدْنُو مِنْه عَلِيّ علیه السلام فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ هَذَا كَانَ يُحِبُّنَا أَهْلَ البَيْتِ، فَأَحِبَّه، ويَقُولُ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله وسلم : يَا جَبْرَئِيلُ، إِنَّ هَذَا كَانَ يُحِبُّ اللهَ ورَسُولَه وأَهْلَ بَيْتِ رَسُولِه فَأَحِبَّه، ويَقُولُ جَبْرَئِيلُ لِمَلَكِ المَوْتِ علیهما السلام : إِنَّ هَذَا كَانَ يُحِبُّ اللهَ ورَسُولَه وأَهْلَ بَيْتِ رَسُولِه، فَأَحِبَّه وارْفُقْ بِه، فَيَدْنُو مِنْه مَلَكُ المَوْتِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ الله، أَخَذْتَ فَكَاكَ رَقَبَتِكَ، أَخَذْتَ أَمَانَ بَرَاءَتِكَ، تَمَسَّكْتَ بِالعِصْمَةِ الكُبْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا؟
قَالَ: فَيُوَفِّقُه الله عَزَّ وجَلَّ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: ومَا ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: وَلَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ علیه السلام .
فَيَقُولُ: صَدَقْتَ، أَمَّا الَّذِي كُنْتَ تَحْذَرُه، فَقَدْ آمَنَكَ الله مِنْه، وأَمَّا الَّذِي كُنْتَ تَرْجُوه فَقَدْ أَدْرَكْتَه، أَبْشِرْ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ، مُرَافَقَةِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله وسلم وعَلِيٍّ وفَاطِمَةَ علیهما السلام ، ثُمَّ يَسُلُّ نَفْسَه سَلاًّ رَفِيقاً، ثُمَّ يَنْزِلُ بِكَفَنِه مِنَ الجَنَّةِ وحَنُوطِه مِنَ الجَنَّةِ بِمِسْكٍ أَذْفَرَ، فَيُكَفَّنُ بِذَلِكَ
ص: 78
الكَفَنِ ويُحَنَّطُ بِذَلِكَ الحَنُوطِ، ثُمَّ يُكْسَى حُلَّةً صَفْرَاءَ مِنْ حُلَلِ الجَنَّةِ، فَإِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِه فُتِحَ لَه بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، يَدْخُلُ عَلَيْه مِنْ رَوْحِهَا ورَيْحَانِهَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَه عَنْ أَمَامِه مَسِيرَةَ شَهْرٍ وعَنْ يَمِينِه وعَنْ يَسَارِه، ثُمَّ يُقَالُ لَه: نَمْ نَوْمَةَ العَرُوسِ عَلَى فِرَاشِهَا، أَبْشِرْ بِرَوْحٍ ورَيْحَانٍ وجَنَّةِ نَعِيمٍ ورَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، ثُمَّ يَزُورُ آلَ مُحَمَّدٍ فِي جِنَانِ رَضْوَى، فَيَأْكُلُ مَعَهُمْ مِنْ طَعَامِهِمْ، ويَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهِمْ ويَتَحَدَّثُ مَعَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ، حَتَّى يَقُومَ قَائِمُنَا أَهْلَ البَيْتِ، فَإِذَا قَامَ قَائِمُنَا بَعَثَهُمُ الله فَأَقْبَلُوا مَعَه يُلَبُّونَ زُمَراً زُمَراً، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ المُبْطِلُونَ ويَضْمَحِلُّ المُحِلُّونَ، وقَلِيلٌ مَا يَكُونُونَ، هَلَكَتِ المَحَاضِيرُ، ونَجَا المُقَرَّبُونَ.
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله وسلم لِعَلِيٍّ علیه السلام : أَنْتَ أَخِي ومِيعَادُ مَا بَيْنِي وبَيْنَكَ وَادِي السَّلَامِ.
قَالَ علیه السلام : وإِذَا احْتُضِرَ الكَافِرُ، حَضَرَه رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله وسلم وعَلِيّ علیه السلام وجَبْرَئِيلُ ومَلَكُ المَوْتِ علیه السلام فَيَدْنُو مِنْه عَلِيّ علیه السلام فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ هَذَا كَانَ يُبْغِضُنَا أَهْلَ البَيْتِ فَأَبْغِضْه. ويَقُولُ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله وسلم : يَا جَبْرَئِيلُ، إِنَّ هَذَا كَانَ يُبْغِضُ اللهَ ورَسُولَه وأَهْلَ بَيْتِ رَسُولِه فَأَبْغِضْه. فَيَقُولُ جَبْرَئِيلُ: يَا مَلَكَ المَوْتِ، إِنَّ هَذَا كَانَ يُبْغِضُ اللهَ ورَسُولَه وأَهْلَ بَيْتِ رَسُولِه فَأَبْغِضْه واعْنُفْ عَلَيْه.
فَيَدْنُو مِنْه مَلَكُ المَوْتِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ الله، أَخَذْتَ فَكَاكَ رِهَانِكَ أَخَذْتَ أَمَانَ بَرَاءَتِكَ تَمَسَّكْتَ بِالعِصْمَةِ الكُبْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: لَا. فَيَقُولُ: أَبْشِرْ يَا عَدُوَّ الله بِسَخَطِ الله عَزَّ وجَلَّ وعَذَابِه والنَّارِ، أَمَّا الَّذِي كُنْتَ تَحْذَرُه فَقَدْ نَزَلَ بِكَ، ثُمَّ يَسُلُّ نَفْسَه سَلاًّ عَنِيفاً، ثُمَّ يُوَكِّلُ بِرُوحِه ثَلَاثَمِائَةِ شَيْطَانٍ كُلُّهُمْ يَبْزُقُ فِي وَجْهِه، ويَتَأَذَّى بِرُوحِه، فَإِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِه فُتِحَ لَه بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ فَيَدْخُلُ عَلَيْه مِنْ قَيْحِهَا ولَهَبِهَا».(1)
ص: 79
المؤهل الثاني: انتظار الفرج.
بما يعني هذا المفهوم من التهيؤ الدائم للظهور، والعمل على نشر القضية المهدوية، وتطبيق العدل بما يسع المرء، بدءً بنفسه ثم عائلته ثم المؤمنين، والابتعاد عن نواهي الله تبارك وتعالى، ففي مكاتبة الإمام المهدي علیه السلام للشيخ المفيد: «فليعمل كلّ امرئ منكم بما يقرب به من محبّتنا، ويتجنَّب ما يدنيه من كراهتنا
وسخطنا، فإنَّ أمرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم علىٰ حوبة. والله يلهمكم الرشد، ويلطف لكم في التوفيق برحمته»(1).
إنَّ المؤمن المنتظر إذا مات قبل ظهور الإمام المهدي علیه السلام فإنَّه سيُبشَّر بذلك وهو في قبره، ويُخيَّر في الرجوع إلىٰ الدنيا لنصرة القائم علیه السلام .
وهذا ما أشارت إليه الروايات الشريفة، فقد روي عن المفضَّل بن عمر، قال: ذكرنا القائم علیه السلام ومن مات من أصحابنا ينتظره، فقال لنا أبو عبد الله علیه السلام : «إذا قام أُتِىٰ المؤمن في قبره فيقال له: يا هذا! إنَّه قد ظهر صاحبك، فإن تشأ أن تلحق به فالحق، وإن تشأ أن تقيم في كرامة ربِّك فأقم»(2).
وفي نفس السياق جاء عن الإمام الباقر علیه السلام : «... وإنَّ لأهل الحقّ دولة إذا جاءت ولّاها الله لمن يشاء منّا أهل البيت، فمن أدركها منكم كان عندنا في السنام الأعلىٰ، وإن قبضه الله قبل ذلك خار له...»(3).
فقوله علیه السلام : «خار له» يُراد منه ما أشارت له الرواية السابقة من التخيير بين البقاء أو الرجوع، والله العالم.
ص: 80
الأمر الثالث: من النصوص الدالة على رجعة الإمام الحسين علیه السلام
دلت العديد من النصوص على أن الإمام الحسين علیه السلام سيكون أول الراجعين من أهل البيت علیهم السلام ، وبعضها صرحت برجعة أصحابه الذين استشهدوا معه، ومن تلك النصوص التالي:
النص الأول:
روي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ القَاسِمِ البَطَلِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام فِي قَوْلِه تَعَالَى: ﴿وقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ قَالَ: «قَتْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ علیه السلام وطَعْنُ الحَسَنِ علیه السلام
﴿ولَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً﴾ قَالَ: قَتْلُ الحُسَيْنِ علیه السلام : ﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما﴾ فَإِذَا جَاءَ نَصْرُ دَمِ الحُسَيْنِ علیه السلام
﴿بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ﴾ قَوْمٌ يَبْعَثُهُمُ الله قَبْلَ خُرُوجِ القَائِمِ علیه السلام فَلَا يَدَعُونَ وَتْراً لآِلِ مُحَمَّدٍ إِلَّا قَتَلُوه. ﴿وكانَ وَعْداً مَفْعُولاً﴾ خُرُوجُ القَائِمِ علیه السلام : ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ خُرُوجُ الحُسَيْنِ علیه السلام فِي سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِه عَلَيْهِمُ البَيْضُ المُذَهَّبُ لِكُلِّ بَيْضَةٍ وَجْهَانِ المُؤَدُّونَ إِلَى النَّاسِ أَنَّ هَذَا الحُسَيْنَ قَدْ خَرَجَ؛ حَتَّى لَا يَشُكَّ المُؤْمِنُونَ فِيه وأَنَّه لَيْسَ بِدَجَّالٍ ولَا شَيْطَانٍ والحُجَّةُ القَائِمُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَإِذَا اسْتَقَرَّتِ المَعْرِفَةُ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ أَنَّه الحُسَيْنُ علیه السلام جَاءَ الحُجَّةَ المَوْتُ فَيَكُونُ الَّذِي يُغَسِّلُه ويُكَفِّنُه ويُحَنِّطُه ويَلْحَدُه فِي حُفْرَتِه الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ علیه السلام ، ولَا يَلِي الوَصِيَّ إِلَّا الوَصِيُّ».(1)
النص الثاني:
روي عن أبي جعفر الباقر علیه السلام : أنّ الحسين علیه السلام قال لأصحابه: «أَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ،
ص: 81
فَوَاللهِ، إِنّا نَمْكُثُ ما شاءَ الله بَعْدَ ما يَجْري عَلَيْنا، ثُمَّ يُخْرِجُنَا اللهُ وَإِيّاكُمْ حَتّى يَظْهَرَ قائِمُنا، فَيَنْتَقِمُ مِنَ الظّالِمينَ وَأَنَا وَأَنْتُمْ نُشاهِدُهُمْ فِي السَّلاسِلِ وَالأْغْلالِ وَأَنْواعِ العَذابِ».
فقيل له: من قائمكم، يا ابن رسول الله؟
قال: «السّابِعُ مِنْ وُلْدِ ابْني مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ الباقِرِ، وَهُوَ الحُجَّةُ ابْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَر بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَليٍّ ابْني، وَهُوَ الَّذي يَغيبُ مُدَّةً طَويلَةً، ثُمَّ يَظْهرُ وَيَمْلأ الأَْرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَما مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً».(1)
النص الثالث:
روى القمي في تفسيره أنَّ الله (تعالى) أخبر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وبشّره بالحسين علیه السلام قبل حمله وأنَّ الإمامة تكون في ولده إلى يوم القيامة ثم أخبره بما يُصيبه من القتل والمصيبة في نفسه وولده ثم عوضه بأنْ جعل الإمامة في عقبه وأعلمه أنَّه يُقتل، ثم يرده إلى الدنيا وينصره حتى يقتل أعداءه ويملكه الأرض وهو قوله (عز من قائل): ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَىٰ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارِثِينَ﴾ [القصص 5].(2)
النص الرابع:
عن الإمام الصادق علیه السلام : «أوَّل من تنشقُّ الأرض عنه ويرجع إلىٰ الدنيا الحسين بن عليٍّ علیه السلام »(3).
ص: 82
النص الخامس:
عن الإمام الصادق علیه السلام : «إنَّ أوَّل من يكرُّ في الرجعة الحسين بن عليٍّ علیه السلام ، ويمكث في الأرض أربعين سنة حتَّىٰ يسقط حاجباه علىٰ عينيه»(1).
النص السادس:
عن أبي جعفر علیه السلام قال: «قال الحسين بن عليّ علیهما السلام لأصحابه قبل أن يقتل: إنَّ رَسُولَ اللهِ قالَ لي: يا بنيّ، إنّك ستساق إلى العراق، وهي أرض قد التقى بها النبيّون وأوصياء النبيّين، وهي أرض تدعى عمورا، وإنّك تستشهد بها، ويستشهد معك جماعة من أصحابك لا يجدون ألم مسّ الحديد، وتلا: ﴿قُلْنَا يَنَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾(2)
تكون الحرب عليك وعليهم برداً وسلاماً، فَأَبْشِرُوا، فَوَاللهِ، لَئِنْ قَتَلُونا فَإِنّا نَرِدُ عَلى نَبِيِّنا. قال: ثُمَّ أَمْكُثُ ما شاءَ اللهُ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ الأَْرْضُ عَنْهُ، فَأَخْرُجُ خَرْجَةً يُوافِقُ ذلِكَ خَرْجَةَ أَميرِ المُؤْمِنينَ وَقِيامَ قائِمِنا، وَحَياةَ رسوُلِ اللهِ ثُمَّ لَيَنْزِلَنَّ عَلَيَّ وَفْدٌ مِنَ السَّماءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، لَمْ يَنْزِلُوا إِلَى الأَْرْضِ قَطُّ، وَلَيَنْزِلَنَّ إِلَيَّ جَبْرَئيلُ وَميكائيلُ وَإِسْرافيلُ، وُجُنُودٌ مِنَ المَلائِكَةِ، وَلَيَنْزِلَنَّ مُحَمَّدٌ وَعَليٌّ وَأَنَا وَأَخي وَجَميعُ مَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ، في حَمُولات مِنْ حَمُولاتِ الرَّبِّ، خَيْلٌ بُلْقٌ مِنْ نُور لَمْ يَرْكَبْها مَخْلُوقٌ، ثُمَّ لَيَهِزَّنَّ مُحمَّدٌ لِواءَهُ وَلَيَدْفَعَنَّهُ إِلى قائِمِنا مَع سَيْفِهِ، ثُمَّ إِنّا نَمْكُثُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ما شاءَ اللهُ...»(3)
النص السابع:
عَنْ حَرِيزٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله علیه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا أَقَلَّ بَقَاءَكُمْ أَهْلَ البَيْتِ وأَقْرَبَ آجَالَكُمْ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْكُمْ؟!
ص: 83
فَقَالَ علیه السلام : «إِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا صَحِيفَةً فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْه أَنْ يَعْمَلَ بِه فِي مُدَّتِه، فَإِذَا انْقَضَى مَا فِيهَا مِمَّا أُمِرَ بِه عَرَفَ أَنَّ أَجَلَه قَدْ حَضَرَ، فَأَتَاه النَّبِيُّ صلی الله علیه و آله وسلم يَنْعَى إِلَيْه نَفْسَه، وأَخْبَرَه بِمَا لَه عِنْدَ الله، وأَنَّ الحُسَيْنَ علیه السلام قَرَأَ صَحِيفَتَه الَّتِي أُعْطِيَهَا وفُسِّرَ لَه مَا يَأْتِي بِنَعْيٍ وبَقِيَ فِيهَا أَشْيَاءُ لَمْ تُقْضَ، فَخَرَجَ لِلْقِتَالِ، وكَانَتْ تِلْكَ الأُمُورُ الَّتِي بَقِيَتْ أَنَّ المَلَائِكَةَ سَأَلَتِ اللهَ فِي نُصْرَتِه فَأَذِنَ لَهَا، ومَكَثَتْ تَسْتَعِدُّ لِلْقِتَالِ وتَتَأَهَّبُ لِذَلِكَ، حَتَّى قُتِلَ فَنَزَلَتْ وقَدِ انْقَطَعَتْ مُدَّتُه وقُتِلَ علیه السلام ، فَقَالَتِ المَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ أَذِنْتَ لَنَا فِي الِانْحِدَارِ وأَذِنْتَ لَنَا فِي نُصْرَتِه، فَانْحَدَرْنَا وقَدْ قَبَضْتَه!
فَأَوْحَى الله إِلَيْهِمْ:أَنِ الزَمُوا قَبْرَه حَتَّى تَرَوْه وقَدْ خَرَجَ(1)، فَانْصُرُوه وابْكُوا عَلَيْه وعَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ نُصْرَتِه، فَإِنَّكُمْ قَدْ خُصِّصْتُمْ بِنُصْرَتِه وبِالبُكَاءِ عَلَيْه.
فَبَكَتِ المَلَائِكَةُ تَعَزِّياً وحُزْناً عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ نُصْرَتِه، فَإِذَا خَرَجَ يَكُونُونَ أَنْصَارَه.(2)
النص الثامن:
عن أبي عبد الله علیه السلام أنه سُئل عن الرجعة أحق هي؟ قال: نعم. فقيل له: من أول من يخرج؟ قال: الحسين علیه السلام يخرج على أثر القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف . قلت: ومعه الناس كلهم؟ قال علیه السلام : لا. بل كما ذكر الله تعالى في كتابه ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً﴾(3) قوم بعد قوم.(4)
ص: 84
النص التاسع:
عن أبي عبد الله علیه السلام «ويقبل الحسين علیه السلام في أصحابه الذين قُتلوا معه، ومعه سبعون نبياً كما بعثوا مع موسى بن عمران علیه السلام ، فيدفع إليه القائم عجل الله تعالی فرجه الشریف الخاتم، فيكون الحسين علیه السلام هو الذي يلي غسله وكفنه وحنوطه ويواري به في حفرته».(1)
النص العاشر:
في رواية جابر عن أبي جعفر علیه السلام : «ثم يخرج المنتصر إلى الدنيا فيطلب بدمه ودماء أصحابه».(2)
بملاحظة النصوص الواردة في رجعته علیه السلام ، يمكن القول بأن الهدف من رجوعه هو التالي:
1/ الوصول بالأمة إلى هدفه الذي نهض من أجله، وحالت الظروف دون وصوله إليه «الإصلاح في أمة جدي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم »...(3)
2/ قيادة دولة الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف بعد موته، ولذلك ذكرت الرواية أنَّ الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف سيكون موته بعد استقرار معرفة الناس بأن هذا هو الإمام الحسين علیه السلام ...
إن الإصلاح الذي ثار من أجله الإمام الحسين علیه السلام غايته العدل والقسط، وهو ما لم تتح الفرصة المواتية لتحقيقه آنذاك، وهو ما سيتم على يدي المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وسيكون للإمام الحسين علیه السلام دور في ذلك أيضاً.
ص: 85
3/ حساب الإمام الحسين علیه السلام للخلق قبل يوم القيامة، وهو ما سيأتي بيانه في البحث التالي إن شاء الله تعالى.
4/ إنه علیه السلام هو الذي يلي أمر الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف بعد وفاته، لأن الوصي لا يلي أمره إلا الوصي، فهو علیه السلام من سيغسل الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف ويلي أمره.
وهنا سؤال:
إذا كان الوصي لا يلي أمره إلا الوصي، فعند موت الإمام المهدي (سلام الله عليه) يلي امره الامام الحسين علیه السلام ، فإن مات الإمام الحسين علیه السلام من الذي يلي أمره؟ وإن قلنا يأتي بعده أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وهو الذي يلي أمره وهكذا فإذا وصلنا إلى آخر معصوم بحيث لا يرجع بعده معصوم آخر ليَلي أمره، فمن الذي يغسله؟
الجواب:
إنَّ قاعدة (لا يلي أمر المعصوم إلا المعصوم) ليست قاعدة عقلية، فلا ضير في خرقها لمصلحة ما.
للتوضيح: القاعدة العقلية هي القاعدة التي لا تختلف ولا تتخلف، كمجموع زوايا المثلث التي تساوي 180 درجة، فلا يمكن أنْ تختلف باختلاف الظروف والزمان والمكان، كما لا يمكن أن تتخلف فيكون مثلثٌ ما من المثلثات مجموع زواياه أقل أو أكثر من 180 درجة. وكاجتماع النقيضين فهو أمرٌ محال، لا يختلف في ذلك ولا يتخلف ولا يقبل الاستثناء.
ومعه، فمن الواضح أنَّ قاعدة (لا يلي أمر المعصوم إلا المعصوم) هي ليست قاعدة عقلية، وإنَّما هي قاعدة عادية إن صحّ التعبير، بمعنى أننا وجدنا أن من علامات الإمام اللاحق أنه يغسل ويصلي على الإمام السابق، وهو كما ذكر في الروايات الشريفة، لذلك
ص: 86
عندما توفي الإمام الحسن العسكري علیه السلام خرج جعفر ليصلي عليه، فخرج الإمام المهدي (صلوات الله وسلامه عليه) وكان صبيًا وعمره خمس سنوات وقال: «تأخر يا عم، فأنا أحق بالصلاة على أبي»، فتأخر جعفر، وقد أربد وجهه واصفر.(1)
فهي قاعدة عاديّة لا عقلية ويمكن أنْ تختلف وتتخلف.
ومعه، فيمكن القول: إننا نؤمن بأنَّ الله عزوجل سيهيئ شخصًا لائقًا ليلي أمر المعصوم الأخير.
تفسير: أن الإمام الحسين علیه السلام يُحاسب الخلق قبل يوم القيامة.
عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إن الذي يلي حساب الناس قبل يوم القيامة الحسينُ بن علي علیهما السلام ، فأما يوم القيامة فإنما هو بعث إلى الجنة أو بعث إلى النار».(2)
كما دلت الروايات الشريفة على أن الإمام الحسين علیه السلام هو أول من تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا، كذلك دلت بعض الروايات الشريفة على أنه علیه السلام سيحاسب الناس في الرجعة وقبل يوم القيامة، وقد تسبب مثل هذه الروايات الشريفة شبهة عند البعض مفادها: إننا نعلم أن الله تعالى هو الذي يحاسب الناس ﴿إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾(3) فكيف تقول هذه الرواية: إن الإمام الحسين علیه السلام سيحاسب الناس في الرجعة؟
ولبيان المسألة نحتاج إلى بيان أمور:
قُسمت الأسماء الإلهية إلى قسمين:
ص: 87
القسم الأول: الأسماء والصفات المستأثرة، وهي الأسماء التي تحكي عن نفس الذات الإلهية المقدسة، مما يعني أنها لا تصح إلا في واجب الوجود، وهذه لا يصح لأحد أن يتسمى بها، لاختصاصها به جل وعلا، مثل أسماء: الله، واجب الوجود، اللا متناهي، واللا محدود، ومثلاً (الذي نفسي بيده) و(الذي فلق الحبة وبرأ النسمة)، و(مقلب القلوب والأبصار) وما شابه...(1)
القسم الثاني: الأسماء المشتركة بينه جل وعلا وبين غيره –باعتبار فكرة التشكيك، كأسماء: الرب، والخالق، والرازق، وغيرها، وهذه الأسماء، إنْ أُريد منها مرتبتها الوجودية المطلقة واللا محدودة، فهي من مختصات الله جل وعلا، وإنْ أريد منها المرتبة الممكنة منها، فهي من مختصات الممكنات، ويمكن إطلاقها عليها، ومن هنا، نجد أن القرآن الكريم استعمل صيغة أفعل التفضيل في بعض الأسماء، من قبيل ﴿فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ﴾(2)، أو استعمل الأسماء مشتركة بينه وبين غيره من
ص: 88
الممكنات، من قبيل قوله تعالى ﴿وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الجمعة 11]
يستعمل التفويض في عدة معانٍ:
المعنى الأول: أنّ الله (تعالى) بعد أن خلق الإنسان فوّض إليه أفعاله. فالإنسان مستقل تمامًا في إيجاد أفعاله عن الله عزوجل ، أي إنه ليس بحاجةٍ إلى الله (تعالى) في أفعاله، نعم الله عزوجل قادر على تلك الأفعال وقدرته لم تُسلب منه (جل وعلا)، لكن في الوقت نفسه قد استغنى عنه الإنسانُ وبات مستقلاً في أفعاله، رغم أنه ممكن ومن أبرز سماته الافتقار وجوداً واستمراراً!
المعنى الثاني: أنّ الله عزوجل بعد أن خلق الإنسان فوّض إليه أفعاله، فالإنسان مستقل تمامًا في إيجاد أفعاله عن الله عزوجل ، أي إنه لا يحتاج الى الله (تعالى) في أفعاله، وعلاوةً على ذلك فإنّه عزوجل غير قادر على التحكم في أفعال الإنسان فلا يستطيع منعه من القيام بفعلٍ ما مثلاً.
وهذا المعنى أقبح وأردأ من الأول.
وهما ما قالت بهما المعتزلة.
المعنى الثالث: أنّ الله (تعالى) يوكل بعض الأمور لبعض مخلوقاته في أن يفعلوها حسب اختيارهم، لكن لا يخرج أولئك المخلوقون لا هم ولا أفعالهم عن قدرة الله
ص: 89
(تعالى) وعن إذنه وعن أمره (جل وعلا)، فيبقى الله عزوجل قادراً وغير عاجزٍ، ولكنه يوكل إلى بعض عباده فعل أمور محددة.
وقد ورد هذا المعنى في كثير من الروايات والآيات الشريفة، وهذا المعنى على نوعين:
النوع الأول: التفويض التكويني:
نحن نعلم أن الأمور كلها بيد الله تعالى، فهو خالق كل شيء وبارئ كل شيء، ولا شيء يخرج عن أمره، ولكن مع ذلك نجد أن هناك أموراً قد أوكل الله تعالى عملها إلى بعض مخلوقاته، فمثلاً هناك ملك للموت، وملك للمطر، وهناك ﴿فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً﴾(1)
﴿سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾(2)
وأوضح ما يدل على ذلك هي مسألة الموت، ففي عدة آيات نجد أن نسبة عملية الموت قد اختلفت، قال تعالىٰ: ﴿اللهُ يَتَوَفَّىٰ الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾. (3)
ثمّ قال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾. (4)
ثمّ قال: ﴿حَتَّىٰ إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾.(5)
فأنت تجد في هذه الآيات الكريمة أن الله تعالى مرة ينسب التوفي له (جل وعلا)
ص: 90
ومرة لملك الموت وثالثة لرسله، وهذا لا تنافي فيه ولا مشكلة، ففي الآية الأولى نسب الله تعالى توفي الأنفس إليه نفسه، لأنه تعالى خالق كل شيء وهو خالق الموت والحياة كليهما، وفي الآية الثانية بين الله تعالى أن أمر التوفي قد أوكله إلى ملك الموت، فملك الموت هو الآمر الأول بالموت، لكن بإذن الله تعالى، وملك الموت يبعث رسلاً، أي ملائكة لتقوم بمهمة قبض روح هذا أو ذاك... فلا منافاة بين هذه الآيات، وبه يتضح معنى التفويض المقبول إسلامياً، إنه تفويض بأمر الله تعالى وبإذنه مع عدم خروج المفوض والأمر المفوض فيه عن قدرة الله تعالى.
الثاني: التفويض التشريعي:
وهو أن يأذن الله عزوجل لبعض عباده وفق مواصفاتٍ خاصة بأن يعطوا تشريعاتٍ وفق المصالح والمفاسد الواقعية. ومثاله تفويض الله (تعالى) مهمة التشريع للمعصومين علیهم السلام وهو المصطلح عليه بين المتكلمين بالولاية التشريعية(1).
ومستنده من القرآن الكريم قوله عزوجل : ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر 7].
والمعنى الثالث من بين المعاني الثلاثة للتفويض هو الذي يتوافق مع ما يذهب إليه أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم): أنه لا جبر ولا تفويض وإنما هو أمر بين أمرين.
إذا فهمنا هذين الأمرين، حينئذ سنفهم نوعين من الروايات الشريفة:
النوع الأول: ما ورد من أن حساب الشيعة في يوم القيامة سيوكل إلى أئمتهم علیهم السلام .
فعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد علیه السلام يقول: «إذا اجتمع الخلائق يوم القيامة لفصل القضاء وضع للأئمة منابر من نور، فصير الله تعالى حساب
ص: 91
شيعتنا الينا، فما كان بينهم وبين الله استوهبناه، وما كان بينهم وبين العباد قضيناه، وما كان بيننا وبينهم فنحن أحق بالعفو عنهم، ومن ذلك قول الله تعالى ﴿إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ﴾»(1).(2)
وعن عبد الله ابن سنان، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «إذا كان يوم القيامة وكلنا الله بحساب شيعتنا، فما كان لله سألنا الله أن يهبه لنا فهو لهم، وما كان لنا فهو لهم، ثم قرأ أبو عبد الله علیه السلام : ﴿إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ﴾».(3)
وعن جميل قال: «قلت لأبي الحسن علیه السلام أحدثهم بتفسير جابر؟ قال: لا تحدث به السفلة فيوبخوه، أما تقرأ: ﴿إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ﴾؟ قلت: بلى، قال: إذا كان يوم القيامة وجمع الله الأولين والآخرين ولّانا حساب شيعتنا، فما كان بينهم وبين الله حكمنا على الله فيه فأجاز حكومتنا، وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم فوهبوه لنا، وما كان بيننا وبينهم فنحن أحق من عفا وصفح».(4)
النوع الثاني: ما ورد من أن الإمام الحسين علیه السلام سيحاسب الناس في الرجعة.
فعن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إن الذي يلي حساب الناس قبل يوم القيامة الحسينُ بن علي علیهما السلام ، فأما يوم القيامة فإنما هو بعث إلى الجنة أو بعث إلى النار».(5)
أي إنه «أول من يحاكم الناس في أواخر الرجعة... مقدمة للحساب الكامل...
ص: 92
فحساب الخلق علي يديه علیه السلام ».(1)
فهذه المسألة لا تخرج عن حد التوحيد، لأنه بإذنه تعالى، وهو نوع من التفويض الممكن.
من الواضح أن هناك أموراً لا ينبغي أن يباشرها المرء بنفسه، لعدم كونها مناسبة لشأنه، فلذلك يكره للمرء أن يتولى دني الأمور خصوصاً إذا كان ثرياً، أو ما عبرت عنه الروايات بالرجل السري.
فقد روي أنه قَدِمَ أَعْرَابِيٌّ بِإِبِلٍ لَه عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله وسلم فَقَالَ لَه: «يَا رَسُولَ الله، بِعْ لِي إِبِلِي هَذِه. فَقَالَ لَه رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله وسلم : لَسْتُ بِبَيَّاعٍ فِي الأَسْوَاقِ. قَالَ: فَأَشِرْ عَلَيَّ. فَقَالَ صلی الله علیه و آله وسلم لَه: بِعْ هَذَا الجَمَلَ بِكَذَا، وبِعْ هَذِه النَّاقَةَ بِكَذَا، حَتَّى وَصَفَ لَه كُلَّ بَعِيرٍ مِنْهَا.
فَخَرَجَ الأَعْرَابِيُّ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَهَا ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله وسلم فَقَالَ: والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا زَادَتْ دِرْهَماً ولَا نَقَصَتْ دِرْهَماً مِمَّا قُلْتَ لِي، فَاسْتَهْدِنِي يَا رَسُولَ الله.(2)
قَالَ صلی الله علیه و آله وسلم : لَا. قَالَ بَلَى يَا رَسُولَ الله. فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُه حَتَّى قَالَ صلی الله علیه و آله وسلم
لَه: أَهْدِ لَنَا نَاقَةً، ولَا تَجْعَلْهَا وَلْهَاً».(3).(4)
عَنِ الأَرْقَطِ قَالَ قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام : «لَا تَكُونَنَّ دَوَّاراً فِي الأَسْوَاقِ، ولَا تَلِي دَقَائِقَ الأَشْيَاءِ بِنَفْسِكَ، فَإِنَّه لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ المُسْلِمِ ذِي الحَسَبِ والدِّينِ أَنْ يَلِيَ شِرَاءَ دَقَائِقِ
ص: 93
الأَشْيَاءِ بِنَفْسِه، مَا خَلَا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ فَإِنَّه يَنْبَغِي لِذِي الدِّينِ والحَسَبِ أَنْ يَلِيَهَا بِنَفْسِه: العَقَارَ، والرَّقِيقَ، والإِبِلَ».(1)
ومن ذلك أيضاً ما روي عن عبد الله جبلة الكناني، قال: استقبلني أبو الحسن الإمام الكاظم علیه السلام وقد علَّقْتُ سمكة في يدي، فقال: «اقذفها، إنَّني لأكره للرجل السري أنْ يحمل الشيء الدنيّ بنفسه»، ثمّ قال: «إنَّكم قوم أعداؤكم كثيرة، عاداكم الخلق، يا معشر الشيعة إنَّكم قد عاداكم الخلق، فتزيَّنوا لهم بما قدرتم عليه»(2).
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: رَآنِي أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام وأَنَا أَحْمِلُ بَقْلاً(3)،
فَقَالَ علیه السلام «يُكْرَه لِلرَّجُلِ السَّرِيِّ أَنْ يَحْمِلَ الشَّيْءَ الدَّنِيَّ؛ فَيُجْتَرَأَ عَلَيْه».
وعَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ قَالَ: نَظَرَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، قَدِ اشْتَرَى لِعِيَالِه شَيْئاً وهُوَ يَحْمِلُه، فَلَمَّا رَآه الرَّجُلُ اسْتَحْيَا مِنْه، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله علیه السلام : «اشْتَرَيْتَه لِعِيَالِكَ وحَمَلْتَه إِلَيْهِمْ، أَمَا واللهِ لَوْ لَا أَهْلُ المَدِينَةِ لأَحْبَبْتُ أَنْ أَشْتَرِيَ لِعِيَالِيَ الشَّيْءَ ثُمَّ أَحْمِلَه إِلَيْهِمْ».(4)
«أراد علیه السلام : لولا مخافة أن يعيبوه على ذلك لفعل مثل فعله، إلا أنه لما كان في زمان يعاب عليه بمثله لم يجز له أن يرتكبه، ولما لم يكن ذلك مما يعاب عليه في زمن أمير المؤمنين علیه السلام كان يرتكبه وكان ذلك منقبة له وتعليماً..».(5)
ص: 94
ومن هنا نعلم أنه من المناسب جداً أن يفوض الله تعالى بعض الأمور إلى بعض خلقه ممن يرتضيهم للقيام بأعمال ما، وهذا لا شرك فيه ولا مغالاة، ما دام الأمر بإذن الله تعالى، تماماً كما أذن الله تعالى للنبي عيسى (على نبينا وآله وعليه السلام) بإحياء الموتى، مع أن إحياءهم هو بيد الله تعالى وحده....
ص: 95
ص: 96
مما أعطاه الله تعالى للإمام الحسين علیه السلام هو أن له شيعة يشفعون يوم القيامة فيُشفعّون... وموضوع الشفاعة من المواضيع الإسلامية والتربوية المهمة، وقد ذكرت النصوص الدينية الأدلة على إمكانها ووقوعها بلا أدنى شك عند المنصف، فلا داعي لسرد الأدلة هنا، ولنكتف ببعض الإشارات المتعلقة بالتعويض الإلهي للإمام الحسين علیه السلام .
عادة ما تكون الحاجة إلى الشفاعة في حال خرق قانون معين، أو تجاوز حدود معينة، أو التقصير في أداء حق، من قبيل:
1/ وجود حق للآخر، وتقصير الآخر في أدائه، كما لو كنتُ مديوناً لأحدهم، وجاء موعد التسديد، ولم يكن عندي ما أسدّد حقه به، فأحتاج إلى شفيع ليؤخر لي موعد التسديد.
2/ وجود حق للآخر، وعدم تمكني من أدائه، فأحتاج إلى شفيع يسقط حق صاحب الحق عني، كما لو عجزت تماماً عن سداد الدين.
3/تجاوز حدود الأدب مع الآخر، فأحتاج إلى شفيع عند الآخر ليصفح عني بعد ندمي على ذلك.
وغير ذلك من الأمثلة.
ص: 97
وباختصار: أن الشفاعة تعني حاجة الفقير المحتاج أو المقصر إلى غيره الغني وصاحب الحق، واعترافه بأن له الحق، ولكنه يطلب التخفيف أو التجاوز، فيتوسل بشفيع ليكون واسطة بينه وبين صاحب الحق.
ولا شك أننا نعيش التقصير بكل أنواعه مع الله ربنا وخالقنا جل وعلا، فلا يمكن لأحد أن يدّعي أنه قام بما عليه بتمام معنى الكلمة تجاه الباري جل وعلا، مما يعني أننا على كل حال مقصرون بحقه جل وعلا، مما يجعلنا نبحث عن شفيع يساعدنا في تخفيف ما علينا من نتائج تقصيرنا معه جل وعلا.
بل إن الروايات تصرح بأن الناس عموماً يوم القيامة محتاجون إلى شفاعة النبي الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم ، وأن ما يقومون به من أعمال صالحة لا تغنيهم عن ذلك.
فقد روي عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبو عبد الله علیه السلام عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال: نعم، فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلی الله علیه و آله وسلم يومئذ؟ قال: نعم، إن للمؤمنين خطايا وذنوباً، وما من أحد إلا ويحتاج إلى شفاعة محمد صلی الله علیه و آله وسلم يومئذ؟ قال: وسأله رجل عن قول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : انا سيد ولد آدم
ولا فخر، قال: نعم يأخذ حلقة باب الجنة فيفتحها فيخر ساجداً فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع، اطلب تعط، فيرفع رأسه ثم يخرّ ساجداً فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفع واطلب تعط، ثم يرفع رأسه فيَشفع فيُشفّع ويطلب فيعطى.(1)
وما روي عن أبي العباس المكبر قال: دخل مولى لامرأة علي بن الحسين علیه السلام على أبي جعفر علیه السلام يقال له: أبو أيمن، فقال يا أبا جعفر يغرون الناس ويقولون (شفاعة محمد شفاعة محمد)؟!
ص: 98
فغضب أبو جعفر علیه السلام حتى تربد وجهه ثم قال: ويحك يا أبا أيمن، أغرّك أن عفّ بطنك وفرجك! أما لو قد رأيت أفزاع القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمد صلی الله علیه و آله وسلم ، ويلك، فهل يشفع إلا لمن وجبت له النار؟
ثم قال: ما أحد من الأولين والآخرين إلا وهو محتاج إلى شفاعة محمد صلی الله علیه و آله وسلم يوم القيامة.
ثم قال أبو جعفر علیه السلام : إن لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الشفاعة في أمته، ولنا الشفاعة في شيعتنا، ولشيعتنا الشفاعة في أهاليهم.
ثم قال: وإن المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر، فإن المؤمن ليشفع حتى لخادمه، ويقول: يا رب حق خدمتي، كان يقيني الحر والبرد.(1)
إن الشفاعة –بمعنى الوساطة في تسهيل أمر أو قضاء حاجة أو إسقاط حق وما شابه- لا تُقبل من أي أحد كما هو واضح من واقعنا المعاش، وإنما لا بد من توفر شروط معينة في الشفيع، حتى يكون مؤهلاً لقبول شفاعته عند صاحب الحق.
ولذا صرحت الروايات الشريفة بأن الشفعاء هم من أمثال الأنبياء والعلماء والمؤمنين، وليست الشفاعة لكل من هبّ ودب.
وذكرت بعض الروايات الشريفة أن هناك من الأعمال الصالحة ما تكون شفيعاً إلى الله تعالى.
فقد روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «ثلاثة يشفعون إلى الله عزوجل فيشفعون: الأنبياء، ثم
ص: 99
العلماء، ثم الشهداء».(1)
وعن أبي عبد الله وأبي جعفر علیهما السلام قالا: «والله لنشفعن في المذنبين من شيعتنا حتى يقولوا أعداؤنا إذا رأوا ذلك ﴿فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾(2)
قال: من المهتدين، قال: لأن الايمان قد لزمهم بالإقرار».(3)
وعن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم : «الشفعاء خمسة: القرآن، والرَّحم، والأمانة، ونبيكم، وأهل بيت نبيكم».(4)
وعن أمير المؤمنين علیه السلام : «لَا شَفِيعَ أَنْجَحُ مِنَ التَّوْبَةِ».(5)
عرفنا أن الشفاعة في الآخرة هي من الحاجة الضرورية إليها بمكان. هذا وقد أكّدت النصوص الدينية على أن الشفاعة في الدنيا –بنفس المعنى المتقدم- هي مما ينبغي للمؤمن أن يمارسها ما أوتي إلى ذلك سبيلا، ومن تلك النصوص:
روي أنه قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «أفضل الصدقة صدقة اللسان قيل: يا رسول الله وما صدقة اللسان؟ قال: الشفاعة تفك بها الأسير، وتحقن بها الدم، وتجر بها المعروف إلى أخيك، وتدفع بها الكريهة».(6)
وعن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «من شفع شفاعة يدفع بها مغرماً أو يحيي بها مغنماً، ثبّت الله
ص: 100
تعالى قدميه حين تدحض الأقدام».(1)
وعنه صلی الله علیه و آله وسلم : «أفضل الشفاعة: أن تشفع بين اثنين في النكاح».(2)
ومن النصوص اللطيفة في هذا المجال ما روي عن أبان الأحمر، عن الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمّد علیه السلام ، قال: «جاء رجل إلىٰ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم - وقد بُلي ثوبه -، فحمل إليه اثني عشر درهماً، فقال علیه السلام : يا عليُّ، خذ هذه الدراهم فاشتر لي بها ثوباً ألبسه، قال عليّ علیه السلام : فجئت إلىٰ السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً، وجئت به إلىٰ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، فنظر إليه فقال: يا عليُّ، غير هذا أحبُّ إليَّ، أترىٰ صاحبه يقيلنا؟ فقلت: لا أدري، فقال: انظر، فجئت إلىٰ صاحبه فقلت: إنَّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قد كره هذا يريد غيره فأقلنا فيه، فردَّ عليَّ الدراهم، وجئت بها إلىٰ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، فمشىٰ معه إلىٰ السوق ليبتاع قميصاً، فنظر إلىٰ جارية قاعدة علىٰ الطريق تبكي، فقال لها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : وما شأنكِ؟ قالت: يا رسول الله، إنَّ أهلي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم حاجة فضاعت، فلا أجسر أن أرجع إليهم، فأعطاها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أربعة دراهم، وقال: ارجعي إلىٰ أهلكِ، ومضىٰ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم إلىٰ السوق فاشترىٰ قميصاً بأربعة دراهم، ولبسه وحمد الله عزوجل ، فرأىٰ رجلاً عرياناً يقول: من كساني كساه الله من ثياب الجنَّة، فخلع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قميصه الذي اشتراه وكساه السائل، ثمّ رجع علیه السلام إلىٰ السوق فاشترىٰ بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر، فلبسه وحمد الله عزوجل ، ورجع إلىٰ منزله فإذا الجارية قاعدة علىٰ الطريق تبكي، فقال لها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : ما لكِ لا تأتين أهلكِ؟ قالت: يا رسول الله، إنّي قد أبطأت عليهم أخاف أن يضربوني، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : مرّي بين يدي ودلّيني علىٰ أهلكِ، وجاء رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حتَّىٰ وقف علىٰ باب دارهم، ثمّ قال: السلام عليكم يا
ص: 101
أهل الدار، فلم يُجيبوه، فأعاد السلام فلم يُجيبوه، فأعاد السلام فقالوا: وعليكم السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال عليه الصلاة والسلام: ما لكم تركتم إجابتي في أوَّل السلام والثاني؟ فقالوا: يا رسول الله، سمعنا كلامك فأحببنا أن نستكثر منه، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : إنَّ هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤذوها،
فقالوا: يا رسول الله، هي حرَّة لممشاك، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : الحمد لله، ما رأيت اثني عشر درهماً أعظم بركةً من هذه، كسا الله بها عاريين، وأعتق نسمة»(1).
قد يخطر إلى الذهن: أن هذا المعنى من الشفاعة يستلزم عدة محاذير، وأهمها: أن معرفة المذنب بالشفاعة يعني تغريره بالمعصية اعتماداً على الشفاعة، وبالتالي سيتجرّأ الكثير من الناس على تقحّم المعصية اعتماداً عليها، هذا فضلاً عن أنه خلاف العدل الإلهي حيث يسمح بالشفاعة للبعض دون غيرهم.
والجواب:
أولاً: لو ضمن جميع المذنبين شمولهم بالشفاعة من دون أي شرط ولا قيد، بحيث إن كل مذنب فهو يدخل تحت دائرة الشفاعة وبضمان تام، فيمكن أن يكون لهذا التساؤل معنى، أما وقد دلت النصوص على أن الشفاعة ليست مطلقة، وليست متاحة للجميع، وإنما هناك شروط لا بد أن يتوفر عليها الفرد ليكون ضمن نطاق الشفاعة، فلا معنى لهذا السؤال.
وهذا يعني: أن على الفرد أن يتوفر على الشروط الخاصة بالشفاعة، ليكون مؤهلاً لنيلها، وتلك الشروط لو اطلعنا عليها لوجدناها تشترط عدة شروط لها،
ص: 102
وخلاصتها(1):
- عدم الإشراك بالله تعالىٰ.
- الإخلاص في الشهادة بالتوحيد، قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلَّا الله مخلصاً، يُصدِّق لسانه قلبه»(2).
- عدم كونه ناصبياً، قال الإمام الصادق علیه السلام : «إنَّ المؤمن ليشفع لحميمه إلَّا أن يكون ناصباً، ولو أنَّ ناصباً شفع له كلُّ نبيٍّ مرسل وملك مقرَّب ما شُفِّعوا»(3).
- عدم الاستخفاف بالصلاة، فعن أبي بصير، قال: قال أبو الحسن الأوَّل علیه السلام : «إنَّه لمَّا حضر أبي الوفاة قال لي: يا بنيَّ، إنَّه لا ينال شفاعتنا من استخفَّ بالصلاة»(4).
- عدم التكذيب بشفاعة النبيِّ صلی الله علیه و آله وسلم : قال الإمام عليُّ بن موسىٰ الرضا علیه السلام : «قال أمير المؤمنين علیه السلام : من كذب بشفاعة رسول الله لم تنله»(5).
إن الالتزام بهذه الشروط يتنافى مع كون الشفاعة تدفع إلى الجرأة على الذنوب، بل على العكس، هي تدفع الفرد إلى أن يلتزم بالأحكام الشرعية بشروطها التي ذكرتها هذه النصوص.
وبهذا يتبين: أن شمول الشفاعة لمن التزم بهذه الشروط دون غير الملتزم بها، هو عين العدالة ووضعٌ للشيء في موضعه، ولا ظلم ولا تجاوز فيها.
ص: 103
ثانياً: إن هذه الشروط التي ذكرت في الجواب الأول، ليست على نحو العلة التامة للحصول على الشفاعة، بل هي على نحو المقتضي، مما يعني احتمال عدم نيل الشفاعة للفرد رغم أنه التزم بتلك الشروط، بسبب مانع من الموانع.
وبعبارة أخرى: أن الشفاعة ليست أمراً يستحقه الفرد، حتى إذا لم تشمله كان له الحق بالاعتراض، كلا، بل هي أمر تفضلي من الله تبارك وتعالى، فإن شملت المذنب فهو تفضل من الله تبارك وتعالى، وإلا، فلا يستحق المذنب شيئاً، بل هو يأخذ استحقاقه من العقوبة الإلهية من دون ظلم ولا تجاوز.
فحتى لو توفر الفرد على تلك الشروط، فلا ضمان تماماً بالدخول تحت مظلة الشفاعة، مما يعني بقاء الفرد المذنب داخل دائرة استحقاق العقوبة.
فأين التغرير بالمعصية؟ وأين دفعه نحو الجرأة على الذنب؟
ثالثاً: لو فرضنا أن الفرد المذنب ضمن الشفاعة (وهذا أمر غير ممكن لعدم اطلاعنا على حقيقة الحال في ذلك)، فإن الشفاعة الكبرى إنما تقع في الآخرة، وبالتالي، فهي تنفي عقوبة الآخرة، لكن يبقى البرزخ الذي هو أيضاً محكمة إلهية، والقبر الذي هو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، فالعقوبة محتملة جداً فيه، وبالتالي، فإن هذا الأمر يدفع الفرد إلى التوبة والأوبة قبل الموت، حتى لا يواجه العقوبة البرزخية.
والحاصل: «أنّ الإنسان قبل أن يصل إلى القيامة والشفاعة الموعودة، سيبقى لمدّة مديدة في عالم البرزخ ويتكبّد أنواع العذاب ولن تنفعه الشفاعة الموعودة، إذاً، أمام الإنسان المجرم في العالم الآخر أنواع العذاب التي تنتظره بعد موته مباشرة، ووجود هكذا وضع يمنع الإنسان من التجري على الذنب بذريعة الشفاعة».(1)
ص: 104
ومن هنا، وردت بعض الروايات التي تصرح بأن على المؤمن أن يخاف من عذاب البرزخ، حتى لو ضمن الشفاعة في الآخرة، فقد روي عَنْ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله علیه السلام : «إِنِّي سَمِعْتُكَ وأَنْتَ تَقُولُ: كُلُّ شِيعَتِنَا فِي الجَنَّةِ عَلَى مَا كَانَ فِيهِمْ.
قَالَ علیه السلام : صَدَقْتُكَ، كُلُّهُمْ والله فِي الجَنَّةِ. قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ الذُّنُوبَ كَثِيرَةٌ كِبَارٌ؟ فَقَالَ: أَمَّا فِي القِيَامَةِ فَكُلُّكُمْ فِي الجَنَّةِ بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ المُطَاعِ أَوْ وَصِيِّ النَّبِيِّ، ولَكِنِّي والله أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ فِي البَرْزَخِ. قُلْتُ: ومَا البَرْزَخُ؟ قَالَ: القَبْرُ مُنْذُ حِينِ مَوْتِه إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»(1).
مع الالتفات إلى أمر مهم جداً، وهو:
أن ما ذكرناه في (ثالثاً) لا يعني أبداً أن الشفاعة لا يمكن أن تنال العبد المؤمن في البرزخ والقبر، كلا، بل إن بعض الروايات دلت على أن عمل العبد ينفعه في قبره، وهو نوع من الشفاعة، ولنسمها شفاعة الأعمال الصالحة، بل ورد أن ولاية أهل البيت علیهم السلام تنفع كثيراً فيه، ولكن كل ذلك لا يدفع نحو ترك
العمل في الدنيا، لأنه يبقى أمراً غير جزمي، وعلى العبد أن يزيد من أعماله الصالحة والتزامه بالدين ليفسح لنفسه المجال ليلج نعمة الشفاعة.
ومن تلك الروايات ما روي عن أبي بصير، عن أحدهما علیهما السلام قال: «إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستة صور، فيهن صورة هي أحسنهن وجها، وأبهاهن هيئة، وأطيبهن ريحا، وأنظفهن صورة، قال: فيقف صورة عن يمينه، وأخرى عن يساره، وأخرى بين يديه، وأخرى خلفه، وأخرى عند رجليه، ويقف التي هي أحسنهن فوق رأسه، فإن أتى عن يمينه، منعته التي عن يمينه، ثم كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست
ص: 105
قال: فتقول أحسنهن صورة: من أنتم جزاكم الله عني خيرا؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام، وتقول التي خلفه: أنا الحج والعمرة، وتقول التي عند رجليه: أنا بر من وصلت من إخوانك، ثم يقلن: من أنت؟ فأنت أحسننا وجهاً، وأطيبنا ريحاً، وأبهانا هيئة، فتقول: أنا الولاية لآل محمد (صلوات الله عليه وعليهم)».(1)
رابعاً: فضلاً عن كل ما تقدم، فإن من المتفق عليه، والمنصوص عليه، أن الله تعالى رحيم، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنها سبقت غضبه، وأن الله تعالى ينشر رحمته يوم القيامة حتى إن إبليس ليطمع فيها، فلماذا لم يستشكل البعض على سعة هذه الرحمة ولم يقل: إنها تغرّر بالعبد ليفعل المعصية؟
فقد روي عن إبراهيم بن زياد الكرخي، قال: قال الصادق جعفر بن محمّد علیه السلام : «إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالىٰ رحمته حتَّىٰ يطمع إبليس في رحمته»(2).
وعن الإمام الرضا علیه السلام ، عن آبائه علیهم السلام ، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : إذا كان يوم القيامة تجلىٰ اللهU لعبده المؤمن فيوقفه علىٰ ذنوبه ذنباً ذنباً، ثمّ يغفر الله له لا يُطلِع الله علىٰ ذلك ملكاً مقرَّباً ولا نبيّاً مرسلاً، ويستر عليه ما يكره أن يقف عليه أحد، ثمّ يقول لسيِّئاته: كوني حسنات»(3).
فما أجاب به المستشكل عن سعة الرحمة الإلهية، فنحن نجيب به عن الإشكال في موردنا.
ص: 106
لا يعني ما ذكرناه من أجوبة أن الشفاعة لا نفع فيها ولا ثمرة ولا أثر في هذه الحياة، بل على العكس، إن فيها العديد من الثمرات، نذكر ثمرتين منها:
الثمرة الأولى:
أنها تفتح باب الأمل أمام المذنبين بأن يعملوا على تصحيح أخطائهم بما استطاعوا، وأنهم بسعيهم هذا يقتربون من الدخول تحت الشفاعة، إذ من الواضح أن المذنب لو علم بأنه ستتم معاقبته جزماً، وأنه لن ينفعه ما يعمل من الصالحات -مهما كان- في تخليصه من العقوبة، فإن هذا يؤدي به إلى اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى.
أما لو علم أن باب التوبة مفتوح، وأن الشفاعة يمكن –لاحظ: يمكن وليس جزماً- أن تناله ويتخلص من عقوبة الذنوب، فإنه سيعمل جاهداً على التصحيح، وعلى أن يبقى متعلقاً بالعطف الإلهي والرحمة الإلهية، وهذا أمر مهم جداً في دفع الفرد نحو الرجوع إلى ساحة القدس، والابتعاد على مواطن الرذيلة والذنوب.
الثمرة الثانية:
لا شك أن الشفعاء هم مخلوقات مختارة من الله تبارك وتعالى، وهم على درجة عالية من الكمال والقرب الإلهي، قال تعالى ﴿لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً﴾..(1)
وقال تعالى ﴿يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾.(2)
وبالتالي، فمن أراد الحصول على الشفاعة، فعليه أن يعمل على أن يتقرب من أولئك
ص: 107
الشفعاء، مما يعني أن الفرد سيعمل على أن يربي نفسه ليكون عند حسن ظن أولئك الشفعاء، الأمر الذي يصب في صلاحه بلا أدنى شك.
أشارت بعض الروايات الشريفة أن من التعويضات التي وهبها الله تعالى للإمام الحسين علیه السلام من قتله هو أن لشيعته وزواره مقام الشفاعة يوم القيامة، منةً من الله تعالى لهم.
فعن أبي الجارود، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: «كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم في بيت أم سلمة (رضي الله عنه)، فقال لها: لا يدخل علي أحد. فجاء الحسين علیه السلام وهو طفل، فما ملكت معه شيئاً حتى دخل على النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، فدخلت أم سلمة على أثره، فإذا الحسين على صدره، وإذا النبي صلی الله علیه و آله وسلم يبكي، وإذا في يده شيء يقلبه، فقال النبي صلی الله علیه و آله وسلم : يا أم سلمة، إن هذا جبرئيل يخبرني أن هذا مقتول، وهذه التربة التي يقتل عليها، فضعيها عندك، فإذا صارت دماً فقد قتل حبيبي، فقالت أم سلمة: يا رسول الله، سل الله أن يدفع ذلك عنه. قال: قد فعلت، فأوحى الله عزوجل إلي: أن له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين، وأن له شيعة يشفعون فيشفعون، وأن المهدي من ولده، فطوبى لمن كان من أولياء الحسين، وشيعته هم والله الفائزون يوم القيامة..».(1)
وروي عن أحدهما [الباقر أو الصادق علیهما السلام ] أنه قال: «يا زرارة، ما في الأرض مؤمنة إلا وقد وجب عليها ان تسعد فاطمة (صلى الله عليها) في زيارة الحسين علیه السلام ...».(2)
وعن سيف التمار، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: «سمعته يقول: زائر الحسين علیه السلام مشفع يوم القيامة لمائة رجل كلهم قد وجبت لهم النار ممن كان في الدنيا من المسرفين».(3)
ص: 108
قال رسول الله الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم :«... فطوبى لمن كان من أولياء الحسين، وشيعته هم والله الفائزون يوم القيامة..».(1)
من التعويضات الإلهية التي تُفهم من هذا النص، هو أن الله تعالى جعل لشيعة وأولياء الإمام الحسين علیه السلام تعويضاً أخروياً –غير الشفاعة- وهو أن لهم طوبى، وأنهم الفائزون يوم القيامة.
وحتى تتضح الصورة، نبين أمرين:
جاء ذكر (طوبى) في قوله تعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾.(2)
وقد ذكر بعض المفسرين(3)
عدة معاني لكلمة (طوبى)، خلاصتها:
فرح لهم، وقرة عين/ غبطة لهم /خير لهم وكرامة/ الجنة لهم/العيش المطيب لهم/الحال المستطابة لهم/ أطيب الأشياء لهم وهو الجنة / هنيئاً بطيب العيش لهم/حسنى لهم/نعم ما لهم/دوام الخير لهم.
ص: 109
وقد استظهر صاحب تفسير الأمثل أن هذه المعاني هي تطبيقات لكبرى كلية هي: العيشة الراضية والحياة الرغيدة.(1)
هذا وقد جاء ذكر طوبى في الروايات الشريفة على أنها شجرة في الجنة، أصلها في دار النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، وفي دار كل مؤمن منها غصن، وأنها أيضاً في بيت أمير المؤمنين علیه السلام ، حيث إن بيته هو بيت الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم ، وأيضاً روي أنها الشجرة التي كان يشم النبي صلی الله علیه و آله وسلم رائحتها من السيدة فاطمة الزهراء علیهما السلام .
فقد روي عن أبي جعفر علیه السلام : «وطوبى شجرة في الجنة أصلها في دار رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، فليس من مؤمن إلا وفي داره غصن من أغصانها، لا ينوي في قلبه شيئاً إلا أتاه ذلك الغصن به، ولو أن راكباً مُجدّاً سار في ظلها مائة عام لم يخرج منها، ولو أن غراباً طار من أصلها ما بلغ أعلاها حتى يبيض هرماً. ألا ففي هذا فارغبوا، إن المؤمن من نفسه في شغل والناس منه في راحة، إذا جن عليه الليل فرش وجهه وسجد لله تعالى ذكره بمكارم بدنه، ويناجي الذي خلقه في فكاك رقبته، ألا فهكذا فكونوا».(2)
وعن أبي عبد الله علیه السلام : «كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يكثر تقبيل فاطمة علیهما السلام ، فأنكرت عليه بعض نسائه ذلك، فقال صلی الله علیه و آله وسلم : إنه لما أسري بي إلى السماء، دخلت الجنة وأدناني جبرائيل علیه السلام من شجرة طوبى، وناولني منها تفاحة، فأكلتها، فحول الله ذلك في ظهري ماء، فهبطت
ص: 110
إلى الأرض، وواقعت خديجة، فحملت بفاطمة، فكلما اشتقت إلى الجنة قبلتها، وما قبلتها إلا وجدت رائحة شجرة طوبى، فهي حوراء إنسية. (1)
وعن الإمام الصادق علیه السلام قال: «سئل النبي صلی الله علیه و آله وسلم عن قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾.(2)
قال: نزلت في علي بن أبي طالب، وطوبى شجرة أصلها في دار علي في الجنة، وليس من الجنة شيء إلا وهو فيها... وفي دار كل مؤمن منها غصن... وعن موسى بن جعفر علیه السلام قال: سئل النبي صلی الله علیه و آله وسلم عن طوبى، فقال: شجرة في الجنة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة. ثم سألوه عنها ثانية فقال: شجرة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة. فقيل له في ذلك، فقال: إن داري ودار علي غدا واحدة.(3)
الأمر الثاني: لمن تكون (طوبى)؟
من خلال تفسير قوله تعالى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾.(4)
وتتبع الروايات التي ذكرت (طوبى) يمكن أن نقول: إنها تكون لعدة أصناف، وهم:
الصنف الأول: المؤمنون العاملون صالحاً.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾.(5)
ص: 111
الصنف الثاني: المنتظرون للإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف الثابتون على الحق.
دلت على ذلك نصوص عديدة، من قبيل:
عن أبي بصير، قال: قال الصادق جعفر بن محمّد صلی الله علیه و آله وسلم : «طوبىٰ لمن تمسَّك بأمرنا في غيبة قائمنا فلم يزغ قلبه بعد الهداية...»(1).
وعن الإمام الكاظم علیه السلام : «طوبىٰ لشيعتنا، المتمسّكين بحبلنا في غيبة قائمنا، الثابتين علىٰ موالاتنا والبراءة من أعدائنا، أُولئك منّا ونحن منهم، قد رضوا بنا أئمَّة، ورضينا بهم شيعة، فطوبىٰ لهم، ثمّ طوبىٰ لهم، وهم والله معنا في درجاتنا يوم القيامة»(2).
عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام أنَّه قال: «يأتي علىٰ الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبىٰ للثابتين علىٰ أمرنا في ذلك الزمان، إنَّ أدنىٰ ما يكون لهم من الثواب أن يناديهم البارئ عزوجل فيقول: عبادي وإمائي! آمنتم بسرّي وصدَّقتم بغيبي، فأبشروا بحسن الثواب منّي، فأنتم عبادي وإمائي حقَّاً، منكم أتقبَّل، وعنكم أعفو، ولكم أغفر، وبكم أسقي عبادي الغيث، وأدفع عنهم البلاء، ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي»، قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله، فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك الزمان؟ قال: «حفظ اللسان، ولزوم البيت»(3).
عن جابر الأنصاري، عن النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم قال: «يغيب عنهم الحجَّة، لا يُسمّىٰ حتَّىٰ يُظهِره الله، فإذا عجَّل الله خروجه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»، ثمّ قال صلی الله علیه و آله وسلم : «طوبىٰ للصابرين في غيبته، طوبىٰ للمقيمين علىٰ محجَّتهم، أُولئك وصفهم الله في كتابه فقال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ [البقرة: 3]، وقال: ﴿أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ
ص: 112
المُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22]»(1).
الصنف الثالث: من يُدرك الإمام المهدي عجل الله تعالی فرجه الشریف وهو مقتدٍ به قبل قيامه.
عن سدير، عن أبي عبد الله علیه السلام ، قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «طوبىٰ لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو مقتدٍ به قبل قيامه، يأتمّ به وبأئمَّة الهدىٰ من قبله، ويبرء إلىٰ الله عزوجل من عدوّهم، أُولئك رفقائي وأكرم أُمَّتي عليَّ»(2).
الصنف الرابع: المخلصون.
عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «طوبىٰ للمخلصين، أُولئك مصابيح الهدىٰ تتجلّىٰ عنهم كلّ فتنة ظلماء»(3).
الصنف الخامس: المنكسرة قلوبهم من خشية الله تعالى.
روي عن أمير المؤمنين علیه السلام : «طوبىٰ للمنكسرة قلوبهم من أجل الله»(4).
الصنف السادس: أولياء الإمام الحسين علیه السلام .
قال رسول الله الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم :«... فطوبى لمن كان من أولياء الحسين، وشيعته هم والله الفائزون يوم القيامة...».(5)
تنبيه مهم:
علينا أن نبحث جيداً عن الطريقة التي تجعلنا من أولياء الإمام الحسين علیه السلام ، ولقد
ص: 113
بين أهل البيت علیهم السلام معنى أوليائهم، فقال الإمام الصادق علیه السلام واصفاً أوليائهم: «إن ولينا الموالي لأوليائنا المعادي لأعدائنا».(1)
وعن الإمام أمير المؤمنين علیه السلام :... «إنّ عبدًا لن يُقصّر في حبِّنا لخير جعله الله في قلبه، ولن يحبَّنا من يحب مبغضَنا، إن ذلك لا يجتمع في قلب واحد و﴿ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب 4] يحبُّ بهذا قومًا، ويحب بالآخر عدوهم، والذي يحبنا فهو يخلص حبَّنا كما يخلص الذهب لا غش فيه. نحن النجباء وأفراطنا أفراط الأنبياء، وأنا وصي الأوصياء، وأنا حزب الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم ، والفئة الباغية حزب الشيطان، فمن أحبَّ أن يعلم حاله في حبِّنا فليمتحن قلبه، فإن وجد فيه حب من ألَّبَ علينا فليعلم أن الله عدوُّه وجبرئيل وميكائيل، والله عدو للكافرين».(2)
وعن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «تعوّذوا بالله من الشيطان الرجيم، فإنّ من تعوّذ بالله منه أعاذه الله، [وتعوّذوا] من همزاته ونفخاته ونفثاته، أتدرون ما هي؟ أمّا همزاته فما يلقيه في قلوبكم من بغضنا أهل البيت. قالوا: يا رسول الله! وكيف نبغضكم بعد ما عرفنا محلّكم من الله ومنزلتكم؟! قال صلی الله علیه و آله وسلم : بأن تبغضوا أولياءنا، وتحبّوا
أعداءنا، فاستعيذوا بالله من محبّة أعدائنا، وعداوة أوليائنا، فتعاذوا من بغضنا وعداوتنا، فإنّ من أحبّ أعداءنا فقد عادانا، ونحن منه براء، والله عزّ وجلّ منه بريء».(3)
وقال الإمام الصادق علیه السلام : «من شك في كفر أعدائنا والظالمين لنا فهو كافر».(4)
وروي أنّ رجلاً قدم على أمير المؤمنين علیه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أحبك وأحب
ص: 114
فلاناً، وسمّى بعض أعدائه، فقال علیه السلام : أمّا الآن فأنت أعور، فإمّا أنْ تعمى وإمّا أنْ تبصر».(1)
وقيل للإمام الصادق علیه السلام : «إن فلانًا يواليكم إلا أنه يضعف عن البراءة من عدوكم، فقال: هيهات، كذب من ادعى محبتنا ولم يتبرّأ من عدونا».(2)
كل ذلك تطبيق لقوله تعالى ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾.(3)
ص: 115
ص: 116
يظهر من بعض الروايات الشريفة أن مما عوضه الله تعالى للإمام الحسين علیه السلام من قتله أن له درجة في الجنة، عبرت عنها بعض الروايات بأنها درجة لا ينالها أحد من المخلوقين، وفي بعضها أن الإمام الحسين علیه السلام لم يكن لينالها إلا بالشهادة، فقد جاء في الرواية عن الإمام الصادق عن آبائه علیهم السلام ، أن الإمام الحسين علیه السلام ... «... راح ليودع القبر، فقام يصلي فأطال، فنعس وهو ساجد، فجاءه النبي صلی الله علیه و آله وسلم وهو في منامه، فأخذ الحسين علیه السلام وضمه إلى صدره، وجعل يقبل بين عينيه، ويقول: بأبي أنت، كأني أراك مرملا بدمك بين عصابة من هذه الأمة، يرجون شفاعتي، مالهم عند الله من خلاق، يا بني إنك قادم على أبيك وأمك وأخيك، وهم مشتاقون إليك، وإن لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة».(1)
وعن أبي الجارود، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: «كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم في بيت أم سلمة (رضي الله عنها)، فقال لها: لا يدخل علي أحد. فجاء الحسين علیه السلام وهو طفل، فما ملكت معه شيئاً حتى دخل على النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، فدخلت أم سلمة على أثره، فإذا الحسين على صدره، وإذا النبي صلی الله علیه و آله وسلم يبكي، وإذا في يده شيء يقلبه، فقال النبي صلی الله علیه و آله وسلم : يا أم سلمة، إن هذا جبرئيل يخبرني أن هذا مقتول، وهذه التربة التي يقتل عليها، فضعيها عندك، فإذا صارت دماً فقد قتل حبيبي، فقالت أم سلمة: يا رسول الله، سل الله أن يدفع ذلك عنه. قال: قد فعلت، فأوحى الله عزوجل إلي: أن له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين، وأن له شيعة يشفعون
ص: 117
فيشفعون، وأن المهدي من ولده، فطوبى لمن كان من أولياء الحسين، وشيعته هم والله الفائزون يوم القيامة...».(1)
وعن عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد علیهما السلام يقولان: «أن الله (تعالى) عوض الحسين علیه السلام من قتله أن جعل الإمامة في ذريته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعا عند قبره، ولا تعد أيام زائريه جائياً وراجعاً من عمره».
قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي عبد الله علیه السلام : هذا الجلال ينال بالحسين علیه السلام فماله في نفسه؟ قال: «إن الله (تعالى) ألحقه بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم فكان معه في درجته ومنزلته، ثم تلا أبو عبد الله «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور 20]».(2)
وحتى تتضح المسألة نذكر عدة أمور:
إن مشروع الإنسان في هذه الحياة هو التكامل، على اختلاف في النظرة إلى حقيقة التكامل، وأن المقصود منه هو التكامل الدنيوي فقط –كما تذهب إليه الحضارة المادية- أو الأخروي فقط –كما تذهب إليه الرهبانية- أو الدنيوي والأخروي –كما هي نظرية الإسلام.
إن النصوص الدينية تؤكد أن التكامل -كل التكامل- هو ما كان يعمل على إشباع كلا جانبي الإنسان: المادي والمعنوي، وعلى تحصيل كلا السعادتين: الدنيوية والأخروية، وإن كانت الدنيا في الغالب لا تُسالم الإنسان ولا تهدأ دون رميه بالمصائب والصعاب والشدائد، لكن على كل حال، فإن الدين لا يرضى بأن يُهلك المؤمن نفسه في
ص: 118
الدنيا ويتخلى عن لذائذها المحللة.
ومن تلك النصوص الدالة على هذا الأمر هو ما روي عن أبي عبد الله علیه السلام في قول اللهU: ﴿رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ [البقرة: 201]، قال: «رضوان الله والجنَّة في الآخرة، والسعة في الرزق والمعايش وحسن الخُلُق في الدنيا»(1).
وقال علیه السلام : «نعم العون الدنيا علىٰ الآخرة»(2).
وقال علیه السلام : «ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه»(3).
وروي عن العالم [الإمام الكاظم علیه السلام ] أنَّه قال: «اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً»(4).
وقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «نعم العون علىٰ تقوىٰ الله الغنىٰ»(5).
إذا تبين هذا، ننبه على التالي:
أولاً: أن طريق التكامل يعني أن يقصد العبد الوصول إلى ربه جل وعلا، أي إن العبد في هذه الدنيا يعيش النقص، هو يلبس ثوباً ممزقاً، والتكامل في حقيقته عبارة عن ترقيع ذلك الثوب المهترئ، فكلما حصل العبد على نوع من التكامل، كلما سدّ نقصاً من نقوصاته، وحيث إن الباري جل وعلا غير متناهي في ذاته وفي كمالاته، فالطريق إليه إذن غير متناهي، مما يعني أن من الخطأ أن يتوقف العبد عند درجة كمالية معينة ويقول: قد اكتفيت.
ص: 119
وهذا حبيبنا رسول الله الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم يُجهد نفسه بالعبادة وهو هو الذي غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو سيد الكونين.
روي عن أبي بصير، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: «كان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله، لِمَ تُتعِب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة ألَا أكون عبداً شكوراً؟»، قال: «وكان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقوم علىٰ أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه وتعالىٰ: ﴿طه * ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقىٰ﴾(1)».(2)
ثانياً: وتطبيقاً لهذه الفكرة من عدم تناهي التكامل، نجد أن الروايات أشارت إلى إمكانية استمرار المؤمن بالتكامل ولو بعد موته، من خلال تركه لبعض الأعمال التي لها قابلية الاستمرار بإنتاج الحسنات، وذلك فيما روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلَّا من ثلاث: علم يُنتَفع به، أو صدقة تُجرىٰ له، أو ولد صالح يدعو له»(3).
وعن ميمون القدّاح، عن أبي جعفر علیه السلام ، قال: «أيُّما عبد من عباد الله سَنَّ سُنَّة هدىٰ كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك من غير أنْ ينقص من أُجورهم شيء، وأيُّما عبد من عباد الله سَنَّ سُنَّة ضلال كان عليه مثل وزر من فعل ذلك من غير أنْ ينقص من أوزارهم شيء»(4).
ثالثاً: في كل ذلك، فإن المسألة تابعة لإرادة الإنسان، فبإمكانه أن يُشمر عن ساعد الجد ويحصل على درجات كمالية عالية، وبإمكانه أن يعيش الكسل والتواكل، فيبقى
ص: 120
يعيش تحت الحفر!
إن الروايات الشريفة بالإضافة إلى بعض الآيات تصرح بأن الجنة ليست على درجة واحدة، وإنما هي درجات متعددة وكثيرة.
وفي الحقيقة فإن هذا تابع لما تقدم من أن التكامل غير متناهي، وأن الإنسان بإرادته يمكنه أن يصل إلى مرتبة معينة من التكامل، وحيث إن الجنة إنما هي ثمرة جهد الإنسان وعمله وتعبه، فستكون مرتبة الجنة لكل فرد متناسبة مع ما قدمه من عمل في الدنيا.
والنصوص كثيرة في ذلك.
قال عز من قائل: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾.(1)
وعن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم أنه كان يقول: «ذر الناس يعملون، فإن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة وأوسطها، وفوقها عرش الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس».(2)
وفي رواية أخرى: «الجنة مائة درجة، لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم».(3)
بل ورد في بعض الروايات الشريفة أن الفردوس نفسها فيها درجات مختلفة، فقد ورد عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم :...«من صلى صلاة الفجر في جماعة ثم جلس يذكر الله عزوجل حتى
ص: 121
تطلع الشمس، كان له في الفردوس سبعون درجة، بعد ما بين كل درجتين كحضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة(1)، ومن صلى الظهر في جماعة كان له في جنات عدن خمسون درجة بعد ما بين كل درجتين كحضر الفرس الجواد خمسين سنة، ومن صلى العصر في جماعة كان له كأجر ثمانية من ولد إسماعيل كل منهم رب بيت يعتقهم، ومن صلى المغرب في جماعة كان له كحجة مبرورة وعمرة مقبولة، ومن صلى العشاء في جماعة كان له كقيام ليلة القدر...».(2)
بناءً على كل ما تقدم، يمكن القول: إن هناك درجات في الجنة لا ينالها أي أحد، لأنها تحتاج إلى مهر غالي الثمن، وإن من يريد الفوز بها، فعليه أن يسعى جاهداً لتحصيل شروط الحصول على تلك الدرجات.
وبعبارة أخرى: أن كل درجة من درجات الجنة لها شروط خاصة، من يوفرها يمكنه أن يحصل عليها، تماماً كما أن الحصول على وظيفة معينة في الدنيا هو مشروط بشروط خاصة، ولا يمكن الحصول عليها إلا بتوفير تلك الشروط.
وقد صرّحت بعض الروايات الشريفة بهذه الحقيقة، وأن هناك درجات خاصة في الجنة لا يتم الحصول عليها إلا بالاتصاف بصفات أهلها، ومن تلك الدرجات:
أولاً: درجة المتحابين والمتزاورين في الله تعالى.
فقد روي أنه قال النبي صلی الله علیه و آله وسلم : «طوبى للمتحابين في الله إن الله تبارك وتعالى خالق في
ص: 122
الجنة عموداً من ياقوتة حمراء، عليه سبعون ألف قصر، في كل قصر سبعون ألف غرفة، خلقها الله عزوجل للمتحابين والمتزاورين».(1)
ثانياً: الإمام العادل ومن يصل رحمه والصابر على عياله.
عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : إن في الجنة درجة لا ينالها إلا إمام عادل، أو ذو رحم وصول، أو ذو عيال صبور».(2)
ثالثاً: من أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام.
عن أمير المؤمنين علي علیهم السلام ، «قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، يسكنها من أمتي من أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام.
فقال علي علیه السلام : «يا رسول الله، ومن يطيق هذا من أمتك؟ فقال: يا علي، أو ما تدري ما إطابة الكلام؟ من قال إذا أصبح وأمسى: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، عشر مرات. وإطعام الطعام: نفقة الرجل على عياله، وأما الصلاة بالليل والناس نيام: فمن صلى المغرب والعشاء الآخرة
وصلاة الغداة في المسجد في جماعة، فكأنما أحيا الليل كله، وإفشاء السلام: أن لا يبخل بالسلام على أحد من المسلمين».(3)
رابعاً: أهل البلاء والهموم.
عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم : «إن في الجنة منازل لا ينالها العباد بأعمالهم، ليس لها علاقة من فوقها
ص: 123
ولا عماد من تحتها. قيل: يا رسول الله من أهلها؟ فقال صلی الله علیه و آله وسلم : هم أهل البلاء والهموم».(1)
خامساً: من يحكم على نفسه بالحق، ومن يزور أخاه المؤمن في الله تعالى، ومن يؤثر على نفسه.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام قَالَ: «إِنَّ لله عَزَّ وجَلَّ جَنَّةً لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ حَكَمَ عَلَى نَفْسِه بِالحَقِّ، ورَجُلٌ زَارَ أَخَاه المُؤْمِنَ فِي الله، ورَجُلٌ آثَرَ أَخَاه المُؤْمِنَ فِي الله».(2)
تصرح الروايات الشريفة بأن الله تعالى جعل للإمام الحسين علیه السلام درجة خاصة في الجنة، ولكنها مشروطة بأن يقدم قرباناً عظيماً جداً إزاءها، ذلك القربان هو دمه، ودم ولده، وإخوته، وأصحابه، هو الرضا تمام الرضا بأن تُسبى عياله من بعده، وقد قدّم الإمام الحسين علیه السلام ذلك القربان وكلُّه رضاً وتسليماً لله جل وعلا، فكانت له تلك الدرجة التي لا تكون إلا له.
ص: 124
ص: 125
ص: 126
القرآن الكريم.
أجوبة الشبهات الكلامية: محمد حسن قدردان قراملكي- مركز الدراسات الاستراتيجية.
الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386ه-.
اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مطبعة بعثت/ قم/ مؤسسة آل البيت/ 1404ه-.
الأصول الستّة عشر: ت ضياء الدين المحمودي/ ط 1/ 1423ه-/ دار الحديث.
الاعتقادات: الشيخ الصدوق/ ت عصام عبد السيّد/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.
أعيان الشيعة: السيّد محسن الأمين/ ت حسن الأمين/ دار التعارف/ بيروت.
الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط1/ 1417ه-/ مؤسسة البعثة.
الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسسة البعثة/ ط 1/ 1414ه-/ دار الثقافة/ قم.
الأمالي: الشيخ المفيد/ ت الأستادولي، علي أكبر الغفّاري/ ط2/ 1414ه-/ دار المفيد/ بيروت.
بحار الأنوار: العلاَّمة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403ه-/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.
تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ت علي أكبر الالغفّاري/ ط 2/ 1404ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
ص: 127
تفسير الإمام العسكري: المنسوب إلىٰ الإمام العسكري/ ط1 محقَّقة/ 1409ه-/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.
تفسير الأمثل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
تفسير العياشي: العياشي/ ت هاشم الرسولي المحلاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميّة/ طهران.
تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي/ ت طيب الجزائري/ ط 3/ 1404ه-/ مؤسسة دار الكتاب/ قم.
تفسير الميزان: السيّد الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية/ قم.
تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ت لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415ه-/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ ت حسن الخرسان/ ط 3/ 1364ش/ مطبعة خورشيد/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ ت محمّد مهدي الخرسان/ ط2/ 1368ش/ مطبعة أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
جامع السعادات: محمّد مهدي النراقي/ ت محمّد كلانتر/ دار النعمان.
جواهر الكلام: الشيخ الجواهري/ ت عبّاس القوجاني/ ط2/ 1365ش/ مطبعة خورشيد/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي/ ط1 كاملة محقّقة/ 1409ه-/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.
الخصال: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الالغفّاري/ 1403ه-/ جماعة المدرسين/ قم.
الدعوات: قطب الدين الراوندي/ ط1/ 1407ه-/ مطبعة أمير/ مؤسسة الإمام
ص: 128
المهدي/ قم.
روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه: محمد تقي المجلسي (الأول)/ تحقيق: نمقه وعلّق عليه وأشرف على طبعه «السيد حسين الموسوي الكرماني والشيخ علي پناه الإشتهاردي».
روضة الواعظين: الفتال النيسابوري/ ت محمّد مهدي الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
سنن ابن ماجة: ابن ماجة القزويني/ ت محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.
شرح الأخبار: القاضي النعمان المغربي/ ت محمّد الجلالي/ ط2/ 1414ه-/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
شعب الإيمان: أبو بكر البيهقي/ ط1/ 1423ه-/ مكتبة الرشد.
صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.
الصحيفة السجّادية: أبطحي/ ت محمّد باقر الأبطحي/ ط1/ 1411ه-/ مطبعة نمونة/ مؤسسة الإمام المهدي، مؤسسة الأنصاريان/ قم.
عدّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ ت أحمد الموحّدي القمي/ مكتبة وجداني/ قم.
علل الدارقطني: الدارقطني/ ت محفوظ الرحمن زين الله السلفي/ ط1/ 1405ه-/ دار طيبة/ الرياض.
علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385ه-/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.
عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ ت مجتبىٰ العراقي/ ط1/ 1403ه-/ مطبعة سيّد الشهداء/ قم.
عيون أخبار الرضا: الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي/ 1404ه-/ مؤسسة
ص: 129
الأعلمي/ بيروت.
عيون الحكم والمواعظ: علي الليثي الواسطي/ ت حسين البيرجندي/ ط1/ دار الحديث.
الغيبة: الشيخ الطوسي/ ت عبد الله الطهراني، علي أحمد ناصح/ ط1/ 1411ه-/ مطبعة بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.
الغيبة: النعماني/ ت فارس حسّون كريم/ ط1/ 1422ه-/ مطبعة مهر/ أنوار الهدىٰ.
الفتوح: أحمد بن أعثم الكوفي/ ت علي شيري/ ط1/ 1411ه-/ دار الأضواء.
القاموس المحيط: الفيروزآبادي.
الكافي: الشيخ الكليني/ ت عليّ أكبر الغفاري/ ط 5/ 1363ش/ مطبعة حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
كامل الزيارات: ابن قولويه/ ت جواد القيّومي/ ط1/ 1417ه-/ مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي/ مؤسسة نشر الثقافة.
كمال الدين: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1405ه-/ مؤسّسة النشر الإسلامي/ قم.
كنز العمّال: المتَّقي الهندي/ ت بكري حياني/ 1409ه-/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
لسان العرب: ابن منظور/ 1405ه-/ نشر أدب الحوزة/ قم.
مجلة الإصلاح الحسيني: العدد الثاني.
مجلة الموعود: العدد 2/ ذو الحجة/ 1437ه- /تصدر عن مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي علیه السلام .
المحاسن: البرقي/ ت جلال الدين الحسيني المحدِّث/ 1370ه-/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
ص: 130
محاضرات في الإلهيّات: للشيخ جعفر السبحاني
مختصر البصائر: الحسن بن سليمان الحلّي/ ت مشتاق المظفّر.
مسالك الأفهام: الشهيد الثاني/ ط1/ 1413ه-/ مطبعة بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.
مستدرك الوسائل: الميرزا النوري/ ط1 المحقَّقة/ 1408ه-/ مؤسسة آل البيت/بيروت.
مستطرفات السرائر: ابن إدريس الحلّي/ ط 2/ 1411ه-/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين/ قم.
مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.
المصباح المنير: أحمد بن محمّد المقري الفيّومي/ دار الفكر/ بيروت.
معجم مقاييس اللغة: أحمد بن فارس بن زكريا (ابن فارس)/ تحقيق: عبد السلام محمد هارون/ سنة الطبع: 1404/ المطبعة: مكتبة الإعلام الإسلامي/ الناشر: مكتبة الإعلام الإسلامي.
مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط6/ 1392ه-/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفّاري/ ط2/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376ه-/ المكتبة الحيدرية/ النجف.
منهاج الصالحين: السيد السيستاني
موسوعة العقائد الإسلامية: محمد الريشهري/ تحقيق: مركز بحوث دار الحديث/ الطبعة: الأولى/ سنة الطبع: 1425 - 1383ش/ المطبعة: دار الحديث/ دار الحديث
ص: 131
للطباعة والنشر.
موسوعة كلمات الإمام الحسين: لجنة الحديث في معهد باقر العلوم/ ط3/ 1416ه-/ دار المعروف.
نهج البلاغة: الشريف الرضي/ ضبط نصَّه الدكتور صبحي صالح/ ط1/ 1387ه-/ بيروت.
ص: 132
ص: 133
ص: 134
ص: 135
ص: 136