بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد جعفر، 1349-
عنوان واسم المؤلف: خطوات نحو النجاح / محاضرات السيد جعفر الحسيني الشيرازي.
تفاصيل المنشور: قم : دارالعلم، 1442 ق.= 1399.
مواصفات المظهر:104 ص.؛ 5/14×5/21 س م.
ISBN: 978-964-204-586-0
حالة الاستماع: فيپا
لسان: العربية.
ملاحظة: الطبعة الثانية.
ملاحظة: الإصدار السابق: دارالفكر، 1440ق.= 1397.
ملاحظة: ببليوغرافيا مع ترجمة.
قضية: النجاح - الجوانب الدينية - الإسلام
قضية: Success--Reliqious aspects--Islam
قضية: النجاح - الجوانب القرآنية
قضية: Success--Quranic teaching
قضية: طريقة الحياة (الإسلام)
قضية: Conduct of life--*Religious aspects--Islam
قضية: طريقة الحياة وعاداتها (الإسلام) - الأحاديث
قضية: Conduct of life--*Religious aspects--Islam--Hadiths
ترتيب الكونجرس: BP232/65
تصنيف ديوي: 485/297
رقم الببليوغرافيا الوطنية: 7512849
حالة التسجيل: فيپا
الشجرة الطيبة
خطوات نحو النجاح
------------------
السيد جعفر الحسيني الشيرازي
الناشر: دار العلم
المطبعة: احسان
إخراج: نهضة اللّه العظيمي
كمية: 3000
الطبعة الثانية - 1442ه ق
-----------------
شابك: 978-964-204-586-0
----------------------------------
النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250
كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية
مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5
طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم
قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح اللّه، أول فرع 19، دار العلم
قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم
ص: 1
يهدی ثواب طباعة هذا الكتاب إلی سيدنا أبي الفضل العباس علیه السلام
خطوات نحو النجاح
محاضرات السيد جعفر الحسيني الشيرازي
ص: 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ 2 الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ 3 مَٰلِكِ يَوْمِ الدِّينِ 4 إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 5 اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ 6 صِرَٰطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ 7
ص: 3
ص: 4
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
من يبحث منّا عن سبيل لتحقيق النجاح في حياته يتصور أن عليه اللجوء إلى كتب علم النفس والاجتماع فقط، فهو يروم التعرّف على النظريات والأفكار الحديثة، التي تحاكي مشاكل العصر وظروف إنسان اليوم، بينما إذا فتحنا القرآن الكريم، هذا الكتاب السماوي العظيم، والبحر الذي لا يُدرك مداه، وكتب الحديث والسيرة المطهرة للمعصومين (عليهم السلام) نجد أننا أمام آفاق بعيدة، ورؤى عميقة، وتجارب غنية تفيد لكل العصور ولكل بني الإنسان، وهنا تكمن عظمة الإسلام، وحجم الثروة التي نمتلكها.
والمثير حقاً أن نجد النظريات البشرية المطروحة في هذا المجال قاصرة عن هداية الإنسان إلى طريق يؤدي به إلى السعادة
ص: 5
في جميع أنحاء حياته الفردية والأسرية والاجتماعية؛ وإنما هنالك نظريات وأفكار متفرقة عن هذا الجانب وذاك الحقل، بينما يفتح الإسلام لنا طريقاً مستقيماً غير ذي عوج ٍ، يسمو بنا إلى حيث السعادة والرقي والكرامة في جميع نواحي الحياة، فلا يكون الإنسان سعيداً - مثلاً - مع زوجته وأطفاله، وفاشلاً في علاقاته مع أصدقائه وجيرانه وسائر أفراد المجتمع، ولا يكون ناجحاً في عمله وتجارته، بينما يكون فاشلاً في أ ُسلوب تربيته لأبنائه، أو أن يكون الشاب اليافع موفقاً في دراسته ومسيرته التعليمية، لكنه منطوياً على نفسه وضبابياً في علاقاته مع أفراد المجتمع. وهكذا تطول القائمة...
لكن السؤال الذي يثار أمامنا هو: ما هي الصيغة والطريقة التي تمكننا من الاستفادة من تراثنا العظيم؟
إن سماحة السيد جعفر الشيرازي (حفظه اللّه) يجيب عن هذا السؤال المثير في مجتمعاتنا الإسلامية، التي تقرأ القرآن الكريم والأحاديث الشريفة. ففي هذه المجموعة من المحاضرات القيّمة يبيّن لنا سماحته جملة من الخطوات الواجب اتّباعها لتحقيق النجاح.
ومن الخطوات التي يشير إليها الإيمان باللّه سبحانه وتعالى، والصبر والأمانة والعلم، التي يقول عنها إنها: «إذا اجتمعت توجب سعادة الدنيا قبل الآخرة»، ويستشهد سماحته بقصة نبي اللّه
ص: 6
يوسف (عليه السلام) التي فصّلها القرآن الكريم، ويؤكد بأن يوسف (عليه السلام) كاد أن يموت في البئر بسبب حسد ومكيدة إخوته، ثم تحوّل إلى عبد ثم تعرض للغواية ثم السجن، لكن الذين تسببوا في كل هذه المعاناة له - وهم أشقاؤه - وقفوا بعد سنوات يسترحمونه، فيما كان هو جالساً أمامهم في منصب عزيز مصر.
وهذا يؤكد لنا حقيقة أن مساحة الأمل في الحياة واسعة، ولا ينبغي للإنسان الانكفاء على بعض الإخفاقات والعثرات، وقد خلق اللّه تعالى هذه الحياة ليعيش فيها الإنسان مفلحاً منجحاً، لا أن يستمرئ الهموم، ويستحسن الفشل والتراجع، كما يوحي البعض ذلك لأنفسهم مستندين خطأ بالحديث الشريف: «إن المؤمن مبتلى...»(1)!! فعلى الأقل لننظر إلى النصف الآخر من النهج الإنساني في الإسلام، ف- «المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف»(2)، و «ساعٍ سريع نجا»(3)، و «المؤمن كيّس فطن حذر»(4)، وغيرها كثير من الأحاديث التي تضيء لنا درب السعادة والنجاح.
إنه في محاضراته هذه يضع يده على الجرح، وهو الجهل...؛لذا
ص: 7
يؤكد على المقومات الأخلاقية ويعدها دواءً ناجعاً لداء الجهل، الذي تعاني منه شعوبنا الإسلامية.
ومن الخطوات العملية الأخرى: النظم واحترام الوقت والحزم في اتخاذ القرار وغيرها، فها هو أمير المؤمنين (عليه السلام) يوصي بالنظم، حيث يقول: «... ونظم أمركم»(1)، يظهر الإسلام للإنسان الناجح كنافذة كبيرة مطلّة على عالم فسيح تقل فيه الأزمات والمنغصات، عندما يشعر بكل حواسه أن لوجوده قيمة عظيمة في الحياة، وهو يتنفس ويأكل ويشرب ويعاشر، وحتى بعد موته، فهو مطمئن بأن هذه السعادة ترافقه هناك، فهل من قمة في النجاح أعلى من هذه؟!
لذا ليس أمامنا سوى أن نضع أقدامنا بكل تحدٍّ وإصرار على العقبات والعثرات، مستفيدين من قوة الإرادة وحرية الاختيار، التي وهبها لنا البارئ عزّ وجل. وهذه من أسرار الناجحين والعظماء في التاريخ، وقبلهم هي من أسرار نجاح الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تأسيس أول دولة وحضارة إنسانية معطاءة، فقد كانت البداية من مسجد لا يعلو جدرانه قامات المصلين، فيما كانت السماء سقفهم.
أما نحن اليوم فنملك ليس فقط السقف الذي يحمينا والأبنية التي نسكن فيها، وإنما إمكانات مادية وبشرية هائلة إلى جانب
ص: 8
الإرث العظيم الذي خلفه لنا الرسول الأكرم وأهل بيته (عليهم السلام) ، والقرآن الكريم. لينظر ما نحن صانعون؟!
إن هذه المحاضرات القيمة هي مساهمة فعّالة لنشر الوعي الديني والثقافة الأصيلة، لتمكين الجيل الجديد من الوصول إلى النجاح والتوفيق والتقدم.
مؤسسة الشجرة الطيبة
قم المقدسة 1440ق
ص: 9
ص: 10
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(1).
حينما يذكر القرآن الكريم قصة أو قصصاً، فإنما يذكرها للاعتبار، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ}(2)؛ لأن الفكرة المجردة قد لا يستوعبها الناس، لكنها إذا صِيغت ضمن القصة فسوف تستهوي الناس وتؤثر فيهم؛ لذا ذكر اللّه عز وجل القصص في القرآن الكريم، وأحسن القصص - حسب تعبير القرآن الكريم(3) - هي قصة يوسف (عليه السلام) ، حيث يمكن أن تكون نبراساً لنا جميعاً، فإننا نرى شخصاً كان في أشد الأزمات والمشاكل، وقد تعرّض لظلم ذوي القربى، وهو أشد أنواع الظلم، وبعد ذلك دخل السجن، وبقي فيه أعواماً: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}(4). إن يوسف (عليه السلام) تعرض لمصائب ومشاكل كبيرة، ومعكل هذا تحوّل
ص: 11
بعد ذلك إلى عزيز مصر، بيده اقتصاد الدولة لمدة طويلة.
لقد لخص اللّه عز وجل في هذه الآية الشريفة قصة يوسف (عليه السلام) ، وبيّن كيف أنه وصل (عليه السلام) إلى القمة رغم تعرضه لتلك الشدة، حيث يقول اللّه عز وجل: {وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(1).
لكي يصل الإنسان إلى القمة يحتاج إلى رضا اللّه عز وجل، ولكي يعيش حياة كريمة هانئة في الدنيا، ويجمع بينها وبين الآخرة، فإنه بحاجة إلى ثلاثة أمور:
لقد رافق الإيمان والصبر نبي اللّه يوسف (عليه السلام) طيلة فترة حياته، سواء حينما كان في قعر البئر أم في الوقت الذي أراد أخوته وغيرهم أن يقتلوه، أو عندما كان في بيت عزيز مصر، وقد بلغ مرحلة الشباب.
لقد كانت (زليخا) امرأة جميلة، لكن حينما راودته عن نفسه صبر ولم يقترف جريمة الخيانة، وقال : {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}(2)، فكان يخشى اللّه عز وجل؛ لذا رجح السجن على الحياةتحت سطوة زليخا ونساء مصر، فقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا
ص: 12
يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}(1)، ونسب الفضل كله لله عز وجل، حيث قال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَٰهِلِينَ}(2)، فدخل السجن وقاسى مصائبه، ولكنه طيلة هذه الفترة كان مع الإيمان، فقد كان بإمكانه أن يرتكب خلاف الشرع، لكنه استقام على الطريق.
قال اللّه تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(3)،
ولفظة (حفيظ) قد تستعمل صفة مشبهة، وقد تستعمل كصيغة مبالغة، والمراد بها هنا صيغة مبالغة، بمعنى كثير الحفظ، فهذا الرجل الذي تمكن في أول شبابه أن يسيطر على شهوته في ذلك الموقف العسير، ولم يرتكب خيانة عزيز مصر الذي كان يعيش في بيته، ويرجح السجن على الخيانة والكذب، فمثل هذا الرجل جدير بأن يصل إلى هذه الدرجة، بحيث يُجعل على خزائن الأرض، أي: تكون بيده كل الأمور المالية.
وبقطع النظر عن أن اللّه تعالى يوفق الإنسان الأمين في الدنيا قبل الآخرة، فإن طبيعة الحياة البشرية هي ظهور الأشخاص النبلاء، وقد تكون هناك فترة يتضرر فيها الإنسان الأمين أو يتوهم ذلك، فإذاكان قاضياً وقُدمت له رشوة فرفضها، أو مديراً في دائرة معينة
ص: 13
وعُرضت عليه مخالفة قانون معين ليحصل على مكاسب مادية، لكنه لم يفعل ذلك، فقد يتضرر تضرراً آنياً، لكن النتيجة ستكون لصالحه في الدنيا قبل الآخرة؛ لأن اللّه تعالى يقول: {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}(1)، أي: إن الإنسان إذا كان محسناً فإن اللّه لا يضيع أجره، ولا يُقصد بالآية الأجر الأخروي وإنما الأجر الدنيوي؛ لأن يوسف (عليه السلام) بعد واقعة البئر وفترة السجن وصل إلى أعلى درجة بعد المَلِك، فصار وزير المالية - إن صح التعبير - بل كان في الواقع هو الملك؛ لأن ملك مصر كان يستشيره بكل شي ويأتمر بأمره.
قال تعالى: {حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(2)، و (عليم) بمعنى أعلم كيفية الأمور؛ لأن الإيمان والأمانة وحدهما لا يكفيان، فإذا كان شخص ما أكثر الناس إيماناً إلا أنه لا يعرف فنون القتال فعندما يذهب للحرب فمن الطبيعي أنه سوف يتعرض للهزيمة، وإذا كان إيمانه بدرجة عالية واشتغل في التجارة ولا يعرف عنها شيئاً، فمن الطبيعي أنه سوف يخسر أمواله؛ لأن الإيمان شقٌ، والعلم شقٌ آخر؛ لذا يجب أن يجتمعا معاً.
إذا اجتمع الإيمان والصبر والأمانة والعلم فسوف يوجب ذلك
ص: 14
سعادة الدنيا قبل الآخرة، فيوسف (عليه السلام) كان مسجوناً ومتهماً إلا أنه تحوّل إلى سيد على الذين اتهموه وخذلوه، وألقوه في البئر وفي السجن، وهم يقفون أمامه خاضعين، فقد وقف أخوة يوسف أمامه أذلاء قائلين: {يَٰأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ}(1)، وهو مع ذلك لم يكن بصدد الانتقام منهم؛ لذا قال لهم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}(2)، أي: لا ملامة عليكم، فليس حالي أني لا أعاقبكم فحسب وإنما لا ألومكم بلساني أيضاً.
نحن نعيش عراق اليوم (البلد الواعد بالازدهار والاستقرار) فإذا أردنا أن يعيش أبناؤنا بعزٍ وكرامة، وأن نطوي الحقبة الماضية بما حملت من سجون وتعذيب وتشريد، فيجب أن نطبق الأمرين الأخيرين، أي: الأمانة، والعلم؛ لأن أكثر ما نعانيه اليوم في العراق هو عدم العلم والمعرفة، ولا يُلام الناس على ذلك؛ لأنه إذا كان أحد ما يعيش في بيئة ملوثة على الرغم عن إرادته، ودخلت الجراثيم إلى جسمه، فلا يُلام إذا تعرّض للمرض، وإذا كان أحد ما مسجوناً في زنزانة ملوثة، وأصيب بالمرض فهل يصح أن نقوله له: لماذا مرضت؟ كلا؛ لأن ذلك لم يكن باختياره؛ لذا نحن لا نلومه على ذلك، بل نبحث له عن علاج ودواء، مع أن الذين صبروا فيتلك الحقبة يرون الآن بعض الثمار.
ص: 15
لقد أُغلقت نوافذ الثقافة على العراق في الخمس والثلاثين سنة من حكم البعث، وعندما يتم إغلاق روافد الثقافة فمن الطبيعي أن تنتشر حالة عدم المعرفة وعدم العلم، فلا يُلام الشعب عليها؛ لأنها مفروضة عليه فرضاً، وإنما يجب علينا حلّ هذه المشكلة التي هي أساس كل المشاكل، وإذا حاولنا حلّها فسنصل إلى النتيجة شرط أن ندخل من الطرق الصحيحة، وبشرط الصبر أيضاً؛ لأنه جاء في الحديث الشريف: «ما أنزل اللّه تعالى من داء إلا قد أنزل معه دواء»(1)، وهذه من حكمة اللّه عز وجل، فعلينا أن نكتشف العلاج ونطبقه، وربما يستغرق ذلك سنة أو سنتين أو خمس سنوات، أو أكثر، فإن بعض الأمراض قد يستغرق علاجها سنوات، وهكذا هو علاج الجهل، وهو مرض غير اختياري إلا أنه يمكن أن يُحل، ولكنه يحتاج إلى صبر وعمل بعيداً عن أُسلوب اللوم.
فإن وقع الأمر فما فائدة اللوم؟ لكن إذا حاولنا العلاج عبر العلم، وأن يكون القائمون بالعمل أمناء، فإن المشكلة تحل تدريجياً، أما إذا أحجمنا عن التفكير في العلاج، وألقينا باللوم على الآخرين فقط، فلن نصل إلى نتيجة، بل يجب علينا أن نتحمل المسؤولية جميعاً.
قبل سنوات أقامت إحدى المجلات أو الصحف مسابقةعنوانها: (من هو المسؤول عن تخلف الأمة؟)، وقد رصدت جائزة
ص: 16
لأحسن جواب، فقال البعض: (القيادة)، وقال البعض الآخر: (العلماء)، وقال آخر: (المثقفون)، وقال بعضهم: (عامة الناس)، وقال البعض: (الحكومات)، وهكذا، لكن الذي فاز في أحسن جواب هو: (الضمائر الاثنا عشر): (هو، هما، هم، هي، هما، هن، أنتَ، أنتما، أنتم، أنتِ، أنتما، أنتنّ، أنا، نحن) فالكل هو المسؤول، وهذا تجسيد لكلام الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»(1).
والتعبير دقيق، فماذا يفعل الراعي إذا خرجت إحدى الأغنام عن القطيع أكثر من مرة؟ فهل يقول: لا بأس، أتركها وشأنها، أو لتذهب لا حاجة بي إليها؟ أم أنه في كل مرة فسوف يذهب لإعادتها حتى لو خرجت مائة مرة.
وهكذا إذا رأى أحدكم شخصاً منحرفاً عن الموازين الشرعية وأخبره بذلك مرة واثنتين وثلاث فلم يسمع منه، فلا يقول: انتهى الأمر، فقد أديت التكليف الذي بذمتي، بل يجب أن يكون كالراعي الذي يعيد الغنم حتى لو تكرر خروجها (وكلكم مسؤول)، أي: إنك تُسأل عن جارك، وعن أهل مدينتك، وعن أهل بلدك، لماذا تصرفوا بتلك الكيفية وقاموا بذلك العمل؟ فإذا كان عذرك مقبولاً فبها، ويحق لك أن تقول: لقد أديت ما عليَّ، ولكنني لم أتمكن من تحقيق الهدف المطلوب، ولكن إذا لم تقم بما عليكفسوف تكون مسؤولاً وشريكاً في ذلك العمل، فيُقال لك: إنك
ص: 17
كنت تتمكن من أن تؤثر ولو بنسبة قليلة؛ لذا فأنت مسؤول.
حينما نلاحظ أن بعض الشباب طائشون، ولا يدركون أن تصرفاتهم مضرة وغير صحيحة، فعلينا أن نحاول إعادتهم إلى رشدهم، فإن كان لأحدنا ابن طائش فهل سيطرده من بيته، أم يحاول أن يؤثر عليه ويرشده؟ وإذا قال الأب لابنه مثلاً: لا تذهب إلى بغداد لوجود مخاطر في الطريق، لكن الابن تجاهل نصيحة الأب وخالفه وذهب، وفي الطريق أصيب بطلق ناري، فهل يصح للأب أن يقول: لأن ابني عصاني فسوف أتركه نكالاً به، أم إنه يذهب به إلى المستشفى لعلاجه؟
إن الشباب هم أبناؤنا وإخواننا، ويجب علينا أن نحل مشاكلهم، ومن أهمها الجهل، فحينما ذهب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) إلى الطائف للتبليغ، أغرى كبار الطائف والملأ من القوم الأطفال والسفهاء من الناس لكي يرجموا رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالحجارة، فاجتمع الأطفال والسفهاء ورجموه، تقول الرواية: (تسيل رجلاه دما)(1)، بمعنى إنه ليس مجرد جرح واحد، وإنما سال الدم سيلاناً من ساقيه، فكان رد فعله في هذه الحالة أنه قال: «اللّهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا
ص: 18
أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لكن لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»(1).
وروي أنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللّهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»(2)، أي: إنهم جهال، وبسبب جهلهم يعملون هذا، فأسألك يا إلهي أن تهديهم. وبهذا الأسلوب يمكننا القضاء على الجهل.
إن العرب قبل الإسلام كانوا في جاهلية شديدة، ولم يكن يلتفت إليهم أحد، فالإمبراطورية الرومانية كانت في شمالهم، والإمبراطورية الفارسية في شرقهم، وهذه الإمبراطوريات ما كانت تلتفت إلى هؤلاء بالمرة؛ لأن أرضهم كانت قاحلة يسكنها شعب غير متحضّر، مشغول بالإغارة، حيث يغير بعضهم على البعض الآخر.
حتى أنه إذا لم يجد أحدهم قبيلة يغير عليها إلا أبناء عمومته فإنه كان يفعل ذلك، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصفه حال الناس قبل البعثة: «ولباس شعار الخوف، ودثار السيف»(3)، و(الشعار): هو الثوب الملتصق بجسد الإنسان، بمعنى أن الخوف كان
ص: 19
ملاصقاً لهم، فكان أحدهم يخاف أن يُغار عليه ويُقتل وتُسبى نساؤه، و (دثار السيف) بمعنى أنهم كانوا يصطحبون السيف دائماً فكأنهم يلتحفون به.
وتقول فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها: «وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون الورق(1)، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم اللّه تبارك وتعالى بمحمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بعد اللتيا والتي»(2)، فهؤلاء الذين كانوا بهذه الحالة كانت مشكلتهم الجهل، وإلا فإن الطاقات الكامنة فيهم كانت هائلة جداً، وحين جاء الإسلام أزال هذه الطبقة من الجهل، فتفجرت تلك الطاقات الهائلة، وأصبح هؤلاء روّاد الحضارة لمئات السنين، وشكلوا أهم حضارة عرفها التاريخ.
إن الكوامن تخرج إلى الواقع الخارجي من خلال تفاعل الأسباب والظروف، وإلا من كان يتصور في سالف الزمان أن الأراضي الصحراوية الجرداء في الجزيرة العربية تحوي في باطنهامليارات البراميل من النفط؟ إنها كانت بحاجة فقط إلى عملية
ص: 20
استخراج، وفعلاً عندما استخرج النفط حصلت هذه الثروة العظيمة، التي شكلت انعطافة كبيرة ومهمة.
وشعبنا الآن هو نفس الشعب، يمتلك طاقة هائلة جداً، فلو قسناه ببقية شعوب المنطقة، بل العالم، فقد لا يُضاهى من حيث الإمكانية الموجودة، لكنها محجوبة ومغيبة، ولابد من إزالة هذا الحجاب، وهذا أمر ممكن، وعندها سنرى القفزات النوعية التي ستحدث بإذن اللّه تعالى.
وحتى الشباب الطائشين لديهم إمكانية هائلة، يمكن استخراجها بالتدريج؛ وذلك بتثقيفهم وتعليمهم، بحيث يتحول هؤلاء الشباب الطائشون إلى لَبِنات في بناء حضارة المستقبل.
وقد يتصور البعض أحياناً أن هذا الأمر بعيد المنال، لكن أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في شعر منسوب له:
وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر(1)
لقد كان هتلر شخصاً واحداً لكنه حوّل العالم إلى جحيم ، مع أنه كان رجلاً فقيراً في بداية حياته، لكنه بذل الإمكانية التي كان يمتلكها في الدمار.
ولدينا أناس بالعكس من ذلك، فثمة إنسان واحد بذل مثل هذهالإمكانية في الإصلاح والتغيير، وهذا الأمر ممكن، وليس مستحيلاً،
ص: 21
لكنه يحتاج إلى عزيمة وجد وصبر واستقامة.
لقد استقام يوسف (عليه السلام) ، ولم يجعله اللّه عز وجل اعتباطاً ملكاً أو عزيز مصر من اليوم الأول، بل استقام على الجادة الصحيحة؛ لذا فحتى الأشياء والمكاسب المادية التي فقدها حصل عليها مرة أخرى، ف- (زليخا) التي كانت زوجة عزيز مصر ودعت يوسف (عليه السلام) إلى الفاحشة، فهرب منها ثم ألقته في السجن، هي نفسها قد زوجته نفسها بعدما أصبح عزيز مصر، وبعد أن مات زوجها. لقد رفض الحرام، فأتاه اللّه عز وجل نفس الشيء بالحلال، وهذا يعني أن الشيء الذي كان مكسباً آنياً فقط أتاه اللّه تعالى إياه، لكن هذا الأمر يحتاج إلى صبر واستقامة، وبقاء على الجادة الصحيحة.
بعد الإشارة لأهمية الثقافة والأمانة في طريق نجاح المجتمع، هناك شيء مهم آخر وهو: إن هناك بعض الدعوات التي تطلق، منها: ما يدعو إلى عدم إقدام المؤمنين على التوظّف في الوظائف الحكومية وغيرها، لكننا نعتبر هذه الدعوات غير صحيحة، بل لابد أن نشغل هكذا وظائف؛ لأن الإنسان المناسب إذا لم يشغل هذه الوظائف فلن تبقى شاغرة، وإنما سيملؤها أناس آخرون، لكن في نفس الوقت نحتاج إلى الإنسان الكفوء، وأن تتوفر فيه صفتي (الحفيظ والعليم).
لقد كان المَلِك في عهد نبي اللّه يوسف كافراً، فجاء يوسف (عليه السلام) وصار وزير المالية له، ولكن كان حفيظاً عليماً، بمعنىأنه بقي على الجادة المستقيمة، وقد ورد في الحديث الشريف:
ص: 22
«كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان»(1)، فإذا تحققت مسألة الثقافة والصبر فإن اللّه عز وجل ينزل النصر، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) واصفاً حال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والذين كانوا معه: «ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما، أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منّا، فلما رأى اللّه صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه، ومتبوئاً أوطانه»(2)، أي: عندما وجدنا أناساً نستحق النصر بصبرنا أنزله علينا.
إننا نرى أن رجال الدين ينبغي أن لا يدخلوا في الجهاز التنفيذي؛ لأن العمل في هذا المجال ينطوي على أخطاء، هذا أولاً، وثانياً: إن بعض الناس لا يرضون حتى لو عمل الإنسان بإخلاص 100%، قال اللّه سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَٰتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}(3).
فينبغي أن لا يدخل المعممون في الجهاز التنفيذي، وهذا يكون أفضل لهم، وحفاظاً على قدسية العمامة، كون الشخص المعمميمثل الدين، وكثير من الناس لا يميزون، فيقولون: إن الدين كله
ص: 23
خطأ.
بل عليهم أن يقوموا بدور الإشراف والتوجيه والرقابة ويتركوا الأمور التنفيذية إلى المؤمنين المخلصين أهل الاختصاص.
ص: 24
كان المسجد في عهد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) محل إدارة العباد والبلاد، فقد كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يخطب فيه، ليس يوم الجمعة فقط، بل في كل يوم وعقب كل صلاة.
ثم إن المسجد كان مكان اجتماع المسلمين وجلوسهم وتبادل الحديث، وكان أيضاً لاستقبال الوفود التي كانت تفد إلى المدينة المنورة، سواء كانوا ممن يريدون الإسلام، أم من وفود النصارى الذين يأتون لأغراض مختلفة، منها: قصة المباهلة التي حصلت بين علماء النصارى وبين الرسول الأكرم وأهل بيته (عليهم السلام) (1)،أو اللقاءات
ص: 25
التي كانت تتم مع اليهود والنصارى والمشركين وغيرهم، كلها كانت تتم في المسجد، حيث يتواجد فيه الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والمسلمون. من هنا فإنه يمكن للمسجد أن يقوم بدور كبير جداً في هداية الناس.
نواجه اليوم مشكلة عدم معرفة المسلمين بالإسلام، وخاصة في المناطق النائية، التي تعرضت للإهمال من عدة جهات، الأمر الذي جعل الحرمان والتخلف وفقدان الوعي وعدم الثقافة منتشراً بشكل كبير، ولكن يتوجب على مَن يتصدّى للعمل الثقافي الالتفات إلى بعض الأمور؛ لأن اللّه عز وجل وضع في الإنسان طاقة كبيرة وعليه أن يفجرها، وإذا لم يفعل ذلك فسوف تبقى معطلة إلى أن يتوفاه اللّه، ومثال ذلك المعادن، فالنفط - مثلاً - كان موجوداً في باطن الأرض منذ ملايين السنين، لكن لم يكن أحد يستفيد منه، والسبب هو جهل الإنسان بوجوده بالأساس، أما الآن فنلاحظ أن فوائده كثيرة، وهكذا الشباب طاقة كبيرة يجب استثمارها، وإلا سيذهب الشاب إلى العالم الآخر، وتذهب معه طاقته.
إن الإنسان يعيش أياماً معدودة، وإذا بقي منتظراً حتى تأتيه الظروف الملائمة فلن يحقق شيئاً؛ لأن الناجحين على مرّ التاريخ هم أناس عاشوا ظروفاً غير طبيعية، لكنهم عملوا وأبدعوا وتحدوا تلك الظروف؛ لأن إرادة الإنسان أقوى من الظروف، وتمكنوا من التأثير فيها بالصبر والمثابرة.
لقد كان المسلمون في بدء هجرة الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) فقراء
ص: 26
جداً، وخاصة المهاجرين منهم، فقد تركوا بيوتهم وأموالهم وتجارتهم في مكة، وقد كان هنالك أناس يدخلون في الإسلام ويتركون بيوتهم ويأتون إلى المدينة، وقد خصص الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في تلك الفترة مكاناً بجنب المسجد ورفع أرضيته قليلاً، لكي ينزلق عليه ماء المطر عند هطوله، وسُمّي ذلك المكان ب- (الصُفة)(1)، فكانت الشمس تؤذي هؤلاء المسلمين في النهار، وقد كانوا في الليل يتعرضون لبرودة الجو، وعند هطول الأمطار تغمرهم المياه، هكذا كان وضع هؤلاء، وكان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يعطيهم من الصدقات.
يتصور البعض أن مسجد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأول كان له سقف! وهذه معلومة غير صحيحة، فالمسجد كان عبارة عن حائط بمقدار قامة إنسان، أي: بطول متر ونصف تقريباً، ومن دون سقف؛ لأنهم كانوا فقراء، ولكن هذا المسجد الصغير وأصحاب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بما فيهم أصحاب الصُفة الذين كانوا حوالي ثلاثمائة شخص تمكنوا من تغيير وجه التاريخ.
صحيح أن ظروفهم كانت صعبة، لكن عندما تكون الإرادة قوية والإنسان مخلصاً، فإنه سيحظى بالتسديد والتوفيق الإلهي، ثم يتمكن من التقدم والتطور إلى أبعد حد.
ص: 27
ليس من الضروري أن تكون البرامج التثقيفية في الحسينيات فقط، فبالإمكان الاستفادة من المساجد الموجودة، وإن لم توجد فيمكن أن يتم البرنامج التثقيفي في ساحة مفتوحة، أو في أي مكان للتجمع، فإن اللّه عز وجل يوفق مَن يسعى إلى النجاح، وعسى ولعل أن يكون هؤلاء الشباب من المؤثرين في المستقبل على مستوى العالم، لكن الأمر يحتاج إلى بعض المقومات:
منها: تأدية الواجبات، كالصلاة الواجبة، والتزام القواعد والقيم الأخلاقية.
ومنها: احترام الوالدين وعدم إيذائهم بكلمة جارحة أو تصرف غير لائق، يقول اللّه تعالى في كتابه الحكيم: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفّٖ وَلَا تَنْهَرْهُمَا}(1)، أي: حتى هذه الكلمة البسيطة ينبغي أن لا ينطق بها الابن تجاه والديه.
كما يتعين على الشاب والفتى خلال العام الدراسي أن يصب اهتمامه على الدراسة والتعليم، ويكون طالباً مجدّاً، وإذا طلب الأستاذ منه واجبات أو تمارين فيجب عليه أن يقوم بها بجدٍ؛ لأن اللّه تعالى يوفق الإنسان المجد، وعليه أن يكون مستمعاً جيداً وحافظاً أيضاً، ثم يطبق ما يفهمه على صعيد الواقع، فإذا قال المعلم - مثلاً - إن أخلاق رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كانت حسنة فيجب أن يكون هو كذلك، وإذا قال: إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يرفق بالحيوان، فعليه أن
ص: 28
يرفق بالحيوان أيضاً(1).
وعلى صعيد تعلّم القرآن الكريم يتعين بذل المساعي الكبيرة لتعليم الأولاد قراءة القرآن، وينبغي أن يكون مع ذلك بيان معاني الألفاظ ليكون ذلك مقدمة للعمل به.
إن اللّه تعالى يوفق الإنسان إذا كان صادقاً حتى وإن كانت إمكاناته بسيطة، فإذا كانت هناك مشاكل فلابد أن يصبر الإنسان عليها، ومنها: المشكلة المالية، فهنالك بعض الناس يُصاب بالحيرة إزاء هذه المشكلة ولا يعرف كيف يتصرف، لكن الإنسان الصبور والمتحدي للمشاكل والصادق يحظى بنصر اللّه تعالى، كما حَظي
ص: 29
رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالنصر الإلهي مع قلة إمكانياته المادية؛ لأنه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) طبق ما أراده اللّه، وكذلك فعل الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، فهذا هو طريق النجاح.
نقل والدي (رحمه اللّه) أن عالماً كان يسكن مدينة عبادان اسمه الشيخ عبد الرسول القائمي (رحمه اللّه) ، وقد بنى هذا الشيخ لوحده أكثر من ثلاثمائة مؤسسة في مختلف الأماكن، ولم يكن هذا الإنسان ذا إمكانات مالية كبيرة، كما لم تكن ظروفه مواتية، وإنما كانت إرادته قوية؛ لذا وفقه اللّه تعالى لهذا العدد من المؤسسات مع أنه شخص واحد.
ص: 30
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}(1).
إذا أراد الإنسان أن يعيش بعيداً عن المشاكل ويكون مرتاح البال، ويستثمر أكبر قدر ممكن من وقته فعليه بالنظم، فذلك يُعدّ من أهم خطوات النجاح في الحياة، التي تبعدنا عن المشاكل أيضاً.
فقد جاء في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) : «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى اللّه ونظم أمركم...»(2)، ومن المعلوم أن الإنسان عندما يترك وصية قبل موته فإنه يذكر أهم الأمور، فكان النظم من أبرز الأمور التي ركز الإمام (عليه السلام) عليها في أواخر ساعات حياته الشريفة، وإن عبارة (ونظم أمركم) تعني أحفظوا ما يتعلق بكم عبر تنظيم أمركم.
لو قرأنا حياة الناجحين نجد أن أهم أسباب نجاحهم هو التخطيط والبرمجة، لذلك يُقال في عالم اليوم: إن أهم وزارة في بعض البلدان هي وزارة التخطيط، التي تأخذ على عاتقها تنظيم
ص: 31
البرامج الحكومية؛ لذا توجد في بعض البلدان مؤسسات تخطيط أو وزارة، ولعل سبب التخلف في كثير من الدول هو غياب التخطيط، فقد نجد أن بعض الدول تخصص ميزانيات ضخمة لإنجاز بعض المشاريع، فلا توجد مشكلة من ناحية توفير الأموال، لكن نلاحظ البطء أو التعثر في إنجاز العمل، أو أن يكلف المشروع أكثر مما رُصد له، والسبب هو ضعف التخطيط الذي يؤدي إلى الفوضى، التي تقتل الوقت والأعصاب والإمكانات؛ لذا فعلى الشخص الذي يريد أن يستفيد من وقته أن ينظمه، وقد جاء في المثل: (إن تنظيم الوقت توسيعه). ففي بعض الأحيان يجد الإنسان نفسه مشغولاً جداً بحيث يراه الآخرون في همّ وانشغال بسبب بعض الأمور، لكنه في واقع الأمر لو نظم وقته وأموره لوجد متسعاً من الوقت.
هناك بعض الناس يقومون بأعمال كبيرة ومهمة جداً، ومع ذلك يملكون متسعاً من الوقت، ربما يُصرَف في العبادة أو في أمور شخصية أخرى، وربما نلاحظ أحدهم ليس مشغولاً بأعمال تُذكر، ومع ذلك ليست لديه فرصة للقيام ببعض أوليات حياته؛ لأنه لم ينظم وقته.
فإذا نظم الإنسان وقته في المجال الشخصي والأسري والاجتماعي أو في حلقة أوسع، فسوف يجد متسعاً من الوقت، وفرصاً للنجاح أكثر والوصول إلى النتائج المرجوة.
كان الأخ السيد محمد رضا (رحمه اللّه) يحمل معه باستمرار ورقة في جيبه، وبين يوم وآخر يغيّر تلك الورقة، فأي عمل كان يريد القيام
ص: 32
به يدونه فيها، ابتداءً من موعد الزيارة وحتى الأمور الجزئية، بمعنى أنه لم يشأ أن يشغل غيره بطلبها، وهذا دليل على تخطيطه الكامل وباستمرار؛ لذا ومع قيامه بأعمال كثيرة جداً إلا أنه كان يجد متسعاً من الوقت، وخاصة في أوقات الطوارئ، فكان يستفيد من كل لحظة في حياته.
إن هذا التنظيم للوقت ليس بالضرورة أن يختص بالعلماء الكبار، بل أي إنسان عادي بإمكانه تنظيم وقته، رجلاً كان أو امرأة، أو طالب في المدرسة أو غيره من أفراد المجتمع، حينئذٍ يتضح للجميع حجم الفائدة التي يجنونها من الوقت المتاح أمامهم.
وينسحب هذا أيضاً على الحياة الأسرية، فالزوج والزوجة والأولاد أو الأقرباء عليهم تنظيم أوقاتهم، لكي لا تحدث مشاكل حتى في الأمور الجزئية. فإذا كانت حياة الإنسان مبنية على النظام والبرمجة - حتى في الأمور الجزئية - فإنه لن يواجه المشاكل، أو أنها تنحسر وتقل، وسوف يستفيد من وقته أكثر، ويُخرج نفسه من الحيرة القاتلة، فإذا قام الزوجان بتنظيم برنامج لحياتهما اليومي والأسبوعي والشهري والسنوي - سواء في الأمور الصغيرة أم الكبيرة المهمة - فإنهما سيصلان إلى نتائج أفضل ومشاكل أقل، وتكون الاستفادة من الوقت أحسن.
عندما نراجع الأحكام الشرعية نجد أن قسماً كبيراً منها قد أخذ فيه النظام بنظر الاعتبار؛ لأن الإنسان إذا اعتاد على شيء، حتى لو
ص: 33
تم ذلك في مجال واحد، فإنه سوف يسري إلى جوانب حياته كلها؛ وذلك لكي تنتظم حياتنا، فالصلاة لها وقت معين وأفضل الوقت أوله(1)، ومن فوائدها - عدا الجانب الغيبي - أن وقت الإنسان يكون منظماً؛ لذا فمن يؤدي صلاته في أول الوقت تكون سهلة جداً عليه، أما إذا أخّرها - وهو رجل متدين - فسوف يبقى باله مشغولاً، فقد يحدث مانع من أدائها، أو ربما ينساها، وهكذا يبقى فكره مشغولاً بالأمر، وهذا الانشغال قد ينسيه أموراً أخرى؛ لذا جاء في بعض الأحاديث: «يا بني، إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء، صلها واسترح منها فإنها دَين»(2)، بمعنى أنك إذا أديت صلاتك في أول الوقت فإن فكرك وعقلك ووجدانك سيكون في راحة؛ لأنك أديت ما أمرك اللّه به، فلا النفس اللوامة تلومك، ويكون فكرك في راحة؛ وذلك لأنك مطالب بديْن يجب عليك أن تؤديه، فأداؤه أسرع راحة للبال.
إضافة إلى هذه الجوانب ينبغي أن تكون صلاة الجماعة فيصفوف منظمة وبلا اعوجاج، كذلك الصوم وسائر العبادات التي
ص: 34
تعلّم الإنسان التنظيم في حياته، فلا يتعرض لمواقف عصبية، فاللّه سبحانه وتعالى في سورة الصف يبيّن المشاكل التي ابتلي بها الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع المسلمين وكيفية التعامل معهم، كما كان هذا هو حال بعض الأنبياء كموسى وعيسى (عليهما السلام) ، وفي هذه السورة بعض الحلول أيضاً. ومن ذلك أن اللّه تعالى: {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَٰنٌ مَّرْصُوصٌ}، فماذا تريد أن تقول هذه الآية الكريمة؟ فهل على الإنسان أن يقف في القتال بصفٍ واحدٍ في جميع الظروف؟ كلا؛ لأن القتال يحتاج إلى مناورة وتقدم وتأخر، {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ}(1)، وخاصة في العصر الراهن حيث تقتضي وسائل الفتك والقتل والأسلحة أن تكون هناك دفاعات محصنة وتخطيط عسكري ذكي.
فالغرض من هذه الآية الكريمة أن ينظم المسلمون أمورهم في سوح القتال - ويمكن أن يستفاد من ذلك في غير القتال أيضاً - ليكون النجاح والفلاح والفوز حليفهم، وأن اللّه سبحانه وتعالى يحبهم لهذا السبب، وليس بالمفهوم اللفظي فحسب.
إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان يستعرض المقاتلين، فإذا كان أحدهم متقدماً أو متأخراً في الصف أرجعه إلى مكانه، لكي يعلمهم النظاموالتخطيط السليم، ليكون النصر حليفهم.
ص: 35
إن اللّه سبحانه وتعالى يقول: {كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَۢ بِإِذْنِ اللَّهِ}(1)، وقد يسأل أحدهم فيقول: إن نفوس الكيان الصهيوني الغاصب هو خمسة ملايين نسمة، بينما يبلغ عدد المسلمين ما يقرب من ملياري مسلم، وقد مضى على اغتصاب فلسطين ستون سنة، فما هو السبب وراء ذلك مع أن الآية الكريمة تقول: إن المجموعة القليلة الصابرة تغلب الجماعة الكثيرة؟
والجواب: هو ما بينه اللّه تعالى في نفس الآية الكريمة، حيث يقول: {بِإِذْنِ اللَّهِ}، بمعنى أننا إذا سرنا على منهج اللّه تعالى فسوف نحصل حينئذٍ على النتائج الإيجابية، كما حدث في غزوة (بدر)، حيث انتصر ثلاثمائة وثلاثة عشر شخصاً من المسلمين على ألف من المشركين، مع أن سلاح المشركين كان أكثر من سلاح المسلمين، لأن تعالى كان ناصراً وداعماً للمسلمين بسبب إيمانهم وإطاعتهم للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في خططه الحربيّة.
وأما في غزوة (أحد) فقد كان عدد المسلمين وعدتهم أحسن مما كان في غزوة بدر، لكن قُتل من المسلمين سبعون شخصاً، وانهزم الآخرون وتركوا الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وحده في الميدان إلا القليل ممن بقي معه، لكن لماذا حدث هذا؟ والجواب: لأنهم في (أحد) لم يلتزموا بأمر الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) حينما قال لهم: احفظوا
ص: 36
الثغر فلم يحفظوه(1) ولأن اللّه أمرهم بالثبات فلم يثبتوا إلاّ القليل، لهذا السبب لم ينزل اللّه تعالى عليهم النصر.
وقد يسأل أحدهم فيقول: كيف سيطر البعثيون على العراق بانقلابهم العسكري، مع أنهم حين سيطرتهم كانوا حوالي الخمسمائة شخص فقط، وقد حكموا العراق أكثر من ثلاثين سنة، وأهلكوا الحرث والنسل وفعلوا ما فعلوا، مع أنه يوجد هناك ملايين المتدينين، ومع ذلك تغلب البعثيون عليهم؟
والجواب واضح، فهؤلاء الخمسمائة شخص كانوا منظّمين؛ لذلك غلبوا الملايين من غير المنظمين؛ لذا يجب علينا أن نعمل بشكل منظّم، وضمن مؤسسات يرتبط بعضها بالبعض الآخر.
ص: 37
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَٰدُ}(1).
هناك معادلتان تحكمان حياة الإنسان: المعادلة الظاهرية والمعادلة الغيبية. وهناك أسباب ظاهرية وأخرى واقعية، وقد أمرنا اللّه سبحانه وتعالى أن نسلك الأسباب الظاهرية في حياتنا، وأما الواقعية الغيبية فهي خارجة عن قدرتنا ومرتبطة بمعادلة أخرى.
مثال ذلك: إن من يريد أن يسافر بسيارته يجب عليه أن يراعي جميع أسباب السلامة، وأن لا يكون هناك خلل أو عطل في سيارته، أو ما يُخشى منه، وأن لا يكون في حالة تعب شديد، ومن أسباب السلامة: ربط حزام الأمان الذي يقلل نسبة الخطر، وهكذا فإن كثيراً من الناس يراعون جميع هذه الاحتياطات، ولكن مع ذلك قد تقع حوادث السير، وفي كثير من الأحيان يُقال: إن أحد السائقين هو السبب في الحادث دون الآخر، فهل كان لدى الأول شيء ضد الثاني؟ كلا، بل الذي لم يراعِ تلك الاحتياطات، أو لعله
ص: 38
كان متعباً، وفي لحظة غلبه النعاس والنوم فاصطدمت سيارته بالسيارة الأخرى؟ فالأول قد راعى جميع الأسباب الظاهرية ومع ذلك حدثت له هذه الحادثة؛ لأن هناك أسباباً خارجة عن إرادة الإنسان، وهي أمور لا يتمكن من التحكم بها، كذلك لو هبّت عاصفة وهددت الطائرة، فهل على الراكب من الأمر شيء قد مع أنه قد راعى جميع أسباب السلامة؟
من هنا نجد في الآيات القرآنية توصية وأمر بالتوكل، قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(1)، وهذا ليس بمعنى (التواكل) عبر ترك الأسباب الظاهرية، فذلك أمر مذموم، وإنما التوكل يعني أن يعمل الإنسان ما عليه، ويترك الأمور الخارجة عن طاقته وقدراته إلى اللّه سبحانه وتعالى، فإذا أوكلها إلى اللّه فإنه تعالى يُهيئ له الأسباب الواقعية والغيبية.
إن الغيب مهيمن على الشهود، بمعنى أن الأسباب الظاهرية بيد الإنسان، ولكن الأسباب الواقعية مهيمنة على الأسباب الظاهرية؛ لذا نلاحظ في كثير من الأحيان أن الإنسان يراعي الأسباب الظاهرية ولا يصل إلى نتيجة؛ لأن الأسباب الواقعية لم تتوفر له. ومثال ذلك: طلب الرزق، فهنالك بعض الناس يعملون ويجهدون في طلب الرزق ليل نهار، ولكن مع ذلك نجدهم صفر اليدين، بينما نجد أناساً آخرين يعملون بجهد أقل ويربحون كثيراً؛ لأن الرزق بيد اللّه:
ص: 39
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}(1)، وهذا لا يعني أن يكون الإنسان اتكالياً ويجلس في داره، ويكتفي بالدعاء، أو لا يدرس الإنسان ولا يذهب للجامعة أو للحوزة، ولا يطالع ثم يتوقع أن يفيض اللّه عليه العلم، فهذا تواكل، وهو خلاف سنة اللّه في الحياة.
إن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ساروا وفق الأسباب الظاهرية الطبيعية، فعندما أراد المشركون قتل رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) خرج من مكة، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَٰكِرِينَ}(2)، وهكذا كان موسى (عليه السلام) ، حيث يقول: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ}(3)، و {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}(4)، أي: هاجر.
وفي المدينة المنورة هيّأ الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) الأسباب الظاهرية لمعركة (بدر) فخرج (صلی اللّه عليه وآله وسلم) مع أصحابه وأنصاره، ومعهم العدد والعدة، وهكذا الحال في معركة (أحد)، ففي (بدر) عمل المسلمون بما قاله رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ولم يكن باستطاعتهم القيام بأكثر من ذلك؛ نظراً لعددهم القليل، حيث كان (ثلاثمائة وثلاثة عشر) شخصاً، وأكثرهم راجلين، إضافة إلى قلّة سلاحهم، لكنهم عملوا ما عليهم، ثم هيّأ اللّه تعالى الأسباب فأرسل ملائكة لكي
ص: 40
ينصروا المسلمين.
بينما في غزوة (أحد) خالف أكثر المسلمين أمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، حيث أمر بالسبب الظاهري، وهو إبقاء خمسين شخصاً على الجبل ليحموا الجبهة الخلفية، حيث قال لهم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : لا تتركوا هذا الموضع، سواء انتصرنا أو انكسرنا...، ولكن هؤلاء تركوا السبب الظاهري وخالفوا أمر رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما أمر الباقين بالثبات لكن فرّ أكثرهم، فلذلك لمّا تركوا السبب الظاهري لم يرسل اللّه ملائكته لنصرتهم، فقُتل من المسلمين أكثر من سبعين شخصاً، وجرح رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وشجّت جبهته المباركة وكُسرت رباعيته - أحد أسنانه - بحجر(1)، والسبب هو مخالفة المسلمين الأسباب الظاهرية.
إذن، فاللّه تعالى يهيئ الإمداد الغيبي عندما يعمل الإنسان بالظاهر، حتى إذا لحق به الأذى والضرر، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَٰلَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}(2)، وهذا يرتبط بالدنيا بمعنى أن الذي عمل سيكافأ في الدنيا قبل الآخرة؛ لأن تتمة الآية: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}(3)، فالذي استشهد في سبيل اللّه تعالى فقد أدى ما عليه من الأسباب الظاهرية، واللّه تعالى يكملها بالأسباب الغيبية، بينما يكون الخسران
ص: 41
عاقبةالكافرين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَٰلَهُمْ}(1).
إن بني أمية ساروا وفق جميع الأسباب الظاهرية فحكموا وملكوا، لكن اللّه تعالى أضلّ عملهم، فالسبب الغيبي قضى على جميع الأسباب الظاهرية التي هيّؤوها، وصاروا لعنة في الدنيا قبل الآخرة، بينما تمسّك أمير المؤمنين (عليه السلام) بما أراده اللّه سبحانه وتعالى.
صحيح أن المُلك لأيام معدودة كان بيد بني أمية بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) ، لكن اللّه عز وجل نصر أمير المؤمنين (عليه السلام) في الدنيا قبل الآخرة بالأسباب الغيبية، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا}(2).
التقى أحد العلماء في بلاد فارس ذات مرة برئيس وزراء البلاط القاجاري، والذي كان يُطلق عليه في ذلك الزمان ب- (الصدر الأعظم)، وبعد اللقاء أهدى العالم لرئيس الوزراء رسالة فيها عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، ليطبقه ويمارس من خلاله الحكم بالشكل الصحيح، وهو من أفضل وأحسن الكتب التي يتضمنها (نهج البلاغة)(3).
وفي الحال أخذ رئيس الوزراء الرسالة وقبلها ووضعها على عينيه، ولما أراد العالم الانصراف طلب منه رئيس الوزراء البقاء
ص: 42
وقال له: انتظر، لي معك بعض الحديث، وبعد أن انفضّ المجلسأخذ رئيس الوزراء بيد العالم وادخله إلى داخل الدار، ثم أخرج منها الخدم وغيرهم، ولما بقيا وحدهما، التفت (الصدر الأعظم) إلى عالم الدين وقال: ما هذا العهد الذي أحضرته لي؟! لقد عاش علي بن أبي طالب في زمان ساد الاضطرابات والحروب وقد تراجعت الأمصار عن سلطته، فقد استحوذ معاوية على مصر واليمن ومكة والمدينة، وارتكب المجازر هناك، وأردف بالقول: هل تريد أن أعمل بهذه الوصايا ليضطرب ملكي.
فأجابه عالم الدين قائلاً: إن علياً (عليه السلام) حكم بحكم يرضي اللّه تعالى، فهيّأ له اللّه تعالى الأسباب، فبعد انقضاء حكومته الظاهرية فإن الناس والأجيال تذكره بالخير وتتقرب إليه. ثم أوضح عالم الدين لذلك السياسي ثلاثة فوارق بين مآل حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين مآل الحكام الآخرين:
الفرق الأول: إن الملوك إذا زال ملكهم يُخفي أحفادهم نسبهم، لكن أحفاد علي بن أبي طالب (عليه السلام) يفتخرون بانتسابهم إليه، وبكيفية حكمه للناس، وإذا وجد في مكان ما شخص من ذرية علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإن الناس يبدون له التبجيل والاحترام.
لكنك اليوم لا تجد مَن يفتخر أنه من ذرية بني أمية ويعلن ذلك صراحة(1).
ص: 43
الفرق الثاني: إن الملوك وبعد زوال حكمهم لا يبقى لهم قبر ومزار يأمّه الناس، وإذا ذهب الناس لقبورهم فذلك يكون للاعتبار.
بينما إذا ذهبنا لقبر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فسوف نجده روضة من رياض الجنة، وذلك بسبب كيفية حكمه، وهذا ليس مختصاً بقبره (عليه السلام) ، وإنما يشمل كل من انتسب إليه ولو بعشرين واسطة، فهم الآن مكرمون ويأمُّ الناس قبورهم لما أكرمهم اللّه تعالى بالجاه والشفاعة عنده، فيتوسل الناس عندهم إلى اللّه لقضاء حوائجهم، ويُطلق عليهم في بعض البلدان (إمام زاده)، بمعنى أولاد الأئمة (عليهم السلام) .
الفرق الثالث: عندما يسقط الحاكم الظالم من كرسي الحكم يسترجع الناس أنفاسهم، ويأخذون راحتهم في شتمه ولعنه(1).
ص: 44
ثم يردف عالم الدين لذلك الحاكم بالقول: إن الحاكم الذي يخاف الناس سطوته سيشعر الناس بالراحة بمجرد زوال حكمه، لكن علي بن أبي طالب (عليه السلام) مرّ على استشهاده الآن أكثر من ألف عام، وأنت رئيس الوزراء لا تتجرأ أن تتكلم ضده في مجلس عام، وإنما تأتي بي إلى غرفة خاصة لا يوجد فيها أحد وتتكلم معي عنه بهذا الشكل؛ وذلك لأن حكمه كان بما يرضي اللّه عز وجل، صحيح أنه واجه المشاكل لكن اللّه نصره، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَٰدُ}(1).
من هنا علينا أن نهيئ الأسباب الظاهرية، وعندما يرى اللّه عز وجل صدقنا فإنه يهيئ الأسباب الغيبية في الدنيا قبل الآخرة، وإذا اعترضتنا مشاكل في الحياة فهي موجودة للجميع، سواء الفقراء منهم أم الأغنياء أم الحكام أم المحكومين، فالحياة لا تخلو من مشكلة، فالمشاكل والابتلاءات تعم الجميع، سواء المؤمن أم
ص: 45
الكافر، والحياة دار بلاء وامتحان وافتتان، واللّه تعالى يبتلي عباده المؤمنين وغيرهم، مع الفارق في نوع المشكلة.
فالمشكلة لدى الفقير هي العوز المالي، لكنها عند الثري القلق الدائم، فقد لا يلتذ بحياته لأنه يعيش دائماً هاجس الخسارة في أسواق البورصة وغيرها، وقد أصيب العديد من الأشخاص بسكتة قلبية، أو أصيب بعضهم بصدمة نفسية، بسبب انخفاض الأسعار وارتفاعها.
إذن، لا يقول أحدنا: إن الابتلاء والمشاكل تقع على المؤمنين فقط، فحتى الحكام ابتلوا بالتنافس على السلطة، فعندما سيطر بنو العباس وأقاموا حكمهم على أنقاض الدولة الأموية، قاموا بإبادة جماعية ضد الأمويين. وقد أُطلق على أحد الحكام العباسيين ب- (السفاح)(1)؛
لأنه جمع المئات من كبار بني أمية ثم أمر بضرب أعناقهم، وأمر أن تمد فوق أجسادهم مائدة، ودعا جماعته لتناول الطعام على تلك الأجساد وهي تضطرب تحت المائدة! بل ونبشوا قبورهم وأحرقوا جثثهم.
إننا اليوم في زمان انحصر فيه التديّن بالصلاة والصوم والذهاب للحج، علماً أن العبادة جزء مهم من الدين، والمعاملة - سواء في
ص: 46
التجارة أم في العلاقات الاجتماعية - هي الجزء الآخر منه، فقد جاء في الحديث: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(1)، فالركوع والسجود ربما تكون عملية معتاد عليها، لكن السؤال: هل يتورع هذا المصلي عن الغش مع الناس؟
إن الأخلاق جزء من الدين، كذلك الأمور الاجتماعية، وإلا فلماذا ينتشر الطلاق في مجتمعاتنا، وهو أبغض الحلال إلى اللّه سبحانه وتعالى؟
إن قسماً منه يعود إلى عدم الانسجام الواقعي بين الزوجين، وهذا يحدث طول الدهر، لكنَّ قسماً كبيراً منه يعود إلى ابتعاد المجتمع عن الدين، والنظام الاجتماعي في الإسلام، بل نلاحظ أن كثيراً من المتدينين الذين يؤدون الصلاة والصيام ويحجون، لكنهم بعيدون عن الدين في المسائل الاجتماعية، فقد انحصر الدين عندهم في بعض العبادات.
والسؤال المطروح اليوم هو: لماذا كثرت العوانس في البلاد الإسلامية؟
سمعت الوالد (رحمه اللّه) يقول: إذا جمعتم الأدعية المروية عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) وإلى زمن الغيبة الكبرى - أي: خلال 320
ص: 47
سنة تقريباً - فسوف تكون أكثر من اثني عشر مجلداً، وهذه الكتب تضم أدعية لمختلف المشاكل والحاجات، لكن لا تجدون إلّا دعاءً واحداً للزواج فقط، والسبب هو أن هذه الحاجة لم تكن موجودة بالأساس، وإذا كان كذلك فما الذي يدفع الإنسان أن يدعو اللّه لحل مشكلة غير موجودة؟!
والسبب في عدم وجود مشكلة باسم الزواج خلال زمن المعصومين (عليهم السلام) هي أن النظام الاجتماعي الإسلامي كان حاكماً في المجتمع، فقد كان الناس ملتزمين بالحديث الشريف: «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه»(1)، ولم تكن هذه التوقعات الكثيرة، لكن الآن في غالب مجتمعاتنا الإسلامية لا نجد النظام الإسلامي سائداً، ومع ذلك فنحن ندعو اللّه تعالى أن يهيئ لنا الأسباب...!
جاء في حديث شريف عن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أنه قال: «لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليسلطن اللّه شراركم على خياركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم»(2).
فنحن ندعو اللّه أن يخلصنا من هذا الظالم! لكن لا استجابة؛ لأننا لم نؤدِ ما علينا من المسؤولية، فلقد شرّع اللّه تعالى لنا نظاماً لكن لم نطبّقه، وقد بيّن لنا
ص: 48
الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) الأحكام، لكن لم نتبع الطريق.
فعندما نتبع الطريق الظاهري والسبب العادي الطبيعي، فإن اللّه تعالى سيهيئ لنا الأسباب الواقعية.
إن النظام الاجتماعي الإسلامي يجب أن يكون حاكماً في المجتمع الإسلامي، واللازم أن يقوم كل إنسان بواجبه، فأنا لن أحاسب على أعمال الناس يوم القيامة، وإنما كل إنسان مسؤول عن أعماله، وعندما يؤدي كل واحد منّا ما عليه من الالتزام بالدين والأخلاق فسيعمّ المجتمع المنهج الإلهي وحينذاك فإن اللّه تعالى سيهيئ الأسباب الغيبية لنصرة أوليائه المؤمنين.
ص: 49
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَٰجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَٰجَوْاْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَٰجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(1).
إن المحرك الأساسي لحياة الإنسان هو فكره وقناعته، فعملية التفكير والقناعة هي التي تحمل إنساناً ليقوم بزيارة هذا الإمام المعصوم (عليه السلام) أو ذاك المزار المقدس، وهي نفسها التي تحمل آخرين للذهاب إلى أماكن ربما تجلب له المعصية.
فالقناعة هي فكر يدور في ذهن الإنسان ثم يستقر على حالة معينة؛ لذا نجد في الآيات الكريمة والروايات الشريفة والأحكام الشرعية تأكيداً على الفكر وما يتعلق به، فنجد في القرآن الكريم كلمة (يتفكرون) قد تكررت كثيراً، وكذلك في الروايات(2)، كما
ص: 50
جاء في وصف أبي ذر (رضوان اللّه تعالى عليه) : «كان أكثر عبادة أبي ذر - رحمة اللّه عليه - خصلتين: التفكر والاعتبار»(1)، مع أن أبا ذر كان له الكثير من الأعمال والعبادات، من صومه وصلاته وجهاده في ذات اللّه سبحانه وتعالى، حتى مات جوعاً في طريق هذا الجهاد. ولكن أكثر عبادته كانت عبارة عن التفكّر؛ لأن مواقف أبي ذر - رضوان اللّه تعالى عليه - كانت ناشئة من قناعته وفكره، ولولا القناعة والفكر لما قام بما قام به.
جاء في بعض الأحاديث الشريفة أن: «نية المؤمن خير من عمله»(2)، والنية تختلف عن التمني، فالنية تعني القصد، أي: إن الإنسان يفكر في أمر ما ثم يقصده، ف- (نية المؤمن خير من عمله) لأنها سبب القيام بالعمل، وهي تعطيه اللون، فما الفرق بين الإنسان الذي يصلي لله سبحانه وتعالى والذي يصلي رياءً؟!
هناك احتمال أن مَن يصلي رياءً تكون صلاته في الظاهر أفضل
ص: 51
وأجمل، وأكثر تأثيراً في الناس الذين ينظرون إلى ظاهر الأمور، لكن سوف تتحول صلاة هذا المرائي إلى ويل، وهو بئر في نار جهنم، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}(1)، بينما تتحوّل صلاة صاحب النية الصحيحة إلى تقرّب لله سبحانه وتعالى، وتتحول في الآخرة وفي الدنيا أيضاً إلى نعيم. فما هو الفرق بين ما دار في ذهن هذا وفي ذهن ذاك؟
روي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : إذا التقى المسلمان بسيفيهما على غير سنة، فالقاتل والمقتول في النار، فقيل: يا رسول اللّه، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: لأنه أراد قتله»(2). فالقاتل والمقتول كلاهما في النار إذا كان القتال على باطل، فإذا قتل القاتل مسلماً يخلد في نار جهنم لقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}(3)، فهذا ما يجري للقاتل، فما بال المقتول؟ ولماذا يدخل في نار جهنم؟ والجواب: لأنه أراد قتل صاحبه، فلو تمكن المقتول لقتل صاحبه، لكنه لم يتمكن من ذلك فقُتل؛ ولأن نيته كانت القتل فيُعاقب العقوبة نفسها.
فهذه الإرادة ليست مجرد أمر دار في ذهنه فقط، بل إنه حاول
ص: 52
تطبيقه عملياً، لكنه لم يتمكن من ذلك؛ ولأنه أراد قتل صاحبه فالنية كانت سبباً في دخوله نار جهنم.
لأجل أن تكون للإنسان النية الحسنة والطيبة، وتحويلها إلى قناعات راسخة، وتطبيقها على الواقع الخارجي، عليه أن يتبع الخطوات التالية:
أولاً: أن تكون نيته وفكره خالصين، يقول الوالد (رحمه اللّه) في إحدى كلماته حول اللاعنف: «إن اللاعنف لا يتجسد في العمل فقط، وإنما في اللسان والقلب أيضاً»، بمعنى أنه يجب على الإنسان أن لا يكون عنيفاً في أفعاله ولسانه وقلبه أيضاً، رُوي عن نبي اللّه عيسى (عليه السلام) : «أحبوا أعداءكم»(1)، ولا يعني هذا أعداء اللّه ورسوله والأئمة، فهؤلاء يجب بغضهم؛ لأن البراءة منهم تعدّ من أصول الدين، لكن هناك عداوات شخصية لا ترتبط باللّه تعالى ورسوله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) ، فيقول: (أحبوا أعداءكم) لأنك عندما تصفي قلبك ونيتك سينعكس هذا على عملك، وقد تتبدل العداوة إلى ولاية وصداقة، قال اللّه تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(2)،
لأن الإنسان إذا صفّى قلبه سيظهر ذلك على أعماله وجوارحه وملامح وجهه وكلامه، ويظهر ما في القلب تدريجياً ويؤثر في الطرف الآخر، وقد تتحول العداوة إلى صداقة.
ص: 53
ثانياً: الاستفادة من الجلسات والأحاديث الجانبية الخاصة، فهناك كثير من الأمور لا يجهر بها الإنسان في المجالس العامة، بسبب مراعاته للشؤون الاجتماعية وتفادياً للحرج، لكنه في الجلسات الخاصة مع خلانه وأصدقائه ربما يجد الأجواء مناسبة، وفي هكذا جلسات خاصة عادة ما يؤثر ويتأثر الإنسان فيها؛ لذا ورد في الآية الشريفة - وإن كان معناها أعم - {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذِۢ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}(1)، بمعنى أن هكذا جلسات ربما تكون فرصة للإغراء والتشجيع على معصية اللّه سبحانه وتعالى، فالإنسان - مثلاً - قد لا يستطيع أن يدعو الناس في الأماكن العامة لفعل المعاصي والمنكرات، وما يسخط اللّه سبحانه وتعالى، لكنه في المجلس الخاص قد يتمكن أن يصرح بذلك مع أصحاب سره.
وهنا ثمة استثناء من اللّه تعالى وهو: {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} أي: إلا الناس الذين يتقون اللّه سبحانه ويخافون عذابه، فهؤلاء يحاول أحدهم أن يهدي الآخر ويحاول أن يصلحه؛ لأن الجلسات الخاصة كما تؤثر سلباً كذلك تؤثر إيجاباً.
توجد في مدينة مشهد المقدسة مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، وهي مدرسة مباركة جداً، فقد أسسها الوالد (رحمه اللّه) ؛ إذ تقوم هذه المدرسة بخدمات كثيرة، من جملتها: إنها استقبلت - حسب ما ذكره مسؤول المدرسة - في إحدى السنوات أكثر من ثمانية آلاف طالب علم
ص: 54
من زوار الإمام الرضا (عليه السلام) ، وتم إنشاء هذه المدرسة خلال وجود السيد الوالد (رحمه اللّه) في الكويت؛ إذ كان جالساً مع أحد الأشخاص، فاقترح عليه أن يتبرع لبناء مدرسة في مشهد المقدسة، وكان كلاماً عابراً، وجرى خلال دقائق، لكنها كانت بذرة مباركة، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}(1)، وتحولت الكلمات إلى صرح شامخ.
لذا على الإنسان أن يحاول بعد أن يصقل فكره ونيته وقناعاته بما يرضي اللّه سبحانه وتعالى، وأن يحاول مع أخلائه في مجالسه الخاصة خوض الكلام حول الخير؛ تقول الآية الكريمة: {فَلَا تَتَنَٰجَوْاْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}(2)، فالإثم هنا، يراد به المعاصي الفردية، والعدوان يراد به التعدي على حقوق الآخرين، ومعصية الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يراد بها مخالفة أوامره ونواهيه، فقد يحرّضك ويقول: لا تسمع كلام رسول اللّه محمد (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وهذا من باب ذكر الخاص بعد العام، فمعصيته من الإثم والعدوان، ولكن لأهمية هذا ذكر بشكل خاص.
ثم قال اللّه تعالى: {وَتَنَٰجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(3)، والبر يعني الأعمال التي تصل إلى الآخرين، مثل: إكرام اليتيم وإطعام الفقراء، أما التقوى: فربما يراد بها في هذه الآية الكريمة تهذيب النفس، أو
ص: 55
ربما تشمل حفظ النفس عمّا يحرمه اللّه سبحانه وتعالى.
إن بعض الناس تكون نواياهم غير صادقة أو غير خالصة، لكن عملهم يبدو في ظاهره أنه جميل، وهنا تكمن المشكلة، لكن يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ما أضمر أحدكم شيئاً إلا وأظهره اللّه على صفحات وجهه وفلتات لسانه»(1)، فكل شيء ينويه الإنسان سوف يظهر في عمله، فإذا لم تكن نيته خالصة فسوف تظهر في عمله في أول منعطف، وفي أقل صعوبة يواجهها؛ لذا ورد في الحديث الشريف: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(2).
لقد كان بعض أصحاب رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يريد أن يُظهر أنهم شخصية مهمة لذا كان يزاحم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويناجيه(3)، أي: يتكلمون معه بالخفية، وكأن لديه كلاماً مهماً مع الرسول أو سرّاً مهماً، فأراد اللّه عز وجل أن يكشفهم ويبين حقيقتهم، وهذا الأمر
ص: 56
من سنن اللّه سبحانه وتعالى في الكون؛ إذ إنه تعالى يُظهر سلامة نية الإنسان وصحته ولو بعد حين، ويظهر سقم الإنسان غير الصحيح ولو بعد حين، فإذا انخدع به الناس لبعض الأيام فإن اللّه عز وجل يظهر حقيقته في الدنيا قبل الآخرة. يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(1)، والمراد من المؤمنين في تأويل هذه الآية الكريمة أهل البيت (عليهم السلام) (2)، لكن ظاهر الآية هو أن المؤمنين يطّلعون على الأمر.
فنزلت الآية الكريمة: {إِذَا نَٰجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَىٰكُمْ صَدَقَةً}(3)، لقد كانوا حتى البارحة يأتون عند رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) للتباهي، وليبينوا أهميتهم، فهذا ظاهر من دون واقع، أو أن الظاهر شي والواقع شيء آخر، ولم تعيّن الآية الكريمة مقدار الصدقة، فيكفي المقدار البسيط منها، إلا أنهم لم يفعلوا ذلك إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
وهذه الآية تبيّن أن هؤلاء الذين كانوا يأتون للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ويظهرون أنهم لديهم كلام خاص وغير ذلك، إنما كان ذلك السلوك للتباهي، وللشخصية الزائفة وليست الحقيقية؛ إذ لم يأتِ
ص: 57
أحد ليناجي الرسول في اليوم التالي من نزول الآية!
وفي الوقت نفسه تأكدت إحدى فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ؛ لأنه الشخص الوحيد الذي عمل بهذه الآية قبل نسخها.
وروى الحاكم في المستدرك عن علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه): «إن في كتاب اللّه لآية ما عمل بها أحد ولا يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى... قال: كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فناجيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، فكنت كلما ناجيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت {ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَىٰكُمْ صَدَقَٰتٖ}(1) الآية(2).
وصفوة القول هو: إنه علينا جميعاً أن نصقل أفكارنا، وأن نبعد الأفكار السيئة التي تأتي ضمن الأفكار، فهي تضر الإنسان حتى وإن لم يطبقها على أرض الواقع، وإن كان لا يوجد ثمة عقاب عليها؛ لأن النية إذا لم تظهر بيد ولسان فليس عليها عقاب، كما جاء في حديث (الرفع)(3)، وهذا من مِنن اللّه تعالى على هذه الأمة
ص: 58
المرحومة، ولكنها رذيلة تؤدي إلى عدم صفاء الروح.
فهذا عيسى (عليه السلام) كان يقول لبني إسرائيل: «إن موسى نبي اللّه (عليه السلام) أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنا فضلاً عن أن تزنوا، فإن من حدّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوّق(1) فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت»(2)؛ لأن التفكير في المعصية مثل الدخان، فالنار تحرق الأشياء، لكن الدخان يسبب لها السواد، بمعنى إنه إذا كانت هناك حرارة عالية في مكان ما، فسوف يتكوّن الدخان، ثم عندما يُطفئوا الحريق فإن الدار تصبح سوداء، كذلك التفكير بالحرام أو فكرة المعصية فهي تسوّد القلب، حتى لو لم يكن هناك عقاب عليها.
وبالإضافة لذلك فهنالك الفضيحة بانكشاف النوايا يوم القيامة، قال اللّه تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}(3)، بمعنى أن أي شيء ينويه الإنسان ويسرّه في قلبه سيُكشف يوم القيامة، فإذا فكّر أحدنا الآن بسرقة صاحبه لكنه لم ينفّذ ما قصده، فإن عرف صاحبه أنه فكر بسرقته وعرف الناس بذلك ألا يسقط هذا الإنسان من أعين الناس، ويتعرض لفضيحة وإن لم يعاقبه القانون على ذلك؟
ص: 59
قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(1).
إن اللّه عز وجل لا يقدّر ولا يفعل شيئاً اعتباطاً، وإن كل ما يقدره ويفعله لابد أن يكون لسبب وحكمة، ولا يمكن أن نقول: إن اللّه قدّر الخير أو الشر لشخص من دون سبب، وترتبط هذه الحكمة والمصلحة أو السبب في كثير من الأحيان بفعل الإنسان نفسه.
فإذا قدّر اللّه تعالى الهداية لشخص ما كما قال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}(2)، أو قدّر له الضلال، فإن هذا التقدير لم يأتِ اعتباطاً، وإنما بسبب فعل الإنسان نفسه، فقد يقوم الإنسان بأعمال معينة فيجد اللّه تعالى أن هذا الإنسان جدير بالهداية فيهديه، أو قد يعمل أعمالاً مناقضة فيجده اللّه تعالى محلاً للضلالة فيضله بمعنى يتركه وشأنه حتى يضل.
إننا نجد بعض الناس موفقين والبعض الآخر غير موفقين، فربما
ص: 60
تجد تاجراً يملأ سجل أعماله بمئات المشاريع الخيرية، كبناء المساجد والحسينيات وتكفل الأيتام، وإطعام الطعام وطبع الكتب والمساهمة في الأمور الثقافية، وقد يكون هناك تاجر آخر أكثر من الأول ثروة لكنه بعد أن يموت نكتشف أنه لم يفعل من هذه الأعمال شيئاً.
والسبب في كل ذلك هو أن التاجر الأول وفقه اللّه عز وجل لكثير من الحسنات، التي يجازى عليها جزاءً حسناً، فهل حدث هذا اعتباطاً، أي: إن اللّه يوفق الأول ويسلب التوفيق من الثاني من دون سبب؟ كلا، ولكن الذي حدث بسبب أعمال كل الإنسان بنفسه.
في كثير من الأحيان توجد أموراً صغيرة قد لا يعير الإنسان لها أية أهمية، لكنها عظيمة عند اللّه عز وجل؛ لأن موازيننا تختلف عن الواقع كثيراً، فربما يكون هناك عمل صغير جداً لكن اللّه عز وجل يكون راضياً عنه، فيجازي الإنسان عنه بأن يوفقه لأكثر من ذلك، ولعل سيئة صغيرة تسبب غضب اللّه عز وجل فيسلب اللّه التوفيق من ذلك الإنسان؛ لذا ورد في الحديث الشريف: «إن اللّه أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرن شيئاً من طاعته فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم، وأخفى سخطه في معصيته، فلا تستصغرن شيئاً من معصيته فربما وافق سخطه وأنت لا تعلم، وأخفى إجابته في دعوته، فلا تستصغرن شيئاً من دعائه فربما وافق إجابته وأنت لا تعلم، وأخفى وليه في عباده، فلا تستصغرن عبداً من عباده فربما يكون وليه وأنت لا
ص: 61
تعلم»(1). فربما يوجد هناك عمل بسيط قد لا يلتفت له الإنسان لكنه يسبب التوفيق أو يسبب سلبه.
لقد كان زهير بن القين قبل أيام من واقعة عاشوراء عثمانياً - والعثماني كانت تعبر عن الشخص الذي يرى أن عثمان على حق لا الإمام علي (عليه السلام) - لكن هناك كلمات بسيطة قالها الإمام الحسين (عليه السلام) له في الطريق إلى كربلاء كانت سبباً في توبته، وأن يكون من أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) ويستشهد معه، بما لشهداء كربلاء من درجة عظيمة عند اللّه عز وجل، فهذا توفيق من اللّه عز وجل، وإلا فإن الإمام الحسين (عليه السلام) التقى بكثيرين غيره في طريق كربلاء لكنهم لم يهتدوا.
فقد التقى الإمام (عليه السلام) بعبيد اللّه بن الحر الجعفي وعرض عليه النصرة، لكنه بخل بنفسه، قال ابن أعثم: «وسار الحسين (عليه السلام) حتى نزل في قصر بني مقاتل، فإذا هو بفسطاط مضروب ورمح منصوب، وسيف معلق وفرس واقف على مذوده، فقال الحسين: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل: لرجل يقال له عبيد اللّه بن الحر الجعفي، قال: فأرسل الحسين برجل من أصحابه يقال له الحجاج بن مسروق الجعفي.
فأقبل حتى دخل عليه في فسطاطه فسلم عليه فرد عليه السلام، ثم قال: ما وراءك؟ فقال الحجاج: واللّه، ورائي يا بن الحر، واللّه قد
ص: 62
أهدى اللّه إليك كرامة إن قبلتها، قال: وما ذاك؟ فقال: هذا الحسين بن علي رضي اللّه عنهما يدعوك إلى نصرته، فإن قاتلت بين يديه أجرت، وإن مت فإنك استشهدت، فقال له عبيد اللّه: واللّه، ما خرجت من الكوفة إلا مخافة أن يدخلها الحسين بن علي وأنا فيها، فلا أنصره لأنه ليس له في الكوفة شيعة ولا أنصار إلا وقد مالوا إلى الدنيا، إلا من عصم اللّه منهم، فارجع إليه وخبره بذاك.
فأقبل الحجاج إلى الحسين فخبره بذلك، فقام الحسين ثم صار إليه في جماعة من إخوانه، فلما دخل وسلم وثب عبيد اللّه بن الحر من صدر المجلس، وجلس الحسين فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، يا بن الحر، فإن مصركم هذه كتبوا إليّ وخبروني أنهم مجتمعون على نصرتي وأن يقوموا دوني ويقاتلوا عدوي، وأنهم سألوني القدوم عليهم، فقدمت ولست أدري القوم على ما زعموا لأنهم قد أعانوا على قتل ابن عمي مسلم بن عقيل (رحمه اللّه) وشيعته، وأجمعوا على ابن مرجانة عبيد اللّه بن زياد يبايعني ليزيد بن معاوية، وأنت يا بن الحر فاعلم، أن اللّه عز وجل مؤاخذك بما كسبت وأسلفت من الذنوب في الأيام الخالية، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبة تغسل بهاما عليك من الذنوب، وأدعوك إلى نصرتنا أهل البيت، فإن أعطينا حقنا حمدنا اللّه على ذلك وقبلناه، وإن منعنا حقنا وركبنا بالظلم كنت من أعواني على طلب الحق.
ص: 63
فقال عبيد اللّه بن الحر: واللّه يا بن بنت رسول اللّه، لو كان لك بالكوفة أعوان يقاتلون معك لكنت أنا أشدهم على عدوك، ولكني رأيت شيعتك بالكوفة وقد لزموا منازلهم خوفاً من بني أمية ومن سيوفهم، فأنشدك باللّه أن تطلب مني هذه المنزلة، وأنا أواسيك بكل ما أقدر عليه، وهذه فرسي ملجمة، واللّه ما طلبت عليها شيئاً إلا أذقته حياض الموت، ولا طلبت وأنا عليها فلحقت، وخذ سيفي هذا، فو اللّه ما ضربت به إلا قطعت.
فقال له الحسين رضي اللّه عنه: يا بن الحر، ما جئناك لفرسك وسيفك، إنما أتيناك لنسألك النصرة، فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شيء من مالك، ولم أكن بالذي اتخذ المضلين عضداً؛ لأني قد سمعت رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وهو يقول: من سمع داعية أهل بيتي ولم ينصرهم على حقهم إلا أكبه اللّه على وجهه في النار»(1).
فالإمام (عليه السلام) لا يحتاج لأمواله، وإنما إلى نصرته، وبعد عاشوراء كان نادماً يقرأ قصائد وأشعاراً ويبدي ندمه، وكان فيما قال:
فيا لك حسرة ما دمت حيا *** تردد بين حلقي والتراقي
حسين حين يطلب بذل نصري *** على أهل الضلالة والنفاق
ص: 64
غداة يقول لي بالقصر قولاً *** أتتركنا وتزمع بالفراق
ولو أني أواسيه بنفسي *** لنلت كرامة يوم التلاق
مع ابن المصطفى نفسي فداه *** تولى ثم ودع بانطلاق
فلو فلق التلهف قلب حي *** لهم اليوم قلبي بانفلاق
فقد فاز الأولى نصروا حسيناً *** وخاب الآخرون أولو النفاق(1)
لكن ما الفائدة؟! لقد خذل الإمام الحسين (عليه السلام) في موقف ينبغي النصرة فيه، فلماذا سُلب منه التوفيق؟ والجواب: لأنه كان له ذنب - سابقاً - سبب له سلب التوفيق، فقد كان ضمن أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم صفين، لكنه بعد ذلك فرّ من جيش الإمام والتحق بمعاوية.
ينبغي علينا دائماً أن لا نستصغر الذنوب حتى الصغيرة منها، بل ينبغي أن يتخوف الإنسان أكثر، وكذلك لا نستصغر الطاعات الصغيرة، بل ينبغي أن يكون الإنسان يقظاً دائماً، فنحن لا نعلمموازين اللّه عز وجل، فإن موازينه بالعدل والقسط بمقدار مثقال
ص: 65
ذرة، وفي الذنوب والمعاصي كذلك، فأحياناً قد تجد شخصاً تتوفر له كل وسائل ارتكاب المعصية لكنه في اللحظة الأخيرة ينصرف عنها. إن اللّه تعالى في الواقع هو الذي صرفه عن ذلك.
في حين تجد إنساناً آخر تكون جميع وسائل الطاعة مهيّأة له لكنه في اللحظة الأخيرة ينصرف عنها، فاللّه عز وجل حوّل قلبه، فهل يحدث هذا اعتباطاً؟ والجواب: كلا، {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٖ لِّلْعَبِيدِ}(1)، وإنما يريد الخير للناس، ولكن ينبغي أن نكون أهلاً للخير، فإذا نزل المطر وكانت الأرض غير صالحة، ومالحة فلن ينفعها المطر، لكن الإنسان بإمكانه أن يجلب التوفيق لنفسه أو يسلبه منها، حيث ينبغي له أن لا يستحقر الصغائر، والمتدينون عادة لا يرتكبون الكبائر، فالغيبة - مثلاً - من الذنوب الكبيرة، وحين تقول لأحدهم لماذا تغتاب الناس؟ يقول لك: (اللّه كريم...)! لكن هذا المنطق هو الذي يجر الإنسان للمعاصي، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَٰقِبَةَ الَّذِينَ أَسَُٰٔواْ السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ}(2)، حيث يبدأ بذنب صغير ثم أكبر إلى أكبر إلى أن تُسلب التوبة من هذا الإنسان، بل قد يكفر باللّه عز وجل.
عندما نتكلم حول ذلك مع بعض الناس يقول: نحن تشملنا شفاعة أهل البيت (عليهم السلام) .
من الصحيح أن أهل البيت (عليهم السلام) أهل الكرم، لكنهم إنّما يشفعون
ص: 66
لمن ارتضاه اللّه تعالى، فالإنسان لا يضمن أن يموت على الولاية ولا ضمان له بأن لا يكفر باللّه عز وجل في لحظة الموت؟ فقد جاء في الحديث الشريف: «من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحج، أو سلطان يمنعه، فليمت يهودياً أو نصرانيا»(1)، إننا نتصوره مؤمناً موالياً في الظاهر، لكن في لحظة الموت يتحول ويتغير.
من هنا يجب على الإنسان أن لا يُمنّي نفسه بأن باب التوبة مفتوح، وإنما للتوبة شروط، فإذا تعلق الأمر بحقوق اللّه فيجب على الإنسان أن يؤديها، وإذا تعلق بحقوق الناس فيجب أن يؤديها.
صحيح أن اللّه تعالى يغفر الذنوب، لكن هذا لا يعني أن يُمنّي الإنسان نفسه فيتمادى في المعاصي، فسلب التوفيق والإيمان يؤدي لسلب الشفاعة، يقول اللّه عز وجل: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}(2).
يتصور البعض أن الجزاء في الآخرة فقط، لكنه قد يكون في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(3)،
ص: 67
و(ثم) بمعنى في القيامة؛ إذ إن اللّه عز وجل يجازي كل إنسان على أعماله في الدنيا قبل الآخرة، وقد لا يلتفت الإنسان لذلك، أي: لماذا جوزي بالخير أو الشر؟
لذا علينا أن لا نستخف بأي شيء، فكل شيء يجري حسب الموازين المشروعة.
في كثير من الأحيان يقول بعض الناس: هذا ليس بحرام أو ليس بواجب، وكأن الإسلام منحصر بالواجبات والمحرمات، بل هي جزء من الإسلام الذي يتضمن الآداب والأخلاق والفضائل، وفي كثير من الأحيان قد لا يجب على الإنسان القيام بعمل ما، لكنه محبوب لله عز وجل، أو قد لا يحرم عليه القيام بعمل ما، لكنه مكروه عند اللّه عز وجل، يقول اللّه عز وجل: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}(1)، فإذا ظلمك أحد ويحق لك أن تقتص منه - يقول اللّه عز وجل: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2) - أفلا تطمع في غفران اللّه عز وجل؟ صحيح ليس من واجبك أن تغفر، ويجوز لك أن تأخذ ما تريد، لكنك كيف تتوقع بعد ذلك من اللّه عز وجل أن يغفر لك؟! وفي الحديث: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من فيالسماء»(3).
في كثير من الأحيان تكون هناك مشاكل بين الزوج والزوجة،
ص: 68
مع أنهما متدينان وملتزمان، وسبب المشاكل هو أنهما قد لا يلتزمان ببعض الأخلاق والآداب الإسلامية، وقد لا يكون واجباً أو محرماً عليهما، لكن عليهما التمييز بين الفضائل والرذائل، وتعلّم هذه الآداب وتطبيقها في حياتهما.
هناك مشاكل عند المسلمين في كل مكان، فبعضها نعلّقها على شماعة الاستعمار، وبعضها على شماعة الدول، لكن أكثر المشاكل ناشئة من المجتمع نفسه حيث إن المجتمع بشكل عام لم يلتزم بالنظام الإسلامي، مع وجود بعض الاستثناءات؛ لأن النظام الإسلامي ليس مقتصراً على الواجبات والمحرمات، ففي القرآن الكريم أكثر من ستة آلاف آية، وآيات الأحكام منها خمسمائة آية، وهي تساوي نسبة جزء من اثني عشر جزءاً، وأما الآيات الأخرى فتتعلق بباقي الأمور من العقائد والآداب والأخلاق، فالكثيرون الآن غير ملتزمين بالنظام الإسلامي؛ لذا فإن اللّه سلب التوفيق عنهم.
فهل أن القناعة - مثلاً - واجبة أم مستحبة؟ إن بعض مفرداتها واجبة، وذلك إذا سببت دخول الإنسان في المحرمات، وأما أكثر مفرداتها فهي من الفضائل الأخلاقية. فهي مستحب بشكل عام،لكن الناس غير ملتزمين بذلك. وكذلك الحسد إذا لم يظهره الإنسان فليس بحرام ولكنه رذيلة من الرذائل الأخلاقية تسلب التوفيق من الإنسان، فلا يكن سلوكنا التزاماً بالواجبات وتركاً للمحرمات فحسب؛ لأنه في هذه الحالة لن يبقَ مكان للآداب
ص: 69
والأخلاق.
من هنا، يوفق اللّه عز وجل الإنسان إذا هيّأ بنفسه أسباب التوفيق، التي لا تنحصر بالواجبات والمحرمات، أما إذا لم يفعل ذلك فإن اللّه تعالى قد يسلب التوفيق منه، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(1).
والحاصل: إن توفيقنا من اللّه عز وجل، لكن المطلوب منّا هو التوكل عليه عزّ وجل والإنابة، إليه، وهذا يكون بالالتزام بما قاله اللّه عز وجل والرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) ، ومن ذلك: فعل الواجبات وترك المحرمات، والالتزام بالأخلاق وبالسيرة العطرة لرسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) .
ص: 70
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الصَّٰدِقُونَ}(1).
يُصاب الإنسان بالحيرة من أمره في كثير من الأحيان، فماذا يعمل؟
إن هذه حالة يبتلي بها الجميع في مرحلة ما من مراحل حياتهم، أو في بعض أعمالهم، يقول علماء النفس: إن بقاء الإنسان في حيرة من أمره يسبب له الاضطراب في حياته؛ لذا عليه أن يتخلص من الحيرة بطرق مناسبة وسليمة، فقد أجرى بعض خبراء علم النفس اختباراً عملياً ميدانياً في هذا المجال، فذهبوا لبعض المدارس الثانوية وسألوا الطلاب هذا السؤال: ما هو طموحك المستقبلي؟ فأجاب بعضهم قائلاً: لا أدري، أو لم أقرر ذلك حتى الآن، وأجاب البعض الآخر، وبيّن طموحه أن يريد أن يكون طبيباً - مثلاً - والآخر يريد أن يكون مهندساً، والآخر طياراً وتاجراً وهكذا... فدوَّن الخبراء هذه المعلومات، وبعد سنوات طوال، راجعوا نفس الطلاب
ص: 71
الذين أخضعوهم للسؤال، فوجدوا أن الطلاب الذين أجابوا بكلمة: لا ندري، أو لم نقرر مستقبلنا بعد، وجدوهم لا يزالون متحيرين، وأما الذين قرروا مصيرهم فلاحظ الخبراء أن أكثرهم وصلوا إلى ما يريدون.
هذه تجربة ميدانية عملية؛ لذا فإن الإنسان المتحير ستضر به هذه الحالة، وأما الذي يقرر مصيره ويخطط له فسيصل إلى ما يريد عادة، إذا لم تكن هناك موانع اضطرارية.
بناءً على ذلك، يجب على الإنسان أن لا يكون في حيرة من أمره، وحينما نراجع الشرع المقدس سنجد أنه هيّأ أسباب الخروج من الحيرة، وذلك عن طريق الفكر والاستشارة أولاً، ثم عن طريق الاستخارة، فقد وردت عدة روايات تبين لنا كيفية الاستخارة، فعن اليسع القمي قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) أريد الشيء وأستخير اللّه فيه فلا يوفق فيه الرأي - إلى أن قال - فقال: افتتح المصحف فانظر إلى أول ما ترى فخذ به إن شاء اللّه»(1).
فإذا بقي الإنسان متحيراً، يقدم قدماً ويؤخر أخرى، ويعمل بأمر فيتركه ويعمل بغيره، ويعمل بثالث ثم يعود إلى الأول وهكذا... فلن يصل إلى نتيجة؛ لأن العمل إذا لم يكن متواصلاً لا يصل إلى نتيجة أو إلى الأمر المرجو، فاقطع الحيرة بالخيرة، وهذا لا يعني ترك الاستشارة، بل يجب أن يفكر الإنسان ويستعين بأهل
ص: 72
الاختصاص، وربما يبقى في حيرة من أمره؛ كما لو اختلفت آراء من يستشيرهم فيزداد حيرة، فيجب أن يقرر ولا يبقى محتاراً.
إذن، عندما يصل الأمر إلى الحيرة فيجب قطعه ولو بالقرعة، وتوجد لدينا كثير من الأحكام الشرعية التي يمكن أن نصل بها إلى النتيجة من خلال القرعة، لأن: «القرعة لكل أمر مشكل»(1)، ليصل الأمر إلى نتيجة.
كانت لدى الوالد (رحمه اللّه) مجموعة أصول في الحياة، منها: أصالة العمل، بمعنى أنه إذا دار الأمر بين أن تعمل هذا العمل أم لا، فاختر جانب العمل؟ وإذا استشرت أو استخرت وكانت الخيرة متوسطة، ولم تُحل المشكلة، فالأصل الأخذ بالعمل، أي: أقدم على العمل، وسوف يبارك اللّه عز وجل بالإنسان الذي يُقدم {وَقُلِ اعْمَلُواْ}(2) فالأصل هو العمل. وإذا كان عندك شك، فاقطع الشك باليقين، وتوكل على اللّه واعمل، قال تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}(3). وبناءً على ذلك فلا ينبغي أن يكون الإنسان في حياته محتاراً، بل عليه أن يقطع الحيرة باليقين، ويختار أحد الطريقين والسير فيه.
نقرأ في إحدى زيارات الإمام الحسين (عليه السلام) : «وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة»(4)، فهناك
ص: 73
مسلمون يعيشون الحيرة بسبب عدم وضوح العقيدة الصحيحة باللّه وبالرسول لديهم، وعندما يرتاب الإنسان تضطرب حياته؛ لذا ثمة تأكيد شديد على ذلك: يقول اللّه تعالى في آية كريمة: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(1)، فلا يجد الإنسان حرجاً في نفسه، فإذا شعر بالحرج في نفسه فمعنى هذا أن إيمانه غير كامل، ومَن لم يُسَلِّم من حيث العمل فليس بمؤمن.
إن الحضارة الغربية اليوم لها أدوات، ومنها: وسائل الإعلام المختلفة، فهذه الحضارة تختلف جوهرياً مع كثير من مفردات وأصول الحضارة الإسلامية؛ لأنها قائمة على مجموعة من الماديات، وأما الحضارة الإسلامية فهي إلهية قائمة على خير الدنيا والآخرة؛ لذا يوجد تعارض وتقاطع يصعب معه تطبيق الكثير من الأحكام الشرعية في الواقع، بحيث لا يستطيع الإنسان الملتزم العيش وفقاً لدينه الإسلامي، ففي فرنسا - مثلاً - مُنع الحجاب في المدارس الحكوميّة، حتى أن العائلة المسلمة تختار بين أن تكسب ابنتها العلم، أو تترك الدين، وفي مكان آخر أرغم الاستعمار الفرنسي المزارعين على زراعة العنب أكثر من حاجتهم للأكل، والعنب الفائض تشتريه معامل الخمور، وهكذا ربطوا حياة مجموعة كبيرة من المسلمين بالخمر؛ مع أنه: «لعن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في
ص: 74
الخمر عشرة: غارسها وحارسها وبايعها ومشتريها، وشاربها والآكل ثمنها وعاصرها، وحاملها والمحمولة إليه وساقيها»(1).
وبناءً على ذلك، فإن المسلم لا يستطيع أن يعيش في بلده كما يريد، فيشعر كثير من الناس بحرج حتى لو لم يصرح بكلامه، وإذا شعر أحدهم بالحرج من أحكام الشرع فهو ليس بمؤمن، وللأسف هناك الكثير لا يشعرون بالحرج فقط، بل يبدأون بالتكلم ضد أحكام الشرع، وإذا أراد أحدهم أن يظهر نفسه كمتدين فإنه يغلف ذلك بغلاف ديني وعقلي، وإذا لم يكن متديناً فإنه يقول: (لا نقبل هذا الحكم من أساسه)! فيؤدي الأمر إلى إنكار معنى الكثير من الآيات والروايات.
لقد ذكر لنا اللّه سبحانه وتعالى بعض ما جرى على بني إسرائيل، وذلك للاعتبار، ففي قضية البقرة: قتل أحد بني إسرائيل شخصاً ورماه في مكان ما، واتهم أصحاب ذلك المكان بقتله(2)؛
لذا يجب
ص: 75
عليهم أن يدفعوا الدية، فأمرهم اللّه تعالى أن يذبحوا بقرة ويضربوا الميت بذيلها، فقام الميت وأخبرهم بالقاتل واقتص منه، وقد فصّل اللّه تعالى ذلك في هذه السورة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَٰهِلِينَ}(1)، ثم يقول تعالى: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانُۢ بَيْنَ ذَٰلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّٰظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَٰبَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الَْٰٔنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}(2).
إن ذكر هذا التفصيل في القرآن الكريم إضافة إلى الفوائد في كل كلمة، فإن اللّه تعالى بيّن أن بني إسرائيل امتازوا بعدم التسليم
ص: 76
لأمره سبحانه على الرغم من أنه تعالى فضلهم على العالمين(1)،وكثير منهم هلكوا وأهلكوا بسبب هذا الأمر.
وجاء في الروايات: عندما قال لهم موسى (عليه السلام) {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}، فلو عمدوا إلى ذبح أية بقرة لأجزتهم، ولكنهم تمردوا على الحكم(2)، فموسى (عليه السلام) يقول لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} وفي المقابل هم يقولون: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}، وكثير منّا الآن هذه هي حالتهم، فيقول موسى (عليه السلام) لهم: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَٰهِلِينَ}. ثم إنهم يطرحون أسئلة تافهة ليتملصوا من الأمر، وهم في لجةٍ وعناد.
وعندما نناقش اليوم أحدهم تراه يذهب يميناً وشمالاً، ونجد أن كلام الغربيين يقنعه، أما القرآن والسنة فلا تلائمه و... وهكذا.
وعندما انقطعت الأسئلة في بالهم عن البقرة قالوا: {وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}، وعند ذاك امتثلوا للأمر ليس طاعة لله تعالى، وإنما لجاجاً، فقالوا لنذبح البقرة ونضرب الميت بذيلها وسوف لا يحيى فنفضح موسى، {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}.
ص: 77
إن بني إسرائيل أكثر من ذكر اللّه تعالى قضياهم في القرآنالكريم، حتى أن القضية الواحدة بُيِّنتْ في سور عديدة؛ لأنهم كانوا أمة وحضارة، وما يجري فيهم يمكن أن يجري في أية أمة أخرى، وجميع ما جرى على بني إسرائيل يمكن أن يجري علينا أيضاً، وقد جرى بعضه علينا الآن، فعندما يُذكر حكم شرعي يقول البعض: ما هي العلة؟ وما هو السبب؟ ولكن إذا لم نفهم العلة والسبب فهل يعني هذا خطأ الحكم؟! ويقول الكثير من الناس: إذا لم أفهم السبب العقلي فلن أطبق الحكم الشرعي!! وهنا نتساءل: إذا ذهب أحدنا إلى الطبيب للعلاج وأعطاه دواءً لم يفهم تركيبته، فهل يخالف الطبيب ويقول له: لأنني لا أفهم مِمَّ يتكون الدواء فلن أتناوله أو أنه علاج خاطئ؟!
ينبغي علينا أن لا نرتاب، يقول اللّه تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ}، وتعني (ثمّ) أن كثيراً من الناس يرتابون باللّه والرسول بعد إيمانهم، وإذا كان هناك منّا من لديه - لا سمح اللّه - حالة من الارتياب باللّه والرسول فليحاول إزالتها، هذا في جانب الاعتقاد.
وهكذا في جانب العمل؛ لأن الاعتقاد يظهر في العمل، تقول الآية الكريمة: {وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الصَّٰدِقُونَ}(1)، فالبعض مؤمن صادق عندما قال: (لا إله إلا اللّه ومحمد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ) ولم يشك في نفسه، بل جاهد في ماله
ص: 78
ونفسه، لأن أعز شيء لدى الإنسان هو النفس والمال وقد جاهدبهما، وجاءت كلمة الجهاد هنا لأن الإنسان في بعض الأحيان يدفع المال بكل يسر وسهولة، ويدفعه في بعض الأحيان بصعوبة؛ إذ يحتاج الأمر إلى جهاد النفس، وفي بعض الأحيان يذهب للحرب ويعرف أن مكروهاً قد لا يصيبه، وفي بعض الأحيان يعرف أنه ربما يصاب بضرر؛ لذا فإن كلامه صادق.
ص: 79
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَٰتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ}(1).
حينما خلق اللّه سبحانه وتعالى هذا العالم اقتضت حكمته أن تكون الأمور بالتدريج وليس دفعة واحدة؛ لذا خلق بدايةً السماوات والأرض في ستة أيام(2)، وقدر أقوات الأرض في أربعة أيام(3)، مع أن أمر اللّه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، لكن إرادته تعالى لهذا العالم أن تكون أموره متدرجة في كل شيء، فالطفل يولد صغيراً لا يعلم شيء، ثم يتعلم تدريجياً الكلام والمشي والمهارات الفردية والاجتماعية، وأيضاً ما يتعلق بمسيرة العلم والمعرفة، ويصل إلى النضج تدريجياً، وهكذا في سائر الأمور.
ص: 80
من هنا فعلى الإنسان أن يراعي التدرج في الحياة، فيجعل لكل شيء وقته، وإذا استعجل أو تأخر فإنه سيتعرض للمشاكل.
وفي حديث شريف يعطينا أمير المؤمنين (عليه السلام) صورة جميلة عن ذلك فيقول في كلام له: «ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه»(1)، بمعنى أن الثمرة تبدأ في بعض الأشجار على شكل أزهار، ثم تطوي مراحل النضج أو الإيناع، فإذا تمَّ قطفها قبل الإيناع فلا فائدة فيها، وكذلك الحال بعد هذا الوقت؛ لأن الثمرة تتعرض للفساد.
كان أبو سفيان في يوم السقيفة من المحرضين على القتال، إلا أن الإمام علياً (عليه السلام) رفض ذلك، فقرأ أبو سفيان شعراً يقال للإنسان المتخاذل والذليل، فقال فيما قال:
ولا يقيم على ضيم يراد به *** إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته *** وذا يشج فلا يرثي له أحد(2).
ص: 81
لقد خاطب أبو سفيان الإمام (عليه السلام) بأبيات تحريضية حتى يحرك فيه دوافع النهوض، وأن يجرد سيفه، لكن الإمام (عليه السلام) أجابه بهذه الكلمة: «أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة»(1)، إلى أن يقول: «...ومجتني الثمر لغير وقت إيناعها كالزارع يغير أرضه». فقد كان أبو سفيان يرمي إلى أن يجرد الإمام (عليه السلام) سيفه ويخوض معركة يُقتل فيها لقلة أنصاره، أو ربما ينشغل المسلمون بقتال بعضهم بعضاً، فيستغل الفرصة ويأتي بجيشه ويقضي على الإسلام والمسلمين مرة واحدة.
لذا فأمير المؤمنين (عليه السلام) لا يتصرف بشكل يناقض هدفه، وهو الحفاظ على الإسلام، وأما التصرف العاطفي فإنه ربما يؤدي إلى زوال الإسلام، وهو ما لا يُقدم عليه الإمام علي (عليه السلام) قطعاً.
ونفس النهج نراه في سيرة الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) .
ص: 82
فالبعض يسأل ويقول: لماذا قعد الإمام الحسن (عليه السلام) وقام الإمام الحسين (عليه السلام) ؟!
والجواب: إن هذا السؤال خطأ من أساسه؛ لأن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قال: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(1)، فالحسن (عليه السلام) قام في الأشهر الأولى بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وبعد ذلك ولمصلحة الإسلام قعد، وكذلك الإمام الحسين (عليه السلام) قعد في بداية أمره ولمدة عشر سنوات بعد استشهاد الإمام الحسن (عليه السلام) وفي عهد معاوية، ثم قام في الأشهر الأخيرة من حياته المباركة، من هنا قال رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «قاما أو قعدا»، ولم يقل: إن قام أحدهما وقعد الآخر.
وأهل البيت (عليهم السلام) يتصرفون دائماً وفق الحكمة، ولا يخطئون الأمور بعد أن ثبت في هذا الكون أنها تدريجية، وكل الأمور لها أوان، أما إذا أقدم الإنسان قبل أو بعد الأوان فإنه يكون من المخطئين، ويلحق الضرر بنفسه.
إن الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَٰتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ}(2) فيها أبعاد متعددة، منها: رعاية مسألة الوقت المناسب، فقد كان رسولاللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) يستقبل الناس، ويدير أمور الدولة من الصباح الباكر وحتى الظهر، ثم بعد صلاة الظهر يذهب لبيته ليستريح، لكن بعض الناس
ص: 83
كانوا يأتون من خارج المدينة ويطلبون اللقاء بالنبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، ولم ينتظروا لحين انتهاء فترة استراحته (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، والمقصود في هذه الآية هو الأقرع بن حابس وجماعة معه(1)، وفيما كان رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في الدار كانوا ينادون بصوت عالٍ: (يا محمد، يا محمد، اخرج إلينا)، فنزلت الآية الكريمة لتحدّ من هذه الظاهرة، علماً أن بيت النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) لم يكن كبيراً، وإنما كان عبارة عن حجرات، لكل زوجة حجرة وهي ملاصقة للمسجد، وكذلك الحال لبعض الأصحاب، فقد كانت بيوتهم ملاصقة للمسجد، ومنها: بيت أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي سد الأبواب إلا بابه(2).
ص: 84
ومن الأبعاد الأخرى للآية الكريمة: هو وجوب توقير رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، وبيان قلة عقل هؤلاء الذين كانوا ينادون من وراء الحجرات، وتتضمن أيضاً التفاتة أدبية لطيفة، وهي قوله: {أَكْثَرُهُمْ}، في حين أنهم جميعاً {لَا يَعْقِلُونَ}، لكن الآية عبرت بأكثرهم مراعاة للآداب الاجتماعية؛ لأن كلمة (كلهم) تسبب انزعاجهم جميعاً، لكن (أكثرهم) تؤدي إلى أن كل واحد يمكن أن يستثني نفسه، ولا يحدث رد الفعل من رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، أو من القرآن الكريم أو الإسلام، فالتقريع هنا مقدمة للهداية وليسللتنفير، ومن هذه الآية نتعلم احترام وقت الآخرين، فإذا لم يكن في الأمر اضطرار فوري فلنترك الشخص مع أهله في وقت الاستراحة؛ لأن الإنسان إذا طلب حاجة في غير وقتها فربما لا يحصلها، كما أن الأمور تختلف في طبيعتها، فبعضها تحتاج إلى
ص: 85
صبر وأخرى إلى تسريع، قال الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل
وربما فات قوماً جل أمرهم *** من التأني وكان الرأي لو عجلوا(1)
ومن جملة مشاكلنا الاجتماعية مسألة الزواج، فقد أكد رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وبشدة على الزواج المبكر، ومما قاله (صلی اللّه عليه وآله وسلم) : «من سعادة الرجل أن لا تحيض ابنته في بيته»(2)، أي: أن يزوجها في أول بلوغها، بينما نحن نقول في الغالب: (البنت صغيرة)، والآية الكريمة: {وَأَنكِحُواْ الْأَيَٰمَىٰ مِنكُمْ وَالصَّٰلِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}(3)، ويقول البعض: (أنا بعد لم أكوّن نفسي...)! فهذا لا يخالف النبي باللسان ولا يكذبه، لكن عمله يخالف النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) .قرأت في إحصائية إن نفوس إحدى الدول الإسلامية يبلغ حوالي ستة عشر مليون نسمة، بينما يصل عدد العوانس فيها إلى مليوني عانس، ومن الأسباب هو أنهم أخّروا الشيء عن أوانه.
ومن ذلك التعجيل في حلّ النزاعات الاجتماعية حتى يُقضى
ص: 86
عليها في مهدها قبل أن تكبر وتستعصي على الحل، وقد رُوي أنه: «وقف على علي بن الحسين (عليهما السلام) رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردي عليه، قال: فقالوا له: نفعل، ولقد كنا نحب أن تقول له ونقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(1) فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً، قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به فقال: قولوا له: هذا علي بن الحسين، قال: فخرج إلينا متوثباً للشر، وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافئاً له على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين (عليهما السلام) : يا أخي، إنك كنت قد وقفت علي آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيَّ فاستغفر اللّه منه، وإن كنت قلت ما ليس في فغفر اللّه لك، قال: فقبل الرجل ما بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليسفيك، وأنا أحق به»(2).
إننا نجد في بعض حالات المشاجرات أن الشخص يعلم أنه على خطأ لكن كبرياءه لا يسمح له أن يتنازل، مع أن: «من تواضع لله رفعه اللّه»(3)، ولو كان بعضنا في نفس موقف الإمام السجاد (عليه السلام)
ص: 87
لقلنا: نحن على حق فلماذا نعتذر؟ وهكذا تتطور المشكلة، وترى أحياناً القطيعة بين العشيرة الواحدة ولسنوات طوال، أو أن هناك أسرة واحدة لا يكلم أحدهم الآخر لسنوات طوال.
ص: 88
قال اللّه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(1).
إن الإسلام هو دين الوسطية، بمعنى أن هناك حقاً إذا لم يصل إليه الإنسان أو تجاوزه فيُعد هذا إما تفريط أو إفراط، فالحق هو الحد الوسط بين الإفراط والتفريط، مثال ذلك: إن جسم الإنسان يحتاج للطعام بمقدار معين من السعرات الحرارية والبروتين وغير ذلك، فإذا تناول الإنسان طعاماً أكثر من حاجة جسمه فيُعد هذا إفراطاً، ويتحول الطعام الزائد إلى ضرر على جسمه، وإذا أكل أقل من حاجة جسمه فسيصاب بالضعف والنحول، وقد لا يتمكن من أداء واجباته العملية أو سواها.
إذن، فمراعاة حاجة جسم الإنسان عند هذا الحد هو الحالة الوسطية، وهي تختلف من إنسان لآخر، فالعامل يحتاج إلى طعام أكثر من غيره؛ لأن جسمه يحرق سعرات أكثر، بينما الآخر قد يكون جهده فكرياً وليس بدنياً؛ لذا ستكون حاجة جسمه للطعام
ص: 89
أقل، كذلك الحال بين الشخص الضخم الجسم والنحيف. إذن،فالاحتياجات تختلف في هذا المجال.
وينطبق هذا على الرذائل والفضائل الأخلاقية، حيث تكون الفضيلة هي الحد الوسط بينهما، فإذا تجاوزت الحد أصبحت رذيلة، مثلاً: تُعد الشجاعة فضيلة، بمعنى أن يُقدم الإنسان ولا يخاف ولا يهاب شيئاً، ضمن حدود الحكمة، لكنها تتحول إلى تهور في حالة غياب الحكمة فتصبح رذيلة، وعكسه الجبن.
وإذا استخدم البطل في ساحة المعركة الفنون الحربية، والتزم الاحتياط الكافي فهو شجاع، لكن إذا لم يراعها واقتحم المعركة وقُتل فهذا نوع من التهور؛ لأنه عرّض نفسه للقتل من دون مبرر، ولو أن شخصاً ألقى بجسده من مرتفع شاهق؛ لأنه لا يخاف أن تتكسر عظامه فهذا تهور؛ لأنه أفرط بسبب عدم وجود الحكمة في عمله؛ لذا تقول الآية الشريفة: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}(1)، فينبغي على الإنسان أن يكون كريماً ولكن بحكمة، وحينما يستهلك أمواله كلها ثم يحتاج مالاً فيذهب في الليل ويسأل الناس الصدقة، فهذا النوع من السلوك رذيلة، كما أن الرذيلة عندما يبخل بأمواله ويمنع العطاء.
إذن، على الإنسان الاعتدال والحكمة في صرف الأموال، مع مراعاة حقوق اللّه سبحانه وتعالى من الخمس والزكاة وغير ذلك،
ص: 90
أي: مراعاة الحقوق الواجبة والأمور المستحبة، مثل الصدقة وحقالحصاد وغير ذلك، فلا الزيادة لدرجة الإفراط مقبولة، ولا النقصان.
لقد جعل اللّه سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية هي الميزان؛ لأنها الأمة الوسط، والوسطية هي الحق، أي: الحد الوسط في كل شيء، بمعنى لا إفراط ولا تفريط، ثم تقاس الأمم الأخرى بهذه الأمة، والمعني بهذه الآية أئمة أهل البيت (عليهم السلام) (1)، أي: وكذلك جعلناكم أيها الأئمة أمة، أي مجموعة، وسميت أمة لأنها تُؤَم، أي: يقصدها الآخرون.
وأمّا سائر المسلمين فإن التزموا بما شرّعه اللّه سبحانه وتعالى فسيكونون الميزان الذي يُقاس به الآخرون، أما إذا لم يلتزموا بها فسوف لا يكونون كذلك، وأما أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فلعصمتهم ولاصطفاء اللّه سبحانه وتعالى لهم فقد صاروا ضمن الدائرة التي أراد لهم تعالى أن يسيروا ضمنها؛ فكانوا هم الميزان في جميع أعمالهم، سواء الأعمال العامة أم الخاصة، ورسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في مقدمتهم؛ لأن الآية الكريمة تقول: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(2)؛ وقد ورد في زيارة
ص: 91
الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «السلام على ميزان الأعمال»(1)، فأي عمل ينطبق مع ما يقوله الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فهو صحيح، أما إذا زاد أو قلَّ عن ذلك فسوف يصبح بين الإفراط والتفريط.
إن القرآن الكريم قد تطرق إلى بعض الأمور الجزئية جداً في حياة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ، كما ورد مثلاً في سورة التحريم، قال تعالى: {يَٰأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2)، حتى نصل إلى قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَٰجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنۢ بَعْضٖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنۢبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}(3).
إن هذه قضية شخصية - كما جاء في بعض التفاسير(4)- إذ شرب الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) عسلاً، فاتفقت عائشة وحفصة على أن تؤذيا الرسول، فقالتا له: إن في فمك رائحة (مغافير)!(5). وهناك تفسير آخر يرتبط
ص: 92
بماريا القبطية.
إذن، هذه سورة كاملة من القرآن الكريم تدور حول هذه القضية، فيتساءل البعض قائلاً: إن القران كتاب هداية، وقد أرسل لهداية المسلمين منذ يوم نزوله حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها، بل ليس لهداية المسلمين فقط، وإنما لهداية البشرية جمعاء، فكيف ترد سورة كاملة في القرآن عن قضية شخصية وشجار دار بين زوجات النبي؟
والجواب: إن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يكون الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) قدوة وأسوة، وميزاناً في كل شيء، وحتى في حياته الشخصية، وكيف يتعامل الأزواج والزوجات بعضهم مع البعض الآخر.
وقد يبتلي أيّ منّا بحالة من هذه الحالات، فمن لطف اللّه سبحانه وتعالى على الأمة الإسلامية، بل على البشرية جمعاء أنه بيّن كل ما يقرب الناس إلى الكمال والحق، سواء في القرآن أم على لسان الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) أو أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، لكي يكون الميزان الكامل للأمة الوسط في كل شيء.
إن منهج الإسلام يتعلق في كل شؤون الحياة.
وقد يتساءل البعض أحياناً ويقول: لماذا يستحب للإنسان أن يدخل إلى المرافق الصحية برجله اليمنى ويخرج باليسرى، وعندما يدخل إلى المسجد يقدم اليمنى ويخرج باليسرى، ما كل هذه الأحكام؟
والجواب هو : إن الإسلام وضع نظاماً شاملاً للحياة في كل شيء، فهو يشمل كل حالة وقضية حتى الحالات الجزئية منها. نعم،
ص: 93
إن كثيراً منها ليست واجبة، باعتبار أن المنهج الصحيح مطروح على الناس، ولا يريد اللّه سبحانه وتعالى أن يضيق على البشر.
لذا فالشريعة سهلة سمحاء، كما يقول الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) (1)، فلا إفراط ولا تفريط حتى في جانب الاعتقاد، فقد رأى النصارى مثلاً بعض المعجزات لعيسى (عليه السلام) ؛ إذ أحيى الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأنبأهم بما يدخرون في بيوتهم، حسبما ورد في القرآن الكريم(2)، فقالوا: هو اللّه، أو إن اللّه حلَّ فيه، أو إنه اللّه تعالى تجسد في شكل عيسى (عليه السلام) ، وهناك أناس لديهم تفريط، مثل اليهود الذين اتهموا عيسى وأمه (عليهما السلام) : {وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَٰنًا عَظِيمًا}(3)، بينما يقول القرآن: إن عيسى (عليه السلام) عبد لله(4)، ولكن اللّه تعالى أكرمه ببعض المعاجز؛ لذلك عندما يذكر إحياءه للموتى يقول بإذن اللّه، وكذلك عندما يبرئ الأكمه والأبرص، فلا يصح أن نرفعه فنجعله كاللّه، ولا نخفضه وننكر معاجزه كلياً.
إن منهج الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) هو لا إفراط ولا
ص: 94
تفريط، فلا غلو ولا تقصير وقد أفرط بعض الناس عندما رأوا بعض المعجزات من الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فغلوا فيه، وكمثال على ذلك أنه كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في طريقه إلى صفين، وقد وصل إلى المدائن في شمال الكوفة، فكانت هناك جمجمة في المقبرة أمر بإحضارها وتكلم معها، وكانت تلك جمجمة كسرى(1)، وهو أحد أكاسرة أكبر أمبراطوريات العالم من حكام الفرس، فلماذا تكلم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مع الجمجمة وهي أجابته بإذن اللّه سبحانه وتعالى؟!
ص: 95
والجواب: هو إنه حينما خرجت زوجة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) على الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقُتل من قُتل في معركة (الجمل)، وحينما رفع معاوية لواء الدفاع عن عثمان وطالب بدمه، في حين أن أكثر المسلمين لم يكونوا يعرفون الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ؛ لأن أكثرهم ولدوا بعد رحيل الرسول، وكان ذلك الجيل لا يعرف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بسبب وجود الحصار الإعلامي على الإمام (عليه السلام) ؛ لذا كان الإمام (عليه السلام) مضطرا أن يظهر تلك المعاجز للناس، لكي يعرفوه وسط الأجواء الملتبسة، فكثير من الناس كانوا يرون هذه المعاجز فيسلمون للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، لكن بعضهم لا يحتمل ذلك فيكون إما في طرف الإفراط أو طرف التفريط(1).
كما أنه فرّط البعض الآخر كالخوارج قسم فكفَّروا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ؛ لأنهم رأوا منه معاجز لم يتمكنوا من تحمّلها.
علماً أن النار كانت مصير كلتا الطائفتين، فالغلاة كفار، والنواصب كفار، والناصبي هو من يجاهر بالعداء لأهل البيت (عليهم السلام) ؛ لأن النواصب قسمان:
الأول: أناس يعادون أهل البيت في قلوبهم ولا يجهرون بالعداء، فيُعد هؤلاء منافقين، ولا يحكم عليهم بالكفر.
ص: 96
الثاني: من يجهر بالعداء لأهل البيت، فيكون كافراً في الظاهر.
وقد قال اللّه تعالى عن المنافقين: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ}(1)، أي: إنه تعالى يأمر بمعاملتهم معاملة المسلمين في الدنيا، فيما يعاملهم في الآخرة معاملة الكفار، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَٰفِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}(2).
إن للرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كرامات ومعاجز ومقامات، وهي هبة من اللّه سبحانه وتعالى: {عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}(3)، أي: إن اللّه سبحانه وتعالى يعطيك هذا المقام المحمود، ونحن نقول: إن اللّه سبحانه وتعالى شاء أن يُعلِم رسوله بكل قضايا العالم، بما كان وما يكون وما هو كائن: {وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٖ قَدِيرٌ}(4).
قال عمر بن الفرج الرخجي(5): «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) (6): إن شيعتك تدّعي أنك تعلم كل ما في دجلة ووزنه، وكنا على شاطئ
ص: 97
دجلة. فقال لي (عليه السلام) : يقدر اللّه تعالى على أن يفوّض علم ذلك إلى بعوضة من خلقه أم لا؟ قلت: نعم، يقدر. فقال: أنا أكرم على اللّه تعالى من بعوضة ومن أكثر خلقه»(1).
لذا فإن اللّه سبحانه وتعالى اصطفى رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وكذلك الأنبياء (عليهم السلام) ، وأعطاهم مقامات بإذنه، وقد دلّت الآية القرآنية على ذلك، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(2)، أي: أئمة أهل البيت (عليهم السلام) (3)، بمعنى أن كل ما نقوم به يقوم اللّه سبحانه وتعالى باطلاع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) والائمة (عليهم السلام) عليه، لكي يكون رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) شهداء على الناس، فهل يشهدون بشيء إذا لم يعلموا به؟! إن شهدوا وهم لا يعلمون تكون شهادتهم شهادة زور، فيجب أن يعلم الشاهد بالقضية لكي تكون شهادته صحيحة، ويتحمل مسؤوليتها في يوم القيامة، وهل في ذلك إشكال؟ وقد دلّ القرآن الكريم والروايات على ذلك.
وإذا قلنا: إن اللّه سبحانه وتعالى شاء أن ترتبط أمور هذا الكون بالإمام المهدي فما المشكلة في ذلك؟ كما وكّل اللّه سبحانه
ص: 98
وتعالى مجموعة من الملائكة للقيام بعدة أمور، فمن الذي يقبض أرواح الناس؟ إن اللّه سبحانه وتعالى يتوفى الأنفس(1)،
لكنه تعالى أمر ملك الموت بذلك(2)، وهناك أعوان لملك الموت، وقد أعطاه اللّه سبحانه وتعالى القدرة لقبض الأرواح.
وهناك مجموعة من الملائكة تدبر أمور هذا الكون: {فَالْمُدَبِّرَٰتِ أَمْرًا}(3)، فهل هناك غلو في الملائكة؟ كلا؛ لأنهم يدبرون الكون بأمر اللّه سبحانه وتعالى، الذي أعطاهم القدرة على ذلك، فكل شيء تحت قدرة اللّه وعلمه وإرادته.
إذن، إذا كان الإمام المهدي له الولاية التكوينية بإذن اللّه فأين المشكلة؟ وهل هذا غلو؟ كلا، لأنه قام الدليل على ذلك.
إنه يجب علينا أن نراعي في برنامجنا، وفي كل شيء حالة عدم الإفراط والتفريط، ونلاحظ ذلك في معتقداتنا وفي القرآن الكريم وأقوال الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، فينبغي أن نكون على ذلك النهج في أعمالنا وأخلاقنا وجميع أمورنا، أي: أن يكون أحدنا كما قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فتأسى متأسٍ بنبيه(4)، واقتص
ص: 99
أثره، وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة»(1)، أي: الهلاك في الآخرة وفي الحياة الصعبة.
إن حياة المسلمين صعبة الآن؛ لأنهم ابتعدوا عن أحكام اللّه سبحانه وتعالى، فحتى المتدين منهم يحصر دينه بالصلاة والصوم والخمس والحج، ولكن هل أن نظام حياته إسلامي في الغالب؟ وهل أننا نراعي الأحكام الشرعية في زواجنا وعلاقاتنا الاجتماعية مع أقربائنا وأصدقائنا وفي قضايانا الأخرى؟
إن الأغلبية - ولا نقول الجميع - لا يراعون ذلك بصورة كاملة، فالزواج في مجتمعاتنا لا يتم طبقاً للنظام الإسلامي؛ إذ إن المهور عالية جداً. مع أن سنة الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) تدعو إلى تبسيط الأمور في الزواج، وعندما نتحدث مع بعض الآباء يقول: إن البنت عزيزة، ويجب أن أزوجها بأغلى الأثمان! وإذا لم يكن المهر عالياً فإن قيمة المرأة الاجتماعية ستكون قليلة!
إننا نقول لهؤلاء: هل أنتم أكثر معرفة في هذا الأمر أم الرسول الأكرم (صلی اللّه عليه وآله وسلم) ؟ حيث زوّج فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (عليها السلام) بمهر السنة، وكان (500) درهماً شرعياً، وهي تعادل (262.5) مثقالاً من الفضة، وهذا هو مهر الزهراء (عليها السلام) فهل قلّل من قيمها؟ كلا، إن جميع أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تزوجوا وزوجوا أبناءهم وبناتهم بمهر السنة، ولم يقلّل هذا من قدرهم وقيمتهم.
ص: 100
والحاصل: إنه عندما تكون المهور غالية والشرائط صعبة، سواء من طرف الزوج أم الزوجة، فإن النتيجة ستكون ملايين العوانس، وملايين الشباب الذين لا يستطيعون الزواج، وتبقى حياة الطرفين صعبة، ناهيك عن حدوث المشاكل الأخرى، فهل أننا نتبع الرسول (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في أمورنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ كلا، إلا القليل منها، وهذا يؤدي إلى أن نعيش في ضنك، فالمشاكل ستواجه جميع أعمال الإنسان؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى جعل لنا ميزاناً ولم نلتزم به، فنحن إما أن نذهب باتجاه الزيادة أو النقصان، ونتصور أن الدين هو العبادات فقط، بينما العبادة هذا جزء مهم من الدين، فهذه هي الأركان، لكن الدين له جوانب أخرى وفضائل ينبغي أن تلتزم بها، ورذائل ينبغي أن نتركها.
هناك آداب اجتماعية، إذا رجعنا إلى الروايات عموماً، سنكتشف أن روايات الأحكام تمثل نسبة معينة منها، فهناك قسم كبير من الروايات يتعلق بالجوانب الأخرى، وإذا حاول الإنسان أن يطبق حياته وفقاً لحياة الرسول وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) - أي: أن يفعل ما فعلوا ويترك ما تركوا - فإن اللّه سبحانه وتعالى يبارك بذلك؛ لأنه تعالى هو مسبب الأسباب، وما علينا سوى أن نرفع خطوة واحدة إلى الأمام، وعندها سيتقدم لنا اللّه سبحانه وتعالى ميلاً، بمعنى: إن اللّه تعالى يرسل علينا رحمة واسعة.
ص: 101
ص: 102
كلمة المؤسسة. 5
كيف نصنع الحياة الناجحة. 11
الأمور التي يحتاجها الإنسان ليعيش حياة كريمة. 12
الأمر الأول: الإيمان مع الصبر. 12
الأمر الثاني: الأمانة. 13
الأمر الثالث: العلم.. 14
عناصر السعادة الأبدية. 14
الإرادة والصبر سبيل النجاح.. 25
نظم الأمر ضالة الناجحين.. 31
النجاح والإمداد الغيبي.. 38
رعاية الفكر وتكريس القناعات... 50
التفكير وتأثيره في العمل.. 58
دور الإنسان في تحصيل التوفيق.. 60
مواجهة حالات زرع الشك والريب في النفوس... 71
التمرد والمخالفة. 75
مراعاة الوقت المناسب في تفادي المشاكل الاجتماعية. 80
ص: 103
مراعاة التدرج في الحياة. 81
الوسطية منهج حياة ناجحة. 89
الوسطية في الاعتقادات... 94
الوسطية في الأعمال.. 99
فهرس المحتويات... 103
ص: 104