بحوث أخلاقية

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: الحسيني الشيرازي، السيد جعفر، 1349 -

عنوان واسم المؤلف: بحوث أخلاقية/ محاضرات السيد جعفر الحسيني الشيرازي؛ [إلى] موسسةالشجرةالطیبة.

تفاصيل المنشور: قم : انتشارات دارالعلم، 1442 ق.= 1399.

مواصفات المظهر: 148 ص.؛ 5/14×5/21 س م.

ISBN : 978-964-204-587-7

حالة الاستماع: فاپا (الطبعة الثانية)

ملاحظة : العربية.

ملاحظة : چاپ قبلی: دارالفكر، 1440ق.= 1397.

ملحوظة: ببليوغرافيا مع ترجمة.

قضية : الأخلاق الإسلامية

Islamic ethics

الأخلاق الإسلامية - الجوانب القرآنية

Islamic ethics -- Qur'anic teaching

أحاديث الشيعة -- قرن 14

Hadith (Shiites) -- Texts -- 20th century

الأخلاق الاجتماعية -- الجوانب الدينية -- دين الاسلام

Social ethics -- Religious aspects -- Islam

الأخلاق الاجتماعية -- الجوانب القرآنية

Social ethics -- Qur'anic teaching

المعرف المضاف: معهد شجر طيبة(قم)

ترتيب الكونجرس: BP247/8

تصنيف ديوي: 297/61

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 7522352

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

الشجرة الطيبة

بحوث أخلاقية

------------------

السيد جعفر الحسيني الشيرازي

الناشر: دار العلم

المطبعة: احسان

إخراج: نهضة الله العظيمي

كمية: 3000

الطبعة الثانية - 1442ه ق

-----------------

شابك: 7-587-204-964-978

----------------------------------

النجف الأشرف: مكتبة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) للطلب 07826265250

كربلاء المقدسة: شارع الإمام علي (عليه السلام) ، مكتبة الإمام الحسين (عليه السلام) التخصصية

مشهد المقدسة: مدرسة الإمام الرضا (عليه السلام) ، جهارراه شهدا، شارع بهجت، فرع 5

طهران: شارع انقلاب، شارع 12 فروردين، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 16 و 18، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، دوار روح الله، أول فرع 19، دار العلم

قم المقدسة: شارع معلم، مجتمع ناشران، الطابق الأرضي، الرقم 7، دار العلم

ص: 1

اشارة

بحوث أخلاقية

محاضرات السيد جعفر الحسيني الشيرازي

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ 2 الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ 3 مَٰلِكِ يَوْمِ الدِّينِ 4 إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ 5 اهْدِنَا الصِّرَٰطَ الْمُسْتَقِيمَ 6 صِرَٰطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ 7

ص: 3

ص: 4

كلمة المؤسسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

الأخلاق: هذه المفردة الصغيرة في لفظها، العميقة في محتواها، والواسعة في أبعادها، من الصعب أن يحتويها كتاب أو مجموعة كتب، والسبب أن الأخلاق تتعلق بالفكر والذهن، كما تتعلق بالسلوك والحياة اليومية للإنسان، بل هي تمثل رداء الدين والعقيدة؛ لذا كان لازماً على كل مسلم ومؤمن أن يكون خلوقاً، أو يتصف ما أمكنه بالصفات الحميدة.

وفي هذا الكتاب - عزيزي القارئ - يختار سماحة السيد جعفر الشيرازي (حفظه الله) باقة من المفردات الأخلاقية، مثل: الشكر والصبر والهدوء والتعاون والتكافل وغيرها، ليؤكد أنها هي التي تصنع شخصية الإنسان وتصنع الشعوب والأمم، وليس أدلّ على ذلك من الأمة الإسلامية، التي نشرت لواء التوحيد في ربوع العالم، من خلال الفضائل والخصال الحميدة، التي رأتها الشعوب

ص: 5

والأمم الأخرى قبل أن يروا الإسلام وتعاليمه وأحكامه.

يشير سماحة المؤلف إلى الفضل الكبير للرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) الذي نفذ إلى القلوب بأخلاقه السامية، قبل أن ينفذ إلى العقول لكسب المؤمنين للدين الإسلامي، فقد كان (صلی الله عليه وآله وسلم) وسط مجتمع في غاية الخشونة والغلظة، لكنه (صلی الله عليه وآله وسلم) بالمقابل كان في غاية اللطف واللين، وهذا ربما يكون سهلاً بالبيان، لكنه صعب للغاية على صعيد الواقع، فطالما تعرض النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) للاستفزازات، كسحب ردائه والصراخ باسمه، وحتى التشكيك بعدله...! فكان (صلی الله عليه وآله وسلم) يأتي لكل واحد من أولئك الغافلين، وينير قلبه وضميره بالكلام الحسن ليعرف خطأه حتى لا يكرره. لكن هل ينتهي الأمر إلى هنا...؟

نحن نفتخر أن لدينا نبياً كريماً تتجسد فيه كل الصفات الأخلاقية، حتى أن القرآن الكريم يثني عليه ويمدحه بصريح العبارة: {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ}(1)، ولكن أين الأخلاق النبوية العظيمة من واقعنا اليوم؟

إن هذه المحاضرات تدعونا فيما تدعونا إليه إلى أن نتخذ من الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله وسلم) قدوة وأسوة لنا في أخلاقه وسلوكه. وإننا نتساءل: كيف تمكن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وفي تلك الظروف الاجتماعية القاسية من صياغة شخصية جديدة من قلب الجفاء والخشونة في

ص: 6


1- ([1]) سورة القلم، الآية: 4.

الجزيرة العربية، بينما نعجز اليوم ليس من تكرار ذلك العمل، بل من المحافظة على ما تبقى لدينا من خصال وحالات أخلاقية في المجتمع - إن صحت العبارة - ؟ فقد بات الملتزم بالقيم الأخلاقية يطلق عليه اجتماعياً ب- (المحافظ) وهي عبارة منمّقة، وربما هناك أوصاف أخرى أكثر قساوة تنسب للمتخلقين بأخلاق النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) ! وربما يكون هذا الكتاب خطوة من بين خطوات لتكريس الأخلاق في ثقافتنا وسلوكنا.

مؤسسة الشجرة الطيبة

قم المقدسة 1440ق

ص: 7

ص: 8

الفوز بالآخرة وميزان الأعمال والأقوال

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(1).

يحصل الإنسان في هذه الحياة على فرص كثيرة للخير، وإذا استثمر ظروف الزمان والمكان فإنه في كثير من الأحيان يحصل على الخير، أما إذا لم ينتهز تلك الظروف والفرص فإنها تمرّ ويبقى صفر اليدين، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «انتهزوا فرص الخير فإنها تمرُّ مرّ السحاب»(2)، وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) : «الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود»(3)؛ لأن الظروف ليست دائماً مهيّأة لعمل الخير، ولا يمكن للإنسان أن يصل إلى الخير عن طريق آخر؛ لأن الجنة محفوفة بالمكاره والمصاعب(4).

ص: 9


1- سورة التوبة، الآية: 105.
2- مستدرك الوسائل 12: 142.
3- مستدرك الوسائل 12: 142.
4- إشارة لما رواه في روضة الواعظين: 421، قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات».

ولكي يفر الإنسان من تلك المصائب والمكاره يحتاج إلى مقارعة الشيطان، الذي يحاول أن ينفذ إلى قلبه عبر الوسوسة والحبائل المختلفة، فيرغّبه لإضاعة الفرص؛ لأن المنافذ إلى قلبه كثيرة، ولكن إذا سدّ تلك الثغرات فحينها يتمكن من الاستماع إلى نداء الفطرة، وإذا لم يغلقها فإن الشيطان يدخل قلبه، ويثير الضوضاء ويريه أموراً لا واقع لها، فيترك عمل الخير ويبرر لنفسه، لكن وكما قال الله تعالی: {بَلِ الْإِنسَٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ}(1)، فالإنسان يمكنه أن يعمل أو يترك العمل، ولا يمكن أن يلقي المعاذير لله تعالى لأنه يعلم بواقع الأمر، فحينما كان فرعون يحارب موسى (عليه السلام) كان يعلم أن موسى (عليه السلام) على حق، قال الله تعالی: {وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}(2)، وكذلك المشركون الذين كانوا يحاربون رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) ، حيث كانوا يعلمون جيداً أن النبي وأهل بيته (عليهم السلام) على حق، فحينما أراد هارون العباسي أن يعتقل الإمام الكاظم (عليه السلام) اعتذر من رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ؛ إذ جاء عند قبره (صلی الله عليه وآله وسلم) (3)؛ لأنه يعلم أن

ص: 10


1- سورة القيامة، الآية: 14-15.
2- سورة النمل، الآية: 14.
3- انظر: عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 73، وفيه: ... عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال: حدثنا إبراهيم بن أبي البلاد قال: «كان يعقوب بن داود يخبرني أنه قد قال بالإمامة، فدخلت عليه بالمدينة في الليلة التي أخذ فيها موسى بن جعفر (عليهما السلام) في صبيحتها فقال لي: كنت عند الوزير الساعة - يعني يحيى بن خالد - فحدثني أنه سمع الرشيد يقول عند قبر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) كالمخاطب له : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني أعتذر إليك من أمر قد عزمت عليه، فإني أريد أن آخذ موسى بن جعفر فاحبسه؛ لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حرباً تسفك فيها دماؤهم، وأنا أحسب أنه سيأخذه غداً، فلما كان من الغد أرسل إليه الفضل بن الربيع وهو قائم يصلى في مقام رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فأمر بالقبض عليه وحبسه».

عمله هذا باطل، وأن الإمام (عليه السلام) أولى منه بالخلافة.

فقد ذكر الشيخ الطبرسي، فقال: «وروي أن المأمون قال لقومه: أتدرون من علمني التشيع؟ فقال القوم: لا والله ما نعلم ذلك. قال: علمنيه الرشيد! قيل له: وكيف ذلك، والرشيد يقتل أهل البيت؟! قال: كان الرشيد يقتلهم على الملك؛ لأن الملك عقيم.

ثم قال: إنه دخل موسى بن جعفر (عليهما السلام) على الرشيد يوماً فقام إليه، واستقبله وأجلسه في الصدر وقعد بين يديه - إلی أن قال - ثم قام فقام الرشيد لقيامه، وقبّل بين عينيه ووجهه، ثم أقبل عليَّ وعلى الأمين والمؤتمن فقال: يا عبد الله، ويا محمد، ويا إبراهيم، امشوا بين يدي ابن عمكم وسيدكم، خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه، وشيعوه إلى منزله - إلی أن قال - ثم انصرفنا وكنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس قلت: يا أمير المؤمنين، ومَن هذا الرجل الذي أعظمته وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟

قال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده.

فقلت: يا أمير المؤمنين، أوَ ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟

ص: 11

فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله منّي ومن الخلق جميعاً، ووالله لو نازعتني في هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك؛ لأن الملك عقيم(1).

حينما أراد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) الخروج إلى غزوة تبوك أعلن عن ذلك صراحةً ولعامة الناس، بينما كان (صلی الله عليه وآله وسلم) يخفي خبر إرسال سرية أو الإعداد لغزوة، ويقول لهم تهيّأوا ثم سيروا إلى الشرق بمقدار كذا... مثلاً، وبعد ذلك غيّروا طريقكم إلى الغرب، أو إلى الجهة المقصودة لكي لا يتهيأ الأعداء للقتال، ولكي لا تراق الكثير من الدماء، ولكن في غزوة تبوك أعلن النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) هذا الأمر وقال: إننا ذاهبون لمحاربة الروم(2)؛ وذلك لأن المسافة بعيدة جداً، ويحتاج الأمر إلى إعداد القوة على النحو الكامل؛ لأن الروم إمبراطورية عظمى، وكان يصعب على كثير من الأصحاب إطاعة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في هذا الأمر؛ لأن الحر كان شديداً، وكان الوقت فصل اقتطاف الثمار، وهم يعيشون سنة كاملة على ثمار هذا

ص: 12


1- الاحتجاج 2: 392.
2- بحار الأنوار 21: 189، وفيه: «... قال المفسرون: لما رجع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وذلك في زمان إدراك الثمرات، فأحبوا المقام في المسكن والمال، وشقّ عليهم الخروج إلى القتال، وكان (صلی الله عليه وآله وسلم) قلَّ ما خرج في غزوة إلا كنى عنها، وورى بغيرها إلا غزوة تبوك لبعد شقتها، وكثرة العدو ليتأهب الناس، فأخبرهم بالذي يريد، فلما علم الله سبحانه تثاقل الناس أنزل الآية وعاتبهم على التثاقل».

الموسم، إضافة إلى أنهم كانوا يخافون من الروم، فكلما كان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يطلب منهم ذلك يتماهلون، فنزلت آيات عديدة بهذا الشأن، منها: قوله تعالى: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا مِنَ الْأخِرَةِ فَمَا مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فِي الْأخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}(1).

إن الكلمات في اللغة العربية لها دلالة على المعنى بنفس طبيعتها، فإذا كان المعنى خشناً يكون اللفظ خشناً أيضاً، وإذا كان المعنى لطيفاً يكون اللفظ لطيفاً أيضاً، فجملة: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} لفظة ثقيلة تعكس الواقع الذي كان المسلمون يعيشونه، لكن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أصرّ عليهم، وقد نزلت آيات كثيرة، وكانت تهددهم، فأطاع الأكثر كلام رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في نهاية المطاف، وذهبوا إلى الغزوة: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}(2)؛ لأنه لم يحدث قتال بين الروم والمسلمين، فقد انسحب الروم خوفاً من المسلمين(3).

ورغم تكرار النداء من قبل رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، والآيات الكريمة في الدعوة للقتال، فإن البعض تخلف عن أمر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ثم تاب الله تعالى عليهم.

إن الإسلام يأمر الإنسان بالعمل، سواء للدنيا أم للآخرة، فمهما كانت الظروف يجب أن يكون الإنسان عاملاً حتى في أشد

ص: 13


1- سورة التوبة، الآية: 38.
2- سورة الأحزاب، الآية: 25.
3- بحار الأنوار 21: 251.

الظروف صعوبة. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}(1)، وجاء في آية كريمة أخرى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَٰبَ وَالْحِكْمَةَ}(2)، فكان الظرف مناسباً لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لكي يزكّي الناس ويعلمهم الكتاب والحكمة، وقد استفاد من هذا الظرف وأدى المهمة بأحسن وجه.

وحينما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مُبعداً عن الخلافة لم يتمكن من تزكية الناس، لكنه استفاد من المرحلة التي عاشها، فكان يذهب ويحفر الآبار قرب المدينة، وما زالت قائمة إلى الآن باسم (آبار علي).

فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لقى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) وتحته وسق من نوى(3)، فقال له: ما هذا يا أبا الحسن تحتك؟ فقال: مائة ألف عذق إن شاء الله، قال: فغرسه فلم يغادر منه نواة واحدة»(4).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يخرج ومعه أحمال النوى، فيقال له: يا أبا الحسن، ما هذا معك؟ فيقول: نخل إن شاء الله، فيغرسه فلم يغادر منه واحدة»(5).

ص: 14


1- سورة التوبة، الآية: 33.
2- سورة الجمعة، الآية: 2.
3- الوسق: ستون صاعاً أو حمل بعير.
4- الكافي 5: 75.
5- الكافي 5: 75.

فالإمام (عليه السلام) في حينها لم يتمكن من بيان الأحكام، فذهب وزرع النخيل وحفر الآبار، مع أنه (عليه السلام) كان مستغنياً عن ذلك، فقد كانت له أملاك كثيرة، وكان يتصدق بجميع محاصيلها للمحتاجين.

وحينما كان يوسف (عليه السلام) في السجن كان معه مجموعة من الناس، وكان يحاول أن يهديهم، قال تعالى: {يَٰصَٰحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَٰحِدُ الْقَهَّارُ}(1)، حيث كان يبيّن الوحدانية وأدلتها.

كذلك كان حال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في السجن، وحيث كان وحيداً، ولم يتمكن أن يرشد الناس إذ لم يكن معه أي سجين آخر ليهديه لأحكام الله تعالى، فكان يعبد الله طوال الليل، صائم النهار قائم الليل، فكان يسجد سجدة طويلة، حتى إذا رآه أحدهم ظنّ أن هناك خرقة ساقطة على الأرض، فلما كان يمعن النظر كان يرى رجلاً ساجداً لله سبحانه وتعالى(2)، ذلك حتى لا

ص: 15


1- سورة يوسف، الآية: 39.
2- عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 88 ، وفيه: ... حدثني الخرزي أبو العباس بالكوفة قال: حدثنا الثوباني قال: «كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) بضع عشرة سنة، كل يوم سجدة بعد انقضاض الشمس إلى وقت الزوال، فكان هارون ربما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الذي حبس أبو الحسن (عليه السلام) ، فكان يرى أبا الحسن (عليه السلام) ساجداً، فقال للربيع: يا ربيع، ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟! فقال: يا أمير المؤمنين، ما ذاك بثوب، وإنما هو موسى بن جعفر (عليهما السلام) ، له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال، قال الربيع: فقال لي هارون: أما إن هذا من رهبان بني هاشم، قلت: فما لك قد ضيقت عليه الحبس، قال: هيهات لابد من ذلك».

يمضي وقته هباءً منثوراً.

ولهذا كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول في دعاء أبي حمزة الثمالي - وهذا لتعليمنا نحن - : «أو لعلك رأيتني آلف مجالس البطالين فبيني وبينهم خليتني»(1)، فالله تعالى يبغض البطالة؛ إذ يستطيع الإنسان أن يدرس أو يعمل أو يعبد الله تعالى، أو يتكلم مع أصحابه وإخوانه بما يرضي الله تعالى، أمّا إذا كان من دون عمل (بطّالاً) فإن المجلس سيتحول إلى بؤرة من الفساد والإفساد، وتدور الغيبة في مجالس البطالين والتهمة والنميمة والمحرمات الأخرى، ولهذا نلاحظ أن المجرمين عادة ما يكونون من البطالين؛ لأن الإنسان إن لم يملأ وقته بالعمل يُبتلى بالضلال والفسق والفجور. فالإنسان الذي يبحث عن الراحة والدعة يصبح بطّالاً، فينجر تدريجياً إلى الفساد والإفساد، ويبتلى تدريجياً بالهمّ والغمّ.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «مَن قصّر في العمل ابتلي بالهم»(2)؛ لأن الإنسان إذا كان بطّالاً يحس باللاجدوائية، ويتساءل: (أنا مَن وماذا؟ وما هو دوري؟) ومثل هذا التفكير يؤثر على نفسيته، فيبتلى بالمرض النفسي؛ لهذا ذُكر في الإحصائيات: أن أكثر معدل للانتحار يقع بين الناس البطّالين؛ لأنهم يشعرون أن لا جدوى ولا فائدة من وجودهم، كما أن الندم سيصيب البطال حينما يرى أن العاملين

ص: 16


1- إقبال الأعمال 1: 164.
2- نهج البلاغة، الحكم: 127؛ بحار الأنوار 78: 191.

قطفوا ثمارهم وهو غير عامل، فلا ثمر له، فيندم يوم القيامة؛ لذا فمن أسماء يوم القيامة هو (يوم الحسرة)، قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(1).

ورد في الحديث الشريف عن عمرو بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : «إني سمعتك وأنت تقول: كل شيعتنا في الجنة على ما كان فيهم؟ قال: صدقتك كلهم والله في الجنة، قال: قلت: جعلت فداك، إن الذنوب كثيرة كبار؟ فقال: أما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع أو وصي النبي، ولكني والله أتخوف عليكم في البرزخ. قلت: وما البرزخ؟ قال: القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة»(2)، فإذا مات الإنسان ووضع في قبره إلى يوم القيامة، فإنه يقضي هذا الزمان بعمله، فإذا كان خيراً فنعيم، وإن كان شراً فجحيم وعذاب.

نعم، إذا مات الإنسان على ولاء آل محمد (عليهم السلام) فلا شك في أن الشفاعة ستشمله يوم القيامة حتى وإن كان مذنباً، لكن كم سنة بين موته إلى حين يوم القيامة؟ فربما تكون ملايين أو مليارات السنين، فكل هذه الفترة يقضيها الإنسان مع عمله وحسب.

لقد كان جدنا السيد ميرزا مهدي الشيرازي (رحمه الله) طالباً للعلوم

ص: 17


1- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.
2- الكافي 3: 242.

الدينية في سامراء، وكان أقرانه يذهبون يوم الخميس للنزهة على نهر دجلة، لكنه لم يكن يذهب معهم، وكان ابن عمه يقول: كلما كنّا نطلب منه الذهاب معنا للراحة كان يرفض ذلك، وفي كل أسبوع كان يأتي لنا بعذر جديد، فتارة يقول: إنني مشغول بغسل ملابسي، وتارة أخرى يقول: لدي نذر أن أذهب إلى السرداب المقدس، وتارة أخرى يقول: أريد أن أذهب إلى حرم الإمام الهادي والعسكري (عليهما السلام) ، ففي كل أسبوع لديه أحد الأعذار، فارتبت في أمره، وفي أحد الأسابيع قررت أن أراقبه، فحينما خرج الطلاب للنزهة بقيت في المدرسة، وبعد أن فرغت المدرسة من أهلها رأيته يخرج متنكراً واضعاً عباءته على رأسه كي لا يعرفه أحد، وقد زاد ذلك في ارتيابي، فتبعته من حيث لا يعلم فمضى إلى المقبرة ودخل في إحدی القبور الجاهزة وتمدد فيه كهيئة الميت، فنام على يده اليمنى، ثم أخذ يحاسب نفسه ويبكي، ويخاطب نفسه ويتلو قوله تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}(1)، وبعد ذلك يخاطب نفسه ويقول: (لا بأس، أرجعناك إلى الدنيا لنرى ماذا تفعل)! فينهض ويخرج من القبر ويعود أدراجه ويواصل أعماله، وكان يعمل ويطالع ويدرس ويدرّس في وقت واحد، حتى وصل إلى مراتب علمية عليا.

من هنا، فمن لم يعمل فقد يُبتلى أولاً: بالضلال والفسق، وثانياً:

ص: 18


1- سورة المؤمنون، الآية: 99-100.

بالهم والغم، وثالثا: بالندم؛ لذا فإنه يجب على الإنسان في جميع الظروف أن يعمل لدنياه وآخرته.

وفي شهر رجب - مثلاً - هناك مستحبات كثيرة، فمن قام بها وأدى الواجبات فإن أيام رجب تنتهي ولا يحس بالتعب، وأما الذي ترك الواجب أو لم يفعل المستحبات فإن الأيام تنتهي أيضاً، وعندما نصل يوم الحساب فإن فاعل الخير والواجبات سيرى أعماله الحسنة كثيرة، والآخر يرى أعماله قليلة جداً، قال الله تعالی: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}، وهذا ما يتعلق في الدنيا، وبعد ذلك: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أي: إن عملكم مكشوف لله ولرسوله؛ لأن الأعمال تُعرض على رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) في كل يوم وفي كل أسبوع(1)، والمقصود من (المؤمنون) أهل البيت (عليهم السلام) (2)، وكذلك سائر المؤمنين (عليه السلام) ؛ لأن أي عمل يقوم به

ص: 19


1- وسائل الشيعة 16: 113، وفيه: ... عن حفص بن البختري وغير واحد قال: «تعرض الأعمال يوم الخميس على رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وعلى الأئمة (عليهم السلام) ». الكافي 1: 219، وفيه: ... عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «تعرض الأعمال على رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) أعمال العباد كل صباح أبرارها وفجارها فاحذروها». وسائل الشيعة 16: 114، وفيه: ... عن عبد الله بن أبان قال: قلت للرضا (عليه السلام) : «ادع الله لي ولمواليك، فقال: والله إني لأعرض أعمالهم على الله في كل خميس».
2- الكافي 1: 219، وفيه: ... عن يعقوب بن شعيب قال: «سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: {اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} قال: هم الأئمة».

الإنسان سينكشف في الدنيا قبل الآخرة.

إن القضية التي ذكرناها عن المرحوم الجد لعلها كانت قبل سنوات طوال، ولم يكن ثمة أحد يعلم بها إلا شخص واحد، إلا أن الله سبحانه وتعالى كشفها لنا؛ وها نحن الآن نذكر هذه القصة بعد مضي عشرات السنوات على وفاته.

ص: 20

دور الأخلاق ولغة الحوار في بناء المجتمع المعاصر

قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) : {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(1).

إن من رحمة الله عز وجل على رسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه واجه الغلظة والخشونة التي كان يمتلكها الناس في ذلك الوقت بلين في الكلام والجانب، وتمكن بهذه الطريقة أن يرقق قلوبهم ويؤثر عليهم تأثيراً مباشراً.

ثم إن الآية الكريمة تقول: {فَاعْفُ عَنْهُمْ}، إي: فاعف عنهم إذا واجهوك بأخلاق جافة أو بغلظة وشدة، فقد كان يأتي أحدهم عند الرسول وينام علی بطنه ويرفع رجليه، ويقول: (حدثنا يا محمد...!)، أو يأتي أحدهم ويقول للرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) : (يا محمد، اعدل...!)(2)،

وكأنَّ رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يعدل في توزيع الغنائم - يقول

ص: 21


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- بحار الأنوار 33: 327، وفيه: «إن ذا الخويصرة التميمي قال للنبي: اعدل بالسوية، فقال: ويحك، إن أنا لم أعدل قد خنت وخسرت فمن يعدل؟ فقال عمر: ائذن لي أضرب عنقه، فقال: دعه فإن له أصحاباً، وذكر وصفه، فنزل: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَٰتِ}».

والعياذ بالله - أو يأتي أحدهم ويجذب الرسول من ثوبه؛ لذا الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ}، وكان هذا اللين في الكلام والجانب يؤدي إلى أن يتنبّه هؤلاء إلى أخطائهم، ثم يتأثرون بهذه الأخلاق ويدخلون في دين الله أفواجاً.

ثم يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، لأن استغفار الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وصلاته عليهم يسبب السكينة لهم، قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}(1)، فعندما يلاحظ أحدهم أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأخلاقه العالية واجهه بالعفو عن تصرفه السيئ، ثم يطلب من الله عز وجل أن يغفر له، فإن هذا الشيء يمنح السكينة لنفس ذلك الإنسان.

ثم يقول الله عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، مع أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) لم يكن محتاجاً إلى مشورتهم؛ لأن الله تعالى يقول في حقه (صلی الله عليه وآله وسلم) : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(2)، فكل ما ينطق به الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) إنما هو وحي من الله عز وجل؛ ولكن مع ذلك يقول له الله عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، وذلك ليس لاحتياج الرسول لمشورتهم وإنما لكسب قلوبهم، فالإنسان حينما يلاحظ أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) واجه أخلاقه السيئة بأخلاق حسنة وعفا عنه، وطلب من الله المغفرة له، ثم بعد ذلك كله يأتي

ص: 22


1- سورة التوبة، الآية: 103.
2- سورة النجم، الآية: 3-4.

ويستشيره في الأمور، وهو الغني عن الاستشارة، وهو الحاكم الذي يتمكن من أن لا يستشير أحداً وينفذ ما يريد، فهذا يؤدي إلى تنبههم إلى أخطائهم وتقبلهم لكلام الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) على نحو أفضل؛ لأن أسلوب التشهير والتسقيط والسب، ووصم الناس بوصمات مختلفة ليس هو الطريق السليم لكسبهم وتوعيتهم، بل إن المحق فعلاً إذا لجأ إلى هذا الطريق فإنه لا يصل إلى النتيجة التي يبتغيها. لذا يقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(1)؛ لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه، وعلى الإنسان أن يلاحظ هل أن الزمان والمكان والموقف مناسب أم لا؟ فإذا وجده مناسباً وضع الكلام أو التصرف فيه، فيكون حكيماً ومناسباً، فحينما يبدأ بالكلام لا يلجأ إلى الخشونة ولا يستعمل الشدة، وإنما يقدم الموعظة بالكلام الحسن والجميل، وقد يؤدي ذلك إلى النقاش، {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فالله عز وجل يأمر أن نجادل الآخرين وحتى المشركين والكفار بالتي هي أحسن، قال تعالى: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}(2)، والمقصود ب- (الذين ظلموا منهم) الذين أغلقوا باب تفكيرهم وعقلهم عن النقاش، وتعدوا أو تجاوزوا على غيرهم، فإذا تجاوز الإنسان الحد

ص: 23


1- سورة النحل، الآية: 125.
2- سورة العنكبوت، الآية: 46.

لم يفدْ معه الكلام والنقاش، وحينذاك ينبغي علينا أن ندافع عن أنفسنا، ولكن هذا السلوك هو استثناء، وأما الأصل فهو: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فإذا كان الأمر هكذا مع أهل الكتاب فمن باب أولى يكون مع أهل الملة الإسلامية وإن كانوا من مذاهب مختلفة، ولكن إذا رفعوا السلاح بوجهنا فيصدق عليهم قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}، فينبغي علينا أن ندافع عن أنفسنا.

إنه ينبغي أن يتعلم المجتمع الإسلامي من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) الأخلاق الحسنة، ويراعي الأسس السليمة في الحوار، ومنها الأسس الأخلاقية؛ لذا ندعو إلى الحوار لكن على أن لا يتحول إلى مراء أو سجال؛ لأن المراء منهج يضر أكثر مما ينفع، ويزيد الهوة أكثر مما يردمها، وينبغي أن يجري الحوار ضمن قاعدة (التي هي أحسن)، فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: «واترك المراء وإن كنت محقاً»(1)، إذ لا يُقصد بالمراء الوصول إلى الحق، وإنما أن يثبت كل إنسان أن كلامه هو الصحيح، ولو كان على حساب الحق، وهذا يؤدي إلى زيادة الهوّة وإلی اتباع الباطل، لكننا نتحاور من أجل الوصول إلى الحق، أو من أجل تقارب وجهات النظر أو التعرف على الآخر، فينبغي أن يكون حوارنا قائماً على هذه الأسس الثلاثة، فإذا كان الهدف من الحوار النتيجة الصحيحة -

ص: 24


1- المحاسن 1: 8.

أي: الوصول إلى الحق - فيمكننا بهذه الأخلاق الإسلامية أن نصل إلى الهدف المنشود.

يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : «كونوا دعاة إلى أنفسكم بغير ألسنتكم»(1)، وليس القصد هو أن لا تدعُ باللسان، وإنما المقصود أن يكون عملك بطريقة تجعل الناس مستعدين لفتح قلوبهم، والاستماع إلى كلام الحق، الذي يؤثر في القلوب السليمة. فينبغي علينا أن نتحلى بالأخلاق الإسلامية الصحيحة، فهي كفيلة بأن تزيل الكثير من العقبات بين الفرقاء.

يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ}(2)، أي: إن الله تعالى كرّم الناس جميعاً، ولم يقل: كرمنا المؤمنين، وإنما بني آدم، فكل إنسان مكرّم عند الله تعالى؛ لذا يجب علينا أن نحافظ على كرامة كل إنسان، حتى لو كان كافراً، فلقد أوصى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالتعامل الإسلامي والإنساني حتى مع قاتله(3)، وإذا ارتكب جريمة فإن هناك حكماً شرعياً بالقصاص منه بعدالة، وإما إذا أردتم العفو عنه فهذا أولى، ولكن إذا أردتم أن تقتصوا منه فلا تمثلوا بالرجل، يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : سمعت الرسول

ص: 25


1- الكافي 2: 77.
2- سورة الإسراء، الآية: 70.
3- روضة الواعظين: 137، وفيه: «وروي أنه لما ضربه ابن ملجم قال (عليه السلام) : أطعموه وأسقوه وأحسنوا إساره، وإن أصح فأنا ولي دمي، إن شئت أعفوا وإن شئت استقدت منه، وإن أنا هلكت فبدا لكم أن تقتلوه فلا تمثلوا به».

يقول: «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور»(1).

هكذا نلاحظ تعامل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فكيف بنا ونحن مسلمون ونعيش في رقعة واحدة؟

يوجد هناك تحدٍّ كبير من قبل الأعداء، فإن كثيراً منهم يركزون على حالة التفرقة بين المسلمين، وفقاً لسياسة (فرّق تسد)، فحينما تكون هناك تفرقة نتغاضى عن نقاط الاشتراك، وقد نركز على نقاط الخلاف بأسلوب غير أخلاقي ولا إسلامي، حيث يشهّر أحدنا بالآخر؛ لذا فمن الطبيعي أن يستفيد الأعداء من هذه الحالة، لكن إذا التزم جميع المسلمين بالعمل الإسلامي والأخلاق الفاضلة فحينئذٍ سوف نتمكن من الوصول إلى حالة من الوئام والتعايش، وبناء المجتمع الإسلامي الذي يمكنه قيادة العالم بالطريقة الأفضل.

ص: 26


1- نهج البلاغة، الرسائل: 47، من كلام له بعدما ضربه اللعين ابن ملجم، وفيه: «يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا تمثلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور».

أهمية التنافس الإيجابي في الأعمال الصالحة

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ * اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَٰلِحِينَ}(1).

إن القرآن الكريم هو كتاب هداية، قال تعالى: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَٰتِ إِلَى النُّورِ}(2)، وكل ما في القرآن الكريم يصب في هذا الاتجاه، فهو ليس كتاب في الطبيعيات، وإذا كان يضم مثل هذه المواضيع فلأنه يصب في الهداية، كما هو ليس كتاب تاريخ، وإذا ذكرت فيه بعض الأمور التاريخية فإنما جاءت من أجل تحقيق الهداية، ففي القصص المذكورة في الآية الكريمة بيان ما يرتبط بهداية الناس.

إن القرآن الكريم يضم أصول المسائل وجذورها؛ لذا فإن كل شيء مذكور فيه، وإنما ذكر لأنه يمثل أهمية قصوى لهداية البشر.

إن قصة يوسف (عليه السلام) لم تذكر لأنها مجرد قصة، فكل آية فيها

ص: 27


1- سورة يوسف، الآية: 8-9.
2- سورة إبراهيم، الآية: 1.

تمثل حكمة وموعظة وإرشاد. فبعض الناس - عادة - لا يفهمون الأمور الفكرية السامية إلا إذا جاءت في قالب قصصي، وحتى لو فهموها لا يقتنعون بها، فإذا نصحت بعض الناس وقلت لهم: إن الصبر أمرٌ حسن، وقرأت له الآية والرواية فسوف يؤيد كلامك ويقول لك: إنه قول صحيح ما دام صادرٌ من الله تعالى، لكنه يبقى في أعماق ذاته غير مقتنع بالأمر، وأما إذا ذكرت له قصة أو حادثة شاهدها بنفسه فسوف تحصل حينئذٍ القناعة المطلوبة.

فمثلاً: إذا قلت للناس يوماً: لا تيأسوا، فلن ينفع معهم ذلك حتى لو استمر النصح أياماً، لكن إذا قلت لهم استقيموا وثابروا، ووضعت أمام أعينهم قصة نوح (عليه السلام) فسيكون الأمر مقبولاً ونافعاً، فقد عاش طيلة (950) سنة ولم يؤمن معه إلا قليل، لم يتجاوزوا الثمانين شخصاً(1)، بمعدل شخص واحد في كل اثنتي عشرة سنة، وبعد مرور تسعمائة وخمسين سنة، دعا عليه فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَٰفِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُواْ إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}(2)، وهكذا كان حال بقية الأنبياء (عليهم السلام) ، ممن ذكرت قصصهم في القرآن الكريم.

ص: 28


1- التبيان في تفسير القرآن 5: 486؛ مجمع البيان في تفسير القرآن 5: 248، وفيه: «ثم أخبر سبحانه فقال: {وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} أي: إلا نفر قليل، وهم ثمانون إنساناً في قول الأكثرين. وقيل: اثنان وسبعون رجلاً وامرأة، وبنوه الثلاثة ونساؤهم، فهم ثمانية وسبعون نفساً...».
2- سورة نوح، الآية: 26-27.

كان هناك أحد علماء قم المقدسة - وهو السيد رضا الصدر (رحمه الله) - أديباً وعالماً، وله كتاب بعنوان (حُسن يوسف) يذكر في كتابه هذا قصة يوسف (عليه السلام) التي وردت في القرآن الكريم، وقصته التي وردت في التوراة، ويقوم بعد ذلك بمقارنة بين القصتين؛ لأنهما متقاربتان؛ إذ لم يطرأ على القصة تحريف كثير في التوراة، وعندما نقيس الفارق بين ما ورد في القرآن، وما ورد في التوراة نلاحظ أن كل آية جاءت في القرآن تنطوي على حكمة أو موعظة أو إرشاد، وأما في التوراة فلا نلاحظ ذلك، حيث إنها مجرد سرد قصة مختصرة عن يوسف (عليه السلام) .

إن الآية الثامنة في سورة يوسف (عليه السلام) (1) هي محل كلامنا، حينما يكون صنف العمل واحداً تكون دائرة العمل مشتركة، وهذا أمر طبيعي، وعندما تكون دائرة العمل كذلك فسوف يحدث تعارض وقد يؤدي ذلك إلى التنازع.

لكن قد يكون العمل على شكل تنافس مشروع، قال تعالى: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(2)، فإذا لاحظت أن فلاناً من الناس يقيم صلاة الليل فأنا أُقيمها أيضاً، وأقول: لماذا هو يحصل على الثواب فقط؟ ولِمَ لا لأحصل عليه أنا أيضاً؟ وهذا شيء جيد،

ص: 29


1- قوله تعالى: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ * اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَٰلِحِينَ}.
2- سورة المطففين، الآية: 26.

لكن إذا وصل الأمر إلى حد التنازع فهذا ليس بجيد، وعادة ما يكون الحسد منشأً ذلك.

وحينما يظهر الحسد باليد أو اللسان فهذا إنقاص من الآخر، بالغيبة والتهمة، وفي بعض الأحيان وحينما ينتقص شخص شخصاً آخر، ونقول له: لماذا تفعل ذلك؟ يقول: إن كلامي صحيح ولا كذب فيه، فنقول له: إن كان الكلام كذباً كان تهمة، وإن كان صحيحاً فهو غيبة؛ لأنها إظهار لعيب مستور. وفي كل الأحوال، فالحسد يؤدي إلى سقوط الإنسان في مهاوي الرذيلة.

إن كل إنسان يحب الرئاسة والزعامة، حتی قيل: (آخر ما يخرج من قلوب الصديقين حب الرئاسة)، فإذا رأى الإنسان أحداً ينافسه على الرئاسة فلا يطيق وجوده بالمرة، وما ورد في الآية الكريمة يتعلق بالشيء نفسه: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا}.

علماً أننا نعتقد بعصمة الأنبياء (عليهم السلام) ؛ ولذا لا يوجد في أعمالهم شيء مخالف للعصمة والأخلاق والآداب، وحتى المكروه منها، وما نسب إلى الأنبياء (عليهم السلام) في القرآن من ذلك فليس بمعصية بالأساس، وإنما هو ترك الأولى - حسب المشهور - ، بمعنى أن الشجرة لم تكن محرمة على آدم (عليه السلام) ، بل لم تكن مكروهة، لكن كان الأولى أن يترك أكلها. وممن ذكر ذلك السيد المرتضى (قدس سره) في كتاب: (تنزيه الأنبياء)(1).

ص: 30


1- تنزيه الأنبياء: 14.

فلم يكن يعقوب (عليه السلام) يميّز بين أبنائه، كما يتوهم البعض، حيث يقول: إنه أثار فيهم الغيظ والحسد والغيرة، بل سبب ذلك أنه كانت ليوسف (عليه السلام) كمالات، فظن إخوته أن أباهم يحب يوسف أكثر منهم، فقال قائلهم: {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}(1).

إن البعض يقول: إذا كان هناك أحد ينافسني فسوف أبعده عن طريقي، لكي أكون أنا الأقوى والأكثر سيطرة على الأوضاع، وبعد ارتكاب هذه المعصية استغفر الله ربي وأتوب إليه، وينتهي الأمر! لأن الله كريم!!

نعم الله كريم حقاً، لكنه سبحانه حكيم أيضاً، وكرم الله سبحانه وتعالى لا يكون اعتباطاً.

فإذا كان هناك شخص كريماً، واشترى كيلوغرام من اللحم ثم رماه أمام قطة في السوق، فهل هذا كرمٌ منه أم سفاهة؟ إن هذا الفعل يُعد سفاهة؛ لأن القطة تستحق أن تعطيها بقايا الطعام، الذي لا يصلح للاستهلاك البشري.

وإذا كان الإنسان غير جدير بأن تناله رحمة الله سبحانه وتعالى وكرمه، فالإشكال ليس في رحمة الله أو كرمه؛ لذا على الإنسان أن يكون في محل القبول لينزل كرم الله عليه، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) واصفاً حال المسلمين مع رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) : «فلما رأى الله

ص: 31


1- سورة يوسف، الآية: 9.

صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر»(1). فقد علم الله تعالى أن رسوله محمداً (صلی الله عليه وآله وسلم) وأصحابه المنتجبين صادقون، ونستثني المنافقين من ذلك، فأنزل عليهم النصر.

في معركة صفين كانت الخطط الحربية لأمير المؤمنين (عليه السلام) سليمة، بالرغم من قلة جيشه إذا ما قورن بجيش معاوية؛ لذا كان النصر حليفاً لجيش الإمام (عليه السلام) لولا الفتنة التي حدثت، فليس خدعة رفع المصاحف وحدها هي التي سببّت خروج القوم عن طاعة الإمام (عليه السلام) ، وتضييع فرصة النصر الذي كان على وشك التحقق، وإنما كان هناك شيء آخر أيضاً، فقد كانوا منذ البداية يعتقدون ويثقون بأبي موسى الأشعري، بينما سارع أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عزله منذ بداية استلامه للحكم، وهذا القرار رفضه كثير من الذين كانوا في معسكره (عليه السلام) .

فعندما وصل الإمام (عليه السلام) إلى ذي قار في طريقه إلی البصرة، كان معه ألف شخص من المدينة فقط، وفي المقابل كان جيش الجمل ثلاثين ألفاً، فعسكر (عليه السلام) في ذي قار لمدة أسبوعين منتظراً أن يأتيه المدد من الكوفة لكنه لم يأتِ؛ لأن أبا موسى الأشعري كان يثبط همم الناس(2)،

فأرسل ولده الإمام الحسن (عليه السلام) و عمار بن

ص: 32


1- نهج البلاغة، الخطبة: 56.
2- نهج البلاغة، الرسائل: 63، وفيه: ومن كتاب له (عليه السلام) إلى أبي موسى الأشعري، وهو عامله على الكوفة، وقد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه، لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل: «من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، أما بعد فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك، فإذا قدم رسولي عليك فارفع ذيلك، واشدد مئزرك، واخرج من حجرك، واندب من معك، فإن حققت فانفذ، وإن تفشلت فابعد، وأيم الله لتؤتين حيث أنت، ولا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك، وذائبك بجامدك، وحتى تعجل عن قعدتك، وتحذر من أمامك كحذرك من خلفك...».

ياسر (رضوان الله تعالى عليه). وقد روى هذه الحادثة جملة من كتب الأحاديث والسيرة، حيث قال بعضهم: «فلما بلغ أهل الكوفة قدوم الحسن بن علي صلوات الله عليه وعمار بن ياسر، تشاوروا وأجمعوا على أن يوجهوا هند الجملي ليلقاهما، وليسأل عماراً عما سمعه من رسول الله صلوات الله عليه وآله في ذلك - وقد كان انتهى إليهم إنه سمع رسول الله صلوات الله عليه وآله في ذلك شيئاً - فمضى هند حتى لقي الحسن صلوات الله عليه وعماراً بموضع يقال له قاع البيضة وهما نازلان، فخلا بعمار، ثم قال: أنا رائد القوم، والرائد لا يكذب أهله، وقد أرسلوني إليك لتخبرني بما سمعت من رسول الله صلوات الله عليه وآله في هذا الأمر.

قال عمار: اشهد بالله لقد أمرني رسول الله صلوات الله عليه وآله أن أقاتل مع علي صلوات الله عليه الناكثين والمارقين والقاسطين.

فرجع هند إلى الكوفة فأخبرهم، وقرأ عليهم كتاب علي صلوات الله عليه.

فقام أبو موسى الأشعري، فقال: أما إني قد سمعت رسول الله صلوات الله عليه وآله يقول: أما إنه سيكون من بعدي فتنة، القائم

ص: 33

فيها خير من الساعي، والجالس خير من القائم، فقطعوا أوتار قسيكم، واغمدوا سيوفكم، وكونوا أحلاس بيوتكم.

فقال عمار: تلك التي تكون أنت منها، أما والله لقد سمعت رسول الله صلوات الله عليه وآله وقد لعنك!

فقال أبو موسى: قد كان ما قلت ولكنه استغفر لي.

قال عمار: أما اللعنة فقد سمعتها، وأما الاستغفار فلم أسمعه!

فقام أبو موسى فخرج كأنه ديك يفترع».

وبعد ما وقع بين عمار وأبي موسى الأشعري، وبعد جهد جهيد تجهّز مجموعة من أهل الكوفة والتحقوا بجيش الإمام (عليه السلام) ، ثم توجه الإمام (عليه السلام) إلى البصرة فكان النصر حليف جيش الإمام (عليه السلام) في معركة الجمل.

فجذور النفاق والحقد موجودة، وظهرت في لحظة رفع المصاحف؛ لأن السيف أخذ منهم كل مأخذ، ولم يكن لهم صبر على الحرب، فظهر ما في نفوسهم.

وهكذا في قصة يوسف، فلم يكن يعقوب (عليه السلام) يفرق بين أبنائه، لكنهم كانوا يشعرون أن يوسف أفضل منهم؛ فلذا يجب إزاحته، وهذا ما حدث بالفعل، حيث أزاحوه من أمامهم، حيث قال قائلهم: {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَٰلِحِينَ}(1)، أي: إننا نتوب إلى الله سبحانه وتعالى.

ص: 34


1- سورة يوسف، الآية: 9.

لكن الشخص الذي يفكر بهذه الطريقة لا يوفقه الله تعالى للتوبة عادة؛ لأنه كلما واجه قضية ما فسوف يقول: أفعلها وأتوب لله بعد ذلك، لكنه في اليوم الثاني تأتي قضية أخرى فيقول: أفعلها ثم أتوب وهكذا، فمن أراد أن يزيح منافسه بطرق غير شرعية فربما يتمكن من ذلك، سواء بقوة سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية، لكن النتيجة: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}(1).

إن التنافس يمكن أن يكون بين من لهم وجهات متعددة، فقد قال الله تعالی: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(2)، فكل واحد منهم يحاول أن يقدم النموذج الأفضل والأحسن، وإن لم يقدم الآخر النموذج الصحيح، {لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(3)، فكل من يسير على الطريق السليم الذي أراده الله سبحانه وتعالى فسوف يحظى بالتوفيق. نعم، ربما يواجه صعوبات معينة؛ لأنه يعيش في الدنيا وليس في الآخرة، وهي ليست جنة الله عز وجل، حيث ادخر الراحة المطلقة للمؤمنين في الجنة، فلا يجب أن يتصور البعض أنه لن يواجه الصعوبات في الدنيا، بل الصعوبات أمام الجميع، سواء المؤمن أم غير المؤمن، ولكن بالنتيجة: إذا سار الإنسان وفقاً لما يريده الله سبحانه وتعالى فسوف يعوضه الله في الدنيا والآخرة.

ص: 35


1- سورة فاطر، الآية: 43.
2- سورة المطففين، الآية: 26.
3- سورة المائدة، الآية: 105.

إن الله سبحانه وتعالى يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(1)، والفساد أي لا يريد العلو أساساً ويخرجه من قلبه.

لذا يُفترَض بنا - في أي موقع كنا - أن نتقي الله تعالى، فقد جاء في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه»(2)، وهذا يعني: أنه لا بد أن أعرف هل أن هذا العمل يرضي الله تعالى أم لا؟ فيجب على الإنسان يُراعى ذلك أثناء العمل؛ لأن العمل أحياناً يرضي الله تعالى، كأن يصلي الإنسان لكنه فجأة يأتيه الرياء أثناء صلاته أو بعد العمل؛ لأن المنَّ والعجب يحبط العمل، فقد تكون صلاته صحيحة فيُعجب بها فتحبط وتصير غير مقبولة، وفي بعض الأحيان قد يرتكب الإنسان ذنباً يحبط عمله.

والحاصل: إنه ينبغي أن نراعي الله في تصرفاتنا وأمورنا، فقد يكون المجتمع ضاغطاً علينا، فشياطين الإنس كثيرون، وهم يزيّنون للإنسان عمله، قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا}(3)؛ لذا يجب على الإنسان أن يدقق في الأمور بصورة كاملة.

فالتنافس مع الآخرين لا بد أن يكون إيجابياً، لاسيما إذا كان العمل في سبيل الله، فقد كان هنالك أشخاص كثيرون معارضين

ص: 36


1- سورة القصص، الآية: 83 .
2- مسند الإمام علي (عليه السلام) 1: 150.
3- سورة فاطر، الآية: 8 .

للوالد (رحمه الله) ، وكانوا يتكلمون ضده، لكنه لم يكن يرد عليهم بالمثل، بل كان يقول: (ليس لدينا وقتان: وقت ندافع فيه عن أنفسنا وننشغل بالنزاع مع الآخرين، ووقت نخدم فيه الإسلام والمسلمين، إننا نريد أن نوظّف وقتنا كله لخدمة الإسلام والمسلمين)، فإذا اتهمني فلان فإني أوكله إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ}(1)، ولا أصرف وقتي بكيفية تسقيطه، وأصرف الأموال وأبذل الجهد النفسي والعضلي، وأجند العلاقات والإمكانيات من أجل ذلك، وأشغل نفسي عن الأمر الأساسي، وهو خدمة الإسلام والمسلمين.

ص: 37


1- سورة الحج، الآية: 38.

الثقافة الدينية والوعي

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}(1).

إن السبب الأساسي للمشاكل التي يواجهها المسلمون، هو الابتعاد عن أحكام الله سبحانه وتعالى، فإذا ابتعد الإنسان عن أحكام الله، وعن السنن التي جعلها عز وجل في الكون فسوف يصاب بالمشاكل، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي}(2)، فالذكر هو القرآن(3)، والذكر هو رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) (4)،

ص: 38


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- سورة طه، الآية: 124.
3- التبيان في تفسير القرآن 7: 219، وفيه: «وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} أي: من لم ينظر في ذكري الذي هو القرآن والأدلة المنصوبة على الحق وصدق عنها».
4- الأمالي، للشيخ الصدوق: 532، في حديث طويل للإمام الرضا (عليه السلام) مع المأمون العباسي، جاء فيه: «وأما التاسعة : فنحن أهل الذكر الذين قال الله في محكم كتابه: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، فقالت العلماء: إنما عنى بذلك اليهود والنصارى. فقال أبو الحسن (عليه السلام) : سبحان الله! وهل يجوز ذلك؟ إذاً يدعونا إلى دينهم، ويقولون: إنه أفضل من دين الإسلام. فقال المأمون : فهل عندك في ذلك شرح بخلاف ما قالوا، يا أبا الحسن؟ فقال (عليه السلام) : نعم، الذكر رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ونحن أهله، وذلك بين في كتاب الله عز وجل حيث يقول في سورة الطلاق: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَٰأُوْلِي الْأَلْبَٰبِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَّسُولًا يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِ اللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ}، فالذكر رسول الله، ونحن أهله...».

{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} مفردة الضنك فتعني الصعوبة، أي: إنه مَن يعرض عن ذكر الله تعالى تكون له معيشة صعبة في هذه الدنيا، ثم في الآخرة: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ}(1).

إن الإعراض عن الذكر يسبب صعوبة العيش، وسبب المشاكل التي نواجهها الآن هو أن أكثر المسلمين أعرضوا عن الذكر، فقد أعرضوا عن القرآن الكريم وأحكامه، وعن سنّة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وعن أهل البيت (عليهم السلام) وسيرتهم؛ لذا فمن الطبيعي أن يسبب هذا الأعراض مشاكل، وإذا أردنا أن نتخلص من هذه المشاكل فينبغي علينا أن نعود إلى الذكر؛ لأن الله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}(2)، فإذا لم نغير أنفسنا بأنفسنا فإن الله عز وجل لا يغير أحداً، وهذه سنة من سننه عز وجل.

لقد أزال الله عز وجل بلطفه وكرمه طاغية العراق.

ص: 39


1- سورة طه، الآية: 124-126.
2- سورة الرعد، الآية: 11.

بعد عقود سوداء مظلمة على العراق، حيث قُتل خلال هذه العقود من قُتل، وانتهك عرض من انتهك، وسُفِّر من سُفر، وسُجن من سُجن، وأقصي من أقصي، وفُقد من فُقد بالملايين، وكل بيت فيه مأساة ومأساة، وحينها أذن الله عز وجل بزوال هذا الطاغية، فينبغي علينا أن نستفيد من هذه الفرصة التي أعطاها لنا الله عز وجل لنغير ما بأنفسنا حتى يكون لنا مستقبل مشرق، لكن إذا لم نغير ما بأنفسنا فسوف يكون المستقبل - لا سمح الله - مظلماً أيضاً، فصدام ليس بأول طاغوت حكم العراق؛ إذ كان هناك قبله طواغيت في زمن بني أمية وبني العباس و بني عثمان كيزيد والحجاج والمتوكل، فإذا لم نحل المشكلة من جذورها فسوف يتكرر صدام في المستقبل ولكن بشكل آخر، وأما إذا غيرنا ما بأنفسنا، وحاولنا أن نحل المشكلة من جذورها فإن الله عز وجل يغير ما بنا من مشاكل.

وجذر المسألة أننا الآن نواجه في العراق غزواً ثقافياً؛ لأن الاستعمار يركز على تغيير عقول الناس وخاصة الشباب، وعنده الإمكانيات الهائلة، المالية، والعسكرية، والإعلامية، ثم إن هذا الأمر له أناس مخططون إلى أن وصلوا إلى هذه النتيجة.

إننا نواجه اليوم أناساً عندهم إمكانيات هائلة جداً، فإذا لم نقابل عملهم بالأسلوب المناسب فإن المشكلة سوف تتكرر.

إن عملية تغيير أنفسنا تحتاج إلى أن نركّز:

على الثقافة الدينية، فأن النظام السابق أغلق الروافد السابقة على

ص: 40

الشعب العراقي منذ خمس وثلاثين سنة، فالعلماء والمثقفون إما في السجون أو في القبور أو في المهجر، وفي أحسن الفروض هم جالسون في بيوتهم خائفون من فرعون وجنوده، ولا أحد منهم يتكلم بشيء، وإذا تكلم بالحق فإن مصيره السجن أو القتل، أو أنه يُغيب.

إن كل المسائل الشرعية موجودة في الرسائل العملية والكتب الفقهية، لكن هذه الكتب كانت ممنوعة ومحجوبة عن الناس.

لذا فنحن بحاجة إلى أن نعمل في هذا المجال، وكل فرد منّا مكلف بذلك؛ لأن هذه القضية مسؤولية الجميع، فهناك من يقول: إن هذه مسؤولية المراجع، ويقول البعض الآخر: إنها مسؤولية الأحزاب السياسية، وبعض يقول: إنها مسؤولية شيوخ العشائر، إلا أن هذا الكلام غير صحيح، وإنما هي مسؤولية الجميع؛ لأن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»(1)، فكل واحد منكم راعٍ كالراعي الذي يحرص دائماً علی رعيته، ويجب على كل فرد منكم أن يلتفت إذا كان هناك انحراف أو مشكلة، فيحاول بقدر استطاعته أن يحلها، ويصحح ذلك الانحراف.

إنه يجب على الإنسان أن يتعلم مسائل الشرع، ثم يعلمها للآخرين.

وهناك مسألة مهمة جداً وهي: الثقافة السياسية؛ إذ يجب أن يكون الإنسان مثقفاً بالثقافة السياسية، وليس مقصودنا أن يكون هو

ص: 41


1- عوالي اللئالي 1: 129.

سياسياً، وإنما يجب عليه أن يفهم في السياسة، حتى لا ينخدع ويغرر به.

في زمن الشيوعيين، كان هناك رجل فلاح أصبح شيوعياً، فسأله الناس: لماذا أصبحت شيوعياً؟ فأجاب قائلاً: قالوا لي: إذا أصبحت شيوعياً فإن دجاجتك ستبيض بيضتين في كل يوم بدلاً من بيضة واحدة! وقد كان مقتنعاً ومصدقاً بهذه القضية تماماً.

وفي الحديث الشريف الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»(1)، واللوابس جمع (لابسة)، وهو الباطل الذي يلبس لباس الحق، والذي يلتبس على الإنسان، أو يشتبه عليه، فإذا عرف الشخص زمانه فلن يُخدع.

يظهر من بعض التواريخ أن عدد جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) في معركة صفين كان بمقدار نصف عدد جيش معاوية، ومع ذلك كاد جيشه أن ينتصر، يروي إبن أبي الحديد: «وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير أشرف على عسكر معاوية ليدخله»(2).

وذلك لأن خطط الإمام (عليه السلام) الحربية كانت صحيحة، فعلى الرغم من قلة جيشه إلا إنه كاد أن ينتصر على جيش معاوية، حتى أن معاوية ركب على الفرس ووضع رجله في الركاب ليهرب، وقد كان بين مالك الأشتر وبين فسطاط معاوية خطوات.

ص: 42


1- الكافي 1: 27.
2- شرح نهج البلاغة 2: 217.

ولكن ما الذي حال دون هذا النصر، وبالمآل صار سبباً في قتل الإمام علي (عليه السلام) بيد الخوارج، وسيطرة معاوية على العالم الإسلامي، واستمرار حكم بني أمية لمدة ثمانين سنة، ولا زلنا حتى الآن نعاني من تلك المشكلة؟

والجواب هو: إن المشكلة هي أن مجموعة من جيش الإمام (عليه السلام) انخدعوا، فقد قام جيش معاوية برفع المصاحف على الرماح، حيث إنهم قالوا: لنرجع إلى حكم الله، فأنتم مسلمون ونحن مسلمون؟ ولم يفهم مجموعة من أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الخدعة رغم أن الإمام (عليه السلام) أخبرهم بذلك، وأكد لهم أنها خدعة(1)، فلو أراد هؤلاء أن يحكّموا كتاب الله فلِمَ لم يفعلوا ذلك قبل بدء القتال، وليس بعد مقتل آلاف الناس؟ فهم حال الهزيمة ولكي يتخلصوا منها أرادوا أن يحكّموا كتاب الله عز وجل. وهكذا انخدع هؤلاء، مع أن بعضهم كانوا قرّاءً للقرآن، فجاءوا وهددوا الإمام (عليه السلام) ، وقالوا له: إما أن توقف الحرب، وإما أن نقتلك...! وكانوا آلافاً مؤلفة، وقد اضطر الإمام (عليه السلام) إلى أن يوقف القتال، بعد أن بين لهم خطأهم

ص: 43


1- بحار الأنوار 32: 532، وفيه: وفي حديث عمر بن سعد قال: لما رفع أهل الشام المصاحف على الرماح قال علي (عليه السلام) : «أيها الناس، إني أحق من أجاب إلى كتاب الله ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وابن أبي سرح وابن مسلمة ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني أعرف بهم منكم صحبتهم صغاراً ورجالاً، فكانوا شر صغار وشر رجال، ويحكم إنها كلمة حق يراد بها باطل، إنهم ما رفعوها وإنهم يعرفونها ولا يعملون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعة، ولم يبق إلا أن يقطع دابر الظالمين».

عندما قالوا: لا حكم إلا لله(1).

إن عدم الفهم السياسي سبّب لنا مشكلة لازلنا مبتلين بها إلى الآن أيضاً. فنحن لا ندعو لأن يصبح كل الناس سياسيين، لكن ينبغي علينا أن نعرف ما يدور حولنا، وإذا عرفنا ما يدور حولنا - وهذا من العلم والمعرفة، والعلم نور، والمعرفة نور - فلن يؤثر علينا أكبر مخطط استعماري؛ لأن الاستعمار ينمو في بيئة الجهل، وأما إذا كانت البيئة مضيئة بنور العلم والمعرفة فإن الاستعمار يهرب منها خاسئاً، كالماء الآسن حيث يكون بيئة مناسبة لنمو الجراثيم وأما إذا كان الماء جارياً فلا يحدث فيه هذا.

من هنا، علينا أن نتسلح بالثقافة الدينية، وأن نسلّح الآخرين بها. يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَٰؤُاْ}(2)، فالعلماء هم الذين يخشون الله عز وجل، فإذا كان لأحدنا علم - سواء كان من العلماء أم من المتعلمين - تكون له ثقافة، ويعرف ما يجري حوله.

كما أنّه يجب علينا أن نتحد، وإن كان لا مشكلة في اختلاف الآراء، فحينما يكون رأيي مخالفاً للشخص الثاني فلا مشكلة في

ص: 44


1- نهج البلاغة 1: 91، وفيه: ومن كلام له (عليه السلام) في الخوارج لما سمع قولهم: لا حكم إلا لله قال (عليه السلام) : «كلمة حق يراد باطل. نعم، إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر».
2- سورة فاطر، الآية: 28.

ذلك، وحين يختلف فقيه في مسألة شرعية مع فقيه آخر فليس ذلك بمشكلة، أو يختلف الطبيب برأيه في مسألة طبية مع طبيب آخر فلا مشكلة في ذلك، فالاختلاف الفكري سنة الحياة، لكن يجب أن لا يكون بطريقة التناحر أو التسقيط، فهذا الأسلوب هو سياسة الاستعمار، وهي سياسة (فرّق تَسُد)، فإذا لم نكن قابلين للتفرقة فلن يستطيع الاستعمار أن يسود علينا.

لذا علينا أن نترك المشاكل الداخلية جانباً، حتى وإن كانت بيننا اختلافات، فلنقل أنها 10%، لكننا متفوقون على90% من الأمور، فينبغي علينا أن نتناسى الخلافات ونكون صفاً واحداً، وكل شخص له رأي، وله أن يبين رأيه، تقول الآية الشريفة: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَٰفِسُونَ}(1)،

فمعنى التنافس أن تختلف جماعتان في الرأي أو في العمل - وهذه هي الطريقة الإيجابية - لا أن يتناحروا ويقتل أحدهم الآخر.

ص: 45


1- سورة المطففين، الآية: 26.

بين النيات والأعمال

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(1).

إذا صفّى الإنسان قلبه سيظهر أثر ذلك في أعماله وجوارحه وكلامه، وما يظهره القلب سوف يؤثر في الطرف الآخر بالتدريج، وقد تتحول العداوة بين الاثنين إلى صداقة. فنيّة الإنسان مهمة، وعليه أن يهتم ويفكر بها ، بمعنى أن عليه أن يصفّي فكره ونيته.

هناك أمور كثيرة لا يجهر بها الإنسان في الجلسات العامة؛ إذ يجب عليه مراعاة الشؤون الاجتماعية، بينما في الجلسات الخاصة التي تجمعه مع أصدقائه وخلانه والحلقة المقربة إليه، فربما يصرح بها، ومثل هذا التصريح قد يؤثر في الإنسان؛ لذا ورد في الآية الشريفة: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}(2)، فقد لا يستطيع أن يقول للناس: افعلوا الشيء الذي فيه سخط الله سبحانه وتعالى، وأما مع أصحاب سره فقد يصرح ببعض الأمور التي

ص: 46


1- سورة فصلت، الآية: 34.
2- سورة الزخرف، الآية: 67.

يتحاشى التصريح بها في المجالس العامة.

إن الله عز وجل يبين أن هؤلاء الأخلاء قد يصبحون أعداءً في يوم القيامة؛ لأن أحدهم أغرى الآخر، أو أن الجلسة نفسها كانت تنطوي على إغراء الآخر للدخول في المعاصي، إلا أنه تعالى استثنى المتقين، حيث قال: {إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، فالذين يتقون الله سبحانه ويخافون عذابه يحاول أحدهم أن يهدي الآخر في هكذا جلسات، وإذا كان سلوك أو فكر أحدهم ينطوي على مغالاة أو نقصان فسيحاول الآخر أن يصلحه؛ لأن الأفكار التي تُطرح في الجلسات الخاصة تؤثر في قناعات الإنسان وفكره؛ لذا نلاحظ أن منشأ الكثير من الأمور - سواء كانت خيراً أم شراً - هي الجلسات الخاصة، أما في الخير فإنها تكون من مصاديق قوله تعالی: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ}(1)، فقد تتحول الكلمات إلى صرح شامخ، فعلى الإنسان أن يصفّي فكره ونيته وقناعاته بما يرضي الله سبحانه وتعالى، ويحاول أن يطرح أفكار الخير في مجالسه الخاصة مع أصدقائه وخلانه.

وفي مقابل ذلك فقد قال الله تعالی: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَنَٰجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَٰجَوْاْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَٰنِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}(2).

إن البعض قد يُغري صاحبه لكي يتطاول على أموال الناس، أو

ص: 47


1- سورة إبراهيم، الآية: 24.
2- سورة المجادلة، الآية: 9.

يؤذي الآخرين، أو يتخذ منهم مواقف سلبية لا يرضاها الله سبحانه وتعالى، أو قد يدفعه لمعصية الرسول (عليه السلام) من خلال عدم الاستماع لكلامه (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وكل هذا يأتي من باب ذكر الخاص بعد العام، حيث يشمل الإثم والعدوان معصية الرسول (عليه السلام) أيضاً.

ثم يعلّمنا الله سبحانه للجلسات الخاصة بأن لا يعصي أحدنا أمر الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وإنما يجب أن يكون الحديث بالبر والتقوى، كما ورد في الآية الشريفة: {وَتَنَٰجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ}(1)، حيث يُعد البر من الأعمال التي تصل إلى الآخرين، كإكرام اليتيم وإطعامه، وكذلك عموم الأعمال التي تؤدي إلى التقوى، وربما يراد من ذلك تهذيب النفس أيضاً، أو ربما يشمل أي نوع آخر مما يحذّر منه الله سبحانه وتعالى.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «ما أضمر أحدكم شيئاً إلا وأظهره الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه»(2)، فأي شيء ينويه الإنسان فسوف يظهر في عمله، فلو لم تكن نيته صافية فسوف يظهر ذلك في عمله في أول منعطف يواجهه؛ لذا ورد في الحديث الشريف: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(3).

ص: 48


1- سورة المجادلة، الآية: 9.
2- بحار الأنوار 65: 316.
3- الكافي 2: 105.

من هنا، ينبغي علينا جميعاً أن نتخلص من الأفكار السيئة التي ترد في أذهاننا حتى لو لم نطبقها على أرض الواقع، وحتى لو لم تتسبب بعقاب لحاملها؛ لأن النية إذا لم تظهر بيد ولسان فليس عليها عقاب.

إن التفكير بالمعصية يشبه الدخان، فإذا كان هناك دخان من دون نار فلا تحترق الأشياء، لكن الدخان سوف يؤدي إلى سواد الأشياء، كذلك يسوّد الفكر الحرام أو التفكير بالمعصية القلب، حتى لو لم يؤدي ذلك إلى العقاب. ثم إنه يؤدي للفضيحة التي تلحق بالإنسان، سواء في الدنيا أم في الآخرة، قال الله تعالی: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}(1)، فأي شيء يفكر فيه الإنسان سوف ينكشف في يوم القيامة.

وكان الوالد (رحمه الله) يدعو إلی اللاعنف حتی في القلب بأن لا يكون تفكير الإنسان عنيفاً لأنه سيؤدي به إلی العنف في اللسان والعمل ولو في صفحات الوجه وفلتات اللسان.

ص: 49


1- سورة الطارق، الآية: 9.

القول الحسن

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا}(1).

يُعد طيب الكلام وعدم البذاء من أهم مقومات استمرار الحضارة، وصناعة المجتمع السليم، ويُعد البذاء من أسباب فشل المجتمع أو الحضارة أياً كان مصدرها؛ لأن المجتمع إنما يستمر إذا كان هناك اتحاد وتقارب وانسجام، وأما إذا سادته التفرقة فسوف تؤدي لزواله، قال الله تعالى: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(2).

إن الكلام البذيء من أهم أسباب التفرقة والعداوة بين الناس؛ لذا يقول الله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(3)، فإذا تكلمتم مع الناس فتكلموا معهم بكلام حسن؛ لأن الكلام البذيء يؤدي إلى التفرقة والاختلاف، حتى لو كان بصورة المزاح، وإذا حدثت العداوة

ص: 50


1- سورة الإسراء، الآية: 16.
2- سورة الأنفال، الآية: 46.
3- سورة البقرة، الآية: 83.

فسوف تحدث التفرقة، وهي بدورها تقود إلى سيطرة الأشرار على زمام الأمور، وحينها لا يتمكن الأخيار من معالجة الموقف؛ لأن الأشرار إنما يسيطرون بسبب التفرقة الحاصلة بين الناس. فضرر الكلام البذيء يصيب الإنسان نفسه قبل أن يصيب غيره.

كان في أذن أحد أصحاب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) وقر(1)، أي: إن سمعه ضعيف، لذا كان يجلس عند المنبر دائماً كي يستمع لكلام الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وفي أحد الأيام تأخر هذا الرجل فلم يصل إلى المجلس، وكانت الصلاة قد انتهت تواً، وكان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) قد بدأ خطبته والصفوف مصطفة أمامه، ثم وصل الرجل ضعيف السمع إلى المسجد وقال للناس: تفسحوا ففسحوا له المجال حتى وصل إلى أحدهم، فطلب منه أن يفسح له مجالاً فرفض ذلك وقال له: لقد جئت متأخراً فاجلس حيث انتهى بك المجلس.

مع أنه يجب على الإنسان أن يحترم الكبار والمصابين بعاهة، فالرجل لا يريد أن يتقدم قرب المنبر لغرض سيّء، وإنما كان يريد الاستماع لكلام الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فكان يفترض بهذا الصحابي أن

ص: 51


1- بحار الأنوار 22: 54، وفيه: «وقوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} نزل في ثابت بن قيس بن شماس، وكان في أذنه وقر، وكان إذا دخل المسجد تفسحوا له حتى يقعد عند النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فيسمع ما يقول، فدخل المسجد يوماً والناس قد فرغوا من الصلاة، وأخذوا مكانهم، فجعل يتخطى رقاب الناس يقول: تفسحوا تفسحوا حتى انتهى إلى رجل فقال له: أصبت مجلساً فاجلس، فجلس خلفه مغضباً، فلما انجلت الظلمة قال: من هذا؟ قال الرجل: أنا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة، ذكر أماً له كان يعير بها في الجاهلية، فنكس الرجل رأسه حياءً، فنزلت الآية».

يفسح له المجال لكنه لم يفعل ذلك، فجلس الرجل ضعيف السمع في الخلف، وبعد أن انتهى الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من كلامه أراد ضعيف السمع أن ينتقم من الرجل الذي منعه من الوصول قرب المنبر، فذكر أمّاً له كان يعيّر بها في الجاهلية، فخجل الرجل حياءً؛ لذا نزلت الآية الشريفة: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ}(1).

فإذا كان هناك إشكال فيه أو في أمه، فقد تاب إلى الله عليه وصار مؤمناً؛ لذا يجب أن لا يسخر منه أحد، حتى لو كان ذلك العيب موجود فيه سابقاً، قال الله تعالی: {عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ}؛ لأن الإنسان ليس كاملاً في كل الأمور إلا المعصومين (عليهم السلام) ، فكل إنسان ينطوي على عيوب إما في خَلقه أو خُلقه، أو أصله أو نسبه أو حسبه، فقد خُلق الإنسان ضعيفاً، ولماذا يشير الإنسان لعيوب الآخرين وينسى عيب نفسه، فقد جاء في حديث شريف: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس»(2)،

وجاء في حديث آخر: «لو تكاشفتم ما تدافنتم»(3).

إن الله ستار العيوب؛ لذا ينبغي أن لا ننشغل بعيوب الناس، بل ننشغل بعيوب أنفسنا، ولو استهزأنا بالآخرين فسوف ينعكس الأمر علينا، ويؤدي ذلك إلى العداوة مع الآخرين، وهذا بدوره يقودنا

ص: 52


1- سورة الحجرات، الآية: 11.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 176.
3- الأمالي، للشيخ الصدوق: 446.

إلى التفرقة، وإذا سادت التفرقة في المجتمع فإن الأشرار سوف يسيطرون على زمام الأمور وينهار المجتمع.

إن هذا الأمر حدث حينما ابتعد المسلمون عن أحكام الله سبحانه وتعالى، ومنها هذا الحكم.

كانت زوجة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) صفية بنت حيي بن أخطب يهودية، وقد أسلمت بعد فتح خيبر، فتزوج النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بها بهدف نشر الإسلام، وحينما يتزوج الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من امرأة فإنه يتحول إلى صهر لقبيلتها، وبذلك يدخل هؤلاء إلى الإسلام حينما يشعرون أن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) صهرهم؛ إذ كانت الحالة القبلية والعصبية منتشرة آنذاك.

فعندما انتقلت هذه المرأة - التي كانت اليهودية سابقاً - لبيت الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) كانت عائشة وحفصة يعيرنها بأنها يهودية، وكانتا تقولان لها: يا بنت اليهودية(1)، وهذا يُعد استهزاء بامرأة مؤمنة.

ص: 53


1- بحار الأنوار 22: 197، وفيه: «{يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} فإنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت زوجة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وذلك أن عائشة وحفصة كانتا تؤذيانها وتشتمانها وتقولان لها: يا بنت اليهودية، فشكت ذلك إلى رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال لها: ألا تجيبنهما؟ فقالت: بماذا يا رسول الله؟ قال: قولي: إن أبي هارون نبي الله، وعمي موسى كليم الله، وزوجي محمد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فما تنكران مني؟ فقالت لهما فقالتا: هذا علمك رسول الله، فأنزل الله في ذلك: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ} إلى قوله: {وَلَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَٰبِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَٰنِ}».

نعم، لقد كانت سابقاً يهودية لكن «الإسلام يجبّ ما قبله»(1)،

فضجرت المرأة من هذا الاستهزاء وشكت لزوجها الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) هذه الحالة، فأوصاها الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن تقول لهما: (أبي هارون نبي الله وعمّي موسى كليم الله، وزوجي محمد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فماذا تنكران مني)، فحينما قالت لهما هذا الكلام قالا لها: إن هذا ليس كلامك، بل هو كلام الرسول، فنزلت الآية الشريفة: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ}(2)، واللمز هو الرمي بالعيب على الآخرين، وهناك فرق بين اللمز والهمز، قال سبحانه: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٖ لُّمَزَةٍ}(3)، فالهمز هو ذكر العيب باللسان، وأما اللمز فهو رمي العيب على الآخرين بالإشارة، ولذا قال تعالى: {وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} ولم يقل: (ولا تلمزوا الناس)، لأن الضرر الأول الذي يترتب على اللمز يقع على الإنسان نفسه، فإذا لمزنا الناس فسوف يلمزوننا أيضاً، وإذا همزناهم فسوف يهمزوننا ويستهزئون بنا ويذكرون عيوبنا.

ثم قال الله تعالی: {وَلَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَٰبِ} وهذه حالة منتشرة بين الناس لذا ورد: (قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم)(4)

ص: 54


1- مستدرك الوسائل 7: 448.
2- سورة الحجرات، الآية: 11.
3- سورة الهمزة، الآية: 1.
4- تفسير العياشي 1: 48، وفيه: عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} قال: «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن الله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين المتفحش، السائل الملحف، ويحب الحيي الحليم الضعيف المتعفف».

أي: ادعوهم باللقب أو الاسم الذي يحبونه، لذا ينبغي أن نلاحظ أحسن الألقاب لدى الإنسان فندعوه به؛ لأن ذلك يقود إلى المحبة والاتحاد، قال الله تعالی: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(1)، وأما إذا انتشر التنابز بين الناس - حتى لو كان على سبيل المزاح - فإن ذلك سوف يقود إلى العداوة، وهذه الحالة منتشرة بين الناس؛ إذ يطلقون لقباً على شخص ما في حين هو يبغضه، وهذا السلوك محرّم؛ لأن التنابز بالمزاح يؤدي ابتداءً إلى إيذاء المؤمن، وهذا حرام، ثم يقود إلى التفرقة، وهذا بدوره محرم آخر؛ لذلك فهذا عمل واحد يتضمن مجموعة من المحرمات.

ثم قال الله تعالی: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَٰنِ}، ومعنى الاسم الفسوق هو الاسم الذي يوجب الفسق. فإذا كان أحدهم نصرانياً ثم تحول إلى الإسلام فيجب أن لا نُصرّ على مناداته بالنصراني؟! ولماذا نقول: إنه كان فاسقاً؟ فقد تاب إلى ربه وصار مؤمناً، فقد ورد في الحديث الشريف: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»(2)، أي: إنه إذا تاب إلى الله تعالى فإنه كمن لا ذنب،

ص: 55


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- الكافي 2: 435.

فلماذا نذكّره بالفسق الذي ارتكبه سابقاً؟

ثم يقول الله تعالی: {مَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}، فإذا استمر أحدهم بالاستهزاء واللمز والهمز والتنابز فسيصبح إنسانا ظالماً؛ لأنه يظلم نفسه والمجتمع معاً؛ والظلم يصيب صاحبه أولاً.

من الإضرار المهمة للكلام البذيء هو قطع الرزق، وهذا بطبيعة الحال سبب طبيعي، إضافة إلى السبب الغيبي؛ لأن الإنسان إذا كانت معاملته مع الناس قبيحة - ومنها بذاءة الكلام - فإنهم سوف يرفضون التعامل معه، إضافة للسبب الغيبي؛ إذ ورد في الحديث الشريف: «من فحش على أخيه المسلم(1) نزع الله منه بركة رزقه ووكله إلى نفسه، وأفسد عليه معيشته»(2).

كما أنه تعالى لا يسدد خطوات هذا الإنسان، وإنما يكله إلى نفسه فتفسد بذلك معيشته.

وفي عكس ذلك، إذا تعامل الإنسان مع الآخرين بأسلوب وكلام طيب فسوف يؤدي ذلك المحبة، فيحبه الناس ويتعاملون معه بصورة أفضل، وتكون كلمته نافذة لديهم، ويحفظون حرمته ويحصل على زيادة في رزقه أيضاً.

إذا أردنا أن نعظ الناس فينبغي أن لا يكون سلوكنا مشابهاً لسلوك غير المتورعين، حيث يكني بعضهم بعضاً بأسوأ الألقاب،

ص: 56


1- أي: ذكره بكلام بذيء سواء كان تهمة أم غيبة.
2- الكافي 2: 325.

فإذا التزمنا بهذا الأمر وسائر ما أمرنا به الله تعالى سنكون سادة ونماذج للآخرين.

ص: 57

حذارِ من السخرية والتنابز بالألقاب

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُواْ بِالْأَلْقَٰبِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَٰنِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَٰئِكَ هُمُ الظَّٰلِمُونَ}(1).

إن الإنسان يعيش ضمن مجتمع لأنه مدني بالطبع، فلا يمكنه أن يعيش منفرداً؛ لذا تُعدّ المجتمعات نواة الحضارات التي كانت ولا زالت في الأرض، فالحضارات تتكون من مجتمعات مختلفة وفقاً لعادات أو آداب أو عقائد معينة، حيث تتوحد في اللغة وتكوّن حضارة واحدة.

ولكل حضارة مقومات إذا أرادت الاستمرار، لكنها إذا فقدت تلك المقومات - سواء كلها أم بعضها - فإن أسباب الانهيار سوف تنخر في تلك الحضارة، وهذا ما يؤدي بها إلى الزوال.

إننا نلاحظ حضارات عديدة سادت لفترة ما من التاريخ ثم

ص: 58


1- سورة الحجرات، الآية: 11.

بادت؛ لأنها فقدت مقومات الاستمرار، وربما كانت المقومات موجودة في بداية الأمر، لكن أسباب الفشل استشرت في تلك الحضارة بالتدريج، فضعفت وزالت وخلفتها حضارة أقوى، يقول الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَٰهَا تَدْمِيرًا}(1)، فالله سبحانه وتعالى يأمر الناس بالصلاح والخير وهو من مقومات الحضارة، لكن المترفين لا يستمعون لكلام الله فيفسقون، فمعنی الآية: أمرنا مترفيها بالصلاح لكنهم لم يستمعوا ففسقوا فيها فدمرناها تدميراً.

ومن أهم مقومات استمرار الحضارة، واستمرار المجتمع السليم هو طيب الكلام، وعدم التلفظ بالكلام البذيء، فإن من أسباب فشل أي مجتمع أو أي حضارة وزوالها انتشار الكلام البذيء؛ لأن المجتمع إنما يستمر إذا كان هناك اتحاد بين مكوناته، وأما إذا كانت التفرقة هي السائدة فيكون ذلك من أهم أسباب الزوال، قال تعالى: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}(2)، فالتفرقة هي أول سبب للزوال، والكلام البذيء من أهم أسباب التفرقة والعداوة بين الناس؛ لذا يقول الله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}(3)، فينبغي لكل إنسان أن يتكلم مع الآخرين بكلام حسن وليس بكلام بذيء؛ لأنه يوجب التفرقة والاختلاف، وحتى لو كان ناشئاً من المزاح،

ص: 59


1- سورة الإسراء، الآية: 16.
2- سورة الأنفال، الآية: 46.
3- سورة البقرة، الآية: 83 .

فإذا حدثت العداوة حصلت التفرقة، وإذا حصلت التفرقة يسيطر الأشرار، فيدعو الأخيار فلا يستجاب لهم.

كما حدث هذا الأمر حينما ابتعد المسلمون عن أحكام الله سبحانه وتعالى. لذا ينبغي بالإنسان أن ينشغل بعيوب نفسه، ففي الحديث الشريف: «أحب إخواني إلي من أهدى إلي عيوبي»(1).

لذا لو أردنا أن نذكر أحدهم بهذه الكنية أو تلك وبسائر الكنى فينبغي أن نذكره بالكنية التي يفضلها، ولا نفعل كالناس غير المتورعين الذين يكني بعضهم بعضاً بأسوأ الألقاب، وإذا عملنا بهذا الأمر وسائر ما أمرنا به الله تعالى فسوف نكون سادة.

إن البعض يظن أن الإسلام هو مجرد عبادات، بينما لا يقوم البناء إلا بوجود جميع الأعمدة، التي يعتمد عليها، فإذا أزلنا نصفها فسوف ينهار البناء.

إن آيات الأحكام هي أقل من عشر القرآن الكريم، وأما الباقي فهو يتطرق للأخلاق والقضايا الاجتماعية الأخرى، فإذا تركنا العمل بها فسوف نكون أول الخاسرين؛ فينبغي علينا أن نتمسك بأحكام الله، وأن نعمل بها، لكي ينصرنا الله على أعدائنا، قال تعالى: {إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(2).

ص: 60


1- الكافي 2: 639.
2- سورة محمد، الآية: 7.

ثم إنه يوجد في الكتب الروائية (باب العشرة)، وهو باب يتحدث عن كيفية العلاقة مع الآخرين، حيث يبين حقوق الأبوين، والأخوة والأخوات، والأبناء والمجتمع، فإذا عملنا بهذه الآيات والروايات فسوف يصبح المجتمع سليماً، وحينذاك نكون سادة في الدنيا والآخرة.

ص: 61

بين العلم والإخلاص والعمل

إن العمل مطلوب من كل إنسان عاقل ومكلف؛ لأن الله سبحانه وتعالى يطلب من كل إنسان أن يعمل، وينكشف هذا العمل في الدنيا قبل الآخرة، سواء كان صالحاً أم طالحاً، حتى لو كان في حدود النية، ولم يخرج إلى حيّز العمل، فقد جاء في الحديث الشريف: «ما أضمر أحدكم شيئاً إلا وأظهره الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه»(1).

فكل عمل يعمله الإنسان ينكشف ولو بعد حين، قال الله تعالی: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(2).

سواء أراد الإنسان أم لم يرد ذلك؛ وباعتبار أننا من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فيُفترض أن نكون امتداداً لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) ؛ فالمطلوب منّا هو العمل، كما هو مطلوب من كل إنسان، لكن هناك أعمال مطلوبة منّا أكثر من الآخرين، فإضافة إلی الالتزام

ص: 62


1- بحار الأنوار 65: 316.
2- سورة التوبة، الآية: 105.

بالواجبات وترك المحرمات، هناك أمور أخرى كالآداب الاجتماعية، رغم أن بعضها ليست مطلوبة من كل الناس، لكنها مطلوبة منّا أكثر، ولعل أهم شيء هو الجدّ في الدراسة، يقول الإمام الباقر (عليه السلام) في الحديث الشريف: «اغدُ عالماً أو متعلماً وإياك أن تكون لاهياً متلذذاً»(1)، فحتى لو كان اللهو أو اللذة محللة، لكن إياك عن هذا.

وجاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «الناس اثنان: عالم ومتعلم، وسائر الناس همج، والهمج في النار»(2)، فإذا لم تكن عالماً فكن متعلماً، وهذا لا ينافي العمل بطبيعة الحال، فإذا كان الإنسان تاجراً أو خبازاً أو أي شيء آخر فلا ينافي أن يتعلم أحكام دينه، فقد ورد في الحديث الشريف: «التاجر فاجر والفاجر في النار إلاّ من أخذ الحق وأعطی الحق»(3)، فالناس اثنان عالم ومتعلم، وأما الجهلة فليسوا من الناس أصلاً، لأنهم همج والهمج في النار.

لقد أمرنا الله عز وجل بالعلم والعمل، لكن الكثير منّا يترك طلب

ص: 63


1- المحاسن 1: 227.
2- الخصال: 39.
3- الأمثال والحكم المستخرجة من نهج البلاغة: 556، مجمع البحرين 3: 435، الكافي 5: 150، وفيه: ... عن عثمان بن عيسى، عن أبي الجارود، عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول على المنبر: «يا معشر التجار الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، والله للربا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا، شوبوا أيمانكم بالصدق، التاجر فاجر، والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق».

العلم، ولا يطالع ولا يكتب ولا يحقق ولا يسأل، ويقول: ليس لدي وقت كافٍ، مع أن الله عز وجل يقول: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(1)، ويقول في آية أخرى: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}(2)، وأجلى مصاديق أهل الذكر الذين يعلمون هم الأئمة (عليهم السلام) ، وقبلهم جدهم رسول الله محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) (3)، ومن بعدهم العلماء الربانيون.

إن الإنسان قد يكون مضطراً للوظيفة، ولا بد أن يحصل على شهادة، وبذلك تحولت الشهادة إلى مصدر للرزق فقط، بدلاً من أن تكون وسيلة للعلم، ومع ذلك يُفترض بالإنسان أن يكون همّه كسب العلم، وليس الحصول على الشهادة، فإذا كان الإنسان جاهلاً وعنده خمسون شهادة فلا يتغير شيء من جهله، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَىٰةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَا بِئْسَ

ص: 64


1- سورة طه، الآية: 114.
2- سورة النحل، الآية: 43؛ سورة الأنبياء، الآية: 7.
3- الكافي 1: 210، وفيه: عن الوشاء، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز وجل: {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «الذكر أنا والأئمة أهل الذكر، وقوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسَْٔلُونَ} قال أبو جعفر (عليه السلام) : نحن قومه ونحن المسؤولون. ... عن علي بن حسان، عن عمه عبد الرحمن بن كثير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : {فَسَْٔلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} قال: الذكر محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) ونحن أهله المسؤولون، قال: قلت: قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسَْٔلُونَ} قال: إيانا عنى ونحن أهل الذكر ونحن المسؤولون».

مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّٰلِمِينَ}(1).

لذا يجب على الإنسان أن يصرف جزءاً من وقته في طلب العلم وتحصيله، وهو سهل؛ لأن الله عز وجل سهّل أسبابه، وفي هذا العصر توجد وسائل تقنية متوفرة بسهولة، بحيث يتمكن الإنسان من تحصيل العلم، ومقدمة تحصيله تتم بالتفكير والسؤال وصرف الوقت في ذلك، وكذلك العمل، فالإنسان يعلم ثم يعمل، لكن البعض يعلم ولا يعمل، فلا قيمة لهذا العلم.

يقال: كان هناك شخص يحفظ بعض الكتب، فقيل ذلك عنه لشخص ما، فقال: لقد زادت نسخة في البلد!

إن أجلّ أنواع العلوم هي تلك المرتبطة بمعرفة الله سبحانه وتعالى ورسوله (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) ، ومعرفة والحلال والحرام، وقيمة الإنسان بعقله وعلمه، وليست قيمته بالمال الذي يملكه.

لقد كانت للناس رغبة في تعلم علوم الإسلام في السابق، والآن وبسبب وجود الظروف المادية والسياسية قلت هذه الرغبة، لكن يجب أن لا تتحكم الظروف المادية والسياسية بالإنسان، بل يجب عليه أن يكون أقوى من كل الظروف، ويحاول قدر المستطاع أن يتغلب عليها، والأمر الآخر المهم هو العمل، فلو اتخذ الإنسان الكسل ذريعة للفرار من العلم والعمل فسوف يكون أكبر

ص: 65


1- سورة الجمعة، الآية: 5.

المتضررين.

إننا نقرأ عن حياة كثير من العظماء في التاريخ، فنرى أنهم كانوا على تلك الحالة، فهم إما عالم أو متعلم. يُنقل: أن أحد علمائنا الكبار وهو الشيخ جواد البلاغي (رحمه الله) ، وهو صاحب كتاب (الرحلة المدرسية) وكتاب (الهدی إلى دين المصطفى).

كان هذا الشيخ في فترة طلبه العلم في سامراء يستلم راتباً لا يكفيه سوى نصف شهر فقط، فبالإضافة لحضوره الدروس الحوزوية كان يتعلّم اللغة العبرية عند رجل يجيدها ويدفع له نصف راتبه، لأن كتب اليهود والنصاری بالأصل مكتوبة باللغة العبرية.

فذهب الشيخ البلاغي وتعلم اللغة العبرية، إضافة لدراسة العلوم الدينية، ليستخرج الخرافات والانحرافات الموجودة في كتبهم من أصولها، وكتابه (الهدى إلى دين المصطفى) من أفضل الكتب الموجودة لدينا، وكذلك كتاب (الرحلة المدرسية) فما أعظم الخدمة قدمها هذا الرجل للإسلام والمسلمين؟!

لقد حدث ذلك عن طريق التعلّم، فالمطلوب منّا هو العمل، وأهم طريق للعمل هو الدراسة، فينبغي أن نحدد الهدف من الدراسة، فقد صرفنا عمرنا ووقتنا في الدراسة، فقد ذُكر عن بعض العلماء أنه كان يقضي يومياً مدة ثمانية عشر ساعة في الدرس والتدريس والمباحثة والمطالعة.

من هنا يُفترض أن يكون الهدف من الدراسة الإخلاص لله

ص: 66

تعالى؛ لأنه ربما يوجد شخص ما يريد أن يدرس، أو يدخل الجامعة ويصرف كل وقته، لكن حين نسأله ما هو هدفك؟ فمرةً يقول: أريد أن أكون طبيباً لأخدم الناس، وأقلل من آلامهم، ومرة أخرى يقول: لكي أكسب الأموال. والسؤال المطروح: هل أن الهدف من طلب العلم هو الحصول على منصب دنيوي، أم لنيل رضا الله سبحانه وتعالى؟!

قد يكون هدف الإنسان من التعلّم الحصول على المال أو الجاه، أو أنه يقصد الوصول إلى المنصب، ثم يتغاضی عن طلب العلم بعد ذلك.

لكن بعض الناس يكون هدفهم رضا الله سبحانه وتعالى والإخلاص له سبحانه.

روى ابن أبي الحديد، وغيره، فقال: «وكان قزمان شجاعاً يعرف بذلك في حروبهم التي كانت تكون بينهم، فشهد أحداً وقاتل قتالاً شديداً، فقتل ستة أو سبعة، فأصابته الجراح فقيل للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أن قزمان قد أصابته الجراح فهو شهيد، فقال: بل من أهل النار. فجاءوا إلى قزمان، فقالوا: هنيئاً لك أبا الغيداق الشهادة، فقال: بم تبشرونني، والله ما قاتلنا إلا على الأحساب، قالوا: بشرناك بالجنة، قال: حبة والله من حرمل، إنا والله ما قاتلنا على جنة ولا على نار، إنما قاتلنا على أحسابنا، ثم أخرج سهماً من كنانته، فجعل يتوجأ به نفسه، فلما أبطأ عليه المشقص أخذ السيف فاتكأ عليه، حتى خرج من ظهره، فذكر ذلك للنبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: هو من

ص: 67

أهل النار»(1).

وروی «أن رجلاً من المسلمين قتل بأيدي الكفار، وكان يدعى بين المسلمين قتيل الحمار؛ لأنه قاتل رجلاً من الكافرين بنية أن يأخذ حماره وسلبه، فقتل على ذلك فأضيف إلى نيته. وهاجر رجل إلى الجهاد مع أصحاب النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وكانت نيته من المهاجرة أن يأخذ امرأة كانت في عساكر الكفار ويتزوجها - وتسمى أم قيس - فأشتهر هذا الرجل عند أصحاب النبي بمهاجر أم قيس»(2).

من هنا نعرف أهمية الإخلاص في طلب العلم؛ لأنه إذا لم يكن عمل الإنسان لله سبحانه وتعالى، وكان بعيداً عن الإخلاص فسوف يكون سبباً في انحرافه.

وقد يمكن تنمية الملكات النفسية بالتدريج، فمن أراد - مثلاً - أن يصبح نجاراً فبإمكانه أن يتدرب يوما واثنين وثلاثة حتى يتعلم هذه الحرفة تدريجياً، فيصبح نجاراً ماهراً، كذلك إذا كانت لديه تقوى الله، فيمكن أن تتطور، ومع مرور الأيام تصبح هذه الملكة موجودة في النفس، فأية صفة من الصفات النفسية قابلة للنمو، ومنها الإخلاص، فمن لم يطلب الدرس لله سبحانه وتعالى الآن وإنما طلبه لأجل المال، فكلما ازداد علماً يزداد هذا الإحساس لديه، لكن إذا كان هدفه هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى فكلما

ص: 68


1- شرح نهج البلاغة 14: 260؛ الإصابة 5: 335؛ المغازي 1: 263.
2- جامع السعادات 3: 89 .

ازداد علماً تزداد صفة الإخلاص وتنمو عنده.

يقول النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) في شرح معنى الإخلاص: «من قال: لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة، وإخلاصه أن تحجزه لا إله إلا الله عما حرم الله عز وجل»(1)، بمعنى أن تمنعه عن المحرمات؛ لذا نلاحظ كثيراً من الأشخاص عبر التاريخ، من الذين وصلوا إلى درجة علمية لا بأس بها، إلا أن علمهم لم يكن لله سبحانه وتعالى، فانحرفوا وسببوا انحرافاً لكثير من الناس.

لقد ورد في الحديث الشريف أن: «نية المؤمن خير من عمله»(2)، ومعنى الحديث الشريف أن العمل ينبغي أن يكون مع النية؛ لأن النية هي روح العمل، وإلا فإذا بنى شخص ما مسجداً رياءً فإن عمله لا ثواب عليه؛ لأن هذا العمل كان من دون روح، وهي النية، ويقصد بها الإخلاص في العمل لله سبحانه وتعالى.

فلا بد أن ينوي ويقرن ذلك بالعمل الصالح، فروح العمل هي النية، وهذا النوع من النيات هو الذي يكون أفضل من العمل.

من هنا، فالمطلوب هو الإخلاص، لكي لا يكون هذا العمل وبالاً علينا. فينبغي أن نكون من المخلصين، ونسأل الله أن يرزقنا إخلاص العمل، وأن يخلصنا من الشيطان، فإن له سلطة على الناس إلا المخلصين، قال الله تعالی: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا

ص: 69


1- التوحيد: 28.
2- الكافي 2: 84.

عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}(1).

فإذا كان لدى الإنسان صفة الإخلاص فسوف يستمر على ذلك، إلى أن يتحول إلى مُخلَص، أي: إنه يصبح نقياً شفافاً دون شوائب.

ص: 70


1- سورة ص، الآية: 82-83 .

الالتزام بالآداب الإسلامية

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَٰتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا}(1).

إن الإسلام نظام متكامل لجميع أبعاد الحياة، فلم يدعْ الله عزّ وجل جانباً من جوانب حياة الإنسان إلا وقد شرّع له حكماً، سواء كان بنحو الوجوب أم الحرمة أم الاستحباب أم الكراهة أم الإباحة؛ لذا فلا تخلو واقعة من الوقائع من أحد الأحكام الشرعية الخمسة.

هناك بعض الأمور قد لا تكون واجبة، إلا أنه ينبغي للإنسان القيام بها، وقد لا تكون محرمة، ولكن ينبغي على الإنسان تجنبها.

إن الآداب الاجتماعية عبارة عن مجموعة من القوانين والنظم، جاءت لتنظيم حياة الإنسان مع بني نوعه، أي: كيف يتم تعامل الإنسان مع الإنسان الآخر؟ ابتداءً من الأب والأم، مروراً بالأقارب وسائر أفراد المجتمع، وكيف يتعامل مع الأصدقاء والغرباء والأعداء، ومع الذين يدينون بدين آخر، أو بطريقة أخرى، كل

ص: 71


1- سورة الحجرات، الآية: 4-5.

ذلك يندرج ضمن منظومة واحدة تسمى (الآداب الاجتماعية).

وقد خصص الله عز وجل في القرآن الكريم آيات متعددة لبيان الآداب الاجتماعية، ولتعليم المسلمين هذه الآداب. وقد تكون المجتمعات بين إفراط وتفريط، فلبعض المجتمعات آداب اجتماعية تقيد حياة الإنسان، حيث يفرطون في القيود والآداب التي ما كان ينبغي أن تكون كذلك، فيما تتساهل بعض المجتمعات حتى في الآداب اللازمة.

ولأجل تسهيل حياة الإنسان وانسيابيتها، ولكي يحقق السعادة في حياته بيّن الإسلام الآداب التي تسهّل حياته، ونهى - وإن كان هذا النهي أحياناً نهياً تنزيهياً وليس تحريمياً - عن الآداب التي تعقّد حياته.

ومثالٌ على ذلك في حياتنا الاجتماعية: حينما تريد الأسرة أن تزوج ابنها أو ابنتها، فإن لبعض الناس مجموعة من الآداب، لكن كثيراً منها تقيّد الحياة وتعقّد أمر الزواج، وحينما تبحث عن جذورها تجد أن ليس لها جذور إسلامية، وإنما هي ما اعتادت عليه المجتمعات، وربما تكون قد بدأت بشخص واحد ثم الثاني والثالث والرابع، وبالتدريج تحولت إلى عادة اجتماعية تكبّل المجتمع وتقيّده.

إن مثل هذه الآداب والعادات مرفوضة في الإسلام.

لكن في الوقت نفسه هناك بعض الآداب التي تسهّل حياة الإنسان، فإذا التزم بتلك الآداب فسوف يشعر بالسعادة، وقد حبّب

ص: 72

الإسلام هذه الآداب.

إن الله عز وجل يصف رسوله الأمين (صلی الله عليه وآله وسلم) بقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(1)، عندما جاء الإسلام رفع هذه القيود والآداب الاجتماعية المكبّلة لحياة الإنسان، وفي الوقت نفسه دعا للآداب التي تسهّل حياة الإنسان، فقد أمر الله عز وجل المسلمين - ولو بنحو استحبابي - بالالتزام بها. ولذا فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَٰتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا}(2) يعلمنا درساً إلهياً لبعض الآداب التي تصب في مصلحتنا، والتي تسهّل حياتنا، فإذا كان هناك شخص ليس لديه عمل وجاء لزيارة شخص آخر، فحتى لو كان هذا الزائر عزيزاً وقريباً وصديقاً، ولم يكن بينه وبين ذلك الشخص حواجز أو موانع، إلا أنه ينبغي عليه أن يراعي الآداب؛ لذا فإن المثل الذي يقول: (عند الأحباب تسقط الآداب) غير صحيح، بل الصحيح هو (عند الأحباب تسمو الآداب)، فالإسلام يقدم السمو والرفعة بين الأحباب، لا الانحطاط والسقوط.

فعندما كان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في منزله وفي وقت استراحته كان

ص: 73


1- سورة الأعراف، الآية: 157: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَىٰةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَىٰهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَٰئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَٰلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
2- سورة الحجرات، الآية: 4-5.

البعض ينادونه بصوت عالٍ: يا محمد...!! اخرج إلينا، وهذه الطريقة من التعامل مع رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) غير لائقة، بل لا تليق حتى في التعامل مع الصديق، وفي كثير من الأحيان تصنع نوعاً من النفور والحساسية في النفس، وربما تتطور وتستمر لتتحول إلى عداوات.

وإذا عدنا لجذور معظم العداوات في المجتمع نجد أنها تتصل بأمور صغيرة لكنها مؤثرة، وهي عدم مراعاة الآداب الاجتماعية، كأن يدخل أحدهم في مجلس ولا يسلّم علی الجالسين في ذلك المجلس، رغم أنه غير واجب، بل مستحب، وقد يسبب ذلك انزعاج بعضهم، فيتساءل عن سبب ذلك، ويقول في نفسه: لعله كان قاصداً أمراً ما، ثم يُسيء الظن به، وهذا الأمر الصغير يكبر شيئاً فشيئاً، وقد يكون لتدخل البعض وتطور القضية دور في إشعال نار الفتنة، فهي قد بدأت من عدم مراعاة أحد الآداب الاجتماعية، حتى وإن لم تكن واجبة، لكنها نهايتها تكون مأساوية أحياناً.

ومن هنا نجد أن الله عز وجل يعلمنا كيفية التعبير والتعامل مع الآخرين، حيث يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَٰتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}، لأن الشخص الذي يأتي في وقت استراحة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ويناديه بطريقة غير لائقة لا يعقل الأمور، فكل الذين ينادون رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) من وراء الحجرات لا يعقلون، لكن القرآن الكريم عبّر عن ذلك بقوله: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} ولعلّه لكي يفكر كل واحد منهم ويقول: من المحتمل أن أكون أنا المستثنى، فتكون الآية قد نبّهتهم بطريقة مناسبة.

ص: 74

إن الصبر من الفضائل الأخلاقية؛ ونفهم من الآية الكريمة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا}(1) أن الإنسان الذي يراعي الآداب الاجتماعية تكون كلمته أكثر وقعاً واحتراماً في المجتمع؛ إذ إن الناس تحترم الشخص المؤدب؛ لذا تكون كلمته أقوى وقعاً وأكثر مقبولية، وهذا بالطبع يكون في صالح هذا الشخص، وأما غير الملتزم بالآداب فإن المجتمع لن يحترمه ولن يقيم له وزناً.

ومن المعلوم أن الخلق الحسن له آثار في الدنيا قبل الآخرة، وهذا ما نطقت به الروايات الشريفة، وفي حديث طويل أن رجلاً أراد قتل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) ليضرب عنقه، فهبط جبرئيل (عليه السلام) على النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) ، فقال: «يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول لك: لا تقتله فإنه حسن الخلق سخي في قومه.

فقال النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : يا علي، أمسك، فإن هذا رسول ربي عز وجل يخبرني أنه حسن الخلق سخي في قومه. فقال المشرك تحت السيف: هذا رسول ربك يخبرك! قال: نعم. قال: والله ما ملكت درهماً مع أخ لي قط، ولا قطبت وجهي في الحرب، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.

فقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : هذا ممن جره حسن خلقه وسخاؤه إلى

ص: 75


1- سورة الحجرات، الآية: 5.

جنات النعيم»(1).

وفي حديث آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أتي رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) بأسارى فقدم رجل منهم ليضرب عنقه، ... فقال له جبرئيل: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول لك: إن أسيرك هذا يطعم الطعام، ويقري الضيف، ويصبر على النائبة، ويحمل الحمالات، فقال له النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : إن جبرئيل أخبرني فيك من الله عز وجل بكذا وكذا وقد أعتقتك، فقال له: إن ربك ليحب هذا؟ فقال: نعم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والذي بعثك بالحق نبياً لا رددت عن مالي أحداً أبداً»(2).

وحينما نقول: أخلاق هذا الإنسان حسنة، وأخلاق ذاك سيئة، أو أخلاق هذه المرأة حسنة، فهذا يعني أن هذا الرجل أو تلك المرأة تراعي مجموعة من الآداب الاجتماعية الإسلامية، وأما سوء الخلق فيعني العكس تماماً، وهو عدم مراعاة مجموعة من الآداب الاجتماعية الإسلامية؛ ولأن ذلك الرجل المشرك والمحارب لله ولرسوله كان ملتزماً بعدة من الآداب الاجتماعية الصحيحة، التي يحبها الله تعالى، وعبر عنها بحسن الأخلاق؛ لذا فإنه تعالى أمر رسوله الكريم أن يعفو عنه، وقد عفا عنه فعلاً.

ص: 76


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: 107.
2- الكافي 4: 51.

وهذا في الواقع أحد مصاديق (الخير) الذي تشير إليه الآية الكريمة(1)، فالالتزام بالآداب الاجتماعية الإسلامية - التي يعبر عنها الخطاب السماوي ب- (حسن الأخلاق) - قاد إنساناً مشركاً إلى الإسلام وإلى الجنة، بعدما كان على شفى حفرة من نار جهنم؛ ولذا جاء في حديث شريف عن النبي الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «المعروف والمنكر خلقان منصوبان للناس يوم القيامة، فالمعروف يقود صاحبه ويسوقه إلى الجنة، والمنكر يقود صاحبه ويسوقه إلى النار»(2).

فإن سوء الخلق يعني عدم الالتزام ببعض الآداب الاجتماعية الإسلامية، حيث يقوده ذلك إلى المحرمات، وهي بدورها تقود إلى النار، وأما الالتزام ببعض الآداب الاجتماعية الإسلامية فسوف يقود الإنسان إلى الالتزام بالواجبات وترك المحرمات، وهذه تقوده إلى الجنة.

ص: 77


1- وهي قوله تعالى في سورة الحجرات، الآية: 5 {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
2- مستدرك الوسائل 12: 205.

نجاح المسلمين في تكامل وحدتهم

اشارة

قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(1).

إنه يوجد ترابط بين الأمور في هذا الكون، فبعضها مترابط بالبعض الآخر، ولا يمكن أن نتصور فصل أحد الأمور عن الآخر، كما لا يمكن أن ننظر إلى شيء ما بمفرده من دون النظر إلى ما سبقه وما سيلحق به.

إن جسد الإنسان مركب من مجموعة من الأعضاء والجوارح وهي بدورها مركبّة من خلايا كثيرة، ولا يمكن أن نتصور إمكانية فصل جزء منها عن سائر الأجزاء، فلا يمكن أن نتصور أن العين منفصلة عن القلب، أو أن المخ منفصل عن الأمعاء، كذلك لا يمكن تصور انفصال الإنسان عن سائر الناس والجمادات والحيوانات، فكل ما في الكون بعضه مترابط بالبعض الآخر، وإذا وضع الشيء في موضعه فسوف تكون هذه الوحدة المتكاملة على أحسن الصور، ولكن إذا انحرف الشيء عن موقعه فسوف تبدأ

ص: 78


1- الكافي 2: 163.

المشاكل، وإذا تضخّمت خلية من خلايا جسم الإنسان - التي حجمها بمقدار معلوم - فقد يؤدي هذا التضخم إلى مرض السرطان، حيث يبدأ هذا المرض من الوقت الذي تبدأ فيه الخلية بالتغير عن موقعها وحجمها، وإذا أُصيب الإنسان في أحد أعضائه - كأن انكسرت رجله مثلاً - فإن سائر أجزاء جسمه تتفاعل مع هذا المرض، وإذا أُصيب بمرض من الأمراض فإن سائر الأعضاء تتأثر بهذا الأمر؛ ويحدث هذا في كل أمور الكون.

إن المسلمين بصورة عامة وحدة متكاملة، فإذا اشتكى عضو من أعضاء هذه الوحدة فينبغي أن تتفاعل معه جميع الأعضاء، يقول رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمّى»(1).

صحيح، أن أجزاء الجسم مختلفة، وأن كل جزء يختلف عن الجزء الآخر، لكنها في منظومة واحدة، وقانون واحد، وفي أسباب ومسببات واحدة، فلا يصح أن تقول العين: إن الرِجل هي المصابة فلماذا عليّ السهر؟! ولا يقول القلب: إن الدماغ هو المصاب فلماذا اضطرب؟! فالأمر ليس كذلك، وإذا صارت الحالة بهذا الشكل - أي: إذا أصيب أحد الأعضاء ولم تحس به سائر الأعضاء - فإن هذا الجسد ينطوي على خلل.

ص: 79


1- بحار الأنوار 58: 150، وجاء في مستدرك سفينة البحار 1: 67: «إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».

إن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»(1)،

فإذا رأينا مسلماً قد وقع في مصيبة ما، أو أنه يعاني من مشكلة ولم نهتم به، أو نشعر أن لا علاقة لنا بالأمر، فنحن لسنا مسلمين متكاملي الإيمان؛ لذا نرى أن المسلمين عندما أصيبوا بهذه الحالة فإن أوضاعهم قد تغيرت، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه، فالمطلوب منّا:

أولاً: الإصلاح

يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(2)، فإذا حدثت مشكلة ما بين المؤمنين أو بين المسلمين، فهؤلاء إخوة، فيجب أن نصلح بينهم ما تمكنا من ذلك، فإذا حدثت مشكلة معينة بين أخ وأخيه، وبقيت من دون معالجة فسوف تتفاقم؛ لأن الأمراض دائماً تبدأ صغيرة، ثم تنتشر وتتفاقم إذا لم تعالج في بدايتها، وأما إذا أُصيبت خلية بمرض وعولجت فإن المرض لا ينتشر في الجسم، فإذا حدثت مشكلة ما بين مسلمَيْن فلابد أن نبادر للإصلاح بينهما.

فإذا عرفنا أن هناك مشكلة بين مسلمَين جارين أو صديقين، أو بين بلدين من البلدان الإسلامية فينبغي علينا الإصلاح بقدر الاستطاعة، أي: بما نتمكن عليه، قال تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَٰحَ

ص: 80


1- الكافي 2: 163.
2- سورة الحجرات، الآية: 10.

مَا اسْتَطَعْتُ}(1).

ثانياً: نصر المسلمين

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}(2)، فإذا استنصرنا المسلمون المستضعفون فيجب علينا أن ننصرهم بالمقدار الذي نتمكن عليه، فإن أمكننا مساعدتهم مالياً فلنساعدهم، وإن أمكننا مساعدتهم عسكرياً إذا هجم عليهم الأعداء فلنفعل ذلك، ويمكن أن نساعدهم بتوضيح حالة الظلم التي تقع عليهم للعالم، والدفاع عنهم، فكيف نكون مسلمين ونحن لا ننصر مسلماً؟! يقول رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»(3).

ينبغي على الإنسان أن يؤدي واجبه بقدر ما يستطيع، وهذا هو المهم، وربما لا يتمكن من المساعدة بنفسه أو أمواله أو بلسانه، ولكنه يتمكن من نصر المسلمين بمقدار قليل فيجب عليه أن يفعل ذلك، بل ليس الواجب نصر المسلمين فحسب، بل أيّ إنسان مضطهد يجب علينا أن ننصره، وفي الحديث: «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق»(4).

عندما هجم جيش الشام على الأنبار قتلوا ونهبوا، فسمع أمير

ص: 81


1- سورة هود، الآية: 88 .
2- سورة الأنفال، الآية: 72.
3- الكافي 2: 164.
4- نهج البلاغة، الرسائل: 53.

المؤمنين (عليه السلام) بهذا الأمر، فقام خطيباً بالناس فقال: «قد أتاني الصريح يخبرني أن ابن غامد قد نزل الأنبار على أهلها ليلاً في أربعة آلاف، فأغار عليهم كما يُغار على الروم والخزر، فقتل بها عاملي ابن حسان، وقتل معه رجالاً صالحين ذوي فضل وعبادة ونجدة، بوّأ الله لهم جنات النعيم، وإنه أباحها. وقد بلغني أن العصبة من أهل الشام كانوا يدخلون على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فيهتكون سترها، ويأخذون القناع من رأسها، والخرص من أذنها، والأوضاح من يديها ورجليها وعضديها، والخلخال والمئزر عن سوقها، فما تمتنع إلا بالاسترجاع والنداء: يا للمسلمين، فلا يغيثها مغيث، ولا ينصرها ناصر، فلو أن مؤمناً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً، بل كان عندي باراً محسناً»(1).

ورُوي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) رأى شيخاً مكفوفاً يسأل، فقال (عليه السلام) : ما هذا؟(2)، فقالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه!! أنفقوا عليه من بيت المال(3).

فإذا كان التعامل مع الكافر بهذه الطريقة فالمسلم أولى بأن

ص: 82


1- بحار الأنوار 34: 139.
2- ولم يقل: (من هذا؟).
3- تهذيب الأحكام 6: 292.

ننصره في أية مشكلة، سواء كانت من الأعداء أم مشكلة الفقر، فيجب على الإنسان أن يعاون الفقراء ويساعدهم حسب استطاعته.

روى شعيب بن عبد الرحمن الخزاعي فقال: «وجد على ظهر الحسين بن علي يوم الطف أثر، فسألوا زين العابدين عن ذلك فقال: هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين»(1).

وأما الإمام زين العابدين (عليه السلام) ف- «لما وضع (عليه السلام) على المغتسل نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل، مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين»(2).

وكان أهل المدينة يقولون: «ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين (عليهما السلام) »(3).

إن مفردة (الاهتمام) مشتقة من الهمّ، والذي يعني الحزن، ف- (أهمّني الأمر) بمعنى أقلقني وأحزنني، فإذا كنت لا أقدر أن أساعد المسلمين فليس هناك أقل من الحزن عليهم، أو الاهتمام بهم والدعاء لهم، فهذا الأمر ممكن، وعن جابر الجعفي قال: «تقبضت بين يدي أبي جعفر (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك ربما حزنت من غير مصيبة تصيبني، أو أمر ينزل بي حتى يعرف ذلك أهلي في وجهي، وصديقي، فقال: نعم يا جابر، إن الله عز وجل خلق المؤمنين

ص: 83


1- مناقب آل أبي طالب 4: 66.
2- بحار الأنوار 46: 62.
3- بحار الأنوار 46: 88.

من طينة الجنان، وأجرى فيهم من ريح روحه، فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه، فإذا أصاب روحاً من تلك الأرواح في بلد من البلدان حزن حزنت هذه لأنها منها»(1).

إن هذا الرجل لم يكن سامعاً لمصائب المسلمين فحزن، فما بالك برجل يسمع ويرى مصائبهم ومشاكلهم ثم لا يهتم بهذا الأمر؟! إنه ليس بمسلم حقيقي، وإنما هو مسلم بالاسم فقط.

ففي بعض الأحيان يتأسف الإنسان حين يرى جماعة من المسلمين في مصيبة والجماعة الأخرى تتشمت بهم، وتفرح بمصيبتهم، فهؤلاء في أسوأ درجة من درجات الابتعاد عن الإسلام والإيمان، بينما يكون الدعاء بالخير هو أقل شيء يمكن أن يقدمه المسلم لإخوانه، فينبغي علينا أن ندعو للمسلمين، حيث هناك كثير من الأدعية، ومنها: «اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين»(2)، فربما يقول شخص ما: إن هذا الدعاء لا يستجاب؛ لأن الدنيا دار للمشاكل ولا تصلح كل المفاسد، ولكن ربما يعجل هذا الدعاء بظهور الإمام الحجة (عليه السلام) ، الذي يصلح في ظهوره كل فاسد من أمور المسلمين، كذلك أن تكرار الدعاء لأمر ما يوجب الهم والاهتمام في نفس الإنسان لحل هذه الأمور والمشاكل.

لقد تمزقت الأمة الإسلامية والاستعمار دخل من هذه الثغرة،

ص: 84


1- الكافي 2: 166.
2- مستدرك الوسائل 7: 447.

وها هم يثيرون كل يوم النعرات الطائفية والقومية وغيرها، وجميع الأسباب تعود إلى جهل أكثر المسلمين، وابتعادهم عن أحكام الله سبحانه وتعالى.

لذا ينبغي علينا أن نهتم بأمور المسلمين، فإذا اهتممنا بذلك فسوف يوفقنا الله سبحانه وتعالى، وعلى العكس يكون العكس، فإذا تمكنا من تحقيق ذلك بالقوة أو بالمال أو باللسان فبها، وإلا فإن أقل ما نقوم به هو إظهار الحزن وبيان مظلومية المسلمين.

رُوي: «إن امرأتين أتتا علياً (عليه السلام) عند القسمة، إحداهما من العرب، والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهماً وكراً من الطعام، فقالت العربية: يا أمير المؤمنين، إني امرأة من العرب وهذه امرأة من العجم، فقال علي (عليه السلام) : والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق»(1).

ورُوي أنه: «خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإن الناس كلهم أحرار، ولكن الله خوّل بعضكم بعضاً، فمن كان له بلاء فصبر في الخير فلا يمن به على الله عز وجل، ألا وقد حضر شيء ونحن مسوّون فيه بين الأسود والأحمر، فقال مروان لطلحة والزبير: ما أراد بهذا غيركما، قال: فأعطى كل واحد ثلاثة دنانير، وأعطى رجلاً من الأنصار ثلاثة دنانير، وجاء بعد غلام أسود فأعطاه

ص: 85


1- وسائل الشيعة 15: 107.

ثلاثة دنانير، فقال الأنصاري: يا أمير المؤمنين، هذا غلام أعتقته بالأمس تجعلني وإياه سواء؟ فقال: إني نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلاً»(1).

هذا ما يقوله أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فيجب علينا أن نتمسك به ونعمل، لكي نفوز بالدنيا والآخرة.

ص: 86


1- الكافي 8 : 69.

القيم الإسلامية وضرورة الحفاظ عليها

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(1).

إن الإسلام مجموعة من القيم في مختلف المجالات، وهذه القيم الإسلامية كلّها مقدسة. لذا يجب على المسلم الحفاظ عليها كلها، ولا يجوز التضحية بقيمة لأجل الوصول إلى قيمة أخرى، فلا تجوز التضحية بالصلاة للوصول إلى الصوم مثلاً؛ لأن كلاً منهما تُعد قيمة لا يجوز التفريط بها.

إن المشكلة تنشأ حينما يضحي الإنسان بقيمة للوصول إلى قيمة يتصورها مهمة، لكن (لا يطاع الله من حيث يعصى)، فإذا أراد الإنسان أن يصل إلى طاعة الله تعالى من خلال سلوك الطريق المحرم والمعصية فهذا الأمر مرفوض. فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(2).

ولما عوتب (عليه السلام) على التسوية في العطاء، وطلب منه البعض أن

ص: 87


1- سورة آل عمران، الآية: 103.
2- نهج البلاغة، الحكم: 165.

يفعل كما يفعل معاوية، قال: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور»(1). فالقضاء على معاوية والفئة الباغية مطلب وقيمة إسلامية، ولكن لا يصح الوصول إليها باتباع الجور والظلم، بالرغم من أن الانتصار على معاوية من القيم الإسلامية، لكونه انتصاراً للحق على الباطل.

إننا نسمع الآن شعارات قد تكون صحيحة ومضمونها إسلامي ورد في القرآن الكريم، ولكن ليس من الصحيح التضحية بأحكام وقيم إسلامية أخرى من أجل تحقيق هذه الشعارات، مثلاً: تُعد الوحدة مطلباً إسلامياً ورد في القرآن الكريم، كما في الآية الكريمة: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}(2)، ولكن لا يجوز أن نضحي بأحكام الإسلام لنصل إلى هذه الوحدة؛ لأن الآية تقول: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ}(3)، وإلا فإن الوحدة لذاتها ليس لها قيمة، فإذا تعلق أمر الوحدة بالباطل فهي

ص: 88


1- وسائل الشيعة 15: 107، وفيه: ... عن علي بن حباب، عن ربيعة وعمارة: «إن طائفة من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) مشوا إليه عند تفرق الناس عنه، وفرار كثير منهم إلى معاوية طلباً لما في يديه من الدنيا، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعطِ هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، ومن تخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام) : أتأمروني أن أطلب النصر بالجور، لا والله لا أفعل ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم، والله لو كان مالهم لي لواسيت بينهم وكيف وإنما هو أموالهم».
2- سورة الأنبياء، الآية: 92.
3- سورة آل عمران، الآية: 103.

مرفوضة، ويجب تجنبها؛ لذا نلاحظ أن الأنبياء (عليهم السلام) جاءوا برسالاتهم وحدث بسببها انشقاق في المجتمع المرسل إليه.

لقد كان المجتمع المكي متفق على عبادة الأصنام، وعندما بُعث رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) حدث انشقاق في المجتمع، فبقيت مجموعة من الناس تعبد الأصنام، فيما أسلمت مجموعة أخرى، وقامت حروب بسبب ذلك، وقتل المئات من المسلمين والكفار؛ لأن الوحدة على عبادة الأصنام ليس لها قيمة لكونها على باطل، يقول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَٰتُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٍ}(1)، فالناس أمة على باطل، والأنبياء (عليهم السلام) أحدثوا انشقاقاً في هذا الباطل، فقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواْ} يطلب منّا وحدة على الحق وحفظ الحقوق، بحيث يحصل كل إنسان على حقه، وأما إذا كانت وحدة على باطل فهي غير مطلوبة.

لو راجعنا سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) لوجدنا أنها وضاءة، فقبل أن يخرج طلحة والزبير جاءا عنده وطلب أحدهم إمارة البصرة،

ص: 89


1- سورة البقرة، الآية: 213.

والآخر إمارة الكوفة، فرفض الإمام ذلك(1)، فذهبا إلى البصرة مع عائشة وجيّشا هناك جيشاً ضده (عليه السلام) ، فقال مجموعة من أصحابه (عليه السلام) له: لا تخرج، فأين البصرة من المدينة؟ فرفض الإمام (عليه السلام) ذلك، وقال: «والله، لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم(2)»(3)، فعندما يأتي الصائد على باب جحر الضبع يأتي بعصا ويضربها على الأرض هويناً، ونتيجة لهذا الصوت الذي يخرج منها ينام الضبع، فيدخل الصائد إلى الجحر ويصطاده، و (اللدم) هو

ص: 90


1- توضيح نهج البلاغة 1: 72، وفيه: «إن الإمام لما بويع بالمدينة، أراد طلحة والزبير منه إمارة الكوفة والبصرة، فلم يلب طلبهما، فخرجا من المدينة باسم: العمرة، والتحقا بعائشة، فأخذوا يألبون الناس على الإمام، وكتبا إلى معاوية في الشام وأرادا اقتسام البلاد بين الثلاثة، وذهبا إلى البصرة لتوجيه العراق نحوهم، وذلك سبب تمرّد معاوية، حيث استظهر بهم وأقاما في البصرة يفسدان حتى التحق الإمام بهما بجيشه، وركبت عائشة على جمل، وجرت المحاربة بين الطرفين مما انتهى إلى نصر الإمام وقتل طلحة والزبير، ورجوع عائشة إلى المدينة خائبة خاسرة...».
2- اللدم: الضرب بشيء ثقيل يسمع صوته. قال أبو عبيد: يأتي صائد الضبع فيضرب بعقبه الأرض عند باب جحرها ضرباً غير شديد، وذلك هو اللدم، ثم يقول: خامري أم عامر بصوت ضعيف يكررها مراراً، فتنام الضبع على ذلك، فيجعل في عرقوبها حبلاً ويجرها فيخرجها، وخامري: أي: استتري في جحرك، ويقال: خامر الرجل منزله إذا لزمه».
3- نهج البلاغة، الخطبة: 6، وفيه: ومن كلام له لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير، ولا يرصد لهما القتال: «والله، لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم، حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصدها، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً، حتى يأتي علي يومي. فوالله، ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً علي منذ قبض الله نبيه (صلی الله عليه وآله وسلم) حتى يوم الناس هذا».

الضرب الخفيف.

إلى أن يقول الإمام (عليه السلام) : «حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصدها»، فالإمام (عليه السلام) يقول: إن هؤلاء وإن كانوا في البصرة لكنهم كالضرب الخفيف، سيلتحق بهم الناس شيئاً فشيئاً، وستتفاقم الفتنة، فخرج إليهم وحدث القتال.

بعد ذلك قال له مجموعة من أصحابه: اترك معاوية والياً على الشام! حيث إنه أمضى عشرين سنة في تلك المنطقة ومدّ جذوره فيها، فقد كان والياً من قبل عمر وعثمان، فإذا أردت الآن عزله فسوف يتمرد عليك، لكن الإمام (عليه السلام) لم يقبل بذلك وقال: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور»(1)،

فحدثت معركة صفين، وبعدها الخوارج.

من هنا، يجب أن تقوم الوحدة على الحق، ويجب أن لا تكون على أساس التنازل عن سائر القيم والمبادئ الأخرى، وللوصول إلى مبدأ ما يجب أن تكون جميع المبادئ محفوظة.

إذن، يجب أن نستخدم أدوات قوتنا بالشكل الصحيح، وأن لا يتم ذلك بشكل غير مشروع، فلا بد أن نحاول بالطرق المشروعة لكي نصل إلى حقوقنا، تقول الآية الشريفة: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}(2)، فنحن لا نريد أن نظلم حتى الوهابي أو المسيحي أو

ص: 91


1- وسائل الشيعة 15: 107.
2- سورة البقرة، الآية: 279.

اليهودي أو الكافر، لكن نريد في الوقت نفسه أن نعطيه حقه ونأخذ حقنا، لكن الطرف الآخر يريد أن يبتزنا ويصادر كل حقوقنا.

ينبغي علينا أن لا نتوقع حصول النتائج فوراً، ولعل استعجال الأمور من مشاكلنا، فلقد جعل الله تعالى الكون وخلقه، ثم خلق أسباباً ومسببات، وبعض الأسباب تكون نتائجها فورية، بينما تطول نتائج البعض الآخر، فإذا سلطنا النار على ورقة فستحترق فوراً، لكن إذا سُلطت النار على الماء فإنها تحتاج إلى زمان لكي تسخن الماء مثلاً.

وهكذا هي الأمور، فالطفل لا يصبح طبيباً منذ اليوم الأول من دخوله للمدرسة، وإنما يحتاج لسنين، وهكذا الشعوب، حيث تمر بالحالة نفسها، فالوعي والثقافة والفهم لا يحصل فجأة، لكن إذا سار الإنسان في الطريق الصحيح فسيصل إلى هدفه ولو بعد حين.

ص: 92

قيمة الزهد وسمو النفس فوق الصغائر

قال الله سبحانه وتعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنِ بَخْسٖ دَرَٰهِمَ مَعْدُودَةٖ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّٰهِدِينَ}(1).

إن يوسف (عليه السلام) هو نبي ابن أنبياء (عليهم السلام) ، والله عز وجل يريد في هذه الآية أن يبين لنا أن الدنيا لا قيمة لها، فهذا نبي ابن أنبياء يُباع بثمن بخس، بدراهم معدودة، بحيث إن عدّها يكون سهلاً: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّٰهِدِينَ}، و(الزهد) في الأصل اللغوي هو عدم الرغبة في الشيء، والقليل لا رغبة فيه لذا يقال: (مالٌ زهيد)، أي قليل(2).

إن البعض يفهم أن الزهد هو أن لا يملك الإنسان شيئاً، أو أنه لا يتمتع بالمباحات، وهذا فهم خاطئ، وقد يؤدي إلى عمل خاطئ،

ص: 93


1- سورة يوسف، الآية: 20.
2- العين 4: 12، وفيه: «الزهد في الدين خاصة، والزهادة في الأشياء كلها. ورجل زهيد، وامرأة زهيدة وهما القليل طعمهما. وأزهد الرجل إزهاداً فهو مزهد: لا يرغب في ماله لقلته». وقال في الصحاح 2: 481: «الزهد: خلاف الرغبة. تقول: زهد في الشيء وعن الشيء، يزهد زهداً وزهادة... وفلان يتزهد أي يتعبد. والتزهيد في الشيء وعن الشء: خلاف الترغيب فيه، والمزهد: القليل المال... والزهيد: القليل...».

فهناك الكثير منّا وفي كثير من الأحيان يتخذ الزهد ذريعة للكسل، فعندما نسأله: لماذا لا تعمل؟ يجيب: إنني زاهد في الدنيا، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}(1)، ويقول تعالى في آية أخرى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}(2)، فقد هيّأ الله تعالى لنا الأسباب، وما علينا إلا أن نقطف الثمر، ولكن كثيراً منّا يصرف وقته في البطالة واللهو واللعب والنوم، ويعيش الكسل بذريعة الزهد.

بعض الناس لا يهتم بأمور الدنيا، ثم إن فهمه الخاطئ يؤدي به إلى عمل خاطئ ونتيجة خاطئة، ففي كثير من الأحيان يحوّل الإنسان المعاني أو المفاهيم السامية إلى ما يلاءم أهواءه النفسية، حيث يقلبها إلى شيء مضر، وكل شيء يتغير عن حقيقته بإفراط أو تفريط يصبح مضراً.

وعلی كل حال فإن الزهد أن لا يكون همّ الإنسان بالمال الذي يملكه، فإذا كانت عنده الدنيا وما فيها فإنها تكون شيئاً قليلاً قياساً بمتاع الآخرة: {فَمَا مَتَٰعُ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا فِي الْأخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}(3).

كان لسليمان (عليه السلام) ما لا ينبغي لأحد من بعده(4)، فبالإضافة إلى

ص: 94


1- سورة النجم، الآية: 39.
2- سورة الملك، الآية: 15.
3- سورة التوبة، الآية: 38.
4- إشارة لقوله تعالى في سورة ص، الآية: 35: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٖ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}.

الملك الدنيوي الذي خضعت له الرقاب فقد خضع له الجن. قال الله تعالی: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَٰنَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}(1)، وسخر له الشياطين، قال تعالى: {وَمِنَ الشَّيَٰطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَٰفِظِينَ}(2)، وكذلك سخر الله عز وجل الريح له (عليه السلام) ، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَٰنَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}(3)، فقد كان يجلس على بساطه فتحركه الريح، والغدو بمعنى ساعات من الحركة في الصباح تساوي شهراً كاملاً من الحركة على الأرض، كالطائرات الآن، فساعة من طيران تعادل شهراً من السير على الأقدام، فقد جعل الله عز وجل هذا الملك له، بحيث لا ينبغي لأحد من بعده، لكن سليمان (عليه السلام) كان زاهداً، فلم يكن همّه هذا الملك العظيم، فليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكك شيء، وأن لا تحب الملك وتنشغل به وبأمور الدنيا، تقول الآية الكريمة: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}(4)، فإذا كان الإنسان فقيراً وله قلم يحبه حباً جماً، فإنه ليس بزاهد وإن كان فقيراً، وهذا يعني أنه لا بد أن تكون نفس الإنسان كبيرة، ولا تتطلع إلى الأمور المستحقرة، بل يرى الدنيا كلها لا قيمة لها، وتبقى نفسه كبيرة تتطلع إلى الآخرة

ص: 95


1- سورة النمل، الآية: 17.
2- سورة الأنبياء، الآية: 82 .
3- سورة سبأ، الآية: 12.
4- سورة الفجر، الآية: 20.

التي لا نهاية لها، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، حيث يرغب في ذلك، ويستقل الدنيا وكل ما فيها من أجله.

عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لاختار العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني»(1).

فلو خُير الإنسان وقيل له: سنعطيك قصراً، فيه ما لذّ وطاب، وفيه كل ما لملوك الدنيا، إلا أنك ستعيش فيه سنة ثم تموت بعدها، أو نعطيك كوخاً تعيش فيه خمسين سنة، فإنه سوف يختار الثاني.

صحيح أن الأول فيه ما لذّ وطاب لكنه قليل، وأما الثاني فهو أطول، فكيف والدنيا قليلة والآخرة كثيرة؟ فبناءً على ذلك يجب على الإنسان أن تكون نفسه كبيرة، فقد يكون أثرى الأثرياء لكن نفسه صغيرة، وربما هناك شخص آخر هو أفقر الفقراء لكن نفسه كبيرة؛ لذا فإن الغنى - كما يفسر في الأحاديث(2)

- هو غنى النفس، ومن كانت نفسه غير غنية فسوف يبقى فقيراً حتى لو كان يملك الدنيا وما فيها، وهذه الحقيقة يبينها لنا القرآن الكريم حيث يقول: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ

ص: 96


1- الوافي 1: 100.
2- الأمالي، للشيخ الصدوق: 488، وفيه: عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «وخير الغنى غنى النفس». وفي تحف العقول: 57: وقال (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس».

وَكَانَ الْإِنسَٰنُ قَتُورًا}(1).

لقد كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) انشغل بالزراعة عند إقصائه من السلطة وذلك من أكبر مآسي الأمة الإسلامية، فأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان يجب أن يدير شؤون الحكم، ويعلم الناس الكتاب والحكمة نراه بسبب خذلان الناس له يضطر إلى أن يذهب للزراعة!!

وكانت المنطقة التي اشتغل فيها الإمام (عليه السلام) اسمها (ينبع) وهي الآن ميناء قرب المدينة، فقد أحيى (عليه السلام) هذه المنطقة، وبقي فيها لفترة وحفر هناك عيون وشق الترع وزرع النخيل، ثم آلت من بعده إلى الإمام الحسن (عليه السلام) ثم إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ، ثم إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) وهكذا... .

لعلّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أراد أن يؤسس لمشروع اقتصادي للأئمة (عليهم السلام) من بعده، لكي يتمكنوا من الترويج للدين؛ لأن السلطات الحاكمة كانت تفرض على الأئمة (عليهم السلام) حصاراً اقتصادياً، فيما كان الإمام الحسن والحسين (عليهما السلام) بمكانتهما الاجتماعية يحتاجان إلى أن ينفقا على عائلتيهما وعلى الناس، فقد كانا (عليهما السلام) يربيان الناس، وينفقان على الفقراء، وكل هذا كان يحتاج إلى الأموال.

روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) زرع أكثر من ثلاثمائة ألف نخلة(2)،

ص: 97


1- سورة الإسراء، الآية: 100.
2- بحار الأنوار 40: 114، وفيه: «قال ابن دأب: فكان يحمل الوسق فيه ثلاثمائة ألف نواة، فيقال له: ما هذا؟ فيقول: ثلاثمائة ألف نخلة إن شاء الله، فيغرس النوى كلها، فلا يذهب منه نواة».

وكانت تأتيه أموال كثيرة جداً، فكان ينفقها على الفقراء، وتشييد الدين، وهذه الأموال لم تملكه، فقد كان ثرياً لكنه زاهد، فالأموال ليست مهمة بالنسبة له؛ ولذا عندما أصبح خليفة للمسلمين كان: «إذا أتي بالمال أدخله بيت مال المسلمين، ثم جمع المستحقين، ثم ضرب يده في المال فنثره يمنة ويسرة، وهو يقول: يا صفراء يا بيضاء لا تغريني، غري غيري.

هذا جناي وخياره فيه *** إذ كل جان يده إلى فيه

ثم لا يخرج حتى يفرق ما في بيت مال المسلمين، ويؤتي كل ذي حق حقه، ثم يأمر أن يكنس ويرش، ثم يصلي فيه ركعتين، ثم يقول بعد التسليم: يا دنيا لا تتعرضين لي ولا تتشوقين إلي ولا تغريني، فقد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي عليك»(1).

لكن هذا لا يعني أنه لم يعمل ولم يجاهد، بل إنه لم يكن يعبأ بأمور الدنيا، فقد ورد عن الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) أنه قال: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»(2)؛ لذا فينبغي أن نؤدي ما علينا، والأمر لله سبحانه وتعالى.

إن الوالد (رحمه الله) عندما كان في كربلاء أسّس فيها عشرات

ص: 98


1- الأمالي، للشيخ الصدوق: 283؛ بحار الأنوار 41: 103.
2- مستدرك الوسائل 1: 146.

المؤسسات، فهناك ست مدارس لحفظ القرآن الكريم، ثلاث منها مخصصة للبنين وثلاث للبنات، وكان يدرس فيها حوالي ستة آلاف طالب وطالبة، وكذلك مدارس علوم دينية غير ذلك من مشاريع، فلما هُجّر من العراق هدّمت تلك المؤسسات وصودر بعضها، وطبيعي أن الإنسان الذي عمل فترة طويلة على مجموعة مؤسسات سيتعلق بها، فلما صودرت وصل الخبر إلى الكويت، فقال بعض الأخوة: سنذهب ونذكر الخبر للسيد بالتدريج لكي لا يصدم به.

يقول أحدهم: ذهبت إلى السيد وبدأت بمقدمات حول الخبر، فقاطعني وقال: إنك تريد أن تقول: إن المؤسسات التي تعود لنا في العراق قد صودرت. فقلت: نعم سيدنا، قال: لقد أدينا ما علينا، وإن صودرت فسوف نبدأ بتأسيس مؤسسات أخرى؛ لأنه علينا أن نؤدي التكليف، وأما أن تنجح المؤسسة أو تفشل فهذا خارج عن إرادتنا، وهذا لا يعود إليّ وإنما لله عز وجل.

فقد ينوي الإنسان عملاً ما ثم يبدأ به، لكنه لا ينجح المشروع الذي أراده، فإذا كانت نيته خالصة لله سبحانه وتعالى فإنه سينال الثواب الكامل، وأما إذا بدأ إنسان آخر بمشروع ما وأكمله وكانت نيته غير خالصة لله فلا يحصل على ثواب، بل قد يكون في ذلك عقاب؛ لذا يجب علينا أن نؤدي تكليفنا بلا قصور ولا تقصير بالمقدار الذي نستطيعه، وإذا حصل مانع أمام هذا المسجد أو هذه الفضائية أو ذلك الكتاب فلنحاول رفع المانع، فإن نجحنا فبها وإلاّ فقد أدّی ما عليه.

ص: 99

وإذا كانت حقيقة الإنسان الزهد في الدنيا فقد أدى ما عليه لله، وهذا لا يعني أن يكسل الإنسان ولا يعمل بالأسباب، بل عليه أن يؤدي كل ما عليه، وهذا هو الفرق بين التوكل والتواكل.

من هنا، يجب على الإنسان أن لا تملكه الدنيا، ويتم هذا عن طريق غنى نفسه، وهو أمر ليس بسهل، بل يحتاج إلى عمل، ففي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : «إن العاقل نظر إلى الدنيا وإلى أهلها فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة، ونظر إلى الآخرة فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة، فطلب بالمشقة أبقاهما»(1)؛ لذا فالإنسان يحتاج إلى العمل، وأن يكون العمل بما يوصله إلى الله سبحانه وتعالى، وليعلم أن الدنيا لا قيمة لها، فقد جاء في الحديث الشريف: «لو عدلت الدنيا عند الله عز وجل جناح بعوضة ما سقى عدوه منها شربة ماء»(2). وقال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «لو كانت الدنيا تعدل عند الله مثل جناح بعوضة ما أعطى كافراً ولا منافقاً منها شيئاً»(3)، قال سبحانه: {وَلَلْأخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ}(4).

فإذا وجد الإنسان في نفسه بعض الحب للدنيا وبعض متعلقاتها

ص: 100


1- الكافي 1: 18.
2- الكافي 2: 246.
3- تحف العقول: 40.
4- سورة الضحى، الآية: 4.

فعليه بإزالة ذلك من قلبه بالمثابرة والمشقة، ولا يمكن ذلك إلا بالعلم والعمل، لاسيما مراجعة القرآن الكريم والتدبر في آياته، ومراجعة روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .

ص: 101

غنى النفس طريق الوصول إلى المعالي

قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس»(1).

يعتبر غنى النفس من الفضائل التي أمر بها الإسلام، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس»(2).

ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قدّر للإنسان رزقاً، وأمره أن يطلبه، وفي كثير من الأحيان يوفر الله سبحانه وتعالى للإنسان احتياجاته التي يطلبها، وفي بعض الأحيان يضيق عليه رزقه للامتحان، أو لأي جهة أخرى، وفي بعض الأحيان يوسع عليه رزقه، فالإنسان إذا كان ذا نفس كبيرة فإنه لا يشعر بحاجته إلى ما في أيدي الآخرين، وإنما يكتفي بما رزقه الله سبحانه وتعالى، فهو يقنع بما ينتج من كدّ يمينه وعرق جبينه، ولا يطمع بما هو أكثر، بل تكون نفسه غنية.

ص: 102


1- تحف العقول: 57.
2- الكافي 2: 148.

إن غنى النفس وفقرها لا علاقة له بالطابع المادي للإنسان، فقد نجد فقيراً لا يمتلك إلا القليل من المال لكنه ذو نفس كبيرة، وبالمقابل قد نجد ثرياً ذا نفسية صغيرة.

فالغنى الحقيقي هو غنى النفس وليس غنى المال والملك؛ لأن غنيّ النفس لا يشعر بالحاجة إلى ارتكاب المخالفات والتجاوزات للوصول إلى مبتغاه، وإنما يسلك الطرق المستقيمة والأساليب الشفافة، وأما ذو النفسية الصغيرة فحتى إذا ملك الدنيا بأجمعها فسوف يشعر أنه بحاجة إلى الأكثر، ويجد أن ما يمتلكه لا يلبي طموحه، ولا يشبع طمعه؛ لذلك يبحث عن الأكثر وإن كان عن طريق الحرام؛ ففقر النفس يدفع الإنسان إلى ارتكاب الجرائم، والتجاوز على حقوق الآخرين، بل إلى قبول الذل والمهانة أمام الظالمين لكي يصل إلى بعض الحطام، في حين أن غنيّ النفس ليس لا يرتكب الجرائم وحسب، بل حتى وإن عرضت له الدنيا فسوف يرفضها ولا يقبلها؛ لأنه لا يشعر بالحاجة إليها. من هنا، نجد أن غنى النفس طريق الوصول إلى المعالي، وتجنب السقوط في مهاوي الرذيلة.

نلاحظ أن بعض الناس قد لا تكون حالتهم المالية سيئة، فقد يكونون أثرياء، ولكنهم يتذللون طمعاً للأكثر، وإذا وصل أحدهم إلى منصب سياسي في حكومة ما فسوف يبدأ بسرقة أموال الناس؛ لأن نفسه صغيرة، والمنصب شكّل بالنسبة له طريقاً وفرصة للسلب والنهب والسرقة وغيرها، وانعكاس كل ذلك وضرره يعود عليه

ص: 103

أولاً يوم القيامة؛ قال الله تعالی: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَٰمَةِ}(1)، وثانياً: يُفتضح أمام الناس في الدنيا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يفضح الظالمين والمتجاوزين، كما أن الأموال التي يحصل عليها تكون خالية من البركة، ويحاسب عليها يوماً ما، وإذا لم يحاكم عليها في الدنيا فلا يهنأ بها هو أو ذريته، فما جاء من الحرام يذهب إلى الحرام.

وإن شعر أحدنا أن في نفسه ميلاً وضعفاً أمام هذه المغريات فليجاهد نفسه بالدعاء، وقراءة القرآن الكريم والنظر في الروايات الشريفة والتاريخ، ومصير المجرمين والمخالفين والسارقين، لكي يقنع نفسه ويروضها بأن لا ترتكب تلك التجاوزات، ولكي تكون نفساً كبيرة حتى إذا ما تغيرت الدنيا في يوم من الأيام، وصارت أموال الناس وأعراضهم رهن إشارته، فإنه لن يتجاوز عن الحق.

ص: 104


1- سورة آل عمران، الآية: 161.

حسن العاقبة والحفاظ على حقوق الآخرين

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}(1).

إن كثيراً من الصفات النفسية الموجودة في الإنسان تكون متناقضة، فإذا وُجدت صفة فإن الصفة الأخرى المناقضة لها لا يمكن أو يستبعد وجودها في الإنسان نفسه، مثلاً: إذا كان الإنسان مقاتلاً جيداً، ويشترك في الحروب، ويقتل الأعداء فهو يتصف بالشجاعة المطلوبة في ساحات القتال، وهذه الصفة تسبب ضعف صفة الرحمة لديه؛ لأن حالة القتال والقتل والشجاعة العملية تناقض الرحمة، وإذا تمكن شخص ما من جمع هذه الصفات المتضادة فهو إنسان نادر.

كان أمير المؤمنين (عليه السلام) أشجع الشجعان في ساحات الحروب، وأما في الليل فكان في المحراب أعبد العباد، حيث كان يبكي بين يدي الله تعالى حتى يغمى عليه، ولهذا قال الشاعر في وصفه (عليه السلام) :

ص: 105


1- سورة الأعراف، الآية: 85.

جمعت في صفاتك الأضداد *** فلهذا عزّت لك الأنداد

زاهد حاكم حليم شجاع *** فاتك ناسك فقير جواد

ظهرت منك للورى مكرمات *** فأقرّت بفضلك الحسّاد(1)

ولقد أجاد الشاعر في وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول:

هو البكاء في المحراب ليلاً *** هو الضحاك إذا اشتد الضراب(2)

إن الإنسان الذي يشترك في الحروب عادة ما يكون قلبه قاسياً فكيف يبكي؟! والإنسان الذي يجمع بين هاتين الصفتين اللتين هما من الفضائل قليل جداً، وكان بعض أصحاب الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من هذا النوع، وذلك بسبب تربيته (صلی الله عليه وآله وسلم) لهم، يقول تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}(3)، فالإنسان إذا كان شديداً مع الكفار يكون شديداً مع أصدقائه أو أهله عادة، وأما أن يجمع بين كونه شديداً مع الكفار ورحيماً مع أهله وأصدقائه فهذا قليل أو نادر؛ لذا كانت تربية رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) سبباً في أن

ص: 106


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 1: 285.
2- مستدرك سفينة البحار 8 : 181.
3- سورة الفتح، الآية: 29.

تجتمع هاتين الصفتين المتضادتين في بعض المسلمين، وكلاهما من الفضائل.

وهكذا في الصفة الواحدة يصعب علی الإنسان التفريق بين المصاديق المختلفة، فالكريم مثلاً كريم في كل شيء والبخيل بخيل في كل شيء، أما أن يكون كريماً في شيء وبخيلاً في شيء آخر فهذا نادر، ومن جملة ذلك حفظ الحقوق، مثلاً: يجب علی المؤمن أن لا يبخس الناس حقوقهم، فالبخس يعني النقصان، فإذا بخس الإنسان حق الآخرين فإنه يفعل الشيء نفسه مع الله عز وجل، فيبخس الله تعالى، فإذا بخس أحدهم حقوق الناس وأشياءهم فلا يمكن أن يفي بحق الله سبحانه وتعالى؛ وقد نهى سبحانه وتعالى عن بخس الناس أشياءهم، قال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}(1).

إن الإنسان يمكنه أن يبخس الناس أشياءهم في المعاملات والفضائل؛ إذ يمكن أن يغش في المعاملة فيقول: إن هذا الحجر وزنه كيلو، ولكنه في الحقيقة أقل من ذلك، فيأخذ ما يعادل قيمة الكيلو من الأموال لكنه يبيع الناس أقل منه، ويُعد هذا بخس للناس أشياءهم في المعاملات، فإذا غش الناس فربما يحاول أن يغش الله تعالى، وهو سبحانه بصير بالعباد، لكن الإنسان يخدع نفسه، ويظن أن الله تعالى كسائر الناس، فإذا تمكن أحدهم من أن يغش رجلاً

ص: 107


1- سورة الأعراف، الآية: 85 .

مسلماً فسوف يسعى لكي يخدع الله سبحانه وتعالى، قال تعالى في وصف المنافقين: {يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}(1)، فالمنافقون يعملون عملاً ويظنون أنهم يخدعون الله به، لكنه تعالى بصير بالعباد.

فقد يغش البعض ومع ذلك يزعم أنه من المؤمنين، فهو يصلي ويصوم ويتصور أن هذا هو الإسلام، ولا دخل للمعاملة في الدين، مع إن الدين المعاملة، وجاء في حديث آخر: «لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإن ذلك شيء اعتاده، فلو تركه استوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته»(2).

وأما إذا قام بالتجاوز على حقوق الناس وبخسهم أشياءهم - أي: بضاعتهم - فسوف ينجر إلى المعاصي، ويبخس حقوق أهله وأصدقائه ونفسه، ويظن أن ذلك بمصلحته، ويحدث هذا في الأمور المادية والمعنوية. فلو كان الإنسان لا يحب إنساناً ما لأنه لا يعجبه فهذا لا يعني أن ينكر فضله، أو ينكر حقه ويبخسه.

إن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) كان يجتمع في بيت أحد الأصحاب ويتلو عليهم القرآن الكريم في منتصف الليل، ويعلمهم الأحكام لأنهم في النهار مشغولون، فبالإضافة إلى أن المشركين والكفار كانوا يمنعون رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) من التبليغ بالنحو الأحسن، فكان (صلی الله عليه وآله وسلم)

ص: 108


1- سورة البقرة، الآية: 9.
2- الكافي 2: 105.

وفي إحدى الليالي ذهب أبو جهل ليستمع إلى ما يقولوه الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) من آيات القرآن الكريم، فرأى أبو سفيان قادماً إلى المكان ليستمع إلى القرآن أيضاً، فاستغرب من ذلك، وقال له: ما الذي جاء بك هنا؟ فقال له أبو سفيان: الذي جاء بك جاء بي، فقد جئت استمع لكلام محمد، فسأل أبو سفيان أبا جهل: هل تظن أن محمداً صادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل: والله انه لصادق، فقال له أبو سفيان: إنك جئت لتستمع القرآن في الخفاء فلماذا لا تؤمن به في العلن، وإنما تحاربه؟ فقال أبو جهل: إن بني هاشم كانوا يطعمون وكنا نطعم، وكانوا يقرون الضيف وكنا نُقرئ، فكنا كفرسي رهان، كلما فعلوا من خير نفعله، وما من فضيلة لهم إلا ونحن لنا تلك الفضيلة، إلى أن جاء رجل وقال: إني رسول الله، وأنا أعلم أنه رسول الله، وأعلم أنه صادق، لكن من أين آتي برجل لقبيلتي يكون رسول من الله؟(1).

إذن، فأبو جهل يقول: إن هذا رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، وهو يعلم بأن الله تعالى اختاره لكنه لا يريد أن يعطيه حقه، بل حاربه وقُتل في المعركة ومضى إلى جهنم، حتى أن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) وقف على قتلى المشركين ببدر وخاطبهم بقوله: «يا أهل القليب، إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟! فقال المنافقون: إن رسول الله، يكلم الموتى، فنظر إليهم فقال: لو

ص: 109


1- انظر: مستدرك الوسائل 4: 185؛ مناقب آل أبي طالب 1: 50؛ تفسير القمي 1: 276.

أذن لهم في الكلام لقالوا: نعم، وإن خير الزاد التقوى»(1).

وروي عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه وقف على قليب بدر، فقال للمشركين الذين قتلوا يومئذٍ وقد ألقوا في القليب: «لقد كنتم جيران سوء لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ، أخرجتموه من منزله وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه، فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال له عمر: يا رسول الله، ما خطابك لهامٍ قد صديت؟ فقال له: مه يا بن الخطاب، فوالله ما أنت بأسمع منهم، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع الحديد إلا أن أعرض بوجهي هكذا عنهم»(2).

فهم يسمعون أكثر منكم؛ لأنكم محبوسون في الجسم ومحدودون فيه، فحدودكم بحدود المادة، وأما هؤلاء فقد انفصلت أرواحهم عن الأجساد؛ ولذا يكون الميت أسمع وأبصر من الحي؛ لأنه تحرر من قيود المادة، قال تعالى: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٖ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(3).

وقد وصف أمير المؤمنين حال الذين خالفوه بقوله: «... فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْأخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَٰقِبَةُ

ص: 110


1- من لا يحضره الفقيه 1: 180.
2- بحار الأنوار 6: 254.
3- سورة ق، الآية: 22.

لِلْمُتَّقِينَ}(1) بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها»(2).

ثم يبين (عليه السلام) سبب قيامه بالأمر بعد ما حدث، حيث قال: «أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها(3)، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»(4). لأن الإمام (عليه السلام) متيقن بالله تعالى وبالآخرة.

وأما الشخص الذي يلتجئ إلى الدنيا ويحبها، فإن من جملة ما يفعله هو ظلم الآخرين، ونتيجة لظلمه يبخس حقوقهم، ثم ينجر إلى أن يبخس حقوق الله سبحانه وتعالى، وأما إذا لم يبخس الإنسان حقوق الناس، وأدى حقوقهم - سواء كانت مادية أم فضائل - فسوف يفوز برضا الله سبحانه وتعالى.

ص: 111


1- سورة القصص، الآية: 83.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 3.
3- أي: لتركت التصدي للرئاسة.
4- المصدر نفسه.

دور الأخلاق الفاضلة في تثبيت دعائم الحق

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ الطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}(1).

إن الأخلاق الفاضلة لها دور كبير في إرساء التعايش في صفوف المجتمع؛ لأنها قيمة إنسانية وفطرية يدركها كل إنسان، يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق»(2)؛ لذا فيمكننا أن نتخذ من الآيات القرآنية وكلام الرسول وأهل البيت (عليهم السلام) نموذجاً وقاعدة للانطلاق العملي في المجتمع، حيث أكدوا على الأهمية الكبيرة للأخلاق، لأن ترك القواعد الأخلاقية - سواء كانت فردية أم اجتماعية - يخلق المشاكل في المجتمع في معظم الأحيان، وهذي بدورها تؤدي إلى حالة عدم التعايش في صفوف المجتمع.

إن الإسلام يأمرنا بمراعاة الأخلاق مع المسلمين وغيرهم؛ لأنها

ص: 112


1- سورة الإسراء، الآية: 70.
2- راجع نهج البلاغة، الرسائل: 53.

سبب لتعايش المجتمع، ناهيك عن تأثير القيم الإسلامية على غير المسلمين، فإذا كانت هناك قيمة سامية ولا يعرضها من يحملها بشكل صحيح في سلوكه، فهذا سوف يؤثر سلباً على الناس؛ لأن الناس عادة لا ينظرون إلى هذه القيمة، وإنما ينظرون لحاملها، فأسلوبه وتصرفه السيئ قد يكون حاجزاً ومانعاً لتقبّل الناس لتلك القيمة التي يحملها؛ لذا فحينما نلتقي إنساناً ذا أخلاق عالية ورفيعة، فإننا نحس أن قلوبنا تميل إليه، فنفتح قلوبنا له ونستمع لكلامه، وأما إذا كانت أخلاقه سيئة فنحس أن قلوبنا تنفر منه، وإذا حدث ذلك فإن القلوب تغلق أبوبها عادة عن السماع والتأمل في الكلام الذي يتفوّه به ويصدر منه.

وإذا كانت هناك طائفة من المجتمع ترى أنها على حق والآخرين على خطأ، فإن انتهاجها أسلوب التشدد والكلام العنيف وعدم مراعاة المجتمع قد يصل بها إلى حد تسقيط المجتمع، وحينئذٍ تفقد تأثيرها، وينشأ حاجز نفسي بينها وبين المجتمع، فإذا كنا نتصور أننا فقط على حق والآخرين ليسوا كذلك، وأردنا أن نوصل ذلك الحق لهم فلا يصح أن يتم ذلك بطريقة التشدد والشتم والسب وأمثال ذلك، وإنما ينبغي أن نتحلى بالأخلاق الفاضلة، وعن طريقها ننفذ إلى قلوب الناس، فلو راعت جميع طوائف المجتمع الإسلامي هذه المسألة لحدثت حالة من الوئام والانسجام في المجتمع كله؛ إذ تؤدي إلى التعايش الإيجابي بين جميع الشرائح المجتمعية.

ص: 113

لو راجعنا تاريخ الإسلام فسوف نلاحظ أن الأخلاق هي من الأسباب المهمة التي أدت لنشر الإسلام بين الناس، فقد كان رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) يحمل أخلاقاً عالية، حيث تمكن من غرسها في نفوس الكثير من أصحابه، بل سرت في جموع المسلمين، فحينما كانوا يذهبون إلى منطقة للتبليغ أو الفتح كانت تستقبلهم الشعوب استقبالاً كبيراً، وكان ذلك يساعد في انتصار المسلمين؛ لأنهم تعلموا ذلك من الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، الذي علّمهم مضامين الآيات القرآنية الدالة على حسن الأخلاق؛ لذلك كانوا ينفذون إلى قلوب مختلف الشعوب، وعندما كانت الشعوب الأخرى تلاحظ أخلاق المسلمين العالية كانوا يفتحون صدورهم وقلوبهم لهم، وقد أدى هذا الأمر إلى دخولهم في الإسلام.

ولو راجعنا تأريخ بعض الدول الإسلامية الكبرى في العصر الراهن كاندونيسيا، لوجدنا أن الفتح الإسلامي لم يصل إليها، ولم يصل إليها الإسلام عن طريق الجيوش الإسلامية، فقد كانت مجموعة جزر متناثرة تبلغ أكثر من عشرة آلاف جزيرة، ويبلغ مجموع المسلمين في تلك الجزر الآن تقريباً (200) مليون مسلماً، والسبب في إسلامهم - كما يقول بعض المؤرخين - هو ذهاب بعض المسلمين إلى تلك الجزر للتجارة، أو الاستيطان أو لأي سبب آخر، وقد تعامل المسلمون مع سكان تلك الجزر بالأخلاق الحسنة والتعامل الإنساني، وليس بالطريقة الاستعلائية، بل كانوا يتعاملون معهم تعاملاً إنسانياً إسلامياً، مما سبب تقريب الإسلام لهم، وإدخاله

ص: 114

في قلوبهم؛ لذا تحولوا إلى مسلمين.

فكيف إذا كان المسلمون في مدينة واحدة، أو دولة واحدة، أو قطر واحد؟ لذا ينبغي أن يكون تعامل بعضهم مع البعض الآخر وفق الأخلاق الإسلامية المنصوص عليها؛ لأن القرآن الكريم أمرنا بذلك، وذكرها الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام) وطبقوها.

إن الله عز وجل يخاطب رسوله فيقول له: {فَبِمَا رَحْمَةٖ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}(1)،

وقد أكد الله سبحانه وتعالى ضرورة اللين والأخلاق في التعامل البشري، فقال للرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) : إن من رحمة الله عليك أنك واجهت الغلظة والخشونة، التي كان يمتلكها الناس في ذلك الوقت، بلين في الكلام والأخلاق، فتمكنت بهذه الطريقة أن ترقق قلوبهم، وتؤثر عليهم.

يقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2)، لأن الحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه، فعلى الإنسان أن يلاحظ هل أن هذا الزمان والمكان والموقف مناسب للكلام الذي ينوي قوله أم لا؟ فإذا وجده مناسباً أطلق كلامك أو تصرفه الحكيم.

ص: 115


1- سورة آل عمران، الآية: 159.
2- سورة النحل، الآية: 125.

فحينما يبدأ الإنسان بالكلام فينبغي أن لا يكون كلامه خشناً ولا يستعمل الشدة، وإنما يستعمل الموعظة الحسنة، وعليه أن يُلبس الكلام بلباس صحيح وجميل، وقد تحدث مناقشة الأمر، فليكن بالحسنى، قال تعالى: {وَجَٰدِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فالله تعالى يأمر نبيه أن يكون النقاش بالحسنى، حتى وإن كانوا كفاراً أو مشركين، قال تعالى: {وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَٰبِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}(1)، فمن ظلم فقد أغلق باب عقله عن النقاش، وتجاوز الحدود؛ لأن الذي يتعدى على الآخرين لا يجدي معه الكلام والنقاش، وفي هذه الحالة ينبغي علينا أن ندافع عن أنفسنا، ولكن هذا يعدّ استثناءً، وإلا فأول شيء هو المجادلة بالحسنى.

ص: 116


1- سورة العنكبوت، الآية: 46.

مكاسب الصبر في الدنيا والآخرة

اشارة

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٖ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٖ مِّنَ الْأَمْوَٰلِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَٰتِ وَبَشِّرِ الصَّٰبِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ}(1).

إن كل شيء في الكون إذا حدث تكون له علة وسبب، وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذا الكون مكاناً للأسباب والمسببات والعلل والمعلولات.

والله تعالى غالباً ما يُقرن الأشياء بعضها بالبعض الآخر؟ فالحرارة سببها النار، ولا فرق في ذلك بين أن نقول: إن الله تعالى أوجد هذه العِليّة في النار لكي تكون سبباً للحرارة؟ أو أن نقول: إن النار ليس لها سببية وإنما الله سبحانه وتعالى - وكما جرت العادة - يخلق الحرارة حينما توجد النار.

إن هذه الدنيا دار أسباب ومسببات، فإذا أردنا أن نصل إلى أي شيء فينبغي علينا أن نهيئ أسبابه؛ إذ لا يمكن أن نوجد شيئاً من دون سببه، وأما إذا هيّأنا السبب فإنه سيستحقق المسبَّب.

ص: 117


1- سورة البقرة، الآية: 155-156.

إن كثيراً من الأسباب تكون بيد الإنسان، وكثيراً منها ليست بيده، فإذا أراد الإنسان أن يكتسب فضيلة فينبغي عليه أن يهيئ الأسباب التي تكون بيده، ولأن الدنيا دار امتحان فأسباب الفضائل والكمال والخير تكون أسباباً صعبة، في حين أن أسباب الرذائل والنقائص والشر تكون سهلة؛ لأنها تتطابق مع الهوی والشهوات عادة، يقول المتنبي:

لو لا المشقة ساد الناس كلهم *** الجود يفقر والإقدام قتّال

إذا أراد الإنسان أن يكون كريماً فإن الكرم يسبب فقره في كثير من الأحيان، وإذا أراد أن يُقدم على أمر صعب فإن ذلك يسبب له الأضرار؛ لذلك إذا لم تكن المشقة موجودة، وتكون أسباب الفضائل سهلة وبسيطة، فكل الناس يصبحون سادة ومؤمنين، ولا يكون هناك امتحان للبشر؛ لذا فإن الصبر يُعد من أسباب الفضائل والخير، وهو صعب في كثير من الأحيان، لكن الإنسان إذا أراد الوصول إلى هدفه فينبغي عليه الوصول إلى أسباب الخير؛ لأن الصابر سيصل إلى النتيجة، لكنه إذا لم يكن صابراً فسوف يُصاب بضررين: الأول: نفسي، والثاني: عملي؛ لأن النفس تؤثر على أعمال الإنسان وجوارحه.

في أحد الأيام ركبتُ سيارة أجرة، فسألت السائق عن حاله فتبيّن أنه كان مؤمناً متديناً يؤدي صلاته وصيامه، وكان ثرياً، لكنه أصيب بنكسة مالية فازدادت ديونه، واشتكاه دائنوه، فألقوا به في السجن، ثم قال: إن الله هو الذي أخذ مني المال، وأخذ معه الدين والصلاة والصوم!! إذ كان قد ترك كل شيء في السجن. هذا الشخص لأنه لم يكن صابراً على هذا البلاء لذا فقد دينه، وأثر ذلك

ص: 118

على عمله، إضافة لتأثيره على نفسيته، فقد كان منهاراً نفسياً.

ثم إن الصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: الصبر على الطاعة

إن طاعة الله سبحانه وتعالى تنطوي على صعوبة، فحينما يؤدي الإنسان صلاته يقوم بذلك بصعوبة، ويصوم بصعوبة، ويصدق مع الآخرين بصعوبة. ولأنه يواجه صعوبة في كثير من الأحيان فعليه أن يصبر، فإذا صبر فإن الله تعالى يوفيه أجره، سواء كانت الطاعة واجبة أم مستحبة، قال تعالى: {قُلْ يَٰعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَٰسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٖ}(1).

كان جدنا السيد مهدي الشيرازي (قدس سره) طالباً للعلوم الدينية في مدينة سامراء، وكان يتيماً فوالده توفي وهو صغير، وكان من شدة الفقر أنه لا يملك مقداراً من المال ليشتري نفطاً أو زيتاً لينير سراجه، فكان يقرأ في الليالي المقمرة تحت ضوء القمر، وكذلك كان يحفظ القرآن الكريم، إلى أن أصيب في عينيه بعمى ليلي، فلم يتمكن من الرؤية في الليل، وقد توسل ب- (السيد محمد بن الإمام الهادي) بأن الله تعالى إذا شفاه من هذه العلة فسيذهب مادامه في سامراء في كل سنة مشياً على الأقدام لزيارة السيد محمد المعروف ب- (سبع الدجيل)، وبالفعل شفاه الله تعالى، وعاد له نور بصره حتى آخر حياته.

ص: 119


1- سورة الزمر، الآية: 10.

قراءة الدروس الدينية وحفظ القرآن طاعة الله تعالى، وهي صعبة، لكنه تحمّل أياماً قليلة، أعقبتها الوصول إلى مدارج علمية عالية، قال الله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(1).

الثاني: الصبر عن المعصية

إن الصبر على عدم ارتكاب المعصية مطلوب؛ لأن أسبابها تشجع الإنسان على ارتكابها؛ وكما في الحديث: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»(2)؛ فالمعصية تسحب الإنسان نحوها، فعليه أن يصبر عنها، يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : «شتان ما بين عملين: عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره»(3)؛ لذا فإن عمل الخير صعب، لكن الصعوبة تنتهي ويبقى الأجر، كما ورد في دعاء شهر رمضان: «اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا، فتقبله منّا، ذهب الظماء وابتلت العروق وبقي الأجر»(4)، فالمعصية واللذة تذهب، سواء بقيت دقيقة أم دقيقتين أم أكثر، لكن الوبال والمحاسبة الدنيوية والأخروية تبقى، فإذا لاحظ الإنسان أن أسباب المعصية والشيطان والنفس والهوى تدفع به تجاه المعصية فعليه أن يصبر عنها، فالله تعالى يختبر الإنسان

ص: 120


1- سورة السجدة، الآية: 24.
2- بحار الأنوار 67: 78.
3- نهج البلاغة، الحكم: 121.
4- الكافي 4: 95.

في كثير من المواقع؛ وأحياناً لا أحد غير الله تعالى يرى الإنسان حين تتوفر له أسباب المعصية؛ لذا فالدنيا دار الاختبار والامتحان.

ينقل أنّ أحد العلماء الكبار حينما كان طالباً كان يسكن في مدرسة مهجورة، وكان فقيراً جداً، وفي إحدى الليالي التجأت امرأة إلى تلك المدرسة، وكانت قد ضيعت الطريق، ولم يكن لها ملجأ، ولم يكن فيها سوى هذا الطالب، وقد وسوس الشيطان في قلبه، لكنه لم يستجب له، وكانت هناك شمعة فشمّت المرأة رائحة احتراق شيء ما، وحينما حان وقت الصباح خرجت المرأة واتضح أنها كانت ابنة أحد الملوك وتاهت في الطريق، وحين سألوها أين كنت البارحة؟ قالت: في المدرسة الفلانية، فجاءوا إلى المدرسة ووجدوا فيها ذلك الطالب، فسألوه عنها، فقال: نعم، إنها كانت في الحجرة الثانية حيث أمضت الليلة فيها، بعد ذلك قالت المرأة: اسألوه عن تلك الرائحة؟ وحينما سألوه عن ذلك، قال: إن الشيطان حاول أن يغريني، فقلت لنفسي: ينبغي أن لا أستجيب له، وكنت أضع إصبعي على الشمعة، وأقول لنفسي: ذق حرارة الدنيا قبل حرارة الآخرة؛ ولأن الشيطان قوي جداً، كنت أريد أن أذيق نفسي هذه الحرارة لكي لا أقع في المعصية. وحينما لاحظ الملك قوة صبره وتحلّيه بهذه الحالة زوجه من ابنته نفسها. وهكذا فقد صبر هذا الرجل ليلة واحدة أعقبت ذلك راحة طويلة، حيث أصبح صهر الملك.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف الدنيا: «تغر وتضر وتمر»(1).

ص: 121


1- نهج البلاغة، الحكم: 415، وتمامه: «إن الله تعالى لم يرضها ثواباً لأوليائه ولا عقاباً لأعدائه، وإن أهل الدنيا كركب بينا هم حلوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا».

الثالث: الصبر على المصيبة

في كثير من الأحيان تنزل على الإنسان مصائب ينبغي عليه أن يصبر عليها، فعن ابن عباس قال: «كنت عند النبي وعلى فخذه الأيسر ابنه إبراهيم، وعلى فخذه الأيمن الحسين بن علي، وهو تارة يقبل هذا وتارة يقبل هذا، إذ هبط جبرئيل بوحي من رب العالمين، فلما سرى عنه قال: آتاني جبرئيل من ربى فقال: يا محمد، إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: لست أجمعهما فأفد أحدهما بصاحبه، فنظر النبي إلى إبراهيم فبكى، وقال: إن إبراهيم أمه أمة ومتى مات لم يحزن عليه غيري، وأم الحسين فاطمة، وأبوه علي ابن عمي لحمي ودمي، ومتى مات حزنت ابنتي وحزن ابن عمي، وحزنت أنا عليه، وأنا أوثر حزني على حزنهما. يا جبرئيل، يقبض إبراهيم، فديته بالحسين. قال: فقبض بعد ثلاث. فكان النبي إذا رأى الحسين مقبلاً قبله وضمه إلى صدره ورشف ثناياه وقال: فديت من فديته بابني إبراهيم»(1). وكان الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يبكي عند دفن إبراهيم ويقول: «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون»(2).

لقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) يقول في لحظاته الأخيرة وقبل

ص: 122


1- مناقب آل أبي طالب 3: 235؛ بحار الأنوار 22: 153.
2- الكافي 3: 262.

استشهاده: «إلهي رضاً بقضائك وتسليماً لأمرك، لا معبود سواك يا غياث المستغيثين»(1).

لذا ينبغي أن نرضى بقضاء الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يقضي لنا إلا الخير، وربما يكون هذا الخير صعباً علينا، فإن آخر ما أوصى به الإمام الحسين ابنه الإمام زين العابدين (عليهما السلام) ، هو ما نقله لنا الإمام الباقر (عليه السلام) قائلاً: «لما حضرت أبي علي بن الحسين (عليهما السلام) الوفاة ضمّني إلى صدره وقال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه أوصاه به، يا بني اصبر على الحق وإن كان مرّاً»(2).

ومع ذلك فلا يكفي أن يصبر الإنسان فقط، بل ينبغي أن يقرنه بالعمل؛ لذا فقد قرن الله تعالى الصبر بالعمل في آيات عديدة، قال الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّٰلِحَٰتِ}(3)، وقال: {الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(4)، وقال: {ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُواْ}(5)، وقال: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ}(6).

فالصبر جزء من السبب وليس السبب كله، فإذا صبر الإنسان

ص: 123


1- مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة 6: 229؛ ينابيع المودة 2: 82.
2- الكافي 2: 91.
3- سورة هود، الآية: 11.
4- سورة النحل، الآية: 42.
5- سورة النحل، الآية: 110.
6- سورة آل عمران: 120، 125 و 186.

ورضي بقضاء الله سبحانه وتعالى، فإن النتيجة الدنيوية والأخروية سوف تحصل، قال الله تعالی: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بَِٔايَٰتِنَا يُوقِنُونَ}(1).

لقد نزلت على الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مصائب كثيرة لكنه إمام للمتقين، وهو الإمام الصابر، وكذلك نزلت على الأئمة (عليهم السلام) ، لكنهم صبروا، وهذا الإسلام الذي نعيشه اليوم وصل إلينا عن طريقهم؛ لأنهم كانوا أئمة يهدون بأمر الله؛ لأن عاقبة الصبر محمودة، ولذا جاء في الحديث الشريف: «فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر»(2).

كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أوَدِكم ولكنّي لا أری إصلاحكم بإفساد نفسي»(3)، أي: لا يصلحكم إلا السيف، فلو أني أقتل بعضكم وأسجن الآخر فستخافون مني وتطيعونني، لكن لا أريد إصلاحكم بفساد نفسي، فلا أريد أن أخالف الله، وأفسد نفسي لأصلحكم، بينما قتل الحجاج وسفك الدم فاستقرت حكومته، وهكذا فعل كثير من هؤلاء الظلمة.

والحاصل: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يعرف ما يصلح هؤلاء الناس، وهو استعمال القوة والقتل، إلا أنه لم يفعل ذلك؛ صحيح أنه كابد مشاكل كثيرة، وكان البعض يخالفه ويسبه ويحاربه، ويبث

ص: 124


1- سورة السجدة، الآية: 24.
2- نهج البلاغة، الخطبة: 56.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 69.

الدعايات ضده، لكنه (عليه السلام) صبر على هذه التهم، حتى أن أصحابه كانوا يقولون له: افعل كذا وكذا... لكنه كان يرفض أن يفسد نفسه بإصلاح الناس، وكان بعض أصحابه يلومه على ذلك، لكنه صبر؛ لذا كانت عاقبته محمودة كبيرة، حيث جعله الله تعالى إمام المتقين في الدنيا والآخرة، ولا يمكن لأحد أن يعبر الصراط إلا إذا كان بيده تزكية من علي بن أبي طالب (عليه السلام) (1).

ص: 125


1- مائة منقبة: 85 ، وفيه: عن الحسن البصري، عن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إذا كان يوم القيامة يقعد علي بن أبي طالب (عليه السلام) على الفردوس، وهو جبل قد علا على الجنة، وفوقه عرش رب العالمين، ومن سفحه تنفجر أنهار الجنة وتتفرق في الجنان، وهو جالس على كرسي من نور، يجري بين يديه نهر من التسنيم، لا يجوز أحد على الصراط إلا ومعه براءة بولايته وولاية أهل بيته، وهو مشرف على الجنة فيدخلها محبيه، ومشرف على النار فيدخلها مبغضيه». كتاب الأربعين: 59، وفيه: عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) : «إذا كان يوم القيامة أمر الله ملكين يقعدان على الصراط، ولا يجوز أحد على الصراط إلا ببراءة علي بن أبي طالب، ومن لم يكن معه براءة أمير المؤمنين كبّه الله في النار، وهو قوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسُْٔولُونَ}. قيل: وما براءة علي؟ قال: قول لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله، ووصي رسوله». بحار الأنوار 35: 106، وفيه: قال جابر بن عبد الله: قال لي رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) : «شرحت لك ما سألتني ووجب عليك الحفظ لها، فإن لعلي عند الله من المنزلة الجليلة والعطايا الجزيلة ما لم يعط أحد من الملائكة المقربين، ولا الأنبياء المرسلين، وحبه واجب على كل مسلم، فإنه قسيم الجنة والنار، ولا يجوز أحد على الصراط إلا ببراءة من أعداء علي (عليه السلام) ». وقال القندوزي الحنفي في ينابيع المودة 2: 162: وعن قيس بن أبي حازم قال: التفت أبو بكر إلى علي فتبسم في وجهه، وقال: سمعت النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) يقول: لا يجوز أحد على الصراط إلا من كتب له علي الجواز».

دور الصبر والمرابطة في تحقيق النصر على الأعداء

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1).

هناك فرق دقيق بين الرذائل والفضائل، ففي كثير من الأحيان لا يكون بين الفضيلة والرذيلة سوى فاصلة دقيقة، فما هو الفرق بين البخل والتوفير؟ وما هو الفرق بين الشجاعة والتهور؟ وما هو الفرق بين الجبن والاحتياط؟ وما هو الفرق بين الاحتياط في العبادة والوسوسة؟ إن الفرق دقيق جداً، ففي بعض الأحيان يؤدي هذا الفرق إلى أن يتحول الفعل الذي يتصور صاحبه أنه فضيلة إلى رذيلة وبالعكس؛ لذا ينبغي على الإنسان أن ينطلق في أعماله وتصوراته وتصرفاته من تشخيص الفرق؛ لأن عمل الإنسان يبتني على طريقة تفكيره.

إن فكر الإنسان يسيّر عمله؛ لذا ينبغي أن نفرق في أعمالنا حتى لا نخطئ ولا نعمل الرذيلة؛ بتصوّر أنها فضيلة، أو نترك الفضيلة متصورين أنها رذيلة، ومن الفضائل الصبر، فالصبر هو فضيلة، لكن

ص: 126


1- سورة آل عمران، الآية: 200.

بفرق بسيط يتحول الصبر إلى خنوع وخضوع للباطل، وحينئذٍ يكون رذيلة، وينقلب المفهوم ويتغير المعنى.

الصبر هو عدم الانهيار أمام المشكلة، فالإنسان معرّض للمشاكل، ولا يخلو إنسان منها، ولكن بعض الناس ينهارون أمامها، وهذا يعني أنه لم يصبر، والبعض الآخر لا ينهار أمام المشكلة، وهذا يعني أنه صابر.

الإنسان ينبغي أن يكون أقوى من المشاكل، حتى لا ينهار أمامها، وإذا حدث ذلك وانهار فهذا يعني أنه أضعف من تلك المشاكل.

بعض الناس يتصورون أنهم يبتلون بالمشاكل حين إدبار الدنيا عنهم، لكن الأمر ليس كذلك، ففي بعض الأحيان تحدث المشاكل حين إقبالها عليهم، فقد يفقد الإنسان أمواله فلا يصبر، أو يرزقه الله عز وجل مالاً كثيراً فلا يصبر. فالمشاكل لا تحدث في إدبار الدنيا فقط، وإنما قد تحدث أيضاً في إقبالها.

مثلاً: نلاحظ أن أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفاة رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) صبر لسنوات طويلة، فهل معنى صبره هذا أنه كان نوعاً من الخنوع والخضوع والاستسلام للأمر الواقع؟ لا، لكن الذي يتبادر لذهن الكثيرين إننا عندما نتعرض لمشاكل يجب أن نستسلم ونخضع ونخنع، لكن هذا ليس معنى الصبر.

إن أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن في تلك الفترة يقاتل بالسلاح، ولكنه كان يستعمل أساليب أخرى لبناء الحق ولإرجاعه إلی

ص: 127

نصابه، وليس عبثاً أن نرى في البداية أنه لم يكن مع أمير المؤمنين (عليه السلام) إلا القلائل، ولكن بعد خمس وعشرين سنة أصبح معه عشرات الآلاف، حيث يصف حاله فيقول: «مجتمعين حولي كربيضة الغنم»(1)، فلم يحدث هذا من دون سبب أو اعتباطاً، وإنما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعمل طيلة خمس وعشرين سنة، طوال الليل والنهار، فالليل في العبادة، والنهار في الجهاد، ولكنه ليس جهاداً بالسلاح؛ لأن الظرف لم يكن مناسباً، فيمكن أن يكون الجهاد بطريق آخر، حيث كان (عليه السلام) يربي مجموعة من الناس، ويبين لهم الحق بالتدريج، وقد تكاثر هؤلاء حتى صاروا في حالة جعلتهم يقنعون الناس بخلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وإلا فالمخالفون لم يكونوا يريدون هذا الأمر، لكن هؤلاء الذين رباهم أمير المؤمنين (عليه السلام) خلال تلك الفترة - أي: خمس وعشرين سنة - أرجعوا الحق إلى نصابه.

فلم يكن صبر أمير المؤمنين (عليه السلام) سلبياً، فلم يجلس في الدار ويغلق على نفسه الباب، ويترك العمل وإنما عمل وربى بعض أصحابه حتى أصبحوا نواة لنشر التشيع. وهذا هو المعنى الذي ينبغي علينا أن نستفيد منه.

إن فاطمة الزهراء (عليها السلام) صبرت بعد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) إلى حين

ص: 128


1- نهج البلاغة، الخطبة: 3، وفيه: «فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم».

استشهادها، ولكن هل كان معنى صبرها سكوت عن الحق؟ وهل كان معناه عدم المطالبة بالحق؟ وهل كان معناه عدم سلب الشرعية عن الظلم؟

إنهم متورطون حتى الآن في ذلك، فماذا يقولون؟ وماذا يفعلون؟ لأن فاطمة الزهراء (عليها السلام) سلبت الشرعية عنهم، فهم يريدون أن يجدوا عذراً ومبرراً لكنهم لا يجدون ذلك، فلقد كانت الزهراء (عليها السلام) صابرة، ولكن لا يعني صبرها الخضوع ولا الخنوع، بل معناه عدم الانهيار أمام المشاكل، والعمل حسب ما يقتضيه الظرف.

نحن نتعرض الآن لمشاكل في كثير من البلدان، فالمسلمون معرضون لمشاكل مختلفة ضدهم بالقتل أو الاعتقال، أو سلب الحقوق أو استعمال الطائفية، وقد تكون بطرق أخرى، وهذه أمور نشاهدها في كل مكان؛ لذا يجب علينا أن نصبر أمام هذه المشاكل. لكن ليس معنی الصبر عدم العمل، يقول الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ}، فيجب علينا أن نعمل؛ فلا يترك أحدنا بقية المهام والواجبات المنوطة به بحجة أنه صابر؛ يجب أن يعمل كل شخص لرفع الظلم، وحسب ظروفه المكانية والزمانية التي يعيش فيها، عملاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والإرشاد.

نجد أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا معرضين دائماً للقمع والاضطهاد والسجن والسم وأمثال ذلك، لماذا؟ الجواب: هو أنهم (عليهم السلام) كانوا

ص: 129

صابرين وفي الوقت نفسه كانوا يعملون، وهذا لم يكن يرضي السلطات، وإلا فلو كان الإمام (عليه السلام) جالساً في بيته ولا يقوم بأي عمل، فلماذا تأتي السلطة لتقتله أو تضطهده أو تبعده...؟ إن من لا يعترض على السلطة ويغلق بابه لا تقترب منه السلطات، حتى في أشد الدول قمعاً واضطهاداً.

يقول الله عز وجل: {يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ}(1)، وهذه كلمات متتالية: اصبروا، وصابروا، ورابطوا، فما هي المرابطة ؟ إنها أشد وأخطر أنواع العمل، فالمرابطة تعني أن يذهب المؤمن إلى ثغور بلاد الإسلام، ويبقى هناك فإذا هجم الكفار على بلاد الإسلام يدافع عنها، ودائماً ما يتعرض أهل الثغور والمرابطون للخطر لأنهم قليلون، والأعداء يهجمون عليهم فجأة ويقتلونهم، فالله سبحانه وتعالى يقول: اصبروا ولكن رابطوا، أي: قوموا بعمل حتى لو كان عملاً خطيراً، لا أن يجلس الإنسان في بيته، ويغلق الباب على نفسه، ويقول: أنا صابر على مشاكل الأعداء، كلا، بل عليه أن يصبر ويصابر، بمعنى أن يشوّق الآخرين للصبر، ويعمل ولو كان العمل مرابطة، التي هي أخطر الأعمال في ذلك الوقت، وقد يعيش خوفاً مستمراً، ويحتاج إلى يقظة مستمرة.

ينبغي علينا أن نفكر وأن نعمل لتغيير هذا الواقع المزري، والظلم والاضطهاد الذي نعاني منه، وكما جاء في المثل: (ما ضاع حق

ص: 130


1- سورة آل عمران، الآية: 200.

وراءه مُطالب)، فلو كان الشيعة الأوائل في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) وزمن الأئمة (عليهم السلام) يفكرون مثلما يفكر كثير منّا لذهب التشيع، ولم يبق منه شيء، ولربما بقي في التأريخ بالاسم فقط، إلا أنهم كانوا صابرين ويعملون باستمرار، وفي كثير من الأحيان ينكشف العمل والإنسان معرّض لذلك.

ص: 131

دور الحكمة وحسن النية في بناء العلاقات المثالية

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوٰةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَوٰةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}(1).

يتكون المجتمع من شخصيات مختلفة وآراء متباينة، وهكذا خلق الله سبحانه وتعالى البشر، حيث فضّل بعضهم على بعض في الدنيا(2)، وكذلك في الآخرة التي يكون التفضيل فيها أتم وأكبر وأكثر.

فإذا أراد الإنسان المؤمن أن ينال رضا الله عز وجل، ويعيش حياة سعيدة فينبغي عليه أن يراعي أفراد المجتمع، بما هم عليه من أنماط وتوجهات مختلفة، فهناك شخصيات قلقة، وقد تكون توقعات بعض الناس أكثر من الواقع، أو ربما يكونون متشائمين جداً، بحيث يظنون

ص: 132


1- سورة الكهف، الآية: 28.
2- سورة الإسراء، الآية: 20-21: {كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٖ وَلَلْأخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}.

أن كل فعل موجّه ضدهم، وقد يحدث هذا بين الزوج وزوجته، أو بين الأب وابنه، أو بين الأخ وأخيه، فهناك توقعات مختلفة قد لا يتمكن الإنسان من تلبيتها فينزعج الشخص الآخر، وعندما تحدث مشاكل بين بعض الناس نجد أن بعض أسبابها تافه جداً، فربما قام أحدهم بفعل غير مقصود، فتصور الثاني أنه إهانة له، فاتخذ منه موقفاً عدائياً، ثم يتطور الموقف إلى شجار أو مقاطعة.

إن الإسلام يأمرنا بمراعاة المجتمع ومداراته على اختلاف أفراده، لكن القضية ليست بهذه السهولة؛ لأن كثيراً من الناس قد تأتي توقعاتهم أو تصوراتهم في غير محلها، فمن الصعب التعامل مع شخص بطلباتٍ متعددة، فقد يقول أحدهم: أنا على حق ويجب على الآخر أن يعتذر منّي ويغيّر موقفه، بينما يقول الآخر الشيء نفسه، فيحدث الخلاف والتوتر، وقد يكون الإنسان محقاً في كلامه، وربما يكون الشخص الآخر متجاوزاً عليه، لكن الإسلام يقول: يجب مراعاة الناس، ففي الحديث الشريف المروي عن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض»(1).

وفي الحديث: «جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول لك: دارِ خلقي»(2).

ص: 133


1- الكافي 2: 117.
2- الكافي 2: 116.

بعض الناس، فقد يخطر في ذهنهم تساؤل: لماذا جمع الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) حوله هذه الجماعة، وفيهم المنافق والمؤمن وغيرهم، فلماذا لم يطرد رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) المنافقين؟ وقد لا يصرح بهذا التساؤل إذا كان يعترف بعصمة الرسول فيقول: إن عمله (صلی الله عليه وآله وسلم) كان صحيحاً، لكن ما هي الحكمة من ذلك؟

لكن الجواب عن ذلك بسيط جداً وهو: لقد كان الرسول محمد (صلی الله عليه وآله وسلم) يعيش في مجتمع متنوع الأشكال، وهكذا هو حال جميع الأنبياء (عليهم السلام) ، والمجتمع لا يخلو من شتى أنواع الناس، فإذا أراد الإنسان أن يكون حديّاً فمعنى ذلك أنه سيبقى وحده يعاني عزلة تامة، فإذا تعلق الأمر بحكم شرعي فيجب تنفيذه سواء رضي أم لم يرضَ، لكن هناك أحياناً أموراً وقضايا عادية في المجتمع تتطلب المرونة، فقد تكون الزوجة سيئة الأخلاق، إلا أنه ليس من الواجب على زوجها أن يطلقها، وقد تكون توقعات صديقك أحياناً أكثر من اللازم، وقد يؤمن الآخرون بشيء لا تؤمن به، قال الله تعالی: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَٰتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}(1)، ففي كثير من الأحيان يلمزك الآخرون حول الزكاة بالإشارة، ولا يخطر في باله أنه لا يستحق الزكاة، ولو كان مستحقاً فسينالها، فهناك أناس يأتون أحياناً لرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) ويطلبون منه بعض الأشياء التي لا يمكن تلبيتها شرعاً، فلم

ص: 134


1- سورة التوبة، الآية: 58.

يكن يلبي طلباتهم، وأحياناً تكون قضايا عادية، فلا يطردهم الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) ، ولا يقول لأحدهم: إن توقعك في غير محله، وإلا لما بقي للإسلام شيء، ولا اخضر للإسلام عود.

من هنا كانت المراعاة منهج الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) في تعامله مع الناس، لكن بعضهم يقول: لماذا لم يطلق الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) زوجته فلانة...؟ أو لماذا تزوجها أساساً؟ مع أنه لا يعلم أن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) يتعامل مع المجتمع تعاملاً باللين والمداراة، ولا يقابل الإساءة إلا بالإحسان، فالتغافل في كثير من الأحيان من صفات المؤمن، وليس التغافل بمعنى الغفلة، وإنما المراد هو أن يعرف الإنسان الشيء ثم يغض الطرف عنه، وكأنه غافل ولم يتنبّه للمتكلم عنه بسوء، لذا علينا دائماً أن نراعي أفراد المجتمع الذي نعيش فيه، فإذا كانت لأحدهم توقعات أكثر من اللازم فلابد من غضّ الطرف عنها، وعندما يتحدث أحدهم ضدي ويتكلم بسوء، أو إذا كانت لديه تصورات خاطئة عني فينبغي أن أتغافل عن ذلك لكي تموت الفتنة من جذورها.

ورد في إحدی الروايات الشريفة أن أحد ذرية الإمام الحسن (عليه السلام) وقف على الإمام زين العابدين (عليه السلام) فشتمه، فلم يكلمه الإمام (عليه السلام) ، وبعد ذلك قام وذهب إليه وأطاب الكلام، حتی اعتذر ذلك الرجل من الإمام (عليه السلام) (1).

ص: 135


1- الإرشاد 2: 145، وفيه: «وقف على علي بن الحسين (عليهما السلام) رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردي عليه، قال: فقالوا له: نفعل، ولقد كنا نحب أن تقول له ونقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: {وَالْكَٰظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً، قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به فقال: قولوا له: هذا علي بن الحسين، قال: فخرج إلينا متوثباً للشر، وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافئاً له على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين (عليهما السلام) : يا أخي، إنك كنت قد وقفت علي آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيَّ فاستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس في فغفر الله لك، قال: فقبل الرجل ما بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك، وأنا أحق به.

علينا أن نستفيد من هذه السيرة الوضاءة، فإذا تمت معالجة المشاكل بهذه الطريقة وهذا الأسلوب المتواضع فإن بناء المجتمع سيكون رصيناً ومتماسكاً.

هناك أناس يأتون أحياناً لمعرفة بعض المسائل الشرعية، التي تدور حول مشاكل طويلة وعريضة بين الأقرباء، وحينما نجلس معهم ونبحث أصل المشكلة نجد أنه أمر تافه وبسيط، وكان يمكن أن تُحل المشكلة في بدايتها بتواضع أحد الطرفين للآخر، وبما أنه لم يتواضع أحدهما للأخر فقد تطورت المشكلة، وكبرت النقطة السوداء لتصبح شيئاً فشيئاً دائرة كبيرة ومعقدة.

إن كثيراً من الناس قد تتفاقم حالته النفسية إذا وجد نفسه على حق، والطرف الآخر على باطل، ويبقى متردداً ويقول لنفسه: كيف أتواضع وأذهب لمن أخطأ في حقي؟ لكن الأفضل هو معالجة

ص: 136

المشكلة وهي لا تزال صغيرة، وذلك من خلال التواضع، لكي يوفر الإنسان على نفسه جهد سنوات، وتوتر متواصل للأعصاب قد يؤدي إلى مخالفة الشرع؛ لأنه عندما تحدث نزاعات فربما تحصل مخالفة الشرع إذ ينطوي الخلاف على غيبة وتهمة وكلام باطل وسب وشتم وغير ذلك.

ومن أجل أن نحقق المداراة مع الناس - سواء المسلمين أم غير المسلمين، كما هو منهج الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) - فعلينا أن نركز على الأمور التالية:

أولاً: يجب أن لا تكون توقعاتنا من الناس عالية.

ثانياً: النظر إلى أفعال الآخرين بمنظار النوايا الصحيحة، فربما يقوم أحدهم بعمل صحيح إلا أنني لم أستطع فهمه كما يجب.

إن زرارة بن أعين كان من كبار أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) ، وكان (عليه السلام) في بعض الأحيان يعيبه حفاظاً عليه، عن عبد الله بن زرارة قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : «اقرأ مني على والدك السلام، وقل له: إني إنما أعيبك دفاعاً منّي عنك، فإن الناس والعدو يسارعون إلى كل من قربناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبه ونقربه، يرمونه لمحبتنا له وقربة ودنوه منّا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله، ويحمدون كل من عبناه نحن وأن نحمد أمره، فإنما أعيبك لأنك رجل اشتهرت بنا ولميلك إلينا، وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود

ص: 137

الأثر لمودتك لنا وبميلك إلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك، ويكون بذلك منّا دفع شرهم عنك، يقول الله جل وعز: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَٰكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ}(1)، يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، هذا التنزيل من عند الله صالحة، لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك ولا تعطب على يديه، ولقد كانت صالحة ليس للعيب منها مساغ والحمد الله.

فافهم المثل يرحمك الله، فإنك والله أحب الناس إليّ، وأحب أصحاب أبي (عليه السلام) حياً وميتاً، فإنك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، إن من ورائك ملكاً ظلوماً غصوباً، يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصباً، ثم يغصبها وأهلها. فرحمة الله عليك حياً ورحمته ورضوانه عليك ميتاً، ولقد أدي إلي ابناك الحسن والحسين رسالتك، حاطمها الله وكلاهما ورعاهما وحفظهما بصلاح أبيهما كما حفظ الغلامين. فلا يضيقن صدرك من الذي أمرك أبي (عليه السلام) وأمرتك به... »(2).

ص: 138


1- سورة الكهف، الآية: 79.
2- اختيار معرفة الرجال 1: 349؛ معجم رجال الحديث 8 : 232، وفيه: ... عن محمد بن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد وغيره، قالوا: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : «رحم الله زرارة بن أعين، لولا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي (عليه السلام) ». وعن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد الأقطع، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما أجد أحداً أحيى ذكرنا وأحاديث أبي إلا زرارة وأبو بصير ليث المرادي ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفاظ الدين وأمناء أبي على حلال الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا والسابقون إلينا في الآخرة».

والحاصل: إن الإنسان في كثير من الأحيان لا يعرف ما هي طبيعة العمل، أو وجهته؟ ولو علم بذلك لرآه صحيحاً، ولذا جاء في الحديث الشريف: «احمل أخاك المؤمن على سبعين محملاً من الخير»(1)، فإذا كان احتمال الإساءة تسعة وستين، فهناك احتمال واحد بأنه لم يقصد الإساءة.

ثالثاً: على الإنسان أن يتغافل عن الإساءة وينساها، فإذا أساء أحدهم إلينا فلنطلب من الله عز وجل أن يعوضنا بثواب في الدنيا والآخرة.

ص: 139


1- الحدائق الناضرة 15: 353؛ بحار الأنوار 15: 170، وفيه: «إذا رأيتم أحد إخوانكم في خصلة تستنكرونها منه فتأولوا لها سبعين تأويلا».

التؤدة والمسارعة إلى الخيرات

من الفضائل الخلقية التؤدة ونقيضها التسرع، فإن التؤدة من جنود العقل(1)، وهي بمعنى التثبّت والتحقق في الأمور والتفكر فيها قبل المبادرة إليها.

في كثير من الأحيان يرى الإنسان في حياته قضايا، أو يبتلى بأمور لم يكن قد فكر سابقاً بكيفية التعامل معها، والتسرع في التصرف في مثل هذه الأمور، وبدون تفكر يؤدي في كثير من الأحيان إلى نتائج خاطئة، لكن الإنسان إذا فكر وتأنى واستعمل التؤدة - التي هي بمعنى عدم التسرع - فإنه سيصل إلى بعض الحقائق، وربما في بعض الأحيان يكون بحاجة إلى مشورة ليصل إلى الحقيقة. وأما العمل بدون تفكر فإنه يفضي غالباً إلى نتائج خاطئة.

يقال: لعلّ سبب كفر أبي لهب وعناده على الكفر إلى لحظة موته هو أنه حينما سمع دعوة الرسول الأكرم (صلی الله عليه وآله وسلم) كان في حالة

ص: 140


1- الكافي 1: 20-21، حيث ذكرت فيه جنود العقل وجنود الجهل: «والتؤدة وضدها التسرع».

نفسية غير متوازنة، ولعله كان في حالة غضب، أو أنه كان يواجه مشكلة ما، فأسرع للإنكار، وحينما أطلق كلمة الإنكار أراد أن لا يتنازل عنها انتصاراً للذات، وفي كثير من الأحيان يتصرف الإنسان، أو يتخذ موقفاً معيناً، سواء بشكل قولي أم فعلي، وبعد ذلك يدرك خطأ ما أقدم عليه، لكنه يرفض أن يظهر انكساره أمام الآخرين، فيبقى معانداً ومصراً على خطئه، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(1)، فقد يرتكب الإنسان الإثم ثم تأخذه العزة به، فيعاند إلى أن يدخل نار جهنم.

وأما الإنسان الذي لا يسرع في الأمور التي لا يعلم نتيجتها، فإنه قد يصل بتفكره إلى الموقف المناسب، وإذا شخّص الموقف المناسب فعليه أن يسارع إليه؛ لأنه إذا علم أن هذا الموقف صحيح فالتأخير لا معنى له؛ لذا تقول الآية الشريفة: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي الْخَيْرَٰتِ}(2).

إذن، فالمرحلة الأولى هي: التثبّت والتحقق من أمر الخير، والثانية: هي المسارعة إليه، والمسارعة إلى الخير لا تنافي التؤدة؛ لأنها وسيلة لمعرفة أن هذا الشيء خير أو ليس بخير، ومثال ذلك: في المسائل الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، فالتاجر يريد أن يتاجر ولا يعلم أن هذه التجارة مربحة أو فيها الخسارة، فإذا اقتحم

ص: 141


1- سورة البقرة، الآية: 206.
2- سورة الأنبياء، الآية: 90.

وتضرر فسوف يُلام على تسرعه، لكن إذا استعمل الموازين الاقتصادية وفكر واستشار فوجد أن هذه فرصة فيها أرباح مالية فعليه أن يبادر فوراً، لكي لا تفوته تلك الفرصة. كذلك الحال في أعمال الخير والمسائل الاجتماعية؛ لذا علينا أن نعرف الخير، وإذا عرفناه فلنسارع إليه.

ص: 142

الشكر باللفظ والعمل يزيد النعمة

ورد في الحديث الشريف: «إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»(1).

إننا نعيش ببركة أهل البيت (عليهم السلام) ، ليس نحن الشيعة فقط، بل جميع العالم، فقد ورد حول الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف): «وبيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء»(2).

إن الله عز وجل خلق الكون كله لأجل محمد وآله (عليهم السلام) (3)، فكل هذه البركات والخيرات أفاضها الله عز وجل علينا ببركة

ص: 143


1- مستدرك الوسائل 10: 318.
2- مفاتيح الجنان: 160.
3- الهداية الكبرى: 101، وفيه: عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل: «هل تعلمون إني أفضل النبيين، ووصيي علي أفضل الوصيين، وإن أبي آدم، تمام اسمي واسم أخي علي وابنتي فاطمة وابني الحسن والحسين (عليهم السلام) مكتوبة على سرادق العرش بالنور، منذ قال آدم: إلهي هل خلقت خلقاً قبلي هو أكرم عليك منيّ، قال يا آدم: لولا هذه الأسماء ما خلقت سماء مبنية ولا أرضاً مدحية، ولا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، ولا خلقتك يا آدم، فقال: الهي وسيدي بحقهم إلا غفرت لي خطيئتي، فكنا نحن الكلمات التي تلقى آدم من ربه».

هؤلاء، فينبغي علينا أن نؤدي شكر هذه النعمة، فإذا أكرمني شخص ما ألا أقول له شكراً لك وجزاك الله خيراً؟ وإذا استضافني أحدهم ألا أقول له شكراً لك؟ فيكف إذا كان كل وجودنا وكل البركات التي نحصل عليها قد أفاضها الله علينا لأجل رسول الله وأهل بيته (عليهم السلام) (1)، فعلينا أن نكون عباداً صالحين لله عز وجل.

يقول الإمام الباقر (عليه السلام) عن الشيعي التابع: «لا تذهب بكم المذاهب، فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع الله عز وجل»(2).

وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: «يا جابر، أيكتفي من ينتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة، وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين، والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في

ص: 144


1- حديث الكساء في مفاتيح الجنان: 869، وفيه: «... فقال الله عزّ وجلّ: يا ملائكتي، ويا سُكّان سماواتي، إنّي ما خلقت سماء مبنيّةً ولا أرضاً مدْحيّة، ولا قمراً مُنيراً، ولا شمساً مضيئة ولا فلكاً يدور، ولا بحراً يجري، ولا فلكاً يسري إلاّ في محبّة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء. فقال الأمين جبرائيل: يا ربّ، ومن تحت الكساء؟ فقال عزّ وجلّ: هم أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها. فقال جبرائيل: يا ربّ أتأذن لي أن أهبط إلى الأرض لأكون معهم سادساً؟ فقال الله: نعم، قد أذنت لك. فهبط الأمين جبرائيل...».
2- الكافي 2: 73.

الأشياء.

قال جابر: فقلت: يا بن رسول الله، ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة، فقال: يا جابر، لا تذهبن بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول: أحب علياً وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعالاً؟ فلو قال: إني أحب رسول الله فرسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم) خير من علي (عليه السلام) ، ثم لا يتبع سيرته، ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئاً، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله عز وجل وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، والله ما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجة، من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع»(1).

إذن، علينا أن نتبع أهل البيت (عليهم السلام) في كل شيء: في فعل الواجبات وترك المحرمات وفي الأخلاق والآداب، فعندما نقرأ سيرتهم (عليهم السلام) نرى أنهم كانوا قمة في الأخلاق والتدين حتى مع أعدائهم، يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) : «عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمداً بالحق نبياً، لو أن قاتل أبي الحسين بن علي (عليهما السلام) ائتمنني على السيف الذي قتله به لأديته إليه»(2). فما

ص: 145


1- الكافي 2: 74.
2- الأمالي، للشيخ الصدوق: 246.

دام هذا السيف أمانة فسأرجعه له، فهذه هي أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) ؛ لذا ينبغي علينا أن نتحلّى بها حتى نكون أتباعاً صادقين لهم، ويكون فعلنا هذا هو الشكر العملي للنعمة قال الله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}(1).

ص: 146


1- سورة إبراهيم، الآية: 7.

فهرس المحتويات

كلمة المؤسسة... 5

الفوز بالآخرة وميزان الأعمال والأقوال... 9

دور الأخلاق ولغة الحوار في بناء المجتمع المعاصر... 21

أهمية التنافس الإيجابي في الأعمال الصالحة... 27

الثقافة الدينية والوعي... 38

بين النيات والأعمال... 46

القول الحسن... 50

حذارِ من السخرية والتنابز بالألقاب... 58

بين العلم والإخلاص والعمل... 62

الالتزام بالآداب الإسلامية... 71

نجاح المسلمين في تكامل وحدتهم... 78

أولاً: الإصلاح... 80

ثانياً: نصر المسلمين... 81

القيم الإسلامية وضرورة الحفاظ عليها... 87

قيمة الزهد وسمو النفس فوق الصغائر... 93

غنى النفس طريق الوصول إلى المعالي... 102

حسن العاقبة والحفاظ على حقوق الآخرين... 105

دور الأخلاق الفاضلة في تثبيت دعائم الحق... 112

ص: 147

مكاسب الصبر في الدنيا والآخرة... 117

الأول: الصبر على الطاعة... 119

الثاني: الصبر عن المعصية... 120

الثالث: الصبر على المصيبة... 122

دور الصبر والمرابطة في تحقيق النصر على الأعداء... 126

دور الحكمة وحسن النية في بناء العلاقات المثالية... 132

التؤدة والمسارعة إلى الخيرات... 140

الشكر باللفظ والعمل يزيد النعمة... 143

فهرس المحتويات... 147

ص: 148

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.