الزهراء (عليها السلام) فوق الشبهات

هویة الکتاب

الزهراء (عليها السلام) فوق الشبهات

السيد محمد علي الحلو

جمعهُ

السيد محمد اليعقوبي

موسسة مسجد السهلة المعظم

ص: 1

اشارة

الزهراء (عليها السلام) فوق الشبهات

السيد محمد علي الحلو

جمعهُ

السيد محمد اليعقوبي

ص: 2

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحیم

استطاعت القضية الفاطمية أن تستلهم تاريخها المقهور من خلال الروايات المتكاثرة الصحيحة التي تسالم عليها المؤرخون جميعاً من استثناء فلم تعد مظلومية الزهراء (عليها السلام)، محسوبة على التراث الشيعي وحده دونٍ ان تشاركهُ كل تراثيات المسلمين الذين جعلوا ذلك أمراً من ضروريات التاريخ وأبجديات أحداثه المتلاطمة في أمواج الأحداث الملتهبة بعد رحيل النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، وسيطرق هذه الأحداث على الذاكرة الإسلامية حتى إنها لا تكاد تنفك عنها لأي لحظة من لحظات الزمن الا أن هذه الأحداث بدتْ تأخذ ملامحها السياسية بعد أن تحكمت في الحالة السياسية العامة التي أضحت مُدانة من قبل أحداث المظلومية القاسية التي تعاهد التاريخ الإسلامي بتبيينها وانتشارها في كل أرجائه مما دعى هذه التوجهات السياسية التي هددت وجودها ومصيرها تاريخ المظلومية الفاطمية إلى أن تقف من إزائها موقف المتصدي في تحقيق وطأة هذه المظلومية وذلك من خلال إثارة الشبهات والتشكيكات التي تسعى إلى التعتيم على الحقائق من خلال الجهد

ص: 3

السلبي الذي يثيره المشككون والذين يخلقون أجواء يتزعزع من خلالها اعتقادهم وتسليمهم ... هكذا ظناً منهم لئلا تكون لمظلومية الزهراء (عليها السلام)، مشروعية المعارضة لحركة السقيفة التي أسسها نظام المقارعة للشرعية الإلهية المتمثلة في الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

من هنا جاءت هذه الردود على شبهات مظلومية السيدة الزهراء (عليها السلام) .

ومن خلال ما طرحناه في دروس العقائد المنعقد في رحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي مرقد سيد الفقهاء السيد أبو قاسم الموسوي الخوئي (قدس سره) ورفع في الجنان مقامه، وقد كان ذلك بحضور جمعٌ من طلبة الحوزة أعزهم الله تعالى وكان للسيد الفاضل السيد محمد اليعقوبي فضلٌ في إعداد هذه المجالس العقائدية فجزاه الله خيراً على همته التي عهدتها من قبل وعرفت فيه الإخلاص لأئمته عليهم صلوات الله وسلامه.

ص: 4

الشبهة الأولى

كثيرةٌ هي الشبهات التي لفقتها الأقلام المناوئة في كتابتها لتاريخ أهل البيت (عليهم السلام)، عند الحديث عنهم, تدفعهم لذلك مراجل الحقد التي تغلي في صدور الأقلام, ونار الحسد التي تستعر على سطور الأوراق, ومن يطالع تاريخ الصدِّيقة البتول (عليها السلام), كمثالٍ حيٍّ, وشاهدٍ حاضر, لا يعدم وجود مثل هذه الشبهات التي نوهنا عنها.

ولكن, هل يسع غربال التزوير أن يحجب شمس الحقيقة؟

أم هل يقدر ستار التضليل ان يخفي سطوع الواقع ؟

أم انَّ أنوار الفضائل التي تشعُ بها خصالُ الزهراء (عليها السلام)، أسمى جلالةً, وارفع قدراً من ان يمحيها ظلام التزوير ؟

تعالوا لنقرأ شيئاً عن مظلومية البتول (عليها السلام) في ولادتها, لنرى مدى جناية الأقلام الأموية على هذه الحادثة في الحديث عنها, لقد زعم فريقٌ كبيرٌ من الكُتَّاب ان ولادتها كانت قبل بعثة النبيِّ (صلى الله عليه و آله وسلم) .

انه تهتك علمي, وعدوانٌ على صرامة البحث,ودقة المنهج أن يزعم هؤلاء ان ولادتها (عليها السلام)، كانت قبل البعثة لا بعدها .

وقد يسأل سائلٌ: هل تاريخِ ولادتها مهمٌ إلى هذه الدرجة بحيث يشكلُ القول بولادتها بعد البعثة أو قبلها فرقاناً بين حقٍ وباطل,

ص: 5

ميزاناً بين استقامة وضلال ؟ وانعطافةً مهمةً في مسيرة البحث التاريخي ؟

والجواب نعم, الأمر قمينٌ بالتأمّل, حقيقٌ بالتدبر, جديرٌ بالتفكر, ولهذا ولغيره جهدت يراعة الأمويين أن تثبت ان تاريخ ولادتها كان قبل البعثة.

فهاهو العسقلاني يقول (واختلف في سنة مولدها فروى الواقدي عن طريق أبي جعفر الباقر قال قال العباس ولدت فاطمة والكعبة تبنى والنبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، بن خمس وثلاثين سنة وبهذا جزم المدائني,ونقل أبو عمر عن عبيد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر الهاشمي أنها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، وكان مولدها قبل البعثة بقليل نحو سنة أو أكثر وهي أسن من عائشة بنحو خمس سنين وتزوجها عليٌّ (عليه السلام)، أوائل المحرم سنة اثنتين بعد عائشة بأربعة أشهر وقيل غير ذلك وانقطع نسل رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، إلا من فاطمة). 8/262

هذا الاختلاف في التاريخ هو الذي أوجب اختلافهم في عمرها يوم وفاتها, فهاهو أبنُ عبد البر يذكر ذلك في الاستيعاب قائلاً (واختلف في سنّها وقت وفاتها، فذكر الزبير بن بكار أنّ عبد الله بن الحسن بن الحسن دخل على هشام بن عبد الملك وعنده الكلبي، فقال هشام لعبد الله ابن الحسن : يا أبا محمد، كم بلغت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، من السنّ؟ فقال : ثلاثين سنة. فقال هشام للكلبي:

ص: 6

كم بلغت من السنّ؟ فقال: خمسا وثلاثين سنة. فقال هشام لعبد الله بن الحسن:[ يا أبا محمد ] اسمع، الكلبي يقول ما تسمع، وقد عنى بهذا الشأن، فقال عبد الله بن الحسن : يا أمير المؤمنين سلني عن أمّى، وسل الكلبي عن أمه) .4 /452

ترى ما هو السرُّ الدفين في أصرارهم على إثبات ان وفاتها كان في نهاية التاسعة والعشرين كما عن أسد الغابة أو في الثلاثين أو الخامسة والثلاثين كما عن الاستيعاب؟ ولِمَ لَم يشيروا ولو بنحو (القيل) الذي يدلُ على التضعيف إلى ان وفاتها كان في الثامنة عشرة من عمرها الشريف, بناءاً على ان ولادتها كانت بعد البعثة بخمس سنين وهو القول المروي عن الإمامين الصادِقَين الباقر والصادق (عليهما السلام) ؟

من المعلوم ان وفاة شابَّة دون العشرين من العمر,لم يذكر المؤرخون انها أُصيبت بمرض,أو ألمَّت بها وعكة, من دون سببٍ خارجي,أو مؤثر يقضي بالموت على روحها الطاهرة أمرٌ يُثير الاستغراب حقا, ويدعو العقلاء إلى التساؤل: ترى لماذا تذبلُ هذه الوردة الفوَّاحة في ربيع العمر؟ ويغرب هذا البدرُ المنير على افق المنون؟

ولقد أثار مثل هذا التسائل العقاد في كتابه (فاطمة الزهراء والفاطميون) مج4/50، فقال (ولم يكن بالزهراء من سقم كامن يعرف من وصفة فإن العرب لو صافون وإن كان حولها من آل

ص: 7

بيتها لمن أقدر العرب على وصف صحة وسقم فما وقفنا من كلامهم وهم يصفونها في أحوال شكواها على شيء يشبه أعراض الأمراض التي تذهب بالناس في مقتبل الشباب وكل ما يتبين من كلامهم: أنه الجهد, و الضعف, والحزن. وربما اجتمع إليها أعباء الولادة في غير موعدها إن صح أنها أسقطت محسنا بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) كما جاء في بعض الأخبار) (1).

فها أنت ترى العقاد - رغم عدم انصافه في البحث, ولمعدلتهِ في الحكم,ورغم جناية كلماته على حقوق الزهراء في فدكٍ وغير فدك,ولكنه يلمح إلى الأمر تلميحا شوقاً إلى الحقيقة, ثم يبتعد عنه خوفاً من ثمنها,ونحن نتساءل معه أيضاً (فما وقفنا من كلامهم وهم يصفونها في أحوال شكواها على شيء يشبه أعراض الأمراض التي تذهب بالناس في مقتبل الشباب) .

فنحن حتى لو سلَّمنا بأنها توفيت في الثلاثين من العمر تنزلا, ولكن هذا لا يمنع من التسائل,فإن موت إنسان ليس فيه مرض,ولا يشكو من علة في الثلاثين من العمر وهو قليل الوقوع بحسب العادة أيضا يثير الاستغراب فما بالك إذا كانت الوفاة دون العشرين من العمر؟ انه يجعل التسائل أكثر الحاحاً, والاستغراب اشدَّ وقعا.

ص: 8


1- فاطمة الزهراء والفاطميون، ج 4، 50 .

دعنا نرجع مرةً أخرى إلى العقاد, انه يقول (وكل ما يتبين من كلامهم: أنه الجهد, والضعف, والحزن. وربما اجتمع إليها أعباء الولادة في غير موعدها إن صح أنها أسقطت محسنا بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) كما جاء في بعض الأخبار)

نقول له صحَّ باعتراف القوم أنفسهم إسقاط المحسن (عليه السلام), وقولك (إن صحَّ) مصادرة على المطلوب حيث جعلت الدليل نفس المدعى,لم ينكرها شاعر النيل وهو يذكر حادثة الحجاز بقوله:

وقولةٍ لعلي قالها عمر *** أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرقت دارك لا أبقي عليك بها *** إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها *** أمام فارس عدنان وحاميا(1)

إذن,كان سببُ وفاتها في ريعان شبابها,هجوم جماعة الانقلاب عليها وعلى دارها, فلم يكتمل إفتراع ذلك الغصن الإلهي, ولا استوى على سوقه ذلك الزرع النبوي,فغادرت هذه الحوراء الإنسية عالم الإمكان هذا إلى ذلك العالم النوراني الذي خرجت منه أول مرة تفاحة بيد المصطفى (صلى الله عليه و آله وسلم), لتعود بعد ذلك شهيدةً تشكو لمولاها ما ألمَّ بها منهم .

ص: 9


1- ديوان حافظ إيراهيم : 1/75 .

الشبهة الثانية

اشتهر بين علماء الفريقين، وأعلام الطائفتين قولُ الرسولِ الأكرم (صلى الله عليه و آله وسلم)، في ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، (فاطمة بضعة منى فمن أغضبها أغضبني) هكذا أورده البخاري في (صحيحة) في باب مناقب المهاجرين والأنصار، وكذلك في باب مناقب المهاجرين وفضلهم.

وأورده مسلم بعين هذا اللفظ (إنما فاطمة بضعة منى يؤذيني ما آذاها) في باب فضائل فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) .

وأورد النسائي عن المسور بن مخزمة في باب مناقب فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، قوله (سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، يقول أما فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما أذاها) (1).

ومن هنا يُعلم ان غضب فاطمة (عليها السلام)، وأذاها وسخطها هو غضب المعصوم، أعني رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، وأذاه وسخطه، والذي هو بالضرورة غضبه وسخطه وأذاه تعالى.

فكما إنَّ الله تعالى يُظهر غضبه على صفحة الكون، بالزلازل مرة، وحدوث الفيضانات أخرى، فإنَّ المعصوم (عليه السلام)، يكون مرآةً

ص: 10


1- مسند احمد بن حنبل: 4/328. حلية الأولياء :2/40 . صحيح البخاري، كتاب النكاح : 6/158 .

لغضبه تعالى، حيث تنعكس أنوار صفات الحق تعالى على حركات وسكنات وليِّه (عليه السلام)، فالله تعالى لمَّا كان منزهاً عن المادة، بريئاً من الجسميات، لا تحتاح ساحة قدسه العواطف والانفعالات، أجرى على مخلوقاته ما يُعلم منه غضبه ورضاه، ومن أشرف هذه المخلوقات المعصوم (عليه السلام) .

وإليه أشار الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي بقوله في تفسير إنكساف الشمس لاستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) : (الغضبان يحمر وجهه عند الغضب فيستدل على غضبه وهو إمارة الشخص، الحق سبحانه وتعالى ليس بجسم فأظهر تأثير عظمته على من قتل الحسين بحمرة الأفق وذلك دليل على عظيم الجناية).

كذلك، هناك طريق آخر لكشف غضب الله تعالى ورضاه، وهو معرفة إن كان المعصوم راضياً عن الشخص أولا، ولمَّا كان هذا المعنى مركوزاً في الأذهان، مغروساً في القلوب، أحتار القوم في كيفية ردِّ هذا الحديث الذي أوردته كتبهم من أن عمر وأبا بكر دخلا على الزهراء فاطمة (عليها السلام)، قالت لهما لما جاءاها معتذرين فلم تعذرهما وقالت لهما : (( أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، تعرفانه وتعملان به؟ )) قالا : نعم، فقالت : ((نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟))

ص: 11

قالا: نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، قالت: فإنّي أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، لأشكونكما إليه، فبكى أبو بكر حتى كانت نفسه تزهق وهي تقول: (( والله لأدعونّ الله عليكما في كل صلاة أصليها )) (1).

فها هنا تقريع ولومٌ وتأنيب، وعدم قبول اعتذارٍ وردٌّ للعذر، وإثباتٌ للغدر، ثم إنَّ في الأمر عجبا، وهو دعاء السيدة الزهراء عليهما في كلِّ صلاة، أخبرتهما بذلك مشفوعاً بكل ألوان التوكيد، بالقسم، وبلام التوكيد ونونه، وبالفعل المضارع الدَّال على الاستمرار والتجدد، كل هذا يدل على ان الله غاضبٌ على الرجلين لغضب المعصوم - وهو فاطمة (عليها السلام) - عليهما، فإنَّ الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها.

القوم أدركوا هذه الحقيقة التي أوجعت قلوبهم، ووعوا هذه القارعة التي صمَّت أسماع عقولهم، فبحثوا عن مخرجٍ لهذه الورطة، وحسبوا أنهم وجدوا الباب الذي يخرجهم من هذه المعضلة فزوَّروا حديثاً مفترى على لسان رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، مفاده (ان علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، فقالت له ان

ص: 12


1- الإمامة والسياسة : 1/14. اعلام النساء :3/1214. الإمام علي بن أبي طالب، عبد الفتاح مقصود :1/218 .

قومك يتحدثون انك لا تغضب لبناتك وهذا عليٌ ناكحاً ابنة أبى جهل قال المسور فقام النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، فسمعته حين تشهد ثم قال اما بعد فاني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني وان فاطمة بنت محمد بضعة منى وإنما اكره ان يفتنوها وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا قال فترك على الخطبة) (1).

ويكفي أن نعلم ان في طرق هذا الحديث من لا يصلح الاعتماد عليه في حديث، ولا الوثوق به في نقل، لنصبه كعبد الله بن الزبير، أو لكذبه كالزهري، فضعف سنده يُغني عن مناقشة دلالته، والتفتيش عن عورات المتن .

وإنما أرادوا بذلك الحط من قيمة الإمام (عليه السلام)، باعتباره بحسب زعمهم من مصاديق الذين غضب عليهم النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) مرة، والبتول فاطمة (عليها السلام)، أخرى ليغطوا بهذه القصة المفتعلة شناعة وقبح ما لقي العُمَران من الزهراء (عليها السلام)، من صدودٍ وإنكار .

ص: 13


1- صحيح مسلم :6/ 3-4 .

الشبهة الثالثة

كانت فاطمة (عليها السلام)، تشغل من قلب أبيها قلبه كلَّه، كان أخر من يودِّعُها في ذهابه، وكانت أول من تستقبله في إيابه، وكان يسارها ويناجيها، يشمُّ عرفها مرة فتذكره برائحة الجنَّة، ويقبِّلُ خدَّها أخرى فيذكره بأمها خديجة، فتلهب مشاعر أبوته بنيران العاطفة، وتسعر جذوة حنانه بنار الشفقة، فكانت منه بضعته الأثيرة، وأبنته الغالية.

وكلُّ من يقرأ التاريخ، ويجد هذا الحنان المحمدي الدفاق على ذلك الإرث السماوي المقدس، يعلم جيداً ان في الأمر سراً لا يسبر كنهه غوص يراعة الأقلام، ولا يسفر عن سرِّه ذرعُ يدُ الأفكار، ولكن بعضهم هالهم هذا التميز لفاطمة على بني جنسها من النساء، خصوصاً زوجات النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، فأراد أن يوحي للنَّاس أن سرَّ هذا التميز، وعلّة تلك المحبة لكون الصديقة (عليها السلام)، أصغر بناته سِناً؛ لذا تراهم عند ترجمة السيدة فاطمة في كتبهم يتناوشون هذا الأمر من مكانٍ بعيد، فانظر ما يقوله ابن الأثير في أسد الغابة من ترجمتها (عليها السلام) (...وكانت هي وأم كلثوم أصغر بنات رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، وقد اختلف في أيتهن أصغر سنا وقيل إن رقية أصغرهن وفيه عندي نظر لان النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، زوج رقية من ابن أبي لهب فطلقها قبل الدخول

ص: 14

بها أمره أبواه بذلك ثم تزوجها عثمان رضی الله عنه، وهاجرت معه إلى الحبشة فما كان ليزوج الصغرى ويترك الكبرى).

وقال العسقلاني في (الإصابة) (وقال أبو عمر اختلفوا أيتهن أصغر والذي يسكن إليه اليقين أن أكبرهن زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة).

هذا الإصرار على كونها أصغر بنات النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، ليس لإثباتٍ أمرٍ تاريخي فحسب، بل ان وراء الأكمة ما وراءها، وهو خداع الناس بكون كل هذا المديح للزهراء (عليها السلام)، بسبب كونها اصغر بناته (صلى الله عليه و آله وسلم)، وهذا يجرنا إلى فتح ملف إن كان لرسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، بناتٌ أم لا، وما اشتهر بينهم من كونهن بناته هنَّ - في الحقيقة - ربائبه .

فلقد أخبر كثيرٌ من الكُتَّاب، وأرباب التاريخ، انه (صلى الله عليه و آله وسلم) ما يكن له من الأولاد غير السيدة فاطمة (عليها السلام)، من السيدة خديجة، وإبراهيم من السيدة مارية القبطية، وقد أُدرج (مات صغيراً)، فلم تبق له إلا السيدة الزهراء (عليها السلام)، فلم يشاركْها في حبه (صلى الله عليه و آله وسلم)، أحد.

وأما زينب ورقية وأم كلثوم فهنَّ ربائبه، لأنهن بنات أبي هالة زوج أخت السيدة خديجة (عليها السلام)، والعرب تنظر إلى الربائب نظرة البنت، فتعاملهن معاملة البنت في الإرث والنسب ونحوهما.

ص: 15

ويترتب عليه ان زواج عثمان بن عفان برقية ثم بأم كلثوم – على القول بأن ام كلثوم ليس لقباً للسيدة رقية فتكونان شخصيةً واحدة – هو في الحقيقة زواجٌ بربيبتيه لا ببناته، وإن جهد الأمويون في إثبات أنهن بناته ليكون عثمان – الأموي – ومن بعده الأمويون أصهاراً له (صلى الله عليه و آله وسلم)، ولتستوي كفة عثمان – ذي النورين – بسبب زواجه ببنات النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، بزعمهم مع كفة الإمام علي (عليه السلام)، زوج السيدة الزهراء (عليها السلام)، في ميزان الفضيلة والشرف بالمصاهرة مع الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم) .

على انه من الحق ان نسجل تحفظنا على سرَّ اهتمام النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، بفاطمة الزهراء (عليها السلام)، دون سائر بناته لو قلنا أنهنَّ لسن ربائبا، أليس ذلك مخالفٌ لسيرته (صلى الله عليه و آله وسلم)، وهو يأمر بالعدل ؟ ومنافٍ لمنهجه في المساواة بين الأبناء ولو في القبلة؟فعن النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) : أنه نظر إلى رجل له ابنان فقبل أحدهما وترك الأخر، فقال النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) : فهلا ساويت بينهما(1).

فإذا كان (صلى الله عليه و آله وسلم)، أوصى بالمساواة في القبلة فكيف بما هو أعظم منها كالإجلال والتعظيم ؟ وهل هذا إلاَّ كاشفٌ عن كونها (عليه السلام)، ابنته الوحيدة وإن الباقيات ربائب ؟

ص: 16


1- مكارم الأخلاق :220 .

ص: 17

الشبهة الرابعة

ردُّ الشبهات عن حديث الكساء .

انه ورد في الدعاء:( فَقالَ الأمِينُ جبْرائِيلَ: يا رَبِّ وَمَنْ تَحْتَ الكِساءِ؟ فَقالَ عَزَّ وَجَلَ: هُمْ أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمَعْدِنُ الرِّسالَةِ، هُمْ: فاطِمَةُ وَأَبُوها وَبَعْلُها وَبَنُوها ) (1).

فكيف يُعرَّف النبيُّ (صلى الله عليه و آله وسلم)، وأمير المؤمنين (عليه السلام)، بفاطمة (عليها السلام) ؟

وجوابه :

1- ان ذلك لبيان نوريتها (عليها السلام)، فهي الحالة البرزخية بين نوري النبوة والإمامة، وبيان لمقاميهما.

2- إنها (عليها السلام)، حلقة الوصل بين النبوة بمقاماتها، والإمامة بشؤونها، والذي يدرك شيئاً من مقامات الزهراء (عليها السلام)، يدرك شيئاً من مقامات النبوة وشؤون الإمامة.

ص: 18


1- مستدرك الحاكم : 2/416. اسد الغابة :5/521 .

3- ليس المقصود من العلاقة بين فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والنبي والوصي (عليهما السلام)، العلاقة النسبية أو السببية، وان كانت في حدِّها علاقة عظيمة بل أمرٌ آخر أرقى وأعزّ من علاقة النسب وغيرها.

4- ويترتب على النقطة السابقة ان لها مقاماً هو مقام الوجود الناشئ من وجود النبوة والإمامة، وهو مقصود الحديث القدسي مفاده (لولاك [ يا محمد ] ما خلقت الأفلاك ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما جميعاً).

وهو بيانٌ لحتمية الوجود النوراني الفاطمي، وسببيته لوجود أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما يكون مردَّه إلى قوله تعالى : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(1).

فالعبادة هنا هي المعرفة، وأبواب هذه المعرفة هم محمد وآل محمد (صلى الله عليه و آله وسلم)، فهي لا تكون حدوثاً إلاَّ بوجوده (صلى الله عليه و آله وسلم)، واستمرارها بقاءاً مرهونٌ بوجود هذا الخط المعرفي بوجود سدنته وهم الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، والسيدة الزهراء (عليها السلام)، هي وعاء هؤلاء السدنة.

ص: 19


1- سورة الذاريات آية : 56 .

ثم هاهنا أمرٌ آخر له ربطٌ بالمقام، وهو ان من الأدوات المعرفية لآل البيت (عليهم السلام)، (مصحف فاطمة (عليها السلام))، الذي تدَّخر فيه علومها المباركة.

5- وتأسيساً على ما تقدَّم، وتوكيداً له، نرى ان العلاقة بين الصديقة الزهراء والصادق الأمين (عليهم السلام)، هي علاقة وجود رتبي، يكون فيه وجودها رشحةٌ من وجوده، وشرفيتها مستمدَّةٌ من شرفه الأفخم.

وهو - من جهةٍ أخرى - بيانٌ للعلاقة البرزخية بين النبوة والإمامة، ولعل هذا هو معنى (السر المستودع فيها)، مع الاعتراف بجهلنا حقيقة هذا السرِّ وماهيته.

6- ان العبارة الشريفة في صدر البحث، هي بيانٌ لشأنها المجهول، وتنويهٌ لمقامها العالي، فإذا أردنا ان نتعرَّف على شيءٍ من مقامها فعلينا بالتأمل في هذه الفقرة طويلا.

ص: 20

الشبهة الخامسة

سكوت أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ضرب زوجته السيدة الزهراء (عليها السلام)

هكذا يفتح بعض المتشدّقين فمه، ويملأ الدنيا عويلاً من غير منفعة، وصراخاً من غير طائل، أليس الإمام عليٌ (عليه السلام)، أشجع الصحابة كما يقول التاريخ، وهو بطلُ الأبطال بزعمكم؟ كيف إذن يسكت عن ضرب زوجته الزهراء (عليها السلام) ؟!

وبما انه ليس من المعقول ان أشجع الصحابة يسكت عن ضرب زوجته، فيترتب عليه ان الزهراء (عليها السلام)، لم تُضرب وهذه القصة المكذوبة حديث خرافة، القصد منها الطعن في الصحابة.

هذا أقصى ما عند المهووسين من المنكرين، المصادرة، وهي أن يكون الدليل عين المدَّعى، نحن ننكر ضرب الزهراء (عليها السلام) ! وحين تسألهم عن سرِّ الإنكار ودليله، يقولون لك ببساطة وهم يهزون أكتافهم بلا مبالاة : لأن الزهراء لم تُضرب!

فمرحى للدعوى ودليلها ! هكذا يكون العلم وإلاَّ فلا.

ص: 21

إن هذا الهراء مما تبكي له عيون العلم، وتضحك عليه شفاه الثكلى، ولكي نتلمَّس وجوه المغالطة في هذه الفرية سوف نتلمَّس طريق الرد عليها بالبرهان والدليل، لا بالصراخ والعويل.

هنا نريد أن نسجل ان الهجوم ثابتٌ في روايات الفريقين، ومن أراد التأكد فليلقي نظرةً بسيطةً على كتب التاريخ، وسيعرف حقيقة الأمر، على ان ثبوت الهجوم من الناحية التاريخية لا ينافي سكوت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن ضرب الزهراء (عليها السلام)، لأنه علينا أن ننظر إلى المسألة من جهة أخرى، لنفرض أن الإمام علياً (عليها السلام)، صدَّ هؤلاء المهاجمين، ودافع عن المظلومة السيدة الزهراء (عليها السلام)، فماذا سيكون الحال عند ذاك؟

1- ينبغي أن نعلم أن أمير المؤمنين (عليه السلام)، إمامٌ مفترض الطاعة، وتصرفاته كلها منبع الحكمة، وعين الصواب، وقد أخبره رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، بما يجري عليه من مصائب، كابتزاز حقه في الخلافة، وغصب حق زوجته في فدك، والاعتداء عليها، وكسر ضلعها، وأخبره بما يجري عليه وعلى أهل بيته (عليهم السلام)، وقد أوصاه الصادق الأمين (صلى الله عليه و آله وسلم)، بالصبر على كل ذلك، وحريٌّ بالإمام المعصوم أن ينفذ وصية النبي المعصوم (صلى الله عليه و آله وسلم) .

ص: 22

2- لو فرضنا نشوب القتال بين أمير المؤمنين (عليه السلام) ومخالفيه، لأحدث ذلك بدعة تكفير الإمام علي (عليه السلام)، خصوصاً فيما لو تغلَّب عليهم، ولانقسم المسلمون فريقين، احدهما معه والآخر عليه، وفي ذلكم خطرٌ على الإسلام عظيم.

3- لقد ارتدَّ كثيرٌ من المسلمين عن دينهم، والإسلام بعد طريُّ العود، لما يستوي على سوق قوته، أخضر اللحاء، وهؤلاء سيشكلون جبهة عريضةً من المرتدين ممن خرج عن الإسلام، ولربما يستغلون خلافات المسلمين والقتال بينهم لصالحهم فيما لو نشبت المعارك بين أمير المؤمنين عليه السلام وحزب السقيفة المناوئ.

4- حرص الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، أن لا تراق محجمة دمٍ بسبب المخاصمات بين المسلمين، إلاَّ إذا خرجوا عليه وقاتلوه كما حدث له مع الخارجين عليه من البغاة كما في حرب الجمل.

5- ثم لو تنزلنا عن كل تلك النقاط، وقلنا ان أمير المؤمنين (عليه السلام)، أراد قتالهم، فانه (عليه السلام)، لم يكن يملك العدد الكافي لقتالهم، لأنه لو نهض في وجه القوم مع قلة الناصر من الأعوان، وكثرة الخاذل من الحسَّاد، وحسد العرب له وترات قريش عنده، لكان المغلوب على أمره، وعندئذ يصبح نسيا منسيا، ولن يذكره لسان التاريخ إلا

ص: 23

بكونه باغياً خرج على خليفة رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، وأضيع مع ذلك النص على خلافته.

وقلة الناصر تلك - التي عبَّر عنها في خطبته الشقشقية - باليد الجذَّاء(1)، في استعارة بلاغية جميلة، هي نفسها التي أقعدت الإمام الحسن (عليه السلام)، أخيراً عن قتال معاوية.

6- ان موقف الإمام علي (عليه السلام)، كان مؤيَّداً من قِبَل السيدة الزهراء (عليها السلام)، فكما كان هو (عليه السلام)، موصىً بالصبر، فكذلك السيدة الصدِّيقة (عليها السلام)، فالتكليف واحد، والمسؤولية مشتركة، وكلاهما انطلقا من منظورٍ الهيِّ واحد، وكان صبرهما بعين اللهِ، واللهُ لا يضيع أجر الصابرين.

ص: 24


1- نهج البلاغة، ج 1 :21 .

الشبهة السادسة

عتاب الزهراء (عليها السلام) لأمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبتها

ورد في خطبة السيدة الزهراء (عليها السلام)، قولها مخاطبة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو (يا بن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الضنين، نقضت قادمة الأجدل فخانك ريش الأعزل هذا ابن أبي قحافة يبتزني نحلة أبي وبلغة ابني! لقد أجهد في خصامي، وألفيته ألد في كلامي حتى حبستني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها، وغضت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع ولا مانع، خرجت كاظمة، وعدت راغمة، أضرعت خدك يوم أضعت حدك، افترست الذئاب، وافترشت التراب، ما كففت قائلا، ولا أغنيت طائلا ولا خيار لي، ليتني مت قبل هنيئتي، ودون ذلتي عذيري الله منه عاديا ومنك حاميا، ويلاي في كل شارق! ويلاي في كل غارب ! مات العمد، ووهن العضد شكواي إلى أبي! وعدواي إلى ربي! اللهم إنك أشد منهم قوة وحولا، وأشد بأسا وتنكيلا).

والمتأمل في هذه الكلمة، والمتمعن في هذا الخطاب، يجد أن هذا العتاب الموجع، متوجه إلى الإمام علي (عليه السلام)، وهنا يبرز سؤالان:-

ص: 25

هل تلقي الزهراء بلومها على الإمام علي (عليه السلام) ؟

وهل يتحمَّل الإمام مسؤولية ما جرى عليها (عليها السلام) ؟

والجواب : ان السيدة الزهراء (عليها السلام)، عالمة بتكليفها، عارفةٌ بالمسؤولية المُلقاة عليها، كما انها أيضاً - من جهة أخرى - عارفةً بتكليف أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكيف تلقي باللوم عليه؟

فتكليفها كشف المتآمرين، ومقارعة الظالمين، وفضح المنافقين، اما تكليف الإمام علي (عليه السلام)، فهو الصبر، وكما قال في الشقشقية (فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبا...) (1).

فهي تعلم بالذي سيؤول إليه أمر معارضة أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيما لو قاوم المناوئين له من حزب السقيفة، وما سيكون عليه الأمر لو أريقت الدماء، لو عارضهم، ووقف ضدهم، ولكنها أرادت من قولها ذاك أمورا :-

ص: 26


1- نهج البلاغة : 1 / 31 .

1- بيان مظلوميَّتها للملأ، حتى لا يقول بعضُ المتزلفين بأن القوم راعوا حرمتها، واحترموا مقامها ونسبتها إلى النبي العظيم (صلى الله عليه و آله وسلم)، وان الذي بينها وبينهم هو الرضا والوفاق التَّامّان.

2-أرادت صلوات الله وسلامه عليها أن تبيِّن للناس تكليف أمير المؤمنين (عليه السلام)، هو الصبر، والسكوت، ذلك كله حفاظاً على حياة الإسلام، ودماء المسلمين، خصوصاً وانه منعه من الخروج عليهم هو الحفاظ على الآذان بما يمثله من شعيرة إلهية يشير وجودها إلى وجود الإسلام، خصوصاً إذا قورن صبره وصمته بخروجها إلى المسجد وخطبتها (عليها السلام)، في القوم وكشفها وفضحها لمخططاتهم.

3- انها بعتابها لأمير المؤمنين (عليه السلام)، كشفت تخاذل القوم عن نصرتها، وقعودهم عن الدفع عنها، لأنهم إذا لم يستجيبوا لها فكيف يستجيبوا لأمير المؤمنين (عليه السلام) ؟ فكشفت نفاقهم، وعرَّتهم أمام أنفسهم، وسدَّت باب العذر أمام كل متنصلٍ من تكليفه الشرعي، عساه يقول بأنه كان لا يعلم بتحركها الذي كان في حقيقته تمهيداً لحركة أمير المؤمنين (عليه السلام)، لو كان للناس أن يستجيبوا لها ويتفاعلوا معها، ولكنهم حُرموا من نعمة إتّباعها.

ص: 27

4- ان قولها وعتابها لأمير المؤمنين (عليه السلام)، هو على وزان قول الله تعالى وعتابه لعيسى (عليه السلام)، وذلك قوله :[ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (1).

فهذا ما يُسمى سؤال العارف، فالله تعالى عالِمٌ بالسرائر، خبيرٌ بما في النفوس، ولكنه تعالى أراد أن يكشف أمراً لا يكون كشفه إلاَّ بإلقاء السؤال، وإبداء العتاب، وهكذا قول الزهراء (عليها السلام)، وهي ابنة

ص: 28


1- سورة المائدة آية : 116 – 117 .

القران فكراً وسمتا، وابنة من نزل عليه دماً ولحما، فما يمنعها أن تترسم خطى قوله تعالى في تبيان الحقائق في أمر الإمامة في عتابها لعلي، كما بينها القران في أمر الإلوهية، في عتابه لعيسى ؟

فهي كانت عالمة بما في ضمير إمامها، كما كان الله عالما بما في نفس رسوله، وإنما احتاجت إلى إلقاء السؤال ؛لتكشف للناس ما تحتاج الأجيال اللاحقة لمعرفته مما أُبهم عليها من مجريات الأمور.

5- تحصَّل من كل ذلك مدى الانسجام بين موقفي المعصومين (عليهما السلام)، الأمير علي، والزهراء فاطمة، من ثورتها على رجال السقيفة والتأليب عليهم، وموقف الإمام (عليه السلام)، والصبر عليهم وسكوته عنهم، فكلا الموقفين مكمل للآخر، ويشكلان جبهةً الهيةً موحدة ضدَّ سقيفة الجور والطغيان.

ص: 29

الشبهة السابعة

هناك ثلاثة اتجاهات في مظلومية الزهراء (عليها السلام)

الاتجاه الأول :

وهذا اتجاهٌ يرى أن الزهراء (عليها السلام) مظلومة، وهو لا يُنكر مظلوميَّتها، ولا يردَّ الحوادث التي جرت عليها، ولكنه يلتمس العذر لمحرقي دارها ومسقطي جنينها، فيزعم أن الشيخين وخصوصاً عمر الذي كان قليل المخالطة مع النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، ضعيف العشرة معه، كانا لا يعلمان مقام الزهراء عند النبيِّ (صلى الله عليه و آله وسلم)، ولذلك فعلا فعلتهما!

والحق ان هذه المقولة أولى بالإدانة منها بالاعتذار، وإنها لعمر الحق مقالةٌ سخيفة وقائلُها أسخف منها، وأيُّ مقالة أبشع من ان تصورهما جاهلين بأبسط حقوق النبوة، وهو إكرامه في ابنته الوحيدة، وزهرته الباقية في هذه الدنيا الفانية ؟

وهذه معاذير من لا عذر له في سوء فعلته وما هي إلاَّ تلميع وجوه أصحاب السقيفة، وقديماً قيل ربَّ عذرٍ أقبح من فعل.

ص: 30

والمهم عندنا إثبات أصل القضية، ودعك من هذيان المعتذرين.

الاتجاه الثاني :

وهذا الاتجاه متوقف في مظلومية الزهراء (عليها السلام)، له قدمٌ مع المنكرين، وقدمٌ أخرى مع المؤيدين، ولكنه لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء حيرانَ لا يهتدي إلى مظلوميتها سبيلا.

وأصحاب هذا الاتجاه إما أنهم لا يدركون حقائق التأريخ جيداً لقصورٍ أو تقصير، أو انه لا يهتم أصلاً بمجريات التاريخ، وأحداثه، وسيَّانٌ لديه أكانت الزهراء مظلومة أم لا!

ونحن لا كلام لنا مع هذا التيار الخانع، الذي يفتقد الرؤية الصحيحة لواقع الأمور.

الاتجاه الثالث :

وهو الاتجاه المنكر لمظلوميتها (عليها السلام)، وهو في الحقيقة قسمان:

الأول: أولئك الحمقى من الوهابية الذين لا يحكِّمون عقولهم فيما جرى من قبل، وفيما يجري من بعد، هؤلاء الذين أصمُّوا أسماعهم عن صوت الحقائق التي تترنَّم بها شفاه التاريخ، وحاولوا

ص: 31

خنق هذا الصوت حتى لا يستفيد شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، منها؛ لذا حاولوا إبعادها عن ذهنية الأمة.

الثاني : هؤلاء المساكين من المسلمين الذين يريدون التقريب بين المذاهب الإسلامية بزعمهم، وليس لهم من سبيلٍ لهذه الوحدة إلاَّ بعد غض البصر عن مظلومية الزهراء (عليها السلام) .

فهم يقولون إن إثارة هذه الأمور تضرُّ باللحمة الإسلامية، وبالوحدة بين المسلمين، ولكن هذه الدعوى فاسدة، وما ترتب عليها من السكوت عن مظلومية الزهراء (عليها السلام)، اشدُّ بطلانا، ولا يمكن الالتزام بها وما يترتب عليها من آثار، إذ إن الاختلاف إنما كان بسبب ما جرى من تضبيبٍ للحقائق، والتشويه عليها، فإذا كشفنا للناس حقيقة ما جرى، وبسطنا لهم المبهم من الأمور، وأنرنا لهم الغامض من الأحداث عند ذاك يكون التقارب الحقيقي بين الأخوة، واللحمة الحقيقية بين المسلمين.

ولكن الانصاف ان الذين يمنعون من الوحدة عملياً هم الدَّاعون إليها بألسنتهم دون قلوبهم، لان همَّهم كتم فضائح السلف لكي لا يعرفها السلف ؛ وتنزيه الصحابة من كل شينٍ ورين، والمحافظة على قدسيتهم من كل سوءٍ وعار.

ولكن لا يمكن التصديق بهذا، ولا يُستطاع الركون إليه، فإننا لا نستطيع تنزيه جميع الصحابة، ففيهم المنافقون الذين ذكرهم

ص: 32

القران في سورةٍ كاملة باسمهم، وفيهم المرتدون بعد وفاة النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، مع سجاح ومسيلمة وغيرهما من المتنبئين، ودونك مضمون حديث الحوض الذي رواه البخاري شاهداً على ما نقول دليلاً على ما ندَّعي، وإليك نصه من صحيح مسلم .

(قال رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، انا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواما ثم لأغلبن عليهم فأقول يا رب أصحابي فيقال انك لا تدرى ما أحدثوا بعدك) (1).

وهذا اعتراف بالذي سيجري علي الإسلام بسبب أفعالهم من بعده، فَلِم إنكار الواضح، والتشكيك في البديهي؟

فلا ينفع الدفاع عن الصحابة سبباً لإنكار مظلومية الزهراء (عليها السلام)، بل من يسعى في سبيل الإنكار وتقوية حجة الدَّاعين إلى الوحدة من هذا الطريق؛ هو معينٌ على ظلم الزهراء (عليها السلام)، قطعاً .

على اننا نريد ان ننبه نظر ذوي النظر، ونلفت ألباب ذوي الألباب، انه لا يعنينا من أمر المنكر لمظلوميتها من شيء، لا يهمنا نسبه ولا موقعه، ولا علمه ومقامه، فالمنكر لمظلوميتها

ص: 33


1- المصنف لابن أبي شيبة، ج 7 : 602 .

صغيرٌ وإن كان في ظاهره كبيراً في مقامه وعلمه، والمؤيد لمظلوميتها كبيرٌ وإن كان ظاهراً صغيراً في علمه ومقامه.

وليس بيننا وبين من ينكر (مقام الزهراء) (عليها السلام)، عصمةٌ ولا أخوة، وأيُّ طعنٍ بمقامها، أو انتقاص من مظلوميتها، إنما هو في حقيقة الأمر إضرارٌ بالمذهب، وإيذاءٌ لقلب النبي والوصي (صلى الله عليه و آله وسلم)، لذا لا عصمة بيننا وبينه، ولا اعتبار للمسميَّات والعناوين كائنةً ما كانت، ولقد أحسنت الأيام إذ كشفت لنا نواياهم، وعرَّتهم وكشفت لنا عوراتهم العقائدية، وحبهم للدنيا، وتنافسهم على حطامها، وتبقى مظلومية الزهراء منتصرة، ومن يخاصمها من الخاسرين.

ص: 34

الشبهة الثامنة

مظلومية الزهراء (عليها السلام)

تعتبر مظلومية السيدة الزهراء (عليها السلام)، حجر الزاوية في بناء الدليل العقائدي على مظلومية أهل البيت عامَّة، والإمام علي (عليه السلام) خاصة، لاسيما فيما يتعلق بغصب الخلافة، واغتيال الشرعية على يد انقلاب السقيفة.

ولذلك لو نجح المهوسون - لا سمح الله - ببغض الزهراء (عليها السلام)، في زرع بذور الشك في بيادر الصدور، وخلق وسوسة الشيطان في حريم القلوب حول قضية فدك، التي تشكل بدورها أول تسورٍ لمجموعة السقيفة على مقام الزهراء (عليها السلام)، فإن باقي البناء العقائدي سوف يتعرض لهجومٍ أعنف، وعواصف أعتى.

البتول (عليها السلام)، أسَّست لهذا البناء العلوي أُسُسَاً قويمة، وقعَّدت له دعائم متينة تتمثل في الآتي:

ص: 35

1- تذكير المسلمين بأنَّها ابنة رسول الإسلام (صلى الله عليه و آله وسلم)، الذي كان يشدِّدُ في غير مرة، ويذكِّرُ في غير مناسبة بأنَّ فاطمة (عليها السلام)، بضعةٌ منه، من آذاها فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) (1).

وهذه البضعة ليست بمعنى العلاقة النسبية بين سيد الرجال الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله وسلم)، وسيدة النساء فاطمة البتول (عليها السلام)، فذلك أمرٌ معلوم لكل الصحابة في ذلك الوقت، إنَّما أراد النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، أن يشيرَ إلى أمرٍ آخر، وهو أنَّها جزءٌ من حركته الجهادية، ونهضته المباركة في إرساء العدالة الاجتماعية في العالم، ومحاربة الظلم في أيِّ مكان.

إنَّ هذه العبارة، تُشبه إلى حدٍّ بعيد قوله صلى الله عليه وآله في حق ولده الإمام الحسين (عليه السلام)، حسينٌ مني وأنا من حسين (2).

فلو أردنا ان نفسر الحديث بأن الحسين جزءٌ نسبي من رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، فالذي يدفعنا عن الجزم بهذا التفسير بضرس قاطع هو ذيل الحديث، أعني وأنا من حسين، فبقرينة المقابلة بين الفقرتين

ص: 36


1- مسند احمد بن حنبل: 4/328.حلية الأولياء: 2/40. صحيح البخاري: 6 /158 .
2- كامل الزيارات :53. الحاكم في المستدرك، ج3 / 177. بن عساكر، تاريخ الشام، ج4 / 314 .

الأولى والثانية لابد أن نفسر الفقرة الأولى بما يتناسب والفقرة الثانية أي انَّ الإمام الحسين (عليه السلام)، جزءٌ من مشروعه التصحيحي، الذي بدءه رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، وألقى بتبعة المسؤولية على المعصومين من أهل بيته على الخط الطويل، وكان طرف الحبل الأول بيد فاطمة، ونهايته من الطرف الآخر بيد الإمام المهدي (عليهما السلام) .

هذه الشهادة من رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، الذي لا ينطق عن الهوى في حق ابنته فاطمة (عليها السلام)، ليست شهادة عاطفية أملتها علاقة الأبوة، وإنَّما هي شهادة الصادق الأمين في حق الصديقة البتول، تعطي مشروعية لحركتها ضد الظلم، وتُضفي قدسية على مقاومتها للظالمين.

فحركتها حركتُهُ، وسكونها سكونه، لأنَّها هي أم أبوها في نهضته، ومن ترسم على هدى سبيله طريق النضال.

2-إنَّ السيدة الزهراء (عليها السلام)، هي أول من أسَّس أسلوب النضال السلمي في المطالبة بالحقوق، والدفاع عن الظلامات ضد انقلاب السقيفة الغادر.

كانت حركة مقاومة عنيفة في المطالبة بحقوق الإمامة، وتثبيت حق آل البيت (عليهم السلام) في الخلافة، إنها كانت الصوت الإعلامي الذي رنَّ في سمع الدهر بترنيمة حق أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخلافة، وكان خطّ المواجهة مع الإرهاب السلطوي في ذلك الوقت، الذي عرَّى أزلام السقيفة من ثياب التزيِّ بالإيمان.

ص: 37

3-التزمت السيدة الزهراء (عليها السلام)، بالمطالبة بفدك، وفدك ليست قطعةً من الأرض، ولكنها رمزٌ معنوي يشير بأصبع الإدانة إلى مغتصبيها، وبيد التعاطف إلى من اغتصِبَت منهم، إنَّها تحمل بُعداً إشارياً إلى حقوق أهل البيت (عليهم السلام)، (ويدلّ على ذلك ما حكي أنّ هارون العبّاسي قال للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) : حدّ لي فدك حتّى أردّها، فقال (عليه السلام) : حدّها من سيف البحر إلى دومة الجندل إلى عريش مصر، فقال هارون : حتّى أنظر فيها) (1)، فكلام الإمام (عليه السلام) إشارة إلى حدود فدك الحقيقية، وهي حدود المملكة الإسلامية التي يتربَّع عليها هارون العباسي، وبعبارةٍ أخرى انها الخلافة المغتصبة التي تناوشها بنو أميَّة وبنو العباس دون وجه حق.

يقول ابن أبي الحديد في شرح النهج(2): (( وسألت عليّ بن الفارقي مدرّس المدرسة الغربيّة ببغداد، فقلت له : أكانت فاطمة صادقة ))؟ قال : نعم .

قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟

فتبسّم، ثمّ قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلَّة دعابته، قال : (لو أعطاها اليوم فدك بمجرّد دعواها لجاءت إليه غدا وادّعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء لأنّه يكون قد سجل على نفسه

ص: 38


1- مناقب آل أبي طالب : 4/320 .
2- شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد : 1/198.

أنّها صادقة فيما تدّعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود، وهذا كلام صحيح، وإن كان قد أخرجه مخرج الدّعابة والهزل).

من هنا نجد ان المطالبة بفدك في الحقيقة مع علمها صلوات الله وسلامه عليها بامتناع الشيخين عن إعطائها فدك، هو في الحقيقة هو من باب إلقاء الحجة على الخصم من جهة، وتشهيرٌ بالظالمين من جهةٍ أخرى، وتعريتهم لينكشفوا للناس كما هم فعلا.

ولأن الأمر كان بهذا الحجم من الجسارة على السيدة الزهراء، وعلى حقوق أمير المؤمنين (عليه السلام)، في قضية اغتصاب فدك، فإنَّ مدرسة الخلافة اعتذرت للشيخين عن إغضابهما الزهراء (عليها السلام)، بأعذارٍ واهية لا تغني ولاتسمن من جوع.

ص: 39

الشبهة التاسعة

إشراقة النور :

اليوم هو الخامس جمادى الأولى، وفي مثل هذا اليوم من العام الخامس الهجري أشرق أفق البيت العلوي بمصباحه الأزهر، طفلة جميلة اسمها زينب (عليها السلام) .

شاءت المقادير أن تشاطر أمها الصديقة البتول أحزانها، وتشارك أخاها السبط الثاني نهضته، فيالها من امرأة جليلة تحمل همَّ معصومَينِ، وتنهض من بين النساء بحمل لا يقوى عليه الرجال.

ولأجل ذلك كله فهي تماثل أمها في أشياء كثيرة، تعالوا نعرض إلى بعضٍ منها بما يسعنا واقع الحال.

1- فكما دافعت السيدة الزهراء عن إمام زمانها أمام حزب السقيفة، دافعت السيدة زينب (عليها السلام)، عن إمام زمانها أمام حزب الأمويين، وكما صرَّحت السيدة الزهراء بمظلومية عليٍّ في المسجد النبوي، صدحت السيدة زينب بمظلومية الحسين في المسجد الأموي، ولكن الأولى قضت نحبها شهيدة، والأخرى كانت بيد الأعداء أسيرة، فسلام الله عليهما، وبعين الله ما نزل بهما.

ص: 40

2- نهض الإمامان أمير المؤمنين في مصره، وسيد الشهداء في عصره، بدورهما الذي رسمته لهما يد التكليف، بتدبير إلهيٍّ خطته لهما يدُ العصمة، ولكن لشدَّة التعتيم الإعلامي، لم يكن دورهما واضحا، فقامت السيدة الزهراء فأنارت للناس الغامض من دور الوصي، وقامت السيدة زينب فكشفت للناس الملتبس من دور الشهيد، فكانت الزهراء البتول من أسست قواعد الدفاع عن الإمامة، والسيدة زينب من قعَّدت أسسَ الذود عن الشهادة.

3- عصمة السيدة الزهراء (عليها السلام) عصمة ذاتية، وعصمة السيدة زينب (عليها السلام) عصمة أفعالية، والفرق بينهما ان عصمة السيدة الزهراء (عليها السلام)، عصمة واجبة، وهي الحد الأوسط في ثبوت العلم اللدني لها، وثبوت حجتها على الناس كافة، بمن فيهم حجج الله على خلقه، الأئمة المعصومون (عليهم السلام)، فهي لا تفكر في الذنب فضلاً عن التفكير في إتيانه، ولا يصدر منها ترك الأولى، ولا تغفل عن طاعة ربها طرفة عين.

أما عصمة السيدة زينب (عليها السلام)، فهي عصمة تحجزها عن إتيانِ أيّ فعل ينافي مقام القرب من ربها، وفيما عدا هذا يجوز عليها السهو والنسيان .

ثم ان هاهنا بحثاً يحسن التعرض إليه إجمالاً وبصورةٍ مختصرة، بغية تسليط الضوء على الفرق بين العصمتين إجمالا.

ص: 41

ان الحكماء قسَّموا الأرواح إلى خمسة أقسام، وهي مأخوذة من هذا الحديث عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن علم العالم، فقال لي : يا جابر، إنّ في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس وروح الإيمان وروح الحياة وروح القوّة وروح الشهوة. فبروح القدوس - يا جابر- عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى .

ثمّ قال : يا جابر، إّن هذه الأربعة أرواح يصيبها الحدثان إلاّ روح القدس فإنّها لا تلهو ولا تلعب (1).

الأولى : روح القدس

وفي الرواية عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخى عليه ستره . فقال :يا مفضل، إنّ الله - تبارك وتعالى - جعل في النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) خمسة أرواح :

روح الحياة، فبه دبّ ودرج .

وروح القوّة، فبه نهض وجاهد .

وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال.

وروح الإيمان، فبه آمن وعدل .

ص: 42


1- الكافي : 1/272.

وروح القدس فبه حمل النبوة .

فإذا قبض النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، انتقل روح القدس فصار إلى الإمام.

وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو ؛ والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو وروح القدس كان يرى به.

وبهذا نعرف ان روح القدس لا تكون إلاَّ في المعصوم، وهي تكون مع الأنبياء السابقين، كما في عيسى (عليه السلام)، إذ منَّ الله عليه بهذا التأييد في ثلاث آياتٍ من القران الكريم وهي قوله تعالى :[آَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ](1).

[إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ] (2).

الثانية :روح الإيمان

ص: 43


1- سورة البقرة آية : 87 .
2- سورة المائدة آية : 110 .

وهذه تكون مع من هو أقلُّ من المعصومين عليهم السلام مرتبة، كأولياء الله الصالحين كزينب والعباس وعلي الأكبر وغيرهم (عليهم السلام) .

الثالثة :روح الحياة

وهي الروح التي بسببها تحلُّ الحياةُ في الإنسان.

ص: 44

الرابعة : روح القوة

وهي التي من خلالها يتحرك الإنسان للقيام بشؤونه.

الخامسة :روح الشهوة

التي يكون فيها التناكح والتناسل.

ونلاحظ ان هذه الأرواح الخمسة موجودةٌ في المعصوم (عليه السلام) ولا توجد فيمن هو أقل مرتبة منهم من الأولياء، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) قال في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح روح البدن وروح القدس وروح القوة وروح الشهوة وروح الإيمان، وفى المؤمنين أربعة أرواح افقدها، روح القدس روح البدن وروح الشهوة وروح الإيمان وفى الكفار ثلاثة أرواح روح البدن وروح القوة وروح الشهوة ثم قال روح الإيمان، يلازم الجسد ما لم يعمل بكبيرة فإذا عمل كبيرة فارقه الروح وروح القدس من سكن فيه فإنه لا يعمل بكبيرة أبدا .

وبهذا يتضح أن أصحاب العصمة الافعالية لديهم مرتبة عالية من روح الإيمان، أصبح لها بسببها مرتبة عالية من العلم اللدني، شهد لها بها الإمام زين العابدين (عليه السلام) لما قال لها : يا زينب أنت عالمة غير معلَّمة، وفاهمةٌ غير مفهَّمة.

ص: 45

ولازم هذه الشهادة لها بالعلم اللدني من المعصوم (عليه السلام)، انها (عليها السلام)، تتلقى العلم من لدن خبير.

على انه ينبغي أن ننبه هنا إلى أن العصمة مفهوم مشكك يشترك فيه العقلاء، اقلها مرتبة ان العاقل لا يفعل القبيح أمام الناس فيخلع ملابسه أمامهم مثلاً، وأعلاها المرتبة القدسية بقسميها العصمة الذاتية والعصمة الافعالية، وهذه الأخيرة التي تتمتع بها السيدة زينب (عليها السلام)، والتي لا يختلف عليها اثنان.

ص: 46

الشبهة العاشرة

المشتركات بين السيدة الزهراء والإمام المهدي (عليهما السلام)

هناك نقاط إشتراكٍ كثيرة بين الإمام المهدي (عليه السلام)، وبين الزهراء (عليها السلام)، نقاطٌ أملتها عليهما الظروف المشتركة، والتكليف الإلهي الواحد، وسنعرض لها إن شاء الله تعالى.

فمن أولاها : مظلوميتهما، فكلاهما تعرَّض إلى الظلم، وإن كانت ظروف الظلم وطريقته مختلفة، فالظلم الذي تعرَّض له الإمام المهدي (عليه السلام)، هو ظلم الطغمة العباسية الحاكمة ؛لما يعرفونه جيداً من آثار نهضته المباركة، وكان سبب اختفائه عليه السلام عن قواعده الشعبية هو للحفاظ على الإمامة، والبقيا على حياته الشريفة.

كذلك كانت مظلومية السيدة الزهراء (عليها السلام)، بسبب دفاعها عن الإمامة، فتعرَّضت جرَّاء ذلك للمضايقات والمدافعات من الزمرة الحاكمة، فكان عاقبة أمر جهادها أن تعرَّضت للشهادة ظلماً وعدوانا.

ص: 47

الثاني : مسألة التغييب، فكلاهما (عليهما السلام) تعرضا للتغييب المادي والمعنوي، فالمعنوي يتمثل في تغييب مقاميهما عن الناس، السيدة الزهراء (عليها السلام) بعنوان حجيتها على الناس، والإمام المهدي (عليه السلام) بكونه إماماً على الخلق.

والمادي بتغييب جسدها الطاهر بالقتل، وقبرها الشريف بالإخفاء، وتغييب الإمام المهدي (عليه السلام) جسدياً بتواريه عن الناس خوف الأعداء.

الثالث :صاحب ولادتهما مجموعةٌ من الكرامات، فلقد كانت السيدة الزهراء (عليها السلام)، تحدِّثُ أمها وهي جنين، والإمام المهدي (عليه السلام) يقرأ القرانَ في بطن أمِّه.

فعن ابن عباس، قال: ( لما تزوجت خديجة بنت خويلد، رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) هجرها نساء مكة، وكن لا يكلمنها، ولا يدخلن عليها، فلما حملت بالزهراء فاطمة (عليها السلام)، كانت إذا خرج رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، من منزلها تكلمها فاطمة الزهراء في بطنها من ظلمة الأحشاء، وتحدثها وتؤانسها، فدخل رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) فقال لها: " يا خديجة من تكلمين ؟ " قالت: يا رسول الله، إن الجنين الذي أنا حامل به إذا أنا خلوت به في منزلي كلمني، وحدثني من ظلمة الأحشاء، فتبسم رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) ثم قال : " يا خديجة، هذا أخي جبرئيل (عليه السلام) يخبرني أنها ابنتي، وأنها النسمة الطاهرة

ص: 48

المطهرة، وأن الله تعالى أمرني أن أسميها (فاطمة) وسيجعل الله تعالى من ذريتها أئمة يهتدي بهم المؤمنون )(1).

وكذلك تشهَّدت عند ولادتها بالشهادتين، وفي بعض الروايات بالشهادات الثلاث، وكذلك كان الإمام المهدي (عليه السلام)، لمَّا نزل من بطن أمِّه حمد الله تعالى .

عن الخصيبي قال: لما سقط من بطن أمه إلى الأرض وجد جاثياً على ركبتيه رافعاً سبابتيه، ثم عطس فقال : الحمد لله رب العالمين، صلى الله على محمد وآله عبداً ذاكراً الله غير مستنكفٍ ولا مستكبر ثم قال (عليه السلام) : ان حجة الله داحضة لو أذن الله في الكلام لزال الشك (2).

ثم قال : " زعمت الظلمة أن حجة الله داحضة، ولو أذن لنا في الكلام لزال الشك " .

الرابع : أشارت الروايات إلى أن نموَّهما الجسدي كان سريعاً في صغرهما، فيكبران في اليوم كما هو في أسبوع، وفي أسبوع كما هو في شهر، وفي شهر كما هو في سنة، وهذا من أسرار نورانية أجسادهما الشريفة.

ص: 49


1- الثاقب في المناقب لابن حمزة : 285 .
2- الهداية الكبرى الخصيبي: 70 – 71 .

الخامس :كانت ولادة السيدة الزهراء (عليها السلام) تحدِّياً لمزاعم قريش في كونه (صلى الله عليه و آله وسلم) أبترا، بمعنى ان دعوته بتراء لأنه ليس لديه ذرِّية يتمونها من بعده، فرزقه الله بالكوثر أولاً، وبتر شانئيه ثانياً، وقد ذكر ذلك كله في القران الكريم في قوله تعالى:

[إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ *فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ] (1).

( فالمراد بالشانئ الذي ذكر في رجل كان يذكر رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، بأنه أبتر بلا عقب سيموت ونستريح منه وهو العاص بن وائل السهمي على ما في السير، ذكر ذلك حين مات عبد الله بن رسول الله الطيب الطاهر بولادته بعد ما مات ابنه الأخر القاسم، فاغتم رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) من شياع ذلك في أفواه قريش يعيرونه به، فأعطاه الله عز وجل فاطمة البتول المرضية ونزلت السورة تسلية له ).

فالكوثر فوعل مبالغة في الكثرة التي تتزايد وتتوفر، وقد يكون نهرا وقد يكون، عينا وقد يكون مالا كما أنه قد يكون نسبا وصهرا، الا أن المراد بقرينة حال النزول، بل وقرينة اللفظ في آخر السورة ثالثة الآيات " ان شانئك هو الأبتر " هو النسب

ص: 50


1- سورة الكوثر آية : 1 – 3 .

والنسل ولو كان المراد من الكوثر غير ذلك من المعاني لتناقضت الصدر والذيل واختلف السياق .

فإذا كان معنى الكوثر هذا وقد كان ولدت حينذاك فاطمة البتول العذراء الصديقة الطاهرة، كان ذلك وعدا منه تعالى بأنه سيكثر ويتبارك نسله الشريف من ذاك المولود كما نرى الآن انتشار نسله (صلى الله عليه و آله وسلم)، ولم يكن ذلك الا من ابنته البتول الزاهرة (عليها السلام) .

وكان عاقبة هذا النسل المبارك هو الخلف المهدي (عليه السلام)، بعدما اتهموا أباه الحسن العسكري (عليه السلام)، انه لاعقب له، وبذلك تكون الإمامة مبتورة منقطعة.

السادس : أشارت الروايات إلى أن الإمام المهدي (عليه السلام)، كان بالنسبة للسيدة الزهراء (عليها السلام) سلوة الحزين، وكانت بارقة الأمل في إكمال مسيرتها في تحدّي الظالمين آخر الزمان.

وتشير بعض الروايات انه تعالى ادَّخره لها ولشيعتها، وهي بشارة بشرها بها الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله وسلم) .

فعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كان رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، في الشكاية التي قبض فيها، فإذا فاطمة عند رأسه، قال:فبكت حتى ارتفع صوتها، فرفع رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، طرفه إليها فقال : حبيبتي فاطمة ما الذي يبكيك ؟ قالت : أخشى الضيعة من بعدك يا رسول الله .

ص: 51

قال: يا حبيبتي لا تبكين، فنحن أهل بيت أعطانا الله سبع خصال لم يعطها قبلنا ولا يعطها أحدا بعدنا: لنا خاتم النبيين وأحب الخلق إلى الله عز وجل وهو أنا أبوك، ووصيي خير الأوصياء وأحبهم إلى الله عز وجل وهو بعلك، وشهيدنا خير الشهداء وأحبهم إلى الله وهو عمك، ومنا من له جناحان في الجنة يطير بهما مع الملائكة وهو ابن عمك، ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناك الحسن والحسين، [وسوف يخرج الله من صلب الحسين تسعة من الأئمة أمناء معصومين] ومنا مهدي هذه الأمة إذا صارت الدنيا هرجا ومرجا وتظاهرت الفتن وتقطعت السبل وأغار بعضهم على بعض فلا كبير يرحم صغيرا ولا صغير يوقر كبيرا، فيبعث الله عز وجل عند ذلك مهدينا التاسع من صلب الحسين (عليه السلام) يفتح حصون الضلالة [وقلوبا غفلا] يقوم بالدرة في آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا (1).

وبذلك كله يتبيَّن لنا أن حركة الزهراء (عليها السلام) هي البدء، وحركة الإمام المهدي (عليه السلام) هي الختم لها.

ص: 52


1- البحار 51 : 79 باختلاف يسير في النص كما ورد غيره من المصادر .

ص: 53

الشبهة الحادية عشر

الإمام الجواد (عليه السلام) وترسيخ مفهوم الإمامة

اليوم هو التاسع والعشرين من ذي القعدة ذكر شهادة الإمام الجواد ومن المناسب أن نعطف عنان البحث إلى ذكرى شهادة الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) .

عاش الإمام الجواد (عليه السلام)، وهو التاسع من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، العصر العباسي، وعاش كل ضغوطاته وتضيقاته، ولقد حاول العباسيون نشر ثقافةٍ أخرى غير ثقافة أهل البيت (عليهم السلام)، فتوسلوا بكتب اليونان الفلسفية في مقابل عقائد آل البيت (عليهم السلام)، وبخلق فقهاء السلطة في مقابل علماء معدن العصمة والرسالة.

كل هذا الأمر أستدعى أن يقدم الإمامُ أطروحته في الإمامة، خصوصاً ان طرحه الأعظم كان في إثبات إمامته المبكرة في مجلس الخليفة العباسي رغم عمره الصغير آنذاك.

ولقد أشغل طرحه هذا الكثير من الناس، ومنهم من شيعته، فكان لزاماً عليه أن يبذل جهداً مضاعفاً في تثبيت إمامته من خلال ما يأتي:

ص: 54

1- أثبت (عليه السلام) أن الإمامة أمرٌ من الله تعالى، ولا علاقة لها بالعمر، وقدَّم براهين جليةً على ذلك، لاسيما في محاوراته مع علماء البلاط العباسي، خصوصاً يحيى ابن أكثم، قاضي القضاة، فعن محمّد بن عون النصيبي في خبر تزويج المأمون الجواد (عليه السلام) بابنته: إنّ يحيى بن أكثم قال له (عليه السلام) : ما تقول في محرم قتل صيدا، فقال (عليه السلام) له: قتله في حلّ أو حرم، عالما أو جاهلا، عمدا أو خطأ، عبدا أو حرّا، صغيرا أو كبيرا، مبتدئا أو معيدا إلى قال (عليه السلام) :

وكلّ ما أتى به المحرم بجهالة فلا شيء عليه فيه إلَّا الصيد، فإنّ عليه الفداء بجهالة كان أو بعلم، بخطأ كان أو بعمد، وكلّ ما أتى به الصغير الذي ليس ببالغ فلا شيء عليه فيه ... الخبر(1).

2- أثبت الإمام الجواد (عليه السلام) صحة اعتقاد الإمامية، ومتانة أدلتهم في القول بأن الإمامة بالنص من الله تعالى، وليس بالشورى أو الوراثة أو البيعة كما يعتقد بعضهم.

فما ساقه من جحفل الدلائل، وحدا به من ركب البراهين، وأظهره من علم الغيب، كل ذلك كان رصيدا متزايداً في الدفع بعجلة إثبات هذه الإمامة في عقول الناس.

ص: 55


1- الارشاد : 361 ؛ وسائل الشيعة : 9/187 .

3- أثبت الإمام (عليه السلام)، إمامته من خلال ما قدَّمه من معجزات، ولعله أكثر الأئمة (عليهم السلام)، إظهاراً للمعجزات من أجل إثبات إمامته، فمن معجزاته تكلمه مع الحيوان، وشفاء العيون، وكلامه في ولادته، واستجابة دعائه لبعض من سأله في الأمور الشخصية كما في قضية أبي هاشم الجعفري الذي أذهب الله عنه أكل الطين ببركة دعائه (عليه السلام)، أو في القضايا العامة كما في دفعه الزلازل عن أهل الأهواز، وغير ذلك.

4- مهَّد الإمام الجواد (عليه السلام)، الطريق لشيعته في تصديقهم بإمامة الإمام المهدي (عليه السلام) في سنٍ مبكرة، إذ كانت إمامته في سنٍ مبكرة أيضاً، فلقد كان عمره خمس سنوات، وهو عمر الإمام المهدي (عليه السلام) نفسه.

5- استطاع الإمام الجواد (عليه السلام) أن يبطل حصار المأمون عليه بغية عزله عن القواعد الشعبية لشيعته.

ولقد كان المأمون من قبل استدعى أبا الإمام الجواد (عليه السلام) الأمام الرضا (عليه السلام) للسبب نفسه، أي عزل الإمام عن قواعده الشعبية، ولكن الإمام الرضا صلوات الله عليه كسر هذا الحصار بإلهامٍ إلهي.

ولقد استطاع الإمامان عليهما السلام أن يكسرا هذا الحصار ونشرا أطروحتهما في الإمامة بين شيعتهم وغير الشيعة أيضا.

ص: 56

6- بتأييد رباني، استطاع الإمام (عليه السلام) أن يبعد شيعته عن صراع المصالح بين القوميات المتناحرة والنظام الحاكم، كما بين العرب والفرس، أو الفرس والترك، أو بين العرب والروم، وهكذا جنَّب الإمام (عليه السلام) شيعته مخاطر تلك الصراعات، ونتائج هذه المجازفات.

7- تكللت جهود الإمام (عليه السلام) بالنجاح الباهر في إبقاء فكرة الإمامة في نفوس الشيعة، وجذَّرها في قلوبهم، رغم محاولات الفرق الضالة وخصوصاً من الواقفة الذين تصاعدت وتيرة نقاشاتهم في أيام الإمام الجواد (عليه السلام)، وأبعدها عن الساحة، فمنع من الصلاة خلف الواقفة، وبيَّن فسقهم وضلالهم، وأحبط جهود النظام الحاكم في تعزيز إمكانية هذه الفرقة الضالة.

8- بعد أن حاول العباسيون في سعيٍّ محمومِ القضاء على فكر الإمام عليٍّ (عليه السلام)، استطاع الإمام الجواد (عليه السلام) أن يعيد إلى الأذهان أفكار الإمام عليٍّ (عليه السلام) وكلماته النورانية.

9- وترتب على النقطة السابقة انه (عليه السلام) استطاع أن يدحر شبه الملحدين، وذلك بإثباته توحيد أهل البيت (عليهم السلام) الذي أخذوه من رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، ووضع لبنته الرئيسة الإمام عليٌّ (عليه السلام)، كما صنع في خطبه.

ذلك انه (عليه السلام)، عاصر المعتصم العباسيَّ، ذلك الرجل الأميّ الذي لا يقرأ ولا يكتب، هذا الأمر الذي ساهم إلى حدٍّ كبيرٍ في تمرير الكثير من الأفكار الإلحادية دون معرفة هويتها الفكرية

ص: 57

الحقيقية، فاستغلها الملحدون والزنادقة في تشويش أفكار الناس والتهويش عليهم، لولا أن وقف الإمام في وجهها ودفنها في مهدها بحسن تصرفه، وجميل تدبيره المستمدين من قناة العصمة الإلهية الكريمة.

10- كانت قصة استشهاد الإمام الجواد المؤلمة، فاجعةً أليمة أعادت إلى الأذهان قصة استشهاد جديه الإمامين الحسنين (عليهما السلام) ؛ فكما ان جعدة بنت الأشعث دسَّت السُّم للإمام الحسن (عليه السلام)، بأمرٍ من معاوية، كذلك دسَّت أم الفضل بنت المأمون السُّم للإمام الجواد بأمرٍ من المعتصم، وقامت بأكثر من هذا، فإنَّها غلَّقت عليه الأبواب بعد أن سقته السُّم، فلما قضى نحبه في سبيل الله شهيداً بقى على سطح داره ثلاثة أيام تصهره حرارة الشمس، ولم يعرف شيعته بما جرى عليه إلاَّ بعد ثلاثة أيَّام لمَّا تسلَّقوا سطح الدَّار، فدفِن ثلاثة بعد ثلاثة أيام من بقائه على سطح الدار كما دُفِن الإمام الحسين (عليه السلام) بعد ثلاثة أيَّام من بقائه عرياناً على رمضاء كربلاء، فإنَّ لله وإنَّا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا – آل – محمد (صلى الله عليه و آله وسلم) أيَّ منقلبٍ ينقلبون.

ص: 58

الشبهة الثانية عشر

يقول بعضهم، مرسلاً سجية الكلام على عواهنهِ، وملقياً حبل القول على غاربة، ان ما حدث للسيدة الزهراء (عليها السلام) حادثة بلا مستند، وموضوع بلا شاهد، والحق أنها مجرد دعوى عارية من لباس الدليل، عاطلة من زينة البرهان، فكفاكم نفخاً بمزامير المظلومية، وضرباً على دفِّ المصائب، فما هذا الاخطلٌ من القول وبهتانٌ من الحديث.

انتهى كلام هذا القائل وأمثاله، ممن يشكل قولُهُم هذا مصيبةً من بعد تُضاف إلى مصائبها من قبل، ومظلومية أخرى تضاف إلى مظلوميتها الأولى.

والجواب على ذلك بأن الجهر بمظلوميتها ليس أحدوثة ابتكرها قصَّاص، ولا قصة وضعها كذَّاب، ويكفي ان دعوى الشيعة على مظلوميتها موجودةٌ في كتب السنة الذين ذكروها، وسنتناولها في ثلاثة محاور، إحراق الدار، لطم الزهراء (عليها السلام) بيد العدوان، إسقاط السبط الثالث المحسن الشهيد، بضعة البضعة.

المحور الأول : إحراق الدار

وحسبك من ذلك ما ذكره صاحب العقد (الفريد)، رغم ان مؤلفه أمويٌّ لا يُحسب على التشيع في بال، ولا يتعاطف مع

ص: 59

الزهراء بحال، قال هناك ( ان عمر اقبل بقبس من نار على أن يضرم على المتخلفين عن بيعة أبى بكر في بيت فاطمة (عليها السلام) الدار) (1).

ومن المصادر أيضاً رواية أبن حمزة كما في الشافي عن عمر وهو يقول:- إن أبوا أن يخرجوا فيبايعوا أحرقت عليهم البيت .

فقيل له: إن في البيت فاطمة . . أفتحرقها ؟ !

قال : سنلتقي أنا وفاطمة ! (2).

نرجع مرةً أخرى إلى العقد، سنراه يقول :(فساروا إلى منزل علي (عليه السلام) وقد عزموا على إحراق البيت بمن فيه)

وفي كتاب سُليم بن قيس الهلالي، وهو كتابٌ معتبر وإنما شكك فيه بعضهم لأنه يفضح السلف، قال: (وفاطمة (عليها السلام)، قاعدة خلف الباب، قد عصبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، فأقبل عمر حتى ضرب الباب، ثم نادى: يا بن أبي طالب، افتح الباب! فقالت فاطمة (عليها السلام) : يا عمر، ما لنا ولك ؟ ألا تدعنا وما نحن فيه؟

قال : افتحي الباب وإلا أحرقناه عليكم!!

ص: 60


1- الكنى والألقاب، ج1 : 386 .
2- الشافي، لابن حمزة : 4/173 .

فقالت : يا عمر، أما تتقي الله عز وجل، تدخل على بيتي وتهجم على داري ؟ فأبى أن ينصرف.ثم دعا عمر بالنار فأضرمها في الباب فأحرق الباب، ثم دفعه عمر (1).

387

وفي بحار الأنوار للعلامة المجلسي (فقرعوا الباب قرعا شديدا)(2).30/290

وفي حديقة الشيعة (ورفعوا أصواتهم، وخاطبوا من في البيت بخطاباتٍ شتى) (3).30

وفي كتاب (السقيفة) وهو من أبناء العامة، وطبع كتابه تواً على حساب العتبة الحسينية المقدَّسة لما جلس أبو بكر على المنبر.كان علي، والزبير، وناس من بني هاشم في بيت فاطمة، فجاء عمر إليهم، فقال : والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم) (4)!!

لاحظوا لام التوكيد ونونه في كلام عمر، وتوكيده على الإحراق بما لا يدع مجالاً لأحدٍ للشك في نواياه.

وقد تعددت صيغ التهديد بالإحراق ودخول الباب في الكتب، مما يرغم الباحث المنصف على الإذعان للتواتر المعنوي

ص: 61


1- كتاب سليم بن قيس : 387 .
2- بحار الأنوار للعلامة المجلسي : 30/290 .
3- حديقة الشيعة : 30 .
4- السقيفة : .

الذي وُلِد من رحم تتبع النصوص والنظر فيها، واليك بعضاً منها:-

( وصاح عمر: يا بن أبي طالب ! افتح الباب. . !

والله لئن لم تفتحوا لنحرقنه بالنار.. ! (1).

والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم.. !

أخرج يا علي إلى ما أجمع عليه المسلمون وإلا قتلناك..!

إن لم تخرج يا بن أبي طالب وتدخل مع الناس لأحرقن البيت بمن فيه. . !

(يا بن أبي طالب! افتح الباب وإلا أحرقت عليك دارك..!

والله لتخرجن إلى البيعة ولتبايعن خليفة رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) وإلا أضرمت عليك النار. . !

يا علي ! أخرج وإلا أحرقنا البيت بالنار. . !

فخرجت فاطمة (عليها السلام) فوقفت من وراء الباب، فقالت: " أيها الضالون المكذبون ! ماذا تقولون؟ وأي شئ تريدون ؟ " فقال عمر : يا فاطمة ! فقالت :" ما تشاء يا عمر ؟ "

قال : ما بال ابن عمك قد أوردك للجواب وجلس من وراء الحجاب ؟

ص: 62


1- مأساة الزهراء، ج2، 188.

فقالت :" طغيانك يا شقي أخرجني وألزمك الحجة .. وكل ضال غوي ".

فقال:دعي عنك الأباطيل وأساطير النساء!! وقولي لعلي يخرج.

فقالت :" لا حب ولا كرامة، أبحزب الشيطان تخوفني يا عمر؟! وكان حزب الشيطان ضعيفا ".

فقال : إن لم يخرج جئت بالحطب الجزل وأضرمتها نارا على أهل هذا البيت وأحرق من فيه، أو يقاد علي إلى البيعة..!

فقالت فاطمة (عليها السلام) : " يا عمر ! ما لنا ولك لا تدعنا وما نحن فيه ؟ "

فقال : افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم(1).

يا فاطمة بنت رسول الله!أخرجي من اعتصم ببيتك ليبايع ويدخل فيما دخل فيه المسلمون وإلا والله أضرمت عليهم نارا(2).

أدخلوا فيما دخلت فيه الأمة..! (3).

يا فاطمة ! ما هذا المجموع الذي يجتمع بين يديك ؟ لئن انتهيت عن هذا وإلا لأحرقن البيت ومن فيه..! (4).

ص: 63


1- كتاب سليم بن قيس : 150 .
2- الجمل، الشيخ المفيد، 57 .
3- تاريخ ابن شحته : 164 .
4- كتاب سليم بن قيس : 84، 250 .

أخرجي من في البيت وإلا أحرقته ومن فيه ..! (1).

فقالت فاطمة (عليها السلام) : " أفتحرق علي ولدي ؟! "

فقال : إي والله أو ليخرجن وليبايعن(2).

وفي رواية : " يا بن الخطاب ! أتراك محرقا علي بابي ؟! " قال : نعم(3).

قالت :" ويحك يا عمر! ما هذه الجرأة على الله وعلى رسوله؟! تريد أن تقطع نسله من الدنيا وتطفئ نور الله والله متم نوره ؟!".

فقال :كفي يا فاطمة! فليس محمد حاضرا ! ولا الملائكة آتية بالأمر والنهي والزجر من عند الله ! وما علي إلا كأحد من المسلمين، فاختاري إن شئت خروجه لبيعة أبي بكر أو أحرقكم جميعا ..!

فقالت - وهي باكية - : " اللهم إليك نشكو فقد نبيك ورسولك وصفيك، وارتداد أمته علينا، ومنعهم إيانا حقنا الذي جعلته لنا في كتابك المنزل على نبيك المرسل ".

فقال لها عمر:دعي عنك يا فاطمة حمقات [حماقات] النساء! فلم يكن الله ليجمع لكم النبوة والخلافة..!!

ص: 64


1- ن . م .
2- تاريخ الطبري : 3 / 198 .
3- تاريخ بن أبي الفداء : ج 1 / 164 ؛ نهج الحق : 271، والعقد الفريد : ج 5 / 12 .

فقالت : " يا عمر ! أما تتقي الله عز وجل .. تدخل على بيتي، وتهجم على داري ؟ ! " فأبى أن ينصرف(1).

المحور الثاني: لطم الزهراء بيد الغواية.

ذكر ذلك غير واحدٍ من المؤرخين وغيرهم، فهاهو كتاب سليم بن قيس الهلالي يذكر فيه الحادثة المؤلمة بهاتين الصورتين (...فأغرم عمر بن الخطاب تلك السنة جميع عماله أنصاف أموالهم لشعر أبي المختار ولم يغرم قنفذ العدوي شيئا وقد كان من عماله، ورد عليه ما أخذ منه وهو عشرون ألف درهم، ولم يأخذ منه عشره ولا نصف عشره ... قال سليم : فلقيت عليا فسألته عما صنع عمر، فقال (عليه السلام) : هل تدري لم كف عن قنفذ ولم يغرمه شيئا ؟ قلت : لا، قال :لأنه هو الذي ضرب فاطمة بالسوط حين جاءت لتحول بيني وبينهم فماتت وإنه أثر السوط لفي عضدها مثل الدملج) (2).

وفي عبارة أخرى قال سليم: انتهيت إلى حلقة في مسجد رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) ليس فيها إلا هاشمي غير سلمان وأبي ذر والمقداد ومحمد بن أبي بكر وعمر بن أبي سلمة وقيس بن سعد بن أبي عبادة، فقال العباس لعلي (عليه السلام) : ما ترى عمر منعه من أن يغرم قنفذا كما

ص: 65


1- الهجوم على بيت فاطمة (عليها السلام)، عبد الزهراء مهدي : 122 .
2- سليم بن قيس : 222 و 223 .

أغرم جميع عماله ؟ فنظر علي (عليه السلام) إلى حوله ثم اغرورقت عيناه ثم قال: يشكر له ضربة ضربها فاطمة بالسوط فماتت وفي عضدها أثر) (1).

وفي كتاب كامل الزيارات لجعفر بن محمد بن قولويه وهو الكتاب الذي يعد رواته موثقون جميعاً بالتوثيق العام بحسب بعض المباني الرجالية كما هو مبنى السيد الخوئي (قدس سره)، وان تراجع عنه قبيل وفاته رضوان الله تعالى عليه يروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) حديثاً جاء فيه ان مما أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه ليلة أسري به إلى السماء : (وأما ابنتك فتظلم وتحرم ويؤخذ حقها غصبا الذي تجعله لها وتضرب وهي حامل) (2).

وهذا ابن طاهر الأسفرائيني التميمي نقل في مجال ذكر مذهب إبراهيم بن سيار بن هاني النظام أنه طعن في عمر في جملة أمور ومنها : (وانه ضرب فاطمة) (3).

المحور الثالث:إسقاط السبط الثالث المحسن الشهيد (عليه السلام)

ليس من اليسير على الباحث ان يرى قلة النصوص التي ذكرت موت السبط الثالث سقطاً، وندرة الأخرى التي تصرح

ص: 66


1- المصدر نفسه : 224 .
2- كامل الزيارات : 548 .
3- الفرق بين الفرق : 140 – 141 .

بشهادته إسقاطاً، ولا غرابة لو رأينا التعتيم والغموض يلفّ قضية موت المحسن سقطاً، فالحكومات المتعاقبة من بعد النبي الكريم (صلى الله عليه و آله وسلم)، والتي استحوذت على الحكم بالقوة، كلّها تناوئ المحسن وآله أمّاً وأباً ومن يمتّ إليه نسباً، فكيف يتوقع من الرواة من أن يذكروا الحَدَث كما حدث، وهو حَدَثٌ مريع وفظيع، وذكره يقلقل أحشاء الحاكمين، وينسف مقولة شرعيّة حكم الظالمين .

يذكر الذهبي في سير اعلام النبلاء رقم الترجمة 350 وكذا في ميزان الاعتدال برقم 552في ترجمة ابن أبي دارم (الإمام الحافظ الفاضل، أبو بكر أحمد بن محمد السري بن يحيى بن السري بن أبي دارم، التميمي الكوفي الشيعي، محدث الكوفة... وقال محمد بن حماد الحافظ، كان مستقيم الأمر عامة دهره، ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب، حضرته ورجل يقرأ عليه أن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت محسنا).

ولعله لأجل هذا القول أصبح هذا الذي وصفوه بأنه كان مستقيم الأمر عامة دهره كذاباً في أخر عمره حسب دعواهم، فإن للحق ضريبة لابد ان يدفعها الصادق، والجريء على قول الحق.

اتضح من هذه الجولة السريعة كأنها قبسة العجلان، ان قضية ضرب الزهراء (عليها السلام) وإحراق دارها وإسقاط ولدها قضية مشهورة معروفة لا يلوي عنق فكره عنها إلا مكابر، لا يقيم لعقله وزناً ولا قيمة.

ص: 67

الشبهة الثالثة عشر

الإمامة لطفٌ ألهي:

ليس الإمام في حقيقته إلاَّ ذلك الغصن الذي افترع من بذرة النبوة، وليست الإمامة في واقعها غير ذلك الشعاع الذي أضاء من مشكاة الرسالة، فهي منه كالحسناء وخيالها في المرآة، أو القمر وصورته في الماء .

ولذا سنحاول في هذا البحث، ان نلُّم إلمامة سريعة بهذا الذي جعلناه إزاء النبوة أهمية، وكفاء الرسالة جلالة، وسنتعرض بادئ الأمر، وأول الحديث إلى معناها لغة واصطلاحا.

الإمامة لغة: قال محمد بن ابي بكر الرازي في مادة (أ، م، م) من مختار الصحاح (والإمام الذي يُقتدى به وجمعه أئمة).

والإمامة بهذا المعنى اللغوي تكون في الكفر وفي غيره، قال تعالى:[فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ](1).

ص: 68


1- سورة التوبة آية : 12 .

وفي معرض حديثه عن إبراهيم (عليهم السلام) يقول تعالى:[وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ] (1).

وقال تعالى أيضاً :[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] (2).

وأما اصطلاحا : فهنا ينبغي أن نفرق بين مفهومي الإمامة الاصطلاحية عند الشيعة وغيرهم، ذلك إن الإمامة عند الأشاعرة هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة.

ص: 69


1- سورة الأنبياء آية : 73 .
2- سورة القصص آية : 5 .

وإذا دققنا النظر في كتبهم، وتأملنا مطولاتهم، فلا يختلج في رؤيتنا الريب، ولا يخالطنا في بحثنا الرين، بأن المراد من الإمامة هي الخلافة الظاهرية، وكان من ذلك ان شروطهم في الإمامة خفيفة المؤنة، سهلة التحقق، فهم لا يشترطون فيها العدالة أحياناً فما بالك بالعصمة، ودع عنك العلم والشجاعة وباقي السجايا النفسية الكريمة، والخصال الخلقية القويمة.

فكان من جراء ذلك انَّ من تصدَّى بالقهر والغلبة، يكون إماماً له في رقبة الأمة بيعة، وعنده في رقاب أفرادها طاعة، ويُسمى عندهم خليفة، لا يحرجهم في هذه التسمية خروجه عن زيِّ الدين، وانحيازه عن حظيرة الإيمان.

أما الإمامة عندنا، فهي (الخلافة الكلية الإلهية، التي من آثارها ولايتهم التشريعية، والتي منها الإمارة والخلافة الظاهرية).

نعم، ورد في بعض كتبنا ان الإمامة رياسة عامة في أمور الدين والدنيا وهذا التعريف بعد عدم التسليم بتماميته وجامعيته فهو من باب المماشاة مع غيرنا في حلبة النزاع العقائدي، خصوصاً وانه تناول شأناً من شؤون الإمامة وهي الزعامة السياسية والاجتماعية دون مقاماتها المعنوية الثابتة للإمام المعصوم (عليه السلام) .

الإمامة ضرورة دينية، لئلاَّ تبطل حجج الله تعالى وبيناته، فإن ضرورتها هي من صميم ضرورة النبوة، ذلك ان من وظيفة

ص: 70

النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، تبليغ رسالات الله تعالى، وبما انه مقيَّدٌ بمحدودية المكان، ومرهون بمدىً معينٍ من الزمان، فإن استمرار مهامِّه الإلهية منوط بوجود أناسٍ من سنخه في الصفات، وعلى شاكلته في السجايا، يؤدون المهمة، ويستمرون في المسيرة، ذلك أمرٌ لا يختلف عليه اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان، فهو ضرورة سمعية وعقلية.

غير ان الاختلاف - بعد الاتفاق على أصلها - هو في ما يتفرع على القول بها من أمورٍ اشتدَّ فيها النزاع بين العلماء حتى كاد يكون صراعاً بين العوام، ولعلَّ من أهم النقاط التي وقعت دولَةً بين الآراء، تتقاذفها أقلام الكُتَّاب، وتتناوشها سطور الكتب، هي مسألة تنصيب الإمام، هل هي بالنَّص من الله تعالى، أم بالشورى، ام بأمر آخر غير هذين، لا هذا ولا ذاك؟

والذي يعنينا هنا هو رصد حركة الخلاف بين الفرقتين الكبيرتين، أبناء العامة من جهة، وشيعة آل الرسالة من جهة أخرى، فهؤلاء امتازوا من غيرهم من الفرق الإسلامية جميعا بالقول بالتعيين، أي ان الإمامة تكون بالنَّص من الله تعالى على لسان نبيه (صلى الله عليه و آله وسلم) .

أما أولئك فجعلوها بالشورى مرة، وباختيار الأمة تارة، وبغلبة الخليفة ثالثة أخرى.

ص: 71

أما الإمامية فإنهم انفردوا بالقول إنَّ الإمامة بالنَّص من الله تعالى، وتبعوا في ذلك أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وأخذوا برأي سفينة النجاة ومصابيح الهدى، وعندهم ان الإمام (عليه السلام) معصوم، ذلك ان العصمة ( هي اللطف الذي يفعله تعالى، فيختار العبد عنده الامتناع من فعل القبيح، فيقال على هذا: إن الله عصمه، بأن فعل له ما أختار عنده العدول عن القبيح، ويقال:إن العبد معتصم، لأنه أختار عند هذا الداعي الذي فعل الامتناع عن القبيح ).

وأصل العصمة في وضع اللغة المنع، يقال: عصمت فلانا من السوء إذا منعت من فعله به، غير أن المتكلمين أجروا هذه اللفظة على من امتنع باختياره عند اللطف الذي يفعله الله تعالى به، لأنه إذا فعل به ما يعلم أن يمتنع عنده من فعل القبيح، فقد منعه منه، فأجروا عليه لفظ المانع قسرا "أو قهرا" رسائل الشريف الرضي 2:226 (1).

وأدلة القائلين باختيار الأمة للإمام هي:

الأول : الإجماع، ذلك أنَّهم زعموا أنَّ الأمة أجمعت على اختيار إمامٍ لها بعد رحيل الرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله وسلم)، وهذا كذبٌ محض، وزعمٌ باطلٌ، وأيُّ إجماعٍ هذا، وبنو هاشم ومنهم سيدهم

ص: 72


1- وسائل الشريف الرضي : 2 / 226 .

أمير المؤمنين (عليه السلام)، كانوا غير حاضرين في مؤامرة السقيفة بعد انشغالهم بتجهيز نبيِّهم (صلى الله عليه و آله وسلم)، وكذلك رغبَ في الإمام عليٍّ فريقٌ عظيمٌ من المهاجرين، وفرقةٌ كبرى من الأنصار، من الذين رغبوا عن غيره.

نعم، أراد أبا بكرٍ لهذا الأمر بعضٌ ممَّن شذَّ عن جماعة المسلمين، وشقَّ جمعهم، مثل أبي بكر الذي أرادها لنفسه، وعمر، وعثمان، وسالم مولى حذيفة، وأبو عبيدة الجراح، وخالد بن الوليد، وهذا هو جمع السقيفة، فكيف تكون الخيرة لهذه العصابة في أمر هذه الأمة كلِّها ؟ وتحدد مستقبل البشرية على سطح هذا الكوكب برؤيةٍ إعرابية لا تنظر إلى الإسلام بنظرة إلهية ؟.

ثم أننا نرى هاهنا أمراً إمرا، وهو ان تنازع القوم في شأن الخلافة، والنبي لمَّا يغسَّل، وثيابه لمَّا تُبلى، وجسده لمَّا يُلحد، وحدوث الهرج والمرج، فمنهم من يدَّعي عدم موته وانه سيرجع كما رجع موسى، وبعضهم كفَّر بعضاً ودعا إلى قتله، ففيه توهينٌ لمقام النبوة، وحطٌّ من شأن النبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، يظهر منه بصورةٍ واضحة، وأمرٍ جليِّ عدم اكتراثهم لرحيل الرسول (صلى الله عليه و آله وسلم)، ولا تصدّع قلوبهم لانقطاع الرسالة.

والعرف ببابك، فإنه لا يفهم من هذا التنازع غير ذاك الذي ذكرناه، فليس في اجتماعهم في السقيفة تكريمٌ للنبي (صلى الله عليه و آله وسلم)، فهو شبيهٌ

ص: 73

بنزاع الأبناء على تركة أبيهم وهو مسجَّى، وليس ذلك من برِّ الأبناء بأبيهم، ولا من احترام الأولاد لوالدهم.

ولكنَّهم زعموا انَّ في اختيار الإمام في تلك الحالة ضرورةٌ، فرضها توحيد الأمة في ذلك الظرف العصيب، والوقت الحرج، لاستئصال مادة النزاع، وقلع جذور التخاصم، ودفع غائلة الاختلاف، فكان لزاماً عليهم، والحالة هذه، والمرحلة كما ترى اختيار الإمام وانتخاب الخليفة.

وهو كما ترى!

فأنت خبيرٌ في ان أساس ذلك الاجتماع هو سببُ انشقاق المسلمين، وتفرق الأمة، واختلاف الصفّ، وهاهم مؤرخو المسلمين يذكرون ذلك في طواميرهم من غير خجلٍ أو وجل، ويرسلونه إرسال المسلَّمات من غير نكير، وحسبك ان الشهرستاني اعترف بذلك صراحةً في ملله ونحله فقال (ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان) (1).

فقد انشقت الأمة على نفسها، والرسول صلى الله عليه وآله مسجىً بين أيديهم، فالخزرج من الأنصار اتفقوا على سعد بن عبادة، والأوس نفست عليهم ذلك؛ لترسباتٍ جاهلية، طمسها نبيُّ

ص: 74


1- الملل والخلل، الشهرستاني، في باب الإمامة .

الإسلام فيهم، فطفت بعد وفاته على ألسنتهم وتصرفاتهم، حتى تشاجروا وتضاربوا!

وزعموا تارةً أخرى أن في اختيار النَّاس للإمام جلباً للمنافع، وتبيِّناً للأحكام، وإقامةً للحدود، وبه يُدفَعُ عن المسلمين، ويُشاع الأمن، وغير ذلك من الفوائد.

وما ذكروه خلطٌ بين وجوب نصب الإمام من قبل الناس، وبين وجود الإمام، ولا نزاع بيننا وبينهم في انَّ ما ذكروه من أمور، وسطروه من منافع في حالة وجود الإمام، لا في وجوب نصبه من الخلق، وأين هذا من ذاك؟

أدلة الأمامية على وجوب نصب الإمام من الله تعالى.

1- ان الأنبياء كلُّهم خلّفوا أئمةً وأوصياء، وبعضهم كان أوصياؤه اثنا عشر إماما، وهذه سُنَّةٌ إلهية من لدن آدم إلى النبيِّ الخاتم (صلى الله عليه و آله وسلم) .

وأشارت بعضُ الروايات إلى أنَّ نفراً من اليهود ممن كان يؤمن بالنبيِّ (صلى الله عليه و آله وسلم)، كان يسأله عن عدد أوصيائهِ، فيذكرهم (صلى الله عليه و آله وسلم)، بعددهم، وبأسمائهم، وأنهم عدة نقباء بني إسرائيل، وان أسماءهم مذكورةً في التوراة، فإذاً هي سُنَّةٌ إلهية قائمة، ولن تجد لسنَّة الله تحويلا.

ص: 75

2- ان الإمامة ليست من اختيار النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) وما دونه من النَّاس، فهو من أمر الله تعالى :[وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] (1).

وقوله تعالى:[وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى](2).

ثم ان السيوطي فسَّر قوله تعالى :[وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]، بحادثة سدّ الأبواب، فانه (صلى الله عليه و آله وسلم)، أمر الإمام علياً (عليه السلام)، بسدِّ الأبواب المشرعة على المسجد، كباب أبي بكرٍ، وعمر والعباس وغيرها من الأبواب الاَّ باب الإمام عليِّ (عليه السلام)، فأغاض ذلك الصحابة، وأثار حفيظتهم، وقال بعضهم : أتسدُّ باب عمك، وتدع باب ابن عمِّك؟

ص: 76


1- سورة القصص آية : 68 .
2- سورة النجم آية : 1 – 2 .

فصعد (صلى الله عليه و آله وسلم)، المنبر وقال لهم (قال إن قوما قالوا في سد الأبواب وتركي باب علي (عليه السلام) إني ما سددت ولا فتحت ولكني أمرت بأمر فاتبعته) (1).

فإذا كان النبيُّ (صلى الله عليه و آله وسلم)، لا يتصرف في مثل هذه الواقعة إلاَّ بأمر الله تعالى، فكيف بالأعظم منها بما لا مزيد عليه، أعني أمر الوصية بالإمام علي (عليه السلام) أميراً وإماماً على المسلمين؟

3- ان من علامات الإمام ظهور بيِّنات الله تعالى ودلالاته على يديه، لتتمَّ به حجته على الناس، وهذا من أمر الله تعالى لا من أمر الناس، ولو كان اختيار الإمام من الناس لكان على المُختار ظهور آيات إمامته على يديه، اتماماً للنعمة، وإكمالاً للدين.

4- جاء في تفسير قوله تعالى :[لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون]، عن جابر بن يزيد، قال: تلوت

ص: 77


1- الدر المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالى :[وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى].

على أبي جعفر (عليه السلام) هذه الآية من قول الله : [لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ].

قال: ( إن رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)، حرص أن يكون علي (عليه السلام) ولي الأمر من بعده، وذلك الذي عنى الله[لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ]، وكيف لا يكون له من الأمر شيء وقد فوض إليه فقال: ما أحل النبي فهو حلال، وما حرم النبي فهو حرام؟).

يعني انك لا تملك من أمرِ أمتك شيئاً حينما اختارت غير الذي اختاره اللهُ خليفةً وإماما.

5- ان الإمام لابدَّ أن يكون معصوماً، فالعصمة هي الحدُّ الأوسط الذي تثبت به سائر الصفات المثلى من الأعلمية، والأشجعية، والأفضلية للإمام (عليه السلام) .

والعصمة ملكة نفسانية لا يدريها إلا خالقها، فإذا كان الأمرُ كذلك فمن أين للأمة أن تختار المعصوم (عليه السلام) وهي لا تستطيع كشف هذه الملكة في نفسه؟ وأنَّى لها ذلك وليس هذا في مقدورها؟

فالله تعالى نفسه المطَّلع على أسرار العباد، العالم بضمائرهم، والواقف على طيَّات قلوبهم ومكنون أنفسهم، وإليه أشار الإمام الحجة عجل الله فرجه و (عليه السلام) لمَّا سأله أحمد بن إسحاق

ص: 78

الأشعري وهو من أهل قم انه سأل الإمام العسكري (عليه السلام) : لِمَ لم تختر الأمة الإمام؟.

فأشار الإمام العسكري (عليه السلام) إلى مهدٍ في الغرفة وقال له: سل إمامك؟

كان الإمام (عليه السلام) ابنَ أيام، لذا تعجب احمد بن اسحق كثيراً، كيف يسأل صبياً في المهد؟

سلَّم الاشعريُّ على الإمام المهدي (عليه السلام)، وكان طفلاً في مهده، فردَّ عليه الإمام السلام، وسمَّاه باسمه، ثم سأل هذا الشخص الإمام المهدي (عليه السلام) : لم لا يختار الناسُ الإمام؟

فأجابه الإمام (عليه السلام) بما مضمونه: ان الله تعالى أمر موسى (عليه السلام) أن يختار لميقاته سبعمائة رجلاً، ثم من هؤلاء سبعين رجلاً، من أكثرهم إيماناً، وأشدهم ورعا، ومع هذا الإيمان الكثير والورع الشديد سألوا موسى أن يريهم الله جهرة؛فأخذتهم الصاعقة، وهذا اختيار نبي، فكيف باختيار الأمة الضالة المنحرفة؟

فالعصمة شرطٌ من شروط الإمامة، والدَّال على الإمامة والمرشد لها هو الله تعالى على لسان نبيه (صلى الله عليه و آله وسلم)، وإلا لن تصل الأمة إلى رشدها المعنوي، وستغرق في بحر الضلالات.

ومنه نعرف سرَّ استبعاد أهل السنة للعصمة عن الإمام، لأنها غير واجبة عندهم، الأمر الذي من شأنه أن يمكنهم في اختيار من هبَّ ودبّ.

ص: 79

6- قاعدة اللطف: إنما وجبت الإمامة لأنها لطف واللطف واجب؛لأن الناس إذا كان لهم رئيس يردع الظالم عن ظلمه ويحملهم على الخير ويردعهم عن الشر كانوا أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وهو اللطف .

كما يجب ان يكون الإمام المعصوم (عليه السلام) منصوباً من الله تعالى.

ولكن أشكل بعضٌ من غير الشيعة :- انه إذا كان وجود الإمام لطفاً إلهياً للهداية إلى الخير والردع عن الشر، فما الفائدة في وجود إمامٍ مقيد اليد، غير متمكنٍ من إقامة الحدود، وبسط العدل؟ وهذا من شرائط وجود الإمام، فإذا انتفى الشرط - وهو بسط اليد - انتفى المشروط وهو وجود الإمام، فلا لطف في البين.

وفيه : ان له جوابين نقضي وحلي.

الجواب النقضي: وهو في حقيقته توسعة للإشكال، ان الغاية من بعثة الأنبياء هي الغاية نفسها من نصب الأئمة (عليهم السلام)، فإذا كان النبيُّ غير مبسوط اليد، ولا قدرة له على إقامة الحدود وغيرها من شرائع الله تعالى، فهل تنتفي نبوتهم لعدم القدرة على أداء ما بعثوا من أجله وهو القيام بأوامر الله تعالى ونواهيه؟

وهذا يعني انتفاء نبوة جميع الأنبياء لعدم تمكنهم من ذلك إلا نبوة سليمان بن داود (عليهما السلام) لأنه كان مبسوط اليد نافذ القدرة.

ص: 80

وحلا: ان اللطف في وجود الإمام لا ينحصر بكونه قائما على حراسة معالم دين الله فحسب، حتى يُقال عند عدم قدرته لا حاجة لإمامته، بل هي أوسع من ذلك، إذ يكفي كونه واسطة الفيض الإلهي، ومبينا للأحكام الربانية، واقرب المكلفين من حريم الطاعة وأبعدهم عن ساحة المعصية وهذا كافٍ جدا في تثبيت أركان القاعدة والقول بها.

وأختمُ هذه البحوث برثاء السيدة الزهراء (عليها السلام) مستشفعاً بها طالباً رضاها (عليها السلام) :

القصيدة الأولى

استطالتْ في حِمى الذكرى جواها *** واستدامتْ عبرتي مما دهاها

ما لسلمى والصبا من لعبي *** قد غدتْ عني بعيداً مقلتاها

يا خليليَ إحبسا دمع الهوى *** واقضيا حقَ الجوى حزناًلطاها

وغدا قلبي يكابدهُ الأسى *** في حشى الروعِ ومنذِ ما اتاها

واستفاضت مقلتي مما جرى *** من خسوفِ البدرِ فاحمرت سماها

ويحَ قلبي هل تناسى وقعةً *** معشرَ الافلاكِ ناحتْ من شجاها

ص: 81

واستفاقتْ في حُشاشي جمرةً *** هي لليومِ ولم يُطفى لظاها

أيُ قلبٍ يرتضي ما قد جرى *** بِضعةَ الطُهرِ فواهاً ثم واها

يوم قد جاء البغي في عُصبةٍ *** فاستغاثتْ واستجارتْ بحِماها

وغدتْ تبكي فوا لهفي لها *** تندبُ الصحبَ فلم يُسمع ندِاها

لم يكنْ والدها ذاكَ الذي *** قد حباها في حديثٍ ما حباها

فاطمٌ بهجةُ قلبي بِضعتي *** من سنا روحي أذائي من أذاها

آيةُ الطهر وهل تُبقي لمنْ *** يجَحدُ الطهرَ بلأي الغيِ تاها

يا لها نازلةٌ ما أَحدثتْ *** تَخطِفُ العقلَ فلا أدري مداها

أَليومٍ يُرتجى من موعدٍ؟ *** تنشرُ البيضَ ويُعفى من دجاها

أمْ لوقعِ السيفِ يغدو قُدماً؟ *** يشتفي صدرَ الهُدى مما شجاها

أَلقبرٍ عُفّيتْ آثارهُ؟ *** أمْ لصدرٍ غالهُ الخسفُ سواها

فانتفضْ يابن النبي المصطفى *** واملإ الكونَ بياناً من نداها

يالثاراتِ التي قد ضُربتْ *** عينها تشكو إلى الله أذاها

وانتهضْ مما دهى فاطمةً *** وخُذ الثأر ولا تُبقي شِقاها

ص: 82

تصطبر في وقعةِ البابِ؟ أما *** هاجكَ الرزءُ وقد عُفي ثراها

وامليء الدنيا قصيداً مشجياً *** راثياً ما قد جرى مما دهاها

وانشُرِ الأعلام في واقعةٍ *** وأجرِ جُردَ الخيلِ مرفوعا لواها

10/ربيع الأول/ 1437 ه

ص: 83

القصيدة الثانية

أزالَ همومَ النفسِ من أعيني العبرى *** وصار إلى قلبي حديثٌ له ذكرى

ولستُ حديثَ العهدِ في هضمِ لوعتي *** ولستُ كثيرَ الشوقِ في نظمي الشعرا

ولكنني أرعى أُهيلَ مودتي *** أرى فيهُمُ تنساب ألاميَ القَفرا

فأنظمُ من همي حُزاناتَ محنتي *** وأُكثرُ من ترديد فاطمةَ الزهرا

لعلي أَرى في كلِ أمرٍ ينوبني *** مخارجَ همٍ قد يزيدُ لي الشُكرا

تُذكرني الأَيام أسبابَ لوعتي *** وتنشدني الآهاتَ مخفيةً قبرا

وأضحت غداةَ الروعِ في كلِ قُصةٍ *** بها يُستباحُ الفكرَ فاطمةٌ صبرا

غداة أتوا للبابِ حسرى تصدهمْ *** بها أسسوا ظلماً وقد هتّكوا السترا

تعالتْ بهم أسبابَ طيشٍ تسومهمْ *** إلى ظُلمِهمْ أضعاف ما ذكرهُ نُكرا

أتوا يحملونَ الحقدَ في قَبسِ نارِهمْ *** وقد ضجتْ الأفلاك من وزرهم أمرا

وهُم يُهرعونَ الجمع ظُلماً وغيلةً *** وقدْ أحدقوا بالدارْ حتى أتوا وزرا

فهذا يَحِملُ الأحقادَ في قبسِ نارهِ *** وهذا يستزيدُ الضربَ عيناً لهاحمراً

ص: 84

وهذا أتى بالسوطِ قرعاً يدورهُ *** على معصمٍ قد صار من دونها سِترا

وهذا لها بالضربِ سوماً يسوقها *** وذاك لها بالسيفِ قد أَوجعَ الظهرا

وذا يستبيحُ الدارَ حتى قضوا بها *** أفانينَ من ظُلمِ البُغاةِ لهمْ وطرا

أبا حسنٍ هَلا ترى ما يسومها *** من الظلمِ والتقريع ضرباً لهاقهَرا؟!

وهلا رأيتَ الطهرَ تشكو اهتضامها *** وهلا رأيتَ السِقط قد غالهُ العصرا؟!

بلى ((حتى يبعثَ الله قائما)) *** يُنفِسُ من كربِ الطغُاةُ لهُ وترا

ويُظهرُ ماأخفوهُ من كلِ بغيهُم *** ويُظهر من أحزان فاطمةً وقرا

ويندبُ من أشجانِ تلكَ التي قضتْ *** ويَقرأُ من آهاتِ ألآمها سِفرا

13/جمادى الأولى/ 1437ه

ص: 85

القصيدة الثالثة

سهرتُ وفي ليلٍ شديدٍ نوائبهْ *** وفكّرتُ في أمرِ عظيم عواقبهْ

وأرقدُ في أمرٍ حزينٍ ينوبني *** أُقلبُ طرفي حين غارت كواكبهْ

تُحدثني في كل همٍ يهولني *** خيالاً يستثيرُ الحزنَ فِكراً تُداعبهْ

وآليتُ أن أُخفي جُراحاتِ لوعتي *** ولا أرتضي عذلَ الذي لا أُصاحبهْ

ولا أشتكي آلامَ حُبي ومحنتي *** ولم استبحْ أسرارَ من لا أُعاتبهْ

فربَّ الذي لم ترجو منهُ غوائلا *** كثير الأذى لم تدرِ ماذا تخاطبه

مُنيتُ بأهوالٍ عليَّ كثيرةً *** وأُخرى شديدات الهموم عجائبه

ولكن ما زادتْ عليَّ حُشاشتي *** لهيباً كثيرَ الحزُنِ تغدو مشاربهْ

لتلك التي لازلتُ أشكو اهتضامها *** لها من هجوم الدار أضحتْ عواقبهْ

إلى الباب أنتْ واستجارتْ واسقطتْ *** جنيناً لها قلتْ نظيراً مصائبهْ

وصاحتْ -بنفسي- من عظيم صُراخها *** بكتْ راسيات الصُم هضما تُراقبهْ

حديثاً أتى من كلِ أمرٍ مروعٍ *** وكلُ الذي يجري عجيبٌ مطالبه

ص: 86

أبا حسنٍ ماذا دهتك رزيةٌ *** ترى فاطمٌ بالباب حسرى تُجاذبه

وترنو إلى قبرِ النبي وتشتكي *** بآهاتِ حُزنٍ قد توالت نوائبهْ

فوادح الا الله يعلم شأنها *** علت فوق كل الفادحات مثالبهْ

بناتُ علي في فلاة ووحشةٍ *** لها من عظيم الأمر قهراً تُغالبهْ

فتلك التي بالأسر يهتُك خدرُها *** وهذا لها بالشتم يقضي مآربهْ

وهذا لها بالسوطِ قنّع متنها *** وهذا لها بالسيف تبدى معائبهْ

فلم تنقضِ آهات حُزنٍ ولوعةٍ *** ولم تنقضِ آلام وترٍ وطالبهْ

إلى أن ترى لله فيها ضوامراً *** تُسابقُ جري الريح عدواً تواكبهْ

وتغدو إلى تلك الجموع فتعتلي *** حوافر تلك الجرُدْ قهراً تُعاقبهْ

لقدضاق أهل الأرض ظلماً فلم تزل *** تراقبُ منصور الهدى وتواظبهْ

وللجبتِ والطاغوتِ يوماً فلم يزلْ *** ليُخرج - يالله – عجلاً يُحاسبه

ص: 87

المحتويات

الموضوعرقم الصفحة

المقدمة ................................3

الشبهة الأولى ..........................6

الشبهة الثانية ...........................15

الشبهة الثالثة ...........................22

الشبهة الرابعة ..........................27

الشبهة الخامسة .........................31

الشبهة السادسة ........................37

الشبهة السابعة .........................44

الشبهة الثامنة ..........................52

الشبهة التاسعة .........................60

الشبهة العاشرة .........................70

ص: 88

الشبهة الحادية عشر ....................80

الشبهة الثانية عشر .....................88

الشبهة الثالثة عشر ......................103

القصيدة الأولى .........................124

القصيدة الثانية .........................126

القصيدة الثالثة .........................128

المحتويات ..............................130

ص: 89

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.