الدرجات الرفيعة في طبقات الإمامية من الشيعة

هویة الکتاب

السيد علي خان المدني

الدرجات الرفيعة

في طبقات الإمامية من الشيعة

إصدار مؤسسة مسجد السهلة المعظم

1435 ه- - 2014 م

ص: 1

مقدمة المؤسسة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على خاتم

المرسلين محمّد وآله الغرّ الميامين

الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

كانت مؤسسة مسجد السهلة المعظم لنشر تراث أهل البيت، وما تزال بين آونة وأخرى، تقدم لقرائها الكرام وللمكتبة الإسلامية: كتباً قيمة ومفيدة، بأثمان زهيدة، وهي ترمي من وراء ذلك إلى غرضين مهمين: أحدهما: إخراج تراثنا الإسلامي القديم إخراجاً فنياً، يرتضيه الذوق الحديث ويأنس به؛ ليستطيع القراء من الاستفادة منه ويقبلوا على مطالعته. وثانيهما: جعل الكتاب الإسلامي في متناول الجميع، بحيث يصبح في حوزة أكبر عدد من القراء الكرام.

وإننا لنرجو في كل مرة، مع كل كتاب نطلّ به على القارئ العزيز أن نكون قد وفقنا لما نصبوا إليه من نشر الثقافة الدينية من منبعها الأصيل، خدمة للعقيدة، وطلباً لرضى الخالق، وندعوه جلّ شأنه أن يأخذ بأيدينا إلى ما نصبوا إليه ملتمسين الجزاء الأوفر من محمّد صلی الله علیه و آله و سلم وعلي علیه السلام وأنجاله الغرّ الميامين الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً، وهو المسدد للصواب.

والمؤسسة اليوم تعيد طباعة واحد من خيرة الأسفار وهو كتاب (الدرجات الرفيعة في طبقات الإمامية من الشيعة) لمؤلفه (السيد الأجلّ علّامة عصره وفريد دهره السيد علي خان المدني رضوان الله عليه)، الذي هو من ذخائر الدهر، وحسنات العالم، وعباقرة الدنيا، والعلم الهادي لكل فضيلة، الذي يحقّ للأمة جمعاء أن تتباهي بمثله، وتبتهج بفضله الباهر، وسؤدده الطاهر، وشرفه المعلى، ومجده الأثيل.

وبالرغم من أنّ الكتاب يبحث تراجم الشيعة وتاريخهم، وليس تاريخ التشيّع، لكن يمكن اعتباره تاريخاً عامّاً للتشيّع، ويمكن الإفادة منه على هذا الأساس لسببين:

الأوّل: أنّه يبحث أحوال الشيعة في فصول تاريخية عديدة ومختلفة.

الثاني: أنّ المؤلف نفسه تعرّض في مقدمة الكتاب إلى الحديث عن تاريخ التشيّع وإن جاء بشكل موجز، فقد بحث على نحو خاص عهد الإضطهاد الأُموي.

ثُمَّ تحدّث عن فترات القهر السياسي من عهد معاوية إلى العهد العبّاسي.

وهذا الكتاب - وكما أورد المؤلف في المقدّمة - مقسّم إلى اثني عشر طبقة، أي أنّه قسّم الشيعة إلى اثني عشر قسماً، ثُمَّ بحث أحوالهم بعد ذلك، وطبقات الشيعة هي:

1 - طبقة الصحابة، 2 - طبقة التابعين، 3 - طبقة المحدّثين الذين رووا عن الأئمة الطاهرين، 4 - علماء الدين، 5 - طبقة الحكماء والمتكلمين، 6 - طبقة علماء العربية، 7 - طبقة السادة الصوفية، 8 - طبقة الملوك والسلاطين، 9 - طبقة الأمراء، 10 - طبقة الوزراء، 11 - طبقة الشعراء، 12 - طبقة النساء.

وما يتوافر اليوم بين أيدينا هي الطبقة الأولى، طبقة الصحابة بشكل كامل، وأجزاء

ص: 2

من الطبقة الرابعة، وقسم ضئيل من الطبقة الحادية عشرة.

ويعدّ الكتاب في موضوع التشيّع لدى الصحابة في طليعة المؤلفات، ومن أهم المصادر، كما يتّصف بالشمول في هذا المضمار، وقد تمكن المؤلف أن يجمع آراء علماء الرجال الشيعة فيما يخصّ الصحابة الشيعة، وأحجم عن إبداء رأيه الخاص، أو بحث ذلك وتحليله.

وطبع كتاب (الدرجات الرفيعة) طبعات عدة، وقد اعتمدنا طبعة منشورات مكتبة بصيرتي قم - شارع إرم 1397 ه-. التي اعتمدت على طبعة المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف، للشيخ الأستاذ محمّد كاظم الشيخ صادق الكتبي، الموسومة (الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة تأليف صدر الدين السيد على خان المدني الشيرازي الحسيني صاحب (سلافة العصر) و (أنوار الربيع) المتوفى سنة 1120 ه 1708 م. قدّم له العلّامة الكبير السيد محمّد صادق بحر العلوم سنة 1381 ه-.

وتوفقنا بلطف منه تعالى للحصول على إحدى مخطوطات الكتاب، فراجعناها وقارنّا النسختين، وأجرينا بعض التصحيحات التي قد تكون جاءت من أخطاء طباعية، أو في النقل من النسخ المخطوطة لهذا السفر القيّم، ومنه تعالى نستمد العون والسداد.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أحمد رزاق الجنابي

مدير مؤسسة مسجد السهلة المعظم

ص: 3

ص: 4

ص: 5

مقدمة صاحب السماحة الراحل الحجّة السيد محمّد صادق بحر العلوم (طاب ثراه)

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف (1)

نسبه الشريف:

هو صدر الدين السيد علي خان المدني الشيرازي ابن نظام الدين أحمد بن محمّد معصوم بن أحمد نظام الدين ابن إبراهيم بن سلام بن مسعود عماد الدين ابن محمّد صدر الدين ابن منصور غياث الدين ابن محمّد صدر الدين ابن إبراهيم شرف الدين ابن محمّد صدر الدين ابن إسحق عز الدين ابن علي ضياء الدين ابن عرب شاه فخر الدين ابن الامير عز الدين ابي المكارم ابن الامير خطير الدين ابن الحسن شرف الدين أبي علي ابن الحسين أبي جعفر العزيزي ابن علي أبي سعيد النصيبيني ابن

ص: 6


1- إقتطفنا هذه الترجمة مما ذكره شيخنا العلّامة الكبير الحجّة الشيخ عبد الحسين الأميني أدام الله وجوده في (ج 11 - ص 346 - ص 353) من كتابه (الغدير في الكتاب والسنة والادب) مع بعض الإضافات منّا والتصرف.

زيد الاعشم (1) أبي إبراهيم بن علي بن الحسين (أبي شجاع الزاهد) بن (محمّد أبي جعفر ابن علي بن الحسين ابن جعفر أبي عبد الله ابن أحمد نصير الدين السكين النقيب ابن جعفر أبي عبد الله الشاعر ابن محمّد أبي جعفر ابن محمّد ابن زيد الشهيد ابن الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين علیه السلام (2).

من أسرة كريمة طنب سرداقها بالعلم والشرف والسؤدد، ومن شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلّها كل حين، إعترقت شجونها في أقطار الدنيا من الحجاز إلى العراق إلى إيران، وهي مثمرة يانعة حتّى اليوم، يستبهج الناظر إليها بثمرها وينعه، وأوّل من انتقل من رجال هذه العائلة إلى شيراز علي أبو سعيد النصيبيني، وأوّل من غادر شيراز إلى مكّة المعظمة السيد محمّد معصوم، وذلك بعد انتقال عمّه ختنه الأمير نصير الدين حسين إليها، كما في (سلوة الغريب) لصاحب الترجمة.

ص: 7


1- في شرح الصحيفة السجادية للمترجم له المطبوع بايران (ص 17): الأغشم: بالمعجمتين.
2- أخذنا هذا النسب من كتاب (سلوة الغريب) للمترجم له وأضفنا إليه - أخذنا من المصادر الوثيقة - كلمتين جعلناهما بين قوسين، ففى حلقات السلسلة المذكورة في شرح الصحيفة للمترجم له سقط كما لا يخفى.

ولادته ونشأته:

ولد سيدنا المترجم له بالمدينة المنورة ليلة السبت الخامس عشر من جمادى الأولى سنة 1052 ه، واشتغل بالعلم فيها إلى أن هاجر إلى حيدر آباد الهند سنة 1068 ه، وشرع بها في تإليَّف كتابه (سلافة العصر) سنة 1081 ه. وأقام بالهند ثماني وأربعين سنة - كما ذكره معاصره يوسف ضياء الدين الصنعاني في (نسمة السحر)، وكان في حضانة والده الطاهر إلى أن توفي أبوه سنة 1086 ه (1) فانتقل الى (برهان پور) عند السلطان (أورنك زيب)، وجعله رئيساً على ألف وثلاثمائة فارس، وأعطاه لقب (خان).

ولما ذهب السلطان إلى بلد (أحمد نكر) جعله حارساً (لاورنك آباد) فأقام فيه مدة، ثُمَّ جعله والياً على (لاهور) وتوابعه، ثُمَّ ولّي ديوان (برهان پور)، وأشغل هناك منصّة الزعامّة عدة سنين، وكان بعسكر ملك الهند 1114 ه، ثُمَّ استعفي، وحجّ وزار مشهد الرضا علیه السلام، وورد أصفهان في عهد السلطان حسين الصفوي سنة 1117 ه، وأقام بها سنين، ثُمَّ عاد إلى (شيراز) وحطّ بها عصا السير زعيماً ومدرساً مفيداً.

ص: 8


1- ذكر شيخنا في مستدرك الوسائل أن وفاته سنة 1066 ه وفيه تصحيف، فلاحظ.

مؤلفاته:

إن المترجم له سيدنا صدر الدين من ذخائر الدهر، وحسنات العالم، وعباقرة الدنيا، والعلم الهادي لكل فضيلة، يحقّ للأمّة جمعاء أن تتباهى بمثله، وتبتهج بفضله الباهر، وسؤدده الطاهر، وشرفه المعلّى، ومجده الأثيل.

والواقف على آيات براعته، وسور نبوغه - من كتاب خطّه بقلمه، أو قريض نطق به فمه. - لا يجد ملتحداً عن الإذعان بإمامته في كل تلكم المناحي.

ضع يدك على أيّ سفر قيّم من نفثات يراعه تجده حافلاً ببرهان هذه الدعوى، كافلاً لإثباتها بالبينات، وإليك أسماؤها:

(1) - رياض السالكين في شرح الصحيفة الكاملة السجّادية: كتاب قيّم، يطفح العلم من جوانبه، وتتدفق الفضيلة بين دفتيه، فإذا أسمت فيه سرح اللحظ فلا يقف إلّا على خزائن من العلم والأدب مؤصدة أبوابها، أو مخابئ ورقائق لم يهتد إليها أيّ ألمعي، غير مؤلفه الشريف المبجّل.

(2) نغمة الأغان في عشرة الإخوان: أرجوزة ذكرت برمته في كشكول شيخنا الشيخ يوسف صاحب الحدائق المطبوع.

(3) رسالة في المسلسلة بالآباء: شرح فيها الأحاديث الخمسة المسلسلة بآبائه، فرغ منها سنة 1109 ه.

ص: 9

(4) - سلوة الغريب وأسوة الأريب: في رحلته إلى حيدر آباد سنة 1068 ه.

(5) - أنوار الربيع في أنواع البديع: في شرح قصيدته البديعية.

(6) - الكلم الطيّب والغيث الصيّب: في الأدعية المأثورة عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وأهل البيت علیهم السلام، لم يتمّه.

(7) - الحدائق النديّة في شرح الصمديّة: لشيخنا البهائي.

(8) ملحقات السلافة: مشحونة بكل أدب وظرافة.

(9) - شرحان أيضاً على الصمديّة: المتوسط والصغير.

(10) - رسالة في أغإليَّط الفيروز أبادي في القاموس.

(11) - موضح الرشاد في شرح الإرشاد: في النحو.

(12) سلافة العصر في محاسن أعيان العصر: يشتمل على تراجم شعراء القرن الحادي عشر، وهو ذيل لريحانة الألباء لشهاب الدين الخفاجي، وقد طبع بمصر سنة 1328 ه.

(13) - الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة (1) .

ص: 10


1- وهو كتابنا هذا الذي تم طبعه في هذه المطبعة، وقد طبع على نسخة مخطوطة مصححة، ومن الأسف أنّه لم يوجد من هذا الكتاب في الخزائن سوى هذا المقدار الذي طبع, وهو يتضمن الطبقة الأولى, وشيئا يسيراً من الطبقة الرابعة والحادية عشرة, ولم توجد بقية الطبقات الثنتى عشرة حسب تقسيم المؤلف في أول الكتاب فلا حظ ذلك.

(14) - التذكرة في الفوائد النادرة.

(15) - المخلاة في المحاضرات.

(16) الزهرة في النحو.

(17). الطراز في اللغة: قال الخونساري في روضات الجنات (ص 413) (كان مشتغلا بتإليَّفه الى يوم رحلته من الدنيا ولم يتمه بعد وخرج منه قريب من النصف).

(18) - ديوان شعره (1) .

وله شعر كثير لا يوجد في ديوانه السائر الدائر، منه تخميسه لميمية شرف الدين البوصيرى (2) الشهيرة بالبردة أوّلها مخمسا:

يا ساهر الليل يرعى النجم في الظلمِ *** وناحل الجسم من وجد ومن ألمِ

ما بال جفنك يذرو الدمع كالغيمِ *** أمن تذكر جيران بذي سلمِ

ص: 11


1- أنظر التعريف بهذه المؤلفات المطبوع منها والمخطوط في كتاب (الذريعة), لشيخنا الإمام الطهراني أدام الله وجوده, مفرقة في أجزائه.
2- البوصيري هو أبو عبد الله محمّد بن سعيد المولود سنة 608 ه والمتوفي في الرابع من جمادى الثانية سنة 697 ه.

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

مشايخه:

أخذ المترجم له العلم عن كثير من أعلام الدين وأساطين الفضيلة، وتضلعه في العلوم يومئ إلى كثرة مشايخه في الأخذ والقراءة، يروي بالإجازة عن أستاذه الشيخ جعفر بن كمال الدين البحراني المتوفي سنة 1091 - (أو سنة 1088 كما ذكره العلّامة الشيخ يوسف البحراني في كشكوله) - وعن السيد والده المقدّس نظام الدين أحمد، وعن العلّامة المجلسي صاحب البحار، كما أن العلامة المجلسي روى عنه، ويروي أيضاً سيدنا المترجم له عن الشيخ علي ابن الشيخ فخر الدين محمّد ابن الشيخ حسن صاحب (معالم الأصول) إبن الشهيد الثاني المتوفي سنة 1104 ه.

الراوون عنه:

يروى بالإجازة عنه كثير من الأعلام، منهم: السيد الأمير محمّد حسين إبن الأمير محمّد صالح الخاتون آبادي المتوفي سنة 1151 ه، والشيخ باقر إبن المولى محمّد حسين المكّي، كما ذكره السيد عبد الله الجزائري في إجازته الكبيرة، ومنهم العلّامة المحدّث الشيخ محمّد باقر المجلسي رحمه الله صاحب البحار، كما ذكرنا سابقاً.

ص: 12

شعره:

ذكرنا سابقاً أن له ديوان شعر، وهو مخطوط توجد نسخ منه في بعض خزائن الكتب في النجف الأشرف وغيرها، وبعضها بخطه الشريف، وهو حافل بغرر الشعر بأنواعه العديدة، منه قصيدته الغديرية التي يقول في أوّلها (1):

سفرت أميمة ليلة النفرِ *** كالبدر أو أبهى من البدرِ

نزلت منى ترمي الجمار وقد *** رمت القلوب هناك بالجمرِ

وتنسّكت تبغي الثواب وهل *** في قتل ضيف الله من أجر

إن حأوّلت أجراً فقد كسبت *** بالحجّ أصنافاً من الوزر

نحرت لواحظها الحجيج كما *** نحر الحجيج بهيمة النحر

ترمي و ما تدري بما سفكت *** منها اللواحظ من دم هدر

الله لي من حب غانية *** ترمي الحشا من حيث لا تدري

بيضاء من كعب وكم منعت *** كعب لها من كاعب بكر

زعمت سلويّ وهي سإليَّة *** كلا ورب البيت والحجر

ما قلبها قلبي فأسلوها *** يوماً ولا من أمرها أمر ي

أبكي وتضحك إن شكوت لها *** حرّ الصدود ولوعة الهجر

ص: 13


1- القصيدة تناهز (61) بيتا أفرد شطراً منها في (ج 11 - ص 344 - ص 345) من كتاب (الغدير) للعلّامة الأميني، وقد أخذنا من ديوانه المخطوط.

وعلى وفور ثرايَ لي ولها *** ذلّ الفقير و عزّة المثري

لم يبقِ مني حبها جلداً *** إلّا الحنين ولاعج الذكر

ويزيد غلي الماء ما ذكرت *** و الماء يثلج غلة الصدر

قد ضلَّ طالب غادة حميت *** في قومها بالبيض والسمر

و مؤنب في حبّها سفهاً *** نهنهته عن منطق الهجر

يزداد وجدي عن ملامته *** فكأنّه بملامه يغري

لا يكذبنّ الحب إليَّق بي *** وبشيمتي من سبّة الغدر

هيهات يأبى الغدر لي نسب *** أعزى به لعليٍّ الطهر

خير الورى بعد الرسول ومن *** حاز العلى بمجامع الفخر

صنو النبيّ وزوج بضعته *** وأمينه في السرِّ والجهر

إن تنكر الأعداء رتبته *** شهدت بها الآيات في الذكر

شكرت حُنَين له مساعيه *** فيها وفى أُحد وفي بدر

سل عنه خيبر يوم نازلها *** تنبيك عن خبر وعن خبر

من هدَّ منها بابها بيدٍ *** ورمى بها في مهمه قفر

واسأل براءة حين رتلها *** من ردَّ حاملها أبا بكر

والطير إذ يدعو النبيّ له *** من جاءه يسعى بلا نذر

والشمس إذ أفلت لمن رجعت *** كيما يقيم فريضة العصر

ص: 14

وفراش أحمد حين همَّ به *** جمع الطغاة وعصبة الكفر

من بات فيه يقيه محتسباً *** من غير ما خوف ولا ذعر

والكعبة الغرّاء حين رمى *** من فوقها الأصنام بالكسر

من راح يرفعه ليصعدها *** خير الورى منه على الظهر

والقوم من أروى غليلهم *** إذ يجأرون بمهمه قفر

و الصخرة الصمّاء حولها *** عن نهر ماء تحتها يجري

و الناكثين غداة أمّهمُ *** من رد أمّهم بلا نكر

و القاسطين و قد أضلّهم *** غيّ ابن هند وخدنه عمرو

من فلّ جيشهم على مضض *** حتّى نجوا بخدائع المكر

و المارقين من استباحهم *** قتلاً فلم يفلت سوى عشر

و (غدير خمٍّ) وهو أعظمها *** من نال فيه ولاية الأمر

واذكر مباهلة النبيّ به *** و بزوجه وابنيه للنفر

واقرأ (وأنفسنا وأنفسكم ) (1) *** فكفى بها فخراً مدى الدهر

هذي المفاخر والمكارم لا *** قعبان من لبن ولا خمر

ص: 15


1- سورة آل عمران: آية (61).

وله أيضاً في مدح الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام نقلاً من ديوانه المخطوط

أمير المؤمنين فدتك نفسي *** لنا من شأنك العجب العجاب ُ

تولاّك الأولى سعدوا ففازوا *** وناواك الذين شقوا فخابوا

ولو علم الورى ما أنت أضحوا *** لوجهك ساجدين ولم يحابوا

يمين الله لو كشف المغطّى *** ووجه الله لو رفع الحجاب

خفيت عن العيون وأنت شمس *** سمت عن أن يجللها سحاب

وليس على الصباح إذا تجلّى *** ولم يبصره أعمى العين عاب

لسرٍّ ما دعاك أبا تراب *** محمّدٌ النبيّ ُ المستطاب

فكان لكل من هو من تراب *** إليك وأنت علّته انتساب

فلولا أنت لم تخلق سماء *** ولولا أنت لم يخلق تراب

وفيك وفي ولائك يوم حشر *** يعاقب من يعاقب أو يثاب

بفضلك أفصحت توراة موسى *** وإنجيل ابن مريم والكتاب

فوا عجباً لمن ناواك قدماً *** ومن قوم لدعوتهم أجابوا

أزاغوا عن صراط الحق عمداً *** فضلّوا عنك أم خفي الصواب

أم ارتابوا بما لا ريب فيه *** وهل في الحق إذ صدع ارتياب

وهل لسواك بعد (غدير خمٍّ) *** نصيب في الخلافة أو نصاب

ألم يجعلك مولاهم فذلَّت *** على رغمٍ هناك لك الرقاب

ص: 16

فلم يطمح إليها هاشميٌّ *** وإن أضحى له الحسب اللباب

فمنْ تيم بن مرّة أو عدي *** وهم سيّان إن حضروا وغابوا

لئن جحدوك حقّك عن شقاء *** فبالأشقين ما حلَّ العقاب

فكم سفهت عليك حلوم قوم *** فكنت البدر تنبحه الكلاب

ومن غرر شعره أيضاً قوله يمدح به الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام لما ورد إلى النجف الأشرف مع جمع من حجّاج بيت الله الحرام:

يا صاح هذا المشهد الأقدس ُ *** قرَّت به الأعين والأنفس ُ

و (النجف الأشرف) بانت لنا *** أعلامه و المعهد الأنفس

والقبّة البيضاء قد أشرقت *** ينجاب عن لألائها الحندس

حضرة قدس لم ينل فضلها *** لا المسجد الأقصى ولا المقدس

جلّت بمن حلَّ بها رتبة *** يقصر عنها الفلك الأطلس

تودّ لو كانت حصى أرضها *** شهب الدجى والكنّس الخنّس (1)

وتحسد الأقدام منّا على *** السعي إلى أعتابها الأرؤس

فقف بها والثمْ ثرى تربها *** فهي المقام الأطهر الأقدس

وقل صلاة وسلام على *** من طاب منها الأصل والمغرس

خليفة الله العظيم الذي *** من ضوئه نور الهدى يقبس

نفس النبيّ المصطفى أحمد *** وصنوه والسيد الأرأس

ص: 17


1- الكنس: هي النجوم كلها , والسيارات منها.

العلم العيلم بحر الندى *** وبرّه و العالم النقرس (1)

فليلنا من نوره مقمر *** ويومنا من ضوئه مشمس

أقسم بالله و آياته *** إليَّة تنجي و لا تغمس

أن عليَّ بن أبي طالب *** منار دين الله لا يطمسُ

ومن حباه الله أنباء ما *** في كتبه فهو لها فهرس

أحاط بالعلم الذي لم يحطْ *** بمثله بليا و لا هرمس (2)

لولاه لم تخلق سماء ولا *** أرض ولا نعمى ولا أبؤس

ولا عفا الرحمن عن آدم *** ولا نجا من حوته يونس

هذا أمير المؤمنين الذي *** شرايع الله به تحرس

وحجّة الله التي نورها *** كالصبح لا يخفى ولا يبلس

تالله لا يجحدها جاحد *** إلا أمر ؤ في غيّه مركس

المعلن الحقَّ بلا خشية *** حيث خطيب القوم لا ينبس

والمقحم الخيل وطيس الوغى *** إذا تناهى البطل الأحرس

ص: 18


1- النقرس: بكسر النون ثُمَّ القاف الساكنة بعدها الراء المكسورة ثُمَّ السين المهملة، هو الطبيب الماهر المدقق.
2- الهرامسة ثلاثة: (هرمس الأول) وهو عند العرب إدريس، وعند العبرانيين أخنوخ، وهو أول من درس الكتب ونظر في العلوم, وأنزل الله عليه صحائف، و (الهرمس الثاني) كان بعد الطوفإن، وكان بارعاً في علم الطب والفلسفة, و (هرمس الثالث) سكن مصر، وكان بعد الطوفإن، وكلن طبيباً فيلسوفاً عالماً.

جلبابه يوم الفخار التقى *** لا الطيلسان الخزّ و والبرنس (1)

يرفل من تقواه في حلة *** يحسدها الديباج والسندس

يا خيرة الله الذي خيره *** يشكره الناطق والأخرس

عبدك قد أمَّك مستوحشاً *** من ذنبه للعفو يستأنس ُ

يطوي إليك البحر والبرّ لا *** يوحشه شئ ولا يؤنس

طوراً على فلك به سابح *** وتارة تسري به عرمس (2)

في كل هيماء يرى شوكها *** كأنّه الريحان والنرجس

حتّى أتى بابك مستبشرا *** و من أتى بابك لا ييأس

أدعوك يا مولى الورى موقناً *** أن دعائي عنك لا يحبس

فنجّني من خطب دهر غدا *** للجسم مني أبداً ينهس (3)

هذا و لولا أملي فيك لم *** يقرُّ بي مثوى ولا مجلس

صلّى عليك الله من سيّد *** مولاه في الدارين لا يوكس (4)

ما غردت ورقاء في روضة *** و ما زهت أغصانها الميَّس

ص: 19


1- البرنس: بضم الياء الموحدة، قلنسوة طويلة كانت تلبس في صدر الإسلام.
2- العرمس: بكسر العين المهملة الناقة الصلبة الشديد.
3- نهس: أخذ بمقدم أسنانه: نهست الحية. نهشت. نهس الكلب: قبض بالفم.
4- وكس: نقص، ووكس وأوكس: خسر

كلمته حول نسبه الذي ذكرناه:

قال رحمه الله في (سلوة الغريب): فائدة سنية تتعلق بنسنا أحببت التنبيه عليها، بأنجز الكلام إليها، وهي أنّي قرأت على ظهر كتاب من كتب الوالد بخط السيد صدر الدين محمّد الواعظ ابن منصور غياث الدين ابن محمّد صدر الدين ابن منصور غياث الدين جدّنا المذكور في عمود النسب: أن أبا الحسن وأبا زيد علي بن محمّد الخطيب الحماني (1) ابن جعفر أبي عبد الله الشاعر، أحد أجدادنا، قال: وهو جدّي، وأدخله في النسب.

هكذا قال: فإنا صدر الدين محمّد الواعظ ابن ناصر الشريعة منصور ابن محمّد صدر الدين ابن منصور غياث الدين ابن محمّد ابن إبراهيم بن محمّد بن إسحق بن على ابن عرب شاه ابن أمير أنه بن أميري بن الحسن بن الحسين العزيزي بن على النصيببني بن زيد الأعثم بن علي - هذا المحكي عنه عيني الحماني - بن محمّد بن جعفر بن محمّد بن محمّد بن زيد الشهيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام .

ص: 20


1- أنظر ترجمة الحماني هذا في (ج 3 - ص 57 - 69) من كتاب (الغدير) الطبعة الثانية.

هذا كلامه، وأقول: ليس علي بن محمّد الحماني هذا داخلاً في عمود نسبنا، بل ينتهي نسبه إلى زيد الشهيد هكذا، هو علي بن محمّد الخطيب بن جعفر بن عبد الله الشاعر - الذي هو أحد أجدادنا - ابن محمّد بن محمّد بن زيد الشهيد.

وإن ما أوقع السيد صدر الدين في هذا الغلط تشابه الأسماء، فإن جعفراً جدّ السيد علي الحماني المذكور - الذي توهم صدر الدين أنّه إبن أحمد السكين - هو أبو أحمد السكين، لكن اشتبه عليه بابنه، فإن ابنه أيضاً اسمه جعفر، كما مرّ في النسب ويتضح ذلك بأن محمّد بن زيد الشهيد - وهو أصغر بني أبيه - له عدّة بنين منهم محمّد إبنه، والعقب منه في أبي عبد الله جعفر الشاعر وحده، فأعقب أبو عبد الله جعفر هذا من ثلاثة بنين: محمّد الخطيب الذي هو أبو السيد الحماني، وأحمد السكين الذي هو جدنا، والقاسم، فيكون السيد علي الحماني ابن أخي أحمد السكين لا إبن إبنه، فأحمد السكين عمّه لا جدّه.

وأيضاً ما تمّ للسيد صدر الدين إدخال السيد على الحماني في النسب حتّى أسقط منه أبا الحسن عليّاً، الذي هو بين أبي جعفر محمّد وبين جعفر بن أحمد السكين، وهو غلط فاحش، ولقد مرّ على ذلك برهة من الزمن ولم ينبه له أحد من أجدادنا.

ص: 21

وفاته رحمه الله:

توفي المترجم له بشيراز في شهر ذي القعدة سنة 1120 ه، ودفن بحرم الشاه چراغ، أحمد إبن الإمام موسى بن جعفر، عند جدّه غياث الدين المنصور، صاحب المدرسة المنصورية.

قال الميرزا عبد الله الأفندي في (رياض العلماء): إنّه توفي سنة 1118 ه، وفي (سفينة البحار) للشيخ عباس القمّي رحمه الله أنّه توفي سنة 1119 ه، وفى آداب اللغة العربية لجرجي زيدان ج 3 - ص 285، أن وفاته سنة 1104 ه.

ولكن الذي اختاره مشايخنا من أنّها كانت سنة 1120 ه هو المعتضد، فإنّه رحمه الله نفسه نصّ على قدومه الى أصبهان سنة 1117 ه، وقال الشيخ علي الحزين في التذكرة: إنّي أدركته بها سنين.

هذا، وتوجد ترجمته لسيدنا المترجم له في (أمل الامل)، و(رياض العلماء)، و(نسمة السحر) ج 2، و(تذكرة الشيخ علي الحزين)، و(السوانح) له أيضاً، و(نشوة السلافة) لابن بشارة، و(رياض الجنّة) للزونوزي، و(تتميم أمل الامل) للسيد ابن شبانة، (ونجوم السماء) ص 176، و(روضات الجنات) ص 412، و(مستدرك الوسائل) ج 3 - ص 386، و(سفينة البحار)ج 2 ص 245، و(الذريعة)، و(معجم المطبوعات ) ص 244، و(آداب اللغة العربية) ج 3 - ص 285، ومجلة (المرشد)

ص: 22

العراقية ج 1 - ص 197، وفي بعض أعدادها نشر شطر من شعره، وذكر أيضاً في كثير من المعاجم الرجإليَّة، فراجعها.

هذا موجز من ترجمة المؤلف رحمه الله، وقد رغب الأستاذ محمّد كاظم الشيخ صادق الكتبي حفظه الله أن أصدّر الكتاب بها، كما صدرت لكثير من مطبوعاته القيمة. والحقّ أن ما يبذله حفظه الله ووفقه في سبيل نشر الكتب الإسلامية لمّما يدعونا إلى تشجيعه وشكره، ونرجو لمطبوعاته القيّمة الرواج المطر، جعل الله مستقبل أمره خيراً من ماضيه، والله ولى التوفيق

محمّد صادق بحر العلوم

ص: 23

مقدمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

ما ترنمت مطربات عنادل الأقلام على عذبات أنامل الأعلام، ولا انفتحت كمائم أزهار زاهر الكلام في نواضر حدائق الأرقام، بأحسن من حمد مالك، أرغم بقدرته كل منكر وجاحد، وأظهر في كلّ شيء آية تدلّ على أنّه واحد، فشهدت بوحدانيته السماء مزينة بزينة الكواكب، والأرض حاملة أثقال أعبائها على المناكب.

والصباح هاتك لستور الظلماء نهاره، مطردة في الحدائق الخضر أنهاره، والمساء رافلة في حلل السواد سواهم ليله، راكضة في ميادين الظلام أداهم خيله.

والبحار ملتطمة بالجزر والمد أمواج عبابها، منتشرة انتشار اللؤلؤ حبّات حبابها.

والأنهار منسابة في الجدأوّل انسياب الحيّات في الرمال، مطردة إطراد الذوابل في أكفّ الأبطال حين النزال، والماء بائحا ً صفاءه بأسراره، لائحا ً حصباؤه في قراره.

والنار لامعة سبائك لهبها ومائجة ذوائب عذبها، والرياح ناسمة جنوبا ًوشمالاً، مؤرجة بنفحاتها يمينا ًوشمالاً.

والهواء حاملاً الماء في بطون الغمام، سائراً بالجواري المنشآت في البحر كالأعلام.

والطير مفصحة بعد عجمتها، مطربة بالأسحار بنغمتها.

ص: 24

والخيل مسابقة في مجاريها، معقود الخير بنواصيها، والأبل هادرة بجراجرها، مجترة بحناجرها. كلّها ألسنة ناطقة بوحدانيته، وأدلة ثابتة على فردانيته.

أحمده بما له من المحامد السنيّة، وأشكره على سوابغ نعمه الهنيّة، وثمرات عوارفه إليَّانعة الجنيّة، التي أبلغت المأمن وبلغت الأمنية، لا سيما التوفيق للإقرار بالنبوة المحمّديّة، والإمامة العلويّة، والطهارة الفاطميّة، والسيادة الحسنيّة، والبسالة الحسينيّة، والعبادة السجاديّة، والعلوم الباقريّة، واللهجة الصادقيّة، والحلوم الكاظميّة، والرجاحة الرضويّة، والسماحة الجواديّة، والأخلاق النقويّة، والشهامة العسكريّة، والخاتمة المهدويّة.

فأصلّي وأسلم على ذي الأعراق الزكيّة، والأعراف الذكيّة، والقبلة المكيّة، المبعوث إلى البريّة بالملّة المرضيّة، وعلى آله وعترته أوّلي النفوس القدسيّة، والعلوم اللدنيّة، والمراتب العليّة والمناقب العلويّة، أئمة الأمّة، وكاشفي الغمّة، وسبل الهداية وأعلام الولاية، وسفن النجاة، وأبواب المناجاة، صلّى الله وسلم عليه وعليهم، صلاة وسلاماً يبلغان الأمل، ويزكيان العمل، ما خطّت الأقلام، وحُطّت الأقدام.

أمّا بعد: فيقول العبد الفقير إلى ربّه الغني (علي صدر الدين) إبن أحمد نظام الدين الحسيني الحسني، عاملهما الله بلطفه الخفي وفضله السني، إنّي منذ ارتضعت درّ الفضل والعلم، واتّشحت رداء العقل والحلم، لم أزل مجتنياً من رياض الفضل أزهى أزهارها، وارداً من موارد الفواضل أصفى أنهارها، مؤلفاً بتقييد شوارد الفوائد، مغرماً نظم فرائد القلائد، متبعاً آثار أرباب التإليَّف، مقتضياً رسوم أصحاب التصنيف.

ص: 25

وكنت في حدثان السنّ وريعان الصبا وعنفوان الشباب أقدّر في خلدي جمع طبقات عالية، تحتوي على عيون أخبار أعيان الفرقة الناجية، أعني الشيعة الإمامية والفرقة الثاني عشرية، إذ لم أقف لأحد من أصحابنا رضوان الله عليهم على كتاب وافٍ بهذا الغرض، قائمٍ بأداء هذا الحكم المفترض، سوى كتب الرجال، وهي مع ضيق مجالها لم تحتو إلّا على رواة الأحاديث ورجالها، حتّى وقفت على كتاب صنّف قبل عصرنا هذا بقليل، نحا مؤلفه نحو هذا الغرض الجليل، وهو الكتاب المسمّى (بمجالس المؤمنين) للقاضي نور الله التوستري، نوّر الله ضريحه، وأحلّه من مبوّأ الرضوان فسيحه.

غير أنّه لم يبرئ مني عليلاً، ولم يبرد لي غليلاً، إمّا أوّلاً: فلأنّه فارسيّ العبارة أعجمي الإشارة، وليس أربى إلّا اللسان العربي، وإمّا ثانياً: فلأنّه جاء بالطمّ والرمّ، ولم يميّز بين الروح والجرم، فأفسد السمين بالغث، ورقع الجديد بالرث، وأدخل الدخيل في الصريح وجمع بين الصحيح والجريح، وعد من أصحابنا ما لا ينزل بفنائهم ولا يسقى من إنائهم، وأهمل ذكر جماعة من مشايخنا هم أشهر من أن لا يعرفوا، وحاشاهم من أن يكونوا نكرات فيعرفوا

فحرك مني هذا الإستدراك ما كان مني في مستكن الخاطر وما به حراك، وذلك بعد أن اشتعل الرأس شيباً، وامتلأت العيبة عيباً، فأزمعت أوّلاً على تإليَّف كتاب بسيط حافل كاف في القيام بهذا المقصد كامل.

ص: 26

ثُمَّ رأيت أن ذلك يفتقر إلى بسطة فراغ وسكون، في هذا الوقف المتصف بالمقت ممّا لا يكون، مع اشتغال البال واشتعال البلبال، والخطوب ثائرة، والساعات طائرة، والفرص خطفات بروق تأتلق، والنفوس على فواتها تذوب وتحترق، فثنيت العنان عن ذلك المرام، وأخذت في تإليَّف هذا الكتاب، المفرغ في قالب الإيجاز والإحكام، مع التزامي أن لا أخليه من عيون الأخبار، والنكت المعتبرة لدى الإعتبار، وأن لا أخل فيه بما يجب ذكره في محاسن كل إنسان، مما يليق به من نادرة أو شعر أو مكرمة أو إحسان، هذا مع التثبت والتحري في النقل، وعدم التساهل الذي لا يسيغه العقل.

وإذ أسفر إن شاء الله تعالى من أفق النمام صاحبه، وأزهر بنور الكلام مصباحه، سمّيته: (الدرجات الرفيعة في طبقات الإماميّة من الشيعة) سائلاً ممّن نظر فيه ونهل من صافيه أن يقيل عثاري وزللي، ويستر عواري وخللي، وهو المثاب في إصلاح ما طغى به القلم وزلّت به القدم، فإن الإنسان محل النسيان وأوّل ناس أوّل النّاس.

ورتبته على اثنتي عشرة طبقة، الأولى في الصحابة، الثانية في التابعين، الثالثة في المحدثين الذين رووا عن الأئمة علیهم السلام، الرابعة في العلماء من سائر المحدثين والمفسرين والفقهاء رضوان الله عليهم، الخامسة في الحكماء والمتكلمين، السادسة في علماء العربية، السابعة في السادة الصفوية، الثامنة في الملوك والسلاطين، التاسعة في الأمراء، العاشرة في الوزراء، الحادية عشرة في الشعراء، الثانية عشرة في النساء.

ص: 27

المقدمة

إعلم رحمك الله أن شيعة أمير المؤمنين علیه السلام والأئمة من ولده علیهم السلام لم يزالوا في كل عصر وزمان ووقت وأدان، مختفين في زوايا الإستتار، محتجبين احتجاب الأسرار في صدور الأحرار، وذلك لما منوا به من معاداة أهل الإلحاد ومناواة أوّلي النصب والعناد، الذين أزالوا أهل البيت علیهم السلام عن مقاماتهم ومراتبهم، وسعوا في إخفاء مكارمهم الشريفة ومناقبهم.

فلم يزل كل متغلب منهم يبذل في متابعة الهوى مقدوره، ويلتهب حسداً ليطفئ نور الله، ويأبي الله الا أن يتم نوره، كما روي عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر علیه السلام أنّه قال لبعض أصحابه: (يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيّانا وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من النّاس، إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قبض وقد أخبر النّاس أنّا أولى النّاس بالنّاس، فتمالأت علينا قريش حتّى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجّت على الأنصار بحقنا وحجتنا.

ثُمَّ تداولتها قريش واحداً بعد واحد، حتّى رجعت إلينا، فنكثت ونصبت الحرب لنا، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتّى قتل، فبويع الحسن علیه السلام ابنه وعوهد، ثُمَّ غُدر به وأُسلم، ووثب عليه أهل العراق حتّى طعن بخنجر في جنبه، وانتهب عسكره وعولجت خلاخيل أمّهات أولاده؛ فوادع معاوية وحقن دمه ودم أهل بيته، وهم قليل حتّى قتل.

ص: 28

ثُمَّ بايع الحسين علیه السلام من أهل العراق عشرون ألفاً، ثُمَّ غدروا به وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم، فقتلوه.

ثُمَّ لم نزل أهل البيت نستذلّ ونستضام، ونقصى، ونمتهن، ونحرم، ونقتل، ونخاف، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوّليائنا.

ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوّليائهم وقضاة السوء وعمال السوء، في كل بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، ورووا عنّا ما لم نقله، وما لم نفعله؛ ليبغضونا إلى النّاس، وكان عظم ذلك وكبره في زمن معاوية بعد موت الحسن علیه السلام، فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وصار من ذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن، أو نهب ماله، أو هدمت داره.

ثُمَّ لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين علیه السلام، ثُمَّ جاء الحجّاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتّى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال له شيعة علي).

وروى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي يوسف المدايني في كتاب (الأحداث)، قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته)؛ فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منير يلعنون عليّاً ويبرؤن منه، ويقعون فيه وفى أهل بيته.

ص: 29

وكان أشدّ النّاس بلاءً حينئذ أهل الكوفة؛ لكثرة من بها من شيعة علي علیه السلام، فاستعمل عليهم زياد بن سُميَّة، وضم إليها البصرة، وكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف؛ لأنّه كان منهم أيّام علي، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم من العراق، فلم يبق بها معروف منهم.

وكتب معاوية إلى عماله في جميع آلافاق: أن لا يجيزوا لأحد من شيعة عليٍّ علیه السلام وأهل بيته شهادة.

وكتب إليهم: أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل بيته، والذين يروون فضائله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا إليَّ بكلّ ما يروي كل رجل منهم، واسمه واسم أبيه وعشيرته)؛ ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في فضائل عثمان ومناقبه، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات والكساء والحباء والقطايع، ويفيضه في العرب منهم والموالي، فكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في المنازل والدنيا، فليس يجئ أحد بخبر مردود من النّاس عاملاً من عمال معاوية فيروى في عثمان فضيلة أو منقبة إلّا كتب اسمه وقرّبه وشفّعه.

فلبثوا بذلك حينا ً، ثُمَّ كتب إلى عماله: إن الحديث في عثمان قد كثر وفشى في كل مصر، وفى كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا النّاس إلى الرواية في فضل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي

ص: 30

تراب إلّا وأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحبّ إليَّ، وأقرّ لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقرأت كتبه على النّاس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة، لا حقيقة لها، وجدَّ النّاس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلمي المكاتب، فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع، حتّى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتّى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم.

فلبثوا بذلك ما شاء الله تعالى، ثُمَّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: أنظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحب عليّاً ًوأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاه ورزقه.

وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكّلوا به، واهدموا داره.

فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما بالكوفة، حتّى أن الرجل من شيعة عليٍّ علیه السلام ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقى إليه بسرّه، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه.

فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة.

ص: 31

وكان أعظم ذلك بلاءً القرّاء المراؤون، والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك، فيفتعلون الأحاديث؛ ليحظوا بذلك عند ولاتهم، ويقربوا مجالسهم، ويصيبوا به الأموال والضياع.

حتّى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلّون الكذب فقبلوها ورووها، وهم يظنّون أنّها حقّ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها.

ولم يزل كذلك حتّى مات الحسن بن علي علیهما السلام فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل الّا خائف على دمه، أو طريد في الأرض.

ثُمَّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين علیه السلام، وولّي عبد الملك بن مروان، فاشتدّ على الشيعة، وولّى عليهم الحجّاج بن يوسف، فتقرّب إليه أهل النسك والصلاح، والذين يبغضون عليّاً علیه السلام ويوالون أعداءه، فأكثروا من الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من الغضّ من علي علیه السلام وعيبه والطعن فيه، والشنآن له، حتّى أن إنسانا ًوقف للحجّاج، ويقال أنّه جدّ الأصمعي عبد الملك بن قريب، فصاح به: أيّها الأمير إن أهلي عقّوني فسمّوني عليّاً، وإنّي فقير بائس، وأمّا إلى صلة الأمير محتاج، فتضاحك له الحجّاج وقال: للطف ما توسّلت به، وقد ولّيتك موضع كذا.

ص: 32

وقد روى إبن عرفة المعروف بنفطويه، وهو من أكابر المحدثين وأعلامهم في تاريخه ما يناسب هذا الخبر وقال: إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أميّة تقربا ًإليهم، بما يظنون أنّهم يرغمون به أنوف بني هاشم.

قال المؤلف عفا الله عنه: ولم يزل الأمر على ذلك سائرا ً في خلافة بني أميّة حتّى جاءت الخلافة العبّاسية، فكانت أدهي وأمر وأخزى وأضرّ، وما لقيه أهل البيت علیهم السلام وشيعتهم في دولتهم أعظم ممّا منوا به في الخلافة الأمويّة، كما قيل:

والله ما فعلت أميّة فيهمُ *** معشار ما فعلت بنو العبّاسِ

ثُمَّ شبّ الزمان على ذلك وهرم، والشأن مضطرب، والشنآن مضطرم، والدهور لا يزداد إلّا عبوسا ً، والأيّام لا تبدى لأهل الحقّ إلا بؤسا ً، ولا معقل للشيعة من هذه الخطة الشنيعة، في أكثر الأعصار ومعظم الأمصار، إلّا الانزواء في زوايا التقيّة، والإنطواء على الصبر بهذه البليّة.

وهذا السبب للذي من أجله لم يصنّف أحد من أصحابنا كتابا ً في هذا الشأن، على مرور الدهر وكرور الزمان، فخفي علينا أحوال كثير من أكابر الشيعة وأركان الشريعة، والمسؤول ممّن وقف على هذا التصنيف، ورشف من زلال هذا التإليَّف: أن لا يبديه إلّا إلى أهله، وأن يكتمه عمّن أركسه الله في جهله، توقيّا ًمن عناد الناصبين، وأوّلي العدوان الغاضبين، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.

ص: 33

الطبقة الأولى في الصحابة

اشارة

وقد عن لنا ان نقدم هنا مقدمات:

المقدمة الأولى: في تعريف الصحابة

وهو على أظهر القول من لقي النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم مؤمنا ً به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة.

والمراد من اللقاء ما هو أعمّ من المجالسة والمماشاة، ووصول أحدهما إلى الآخر وإن لم يكلمه، ويدخل فيه رؤية أحدهما للآخر، سواءً كان ذلك بنفسه أو بغيره، كما إذا حمل شخص طفلا ً إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم .

والمراد رؤيته في حال حياته، وإلّا فلو رآه بعد موته قبل دفن، كأبي ذؤيب الهذلي، فليس بصحابيّ على المشهور.

وكذا المراد برؤيته أعمّ من أن يكون مع تميّزه وعقله، حتّى يدخل فيه الأطفال الذين حنكهم ولم يروه بعد التمييز، ومن رآه وهو لا يعقله.

والتعبير باللقاء أولى من قول بعضهم: الصحابيّ من رأى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم؛ لأنّه يخرج حينئذ إبن أمّ مكتوم ونحوه من العميان، وهم صحابة بلا تردد.

ص: 34

واللقاء في هذا التعريف كالجنس يشمل المحدود وغيره.

وقولنا مؤمنا ًكالفصل، يخرج من حصل له اللقاء المذكور، ولكن في حال كونه كافرا ًلم يؤمن بأحد من الأنبياء كالمشركين، وقولنا به فصل ثان، يخرج من لقيه مؤمنا ًلكن بغيره من الأنبياء علیهم السلام، لكنّه هل يخرج من لقيه مؤمنا ًبأنه سيبعث ولم يدرك البعثة، كبحير الراهب: فيه تردّد.

فمن أراد اللقاء حال نبوّته، حتّى لا يكون مثله صحابيا ًعنده يخرج عنه، ومن أراد أعمّ منه يدخل، وقولنا: مات على الإسلام يخرج من ارتدّ بعد أن لقيه مؤمنا ً، ومات على الردّة كعبد الله بن جحش وابن خطل.

وقولنا: ولو تخللت بردّة، أي بين لقائه مؤمنا ًوبين موته صلی الله علیه و آله و سلم، بل بعده أيضاً، فإن اسم الصحبة باقٍ سواءً رجع إلى الإسلام في حياته أو بعده، وسواءً لقيه ثانيا ًبعد الرجوع إلى الإسلام أم لا.

هذا مذهب الجمهور خلافا ًلبعضهم، قالوا: ويدلّ عليه قصة الأشعث بن قيس، فإنّه كان ممّن ارتدّ، وأتي به إلى أبي بكر أسيرا ً، فعاد إلى الإسلام، فقبل منه ذلك، وزوّجه اخته، وكانت عوراء، فأوّلدها إبنه محمّدا ًأحد قاتلي الحسين علیه السلام .

ولم يتخلف أحد من ذكره في الصحابة، ولا من تخريج أحاديثه في المسانيد وغيرها.

وقيل: إن الصحابي هو من طالت مجالسته له صلی الله علیه و آله و سلم على طريق السمع والأخذ عنه، فلا يدخل من وفد عليه وانصرف بدون مكث، وهو قول أصحاب الأصول.

ص: 35

وحكي عن سعد بن المسيب قال: لا يعدّ صحابيا ً إلّا من أقام معه صلی الله علیه و آله و سلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين.

ووجهه أن صحبته شرف عظيم، فلا ينال إلّا باجتماع يظهر فيه الخلق المطبوع عليه الشخص، كالغزو المشتمل على السفر، الذي هو قطعة من سقر، والسنة المشتملة على الفصول الأربعة، التي بها يختلف المزاج، وعورض بأنّه صلی الله علیه و آله و سلم لشرف منزلته أعطى كل من رآه حكم الصحبة، وأيضاً يلزم أن لا يعد جويبر بن عبد الله ونحوه صحابيا ً، ولا خلاف في أنّهم صحابة.

ثُمَّ إن الصحابة على مراتب كثيرة، بحسب التقدّم في الإسلام، والهجرة، والملازمة، والقتال تحت رايته، والرواية منه، ومكالمته، ومشاهدته، ومماشاته، وإن اشترك الجميع في شرف الصحبة.

ويعرف كونه صحابياً بالتواتر، والاستفاضة، والشهرة القاصرة عن التواتر، وأخبار الثقة.

وقُبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن مائة وأربعة عشر صحابيٍّ، آخرهم موتا ًعلى الإطلاق أبو الطفيل عامر بن وائلة، مات سنة مائة من الهجرة، والله تعالى أعلم.

ص: 36

المقدمة الثانية: في عدالة الصحابة

حكم الصحابة عندنا في العدالة حكم غيرهم، ولا يتحتم الحكم بالإيمان والعدالة بمجرد الصحبة، ولا يحصل بها النجاة من عقاب النار وغضب الجبار إلّا أن يكون مع يقين الإيمان وخلوص الجنان.

فمن علمنا عدالته وإيمانه وحفظه وصية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في أهل بيته علیهم السلام، وأنّه مات على ذلك، كسلمان وأبي ذرّ وعمّار، وإليناه وتقربنا إلى الله تعالى بحبّه.

ومن علمنا أنّه انقلب على عقبه، وأظهر العداوة لأهل البيت علیهم السلام، عاديناه لله تعالى، وتبرّأنا إلى الله منه، ونسكت عن المجهولة حاله.

وقالت العامّة والحشويّة: الواجب الكفّ والإمساك عن جميع الصحابة، وعمّا شجر بينهم، واعتقاد الإيمان والعدالة فيهم جميعا ًوحسن الظن بهم كلّهم، وقال أبو المعالي الجويني منهم: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نهى عن الكلام فيما شجر بين أصحابه، وقال: [إيّاكمْ وما شجرَ بينَ أصحابيْ].

وقال: [أدعوا إلى أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثلَ أُحُد ذهبا ً لما بلغ مدى أحدهم ولا نصفه].

ص: 37

وقال: [أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم]، وقال: [خيركم القرن الذي أنا فيه، ثُمَّ الذي يليه].

وقد ورد في القرآن الثناء على الصحابة وعلى التابعين.

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [وما يدريكَ لعلّ اللهَ اطلعّ على أهلِ بدرٍ فقالَ: اعملوا ما شئتمْ فقدْ غفرتُ لكمْ].

وقد روي عن الحسن البصري أنّه ذُكر عنده الجمل وصِفّين، فقال: (تلك دماء طهّر الله منها أسيافنا، فلا نلطخ بها ألسنتنا.

ثُمَّ إن تلك الأحوال قد غابت عنّا وبعدت أخبارها على حقائقها، فلا يليق بنا أن نخوض فيها.

ولو كان واحد من هؤلاء قد أخطأ لوجب أن يحفظ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فيه، فمن المروّة أن يحفظ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في عائشة زوجته، وفى الزبير إبن عمّته، وفي طلحة الذي وقاه بيده.

ثُمَّ ما الذي ألزمنا وأوجب علينا أن نلعن أحدا ًمن المسلمين أو نبرأ منه، وأيّ ثواب في اللعنة والبراءة.

ص: 38

إن الله تعالى لا يقول يوم القيامة للمكلف: لِمَ لَمْ تعلنْ؟ بل يقول له: لِمَ لعنتَ؟ ولو أن إنسانا ًعاش عمره كلّه لم يلعن إبليس لم يكن عاصيا ًولا آثماً، ولو جعل الإنسان عوض اللعنة أستغفر الله كان خيرا ًله.

ثُمَّ كيف يجوز للعامّة أن تدخل نفسها في أمور الخاصّة، وأولئك قوم كانوا أمراء هذه الأمّة وقادتها، ونحن اليوم في طبقة سافلة جدا ًعنهم، فكيف يحسن بنا التعرض لذكرهم ؟.

أليس بقبيح من الرعيّة أن تخوض في دقائق أمور الملك وأحواله وشؤونه التي ترى بينه وبين أهله وبني عمّه ونسائه وسراريه؟ وقد كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم صهرا ًلمعاوية، وأخته أمّ حبيبة تحته، فالأدب أن تحفظ أمّ حبيبة، وهي أمّ المؤمنين في أخيها.

وكيف يجوز أن يُلعن من جعل بينه وبين رسول الله مودّة أليس المفسرون كلّهم قالوا: هذه الآية نزلت في أبي سفيان وآله، وهي قوله تعالى: ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً﴾ (1)، وكان ذلك مصاهرة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أبا سفيان وتزوّجه إبنته.

ص: 39


1- سورة الممتحنة – الآية: 7

على أن جميع ما ينقله الشيعة من الإختلاف بينهم والمشاجرة لم يثبت، ولم يكن القوم إلّا كبني أمّ واحدة، ولم يتكدر باطن أحد منهم على صاحبه قطّ، ولا وقع بينهم اختلاف ولا نزاع).

وقد قصدني بعض الشيعة الزيديّة لنقضه وردّه، بما لا غنى بنا عن ذكره هنا، فقال ما ملخصه:

لولا أن الله تعالى أوجب معاداة أعدائه كما أوجب موالاة أوّليائه، وضيّق على المسلمين تركها إذا دلّ العقل عليها، وأوضح الخبر عنها بقوله سبحانه: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليوم الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ (1)، وبقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنبيّ وَمَا أُنزِلَ إليه مَا اتَّخَذُوهُمْ أوّليَاء﴾ (2)، وبقوله تعالى: ﴿لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ (3)؛ لإجماع المسلمين على أن الله تعالى فرض عداوة أعداءه وولاية أوّلياءه، وعلى أن البغض في الله واجب، والحبّ في الله واجب لما تعرضنا لمعاداة من أحد النّاس في الدين ولا البراءة منه، ولكانت عداوتنا للقوم تكلفا ً.

ص: 40


1- سورة المجادلة – الآية: 22
2- سورة المائدة – الآية: 81
3- سورة الممتحنة – الآية: 13

ولو ظننا الله عزَّ وجلَّ يعذرنا إذا قلنا: يا ربّ غاب أمرهم عنّا فلم يكن لخوضنا في أمر قد غاب عنا معنى؛ لاعتمدنا على هذا العذر ووإليناهم، ولكنّا نخاف أن يقول سبحانه لنا: إن كان أمرهم قد غاب عن أبصاركم، فلم يغب عن قلوبكم وأسماعكم .. قد أتتكم به الأخبار الصحيحة التي بمثلها ألزمتم أنفسكم الإقرار بالنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وموالاة من صدّقه، ومعاداة من عصاه وجحده، وأمرتم بتدبر القرآن، وما جاء به الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، فهلّا حذرتم من أن تكونوا من أهل هذه الآية، القائلين غداً: ﴿رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ (1).

فأمّا لفظة اللعن فقد أمر الله تعالى بها، وأوجبها .. ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿أولئك يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ (2)، فهو إخبار معناه الأمر، كقوله: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بأنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ﴾ (3).

وقد لعن الله تعالى الغاصبين بقوله: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ﴾ (4)، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ

ص: 41


1- سورة الأحزاب – الآية: 67
2- سورة البقرة – الآية: 159
3- السورة نفسها – الآية: 228
4- سورة المائدة – الآية: 78

وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً﴾ (1) وقوله: ﴿مَلْعُونِينَ أينمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً﴾ (2)، وقال الله لإبليس: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ﴾ (3)، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً﴾ (4).

فأمّا قول من يقول: أيّ ثواب في اللعن؟ وإن الله تعالى لا يقول للمكلف: لِمَ لمْ تلعن؟ بل قد يقول له: لِمَ لعنت؟ وأنّه لو جعل مكان لعن الله فلاناً .. اللهمَّ اغفر لي، لكان خيرا ًله، ولو أن إنساناً عاش عمره كلّه ولم يلعن إبليس لم يؤاخذ بذلك، فكلام جاهل لا يدري ما يقول.

اللعن طاعة ويستحقّ عليها الثواب إذا فعلت على وجهها، وهو أن يلعن مستحقّ اللعنة لله، وفي الله، لا في العصبية والهوى؛ لأن الشرع قد ورد بها في نفي الولد ونطق بها القرآن، وهو أن يقول الزوج في الخامسة: ﴿أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (5).

ص: 42


1- سورة الأحزاب – الآية: 57
2- السورة نفسها – الآية: 61
3- سورة ص – الآية: 78
4- سورة الأحزاب – الآية: 64
5- سورة النور – الآية: 7

فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يتلفظ عباده بهذه اللفظة، وأنّه قد تعبّدهم بها لما جعلها من معالم الشرع، ولما كرّرها في كثير من كتابه العزيز، ولما قال في حقّ القائل: ﴿وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ (1).

وليس المراد من قوله: ولعنه إلّا الأمر لنا أن نلعنه، ولو لم يكن المراد ذلك لكان لنا أن نلعنه؛ لأن الله تعالى قد لعنه، أفيلعن الله تعالى إنسانا ًولا يكون لنا أن نلعنه، هذا ما لا يسوغ.

كما لا يجوز أن يمدح إنساناً إلّا ولنا أن نمدحه، ولا بذمّه إلّا ولنا أن نذمّه، وقال: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ (2)، وقال: ﴿رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ﴾ (3)، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ إليهودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ﴾ (4).

وكيف يقول القائل: إن الله تعالى لا يقول للمكلف: لِمَ لَمْ تلعن؟ ألا يعلم هذا القائل أن الله تعالى أمر بولاية أوّليائه، وأمر بعداوة أعدائه، فكما يسأل عن التولّي يسأل عن

ص: 43


1- سورة النساء – الآية: 93
2- سورة المائدة – الآية: 60
3- سورة الأحزاب – الآية: 68
4- سورة المائدة – الآية: 64

التبرؤ، ألا ترى أن إليهودي إذا أسلم يطالب بأن يقال له: تلفّظ بكلمة الشهادتين ثُمَّ قل: تبرأت من كل دين يخالف دين الإسلام.

فلابد من البراءة؛ لأن بها يتمّ العلم .. ألم يسمع هذا القائل قول الشاعر:

تودّ عدوّي ثُمَّ تزعم أنني *** صديقك إن الرأي عنك لعازبُ

فمودّة العدوّ خروج عن ولاية الولي، وإذا بطلت المودّة لم يبق إلّا البراءة؛ لأنّه لا يجوز أن يكون الأنسان في درجة متوسطة مع أعداء الله تعالى وعصاته، بأن لا يؤذيهم، ولا يبرأ منهم، بإجماع المسلمين على نفي هذه الواسطة.

وأمّا قوله: لو جعل عوض اللعنة استغفر الله لكان خيراً له، فإنّه لو استغفر من غير أن يلعن، أو يعتقد وجوب اللعن، لما نفعه استغفاره، ولا قبل منه؛ لأنّه يكون عاصيا ًلله تعالى مخالفا ًأمره في إمساكه عمّن أوجب الله تعالى عليه البراءة منه، وإظهار البراءة والمصرّ على بعض المعاصي لا تقبل توبته واستغفاره عن البعض الآخر.

وأمّا من يعيش عمره ولا يلعن إبليس، فإن كان لا يعتقد وجوب لعنه فهو كافر، وإن كان يعتقد وجوب لعنه ولا يلعنه فهو مخطئ، وعلى أن الفرق بينه وبين ترك لعنة رؤوس الضلالة في هذه الأمّة، كمعاوية والمغيرة وأمثالهما، أن أحدا ًمن المسلمين لا يورث عنده الإمساك عن لعنة إبليس شبهة في أمر إبليس، والإمساك عن لعن هؤلاء وأضرابهم يثير شبهة عند كثير من المسلمين في أمرهم، وتجنّب ما

ص: 44

يورث الشبهة في الدين واجب، فلهذا لم يكن الإمساك عن لعن إبليس نظيرا ًللإمساك عن أمر هؤلاء.

قال: ثُمَّ يقال للمخالفين أرأيتم لو قال قائل: قد غاب عنّا أمر يزيد بن معاوية، والحجّاج بن يوسف، فليس ينبغي أن نخوض في قصّتهما، ولا أن نلعنهما ونعاديهما، ونبرأ منهما!.. هل كان هذا إلّا كقولكم قد غاب عنّا أمر معاوية والمغيرة بن شعبة وأضرابهما، فليس لخوضنا في قصّتهم معنى.

وبعد فكيف أدخلتم أيّها العامّة والحشوية وأهل الحديث أنفسكم في أمر عثمان، وخضتم فيه، وقد غاب عنكم، وبرئتم من قتلته، ولعنتموهم؟!.

وكيف لم تحفظوا أبا بكر الصديق في محمّد إبنه؟ فإنّكم لعنتموه وفسقتموه، ولا حفظتم عائشة أمّ المؤمنين في اخيها محمّد المذكور، ومنعتمونا أن نخوض وندخل أنفسنا في أمر عليٍّ والحسن والحسين علیهم السلام، ومعاوية الظالم له ولهما، المتغلب على حقّه وحقوقهما.

وكيف صار لعن ظالم عثمان من السنّة عندكم، ولعن ظالم عليٍّ والحسن والحسين علیهم السلام تكلّف؟!.

وكيف أدخلت العامّة أنفسها في أمر عائشة، وبرئت ممّن نظر إليها؟! ومن القائل لها: يا حميراء؟ وإنّما هي حميراء، ولعنته بكشفه سترها، ومنعتنا نحن عن الحديث في أمر فاطمة علیها السلام، وما جرى لها بعد وفاة أبيها صلی الله علیه و آله و سلم ؟!.

ص: 45

فإن قلتم: إن بيت فاطمة إنّما دُخل، وسترها إنّما كُشف؛ حفظا ًلنظام الإسلام، وكيلا ينتشر الأمر، ويخرج قوم من المسلمين أعناقهم من ربقة الطاعة ولزوم الجماعة، قيل لكم: وكذلك ستر عائشة إنّما كُشف، وهودجها إنّما هُتك؛ لأنّها نشرت حبل الطاعة، وشقّت عصا المسلمين، وأراقت دماء المؤمنين، من قبل وصول عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام إلى البصرة، وجرى لها مع عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة ومن كان معها من المسلمين الصالحين من القتل وسفك الدماء ما ينطق به كتب التواريخ والسير!.

فإذا جاز دخول بيت فاطمة علیها السلام لأمر لم يقع بعد، جاز كشف ستر عائشة على ما قد وقع وتحقق، فكيف صار هتك ستر عائشة من الكبائر التي يجب معها التخليد في النار، والبراءة من فاعله، ومن أوكد عرى الإيمان؟! وصار كشف بيت فاطمة علیها السلام والدخول عليها منزلها، وجمع الحطب ببابها، وتهددها بالتحريق، من أوكد عرى الدين، وأثبت دعائم الإسلام، وممّا أعز الله به المسلمين، وإطفاءه نار الفتنة! والحرمتان واحدة، والستران واحد.

وما نحبّ أن نقول لكم: إن حرمة فاطمة علیها السلام أعظم، ومكانها أرفع، وصيانتها لأجل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أولى، فإنّها بضعة منه، وجزءٌ من لحمه ودمه، وليست كالزوجة الأجنبية التي لا نسب بينها وبين الزوج، وإنّما هي وصلة مستعارة، وعقد يجري مجرى إجارة المنفعة، وكما يملك رقّ الأمة بالبيع والشراء.

ص: 46

ولهذا قال الفرضيون: أسباب التوارث ثلاثة، سبب، ونسب، وولاء، والنسب القرابة، والسبب النكاح، والولاء ولاء العتق، فجعلوا النكاح خارجا ًمن النسب.

ولو كانت الزوجة ذات نسب لجعلوا الأقسام الثلاثة قسمين، فكيف تكون عائشة أو غيرها في منزلة فاطمة علیها السلام ؟! وقد أجمع المسلمون كلّهم، من يحبّها ومن لا يحبّها منهم، أنّها سيّدة نساء العالمين!.

قال: وكيف يلزمنا اليوم حفظ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في زوجته، وحفظ أمّ حبيبة في أخيها، ولم تلزم الصحابة أنفسها حفظ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في أهل بيته علیهم السلام، ولا ألزمت الصحابة أنفسها حفظ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في صهره عثمان بن عفّان، وقد قتلوه ولعنوه، وقد كان كثير من الصحابة يلعن عثمان وهو خليفة، منهم عائشة كانت تقول: أقتلوا نعثلاً لعن الله نعثلاً، ومنهم عبد الله بن مسعود.

وقد لعن معاويةُ عليَّ بن أبي طالب علیه السلام وابنيه حسنا ًوحسينا ً علیهما السلام، وهم أحياء يرزقون في العراق، وهو يلعنهم في الشام على المنابر، ويقنت عليهم في الصلوات.

وقد لعن أبو بكر وعمرُ سعدَ بن عبادة وهو حيّ، وبرءا منه، وأخرجاه من المدينة إلى الشام، ولعن عمرُ خالدَ بن الوليد لمّا قتل مالك بن نويرة، وما زال اللعن فاشيا ً في المسلمين إذا عرفوا من الإنسان معصية تقتضي اللعن والبراءة.

قال: ولو كان هذا أمر معتبرا ً، وهو أن يحفظ زيد لأجل عمرو فلا يُلعن، لوجب أن يحفظ الصحابة في أولادهم، فلا يلعنوا لأجل آبائهم، فكان يجب أن يُحفظ سعد بن

ص: 47

ابي وقّاص فلا يُلعن عمر بن سعد قاتل الحسين علیه السلام، وأن يُحفظ معاوية فلا يُلعن يزيد صاحب وقعة الحَرّة، وقاتل الحسين علیه السلام، ومخيف المسجد الحرام بمكّة، وأن يُحفظ عمر بن الخطّاب في عبيد الله إبنه قاتل الهرمزان، والمحارب عليّاً ًفي صِفّين.

قال: على أنّه لو كان الإمساك عن عداوة من عادى الله من أصحاب محمّد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من حفظ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في أصحابه ورعاية عهده وعقده، لم نعادهم ولو ضربت رقابنا بالسيوف، ولكنّ محبة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لأصحابه ليست كمحبّة الجهّال الذين يضع أحدهم حجّته لصاحبه مع المعصية، وإنّما أوجب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم محبّة أصحابه لطاعتهم لله، فإذا عصوا الله وتركوا ما أوجب محبتهم، فليس عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم محاباة في ترك لزوم ما كان عليه من محبّتهم، ولا تغطرس في العدول عن التمسّك بموالاتهم، فلقد كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يحبّ أن يعادى أعداء الله ولو كانوا عترته، كما يُحبّ أن يوالى أوّلياء الله وإن كانوا أبعد الخلق نسبا ًمنه.

والشاهد على ذلك إجماع الأمّة على أن الله تعالى أوجب عداوة من ارتدّ بعد الإسلام، وعداوة من نافق، وإن كان من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وإن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هو الذي أمر بذلك ودعا إليه، وذلك أنّه صلی الله علیه و آله و سلم قد أوجب قطع يد السارق، وضرب القاذف، وجلد البكر إذا زنا، وإن كان من المهاجرين والأنصار.

ألا ترى أنّه قال: [لو سرقتْ فاطمةُ لقطعتُها]، فهذه ابنته الجارية مجرى نفسه، لم يحابها في دين الله، ولا راقبها في حدود الله، وجلد أصحاب آلافك، وفيهم سطح بن أثاثه، وكان من أهل بدر.

ص: 48

قال: وبعد فلو كان محلّ أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم محلّ من لا يعادى إذا عصى الله سبحانه، ولا يذكر بالقبيح، بل يجب ان يراقب لأجل إسم الصحبة، ويغضى عن عيوبه وذنوبه لكان كذلك صاحب موسى علیه السلام، المسطور ثناؤه في القرآن، لما اتّبع هواه فانسلخ عمّا أوتي من الآيات وغوى، قال سبحانه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فإنسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ (1).

ولكان ينبغي أن يكون محلّ عبدة العجل من أصحاب موسى علیه السلام هذا المحل؛ لأن هؤلاء كلّهم قد صحبوا رسولاً جليلاً من رسل الله سبحانه.

ولو كانت الصحابة عند أنفسها بهذه المنزلة لعلمت ذلك من حال أنفسها؛ لأنّهم أعرف بمحلّهم من عوام أهل دهرنا.

وإذا قدرت أن ترى أفعال بعضهم ببعض، دلّتك على أن القصّة كانت على خلاف ما قد سبق إلى قلوب النّاس اليوم.

هذا عليٌ علیه السلام وعمّار وأبو الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت، وجميع من كان مع عليٍّ علیه السلام من المهاجرين والأنصار لم يروا أن يتغافلوا عن طلحة والزبير، حتّى فعلوا بهما وبمن معهما ما يفعل بالشراة في عصرنا.

ص: 49


1- سورة الأعراف – الآية: 175

وهذا طلحة والزبير وعائشة، ومن كان معهم وفي جانبهم لم يروا أن يمسكوا عن علي علیه السلام حتّى قصدوا له، كما يقصد للمتغلبين في زماننا.

وهذا معاوية وعمرو لم يريا عليّاً علیه السلام بالعين التي يرى بها العاميّ صديقه أو جاره، ولم يقصّرا دون ضرب وجهه بالسيف، ولعنه ولعن أولاده، وكلّ من كان حيا ًمن أهله وقتل أصحابه.

وقد لعنهما هو أيضاً في الصلوات المفروضات، ولعن معهما أبا الأعور السلمي وأبا موسى الأشعري، وكلاهما من الصحابة.

وهذا سعد بن أبي وقّاص، ومحمّد بن سلمة، وأُسامة بن زيد، وسعد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الله بن عمر، وحسّان بن ثابت، وأنس بن مالك لم يروا أن يقلّدوا عليّاً ً علیه السلام في حرب طلحة، ولا طلحة في حرب علي علیه السلام، وطلحة والزبير بإجماع المسلمين أفضل من هؤلاء المعدودين؛ لأنّهم زعموا أنّهم قد خافوا أن يكون علي علیه السلام قد غلط، وزلَّ في حربهما، وخافوا أن يكونا قد غلطا وزلّا في حرب علي علیه السلام .

وهذا عثمان قد نفى أبا ذرّ إلى الربذة، كما يُفعل بأهل الخنا والريب.

وهذا عمّار وابن مسعود تلقّيا عثمان بما تلقّياه به، لمّا ظهر لهما - بزعمهما - منه ما وعظاه لأجله.

ثُمَّ فعل عثمان ما تناهي إليكم، ثُمَّ فعل القوم بعثمان ما قد علمتم، وعلم النّاس كلهم.

ص: 50

وهذا عمر يقول في قصة الزبير بن العوام لما استأذنه في الغزو: إنّي ممسك بباب هذا الشِعب أن يتفرق أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله و سلم في النّاس فيضلّوهم.

ورغم أنّه وأبا بكر كانا يقولان: إن عليّاً ًوالعبّاس في قصة الميراث في زعمهما كاذبين ظالمين فاجرين، وما رأينا عليّاً علیه السلام والعبّاس اعتذرا ولا تنصّلا، ولا نقل أحد من أصحاب الحديث ذلك، ولا رأينا أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنكروا عليهما ما حكاه عمر عنهما، ونسبه إليهما، ولا أنكروا أيضاً على عمر قوله في أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّهم يريدون إضلال النّاس ويهمّون به.

ولا أنكروا على عثمان دوس بطن عمّار، ولا كسر ضلع ابن مسعود، ولا على عمّار وابن مسعود ما تلقيا به عثمان، كإنكار العامّة اليوم الخوض في حديث الصحابة.

ولا اعتقدت الصحابة في أنفسها ما تعتقده العامّة فيها، اللهمَّ إلا أن يزعموا أنّهم أعرف بحقّ القوم منهم.

وهذا عليٌ علیه السلام وفاطمة علیها السلام والعبّاس ما زالوا على كلمة واحدة، يكذّبون الرواية [نحن معاشر الأنبياء لا نوّرث]، ويقولون: إنّها مختلقة.

قالوا: وكيف كان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم يعرّف هذا الحكم غيرنا ويكتمه عنّا، ونحن الورثة، ونحن أولى النّاس بأن يؤدّى هذا الحكم إليه.

وهذا عمر بن الخطّاب يشهد لأهل الشورى أنّهم النفر الذين توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو عنهم راضٍ، ثُمَّ يأمر بضرب أعناقهم إن أخّروا فضل حال الإمامة، هذا بعد أن

ص: 51

ثلبهم، وقال في حقهم ما لو سمعه العامّة اليوم من قائل: لوضعت ثوبه في عنقه سحبا ًإلى السلطان، ثُمَّ شهدت عليه بالرفض، واستحللت دمه.

فإن كان الطعن على بعض الصحابة رفضا ًفعمر بن الخطّاب أرفض النّاس، وإمام الروافض كلّهم.

ثُمَّ شاع واشتهر من قول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقى الله شرّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، وهذا طعن في العقد، وقدح في البيعة الأصلية.

ثُمَّ ما نقل عنه من ذكر أبي بكر في صلاته، وقوله عن عبد الرحمن وابنه: إنّه دويبة سوء، ولهو خير من أبيه.

ثُمَّ عمر القائل في سعد بن عبادة، وهو رئيس الأنصار وسيدها: أقتلوا سعداً، قتل الله سعدا ً، أقتلوه فإنّه منافق.

وقد شتم أبا هريرة، وطعن في روايته، وشتم خالد بن الوليد، وطعن في دينه، وحكم بفسقه وبوجوب قتله، وخوّن عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان، ونسبهما إلى سرقة مال الفيء واقتطاعه.

وكان سريعا ًإلى المساءة، كثير الجبه والشتم والسبّ لكل أحد، وقلّ أن يكون في الصحابة من سلم من معرّة لسانه أو يده، ولذلك أبغضوه وملّوا أيّامه، مع كثرة الفتوح فيها، فهلّا احترم عمر الصحابة كما تحترمهم العامّة؟!.

ص: 52

إمّا أن يكون عمر مخطئاً، وإمّا أن تكون العامّة على الخطأ، فإن قالوا: عمر ما شتم ولا ضرب ولا أساء إلّا إلى عاصٍ مستحقٍّ لذلك، قيل لهم: فكأنّا نحن نقول: إنّنا نريد أن نبرأ ونعادي من لا يستحق البراءة والمعاداة، كلّا ما قلنا هذا، ولا يقول هذا مسلم ولا عاقل، وإنّما غرضنا الذي نجري بكلامنا هذا أن نوضح أن الصحابة قوم من النّاس، لهم ما للناس وعليهم ما عليهم، من أساء منهم ذممناه، ومن أحسن منهم حمدناه، وليس لهم عن غيرهم من المسلمين كبير فضل إلّا بمشاهدة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ومعاصرته لا غير.

بل ربّما كانت ذنوبهم أفحش من ذنوب غيرهم؛ لأنّهم شاهدوا الإعلام والمعجزات، فقربت اعتقاداتهم من الضرورة، ونحن لم نشاهد ذلك، فكانت عقائدنا محض النظر والفكر، بعرضية الشبه والشكوك، فمعاصينا أخفّ؛ لأنّا أعذر.

ثُمَّ نعود إلى ما كنّا فيه فنقول: هذه عائشة أمّ المؤمنين خرجت بقميص رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقالت للناس: هذا قميص رسول الله لم يبلّ، وعثمان قد أبلى سنته، ثُمَّ تقول: أقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً.

ثُمَّ لم ترض بذلك حتّى قالت: أشهد أن عثمان جيفة على الصراط غدا ً، فمن النّاس من يقول: روت بذلك خبرا ً، ومن النّاس من يقول: موقوف عليها، وبدون هذا، لو قاله إنسان اليوم يكون عند العامّة زنديقا ً.

ص: 53

ثُمَّ قد حُصر عثمان، حصره أعيان الصحابة، فما كان أحد ينكر ذلك، ولا يعظّمه، ولا يسعى في إزالته، وإنّما أنكر على من أنكر على المحاصرين له، وهو رجل - كما علمتم - من وجوه أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثُمَّ من أشرافهم، ثُمَّ هو أقرب إليه من أبي بكر وعمر، وهو مع ذلك إمام المسلمين، والمختار منهم للخلافة، وللإمام حقّ على رعيته عظيم، فإن كان القوم قد أصابوا، فإذاً ليست الصحابة في الموضع الذي وضعتها به العامّة، وإن كانوا ما أصابوا، فهذا هو الذي نقول من أن الخطأ جائز على آحاد الصحابة، كما يجوز على آحادنا اليوم.

ولسنا نقدح في الإجماع، ولا ندّعي إجماعا ًحقيقيا ًعلى قتل عثمان، وإنّما نقول إن كثيرا ًمن المسلمين فعلوا ذلك، والخصم يسلم أن ذلك كان خطأً ومعصية، فقد سلم أن الصحابي يجوز أن يخطئ ويعصي، وهو المطلوب.

وهذا المغيرة بن شعبة، وهو من الصحابة، إدّعي عليه الزنا، وشهد عليه قوم بذلك، فلم ينكر ذلك عمر، ولا قال هذا محال وباطل لأن هذا صحابي من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا يجوز عليه الزنا، وهلّا أنكر عمر على الشهود، وقال لهم: ويحكم هلّا تغافلتم عنه لمّا رأيتموه يفعل ذلك، فإن الله تعالى قد أوجب الإمساك عن مساوئ أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأوجب الستر عليهم، وهلّا تركتموه لرسول الله في قوله: [دعوا إليَّ أصحابي]؟! .

ص: 54

ما رأينا عمر إلّا قد انتصب لسماع الدعوى وإقامة الشهادة، وأقبل يقول للمغيرة: يا مغيرة ذهب ربعك، ذهب نصفك، يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك، حتّى اضطرب الرابع، فجلد الثلاثة.

وهلّا قال المغيرة لعمر: كيف تسمع في قول هؤلاء وليسوا من الصحابة، وأنا من الصحابة، ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد قال: [أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم]؟!..ما رأيناه قال ذلك، بل استسلم لحكم الله تعالى.

وهيهنا من هو أمثل من المغيرة وأفضل .. قدامة بن مظعون، لمّا شرب الخمر في أيّام عمر، فأقام عليه الحدّ، وهو رجل من علية الصحابة، ومن أهل بدر المشهود لهم بالجنّة، فلم يرد عمر الشهادة، ولا درأ عنه الحدّ، لعلّة أنّه بدري، ولا قال: قد نهى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن ذكر مساوئ أصحابه.

وقد ضرب عمر أيضاً إبنه حدّا ً فمات، وكان ممّن عاصر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولم تمنعه معاصرته له من إقامته الحدّ عليه.

وهذا عليٌّ علیه السلام يقول: ما حدّثني أحد بحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلّا استحلفته عليه.

أليس هذا اتهاما ًلهم بالكذب، وما استثنى أحدا ًمن المسلمين إلّا أبا بكر، على ما ورد في الخبر.

وقد صرّح غير مرّة بتكذيب أبي هريرة، وقال: لا أحد أكذب من هذا الدوسيّ على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

ص: 55

وقال أبو بكر في مرضه الذي توفي فيه: وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة، ولو كان أغلق على حرب، فندم، والندم لا يكون إلّا عن ذنب.

ثُمَّ ينبغي للعاقل أن يفكر في تأخر عليٍّ علیه السلام عن بيعة أبي بكر ستة أشهر، إلى أن ماتت فاطمة علیها السلام، فإن كان مصيبا ً فأبو بكر على الخطأ في انتصابه في الخلافة، وإن كان أبو بكر مصيبا ً فعليُّ على الخطأ في تأخّره عن البيعة وحضور المسجد.

ثُمَّ قال أبو بكر في مرض موته أيضاً للصحابة: فلمّا استخلفت عليكم خيركم في نفسي - يعني عمر - فكلّكم ورم لذلك أنفه، يريد أن يكون الأمر له؛ لمّا رأيتم الدنيا قد جاءت، أما والله لتتخذنّ ستائر الديباج ونضائد الحرير.

أليس هذا طعناً في الصحابة، وتصريحا ًبأنّه قد نسبهم إلى الحسد لعمر لما نصّ عليه بالعهد؟ .

ولقد قال له طلحة لمّا ذكر عمر للأمر: ماذا تقول لربك إذا سألك عن عباده، وقد ولّيت عليهم فظا ًغليظا ً؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أجلسوني، أبالله تخوفوني؟ إذا سألني قلت: ولّيت عليهم خير أهلك، ثُمَّ شتمه، وأتمّه بكلام كثير منقول.

فهل قول طلحة ألّا طعن في عمر؟! وهل قول أبي بكر ألّا طعن في طلحة؟!.

ثُمَّ الذي كان بين أبي بن كعب وبين عبد الله بن مسعود من السباب، حتّى نفى كلّ واحد منهما الآخر عن أبيه، وكلمة أبي بن كعب مشهورة منقولة: ما زالت هذه

ص: 56

الأمّة مكبوبة على وجهها منذ فقدوا نبيهم صلی الله علیه و آله و سلم، وقوله: ألا هلك أهل العقدة، والله ما آسى عليهم، إنّما آسى على من يُضلّون من النّاس.

ثُمَّ قول عبد الرحمن بن عوف: ما كنت أرى أن أعيش حتّى يقول لي عثمان: يا منافق، وقوله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما ولّيت عثمان شسع نعلي، وقوله: اللهمَّ إن عثمان قد آلى أن لا يقيم كتابك، فافعل به وافعل.

وقال عثمان لعليٍّ علیه السلام في كلام دار بينهما: أبو بكر وعمر خير منك، فقال عليٌّ علیه السلام: كذبت أنا خير منك ومنهما، عبدت الله قبلهما، وعبدته بعدهما.

وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: كنت عند عروة بن الزبير، فتذاكرنا كم أقام النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بمكّة بعد الوحي، فقال عروة: أقام عشراً، فقلت: كان ابن عبّاس يقول: أقام ثلاث عشرة، فقال: كذب ابن عبّاس.

وقال ابن عبّاس: المتعة حلال، فقال له جبير بن مطعم: كان عمر ينهى عنها، فقال: يا عديّ نفسه، من ههنا ضللتم، أحدّثكم عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وتحدثني عن عمر!.

وجاء في الخبر عن عليٍّ علیه السلام: {لولا ما فعل ابن الخطّاب في المتعة ما زنى إلّا شقي}، وقيل: {ما زنى إلّا شفا}، أي قليل.

فأمّا سبُّ بعضهم بعضاً، وقدح بعضهم في بعض في المسائل الفقهية أكثر من أن يُحصى، مثل قول ابن عبّاس وهو يردُّ على زيد مذهبه في العول في الفرائض: إن

ص: 57

شاء، أو قال: من شاء باهلته، إن الذي أحصى رمل عالج عددا ًأعدل من أن يجعل في مال نصفا ًونصفا ًوثلثاً، هذان النصفان قد ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث ؟!.

ومثل قول أبي بن كعب في القرآن: لقد قرأت القرآن وزيد هذا غلام ذو ذؤابتين، يلعب بين صبيان إليهود في المكتب.

وقال عليٌّ علیه السلام في أمّهات الأولاد، وهو على المنبر: {كان رأي أبي بكر ورأي عمر ألّا يُبعن، وأنا أرى الآن بيعهن}، فقام إليه عبد الله السلماني، فقال له: رأيك في الجماعة أحبّ إلينا من رأيك في الفرقة.

وكان أبو بكر يرى التسوية في قسم الغنائم، وخالفه عمر، وأنكر فعله.

وأنكرت عائشة على أبي سلمة بن عبد الرحمن خلافه على ابن عبّاس في المتوفى عنها زوجها وهي حاملة، وقالت: فروج يصقع مع الديكة.

وأنكرت الصحابة على ابن عبّاس قوله في الصرف، وسفّهوا رأيه، حتّى قيل: إنّه تاب من ذلك عند موته.

واختلفوا في حدّ شارب الخمر، حتّى خطّأ بعضهم بعضا ً.

وروى بعض الصحابة عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال: الشؤم في ثلاثة، المرأة، والدار، والفرس؛ فأنكرت عائشة ذلك، وكذّبت الراوي، وقالت: إنّه إنّما قال ذلك حكاية عن غيره.

ص: 58

وروى أيضاً بعض الصحابة عنه صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال: [التاجرُ فاجرٌ]؛ فأنكرت عائشة ذلك، وقالت: إنّما قاله صلی الله علیه و آله و سلم في تاجر دلس.

وأنكر قوم من الأنصار رواية أبي بكر: [الأئمّةُ منْ قريشٍ]، ونسبوه إلى افتعال هذه الكلمة.

وكان أبو بكر يقضي بالقضاء فينقضه عليه أصاغر الصحابة، كبلال وصهيب ونحوهما، قد روي ذلك في عدّة قضايا.

وقيل لابن عبّاس: إن عبد الله بن الزبير يزعم أن موسى صاحب الخضر علیه السلام ليس موسى بني إسرائيل، فقال: كذب عدوّ الله، أخبرني أبي بن كعب، قال: خطبنا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وذكر كذا لكلام يدلّ على أن موسى صاحب الخضر علیه السلام هو موسى بني إسرائيل.

وباع معاوية أواني ذهب وفضة بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ينهى عن ذلك، فقال معاوية: أمّا أنا فلا أرى به بأساً، فقال أبو الدرداء: من عذيري من معاوية؟!، أخبره عن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وهو يخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أبدا ً.

وطعن ابن عبّاس في خبر أبي هريرة عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخلنّ يده في الإناء حتّى يتوضّأ، وقال: فما نصنع بالمهراس!.

ص: 59

وقال عليٌّ علیه السلام لعمر - وقد أفتاه الصحابة في مسألة، وأجمعوا عليها -: إن كانوا راقبوك فقد غشّوك، وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطأوا.

وقال ابن عبّاس: ألا يتّقي الله زيد بن ثابت، يجعل إبن الأبن إبناً، ولا يجعل أب الأب أبا ً.

وقالت عائشة: أخبروا زيد بن أرقم أنّه قد أحبط جهاده مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

وأنكرت الصحابة على أبي موسى قوله: إن النوم لا ينقض الوضوء، ونسبته إلى الغفلة وقلّة التحصيل.

وكذلك أنكرت على أبي طلحة الأنصاري قوله: إن أكل البرد لا يفطر الصائم، وهزأت به، ونسبته إلى الجهل.

وسمع عمر عبد الله بن مسعود وأبي ابن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد، فصعد المنبر، وقال: إذا اختلف إثنان من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فعن أي فتياكم يصدر المسلمون؟، لا أسمع رجلين يختلفان بعد مقامي هذا إلّا فعلت وصنعت.

وقال جرير بن كليب: رأيت عمر ينهى عن المتعة، وعليٌّ علیه السلام يأمر بها فقلت: إن بينكما لشرا ً، فقال عليٌّ علیه السلام:{ليس بيننا إلّا الخير، ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين}.

قال هذا المتكلم: وكيف يصحُّ أن يقول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:[أصحابيْ كالنجومِ بأيّهمْ اقتديتمْ اهتديتمْ]؟!..

ص: 60

لا شبهة أن هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صِفّين على هدى، وأن يكون أهل العراق أيضاً على هدى، وأن يكون قاتل عمّار بن ياسر مهتدياً، وقد صحّ الخبر الصحيح أنّه صلی الله علیه و آله و سلم قال له: [تقتلكَ الفئةُ الباغيةُ].وقال تعالى في القرآن: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حتّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ (1)، فدلّ على أنّها ما دامت موصوفة بالمقام على البغي مفارقة لأمر الله، ومن يفارق أمر الله لا يكون مهتدياً.

وكان يجب أن يكون بسر بن أرطأة الذي ذبح ولدي عبيد الله بن العبّاس الصغيرين مهتديا ً؛ لأن بسر من الصحابة أيضاً.

وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللذان كانا يلعنان عليّاً علیه السلام في أدبار الصلوات، وولديه، مهتدين.

وقد كان في الصحابة من يزني، ومن يشرب الخمر كأبي محجن الثقفي، ومن ارتدّ عن الإسلام كطلحة بن خويلد، فيجب أن يكون كلّ من اقتدى بهؤلاء في أفعالهم مهتدياً!.

قال: وإنّما هذا من موضوعات متعصبة الأمويّة، فإن لهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث، إذا عجز عن نصرهم بالسيف.

ص: 61


1- سورة الحُجُرات – الآية: 9

وكذلك القول في الحديث الآخر، وهو قوله: [القرن الذي أنا فيه]، وممّا يدلّ على بطلانه أن القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة شرّ قرون الدنيا، وهو أحد القرون التي ذكرها في النص، وكان ذلك القرن هو القرن الذي قتل فيه الحسين علیه السلام، وأوقع بالمدينة، وحوصرت مكّة، ونقضت الكعبة، وشرب خلفاؤه والقائمون مقامه والمنتصبون في منصب النبوة الخمور، وارتكبوا الفجور، كما جرى ليزيد بن معاوية، وليزيد بن عاتكة، وللوليد بن يزيد، وأريقت الدماء الحرام، وقُتل المسلمون، وسبي الحريم، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار، ونقش على أيديهم كما ينقش على أيدي الروم، وذلك في خلافة عبد الملك وإمرة الحجّاج.

وإذا تأملت كتب التواريخ وجدت الخمسين الثانية شرا ًكلّها، لا خير فيها ولا في رؤسائها وأمرائها، والنّاس برؤسائهم وأمرائهم، والقرن خمسون سنة، فكيف يصحّ هذا الخبر؟!.

قال: فأمّا ما ورد في القرآن من قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (1) وقوله سبحانه: ﴿محمّد رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ (2)، وقول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [إنّ اللهَ أطّلعَ علىْ أهل بدرٍ] إن كان الخبر صحيحا ً، فكلّه مشروط بسلامة العاقبة ولا يجوز أن يخبر الحكيم مكلفا ًغير معصوم بأنّه لا عقاب عليه فليفعل ما شاء.

ص: 62


1- سورة الفتح – الآية: 18
2- السورة نفسها – الآية: 29

قال: ومن أنصف وتأمّل أحوال الصحابة وجدهم مثلنا، يجوز عليهم ما يجوز علينا، ولا فرق بيننا وبينهم إلّا بالصحبة لا غير، فإن لها منزلة وشرفا ً، ولكن لا إلى حدٍّ يمتنع على كل من رأى الرسول صلی الله علیه و آله و سلم أو صحبه يوما ًأو شهرا ًأو أكثر من ذلك، أن لا يخطئ ويزلَّ.

ولو كان هذا صحيحا ًما احتاجت عائشة إلى نزول براءتها من السماء، بل كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من أوّل يوم يعلم كذب أهل آلافك؛ لأنّها زوجته، وصحبتها له أوكد من صحبة غيرها، وصفوان بن المعطل كان من الصحابة أيضاً، فكان ينبغي أن لا يضيق صدر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولا يحمل ذلك الهمّ والغمّ الشديدين اللذين حملهما، ويقول: صفوان من الصحابة، وعائشة من الصحابة، والمعصية عليهما ممتنعة.

وأمثال هذا كثير، وأكثر من الكثير، لمن أراد أن يستقرئ أحوال القوم.

وقد كان التابعون يسلكون بالصحابة هذا المسلك، ويقولون في العصاة منهم مثل هذا القول، وإنّما اتخذهم العامّة أربابا ًبعد ذلك.

قال: ومن الذي يجترئ على القول بأن أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله و سلم لا تجوز البراءة من أحد منهم، وإن أساء وعصى، بعد قول الله تعالى للذي شرّفوا برؤيته: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (1)، وبعد قوله سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ إِنِّيَ

ص: 63


1- سورة الزمر – الآية: 65

أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (1)، وبعد قوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النّاس بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ (2)، إلّا من لا فهم له ولا نظر معه ولا تمييز عنده.

قال: ومن أحبّ أن ينظر اختلاف الصحابة، وطعن بعضهم في بعض، وردّ بعضهم على بعض، وما ردّ به التابعون عليهم، واعترضوا به أقوالهم، واختلاف التابعين أيضاً فيما بينهم، وقدح بعضهم في بعض، فلينظر في كتاب النظّام.

قال الجاحظ: كان النظّام أشدّ النّاس إنكاراً على الرافضة لطعنهم على الصحابة، حتّى إذا ذكر الفتيا، وتنقّل الصحابة فيها، وقضاياهم بالأمور المختلفة، وقول من استعمل الرأي في دين الله، إنتظم مطاعن الرافضة وغيرها، وزاد عليها، وقال في الصحابة أضعاف قولها.

قال: وقال بعض رؤساء المعتزلة: غلط أبي حنيفة الذي منه تفرع غلط إبراهيم أغلط وأعظم، وهو في الأحكام عظيم؛ لأنّه أضلّ خلقا ً، وغلط حمّاد أعظم من غلط أبي حنيفة؛ لأن حمّادا ًأصل أبي حنيفة الذي منه تفرع غلط إبراهيم، وأعظم من غلط حمّاد غلط علقمة، والأسود أعظم من غلط إبراهيم؛ لأنّهما أصله الذي عليه اعتمد، وغلط ابن مسعود أعظم من غلط هؤلاء جميعا ً؛ لأنّه أوّل من بدر إلى وضع الأديان

ص: 64


1- سورة الأنعام – الآية: 15
2- سورة ص – الآية: 26

برأيه، وهو الذي قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا ًفمن الله، وإن يكن خطأ فمنّي.

قال: واستأذن أصحاب الحديث على ثمامة بخراسان، حيث كان مع الرشيد بن المهدي، فسألوه كتابه الذي صنّفه في الردّ على أبي حنيفة في اجتهاد الرأي فقال: لست على أبي حنيفة كتبت ذلك الكتاب، وإنّما كتبته على علقمة والأسود وعبد الله بن مسعود؛ لأنّهم الذين قالوا بالرأي قبل أبي حنيفة.

قال: وكان بعض المعتزلة أيضاً إذا ذكر ابن عبّاس استصغروه، وقال صاحب الذوابة: يقول في دين الله برأيه.

وذكر الجاحظ في كتابه المعروف بكتاب (التوحيد): أن أبا هريرة ليس بثقة في الرواية عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قال: ولم يكن عليٌّ علیه السلام يوثّقه في الرواية، بل يتّهمه، ويقدح فيه، وكذلك عمر وعائشة.

وكان الجاحظ يفسّق عمر بن عبد العزيز، ويستهزئ به، ويكفّره، وعمر بن عبد العزيز وإن لم يكن من الصحابة، فأكثر العامّة يرى له من الفضل ما يراه لواحد من الصحابة.

قال: وكيف يجوز أن نحكم حكماً جزماً أن كل واحد من الصحابة عدل، ومن جملة الصحابة الحكم بن أبي العاص، وكفاك به عدوا ًمبغضا ًلرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

ومن الصحابة الوليد بن عقبة، الفاسق بنصّ الكتاب.

ص: 65

ومنهم حبيب بن سلمة، الذي فعل ما فعل بالمسلمين في دولة معاوية، وبسر بن أرطأة عدوّ الله وعدوّ رسوله.

وفى الصحابة كثير من المنافقين لا يعرفهم النّاس، وقال كثير من المسلمين: مات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ولم يعرّفه سبحانه كلّ المنافقين بأعيانهم، وإنّما كان يعرّف قوما ً منهم، ولم يعلم بهم أحدا ًإلّا حذيفة، فيما زعموا، فكيف يجوز أن نحكم حكما ًجزما ًأن كلّ واحد ممّن صحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أو رآه أو عاصره عدل مأمون لا يقع منه خطأ؟!.

ومن الذي يمكنه أن يتحجّر واسعا ًكهذا التحجّر، أو يحكم هذ الحكم؟!.

قال: والعجب من الحشويّة وأصحاب الحديث، إذ يجادلون على معاصي الأنبياء ويثبتون أنّهم عصوا الله، وينكرون على من ينكر ذلك، ويطعنون فيه، ويقولون: هذا رأي معتزلي، وربّما قالوا: ملحد مخالف لنصّ الكتاب، وقد رأينا منهم الواحد والمائة والألف يجادل في هذا الباب، فتارة يقولون: إن يوسف علیه السلام قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من المرأة، وتارة يقولون: إن داود علیه السلام قتل أوريا لنكح امرأته، وتارة يقولون: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان كافرا ًضالّا قبل النبوة، وربّما ذكروا زينب بنت جحش، وقصة الفداء يوم بدر.

فأمّا قدحهم في آدم علیه السلام وإثباتهم معصيته، ومناظرتهم من ينكر ذلك، فهو دأبهم وديدنهم، فإذا تكلّم واحد في عمرو بن العاص، أو في معاوية وأمثالهما، ونسبهم

ص: 66

إلى المعصية وفعل القبيح، احمرّت وجوههم، وطالت أعناقهم، وتخازرت أعينهم، وقالوا: مبتدع رافضي، يسبّ الصحابة ويشتم السلف.

فإن قالوا: إنّما اتبعنا في ذكر معاصي الأنبياء نصوص الكتاب، قيل لهم فاتبعوا في البراءة من جميع العصاة نصوص الكتاب، فإنّه تعالى قال: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليوم الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ (1)، وقال: ﴿فإن بَغَتْ أحداهُمَا عَلَى الأخرى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حتّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ (2)، وقال: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأوّلي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (3)، ثُمَّ يُسألون عن بيعة عليٍّ علیه السلام: هل هي صحيحة لازمة لكل النّاس ؟، فلا بدّ من أن يقولوا: بلى، فيقال لهم: فإذا خرج على الإمام الحقّ خارج أليس يجب على المسلمين قتاله حتّى يعود إلى الطاعة؟.

فهل يكون هذا القتال إلّا البراءة التي نذكرها؛ لأنّه لا فرق بين الأمرين، وإنّما برئنا منهم لأنّا لسنا في زمانهم، فيمكننا أن نقاتل بأيدينا، فقصارى أمرنا أن نبرأ الآن منهم ونلعنهم، ويكون ذلك عوضا ًعن القتال الذي لا سبيل لنا إليه.

قال هذا المتكلم: على أن النظّام وأصحابه ذهبوا إلى أنّه لا حجّة في الإجماع، وأنّه يجوز أن تجمع الأمّة على الخطأ وعلى المعصية وعلى الفسق، بل على الردّة، وله

ص: 67


1- سورة المجادلة – الآية: 22
2- سورة الحُجُرات – الآية: 9
3- سورة النساء – الآية: 59

كتاب موضوع في الإجماع يطعن فيه في أدلّة الفقهاء ويقول: إنها ألفاظ غير صريحة في كون الإجماع حجّة، نحو قوله تعالى: ﴿جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ (1)، وقوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ (2)، وقوله تعالى: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (3).

وإمّا الخبر الذي صورته [لا تجتمعُ أُمتيْ علىْ خطأٍ] فخبر واحد، وأسهل دليل للفقهاء قولهم: إن الهمم المختلفة والآراء المتباينة إذا كان أربابها كثيرة عظيمة، فإنّه يستحيل اجتماعهم على الخطأ، وهذا باطل بإليهود والنصارى وغيرهم من فرق الضلال.

هذه خلاصة ما ذكره في الردّ على أبي المعالي الجويني، وهو كلام إذا تأمله من ليس في قلبه مرض علم أنّه أصاب به شاكلة الغرض.

وقال السيد عليّ بن طاووس في (الطرائف): من طريف ما رأيت من مناقضاتهم أنني سمعت جماعة من هؤلاء الأربعة المذاهب، ورأيت في كتبهم أنّهم يستعظمون ذكر أحد من الصحابة بسوء حتّى لو علموا أن رجلاً ذكر عن أبي بكر وعمر وأمثالهما نقصا ً، أو روى لهم عيبا ً، أو يلعنهم، أو غلب على ظنهم أن أحدا ًينسب

ص: 68


1- سورة البقرة – الآية: 143
2- سورة آل عمران – الآية: 110
3- سورة النساء – الآية: 115

إلى هؤلاء الصحابة خطيئة، فإنّهم يضلّلون القائل والناقل والمستمع، ويبيح كثير منهم دماء من تعمّد ذلك.

فمن اعتقادهم في ذلك ما ذكره أبو إسماعيل عبد الله بن محمّد الأنصاري الهروي، وهو من علماء الأربعة للمذاهب، في كتاب (الإعتقاد) ما هذا لفظه: إن الصحابة كلّهم عدول، رجالهم ونساؤهم.

ثُمَّ قال عقيب ذلك: فمن يتكلم فيهم بتهمة أو تكذيب فقد توثب على الإسلام بالإبطال.

ومن ذلك ما ذكره الغزإليَّ في كتاب (الأحياء، في كتاب قواعد العقائد)، في الأصل التاسع، قال: واعتقاد أهل السنّة تزكية جميع الصحابة.

قال السيد رحمه الله: هذا يناقض ما رووه عن نبيهم صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال لعليٍّ بن أبي طالب علیه السلام: [انّكَ تقاتلُ الناكثينَ والقاسطينَ والمارقينَ]، فقاتلهم بأمر نبيّهم، وكانوا من الصحابة، وسفكت الدماء بين الفريقين.

قال: وممّا رأيت من تكذيب هؤلاء الأربعة المذاهب لأنفسهم، وذمّهم لكثير من صحابة نبيّهم جملة وتفصيلاً، وشهاداتهم أن نبيّهم ذمّهم، وشهد عليهم بالضلال، ما رواه في الجمع بين الصحيحين للحميدي، في مسند سهل بن سعد، في الحديث الثامن والعشرين من المتفق عليه قال:

سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [اناْ فرطكمْ علىْ الحوضِ، منْ وردَ شربَ ومنْ شربَ لمْ يظمأْ ابدا ً، وليردنَّ عليَّ أقوامٌ أعرفهمْ ويعرفونيْ، ثُمَّ يُحالُ بينيْ وبينهمْ].

ص: 69

قال أبو حازم: فسمع النعمان بن أبي عباس وأنا أحدّثهم هذا الحديث فقال:هكذا سمعت سهلاً يقول؟ قال:فقلت:نعم، فقال:وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد ويقول: [إنهمْ أُمتيْ، فيقالُ: إنّكَ لا تدريْ ما أحدثوا بعدكَ، فأقول: سحقاً لمنْ بدلَ بعديْ].

ومن ذلك ما رووه في الجمع بين الصحيحين أيضاً للحميدي، في الحديث الستين من المتفق عليه من مسند عبد الله بن عبّاس، قال: إن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قال: [ألا وإنهُ سيُجاءُ برجالٍ منْ أمتيْ، فيؤخذُ بهمْ ذاتَ الشمالِ فأقول: يا ربِّ أصحابيْ، فيقالُ إنّكَ لا تدريْ ما أحدثواْ بعدكَ، فأقول: كماْ قالَ العبدُ الصالحُ: ﴿وكنتُ عليهمْ شهيدا ًما دمتُ فيهمْ َلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (1)، فيقال لي: إنّهمْ لمْ يزالواْ مرتدّينَ على أعقابِهمْ منذُ فارقتَهمْ].

ومن ذلك ما رووه أيضاً في الجمع بين الصحيحين للحميدي، في الحديث الحادي والثلاثين بعد المائة من المتفق عليه من مسند انس بن مالك قال: ان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قال: [ليردنَّ عليَّ الحوضَ رجالٌ ممنْ صاحبنيْ حتّى إذاْ رأيتهمْ ورفعوا إليَّ اختلجواْ دونيْ فلأقولنَّ: أيْ ربِّ أصحابي أصحابيْ فيقالُ ليْ: إنكَ لا تدريْ ماْ أحدثواْ بعدكَ] .

ص: 70


1- سورة المائدة – الآيتان: 117, 118

ومن ذلك ما رووه في الجمع بين الصحيحين أيضاً للحميدي، في الحديث السابع والستين بعد المائتين من المتفق عليه من مسند أبي هريرة من طرق، فمنها عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [بينماْ أناْ قائمٌ إذاْ زمرةٌ حتّى إذاْ عرفتهمْ خرجَ رجلٌ بينيْ وبينهمْ فقالَ هلمّواْ، قلتُ: إلى أين؟ قالَ: إلى النارِ واللهِ، قلتُ: ما شأنهمْ؟ قالَ: إنّهمْ ارتدواْ بعدكَ علىْ أدبارهمْ القهقرىْ، ثُمَّ إذاْ زمرةٌ حتّى إذاْ عرفتهمْ خرجَ رجلٌ بينيْ وبينهمْ فقالَ: هلمواْ، قلتُ: إلىْ أين؟ فقالَ: إلى النارِ واللهِ، قلتُ: ما شأنهمْ؟ قالَ: إنهمْ ارتدوا علىْ أدبارهمْ، فلا أرىْ يخلصُ منهمْ إلّا مثلُ هملِ النعمِ].

ورووا نحو ذلك في مسند أمّ سلمة رضی الله عنها من عدّة طرق، ومن مسند عائشة، ورووا نحو ذلك من مسند أسماء بنت أبي بكر، ورووا نحو ذلك من مسند سعيد بن المسيب، وجميع هذه الروايات في الجمع بين الصحيحين للحميدي.

ومن ذلك ما رواه أيضاً الحميدي في الجمع بين الصحيحين، في مسند عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [أناْ فرطكمْ علىْ الحوضِ، وليُرفعنَّ إليَّ رجالٌ منكمْ حتّى إذاْ هويتُ إليهمْ لأتناولهمْ اختلجواْ دونيْ فأقول: أيْ ربِّ أصحابيْ فيقالُ: إنكَ لا تدريْ ما أحْدَثوا بعدَكَ].

ومن ذلك ما رووه في الجمع بين الصحيحين للحميدي أيضاً، في مسند أبي الدرداء في الحديث الأوّل من صحيح البخاري، قالت أمّ الدرداء في الحديث الأوّل: دخل أبو

ص: 71

الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أمر أمّة محمّد صلی الله علیه و آله و سلم شيئاً إلّا أنّهم يضلّون جميعاً.

ومن ذلك ما رووه في الجمع بين الصحيحين أيضاً، في الحديث الأوّل من صحيح البخاري، من مسند أنس بن مالك عن الزهري قال: دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً ممّا أدركت إلّا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيّعت.

وفى حديث آخر عنه: ما أعرف شيئاً ممّا كان على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قبل الصلاة، قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها.

ومن ذلك ما رووه أيضاً في الجمع بين الصحيحين للحميدي أيضاً، في الحديث السادس بعد الثلاثمائة، من المتفق عليه من مسند أبي هريرة قال: عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم في أواخر الحديث المذكور: [إنَّ مثَليْ كمثلِ رجلٍ استوقدَ ناراً فلمّا أضاءتْ ما حولها جعلَ الفراشَ (1) يقعنَ فيها، وجعلَ يحجزهنَّ ويغلبنهُ، فيقتحمنَ فيهاْ، فذلكَ مثليْ ومثلكمْ، أنا آخذُ بحجزتِكمْ عنِ النّارِ، فتغلبوني وتقتحمونَ فيها].

قال السيد قدس الله روحه: هذه بعض أحاديثهم الصحاح فيما ذكروه عن بعض صحابة نبيّهم، وما يقع منهم بعد وفاته، فإذا كان شهد نبيّهم على جماعة من أصحابه بالضلال والهلاك، وأنّهم ممّن كان يحسن ظنّه بهم في حياته، ولولا حسن ظنّه بهم

ص: 72


1- وهي الدواب التي يقعن في النّار( المؤلف رحمة الله عليه)

ما قال: أي ربّ أصحابي، ثُمَّ يكون ضلالهم قد بلغ إلى حدّ لا تقبل شفاعة نبيّهم فيهم ويختلجون دونه، وتارة يبلغ غضب نبيّهم عليهم إلى أن يقول: سحقاً سحقاً، وتارة يقول: إنّهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم، وتارة يشهد عليهم أبو الدرداء وأنس بن مالك - وهما من أعيان الصحابة عندهم - بأنّه ما بقي من شريعة محمّد صلی الله علیه و آله و سلم إلّا الإجتماع في الصلاة، ثُمَّ يقول أنس: قد ضيّعوا الصلاة، وتارة يشهد على قوم من أصحابه يشفق عليه، ويأخذ بحجزتهم عن النار، وينهاهم مراراً - بلسان الحال والمقال - فيغلبونه ويسقطون فيها، وقد تضمن كتابهم ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أهل الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ (1)، فكيف ينبغي أن يجوز لمسلم أن يردّ شهادة الله وشهادة رسوله صلی الله علیه و آله و سلم بضلال كثير من صحابة نبيهم؟!.

وهل يردّ ذلك من المسلمين إلّا ممّن هو شاكٌّ في قول الله تعالى، وقول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، أو مكابر للعيان؟.

وكيف يُلام أو يُذمُّ من صدّق الله تعالى ورسوله علیه السلام في ذمِّ بعض أصحابه، أو اعتقاد ضلاله؟.

وكيف استحسنوا لأنفسهم أن يرووا مثل هذه الأخبار الصحاح، ثُمَّ ينكروا على الفرقة المعروفة بالرافضة ما أقرّوا لهم بأعظم منه وزكوهم فيه؟.

ص: 73


1- سورة التوبة – الآية: 101

وكيف يرغب ذو بصيرة في اتّباع هؤلاء الأربعة المذاهب، وقد بلغوا إلى هذه الغايات من المناقضات واضطراب المقالات والروايات ؟.

ص: 74

المقدمة الثالثة: في تقسيم الصحابي

بحسب الردّ والقبول، إلى مردود ومقبول.

إعلم أن الصحابي لا يخلو من أن يكون إسلامه مسبوقاً بكفر، كما هو غالب الوقوع، أو لم يكن مسبوقاً بكفر، بل نشأ على الفطرة الإسلامية، وهو قليل كأمير المؤمنين علیه السلام والسبطين علیهم السلام من المقبولين، وعبد الله بن الزبير من المردودين.

وكلٌّ من القسمين إمّا أن يكون كثير الصحبة والملازمة للنبي صلی الله علیه و آله و سلم، أو لا.

فإن كان كثير الصحبة، فلا يخلو من أن يكون سمع النصّ الجليَّ في شأن أمير المؤمنين علیه السلام، أو لم يسمع.

والذي سمع لا يخلو من أن يكون عمل بمقتضى النصّ، ولم يخالف، كالمقداد وسلمان وأبي ذرّ رضی الله عنه، أو لم يعمل.

والأوّل: مقبول قطعاً، والثاني إمّا أن يكون عدم علمه بمقتضى النصّ عناداً واستكباراً، أو إكراهاً وإجباراً.

الأوّل: إن كان مسلماً فطرياً فهو عند بعض الشيعة مرتدٌّ فطريٌّ، لا تُقبل له توبة ولا تغفر له حوبة.

وأن لم يكن مسلماً فطريّاً، فإن استبصر ثانياً ورجع إلى العمل بمقتضى النصّ، فهو مقبول، وإلّا كان مرتدّاً غير فطري، وكان مردوداً وتقبل توبته متى تاب.

ص: 75

والثاني: الذي ترك العمل بمقتضى النصّ، عن إكراه مقبول، مع تحقق شرائط العدالة فيه، والذي لم يسمع النصّ، لا يخلو من أن يكون اعتمد على دليل آخر غير النصّ في أن الخليفة بعد النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم هو أمير المؤمنين علیه السلام من غير فصل، وأعتقد ذلك اعتقاداً جزماً، ولم تعترضه شبهة يجوز معها صحّة خلافة غيره ومتابعته، أو لم يعتقد ذلك، بل كان صاحب شبهة.

والأوّل: إمّا لم يعدل عن أمير المؤمنين علیه السلام، أو عدل، وعدوله إمّا عن إكراه وإجبار، أو عن عناد وإصرار.

القسمان الأوّلان مقبولان، والثالث: إن لم يكن مسلماً فطرياً، ورجع، كان مقبولاً، وإلّا فمردود.

والثاني: أعني الذي لم يعتقد تعيين أمير المؤمنين علیه السلام للخلافة، واختلجته شبهة في ذلك، إمّا أن يكون نجا من أسر شبهته، أو استمر في عمهه وحيرته.

الأوّل: مقبول، والثاني: عند بعض علمائنا معذور، وقيل: لا يُعذر ويحكم عليه بالفسق؛ لأن هذا المطّلب ضروري، والشبهة فيه تضمحل بأدنى توجّه، فلا تسمع دعوى استمرار الشبهة فيه، إلّا أن يكون المدّعي لذلك بليداً، وعن مرتبة قابلية الخطاب ساقطاً بعيداً.

وفي الجملة لا يُحكم على هذا القسم بالكفر والإرتداد، بل هو إمّا فاسق، أو على ظاهر العدالة.

ص: 76

والقسم الثاني من التقسيم الأوّل: أعني الذي لم يكن كثير الصحبة للنبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم، ولم يسمع النصّ منه في الخلافة، إمّا أن يكون عالماً بالنصّ من طريق آخر، أو لا.

والأوّل: إن عمل بمقتضى علمه فهو مقبول، وإن لم يعمل: فإن كان عدم علمه عن عناد، وكان مسلماً فطرياً كان مرتدّاً لا تقبل توبته، وإلّا كان مقبولاً إن تاب، وإن كان عن إكراه وإجبار كان مقبولاً.

والثاني: أعني من لم يكن عالماً بثبوت النص مطلقاً، يجري فيه بعض التقسيمات السابقة، فيقسم إلى مردود ومقبول، كما علمت.

والمقصود بإيراد هذه المقدّمة دفع ما توهّمته العامّة، وتقرر في أوهامها من أن الشيعة يكفرون جميع الصحابة، أو أكثرهم.

وليس كذلك، وكيف وهذا أفضل المحققين من الشيعة نصير الدين الطوسي يقول في كتابه المسمى (بالتجريد): محاربو عليٍّ علیه السلام كفرة، ومخالفوه فسقة.

ومن المعلوم أن أكثر الصحابة لم يحاربوا عليّاً علیه السلام، ولكنّهم خالفوه بدفع النص. وقال العلامة الحليّ رحمه الله في شرح التجريد: والمحارب لعليٍّ علیه السلام كافر؛ لقول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [حربُكَ يا عليُّ حربيْ]، ولا شكّ في كفر من حارب النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم .

وأمّا مخالفوه: فقد اختلف قول علمائنا فيهم، فمنهم من حكم بكفرهم؛ لأنّهم دفعوا ما علم ثبوته من الدين ضرورة، وهو النصّ الجليُّ الدالُّ على إمامته علیه السلام مع تواتره، وذهب آخرون إلى أنّهم فسقة، وهو الأقوى.

ص: 77

واستبعدت العامّة أن يجتمع جمهور الصحابة على الفسق والضلال، بل رأوا أن ذلك من المحال.

وأيّ استبعاد في ذلك وهؤلاء أصحاب موسى نبي الله علیه السلام، وهم ستمائة ألف إنسان، وقد شاهدوا الآيات والمعجزات، وعرفوا الحجج والبينات، لم يستحلْ عليهم أن يجتمعوا على خلاف نبيهم علیه السلام، وهو حيٌّ بين أظهرهم، حتّى خالفوا خليفته وهو يدعوهم ويعظهم ويحذّرهم من الخلاف، ويُنذرهم، فلا يصغون إلى شيء من قوله، ويعكفون على عبادة العجل من دون الله عزَّ وجلَّ.

ثُمَّ قد تضافرت الأخبار عن أمير المؤمنين علیه السلام في التظلّم من قريش والعرب، الذين هم الصحابة، من وجوه ليس لأنكارها سبيل، وهو علیه السلام أجلُّ من أن يقول غير الحقِّ.

وكفاك بخطبته المشهورة المعروفة بالشقشقية تظلّماً وتألّماً وشكوى، وهي قوله علیه السلام: {أَمَا وَاللّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابن أبي قحافة، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلاَ يَرْقَى إليَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْبَاً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طِخْيَة عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حتّى يَلْقى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذَىً، وَفِي الْحَلْقِ شَجاً، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً، حتّى مَضَى الأوّل لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى ابْنِ الخطّاب بَعْدَهُ.

(ثُمَّ تمثَّل بقول الأَعشى):

ص: 78

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا *** وَيَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ، إِذْ عَقَدَهَا لاِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا، فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَة خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا، وَيَخْشُنُ مَسُّهَا، وَيَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا، وَالاعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَراكِبِ الصَّعْبَةِ، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النّاس - لَعَمْرُ اللّهِ - بِخَبْط وَشِمَاس، وَتَلَوُّن وَاعْتِرَاض. فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ، حتّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ. جَعَلَهَا فِى جَمَاعَة زَعَمَ أَنِّي أحدهُمْ فَيَاللّهِ وَلِلشُّورَى مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأوّل مِنْهُمْ حتّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هذِهِ النَّظَائِرِ، لكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَطِرْتُ إِذْ طَارُوا.

فَصَغَى رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَمَالَ الآخَرُ لِصِهْرِهِ، مَعَ هِن وَهَن إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ.

وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أبيه يَخْضِمُونَ مَالَ اللّهِ خَضْمَةَ الإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ أنتكَثَ فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ، فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ وَالنّاس كَعُرْفِ الضَّبُعِ إليَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِب، حتّى لَقَدْ وُطِىءَ الْحَسَنَانِ، وَشُقَّ عِطْفَايَ، مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ فلمّا نَهَضْتُ بِالأَمْرِ، نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَى، وَقَسَطَ آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اللّهِ حَيْثُ يَقُولُ: ﴿تِلْكَ الدّارُ اْلآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذينَ لا يُريدُونَ عُلُوًّا فِي الأرض وَلا فَسادًا وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ﴾ (1)

ص: 79


1- سورة القصص – الآية: 83

بَلَى وَاللّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَوَعَوْهَا، وَلكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَرَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا.

أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ لاَ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم وَلاَ سَغَبِ مَظْلُوم، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أوّلهَا، وَلأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَطْفَةِ عَنْز}.

قالوا: وقَام إليه رجل من أهل السواد، عند بلوغه إِلى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتاباً فأَقبل ينظر فيه.

قَال له ابن عبّاس رضی الله عنه: يا أمير المؤمنين، لو أَطردت خطبتك من حيث أَفضيت. فقال: {هَيْهَاتَ يا ابن عبّاس، تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ}.

قَالَ ابن عبّاس: فواللّه ما أَسفت على كلام قطُّ كأَسفي على هذا الكلام أَن لا يكون أمير المؤمنين علیه السلام بلغ منه حيث أَراد.

قال العلامة الحلّي رحمه الله في كتاب (نهج الحق): هذا يدلّ بصريحه على تألّم أمير المومنين علیه السلام وتظلّمه من هؤلاء الصحابة، وأن المستحقّ للخلافة هو، وأنّهم منعوه عنها، ومن الممتنع ادّعاؤه الكذب في هذا المقام، وقد شهد الله تعالى له بالطهارة وإذهاب الرجس عنه، وجعله وليّاً لنا في قوله تعالى: ﴿إنّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ

ص: 80

والذينَ آمنواْ﴾ (1)، وأمر النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بالإستعانة به في دعاء المباهلة؛ فوجب أن يكون محقّاً في أقواله.

وقال إبن أبي الحديد في شرح النهج: وإمّا قول ابن عبّاس ما أسفت على كلام .. إلى آخره، فحدّثني شيخي أبو الخير مصدّق بن شبيب الواسطي، قال: قرأت على الشيخ أبي محمّد عبد الله بن أحمد، المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة، فلمّا انتهىت إلى هذا الموضع قال لي: لو سمعت ابن عبّاس يقول هذا لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمّك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة، لتأسف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد ؟!، والله ما رجع عن الأولين ولا عن الآخرين، ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلّا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

قال مصدّق: وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت له: أتقول إنّها منحولة، فقال: لا والله، وإنّي لأعلم أنّها كلامه علیه السلام، كما أعلم أنّك مصدّق.

قال: فقلت له: إن كثيراً من النّاس يقولون: إنّها من كلام الرضيّ، فقال لي: أنّى للرضيِّ وغير الرضيِّ هذا النَفَس وهذا الأسلوب، وقد وقفنا على رسائل الرضيِّ وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنشور، وما يقع مع هذا الكلام في خلٍّ ولا خمر.

ص: 81


1- سورة المائدة – الآية: 55

ثُمَّ قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب قد صنّفت قبل أن يُخلق الرضيُّ بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، وأعرف خطوط من هي من العلماء، قبل أن يُخلق النقيب أبو أحمد والد الرضيِّ.

قال إبن أبي الحديد: وقد وجدت أنا هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي، إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر، قبل أن يُخلق الرضيُّ بمدة طويلة، ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبّة، أحد متكلمي الإمامية، في الكتاب المعروف بكتاب (الإنصاف).

وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي، ومات في ذلك العصر، قبل أن يكون الرضيُّ رحمه الله موجوداً.

وقال الشيخ إبن ميثم: وقد وجدتها بنسخة عليها خطّ الوزير أبي الحسن علي بن محمّد بن الفرات، وكان وزير المقتدر بالله، وذلك قبل مولد الرضيِّ بنيف وستين سنة.

قال المؤلف: وقد روى هذه الخطبة الحسن بن عبد الله بن مسعود العسكري، من أهل السنّة، في كتاب (معاني الأخبار)، بإسناده عن ابن عبّاس، ولكن العامّة لمّا لم يمكنهم الجواب عمّا تضمّنته هذه الخطبة من القدح الصريح في أنمتهم لم يجدوا لهم مفرّاً إلّا ادعاء أنّها منحولة:

وهبني قلت هذا الصبح ليلٌ *** أيعمى العالمون عن الضياءِ

ص: 82

قال إبن أبي الحديد راوياً في شرح النهج مرفوعاً قال: قال له قائل: يا أمير المؤمنين أرأيت لو كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ترك ولداً ذكراً، قد بلغ الحلم، وأنس منه الرشد، أكانت العرب تسلم إليه أمرها؟ قال: {لاْ، بلْ كانتْ تقتلُه إنْ لمْ يفعلْ ما فعلتُ، إنَّ العربَ كرهتْ أمرَ محمّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم، وحسدتهُ على ما أتاهُ اللهُ منْ فضلِهِ، واستطالتْ أيّامهُ، حتّى قذفتْ زوجتَهُ، ونفّرتْ بهِ ناقتَهُ، معَ عظيمِ إحسانِهِ إليها، وجسيمِ منّتِهِ عندَها.

وأجمعتْ مذْ كانَ حيّاً على صرفِ الأمرِ عنْ أهلِ بيتِهِ بعدَ موتِهِ، ولولا أنَّ قريشاً جعلتْ إسمَهَ ذريعةً إلى الرياسةِ، وسُلّماً إلى العزِّ والإمرةِ لما عبدتْ اللهَ بعدَ موتِهِ يوماً واحداً، ولارتدّتْ في حافرتِها، وعادَ فارحُها جَذعاً وبازلُها بِكراً.

ثُمَّ فتحَ اللهُ الفتوحَ فأثرتْ بعدَ الفاقةِ، وتموّلتْ بعد الجهدِ والمخمصةِ، فحسنَ في عيونِها منَ الإسلامِ ما كانَ سمِجاً، وثبتَ في قلوبِ كثيرٍ منها منَ الدينِ ما كانَ مضطرباً، وقالتْ: لولا أنّه حقٌّ لما كانَ كذا.

ثُمَّ نُسبتْ تلكَ الفتوحَ إلى آراءِ ولاتِها، وحسنِ تدبيرِ الأمراءِ القائمينَ بها؛ فتأكّدَ عندَ النّاس نباهةَ قومٍ وخمولَ آخرينَ، فكنّا نحنُ ممّن خملَ ذكرُهُ، وخبتْ نارُهُ، وانقطعَ صوتُهُ وصيتُهُ، وأكلَ الدهرُ علينا وشرِبَ.

ومضتْ السنونُ والأحقابُ بما فيها، وماتَ كثيرٌ ممّنْ يعرفُ، ونشأَ كثيرٌ ممّن لا يعرفُ، وما عسى أنْ يكونَ الولدُ لوْ كانَ رسولُ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم لمْ يقربْنيْ ما تعلمونَهُ منَ القربِ، للنسبِ واللحمةِ، بلْ للجهادِ والنصيحةِ.

ص: 83

أفتراهُ لوْ كانَ لهُ ولدٌ، هلْ كانَ يفعلُ ما فعلتُ، وكذاكَ لمْ يكنْ يقرّبُ ما قرّبتُ، ثُمَّ لمْ يكنْ ذلكَ عندَ قريشٍ والعربِ سبباً للحظوةِ والمنزلةِ، بلْ للحرمانِ والجفوةِ.

اللهمَّ إنّك تعلمُ أنّي لمْ أردْ الإمرةَ ولا علوَّ الملكِ والرياسةِ، وإنّما أردتُ القيامَ بحدودِكَ، والأداءَ لشرعِكَ، ووضعَ الأمورِ في مواضعِها، وتوفيرَ الحقوقِ على أهلِها، والمضي على منهاجِ نبيِّكَ، وإرشادَ الضالِّ إلى أنوارِ هدايتِكَ}.

وروي عنه علیه السلام أيضاً أنّه قال: {اللهمَّ إنّي أستعديكَ على قريشٍ، فإنّهم أضمروا لرسولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم ضروباً منَ الشرِّ والغدرِ، فعجزوُا عنها، وحِلتُ بينَهم وبينَها، فكانتْ الوجبةُ بي، والدائرةُ عليَّ.

اللهمَّ احفظْ حَسَناً وحُسَيْناً، ولا تمكّنْ فجرةَ قريشٍ منهما ما دُمتُ حيّاً، فإذا توفيتَنيْ فأنتَ الرقيبُ عليهمْ، وأنتَ على كلِّ شيءٍ شهيدٌ}.

وروي أنّه قال: {أما واللهِ الذي خلقَ الحبّةَ وبرأَ النسمةَ، إنّه لعهدُ النبيِّ الأمّيِّ إليَّ أنَّ الأمّةَ ستغدرُ بكَ منْ بعديْ}.

وقال علیه السلام: {قال لي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [إنْ اجتمعوا عليكَ فاصنعْ ما أمرتُكَ، وإلّا فلصقْ كَلْكَلَكَ بالأرضِ]، فلمّا تفرّقوا عنّيْ جررتُ على المكروهِ ذيليْ، وأغضيتُ على القذىْ جَفنيْ، وألصقتُ بالأرضِ كَلْكَليْ}.

ص: 84

ومثل هذه الأخبار عنه كثيرة شهيرة، وقد بلغت من الكثرة والشهرة بحيث لا يمكن أن تكون بأسرها كذباً، بل لا بدَّ وأن يصدق شيء منها، وأيّها صدق ثبتت فيه الشكاية ممّن منعه الخلافة.

ولا ريب في أن جمهور الصحابة كانوا بين مانع ودافع، وأمّا الذين كانوا معه علیه السلام فقيل: أنّهم لم يبلغوا الأربعين، حتّى روي عنه علیه السلام أنّه قال: {لوْ وجدتُ أربعينَ رجلاً لقاتلتُهم}.

وقيل: بل كانوا سبعمائة من أكابر الصحابة، كلّهم مريد إمامته، حامل له على الطلب، وهذا إن صحَّ فالمانع له عن الطلب وقتال القوم إمّا علمه بأنّهم لا يثبتون معه حينئذ، أو اتقاء الفتنة في زمان عدم استقرار الدين، وخشية ارتداد القوم وزوال الإسلام، كما روي أن فاطمة علیها السلام لامته على قعوده، وأطالت تعنيفه وهو ساكت، حتّى أذّن المؤذن، فلمّا بلغ إلى قوله: أشهدُ أنَّ محمّداً رسولُ اللهِ، قال لها: {أتُحبينَ أنْ تزولَ هذهِ الدعوةُ منَ الدُنيا؟}، قالت: لا، قال: {فهوَ ما أقولُ لكَ}.

ص: 85

المقدمة الرابعة: صحابة مع أمير المؤمنين علیه السلام

إعلم أنّ كثيراً من الصحابة رجع إلى أمير المؤمنين علیه السلام، وظهر له الحقّ بعد أن عاند أو تزلزل، بعضهم في خلافة أبي بكر، وبعضهم في خلافته علیه السلام، وليس إلى استقصائهم جميعاً سبيل، وقد اتفقت نقلة الأخبار على أن أكثر الصحابة كانوا معه علیه السلام في حروبه.

قال المسعودي في مروج الذهب: كان ممّن شهد صِفّين مع عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام من أصحاب بدر سبعة وثمانون رجلاً، منهم سبعة عشر من المهاجرين، وسبعون من الأنصار.

وشهد معه ممّن بايع تحت الشجرة، وهي بيعة الرضوان، من المهاجرين والأنصار ومن سائر الصحابة تسعمائة، وكان جميع من شهد معه من الصحابة ألفين وثمانمائة.

وحكى المسعودي أيضاً عن المنذر بن الجارود قال: لما قدم عليٌّ علیه السلام البصرة دخل ممّا يلي الطفَّ، فأتى الزاوية، فخرجت لأنظر إليه، فورد معه موكب في نحو ألف فارس، يقدمهم فارس على فرس أشقر، قلت من هذا؟ قالوا: خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين.

ص: 86

ثُمَّ تلاه فارس آخر، على كميت، معتمٌّ بعمامة صفراء، من تحتها قلنسوة بيضاء، وعليه قباء أبيض أشهب، عليه قلنسوة وثياب بيض، متقلداً سيفاً معه راية، وإذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض والصفرة، مدججين في الحديد والسلاح، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا أبو أيّوب الأنصاري صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وهؤلاء الأنصار وغيرهم.

ثُمَّ تلاه فارس آخر، عليه عمامة صفراء وثياب بيض، متقلداً سيفاً متنكباً قوساً، معه راية، على فرس أشقر، في نحو ألف فارس من النّاس، قلت: من هذا؟ قيل: أبو قتادة بن ربعي.

ثُمَّ مرَّ بنا فارس آخر، على فرس أبيض، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء، قد سدلها من بين يديه ومن خلفه، شديد الأدمة، عليه سكينة ووقار، رافعاً صوته بالقرآن، متقلداً سيفاً متنكباً قوساً، معه راية، في ألف من النّاس مختلفي التيجان، حوله مشيخة وكهول وشبّان، كأنّما أوقفوا للحساب، وأثر السجود في وجوههم، قلت: من هذا؟ قيل: عمّار بن ياسر، في عدّة من الصحابة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم.

ثُمَّ مرَّ بنا فارس على فرس أشقر، عليه ثياب بيض وقلنسوة بيضاء وعمامة صفراء، متقلداً سيفاً متنكباً قوساً، تخطّ رجلاه الأرض، في ألف من النّاس، الغالب على ثيابهم الصفرة والبياض، معه راية صفراء، قلت: من هذا؟ قيل: قيس بن سعد بن عبادة، في عدّة من الأنصار وأبنائهم من قحطان.

ص: 87

ثُمَّ مرَّ بنا فارس على فرس أشهل، ما رأينا أحسن منه، عليه ثياب بيض وعمامة سوداء، قد سدلها من بين يديه ومن خلفه، قلت: من هذا؟ قيل: عبد الله بن عبّاس في عدّة من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

ثُمَّ تلاه موكب آخر، فيه فارس أشبه النّاس بالأوّل، قلت: من هذا؟ قيل: قثم بن العبّاس.

ثُمَّ أقبلت المواكب والرايات يقفو بعضها بعضاً، واشتبكت الرماح.

ثُمَّ ورد موكب فيه خلق من النّاس، عليهم السلاح والحديد، مختلفي الرايات، في أوّله راية كبيرة، يقدم ذلك الموكب فارس كأنّه كسر وجبر (1)، وعن يمينه شاب حسن الوجه، وعن يساره شاب كذلك، وبين يديه شاب مثلهما، قلت: من هؤلاء؟ قالوا: هذا عليٌّ بن أبي طالب علیه السلام علیه السلام وهذان الحسن والحسين علیهما السلام عن يمينه وشماله، وهذا محمّد بن الحنفية رضی الله عنه بين يديه، معه الراية العظمى، وخلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهؤلاء ولد عقيل وغيرهم، من فتيان بني هاشم، وهؤلاء المشايخ من أهل بدر من المهاجرين والأنصار.

فسار حتّى نزل المنزل المعروف بالزاوية، وصلّى أربع ركعات، وعفّر خدّيه على التراب، وقد خالط ذلك دموعه، ثُمَّ رفع يديه وقال: {اللهمَّ ربَّ السماواتِ وما أظلّتْ،

ص: 88


1- قال ابن عائشة: وهذه صفة رجل شديد الساعدين نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء كذلك تخبر العرب في وصفها إذا أخبرت عن الرجل إذا كانت هذه صفته إنه كسر وجبر. ( المؤلف رحمة الله عليه)

والأرضينَ وما أقلّتْ، وربَّ العرشِ العظيمِ، هذهِ البصرةُ أسألُكَ خيرَها وخيرَ ما فيها، وأعوذُ بكَ من شرِّها.

اللهمَّ أنزلنا منزلاً مباركاً وأنتَ خيرُ المنزلينَ .. اللهمَّ إنَّ هؤلاءِ قدْ بغَوا عليَّ، وخالفوا طاعتيْ، ونكثوا بيعَتي .. اللهمَّ احقنْ دماءَ المسلمينَ}.

وبعث إليهم من يناشدّهم الله في الدماء، وقال علیه السلام: {على مّ تقاتلونني؟!}، فأبو إلّا الحرب.

قال المؤلف عفى عنه: وهذا، حين نذكر من أكابر الصحابة وأعيانهم من ثبت عندنا ولاؤه وإخلاصه لأمير المؤمنين وسيد الوصيين صلوات الله عليه وعلى أبنائه الطاهرين، وقد رتبنا هذه الطبقة على بابين.

ص: 89

الباب الأوّل: في بني هاشم وساداتهم من الصحابة العلية والشيعة العلوية

اشارة

ص: 90

أبو طالب بن عبد المطّلب

وإسمه شيبة الحمد بن هاشم، وإسمه عمرو بن عبد مناف، وإسمه المغيرة بن قصي بن كلاب بن مرّة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إليَّاس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

اشتهر بكنيته، واسمه عمران، وقيل: عبد مناف، وقيل: شيبة وهو عم النبيّ صلی الله علیه و آله وكافله ومربيه وناصره، وأمّه فاطمة بنت عمرو بن عائد المخزومية.

ولد قبل النبيّ صلی الله علیه و آله بخمس وثلاثين سنة، وكان سيّد البطحاء وشيخ قريش ورئيس مكّة.

قالوا: ولم يسد في قريش فقير قطّ إلّا أبو طالب وعتبة بن ربيعة، هذا لشرفه وهذا لصدقه، وإنّما كانت قريش تسود بالمال، ولمّا مات عبد المطّلب أوصى بالنبيّ صلی الله علیه و آله إليه فقال:

أوصيك يا عبد مناف بعدي *** بواحدٍ بعد أبيه فردِ

فارقه وهو ضجيع المهد *** فكنت كالأمِّ له في الوجدِ

وفى أبيات أخر فيه تصريح بأن أسم أبي طالب عبد مناف.

ص: 91

فكفل أبو طالب النبيّ صلی الله علیه و آله وأحسن تربيته، وسافر به إلى الشام وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل: تسع سنين، والأوّل أكثر، وكان يحبّ النبي صلی الله علیه و آله حباً شديداً، لا يحبّ أولاده كذلك، وكان لا ينام إلّا إلى جنبه، ويخرجه معه متى خرج.

قال ابن أبي الحديد: قرأت في أمالي أبي جعفر محمّد بن حبيب قال: كان أبو طالب إذا رأى رسول الله صلی الله علیه و آله أحياناً يبكي ويقول: إذا رأيته ذكرت أخي، وكان عبد الله أخاه لأبويه، وكان شديد الحب له والحنو عليه، وكذلك كان عبد المطّلب شديد الحبّ له.

وكان أبو طالب كثيراً ما يخاف على رسول الله صلی الله علیه و آله البيات إذا عُرف مضجعه، وكان يقيمه ليلاً من منامه، ويُضجع إبنه عليّاً مكانه، فقال له عليٌّ علیه السلام ليلة: يا أبه إنّي مقتول، فقال له:

إِصبِرَن يا بُنيَّ فالصبرُ أحجى *** كُلُّ حيٍّ مصيرُهُ لِشَعُوبِ

قدْ بَذلناكَ والبلاءُ شديدٌ *** لفداءِ الحبيبِ وابنِ الحبيبِ

لفداءِ الأغرِّ ذي الحسب الثا *** قب والباع والكريم النجيب

إن تصبك المنون فالنبل تترى *** فمصيب منها وغير مصيب

كُلُّ حيٍّ وإن تَملّى بعمرٍ *** آخذٌ من مذاقها بنصيب

فقال عليٌّ علیه السلام مجيباً له:

ص: 92

أتأمرني بالصبر في نصر أحمدٍ *** وَواللهِ ما قلت الذي قلت جازعا

ولكنني أحببت أن تر نصرتي *** وتعلم أني لم أزل لك طائعا

سأسعى لوجه الله في نصر أحمد *** نبيّ الهدى المحمود طفلاً ويافعا

أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفة قال: قدمت مكّة وهم في قحط فقالت قريش: يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم لنستسقي؛ فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنّ وجهه شمس دجن تجلّت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بإصبعه، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق واغدودق، وانفجر الوادي، وأخصب النادي والبادي، وفى ذلك يقول أبو طالب علیه السلام:

وأبيضَ يُستسقى الغمامُ بوجههِ *** ثُمَّالُ إليَّتامى عصمةٌ للأراملِ

تطوفُ به الهلّاك من آل هاشم *** فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ

ولما أمر الله سبحانه رسوله صلی الله علیه و آله أن يصدع بما أُمر به، فقام بإظهار دين الله وشهر أمره، ودعا النّاس إلى الإسلام على رؤوس الأشهاد، وذكر آلهة قريش وعابها، أعظمت ذلك قريش وأنكروه، وأجمعوا على عداوته وخلافه، وأرادوا به السوء، فقام أبو طالب علیه السلام بنصرته ومنعه منهم، وذبَّ عنه من عاداه، وحال بينه وبين كفار قريش.

ص: 93

فلمّا رأت قريش محاماة أبي طالب عنه وقيامه دونه، وامتناعه من أن يسلّمه مشى إليه رجال من أشراف قريش، منهم عتبة بن ربيعة، وشيبة أخوه، وأبو سفيان صخر بن حرب، وأبو البحتري بن هشام، والأسود بن المطّلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه إبنا الحجّاج، وأمثالهم من رؤساء قريش فقالوا له: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلل آراءنا، فإمّا أن تكفّه عنّا، وإمّا أن تخلّي بيننا وبينه، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً وردهم رداً جميلا فانصرفوا عنه.

ومضى رسول الله صلی الله علیه و آله على ما هو عليه ليظهر دين الله ويدعو إليه، فوقع التضاغن في قلوبهم، حتّى أكثرت قريش ذكر رسول الله صلی الله علیه و آله بينها وتآمروا فيه، وحضَّ بعضهم بعضاً عليه، فمشوا إلى أبي طالب مرّة ثانية فقالوا: يا أبا طالب إن لك سنّاً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنّا قد استنهىناك من إبن أخيك فلم تنهه عنا، وإنّا والله لا نصبر على شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، فإمّا أن تكفّه عنّا، أو ننازله وإياك حتّى يهلك أحد الفريقين، ثُمَّ انصرفوا.

فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم تطب نفسه بإسلام إبن اخيه لهم ولا خذلانه، فبعث إليه فقال له: يا ابن اخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيقه.

قال: فظنّ رسول الله صلی الله علیه و آله أنّه قد بدا لعمّه فيه بداءٌ، وأنّه خاذله ومسلمه، وأنّه قد ضعف عن نصرته والقيام دونه، فقال: [يا عمّ واللهِ لوْ وضعواْ الشمسَ فيْ يمينيْ

ص: 94

والقمرَ في شمالي، علىْ أنْ أتركَ هذا الأمرَ ما تركتهُ حتّى يُظهرهُ اللهُ أوْ أهلكَ فيهِ]، ثُمَّ استعبر باكياً وقام وولّى.

فلمّا ولّى ناداه أبو طالب: أقبل يا ابن اخي، فأقبل راجعاً، فقال له: إذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أُسلمك لشيء أبداً.

وقال أبو طالب علیه السلام يذكر ما اجتمعت عليه قريش من حربه، لمّا قام بنصر محمّد صلی الله علیه و آله:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتّى أوسّد في التراب دفينا

فإنفذ لأمرك ما عليك مخافة *** وابشر وقرّ بذاك منه عيونا

ودعوتني وزعمت أنّك ناصحي *** ولقد صدقتَ وكنتَ قبلُ أمينا

وعرضت ديناً قد علمت بأنّه *** من خير أديان البريّة دينا

لولا الملامة أو حذارى سبّة *** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

قال بعض علمائنا: اتُفق على نقل الأبيات الأربعة قبل البيت الخامس: مقاتل والثعلبي وابن عبّاس والقاسم وابن دينار، وزاد أهل الزيغ والضلال البيت الخامس ظلماً وزوراً، إذ لم يكن في جملة أبياته مسطوراً، ولم ينتبهوا للتناقص الذي فيه ومنافاته باقي الأبيات.

ص: 95

قلت: وزيادة هذا البيت لا تنافي إسلامه رضی الله عنه؛ لأن مفهومه لولا حذار الشغب من قريش وخوف الفتنة التي توجب المسبّة عندهم لأظهرت ما تدعوني إليه، وبينته على رؤوس الأشهاد، وهذا لا ينافي إسلامه باطناً واعتقاده الحقّ، كما دلّ عليه سائر الأبيات، وغيره من شعره.

ثُمَّ إن قريشاً حين عرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلی الله علیه و آله وإسلامه إليهم، ورأوا إجماعه على مفارقتهم وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان أجمل فتى في قريش، فقالوا له: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أبهى فتى في قريش وأجمله، فخذه إليك فاتّخذه ولداً فهو لك، وسلّمْ لنا هذا ابن أخيك الذي خالف دينك ودين آبائك وفرّق جماعة قومك لنقتله، فإنّما هو رجل برجل.

فقال أبو طالب علیه السلام: والله ما أنصفتموني! تعطوني إبنكم أغذوه لكم، وأعطيكم إبني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبداً.

فقال له مطعم بن عدي بن نوفل - وكان له صديقاً مصافياً -: والله يا أبا طالب ما أراك تريد أن تقبل من قومك شيئاً، لعمري لقد جهدوا في التخلّص ممّا تكره، وأراك لا تنصفهم.

فقال أبو طالب علیه السلام: والله ما أنصفوني ولا أنصفتني، ولكنّك قد اجتمعت على خذلاني ومظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك.

ص: 96

قال: فعند ذلك تنابذ القوم وثارت الأحقاد، ونادى بعضهم بعضاً، وتذمّروا بينهم على من في القبائل من المسلمين الذين اتبعوا محمّداً صلی الله علیه و آله، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها منهم، يعذبونهم ويفتنونهم في دينهم، ومنع الله تعالى رسوله منهم بعمّه أبي طالب.

وقام في بني هاشم وبني المطّلب حين رأى قريشاً تصنع ما تصنع، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلی الله علیه و آله والقيام دونه، فاجتمعوا إليه، وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه من الدفاع عن رسول الله صلی الله علیه و آله، إلّا ما كان من أبي لهب، فإنّه لم يجتمع معهم على ذلك.

قيل: ولم يؤثر عن أبي لهب خير قطّ إلّا ما روي أن أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، لمّا وثب عليه قومه ليعذبونه، ويفتنونه عن الإسلام، هرب منهم فاستجار بأبي طالب علیه السلام، وأمّ أبي طالب مخزومية، وهي أمّ عبد الله والد رسول الله صلی الله علیه و آله فأجاره.

فمشى إليه رجال من بني مخزوم وقالوا: يا أبا طالب هبك منعت منّا ابن أخيك محمّداً، فمالك ولصاحبنا تمنعه منّا؟.

قال: إنّه استجار بي، وهو إبن أختي، وإن أنا لم أمنع ابن اختي لم أمنع ابن أخي، فارتفعت أصواتهم وصوته، فقام أبو لهب - ولم ينصر أبا طالب قبلها ولا بعدها - فقال: يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، لا تزالون تتوثبون عليه في جواره من بين قومه، أما والله لتنتهنّ عنه أو لنقومنّ معه فيما قام فيه، حتّى يبلغ

ص: 97

ما أراد، فقالوا: بل ننصرف عمّا تكره يا أبا عتبة، فقاموا فانصرفوا، وكان وليّاً لهم، ومعينا على رسول الله صلی الله علیه و آله وأبي طالب فاتقوه، وخافوا أن تحمله الحميّة على الإسلام.

ثُمَّ لمّا رأت قريش أنّها لا تصل إلى محمّد صلی الله علیه و آله لقيام أبي طالب علیه السلام دونه، أجمعت على أن تكتب بينها وبين بني هاشم صحيفة، يتعاقدون فيها أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، فكتبوها وعلّقوها في جوف الكعبة تأكيداً على أنفسهم.

وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.

فلمّا فعلوا ذلك انحازت بنو هاشم والمطّلب فدخلوا كلّهم مع أبي طالب في الشِعب، فاجتمعوا إليه، وخرج منهم أبو لهب إلى قريش فظاهرها على قومه.

فضاق الأمر ببني هاشم وعدموا القوت، إلّا ما كان يحمل إليهم سرّاً وخفية، وهو شيء قليل لا يسدّ أرماقهم.

وأخافتهم قريش فلم يكن يظهر منهم أحد، ولا يدخل إليهم أحد، وذلك أشدّ ما لقي رسول الله صلی الله علیه و آله وأهل بيته بمكّة.

فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً، حتّى جهدوا أن لا يصل إليهم شيء إلّا القليل سرّاً ممّن يريد صلتهم من قريش.

وقد كان أبو جهل بن هشام لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى، معه غلام يحمل قمحاً يريد به عمّته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله صلی الله علیه و آله

ص: 98

محاصرة في الشِعب، فتعلّق به، وقال: أتحمل الطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتّى أفضحك بمكّة، فجاءه أبو البختري العاص بن هشام بن الحرث بن أسد بن عبد العزّى، فقال: مالك وله؟ قال: إنّه يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال أبو البختري: يا هذا إن طعاماً كان لعمّته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟! خلِّ سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتّى نال كلٌّ منهما من صاحبه، فأخذ له أبو البختري لحى بعير فضربه به، فشجّه ووطأه وطأً شديداً، فانصرف وهو يكره أن يعلم رسول الله صلی الله علیه و آله وبنو هاشم بذلك فيشمتوا به.

وبعث الله تعالى على صحيفتهم الأرضة فأكلتها، قيل: إلّا إسم الله، وأطلع الله رسوله صلی الله علیه و آله على ذلك، فذكره رسول الله صلی الله علیه و آله لعمّه أبي طالب، فقال أبو طالب: أربُّك أطلعك على هذا؟ قال: نعم، قال: فوالله ما يدخل عليك أحد.

فانطلق في عصابة من بني هاشم والمطّلب إلى المسجد، فلمّا رأتهم قريش أنكروا ذلك، وظنّوا أنهم خرجوا من شدّة البلاء ليسلّموا رسول الله صلی الله علیه و آله، فقالوا لأبي طالب: قد آن أن ترجعوا عمّا أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال: إنّما أتيتكم بأمر نصف بيننا وبينكم.. إن ابن أخي أخبرني أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله عليها دابة فأبقت اسم الله، وأكلت غدركم وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان كما قال فلا والله ما نسلّمه حتّى نموت عن آخرنا، وإن كان باطلاً دفعناه إليكم.

ص: 99

قالوا: قد رضينا، ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر الصادق صلی الله علیه و آله، فقالوا: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغياً وعدواناً، فقال أبو طالب: يا معشر قريش على مَ نحصر ونحبس، وقد بان الأمر وتبين أنّكم أولى بالظلم والقطيعة؟!.

ثُمَّ دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة، وقال: اللهمَّ انصرنا على من ظلمنا، وقطع أرحامنا، واستحلّ ما يحرم عليه منّا، ثُمَّ انصرف إلى الشِعب.

ولمّا أراد الله سبحانه إبطال الصحيفة، والفرج عن بني هاشم من الضيق والذلّ الذي كانوا فيه، قيّض هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، فقام في ذلك أحسن قيام.

وذلك أن أبا عمرو بن الحارث كان اخاً لنصلة بن هاشم بن عبد مناف بن قصي من أمّه، فكان هشام بن عمرو بحسب ذلك واصلاً لبني هاشم، وكان ذا شرف في قومه بني عامر بن لؤي، فكان يأتي بالبعير ليلاً وقد أوقره طعاماً، وبنو هاشم وبنو المطّلب في الشِعب، حتّى إذ أقبل به فم الشِعب خلع خطامه من رأسه، ثُمَّ يضربه على جنبه فيدخل الشِعب عليهم، ثُمَّ يأتي به مرّة أخرى، وقد أوقره تمراً، فيصنع به مثل ذلك.

ثُمَّ إنه مشى إلى زهير بن أبي امية بن المغيرة المخزومي، فقال: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت .. لا يبتاعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، ولا يواصلون ولا

ص: 100

يزارون؟!، أما إني أحلف لو كان اخوال أبي الحكم بن هشام ودعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك أبداً.

قال: ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنّما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقض هذه الصحيفة القاطعة، فقال: قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال زهير: إبغنا ثالثاً، فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، فقال له: يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف جوعاً وجهداً وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذا لتجدنّ قريشاً إلى مساءتكم في غيره سريعة.

قال: ويحك ماذا أصنع؟، إنّما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانياً، قال: من هو؟، قال: أنا، قال: إبغنا ثالثاً، قال: قد وجدت قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي امية.

قال: إبغنا رابعاً، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحو ما قال لمطعم، قال: وهل من أحد يعين على ذلك؟ قال: نعم، وذكرهم له، قال: فابغنا خامساً، فمضى إلى زمعة بن الأسود بن المطّلب بن أسد بن أبي العزّى فكلّمه، فقال: وهل يعين على ذلك من أحد؟ قال: نعم، ثُمَّ سمّى له القوم، فاتّعدوا حطيم الحجون ليلاً بأعلى مكّة فأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتّى ينقضوها. وقال زهير: أنا أبدأكم وأكون أوّلكم في التكلم.

ص: 101

فلمّا أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أميّة، عليه حلّة، فطاف بالبيت سبعاً، ثُمَّ أقبل على النّاس فقال: يا أهل مكّة أنأكل الطعام ونشرب الشراب ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى؟! والله لا أقعد حتّى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

وكان أبو جهل في ناحية المسجد، فقال: كذبت والله لا تشقّ، فقال زمعة بن الأسود لأبي جهل: أنت والله أكذب، ما رضينا والله بها حين كتبت، فقال أبو البختري معه: صدق والله زمعة، لا نرضى بها ولا نقرّ بما كتب فيها، فقال المطعم بن عدي: صدقا والله، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها وممّا كتب فيها، وقال هشام بن عمرو مثل قولهم، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل.

وقام مطعم بن عدي إلى الصحيفة فحطّها وشقّها، فوجد الأرضة قد أكلتها، إلّا ما كان من (باسمك اللهمَّ).

قالوا: وإمّا كاتبها منصور بن عكرمة فشلّت يده فيما يذكرون.

فلمّا مزّقت الصحيفة خرج بنو هاشم من حصار الشِعب، فلم يزل أبو طالب علیه السلام ثابتاً صابراً مستمراً على نصرة رسول الله صلی الله علیه و آله وحمايته والقيام دونه حتّى مات.

واعلم أنّه لا خلاف عندنا في إسلام أبي طالب رضی الله عنه .

نقل ابن الأثير في جامع الأصول، إجماع أهل البيت علیهم السلام على إيمانه، وإجماعهم حجّة، ووافقنا على ذلك أكثر الزيدية، وبعض شيوخ المعتزلة، منهم الشيخ أبو القاسم البلخي، وأبو جعفر الإسكافي، وغيرهما.

ص: 102

ولنا في ايمانه رضی الله عنه روايات، منها:

ما روي عن حماد بن سلة عن ثابت عن إسحق بن عبد الله عن العبّاس بن عبد المطّلب رضی الله عنه قال: قلت لرسول الله صلی الله علیه و آله: يا ابن أخي ما ترجو لأبي طالب عمّك من الله سبحانه فقال صلی الله علیه و آله: [أرجوْ لهُ رحمةَ اللهِ منْ ربِّي، وكلَّ خيرٍ].

ومنها ما روته العامّة أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة إلى النبيّ صلی الله علیه و آله عام الفتح يقوده، وهو شيخ كبير أعمى، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله: [ألا تركتَ الشيخَ حتّى نأتيَه]، فقال: أردت يا رسول الله أن يؤجره الله، أما والذي بعثك بالحقّ نبياً لأنا كنت أشدّ فرحاً بإسلام عمّك أبي طالب مني بإسلام أبي؛ لألتمس بذلك قرّة عينك، قال: صدقت.

ومنها ما روي بأسانيد كثيرة، بعضها عن العبّاس بن عبد المطّلب رضی الله عنه، وبعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة: أن أبا طالب علیه السلام ما مات حتّى قال: لا إله إلّا الله، محمّد رسول الله.

ومنها الخبر المشهور: أن أبا طالب علیه السلام عند الموت قال كلاماً خفيّاً، فأصغى إليه أخوه العبّاس، ثُمَّ رفع رأسه إلى رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: يا ابن أخي، والله لقد قالها عمّك، ولكنه ضعف عن أن يبلغك صوته.

ومنها ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال: ما مات أبو طالب حتّى أعطى رسول الله صلی الله علیه و آله من نفسه الرضا.

ص: 103

ومنها ما روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق علیهما السلام أن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: [إنَّ أصحابَ الكهفِ أسرّوا الإيمانَ وأظهروا الشركَ، فآتاهم اللهُ أجرَهم مرّتينِ، وإنَّ أبا طالب علیه السلام أسرَّ الإيمان وأظهر الشركَ، فآتاه الله أجره مرتين].

ومنها ما روي عن محمّد بن علي الباقر علیهما السلام أنّه سئل عمّا يقوله النّاس: أن أبا طالب علیه السلام في ضحضاح من النار، فقال علیه السلام: (لو وضع إيمان أبي طالب علیه السلام في كفّة ميزان، وإيمان هذا الخلق في الكفّة الأخرى، لرجح إيمانه)، ثُمَّ قال: (ألم تعلموا أن أمير المؤمنين علیه السلام كان يأمر أن يُحجَّ عن عبد الله وأبيه أبي طالب في حياته، ثُمَّ أوصى وصيته بالحجّ عنهما).

ومنها ما روي عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عن أبيه عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه كان ذات يوم جالساً بالرحبة، والنّاس حوله مجتمعون، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنّك بالمكان الذي أنزلك الله عزَّ وجلَّ به، وأبوك يعذب بالنار! فقال علیه السلام: {صهْ فضَّ اللهُ فاك، والذي بعث محمّداً صلی الله علیه و آله بالحقِّ، لوْ شفعَ أبي في كلِّ مذنبٍ على وجهِ الأرضِ، لشفّعهُ اللهُ فيهمْ .. أبي يُعذّبُ بالنّار وابنهُ قسيم الجنّةِ والنارِ!}.

ثُمَّ قال: {والذي بعثَ محمّداً صلی الله علیه و آله إنَّ نورَ أبيْ طالبَ يومَ القيامةِ ليطفئُ أنوارَ الخلقِ إلّا خمسةَ أنوارٍ .. نور محمّدٍ صلی الله علیه و آله،ونوري، ونور فاطمةَ، ونور الحسنِ والحُسينِ، ومَنْ ولدتُه من الأئمّةِ؛ لأنَّ نورَه منْ نورِنا الذي خلقَهَ اللهُ تعالى منْ قبلِ أنْ يخلقَ اللهُ آدمَ علیه السلام بألفيْ عامٍ}.

ص: 104

ومنها ما روي أن أبان بن محمّد كتب إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا علیهما السلام: جعلت فداك إنّي قد شككت في إسلام أبي طالب، فكتب علیه السلام إليه (﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً﴾ (1)، وبعدها: إنّك إن لم تقرْ بإيمان أبي طالب علیه السلام كان مصيرك إلى النار).

ومنها ما روي عن زين العابدين عليّ بن الحسين علیهما السلام أنّه سئل عن إسلام أبي طالب علیه السلام فقال علیه السلام: (واعجباً أن الله تعالى نهى رسوله صلی الله علیه و آله أن يقرّ مسلمة على نكاح كافر، وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، ولم تزل تحت أبي طالب علیه السلام حتّى مات).

ومنها رواية عن النبيِّ صلی الله علیه و آله، حدّث الحسين بن علي علیهما السلام عن أبيه قال: (سمعت أبا طالب علیه السلام يقول: حدثني محمّد صلی الله علیه و آله ابن أخي قلت له: بماذا بعثت يا محمّد قال: [بصلةِ الأرحامِ، وأنْ يُعبدَ اللهُ وحدهُ، ولا يُعبدُ معهُ أحدٌ]، ومحمّد الصادق الأمين).

ومنها ما روي عن عبد الله بن عبّاس عن أبيه قال: قال أبو طالب علیه السلام للنبي صلی الله علیه و آله: يا بن الأخ ألله أرسلك؟؟ قال النبيّ صلی الله علیه و آله: نعم، قال: فأرني آية، قال: [أُدعُ ليَ تلكَ

ص: 105


1- سورة النساء – الآية: 115

الشجرةَ]، فدعاها فأقبلت حتّى سجدت بين يديه ثُمَّ انصرفت، فقال أبو طالب علیه السلام: أشهد أنك صادق .. يا عليُّ صِلْ جناح ابن عمك.

ومنها ما روي عن أبي عبد الله علیه السلام قال: (إن أبا طالب أسلم بحساب الجمل).

وعنه علیه السلام أنّه قال: (أسلم أبو طالب بحساب الجمل)، وعقد بيده ثلاثاً وستين.

قال إبن بابويه في معاني الأخبار: سئل أبو القاسم الحسين بن روح عن معنى هذا الخبر فقال عنى بذلك إلهٌ أحدٌ جوادٌ .. قال: وتفسير ذلك أن الألف واحد واللام ثلاثون والهاء خمسة، والألف واحد والحاء ثمانية والدال اربعة، والجيم ثلاثة والواو ستة والألف واحد والدال اربعة، فذلك ثلاثة وستون.

ومنها ما رواه ابن بابويه في (أماليه) بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير الهاشمي قال: سمعت أبا عبد الله الصادق علیه السلام يقول: (نزل جبرئيل على النبيّ صلی الله علیه و آله فقال: يا محمّد إن الله جل جلاله يقرئك السلام ويقول: [[إنّيْ قدْ حرّمتُ النّارَ على صُلبٍ أنزلكَ، وبطنٍ حملكَ، وحجْرٍ كفلكَ]] فقال صلی الله علیه و آله: [يا جبرئيلُ بيّنْ ليَ ذلكَ]، فقال: إمّا الصلب الذي أنزلك فعبد الله بن عبد المطّلب، وأمّا البطن الذي حملك فآمنة بنت وهب، وأمّا الحجْر الذي كفلك فأبو طالب بن عبد المطّلب وفاطمة بنت أسد.

قالت الإمامية: ومما يدلّ على إيمانه خطبة النكاح التي خطبها عند نكاح رسول الله صلی الله علیه و آله خديجة بنت خويلد رضی الله عنها وهي: (الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم علیه السلام

ص: 106

وزرع إسماعيل علیه السلام وجعل لنا بلداً حراماً وبيتاً محجوباً (1)، وجعلنا الحكام على النّاس.

ثُمَّ إن محمّد بن عبد الله أخي من لا يوازن به فتى من قريش إلّا رجح عليه برّاً وفضلاً وحزماً وعقلاً ورأياً ونبلاً، وإن كان في المال مقلّاً فإنّما المال ظلّ زائل وعارية مسترجعة.

وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليَّ، وله والله بعد نبأ شايع وخطب جليل .. )

قالوا: أفتراه يعلم نبأه الشايع وخطبه الجليل، ثُمَّ يعانده ويكذبه، وهو من أوّلي الألباب؟!.. هذا غير سائغ في العقول.

قال المؤلف عفى عنه: إني لا أكاد أقضي العجب ممن ينكر إيمان أبي طالب علیه السلام، أو يتوقف فيه، وأشعاره التي يرويها المخالف والموالف صريحة في صراحة إسلامه وأيّ فرق بين المنظوم والمنثور إذا تضمنا إقراراً بالإسلام؟!.

فمن أشعاره الدالة صريحاً على إسلامه قوله:

ألا بلّغا عني على ذات بينها *** لؤيّا وخصّا من لؤي بني كعب ِ

الم تعلموا أنّا وجدنا محمّداً *** نبيّاً كموسى خُطّ في أوّل الكتب

ص: 107


1- وروي محجوجاً. (المؤلف رحمة الله عليه)

وأن عليه في العباد محبة *** ولا حيف فيمن خصّه الله بالحب

وقوله:

ترجّون منّا خطة دون نيلها *** ضراب وطعن بالوشيج المقوّم ِ

ترجّون أن نسخى بقتل محمّد *** ولم تختضب سمر العوإليَّ من الدم

كذبتم وبيت الله حتّى تفلّقوا *** جماجم تلقى بالحطيم وزمزم

وتقطع أرحام وتنسى خليلةٌ *** خليلاً ويغشى محرم بعد محرم ِ

على ما مضى من مقتكم وعقوقكم *** وغشيانكم في أمركم كلّ مأثم

وظلم نبيٍّ جاء يدعو إلى الهدى *** وأمر أتى من عند ذي العرش قيّم

ص: 108

فلا تحسبونا مسلميه فمثله *** إذا كان في قوم فليس بمسلم

وقوله:

فلا تسفهوا أحلامكم في محمّد *** ولا تتبعوا أمر الغواة الأثائم ِ

تمنيتم أن تقتلوه وإنّما *** امانيكم هذي كأحلام نائم

وإنّكم والله لا تقتلونه *** ولما تروا قطف اللحى والجماجم

زعمتم بأنّا مسلمون محمّداً *** ولما نقاذف دونه ونراجم

من القوم مفضال أبيّ على العدى *** تمكّن في الفرعين من آل هاشم

أمين حبيب في العباد مسوّم

ص: 109

بخاتم ربٍّ قاهر في الخواتم ِ

يرى النّاس برهاناً عليه وهيبة *** وما جاهل في قومه مثل عالم

وقوله, وقد غضب لعثمان بن مظعون الجمحى حين عذبته قريش ونالت منه:

أمن تذكر دهر غير مأمون *** أصبحت مكتئباً تبكي لمحزون ِ

أمن تذكر أقوام ذوي سفه *** يغشون بالظلم من يدعو إلى الدين

ألا ترون أذل الله جمعكم *** أنّا غضبنا لعثمان بن مظعون

ونمنع الضبم من يبغي مضيمتنا *** بكلّ مطّرد في الكفّ مسنون

حتّى تقرّ رجال لا حلوم لها *** بعد الصعوبة بالإسماح واللين

أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب *** على نبيٍّ كموسى أو كذي النون

وقد جاء في الخبر أن أبا جهل بن هشام جاء مرّة إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وهو ساجد وقد أخذ بيده حجراً يريد ان يرضخ به رأسه، فلصق الحجر بيده فلم يستطع ما أراد، فقال أبو طالب علیه السلام في ذلك من أبيات:

أفيقوا بني عمنا وانتهو *** عن الغيّ من بعض ذا المنطق ِ

ص: 110

وإلّا فإنّي إذاً خائف *** بوائق في داركم تلتقي

كما ذاق من كان من قبلكم *** ثمود وعاد ومن ذا بقي

وأعجب من ذاك في أمر كم *** عجائب في الحجر الملصق

بكفّ الذي قام من خبثه *** إلى الصابر الصادق المتقي

فأثبته الله في كفّه *** على رغمة الخائن الأحمق

وقوله من أبيات هي من مشهور شعره:

أنت النبيّ محمّدُ *** قرمٌ أغرُّ مسودُ

لمسوّدين أكارمٍ *** طابوا وطالب المولد

نعم الأرومةُ أصلها *** الخضمُّ الأوحد

ولقد عهدتك صادقاً *** في القول لا تتزيد

واشتهر عن عبد الله المأمون بن هارون الرشيد انه كان يقول: أسلم والله أبو طالب بقوله:

نصرت الرسول رسول الإله *** ببيض تلالا كلمع البروق ِ

أذبُّ وأحمي رسول الإله *** حماية عمٍّ عليه شفيق

ص: 111

وروي عن أمير المؤمنين علي علیه السلام أنه قال: قال لى أبي: يا بنيَّ إلزم ابن عمك فإنّك تسلم به من كل بأس عاجل وآجل.

ثُمَّ قال لي:

إن الوثيقة في لزوم محمّد *** فأشدّد بصحبته عليُّ يديكا

ومن شعره المناسب لهذا المعنى قوله لعليٍّ وجعفر ابنيه علیهما السلام:

إنّ عليّاً وجعفراً ثقتي *** عند ملمِّ الزمان والنوب ِ

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمّي من بينهم وأبي

والله لا أخذل النبيّ ولا *** يخذله من بنيَّ ذو حسب

وقوله يخاطب أخاه حمزة وكان يكنى أبا يعلى:

فصبراً أبا يعلى على دين أحمد *** وكن مظهراً للدين وفّقت صابرا

وحطْ من أتى بالحق من عند ربّه *** بصدق وعزم لا تكن حمز كافرا

فقد سرّني إذ قلت أنّك مؤمن *** فكن لرسول الله في الله ناصرا

وناد قريشاً بالذي قد أتيته *** جهاراً وقل ما كان أحمد ساحرا

ص: 112

وكلّ هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر؛ لأنّه إن لم تكن آحادها متواترة فمجموعها يدلّ على أمر واحد, وهو تصديقه رضی الله عنه محمّداً صلی الله علیه و آله .

ومجموعها متواتر، كما أن كل واحد من قتلات علي علیه السلام الفرسان منقولة آحاداً ومجموعها متواتر يفيدنا العلم الضروري بشجاعته، وكذلك القول فيما يروى عن سخاء حاتم، وحلم الأحنف، وذكاء إياس ونحو ذلك.

وما قول منكري إسلامه رضی الله عنه في قصيدته اللامية التي شهرتها كشهرة (قفا نبك)، وإن جاز الشك فيها، أو في شيء من أبياتها جاز الشك في (قفا نبك) وفى بعض أبياتها وهو يقول فيها:

وأبيضَ يُستَسْقَى الغَمَامُ بوَجهِهِ *** ثُمَّال إليَّتامَى عِصمَةٌ للأرامِلِ

يَطوفُ بهِ الهُلاَّكُ مِن آلِ هاشِمٍ *** فهُم عندَهُ في نِعمةٍ وفَواضِلِ

لقد علموا أنَّ ابنَنَا لا مُكَذَّبٌ *** لَدَينا، ولا يُعنَى بقولِ الأباطِلِ

فأصبح منّا أحمد في أُرُومَةٍ *** يُقَصِّرُ عَنها سَورةُ المُتطاول

لَعَمْري لَقد كُلِّفتُ وَجداً بأحمد *** وأحببتِهِ حبَ المحبيبِ المُواصِلِ

وجُدْتُ بنفسِي دُونَه وَحَمَيتُهُ *** ودافَعتُ عنهُ بالذرى والكلاكِلِ

فلا زالَ في الدُنيا جَمالاً لأهلها *** وشيناً لمنْ عادىْ وزينَ المحافلِ

ص: 113

فمَن مِثلُهُ في النّاس أيّ مُؤمَّلٌ *** إذا قاسهَ الحُكّامُ عندَ التفاضُلِ

حليمٌ، رَشيدٌ، عادِلٌ، غيرُ طائِشٍ *** يوإليَّ إلهاً ليسَ عنهُ بغافلِ

فأَيَّدَهُ رَبُّ العِبادِ بنَصرِهِ *** وأظهرَ دِيناً حَقُّهُ غير ناصلِ

وهي قصيدة طويلة جداً أخذنا منها غرضنا هنا.

قال ابن كثير: هي قصيدة بليغة جداً لا يستطيع ان يقولها إلّا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى.

قال أصحابنا رضوان الله عليهم: إنّما لم يظهر أبو طالب علیه السلام الإسلام ويجاهر به؛ لأنّه لو أظهره لم يتهيّأ له من نصرة النبيّ صلی الله علیه و آله ما تهيأ له، وكان كواحد من المسلمين الذين أظهروه، ولم يتمكن من نصرته والقيام دونه حينئذ، وإنّما تمكن من نصرته والمحاماة عنه بالثبات في الظاهر على دين قريش وإن أبطن الإسلام.

وما أحسن قول السيد أبي محمّد عبد الله بن حمزة الحسيني الزيدي من قصيدة:

حماه أبونا أبو طالب *** وأسلم والنّاس لم تسلم ِ

وقد كان يكتم ايمانه *** وإمّا الولاء فلم يكتم

وأمّا ما روته العامّة عن النبيّ صلی الله علیه و آله أنّه قال: إن الله قد وعدني بتخفيف عذابه لما صنع في حقي، وأنه في ضحضاح من نار، فهو خبر يروونه كلّهم عن رجل واحد

ص: 114

وهو المغيرة بن شعبة، وبغضه لبني هاشم وعلى الخصوص لعلي علیه السلام مشهور معلوم, وقصته وخبره غير خافٍ فبطل التمسك به.

وما روته أيضاً من أن عليّاً علیه السلام وجعفراً لم يأخذا من تركة أبي طالب علیه السلام شيئاً حديث موضوع، ومذهب أهل البيت علیهم السلام بخلاف ذلك، فإن المسلم عندهم يرث الكافر، ولا يرث الكافر المسلم ولو كان أعلى درجة منه في النسب.

قالوا: وقوله صلی الله علیه و آله:[لا توارث بين أهل الملتين].. نقول بموجبه: لأن التوارث تفاعل، ولا تفاعل عندنا في ميراثهما، واللفظ الذي يستدعي الطرفين كالتضارب لا يكون إلّا من اثنين.

وورد في السير والمغازي أن عتبة بن ربيعة أو أخاه شيبة لما قطع رجل عبيدة بن الحرث بن عبد المطّلب يوم بدر، أقبل عليه علي وحمزة علیهما السلام فاستنقذاه منه، وخبطا عتبة بسيفهما حتّى قتلاه، واحتملا صاحبها من المعركة إلى العريش فألقياه بين يدى رسول الله صلی الله علیه و آله وأن مخَّ ساقه ليسيل، فقال: يا رسول الله لو كان أبو طالب حيّاً لعلم أنه قد صدق في قوله حيث يقول:

كذبتم وبيت الله نخلي محمّدا *** ولما نطاعن دونه ونناضل

وننصره حتّى نصرّع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال: إن رسول صلی الله علیه و آله إستغفر له ولأبي طالب علیه السلام يوم بدر، وبلغ عبيدة مع النبيّ صلی الله علیه و آله إلى الصفراء ومات ودفن بها.

ص: 115

وقد روى أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلی الله علیه و آله في عام جدب فقال: أتيناك يا رسول الله ولم يبق لنا صبي يرتضع ولا شارف يجتر، ثُمَّ أنشد يقول:

أتيناك والعذراء تدمى لبانها *** وقد شغلت أمّ الرضيع عن الطفل ِ

وألقى بكفيه الفتى لاستكانة *** من الجوع حتّى ما يمرّ ولا يحلي

وليس لنا إلّا إليك فرارنا *** وأين فرار النّاس إلا إلى الرسل

فقام النبيّ صلی الله علیه و آله يجرّ رداءه حتّى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: [اللهمَّ أسقناْ غيثاً مغيثاً مريئاً هنيئاً مريعاً سجالاً غدقاً طبقاً دائماً درراً، تحييْ بهِ الأرض وتنبتُ بهِ الزرعَ وتدرُّ بهِ الضرعَ، واجعلهُ سقياً نافعاً عاجلاً غيرَ رايثٍ].

فوالله ما رد رسول الله صلی الله علیه و آله يده إلى نحره حتّى ألقت السماء ارواقها وجاء النّاس يضجون الغرق الغرق يا رسول الله، فقال: [اللهمَّ حَوإلينا وَلاْ عَليناْ]، فانجاب عن المدينة حتّى استدار حولها كالأكليل، فضحك رسول الله صلی الله علیه و آله حتّى بدت نواجده، ثُمَّ قال لله درّ أبي طالب لو كان حيّاً لقرّت عينه، من ينشدنا قوله، فقام عليٌّ علیه السلام فقال: يا رسول الله لعلك أردت (وأبيض يستسقى الغمام بوجهه) قال: أجل، فأنشده أبياتاً من هذه القصيدة ورسول الله صلی الله علیه و آله يستغفر لأبي طالب علیه السلام على المنبر، ثُمَّ قام رجل من كنانة فأنشده أبياتا:

لك الحمد والحمد ممن شكر *** سقينا بوجه النبيّ المطرْ

ص: 116

دعا الله خالقه دعوة *** إليه واشخص منه البصرْ

فإن كان إلّا كما ساعة *** أو اقصر حتّى رأينا الدرر

دفاق العزالى وجم البعاق *** أغاث به الله عليا مضر

فكان كما قاله عمّه *** أبو طالب ذا رواء غزر

به يسر الله صوب الغمام *** فهذا العيان كذاك الخبر

فمن يشكر الله يلق المزيد *** ومن يكفر الله يلق الغير

فقال رسول الله صلی الله علیه و آله: إنْ يكن شاعر أحسن فقد أحسنت.

وسئل العارف بالله السيد الجليل مولانا السيد عبد الرحمن بن أحمد الحسني الإدريسي المغربي نزيل مكّة المشرفة والمتوفي بها سنة سبع وثمانين وألف، وكان من أرباب الحال وأقطاب الرجال عن إسلام أبي طالب رضی الله عنه فأملى ما صورته (إعلم قرّبك الله منه، ورزقك كمال الفهم منه، أن أبا طالب قد قال بإيمانه جمع من أهل الكشف والشهود، ووردت أحاديث تشهد بإسلامه, أوردها الحافظ إبن حجر في (الإصابة) وتكلّم عليها.

وجاء عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام أن جبرئيل علیه السلام أتى النبيّ صلی الله علیه و آله وقال: إن الله يبشرك ببشارة, فقال: إن الله لا يعذب صلباً أنزلك وبطناً حملك وحجْراً

ص: 117

كفلك، قال صلی الله علیه و آله: بين لي يا جبرئيل، فقال: أما الصلب فهو عبد الله، وأمّا البطن فهي آمنة، وأمّا الحجْر فهو أبو طالب.

وأخرج تمّام الرازي في فوائده عن ابن عمر قال: قال رسول صلی الله علیه و آله: [إذاْ كانَ يومُ القيامةِ شفعتُ لأبيْ وأميْ، وعمّيْ أبي طالبَ، وأخٍ ليَ كانَ فيْ الجاهلية] .. أورده المحب الطبري في (ذخائر العقبى).

قال السيوطي في (المسالك): وقد ورد هذا الحديث من طريق آخر عن ابن عبّاس رضی الله عنه أخرجه أبو نعيم، وفيه التصريح بأن الأخ من الرضاعة.

وأخرج الشيخ عبد الوهاب الشعراني حديثاً بأن الله تعالى أحيا أبا طالب علیه السلام للنبي صلی الله علیه و آله .

وإنّما نقلنا هذا الكلام على هذا الوجه ليعلم أن محققي الصوفية وافقونا على إسلامه أيضاً.

فإن قلت: هبكم أجمعتم على إسلامه وإيمانه فكيف قلتم بتشيّعه، وذكرتموه في طبقات الشيعة؟.

قلت: إن النبيّ صلی الله علیه و آله قد أخبر عشيرته في حياته أن عليّاً علیه السلام وصيّه وخليفته بمحضر من أبي طالب رضی الله عنه وغيره من بني عبد المطّلب، فأذعن أبو طالب له بذلك.

ص: 118

روى الثعلبي في تفسيره وغيره مسنداً إلى البراء قال: لما نزلت ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (1)، جمع رسول الله صلی الله علیه و آله بني عبد المطّلب، وهم يومئذ أربعون رجلاً، الرجل منهم يأكل المسنة ويشرب العسّ، فأمر عليّاً علیه السلام أن يذبح شاة فأدمها، ثُمَّ قال صلی الله علیه و آله: [إدنوا باسم الله] فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتّى صدروا، ثُمَّ دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة، ثُمَّ قال لهم: [إشربوا باسم الله] فشربوا حتّى رووا، فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل، فسكت النبيّ صلی الله علیه و آله فلم يتكلم يومئذ.

ثُمَّ دعاهم من الغد على مثل ذلك الطعام والشراب، ثُمَّ أنذرهم صلی الله علیه و آله فقال: [يا بنيْ عبد المطّلب إنّي أنا النذيرُ إليكم منَ اللهِ عزَّ وجلَّ، والبشيرُ لما لمْ يجئْ بهِ أحدٌ، جئتُكمْ بالدنيا والآخرةِ، فأسلموا وأطيعوني تهتدوا .. مَنْ يؤاخينيْ ويؤازرنيْ، ويكونُ ولييّ ووصييّ، وخليفتيْ فيْ أهليْ، ويقضيْ دَيني]، فسكت القوم، وأعاد ذلك ثلاثاً، كلّ ذلك يسكت القوم ويقول علي علیه السلام: أنا، فقال صلی الله علیه و آله: [أنتَ], فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب علیه السلام: أطع إبنك فقد أُمّرَ عليك.

وذكر الطبري في تاريخه: عن عبد الله بن عبّاس عن علي بن أبي طالب علیه السلام قال: {لمّا نزلت هذه الآية ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾على رسول الله صلی الله علیه و آله دعاني فقال: [يا عليُّ إنَّ اللهَ أمرني أنْ أنذرَ عشيرتيَ الأقربينَ، فضقتُ بذلكَ ذرعاً، وعلمتُ أنيْ متىْ أبدأهمْ بهذا الأمرِ رأيتُ منهمْ ما أكرهُ، فصمتُّ حتّى جاءني جبرئيلُ علیه السلام فقالَ: يا

ص: 119


1- سورة الشعراء – الآية: 214

محمّد إنكَ إنْ لمْ تفعلْ ما أُمرتَ بهِ يُعذبكَ ربُّكَ، فاصنعْ صاعاً منَ الطعامِ، واجعلْ عليهِ رجلَ شاةٍ، واملأ عسّاً منْ لبنٍ، ثُمَّ اجمعْ بنيْ عبدِ المطّلب حتّى أكلمهمْ وابلغهمْ ما أمرتُ بهِ].

ففعلتُ ما أمرنيْ بهِ، ثُمَّ دعوتهمْ، وهمْ يومئذٍ أربعونَ رجلاً، يزيدونَ رجلاً أو ينقصونهَ، فيهمْ أعمامُه أبو طالبَ وحمزةَ والعبّاس وأبو لهبٍ، فلمّا اجتمعوا إليه دعيَ بالطعامِ الذي صنعتهُ لهمْ فجئتُ بهِ، فلمّا وضعتهُ تناول رسولُ اللهِ صلی الله علیه و آله بضعةً منَ اللحمِ فشقّها بأسنانهِ، ثُمَّ ألقاها في نواحي الصحفةِ، ثُمَّ قالَ: [كلوا باسمِ اللِه]، فأكلوا حتّى ما لهمْ إلى شيءٍ منْ حاجةٍ، وأيمَ اللهِ الذي نفسُ عليٍّ بيدهِ، إنْ كانَ الرجلُ الواحدُ منهم ليأكلُ ما قدمتهُ لجميعِهم.

ثُمَّ قالَ: [إسقِ القومَ يا عليُّ]، فجئتهمْ بذلكَ العسِّ فشربوا منهُ حتّى رَوَوا جميعاً، وأيمَ اللهِ إن كانَ الرجلُ منهمْ ليشربُ مثلهُ، فلمّا أرادَ رسولُ اللهِ صلی الله علیه و آله أن يكلّمهمْ بدرهُ أبو لهبٍ إلى الكلامِ فقال: لشدّ ما سحرَكمْ صاحبكمْ، فتفرقَ القومُ، ولمْ يكلمهمْ رسولُ اللهِ صلی الله علیه و آله .

فلمّا كانَ منَ الغدِ قالَ رسولُ اللهِ صلی الله علیه و آله: [يا عليُّ إن هذا الرجلَ قدْ سبقني إلى ما سمعتَ منَ القولِ، فتفرقَ القومُ قبلَ أنْ أكلمهمْ، فعدْ لنا اليوم إلى مثلِ ما صنعتَ بالأمسِ ثُمَّ اجمعهمْ لي]، ففعلتُ ثُمَّ جمعتهمْ، ثُمَّ دعا بالطعامِ فقربتهُ لهم، ففعلَ مثلَ ما فعلَ بالأمسِ، فأكلوا حتّى ما لهم بشيءٍ حاجةً، ثُمَّ قالَ: [إسقهمْ]، فجئتهم بذلكَ العس، فشربوا منهُ جميعاً حتّى رووا.

ص: 120

ثُمَّ تكلمَ رسولُ اللهِ صلی الله علیه و آله فقالَ: [يا بني عبد المطّلب إني واللهِ ما أعلمُ أن شاباً في العربِ جاءَ قومهَ بأفضلَ مما جئتكمْ به، إنّي قدْ جئتكم بخيرِ الدنيا والآخرةِ، وقد أمرني اللهُ أنْ أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني على هذا الأمرِ على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي منكم؟]، فأحجمَ القومُ عنه جميعاً، وقلتُ أنا - وإنّي لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشمهم ساقاً -: أنا يا رسولَ اللهِ أكونُ وزيرك عليه، فأعادَ القولَ فامسكوا عنه، وأعدتُ ما قلتُ، فأخذ برقبتي ثُمَّ قال لهم: [هذا أخيْ ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا]، فقامَ القومُ يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمعَ لابنك وتطيع}.

فإن قلت: من أين ثبت عندكم أن أبا طالب أذعن بذلك وقبل تأمير إبنه عليه؛ قلت: ثبت ذلك عندنا لما رويناه عن أبي الحسن الرضا علیه السلام أنّه قال: كان نقش خاتم أبي طالب رضی الله عنه رضيت بالله ربّاً، وبابن أخي محمّد نبياً، وبابني عليٍّ له وصيّاً:

إذا قالت حذام فصدقوها *** فإن القول ما قالت حذام

ولله درّ ابن أبي الحديد المعتزلي حيث يقول:

ولولا أبو طالب وابنه *** لما مثل الدين شخصاً فقاما

فذاك بمكّة آوى وحاما *** وهذا بيثرب خاضا الحِماما

تكفّل عبد مناف بأمر *** وأدى فكان عليّ تماما

ص: 121

فقل في بشير مضى بعد ما *** قضى ما قضاه وأبقى شماما

فلله ذا فاتحاً للهدى *** ولله ذا للمعإليَّ ختاما

وما ضرَّ مجد أبي طالب *** جهول لغا أو بصير تعامى

كما لا يضرّ أناة الصباح *** من ظنَّ ضوء النهار الظلاما

قلت: كان ابن أبي الحديد من المتوقفين في إسلام أبي طالب رضی الله عنه، وصرّح بذلك في شرحه لنهج البلاغة فقضى على نفسه بالجهل والتعامي في هذه الأبيات.

قال الكلبي: لما حضرت أبا طالب رضی الله عنه الوفاة جمع إليه وجوه قريش وأوصاهم فقال: (يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب، واعلموا أنّكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيباً إلّا أحرزتموه، ولا شرفاً إلّا أدركتموه، فلكم به على النّاس الفضيلة، وله به إليكم الوسيلة، والنّاس لكم حرب وعلى حربكم إلب.

وإنّي أوصيكم بتعظيم هذه البَنيّة، فإن فيها مرضاة للربّ وقواماً للجأش وثباتاً للوطأة ..

صلوا أرحامكم ولا تقطعوها، فإن في صلة الرحم منسأة في الأجل وزيادة في العدد، واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم ..

أجيبوا الداعي وأعطوا السائل، فإن فيهما شرف الحياة والممات ..

عليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة، فإن فيها محبة في الخاص ومكرمة في العام..

ص: 122

وإني أوصيكم بمحمّد خيراً، فإنّه الأمين في قريش والصديق في العرب..

كأنّي أنظر إلى صعإليك العرب وأهل الوبر والأطراف والمستضعفين من النّاس، قد أجابوا دعوته وصدّقوا كلمته وعظّموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً ودورها خراباً وضعافها أرباباً، وأعظمهم عليه أحوجهم إليه، وابعدهم منه اقربهم عنده .. قد محضته العرب ودادها، وأصغت له فؤادها وأعطته قيادها ..

دونكم يا معشر قريش إبن أبيكم .. كونوا له ولاة ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلّا سعد، ولا يأخذ بهديه إلّا رشد، ولو كان لنفسي مدّة ولأجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي.

وأنشد يخاطب إبنيه عليّاً وجعفراً، وأخويه حمزة والعبّاس:

أوصي بنصر النبيّ الخير مشهده *** عليّاً ابني وشيخ القوم عبّاسا

وحمزة الأسد الحامي حنيفته *** وجعفراً أن يذودوا دونه النّاسا

كونوا فدى لكمُ أمّي وما ولدت *** في نصر أحمد دون النّاس أتراسا

ثُمَّ مات رضی الله عنه، قال الواقدي: توفي أبو طالب رضی الله عنه في النصف من شوال في السنة العاشرة من النبوة وهو ابن بضع وثمانين سنة.

ص: 123

وفي (المواهب اللدنية) إبن سبع وثمانين سنة، وفي سيرة إليَّعمري مات بعد ما خرج من الحصار بالشِعب بثمانية أشهر وواحد وعشرين يوماً، وقال ابن الجوزي: مات قبل الهجرة بثلاث سنين.

روي أنّه لمّا مات رضوان الله عليه جاء أمير المؤمنين عليٌّ علیه السلام إلى رسول الله صلی الله علیه و آله فأذّنه بموته، فتوجّع عظيماً وحزن شديداً، ثُمَّ قال له: [إمضِ فتولَّ غُسلَهُ، فإذا رفعتَهُ على سريرِهِ فأعلمني]، ففعل، فاعترضه رسول الله صلی الله علیه و آله وهو محمول على رؤوس الرجال فقال له: [وصلتكَ رحمٌ يا عمّ، وجُزيتَ خيراً، لقدْ ربيتَ وكفلتَ صغيراً، ونصرتَ وآزرتَ كبيراً].

ثُمَّ تبعه إلى حفرته فوقف عليه فقال: [أما واللهِ لأستغفرنَّ لكَ، ولأشفعنَّ فيكَ شفاعةً يتعجبُ لها الثقلانِ] .

وإنّما لم يصلِّ عليه صلی الله علیه و آله؛ لأن صلاة الجنائز لم تكن شرعت بعد، ولا صلّى رسول الله صلی الله علیه و آله على خديجة وإنّما كان تشييع ورقة ودعاء.

وفى الحديث الصحيح المشهور أن جبرئيل علیه السلام قال لرسول الله صلی الله علیه و آله ليلة مات أبو طالب علیه السلام: (أخرج منها فقد مات ناصرك).

وللمؤلف غفر الله له في هذا المقام:

أبو طالب عمُّ النبيّ محمّد *** به قام أزر الدين واشتدّ كاهلهْ

ص: 124

ويكفيه فخراً في المفاخر أنّه *** مؤازره دون الأنام وكافلهْ

لئن جهلت قوم عظيم مقامه *** فما ضرّ ضوء الصبح من هو جاهله

ولولاه ما قامت لأحمد دعوة *** ولا انجاب ليل الغيّ وانزاح باطله

أقرَّ بدين الله سراً لحكمة *** فقال عدوّ الحقّ ما هو قائله

وماذا عليه وهو في الدين هضبة *** إذ عصفت من ذي العناد أباطله

وكيف يحلّ الذمّ ساحة ماجد *** أواخره محمودة و أوائله

عليه سلام الله ما ذرّ شارق *** و ما تليت أخباره وفضائله

وكان لأبي طالب رضی الله عنه من البنين ستة أربعة ذكور، أحدهم طالب وهو أكبر ولده وبه كان يكنّى، وكانت قريش أكرهته على النهضة إلى بدر لقتال رسول الله صلی الله علیه و آله، ففقد ولم يعرف له خبر، ويقال: أنّه أقحم فرسه في البحر حتّى غرق، ويقال: أن قريشاً ردّته إلى مكّة.

ويدلّ على صحّة هذا القول ما أخرجه الكليني رحمه الله في الروضة بإسناده عن أبي عبد الله علیه السلام أنّه قال: لمّا خرجت قريش إلى بدر، وأخرجوا بني عبد المطّلب معهم خرج طالب بن أبي طالب علیه السلام فنزل رجازهم وهم يرتجزون ونزل طالب بن أبي طالب يرتجز ويقول:

ص: 125

يا ربِّ إمّا تغرزن بطالبْ *** في مقنب من هذه المناقبْ

في مقنب المحارب المغارب *** يجعله المسلوب غير السالب

فقالت قريش: إن هذا ليغلبنا فردّوه.

قال في رواية اخرى عن أبي عبد الله علیه السلام: إنّه كان أسلم.

قال المؤلف: وروى أرباب السير لطالب شعراً يدلّ على إسلامه، وهو قوله من أبيات:

وقد حلّ مجد بني هاشم *** مكان النعائم والزهرة

ومحض بني هاشم أحمد *** رسول المليك على فترة

والثاني: أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، والثالث جعفر علیه السلام، والرابع عقيل رضی الله عنه، وبنتان: أمُّ هاني وجمانة .. أمُّهم فاطمة بنت أسد.

وكان عليٌّ علیه السلام أصغرهم، وكان جعفر أسنَّ منه بعشر سنين، وعقيل أسنّ من جعفر بعشر سنين، وطالب أسن من عقيل بعشر سنين، ذكره إبن قتيبة وأبو سعيد وأبو عمر، والله أعلم.

ص: 126

حمزة بن عبد المطّلب

عمّ رسول الله صلی الله علیه و آله، أمّه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وكان اخاً لرسول الله صلی الله علیه و آله من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة بلبن ابنها مسروح، وكانت مولاة أبي لهب، وكان أسن من النبيّ صلی الله علیه و آله بأربع سنين.

قال أبو عمرو: وهذا يردّ ما ذكر من تقييد رضاعة ثويبة بلبن ابنها مسروح، إذ لا رضاع إلّا في حولين، ولولا التقييد بذلك حمل الرضاع على زمانين مختلفين.

وأجيب بإمكان إرضاعها حمزة في آخر سنة في أوّل إرضاعها ابنها، وإرضاعها النبيّ صلی الله علیه و آله في أوّل سنة في آخر إرضاعها ابنها، فيكون أكبر بأربع سنين، وقيل: كان أسنّ بسنتين، وكان اسمه في الجاهلية والإسلام حمزة.

قال في القاموس: الحمزة الأسد ويقال: أنّه حموز لمّا حمزه ضابط لمّا ضمه، ومنه اشتقاق حمزة، أو من الحمازة وهي الشدّة، ويكنّى أبا عمارة وأبا يعلى .. كنيتان له بابنيه عمارة ويعلى، وكان يدعى أسد الله وأسد رسوله.

أخرج البغوي في معجمه عن يحيى بن عبد الرحمن بن لبيبه عن أبيه عن جده ان رسول الله صلی الله علیه و آله قال: [والذيْ نفسي بيدِهِ إنّهُ لمكتوبٌ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ فيْ السماءِ السابعةِ حمزةُ أسدُ اللهِ وأسدُ رسولِهِ].

ص: 127

وكان إسلامه في السنة الثانية، وقيل: السادسة من المبعث، وسبب إسلامه ما روي أن النبيّ صلی الله علیه و آله كان جالساً عند الصفا فمرَّ به أبو جهل لعنه الله فشتمه وآذاه، وقال فيه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره، فلم يكلّمه رسول الله صلی الله علیه و آله، ومولاة لعبد الله بن جذعان في مسكن لها تسمع ذلك.

ثُمَّ انصرف أبو جهل عنه فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطّلب أن أقبل متوشحاً قوسه راجعاً من قنصه، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتّى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على نادٍ من قريش إلّا وقف وسلّم.

فلمّا مرَّ بالمولاة، وقد رجع رسول الله صلی الله علیه و آله إلى بيته، قالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن اخيك محمّدٌ آنفا من أبي الحكم بن هشام .. وجده هيهنا جالساً، فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره، ثُمَّ انصرف عنه ولم يكلمه محمّد؛ فاحتمل حمزةَ الغضبُ لما أراد الله تعالى به من الكرامة، وكان أعزَّ فتىً في قريش وأشدّها شكيمة، فخرج يسعى حتّى دخل المسجد، ونظر إليه جالساً في القوم، فأقبل نحوه حتّى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه فشجّه شجّة منكرة، وقال: أشتمته وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فردَّ عليَّ ذلك إن استطعت، فقامت رجال بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإنّي والله سببت ابن أخيه سبّاً قبيحاً، وتمّ حمزة على إسلامه وعلى مبايعته النبيّ صلی الله علیه و آله .

ص: 128

فلمّا أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلی الله علیه و آله قد عزَّ وامتنع، وأن حمزة شيعته فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون من النبيّ صلی الله علیه و آله .

وقال حمزة بن عبدالطلب حين أسلم:

حمدت الله حين هدى فؤادي *** إلى الإسلام والدين الحنيف ِ

لدين جاء من ربٍّ عزيز *** خبير بالعباد بهم لطيف

إذا تليت رسائله علينا *** تحدّر دمع ذي اللب الحصيف

رسائل جاء أحمد من هداها *** بآيات مبينة الحروف

وأحمد مصطفى فينا مطاع *** فلا تغشوه بالقول العنيف

فلا والله نسلمه لقوم *** ولما نقض منهم بالسيوف

أخرج الحافظ الدمشقي عن عبد الله بن عبّاس عن أبيه قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: [خيرُ أعمامي حمزةُ].

وأخرج ابن بابويه في أماليه عن السكوني عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه علیهم السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: [أحبُّ إخواني إليَّ عليٌّ، وأحبُّ أعمامي إليَّ حمزة].

ص: 129

وروي عن الباقر علیه السلام أنّه قال: كان أمير المؤمنين علیه السلام دائماً يقول: {واللهِ لو كانَ حمزةُ وجعفرٌ حيّينِ ما طمعَ فيها أبو بكرٍ، ولكنْ ابتُليتُ بجلفينِ جافيينِ عقيلٍ والعبّاسِ}.

ومثل هذا الحديث ما أخرجه الكليني في الكافي عن ابن مسكان عن سدير قال: كنّا عند أبي جعفر علیه السلام فذكرنا ما أحدث النّاس بعد نبيّهم صلی الله علیه و آله، واستذلالهم أمير المؤمنين علیه السلام، فقال رجل من القوم: أصلحك الله فأين كان عزّ بني هاشم وما كانوا فيه من العدد؟ فقال أبو جعفر علیه السلام: (من كان بقي من بني هاشم؟ إنّما كان جعفر وحمزة فمضيا، وبقي معه رجلان ضعيفان ذليلان حديثا عهد بالإسلام عباس وعقيل، وكانا من الطلقاء .. أما والله لو أن حمزة وجعفر كانا بحضرتهما ما وصلا إلى ما وصلا ولو كانا شاهديه لأتلفا أنفسهما).

قال المؤلف: دلّ هذان الحديثان على أن حمزة وجعفراً علیهما السلام كانا يعتقدان استحقاق علي علیه السلام الخلافة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله، وأنّه صاحبها دون غيره، وأنّهما لو كان حيين يوم مات رسول الله صلی الله علیه و آله لم يطمع فيها غيره، ولم يصل إليها أحد سواه؛ ولذلك ذكرناهما في طبقات الشيعة.

وروي أن أمير المؤمنين علیه السلام قال يوم بويع أبو بكر بالخلافة: {واحمزتاهُ ولا حمزةَ ليَ اليوم .. واجعفراهُ ولا جعفرَ ليَ اليوم}.

ص: 130

قال إبن أبي الحديد في شرح النهج: سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمّد بن أبي زيد فقلت له: أتقول لو أن حمزة وجعفراً كانا حيين يوم مات رسول الله صلی الله علیه و آله أكانا يبايعانه بالخلافة؟ فقال: نعم كانا أسرع إلى بيعته من النار في يبس العرفج، فقلت له: أظنّ أن جعفراً كان يبايعه ولا أظنّ حمزة كذلك، وأراه جباراً قويّ النفس شديد الشكيمة زاهياً بنفسه وشجاعاً بهمّته، وهو العمّ والأعلى سنّاً، وآثاره في الجهاد معروفة، وأظنّه كان يطلب الخلافة لنفسه.

فقال: الأمر في أخلاقه وسجاياه كما ذكرت، ولكنّه كان صاحب دين متين وتصديق خالص لرسول الله صلی الله علیه و آله، ولو عاش لرأى من أحوال علي علیه السلام مع رسول الله صلی الله علیه و آله ما يوجب أن يكسر له نخوته، وأن يقيم له صغره، وأن يقدّمه على نفسه، وأن يتوخى رضا الله ورسوله فيه، وإن كان بخلاف ايثاره.

ثُمَّ قال: أين خلق حمزة السبعي من خلق علي علیه السلام الروحاني اللطيف الذي جمع بينه وبين خلق حمزة فاتّصفت بهما نفس واحدة؟ وأين هيولانية نفس حمزة وخلوّها من العلوم من نفس علي علیه السلام القدسية التي أدركت بالفطرة لا بقوّة الرياضة التعليمية ما لم تدركه نفوس مدققي الفلاسفة الإلهيين؟..

لو أن حمزة حيٌّ حتّى رأى من عليٍّ علیه السلام ما رآه غيره لكان أتبع له من ظلّه، وأطوع له من أبي ذرّ والمقداد.

ص: 131

وإمّا قولك: هو العمّ والأعلى سنّاً فقد كان العبّاس العمّ والأعلى سنّاً، وقد عرفت ما بذله له وندبه إليه، وكان أبو سفيان كالعمّ وكان أعلى سناً وقد عرفت ما عرضه عليه.

ثُمَّ قال: لا زالت الأعمام تخدم أبناء الأخوة وتكون أتباعاً لهم .. ألست ترى حمزة والعبّاس اتبعا ابن أخيهما صلی الله علیه و آله وأطاعاه ورضيا برياسته وصدّقا دعوته؟ ألست تعلم أن أبا طالب كان رئيس بني هاشم وشيخهم والمطاع فيهم، وكان محمّد صلی الله علیه و آله يتيمه ومكفوله، وجارياً مجرى أحد أولاده عنده، ثُمَّ خضع له واعترف بصدقه، ودان لأمره حتّى مدحه بالشعر كما يمدح الأدنى الأعلى؟.

وقتل حمزة بأُحد شهيداً .. قتله وحشيُّ العبد الحبشي.

قال الواقدي: كان وحشيّ عبداً لابنة الحارث بن عامر بن عبد مناف ويقال: كان لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، فقالت له ابنة الحارث: إن أبي قُتل يوم بدر، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حرٌّ: محمّداً وعليَّ بن أبي طالب وحمزةَ بنَ عبد المطّلب، فإنّي لا أرى في القوم كفواً لأبي غيرهم.

فقال وحشي: أمّا محمّد فقد عرفت أنّي لا أقدر عليه وإن أصحابه لن يسلموه، وأمّا حمزة فوالله لو وجدته نائماً ما أيقظته من هيبته، وأمّا عليٌّ فألتمسه.

قال وحشي: فكنت يوم أُحد ألتمسه، فبينا أنا في طلبه إذ طلع عليّ، فطلع رجل حذر مرس كثير الإلتفات، فقلت: ما هذا بصاحبي الذي ألتمس، إذ رأيت حمزة يفري

ص: 132

النّاس فرياً، فكمنت له إلى صخرة وهو مكبس له كثيت، (1)، فاعترض له سباع ابن أم أنمار، وكانت أمّه ختانة بمكّة مولاة لشريف الثقفي، فقال له حمزة: وأنت أيضاً يا ابن مقطعة البظور ممّن يكثر علينا، فاحتمله حتّى إذا برقت قدماه رمى به فبرك عليه فشحطه شحط الشاة، ثُمَّ أقبل إليَّ مكبساً حين رآني، فلمّا بلغ المسيل وطئ على جرف فزلّت قدمه، فهززت حربتي حتّى رضيت منها فضربته في خاصرته حتّى خرجت من مثانته، وكرَّ عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم يقولون: أبا عمارة فلا يجيب، فقلت: قد والله مات الرجل.

فذكرت هند بنت عتبة، وما لقيت على أبيها وعمّها وأخيها، وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا بموته ولا يروني، فكررت عليه فشققت بطنه فاستخرجت كبده، فجئت بها إلى هند بنت عتبة فقلت لها: ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك؟ قالت: سلني، فقلت: هذه كبد حمزة، فأخذتها فمضغتها ثُمَّ لفظتها، فلا أدري لم تسغها أو قذرتها، فنزعت ثيابها وحليّها فأعطتنيها، ثُمَّ قالت: إذا جئت مكّة فلك عشرة دنانير.

ثُمَّ قالت: أرني مصرعه، فدللتها عليه، فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه وأذنيه، وقطعت أصابعه، فجعلت ذلك معضدين في يديها، وخذمتين (2) في رجليها، حتّى قدمت بذلك مكّة وقدمت بكبده أيضاً معها.

ص: 133


1- أي مطرق لصدره صوت من شدة الغيظ. (المؤلف رحمة الله عليه)
2- أي خلخالين. (المؤلف رحمة الله عليه)

قال الواقدي: وكان رسول الله صلی الله علیه و آله يقول يوم أُحد: [ما فعل عمّي؟ ما فعل عمّي؟] فخرج الحرث بن الصمّة يطلبه فأبطأ، فخرج عليٌّ علیه السلام يطلبه حتّى انتهى إلى الحرث ووجد حمزة مقتولاً، فجاء فأخبر النبيّ صلی الله علیه و آله، فأقبل يمشي حتّى وقف عليه فقال: [ما وقفتُ موقفاً قطّ أغيظَ إليَّ منْ هذا الموقفِ]، فطلعت صفيّة بنت عبد المطّلب ومعها فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله فحالت الأنصار بينها وبين رسول الله صلی الله علیه و آله فقال: [دعوهما]، فجعل إذا بكت صفية يبكي رسول الله صلی الله علیه و آله، وإذا نشجت ينشج، وجعلت فاطمة علیها السلام تبكي، فكلّما بكت يبكي رسول الله صلی الله علیه و آله، ثُمَّ قال: [لنْ أُصابَ بمثلِ حمزةَ أبداً].

ثُمَّ قال لصفيّة وفاطمة علیها السلام: [أبشرا، أتاني جبرئيلُ فأخبرني أنّ حمزةَ مكتوبٌ في أهلِ السمواتِ أسدُ اللهِ وأسدُ رسولِهِ].

ولما رأى صلی الله علیه و آله ما مُثّل بحمزة أحزنه ذلك وقال: [إنْ ظفرتُ بقريشٍ لأمثلنَّ بسبعينَ منهمْ]، فأنزل الله عليه: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ (1)، فقال: [بلْ نصبرُ]، فلم يمثّل بأحد من قريش.

ولما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلی الله علیه و آله خرج معهم وحشي، حتّى قدم على رسول الله صلی الله علیه و آله المدينة، فلمّا رآه قال: [أوحشيٌّ؟]، قال: نعم، قال: [أقعد فحدّثني كيف قتلت

ص: 134


1- سورة النحل – الآية: 126

حمزة؟]، فحدّثه، فلمّا فرغ قال: [ويحك غيّب عني وجهك]، فكان يتنكبه لئلا يراه حتّى قبضه الله تعالى إليه.

وكانت وقعة أُحد يوم السبت لأحدى عشر ليلة، وقيل: لسبع ليال، وقيل: لثمان، وقيل: لتسع، وقيل: للنصف من شوال في سنة ثلاث من الهجرة.

وشذَّ من قال: سنة أربع، وعن مالك كانت بعد وقعة بدر بسنة، وعنه أيضاً كانت على رأس إحدى وثلاثين شهراً من الهجرة، والله أعلم.

عن جابر قال: قال: رسول الله صلی الله علیه و آله:[سيدُ الشهداءِ يومَ القيامةِ حمزةُ بنُ عبدِ المطّلبِ]، وفي رواية [حمزةُ خيرُ الشهداءِ].

وكان لحمزة علیه السلام من الولد عمارة ويعلى، ولم يعقب واحد منهما، وكان يعلى قد ولد خمسة رجال وماتوا كلّهم من غير عقب، وتوفي رسول الله صلی الله علیه و آله ولكل واحد منهما أعوام، ولم يحفظ لواحد منهما رواية.

وكانت له بنت يقال لها: أمُّ أبيها وقيل اسمها: آمنة، وكانت تحت عمران بن أبي سلمة المخزومي ربيب رسول الله صلی الله علیه و آله، وهي التي ذكرت لرسول الله صلی الله علیه و آله وقيل له: ألا تتزوج ابنة حمزة فإنها أحسن فتاة في قريش، فقال: [إنّها ابنةُ أخيْ منَ الرضاعةِ، وأن الله عز وجل قد حرّم من الرضاعة ما حرّم من النسب].

ص: 135

جعفر بن أبي طالب

يكنّى أبا عبد الله .. هو شقيق أمير المؤمنين علیه السلام لأمّه وأبيه، أسلم قديماً وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، ومعه زوجته أسماء بنت عميس، فولدت ثُمَّة بنيه عبد الله ومحمّداً وعوناً، فلم يزل هنالك حتّى قدم على النبيّ وهو بخيبر سنة سبع فحصلت له الهجرتان.

أخرج الفقيه أبو جعفر محمّد بن علي بن بابويه رضی الله عنه في أماليه عن محمّد بن عمر الجرجاني قال: قال الصادق جعفر بن محمّد علیهما السلام: أوّل جماعة كانت أن رسول الله صلی الله علیه و آله كان يصلي وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام معه، إذ مرَّ أبو طالب وجعفر معه، فقال: يا بنيَّ صِلْ جناح ابن عمك، فلمّا أحسَّ رسول الله صلی الله علیه و آله تقدّمهما وانصرف أبو طالب مسروراً وهو يقول:

إن عليّاً وجعفراً ثقتي *** عند ملم الزمان والكرب ِ

والله لا أخذل النبيّ ولا *** يخذله من بنيَّ ذو حسب

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمّي من بينهم وأبي

فكانت أوّل جماعة جمعت ذلك اليوم.

وكان رضی الله عنه يحبّ المساكين ويجلس إليهم ويحدثونه، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله يسمّيه أبا المساكين.

ص: 136

روي أنّه كان يقول لأبيه أبي طالب: يا أبه إنّي لأستحي أن أطعم طعاماً وجيراني لا يقدرون على مثله، فكان يقول له أبوه: إنّي لأرجو أن يكون فيك خلف من عبد المطّلب.

وله رضی الله عنه فضل كثير، وقد ورد في شأنه أحاديث كثيرة.

فمن ذلك ان رسول الله صلی الله علیه و آله لمّا فتح خيبر قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فالتزمه رسول الله صلی الله علیه و آله وجعل يقبّل بين عينيه ويقول: [ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحاً .. بقدومِ جعفرَ أمْ بفتحِ خيبرَ].

وعن جابر: لما قدم جعفر من أرض الحبشة تلقّاه رسول الله صلی الله علیه و آله فلمّا نظر جعفر إلى رسول الله صلی الله علیه و آله حجل، قال: أي مشى على رجل واحدة، إعظاماً منه لرسول الله صلی الله علیه و آله، فقبّلَ رسول الله صلی الله علیه و آله بين عينيه وأعطاه وامرأته أسماء من غنائم خيبر، وقال: [أشبهتَ خَلْقي وخُلُقيْ].

وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: [خيرُ النّاس حمزةُ وجعفرُ وعليٌّ].

وروى السبعي قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: كنت إذا سألت عمّي عليّاً علیه السلام شيئاً فمنعني، أقول له: بحقِّ جعفر، فيعطيني.

وأخرج ابن بابويه في أماليه عن جابر، عن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال: (أوحى الله تعالى إلى رسول الله صلی الله علیه و آله [[إنّي شكرتُ لجعفرَ بن أبي طالبَ أربعَ خصالٍ]]؛ فدعاه النبيّ صلی الله علیه و آله فأخبره، فقال: لولا أن الله تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك .. ما شربت

ص: 137

خمراً قطّ؛ لأنّي لو شربتها زال عقلي، وما كذبت قطّ؛ لأن الكذب ينقص المروة، وما زنيت قطّ؛ لأنّي خفت أنّي إذا عملت عُمِل بي، وما عبدت صنماً قطّ؛ لأنّي علمت أنّه لا يضرّ ولا ينفع؛ فضرب النبيّ صلی الله علیه و آله على عاتقه وقال: [حقَّ للهِ تعالى أنْ يجعلَ لكَ جناحينِ تطيرُ بهما معَ الملائكةِ في الجَنّةِ].

قال المؤلف عفا الله عنه: قد تقدّم في ترجمة حمزة علیه السلام وجه ذكرنا لجعفر رضی الله عنه في طبقات الشيعة؛ فلا حاجة بنا إلى إعادته هنا.

قال الزمخشري في (ربيع الأبرار): كان جعفر أشبه النّاس برسول الله صلی الله علیه و آله خَلْقاً وخُلُقاً، وكان الرجل يرى جعفراً فيقول: السلام عليك يا رسول الله، يظنّه إيّاه، فيقول: لست برسول الله، أنا جعفر.

وروي عن علي بن يونس المدني قال: كنت عند مالك، فإذا سفيان بن عيينة بالباب يستأذن، فقال مالك: رجل صاحب شيبة أدخلوه، فدخل فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردّوا عليه السلام، ثُمَّ قال: السلام سلامان خاصّ وعامّ، ثُمَّ قال: السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته، قال مالك: وعليك السلام يا أبا محمّد ورحمة الله وبركاته، فصافحه مالك ثُمَّ قال: يا أبا محمّد لولا أنّها بدعة لعانقناك، فقال سفيان بن عيينة: عانق خيرٌ منك ومنّا النبيّ صلی الله علیه و آله، فقال مالك: جعفراً؟! قال: نعم، قال: ذاك حديث خاص يا أبا محمّد، ليس بعام، قال سفيان: ما يعمُّ جعفراً يعمّنا إذا كنّا صالحين، وما يخصّه يخصّنا، فتأذن لي أن أحدّث في مجلسك، قال: نعم يا أبا محمّد.

ص: 138

قال: حدّثني عبد الله بن طاووس عن أبيه عن عبد الله بن عبّاس قال: لمّا قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، إعتنقه النبيّ صلی الله علیه و آله، وقبّل بين عينيه، وقال: [جعفرُ أشبهُ النّاس بيْ خَلْقاً وخُلُقاً ]، [يا جعفرُ ما أعجبَ ما رأيتَ بأرضِ الحبشةِ؟]، قال: يا رسول الله بينا أنا أمشي في أزقّتها، إذا سوداء على رأسها مكتل فيه بُرّ، فصدمها رجل على دابته، فوقع مكتلها وانتثر برّها، وأقبلت تجمعه من التراب وهي تقول: ويلٌ للظالم من الديّان يوم الدين، ويل للظالم من المظلوم يوم القيامة، ويل للظالم إذا وضع الكرسيّ للفصل يوم القيامة، فقال النبيّ صلی الله علیه و آله: [لا يقدس الله أمّةً لا يُؤخذ لضعيفِها من قويِّها حقُّه غير متعتع].

وكانت هجرته رضی الله عنه إلى الحبشة في السنة الرابعة من النبوة، وكان هو المتكلم عند النجاشي من المسلمين المهاجرين إلى الحبشة لمّا جمع بينهم وبين عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص، وكانا رسولي قريش إليه.

وكان من خبر ذلك أن النبيّ صلی الله علیه و آله لما رأى مبالغة قريش في أذى المسلمين بمكّة أشار عليهم أن يلحقوا بأرض الحبشة، وقال: [إنّ بها ملكاً لا يظلمُ النّاس ببلاده، فجاوروا عندهُ حتّى يأتيَكمْ اللهُ بفرجٍ منه]؛ فخرج قوم من المسلمين فيهم جعفر علیه السلام، وكان عدّتهم ثلاثة وثمانين رجلاً سوى النساء والأولاد، ونزلوا أرض الحبشة وجاوروا بها النجاشيّ ملكها، آمنين على دينهم، يعبدون الله تعالى ولا يؤذون.

فلمّا بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي منهم رجلين جلدين من قريش، وأن يهدوا إلى النجاشي هدايا ممّا يُستطرف من متاع مكّة، ولم يتركوا من بطارقته

ص: 139

بطريقاً إلّا أهدوا له هدية، ثُمَّ بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص، فقالوا لهما: إدفعا إلى كلّ بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي، ثُمَّ تقدما إلى النجاشي، ثُمَّ سلاه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم، فخرجا.

ولما قدما دفعا إلى كلّ بطريق هديته، وقالا: إنّه قد صبا إلى بلد الملك غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، وقد أرسلنا قومهم ليردّهم إليهم، فإذا كلّمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا يكلّمهم، فقالوا: نعم.

وقدّما هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهم، ثُمَّ كلّماه فقالا: أيّها الملك إنّه قد صبا إلى بلدك منّا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم إليهم، فقال بطارقته: صدقوا أيّها الملك فارددهم وأسلمهم إليهما، فغضب النجاشي ثُمَّ قال: لا والله لا أسلم قوماً جاوروني ونزلوا بلادي ولجأوا إليَّ واختاروني على من سواي، حتّى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كان كما يقولان سلّمتهم إليهما، وإن كان غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.

فأرسل إلى أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله فدعاهم، فلمّا أن جاء رسوله اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قال جعفر: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلی الله علیه و آله كائن في ذلك ما هو كائن.

ص: 140

وأرسل النجاشي وجمع بطارقته وأساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، فلمّا جاءوه سألهم: إن هؤلاء يزعمون أنّكم فارقتم دينهم، فأخبروني ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ فتكلّم جعفر بن أبي طالب فقال له: أيّها الملك كنّا أهل جاهلية لا نعرف الله ولا رسله، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيءُ الجوار، يأكل القويُّ منّا الضعيف، وكنّا على ذلك حتّى بعث الله رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكفّ عن المحارم والدماء، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام والصدقة، وكلّ ما يُعرف من الأخلاق الحسنة، ونهانا عن الزنا والفواحش وقول الزور وأكل مال إليَّتيم وقذف المحصنة، وكل ما يعرف من السيئات، وتلا شيئاً يُتلى لا يشبهه شيء؛ فصدّقناه وآمنّا به، وعرفنا أن ما جاء به هو الحق من عند الله؛ فعبدنا الله وحده لا شريك له، وحرّمنا ما حرّم علينا وأحللنا ما أحلَّ لنا؛ ففارقنا عند ذلك قومنا، فآذونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردّونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحلّ ما كنّا نستحلّ من الخبائث، فلمّا قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا وبلغنا ما نكره ولم نقدر على الإمتناع، أمرنا نبينا صلی الله علیه و آله أن نخرج إلى بلادك، اختياراً لك على من سواك، ورغّبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيّها الملك.

ص: 141

فقال لهم النجاشي: هل معكم ممّا جاءكم به عن الله تعالى شيء؟ فقال له جعفر: نعم قال: فاقرأه علَيَّ، فقرأ عليه صدراً من كهيعص، فبكى النجاشي حتّى اخضلّت لحيته، وبكت أساقفته حتّى اخضلّت لحاهم ومصاحفهم، ثُمَّ قال: والله إن هذا الكلام، والكلام الذي جاء به عيسى ليخرجان من مشكاة واحدة.

ثُمَّ قال لعبد الله بن مسعود بن أبي ربيعة المخزومي وعمرو بن العاص: أعبيدٌ هم لكم؟ قالا: لا، قال: ألكم عليهم دين؟ قالا: لا، قال: فانطلقا، والله لا أسلّمهم إليكما أبداً، ولا أخلي بينكما وبينهم فالحقا بشأنكما، فخرجا من عنده مقبوحين.

فلمّا خرجا قال عمرو بن العاص: لآتينه غداً وأعيبهم بما أستأصل به خضراءهم، فقال عبد الله بن أبي ربيعة - وهو أتقى الرجلين فيهما -: لا تفعل فإنّ للقوم رحماً، وإن كانوا قد خالفوا، فما يجب أن تبلغ ذلك منهم، فقال: والله لأخبرنّه أنّهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد.

فلمّا كان الغد غدا إليه ودخل عليه فقال: أيّها الملك إنّهم يخالفونك، ويقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً: يزعمون أنّه عبد، فأرسل إليهم فاسألهم عمّا يقولون، فقال النجاشي: إن لم يقولوا في عيسى بن مريم مثل قولي لا أدعهم في أرضي ساعة من نهار، فأرسل إليهم، وكانت الدعوة الثانية أشدّ عليهم من الأولى، فاجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: قد عرفتم أن عيسى إلهه الذي يعبده، وأن نبيكم صلی الله علیه و آله جاءكم بأنّه عبد، وأن ما يقولون هو الباطل، فماذا تقولون ؟ قال جعفر: نقول والله فيه ما قال الله عزّ وجلَّ، وما جاء به نبينا صلی الله علیه و آله كائن في ذلك ما هو كائن.

ص: 142

فلمّا دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال جعفر: نقول فيه ما جاء به نبينا صلی الله علیه و آله: إنّه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته, ألقاها إلى مريم العذراء البتول؛ فضرب النجاشي بيده إلى الأرض فأخذ منها عوداً فقال: ما عدا عيسى بن مريم ما تقولون مثل هذا العود .. ردّوا عليهما هداياهما، فخرجا خائبين، وقال للمسلمين: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الل،ه وأشهد أنّه رسول الله، وأنّه الذي بشّر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتّى أقبّل نعله .. إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، والسيوم الآمنون.

قال جعفر: فلمّا هاجر رسول الله صلی الله علیه و آله وخرج إلى المدينة وظهر بها أتيناه فقلنا: إن صاحبنا قد خرج إلى المدينة فظهر بها، وقتل الذي كنّا حدّثناك عنهم، وقد أردنا الرحيل فزوّدَنا وحمّلنا، ثُمَّ قال: بلّغ صاحبك ما صنعت إليكم، وهذا صاحبي معكم، وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وان محمّداً رسول الله، وقل له يستغفر لي .

قال جعفر: فخرجنا حتّى أتينا المدينة، فتلقّانا رسول الله صلی الله علیه و آله فاعتنقني، ثُمَّ قال: [ما أدري أُسُّر أنا بفتح خيبر، أم أفرح بقدوم جعفر]، ووافق ذلك فتح خيبر، ثُمَّ جلس فقام رسول النجاشي فقال: هذا جعفر فاسأله ما صنع به صاحبنا، فقال لهم: ما فعل بكم؟ فقالوا ما فعل: زوّدنا وحمّلنا، وشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله، وقال: قل له: يستغفر لي، فقام رسول الله صلی الله علیه و آله فتوضأ ثُمَّ دعا ثلاث مرات فقال: [اللهمَّ اغفرْ

ص: 143

للنجاشي]، فقال المسلمون: آمين، قال جعفر: فقلت للرسول: وأخبر صاحبك بما قد رأيت عن النبيّ صلی الله علیه و آله .

وروي عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق علیهما السلام أنّه قال: لقد كاد عمرو بن العاص عمّنا جعفراً بأرض الحبشة عند النجاشي، وعند كثير من رعيّته بأنواع من الكيد ردّها الله تعالى بلطفه .. رماه بالقتل والسرق والزنا فلم يلصق به شيء من تلك العيوب لما شاهده القوم من طهارته وعبادته ونسكه وسيماء النبوة عليه.

فلمّا نبا معوله عن صفاته هيأ له سمّاً قدّمه إليه في طعام فأرسل الله تعالى هرّاً كفأ تلك الصفحة وقد مدّ يده نحوه، ثُمَّ مات لوقته وقد أكل منها، فتبين لجعفر كيده وغائلته فلم يعدها عنده، وما زال ابن الجزار عدوّاً لنا أهل البيت.

وقتل جعفر رضی الله عنه شهيداً في غزوة مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، وهو ابن إحدى واربعين سنة.

وقد تقدّم في ترجمة أبيه أبي طالب علیه السلام أنّه كان أسنّ من أمير المؤمنين علیه السلام بعشر سنين.

ومؤتة - بضمّ الميم، وهمزة ساكنة، بعدها تاء مثناة، ويجوز تخفيف الهمزة، فيقال: موته بسكون الواو - موضع من أرض الشام من عمل البلقاء، والبلقاء دون دمشق.

وكان جعفر رضی الله عنه أحد الأمراء الثلاثة في هذه الغزوة، وهم جعفر، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة.

ص: 144

وقاتل جعفر رضی الله عنه في هذه الواقعة قتالاً شديداً حتّى إذا لحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، فكان أوّل رجل عقر فرسه في الإسلام، وكانت الراية في يده فقاتل حتّى قُطعت يده اليمنى، فأخذها بيده اليسرى فقُطعت، فضمّها إلى صدره، ثُمَّ ضربه رجل من الروم قطعه نصِفّين، فوقع أحد نصفيه في كرم هناك، فوجد فيه بضع وثلاثون جرحاً.

وعن ابن عمر قال: كنت في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفراً فوجدناه في القتلى، فعددنا بين منكبيه تسعين ضربة بين طعنة رمح وضربة سيف.

قال الواقدي: حدثني محمّد بن صالح عن عاصم بن عمر عن قتادة أن النبيّ صلی الله علیه و آله - لمّا التقى النّاس بمؤتة - جلس على المنبر، وكُشف له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معركتهم، فقال: [أخذَ الرايةَ زيدُ بنُ حارثةَ فجاءهُ الشيطانُ فحبّب إليه الحياةَ وكرّهَ إليه الموتَ وحبّب إليه الدنيا، فقالَ: آلآن حينَ استحكمَ الإيمانُ في قلوبِ المؤمنينَ تُحببُ إليَّ الدنيا! فمضى قدماً حتّى استشهد، ثُمَّ صلّى عليه وقال: استغفروا لهُ فقدْ دخلَ الجنّة وهو يسعى].

ثُمَّ قال صلی الله علیه و آله:[أخذَ الرايةَ جعفرُ بنُ أبي طالبَ، فجاءَهُ الشيطانُ فمنّاهُ الحياةَ وكرّهَ إليه الموتَ ومنّاه الدنيا، فقالَ: آلآنَ حينَ استحكمَ الإيمانُ في قلوبِ المؤمنينَ تمنيني الدنيا!، ثُمَّ مضى قدماً حتّى استشهدَ، فصلّى عليه رسول الله صلی الله علیه و آله، ثُمَّ قال: استغفروا لهُ، فإنّه شهيدٌ قدْ دخلَ الجنّةَ، فهوَ يطيرُ بها بجناحينِ منْ ياقوتٍ حيثُ شاءَ من الجنّةِ].

ص: 145

ثُمَّ قال صلی الله علیه و آله:[أخذَ الرايةَ عبدُ اللهِ بنُ رواحةَ، ثُمَّ دخلَ الجنّةَ معترضاً]، فشقَّ ذلك على الأنصار، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله: [أصابتهُ الجراحُ]، قيل: يا رسول الله فما اعتراضه؟ قال: [لمّا أصابتهُ الجراحُ نكلَ فعاتبَ نفسَهُ فشجعَ فاستشهدَ فدخل الجنّةَ]، فسرى عن قومه.

وعن أسماء بنت عميس امرأة جعفر رضی الله عنه قالت: أصبحت في اليوم الذي أصيب فيه جعفر وأصحابه فأتاني رسول الله صلی الله علیه و آله فدخل عليَّ، وكنت قد أخذت بَنيَّ فغسلت وجوههم ودهنتهم، فقال: يا أسماء أين بنو جعفر؟ فجئت بهم إليه فضمّهم وشمّهم، ثُمَّ ذرفت عيناه فبكى، فقلت: يا رسول الله لعلّه بلغك عن جعفر شيء؟ قال: [نعم إنّه قُتل اليوم]، فقمت أصيح واجتمع إليَّ النساء، فجعل رسول الله صلی الله علیه و آله يقول: [يا أسماءُ لا تقولي هجراً، ولا تضربي صدراً].

ثُمَّ خرج عنّي حتّى دخل على فاطمة علیها السلام وهي تقول: (وا إبن عمّاه)، فقال: [على مثلِ جعفرَ فلتبكِ الباكيةُ]، ثُمَّ قال: [إصنعوا لآلِ جعفرَ طعاماً فقدْ شُغلوا عنْ أنفسِهمْ اليوم].

وعن يحيى بن أبي يعلى قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دخل النبيّ صلی الله علیه و آله على أمّي فنعى إليها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس اخي وعيناه تهرقان بالدمع حتّى قطرت لحيته، ثُمَّ قال صلی الله علیه و آله: [اللهمَّ إنَّ جعفراً قدّمَ أحسنَ الثوابَ، فأخلفهُ في ذريّتهِ بأحسنَ ما خلفتَ أحداً منْ عبادِكَ في ذريّتِهِ].

ص: 146

ثُمَّ قال صلی الله علیه و آله: [يا أسماءُ ألا أُبشّركِ؟] قالت: بلى بأبي وأمّي، قال صلی الله علیه و آله: [فإنَّ اللهَ تعالى جعلَ لجعفرَ جناحينِ يطيرُ بهما في الجنّةِ]، قالت: بأبي وأمّي فأعلمْ النّاس بذلك، فقام رسول الله صلی الله علیه و آله وأخذ بيدي، يمسح بيده رأسي حتّى رقى المنبر، وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى، وإن الحزن ليعرف عليه فتكلم فقال: [إنَّ المرءَ كثيرُ بأخيهِ وابنِ عمّهِ، ألا إنَّ جعفراً قدْ استشهدْ، وقدْ جعلَ اللهُ لهُ جناحينِ يطيرُ بهما في الجنّةِ].

ثُمَّ نزل ودخل بيته وأدخلني، وأمر بطعام فصنع لنا، وأرسل إلى أخي فتغدّينا عنده غداء طيباً .. عمدت سلمى خادمه إلى شعير فطحنته، ثُمَّ سقته، ثُمَّ أنضجته وأدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلاً، فتغدّيت أنا وأخي عنده، وأقمنا عنده ثلاثة أيام ندور في بيوت نساءه، ثُمَّ رجعنا إلى بيتنا.

وأتاني رسول الله صلی الله علیه و آله بعد ذلك وأنا أساوم في شاة فقال: [اللهمَّ باركْ لهُ فيْ صفقتِهِ]، فوالله ما بعت شيئاً ولا شريت إلّا بورك فيه.

وعن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: [مُثِّلَ ليْ جعفرُ وزيدُ وعبدُ اللهِ في خيمةٍ منْ درٍّ، كلُّ واحدٍ منهم على سريرٍ، فرأيتُ زيداً وابنَ رواحةَ في أعناقِهما صدودٌ، ورأيتُ جعفراً مستقيماً ليسَ فيهِ صدودٌ، فسألتُ فقيلَ لي: إنّهما حينَ غشيَهما الموتُ أعرضا، أو صدّا بوجوهِهما، وأمّا جعفرُ فلمْ يفعلْ].

وروي عنه صلی الله علیه و آله أنّه قال: [زارنيْ البارحةَ جعفرٌ في ملأٍ منَ الملائكةِ، لهُ جناحانِ يطيرُ بهما حيثُ شاءَ منَ الجنّةِ].

ص: 147

وروى الزمخشري في (ربيع الأبرار) قال: هبط جبرئيل علیه السلام على رسول الله صلی الله علیه و آله فقال له: يا محمّد إن أصحابك الذين بمؤتة قد قُتلوا جميعاً وصاروا إلى الجنّة، وإن الله قد جعل لجعفر جناحين أبيضين قادمتاهما مضرجتان بالدماء، مكللتان باللؤلؤ والجوهر يطير بهما في الجنّة مع الملائكة؛ ولهذا يقال لجعفر رضی الله عنه:ذو الجناحين، والطيّار في الجنّة.

قال أمير المؤمنين علیه السلام من أبيات له إلى معاوية:

وجعفر الذي يضحى ويمسي *** يطير مع الملائكة ابن أمّي

وقال حسّان بن ثابت يرثي جعفراً وأصحابه رضي الله عنهم:

فلا يبعدنَّ الله قتلى تتابعوا *** بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفرُ

وزيد وعبد الله حين تتابعوا *** جميعاً وأسياف المنية تقطر

رأيت خيار المؤمنين تواردوا *** شعوباً وخلق بعدهم يتأخر

غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم *** إلى الموت ميمون النقيبة أزهر

أغرُّ كضوء البدر من آل هاشم *** أبيٌّ إذا سيم الظلامة أصعر

فطاعن حتّى مال غير مؤسد *** بمعترك فيه القنا تتكسر

فصار مع المستشهدين ثوابه *** جنان وملتف الحدائق أخضر

ص: 148

وكنا نرى في جعفر من محمّد *** وقاراً وأمراً حازماً حين يأمرُ

وما زال في الإسلام من آل هاشم *** دعائم صدق لا ترام ومفخر

هم جبل الإسلام والنّاس حولهم *** رضام إلى طود يطول ويقهر

بهإليَّل منهم جعفر وابن أمّه *** عليٌّ ومنهم أحمد المتخير

وحمزة والعبّاس منهم ومنهم *** عقيل وماء العود من حيث يعصر

بهم يكشف اللأواء في كل مأزق عماش إذا ما ضاق بالنّاس مصدر

هم أوّلياء الله أنزل حكمه *** عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر

وقال كعب ابن مالك الأنصاري من قصيدة أوّلها:

نام العيون ودمع عينك يهملُ *** سحّاً كما وكف الرباب المسبلُ

وجداً على النفر الذين تتابعوا *** قتلاً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

ساروا أمام المؤمنين كأنّهم *** طود يقودهم الهزبر المشبل

إذ يهتدون بجعفر ولواؤه *** قدّام أوّلهم ونعم الأوّل

حتّى تقوّضت الصفوف وجعفر *** حيث التقى جمع الغواة مجندل

فتغيّر القمر المنير لفقدهم *** والشمس كاسفة وكادت تأفل

ص: 149

قوم علا بنيانهم من هاشم *** فرع أشمُّ وسؤدد متأثلُ

قوم بهم عصم الإله عباده *** وعليهم نزل الكتاب المنزل

وهذه الأشعار تشهد لقول الشيعة بأن جعفراً هو الأمير الأوّل، فإن قُتل فزيدُ بن حارثة، فإن قُتل فعبد الله بن رواحة، لا ما يزعمه عامّة المحدثين من أن الأمير الأوّل زيدُ بن حارثة ثُمَّ جعفرُ ثُمَّ عبدُ الله.

وكان لجعفر رضی الله عنه من الولد ثمانية ذكور: عبد الله ومحمّد الأكبر وقتل مع عمه أمير المؤمنين علیه السلام بصِفّين، وعون ومحمّد الأصغر وقتلا بالطفّ مع ابن عمّهما الحسين علیه السلام، وحميد وحسين وعبد الله الأصغر، وأمّهم جميعاً أسماء بنت عميس الخثعمية رضی الله عنها.

ص: 150

العبّاس بن عبد المطّلب بن هاشم

عم النبيّ صلی الله علیه و آله، وآخر من مات من أعمامه، أمّه نثيلة، وقيل: نثلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر، وكان مولده قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أسنّ من النبيّ صلی الله علیه و آله بسنتين، وقيل بثلاث.

وروي أنّه قيل له: أيّكما أكبر أنت أم النبيّ؟ فقال: هو أكبر منّي، وأنا ولدت قبله. وكان رئيساً في الجاهلية في قريش، وإليه عمارة المسجد الحرام والسقاية بعد أبي طالب علیه السلام .

وكان جميلاً جسيماً وسيماً أبيض، له ضفيرتان، معتدل القامة، وقيل: كان طويلًا حتّى أنّه كان يقبّل المرأة وهي في هودجها على البعير..قال من رآه: أطول من رأينا العبّاس، يطوف بالبيت وكأنّه فسطاط أبيض.

وكان أجهر النّاس صوتاً .. قيل: أنّه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه، وسئل بعضهم كيف لم تتفتق مرارات الغنم؟ فقال: إنّها كانت ألفت صوته.

ولقد أتتهم غارة فصاح: يا صباحاه؛ فأسقطت الحوامل، وكان يقف على سِلعٍ فينادي غلمانه وهم بالغابة، وبين الغابة وسِلع - وهو جبل في وسط المدينة - ثمانية أميال.

وكان النبيّ صلی الله علیه و آله يحترم عمّه العبّاس.

ص: 151

أخرج أبو محمّد الحسن بن أبي الحسن الديلمي في كتابه (إرشاد القلوب) أن النبيَّ صلی الله علیه و آله قال في غير موطن وصيّة منه في العبّاس: [إنَّ عمّيَ العبّاسَ بقيّةُ الآباءِ والأجدادِ، فاحفظوني فيهِ، كلٌّ في كنَفِي، وأنا في كنفِ عمّي العبّاس، فمنْ آذاهُ فقدْ آذاني، ومنْ عاداه فقدْ عاداني، سِلمهُ سِلمي وحربُهُ حربيْ].

وأخرج الشيخ أبو علي الحسن بن محمّد الطوسي في (أماليه) عن عليٍّ علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله: [إحفظونيْ في عمّيَ العبّاس، فإنّه بقيةُ آبائيْ].

وأخرج الترمذي عن عبد المطّلب بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطّلب أن العبّاس دخل يوماً على رسول الله صلی الله علیه و آله مغضباً، فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله: [ما أغضبكَ؟] فقال: يا رسول الله أرى قوماً من قريش يتلاقون بينهم بوجوه مسفرة، فإذا لقونا، لقونا بغير ذلك؛ فغضب رسول الله صلی الله علیه و آله حتّى احمرَّ وجهه، ثُمَّ قال: [والذيْ نفسي بيدِهِ لا يدخلُ قلبَ رجلٍ إيمانٌ حتّى يُحبَّكمْ .. يا أيّها النّاس منْ آذى عمّيَ فقدْ آذاني، فإنّما عمُّ الرجلِ صنوُ أبيهِ].

واختلف أهل التواريخ في مبدأ إسلامه، فقال بعضهم: كان إسلامه قديماً، وكان يكتم إيمانه وإسلامه، وخرج مع المشركين يوم بدر، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله: [منْ لقيَ العبّاسَ فلا يقتلهُ، فإنّهُ خرجَ مستكرهاً].

وقيل: إنّه أسلم يوم فتح خيبر، وكان يكتم إسلامه ويسرّه ما يفتح على المسلمين، وأظهر إسلامه يوم فتح خيبر، وشهد حُنَيناً والطائف وتبوك.

ص: 152

وقيل: إن إسلامه كان قبل يوم بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبيّ صلی الله علیه و آله، وكان المسلمون بمكّة يتقون به، وكان يحبّ القدوم على رسول الله صلی الله علیه و آله؛ فكتب إليه رسول الله صلی الله علیه و آله أن مقامك بمكّة خير لك.

وعن شرحبيل بن سعد قال: لما بشّر أبو رافع رسول الله صلی الله علیه و آله بإسلام العبّاس بن عبد المطّلب أعتقه.

وقيل: أنّه أسلم يوم بدر، ولا خلاف أنّه كان في الأسرى يوم بدر .. أسره أبو أليسر كعب بن عمرو الأنصاري، وكان أبو أليسر رجلاً صغير الجثة، وكان العبّاس رجلًا عظيماً قوياً، فقال النبيّ صلی الله علیه و آله لأبي أليسر: كيف أسرته؟ قال: أعانني رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، فقال: [لقدْ أعانكَ عليهِ مَلَكٌ كريمٌ].

فلمّا أمسى القوم والأسارى محبوسون في الوثاق، وفيهم العبّاس، بات رسول الله صلی الله علیه و آله تلك الليلة ساهراً، فقال له بعض أصحابه: ما يسهرك يا رسول الله؟ قال: [سمعتُ أنينَ العبّاسِ]، فقام رجل من القوم فأرخى من وثاقه شيئاً، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله: [ما بالي لا أسمعُ أنينَ العبّاسِ؟]، فقال رجل من القوم: أرخيت من وثاقه شيئاً، قال: [إفعلْ ذلكَ بالأسارىْ كلَّهم].

ولمّا قدم بالأسارى إلى المدينة قال رسول الله صلی الله علیه و آله للعباس: [إفدِ نفسَكَ يا عبّاسُ وابني أخويكَ عقيلَ بن أبي طالب، ونوفل بن الحرث بن عبد المطّلب، وحليفَك عتبةَ

ص: 153

بن جحد، فإنّك ذو مالٍ]، قال: إنّي كنت مسلماً، ولكن القوم استكرهوني، قال: [اللهُ أعلمُ بإسلامِكَ، إنْ يكنْ ما ذكرتَ حقّاً فاللهُ يجزيكَ، فأمّا ظاهرُ أمرِكَ فقدْ كانَ علينا].

وكان العبّاس أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام أهل بدر، ونحر كل واحد يوم نوبته عشراً من الأبل، وكان حمل معه عشرين أوقية من الذهب ليطعم بها النّاس، وكان يوم بدر في نوبته، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا، وبقيت العشرون أوقية، فأخذت منه حين أُخد وأُسر في الحرب، فكلّم النبيّ صلی الله علیه و آله أن يحسبها في فداءه، فأبى صلی الله علیه و آله وقال: [إنّه شيءٌ خرجتَ تستعينُ بهِ علينا فلا أتركُهُ لكَ] قال: تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله: [فأينَ الذهبُ الذي دفعتَهُ إلى أمُّ الفضلِ وقتَ خروجِكَ منْ مكّةَ، وقلتَ لها: إنّي لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإنْ حدثَ لي حادثٌ فهوَ لكِ ولعبدِ اللهِ ولعبيدِ اللهِ وللفضلِ ولقثمَ ؟] يعنى بنيه، فقال العبّاس: وما يدريك؟ قال: [أخبرنيْ بهِ ربّي جلَّ جلالُهُ]، فقال العبّاس: أشهد أنّك صادق، والذي بعثك بالحقّ يا رسول الله ما علم بهذا غيري وغيرها، وإنّي لأعلم أنّك رسول الله، ثُمَّ فدى نفسه وابني أخويه وحليفه.

قيل: وفى العبّاس نزلت: ﴿يَا أيّها النبيّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (1)، وقوله تعالى: ﴿إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً﴾ أي إيمانكم.

ص: 154


1- سورة الأنفال – الآية: 70

قال العبّاس: فأبدلني الله عشرين عبداً تاجراً يضربون بمال كثير، وأدناهم بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم، وما أحبّ أن لي بها جميع أموال مكّة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي.

قال محمّد بن إسحق: كان رسول الله صلی الله علیه و آله لمّا استشار أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ في أمر الأسارى غلظ عليهم عمر غلظة شديدة فقال: يا رسول الله أطعني فيما أشير به عليك فإني لا آلوك نصحاً .. قدّم عمّك العبّاس فاضرب عنقه بيدك، وقدم عقيلاً إلى أخيه عليٍّ يضرب عنقه، وقدّم كلَّ أسير منهم إلى أقرب النّاس إليه يقتله، قال: فكره رسول الله صلی الله علیه و آله ذلك ولم يعجبه.

ولما فدى العبّاس نفسه رجع إلى مكّة ولم يزل فيها، فلمّا كان الفتح استقبل النبيَّ صلی الله علیه و آله بالأبواء، وهو - بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة والمد - موضع بين مكّة والمدينة، وكان معه يوم فتح مكّة، وأظهر إسلامه يومئذ.

وشهد مع رسول الله صلی الله علیه و آله حُنَيناً والطائف وتبوك، وكان يوم حُنَين آخذاً بركاب رسول الله صلی الله علیه و آله وهو على بغلته البيضاء الدلدل، وقد انطلق النّاس إلّا نفراً من أهل بيته، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله حين رأى من النّاس ما رأى، وأنهم لا يلوون على شيء: [يا عبّاسُ اصرخْ يا معشرَ الأنصار يا أصحابَ السمّرةِ]، يعنى الشجرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان يوم الحديبية أن لا يفروا عنه، قال العبّاس: فناديت فأقبلوا كأنهم الأبل إذا حنت إلى أولادها.

ص: 155

وروى الشيخ أبو محمّد الديلمي في كتابه (إرشاد القلوب) أن النبيّ صلی الله علیه و آله كان جالساً في مسجده، وحوله جماعة من الصحابة، إذ دخل عليه عمّه العبّاس، وكان رجلاً صبيحاً حسناً حلو الشمائل، فلمّا رآه النبيّ صلی الله علیه و آله قام إليه واستقبله وقبّل بين عينيه، ورحّب به وأجلسه إلى جانبه، وجعل يفديه بأبيه وأمّه، فأنشده العبّاس قوله فيه يمدحه صلی الله علیه و آله:

من قبلها طبت في الظلال وفي *** مستودع حيث يخصف الورقُ

ثُمَّ هبطت البلاد لا بشر *** أنت ولا مضغة ولا علق

بل نطفة تركب السفين وقد *** ألجم نسراً وأهله الغرق

وخضت تار الخليل مكتتما *** تجول فيها وليس تحترقُ

من صلب طاهر إلى رحم *** إذا مضى عالم بدا طبق

حتّى احتوى بيتك المهيمن *** من خندف عليا تحتها النطق

وأنت لما ولدت أشرقت الأ *** رض وضاءت بنورك آلافق

فنحن في ذلك الضياء وفي *** النور وسبل الرشاد تحترق

فقال النبيّ صلی الله علیه و آله: [يا عمّ جزاكَ اللهُ خيراً، ومكافأتُك على اللهِ] ثُمَّ قال: [معاشرَ النّاس احفظوني في عمّيَ العبّاس، وانصروهُ ولا تخذلوهُ].

ص: 156

وأخرج ابن سعد في الطبقات عن شعبة مولى ابن عبّاس، عن ابن عبّاس قال: أرسل العبّاس بن عبد المطّلب إلى بني عبد المطّلب فجمعهم عنده، وكان عليٌّ عنده بمنزلة لم يكن أحد بها، فقال العبّاس: يا ابن أخي إنّي قد رأيت رأياً لم أحب أن أقطع فيه شيئاً حتّى أستشيرك، فقال عليٌّ علیه السلام: ما هو؟ قال: ندخل على النبيّ صلی الله علیه و آله فنسأله إلى من هذا الأمر من بعده؟، فإن كان فينا لم نسلمه والله ما بقي في الأرض طارق، وإن كان في غيرنا لم نطلبه بعد أبداً، قال عليٌّ: يا عمّ وهل هذا الأمر إلّا إليكم؟ وهل أحد ينازعكم في هذا الأمر؟!.

وفى رواية أن العبّاس وعليّاً دخلا على النبيّ صلی الله علیه و آله فسأله العبّاس عن ذلك فلم يجبه هل هو فيهم أم في غيرهم، بل قال لهما: [أنتمْ المظلومونَ، أنتمْ المقهورونَ] .. هذه روايتنا معشر الشيعة.

فإن قلت: هذا ينافي ما تدعونه من أن النبيّ صلی الله علیه و آله قد نص على أمير المؤمنين علیه السلام وبين فرض طاعته ودعا الأمة إلى اتباعه؛ لأنّه لو كان الأمر كذلك لم يكن لقول العبّاس المذكور معنى .. قلت: قد أجاب عن هذا السؤال شيخنا المفيد قدس الله روحه في كتاب (العيون والمحاسن) فقال: إن العبّاس رحمة الله عليه إنّما سأل النبيَّ صلی الله علیه و آله عن كون الأمر فيهم بعده على الوجوب وتسليم الأمّة لهم، وهل المعلوم عند الله تعالى تمكّنهم منه وعدم الحيلولة بينهم وبينه، فيطمئنّ بذلك قلبه ويسكن إلى وصوله إلى غرضه، وعدم المنازع وتمكينهم من الأمر، أو يغلبون عليه ويحال بينهم وبينه، فيسأل النبيّ صلی الله علیه و آله أن يوصي لهم بالإكرام والإعظام، ولم يكن في شكّ من الإستحقاق

ص: 157

والإختصاص بالحكم ..ألا ترى إلى جواب النبيّ صلی الله علیه و آله بأنّكم المقهورون، وأنّكم المظلومون.

فجميع هذه الألفاظ جاءت بها الرواية، ولولا أن سؤال العبّاس إنّما كان عن حصول المراد من التمكن من المستحق ونفوذ الأمر والنهى لم يكن لجواب النبيّ صلی الله علیه و آله بما ذكرناه معنى يعقل، وكان جواباً عن غير السؤال، ورسول الله صلی الله علیه و آله يجلّ عن صفات النقص كلّها؛ لانتظامه صفات الكمال.

ونظير ذلك فيما ذكرناه قول رجل لأبيه - وهو يعلم أنّه وارثه دون النّاس كافة -: أترى أنّ تركتك تكون لي بعد الوفاة، أم تجعل لغيري؟ وهل ما أهّلتني له يتقرر لي أم يغلبني عليه أخواني أو بنو عمّي؟ فيقول له الوالد - إذا لم يعلم الحال - ما يغلب في ظنّه من ذلك، أو يجيبه بالرجاء، وليس سؤال الولد لوالده عن الإستحقاق.

وأمثال ذلك كثير, وفي الجواب عنه كفاية وغنى عن الأمثال.

واتّفق النقل من الخاصّة والعامّة: على أن العبّاس قال لأمير المؤمنين علیه السلام يوم وفاة النبيّ صلی الله علیه و آله وهما في الدار: أمدد يدك أبايعك، فيقول النّاس عمّ رسول الله صلی الله علیه و آله بايع ابن عمِّ رسول الله، فلا يختلف عليك اثنان.

واختلفوا في رواية جواب أمير المؤمنين علیه السلام، فروت العامّة أنّه قال له: {أو يطمع فيها طامع غيري؟} قال العبّاس: ستعلم، فلم يلبثا أن جاءتهما الأخبار بأن الأنصار

ص: 158

أقعدت سعداً لتبايعه، وأن عمر جاء بأبي بكر فبايعه وسبق الأنصار بالبيعة، فأنشد العبّاس قول دريد:

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى *** فلم يستبينوا النصح إلّا ضحى الغدِ

وروت الخاصّة أنّه قال: {يا عمّ إنّ لي برسولِ اللهِ شغلاً عنْ ذلكَ}، فلمّا ألحّ عليه قال: {يا عمّ إنّ رسولّ اللهِ صلی الله علیه و آله أوصى إليَّ وأوصانيْ أنْ لا أجردَ سيفاً بعدَهُ حتّى يأتينيْ النّاس طوعاً، وأمرني بجمعِ القرآنِ والصمتِ حتّى يجعلَ اللهُ لي مخرجاً}.

وادّعت المعتزلة ومتكلمو المجبرة أن في هذا دليلاً على أن رسول الله صلی الله علیه و آله لم ينص على أمير المؤمنين علیه السلام، قالوا: لأنّه لو نصّ عليه لم يدعه العبّاس إلى البيعة؛ لأن المنصوص عليه لا يفتقر في إمامته وكمالها إلى البيعة، فلمّا دعاه العبّاس إلى عقد إمامته من حيث تعقد الإمامة التي تكون بالإختيار دلّ على بطلان النص.

أجاب أصحابنا رضوان الله عليهم بأنّه: إن كان دعاء العبّاس أمير المؤمنين إلى البيعة يدلّ على ما زعمتم من بطلان النص وثبوت الإمامة بالإختيار فيجب أن يكون دعاء النبيّ صلی الله علیه و آله الى بيعته ليلة العقبة، ودعاء المسلمين من المهاجرين والأنصار تحت شجرة الرضوان دليلاً على أن نبوته إنّما تثبت له من جهة الإختيار، وأنّه لو كان ثابت الطاعة من قبل الله تعالى وإرساله، وكان المعجز دليل نبوّته، لاستغني عن البيعة تارة بعد اخرى، فإن قلتم: بذلك خرجتم عن الملّة، وان أبيتموه نقضتم العلة.

ص: 159

فإن قالوا: إن بيعة النّاس لرسول الله صلی الله علیه و آله لم تكن لإثبات النبوة، وإنّما كانت للعهد في نصرته بعد معرفة حقّه وصدقه فيما أتى به الله عزَّ وجلَّ من رسالته.. قيل لهم: كذلك كان دعاء العبّاس أمير المؤمنين علیه السلام إلى بسط إليَّد للبيعة، فإنّما كان بعد ثبوت إمامته لتجديد العهد في نصرته والحرب لمخالفيه وأهل مضادته ولم يحتج علیه السلام إليها في إثبات إمامته.

ويدلّ على ما ذكرناه قول العبّاس: يقول النّاس عمّ رسول الله بايع ابن عمّه، فلا يختلف عليك اثنان، فعلق الاتفاق بوقوع البيعة, ولم يكن ليعلقه به إلّا وهي بيعة الحرب التي ترعب عندها الأعداء، ويحذرون من الخلاف، ولو كانت بيعة الإختيار من جهة الشورى والإجتهاد لما منع ذلك من الإختلاف، بل كانت نفسها الطريق إلى تشتت الرأي وتعلق كل قبيل باجتهاده واختياره.

أو لا ترى إلى جواب أمير المؤمنين علیه السلام بقوله: {يا عمّ إنّ لي برسولِ اللهِ صلی الله علیه و آله شغلاً عنْ ذلكَ}، ولو كانت بيعة عقد الإمامة لما شغله عنها شاغل، ولا كانت قاطعة له عن مراده في القيام برسول الله.

أو لا ترى إلى قوله لما ألح عليه: {يا عمّ إنّ رسولَ اللهِ صلی الله علیه و آله أوصى إليَّ وأوصاني أنْ لا أجرّد سيفاً بعدَهُ}، فدلّ ذلك أيضاً على أن البيعة إنّما دعا إليها للنصرة والحرب، وأنّه لا تعلق لثبوت الإمامة بها، وأن الإختيار ليس منها في قبيل ولا دبير، على ما وصفناه.

ص: 160

وروي أنّه لمّا قبض رسول الله صلی الله علیه و آله واشتغل عليٌّ علیه السلام بغسله ودفنه، وبويع أبو بكر، خلا الزبير وأبو سفيان وجماعة من المهاجرين بعليٍّ علیه السلام والعبّاس لإجالة الرأي، وتكلّموا بكلام يقتضي الإستنهاض والتهيج، فقال العبّاس: قد سمعنا قولكم فلا لقلّة نستعين بكم، ولا لظنّة نترك آرائكم، فأمهلونا نراجع الفكر، فإن يكن لنا من الأمر ثُمَّ مخرج، بصّر بنا وبهم الحقّ صريرُ الحديد، ونبسط إلى المجد كفاً لا نقبضها، أو نبلغ المدى، وإن تكن الأخرى فلا لقلّة العدد ولا لوهن في الأيد، والله لولا أن الإسلام قيد الفتك لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العلي.

فحلَّ عليٌّ علیه السلام حبوته فقال:{ الصبرُ حلمٌ، والتقوى دينٌ، والحجّة محمّدٌ، والطريقُ الصراطُ، أيُّها النّاس شقّوا أمواجَ الفتنِ بسفنِ النجاةِ، وعرّجوا عنْ طريقِ المنافرةِ، وضَعوا تيجانَ المفاخرةِ، أفلحَ منْ نهضَ بجناحٍ، أو استسلمَ فأراحَ، ماءٌ آجنٌ ولقمةٌ يغصُّ بها آكلّها، ومجتني الثمرةِ لغيرِ وقتِ إيناعِها، كالزارعِ بغيرِ أرضِهِ، فإنْ أقلْ يقولوا: حرصَ على المُلكِ، وإنْ أسكتْ يقولوا: جَزعَ منَ الموتِ، هيهاتَ بعدَ اللتيا واللتيْ، واللهِ لابنُ أبيْ طالبَ آنسُ بالموت ِمنَ الطفلِ بثديْ أُمّهِ، بلْ اندمجتُ على مكنونِ علمٍ لوْ بُحتُ بهِ لاضطربتمْ اضطرابَ الأرشيةِ فيْ الطوى البعيدةِ}.

ثُمَّ نهض ودخل منزله وتفرق القوم.

وروى الزبير بن بكار في (الموفقيات) قال: لما ازدحم النّاس على أبي بكر فبايعوه، مرَّ أبو سفيان بن حرب بالبيت الذي فيه عليٌّ بن أبي طالب وأنشد أبياتاً:

بني هاشم لا تطمعوا النّاس فيكم *** ولا سيما تيم ابن مرّة أو عديْ

ص: 161

فما الأمر إلّا فيكم وإليكمُ *** وليس لها إلّا أبو حسن عليْ

أبا حسن فأشدّد بها كف حازم *** فإنّك بالأمر الذي يرتجى ملي

فقال عليٌّ علیه السلام لأبي سفيان: {إنّك تريدُ أمراً لسنا منْ أصحابِهِ، وقدْ عهدَ إليَّ رسولُ الله صلی الله علیه و آله عهداً وأنا عليهِ}.

فتركه أبو سفيان وعدل الى العبّاس في منزله فقال: يا أبا الفضل أنت لها أهل وأحقّ بميراث ابن اخيك..أمدد يدك لأبايعك فلا يختلف عليك النّاس بعد بيعتي إيّاك، فضحك العبّاس وقال: يا أبا سفيان يدفعها عليٌّ ويطلبها العبّاس، فرجع أبو سفيان خائباً.

وروي عن البراء بن عازب أنّه قال: لم أزل لبني هاشم محبّاً، فلمّا قبض رسول الله صلی الله علیه و آله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله صلی الله علیه و آله؛ فكنت أتردد لبني هاشم وهم عند النبيِّ صلی الله علیه و آله في الحُجْرة، وأتفقد وجوه قريش، فإنّي لكذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر وإذا قائل يقول: القوم في (سقيفة بني ساعدة)، وإذا قائل آخر يقول: بويع أبو بكر، فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية، لا يمرّون بأحد إلّا خبطوه وقدموه، فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر، يبايعه شاء ذلك أو أبى، فأنكرت عقلي وخرجت أشتد حتّى انتهىت إلى بني هاشم، والباب مغلق فضربت عليهم الباب ضرباً عنيفاً، وقلت: قد بايع النّاس لأبي بكر بن أبي قحافة! فقال العبّاس: تربت

ص: 162

أيديكم إلى آخر الدهر، أما إنّي قد أمرتكم فعصيتموني؛ فمكثت أكابد ما في نفسي، ورأيت في الليل المقداد وأبا ذرّ وعبادة بن الصامت وأبا الهيثم بن التيهان وحذيفة وعمّاراً، وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين، وبلغ ذلك أبا بكر وعمر؛ فأرسلا إلى أبي عبيدة والمغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي، فقال المغيرة: الرأي أن تلقوا العبّاس فتجعلوا له ولولده في هذا الأمر نصيباً؛ لتقطعوا بذلك ناحية عليّ بن أبي طالب، فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة حتّى دخلوا على العبّاس، وذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وقال: وإن الله ابتعث لكم محمّداً نبياًّ وللمؤمنين وليّاً، فمنَّ الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم، حتّى اختار له ما عنده فخلّى على النّاس أمورهم؛ ليختاروا لأنفسهم متفقين غير مختلفين، فاختاروني عليهم والياً ولأموالهم راعياً، فتوليت ذلك وأنا لا أخاف بعون الله وتسديده وهناً ولا حيرة ولا جبناً، وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وما انفكّ يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامّة المسلمين، يتّخذكم لجأً فتكونون حصنه المنيع وخطبه البديع، فإمّا دخلتم فيما دخل فيه النّاس، أو صرفتموهم عمّا مالوا إليه، فقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً، ولمن بعدك من عقبك إذ كنت عمَّ رسول الله صلی الله علیه و آله، وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ومكان أهلك ثُمَّ عدلوا بهذا الأمر عنكم، وعلى رسلكم بني هاشم، فإن رسول الله صلی الله علیه و آله مّنا ومنكم.

فاعترض كلامه عمر وخرج إلى مذهبه من الخشونة والوعيد وإتيان الأمر من أصعب وجوهه، فقال: إي والله وأخرى، إنّا لم نأتكم حاجة إليكم، ولكن كرهنا أن

ص: 163

يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم وبهم، فانظروا لأنفسكم ولعامّتهم.

فتكلم العبّاس فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن الله ابتعث محمّداً صلی الله علیه و آله نبياً كما وصفت وولياً للمؤمنين، فمنَّ الله على أمّته حتّى اختار له، وزعمت أنّه خلّى على النّاس أمورهم ليختاروا لأنفسهم متفقين غير مختلفين، فإن كنت برسول الله صلی الله علیه و آله طلبت فحقّنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم، ما تقدمنا في أمر كم فرطاً ولا حللنا وسطاً ولا نزعنا شخصاً، فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنّا كارهين، وما أبعد قولك أنّهم طعنوا عليك من قولك أنّهم مالوا إليك، وإمّا ما بذلت لنا فإن يكن حقّك أعطيناه فأمسكه عليك، وإن يكن حقّ المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه، وإن يكن حقّنا لم نرض منك ببعضه ودون بعض، وما أقول هذا أروم صرفك عمّا دخلت فيه، ولكن للحجّة نصيبها من البيان، وإمّا قولك: أن رسول الله صلی الله علیه و آله منّا ومنكم، فإن رسول الله شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها، وإمّا قولك يا عمر أنّك تخاف النّاس علينا فهذا الذي قدمتموه أوّل ذلك، والله المستعان.

وممّا يناسب إيراده هنا ما ذكره الشريف أبو القاسم علي بن الحسين المرتضى رضی الله عنه في كتابه (الفصول) قال: حضر الشيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان بسرً من رأى، واجتمع إليه من العبّاسيين وغيرهم جمع كثير، فقال له بعض مشايخ العبّاسيين: أخبرني من كان الإمام بعد رسول الله صلی الله علیه و آله ؟ فقال له: كان الإمام من دعاه العبّاس إلى مدِّ يده للبيعة، على حرب من حارب وسلم من سالم، فقال العبّاسي:

ص: 164

ومن هذا الذي دعاه العبّاس لذلك؟ فقال له الشيخ: هو عليٌّ بن أبي طالب علیه السلام، حيث قال له العبّاس في اليوم الذي قبض فيه رسول الله صلی الله علیه و آله بما اتفق عليه أهل النقل: إبسط يدك يا ابن أخي أبايعك، فيقول النّاس: عمُّ رسول الله بايع ابن أخيه، فلا يختلف عليك اثنان، فقال شيخ من فقهاء البلد: فما كان الجواب من عليٍّ علیه السلام ؟ فقال له: كان الجواب أن قال له: {إنَّ رسولَ اللهِ صلی الله علیه و آله عهدَ إليَّ أنْ لا أدعوَ أحداً حتّى يأتوني، ولا أجردَ سيفاً حتّى يبايعوني، وإنّما أنا كالكعبةِ أُقصدُ ولا أَقصدُ، ومعَ هذا فلي برسولِ اللهِ شغلٌ}.

فقال له العبّاسي: فقد كان العبّاس إذاً على خطأ في دعائه إلى البيعة؟ فقال الشيخ: لم يخطأ العبّاس فيما قصد له؛ لأنّه عمل على الظاهر، وكان عمل أمير المؤمنين علیه السلام على الباطن، فكلاهما أصابا الحقّ ولم يخطئا والحمد لله.

فقال له العبّاسي: فإن كان الإمام هو عليّ بن أبي طالب علیه السلام بعد النبيّ صلی الله علیه و آله فقد أخطأ أبو بكر وعمر ومن تبعهما، وهذا أعظم في الدين، فقال له الشيخ: لست أنشط الساعة بتخطئة أحد، وإنّما أجبتك عن شيء، فإن كان صواباً تضمن تخطية إنسان فلا تستوحش من اتباع الصواب، وإن كان باطلاً فتكلم على بطلانه، فهو أولى من التشنيع بما لا يجدي نفعاً، مع أنّه إن استعظمت تخطية من ذكرت فلا بدّ من تخطية عليٍّ علیه السلام والعبّاس رحمه الله من قبل أنّهما تأخرا عن بيعة أبي بكر، ولم يرضيا بتقدمه، ولا عملا له ولا لصاحبه عملاً، ولا تقلّدا لهما ولاية، ولا رآهما أبو بكر ولا عمر أهلاً أن يشركانهما في شيء من أمورهما، وخاصّة ما صنع عمر بن الخطّاب

ص: 165

يوم الشورى لمّا ذكر عليّاً علیه السلام عابه، ووصفه بالدعابة تارة، وبالحرص على الدنيا أخرى، وأمر بقتله إن خالف عبد الرحمن، وجعل الحقَّ في حيّز عبد الرحمن دونه، وفضَّله عليه، وذكر من يصلح للإمامة في الشورى ومن يصلح للإختيار، فلم يذكر العبّاس في إحدى الطائفتين.

وقد أخذ من عليٍّ علیه السلام والعبّاس وجميع بني هاشم الخمس الذي جعله الله لهم وأرغمهم فيه، وحال بينهم وبينه، وجعله في السلاح والكراع، فإن كنت أيّها الشريف أيّدك الله تنشط للطعن على عليٍّ علیه السلام والعبّاس رحمه الله بخلافهما للشيخين، وكراهتهما وتأخرهما عن بيعتهما، وترى من العقد ما سنّهُ الشيخان من التأخير لهما عن شريف المنازل، والغضّ عنهما والحطّ من أقدارهما، فصرْ إلى ذلك فإنّه الضلال بغير شبهة، وإن كنت ترى ولاءهما والتعظيم لهما والإقتداء بهما فاسلك سبيلهما، ولا تستوحش من تخطئة من خالفهما، وليس هاهنا منزلة ثالثة.

فقال العبّاسي عند سماع هذا الكلام: اللهمَّ إنّك تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.

وعن محمّد بن عمر بن علي عن أبيه عن أبي رافع قال: إنّي لعند أبي بكر إذ طلع عليٌّ علیه السلام والعبّاس يتدافعان ويختصمان في ميراث النبيّ صلی الله علیه و آله فقال أبو بكر: يكفيكم القصير الطويل.. (يعني عليّاً علیه السلام بالقصير، وبالطويل العبّاس)، فقال العبّاس: أنا عمّ النبيّ ووارثه وقد حال عليٌّ بيني وبين تركته، قال أبو بكر: فأين كنت يا عبّاس حين جمع النبيّ صلی الله علیه و آله بني عبد المطّلب وأنت أحدهم فقال: [ أيّكمْ يؤازرنيْ ويكونُ

ص: 166

وصييْ وخليفتيْ في أهلِي، وينجزُ عدّتي ويقضي دَيني؟]، فأحجمتم عنها إلّا عليٌّ، فقال النبيّ صلی الله علیه و آله: [أنتَ لذلك]، فقال العبّاس: فما أقعدك مجلسك هذا, تقدّمته وتأمرت عليه؟ فقال أبو بكر: أغدراً يا بني عبد المطّلب؟!.

وروي أن متكلماً قال لهارون الرشيد: أريد أن أقرر هشام بن الحكم بأن عليّاً كان ظالماً، فقال له: إن فعلت ذلك فلك كذا وكذا فأمر به، فلمّا حضر هشام قال له المتكلم: يا أبا محمّد روت الأمة بأجمعها أن عليّاً نازع العبّاس إلى أبي بكر في تركة النبيِّ صلی الله علیه و آله، قال: نعم، قال: فأيّهما الظالم لصاحبه؟ قال هشام: فنظرت فإذا أنا إن قلت: أن عليّاً كان ظالما كفرت وخرجت عن مذهبي، وإن قلت: أن العبّاس كان ظالماً ضرب الرشيد عنقي، ووردت عليّ مسألة لم اكن سئلت عنها قبل ذلك, ولا أعددت لها جواباً، فذكرت قول أبي عبد الله علیه السلام وهو يقول لي: (يا هشام لا تزال مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك)، فعلمت أني لا أُخذل، وعنَّ لي الجواب في الحال، فقلت له: لم يكن فيهما ظالم، قال: أفيختصم اثنان في أمر وهما جميعاً محقّان؟ قال: نعم اختصم الملكان إلى داود علیه السلام وليس فيهما ظالم، وإنّما أرادا أن ينبّها داود علیه السلام على الخطيئة، ويعرفاه الحكم..كذلك عليٌّ علیه السلام والعبّاس تحاكما إلى أبي بكر ليعرفاه ظلمه وينبهاه على خطأه, فلم يحر المتكلم جواباً، واستحسن الرشيد ذلك.

وروى الجمهور حديث خصومة عليٍّ علیه السلام والعبّاس رضی الله عنه عند عمر بن الخطّاب، وأوردوه في صحاحهم، فنحن نذكر من ذلك طرفاً، ثُمَّ نتكلم عليه.

ص: 167

رووا عن الزهري عن مالك بن الأوس بن الحدثان أنَّ عمر بن الخطّاب دعاه يوماً لقسمة مال بين قومه، قال: فبينا أنا عنده إذ دخل مؤذنه فقال: هل لك في عثمان وسعد وعبد الرحمن والزبير يستأذنون عليك؟ قال: نعم فأذن لهم، قال: ثُمَّ لبث قليلاً فقال: هل لك في عليٍّ والعبّاس يستأذنان عليك؟ قال: إئذن لهما، فلمّا دخلا قال العبّاس: يا أمير المؤمنين إقض بيني وبين هذا (يعنى عليّاً)، وهما يختصمان في الصوافي التي أفاءها الله على رسوله من أموال بني النضير، فاستبَّ عليٌّ والعبّاس عند عمر، فقال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين إقض بينهما، وأرح أحدهما من الآخر، فقال عمر: أنشدكما الله الذي بإذنه تقوم السماوات والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: [لا نورث ما تركناه صدقة] يعنى نفسه ؟ قالوا: قد قال ذلك، فأقبل على العبّاس وعليٍّ، فقال: أنشدكما الله هل تعلمان ذلك؟ قالا معاً: نعم، قال عمر: فإنّي أحدثكم عن هذا الأمر أن الله تبارك وتعالى خصَّ رسوله في هذا الفيء, وهو شيء لم يعطه غيره قال تعالى: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (1)، فكانت هذه خاصة لرسول الله صلی الله علیه و آله فما اختارها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكموها وبثّها فيكم، حتّى بقي منها هذا المال، فكان ينفق منه على أهله سنتهم، ثُمَّ يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله عزَّ وجلَّ، فعل ذلك في حياته ثُمَّ توفي.

ص: 168


1- سورة الحشر – الآية: 6

فقال أبو بكر: أنا وليُّ رسول الله فقبضه الله تعالى وقد عمل فيها بما عمل به رسول الله وأنتما حينئذٍ - والتفت إلى العبّاس وعليٍّ - تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر، والله يعلم أنّه لصادق بارٌّ راشد تابع للحق، ثُمَّ توفي الله أبا بكر فقلت: أنا أولى النّاس بأبي بكر وبرسول الله، فقبضتها سنتين (أو قال سنين) من إمارتي أعمل فيها مثل ما عمل رسول الله وأبو بكر، ثُمَّ قال: وأنتما - وأقبل على العبّاس وعليٍّ - تزعمان أنّي فيها ظالم فاجر، والله يعلم إنّي لصادق بارٌّ راشد تابع للحق، ثُمَّ جئتماني وكلمتماني كلمة واحدة وأمركما جميع، فجئتني (يعني العبّاس) تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا (يعني عليّاً) يسألني نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: [لا نورث ما تركناه صدقة]، فلمّا بدا لي أن أدفعها إليكما دفعتهما عليّ، إن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل رسول الله صلی الله علیه و آله وأبو بكر وبما عملت أنا به فيها وإلا فكلماني، فقلتما: إدفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما بذلك، أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك، والله الذي بأذنه تقوم السماوات والأرض لا أقضي بينكما بقضاء غير ذلك حتّى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنها فادفعاها إليَّ فأنا أكفيكماها.

قال المؤلف عفى الله عنه: هذا الحديث من مناكير العامّة وفواقرهم، التي يشهد العقل بإنكارها ويجزم بعدم صحتها، والطعن فيه من وجوه:

الأوّل: أن عمر استشهد عثمان وسعداً وعبد الرحمن والزبير على أنّهم يعلمون أن النبيّ صلی الله علیه و آله قال: [لا نورث ما تركناه صدقة] فقالوا: قد قال ذلك، ومعظم المحدثين

ص: 169

ذكروا أنّه لم يرو هذا الخبر إلا أبو بكر وحده .. حتّى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم بالخبر برواية الصحابي الواحد، فأين كان هؤلاء القوم أيام أبي بكر؟! ما نقل أن أحداّ من هؤلاء يوم خصومة فاطمة علیها السلام وأبي بكر روى من هذا شيئاً.

الثاني: إن عمر ناشد عليّاً علیه السلام والعبّاس رحمه الله: هل تعلمان ذلك؟ فقالا معاً: نعم، فإذا كانا يعلمان فكيف جاء العبّاس وفاطمة علیها السلام إلى أبي بكر يطلبان منه الميراث على ما رووه من طريق عروة عن عائشة أن فاطمة علیها السلام والعبّاس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلی الله علیه و آله، وهما حينئذ يطلبان أرضه بفدك وسهمه بخيبر، فقال لهما أبو بكر: إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله يقول: [لا نورث ما تركناه صدقة] إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال وإني والله لا أغيّر أمراً رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله يصنعه إلّا صنعته.

وهل يجوز أن يقال: كان العبّاس يعلم ذلك، ثُمَّ يطلب الإرث الذي لا يستحقه؟! وهل يجوز أن يقال كان عليٌّ علیه السلام يعلم ذلك ويمكّن زوجه أن تطلب ما لا تستحقه؟! وهل خرجت من دارها إلى المسجد ونازعت أبا بكر وكلمته بما كلمته به إلّا بقوله وإذنه ورأيه؟!.

الثالث: قول عمر لعليٍّ علیه السلام والعبّاس: وأنتما حينئذ تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر، ثُمَّ قوله لمّا ذكر نفسه: وأنتما تزعمان أنّي فيها ظالم فاجر، فإذا كانا يزعمان ذلك فيكف يجمع هذا الزعم مع كونهما يعلمان أن رسول الله صلی الله علیه و آله قال: لا نورث؟!.

ص: 170

الرابع: أنّهما حضرا يتنازعان لا في الميراث، بل في ولاية صدقة رسول الله صلی الله علیه و آله أيّهما يتولاها ولاية لا إرثاً، وعلى هذا كانت الخصومة - كما يزعمون - فهل يكون جواب ذلك: هل تعلمون، وهل تعلمان ان رسول الله صلی الله علیه و آله قال: [لا نورث ما تركناه صدقة]؟!.

قالوا: وكانت هذه الصدقة بيد عليٍّ علیه السلام غلب عليها العبّاس، وكانت فيها خصومتهما، فأبى عمر أن يقسمها بينهما، حتّى أعرض عنها العبّاس وغلب عليها عليٌّ علیه السلام، ثُمَّ كانت بيد الحسن علیه السلام، ثُمَّ بيد الحسين علیه السلام، ثُمَّ بيد عليٍّ بن الحسين علیهما السلام، والحسن بن الحسن علیه السلام , كلاهما يتدأوّلانه، ثُمَّ بيد زيد بن عليٍّ علیهما السلام .

ورووا أيضاً عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: سمعت عمر يقول للعباس وعليٍّ وعبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحة: أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلی الله علیه و آله كان يدخل فيئه أهل السنة من صدقاته، ثُمَّ يجعل ما بقي في بيت المال؟ قالوا: اللهمَّ نعم، قال: فلمّا توفي رسول الله صلی الله علیه و آله قبضها أبو بكر، فجئت يا عباس تطلب ميراثك من ابن اخيك، وجئت يا عليّ تطلب ميراث زوجك من أبيها، وزعمتما أن أبا بكر كان فيها خائناً فاجراً، والله لقد كان أمرؤاً مطيعاً تابعاً للحق، ثُمَّ توفي أبو بكر فجئتماني تطلبان ميراثكما..أمّا أنت يا عبّاس فتطلب ميراثك من ابن أخيك، وأمّا أنت يا عليُّ فتطلب ميراث زوجك من أبيها، وزعمتما أني فيها خائن فاجر، والله يعلم أنّي فيها مطيع تابع للحقّ، فأصلحا أمركما، وإلّا والله لم ترجع إليكما، فقاما وتركا الخصومة فأمضيت صدقة.

ص: 171

وهذا الحديث: يدلّ صريحاً على أنّهما جاءا يطلبان الميراث لا الولاية، ويطعن في صحته أن أبا بكر حسم المادة أوّلا، وقرر عند العبّاس وعليٍّ علیه السلام وغيرهما أن النبيَّ صلی الله علیه و آله لا يورث، وكان عمر من المساعدين له على ذلك، فكيف يعود العبّاس وعليٌّ علیه السلام بعد وفاة أبي بكر يحأوّلان أمراً قد كان فرغ منه ويئس من حصوله، اللهمَّ إلّا أن يكونا ظنّا أن عمر ينقض قضاء أبي بكر، وهذا بعيد بل مستحيل؛ لأن عليّاً ًوالعبّاس علیهما السلام كانا يعلمان موالاة عمر لأبي بكر في هذه الواقعة .. ألا تراه يقول: نسبتماني ونسبتما أبا بكر إلى الظلم والخيانة، فكيف يظنّان أنّه ينقض قضاء أبي بكر؟!.

وكم للعامّة من مناكير أعدُّ منها ولا أعددها.

والذي نعتقده في العبّاس رضی الله عنه أنّه كان معترفاً لأمير المؤمنين علیه السلام بالخلافة والإمامة، عالماً ما له من عظيم المنزلة ورفيع المقامة، لا يختلجه في ذلك شكّ ولا ريب، بل كان من المتقين الذين يؤمنون بالغيب.

قال السيد عليٌّ بن طاووس قدس سره: روى كثير من علماء الإسلام دوام اتحاد العبّاس مع عليٍّ علیهما السلام وتولّي أمره لمّا مات، وقد كان من أخصّاء عليٍّ علیه السلام حتّى روى ابن سعد - وهو من أعيان المخالفين لأهل البيت - أن عليّاً هو الذي غسّل العبّاس وتولّى أمره لمّا مات.

ص: 172

وقد كان من اختصاص عليٍّ علیه السلام بأولاد العبّاس قبل تمكّنه من خلافته، وبعد انبساط يده ومبايعته ما يدلّ على دوام الصفاء والوفاء، وقد ذكر ذلك جماعة من العلماء، حتّى كانوا خواصه في حروبه وولاياته، وفى أسراره واحتجاجاته، وما كان طلب العبّاس للميراث والصدقات إلّا مساعدة لعليٍّ؛ ولذلك دفعها العبّاس إليه خاصة.

وأمّا قولهم: أن عليّاً علیه السلام غلب العبّاس عليها فغير صحيح؛ لاستمرار يد عليٍّ وأولاده علیهم السلام عليها وترك منازعة بني العبّاس لهم، مع أن العبّاس ما كان ضعيفاً عن منازعة عليٍّ علیه السلام، ولا أولاد العبّاس ضعفاء عن منازعة أولاده في الصدقات المذكورة.

ولعلّ المخالفين أرادوا أن يوقعوا خلافاً بين العبّاس وعليٍّ علیهما السلام؛ ليعتذروا لأبي بكر وعمر في مخالفة بني هاشم.

وأخرج الشيخ الطوسي رحمه الله في (أماليه) عن محمّد بن عمّار بن ياسر عن أبيه عمّار رضی الله عنه قال: لما مرضت فاطمة علیها السلام بنت رسول الله صلی الله علیه و آله مرضها الذي توفيت فيه وثقلت، جاءها العبّاس بن عبد المطّلب رضی الله عنه عائداً فقيل له: إنّها ثقيلة وليس يدخل عليها أحد، فانصرف إلى داره، وأرسل إلى عليٍّ علیه السلام فقال لرسوله: قل له يا ابن الأخ إن عمّك يقرئك السلام ويقول لك: قد فجأني من الغمّ بشكاة حبيبة رسول الله صلی الله علیه و آله وقرّة عينه وعيني فاطمة علیها السلام ما هدّني، وإنّي لأظنّها أوّلنا لحوقاً برسول الله صلی الله علیه و آله، والله يختار لها ويحبوها ويزلفها لديه، فإن كان من أمرها ما لا بدَّ منه، فأنا

ص: 173

أجمع لك الغداة المهاجرين والأنصار حتّى يصيبوا الأجر في حضورها والصلاة عليها، وفي ذلك جمال الدين.

فقال عليٌّ علیه السلام - وأنا حاضر عنده - أبلغ عمّي السلام وقل له: {لا عدمتُ إشفاقكَ وتحنّنكَ، وقدْ عرفتُ مشورتَكَ، ولرأيكَ فضلٌ، إنّ فاطمةَ بنتَ رسولِ اللهِ صلی الله علیه و آله لمْ تزلْ مظلومةً، ومنْ حقّها ممنوعة، وعنْ ميراثشها مدفوعةً، لم تُحفظ فيها وصيّةُ رسولِ اللهِ صلی الله علیه و آله، ولا روعيَ فيها حقّهُ ولا حقُّ الله عزَّ وجلَّ، وكفى باللهِ حاكماً، ومنَ الظالمينَ منتقماً، وأنا أسألك يا عمّ أنْ تسمحَ ليْ بتركِ ما أشرتَ بهِ، فإنّها أوصتنيْ بسترِ أمرِها}.

قال: فلمّا أتى العبّاس رسوله بما قاله عليٌّ علیه السلام قال: يغفر الله لإبن أخي، وإنّه لمغفور له، إن رأي ابن أخي لا يطعن عليه فيه، إنّه لم يولد لعبد المطّلب مولود أعظم بركة من عليٍّ إلّا النبيّ صلی الله علیه و آله .. إنّ عليّاً لم يزل أسبقهم إلى كلّ مكرمة، وأعلمهم بكلّ قضية، وأشجعهم في الكريهة، وأشدّهم جهاداً للأعداء في نصرة الحنفية، وأوّل من آمن بالله ورسوله صلی الله علیه و آله .

وفى السنة السابعة عشرة من الهجرة استسقى عمر بالعبّاس، روى ابن مسعود قال: خرج عمر يستسقي بالعبّاس، فقال: اللهمَّ إنّا نتقرب إليك بعمّ نبيك وبقية آبائه وكبير رجاله، فإنّك قلت - وقولك الحق المبين-: ﴿وَإمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ

ص: 174

فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً﴾ (1)، فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ اللهمَّ نبيّك في عمّه، فقد دلونا به مستشفعين ومستغفرين، ثُمَّ أقبل على النّاس فقال: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً﴾ (2).

قال ابن مسعود: ورأيت العبّاس يومئذ وقد طال عمره، وعيناه تنفتحان وسبابته تجول على صدره وهو يقول:

اللهمَّ أنت الراعي فلا تهمل ضالّة, ولا تدع الكسير بدار مضيعة، فقد ضرع الصغير ورقّ الكبير، وارتفعت الشكوى وأنت تعلم السرّ وأخفى.

اللهمَّ أغثهم بغياثك من قبل أن يقنطوا فيهلكوا، إنّه لا ييأس من رحمة الله إلّا القوم الكافرون.

قال: فنشأت طريرة من سحاب، وقال النّاس: ترون ترون ثُمَّ تلامت واستتمت، ومشت ريح ثُمَّ هدرت ودرّت، فوالله ما برحوا حتّى اعتلقوا الأحذية وقلصوا المآزر، وطفق النّاس يلوذون بالعبّاس ويقولون: هنيئاً لك ساقي الحرمين .. يريدون ما كان من استسقاء أبيه عبد المطّلب بمكّة فنسبوه إليه.

وروي عن ابن عبّاس أنّه كان بين العبّاس وعليٍّ علیه السلام مباعدة، فلقيت عليّاً في مرض العبّاس فقلت له: إن كان لك في النظر إلى عمّك حاجة فأته، وما أراك تلقاه بعدها،

ص: 175


1- سورة الكهف – الآية: 82
2- سورة نوح – الآيتان: 10 , 11

فوجم لها وقال: تقدمني، واستأذنت له فأذن، فدخل فاعتنق كل واحد منهما صاحبه، وأقبل عليٌّ على يده يقبلها ويقول: يا عمّ إرض عنّي رضي الله عنك .. قال: قد رضيت عنك، ثُمَّ قال: يا ابن أخي قد أشرت عليك من قبل بشيئين فلم تقبل، ورأيت في عاقبتهما ما كرهت، وها انا أشير عليك برأي ثالث، فإن قبلته وإلّا نالك ما نالك ممّا كان قبله، قال: وما ذاك يا عمّ؟ قال: لما قُبض رسول الله صلی الله علیه و آله أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة فدعوناك إلى أن نبايعك، وقلت لك: إبسط يدك أبايعك ويبايعك هذا الشيخ، فإنّا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف، وإذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك قرشي، وإذا بايعك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب، فقلت: أنا بجهاز رسول الله صلی الله علیه و آله مشغول، وهذا الأمر فليس يخشى عليه، فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة (بني ساعدة)، فقلتَ: يا عمّ ما هذا ؟ فقلتُ: ما دعوناك إليه فأبيت، قلت: سبحان الله أو كان هذا؟ قلت: نعم، قلت: أفلا يردّ؟ قلت لك: وهل ردّ مثل هذا قطّ ؟، ثُمَّ أشرت عليك حين طعن عمر، فقلت: لا تدخل نفسك في الشورى؛ فإنّك إن اعتزلتهم قدّموك، وإن ساويتهم تقدّموك، فدخلت معهم فكان ما رأيت، ثُمَّ أنا الآن أشير عليك برأي ثالث، فإن قبلته وإلّا نالك ما نالك مما كان قبله .. إنّي أرى أن هذا الرجل (يعني عثمان) قد أخذ في أمور، والله لكأنّي بالعرب قد سارت إليه حتّى ينحر في بيته كما ينحر الجمل، والله إن كان ذلك وأنت بالمدينة لزمك النّاس به، وإذا كان ذلك لم تنل من الأمر شيئاً إلّا بعد شرٍّ لا خير معه.

ص: 176

قال ابن عبّاس: فلمّا كان يوم الجمل عرضت له وقد قتل طلحة، فقال: والله لكأن عمّي كان ينظر إلى هذا من وراء ستر رقيق، والله ما نلت من هذا الأمر شيئاً إلّا بعد شرّ لا خير معه.

وروي أن العبّاس رحمه الله أوصى عليّاً علیه السلام في علّته التي مات فيها فقال: أي بني إنّي مشرف على الظعن إلى الله الذي فاقتي إلى عفوه وتجاوزه أكثر من حاجتي إلى ما أنصحك فيه وأشير عليك به، ولكنّ العرق نبوض والرحم عروض، وإذا قضيت حقّ العمومة فلا تأل بي بعد أن هذا الرجل (يعني عثمان) قد ناجاني مراراً بحديثك، وناظرني ملايناً ومخاشناً في أمرك، ولم أجد منه عليك إلّا مثل ما أجده منك عليه، ولا رأيت منه لك إلّا مثل ما رأيت منك له، ولست تؤتى من قلّة علم ولكن من قلة قبول، ومع هذا كلّه فالرأي الذي أودعك به أن تمسك عنه لسانك ويدك، فإنّه لا يبدؤك ما لم تبدأه، ولا يجبك عمّا لم يبلغه، فإن قلت: كيف هذا وقد جلس مجلساً أنا صاحبه؟ فقد قاربت، ولكن هذا حديث يوم مرض رسول الله صلی الله علیه و آله فات، ثُمَّ حرم الكلام فيه حين مات، فعليك الآن بالعزوب عن شيء أرادك له رسول الله صلی الله علیه و آله فلم يتم، وتصديت له مرّة بعد أخرى فلم يستقم، ومن ساور الدهر غلب، ومن حرص على ممنوع تعب، وعلى ذلك فقد أوصيت عبد الله بطاعتك، وبعثته على متابعتك، وأوجرته محبتك، ووجدت عنده من ذلك ظنّي به لك..لا توتر قوسك إلّا بعد الثقة بها، وإذا أعجبتك فانظر إلى سيتها، ثُمَّ لا تفوّق إلّا بعد العلم، ولا تفرق في النزع إلا لنصيب الرمية، وانظر لا تطرف يمينك عينك، ولا تجز شمالك شينك .. وودعني بآيات من آخر سورة الكهف، وقم إذا بدا لك.

ص: 177

ومما ينسب إلى العبّاس رضی الله عنه عنه من الشعر ما عزاه إليه الزمخشري في (ربيع الأبرار) وهو:

إذا مجلس الإنصاف حفّ بأهله *** وحلّت بواديهم غفا ر وأسلمُ

فما النّاس بالنّاس الذين عهدتهم *** ولا الدار بالدار التي كنت تعلم

وتوفي العبّاس رضی الله عنه في خلافة عثمان قبل مقتله بسنتين بالمدينة، يوم الجمعة لأثني عشرة، وقيل: لأربع عشرة خلون من رجب، وقيل: من رمضان سنة اثنين وثلاثين، وقيل: ثلاث وثلاثين من الهجرة، وهو ابن سبع وثمانين سنة، بعد أن كُفَّ بصره، أدرك منها في الإسلام اثنين وثلاثين سنة، وصلّى عليه أمير المؤمنين عليٌّ علیه السلام وعثمان، ودفن بالبقيع، ودخل قبره إبنه عبد الله.

وكان له من الذكور تسعة بنين، وقيل: عشرة، ومن الإناث ثلاث بنات، والله أعلم.

ص: 178

عبد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب

يكنّى أبو العبّاس، أمّه أمُّ الفضل: لبانة بنت الحرث بن حرب الهلإليَّة.

ولد في شعب بني هاشم وهم محصورون فيه قبل الهجرة بثلاث سنين، وذكر الطائي أن النبيّ صلی الله علیه و آله حنكه بريقه حين وُلد، ودعا له بالحكمة مرتين.

وروي أن النبيّ صلی الله علیه و آله ضمه إلى صدره وقال: [اللهمَّ علّمهُ الكتابَ والحكمةَ]، وسمّاه ترجمان القرآن.

وعن سعيد بن جبير عنه قال: بتُّ في بيت خالتي ميمونة فوضعت للنبي صلی الله علیه و آله غسلاً، فقال: من وضع هذا؟ قالت: عبد الله، قال: [اللهمَّ علّمهُ التأويلَ وفقْههُ في الدينِ].

وكان طويلاً أبيضاً مشرباً بحمرة، جسيماً وسيماً صبيح الوجه، وكان له وفرة، وكان يخضب بالحناء، وقيل بالسواد.

وروي أنّه قال: توفي رسول الله صلی الله علیه و آله وأنا ابن عشر سنين، وفي رواية ثلاث عشر، وفي أخرى خمسة عشر.

وكان عمر يعظّمه ويعتدّ به، ويقدّمه مع حداثة سنه وعلمه بميله إلى أمير المؤمنين عليّ علیه السلام، وكان إذا ذكره يقول: ذاكم فتى الكهول، له لسان سئول وقلب عقول، وقال له: لقد علمت علماً ما علمناه.

ص: 179

وعن سعد بن أبي وقّاص أنّه قال: ما رأيت أحضر فهماً وألبّ لباً، ولا أكبر علماً ولا أوسع حلماً من ابن عبّاس، ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات ولا يجاوز قوله، وإن حوله لأهل بدر.

وعن مسروق قال: كنت إذا رأيت ابن عبّاس قلت: أجمل النّاس، وإذا نطق قلت: أفصح النّاس، فإذا تحدّث قلت: أعلم النّاس.

وقال مجاهد: ما رأيت أحداً قطّ مثل ابن عبّاس .. لقد مات يوم مات وإنّه لخير هذه الأمّة، وكان يسمّى البحر لكثرة علمه.

وعن عبيد الله بن عبد الله قال: كان ابن عبّاس قد فاق النّاس بخصال..بعلم ما سبق إليه، وفقه ما احتيج إليه، وحلم ونسب، ولا رأيت أحداً أعلم بحديث رسول الله صلی الله علیه و آله منه، ولا أعلم بشعر ولا أعلم بعربية ولا بتفسير ولا بحساب ولا بفريضة ولا أعلم بما مضى ولا أثقب رأياً فيما احتيج إليه منه، ولقد كنّا نحضر عنده فيحدّثنا بالعشية كلّها في النسب، والعشية كلّها في الشعر.

وعن إبن مليكة قال: صحبت ابن عبّاس من مكّة إلى المدينة فكان إذا نزل قام شطراً من الليل يرتل القرآن حرفاً حرفاً، ويكثر من النشيج والنحيب.

وعن أبي رجاء قال: رأيت ابن عبّاس وأسفل عينيه مثل الشراك البالي من البكاء، وكان يصوم الاثنين والخميس.

ص: 180

قال العلامة الحلي في (الخلاصة): عبد الله بن عبّاس رضی الله عنه من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله كان محباً لعليٍّ علیه السلام وتلميذه، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين علیه السلام أشهر من أن يخفى، وقد ذكر الكشّي أحاديث تتضمن قدحاً فيه، وهو أجلّ من ذلك، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير، وأجبنا عنها.

وعن الشهيد الثاني رحمه الله: جملة ما ذكره الكشّي من الطعن فيه خمسة أحاديث كلّها ضعيفة السند، والله أعلم بحاله.

قال القاضي نور الله في (مجالس المؤمنين) أمّا أنا فأعتقد إيمانه، وأمّا أجوبة العلّامة في كتابه الكبير فلم أقف عليها، والذي سمعناه من بعض الثقاة أن كتابه المذكور ضاع قبل أن يبيض في جملة كتب وأثاث للعلّامة في الفترة الواقعة بعد وفاة السلطان محمّد خدا بنده الماضي، وإلى الآن لم يقف أحد من الأفاضل على نسخة من الكتاب المذكور.

قال المؤلف عفى الله عنه: الذي أعتقده في ابن عبّاس رضی الله عنه أنّه كان من أعظم المخلصين لأمير المؤمنين وأولاده علیهم السلام، ولا شكّ في تشيّعه وإيمانه، وستقف على ما نذكره من أخباره على ما تتحقق معه ذلك إن شاء الله تعالى.

وقال السيد جمال الدين أبو الفضائل أحمد بن طاووس الحلّي رحمه الله في كتابه (حلّ الإشكال في معرفة الرجال): عبد الله بن عبّاس رضی الله عنه حاله في المحبة والإخلاص لمولانا أمير المؤمنين علیه السلام والموالاة والنصرة له والذبّ عنه والخصام في رضاه

ص: 181

والمؤازرة له ممّا لا شبهة فيه، وقد كان يعتمد ذلك مع من يجيب اعتماده معه بعده على ما نطق به لسان السير، وقد روى الكشي أخباراً شاذة ضعيفة تقتضي قدحاً أو جرحاً، ومثل الحبر رضی الله عنه موضع أن يحسده النّاس وينافسوه ويقولوا فيه ويباهتوه:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله *** فالنّاس أعداء له وخصومُ

كضرائر الحسناء قلن لوجهها *** حسداً وبغياً إنّه لذميم

ولو اعتبر العاقل حالة النّاس كافة رأى أنّه ليس أحد منهم خالياً من متعرض به أو قائل فيه، إمّا مباهتاً أو غير مباهت، ومعلوم أن ذلك غير جار على قانون الصحة ونمط السداد، إذ فيهم من لا شبهة في نزاهته وبراءته:

وما زلت أستصفي لك الود أبتغي *** محاسنة حتّى كأنّي مجرمُ

لأسلم من قول الوشاة وتسلمي *** سلمت وهل حيٌّ من النّاس يسلم

ولو شكّ العاقل في كلّ شيء لما شكّ في حال نفسه، عند قول باطل يقال وبهت يبهت به لا أصل له، وفي كلام مشاهد بأن السلامة من التعرض بعيدة؛ لأن الرفيع بمظنّة حسد المتوسط له ومن دونه؛ فيقولان فيه، والمتوسط بمظنّة الحسد من المتوسط؛ فيقول فيه، والساقط بمنزلة قدح الرفيع والمتوسط حقاًّ فيه، وأنا مورد ما رواه الكشّي في خلاف ما مدحت به، ومجيب عن ذلك إن شاء الله تعالى.

ص: 182

حديث أوّل: يتعلق بقول صدر فيه من مولانا زين العابدين علیه السلام من رواية إبراهيم بن عمر الصنعاني، وقال ابن الغضائري فيه: إبراهيم بن الصنعاني اليماني يكنّى أبا إسحق: ضعيف جداً، روى عن أبي جعفر علیه السلام وأبي عبد الله علیه السلام , وله كتاب.

حديث ثاني: يتعلق بغضب الحسن علیه السلام منه عقيب مقالة قالها تتعلق بافتخاره بالعلم، وكأنّه كان يعرض به..الطريق محمّد بن مسعود، قال: حدّثني جعفر بن محمّد بن أيّوب قال: حدّثني حمدان بن سليمان أبو الخير، قال: حدّثني أبو محمّد عبد الله بن محمّد اليماني، قال: حدّثني محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب الكوفي، عن أبيه الحسين عن طاووس، وفي هذا الحديث من لا تثبت روايته، إمّا من حيث لا نعرف عدالته، أو من حيث أن الطعن متوجه إليه.

حديث ثالث: يتعلق بأخذ عبد الله ألفي ألف درهم من مال البصرة، رواه سفيان بن سعيد عن الزهري، والمشار إليهما عدوّان متّهمان.

حديث رابع: يتعلق بمراجعته لعليٍّ علیه السلام بما سفك من الدماء، والحديث مرويٌّ عن شيخ من أهل اليمامة بذكر عن معلى بن هلال عن الشِعبي، وهذا السند ضعيف جداً لا أصل له، تارة بجهالة الشيخ اليماني، وتارة بما يعرف من حال الشِعبي من طرق المخالف، وأمّا من طرقنا فالأمر ظاهر، ومعلّى بن هلال لا بدّ من معرفة عدالته.

وروى حديثاً خامساً يتعلق به وبأخيه عبيد الله شديداً في الطعن، لكن طريقه ضعيف؛ لأن من رواته محمّد بن سنان، يرويه عنه محمّد بن عيسى العبيدي، وهو مضعف،

ص: 183

قال: ولو ورد في مثله ألف حديث يقبل أمكن أن يعرض للتهمة، فكيف مثل هذه الروايات الضعيفة الركيكة؟!.

وهذا حين نذكر جملة من أخباره.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عبّاس أنّه كان يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثُمَّ يبكي حتّى بلَّ دمعه الحصى، فقلنا: يا ابن عبّاس وما يوم الخميس؟ قال: إشتد برسول الله صلی الله علیه و آله وجعه، فقال: [إئتنونيْ بدواةٍ أكتبُ لكمْ كتاباً لا تضلّوا بعديَ أبداً]، فتنازعوا، فقال: [إنّه لا ينبغيْ عنديَ تنازعٌ]، فقال قائل: ما شأنه، هجر؟ استفهموه، فذهبوا يعيدون عليه، فقال: [دعونيْ فالذي أنا فيهِ خيرٌ ممّا أنتمْ فيهِ].

وفى الصحيحين أيضاً أخرجاه معا عن ابن عبّاس قال: لما احتضر رسول الله صلی الله علیه و آله، وفى البيت رجال، منهم عمر بن الخطّاب، قال النبيّ صلی الله علیه و آله: [هلمَّ أكتبُ لكمْ كتاباً لا تضلّونَ بعدهُ]، فقال عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله؛ فاختلف القوم واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا إليه يكتب إليكم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول: القول ما قاله عمر، فلمّا أكثروا اللغو والإختلاف عنده صلی الله علیه و آله قال لهم: [قوموا]، فكان ابن عبّاس يقول: الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله صلی الله علیه و آله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب.

ص: 184

قال بعض العلماء: صدق ابن عبّاس عند كلّ عاقل مسلم، والله لو لبس المسلمون السواد وأقاموا المآتم وبلغوا أعظم الحزن لأجل ما فعل عمر بن الخطّاب لكان قليلاً.

وروى عبد الله بن عمر قال: كنت عند أبي يوماً وعنده نفر من النّاس، فجرى ذكر الشعر، فقال: من أشعر العرب؟ فقالوا: فلان وفلان، فطلع عبد الله بن عبّاس فسلّم وجلس، فقال عمر: قد جاءنا الخبير..من أشعر العرب يا عبد الله؟ قال: زهير بن أبي سلمى، قال: فأنشدني ممّا تستجيده له، فقال: إنّه مدح قوماً من غطفان يقال لهم: بنو سنان:

لو كان يقعد فوق الشمس من شرف *** قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا

قوم سنان أبوهم حين تنسبهم *** طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

إنسٌ إذا أمنوا جنٌّ إذا فزعوا *** مرزؤن بها ليل إذا جهدوا

محسّدون على من كان من نعم *** لا ينزع الله منهم ما له حسدوا

فقال عمر: قاتله الله لقد أحسن، ولا أرى هذا المدح يصلح إلّا لهذا البيت من بني هاشم؛ لقرابتهم من رسول الله صلی الله علیه و آله .

فقال ابن عبّاس: وفّقك الله يا أمير المؤمنين فلم تزل موفقاً .. قال: يا ابن عبّاس أتدري ما منع النّاس منكم؟قال: لا، قال: لكنّي أدري، قال: ما هو؟ قال: كرهت قريش

ص: 185

أن يجتمع لكم الخلافة والنبوّة، فتجحفوا بالنّاس جحفاً، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت، ووفّقت فأصابت.

فقال ابن عبّاس: أيميط عنّي أمير المؤمنين غضبه؟ قال: قل ما تشاء، قال: أمّا قولك: أن قريشاً كرهت فإنّ الله تعالى قال لقوم: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ (1).

وإمّا قولك: كنّا نجحف، فلو أجحفنا بالخلافة لجحفنا بالقرابة، ولكنّا قوم أخلاقنا مشتقة من أخلاق رسول الله صلی الله علیه و آله الذي قال الله تعالى له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (2)، وقال له: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (3).

وإمّا قولك أن قريشاً اختارت، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ (4)،وقد علمت ان الله اختار لذلك من اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت قريش، فقال عمر: على رسلك يا ابن عبّاس أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول، وحقداً عليها لا يحول، فقال ابن عبّاس: لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش؛ فإن قلوبهم من قلب رسول الله صلی الله علیه و آله الذي طهرّه

ص: 186


1- سورة محمد – الآية: 9
2- سورة القلم – الآية: 4
3- سورة الشعراء – الآية: 215
4- سورة القصص , الآية: 68

الله وزكّاه، وهم أهل البيت الذين قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ (1).

وأمّا قولك حقداً، فكيف لا يحقد من غصب حقه ويراه في يد غيره؟!.

فقال عمر: أمّا أنت يا ابن عبّاس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي.

قال: ما هو؟ أخبرني به، فإن يك باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه، وإن يك حقاًّ فإنّ منزلتك عندي لا تزول به.

قال: بلغني أنّك لا تزل تقول: أُخذ هذا الأمر منّا حسداً وظلماً.

قال: أمّا قولك: حسداً، فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنّة، فنحن بنو آدم المحسود.

وأمّا قولك: ظلماً فأنت تعلم صاحب الحقّ من هو، ثُمَّ قال: ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله صلی الله علیه و آله ؟ واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله صلی الله علیه و آله، فنحن أحقّ برسول الله صلی الله علیه و آله من سائر قريش.

ص: 187


1- سورة الأحزاب - الآية: 33

فقال عمر: قم الآن وارجع إلى منزلك، فقام، فلمّا ولّى هتف به عمر: أيّها المنصرف إنّي على ما كان منك لراعٍ حقّك.

فالتفت ابن عبّاس وقال: إنّ لي عليك حقّاً وعلى كلّ المسلمين برسول الله صلی الله علیه و آله، فمن حفظه فحقّ نفسه حفظ، ومن أضاعه فحقّ نفسه أضاع.

فقال عمر لجلسائه: واهاً لابن عبّاس ما رأيته لاحى أحداً إلّا خصمه.

وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدّثنا أبو زيد عمر بن شبة بإسناد رفعه إلى ابن عبّاس قال: إنّي أماشي عمر في سكة من سكك المدينة، يده في يدي، فقال: يا ابن عبّاس ما أظنّ صاحبك إلّا مظلوماً، فقلت في نفسي: والله لا يسبقني بها، فقلت: يا أمير المؤمنين فأدّ إليه ظلامته، فانتزع يده من يدي، ثُمَّ مرّ يهمهم ساعة، ثُمَّ وقف فلحقته، فقال: يا ابن عبّاس ما أظنّ القوم منعهم من صاحبك إلا أنّهم استصغروه، فقلت في نفسي: هذه شرّ من الأولى، فقلت: والله ما استصغره الله حين أمره بأخذ سورة براءة من أبي بكر.

وعن ابن عبّاس قال: ماشيت عمر بن الخطّاب يوماً فقال لي: يا ابن عبّاس ما منع قومكم منكم وأنتم أهل البيت خاصّة؟ قلت: لا أدري، قال: لكنّي أدري، إنّكم فضلتموهم بالنبوة، فقالوا: إن فضلونا بالخلافة مع النبوة لم يبقوا لنا شيئاً، وإن أفضل النصيبين بأيديكم، بل ما أخالها إلّا مجتمعة فيكم، وإن نزلت على رغم أنف قريش.

ص: 188

وروى أحمد بن أبي طاهر في كتاب (تاريخ بغداد) بسنده عن ابن عبّاس قال: دخلت على عمر في أوّل خلافته وقد ألقي إليه صاع من تمر على صحفة، فدعاني للأكل فأكلت تمرة واحدة، وأقبل يأكل حتّى أتى عليه، ثُمَّ شرب من جرّة كانت عنده، واستلقى على مرفقة له، وطفق يحمد الله يكرر ذلك، ثُمَّ قال: من أين جئت يا عبد الله؟ قلت: من المسجد، قال: كيف خلّفت ابن عمّك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر، قلت: خلفته مع أترابه يلعب، قال: لم أعن ذلك، إنّما عنيت عظيمكم أهل البيت، قلت: خلفته يمتح بالغرب على نخلات له وهو يقرأ القرآن، فقال: يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتنيها، أبقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: أتزعم أن رسول الله صلی الله علیه و آله جعلها له؟ قلت: نعم وأزيدك، سألت أبي عما يدعيه فقال: صدق، قال عمر: لقد كان من رسول الله صلی الله علیه و آله في أمره ذرو من قول لا يثبت حجّة ولا يقطع عذراً، وقد كان يزيغ في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعت من ذلك إشفافاً وحفيظة على الإسلام، لا وربِّ هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبداً، ولو وليها لأنتقضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله صلی الله علیه و آله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم.

قلت: يشير إلى اليوم الذي قال فيه صلی الله علیه و آله: [هلمَّ أكتبُ لكمْ كتاباً لا تضلّونَ بعدَهُ]، فقال عمر: إنّه قد غلبه الوجع، وقد ذكرنا الحديث آنفاً.

ص: 189

وحدّث ابن عائشة عن أبيه قال: نظر الحطيئة إلى ابن عبّاس في مجلس عمر وقد برع بكلامه فقال: من هذا الذي قد نزل عن القوم في سنّه وعلاهم في قوله؟ قالوا: هذا ابن عبّاس، ابن عم رسول الله صلی الله علیه و آله، فأنشأ يقول شعراً:

إني وجدت بيان المرء نافلة *** تهدى له ووجدت العيَّ كالصمم ِ

المرء يبلى وتبقى الكلم سائرة *** وقد يلام الفتى يوماً ولم يلم

وعن الشِعبي قال: قيل لابن عبّاس من أين أصبت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول.

وروي أن النّاس كلّموا ابن عبّاس أن يحجّ بهم، وعثمان محصور في الدار، فدخل عليه فأخبره، فأمره أن يحجّ بهم، فحجّ بالنّاس، فلمّا قدم رأى عثمان قد قتل، وقد بويع أمير المؤمنين علیه السلام .

قال ابن عبّاس: قدمت من مكّة بعد مقتل عثمان بخمسة أيام، فجئت عليّاً علیه السلام لأدخل عليه، فسألت عنه فقيل لي: عنده المغيرة بن شعبة، فجلست بالباب حتّى خرج المغيرة، ودخلت على عليٍّ علیه السلام فقال لي: أين لقيت طلحة والزبير؟ فقلت: بالرصف، قال: ومن معهما؟ قلت: أبو سعيد بن الحرث بن هشام في فتية من قريش، فقال علیه السلام: أما إنّهم لن يدعوا أن يخرجوا فيطلبوا بدم عثمان، والله أعلم أنّهم قتلة عثمان، فقلت له: أخبرني عن شأن المغيرة ولم خلا بك؟ قال علیه السلام: جاءني بعد مقتل عثمان بيومين فقال: أخلني ففعلت فقال: أنت بقيّة النّاس وأنا لك ناصح، وإني أشير عليك

ص: 190

بترك عمّال عثمان عامك هذا، فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم، فإذا بايعوك واطمأنّ أمرك عزلت من أحببت وأبقيت من أحببت، فقلت: والله لا أداهن في ديني ولا أعطي الرياء في أمري، قال: فإن كنت قد أبيت فانزع من شئت وأقرّ معاوية فإن له جرأة، وهو في أهل الشام مسموع منه، ولك في إبقائه حجّة، فقد كان عمر ولّاه الشام كلّها، فقلت: والله لا استعملت معاوية أبداً، فخرج من عندي بعد ما أشار به، ثُمَّ عاد فقال: إنّي أشرت بما أشرت به وأبيت عليَّ، ثُمَّ نظرت فإذا أنت مصيب لا يسعك أن تأخذ أمرك بخدعة، ولا أن يكون فيه دلسة، فقلت: أمّا أوّل ما أشار به فقد نصحك فيه، وإمّا الآخر فقد غشّك به، وأنا أشير عليك أن تبقي معاوية، فإن بايعك فعليَّ أن أقفله من منزله، قال علیه السلام: والله لا أعطيه إلّا السيف، وتمثّل بهذا البيت:

فما شبّة إن رمتها غير عاجز *** بعار إذا ما غالت النفس غولها

فقلت: يا أمير المؤمنين إنّك رجل شجاع .. أما سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [الحربُ خدعةٌ] فقال: بلى، فقلت: إنّي والله لأصدرنّ بهم بعد ورود، ولأتركنّهم ينظرون في أدبار الأمور ولا يدرون ما وجهها، في غير نقص عليك ولا إثُمَّ.

فقال علیه السلام: يا ابن عبّاس لست من هناتك ولا هنات معاوية في شيء، لك أن تشير عليَّ وأرى، فإذا عصيتك فأطعني، فقلت: فأنا أفعل، فإن أيسر ما عندي لك الطاعة.

ثُمَّ خرج ابن عبّاس معه علیه السلام إلى البصرة، وشهد معه وقعة الجمل، ولمّا صار عليٌّ علیه السلام إلى البصرة بعث ابن عبّاس فقال له: {لا تلقينَّ طلحةَ، فإنّك إنْ تلقَهُ تجدْهُ كالثّورِ

ص: 191

عاقصاً قرنهُ، يركبُ الصعبَ ويقولُ هوَ الذلولُ، ولكنْ إلقَ الزبيرَ فإنّه إليَّنُ عريكةٍ، فقلْ لهُ: يقولُ لكَ ابنُ خالِكَ عرفتَني بالحجازِ وأنكرتَني بالعراقِ فما عدا ممّا بدا؟!}.

قال ابن عبّاس: فأتيت الزبير فقلت له ما قال علیه السلام فقال: إنّي أريد ما تريد، كأنّه يقول الملك، ولم يزدني على ذلك، فرجعت إلى أمير المؤمنين علیه السلام فأخبرته.

وروي ان أمير المؤمنين علیه السلام لمّا أرسل ابن عبّاس إلى الزبير قال: {منْ كانَ لهُ ابن عمٍّ مثلُ ابن عبّاس فقدْ أقرَّ اللهُ عينَهُ}.

وأخرج الكشّي بإسناده قال: لمّا هزم عليُّ بن أبي طالب صلوات الله عليه أصحاب الجمل، بعث عبد الله بن عبّاس إلى عائشة يأمرها بتعجيل الرحيل وقلة العرجة.

قال ابن عبّاس: فأتيتها وهي في قصر بني خلف في جانب البصرة، قال: وطلبت عليها الإذن فلم تأذن، فدخلت عليها من غير إذنها، فإذا بيت قفار لم يعدَّ لي فيه مجلس، وإذا هي من وراء سترين، فضربت ببصري، فإذا في جانب البيت رحل عليه طنفسة، قال: فمددت الطنفسة فجلست عليها، فقالت من وراء الستر يا ابن عبّاس؟ أخطأت السُنّة، دخلت بيتنا بغير إذننا، وجلست على متاعنا بغير إذننا.

فقال لها ابن عبّاس: نحن أولى بالسُنّة منك، ونحن علمناك السُنّة، وإنّما بيتك الذي خلّفك فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فخرجتِ منه ظالمة لنفسك، غاشّة لدينك، عانية على ربّك، عاصية لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فإذا رجعت إلى بيتك لم ندخله إلّا بإذنك، ولم نجلس على متاعك إلّا بأمرك ..

ص: 192

إن أمير المؤمنين علیه السلام بعث إليك يأمرك بالرحيل إلى المدينة وقلة العرجة، فقالت: رحم الله أمير المؤمنين، ذاك عمر بن الخطّاب، فقال ابن عبّاس: هذا والله أمير المؤمنين وإن تربدت فيه وجوه، ورغمت فيه معاطس، أما والله لهو أمير المؤمنين، وأمسّ برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رحماً، وأقرب قرابة وأقدم سبقاً وأكثر علماً وأعلى مناراً وأكثر آثاراً من أبيك ومن عمر، فقالت: أبيت ذلك.

فقال: أما والله إن كان إباؤك فيه قصير المدة عظيم المشقة ظاهر الشوم بين النكد، وما كان إباؤك فيه إلّا كحلب شاة حتّى صرت ما تأمرين ولا تنهىن، ولا ترفعين ولا تضعين، وما كان مثلك إلّا كمثل ابن الحضرمي بن نجمان، أخي بني أسد حيث يقول:

ما زال إهداء القصائد بيننا *** شتم الصديق وكثرة الألقابِ

حتّى تركتهم كأن قلوبهم *** في كل مجمعة طنين ذباب

قال: فأراقت دمعتها وأبدت عويلها وتبدّى نشيجها، ثُمَّ قالت: أخرج والله عنكم، فما في الأرض بلد أبغض إليَّ من بلد أنتم فيه.

فقال ابن عبّاس: فلم والله ماذا بلاؤنا عندك ولا صنيعنا إليك، إنّا جعلناك للمؤمنين إمّا، وأنت بنت أمّ رومان، وجعلنا أباك صدّيقاً، وهو ابن أبي قحافة.

فقالت: يا ابن عبّاس تمنون عليَّ برسول الله! فقال: ولم لا نمنّ عليك؟ لو كان منك قلامة منه مننتنا به، ونحن لحمه ودمه ومنه وإليه، وما أنت إلّا حشية من تسع حشايا خلفهنّ بعده، لست بأبيضهنّ لوناً، ولا أحسنهنّ وجهاً، ولا بأرشحهنّ عرقاً،

ص: 193

ولا بأنضرهنّ ورقاً، ولا بأطراهنّ أصلاً، فصرت تأمرين فتطاعين وتدعين فتجابين، وما مثلك إلّا كما قال أخو بني فهر:

مننت على قومي فأبدوا عداوة *** فقلت لهم كفّوا العداوة والنكرا

ففيه رضاً من مثلكم لصديقه *** وأحجى بكم أن تجمعوا البغي والكفرا

قال: ثُمَّ نهضت وأتيت أمير المؤمنين علیه السلام فأخبرته بمقالتها وما رددت عليها، فقال علیه السلام: أنا أعلم بك حيث بعثتك.

وأقام أمير المؤمنين علیه السلام بعد وقعة الجمل خمسين ليلة، ثُمَّ أقبل على الكوفة،ّ واستخلف ابن عبّاس على البصرة.

ولما خرج علیه السلام إلى صِفّين لحرب معاوية كتب إلى عماله يستفزّهم، فكتب إلى ابن عبّاس، وهو عامله على البصرة: {أمّا بعد فاشخص إليَّ بمن قبلك من المسلمين والمؤمنين، وذكرّهم بلائي عندهم، وعفوي عنهم في الحرب، وأعلمهم الذي في ذلك من الفضل، والسلام}.

فلمّا وصل كتابه إلى ابن عبّاس بالبصرة قام في النّاس فقرأ عليهم الكتاب، وحمد الله واثنى عليه وقال: أيّها النّاس استعدّوا للشخوص إلى إمامكم، وانفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم، فإنّكم تقاتلون المحلّين القاسطين الذين لا يقرأون القرآن، ولا يعرفون حكم الكتاب، ولا يدينون دين الحق مع أمير المؤمنين علیه السلام وابن عمّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والصادع بالحقّ، والمقيم

ص: 194

بالهدى، والحاكم بحكم الكتاب، الذي لا يرتشي في الحكم ولا يداهن الفجار، ولا تأخذه في الله لومة لائم.

فقام إليه الأحنف بن قيس فقال: نعم والله، لنجيبنّك ولنخرجنّ معك على العسر وأليسر والرضا والكره، نحتسب في ذلك الأجر، ونأمل به من الله العظيم حسن الثواب، وأجابه سائر النّاس إلى المسير.

فاستعمل أبا الأسود الدؤلي على البصرة، وخرج حتّى قدم على أمير المومنين علیه السلام بالنخيلة.

وهي - بضم النون - مصغّر نخلة، موضع من الكوفة على سمت الشام.

وعن عبد الله بن عوف بن الأحمر أن عليّاً علیه السلام لم يبرح النخيلة حتّى قدم عليه ابن عبّاس بأهل البصرة.

وروى نصر بن مزاحم قال: لمّا اشتدّ الأمر وعظم البلاء على أهل الشام قال معاوية لعمرو بن العاص: إن رأس النّاس بعد عليٍّ لعبد الله بن عبّاس، فلو كتبت إليه كتاباً، لعلّك تخدعه به، ولعلّه لو قال شيئاً لم يخرج عليٌّ منه، وقد أكلتنا الحرب ولا أرانا نصل إلى العراق إلّا بهلاك أهل الشام.

فقال عمرو: إن ابن عبّاس لا يُخدع، ولو طمعت فيه لطمعت في عليٍّ، قال معاوية: على ذاك فاكتب، فكتب عمرو إليه:

ص: 195

إمّا بعد فإن الذي نحن فيه وأنتم ليس بأوّل أمر قاده البلاء، وأنت رأس هذا الجمع بعد عليٍّ، فانظر فيما بقي ودع ما مضى، فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولكم حياء ولا صبراً، واعلم أن الشام لا تملك إلّا بهلاك أهل العراق، وأن العراق لا تملك إلّا بهلاك أهل الشام، فما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم؟! وما خيركم بعد هلاك أعدادكم منّا؟! ولسنا نقول: ليت الحرب عادت، ولكنّا نقول: ليتها لم تكن، وإن فينا من يكره اللقاء كما أن فيكم من يكرهه، وإنّما هو أمير مطاع ومأمور مطيع ومؤتمن مشاور، وهو أنت، فأمّا الأشتر الغليظ الطبع القاسي القلب فليس بأهل أن يدعى في الشورى ولا في خواصّ أهل النجوى، وكتب في أسفل الكتاب:

طال البلاء وما يرجى له آسي *** بعد الإله سوى رفق ابن عبّاس

قولاً له قول من يرجو مودّته *** لا تنس حظك إنّ الخاسر النّاسي

انظر فداؤك نفسي قبل قاصمة *** للظهر ليس لها راقٍ ولا آسي

إن العراق وأهل الشام لن يجدوا *** طعم الحياة مع المستغلق القاسي

يا ابن الذي زمزم سقيا الحجيج له *** أعظم بذلك من فخر على النّاس

انّي أرى الخير في سلم الشآم لكم *** والله يعلم ما بالسلم من بأس

فيها التقى وأمور ليس يجهلها *** إلّا الجهول وما نوكى كأكياسِ

ص: 196

فلمّا وصل الكتاب إلى ابن عبّاس عرضه على أمير المؤمنين علیه السلام فقال: {قاتلَ اللهُ ابنَ العاصِ ما أغراهُ بكَ يا عبدَ الله؟ أجبه، وليردّ عليه شعره الفضل بن العبّاس، فإنّه شاعر}.

فكتب ابن عبّاس إلى عمرو:

أمّا بعد فإنّي لا أعلم أحداً من العرب أقلّ حياءً منك، إنّه مال بك معاوية إلى الهوى فبعته دينك بالثمن اليسير، ثُمَّ خبطت النّاس في عشوة طمعاً في الدنيا؛ فأعظمتها إعظام أهل الدنيا، ثُمَّ تزعم أنّك تتنزه عنها تنزّه أهل الورع، فإن كنت صادقاً فارجع إلى بيتك ودع الطمع في مصر والركون إلى الدنيا الفانية.

واعلم أن هذه الحرب ما معاوية فيها كعليٍّ، بدأها عليٌّ بالحق وانتهى فيها إلى العذر، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف، وليس أهل العراق فيها كأهل الشام، بايع أهل العراق عليّاً وهو خير منهم، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه، ولست أنا وأنت فيها سواء، أردتُ الله تعالى، وأردتَ مصر، وقد عرفت الشيء الذي باعدك مني، ولا أعرف الشيء الذي قرّبك من معاوية، فإن ترد شراً لا نسبقك إليه، وإن ترد خيراً لا تسبقنا إليه والسلام.

ثُمَّ دعا أخاه الفضل فقال: يا ابن أمِّ أجب عمراً، فقال الفضل:

يا عمرو حسبك من مكر ووسواسِ *** فاذهب فليس لداء الجهل من آسي

إلّا تواتر طعن في نحوركم *** يشجي النفوس ويشقي نخوة الراسِ

ص: 197

اما عليٌّ فإن الله فضله *** بفضل ذي شرف عالٍ على النّاس

إن تعقلوا الحرب نعقلها مخيسة *** أو تبعثوها فإنّا غير أنكاس

قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة *** هذا بهذا وما بالحق من باس

ثُمَّ عرض الشعر والكتاب على عليٍّ علیه السلام فقال: {لا أراهُ يُجيبكَ بعدها بشيءٍ أبداً، إنْ كانَ يعقلُ، وإنْ عادَ عدتَ عليهِ}.

فلمّا انتهى الكتاب إلى عمرو بن العاص عرضه على معاوية فقال: إن قلب ابن عبّاس وقلب عليٍّ واحد، وكلاهما ولد عبد المطّلب، وإن كان قد خشن فلقد لان، وإن كان قد عظم صاحباً فلقد قارب وجنح إلى السلم.

قال نصر: وقال معاوية: لأكتبن إلى ابن عبّاس كتاباً استعرض فيه عقله، وأنظر ما في نفسه، فكتب إليه:

إمّا بعد فإنّكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع بالمساءة منكم إلى أنصار ابن عفّان، حتّى أنّكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما واستعظامهما ما نيل منه، فإن يكن ذلك منافة لبني أميّة في السلطان فقد ولياه عديّ وتيمٌ فلم تنافسوهم، وأظهرتم لهم الطاعة، وقد وقع من الأمر ما ترى، وأكلت هذه الحروب بعضها بعضاً، حتّى استوينا فيها، فما يطمعكم فينا يطمعنا فيكم، وما يؤيسنا منكم يؤيسكم منّا، ولقد رجونا غير ما كان، وخشينا دون ما وقع، ولست ملاقينا اليوم بأحدّ من حدّ أمس، ولا عذاباً أحدّ من حدّ اليوم، وقد قنعنا بما في أيدينا من ملك الشام، فاقنعوا بما في أيديكم من ملك

ص: 198

العراق، وأبقوا على قريش، فإنّما بقي من رجالها ستة، رجلان بالشام ورجلان بالعراق ورجلان بالحجاز، فأمّا الرجلان بالشام فأنا وعمرو، وأمّا اللذان بالعراق فأنت وعليّ، وأمّا اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر، فإثنان من الستة ناصبان لك، وإثنان واقفان فيك، وأنت رأس هذا الجمع اليوم، ولو بايع لك النّاس بعد عثمان كنّا إليك أسرع منّا إلى عليٍّ والسلام.

فلمّا وصل الكتاب إلى ابن عبّاس أسخطه وقال: حتّى متى يخطب ابن هند إلى عقلي؟ وحتّى متى أحجم على ما في نفسي؟ فكتب إليه:

أمّا بعد فقد أتاني كتابك وقرأته، فأمّا ما ذكرت من سرعتنا إليك بالمساءة والى أنصار ابن عفّان، وكراهتنا لسلطان أميّة، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره، حتّى صرت إلى ما صرت إليه، وبيني وبينك في ذلك ابن عمّك وأخو عثمان، وهو الوليد بن عقبة.

وأمّا طلحة والزبير فإنّهما أجلبا عليه وضيّقا خناقه، ثُمَّ خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملك؛ فقاتلناهما على النكث، كما قاتلناك على البغي.

وأمّا قولك إنّه لم يبق من قريش غير ستّة، فما أكثر رجالها وأحسن بقيتها، وقد قاتلك من خيارها من قاتلك، ولم يخذلنا إلّا من خذلك.

وأمّا إغراؤك إيّانا بعديّ وتيم، فإن أبا بكر وعمر خير من عثمان، كما أن عثمان خير منك، وقد بقي لك منّا ما ينسيك ما قبله وتخاف ما بعده.

ص: 199

وأمّا قولك لو بايع النّاس لي لاستقاموا، فقد بايع النّاس عليّاً وهو خير منّي فلم يستقيموا له، وما أنت وذكر الخلافة يا معاوية، وإنّما أنت طليق وابن طليق، والخلافة للمهاجرين الأولين، وليس الطلقاء منها في شيء والسلام.

فلمّا وصل كتابه إلى معاوية قال: هذا عملي بنفسي لا أكتب والله كتاباً سنة كاملة، وقال شعراً:

دعوت ابن عبّاس إلى جلّ حظّه *** وكان امرؤاً أهدى إليه رسائلي

فأخلف ظنّي والحوادث جمّة *** وما زاد أن أغلى عليَّ مراجلي

فقل لابن عبّاس أراك مخوّفاً *** بجهلك حلمي إنني غير غافل

فأبرق وأرعد ما استطعت فإنني *** إليك بما يشجيك سبط الأنامل

قال نصر: لمّا أراد النّاس عليّاً علیه السلام أن يضع الحكمين قال لهم: {إنّ معاويةَ لمْ يكنْ ليضعَ لهذا الأمرِ أحداً هوَ أوثقُ برأيهِ ونظرِهِ منْ عمرو بنِ العاصِ، وإنّه لا يصلحُ للقرشيِّ إلّا مثلُهُ، فعليكمْ بعبدِ اللهِ بنِ عبّاسَ فارموهُ بهِ، فإنَّ عَمراً لا يعقدُ عقدةً إلّا حلّها عبدُ اللهِ، ولا يحلُّ عقدةً إلّا عقدَها، ولا يُبرمُ أمراً إلّا نقضَهُ، ولا ينقضُ أمراً إلّا أبرمَهُ}.

ص: 200

فقال الأشعث: والله لا يحكم فينا مضريّان حتّى تقوم الساعة، ولكن إجعل رجلاً من أهل اليمن، إذا جعلوا رجلاً من مضر، فقال عليٌّ علیه السلام: {إنّي أخافُ أنْ يُخدعَ يمنيّكم، فإنَّ عَمراً ليسَ منَ اللهِ فيْ شيءٍ إذا كانَ لهُ فيْ أمرٍ هوىً}.

فقال الأشعث: والله لئن يحكمان ببعض ما نكره، وأحدهما من أهل اليمن، أحبّ إلينا من أن يكون بعض ما نحبّ، وهما مضريّان .

ثُمَّ اختار أهل الشام عمرو بن العاص، وقالوا: قد رضينا به، وقال الأشعث والقرّاء الذين صاروا خوارج فيما بعد: رضينا نحن واخترنا أبا موسى الأشعري.

فقال لهم عليٌّ علیه السلام: {فإنّي لا أرضىْ بأبيْ موسى، ولا أرى أنْ أوّليه}، قالوا: فإنّا لا نرضى إلا به، فقال عليٌّ علیه السلام: {فإنّه ليسَ يرضى وقدْ فارقني وخذّلَ النّاس عنّي، وهرب منّي حتّى آمنته بعدَ شهرٍ، ولكنْ هذا ابن عبّاس أوّليهِ ذلكَ}، قالوا: والله لا نبالي إن كنت وابن عبّاس، ولا نريد إلّا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى واحد منكما أدنى من الآخر، فقال عليٌّ علیه السلام: {قدْ أبيتمْ إلّا أبا موسى}، قالوا: نعم قال: {فاصنعوا ما شئتم} .

فبلغ ذلك أهل الشام فبعث أيمن بن حزيم الأسدي وكان معتزلاً لمعاوية، وكان هواه أن يكون من أهل العراق بهذه الأبيات:

لو كان للقوم أمر يعصمون به *** من الضلال رموكم بابن عبّاس ِ

لله درّ أبيه أيّما رجل *** ما مثله لفضال الخطب في النّاس

ص: 201

لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن *** لا يهتدي ضرب أخماس لأسداس ِ

إن يخل عمرو به يقذفه في لجج *** يهوى به النجم تيساً بين أتياس

أبلغ لديك عليّاً غير عاتبة *** قول أمرئ لا يرى بالحق من باس

ما الأشعري بمأمون أبا حسن *** فاعلم هديت وليس العجز كالرأس

فاصدع بصاحبك الأدنى برغمهم *** إنّ ابن عمّك عباس هو الآسي

فلمّا بلغ أهل العراق هذا الشعر طارت أهواء قوم من أوّلياء عليٍّ علیه السلام وشيعته إلى ابن عبّاس، وأبت القرّاء إلّا أبا موسى، وكان أيمن بن حزيم هذا رجلاً عابداً مجتهداً، وقد كان معاوية جعل له فلسطين على أن يبايعه ويشايعه على قتال عليٍّ علیه السلام، فقال أيمن هذه الابيات وبعث بها إليه:

ولست مقاتلاً رجلاً يصلّي *** على سلطان آخر من قريش ِ

له سلطانه وعليَّ إثُمَّي *** معاذ الله من سفه وطيش

أأقتل مسلماً في غير جرم *** فليس بنافع ما عشت عيشي

وروى المدائني في كتاب (صِفّين) والزبير ابن بكار في (الموفقيات) قالا: لمّا اجتمع أهل العراق على طلب أبي موسى وأحضروه للتحكيم على كره من عليٍّ علیه السلام، أتاه عبد الله بن عبّاس وعنده وجوه النّاس والأشراف، فقال: (يا أبا موسى إن النّاس لم

ص: 202

يرضوا بك ويجتمعوا عليك لفضل لا تشارك فيه، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار المتقدمين قبلك، ولكن أهل العراق أبوا إلّا أن يكون الحكم يمانياً، ورأوا أن معظم أهل الشام يمان.

وأيمَ الله إنّي لأظنّ ذلك شرّاً لك ولنا، فإنّه قد ضمّ إليك داهية العرب، وليس في معاوية خلّة يستحق بها الخلافة، فإن تقذف بحقّك على باطله تدرك حاجتك منه، وإن يطمع باطله في حقّك يدرك حاجته منك.

واعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام، وأن أباه رأس الأحزاب، وأنه يدعى الخلافة من غير مشورة ولا بيعة، واعلم أن لعمرو مع كل شيء يسرّك خبيئاً يسوؤك، ومهما نسيت فلا تنس أن عليّاً علیه السلام بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وأنّها بيعة هدى، وأنّه لم يقاتل إلاّ القاسطين والناكثين).

فقال أبو موسى: رحمك الله، والله ما لي إمام غير عليٍّ، وإني لواقف عندما رأى، وإن حقّ الله أحبّ إليَّ من رضا معاوية وأهل الشام، وما أنا وأنت إلّا بالله.

فقال بعض الشعراء في ذلك:

والله ما كلّم الأقوام من بشر *** بعد الوصي عليٍّ كابن عباس ِ

أوصى ابن قيس بأمر فيه عصمته *** لوكان فيها أبو موسى من النّاس

إنّي أخاف عليه مكر صاحبه *** أرجو رجاء مخوف شيب بالياس

ص: 203

وذكر محمّد بن القاسم بن بشّار الأنباري في (أماليه) قال: قال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد: حضرت الحكومة فلمّا كان يوم الفصل جاء عبد الله بن عبّاس فقعد إلى جانب أبي موسى، وقد نشر أذنيه حتّى كاد أن ينطق بهما، فعلمت أن الأمر لا يتم لنا مادام هناك، وأنّه يفسد على عمرو حيلته؛ فأعملت المكيدة في أمره، فجئت حتّى قعدت عنده وقد شرع عمرو وابو موسى في الكلام، فكلّمت ابن عبّاس كلمة استطعمته جوابها، فلم يجب فكلمته الأخرى فلم يجب، فكلمته ثالثة فقال: إنّي لفي شغل عن جوابك الآن، فجبهته وقلت: يا بني هاشم لا تتركون بأوكم وكبركم أبداً، أما والله لولا مكان النبوة كان لي ولك شأن.

قال: فحمي وغضب واضطرب فكره ورأيه، فأسمعني كلاماً يسوء سماعه، فأعرضت عنه، فقمت وقعدت إلى عمرو بن العاص وقلت: قد كفيتك التقوالة، إنّي قد شغلت باله بما دار بيني وبينه، فأحكم أنت أمرك، قال: فذهل والله ابن عبّاس عن الكلام الدائر بين الرجلين حتّى قام أبو موسى فخلع عليّاً.

وروى البلاذري في كتاب (أنساب الاشراف) قال: قيل: لعبد الله بن العبّاس ما منع عليّاً أن يبعثك يوم التحكيم؟! قال: منعه حاجز القدر ومحنة الإبتلاء وقصر المدة، أما والله لو كنت لقعدت على مدارج أنفاسه، ناقضاً ما أبرم ومبرماً ما نقض، أطير إذا أسفَّ وأسفُّ إذا طار، ولكن سبق قدر وبقي أسف، ومع اليوم غد، والآخرة خير لأمير المؤمنين.

ص: 204

وروي أن ابن عبّاس هو الذي كتب كتاب الصلح بين أمير المؤمنين علیه السلام ومعاوية، فلمّا كتب (هذا ما قاضى عليه أمير المؤمنين عليٌّ بن أبي طالب لمعاوية بن أبي سفيان ) قال له عمرو ابن العاص: أمح أمير المؤمنين فإنّا لا نعرف، فلو عرفنا أنّه أمير المؤمنين ما نازعناه، فقال أمير المؤمنين علیه السلام لابن عبّاس: أمحه، فقال ابن عبّاس: لا أمحوه، فمحاه أمير المؤمنين علیه السلام وقال: {إنَّ هذا اليوم كيومِ الحديبيةِ حينما كتبتُ الكتابَ عنْ رسولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم:هذا ما تصالحَ عليهِ محمّدُ بنُ عبدِ اللهِ رسولُ اللهِ، وسهيلُ بنُ عمرو، فقالَ سهيلُ: لوْ أعلمُ أنّك رسولُ اللهِ لمْ أخالفْ ولمْ أقاتلْكَ، إنّيْ إذاً لظالمٌ لكَ أن أمنعَك أنْ تطوفَ ببيتِ اللهِ وأنتَ رسولُهُ، ولكنْ أكتبْ محمّدُ بنُ عبدِ اللهِ، فقالَ ليْ رسولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم: [امحها يا عليُّ]، فقلتُ: لا أمحو اسمَ الرسالةِ عنكَ، فقالَ: [يا عليُّ إنّي لرسولُ اللهِ ومحمّدُ بنُ عبدِ اللهِ، ولنْ يمحوَ عنّي الرسالةَ كتابيْ لهمْ منْ محمّدَ بنِ عبدِ اللهِ، فاكتبْها وامحُ ما أرادَ محوَهُ، أما إنَّ لكَ مثلي ستُعطيها وأنتَ مضطهدٌ]}.

وفى رواية وقال عليٌّ علیه السلام: {إنَّ ذلكَ الكتابَ أنا كتبتُه بيننا وبينَ المشركينَ، واليوم أكتبُهُ إلى أبنائهم، كما كانَ رسولُ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم كتبَهُ إلى آبائهم شبهاً ومثلاً}.

فقال عمرو: سبحان الله أتشبهنا بالكفار ونحن مسلمون ؟! فقال أمير المؤمنين علیه السلام: {يا ابنَ النابغةِ ومتى لمْ تكنْ للكافرينَ وليّاً وللمسلمين عدوّاً؟}.

فقام عمرو وقال: والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد اليوم، فقال عليٌّ علیه السلام: {أما واللهِ إنّي لأرجوْ أنْ يظهرَ اللهُ عليكَ وعلى أصحابك}.

ص: 205

ومن مناكير العامّة ما رووه عن عكرمة أن عليّاً علیه السلام أحرق أناساً ارتدّوا، فبلغ ذلك ابن عبّاس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار، وإن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [لا تعذبوا بعذابِ اللهِ] ولقتلتهم لقوله صلی الله علیه و آله و سلم: [منْ بدّلَ دينهُ فاقتلوهُ]، فبلغ ذلك عليّاً علیه السلام فقال: {ويحَ ابنَ أمُّ الفضلِ، إنّه لغواصٌ}، وندم على إحراقهم.

قال شيخنا المفيد قدس الله روحه: وهذا من أظرف شيء سمع وأعجبه، وذلك أن ابن عبّاس أحد تلامذته والآخذين العلم عنه، وهو الذي يقول: كان أمير المؤمنين علیه السلام يجلس بيننا كأحدنا ويداعبنا ويبسطنا، ويقول: والله ما ملأت طرفي منه قطّ هيبة له، فكيف يجوز من مثل من وصفناه التقدّم على أمير المؤمنين علیه السلام في الفتيا واظهار الخلاف عليه في الدين؟ لا سيما في الحال التي هو مظهر له فيه الإتباع والتعظيم والتبجيل، وكيف ندم على إحراقهم وقد أحرق في آخر زمانه علیه السلام الأحد عشر الذين ادّعوا فيه الربوبية؟ أفتراه ندم على ندمه الأوّل؟ كلا, ولكن الناصبة تتعلق بالهباء المنثور.

وقال ابن أبي الحديد: وهل أخذ عبد الله بن عبّاس الفقه وتفسير القرآن إلّا عنه علیه السلام ؟.

وروى الكشّي وغيره أن ابن عبّاس حمل كلّ مال في بيت المال بالبصرة، ولحق بمكّة وترك عليّاً علیه السلام , ووقع بين أمير المؤمنين علیه السلام وبينه مكاتبات شنيعة من أجل ذلك، وهي مذكورة في كتاب الكشّي، وبعضها في نهج البلاغة.

ص: 206

وأنكر المحققون من العلماء ذلك وقالوا: إن ذلك لم يكن، ولا فارق عبد الله بن عبّاس عليّاً علیه السلام , ولا باينه ولا خالفه، ولم يزل أميراً على البصرة إلى أن قتل علیه السلام

قال ابن أبي الحديد: وهذا هو الأمثل عندي والأصوب، أي لم يفارق أمير المؤمنين علیه السلام .

قال المؤلف عفا الله عنه: وممّا يدلّ على أن ابن عبّاس لم يفارق أمير المؤمنين علیه السلام إلى أن قُتل ما رواه المؤيد الخوارزمي في مناقبه عن عثمان بن المغيرة قال: لمّا أن دخل شهر رمضان كان عليٌّ علیه السلام يتعشى ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند ابن عبّاس، لا يزيد على ثلاث لقم يقول: {يأتينيْ أمرُ اللهِ وأنا خميصٌ، إنّما هيَ ليلةٌ أو ليلتانِ فأصيبُ منَ الليلِ}.

وروى ذلك أيضاً مصنّف كتاب زهد عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام .

روى أبو الفرج الأصبهاني في كتاب (مقاتل الطالبين) أن عليّاً علیه السلام ولّى غسله ابنه الحسن علیه السلام وعبد الله بن العبّاس.

وذكر بعض المؤرخين أن ابن عبّاس لما قُتل عليٌّ علیه السلام حمل مبلغاً من بيت مال البصرة ولحق بالحجاز، واستخلف على البصرة عبد الله بن الحرث بن نوفل، وهذا هو الصحيح، ويدلّ عليه أن إبن الزبير عيّره بذلك، كما سيأتي.

روى المدائني قال: وفد عبد الله بن عبّاس على معاوية مرّة، فقال معاوية لابنه يزيد وزياد بن سُميَّة وعتبة بن أبي سفيان ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص والمغيرة

ص: 207

بن شعبة وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحكم: إنّه قد طال العهد بعبد الله بن عبّاس وما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمّه، ولقد كان رضيه للتحكيم فدفع عنه، فحركوه للكلام لنبلغ حقيقة صفته، ونقف على كنه معرفته، ونعرف ما صرف عنّا من شبا حدّه، وزوي عنا من دهاء رأيه، فربّما وصف المرء بغير ما هو فيه، و أعطي من النعت والإسم ما لا يستحقّه.

ثُمَّ أرسل إلى عبد الله بن عبّاس، فلمّا دخل واستقر به المجلس ابتدأه ابن أبي سفيان فقال: يا ابن عبّاس ما منع عليّاً أن يوجه بك حكماً؟ فقال: والله لو فعل لقرنت عَمراً بصعبة من الإبل يوجع كتفيه مراسها، ولأذهلت عقله، وأجرضته بريقه، وقدحت في سويداء قلبه، فلم يبرم أمراً ولم ينقض رأيا إلّا كنت منه بمرئ ومسمع، فإن نكثه أبرمت قواه، وإن أبرمه فصمت عراه، بغرب مقول لا يفلّ حدّه، وأصالة رأي كمتاح الأجل لا وزر منه، أفري به أديمه، وأفلّ به شبا حدّه، وأشحذ به عزائم المتّقين، وأزيح به شبهة الناكثين.

فقال عمرو بن العاص: هذا والله يا معاوية بزوغ أوّل الشر وأفول آخر الخير، وفي حسمه قطع مادته، فبادره بالحملة، وانتهز منه الفرصة، واردع بالتنيكل به غيره، وشرّد به من خلفه.

فقال ابن عبّاس: يا ابن النابغة ضلّ والله عقلك، وسفه حلمك، ونطق الشيطان على لسانك، هلّا تولّيت ذلك بنفسك يوم صِفّين حين دُعيت إلى النزال، وتكافحت الأبطال وكثرت الجراح وتقصّفت الرماح، وبرزت إلى أمير المؤمنين علیه السلام مصأوّلاً فانكفأ

ص: 208

نحوك بالسيف حاملاً، فلمّا رأيت الكرّ آثر من الفرّ، وقد أعددت حيلة السلامة قبل لقائه، والانكفاء عنه بعد إجابة دعائه، فمنحته رجاء النجاة عورتك، وكشفت له - خوف بأسه - سوأتك، حذر أن يصطلمك بسطوته، أو يلتهمك بحملته، ثُمَّ أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته، وحسّنت له التعرض لمكافحته، رجاء أن تكفى مؤنته وتعدم صورته، فعلم غلَّ صدرك وما أنحنت عليه من النفاق أضلعك، وعرف مقر سهمك في غرضك.

فاكفف غرب لسانك واقمع عوراء لفظك، عن أسد خادر وبحر زاخر، فإنّك إن تعرضت للأسد افترسك، وإن عمت في البحر غمسك.

فقال مروان بن الحكم: يا ابن عبّاس إنّك لتصرف بنابك وتوري نارك، كأنّك ترجو الغلبة وتؤمّل العافية، ولولا حلم أمير المؤمنين عنكم لتناولكم بأقصر أنامله، فأوردكم منهلاً بعيداً صدوره، ولعمري لئن سطا بكم ليأخذنّ بعض حقّه، ولئن عفا عن جرائركم فقديماً ما نسب إلى ذلك.

فقال ابن عبّاس: وإنّك لتقول ذلك يا عدوّ الله، وطريد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والمباح دمه، والداخل بين عثمان ورعيته، بما حملهم على قطع أوداجه وركوب أثباجه، أما والله لو طلب معاوية ثأره لأخذك به، ولو نظر في أمر عثمان لوجدك أوّله وآخره.

وأمّا قولك لي: إنّك لتصرف بنابك وتوري نارك، فاسأل معاوية وعَمراً يخبراك ليلة الهرير كيف ثباتنا للمثلات، واستخفافنا بالمعضلات، وصدق جلادنا عند المصأوّلة،

ص: 209

وصبرنا على اللأواء والمطأوّلة، ومصافحتنا بجباهنا السيوف المرهفة، ومباشرتنا حدّ الاسنة المشرعة، هل حمنا عن كريم تلك المواقف؟ أم لم نبذل مهجنا للمتالف؟.

وليس لك إذ ذاك فيها مقام محمود ولا يوم مشهود ولا أثر معدود، وإنّهما شهدا ما لو شهدته لأقلقك، فاربع على ظلعك ولا تعرض لما ليس لك، فإنّك كالمقرون في صفد، لا تهبط برجل ولا ترقى برجل ولا ترقى بيد.

فقال زياد: يا ابن عبّاس إنّي لأعلم ما منع حسناً وحسيناً من الوقوف معك على أمير المؤمنين إلّا ما سوّلت لهما أنفسهما، وغرّهما به من هو عند البأساء سلمّهما، وأيمَ الله لو وليتهما لأدأبا في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما، ولقلّ بمكانهما لبثهما.

فقال ابن عبّاس: إذاً والله يقصر دونهما باعك ويضيق بهما ذراعك، ولو رمت ذلك لوجدت من دونهما فئة صدقاً صُبراً على البلاء، لا يخيمون على اللقاء، فلعركوك بكلاكلهم، ووطئوك بمناسمهم، وأوجروك مشقّ رماحهم وشفار سيوفهم ووخز أسنتهم،، حتّى تشهد بسوء ما أتيت وتتبين ضياع الحزم فيما جنيت.

فحذار حذار من سوء النيّة، فتكافأ بردّ الأمنية, وتكون سبباً لفساد هذين الحيين بعد صلاحهما، وساعياً في اختلافهما بعد ائتلافهما، حيث لا يضرّهما التباسك ولا يغني عنهما إيناسك.

ص: 210

فقال عبد الرحمن بن أمّ الحكم: لله درّ ابن ملجم فقد بلغ الأمل وأمن الرجل، وأحدَّ الشفرة وألان المهرة، وأدرك الثأر ونفى العار، وفاز بالمنزلة العليا، ورقى الدرجة القصوى.

فقال ابن عبّاس: أما والله لقد كرع كأس حتفه بيده، وعجّل الله إلى النار بروحه، ولو أبدى لأمير المؤمنين صفحته لخالطه الفحل الفطم والسيف الخذّم، ولألعقه صاباً وسقاه سماماً، وألحقه بالوليد وعتبة وحنظلة، فكلّهم كان أشدّ منه شكيمة وأمضى عزيمة، ففرى بالسيف هامهم، ورمّلهم بدمائهم، وقرى الذئاب أشلاءهم، وفرّق بينهم وبين أحبابهم، أولئك حطب جهنم هم لها واردون، ف-﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾ (1).

ولا غرو أن خُتل, ولا وصمة أن قُتل، فإنّا لكما قال دريد بن الصمة:

فإنّا للحم السيف غير مكرّهٍ *** ونلحمه طوراً وليس بذي مكرِ

يغار علينا واترين فيستقي *** بنا إن أصبنا أو نغير على وتر

فقال المغيرة بن شعبة: أما والله لقد أشرت على عليٍّ بالنصيحة فآثر رأيه ومضى على غلوائه، فكانت العاقبة عليه لا له، وإنّي لأحسب أن خلفه يقتدون بمنهجه.

ص: 211


1- سورة مريم – الآية: 98

فقال ابن عبّاس: كان والله أعلم بوجوه الرأي ومعاقد الحزم وتصريف الأمور من أن يقبل مشورتك فيما نهى الله عنه وعنّف عليه، قال سبحانه: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليوم الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أولئك حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (1).

ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوة قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ﴾ (2) .

وهل كان يسوغ له أن يحكم في دماء المسلمين وفي المؤمنين من ليس بمأمون عنده ولا موثوق به في نفسه؟!.

هيهات هيهات هو أعلم بفرض الله وسنّة رسوله أن يبطن خلاف ما يظهر، إلّا التقيّة، ولات حين تقيّة مع وضوح الحق وثبوت الجنان وكثرة الأنصار، يمضي كالسيف المصلت في أمر الله، مؤثراً لطاعة ربّه والتقوى على آراء أهل الدنيا.

ص: 212


1- سورة المجادلة – الآية: 22
2- سورة الكهف – الآية: 51

فقال يزيد بن معاوية: يا ابن عبّاس إنّك لتنطق بلسان طلق ينبئ عن مكنون قلب حرق، فاطو على ما أنت عليه كشحاً، فقد محا ضوء حقّنا ظلمة باطلكم.

فقال ابن عبّاس: مهلاً يا يزيد فوالله ما صفت القلوب لكم منذ تكدّرت بالعداوة عليكم، ولا دنت بالمحبة إليكم منذ نأت بالبغضاء عنكم، ولا رضيت اليوم منكم ما سخطته أمس من أفعالكم، فإن تدل الأيام فسنقضي لما شذّ عنا، ونسترجع ما ابتزّ منّا، كيلاً بكيل ووزناً بوزن، وإن تكن الأخرى فكفى بالله وليّاً لنا ووكيلاً على المعتدين علينا.

فقال معاوية: إن في نفسي منكم لحزازات يا بني هاشم، وإنّي لخليق أن أدرك فيكم الثأر وأنفي العار، فإن دمائنا قبلكم وظلامتنا فيكم.

فقال ابن عبّاس: والله إن رمت ذلك يا معاوية لتستثيرن عليك أُسداً مخدرة وأفاعي مطوّفة، لا يفثأها كثرة السلاح ولا يعضمها نكاية الجراح، يضعون أسيافهم على عواتقهم يضربون بها قدماً قدماً، من ناواهم يهون عليهم نباح الكلاب وعواء الذئاب، لا يفاتون بوتر ولا يسبقون إلى كريم ذكر، قد وطنوا على الموت أنفسهم، وسمت بهم إلى العليا هممهم، كما قالت الأزدية:

قوم إذا شهدوا الهياج فلا *** ضرب ينهنهم ولا زجرُ

وكأنّهم آساد أغيلة *** غرثت وبلَّ متونها القطرُ

فلتكونن منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك، وكان أكبر همّك سلامة حشاشة نفسك، ولو لا طعام من أهل الشام وقوك بأنفسهم وبذلوا دونك مهجهم،

ص: 213

حتّى إذا ذاقوا وخز الشفار وأيقنوا بحلول الدمار رفعوا المصاحف مستجيرين بها وعائذين بعصمتها؛ لكنت شلواً مطروحاً بالعراء، تسفي عليك رياحها ويعتورك ذئابها، وما أقول هذا أريد صرفك عن عزيمتك، ولا إزالتك عن معقود نيتك، لكن الرحم التي تعطف عليك، والأواصر التي توجب صرف النصيحة إليك.

فقال معاوية: لله درّك يا ابن عبّاس! ما تكشف الأيام منك إلّا عن سيف صقيل ورأي أصيل، وبالله لو لم يلد هاشم غيرك لما نقص عدد، ولو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قد كثّرهم، ثُمَّ نهض فقام ابن عبّاس وانصرف.

وروى الحنبلي في (نهاية المطالب) بإسناده عن ربعي بن خراش قال: سأل معاوية عبد الله بن عبّاس فقال: ما تقول في عليٍّ بن أبي طالب؟ فقال: صلوات الله على أبي الحسن، كان والله علم الهدى، وكهف التقى، ومحل الحجى، وبحر الندى، وطود النهى، علماً للورى، ونوراً في ظلم الدجى، وداعياً إلى المحجّة العظمى، ومستمسكاً بالعروة الوثقى، وسامياً إلى الغاية القصوى، وعالماً بما في الصحف الأولى، وعاملاً بطاعة الملك الأعلى، وعارفاً بالتأويل والذكرى، ومتعلقاً بأسباب الهدى، وحائداً عن طرقات الردى، وسامياً إلى المجد والعلى، وقائماً بالدين والتقوى، وسيّد من تقمّص وارتدى بعد النبيّ المصطفى، وأفضل من صام وصلّى، وأجلّ من ضحك وبكى، صاحب القبلتين، فهل يساويه مخلوق كان أو يكون؟.

كان والله للأسد قاتلاً، وللبهم في الحرب خاتلاً، على مبغضيه لعنة الله ولعنة العباد إلى يوم التناد.

ص: 214

قال الزمخشري في (ربيع الأبرار): كان ابن عبّاس يقول في عليٍّ بن أبي طالب: كان والله يشبه القمر الباهر، والأسد الخادر، والفرات الزاخر، والربيع الباكر، فأشبه من القمر ضوءه وبهاءه، ومن الأسد شجاعته ومضاءه، ومن الفرات جوده وسخاءه، ومن الربيع خصبه ورخاءه.

وروى محمّد بن جرير الطبري بإسناده عن الفضل بن العبّاس بن ربيعة قال: وفد عبد الله بن العبّاس على معاوية قال: فوالله إنّي لفي المسجد إذ كبّر معاوية في الخضراء، فكبّر أهل الخضراء، ثُمَّ كبّر أهل المسجد بتكبيرة أهل الخضراء، فبلغ الخبر ابن عبّاس، فراح فدخل على معاوية قال: علمت يا ابن عبّاس أن الحسن توفي قال: لذلك كبّرت؟ قال: نعم، قال: أما والله ما موته بالذي يؤخّر أجلك، ولا حفرته بسادّة حفرتك، ولئن أصبنا به فلقد أصبنا بسيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين، ثُمَّ بعده بسيد الأوصياء، فجبر الله تلك المصيبة ورفع تلك المعرّة، فقال: ويحك يا ابن عبّاس ما كلّمتك إلّا وجدتك معدّاً.

وحدّث الزبير ابن بكار عن رجاله قال: قدم ابن عبّاس على معاوية وكان يلبس أدنى ثيابه ويخفض شأنه؛ لمعرفته أن معاوية كان يكره إظهاره لشأنه، وجاء الخبر إلى معاوية بموت الحسن بن عليٍّ علیهما السلام فسجد شكراً لله تعالى، وبان السرور في وجهه .. في حديث طويل ذكره الزبير بن بكار، ذكرت منه موضع الحاجة إليه، وأُذن للناس وأُذن لابن عبّاس بعدهم فاستدناه، وكان قد عرف بسجدته، فقال له: أتدري ما حدث بأهلك؟ قال لا: قال: فإن أبا محمّد توفي، فعظّم الله أجرك، فقال: إنّا لله وإنّا إليه

ص: 215

راجعون، عند الله نحتسب المصيبة برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وعند الله نحتسب مصيبتنا بالحسن، إنّه قد بلغتني سجدتك، فلا أظنّ ذلك إلّا لوفاته، والله لا يسدّ جسده حفرتك، ولا يزيد بقضاء أجله في عمرك، ولربّما رزينا بأعظم من الحسن ثُمَّ حبى الله.

قال معاوية: كم كان أتى له؟ قال: شأنه أعظم من أن تجهل مولده، قال: أحسبه ترك صبياناً صغاراً، قال: كلّنا كان صغيراً فكبر، قال: أصبحت سيّد أهلك؟، قال: إمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين بن عليٍّ فلا.

ثُمَّ قام وعينه تدمع، فقال معاوية: لله دّره، لا والله ما هيجناه قطّ إلا وجدناه سيّداً.

ودخل على معاوية بعد انقضاء العزاء فقال له معاوية: يا أبا العبّاس أما تدري ما حدث في أهلك؟ قال: لا، قال: هلك أُسامة بن زيد، فعظّم الله أجرك، قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، رحم الله أُسامة وخرج.

وأتاه بعد أيام وقد عزم على محاققته، فصلّى في الجامع يوم الجمعة، واجتمع النّاس يسألونه عن الحلال والحرام والفقه والتفسير وأحوال الإسلام والجاهلية، وافتقد معاوية النّاس، فقيل: إنّهم مشغولون بابن عبّاس، ولو شاء أن يضربوا معه بمائة ألف سيف قبل الليل لفعل، فقال: نحن أظلم منه حبسناه عن أهله، ونعينا إليه أحبّته .. إنطلقوا فادعوه، فدعاه الحاجب فقال: إنّا بني عبد مناف إذا حضرت الصلاة لم نقم حتّى نصلّي، أصلّي إن شاء الله وآتيه. فرجع وصلّى العصر وأتاه، فقال: حاجتك؟ فما سأله حاجة إلّا قضاها، وقال: أقسمت عليك لمّا دخلت بيت المال فأخذت حاجتك،

ص: 216

وإنّما أراد أن يعرف أهل الشام ميل ابن عبّاس إلى الدنيا، فعرف ما يريده فقال: إن ذلك ليس لي ولا لك، فإن أذنت أن أعطي كل ذي حق حقه فعلت، قال: أقسمت عليك إلّا دخلت فأخذت حاجتك، فدخل فأخذ برنس خزّ أحمر يقال أنّه كان لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام ثُمَّ خرج فقال: يا أمير المؤمنين بقيت لي حاجة، قال ما هي؟ قال: عليّ بن أبي طالب قد عرفت فضله وسابقته وقرابته، وقد كفاكه الموت، أحبّ أن لا يُشتم على منابركم، قال: هيهات يا ابن عبّاس هذا أمر دين أليس .. أليس، وفعل وفعل، فعدّد ما بينه وبين عليٍّ، فقال ابن عبّاس: أولى لك يا معاوية، والموعد القيامة، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون، وتوجّه إلى المدينة.

قلت: أولى لك .. قال الجوهري: تهدّد ووعيد.

وقال الأصمعي: أي قاربه ما يهلكه، أي نزل به، قال تغلب: لم يقل أحد في أولى أحسن ممّا قال الأصمعي.

قال المؤلف عفا الله عنه: لابن عبّاس مع معاوية أخبار كثيرة اقتصرنا منها على هذا المقدار خشية الإكثار.

وفى بعض الروايات: أن ابن عبّاس حضر موت الحسن علیه السلام بالمدينة، وأنّه لمّا حمل سرير الحسن علیه السلام إلى قبر النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ظنّ مروان أنّهم سيدفنونه عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؛ فتجمع هو ومن معه ولبسوا سلاحهم، ولحقتهم عائشة على بغل وهي تقول: ما لي ولكم؟ تريدون ان تُدخلوا بيتي من لا أحبّ، وجعل مروان يقول: يا ربّ هيجا هي

ص: 217

خير من دعة، أيدفن عثمان في أقصى المدينة، ويدفن الحسن مع النبيّ؟ لا يكون ذلك أبداً وأنا أحمل السيف.

وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبني أميّة، فبادر ابن عبّاس إلى مروان فقال له: إرجع يا مروان من حيث جئت، فإنّا ما نريد دفن صاحبنا عند رسول الله لكنّا نريد أن نجدد عهداً بزيارته، ثُمَّ نردّه إلى جدّته فاطمة لندفنه بوصيته عندها، ولو كان وصّى بدفنه مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لعلمت أنّك أقصر باعاً عن ردّنا، ولكنّه كان أعلم بالله وبرسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدماً كما طرق ذلك غيره ودخل بيته بغير إذنه.

ثُمَّ أقبل على عائشة وقال: واسوأتاه يوماً على بغل ويوماً على جمل، تريدين أن تطفئي نور الله وتقاتلي أوّلياء الله، إرجعي فقد كفيت الذي تخافين وبلغت ما تحبين، والله منتصر لأهل هذا البيت ولو بعد حين.

وهذا يخالف ما ذكرناه آنفاً عن المسعودي والزبير بن بكار أن ابن عبّاس لما مات الحسن علیه السلام كان بدمشق، ولعلّ المراد بابن عبّاس الذي حضر بموت الحسن علیه السلام عبيد الله بن عبّاس، لكن إذا أطلق ابن عبّاس لم يرد به إلّا عبد الله، والله اعلم.

وأخرج الشيخ أبو علي الحسن بن محمّد الطوسي قدس الله روحه في (أماليه) عن سعيد بن المسيب قال: سمعت رجلاً يسأل ابن عبّاس عن عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام

ص: 218

فقال: صلّى القبلتين وبايع البيعتين، ولم يعبد صنماً ولا وثناً، ولم يضرب على رأسه بزلم ولا قدح، ولد على الفطرة، ولم يشرك بالله طرفة عين.

فقال الرجل: إني لم أسألك عن هذا، إنّما أسألك عن حمله سيفه على عاتقه يختال به حتّى أتى البصرة فقتل بها أربعين ألفاً، ثُمَّ سار إلى الشام فلقي حواجب العرب فضرب بعضهم ببعض حتّى قتلهم، ثُمَّ أتى أهل النهروان وهم مسلمون فقتلهم عن آخرهم.

فقال له ابن عبّاس: أعليٌّ أعلم عندك أم أنا؟ فقال: لو كان عليٌّ أعلم عندي منك ما سألتك، فغضب ابن عبّاس حتّى اشتدّ غضبه، ثُمَّ قال: ثكلتك أمّك..عليٌّ علّمني، وكان علمه من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم , علّمه الله من فوق عرشه، فعلم النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم من الله، وعلم عليٍّ علیه السلام من النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وعلمي من علم عليٍّ علیه السلام، وعلم أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله و سلم كلّهم في علم عليٍّ علیه السلام كالقطرة الواحدة في سبعة أبحر.

وأخرج الموفق في مناقبه عن سعيد بن جبير قال: بلغ ابن عبّاس أن قوماً يقعون في عليٍّ صلوات الله عليه، فقال لإبنه عليّ بن عبد الله خذ بيدي فاذهب بي إليهم، فأخذ بيده حتّى انتهى إليهم فقال: أيّكم السابُّ الله؟ فقالوا: سبحان الله! من سبَّ الله فقد أشرك، فقال أيّكم السابُّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ؟ فقالوا: من سبَّ رسول الله فقد كفر، فقال: أيّكم الساب لعليٍّ علیه السلام قالوا: قد كان ذلك.

ص: 219

قال: فاشهدوا أنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [منْ سبَّ عليّاً فقدْ سبّني، ومنْ سبّني فقدْ سبَّ اللهَ، ومنْ سبَّ اللهَ أكبَّهُ اللهُ على وجهِهِ فيْ النارِ]، ثُمَّ ولّى عنهم، فقال لإبنه عليّ كيف رأيتهم؟ فأنشأ يقول:

نظروا إليك بأعين محمرّةٍ *** نظر التيوس إلى شفار الجازر ِ

قال زدني فداك أبوك فقال:

خزر الحواجب ناكسي أذقانهم *** نظر الذليل إلى العزيز القادر ِ

قال زدني فداك أبوك، فقال: ما أجد مزيداً، قال لكنّي أجد:

أحياؤهم خزي على أمواتهم *** والميتون فضيحة للغابر ِ

وأخرج الطوسي رحمه الله في (أماليه) عن يونس بن عبد الوارث عن أبيه قال: بينا ابن عبّاس رحمه الله يخطب عندنا على منبر البصرة إذ أقبل على النّاس بوجهه ثُمَّ قال: أيّتها الأمة المتحيرة في دينها، أما والله لو قدّمتم من قدّم الله، وأخّرتم من أخّر الله، وجعلتم الوراثة والولاية حيث جعلها الله، ما عال سهم من فرائض الله، ولا عال وليّ الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، فذوقوا وبال ما فرطتم فيه بما قدمت أيديكم, ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾ (1).

ص: 220


1- سورة الشعراء – الآية: 227

وروى صاحب كتاب (الأوائل) عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن مسعود أنّه قال: التقيت أنا وزفر بن أويس النظري فقلنا: نمضي إلى ابن عبّاس نتحدث عنده، فمضينا وتحدّثنا، فكان ممّا حدّثنا به أن قال: سبحان الله الذي أحصى رمل عالج عدداً، جعل في المال نصفاً ونصفاً وثلثاً، ذهب النصفان بالمال فأين الثلث؟.

إنّما جعل نصفاً ونصفاً وأثلاثاً وأرباعاً، وأيمَ الله لو قدّموا من قدّمه الله، وأخّروا من أخّره الله ما عالت الفريضة قطّ.

قلت: من الذي قدّمه الله؟ ومن الذي أخّره الله؟ قال: الذي أهبطه الله من فرض إلى فرض فهو الذي قدّمه الله، والذي أهبطه من فرض إلى ما بقي فهو الذي أخّره الله، فقلت: من أوّل من أعال الفرائض قال: عمر بن الخطّاب.

قال المؤلف: ترك العول ممّا أجمع عليه علماء الإمامية، ووردت به نصوص عن أهل البيت علیهم السلام، وهو عبارة عن زيادة الفرض على مجموع أجزاء المال، وأخذ كل صاحب فرض عدد فرضه من هذا العدد الزائد؛ ليدخل النقص على كلٍّ منهم بالسويّة.

مثلاً إذا اجتمع بنت وزوج وأبوان، فللبنت النصف وهو ستة من اثني عشر، وللزوج الربع ثلاثة منه، ولكل من الأبوين السدس اثنان منه، فالمجموع ثلاثة عشر، فيقسم المال على ثلاثة عشر، ويعطى الزوج ثلاثة منه والبنت ستة منه وكل من الابوين اثنين ينقص فرض كل منهم، والإمامية لا يدخلون النقص إلّا على البنت، فيأخذ الزوج الربع، وكل من الأبوين السدس، ويبقى للبنت خمسة من إثني عشر، وكان

ص: 221

فرضها ستة من إثني عشر، وهذا معنى قول ابن عبّاس: والذي أهبطه الله من فرض إلى ما بقي فهو الذي أخّره الله.

وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء بن رباح قال سمعت عبد الله بن عبّاس يقول: ما كانت المتعة إلّا رحمة رحم الله بها أمة محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، ولولا أن عمر نهى عنها ما احتاج إلى الزنا إلّا شفى.

وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: لو جعل الله لأحد أن يحكم برأيه، لجعل ذلك لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقد قال له: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إليك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاس بِمَا أَرَاكَ اللّهُ﴾ (1)، ولم يقل: بما رأيت.

وأخرج إبن بابويه رحمه الله في أماليه عن سعيد بن جبير قال: أتيت عبد الله بن عبّاس فقلت له: يا ابن عمّ رسول الله إنّي جئتك أسألك عن عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام واختلاف النّاس فيه، فقال ابن عبّاس: يا ابن جبير جئت تسألني عن خير خلق الله من الأمّة بعد محمّد نبي الله صلی الله علیه و آله و سلم، جئت تسألني عن رجل كانت له ثلاثة آلاف منقبة في ليلة القربة، يا ابن جبير جئتني تسألني عن وصي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ووزيره وخليفته وصاحب حوضه ولوائه وشفاعته.

ص: 222


1- سورة النساء – الآية: 105

والذي نفس ابن عبّاس بيده، لو كانت بحار الدنيا مداداً وأشجارها أقلاماً وأهلها كتّاباً فكتبوا مناقب عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام وفضائله، من يوم خلق الله عزّ وجلَّ الدنيا إلى أن يفنيها، ما بلغوا معشار ما آتاه الله تبارك وتعالى.

وحكي أن عمر بن أبي ربيعة أتى عبد الله بن العبّاس وهو في حلقة في المسجد الحرام فقال له: أمتعني الله بك إن نفسي قد تاقت إلى قول الشعر، وقد أكثر النّاس في الشعر، فاسمع حتّى أنشدك فأقبل عليه ابن عبّاس وقال: هات، فأنشده:

تشطّ غداً دار جيراننا

فقال ابن عبّاس:

ولَلدار بعد غد أبعدُ

قال عمر: والله ما قلت إلّا كذا فهل سمعتها أصلحك الله؟ قال: لا ولكن كذلك ينبغي. ثُمَّ أنشده:

أمن آل نعم أنت غادٍ فمبكرُ *** غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجرُ

حتّى أتى على آخرها فلم يعب شيئاً، وقال: أنت شاعر ماذا شئت فقل، فلمّا قام عمر قال نافع بن الأزرق: الله يا ابن عبّاس إنّا لنضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي الأرض؛ لنسألك عن الحلال والحرام فتعرض عنّا، ويأتيك مترف من مترفي قريش قد عطّر لحيته بالغالية يلحف أذياله بالحصى وينشدك:

ص: 223

رأت رجلا إمّا إذا الشمس عارضت *** فيجري وإمّا بالعشيِّ فيخصرُ

فقال ابن عبّاس: ليس هكذا أنشدني الرجل، قال: كيف أنشدك قال:

رأت رجلا إمّا إذا الشمس عارضت *** فيضحى وإمّا ما بالعشيِّ فيخصرُ

قال: ما أراك إلّا قد حفظت البيت، قال: نعم، وان شئت أن انشدك القصيدة أنشدتكها، قال: فإنّي أشاء، فأنشده القصيدة حتّى أتى على آخرها، وهي سبعون بيتاً، فقال له نافع: يا ابن عبّاس أسمعت هذا الشعر قبل اليوم؟ قال: لا وربّ هذه البّنيّة، قال: ما رأيت أحفظ منك، قال: لو رأيت أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب صلوات الله عليه رأيت أحفظ مني، إن كان ليصلّي فيدع الآية فيركع، ثُمَّ يقوم فإذا قال: ﴿وَلاَ الضَّإليَّنَ﴾ رجع إلى الموضع الذي ركع فيقرأها وينظمها انتظاماً، لا يعلم أحد ممّن رآه ما صنع إلّا حافظ كتاب الله تعالى.

وحكى المسعودي في مروج الذهب قال: لمّا همَّ الحسين علیه السلام بالخروج إلى العراق أتاه عبد الله بن عبّاس فقال يا ابن عمّ قد بلغني أنّك تريد الخروج إلى العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك إلى الحرب فلا تعجل، فإن أبيت إلّا محاربة هذا الجبار وكرهت المقام بمكّة، فاشخص إلى اليمن، فإنّها في عزلة، ولك فيها أنصار وأعوان، فأقم بها وبثَّ دعاتك، واكتب إلى أهل الكوفة وأهل العراق ليخرجوا أميرهم، فإن قووا على ذلك ونفوه عنها ولم يبقى بها فنعم، وما أنا لغدرهم بآمن، وإن لم يفعلوا أقمت مكانك إلى أن يأتي الله بأمره، فإن فيها حصوناً وشعاباً.

ص: 224

فقال الحسين علیه السلام: (يا ابن عمّ إنّي لأعلم أنّك لي ناصح وعليَّ شفيق، ولكنّ مسلم بن عقيل كتب إليَّ باجتماع أهل الكوفة على نصرتي وبيعتي، وقد أجمعت على المسير إليهم).

فقال: إنّهم من خبرت وجربت، وهم أصحاب أبيك وأخيك، وإنّك لو خرجت فبلغ ابن زياد خروجك لاستفزّهم، وكان الذين كتبوا إليك أشدّ عليك من عدوّك، فإن عصيتني وأبيت إلّا الخروج، فلا تخرجن نسائك وولدك معك، فوالله إنّي لخائف أن تقتل، ولولا يزري بي وبك لأنشبت يدي في عنقك.

فكان الذي ردّ عليه أن قال: (والله لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحبّ إليَّ من أن تُستحل بي مكّة)، فأيس ابن عبّاس منه.

وروى غيره أنه لمّا خرج الحسين علیه السلام من مكّة إلى العراق ضرب عبد الله بن عبّاس بيده على منكب إبن الزبير وقال:

يالك من قبرة بمعمر ِ *** خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقّري ما شئت أن تنقّري *** هذا الحسين سائر فأبشري

خلا الجو والله لك يا ابن الزبير، سار الحسين علیه السلام إلى العراق، فقال إبن الزبير: يا ابن عبّاس والله ما ترون هذا الأمر إلّا لكم، ولا ترون إلّا أنّكم أحقّ به من جميع النّاس، فقال ابن عبّاس: إنّما يرى من كان في شكّ، ونحن من ذلك على يقين، ولكن أخبرني عن نفسك بماذا تروم هذا الأمر؟ قال: بشرفي، قال: بماذا شرفت إن كان لك

ص: 225

شرف؟ فإنّما هو بنا، فنحن أشرف منك لأن شرفك منّا، وعلت أصواتهما فاعترض بينهما رجال من قريش فأسكتوهما.

وروى عثمان بن طلحة العذري قال: شهدت من ابن عبّاس رحمه الله مشهداً ما سمعته من رجل من قريش، كان يوضع إلى جانب سرير مروان بن الحكم - وهو يومئذ أمير المدينة - سرير آخر أصغر منه فيجلس عليه عبد الله بن عبّاس إذا دخل، ويوضع الوسائد فيما سوى ذلك، فأذن مروان يوماً للناس، وإذا سرير آخر قد أحدث تجاه سرير مروان، فأقبل إبن الزبير فجلس عليه، أي على السرير المحدث، وسكت مروان والقوم، فإذا يد إبن الزبير تتحرك، فعلمت أنه يريد أن ينطق، ثُمَّ نطق فقال: إن أناسا يزعمون أن بيعة أبي بكر كانت غلطاً وفلتة ومغالبة، إلّا أن شأن أبي بكر أعظم من أن يقال فيه هذا، ويزعمون أنّه لولا ما وقع لكان الأمر لهم، وفيهم والله ما كان من أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله و سلم أحد أثبت إيماناً ولا أعظم سابقة من أبي بكر، فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله، فأين هم حين عقد أبو بكر لعمر فلم يكن إلّا ما قال؟ ثُمَّ ألقى عمر حظّهم في حظوظ وجدّهم في جدود، فسمت تلك الحظوظ، فأخّر الله سهمهم وأدحض جدّهم وولّى الأمر عليهم من كان أحقّ به منهم، فخرجوا عليه خروج اللصوص على التاجر خارجاً من القرية فأصابوا منه غرّة، ثُمَّ قتلهم الله به كلّ قتلة، وصاروا مطردين تحت بطون الكواكب.

ص: 226

فقال ابن عبّاس: على رسلك أيّها القائل في أبي بكر وعمر والخلافة، أما والله ما نالا ولا نال أحد منهما شيئاً إلّا وصاحبنا خيرٌ ممّن نال، ولو تقدّم صاحبنا لكان أهلًا وفوق الأهل.

ولولا أنّك إنّما تذكر حظّ غيرك وشرف امرئ سواك لكلّمتك، ولكن ما أنت وما لا حظَّ لك فيه، اقتصر على حظّ نفسك ودع تيماً لتيم وعديّاً لعدي وأميّة لأميّة، ولو كلّمني تيمي أو عدوي أو أموي لكلمته وأخبرته، خبر حاضر عن حاضر لا خبر غائب عن غائب، ولكن ما أنت وما ليس عليك، فإن يكن في أسد بن عبد العزّى شيء فهو لك.

أما والله لنحن أقرب بك عهداً، وأبيض عندك يداً، وأوقر عندك نعمة، ممّن أمسيت تظنّ أنّك تصول به علينا، وما أخلق ثوب صفيّة بعد، والله المستعان على ما تصفون.

وروي أن عبد الله بن الزبير تزوج أمرأه من فزارة يقال لها: أمّ عمر بنت منظور، فلمّا دخل بها وخلا معها قال لها: أتدرين من معك في حجلتك؟ قالت: نعم عبد الله بن الزبير بن العوّام بن خويلد، قال: ليس هذا أردت، قالت: فأيّ شيء تريد؟ فقال: معك في حجلتك من أصبح الغداة في قريش بمنزلة الرأس في الجسد، لا بل العينين من الرأس، فقالت: أما والله لو أن بعض الهاشميين حضرك لكان خليقاً أن لا يقرّ لك بذلك، فقال لها: إن الطعام والشراب عليَّ حرام حتّى أحضرك الهاشميين وغيرهم ممّن لا يستطيع لذلك إنكاراً، قالت: إن أطعتني فلا تفعل وأنت أعلم بشأنك.

ص: 227

فخرج إبن الزبير إلى المسجد، فإذا بحلقة فيها جماعة من قريش، وفيها من بني هاشم عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب، فقال لهم: إنّي أحبُّ أن تنطلقوا معي إلى منزلي في حاجة عرضت، فقام القوم بأجمعهم حتّى قاموا على باب منزله، فقال إبن الزبير: يا هذه إطرحي عليك سترك وأذني القوم يدخلوا؛ ففعلت، فلمّا أخذوا مجالهم دعا إبن الزبير بالمائدة فأكل القوم جميعاً، فلمّا فرغوا من الغذاء قال لهم: إنّما جمعتكم لحديث أوردته على صاحبة هذا الستر، فزعمت أن لو كان بعض الهاشميين حضرني ما أقرَّ لي به، وقد حضرتم أيّها الملأ جميعاً، وأنت يا ابن عبّاس ما تقول؟.

أخبرتها أن معها في خدرها من أصبح الغداة في قريش بمنزلة الرأس من الجسد، لا بل العينين من الرأس، فردت عليَّ ما قلت، فقال له ابن عبّاس: أراك قصدت قصدي، فإن شئت أن أقول قلت، وإن أكف كففت، فقال إبن الزبير: لا بل قل، وما عسيت أن نقول ؟! ألست تعلم أن أبي حواري رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأن أمّي أسماء بنت صدّيق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأن خديجة سيدة نساء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عمّتي، وأن صفية عمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جدتي، وأن عائشة ام المؤمنين خالتي، فهل تستطيع لهذا إنكاراً يا ابن عبّاس؟ فإن قدرت أن تنكر ذلك فافعل.

فقال ابن عبّاس: لقد ذكرت شرفاً شريفاً وفخراً فاخراً، غير أنّك بنا نلت هذا كلّه وأدركت سنامه وعلوّه، فأنت تفاخر من بفخره فخرت، وتسامي من بفضله سموت، فقال إبن الزبير: هلم أنافرك قبل أن يبعث محمّد صلی الله علیه و آله و سلم فقال ابن عبّاس:

ص: 228

قد أنصف القارة من راماها

أسألكم يا معشر الحضور أعبد المطّلب كان أضخم في قريش أم خويلد؟ فقالوا: اللهمَّ بل عبد المطّلب، فقال: أسألكم بالله أهاشم كان أضخم في قريش أم أسد؟ فقالوا: اللهمَّ بل هاشم، فقال: أسألكم بالله أعبد مناف كان أضخم في قريش أم عبد العزّى؟ قالوا: اللهمَّ بل عبد مناف، فأنشأ ابن عبّاس يقول:

تنافرني يا إبن الزبير وقد قضى *** عليك رسول الله لا قول هازل ِ

فلو غيرنا يا إبن الزبير فخرته *** ولكنّما فاخرت شمس الأصائل

قضى عليك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بقوله: [ما افترقتْ فرقتانِ إلّا كنتُ في خيرِهِما]، فقد فارقتنا من لدن قصي بن كلاب، فنحن في فرقة الخير، فإن قلت: لا كفرت، وإن قلت نعم قهرت، فضحك بعض القوم.

فقال إبن الزبير: أما والله يا ابن عبّاس لولا تحرمك بطعامنا، وكراهة الإخساس بالذين معك لأعقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك هذا، فقال ابن عبّاس: ولمَ؟ أفبالباطل؟ فبالباطل لا يُغلب الحقّ، أم بالحقّ؟ فالحقّ لا يخس بالذين معي، ولا يعينه عليَّ ولا عليك من معي.

فقالت المرأة من خلف الستر: أما والله لقد نهىته يا ابن عبّاس عن هذا المجلس فأبى إلّا ما ترى، فقال ابن عبّاس: أيّتها المرأة إقنعي ببعلك، فما أعظم الخطر وأكرم الخبر.

ص: 229

ثُمَّ أخذ القوم بيد ابن عبّاس وقالوا: إنهض أيّها الرجل لقد فضحته في منزله غير مرّة، فنهض ابن عبّاس رحمه الله وهو يقول:

ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا *** فلو ترك القطا ليلا لناما

فقال إبن الزبير: يا صاحب القطا إرجع وأقبل عليَّ..أما والله ما كنت لتدعني حتّى أقول، وأيمَ الله لقد عرف القوم أنّي سابق غير مسبوق، وأبي حواريٌّ وصدّيق يتبجح في الشرف الأنيق، غير طليق ولا ابن طليق.

فقال ابن عبّاس: هذا الكلام مردود من أمرئ حسود..سابق فيمن سبقت، وفاخر فيمن فخرت، وصديق فيمن صدقت، فإن كان هذا الأمر أدركته بأسرتي، فالفخر لي عليك، والكثكث في يديك، وأمّا ما ذكرت من الطليق، فوالله لقد أُبتلي فصبر، وأُنعم عليه فشكر، وإن كان لوفيّاً كريماً، غير ناقض بيعة بعد توكيدها، ولا مسلم كتيبة بعد تأييدها، ولا بفرار جبان.

فقال: أتعيّر الزبير بالجبن؟ والله أنك لتعلم خلاف ذلك، فقال ابن عبّاس: والله إنّي لأعلم أنّه قد فرَّ وما كرَّ، وحارب فما قرَّ، وبايع فما برَّ، وأنشأ ابن عبّاس رحمه الله يقول:

وما كان إلّا كالسكيت أمامه *** عتاق تجاري في الجهاد فأجهدا

فأدرك منها مثل ما كان أهله *** وقصّر عن جري الكرام مبلدا

ص: 230

فقال عبد الله بن نوفل بن الحرث: ويلك يا إبن الزبير أقمناه عنك فتأبى إلّا منازعته، فوالله لو نازعته من ساعتك هذه إلى انقضاء عمرك ما كنت إلّا كالمزداد من الريح، فقل أو دع، فقال إبن الزبير: والله يا بني هاشم ما بقي إلّا المحاربة والمضاربة بالسيوف، فقال له عبد الله بن نوفل بن الحرث: أما والله لقد جربت ذلك فوجدت غيّه وخيماً، فإن شئت فعد حتّى نعود، وانصرف القوم عنه وافتضح إبن الزبير.

وروي أن إبن الزبير خطب بمكّة على المنبر - وابن عبّاس جالس مع النّاس تحت المنبر - فقال: إن هيهنا رجلا قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، يزعم أن متعة النساء حلال من الله ورسوله، ويفتي في القملة والنملة، وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس وترك المسلمين بها يرتضخون النوى، وكيف ألومه في ذلك وقد قاتل أمَّ المؤمنين وحواري رسول الله ومن وقاه بيده؟ .

فقال ابن عبّاس لقائده: إستقبل في وجه إبن الزبير، وارفع من صدري، وكان ابن عبّاس قد كفّ بصره، فاستقبل به قائده وجه إبن الزبير وأقام قامته، فحسر عن ذراعيه ثُمَّ قال: يا إبن الزبير:

قد أنصف القارة من راماها *** إنّا إذا ما فئة نلقاها

نردّ أوّلاها على أخراها *** حتّى تصير حرضاً دعواها

ص: 231

يا ابن الزبير إمّا العمى فإن الله تعالى يقول: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (1).

وإمّا فتياي في القملة والنملة فإن فيها حكمين لا تعلمهما أنت ولا أصحابك.

وإمّا حمل المال فإنّه كان مالاً جبيناه، فأعطينا كلّ ذي حقّ حقّه، وبقيت بقية هي دون حقّنا في كتاب الله فأخذناه بحقّنا.

وإمّا المتعة فسل أمَّك أسماء إذ نزلت عن بردي عوسجة.

وإمّا قتالنا أمّ المؤمنين فبنا سميت أمّ المؤمنين لا بك ولا بأبيك، فانطلق أبوك وخالك إلى حجاب مدّه الله عليها فهتكاه عنها، ثُمَّ اتخذاها فتنة يقاتلان دونها، وصانا حلائلهما في بيوتهما، فما أنصفا الله ولا محمّداً من أنفسهما، إذ أبرزا زوجة نبيه صلی الله علیه و آله و سلم وصانا حلائلهما.

وإمّا قتالنا إيّاكم فإنّا لقيناكم زحفاً، فإن كنّا كفاراً فقد كفرتم بفراركم منّا، وإن كنّا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيّانا.

وأيمَ الله لولا مكان صفيّة فيكم، ومكان خديجة فينا، لما تركت لبني أسد بن عبد العزّى عظماً إلّا كسرته.

ص: 232


1- سورة الحج – الآية: 46

فلمّا عاد إبن الزبير إلى أمّه سألها عن بردي عوسجة فقالت: ألمْ أنهك عن ابن عبّاس وعن بني هاشم؟ فإنهم كعم الجواب إذا بدهوا، فقال: بلى وعصيتك، فقالت: يا بني إحذر هذا الأعمى الذي ما أطاقته الأنس والجنّ، واعلم أن عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها، فإيّاك وإيّاه إلى آخر الدهر.

فقال أيمن بن خزيم بن مالك الأسدي:

يا إبن الزبير لقد لاقيت بائقة *** من البوائق فالطف لطف محتال ِ

لاقيته هاشمياً طاب منبته *** في مغرسيه كريم العمّ والخال

ما زال يقرع منك السمع مقتدراً *** على الجواب بصوت مسمع عال

حتّى رأيتك مثل الكلب منحجراً *** خلف الغبيط وكنت الباذخ العإليَّ

إنَّ ابن عبّاس المعروف حكمته *** خير الأنام له حال من الحال

عيّرته المتعة المتبوع سنّتها *** وبالقتال وقد عيّرت بالمال

لما رماك على رسل بأسهمه *** جرت عليك كسوف الحال والبال

فاحتز مقولك الأعلى بشفرته *** حزاً وجباً بلا قيلٍ ولا قال

واعلم بأنّك إن عاودت غيبته *** عادت عليك مخازٍ ذات أذيال

ص: 233

وبلغ يزيد بن معاوية أن إبن الزبير أرسل إلى ابن عبّاس يدعوه إلى مبايعته وقال له: إن النّاس إذا رأوك بايعتني لم يتخلف عني أحد، فقال له ابن عبّاس: إن ليزيد في رقابنا بيعة لا يمكن نقضها، فكتب يزيد إلى ابن عبّاس:

إمّا بعد فقد بلغني أن الملحد ابن الزبير دعاك إلى بيعته والدخول في طاعته، وأنّك امتنعت عليه واعتصمت ببيعتي وفاءً منك لنا، وطاعة لله في تثبيت ما عرّفك الله من حقنا، فجزاك الله من ذي رحم بأحسن ما يجزي الواصلين لأرحامهم والموفين بعهدهم، ومهما نسيت فإنّي لست بناس برّك وتعجيل صلتك وحسن جزائك الذي أنت أهله مني في الطاعة، وما جعله الله لك من الشرافة والقرابة من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وانظر ما قبلك من قومك، ومن يطرأ عليك من آلافاق، ومن غرّهَ الملحد ابن الزبير بلسانه، وزخرف له قوله، فأعلمهم حسن رأيك فيَّ والتمسك ببيعتي، فإنهم لك أطوع ومنك أسمع منهم للملحد المحارق والخارج المارق والسلام.

فكتب إليه ابن عبّاس:

أمّا بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه دعاء إبن الزبير إيّاي إلى بيعته وامتناعي عليه، فإن يك ذلك كما بلغك فلم أكن حمدك ولا ودّك أردت، ولكن الله بالذي نويت به عليم، وزعمت أنك لست بناس برّي وتعجيل صلتي، فاحبس أيّها الإنسان صلتك عني، فإنّي حابس عنك نصرتي وودّي، فلعمري ما تؤتينا مما في يديك من حقنا إلّا الحقير القليل، وإنّك لتحبس عنّا منه العريض الطويل، وسألتني أن أحضّ النّاس على

ص: 234

موالاتك، وأن أخذلهم عن إبن الزبير فوا عجباً لك تسألني نصرتك وتحدوني على ودّك وقد قتلت الحسين بفيك الكثكث!!.

إنّك إذ منتك نفسك ذلك لعازب الرأي وأنت المفند المثبور..أنسيت قتلك الحسين علیه السلام وفتيان عبد المطّلب مصابيح الدجى وأعلام الهدى، غادرتهم جنودك مصرّعين في البطحاء، مرمّلين بالدماء، مسلوبين بالعراء، تسفي عليهم ريح الصبا، تعتورهم الذئاب وتنتابهم عرج الضباع، لا مكفنين ولا موسدين، حتّى أتاح الله لهم قوماً لم يشركوك في دمائهم فكفنوهم ودفنوهم.

وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست أنت وأبوك قبلك، وما أنس من الأشياء لم أنس تسليطك عليهم الدعي ابن العاهرة الفاجرة، البعيد من رحمنا..اللهمَّ إن رسول الله قال: [الولدُ للفراشِ وللعاهرِ الحجْر] فقال أبوك: الولد لغير الفراش والعاهر لا ينقصه عهره شيئاً، ويلحق به ولده للزنية كما يلحق بالعفّ التقي ولده للرشدة، فقد أمات أبوك السُنّة، وأحيا البدع.

وقد جررت على الدواهي بمخاطبتك عليّ، إنّي أستصغر وأستقصر توبيخك، لكن العيون عبرى والصدور حرى، وهذي الأيدي تنطف من دمائنا، وتلك الجثث الطواهر تنتابها العواسل وتفرسها الفراعل، وتخطف لحومها سباع الطير.

ولن أنسى طردك الحسين علیه السلام من حرم الله، وتسييرك إليه الرجال بالسيوف في الحرم تغتاله وتطلب غرّته، ثُمَّ دسست إليه من نابذه ليقتله، فما زلت به حتّى

ص: 235

أشخصته من مكّة إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقب، تزأر له خيلك زئير الأسد عداوة منك لله ولرسوله ولأهل بيته، وأيمَ الله إن كان لأعز أهل البطحاء بالبطحاء حديثاً وقديماً، وأولى أهل الحرمين منزلة بالحرمين لو نوى بهما مقاماً واستحلّ بهما قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة الله وحرمة رسوله؛ فأكبر ما لم تكبر أنت، حيث دسست إليه الرجال تغتاله بهما، وما لم يكبر إبن الزبير حين الحد في البيت الحرام مع حزبه الغاوين فقصد قصد العراق، فكتبت إلى ابن مرجانة يستقبله بالخيل والرجال والسيوف والحراب، وأمرته أن يسرع معاجلته ويترك مطأوّلته، وأكدت بالإلحاح ليقتله ومن معه من بني عبد المطّلب أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، ثُمَّ إنّه طلب إليكم الموادعة وسألكم الرجعة، فاغتنمتم قلّة الأنصار واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم فقتلتموهم، كأنّكم قتلتم أهل بيت من الترك.

فلا شيء أعجب إليَّ من طلبك ودّي ونصرتي وقد قتلت ابن أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أحد ثأري، وأنا أرجو أن لا يطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري ولأن سبقت ولا تشتفي بثأري، ولئن شفيت به في الدنيا فقتلتنا، فقد قتل النبيّون وآل النبيّين، فطلت دماؤهم، وكان الله الموعد، وكفى بالله للمظلومين ناصراً، والله لنظفرن بك غداً أو بعد غد.

وذكرت وفائي لك وعرفاني بحقك، فإن يك كما ذكرت أو لم يكن، فوالله ما زلت أعرف أننا أحق بهذا الأمر منك ومن أبيك، ولكنّكم كابرتمونا فقهرتمونا، واستأثرتم

ص: 236

علينا بسلطاننا، ودفعتمونا عن حقّنا، فبعداً للمجترئ على ظلمنا ودافعنا عن حقنا كما بعدت ثمود وعاد وقوم مدين واخوان لوط.

ومن أعجب الأعاجيب - وما زال يريك الدهر العجب - حملك بنات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأغيلمة من ولده صغاراً إليك بالشام كالسبي المجلوب، وتري النّاس أنّك قهرتنا، وأنّك تمنّ علينا، وبنا منَّ الله عليك، ومنعك وأباك وأمك من السبي.

فلعمري إن كنت تمسي وتصبح وأنت تجرح بدني، فلقد رجوت أن لا يقطب جراحك لساني ونقضي أو إبرامي، وأيمَ الله لا يمكنك الله بعد قتل الحسين علیه السلام وعترة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتّى يأخذك أخذاً إليَّماً، ويخرجك من الدنيا مذموماً مدحوراً، فعش لا أبا لك رويداً ما استطعت، فقد والله لعنك الله وملائكته ورسله، والله المستعان وعليه التكلان.

وأخرج النسائي في صحيحه عن أبي مليكة قال: كان بين ابن عبّاس وبين إبن الزبير شيء فغدوت على ابن عبّاس فقلت: أتريد أن تقاتل إبن الزبير فتحلّ حرم الله؟ فقال: معاذ الله، إن الله كتب إبن الزبير وبني أميّة محلّين للحرام، وإنّي والله لا أحلّه أبداً.

وروى المسعودي عن سعيد بن جبير أن ابن عبّاس دخل على إبن الزبير فقال له إبن الزبير: إلى م تؤنبني وتعنفني؟ فقال ابن عبّاس: إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [بئسَ المسلمُ يشبعُ ويجوعُ جارُهُ] وأنت ذلك الرجل، فقال إبن الزبير: والله

ص: 237

إنّي لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة، وتشاجرا، فخرج ابن عبّاس من مكّة فأقام بالطائف حتّى مات.

وروى غيره أن إبن الزبير حبس عبد الله بن العبّاس مع محمّد بن الحنفية رضی الله عنه في رجال من بني هاشم في شعب غارم حتّى أرسل المختار من الكوفة جيشاً فاستخلصوهم منه، كما سيأتي ذكره في ترجمة إبن الحنفية إن شاء الله تعالى.

وروى المدائني قال: لمّا أخرج إبن الزبير عبد الله بن عبّاس من مكّة إلى الطائف مرَّ بنعمان فنزل فصلّى ركعتين، ثُمَّ رفع يديه يدعو فقال: اللهمَّ أنك تعلم أنه لم يكن بلد أحبّ إليَّ من أن أعبدك فيه من البلد الحرام، وإنّي لا أحبّ أن تقبض روحي إلّا فيه..إن إبن الزبير أخرجني ليكون الأقوى في سلطانه، اللهمَّ فأوهن كيده واجعل دائرة السوء عليه.

فلمّا دنا من الطائف تلقّاه أهلها فقالوا: مرحباً يا ابن عم رسول الله، أنت والله أحبّ إلينا وأكرم علينا ممّن أخرجك، هذه منازلنا تخيّرها فانزل منها حيث أحببت، فنزل منزلاً، فكان يجلس إليه أهل الطائف بعد الفجر وبعد العصر فيتكلم بينهم.

قال المسعودي في مروج الذهب: ذهب بصر ابن عبّاس لبكائه على عليٍّ بن أبي طالب والحسن والحسين صلوات الله عليهم، وهو الذي يقول:

إن يأخذ الله من عينيَّ نورهما *** ففي لساني وقلبي منهما نورُ

قلبي ذكي وعقلي غير مدّخل *** وفي فمي صارم كالسيف مشهورُ

ص: 238

وأخرج الكشّي عن سلام بن سعيد عن عبد الله بن عبد يإليَّل، رجل من أهل الطائف، قال: أتينا ابن عبّاس رضی الله عنه نعوده في مرضه الذي مات فيه، قال: فأُغمي عليه في البيت فأخرج إلى صحن الدار، قال: فأفاق فقال: إن خليلي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: إنّي سأهاجر هجرتين، وإنّي سأخرج من هجرتي، فهاجرت هجرة مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وهجرة مع عليٍّ علیه السلام، وإنّي سأعمى فعميت، وإنّي سأغرق فأصابني حكّة فطرحني أهلي في البحر فغفلوا عني فغرقت ثُمَّ استخرجوني بعد، وأمرني أن أبرأ من خمسة، من الناكثين وهم أصحاب الجمل، ومن القاسطين وهم أهل الشام، ومن الخوارج وهم أهل النهروان، ومن القدرية وهم الذين ضاهوا النصارى في دينهم فقالوا: لا قدر، ومن المرجئة الذين ضاهوا إليهود في دينهم فقالوا: الله أعلم.

قال: ثُمَّ قال: اللهمَّ إني أحيا ما حيَّ عليه عليٌّ بن أبي طالب علیه السلام، وأموت على ما مات عليه عليٌّ بن أبي طالب علیه السلام .

قال: ثُمَّ مات فغسل وكفن، ثُمَّ صلّى على سريره فجاء طائران أبيضان فدخلا في كفنه فرأى النّاس إنّما هو فقهه، فدفن.

وأخرج أيضاً عن شريح عن أبي عبد الله علیه السلام أن ابن عبّاس لمّا مات وأخرج، خرج من كفنه طير أبيض ينظرون إليه نحو السماء حتّى غاب عنهم، وقال علیه السلام: وكان أبي يحبّه حبّاً شديداً، وكانت أمّه تلبسه ثيابه وهو غلام فينطلق إليه في غلمان بني عبد المطّلب، قال: فأتاه بعد ما أصيب ببصره فقال: من أنت؟ قال: أنا محمّد بن عليٍ بن الحسين، فقال: حسبك من لم يعرفك فلا عرفك.

ص: 239

وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن السدّي عن أبي صالح قال: لمّا حضرت عبد الله بن عبّاس الوفاة قال: اللهمَّ إنّي أتقرب إليك بولاية عليّ بن أبي طالب علیه السلام .

قال الشيخ أبو الحسين يحيى بن الحسن بن البطريق قدس الله روحه: هذا القول من ابن عبّاس من أدلّ دليل على أن الميت يُسأل عن معرفة الله تعالى، ومعرفة النبيّ صلی الله علیه و آله، وولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام؛ لأنّه قد ثبت عند من يعلم ومن لا يعلم أن منكراً ونكيراً ومبشراً و بشيراً يسألان الميت عند نزول قبره عن ربه ونبيّه وإمامه، وهذا من أدل دليل على سؤال الملائكة عن ولاية أمير المؤمنين علیه السلام، ولولا ذلك لما جعلها ابن عبّاس خاتمة علمه؛ لأنّه كان أعلم أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله بعد أمير المؤمنين علیه السلام بلا خلاف، وكان يقول له أمير المؤمنين علیه السلام: {أنتَ كنفٌ مملوءٌ علماً}.

ولو لم يتحقق في ذلك حالاً عن النبيّ صلی الله علیه و آله لما كان قد جعل غاية تقربه إلى الله تعالى - وهو آخر كلام يكتب له - ولاية عليّ بن أبي طالب علیه السلام، ولو لم يعلم أن فيها النجاة لما جعلها آخر عمله، وهذا ممّا يجب على خلق الله كافة أن يأتوا بمثل ما أتى به إبن عمِّ رسول الله صلی الله علیه و آله وأعلمهم.

وتوفي ابن عبّاس رضی الله عنه بالطائف سنة ثمان وستين أيام إبن الزبير، وقيل: سنة تسع وستين، وقيل: سنة سبعين، وقيل: ثلاث وسبعين وهو أضعفها، وله من العمر سبعون سنة، وقيل: إحدى وسبعين سنة، وقيل: أربع وسبعين، ودفن بالطائف،

ص: 240

وصلّى عليه محمّد بن الحنفية رضی الله عنه، وقال: اليوم مات ربانّي هذه الأمّة، وضرب على قبره فسطاطاً.

وحدّث جماعة من المحدثين قالوا: حضرنا جنازة عبد الله بن عبّاس، فلمّا وضع ليصلّى عليه جاء طائر عظيم أبيض من قبل وجّ يقال: أنّه الغرنوق، فوقع على أكفانه ودخل فيها، فالتمس فلم يوجد حتّى الساعة، وكانوا يرون أنّه علمه، فلمّا سوّي عليه التراب سمع قائل يسمع صوته ولا يرى شخصه يتلو هذه الآية: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ (1).

فأغرب ابن الضحاك فيما أخرجه عن أبي بكر بن أبي عاصم أن ابن عبّاس مات بمكّة، وقبره بالطائف لا يختلف فيه اثنان.

قالت العامّة: مرويات ابن عبّاس في كتب الحديث ألف وستمائة وستون.

وكان له من الولد العبّاس وبه كان يكنّى، وعليّ السجاد والفضل ومحمّد وعبد الله ولبابة وأسماء.

قال المؤلف عفى الله عنه: زرت قبر عبد الله بن العبّاس مراراً بالطائف، وهو معظم بتلك الديار، وعليه قبة عظيمة، يقصده النّاس للزيارة من الأطراف وينذرون له النذور، ويعتقدون فيه إعتقاداً عظيماً، وهو أهل لذلك رحمه الله تعالى.

ص: 241


1- سورة الفجر – الآية: 28

ويقال: ما رؤي قبور إخوة أكثر تباعداً من قبور بني العبّاس، قبر عبد الله بالطائف، وقبر عبيد الله بالمدينة، وقبر قثم بسمرقند، وقبر عبد الرحمن بالشام، وقبر معبد بأفريقية.

ص: 242

الفضل بن العبّاس

أمّه أمُّ الفضل أيضاً، كان أكبر أولاد العبّاس وبه كان يكنّى، ولم يزل إسمه الفضل في الجاهلية والإسلام، وكان يكنّى أبا عبد الله، وقيل: أبا محمّد، وكان أجمل النّاس وجها.

قال أهل العلم بالتاريخ: غزا الفضل مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مكّة وحُنَيناً، وثبت يومئذ، وشهد حجة الوداع، وأردفه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خلفه فيها لمّا دفع من مزدلفة إلى منى، وكان الفضل رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً فمرت ظعن بحريم فجعل الفضل ينظر إليهن فوضع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يده على وجه الفضل؛ فحوّل الفضل وجهه إلى الشقّ الآخر، فحول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر، فقال العبّاس: لويت عنق ابن عمك يا رسول الله! فقال: رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما.

وأخرج إبن بابويه رحمه الله في الفقيه عن القداح عن الصادق جعفر بن محمّد علیهما السلام قال: قال الفضل بن عبّاس: أهدى إليَّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بغلة أهداها إليه كسرى أو قيصر، فركبها النبيّ بحبل من شعر وأردفني خلفه، ثُمَّ قال لي: [يا غلامُ إحفظْ اللهَ يحفظكَ، إحفظ اللهَ تجدهُ أمامَكَ، تعرّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفْكَ في الشدّةِ، إذا سألتَ فاسأل اللهَ وإذا استعنتَ فاستعنْ باللهِ، فقدْ مضى القلمُ بما هوَ كائنٌ، فلوْ جهدَ النّاسُ أنْ ينفعوك َبأمرٍ لمْ يكتبهُ اللهُ لكَ لمْ يقدروا عليكَ، ولوْ جهدوا أنْ يضرّوك بأمرٍ لمْ

ص: 243

يكتبْهُ اللهُ عليكَ لمْ يقدروا، فإنْ استطعتَ أنْ تعملَ بالصبرِ معَ إليَّقينِ فافعلْ، فإنْ لمْ تستطعْ فاصبرْ، فإنَّ فيْ الصبرِ علىْ أمورِكَ خيراً كثيراً، واعلمْ أنَّ النصرَ معَ الصبرِ، وأنَّ الفرجَ معَ الكربِ، وأنَّ معَ العسرَ يسراً، إنَّ معَ العسرِ يُسراً].

وكان الفضل هو الذي يصبّ الماء في غسل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأمير المؤمنين علیه السلام يغسّله.

وروى أن أمير المؤمنين علیه السلام عصب عيني الفضل حين صبّ الماء عليه، وأن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أوصاه بذلك، وقال: [إنّه لا يُبصرُ عورتيْ أحدٌ غيركَ إلّا عميَ].

ونزل الفضل مع عليٍّ علیه السلام قبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم , وروي أن عليّاً علیه السلام منع النّاس أن ينزلوا معه القبر وقال: {لا ينزلُ قبرَهُ غيري، وغير العبّاس}، ثُمَّ أمر في نزول الفضل وقثم إبني العبّاس.

ومن شعر الفضل قوله من أبيات:

ألا إن خير النّاس بعد محمّد *** وصيّ النبيّ المصطفى عند ذي الذكر ِ

وأوّل من صلّى وصنو نبيه *** وأوّل من أردى الغواة لدى بدرِ

روى الزبير بن بكار قال: روى محمّد بن إسحق أن أبا بكر لما بويع افتخرت تيم بن مرّة، قال: وكان عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أن عليّاً علیه السلام هو صاحب الأمر بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال الفضل بن عبّاس: يا معشر قريش وخصوصاً يا بني

ص: 244

تيم إنّكم إنّما أخذتم الخلافة بالنبوة، ونحن أهلها دونكم، ولو طلبنا هذا الأمر الذي نحن أهله لكانت كراهية النّاس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا، حسداً منهم لنا وحقداً علينا، وإنّا لنعلم أن عند صاحبنا عهداً وهو ينتهي إليه.

قال أبو عمر: إختلف في وفاة الفضل بن العبّاس، فقيل: أصيب بأجنادين في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشر.

وفي (ذخائر العقبى): أجنادين - بفتح الهمزة وسكون الجيم وفتح الدال المهملة وقد يكسر- الموضع المشهور من نواحي دمشق، وكانت به الوقعة بين المسلمين والروم.

وقيل: قتل يوم مرج الصفر، وهو - بضم الصاد وتشديد الفاء - موضع بغوطة دمشق كان به وقعة المسلمين على الروم سنة ثلاث عشر أيضاً.

وقيل: مات بطاعون عمواس وهو - بفتح العين المهملة والميم وقد تسكن وتخفيف الواو وبعد الألف سين مهملة - إسم بلدة صغيرة بين القدس والرملة، منها نشأ الطاعون ثُمَّ أنتشر في الشام فنسب إليها، وهو أوّل طاعون كان في الإسلام بالشام سنة سبع عشرة، وقيل: ثمان عشرة.

قال بعضهم: والأوّل أصحّ، وذلك في خلافة عمر، ومات في هذا الطاعون خمسة وعشرون ألفاً، وقيل: ثلاثون الفاً، قال السيوطي من جيش المسلمين.

ص: 245

وتوفي الفضل وله من العمر إثنتان وعشرون سنة، ولم يترك ولداً غير إبنة تزوجها الحسن بن عليٍّ علیهما السلام ثُمَّ فارقها، فتزوجها أبو موسى الأشعري فولدت له موسى، ومات عنها فتزوجها عمر بن طلحة بن عبيد الله.

وقيل: أن الفضل خلف إبناً يقال له: عبد الله، ولم يثبت، والله أعلم.

ص: 246

عبيد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب

وأمّه أمُّ الفضل أيضاً، كان أصغر من أخيه عبد الله بسنة.

قيل: أنه رأى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وسمع منه وحفظ عنه، وكان أحد الأجواد، وكان يقال: من أراد الفقه والجمال والسخاء فليأت دار العبّاس .. الفقه لعبد الله، والجمال للفضل، والسخاء لعبيد الله.

واستعمل أمير المؤمنين علیه السلام عبيد الله على اليمن، وأمّره على الموسم، وبعث معاوية ذلك العام يزيد بن شجرة الزهاوي ليقيم الحج فاجتمعا، فسأل كل منهما صاحبه أن يسلم له فأبى، واصطلحا على أن يصلي بالنّاس شيبة بن عثمان.

وروي أن معاوية بعث إلى اليمن بسر بن أرطأة في جيش كثيف، وأمره أن يقتل كل من كان في طاعة عليٍّ علیه السلام، فلمّا قدم اليمن وعليها عبيد الله بن عبّاس من قبل عليٍّ علیه السلام تنحّى عبيد الله، واستولى بسر عليها وقتل خلقاً كثيراً، وكان الذي قتل بسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفاً، وحرق قوماً بالنار، فلمّا بلغ ذلك عليّاً علیه السلام بعث جارية بن قدامة السعدي في ألفين فصمد نحو بسر، فهرب بسر من بين يديه يفرّ من جهة إلى أخرى، حتّى أخرجه من أعمال عليٍّ علیه السلام كلّها، ورجع إلى معاوية.

وعاد عبيد الله بن عبّاس إلى عمله، فلم يزل عاملاً على اليمن حتّى قتل عليٌّ علیه السلام .

ص: 247

وقيل: بل قدم على أمير المؤمنين علیه السلام، هو وسعيد بن نمران وعاتبهما عليٌّ علیه السلام على عدم محاربتهما بسراً، فقال سعيد: قد والله قاتلت، ولكن ابن عبّاس خذلني وأبى أن يقاتل، وقال: لا والله ما لنا بهم طاقة، فقاتلت بمن معي قتالاً ضعيفاً، وتفرّق النّاس عني وانصرفت، وهذا هو الصحيح.

وكان ممن قتله بسر في وجهه هذا سلمان وداود إبني عبيد الله بن العبّاس، وهما غلامان، وقيل: اسمهما قثم وعبد الرحمن، أمّهما حورية بنت خالد بن فارط الكنانية، وتكنى أم حكيم.

واختلف في موضع قتلهما، فروى علي بن مجاهد عن إسحق أن أهل مكّة لمّا بلغهم ما صنعه بسر خافوه وهربوا، فخرجوا فيهم إبنا عبيد الله ابن العبّاس، فأضلّوهما عند بئر ميمون بن الحضرمي، وهجم عليهما بسر فأخذهما وذبحهما.

وروي أنّهما وصلا إلى أخوالهما من بني كنانة.

وقيل: إنّما قتلهما باليمن، وأنّهما ذبحا على درج صنعاء.

وروى عبد الملك بن نوفل عن أبيه أن بسراً دخل الطائف فبات بها، وخرج حتّى مرّ ببني كنانة، وفيهم إبنا عبيد الله بن العبّاس وأمّهما، فلمّا انتهى بسر إليهم طلبهما، فدخل رجل من بني كنانة، كان أبوهما أوصاه بهما، فأخذ السيف من بيته وخرج، فقال له بسر: ثكلتك أمّك والله ما كنّا أردنا قتلك، فلم عرضت نفسك للقتل؟ قال: أُقتل دون جاري أعذر لي، ثُمَّ شدّ على أصحاب بسر بالسيف حاسراً وهو يرتجز:

ص: 248

إليَّت لا يمنع حافات الدارْ

ولا يموت مصلتا دون الجارْ

إلّا فتى أروع غير غدارْ

فضارب بسيفه حتّى قتل، ثُمَّ قدّم الغلامان فذبحا، فخرج نسوة من بني كنانة، فقالت امرأة منهن: هذه الرجال تقتلها فما بال الولدان؟! والله ما كانوا يقتلون في جاهلية ولا إسلام، والله إن سلطاناً لا يشيد إلّا بقتل الضرع الضعيف والشيخ الكبير ورفع الرحمة وقطع الارحام لسلطان سوء، فقال بسر: والله لهممت أن أضع فيكن السيف، قالت: والله إنّه لأحبّ إليَّ إن فعلته.

ولّما بلغ خبر الغلامين أمّهما جزعت جزعاً شديداً وقالت ترثيهما:

ها من أحسّ بإبنيَّ اللذين هما *** كالدرّتين تشظّى عنهما الصدفُ

ها من أحسّ بإبنيَّ اللذين هما *** سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطفُ

ها من أحسَّ بإبنيَّ اللذين هما *** مخّ العظام فمخي اليوم مزدهفُ

نبئت بسراً وما صدّقت ما زعموا *** من قولهم ومن آلافك الذي اقترفوا

أنحى على ودجي طفليَّ مرهفة *** مشحوذة وكذاك الظلم والسرفُ

من دلَّ والهة عبرى مفجعة *** على صبيين ضلّا إذ مضى السلفُ

ص: 249

وأخرج الشيخ الطوسي رحمه الله في (أماليه) بإسناده عن معاوية بن ثعلبة قال: إجتمع عبيد الله بن العبّاس من بعد وبسر بن أرطأة عند معاوية، فقال معاوية لعبيد الله: أتعرف هذا؟ هذا الشيخ قاتل الصبيين، قال بسر: نعم أنا قاتلهما، فمه، فقال عبيد الله: لو أن لي سيفاً، قال بسر: فهاك سيفي، وأومئ إلى سيفه، فزبره معاوية وانتهره، وقال: أفٍ لك من شيخ ما أحمقك! أتعمد إلى رجل قد قتلت إبنيه فتعطيه سيفك! كأنّك لا تعرف أكباد بني هاشم، والله إن دفعته إليه لبدأ بك وثنّى بي، فقال عبيد الله: بل والله كنت أبدأ بك ثُمَّ أثني به.

وروى أبو الحسن المدائني قال: إجتمع عبيد الله بن العبّاس وبسر بن أرطأة يوماً عند معاوية، بعد صلح الحسن علیه السلام فقال عبيد الله لمعاوية: أنت أمرت اللعين السيء القدم أن يقتل ابني؟ فقال: ما أمرته بذلك، ولوددت أنّه لم يكن قتلهما، فغضب بسر ونزع سيفه فألقاه، وقال لمعاوية: إقبض سيفك عني، قلدتنيه وأمرتني أن أخبط به النّاس ففعلت، حتّى إذا بلغت ما أردت قلت لم أهوَ ولم أأمر؟، فقال معاوية: خذ سيفك إليك، فلعمري إنّك لضعيف تلقي السيف بين يدي رجل من بني عبد مناف قتلت بالأمس إبنيه، فقال عبيد الله: أتحسبني يا معاوية قاتلاً بسراً بأحد إبنيّ؟ هو أحقر وألأم من ذلك، ولكني والله لا أرى لي مقعناً ولا أدرك ثاراً إلا أن أصيب بهما يزيد وعبد الله، فتبسم معاوية فقال: وما ذنب معاوية وإبني معاوية ؟، والله ما علمت ولا أمرت ولا رضيت ولا هويت، واحتملها منه لشرفه وسؤدده.

ص: 250

قال: ودعا عليٌّ علیه السلام على بسر فقال: {اللهمَّ إنَّ بسراً باعَ دينَهُ بالدنيا، وانتهكَ محارمَكَ، وكانتْ طاعةُ مخلوقٍ فاجرٍ آثرَ عندهُ منْ طاعتِكَ، اللهمَّ فلا تُمتهُ حتّى تسلبَهُ عقلًهُ، ولا توجبُ لهُ رحمتكَ ولا ساعةً منْ نهارٍ، اللهمَّ العنْ بسراً وعَمراً ومعاويةَ، وليحلّ عليهمْ غضبُكَ، ولتنزلْ بهمْ نقمتُكَ، وليصبْهمْ بأسُكَ ورجزكَ الذيْ لا تردّهُ عنْ القومِ المجرمينَ}.

فلم يلبث بسر بعد ذلك إلّا يسيراً حتّى وسوس وذهب عقله، وكان يهذي بالسيف ويقول: أعطوني سيفاً أقتل به، لا يزال يردد ذلك حتّى اتخذ له سيفاً من خشب، وكانوا يدنون منه المرفقة فلا يزال يضربها حتّى يغشى عليه، فلبث كذلك إلى أن مات.

وقال المسعودي في مروج الذهب: مات بسر بن أرطأة لعنه الله زائل العقل يلعب بنجوة، فربما شدوا يديه جميعاً منعاً له من ذلك، فسلح ذات يوم فأهوى إليه بفيه فتناوله فتبادروا لمنعه فقال: أتمنعوني وعبد الله وقشم يطعماني؟ يعنى إبني عبيد الله بن العبّاس اللذين قتلهما، قال وكان موته في أيام الوليد بن عبد الملك سنة ست وثمانين.

ولما توفي أمير المؤمنين علیه السلام خرج عبيد الله بن العبّاس إلى النّاس فقال: إن أمير المؤمنين علیه السلام توفي، وقد ترك خلفاً فإن أحببتم خرج إليكم، وإن كرهتم فلا أجد على أحد؛ فبكى النّاس وقالوا: بل يخرج إلينا، فخرج الحسن علیه السلام فخطب بهم فقال: أيّها النّاس اتقوا الله فإنّا أمراؤكم وأوّلياؤكم، وإنّا أهل البيت الذين قال الله تعالى فينا: ﴿

ص: 251

إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ (1)، فبايعه النّاس، وكان خرج إليهم وعليه ثياب سود.

ثُمَّ وجّه عبيد الله بن العبّاس ومعه قيس بن سعد بن عبادة مقدمة له في اثنى عشر ألفاً إلى الشام وقال له: (يا ابن عم إنّي بعثت معك اثنى عشر ألفاً من فرسان العرب وقرّاء المصر، الرجل منهم يرد الكتيبة، فسر بهم وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وافرش لهم جناحك، وأدنهم من مجلسك، فإنهم بقيّة ثقاة أمير المؤمنين علیه السلام، وسرْ بهم على شط الفرات حتّى تقطع بهم الفرات حتّى تصير بمِسكَن، ثُمَّ إمض حتّى تستقبل معاوية، فإن أنت لقيته فاحبسه حتّى آتيك، فإنّي على أثرك وشيكاً، وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين يعني قيس بن سعد وسعيد بن قيس، وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتّى يقاتلك، فإن فعل فقاتله، فإن أُصبت فقيس بن سعد، فإن أُصيب قيس بن سعد فسعيد بن قيس على النّاس).

فسار عبيد الله بن العبّاس حتّى أتى مِسكَن وقد وافى معاوية، فنزل بقرية يقال لها: الحبوبية بمسكن، وأقبل عبيد الله بن العبّاس حتّى نزل بإزائه.

فلمّا كان من غد وجه معاوية بخيله إليه، فخرج إليهم عبيد الله فيمن معه فضربهم حتّى ردّهم إلى معسكرهم، فلمّا كان الليل أرسل معاوية إلى عبيد الله بن العبّاس أن الحسن قد أرسل لي في الصلح، وهو مسلّم الأمر إليَّ، فإن دخلت في طاعتي الآن

ص: 252


1- سورة الأحزاب - الآية: 33

كنت متبوعاً، وإلّا دخلت وأنت تابع، ولك إن جئتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم، أعجّل لك هذا الوقت نصفها، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر.

فأقبل عبيد الله ليلاً فدخل على معاوية في عسكره، فوفّى له بما وعده، وأصبح النّاس ينتظرون عبيد الله أن يخرج فيصلي بهم فلم يخرج، فطلبوه فلم يجدوه، فصلّى بهم قيس بن سعد، ثُمَّ خطبهم فثبتهم، وذكر عبيد الله فنال منه، ثُمَّ أمرهم بالصبر والنهوض إلى العدو، فأجابوه بالطاعة، فحارب بهم من خرج إليه من عسكر معاوية، حتّى كان من صلح الحسن علیه السلام ومعاوية ما كان.

وسيأتي ذكر طرف من ذلك في ترجمة قيس بن سعد إن شاء الله تعالى.

روي أن عبد الله بن صفوان بن أميّة مرّ يوماً بدار عبد الله بن عبّاس بمكّة، فرأى فيها جماعة من طالبي الفقه، ومر بدار عبيد الله بن عبّاس فرأى جماعة ينتابونها الطعام، فدخل على إبن الزبير فقال له: أصبحت والله كما قال الشاعر:

فإن تصبك من الأيّام قارعة *** لم أبك منك على دنيا ولا دين ِ

قال: وما ذاك يا أعرج؟ قال: هذان إبنا العبّاس أحدهما يفقه النّاس والآخر يطعم النّاس، فما تركا لك مكرمة، فدعا عبد الله بن مطيع فقال: إنطلق إلى إبني عبّاس فقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين: أخرجا عني أنتما ومن انضوى إليكما (1) من أهل العراق، وإلّا فعلت وفعلت، فقال عبد الله بن عبّاس: قل لإبن الزبير والله ما

ص: 253


1- وفى نسخة: أنتما ومن انزوى، أو انضم إليكما.( المؤلف رحمة الله عليه)

ينتابنا من النّاس إلّا رجلان، أحدهما يطلب فقهاً والآخر يطلب فضلاً، فأيّ هذين يمنع؟ وحضر أبو الطفيل عامر بن وائل الكناني فجعل يقول:

لله درّ الليإليَّ كيف تضحكنا *** منها خطوب أعاجيب وتبكينا

ومثلها تحدث الأيّام من عبر *** في ابن الزبير عن الدنيا تسلّينا

كنّا نجيء إبن عبّاس فيقبسنا *** علماً ويكسبنا أجراً ويهدينا

ولا يزال عبيد الله مترعة *** جفانه مطعماً ضيفاً ومسكينا

فالبرّ والدين والدنيا بدارهما *** ننال منه الذي نبغي إذا شينا

إن النبيّ هو النور الذي كشطت *** به عمايات ماضينا وباقينا

ورهطه عصمة في ديننا ولهم *** فضل علينا وحقٌّ واجب فينا

ففيم تمنعهم منّا وتمنعنا *** منهم وتؤذيهم فينا وتؤذينا

ولست فاعلم بأولاهم به رحماً *** يا ابن الزبير ولا أولى به دينا

لن يؤتي الله إنساناً ببغضهم *** في الدين عزّاً ولا في الأرض تمكينا

وكان عبيد الله بن العبّاس من أجواد الإسلام المشهورين، فمن جوده أنّه أوّل من فطّر جيرانه، وأوّل من وضع الموائد على الطريق.

ص: 254

ومن جوده أنّه أتاه رجل وهو بفناء داره فقام بين يديه وقال: يا ابن عبّاس إن لي عندك يداً وقد احتجت إليها، فصعد إليه بصره وصوبه فلم يعرفه، فقال له: ما يدك عندنا؟ قال: رأيتك واقفاً عند زمزم وغلامك يملأ من مائها، والشمس قد سهرتك، فظللتك بطرف كسائي حتّى شربت، قال: أجل إنّي لأذكر لك ذلك.

ثُمَّ قال لغلامه: ما عندك؟ قال: مائة دينار وعشرة آلاف درهم، قال: إدفعها إليه وما أراها تفي بحق يده؛ فقال الرجل: والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيك كفاية، فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين، ثُمَّ شفع بك وبأبيك.

ومن جوده أيضاً أن معاوية حبس عن الحسين بن عليٍّ علیهما السلام صِلاته حتّى ضاقت حاله، فقيل له: لو وجّهت إلى ابن عمك عبيد الله بن عبّاس لكفاك وقد قدم بنحو ألف ألف، قال الحسين علیه السلام: فما مقدارها عنده؟ والله إنّه لأجود من الريح إذا عصفت، وأسخى من السحاب إذا زخر.

ثُمَّ وجّه إليه رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاوية عنه صِلاته وضيق حاله، وأنّه يحتاج إلى مائة ألف، فلمّا قرأ عبيد الله كتابه - وكان أرقّ النّاس قلباً وأليَنهم عطفاً - انهملت عيناه، ثُمَّ قال: ويلك يا معاوية ما اجترحت يداك من الإثم حين أصبحت ليّن المهاد رفيع العماد، والحسين يشكو ضعف الحال وكثرة العيال، ثُمَّ قال لقهرمانه: إحمل إلى الحسين نصف ما نملكه من فضة وذهب ودابّة، وأخبره أنّي شاطرته، فإن أقنعه ذلك وإلّا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر.

ص: 255

قال: فلمّا وصل الرسول إلى الحسين علیه السلام قال: إنّا لله، ثقلت والله على ابن عمي، وما حسبت أنه يتسع لنا بهذا كله، فأخذ الشطر من ماله، وهو أوّل من فعل هذا في الإسلام.

ومن جوده أيضاً أن معاوية أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النيروز حللاً كثيرة ومسكاً وآنية من ذهب وفضة، ووجّهها إليه مع حاجبه فلمّا وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب وهو يطيل النظر فيها فقال: في نفسك منها شيء؟ قال: نعم والله إن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف، فضحك عبيد الله وقال: فشأنك بها فهي لك، قال: جعلت فداك أنا أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيغضب لذلك، قال: فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن وهو يحملها إليك ليلاً, فقال الحاجب: والله إن هذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم، ولوددت أن لا أموت حتّى أراك مكانه، يعني معاوية، فظن عبيد الله أنها مكيدة منه فقال: دع هذا الكلام فإنّا من قوم نفي بما عقدنا ولا ننقض ما أكدنا.

وقال له يوماً رجل من الأنصار: جعلت فداك، والله لو سبقت حاتماً بيوم ما ذكرته العرب، وأنا أشهد أن عفو جودك أكثر من مجهوده، وطلّ صوبك أكثر من وابله.

مات عبيد الله سنة ثمان وخمسين، وقال الواقدي والزبير بن بكار: توفي بالمدينة في أيام يزيد بن معاوية، وقال مصعب: مات باليمن، والأوّل أصحّ، وقال الحسن: مات سنة سبع وثمانين في خلافة عبد الملك، والله أعلم.

ص: 256

قثم بن العبّاس بن عبد المطّلب

أمّه أمُّ الفضل أيضاً، وهو رضيع الحسن بن عليٍّ علیهما السلام .

روي أن أمُّ الفضل قالت لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: رأيت عضواً من أعضائك في بيتي، قال: [خيراً رأيتِه، تلدُ فاطمةُ غلاماً تُرضعينهُ بلبنِ قثمَ]، فولد الحسن علیه السلام فأرضعته بلبن قثم.

وكان قثم يشبه النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم .

أخرج إبن الضحاك عن ابن العبّاس أن العبّاس رأى إبناً له يقال له: قثم فوضعه على صدره وهو يقول:

حبّي قثمْ

شبيه ذي الأنف الأشمْ

نبيُّ ذي النعمْ

برغم من رغمْ

وروى إبن عبد البر في كتاب (الإستيعاب) عن عبد الله بن جعفر قال: كنت أنا وعبيد الله وقثم إبني العبّاس نلعب، فمرَّ بنا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم راكباً فقال: [إرفعوا ليَ هذا الفتى]، يعني قثم، فرفعه إليه فأردفه، ثُمَّ جعلني بين يديه، ودعا لنا.

ص: 257

قال إبن عبد البر: روى عبد الله بن عبّاس قال: كان قثم آخر النّاس عهداً برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أي آخر من خرج من قبره ممّن نزل فيه.

وكان المغيرة بن شعبة يدعي ذلك لنفسه، فأنكر عليّ بن أبي طالب علیه السلام ذلك وقال: بل آخر من خرج من القبر قثم بن العبّاس.

قال إبن عبد البر: وكان قثم والياً لعليٍّ علیه السلام على مكّة، عزل عنها عليٌّ علیه السلام خالد بن العاص بن هشام، وكان واليها لعثمان، وولاها أبا قتادة الأنصاري، ثُمَّ عزله عنها وولّى مكانه قثم بن العبّاس، فلم يزل والياً عليها حتّى قُتل عليٌّ علیه السلام .

وقال الزبير بن بكار: إستعمل عليٌّ علیه السلام قثم بن العبّاس على المدينة.

قال إبن عبد البر: واستشهد قثم بسمرقند، كان واليها مع سعيد بن عثمان بن عفّان زمن معاوية فقتل هناك.

وقال ابن الضحاك: مات قثم في خلافة عثمان بن عفّان، وقبره خارج سور سمرقند في قبة عالية معروفة بمزار شاه زنده يعني السلطان الحي.

وفى قثم يقول داود بن مسلم:

عتقت من حلّ ومن رحلة *** ياناق إن أدنيتني من قثمْ

إنك إن أدنيت منه غداً *** حالفني اليسر ومات العدمْ

ص: 258

في كفّه بحر وفي وجهه *** بدر وفي العرنين منه شمم

أصمّ عن قيل الخنا سمعه *** وما عن الخير به من صمم

لم يدر ما لا وبلى قد درى *** فعاقها واعتاض عنها نعم

وقيل: أن هذه الأبيات لإبن المولى في قثم بن العبّاس بن عبيد الله بن العبّاس، لا قثم بن العبّاس.

هذا وكان قثم بن العبّاس بن عبيد الله والياً على المدينة، وقيل: على اليمامة من قبل أبي جعفر المنصور، وكان جواداً ممدحاً، والله أعلم.

وقُثَم - بضم القاف وفتح الثاء المثلثة - على وزن عمر، يقال: رجل قثم إذا كان كثير العطاء وجموعاً للخير، وبه سمّي الرجل، وهو معدول عن قاثم تقديراً، ولا ينصرف للعدل والعلمية.

ص: 259

عبد الرحمن بن العبّاس بن عبد المطّلب

أمّه أمُّ الفضل أيضاً.

ولد على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وقتل هو وأخوه معبد بأفريقيا شهيدين، في خلافة عثمان، سنة خمس وثلاثين مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح.

قال مصعب: وقال إبن الكلبي: قتل عبد الرحمن بالشام.

ص: 260

معبد بن العبّاس بن عبد المطّلب

أمّه أمُّ الفضل أيضاً.

ولد على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولم يحفظ عنه شيئاً.

وقتل بأفريقيا كما تقدم ذكره آنفاً.

ص: 261

كثير بن العبّاس بن عبد المطّلب

أمّه أمّ ولد رومية إسمها سبأ، وقيل: أمّ حميرية، وكان يكنى أبا تمّام.

قال أبو عمرو: ولد قبل وفاة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بأشهر في سنة عشرة من الهجرة، وكان فقيهاً زكياً فاضلاً عابداً سيداً.

روى عن أبيه وأخيه عبد الله، وعنه إبن شهاب وعبد الرحمن الأعرج وجماعة.

ص: 262

تمّام بن العبّاس بن عبد المطّلب

أمّه سبأ أمّ كثير المذكورة آنفاً.

ولد على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وروى عنه: [لا تدخلوا عليَّ قَلحاً، إستاكوا فلولا أنّ أشقَ على أمّتي لأمرتُهم بالسواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ]، أخرجه البغوي في معجمه.

وكان تمّام والياً لعليٍّ علیه السلام على المدينة، وكان قد استخلف قبله سهل بن حنيف حين توجه إلى العراق، ثُمَّ عزله واستجلبه لنفسه، وولّى أبا أيّوب الأنصاري، ثُمَّ شخص أبو أيّوب واستخلف رجلاً من الأنصار، فلم يزل والياً إلى أن قتل عليّ علیه السلام .

قال الزبير بن بكار: وكان تمّام أشدّ النّاس بطشاً، وله عقب.

وقال أبو عمرو: كان تمّام أصغر بني العبّاس وكان العبّاس يحمله ويقول:

تمّوا بتمّام فصاروا عشرة

يا ربّ فاجعلهم كراماً بررة

واجعل لهم ذكراً وأنمِ الشجرة

ولا يخفى أن هذا ينافي ما تقدم في كُثير من أن كثيراً ولد قبل وفاة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بأشهر.

ص: 263

وذكر أن تمّام روى عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فيكون كثير أصغر منه قطعاً، إلّا أن يكون هناك اختلاف بين الرواة والله أعلم.

قال الزبير بن بكار: كان للعباس عشرة بنين، ستة منهم أمّهم أمُّ الفضل، وهم الفضل وعبد الله وعبيد الله وقثم ومعبد وعبد الرحمن وسابعتهم أمّ حبيب شقيقتهم.

وفى أمُّ الفضل يقول عبد الله ابن يزيد الهلإليَّ:

ما ولدت نجيبة من فحل ِ

كستة من بطن أمِّ الفضل ِ

أكرم بها من كهلة وكهل ِ

وعون بن عبّاس، قال أبو عمرو: ولم أقف على إسم أمّه.

وكثير وتمّام لأمِّ ولد، والحرث بن عبّاس أمّه من هذيل .. هؤلاء عشرة أولاد العبّاس رحمهم الله تعالى.

ص: 264

عقيل بن أبي طالب بن عبد المطّلب

يكنّى أبا يزيد، ولم يزل إسمه في الجاهلية والإسلام عقيلاً.

وهو أخو أمير المؤمنين علیه السلام لأمّه وأبيه، وكان أسنَّ من جعفر رحمه الله بعشر سنين، وجعفر أسنّ من أمير المؤمنين علیه السلام بعشر سنين.

وكان أبو طالب يحبّ عقيلاً أكثر من حبّه لسائر بنيه؛ ولذلك قال للنبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم والعبّاس حين أتياه ليقتسما بنيه عام المحل؛ ليخففا عنه ثقلهم: دعوا لي عقيلاً، وخذوا من شئتم؛ فأخذ العبّاس جعفراً، وأخذ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم عليّاً علیه السلام .

وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لعقيل: [يا أبا يزيدَ إنّي أحبُّك حبّينِ، حبّاً لقرابتِك منّي، وحبّاً لما كنتُ أعلمُ منْ حبّ عمّي إيّاك].

وكان عقيل قد أخرج إلى بدر مكرهاً، كما أخرج العبّاس ففداه العبّاس.

روي أن أخاه عليّاً علیه السلام مرَّ به وهو أسير، فلمّا رآه صدَّ عنه، فقال له عقيل: والله لقد رأيتني ولكن عمداً تصدُّ عني، فجاء عليٌّ علیه السلام إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: {يا رسولَ اللهِ هلْ لكَ فيْ أبيْ يزيدَ؟ مشدودةٌ يداهُ إلى عنقِهِ بنسعِهِ}، فانطلق معه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتّى وقف عليه، فلمّا رأى عقيل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: يا رسول الله إن كنتم قتلتم أبا جهل فقد ظفرتم، وإلّا فأدركوا القوم ما داموا بحدثان قرحتهم، فقال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [قدْ قتلهُ اللهُ تعالى].

ص: 265

ولمّا فدى عاد إلى مكّة، ثُمَّ أقبل مسلماً مهاجراً قبل الحديبية، وشهد غزاة مؤتة مع أخيه جعفر علیه السلام .

وقيل: إنّه لم يعد إلى مكّة، بل أقام مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وشهد معه المشاهد كلّها والأوّل أصحّ.

وكان عقيل قد باع دور بني هاشم المسلمين بمكّة، وكانت قريش تعطي من لم يسلم مال من أسلم؛ فباع دور قومه حتّى دار رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فلمّا دخل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مكّة يوم الفتح قيل له: إلّا تنزل دارك يا رسول الله؟ فقال: [وهلْ تركَ لنا عقيلُ منْ دارٍ].

وكان عقيل أنسب قريش وأعلمهم بأيامها، ولكنّه كان مبغضاً إليهم؛ لأنه كان يعدّ مساويهم.

وكان له طنفسة تطرح في مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فيصلّى عليها ويجتمع إليه النّاس في علم النسب وأيّام العرب، وكان حينئذ قد ذهب بصره.

وكان يقال: إن في قريش أربعة يتحاكم إليهم في علم النسب وأيام قريش، ويرجع إلى قولهم، عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل الزهري، وأبو الجهم بن حذيفة العدوي، وحويطب بن عبد العزى العامري.

وكان عقيل أسرع النّاس جواباً، وأشدّهم عارضة، وأحضرهم مراجعة في القول وأبلغهم في ذلك.

ص: 266

قال الشيخ عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني في شرح نهج البلاغة: خرج عقيل إلى العراق ثُمَّ إلى الشام ثُمَّ عاد إلى المدينة، ولم يشهد مع أخيه أمير المؤمنين علیه السلام شيئا من حروبه أيّام خلافته، وعرض نفسه وولده عليه فأعفاه، ولم يكلفه حضور الحرب.

قال: واختلف النّاس فيه، هل التحق بمعاوية وأمير المؤمنين علیه السلام حيٌّ؟ فقال قوم: نعم، ورووا أن معاوية قال يوماً - وعقيل عنده -: هذا أبو يزيد، لو لا علمه أنّي خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه، فقال عقيل: أخي خير لي في ديني، وأنت خير لي في دنياي، وقد آثرت دنياي، وأسأل الله خاتمة خير.

وقال قوم: إنه لم يفد إلى معاوية إلّا بعد وفاة أمير المؤمنين علیه السلام .

قال إبن أبي الحديد: وهذا القول هو إلّاظهر عندي، واستدلّوا على ذلك بالكتاب الذي كتبه عقيل إلى أمير المؤمنين علیه السلام في آخر خلافته، والجواب الذي أجابه.

قال المؤلف عفا الله عنه: إن الكتاب المشار إليه من أدلّ دليل على هذا القول، فإن عقيلاً لمّا كتب إلى أخيه علیه السلام عقيب غارة الضحاك بن قيس الفهري على أطراف أعماله، وكان معاوية قد بعثه في وقعة النهروان، وذلك في آخر خلافته علیه السلام، وقد رأيت أن أذكر الكتاب المذكور وجوابه؛ ليطلع عليه من أحب النظر إليه.

قال إبراهيم بن محمّد بن سعد بن هلال الثقفي في كتاب (الغارات): (كتاب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه) حين بلغه خذلان أهل الكوفة له وتقاعدهم عنه:

ص: 267

لعبد الله عليٍّ أمير المؤمنين علیه السلام من عقيل بن أبي طالب: سلام عليك فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو، أما بعد: فإن الله حارسك من كل سوء، وعاصمك من كل مكروه، وعلى كل حال، إنّي قد خرجت إلى مكّة معتمراً، فلقيت عبيد الله بن سعد بن أبي سرح مقبلاً من قديد، في نحو من أربعين شابّاً من أبناء الطلقاء، فعرفت المنكر في وجوههم، فقلت: إلى أين يا أبناء الشانئين؟ أبمعاوية تلحقون؟ عداوة والله منكم قديماً غير منكرة، تريدون بها إطفاء نور الله وتبديل أمره، فأسمعني القوم وأسمعتهم.

فلمّا قدمت مكّة سمعت أهلها يتحدثون أن الضحّاك بن قيس أغار على الحيرة، فاحتمل من أموالها ما شاء، ثُمَّ انكفأ راجعاً سالماً، فأفٍ لحياة في دهر جرأ عليك الضحّاك، وما الضحّاك إلّا فقع بقرقر، وقد توهّمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك وأنصارك خذلوك، فاكتب إليَّ يا ابن أمّي برأيك، فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أخيك وولد أبيك، فعشنا معك ما عشت، ومتنا معك إذا متّ، فوالله ما أحبّ أن أبقى في الدنيا بعدك فواقاً، وأقسم بالأعز الأجل أن عيشاً نعيشه بعدك في الحياة لغير هني، ولامري ولا نجيع، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

فكتب إليه أمير المؤمنين:

{منْ عبدِ اللهِ عليٍّ أمير المؤمنينَ إلى عقيلَ بنِ أبي طالب: سلامٌ عليكَ، فإنّي أحمدُ إليكَ الذي لا إلهَ إلّا هوَ، أمّا بعدُ، كلأنا الله وإيّاك كلاءةَ منْ يخشاهُ بالغيبِ، إنّه حميدٌ مجيدٌ، فقدْ وصلَ إليَّ كتابُك معَ عبدِ الرحمنِ بنِ عبيدِ الأزدي، تذكرُ فيهِ أنّك لقيتَ

ص: 268

عبدَ اللهِ بنِ سعدَ بنِ أبي سرحَ مقبلاً منْ قديدَ في نحوٍ منْ أربعينَ فارساً منْ أبناءِ الطلقاءِ، متوجهينَ إلى جهةِ الغربِ، وأنَّ ابنَ أبي سرحَ طالما كادَ اللهَ ورسولهُ وكتابَه، وصدَّ عنْ سبيلِهِ وبناها عِوجاً، فدعْ عنكَ ابنَ أبي سرحَ، ودعْ عنكَ قُريشاً وخَلِّهم وتركاضَهم فيْ الضلالِ، وتجوالَهم فيْ الشقاقِ، ألا وإنَّ العربَ قدْ أجمعتْ على حربِ أخيكَ اليومَ إجماعها على حربِ النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم منْ قبلِ اليومِ، فأصبحوا قدْ جهلوا حقَّهُ وجحدوا فضلهُ، وبادروه بالعداوةِ ونصبوا لهُ الحربَ، وجهدوا عليهِ كلَّ الجهدِ، وجرّوا إليهِ جيشَ الأحزاب..اللهمَّ فاجزِ قريشاً عنّي الجَوازيَ، فقدْ قطعتْ رَحِميْ، وتظاهرتْ عليَّ، ودفعتنيْ عن حقّي، وسلبتني سلطانَ ابنِ أمّي، وسلّمت ذلكَ إلى منْ ليسَ مثلي في قرابتي منْ رسولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم، وسابقتي في الإسلام، إلّا أنْ يدّعي مدّعٍ ما لا أعرفُ، ولا أظنُّ اللهَ يعرفُهُ، والحمدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

وأمّا ما ذكرتَ منْ غارةِ الضحّاكِ على أهلِ الحيرةِ فهوَ أقلُّ وأذلُّ منْ أنْ يلمَّ بها أو يدنوَ منها، ولكنّهُ قدْ كانَ أقبلَ في جريدةِ خيلٍ، فأخذَ على السماوةِ حتّى مرَّ بواقصةَ وشرافَ والقطقطانةِ فما والى ذلكَ الصقعَ؛ فوجّهتُ إليهِ جنداً كثيفاً من المسلمينَ، فلمّا بلغهُ ذلكَ فرَّ هارباً، فاتّبعوه فلحقوهُ ببعضِ الطريقِ وقدْ أمعنَ، وكانَ ذلكَ حينَ طفلتْ الشمسُ للإيابِ، فتناوشوا القتالَ قليلاً، كلّا ولا فلمْ يصبرْ لوقعِ المشرفيةِ، وولّى هارباً، وقُتلَ منْ أصحابِه بضعةُ عشرَ رجلاً، ونجا جريضاً بعدَ ما أخذَ منهُ بالمخنقِ، لمْ يبقَ منهُ غيرُ الرمقِ، فلأيا بلأي ما نجا.

ص: 269

وأمّا ما سألتني أنْ أكتبَ إليكَ برأيي فيما أنا فيه، فإنّ رأييَ جهادُ المُحلّين حتّى ألقى اللهَ، لا يزيدُني كثرةُ النّاسِ معيَ عزّةً، ولا تفرّفُهم عنّي وحشةً؛ لأنّي محقٌّ، واللهُ معَ المحقِّ، وواللهِ ما أكرهُ الموتَ على الحقِّ، وما الخيرُ كلُّه إلّا بعدَ الموتِ لمنْ كانَ محقّاً.

وأمّا ما عرضتَ بهِ منْ مسيرِك إليَّ ببنيكَ وبني أبيكَ فلا حاجةَ لي في ذلك، فأقمْ راشدّاً محموداً، فواللهِ ما أحبُّ أنْ تهلكوا معيَ إنْ هلكتُ.

ولا تحسبنَّ أنَّ ابنَ أبيكَ لوْ أسلمهُ النّاسُ مُتخشّعاً ولا متضرّعاً .. إنّه لكما قالَ أخو بني سليم:

فإن تسإليَّني كيف أنت فإنني *** صبور على ريب الزمان صليب ُ

يعزّ عليّ أن تُرى بي كآبة *** فيشمت عادٍ أو يُساء حبيب ُ}.

وقد أورد الشريف الرضي رحمه الله بعض هذا الكتاب الذي كتبه أمير المؤمنين علیه السلام جواباً لأخيه في نهج البلاغة، إلّا أن بين ما أورده وبين ما نقلناه اختلافاً يسيراً في العبارة.

قال المؤلف: القائلون بأن عقيلاً فارق أخاه في حياته زعموا أنّه شهد صِفّين مع معاوية، غير أنّه لم يقاتل، ولم يترك نصح أخيه والتعصب له.

ص: 270

فرووا أن معاوية قال يوم صِفّين: لا نبالي وأبو يزيد معنا، فقال عقيل: وقد كنت معكم يوم بدر فلم أغن عنكم من الله شيئاً.

واختلفوا في سبب فراقه له علیه السلام، فروي أن عليّاً علیه السلام كان يعطيه في كل يوم من الشعير ما يقوته وعياله، فطلب منه أولاده مريساً، فجعل يأخذ كل يوم من الشعير الذي يعطيه أخوه قليلا ويعزله، حتّى اجتمع مقدار ما، جعل بعضه في التمر وبعضه في السمن، وخبز بعضه وصنع لعياله مريساً، فلم تطب نفوسهم بأكله دون أن يحضر أمير المؤمنين علیه السلام ويأكل منه، فذهب إليه والتمس منه أن يأتي منزله فأتاه، فلمّا قدم المريس بين يديه سأله عنه فحكى له كيف صنع، فقال علیه السلام: {وهل كان يكفيكم ذاك بعد الذي عزلتم منه؟} قال: نعم، فلمّا كان اليوم الثاني جاء ليأخذ الشعير فنقص منه أمير المؤمنين علیه السلام مقدار ما كان يعزل كل يوم، وقال: {إذا كان في هذا ما يكفيك فلا يحلُّ لي أن أعطيك أزيد منه}، فغضب من ذلك، فحمى له أمير المؤمنين علیه السلام حديدة، ثُمَّ قرّبها من خدّه وهو غافل، فجزع من ذلك وتأوّه، فقال أمير المؤمنين علیه السلام: {مالكَ تجزعُ منْ هذهِ الحديدةِ المحمّاة، وتعرضني لنارِ جهنّم ؟!}، فقال عقيل: والله لأذهبن إلى من يعطيني تبراً ويطعمني براً، ثُمَّ فارقه وتوجه إلى معاوية.

وروي أنّه وفد على أمير المؤمنين علیه السلام بالكوفة يسترفده، فعرض عليه عطاءه فقال: إنّما أريد من بيت المال، فقال: تقيم إلى يوم الجمعة، فلمّا صلّى قال له: {ما تقولُ فيمنْ خانَ هؤلاءِ أجمعينَ؟}، قال: بئس الرجل، قال: {فإنّك أمرتني أنْ أخونهم وأعطيَك}، فلمّا خرج من عنده شخص إلى معاوية، فأمر له يوم قدومه بمائة ألف

ص: 271

درهم، وقال له: يا أبا يزيد أنا خير لك أم عليّ؟ قال: وجدت عليّاً أنظر لنفسه منه لي، ووجدتك أنظر لي منك لنفسك.

وروي أنّه قدم على أمير المؤمنين علیه السلام فوجده جالسا في صحن المسجد بالكوفة، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وكان عقيل قد كفَّ بصره، فقال: {عليك السلام يا أبا يزيد}، ثُمَّ التفت أمير المؤمنين علیه السلام إلى إبنه الحسن علیه السلام، فقال له: {قمْ وأنزلْ عمّكَ}، فقام فأنزله، ثُمَّ عاد إليه فقال: {إذهبْ فاشترِ لعمّك قميصاً جديداً ورداءً جديداً وأزاراً جديداً}، فذهب فاشترى له ذلك، فغدا عقيل على أمير المؤمنين في الثياب فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: {وعليك السلام يا أبا يزيد}، قال: يا أمير المؤمنين ما أراك أصبت من الدنيا شيئاً، وإنّي لا ترضى نفسي من خلافتك بما رضيت به لنفسك، فقال: {يا أبا يزيدَ يخرجُ عطائي فأدفعهُ إليك}.

فلمّا ارتحل عن أمير المؤمنين علیه السلام أتى معاوية فنصب له كراسيه وأجلس جلساه حوله، فلمّا ورد عليه أمر له بمائة ألف درهم فقبضها.

وروي أنّه طلب من أمير المؤمنين علیه السلام صاع بُرٍّ فلم يعطه، وحمى له حديدة وكواه بها، وقد ذكر ذلك أمير المؤمنين علیه السلام في كلام له فقال: {وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَقَدْ أَمْلَقَ، حتّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ إلّالْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً، فَأَصْغَيْتُ إليه سَمْعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ

ص: 272

حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ؛ لِيَعْتَبِرَ بِهَا، فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ ؟ أَ تَئِنُّ مِنَ إلّاذَى وَلَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى؟}.

وحكي أن معاوية سأل عقيلاً عن قصة الحديدة المحماة المذكورة فبكى وقال: أنا أحدّثك يا معاوية عمّا سألت، نزل بالحسين علیه السلام ابنه ضيف، فاستسلف درهماً اشترى به خبزاً، واحتاج إلى إلّادام؛ فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح له زقّاً من زقاق عسل جاءهم من اليمن، فأخذ منه رطلاً، فلمّا طلبها عليّ علیه السلام ليقسمها قال: {يا قنبرُ أظنُّ أنّه حدثَ في هذا الزقِّ حدثٌ}، قال: نعم يا أمير المؤمنين، وأخبره فغضب وقال: {عليَّ بالحسينِ}، فرفع عليه الدرة، فقال الحسين علیه السلام: (بحقِّ عمّي جعفر)، وكان إذا سئل بحق جعفر سكن، فقال له: {ما حملكَ على أنْ أخذتَ منهُ قبلَ القسمةِ؟}، قال علیه السلام: (إن لنا فيه حقّاً، فإذا أعطيناه رددناه)، قال: {فداكَ أبوكَ، وإنْ كانَ لكَ فيهِ حقٌّ فليسَ لكَ أنْ تنتفعَ بحقِّكَ قبلَ أنْ ينتفعَ المسلمونَ بحقوقهم، أما لو لا أنّي رأيتُ رسولَ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم يقبّلُ ثنيّتيكَ لأوجعتُك ضرباً}، ثُمَّ دفع إلى قنبر درهماً كان مصروراً في ردائه، وقال: {اشترِ بهِ خيرَ عسلٍ تقدرُ عليهِ}.

قال عقيل: والله لكأنّي إلى يدي عليّ وهما على فم الزقّ، وقنبر يقلب العسل فيه، ثُمَّ شدّه وجعل يبكي ويقول: {اللهمَّ اغفرْ للحسينِ فإنّه لمْ يعلمْ}، فقال معاوية: ذكرت من لم ينكر فضله، رحم الله أبا حسن فلقد سبق من كان قبله، وأعجز من يأتي بعده، هلمَّ حديث الحديدة.

ص: 273

قال: نعم أقويت وأصابتني مخمصة شديدة؛ فسألته فلم تند صفاته، فجمعت صبياني وجئت بهم، والبؤس والضرّ ظاهران عليهم، فقال علیه السلام: {إئتني عشيّةً لأدفعَ إليكَ شيئاً}؛ فجئته يقودني أحد ولدي، فأمره بالتنحي، ثُمَّ قال: {إلّا فدونك}، فأهويت حريصاً قد غلبني الجشع، أظنّها صرّة، فوضعت يدي على حديدة تلتهب ناراً، فلمّا قبضتها نبذتها، وخرت كما يخور الثور تحت يدي جازره، فقال لي: {ثكلتكَ أمّكَ هذا منْ حديدةٍ أوقدتُ لها نارَ الدنيا، فكيفَ بكَ وفي غدٍ إنْ سلكنا فيْ سلاسلَ جهنّمَ، ثُمَّ قرأ علیه السلام: ﴿إِذِ إلّاغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ﴾ (1).

ثُمَّ قال علیه السلام: ليس لك عندي فوق حقّك الذي فرضه الله لك إلّا ما ترى، فانصرف إلى أهلك، فجعل معاوية يتعجب ويقول: هيهات هيهات عقمت النساء أن تلدن مثله.

وروي أن عقيلاً رضی الله عنه غدا يوماً عند معاوية، وذلك بعد وفاة أمير المؤمنين علیه السلام وصلح الحسن علیه السلام لمعاوية، وجلساء معاوية حوله، فقال: يا أبا يزيد اخبرني عن عسكري وعسكر أخيك فقد وردت عليهما، قال: أخبرك، مررت والله بعسكر أخي فإذا ليله كليل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ونهاره كنهار رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، إلّا أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ليس في القوم، ما رأيت إلّا مصلّياً، ولا سمعت إلّا قارئاً.

ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين، ممّن نفر برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ليلة العقبة ناقته.

ص: 274


1- سورة غافر – الآية: 71

ثُمَّ قال: من هذا عن يمينك يا معاوية؟ قال: هذا عمرو بن العاص، قال: هذا الذي اختصم فيه ستة نفر، فغلب عليه جزار قريش، فمن الآخر؟ قال: الضحّاك بن قيس الفهري، قال: أما والله لقد كان أبوه جيد الأخذ لعسب التيوس، فمن هذا الآخر؟ قال: أبو موسى إلّاشعري، قال: هذا ابن السرّاقة.

فلمّا رأى معاوية أنه قد أغضب جلساءه علم أنه إن استخبره عن نفسه قال فيه سوءً، فأحبّ أن يسأله ليقول فيه ما يعلمه من السوء، فيذهب بذلك غضب جلسائه، قال يا أبا يزيد ما تقول فيَّ؟ قال: دعني من هذا، قال: لتقولنّ، قال: أتعرف حمامة؟ قال: ومن حمامة يا أبا يزيد؟ قال: قد أخبرتك، ثُمَّ قام فمضى.

فأرسل معاوية إلى النسّابة فدعاه، وسأله عن حمامة، قال: ولي الأمان قال: نعم، قال: حمامة جدّتك أمّ أبي سفيان، كانت بغيّاً في الجاهلية صاحبة راية، فقال معاوية لجلسائه: قد ساويتكم وزدت عليكم فلا تغضبوا.

وروى إبن عبد ربه في كتاب (العقد) أن معاوية قال لعقيل: إن عليّاً قد قطعك ووصلتك، ولا يرضيني منك إلّا أن تلعنه على المنبر، قال: أفعل، قال: فاصعد، فصعد ثُمَّ قال بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: أيّها النّاس إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليَّ بن أبي طالب فالعنوه، فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس اجمعين ثُمَّ نزل، فقال له معاوية: إنّك لم تبين يا أبا يزيد من لعنت بيني وبينه، قال: والله ما أزدت حرفاً ولا نقصت آخر، والكلام إلى نيّة المتكلم.

ص: 275

وروي أيضاً أنّه لمّا قدم عقيل إلى معاوية أكرمه وقرّبه وقضى عنه دينه، ثُمَّ قال له في بعض الأيّام: والله إن عليّاً لم يكن حافظاً لك إذ قطع قرابتك، وما وصلك وما اصطنعك.

فقال له عقيل: والله لقد أجزل العطية وأعظمها، ووصل القرابة وحفظها، وحسن ظنّه بالله إذ ساء به منك، وحفظ أمانته وأصلح رعيته إذ خنتم وأفسدتم وجرتم، فاكفف لا أباً لك، فإنّه عمّا تقول بمعزل.

قال: ودخل عقيل على معاوية وقد كفّ بصره، فأجلسه معاوية على سريره وقال له: أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم، قال: وأنتم معشر بني أميّة تصابون في بصائركم.

وقال له معاوية يوماً: والله إن فيكم خصلة ما تعجبني يا بني هاشم، قال: وما هي؟ قال: لين، قال: لين؟ ماذا قال هو ذاك؟ قال: إيّانا تعيّر يا معاوية، أجل والله إن فينا لليناً من غير ضعف، وعزّاً من غير جبروت، وأمّا أنتم يا بني أميّة فإن لينكم غدر، وعزّكم كفر، فقال معاوية: ما كلّ هذا أردنا يا أبا يزيد فأنشد عقيل يقول:

لذي اللب قبل اليوم ما تقرع العصا *** وما علم الآنسان إلّا ليعلما

وقال له: إنّ فيكم لشبقاً يا بني هاشم، قال: أجل هو منّا في الرجال وفيكم في النساء، يا بني أميّة ولذلك لا يقوم بالأمويّة إلّا هاشمي.

ص: 276

وقال معاوية يوماً، وعنده عمرو بن العاص وقد أقبل عقيل: لأضحكنك من عقيل، فلمّا سلّم قال معاوية: مرحباً برجل عمّه أبو لهب، فقال عقيل: وأهلاً برجل عمّته حمّالة الحطب، في جيدها حبل من مسد؛ لأنّ امرأة أبي لهب أمّ جميل بنت حرب بن أميّة.

قال معاوية: يا أبا يزيد ما ظنّك بعمّك أبي لهب؟ قال: إذا دخلت النار فاعدل ذات اليسار، تجد عمّي أبا لهب مفترشاً عمّتك حمّالة الحطب، فانظر أناكح في النار خير أم منكوح، قال: كلاهما شرّ والله.

وقال الوليد بن عقبة لعقيل في مجلس معاوية: غلبك أخوك يا أبا يزيد على الثروة، قال: نعم واستبقني وإيّاك إلى الجنّة، قال: أما والله إن شدقيك لمضمومان من دم عثمان، فقال وما أنت وقريش؟! والله ما أنت فينا إلّا كنطح التيس؛ فغضب الوليد وقال: والله لو أن أهل الأرض اشتركوا في قتله لأرهقوا صعوداً، وإن أخاك لأشدّ هذه الأمّة عذاباً، فقال: صه والله إنّا لنرغب بعبد من عبيده عن صحبة أبيك عقبة بن أبي معيط.

وقرأت في كتاب لم يذكر مؤلفه إسمه أن عقيلاً رضی الله عنه قدم على عليٍّ علیه السلام فقال له: {ما جاء بك أيّها الشيخ؟} فقال: مشورة الشقيق وإلحاح الصديق وتطلع النفس إلى كل ممنوع، فقال له: {ألم يك عطاؤك دارّاً ورزقك جارياً، وأنت في دعة مقيم مع أهلك}، قال: بلى ولكن أحببت أن أنال من دنياك وما حوت كفاك، فقال: {وأبيك إن ذلك لديك لمنزور، وقد أخذت عطائي خمسة آلاف درهم فدونكها فاقبضها}.

ص: 277

ثُمَّ خرج فأتى معاوية فلمّا دخل عليه أمر له بمائة ألف درهم، وأجلسه معه على سريره، وأذن للناس، فلمّا غصَّ المجلس بأهله قال معاوية: يا أهل الشام هذا عقيل بن أبي طالب أتى اخاه عليّاً، وهو تجيء إليه أموال العراق، فأمر له بخمسة آلاف درهم، وأتاني فأمرت له بمائة ألف درهم.

فقال لهم عقيل: يا أهل الشام عنّي فاسمعوا، لا عن معاوية، إنّي أتيت أخي عليّاً علیه السلام فوجدته رجلاً قد جعل دنياه دون دينه، وخشي الله على نفسه، ولم تأخذه في الله لومة لائم، فوصلني بما اتسعت له كفاه واحتمله ماله، فحسبكم أنّه خرج إليَّ من جميع ماله.

وإنّي أتيت معاوية فوجدته رجلاً قد جعل دينه دون دنياه، وركب الضلالة واتبع هواه؛ فأعطاني ما لم يعرق فيه جبينه ولم تكدح فيه يمينه، رزقاً أجراه الله على يديه، وهو المحاسب عليه دوني، لا محمود ولا مشكور فيه.

ثُمَّ التفت إلى معاوية فقال: أما والله يا ابن هند ما تزال منك سوالف يمرّها منك قول وفعل، فكأنّي بك قد أحاط بك ما الذي تحاذر، فأطرق معاوية ساعة ثُمَّ قال: من يعذرني من بني هاشم ثُمَّ أنشد يقول:

ازيدهم الإكرام كي يشعبوا العصا *** فيأبوا لدى الإكرام أن يتكرموا

إذا عطفتني رقّتان عليهم *** نأوا حسداً عني فكانوا همُ همُ

وأعطيهم صفو الأخا فكأنني *** معاً وعطاياي المباحة علقم

ص: 278

وأغضي عن الذنب الذي لا يقيله *** من القوم إلّا الهزبري المصمم

حياً واصطباراً وانعطافاً ورقةً *** وأكظم غيظ القلب إذ ليس يكظم

أما والله يا ابن أبي طالب لولا أن يقال: عجّل معاوية لخرق ونكل عن جواب؛ لتركت هامتك أخفّ على أيدي الرجال من حولي الحنظل، فأجابه عقيل:

عذيرك منهم من يلوم عليهمُ *** ومن هو منهم في المقالة أظلمُ

لعمرك ما أعطيهم منك رأفة *** ولكن لأسباب وحولك علقمُ

أبى لهم أن ينزل الذل دارهم *** بنو حرّة زهر وعقل ومسلم

وأنهم لم يقبلوا الضيم عنوة *** إذا ما طغى الجبار كانوا همُ همُ

فدونك ما أسديت فاشدد به يداً *** وخيركم المبسوط والشرّ فالزموا

ثُمَّ رمى المائة ألف درهم ونفض ثوبه وقام ومضى فلم يلتفت إليه.

قال المؤلف: ثُمَّ إن معاوية استعطفه بعد ذلك، ولم يبد له إلّا المحبة، وكان يحتمل له ما يجبهه به، يدل على ذلك ما رواه الزمخشري في (ربيع الأبرار) أن معاوية كتب إلى عقيل يعتذر إليه من شيء جرى بينهما: من معاوية بن أبي سفيان إلى عقيل بن أبي طالب، أما بعد يا بني عبد المطّلب فأنتم والله فروع قصي ولباب عبد مناف وصفوة هاشم، فأين أحلامكم الراسية وعقولكم الكاسية، وحفظكم الأواصر

ص: 279

وحبكم العشائر؟! ولكم الصفح الجميل والعفو الجزيل، مقرونان بشرف النبوة وعزِّ الرسالة، وقد والله ساءني ما كان جرى، ولن أعود لمثله إلى أن أغيب في الثرى.

فكتب إليه عقيل رضی الله عنه:

صدقت وقلت حقاً غير أنّي *** أرى أن لا أراك ولا تراني

ولست أقول سوء في صديقي *** ولكنّي أصدّ إذا جفاني

فركب إليه معاوية وناشده في الصفح، وأجازه مائة ألف درهم حتّى رجع.

وروى إبن عبد ربه أن معاوية قال لعقيل بن أبي طالب: لم جفوتنا يا أبا يزيد؟ فأنشأ يقول:

وإنّي أمرؤ مني التكرم شيمة *** إذا صاحبي يوماً على الهون أضمرا

ثُمَّ قال: أيم الله يا معاوية لئن كانت الدنيا أفرشتك مهادها، وأظلتك بسرادقها، ومدت عليك أطناب سلطانها، ما ذاك بالذي يزيدك مني رغبة ولا تخشعاً لرهبة.

فقال معاوية: لقد نعتها أبا يزيد نعتاً هشَّ له قلبي، وأيمَ الله يا أبا يزيد لقد أصبحت علينا كريماً وإلينا حبيباً، وما أصبحت أضمر لك إساءة.

ويروى أن زوجة عقيل وهي فاطمة ابنة عتبة بن ربيعة قالت له: يا بني هاشم لا يحبّكم قلبي أبداً، أين أبي أين عمّي أين أخي؟ كأن أعناقهم أباريق فضة، ترد آنافهم الماء قبل شفاههم، قال: إذا دخلت جهنّم فخذي على شمالك، فشدت عليها ثيابها

ص: 280

وأتت عثمان فشكت عليه؛ فبعث عبد الله بن عبّاس ومعاوية حكمين، فقال ابن عبّاس: لأفرق بينهما، وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين سنخين من قريش، فلمّا أتياهما وجداهما قد أغلقا بابهما واصطلحا.

توفي عقيل رحمه الله في خلافة معاوية، قال ابن الضحاك: ولم يوقف على السنة التي مات فيها.

وقال ابن أبي الحديد: توفي في خلافة معاوية في سنة خمسين، وعمره ست وتسعون سنة، وكان له من البنين ثمانية عشر ذكراً، قتل بالطف منهم مع الحسين علیه السلام خمسة، وانقرض الجميع ولم يعقب منهم إلّا محمّد بن عقيل، ولا عقب له من غيره.

ص: 281

أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب

هو ابن عمّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما حليمة السعدية أيّاماً، قيل: إسمه المغيرة، والصحيح أن المغيرة أخوه من أمّه غزية بنت قريش بن طريف، من ولد فهر بن مالك.

وكان ترب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قبل النبوة يألفه إلفاً شديداً، فلمّا بُعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عاداه وهجاه وهجا أصحابه وكان شاعراً.

فلمّا كان عام فتح مكّة ألقى الله في قلبه الإسلام، فخرج متنكراً فتصدى لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأعرض عنه، فتحول إلى الجانب الآخر فأعرض عنه، فقال: أنا مقتول قبل أن أصل إليك، فأسلمت وذلك بطريق الأبواء، كذا في الصفوة.

وفى ذخائر العقبى أسلم أبو سفيان وحسن إسلامه، ويقال: أنّه ما رفع رأسه إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم حياءً منه.

وأسلم ولده جعفر، لقيا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالأبواء وأسلما قبل دخوله صلی الله علیه و آله و سلم مكّة.

وقيل: بل لقياه هو وعبد الله بن أميّة بين السقيا والعرج فأعرض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عنهما، فقالت له أم سلمة رضی الله عنه: لا يكن إبن عمك وأخوك وإبن عمّتك أشقى النّاس بك.

ص: 282

وقال له عليٌّ بن أبي طالب علیه السلام: {إئت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من قبل وجهه، فقل له ما قال اخوة يوسف ليوسف علیه السلام ﴿لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ (1)،فإنّه لا يرضى أنْ يكونَ أحدٌ أحسنَ قولاً منهُ}؛ ففعل ذلك أبو سفيان، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ﴿ اليوم يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (2) .

قال أبو سفيان: وخرجت معه فشهدت فتح مكّة وحُنَيناً، فلمّا لقينا العدو بحُنَين اقتحمت عن فرسي وبيدي السيف مصلتاً، والله يعلم أنّي أريد الموت دونه، وهو ينظر إليَّ، فقال العبّاس: يا رسول الله أخوك وإبن عمك أبو سفيان فارض عنه، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [فعلتُ، فغفرَ اللهُ كلَّ عداوةٍ عادانِيها] ثُمَّ التفت إليَّ فقال: [أخيْ لعُمري]، فقبّلت رجله في الركاب.

وكان أبو سفيان ممّن ثبت مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم حُنَين، لم يفرَّ، ولم تفارق يده لجام بغلة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وعزّزه على اختلاف في النقل.

ويقال: أن الذين كانوا يشبهون رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الحسنُ بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام، وجعفر بن أبي طالب علیهم السلام، وقثم بن العبّاس، وأبو سفيان بن الحرث هذا، والسائب بن عبيد الله بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطّلب بن عبد مناف.

وجمعهم إبن سيد النّاس فقال:

ص: 283


1- سورة يوسف – الآية: 91
2- السورة نفسها – الآية: 92

لخمسة شبه المختار من مضر ٍ *** يا حسن ما خولوا من شبهة الحسنِ

لجعفر وابن عمّ المصطفى قثمٍ *** وسائب وأبي سفيان والحسنِ

وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يحب أبا سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب وشهد له بالجنّة. عن عروة عن أبيه أن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قال: [أبو سفيانَ بن الحرثِ منْ شبابِ أهلِ الجنّةِ].

وعن أبي حبّة البدري أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [أبو سفيانَ منْ خيرِ أهليْ]، قاله يوم حُنَين، وكان يصلّي في كلّ ليلة ألف ركعة.

وعن إبن إسحق أن ابا سفيان بن الحرث لمّا حضرته الوفاة قال لأهله: لا تبكوا عليَّ، فإنّي لم أقترف خطيئة منذ أسلمت.

وكان سبب موته أنّه كان في رأسه ثؤلولة، فحلقه الحلاق فقطعها، فلم يزل مريضاً حتّى مات.

قال أهل السير: مات أبو سفيان بن الحرث بالمدينة بعد أن استخلف عمر بستة أشهر، ويقال: بل مات سنة عشرين، وقيل: توفي سنة خمسة عشر، ودفن بالبقيع، قاله إبن قتيبة.

وقال أبو عمرو: دفن في دار عقيل، وكان هو الذي حفر قبر نفسه قبل أن يموت بثلاثة أيام.

وكان له من الأولاد ثلاثة ذكور وبنت.

ص: 284

نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب

يكنى أبا الحرث، وكان أسنَّ من إخوته، ومن جميع من أسلم من بني هاشم، حتّى من حمزة والعبّاس رضي الله عنهما.

خرج إلى بدر فأُسر، ففداه العبّاس بأمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كما مرَّ في ترجمة العبّاس.

وقيل: بل فدى نفسه، وقيل: أسلم وهاجر أيام الخندق، وقيل: أسلم يوم فدى نفسه.

عن نوفل بن الحرث بن عبد المطّلب، قال: لما أُسر نوفل بن الحرث ببدر، قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [إفدِ نفسَكَ] قال: ما لي شيء أفتدى به، قال: [إفدِ نفسَك برماحكَ التي بجدّة] قال: والله ما علم أحد أن لي رماحاً بجدّة غيري بعد الله، أشهد انك رسول الله، وفدى نفسه بها، فكانت ألف رمح.

وشهد نوفل مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فتح مكّة وحُنَين والطائف، وكان ممن ثبت مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم حُنَين بثلاثة آلاف رمح، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [كأنّي أرى رماحَك تقصفُ أصلابَ المشركينَ].

وآخى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بينه وبين العبّاس بن عبد المطّلب، وكانا مشتركين في الجاهلية متفاوضين في المال متحابّين.

ص: 285

توفي بالمدينة سنة خمس عشرة، وقيل: أربع عشرة في خلافة عمر، وصلّى عليه عمر بعد أن شيعه إلى البقيع ماشياً، ووقف على قبره حتّى دفن، وكان له من الولد سبعة ذكور.

ص: 286

عبد الله بن الزبير بن عبد المطّلب

أمّه عاتكة بنت أبي وهب بن عمرو بن عائذ المخزومية.

أدرك الإسلام وثبت مع النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فيمن ثبت يومئذ، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول له: [إبنُ عمّي وحبّي]، ومنهم من يقول: كان يقول له: [إبن أمّي].

وروي لمّا قدم من مكّة على النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ألبسه حلّة وأجلسه إلى جانبه، وقال: [هوَ إبنُ أمّي، وكانَ أبوهُ يُحبّني ويبرّني ويُحسنُ إليَّ]، وكان أبوه الزبير من أشراف قريش.

وقتل عبد الله بن الزبير يوم أجنادين في خلافة أبي بكر شهيداً، ووجد حوله عصبة من الروم، قد قتلهم، ثُمَّ اثخنته الجراح فمات بها.

وذكر الواقدي أن أوّل قتيل من الروم يومئذ بطريق معلم برز ودعا إلى الميدان، فبرز إليه عبد الله بن الزبير بن عبد المطّلب، فاختلفا ضربات، ثُمَّ قتله عبد الله، ولم يتعرض لسلبه، ثُمَّ برز آخر يدعو إلى البراز فبرز إليه فاقتتلا بالرمحين ساعة، ثُمَّ صارا إلى السيفين، فضربه عبد الله على عاتقه وهو يقول: خذها وأنا ابن عبد المطّلب؛ فأثبته وقطع سيفه الدرع فاسرع في منكبه، ثُمَّ ولّى الرومي منهزماً، فعزم عليه عمرو بن العاص أن لا يتبارز، فقال عبد الله: إنّي والله ما أجد أنّي أصبر، فلمّا

ص: 287

اختلفت السيوف وأخذ بعضها بعضاً وجد في ربضة من الروم عشرة حوله قتلى وهو مقتول بينهم، وكانت سنّه نحواً من ثلاثين سنة.

وقيل: إن سنّه لما توفي النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم كانت ثلاثين سنة ولم يعقب، والله أعلم.

ص: 288

عبد الله بن جعفر بن أبي طالب

يكنّى أبا جعفر، أمّه أسماء بنت عميس الخثعمية، وهو أوّل مولود ولد للمسلمين المهاجرين بالحبشة، وقدم مع أبيه على النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بخيبر سنة سبع، وقد تقدم ذلك في ترجمة جعفر رحمه الله.

وروي عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد عن أبيه علیهما السلام قال: بايع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الحسن والحسين علیهما السلام وعبد الله بن جعفر وهم صغار، ولم يبايع صغيراً قط إلّا هم.

وروي عن عبد الله بن جعفر أنه قال: أنا أذكر حين وافى الخبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بموت أبي، فدخل علينا البيت ونعاه إلينا، ومسح يده على رأسي ورأس اخي، وقبّل ما بين عيني، وقد فاضت عيناه بالدمع حتّى قطرت لحيته، وهو يقول: [اللهمَّ إنَّ جعفراً قدّمَ إليَّ أحسنَ الثوابِ، فأخلفهُ في ذريّتهِ بأحسنَ ما خلّفتَ أحداً منْ عبادِك في ذريّتِهِ].

ثُمَّ عاد إلينا بعد ثلاثة أيام، فأحسن عزاءنا جميعاً، وغيّر ثيابنا، ودعا لنا، وقال لأمّي أسماء: [لا تحزنيْ فإنّي وليُّهم فيْ الدنيا والآخرةِ]، وقد تقدّم نحو ذلك في ترجمة جعفر رضوان الله عليه بأبسط من هذا.

وروى أبو الفرج الأصبهاني بإسناده عن عثمان بن أبي سليمان وابن قمارين قالا: مرّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بعبد الله بن جعفر، وهو يصنع شيئاً من طين من لعب الصبيان، فقال: ما تصنع بهذا؟ فقال: أبيعه، قال: ما تصنع بثمنه؟ قال: أشتري به رطباً فآكله، فقال

ص: 289

النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [اللهمَّ باركْ لهُ فيْ صفقةِ يمينِهِ]؛ فكان يقال: ما اشترى شيئاً قطّ إلّا رمح به.

وكان عبد الله أحد أجواد الإسلام المشهورين، وكان يلقّب بالجواد وبحر الجود، وكان يقال له: إبن ذي الجناحين.

وصاح به أعرابي يا أبا الفضل، فقيل له: كنيته، قال: إن تكن كنيته فإنّها صفته.

وكان حليماً ظريفاً عفيفاً، وقيل لم يكن في الإسلام أسخى منه، واستسرفه بعضهم في الجود، فقال: إن الله عوّدني عادة، وعوّدت خلقه عادة، عوّدني أن يمدّني بالرزق، وعوّدت خلقه أن أمدّهم بالبرّ، فأكره أن أقطع العادة، فيقطع عنّي المادة.

وروي أنّه أعطى امرأة سألته مالاً عظيماً، فقيل له: إنّها لا تعرفك، وكان يرضيها اليسير، فقال: إن كان يرضيها اليسير فإنّي لا أرضى إلّا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فإنا أعرف نفسي.

وروى الرياشي عن الأصمعي قال: مدح نصيب بن رياح عبد الله بن جعفر فأمر له بمال كثير وكسوة شريفة ورواحل موقرة برّاً وتمراً، فقيل له: أتفعل هذا بمثل هذا العبد الأسود؟ قال: أما لئن كان عبداً إنني لحرٌّ، وإن كان أسوداً إن ثناءه لأبيض، وإنّما أخذ مالاً يفنى وثياباً تبلى ورواحل تنضى، وأعطى مديحاً يروى وثناءً يبقى.

ص: 290

ومن غريب ما يحكى من جوده أن عبد الرحمن بن أبي عمارة، وهو من نسّاك الحجاز دخل على نحّاس يعرض قياناً له، تعلق بواحدة منهن، فشهر بذكرها حتّى مشى إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذلونه فكان جوابه أن قال:

يلومني فيك أقوام أجالسهم *** فما أبالي أطار اللوم أم وقعا

فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر، فلم يكن له همٌّ غيره، فحجَّ فبعث إلى مولى الجارية، فاشتراها منه بأربعين ألف درهم، وأمر قيّمة جواريه أن تزينها وتطيبها، ففعلت، وبلغ النّاس قدومه فدخلوا عليه، فقال: ما لي لا أرى إبن أبي عمارة، فأخبر الشيخ فأتاه مسلّماً، فلمّا أراد أن ينهض استجلسه، ثُمَّ قال: ما فعل حبُّ فلانة؟ قال: في اللحم والدم والمخّ والعصب، قال: أتعرفها لو رأيتها؟ قال: لو أدخلت الجنّة ما أنكرها، فأمر بها عبد الله أن تخرج إليه وقال: إنّما اشتريتها لك، والله ما دنوت منها، فشأنك بها مباركاً لك فيها، فلمّا ولّى قال: يا غلام إحمل معه مائة ألف درهم ينعم معها بها، فبكى عبد الرحمن فرحاً وقال: يا أهل البيت لقد خصّكم الله بشرف ما خصّ به أحداً قبلكم من صلب آدم، فلتهنكم هذه النعمة وبورك لكم فيها.

وخرج عبد الله إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم، وفيه غلام أسود يقوم عليه، فأتى الغلام بقوته ثلاثة أقراص، فدخل كلب فدنا من الغلام فرمى إليه بقرص فأكله، ثُمَّ رمى إليه بالثاني والثالث فأكلهما، وعبد الله ينظر إليه، فقال: يا غلام كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت، قال: فلم آثرت هذا الكلب؟ قال ما هي بأرض كلاب، وإنّه جاء من مسافة بعيدة جائعاً، فكرهت أن أردّه، قال: فما أنت اليوم صانع؟ قال: أطوي

ص: 291

يومي هذا، فقال عبد الله بن جعفر: ألامُ على السخاء .. إن هذا لأسخى مني، فاشترى الغلام والنخيل، فأعتق الغلام، ووهب له النخيل ثُمَّ ارتحل.

وانشد عبد الله بن جعفر قول الشاعر:

إن الصنيعة لا تكون صنيعة *** حتّى تصيب بها طريق المصنع ِ

فقال: هذا رجل يريد أن يبخل النّاس، بل أمطر المعروف مطراً، فإن صادف موضعاً كان الذي قصدت وإلّا كنت أحق به.

قدم رجل من المدينة بسكر فكسد عليه؛ فقصد به عبد الله بن جعفر فاشتراه منه وأنهبه النّاس، فلمّا رأى الرجل ذلك قال لعبد الله: أتأذن لي أن أنهب معهم جعلت فداك؟، قال: بلى فانهب، فجعل ينهب مع النّاس وعبد الله يضحك.

خرج الحسنان علیهما السلام وعبد الله بن جعفر رضی الله عنه وأبو حيّة الأنصاري من مكّة إلى المدينة، فأصابهم مطر فلجأوا إلى خباء إعرابي، فأقاموا عنده ثلاثاً حتّى سكنت السماء، وذبح لهم.

فلمّا ارتحلوا قال له عبد الله: إن قدمت المدينة فاسأل عنّا، فاحتاج الأعرابي بعد سنين، فقالت امرأته: لو أتيت المدينة فلقيت أولئك الفتيان، فقال: قد نسيت أسماءهم، فقالت: سل عن إبن الطيار، فأتاه فقال: إلقَ سيدنا الحسن علیه السلام، فلقيه فأمر له بمائة ناقة بفحولها ورعاتها.

ص: 292

ثُمَّ أتى الحسين علیه السلام فقال: كفانا أبو محمّد مؤنة الإبل، فأمر له بألف شاة، ثُمَّ أتى عبد الله رضی الله عنه فقال: كفاني أخواي الإبل والشاة، فأمر له بمائة ألف درهم، ثُمَّ أتى أبا حيّة، فقال: والله ما عندي مثل ما أعطوك، ولكن جئني بإبلك فأُوقرها لك تمراً، فلم يزل اليسار في أعقاب الأعرابي.

وروي عنه أنّه كان يقول: لا خير في المعروف إلّا أن يكون ابتداءً، فإمّا أن يأتيك الرجل بعد تململه على فراشه، لا يدري أيرجع بنجح الطلب أو كآبة المنقلب، فإن أنت رددته عن حاجته تصاغرت إليه نفسه، وتراجع الدم في وجهه، وتمنّى أن يجد نفقاً في الأرض فيدخل فيه فلا.

قال المسعودي في مروج الذهب: وفد عبد الله بن جعفر رضى الله عنهما على معاوية، فسمع به عمرو بن العاص فسبق إلى دمشق، ودخل على معاوية، وعنده جمع من بني هاشم وغيرهم، فقال عمرو: قد أتاكم رجل خذول للسلف متعارف بالسرف وذكر مساوئ أعرضنا عن ذكرها.

فغضب عبد الله بن الحرث بن عبد المطّلب وقال: كذبت يا عمرو ليس عبد الله كما ذكرت، ولكنه لله ذكور ولبلائه شكور وعن الخناء نفور، مهذب ماجد كريم حليم، إن ابتدأ أصاب وإن سئل أجاب، غير حصر ولا هياب، كالهزبر الضرغام والسيف الصمصام، ليس كمن اختصمت فيه من قريش مشركوها، فغلب عليه جزّارها، فأصبح أوضعها نسباً وألأمها حسباً، لا شرف له في الجاهلية مذكور، ولا قدم له في الإسلام مشهور، غير أنّك تنطق بلسان غيرك، ولقد كان أمر في الحكم وأبين في

ص: 293

الفصل أن يعكمك عن ولوغك في أعراض قريش كعام الضبع في وجارها، فلست لأعراضها بوفي ولا لأحسابها بكفي، فهمَّ عمرو بأن يتكلم فمنعه معاوية وتفرّق القوم.

وروى المدائني قال: بينا معاوية يوماً جالساً وعنده عمرو بن العاص إذ قال الآذن: قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فقال عمرو: والله لأسؤنّه اليوم، فقال معاوية: لا تفعل يا أبا عبد الله، فإنّك لا تنتصف منه، ولعلّك أن تظهر لنا من معيبه ما هو خفيٌ عنّا، وما لا تحب أن نعلمه منه.

وغشيهم عبد الله بن جعفر فأدناه معاوية وقرّبه، فمال عمرو إلى بعض جلساء معاوية فنال من عليٍّ علیه السلام جهاراً غير ساتر له، وثلبه ثلباً قبيحاً؛ فالتمع لون عبد الله بن جعفر، واعتراه إفكل حتّى ارعدت فرائصه، ثُمَّ نزل من السرير كالفنيق فقال عمرو: مه يا أبا جعفر، فقال له عبد الله: صه لا أمّ لك، ثُمَّ قال:

أظنّ الحلم دلّ عليَّ قومي *** وقد يتجهل الرجل الحليمُ

ثُمَّ حسر عن ذراعيه وقال: يا معاوية حتام تتجرع غيضك وإلى كم الصبر على مكروه قولك وسيئ أدبك وذميم أخلافك؟ هبلتك الهبول! أما يزجرك ذمام المجالسة عن القدح لجليسك، إن لم تكن لك حرمة من دينك تنهاك عما لا يجوز لك، أما والله لو عطفتك أواصر الأرحام وحاميت على سهمك من الإسلام، ما أرعيت بني الإماء المتك والعبيد الصك أعراض قومك، وما يجهل موضع الصفوة إلّا أهل الجفوة، وإنّك

ص: 294

لتعرف وشائظ قريش وصفوة غرائزها، فلا يدعونك تصويب ما فرط من خطئك في سفك دماء المسلمين، ومحاربة أمير المؤمنين إلى التمادي في ما قد وضح لك الصواب في خلافه، فاقصد لمنهج الحق، فقد طال عمهك عن سبيل الرشد وخبطك في ديجور ظلمة الغي، فإن أبيت إلّا تتابعاً في قبح اختيارك لنفسك فاعفنا عن سوء القالة فينا إذا ضمّنا وإياك الندى، وشأنك وما تريد إذا خلوت، والله حسيبك، فوالله لولا ما جعل لنا الله في يديك لما أتيناك، ثُمَّ قال:

إنّك إن كلفتني ما لم أطقْ *** ساءك ما سرّك منّي من خلقْ

فقال معاوية: أبا جعفر أقسمت عليك لتجلسنّ، لعن الله من أخرج ضبّ صدرك من وجاره، محمول لك ما قلت، ولك عندنا ما أمّلت، فلو لم يكن محتدك ومنصبك لكان خلقك وخلقك شافعين لك إلينا، كيف وأنت ابن ذي الجناحين وسيد بني هاشم؟.

فقال عبد الله: كلّا بل سيّدا بني هاشم حسن وحسين، لا ينازعهما في ذلك أحد، فقال معاوية: يا أبا جعفر أقسمت عليك لما ذكرت لك حاجة أقضيها كائنة ما كانت، ولو ذهبت بجميع ما أملك، فقال: إمّا في هذا المجلس فلا، ثُمَّ انصرف.

فأتبعه معاوية بصره وقال: والله لكأنّه رسول الله مشيه وخَلقه وخُلُقه، وإنّه لمن مشكاته، ولوددت أنه أخي بنفيس ما أملك، ثُمَّ التفت إلى عمرو وقال: يا أبا عبد الله ما تراه منعه من الكلام معك؟ قال: ما لا خفاء به عنك، قال: أظنّك تقول: هاب جوابك، لا والله ولكنه ازدراك واستحقرك، ولم يرك للكلام أهلاً ما رأيت إقباله على

ص: 295

دونك، ذاهباً بنفسه عنك، فقال عمرو: فهل لك أن تسمع ما أعددته لجوابه؟ فقال معاوية: إذهب إليك أبا عبد الله فلات حين جواب سائر اليوم، ونهض معاوية وتفرق النّاس.

وروي أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب دخل على معاوية بن أبي سفيان وعنده إبنه يزيد، فجعل يزيد يعرض بعبد الله وينسبه إلى الإسراف، فقال عبد الله: إنّي لأرفع نفسي عن جوابك، ولو صاحب السرير يكلمني لأجبته.

فقال له معاوية: كأنّك تظن أنّك أشرف منه! قال: أي والله ومنك ومن أبيك ومن جدّك، فقال معاوية: ما كنت أظن أن أحداً في عصر حرب بن أميّة أشرف منه، فقال عبد الله: بلى إن أشرف من حرب من أكفا عليه إناءه وأجاره بردائه، فقال معاوية: صدقت يا أبا جعفر.

ومعنى هذا أن حرب بن أميّة كان إذا عرضت له في أسفاره ثنية تنحنح فلم يجترأ أحد أن يرقاها قبله، فعرضت له يوماً في بعض أسفاره ثنية، فتنحنح فوقف النّاس، فقال غلام من تميم: ومن حرب؟ ثُمَّ تقدمه، فقال حرب: سيمكنني الله تعالى منك بمكّة.

ثُمَّ ضرب الدهر من ضربه وعرضت للتميمي حاجة إلى مكّة فدخلها، وسأل عن أعزّ أهل مكّة، فقيل له: عبد المطّلب بن هاشم، فقال: أردت دونه، فقالوا: إبنه

ص: 296

الزبير، فقرع على الزبير بن عبد المطّلب بابه فخرج إليه، فقال: إن كنت مستجيراً أجرناك، وإن كنت طالب قرى قريناك، فأنشأ التميمي يقول:

لاقيت حرباً بالثنية مقبلاً *** والصبح أبلج ضوءه للساري

قف لا تصاعد واكتنى ليروعني *** ودعا بدعوة معلن وشعار ِ

فتركته خلفي وسرت أمامه *** وكذاك كنت أكون في الأسفار

فمضى يهددني الوعيد ببلدة *** فيها الزبير كمثل ليث ضاري

فتركته كالكلب ينبح وحده *** وأتيت قوم مكارم وفخار

وحلفت بالبيت العتيق وركنه *** وبزمزم والحجْر والأستار

إن الزبير لما نعى بمهند *** عضب المهزة صارم بتّار

ليث هزبر يستجار ببابه *** رحب المباءة مكرم للجارِ

فقال له الزبير: أمامي فإنّا بني عبد المطّلب إذا أجرنا رجلاً لم نتقدمه، فمضى قدّامه، فلقيه حرب، فقال التميمي: وربّ الكعبة ثُمَّ شدّ عليه، فاخترط الزبير سيفه ونادى في إخوته، فمضى حرب يشتد والزبير في أثره، حتّى أتى دار عبد المطّلب فلقيه خارجاً، فقال: مم يا حرب؟ فقال: ابنك، قال: ادخل الدار، فدخل فأكفأ عليه جفنة هاشم التي كان يهشم فيها الثريد، وتلاحق بنو عبد المطّلب فلم يجترئوا أن يدخلوا دار أبيهم، فجلسوا على الباب، واحتبوا بحمائل سيوفهم، فخرج عبد المطّلب فرآهم،

ص: 297

فسرّه ما رأى منهم، وقال: يا بني أصبحتم أسود العرب، ثُمَّ دخل على حرب فقال له: قم فاخرج، فقال: يا أبا الحرث هربت من واحد وأخرج إلى عشرة! فقال: هاك ردائي فالبسه، فإنهم إذا رأوه عليك لم يهيجوك، وكان رداؤه أعطاه إيّاه إبن ذي يزن، فلبسه وخرج، فرفعوا رؤوسهم، فلمّا رأوا رداء أبيهم نكسوا رؤوسهم ومرَّ حرب.

وروى المدائني قال: قدم عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية، وذلك بعد أن مات معاوية واستخلف يزيد، فأعطاه أربعة آلاف ألف، فقيل له: أتعطي هذا المال كله رجلاً واحدا؟ فقال: ويحكم إنّما أعطيها أهل المدينة أجمعين، فما هي في يده إلّا عارية.

ثُمَّ وكّل به يزيد من صحبه وهو لا يعلم؛ لينظر ما يفعل، فلمّا وصل إلى المدينة فرّق جميع المال حتّى احتاج بعد شهر إلى الدين.

ولما وافى الخبر أهل المدينة بقتل الحسين علیه السلام دخل بعض موالي عبد الله بن جعفر عليه فنعى إليه إبنيه عوناً ومحمّداً، وكانا قتلا مع الحسين علیه السلام، فاسترجع عبد الله فقال أبو السلاسل مولى عبد الله: هذا ما لقينا من الحسين، فحذفه عبد الله بنعله، ثُمَّ قال: يا ابن اللخناء أللحسين تقول هذا؟ والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتّى أُقتل معه، والله إنّه لما يسخي بنفسي عنهما ويعزي على المصاب بهما أنهما أصيبا مع أخي وابن عمّي، مواسيين له صابرين معه.

ص: 298

ثُمَّ أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله، عزَّ عليَّ مصرع الحسين علیه السلام، إن لا أكن واسيت حسيناً بيدي، فقد واساه ولداي.

قال المسعودي في مروج الذهب: كان الحجّاج تزوج إلى عبد الله بن جعفر حين املق عبد الله وافتقر من الجود والبذل.

قال المؤلف: تزوج ابنته أمّ كلثوم، واختلف أهل السير هل زُفّت إليه أم لا؟.

فروى بذيح قال: زوّج عبد الله بن جعفر إبنته أم كلثوم من الحجّاج على ألفي ألف في السرّ, وخمسمائة ألف في العلانية, وحملها إليه إلى العراق، فمكثت عنده ثمانية أشهر.

ونقل الزمخشري في (ربيع الأبرار) قال: لما زُفّت بنت عبد الله بن جعفر إلى الحجّاج نظر إليها وعبرتها تجري على خدها، فقال: ممَّ بأبي أنت وأمّي؟ قالت: من شرف اتّضع، وضعة شرفت.

قال بذيح مولى عبد الله بن جعفر: لمّا خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان خرجنا معه حتّى دخلنا دمشق، فإنّا لنحطّ رحالنا إذ جاءنا الوليد بن عبد الملك على بغلة ومعه النّاس، فقلنا: جاء إلى ابن جعفر ليحييه ويدعوه إلى منزله، فاستقبله إبن جعفر بالترحيب فقال له: لكن أنت لا مرحباً بك ولا أهلاً، فقال: يا ابن أخي لست أهلا لهذه المقالة منك, قال: بلى ولشرٍّ منها، قال: وفيم ذلك ؟ قال: إنّك عمدت إلى عقيلة نساء العرب، وسيدة بني عبد مناف، ففرشتها عبد ثقيف يتفخذها!

ص: 299

قال: وفي هذا عتب عليَّ يا ابن أخي؟! قال: وما أكثر من هذا! قال: والله إن أحق النّاس أن لا يلومني في هذا أنت وأبوك، إن من كان قبلكم من الولاة ليصلون رحمي ويعرفون حقي، وإنّك وأباك منعتماني ما عندكما، حتّى ركبني من الدَين ما والله لو أن عبداً مجدعاً حبشياً أعطاني ما أعطاني عبد ثقيف لزوجته، فإنّما فديت بها رقبتي من النار.

قال: فما راجعه بكلمة حتّى عطف عنانه، ومضى حتّى دخل على عبد الملك، وكان الوليد إذا غضب عرف ذلك في وجهه، فلمّا رآه عبد الملك قال: ما لك أبا العبّاس؟ قال: ما لي؟ إنّك سلطت عبد ثقيف وملّكته ورفعته حتّى تفخذ نساء بني عبد مناف؛ فأدركته الغيرة، فكتب عبد الملك إلى الحجّاج يعزم عليه أن لا يضع كتابه من يده حتّى يطلقها، فطلّقها.

قال: فما قطع الحجّاج عنها رزقاً ولا كرامة يجريها عليها حتّى خرجت من الدنيا، قال: وما زال واصلاً لعبد الله بن جعفر حتّى هلك.

وروى الثقاة من الرواة قالوا: لمّا أكره الحجّاج عبد الله بن جعفر على أن يزوجه ابنته، وبذل لها من الأموال ما يجلّ قدره، استأجله في نقلها إليه سنة، ففكر عبد الله في الإنفكاك عنه، فألقي في روعه خالد بن يزيد بن معاوية، فكتب إليه يعلمه ذلك، وكان الحجّاج تزوّجها بإذن عبد الملك، فورد على خالد كتابه ليلاً، فاستأذن من ساعته على عبد الملك، فقيل: أفي هذا الوقت؟ قال: هو أمر لا يؤخر، فأعلم عبد الملك فأذن له، فلمّا دخل قال: فيم المسرى يا أبا هاشم؟ قال: أمر جليل لم آمن أن

ص: 300

أؤخره فتحدث حادثة عليّ، فلا أكون قضيت حق بيعتك، قال: ما هو؟ قال: تعلم أنّه ما كان ببن حيين من العداوة والبغضاء ما كان بين آل الزبير وبيننا، قال: لا، قال: إن تزوجي الى آل الزبير حلّل ما كان لهم بقلبي، فما أهل بيت أحب إليَّ منهم، قال: إن ذلك ليكون، قال: فكيف أذنت للحجّاج أن يتزوج في بني هاشم؟ والحجّاج من سلطانك بحيث علمت، فجزّاه خيراً، وكتب إلى الحجّاج يعزم عليه أن يطلّقها، فطلّقها فغدا النّاس يعزونه عنها.

وعن عروة بن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما تزوج الحجّاج وهو أمير المدينة بنت عبد الله بن جعفر، أتى رجل سعيد بن المسيب فذكر له ذلك، فقال: إنّي لأرجو أن لا يجمع الله بينه وبينها، ولقد دعا بذلك داع فابتهل، وعسى الله.

فلمّا بلغ ذلك عبد الملك بن مروان أبرد البريد إلى الحجّاج، وكتب إليه يغلظ له ويقصر به ويذكر تجاوزه قدره، ويقسم بالله لأن هو قرب منها ليقطعنّ أحبّ أعضائه إليه، ويأمره بتسويغ أبيها المهر، وبتعجيل فراقها؛ ففعل ذلك، فما بقي أحد فيه خير إلّا سرّه ذلك، فقال جعفر بن الزبير يخاطب الحجّاج:

ولولا انتكاس الدهر ما نال مثلها *** رجاؤك إذ لم يرج ذلك يوسفُ

أبنت الصفي ذي الجناحين تبتغي *** لقد رمت خطبا قدره ليس يوصفُ

قال بذيح: وفد عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان، فلمّا دخل عليه استقبله عبد الملك بالترحيب، ثُمَّ أخذ بيده فأجلسه معه على سريره، ثُمَّ سأله فألطف المسألة،

ص: 301

حتّى سأله عن مطعمه ومشربه، فلمّا أنقضت مسائلته، قال له يحيى بن الحكم: أمن خبيثة كان وجهك أبا جعفر؟ قال: وما خبيثة؟ قال: أرضك التي جئت منها، قال: سبحان الله يسميها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم طيبة وتسميها خبيثة؟! قد اختلفتما في الدنيا وأظنّكما في الآخرة مختلفين، فلمّا خرج من عنده هيّأ ابن جعفر لعبد الملك هدايا وألطافاً.

قال الراوي: قيل لبذيح: ما قيمة ذلك؟ قال: قيمته مائة ألف من وصفاء ووصائف وكسوة وحرير ولطف من لطف الحجاز، قال: فبعثني بها فدخلت عليه وليس عنده أحد، فجعلت أعرض عليه شيئاً شيئاً، قال: فما رأيت مثل إعظامه لكلّ ما عرضت عليه من ذلك، وجعل يقول - كلما أريته شيئاً -: عافى الله أبا جعفر ما رأيت كاليوم، وما كنّا نريد أن يتكلف لنا شيئاً من ذلك.

قال: فخرجت من عنده وأذن لأصحابه، فوالله لبينا أنا أحدثه عن تعجب عبد الملك وإعظامه لما أهدي إليه، إذ بفارس قد أقبل علينا، فقال: أبا جعفر إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام، ويقول لك: جمعت لنا وخش رقيق الحجاز وأبّاقهم، وحبست عنّا فلانة، فابعث بها إلينا.

وذلك أنّه حين دخل عليه أصحابه جعل يحدثهم عن هدايا أبي جعفر ويعظّمها عندهم، فقال له يحيى بن الحكم: وما أهدى إليك ابن جعفر؟ جمع لك وخش رقيق الحجاز وأبّاقهم، وحبس عنك فلانة، قال: ويلك وما فلانة هذه؟ قال: ما لم يسمع أحد بمثلها

ص: 302

قط جمالاً وكمالاً وأدباً وخلقاً، لو أراد كرامتك بعث بها إليك، قال: وأين تراها وأين تكون؟ قال: هي والله معه، وهي نفسه التي بين جنبيه.

فلمّا قال الرسول ما قال، وكان أبو جعفر في أذنه بعض الوقر، إذا سمع ما يكره تصام، فأقبل عليه فقال: يا بذيح قال: قلت: يقول أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول: إنّه جاءني بريد من ثغر كذا يقول بأن الله نصر المسلمين وأعزّهم، قال: أقرأ أمير المؤمنين السلام وقل له: أعز الله نصرك وكبت عدوك، فقال: يا أبا جعفر إنّي لست أقول هذا، وأعاد مقالته الأولى، فسألني فصرفته إلى وجه آخر، فاقبل على الرسول وقال ياص هن أمّه أبرسل أمير المؤمنين تتهكم؟ وعن أمير المؤمنين تجيب هذا الجواب؟ أما والله لأطلنّ دمك، فإنصرف فأقبل عليَّ أبو جعفر فقال: من ترى صاحبنا؟ قلت: صاحبك بإلّامس، قال: أظنّه فما الرأي عندك؟ قلت: يا أبا جعفر قد تكلفت له ما تكلفت، فإن منعتها إيّاه جعلها سبباً لمنعك، ولو طلب إحدى بناتك ما كنت أرى أن تمنعها إيّاه، قال: أدعها لي، فلمّا أقبلت رحب بها فأجلسها إلى جنبه، ثُمَّ قال: أما والله ما كنت أظنّ أن يفرق بيني وبينك إلّا الموت قالت: وما ذاك ؟ قال: إنه حدث أمر، وليس والله كائناً فيه إلّا ما أحببت، جاء الدهر فيه بما جاء، قالت: وما هو ؟ قال: عبد الملك بعث يطلبك فإن تهوين فذاك، وإلّا لم يكن أبداً، قالت: ما شيء لك فيه هوى، ولا أظن فيه فرجاً عنك إلّا فديته بنفسي، وأرسلت عينيها بالبكاء، قال: أما إذ فعلت فلا تريني مكروهاً، فمسحت عينيها، وأشار إليها فقامت فقال: ويحك يا بذيح استحثها قبل أن يبدر إليَّ من القوم بادرة، قال: ودعا بأربع وصائف، ودعا صاحب نفقته بخمسمائة دينار، ودعا مولاة له كانت تلي طيبه،

ص: 303

فدحست لها ربعة عظيمة مملؤة طيباً، ثُمَّ قال: عجل بها ويلك، فخرجت أسوق بها حتّى انتهىت إلى الباب، فإذا الفارس قد بلغ عني، فما تركني الحجاب أن تمس رجلاي الأرض حتّى أدخلت على عبد الملك، وهو يتلظى فقال لي: يا ماص كذا وكذا، أنت المجيب عن أمير المؤمنين والمتهكم برسله، قلت: يا أمير المؤمنين ائذن لي أتكلم، قال: وما تقول يا كذا وكذا ؟ قلت: إئذن لي جعلني الله فداك أتكلم، قال: تكلم، قلت: يا أمير المؤمنين أنا أصغر شاناً وأقل خطراً أن يبلغ أمير المؤمنين من كلامي ما أرى، وهل انا إلّا عبد من عبيده، نعم قد قلت ما بلغك، وأنت تعلم أنّا إنّما نعيش في كنف هذا الشيخ، وإن الله لم يزل إليه محسناً، فجاءه من قبلك شيء ما أتاه مثله قط، إنّما طلبت نفسه التي بين جنبيه، فأجبت بما بلغك لأسهل الأمر عليه، ثُمَّ سألني فأخبرته، واستشارني فأشرت عليه، وها هي هذه قد جئتك بها.

قال: أدخلها ويلك، قال: فأدخلتها عليه، وعنده مسلمة إبنه، وهو غلام ما رأيت مثله ولا أجمل منه حين اخضرّ شاربه، فلمّا جلست وكلمها أُعجب بكلامها فقال: لله أبوك، أمسكك لنفسي أحب إليك أم أهبك لهذا الغلام؟ فإنه إبن أمير المؤمنين، قالت: يا أمير المؤمنين لست لك بحقيقة، وعسى أن يكون هذا الغلام لي وجهاً، قال: فقام من مكانه ما راجعها فدخل، وأقبل عليها مسلمة فقال: يا لكاع أعلى أمير المؤمنين تختارين؟! قالت: يا عدو نفسه أتلومني إن اخترتك، لعمر الله لقد قل رأي من اختارك، قال: ضيعت والله مجلسه.

ص: 304

وطلع علينا عبد الملك قد أدهن بدهن، وأرى الشيب، وعليه حلّة كأنّها الذهب، وبيده مخصرة يخصر بها، فجلس مجلسه على سريره، ثُمَّ قال: إيهاً لله أبوك، أمسكك لنفسي أحب إليك أم أهبك لهذا الغلام؟ قالت: ومن أنت أصلحك الله؟ قال لها الخصيُّ: هذا أمير المؤمنين، قالت: لست مختارة على أمير المؤمنين أحداً، قال: فأين قولك آنفاً؟ قالت: رأيت شيخاً كبيراً، وأرى أمير المؤمنين أشيب النّاس وأجملهم، ولست مختارة عليه أبداً، قال: دونكها يا مسلمة.

قال بذيح: فنشرت عليها الكسوة والدنانير التي كانت معي، وأريته الجواري والطيب، قال: عافى الله إبن جعفر، أخشى أن لا يكون لها عندنا نفقة وطيب وكسوة؟ قلت: بلى ولكنه أحبّ أن يكون معها ما تكتفي به إلى حين تستأنس، قال: فقبضها مسلمة فلم تلبث عنده يسيراً حتّى هلكت.

قال بذيح: فوالذي ذهب بنفس مسلمة، ما جلست معه مجلساً، ولا وقفت معه موقفاً أنازعه فيه الحديث إلّا قال: ويحك أبغي مثل فلانة، فأقول: إبغني مثل ابن جعفر، فيقول: إذاً والله لا أقدر، فأقول: والله لا أقدر على مثلها حتّى تقدر على مثل ابن جعفر.

قال: قلت لبذيح: ويلك فما أجزاه أبي؟ قال حين رفع إليه حاجته ودَينه: لأجزينّك جائزة لو نشر لي مروان من قبره ما زدته عليها، فأمر له بمائة ألف، وأيمَ الله إنّي لأحسبه أنفق في هديته ومسيره ذلك سوى جاريته التي كانت عدل نفسه مأتي ألف.

ص: 305

وروي أن إبن قسوة أتى عبد الله بن العبّاس يستوصله فلم يصله، فقال:

أتيت ابن عبّاس أرجّي نواله *** فلم يرج معروفي ولم يخش منكري

فليت قلوصي عريت أو رحلتها *** إلى حسن في داره وابن جعفر

فقال عبد الله بن جعفر: أنا أشتري منك عرض إبن عمّي، فقال: إشتر ولا تؤخّر، فوصله حتّى كفَّ.

وروى عبد الله بن مصعب أن الحزين مرّ بالعقيق في غداة باردة، فمرَّ عبد الله بن جعفر وعليه مطرف، وقد استعار الحزين من رجل ثوباً فقال:

أقول له حين واجهته *** عليك السلام أبا جعفر

قال: وعليك السلام، فقال:

فأنت المهذب من غالب *** وفي البيت منها الذي يذكرُ

فقال: كذبت يا عدو الله ذلك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال:

وهذي ثيابي قد أخلقت *** وقد عضني زمن منكرُ

قال: هاك ثيابي فأعطاه ثيابه.

وعن يحيى بن الحسن قال: بلغني أن أعرابياً وقف على مروان بن الحكم أيام الموسم بالمدينة، فسأله، فقال له: يا أعرابي ما عندنا ما نصلك به، عليك بابن جعفر، فأتى

ص: 306

الأعرابي باب عبد الله بن جعفر، فإذا ثقله قد سار نحو مكّة، وراحلته بالباب عليها متاعه، وسيف معلق، فخرج عبد الله وأنشأ الأعرابي يقول:

أبو جعفر من أهل بيت نبوة *** صلاتهم للمسلمين ظهورُ

أبا جعفر إن الحجيج ترحّلوا *** وليس لرحلي فاعلمنّ بعير

أبا جعفر ضنَّ الأمير بماله *** وأنت على ما في يديك أمير

وأنت أمرؤ من هاشم في صميمها *** إليك يصير المجد حيث تصير

فقال: يا أعرابي سار الثقل فدونك الراحلة بما عليها، وإياك أن تخدع عن السيف فإنّي اخذته بألف دينار، فأنشأ الأعرابي يقول:

حباني عبد الله نفسي فداؤه *** بأعيس مهري سباط مشافره

وأبيض من ماء الحديد كأنه *** شهاب بدا والليل داج عساكره

وكل أمرئ يرجو نوال بن جعفر *** سيجري له باليمن والسعد طائره

فيا خير خلق الله نفسا ووالداً *** وأكرمه للجار حين يجاوره

سأثني بما أوّليتني يا ابن جعفر *** وما شاكر عرفاً كمن هو كافره

ص: 307

وروي أنه جاء شاعر إلى عبد الله بن جعفر فأنشده:

رأيت أبا جعفر في المنام *** كساني من الخز دراعه

شكوت إلى صاحبي أمرها *** فقال سيؤتى بها الساعه

سيكسوكها الماجد الجعفري *** ومن كفه الدهر نفاعه

ومن قال للجود لا تعدني *** فقال لك السمع والطاعه

فقال عبد الله لغلامه: إدفع له دراعتي الخزّ، ثُمَّ قال له: كيف لو يرى جبتي المنسوجة بالذهب التي اشتريتها بثلاث مائة دينار؟ فقال له الشاعر: بأبي أنت وأمي دعني أغفى إغفاءة أخرى، فلعلّي أراها في المنام؛ فضحك عبد الله منه وقال له: إدفع جبتي الوشي.

قال يحيى بن الحسن: وكان عبد الله بن الحسن يقول: كان أهل المدينة يدانون بعضهم من بعض إلى أن يأتي عطاء عبد الله بن جعفر.

وافتقد عبد الله بن جعفر صديقاً له من مجلسه، ثُمَّ جاءه فقال له: أين كانت غيبتك؟ قال: خرجت إلى عرض من أعراض المدينة مع صديق لي، فقال: إن لم تجد من صحبة الرجال بداً، فعليك بصحبة من إذا صحبته زانك، وإن جفوته صانك، وإن احتجت إليه مانك، وإن رأى منك خلة سدّها، أو حسنة عدّها، وإن كثرت عليه لم يرفضك، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتدأك.

ص: 308

ومن كلامه: إن بأهل المعروف من الحاجة إليه، أكثر مما بأهل الرغبة منهم فيه، وذلك أن حمده وأجره وذكره وذخره وثناءه لهم، فما صنعت من صنيعة، أو أتيت من معروف، فإنّما تصنعه إلى نفسك، فلا تطلبن من غيرك شكر ما أتيت إلى نفسك.

ويروى هذا الكلام لأبيه جعفر علیه السلام .

وقيل له: إنك تبذل الكثير إذا سُألت، وتضايق في القليل إذا توجرت، فقال: إنّي أبذل مالي وأصف بعقلي.

ويقال: أن أوّل من صنع الغالية عبد الله بن جعفر.

نقل الزمخشري أنه أهدى لمعاوية قارورة من الغالية، فسأله كم أنفق عليها؟ فذكر مالاً، فقال: هذه غالية فسميت بذلك.

ويحكى أنّه ضاقت يده في آخر عمره؛ فدعا يوم جمعة وقال: اللهمَّ إن كنت صرفت عني ما كنت تجري على يدي من الإحسان إلى خلقك، فاقبضني إليك، فما عاش إلّا جمعة أخرى.

وقال المسعودي: سُمع عبد الله بن جعفر يوم جمعة يقول: اللهمَّ إنك عودتني عادة، وعودتها عبادك، فإن قطعتها عني فلا تبقني، فمات في تلك الجمعة في أيام عبد الملك، وصلّى عليه أبان بن عثمان بمكّة، في سنة سيل الجحاف، حين بلغ الركن وذهب بكثير من الحاج.

ص: 309

وقال كثير من المؤرخين: توفي بالمدينة سنة ثمانين من الهجرة، وله من العمر تسعون سنة، وقيل: توفي سنة أربع وثمانين، وعمره ثمانون سنة.

قال إبن عبد البر: والأوّل أولى، وقيل: توفي سنة أربع وسبعين، وله اثنان وسبعون سنة.

وقال أبو الحسن العمري: مات عبد الله في زمان عثمان بن عفّان، ودفن بالبقيع، وهذا غريب.

وقيل: مات بالأبواء سنة تسعين، وصلّى عليه سليمان بن عبد الملك بن مروان، وله تسعون سنة.

وقال أبو الفرج الأصبهاني في كتاب (الأغاني): قال يحيى: توفي عبد الله وهو ابن سبعين سنة في سنة ثمانين، وهو عام الجحاف، سيل كان بمكّة أجحف بالحاج، فذهب بالإبل عليها الحمول، وكان الوالي يومئذ على مكّة أبان بن عثمان في خلافة عبد الملك.

وروي عن الجعدي قال: لما هلك عبد الله بن جعفر شهده أهل المدينة كلهم، وإنّما كان عبد الله بن جعفر مأوى المساكين وملجأ الضعفاء، فما ينظر إلى ذي حاجة إلّا رأيته مستعبراً قد أظهر الهلع والجزع، فلمّا فرغوا من دفنه قام عمرو بن عثمان فوقف على شفير القبر فقال: رحمك الله يا ابن جعفر، أن كنت لرحمك واصلاً، ولأهل الشرّ مبغضاً، ولأهل الريبة قالياً، ولقد كنت فيما بيني وبينك كما قال أعشى طرود:

ص: 310

دعيت الذي قد كان بيني وبينكم *** من الود حتّى غيبتك المقابرُ

فرحمك الله يوم ولدت، ويوم كنت رجلاً، ويوم متَّ، ويوم تبعث حيّاً، والله لئن كانت هاشم أصيبت بك، لقد غمَّ قريشاً هلكك، فما أظن أن يرى بعدك مثلك.

فقال عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق: لا إله إلّا الله الذي يرث الأرض ومن عليها وإليه ترجعون، ما كان أحلى العيش بك يا ابن جعفر، وما أسمج ما أصبح بعدك، والله لو كانت عيني دامعة لأحد لدمعت عليك، كان والله حديثك غير مشوب، وودّك غير ممزوج بكدر.

وكان له من الولد عشرون ذكراً، وقيل: أربعة وعشرون.

ومن شعر عبد الله بن جعفر ما أنشده له هرون الرشيد.

حكى يعقوب بن صالح بن علي بن عبد الله بن عبّاس قال: دخلت يوماً على الرشيد وهو متغيظ متربد، فندمت على دخولي عليه، وكنت أفهم غضبه في وجهه، فسلّمت فلم يرد، فقلت: داهية دهتكم، ثُمَّ أومئ إليَّ فجلست، فالتفت إليَّ وقال: لله درُّ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فلقد نطق بالحكمة حيث يقول:

يا أيّها الزاجري عن شيمتي سفهاً *** عمداً عصيت مقام الزاجر الناهي

أقصر فإنّك من قوم أرومتهم *** في اللؤم فافخر بهم إن شئت أو باهي

يزين الشعر أفواهاً إذا نطقت *** بالشعر يوماً وقد يزري بأفواه

ص: 311

قد يرزق المرء لا من فضل حيلته *** ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي

لقد عجبت لقوم لا أصول لهم *** أثروا وليسوا وإن أثروا بأشباه

ما نالني من غنىً يوماً ولا عدم *** إلّا وقولي عليه الحمد للهِ

فقلت: ومن الذي بلغت به المقدرة أن يسامي بمثلك أو يدانيه؟ قال: لعلّه من بني أبيك وأمك.

ومن شعره أيضاً، وقد عوتب في كثرة الجود:

لست أخشى قلة العدم *** ما اتقيت الله في كرمي

كلّما أنفقت يخلفه *** ليَ ربٌّ واسع النعم

ص: 312

عون بن جعفر بن أبي طالب

ولد في الحبشة بعد أخيه عبد الله، وكان يشبه أباه جعفراً خلقاً وخلقاً، وأمّه أمّ إخوانه أسماء بنت عميس الخثعمية، وخلّف على أم كلثوم بنت أمير المؤمنين علیه السلام، بعد عمر، ثُمَّ بعده أخوه محمّد.

قاله صاحب العمدة: وقتل عون بالطف مع الحسين علیه السلام، وقيل: قتل هو وأخوه محمّد بشوشتر شهيدين كما سيأتي، وولد ابناً اسمه مساور له ذيل لم يطل وانقرض عقبه.

ص: 313

محمّد بن جعفر بن أبي طالب

ولد على عهد النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وأمّه أسماء بنت عميس أيضاً.

روي عن عبد الله بن جعفر إنه قال: أتى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نعي أبينا جعفر، فدخل علينا وقال لأمّنا أسماء بنت عميس: [أينَ بنوْ أخي؟]، فدعانا وأجلسنا بين يديه، وذرفت عيناه، فقالت أسماء: هل بلغك يا رسول الله عن جعفر شيء؟ قال: [نعمْ استشهدَ رحمهُ اللهُ]؛ فبكت وولولت، وخرج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

فلمّا كان بعد ثلاثة أيام دخل علينا ودعانا، فأجلسنا بين يديه كأننا أفراخ، وقال: [لا تبكينَّ على أخي - يعنى جعفر - بعد اليوم]، ثُمَّ دعا بالحلاق فحلق رؤوسنا، ثُمَّ أخذ بيد محمّد وقال: [هذا شبيه عمّنا أبي طالب] وقال لعون: [هذا شبيهُ أبيهِ خَلقاً وخُلقاً] وأخذ بيديَّ فشالهما وقال: [اللهمَّ احفظْ جعفراً في أهلهِ، وباركْ لعبدِ اللهِ في صفقتهِ]، فجاءته أُمّنا تبكي، وتذكر يتمنا، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [تخافينَ عليهمْ وأنا وليُّهم في الدنيا والآخرة!].

وقد تقدم نظير ذلك في ترجمة عبد الله وترجمة جعفر بعبارة أخرى.

قيل: قتل محمّد بن جعفر بالطفّ شهيداً مع الحسين علیه السلام .

وقال إبن عبد البر في الإستيعاب: قتل محمّد وعون بشوشتر شهيدين.

ص: 314

قال القاضي نور الله في المجالس: قول صاحب الإستيعاب هو الصواب؛ لأنّ قبر محمّد على فرسخ من دزفول، وهي من أعمال شوشتر، فيمكن أنه استشهد بشوشتر، ثُمَّ نقل إلى هناك، أو أطلق اسم شوشتر على ذلك الموضع؛ لأنّه من أعمال شوشتر.

وقال القاضي نور الله أيضاً: وتشرف محمّد بن جعفر بمصاهرة أمير المؤمنين علیه السلام على ابنته أمّ كلثوم بعد عمر بن الخطّاب.

قال المؤلف: كان لجعفر إبنان يسمّى كلٌّ منهما محمّداً، أحدهما الأكبر، ولا خلاف أنّه قُتل مع عمّه أمير المؤمنين علیه السلام بصِفّين، وهو الذي خلف عمر على أمّ كلثوم. والثاني محمّد الأصغر، وهو الذي قيل: أنه قتل بالطفّ أو بشوشتر.

قال صاحب العمدة: يقال: أنه ما أدرك الحلم، فظهر أن صاحب الترجمة إنّما هو محمّد الأكبر، وخفي على القاضي نور الله ذلك، فظنّ إنّما هو محمّد واحد، فاستصوب أنّه قُتل بشوشتر.

قال: إنّه تشرّف بمصاهرة أمير المؤمنين علیه السلام، وقد علمت أن أحدهما غير الآخر.

بقي أن صاحب عمدة الطالب قال: خلف على أمّ كلثوم - بعد عمر- عون بن جعفر بن أبي طالب، ثُمَّ بعده أخوه محمّد، فإن أراد بمحمّد هذا محمّد الأكبر، فهو قد قتل بصِفّين قبل عون، كما ذكره هو بنفسه في العمدة، فكيف خلفه عليها بعده؟ وإن أراد محمّد الأصغر، فقد قتل هو وعون معاً بالطف أو بغيره، على الخلاف في ذلك، إلّا

ص: 315

أن يكون عوناً طلقها فتزوجها بعده أحد المحمّدين، لكنّ عبارته لا تعطي ذلك, والله أعلم.

ص: 316

ربيعة بن الحرث بن عبد المطّلب

يكنى أبا أروى، وكانت له صحبة، وهو الذي قال فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم فتح مكّة: [إلّا إن كلّ مأثرةٍ كانتْ في الجاهليةِ تحتَ قدميَّ موضوعةٌ، وإنّ أوّل دمٍ وضعَ دمُ ربيعةَ بنَ الحرثِ].

وذلك أنّه قتل لربيعة بن الحرث في الجاهلية ولد يسمى آدم، وقيل: تمّام، فأبطل النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم الطلب به في الإسلام، ولم يجعل لربيعة في ذلك تبعة.

وكان ربيعة هذا أسنَّ من العبّاس - فيما ذكروا – بسنتين، وكان شريكاً لعثمان في التجارة.

وروى عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وتوفي سنة ثلاثة وعشرين في خلافة عمر.

ص: 317

الطفيل بن الحرث بن عبد المطّلب

كان من الصحابة، وشهد بدراً مع النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وكان من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام، وشهد معه الجمل وصِفّين.

ص: 318

الحرث بن نوفل بن الحرث

كان على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رجلاً، وأسلم عند إسلام أبيه نوفل، وكانت تحته كثيرة بنت أبي لهب بن عبد المطّلب.

واستعمله النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم على بعض أعمال مكّة، واستعمله أبو بكر أيضاً، وقيل: ان أبا بكر ولّاه المدينة، ثُمَّ أنتقل من المدينة الى البصرة، واختطّ بها داراً في ولاية عبد الله بن عامر، ومات بها في آخر خلافة عثمان.

هكذا قال كثير من المؤرخين، وفى كتاب (صِفّين) لنصر بن مزاحم أن عليّاً استعمله في حرب صِفّين على قريش البصرة، وهذا يدلّ على أنّه شهد صِفّين مع أمير المؤمنين علیه السلام .

ص: 319

المغيرة بن نوفل بن الحرث

يكنّى أبا يحيى، ولد على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بمكّة قبل الهجرة، وقيل: بعدها، ولم يدرك من حياة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم غير ست سنين.

وهو الذي تلقّى عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله، حين ضرب أمير المؤمنين علیه السلام، فهمَّ النّاس به، فحمل عليهم بسيفه، ففرجوا له، فتلقّاه المغيرة بن نوفل بقطيفة فرماها عليه، واحتمله وضرب به الأرض، وقعد على صدره، وانتزع السيف من يده، وكان رجلاً قوياً.

واستعمله عثمان على القضاء، فكان قاضياً في زمنه، وشهد مع أمير المؤمنين علیه السلام صِفّين.

ومن شعره أيّام صِفّين:

يا عصبة الموت صبراً لا يهولكم *** جيش ابن حرب فإن الحق قد ظهرا

وقاتلوا كل من يبغي غوائلكم *** فإنّما النصر في الضرّا لمن صبرا

أسقوا الخوارج حدّ السيف واحتسبوا *** في ذلك الخير وارجُ الله والظفرا

وأيقنوا أن من أضحى يخالفكم *** أضحى شقياً وأضحى نفسه خسرا

فيكم وصيُّ رسول الله قائدكم *** وصهره و كتاب الله قد نشرا

ص: 320

ولا تخافوا ضلالاً لا أباً لكم *** سيحفظ الدين والتقوى لمن نصرا

وتزوج المغيرة أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بعد أمير المؤمينن علیه السلام، وأوّلدها إبنه يحيى، ويقال: أن أمير المؤمنين علیه السلام هو الذي أوصاه أن يتزوجها خوفاً من أن يتزوجها معاوية.

ولما خرج الحسن علیه السلام لقتال معاوية استخلفه على الكوفة، وأمره باستحثاث النّاس وإشخاصهم إليه، فجعل يستحثهم ويخرجهم حتّى التأم العسكر وسار الحسن علیه السلام، إلى ان كان من أمر الصلح بينه وبين معاوية ما كان.

ص: 321

عبد الله بن الحرث بن نوفل

ولد على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فأتي به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فحنكه ودعا له، وقيل: ولد قبل وفاته صلی الله علیه و آله و سلم بسنتين.

يكنى أبا محمّد، وقيل: أبا إسحق، أمّه هند بنت أبي سفيان بن حرب أبي معاوية. قال إبن إلّاثير: له ولأبيه صحبة، وقيل: إن له إدراكاً ولأبيه صحبة، وكان يلقب به لأن أمّه هند بنت أبي سفيان بن حرب كانت ترقصه وهو صغير فتقول:

لأنكحن ببّه

جارية خِدبه

مكرمة محبه

تحب أهل الكعبه

قال في القاموس (ببّه) حكاية صوت صبي ولقب قرشي، والشاب الممتلئ البدن نعمة، وصفة للأحمق، والخِدبة - بكسر الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة وتشديد الباء الموحدة - الجارية المشتدة الممتلأة اللحم، وقولها: تجِب - بكسر الجيم - أي تغلب أهل الكعبة في الحسن والجمال، يقال: جبه إذا غلبه، وجبت فلانة النساء إذا غلبتهن بالحسن.

ص: 322

وكان عبد الله المذكور مع أمير المؤمنين علیه السلام، وشهد معه مشاهده كلّها.

ولما أراد الحسن علیه السلام صلح معاوية وجّه به رسولاً إلى معاوية، وكان والياً على البصرة في زمن يزيد بن معاوية، فلمّا مات يزيد اتفق أهل البصرة عليه حتّى يجتمع النّاس على إمام يرضونه.

وإنّما اتفقوا عليه لأن أباه من بني هاشم، وأمّه من بني أمية، وفيه يقول الفرزدق:

وبايعت أقواماً وفيت بعهدهم *** وببة قد بايعته غير نادم ِ

ثُمَّ خرج مع إبن الأشعث، فلمّا هزم هرب إلى عمان، فمات بها سنة أربع وثمانين والله أعلم.

ص: 323

عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث

رأى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وكان معه مسلماً بعد الفتح.

قال إبن عساكر: ولحق بعليٍّ علیه السلام بالمدائن.

قال الوليد بن عقبة وهو أخو عثمان لأمّه يذكر قبض أمير المؤمنين علیه السلام نجائب عثمان وسيفه وسلاحه:

بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم *** ولا تنهبوه لا تحل نهائبه

بني هاشم كيف الهوادة بيننا *** وعند عليّ درعه ونجائبه

بني هشام كيف التودد منكم *** وبن إبن أروى فيكم وحرائبه

بني هاشم إلّا تردوا فإننا *** سواء علينا قاتلاه وسالبه

بني هاشم إنّا وما كان منكم *** كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه *** كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه

فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بأبيات طويلة من جملتها:

فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم *** أُضيع وألقاه لدى الروع صاحبه

وشبهته كسرى وقد كان مثله *** شبيهاً بكسرى هديه وضرائبه

ص: 324

أي كان كافراً كما كان كسرى كافراً، ومنها:

ومنا عليّ الخير صاحب خيبر *** وصاحب بدر يوم سالت كتائبه

وكان وليّ الأمر بعد محمّد *** عليُّ وفى كل المواطن صاحبه

وصى النبيّ المصطفى وابن عمه *** وأوّل من صلّى ومن لان جانبه

وصنو رسول الله حقاً وجاره *** فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه

قال شيخنا المفيد قدس الله روحه: في هذا الشعر دليل على اعتقاد هذا الرجل في أمير المؤمنين علیه السلام أنّه كان الخليفة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بلا فصل.

وكان المنصور إذا أنشد شعر الوليد المذكور يقول: لعن الله الوليد، هو الذي فرق بين بني عبد مناف بهذا الشعر.

ومن شعره في عليّ علیه السلام قوله رحمه الله:

وصلّى عليٌّ مخلصاً بصلاته *** لخمس وعشر من سنيه كوامل ِ

وخلّى أناساً بعده يتبعونه *** له عمل أفضل به صنع عامل

قال الواقدي: قتل عبد الله بن أبي سفيان بكربلاء شهيداً مع الحسين علیه السلام .

ص: 325

العبّاس بن ربيعة بن الحرث

كان من شجعان قريش وأبطالها، ذا قدرة وجاه، أقطعه عثمان داراً بالبصرة، وأعطاه مائة ألف درهم.

وشهد صِفّين مع أمير المؤمنين علیه السلام، وأبلى بها بلاءً حسناً.

روى إبن قتيبة في كتاب (عيون الأخبار) قال: قال أبو الأغر التميمي: بينا أنا واقف بصِفّين، إذ مرّ بي العبّاس بن ربيعة مكفراً في السلاح، وعيناه تبصان من تحت المغفر كأنهما عينا أرقم، وبيده صفيحة يمانية، وهو على فرس له صعب، فبينا هو يمعثه ويلين من عريكته، إذ هتف به هاتف من أهل الشام يعرف بغرار بن أدهم: يا عبّاس هلمَّ إلى البراز، قال العبّاس: فالنزول إذاً، فإنه أيأس من القفول، فنزل الشامي وهو يقول:

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا *** أو تنزلونا فإنا معشر نزلُ

ونزل العبّاس أيضاً، ثُمَّ عصب فضلات درعه في حجزته، ودفع فرسه إلى غلام أسود يقال له: أسلَم، كأنّي والله أنظر إلى فلافل شعره، ثُمَّ دلف كل واحد منهما إلى صاحبه، فذكرت قول أبي ذويب:

فتنازلا وتوافقت خيلاهما *** وكلاهما بطل اللقاء مخدعُ

ص: 326

فكف النّاس أعنّة خيولهم ينظرون ما يكون من الرجلين، فتكافحا بسيفيهما مليّاً من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه؛ لكمال لامته، إلى أن لحظ العبّاس وهناً في درع الشامي، فأهوى إليه بيده فهتكه إلى تندوته، ثُمَّ عاد لمجأوّلته، وقد أصحر له مفتق الدرع، فضربه العبّاس ضربة انتظم بها جوانح صدره؛ فخرّ الشامي لوجهه، وكبّر النّاس تكبيرة ارتجت بها الأرض من تحتهم.

وسما العبّاس في النّاس، فإذا قائل يقول من ورائي: ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ﴾ (1)، فالتفت فإذا أمير المؤمنين علیه السلام فقال: {يا أبا الأغر من المنازل لعدونا؟) قلت: هذا ابن أخيكم، هذا العبّاس بن ربيعة، فقال: {وإنّه لهو، يا عباس ألم أنهك وابن عبّاس أن تخلّا بمراكزكما، وأن لا تباشرا حرباً؟}، قال: إن ذلك كان، قال علیه السلام: {فما عدا عمّا بدا؟} قال: يا أمير المؤمنين أفأُدعى إلى البراز فلا أجيب؟ فقال علیه السلام: {نعمْ طاعةُ إمامِك أولى منْ إجابةِ عدوّكَ}.

ثُمَّ تغيّظ وأستطار حتّى قلت: الساعة الساعة، ثُمَّ سكن وتطامن، ورفع يديه مبتهلاً وقال: {اللهمَّ اشكر للعبّاسِ مقامَهُ، واغفرْ لهُ ذنبهُ، اللهمَّ إنّي قدْ غفرتُ لهُ فاغفرْ لهُ}.

ص: 327


1- سورة التوبة – الآيتان: 14 , 15

وأسف معاوية على غرار وقال: متى ينطف فحل بمثله؟ أيطلّ دمه؟ لاها الله إذاً إلّا رجل يشري نفسه لله يطلب بدم غرار؟ فانتدب له رجلان من لخم، فقال لهما: إذهبا فأيّكما قتل العبّاس برازاً فله كذا، فأتياه ودعوه للبراز فقال: إن لي سيداً أريد أن أوآمره، فأتى عليّاً فأخبره الخبر، فقال عليّ: {والله لودَّ معاويةُ أنّه ما يبقى منْ بني هاشمَ نافخُ ضرمةٍ إلّا طعنَ في بطنهِ، إطفاءً لنورِ اللهِ،﴿وَيَأْبَى اللّهُ إلّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (1).

أما والله ليملكنّهم منّا رجال ورجال، يسومونهم الخسف حتّى يحتفروا الآبار، ويتكففوا النّاس، ويتواكلوا على المساحي}.

ثُمَّ قال: {يا عبّاس ناقلني سلاحك بسلاحي}؛ فناقله، ووثب علیه السلام على فرس العبّاس وقصد اللخميين، فما شكّا أنّه هو، فقالا له: أذن لك صاحبك؟ فتحرج أن يقول: نعم فقال علیه السلام: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ (2)، فبرز له أحدهما فكأنّه اختطفه، ثُمَّ برز إليه الآخر فألحقه بالآخر، ثُمَّ أقبل وهو يقول: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ

ص: 328


1- سورة التوبة – الآية: 32
2- سورة الحج – الآية: 39

بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ (1)، ثُمَّ قال: {يا عبّاسُ خذْ سلاحَك وهاتِ سلاحي فإنّ عادَ إليكَ أحدٌ فعدْ إليَّ}.

قال: فبلغ الخبر إلى معاوية فقال: قبح الله اللجاج، إنّه لقعود ما ركبه أحد قطّ إلّا خذله، فقال عمرو بن العاص: المخذول والله اللخميان لا أنت، فقال: أسكت أيّها الرجل فليست هذه من ساعاتك، قال: وإن لم يكن فرحم الله اللخميين، وما أراه يفعل، قال: فإن ذلك والله أخسر لصفقتك وأضيق لحجرك، قال: قد علمت ولولا مصر لركبت المنجاة منها، قال: هي أعمتك ولولاها ألفيت بصيراً.

قال ابن قتيبة: وكان تحت العبّاس أم فراس بنت حسّان بن ثابت، فولدت له أولاداً، وعقبه كثير.

ص: 329


1- سورة البقرة – الآية: 194

العبّاس بن عتبة بن أبي لهب

كان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم زوّج إبنته رقيّة أباه عتبة بن أبي لهب، ففارقها قبل دخوله بها.

روي أنّه جاء إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فقال له: كفرت بدينك وفارقت ابنتك؛ لا تحبّني ولا أحبّك، ثُمَّ سطا عليه وشقّ قميصه، وهو خارج إلى الشام تاجراً، فقال له النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [أما إنّي أسألُ اللهَ أنْ يسلَطَ عليكَ كلباً]، فخرج في نفر من قريش حتّى نزلوا مكاناً من الشام يقال له: الزرقاء، ليلاً، فأطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتبة يقول: يا ويل أمّي! هو والله آكلي، كما دعا عليَّ محمّد، قاتلي ابن أبي كبشة وهو بمكّة وأنا بالشام، فعدا عليه الأسد من بين القوم فأخذ برأسه فصرعه.

وعن عروة بن الزبير أن عتبة لما أراد الخروج إلى الشام أتى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: يا محمّد هو يكفر بالذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، ثُمَّ تفل ورد التفلة على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [اللهمَّ سلّطْ عليهِ كلباً منْ كلابِكَ]، وأبو طالب رضی الله عنه حاضر فوجم لها، فقال: ما كان أغناك عن دعوة ابن أخي!.

ثُمَّ خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلاً، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال: أرض مسبعة، فقال أبو لهب - وكان في القوم -: يا معشر قريش أعينونا هذه الليلة، فإنّي أخاف دعوة محمّد؛ فجمعوا أحمالهم، وفرشوا لعتبة في أعلاها، وباتوا حوله، فجاء الأسد، فجعل يشمّ وجوههم، ثُمَّ ثنى ذنبه فوثب على عتبة، فضربه ضربة واحدة فشدخه، فقال: قتلني، ومات.

ص: 330

وقال بعضهم: إن الذي قتله الأسد هو عتيبة - بالتصغير - بن أبي لهب، وكانت تحته أمّ كلثوم بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

وأمّا عتبة أبو العبّاس فأسلم هو وأخوه معتب يوم الفتح، وكانا قد هربا من النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم .

روى عبد الله بن عبّاس عن أبيه العبّاس بن عبد المطّلب قال: لما قدم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مكّة في الفتح قال: [يا عبّاسُ إنَّ ابني أخيك عتبةَ ومعتبَ لا أراهما]، قال: قلت: يا رسول الله تنحيا من قربك، فقال: [إذهبْ إليهما فأتني بهما]، قال العبّاس: فركبت إليهما وهما بعرفة، فقلت لهما: ان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يدعوكما فركبا معي، فقدما على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فدعاهما إلى الإسلام فبايعا.

وفى رواية فسرَّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بإسلامهما ودعا لهما.

قال أبو عمرو: وشهد عتبة ومعتب حُنَيناً مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وفقأت عين معتب بحُنَين، وكان فيمن ثبت ولم ينهزم، وشهدا معه الطائف، ولم يخرجا من مكّة، ولم يأتيا المدينة، ولهما عقب.

ص: 331

قال الزبير بن بكار: وفارق عتبة أمَّ كلثوم بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قبل دخوله بها أيضاً، وذلك أنه لمّا نزلت: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ (1) قال لهما أبوهما: رأسي من رأسكما حرام، إن لم تفارقا ابنتي محمّد؛ ففارقاهما ولم يكونا دخلا بهما.

وأمّا العبّاس بن عتبة فلا خلاف في إسلامه، ولما مات النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم كان رجلاً، وتزوج أمينة بنت العبّاس بن عبد المطّلب، فولدت له الفضل الشاعر المشهور.

قال إبن حجر في (الإصابة): والفضل هذا هو صاحب الأبيات المشهورة في أمير المؤمنين عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام حين بويع بالخلافة لأبي بكر وهي:

ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفاً *** عن هاشم ثُمَّ منها عن أبي حسن ِ

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم *** وأعلم النّاس بالقرآن والسنن

وأقرب النّاس عهداً بالنبيّ ومن *** جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما فيهم من كل صالحة *** وليس في كلّهم ما فيه من حسن

ما ذا الذي ردّكم عنه فنعرفه *** ها أن بيعتكم من أوّل الفتن

وعن مؤيد الدين الخوارزمي في (المناقب) قال: هذه الأبيات للعباس بن عبد المطّلب عم النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وعزاها الشريف المرتضى في كتاب (المجالس) لربيعة بن الحرث

ص: 332


1- سورة المسد – الآية: 1

بن عبد المطّلب، وعزاها القاضي البيضاوي والنيسابوري في تفسيريهما لحسّان بن ثابت.

وقال الزبير بن بكار: لما بويع أبو بكر قال بعض ولد أبي لهب بن عبد المطّلب:

ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفاً *** عن هاشم ثُمَّ منها عن أبي حسن

الأبيات .. قال: فبعث عليه عليٌّ علیه السلام فنهاه وأمره أن لا يعود، وقال علیه السلام: {سلامةُ الدينِ أحبُّ إلينا منْ غيرِهِ}.

قال القاضي نور الله رادّاً على إبن حجر في نسبتها إلى الفضل بن العبّاس المذكور يكذب ذلك: إن هذا الشعر لا يقوله إلّا من كان موجوداً قبل انصراف الخلافة عن أمير المؤمنين علیه السلام، ولم يكن في حسبانه أنّها منصرفة عنه، والعبّاس بن عتبة لم يكن له إذ ذاك ولد بهذه الصفة.

قال: وفى كلام إبن حجر مؤاخذة أخرى، وهي أن الفضل لم يكن إبن العبّاس كما توّهم، بل هو أخوه، فهو الفضل بن عتبة بن أبي لهب، كما صرح به السيد المرتضى قدس سره في (المنتقى) قال: والشعر المشهور عنه هي الأبيات التي أجاب بها الوليد بن عقبة حين قال يرثي عثمان، ويحرض النّاس على مخالفة أمير المؤمنين علیه السلام، وأوّل شعره:

إلّا إن خير النّاس بعد ثلاثة *** قتيل النجيبي الذي جاء من مصر ِ

ص: 333

فقال الفضل بن عتبة يجيبه:

إلّا إنّ خير النّاس بعد محمّد *** مهيمنه التاليه في العرف والنكر ِ

وخيرته في خيبر ورسوله *** بنبذ عهود الشرك فوق أبي بكر

وأوّل من صلّى وصنو نبيه *** وأوّل من أردى الغواة لدى بدر

فذاك عليُّ الخير من ذا يفوقه *** أبو حسن حلف القرابة والصهر

قال: وإبن حجر وأضرابه في الحقيقة في مثل هذه الإشتباهات معذورون؛ لأنّهم عن معرفة أهل البيت، والعلم بأحوال بني هاشم بعداء مهجورون.

وإمّا السيد المرتضى فهو أحد ذريّة أهل البيت علیهم السلام وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.

قال المؤلف: لا شكّ أن العبّاس بن عتبة كان له ولد أسمه الفضل، وهو أحد شعراء بني هاشم المذكورين وفصحائهم المشهورين، وقد تقدم أن أمّه أمينة بنت العبّاس بن عبد المطّلب، لا يخالف في ذلك أحد من علماء النسب، وستأتي ترجمته في الطبقة الحادية عشرة إن شاء الله.

فمؤاخذة القاضي الثانية لا محلّ لها، ولا يبعد أن يكون للعبّاس أخ إسمه الفضل أيضاً.

واعلم أن الأبيات التي نسبها القاضي إلى الفضل بن عتبة مجيباً بها الوليد ابن عقبة ذكرها الشريف المرتضى في كتاب (الفصول)، وعزاها إلى الفضل بن عتبة أيضاً.

ص: 334

وذكر أبو جعفر الطبري في (تاريخه) أنّها للفضل بن العبّاس بن عبد المطّلب، وهو باطل؛ لأن الفضل بن عبّاس بن عبد المطّلب لم يدرك خلافة عثمان باتفاق المؤرخين، وقد تقدم تاريخ وفاته والإختلاف فيه، ولم يذكر أحد أنّه بقي إلى زمن عثمان، فكيف يجيب الوليد عن شعر قاله بعد قتل عثمان، والله أعلم.

وقتل العبّاس بن عتبة شهيداً في يوم الحرّة، سنة أربع وستين في خلافة يزيد.

ص: 335

عبد المطّلب بن ربيعة بن الحرث

له صحبة ورواية عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وروي ان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم غير إسمه، وسمّاه المطّلب. ولم يزل بالمدينة إلى خلافة عمر، ثُمَّ سار إلى دمشق ومات بها سنة اثنتين وستين من الهجرة، في خلافة يزيد لعنة الله عليه، والله أعلم.

ص: 336

جعفر بن أبي سفيان بن الحرث

أمّه جمانة بنت أبي طالب رضی الله عنه، وذكر أهل بيته أنّه شهد حُنَيناً مع النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ووقعة بئر معاوية، وأنّه لم يزل مع ابنه ملازماً لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتّى قبض، وتوفي بدمشق سنة خمسين في خلافة معاوية.

قال المؤلف: إعلم أن بني هاشم كلّهم، من ذكرناه ومن لم نذكره، لم يبايعوا أبا بكر حتّى بايع أمير المؤمنين علیه السلام كرهاً؛ لقلة أنصاره، ولعهد عهده إليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وقد تكرر ذلك في كلامه علیه السلام علیه السلام .

فمن ذلك قوله علیه السلام: {اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْش، فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَأَكْفَأُوا إِنَائِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أولى بِهِ مِنْ غَيْرِي، وَقَالُوا: إلّا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَفِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ، فَاصْبِرْ مَغْمُوماً، أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً.

فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ، وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ مُسَاعِدٌ، إلّا أَهْلَ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذى، وَجَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الغَيْظِ عَلى أَمَرَّ مِنَ العَلْقَمِ، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ حَزِّ الشِّفَارِ}.

قال الشيخ كمال الدين بن ميثم: إعلم أن هذا الفصل يشمل على اقتصاص صورة حاله بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في أمر الخلافة، وهو اقتصاص في معرض التظلم والشكاية، ممن يرى أنّه أحق منه بالأمر، فأشار إلى أنّه فكر في أمر المقاومة

ص: 337

والدفاع عن هذا الحق، الذي يراه أولى به، فرأى أنّه لا ناصر له إلّا أهل بيته، وهم قليلون بالنسبة إلى من لا يعينه أو يعين عليه، فإنّه لم يكن له معين إلّا بني هاشم، كالعبّاس وبنيه، وأبي سفيان بن الحرث ومن يخصّهم، وضعفهم وقلّتهم عن مقاومة جمهور الصحابة ظاهر؛ فضنّ بهم عن الموت لعلمه علیه السلام أنّه لو قام بهم لقتلوا، ثُمَّ لا يحصل له مقصوده.

قال: واعلم أنّه قد اختلف الناقلون لكيفية حاله علیه السلام بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فروى المحدثون من الشيعة وغيرهم أخباراً كثيرة، ربّما خالف بعضها بعضاً، بحسب اختلاف الأهواء منها.

والذي عليه جمهور الشيعة أن عليّاً علیه السلام امتنع من البيعة لأبي بكر، وامتنع معه جماعة بني هاشم كالزبير وأبي سفيان بن الحرث والعبّاس وبنيه وغيرهم، وقالوا: لا نبايع إلّا عليّاً علیه السلام، وإن الزبير شهر سيفه، فجاء عمر في جماعة من الأنصار، فأخذ سيفه فضرب به الحجر فكسره، وحملت جماعتهم إلى أبي بكر فبايعوه وبايع معهم عليّ علیه السلام كرهاً.

وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثني أبو زيد عمر بن شيبة، قال: حدّثنا أحمد بن معاوية، قال: حدثني النضر بن سهيل، قال: حدّثنا محمّد بن عمرو، عن مسلمة بن عبد الرحمن، قال: لما جلس أبو بكر على المنبر كان عليٌّ علیه السلام والزبير وناس من بني هاشم في بيت فاطمة علیها السلام، فجاء عمر إليهم فقال: والذي نفسي بيده لتخرجن أو لأحرقن البيت عليكم، فخرج الزبير مصلتاً سيفه،

ص: 338

فاعتنقه رجل من الأنصار وزياد بن لبيد فدقّ به فبدر السيف، فصاح به أبو بكر وهو على المنبر: إضرب به الحجر.

قال أبو عمرو بن حماس: فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة، ويقال: هذه ضربة سيف الزبير، ثُمَّ قال أبو بكر: دعوهم فسيأتي الله بهم.

ونقل أحمد بن عبد ربه في كتاب (العقد) أن أبا بكر بعث إليهم عمر بن الخطّاب؛ ليخرجهم من بيت فاطمة علیها السلام، وقال: إن أبوا فقاتلهم، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم النار، فلقيته فاطمة علیها السلام فقالت: يا ابن الخطّاب أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمّة.

وروى غير واحد أن عليّاً علیه السلام وسائر بني هاشم لم يبايعوا أبا بكر ستة أشهر، حتّى بايع عليّ علیه السلام مكرهاً، فبايع بنو هاشم.

وفى حديث عوف عن الزهري فلمّا رأى عليٌّ علیه السلام انصراف وجوه النّاس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر، فقال رجل للزهري: فلم يبايعه عليٌّ علیه السلام ستة أشهر، فقال: لا والله، ولا واحد من بني هاشم، حتّى بايعه عليٌّ علیه السلام .

قال المؤلف: ولهذا ذكرنا بني هاشم في طبقات الشيعة، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.

ص: 339

الباب الثاني: في ذكر غير بني هاشم من الصحابة المرضيّة والشيعة المرتضوية رضوان الله عليهم

اشارة

ص: 340

عمر بن أبي سلمة

عمر بن أبي سلمة بن عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة.

يكنّى أبا حفص، أمّه أمّ سلمة زوج النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وهو ربيب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، مات صلی الله علیه و آله و سلم وهو إبن تسع سنين، وحفظ عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الحديث، وروى عنه سعيد بن المسيب وغيره.

وشهد هو وأخوه سلمة مع عليّ علیه السلام حروبه، وروي أن أمّهما أتت بهما إليه علیه السلام فقالت: هما عليك صدقة، فلو يصلح لي الخروج لخرجت معك.

وذكر الشيخ في (رجاله)، والعلّامة في (الخلاصة) بدل عمر محمّداً، فقالا: محمّد بن أبي سلمة، وما ذكرناه هو الصحيح.

وروى هشام بن محمّد الكلبي في كتاب (الجمل) أن أمّ سلمة رضی الله عنه كتبت إلى عليٍّ علیه السلام من مكّة: أمّا بعد فإن طلحة والزبير وأشياعهم أشياع الضلالة، يريدون أن يخرجوا بعائشة، ويذكرون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنهم يطلبون بدمه، والله كافيكهم بحوله وقوته، ولولا ما نهانا الله عنه من الخروج، وأمرنا به من لزوم البيوت، لم أدعْ الخروج إليك والنصرة لك، ولكني باعثة نحوك إبني، عدل نفسي، عمر بن أبي سلمة، فاستوص به يا أمير المؤمنين خيراً.

ص: 341

قال: فلمّا قدم عمر على أمير المؤمنين علیه السلام أكرمه، ولم يزل مقيماً معه حتّى شهد مشاهده كلّها.

ووجّهه عليٌّ علیه السلام أميراً إلى البحرين وقال لابن عمّ له: {بلغني أن عمر يقول الشعر، فابعث إليَّ من شعره}؛ فبعث إليه بأبيات له أوّلها:

جزتك أمير المؤمنين قرابة *** رفعت بها ذكري جزاءً موقّرا

ولم يزل عمر المذكور عاملاً لأمير المؤمنين علیه السلام على البحرين حتّى عزله، واستعمل النعمان بن عجلان الرزقي على البحرين مكانه.

ولمّا أراد عزله كتب إليه علیه السلام: {أمّا بعدُ فإنّي وَلّيتُ النعمانَ بنَ عجلانَ الرزقي على البحرينَ، ونزعتُ يدكَ بلا ذمٍّ لكَ، ولا تثريبَ عليكَ، فَقدْ أَحسنتَ الولايةَ وأَديتَ الأمانةَ، فَأقبلْ غيرَ ظنينٍ ولا مَلومَ ولا مُتّهمَ ولا مأثومَ، فقدْ أردتُ المسيرَ إلى ظَلَمةِ أهلِ الشامِ، وأحببتُ أنْ تشهدَ معي، فإنّكَ ممّنْ أستظهرُ بهِ على جِهادِ العدوِّ وإقامةِ عَمودِ الدينِ، إنْ شاءَ اللهُ تَعالىْ}.

وذكر هذا الكتاب السيد الرضى رحمه الله في (نهج البلاغة).

قال إبن عبد البر في كتاب (الإستيعاب): توفي عمر بن أبي سلمة بالمدينة، في خلافة عبد الملك سنة ثلاثة وثمانين، وقال صاحب منهج المقال: قتل مع أمير المؤمنين علیه السلام بصِفّين، وهو غلط، وما ذكره إبن عبد البر هو الصحيح والله أعلم.

ص: 342

سلمان الفارسي

أصله من فارس من رامهرمز، وقيل: بل من أصبهان، من قرية يقال لها: جي، بفتح الجيم وتشديد إليَّاء المثناة من تحت.

وكان اسمه عند أبيه روزبه، وقيل: ماهو، وقيل: مابه بن بهبود بن بدخشان، من ولد منوجهر الملك، وقيل: بهبودان بن بودخشان بن موسلان بن فيروز بن مهرك، من ولد الملك.

وهو معدود من موالي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكنيته أبو عبد الله، وكان إذا قيل له: إبن من أنت؟ يقول: أنا سلمان ابن الإسلام، أنا من بني آدم.

قال ابن بابويه رحمه الله: كان اسم سلمان روزبه بن خشنبودان، وما سجد قطّ لمطلع الشمس كما كان يفعل قومه، وإنّما كان يسجد له عزَّ وجلَّ، وكانت القبلة التي أمر بالصلاة إليها شرقية، وكان أبواه يظنان أنّه إنّما يسجد لمطلع الشمس مثلهم.

وكان سلمان وصيَّ عيسى علیه السلام في أداء ما حمل إلى من انتهت إليه الوصية من المعصومين.

وقد روي أنّه تداوله أرباب كثيرة، بضعة عشر ربّاً، من واحد إلى آخر، حتّى أفضى إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكان إسلامه للسنة الأولى من الهجرة، وفى رواية في جمادى الأولى منها.

ص: 343

وقد ذكر كثير من المحدثين حديث إسلامه، ورووه عنه بوجوه مختلفة، الأشهر منها ما روي أنّه قال: كنت ابن دهقان قرية جيّ من أصبهان، وبلغ من حب أبي إليَّ أن حبسني في البيت كما تحبس الجارية، فاجتهدت في المجوسية حتّى صرت قطة بيت النار، فأرسلني أبي يوماً إلى ضيعة له، فمررت بكنيسة النصارى، فدخلت عليهم فأعجبتني صلاتهم، فقلت: دين هؤلاء خير من ديني، فسألتهم أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فهربت من والدي، حتّى قدمت الشام، فدخلت على الأسقف، وجعلت أخدمه وأتعلم منه، حتّى حضرته الوفاة، فقلت له: إلى من توصي لي؟ فقال: قد هلك النّاس وتركوا دينهم، إلّا رجلًا بالموصل فالحق به، فلمّا قضى نحبه لحقت بذلك الرجل، فلم يلبث إلّا قليلاً حتّى حضرته الوفاة، فقلت له: إلى من توصي لي؟ فقال: ما أعلم رجلاً بقي على الطريقة المستقيمة إلّا واحداً بنصيبين، فلحقت بصاحب نصيبين، قالوا: وتلك الصومعة اليوم باقية، وهي التي تعبّد فيها سلمان قبل الإسلام.

ثُمَّ احتضر صاحب نصيبين، فبعثني إلى رجل بعمورية من أرض الروم فأتيته، وأقمت عنده، واكتسبت بقيرات وغنيمات، فلمّا نزل به الموت قلت له: إلى من توصي لي؟ فقال: قد ترك النّاس دينهم، وما بقي أحد منهم على الحق، وقد أطلّ زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين، بها نخل، قلت: فما علامته؟ قال: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة.

ص: 344

قال: ومرَّ بي ركب من كلب، فخرجت معهم، فلمّا بلغوا وادي القرى ظلموني، وباعوني من يهودي، فكنت أعمل له في نخله وزرعه، فبينا أنا عنده إذ قدم ابن عمٍّ له فابتاعني منه، وحملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلّا ان رأيتها فعرفتها.

وبعث الله محمّداً صلی الله علیه و آله و سلم بمكّة، ولا علم لي بشيء من أمره، فبينا أنا في رأس نخلة، إذ أقبل ابن عمّ لسيدي فقال: قاتل الله بني قيلة، قد اجتمعوا على رجل بقبا قدم عليهم من مكّة، يزعمون أنه نبيٌّ، فأخذني العرق والإنتفاض، ونزلت عن النخلة، وجعلت استقصي في السؤال، فما كلمني سيدي بكلمة، بل قال: أقبل على شأنك، ودع ما لا يعنيك.

فلمّا أمسيت أخذت شيئا كان عندي من التمر، وأتيت به النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فقلت له: بلغني أنك رجل صالح، وأن لك أصحاباً غرباء ذوي حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحقّ به من غيركم، فقال صلی الله علیه و آله و سلم لأصحابه: [كُلوا] وأمسك فلم يأكل، فقلت في نفسي: هذه واحدة، وانصرفت.

فلمّا كان من الغد أخذت ما كان بقي عندي وأتيته به، فقلت له: إنّي رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية، فقال صلی الله علیه و آله و سلم:[كُلوا]، وأكل معهم، فقلت في نفسي: هاتان اثنتان.

ثُمَّ جئت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو ببقيع الغرقد، وقد تبع جنازة رجل من أصحابه، عليه شملتان له، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثُمَّ استدرت خلفه أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصفه لي صاحبي بعمورية.

ص: 345

فلمّا رآني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أستدبره عرف أنّي أثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم، فأكببت عليه أقبّله وأبكي، فقال: [مالكَ؟!]، فقصصت عليه القصة، فأعجبه ثُمَّ قال: [يا سلمانُ كاتبْ صاحبَكَ]، فكاتبته على ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم للأنصار: [أعينوا أخاكم]، فأعانوني بالنخل حتّى جمعت ثلاثمائة وديّة، فوضعها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بيده فصحت كلّها، وأتاه مال من بعض المغازي فأعطاني منه وقال: [أدِّ كتابتك] فأديت واعتقت.

وروى إبن بابويه في كتاب (إكمال الدين) خبر إسلامه بإسناده إلى موسى بن جعفر علیهما السلام قال: حدثني أبي صلوات الله عليه أن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام وسلمان الفارسي وأبا ذرّ وجماعة من قريش كانوا مجتمعين عند قبر النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فقال أمير المؤمنين علیه السلام: {يا أبا عبدِ اللهِ إلّا تخبرنا بمبدأِ أمرِكَ ؟}.

فقال سلمان: والله يا أمير المؤمنين لو أن غيرك سألني ما أخبرته، أنا كنت رجلاً من أبناء أهل شيراز من الدهاقين، وكنت عزيزاً على والدي، فبينا أنا سائر مع والدي في عيد لهم إذ أنا بصومعة، وإذا فيها رجل ينادي (أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن عيسى روح الله، وأن محمّداً حبيب الله)؛ فرصف حب محمّد صلی الله علیه و آله و سلم في لحمي ودمي، فلم يهنئني طعام ولا شراب، فقالت لي أمّي: ما لك اليوم لم تسجد لمطلع الشمس ؟ قال: فكابرتها حتّى سكتت، فلمّا انصرفت إلى منزلي إذ أنا بكتاب معلق من السقف، فقلت لأمي: ما هذا الكتاب؟ فقالت: روزبه إن هذا الكتاب لما رجعنا من عيدنا رأيناه معلقاً فلا تقرب ذلك المكان، فإنك إن قربته قتلك أبوك، قال: فجاهدتها

ص: 346

حتّى جنَّ الليل ونام أبي وأمي، فقمت فأخذت الكتاب فإذا فيه (بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد من الله إلى آدم علیه السلام أنه خلق من صلبه نبياً يقال له: محمّد يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن عبادة إلّاوثان، يا روزبه أنت وصيُّ عيسى فآمن واترك المجوسية).

قال: فصعقت صعقة وزادني شدة، قال: فعلم أبي وأمي بذلك، فأخذوني وجعلوني في بئر عميقة، وقالا لي: إن رجعت وإلّا قتلناك، فقلت لهما: إفعلا بي ما شئتما، فإن حبّ محمّد لا يذهب من صدري.

قال سلمان: ما كنت أعرف العربية قبل قراءتي ذلك الكتاب، ولقد فهمني الله العربية من ذلك اليوم، قال: فبقيت في البئر، فجعلوا ينزلون إليَّ أقراصاً صغاراً.

قال: فلمّا طال أمري رفعت يدي إلى السماء فقلت: يا ربِّ إنك حببت محمّداً ووصيّه إليَّ، فبحق وسيلته عجل فرجي، وأرحني مما أنا فيه، فأتاني آتٍ عليه ثياب بيض فقال: قم يا روزبه فأخذ بيدي وأتى بي إلى الصومعة فأنشأت أقول: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن عيسى روح الله، وأن محمّداً حبيب الله، فأشرف علي الديراني فقال: أنت روزبه، فقلت: نعم، فقال: إصعد، فأصعدني إليه، فخدمته حولين كاملين، فلمّا حضرته الوفاة قال: إنّي ميت، فقلت: على من تخلفني؟ قال: لا أعرف أحداً يقول بمقالتي إلّا راهباً بأنطاكية، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام، وادفع إليه هذا اللوح، وناولني لوحاً، فلمّا مات غسلته وكفنته ودفنته.

ص: 347

وأخذت اللوح وصرت به إلى أنطاكية، وأتيت الصومعة وأنشأت أقول: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن عيسى روح الله، وأن محمّداً حبيب الله، فأشرف على الديراني، فقال لي: أنت روزبه؟ فقلت: نعم، فقال: إصعد فصعدت وخدمته حولين كاملين، فلمّا حضرته الوفاة قال: إنّي ميّت، فقلت: على من تخلفني؟ فقال: لا أعرف أحداً يقول بمقالتي هذه إلّا راهباً بإلّاسكندرية، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام، وادفع إليه هذا اللوح، فلمّا توفي غسلته وكفنته ودفنته.

وأخذت اللوح وأتيت الصومعة، فأنشأت أقول: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن عيسى روح الله، وأن محمّداً حبيب الله، فأشرف على الديراني فقال لي: أنت روزبه؟ فقلت: نعم، فقال إصعد فصعدت إليه، فخدمته حولين كاملين، فلمّا حضرته الوفاة قال لي: إنّي ميت، قلت: على من تخلفني؟ قال: لا أعرف أحداً يقول في الدنيا بمقالتي هذه، وإن محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب قد حانت ولادته، فإذا أتيته فاقرأه عني السلام، وادفع إليه هذا اللوح، قال: فلمّا توفي غسلته وكفنته ودفنته.

وأخذت اللوح وخرجت، فصحبت قوماً فقلت لهم: يا قوم إكفوني الطعام والشراب أكفكم الخدمة، قالوا: نعم، قال: فما ارادوا أن يأكلوا شدّوا على شاة فقتلوها بالضرب، ثُمَّ جعلوا بعضها كباباً وبعضها شوياً، فامتنعت من الأكل، فقالوا: كُلْ، فقلت: إنّي غلام ديراني، وإن الديرانيين لا يأكلون اللحم، فضربوني فكادوا يقتلونني، فقال بعضهم: أمسكوا عنه حتّى يأتيكم شرابكم، فإنّه لا يشرب، فلمّا أتوا بالشراب قالوا: إشرب، فقلت: إنّي غلام ديراني، وإن الديرانيين لا يشربون الخمر، فشدّوا علي

ص: 348

وأرادوا قتلي؛ فقلت لهم: يا قوم لا تضربوني ولا تقتلوني، فإنّي أقرّ لكم بالعبودية، فأقررت لواحد منهم، فأخرجني وباعني بثلاثمائة درهم من رجل يهودي.

قال: فسألني عن قصتي فأخبرته، وقلت: ليس لي ذنب إلّا أنّي أحببت محمّداً ووصيّه، فقال إليهودي: وإنّي لأبغضك وأبغض محمّداً، ثُمَّ أخرجني إلى خارج داره، وإذا رمل كثير على بابه، فقال: والله يا روزبه لئن أصبحت ولم تنقل هذا الرمل كله من هذا الموضع لأقتلنك، قال: فجعلت أحمل طول ليلي، فلمّا جهدني التعب رفعت يدي إلى السماء فقلت: يا ربِّ حببت محمّداً ووصيّه إليَّ، فبحق وسيلته عجّل فرجي وأرحني مما أنا فيه؛ فبعث الله عزَّ وجلَّ ريحاً فقلعت ذلك الرمل من مكانه إلى المكان الذي قال إليهودي، فلمّا أصبح نظر إلى الرمل قد نقل كله، فقال: يا روزبه أنت ساحر، وأنا لا أعلم، فلأخرجنّك من هذه القرية كي لا تهلكنا.

قال: فأخرجني وباعني من امرأة سليمية، فأحببتني حبّاً شديداً، وكان لها حائط، فقالت: هذا الحائط لك، كُلْ منه ما شئت، وهبْ وتصدّق.

قال: فبقيت في ذلك الحائط ما شاء الله، فبينا أنا ذات يوم في الحائط، إذا أنا بسبعة رهط قد أقبلوا تظلهم غمامة، فقلت في نفسي: والله ما هؤلاء كلهم بأنبياء، وإن فيهم نبياّ، قال: فأقبلوا حتّى دخلوا الحائط والغمامة تسير معهم، فلمّا وصلوا إذا فيهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأمير المؤمنين علیه السلام، وأبو ذرّ، والمقداد، وعقيل بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطّلب، وزيد بن حارثة، فدخلوا الحائط فجعلوا يتناولون من حشف النخل، ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [كلوا الحشَفَ ولا تُفسدوا على القومِ شيئاً].

ص: 349

فدخلت على مولاتي وقلت لها: يا مولاتي هبي لي طبقاً من رطب، فقالت: لك ستة أطباق، قال: فجئت فحملت طبقاً من رطب، فقلت في نفسي: إنْ كان فيهم نبيٌّ فإنّه لا يأكل الصدقة، فوضعته بين يديه، وقلت هذه صدقة: فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: كلوا، وأمسك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأمير المؤمنين علیه السلام وحمزة بن عبد المطّلب وعقيل بن أبي طالب، وقال لزيد: مُدَّ يدك وكُلْ، فقلت في نفسي: هذه علامة.

فدخلت على مولاتي وقلت لها: هبي لي طبقاً آخر، فقالت: لك ستة أطباق، قال: فجئت فحملت طبقاً من رطب فوضعته بين يديه، وقلت: هذه هدية، فمدَّ يده وقال: [بسم الله كُلوا]، فمدّ القوم جميعاً أيديهم فأكلوا، فقلت في نفسي: هذه أيضاً علامة.

قال: فبينا أدور خلفه إذ حانت من النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم التفاتة فقال: [يا روزبه تطلبُ خاتمَ النبوة؟]، فقلت: نعم، فكشف عن كتفيه، فإذا أنا بخاتم النبوة معجون بين كتفيه، عليه شعرات.

قال: فسقطت على قدم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أقبلها، فقال لي: [يا روزبه أدخل على هذه المرأة وقل لها: يقول لك محمّد بن عبد الله تبيعينا هذا الغلام؟].

فدخلت عليها فقلت لها: يا مولاتي إن محمّد بن عبد الله يقول لك: تبيعينا هذا الغلام؟ فقالت: قل له: لا أبيعك إلّا بأربعمائة نخلة، مائتا نخلة منها صفراء، ومائتا نخلة منها حمراء.

ص: 350

قال: فجئت إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فأخبرته، فقال: [ما أهون ما سألت]، ثُمَّ قال: [قمْ يا عليُّ اجمع هذا النوى كلّه]، فجمعه وأخذه فغرسه، ثُمَّ قال: [إسقه]، فسقاه أمير المؤمنين علیه السلام، فما بلغ آخره حتّى خرج النخل ولحق بعضه بعضاً.

فقال لي: [أدخل إليها وقل لها: يقول لك محمّد بن عبد الله: خذي شيئك وادفعي إلينا شيئنا]، قال: فدخلت عليها وقلت لها ذلك، فخرجت ونظرت إلى النخل فقالت: والله لا أبيعكم إلّا بأربعمائة نخلة كلّها صفراء، فهبط جبرئيل فمسح جناحه على النخل فصار كله أصفراً.

قال: ثُمَّ قال لي قل لها: [إن محمّداً يقول لك خذي شيئك وادفعي إلينا شيئنا]، فقلت لها فقالت: والله لنخلة من هذه أحبّ إليَّ من محمّد ومنك، فقلت لها: والله ليوم مع محمّد أحبّ إليَّ منك ومن كل شيء أنت فيه؛ فاعتنقني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وسمّاني سلمان.

وفي بعض الروايات أن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أتي إليه بمثل شبه بيضة دجاجة من ذهب من بعض الغزوات، فقال: [ما فعل الفارسي المكاتب؟]، فدعي سلمان له، فقال: [خذ هذه فأدِّ بها ما عليك]، فقال: وأين يقع هذا ممّا عليّ يا رسول الله؟ فلمّا قال ذلك سلمان أخذها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقلّبها على لسانه، ثُمَّ أعطاها سلمان فأخذها، فأوفى فيها حقّه كلّه أربعين أوقية.

ص: 351

وفى الشفا نقلاً من كتاب البزاز أعطاه مثل بيضة دجاجة بعد أن رددها على لسانه، فوزن منها لواليه أربعين أوقية، وبقي عنده مثل ما أعطاهم.

وروى أبو عمرو بن عبد البر في كتاب (الإستيعاب) أن سلمان اشتراه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من أربابه، وهم قوم يهود بدراهم، وعلى أن يغرس لهم من النخل كذا وكذا، ويعمل فيها حتّى تدرك؛ فغرس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ذلك النخل كلّه بيده، إلّا نخلة واحدة، غرسها عمر بن الخطّاب، فأطعم النخل كلّه إلّا تلك النخلة، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [من غرسها؟] فقيل: عمر، فقلعها وغرسها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأطعمت.

وفي (شواهد النبوة)، لمّا جاء سلمان إلى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم لم يفهم النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم كلامه، فطلب ترجماناً فأتي بتاجر من إليهود وكان يعلم الفارسية والعربية، فمدح سلمان النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم وذمّ إليهود، فغضب إليهودي وحّرف الترجمة، فقال: إن سلمان يشتمك، فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: هذا الفارسي جاء ليؤذينا، فنزل جبرئيل علیه السلام وترجم كلام سلمان الفارسي للنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ذلك لليهودي، فقال: يا محمّد إذا كنت تعرف الفارسية فما حاجتك إليَّ؟ قال: ما كنت أعلمها قبل، فالآن علمني جبرئيل علیه السلام أو كما قال، فقال إليهودي: يا محمّد قد كنت قبل هذا أتهمك، والآن تحقق عندي أنّك رسول الله، فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك رسول الله.

ثُمَّ قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لجبرئيل علیه السلام علّم سلمان الفارسي العربية، قال: قل له: ليغمض عينيه وليفتح فاه؛ ففعل سلمان، فتفل جبرئيل علیه السلام في فيه، فشرع سلمان

ص: 352

يتكلم بالعربي الفصيح، ثُمَّ كان شغل سلمان الرقّ حتّى فاته بدر وأُحد، حتّى عتق في السنة الخامسة من الهجرة، وفى بعض الروايات أنّه أسلم بمكّة.

وأخرج الشيخ الطوسي رحمه الله في أماليه بإسناده عن حسّان بن سدير الصيرفي عن أبيه عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر علیهما السلام، قال: جلس جماعة من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ينتسبون ويفتخرون، وفيهم سلمان رحمه الله، فقال له عمر: ما نسبتك أنت يا سلمان وما أصلك؟ فقال: أنا سلمان بن عبد الله، كنت ضالّاً فهداني الله بمحمّد علیه السلام، وكنت عائلاً فأغناني الله بمحمّد علیه السلام، وكنت مملوكاً فأعتقني الله بمحمّد علیه السلام، فهذا حسبي ونسبي يا عمر.

ثُمَّ خرج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فذكر له سلمان ما قال عمر وما أجابه به، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [يا معشرَ قريشٍ إنَّ حسبَ المرءِ دينهُ ومرؤتهُ، خلقهُ وأصلهُ عقلهُ، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النّاس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (1)].

ثُمَّ أقبل على سلمان رحمه الله فقال له: [يا سلمانُ إنّهُ ليسَ لأحدٍ منْ هؤلاءِ عليكَ فضلٌ إلّا بتقوىْ اللهِ عزَّ وجلَّ، فمنْ كنتَ أتقىْ منهُ فأنتَ أفضلُ منهُ].

ص: 353


1- سورة الحجرات – الآية: 13

وكان سلمان رضی الله عنه خيّراً فاضلاً حبراً عالماً زاهداً متقشفاً، وهو أوّل الأركان الأربعة، وثانيها المقداد، وثالثها أبو ذرّ، ورابعها عمّار.

قال أبو عمرو: وأوّل مشاهد سلمان الخندق، وهو الذي أشار بحفره، فقال أبو سفيان وأصحابه لما رأوه: هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها.

قال: وقد روي أن سلمان شهد بدراً وأُحداً وهو عبد يومئذ، والأكثر أن أوّل مشاهده الخندق، ولم يفته بعد ذلك مشهد.

وكتب صلی الله علیه و آله و سلم عهداً لحيِّ سلمان بكازرون، وصورته:

[بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ هذاْ كتابٌ منْ محمّدٍ رسول اللهِ سألهُ سلمانُ وصيةً بأخيهِ ماهادَ بنَ فروخَ وأهلِ بيتهِ وعقبهِ منْ بعدهِ ماْ تناسلواْ، منْ أسلمَ منهمْ وأقامَ علىْ دينهِ سلامُ اللهِ.

أحمدُ اللهَ إليكمْ الذيْ أمرنيْ أنْ أقولَ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدهَ لا شريكَ لهُ، أقولهاْ وآمرُ النّاس بها، وأنَّ الخلقَ خلقُ اللهِ والأمر حكمهُ.

اللهُ خلقهمْ وأماتهمْ، وهوَ ينشرهمْ وإليه المصيرُ، وإنَّ كلَّ أمرٍ يزولُ، وكلَّ شيء يبيدُ ويفنىْ، وكلّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ.

منْ آمنَ باللهِ ورسولهِ كانَ لهُ فيْ الآخرةِ دعةُ الفائزينَ، ومنْ أقامَ علىْ دينهِ تركناهُ، فلاْ إكراهَ فيْ الدينِ.

ص: 354

وهذاْ كتابٌ لأهلِ بيتِ سلمانَ أنَّ لهمْ ذمّةَ اللهِ وذمّتيْ علىْ دمائهمْ وأموالهمْ فيْ الأرض التيْ يقيمونَ فيهاْ .. سهلهاْ وجبلهاْ ومراعيهاْ وعيونهاْ، غيرَ مظلومينَ ولا مضيّقاً عليهمْ، فمنْ قُرئَ عليهِ كتابيَ هذاْ منَ المؤمنينَ والمؤمناتِ، فعليهِ أنْ يحفظهمْ ويكرمهمْ ويبرّهمْ ولا يتعرضُ لهمْ بإلّاذىْ والمكروهِ.

وقدْ رفعتُ عنهمْ جزَّ الناصيةِ والجزيةِ والخمسِ والعشرِ إلىْ سائرِ المؤنِ والكُلف.

ثُمَّ إنْ سألوكمْ فأعطوهمْ، وإنْ استغاثوا بكمْ فأغيثوهمْ، وإنْ استجاروا بكمْ فأجيروهمْ، وإنْ أساؤاْ فاغفروا لهمْ، وإنْ أُسيئَ إليهمْ فامنعواْ عنهمْ.

ولهمْ أنْ يُعطواْ منْ بيتِ مالِ المسلمينَ فيْ كلِّ سنةٍ مائةُ حُلّةٍ فيْ شهرِ رجبَ، ومائةٌ فيْ إلّاضحيةِ، ومنَ إلّاوانيَ مائةٌ.

فقدْ استحقَّ سلمانُ ذلك منّا؛ لأنَّ فضلَ سلمانَ علىْ كثيرٍ منَ المؤمنينَ، وأنزلَ في الوحي عليَّ: أنَّ الجنّةَ إلىْ سلمانَ أشوقُ منَ سلمانَ إلىْ الجنّةِ.

وهوَ ثقتيْ وأمينيْ، تقيٌّ نقيٌّ ناصحٌ لرسولِ اللهِ والمؤمنينِ، وسلمانُ منّا أهلَ البيتِ، فلاْ يخالفنَّ أحدٌ هذهِ الوصيةَ، فمنْ خالفهاْ فقدْ خالفَ اللهَ ورسولهُ، وعليهِ اللعنةُ إلىْ يومِ الدينِ، ومنْ أكرمهمْ فقدْ أكرمنيْ ولهُ عندَ اللهِ الثوابُ، ومنْ آذاهمْ فقدْ آذانيَ وأنا خصمهُ يومَ القيامةِ، وجزاؤهمْ جهنّمُ وبرئتْ منهُ ذمّتيْ، والسلامُ عليكمْ].

ص: 355

وكتب عليٌّ بن أبي طالب علیه السلام بأمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في رجب سنة تسع من الهجرة، وحضر أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسلمان وأبو ذرّ وعمّار وعتبة وبلال والمقداد وجماعة آخرون من المؤمنين.

قال بعض المؤرخين: ماهاد بن فروخ، المكتوب باسمه العهد، إبن أخ سلمان الفارسي، وهو ماهاد بن فروخ بن بدخشان، وعقبه بفارس، وهذا العهد في أيديهم إلى الآن، وهو مكتوب على أديم أبيض مختوم بخاتم النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وعليه ختم أبي بكر وعثمان، والله أعلم.

ويستفاد من هذا العهد أن التاريخ كان من زمن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وهو خلاف المشهور من أن التاريخ بالهجرة إنّما وضعه عمر بن الخطّاب في أيام خلافته، والله أعلم.

وقد ورد في شأن سلمان أحاديث كثيرة عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وأهل بيته علیهم السلام .

فمنها ما رواه الطبراني في (الكبير) والحاكم في (المستدرك) عن عمرو بن عوف عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: [سلمانُ منّا أهلَ البيتِ].

قال الشيخ محيّ الدين بن العربي في الفتوحات: لمّا كان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم عبداً محضاً، أي خالصاً، قد طهّره الله تعالى وأهل بيته تطهيراً، وأذهب عنهم الرجس وكل ّ ما يشينهم، فإن الرجس هو القذر عند العرب، على ما حكاه الفراء، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا

ص: 356

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (1)، فلا يضاف إليهم إلّا مطهّر، ولابدّ أن يكون كذلك، فإن المضاف إليهم هو الذي يشبههم، فما يضيفون لأنفسهم إلّا من له حكم الطهارة والتقديس، فهذا شهادة من النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم لسلمان الفارسي بالطهارة والحفظ إلّالهي والعصمة، حيث قال فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [سلمانُ منّا أهلّ البيتِ]، وشهد الله لهم بالتطهير وذهاب الرجس عنهم.

وإذا كان لا يضاف إليهم إلّا مطهَّر مقدس، وحصلت له العناية إلّالهية بمجرد إلّاضافة، فما ظنّك بأهلِ البيت في نفوسهم؟! فهم المطهرون، بل عين الطهارة.

ومنها ما روي عنه صلی الله علیه و آله و سلم من وجوه أنه قال: [لوْ كانَ الدينُ فيْ الثريّا لنالهُ سلمانُ]، وفى رواية أخرى: [لنالهُ رجلٌ منْ فارسَ].

ومنها ما روي من حديث ابن بُرَيْدة عن أبيه أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [أمرنيْ ربّيَ بحبِّ أربعةٍ، وأخبرنيْ أنّهُ يُحبهمْ: عليٌّ وأبو ذرّ والمقدادُ وسلمانُ.]

ومنها ما روي عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قال [إنَّ الجنّةَ لأشوقُ إلىْ سلمانَ منْ سلمانَ إلى الجنّةِ، وإنَّ الجنّةَ لأعشقُ لسلمانَ منَ سلمانَ إلى الجنّةِ].

ص: 357


1- سورة الأحزاب - الآية: 33

ومنها ما رواه أبو هريرة قال: تلا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هذه إلّاية ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (1), قالوا: ومن يستبدل بنا؟ فضرب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على منكب سلمان، ثُمَّ قال: [هذا وقومُه].

وفي رواية قال: قال ناس من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله تعالى إن تولينا استبدلوا بنا، ثُمَّ لا يكونوا امثالنا؟ قال: وكان سلمان بجنب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فضرب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فخذ سلمان وقال: [ هذاْ وأصحابهُ، والذيْ نفسيْ بيدهِ لوْ كانَ الإيمان منوطاً بالثريّا لتناولهُ رجلٌ منْ فارسَ ]أخرجه الترمذي. قال أبو عمرو في (الإستيعاب): وفي الحديث المروي أن أبا سفيان مرَّ على سلمان وصهيب وبلال في نفر من المسلمين فقالوا: ما أخذت السيوف مأخذها من عنق عدوّ الله، وأبو سفيان يسمع قولهم، فقال لهم أبو بكر: تقولون هذا لشيخ قريش وسيدها؟ وأتى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فأخبره، فقال: [يا أبا بكرَ لعلّكَ أغضبتهمْ، لئنْ كنتَ أغضبتهمْ لقدْ أغضبتَ اللهَ].

قال: وقد روينا عن عائشة أنها قالت: كان لسلمان مجلس من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ينفرد به بالليل، حتّى كاد يغلبنا على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

ص: 358


1- سورة محمّد – الآية: 38

قال: وقد روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن عليّ علیه السلام أنه سُئل عن سلمان فقال: {علمَ العلمَ الأوّل والعلمَ الآخر، ذاكَ بحرٌ لا ينزفُ، هوَ منّا أهلَ البيتِ}.

قال المؤلف: أخرج الكشّي في كتابه عن الفضل بن يسار عن أبي جعفر علیه السلام قال: قال: تروي ما يروي النّاس أن عليّاً علیه السلام قال في سلمان: {ادركَ علمَ الأوّل وعلمَ الآخر}؟، قلت: نعم، قال: فهل تدري ما عنى؟ قال: قلت: يعني علم بني إسرائيل، وعلم النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، فقال: ليس هذا يعني، ولكن علم النبيّ وعلم عليٍّ علیهما السلام وأمر النبيّ وأمر عليٍّ صلوات الله عليهما.

وأخرج عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: (أدرك سلمان العلم الأوّل والعلم الآخر، وهو منّا أهل البيت، بلغ من علمه أنّه مرّ برجل في رهط فقال له: يا عبد الله تب إلى الله عزَّ وجلَّ من الذي عملت به في بطن بيتك البارحة، قال: ثُمَّ مضى.

فقال له القوم: لقد رماك سلمان بأمر فما دفعته عن نفسك، قال: إنّه أخبرني بأمر ما اطلع عليه إلّا الله وأنا).

وعن الحسن بن صهيب عن أبي جعفر علیه السلام قال: ذكر عنده سلمان الفارسي، قال: فقال أبو جعفر علیه السلام: (لا تقولوا سلمان الفارسي، ولكن قولوا: سلمان المحمّدي، ذاك رجل منّا أهل البيت).

ص: 359

وعن زرارة عن أبي جعفر علیه السلام عن أبيه علیه السلام عن جده علیه السلام عن عليّ بن أبي طالب علیه السلام قال: {ضاقتْ الأرض بسبعةٍ بهمْ تُرزقونَ وبهمْ تنصرونَ وبهمْ تمطرونَ، منهمْ سلمانُ الفارسيُّ والمقدادُ وأبو ذرّ وعمّار وحذيفةُ}.

وكان عليّ علیه السلام يقول: {وأنا إمامهمْ}، وهم الذين صلّوا على فاطمة علیها السلام .

وأخرج الشيخ الطوسي في (أماليه) عن منصور بن بزرج قال: قلت لأبي عبد الله الصادق علیه السلام: ما أكثر ما أسمع منك سيدي ذكر سلمان الفارسي! قال علیه السلام: (لا تقل سلمان الفارسي، ولكن قل: سلمان المحمّدي، أتدري ما أكثر ذكري له؟) قلت: لا، قال: (لثلاث خصال، إيثاره هوى أمير المؤمنين علیه السلام على هوى نفسه، والثانية حبه للفقراء واختياره إيّاهم على أهل الثروة والعدد، والثالثة حبه للعلم والعلماء .. إن سلمان كان عبداً صالحاً حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين).

وأخرج الكشّي عن محمّد بن حكيم قال: ذكر عند أبي جعفر علیه السلام سلمان المحمّدي فقال: (إن سلمان منّا أهل البيت، إنه كان يقول للناس: هربتم من القرآن إلى الأحاديث، وجدتم كتاباً دقيقاً حوسبتم فيه على النقير والقمطير والفتيل وحبة الخردل، فضاق عليكم ذلك، وهربتم إلى الأحاديث التي اتسعت عليكم).

وعن زرارة عن أبي جعفر علیه السلام قال: (كان عليٌّ محدّثاً، وكان سلمان محدّثاً).

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله علیه السلام قال: (كان والله عليٌّ محدّثاً، وكان سلمان محدّثاً)، قلت: اشرح، قال: (يبعث الله إليه ملكاً ينقر في إذنه يقول: كيت وكيت).

ص: 360

وعن أبي العبّاس أحمد بن حماد المروزي عن الصادق علیه السلام أنه قال في الحديث الذي روي فيه أن سلمان كان محدَّثاً، قال: (إنّه كان محدثاً عن إمامه، لا عن ربه؛ لأنه لا يحدث عن الله تعالى إلّا الحجّة).

. وعن عبد الرحمن بن أعين قال: سمعت أبا جعفر علیه السلام يقول: (كان سلمان من المتوسمين).

وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: (سلمان علم الإسم الأعظم).

وعن جابر عن أبي جعفر علیه السلام قال: دخل أبو ذرّ على سلمان وهو يطبخ قدراً له، فبينما هما يتحادثان إذ انكبت القدر على وجهها، فلم يسقط منها شيء من مرقها ولا من ودكها، قال: فخرج أبو ذرّ وهو مذعور من عند سلمان، فبينما هو متفكر إذ لقي أمير المؤمنين علیه السلام على الباب، فلمّا أن بصر به أمير المؤمنين علیه السلام قال: {يا أبا ذرّ ما الذي أخرجك من عند سلمان؟ وما الذي ذعرك؟}، فقال له أبو ذرّ: يا أمير المؤمنين رأيت سلمان صنع كذا وكذا، فعجبت من ذلك.

فقال أمير المؤمنين علیه السلام: {يا أبا ذرّ إنَّ سلمانَ لو حدّثك بما يعلمُ لقلت: رحمَ اللهُ قاتلَ سلمانَ، يا أبا ذرّ سلمانُ بابُ اللهِ في الأرضِ، منْ عرفهُ كانَ مؤمناً، ومنْ أنكرهُ كانَ كافراً، وإنّ سلمانَ منّا أهلَ البيتِ}.

وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: (قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [يا سلمانُ لوْ عُرضَ علمكَ علىْ المقدادِ لكفرَ، يا مقدادُ لوْ عُرضَ علمكَ علىْ سلمانَ لكفرَ]).

ص: 361

وعن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيه علیهما السلام قال: ذكرت التقية يوماً عند عليّ علیه السلام فقال: {إنَّ أبا ذرّ لوْ علمّ ما فيْ قلبِ سلمانَ لقتلهُ، وقدْ آخىْ رسولُ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم بينهما، فَما ظنّكَ بسائرِ النّاس!}.

قال المؤلف: إختلف أقوال العلماء في معنى هذا الحديث، فمنهم من أوّله، ومنهم من حمله على ظاهره، وأولى ما قيل فيه: أن مقام أبي ذرّ دون مقام سلمان؛ لأن مقام أبي ذرّ في الثامنة، ومقام سلمان في التاسعة، فلو اطّلع أبو ذرّ على غير مقامه لقتله، وما منّا إلّا له مقام معلوم.

وروى صاحب (نزهة المذكورين) أن سلمان خرج مع أصحابه فأصابتهم مخمصة، فأقبل ظبيٌ فدعاه، وقال: كن مشوياً؛ لينتفع أصحابي بك، فصار مشوياً، فأكلوا منه حتّى شبعوا، ثُمَّ قال: قم بإذن الله، فقام فذهب إلى الصحراء، فقيل له في ذلك: فقال: كلُّ من أطاع الله فإن الله يجيبه ويجيب دعوته، كما قال تعالى: ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ (1).

وأخرج الكشّي عن الحسن بن منصور قال: قلت للصادق علیه السلام: أكان سلمان محدّثاً؟ قال علیه السلام: نعم، قلت: من يحدثه؟ قال: مَلَك كريم، قلت: فإذا كان سلمان كذا، فصاحبه أي شيء هو؟ قال: أقبل على شأنك.

ص: 362


1- سورة غافر – الآية: 60

وفى رواية زاذان عن أمير المؤمنين علیه السلام: {سلمانُ الفارسيُّ كلقمانَ الحكيمِ}.

وحكي عن الفضل بن شاذان أنّه قال: {ما نشأَ في الإسلامِ رجلٌ كانَ أفقهَ منْ سلمانَ}.

وروى قتادة عن أبي هريرة قال: سلمان صاحب الكتابين، يعني الإنجيل والقرآن.

وعن الصادق جعفر بن محمّد علیهما السلام قال: عاد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سلمان الفارسي فقال: [يا سلمانُ لكَ فيْ عِلّتكِ ثلاثُ خصالٍ، أنتَ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ بذكرٍ، ودعاؤكَ فيهِ مستجابٌ، ولا تَدَعُ العِلّةُ عليكَ ذنباً إلّا حّطتهُ، متّعكّ اللهُ بالعافيةِ إلىْ منتهي أجلكَ].

وعنه عن أبيه عن جده علیهم السلام قال: وقع بين سلمان الفارسي رحمة الله عليه وبين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل: من أنت يا سلمان؟ فقال: إمّا أوّلي وأوّلك فنطفة قذرة، وأمّا آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة ووضعت الموازين، فمن ثقلت موازينه فهو الكريم، ومن خف ميزانه فهو اللئيم.

وعن أبي بصير قال سمعت الصادق جعفر بن محمّد علیهما السلام يحدث عن أبيه عن آبائه علیهم السلام قال: (قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوماً لأصحابه: [أيّكمْ يصومُ الدهرَ؟] فقال سلمان: أنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [أيّكمْ يُحييّ الليلَ؟] فقال سلمان: أنا يا رسول الله، قال: [أيّكمْ يختمُ القرآنَ كلَّ يومٍ؟] فقال سلمان: أنا يا رسول الله.

فغضب بعض أصحابه فقال: يا رسول الله إن سلمان من الفرس يريد أن يفتخر علينا معاشر قريش، قلتَ: أيّكم يصوم الدهر فقال: أنا وهو أكثر أيامه يأكل، وقلت:

ص: 363

أيّكم يحيي الليل فقال: أنا وهو أكثر ليلته نائم، وقلت: أيّكم يختم القرآن في كل يوم فقال: أنا وهو أكثر نهاره صامت.

فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [مَهْ يا فلانُ أنّىْ لكَ بمثلِ لقمانَ الحكيمِ؟ سَلهُ فإنهُ ينبئكَ]، فقال الرجل: يا أبا عبد الله ألست زعمت انك تصوم الدهر؟ فقال: نعم، فقال: رأيتك في أكثر نهارك تأكل، فقال: ليس حيث تذهب، إنّي أصوم الثلاثة في الشهر، وقال الله عزَّ وجلَّ: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وأصل شعبان بشهر رمضان فذلك صوم الدهر.

فقال: أليس زعمت أنك تحيي الليل؟ فقال: نعم، فقال: أنت أكثر ليلك نائم، فقال: ليس حيث تذهب، ولكني سمعت حبيبي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [منْ باتَ علىْ فراشهِ علىْ طهرٍ فكأنّما أحياْ الليلَ كلّهُ]، فأنا أبيت على طهر.

فقال: أليس زعمت أنك تختم القرآن في كل يوم؟ فقال: نعم، فقال: أنت أكثر أيامك صامت، فقال: ليس حيث تذهب، ولكني سمعت حبيبي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول لعليٍّ علیه السلام: [يا أبا الحسنِ مَثلكَ فيْ أُمّتيْ مثلُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فمنْ قرأَها مرّةً فقدْ قرأَ ثُلثَ القرآنِ، ومنْ قرأها مرّتينِ فقدْ قرأَ ثلثي القرآنِ، ومَنْ قرأها ثلاثَ مراتٍ فقدْ ختمَ القرآنَ، فمنْ أحبّكَ بلسانهِ فقدْ كملَ ثلثُ إيمانهِ، ومنْ أحبّكَ بلسانهِ وقلبهِ فقدْ كملَ لهُ ثلثا الإيمان، ومنْ أحبّكَ بلسانهِ وقلبهِ ونصركَ بيدهِ فقدْ استكملّ الإيمان، والذيْ بعثنيْ بالحقِّ نبيّاً يا عليُّ لوْ أحبّكَ أهلُ الأرض كمحبّةِ أهلِ السماءِ لَكَ لما عذّبَ اللهُ أحداً

ص: 364

بالنارِ], وأنا أقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في كل يوم ثلاث مرات، فقام الرجل كأنّه قد ألقم حجراً).

وعن سلمان رضی الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على النصح للمسلمين، والإئتمام بعليّ بن أبي طالب علیه السلام والمولاة له.

وعن زاذان قال: سمعت سلمان يقول: إنّي لا أزال أحبُّ عليّاً، فإنّي قد رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يضرب فخذه ويقول: [مُحبُّكَ ليْ مُحبٌّ، ومُبغضكَ ليْ مُبغضٌ، ومُبغضيْ للِه مبغضٌ].

وعن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر علیه السلام قال: (كان النّاس أهل ردّة بعد النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم إلّا ثلاثة)، فقلت: من هم؟ فقال: (المقداد بن الأسود، وأبو ذرّ الغفاري، وسلمان الفارسي)، ثُمَّ عرف النّاس بعد يسير وقال: (هؤلاء الذين دارت عليهم الرحى وأبوا أن يبايعوا حتّى جاؤا بأمير المؤمنين علیه السلام مكرهاً فبايع، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ(﴾ (1).

ص: 365


1- سورة آل عمران – الآية: 144

وفى رواية عن أبي جعفر علیه السلام في أمر البيعة، أن سلمان عرض في قلبه عارض، أن عند أمير المؤمنين علیه السلام إسم الله الأعظم، لو تكلم به لأخذتهم الأرض، وهو هكذا فلبّب ووجئت عنقه، حتّى تركت كالسلعة، فمرَّ به أمير المؤمنين علیه السلام فقال له: يا أبا عبد الله هذا من ذاك بايع، فبايع.

وفى رواية أن سلمان قال لهم لما بايعوا أبا بكر: (كرديد ونكرديد)، أي فعلتم ولم تفعلوا.

قالت المعتزلة: معناه استخلفتم خليفة ونعم ما فعلتم، إلّا أنّكم عدلتم عن أهل البيت، فلو كان الخليفة منهم كان أولى.

والإمامية تقول: معناه أسلمتم وما أسلمتم.

قال المؤلف: وفي رواية سليم بن قيس عن سلمان رضی الله عنه كلام بالعربية يمكن أن يكون تفسيراً لهاتين الكلمتين.

قال سُليم: قلت لسلمان: بايعت أبا بكر يا سليمان ولم تقل شيئاً؟ قال: قد قلت بعد ما بايعت: تباً لكم سائر الدهر، أتدرون ما ذا صنعتم بأنفسكم؟ أصبتم وأخطأتم، أصبتم سنّة الأولين، وأخطأتم سنّة نبيكم، حين أخرجتموها من معدنها وأهلها، قال سلمان: أخذوني فوجأوا في عنقي حتّى تركوها مثل السلعة، ثُمَّ فتلوا يدي؛ فبايعت مكرهاً.

وفى رواية أبان بن تغلب عن الصادق علیه السلام قال: قام سلمان الفارسي فقال: الله أكبر الله أكبر، سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - وإلّا صمّتا أذناي - يقول: [بَينما أخيْ وابنُ عَمّي

ص: 366

جالسٌ فيْ مسجديْ معَ نفرٍ منْ أصحابهِ إذْ تكبسهُ جماعةٌ منْ كلابِ أهلِ النارِ يريدونَ قتلهَ وقتلَ مَنْ معهُ]، فلست أشكُّ أنكم هم، فهمّ به عمر بن الخطّاب، فوثب إليه أمير المؤمنين علیه السلام وأحذ بمجامع ثوبه وجلد به الأرض، ثُمَّ قال: {يا ابنَ صهاكَ الحبشيّةِ لولاْ كتابٌ منَ اللهِ سبقَ، وعهدٌ منْ رسولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم تقدّمَ لأريتكَ أيّناْ أضعفُ ناصراً وأقلُّ عدداً}.

وفى رواية سليم: قال سلمان: فقال لي عمر: أما إذا بايع صاحبك فقل ما بدا لك، وليقل ما بدا له.

قال: فقلت: إنّي أشهد أنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [إنَّ عليكَ وعلى صاحبكَ الذيْ بايعتَهُ مِثل ذُنوبِ الثقلينِ إلى يومِ القيامةِ، ومثل عذابهمْ]، قال: قل ما شئت أليس قد بايع ولم تقرّ عينك بأن يليها صاحبك؟.

قال: قلت: فإنّي أشهد أنّي قرأت في بعض الكتب، كتب الله المنزلة أنّه باسمك ونسبك وصفتك باب من أبواب جهنم، قال: قل ما شئت أليس قد عزلها الله عن أهل البيت الذين قد اتخذتموهم أرباباً؟ قال: فقلت فإنّي أشهد إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول - وقد سألته عن هذه إلّاية - ﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾ (1) أنك أنت هو، فقال: إسكت أسكت الله نامتك أيّها العبد ابن اللخناء فقال عليٌّ علیه السلام:

ص: 367


1- سورة الفجر – الآيتان: 25 , 26

أسكت يا سلمان فسكتُّ، ووالله لولا أنّه أمرني بالسكوت لأخبرته بكلّ شيء نزل فيه وفى صاحبه.

قال سُليم: ثُمَّ أقبل عليَّ سلمان فقال: إن القوم ارتدّوا بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلّا من عصمه الله بآل محمّد، فإن النّاس بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بمنزلة هارون ومن اتبعه، وبمنزلة العجل ومن اتبعه، فعليّ علیه السلام في سنة هارون، وعتيق في سنة السامري، وسمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [لتركبنَّ أمّتيْ سُنّةَ بنيْ إسرائيل حذوَ القذةِ بالقذةِ، وحذوَ النعلِ بالنعلِ، شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ وباعاً بباعٍ].

وروي أن سلمان خطب إلى عمر فردّه، ثُمَّ ندم فعاد إليه فقال: إنّما أردت أن أعلم ذهبت حميّة الجاهلية من قلبك أم هي كما هي.

قال إبن شهر آشوب في المناقب: كان عمر وجّه سلمان أميراً إلى المدائن، وإنّما أراد له الختلة، فلم يفعل إلّا بعد أن استأذن أمير المؤمنين علیه السلام، فمضى فأقام بها إلى أن توفي.

وكان يخطب في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها، ووقع حريق في المدائن وسلمان أميرها، فلم يكن في بيته إلّا مصحف وسيف، فرفع المصحف في يده وحمل السيف في عنقه، وخرج قائلاً: هكذا ينجو المخفّون.

قيل: دخل عليه رجل فلم يجد في بيته إلّا سيفاً ومصحفاً، فقال له: ما في بيتك إلّا ما أرى! قال: إن أمامنا منزل كؤود، وإنّا قد قدّمنا متاعنا إلى المنزل.

ص: 368

قال الحسن: كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين، وكان يخطب في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها، فإذا خرج عطاؤه تصدّق به.

قيل: ولم يكن له بيت يظلّه، إنّما كان يدور مع الظل حيث دار.

قال أبو عمرو: وقد ذكر إبن وهب وابن نافع أن سلمان لم يكن له بيت، إنّما كان يستظل بالجدر والشجر، وأن رجلاً قال له: ألا أبني لك بيتاً تسكن فيه؟ قال: لا حاجة في ذلك، فما زال به الرجل حتّى قال له: أنا أعرف البيت الذي يوافقك، قال: فصفه لي، قال: أبني لك بيتاً إذا أنت كنت فيه أصاب رأسك سقفه، وإن أنت مددت فيه رجليك أصابهما الجدار، قال: نعم فبنى له.

قال: وكان سلمان يسفّ الخوص وهو أمير على المدائن، ويبيعه ويأكل منه، ويقول: لا أحب أن آكل إلّا من عمل يدي، وقد كان تعلم سفَّ الخوص من المدينة.

وقال غيره: كان يأكل من عمل يده، ويطحن مع الخادمة، ويعجن عنها إذا أرسلها في حاجة، ويقول: لا تجمع عليها عملين.

وكان يعمل من الخوص قفافاً، فيبيع ذلك بثلاثة دراهم، فيردُّ درهماً في الخوص، وينفق على عياله درهماً، ويتصدق بدرهم.

وكان لا يأكل من صدقات النّاس، ويقول إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [سلمانُ منّا أهلَ البيتِ].

ص: 369

وكان غالب النّاس ممّن لا يعرفه يسخّرونه في حمل أمتعتهم من السوق؛ لرثاثة ثيابه، فربّما عرفوه فيعتذرون إليه ويقولون: نحمل عنك، فيقول: لا حتّى أحمله إلى المنزل وها هو ذاك.

قيل: وربّما حمل حزمة الحطب على رأسه من السوق، فإذا رأى ازدحام النّاس قال: أوسعوا الطريق للأمير.

وكان لا يحضر بين يديه طعام عليه أدامان.

روى الأعمش عن أبي وائل قال: ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان الفارسي، فلمّا جلسنا عنده قال: لولا أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نهى عن الكلف لتكلفت لكم، ثُمَّ جاء بخبز وملح ساذج لا أبزار عليه، فقال صاحبنا: لو كان في ملحنا سعتر، فبعث سلمان بمطهرته فرهنها على السعتر، فلمّا أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي أقنعنا بما رزقنا، فقال سلمان: لو قنعت بما رزقك الله لم تكن مطهرتي مرهونة.

وروي أن أبا ذرّ استضافه، فقدّم له خبز شعير وملحاً، فقال أبو ذرّ: أردنا خلاّ وبقلاّ، فرهن سلمان ركوته على ذلك، فلمّا فرغا من الأكل قال أبو ذرّ: الحمد لله على القناعة، قال سلمان: لو كنت قنعت لما كانت ركوتي مرهونة.

وأخرج الشيخ محمّد بن علي بن بابويه في (أماليه) بإسناده عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن الإمام محمّد بن عليٍّ،عن أبيه الرضا عليٍّ بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه عن جدّه علیهم السلام قال: أخذ

ص: 370

سلمان أبا ذرّ إلى منزله، فقدم له رغيفين، فأخذ أبو ذرّ يقلبهما، فقال له سلمان: يا أبا ذرّ لأيِّ شيء تقلب هذين الرغيفين؟ قال: خفت أن لا يكونا نضيجين، فغضب سلمان من ذلك غضباً شديداً ثُمَّ قال: ما أجرأك حيث تقلب هذين الرغيفين، فوالله لقد عمل في هذا الخبز الماء الذي تحت العرش، وعمل فيه الملائكة حتّى ألقوه الى الريح، وعملت فيه الريح حتّى ألقته إلى السحاب، وعمل فيه السحاب حتّى أمطره الى الأرض، وعمل فيه الرعد والملائكة حتّى وضعوه مواضعه، وعملت فيه الأرض والخشب والحديد والبهائم والنار والحطب والملح وما لا أحصيه أكثر، فكيف لك أن تقوم بهذا الشكر؟! فقال أبو ذرّ: إلى الله أتوب وأستغفر الله مما أحدثت، وإليك أعتذر مما كرهت.

وروي عن جرير بن عبد الله أنه قال: انتهىت مرة إلى ظل شجرة، وتحتها رجل نائم قد استظل بنطع له، وقد جاوزت الشمس النطع فسويته عليه، ثُمَّ إن الرجل استيقظ فإذا هو سلمان الفارسي رضی الله عنه فذكرت له ما صنعت، فقال: يا جرير تواضع لله في الدنيا، فإنّه من تواضع لله في الدنيا رفعه الله يوم القيامة، أتدري ما ظلمة النار يوم القيامة؟ قلت: لا، قال: فإنّه ظلم النّاس بعضهم بعضاً في الدنيا.

وأخرج الكشّي عن النصيبي عن أبي عبد الله علیه السلام قال: قال أمير المؤمنين علیه السلام لسلمان: {يا سلمانُ إذهبْ إلى فاطمةَ علیها السلام فقلْ لها تُتحفكَ منْ تحف الجنّةِ}، فذهب إليها سلمان، فإذا بين يديها ثلاث سلال، فقال: يا بنت رسول الله أتحفيني، قالت: (هذه سلال، جاءتني بها ثلاث وصائف، فسألتهن عن أسمائهن، فقالت واحدة: أنا

ص: 371

سلمى لسلمان، وقالت الأخرى: أنا ذرة لأبي ذرّ، وقالت الأخرى: انا مقدودة للمقداد)، ثُمَّ قبضت فناولتني، فما مررت بملأ إلّا ملئوا طيباً لريحها.

وأخرج الكشّي بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله علیه السلام قال: خطب سلمان فقال: الحمد لله الذي هداني لدينه بعد جحودي له، وأنا مذكٍ لنار الكفر، أهلُّ لها نصيباً وأنبت لها قصيباً وأثبت لها رزقاً، حتّى ألقى الله عز َّوجلَّ في قلبي حبَّ تهامة، فخرجت جائعاً ظماناً قد طردني قومي، وأخرجت من مالي، ولا حمولة تحملني ولا متاع يجهزني ولا مال يقوتني، وكان من شأني ما قد كان حتّى أتيت محمّداً صلی الله علیه و آله و سلم، فعرفت من العرفان ما كنت أعلمه، ورأيت من العلامة ما أخبرت بها، فأنقذني به من النار، فثبتّ على المعرفة التي دخلت بها في الإسلام.

إلّا أيّها النّاس اسمعوا من حديثي ثُمَّ انقلوه عني، فقد أوتيت العلم كثيراً، ولو أخبرتكم بكل ما أعلم لقالت طائفة: إنّه لمجنون، وقالت طائفة اخرى: اللهمَّ اغفر لقاتل سلمان، ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا، وإن عند عليٍّ علیه السلام علم المنايا وعلم الوصايا وفصل الخطّاب، على منهاج هارون بن عمران، قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [أنتَ وصييْ وخليفتيْ في أهليْ بمنزلةِ هارونَ منْ موسىْ]، ولكنكم أصبتم سنة الأولين وأخطأتم سبلكم، والذي نفس سلمان بيده لتركبن طبقاً عن طبق، سُنّة بني إسرائيل، القذة بالقذة، أما والله لو وليتموها عليّاً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم، فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء، وقد نابذتكم على سواء، وانقطعت العصمة فيما

ص: 372

بيني وبينكم من الولاء، أما والله لو أنّي ادفع ضيماً، أو أعزّ لله ديناً، لوضعت سيفي على عاتقي، ثُمَّ لضربت به قدماً قدماً.

وهي خطبة طويلة لم نر التطويل بذكرها كلّها هنا.

وروى إبن شهر آشوب في المناقب قال: كان النّاس يحفرون الخندق وينشدون سوى سلمان، فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [اللهمَّ أطلقْ لسانَ سلمانَ، ولوْ علىْ بيتٍ منَ الشعرِ]، فأنشأ سلمان يقول:

ما لي لسان فأقول الشعرا *** أسأل ربّي قوة ونصرا

على عدوي وعدو الطهرا *** محمّد المختار حاز الفخرا

حتّى أنال في الجنان قصراً *** مع كل حوراء تحاكي البدرا

فضج المسلمون، وجعلت كل قبيلة تقول: سلمان منّا فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [سلمانُ منّا أهلَ البيتِ].

وروي أن ابا الدرداء كتب إلى سلمان من الشام: أقدم يا أخي إلى بيت المقدس، فلعلك تموت فيه، فكتب إليه سلمان: أما بعد فإن الأرض لا تقدس أحداً، وإنّما يقدس كل إنسان عمله والسلام.

وقيل: أن سلمان الفارسي رضی الله عنه لما مرض مرضه الذي مات فيه، أتاه سعد يعوده فقال: كيف نجدك أبا عبد الله؟ فبكى، فقال: ما يبكيك؟ فقال: والله لا أبكي حرصاً على

ص: 373

الدنيا ولا حباً لها، ولكن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عهد إلينا عهداً، فقال: ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب، فأخشى أن يكون قد جاوزنا أمره، وهذه الأساور حولي، وليس حوله إلّا مطهرة وأجانة وجفنة.

وأخرج الكشّي عن عمرو بن يزيد قال: قال سلمان: قال لي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [إذاْ حضركَ أوْ أخذكَ الموتُ حضرَ أقوامٌ يَجدونَ الريحَ ولا يَأكلونَ الطعامَ]، ثُمَّ أخرج صرّة من مسكٍ فقال: هبة أعطانيها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثُمَّ بلّها ونفحها حوله، ثُمَّ قال لامرأته: قومي أجيفي الباب، فقامت وأجافت الباب، ثُمَّ رجعت وقد قبض رحمه الله.

وروى حبيب بن الحسن العكي عن جابر الأنصاري قال: صلّى بنا أمير المؤمنين علیه السلام صلاة الصبح، ثُمَّ أقبل علينا فقال: {معاشرَ النّاس أَعظمَ اللهُ أَجرَكمْ فيْ أَخيْكمْ سلمانَ}، فقالوا في ذلك، فلبس عمامة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ودراعته، وأخذ قضيبه وسيفه، وركب على العضباء، وقال لقنبر: {عُدَّ عَشْرَاً} قال: ففعلت، فإذا نحن على باب سلمان.

قال زاذان: فلمّا أدركت سلمان الوفاة قلت له: مَنْ المغسِّل لك؟ قال: مَنْ غسّل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقلت: إنّك بالمدائن وهو بالمدينة، فقال: يا زاذان إذا شددت لحييّ تسمع الوجبة، فلمّا شددت لحييه سمعت الوجبة، وأدركت الباب فإذا انا بأمير المؤمنين علیه السلام، فقال: {يا زاذان قضى أبو عبد الله سلمان؟} قلت: نعم يا سيدي، فدخل وكشف الرداء عن وجهه، فتبسم سلمان إلى أمير المؤمنين علیه السلام فقال له: {مرحباً يا أبا عبد الله إذا لقيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقل له ما مرَّ على أخيك من قومك}.

ص: 374

وفى رواية أخرى عن زاذان أن أمير المؤمنين علیه السلام لما جاء ليغسل سلمان وجده قد مات، فتبسم في وجهه، وهمَّ أن يجلس، فقال له أمير المؤمنين علیه السلام: {عد الى موتك}.

قال زاذان: ثُمَّ أخذ علیه السلام في تجهيزه، فلمّا صلّى عليه كنّا نسمع من أمير المؤمنين علیه السلام تكبيراً شديداً، وكنت رأيت معه رجلين فسألته عنهما، فقال: {أحدهما أخي جعفر علیه السلام، والآخر الخضر علیه السلام، ومع كل واحد منهما سبعون صفاً من الملائكة، في كل صف ألف ألف ملك}.

وقد أشار إلى هذه الحكاية أبو الفضل اليمني في قوله:

سمعت مني يسيراً من عجبائبه *** وكل أمر عليٌّ لم يزل عجبا

دريت عن ليلة سار الوصي بها *** إلى المدائن لما أن لها طلبا

فألحد الطهر سلماناً وعاد إلى *** عراص يثرب وإلّاصباح ما قربا

كآصف قبل ردّ الطرف من سبأ *** بعرش بلقيس وافى يحرق الحجبا

أراك في آصف لم تغل أنت بلى *** أنا بحيدر غالٍ أورد الكذبا

إن كان أحمد خير المرسلين فذا *** خير الوصيين أو كل الحديث هبا

وقلت ما قلت من قول الغلاة فما *** ذنب الغلاة إذا قالوا الذي وجبا

ص: 375

وروي أن ابن عبّاس رأى سلمان في منامه، وعليه تاج من ياقوت وحلي وحلل، فقال له: ما أفضل إلّاشياء بعد الإيمان في الجنّة؟ فقال: ليس في الجنّة بعد الإيمان بالله ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم شيء هو أفضل من حب عليّ بن أبي طالب علیه السلام .

وتوفي سلمان رضی الله عنه سنة خمس وثلاثين من الهجرة، وقيل: في أوّل سنة ستة وثلاثين في آخر خلافة عثمان، واختلف في مقدار عمره، فقيل: ثلاثمائة وخمسون، وقيل: أكثر من أربع مائة سنة، وأنه أدرك وصيّ عيسى علیه السلام، وقيل: مائتان وخمسون سنة.

وكان له من الولد عبد الله، وبه كان يكنّى، ومحمّد وله عقب مشهور، وما اشتهر من أن سلمان رضی الله عنه كان مجبوباً كلام ينقله جهلة الصوفية، لا أصل له، والله أعلم.

ص: 376

المقداد بن الأسود بن عبد يغوث

المقداد بن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهري.

وكان الأسود بن يغوث قد تبناه وحالفه في الجاهلية، فنسب إليه، وإسم أبيه الحقيقي عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة من ثمامة بن طرود بن عمرو بن سعد بن وهب بن ثور بن تغلبة بن مالك بن الشريد بن هزل بن قايش بن دريم بن القيم بن أهود بن بهراء بن عمرو بن الحاف بن قضاعة البهرائي - نسبة إلى بهراء - بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وهي نسبة على غير قياس؛ لأن قياسه بهراوي بالواو.

وينسب المقداد إلى كندة أيضاً، قال إبن عبد ربه في العقد: وذلك أن كندة سبته في الجاهلية فأقام فيهم وانتسب إليهم، وقال غيره: إن أباه قد حالف كندة فنسب إليهم.

وقال إبن عبد البر: قيل: أنّه كان عبداً حبشياً للأسود بن عبد يغوث فتبناه واستلحقه. والأوّل أصح، ويكنّى أبا معبد، وقيل: أبا الأسود.

كان رجلاً ضخماً أسمر اللون طويل القامة شجاعاً، وكان قديم الإسلام، ولم يقدم على الهجرة ظاهراً، فأتى مع المشركين من قريش، هو وعتبة بن غزوان؛ ليتوصلا إلى المسلمين فانحاز إليهم، وذلك في السرية التي بعث فيها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عبيدة بن الحرث بن عبد المطّلب حين رجع من غزوة الأبواء، قبل أن يصل إلى المدينة، فسار عبيدة في ستين رجلاً، حتّى بلغ ماء الحجاز بأسفل ثنيّة المرّة، فلقي جمعاً

ص: 377

عظيماً من قريش، وكان على المشركين أبو سفيان صخر بن حرب، وقيل: عكرمة بن أبي جهل، وقيل: غير ذلك، فتراموا بالنبل ولم يقع بينهم ضرب السيوف، فظن المشركون أن للمسلمين مدداً فخافوا وانهزموا، ولم يتبعهم المسلمون، فانحاز يومئذ المقداد وعتبة بن غزوان المازني إلى المسلمين، وكانا مسلمَين، لكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار.

وكانت هذه السرية على رأس ثمانية أشهر من السنة الأولى من الهجرة، وشهد المقداد في ذلك العام المشاهد كلّها.

قال إبن مسعود: أوّل من أظهر الإسلام سبعة، فذكر منهم المقداد، وكان من الفضلاء النجباء، ولم يصح أنّه كان في بدر فارس من المسلمين غيره.

أخرج مسلم والترمذي عن المقداد قال: أقبلت أنا وصاحبان لي قد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فليس أحد فيهم يقبلنا، فأتينا النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز فقط، فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [احتلبوا هذا اللبنَ بيننا] قال: فكنا يحتلب، ويشرب كل إنسان منّا نصيبه، ونرفع لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نصيبه.

قال: فيجيء من الليل فيسلّم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان، قال: ثُمَّ يأتي المسجد فيصلي، قال: ثُمَّ يأتي شرابه فيشرب.

ص: 378

فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمّد يأتي الأنصار فيحتفونه ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها، فلمّا أن وغلت بطني وعلمت أن ليس لي إليها سبيل ندمني الشيطان فقال: ويحك ما صنعت ؟! أشربت شراب محمّد فيجئ فلا يجده فيدعو عليك فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك؟ وعليَّ شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدمي، وجعل لا يجيئني النوم، فأمّا صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت.

قال: فجاء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فسلّم كما كان يسلّم، ثُمَّ أتى المسجد فصلّى، ثُمَّ أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئاً، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليَّ وأهلِكَ، فقال: [اللهمَّ أطعمْ منْ أطعمنيْ واسقِ منْ سقانيْ] قال: فعمدت إلى الشملة فشددتها عليَّ، وأخذت الشفرة فانطلقت إلى الأعنز أيّها أسمن فأذبحها لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وإذا هي حافل، وإذا هنّ حفّل كلّهن، فعمدت إلى إناء كان لآل محمّد صلی الله علیه و آله و سلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، فحلبت فيه حتّى علت رغوته، فجئت إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: [أشربتمْ شرابَكم الليلةَ؟] قلت: يا رسول الله إشرب، فشرب، ثُمَّ ناولني ما زاد.

وفى رواية رزين فقلت: يا رسول الله إشرب، فشرب ثُمَّ ناولني، ثُمَّ انقفا، فلمّا علمت أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد روى وأجيبت دعوته ضحكت حتّى ألقيت إلى الأرض، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إحدى سوءاتك يا مقداد، فقلت: يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا وكذا، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [ما هذهِ إلّا رحمةٌ منَ اللهِ، أفلا كنتَ

ص: 379

آذنتنيْ فتوقظَ صاحبينا فيصيبانِ منها معَنا؟] فقلت: والذي بعثك بالحق إذ أصبتها، وأصبتها معك لا أبالي من أخطأته من النّاس.

قال إبن مسعود: لقد شهدت من المقداد مشهداً لئن أكون صاحبه أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس، وذلك أنّه أتى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وهو يذكر المشركين، فقال: يا رسول الله إنّا والله ما نقول كما قال أصحاب موسى لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (1)، ولكنّا نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن يسارك، فرأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يشرق وجهه لذلك وسرّه وأعجبه.

وروى أحمد بن حنبل في مسنده مرفوعاً إلى بُرَيْدة قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [إنَّ اللهَ يُحبُّ منْ أصحابيْ أربعةً أَخبرني أنّهُ يُحبُّهُمْ، وأَمرَني أنْ أُحبَّهمْ]، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: [إنَّ عليّاً منهمْ، وأبو ذرّ الغفاريُّ وسلمانُ الفارسيُّ والمقدادُ بنُ الأسود الكنديُّ].

وقال العلّامة رحمه الله في الخلاصة: كان المقداد ثاني الأركان الأربعة، عظيم القدر شريف المنزلة جليلاً، من خواص عليٍّ علیه السلام .

ص: 380


1- سورة المائدة – الآية: 24

وأخرج الكشّي عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو جعفر علیه السلام: (إرتدّ النّاس إلّا ثلاثة نفر: سلمان وأبو ذرّ والمقداد)، قال: فقلت: فعمّار؟ فقال: (قد كان حاص حيصة، ثُمَّ رجع).

ثُمَّ قال علیه السلام: (إن أردت الذي لم يشك، ولم يدخله شيء فالمقداد).

وفى رواية: (ما بقي أحدٌ إلّا وقد جال جولة إلّا المقداد بن الأسود، فإنّ قلبه كان مثل زبر الحديد).

وعن جميل بن أبي ثابت قال: قال المقداد بن الأسود: أدخلوني معكم في الشورى، قالوا: لا، قال: فاجعلوني قريباً منكم فأبوا، قال: فإذا أبيتم فلا تبايعوا رجلاً لم يشهد بدراً ولا بيعة الرضوان وانهزم يوم أُحد؛ فقال عثمان: لئن وُلّيت رددتك إلى مولاك الأوّل.

فلمّا مات المقداد رضی الله عنه قام عثمان على قبره فقال: أن كنت وأن كنت، وأثنى خيراً؛ فقال الزبير شعراً:

لأعرفنك بعد الموت تندبني *** وفى حياتي ما زودتني زادي

فقال عثمان: تستقبلني بمثل هذا يا زبير؟ فقال: ما كنت أحبّ أن يموت مثل هذا من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو عليك ساخط.

ص: 381

وأخرج الشيخ الطوسي في (أماليه) بإسناده عن لوط بن يحيى قال: حدثني عبد الرحمن بن جندب قال: لما بويع عثمان سمعت المقداد بن الأسود الكندي يقول لعبد الرحمن بن عوف: والله يا عبد الرحمن ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم، فقال له عبد الرحمن: وما أنت وذاك يا مقداد؟ قال: والله إنّي لأحبّهم لحبّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إيّاهم، ويعتريني وجد لا أبثّه بثة، لشرف قريش على النّاس بشرفهم، واجتماعهم على نزع سلطان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من أيديهم، فقال له عبد الرحمن: ويحك والله لقد أجهدت نفسي لكم.

فقال له المقداد: والله لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون، أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إيّاهم يوم بدر وأُحد، فقال له عبد الرحمن: ثكلتك أمّك يا مقداد، لا يسمعنّ هذا الكلام منك النّاس، أما والله إنّي لخائف أن تكون صاحب فرقة وفتنة.

قال جندب: فأتيته بعد ما انصرف من مقامه، فقلت: يا مقداد أنا من أعوانك، فقال: رحمك الله إن الذي نريد لا يغني فيه الرجلان والثلاثة، فخرجت من عنده وأتيت عليَّ بن أبي طالب صلوات الله عليه فذكرت له ما قال وقلت، فدعا لنا بخير.

وروي عن الشِعبي قال: لما بايع عبد الرحمن بن عوف عثمان بن عفّان لقيه المقداد من الغد، فأخذ بيده وقال: إن كنت أردت بما صنعت وجه الله، فأثابك الله ثواب الدنيا والآخرة، وإن كنت إنّما أردت الدنيا فأكثر الله مالك، فقال عبد الرحمن:

ص: 382

إسمع رحمك الله إسمع، قال: لا أسمع، وجذب يده ومضى حتّى دخل على عليٍّ علیه السلام فقال: قم فقاتل حتّى نقاتل معك، قال عليّ علیه السلام: فبمن نقاتل رحمك الله؟.

وروى مسلم في المجلد الثالث من صحيحه، عن همام بن الحارث أن رجلاً جعل يمدح عثمان، فعمد المقداد وجثا على ركبتيه، وكان رجلاً ضخماً فجعل يحثو في وجهه الحصى، فقال عثمان: ما شأنك؟ قال: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [إذاْ رأيتمْ المدّاحينَ فاحثوُا فيْ وُجوههمْ الترابَ] هذا لفظ الحديث.

قال صاحب الطرائف: في هذا الحديث عدة طرائف، فمن طرائفه أن الصحابة قد كان يمدح بعضهم بعضاً، وما نقل أحد منهم أنّه حثا في وجه المادحين التراب، فلولا أن عثمان بلغ إلى حال من النقص لم يبلغ إليه أحد من الصحابة لم يحثُ التراب في وجه مادحه.

ومن طرائفه أن المقداد ممّن أجمع المسلمون على صلاحه، وصواب ما يعمله.

ومن طرائفه أن عثمان لمّا كان عالماً أن هذا لا يعمل مع أحد، قال للمقداد: ما شأنك؟.

ومن طرائفه أن هذا قد جرى من المقداد وشاع إلى زماننا هذا، وما سمعنا أن أحداً من المسلمين أنكر على المقداد ولا خطّأه.

ومن طرائفه أن هذا يقتضي أن من مدح عثمان فكذا ينبغي أن يُحثى التراب في وجهه اقتداءً بالمقداد الذي أجمع المسلمون على صلاحه.

ص: 383

ومات المقداد في سنة ثلاث وثلاثين من الهجرة في أرضه بالجرف، فحمل إلى المدينة ودفن بالبقيع، وكان قد شرب دهن الخروع فمات رحمه الله تعالى.

ص: 384

أبو ذرّ الغفاري

إسمه جندب بن جنادة - على الأصح - بن سفيان بن عبيدة بن ربيعة بن حزام بن غفار، وقيل: إسم أبيه برير، بموحدة مصغراً ومكبراً، أو عشرقة، أو عبد الله، أو السكن.

قال إبن حجر في التقريب: تقدّم إسلامه وتأخرت هجرته، فلم يشهد بدراً، ومناقبه كثيرة جداً.

وقال غيره: أسلم خامس خمسة، ثُمَّ رجع إلى أرض قومه، وقدم بعد الهجرة، وكان من أكابر العلماء والزهّاد كبير الشأن، كان عطاؤه في السنة أربعمائة دينار، وكان لا يدّخر شيئاً.

أخرج إبن بابويه رحمه الله في (أماليه) عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله الصادق علیه السلام لرجل من أصحابه: ألا أخبركم كيف كان سبب إسلام سلمان وأبي ذرّ رحمة الله عليهما؟ فقال الرجل وأخطأ: إمّا إسلام سلمان فقد علمت، فأخبرني كيف كان سبب إسلام أبي ذرّ؟، فقال أبو عبد الله الصادق علیه السلام: (إن أبا ذرّ كان في بطن مرّ يرعى غنماً له، إذ جاء ذئب عن يمين غنمه، فهش أبو ذرّ بعصاه عليه، فجاء الذئب عن يسار غنمه، فهش أبو ذرّ بعصاه عليه، ثُمَّ قال له: والله ما رأيت ذئباً أخبث منك ولا شرا، فقال الذئب: شرٌّ والله مني أهل مكّة، بعث الله إليهم نبياً فكذبوه وشتموه، فوقع كلام الذئب في أذن أبي ذرّ، فقال لأخته: هلمي مزودتي وأدواتي وعصاي، ثُمَّ خرج

ص: 385

يركض حتّى دخل مكّة، فإذا هو بحلقة مجتمعين، فجلس إليهم فإذا هم يشتمون النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ويسبونه، كما قال الذئب، فقال أبو ذرّ: هذا والله ما أخبرني به الذئب، فما زالت هذه حالتهم حتّى إذا كان آخر النهار.

وأقبل أبو طالب، قال بعضهم لبعض: كفّوا فقد جاء عمّه، فلمّا دنا منهم أكرموه وعظموه، فلم يزل أبو طالب متكلمهم وخطيبهم إلى أن تفرقوا، فلمّا قام أبو طالب تبعته فالتفت إليَّ فقال: ما حاجتك ؟ فقلت: هذا النبيّ المبعوث فيكم، قال وما حاجتك إليه؟ فقال له أبو ذرّ: أؤمن به وأصدقه ولا يأمرني بشيء إلّا أطعته، فقال أبو طالب: تشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمّداً رسول الله؟ قال: فقلت: نعم أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمّداً رسول الله، قال: فقال: إذا كان غداً في هذه الساعة فأتني.

فلمّا كان من الغد جاء أبو ذرّ، فإذا الحلقة مجتمعون، وإذا هم يسبون النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم كما قال الذئب، فجلس معهم حتّى أقبل أبو طالب، فقال بعضهم لبعض: كفّوا فقد جاء عمّه فكفّوا، فجاء أبو طالب فما زال متكلمهم وخطيبهم إلى أن قام، فلمّا قام تبعه أبو ذرّ، فالتفت إليه أبو طالب فقال: ما حاجتك؟ فقال: هذا النبيّ المبعوث فيكم، قال: وما حاجتك إليه؟ قال: فقال: أؤمن به وأصدقه ولا يأمرني بشيء إلّا أطعته، فقال أبو طالب: تشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمّداً رسول الله؟ فقال: نعم أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمّداً رسول الله، فرفعني إلى بيت فيه جعفر بن أبي طالب علیهما السلام، قال: فلمّا دخلت سلمت فردّ عليَّ السلام، ثُمَّ قال: ما حاجتك؟ قال: فقلت: هذا النبيّ المبعوث فيكم، قال: وما حاجتك إليه؟ فقلت: أؤمن به وأصدقه ولا يأمرني بشيء إلّا أطعته، قال: تشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمّداً رسول الله؟ قال: قلت: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمّداً رسول الله، فرفعني إلى بيت فيه حمزة بن عبد المطّلب، فلمّا دخلت سلمت فردّ عليَّ السلام، ثُمَّ قال: ما حاجتك؟ فقلت: هذا النبيّ المبعوث فيكم، قال: وما حاجتك إليه؟ قلت: أؤمن به وأصدقه ولا يأمرني بشيء إلّا أطعته،

ص: 386

قال: تشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمّداً رسول الله؟ قال: قلت: نعم أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمّداً رسول الله، قال: فرفعني إلى بيت فيه عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فلمّا دخلت سلمت فردَّ عليَّ السلام، قال: ما حاجتك؟ قلت: النبيّ المبعوث فيكم، قال: وما حاجتك إليه؟ فقلت: أؤمن به وأصدقه ولا يأمرني بشيء إلّا أطعته، قال: تشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمّداً رسول الله؟ فقلت: نعم أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمّداً رسول الله، قال: فرفعني إلى بيت فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وإذا هو نور في نور، فلمّا دخلت سلمت فردَّ عليَّ السلام، قال: ما حاجتك؟ قلت: هذا النبيّ المبعوث فيكم، قال: وما حاجتك إليه؟ قال: فقلت: أؤمن به وأصدقه ولا يأمرني بشيء إلّا أطعته، قال: تشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأن محمّدا عبده ورسوله؟ قلت: نعم أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأن محمّدا عبده ورسوله، فقال: [أنا رسول الله، يا أبا ذرّ انطلقْ إلى بلادِك، فإنّك تجدْ إبن عمٍّ لكَ قدْ ماتَ، فخذْ مالَه وكنْ بها حتّى يظهرَ أمري].

قال أبو ذرّ: فانطلقت إلى بلادي، فإذا ابن عمّ لي قد مات، وخلّف مالاً كثيراً في ذلك الوقت الذي أخبرني فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فاحتويت على ماله فبقيت ببلادي حتّى ظهر أمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأتيته).

ص: 387

وروت العامّة في خبر إسلامه وجهاً غير هذا الوجه، فروى البخاري بإسناده عن أبي حمزة عن ابن عبّاس قال: لما بلغ أبا ذرّ مبعث النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قال لأخيه: إركب إلى هذا الوادي، فأعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيٌّ يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثُمَّ أئتني؛ فانطلق الأخ حتّى قدم وسمع قوله صلی الله علیه و آله و سلم، ثُمَّ رجع إلى أبي ذرّ فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، فكلاماً ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني مما أردت، فتزوّد وحمل شنّة له فيها ماء، حتّى قدم مكّة فأتى المسجد فالتمس النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتّى أدركه بعض الليل اضطجع، فرآه عليّ، فعرف أنّه غريب، فلمّا رآه تبعه، فلم يسأل أحد منهما صاحبه عن شيء حتّى أصبح، ثُمَّ احتمل قربته وزاده إلى المسجد، فظل ذلك اليوم ولا يراه النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم حتّى أمسى فعاد إلى مضجعه، فمرّ به عليٌّ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتّى إذا كان اليوم الثالث قعد على مثل ذلك فأقامه عليٌّ معه ثُمَّ قال: إلّا تحدثني ما الذي أقدمك ؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت، ففعل فأخبره، قال: فإنه حقٌّ وهو رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإنّي إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأنّي أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتّى تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يقفوه حتّى دخل على النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، ودخل معه فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [ إرجعْ إلى قومِكَ فأخبرهمْ حتّى يأتيَكَ أمريْ ] قال: والذي نفسي بيده لأصرخنّ بها بين ظهرانيهم.

ص: 388

فخرج حتّى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأن محمّداً رسول الله؛ ثُمَّ قام القوم فضربوه حتّى أضجعوه (1)، وأتى العبّاس فأكبّ عليه ثُمَّ قال: ويلكم ألستم تعلمون أنّه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام عليهم، فأنقذه منهم، ثُمَّ عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه، فأكبّ العبّاس عليه.

وروى مسلم بإسناده عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذرّ: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمّنا، فنزلنا على خالٍ لنا فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالفه إليهم أنيس، فجاء خالنا فثنى علينا الذي قيل له، فقلت: أمّا ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا اجتماع لنا فيما بعد، فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي، فانطلقنا حتّى نزلنا بحضرة مكّة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، وأتينا الكاهن فخبر أنيساً، وأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها.

قال: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بثلاث سنين، قلت: لمن؟ قال: لله، قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاءً حتّى إذا كان آخر الليل ألقيت كأنّي خفاء حتّى تعلوني الشمس، فقال أنيس: إن لي حاجة بمكّة فاكفني، فانطلق أنيس حتّى أتى مكّة، فرآه عليٌّ، ثُمَّ جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلاً بمكّة على دينك، يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول النّاس؟ قال: يقولون

ص: 389


1- وفي نسخة: حتى أوجعوه

شاعر كاهن ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، والله لقد وضعت قوله على اقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون، قال: قلت: فاكفني حتّى أذهب فأنظر.

قال: فأتيت مكّة فتضعفت رجلاً، فقلت: أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ؟ فأشار إليَّ فقال: الصابئ الصابئ، فمال عليَّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم، حتّى خررت مغشياً عليَّ، قال فارتفعت حين ارتفعت كأنّي نصب أحمر (1) .

قال: فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، ولقد لبثت يا ابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، وما كان لي طعام إلّا زمزم، فسمنت حتّى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع.

قال: فبينما أهل مكّة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أسمختهم (2)، فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتان منهم تدعوان أسافاً ونائلة، قال فأتتا علي في طوافهما فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى، قال: فما تناهتا عن قولهما، قال: فأتتا علي فقلت: هن مثل الخشبة غير أنّي لا أكني، فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا.

قال: فاستقبلهما رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأبو بكر وهما هابطان، قال: ما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قال: فما قال لكما؟ قالتا: إنه قال لنا كلمة بملأ الفم.

ص: 390


1- وفي نسخة: نصيب أحمش
2- وفى نسخة: صمختهم.

وجاء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتّى استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه، ثُمَّ صلّى، فلمّا قضى صلاته، قال أبو ذرّ: فكنت أوّل من حياه بتحية الإسلام، قال: فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك ورحمة الله، ثُمَّ قال: من أنت؟ قلت: من غفار، قال فأهوى بيده ووضع أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي: كره أنّي انتميت إلى غفار، فذهبت آخذ بيده فدفعني صاحبه، وكان أعلم به مني، ثُمَّ رفع رأسه فقال: متى كنت هاهنا؟ قال: قلت: قد كنت هاهنا من ثلاثين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك؟ قال: قلت: ما كان لي طعام إلّا ماء زمزم حتّى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، قال: [إنّها مباركةٌ، إنّها طعامٌ طعمٌ] فقال أبو بكر: يا رسول الله إئذن لي في إطعامه الليلة.

فانطلق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأبو بكر، وانطلقت معهما، ففتح أبو بكر باباً فجعل يقبض لنا زبيب الطائف، وكان ذلك أوّل طعام أكلته بها، ثُمَّ غبرت ما غبرت.

ثُمَّ أتيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: [إنّه قدْ وجهت ليْ أرضٌ ذاتُ نخلٍ لا أراها إلّا يثربَ، فهلْ أنتَ مبلغٌ عنّي قومَك؟ عسى اللهُ أنْ ينفعَهم بكَ ويأجرَك فيهم]، فأتيت أنيساً فقال: ما صنعت؟ قلت: ما صنعت فإنّي قد أسلمت وصدّقت، قال: ما بي رغبة عن دينك، فإنّي قد أسلمت وصدّقت، فأتينا أمّنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فإنّي قد أسلمت وصدّقت، فاحتملنا حتّى أتينا قومنا غفاراً، فأسلم نصفهم وكان يؤمّهم إيماء بن رحضة، وكان سيدهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المدينة أسلمنا، فقدم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فاسلم نصفهم الباقي، وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول الله إخواننا، نسلم

ص: 391

على الذي أسلموا عليه فأسلموا، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [غفارُ غفرَ اللهُ لهاْ، وأسلمُ سالمَها اللهُ].

قال المؤلف: كان أبو ذرّ رحمه الله من أعاظم الصحابة وكبرائهم، الذين وفوا بما عاهدوا الله عليه، وهو أحد الأركان الأربعة.

وكفاه شرفاً ما رواه في وصيته المشهورة التي أوصاه بها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حين قال له: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي أوصني بوصية ينفعني الله بها، فقال: [نعمْ وأكرمْ بكَ يا أبا ذرّ إنّكَ منّا أهلَ البيتِ، وإنّي مُوصيكَ بوصيةٍ فاحفظها، فإنّها جامعةٌ لطرقِ الخيرِ وسبلهِ، فإنّكَ إنْ حفظتها كانَ لكَ بها كفلٌ]، ثُمَّ ذكر الوصية، ولولا طولها وما اشترطنا على أنفسنا من الأختصار في هذا الكتاب لأوردناها.

روي عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [مَنْ أرادَ أنْ ينظرَ إلى زُهدِ عيسىْ بنِ مريمَ فلينظرْ إلى زهدِ أبي ذرّ].

وأخرج أبو نعيم في (حلية الأولياء) عن زيد بن وهب، وأبو علي المحمودي المروزي في أماليه أنّه قال صلی الله علیه و آله و سلم: [ما أظلّتْ الخضراءُ ولا أقلّتْ الغبراءُ على ذيْ لهجةٍ أصدقُ منْ أبي ذرّ].

وفى رواية الترمذي: [أصدقُ وأوفىْ منْ أبي ذرّ شبيهِ عيسىْ بنِ مريمَ].

ثُمَّ قال عمر بن الخطّاب كالحاسد: يا رسول الله أفنعرف ذلك له؟ فقال: نعم فاعرفوه.

ص: 392

وفى رواية المحمودي: [يعيشُ وحدهُ، ويموتُ وحدهَ، ويُبعثُ وحدهَ، ويدخلُ الجنّةَ وحدهُ].

وروي عن الإمام الحسن بن عليٍّ العسكري علیهما السلام قال: (حدثني أبي عن أبيه عن آبائه علیهم السلام أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان من خيار أصحابه عنده أبو ذرّ الغفاري، فجاء ذات يوم فقال: يا رسول الله إن لي غنيمات قدر ستين شاة، أكره أن أبدو فيها وأفارق حضرتك وخدمتك، وأكره أن أُكلّها إلى راعٍ فيظلمها ويسئ رعايتها فكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إبدُ فيها، فبدا فيها، فلمّا كان اليوم السابع جاء إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: يا أبا ذرّ، فقال: لبيك يا رسول الله، قال: ما فعلت غنيماتك؟ قال: يا رسول الله لها قصة عجيبة، فقال: ما هي؟ قال: يا رسول الله بينما أنا في صلاتي إذ عدا الذئب على غنمي، فقلت: يا ربِّ غنمي، فأخطر الشيطان ببالي يا أبا ذرّ إن عدا الذئب على غنمك وأنت تصلي فأهلكها، ما يبقى لك في الدنيا ما تعيش به؛ فقلت للشيطان: يبقى وجه الله والإيمان بمحمّد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وموالاة أخيه سيد الخلق بعده عليّ بن أبي طالب، وموالاة الأئمّة الطاهرين من ولده، ومعاداة أعدائهم، وكلما فات من الدنيا بعد ذلك فجلل، وأقبلت على صلاتي، فجاء الذئب فأخد حملاً وذهب به، إذ أقبل على الذئب أسد فقطعه نصِفّين، واستنقذ الحمل وردّه إلى القطيع، ثُمَّ نادى يا أبا ذرّ أقبل على صلاتك، فإن الله وكلني بغنمك إلى أن تصلي، فأقبلت على صلاتي وقد غشيني من التعجب ما لا يعلمه إلّا الله، فجاءني الأسد وقال

ص: 393

لي: إمض إلى محمّد صلی الله علیه و آله و سلم وأقرأه عني السلام وأخبره أن الله قد أكرم صاحبك الحافظ لشريعتك، ووكل أسداً بغنمه يحفظها، فعجب من قوله رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ).

وحدّث ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن عبيدة بن عمير الليثي عن أبي ذرّ قال: دخلت على رسول الله المسجد وهو جالس وحده فاغتنمت خلوته فقال: [يا أبا ذرّ إنَّ للمسجدِ تحيةً] قلت: يا رسول الله وما تحيته؟ قال: [ركعتان] فركعتهما، ثُمَّ التفتت إليه فقلت: يا رسول الله أنت أمرتني بالصلاة، فما الصلاة؟ قال صلی الله علیه و آله و سلم: [خيرُ موضوعٍ، فمنْ شاءَ أقلّ ومنْ شاءَ أكثرَ].

قلت: يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: [الإيمانُ باللهِ، ثُمَّ الجهادُ في سبيلِ اللهِ تعالى].

قلت: يا رسول الله أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: [أحسنُهم خلقاً].

قلت: يا رسول الله فأيّ المسلمين أفضل؟ قال: [منْ سلمَ المسلمونَ منْ لسانهِ ويدِه].

قلت: فأيّ الهجرة أفضل؟ قال: [منْ هجرَ السوءَ].

قلت: فأي الليل أفضل؟ قال: [جوفُ الليلِ الغابر].

قلت: فأي الصلاة أفضل؟ قال: [طولُ القنوتِ].

قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: [جهدٌ منْ مُقلٍّ إلى فقيرٍ فيْ سرٍّ].

ص: 394

قلت: فما الصوم؟ قال: [فرضٌ مجزئٌ، وعندَ اللهِ أضعافٌ كثيرةٌ].

قلت: أيّ الرقاب أفضل؟ قال: [أغلاها ثُمَّناً، وأنفسُها عندَ أهلِها].

قلت: فأيّ الجهاد أفضل؟ قال: [منْ عقرَ جوادَه واهريقَ دمُهُ].

قلت: أيّ آية أنزلها الله عليك أعظم؟ قال: [آيةُ الكرسيّ].

ثُمَّ قال: [يا أبا ذرَّ ما السمواتُ السبعُ في الكرسيّ إلّا كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضٍ فلاةٍ، وفضلُ العرشِ على الكرسيِّ كفضلِ الفلاةِ على تلكَ الحلقةِ].

قلت: يا رسول الله كم النبيّون؟ قال: [مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعشرونَ ألفَ نبيٍّ].

قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: [ثلاثمائة وثلاثةُ عشرَ جمّ الغفير].

قلت: من كان أوّل الأنبياء؟ قال: [آدمُ]، قلت: وكان من الأنبياء مرسلاً؟ قال: [مكلّماً خلقهُ اللهُ بيدِه، ونفخَ فيهِ منْ روحِهِ].

ثُمَّ قال: [يا أبا ذرّ أربعةٌ منَ الأنبياءِ سريانيونَ، آدمُ علیه السلام وشيثُ علیه السلام وإدريسُ علیه السلام، وهو أوّلُ منْ خطَّ بالقلمِ، ونوحٌ علیه السلام، وأربعةٌ منْ العربِ هودٌ وصالحُ وشعيبُ ونبيُّك محمّدٌ صلّى الله عليه وعليهم، وأوّلُ الأنبياءِ آدمُ وآخرُهم محمّدٌ، وأوّلُ نبيٍّ منْ أنبياءِ بنيْ إسرائيلَ موسى علیه السلام، وآخرُهم عيسى علیه السلام، وبينهما ألفُ نبيٍّ].

ص: 395

قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: [مائةُ كتابٍ وأربعةُ كتبٍ، أنزلَ الله على شيثَ خمسينَ صحيفةٍ، وعلى إدريسَ ثلاثينَ صحيفةٍ، وعلى إبراهيمَ عشرينَ صحيفةٍ، وأنزلَ التوراةَ والإنجيلَ والزبورَ والفرقانَ].

قلت: يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: [ أمثالٌ كلّها، أيّها الملكُ المبتلى المغرورُ لمْ أبعثْكَ لتجمعَ الدنيا بعضَها إلى بعضٍ، ولكنْ بعثتُك لتردَّ عنّي دعوةَ المظلومِ، فإنّي لا أردّها ولو كانتْ من كافرٍ، وعلى العاقلِ ما لمْ يكنْ مغلوباً أنْ يكونَ لهُ ثلاث ساعاتٍ: ساعة يناجي فيها ربَّه، وساعةٌ يحاسبُ فيها نفسَهُ، ويتفكّرُ فيها صنعَ ربِّهِ، وساعةٌ يخلو فيها لحاجتِه منَ الحلالِ، فإنَّ في هذهِ الساعةِ عوناً لتلكَ الساعاتِ واستجماما للقلوبِ وتفريغاً لها، وعلى العاقلِ أنْ يكونَ بصيراً بزمانِهِ مقبلاً على شأنِهِ حافظاً للسانِهِ، فإنَّ مَنْ حسبَ كلامَهُ منْ عملِه أقلّ الكلامَ إلّا فيما يعنيهِ، وعلى العاقلِ أنْ يكونَ طالباً لثلاثٍ: مرمّة لمعاشٍ، أو تزوّد لمعاد،ٍ أو تلذّذ في غيرِ محرّمٍ].

قلت: يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال صلی الله علیه و آله و سلم: [كانتْ عِبراً كلّها، عجبتُ لمنْ أيقنَ بالموتِ كيفَ يفرحُ! ولمنْ أيقنَ بالنارِ كيفَ (1) يضحكُ! ولمنْ يرى الدنيا وتقلّبها بأهلِها، ثُمَّ يطمئنُّ إليها! ولمن أيقنَ بالقدرِ ثُمَّ ينصب! ولمنْ أيقنَ بالحسابِ ثُمَّ لا يعملُ! ].

ص: 396


1- وفى نسخة:ثُمَّ.

قلت: يا رسول الله هل لك في الدنيا ممّا أنزل الله عليك شيء ممّا كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: يا أبا ذرّ تقرأ: [ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصلّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخرةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ (1)].

قلت: يا رسول الله أوصني، قال: [أوصيكَ بتقوىْ اللهِ فإنّهُ زينٌ لأمركَ كلّهِ].

قلت: يا رسول الله زدني، قال: [عليكَ بتلاوةِ القرآنِ وذكرِ اللهِ فإنّهُ ذكرٌ لكَ فيْ السماءِ، ونورٌ لكَ في الأرض].

قلت: زدني قال: [عليكَ بطولِ الصمتِ فإنّهُ مطردةٌ للشيطانِ، وعونٌ لكَ علىْ أمرِ دينكَ].

قلت: زدني، قال: [إيّاكَ وكثرةُ الضحكِ فإنّهُ يميتُ القلبَ، ويذهبُ بنورِ الوجهِ].

قلت: زدني، قال: [أحبَّ المساكينَ ومجالستهمْ].

قلت: زدني، قال: [لا تخفْ فيْ اللهِ لومةَ لائمٍ].

قلت: زدني، قال: [ليحجزكَ عنِ النّاس ما تعلمُ منْ نفسكَ، ولا تجدْ عليهمْ فيما تأتي].

ص: 397


1- سورة الأعلى – الآيات: 14-19

ثُمَّ قال: [كفىْ بالمرءِ عيباً أنْ يكونَ فيهِ ثلاثَ خصالٍ، أنْ يعرفَ منَ النّاس ما يجهلُ عنْ نفسهِ، ويستحيْ لهمْ ممّا هوَ فيهِ، ويؤذيْ جليسَهَ فيما لا يعنيهِ].

ثُمَّ قال: [يا أبا ذرّ لا عقلَ كالتدبيرِ، وَلا ورعَ كالكفّ، ولا حَسَبَ كحسنِ الخُلقِ.]

قال المؤلف: وإنّما أوردنا هذا الحديث على طوله لما فيه من أنواع الحكم وفوائد العلم، والأنباء عن الأمور الخالية، والأخبار عن الأيّام الماضية، وفيه اعتبار لأولي الأبصار والعقول، وتنبيه لذوي التمييز والفهوم.

وفى (معالم التنزيل) لمّا خرج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى تبوك، وقطع وادي القرى ومضى سائراً، جعل يتخلف عنه الرجل فيقول: [دعوهُ فإنْ يكُ فيهِ خيرٌ فسيلحقهُ الُله بكمْ، وإنْ يكُ غيرَ ذلكَ فقدْ أرى حكمَ اللهِ منهُ]، حتّى قيل: يا رسول الله قد تخلّف أبو ذرّ وأبطأ به بعيره، فقال: [دعوهُ فإنْ يكُ فيهِ خيرٌ فسيلحقهُ الُله بكمْ، وإنْ يكُ غيرَ ذلكَ فقدْ أرى حكمَ اللهِ منهُ].

وتلوّم أبو ذرّ على بعيره، فلمّا أبطأ أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثُمَّ خرج يتبع أثر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ماشياً، ونزل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله هذا رجل يمشي في الطريق وحده، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [كنْ أبا ذرّ]، فلمّا تأمّله القوم قالوا: يا رسول الله هو أبو ذرّ، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [رحمَ اللهُ أبا ذرّ يمشيْ وحدهُ، ويموتُ وحدهُ، ويُبعثُ وحدهُ].

ص: 398

وأخرج الكشّي في (رجاله) عن أبي علي المحمودي المروزي رفعه فقال: أبو ذرّ الذي قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في شأنه: [ما أظلّتْ الخضراءُ ولا أقلّتْ الغبراءُ علىْ ذيْ لهجةٍ أصدقُ منْ أبي ذرّ، يعيشُ وحدهُ، ويموتُ وحدهُ، ويُبعث وحدهُ، ويدخلُ الجنّةَ وحدهُ].

وهو الهاتف بفضائل أمير المؤمنين علیه السلام ووصيّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، واستخلافه إيّاه؛ فنفاه القوم عن حرم الله وحرم رسوله، بعد حملهم إيّاه من الشام على قتب بلا وطاء، وهو يصيح فيهم: قد خاب القطار يحمل إلى النار، سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [إذاْ بلغَ بنوْ أبيْ العاصِ ثلاثينَ رجلاً اتّخذواْ دينَ اللهِ دخلاً، وعبادَ اللهِ خولاً، ومالَ الله دولاً]، فقتلوه فقراً وجوعاً وضرّاً وصبراً.

وعن أبي خديجة الجمّال عن أبي عبد الله علیه السلام قال: دخل أبو ذرّ على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ومعه جبرئيل علیه السلام، فقال جبرئيل علیه السلام: من هذا يا رسول الله؟ قال صلی الله علیه و آله و سلم: أبو ذرّ، قال: أما إنّه في السماء أعرف منه في الأرض.

وسأله عن كلمات يقولهن إذا أصبح، قال: فقال: [يا أبا ذرّ كلماتٌ تقولهنَّ إذا أصبحتَ فما هنَّ؟ ] قال: أقول يا رسول الله: اللهمَّ إنّي أسألك الإيمان بك، والتصديق بنبيك، والعافية من جميع البلاء، والشكر على العافية، والغنى عن النّاس.

وعن موسى بن بكير قال: قال أبو الحسن علیه السلام قال أبو ذرّ: من جزى الله عنه الدنيا خيراً، فجزاها الله عني مذمّة، بعد رغيفي شعير أتغدى بأحدهما وأتعشى بالآخر، وبعد شملتي صوف أتزر بأحديهما وأرتدي بالأخرى.

ص: 399

قال: وقال: إن أبا ذرّ بكى من خشية الله حتّى اشتكى عينيه، فخافوا عليهما، فقيل له: يا أبا ذرّ لو دعوت الله في عينيك، فقال: إنّي عنهما لمشغول وما عناني أكثر، فقيل له وما شغلك عنهما؟ قال: العظيمتان: الجنّة والنار.

قال: وقيل له عند الموت: يا أبا ذرّ ما لكَ؟ قال: عملي، قالوا: نسألك عن الذهب والفضة، قال: ما أصبح فلا أمسى، وما أمسى فلا أصبح، لنا كندوج فيه حرمتا عنا، سمعت حبيبي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [كندوجُ المرءِ قبرهُ].

قال المؤلف: الكندوج بفتح الكاف وسكون النون وضم الدال المهملة وبعد الواو جيم شبه المخزن لفظ معرب.

وأخرج ابن بابويه في معاني الأخبار عن أنس بن مالك قال: حدّثنا أبو عبد الله عبد السلام بن محمّد بن هارون الهاشمي قال: حدّثنا محمّد بن عقبة الشيباني قال: حدّثنا أبو القسم الخضر بن أبان عن أبي هدية إبراهيم بن هدية البصري عن أنس بن مالك قال: أتى أبو ذرّ يوماً إلى مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: ما رأيت كما رأيت البارحة، قالوا: وما رأيت البارحة ؟ قال: رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ببابه فخرج ليلاً، وأخذ بيد عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وخرجنا إلى البقيع، فما زلت أقفو أثرهما إلى أن أتيا مقابر مكّة، فعدل إلى قبر أبيه، فصلّى عنده ركعتين، فإذا بالقبر قد انشقّ، وإذا بعبد الله جالس وهو يقول: أنا أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمّداً عبده ورسوله، فقال له: من ولّيك يا ابة؟ فقال: وما الوليُّ يا بني؟ فقال: هو هذا عليٌّ، فقال: إن عليّاً ولييّ، قال: فارجع إلى روضتك.

ص: 400

ثُمَّ عدل إلى قبر أمّه آمنة، فصنع كما صنع عند قبر أبيه، فإذا بالقبر قد انشقّ، فإذا هي تقول: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّك محمّداً رسول الله، فقال لها: من وليّك يا إمّاه؟ فقالت: وما الولاية يا بني؟ قال: هو هذا عليّ بن أبي طالب، فقالت: إن عليّاً وليي، فقال: إرجعي إلى حضرتك وروضتك.

فكذّبوه ولببوه وقالوا: يا رسول الله كذب عليك اليوم، فقال: وما كان من ذلك؟ قالوا: إن جندب حكى عنك كيت وكيت، فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم [ما أظلّتْ الخضراءُ ولا أقلّتْ الغبراءُ علىْ ذيْ لهجةٍ أصدقُ منْ أبي ذرّ].

قال عبد السلام بن محمّد: فعرضت هذا الخبر على الجُهني محمّد بن عبد الأعلى فقال: علمت أن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قال: [أتانيْ جبرئيلُ علیه السلام فقالَ: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حرّمَ النارَ علىْ ظهرٍ أنزلكَ، وبطنٍ حملكَ، وثديٍ أرضعكَ، وحجْر كفلكَ].

وأخرج عن إسماعيل الفراء عن رجل قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام: أليس قال رسول الله في أبي ذرّ: [ما أظلّتْ الخضراءُ ولا أقلّتْ الغبراءُ علىْ ذيْ لهجةٍ أصدقُ منْ أبي ذرّ] قال: بلى، قال: قلت: فأين رسول الله وأمير المؤمنين وابنيه الحسن والحسين؟ قال: فقال لي: كم السنة شهراً؟ قال: قلت: إثنا عشر شهراً، قال: كم منها حُرُمٌ؟ قال: قلت: أربعة أشهر، قال: أشهر رمضان منها؟ قال: قلت: لا، قال: إن في شهر رمضان ليلة أفضل من ألف شهر، إنّا أهل بيت لا يقاس بنا أحد.

ص: 401

وأخرج أبو بكر أحمد بن عبد العزيز عن أبي لهيعة أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مات وأبو ذرّ غائب، فقدم وقد ولّي أبو بكر، فقال: أصبتم قناعة وتركتم قرابة، لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيكم لما أختلف عليكم اثنان.

وأخرج الشيخ الطبرسي في (الإحتجاج) عن أبان بن تغلب، عن الصادق جعفر بن محمّد علیهما السلام أن أبا ذرّ قام يوم ولّي أبو بكر فقال: يا معاشر قريش أصبتم قناعة وتركتم قرابة، والله لترتدن جماعة من العرب، ولتشكن في هذا الدين، ولو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيكم ما اختلف عليكم سيفان، والله لقد صارت لمن غلب ولتطمحن إليها عين من ليس من أهلها، ولتسفكن في طلبها دماء كثيرة.

فكان كما قال أبو ذرّ، ثُمَّ قال: لقد علمتم وعلم خياركم أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [الأمر بعديْ لعليٍّ، ثُمَّ لابنيَّ الحسنِ والحسينِ، ثُمَّ للطاهرينَ منْ ذريّتيْ]، فاطرحتم قول نبيكم، وتناسيتم ما عهد به إليكم؛ فأطعتم الدنيا الفانية، وشربتم الآخرة الباقية، التي لا يهرم شبابها، ولا يزول نعيمها، ولا يحزن أهلها، ولا يموت سكانها، بالحقير التافه الفاني الزائل، وكذلك إلّامم من قبلكم، كفرت بعد أنبيائها، ونكصت على أعقابها، وغيّرت وبدّلت واختلفت، فساويتموهم حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة، وعمّا قليل تذوقون وبال أمركم، وتجزون بما قدمت أيديكم، وما الله بظلام للعبيد.

وروى الثعلبي في تفسيره من عدة طرق، فمنها ما رفعه إلى عباية بن ربعي قال: بينا عبد الله بن عبّاس جالس على شفير زمزم يقول: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إذ أقبل رجل معتم بعمامة، فجعل ابن عبّاس رضی الله عنه لا يقول: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، إلّا وقال

ص: 402

الرجل: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال ابن عبّاس: سألتك بالله من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه فقال: يا أيّها النّاس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدوي، أبو ذرّ الغفاري، سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بهاتين وإلّا فصمّتا، ورأيته بهاتين وإلّا فعميتا يقول: [عليٌّ قائدُ البررةِ وقاتلُ الكفرةِ، منصورٌ منْ نصرهُ، مخذولٌ منْ خذلهُ].

أما إنّي صليت مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوماً من الأيّام صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحد شيئاً؛ فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهمَّ اشهد أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً، وكان عليّ راكعاً فأومئ إليه بخنصره اليمنى، وكان يتختم فيها، فأقبل إليه السائل، حتّى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم،فلمّا فرغ من صلاته، رفع رأسه إلى السماء وقال: [اللهمَّ إنَّ موسىْ سألكَ وقالَ: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾ (1)، فأنزلت قرآناً ناطقاً ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إليكما بِآيَاتِنَا﴾ (2).

ص: 403


1- سورة طه - الآيات: 25- 32
2- سورة القصص - الآية: 35

اللهمَّ وأنا مُحمّدٌ نبيُّكَ وصفيُّكَ، اللهمَّ فاشرحْ ليْ صدريْ ويسّرْ ليْ أمريْ واجعلْ ليْ وزيراً منْ أهلي، عليّاً أشدّدْ بهِ ظهريْ].

قال أبو ذرّ: فما أستتم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الكلمة حتّى نزل عليه جبرئيل علیه السلام من عند الله فقال: يا محمّد إقرأ، قال: وما أقرأ؟ قال: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (1).

وأخرج أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في كتاب (المناقب)، وهو من مخالفي أهل البيت، بإسناده إلى عبد الله بن الصامت عن أبي ذرّ قال: دخلنا على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقلت: من أحبُّ أصحابك إليك فإن كان أمر كنّا معه، وان كانت نائبة كنّا من دونه؟ قال: [هذاْ عليٌّ أقدمكمْ سِلماً وإسلاماً].

وروى أبو بكر بن مردويه في كتابه المشار إليه أيضاً، بإسناده إلى داود ابن أبي عوف قال: حدثني معاوية بن أبي ثعلبة الحنفي قال: ألا أحدثك بحديث لم يخلط؟ قلت: بلى، قال: مرض أبو ذرّ فأوصى إلى عليٍّ، فقال بعض من يعوده: لو أوصيت إلى أمير المؤمنين عمر كان أجمل لوصيتك من عليٍّ، قال: والله لقد أوصيت إلى أمير المؤمنين، حقٌّ أمير المؤمنين، والله إنّه لمرتع الأرض تسكن إليه، ولو قد فارقكم لقد أنكرتم النّاس وأنكرتم الأرض.

ص: 404


1- سورة المائدة - الآية: 55

قال: قلت: يا أبا ذرّ إنّا لنعلم أن أحبَّهم إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أحبّهم إليك، قال: أجل، قلت: فأيّهم أحب إليك؟، قال: هذا الشيخ المضطهد حقّه، يعني عليّ بن أبي طالب علیه السلام .

وأخرج الكشّي عن حذيفة بن أسيد قال: سمعت أبا ذرّ يقول وهو متعلق بحلقة باب الكعبة: أنا جندب لمن عرفني، وأنا أبو ذرّ لمن لم يعرفني، إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو يقول: [مَنْ قاتلنيْ في الأولى والثانيةِ فهوَ فيْ الثالثةِ منْ شيعةِ الدجّالِ، إنّما مَثلُ أهلِ بيتيْ فيْ هذهِ الأمّة مثلُ سفينةِ نوحٍ فيْ لُجّةِ البحرِ، مَنْ رَكبهاْ نجاْ، ومنْ تخلّفَ عنها غَرقَ، إلّا هلْ بلّغتُ].

وعن عبد الملك بن أبي ذرّ الغفاري قال: بعثني أمير المؤمنين علیه السلام يوم مزق عثمان المصاحف فقال: {أدعُ أباك}؛ فجاء إليه أبي مسرعاً فقال: {يا أبا ذرّ أتىْ اليوم في الإسلام أمرٌ عظيمٌ، مُزّقَ كتابُ اللهِ وَوُضعَ فيهِ الحديدُ، وحَقَّ علىْ اللهِ أنْ يسلطَ الحديدَ علىْ مَنْ مزّقَ كتابهَ بالحديدِ}.

قال: فقال أبو ذرّ: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [أهلُ الجبريةِ منْ بعدِ موسىْ قاتلوا أهلَ النبوةِ فظهروا عليهمْ فقتلوهمْ زماناً طويلاً، ثُمَّ إنّ اللهَ بعثَ فتنةً فهاجروا إلىْ غيرِ آبائهمْ فقاتلهمْ فقتلوهُ، وأنتَ بمنزلتهمْ يا عليُّ ].

فقال عليٌّ: {قتلتنيْ يا أبا ذرّ}, فقال أبو ذرّ: لقد علمت أنّه سيبدأ بك.

ص: 405

وعن أبي سخيلة قال: حججت أنا وسلمان بن ربيعة فمررنا بالربذة، قال: فأتيت أبا ذرّ فسلمنا عليه فقال: إن كانت بعدي فتنة، وهي كائنة، فعليكم بكتاب الله والشيخ عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فإنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو يقول: [عليٌّ أوّل مَنْ آمنَ بيْ وصدّقنيْ، وهوَ أوّل مَنْ يُصافحنيْ يومَ القيامةِ، وهوَ الصدّيقُ الأكبر، وهوَ الفاروقُ بعديْ، يفرّقُ بينَ الحقِّ والباطلِ، وهوَ يعسوبُ الدينِ، والمالُ يعسوبُ الظَلَمَةِ].

وروي عن أبي جعفر علیه السلام قال: قام أبو ذرّ رضی الله عنه بباب الكعبة فقال: أنا جندب بن جنادة الغفاري، هلمّوا إلى أخٍ ناصح شفيق، فاكتنفه النّاس فقالوا: قد روعتنا فانصح لنا، فقال: إن أحدكم إذا أراد سفراً لأعدَّ له من الزاد ما يصلحه، فما بالكم لا تُزودون لطريق القيامة وما يصلحكم فيه، قالوا: وكيف نتزود لذلك؟ فقال: يحجّ الرجل منكم حجّة لعظام الأمور، ويصوم يوماً شديد الحرّ للنشور، ويصلّي ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، ويتصدق بصدقة على المساكين للنجاة من يوم عسير، ويتكلم بكلمة حقّ فيجيره الله لها يوم يستجير، ويسكت عن كلمة باطل ينجو بذلك من عذاب السعير، يا ابن آدم إجعل الدنيا مجلسين، مجلساً في طلب الحلال ومجلساً للآخرة، ولا ترد الثالث فإنه لا ينفعك، واجعل الكلام كلمتين كلمة للآخرة وكلمة في التماس الحلال، والثالثة تضرك، واجعل مالك درهمين درهماً تنفقه على عيالك، ودرهماً لآخرتك، والثالث لا ينفعك، واجعل الدنيا ساعة من ساعتين، ساعة مضت بما فيها فلست قادراً على ردّها، وساعة آتية لست على يقين من إدراكها، والساعة التي أنت

ص: 406

فيها ساعة عملك، فاجتهد فيها لنفسك، واصبر فيها عن معاصي ربك، فإن لم تفعل قد هلكت، ثُمَّ قال: قتلني همُّ يوم لا أدركه.

وروي لما توفي عبد الرحمن بن عوف قال أناس من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إنّا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك، فقال كعب: وما تخافون؟ كسب طيباً وأنفق طيباً وترك طيباً، فبلغ ذلك أبا ذرّ رحمة الله عليه، فخرج مغضباً يريد كعباً، فمرَّ فلحق عظم بعير فأخذه بيده، ثُمَّ انطلق يطلب كعباً، فقيل لكعب: إن أبا ذرّ يطلبك، فخرج هارباً حتّى دخل على عثمان يستغيث به، وأخبره الخبر.

فأقبل أبو ذرّ يقتصّ الخبر في طلب كعب، حتّى انتهى إلى دار عثمان، فلمّا دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذرّ، فقال أبو ذرّ: ها هنا يا ابن إليهودية تزعم أنه لا بأس فيما ترك عبد الرحمن، لقد خرج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نحو أُحُد وأنا معه، فقال: يا أبا ذرّ، قلت: لبّيك يا رسول الله، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [الأكثرونَ همْ إلّاقلّونَ يومَ القيامةِ، إلّا َمْن قالَ هكذاْ وهكذاْ عنْ يمينهِ وشمالهِ، وفوقهِ وخلفهِ وقدامهِ، وقليلٌ ما هُمْ].

ثُمَّ قال: يا أبا ذرّ، قلت: نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمّي، قال: [ما سرّنيْ أنَّ لي مثلَ أحدٍ أنفقهُ فيْ سبيلِ اللهِ، أموتُ ثُمَّ أموتُ، ولا أتركُ منهٌ قيراطينِ]، ثُمَّ قال: [ يا أبا ذرّ أنتَ تريدُ الأكثر، وانا أريدُ الأقلّ]، فرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يريد هذا، وأنت يا ابن إليهودية تقول: لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف، كذبت وكذب من قال، قال: فلم يرد عليه حرفاً حتّى خرج.

ص: 407

وعن جعفر بن معروف قال: حدثني الحسن بن علي بن النعمان، قال: حدثني أبي عن ابن حمزة عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: أرسل عثمان إلى أبي ذرّ موليين له ومعهما مائتا دينار، فقال لهما: إنطلقا إلى أبي ذرّ فقولا له: إن عثمان يقرئك السلام ويقول لك: هذه مائتا دينار فاستعن بها على ما نابك، فقال أبو ذرّ: وهل أعطى أحداً من المسلمين مثل ما أعطاني؟ قالا: لا، قال: إنّما أنا رجل من المسلمين يسعني ما يسع المسلمين، قالا له: إنه يقول: من طيب مالي، وبالله الذي لا إله إلّا هو ما خالطها حرام، ولا بعثت بها إليك إلّا من حلال، فقال لا حاجة لي فيها، وقد أصبحت يومي هذا وأنا من أغنى النّاس، فقالا له: عافاك الله وأصلحك ما نرى في بيتك قليلاً ولا كثيراً مما يستمتع به، فقال: بلى تحت هذا الاكاف ترون رغيف شعير وقد أتى عليه أيام، فما أصنع بهذه الدنانير؟ لا والله حتّى يعلم الله أنّي لا أقدر على قليل ولا كثير، وقد أصبحت غنياً بولاية عليّ بن أبي طالب علیه السلام وعترته الهادين المهديين الراضين المرضيين، الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.

وكذلك سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [إنّهُ لقبيحٌ بالشيخِ أنْ يكونَ كذّاباً]، فردّاها عليه، وأعلماه أنه لا حاجة لي فيها وفيما عنده، حتّى ألقى الله ربّي، فيكون هو الحاكم فيما بيني وبينه.

وأخرج محمّد بن يعقوب الكليني في الروضة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: أتى أبو ذرّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: يا رسول الله إنّي قد اجتويت المدينة فتأذن لي أن أخرج وابن أخي إلى مزينة فنكون بها، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [إنّيْ أخشىْ أنْ تعبرَ عليكَ

ص: 408

خيلٌ منَ العربِ، فيقتل ابن أخيك، فتأتين شعثاً، فتقوم بين يدي متكئاً علىْ عصاكَ فتقول: قتلَ ابنُ أخيْ وأخذَ السرحُ].

فقال يا رسول الله: بل لا يكون إلّا خيراً إن شاء الله؛ فأذن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم له، فخرج هو وابن أخيه وامرأته، فلم يلبثا هناك إلّا يسيراً حتّى غارت خيل لبني فزارة فيها عيينة بن حصين، فأخذت السرح وقُتل ابن أخيه، وأخذت امرأة من بني غفار.

وأقبل أبو ذرّ يشتد حتّى وقف بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وبه طعنة جائفة، فاعتمد على عصاه، وقال: صدق الله ورسوله، أخذ السرح، وقتل ابن أخي، ووقفت بين يديك على عصاي؛ فصاح رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في المسلمين؛ فخرجوا في الطلب وردّوا السرح، وقتلوا نفراً من المشركين.

وأخرج في كتاب (الجنائز من الكافي) عن علي بن إبراهيم، رفعه قال: لمّا مات ذرّ بن أبي ذرّ مسح أبو ذرّ القبر بيده ثُمَّ قال: رحمك الله يا ذرّ، والله إنك كنت بي بارّاً، ولقد قُبضت وإنّي عنك لراضٍ، أما والله ما بي فقدك، وما علي من غضاضة، وما لي أحد سوى الله من حاجة، ولولا هول المطلع لسرّني أن أكون مكانك، ولقد شغلني الحذر لك عن الحدّ عليك، والله ما بكيت لك، ولكن بكيت عليك، فليت شعري ماذا قلت وما قيل لك! ثُمَّ قال: اللهمَّ إنّي قد وهبت له ما افترضت عليه من حقي، فهبْ له ما افترضت عليه من حقك، فأنت أحق بالحق مني.

ص: 409

وأمّا خبر نفيه إلى الربذة، فاعلم أن الذي عليه أكثر أرباب السير وعلماء الأخبار والنقل، أن عثمان نفى أبا ذرّ أوّلاً إلى الشام، ثُمَّ استقدمه إلى المدينة لمّا شكا منه معاوية، ثُمَّ نفاه من المدينة إلى الربذة، لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام.

وأصل هذه الواقعة أن عثمان أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال، واختص زيد بن ثابت بشيء منها، جعل أبو ذرّ يقول بين النّاس وفى الطرقات والشوارع: بشّرْ الكافرينَ بعذابٍ إليَّم، ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ إليَّمٍ﴾ (1).

فرفع ذلك إلى عثمان مراراً وهو ساكت، ثُمَّ إنّه أرسل مولى من مواليه، أن انته عمّا بلغني عنك، فقال أبو ذرّ: أينهاني عن قراءة القرآن كتاب الله؟! وعيب من ترك أمر الله، فوالله لئن أرضي الله بسخط عثمان أحب إليَّ وخير لي من أن أسخط الله برضى عثمان؛ فأغضب ذلك عثمان وأحفظه، فتصابر وتماسك إلى أن قال عثمان يوماً والنّاس حوله: أيجوز للأمام أن يأخذ من المال شيئاً قرضاً فإذا أيسر قضاه؟ فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك، فقال أبو ذرّ: يا ابن إليهودية أتعلمنا ديننا؟ فقال عثمان: قد كثر أذاك وتولعك بأصحابي، إلحق بالشام، فأخرجه إليها.

ص: 410


1- سورة التوبة – الآية: 34

فكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها، فبعث إليه معاوية يوماً ثلاثمائة دينار، فقال أبو ذرّ لرسوله: إن كانت من عطائي الذي حرمتموني إيّاه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها، وردّها عليه.

ثُمَّ بنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذرّ: يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهي الإسراف.

وكان أبو ذرّ يقول بالشام: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سُنّة نبيه صلی الله علیه و آله و سلم، والله إنّي لأرى حقاً يطفا وباطلاً يحيى، وصادقاً مكذباً، وإثرة بغير تقى، وصالحاً مستأثراً عليه؛ فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية: إن أبا ذرّ لمفسد عليكم الشام، فتدارك أهله ان كان لك فيه حاجة.

وروى أبو عثمان الجاحظ في كتاب (السفيانية)، عن جلام بن جندل الغفاري قال: كنت عاملاً لمعاوية على قنسرين والعواصم في خلافة عثمان، فجئت يوما أسأله عن حال عملي، إذ سمعت صارخاً على باب داره يقول: أتتكم القطار تحمل النار، اللهمَّ العن الآمرين بالمعروف التاركين له، اللهمَّ العن الناهين عن المنكر المرتكبين له؛ فارتاب معاوية وتغيّر لونه، وقال: يا جلام أتعرف الصارخ؟ فقلت: اللهمَّ لا، قال: من عذيري من جندب بن جنادة؟ يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت، ثُمَّ قال: أدخلوه عليّ؛ فجئ بأبي ذرّ بين قوم يقودونه، حتّى وقف بين يديه فقال له معاوية: يا عدوّ الله وعدوّ رسوله، تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع، أما إنّي لو

ص: 411

كنت قاتل رجل من أصحاب محمّد من غير أذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك، ولكني أستأذن فيك.

قال جلام: وكنت أحب أن أرى أبا ذرّ؛ لأنّه رجل من قومي، فالتفت إليه، فإذا رجل أسمر ضرب من الرجال، خفيف العارضين، في ظهره حناء، فأقبل على معاوية وقال: ما أنا بعدو الله ولا رسوله، بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله، أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر، ولقد لعنك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ودعا عليك مرات أن لا تشبع.

سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [إذا ولّى الأمّةَ الأعينُ الواسعُ البلعومَ، الذي يأكلُ ولا يشبعُ، فلتأخذْ الأمّةُ حذرَها منهُ]، فقال معاوية: ما أنا ذلك الرجل، قال أبو ذرّ: بل أنت ذلك الرجل، أخبرني بذلك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سمعته يقول وقد مررتَ به: [اللهمَّ العنهُ، ولا تُشبعهْ إلّا بالتراِبِ] وسمعته صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [أستُ معاويةَ في النّارِ]، فضحك معاوية وأمر بحبسه، وكتب إلى عثمان فيه.

فكتب عثمان إلى معاوية أن احمل جندباً إليَّ على أغلظ مركب وأوعره؛ فوجّه به مع من سار به الليل والنهار، وحمله على شارف ليس عليها قتب، حتّى قدم به إلى المدينة، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد، فلمّا قدم بعث إليه عثمان أن الحق بأيّ أرض شئت، قال: بمكّة، قال: لا، قال: بيت المقدس، قال: لا، قال: بأحد المصرين، قال: لا، ولكنّي مسيّرك إلى الربذة، فسيّره إليها، فلم يزل بها حتّى مات.

وفي رواية الواقدي أن أبا ذرّ لما دخل على عثمان قال له:

ص: 412

لا أنعم الله بقين عيناً

نعم ولا لقّاه يوماً زينا

تحية السخط إذا التقينا

فقال أبو ذرّ رضی الله عنه: ما عرفت إسمي قيناً قطّ، وفى رواية أخرى لا أنعم الله بك عيناً يا جندب، فقال أبو ذرّ: انا جندب وسمّاني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عبد الله، فاخترت اسم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذي سمّاني به على اسمي، فقال له عثمان: أنت الذي تزعم إنّا نقول: يد الله مغلولة، وأن الله فقير ونحن أغنياء، فقال أبو ذرّ: لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده، ولكني أشهد لسمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [إذاْ بلغَ بنوْ أبي العاصٍ ثلاثينَ رجلاً جعلواْ مالَ اللهِ دولاً وعبادهُ خولاً ودينه دخلاً ]، فقال عثمان لمن حضر: سمعتموها من رسول الله؟ قالوا: لا، قال عثمان: ويلك يا أبا ذرّ اتكذب على رسول الله؟ فقال أبو ذرّ لمن حضر: ما تدرون أنّي صدقت، قالوا: لا والله ما ندري.

فقال عثمان: أدعوا لي عليّاً، فلمّا جاء قال عثمان لأبي ذرّ: أقصص عليه حديثك في بني أبي العاص، فأعاده فقال عثمان لعليّ: أسمعت هذا من رسول الله؟ فقال عليٌّ سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [ما أظلّتْ الخضراءُ ولا أقلّتْ الغبراءُ منْ ذيْ لهجةٍ أصدق ُمنْ أبيْ ذرّ]، فقال من حضر: إمّا هذا فقد سمعناه كلّنا من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال أبو ذرّ: أحدّثُكم أنّي سمعت هذا من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فتتهموني، ما كنت أظن أنّي أعيش حتّى أسمع هذا من أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله و سلم .

ص: 413

وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال: رأيت أبا ذرّ يوم دخل به على عثمان فقال له: أنت الذي قلت وفعلت، فقال أبو ذرّ: نصحتك فاستغششتني، ونصحت صاحبك فاستغشني، قال عثمان: كذبت ولكنك تريد الفتنة وتحبّها، قد أنغلت الشام علينا، فقال له أبو ذرّ: إتبع سنُّة صاحبك لا يكن لأحد عليك ملام، فقال عثمان: مالك وذلك لا أمّ لك؟ قال أبو ذرّ: ما وجدت لي عذراً إلّا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فغضب عثمان وقال: أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب، إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله، فإنّه قد فرّق جماعة المسلمين، أو أنفيه من أرض الإسلام.

فتكلم عليٌّ علیه السلام، وكان حاضراً فقال: {إنّي أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون ﴿ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ (1)}.

فأجابه عثمان بجواب غليظ، وأجابه عليٌّ علیه السلام بمثله، ولم نذكر الجوابين تذمماً منهما.

قال الواقدي: ثُمَّ إن عثمان فطن على النّاس أن يقاعدوا أبا ذرّ ويكلّموه، فمكث كذلك أياماً، ثُمَّ أتي به فوقف بين يديه، فقال أبو ذرّ: ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ورأيت أبا بكر وعمر؟ هل هديك كهديهم؟ أما إنّك لتبطش بي بطش جبار، فقال

ص: 414


1- سورة غافر – الآية: 28

عثمان: أخرج عنّا من بلادنا، فقال أبو ذرّ: ما أبغض إليَّ جوارك، قال: أين أخرج؟ قال: حيث شئت، قال: أخرج إلى الشام أرض الجهاد، قال: إنّما جلبتك من الشام لمّا أفسدتها، أفاردّك إليها؟ قال: أخرج إلى العراق، قال: لا إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولي شبهة وطعن على الأئمّة والولاة، قال: فأخرج إلى مصر، قال: لا، قال: فإلى أين أخرج؟ قال: إلى البادية، قال أبو ذرّ: أصير بعد الهجرة أعرابياً؟ قال: نعم، قال أبو ذرّ: فأخرج إلى بادية نجد، قال عثمان: بل إلى الشرق الأبعد الأقصى فأقصى، إمض على وجهك هذا، فلا تعدونّ الربذة فخرج إليها.

وروى الواقدي أيضاً عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة، أن أبا الأسود الدؤلي قال: كنت أحبّ لقاء أبي ذرّ لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة، فجئته فقلت له: ألا تخبرني أخرجت من المدينة طائعاً أم خرجت مكرهاً؟ فقال: كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم، فأخرجت إلى المدينة، فقلت: دار هجرتي وأصحابي، فأخرجت من المدينة إلى ما ترى.

ثُمَّ قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إذ مرَّ بي فضربني برجله وقال: [لا أراكَ نائماً في المسجدِ] فقلت: بأبي أنت وأمّي غلبتني عيني فنمت فيه، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [فكيفّ تصنعُ إذا أخرجوكَ منهُ؟] قلت: إذاً ألحق بالشام فإنّها أرض مقدسة وأرض الجهاد، قال: [فكيفَ تصنعُ إذا أخرجتَ منها؟] قلت: أرجع إلى المسجد، قال صلی الله علیه و آله و سلم: [فكيفَ تصنعُ إذا أخرجوكَ منهُ؟] قلت: آخذ سيفي فأضربهم به،

ص: 415

فقال: [ألا أدلّك على خيرٍ منْ ذلكَ، إنسقْ معهمْ حيثُ ساقوك، وتسمعُ وتطيعُ]، وأنا أسمع وأطيع، وتالله ليلقينّ اللهَ عثمان وهو آثمٌ في جنبي.

وروى علي بن إبراهيم في تفسيره أن أبا ذرّ رحمه الله دخل على عثمان، وكان عليلاً متوكئاً على عصاه، وبين يدي عثمان مائة ألف درهم، قد حملت إليه من بعض النواحي، وأصحابه حوله ينظرون إليه ويطمعون أن يقسمها فيهم، فقال أبو ذرّ لعثمان: ما هذا المال؟ فقال عثمان: مائة ألف درهم حملت إليَّ من بعض النواحي، أريد أن أضمّ إليها مثلها، ثُمَّ أرى فيها رأيي، فقال أبو ذرّ لعثمان: يا عثمان أيّما أكثر مائة ألف درهم أو أربعة دنانير؟ فقال: بل مائة الف درهم، فقال: أما تذكر أنّي أنا وأنت دخلنا على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عشاءً، فرأيناه كئيباً حزيناً، فسلمنا عليه، فلم يرد علينا السلام، فلمّا أصبحنا أتينا فرأيناه ضاحكا مستبشراً، فقلنا له: بآبائنا وامهاتنا نفديك، دخلنا عليك البارحة فرأيناك كئيباً حزيناً، وعدنا إليك اليوم فرأيناك ضاحكاً مستبشراً، فقال: [نعمْ كانَ بقيَ عنديْ منْ فيئِ المسلمينَ أربعةَ دنانيرَ، لمْ أكنْ قسمتها، وخفتُ أنْ يدركنيْ الموتُ وهيَ عنديْ، وقدْ قسمتها اليوم فاسترحتُ]، فنظر إلى كعب الأحبار فقال له: يا أبا بحر ما تقول في رجل أدى زكاة ماله المفروضة؟ هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء؟ فقال: لا، لو اتخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضة ما وجب عليه شيء، فرفع أبو ذرّ عصاه فضرب بها رأس كعب، ثُمَّ قال له: يا ابن إليهودية الكافرة ما أنت والنظر في أحكام المسلمين؟ قول الله أصدق من قولك حيث قال: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ إليَّمٍ

ص: 416

(1)، فقال عثمان: يا أبا ذرّ إنّك شيخ خرفت وذهب عقلك، ولولا صحبتك لرسول الله لقتلتك.

فقال: يا عثمان أخبرني حبيبي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: [لا يفتنونكَ، ولا يقتلونكَ]، وأمّا عقلي فقد بقي منه ما أحفظ حديثا سمعته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فيك وفي قومك، فقال: وما سمعت من رسول الله؟ قال: سمعته يقول: [إذاْ بلغَ آل أبيْ العاصِ ثلاثينَ رجلاً صيّروا مالَ اللهِ دولاً وكتابَ اللهِ دخلاً وعبادهُ خولاً، الفاسقين حزباً والصالحين حرباً].

فقال عثمان: يا معشر أصحاب محمّد هل سمع أحد منكم هذا من رسول الله؟ فقالوا: لا، فقال عثمان: أدعوا عليّاً، فجاء أمير المؤمنين علیه السلام فقال له عثمان: يا أبا الحسن أنظر ما يقول هذا الشيخ الكذاب، فقال أمير المؤمنين علیه السلام: {يا عثمان لا تقلْ كذّاب فإنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [ما أظلّتْ الخضراءُ وما أقلّتْ الغبراءُ أصدق لهجةٍ منْ أبي ذرّ]}.

فقال أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: صدق أبو ذرّ، فقد سمعنا هذا من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فبكى أبو ذرّ عند ذلك، فقال عثمان: يا أبا ذرّ أسألك بحق رسول الله إلّا ما أخبرتني عن شيء أسألك عنه، فقال أبو ذرّ: والله لو لم تسألني بحق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لأخبرتك، فقال: أيّ البلاد أحبّ إليك أن تكون فيها؟ فقال: مكّة حرم الله وحرم رسوله، أعبد الله فيها حتّى يأتيني الموت، فقال: لا ولا كرامة لك، فقال: المدينة، فقال: لا ولا

ص: 417


1- سورة التوبة – الآية: 34

كرامة لك، قال: فسكت أبو ذرّ، فقال عثمان: أيّ البلاد أبغض إليك تكون فيها؟ فقال: الربذة التي كنت فيها على غير دين الإسلام، فقال عثمان: سرْ إليها، فقال أبو ذرّ: صدق الله ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم .

وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب (السقيفة) عن عبد الرزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: لمّا خرج أبو ذرّ إلى الربذة أمر عثمان فنودي في النّاس أن لا يكلم أحدٌ أبا ذرّ ولا يشيعه، وأمر مروان بن الحكم ان يخرج به فخرج به، وتحاماه النّاس إلّا عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وعقيلاً أخاه، وحسناً وحسيناً علیهما السلام وعمّاراً رضی الله عنه، فإنّهم خرجوا معه يشيعونه، فجعل الحسن يكلم أبا ذرّ فقال له مروان: أيهاً يا حسن ألا تعلم أن الأمير قد نهى عن كلام هذا الرجل، فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك، فحمل على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته وقال: تنحَّ لحاك الله إلى النار، فرجع مروان مغضباً إلى عثمان، فتلظّى على عليٍّ علیه السلام .

ووقف أبو ذرّ فودعه القوم، ومعه ذكوان مولى أمّ هاني بنت أبي طالب.

قال ذكوان: فحفظت كلام القوم، وكان حافظاً، فقال عليٌّ علیه السلام: {يا أبا ذرّ إنّكَ غضبتَ لِله، إنَّ القومَ خافوكَ على دنياهمْ، وخفتهمْ علىْ دينكَ، فامتحنوكَ بالقلىْ، ونفوكَ إلىْ الفلاْ، واللهِ لوْ كانتْ السمواتُ والأرض علىْ عبدٍ رتقاً ثُمَّ اتّقىْ اللهَ لجعلَ لهُ منها مخرجاً، يا أبا ذرَّ لا يؤنسنّكَ إلّا الحقُّ، ولا يوحشنّكَ إلّا الباطلُ}، ثُمَّ قال لأصحابه: {ودّعوا عمّكم} وقال لعقيل: {ودّعْ أخاك}.

ص: 418

فتكلم عقيل فقال: ما عسى أن نقول يا أبا ذرّ، أنت تعلم أنّا نحبك وأنت تحبّنا، فاتّقِ الله، فإن التقوى نجاة، واصبر فإن الصبر كرم، واعلم أن استثقالك الصبر من الجزع، واستبطانك العافية من إليَّأس، فدع إليَّأس والجزع.

ثُمَّ تكلم الحسن علیه السلام فقال: (يا عمّاه لولا أنّه لا ينبغي للمودع أن يسكت، وللمشيع أن ينصرف، لقصر الكلام وإن طال الأسف، وقد أتى القوم إليك ما ترى، فضع عنك الدنيا بتذكر فراقها، وشدّة ما اشتدّ منها، برجاء ما بعدها، واصبر حتّى تلقى نبيك صلی الله علیه و آله و سلم وهو عنك راض).

ثُمَّ تكلم الحسين علیه السلام فقال: (يا عمّاه إن الله تعالى قادر على أن يغيّر ما ترى، والله كلّ يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك، فما أغناك عمّا منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم، فاسأل الله الصبر والنصر، واستعذ به من الخشع والجزع، فإنّ الصبر من الدين والكرم، وإن الخشع لا يقدم رزقاً، والجزع لا يؤخر أجلاً).

ثُمَّ تكلم عمّار مغضباً فقال: لا آنس الله من أوحشك، ولا آمن من أخافك، أما والله لو أردت دنياهم لآمنوك، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك، وما منع النّاس أن يقولوا بقولك إلّا الرضا بالدنيا والجزع من الموت، ومالوا إلى ما مال إليه سلطان جماعتهم، والملك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم، ومنحهم القوم دنياهم؛ فخسروا الدنيا والآخرة، إلّا ذلك هو الخسران المبين.

ص: 419

فبكى أبو ذرّ، وكان شيخاً كبيراً وقال: رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز، ثُمَّ ثقلت على معاوية بالشام، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين، فأفسد النّاس عليهما؛ فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلّا الله، والله ما أريد إلّا الله صاحباً، ولا أخشى مع الله وحشة.

ورجع القوم إلى المدينة، فجاء عليّ علیه السلام إلى عثمان، فقال له عثمان: ما حملك على ردِّ رسولي وتصغير أمري؟ فقال عليّ علیه السلام: {أمّا رسولك فأراد أن يردّ وجهي فرددته، وإمّا أمرك فلم أصغّره}، قال: أو ما بلغك نهىي عن كلام أبي ذرّ؟ قال: {أو كلّما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه؟}، قال عثمان: أقد مروان من نفسك، قال: {ممّ ذا؟}، قال: من شتمه وجذب راحلته، قال: {إمّا راحلته فراحلتي بها، وإمّا شتمه إيّاي، فوالله لا يشتمني شتمة إلّا شتمتك مثلها، لا أكذب عليك}؛ فغضب عثمان وقال: لم لا يشتمك كأنّك خير منه؟ قال عليٌّ علیه السلام: {إي واللهِ، ومنكَ}.

ثُمَّ قام فخرج، فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار، والى بني أميّة يشكو إليهم عليّاً علیه السلام , فقال القوم: أنت الوالي عليه، وإصلاحه أجمل، قال: وددت ذلك، فأتوا عليّاً علیه السلام فقالوا: لو اعتذرت إلى مروان وأتيته، فقال علیه السلام: كلّا أّما مروان فلا آتيه ولا أعتذر منه، ولكن إن أحبّ عثمان أتيته، فرجعوا إلى عثمان فأخبروه، فأرسل عثمان إليه فأتاه ومعه بنو هاشم كلّهم، فتكلم عليّ علیه السلام فحمد الله وأثنى عليه ثُمَّ قال: {أمّا ما وجدت عليَّ فيه من كلام أبي ذرّ ووداعه، فوالله ما أردتُ مُساءتك ولا

ص: 420

الخلافَ عليكَ، ولكن أردتُ بهِ قضاء حقّه، وأمّا مروان فإنّه اعترض يريدُ ردّي عن قضاءِ حقِّ اللهِ تعالى، فرددته ردَّ مثلي مثله، وأمّا ما كانَ منّي إليك، فإنّك أغضبتني فأخرج الغضب مني ما لم أرده}.

فتكلم عثمان فحمد الله وأثنى عليه ثُمَّ قال: أمّا ما كان منك إليَّ فقد وهبته لك، وأمّا ما كان منك المروان فقد عفا الله عنك، وأمّا ما حلفت عليه فأنت البرّ الصادق، فادنِ يدك، فأخذ يده فضمّها إلى صدره.

فلمّا نهض قالت قريش وبنو أمية لمروان: أمّا أنت فقد جبهك عليٌّ وضرب راحلتك، وقد تفانت وائل في ضرع ناقة، وذبيان وعبس في لطمة فرس، والأوس والخزرج في نسعة، أفتحمل لعليٍّ ما أتاه إليك ؟! فقال مروان: فوالله لو أردت ذلك لما قدرت عليه.

وروي أن عبد الله بن مسعود لما بلغه خبر نفى أبي ذرّ إلى الربذة، وهو إذ ذاك بالكوفة، قال في خطبة بمحفل من أهل الكوفة: فهل سمعتم قول الله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ ﴾ (1), يعرض بذلك بعثمان.

فكتب الوليد بذلك لعثمان فأشخصه من الكوفة، فلمّا دخل مسجد النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أمر عثمان غلاماً له أسود فدفع ابن مسعود، وأخرجه من المسجد، ورمى به الأرض،

ص: 421


1- سورة البقرة – الآية: 85

وأمر بإحراق مصحفه، وجعل منزله حبسه، وحبس عنه عطاءه أربع سنين إلى أن مات.

وروى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم قال: كنت عند أبي الدرداء إذ دخل عليه رجل من المدينة فسأله فقال: أين تركت أبا ذرّ؟ فقال: بالربذة، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لو أن أبا ذرّ قطع منّي عضواً ما هجيته؛ لما سمعت من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول فيه.

وروى بعض المؤرخين قال: لما أمر أبو ذرّ بالمسير إلى الربذة سار إليها، فأقام بها أياماً، ثُمَّ أتى المدينة فدخل على عثمان، والنّاس عنده سماطين، فقال: يا أمير المؤمنين إنّك أخرجتني إلى أرض ليس بها زرع ولا ضرع، وليس لي خادم يخدمني إلّا مخدرة، ولا ظلّ يظلني إلّا ظل شجرة، فأعطني خادماً وغنيمات أعيش بها؛ فحوّل وجهه عنه، فتحوّل إلى السماط الآخر فقال مثل ذلك؛ فقال له حبيب بن سلمة: لك عندي يا أبا ذرّ ألف درهم وخادم وخمس مائة شاة.

فقال أبو ذرّ: أعط خادمك وألفك وشويهاتك إلى من هو أحوج منى إلى ذلك، فإنّي إنّما أسأل حقي في كتاب الله تعالى، فجاء عليّ علیه السلام فقال له عثمان: إلّا تغني عنّا سفيهك هذا، قال علیه السلام: {أيُّ سفيهٍ؟} قال: أبو ذرّ، قال عليّ علیه السلام: {ليس بسفيهٍ، سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [ما أظلّتْ الخضراءُ ولا أقلّتْ الغبراءُ أصدق لهجةٍ منْ أبي ذرّ].

ص: 422

أنزلهُ بمنزلةِ مؤمنِ آلِ فرعونَ، إنْ يكُ كاذباً فعليهِ كذبهُ، وإنْ يكُ صادقاً يصبْكمْ بعضُ الذيْ يعدُكمْ}.

قال عثمان: التراب في فيك، قال عليّ علیه السلام: {بلْ الترابُ في فيكَ، أنشدُ باللهِ من سمع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقولُ ذلكَ لأبي ذرّ}، فقام أبو هريرة وغيره فشهدوا بذلك، فولّى عليٌّ علیه السلام ولم يجلس.

ومن كلام أبي ذرّ: الدنيا ثلاث ساعات: ساعة مضت، وساعة أنت فيها، وساعة لا تدري أتدركها أم لا، فلست تملك بالحقيقة إلّا ساعة واحدة، إذا الموت من ساعة إلى ساعة.

وروي أنّه قال: قتلني هم يوم لم أدركه، قيل: وكيف ذلك يا أبا ذرّ؟ قال: إن أملي جاوز أجلي.

وعن أبي عبد الله عن أبيه علیهما السلام أنّه قال في خطبة أبي ذرّ: يا مبتغي العلم لا يشغلك أهل ومال عن نفسك، أنت يوم تفارقهم كضيف بتَّ فيهم ثُمَّ غدوت إلى غيرهم، الدنيا والآخرة كمنزل تحولت منه إلى غيره، وما بين البعث والموت إلّا كنومة نمتها ثُمَّ استيقظت منها، يا جاهل العلم تعلم العلم، فإن قلباً ليس فيه شرف العلم كالبيت الخراب الذي لا عامر له.

عن أبي جعفر علیه السلام عن أبي ذرّ أنه قال: يا باغي العلم قدّم لمقامك بين يدي الله، فإنك مرتهن بعملك، كما تدين تدان.

ص: 423

يا باغي العلم صلْ قبل أن لا تقدر على ليل ولا نهار تصلّى فيه، إنّما مثل الصلاة لصاحبها كمثل رجل دخل على ذي سلطان، فأنصت له حتّى فرغ من حاجته، وكذلك المرء المسلم بإذن الله، مادام في الصلاة لم يزل الله ينظر إليه حتّى يفرغ من صلاته.

يا باغي العلم تصدّق قبل أن لا تعطى شيئاً ولا جمعه، إنّما مثل الصدقة وصاحبها مثل رجل طلبه قوم بدمٍ، فقال لهم: لا تقتلوني، إضربوا لي أجلاً أسعى في رجالكم، كذلك المرء المسلم بإذن الله، كلّما تصدّق بصدقة حلَّ بها عقدة من رقبته، حتّى يتوفى الله أقواماً وهو عنهم راضٍ، ومن رضي الله عنه فقد أمن من النار.

يا باغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شرف، ختم على فمك كما تختم على ذهبك وعلى رزقك .. يا باغي العلم إن هذه إلّامثال ضربها الله للناس، وما يعقلها إلّا العالمون.

وأخرج الكشّي عن جلاّم بن أبي ذرّ الغفاري، وكانت له صحبة، قال: مكث أبو ذرّ رحمه الله بالربذة حتّى مات، فلمّا حضرته الوفاة قال لامرأته: إذبحي شاة من غنمك فاصنعيها، فإذا نضجت فاقعدي على قارعة الطريق، فأوّل ركب تريهم قولي: يا عباد الله المسلمين هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد قضى نحبه ولقي ربه، فأعينوني عليه وأجيبوه، فإن رسول الله أخبرني إنّي أموت في أرض غربة، وأنه يلي غسلي ودفني والصلاة عليَّ رجال من أمّتي صالحون.

ص: 424

وعن محمّد بن علقمة بن الأسود النخعي قال: خرجت في رهط أريد الحجَّ، منهم مالك بن الحرث الأشتر، وعبد الله بن الفضل التميمي، ورفاعة بن شداد البجلي، حتّى قدمنا الربذة فإذا امرأة على قارعة الطريق تقول: يا عباد الله المسلمين هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد هلك غريباً، ليس له أحد يعينني عليه.

قال: فنظر بعضنا إلى بعض، وحمدنا الله على ما ساق إلينا، واسترجعنا على عظم المصيبة، ثُمَّ أقبلنا معها فجهزناه، وتنافسنا في كفنه، حتّى خرج من بيننا بالسواء، وتعاونا على غسله حتّى فرغنا منه، ثُمَّ قدمنا مالك الأشتر فصلّى عليه، ثُمَّ دفناه.

فقام الأشتر على قبره ثُمَّ قال: اللهمَّ هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، عبدك في العابدين وجاهد فيك المشركين، لم يغيّر ولم يبدل، لكنه رأى منكراً فغيّره بلسانه وقلبه، حتّى جفي ونفي وحرم واحتقر، ثُمَّ مات وحيداً غريباً، اللهمَّ فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره وحرم الله وحرم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قال: فرفعنا أيدينا جميعاً وقلنا: آمين، فقدمت الشاة التي صنعت فقالت: إنّه أقسم عليكم أن لا تبرحوا حتّى تتغدوا، فتغدينا وارتحلنا.

وذكر أبو عمرو بن عبد البر في كتاب (الإستيعاب) قال: لما حضرت أبا ذرّ الوفاة وهو بالربذة بكت زوجة أبي ذرّ فقال: ما يبكيك؟ فقالت: ما لي لا أبكي! وأنت تموت بفلاة من أرض، وليس عندي ثوب يسعك كفناً ولا بدَّ لي من القيام بجهازك، فقال أبشري ولا تبكي، فإنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [لاْ يموتُ بينَ امرأينِ مسلمينِ

ص: 425

ولدانِ أوْ ثلاثةٌ فيصبرانِ ويحتسبانِ، فلاْ يريانِ النّارَ أبداً، وقدْ ماتَ لنا ثلاثةٌ منَ الوُلدِ].

وسمعت أيضاً رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول لنفر أنا فيهم: [ليموتُنَّ أحدُكمْ بفلاةٍ منْ الأرض، تشهدهُ عصابةٌ منَ المؤمنينَ]، وليس من أولئك النفر أحدٌ إلّا وقد مات في قرية وجماعة، وأنا لا أشكّ أنّي ذلك الرجل، والله ما كذب ولا كذبت، فانظري الطريق.

قالت أمُّ ذرّ: فقلت: أنّى وقد ذهب الحاجّ وتقطعت الطريق؟ فقال: اذهبي وتبصري، قالت: فكنت أشتد إلى الكثيب فأصعد وأنظر، ثُمَّ أرجع إليه فأمرضه، فبينما أنا وهو على هذه الحالة، إذ أنا برجال على ركابهم كأنهم الرُخم، تخبّ بهم رواحلهم، فأسرعوا إليَّ حتّى وقفوا عليَّ وقالوا: يا أمة الله ما لكِ؟ فقلت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه؟ قالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذرّ، قالوا: صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ؟ قلت: نعم، قالت: ففدوه بآبائهم وامهاتهم، وأسرعوا إليه حتّى دخلوا عليه، فقال: أبشروا فإنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول لنفر أنا فيهم: [ليموتُنَّ أحدُكمْ بفلاةٍ منْ الأرض، تشهدهُ عصابةٌ منَ المؤمنينَ]، وليس من أولئك النفر إلّا وقد هلك في قرية وجماعة والله ما كَذبتُ ولا كُذّبتُ، ولو كان عندي ثوب يسعني كفناً لي أو لامرأتي، لم أكفّن إلّا في ثوب هو لي أو لها، وأنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان عريفاً أو أميراً أو بريداً أو نقيباً.

ص: 426

قالت: وليس في أولئك النفر إلّا وقد قارف بعض ما قال، إلّا فتىً من الأنصار، قال له: أنا أكفّنك يا عمّ في ردائي هذا، وفي ثوبين معي في عيبتي من غزل أمّي، فقال أبو ذرّ: أنت فكفّني، فمات فكفّنه الأنصاري.

قال أبو عمرو: وكان النفر الذين حضروا موت أبي ذرّ بالربذة مصادفة جماعة، منهم حُجْر بن الأدبر ومالك بن الحارث الأشتر رحمه الله.

قلت: حُجْر بن إلّادبر هو حُجْر بن عديّ الذي قتله معاوية، وهو من أعلام الشيعة وعظمائها، وستأتي ترجمته ان شاء الله تعالى.

وفي (معالم التنزيل): أن أبا ذرّ رحمة الله عليه لما أخرجه عثمان إلى الربذة فأدركته بها منيّته، ولم يكن أحد معه إلّا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن إغسلاني وكفناني، ثُمَّ ضعاني على قارعة الطريق، فأوّل ركب يمرُّ بكم فقولا له: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأعينوني على دفنه، فلمّا مات فعلاً، فأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من العراق فلم يرعهم إلّا بالجنازة على ظهر الطريق، قد كادت الإبل تطؤها، وقام إليه الغلام وقال: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأعينوني على دفنه، فاستهلت عين ابن مسعود يقول: صدق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [تمشيْ وحدكَ وتموتُ وحدكَ وتُبعثُ وَحدَكَ].

ثُمَّ نزل هو وأصحابه فواروه بالتراب، ثُمَّ حدّثهم عبد الله بن مسعود حديثه، وما قال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في مسيره إلى تبوك.

ص: 427

وكانت وفاة أبي ذرّ رضی الله عنه في سنة إحدى وقيل: اثنين وثلاثين من الهجرة، في خلافة عثمان.

والغفاري - بكسر الغين المعجمة، وفتح الفاء، وبعد الألف راءٌ مهملة - نسبة إلى بني غفار، على وزن كتاب، وهو غفار بن مليل بن ضمرة، بطن من كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إليَّاس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

والربذة التي نُفي إليها أبو ذرّ رحمه الله، هي - بفتح الراء المهملة، والباء الموحدة، والذال المعجمة، على وزن قصبة - قال في القاموس: هي مدفن أبي ذرّ الغفاري قرب المدينة، وقال الفيومي في المصباح: هي قرية كانت عامرة في صدر الإسلام، وبها قبر أبي ذرّ الغفاري، وهي في وقتنا هذا دارسة، لا يعرف بها رسم، وهي من المدينة في جهة الشرق، على طريق الحاج نحو ثلاثة أيام، هكذا أخبرني به جماعة من أهل المدينة في سنة ثلاثة وعشرين وسبعمائة.

ص: 428

عمّار بن ياسر

أبو اليقظان عمّار - بعين مهملة مفتوحة، فميم مشددة، فراء - إبن ياسر - بمثناة تحتية وبعد الألف سين مهملة وراء - إبن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين - بضمّ الحاء، وفتح الصاد المهملتين - إبن الوذيم - بفتح الواو، وكسر الذال المعجمة، وبعدها ياء مثناة تحتية، وآخره ميم، ويقال: الوذين بالنون - إبن ثغلبة بن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر بن يام - بمثناة تحتية على وزن سام - بن عنس - بفتح العين المهملة، وسكون النون، وبعدها سين مهملة - إبن مالك، وهو مذحج بن أدد بن زيد بن يشحب المذحجي العنسي مولى بني مخزوم.

قال أبو عمرو في كتاب (الإستيعاب): كان ياسر والد عمّار بن ياسر عربياً قحطانياً من عنس في مذحج، إلّا أن إبنه عمّار كان مولىً لبني مخزوم؛ لأن أباه ياسر قدم مع أخوين له يقال لهما: الحرث ومالك في طلب أخ لهم رابع، فرجع الحرث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكّة، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر المخزومي، فزوجه أبو حذيفة أمة له يقال لها: سُميَّة، فأوّلدها عمّاراً، فمن ههنا كان عمّار مولى بني مخزوم، وأبوه عربي قحطاني لا يختلفون في ذلك.

وللحلف والولاء الذي بين بني مخزوم وعمّار وأبيه ياسر كان اجتماع بني مخزوم على عثمان، حين نال غلمان عثمان من عمّار ما نالوا من الضرب، حتّى ناله فتق

ص: 429

في بطنه، وكسروا ضلعاً من أضلاعه؛ فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا: والله لئن مات لا قتلنا به أحداً غير عثمان.

وكان عمّار رضى الله عنه آدم طويلاً مضطرباً، أشهل العينين، بعيد ما بين المنكبين، لا يغير شيبته.

قال أبو عمر: ولم يزل عمّار مع حذيفة بن المغيرة حتّى مات، وجاء الله بالإسلام؛ فأسلم عمّار وعبد الله أخوه، وياسر أبوهما، وسُميَّة أمّهما، وكان إسلامهم

قديماً في أوّل الإسلام.

وقال غيره: أسلم عمّار بعد بضعة وثلاثين رجلاً، والنبيّ في دار إلّارقم بن أبي إلّارقم، وكان يعذب هو وأخوه وأبوهما وأمّهما في الله عذاباً عظيماً، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يمرّ بهم وهم يعذبون، فيقول: [صَبراً يا آلَ ياسرَ فإنَّ موعدكمْ الجنّةَ] ويقول لهم: [صَبراً يا آلَ ياسرَ، اللهمَّ أغفرْ لآلِ ياسرَ، وقدْ فعلت].

وكانت سُميَّة أمّ عمّار من الخيرات الفاضلات، وهي أوّل شهيدة في الإسلام، وقد كانت قريش أخذت ياسراً وسُميَّة وابنيهما، وبلالَ وخبّاباً وصهيباً، فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، حتّى بلغ الجهد منهم كل مبلغ؛ فأعطوهم ما سألوا من الكفر، وسبِّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بألسنتهم، واطمأنّ الإيمان في قلوبهم.

ص: 430

ثُمَّ جاء إلى كل واحد منهم قومه بأنطاع الأدم فيها الماء؛ فألقوهم فيها ثُمَّ حملوا بجوانبها، فلمّا كان العشى جاء أبو جهل، فجعل يشتم سُميَّة ويرفث، ثُمَّ وجأها بحربة في قلبها فماتت، وهي أوّل من استشهد في الإسلام.

فقال عمّار للنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: يا رسول الله بلغ العذاب من أمّي كلّ مبلغ، فقال: [صبراً يا اباْ اليقظان، اللهمَّ لاْ تُعذّبْ أحداً منْ آلِ ياسرَ بالنّارِ]، وفيهم أُنزل ﴿إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان﴾ (1).

قال أبو عمرو: هذا ممّا أجمع أهل التفسير عليه.

وهاجر عمّار مع النبيّ إلى المدينة، فكان من المهاجرين الأولين، وصلّى القبلتين، وشهد بدراً والمشاهد كلّها، وأبلى بلاءً حسناً.

واختلف في هجرته إلى الحبشة، فقال أبو عمرو: أنه هاجر إليها، وقيل: لم يهاجر.

روي عن ابن عبّاس أنه قال في قوله تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاس﴾ (2): إنه عمّار بن ياسر، ﴿كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ (3): أنّه أبو جهل بن هشام.

ص: 431


1- سورة النحل – الآية: 106
2- سورة الأنعام – الآية: 122
3- الآية نفسها

وعن عليّ علیه السلام قال: إستأذن عمّار على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: [إئذنوا لهُ، مرحباً بالطيّبِ بنِ الطيّب.

وعنه علیه السلام: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [عمّارُ مُلئَ إيماناً إلى مشاشهِ].

وعن خالد بن الوليد قال: كان بيني وبين عمّار كلام فأغلظت له؛ فشكاني إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: [مًنْ عادىْ عمّاراً عاداهُ اللهُ، وَمنْ أبغضَ عمّاراً أبغضَهُ اللهُ].

وعن أنس قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [الجنّةُ تشتاقُ إلىْ ثلاثةٍ: علٍّ وعمّارَ وسلمانَ].

وعن عليٍّ علیه السلام قال: قال رسول الله علیه السلام: [دمُ عمّارَ ولحمُهُ وعظمُهُ حرامٌ علىْ النارِ].

وعن عائشة أنّها قالت: ما من أحد من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أشاء أن أقول فيه إلّا قلت، إلّا عمّار بن ياسر، إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [عمّارُ مُلئَ إيماناً إلىْ أخمصِ قدميهِ].

قال عبد الرحمن بن أبزي: شهدنا مع عليٍّ صلوات الله عليه صِفّين، ثماني مائة ممّن بايع بيعة الرضوان، قتل منا ثلاثة وستون منهم عمّار بن ياسر.

وروى الأعمش عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: شهدنا مع عليٍّ علیه السلام صِفّين فرأيت عمّار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد من أودية صِفّين، إلّا رأيت أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله و سلم يتبعونه كأنّه علمٌ لهم.

ص: 432

وروي أن مسعود البدوي وطائفة قالوا لحذيفة حين احتضر وقد ذكر الفتنة: إذا اختلف النّاس فبمن تأمر؟ قال: عليكم بابن سُميَّة، فإنّه لن يفارق الحقّ حتّى يموت، أو قال: فإنّه يزول مع الحقّ حيث زال.

قال أبو عمرو: بعضهم يجعل هذا الحديث عن حذيفة مرفوعاً.

وعن أبانة العكبري عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [ما خُيّرَ عمّارُ بينَ أمرينِ إلّا أختارَ أشدّهماْ].

وعن أبي بكر بن عياش في قوله تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِما ﴾ (1) , قال: عمّار.

وروى أبو بكر بن مردويه في كتابه، والواحدي في (أسباب النزول)، قال ابن عبّاس وقتادة: لما هاجر النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أسر أبو جهل عمّاراً، وجعل يمسح رأسه وعفره، وبقر بطن أمّه، وجعل يقول: سُبَّ محمّداً أو لأقتلنّك؛ فسبَّه ونجا وهرب، فقال قومه عند النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: كفر عمّارُ، فقال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [إنَّ عمّاراً مُلئَ إيماناً منْ قرنهِ إلىْ قدمهِ، وأختلطَ الإيمان بلحمهِ ودمهِ].

وجاء عمّار إلى النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم باكياً، فقيل له: كيف أفلتّ؟ قال: وكيف يفلت من يسبّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ويذكر آلهتهم بخير؟ فجعل النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم يمسح عينيه ويقول: [إنْ عادواْ

ص: 433


1- سورة الزمر – الآية: 9

لكَ فعدْ لهمْ بما قلتَ]؛ فجاء جبرئيل علیه السلام يقول: ﴿إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان﴾ (1).

وعن أحمد بن يونس قال سمعت أبا بكر بن عياش في قوله ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً﴾ (2)، قال: ساعات الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، قال عمّار: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾، قال: عمّار ﴿وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (3) قال: مواليه بني المغيرة.

وأخرج الكشّي في رجاله عن فضيل الرسّان قال: سمعت أبا داود وهو يقول: حدثني بُرَيْدة الأسلمي قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [الجنّةُ تشتاقُ إلىْ ثلاثةٍ] قال: فجاء أبو بكر، فقيل له: يا أبا بكر أنت الصدّيق، وأنت ثاني اثنين إذ هما في الغار، فلو سألت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من هؤلاء الثلاثة؟ قال: إنّي أخاف أن أسأله فلا أكون منهم فتعيرني بذلك بنو تيم.

قال: ثُمَّ جاء عمر فقيل له: يا أبا حفص إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [إن َّالجنّةَ تشتاقُ إلىْ ثلاثةٍ]، وأنت الفاروق، أنت الذي ينطق الملك على لسانك، فلو سألت رسول الله

ص: 434


1- سورة النحل – الآية: 106
2- سورة الزمر – الآية: 9
3- نفس الآية

صلی الله علیه و آله و سلم من هؤلاء الثلاثة؟ فقال: إنّي أخاف أن أسأله فلا أكون منهم، فيعيرني بذلك بنو عدي.

ثُمَّ جاء عليٌّ علیه السلام فقيل له: يا أبا الحسن إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال [إن َّالجنّةَ لتشتاقُ إلىْ ثلاثةٍ]، فلو سألته من هؤلاء الثلاثة؟ فقال علیه السلام أسأله، إن كنت منهم حمدت الله، فإن لم أكن منهم حمدت الله، قال: فقال عليٌّ علیه السلام: {يا رسول الله إنك قلت: [إن َّالجنّةَ لتشتاقُ إلىْ ثلاثةٍ] فمن هؤلاء}؟ قال: [أنتَ منهمْ وأنتَ أوّلهمْ، وسلمانُ الفارسيُّ فإنّه قليلُ الكِبرِ وهوَ لكَ ناصحٌ فاتّخذهُ لنفسكَ، وعمّارُ بنُ ياسرَ يشهدُ معكَ مشاهدَ غيرَ واحدةٍ ليسَ منها إلّا وهوَ فيهاْ، كثيرٌ خيرُهُ، ضَئٌّ نورُهُ، عظيمٌ أجرُهُ].

وعن جعفر بن معروف قال: حدّثنا الحسن بن علي بن نعمان، عن أبيه، عن صالح الحذّاء قال: لما أمر النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم ببناء المسجد، قسّم عليهم المواضع، وضمَّ إلى كل رجل رجلاً، فضمَّ عمّارَ إلى عليٍّ علیه السلام، فبينا هم في علاج البناء، إذ خرج عثمان عن داره، وارتفع الغبار فتمنع بثوبه وأعرض بوجهه، قال: فقال عليّ علیه السلام لعمّار: {إذا قلتُ شيئاً فردّ عليّ، قال: فقال علیه السلام من كلامه:

لا يستوي من يعمر المساجدا

يظل فيها راكعاً وساجدا

ومن يرى عن الطريق حائدا}

ص: 435

قال: فأجابه عمّار كما قال، فغضب عثمان من ذلك، فلم يستطع أن يقول لعليٍّ علیه السلام شيئا، فقال لعمّار: يا عبد يا لكع ومضى.

فقال عليٌّ علیه السلام لعمّار: {هنيت بما قال لك، إلّا تأتي النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم فتخبره}، قال: فأتاه فأخبره، فقال: يا نبيَّ الله إن عثمان قال لي: يا لكع، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [منْ يعلمُ ذلكَ؟] قال: عليّ، قال: فدعاه وسأله، فقال له كما قال عمّار، فقال لعليٍّ علیه السلام: [إذهب فقل له حيث ما كان: يا عبد يا لكع أنت القائل لعمّار: يا عبد يا لكع؟]؛ فذهب عليٌّ علیه السلام فقال له ذلك فانصرف.

وعن علي بن عقبة، عن رجل، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وعليّ علیه السلام وعمّار يعملون مسجداً، فمرَّ عثمان في بزّة له يخطر، فقال عليٌّ: أرجز به، فقال عمّار:

لا يستوي من يعمر المساجدا *** يظل فيه راكعاً وساجدا

ومن تراه عائداً معانداً *** عن الغبارلا يزال حائدا

قال: فأتى النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم فقال: ما أسلمنا لتُشتم أعراضنا وأنفسنا! فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أفتمنن بذلك؟ فنزلت آيتان: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ

ص: 436

اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (1)، ثُمَّ قال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم لعليٍّ علیه السلام [أكتبْ هذا في صاحبك].

ثُمَّ قال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [أكتب هذه إلّاية ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ (2)].

وعن محمّد بن أحمد بن حماد المروزي قال: عمّارُ بن ياسر الذي قال فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وقد ألقته قريش في النار: ﴿ يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (3)، فلم يصبه منها مكروه.

وقتلت قريش أبويه، ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [صبراً يا آلَ ياسرَ موعدكمْ الجنّةُ]، [ما تريدونَ منْ عمّارَ، عمّارُ معَ الحقِّ، والحقُّ معَ عمّار، حيثُ كانَ عمّارُ] [عمّارُ جلدةٌ بينَ عينيَّ، وإنّه تقتلهُ الفئةُ الباغيةُ].

وهو أوّل من بنى مسجداً لله تعالى في الإسلام، بنى مسجد قبا.

ص: 437


1- سورة الحجرات – الآية: 17
2- سورة الحجرات – الآية: 15 , وسورة النور – الآية: 62
3- سورة الأنبياء – الآية: 62

وكان النّاس في بناء المسجد النبوي ينقلون لبنة لبنة، وهو ينقل لبنتين لبنتين، فغشي عليه؛ فأتاه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: [ويحكَ يا ابنَ سُميَّة النّاس ينقلونَ لبنةً لبنةً، وأنتَ تنقلُ لبنتينِ لبنتينِ رغبةً فيْ الآخرةِ].

وعن حبيب بن أبي ثابت قال: لمّا بني المسجد جعل عمّار يحمل حجرين حجرين، فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [يا أبا اليقظان إلّا تشفقُ على نفسك؟] قال: يا رسول الله إنّي أحبّ أن أعمل في هذا المسجد، قال: ثُمَّ مسح ظهره، ثُمَّ قال: [إنّكَ منْ أهلِ الجنّةِ، تقتلكَ الفئةُ الباغيةُ].

وعن مجاهد قال: رآهم وهم يحملون حجارة المسجد، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [ما لهمْ ولعمّار! يدعوهمْ إلىْ الجنّةِ، ويدعونَهُ إلى النّارِ، وتلكَ دارُ الأشقياء والفُجّارِ].

وروى الطبرسي في (الإحتجاج)، عن أبان بن تغلب، عن الصادق علیه السلام أن عمّار بن ياسر قام حين تولّى الخلافة أبو بكر فقال: يا معاشر قريش .. يا معاشر المسلمين إن كنتم علمتم وإلّا فاعلموا أن أهل بيت نبيكم أولى به وأحق بإرثه، وأقوم بأمور الدين وآمن على المؤمنين، وأحفظ لملته وأنصح لأمته، فمروا صاحبكم ليردّ الحق إلى أهله، قبل أن يضطرب حبلكم ويضعف أمركم ويظهر شتاتكم، وتعظم الفتنة بكم، وتختلفون فيما بينكم، ويبلغ فيكم عدوكم، فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم، وعليٌّ من بينهم وليّكم بعهد الله ورسوله، وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال، عند سدّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أبوابكم التي كانت إلى المسجد كلّها غير بابه، وإيثاره إيّاه بكريمته فاطمة علیها السلام دون من خطبها إليه منكم، وقوله صلی الله علیه و آله و سلم: [أنا مدينةُ الحكمةِ

ص: 438

وعليٌّ بابُها، فمنْ أرادَ الحكمةَ فليأتِها منْ بابِها] وإنكم جميعاً مضطرون فيما أشكل عليكم من أمور دينكم إليه، وهو مستغنٍ عن كل أحد منكم، إلى ما له من السوابق التي ليست لأفضلكم عند نفسه، فما لكم تحيدون عنه وتغيرون على حقه وتؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ؟! بئس للظالمين بدلاً .. أعطوه ما جعله الله له، ولا تولّوا عنه مدبرين، ولا ترتدوا على أدباركم (1) فتنقلبوا خاسرين.

وشهد عمّار قتال اليمامة في زمن أبي بكر، فأشرف على صخرة وقال: يا معشر المسلمين أمن الجنّة تفرون؟ إليَّ إليَّ أنا عمّار بن ياسر، وقطعت أذنه وهو يقاتل أشدّ قتال.

واستعمله عمر على الكوفة، وكتب معه إليهم كتاباً مضمونه إنّي بعثت إليكم عمّار بن ياسر أميراً وابن مسعود معلماً ووزيراً، وأنهما لمن النجباء من أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله و سلم من أهل بدر، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بهما على نفسي.

وعن عبد الله بن أبي الهذيل قال رأيت عمّاراً وقد اشترى قتا بدرهم، فاستزاد حبلًا فأبى، فجاذبه حتّى قسمه نصِفّين وحمله على ظهره، وهو أمير الكوفة، فقيل لعمر: إن عمّاراً لا يحسن السياسة فعزله، فلمّا ورد عليه قال له: أساءك عزلنا إياك؟ قال: لئن قلت ذاك لقد ساءني حين استعملتني، وساءني حين عزلتني.

وعن سالم بن أبي الجعد أن عمر جعل عطاء عمّار ستة آلاف.

ص: 439


1- في نسخة: على أعقابكم

وروى الجوهري قال: قام عمّار يوم بويع عثمان فنادى: يا معشر المسلمين إنّا قد كنّا، وما كنّا نستطيع الكلام قلة وذلة، فأعزّنا الله بدينه، وأكرمنا برسوله، فالحمد لله رب العالمين .. يا معشر قريش إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟ تحولونه ها هنا مرة وهاهنا مرة، ما أنا آمن أن ينزعه الله منكم، ويضعه في غيركم، كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله.

فقال له هشام بن المغيرة: يا ابن سُميَّة لقد عدوت طورك، وما عرفت قدرك، ما أنت وما رأت قريش لأنفسها؟ إنك لست في شيء من أمرها وإمارتها، فتنحَّ عنها، وتكلمت قريش بأجمعها، فصاحوا بعمّار فأنتهروه فقال: الحمد لله رب العالمين، ما زال أعوان الحق أذلاء، ثُمَّ قام فانصرف.

قال الشِعبي: وأقبل عمّار ينادى ذلك اليوم:

يا ناعي الإسلام قم فإنعه *** قد مات عرف وبدا منكرُ

أما والله لو أن لي أعواناً لقاتلتهم، والله لئن قاتلهم واحد لأكوننّ له ثانياً، فقال عليٌّ علیه السلام: {يا أبا اليقظان واللهِ لا أجدُ عليهم أعواناً، ولا أحبُّ أنْ أعرضّكمْ لما لا تطيقونَ}.

وروى عياش بن هشام الكلبى عن أبي مخنف في إسناده، أنه كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حليٌ وجواهر، فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله؛ فأظهر النّاس الطعن عليه في ذلك، وكلّموه فيه بكل كلام شديد حتّى أغضبوه، فخطب فقال: لنا خذن حاجتنا من هذا الفيء، وإن رغمت به أنوف أقوام، فقال عليٌّ علیه السلام: {إذنْ

ص: 440

تمنعُ منْ ذلكَ، ويُحالُ بينكَ وبينهُ} فقال عمّار: أشهد الله أن أنفي أوّل راغم من ذلك، فقال عثمان: أعليَّ يا ابن ياسر تجترئ؟ خذوه فأخذوه، ودخل عثمان فدعا به وضربه حتّى غشي عليه، ثُمَّ أخرج، فحمل حتّى أتي به منزل أم سلمة رضی الله عنه، فلم يصلِّ الظهر والعصر والمغرب، فلمّا أفاق توضأ وصلّى وقال: الحمد لله، ليس هذا أوّل يوم أوذينا فيه في الله تعالى.

فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان عمّار حليفاً لبني مخزوم: يا عثمان إمّا عليٌّ فاتقيته، وإمّا نحن فاجترأت علينا، وضربت أخانا حتّى أشفيت به على التلف، أما والله لئن مات لأقتلن به رجلاً من بني أمية عظيم الشأن، فقال عثمان: وإنك لها هنا يا ابن القسرية، قال: فإنهما قسريتان - وكانت أم هشام وجدته قسريتين من نخلة - فشتمه عثمان وأمر به فأخرج، فأتي به أم سلمة، فإذا هي غضبت لعمّار.

وبلغ عائشة ما صنع بعمّار فغضبت أيضاً، وأخرجت شعراً من شعر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ونعلاً من نعاله وثوباً من ثيابه وقالت: لأسرع ما تركتم من سنة نبيكم، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد.

وروى آخرون أن السبب في ضرب عثمان لعمّار أنه مرَّ بقبر جديد فسأل عنه فقيل: عبد الله بن مسعود، فغضب عثمان على عمّار لكتمانه إيّاه موته، إذ كان المتولي للصلاة عليه والقيام بشأنه، وعندها وطأه عثمان حتّى أصابه الفتق.

ص: 441

وروى آخرون أن المقداد وعمّار وطلحة والزبير وعدة من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم اجتمعوا، وهم خمسون رجلاً من المهاجرين والأنصار، فكتبوا كتاباً عددوا أحداث عثمان، وما نقموا عليه وخوفوه به، وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع، وقالوا لعمّار: أوصل هذا الكتاب لعثمان حتّى يقرأه، فلعله أن يرجع عن هذا الذي ننكره، فلمّا قرأ عثمان الكتاب طرحه ثُمَّ قال: أعليّ تقدم من بينهم؟ فقال: لأنّي أنصحهم لك، قال: كذبت يا ابن سُميَّة، فقال عمّار: أنا ابن ياسر فأمر عثمان غلمانه فمدّوا بيديه ورجليه وضربوه حتّى أغمي عليه، وكان ضعيفاً كبيراً، وقام إليه عثمان بنفسه، ووطئ بطنه ومذاكيره برجليه وهما في الخفين، حتّى أصابه الفتق، فأغمي عليه أربع صلوات فقضاها بعد آلافاقة، فاتخذ لنفسه ثياباً تحت ثيابه، وهو أوّل من لبس الثياب تحت الثياب لأجل الفتق.

فغضب لذلك بنو مخزوم وقالوا: والله لئن مات عمّار من هذا لنقتلنّ من بني أميّة شيخاً عظيماً، يعنون عثمان.

ثُمَّ إن عمّاراً ألزم بيته إلى أن كان من قتل عثمان ما كان.

أخرج الشيخ الطوسي رحمه الله في (أماليه)، بإسناده عن أبي نجية، قال: سمعت عمّار بن ياسر يعاتب أبا موسى إلّاشعري ويوبّخه على تأخره عن عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وقعوده عن الدخول في بيعته ويقول له: يا أبا موسى ما الذي أخرك عن أمير المؤمنين علیه السلام ؟ فوالله لئن شككت فيه لتخرجنّ عن الإسلام، وأبو موسى يقول: لا تفعل ودع عتابك لي، فإنّما أنا أخوك، فقال له عمّار رضوان الله عليه: ما

ص: 442

أنا لك بأخ، إنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يلعنك ليلة العقبة، وقد هممت مع القوم بما هممت، فقال له أبو موسى: أ فليس قد أستغفر لي؟ قال عمّار: قد سمعت اللعن ولم أسمع الإستغفار.

وعن أبي مخنف قال: لما نزل أمير المؤمنين علیه السلام ذا قار، وقد خرج عليه طلحة والزبير، بعث أبنه الحسن علیه السلام وعمّار بن ياسر وزيد بن صوحان وقيس بن سعد بن عبادة، ومعهم كتاب إلى أهل الكوفة، فأقبلوا حتّى كانوا بالقادسية، فتلقاهم النّاس، فلمّا دخلوا الكوفة قرأوا كتاب عليّ علیه السلام وهو: {منْ عبدِ اللهِ عليٍّ أميرِ المؤمنينَ إلىْ منْ بالكوفةِ منَ المسلمينَ .. إمّا بعدُ فإنّيْ خرجتُ مخرجيْ هذاْ إمّا ظالماً وإمّا مظلوماً، وإمّا باغياً وإمّا مبغياً عليّ فأنشدُ اللهَ رجلاً بلغهَ كتابيَ هذاْ إلّا نفرَ إليَّ، فإنْ كنتُ مظلوماً أعاننيْ، وإنْ كنتُ ظالماً استعتبنيْ، والسلامُ}.

قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه، قال: أقبلنا مع الحسن علیه السلام وعمّار بن ياسر من ذي قار حتّى نزلنا القادسية، فنزل الحسن علیه السلام وعمّار ونزلنا معهما، فاحتبى عمّار بحمائل سيفه، ثُمَّ جعل يسأل النّاس عن أهل الكوفة وعن حالهم، ثُمَّ سمعته يقول: ما تركت في نفسي حزة أهمّ إليَّ من أن لا نكون نبشنا عثمان من قبره ثُمَّ أحرقناه بالنار.

فلمّا دخل الحسن علیه السلام وعمّار الكوفة اجتمع إليهما النّاس، فقام الحسن علیه السلام فاستنفر النّاس.

ص: 443

قال أبو مخنف: حدثني جابر بن زيد، قال: حدثني تميم بن حذيم الناجي، قال: قدم علينا الحسن بن عليٍّ علیهما السلام وعمّار بن ياسر يستنفران النّاس إلى عليّ علیه السلام ومعهما كتابه، فلمّا فرغا من قراءة كتابه قام الحسن علیه السلام، وهو فتى حدث السن، فقال: إني والله لأرثي له من حداثة سنه وصعوبة مقامه، فرماه النّاس بأبصارهم، وهم يقولون: اللهمَّ سدد منطق ابن بنت نبينا صلی الله علیه و آله و سلم، فوضع يده على عمود فتساند إليه، وكان عليلاً من شكوى به، فقال:

(الحمد لله العزيز الجبار الواحد القهار الكبير المتعال، سواء منكم من أسرَّ القول ومن جهر به، ومن هو مستخفٍ بالليل وساربٌ بالنهار، أحمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء، وعلى ما أحببنا وكرهنا من شدة ورخاء، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأن محمّداً عبده ورسوله، منَّ علينا بنبوته وخصّه برسالته، وأنزل عليه وحيه، واصطفاه على جميع خلقه، وأرسله إلى الجنِّ والآنس، حين عبدت إلّاوثان وأطيع الشيطان وجحد الرحمن، فصلّى الله على محمّد وآله، وجزاه أفضل ما جزى المسلمين.

أما بعد فإنّي لا أقول لكم إلّا ما تعرفون، إن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام أرشد الله أمره وأعزَّ نصره بعثني إليكم يدعوكم إلى الصواب، والى العمل بالكتاب، والجهاد في سبيل الله، وإن كان في عاجل ذلك ما تكرهون فإن في آجله ما تحبون إن شاء الله تعالى، وقد علمتم أن عليّاً علیه السلام صلّى مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وحده، وأنه يوم صدّق به لفي عاشرة من سنّه، ثُمَّ شهد معه جميع مشاهده، وكان من اجتهاده في

ص: 444

مرضاة الله وطاعة رسوله وآثاره الحسنة في الإسلام ما قد بلغكم، ولم يزل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عنه راض حتّى غمضه وغسّله وحده، والملائكة أعوانه، والفضل ابن عمّه ينقل إليه الماء، ثُمَّ أدخله حفرته.

وأوصاه بقضاء دينه وعداته، وغير ذلك من أموره .. كلّ ذلك مِنْ مَنِّ الله عليه، والله ما دعا إلى نفسه، ولقد تداكّ النّاس عليه تداك الإبل الهيم عند وردها، فبايعوه طائعين، ثُمَّ نكث منهم ناكثون، بلا حدث أحدثه ولا خلاف أتاه، حسداً وبغياً عليه، فعليكم عباد الله بتقوى الله، والجد والصبر وإلّاستعانة بالله، والحقوا إلى ما دعاكم إليه أمير المؤمنين علیه السلام .

عصمنا الله وإياكم بما عصم أوّلياءه وأهل طاعته، وألهمنا وإياكم تقواه، وأعاننا وإياكم على جهاد اعدائه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم).

ثُمَّ مضى إلى الرحبة فهيّأ منزلاً لأبيه أمير المؤمنين علیه السلام .

قال جابر: قلت لتميم: كيف أطاق هذا الغلام ما قد قصصته من كلامه؟ فقال: ولما سقط عني من قوله أكثر، ولقد حفظت بعض ما سمعت.

قال أبو مخنف: ولما فرغ الحسن بن عليٍّ علیهما السلام من خطبته قام عمّار فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على رسوله، ثُمَّ قال: أيّها النّاس أخو نبيكم وإبن عمه يستنفركم لنصر دين الله، وقد بلاكم الله بحق دينكم وحرمة إمامكم، فحقّ دينكم أوجب، وحرمة إمامكم أعظم .. أيّها النّاس عليكم بإمام لا يؤدب، وفقيه لا يعلّم، وصاحب بأس لا ينكل، في

ص: 445

ذي سابقة في الإسلام ليست لأحد، وإنكم لو حضرتموه بيّن لكم أمركم إن شاء الله تعالى.

قال: فلمّا بلغ أبو موسى خطبة الحسن علیه السلام وعمّار، قام فصعد المنبر وقال: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمّد صلی الله علیه و آله و سلم، فجمعنا بعد الفرقة وجعلنا إخواناً متحابين بعد العداوة، وحرّم علينا دماءنا وأموالنا قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ (1)، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا﴾ (2)، فاتقوا الله وضعوا أسلحتكم وكفّوا عن قتال إخوانكم ..

إمّا بعد يا أهل الكوفة إن تطيعوا الله بادياً، وتطيعوني ثانياً تكونوا جرثومة من جراثيم العرب، يأوي إليكم المضطرّ، ويأمن فيكم الخائف.

إن عليّاً إنّما يستنفركم لجهاد أمّكم عائشة، وطلحة والزبير حواري رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ومن معهم من المسلمين، وأنا أعلم منكم بهذه الفتن، إنّها إن أقبلت أشبهت، وإذا ادبرت أسفرت.

إنّي أخاف عليكم أن يلتقى غاران منكم، فيقتتلان ثُمَّ يتركان كالأحلاس الملقاة بنجوة من الأرض، ثُمَّ تبقى رجرجة من النّاس، لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر. إنها قد جاءتكم فتنة لا يدرى من أين تؤتى، تترك الحليم حيران، كأني أسمع رسول

ص: 446


1- سورة البقرة – الآية: 188
2- سورة النساء – الآية: 93

الله صلی الله علیه و آله و سلم بإلّامس يذكر الفتن فيقول: أنت فيها نائماً خير منك قائماً، وأنت فيها قائماً خير منك ساعياً، فشلّوا سيوفكم، وقصّروا رماحكم، ونصّلوا سهامكم، واقطعوا أوتاركم، وخلّوا قريشاً يرتق فتقها ويرأب صدعها، فإن فعلت فلأنفسها ما فعلت، وأن أبت فعلى أنفسها ما جنت، وتصلّى هذه الفتنة من جناها.

فقام إليه عمّار بن ياسر رحمة الله عليه فقال: أنت سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول ذلك؟ فقال: نعم هذه يدي بما قلت، فقال: إن كنت صادقاً فإنّما عناك بذلك وحدك، واتخذ عليك الحجة، فالزم بيتك ولا تدخلن في الفتنة.

أما إنّي أشهد ان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمر عليّاً علیه السلام بقتال الناكثين، وسمّى له فيهم من سمّى، وأمره بقتال القاسطين، وإن شئت لاقيمنّ لك شهودا يشهدون أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إنّما نهاك وحدك، وحذرك من الدخول في الفتنة.

ثُمَّ قال له: أعطِ يدك على ما سمعت، فمدّ يده فقال له عمّار: غلب الله من غالبه وجاحده، ثُمَّ جذبه فنزل عن المنبر.

وروى فروة بن الحرث التميمي قال: كنت أعتزل الحرب بوادي السباع مع الأحنف بن قيس، وخرج إبن عمّ لي يقال له: جون مع عسكر البصرة فنهىته، فقال: لا أرغب بنفسي عن نصرة أمّ المؤمنين وحواري رسول الله، فخرج معهم، فإنّي لجالس مع الأحنف نستنشي الأخبار، إذا بجون بن قتادة إبن عمّي مقبلاً، فقمت إليه فاعتنقته وسألته عن الخبر، فقال: أخبرك العجب، خرجت وأنا لا أريد أن أبرح الحرب حتّى

ص: 447

يحكم الله بين الفريقين، فبينا أنا واقف مع الزبير أذ جاءه رجل فقال: أبشر أيّها الأمير، فإن عليّاً لما رأى ما أعدّ الله من هذا الجمع نكص على عقبيه، وتفرق عنه أصحابه، وأتاه آخر فقال له مثل ذلك، فقال له الزبير: ويحكم أبو الحسن يرجع، والله لو لم يجد إلّا العرفج لدان إلينا فيه.

ثُمَّ أقبل رجل فقال: أيّها الأمير إن نفراً من أصحاب عليٍّ فارقوه ليدخلوا معنا، منهم عمّار بن ياسر، فقال الزبير: كلّا وربِّ الكعبة، إن عمّاراً لا يفارقه أبداً، فقال الرجل: بلى والله مراراً، فلمّا رأى الزبير أن الرجل ليس راجعاً عن قوله، بعث معه رجلاً آخر وقال: إذهبا فانظرا، فعادا وقالا: إن عمّاراً قد أتاك رسولاً من عند صاحبه.

قال جون: فسمعت والله الزبير يقول: واإنقطاع ظهراه واجدع أنفاه واسواد وجهاه، ويكرر ذلك مراراً، ثُمَّ أخذته رعدة شديدة، فقلت: والله إن الزبير ليس بجبان، وإنّه لمن فرسان قريش المذكورين، وإن لهذا الكلام لشأناً لا أريد أن أشهد مشهداً يقول أميره هذه المقالة؛ فرجعت إليكم.

ولم يكن إلّا قليلاً حتّى مرَّ الزبير بنا تاركاً للقوم، فاتّبعه عمر بن جرموز فقتله.

وأخرج الشيخ الطوسي في (أماليه) عن موسى بن عبد الله الأسدي قال: لما انهزم أهل البصرة أمر عليُّ بن أبي طالب علیه السلام أن تنزل عائشة قصر بني خلف، فلمّا نزلت جاءها عمّار بن ياسر فقال لها: يا أمه كيف رأيت ضرب بنيك دون دينهم بالسيف؟ فقالت: استبصرت يا عمّار من أجل أنّك غلبت؟ قال: أنا أشدّ استبصاراً من ذلك، أما

ص: 448

والله لو ضربتمونا حتّى تبلغوا بنا سعفات هجر، لعلمنا أنّا على الحقّ، وأنّكم على الباطل.

فقالت له عائشة: أهكذا يخيل لك؟ إتّقِ الله يا عمّار فإن سنّك قد كبر، ودقَّ عظمك وفنى أجلك، وأذهبت دينك لأبن أبي طالب.

فقال عمّار: إنّي والله اخترت لنفسي في أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فرأيت أن عليّاً علیه السلام أقرأهم لكتاب الله وأعلمهم بتأويله وأشدّهم تعظيماً لحرمته، وأعرفهم بالسُنّة، مع قرابته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وعظم عنائه وبلائه في الإسلام، فسكتت.

وروى نصر بن مزاحم في كتاب (صِفّين) قال: لما أراد أمير المؤمنين علیه السلام المسير إلى الشام استشار من معه من المهاجرين والأنصار، فقام عمّار بن ياسر فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أمير المؤمنين إن استطعت أن لا تقيم يوماً فافعل، أشخص بنا قبل استعار نار الفجرة، واجتماع رأيهم على الصدود والفرقة، وادعهم إلى حظهم ورشدهم، فإن قبلوا سعدوا، وإن أبوا إلّا حربنا فوالله إن سفك دمائهم، والجدّ في جهادهم لقربة عند الله وكرامة منه.

وأخرج الطوسي رحمه الله في (أماليه) بإسناده عن الحسين بن أسباط الصيدي قال: سمعت عمّار بن ياسر رضوان الله عليه يقول عند توجهه إلى صِفّين: اللهمَّ لو أعلم أنّه أرضى لك أن أرمي بنفسي من فوق هذا الجبل لرميت بها، ولو أعلم أنه

ص: 449

أرضى لك أن أوقد لنفسي ناراً فأٌقع فيها لفعلت، وإنّي لا أقاتل أهل الشام إلّا وأنا أريد بذلك وجهك، وأنا أرجو أن لا تخيبني وانا أريد وجهك الكريم.

وروى قال: خرج في اليوم الثالث من أيام صِفّين عمّار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتل النّاس كأشدّ القتال، وجعل عمّار يقول: يا أهل الإسلام تريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله، وجاهدهما وبغى على المسلمين، وظاهر المشركين، فلمّا أراد الله أن يظهر دينه ويظهر رسوله، أتى النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وهو والله فيما يرى راهب غير راغب، وقبض الله رسوله صلی الله علیه و آله و سلم، وإنّا والله لنعرفه بعداوة المسلم ومودة المجرم، إلّا وإنّه معاوية، فالعنوه لعنه الله، وقاتلوه فإنّه ممّن يطفئ نور الله ويظاهر أعداء الله.

وكان مع عمّار زياد بن النصر على الخيل، فأمره أن يحمل في الخيل، فحمل في الخيل وصبروا له، وشدّ عمّار في الرجالة فأزالوا عمرو بن العاص عن موقفه.

وروي عن حبيب بن ثابت قال: لما كان قتال صِفّين قال رجل لعمّار: يا أبا اليقظان، ألم تقل: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [قاتلواْ النّاس حتّى يُسلمواْ، فإذاْ أسلمواْ عُصمواْ منّي دماؤهمْ وأموالهمْ]، قال: بلى ولكنّ والله ما أسلموا، ولكن استسلموا، وأسرّوا الكفر حتّى وجدوا عليه أعواناً.

وروى أيضاً بإسناده عن جندب بن عبد الله قال: قام عمّار بن ياسر بصِفّين فقال: أمضوا عباد الله إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد

ص: 450

الله بغير ما في كتاب الله، إنّما قتله الصالحون، المنكرون العدوان الأمرون بإحسان، فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم لو درس هذا الدين: لم قتلتموه؟ فقلنا: لإحداثه، فقالوا: ما أحدث شيئاً؛ وذلك لأنّه مكّنهم من دار الدنيا، فهم يأكلونها ويرعونها، ولا يبالون لو انهدمت عليهم الجبال، والله ما أظنّهم يطلبون دمه .. إنهم ليعلمون أنه الظالم، ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمرؤها، وعلموا لو أن الحق لزمهم لحال بينهم وبين ما يرعون فيه منها، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام ليستحقوا فيها طاعة الله والولاية، فخدعوا أتباعهم أن قالوا: قتل إمامنا مظلوماً؛ ليكونوا بذاك جبابرة ملوكاً، وتلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون، ولولا هي ما بايعه من النّاس رجل .. اللهمَّ إن تنصرنا فطال ما نصرت، وإن تجعل لهم الأمر فادّخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب إلّإليَّم.

ثُمَّ مضى ومضى معه أصحابه، فلمّا دنا من عمرو بن العاص قال: يا عمرو بعت دينك بمصر؟ تبّاً لك فطال ما بغيت الإسلام عوجاً، ثُمَّ حمل عمّار وهو يقول:

صدق الله وهو للصدق أهل *** وتعالى ربّي وكان جليلا

ربِّ عجّل شهادة لي بقتل *** في الذي قد أحب قتلاً جميلا

مقبلاً غير مدبر إنّ للقتل *** على كل ميتة تفضيلا

إنهم عند ربهم في جنان *** يشربون الرحيق والسلسبيلا

من شراب إلّابرار خالطه ال *** مسك وكأساً مزاجها زنجبيلا

ص: 451

ثُمَّ نادى عمّار عبيد الله بن عمر، وذلك قبل مقتله، فقال: يا ابن عمر صرعك الله، بعت دينك بالدنيا من عدو الله وعدو الإسلام؟ قال: كلا، ولكن أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم، قال: كلا أشهد على علمي فيك أنك أصبحت لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله، وإنّك إن لم تقتل اليوم فستموت غداً، فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيتك.

ثُمَّ قال عمّار: اللهمَّ إنك لتعلم أن لو أعلم أن رضاك أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت .. اللهمَّ إنّك تعلم لو أعلم أن رضاك أن أضع ضبّة سيفي في بطني ثُمَّ أنحنى عليها حتّى تخرج من ظهري لفعلت .. اللهمَّ وإنّي أعلم مما علمتني أنّي لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء القوم الفاسقين، ولو أعلم اليوم عملاً أرضى لك منه لفعلته.

وروى نصر أيضاً بإسناده عن أسماء بن خارجة الفزاري قال: كنّا بصِفّين مع عليٍّ علیه السلام تحت راية عمّار بن ياسر ارتفاع الضحى، وقد استظلينا برداء أحمر، إذ أقبل رجل يستقرئ الصف حتّى انتهى إلينا فقال: أيّكم عمّار بن ياسر؟ فقال عمّار: أنا عمّار، فقال: أبو اليقظان؟ قال: نعم، قال: إن لي إليك حاجة فأنطق بها سرّاً أم علانية ؟ قال: إختر لنفسك أيهما شئت، قال: بل علانية، قال: فانطق، قال: إنّي خرجت من أهلي مستبصراً في الحق الذي نحن عليه، لا أشكّ في ضلالة هؤلاء القوم، وأنهم على الباطل، فلم أزل على ذلك مستبصراً حتّى ليلتي هذه، فإنّي رأيت منادياً فقام فأذّن، وشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمّداً رسول الله، ونادى بالصلاة، ونادى مناديهم

ص: 452

مثل ذلك، ثُمَّ أُقيمت الصلاة فصلّينا صلاة واحدة، وتلونا كتاباً واحداً، ودعونا دعوة واحدة؛ فأدركني الشك في ليلتي هذه، فبتّ بليلة لا يعلمها إلّا الله حتّى أصبحت، فأتيت أمير المؤمنين علیه السلام فذكرت ذلك له، فقال: لقيت عمّار بن ياسر؟ قلت: لا، قال: فالقه، فانظر ما يقوله لك فاتبعه؛ فجئتك لذلك.

فقال عمّار: تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي، فإنها راية عمرو بن العاص، قاتلتها مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ثلاث مرات، وهذه الرابعة، فما هي بخيرهن ولا أبرهنّ، بل هي شرهنّ وأفجرهنَّ .. شهدت بدراً وأُحداً ويوم حُنَين؟ أو شهدها أبٌ لك فيخبرك عنها؟ قال: لا، قال: فإن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم بدر ويوم أُحد ويوم حُنَين، وان مراكز هؤلاء على مراكز رايات المشركين والأحزاب، فهل ترى هذا العسكر ومن فيه؟ والله لوددت أن جميع من فيه ممن أقبل مع معاوية يريد قتإلّا مفارقاً فالذي نحن عليه كانوا خلقاً واحداً فقطعته وذبحته، والله لدماؤهم جميعاً أحلُّ من دم عصفور، فترى دم عصفور حراماً؟ قال: لا، قال: فإنّهم كذلك حلال دماؤهم، أتراني بينت لك؟) قال: قد بينت، قال: فاختر أيّ ذلك أحببت، فانصرف الرجل، فدعاه عمّار ثُمَّ قال: أما إنهم سيضربونكم بأسيافهم حتّى يرتاب المبطلون منكم فيقولوا: لو لم يكونوا على حقّ ما ظهروا علينا، والله ما هم من الحق على ما يقذي عين ذباب، والله لو ضربونا بأسيافهم حتّى يبلغونا سعفات هجر، لعلمنا أنّا على حقّ، وأنهم على باطل.

ص: 453

وقد تضافرت الروايات ان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قال: [عمّارُ بنُ ياسر جلدةٌ بينَ عينيَّ، تقتلهُ الفئةُ الباغيةُ].

وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضی الله عنه أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لعمّار بن ياسر: [تقتلكَ الفئةُ الباغيةُ].

وروى الحميدي في كتاب (الجمع بين الصحيحين)، في مسند أبي سعيد الخدري، في الحديث السادس عشر من افراد البخاري، قال: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [ويحَ عمّارَ تقتلهُ الفئةُ الباغيةُ، يدعوهمْ إلى الجنّةِ ويدعونهُ إلى النارِ]، فقتله معاوية.

وروى نصر عن حفص بن عمران إلّازرق الدحمي قال: حدثني نافع بن عمر الجمحي عن إبن أبي مليكة قال: قال عبد الله بن عمرو بن العاص لأبيه: لولا أن رسول الله أمر بطاعتك ما سرت معك هذا المسير، أما سمعت رسول الله يقول لعمّار [تقتلكَ الفئةُ الباغيةُ].

وروى نصر في كتاب (صِفّين): بينا عليٌّ واقفاً بين جماعة من همدان وحمير وغيرهم من أبناء قحطان، إذ نادى رجل من أهل الشام: من يدل على أبي نوح الحميري فقيل له: قد وجدته فما تريد ؟ قال: فحسر عن لثامه فإذا هو ذو الكلاع الحميري، ومعه جماعة من أهله ورهط، فقال لأبي نوح: سرْ معي، قال: إلى أين؟ قال إلى أن تخرج من الصف، قال: وما شأنك ؟ قال: إن لي إليك حاجة، قال أبو نوح: معاذ الله أن أسير إليك إلّا في كتيبة، فقال ذو الكلاع: بلى فسرْ، فلك ذمة الله

ص: 454

وذمة رسوله وذمة ذي الكلاع، حتّى ترجع إلى خيلك، فإنّما أريد ان أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه، فسار أبو نوح وسار ذو الكلاع فقال له: إنّما دعوتك أحدثك حديثا حدّثناه عمرو بن العاص قديماً في خلافة عمر بن الخطّاب، ثُمَّ أذكرناه الآن به فأعاده، إنه يزعم أن سمع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: يلتقي أهل الشام وأهل العراق، وفى إحدى الكتيبتين الحقُّ وإمام الهدى، ومعه عمّار بن ياسر، فقال أبو نوح: نعم والله إنّه لفينا، قال: أنشدك بالله أجادٌّ هو على قتالنا ؟ قال أبو نوح: نعم والله وربّ الكعبة، لهو أشدّ على قتالكم مني، ولو ددت أنكم خلق واحد فذبحته، وبدأت بك قبلهم، وأنت ابن عمّي، قال ذو الكلاع: ويلك على م تمنى ذلك منّا ؟ فوالله ما قطعتك فيما بيني وبينك قطّ، وإن رحمك لقريبة، وما يسرّني أنّي أقتلك، قال أبو نوح: إن الله قطع بالإسلام أرحاماً قريبة، ووصل به أرحاماً متباعدة، وإنّي أقاتلك وأصحابك؛ لأنّا على الحقّ وأنتم على الباطل، فقال ذو الكلاع: فهل تستطيع أن تأتي معي صفّ أهل الشام؟ فأنا لك جار منهم حتّى تلقى عمرو بن العاص فتخبره بحال عمّار وجدّه في القتال؛ لعلّه أن يكون صلح بين هذين الجندين.

قلت: واعجباه من قوم يعتريهم الشك في أمرهم لمكان عمّار، ولا يعتريهم الشك لمكان عليّ علیه السلام، ويستدلون على أن الحقّ مع أهل العراق أن يكون عمّار بين أظهرهم، ولا يعبأون بمكان عليّ علیه السلام .

ص: 455

ويحذرون من قول النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم [تقتلكَ الفئةٌ الباغيةُ] ويرتاعون لذلك، ولا يرتاعون لقوله صلی الله علیه و آله و سلم في عليٍّ علیه السلام: [اللهمَّ والِ مَنْ وإلّاهُ، وعادِ مَنْ عاداهُ]، ولا لقوله: [لا يُحبّكَ إلّا مؤمنٌ، ولا يبغضُكَ إلّا منافقٌ].

وهذا يُدلّك على أنّ عليّاً علیه السلام اجتهدت قريش كلّها في مبدأ الأمر في إخمال ذكره وستر فضائله وتغطية خصائصه، حتّى مُحي فضله ومزيته من صدور النّاس كافة إلّا قليلا منهم.

قال نصر: فقال له أبو نوح: إنّك رجل غادر، وأنت في قوم غدّر، وإن لم ترد الغدر أغدروك، وإنّي إن أموت أحبّ إليَّ من أن أدخل مع معاوية، فقال ذو الكلاع: أنا جار لك من ذلك، أن لا تُقتل ولا تُسلب، ولا تكره على بيعة، ولا تحبس عن جندك، وإنّما هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص، لعلّ الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين، ويضع عنهم الحرب والقتال؛ فقال أبو نوح: إنّي أخاف غدرتك وغدرت أصحابك، قال ذو الكلاع: أنا لك بما قلت زعيم، قال أبو نوح: اللهمَّ إنّك ترى ما أعطاني ذو الكلاع، وأنت تعلم ما في نفسي فاعصمني، واختر لي، وانصرني، وادفع عني.

ثُمَّ سار مع ذي الكلاع حتّى أتى عمرو بن العاص، وهو عند معاوية وحوله النّاس، وعبيد الله بن عمر يحرض النّاس على الحرب، فلمّا وقفا على القوم قال ذو الكلاع لعمرو: يا أبا عبد الله هل لك في رجل ناصح لبيب مشفق يخبرك عن عمّار بن ياسر فلا يكذب بك ؟ قال: ومن هو ؟ قال: هو إبن عمّي هذا، وهو من أهل الكوفة، فقال عمرو: وأرى عليك سيماء أبي تراب، فقال أبو نوح: عليَّ سيماء محمّد صلی الله علیه و آله و سلم

ص: 456

وأصحابه، وعليك سيماء أبي جهل وسيماء فرعون، فقام أبو الأعور فسلَّ سيفه وقال: لا أرى هذا الكذاب اللئيم يسابنا بين أظهرنا، وعليه سيماء أبي تراب، فقال ذو الكلاع: أقسم بالله لئن بسطت يدك إليه لأحطمنّ أنفك بالسيف، إبن عمّي وجاري، عقدت له ذمتي، وجئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم، فقال عمرو بن العاص: أذكرك بالله إلّا ما صدقتنا ولم تكذبنا أفيكم عمّار بن ياسر ؟ قال أبو نوح: ما أنا بمخبرك حتّى تخبرني لم تسأل عنه ومعنا من أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله و سلم عدّة غيره، كلّهم جاد على قتالكم ؟! فقال عمرو: سمعت رسول الله يقول: [إنَّ عمّارَ تقتلهُ الفئةُ الباغيةُ]، وأنّه [ليسَ لعمّار أنْ يفارقَ الحقَّ ]و [لنْ تأكلَ النّارُ منْ عمّار شيئا] فقال أبو نوح: لا إله إلّا الله والله أكبر، إنّه لفينا جادٌّ على قتالكم، فقال عمرو: والله الذي لا إله إلّا هو إنه لجاد على قتالنا ؟ قال: نعم والله الذي لا إله إلّا هو، ولقد حدثني يوم الجمل أنا سنظهر على أهل البصرة، ولقد قال لي أمس: إنّكم لو ضربتمونا حتّى تبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقِّ، وأنّكم على الباطل، ولكانت قتلانا في الجنّة وقتلا كم في النار.

قال عمرو: فهل تستطيع أن تجمع بيني وبينه؟ قال: نعم، فركب عمرو بن العاص وإبناه، وعتبة بن أبي سفيان، وذو الكلاع، وأبو الأعور السلمي، وحوشب، والوليد بن عقبة، وانطلق وسار أبو نوح ومعه شرحبيل بن ذي الكلاع بحمير حتّى انتهى إلى أصحابه، فذهب أبو نوح إلى عمّار فوجده قاعداً مع أصحاب له منهم الأشتر، وهاشم، وابن بُديل، وخالد بن عمر، وعبد الله بن حجل، وعبد الله بن عبّاس، فقال لهم أبو نوح: إنّه دعاني ذو الكلاع، وهو ذو رحم، فقال: أخبرني عن عمّار بن ياسر

ص: 457

أفيكم هو؟ فقلت: لم تسأل عنه؟ فقال أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطّاب أنّه سمع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [يلتقيْ أهلُ الشامِ وأهلُ العراقِ، وعمّارُ معَ أهلِ الحقِّ، وتقتلهُ الفئةُ الباغيةُ] فقلت له: نعم إن عمّاراً فينا، فسألني أجادٌّ هو على قتالنا؟ فقلت: نعم، والله إنّه لأجدّ مني في ذلك، ولوددت أنّكم خلق واحد فذبحه، وبدأت بك يا ذا الكلاع، فضحك عمّار، قال: ايسرّك ذلك؟ قال: نعم.

ثُمَّ قال أبو نوح: أخبرني الساعة عمرو بن العاص أنّه سمع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [تقتلُ عمّارَ الفئةُ الباغيةُ] قال عمّار: رحمه الله: أقررته بذلك؟ قال: نعم لقد أقررته بذلك فأقرَّ، فقال عمّار: صدق وليضرنّه ما سمع ولا ينفعه، فقال أبو نوح: فإنه يريد أن يلقاك، فقال عمّار لأصحابه: إركبوا فركبوا وساروا، قال: فبعثنا إليهم فارساً من عبد القيس يسمى عوف بن بشر، فذهب حتّى إذا كان قريباً منهم نادى أين عمرو ابن العاص؟ قالوا: هاهنا، فأخبره بمكان عمّار وخيله، قال عمرو: قل له: فليسر إلينا.

قال عوف: إنه يخاف غدراتك وفجراتك، فقال عمرو: وما أجرأك عليَّ وأنت على هذه الحالة؟ قال عوف: جرأني على ذلك بصري فيك وفى أصحابك، وإن شئت نابذتك الآن على سواء، فقال عمرو: إنك لسفيه، وإنّي باعث إليك رجلاً من أصحابي يواقفك، فقال: إبعث من شئت فلست المستوحش، وإنك لا تبعث إلّا الأشقياء.

فرجع عمرو وأنفذ إليه أبا الأعور، فلمّا تواقفا تعارفا، فقال عوف: إنّي لأعرف الوجه وأنكر القلب، وإنّي لا أراك مؤمناً، ولا أراك إلّا من أهل النار.

ص: 458

قال أبو الأعور: يا هذا لقد أعطيت لساناً يكبّك الله به على وجهك في النار، قال عوف: كلّا والله إنّي لا أتكلم إلّا بالحقِّ، ولا تتلكم إلّا بالباطل، وإنّي أدعوك إلى الهدى، وأقاتلك على الضلال، وأفرّ من النار، وأنت بنعمة الله ضالٌّ تنطق بالكذب، وتقاتل على ضلالة، وتشتري العقاب بالمغفرة والضلالة بالهدى.

أنظر إلى وجوهنا ووجوهكم، وسيمانا وسيماكم، واسمع دعوتنا ودعوتكم، فليس أحد منّا إلّا وهو أولى بالحقّ وبمحمّد صلی الله علیه و آله و سلم وأقرب إليه منكم، فقال أبو الأعور: لقد أكثرت الكلام وذهب النهار، ويحك أدع أصحابك وأدعو أصحابي، وليأت أصحابك في قلّة إن شاءوا أو كثرة، فإنّي أجئ من أصحابي بعدّتهم.

فسار عمّار في اثني عشر فارساً، حتّى إذا كانوا بالمنصف سار عمرو بن العاص في اثني عشر فارساً حتّى اختلفت أعناق الخيل .. خيل عمرو وخيل عمّار، ونزل القوم واحتبوا بحمائل سيوفهم، فتشهد عمرو بن العاص فقال له عمّار: أسكت فلقد تركتها وأنا الأحقّ بها منك، فإن شئت كانت خصومة، فيدفع حقنا باطلك، وإن شئت كانت خطبة، فنحن أعلم بفصل الخطّاب منك، وإن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا وبينك، وتكفرك قبل القيام، وتشهد بها على نفسك، ولا تستطيع أن تكذبني فيها.

فقال عمرو: يا أبا اليقظان ليس لهذا جئت، إنّما جئت لأنّي رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم، أذكّرك الله إن لا كففت سلاحهم وحقنت دماءهم، وحرصت على ذلك، فعلى م تقاتلونا ؟! أو لسنا نعبد إلهاً واحداً؟ ونصلّي إلى قبلتكم، وندعو دعوتكم، ونقرأ كتابكم، ونؤمن بنبيكم؟.

ص: 459

فقال عمّار: الحمد لله الذي أخرجها من فيك، إنها لي ولأصحابي، القبلة والدين، وعبادة الرحمن، والنبيّ والكتاب من دونك ودون أصحابك .. الحمد لله الذي قررك لنا بذلك، وجعلك ضالّا مضلاّ أعمى، وسأخبرك على ما أقاتلك عليه وأصحابك .. إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمرني أن أقاتل الناكثين وقد فعلت، وأمرني أن أقاتل القاسطين وأنتم هم، وإمّا المارقون فلا أدري أأدركها أم لا.

أيّها إلّابتر ألست تعلم أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [مَنْ كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ، اللهمَّ والِ مَنْ وإلّاهُ، وعادِ مَنْ عاداهُ، فإنّي مَولى اللهِ ورسولهِ، وعليٌّ مولايَ بعدهما]؟.

قال عمرو: لمَ تشتمني يا أبا اليقظان، ولست أشتمك؟ فقال عمّار رضوان الله عليه: وبم تشتمني؟ أتستطيع أن تقول: إنّي عصيت الله ورسوله يوماً قط؟.

فقال عمرو: إن فيك لمسابَّ سوى ذلك، فقال عمّار: إن الكريم من أكرمه الله، كنت وضيعاً فرفعني الله، ومملوكاً فأعتقني الله، وضعيفاً فقواني الله، وفقيراً فأغناني الله.

قال عمرو: فما ترى في قتل عثمان؟ فقال: فتح لكم باب كل سوء، قال عمرو: فعليٌّ قتله؟ قال عمّار: بل الله ربُّ عليٍّ قتله، وعليٌّ معه.

قال عمرو: فكنت فيمن قتله؟ قال: كنت مع من قتله، وأنا اليوم أقاتل معهم.

قال عمرو: فلم قتلتموه؟ قال عمّار: إنه أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه، فقال عمرو: إلّا تسمعونه قد اعترف بقتل إمامكم؟.

ص: 460

فقال عمّار: قد قالها فرعون قبلك لقومه: ألا تسمعون، فقاموا ولهم زجل فركبوا خيولهم ورجعوا.

وقام عمّار وأصحابه فركبوا خيولهم ورجعوا، وبلغ معاوية ما كان بينهم فقال: هلكت العرب إن حركتهم خفّة العبد الأسود يعنى عمّاراً.

وروى نصر عن زيد بن وهب الجهني أن عمّار بن ياسر نادى يومئذ: أين من يبغي رضوان ربّه ولا يؤوب إلى مال ولا ولد؟ قال: فأتته عصابة من النّاس فقال: يا أيّها النّاس أقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذي يبغون دم عثمان، ويزعمون أنه قتل مظلوماً، والله ما كان إلّا ظالماً لنفسه، الحاكم بغير ما أنزل الله عليه.

وعن حبيب بن أبي ثابت قال: لما كان قتال صِفّين، والراية مع هاشم بن عتبة، قال: جعل عمّار بن ياسر يتناوله بالرمح ويقول: أقدم يا أعور، لا خير في أعور لا يأتي الفزع، قال: فجعل يستحي من عمّار، وكان عالماً بالحرب فيتقدم لمراكز الراية، فإذا تناهت إليه الصفوف قال عمّار: أقدم يا أعور لا خير في أعور لا يأتي الفزع، فجعل عمرو بن العاص يقول: إنّي لا أرى لصاحب الراية السوداء عملاً، لئن دام على هذا لتفانت العرب اليوم.

فاقتتلوا قتإلّا شديداً، وجعل عمّار يقول: صبراً عباد الله، الجنّة تحت ضلال البيض.

وحدّثنا عمرو بن شمر قال: حمل عمّار في ذلك اليوم على صفوف أهل الشام وهو يرتجز ويقول:

ص: 461

كلا ورب البيت لا أبرح أجي *** حتّى أموت أو أرى ما أشتهي

لا أبرحن الدهر أحمي عن علي *** صهر الرسول ذي الأمانات الوفي

ينصرنا رب السماوات العلى *** ونقطع الهام بحد المشرفي

يمنحنا النصر على من يبتغى *** ظلماً علينا جاهداً ما يأتلي

قال: فضرب صفوف أهل الشام حتّى اضطرهم إلى الفرار.

وروى نصر عن عبد الخير الهمداني قال: نظرت إلى عمّار بن ياسر يوماً من أيام صِفّين قد رُمي رمية فأغمي عليه، فلم يصلِّ الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء ولا الفجر، ثُمَّ أفاق فقضاهن جميعاً يبدأ بأوّل شيء ثُمَّ بالتي تليها.

قال نصر: وحدّثنا عمرو بن شمر عن جابر قال: سمعت الشِعبي يقول: قال الأحنف بن قيس يقول: والله إنّي لإلى جانب عمّار بن ياسر، فتقدمنا حتّى دنونا من هاشم بن عتبة، فقال له عمّار: إحمل فداك أبي وأمّي، فقال له هاشم: رحمك الله يا أبا اليقظان، إنّك رجل تأخذك خفة في الحرب، وإنّي إنّما أزحف باللواء زحفاً، أرجو أن أنال بذلك حاجتي، وإنّي إن خففت لم آمن الهلكة.

وقد كان قال معاوية لعمرو: ويحك إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة، وقد كان من قبل يرقل به إرقالا، وإن زحف اليوم زحفاً إنّه لليوم إلّاطول على أهل الشام، فإن زحف في عتق من أصحابه إنّي لأطمع أن يقطتع، فلم يزل به عمّار حتّى حمل، فنظر

ص: 462

إليه معاوية فوجه إليه كماة أصحابه، ومن يزن بالبأس والنجدة منهم في ناحية، وكان في ذلك الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص، ومعه يومئذ سيفان، قد تقلد بأحدهما وهو يضرب بالآخر، فأطافت به خيول عليٍّ علیه السلام، وجعل عمرو يقول: يا ألله يا رحمن إبني إبني، فيقول معاوية: إصبر فلا بأس عليه، فقال عمرو: ولو كان يزيد بن معاوية لصبرت، فلم تزل حماة أهل الشام تذبُّ عن عبد الله حتّى نجا هارباً على فرسه.

قال نصر: وحدّثنا عمر بن سعد قال: وفى هذا اليوم قتل عمّار بن ياسر، أصيب في المعركة، وقد كان حين نظر إلى راية عمرو بن العاص قال: والله إنّها لراية قاتلتها ثلاث مرات، وما هذه بأرشدهن، ثُمَّ قال:

نحن ضربناكم على تأويله ِ *** كما ضربناكم على تنزيله ِ

ضرباً يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليل عن خليله

أو يرجع الحق إلى سبيله *** يا رب إنّي مؤمن بقيله

وفى رواية أنه مضى ومعه عصابة، وكان لا يمرّ بواد من أودية صِفّين إلّا تبعه من كان هناك من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثُمَّ جاء إلى هاشم بن عتبة، وكان صاحب راية عليٍّ علیه السلام فقال: يا هاشم أعوراً وجبناً! لا خير في أعور لا يغشى البأس، إركب يا هاشم، فركب ومضى معه وهو يقول:

أعور يبغي أهله محلّا *** قد عالج الحياة حتّى ملّا

ص: 463

وعمّار يقول: تقدّم يا هاشم، الجنّة تحت ظلال السيوف، والموت تحت أطراف إلّاسل، وقد فتحت أبواب السماء، وتزينت الحور العين، اليوم ألقى إلّاحبّة، محمّداً وحزبه.

وتقدم حتّى دنا من عمرو بن العاص فقال: يا عمرو بعت دينك بمصر، تبّاً لك، فقال: لا، ولكن أطلب بدم عثمان، قال: أشهد على علمي فيك أن لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله تعالى، وإنك إن لم تقتل اليوم تمت غداً، فانظر إذا أعطى الله النّاس على قدر نيّاتهم ما نيتك لغد، فإنك صاحب الراية التي قاتلتها ثلاثاً مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وهذه الرابعة ما هي بأبرّ وأتقى.

ثُمَّ استسقى وقد أشتد عطشه، فأتته امرأة طويلة إليَّدين، والله ما أدري أعس معها أم إداوة فيها ضياح من لبن، فقال حين شرب: الجنّة تحت الأسنّة، اليوم ألقى إلّاحبة، محمّداً وحزبه، والله لو ضربونا حتّى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنّا على الحقِّ، وأنهم على الباطل.

ثُمَّ حمل وحمل عليه أبو جويرية السكسكي، وأبو العادية الفزاري، فإمّا أبو العادية فطعنه، وإمّا أبو جويرية فاحتزَّ رأسه، فأقبلا يختصمان كلاهما يقول: أنا قتلته، فقال عمرو بن العاص: إن تختصمان إلّا في النار فسمعها معاوية فقال لعمرو: ما رأيت مثلما صنعت اليوم، قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهم: إنّكما تختصمان في النار! فقال عمرو: هو والله ذلك، وإنّك لتعلمه، ولوددت أنّي مت قبل هذا بعشرين سنة.

ص: 464

وروى وكيع عن شعبة عن عبد الله بن مرّة عن عبد الله بن سلمة قال: لكأنّي أنظر إلى عمّار وهو صريع، فاستسقى فأتي بشربة من لبن، فشرب فقال: اليوم ألقى إلّاحبة، إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عهد إليَّ أنّ آخر شربة أشربها في الدنيا شربة من لبن.

وعن حبة بن جويرية العرني قال: قلت لحذيفة بن اليمان: حدّثنا فإنّا نخاف الفتن، فقال: عليكم بالفئة التي فيها إبن سُميَّة، فإن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [تقتلهُ الفئةُ الباغيةُ الناكبةُ عنِ الطريقِ، فإنَّ آخرَ رزقهِ ضياحٌ منْ لبنٍ].

قال حبة: فشهدته يوم قتل يقول: إئتوني بآخر رزق لي في الدنيا؛ فأتي بضياح من لبن، في قدح أروح بحلقة حمراء، فما أخطا حذيفة.

ثُمَّ قال: اليوم القى إلّاحبة محمّداً وحزبه، وقال: والله لو ضربونا حتّى بلغونا سعفات هجر لعلمت أننا على الحقّ، وأنهم على الباطل، ثُمَّ قتل رضى الله عنه.

وقد كان ذو الكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول: إن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قال لعمّار: [تقتلكَ الفئةُ الباغيةُ، وآخرُ شرابِكَ ضياحٌ منْ لبنٍ]، فقال ذو الكلاع لعمرو: ويحك ما هذا؟ فقال عمرو: إنّه سيرجع إلينا ويفارق أبا تراب، وذلك قبل أن يصاب عمّار، فلمّا اصيب عمّار في هذا اليوم أصيب ذو الكلاع، فقال عمرو لمعاوية: والله ما أدري بقتل أيّهما أنا أشدّ فرحاً، والله لو بقي ذو الكلاع حتّى يقتل عمّار لمال بعامّة قومه إلى عليٍّ، ولأفسد علينا أمرنا.

ص: 465

قال نصر: وحدّثنا عمر بن سعد قال: كان لا يزال رجل يجئ فيقول لمعاوية وعمرو: أنا قتلت عمّار، فيقول له عمرو: فما سمعته يقول؟ فيخبطون، حتّى أقبل إبن حوي فقال: أنا قتلته، فسأله عمرو: فما كان آخر منطقه؟ قال: سمعته يقول: اليوم ألقى إلّاحبة محمّداً وحزبه، فقال: صدقت أنت صاحبه، أما والله ما ظفرت يداك ولقد اسخطت ربك.

قال نصر: وروى عمر بن شمر عن السدّي أن رجلين بصِفّين اختصما في سلب عمّار وفى قتله، فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: ويحكما أخرجا عنّي، فإن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [ماْ لقريشَ ولعمّار، يدعوهمْ إلى الجنّةِ، ويدعونهَ إلى النّارِ .. قاتلُهُ وسالبُهُ فيْ النّارِ].

قال الخوارزمي في المناقب: وفرح بقتل عمّار أهل الشام، وقال معاوية: قتلنا عبد الله بن بُديل، وهاشم بن عتبة، وعمّار بن ياسر، فاسترجع النعمان بن بشير وقال: والله إنّا كنّا نعبد اللات والعزّى، وعمّار يعبد الله، ولقد عذبه المشركون بالرمضاء وغيرها من ألوان العذاب، فكان يوحّد الله، ويصبر على ذلك، وقال رسول الله: [صبراً يا آلَ ياسرَ، موعدُكمْ الجنّةُ] وقال له: [إنَّ عمّارَ يدعوْ النّاس إلىْ الجنّةِ ويدعونهُ إلى النّارِ].

قال نصر: وكان عبد الله بن سويد الحميري، من آل ذي الكلاع، قال لذي الكلاع: ما حديث سمعته من ابن العاص في عمّار؟ فأخبره، فلمّا قتل عمّار خرج عبد الله ليلاً يمشي، فأصبح في عسكر عليٍّ علیه السلام، وكان عبد الله من عبّاد أهل زمانه، وكاد أهل

ص: 466

الشام أن يضطربوا، لولا أن معاوية قال لهم: إنّ عليّاً قتل عمّاراً؛ لأنّه أخرجه إلى الفتنة.

ثُمَّ أرسل معاوية إلى عمرو: لقد أفسدت عليَّ أهل الشام، أكلُّ ما سمعت من رسول الله تقوله؟ فقال عمرو: قلتها ولست أعلم الغيب، ولا أدري أن صِفّين تكون، قلتها وعمّار يومئذ لك وليّ، وقد رويت أنت فيه مثلما رويت؛ فغضب معاوية وتنمر لعمرو، وعزم على منعه خيره، فقال عمرو لابنه وأصحابه: لا خير في جوار معاوية إن تجلت هذه الحرب عنه لأفارقنه، وكان عمرو بن العاص حمى الآنف فقال:

تعاتبني أن قلت شيئاً سمعته *** فقد قلت لو أنصفتني مثله قبلي

أنعلك فيما قلت نعل ثبته *** وتزلق بي في مثل ما قلته نعلي

وما كان لي علم بصِفّين أنها *** تكون وعمّار يحث على قتلي

ولو كان لي بالغيب علم كتمتها *** وكابدت أقواماً مراجلهم تغلي

أبى الله إلّا أن صدرك واغر *** عليَّ بلا ذنب جنيت ولا ذحل

سوى أّنني والراقصات عشية *** بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل

فلا وضعت عندي حصان قناعها *** ولا حملت وجناء ذعلبة رحلي

فلا زلت أرعى في لؤي بن غالب *** قليلاً عنائي لا أمرّ ولا أحلي

ص: 467

من الله أرخي من خناقك مرة *** ونلت الذي رجيت إن لم أزر أهلي

وأترك لك الشام الذي ضاق رحبها *** عليك ولم يهنك بها العيش من أجلي

فاجابه معاوية:

ء الآن لما ألقت الحرب ركبها *** وقام بنا الأمر الجليل على رجل ِ

غمزت قناتي بعد ستين حجة *** تباعا كإنّي لا أمر ولا أحلي

أتيت بأمر فيه للشام فتنة *** وفي دون ما أظهرته زلة النعل

فقلت لك القول الذي ليس ضائراً *** ولو ضرّ لم يضررك حملك لي ثقلي

فعاتبتني في كل يوم وليلة *** كأن الذي أبليك ليس كما أبلي

فيا قبح الله العتاب وأهله *** ألم تر ما أصبحت فيه من الشغل

فدع ذا ولكن هل لك اليوم حيلة *** ترد بها قوماً مراجلهم تغلي

دعاهم عليٌ فاستجابوا لدعوة *** أحب إليهم من ثرى المال وإلّاهل

إذا قلت هابوا حومة الموت أرقلوا *** إلى الموت أرقال الهلوك إلى الفحل

قال: فلمّا أتى عمرا شعر معاوية أتاه فأعتبه وصار أمرهما واحداً.

ص: 468

وروي عن الصادق علیه السلام أنّه قال: (لما قُتل عمّار بن ياسر ارتعات فرائص خلق كثير وقالوا: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [عمّارُ تقتلهُ الفئةُ الباغيةُ]، فدخل عمرو على معاوية وقال: يا أمير المؤمنين قد هاج النّاس واضطربوا، قال لماذا؟ قال: قُتل عمّار بن ياسر، قال معاوية: قتل عمّار فماذا؟ قال: أليس قال رسول الله [عمّارُ تقتلهُ الفئةُ الباغيةُ]، قال معاوية: رخصت في قولك أنحن قتلناه؟ إنّما قتله عليُّ بن أبي طالب لما ألقاه بين رماحنا.

فاتصل ذلك بعليٍّ علیه السلام فقال: فإذا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قتل حمزة لما ألقاه بين رماح المشركين).

وروى صاحب (السياسة والإمامة) عن معاوية تأويلاً آخر أشنع من هذا، أنّه قال: الباغية التي تبغي دم عثمان أي تطلبه.

وروي أنّه لما قتل عمّار احتمله أمير المؤمنين علیه السلام، وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه ويقول:

وما ظبية تسبي القلوب بطرفها *** إذا التفتت خلنا بأجفانها سحرا

بأحسن منه كلّل السيف وجهه *** دماً في سبيل الله حتّى قضى صبرا

وفى رواية أخرى أنّه لمّا بلغ قتل عمّار أمير المؤمنين علیه السلام جاء حتّى وقف على مصرعه، وجلس إليه، ووضع رأسه في حجْره وأنشد:

ص: 469

إلّا أيّها الموت الذي هو قاصدي *** أرحني فقد أفنيت كل خليل ِ

أراك بصيراً بالذين أودّهم (1) *** كأنّك تنحو نحوهم بدليل

ثُمَّ استرجع وقال: {إنَّ مَنْ لا يسؤهُ قتلُ عمّار فليسَ لهُ منَ الإسلام نصيبٌ، رحمَ اللهُ عمّاراً ما رأيتُ عندَ رسولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم ثلاثةً إلّا هوَ رابعُهمْ، ولا أربعةً إلّا وعمّارُ خامسُهمْ، ما وجبتْ الجنّةُ لعمّارَ مرّةً، ولكنْ وجبتْ مِراراً، هَنّأهُ اللهُ بِما هيّأَ لهُ منْ جنّةِ عدنٍ، إنّهُ قُتِلَ والحقُّ مَعَهُ، وهوَ على الحَقِّ، كما قالَ رسولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم: [يدورُ الحقُّ معَ عمّارَ حيثُ دارَ]}، ثُمَّ قال: {قاتلُ عمّار وشاتمُهُ وسالبهُ سلاحَهُ مُعذَّبٌ بنارِ جهنّمَ}.

ثُمَّ تقدم علیه السلام وصلّى عليه، وتولّى دفنه بيده، قال أبو عمرو في كتاب (الإستيعاب): دفنه عليٌّ علیه السلام بثيابه ولم يغسله.

وقال المسعودي في مروج الذهب: وكان قتله عند العشاء، وله ثلاث وسبعون سنة، وقبره بصِفّين، وصلّى عليه عليٌّ علیه السلام ولم يغسله.

قال أبو عمرو: كان سنّ عمّار يوم قتل نيفاً وتسعين، وقيل: إحدى وتسعين، وقيل: اثنين وتسعين، وقيل: ثلاثة وتسعين.

قال: وكان عمّار يقول: أنا ترب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، لم يكن أحد أقرب إليه سنّاً منّي، وكان قتله في شهر ربيع الأوّل، وقيل: الآخر، سنة سبعة وثلاثين.

ص: 470


1- في نسخة: أحبّهم

وقيل: أن أبا العادية قاتل عمّار عاش إلى زمن الحجّاج، فدخل عليه فأكرمه، وقال له: أنت قتلت إبن سُميَّة؟ يعنى عمّاراً، قال: نعم، قال: مَنْ سرّه أن ينظر إلى عظيم الباع يوم القيامة، فلينظر إلى هذا، ثُمَّ سأله أبو العادية حاجة فلم يجبه إليها، فقال: تعطي لهم الدنيا، ولا يعطونا منها، ويزعم أنّي عظيم الباع، فقال: من كان ضرسه مثل أحد، وفخذه مثل جبل ورقان، ومجلسه مثله المدينة والربذة، إنه لعظيم الباع يوم القيامة، والله لو أن عمّاراً قتله أهل الأرض لدخلوا كلهم النار.

وينسب إلى عمّار من الشعر هذه الأبيات:

توقَّ من الطرق أوساطها *** وعدّ من الجانب المشتبهْ

وسمعك صنْ عن سماع القبيح *** كصون اللسان عن النطق به

فإنّك عند سماع القبيح *** شريكٌ لقائله فانتبه

ص: 471

حُذيفة بن اليمان

واسم اليمان حسيل، بمهملتين مصغراً، ويقال: حسل، بكسر ثُمَّ سكون، إبن جابر العبسي، بموحدة، ثُمَّ الأشهلي حليفهم، يكنى أبو عبد الله.

وكان أبوه اليمان صحابياً أيضاً، استشهد بأُحد.

قال إبن هشام في سيرته: قال إبن إسحق: لمّا خرج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى أحد رفع حسل بن جابر، وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان، وثابت بن وقش في الأطام مع النساء والصبيان، وهما شيخان كبيران، فقال أحدهما لصاحبه: لا أباً لك ما تنتظر؟ فوالله إن بقي لواحد منّا من عمره إلّا ظماُ حمار، وإنّما نحن هامة اليوم أو غد، فلا نأخذ أسيافنا ثُمَّ نلحق برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، لعلّ الله يرزقنا مع شهادة أن لا إله إلّا الله شهادة مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؛ فأخذا أسيافهما ثُمَّ خرجا حتّى دخلا في النّاس، ولم يُعلم بهما! فإمّا ثابت بن وقش فقتله المشركون، وإمّا حسل بن جابر فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولم يعرفوه، فقال حذيفة: أبي، قالوا: والله ما عرفنا وصدقوا، فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين.

فأراد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يديّه، فتصدق حذيفة بديّته على المسلمين، فزاده ذلك عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خيراً.

ص: 472

قال إبن حجر العسقلاني في التقريب: كان حذيفة جليلاً من السابقين، صحّ في مسلم عنه أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أعلمه بما كان وما يكون إلى ان تقوم الساعة.

قال الذهبي في الكاشف: كان صاحب السر منعه وأباه شهود بدر استخلاف المشركين لهما.

وروي عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: [حذيفةُ بنُ اليمان منْ أصفياءِ الرحمنِ، وأبصرُكمْ بالحلالِ والحرامِ].

وسئل أمير المؤمنين علیه السلام فقال: {كانَ عارفاً بالمنافقينَ، وسَأَلَ رسولَ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم عنْ المعضلاتِ، فإنْ سألتموهُ وجدتموهُ بها خبيراً}.

وكان حذيفة يسمى صاحب السرِّ، وكان عمر لا يصلّي على جنازة لا يحضرها حذيفة، ويقال: أن عمر سأله هل أنا منهم؟.

وروى المفضل بن عمر عن جعفر بن محمّد علیهما السلام أنّه قال: (كان المنافقون على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا يعرفون إلّا ببغض عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وكان حذيفة يعرفهم؛ لأنّه كان ليلة العقبة يقود ناقة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وعمّار يسوقها، وقد قعد المنافقون على العقبة ليلاًّ لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عند منصرفه من غزاة تبوك، وقد كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خلّف عليّاً علیه السلام بالمدينة على أهله ونسائه، فقال المنافقون بعضهم لبعض: إنّ محمّداً بغّض نفسه إلى أصحابه بسبب عليّ، وعليٌّ هو الذابّ عنه، والمجاهد دونه، لا يعمل فيه الحرّ والبرد، والسيف والسنان، وقد استخلفه بالمدينة،

ص: 473

فبادروا هذا الذي لولا عليّ لكان أهون من فقع بقرقر، ولولا أبو طالب بمكّة لم يتبعه أحد؛ فإنّه آواه ونصره وذبّ عنه، وجاهد قريشاً فيه حتّى استفحل أمره وعظم شأنه، فلمّا استقرّ قراره، أعاد الملك والسلطان إلى بني أبيه من دون قريش.

أفقريش لبني هاشم خول وأتباع وقد اجتمعت كلمتهم بالإسلام بعد أن كنتم مختلفين فبعدوا واخشوشنوا، وأجمعوا أمركم وشركاءكم ثُمَّ اطلبوا بثأركم ممن اختدعكم عن دينكم وأدخلكم في دينه، ثُمَّ جعلكم أتباعه وأتباع بني هاشم ومواليهم وعبيدهم إلى أن تقوم الساعة، وإلّا فعيشوا أشقياء عباديد بعد إلّالهة، أذلة ما بقيتم.

وكان القائل عمر يحرّض أصحابه ليلة العقبة على قتل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فضرب الله وجوههم عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكان حذيفة في خلافة أبي بكر وعمر يشكوه إلى أبي بكر، وأبو بكر يقول: دعه إنّا إن حرّكناه أثرناه على أنفسنا من ليلة العقبة، لا حاجة لنا إليه، فاضرب عنه فالسكوت خير من الخوض في أمره.

فلمّا ملك عمر بعث إليه فقال له: ما زلت تحدث أصحاب محمّد في خلافة أبي بكر: أنّي باب من أبواب جهنم، ثُمَّ رفع عمر عليه بالدرّة، فقال حذيفة: إسكن يا خليفة المسلمين، فإنّك باب من أبواب جهنم، تمنع المنافقين أن يدخلوها، فتبسم عمر عند ذلك.

ص: 474

ثُمَّ أقبل على أصحابه فقال لهم: صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأعلم أصحابه بالمنافقين، فكان حذيفة يقول: السكينة تنطق على لسانك بقوله لحذيفة: إنّك أعرف النّاس بالمنافقين.

وأخرج الكشّي بإسناده عن أبي جعفر علیه السلام عن أبيه عن جده عن على ابن أبي طالب علیهم السلام قال: {ضاقتْ الأرض بسبعةٍ، بهمْ تُرزقونَ، وبهمْ تُنصرونَ، وبهمْ تُمطرونَ، منهمْ سلمانُ الفارسيُّ، والمقدادُ وأبو ذرَّ، وعمّارُ، وحذيفةُ}، وكان عليٌّ علیه السلام يقول: {وأنا إمامهمْ}، وهم صلّوا على فاطمة علیها السلام .

وأخرج الترمذي عن حذيفة قال: سألتني أمّي متى عهدك برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ؟ فقلت: منذ كذا وكذا، فنالت مني، فقلت لها: دعيني آتي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأصلّي معه المغرب، وأسأله أن يستغفر لي ولك.

فأتيته وصلّيت معه المغرب، ثُمَّ قام فصلّى حتّى صلّى العشاء، ثُمَّ انفتل فتبعته فسمع صوتي، فقال: [من هذا حذيفة؟] قلت: نعم، قال: [ما حاجتكَ؟ غفرَ اللهُ لكَ ولأمّكَ، إنَّ هذاْ مَلَكٌ لمْ ينزلْ الأرض قطّ قبلَ هذهِ الليلةِ، إستأذنَ ربَّهُ أن يُسلّمَ عليَّ، ويبشّرنيْ أنَّ فاطمةَ سيدةُ نساءِ أهلِ الجنّةِ، وأنَّ الحسنَ والحسينَ سيدا شبابِ أهلِ الجنّةِ].

وأخرج الشيخ الطوسي في (أماليه) بإسناده عن خالد بن خالد إليَّشكري قال: خرجت سنة فتح تستر حتّى قدمت الكوفة، فدخلت المسجد فإذا أنا بحلقة فيها رجل جهم من

ص: 475

الرجال، فقلت: من هذا؟ فقال القوم: أما تعرفه؟ قلت: لا، قالوا: هذا حذيفة بن اليمان، صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

قال: فقعدت إليه، فحدّث القوم: فقال: إن النّاس كانوا يسألون رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ، مخافة أن أقع فيه .

فأنكر القوم ذلك عليه، فقال: سأحدثكم بما أنكرتم، إنّه جاء أمر الإسلام فجاء أمر ليس كأمر الجاهلية، وكنت أعطيت من القرآن فقهاً، وكانوا يجيئون فيسألون النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فقلت: يا رسول الله أيكون بعد هذا الخير شرٌّ ؟ قال: نعم، قلت: فما العصمة منه ؟ قال صلی الله علیه و آله و سلم: [السيفُ].

قال: قلت: وهل بعد السيف بقية ؟ قال: [نعمْ تكونُ إمارةٌ علىْ أقذاء، أوْ هدنةٌ علىْ دخنٍ].

قال: قلت: ثُمَّ ماذا؟ قال: [ثُمَّ تنشأُ دعاةُ الضلالةِ، فإنْ رأيتَ يومئذٍ خليفةَ عدلٍ فالزمْهُ، وإلّا فمتْ عاضّاً على جذلِ شجرةٍ].

وروى إبن شهر آشوب مرفوعاً عن حذيفة قال: لو أحدثكم بما سمعت من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لرجمتموني، قالوا: سبحان الله نحن نفعل؟! قال: لو أحدثكم أن بعض امهاتكم تأتيكم في كتيبة كثير عددها شديد بأسها، تقاتلكم ما صدقتم!، قالوا: سبحان الله ومن يصدق بهذا؟ قال: تأتيكم أمّكم الحميراء في كتيبة يسوق بها أعلاجها، من حيث تسوء وجوهكم.

ص: 476

وذُكر أبو موسى إلّاشعري عند حذيفة بالدين فقال: إمّا أنتم فتقولون ذلك، وإمّا أنا فأشهد أنّه عدوٌ لله ولرسوله، وحرب لهما في الحياة الدنيا، ويوم يقوم إلّاشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.

وروي أن عمّاراً سُئل عن أبي موسى فقال: لقد سمعت فيه من حذيفة قولاً عظيماً .. سمعته يقول: صاحب البرنس الأسود ثُمَّ كلح كلوحاً، علمت أنه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط، وكان حذيفة عارفاً بهم.

وروى إبن المغازلي في كتاب (المناقب) بإسناده إلى حذيفة بن اليمان قال: آخى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بين المهاجرين، وكان يؤاخي بين الرجل ونظيره، ثُمَّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقال: [هذاْ أخيْ]، قال حذيفة: فرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين، ليس له شبيه ولا نظير، وعليٌّ علیه السلام أخوه.

وإلى هذا المعنى أشار الصفي الحلّي رحمه الله بقوله:

أنت سرّ النبيّ والصنو وابن *** العمّ والصهر والأخ السجّادُ

لو رأى مثلك النبيُّ لآخاه *** وإلّا فأخطأ الإنتقادُ

وروي أن عليّاً علیه السلام لما أدرك عمرو بن عبد ود ولم يضربه، فوقع النّاس في عليٍّ، فردَّ عنه حذيفة، فقال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [يا حذيفةُ فإنَ عليّاً سيذكرُ سببَ وقفتهِ].

ص: 477

ثُمَّ أنه ضربه، فلمّا جاء سأله النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم عن ذلك فقال علیه السلام: {قدْ كانَ شتمَ أمّيْ، وتفلَ فيْ وجهيْ، فخشيتُ أنْ أضربَهُ لحظِّ نفسيْ، فتركتهُ حتّى سكنَ ما بيْ، ثُمَّ قتلتهُ فيْ اللهِ}.

قال المؤلف: وإنّما ذكرنا هذا الحديث لما يعلم به من إخلاص حذيفة لأمير المؤمنين علیه السلام من زمن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم .

وروى أبو مخنف قال: لما بلغ حذيفة بن اليمان أن عليّاً علیه السلام قد قدم ذا قار واستنفر النّاس، دعا أصحابه فوعظهم وذكّرهم الله، وزهّدهم ورغّبهم في الآخرة، وقال لهم: إلحقوا بأمير المؤمنين وسيد الوصيين، فإن من الحقّ أن تنصروه، وهذا إبنه الحسن علیه السلام وعمّار قد قدما الكوفة يستنفرون النّاس، فانفروا.

قال: فنفر أصحاب حذيفة إلى أمير المؤمنين علیه السلام، ومكث حذيفة بعد ذلك خمس عشرة ليلة وتوفي رحمه الله.

وقال المسعودي في مروج الذهب: كان حذيفة عليلاً بالمدائن في سنة ست وثلاثين، فبلغه قتل عثمان وبيعة عليّ علیه السلام فقال: أخرجوني وادعوا الصلاة جامعة، فوضع على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم ثُمَّ قال: أيّها النّاس إن النّاس قد بايعوا عليّاً علیه السلام، فعليكم بتقوى الله، وانصروا عليّاً علیه السلام وآزروه، فوالله إنّه لعلى الحق أوّلاً وآخراً، وإنّه لخير من مضى بعد نبيكم صلی الله علیه و آله و سلم ومن بقي إلى يوم القيامة.

ص: 478

ثُمَّ أطبق يمينه على يساره وقال: اللهمَّ إنّي أشهدك أنّي قد بايعت عليّاً علیه السلام، وقال: الحمد لله الذي أبقاني إلى هذا اليوم، وقال لإبنيه صفوان وسعد: إذا أنا متُّ احملاني، وكونا معه، فسيكون له حرب يهلك فيها كثير من النّاس، فاجهدا أن تشهدا معه، فإنّه والله على الحقّ، ومن خالفه على الباطل.

ومات حذيفة بعد هذا اليوم بسبعة أيام، وقيل: بأربعين يوماً ..هذا كلام المسعودي.

قال المؤلف: وشهد إبناه المذكوران بعد ذلك صِفّين مع أمير المؤمنين علیه السلام، وقتلا بها شهيدين رحمهما الله.

وعن أبي الحسن الرضا علیه السلام ذكر لمّا حضرته الوفاة (قال: لإبنته: أيّة ساعة هذه؟ قالت: آخر الليل، قال: الحمد لله الذي بلغني هذا المبلغ، ولم أوالِ ظالماً على صاحب حقٍّ، ولم أعادِ صاحب حقٍّ).

وروى الديلمي في إرشاد القلوب مرفوعاً قال: لمّا استخلف عثمان بن عفّان آوى إليه عمه الحكم بن العاص، وولده مروان بن الحكم، ووجّه عماله في الأمصار، وكان فيمن وجّه الحرث بن الحكم إلى المدائن، فأقام بها مدة يتعسف أهلها ويسئ معاملتهم؛ فوفد منهم إلى عثمان وفد يشكونه وأعلموه بسوء ما يعاملهم به، وأغلظوا عليه بالقول؛ فولّى حذيفة بن اليمان عليهم، وذلك آخر أيّامه، فلم ينصرف حذيفة عن المدائن إلى أن قتل عثمان، واستخلف عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فأقام حذيفة عليها، وكتب علیه السلام إليه:

ص: 479

{بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، من عبدِ الله عليٍّ أميرِ المؤمنينَ إلى حذيفةَ بنِ اليمان، سلامٌ عليكَ، إمّا بعدُ فإنّي قدْ ولّيتكَ ما كنتَ لمنْ كانَ قبليْ من حرفِ المدائنِ، وقدْ جعلتُ إليك أعمالَ الخراجِ والرستاقِ وجبايةِ أهلِ الذمّةِ، فاجمعْ إليك ثقاتكَ ومنْ أحببتَ ممّنْ ترضىْ دينهُ وأمانته، واستعنْ بهمْ على أعمالكَ، فإنّ ذلكَ أعزُّ لكَ ولوليّك وأكبت لعدوّكَ.

وإنّيْ آمركَ بتقوى اللهِ وطاعتهِ في السرِّ والعلانيةِ، واُحذّركَ عقابهَ في المغيبِ والمشهدِ، وأتقدّمُ إليك بالإحسان إلى المُحسنِ، والشدّةِ على المعاندِ، وآمركَ بالرفقِ في اُموركَ، واللينِ والعدلِ على رعيّتكَ، فإنّكَ مسؤولٌ عنْ ذلكَ، وإنصاف المظلومِ، والعفو عنِ النّاس، وحسن السيرةِ ما استطعتَ، فاللهُ يجزي المحسنينَ.

وآمركَ أنْ تجبيَ خراجَ الأرضينَ على الحقِّ والنصفةِ، ولا تتجاوزْ ما تقدّمتُ بهِ إليك، ولا تدعْ منه شيئاً، ولا تبتدعْ فيه أمراً، ثمَّ اقسمهُ بينَ أهلهِ بالسويّةِ والعدلِ، واخفضْ لرعيّتكَ جناحكَ، وواسِ بينهمْ في مجلسكَ، وليكنْ القريبُ والبعيدُ عندكَ في الحقِّ سواءً، واحكمْ بينَ النّاس بالحقِّ، وأقمْ فيهم بالقسطِ، ولا تتّبعْ الهوى، ولا تخفْ في اللهِ لومةَ لائمٍ، فإنَّ اللهَ معَ الذينَ اتّقوا والذينَ همْ محسنونَ.

ولقدْ وجّهتُ إليك كتاباً لتقرأَهُ على أهلِ مملكتكِ؛ ليعلموا رأينا فيهم وفي جميعِ المسلمينَ، فأحضرهمْ واقرأهُ عليهمْ، وخذْ البيعةَ لناْ علىْ الصغيرِ والكبيرِ منهمْ إنْ شاءَ اللهُ تعالى}.

ص: 480

فلمّا وصل عهد أمير المؤمنين علیه السلام إلى حذيفة جمع النّاس فصلّى بهم، ثُمَّ أمر بالكتاب فقرأ عليهم وهو:

{بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، من عبد الله عليٍّ أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين، سلامٌ عليكمْ، فإنّيْ أحمدُ إليكمْ اللهَ الذيْ لا إلَه إلّا هوَ، وأسألهُ أنْ يصلّيَ على محمّدٍ وآلهِ، فإمّا بعدُ فإنَّ اللهَ تعالى اختارَ الإسلام ديناً لنفسهِ وملائكتهِ ورُسلهِ إحكاماً لصنعهِ، وحسنِ تدبيرهِ، ونظر اللهُ لعبادهِ، وخصَّ بهِ من أحبَّ منْ خلقهِ، فبعثَ إليهمْ محمّداً صلی الله علیه و آله و سلم فعلّمهم الكتابَ والحكمةَ اكراماً وتفضيلاً لهذهِ الأمّة، وأدّبهم لكي يهتدوا، وجمعهم لئلاّ يتفرّقوا، وفقّههم لئلاّ يجوروا.

فلمّا قضى ما كانَ عليهِ منْ ذلكَ مضى إلى رحمةِ اللهِ حميداً محموداً، ثمَّ إنّ بعضَ المسلمينَ أقاموا بعدَه رجلينِ رضوا بهداهُما وسيرتِهما، فأقاما ما شاءَ اللهُ ثمَّ توفّاهما اللهُ عزَّ وجلَّ، ثمّ ولّوا بعدَهما الثالثَ، فأحدث أحداثاً، ووجدت الأمّة عليهِ فعإلّا، فاتّفقوا عليه ثمَّ نقموا منه فغيّروا، ثمّ جاءوني كتتابعِ الخيلِ فبايعوني، فإنّي أستهدْي اللهَ بهداهُ وأستعينه على التقوى.

إلّا وانَّ لكمْ علينا العمل بكتابِ اللهِ وسنّةِ نبيّهِ، والقيام عليكم بحقّهِ، واحياءِ سنّتهِ، والنصح لكم بالمغيبِ والمشهدِ، وباللهِ نستعينُ على ذلك وهوَ حسبُنا ونعمَ الوكيلُ، وقد ولّيتُ اُمورَكم حذيفةَ بنَ اليمان، وهوَ ممّن أرتضي بهداهُ وأرجو صلاحَه، وقد أمرتُه بالإحسان إلى محسنِكم، والشدّةِ على مريبِكم، والرفقِ بجميعِكم، أسألُ اللَه لنا

ص: 481

ولكم حسنَ الخيرةِ والإحسان ورحمتَه الواسعةَ في الدنيا والآخرةِ، والسلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ}.

قال: ثُمَّ إن حذيفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيِّ وآله، ثُمَّ قال: الحمد لله الذي أحيا الحق وأمات الباطل، وجاء بالعدل ودحض الجور، وكبت الظالمين.

أيّها النّاس إنّه ولّاكم الله أمير المؤمنين علیه السلام حقاً حقاً، وخير من نعلمه بعد نبيّنا صلی الله علیه و آله و سلم، وأولى النّاس بالنّاس، وأحقهم بالأمر، وأقربهم إلى الصدق، وأرشدهم إلى العدل، وأهداهم سبيلاً، وأدناهم إلى الله وسيلة، وأمسّهم برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رحماً

أنيبوا إلى طاعة أوّل النّاس سلماً، وأكثرهم علماً، وأقصدهم طريقة، وأسبقهم إيماناً، وأحسنهم يقيناً، وأكثرهم معروفاً، وأقدمهم جهاداً، وأعزهم مقاماً، أخي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وابن عمّه، وأبي الحسن والحسين، وزوج الزهراء البتول سيدة نساء العالمين، فقوموا أيّها النّاس فبايعوا على كتاب الله وسنة نبيّه، فإن لله في ذلك رضى، ولكم مقنع وصلاح، والسلام.

فقام النّاس فبايعوا أمير المؤمنين علیه السلام أحسن بيعة وأجمعها، فلمّا استتمت البيعة قام إليه فتى من أبناء العجم وولاة الأنصار لمحمّد بن عمارة بن التيهان يقال له: مسلم، متقلداً سيفاً، فناداه من أقصى النّاس: أيّها الأمير إنّا سمعناك تقول في أوّل كلامك: قد ولّاكم الله أمير المؤمنين حقاً حقاً، تعرّض بمن كان قبله من الخلفاء، أنهم

ص: 482

لم يكونوا أمراء المؤمنين حقاً حقاً، فعرّفنا ذلك أيّها الأمير، رحمك الله، ولا تكتمنا، فإنك ممن شهد وعاين، ونحن مقلدون ذلك أعناقكم، والله شاهد عليكم فيما تأتون به من النصيحة لأمّتكم، وصدق الخبر عن نبيكم.

فقال حذيفة: أيّها الرجل إمّا إذا سألت وفحصت هكذا، فاسمع وافهم ما أخبرك به، إمّا من تقدم من الخلفاء قبل عليّ بن أبي طالب علیه السلام ممن تسمّى بأمير المؤمنين، فإنهم تسمّوا بذلك، وسمّاهم النّاس.

وإمّا عليّ بن أبي طالب علیه السلام فإن جبرئيل علیه السلام سمّاه بذلك الإسم عن الله تعالى، وشهد له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن سلام جبرئيل علیه السلام بإمرة المؤمنين، وكان أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يدعونه في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بإمرة المؤمنين.

قال الفتى: كيف كان ذلك يرحمك الله؟ قال حذيفة: إن النّاس كانوا يدخلون على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قبل الحجاب، فنهاهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يدخل أحد إليه، وعنده دحية بن خليفة الكلبي، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يراسل قيصر ملك الروم وبني حنيفة وبني غسان على يده، وكان جبرئيل علیه السلام يهبط عليه في صورته، ولذلك نهى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يدخل المسلمون عليه إذا كان عنده دحية.

قال حذيفة: وإنّي أقبلت يوماً لبعض أموري إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مهجراً رجاء أن القاه خالياً، فلمّا صرت بالباب فإذا أنا بشملة قد سدلت على الباب فرفعتها، وهممت بالدخول - وكذلك كنّا نصنع - فإذا أنا بدحية قاعد عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم

ص: 483

نائم ورأسه في حُجْر دحية الكلبي، فلمّا رأيته انصرفت، فلقيني عليّ بن أبي طالب علیه السلام في بعض الطريق فقال: يا ابن اليمان من أين أقبلت ؟ قلت: من عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قال: وماذا صنعت عنده؟ قال: قلت: أردت الدخول عليه في كذا وكذا، وذكرت الأمر الذي جئت له، فلم يتهيأ لي ذلك، قال: ولم؟ قلت: كان عنده دحية الكلبي.

وسألت عليّاً علیه السلام معونتي على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في ذلك الأمر، قال: فارجع معي؛ فرجعت معه، فلمّا صرنا إلى باب الدار جلست بالباب، ورفع عليٌّ علیه السلام الشملة ودخل فسلّم، فسمعت دحية يقول: وعليك السلام يا أمير المؤمنين، ورحمة الله وبركاته، ثُمَّ قال له: إجلس فخذ رأس أخيك وابن عمك من حُجْري، فأنت أولى النّاس به؛ فجلس عليٌّ علیه السلام وأخذ رأس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فجعله في حُجْره، وخرج دحية من البيت.

فقال عليٌ علیه السلام: أدخل يا حذيفة فدخلت وجلست، فما كان بأسرع من أن انتبه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فضحك في وجه عليٍّ علیه السلام ثُمَّ قال: [يا أبا الحسن من حجْر من أخذت رأسي؟] قال: من حُجْر دحية الكلبي، فقال: [ذلك جبرئيل علیه السلام، فما قلت له حين دخلت وما قال لك؟] قال: دخلت فسلّمت فقال لي: وعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [يا عليُّ سلّمت عليك ملائكة الله وسكان سماواته بإمرة المؤمنين، من قبل أن يسلم عليك أهل الأرض.

يا عليُّ إن جبرئيل علیه السلام فعل ذلك عن أمر الله تعالى، وقد أوحى إليَّ عن ربّي عزَّ وجلَّ من قبل دخولك، أن أفرض ذلك على النّاس، وأنا فاعل ذلك إن شاء الله تعالى].

ص: 484

فلمّا كان من الغد بعثني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى ناحية فدك في حاجة، فلبثت أياماً ثُمَّ قدمت، فوجدت النّاس يتحدثون أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمر النّاس أن يسلّموا على عليٍّ علیه السلام بإمرة المؤمنين، وأن جبرئيل علیه السلام أتاه بذلك عن الله عزَّ وجلَّ؛ فقلت: صدق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأنا فقد سمعت جبرئيل يسلم على عليٍّ علیه السلام بإمرة المؤمنين؛ فحدثتهم الحديث، فسمعني عمر بن الخطّاب وأنا أحدث النّاس في المسجد فقال لي: أنت رأيت جبرئيل وسمعته ؟! إتّقِ القول، فقد قلت قولاً عظيماً، وقد خولط بك، فقلت: نعم أنا رأيت ذلك وسمعته، فأرغم الله أنف من رغم، فقال: يا أبا عبد الله لقد رأيت وسمعت عجباً.

قال حذيفة: فسمعني بُرَيْدة بن الخصيب الأسلمي، وأنا أحدث ببعض ما رأيت وسمعت، فقال لي: والله يا ابن اليمان لقد أمرهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالسلام على عليٍّ علیه السلام بإمرة المؤمنين؛ فاستجابت له طائفة يسيرة من النّاس، وردّ ذلك عليه وأباه كثير من النّاس، فقلت: يا بُرَيْدة أكنت شاهداً ذلك اليوم؟ فقال: نعم من أوّله إلى آخره، فقلت له: حدثني به يرحمك الله، فإن كنت عن ذلك اليوم غائباً، فقال بُرَيْدة: كنت أنا وعمّار أخي مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في نخيل بني النجار، فدخل علينا عليّ بن أبي طالب علیه السلام فسلّم فرد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عليه السلام ورددنا، ثُمَّ قال له: يا عليُّ اجلس هناك، فجلس فدخل رجال، فأمرهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالسلام على عليٍّ علیه السلام بإمرة المؤمنين، فسلّموا وما كادوا، ثمَّ دخل أبو بكر وعمر فسلّما، فقال لهما رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: سلّما على عليٍّ بإمرة المؤمنين، فقالا: الأمر عن الله ورسوله؟ فقال: نعم.

ص: 485

ثُمَّ دخل طلحة وسعد بن مالك فسلّما، فقال لهما رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:سلّما على عليٍّ بإمرة المؤمنين، فقالا: عن الله ورسوله؟ فقال: نعم، قالا: سمعنا وأطعنا.

ثُمَّ دخل سلمان الفارسي وأبو ذرّ الغفاري فسلّما، فردَّ عليهما السلام ثُمَّ قال: سلّما على عليٍّ بإمرة المؤمنين، فسلّما ولم يقولا شيئاً.

ثمَّ دخل خزيمة بن ثابت وأبو الهيثم بن التيهان فسلّما فردّ عليهما السلام وقال: سلّما على عليٍّ بإمرة المؤمنين، فسلّما ولم يقولا شيئاً.

ثُمَّ دخل عمّار والمقداد فسلّما، فردَّ عليهما السلام وقال: سلّما على عليٍّ بإمرة المؤمنين ففعلا ولم يقولا شيئاً.

ثُمَّ دخل عثمان وأبو عبيدة فسلّما فردَّ عليهما السلام وقال: سلّما على عليٍّ بإمرة المؤمنين، قالا: عن الله ورسوله؟ قال نعم.

ثُمَّ دخل فلان وفلان وعدّ جماعة من المهاجرين والأنصار، كلّ ذلك يقول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سلّموا على عليٍّ بإمرة المؤمنين، فبعض سلّم ولم يقل شيئاً، وبعض يقول للنبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم عن الله ورسوله؟ فيقول: نعم، حتّى غصَّ المجلس بأهله، وامتلات الحُجْرة، وجلس بعض على الباب وفى الطريق، وكانوا يدخلون فيسلّمون ويخرجون.

ثُمَّ قال لي ولأخي: قم يا بُرَيْدة أنت وأخوك فسلّما على عليٍّ بإمرة المؤمنين، فقمنا وسلّمنا، ثُمَّ عدنا إلى مواضعنا فجلسنا.

ص: 486

ثُمَّ أقبل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عليهم جميعاً فقال: [إسمعوا وعوا، إنّي أمرتُكمْ أنْ تسلّموا على عليٍّ بإمرة المؤمنينَ، وإنَّ رجالاً سألونيْ أذلكَ عنْ أمرِ اللهِ وأمرِ رسولهِ؟ ما كانَ لمحمّدَ أنْ يأتيَ أمراً منْ تلقاءِ نفسهِ، بلْ بوحي ربّهِ وأمرهِ، أفرأيتمْ والذيْ نفسيْ بيدهِ، لئنْ أبيتمْ ونقضتموهُ لتكفرونَ ولتفارقونَ ما بعثنيْ بهِ ربِّي، فمنْ شاءَ فليؤمنْ، ومنْ شاءَ فليكفرْ.

قال بُرَيْدة: فلمّا خرجنا سمعت بعض أولئك الذين أُمروا بالسلام على عليٍّ بإمرة المؤمنين من قريش، يقول لصحابه، وقد التقت بهما طائفة من الجفاة البغاة عن الإسلام من قريش: أما رأيت ما صنع محمّد بابن عمّه من علوّ المنزلة والمكان؟ لو يستطيع والله لجعله نبيأ من بعده، فقال له صاحبه: أمسك ولا يكبرنّ عليك هذا، فإنا لو فقدنا محمّداً لكان فعله هذا تحت أقدامنا.

قال حذيفة: ومضى بُرَيْدة إلى بعض طريق الشام، ورجع وقد قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وبايع النّاس أبا بكر، فأقبل بُرَيْدة ودخل المسجد، وأبو بكر على المنبر وعمر دونه بمرقاة، فناداهما من ناحية المسجد: يا أبا بكر ويا عمر، فقال أبو بكر: مالك يا بُرَيْدة أجننت؟ قال لهما: والله ما جننت، ولكن أين سلامكما بإلّامس على عليٍّ بإمرة المؤمنين؟ فقال له أبو بكر: يا بُرَيْدة الأمر يحدث بعده الأمر، وإنك غبت وشهدنا، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فقال لهما: رأيتما ما لم يرَ الله ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولكن وفى لك صاحبك بقوله: لو فقدنا محمّدا لكان قوله هذا تحت أقدامنا، إلّا إن المدينة حرام على أن اسكنها ابداً حتّى أموت؛ فخرج بُرَيْدة بأهله وولده فنزل بين

ص: 487

قومه بني أسلم، فكان يطلع في الوقت دون الوقت، فلمّا أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين علیه السلام سار إليه، وكان معه حتّى قدم العراق، فلمّا أصيب أمير المؤمنين علیه السلام سار إلى خراسان فنزلها، ولبث هناك إلى أن مات رحمه الله.

قال حذيفة: فهذا إنباء ما سألتني عنه.

فقال الفتى: لا جزى الله الذين شهدوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وسمعوه يقول هذا القول لعليٍّ خيراً، فقد خانوا الله ورسوله، وأزالوا الأمر عمّن رضيه الله ورسوله، وأقرّوه فيمن لم يره الله ولا رسوله لذلك أهلاً، لا جرم والله لن يفلحوا بعدها أبداً.

فنزل حذيفة عن منبره فقال: يا أخا الأنصار إن الأمر كان أعظم مما تظنّ، إنّه غرب والله البصيرة، وذهب إليَّقين، وكثر المخالف، وقلّ الناصر لأهل الحقِّ.

فقال له الفتى: فهلّا انتضيتم أسيافكم ووضعتموها على رقابكم وضربتم بها الزائلين عن الحق قدماً قدماً حتّى تموتوا أو تدركوا الأمر الذي تحبونه من طاعة الله عزَّ وجلَّ وطاعة رسوله صلی الله علیه و آله و سلم ؟.

فقال له: أيّها الفتى إنّه أخذوا والله بأسماعنا وأبصارنا، وكرهنا الموت وتزينت لنا الحياة، وسبق علم الله بإمرة الظالمين، ونحن نسأل الله التغمد لذنوبنا، والعصمة فيما بقي من آجالنا فإنّه مالك رحيم.

ثُمَّ انصرف حذيفة إلى منزله وتفرق النّاس.

ص: 488

قال عبد الله بن سلمة: فبينا أنا ذات يوم عند حذيفة أعوده في مرضه الذي مات فيه، وقد كان يوم قدمت فيه من الكوفة، وذلك من قبل قدوم عليٍّ علیه السلام إلى العراق، فبينما أنا عنده إذ جاء الفتى الأنصاري فدخل على حذيفة، فرحب به وأدناه وقرب مجلسه، وخرج من كان عند حذيفة من عوّاده، وأقبل عليه الفتى فقال: يا أبا عبد الله سمعتك يوماً تحدث عن بُرَيْدة بن الخصيب الأسلمي، أنّه سمع بعض القوم الذين أمرهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يسلّموا على عليٍّ علیه السلام بإمرة المؤمنين يقول لصاحبه: أما رأيت اليوم ما صنع محمّد بابن عمه من التشريف وعلو المنزلة، حتّى لو قدر أن يجعله نبياً لفعل، فأجابه صاحبه وقال: لا يكبرنّ عليك فلو فقدنا محمّداً كان قوله تحت أقدامنا، وقد ظننت نداء بُرَيْدة لهما وهما على المنبر أنهما صاحبا القوم، قال حذيفة: أجل القائل عمر والمجيب أبو بكر، فقال الفتى: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هلك والله القوم وضلّت أعمالهم.

قال حذيفة: ولم يزل القوم على ذلك من إلّارتداد، وما يعلم الله منهم أكثر، فقال الفتى: قد كنت أحب أن أتعرف هذا الأمر من فعله؟ ولكنّي أجدك مريضاً، وأنا أكره أن أمّلك بحديثي ومسألتي، وقام لينصرف فقال حذيفة: لا بل إجلس يا ابن أخي وتلقَّ مني حديثهم وإن كربني ذلك، فلا أحسبني إلّا مفارقكم، إنّي لا أحبّ أن لا تغتر منزلتهما في النّاس، فهذا ما أقدر عليه من النصيحة لك، ولأمير المؤمنين علیه السلام من الطاعة له ولرسوله صلی الله علیه و آله و سلم وذكر منزلته.

ص: 489

فقال: يا أبا عبد الله حدثني بما عندك من أمورهم؛ لأكون على بصيرة من ذلك، فقال حذيفة: إذاً والله لأخبرنّك بخبر سمعته ورأيته، ولقد والله دلّنا ذلك من فعلهم على أنّهم والله ما آمنوا بالله ولا برسوله صلی الله علیه و آله و سلم طرفة عين، وأخبرك أن الله تعالى أمر رسوله صلی الله علیه و آله و سلم في سنة عشر من مهاجرته من مكّة إلى المدينة أن يحجّ هو ويحجّ النّاس معه، فأوحى الله إليه بذلك ﴿وَأَذِّن فِي النّاس بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رجالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (1)، فأمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المؤذنين فأذّنوا في أهل السافلة والعالية: إلّا إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد عزم على الحج في عامه هذا؛ ليفهم النّاس حجّهم ويعلمهم مناسكهم، فيكون سُنّة لهم إلى آخر الدهر، قال: فلم يبقَ أحد ممن دخل في الإسلام إلّا حّج مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سنة عشر؛ ليشهدوا منافع لهم ويعلمهم حجهم ويعرفهم مناسكهم، وخرج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالنّاس، وخرج بنسائه معه، وهي حجة الوداع، فلمّا استتم حجهم وقضوا مناسكهم، وعرف النّاس جميع ما احتاجوا إليه، وأعلمهم أنّه قد أقام لهم ملّة إبراهيم علیه السلام، وقد أزال عنهم جميع ما أحدثه المشركون بعده، وردَّ الحجّ إلى حالته الأولى، ودخل مكّة فأقام بها يوماً واحداً، فهبط الأمين جبرئيل علیه السلام بأوّل سورة العنكبوت فقال: إقرأ يا محمّد: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ﴿ الم * أَحَسِبَ النّاس أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ

ص: 490


1- سورة الحج – الآية: 27

فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ (1).

فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: يا جبرئيل وما هذه الفتنة؟ فقال: يا محمّد إن الله يقرئك السلام ويقول لك:[[إنّيْ ما أرسلتُ نبيّاً قَبلكَ إلّا أمرتُهُ عندَ انقضاءِ أجلِهِ أنْ يستخلفَ علىْ أُمّتهِ منْ بعدهِ منْ يقومُ مقامَهَ ويحييْ لهمْ سُنّتهُ وأحكامَهَ، فالمُطيعونَ للهِ فيما يأمرهمْ بهِ رسولُ اللهِ همْ الصادقونَ، والمخالفونَ على أمرهِ همْ الكاذبونَ، وقدْ دنا يا محمّدُ مصيرُكَ إلىْ ربِّكَ وجنّتِهِ، وهوَ يأمرُكَ أنْ تنصّبَ لأُمّتِكَ منْ بعدكَ عليَّ بنَ أبيْ طالبَ، وتعهدَ إليه، فهوَ الخليفةُ القائمُ برعيّتكَ وأُمّتكَ، إنْ أطاعوهُ وإنْ عصوهُ، وسيفعلونَ ذلكَ، وهيَ الفتنةُ التيْ تلوتُ عليكَ إلّايةَ فيها، وإنّ اللهَ عزّ وجلَّ يأمرك أنْ تعلّمهُ جميعَ ما علّمكَ، وتستحفظهُ جميعَ ما حفظكَ واستودعكَ، فهوَ الأمين المؤتمنُ.

يا محمّدُ اخترتُكَ منْ عباديَ نبيّاً واخترتُه وصيّاً]].

قال: فدعا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عليّاً علیه السلام فخلا به يومه ذلك وليلته، واستودعه العلم والحكمة التي آتاه الله إيّاها، وعرّفه ما قال جبرئيل علیه السلام .

وكان ذلك في يوم عائشة إبنة أبي بكر، فقالت: يا رسول الله لقد طال استخلاؤك بعليٍّ منذ اليوم، قال: فأعرض عنها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقالت: لم تعرض عني يا رسول الله بأمر لعلّه يكون لي صلاحاً؟ فقال: [صدقتِ وأيمَ اللهِ إنّهُ لأمرٌ صلاحٌ لمنْ أسعدهُ

ص: 491


1- سورة العنكبوت – الآيات: 1 - 4

اللهُ بقولهِ والإيمان بهِ، وقدْ أمرتُ بدعاءِ النّاس جميعاً إليه، وستعلمينَ ذلكَ إذاْ أنا قمتُ بهِ في النّاس].

قالت: يا رسول الله ولم لا تخبرني به الآن لأتقدم بالعمل به، والأخذ بما فيه الصلاح ؟ قال: سأخبرك فاحتفظيه إلى أن أؤمر بالقيام به في النّاس جميعاً، فإنك إن حفظتيه حفظك في العاجلة والأجلة جميعاً، وكانت لك الفضيلة بسبقه، والمسارعة إلى الإيمان بالله ورسوله، وإن أضعتيه، وتركت رعاية ما ألقي إليك منه كفرت بربّك وحبط أجرك، وبرأت منك ذمة الله وذمة رسوله، وكنت من الخاسرين، ولم يضرّ الله ذلك ولا رسوله، فضمنت له حفظه والإيمان به ورعايته، فقال: [إنَّ اللهَ تعالى أخبرَني أنَّ عمري قدْ انقضى، وأمرَني أنْ أنصبَ عليّاً للناسِ علماً، وأجعلَهُ فيهم إماماً، وأستخلفه كما أستخلفَ الأنبياءُ منْ قبلي أوصياءَها، وأنا صائرٌ إلى أمرِ ربّي، وأخذٌ فيهِ بأمرِهِ، فليكنْ هذا الأمرُ منكَ تحتَ سويداءِ قلبِكِ إلى أنْ يأذنَ اللهُ بالقيامِ بهِ]، فضمنت له ذلك.

وقد أطلع الله نبيه صلی الله علیه و آله و سلم على ما يكون منها فيه، ومن صاحبتها حفصة وأبويهما، فلم تلبث أن أخبرت حفصة، وأخبرت كل واحدة منهما أباها، فاجتمعا فأرسلا إلى جماعة الطلقاء والمنافقين، فخبراهم بالأمر، فأقبل بعضهم على بعض وقالوا: إن محمّداً يريد أن يجعل هذا الأمر في بيته كسُنّة كسرى وقيصر إلى آخر الدهر، ولا والله مالكم في الحياة من حظ إن أفضى هذا الأمر إلى عليّ بن أبي طالب، وإن محمّداً عاملكم

ص: 492

على ظاهركم، وإن عليّاً يعاملكم على ما يجد في نفسه منكم، فأحسنوا النظر لأنفسكم في ذلك، وقدموا آراءكم فيه.

ودار الكلام فيما بينهم، وأعادوا الخطّاب وأجالوا الرأي؛ فاتفقوا على أن ينفروا برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ناقته على عقبة الهرشا، وقد كانوا صنعوا مثل ذلك في غزاة تبوك، فصرف الله السوء عن نبيه صلی الله علیه و آله و سلم، واجتمعوا في أمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من القتل وإلّاغتيال وإسقاء السمّ على غير وجه.

وقد كان اجتمع أعداء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من الطلقاء من قريش والمنافقين من الأنصار، ومن كان في قلبه إلّارتداد من العرب في المدينة وما حولها، فتعاقدوا وتحالفوا على أن ينفروا به ناقته وكانوا أربعة عشر رجلاً.

وكان من عزم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يقيم عليّاً علیه السلام وينصبه للناس بالمدينة إذا قدم، فسار رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يومين وليلتين، فلمّا كان في اليوم الثالث أتاه جبرئيل علیه السلام بآخر سورة الحجر فقال: أقرأ ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ (1).

قال: ورحل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يعدو السير مسرعاً على دخول المدينة؛ لينصب عليّاً علیه السلام علماً للناس.

ص: 493


1- سورة الحجر – الآيات: 92 - 95

فلمّا كانت الليلة الرابعة هبط جبرئيل علیه السلام في آخر الليل فقرأ عليه ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إليك مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاس إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ (1)، وهم الذين هموا برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال: [أما ترانيْ يا جبرئيلُ أعدوْ السيرَ مجدّاً فيهِ لأدخلَ المدينةَ فأفرضَ ولايةَ عليٍّ على الشاهدِ والغائبِ؟] فقال له جبرئيل علیه السلام: (إنّ اللهَ يأمركَ أنْ تفرضَ ولايةَ عليٍّ غداً إذا نزلتَ منزلكَ) فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [نعمْ يا جبرئيلُ غداً أفعلُ ذلكَ إنْ شاءَ اللهُ تعالى].

وأمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالرحيل من وقته، وسار النّاس معه حتّى نزل بغدير خم، فصلّى بالنّاس وأمرهم ان يجتمعوا إليه، ودعا عليّاً علیه السلام فرفع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يد عليٍّ علیه السلام اليسرى بيده اليمنى، ورفع صوته بالولاية لعليٍّ على النّاس أجمعين، وفرض طاعته عليهم، وأمرهم أن لا يختلفوا عليه بعده، وخبرهم أن ذلك من أمر الله تعالى، وقال لهم: [ألستُ أولى بالمؤمنينَ منْ أنفسهمْ؟] قالوا: بلى يا رسول الله، قال: [فَمَنْ كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ، اللهمَّ والِ مَنْ وإلّاهُ، وعادِ مَنْ عاداهُ، وانصرْ منْ نصرهُ، وأخذل من خذلهُ].

ثُمَّ أمر النّاس أن يبايعوه، فبايعه النّاس جميعاً، ولم يتكلم منهم أحد، وقد كان أبو بكر وعمر تقدما إلى الجحفة، فبعث وردّهما، ثُمَّ قال لهما النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم متجهماً لهما: [يا ابنَ أبيْ قحافةَ ويا عمرَ، بايعاْ عليّاً بالولايةِ منْ بعديْ] فقالا: أمر من الله ومن

ص: 494


1- سورة المائدة – الآية: 67

رسوله؟ فقال: [وهلْ يكونُ مثلُ هذاْ منْ غيرِ أمرٍ منَ اللهِ ومنْ رسولهِ ؟! نعمْ أمرٌ منَ اللهِ ومنْ رسولهِ] فبايعا ثُمَّ انصرفا.

وسار رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم باقي يومه وليلته حتّى إذا دنو من عقبة (هرشا) فقدمه القوم، فتواروا في ثنية العقبة، وقد حملوا معهم دباباً وطرحوا فيها الحصى، فقال حذيفة: فدعاني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ودعا عمّار بن ياسر، وأمره أن يسوق ناقته وأنا أقودها، حتّى إذا سرنا في رأس العقبة ثار القوم من ورائنا، ودحرجوا الدباب بين قوائم الناقة؛ فذعرت وكادت أن تنفر برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فصاح بها النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أن [اسكنيْ فليسَ عليكِ بأسٌ] فأنطقها الله بقول عربي فصيح فقالت: والله يا رسول الله لا أزلت يداً عن مستقر يد، ولا رجلاً عن موضع رجل، وأنت على ظهري.

فتقدم القوم إلى الناقة ليدفعوها، فأقبلت أنا وعمّار لنضرب وجوههم بأسيافنا، وكانت ليلة مظلمة، فزالوا عنّا وآيسوا مما ظنّوا وأدبروا، فقلت: يا رسول الله من هؤلاء القوم الذين يريدون ما ترى؟ فقال: [يا حذيفةُ هؤلاءِ المنافقونُ في الدنيا والآخرةِ] فقلت: إلّا تبعث إليهم يا رسول الله رهطاً فيأتوا برؤوسهم؟ فقال: [إنَّ اللهَ أمرنيْ أنْ أعرضَ عنهمْ، وأكرهُ أنْ يقولَ النّاس أنّهُ دعا أناساً منْ قومِهِ وأصحابهِ إلى دينهِ فاستجابوا لهُ، فقاتلَ بهمْ حتّى ظهرَ على عدوّهِ، ثُمَّ أقبلَ عليهمْ فقتلهمْ، ولكنْ دعهمْ يا حذيفةُ فإنَّ اللهَ لهمْ بالمرصادِ، وسيمهلهمْ قليلاً ثُمَّ يضطرّهمْ إلى عذابٍ غليظٍ].

فقلت من هؤلاء المنافقون يا رسول الله؟ أ من المهاجرين أم من الأنصار؟ فسمّاهم إليَّ رجلاً رجلاً حتّى فرغ منهم، ولقد كان فيهم أناس كنت كارهاً أن يكونوا فيهم،

ص: 495

فأمسكت عند ذلك؛ فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [يا حذيفة كأنّكَ شاكٌّ في بعضِ منْ سمّيت لك! إرفعْ رأسكَ إليهمْ]؛ فرفعت طرفي إلى القوم وهم وقوف على الثنيّة، فبرقت برقةٌ أضاءت ما حولنا، وثبتتْ البرقةُ حتّى خلتها شمساً طالعةً، فنظرت والله إلى القوم فعرفتهم رجلاً رجلاً، فإذا هم كما قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم،وعدد القوم أربعة عشر رجلاً، تسعة من قريش، وخمسة من سائر النّاس.

فقال له الفتى: سمّهم لنا يرحمك الله، فقال حذيفة: هم والله أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقّاص، وأبو عبيدة بن الجراح، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص .. هؤلاء من قريش، وإمّا الخمسة الآخر.. فأبو موسى إلّاشعري، والمغيرة بن شعبة الثقفي، وأوس بن الحدثان البصري، وأبو هريرة، وأبو طلحة الأنصاري.

قال حذيفة: ثُمَّ انحدرنا من العقبة وقد طلع الفجر، فنزل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فتوضأ وانتظر أصحابه حتّى انحدروا من العقبة واجتمعوا، فرأيت هؤلاء بأجمعهم وقد دخلوا مع النّاس، وصلّوا خلف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فلمّا انصرف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من صلاته التفت فنظر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة يتناجون، فأمر منادياً فنادى في النّاس: [لا يجتمعْ ثلاثةُ نفرٍ منَ النّاس يتناجَونَ فيما بينهمْ بسرٍّ].

وارتحل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالنّاس من منزل العقبة، فلمّا نزل المنزل الآخر رأى سالم مولى أبي حذيفة أبا بكر وأبا عبيدة يسارّ بعضهم بعضاً، فوقف عليهم وقال: أليس قد أمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن لا يجتمع ثلاثة نفر من النّاس على سرّ؟ والله لتخبروني

ص: 496

فيما أنتم وإلّا أتيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتّى أخبره بذلك منكم، فقال أبو بكر: يا سالم عليك عهد الله وميثاقه، لئن نحن خبرناك بالذي نحن فيه وبما اجتمعنا، فإن أحببت أن تدخل معنا فيه دخلت وكنت رجلاً منّا، وإن كرهته كتمته علينا؛ فقال سالم: لكم ذلك، وأعطاهم بذلك عهده وميثاقه، وكان سالم شديد البغض والعداوة لعليّ بن أبي طالب علیه السلام، وعرفوا ذلك منه، فقالوا: إنّا قد اجتمعنا على أن نتحالف ونتعاقد على أن لا نطيع محمّداً فيما فرض علينا من ولاية عليّ بن أبي طالب بعده، فقال لهم سالم: عليكم عهد الله وميثاقه أن في هذا الأمر كنتم تخوضون وتناجون ؟ قالوا: أجل علينا عهد الله وميثاقه، إنّا إنّما كنّا في هذا الأمر بعينه لا في شيء سواه، قال سالم: وأنا والله أوّل من يعاقدكم على هذا الأمر ولا أخالفكم عليه، إنّه والله ما طلعت شمس على أهل بيت أبغض إليَّ من بني هاشم، ولا في بني هاشم أبغض إليَّ ولا أمقت من عليّ بن أبي طالب، فاصنعوا في هذا الأمر ما بدا لكم فإنّي واحد منكم، فتعاقدوا من وقتهم على هذا الأمر ثُمَّ تفرقوا.

فلمّا أراد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المسير أتوه، فقال لهم: [فيما كنتمْ تنتاجونَ فيْ يومِكمْ هذاْ، وقدْ نهىتُكمْ عنْ النجوىْ؟] فقالوا: يا رسول الله ما التقينا غير وقتنا هذا، فنظر إليهم النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم مليّاً ثُمَّ قال لهم: [أنتمْ أعلمُ أمْ اللهُ؟ ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (1)].

ص: 497


1- سورة البقرة – الآية: 140

ثُمَّ سار صلی الله علیه و آله و سلم حتّى دخل المدينة، واجتمع القوم جميعاً، وكتبوا صحيفة بينهم على ذكر ما تعاقدوا عليه في هذا الأمر، وكان أوّل ما في الصحيفة النكث لولاية عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وأن الأمر لأبي بكر وعمر وأبي عبيدة، وسالم معهم ليس بخارج منهم، وشهد بذلك أربعة وثلاثون رجلاً، هؤلاء أصحاب العقبة، وعشرون رجلاً أخر، واستودعوا الصحيفة أبا عبيدة بن الجراح، وجعلوه أمينهم عليها.

قال: فقال الفتى: يا أبا عبد الله يرحمك الله هبنا أن نقول هؤلاء القوم رضوا أبا بكر وعمر وأبا عبيدة؛ لأنّهم من مشيخة قريش ومن المهاجرين الأولين، فما بالهم رضوا بسالم؟ وليس هو من قريش ولا من المهاجرين والأنصار، وإنّما هو لأمرؤ من الأنصار؟

قال حذيفة: إن القوم أجمع تعاقدوا على إزالة هذا الأمر عن عليّ بن أبي طالب علیه السلام حسداً منهم له، وكراهة لإمرته، واجتمع لهم مع ذلك ما كان في قلوب قريش عليه من سفك الدماء، وكان خاصة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكانوا يطلبون الثأر الذي أوقعه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بهم عند عليٍّ علیه السلام من بني هاشم، فإنّما كان العقد على ازالة الأمر عن عليِّ بن أبي طالب علیه السلام هؤلاء الأربعة عشر، وكانوا يرون أن سالم رجل منهم.

فقال الفتى: فخبرني يرحمك الله عمّا كتب جميعهم في الصحيفة لأعرفه؟ فقال حذيفة: حدثتني بذلك أسماء بنت عميس الخثعمية، امرأة أبي بكر، أن القوم اجتمعوا في منزل أبي بكر، فتآمروا في ذلك، وأسماء تسمعهم وتسمع جميع ما يديرونه في

ص: 498

ذلك، حتّى اجتمع رأيهم على ذلك، فأمروا سعيد بن العاص إلّاموي فكتب لهم الصحيفة باتفاق منهم وكانت نسخة الصحيفة:

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اتفق عليه الملأ من أصحاب محمّد رسول الله من المهاجرين والأنصار الذين مدحهم الله تعالى في كتابه على لسان نبيه، اتفقوا جميعاً بعد أن اجتهدوا في آرائهم وتشاوروا في أمورهم وكتبوا هذه الصحيفة، نظراً منهم إلى الإسلام وأهله على غابر الأيّام وباقي الدهور، وليقتدي بهم من يأتي من بعدهم من المسلمين.

إمّا بعد فإن الله بمنّه وكرمه بعث محمّداً رسولاً إلى النّاس كافة بدينه الذي ارتضاه لعباده، فأدى من ذلك وبلغ ما أمره الله به، وأوجب علينا القيام بجميعه، حتّى إذا أكمل الدين وفرض الفرائض وأحكم السنن اختار الله له ما عنده، فقبضه إليه مكرماً محبوراً من غير أن يستخلف أحداً من بعده، وجعل الأختيار إلى المسلمين، يختارون لأنفسم من وثقوا برأيه ونصحه، وإن للمسلمين في رسول الله اسوة حسنة، قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَاليوم الآخر﴾ (1).

إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يستخلف أحداً لئلا يجرى ذلك في بيت واحد، فيكون إرثاً دون سائر المسلمين، ولئلا يكون دولة بين إلّاغنياء منكم، ولئلا يقول المستخلف إن هذا

ص: 499


1- سورة الأحزاب – الآية: 21

الأمر باق في عقبه من ولد إلى ولد إلى يوم القيامة، والذي يجب على المسلمين عند مضي خليفة من الخلفاء، أن يجتمع ذوو الرأي والصلاح منهم، فيتشاوروا في أمورهم، فمن رأوه مستحقاً له ولّوه أمورهم، وجعلوه القيّم عليهم، فإنّه لا يخفى على أهل كل زمان من يصلح منهم للخلافة، فإن ادعى مدع من النّاس جميعاً أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم استخلف رجلاً بعينه نصّبه للناس ونصَّ عليه باسمه ونسبه، فقد أبطل في قوله، وأتى بخلاف ما تعرفه أصحاب رسول الله، وخالف جماعة المسلمين إن ادعى مدع أن خلافة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إرث، وأن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يورّث فقد أحال في قوله؛ لأن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: نحنُ معاشرَ الأنبياء لا نورّث، ما تركناهُ صدقةٌ.

وإن ادعى مدع أن الخلافة لا تصلح إلّا لرجل واحد من بين النّاس جميعاً، وأنّها مقصورة فيه لا ينبغي لغيره؛ لأنّها تتلو النبوة فقد كذب؛ لأن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قال: أصحابيْ كالنجومِ بأيّهمْ اقتديتُمْ اهتديتمْ.

وإذا ادعى مدع أنه يستحق الخلافة والإمامة بقربه من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ثُمَّ هي مقصورة عليه وعلى عقبه، يرثها الولد منهم عن والده، ثُمَّ هي كذلك في كل عصر وزمان لا تصلح لغيرهم، ولا ينبغي أن تكون لأحد سواهم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فليس له ولا لولده وإن دنا من النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم نسبه؛ لأن الله يقول وقوله القاضي على كل أحد: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ (1)، وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إن ذمّةَ المسلمينَ واحدةٌ يسعىْ بها أدناهمْ، وكلّهمْ يدٌ واحد’ٌ على مَنْ سواهمْ، فمن آمن

ص: 500


1- سورة الحجرات – الآية: 13

بكتابِ اللهِ وأقرَّ بسنّةِ رسول اللهِ فقدْ استقامَ وأنابَ وأخذَ بالصوابِ، ومَنْ كرهَ ذلكَ منْ فعلهمْ فقدْ خالفَ الحقَّ والكتابَ وفارقَ جماعةَ المسلمينَ فاقتلوهُ، فإنّ قتلهِ صلاحُ الأمّة] وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: مَنْ جاءَ إلى أمّتي وهمْ جميعٌ ففرّقَ بينهمْ فاقتلوهُ، واقتلوا الفردَ كائناً ما كانَ، فإنَّ إلّاجتماعَ رحمةٌ والفرقةَ عذابٌ، ولا تجتمعْ أمّتيْ على ضلالٍ ابداً، وإنّ المسلمين يد واحدة على من سواهم، فإنه لا يخرج من جماعة إلّا مفارق معاند لهم مظاهر عليهم أعداءهم، فقد أباح الله ورسوله دمه وأحلّ قتله.

وكتبها سعيد بن العاص باتفاق ممن أثبت إسمه وشهادته آخر هذه الصحيفة في المحرّم سنة عشر من الهجرة، والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا النبيّ وآله.

ثُمَّ دفعت الصحيفة إلى أبي عبيدة بن الجراح فوجّه بها إلى مكّة، فلم تزل الصحيفة في الكعبة مدفونة إلى أن ولي الأمر عمر بن الخطّاب فاستخرجها من موضعها، وهي الصحيفة التي تمنّى أمير المؤمنين علیه السلام عليه، لما توفي عمر فوقف عليه وهو مسجّى بثوبه، فقال: ما أحبُّ أنْ ألقىْ اللهَ إلّا بِصحيفةِ هذا المسجّىْ.

ثُمَّ انصرفوا وصلّى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالنّاس صلاة الفجر، ثُمَّ جلس في مجلسه يذكر الله عزَّ وجلَّ حتّى طلعت الشمس، فالتفت إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقال: [ بخٍ بخٍ مَنْ مثلُكَ لقدْ أصبحتَ أمينَ هذهِ الأمّة، ثُمَّ تلا ﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ

ص: 501

لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ (1)، لقد اشبه هؤلاء رجال في هذه الأمّة ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ﴾ (2)].

ثُمَّ قال صلی الله علیه و آله و سلم: [لقدْ أصبحَ فيْ هذهِ الأمّة فيْ يوميْ هذا قومٌ ضاهوهمْ فيْ صحيفتِهمْ التيْ كتبوها علينا وعلّقوها فيْ الكعبةِ، وإنَّ اللهَ تعالىْ يعذّبُهم عذاباً ليبتَليَهمْ ويبتليَ مَنْ يأتيْ مِنْ بعدِهمْ تفرقةً بينَ الخبيثِ والطيّبِ، ولولاْ أنّهُ تعالىْ أمرَنيْ بِإلّاعراضِ عنهمْ للأمرِ الذيْ هوَ بالغُهُ لقدّمتُهم فضربتُ أعناقهمْ]).

قال حذيفة: فوالله لقد رأينا هؤلاء النفر عند ما سمعوا من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هذه المقالة ولقد أخذتهم الرعدة، فما يملك أحد من نفسه شيئاً، ولم يخف على أحد ممن حضر مجلس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ذلك اليوم أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إيّاهم عنى بقوله، ولهم ضرب تلك إلّامثال بما تلا من القرآن.

قال: ولما قدم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من سفره ذلك نزل منزل أم سلمة زوجته فأقام بها شهراً، لا ينزل منزلاً سواه من منازل أزواجه كما كان يفعل قبل ذلك، قال: فشكت عائشة وحفصة ذلك إلى أبويهما فقالا لهما: إنّا لا نعلم لم صنع ذلك؟ ولأيِّ شيء

ص: 502


1- سورة البقرة – الآية: 79
2- سورة النساء – الآية: 108

هو؟ إمضيا إليه فلاطفاه في الكلام، وخادعاه عن نفسه، فإنكما تجدانه حيياً كريماً، فلعلكما تسلّان ما في قلبه وتستخرجان سخيمته.

قال فمضت عائشة وحدها إليه، فأصابته في منزل أم سلمة، وعنده عليّ بن أبي طالب علیه السلام فقال لها النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [ما جاء بك يا حميراء؟] قالت: يا رسول الله أنكرت تخلفك عن منزلك هذه المدة، وأنا أعوذ بالله من سخطك يا رسول الله، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [لوْ كانَ الأمر كما تقولينَ لما أظهرتِ سرّاً أوصيتُك بكتمانهِ، لقدْ هلكتِ وأهلكتِ أمّةً من النّاس].

قال: ثُمَّ أمر خادمة أم سلمة رضی الله عنه فقال: [إجمعيْ ليْ هؤلاءِ] يعني نساءه، فجمعتهن له في منزل أم سلمة رضی الله عنه، فقال لهن: [إسمعنَّ ما أقولُ لكنَّ]، وأشار بيده إلى عليِّ بن أبي طالب علیه السلام فقال لهن: [هذاْ أخيْ ووصيِّ ووارثيْ، والقائمُ فيكنَّ وفي الأمّة منْ بعديْ، فأطعنهُ فيما يأمركنَّ، ولا تعصينَهُ فتهلكنَ بمعصيتهِ]، ثُمَّ قال: [يا عليُّ أوصيكَ بهنَّ، فأمسكهنّ ما أطعنَ اللهَ وأطعنَكَ، وأنفقْ عليهنَّ منْ مالكَ، وأمرهنَّ بأمركَ، وانههنَّ عمّا يُريبكَ، وخلِّ سبيلهنَّ إنْ عصينَكَ]، فقال عليُّ علیه السلام: {يا رسولَ اللهِ إنهنَّ نساءٌ، وفيهنَّ الوهنُ وضعفُ الرأي}، فقال: [إرفقْ بهنَّ ما كانَ الرفقُ بهنَّ أمثلَ، فمنْ عصاكَ منهنَّ فطلّقها طلاقاً يُبرأُ اللهَ ورسولَهُ منها].

قال: وكان نساء النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قد صمتنَ فلم يقلنَ شيئاً، وتكلمت عائشة فقالت: يا رسول الله ما كنّا لتأمرنا بالشيء فنخالفه الى ما سواه، فقال لها: [بلىْ يا حميراءُ قدْ خالفتِ أمريْ أشدّ الخلافِ، وأيمَ الله لتخالفينَ قوليْ هذاْ، ولتعصينهُ بعديْ،

ص: 503

ولتخرجينَ منَ البيتِ الذيْ أخلّفكِ فيهِ متبرجةً، قدْ حفَّ بكِ فئامٌ منَ النّاس، فتخالفيهِ ظالمةً عاصيةً لربِّك، ولينبحنّكَ فيْ طريقِكِ كلابً الحوأبِ، إلّا إنَّ ذلكَ كائنٌ]، ثُمَّ قال: قمْنَ فانصرفن إلى منازلكنَّ]؛ فقمنَ وانصرفنَّ.

قال: ثُمَّ إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جمع أولئك النفر ومن مالاًهم على عليٍّ علیه السلام وطابقهم على عداوته، ومن كان من الطلقاء والمنافقين، وكانوا زهاء أربعة آلاف رجل، فجعلهم تحت يد أُسامة بن زيد مولاه، وأمّره عليهم، وأمرهم بالخروج إلى ناحية من الشام، فقالوا: يا رسول الله إنّا قدمنا من سفرنا الذي كنا فيه معك، ونحن نسألك أن تأذن لنا في المقام؛ لنصلح من شأننا ما يصلحنا في سفرنا، قال: فأمرهم أن يكونوا في المدينة ريث إصلاح ما يحتاجون إليه.

وأمر أُسامة بن زيد فعسكر بهم على أميال من المدينة؛ فأقام بهم بمكانه الذي حدده له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم منتظراً القوم أن يوافوه إذا فرغوا من أمورهم وقضاء حوائجهم.

وإنّما أراد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بما صنع من ذلك أن تخلو المدينة منهم، ولا يبقى بها أحد من المنافقين، قال: فهم على ذلك من شأنهم، ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم دائب يحثهم ويأمرهم بالخروج والتعجيل إلى الوجه الذي ندبهم إليه، إذ مرض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مرضه الذي توفي فيه، فلمّا رأوا ذلك تباطؤا عمّا أمرهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من الخروج، فأمر قيس بن عبادة، وكان سيّاف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والحُبّاب بن المنذر في جماعة من الأنصار أن يرحلوا بهم إلى عسكرهم؛ فأخرجهم قيس بن سعد والحُبّاب بن المنذر حتّى ألقاهم بعسكرهم، وقالا لأُسامة: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يرخص لك في التخلف، فسرْ من وقتك

ص: 504

هذا؛ ليعلم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ذلك، فارتحل بهم أُسامة، وانصرف قيس والحُبّاب بن المنذر إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فاخبراه برحلة القوم، فقال صلی الله علیه و آله و سلم لهما: [إنَّ القومَ غيرُ سائرينَ منْ مكانِهمْ].

قال: وخلا أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بأُسامة وجماعة من أصحابه، فقالوا: إلى أين ننطلق ونخلّي المدينة أحوج ما كنّا إليها والى المقام بها؟ فقال لهم: وما ذلك؟ قالوا: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد نزل به الموت، والله لئن خلينا المدينة ليحدثن بها أمور لا يمكن إصلاحها، فننظر ما يكون من أمر رسول الله، ثُمَّ المسير بين أيدينا.

قال: فرجع القوم إلى المعسكر الأوّل فأقاموا به، وبعثوا رسولاً يتعرف لهم أمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فأتى الرسول عائشة فسألها عن ذلك سرّاً، فقالت: إمض إلى أبي بكر وعمر ومن معهما فقل لهما: إن رسول الله قد ثقل، فلا يبرحنَّ أحد منكم، وأنا أعلمكم بالخبر وقتاً بعد وقت.

واشتدت علة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فدعت عائشة صهيباً فقالت: إمض إلى أبي بكر وأعلمه أن محمّدا في حال لا يُرجى، فهلمَّ إلينا أنت وعمر وأبو عبيدة، ومن رأيتم أن يدخل معكم، وليكن دخولكم المدينة في الليل.

قال: فأتاهم الخبر فأخذوا بيد صهيب فأدخلوه على أُسامة بن زيد، فأخبره الخبر وقالوا له: كيف ينبغي لنا أن نتخلف عن مشاهدة رسول الله؟ واستأذنوه في الدخول

ص: 505

فأذن لهم في الدخول، وأمرهم أن لا يعلم بدخولهم أحد، فإن عوفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رجعتم إلى عسكركم، وإن حدث حادث الموت عرفونا ذلك؛ لنكون في جماعة النّاس.

فدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ليلاً المدينة، ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد ثقل.

قال: فأفاق بعض آلافاقة فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [لقدْ طرقَ ليلتَنا هذهِ المدينةَ شرٌّ عظيمٌ] فقيل له: وما هو يا رسول الله؟ فقال: [إنَّ الذينَ كانوا فيْ جيشِ أُسامة قدْ رجعَ منهمْ نفرٌ مخالفونَ لأمريْ، إلّا إنّيْ إلى اللهِ منهمْ برئٌ، ويحكمْ أنفذوا جيشَ أُسامة].

فلم يزل يقول ذلك حتّى قالها مرات كثيرة، قال: وكان بلال مؤذن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يؤذنه بالصلاة في كل وقت صلاة، فإن قدر على الخروج تحامل وخرج وصلّى بالنّاس، وإن هو لم يقدر على الخروج أمر عليَّ بن أبي طالب علیه السلام يصلّى بالنّاس.

وكان عليُّ بن أبي طالب علیه السلام والفضل بن العبّاس رضی الله عنه لا يزايلانه في مرضه ذلك، فلمّا أصبح رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من ليلته التي قدم فيها القوم الذين كانوا تحت يد أُسامة أذّن بلال، ثُمَّ أتاه يخبره كعادته فوجده قد ثقل، فمُنع من الدخول عليه، فأمرت عائشة صيهباً أن يمضي إلى أبيها فيعلمه أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد ثقل وليس يطيق النهوض إلى المسجد، وعليٌّ بن أبي طالب قد شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالنّاس، فاخرج أنت إلى المسجد فصلِّ بالنّاس، فإنّها حيلة تهنيك، وحُجّة لك بعد اليوم.

قال: فلم يشعر النّاس وهم في المسجد ينتظرون رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أو عليّاً علیه السلام يصلّي بهم كعادته التي عرفوها في مرضه، إذ دخل أبو بكر المسجد وقال: إن رسول الله

ص: 506

قد ثقل، وقد أمرني أن أصلّي بالنّاس، فقال له رجل من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: وأنّى لك ذلك وأنت في جيش أُسامة؟، ولا والله ما أعلم أحداً بعث إليك ولا أمرك بالصلاة.

ثُمَّ نادى النّاس بلالاً فقال: على رسلكم رحمكم الله لأستأذن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في ذلك، ثُمَّ أسرع حتّى أتى الباب فدقّه دقاً شديداً، فسمعه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: [ما هذاْ الدقُّ العنيفُ فانظرواْ ما هوَ] قال: فخرج الفضل بن العبّاس ففتح الباب، فإذا بلال، فقال: ما وراءك؟ فقال: إن أبا بكر دخل المسجد، وتقدم حتّى وقف في مقام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وزعم أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمره بذلك، فقال: أو ليس أبو بكر مع أُسامة في الجيش؟ هذا والله هو الشرّ العظيم الذي طرق البارحة المدينة، لقد أخبرنا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بذلك.

ودخل الفضل وأدخل بلال معه، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [ما وراءكَ يا بلالُ]، فأخبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الخبر، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [أقيمونيْ أقيمونيْ أخرجوني إلىْ المسجدِ، والذيْ نفسيْ بيدهِ قدْ نزلتْ بالإسلام نازلةٌ وفتنةٌ عظيمةٌ منَ الفتنِ]، ثُمَّ خرج معصوب الرأس يتهادى بين عليٍّ علیه السلام والفضل بن العبّاس، ورجلاه تجران في الأرض حتّى دخل المسجد، وأبو بكر قائم في مقام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وقد طاف به عمر وأبو عبيدة وسالم وصهيب والنفر الذين دخلوا معه، وأكثر النّاس قد وقفوا عن الصلاة، ينتظرون ما يأتي به بلال، فلمّا رأى النّاس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد دخل المسجد، وهو بتلك الحالة العظيمة من المرض أعظموا ذلك، وتقدم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فجذب أبا بكر من ورائه فنحّاه عن

ص: 507

المحراب، وأقبل أبو بكر والنفر الذين كانوا معه فتواروا خلف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأقبل النّاس فصلّوا خلف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو جالس، وبلال يُسمع النّاس التكبير حتّى قضى صلاته، ثُمَّ التفت فلم ير أبا بكر فقال: [أيّها النّاس إلّا تعجبونَ منْ ابنِ أبيْ قحافةَ وأصحابِهِ الذينَ أنفذتُهم وجعلتُهم تحتَ يدِ أُسامة، وأمرتُهم بالمسيرِ إلى الوجهِ الذيْ وُجّهوا إليه، فخالفواْ ذلكَ، ورجعواْ إلىْ المدينةِ ابتغاءَ الفتنةِ، إلّا وإنّ اللهَ قدْ أركسهمْ فيهاْ، عرّجوا بيْ إلىْ المنبرْ].

فقام وهو مربوط حتّى قعد على أدنى مرقاة، فحمد الله وأثنى عليه، ثُمَّ قال: [أيُّها النّاس إننيْ قدْ جاءنيْ منْ أمرِ ربّيْ ما النّاس صائرونَ إليه، وإنيْ قدْ تركتكمْ علىْ الحجّةِ الواضحةِ ليلُها كنهارِها، فلا تختلفواْ منْ بعديْ كماْ اختلفَ مَنْ كانَ قبلَكمْ مِنْ بنيْ إسرائيلَ .. أيّها النّاس إننيْ لا أحلُّ لكمْ إلّا ما أحلّهُ القرآنُ، ولا أحرّمُ عليكمْ إلّا ما حرّمهُ القرآنُ، وإنّي مُخلّفٌ فيكمْ الثَقَلَينِ ما إنْ تمسّكتُمْ بِهما لنْ تضلّوا ولنْ تضلّوا: كتابَ اللهِ، وعِترتيْ أهلَ بيتيْ، هما الخليفتانِ، وإنّهما لنْ يفترقا حتّى يردَا عليَّ الحوضَ، فأسألكمْ ماذاْ خلّفتمونيْ فيهما، وليذادنَّ يومئذٍ رجالٌ عنْ حوضيْ، كماْ تُذادُ الغريبةُ منَ الإبل، فيقولُ: أنا فلانٌ وأنا فلانٌ، فنقول: إمّا الإسماء فقد عرفت، ولكنّكم ارتددتمْ منْ بعديْ، فسُحقاً لكمْ سُحقاً].

ثُمَّ نزل عن المنبر، وعاد إلى حُجْرته، ولم يظهر أبو بكر وأصحابه حتّى قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكان من أمر الأنصار وسعد في السقيفة ما كان، فمنعوا أهل بيت نبيهم حقوقهم التي جعلها الله عزَّ وجلَّ.

ص: 508

وإمّا كتاب الله فمزقوه كل ممزق، وفيما أخبرتك يا أخا الأنصار من خطب معتبر لمن أحبّ الله هدايته، فقال الفتى: سمِّ لي القوم الآخرين الذين حضروا الصحيفة وشهدوا فيها، فقال حذيفة: هم أبو سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية بن خلف، وسعيد بن العاص، وعياش بن أبي ربيعة، وبشر بن سعيد، وسهيل بن عمر، وحكيم بن حزام، وصهيب بن سنان، وأبو الأعور السلمي، ومطيع بن الأسود المدوي، وجماعة من هؤلاء ممّن سقط عني إحصاء عددهم.

فقال الفتى: يا أبا عبد الله ما هؤلاء في أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتّى انقلب النّاس أجمعون بسببهم؟ فقال حذيفة: إن في هؤلاء رؤوس القبائل وأشرافها، وما من رجل من هؤلاء إلّا ومعه خلق عظيم يسمعون له ويطيعونه، وأُشربوا في قلوبهم من أبي بكر كما أشرب في قلوب بني إسرائيل من حب العجل والسامري، حتّى تركوا هارون واستضعفوه.

قال الفتى: فإنّي أقسم بالله حقاً حقاً أنّي لا أزال لهم مبغضاً، وإلى الله منهم ومن أفعالهم متبرءً، ولا زلت لأمير المؤمنين علیه السلام موالياً، ولأعدائه معادياً، ولألحقنَّ به، وإنّي لأؤمل أن أُرزق الشهادة معه وشيكاً، إن شاء الله.

ثُمَّ ودع حذيفة وقال هذا وجهي إلى أمير المؤمنين علیه السلام فخرج إلى المدينة، واستقبله أمير المؤمنين علیه السلام وقد شخص من المدينة يريد العراق فصار معه إلى البصرة، فلمّا التقى أمير المؤمنين علیه السلام مع أصحاب الجمل كان ذلك الفتى أوّل من قتل من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام، وذلك لما صفّ القوم واجتمعوا على الحرب أحبّ أمير

ص: 509

المؤمنين علیه السلام أن يستظهر عليهم بدعائهم إلى القرآن وحكمه فدعا؛ بمصحف وقال: {مَنْ يأخذْ هذا المصحفَ يعرضهُ عليهمْ ويدعوهمْ إلى ما فيهِ، فيحييْ ما أحياهُ ويميتُ ما أماتهُ؟}.

قال: وقد شرعت الرماح بين العسكرين، حتّى لو أراد أمرؤ أن يمشي عليها لمشى، قال: فقام الفتى فقال: يا أمير المؤمنين أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه، قال: فأعرض عنه أمير المؤمنين علیه السلام .

ثُمَّ نادى الثانية {مَنْ يأخذْ هذا المصحفَ يعرضهُ عليهمْ ويدعوهمْ إلى ما فيهِ؟}، فلم يقم إليه أحد، فقام الفتى فقال: يا أمير المؤمنين أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم الى ما فيه، قال: فأعرض عنه أمير المؤمنين علیه السلام .

ثُمَّ نادى الثالثة فلم يقم إليه أحد من النّاس إلّا الفتى، فقال: انا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه؛ فقال أمير المؤمنين علیه السلام: {إنّكَ إنْ فعلتَ فأنتَ مقتولٌ}، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شيء أحبّ إليَّ من أن أُرزق الشهادة بين يديك، وأن أقتل في طاعتك.

فأعطاه أمير المؤمنين علیه السلام المصحف فتوجه به نحو عسكرهم، فنظر إليه أمير المؤمنين علیه السلام وقال: {إنّ الفتى ممّنْ حشا اللهُ قلبَهَ نوراً وإيمَاناً، وهوَ مقتولٌ، ولقدْ أشفقتُ عليهِ، ولنْ يُفلحَ القومُ بعدَ قتلهمْ إيّاهُ}.

ص: 510

فمضى الفتى بالمصحف حتّى وقف بأزاء عسكر عائشة، وطلحة والزبير حينئذ عن يمين الهودج وشماله، وكان له صوت فنادى بأعلى صوته: معاشر النّاس هذا كتاب الله، وإن أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب علیه السلام يدعوكم إلى كتاب الله، والحكم بما أنزل الله فيه، فأنيبوا إلى طاعة الله والعمل بكتابه، قال: وكانت عائشة وطلحة والزبير يسمعون قوله فأمسكوا، فلمّا رأى ذلك أهل عسكرهم بادروا إلى الفتى والمصحف في يمينه فقطعوا يده اليمنى، فتناول المصحف بيده اليسرى وناداهم بأعلى صوته مثل ندائه أوّل مرة، فبادروا إليه فقطعوا يده اليسرى، فتناول المصحف واحتضنه ودماؤه تجري عليه، فناداهم مثل ذلك فشدّوا عليه فقتلوه، ووقع ميّتاً، فقطعوه إرباً إرباً، ولقد رأينا شحم بطنه أصفر.

قال: وأمير المؤمنين علیه السلام واقف يراهم فأقبل على أصحابه وقال: {إنّيْ واللهِ ما كنتُ في شكٍّ ولا لبسٍ منْ ضلالةِ القومِ وباطلهمْ، ولكنْ أحببتُ أنْ يتبينَ لكمْ جميعاً ذلكَ منْ بعدِ قتلهمْ الرجلَ الصالحَ حكيمَ بنَ جبلّةَ العبديْ فيْ رجالٍ صالحينَ معهُ، ووثوبهمْ بهذا الفتىْ وهوَ يدعوهمْ إلى كتابِ اللهِ والحكمِ والعملِ بموجبهِ، فثاروا عليهِ فقتلوهُ، لا يرتابُ بقتلهمْ إيّاهُ مسلمٌ}.

ووقعت الحرب واشتدت فقال أمير المؤمنين علیه السلام: {إحمِلوا عليهمْ بسمِ اللهِ حمْ لاْ يُنْصَرونَ}، وحمل علیه السلام هو بنفسه، والحسنان علیهما السلام وأصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم معه، فغاص في القوم بنفسه، فوالله ما كانت إلّا ساعة من نهار حتّى رأينا القوم شلايا، يميناً وشمالاً صرعى تحت سنابك الخيل.

ص: 511

ورجع أمير المؤمنين علیه السلام مؤيداً منصوراً فتح الله عليه ومنحه أكنافهم، فأمر بذلك الفتى وجميع من قتل معه فلفوا في ثيابهم بدمائهم، لم تنزع عنهم ثيابهم، وصلّى عليهم ودفنهم.

وأمرهم أن لا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا لهم مدبراً، وأمر بما حوى العسكر فجُمع له، فقسمه بين أصحابه، وأمر محمّداً بن أبي بكر أن يدخل أخته إلى البصرة فتقيم بها أياماً، ثُمَّ يرحلها إلى منزلها بالمدينة.

قال عبد الله بن مسلمة: كنت ممن شهد حرب الجمل، فلمّا وضعت الحرب أوزارها رأيت أمَّ ذلك الفتى واقفة عليه، فجعلت تبكي وتقبله، ثُمَّ أنشأت تقول:

يا ربِّ إنَّ مسلماً أتاهمْ *** يتلوْ كتابَ اللهِ لاْ يخشاهمْ

يأمرهمْ بالأمر منْ مولاهمْ *** فخضّبوا منْ دمِهِ قَناهمْ

وأُمُّهمْ قائمةٌ تراهمْ *** تأمرهمْ بالبغيْ لا تنهاهُمْ

ص: 512

خُزيمة بن ثابت ذو الشهادتين

خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الخطمي الأنصاري، ذو الشهادتين، يكنى أبا عمارة، وإنّما قيل له: ذو الشهادتين؛ لأن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جعل شهادته كشهادة رجلين.

قال الزمخشري في ربيع الأبرار: روى أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم استقضاه يهودي ديناراً فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [أوّلمْ أقْضِكَ ؟!]، فطلب البينة فقال لأصحابه: [أيُّكمْ يشهدً ليْ؟] فقال خزيمة: أنا يا رسول الله، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [وكيفَ تشهدُ بذلكَ ولمْ تحضرهُ ولمْ تعلمهُ ؟ ]، قال: يا رسول الله نحن نصدقك على الوحي من السماء، فكيف لا نصدقك على أنك قضيته! فأنفذ شهادته، وسمّاه بذلك؛ لأنّه صيّر شهادته شهادتي رجلين.

وروى إبن الجوزي في كتاب (الأذكياء) قال: أخبرنا ابن الحسين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: أخبرنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: حدّثنا عمارة بن خزيمة الأنصاري، أن عمّه حدّثه أن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ابتاع فرساً من أعرابي، فاستتبعه النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم ليقضيه ثُمَّن فرسه، فأسرع النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يتعرضون للأعرابي، فيساومون في الفرس الذي ابتاعه النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم حتّى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثُمَّن الفرس الذي ابتاعه النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، فنادى الأعرابي النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فقال: إنّي كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه وإلّا بعته، فقال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [قدْ ابتعتُهُ منكَ] قال: لا، فطفق النّاس يلوذون بالنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم والأعرابي وهما يتراجعان، فطفق

ص: 513

الأعرابي يقول: هلمّ شاهداً يشهد أنّي قد بايعتك، فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلكَ إنّ النبيّ لم يكن ليقول إلّا حقاً، حتّى جاء خزيمة، فاستمع لمراجعة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ومراجعة الأعرابي، فطفق الأعرابي يقول: هلمّ شاهداً يشهد أنّي قد بايعتك، فقال خزيمة: أنا أشهد أنّك قد بايعته، فأقبل النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم على خزيمة فقال: [بِمَ تشهدُ؟]، فقال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.

وكان خزيمة من كبار الصحابة، شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وكانت راية بني خطمة بيده يوم الفتح.

قال الفضل بن شاذان: إنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام، وكان خزيمة ممن أنكر على أبي بكر تقدمه على عليٍّ علیه السلام .

وروي عن الصادق علیه السلام أنّه قام ذلك اليوم فقال: أيّها النّاس ألستم تعلمون أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قبل شهادتي ولم يرد معي غيري؟، قالوا: بلى، قال: فاشهدوا أنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [أهلُ بيتيْ يفرّقونَ بينَ الحقِّ والباطلِ، وهمْ الأئمّة الذينَ يُقتدىْ بهمْ]، وقد قلت ما علمت وما على الرسول إلّا البلاغ.

وعن الأسود بن زيد النخعي قال: لما بويع عليّ بن أبي طالب علیه السلام على منبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال خزيمة بن ثابت الأنصاري وهو واقف بين يدي المنبر هذه الأبيات:

إذا نحن بايعنا عليّاً فحسبنا *** أبو حسن ممّا نخاف من الفتنْ

وجدناه أولى النّاس بالنّاس إنّه *** أطبّ قريشٍ بالكتاب وبالسننْ

ص: 514

فإن قريشاً ما تشقّ غباره *** إذا ما جرى يوماً على الضُمّر البدنْ

وفيه الذي فيهم من الخير كلّه *** وما فيهم مثل الذي فيه من حسنْ

وصيّ رسول الله من دون أهله *** وفارسه قد كان في سالف الزمنْ

وأوّل من صلّى من النّاس كلهم *** سوى خيرة النسوان والله ذو مننْ

وصاحب كبش القوم في كل وقعة *** يكون له نفس الشجاع لذى الذقنْ

فذاك الذي تثنى الخناصر باسمه *** إمامهم حتّى أغيب في الكفنْ

ومن شعر خزيمة قوله في يوم الجمل لعائشة:

أعائش خلّي عن عليٍّ وعيبه *** بما ليس فيه إنّما أنت والدهْ

وصيُّ رسول الله من دون أهله *** وأنت على ما كان من ذاك شاهده

وحسبك منه بعض ما تعلمينه *** ويكفيك لو لم تعلمي غير واحده

إذا قيل ماذا عبت منه رميته *** بخذل ابن عفّان وما تلك آيده

وليس سماء الله قاطرة دماً *** لذاك وما أرض الفضاء بمائده

وقوله أيضاً في ذلك اليوم:

ليس بين الأنصار في حومة الحرب وبين العداة إلّا الطعانُ

ص: 515

وقراع الكماة بالقضب البيض إذا ما تحطم المرانُ

فادعها تستجب فليس من الخزرج والأوس يا عليُّ جبان

يا وصي النبيّ قد أجلت الحرب إلّاعادي وسارت إلّاظعان

واستقامت لك الأمور سوى الشام وفي الشام تظهر إلّاضغان

حسبهم ما رأوا وحسبك منّا هكذا نحن حيث كنّا وكانوا

وقتل خزيمة بصِفّين مع أمير المؤمنين علیه السلام في الواقعة المعروفة بوقعة الخميس في الوقائع.

قال نصر بن مزاحم، بسنده عن إبراهيم النخعي قال: حدثني القعقاع بن إلّابرد الطهوي، قال: والله إنّي لواقف قريباً من عليٍّ علیه السلام بصِفّين يوم وقعة الخميس، وقد التقت مذحج وكانوا على ميمنة عليٍّ علیه السلام بعك ولخم وخذام وإلّاشعريين، وكانوا مستبصرين في قتال عليٍّ علیه السلام، فلقد والله رأيت ذلك اليوم من قتالهم، وسمعت من وقع السيوف على الرؤوس، وخبط الخيول بحوافرها في الأرض وفي القتلى، ما الجبال تهد ولا الصواعق تصعق بأعظم هؤلاء في الصدور من تلك إلّاصوات، ونظرت إلى عليٍّ علیه السلام وهو قائم فدنوت منه، فسمعته يقول: {لاْ حولَ ولا قوّةَ إلّا باللهِ، اللهمَّ إليك الشكوىْ وأنتَ المستعانُ}، ثُمَّ نهض علیه السلام حين قام قائم الظهيرة وهو يقول: {ربَّنا افتحْ بينَنَا وبينَ قومِناْ بالحقِّ وأنتَ خيرُ الفاتحينَ}، وحمل على النّاس بنفسه، وسيفه مجرّد بيده، فلا والله ما حجز بين النّاس ذلك اليوم إلّا ربّ

ص: 516

العالمين، في قريب من ثلث الليل الأوّل، وقتلت يومئذ أعلام العرب، وقتل في هذا اليوم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين.

وروى عن الفضل بن ذكين قال: حدّثنا عبد الجبار بن العبّاس الشامي، عن أبي إسحق قال: لما قُتل عمّار رضوان الله عليه دخل خزيمة بن ثابت فسطاطه وطرح عنه سلاحه، ثُمَّ شنَّ عليه الماء فاغتسل، ثُمَّ قاتل حتّى قتل.

وروى أبو معشر عن محمّد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: ما زال جدّي كافّاً سلاحه يوم الجمل ويوم صِفّين حتّى قتل عمّار، فلمّا قتل عمّار سلّ سيفه وقال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [تقتلهُ الفئةُ الباغيةُ]، فقاتل حتّى قتل رحمة الله عليهما.

قال نصر بن مزاحم: وقالت منيعة بنت خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ترثي أباها رحمه الله تعالى:

عين جودي على خزيمة بالدمع قتيل الأحزاب يوم الفرات ِ

قتلوا ذا الشهادتين عتوّاً أدرك الله منهم بالترات

قتلوه في فتية غير عزل يسرعون الركوب في الدعوات

نصروا السيد الموفق ذا العدل ودانوا بذاك حتّى الممات

لعن الله معشراً قتلوه ورماهم بالخزي وآلافات

ص: 517

قال عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني: ومن غريب ما وقفت عليه من العصبية القبيحة أن أبا حيّان التوحيدي قال في كتاب (البصائر): إن خزيمة بن ثابت المقتول مع عليٍّ بصِفّين ليس هو ذو الشهادتين، بل آخر من الأنصار صحابيٌّ إسمه خزيمة بن ثابت، وهذا خطأ لأن كتب الحديث والنسب تنطق بأنّه لم يكن في الصحابة من الأنصار ولا من غير الأنصار من إسمه خزيمة بن ثابت إلّا ذو الشهادتين، وإنّما الهوى لا دواء له.

على أن الطبري صاحب التاريخ قد سبق أبا حيّان بهذا القول، ومن كتابه نقل أبو حيّان، والكتب الموضوعة لأسماء الصحابة تشهد بخلاف ما ذكراه.

ثُمَّ أيّ حاجة لناصري أمير المؤمنين علیه السلام أن يتكثروا بخزيمة وأبي الهيثُم وعمّار وغيرهم ؟!.

لو أنصف النّاس هذا ورأوه بالعين الصحيحة، لعلموا أنّه لو كان وحده وحاربه النّاس كلّهم أجمعون، لكان على الحق، وكانوا على الباطل.

وكانت وقعة صِفّين في سنة سبع وثلاثين للهجرة.

والخطمي بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء المهملة وفى آخرها ميم، نسبة إلى بطن من الأنصار، وهم بنو خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس بن حارثة، ينسب إليهم جماعة من الصحابة.

ص: 518

أبو أيّوب الأنصاري

أبو أيّوب خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، وهو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج الأنصاري الخزرجي من بني النجار.

كان من كبار الصحابة شهد العقبة وبدراً وسائر المشاهد، وكان سيداً معظماً من سادات الأنصار، وهو صاحب منزل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، نزل عنده لما خرج من بني عمرو بن عوف حين قدم المدينة مهاجراً من مكّة، فلم يزل عنده حتّى بنى مسجده ومساكنه ثُمَّ انتقل إليها.

وروى إبن شهر آشوب في المناقب مرفوعاً عن سلمان رضی الله عنه قال: لما قدم النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم إلى المدينة تعلّق النّاس بزمام الناقة، فقال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [يا قومُ دَعُوا الناقةَ فهيَ مأمورةٌ، فعلىْ بابِ مَنْ بركتْ فأناْ عندَهُ]؛ فأطلقوا زمامها، وهي تهفّ في السير حتّى دخلت المدينة، فبركت على باب أبي أيوب الأنصاري، ولم يكن في المدينة أفقر منه، فانقطعت قلوب النّاس حسرة على مفارقة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، فنادى أبو أيّوب: يا إمّاه إفتحي الباب، فقد قدم سيّدُ البشر، وأكرمُ ربيعة ومضر، محمّدٌ المصطفى والرسول المجتبى؛ فخرجت وفتحت الباب، وكانت عمياء، فقالت: واحسرتاه ليت كان لي عين أبصر بها إلى وجه سيدي رسول الله، فكان أوّل معجزة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بالمدينة أنّه وضع كفّه على وجه أمّ أبي أيوب؛ فانفتحت عيناها.

ص: 519

قال الذهبي: وفد أبو أيّوب على ابن عبّاس بالبصرة، فقال: إنّي أخرج عن مسكني لك، كما خرجت عن مسكنك لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فأعطاه ذلك وعشرين ألف درهماً وأربعين عبداً.

وكان أبو أيّوب من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام، وأنكر على أبي بكر تقدمه على عليٍّ علیه السلام .

وروي عن الصادق علیه السلام أنّه قام في ذلك اليوم فقال: إتقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيكم، وأوردوا إليهم حقهم الذي جعله الله لهم، فقد سمعتم - مثل سمع إخواننا - في مقام بعد مقام، لنبينا صلی الله علیه و آله و سلم، ومجلس بعد مجلس، يقول: [أهلُ بيتيْ أئمتُكمْ بعديْ]، ويومئ إلى عليٍّ علیه السلام ويقول: [هذاْ أميرُ البررةِ وقاتلُ الكفرةِ، مخذولٌ مَنْ خذلهُ منصورٌ مَنْ نصرَهُ]، فتوبوا إلى الله من ظلمكم، إن الله تواب رحيم، ولا تتولوا عنه مدبرين، ولا تتولوا عنه معرضين.

قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب (الإستيعاب): إنّ أبا أيّوب شهد مع عليٍّ علیه السلام مشاهده كلّها.

وروي ذلك عن الكلبي وابن إسحق قالا: شهد معه يوم الجمل وصِفّين، وكان على مقدمته يوم النهروان.

وقال إبراهيم بن ديزيل في كتاب (صِفّين): حدّثنا يحيى بن سليمان قال: حدّثنا ابن فضيل قال: حدّثنا الحسن بن الحكم النخعي، عن رباح بن الحرث النخعي قال: كنت

ص: 520

جالساً عند عليٍّ علیه السلام إذ قدم قوم متلثمون فقالوا: السلام عليك يا مولانا، فقال: {أوَ لستمْ قوماً عرباً؟}، قالوا: بلى، ولكنّا سمعنا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول يوم غدير خم: [مَنْ كُنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ، اللهمَّ والِ مَنْ وإلّاهُ، وعادِ مَنْ عاداهُ، وانصرْ مَنْ نصرَهُ، واخذلْ مَنْ خَذَلَهُ].

قال: فلقد رأيت عليّاً علیه السلام ضحك حتّى بدت نواجده، ثُمَّ قال: اشهدوا، ثُمَّ إن القوم مضوا إلى رحالهم فتبعتهم، فقلت لرجل منهم: من القوم؟ قال: نحن رهط من الأنصار وذاك - يعنون رجلاً منهم - أبو أيّوب الأنصاري صاحب منزل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال فأتيته فصافحته.

وروي هذا الخبر بعبارة اخرى عن رياح بن الحرث المذكور قال: كنت في الرحبة مع أمير المؤمنين علیه السلام إذ أقبل ركب يسيرون حتّى أناخوا بالرحبة، ثُمَّ اقبلوا يمشون حتّى أتوا عليّاً علیه السلام فقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، قال: من القوم؟ قالوا: موإليك يا أمير المؤمنين، قال: فنظرت إليه وهو يضحك ويقول: من أين وأنتم قوم عرب؟ قالوا سمعنا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم غدير خم وهو آخذ بعضدك يقول: [أيُّها النّاس أَلستُ أولى بالمؤمنينَ مِنْ أنفسهمْ؟] قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: [إنَّ اللهَ مولايَ، وأناْ مولىْ المؤمنينَ، وعليٌّ مولىْ مَنْ كنتُ مولاهُ، اللهمَّ والِ مَنْ وإلّاهُ، وعادِ مَنْ عاداهُ].

فقال علیه السلام: {أنتم تقولون ذلك؟}، قالوا: نعم، قال علیه السلام: {وتشهدون عليه؟}، قالوا: نعم، قال علیه السلام: {صدقتم}.

ص: 521

فانطلق القوم وتبعتهم، فقلت لرجل منهم: من أنتم يا عبد الله؟ قال: نحن رهط من الأنصار، وهذا أبو أيّوب صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فأخذت بيده فسلمت عليه وصافحته.

وروى إبن ديزيل في كتاب (صِفّين) أيضاً، عن يحيى بن سليمان، عن إبراهيم الهجري، عن أبي صادق قال: قدم علينا أبو أيّوب الأنصاري العراق، فأهدت له إلّازد جزوراً فبعثوها معي، فدخلت إليه وسلمت عليه وقلت له: يا أبا أيّوب قد كرّمك الله بصحبة نبيه صلی الله علیه و آله و سلم ونزوله عليك، فما لي أراك تستقبل النّاس بسيفك، تقاتل هؤلاء مرة وهؤلاء مرة، قال: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عهد إلينا أن نقاتل مع عليٍّ علیه السلام الناكثين فقد قاتلناهم، وعهد إلينا أن نقاتل معه القاسطين فهذا وجهنا إليهم، يعني معاوية وأصحابه، وعهد إلينا أن نقاتل معه المارقين ولم أرهم بعد.

وروى أبو بكر محمّد بن الحسن الاجري، تلميذ أبي بكر بن داود السجستاني في الجزء الثاني من كتاب (الشريعة)، بإسناده أن علقمة بن قيس والأسود بن يزيد قالا: أتينا أبا أيّوب الأنصاري فقلنا: إن الله تعالى اكرمك بمحمّد صلی الله علیه و آله و سلم إذ أوحى إلى راحلته فبركت على بابك، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ضيفك فضيلة فضلك الله بها، ثُمَّ خرجت تقاتل مع عليّ بن أبي طالب، فقال: مرحباً بكما وأهلاً، وإنني أقسم لكما بالله، لقد كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في هذا البيت الذي أنتما فيه، وما في البيت غير رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وعليّ علیه السلام جالس عن يمينه، وأنا قائم بين يديه وأنس، إذ حرّك الباب فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [يا أنسُ انظر منْ بالبابِ]، فخرج فنظر ورجع فقال: هذا عمّار بن ياسر، قال أبو أيّوب: فسمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [يا أنسُ افتحْ لعمّارَ الطيبِ ابنِ

ص: 522

الطيّبِ]؛ ففتح الباب فدخل عمّار، فسلم على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فردّ عليه السلام ورحّب به، وقال: [يا عمّارُ سيكونُ فيْ أمّتيْ بعديْ هناةٌ واختلافٌ، حتّى يختلفَ السيفُ بينهمْ، حتّى يقتلَ بعضُهم بعضاً، ويتبرأَ بعضُهم منْ بعضٍ، فإنْ رأيتَ ذلكَ فعليكَ بهذاْ الذيْ عنْ يمينيْ]، يعني عليّاً علیه السلام، [وإنْ سلكَ النّاس كلُّهمْ وادياً، فاسلكْ واديْ عليٍّ وخلِّ النّاس طرّاً، يا عمّارُ إنّ عليّاً لا يزلُّ عنْ هدى، يا عمّارُ إنَّ طاعةَ عليٍّ منْ طاعتيْ، وطاعتيْ منْ طاعةِ اللهِ تعالىْ ].

وروى الخطيب في (تاريخه) أن علقمة والأسود أتيا أبا أيّوب الأنصاري عند منصرفه من صِفّين فقالا له: يا أبا أيّوب إن الله أكرمك بنزول محمّد صلی الله علیه و آله و سلم وبمجيء ناقته تفضلاً من الله تعالى وإكراماً لك، حتّى أناخت ببابك دون النّاس جميعاً، ثُمَّ جئت بسيفك على عاتقك تضرب أهل لا إله إلّا الله، فقال: يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله، إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمرنا بقتال ثلاثة مع عليٍّ علیه السلام، بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، فإمّا الناكثون فقد قاتلناهم وهم أهل الجمل طلحة والزبير، وإمّا القاسطون فهذا منصرفنا عنهم، يعني معاوية وعمرو بن العاص، وإمّا المارقون فهم أهل الطرفاوات وأهل السعيفات وأهل النخيلات وأهل النهروانات، والله ما أدرى أين هم، ولكن لابدّ من قتالهم، إن شاء الله تعالى .

ثُمَّ قال: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول لعمّار: [تقتُلكَ الفئةُ الباغيةُ، وأنتَ إذْ ذاكَ علىْ الحقِّ، والحقُّ معكَ، يا عمّارُ إنْ رأيتَ عليّاً سلكَ وادياً، وسلكَ النّاس كلّهمْ وادياً، فاسلكْ معَ عليٍّ، فإنّهُ لنْ يُرديكَ في ردى، ولنْ يخرجكَ منْ هدىْ، يا عمّارُ منْ تقلّدَ

ص: 523

سيفاً أعانَ بهِ عليّاً قلّدهُ اللهُ يومَ القيامةِ وِشاحينِ منْ درٍّ، ومنْ تقلّدَ سيفاً أعانَ بهِ عدوَّ عليٍّ قلّدهُ اللهُ وشاحينِ من النّارِ]، قلنا: يا هذا حسبك رحمك الله، حسبك رحمك الله.

وروى نصر بن مزاحم في كتاب (صِفّين) قال: حدّثنا عمرو بن سعد عن الأعمش قال: كتب معاوية إلى أبي أيوب الأنصاري، وكان من شيعة عليٍّ علیه السلام كتاباً، وكتب إلى زياد بن سُميَّة، وكان عاملاً لعليٍّ علیه السلام على بعض فارس كتاباً ثانياً، فإمّا كتابه إلى أبي أيوب الأنصاري فكان سطراً واحداً: حاجيتك لا تنسى الشيباء أبا عذرها ولا قاتل بكرها، فلم يدر أبو أيّوب ما هو، قال: فأتى به عليّاً علیه السلام فقال: يا أمير المؤمنين إن معاوية كهف المنافقين كتب إليَّ بكتاب لا أدري ما هو؟ قال عليٌّ علیه السلام: فأين الكتاب؟ فدفعه إليه فقرأه، قال: نعم، هذا مثل ضربه لك، يقول: ما الشيء الذي لا ينسى الشيباء أبا عذرها، والشيباء المرأة البكر ليلة افتضاضها، لا تنسى بعلها الذي افترعها أبداً، ولا تنسى قاتل بكرها، وهو أوّل ولدها، كذلك لا أنسى أنا قتل عثمان.

وإمّا الكتاب الذي كتبه الى زياد، فإنه كان وعيداً وتهديداً فقال زياد: ويلي على معاوية كهف المنافقين وبقية الأحزاب يهددني ويتوعدني، وبيني وبينه ابن عمّ محمّد صلی الله علیه و آله و سلم معه سبعون ألفاً، سيوفهم على عواتقهم، يطيعونه في جميع ما يأمرهم به، لا يلتفت رجل منهم وراءه حتّى يموت، أما والله لئن ظفر ثُمَّ خلص إليَّ ليجدني أحمر ضراباً بالسيف.

قال نصر بن مزاحم: أحمر أي مولى، فلمّا ادعاه معاوية عاد عربياً منافياً.

ص: 524

قال نصر: وروى عمر بن شمر أن معاوية كتب في أسفل كتابه إلى أبي أيوب الأنصاري:

ابلغ لديك أبا أيّوب مألكة *** أنّا وقومك مثل الذئب والنقدِ

إمّا قتلتم أمير المؤمنين فلا *** ترجو الهوادة منّا آخر إلّابد

إن الذي نلتموه ظالمين له *** أبقت حزازته صدعاً على كبدي

إنّي حلفت يميناً غير كاذبة *** لقد قتلتم إماماً غير ذي إود

لا تحسبوا أنني أنسى مصائبه *** وفى البلاد من الأنصار من أحد

في أبيات اخر، فلمّا قرأ الكتاب عليٌّ علیه السلام قال: {لشدّ ما شحذكم معاوية يا معشر الأنصار أجيبوا الرجل}، فقال أبو أيّوب: يا أمير المؤمنين إنّي ما أشاء أن أقول شيئاً من الشعر تعبي به الرجال إلّا قلته، قال علیه السلام: {فأنت إذا أنت}، فكتب أبو أيّوب إلى معاوية: (إمّا بعد فإنك كتبت لا تنسى الشيباء أبا عذرها ولا قاتل بكرها، فضربتها مثلاً لقتل عثمان، وما نحن وما قتل عثمان، إنّ الذي تربص بعثمان وثبط يزيد بن أسد وأهل الشام عن نصرته لأنت، وإن الذين قتلوه لغير الأنصار وكتب في آخر كتابه:

لا توعدنا ابن حرب إنّنا نفر *** لا نبتغى ود ذي البغضاء من أحد

فاسعوا جميعاً بنو الأحزاب كلكم *** لسنا نريد رخاكم آخر إلّابد

ص: 525

نحن الذين ضربنا النّاس كلهم *** حتّى استقاموا وكانوا بيذني إلّاود ِ

فالعام قصرك منّا إن ثبت لنا *** ضرب يزايل بين الرأس والجسد

إمّا عليٌّ فإنّا لا نفارقه *** ما رقرق إلّال في الدواية الجرد

إمّا تبدلت منا بعد نصرتنا *** دين الرسول أناسا ساكنى الجند

لا يعرفون أضلّ الله سعيهم *** إلّا اتباعكم يا راعي النفد

فقد بغى الحق هضماً شر ذي كلع *** وإليَّحصبيون طراً بيضة البلد

قال: فلمّا أتى معاوية كتاب أبي أيوب كسره.

وأخرج الكشّي بإسناده عن محمّد بن سليمان قال: قدم علينا أبو أيّوب الأنصاري، فنزل ضيعتنا يعلف خيلاً له، فأتيناه فأهدينا له، قال: فقعدنا عنده فقلنا: يا أبا أيّوب قاتلت المشركين بسيفك هذا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثُمَّ جئت تقاتل المسلمين! فقال: إن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أمرني بقتال القاسطين والمارقين والناكثين، فقد قاتلت الناكثين وقاتلت القاسطين، وإنّا نقاتل إن شاء الله بالسعفات بالطرافات بالنهر وانات، وما أدري أنّى هي.

قال المؤلف ثُمَّ شهد أبو أيّوب رحمه الله وقعة النهروان مع أمير المؤمنين علیه السلام، وهو على مقدمته، فقاتل المارقين أيضاً كما أمره النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بذلك.

ص: 526

ولما أخرج معاوية يزيد على الصائفة وهي غزوة الروم - وإنّما سميت الصائفة لأنهم يغزون صيفاً لمكان البرد والثلج - خرج معه أبو أيّوب الأنصاري رغبة في جهاد المشركين فمرض في أثناء الطريق، ولما صاروا على الخليج ثقل أبو أيّوب فأتاه يزيد عائداً وقال له: ما حاجتك يا أبا أيّوب؟ فقال: أمّا دنياكم فلا حاجة لي فيها، ولكن إذا متُّ فقدموني ما استطعتم في بلاد العدو، فإنّي سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [يُدفنُ عندَ سورِ القسطنطينةِ رجلٌ صالحٌ منْ أصحابيْ]، وقد رجوت أن أكونه.

ثُمَّ مات فجهزوه وحملوه على سرير، فكانوا يجاهدون والسرير يحمل ويقدم، فجعل قيصر يرى سريراً يُحمل والنّاس يقتتلون، فأرسل إليهم ما هذا الذي أرى؟ قالوا: صاحب نبيّنا، وقد سألنا أن ندفنه في بلادك، ونحن منفذون وصيته، فأرسل إليهم العجب كل العجب من عقولكم، تعمدون إلى صاحب نبيكم فتدفنونه في بلادنا، فإذا ولّيتم أخرجناه إلى الكلاب، فقالوا: إنّا والله ما أردنا أن نودعه بلادكم حتّى نودع كلامنا آذانكم، فإنّا كافرون بالذي أكرمناه هذا له، لئن بلغنا أنّه نبش من قبره أو عبث به، إن تركنا بأرض العرب نصرانياً إلّا قتلناه ولا كنيسة إلّا هدمناها، فكتب إليهم قيصر أنتم كنتم أعلم منّا، فو حقِّ المسيح لأحفظنه بيدي سنة، ثُمَّ دفنوه عند سور القسطنطينة، فبني عليه قبة يسرج فيها إلى اليوم.

وأختلف المؤرخون في السنة التي كانت بها هذه الغزاة ومات فيها أبو أيّوب، فقال المسعودي في مروج الذهب: كانت سنة خمس وأربعين، وقال غيره: كانت سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: اثنين وخمسين، والله أعلم.

ص: 527

وسئل الفضل بن شاذان عن أبي أيوب وقتاله مع معاوية المشركين، فقال: كان ذلك منه قلة فقه وغفلة، ظنّ أنّه إنّما يعمل عملاً لنفسه يقوى به الإسلام ويوهي (1) به الشرك، وليس عليه من معاوية متى كان معه أوّلم يكن، والله أعلم.

ص: 528


1- في نسخة:ويوهن

أبو الهيثم مالك بن التيهان

بفتح التاء المثناة من فوق، وبعدها ياء مكسورة مشدّدة مثناة من تحت، ثُمَّ هاء، وبعد الألف نون، إبن أبي عبيد بن عمرو بن عبد إلّاعلم بن عامر البلوي ثُمَّ الأنصاري، حليف بني عبد إلّاشهل.

وقالت طائفة من أهل العلم: إنّه من الأنصار من أنفسهم من الأوس، هو مشهور بكنيته.

كان أحد النقباء ليلة العقبة، شهد بيعة العقبة الأولى والثانية، وكان أحد التسعة الذين لقوا قبل ذلك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالعقبة، وهو أوّل من بايع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ليلة العقبة، فيما يزعم بنو عبد إلّاشهل.

وأمّا بنو النجار فيزعمون أن أوّل من بايع ليلة العقبة أسعد بن زرارة، وزعم بنو سلمة أنّه كعب بن مالك، وزعم غيرهم أن أوّل من بايع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم البراء بن معرور، والله أعلم.

وشهد أبو الهيثم بدراً وأُحداً والمشاهد كلّها.

روى الطوسي في (أماليه) عن زيد بن أرقم في خبر طويل أن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أصبح طاوياً فأتى فاطمة علیها السلام فرأى الحسن والحسين علیهما السلام يبكيان من الجوع، فجعل يزقّهما بريقه حتّى شبعا وناما، فذهب مع عليٍّ علیه السلام إلى دار أبي الهيثم، فقال: مرحباً برسول الله،

ص: 529

ما كنت أحبُّ أن تأتيني وأصحابك إلّا وعندي شيء، وكان لي شيء ففرقته في الجيران، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [أوصانيَ جبرئيلُ علیه السلام بالجارِ حتّى حسبتُ أنّهُ سيورّثُهُ].

قال: فنظر النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم إلى نخلة في جانب الدار، فقال: [يا أبا الهيثم تأذنُ في هذه النخلةِ؟] فقال: يا رسول الله إنه لفحل، وما حمل شيئاً قط، شأنك به، فقال: [يا عليُّ آتينيْ بقدحِ ماءٍ] فشرب منه، ثُمَّ مجّ فيه، ثُمَّ رشَّ على النخلة؛ فتملّت أعذاقاً من بسرٍ ورطب ما شئنا، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [إبدؤا بالجيرانِ] فأكلنا وشربنا ماءاً بارداً، حتّى شبعنا وروينا، فقال: [يا عليُّ هذاْ منَ النعيمِ الذيْ يُسألونَ عنهُ يومَ القيامةِ، يا عليُّ تزودْ لمنْ وراءكَ، لفاطمةَ والحسنِ والحسينِ].

قال: فما زالت تلك النخلة عندنا نسمّيها نخلة الجيران، حتّى قطعها يزيد عام الحرّة.

قال الفضل بن شاذان: إن أبا الهيثم من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام، وأنكر تقدم أبي بكر عليه.

روي عن الصادق علیه السلام أنّه قام ذلك اليوم فقال: أنا اشهد على نبينا صلی الله علیه و آله و سلم أنّه أقام عليّاً علیه السلام - يعنى في يوم غدير خم - فقالت الأنصار: ما أقامه للخلافة، وقال بعضهم: ما أقامه إلّا ليعلم النّاس أنّه مولى من كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مولاه، وكثر الخوض في ذلك، فبعثنا رجالاً منّا إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فسألوه عن ذلك فقال: [قولوا لهم عليٌّ وليُّ المؤمنينَ بعديْ، وأنصحُ النّاس لأمّتيْ، وقدْ شهدتُ بما حضرنيْ، فمنْ شاءَ فليؤمنْ، ومنْ شاءَ فليكفرْ، إن يومَ الفصلِ كانَ ميقاتاً].

ص: 530

وشهد أبو الهيثم مع أمير المؤمنين علیه السلام وقعة الجمل وصِفّين، فمن شعره يوم الجمل:

قل للزبير وقل لطلحة إنّنا *** نحن الذين شعارنا الأنصار ُ

نحن الذين رأت قريش فعلنا *** يوم القليب أولئك الكفار

كنّا شعار نبينا ودثاره *** تفديه منّا الروح والأبصار

إن الوصيّ إمامنا وولينا *** برح الخفاء وباحت الأسرار

وروى نصر بن مزاحم في كتاب (صِفّين) قال: أقبل أبو الهيثم بن التيهان، وكان من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بدرياً تقيّاً عفيفاً يسوّي صفوف أهل العراق ويقول: يا معشر أهل العراق إنّه ليس بينكم وبين الفتح في العاجل، والجنّة في الأجل إلّا ساعة من النهار، فارسوا أقدامكم وسوّوا صفوفكم، وأعيروا ربّكم جماجمكم، واستعينوا بالله إلهكم، وجاهدوا عدوّ الله وعدوّكم، واقتلوهم قتلهم الله وأبادهم، واصبروا فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.

قال أبو عمر ابن عبد البر في كتاب (الإستيعاب): اختلف في وقت وفاة أبي الهيثم بن التيهان، فذكر خليفة عن الأصمعي قال: سألت قومه فقالوا: في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قال أبو عمر: وهذا القول لم يتابع عليه قائله، وقيل: أنّه توفي في خلافة عمر سنة عشرين أو إحدى وعشرين، وقيل: بل قتل مع عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام بصِفّين

ص: 531

سنة سبع وثلاثين، وهو الأكثر، وقيل: أنّه شهد صِفّين مع عليٍّ علیه السلام، ومات بعده بيسير.

ثُمَّ قال أبو عمر: حدّثنا خلف بن قاسم قال: حدّثنا الحسن بن رشيق قال: حدّثنا الدولابي قال: حدّثنا أبو بكر الوجيهي عن أبيه، عن صالح بن الوجيه قال: وممّن قتل بصِفّين عمّار، وأبو الهيثم بن التيهان، وعبد الله بن بُديل، وجماعة من البدريين رحمهم الله.

ثُمَّ روى أبو عمر رواية أخرى فقال: حدّثنا أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن عبد المؤمن قال: حدّثنا عثمان بن أحمد بن السماك، قال: حدّثنا حنبل بن إسحق بن علي قال: قال أبو نعيم: أبو الهيثم بن التيهان، إسمه مالك، وإسم التيهان عمرو بن الحارث، أصيب أبو الهيثم مع عليٍّ علیه السلام يوم صِفّين.

قال أبو عمر: هذا قول أبي نعيم وغيره.

قال إبن أبي الحديد في شرح النهج: وهذه الرواية أصحّ من قول إبن قتيبة في كتاب (المعارف)، وذكر قوم أن أبا الهيثم شهد صِفّين مع عليٍّ علیه السلام، ولا يعرف ذلك أهل العلم ولا يثبتونه، فإن تعصب إبن قتيبة معلوم، وكيف يقول لا يعرف أهل العلم، وقد قاله أبو نعيم، وقاله صالح بن الوجيه، ورواه إبن عبد البر، وهؤلاء شيوخ المحدثين.

ص: 532

قال المؤلف: وممّن قال بشهوده صِفّين نصر بن مزاحم في كتاب (صِفّين)، وهو من الأصول القديمة المعتمدة، ويشهد بذلك ما رواه أهل الأخبار من خطبة أمير المؤمنين علیه السلام بعد وقعة صِفّين، وقوله فيها: {ما ضرَّ إخوانَنا الذينَ سُفكتْ دماؤهمْ بصِفّين أنْ لا يكونواْ اليوم أحياءٌ يسيغونَ الغصصَ ويشربونَ الرنقَ، قدْ واللهِ لقوُا اللَه فوّفاهمْ أجورهمْ، وأحلّهمْ دارَ إلّامنِ بعدَ خوفهمْ .. أينَ إخوانيَ الذينَ ركبواْ الطريقَ ومضواْ علىْ الحقِّ؟ أينَ عمّارُ بنُ ياسرَ وابنُ التيهانِ؟ وأينَ ذوْ الشهادتينِ؟ وأينَ نظراؤُهم منْ إخوانهمْ الذينَ تعاقدوا علىْ المنيّةِ، وأبردَ برؤوسِهمْ إلى الفجّار؟}.

قال: ثُمَّ ضرب يده إلى لحيته فأطال البكاء، ثُمَّ قال: {أوهٍ علىْ إخوانيَ الذينَ تلواْ القرآنَ فأحكموهُ، وتدبّروا الفرضَ فأقاموهُ، وأحيوا السُنّةَ وأماتَوا البِدعةَ، دُعُوا للجهادِ فأجابوهُ، ووثقوا بالقائدِ فاتّبعوه}.

وهذه الخطبة مذكورة في نهج البلاغة أخذنا غرضنا منها.

والبلوى: بفتح إليَّاء الموحدة، وبفتح اللام، وفى آخرها الواو، نسبة إلى بلي، بفتح الباء الموحدة، وكسر اللام، وتشديد إليَّاء على فعيل، وهو يلي بن عمر بن الحاف بن قضاعة، وهو أبو حي من اليمن، وهو قضاعة بن مالك بن حميراء بن سبأ، والله أعلم.

ص: 533

أُبي بن كعب بن قيس

أُبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي، يكنى أبا المنذر وأبا الطفيل وأبا يعقوب.

من فضلاء الصحابة شهد العقبة مع التسعين، وكان يكتب الوحي، آخى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بينه وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وشهد بدراً والعقبة الثانية، وبايع لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكان يسمّى سيد القراء.

وروي أن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قال له: [إنَّ اللهَ أمرنيْ أنْ اقرأَ عليكَ]، فقال: يا رسول الله بأبي وأمّي أنت، وقد ذُكرت هناك، قال صلی الله علیه و آله و سلم: [نعمْ بإسمكَ ونسبِكَ] فأرعد بأُبي، فالتزمه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتّى سكن، وقال: قل: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (1)، ذكره إبن شهر آشوب في المناقب.

وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس بن مالك قال: قال النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم لأُبي: [إنَّ اللهَ أمرنيْ أنْ أقرأَ عليكَ لمْ يكنْ الذينَ كفرواْ]، قال: وسمّاني، قال: نعم، فبكى. قيل: فعل ذلك لتعلم آداب القراءة (2)، وأن تكون القراءة سُنّة.

ص: 534


1- سورة يونس – الآية: 58
2- في نسخة: القرآن

وروى البخاري أن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قال لأُبي بن كعب: [إنّ اللهَ أقرأكَ القرآنَ]، قال: ألله سمّاني لك؟ قال: نعم، قال: وقد ذُكرتُ عند رب العالمين؟ قال: نعم، فذرفت عيناه.

وروى الشيخ الجليل محمّد بن يعقوب الكليني قدس الله روحه في الكافي عن الصادق علیه السلام أنه قال: إمّا نحن فنقرأ على قراءة أُبي.

وكان أُبي من الإثني عشر نفراً الذين أنكروا على أبي بكر فعله وجلوسه مجلس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

وروى الطبرسي في كتاب (الإحتجاج) مرفوعاً عن أبان بن تغلب عن الصادق جعفر بن محمّد علیهما السلام أن أُبي بن كعب قام فقال: يا أبا بكر لا تجحد حقاً جعله الله لغيرك، ولا تكن أوّل من عصى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في وصيّه وصفيّه، وصدَّ عن أمره، أردد الحقّ إلى أهله تسلم، ولا تتمادَ في غيّك فتندم، وبادر الآنابة يخفّ وزرك، ولا تخصص بهذا الأمر الذي لم يجعله الله لك نفسك، فتلقى وبال عملك، فعن قليل تفارق ما أنت فيه، وتصير إلى ربك بما جنيت وما ربك بظلام للعبيد.

وروى عن أُبي بن كعب أنه قال: مررت عشية يوم السقيفة بحلقة الأنصار، فسألوني من أين مجيئك؟ قلت: من عند أهل بيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قالوا: كيف تركتهم؟ وما حالهم؟ قلت: وكيف تكون حال قوم كان بينهم إلى اليوم موطئ جبرئيل، ومنزل رسول رب العالمين، وقد زال اليوم ذلك وذهب حكمهم عنهم!، ثُمَّ بكى أُبي وبكى الحاضرون.

ص: 535

وأخرج النسائي عن قيس بن عبادة قال: بينا أنا في المسجد في الصفّ المقدم، فجذبني رجل جذبة فنحّاني وقام مقامي، فوالله ما عقلت صلاتي، فلمّا انصرف إذا هو أُبي بن كعب، فقال: يا فتى لا يسوؤك الله، إن هذا عهد من النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم إلينا أن نليه، ثُمَّ استقبل القبلة فقال: هلك أهل العقد وربّ الكعبة، ثُمَّ قال: والله ما آسى عليهم، ولكن آسى على من أضلوا، قلت: يا أبا يعقوب من تعني بأهل العقد؟ قال: الأمراء.

قال إبن حجر في التقريب: اختلف في سنة موته إختلافاً كثيراً، قيل: سنة تسع عشر، وقيل: سنة اثنين وثلاثين، وقيل: غير ذلك.

قال بعض المؤرخين: الأصح أنّه مات في زمن عمر، فقال عمر: اليوم مات سيد المسلمين، والله أعلم.

ص: 536

سعد بن عبادة

سعد بن عبادة بن دلهم بن حارثة بن أبي حزينة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري، كان سيد الخزرج وكبيرهم، يكنّى أبا ثابت وأبا قيس.

من أعاظم الصحابة، وهو أحد النقباء، شهد العقبة مع السبعين، والمشاهد كلّها ما خلا بدراً، فإنّه تهيّأ للخروج فلدغ فأقام، وكان جواداً، وكان له جفنة تدور مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في بيوت أزواجه.

عن يحيى بن كثير قال: كان لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من سعد بن عبادة جفنة ثريد في كل يوم، تدور معه أينما دار من نسائه.

وكان يكتب في الجاهلية بالعربية، ويحسن القول والرمي، والعرب تسمّي من اجتمعت فيه هذه إلّاشياء: الكامل، ولم يزل سعد سيداً في الجاهلية والإسلام، وأبوه وجدُّهُ، وجدُّ جدِّهِ لم يزل فيهم الشرف.

وكان سعد يُجير فيجار، وذلك لسؤدده، ولم يزل هو وأصحابه أصحاب إطعام في الجاهلية والإسلام، وعن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: [الجودُ شيمةُ ذلكَ البيتِ]، يعنى بيتهم.

ص: 537

وهو الذي اجتمعت عليه الأنصار ليولّوه الخلافة، وقد اختلف أصحابنا رضوان الله عليهم في شأنه، فعدّه بعضهم من المقبولين، واعتذر عن دعواه الخلافة، بما روي عنه أنّه قال: لو بايعوا عليّاً علیه السلام لكنت أوّل من بايع.

وبما رواه محمّد بن جرير الطبري عن أبي علقمة قال: قلت لسعد بن عبادة وقد مال النّاس لبيعة أبي بكر: تدخل فيما دخل فيه المسلمون؟ قال: إليك عنّي، فوالله لقد سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [إذا أناْ مِتُّ تضلُّ الأهواء، ويرجعُ النّاس علىْ أعقابِهمْ، فالحقُّ يومئذٍ معَ عليٍّ علیه السلام، وكتابُ اللهِ بيدِهِ]، لا نبايع لأحد غيره، فقلت له: هل سمع هذا الخبر غيرك من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ؟ فقال: سمعه ناس في قلوبهم أحقاد وضغائن، قلت: بل نازعتك نفسك أن يكون هذا الأمر لك دون النّاس كلهم، فحلف أنّه لم يهمّ بها ولم يردها، وأنّهم لو بايعوا عليّاً علیه السلام كان أوّل من بايع سعد.

وزعم بعضهم أن سعداً لم يدّع الخلافة، ولكن لما اجتمعت قريش على أبي بكر يبايعونه، قالت لهم الأنصار: إمّا إذا خالفتم أمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في وصيّه وخليفته وابن عمه، فلستم أولى منّا بهذا الأمر، فبايعوا من شئتم، ونحن معاشر الأنصار نبايع سعد بن عبادة، فلمّا سمع سعد ذلك قال: لا والله لا أبيع ديني بدنياي، ولا أبدل الكفر بالإيمان، ولا أكون خصماً لله ورسوله، ولم يقبل ما اجتمعت عليه الأنصار، فلمّا سمعت الأنصار قول سعد سكتت، وقوي أمر أبي بكر.

وقال آخرون: دعوى سعد الخلافة أمر كاد أن يبلغ، أو بلغ حدّ التواتر، وكتب السير ناطقة بأن الأنصار هم الذين سبقوا المهاجرين إلى دعوى الخلافة، فلم يتمّ لهم

ص: 538

الأمر، وما زعمه بعضهم خلاف المشهور، فقد روى أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري في التاريخ أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وأخرجوا سعد بن عبادة ليولّوه الخلافة، وكان مريضاً فخطبهم ودعاهم إلى إعطاء الرياسة والخلافة فأجابوه، ثُمَّ ترادد الكلام فقالوا: فإن أبى المهاجرون وقالوا: نحن أوّلياؤه وعترته، فقال قوم من الأنصار: نقول منّا أمير ومنكم أمير، فقال سعد: فهذا أوّل الوهن.

وسمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وفيه أبو بكر، فأرسل إليه أن أخرج إليَّ، فأرسل إنّي مشغول، فأرسل إليه عمر أخرج، فقد حدث أمر لابد من أن تحضره؛ فخرج فأعلمه الخبر، فمضيا مسرعين نحوهم، ومعهما أبو عبيدة، فتكلم أبو بكر فذكر قرب المهاجرين من رسول الله، وأنهم أوّلياؤه وعترته، ثُمَّ قال: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا نفتات عنكم بمشورة، ولا نقضي دونكم الأمور.

فقام الحُبّاب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار أملكوا عليكم أمركم، فإن النّاس في ظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر أحد إلّا عن رأيّكم، أنتم أهل العزة والمنعة، وأوّلوا العدد والكثرة، وذووا البأس والنجدة، وإنّما ينظر النّاس ما تصنعون، فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم، فإن أبى هؤلاء إلّا ما سمعتم، فمنّا أمير ومنهم أمير.

ص: 539

فقال عمر: هيهات، لا يجتمع سيفان في غمد واحد، والله لا ترضى العرب بأن تؤمركم ونبيها من غيركم، ولا تمنع العرب أن تولى أمرها لمن كانت النبوة فيهم، من ينازعنا سلطان محمّد ونحن أوّلياؤه وعشيرته؟.

فقال الحُبّاب بن المنذر: يا معشر الأنصار أملكوا أيديكم، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم فاجلوهم من هذه البلاد، فأنتم أحقّ بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان النّاس بهذا الدين، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله إن شئتم لنعيدها جذعة.

فقال عمر: إذا يقتلك الله، قال: بل إياك يقتل، فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنّكم أوّل من نصر فلا تكونوا أوّل من بدل وغير، فقام بشير بن سعد، والد النعمان بن بشير فقال: يا معاشر الأنصار إلّا إن محمّداً من قريش، وقومه أولى به، وأيمَ الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، فقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيّهما شئتم، فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك، وأنت أفضل المهاجرين، وخليفة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في الصلاة، وهي أفضل الدين، إبسط يدك.

فلمّا بسط يده ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحُبّاب بن المنذر: يا بشير عقتك عقاق، أنفست على ابن عمك الإمارة؟ فقال أسيد بن خضير رئيس الأوس لأصحابه: والله لئن لم تبايعوه ليكون للخزرج عليكم الفضيلة، فقاموا فبايعوا أبا بكر، فانكسر على سعد بن عبادة والخزرج ما اجتمعوا عليه، وأقبل النّاس يبايعون أبا بكر من كل جانب، ثُمَّ حمل سعد بن عبادة إلى داره، فبقي أياماً، وأرسل إليه أبو

ص: 540

بكر ليبايع فقال: لا والله حتّى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي ما أطاعني، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن تبعني، ولو اجتمع معكم الجنّ والآنس ما بايعتكم حتّى أعرض على ربّي.

فقال عمر: لا ندعه حتّى يبايع، فقال بشير بن سعد: إنّه قد لجّ وليس بمبايع لكم حتّى يقتل، وليس بمقتول حتّى يقتل معه أهل بيته وطائفة من عشيرته، ولا يضرّكم تركه، إنّما هو رجل واحد فاتركوه.

وجاءت أسلم فبايعت، فقوي بهم جانب أبي بكر وبايعه النّاس.

وروى أبو جعفر الطبري في التاريخ أيضاً عن ابن عبّاس قال: قال عمر ابن الخطّاب يوماً على المنبر: إنّه بلغني أن قائلاً منكم يقول: لو مات أمير المؤمنين بايعت فلاناً، فلا يغرّن أمرؤا أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت له فلتة، فلقد كانت كذلك، ولكنّ الله وقى شرها، وليس فيكم من تقطع إليه إلّاعناق كأبي بكر، وإنّه كان من خيرنا حين توفي رسول الله.

إن عليّاً والزبير تخلّفا عنّا في بيت فاطمة، ومن معهما، وتخلّف عنّا الأنصار، واجتمع المهاجرون الى أبي بكر، فقلت له: انطلق بنا الى اخواننا من الأنصار؛ فانطلقنا نحوهم، فلقينا رجلان صالحان من الأنصار قد شهدا بدراً، أحدهما عويم بن ساعدة، والثاني معن بن عدي فقالا لنا: إرجعوا فاقضوا أمركم بينكم، فأتينا الأنصار وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة، وبين أظهرهم رجل مزمّل، فقلت: من هذا؟

ص: 541

قالوا: سعد بن عبادة، وجمع فقام رجل منهم فحمد الله وأثنى عليه فقال: أمّا بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهط نبينا صلی الله علیه و آله و سلم، قد دفنت إلينا دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يغصبونا الأمر، فلمّا سكت وكنت قد زودت في نفسي مقالة أقولها بين يدى أبي بكر، فلمّا ذهبت أتكلم قال أبو بكر: على رسلك، فقام فحمد الله وأثنى عليه، فما ترك شيئاً كنت زودت في نفسي إلّا جاء به أو بأحسن منه، وقال: يا معشر الأنصار إنّكم لا تذكرون فضلاً إلّا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلّا لقريش، أوسط العرب داراً ونسباً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، والله ما كرهت من كلامه غيرها، أن كنت لأقّدم فتضرب عنقي لا يغلبني إلى إثُمٍ أحبّ إليَّ من أن أؤمّر على قوم فيهم أبو بكر، فلمّا قضى أبو بكر كلامه قام من الأنصار رجل فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منّا أمير ومنكم أمير، وارتفعت إلّاصوات واللغط، فلمّا خفت الإختلاف قلت لأبي بكر: إبسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعته وبايعه النّاس، ثُمَّ نزونا على سعد بن عبادة، فقال قائلهم: قتلتم سعداً، فقلت: أقتلوه قتله الله.

وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب (السقيفة) قال: أخبرني أحمد بن إسحق قال: حدّثنا أحمد بن سيار قال: حدّثنا سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري ان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة فقالوا: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد قبض، فقال سعد بن عبادة لإبنه قيس، أو لبعض بنيه: إنّي لا أستطيع أن أسمع النّاس كلامي لمرضي، ولكن تلقَّ مني قولي فأسمعهم، فكان سعد يتكلم ويستمع إبنه، فيرفع به صوته ليسمع قومه، فكان من قوله بعد حمد الله والثناء

ص: 542

عليه أن قال: إن لكم سابقة إلى الدين وفضيلة إلى الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع إلّاوثان، فما آمن به إلّا قليل، والله ما كانوا أن يمنعوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولا يعزّوا دينه، ولا يدفعوا ضيماً عراه، حتّى أراد الله بكم خيراً لفضيلة، وساق إليكم الكرامة، وخصّكم بدينه، ورزقكم الإيمان به وبرسوله، وإلّاعزاز لدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشدّ النّاس على من تخلّف عنه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حتّى استقاموا لأمر الله طوعاً وكرهاً، وأعطى البعيد المقادة صاغراً داخراً، حتّى أنجز الله لنبيّكم الوعد ودانت بأسيافكم العرب، توفّاه الله تعالى وهو عنكم راضٍ، وبكم قرير عين، فشدّوا أيديكم بهذا الأمر، فإنّكم أحقُّ النّاس وأولاهم به.

فأجابوه جميعاً: أن وفقت في الرأي وأصبت في القول، ولن نعدوا ما أمرت، نوليك هذا الأمر فأنت لنا مقنع ولصالح المؤمنين رضى، ثُمَّ انهم ترادّوا الكلام بينهم فقالوا: إن أبت مهاجرة قريش فقالوا: نحن المهاجرون وأصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الأوّلون، ونحن عشيرته وأوّلياؤه، فعلى م تنازعونا هذا الأمر من بعده؟ فقالت طائفة منهم: إذاً نقول: منّا أمير ومنكم أمير، لن نرضى بدون هذا منهم ابداً، لنا في إلّايواء والنصرة ما لهم في الهجرة، ولنا في كتاب الله ما لهم، فليسوا يعدّون شيئاً إلّا ونعدّ مثله، وليس من رأينا إلّاستئثار عليهم، فمنّا أمير ومنهم أمير، فقال سعد بن عبادة هذا أوّل الوهن.

ص: 543

وأتى الخبر عمر، فأتى منزل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فوجد أبا بكر في الدار وعليّاً علیه السلام في جهاز رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكان الذي أتاه بالخبر معن بن عدي، فأخذ بيد عمر وقال: قم، فقال عمر: إنّي عنك مشغول، فقال: إنّه لا بدّ من قيام فقام معه، فقال له: إن هذا الحي من الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، معهم سعد بن عبادة يدورون حوله، ويقولون: أنت المرجّى ونجلك المرجّى، وثُمَّ أناس من أشرافهم، وخشيت الفتنة، فانظر يا عمر ماذا ترى، واذكر لأخوتك من المهاجرين واختاروا لأنفسكم، فإنّي أنظر إلى باب فتنة قد فتح الساعة إلّا أن يغلقه الله، ففزع عمر أشدّ الفزع حتّى أتى أبا بكر وقال: قم، فقال أبو بكر: أين نبرح حتّى نوارى رسول الله؟ فقال عمر: لا بدّ من قيام وسنرجع إن شاء الله تعالى؛ فقام أبو بكر مع عمر فحدّثه الحديث، ففزع أبو بكر، وخرجا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة، وفيها رجال من أشراف الأنصار ومعهم سعد بن عبادة، وهو مريض بين أظهرهم، فأراد عمر أن يتكلم ويمهد لأبي بكر وقال: خشيت أن يقصر أبو بكر عن بعض الكلام، فلمّا يئس عمر كفّه أبو بكر فقال: على رسلك فستكفى الكلام، ثُمَّ تكلم بعد كلامي بما بدا لك، فتشهد أبو بكر ثُمَّ قال: جلّ ثناؤه بعث محمّداً بالهدى ودين الحق، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعانا إليه، فكنّا معاشر المهاجرين أوّل النّاس إسلاماً، والنّاس لنا في ذلك تبع، ونحن عشيرة رسول الله، وأوسط العرب أنساباً، ليس من قبيلة من قبائل العرب إلّا ولقريش فيها ولادة، وأنتم أنصار الله الذين آويتم ونصرتم رسول الله، ثُمَّ أنتم وزراء رسول الله، وإخواننا في كتاب الله، وشركاؤنا في الدين، وفيما كنّا فيه من خير، فأنتم أحبّ النّاس إلينا وأكرمهم علينا، وأحقّ النّاس بالرضا

ص: 544

بقضاء الله، والتسليم إلى ما ساق الله إلى إخوانكم من المهاجرين، وأحق النّاس أن لا تحسدوهم، فأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، وأحق النّاس أن لا يكون انتقاض هذا الدين واختلاطه على أيديكم، وأنا أدعوكم إلى أبي عبيدة وعمر، فكلاهما قد رضيت لهذا الأمر، وكلاهما نراه له أهلاً.

فقال عمر وأبو عبيدة: ما ينبغي لأحد من النّاس أن يكون فوقك، أنت صاحب الغار وثاني اثنين، وأمرك رسول الله بالصلاة، فأنت أحق النّاس بهذا الأمر.

فقال الأنصار: والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، ولا أحد أحب إلينا ولا أرضى عندنا منكم، نشفق فيما بعد هذا ليوم ونحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منّا ولا منكم، فلو جعلتم اليوم رجلاً منكم بايعنا ورضينا، على أنّه إذا هلك اخترنا واحداً من الأنصار، فإذا هلك كان آخر من المهاجرين، أبداً ما بقيت هذه الأمّة كان ذلك أجدر أن يعدل في الله محمّد عليه السلام، فيشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشي، ويشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري.

فقام أبو بكر فقال: إن رسول الله لما بعث عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم؛ فخالفوه وشاقّوه، وخصّ الله المهاجرين الأولين بتصديقه والإيمان به، والمواساة والصبر معه على شدة أذى قومه، فلم يستوحشوا لكثرة عدوهم، فهم أوّل من عبد الله في الأرض، وهم أوّل من آمن برسول الله، وهم أوّلياؤه وعترته، وأحق النّاس بالأمر بعده، لا ينازعهم فيه إلّا ظالم، وليس أحد بعد المهاجرين فضلاً وقدماً في

ص: 545

الإسلام مثلكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا نمتاز دونكم بمشورة، ولا نقضي دونكم الأمور.

فقام الحُبّاب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معاشر الأنصار أملكوا عليكم أيديكم، إنّما النّاس في فيئكم وظلكم، ولن يجترئ مجترٍ على خلافكم، ولا يصدر النّاس إلّا عن أمركم، أنتم أهل إلّايواء والنصرة، وكانت إليكم الهجرة، وأنتم أصحاب الدار والإيمان، والله ما عبد الله علانية إلّا عندكم وفى بلادكم، ولا جمعت الصلاة إلّا في مساجدكم، ولا عرف الإيمان إلّا من أسيافكم فأملكوا عليكم أمركم، فإن أبى هؤلاء، فمنّا أمير ومنهم أمير.

فقال عمر: هيهات..لا يجتمع سيفان في غمد، إن العرب لا ترضى أن تؤمركم ونبيّها من غيركم، وليس تمتنع العرب أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم وأوّلوا الأمر منهم، لنا بذلك الحجة الظاهرة على من خالفنا، والسلطان المبين على من نازعنا، من ذا يخاصمنا في سلطان محمّد وميراثه ونحن أوّلياؤه وعشيرته إلّا مدٍل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة.

فقام الحُبّاب بن المنذر فقال: يا معاشر الأنصار لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا نصيبكم من الأمر، فإن أبوا عليكم ما أعطيتموهم فاجلوهم من بلادكم، وتولّوا هذا الأمر عليهم، فأنتم أولى بهذا الأمر، إنّه دان لهذا الأمر بأسيافكم من لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، إنْ شئتم لنعيدنها جذعة، والله لا يردّ أحد عليّ ما أقول إلّا حطمت أنفه بالسيف.

ص: 546

قال: فلمّا رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الأنصار من تأمير سعد بن عبادة، وكان حاسداً له، وكان من سادة الخزرج، قام فقال: أيّها الأنصار إنّا وإن كنّا ذو سابقة فإنّا ما نريد بجهادنا وإسلامنا إلّا رضى ربّنا وطاعة نبينا، ولا ينبغي لنا أن نستطيل على النّاس بذلك، ولا نبغي به عوضاً من الدنيا، إنّ محمّداً رجل من قريش، وقومه أحق بميراث أمره، وأيمَ الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، فاتّقوا الله ولا تنازعوهم ولا تخالفوهم.

فقام أبو بكر وقال: هذا عمر وأبو عبيدة بايعوا أيّهما شئتم، فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين، وثاني اثنين، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل الدين، إبسط يدك نبايعك، فلمّا بسط يده وذهبا يبايعانه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحُبّاب بن المنذر: يا بشير عقّك عقاق، والله ما اضطرك لهذا الأمر إلّا الحسد لإبن عمّك.

فلمّا رأت الأوس أن رئيساً من رؤساء الخزرج قد بايع، قام أسيد بن خضير وهو رئيس الأوس فبايع، حسداً لسعد أيضاً ومنافسة له أن يلي الأمر، فبايعت الأوس كلّها لمّا بايع أسيد.

وحُمل سعد بن عبادة وهو مريض فأدخل إلى منزله، فامتنع من البيعة في ذلك اليوم وفيما بعده.

ص: 547

وأراد عمر أن يكرهه عليها فأُشير عليه أن لا يفعل، وأنه لا يبايع حتّى يُقتل، ولا يُقتل حتّى يُقتل أهله، ولا يُقتل أهله حتّى تُقتل الخزرج كلّها، وإن حوربت الخزرج كانت الأوس معها وفسد الأمر، فتركوه.

وكان لا يصلّي بصلاتهم، ولا يجتمع بجماعتهم، ولا يقضى بقضائهم، ولو وجد أعوانا لضاربهم، فلم يزل كذلك حتّى مات أبو بكر.

ثُمَّ لقي عمر في خلافته وهو على فرس، وعمر على بعير، فقال عمر: هيهات يا سعد، فقال سعد: هيهات يا عمر، فقال: أنت صاحب من أنت صاحبه، قال: نعم أنا ذاك، ثُمَّ قال لعمر: والله ما جاورني أحد هو أبغض إليَّ جواراً منك، فقال عمر: فإنّه من كره جوار رجل انتقل عنه، فقال سعد: إنّي لأرجو أن أخليها لك عاجلاً الى جوار من هو أحب إليَّ جواراً منك ومن أصحابك، فلم يلبث سعد بعد ذلك إلّا أياماً قليلة حتّى خرج إلى الشام فمات بحوارن، ولم يبايع لأحد، لا لأبي بكر، ولا لعمر ولا لغيرهما.

ومما يدلّ دلالة صريحة على أن سعداً طلب الخلافة لنفسه، ما رواه أبو بكر الجوهري في كتاب (السقيفة)، قال: حدثني أبو الحسن علي بن سليمان النوفلي، قال: سمعت أبي يقول: ذكر سعد بن عبادة عليّاً علیها السلام بعد يوم السقيفة، فذكر أمراً من أمره نسيه أبو الحسن يوجب ولايته، فقال له إبنه قيس بن سعد: أنت سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول هذا الكلام في عليّ بن أبي طالب ثُمَّ تطلب الخلافة! ويقول أصحابك: منّا أمير ومنكم أمير، لا كلمتك والله من رأسي بعد هذا كلمة ابداً.

ص: 548

نعم قال محمّد بن جرير: إن الأنصار لما فاتها ما طلبت من الخلافة قالت - أو قال بعضها -: لا نبايع إلّا عليّاً علیه السلام، وذكر نحو هذا علي بن عبد الكريم المعروف بإبن إلّاثير الموصلي في تاريخه.

ومات سعد بن عبادة بحوران، وهي كورة بدمشق سنة أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة.

قيل: قتله الجن لأنّه بال قائماً في الصحراء ليلاً، ورووا بيتين من شعر قيل أنّهما سُمعا ليلة قتله، ولم يُرَ قائلها وهما:

قد قتلنا سيد الخزرج *** سعد بن عبادهْ

فرميناه بسهمين *** فلم تخط فؤادهْ

ويقول قوم: إن أمير الشام يومئذ أكمن له من رماه ليلاً، وهو خارج إلى الصحراء بسهمين فقتله لخروجه عن طاعة الإمام.

وقد قال بعض المتأخرين في ذلك:

يقولون سعد شكّت الجنّ قلبه *** إلّا ربّما صححت ذنبك بالعذر ِ

وما ذنب سعد أنّه بال قائماً *** ولكن سعداً لم يبايع أبا بكر

وقد صبرت عن لذة العيش أنفس *** وما صبرت عن لذة النهى والأمر

ص: 549

قيس بن سعد بن عبادة

يكنى أبا عبد الملك، وقيل: أبا الفضل، وقيل: أبا عبد الله، وأبا القاسم، وهو من كبار الصحابة أيضاً.

كان من النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير.

شهد مع النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم المشاهد كلّها، وكان حامل راية الأنصار مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أخذ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم يوم الفتح الراية من أبيه ودفعها إليه، فكان حامل رايته صلی الله علیه و آله و سلم .

وكان شيخاً كريماً شجاعاً، أصلع طويلاً جداً أمدّ النّاس قامة، يركب الفرس المشرف ورجلاه تخطان في الأرض، وما في وجهه طاقة شعر، وكان يسمّى خصيّ الأنصار، وكانت الأنصار تقول: وددنا لو أنّا نشترى لقيس بأموالنا لحية، وكان مع ذلك جميلا.

وذكر يونس بن عبد الرحمن في بعض كتبه أنّه كان لسعد بن عبادة ستة أولاد، وكلّهم قد نصر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وفيهم قيس بن سعد بن عبادة، وكان قيس أحد العشرة الذين لحقهم النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم من العصر الأوّل، ممّن كان طولهم عشرة أشبار بأشبار أنفسهم، وكان شبر الرجل منهم يقال إنه مثل ذراع أحدنا، وكان قيس وسعد أبوه طولهما عشرة أشبار بأشبار أنفسهم، ويقال: أن من العشرة خمسة من الأنصار، وأربعة من الخزرج، ورجلاً من الأوس.

ص: 550

وكان من دهاة العرب وأهل الرأي والمكيدة في الحرب، مع النجدة والشجاعة والسخاء، وكان شريف قومه غير مدافع، وكان أبوه وجدّه كذلك، وكان يقول: لو لا الإسلام لمكرت مكراً لا تطيقه العرب.

وعنه أنّه قال: لولا أنّي سمعت رسول الله يقول: [المكرُ والخديعةُ فيْ النّارِ] لكنت من أمكر هذه الأمّة.

قال إبراهيم بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب (الغارات): حدثني أبو غسان قال: أخبرني علي بن أبي سيف قال: كان قيس بن سعد مع أبي بكر وعمر في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فكان ينفق عليهما وعلى غيرهما ويفضل، فقال له أبو بكر: إن هذا لا يقوم به مال أبيك فأمسك يدك، فلمّا قدموا من سفرهم قال سعد بن عبادة لأبي بكر: أردت أن تبخل إبني، إنّا لقوم لا نستطيع البخل.

قال: وكان قيس بن سعد يقول في دعائه: اللهمَّ أرزقني حمداً ومجدا، فإنّه لا حمد إلّا بفعال، ولا مجد إلّا بمال، اللهمَّ وسّع عليّ، فإن القليل لا يسعني ولا أسعه.

وعن جابر في قصة جيش العسرة أن قيساً كان في ذلك الجيش، وأنّه كان ينحر ويطعم حتّى استدان بسبب ذلك، فنهاه أمير الجيش وهو أبو عبيدة، فبلغ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فقال: [الجودُ منْ شيمةِ أهلِ هذاْ البيتِ].

واستقرض رجل منه ثلاثين ألفاً، فلمّا ردّها أبى أن يقبلها.

ص: 551

وجاءته عجوز كانت تألفه فقال لها: كيف حالك؟ قالت: ما في بيتي جرذ، قال: ما أحسن ما سألت، لأكثرنّ جرذان بيتك، وملأوا بيتها خبزاً ولحماً وسمناً وتمراً.

وهو ممن لم يبايع أبا بكر.

قال الفضل بن شاذان: إنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام .

وقال إبن أبي الحديد: كان قيس بن سعد من كبار شيعة أمير المؤمنين علیه السلام، وقائل بمحبته وولائه، وشهد معه حروبه كلّها.

وكان مع الحسن علیه السلام، ونقم عليه صلحه لمعاوية، وكان طالبيّ الرأي مخلصاً في اعتقاده وودّه.

وقال إبراهيم بن سعد بن هلال الثقفي في كتاب (الغارات): كان قيس بن سعد من شيعة عليّ علیه السلام مناصحاً له ولولده، ولم يزل على ذلك إلى أن مات، وقد ذكرنا في ترجمة أبيه أنّه بلغ من إخلاصه أنّه حلف أن لا يكلم أباه ابداً لدعوته الخلافة.

وقال إبراهيم: لمّا ولّي أمير المؤمنين علیه السلام الخلافة قال لقيس: {سرْ إلى مصرَ فقدْ وليتُكَها، واخرجْ إلى ظاهرِ المدينةِ، واجمعْ ثقالكَ ومنْ أحببتَ أن يصحبَك، حتّى تأتيَ مصرَ ومعكَ جندٌ، فإنّ ذلكَ أرعبَ لعدوّك وأعزّ لوليِّك، فإذاْ أنتَ قدمتَها إنْ شاءَ اللهُ تعالى فأحسنْ إلى المحسنِ، واشتدّ على المريبِ، وارفقْ على العامّة والخاصّةِ، فالرفقُ يُمْنٌ}.

ص: 552

فقال قيس: رحمك الله يا أمير المؤمنين، قد فهمت ما ذكرت، فإمّا الجند فإنّي أدعه لك، فإذا احتجت إليهم كانوا قريباً منك، وإن أردت بعثتهم إلى وجه من وجوهك كانوا لك عدّة، ولكني أسير إلى مصر بنفسي وأهل بيتي، وإمّا ما أوصيتني به من الرفق والإحسان فالله تعالى هو المستعان على ذلك.

قال: فخرج قيس في سبعة نفر من أهل بيته حتّى دخل مصر، فصعد المنبر وأمر بكتاب معه فقرأ على النّاس فيه:

{مِنْ عبدِ اللهِ أميرِ المؤمنينَ إلىْ مَنْ بلغهُ كتابيَ هذا منَ المسلمينَ سلامٌ عليكمْ، فإنّي أحمدُ اللهَ إليكمْ الذيْ لا إلهَ إلّا هوَ، إمّا بعدُ فإنَّ اللهَ بحسنِ صنعهِ وقدرهِ وتدبيرهِ اختارَ الإسلام ديناً لنفسِهِ وملائكتِهِ ورسلِهِ، وبعثَ بهِ أنبيائهُ إلى عبادِهِ، فكانَ ممّا أكرم اللهُ عزَّ وجلَّ بهِ هذهِ الأمّة وخصّهم بهِ منَ الفضلِ أنْ بعثَ محمّداً صلی الله علیه و آله و سلم إليهمْ، فعلّمهم الكتابَ والحُكمَ والسُنّةَ والفرائضَ، وأدّبهم لكيما يهتدوا، وجَمَعَهم لكيما لا يتفرقوا، وزكّاهم لكيما يتطهروا، فلمّا قضى منْ ذلكَ ما عليهِ قبضهُ اللهُ إليه، فعليهِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ ورحمتُهُ ورضوانهُ.

ثُمَّ إنّ المسلمينَ منْ بعدهِ استخلفوا أميرينَ منهمْ أحسنا السيرةَ ثُمَّ توفّيا، فوليَ منْ بعدِهما والٍ أحدثَ أحداثاً؛ فوجدتْ الأمّة عليهِ مقالا، فقالوا ثُمَّ نقموا، فتغيّروا ثُمَّ جاءوني فبايعونيْ، وأنا أستهدي اللهَ الهدىْ، وأستعينهُ على التقوى.

ص: 553

إلّا وإنَّ لكمْ علينا العَمَلَ بكتابِ اللهِ وسُنّةِ رسولِهِ صلی الله علیه و آله و سلم، والقِيام بحقِّهِ، والنُصْح لكمْ بالغيبِ، واللهُ المستعانُ، وحسبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيلُ.

وقدْ بعثتُ إليكمْ قيسَ بنَ سعدٍ الأنصاري أميراً، فوازروهُ وأعينوهُ علىْ الحقِّ، وقدْ أمرتُهُ بالإحسان إلىْ مُحسنِكمْ، والشدّةِ على مُريبِكمْ، والرفقِ بعوامِكم وخواصِّكم، وهوَ ممّن أرضى هَديَهُ وأرجو صَلاحَه ونصحَهُ.

أسألُ اللهَ لنا ولكمْ عملاً زاكياً وثواباً جميلاً ورحمةً واسعةً، والسلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ}.

وكتب عبد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين.

قال إبراهيم: فلمّا فرغ من قراءة الكتاب قام قيس خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وقال: الحمد لله الذي جاء بالحق وأمات الباطل وكبت الظالمين، أيّها النّاس إنّا بايعنا خير من نعلم من بعد نبينا محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، فقوموا فبايعوا على كتاب الله وسُنّة رسوله صلی الله علیه و آله و سلم، فإن نحن لم نعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلی الله علیه و آله و سلم فلا بيعة لنا عليكم.

فقام النّاس فبايعوا، واستقامت مصر وأعمالها لقيس، وبعث عليها عمّاله، إلّا أن قرية منها قد أعظم أهلها قتل عثمان، وبها رجل من بني كنانة يقال له: يزيد بن الحارث، فبعث الى قيس: إنّا لا نأتيك، فابعث عمالك، فالأرض أرضك، ولكن أقرْنا على حالنا حتّى ننظر إلى ما يصير أمر النّاس.

ص: 554

ووثب مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري فنعى عثمان ودعا إلى الطلب بدمه، فأرسل إليه قيس: ويحك أعليَّ تثب؟ والله ما أحبّ أن لي ملك الشام ومصر وإنّي قتلتك فاحقن دمك، فأرسل إليه مسلمة: إنّي كافّ عنك ما دمت أنت وإليَّ مصر.

وكان قيس بن سعد رحمه الله ذا رأي وحزم، فبعث إلى الذين اعتزلوا: إنّي لا أكرهكم على البيعة، ولكنّي أدعكم وأكفّ عنكم، فهادنهم، وهادن مسلمة بن مخلد، وجبى الخراج، فليس أحد ينازعه.

قال إبراهيم: وخرج عليٌّ علیه السلام إلى الجمل وقيس على مصر، ورجع إلى الكوفة من البصرة وهو بمكانه، فكان أثقل خلق الله على معاوية لقرب مصر وأعمالها إلى الشام، ومخافة أن يقبل عليٌّ علیه السلام بأهل العراق، ويقبل إليه قيس بأهل مصر، فيقع بينهما؛ فكتب معاوية إلى قيس وعليٌّ علیه السلام بالكوفة قبل أن يسير إلى صِفّين:

من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد سلام عليك، فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلّا هو، أما بعد، إن كنتم نقمتم على عثمان في إثرة رأيتموها، أو ضربة سوط ضربها، أو في شتمة رجل، أو بسيرة أحد، أو في استعماله الفتيان من أهله، فإنّكم قد علمتم إن كنتم تعلمون أن دمه لم يكن ليحلّ لكم بذلك، فقد ركبتم عظيما من الأمر وجئتم شيئاً إدّاً، فتب يا قيس إلى ربك من المجلبين على عثمان، إن كانت التوبة قبل الموت تغنى شيئاً، وإمّا صاحبك فقد استيقنا أنّه أغرى به النّاس، وحملهم على قتله حتّى قتلوه، وإنّه لم يسلم من دمه عظيم قومك، فإن استطعت يا قيس أن لا يكون ممّن لا يطلب بدم عثمان فافعل، وبايعنا على عليٍّ في أمرنا هذا ولك سلطان

ص: 555

العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت، ولمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، واسألني من غير هذا ما تحب، فإنّك لا تسألني شيئاً إلّا أتيته، واكتب إليَّ رأيك فيما كتبت إليك.

فلمّا جاء إليه كتاب معاوية أحبّ أن يدافعه ولا يبدي له أمره ولا يعجّل له حربه فكتب إليه:

إمّا بعد: فقد وصل إليَّ كتابك، وفهمت الذي ذكر من أمر عثمان، وذلك أمر لم أقاربه، وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى النّاس بعثمان ودسّهم إليه حتّى قتلوه، وهذا أمر لم أطلع عليه، وذكرت لي أن عظيم عشيرتي لم يسلم من دم عثمان، فليسرني أن أوّل النّاس كان في أمره عشيرتي، وإمّا ما سألتني من مبايعتك على الطلب بدمه وما عرضته عليّ فقد فهمته، وهذا أمر لي فيه نظر وفكر، وليس هذا ممّا يعجل إلى مثله، وانا كافّ عنك، وليس يأتيك من قبلي شيء تكرهه حتّى نرى وترى، إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

قال إبراهيم: فلمّا قرأ معاوية كتابه لم يره إلّا مقارباً مباعداً، ولم يأمن أن يكون له في ذلك مخادعاً مكايداً فكتب إليه:

أمّا بعد: فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدّك سلماً، ولم أرك تباعد فأعدّك حرباً، أراك كحبل الجرود وليس مثلي يصانع بالخدائع ولا يخدع بالمكايد ومعه عدد الرجال

ص: 556

وأعنّة الخيل، فإن قبلت الذي عرضت عليك فلك ما أعطيتك، وإن أنت لم تفعل ملأت مصر عليك خيلاً ورجالاً والسلام.

فلمّا قرأ قيس كتابه وعلم أنّه لا يقبل منه المدافعة والمطأوّلة أظهر له ما في نفسه فكتب إليه:

من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان، إمّا بعد: فالعجب من استسقاطك رأيي، والطمع فيَّ، أتسومني - لا أباً لغيرك - الخروج من طاعة أولى النّاس بالأمر، وأقولهم بالحق، وأهداهم وأقربهم من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وسيلة؟ وتأمرني بالدخول في طاعتك .. طاعة أبعد النّاس من هذا الأمر، وأقولهم بالزور، وأضلّهم سبيلا وأتاهم (1) من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وسيلة، ولديك قوم ضالون مضلّون من طواغيت إبليس، وإمّا قولك أنّك تملأ عليَّ مصر خيلاً ورجلاً، فلئن لم أشغلك عن ذلك حتّى يكون منك أنّك لذو جدّ والسلام.

فلمّا أتى معاوية كتاب قيس أيس منه، وثقل مكانه عليه، وكاد أن يكون مكانه غيره أحبّ إليه؛ لما يعلم من قوّته وتأبّيه ونجدته، واشتدّ أمره على معاوية، فأظهر للناس أن قيساً قد بايعكم فادعوا الله له، وقرأ عليهم كتابه الذي لان فيه وقاربه، واختلق كتاباً نسبه إلى قيس فقرأه على أهل الشام:

ص: 557


1- في نسخة: أبعدهم

للأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد، أما بعد: فإن قتل عثمان كان حدثاً في الإسلام عظيماً، وقد نظرت لنفسي وديني فلم يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلماً محرماً براً تقياً، فنستغفر الله سبحانه لذنوبنا، ونسأله العصمة لديننا، إلّا وإنّي قد ألقيت إليكم بالسلام، وأجبتك إلى قتال قتلة الإمام الهادي المظلوم، فاطلب منّي ما أحببت من الأموال والرجال أعجله إليك إن شاء الله، والسلام على الأمير ورحمة الله وبركاته.

قال: فشاع في الشام كلّها أن قيسا صالح معاوية، وأتت عيون عليّ بن أبي طالب علیه السلام إليه بذلك فأعظمه وأكبره وتعجب له، ودعا إبنيه حسناً وحسيناً علیهما السلام وإبنه محمّد وعبد الله بن جعفر فأعلمهم بذلك، وقال: ما رأيّكم؟ فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، إعزل قيساً من مصر.

قال عليٌّ علیه السلام: {والله إنّي غير مصدق بهذا على قيس}، فقال عبد الله: إعزله يا أمير المؤمنين، فإن كان ما قد قيل حقاً، فلا يعتزل لك إن عزلته.

قال: وإنّهم لكذلك إذ جاءهم كتاب من قيس بن سعد فيه:

إمّا بعد: فإنّي أخبرك يا أمير المؤمنين أكرمك الله وأعزّك أن قبلي رجالاً معتزلين، سألوني أن أكفّ عنهم، وأدعهم على حالهم حتّى يستقيم أمر النّاس، فترى ويرون، وقد رأيت أن أكفّ عنهم، ولا أعجل بحربهم، وأن أتألفهم فيما بين ذلك، لعل الله أن يقبل بقلوبهم ويفرقهم عن ضلالتهم، إن شاء الله والسلام.

ص: 558

فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين إنك إن أطمعته في تركهم واعتزالهم استشرى الأمر وتفاقمت، وقعد عن بيعتك كثير ممن تريده على الدخول فيها، ولكن مره بقتالهم فكتب إليه:

إمّا بعدُ: فسرْ إلى القومِ الذينَ ذكرتَ، فإنْ دخلواْ فيما دخلَ فيهِ المسلمونَ، وإلّا فناجزهمْ والسلام.

قال: فلمّا أتى هذا الكتاب قيساً فقرأه لم يتمالك أن كتب إلى عليٍّ علیه السلام:

إمّا بعد: يا أمير المؤمنين فالعجب لك تأمرني بقتال قوم كافّين عنك، لم يهدوا يداً للفتنة ولا أرصدوا لها، فأطعني يا أمير المؤمنين وكفّ عنهم، فإن الرأي تركهم والسلام.

فلمّا اتاه هذا الكتاب قال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين ابعث محمّداً بن أبي بكر يكفيك أمرها، واعزل قيساً، فوالله لبلغني أن قيساً يقول: إن سلطاناً لا يتمّ إلّا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء، والله ما أحب أن لي سلطان الشام مع سلطان مصر وأنّي قتلت ابن مخلد.

وكان عبد الله بن جعفر أخا محمّد بن أبي بكر لأمّه، وكان يحبّ أن يكون له إمرة وسلطان؛ فاستعمل عليٌّ علیه السلام محمّد بن أبي بكر على مصر؛ لمحبته له، ولهوى عبد الله بن جعفر أخيه فيه، وكتب معه كتاباً إلى أهل مصر فسار حتّى قدمها، فقال له

ص: 559

قيس: ما بال أمير المؤمنين؟ ما غيّره؟ أدخل أحد بيني وبينه؟ قال: لا، وهذا السلطان سلطانك.

وكان بينهما نسب، كان تحت قيس قريبة بنت أبي قحافة، أخت أبي بكر الصديق فكان قيس زوج عمة محمّد، فقال قيس: لا والله لا أقيم معك ساعة واحدة، وغضب حين عزله عليٌّ عنها، وخرج منها مقبلاً إلى المدينة، ولم يمض إلى عليٍّ بالكوفة.

قال إبراهيم: وكان مع شجاعته ونجدته جواداً مفضلاً، فحدثني علي بن محمّد بن أبي السيف، عن هشام بن عروة عن أبيه قال: خرج قيس بن سعد من مصر فمرّ بأهل بيت من تلقين فنزل بماءهم، فنحر له صاحب المنزل جزوراً وأتاه بها، فلمّا كان الغد نحر له أخرى، ثُمَّ حبستهم السماء إلى اليوم الثالث، فنحر لهم ثالثة، ثُمَّ إن السماء أقلعت، فلمّا أراد قيس أن يرتحل وضع عشرين ثوباً من ثياب مصر، وأربعة آلاف درهم عند امرأة الرجل، وقال لها: إذا جاء صاحبك فادفعي هذه إليه ثُمَّ رحل، فما أتت عليه ساعة حتّى لحقه الرجل صاحب المنزل على فرس ومعه رمح، والثياب والدراهم بين يديه فقال: يا هؤلاء خذوا ثيابكم ودراهمكم، فقال قيس: إنصرف أيّها الرجل فإنّا لم نكن لنأخذها، قال: والله لتأخذنها، فقال قيس: لله أبوك، ألم تكرمنا وتحسن ضيافتنا ؟ فكافيناك، فليس هذا بأس، فقال الرجل: إنّا لم نأخذ لقرى الأضياف ثمناً، والله لا آخذها أبداً، فقال قيس: أما إذا أبى أن لا يأخذ، فوالله ما فضلني رجل من العرب غيره.

ص: 560

قال إبراهيم: وقال أبو المنذر: مرّ قيس في طريقه برجل من بلى يقال له: الأسود بن فلان فأكرمه، فلمّا أراد قيس أن يرتحل وضع عند امرأته ثياباً ودراهم، فلمّا جاء الرجل دفعته إليه، فلحقه فقال: ما أنا بايع ضيافتي، والله لتأخذنّ هذا، أو لأنفذنّ الرمح بين جنبيك، فقال قيس: ويحكم خذوه.

وقال إبراهيم: ثُمَّ أقبل قيس حتّى قدم المدينة، فجاءه حسان بن ثابت شامتاً به، وكان عثمانياً فقال له: نزعك عليُّ بن أبي طالب، وقد قتلت عثمان، فبقي عليك إلّاثم، ولم يحسن لك الشكر، فزجره قيس وقال له: يا أعمى القلب يا أعمى البصر، والله لولا أن ألقى بين رهطي ورهطك حرباً لضربت عنقك، ثُمَّ أخرجه من عنده.

قال إبراهيم: ثُمَّ إن قيساً وسهل بن حنيف خرجا حتّى قدما على عليٍّ علیه السلام الكوفة، فخبره قيس الخبر وما كان بمصر، فصدّقه وشهد مع عليٍّ علیه السلام صِفّين، هو وسهل بن حنيف.

وقال بعض المؤرخين: لمّا أمر عليٌّ علیه السلام قيساً على مصر احتال معاوية بكل حيلة فلم ينخدع له، فاحتال على أصحاب عليٍّ علیه السلام حتّى حسّنوا له عزله وتولية محمّد بن أبي بكر مكانه، وشنعوا عليه بأنّه قد كاتب معاوية، فلمّا عزل بمحمّد عرف عليٌّ علیه السلام أنّه قد خدع، فكان عليٌّ علیه السلام بعد ذلك يطيع قيساً في الأمر كلّه، وحضر معه صِفّين، وكان في مقدمته ومعه خمسة آلاف.

ص: 561

وروى نصر بن مزاحم في كتاب (صِفّين) قال: حدثني عمر بن سعد، عن إسماعيل بن خالد، عن عبد الرحمن بن عبيد قال: لما أراد عليٌّ علیه السلام المسير إلى الشام دعا من كان معه من المهاجرين والأنصار فجمعهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال:

{إمّا بعدُ فإنّكم ميامينُ الرأيِ ومراجيحُ الحِلمِ، مباركو الأمر مقاويلُ بالحقِّ، ولقدْ عزمنا على المسيرِ إلى عدوِّنا وعدوِّكم، فأشيروا علينَا برأيِكمْ}.

فقام جماعة فتكلموا، ثُمَّ قام قيس بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثُمَّ قال: يا أمير المؤمنين إنكمش بنا على عدوّنا، فوالله إن جهادهم أحبّ إليَّ من جهاد الترك والروم؛ لإدهانهم في دين الله، واستذلالهم أوّلياء الله من أصحاب محمّد صلی الله علیه و آله و سلم، من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، إذا غضبوا على رجل حبسوه وضربوه وحرموه وسيروه، وفيئنا لهم في أنفسهم حلال، ونحن لهم فيما يزعمون قطين، قال: يعني رقيق.

فقال أشياخ الأنصار، منهم خزيمة بن ثابت، وأبو أيّوب وغيرهما: لِمَ تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم بالكلام يا قيس؟ فقال: أما إنّي عارف بفضلكم معظم لشأنكم، ولكنّي وجدت في نفسي الضغن الذي في صدوركم جاش حين ذكرت الأحزاب.

وروى نصر في الكتاب المذكور أيضاً بإسناده أن معاوية دعا النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري ومسلمة بن مخلد الأنصاري، ولم يكن معه من الأنصار غيرهما، فقال: يا هذان لقد غمّني ما لقيت من الأوس والخزرج، واضعي سيوفهم على

ص: 562

عواتقهم، يدعون إلى النزال، حتّى جبنوا أصحابي الشجاع منهم والجبان، وحتّى والله ما أسأل عن فارس من أهل الشام إلّا قيل: قتله الأنصاري، أما والله لألقينهم بحدّي وحديدي، ولأعبينّ لكل فارس منهم فارس ينشب في حلقه، ولأرمينّهم بأعدادهم من قريش، رجال لم يغذّهم التمر والطفيشل، يقولون: نحن الأنصار، قد والله آووا ونصروا، ولكن أفسدوا حقّهم بباطلهم.

فغضب النعمان وقال: يا معاوية لا تلومنّ الأنصار في حبّ الحرب والسرعة نحوها، فإنّهم كانوا كذلك في الجاهلية، وإمّا دعاؤهم إلى النزال فقد رأيتهم مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كثيراً، وإمّا لقاؤك إيّاهم بأعدادهم من قريش، فقد علمت ما لقيت قريش منهم قديماً، فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفا فافعل، وإمّا التمر والطفيشل، فإنّ التمر كان لنا فلمّا ذقتموه شاركتمونا فيه، وإمّا الطفيشل فكان لليهود فلمّا أكلناه غلبناهم عليه، كما غلبت قريش على السخينة.

ثُمَّ تكلّم مسلمة بن مخلد فقال: يا معاوية إن الأنصار لا تعاب أحسابها ولا نجداتها، وإمّا غمهم إيّاك فقد والله غمّونا، ولو رضينا ما فارقونا ولا فارقنا جماعتهم، وإن في ذلك ما فيه من مباينة العشيرة، ولكن حملنا ذلك لك، ورجونا منك عوضه، وإمّا التمر والطفيشل فإنّهما يجرّان عليك السخينة والخرنوب.

قال: وانتهى هذا الكلام إلى الأنصار، فجمع قيس بن سعد الأنصار، ثُمَّ قام فيهم خطيباً فقال: إن معاوية قال ما بلغكم، وأجابه عنكم صاحبكم، ولعمري إن غضتم معاوية اليوم لقد غضتموه أمس، وإن وترتموه في الإسلام لقد وترتموه في الشرك،

ص: 563

وما لكم إليه من ذنب أعظم من نصر هذا الدين، فجدّوا اليوم جدّاً تنسونه به ما كان أمس، وجدّوا غداً جداً تنسونه ما كان اليوم، فأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبرئيل وعن يساره ميكائيل، والقوم مع لواء أبي جهل والأحزاب، فإمّا التمر فإنّا لم نغرسه، ولكن غلبنا عليه من غرسه، وإمّا الطفيشل فلو كان لطعامنا لسُمّينا به، كما سُمّيت قريش سخينة.

ثُمَّ قال قيس في ذلك شعراً:

يا ابن هند دع التوثب في الحرب *** إذا نحن بالجياد سرينا

نحن من قد علمت فادنُ إذا *** شئت بمن شئت في العجاج إلينا

إن تشأ فارساً له فارس منّا *** وإن شئت باللفيف التقينا

أي هذين ما أردت فخذه *** ليس منّا وليس منك الهوينا

ثُمَّ لا نسلخ العجاجة حتّى *** تنجلي حربنا لنا أو علينا

ليت ما تطلب الغداة أتانا *** أنعم الله بالشهادة عينا

فلمّا أتى شعره وكلامه معاوية دعا عمرو بن العاص فقال: ما ترى في شتم الأنصار؟ قال: أرى أن توعدهم ولا تشتمهم، ما عسى أن تقول لهم، إذا أردت ذمّهم فذم أبدانهم ولا تذمّ أحسابهم، فقال: إن قيس بن سعد يقوم على كل يوم خطيباً، وأظنّه والله يفنينا غداً أن يحبسه عنّا حابس الفيل فما الرأي؟، قال: الصبر والتوكل.

ص: 564

وأرسل إلى رؤوس الأنصار مع عليٍّ علیه السلام فعاتبهم، ومرهم أن يعاتبوه، فأرسل معاوية إلى إبن مسعود، والبراء بن عازب، وخزيمة بن ثابت، والحجّاج بن عرية، وأبي أيّوب، فعاتبهم فمشوا إلى قيس بن سعد، فقالوا له: إن معاوية لا يحب الشتم فكفَّ عن شتمه، فقال: إن مثلي لا يشتم، ولكن لا أكف عن حربه حتّى القى الله.

قال: وتحركت الخيل غدوة فظن قيس أنّ فيها معاوية، فحمل على رجل يشبهه فضربه بالسيف، فإذا ليس به، ثُمَّ حمل على آخر يشبهه أيضاً فقنعه بالسيف، فلمّا تحاجز الفريقان شتمه معاوية شتماً قبيحاً، وشتم الأنصار، فغضب النعمان بن بشير مع مسلمة فأرضاهما بعد أن همّا أن ينصرفا إلى قومهما.

ثُمَّ إن معاوية سأل النعمان أن يخرج إلى قيس يعاتبه ويسأله السلم، فخرج النعمان فوقف بين الصِفّين ونادى: يا قيس بن سعد، أنا النعمان بن بشير فخرج إليه وقال: هيه يا نعمان ما حاجتك ؟ قال: يا قيس إنّه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه، يا معشر الأنصار انكم اخطأتم في خذل عثمان يوم الدار وقتلتم أنصاره يوم الجمل، وأقحمتم بصولكم على أهل الشام بصِفّين، فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليّاً لكانت واحدة بواحدة، ولكنكم لم ترضوا أن تكونوا كالنّاس حتّى أعلمتم في الحرب ودعوتم إلى البراز، ثُمَّ لم ينزل بعليٍّ خطب قط إلّا هونتم عليه المصيبة ووعدتموه الظفر، وقد أخذت الحرب منّا ومنكم ما قد رأيتم، فاتقوا الله في البقية.

فضحك قيس وقال: ما كنت أظنك يا نعمان محتوياً على هذه المقالة، إنّه لا ينصح أخاه من غشّ نفسه، وأنت الغاش الضال المضل، إمّا ذكرك عثمان فإن كانت الأخبار

ص: 565

تكفيك فخذ مني واحدة، قتل عثمان من لست خيراً منه، وخذله من هو خير منك، وإمّا أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث، وإمّا معاوية فوالله لو اجتمعت عليه العرب قاطبة لقاتله الأنصار، وإمّا قول ك إنّا لسنا كالنّاس، فنحن في هذه الحرب كما كنّا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نتقي السيوف بوجوهنا والرماح بنحورنا، حتّى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، ولكن أنظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلّا طليقاً أو أعرابياً أو يمانياً مستدرجا بغرور؟ أنظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان الذين رضى عنهم ورضوا عنه؟ ثُمَّ أنظر هل ترى مع معاوية أنصاريّاً غيرك وغير صويحبك؟ ولستم والله بدريين ولا عقبين، ولا لكما سابقة في الإسلام، ولا آية في القرآن، ولعمري لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك.

وروى نصر قال: كان معاوية في صِفّين جعل بسر بن أرطأة يوماً بأزاء قيس بن سعد، فعدا بسر في حماة الخيل فلقي قيساً كأنه فنيق وهو يقول:

أنا ابن سعد زانه عبادةْ *** والخزرجيون رجال سادةْ

ليس فراري في الوغى بعادة *** إنّ الفرار للفتى قلادة

يا رب أنت لقّني الشهادة *** والقتل خير من عناق غادة

فطعن في خيل بسر، وطعن بسر قيساً، فضربه قيس بالسيف فردّه على عقبيه، ورجع القوم جميعاً ولقيس الفضل.

ومن شعره في أيام صِفّين قوله:

ص: 566

قلت لمّا بغى العدو علينا *** حسبنا ربنا ونعم الوكيلُ

حسبنا ربنا الذي فتح البصر *** ة بإلّامس والحديث طويل

وعليٌّ إمامنا وإمام *** لسوانا أتى به التنزيل

يوم قال النبيّ من كنت مولاه *** فهذا مولاه خطب جليل

ولمّا بويع الحسن علیه السلام بالخلافة بعد أبيه كان قيس من المبادرين إلى بيعته والناهضين بها، ووجّه الحسن علیه السلام عبيد الله بن العبّاس ومعه قيس بن سعد مقدمة له في اثني عشر ألفاً إلى الشام، وقال لعبيد الله: (إمض حتّى تستقبل معاوية، فإذا لقيته فلا تقاتله حتّى يقاتلك، فإن فعل فقاتله، وإن أُصبت فقيس بن سعد على النّاس).

فسار عبيد الله حتّى نزل بأزاء معاوية، فلمّا كان من الغد وجّه معاوية بخيله إليه، فخرج إليهم عبيد الله فيمن معه فضربهم حتّى ردّهم إلى معسكرهم، فلمّا كان الليل أرسل معاوية الى عبيد الله بن العبّاس أنّ الحسن قد أرسل لي في الصلح، وهو مسلّم الأمر إليَّ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً، وإلّا دخلت وأنت تابع، ولك إن جئتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم، أعجّل لك في هذا الوقت نصفها، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر.

فأقبل عبيد الله ليلاً فدخل عسكر معاوية فوفى له بما وعده، وأصبح النّاس ينتظرون عبيد الله أن يخرج فيصلّي بهم فلم يخرج، حتّى أصبحوا فطلبوه فلم يجدوه، فصلّى بهم قيس بن سعد بن عبادة، ثُمَّ خطبهم فثبتهم، وذكر عبيد الله فنال منه، ثُمَّ أمرهم

ص: 567

بالصبر والنهوض الى العدو؛ فأجابوه بالطاعة وقالوا له: إنهض بنا إلى عدونا على اسم الله، فنزل فنهض بهم، وخرج إليه بسر بن أرطأة، فصاحوا الى أهل العراق: ويحكم هذا أميركم عندنا قد بايع، وإمامكم الحسن قد صالح، فعلى م تقتلون أنفسكم؟ فقال لهم قيس بن سعد: إختاروا إحدى اثنتين، إمّا القتال مع غير إمام، وإمّا أن تبايعوا بيعة ضلال، فقالوا: بل نقاتل بغير إمام.

فخرجوا فضربوا أهل الشام حتّى ردّوهم إلى مصافّهم، وكتب معاوية إلى قيس بن سعد يدعوه ويمنّيه فكتب إليه قيس: لا والله لا تلقاني أبداً إلّا وبيني وبينك الرمح، فكتب معاوية حينئذ لمّا يئس منه:

إمّا بعد فإنّك يهوديٌ إبن يهودي، لا تشقي نفسك وتقتلها فيما ليس لك، فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وغولك، وإن ظهر أبغضهما إليك نكل بك وقتلك، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه، ورمى غير غرضه، فأكثر الحزّ وأخطأ المفصل؛ فخذله قومه وأدركه يومه فمات بحوران طريداً غريباً والسلام.

فكتب إليه قيس ابن سعد، إمّا بعد:

فإنّما أنت وثن إبن وثن، دخلت في الإسلام كرهاً، وأقمت فيه فرقاً، وخرجت منه طوعاً، ولم يجعل الله لك فيه نصيباً، لم يقدم إسلامك، ولم يحدث نفاقك، ولم تزل حرباً لله ولرسوله، وحزباً من أحزاب المشركين، وعدوّ الله ونبيه والمؤمنين من

ص: 568

عباده، وذكرت أبي، فلعمري ما أوتر إلّا قوسه ولا رمى إلّا غرضه، فشغب عليه من لا يشقّ غباره، ولا يبلغ كعبه.

وزعمت أنّي يهودي، وقد علمت وعلم النّاس أنّي وأبي أنصار الدين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه والسلام.

فلمّا قرأ كتابه غاظه، وأراد جوابه، فقال له عمرو: مهلاً فإنك إن كاتبته أجابك بأشدّ من هذا، وإن تركته دخل فيما دخل فيه النّاس، فأمسك عنه.

قال: وبعث معاوية عبد الله بن عامر وعبد الله بن سمرة إلى الحسن علیه السلام إلى الصلح فدعواه إليه، وزهّداه في الأمر، وأعطياه ما شرط له معاوية، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، ولا ينال أحداً من شيعة عليٍّ بمكروه، ولا يذكر عليّاً إلّا بخير، وأشياء أخر اشترطها الحسن، فأجاب إلى ذلك.

وانصرف قيس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة، وانصرف الحسن علیه السلام أيضاً إليها، وأقبل معاوية قاصداً نحو الكوفة.

واجتمع إلى الحسن علیه السلام وجوه الشيعة وأكابر أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام يلومونه، ويبكون إليه جزعاً مما فعل.

وروي أن معاوية استثنى قيس بن سعد من الشيعة في الأمان، فقال الحسن علیه السلام: (لا اصالح حتّى لا تستثنى أحداً).

ص: 569

وروي أن الحسن علیه السلام لما اشترط على معاوية في الصلح أن لا يطلب أحداً من أهل الحجاز والمدينة والعراق بشيء ممّا كان في أيّام أبيه أجاب معاوية إلى ذلك، وقال: لا أطلب أحداً إلّا عشرة أنفس لا أؤمنهم.

فراجعه الحسن علیه السلام فيهم فكتب إليه معاوية: إنّي قد إليَّت أنّي متى ظفرت بقيس بن سعد بن عبادة أن أقطع لسانه ويده، فراجعه الحسن وقال: لا أرى أن يطلب قيس وغيره بتبعة قلّت أو كثرت، فبعث إليه معاوية حينئذ برقّ أبيض وقال: اكتب ما شئت فيه فإنّي ملتزمه، فاصطلحا.

قال أبو الفرج الأصبهاني: لما تمّ الصلح بين الحسن ومعاوية أرسل إلى قيس بن سعد يدعوه إلى البيعة، وكان رجلاً طويلاً يركب الفرس المشرف ورجلاه تخطان في الأرض، وما في وجهه طاقة شعر، وكان يسمى خصيّ الأنصار، فلمّا أرادوا إدخاله إليه قال: إنّي حلفت أن لا ألقاه إلّا وبيني وبينه الرمح والسيف، فأمر معاوية برمح وسيف بينه وبينه؛ ليبرّ بيمينه.

قال أبو الفرج: وقد روي أن الحسن لمّا صالح معاوية اعتزل قيس بن سعد في أربعة آلاف وأبى أن يبايع، فلمّا بايع الحسن أدخل قيس ليبايع؛ فأقبل على الحسن فقال: في حلٍّ أنا من بيعتك؟ فقال: نعم، فألقي له كرسي، وجلس معاوية على سرير والحسن معه، فقال له معاوية: أتبايع يا قيس؟ قال: نعم، ووضع يده على فخذه، ولم يمدّها إلى معاوية، فجثا معاوية على سريره، وأكبّ على قيس حتّى مسح يده على يده، وما دفع قيس إليه يده.

ص: 570

وروي أن قيساً نقم على الحسن علیه السلام خلعه لنفسه من الخلافة، وواجهه بكلام شديد تأسفاً لذلك، ثُمَّ خرج من معسكر الحسن علیه السلام .

ولما دعاه معاوية إلى البيعة امتنع وقال: ما زلت أنا وأبي نفتخر بأنّا لم نبايع ظالماً قط؛ فنصحه الحسن علیه السلام وأمره بمبايعته؛ فاعتذر بأعذار كثيرة، فألحَّ عليه الحسن علیه السلام؛ فذهب الى معاوية مكرهاً، فقال له معاوية: يا قيس ما كنت أودّ أن تصل إلى هذا الأمر وأنت حيّ، فقال له قيس: وما كنت أحبّ أن تحكم أنت وأنا حيٌّ، فقام الحاضرون بينهما حتّى سكن النزاع.

وروى الكشّي بإسناده عن فضيل غلام محمّد بن راشد قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: أن معاوية كتب إلى الحسن بن عليٍّ علیهما السلام أن أقدم أنت والحسين وأصحاب عليٍّ؛ فخرج معهم قيس بن سعد بن عبادة فقدموا الشام، فأذن لهم معاوية، وأعدّ لهم الخطباء، فقال للحسن علیه السلام: قم فبايع، فقام، ثُمَّ قال للحسين علیه السلام: قم، فقام فبايع، ثُمَّ قال: قم يا قيس فبايع، فالتفت إلى الحسين علیه السلام ينتظر ما يأمره، فقال: يا قيس إنّه إمامي، يعنى الحسن علیه السلام .

وروى بإسناده أيضاً عن جعفر بن بشير عن ذريح قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: دخل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري صاحب شرطة الخميس على معاوية، فقال له معاوية: يا قيس بايع، فنظر إلى الحسن علیه السلام فقال: يا أبا محمّد بايعت؟ فقال معاوية: أما تنتهي؟ أما والله إنّي، فقال له قيس: ما نسئت، أما والله لئن شئت

ص: 571

لتناقصن، فقال، وكان مثل البعير جسيماً وكان خفيف اللحية، قال: فقام إليه الحسن فقال: بايع يا قيس، فبايع.

وسار قيس إلى المدينة ولم يزل بها مشتغلاً بالعبادة حتّى توفي إلى رحمة الله تعالى في آخر خلافة معاوية.

وعن سليم بن قيس قال: قدم معاوية بن أبي سفيان حاجّاً في أيام خلافته فاستقبله أهل المدينة، فنظر فإذا الذين استقبلوه ما منهم إلّا قرشي، فلمّا نزل قال: ما فعلت الأنصار وما بالها لم تستقبلني؟ فقيل له: إنّهم محتاجون ليس لهم دواب، فقال معاوية: فأين نواضحهم؟ فقال قيس بن سعد بن عبادة - وكان سيّد الأنصار وابن سيّدها -: أفنوها يوم بدر وأُحُد وما بعدهما من مشاهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حين ضربوك وأباك على الإسلام، حتّى ظهر أمر الله وأنتم كارهون.

فسكت معاوية فقال قيس: أما إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عهد إلينا أنّا سنلقى بعده إثرة، فقال معاوية: فما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتّى نلقاه، قال: فاصبروا حتّى تلقوه.

قال المؤلف: وهذا الخبر مما كفّر به المعتزلة معاوية،

وروي من طريق آخر أن النعمان بن بشير الأنصاري جاء في جماعة من الأنصار إلى معاوية، فشكوا إليه فقرهم، وقالوا: لقد صدق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في قوله: [ستلقونَ بعديَ إثرةً]، فقد لقيناها، قال معاوية: فماذا قال لكم؟ قالوا: قال لنا: [فاصبرواْ حتّى

ص: 572

ترِدوا عليَّ الحوضَ]، قال: فافعلوا ما أمركم به، عساكم تلاقونه غداً عند الحوض كما أخبركم بقوله، مستهزئاً بهم وحرمهم ولم يعطهم شيئاً.

وروي أن عظيم الروم بعث إلى معاوية بن أبي سفيان بهدية مع رسولين أحدهما جسيم والآخر أيد، ففطن لهما معاوية فقال لعمرو بن العاص: إمّا الطويل فإنّي أجد مثله فمن الأيد؟ فقال: أجد القوة والأيد في شخصين، أحدهما محمّد بن الحنفية والآخر قيس بن سعد، فقال: برّدت قلبي، فأرسل الى قيس بن سعد وعرّفه الحال، فحضر، فلمّا مثل بين يدي معاوية وعرف ما يراد منه نزع سراويله ورمى بها الى العلج فلبسها فنالت ثندوته، فأطرق مغلوباً، ولِيمَ قيس على ذلك، وقيل له: هلّا بعثت بها ؟ فقال:

أردت لكيما يعلم النّاس أنّها *** سراويل قيس والوفود شهودُ

وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه *** سراويل عاديّ نمته ثمود

وإنّي من القوم اليمانين سيد *** وما النّاس إلّا سيّد ومسود

وبذّ جميع الخلق أصلي ومنصبي *** وجسم به أعلو الرجال مديد

وحضر محمّد بن الحنفية فعرف ما يراد منه، فخيّر العلج بين أن يقعد ويقوم العلج فيعطيه يده فيقيمه، أو يقعد العلج ويقوم محمّد ويعطيه يده ويقعد، فاختار العلج الحالتين، فغلبه فيهما محمّد، فأقام العلج وأقعده .. أخرجه ابن عساكر في تاريخه بطرق مختلفة.

ص: 573

وفى رواية أن ملك الروم أرسلهما يزعم أن أحدهما اقوى والآخر أطولهم، وقال لمعاوية: إن كان في جيشك من يغلبهما أرسلت لك كذا وكذا، فلمّا جاء محمّد بن الحنفية فوضع يده في الأرض بين يدي القوي وجهد كل الجهد فلم يقدر أن يحركها، ووضع الرومي يده فأخذها ابن الحنفية ورفعها بأدنى شيء، وجاءوا للطويل بلباس قيس بن سعد فبلغ ثدييه.

وفى (تاريخ الإسلام) للذهبي عن أبي عثمان قال: بعث قيصر إلى معاوية إبعث إليَّ سراويل أطول رجل من العرب، فقال لقيس بن سعد: ما أظنّنا إلّا قد احتجنا إلى سراويلك، فقام فتنحّى وجاء بها فألقاها، فقال: إلّا ذهبت إلى منزلك ثُمَّ بعثت بها؟ فقال الأبيات السابقة، والبيت الآخر منها يروى هكذا:

فكدهم بمثلي إنّ مثلي عليهم *** شديد وخلقي في الرجال مديدُ

ولقيس عدة أحاديث، روى عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وعن أبيه، وروى عنه عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعروة بن الزبير، والشِعبي، وميمون بن أبي شبيب، وعريب بن حميد الهمداني، وجماعة.

ومات رحمه الله سنة ستين، وهي السنة التي مات فيها معاوية لعنه الله، وقيل: مات بعد ذلك رحمه الله تعالى.

قال إبن حيان: كان قد هرب من معاوية، فمات سنة خمس وثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان، وقال إبن حجر: والأوّل هو الصواب.

ص: 574

سعيد بن سعد بن عبادة

سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري أخو المذكور قبله.

قال العسقلاني: صحابي صغير، وقد ولّى بعض اليمن لعليٍّ علیه السلام .

وقال الذهبي: قيل: له صحبة، روى عن أبيه، وعنه إبنه شرحبيل، وأبو أمامة ابن سهيل، ولّى اليمن لعليٍّ علیه السلام .

ص: 575

أبو قتادة الأنصاري

إسمه الحرث، وقيل: عمرو، وقيل: النعمان بن ربعي، بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة، إبن بلدمة بضم الموحدة والمهملة بينهما لام ساكنة، السلمي بفتحتين المدني، فارس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم شهد أُحداً، ولم يصحّ شهوده بدراً، قاله إبن حجر في التقريب.

وأخرج أبو داود عن أبي قتادة: أن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم كان في سفر له، فتعطشوا، فانطلق سرعان النّاس، فلزمت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تلك الليلة، فقال: [حفظكَ اللهُ بِما حفظتَ بِهِ نبيّهُ]، وهو طرف من حديث طويل قد أخرجه مسلم.

وروى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة قال: لما قتل خالدُ بن الوليد مالكَ بن نويرة، ونكح امرأته، كان في عسكره أبو قتادة الأنصاري، فركب فرسه والتحق بأبي بكر، وحلف أن لا يسير في جيش تحت لواء خالد أبداً، فقصّ على أبي بكر القصة، فقال أبو بكر: لقد فتنت الغنائم العرب، وترك خالد ما أمرته.

قال أبو عمر في الإستيعاب: شهد أبو قتادة مع عليٍّ علیه السلام مشاهده كلّها في خلافته.

قال إبن إلّاثير: شهد أبو قتادة مع عليٍّ علیه السلام حروبه كلّها، وهو بدري، وتوفي سنة أربع وخمسين، وقيل: مات سنة أربعين، وصلّى عليه عليٌّ علیه السلام والله أعلم.

ص: 576

عديّ بن حاتم الطائي

عديّ بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن أمرئ القيس بن عدي بن أخرم بن أبي خزم، واسمه هزومة بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء بن أدد بن مالك بن زيد بن كهلان الطائي.

أبوه حاتم هو الجواد المشهور الذي يضرب بجوده المثل.

وأدرك عديّ الإسلام فأسلم سنة تسع، وقيل: سنة عشر، ولإسلامه خبر ذكره ابن هشام في سيرته.

قال: كان عديّ يقول: ما كان رجل من العرب أشدّ كراهة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حين سمع به مني، أما إنّي كنت أمرءً شريفاً، وكنت نصرانياً، وكنت أسير في قومي بالمرباع (1)، فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكاً في قومي؛ لما كان يصنع بي، فلمّا سمعت برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عوناً وكان راعياً لأبلي: لا أباً لك أعدد لي من إبلي جمالاً ذللاً سماناً فاحتبسها قريباً مني، فإذا سمعت بجيش لمحمّد وقد وطأ هذه البلاد فآذني، ففعل، ثُمَّ إنّه أتاني ذات غداة فقال: يا عديّ ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمّد فأصنعه الآن، فإنّي قد رأيت رايات فسألت عنها، فقيل لي: هذه جيوش محمّد، قال: فقلت قرّب لي جمالي، فقرّبها، فاحتملت بأهلي

ص: 577


1- الذي يآخذ ربع الغنيمة، كان هو شأن الأشراف في الجاهلية.

وولدي، ثُمَّ قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الجوشية (1) وخلّفت بنتاً لحاتم في الحاضرة، فلمّا قدمت الشام أقمت بها، وتخالفني خيل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت، فقُدم بها على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في سبايا من طي، وقد بلغ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هربي إلى الشام، قال: فجعلت إبنة حاتم في حظيرة (2) بباب المسجد كانت السبايا تحبس فيها، فمر بها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الرافد فامنن عليَّ مَنَّ الله عليك، قال: ومن رافدك ؟ قالت: عديّ بن حاتم، قال: الفارّ من الله ورسوله، ثُمَّ مضى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وتركني، حتّى إذا كان من الغد مرّ بي، فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بإلّامس، قالت: حتّى إذا كان بعد الغد مرّ بي، وقد يئست منه، فأشار إلى رجل من خلفه أن قومي وكلّميه، قالت: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الرافد فامننْ عليَّ مَنَّ الله عليك، قال صلی الله علیه و آله و سلم: [ قدْ فعلتُ، فلاْ تعجليْ حتّى تجديْ منْ قومِكِ مَنْ يكونُ لكَ بِهِ ثقةٌ حتّى يبلغكِ إلىْ بلادكِ، ثُمَّ آذنيني ]، فسألت عن الرجل الذي أشار عليّ أن كلّميه فقيل لي: عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فأقمت حتّى قدم ركب من بلى أو من قضاعة، قالت: وإنّما أريد أن أتي أخي بالشام، قالت: فجئت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقلت: يا رسول الله قد قدم من قومي رهط لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وحملني وأعطاني نفقة، وخرجت معهم حتّى قدمت الشام.

ص: 578


1- وفي نسخة: الحوشية .
2- وفى نسخة: في حُجْرة .

قال عديّ: فوالله إنّي لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ضعينة تصوب إليَّ تؤمّنا، قال: فقلت: إبنة حاتم، فإذا هي هي، فلمّا وقفت عليّ انسحلت (1) تقول: القاطع الظالم احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك وعورتك، قال: قلت: أي أخيّة لا تقولي إلّا خيراً، فوالله ما لي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت، قال: ثُمَّ نزلت فأقامت عندي، فقلت لها - وكانت امرأة حازمة -: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبياً فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن تذلّ في عز اليمن وأنت أنت، قال: فقلت: والله إن هذا لَلْرأي.

قال: فخرجت أقدم على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ قلت: عديّ بن حاتم، فقام رسول الله فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنّه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلاً، تكلّمه في حاجتها، قال: فقلت في نفسي: ما هذا بملك، ثُمَّ مضى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتّى دخل بي بيته وتناول وسادة من أدم محشوة ليفاً، فقدّمها إليَّ فقال: إجلس على هذه، قال: فقلت: بل أنت اجلس عليها، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالأرض، قال: فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثُمَّ قال صلّى الله عليه وآله ايه يا عديّ بن حاتم الم تكن ركوسياً (2)؟ قال: فقلت: بلى، قال:

ص: 579


1- انسحلت: لامت وسخطت
2- الركوسية: قوم لهم دين بين دين النصارى والصابئين .

أوّلم تكن تسير في قومك بالمرباع ؟ قال: فقلت: بلى، قال: فإن ذلك لم يكن يحلّ لك في دينك، قال: قلت: أجل والله، وعرفت أنّه نبيّ يعلم ما يُجهل.

قال: ثُمَّ قال لي: [لعلّكَ يا عديّ إنّما يمنعكَ منَ الدخولِ فيْ هذا الدينِ ما ترىْ منْ حاجتِهم، فواللهِ ليوشكنّ أنّ المالَ يفيضُ فيهمْ حتّى لا يوجدُ منْ يأخذُه، ولعلّك إنّما يمنعُكَ منَ الدخولِ فيهِ ما ترىْ منْ كثرةِ عدوّهم، فواللهِ ليوشكنَّ أنْ تسمعَ بالمرأةِ تخرجُ على بعيرِها منَ القادسيةِ حتّى تزورَ هذا البيتَ لا تخافُ، ولعلّك إنّما يمنعُكَ منْ الدخولِ فيهِ أنّك ترى أنَّ الملكَ والسلطانَ فيْ غيرِهم، وأيمَ الله ليوشكنَّ أنْ تسمعَ بالقصورِ البيضِ منْ أرضِ بابلَ أنْ يُفتح عليهمْ (1)]، قال: فأسلمت.

فكان عديّ يقول: مضت إثنتان وبقيت الثالثة، ووالله ليكوننّ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتّى تحجّ هذا البيت، وأيمَ الله لتكونن الثالثة، ليفيض المال حتّى لا يوجد من يأخذه.

وروى إبن عبد ربه في كتاب (العقد) قال: وفد عديّ بن حاتم على النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم فألقى له وسادة، وجلس هو على الأرض، قال عديّ: فما رمت حتّى هداني الله للإسلام، وسرّني ما رأيت من إكرام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

ص: 580


1- وفي السيرة: فتحت عليهم

في بنت حاتم التي أسرتها خيل النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم: إسمها سفانة، وبها كان يكنىّ أبوها حاتم.

وروي أنّه لمّا أتي بها النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قالت له: يا محمّد هلك الوالد وغاب الرافد، فإن رأيت أن تخلّي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، فإن أبي سيّد قومه، كان يفكّ العاني، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشى السلام، ولم يطلب إليه طالب حاجة قطّ فردّه (1).. أنا ابنة حاتم طي، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [هذهِ صفةُ المؤمنِ، لوْ كانَ أبوكِ إسلاميّاً لترحّمْنا عليهِ، خلّوا عنها، فإنَّ أباها كانّ يحبُّ مكارمَ الأخلاقِ].

وروي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال: {لوْ كنّا لا نرجوْ جنّةً ولاْ نخشى ناراً، ولا ثواباً ولا عقاباً، لكانَ ينبغيْ لنا أنْ نطلبَ مكارمَ الأخلاقِ، فإنّها ممّا يدلُّ علىْ سبيلِ النجاحِ}.

فقال رجل: فداك أبي وأمّي يا أمير المؤمنين، سمعته من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ؟ قال علیه السلام: {نعمْ، وما هوَ خيرٌ منهُ لمّا أتانا سبايا طيٍّ فإذا فيها جاريةٌ حمّاءُ، لعساءُ، لمياءُ، خوّاءُ، عيطاءُ، صلتُ الجبينِ، لطيفةُ العرنينِ، مسنونةُ الخدّينِ، لمساءُ الكعبينِ، خدلجةُ الساقينِ، لغّاء الخدّينِ، خميصةُ الخصرينِ، مكورةُ الكشحينِ، مصقولةُ المتنينِ؛ فأعجبتنيْ وقلتُ: لأطلبنّ منْ رسولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم أنْ يجعلَها فيْ فيئي، فلمّا تكلمتْ نسيتُ ما راعنيْ منْ جمالِها، لِما رأيتُ منْ فصاحتِها وعذوبةِ كلامِها، فقالتْ: يا

ص: 581


1- وفى نسخة: إلّا قضاها

محمّدُ إنْ رأيتَ أنْ تخلّيْ عنّيْ ولا تشمتَ بيْ أحياءَ العربِ، فإنّي ابنةُ سيّدِ قومِيْ، كانَ أبي يفكُّ العانيْ، ويحميْ الذمارَ، ويُقريْ الضيفَ، ويشبعُ الجائعَ، ويكسيْ المعدومَ، ويفرّجُ عنِ المكروبِ .. أنا ابنةُ حاتم طي؛ فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [خلّوا عنها، فإنَّ أباها كانّ يحبُّ مكارمَ الأخلاقِ]، فقام أبو بردة فقال: يا رسول الله ألله يُحبّ مكارم الأخلاق؟ فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [يا أبا بردةَ لا يدخلُ الجنّةَ أحدٌ لا يُحسنُ الخلقَ]}.

وأخرج أحمد عن عديّ قال: قلت لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: إن أبي كان يصل الرحم، ويفعل كذا وكذا، قال صلی الله علیه و آله و سلم: [إنَّ أباكَ أرادَ أمراً فأدرَكَهُ]، يعنى الذكر.

وروي أن عديّاً قدم على عمر، وكان رأى منه جفاءً، فقال: أما تعرفني؟ قال: بلى والله أعرفك، قد أسلمت إذ كفروا، وعرفت إذ أنكروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا.

وكان عديّ يشابه أباه في الكرم، حتّى أنّه كان يفتّ الخبز للنمل، ويقول: إنّهنّ جارات.

وفيه يقول الشاعر:

بأبّه اقتدى عديّ في الكرم *** ومن يشابه أبّه فما ظلمْ

قال الفضل بن شاذان: كان عديّ من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام

ص: 582

قال إبن قتيبة: ذكروا أن عديّاً قام إلى عليٍّ علیه السلام عند خروجه إلى حرب أهل الجمل فقال: يا أمير المؤمنين لو تقدّمتُ إلى قومي أخبرهم بمسيرك وأستفزّهم، فإن لك عليَّ من طي مثل ما معك، فقال عليٌّ علیه السلام:{نعم فافعل}؛ فتقدم عديٌّ إلى قومه فاجتمعت إليه رؤساء طي، فقال: يا معشر طي إنّكم أمسكتم عن حرب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في الشرك، ونصرتم الله ورسوله في الإسلام على الردّة، وعليٌّ علیه السلام قادم عليكم، وقد ضمنت له مثل عدّة من معه منكم، فانفروا معه، وقد كنتم تقاتلون في الجاهلية على الدنيا، فقاتلوا في الإسلام على الآخرة، فإن أردتم الدنيا فعند الله مغانم كثيرة، وأنا أدعوكم إلى الدنيا والآخرة، وقد ضمنت عنكم الوفاء، وباهيت النّاس بكم، فأجيبوا قولي، فإنّكم أعزّ العرب داراً، ولكم فضول من معاشكم وخيلكم، فاجعلوا فضل المعاش للقتال، وفضول الخيل للجهاد، وقد أظلكم عليٌّ علیه السلام والنّاس معه من المهاجرين والبدريين والأنصار، فكونوا أكثرهم عدداً، فإنّ هذا سبيل للحيِّ فيه الغنى والسرور، وللقتيل فيه الحياة والرزق الكريم.

فصاحت طيّ: نعم، حتّى كاد يصمّ من صياحهم، فلمّا قدم عليٌّ علیه السلام على طي، أقبل شيخ من طيّ قد هرم من الكبر، فرفع له من حاجبيه، فنظر إلى عليٍّ علیه السلام فقال: أنت ابن أبي طالب؟ قال: نعم، فقال: مرحباً بك وأهلاَ، قد جعلناك بيننا وبين النار، وعديُّنا بيننا وبينك، ونحن بينه وبين النّاس، والله لو أتيتنا غير مبايع لك لنصرناك؛ لقرابتك من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأيّامك الصالحة، ولئن كان ما يقال فيك حقاً من الخير، إن في

ص: 583

أمرك وأمر قريش لعجباً، إذ أخّروك وقدّموا غيرك، سِرْ فوالله لا يتخلف عنك من طي إلّا عبد أو دعيّ، إلّا بإذن منك، فشخص من طيء ثلاثة عشر ألف راكباً.

قال بعض المؤرخين: شهد عديّ مع أمير المؤمنين علیه السلام الجمل وصِفّين، وفُقئت عينه في يوم الجمل، وقتل ابنه طريف، وبقي بلا عقب.

وروى نصر بن مزاحم قال: حدّثنا عمر بن سعد، عن سعد بن طريف، عن أبي المجاهد، عن المحل بن خليفة قال: لما أراد أمير المؤمنين علیه السلام المسير إلى قتال أهل الشام، قام عديّ بن حاتم الطائي بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أمير المؤمنين ما قلتَ إلّا بعلم، ولا دعوت إلّا إلى الحقِّ، ولا أمرتَ إلّا برشد، ولكن إنْ رأيت أن تستأني هؤلاء القوم وتستدعيهم، حتّى تأتيهم كتبك، وتقدم عليهم رسلك، فإن يقبلوا يصيبوا رشدهم، والعافية أوسع لنا ولهم، وإن يتمادوا في الشقاق، ولا ينزعوا من الغي، نسير إليهم وقد قدمنا إليهم بالعذر، ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحقّ، فوالله لهم من الحقّ أبعد، وعلى الله أهون، من قوم قاتلناهم بإلّامس بناحية البصرة، لمّا دعوناهم إلى الحق فتركوه، ناوحناهم برّاً كالقتال، حتّى بلغنا منهم ما نحبّ، وبلغ الله منهم رضاه.

فقام زيد بن حصين الطائي، وكان من أصحاب البرانس المجتهدين، فقال: الحمد لله حتّى يرضى، ولا إله إلّا الله رّبنا، إمّا بعد، فوالله إن كنّا في شكٍّ من قتال من خالفنا،

ص: 584

ولا تصلح لنا النيّة في قتالهم حتّى نستدعيهم ونستأنيهم، ما الأعمال إلّا في تباب، ولا السعي إلّا في ضلال، والله تعالى يقول: ﴿وَإمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (1).

إنّنا والله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يتبعونه، فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم، القليل من الإسلام حظهم، أعوان الظلمة، وأصحاب الجور والعدوان، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا التابعين بإحسان.

فقام رجل من طي فقال: يا زيد بن حصين كلام سيدنا عديّ بن حاتم تهجن؟ فقال زيد: ما أنتم أعرف بحق عديّ منّي، ولكن لا أدع القول بالحقّ وإن سخط النّاس.

ولعدي في صِفّين مقامات مشهورة، وروى نصر بن مزاحم قال: جاء عديّ بن حاتم في يوم من أيام صِفّين يلتمس عليّاً علیه السلام ما يطأ إلّا على إنسان ميّت، أو قدم، أو ساعد، فوجده تحت رايات بكر بن وائل، فقال: يا أمير المؤمنين إلّا تقوم حتّى نموت ؟، فقال عليٌّ علیه السلام: {أُدنُ منّيْ}؛ فدنا منه حتّى وضع أذنه عند أنفه، فقال: {ويحَكَ إنَّ عامّة مَنْ معيْ يعصينيْ، وإنّ معاويةَ فيمنْ يُطيعهُ ولا يعصيهُ}؛ فقال عديّ بن حاتم:

أقول لمّا أن رأيت المعمعهْ *** واجتمع الجندان وسط البلقعهْ

هذا عليٌّ والهدى حقاً معه *** يا ربِّ فاحفظه ولا تضيعه

ص: 585


1- سورة الضحى – الآية: 11

فإنّه يخشاك ربّ فادفعه *** ومن أراد غيّه فضعضعه

وروى نصر أيضاً قال: إنتدب لعليٍّ علیه السلام همام بن قبيصة، وكان من أشتم النّاس لعليٍّ علیه السلام، وكان معه لواء هوازن، فقصد لمذحج وهو يقول:

قد علم الخرّد كالتمثالِ *** أنّي إذا دعيت للنزالِ

أقدم إقدام الهزبر العإليَّ *** أهل العراق إنكم من بالي

كل تلادي وطريف مالي *** حتّى أنال فيكم المعالي

أو أطعم الموت وتلكم حالي *** في نصر عثمان ولا أبالي

فقال عديّ بن حاتم لصاحب الراية: أدن منّي، فأخذه وحمله وهو يقول:

يا صاحب الصوت الرفيع العإليَّ *** إن كنت تبغى في الوغى نزالي

فادنُ فإنّي كاشف عن حالي *** تفدىي عليّاً مهجتي ومالي

وأسرتي تتبعها عيالي

فضربه وسلبه لواءه فقال إبن حطّان وهو شامت به:

أهمام لا تذكر مدى الدهر فارساً *** وعضّ على ما جئته بالأباهمِ

سما لك يوماً في العجاجة فارس *** شديد القصيرا ذو شجا وغماغم

ص: 586

فوليته لمّا سمعت نداءه *** تقول له خذ يا عديّ بن حاتم

فأصبحت مسلوب اللواء مذبذباً *** وأعظم بهذا منك شتمة شاتم

وروى نصر أيضاً قال: روي أن عمر بن الخطّاب دعا عابس بن سعد الطائي، وكان عديّ بن حاتم تزوج أخته، وأوّلد منها إبنه زيداً، فقال عمر: إنّي أريد ان أوّليك قضاء حمص، فكيف أنت صانع؟ قال: أجتهد رأيي وأستشير جلسائي، فانطلق فلم يمض إلّا يسيراً حتّى رجع فقال: يا أمير المؤمنين إنّي رأيت رؤيا أحبّ أن أقصّها عليك، قال: هاتها، قال: رأيت كأنّ الشمس أقبلت من المشرق، ومعها جمع عظيم، وكان القمر أقبل من المغرب، ومعه جمع عظيم، فقال عمر: مع أيّهما كنت ؟ قال: مع القمر، قال عمر: كنت مع إلّاية الممحوة، لا والله لا تعمل على عمل، فردّه، فشهد مع معاوية صِفّين، وكانت راية طيّ معه، فقتل يومئذ، فمرّ به عديّ بن حاتم ومعه زيد بن عدي، فرآه قتيلاً فقال: يا أبة هذا والله خالي، قال: نعم يلعن الله خالك، فبئس والله المصرع مصرعه، فوقف زيد فقال: من قتل هذا الرجل ؟ مراراً، فخرج إليه رجل من بكر بن وائل، طوال يخضب، فقال: أنا والله قتلته، قال: كيف صنعت به؟ فجعل يخبره فطعنه زيد بالرمح فقتله، وذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها؛ فحمل عليه عديّ يسبّه ويسب أمّه، ويقول: يا ابن المايقة لست على دين محمّد إن لم أرفعك إليهم، فضرب فرسه فلحق بمعاوية، فأكرمه وحمله وأدنى مجلسه، فرفع عديّ يده فدعا عليه فقال: اللهمَّ إنّ زيداً قد فارق ولحق بالمحلّين، اللهمَّ فارمه بسهم

ص: 587

من سهامك لا يشوى (1)، فإنّ رميتك لا تنمي، لا والله لا اكلمه من رأسي كلمة أبداً، ولا يظلني وإيّاه سقف بيت ابداً.

قال: وقال زيد في قتل البكري شعرا:

فمن مبلغ أبناء طيٍّ بأنّني *** ثأرت بخالي ثُمَّ لم أتأثم ِ

تركت أخا تيمٍ يبقّ بصدره *** بصِفّين مخضوب الجيوب من الدم

وذكّرني خالي غداة رأيته *** فأوجرته رمحي فخرّ على الفم

لقد غادرت أرماح بكر بن وائل *** قتيلاً عن الأهوال ليس بمحجم

قتيل يظل الحي يثنون بعده *** عليه بأيد من نداه وأنعم

لقد فجعت طي بحلم ونائل *** وصاحب غارات ونهب مقسم

لقد كان خالي ليس خال كمثله *** دعانا لضيم واحتمالاً لمغرمِ

قال: ولمّا لحق زيد بن عدي بمعاوية تكلم رجال من أهل العراق في عديّ بن حاتم، وطعنوا في أمره، وكان عديّ سيد النّاس مع عليٍّ علیه السلام في نصيحته وعنائه، فقام إلى عليٍّ علیه السلام فقال: يا أمير المؤمنين أما عصم الله رسوله صلی الله علیه و آله و سلم من حديث النفس والوسواس وأماني الشيطان بالوحي؟ وليس هذا لأحد بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ؟ وقد أنزل

ص: 588


1- أو قال: لا يخطىء

في عائشة وأهل آلافك، والنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم خير منك، وعائشة يومئذ خير مني، وقد قربني زيد للظنّ وعرضني للتهمة، غير إنّي إذا ذكرت مكانك من الله ومكاني منك ارتفع حناني (1) وطال نفسي، والله ان لو وجدت زيداً لقتلته، ولو هلك ما حزنت عليه، فأثنى عليه عليٌّ علیه السلام خيراً، وقال في ذلك شعراً:

أيا زيد قد عصبتني بعصابة *** وما كنت للثوب المدلس لابسا

فليتك لم تخلق وكنت كمن مضى *** وليتك إذ لم تمض لم تر حابسا

إلّا زاد أعداء وعقّ ابن حاتم *** أباه وأمسى بالفريقين ناكسا

وحامت عليه مذحج دون مذحج *** وأصبحت للأعداء ساقاً ممارسا

نكصت على العقبين يا زيد ردّة *** وأصبحت قد جدعت منا المعاطسا

قتلت امرؤاً من آل بكر بحابس *** فاصبحت مما كنت آمل آيسا

وروى الشريف المرتضى رضوان الله عليه في كتاب (الغرر والدرر) أن عديّاً دخل على معاوية، فقال له: ما فعل الطرفان، يعنى طريفاً وطرافاً وطرفة بنيه، قال: قتلوا مع عليّ بن أبي طالب علیه السلام، فقال: ما أنصفك ابن أبي طالب، قدّم بنيك وأخّر بنيه، فقال عديّ: بل ما أنصفته أنا أن قُتل وبقيتُ بعده.

ص: 589


1- وفي نسخة: اتسع خناقي

وقال له معاوية يوماً: ما أبقى لك الدهر من حبّ عليٍّ ؟ فقال: إن حبّه ليتجدد في القلب، وإن ذكره يتردد في اللسان.

وروي أنّه حضر جماعة من قريش عند معاوية، وعنده عديّ بن حاتم، وكان فيهم عبد الله بن الزبير، فقالوا: يا أمير المؤمنين ذرنا نكلم عديّاً، فقد زعموا أنّ عنده جواباً، فقال: إنّي أحذركموه، فقالوا: لا عليك، دعنا وإيّاه، فقال له إبن الزبير: يا أبا طريف متى فقئت عينك؟ قال: يوم فرّ أبوك وقتل شرّ قتلة، وضربك الأشتر على أستك، فوقعت هارباً من الزحف، وأنشد شعراً:

أما وأبي يا إبن الزبير لو انني *** لقيتك يوم الزحف ما رمت لي سخطا

وكان أبي في طي وأبو أبي *** صحيحين لم ينزع عروقهما القبطا

ولو رمت شتمي عند عدل قضاؤه *** لرمت به يا ابن الزبير مدى شحطا

فقال معاوية: قد كنت حذرتكموه فأبيتم.

قال المؤلف: عرّض عديّ بقوله صحيحين لم ينزع عروقهما القبطا بما ذكره النسابون من أن العوّام أبا الزبير كان رجلاً من القبط.

حدّث إسحق بن جرير قال: حدّثني رجل من بني هاشم، وكان نسابة لقريش قال: كان العوّام أبا الزبير رجلاً من القبط من أهل مصر، وكان مملوكاً لخويلد اشتراه من مصر، وإنّما سمّي العوّام لأنّه يعوم في نيل مصر، ويخرج ما يغرق فيه من متاع

ص: 590

الدنيا، واشتراه خويلد فنزل بمكّة، ثُمَّ إن خويلداً تبنّاه وشرط عليه إن هو جنى عليه جناية ردّه في الرقّ.

وقال: وكان يقال له: العوّام بن خويلد، وقد قال حسّان بن ثابت يهجو آل الزبير بن العوّام، ويقال: أن عثمان بن الحويرث قالها:

بني أسد ما بال آل خويلد *** يحنّون شوقاً كل يوم إلى القبط ِ

إذا ذكرت هيفاء حنّوا لذكرها *** وللرّمث المقرون والسمك الرقط

أحمري بني العوّام إن خويلداً *** غداة تبنّاه ليوثق في الشرط

بأنّك إن تجني عليّ جناية *** أردّك عبداً للنهايا وللقبط ِ

قال: فسألت الهاشمي كيف تزوج العوّام صفيّة بنت عبد المطّلب؟ قال: نحن لم نزوّجها، قلت: فمن زوّجها؟ قال: كان ظهر بصفيّة داء لا يراه منها إلّا بعلها، فخرجت إلى الطائف إلى الحرث بن كلدة الثقفي، وكان طبيباً، فوصفت له ما تجد، فقال لها: إنّي لا أستطيع أن أداويك، فإن هذا موضع لا يراه إلّا بعل، وكان العوّام يومئذ بالطائف، قد خرج إلى الحرث بن كلدة من داء كان به، فعالجه حتّى برأ، فقال لها الحرث: زوّجي نفسك من العوّام، ولم تجد بداً من ذلك؛ لما كان بها، فكان الحرث يصف للعوّام فيعالجها، حتّى تماثلت، ففي ذلك يقول الحرث للعوّام حين تزوج صفيّة بنت عبد المطّلب:

ص: 591

تزوّجتها لا بين زمزم والصفا *** ولا في ديار الشِعب شعب إلّاكارم ِ

تزوّجتها لم يشهد القوم بضعها *** بنو عمّها من عبد شمس وهاشم

قال: فكان ذلك سبب تزويج صفيّة بنت عبد المطّلب من العوام.

مات عديّ رضوان الله عليه سنة ثُمان وستين، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وذلك زمن المختار رضوان الله عليه.

ص: 592

عبادة بن الصامت بن قيس

عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن تغلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، يكنّى أبا الوليد، أحد النقباء ليلة العقبة، والذي بايع النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

وهو من القوافل، ومعنى القوافل أن الرجل من العرب كان إذا دخل يثرب يجئ إلى شريف من الخزرج ويقول له: أجرني ما دمت بها من أن أظلم، فيقول: قوفل حيث شئت، فلا يتعرض له أحد.

وهو أحد من جمع القرآن، وكان طويلاً جسيماً جميلاً.

قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار.

قال العلامة قدس سره في الخلاصة: هو ممّن أقام بالبصرة وكان شيعياً.

وقال الكشّي عن الفضل بن شاذان: إنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام .

مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وله اثنتان وسبعون سنة، وأخطأ من قال: أنّه عاش إلى خلافة معاوية.

ص: 593

بلال بن رباح

بلال بن رباح - بفتح الراء المهملة والباء الموحدة وبعد الألف حاء مهملة - الحبشيّ بن حمامة، وهي أمّه، كانت مولاة لبني جمح، يكنّى أبا عبد الله.

مؤذن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أسلم قديماً فعذّبه قومه، وجعلوا يقولون له: ربّك اللاتُ والعزى وهو يقول: أحدٌ أحد.

قال محمّد بن إسحق: كان أميّة بن خلف يخرج بلال إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكّة، ثُمَّ يأمر بالشجرة العظيمة، ثُمَّ توضع على ظهره، فيقول: لا تزال هكذا حتّى تموت، أو تكفر بمحمّد، وتعبد اللات والعزى، فيقول بلال وهو على ذلك: أحدٌ أحد.

فمرَّ أبو بكر يوماً على أميّة بن خلف، وهو يعذّب بلالاً، فقال لأميّة: أما تتقي الله تعالى في هذا المسكين، حتّى متى ؟ قال: أنت أفسدته، فأنقذه مما ترى؛ فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود، أجلد وأقوى على دينك، أعطيكه به، قال أميّة: قد قبلت، قال: هو لك، فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالاً.

وفى معالم التنزيل إسم الغلام الذي أشترى به أبو بكر بلالاً من أميّة بن خلف قسطاط.

ص: 594

وفى مناقب إبن شهر آشوب كان لأبي بكر غلام مشرك، فرأى بلالاً يُعذب، فقايض به.

وقيل: أن أبا بكر اشترى بلالاً بسبع أواقٍ، وقيل: بخمس، فأعتقه، وشهد بدراً وأُحداً والمشاهد كلّها مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وفيه يقول الشاعر يوم بدر:

هنيئاً زادك الرحمن خيراً *** فقد أدركت خيرك يا بلال ُ

فلا نكساً وجدت ولا جباناً *** غداة تنوشك إلّاسل الطوال

وهو أوّل من أذّن لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكان يؤذن له سفراً وحضراً، وكان خازناً على بيت ماله، وعامله على صدقات الثمار، وشهد له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالجنّة، وكان أدم شديد الأدمة نحيفاً طويلاً أحنى، له شعر كثير، خفيف العارضين به شمط كثير لا يغيره، وكان يُلحن في كلامه، ويجعل الشين سيناً، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [سينُ بلالَ عندَ اللهِ شينٌ].

وجاء رجل إلى أمير المؤمنين علیه السلام فقال: يا أمير المؤمنين إن بلالاً كان يناظر اليوم فلاناً، فجعل يُلحن في كلامه، وفلان يعرب ويضحك من بلال، فقال أمير المؤمنين علیه السلام: {يا أبا عبد الله إنّما يُراد إعراب الكلامِ وتقويمهُ لتقويمِ الأعمالِ وتهذيبِها، ما ينفعُ فلاناً إعرابُه وتقويمُه لكلامِه إذا كانتْ أفعالُه ملحونةً أقبحَ لحنٍ، وماذا يضرّ بلالاً لحنُه في كلامِه إذا كانتْ أفعالُه مقومةً أحسنَ تقويمٍ، ومهذبةً أحسنَ تهذيبٍ}.

ومع ذلك فقد روي له شعر فصيح بالعربية.

ص: 595

روى النسائي في سننه، وابن هشام في سيرته أنّه لمّا قدم المدينة فيمن قدم أخذته الحمّى، فكان إذا قلّت عنه يرفع عقيرته ويقول:

إلّا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً *** بوادٍ وحولي أذخر وجليل ُ

وهل أردن يوماً مياه مجنّة *** وهل يبدون لي شامة وطفيل

ثُمَّ يقول: اللهمَّ العن عتبة بن أبي ربيعة، وأميّة بن خلف، كما أخرجونا إلى أرض الوباء.

والمراد بالواد مكّة، وجليل نبت ضعيف وقيل: هو التمّام، ومجنّة بفتح الميم وقد تكسر وفتح الجيم أيضاً وبعدها نون مشددة سوق بأسفل مكّة، وفى القاموس أنّه موضع قرب مكّة، وشامة وطفيل بكسر الفاء جبلان مشرفان على مجنّة، وفي المواهب اللدنية شامة وطفيل عينان بقرب مكّة.

وروي أن بلال مدح النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بلسان الحبشة فقال:

أره بره كنكره *** كراكرى مندره

فقال صلی الله علیه و آله و سلم لحسان بن ثابت: [إجعلهُ عربيّاً]، فقال حسان بالعربية:

إذا المكارم في آفاقنا ذكرتْ *** فإنّما بك فينا يضرب المثلُ

ص: 596

وروى أن النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم بينما هو والنّاس في المسجد ينتظرون بلال أن يأتي فيؤذن، إذ أتى بعد الأذان، فقال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [ما حَبَسَكَ يا بلالُ]، فقال: إنّي اجتزت بفاطمة علیها السلام وهي تطحن، واضعة إبنها الحسن علیه السلام عند الرحى، وهي تبكي، فقلت لها: أيّما أحبّ إليك؟ إن شئت كفيتك إبنك، وإن شئت كفيتك الرحى، فقالت: أنا أرفق بإبني، وأخذتُ الرحى فطحنت، فذاك الذي حبسني؛ فقال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [رحمتَها، رَحَمَكَ اللهُ].

وفى مناقب إبن شهر آشوب روي أنّه أخذ بلال جمانة بنت الزحاف الأشجعي، فلمّا كان في وادى النعام هجمت عليه، وضربته ضربة بعد ضربة، ثُمَّ جمعت ما كان يعزّ عليها من ذهب وفضة في سفرة، وركبت حجْرة من خيل أبيها، وخرجت من العسكر على وجهها إلى شهاب بن مازن، الملقّب بالكوكب الدري، وكان قد خطبها من أبيها، ثُمَّ إنّه أنفذ النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم سلمان وصهيباً إليه لإبطائه، فرأوه ملقىً على وجه الأرض، والدم يجري من تحته على وجه الأرض، فأتيا النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم فأخبراه بذلك، فقال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [كفّوا عنِ البكاءِ]، ثُمَّ صلّى ركعتين، ودعا بدعوات، ثُمَّ أخذ كفّاً من الماء، فرشّه على بلال، فوثب قائماً، وجعل يقبّل قدم النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم، فقال له النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [مَنْ هذا الذيْ فعلَ بِكَ هذا الفعالَ يا بلالُ]، فقال: جمانة بنت الزحاف، وإنّي لها عاشق، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [أبشرْ يا بلالُ فسوفَ أنفذُ إليها وآتي بها]، فقال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [يا أبا الحسنِ، هذا أخي جبرئيلُ يخبرنيْ منْ ربِّ العالمينَ أنَّ جُمانةَ لمّا قتلتْ بلالَ مضتْ إلىْ رجلٍ يُقالُ لهُ: شهابُ بنُ مازن، وكانَ قدْ خطبَها منْ أبيها، ولمْ ينعمْ لهُ بزواجِها،

ص: 597

وقدْ شكتْ حالَها إليه، وقدْ سارَ بجموعِهِ يرومُ حربَنا، فقمْ واقصدهُ بالمسلمينَ، فاللهُ تعالى ينصركَ عليهِ، وها أنا راجعٌ إلى المدينةِ].

قال: فعند ذلك سار الإمام علیه السلام بالمسلمين، وجعل يجدّ في السير حتّى وصل إلى شهاب، وجاهده ونُصر المسلمون؛ فأسلم شهاب وأسلمت جمانة والعسكر، وأتى بهم الإمام علیه السلام إلى المدينة، وجددوا الإسلام على يد النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم، فقال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [يا بلالُ ما تقولُ؟]، فقال: يا رسول الله قد كنت محبّاً لها، وشهاب بن مازن أحقّ بها منّي، فعند ذلك وهب شهاب لبلال جاريتين وفرسين وناقتين.

وروي أنّه صلی الله علیه و آله و سلم قال لعجوز: [أشجعيةُ يا أشجعيةً، لا تدخلُ العجوزُ الجنّةَ]، فرآها بلال باكية، فرفعها للنبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم فقال: [والأسودُ كذلكَ]، فجلسا يبكيان، فرآهما العبّاس، فذكرهما له، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [والشيخُ كذلكَ]، فجلسوا يبكون، فدعاهم وطيّب قلوبهم، وقال: [يُنشئهم اللهُ كأحسنَ ما كانوا]، وذكر أنّهم يدخلون الجنّة شباباً منوّرين.

ولمّا كان يوم الفتح أمر النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم بلالاً أن يصعد البيت ويؤذن فوقه، فصعد وأذّن على البيت، فقال خالد بن سعيد بن العاص: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يدرك هذا اليوم، وقال: الحارث بن هشام: واثكلاه، ليتني متُّ قبل هذا اليوم، قبل أن أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة، وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث العظيم، إن عبد بني جمع يصيح بما يصيح به على بيته، فأتى جبرئيل علیه السلام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأخبره بمقالة القوم.

ص: 598

ولم يؤذن بلال لأحد بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وقال: لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وإن فاطمة علیها السلام قالت ذات يوم: (إنّي أشتهيْ أنْ أسمعَ صوتَ مؤذنِ أبيْ صلی الله علیه و آله و سلم بالأذان)، فبلغ ذلك بلالاً، فأخذ في الأذان، فلمّا قال: ألله أكبر، ذكرت أباها وأيامه، فلم تتمالك من البكاء، فلمّا بلغ إلى قوله: أشهد ان محمّداً رسول الله، شهقت فاطمة علیها السلام، وسقطت لوجهها وغشي عليها، فقال النّاس لبلال: أمسك، فقد فارقت ابنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الدنيا، فظنّوا أنّها قد ماتت، فقطعوا أذانه ولم يتمّه، فأفاقت فاطمة علیها السلام وسألته أن يتمّ الأذان، فلم يفعل، وقال لها: يا سيدة النسوان إنّي اخشى عليك مما تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان، فأعفته عن ذلك.

وفى (المواهب اللدنية) أن عمر لما قدم الشام حين فتحها أذّن بلال، فتذكر النّاس النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم،قال أسلم مولى عمر: فلم أرَ باكياً أكثر من يومئذ.

وعن إبراهيم التميمي، لما توفي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أذّن بلال ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لم يدفن، فكان إذا قال: أشهد ان محمّداً رسول الله إنتحب النّاس في المسجد، فلمّا دُفن قال له أبو بكر: أذّنْ، قال: إن كنت إنّما أعتقتني لأن أكون معك، فلا سبيل إلى ذلك، وإن كنت أعتقتني لله، فخلّني ومن أعتقتني له، قال: ما أعتقتك إلّا لله، قال: فإنّي لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قال: فذلك إليك، قال: فأقام حتّى خرجت بعوث الشام، فخرج معهم حتّى انتهى إليها.

وعن سعيد بن المسيب قال: لمّا كانت خلافة أبي بكر، تجهّز بلال ليخرج إلى الشام، فقال له أبو بكر: ما كنت أراك تدعني على هذه الحالة، فلو أقمت معنا فأعنتنا، قال:

ص: 599

إن كنت إنّما أعتقتني لله تعالى فدعني أذهب، وإن كنت إنّما أعتقتني لنفسك فاحبسني عندك، فأذن له فخرج إلى الشام فمات بها.

وفى المنتقى قال أبو بكر لبلال: أعتقتك وقد كنت مؤذّناً لرسول الله، وبيدك أرزاق رسله ووفوده، فكن مؤذناً لي كما كنت لرسول الله، وخازناً لي كما كنت خازناً لرسول الله، فقال: يا أبا بكر صدقت كنت كذلك، فإن كنت أعتقتني لتأخذ منفعتي في الدنيا أقمت حتّى أخدمك، وإن كنت أعتقتني لتأحذ الثواب من الربّ فخلّني والرب، فبكى أبو بكر وقال: أعتقتك لآخذ الثواب من المولى، فلا أعجلها في الدنيا؛ فخرج بلال إلى الشام فمكث زماناً، فرأى النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم فقال: يا بلال جفوتنا وخرجت من جوارنا وبلادنا، فاقصد إلى زيارتنا، فانتبه بلال، وقصد إلى المدينة، وذاك قريب موت فاطمة علیها السلام، فلمّا انتهى إلى المدينة تلقّاه النّاس، فأُخبر بموت فاطمة علیها السلام، فصاح وقال: بضعة النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم ما أسرع ما لحقت بالنبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم، فقالوا له: إصعد فأذّن، فقال: لا أفعل بعد ما أذّنت لمحمّد صلی الله علیه و آله و سلم، فلم يزالوا به حتّى صعد، فاجتمع أهل المدينة، رجالهم ونساؤهم وصغارهم وكبارهم، وقالوا: هذا بلال مؤذن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يريد أن يؤذّن استمعوا إلى أذانه، فلمّا قال: الله أكبر الله أكبر، صاحوا وبكوا جميعاً، فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلّا الله، ضجّوا جميعاً، ولما قال: أشهد أن محمّداً رسول الله، لم يبقَ في المدينة ذو روح إلّا بكى وصاح, وخرجت العذارى من خدورهن وهنَّ يبكين، وصار كموت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، حتّى فرغ من أذانه، فقال: أبشّركم أنّه لا تمسُّ النار عين

ص: 600

بكت على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثُمَّ انصرف إلى الشام، وكان يرجع كل سنة مرة فينادى بالأذان إلى أن مات.

وأخرج الشيخ الصدوق في الفقيه عن أبي بصير عن أحدهماً علیها السلام أنّه قال: (إن بلالاً كان عبداً صالحاً قال: لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فترك يومئذ حيَّ على خير العمل).

وفى كتاب (أصفياء أمير المؤمنين علیه السلام ) وعن ابن أبي البختري قال: حدّثنا عبد الله بن الحسن أن بلال أبى أن يبايع أبا بكر، وأن عمر جاء وأخذ بتلابيبه، فقال: يا بلال إن هذا جزاء أبي بكر منك، أنّه أعتقك فلا تجيء تبايعه، فقال: إن كان أبو بكر أعتقني لله فليدعني له، وإن كان أعتقني لغير ذلك فها أنا ذا، وإمّا بيعته فما كنت أبايع أحداً لم يستخلفه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وإن بيعة ابن عمّه يوم الغدير في أعناقنا إلى يوم القيامة، فأيّنا يستطيع أن يبايع على مولاه!، فقال له عمر: لا أمّ لك لا تقيم معنا، فارتحل إلى الشام، وتوفي بدمشق في الطاعون، ودفن بباب الصغير.

وله شعر في هذا المعنى:

بالله لا بأبي بكر نجوت ولولا *** الله قامت على أوصالي الضبع

الله بوأني خيراً وأكرمني *** وإنّما الخير عند الله متبع

لا تلقينّي تبوعاً كل مبتدع *** فلست مبتدعاً مثل الذي ابتدعوا

ص: 601

وعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله علیه السلام قال: كان بلال عبداً صالحاً، وكان صهيب عبداً سوء يبكي على عمر.

وأخرج ابن بابويه في أماليه، بإسناده عن هشام بن الحكم، عن ثابت بن هرمز، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أحمد بن أبي عبد الحميدي، عن عبد الله بن علي قال: حملت متاعاً من البصرة إلى مصر فقدمتها، فبينا أنا في بعض الطريق، إذ أنا بشيخ طويل شديد الأدمة أصلع أبيض الرأس واللحية، عليه طمران أحدهما أسود والآخر أبيض، فقلت: من هذا ؟ قالوا: هذا بلال مؤذن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فأخذت ألواحي وأتيته فسلّمت عليه، ثُمَّ قلت: السلام عليك أيّها الشيخ، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قلت: يرحمك الله حدثني بما سمعت من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قال: وما يدريك من أنا ؟ فقلت: أنت بلال مؤذن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قال: فبكى وبكيت حتّى اجتمع النّاس علينا ونحن نبكي، قال لي: يا غلام من أيّ البلاد أنت؟ قلت: من أهل العراق، قال: بخٍ بخٍ، فمكث ساعة ثُمَّ قال: أكتب يا أخا أهل العراق: بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [المؤذنونَ أمناءُ المؤمنينَ علىْ صلاتِهمْ وصومِهمْ ولحومِهمْ ودمائِهمْ، لا يسألونَ اللهَ شيئاً إلّا أعطاهمْ، ولا يشفعونَ فيْ شيء إلّا شُفّعوا].

قلت: زدني قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [مَنْ أذّنَ أربعينَ عاماً محتسباً، بعثهُ اللهُ يومَ القيامةِ ولهُ عملُ أربعينَ صدّيقاً مبروراً متقبّلاً].

قلت: زدني يرحمك الله، قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [منْ أذّن عشرينَ عاماً بعثهُ اللهُ يومَ القيامةِ ولهُ نورٌ مثلُ نورِ سماءِ الدنياْ].

قلت: زدني يرحمك الله، قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [منْ أذّنَ عشرَ سنينَ أسكنهُ اللهُ معَ إبراهيمَ فيْ قبّتهِ أوْ فيْ درجتهِ].

قلت: زدني يرحمك الله، قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [منْ أذّنَ سنةً واحدةً بعثهُ اللهُ يومَ القيامةِ وقدْ غُفرتْ ذنوبهُ كلّها بالغةً ماْ بلغتْ، ولوْ كانتْ مثلَ زنةِ جبلِ أُحدٍ].

ص: 602

قلت: زدني يرحمك الله، قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [منْ أذّنَ فيْ سبيلِ اللهِ صلاةً واحدةً إيماناً واحتساباً وتقرباً إلىْ اللهِ، غفرَ اللهُ لهُ ما سلفَ منْ ذنوبهِ ومَنَّ اللهُ عليهِ بالعصمةِ فيما بقيَ منْ عمرِهِ، وجمعَ بينهُ وبينَ الشهداءِ فيْ الجنّةِ].

قلت: يرحمك الله حدثني بأحسن ما سمعت، قال: ويحك يا غلام قطعت نياط قلبي، وبكى وبكيت حتّى أنّي والله لرحمته، ثُمَّ قال: أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [إذاْ كانَ يومُ القيامةِ وجمعَ اللهُ النّاس فيْ صعيدٍ واحدٍ، بعثَ الله إلىْ المؤذّنينَ بملائكةٍ منْ نورٍ، معهمْ ألويةٌ وأعلامٌ منْ نورٍ، يقودونَ نجائبَ منْ زبرجدٍ أخضرَ، وحقائبها المسكُ إلّاذفرُ، يركبهُا المؤذّنونَ فيقومونَ عليهاْ قياماً، يقودُهم الملائكةُ، ينادونَ بأعلىْ أصواتِهم بالأذان].

ص: 603

ثُمَّ بكى بكاء شديداً حتّى انتحبت وبكيت، فلمّا سكت قلت: مم بكاؤك؟ قال: ويحك ذكرتني أشياء، سمعت حبيبي وصفيي صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [والذيْ بعثنيْ بالحقِّ نبيّاً إنّهمْ ليمرّونَ على الخلقِ قياماً على النجائبِ، فيقولونَ: اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ، فإذاْ قالوا كذلكَ سمعْت لأُمّتي ضجيجاً ]، فسأله أُسامة بن زيد عن ذلك الضجيج ما هو؟ قال: [الضجيجُ التسبيحُ والتحميدُ والتهليلُ، فإذا قالوا: أشهدٌ أنْ لا إله إلّا اللهُ، قالت أُمّتيْ إيّاهُ كنّا نعبدُ في الدنيا، فيُقال: صدقتمْ، فإذا قالوا: أشهدُ أنَّ محمّداً رسولُ اللهِ، قالت أمّتيْ هذا الذيْ أتانا برسالةِ ربِّنا فآمنّا بِهِ ولمْ نرهُ، فيقالُ لهم: صدقتمْ هوَ الذيْ أدّى إليكمْ الرسالةَ منْ ربِّكمْ، وكنتمْ بهِ مؤمنينَ، فحقيقٌ علىْ اللهِ أنْ يَجمعَ بينكمْ وبينَ نبيّكمْ، فينتهي بهمْ إلىْ منازلِهمْ، وفيهاْ ما لا عينَ رأتْ، ولا أذنَ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ]، ثُمَّ نظر إليَّ فقال لي: إن استطعتَ ولا قوّةَ إلّا باللِه أنْ لا تموتَ إلّا مؤذّناً فافعلْ.

فقلت: يرحمك الله تفضل عليَّ واخبرني، فإنّي فقير محتاج، وادِّ إليَّ ما سمعت من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فإنّك قد رأيته ولم أره، وصف لي كيف وصف لك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بناء الجنّة، قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [ إنَّ سورّ الجنّةِ لبنةٌ منْ ذهبٍ ولبنةٌ منْ فضةٍ ولبنةٌ منْ ياقوتٍ، وملاطُها المسكُ إلّاذفرُ شرفُها إليَّاقوتُ إلّاحمرُ والأخضرُ وإلّاصفرُ]، قلت: فما أبوابها ؟ قال: أبوابها مختلفة، باب الرحمة من ياقوتة حمراء، قلت: فما حلقته ؟ قال: ويحك كفَّ عنّي، فقد كلّفتني شططاً، قلت: ما أنا بكافٍّ عنك حتّى تؤدي إليَّ ما سمعت من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في ذلك، قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم إمّا باب الصبر، فباب صغير مصراع واحد من

ص: 604

ياقوتة حمراء، لا حلقة لها، وأمّا باب الشكر فإنّه من ياقوتة بيضاء له مصراعان، مسيرة ما بينهما خمسمائة عام، له ضجيج وحُنَين، يقول: اللهمَّ جئني بأهلي.

قلت: هل يتكلم الباب؟ قال: نعم ينطقه ذو الجلال والإكرام، وأمّا باب البلاء، قلت: أليس باب البلاء هو باب الصبر؟ قال: لا، قلت: فما البلاء؟ قال: المصائب والأسقام والأمراض والجذام، وهو باب من ياقوتة صفراء مصراع واحد، ما أقل من يدخل منه.

قلت: رحمك الله زدني، وتفضل على فإنّي فقير، فقال: يا غلام لقد كلفتني شططاً، أمّا الباب الأعظم فيدخل منه العباد الصالحون، وهم أهل الزهد والورع والراغبون إلى الله عزَّ وجلَّ، المستأنسون به.

قلت: رحمك الله، فإذا دخلوا الجنّة ماذا يصنعون؟ قال: يسيرون على نهرين في مصاف في سفن إليَّاقوت، مجاديفها اللؤلؤ، فيها ملائكة من نور، عليهم ثياب خضر شديدة خضرتها.

قلت: رحمك الله هل يكون من النور الأخضر؟ قال: إن الثياب هي خضر، ولكن فيها نور من نور ربّ العالمين، يسيرون على حافة ذلك النهر.

قلت: فما إسم ذلك النهر؟ قال: جنّة المأوى، قلت: هل وسطها غير هذا؟ قال: نعم جنّة عدنٍ، وهي في وسط الجنان، فإمّا جنةُ عدن فسورها ياقوت أحمر، وحصيها اللؤلؤ، قلت: فيها غيرها؟ قال: نعم جنة الفردوس، قلت: وكيف سورها؟ قال: ويحك

ص: 605

كفّ عنّي، قد حيرت عليّ قلبي، قلت: بل أنت الفاعل بي ذلك، ما أنا بكافٍّ عنك حتّى تتمّ لي الصفة، وتخبرني عن سورها، قال: سورها نور، قلت: والغرف التي هي فيها ؟ قال: هي من نور رب العالمين، قلت: زدني رحمك الله، قال: ويحك إلى هذا انتهى بنا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، طوبى لك إن أنت وصلت إلى بعض هذه الصفة، وطوبى لمن يومن بهذا.

قلت: يرحمك الله أنا والله من المؤمنين بهذا، قال: ويحك إنّه من يؤمن أو يصدق بهذا الحق والمنهاج لم يرغب في الدنيا ولا في زهرتها وحاسب نفسه، قلت: أنا مؤمن بهذا، قال: صدقت، ولكن قارب وسدد، ولا تيأس واعمل، ولا تفرّط وارجع، وخِفْ واحذر، ثُمَّ بكى وشهق ثلاث شهقات، فظننا انّه مات، ثُمَّ قال: فداكم أبي وأمّي لو رآكم محمّدٌ صلی الله علیه و آله و سلم لقرّت عينه حين تسألون عن هذه الصفة، ثُمَّ قال: النجا النجا، الوحا الوحا، الرحيل الرحيل، العمل العمل، وإيّاكم والتفريط، وإيّاكم والتفريط، ثُمَّ قال: ويحكم اجعلوني في حلٍّ ممّا فرّطت، فقلت له: أنت في حلٍّ ممّا فرّطت، جزاك الله الجنّة، كما أدّيت وفعلت الذي عليك يجب، ثُمَّ ودعني وقال لي: إتّقِ الله وأدِّ إلى أمّة محمّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم ما أديت إليك، فقلت: أفعل إن شاء الله تعالى، قال: استودع الله دينك وامانتك، وزودك التقوى، وأعانك على طاعته بمشيئته.

وذكر الزمخشري في (ربيع الأبرار) قال: خطب بلال لأخيه خالد بن رياح امرأة قرشية فقال لأهلها: نحن من قد عرفتم، كنّا عبدين فاعتقنا الله، وكنّا ضإليَّن فهدانا

ص: 606

الله، وكنّا فقيرين فأغنانا الله، وأنا أخطب لكم على أخي فلانة، فإن تنحكونا فالحمد لله، وإن تردّونا فالله أكبر.

فأقبل بعضهم على بعض وقالوا: بلال من قد عرفتم سابقته ومشاهده ومكانه من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فزوجوا أخاه، فلمّا انصرفا قال له أخوه: يغفر الله لك، أما كنت تذكر سوابقنا ومشاهدنا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: يا أخي صدقت فأنكحك الصدق.

ومات بلال رضوان الله عليه سنة سبع عشرة، أو عشرين، أو إحدى وعشرين، وله أربع وستون سنة، واختلف في موضع موته، فقيل: بدمشق ودفن بباب الصغير، وقيل: بحلب ودفن على باب الأربعين.

قال القسطلاني في المواهب اللدنية: ولا عقب له، والله أعلم.

ص: 607

أبو الحمراء

أبو الحمراء مولى النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم وخادمه، إسمه هلال بن الحرث، وقيل: ابن ظفر، وأصله فارسي، وعدّه بعضهم في إلّاحرار من خدامه.

قال أبو عمرو بن عبد البر في (الإستيعاب): حديثه عن النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم أنّه كان يمرُّ ببيت فاطمةَ وعليٍّ علیهما السلام فيقول: [السلامُ عليكمْ أهلَ البيتِ، إنّما يُريدُ اللهُ ليُذهبَ عنْكمْ الرِجْسَ أهلَ البيتِ ويُطهّرَكُمْ تَطهيراً].

وأخرج إبن بابويه في أماليه، بإسناده عن أبي الجارود، عن زياد بن المنذر، عن القاسم بن الوليد، عن شيخ من ثُمالة قال: دخلت على امرأة من تميم عجوز كبيرة، وهي تحدث النّاس، فقلت لها: يرحمك الله حدثيني في بعض فضائل أمير المؤمنين علیه السلام، فقالت: أحدثك، فهذا شيخ كما ترى بين يدي نائم، فقلت لها: ومن هذا؟ قالت: أبو الحمراء خادم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فجلست إليه، فلمّا سمع حسّي استوى جالساً فقال: مه؟ فقلت: رحمك الله حدثني بما سمعت ورأيت من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يصنعه بعليٍّ علیه السلام ؟ فإن الله يسألك عنه، فقال: على الخبير وقعت، إمّا ما رأيت النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم يصنعه بعليٍّ علیه السلام فإنّه قال لي ذات يوم: يا أبا الحمراء إنطلق فادع لي مائة من العرب، وخمسين رجلاً من العجم، وثلاثين رجلاً من القبط، وعشرين رجلاً من الحبشة، فأتيت بهم، فقام رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فصفّ العرب، ثُمَّ صفَّ العجم خلف العرب، وصفَّ القبط خلف العجم، وصفَّ الحبشة خلف القبط، ثُمَّ قام فحمد الله وأثنى عليه، ومجّد

ص: 608

الله بتمجيد لم يسمع الخلائق بمثله، ثُمَّ قال: [يا معشرّ العربِ والعجمِ والقبطِ والحبشةِ، أقررتمْ بشهادةِ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأنّ محمّداً عبدُهُ ورسولهُ؟]،فقالوا: نعم، فقال: [اللهمَّ اشهدْ]، حتّى قالها ثلاثاً، فقال في الثالثة: [أقررتمْ بشهادةِ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأنّ محمّداً عبدُهُ ورسولهُ، وأنّ عليَّ بنَ أبيْ طالبَ أميرُ المؤمنينَ ووليُّ أمرِهم منْ بعديْ؟]، فقالوا: اللهمَّ نعم فقال: [اللهمَّ اشهد]، حتّى قالها ثلاثاً، ثُمَّ قال لعليٍّ علیه السلام: [يا أبا الحسن انطلق فأتني بصحيفةٍ ودواةٍ]، فانطلق وأتاه بصحيفة ودواة، فدفعها إلى عليٍّ بن أبي طالب وقال: اكتب، فقال: وما أكتب ؟ قال اكتب: [بسمِ الِله الرحِمن الرحيمِ هذاْ ما أقرّتْ بهِ العربُ والعجمُ والقبطُ والحبشةُ، أقرّوا بشهادةِ أنْ لا إله إلّا الله وحَدهُ لا شريكَ لهُ، وأنَّ محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ، وأنَّ عليَّ بنَ أبيْ طالبَ أميرُ المؤمنينَ ووليُّ أمرِهمْ منْ بعديْ].

ثُمَّ ختم الصحيفة ودفعها إلى عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام، فما رأيّتها إلى الساعة، فقلت: رحمك الله زدني قال: نعم، خرج علينا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم عرفة، وهو آخذ بيد عليٍّ علیه السلام فقال: [يا معشرَ الخلائقِ إنّ اللهَ عزَّ وجلَّ باهي بكمْ فيْ هذاْ اليوم؛ ليغفرَ لكمْ عامّة]، ثُمَّ التفت إلى عليٍّ علیه السلام فقال له: [وغفرّ اللهُ لكَ يا عليُّ خاصةً]، ثُمَّ قال: [يا عليُّ أدنُ منّي]، فدنا منه فقال: [إنَّ السعيدَ حقّ السعيدِ مَنْ أحبّك وأطاعكَ، وإنَّ الشقيَّ كلّ الشقيّ منْ عاداكَ ونصبَ لكَ وأبغضكَ، يا عليُّ كذبَ منْ زعمَ أنّه يُحبّنيْ ويُبغضكَ، يا عليُّ منْ حاربَكَ فقدْ حاربنيْ، ومنْ حاربنيْ فقدْ حاربَ اللهَ، يا عليُّ منْ أبغضكَ فقدْ أبغضنيْ، ومنْ أبغضنيْ فقدْ أبغضَ اللهَ، وأتعسَ اللهُ جدّهُ، وأدخلهُ نارَ جهنَّم ].

ص: 609

قال غير واحد من أصحاب السير: إن أبا الحمراء نزل بحمص وتوفي بها رحمه الله.

ص: 610

أبو رافع

أبو رافع مولى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، إسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، وقيل: ثابت، وقيل: هرمز، وقيل: بندويه، وقيل: القبطي، وقيل: العجمي.

كان للعباس بن عبد المطّلب فوهبه للنبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم، فلمّا بشّر النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم بإسلام العبّاس أعتقه، وكان على فعله، وزوجه مولاته سلمى، فولدت له عبيد الله كاتب أمير المؤمنين علیه السلام في خلافته كلّها.

قال النجاشي: أخبرنا محمّد بن جعفر الأديب، قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد في تاريخه أن أبا رافع أسلم قديماً بمكّة وهاجر إلى المدينة، وشهد مع النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم مشاهده، ولزم أمير المؤمنين علیه السلام من بعده، وكان من خيار الشيعة، وشهد معه حروبه، وكان صاحب بيت ماله بالكوفة، وإبناه عبيد الله وعليّ كاتبا أمير المؤمنين علیه السلام .

وأخرج أيضاً بإسناده عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن أبي رافع قال: دخلت على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو نائم، أو يوحى إليه، وإذا حيّة في جانب البيت، فكرهت أن أقتلها فأُوقظه، فاضطجعت بينه وبين الحيّة، حتّى إن كان منها

ص: 611

سوء يكون إليَّ دونه، فاستيقظ صلی الله علیه و آله و سلم وهو يتلو هذه إلّاية ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (1).

ثُمَّ قال: [الحمدُ للهِ الذيْ أكملَ لعليٍّ مُنيتَهُ، وهنيئاً لعليٍّ بتفضيلِ اللهِ إيّاهُ]، ثُمَّ التفت فرآني إلى جانبه، فقال: [ما أضْجعكَ هناْ يا أبا رافعٍ؟]، فأخبرته خبر الحيّة، فقال: [قمْ إليها فاقتلْها]، فقتلتها.

ثُمَّ أخذ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بيدي فقال: [يا أبا رافعٍ كيفَ أنتَ وقومٌ يُقاتلونَ عليّاً وهوَ علىْ الحقِّ، وهمْ على الباطلِ؛ يكون حقّاً فيْ اللهِ حقُّ جهادِهمْ، فمنْ لمْ يستطعْ جهادَهم فبقلبِهِ، فمنْ لمْ يستطعْ فليسَ وراءَ ذلكَ شيء؟] .

فقلت: أدعُ لي إن أدركتهم أن يعينني الله ويقويني على قتالهم، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [اللهمَّ إنْ أدركَهمْ فَقوّهِ وأعنْهُ].

ثُمَّ خرج إلى النّاس فقال: [يا أيُّها النّاس مَنْ أرادَ أنْ ينظرَ إلىْ أميني علىْ نفسيْ وأهليْ، فهذا أبوْ رافعٍ أمينيْ علىْ نفسيْ ].

قال عون بن عبيد الله بن أبي رافع: فلمّا بويع عليٌّ علیه السلام، وخالفه معاوية بالشام، وسار طلحة والزبير إلى البصرة، قال أبو رافع: هذا قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [سيقاتل عليّاً قومٌ يكونُ حقّاً فيْ اللهِ جهادُهم]؛ فباع أرضه بخيبر وداره، ثُمَّ خرج مع عليٍّ

ص: 612


1- سورة المائدة – الآية: 55

علیه السلام، وهو شيخ كبير له خمس وثمانون سنة، وقال: الحمد لله لقد أصبحت لا أحد بمنزلتي، لقد بايعت البيعتين بيعة العقبة وبيعة الرضوان، وصليت القبلتين، وهاجرت الهجر الثلاث.

قلت: وما الهجر الثلاث؟ قال: هاجرت مع جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى أرض الحبشة، وهاجرت مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى المدينة، وهذه الهجرة مع عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام إلى الكوفة.

فلم يزل مع عليٍّ علیه السلام حتّى استشهد علیه السلام، فرجع أبو رافع إلى المدينة مع الحسن علیه السلام، ولا دار له بها ولا أرض؛ فقسم الحسن علیه السلام دار عليٍّ علیه السلام بنصفين، وأعطاه سنخ أرض أقطعه إيّاها، فباعها عبيد الله بن أبي رافع من معاوية بمائة ألف وسبعين الفاً.

ومن حديث أبي رافع ما رواه أبو محمّد عبد الملك بن هشام، في غزاة خيبر من كتاب (السيرة)، بإسناده عن أبي رافع قال: خرجنا مع عليٍّ علیه السلام حين بعثه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم برايته، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من إليهود فطرح ترسه من يده، فتناول عليٌّ علیه السلام باباً كان عند الحصن، فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل، حتّى فتح الله على يديه، ثُمَّ ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتني في نفر سبعة، أنا منهم، نجهد على أن نقلب الباب فلم نقلبه، وروى هذا الحديث أحمد بن حنبل في مسنده أيضاً.

ص: 613

قال أكثر أصحاب السير من العامّة: توفي أبو رافع بعد قتل عثمان في أوّل خلافة أمير المؤمنين علیه السلام .

وما ذكرناه عن النجاشي صريح في أنّه عاش إلى أن استشهد أمير المؤمنين علیه السلام، والله أعلم.

ص: 614

هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص

هاشم بن عتبة بن أبي وقّاص، وإسم أبي وقّاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب، يكنّى أبا عمرو، وهو ابن أخي سعد بن أبي وقّاص، وأبوه عتبة بن أبي وقّاص، وهو الذي كسر رباعية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم أُحد، وكلم شفتيه وشجَّ وجهه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: [كيفَ يفلحُ قومٌ خَضَبوا وجهَ نبيِّهِمْ بالدمْ، وهوَ يدعوُهمْ إلىْ ربِّهمْ!]، فأنزل الله تعالى: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ (1).

وقال حسان بن ثابت في ذلك اليوم هذه الأبيات:

إذا الله حيّا معشراً بفعالهم *** ونصرهم الرحمن ربّ المشارق ِ

فهدّك ربّي يا عتيب بن مالك *** ولقّاك قبل الموت إحدى الصواعق ِ

بسطت يميناً للنبيِّ محمّدٍ *** فدميت فاهاً قطّعت بالبوارق

فهلّا ذكرت الله والمنزل الذي *** تصير إليه عند إحدى الصفائق

فمن عاذري من عبد عذرة بعد ما *** هوى في دجوجيٍّ شديد المضائق

ص: 615


1- سورة آل عمران – الآية: 128

وأورث عاراً في الحياة لأهله *** وفى النار يوم البعث أمِّ البوائق

وإنّما قال عبد عذرة لأن عتبة بن أبي وقّاص وإخوته وأقاربه في نسبهم كلام .. ذكر أهل النسب أنّهم من عذرة، وأنّهم أدعياء في قريش، ولهم خبر معروف وقصة مذكورة في كتب النسب.

وتنازع عبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقّاص في أيام عثمان في أمر، فاختصما، فقال سعد لعبد الله: أسكت يا عبد هذيل، فقال له عبد الله: أسكت يا عبد عذرة.

وهاشم بن عتبة هو المرقال؛ لأنّه كان يرقل في الحرب إرقالا.

قال أبو عمر في كتاب (الإستيعاب): أسلم هاشم بن عتبة يوم الفتح، وكان من الفضلاء الأخيار، ومن إلّابطال المشار إليهم، فقئت عينه يوم إليَّرموك، ثُمَّ أرسله عمر من إليَّرموك مع خيل العراق إلى سعد، كتب إليه بذلك فشهد القادسية وأبلى فيها بلاء حسناً، اقام منه في ذلك مقاماً ما لم يقم به أحد، وكان سبب الفتح على المسلمين، وكان بُهمةً من البُهم خيّراً فاضلاً، ثُمَّ شهد هاشم مع عليٍّ علیه السلام الجمل، وشهد صِفّين، وأبلى فيها بلاءً حسناً، وبيده كانت راية عليٍّ علیه السلام على الرجالة يوم صِفّين، ويومئذ قتل رضی الله عنه .

قال نصر بن مزاحم: وروي أنّه لمّا شاع خبر عثمان، وبيعة النّاس لأمير المؤمنين علیه السلام، وبلغ الخبر الكوفة، إجتمعوا إلى أبي موسى إلّاشعري، وهو يومئذ أمير عليها، وقالوا له: مالك لا تبايع لعليٍّ ؟ تتربص ولا تدعو إلى بيعته، فإن المهاجرين

ص: 616

والأنصار قد بايعوا، فقال أبو موسى في هذا الأمر: لنرى ما يحدث بعده وما يأتينا من خبر، فقال له هاشم بن عتبة: أيّ خبر يأتيك بعد هذا؟ قد قتل عثمان، وبايع المهاجرون والأنصار والخاصُّ والعامُّ عليّاً علیه السلام، أتخاف إن بايعت لعليٍّ علیه السلام أن يُبعث عثمان فيلومك؟!.

ثُمَّ قبض هاشم بيده اليمنى على يده اليسرى وقال: يدي اليسرى لي، ويدي اليمنى لعليٍّ علیه السلام، وقد بايعته ورضيت بخلافته، وأنشأ يقول:

أبايع غير مكترث عليّا *** ولا أخشى أميراً أشعرياً

أبايعه وأعلم أن سأرضي *** بذاك الله حقّاً والنبيّا

فلمّا رأى أبو موسى ذلك من هاشم لم يسعه إلّا البيعة، فقام وبايع، وقام بعده أكابر أهل الكوفة وساداتهم ومشايخهم فبايعوا لعليٍّ علیه السلام .

قال نصر بن مزاحم في كتاب (صِفّين): لمّا عزم أمير المؤمنين علیه السلام على التوجه إلى صِفّين لقتال معاوية، قال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله بن بُديل بن ورقاء: إنّ يومنا ويومهم ليوم عصيب، ما يصبر عليه إلّا كلّ مشبع القلب صادق النية رابط الجأش، وأيمَ الله ما أظن ذلك اليوم يبقى منّا ومنهم إلّا رذال.

قال عبد الله بن بُديل: وأنا والله أظنّ ذلك، فقال عليٌّ علیه السلام: {ليكنْ هذا الكلامُ جوابَنا فيْ صدورِكمْ، لا تُظهروهُ، ولا يسمعهُ منكمْ سامعٌ، إنَّ اللهَ تعالىْ كتبَ القتلَ علىْ قومٍ،

ص: 617

والموتَ علىْ آخرينَ، وكلٌّ آتيهِ مَنيّتُهُ، كما كتبَ اللهُ لهُ، فطُوبىْ للمجاهدينَ فيْ سبيلِ اللهِ، والمقتولينَ فيْ طاعتِهِ}.

فلمّا سمع هاشم بن عتبة مقالتهم حمد الله وأثنى عليه ثُمَّ قال: سِرْ بنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم القاسية قلوبهم، الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وعملوا في عباد الله بغير رضى الله، فأحلّوا حرامه، وحرّموا حلاله، واستولاهم الشيطان وأوعدهم إلّاباطيل ومنّاهم الأماني، حتّى أزاغهم عن الهدى، وقصد بهم فصل الردى، وحبّب إليهم الدنيا، فهم يقاتلون على دنياهم، رغبة فيها كرغبتنا في الآخرة، أنجزنا موعد ربّنا، وأنت يا أمير المؤمنين أقرب النّاس من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رحماً، وأفضل سابقة وقدماً، وهم يا أمير المؤمنين يعلمون منك مثل الذي علمنا، ولكنْ كتب عليهم الشقاء، ومالت بهم الأهواء، فكانوا ظالمين، فأيدينا مبسوطة لك بالسمع والطاعة، وقلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة، وأنفسنا بنورك جذلة على من خالفك وتولّى الأمر دونك، والله ما أحبُّ أن لي ما على الأرض مما أقلّت، وما تحت السماء ممّا أظلت، وأنّي وإليَّت عدواً لك، أو عاديت وليّاً لك، فقال علیه السلام: {اللهمَّ أرزقهُ الشهادةَ فيْ سبيلِكَ، والمُرافقةَ لنبيِّكَ}.

وروى نصر: أيضاً في كتابه المذكور قال دفع عليٌّ علیه السلام الراية يوماً من أيام صِفّين إلى هاشم بن عتبة، وكانت عليه درعان، فقال له عليٌّ علیه السلام كهيئة المازح: {يا هاشمُ أما تختشيْ أنْ تكونَ أعوراً جباناً؟}، قال: ستعلم يا أمير المؤمنين لألفنّ بين جماجم

ص: 618

القوم لفّ رجل ينوى الآخرة، فأخذ رمحا فهزّه فانكسر، ثُمَّ أخذ رمحاً آخر فوجده جاسياً فألقاه، ثُمَّ دعا برمح ليّن فشدّ به لواءه.

ولما دفع عليٌّ علیه السلام الراية إلى هاشم قال رجل من بكر بن وائل من أصحاب هاشم: أقدم مالك يا هاشم، قد أنتفخ سحرك، أعوراً وجبناً؟ قال: من هذا؟ قالوا: فلان، قال: أهلها وخير منها، إذا رأيتني قد صرعت فخذها، ثُمَّ قال لأصحابه: شدّوا شسوع نعالكم، وشدّوا أُزركم، فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثاً فاعلموا أن أحداً منكم لا يسبقني إليها.

ثُمَّ نظر هاشم إلى عسكر معاوية فرأى جمعاً عظيماً فقال: من أولئك؟ قالوا: أصحاب ذي الكلاع، ثُمَّ نظر فرأى جنداً آخر فقال: من هؤلاء؟ قالوا: جند أهل المدينة، قال قومي لا حاجة لي في قتالهم، قال: من عند هذه القبة البيضاء؟ قيل: معاوية وجنده، قال: فإنّي أرى دونهم أسودة، قالوا: ذاك عمرو بن العاص وإبناه، فأخذ هاشم الراية فهزّها، فقال له رجل من أصحابه: أمكث قليلاً ولا تعجل، فقال هاشم رحمه الله:

قد أكثروا لومي وما أقلّا *** إنّي شريت النفس لمّا اعتلا

أعور يبغي أهله محلّا *** لا بدَّ أن يَفِلَّ أو يُفلّا

قد عالج الحياة حتّى ملّا *** أشلّهم بذي الكعوب شلّا

مع ابن عمِّ أحمد المعلا *** فيه الرسول بالهدى استهلّا

ص: 619

أوّل من صدّقه وصلّى *** نجاهد الكفار حتّى نبلى

وكان عليٌّ علیه السلام قال له: ما تخاف أن تكون أعوراً جباناً يا هاشم المرقال؟ قال: يا أمير المؤمنين، أما والله لتعلمنّ إن شاء الله تعالى سألفّ بين جماجم القوم، فحمل يومئذ يرقل إرقالا.

قال نصر: وحدّثنا عبد العزيز بن سباه، عن حبيب ابن أبي ثابت قال: لما تناول هاشم الراية جعل عمّار بن ياسر رضوان الله عليه يحرّضه على الحرب، ويقرعه بالرمح، ويقول: أقدم يا أعور لا خير في أعور لا يأتي الفزع، فيستحي من عمّار ويتقدم ويركز الراية، فإذا ركزها عاوده بالقول، فيقدم أيضاً.

فقال عمرو بن العاص: إنّي لأرى لصاحب الراية السوداء عملاً، لئن دام على هذا لتفنينّ العرب اليوم.

فاقتتلوا قتإلّا شديداً، وعمّار ينادي: صبراً عباد الله .. إن الجنّة تحت ظلال البيض.

وكان بأزاء هاشم وعمّار أبو الأعور السلمي، ولم يزل عمّار بهاشم ينحني وهو يزحف بالراية حتّى اشتد القتال وعظم، والتقى الزحفان فاقتتلا قتإلّا لم يسمع السامعون بمثله، وكثرت القتلى في الفريقين جميعاً.

قال نصر: وحدّثنا عمر بن سعد، عن الشِعبي، عن أبي سلمة، أن هاشم بن عتبة استصرخ النّاس عند السلمة: إلّا من كان له إلى الله حاجة، ومن كان يريد الآخرة فليقبل، فأقبل إليه ناس كثير، فشدَّ بهم على أهل الشام مراراً، ليس من وجه يحمل

ص: 620

عليه إلّا صبروا له، فقاتل قتإلّا شديداً، ثُمَّ قال لأصحابه: لا يهولنّكم ما ترون من صبرهم، فوالله ما ترون منهم إلّا حمّية العرب، وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها، وإنّهم لعلى ضلال، وإنّكم لعلى الحقّ .. يا قوم اصبروا وصابروا، واجتمعوا وامشوا بنا إلى عدونا على تؤدة رويداً، واذكروا الله ولا يسلمنّ رجل أخاه، ولا تكثروا إلّالتفات، واصمدوا صَمَدَهم، وجالدوهم محتسبين، حتّى يحكم الله بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين.

قال أبو سلمة: فبينا هو وعصابة من القرّاء يجالدون أهل الشام، إذ طلع عليهم فتى شاب وهو يقول:

أنا ابن أرباب ملوك غسانْ *** والدائن اليوم بدين عثمانْ

انبأنا قرّاؤنا بما كان *** أن عليّاً قتل ابن عفّانْ

ثُمَّ شدّ لا ينثني حتّى يضرب بسيفه، ثُمَّ جعل يلعن عليّاً علیه السلام ويشتمه، ويسهب في ذمّه، فقال له هاشم بن عتبة: يا هذا إنّ الكلام بعده الخصام، وإن لعنك سيّد إلّابرار بعده عقاب النار، فاتق الله فإنّك راجع إلى ربّك فيسألك عن هذا الموقف وهذا المقام.

قال الفتى: إذا سألني ربي قلت: قاتلت أهل العراق؛ لأنّ صاحبهم لا يصلّي، كما ذكر لي، وإنّهم لا يصلّون، وإنّ صاحبهم قتل خليفتنا، وهم آزروه على قتله.

فقال له هاشم: يا بني وما أنت وعثمان ؟ إنّما قتله أصحاب محمّد الذين هم أولى بالنظر في أمور المسلمين، وإن صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه، وإمّا قولك: أنّه لا

ص: 621

يصلّي، فهو أوّل من صلّى مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأوّل من آمن به، وإمّا قولك: أن أصحابه لا يصلّون، فكلّ من ترى معه قارئ الكتاب، لا ينامون الليل تهجدا، فاتق الله واخش عقابه، ولا يغررك من نفسك الأشقياء المضلّون.

فقال الفتى: يا عبد الله لقد دخل قلبي من كلامك، وإنّي لأظنك صادقاً صالحاً، وأظنني مخطئاً آثماً، فهل من توبة؟ قال: نعم، إرجع الى ربّك وتبْ إليه، فإنّه يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، ويحبّ التوابين ويحب المتطهرين.

فرجع الفتى إلى صفه منكسراً نادماً فقال له قوم من أهل الشام: خدعك العراقي، قال: لا ولكن نصح لي العراقي.

قال نصر: ثُمَّ إن عليّاً علیه السلام دعا في هذا اليوم هاشم بن عتبة، وكان معه لواؤه، فقال له: يا هاشم حتّى متى؟ فقال هاشم: لأجهدنّ أن لا أرجع إليك ابداً، فقال عليٌّ علیه السلام: إن بأزائك ذو الكلاع، وعنده الموت إلّاحمر، فتقدم هاشم فلمّا أقبل قال معاوية: من هذا المقبل؟ فقيل: هاشم المرقال، فقال: أعور بني زهرة، قاتله الله، فأقبل هاشم وهو يقول:

أعور يبغي نفسه خلاصا *** مثل الفتيق لابساً دلاصا

لا دية يخشى ولا قصاصا *** كل امرئ وإن نبا وحاصا

ليس يرى من يومه مناصا

ص: 622

فحمل صاحب لواء ذى الكلاع، وهو رجل من عذرة وقال:

يا أعور العين وما بي من عورْ *** إثبت فإنّي لست من فرعي مضرْ

نحن اليمانيون ما فينا خور *** كيف ترى وقع غلام من عذر

ينعى ابن عفّان ويلحى من عذر *** سيّان عندي من سعى ومن أمر

فاختلفا طعنتين فطعنه هاشم فقتله، وكثرت القتلى حول هاشم، وحمل ذو الكلاع، واختلط النّاس فاجتلدوا، فقتل هاشم وذو الكلاع جميعاً.

قال نصر: وحدّثنا عمر بن شمر، عن السدّي، عن عبد خير الهمداني قال: قال هاشم بن عتبة يوم مقتله: أيّها النّاس إنّي رجل ضخم، فلا يهولنّكم مسقطي إذا سقطت، فإنّه لا يُفرغ منّي في أقل من نحر جزور حتّى يفرغ الجزّار من جزرها، ثُمَّ حمل فصُرع، فمرّ عليه رجل وهو صريع بين القتلى وناداه: إقرأ على أمير المؤمنين علیه السلام السلام وقل: بركات الله عليك ورحمته يا أمير المؤمنين، أنشدك إلّا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى، فإن الدبرة تصبح غداً لمن غلب على القتلى، فأخبر الرجل عليّاً علیه السلام بما قال، فسار في الليل بكتائبه حتّى جعل القتلى خلف ظهوره، فأصبح والدبرة له على الشام.

قال نصر: وحدّثنا عمرو بن شمر عن السدّي، عن عبد خير قال: قاتل هاشم الحرث بن المنذر التنوخي، حمل عليه بعد أن أعيا وكلَّ وقتل عشرة بيده، فطعنه بالرمح فشقّ بطنه فسقط، وبعث إليه عليٌّ علیه السلام، وهو لا يعلم: أقدم بلوائك، فقال للرسول:

ص: 623

أنظر إلى بطني، فإذا هو قد انشقّ، فأخذ الراية رجل من بكر بن وائل، ورفع هاشم رأسه، فإذا هو بعبيد الله بن عمر بن الخطّاب قتيلاً إلى جانبه، فحبا حتّى دنا منه فعضَّ على ثديه حتّى ثبتت فيه أنيابه، ثُمَّ مات وهو على صدر عبيد الله بن عمر، وضرب البكري فوقع، فرفع رأسه فأبصر عبيد الله بن عمر قريباً منه فحبا إليه حتّى عضّ على ثديه حتّى ثبتت أنيابه فيه ومات أيضاً، فوجدا جميعاً على صدر عبيد الله بن عمر، هاشم والبكري قد ماتا جميعاً.

ولما قُتل هاشم جزع النّاس عليه جزعاً شديداً، وأصيب معه عصابة من أسلم من أهل القرى فمر عليهم عليٌّ علیه السلام وهم قتلى حوله أصحابه الذين قتلوا معه فقال: {جزى الله خيراً عصبة أسلمية *** صباح وجوه صرّعوا حول هاشم ِ

يزيد وعبد الله، بشر ومعبد *** وسفيان وابنا هاشم ذي المكارم

وعروة لا يبعد ثناه وذكره *** إذا اخترط البيض الخفاف الصوارم}

ص: 624

عثمان بن حنيف بن واهب

عثمان بن حنيف، بضم الحاء المهملة وفتح النون والفاء بعد إليَّاء المثناة من تحت، إبن واهب بن الحكم بن تغلبة بن مخدعة بن الحارث بن عمر الأنصاري ثُمَّ الأوسي، يكنى أبو عمرو، وقيل: أبا عبد الله.

كان أحد الأشراف، عمل لعمر، ثُمَّ لأمير المؤمنين علیه السلام، وولّاه عمر مساحة الأرضين وجبايتها بالعراق، وضرب الخراج والجزية على أهلها، وولّاه أمير المؤمنين علیه السلام على البصرة.

قال الفضل بن شاذان: هو من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام .

قال أبو مخنف: وحدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس أن الزبير وطلحة أجدّ السير بعائشة حتّى انتهوا إلى حفر أبي موسى إلّاشعري، وهو قريب من البصرة، وكتبا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وهو عامل عليٍّ علیه السلام على البصرة أنْ خلِّ لنا دار الأمان، فلمّا وصل كتابهما إليه بعث إلى الأحنف بن قيس أنّ هؤلاء القوم قدموا علينا، ومعهم زوجة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والنّاس إليها سراع كما ترى، فقال الأحنف بن قيس: انهم جاءوك بها للطلب بدم عثمان، وهم الذين ألّبوا على عثمان النّاس، وسفكوا دمه، وأراهم والله لا يزايلونا حتّى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا، وأظنهم والله سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به، إن تتأهب لهم بالنهوض إليهم فيمن معك من أهل البصرة فإنك اليوم الوالي عليهم، وأنت فيهم مطاع، فسر

ص: 625

إليهم بالنّاس، وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة فتكون النّاس لهم أطوع منهم لك.

فقال عثمان بن حنيف: الرأي ما رأيت، لكنّي أكره الشر، وأن أبدأهم به، وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين علیه السلام ورأيه فأعمل به.

ثُمَّ أتاه بعد الأحنف حكيم بن جبلة العبدي، من بني عمرو بن وديعة، فأقرأه كتاب طلحة والزبير، فقال له مثل قول الأحنف، وأجابه عثمان بمثل جوابه للأحنف، فقال له حكيم: فأذن لي حتّى أسير إليهم بالنّاس، فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين علیه السلام، وإلّا نابذتهم على سواء، فقال عثمان: لو كان ذلك رأيي لسرت إليهم بنفسي.

قال حكيم: أما والله إن دخلوا عليك هذا المصر لينقلن قلوب كثير من النّاس إليهم، ولينزلك عن مجلسك هذا، وأنت أعلم، فأبى عليه عثمان.

قال: وكتب عليٌّ علیه السلام إلى عثمان لمّا بلغه مشارفة القوم البصرة:

{مِن عبدِ اللهِ عليٍّ أميرِ المؤمنينَ إلى عثمانَ بنِ حنيفٍ، إمّا بعدُ فإنَّ البغاةَ عاهدواْ اللهَ ثُمَّ نكثواْ، وتوجّهوا إلى مصرِكَ، وساقهمْ الشيطانُ لطلبِ ما لا يُرضيْ اللهَ، واللهُ أشدُّ بأساً وأشدُّ تنكيلاً، فإذْا قدِمُوا عليكَ فادْعُهمْ إلىْ الطاعةِ والرجوعِ إلىْ الوَفاءِ بالعهدِ والميثاقِ الذيْ فارَقُونا علَيهِ، فإنْ أَجابوا فأحسنْ جِوارَهُمْ مادامواْ عندَكَ، وإنْ أبوا إلّا التمسّكَ بحبلِ النكثِ والخلافِ فناجزْهُمْ القتالَ حتّى يَحكمَ اللهُ بينَكَ وبينَهُم،

ص: 626

وهوَ خيرُ الحاكمينَ، وكتبتُ كتابيَ هذا منَ الرَبَذَةِ، وأنا مُعجِلٌ المسيرَ إليك إنْ شاءَ اللهُ }، وكتب عبيد الله بن أبي رافع في سنة ست وثلاثين.

قال: فلمّا وصل كتاب عليٍّ علیه السلام إلى عثمان أرسل إلى أبي الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين الخزاعي فأمرهما ان يسيرا حتّى يأتياه بعلم القوم، وما الذي أقدمهم، فانطلقا حتّى أتيا حفر أبي موسى، وبه معسكر القوم، فدخلا على عائشة وسإلّاها ووعظاها وأذكراها وناشدها الله، فقالت لهما: إلقيا طلحة والزبير.

فقاما من عندها ولقيا الزبير فكلّماه، فقال لهما: إنّا جئنا للطلب بدم عثمان، وندعو النّاس إلى أن يؤدوا أمر الخلافة شورى؛ ليختار النّاس لأنفسهم، فقالا له: إن عثمان لم يُقتل بالبصرة ليطلب دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان من هم وأين هم، وأنت وصاحبك وعائشة كنتم أشدّ النّاس عليه، وأعظمهم إغراءً بدمه، فأقيدوا من أنفسكم، وإمّا إعادة أمر الخلافة شورى، فكيف وقد بايعتم عليّاً علیه السلام طائعين غير مكرهين!، وأنت يا أبا عبد الله لن يبعد العهد بقيامك دون الرجل، يوم مات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأنت آخذ قائم سيفك تقول: ما أحد أحقّ بالخلافة منه، ولا أولى بها منه، وامتنعت من بيعة أبي بكر، فأين ذلك الفعل من هذا القول؟.

فقال لهما: إذهبا فالقيا طلحة، فقاما إلى طلحة فوجداه خشن الملمس شديد العريكة قوي العزم في إثارة الفتنة وإضرام نار الحرب، فانصرفا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه، وقال له أبو الأسود:

ص: 627

يا ابن حنيف قد أتيت فانفرْ *** وطاعن القوم وجالد واصبرْ

وابرزْ لها مستلثماً وشمِّرْ

فقال ابن حنيف: أي والحرمين لأفعلنّ، وأمر مناديه فنادى بالنّاس: السلاح السلاح فاجتموا إليه، وقال أبو الأسود شعراً:

وأحسن قوليهما فادحُ *** يضيق به الخطب مستنكدُ

وقد أوعدونا بجهد الوعيد *** فأهون علينا بما أو عدوا

فقلنا ركضتم ولم ترملوا *** وأصدرتم قبل أن توردوا

فإن تلقحوا الحرب بين الرجال *** فملقحها جده الآنكد

وإن عليّاً لكم مصحر *** إلّا إنّه الأسد الأسود

أما إنّه ثالث العابدين *** بمكّة والله لا يعبد

فرخّوا الخناق ولاتعجلوا *** فإن غداً لكم موعد

قال: وأقبل القوم فلمّا انتهوا إلى المربد قام رجل من بني جشم فقال: أيّها النّاس أنا فلان الجشمي، وقد أتاكم هؤلاء القوم، فإن كانوا أتوكم خائفين لقد أتوكم من المكان الذي يأمن فيه الطير والوحش والسباع، وإن كانوا إنّما أتوكم بطلب دم

ص: 628

عثمان فغيرنا وليُّ قتله، فأطيعوني أيّها النّاس وردّوهم من حيث أقبلوا، فإنّكم إن تفعلوا تسلموا من الحرب الضروس والفتنة الصماء التي لا تبقي ولا تذر.

قال: فحضر ناس من أهل البصرة إلى المربد، حتّى ملأوه مشاة وركباناً، فقام طلحة فأشار إلى النّاس بالسكوت ليخطب؛ فسكتوا بعد جهد، فقال: إمّا بعد فإن عثمان بن عفّان كان من أهل السابقة والفضيلة، ومن المهاجرين الأولين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فنزل القرآن ناطقاً بفضلهم، وأحد أئمة المسلمين الوالين عليكم بعد أبي بكر وعمر صاحبي رسول الله، وقد كان أحدث أحداثاً نقمناها عليه فأعتبنا، فعدا عليه من ابتز هذه الأمّة أمرها غصباً، بغير رضى منها ولا مشورة، فقتله، وساعده على ذلك قوم غير أتقياء ولا أبرار، فقُتل محرماً بريئاً تائباً، وقد جئناكم أيّها النّاس نطلب بدم عثمان، وندعوكم إلى الطلب بدمه، فإن نحن أمكننا الله من قتلته قتلناهم به، وجعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين، وكانت خلافته رحمة للأمّة جميعاً، فإن كلّ من أخذ الأمر عن غير رضى من العامّة ولا مشورة منها ابتزازاً كان ملكه ملكاً عضوضاً وحدثاً كبيراً.

ثُمَّ قام الزبير فتكلّم بمثل كلام طلحة، فقام إليهما ناس من أهل البصرة فقالوا لهما: ألم تبايعا عليّاً علیه السلام فيمن بايعه ففيم بايعتما ثُمَّ نكثتما؟ فقالا: بايعناه وما لأحد في أعناقنا بيعة، وإنّما استكرهنا على بيعته، فقال ناس: قد صدقا وأحسنا القول وقطعا بالصواب، وقال ناس: ما صدقا ولا أصابا بالقول، حتّى ارتفعت إلّاصوات.

ص: 629

قال: ثُمَّ أقبلت عائشة على جملها فنادت بصوت مرتفع: أيّها النّاس أقلّوا واسكتوا، فأُسكت النّاس لها، فقالت: إن أمير المؤمنين عثمان قد غيّر وبدّل، ثُمَّ لم يزل يغسل ذلك بالتوبة، حتّى قُتل مظلوماً تائباً، وإنّما نقموا عليه ضربه بالسوط، وتأمير الشبان، وحماية موضع الغمامة، فقتلوه محرماً في حرمة الشهر وحرمة البلد، ذبحاً كما يذبح الجمل، إلّا وإن قريشاً رمت غرضها بنبالها، وأدمت أفواهها بأيديها، وما نالت بقتلها إيّاه شيئاً، وسلكت به سبيلاً قاصداً، أما والله ليرونها بلايا عقيمة، تنبّه النائم وتقيم الجالس، وليسلطنّ عليهم قوم لا يرحمونهم، يسومونهم سوء العذاب، إنّه ما بلغ من ذنب عثمان ما يُستحلّ به دمه، مصتموه كما يماص الثوب الرخيص، ثُمَّ عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته وخروجه من ذنبه، وبايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازاً وغصباً، أتروني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه، ولا أغضب لعثمان من سيوفكم، إلّا إن عثمان قتل مظلوماً، فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثُمَّ اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان.

قال: فماج النّاس واختلطوا، فمن قائل: القول ما قالت، ومن قائل يقول: وما هي وهذا الأمر؟ إنّما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها، وارتفعت إلّاصوات وكثر اللغط، حتّى تضاربوا بالنعال وتراموا بالحصى.

ثُمَّ إن النّاس تمايزوا فصاروا فريقين، فريق مع عثمان بن حنيف، وفريق مع عائشة وأصحابها.

ص: 630

قال أبو مخنف: فلمّا أقبل طلحة والزبير من المربد يريدان عثمان بن حنيف فوجداه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك، فمضوا حتّى انتهوا إلى موضع الدبّاغين، فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف، فشجرهم طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح، فحمل عليهم حكيم بن جبلّة، فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتّى أخرجوه من جميع السكك، ورماهم النساء من فوق البيوت بالحجارة، فأخذوا إلى مقبرة بني مازن، فوقفوا بها مليّاً حتّى ثابت إليهم خيلهم، ثُمَّ أخذوا على مسنّاة البصرة حتّى انتهوا إلى الرابوقة، ثُمَّ أتوا الى سبخة دار الرزق فنزلولها.

وأتاهما عبد الله بن حكيم التميمي لمّا نزلا السبخة بكتب كانا كتباها إليه، فقال لطلحة: يا أبا محمّد ما هذه كتبك إلينا؟ قال: بلى، قال: فكتبت بإلّامس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله، حتّى إذا قتلته أتيتنا ثائراً بدمه، فلعمري ما هذا رأيك ولا تريد إلّا هذه الدنيا، مهلاً إذا كان هذا رأيك فلمَ قبلت من عليٍّ علیه السلام ما عرض عليك من البيعة؟ فبايعته طائعاً راضياً، ثُمَّ نكثت بيعتك، ثُمَّ جئت لتدخلنا في فتنتك، فقال: إن عليّاً دعاني إلى بيعته بعدما بايعه النّاس، فعلمت أنّي لو لم أقبل ما عرض عليّ لم يتم لي، ثُمَّ يغري بي من معه.

ثُمَّ أصبحا من غد فصفّا للحرب، وخرج عثمان بن حنيف إليهما في أصحابه، فناشدهما الله والإسلام، وأذكرهما بيعتهما عليّاً علیه السلام فقالا: نحن نطلب بدم عثمان، فقال لهما: وما أنتما وذاك؟ أين بنوه وابن عمه الذين هم أحقّ به منكم؟ كلّا والله ولكنّكما حسدتماه حيث اجتمع النّاس عليه، وكنتما ترجوان هذا الأمر وتعملان له،

ص: 631

وهل كان أحد أشدّ النّاس على عثمان منكما؟ فشتماه شتماً قبيحاً وذكرا أمّه، فقال للزبير: أما والله لولا صفيّة، ومكانها من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فإنّها أدنتك إلى الظل، وإن الأمر بيني وبينك يا ابن الصعبة، يعني طلحة أعظم من القول لأعلمتكما من أمركما ما يسوؤكما، اللهمَّ إنّي قد أعذرت إلى هذين الرجلين.

ثُمَّ حمل عليهم، واقتتل النّاس قتإلّا شديداً، ثُمَّ تحاجزوا، واصطلحوا على أن يكتب بينهما كتاب صلح، فكتب:

هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري ومن معه من المؤمنين من شيعة عليّ بن أبي طالب، وطلحة والزبير ومن معهما من المسلمين من شيعتهما، أن لعثمان بن حنيف دار الإمارة والرحبة والمسجد وبيت المال والمنبر، وأن لطلحة والزبير ومن معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة، ولا يضارّ بعضهم بعضاً في طريق ولا فرضة ولا سوق ولا شريعة ولا مرفق، حتّى يقدم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فإن أحبّوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمّة، وإن أحبّوا ألحق كلّ قوم بهواهم، وما أحبّوا من قتال أو سلم أو خروج أو إقامة، وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه، وأشدّ ما أخذه على نبيٍّ من أنبيائه من عهد وذمّة.

وختم الكتاب، ورجع عثمان حنيف حتّى دخل دار الإمارة، وقال لأصحابه: الحقوا رحمكم الله بأهلكم، وضعوا سلاحكم، وداووا جرحاكم، فمكثوا كذلك أيّاماً.

ص: 632

ثُمَّ إن طلحة والزبير قالا: إن قدم عليٌّ ونحن على هذه الحالة من الضعف والقلّة ليأخذنّ بأعناقنا، فأجمعا على مراسلة القبائل واستمالة العرب، فأرسلا إلى وجوه النّاس وأهل الرياسة والشرف، يدعونهم إلى الطلب بدم عثمان، وخلع عليٍّ علیه السلام، وإخراج ابن حنيف من البصرة؛ فبايعهم على ذلك إلّازد وضبّة وقيس بن غيلان كلّها، إلّا الرجل والرجلين من القبيلة، كرهوا أمرهم؛ فتواروا عنهم.

وأرسلوا إلى هلال بن وكيع التميمي فلم يأتهم، فجاءه طلحة والزيبر إلى داره فتوارى عنهما، فقالت له أمّه: ما رأيت مثلك! أتاك شيخا قريش فتواريت عنهما، فلم تزل به حتّى ظهر لهما وبايعهما، ومعه بنو عمرو بن تميم كلّهم، وبنو حنظلة إلّا بني يربوع، فإن عامّتهم كانوا شيعه لعليٍّ علیه السلام وبايعهم بنو دارم كلّهم إلّا نفراً من بني مجاشع ذوي دين وفضل.

فلمّا استوسق لطلحة والزبير أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر، ومعهما أصحابهما قد لبسوا الدروع وظاهروا فوقها بالثياب، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر، وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه، وأقيمت الصلاة فتقدّم عثمان ليصلّي بهم، فأخّره أصحاب طلحة والزبير، فقدموا الزبير، فجاءت السبابجة، وهم الشرط حرس بيت المال، فأخّروا الزبير وقدموا عثمان، فغلبهم أصحاب الزبير فقدموه وأخّروا عثمان، فلم يزالوا كذلك حتّى كادت الشمس أن تطلع، وصاح بهم أهل المسجد: إلّا تتقون أصحاب محمّد وقد طلعت الشمس، فغلب الزبير فصلّى بالنّاس، فلمّا فرغ من صلاته صاح بأصحابه المتسلحين أن خذوا عثمان، فأخذوه بعد أن تضارب هو

ص: 633

ومروان بن الحكم بسيفيهما، فلمّا أُسر ضُرب ضرب الموت ونتف حاجباه وأشفار عينيه وكل شعرة من رأسه ووجهه، وأخذوا السبابجة وهم سبعون رجلاً فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عائشة، فقالت لأبان بن عثمان: أخرج إليه فاضرب عنقه، فإن الأنصار قتلت أباك وأعانت على قتله، فنادى عثمان: يا عائشة ويا طلحة ويا زبير إن أخي سهل بن حنيف خليفة عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام على المدينة، وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعنّ السيف في بني أبيكم ورهطكم وأهلكم فلا يبقى أحداً منكم، فكفّوا عنه، وخافوا أن يوقع سهل بن حنيف بعيالاتهم وأهلهم بالمدينة فتركوه.

وأرسلت عائشة إلى الزبير أن أقتل السبابجة، فإنّه بلغني الذي صنعوا بك، فذبحهم والله الزبير كما تذبح الغنم، وولّى ذلك منهم عبد الله إبنه، وهم سبعون رجلاً، وبقيت طائفة مستمسكين ببيت المال، قالوا: لا ندفعه إليكم حتّى يقدم أمير المؤمنين علیه السلام، فسار إليهم الزبير في جيش ليلاً، فأوقع بهم، وأخذ منهم خمسين أسيراً، فقتلهم صبراً.

قال أبو مخنف: وحدّثنا الصقعب بن زهير قال: كانت السبابجة القتلى يومئذ أربعمائة رجل، وقال: كان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف أوّل غدر كان في الإسلام، وكانت السبابجة أوّل قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبراً.

قال: وخيّروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعليٍّ علیه السلام، فاختار الرحيل فخلّوا سبيله، فلحق بعليٍّ علیه السلام، فلمّا رآه بكى وقال له: فارقتك شيخاً وجئتك أمرداً، فقال عليٌّ علیه السلام: {إنّا لله وإنا إليه راجعون}، قالها ثلاثاً.

ص: 634

قلت: السبابجة بالسين المهملة والباء المثناة من تحت، وبعد الألف باء موحدة، وبعدها جيم، ثُمَّ هاء، لفظة معربة قد ذكرها الجوهري في كتاب (الصحاح)، قال: هم قوم من السند كانوا بالبصرة جلاوزة وحراس السجن، والهاء المعجمة والنسب قال يزيد بن مفرغ الحميري:

وطماطيم من سبابج خزر *** يلبسوني مع الصباح القيودا

وسكن عثمان بن حنيف الكوفة بعد وفاة عليٍّ علیه السلام ومات بها في زمن معاوية.

ص: 635

سهل بن حنيف بن واهب

سهل بن حنيف بن واهب، يكنّى أبا محمّد، أخو المذكور قبله، كان بدرياً جليلاً من خيار الصحابة، وأبلى في أُحد بلاء حسناً.

قال الواقدي: يروى أن سهل بن حنيف جعل ينضح بالنبل عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ذلك اليوم، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [نبّلوا سهلاً فإنّه سهلٌ].

يقال: نبّلت الرجل بالتشديد، وأنبلته بالهمزة، إذا ناولته النبل ليرمي به.

وذكر إبن هشام في سيرته قال: كان عليُّ بن أبي طالب علیه السلام يقول: كانت بقبا امرأة لا زوج لها مسلمة، قال: فرأيت إنساناً يأتيها في جوف الليل فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه فيعطيها شيئاً معه فتأخذه، فاستبرت لشأنه فقلت لها: يا أمَة الله من يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجي إليه فيعطيك شيئاً لا أدرى ما هو وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف بن واهب قد رآني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، فجاءني بها فقال: إحتطبي بها، فكان عليٌّ علیه السلام يؤثر ذلك من أمر سهيل بن حنيف حتّى هلك عنده بالعراق.

قال الفضل بن شاذان: إن سهل بن حنيف من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام، وعدّه البرقي مع أخيه عثمان في شرطة الخميس، وولّاه أمير

ص: 636

المؤمنين علیه السلام على المدينة، واستخلفه عليها لمّا خرج لقتال الناكثين، ثُمَّ شهد معه صِفّين، وكان من أحب النّاس إليه علیه السلام .

وروى نصر بن مزاحم في كتاب (صِفّين): أن أمير المؤمنين علیه السلام لمّا أراد المسير إلى أهل الشام استشار من معه من المهاجرين والأنصار في ذلك، فأجابه جماعة من الصحابة، وكان ممّن تكلّم في ذلك اليوم سهل بن حنيف فإنّه قام فحمد الله وأثنى عليه ثُمَّ قال: يا أمير المؤمنين نحن سلم لمن سالمت، وحرب لمن حاربت، ورأينا رأيك، ونحن كف يمينك، وقد رأينا رأيك أن تقوم في هذا الأمر بأهل الكوفة، وتأمرهم بالشخوص، وتخبرهم بما صنع الله لهم في ذلك من الفضل، فإنّهم هم أهل البلد وأهل النّاس، فإن استقاموا لك استقام لك ما تريد وتطلب، وإمّا نحن فليس عليك منّا خلاف، متى دعوتنا أجبناك ومتى أمرتنا اطعناك.

وروى أبو مخنف قال: لمّا نزل عليٌّ علیه السلام ذا قار كتبت عائشة من البصرة إلى حفصة بنت عمر وهي بالمدينة:

إمّا بعد فإنّي أخبرك أن عليّاً قد نزل ذا قار، وأقام بها مرعوباً خائفاً لما بلغه من عدّتنا وجماعتنا، فهو بمنزلة الأشتر، إن تقدم عقر، وإن تأخّر نحر.

فدعت حفصة جواري لها يغنين ويضربن بالدفوف، فأمرتهن أن يقلن في غنائهن:

ما الخبر ما الخبرْ

عليٌ في سفرْ

ص: 637

كالفرس الأشترْ

إن تقدّم عقرْ

وإن تأخر نحرْ

وجعلت بنات الطلقاء يدخلن على حفصة ويجتمعن لسماع ذلك الغناء، فبلغ أمّ كلثوم بنت عليٍّ علیه السلام، فلبست جلابيبها ودخلت عليهن في نسوة متنكرات، ثُمَّ أسفرت عن وجهها، فلمّا عرفتها حفصة خجلت واسترجعت، فقالت أم كلثوم: لئن تظاهرتما عليه منذ اليوم، لقد تظاهرتما على أخيه من قبل، فأنزل الله تعالى فيكما ما أنزل، فقالت حفصة: كفى رحمك الله، وأمرت بالكتاب فمُزّق، واستغفرت الله.

قال أبو مخنف: روى هذا الخبر جرير بن بُديل عن الحكم، ورواه الحسن بن دينار عن الحسن البصري، وذكر الواقدي مثل ذلك، وذكر المدائني أيضاً مثله، فقال سهل بن حنيف في ذلك شعراً:

عذرنا الرجال بحرب الرجال *** فما للنساء وما للسباب ِ

أما حسبنا ما أتتنا به *** لك الخير من هتك ذاك الحجاب ِ

ومخرجها اليوم من بيتها *** يعرفها الذئب نبح الكلاب ِ

إلى أن أتانا كتاب لها *** مشوم فيا قبح ذاك الكتاب ِ

ص: 638

وتوفي سهل بالكوفة بعد مرجعه من صِفّين مع أمير المؤمنين علیه السلام سنة ثمان وثلاثين، فوجد عليه أمير المؤمنين وجداً كثيراً، وقال صلوات الله عليه: {لو أحبّنيْ جبلٌ لتهافتَ}.

قال السيد الرضى رضوان الله عليه: ومعنى ذلك أن المحبة تغلظ عليه فتسرع المصائب إليه، ولا يفعل ذلك إلّا بإلّاتقياء إلّابرار المصطفين الأخيار.

روى الكشّي بإسناده عن الحسن بن زيد قال: كبر عليٌّ علیه السلام على سهل بن حنيف سبع تكبيرات، وقال علیه السلام: {لوْ كبّرتُ عليهِ سبعينَ تكبيرةٍ لكانَ أهلاً}.

وعن الصادق علیه السلام قال: (كبّر أمير المومنين علیه السلام على سهل بن حنيف، وكان بدريّاً، خمس تكبيرات، ثُمَّ مشى ساعة، ثُمَّ وضعه وكبّر عليه خمس تكبيرات أخرى، يصنع ذلك حتّى كبّر عليه خمساً وعشرين تكبيرة).

وفى خبر عقبة: أن الصادق علیه السلام قال: (أما بلغكم أن رجلاً صلّى عليه عليٌّ علیه السلام، فكبّر عليه خمساً حتّى صلّى عليه خمس صلوات، وقال: إنّه بدريٌّ، عقبيٌّ، أحديٌّ، من النقباء الإثني عشر، وله خمس مناقب، وصلّى عليه لكل منقبة صلاة).

وفي خبر أبي بصير عن جعفر علیه السلام قال: (كبّر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على حمزة رضوان الله عليه سبعين تكبيرة، وكبّر عليٌّ علیه السلام عندكم على سهل بن حنيف خمساً وعشرين تكبيرة، كلّما أدركه النّاس قالوا: يا أمير المؤمنين لم ندرك الصلاة على سهل، فيضعه ويكبّر حتّى انتهى إلى قبره خمس مرات).

ص: 639

حكيم بن جبلّة العبدي

حكيم - بفتح الحاء الممهلة بن جبلة العبدي- من بني غنم بن وديعة بن يكبر.

عدّه أبو عمرو بن عبد البر، والفيروز أبادي، وغيرهما من العلماء في الصحابة.

كان رجلاً صالحاً شجاعاً مذكوراً مطاعاً في قومه، أرسله عثمان بن عفّان حاكماً على السند في أيام خلافته، فلم يلبث أن انقلب راجعاً عنها كارهاً لولايتها، وجاء إلى عثمان فسأله عنها فقال: ماؤها وشل، ولصها بطل، وثُمرها دقل، وسهلها جبل، إن كثر الجند بها جاعوا، وان قلّوا ضاعوا.

ويروى أن هذا الكلام قاله عبد الله بن عامر لعثمان لما سأله عن السند.

وفى ربيع الأبرار للزمخشري أن الحجّاج سأل ابن القعبان عن كرمان فأجابه بهذا الجواب والله أعلم.

وكان حكيم المذكور أحد من شنّع على عثمان لسوء أعماله، وهو من خيار أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام مشهور بولائه والنصح له.

وفيه يقول أمير المؤمنين علیه السلام على ما ذكره ابن عبد ربه في العقد الفريد:

دعا حكيم دعوة سميعةْ *** نال بها المنزلة الرفيعةْ

وقد ذكرنا طرفا من قتاله للزبير وطلحة في ترجمة عثمان بن حنيف.

ص: 640

قال أبو مخنف: لما بلغ حكيم بن جبلّة ما صنع القوم - يعني الزبير وطلحة وأصحابهما - بعثمان بن حنيف خرج في ثلاثمائة من عبد القيس مخالفاً لهم ومنابذاً، فخرجوا إليه وحملوا عائشة على جمل، فسمّي ذلك اليوم يوم الجمل الأصغر، ويوم عليٍّ علیه السلام يوم الجمل الأكبر، وتجالد الفريقان بالسيوف فشدّ رجل من إلّازد من عسكر عائشة على حكيم بن جبلّة فضرب رجله فقطعها، ووقع الأزدي عن فرسه فجثا حكيم فأخذ رجله فرمى بها الأزدي فصرعه، ثُمَّ دبّ إليه فقتله متكئاً عليه خانقاً له حتّى زهقت نفسه، فمرّ بحكيم إنسان وهو يجود بنفسه، فقال: من ضربك؟ قال: وسادتي فنظر فإذا الأزدي تحته.

وكان حكيم شجاعاً مذكوراً، قال: وقتل مع حكيم أخوة له ثلاثة، وقتل أصحابه كلّهم وهم ثلاثمائة من عبد القيس، والقليل من بكر بن وائل.

والعبديُّ منسوب إلى عبد القيس بن أقصى بن زعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة.

ص: 641

خالد بن سعيد بن العاص

خالد بن سعيد بن العاص بن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي.

من السابقين الأولين إلى الإسلام، أسلم هو وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد الخزاعية لرؤيا رآها.

روي عنه أنّه قال: رأيت كأنّي واقف على شفا حفرة من النار، فجاء أبي يريد أن يلقيني فيها، فإذا أنا برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد أخذ بمجامع ثوبي وجذبني إليه وهو يقول: إليَّ إليَّ لا تلقى في النار، فانتبهت فزعاً من منامي، وقلت: والله إن رؤياي هذه لحقّ.

فخرجت أريد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فوافقت أبا بكر في الطريق، فسألني عن شأني فأخبرته بما رأيت، فوافقني وذهبت إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأسلمت أنا وأبو بكر في يوم واحد.

ولما بلغ خبر إسلامه أباه سعيد أرسل بقية أولاده في طلبه فجاءوا به فتلقّاه بكلّ مكروه، ثُمَّ أخرجه من داره، وقال لإخوانه: إمنعوه القوت ولا تكلّموه ولا تجالسوه؛ فتبرّأ خالد أيضاً من أبيه وقال: إن الله الذي هداني للإسلام كافل لي رزقي.

وذهب إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأخبره بما جرى عليه من أبيه، ولم يزل عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، يتغدى ويتعشى عنده، حتّى هاجر المسلمون إلى الحبشة فهاجر معهم بامرأته،

ص: 642

وولدت له بأرض الحبشة ولده سعيد بن خالد وآمنة بنت خالد، وهاجر أيضاً أخوه عمرو بن سعيد بن العاص.

ولما قدم جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم فتح خيبر قدما معه، وشهدا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فتح مكّة وحُنَين والطائف وتبوك.

ثُمَّ استعمل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خالداً على صدقات اليمن، وأخاه أيضاً أباناً على البحرين، وعمراً على تيماء وخيبر، ولم يزالوا على ذلك حتّى قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

فلمّا بلغهم استخلاف أبي بكر بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تركوا أعمالهم وعادوا إلى المدينة، فقال لهم أبو بكر: كيف تركتم أعمالكم ؟ فقال خالد: رأينا أن لا نعمل لأحد بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولم يبايعوا أبا بكر حتّى بايع بنو هاشم.

وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب (السقيفة)، بإسناده عن عبد الله بن أبي أوفى الخزاعي قال: كان خالد بن سعيد بن العاص من عمال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على اليمن، فلمّا قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جاء إلى المدينة، وقد بايع النّاس أبا بكر، فاحتبس عن أبي بكر فلم يبايعه أياماً وقد بايع النّاس، وأتى بني هاشم فقال: أنتم الظهر والبطن، والشعار دون الدثار، والعصى دون اللحا، وإذا رضيتم رضينا، وإذا سخطتم سخطنا، حدّثوني إن كنتم قد بايعتم هذا الرجل، قالوا: نعم، قال: علي برد ورضى من جماعتكم ؟ قالوا: نعم، قال: فأنا أرضى وأبايع إذا بايعتم، أما والله

ص: 643

يا بني هاشم إنّكم الطوال الشجر الطيبو الثُمَّر، ثُمَّ إنّه بايع أبا بكر، وبلغت أبا بكر فلم يحفل بها، واضطغنها عمر عليه.

فلمّا ولّاه أبو بكر الجند الذي استنفره إلى الشام قال له عمر: أتولّي خالداً وقد حبس عنك بيعته، وقال لبني هاشم ما قال، وقد جاء بورق من اليمن وعبيد وحبشان ودروع ورماح؟! ما أرى أن تولّيه، وما آمن خلافه، فانصرف عنه أبو بكر، وولّى أبا عبيدة بن الجراح.

وروى أبو بكر أيضاً قال: حدّثنا يعقوب، عن أبي النضر، عن محمّد بن راشد، عن مكحول أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم استعمل خالد بن سعيد بن العاص على عمل، فقدم بعد ما قبض النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم، وقد بايع النّاس أبا بكر، فدعاه إلى البيعة، فقال عمر: دعني وإيّاه، فمنعه أبو بكر حتّى مضت عليه سنة، ثُمَّ مرّ به أبو بكر وهو جالس على بابه فناداه خالد: يا أبا بكر هل لك في البيعة ؟ قال: نعم فادن، فدنا منه فبايعه خالد وهو قاعد على بابه.

وروى أبان بن تغلب عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق علیهما السلام أن خالد بن سعيد أوّل من تكلّم على أبي بكر وأنكر عليه، وقال له: إتّقِ الله يا أبا بكر، فقد علمنا أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال - ونحن محتوشوه يوم بني قريضة، حين فتح الله له، وقد قتل عليٌّ علیه السلام يومئذ عدة من صناديد رجالهم وأولى البأس والنجدة منهم -: [يا معاشرَ المهاجرينَ والأنصار إنّيْ مُوصيكمْ بوصيةٍ فاحفظُوها، ومُوعدُكم أمراً فاحفظوهُ، إلّا إنَّ عليّاً أميرُكم وخَليفتيْ فيكمْ، بذلكَ أوصانيَ ربِّيْ، إلّا وإنّكم إنْ لا تحفظوا فيهِ

ص: 644

وصيتيْ، وتؤازروهُ وتنصروهُ اختلفتمْ فيْ أحكامكمْ، واضطربَ عليكمْ أمرُ دينِكُم، وَوَلِيَكُم أشرارُكُم، إلّا إنَّ أهلَ بيتيْ هُمْ الوارثونَ لأمرِيْ، والعاملونَ بأمرِ أمّتي منْ بعدي، اللهمَّ مَنْ أطاعنيْ فيهمْ مِنْ أُمَّتيْ، وحفظَ فيهمْ وصيّتيْ، فاحشرْهُمْ فيْ زمرتِيْ، واجعلْ لهم نصيباً منْ مرافقنيْ، يُدركونَ بهِ نورَ الآخرة، اللهمَّ ومَنْ أساءَ خِلافتيْ فيْ أهلِ بيتيْ فاحرمْهُ الجنّةَ التيْ عَرضُها كعرضِ السمواتِ والأرض].

فقال له عمر بن الخطّاب: أسكت يا خالد، فلست من أهل المشورة، ولا ممّن يقتدى برأيه، فقال خالد: بل أسكت أنت يا ابن الخطّاب فإنّك تنطق على لسان غيرك، وأيمَ الله لقد علمت قريش أنّك من ألأمها حسباً، وأدناها منصباً، وأخسّها قدراً، وأخملها ذكراً، وأقلّهم غناءً عن الله ورسوله، وإنّك لجبان في الحروب، بخيلٌ في المال، لئيم العنصر، ما لك في قريش من فخر، ولا في الحروب من ذكر، وإنّك في هذا الأمر بمنزلة الشيطان ﴿إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فلمّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ﴾ (1)، فأبلس عمر، وجلس خالد بن سعيد.

ولما بعث أبو بكر البعوث إلى الشام خرج معهم خالد هو وأخوته وغلمانه ومن معه فقتل بمرج الصفر، بضمّ الصاد المهملة وتشديد الفاء، موضع بغوطة دمشق

ص: 645


1- سورة الحشر – الآيتان: 16 , 17

كان به وقعة المسلمين على الروم، كان واقفاً في جماعة من المسلمين في ميمنة النّاس، فحملت طائفة من الروم عليه، فقاتلهم حتّى قتل.

وقيل: خرج في يوم مطير يستمطر فيه، فعدا عليه أعلاج الروم فقتلوه مع جماعة من المسلمين.

وكانت وقعة (مرج الصفر) سنة أربع عشرة، وقيل ثلاث عشرة.

قال أبو أمامة فيما روي عنه: كان بين أجنادين وبين مرج الصفر عشرون يوماً، قال فحسبت ذلك فوجدته يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة، قبل وفاة أبي بكر بأربعة أيام، والله أعلم بالصواب.

ص: 646

الوليد بن جابر بن ظليم

الوليد بن جابر بن ظليم الطائي، قال أبو عبيدة محمّد بن موسى بن عمران المرزباني: كان الوليد ممّن وفد على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأسلم، ثُمَّ صحب عليّاً علیه السلام وشهد معه صِفّين، وكان من رجاله المشهورين، ثُمَّ وفد على معاوية في إلّاستقامة، وكان معاوية لا ينسبه معرفة بعينه، فدخل عليه في جملة النّاس فلمّا استنسبه فأنتسب له فقال له: أنت صاحب ليلة الهرير، قال: نعم، قال: والله ما تخلو مسامعي من رجزك، وقد علا صوتك صوت النّاس وأنت تقول:

شدوا فداءً لكم أمّاً وأبْ *** فإنّما الأمر غداً لمن غلبْ

هذا ابن عمِّ المصطفى والمنتجب *** تنميه للعلياء سادات العرب

ليس بموصوم إذا نص النسب *** أوّل من صام وصلّى واقتربْ

قال: نعم أنا قائلها، قال: فلمّاذا قلتها؟ قال: لأنّا كنّا مع رجل لا نعلم خصلة توجب الخلافة، ولا فضيلة تصير إلى التقدمة، إلّا وهي مجموعة له، كان أوّل النّاس سلماً وأكثرهم علماً وأرجحهم حلماً، فات الجياد فلا يشقّ غباره، واستولى على إلّامد فلا يخاف عثاره، وأوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره، وسلك القصد فلا تدرك آثاره، فلمّا ابتلانا الله بافتقاده، وحوّل الأمر إلى من يشاء من عباده، دخلنا في جملة المسلمين، فلا ننزع يداً من طاعة، ولم نصدع صفاة جماعة، على أن لك منّا ما

ص: 647

ظهر، وقلوبنا بيد الله، وهو أملك بها منك، فاقبل صفونا وأعرض عن كدرنا، ولا تستثر كوامن إلّاحقاد، فإن النار تقدح بالزناد.

قال معاوية: وإنّك لتهددني يا أخا طي بأوباش العراق وأهل النفاق ومعدن الشقاق! فقال: يا معاوية هم الذين أشرقوك بالريق، وحبسوك في المضيق، وذادوك عن سنن الطريق؛ حتّى لذت منهم بالمصاحف، ودعوت إليها من صدّق بها، وكذبت وآمن بمنزلها، وكفرت وعرف من تأويلها وأنكرت؛ فغضب معاوية وأدار طرفه فيمن حوله فإذا جلّهم من مضر، ونفر قليل من اليمن، فقال: أيّها الشقي الخائن إنّي لأخال هذا آخر كلام تفوه به.

وكان عفيرة بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذ، فعرف موقف الطائي ومراد معاوية فخافه عليه، فهجم الدار، وأقبل على اليمانية وقال: شاهت الوجوه ذلّاً وقلاً وجدعاً وفلّاً، وكشم الله هذا الآنوف كشماً موعباً، ثُمَّ التفت إلى معاوية فقال: والله يا معاوية ما أقول هذا حبّاً لأهل العراق ولا جنوحاً إليهم، ولكن الحفيظة تذهب الغضب، لقد رأيتك بإلّامس خاطبت أبا ربيعة - يعني صعصعة بن صوحان - وهو أعظم جرماً عندك من هذا، وأنكأ لقلبك، وأقدح في صفاتك، وأجدّ في عداوتك، وأشدّ استبصاراً في حربك، ثُمَّ أتيته وسرّحته، وأنت الآن مجمع على قتل صاحبنا، زعمت استصغاراً لجماعتنا، فإنّا لا نُمرّ ولا نُحلي، ولعمري لو وكّلتك أبناء قحطان إلى قومك لكان جدّك العاثر، وذكرك الداثر، وحدّك المفلول، وعرشك المثلول، فاربع على

ص: 648

ظلعك، واطونا على بلالتنا؛ ليسهل لك حزننا، ويطمئنّ لك شاردنا، فإنّا لا نرأم بوقع الضيم، ولا نتلمّظ جرع الخسف، ولا نغمر بغمار الفتن، ولا ندر على الغضب.

فقال معاوية: الغضب شيطان فاربع نفسك أيّها الآنسان، فإنّا لم نأت إلى صاحبك مكروهاً، ولم نرتكب منه مغضباً، ولم ننتهك منه محرماً، فدونكه فإنّه لم يضق عنه حلمنا ويسع غيره.

فأخذ عفير بيد الوليد وخرج به إلى منزله، وقال له: والله لتؤبنّ بأكثر من هذا، ثمّ جمع من بدمشق من اليمانية، وفرض على كلّ رجل دينارين في عطائه، فبلغت أربعين ألفاً، فتعجلها من بيت المال ودفعها إلى الوليد وردّه إلى العراق مسروراً.

ص: 649

أبو سعيد الخُدري

أبو سعيد، سعد بن مالك بن سنان بن عبيد بن تغلبة بن عبيد بن إلّابجر الخدري صحابي ابن صحابي.

قال ابن عبد البر: كان أبو سعيد من الحفّاظ المكثرين العلماء الفضلاء العقلاء، وأخباره تشهد بصحة هذه الجملة.

روينا عن أبي سعيد أنّه قال: عرضت يوم أُحد على النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فجعل أبي يأخذ بيدي ويقول: يا رسول الله إنه عبل العظام، والنبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم يصعد في بصره ثُمَّ قال صلی الله علیه و آله و سلم: ردّهُ.

قال: وخرجت مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في غزوة بني المصطلق .. قال الواقدي: وهو ابن خمس عشرة سنة، وشهد الخندق وبيعة الرضوان وغير ذلك.

قلت: وأستشهد أبوه مالك بن سنان بأُحد.

روى ابن شبه عن أبي سعيد الخدري قال: أمر النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم من نقل من شهداء أُحد إلى المدينة أن يُدفنوا حيث أدركوا، فأدرك أبي مالك بن سنان عند أصحاب العباء، أي الذين يبتعون العباء فدفن.

روى إبن شهر آشوب في المناقب أن النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم إحتجم مرّة، فدفع الدم الخارج منه إلى أبي سعيد الخدري، فقال: [غيّبه]، فذهب فشربه، فقال: [ماذاْ صنعتَ بِهِ؟] قال:

ص: 650

شربته، قال صلی الله علیه و آله و سلم: [أوَ لمْ أقلْ لكَ غيّبْهُ؟] فقال: قد غيّبته في وعاء حريز، فقال: [إيّاكَ وأنْ تعودَ لمثلِ هذا، ثُمَّ أعلمْ أنَّ اللهَ قدْ حرّمَ على النّارِ لحمَكَ ودمَكَ؛ لِما اختلطَ بدميْ ولحميْ].

وعن البرقي أن ابا سعيد الخدري من إلّاصفياء من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام .

قال الفضل بن شاذان: إنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام .

وروى الشيخ الطوسي في أماليه بإسناده عن عبد الله بن شريك، عن سهم بن حصين الأسدي قال: قدمت إلى مكّة، أنا وعبد الله بن علقمة، وكان عبد الله بن علقمة سبّاباً لعليٍّ علیه السلام دهراً، قال: قلت له: هل لك في هذا؟ يعني ابا سعيد الخدري نحدّث به عهداً؟ قال: نعم، فأتيناه، فقال: هل سمعت لعليٍّ منقبة؟ قال: نعم، إذا حدثتك فاسأل عنها المهاجرين قريشاً: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قام يوم غدير خم فأبلغ ثُمَّ قال: [يا أيّها النّاس ألستُ أولى بالمؤمنينَ منْ أنفسهم؟]، قالوا: بلى، قالها ثلاث مرات، ثُمَّ قال: [إدنُ يا عليُّ]، فرفع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يديه، حتّى نظرت إلى بياض إبطيهما، وقال: [مَنْ كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ]، ثلاث مرات.

قال: فقال عبد الله بن علقمة: أنت سمعت هذا من رسول الله؟ قال: نعم، وأشار إلى أذنيه وصدره، قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي.

ص: 651

قال عبد الله بن شريك: فقدم علينا عبد الله بن علقمة وسهم بن حصين، فلمّا صلّينا الهجير قام عبد الله بن علقمة فقال: إنّي أتوب إلى الله واستغفره من سبِّ عليٍّ صلوات الله عليه ثلاث مرات.

وروى إبراهيم بن ديزيل الهمداني في كتاب (صِفّين)، بإسناده عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبي سعيد الخدري قال: كنّا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فانقطع شسع نعله، فألقاها إلى عليٍّ علیه السلام يُصلحها، ثُمَّ قال: [إنّ منكمْ مَنْ يقاتلُ على تأويلِ القرآنِ، كما قاتلتُ علىْ تنزيلِهِ]، فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا فقال عمر بن الخطّاب: أنا هو يا رسول الله؟ قال: [لا، ولكنّهُ ذاكمْ خاصفُ النعلِ]، ويد عليٍّ علیه السلام على نعل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يصلحه.

قال أبو سعيد: فأتيت عليّاً علیه السلام فبشّرته بذلك فلم يحفل به، كأنّه شيء كان قد علمه من قبل.

وعن أبي هارون العبدي قال: كنت أرى رأي الخوارج، لا رأى لي غيره، حتّى جلست إلى أبي سعيد الخدري فسمعته يقول: أُمِرَ النّاس بخمس، فعملوا بأربعة وتركوا واحدة، فقال له رجل: يا أبا سعيد ما هذه الأربعة التي عملوا بها؟ قال: الصلاة والزكاة والحجّ والصوم، فقال: وما الواحدة التي تركوها؟ قال: ولاية عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام، قال: وإنّها مفترضة معهن؟ قال: نعم، قال: فقد كفر النّاس؟ قال: إذا كفر النّاس فما ذنبي!.

ص: 652

وروى نصر بن مزاحم في كتاب (صِفّين)، عن عمرو بن ثابت، عن إسماعيل، عن الحسن قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم [إذاْ رأيتمْ معاويةَ بنَ أبيْ سفيانَ علىْ مِنبريْ فاقتلوهُ]، قال: حدّثني بعضهم قال: قال أبو سعيد الخدري: ولم نفعل فلم نفلح.

وروي عن أبي سعيد أنّه قال: قلت للحسن بن عليٍّ علیهما السلام: يا ابن رسول الله هادنت معاوية وصالحته، وقد علمت أن الحقّ لك دونه، وأن معاوية ضالٌّ وباغٍ، فقال: (يا أبا سعيد ألستُ حجّةَ اللهِ علىْ خلقِهِ، وإماماً عليهمْ بعدَ أبي علیه السلام ؟)، قلت: بلى، قال: (ألستُ الذيْ قالَ رسولُ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم ليْ ولأخيْ: [هذانِ ولدايَ إمامانِ قاما أوْ قَعدا]؟)، قلت: بلى، قال: (فأنا إمامٌ إنْ قعدتُ، يا أبا سعيدٍ علّةُ مصالحتيْ لمعاويةَ علّةُ مصالحةِ رسولِ اللهِ صلی الله علیه و آله و سلم لبنيْ ضمرةَ وبنيْ أشجعَ ولأهلِ مكّة حينَ أنصرفَ منْ الحديبيةِ، وأولئك كفّارٌ بالتنزيلِ، ومعاويةُ وأصحابُهُ كفّارٌ بالتأويلِ، يا أبا سعيدٍ إذا كنتُ إماماً منْ قبلِ اللهِ لمْ يجزْ أنْ أسفهَ فيما أتيتهُ منْ مُهادنتيْ أوْ مهاربتيْ، وإنْ كانَ وجهُ الحكمةِ فيما أتيتهُ ملتسباً ..

إلّا ترى الخضرَ علیه السلام فيْ خرقِ السفينةِ وقتلِ الغلامِ وإقامةِ الجدارِ أسخطَ موسى علیه السلام فعلهُ؛ لاشتباهِ وجهِ الحكمةِ عليهِ، حتّى أخبرَهُ فرضيَ، فهكذا سخطتمْ عليَّ بجهلكمْ بوجهِ الحكمةِ، ولولاْ ما أتيتُ ما تُركَ منْ شيعتِنا على وجهِ الأرض منْ أحدٍ إلّا وقُتلَ).

ص: 653

وروى الكشّي بإسناده عن أبي عبد الله علیه السلام قال: ذكر أبو سعيد فقال: كان من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكان مستقيماً، قال: فنزع ثلاثة أيام، فغسله أهله ثُمَّ حملوه إلى مصلّاه، فمات فيه.

وعن أبي عبد الله علیه السلام أيضاً قال: إن أبا سعيد الخدري كان قد رزق هذا الأمر، وإنّه اشتد نزعه، فأمر أهله أن يحملوه إلى مصلّاه الذي كان يصلّي فيه ففعلوا، فما لبث أن هلك.

وعن ذريح قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: إنّي لأكره للرجل أن يعافى في الدنيا ولا يصيبه شيء من المصائب، ثُمَّ ذكر أن أبا سعيد الخدري وكان مستقيماً نزع ثلاثة أيام فغسله أهله ثُمَّ حملوه إلى مصلّاه فمات.

وتوفي بالمدينة سنة إحدى، أو أربع، أو خمس وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين ودفن بالبقيع.

والخُدري - بضمّ الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة - منسوب إلى خدرة، وإسمه إلّابجر - بفتح الهمزة وسكون الباء الموحدة وفتح الجيم وبعدها راء مهملة - وهو إبن عوف بن الحارث بن الخزرج، وقيل: خدرة أمّ إلّابجر، والأوّل أشهر، وهم بطن من الأنصار، والله أعلم.

ص: 654

البراء بن مالك بن النضر

البراء بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد الأنصاري الخزرجي، أخو أنس بن مالك، شهد أُحداً والخندق.

قال الفضل بن شاذان: إنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام، وقتل رضوان الله عليه يوم تُسْتُر.

وكان عمر بن الخطّاب بعث إليها أبا موسى إلّاشعري فافتتحها عام ثُمان عشرة للهجرة والبراء بن مالك بها.

وهي بضمّ التاء المثناة من فوق، وسكون السين المهملة، وفتح التاء المثناة من فوق، وبعدها راء مهملة، وتسمّيها العامّة (شُشْتَر).

قال صاحب اللباب: وهي مدينة من كورة إلّاهواز من خوزستان، قال: وبها قبر البراء بن مالك رضی الله عنه .

وقيل: أن تستر مدينة ليس على وجه الأرض أقدم منها، والله أعلم.

ص: 655

بُرَيْدة بن الحصيب

بُرَيْدة، بضم الباء الموحدة، وفتح الراء المهملة، وسكون إليَّاء المثناة من تحت، وفتح الدال المهملة وفى آخرها هاء، إبن الحصيب - بالمهملتين مصغراً - الأسلمي.

صحابي مشهور، أسلم قبل بدر وشهد أُحداً.

قال إبن شهر آشوب: غزا مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ست غزوات.

وقال الفضل بن شاذان: إنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام، هو والبراء بن مالك.

روى أحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن بُرَيْدة عن أبيه قال: بعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بعثين على أحدهما عليُّ بن أبي طالب، وعلى الآخر خالد بن الوليد، فقال صلی الله علیه و آله و سلم:[إذا التقيتم فعليٌّ على النّاس، وإذا افترقتم فكلُّ واحد منكما على جنده]، فلقينا بني زيد من اليمن فاقتتلنا، وظهر المسلمون فقتلنا المقاتلة وسبينا الذريّة، فاصطفى عليٌّ علیه السلام من السبي امرأة لنفسه.. قال بُرَيْدة: وكتب خالد بن الوليد معي إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يخبره بذلك، فلمّا أتيت النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم دفعت الكتاب إليه، فقرئ عليه، فرأيت الغضب في وجه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقلت: يا رسول الله هذا مكان العائذ بك، بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه، فقد بلّغت ما أرسلت به؛ فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [لا يقعُ فيْ عليٍّ، فإنّهُ منّيْ وأنا منهُ، وهوَ وليُّكمْ بَعديْ].

ص: 656

وفي كتاب (المناقب)، تإليَّف أبي بكر بن موسى بن مردويه، وهو من رؤساء المخالفين لأهل البيت علیهم السلام هذا الحديث من عدة طرق.

وفي رواية بُرَيْدة له زيادة وهي ان النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم قال لبُرَيْدة: [أيهٍ عنكَ يا بُرَيْدة فقدْ أكثرتَ الوقوعَ في عليٍّ، فوَ اللهِ إنّكَ لتقعُ برجلٍ إنّهُ أولى النّاس بكمْ بعديْ].

وزيادة اخرى أن بُرَيْدة قال: يا رسول الله استغفر لي، فقال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم حتّى يأتي عليٌّ، فلمّا جاء عليٌّ علیه السلام طلب بُرَيْدة أن يستغفر له، فقال النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [إن تستغفرْ لهُ أستغفرْ لهُ]، فاستغفر له علیه السلام .

وفي الحديث زيادة أخرى أن بُرَيْدة امتنع من بيعة أبي بكر بعد وفاة النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم، وتبع عليّاً علیه السلام؛ لأجل ما كأن سمعه من نص النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم بالولاية بعده.

وفى حديث حذيفة بن اليمان عن بُرَيْدة أنّه قال: كنت أنا وعمّار أخي مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في نخيل بني النجار، فدخل علينا عليُّ بن أبي طالب علیه السلام، فردَّ عليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم السلام ورددنا، ثُمَّ قال له: [يا عليُّ اجلس هناك]، فجلس فدخل رجال فأمرهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالسلام على عليٍّ علیه السلام بإمرة المؤمنين، فسلّموا وما كادوا.

ثُمَّ دخل أبو بكر وعمر فسلّما، فقال لهما رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [سلّما على عليٍّ بإمرةِ المؤمنينَ]، فقالا: الأمر من الله ورسوله؟ فقال: نعم.

ص: 657

ثُمَّ دخل طلحة وسعد بن مالك فسلّما، فقال لهما رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [سلّما على عليٍّ بإمرةِ المؤمنينَ]، فقالا: عن الله ورسوله؟ فقال: نعم، فقالا: سمعنا وأطعنا.

ثُمَّ دخل سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري رضوان الله عليهما فسلما فردَّ عليهما السلام ثمّ قال: [سلّما على عليٍّ بإمرةِ المؤمنينَ]، فسلّما ولم يقولا شيئاً.

ثُمَّ دخل خزيمة بن ثابت وأبو الهيثم بن التيهان فسلّما، فردَّ عليهما السلام، ثُمَّ قال: [سلّما على عليٍّ بإمرةِ المؤمنينَ]، فسلّما ولم يقولا شيئاً.

ثُمَّ دخل عمّار والمقداد فسلّما، فردَّ عليهما السلام، وقال [سلّما على عليٍّ بإمرةِ المؤمنينَ]، ففعلا ولم يقولا شيئاً.

ثُمَّ دخل عثمان وأبو عبيدة فسلّما، فردَّ عليهما السلام وقال: [سلّما على عليٍّ بإمرةِ المؤمنينَ]، فقالا: عن الله ورسوله؟ فقال: نعم.

ثُمَّ دخل فلان وفلان، وعدَّ جماعة من المهاجرين والأنصار، كلّ ذلك يقول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سلّموا على عليٍّ علیه السلام بإمرة المؤمنين، فبعض سلّم ولم يقل شيئاً، وبعض يقول عن الله ورسوله؟ فيقول: نعم، حتّى غصَّ المجلس بأهله، وامتلأت الحُجْرة، وجلس بعض على الباب وفى الطريق، وكانوا يدخلون فيسلّمون ويخرجون، ثُمَّ قال لي ولأخي: [قمْ يا بُرَيْدة أنتَ وأخوكَ فسلّما على عليٍّ بإمرةِ المؤمنينَ]، فقمنا فسلّمنا، ثُمَّ عدنا إلى مواضعنا فجلسنا.

ص: 658

قال: ثُمَّ أقبل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عليهم جميعاً فقال: [اسمعواْ وعواْ إنّيْ أمرتُكم أنْ تسلّموا على عليٍّ بإمرةِ المؤمنينَ، وإنَّ رجالاً سألونيْ إنْ ذلكَ عنْ أمرِ اللهِ تعالىْ وأمرِ رسولهِ، ما كانَ محمّدٌ أنْ يأتيَ أمراً منْ تلقاءِ نفسهِ، بلْ بوحيْ ربُّهُ وأمرِهِ، أفرأيتمْ والذيْ نفسيْ بيدهْ لئنْ أبيتمْ ونقضتموهُ لتكفرُنَّ، ولتفارقونَ ما بعثنيْ بهِ ربّيْ، فمنْ شاءَ فليؤمنْ، ومنْ شاءَ فليكفرْ].

قال بُرَيْدة: فلمّا خرجنا سمعنا بعض أولئك الذين أُمروا بالسلام على عليٍّ علیه السلام بإمرة المؤمنين من قريش يقول لصاحبه - وقد التقت بهما طائفة من الجفاة البطاء عن الإسلام من قريش -: أما رأيت ما صنع محمّدٌ بابن عمه من علوّ المنزلة والمكان؟ لو يستطيع والله لجعله نبياً من بعده، فقال له صاحبه: أمسك ولا يكبرنَّ عليك هذا، فإنّا لو فقدنا محمّداً لكان فعله هذا تحت اقدامنا.

قال حذيفة: ومضى بُرَيْدة ودخل المسجد، وأبو بكر على المنبر، وعمر دونه بمرقاة، فناداهما من ناحية المسجد: يا أبا بكر ويا عمر، فقالا: مالك يا بُرَيْدة أجننت؟ فقال لهما: والله ما جننت، ولكن أين سلامكما بإلّامس على عليٍّ علیه السلام بإمرة المؤمنين؟ فقال له أبو بكر: يا بُرَيْدة الأمر يحدث بعده الأمر، وإنّك غبت وشهدنا، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فقال لهما: رأيتما ما لم يره الله ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم، ولكن وفى لك صاحبك بقوله: لو فقدنا محمّداً لكان قوله هذا تحت أقدامنا .. إلّا إن المدينة حرام عليَّ أن أسكنها أبداً حتّى أموت.

ص: 659

فخرج بُرَيْدة بأهله وولده فنزل بين قومه بين أسلم، فكان يطلع في الوقت دون الوقت، فلمّا أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين علیه السلام سار إليه، وكان معه حتّى قدم العراق، فلمّا أُصيب أمير المؤمنين علیه السلام سار إلى خراسان فنزلها، ولبث هناك إلى أن مات رحمه الله.

وعن أبان بن تغلب عن الصادق علیه السلام أن بُرَيْدة قال لابي بكر: إنّا لله وإنا إليه راجعون، ماذا لقي الحقّ من الباطل يا أبا بكر؟ أنسيت؟ أم خدعت؟ أم خدعت نفسك وسولت لك إلّاباطيل؟ أو لم تذكر ما أمرنا به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من تسُميَّة عليٍّ علیه السلام بإمرة المؤمنين؟ والنبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم بين أظهرنا، وقوله له في عدة أوقات: هذا أمير المؤمنين، وقاتل القاسطين، إتّقِ الله وتدارك نفسك، قبل أن لا تدركها، وأنقذها ممّا يهلكها، واردد الأمر إلى من هو أحقّ به منك، ولا تتماد في اغتصابه، وارجع وأنت تستطيع أن تراجع، فقد محضتك النصح، ودللتك على طريق النجاة، فلا تكونن ظهيراً للمجرمين.

وفى مناقب إبن شهر آشوب جاء بُرَيْدة حتّى ركز رايته في وسط أسلم ثمّ قال: لا أبايع حتّى يبايع عليٌّ علیه السلام، فقال عليٌّ علیه السلام: {يا بُرَيْدة أدخلْ فيما دخلَ فيهِ النّاس، فإنَّ اجتماعَهمْ أحبُّ إليَّ منْ اختلافِهمْ اليوم}.

وتوفي بُرَيْدة سنة اثنتين وستين، وقيل: ثلاث وستين.

ص: 660

وقال صاحب معجم البلدان: روي عن بُرَيْدة بن الحصيب أحد أصحاب النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم أنّه قال: قال لي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [يا بُرَيْدة أنْ سيبعثَ منْ بعديْ بعوثٌ، فإذاْ بعثتْ فكنْ فيْ بعثِ الشرقِ، ثُمَّ كنْ فيْ بعثِ خراسانَ، ثُمَّ كنْ فيْ بعثْ أرضٍ يقالُ لها: مَرْو، فإذا أتيتَها فانزل مدينتها، فإنّه بناها ذو القرنين، وصلّى فيها عزير، أنهارها تجري بالبركة على كل نقب، منها ملك شاهر سيفه يدفع عن أهلها السوء إلى يوم القيامة.

فقدمها بُرَيْدة غازياً، وأقام بها إلى أن مات، وقبره إلى الآن بها معروف، عليه راية رأيتُها.

والأسلمي - بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وفتح اللام وكسر الميم - نسبة إلى أسلم بن قصي بن حارثة بن عمرو بن عمر القيس بن ثعلبة بن مازن بن إلّازد، وهي قبيلة ينسب إليها جماعة من الصحابة، والله أعلم.

ص: 661

خبّاب بن الأرث بن جندلة

خبّاب - بفتح الخاء المعجمة وتشديد الموحدة وبعده الألف موحدة أيضاً - إبن الأرث - بفتح الهمزة والراء المهملة وتشديد المثناة من فوق - إبن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة بن تميم، يكنّى أبا عبد الله، وقيل: أبا محمّد، وقيل: أبا يحيى.

أصابه سبيٌ فبيع بمكّة، وكانت أمّه ختّانة، وخبّاب من فقراء المسلمين وخيارهم .. كان فاضلاً من المهاجرين الأولين، وكان في الجاهلية غنياً يعمل السيوف.

وروي أن الزبير وعثمان تكالما، فقال الزبير: إن شئت تقاذفنا، فقال عثمان: ابا البعر يا أبا عبد الله؟ فقال له الزبير: بل بضرب خبّاب وريش المقعد، يعني بالسيوف والسهام، والمقعد - بفتح العين المهملة - رجل كان يريش السهام.

وكان خبّاب قديم الإسلام .. قيل: أنّه كان سادس ستة شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم آخى بينه وبين تميم مولى خراس بن الصمّة، وكان مبتلى في جسمه، به مرض لا يزايله، وهو معدود في المعذبين في الله.

سأله عمر بن الخطّاب في أيّام خلافته: ما لقيت من أهل مكّة؟ فقال: أنظر إلى ظهري، فنظر فقال: ما رأيت كاليوم ظهر رجل، فقال خبّاب: أوقدوا لي ناراً وسحبت عليها، فما أطفأها إلّا ودك ظهري.

ص: 662

وجاء خبّاب إلى عمر فجعل يقول: إدن، ثُمَّ قال له: ما أحد أحقّ بهذا المجلس منك إلّا أن يكون عمّار بن ياسر.

ونزل خبّاب الكوفة ومات بها، بعد أن شهد مع أمير المؤمنين علیه السلام صِفّين والنهروان.

وكانت وفاته سنة سبع وثلاثين، وقيل: تسع وثلاثين، وصلّى عليه أمير المؤمنين علیه السلام، وكان سنّه يوم مات ثلاثاً وسبعين سنة، ودفن بظهر الكوفة، وهو أوّل من دفن بظهر الكوفة.

قال أبو نعيم في حلية الأولياء: وقف أمير المؤمنين علیه السلام على قبره فقال: {رحمَ اللهُ خبّاباً .. أسلمَ راغباً، وهاجرَ طائعاً، وعاشَ مجاهداً، وابتُليَ في جسمهِ أحوإلّا، ولنْ يُضيعَ اللهُ أجرَ منْ أحسنَ عملاً}.

وفي نهج البلاغة قال علیه السلام في ذكر خبّاب: {أسلمَ راغباً، وهاجرَ طائعاً، وعاشَ مجاهداً، طوبىْ لمنْ ذكرَ المعادَ، وعملَ للحسابِ، وقنعَ بالكفافِ، ورضيَ عنْ اللهِ}.

وعبد الله بن خبّاب هو الذي قتله الخوارج، فاحتجّ أمير المؤمنين علیه السلام به، وطالبهم بدمه، وستأتي ترجمته في الطبقة الثانية، إن شاء الله تعالى.

ص: 663

كعب بن عمرو الأنصاري

كعب بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري السلمي، يكنّى أبا أليسر - بفتح المثناة من تحت والسين المهملة وبعدها راء مهملة - ً.

صحابي جليل شهد العقبة وبدراً، وهو الذي أسرّ العبّاس يوم بدر، وكان رجلاً مجموعاً، والعبّاس رجلاً طويلاً، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لكعب: [يا أبا أليسرِ، كيفَ أسرتَ العبّاسَ؟] قال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته من قبل، من هيئته كذا، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [لقدْ أعانكَ عليهِ ملَكٌ كريمٌ].

وعن زيد بن وهب قال: سمعت عليّاً علیه السلام، وقد ذكر حديث بدر، فقال: {قتلْنا منَ المشركينَ سبعينَ، وأسرنا سبعينَ، وكانَ الذيْ أسرَ العبّاسَ رجلٌ منَ الأنصار أدركتهُ، فألقى العبّاس على عمامته؛ لئلّا يأحذها الأنصاري، فأحبَّ أنْ يكونَ أنا الذيْ أسرتُه}.

وجيء بهِ إلى الرسولِ صلی الله علیه و آله و سلم، فقال الأنصاري: يا رسول اللهِ قد جئتُكَ بعمّك العبّاس أسيراً، فقال العبّاس: كذبت، ما أسرني إلّا ابن أخي عليَّ بن أبي طالب، فقال الأنصاري: يا هذا أنا أسرتك، فقال: والله ما أسرني إلّا ابن أخي، ولكأنّي بجحلته في النقع تبين لي، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [صدقَ عمّيْ ذاكَ ملَكٌ كريمٌ]، فقال العبّاس لقد عرفته بجحلته وحسن وجهه، فقال له: [إنّ الملائكةَ الذينَ أيّدنيْ اللهُ بهمْ على صورةِ عليِّ بنِ أبيْ طالبَ؛ ليكونَ ذلكَ أهيبَ لهمْ فيْ صدورِ إلّاعداءِ]، فقال: هذه عمامتي

ص: 664

على رأس عليّ بن أبي طالب، فمره فليردّها عليَّ، فقال: [ويحكَ إنْ يعلمْ اللهُ فيكَ خيراً يعوضْكَ أحسنَ العوضِ].

قال الشيخ المفيد رضوان الله عليه: دلَّ هذا الحديث على أن أمير المؤمنين علیه السلام كان أشجع البريّة، وأنّه بلغ من بأسه وخوف إلّاعداء منه أنّ الله تعالى جعل الملائكة على صورته؛ ليكون ذلك أرهب لقلوبهم، وإنّ هذا المعنى لم يحصل لبشر قبله ولا بعده.

اختطف أبو أليسر في يوم بدر راية المشركين، وأبلى بلاءً حسناً، وشهد صِفّين مع أمير المؤمنين علیه السلام وكان من أصحابه.

ص: 665

رفاعة بن رافع بن مالك

رفاعة بن رافع بن مالك بن عجلان الأنصاري، يكنّى أبا معاذ، شهد بدراً، وكان أبوه رافع من أصحاب العقبة.

وكان رفاعة من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام شهد معه حرب صِفّين، ومات في خلافة معاوية.

ص: 666

مالك بن ربيعة بن البدن

مالك بن ربيعة بن البدن - بفتح الموحدة والمهملة ثُمَّ نون - ابن عامر بن عوف بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة، أبو أسيد - بالضمّ – الساعدي، مشهور بكنيته.

شهد بدراً وغيرها، وكان من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام، شهد معه صِفّين، وهو أحد البدريين الذين شهدوها معه علیه السلام .

قال الواقدي: مات سنة ثلاثين، وقال المدائني: توفي سنة ستين، قال: وهو آخر من مات من البدريين، والله أعلم.

ص: 667

عقبة بن عمرو الأنصاري

عقبة بن عمرو بن تغلبة الأنصاري، يكنّى أبا مسعود، من بني الحارث بن الخزرج، وهو مشهور بكنيته، يعرف بأبي مسعود البدري؛ لأنّه كان يسكن بدراً.

قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: إنّه لم يشهد بدراً، وهو قول إبن إسحق، وقال إبن إسحق: كان أبو مسعود أحد من شهد العقبة، ولم يشهد بدرا، وشهد أُحداً وما بعدها من المشاهد.

وقالت طائفة: قد شهد أبو مسعود بدراً، وبذلك قال البخاري؛ فذكره في البدريين.

قال أبو عمرو: ولا يصحّ شهوده بدراً.

قال بعضهم: وشهد مع أمير المؤمنين علیه السلام صِفّين، وقال أبو عمرو: كان قد نزل الكوفة وسكنها، واستخلفه عليٌّ علیه السلام في خروجه إلى صِفّين.

ومات سنة إحدى، أو اثنتين وأربعين، والله أعلم.

ص: 668

هند بن أبي هالة التميمي

هند بن أبي هالة التميمي، واختلف في إسم أبي هالة، فقيل: نماش بن زرارة، وقيل: نبّاش - بنون ثُمَّ موحدة ثُمَّ معجمة - وهو الذي رجحه كثير من أهل العلم.

وقال الفيروز أبادي: النبّاش بن زرارة، أو مالك بن زرارة بن النبّاش، أو أبو هالة بن النبّاش بن زرارة، أو زرارة بن النباش بن زرارة، زوج خديجة علیها السلام، والد هند بن أبي هالة الصحابي.

وكان هند ربيب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمّه خديجة بنت خويلد علیها السلام، خلف عليها رسول الله علیها السلام بعد أبي هالة، وهو أخو فاطمة الزهراءً علیها السلام لامها، وخال الحسنين علیهما السلام .

وكان فصيحاً بليغاً وصّافاً، وصف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأحسن وأتقن.

روي عن الحسن بن عليٍّ علیهما السلام أنّه قال: سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي، وكان وصّافاً عن حلية النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئاً أتعلق به.

فقال: كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فخماً مفخماً، يتلإلّا وجهه تلإلّا القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة رجل الشعر، إذا انفرقت عقيصته فرق، وإلّا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفّره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزجّ الحواجب، سوابغ في غير قرن بينهما، له عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشمّ كثّ اللحية، سهل الخدّين، أدعج، ضليع الفم، أشنب،

ص: 669

مفّلج إلّاسنان، دقيق المسربة، كان عنقه جيد ريمة في صفاء الفضة، معتدل الخلق بادناً متماسكاً، سواء البطن والصدر عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبّة والسرّة، بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن ممّا سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعلى الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، سبط القصب، شئن الكفين والقدمين، سائل إلّاطراف، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعاً، يخطو تكفيّاً ويمشي هوناً، سريع المشية، إذا مشى كأنّما ينحطّ من صبب، وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدر من لقيه بالسلام.

قال: قلت له: صف لي منطقه.

قال: كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم متواصل إلّاحزان دائم الفكرة، ليست له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكت، يفتتح الكلام ويختمه بابتداء، ويتكلم بجوامع الكلم فصلاً، لا فضول ولا تقصير فيه، دمثاً ليس بالجافي ولا المهين، يعظّم النعمة وإن دقّت، لا يذمّ منها شيئاً، ولا يذمّ ذواقاً ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها، فإذا تعاطى الحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتّى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، فإذا أشار أشار بكفّه كلّها، وإذا تعجّب قلبها، وإذا تحدّت أشار لها فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غضَّ من طرفه، جلّ ضحكه التبسّم، ويفترّ عن مثل حب الغمام.

ص: 670

قال الحسن علیه السلام فكتمتها الحسين علیه السلام زماناً، ثُمَّ حدّثته، فوجدته قد سبقني إليه فسأله عمّا سألته عنه.

وقد شرح أبو عبيدة، وابن قتيبة وصفه هذا، ومعنى ما فيه من الفصاحة وفوائد اللغة.

قال أبو عبيدة: حدثني سنان بن أبي سنان، أن هند بن أبي هند بن أبي هالة الأسدي حدثه عن أبيه هند بن أبي هالة ربيب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ..قال أبو عبيدة: كان هند بن أبي هالة وأبو رافع مولى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وعمّار بن ياسر يحدّثون عن هجرة أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب علیه السلام إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالمدينة، ومبيته من قبل ذلك على فراشه، قال: وصدر هذا الحديث عن هند بن أبي هالة، واقتصاصه عن الثلاثة وقد دخل حديث بعضهم في بعض.

قالوا: كان الله عزَّ وجلَّ يمنع نبيّه صلی الله علیه و آله و سلم بعمّه أبي طالب، فما كان يخلص إليه من قومه أمر يسوؤه مدة حياته، فلمّا مات أبو طالب رضوان الله عليه نالت قريش من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بغيتها، وأصابته بعظيم من أذىً، حتّى تركته لقى، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [ما أسرعَ ما وَجَدنا فقدُكَ يا عمّ، وصلتْكَ رحمٌ وجُزيتَ خيراً يا عمّ].

ثُمَّ ماتت خديجة علیها السلام بعد أبي طالب بشهر، واجتمع بذلك على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حزنان حتّى عرف ذلك فيه، قلت: وسمّي تلك السنة عام الحزن.

ص: 671

قال هند: ثُمَّ انطلق ذوو الطول والشرف من قريش إلى دار الندوة؛ ليرتأوا ويأتمروا في رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأسرّوا ذلك بينهم، وقالوا: نبني له برجاً نستودعه فيه، فلا يخلص إليه من الصباة إليه أحد، ثُمَّ لا يزال في رنق من العيش حتّى تأتيه المنون، واشار بذلك العاص بن وائل وأميّة وأبيّ إبنا خلف، فقال قائل: كلّا ما هذا لكم برأي، ولئن صنعتم ذلك ليتنمرنّ له الحدب الحميم والمولى والحليف، ثُمَّ لتأتينّ المواسم في الأشهر الحرم بإلّامن فليستنزعنّ من إنشوطتكم..قولوا قولكم.

فقال عتبة وشيبة وشريكهما أبو سفيان..قالوا: فإنّا نرى أن نرحّل له بعيراً صعباً، ونوثق محمّداً عليه كتافاً وشداً، ثُمَّ نخزّ البعير بأطراف الرماح، فيوشك أن يقطعه إرباً إرباً.

فقال صاحب رأيهم: إنّكم لم تصنعوا بقولكم هذا شيئاً، أرأيتم إن خلص به البعير سالماً إلى بعض آلافاويق، فأخذ بقلوبهم بسحره وبيانه وطلاقة لسانه، فصبا القوم إليه، واستجابت له القبائل، فسار إليكم فأهلككم..قولوا قولكم.

فقال أبو جهل: لكن أرى أن تعمدوا إلى قبائلكم العشر، فتندبوا من كل قبيلة منها رجلاً نجداً، وتبيتوا ابن أبي كبشة، فيذهب دمه في قبائل قريش جميعاً، فلا يستطيع قومه محاربة النّاس، فيرضون حينئذ بالعقل؛ فقال صاحب رأيهم: أصبت يا أبا الحكم.

قلت: وقد ورد أن هذا الرأي أشاربه إبليس، وجاءهم في زيّ رجل من نجد، قال: فأوحى الله إلى نبيه صلی الله علیه و آله و سلم بما كان من كيدهم، وتلا عليه جبرئيل علیه السلام ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ

ص: 672

الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (1)، وأمره بالهجرة.

فدعا عليّاً علیه السلام لوقته، فأخبره بما أوحى إليه وما أمره به، و [إنّهُ أمرنيْ أنْ أمرَكَ بالمبيتِ علىْ فِراشيْ، أوْ علىْ مضجعيْ، لتخفيَ بمبيتِكَ عليهمْ أمريْ، فما أنتَ قائلٌ وصانعٌ؟] فقال عليٌّ علیه السلام: {أوَ تسلمُ بمبيتيْ هناكَ يا نبيَّ اللهِ}، قال: نعم.

فتبسّم عليٌ علیه السلام ضاحكاً، وأهوى إلى الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من سلامته، فكان علیه السلام أوّل من سجد لله شكرا، وأوّل من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمّة، بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

ورفع رأسه وقال: {إمضِ لما أُمرتَ بهِ، فداكَ سمعيْ وبصريْ وسويداءُ قلبيْ، ومرنيْ بما شئتَ أكنْ فيهِ كمسرّتكَ واقعٌ بهِ بحيثُ مرادكَ، وما توفيقيْ إلّا باللهِ}.

قال: [أُخبركَ يا عليُّ إنَّ اللهَ يختبرُ أوّلياءَهَ على قدرِ إيمانِهمْ ومنازلِهمْ منْ دينِهِ، فأشدّ النّاس بلاءً الأنبياء، ثُمَّ الأمثل فالأمثل، وقد امتحنَكَ اللهُ يا ابنَ أمّ فيَّ، وامتحننيْ فيكَ بمثلِ ما امتحنَ اللهُ خليلَهَ إبراهيمَ والذبيحَ إسماعيلَ علیها السلام، فصبراً صبراً، فإنَّ رحمةَ اللهِ قريبٌ منَ المُحسنينَ].

ص: 673


1- سورة الأنفال – الآية: 30

ثُمَّ ضمّهُ النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم إلى صدره، وبكى وجداً به، وبكى عليٌّ علیه السلام جزعاً لفراق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

واستتبع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أبا بكر بن أبي قحافة، وهند بن أبي هالة، وأمرهما أن ينتظراه بمكان عيّنه لهما من طريقه إلى الغار، ولبث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بمكانه يوصي عليّاً علیه السلام ويأمره بالصبر، وخرج في فحمة العشاء، والرصد من قريش قد طافوا بالدار..ينتظرون أن ينتصف الليل، وتنام إلّاعين، فخرج صلی الله علیه و آله و سلم من بينهم وهو يقرأ ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ (1)، ورماهم بقبضة من تراب فما شعروا به، ومضى حتّى انتهى إلى صاحبيه، فنهضا معه، ووصلوا إلى الغار، ورجع هند إلى مكّة بما أمره النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم، ودخل هو وأبو بكر إلى الغار.

فلمّا نامت إلّاعين أقبل القوم إلى عليٍّ علیه السلام قذفاً بالحجارة، ولا يشكّون أنّه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، حتّى إذا برق الفجر، وأشفقوا أن يفضحهم الصبح، هجموا على عليٍّ علیه السلام، وكانت دور مكّة يومئذ بغير أبواب، فلمّا رآهم عليٌّ علیه السلام قد انتضوا السيوف وأقبلوا، يقدمهم خالد بن الوليد، وثب إليه عليٌ علیه السلام فختله، فهمز يده وأخذ سيفه، وشدَّ عليهم فأجفلوا، فعرفوه وقالوا: إنّا لم نردْكَ، فما فعل صاحبك؟ فقال: لا علم لي، فأرسلت قريش العيون، وركبت في طلبه الصعب والذلول.

ص: 674


1- سورة يس – الآية: 9

ولما اعتمَّ عليٌّ علیه السلام انطلق هو وهند إلى الغار، وأمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هند أن يبتاع له ولصاحبه بعيرين، فقال أبو بكر: قد كنت أعددت لي ولك يا رسول الله راحلتين، نرتحلهما إلى يثرب، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [لا آخذُهما إلّا بالثمن]، قال: هي لك يا رسول الله بذلك، فأمر عليّاً علیه السلام فاقبضه الثمن، وأوصاه بحفظ ذمّته وأداء أمانته.

وكانت قريش تدعو النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم: الأمين، وتودعه أموالها، وبعث صلی الله علیه و آله و سلم والحال ذلك، فأمر عليّاً علیه السلام أن يقيم صارخاً بإلّابطح، يهتف غدوة وعشياً: من كان له قبل محمّدٍ أمانة أو وديعة، فليأت فلنؤدِّ إليه أمانته، وقال له النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [لنْ يصلواْ إليك منَ الآن بأمرٍ تكرهُهُ حتّى تقدمَ عليَّ، فأدِّ أمانتي علىْ أعينِ النّاس ظاهراً، ثُمَّ إنّيْ أستخلفُكَ علىْ فاطمةَ إبنتيْ، ومستخلفٌ ربِّي عَليكُما].

وأمره ان يبتاع رواحل له، وللفواطم، ومن يهاجر معه من بني هاشم، وقال صلی الله علیه و آله و سلم لعليٍّ علیه السلام: [إذاْ أبرمتَ ما أمرتُكَ بهِ، فكنْ علىْ أُهبةِ الهجرةِ إلىْ اللهِ ورسولِهِ، وسِرْ إليَّ لقدومِ كتابيْ عليكَ].

وانطلق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى المدينة، وأقام في الغار ثلاثاً، ومبيت عليٍّ علیه السلام على فراشه أوّل ليلة، وقال عليٌّ علیه السلام في ذلك:

وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى *** ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجْر ِ

محمّد لمّا خاف أن يمكروا به *** فوقّاه ربّي ذو الجلال من المكر

وبت أراعيهم متى يأسرونني *** وقد وُطّنت نفسي على القتل وإلّاسر

ص: 675

وبات رسول الله في الغار آمنا *** هناك وفى حفظ إلّاله وفى ستر

أقام ثلاثاً ثُمَّ زمّت قلائص *** قلائص يفرين الحصى أينما يفري

ولما ورد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المدينة نزل في بني عمر بن عوف بقبا، وأرادوه على الدخول إلى المدينة فقال: [ما أناْ بداخلِها حتّى يقدمَ ابنُ عمّي وابنتيْ]، يعنى عليّاً وفاطمة علیهما السلام .

قال الزبير بن بكار: استشهد هند بن أبي هالة مع عليٍّ علیه السلام يوم الجمل، وقيل: عاش بعد ذلك، والله أعلم.

ص: 676

جعدة بن هبيرة بن أبي وهب

جعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب.

هو ابن أخت أمير المؤمنين علیه السلام، أُمّه أم هاني بنت أبي طالب، وسيأتي ترجمتها في الطبقة العاشرة إن شاء الله.

واختلف في صحبته، فقيل: أنّه ولد على عهد النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وليست له صحبة، وقال العجلي: إنّه تابعيّ، وقيل: بل هو من الصحابة.

قال العسقلاني: هو صحابي صغير له رؤية، وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج: أدرك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأسلم يوم الفتح مع أُمّه أم هاني بنت أبي طالب، وهرب أبوه هبيرة بن أبي وهب ذلك اليوم، هو وعبد الله بن الزبعرى إلى نجران، فأقام بها حتّى مات كافراً.

قال إبن عبد البر في كتاب (الإستيعاب): ولدت أمُّ هاني لهبيرة أربعة بنين: جعدة وعمراً وهانياً ويوسف، وكان جعدة فارساً شجاعاً فقيهاً، ولّي خراسان لأمير المؤمنين علیه السلام، وهو الذي يقول:

أبي من بني مخزوم إن كنت سائلاً *** ومن هاشم أُمّي لخير قبيل ِ

فمن ذا الذي ينأى عليَّ بخاله *** كخالي عليٍّ ذي الندى وعقيل

ص: 677

وشهد جعدة مع أمير المؤمنين علیه السلام حرب صِفّين وأبلى بها بلاء حسناً.

روى نصر في كتاب (صِفّين) قال: حدّثنا عمر بن سعد، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن أبيه جحيفة قال: جمع معاوية كل قرشي بالشام، وقال لهم: العجب يا معشر قريش أنّه ليس لأحد منكم في هذا الحرب فعال يطول به لسانه ما عدا عمراً ؟ فما بالكم؟ أين حمية قريش؟ فغضب الوليد بن عقبة وقال: أيّ فعال تريد، والله ما نعرف في أكفائنا من قريش العراق من يغني غنانا باللسان ولا باليد، فقال معاوية: بلى إن أولئك وقوا عليّاً بأنفسهم، قال الوليد: كلّا بل وقاهم عليٌّ بنفسه، قال: ويحكم أما فيكم من يقوم لقرنه منهم مبارزة ومفاخرة؟! فقال مروان: إمّا البراز فإن عليّاً لا يأذن لحسن ولا لحسين ولا لمحمّد بنيه فيه، ولا لابن عبّاس وإخوته، ويصلّي بالحرب دونهم، فلأيّهم نبارز؟ وإمّا المفاخرة فبماذا نفاخر؟ بالإسلام أم بالجاهلية؟ فإن كان بالإسلام فالفخر لهم بالنبوة، وإن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن، فإن قلنا: قريش قالوا لنا: عبد المطّلب.

فقال عتبة بن أبي سفيان: إلهوا عن هذا، فإنّي لاقٍ بالغداة جعدة بن هبيرة، فقال معاوية: بخٍ بخٍ، قومه بنو مخزوم، وأُمّه أم هاني بنت أبي طالب، كفوء كريم.

وكثر العتاب والخصام بين القوم، حتّى أغلظوا لمروان، وأغلظ لهم، فقال مروان: أما والله، ولولا ما كان منّي لعليٍّ في أيام عثمان، ومشهدي بالبصرة، لكان لي في عليٍّ رأيٌ يكفي أمرءً ذا حسب ودين، ولكن، ولعلَّ.

ص: 678

ونابذ معاوية الوليد بن عقبة، فاغلظ له الوليد، فقال له معاوية: إنّك إنّما تجترئ عليّ بنسبك من عثمان، ولقد ضربك الحدّ، وعزلك عن الكوفة، ثُمَّ إنّهم ما أمسوا حتّى اصطلحوا، وأرضاهم معاوية عن نفسه، ووصلهم بأموال جليلة جزيلة.

وبعث معاوية إلى عتبة فقال: ما أنت صانع في جعدة؟ فقال: ألقاه اليوم وأقاتله غداً، وكان لجعدة في قريش شرف عظيم، وكان له لسان، وكان من أحبّ النّاس إلى عليٍّ علیه السلام، فغدا عليه عتبة فنادى: أيا جعدة .. أيا جعدة، فاستأذن عليّاً علیه السلام في الخروج إليه فأذن له.

واجتمع النّاس فقال عتبة: يا جعدة والله ما أخرجك علينا إلّا حبُّ خالك وعمّك عامل البحرين، وإنّا والله ما نزعم أن معاوية أحقّ بالخلافة من عليٍّ، لولا أمره في عثمان، ولكن معاوية أحق بالشام؛ لرضا أهلها به، فاعفوا لنا عنها، فوالله ما بالشام رجل به طرق إلّا وهو أجدّ من معاوية في القتال، وليس بالعراق رجل له مثل جدّ عليٍّ في الحرب، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم، وما أقبح بعليٍّ أن يكون في قلوب المسلمين أولى النّاس بالنّاس، حتّى إذا أصاب سلطاناً أفنى العرب.

فقال جعدة: إمّا حبّي لخالي، فلو كان لك خال مثله لنسيت أباك، وإمّا ابن أبي سلمة فلم يصب أعظم من قدره، والجهاد أحبذ من العمل، وإمّا فضل عليٍّ علیه السلام على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه اثنان، وإمّا رضاكم اليوم بالشام، فقد رضيتم بها أمس فلم يقبل، وإمّا قولك: ليس بالشام أحد إلّا وهو أجدّ من معاوية، وليس بالعراق لرجل مثل جد عليٍّ، فهكذا ينبغي أن يكون، مضى بعليٍّ علیه السلام يقينه، وقصر بمعاوية شكّه،

ص: 679

وقصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل، وإمّا قولك نحن أطوع لمعاوية منكم لعليٍّ فو الله ما نسأله إن سكت، ولا نردّ عليه إن قال، وأمّا قتل العرب، فإن الله كتب القتل والقتال، فمن قتله الحقّ فإلى الله.

فغضب عتبة، وفحش على جعدة، فلم يجبه وأعرض عنه، فلمّا انصرف عتبة جمع خيله فلم يستبق شيئاً، وجلُّ أصحابه السكون وإلّازد والصدف، وتهيّأ جعدة بما استطاع، والتقوا، فصبر القوم جميعاً، وباشر جعدة يومئذ القتال بنفسه، وجزع عتبة فأسلم خيله وأسرع هارباً إلى معاوية، فقال له: فضحك جعدة وهزمك، لا تغسل رأسك منها أبدا، قال: والله لقد أعذرت، ولكن أبى الله أن يديلنا منهم، فما أصنع.

وحظي جعدة بعدها عند عليٍّ علیه السلام .

وقال النجاشي فيما كان من فحش عتبة على جعدة:

إنّ شتم الكريم يا عتب خطب *** فاعلمنه من الخطوب عظيمُ

أمّه أم هانئٍ وأبوه *** من معد ومن لؤيٍّ صميم

ذاك منها هبيرة بن أبي وهب *** أقرّت بفضله مخزوم

كان في حربكم يعدّ بألف *** حين يلقى بها القروم القروم

وابنه جعدة الخليفة منه *** هكذا تنبت الفروع إلّاروم

كل شئ تريده فهو فيه *** حسب ثاقب ودين قويم

ص: 680

وخطيب إذا تمغّرت إلّاوجه *** يشجى به إلّالد الخصيم

وحليم الرجال إذ حلّها ال *** جهل وخفّت من الرجال الحلوم

وشكيم الحروب قد علم النّاس *** إذا حلّ في الحروب الشكيم

وصحيح إلّاديم من تفل العيب *** إذا كان لا يصحّ الاديم

حامل للعظيم في طلب الحمد *** إذا عظّم الصغير اللئيم

ما عسى أن تقول للذهب الأحمر *** عيباً هيهات منك النجوم

كل هذا بحمد ربك فيه *** وسوى ذاك كان وهو فطيم

وقال الأعور الشني في ذلك يخاطب عتبة بن أبي سفيان:

ما زلت تظهر في عطفيك أبّهة *** لا يرفع الطرف منك التيه والصلفُ

لا تحسب القوم إلّا فقع قرقرة *** وشحمة بزّها شاؤلها نطف

حتّى لقيت ابن مخزوم وأيّ فتى *** أحيا مآثر آباء له سلفوا

إن كان رهط أبي وهب جحاجحة *** في الأولين فهذا منهم خلف

أشجاك جعدة إذ نادى فوارسه *** حاموا عن الدين والدنيا فما وقفوا

ص: 681

هلّا عطفت على قوم بمصرعة *** فيها السكون وفيها إلّازد والصدف

وقد توفي جعدة بن هبيرة رحمه الله تعالى في خلافة معاوية.

ص: 682

أبو عمرة الأنصاري

أبو عمرة الأنصاري النجاري، اختلف في اسمه، فقيل: رشيد، وقيل: أُسامة، وقيل: عمرو بن محصن، وقيل: تغلبة بن عمرو بن محصن، وقيل: اسمه عامر بن مالك بن النجاري.

قال ابن عبد البر: وهو الصواب، قلت: والصواب عندي أنّه عمرو بن محصن؛ لما أشير في مرثية النجاشي له، وهو صحابي ذكره بعضهم في البدريين، يروى عنه ابنه عبد الرحمن بن أبي عمر.

روى الكشّي بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله علیه السلام: إرتدَّ النّاس إلّا ثلاثة: أبو ذرّ والمقداد وسلمان، فقال أبو عبد الله علیه السلام: (فأين أبو ساسان، وأبو عمرة الأنصاري ؟!).

وكان أبو عمرة من أصفياء أمير المؤمنين علیه السلام .. شهد معه الجمل وصِفّين، واستشهد بها.

روى إبن مزاحم بإسناده عن سليمان الحضرمي قال: لما خرج عليٌّ علیه السلام من المدينة خرج معه أبو عمرة بن عمرو بن محصن، قال: فشهدنا مع عليٍّ علیه السلام الجمل، ثُمَّ انصرفنا إلى الكوفة، ثُمَّ سرنا إلى أهل الشام، حتّى إذا كان بيننا وبين صِفّين ليلة دخلني الشك، فقلت: والله ما أدري على م أقاتل؟! وما أدري ما أنا فيه؟!.

ص: 683

قال: واشتكى رجل منّا بطنه من حوت أكله، فظنّ أصحابه أنّه طعين، فقالوا: من يتخلف على هذا الرجل ؟ فقلت: أنا أتحلف عليه، والله ما أقول ذلك إلّا مّما دخلني من الشك، فأصبح الرجل ليس به بأس، وأصبحت قد ذهب عني ما كنت أجد، ونفذت بصيرتي، حتّى إذا أدركنا أصحابنا، ومضينا مع عليٍّ علیه السلام، وإذا أهل الشام قد سبقونا إلى الماء، فلمّا أردناه منعونا، فصلتنا لهم بالسيف فخلّونا وإيّاه.

وأرسل أبو عمرة إلى أصحابه: قد والله حزناه، فهم يقاتلونا، وهم في أيدينا، ونحن دونه إليهم، كما كان في أيديهم قبل أن نقاتلهم.

فأرسل معاوية إلى أصحابه: لا تقاتلوهم، وخلّوا بينهم وبينه فيشربوا، فقلنا لهم: وقد عرضنا عليكم أوّل مرّة فأبيتم، حتّى أعطانا الله وأنتم غير محمودين، قال: فانصرفوا عنّا، وانصرفنا عنهم، ولقد رأيت روايانا ورواياهم بعد، وخيلنا وخيلهم ترد ذلك الماء جميعاً، حتّى ارتووا وارتوينا جميعاً.

وروي أيضاً أن أمير المؤمنين علیه السلام بعث ابا عمرة في رجال من أصحابه إلى معاوية، يدعونه إلى الله تعالى، والى الطاعة والجماعة، فلمّا دخلوا عليه تكلم أبو عمرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاوية إن الدنيا عنك زائلة، وإنّك راجع إلى الآخرة، وإن الله تعالى جازيك بعملك ومحاسبك بما قدّمت يداك، وإنّي أنشدك بالله أن تفرّق جماعة هذه الأمّة، وأن تسفك دماءها بينها.

ص: 684

فقطع معاوية الكلام فقال: هلّا أوصيت صاحبك؟ قال: قلت: سبحان الله إن صاحبي ليس مثلك .. إن صاحبي أحقّ البريّة بهذا الأمر، في الفضل والدين، والسابقة في الإسلام، والقرابة من الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، قال: فتقول: ماذا؟ قال: أدعوك إلى تقوى ربّك، وإجابة ابن عمّك إلى ما يدعوك إليه من الحقّ، فإنّه أسلم لك في دينك، وخير لك في عاقبة أمرك، قال: وأبطل دم عثمان، لا والرحمن، لا أفعل ذلك أبداً.

قال: وكان ابن محصن من أعلام أصحاب عليٍّ علیه السلام، قتل في المعركة بصِفّين، وجزع عليٌّ علیه السلام لقتله، فقال النجاشي يرثيه:

لنعم فتى الحيين عمرو بن محصن *** إذا صارخ الحيّ المصبح ثوّبا

إذ الخيل جالت بينها قصد القنا *** يثرن عجاجاً ساطعاً متنصبا

لقد فجع الأنصار طرّاً بسيد *** أخي ثقة في الصالحات مجرّبا

فيا رُبّ خير قد أفدت وجفنة *** ملأت وقرن قد تركت مسلّبا

ويا رُبّ خصم قد رددت بغيظه *** فآب ذليلاً بعد أن كان مغضبا

وراية مجد قد حملت وغزوة *** شهدت إذ النكس الجبان تهيبا

حويطاً على جل العشيرة ماجداً *** وما كنت في الأنصار نكساً مؤنّبا

طويل عماد المجد رحباً فناؤه *** خصيباً إذا ما رائد الحي أجدبا

ص: 685

عظيم رماد النار لم تك فاحشاً *** ولا فشلاً يوم النزال مغلّبا

وكنت ربيعاً ينفع النّاس سيبه *** وسيفاً جزاراً باتر الحد مقضبا

فمن يك مسروراً بقتل ابن محصن *** فعاش شقيّاً ثُمَّ مات معذّبا

وغودر منكبّاً لفيه ووجهه *** يعالج رمحاً ذا سنان وتغلبا

فإن تقتلوا الحرّ الكريم ابن محصن *** فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا

وإن تقتلوا إبني بُديل وهاشماً *** فنحن تركنا منكم القرن أعضبا

ونحن تركنا حميراً في صفوفكم *** لدى الحرب صرعى كالنخيل مشذبا

وأفلتنا تحت إلّاسنة مرثد *** وكان قديماً في الفرار مدرّبا

ونحن تركنا عند مختلف القنا *** أخاكم عبيد الله لحماً ملحبا

بصِفّين لمّا ارفض عنه رجالكم *** ووجه ابن عتّاب تركنا ملغبا

وطلحة من بعد الزبير ولم ندع *** لضبّة في الهيجا عريفاً منكّبا

ونحن أحطنا بالبعير وأهله *** ونحن سقيناكم سماماً مقشّبا

ص: 686

مسعود بن أوس بن زيد

مسعود بن أوس بن زيد بن أحزم بن زيد، هو أبو محمّد، غلبت عليه كنيته، وهو الذي زعم أن الوتر واجب، فقال عبادة بن الصامت: كذب أبو محمّد، وشهد بدراً وكان من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام، وشهد معه صِفّين.

ص: 687

أبو برزة الأسلمي

نضلة بن عبيد بن الحرث، أبو برزة الأسلمي، صحابي مشهور بكنيته، واختلف في إسمه، فقيل: نضلة بن عبيد الله بن الحرث، وقيل: عبد الله بن نضلة، وقيل: سلمة بن عبيد، والصحيح الأوّل.

أسلم أبو برزة قبل الفتح، وشهد الفتح، وغزا سبع غزوات، ثُمَّ نزل البصرة، وغزا خراسان، ومات بها سنة خمس وستين على الصحيح، وكان من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام وأصفيائه، وهو القائل في أمير المؤمنين علیه السلام:

كفى بعليٍّ قائداً لذوي النهى *** وحرزاً من المكروه والحدثان ِ

نروح إليه إن ألمّت ملمّةٌ *** علينا ونرضى قوله ببيان

يبين أخفاء النفوس التي لها *** من الهلك والوسواس هاجستان

ص: 688

مِرداس بن مالك الأسلمي

مرداس - بكسر الميم وسكون الراء المهملة - ابن مالك الأسلمي .. صحابي كان ممّن بايع تحت الشجرة، وسكن الكوفة، وهو في عداد أهلها.

قيل: روي عنه حديث واحد: أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [يُقبضُ الصالحونَ الأوّل فالأوّل، إلىْ أن تبقىْ حثالةٌ كحُثالةِ التمرِ].

وكان من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام، وروى عنه قيس بن أبي حازم، وزياد بن علامة، قال إبن حجر: وهو قليل الحديث.

ص: 689

المسوّر بن شدّاد بن عمير

المسوّر بن شداد بن عمير القرشي الفهري، صحابي حجازي، نزل الكوفة ثُمَّ مصر.

وروى عنه أهل البلدين، وكان من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام، مات سنة خمس وأربعين.

ص: 690

عبد الله بن بُديل بن ورقاء

عبد الله بن بُديل - بضمّ الموحدة، وفتح الدال المهملة، وسكون المثناة التحتانية، وبعدها لام - إبن ورقاء الخزاعي.

أسلم مع أبيه يوم الفتح أو قبله، وكانا سيدي خزاعة، وعيبة النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم، وشهد عبد الله حُنَيناً والطائف وتبوك، وكان رفيع القدر رفيع الشأن.

أرسله النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم مع أخويه عبد الرحمن ومحمّد إلى اليمن؛ ليفقّهوا أهلها ويعلموهم الدين.

وكان عبد الله من أصفياء أمير المؤمنين علیه السلام وخُلّص أصحابه .. شهد معه الجمل وصِفّين، وأبلى فيهما بلاءً حسناً، إلى أن استشهد بصِفّين، كما سنقف عليه إن شاء الله تعالى.

روى نصر بن مزاحم قال: قام عبد الله بن بُديل بين يدي أمير المؤمنين علیه السلام بصِفّين قبل القتال فقال: يا أمير المؤمنين إن القوم لو كانوا لله يريدون ولله يعملون ما خالفونا، ولكن القوم إنّما يقاتلونا فراراً من إلّاسوة وحبّ إلّاثرة، ضنّاً بسلطانهم، وكراهة لفرقة دنياهم التي في أيديهم، وعلى أُخَر في أنفسهم، وعداوة يجدونها في أنفسهم لوقائع أوقعتها بهم، هلك فيها آباؤهم وإخوانهم، فكيف يبايع معاوية عليّاً وقد قتل أخاه وخاله وجدّه ؟! والله ما أظن أن يفعلوا، ولن يستقيموا لكم دون أن

ص: 691

يقصد فيها المران، وتقطع على هامهم السيوف، وتنشر حواجبهم بعمد الحديد، وتكون أمور جمّة بين الفريقين.

وروي عن الشِعبي أن عليّاً علیه السلام بعث على ميمنته عبد الله بن بُديل، وعلى ميسرته عبد الله بن العبّاس.

وروي عن زيد بن وهب أن عبد الله بن بُديل قام في أصحابه فقال: إن معاوية ادعى ما ليس له، ونازع الأمر أهله، من ليس له مثله، جاءكم بالباطل ليدحض به الحقّ، فصال عليكم بإلّاعراب والأحزاب، وزيّن لهم الضلال، وزرع في قلوبهم حبّ الفتنة، ولبس عليهم الأمر، وزادهم رجساً إلى رجهم، وأنتم والله على بيّنة من ربكم، ونور ظاهر مبرور .. ﴿أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ (1)، وقد قاتلتهم مع النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، ما هم في هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبرَّ..قوموا إلى عدو الله وعدوّكم.

وروي عن عمرو بن شمر عن جابر قال: سمعت الشِعبي يقول: كان عبد الله بن بُديل مع عليٍّ علیه السلام يومئذ عليه سيفان ودرعان، فجعل يضرب بسيفه قدماً وهو يقول:

لم يبق غير الصبر والتوكّلْ *** والترس والرمح وسيف مصقلْ

ص: 692


1- سورة التوبة – الآية: 14

ثُمَّ التمشي في الرعيل الأوّل *** مشي الجمال في حياض المنهلْ

فلم يزل يضرب بسيفه حتّى انتهى إلى معاوية، فأزاله عن موقفه، وجعل ينادي: يا لثارات عثمان، يعني أخاً كان له، وظن معاوية وأصحابه إنّما يعني عثمان بن عفّان، حتّى أزال معاوية عن موقفه؛ فأمر معاوية أصحابه الذين بايعوه على الموت أن يصمدوا لعبد الله بن بُديل، وبعث إلى حبيب بن مسلمة الفهري وهو في الميسرة أن يحمل عليه بجميع من معه، فاختلط النّاس واصطدم الفيلقان، ميمنة أهل العراق وميسرة أهل الشام، وأقبل عبد الله بن بُديل يضرب بسيفه قدماً، حتّى أزال معاوية عن موقفه، وجعل ينادي: يا لثارات عثمان، وإنّما يعني أخاً له قتل، وظنّ معاوية وأصحابه أنّه يعني عثمان بن عفّان، وتراجع معاوية عن مكانه القهقهرى كثيراً، وأشفق على نفسه، وأرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية وثالثة يستنجده ويستصرخه، وحمل حبيب حملة شديدة بميسرة معاوية على ميمنة أهل العراق فكشفها، حتّى لم يبق مع ابن بُديل إلّا نحو مائة إنسان من القرّاء؛ فاشتدّ بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم.

ولجّ ابن بُديل في النّاس، وصمّم على قتل معاوية، وجعل يطلب موقفه ويصمد نحوه، حتّى انتهى إلى معاوية، ومعه عبد الله بن عامر واقفاً، فنادى معاوية في النّاس: عليكم بالصخر والحجارة إن عجزتم عن السلاح؛ فرضخه النّاس بالصخر والحجارة، حتّى أثخنوه فسقط، فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه.

ص: 693

وجاء معاوية وعبد الله بن عامر، حتّى وقفا عليه، فأمّا عبد الله بن عامر فألقى عمامته على وجهه وترحّم عليه، وكان له أخاً وصديقاً من قبل، فقال معاوية: اكشف عن وجهه، فقال: لا والله ولا يُمثّل به وفيَّ روح، فقال معاوية: إكشف عن وجهه، فإنّا لا نمثّل به، قد وهبناه لك؛ فكشف ابن عامر عن وجهه، فقال معاوية: هذا كبش القوم وربّ الكعبة، اللهمَّ أظفرني بالأشتر النخعي والأشعث الكندي، والله ما مثل هذا إلّا كما قال الشاعر:

أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها *** وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا

ويحمي إذا ما الموت كان لقاؤه *** فذا السيف يحمي الآنف أن يتأخرا

كليث هزبر كان يحمي ذماره *** رمته المنايا قصده فتقطرا

ثُمَّ قال: إن نساء خزاعة لو قدرت على أن تقاتلني فضلاً عن رجالها لفعلت.

قال نصر: فحدّثنا عمرو عن أبي روق قال: استعلى أهل الشام عند قتل ابن بُديل على أهل العراق يومئذ، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة، وأجفلوا إجفالاً شديداً؛ فأمر عليٌّ علیه السلام سهل بن حنيف، فاستقدم بمن كان معه، فغدا الميمنة يعضدها، فاستقبلهم جموع أهل الشام في خيل عظيمة، فحملت عليه، فألحقتهم بالميمنة.

وكانت ميمنة أهل العراق متصلة بموقف عليٍّ علیه السلام في القلب في أهل اليمن، فلمّا انكشفوا انتهت الهزيمة إلى عليٍّ علیه السلام، فأنصرف يمشي نحو الميسرة، فانكشفت

ص: 694

مضر عن الميسرة أيضاً، فلم يبق مع عليٍّ علیه السلام من أهل العراق إلّا ربيعة وحدها في الميسرة.

قال نصر: فحدّثنا عمرو قال: حدّثنا مالك بن أعين، عن زيد بن وهب قال: لقد مرّ عليُّ علیه السلام يومئذ ومعه بنوه نحو الميسرة، ومعه ربيعة وحدها، وإنّي لأرى النبل من بين عاتقيه ومنكبه، وما من بنيه إلّا من تقيه بنفسه، فيكره عليٌّ علیه السلام ذلك، فيقدم عليه ويحول بينه وبين أهل الشام، ويأخذ بيده إذا فعل ذلك، فيلقيه من وراءه.

وبصر به أحمر مولى بني أميّة، وكان شجاعاً فقال: عليّ ورب الكعبة، قتلني الله إن لم أقتلك، فأقبل نحوه، فخرج إليه كيسان مولى عليٍّ علیه السلام، فاختلفا ضربتين، فقتله أحمر.

وخالط عليّاً علیه السلام ليضربه بالسيف، وينتهزه عليٌّ علیه السلام فتقع يده في جيب درعه، فجذبه عن فرسه، فحمله على عاتقه، فوالله لكأنّي أنظر إلى رجلي أحمر يختلفان على عنق عليٍّ علیه السلام، ثُمَّ ضرب به الأرض، فكسر منكبه وعضديه، وشدّ ابنا عليٍّ علیه السلام حسين ومحمّد علیهما السلام فضرباه بأسيافهما حتّى برد، فكأني انظر إلى عليٍّ علیه السلام قائماً وشبلاه يضربان الرجل حتّى أتيا عليه، ثُمَّ أقبلا على أبيهما، والحسن علیه السلام قائم معه، فقال له عليٌّ علیه السلام: {يا بُنيّ ما منعَكَ أنْ تفعلَ كما فعلَ أخواكَ؟}، فقال علیه السلام: (كفياني يا أمير المؤمنين).

ص: 695

وروى نصر عن عمر بن سعد، عن عبد الرحمن بن كعب قال: لما قُتل عبد الله بن بُديل يوم صِفّين مر به الأسود بن طهمان الخزاعي، وهو بآخر رمق، فقال له: عزَّ عليَّ والله مصرعك، أما والله لو شهدتك لآسيتك، ولدافعت عنك، ولو رأيت الذي أشعرك لأحببت أن لا أزايله ولا يزايلني حتّى أقتله، أو يلحقني بك، ثُمَّ نزل إليه فقال: رحمك الله يا عبد الله، إن كان جارك ليأمن بوائقك، وإن كنت لمن الذاكرين لله كثيراً، أوصني رحمك الله.

قال: أوصيك بتقوى الله، وأن تناصح أمير المؤمنين علیه السلام، وتقاتل معه حتّى يظهر الحقّ، أو تلحق بالله، وأبلغ أمير المؤمنين علیه السلام عني السلام، وقل له: قاتل على المعركة حتّى تجعلها خلف ظهرك، فإنّه من أصبح والمعركة خلف ظهره كان الغالب، ثُمَّ لم يلبث أن مات.

فاقبل أبو الأسود إلى عليٍّ علیه السلام فأخبره، فقال: {رحمهُ اللهُ، جاهدَ معنَا عدوّنا فيْ الحياةِ، ونصحَ لنا فيْ الوفاةِ}.

ومن شعر عبد الله بن بُديل ما انشده أبو مخنف في كتاب (وقعة الجمل) قوله:

يا قوم للحطّة العظمى التي حدثت *** حرب الوصيّ وما للحرب من آس ِ

الفاصل الحكم بالتقوى إذا ضربت *** تلك القبائل أخماساً لأسداس

قال نصر: وفرح أهل الشام بقتل هاشم بن عتبة، وعبد الله وعبد الرحمن إبني بُديل، فقال حريش الكوني، وهو مع عليٍّ علیه السلام:

ص: 696

معاويُ ما أفلتّ إلّا بجرعة *** من الموت رعباً تحسب الشمس كوكبا

نجوت وقد أدميت بالسوط بطنه *** لزوماً على فأس اللجام مشذباً

فإن تفخروا بابني بُديل وهاشم *** فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا

وإنهما ممن قتلتم على الهدى *** فوافوا فكفّوا القول ننسى التحوبا

قال المؤيد الخوارزمي: كان عمّار بن ياسر، وهاشم بن عتبة، وعبد الله بن بُديل فرسان العراق، ومردة الحرب، ورجال المعارك، وسيوف إلّاقران، وأمراء الأخيار وأنياب أمير المؤمنين علیه السلام، وقد أوقعوا بأهل الشام ما بقي ذكره على مرّ إلّاحقاب حتّى احتالوا لقتلهم.

وفيهم يقول الأشتر - ذاكراً لهم متأسفاً عليهم -:

أبعد عمّار وبعد هاشمْ *** وابن بُديل فارس الملاحمْ

أرجو البقاء ضلّ حلم الحالمْ

ص: 697

حُجْر بن عدي الكندي

حُجْر بن عدي بن معاوية بن جبلة بن إلّادبر الكندي، يكنّى أبا عبد الرحمن.

قال أبو عمرو بن عبد البر في كتاب (الإستيعاب): كان حُجْر من فضلاء الصحابة، وصغر سنّه عن كبارهم، وقال غيره: كان من إلّابدال، وكان صاحب راية النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم، وهو يُعدّ من الرؤساء والزهّاد، ومحبّته وإخلاصه لأمير المؤمنين علیه السلام أشهر من أن تذكر، وكان على كندة يوم صِفّين، وعلى الميسرة يوم النهروان.

ومن كلامه لأمير المؤمنين علیه السلام لما أمر بالمسير إلى الشام: يا أمير المؤمنين نحن بنو الحرب وأهلها الذين نلقحها وننتجها، قد ضارستنا وضارسناها، ولنا أعوان، وعشيرة ذات عدد، ورأي مجرّب، وبأس محمود، وأزمّتنا منقادة لك بالسمع والطاعة، فإن شرّقت شرّقنا، وإن غرّبت غرّبنا، وما أمرتنا من أمر فعلنا.

فقال له عليُّ علیه السلام: {أكُلُّ قومِكَ يؤديْ مثلَ رأيِكَ؟}، قال: ما رأيت منهم إلّا حسناً، وهذي يدي عنهم بالسمع والطاعة وحسن إلّاجابة، فقال له عليٌّ علیه السلام خيراً.

ومن كلام له أيضاً حين استنفر أهل الكوفة للقتال، بعد وقعة أهل النهروان، فلم يجيبوا بما يرضاه، وأكثروا اللغط في حضرته علیه السلام، فساءه ذلك منهم، فقام حُجْر فقال: لا يسؤك الله يا أمير المؤمنين، مرنا بأمرك نتبعه، فوالله ما نعظم جزعاً على أموالنا إن نفدت، ولا على عشائرنا إن قتلت في طاعتك.

ص: 698

ومن شعره قوله في عليٍّ علیه السلام يوم الجمل:

يا ربّنا سلّمْ لنا عليّا *** سلّم لنا المبارك الرضيّا

المؤمن الموحّد التقيّا *** لا خطل الرأي ولا غويّا

بل هادياً موفّقاً مهديّا *** واحفظه ربّي واحفظ النبيّا

فيه فقد كان له وليّا *** ثُمَّ ارتضاه بعده وصيّا

وأبلى في صِفّين بلاء حسناً.

روى نصر بإسناده عن عبد الله بن شريك، قال: خرج حُجْر بن عدي وعمرو بن الحَمِق يظهران البراءة واللعن لأهل الشام، فأرسل إليهما عليٌّ علیه السلام أن كفّا عمّا يبلغني عنكما، فأتياه فقالا: يا أمير المؤمنين ألسنا محقّين ؟ قال: بلى، قال: أو ليسوا مبطلين ؟ قال: بلى، قالا: فلِمَ تمنعنا من شتمهم ؟ قال: {كرهتُ لكمْ أنْ تكونوا لعّانينَ شتّامينَ، تشهدونَ وتبرّونَ، ولكنْ لوْ وصفتمْ مساوئَ أعمالهمْ، فقلتمْ منْ سيرتِهمْ كذاْ وكذاْ كانَ أصوبَ فيْ القولِ، وأبلغَ فيْ العذرِ، وقلتمْ مكانَ لعنِكمْ إيّاهُم وبراءتكم منهمْ: اللهمَّ احقنْ دماءَنا ودماءَهم، وأصلحْ ذاتَ بينِنا وبينِهم، واهدِهِم مِنْ ضلالتِهم، حتّى يعرفَ الحقَّ منهم مَنْ جهلَهُ، ويرعويْ عنْ الغيِّ والعدوانِ مَنْ لهجَ بهِ، كانَ هذا أحبّ إليَّ، وخيراً لكمْ}، فقالا: يا أمير المؤمنين نقبل عظتك، ونتأدّب بأدبك.

ص: 699

وروى أيضاً عن الشِعبي أن أوّل فارسين التقيا في اليوم السابع من صِفّين - وكان من الأيّام العظيمة - حُجْر الخير وحُجْر الشرّ.

أمّا حُجْر الخير فهو إبن عدي صاحب عليٍّ علیه السلام، وإمّا حُجْر الشرّ فابن عمه، كلاهما من كندة، وكان من أصحاب معاوية، فأطعنا برمحيهما، وخرج رجل من بني اسد يقال له: خزيمة، من عسكر معاوية، فضرب حُجْر بن عدي ضربة برمحه، فحمل أصحاب عليٍّ علیه السلام فقتلوا خزيمة الأسدي، ونجا حُجْر الشرّ هارباً، فالتحق بعسكر معاوية.

وروى إبن شهر آشوب في المناقب أن أدهم بن لام القضاعي، من أصحاب معاوية، خرج يوماً من أيام صِفّين يقول:

إثبت لوقع الصارم الصقيل ِ *** فأنت لا شكّ أخو قتيل ِ

فبرز حُجْر بن عدي فقتله، فخرج إليه الحكم بن إلّازهر قائلاً:

يا حُجْر حُجْر بن عدي الكندي *** إثبت فإنّي ليس مثلي بعدي

فقتله حُجْر، فبرز إليه مالك بن مسهر القضاعي وهو يقول:

إنّي أنا مالك بن مسهر *** أنا ابن عمّ الحكم بن إلّازهر

فأجابه رحمه الله تعالى:

إنّي حُجْر وأنا ابن مسعر *** أقدم إذا شئت ولا تأخر

ص: 700

فقتله حُجْر.

وذكر الشيخ المفيد رضوان الله عليه وغيره: أن ابن ملجم وصاحبيه: وردان التميمي، وشبيب بن بحرة الأشجعي لعنهم الله، لمّا عزموا على ما عزموا عليه من قتل أمير المؤمنين علیه السلام ألقوا إلى الأشعث بن قيس ما في نفوسهم، فواطأهم عليه، وحضر الأشعث بن قيس في تلك الليلة لمعونتهم على ما اجتمعوا عليه، وكان حُجْر بن عدي رضی الله عنه في تلك الليلة بائتاً في المسجد، فسمع الأشعث يقول لإبن ملجم: النجا النجا بحاجتك، فقد فضحك الصبح، فأحسّ حُجْر بما أراد الأشعث، وقال له: قتلته يا أعور.

وخرج مبادراً ليمضي إلى أمير المؤمنين علیه السلام ليخبره بالخبر، ويحذره من القوم، فخالفه أمير المؤمنين علیه السلام فدخل المسجد، فسبقه ابن ملجم فضربه بالسيف، فأقبل حُجْر بن عدي، والنّاس يقولون: قُتل أمير المؤمنين علیه السلام .

ولما بلغ الحسن بن عليٍّ علیهما السلام أن معاوية قد عبر جسر منبج، وجّه حُجْر بن عدي يأمر العمال بإلّاحتراس وندب النّاس، فسارعوا حتّى إذا كان من صلح الحسن علیه السلام لمعاوية ما كان، دخل عبيدة بن عمرو الكندي، وهو من قوم حُجْر بن عدي على الحسن بن عليٍّ علیهما السلام، وكان على وجهه ضربة، وهو مع قيس بن سعد بن عبادة، قال: ما الذي أرى في وجهك ؟ قال: جرح أصابني مع قيس، فالتفت حُجْر إلى الحسن علیه السلام، فقال: لوددتُ أنّك متَّ قبل هذا، ومتنا معك، ولم نرَ هذا اليوم، إنّا رجعنا راغمين

ص: 701

بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا، فتغير وجه الحسن علیه السلام، وغمز الحسين علیه السلام حُجْراً فسكت.

فقال الحسن علیه السلام: (يا حُجْر ليس كلّ النّاس يحبّ ما تحبُّ، ولا رأيه رأيك، وما فعلت ما فعلتُ إلّا ابقاءً عليكم، والله تعالى كل يوم هو في شأن).

وروى الكشّي بإسناده عن طاووس عن أبيه قال: أنبأنا حُجْر بن عدي قال: قال لي عليٌّ علیه السلام: {كيفَ تصنعُ أنتَ إذا ضُربتَ وأُمرتَ بلعنيْ؟}، قلت: كيف أصنع؟ قال: {إلعنّيْ ولا تبرأْ منّي، فإنّي على دينِ اللهِ}.

قال: ولقد ضربه محمّد بن يوسف، وأمره أن يلعن عليّاً علیه السلام وأقامه على باب مسجد صنعاء، قال: فقال: الأمير أمرني أن العن عليّاً فالعنوه لعنه الله، فرأيت مجوازاً من النّاس إلّا رجلاً فهمها.

قال المؤلف عفا الله عنه: عندي في هذا الخبر نظر، فإن محمّد بن يوسف إنّما ولي اليمن في زمن عبد الملك بن مروان، وهو أخو الحجّاج بن يوسف، إستعمله أخوه الحجّاج على صنعاء اليمن، وحُجْر بن عدي قتله معاوية بن أبي سفيان، فكيف يصحّ أن يكون محمّد بن يوسف ضرب حُجْراً ليلعن عليّاً أمير المؤمنين علیه السلام، وليس في عمّال معاوية على اليمن من إسمه محمّد بن يوسف، كما تنطق به التواريخ.

فإنّ معاوية لمّا استقلّ بالخلافة استعمل على اليمن عثمان بن عثمان الثقفي، فأقام به مدة، ثُمَّ عزله بأخيه عتبة بن أبي سفيان فأقام سنتين ثُمَّ لحق بأخيه معاوية،

ص: 702

واستخلف على اليمن فيروز الديلمي، فأقام ثمان سنين، ولما توفي عتبة بن أبي سفيان استعمل معاوية مكانه داذوبه الفارسي فأقام تسعة أشهر ثُمَّ مات، فاستعمل معاوية مكانه على اليمن الضحاك بن فيروز الديلمي، فلم يزل على اليمن حتّى هلك معاوية في رجب سنة ستين للهجرة.

هؤلاء جميع عمال معاوية على اليمن، وليس فيهم مسمّى بمحمّد بن يوسف، والله أعلم.

وإمّا سبب قتل حُجْر بن عدي فكان من حديثه أن المغيرة بن شعبة كان لا ينام عن شتم عليٍّ علیه السلام وأصحابه، واللعنة بهم، والترحّم على عثمان وأصحابه، وكان حُجْر بن عدي إذا سمع ذلك يقول: إن من تذمّون أحقّ بالفضل والتقدّم، ومن تمدحون أولى بالذمّ، فلمّا كان في آخر زمان المغيرة بن شعبة نال من عليٍّ علیه السلام، وقال في عثمان ما كان يقول، فقام حُجْر بن عدي وصاح به وقال: إنّك لا تدري بمن تولع، أصبحت مولعا بذمّ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب علیه السلام، ومدح المجرمين؛ فقام معه نحو ثلاثين ألفاً يقولون: صدق حُجْر، فدخل المغيرة بيته، فجاءه قومه قائلين له: على م تترك هذا الرجل يجترئ في سلطانك؟، ثُمَّ إن بلغ معاوية سخط عليك.

فقال: إنّي قد قتلته، إنّه سيأتي أمير بعدي فيلعنه مثلي، فيصنع به مثل ما صنع بي فيقتله، وأنا قد اقترب أجلي، فلا أقتل خير أهل هذا المصر.

ص: 703

فلمّا ولّى معاوية زياد بن أبيه الكوفة خطب زياد فقال: أمّا بعد فإن مرتع البغي وخيم، وأيمَ الله إن لم تستقيموا لأداوينّكم بدوائكم، ولست بشيء إن لم أحم ناحية الكوفة من حُجْر بن عدي، وأدعه نكإلّا لما بعده.

قال الطبري في رسالته: إن زياداً خطب يوم جمعة فأطال الخطبة وأخّر الصلاة فقال له حُجْر بن عدي: الصلاة، فمضى في خطبته، فأخذ حُجْر كفّاً من حصى وحصبه به، وثار إلى الصلاة، وثار النّاس معه، فنزل زياد وصلّى بالنّاس، ثُمَّ كتب إلى معاوية، فكتب معاوية إليه أن أشدّده في الحديد، واحمله إليَّ، فأراد قوم حُجْر منعه، فقال لهم: لا، ولكن نطيع ونسمع.

فلمّا دخل على معاوية قال: السلام عليك، فقال له معاوية: والله لأقتلنّك ولا أستقبلك، أخرجوه فاضربوا عنقه، فأخرجوه، فقال لهم: دعوني أصلّي ركعتين، فصلّاهما وخفّف وقال: لولا أن تظنّوا بي غير الذي بي لأطلتهما، ثُمَّ قال لمن حضر من أهل بيته: لا تطلقوا منّي حديداً، ولا تغسلوا عنّي دماً، فإنّي لاقٍ معاوية غداً على الجادّة، ثُمَّ ضربت عنقه سادس ستة، أو سابع سبعة، أحدهم ولده.

ذكر المسعودي في مروج الذهب: أن زياداً وفد إلى معاوية من الكوفة، ومعه حُجْر بن عدي، وتسعة من أهل الكوفة، وأربعة من غيرهم، فلمّا بقي على أميال من الكوفة أنشأت إبنة لحُجْر بن عدي وهي تقول:

ترفع أيّها القمر المنيرُ *** لعلك أن ترى حُجْراً يسيرُ

ص: 704

يسير إلى معاوية بن حرب *** ليقتله كذا زعم الأمير

تنبّرت المنابر بعد حُجْر *** وطاب لها الخورنق والسدير

أخاف عليك ما أدري عديّاً *** وشيخاً في دمشق له زئير

لعمري إنّ كل عميد قوم *** إلى هلك من الدنيا يصير

فلمّا وصلوا إلى عذراء، على اثني عشر ميلاً من دمشق، تقدّم البريد بأخبارهم إلى معاوية، فبعث إليهم رجلاً أعورَ، فلمّا أشرف على حُجْر وأصحابه قال رجل من أصحاب حُجْر: إن صدق الزجر فإنّه سيقتل منّا نصفاً ويسلم الباقون، قيل: وكيف ذاك؟ قال: ما ترون الرجل المقبل مصاباً بإحدى عينيه؟ فلمّا وصل إليهم قال لحُجْر: إن أمير المؤمنين أمرني بقتلك وقتل أصحابك، إلّا أن توالوا أمير المؤمنين، وترجعوا إلى طاعته.

فلمّا قُدّم حُجْر ليقتل قال: دعوني أصلّي ركعتين، فتركوه فطوّل في صلاته، فقيل: أتجزع من الموت؟ فقال: لا، ولكنّي ما تطهّرت للصلاة قطّ إلّا صّليت، ولا صليت قطّ أخف من هذه الصلاة، وكيف لا أجزع وإنّي أرى قبراً محفوراً وسيفاً مشهوراً وكفناً منشوراً، ثُمَّ قُدّم وأصحابه فقتلوا إلّا من بايع.

وقال شيخنا محمّد بن مكّي، المعروف بالشهيد الأوّل، قدس الله روحه: الشهداء الذين بعذراء دمشق الذين قتلهم معاوية بعد أن بايعوه، وأعطاهم العهود والمواثيق: حُجْر بن عدي الكندي حامل راية النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم، وولده همام، وقبيصة بن ضبيعة

ص: 705

العبسي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وشريك بن شداد الحضرمي، ومحرز بن شهاب السعدي، وكدام بن حيّان العبدي، كلّهم في ضريح واحد في جامع عذراء.

قال الشيخ محمّد بن مكّي قدس سره: أنشدني خادمهم هذه الأبيات

جماعة بثرى عذارء قد دفنوا *** وهم صحاب لهم فضل وإعظامُ

حُجْر قبيصة صيفيٌّ شريكهم *** ومحرز ثُمَّ همّام وكدّامُ

عليهم ألف رضوان ومكرمة *** تترى تدوم عليهم كلّما داموا

قال محمّد بن مكي فزدت بيتاً:

ومثلها لعنات للذي سفكوا *** دماءهم وعذاب بالذي استاموا

وفى رواية أن معاوية كتب إلى زياد أن اعرض على حُجْر وأصحابه - وكانوا ثمانية - ليتبرؤوا من عليٍّ ويطلقوا، فقالوا: بل نتولاه ونتبرأُ ممّن برئ منه، فحفرت لهم قبور ونشرت أكفانهم، فقال حُجْر: يكفنوننا كأنّا مسلمون، ويقتلوننا كأنّا كافرون.

وعرض عليهم البراءة عدّة دفعات، فلم يفعلوا فقتلوا.

وعن أمير المؤمنين علیه السلام: {مثلُهم كَمَثَلِ أصحابِ الأخدودِ}.

قال الأعمش: أوّل من قتل في الإسلام صبراً حُجْر بن عدي، وأوّل رأس أهدي من بلد إلى بلد رأس عمرو بن الحَمِق.

ص: 706

وسئل إبن إسحق: متى ذلّ النّاس؟ قال: حيث مات الحسن بن عليٍّ علیهما السلام، وادّعى معاوية زياداً، وقتل حُجْر بن عدي.

وروى أنّه لما قتل معاوية حُجْر بن عدي وأصحابه لقي في ذلك العام الحسين علیه السلام فقال: يا أبا عبد الله هل بلغك ما صنعت بحُجْر وأصحابه من شيعة أبيك ؟ قال: لا، قال: إنّا قتلناهم وكفنّاهم وصلّينا عليهم، فضحك الحسين علیه السلام، ثُمَّ قال: (خصمُك القومُ يومَ القيامةِ يا معاوية، أما والله لو ولّينا مثلها من شيعتك، ما كفنّاهم ولا صلّينا عليهم، وقد بلغني وقوعك في أبي حسن علیه السلام، وقيامك به، واعتراضك بني هاشم بالعيوب، وأيمَ الله لقد أوترت غير قوسك، ورميت غير غرضك، وتناولتها بالعداوة من مكان قريب، ولقد أطعت أمرؤاً ما قدم إيمانه، ولا حدث نفاقه، وما نظر لك، فانظر لنفسك أو دعْ)، يريد عمرو بن العاص.

وروي أن معاوية لمّا قدم المدينة دخل على عائشة، فقالت: ما حملك على قتل أهل عدن حُجْر وأصحابه ؟ فقال: إنّي رأيت قتلهم صلاحاً للأمّة، وبقائهم فساداً للأمّة، فقالت: سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [سيُقتلُ بعذراءَ أناسٌ يغضبُ اللهُ لهمْ وأهلُ السماءِ]، فقال: يا أمّ المؤمنين دعيني وحُجْراً نلتقي عند ربنا.

وفى رواية أنّها قالت له: أين كان حلمك عن حُجْر بن عدي؟ فقال: يا أمّ المؤمنين لم يكن بحضرتي رشيد.

ص: 707

وذكر كثير من أهل الأخبار أن معاوية لما حضرته الوفاة جعل يغرغر بالموت ويقول: إن يومي منك يا حُجْر بن عدي لطويل.

وروي أن ربيع بن زياد الحارثي كان عاملاً لمعاوية على خراسان، وكان فاضلاً جليلاً، وكان الحسن بن أبي الحسن البصري كاتبه، فلمّا بلغه قتل حُجْر بن عدي دعا الله عزَّ وجلَّ فقال: اللهمَّ إن كان للربيع عندك خير فاقبضه إليك وعجّل؛ فلم يبرح من مجلسه حتّى مات.

وروى الشيخ الطوسي رضوان الله عليه في (أماليه)، بإسناده عن عطاء بن مسلم، عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: كنت غازياً زمن معاوية بخراسان، وكان علينا رجل من التابعين، فصلّى بنا يوماً الظهر، ثُمَّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيّها النّاس قد حدث في الإسلام حدث عظيم، لم يكن منذ قبض الله نبيّه صلی الله علیه و آله و سلم مثله، بلغني أن معاوية قتل حُجْر بن عدي وأصحابه، فإن يك عند المسلمين خير فسبيل ذلك، وان لم يكن عندهم خير فاسأل الله أن يقبضني إليه، وأن يعجّل ذلك.

قال الحسن بن أبي الحسن: فلا والله ما صلّى بنا صلاة غيرها، حتّى سمعنا عليه الصياح.

وروى الزبير بن بكار عن رجاله، عن الحسن البصري أنّه قال: أربع خصال في معاوية لو لم يكن منهن إلّا واحدة لكانت موبقة: إنتزاؤه على هذه الأمّة بالسفهاء، حتّى ابتزّها أمرها بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذووا الفضيلة،

ص: 708

واستخلافه إبنه يزيد من بعده سكيراً خمّيراً، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [الولدُ للفراشِ، وللعاهرِ الحجْر]، وقتله حُجْر بن عدي وأصحابه، فيا ويله من حُجْر وأصحاب حُجْر.

وورى الكشّي أن الحسين علیه السلام كتب إلى معاوية في كتاب كتبه إليه: (ألستَ القاتل لحُجْر بن عدي أخا كندة والمصلّين العابدين؟ الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثُمَّ قتلتهم ظلماً وعدواناً، وبعد ما كنت أعطيتهم الإيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة).

قال أبو عمرو بن عبد البر في كتاب (الإستيعاب): لمّا ولّى معاوية زياد العراق وما وراءها، وأظهر من الغلظة وسوء السيرة ما أظهر، خلعه حُجْر رحمه الله، ولم يخلعه معاوية، وبايعه جماعة من أصحاب عليٍّ علیه السلام وشيعته، وحصبه يوماً في تأخير الصلاة، هو وأصحابه؛ فكتب فيه زياد إلى معاوية، فأمره أن يبعث إليه به مع وائل بن حُجْر الحضرمي في اثني عشر رجلاً، كلّهم في الحديد، فقتل معاوية منهم ستة، واستحيى ستة، وكان حُجْر ممّن قتل.

قال: وكان قتل معاوية لحُجْر بن عدي في سنة إحدى وخمسين.

وحُجْر، بضمّ الحاء المهملة، وسكون الجيم، وبعدها راء مهملة.

وإلّادبر - بفتح الهمزة، وسكون الدال، وفتح الباء، ثُمَّ راء مهملة - سمّي به لأنّه ضرب بالسيف على إليَّته مدبراً، والله أعلم.

ص: 709

عمرو بن الحَمِق الخزاعي

عمرو بن الحَمِق الخزاعي - بفتح الحاء المهملة، وكسر الميم، وبعدها قاف - إبن كاهل، ويقال: الكاهن - بالنون - إبن حبيب الخزاعي.

صحابي جليل القدر، من خواص أمير المؤمنين علیه السلام، شهد معه مشاهده كلّها، وكان ممّن خرج على عثمان.

قال الفضل بن شاذان: إنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام .

وعن ميمون بن مهران: أن عمرو بن الحَمِق سقى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لبناً فقال: [اللهمَّ متّعهُ بشبابِهِ]؛ فمرّت عليه ثمانون سنة لم يرّ شعرة بيضاء.

وروى نصر بن مزاحم أن عمرو بن الحَمِق قال لأمير المؤمنين علیه السلام في يوم من أيام صِفّين: والله يا أمير المؤمنين إنّي ما أحببتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك، ولا إرادة مال تؤتينيه، ولا التماس سلطان ترفع ذكري به، ولكن أحببتك بخصال خمس: أنّك ابن عمِّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ووصيّه، وأبو الذريّة التي بقيت فينا من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأسبق النّاس إلى الإسلام، وأعظم المهاجرين سهماً في الجهاد، فلو أنّي كلّفت نقل الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي، حتّى يأتي عليَّ يومي، في أمر أقوي به وليّك، وأهين به عدوّك، ما رأيت أنّي قد أدّيت فيه كلّ الذي يحقّ عليَّ من حقّك.

ص: 710

فقال عليٌّ علیه السلام {اللهمَّ نوّرْ قلبَهَ بالتُقىْ، واهدهِ إلى صراطِكَ المستقيمِ، ليتَ أنَّ فيْ جنديْ مائةً مثلكَ}.

فقال حُجْر: إذاً والله يا أمير المؤمنين صحّ جندك، وقلَّ فيهم من يغشك.

وروى الكشّي بإسناده عن علي بن أسباط بن سالم قال: قال أبو الحسن موسى بن جعفر علیهما السلام: (إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين حواري محمد بن عبد الله رسول الله الذين لم ينقضوا العهد ومضوا عليه؟ .. فيقوم سلمان، والمقداد، وأبو ذر.

ثمّ ينادي: أين حواري علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله؟ فيقوم عمرو بن الحمق الخزاعي ومحمّد بن أبي بكر، وميثم بن يحيى التمّار مولى بني أسد، وأويس القرني.

ثمّ ينادي المنادي: أينْ حواري الحسن بن علي بن فاطمة بنت محمّد صلی الله علیه و آله و سلم ؟ فيقوم سفيان بن أبي ليلى الهمداني، وحذيفة بن أسيد الغفاري.

ثمّ ينادي: أين حواري الحسين بن علي علیهما السلام ؟ فيقوم كلّ من أستشهد معه ولم يتخلف عنه.

ثمّ ينادي: أين حواري علي بن الحسين علیهما السلام ؟ فيقوم جبير بن مطعم، ويحيى بن أمّ الطويل، وأبو خالد الكابلي، وسعيد بن المسيّب.

ثمّ ينادي: أين حواري محمّد بن علي وجعفر بن محمّد علیهم السلام ؟ فيقوم عبد الله بن شريك العامري، وزرارة بن أعين، وبريد بن معاوية العجلي، ومحمد بن مسلم

ص: 711

الثقفي، وليث بن البختري المرادي، وعبد الله بن أبي يعفور، وعامر بن عبد الله بن جذاعة، وحجر بن زائدة، وحمران بن أعين.

ثمّ ينادي المنادي سائر الشيعة مع سائر الأئمّة علیهم السلام يوم القيامة، فهؤلاء أوّل الشيعة الذين يدخلون الفردوس وهؤلاء أوّل السّابقين وأوّل المقرّبين وأوّل المتحوّرة من التابعين)، إلى آخر الحديث.

قال أبو عمرو بن عبد البر في كتاب (الإستيعاب): أسلم عمرو بن الحَمِق بعد الحديبية، وصحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مدّة، وكان يحفظ الأحاديث، وسكن الشام، ثُمَّ نزل الكوفة واتخذها وطناً.

وهو أحد الأربعة الذين اقتحموا على عثمان بن عفّان الدار، وكان من شيعة عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام، وشهد معه جميع حروبه، من الجمل وصِفّين والنهروان.

ولما توفي عليٌّ علیه السلام قال مع حُجْر بن عدي في منع بني أمية من سبِّ عليٍّ علیه السلام .

ولما أمر زياد بالقبض على حُجْر هرب عمرو إلى الموصل، واختفى في غار، فلدغته حيّة به فمات.

ولمّا وصل إليه الجماعة الذين بعث بهم زياد لعنه الله وجدوه ميتاً في الغار، فقطعوا رأسه، وذهبوا به إلى زياد، فبعث به إلى معاوية، وهو أوّل رأس حُمل من بلد إلى بلد.

ص: 712

قال نصر: وقال عمرو بن الحَمِق بصِفّين:

تقول عرسي لمّا أن رأت أرقي *** ماذا يهيجك من أصحاب صِفّينا

ألست في عصبة يهدي إلّاله بهم *** أهل الكتاب ولا بغياً يريدونا

فقلت إنّي على ما كان من سدد *** أخشى عواقب أمر سوف يأتينا

إزالة القوم في أمر يراد بهم *** فاقني حياءً وكفّي ما تقولينا

وروى محمّد بن علي الصوّاف، عن الحسين بن سفيان، عن أبيه، عن شمير بن سدير الأزدي قال: قال عليٌّ علیه السلام لعمرو بن الحَمِق الخزاعي: أينَ نزلتَ يا عمرو؟، قال: في قومي، قال: لا تنزلنّ فيهم، قال أفأنزل في كنانة جيراننا؟ قال: لا، قال: أفأنزل في ثقيف؟ قال: فما تصنع بالمعرّة والمحرّة؟ قال: وما هما؟ قال: عنقان من نار يخرجان من ظهر الكوفة، يأتي أحدهما على تميم وبكر بن وائل، فقلَّ ما يفلت منه أحد، ويأتي العنق الآخر فيأخذ على الجانب الآخر من الكوفة، فقلَّ من يصيب منهم، إنّما تدخل الدار فتحرق البيت والبيتين، قال: فأين أنزل؟ قال: إنزل في بني عمرو بن عامر من إلّازد.

قال: فقال قوم حضروا هذا الكلام: ما نراه إلّا كاهناً، يتحدث بحديث الكهنة، فقال {يا عمرو، وإنّكَ لمقتولٌ بعديْ، وإنَّ رأسّكَ لمنقولٌ، وهوَ أوّل رأسٍ يُنقلُ فيْ الإسلام، والويلُ لقاتلِكَ، أما إنّكَ لا تنزلُ لقومٍ إلّا أسلموكَ برمّتِكَ إلّا هذا الحيُّ منْ بني عمرو بنِ عامرَ منَ إلّازدِ، فإنّهم لنْ يُسلموكَ ولن يخذلوكَ}.

ص: 713

قال: فوالله ما مضت الأيّام حتّى تنقّل عمرو بن الحَمِق في خلافة معاوية في أحياء العرب، خائفاً مذعوراً، حتّى نزل في قومه من بني خزاعة، فأسلموه، فقُتل، وحُمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام، وهو أوّل رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد.

وروى الكشّي عن الحسن بن محبوب، عن أبي القاسم، وهو معاوية بن عمّار رحمه الله، رفعه، قال: أرسل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سرية فقال لهم: [إنّكم تضلّونَ ساعةَ كذا منَ الليلِ، فخُذوا ذاتَ اليسار، فإنّكم تمرّونَ برجلٍ فيْ شأنِهِ، فتسترشدونهُ فيأبىْ أنْ يرشدَكمْ حتّى تُصيبوا من طعامِهِ، فيذبحُ لكم كبشاً، فيطعمُكم، ثُمَّ يقومُ فيرشدُكم، فأقرؤه منّي السلام، وأعلموه أنّيْ قدْ ظهرتُ بالمدينةِ].

فمضوا فضلّوا الطريق، فقال قائل منهم: ألم يقل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تياسروا؟، ففعلوا، فمرّوا بالرجل الذي قال لهم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، قال: فقال لهم الرجل - وهو عمرو بن الحَمِق رضی الله عنه - أظهر النبيُّ بالمدينة؟ فقالوا: نعم، فلحق به، ولبث ما شاء الله، ثُمَّ قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [إرجعْ إلىْ الموضعِ الذيْ منهُ هاجرتَ، فإذا تولّىْ أميرُ المؤمنينَ علیه السلام بالكوفةِ فأتْهِ].

فانصرف الرجل، حتّى إذا تولّى أمير المؤمنين علیه السلام الكوفة أتاه وأقام معه بالكوفة.

ثُمَّ إن أمير المؤمنين علیه السلام قال له: ألك دار؟ قال: نعم، قال: {بِعْها، واجعلها في إلّازد، فإنّي غداً لو غبتُ لطُلبتَ، فمنعك إلّازدُ حتّى تخرج من الكوفة، متوجهاً إلى

ص: 714

جسر الموصلِ، فتمرّ برجلٍ مقعدٍ فتقعد عندهُ، ثُمَّ تستسقيهِ فيسقيكَ، ويسألكَ عنْ شأنِكَ، فأخبرهُ وادعهُ إلىْ الإسلام، فإنّهُ يُسلمُ، وامسح بيدِكَ علىْ وِركيهِ، فإنَّ اللهَ يمسحُ ما بهِ، وينهضُ قائماً فيتبعكَ، وتمرّ برجلٍ أعمى علىْ ظهرِ الطريقِ فتستسقيهِ، فيسقيكَ ويسألكَ عنْ شأنكَ، فأخبرهُ وادعُهُ إلى الإسلام، فإنّه يُسلمُ، وامسحْ بيدِكَ علىْ عينيهِ، فإنَّ اللهَ تعالى يُعيدُه بصيراً فيتبعُكَ، وهُما يواريانِ بدنَكَ فيْ الترابِ، ثُمَّ تتبعُك الخيلُ فإذاْ صرتَ قريباً منَ الحصنِ، في موضعِ كذا وكذاْ، رهقتْكَ الخيلُ فانزلْ عنْ فرسِكَ، ومرْ إلى الغارِ؛ فإنّهُ يشتركُ فيْ دمِكَ فسقةُ منَ الجِنِّ والآنسِ}.

ففعل ما قال أمير المؤمنين علیه السلام قال: فلمّا انتهى إلى الحصن قال للرجلين: اصعدا فانظرا هل تريان شيئاً؟ قالا: نرى خيلاً مقبلة، فنزل عن فرسه ودخل الغار، وغار فرسه، فلمّا دخلوا الغار ضربه أسود سالخ فيه، وجاءت الخيل، فلمّا رأوا فرسه غائراً قالوا: هذا فرسه وهو قريب، فطلبه الرجال فأصابوه في الغار، فكلّما ضربوا أيديهم إلى شيء من جسمه تبعهم اللحم، فأخذوا رأسه، فأتوا به معاوية، فنصبه على رمح، وهو أوّل رأس نصب في الإسلام.

وروى الكشّي أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية، وهو عامله على المدينة:

أمّا بعد، فإنّ عمرو بن عثمان ذكر أن رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن عليٍّ، وذكر أنّه لا يؤمن وثوبه، وقد بحثت عن ذلك، فبلغني أنّه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لما بعده، فاكتب إليَّ برأيك في هذا والسلام.

ص: 715

فكتب معاوية:

أمّا بعد، فقد بلغني وفهمت ما ذكرت فيه من أمر الحسين، فإيّاك أن تعرض للحسين في شيء، واترك حسيناً ما تركك، فإنّا لا نريد أن نعرض له في شيء ما وفى ببيعتنا، ولم ينازعنا سلطاننا، فاكمن عنه ما لم يبدِ لك صفحته والسلام.

وكتب معاوية إلى الحسين بن عليٍّ علیهما السلام:

أمّا بعد، فقد انتهت إليَّ أمور عنك، إن كانت حقاً فقد أظنّك تركتها رغبة، فدعها، ولعمر الله إن من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، وإن كان الذي بلغني باطلاً، فإنّك أنت أعدل النّاس لذلك، وعظ نفسك فاذكر، وبعهد الله أوف، فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّقِ شق عصا هذه الأمّة، وأن يردهم الله على يدك في فتنة، فقد عرفت النّاس وبلوتهم، فانظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد، ولا يستخفنّك السفهاء الذين لا يعلمون.

فلمّا وصل الكتاب إلى الحسين علیه السلام كتب إليه:

(أمّا بعد، فقد بلغني كتابك، تذكر أنّه قد بلغك عنّي أمور أنت عنها راغب، وأنا بغيرها عندك جدير، فإنّ الحسنات لا يهتدي لها، ولا يسدر إليها إلّا الله.

وإمّا ما ذكرت أنّه انتهى إليك عنّي، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشاؤون بالنميمة، وما أريد لك حرباً ولا عليك خلافاً، وأيمَ الله إنّي لخائف الله في ترك ذلك، وما أظنّ الله راضياً بترك ذلك، ولا عاذراً بدون إلّاعذار فيه إليك، وفي أولئك

ص: 716

القاسطين الملحدين، حزب الظلمة وأوّلياء الشياطين، القاتلي حُجْرا أخا كندة، والمصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثُمَّ قتلتهم ظلماً وعدواناً، من بعد ما كنتَ أعطيتَهم الإيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة، ولا تأخذهم بحديث كان بينك وبينهم، ولا بإحنة تجدها في نفسك.

أو لست قاتل عمرو بن الحَمِق صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم العبد الصالح الذي أبلته العبادة، فنحل جسمه واصفرّ لونه، بعد ما آمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه، ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس جبل، ثُمَّ قتلته جرأة على ربّك، واستخفافاً بذلك العهد.

أو لستَ المدعي زياد بن سُميَّة، المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [الولدُ للفراشِ، وللعاهرِ الحجْر]، فتركت سنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تعمّداً، وتبعت هواك بغير هدى من الله تعالى، ثُمَّ سلّطته على العراقين .. يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمل أعينهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك.

أوّلستَ صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم إبن سُميَّة أنّهم كانوا على دين عليٍّ علیه السلام؛ فكتبت إليه: أن اقتل كلّ من كان على دين عليٍّ؛ فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليٍّ، والله، الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي جلست، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين.

ص: 717

وقلت فيما قلت: أنظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد، واتّقِ شق عصا هذه الأمّة، وأن تردّهم إلى فتنة، وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمّة من ولايتك عليها، ولا أعلم نظراً لنفسي ولديني ولأُمّة محمّد صلی الله علیه و آله و سلم وعلينا أفضل من أن أجاهدك، فإن فعلت فإنّه قربة إلى الله، وإن تركته فإنّي استغفر الله لديني، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت: إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني، ما بدا لك، فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك فيَّ، وأن لا يكون على أحد أضرّ منك على نفسك؛ لأنّك قد ركبت جهلك، وتحرّضت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيت بشرط.

ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلّا لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا، فقتلتهم مخافة أمر، لعلك لو لم تقتلهم متَّ قبل أن يفعلوه، وماتوا قبل أن يدركوه.

فأبشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب، واعلم أن لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، وليس الله بناس لأخذك بالظنّة، وقتلك أوّلياءه على التهم، ونفيك أوّلياءه من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك للناس ببيعة إبنك .. غلام حدث يشرب الخمر ويلعب بالكلاب.

لا أعلمك إلّا وقد خسرت نفسك، وبترت دينك، وغششت وأخربت أمانتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقيَّ لأجلهم والسلام).

ص: 718

فلمّا قرأ معاوية الكتاب قال: لقد كان في نفسه خبء ما أشعر به، فقال يزيد: يا أمير المؤمنين أجبه بجواب تصغّر به نفسه، وتذكر فيه أباه بشرّ فعله، قال ودخل عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال له معاوية: أما رأيت ما كتب به الحسين؟ قال: ما هو؟ قال: فاقرأ الكتاب، فقال: وما يمنعك أن تجبيه بما تصغر إليه نفسه؟ وإنّما قال ذلك في هوى معاوية، فقال يزيد: كيف رأيت يا أمير المؤمنين؟ فضحك معاوية فقال: أمّا يزيد فقد أشار عليّ بمثل رأيك، قال عبد الله: فقد أصاب يزيد، فقال معاوية أخطأتما، أرأيتما لو إنّي ذهبت لعيب عليٍّ محقّاً ما عسيت أن أقول فيه؟! ومثلي لا يحسن أن يعيب بالباطل وما لا يعرف، ومتى ما عبت به رجلاً بما لا يعرفه النّاس لم يحفل بصاحبه، ولا يراه النّاس شيئاً وكذّبوه، وما عسيت أن أعيب حسيناً، ووالله ما أرى للعيب فيه موضعاً، وقد رأيت أن اكتب إليه أتوعده وأتهدده، ثُمَّ رأيت أن لا أفعل ولا أخجله.

وكان قتل عمرو بن الحَمِق بالموصل سنة إحدى وخمسين، وهي السنة التي قُتل فيها حُجْر بن عدي، وكان معاوية قد فعل فيها آلافاعيل من قتل الشيعة، وإخافتهم وتغريبهم وتعذيبهم.

وقال بعضهم: إن القاتل لعمرو بن الحَمِق، هو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي، وهو إبن عبد الرحمن بن أمّ الحكم، وقيل: عبد الرحمن بن أمّ الحكم هو القاتل له، قتله سنة خمسين بأمر معاوية، والله أعلم.

ص: 719

أُسامة بن زيد بن حارثة

أُسامة بن زيد حارثة بن شراحبيل بن عبد العزى بن أمرئ القيس الكلبي، كان أبوه زيد يقال له: حبّ رسول ا لله صلی الله علیه و آله و سلم، ويكنّى أبا أُسامة، وأمّه سعدى بنت ثغلبة بن عبد عمرو، كان في ابتداء حاله مع أمّه، وقد خرجت به تزور قومها، فأغارت خيل لبني القين في الجاهلية، فمرّوا على أبيات بني معن فاحتملوه، وهو يومئذ غلام، فوافوا به سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام بن خويلد لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم، فلمّا تزوجها النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم وهبته له، فأعتقه، وكان أبوه جزع عليه جزعاً شديداً، وبكى عليه حين فقده فقال:

بكيت على زيد ولم أدرِ ما فعلْ *** أحيٌّ فيُرجى أم أتى دونه الأجلْ

فو الله ما أدري وإنّي لسائل *** أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل

فحجّ ناس من كعب فرأوا زيداً فعرفهم وعرفوه، فقال لهم: أبلغوا عنى قومي:

ألكني إلى قومي وإن كنت نائياً *** بإنّي قطين البيت عند المشاعر ِ

فكفّوا عن الوجه الذي قد شجاكم *** ولا تعملوا في الأرض نص إلّاباعر

فإنّي بحمد الله في خير أسرة *** كرام معدٍّ كابراً بعد كابر

ص: 720

فانطلقوا وأعلموا أباه، ووصفوا له مكانه، وعند من هو؛ فخرج حارثة وكعب إبنا شراحبيل بفدائه، فقدما مكّة، فسألا عن النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه فقالا: يا ابن هاشم، يا ابن سعيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكّون العاني وتطعمون إلّاسير، وقد جئنا في ابن لنا عندك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه، فإنّا سنرفع لك الفداء.

قال صلی الله علیه و آله و سلم: من هو؟ قالا: زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: فهنا غير ذلك، قالا: ما هو؟ قال: إدعوه فخيّروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً، قالا: زدتنا على النصف وأحسنت؛ فدعاه صلی الله علیه و آله و سلم فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي، قال: فإنّا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً .. أنت منّي بمكان العمّ وإلّاب، فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحريّة؟ وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم إنّي قد رأيت من هذا الرجل ما أنا بالذي أختار عليه أحداً.

فلمّا رأى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ذلك أخرجه إلى الحجْر فقال: [يا منْ حضرَ اشهدواْ أنَّ زيداً إبني، أرثهُ ويرثنيْ].

فلمّا رأى أبوه وعمّه ذلك طابت أنفسهما فانصرفا، فدعيّ زيدَ بنَ محمّد، حتّى جاء الله بالإسلام فزوجه النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم زينب بنت جحش، فلمّا طلّقها تزوجها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فتكلم المنافقون في ذلك فقالوا: تزوج امرأة إبنه، فنزل ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن

ص: 721

رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ (1)، وقال تعالى ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَإليكمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ (2).

فدعا يومئذ زيد بن حارثة، وكان بين رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وبين زيد عشر سنين، ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أكبر منه.

قال إبن إسحق: كان أوّل ذكر أسلم وصلّى بعد عليّ بن أبي طالب علیه السلام زيد بن حارثة.

قال أهل السير شهد زيد بدراً وأُحداً والخندق والحديبية وخيبر، وخرج أميراً في سبع سرايا، ولم يُسمَّ أحد من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في القرآن باسمه غيره، وكان له من الولد زيد هلك صغيراً، ورقيّة امها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وأُسامة أمّه أمّ أيمن حاضنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، واسمها بركة الحبشية، ورثها النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم من أبيه .. كانت وصيفة لعبد المطّلب.

ص: 722


1- سورة الأحزاب - الآية: 40
2- سورة الأحزاب - الآية: 5

وقيل: كانت لآمنة علیها السلام أمّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وكانت تحضنه صلی الله علیه و آله و سلم حتّى كبر فأعتقها حين تزوج خديجة، وتزوجها عبيدة بن زيد بن الحرث الحبشي، فولدت له أيمن وكنّيت به، واستشهد أيمن يوم حُنَين.

وهي التي شربت بول النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم فقال لها: [لنْ تشتكيْ وجعَ بطنِكَ أبداً]، وقال: [لنْ تلجَ النارُ بطنَك]، على خلاف في الرواية.

وقتل زيد في غزوة مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، وهو إبن خمس وخمسين سنة.

وعن خالد بن سمير قال: لمّا أُصيب زيد بن حارثة أتاهم النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم فجهشت بنت زيد في وجه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فبكى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتّى انتحب، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله ما هذا؟ قال: [هذاْ شوقُ الحبيبِ إلىْ حبيبِهِ].

وقال علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ﴾ (1): حدّثني أبي عن ابن عمير، عن جميل، عن أبي عبد الله علیه السلام قال: سبب ذلك ان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لما تزوج بخديجة بنت خويلد علیها السلام خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها، ورأى زيداً غلاماً كيساً حصيفاً، فلمّا نُبّأ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم دعاه إلى الإسلام فأسلم، وكان يُدعى زيد مولى محمّد.

ص: 723


1- سورة الأحزاب - الآية: 4

فلمّا بلغ حارثة بن شراحبيل الكلبي خبر زيد قدم مكّة، وكان رجلاً جليلاً، فأتى أبا طالب علیه السلام وقال: يا أبا طالب إن ابني وقع عليه السبي، وبلغني أنّه صار لابن أخيك، فاسأله إمّا أن يبيعه وإمّا أن يفاديه، وإمّا أن يعتقه.

فكلّم أبو طالب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [هوَ حرٌّ فليذهبْ حيثُ شاءَ].

فقام حارثة فأخذ بيد زيد فقال له: يا بنيّ الحق شرفك وحسبك، فقال زيد: لست أفارق رسول الله أبداً، فقال له أبوه: أفتدع حسبك ونسبك، وتكون عبداً لقريش؟ قال زيد: لست أفارق رسول الله ما دمت حيّاً، فغضب أبوه فقال: يا معشر قريش إشهدوا إنّي قد برئت منه، وليس هو ولدي.

فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [إشهدوا أن زيداً إبني، أرثُهُ ويرثُنيْ]، وكان يدعى زيد بن محمّد.

وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يحبّه، وسمّاه زيد الحبّ، فلمّا هاجر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى المدينة زوّجه زينب إبنة جحش، وأبطأ عنه يوماً فأتى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم منزله يسأل عنه، فإذا زينب جالسة وسط حُجْرتها تسحق طيباً بفهر لها، فدفع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الباب فنظر إليها، وكانت جميلة حسنة، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [سبحانَ اللهِ خالقِ النورِ، تباركَ اللهُ أحسنُ الخالقينَ].

ثُمَّ رجع إلى منزله، ووقعت زينب في قلبه وقوعاً عجيباً، وجاء زيد إلى منزله، فأخبرته زينب بما قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال لها زيد: هل لك أن أطلقك؛ حتّى يتزوجك

ص: 724

رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فلعلّك قد وقعتِ في قلبه، فقالت: أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

فجاء زيد إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: بأبي أنت وأمّي، أخبرتني زينب بكذا وكذا، فهل لك أن أطلقها حتّى تتزوجها ؟، فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [لاْ، إذهبْ واتّقِ اللهَ، وأمسكْ عليكَ زوجَكَ].

ثُمَّ حكى الله تعالى فقال: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاس وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فلمّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً﴾ (1)، فزوّجه الله من فوق عرشه، فقال المنافقون: يحرّم علينا نساءنا، ويتزوج امرأة إبنه زيد!، فأنزل الله تعالى في هذا: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ (2)، ثُمَّ قال: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَإليكمْ﴾ (3)، فأعلم الله تعالى أن زيداً ليس هو إبن محمّد، وإنّما ادّعاه للسبب الذي ذكرناه.

ص: 725


1- سورة الأحزاب - الآية: 37
2- السورة نفسها - الآية: 4
3- السورة نفسها - الآية: 5

وأمّا أُسامة بن زيد فيكنّى أبا محمّد، ويقال: أبا زيد .. كان يقال له حبّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وابن حبّه.

روي أنّه صلی الله علیه و آله و سلم قال: [أُسامةُ أحبُّ النّاس إليَّ].

ومرّ به صلی الله علیه و آله و سلم بين الصبيان في قفوله من بدر، فنزل إليه، وقبّله واحتمله، ثُمَّ قال: [مرحباً بحبّي وابنِ حبّيْ].

وكان عمره يوم مات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عشرين سنة، وقيل: ثماني عشرة، وقيل: تسع عشرة سنة.

روي أنّه لما مرض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مرض الموت دعا أُسامة بن زيد بن حارثة فقال: [سِرْ إلىْ مقتلِ أبيكَ، فأوطئهمْ الخيلَ، فقدْ ولّيتُكَ علىْ هذا الجيشِ، فإنْ أظفرَكَ اللهُ بالعدوِّ، فأقلَّ اللبثَ، وبثَّ العيونَ، وقدّم الطلائعَ].

فلم يبقَ أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلّا كان في ذلك الجيش، منهم أبو بكر وعمر، فتكلّم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على جلّة المهاجرين والأنصار!.

فغضب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لمّا سمع، وخرج عاصباً رأسه، فصعد المنبر، وعليه قطيفة، فقال: [أيُّها النّاس ما مقالةٌ بلغتنيْ عنْ بعضِكمْ فيْ تأميرِ أُسامةَ، لئنْ طعنتمْ فيْ تأميريَ أُسامةَ، لقدْ طعنتمْ فيْ تأميريَ أباهُ منْ قبلِهِ، وأيمَ اللهِ إنْ كانَ لخليقاً بالأمرةِ، وإنَّ ابنهُ منْ بعدِهِ لخليقٌ بها، وإنّهما لمنْ أحبُ النّاس إليَّ، فاستوصواْ بهِ خيراً، فإنّه منْ خيارِكمْ].

ص: 726

ثُمَّ نزل ودخل بيته، وجاء المسلمون يودعون رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ويمضون إلى عسكر أُسامة بالجرف، وثقل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، واشتدّ ما يجده، فأرسل بعض نسائه إلى أُسامة، وبعض من كان معه، يعلمونهم ذلك.

فدخل أُسامة من معسكره، والنبيّ صلی الله علیه و آله و سلم مغمور، وهو اليوم الذي لدّوه فيه، فتطأطأ أُسامة عليه فقبّله، ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد أسكت فهو لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثُمَّ يضعها على أُسامة كالداعي له، ثُمَّ أشار إليه بالرجوع إلى عسكره والتوجّه لما بعثه فيه، فرجع أُسامة إلى عسكره.

ثُمَّ أرسل نساء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى أُسامة يأمرنه بالدخول، ويقلن: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد أصبح بارءً، فدخل أُسامة من معسكره يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأوّل، فوجد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مفيقاً، فأمره بالخروج وتعجيل النفوذ، وقال: [إغدُ علىْ بركةِ اللهِ تعالىْ]، وجعل صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [أنفذوا بعثَ أُسامةَ]، ويكرر ذلك، فودع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وخرج ومعه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فلمّا ركب جاء رسول أمّ أيمن فقال: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يموت؛ فأقبل ومعه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فانتهوا إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حين زالت الشمس من هذا اليوم، وهو يوم الاثنين، وقد مات صلی الله علیه و آله و سلم، واللواء مع بُرَيْدة بن الحصيب، فدخل باللواء فركزه عند باب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو مغلق، وعليٌّ علیه السلام وبعض بني هاشم مشتغلون بإعداد جهازه وغسله.

وروى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب (السقيفة) قال: حدّثنا أحمد بن إسحق بن صالح، عن أحمد بن سيار، عن سعد بن كثير الأنصاري، عن رجاله،

ص: 727

عن عبد الله بن عبد الرحمن أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمّر في مرض موته أُسامة بن زيد بن حارثة على جيش فيه جلّ المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير، وأمره أن يغير على مؤتة، حيث قُتل أبوه زيد، وأن يغزو وادي فلسطين، فتثاقل أُسامة، وتثاقل الجيش بتثاقله.

وجعل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في مرضه يثقل ويخفُّ، ويؤكد القول في تنفيذ ذلك البعث، حتّى قال له أُسامة: بأبي أنت وأمّي، أتأذن لي أن أمكث أيّاماً، حتّى يشفيك الله تعالى، فقال: [سرْ علىْ بركةِ اللهِ]، فقال: يا رسول الله إن أنا خرجت - وأنت على هذه الحالة - خرجت وفي قلبي حرقة منك، فقال: [سرْ على النصرِ والعافيةِ]، فقال: يا رسول الله إنّي أكره أن أسأل عنك الركبان، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [إنفذْ لما أمرتُك بهِ].

ثُمَّ أُغميَ على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وقام أُسامة فتجهز للخروج، فلمّا أفاق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سأل عن أُسامة والبعث، فأُخبر أنّهم يتجهزون، فجعل يقول: [أنفذواْ بعثَ أُسامةَ، لعنَ اللهُ مَنْ تخلّفَ عنهُ]، ويكرر ذلك.

فخرج أُسامة واللواء على رأسه، والصحابة بين يديه، حتّى إذا كان بالجرف نزل ومعه أبو بكر وعمر، وأكثر المهاجرين والأنصار، وأسيد بن خضير وبشير بن سعد، وغيرهم من الوجوه، فجاءه رسول أم أيمن يقول له: أدخل فإن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يموت، فقام من فوره ودخل المدينة، واللواء معه، فجاء حتّى ركزه بباب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

ص: 728

ورسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد مات في تلك الساعة..قال: فما كان أبو بكر وعمر يخاطبان أُسامة إلى أن مات إلّا بالأمير.

قال المؤلف عفا الله عنه: الذي يرويه أصحابنا أن أُسامة بن زيد لم يرجع إلى المدينة إلّا بعد أن تغلب أبو بكر على الخلافة، وكتب إليه في الرجوع.

وروى الشيخ الطبرسي في كتاب (الإحتجاج) مرفوعاً عن الباقر علیه السلام أن عمر بن الخطّاب قال لأبي بكر: أكتب إلى أُسامة يقدم عليك، فإن في قدومه قطع الشنعة عنّا، فكتب إليه أبو بكر:

من أبي بكر خليفة رسول الله إلى أُسامة ابن زيد، أمّا بعد: إذا أتاك كتابي فأقبل إليَّ أنت ومن معك، فإن المسلمين قد اجتمعوا عليّ، وولّوني أمرهم، فلا تخالفنَّ فتعصي، ويأتيك ما تكره والسلام.

قال: فكتب إليه أُسامة جواب كتابه:

من أُسامة بن زيد عامل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على غزوة الشام، أما بعد: فقد أتاني لك كتاب ينقض أوّله آخره، ذكرت في أوّله أنّك خليفة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وذكرت في آخره أن المسلمين اجتمعوا عليك فولّوك أمرهم ورضوا بك، واعلم أنّي ومن معي من جماعة المسلمين والمهاجرين، فوالله ما رضينا بك، ولا ولّيناك أمرنا، وانظر أن

ص: 729

تدفع الحق إلى أهله، وتخلّيهم وإيّاه، فإنّهم أحقّ به منك، فقد علمت ما كان من قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (1)، وإنك وصاحبك رجعتما وعصيتما فأقمتما في المدينة بغير إذني.

قال: فهمَّ أبو بكر أن يخلعها من عنقه، قال: فقال له عمر: لا تفعل قميصٌ قمّصك الله لا تخلعه فتندم، ولكن ألحّ على أُسامة بالكتب، ومر فلاناً وفلاناً يكتبوا إلى أُسامة أن لا يفرق جماعة المسلمين، وأن يدخل معهم فيما صنعوا.

قال: فكتب إليه أبو بكر، وكتب إليه أناس من المنافقين: أن إرضَ بما اجتمعنا عليه، وإيّاك أن تشمل المسلمين فتنة من قبلك، فإنّهم حديثو عهد بالكفر، فلمّا وردت الكتب على أُسامة انصرف بمن معه حتّى دخل المدينة.

فلمّا رأى اجتماع النّاس على أبي بكر انطلق إلى عليِّ بن أبي طالب علیه السلام فقال: ما هذا؟ قال عليٌّ علیه السلام: هذا ما ترى، قال له أُسامة: فهل بايعته؟ فقال: نعم، فقال له أُسامة: طائعاً؟ قال: لا، بل كارهاً.

قال: فدخل أُسامة على أبي بكر وقال: السلام عليك يا خليفة المسلمين، قال: فردَّ عليه السلام وقال: وعليك السلام أيّها الأمير.

ص: 730


1- وفى نسخة بعد كلمة قول رسول الله /: في عليٍّ / يوم الغدير فما طال فينسى، انظر لمركزك ولا تخالف فتعصي الله ورسوله وتعصي من استخلفه رسول الله عليك وعلى صاحبك ولم يعزلني حين قبض رسول الله /.

قال أهل السير: ثُمَّ إن أبا بكر بعث أُسامة على مقتضى أمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى حرب الشام، فخرج وسار إلى أهل أُبْنَى - بضمِّ الهمزة وسكون الباء الموحدة وفتح النون، على وزن فعلى - فأغار عليهم وقتل من أشرف له، وسبى من قدر عليه، وقتل من قاتل أباه، ورجع إلى المدينة بالغلبة والظفر، وكانت مدة غيبته في تلك السفرة أربعين يوماً، فخرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقّونهم سروراً لقدومهم وسلامتهم.

قال صاحب الصفوة: وسكن أُسامة وادي القرى بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثُمَّ نزل المدينة.

وكان أُسامة أبيض اللون شديد البياض، وأبوه زيد أسود شديد السواد بالعكس، على خلاف في الرواية، فمرّ بهما مخور المدلجي وهما في قطيفة قد غطيا وجوههما وبدت اقدامهما فقال: ان هذه إلّاقدام بعضها من بعض.

ولم يشهد أُسامة شيئاً من مشاهد أمير المؤمنين علیه السلام، واعتذر عن ذلك باليمين التي كانت عليه أنّه لا يقتل رجل يقول لا إله إلّا الله، وذلك أن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم بعث سرية فيها أُسامة فقتل رجلاً يقال له: مرداس بن نهىك من بني مرّة بن عوف، وكان من أهل فدك، وكان مسلماً لم يسلم من قومه غيره، فسمعوا بسرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تريدهم، وكان على السرية رجل يقال له: غالب بن فضالة الليثي، فهربوا وأقام الرجل؛ لأنّه كان مسلماً، فلمّا رأى الخيل خاف أن يكون من غير أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؛ فألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، وصعد هو إلى الجبل، فلمّا تلاحقت الخيل سمعهم يكبّرون، فلمّا سمع التكبير عرف أنّهم المسلمون، فكبّر ونزل وهو يقول: لا

ص: 731

إله إلّا الله محمّد رسول الله، السلام عليكم، فتغشّاه أُسامة بن زيد فقتله، واستاق غنمه.

ثُمَّ رجعوا إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأخبروه، فوجد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من ذلك وجداً شديداً، وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: قتلتموه إرادة ما معه؟ ثُمَّ قرأ صلی الله علیه و آله و سلم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إليكمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ (1)

فقال أُسامة: يا رسول الله استغفر لي، فقال: كيف بلا إله إلّا الله؟ فقالها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ثلاث مرات.

قال أُسامة: فما زال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يعيدها حتّى وددت أنّي لم أكن أسلمت إلّا يومئذ، ثُمَّ إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم استغفر لي بعد ثلاث مرات، وقال: صلی الله علیه و آله و سلم إعتق رقبة، ثُمَّ حلف أُسامة أن لا يقتل بعد ذلك رجلاً يقول لا إله إلّا الله.

وروى إبن إسحق أن أُسامة قال: أدركت هذا الرجل أنا ورجل من الأنصار، فلمّا شهرنا عليه السلام قال: أشهد أن لا إله إلّا الله فلم ينزع عنه حتّى قتلناه، فلمّا قدمنا على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أخبرناه خبره، فقال: [يا أُسامة منْ لكَ بلا إلهَ إلّا اللُه]، قال: فقلت: يا رسول الله إنّما قالها تعوذاً من القتل، قال: [فمنْ لكَ بها يا أُسامةُ]، قال:

ص: 732


1- سورة النساء - الآية: 94

فوالذي بعثه بالحق نبياً، ما زال يرددها عليَّ حتّى لوددت أن ما مضى من إسلامي لم يكن، وأنّي كنت أسلمت يومئذ، وأنّي لم اقتله.

قال: فقلت: أنظرني يا رسول الله إنّي أعاهد الله أن لا أقتل رجلاً يقول لا إله إلّا الله أبداً، قال: تقول بعدي يا أُسامة؟ قال: قلت: بعدك.

وروى الكشّي بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد الله علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال: كتب عليٌّ علیه السلام إلى وإليَّ المدينة: {لا تعطينَّ سعداً، ولا ابن عمرَ من الفيء شيئاً، فأمّا أُسامةُ بنُ زيدٍ فإنّيْ قدْ عذرتُه فيْ إليَّمينِ التيْ كانتْ عليهِ}.

ونقل الزمخشري في ربيع الأبرار أن أُسامة بن زيد بعث إلى عليٍّ علیه السلام أن ابعث إليَّ بعطائي، فوالله إنّك لتعلم أنّك لو كنت في فم أسد لدخلت معك، فكتب إليه علیه السلام {إنّ هذا المالَ لمنْ جاهدَ عليهِ، ولكنَّ ليْ مالاً بالمدينةِ، فأصبْ منهُ ما شئتَ}.

وروى الكشّي بإسناده عن سلمة بن مخور، عن أبي جعفر علیه السلام قال: إلّا أخبركم بأهل الوقوف لنا؟ قلت: بلى، قال: أُسامة بن زيد، وقد رجع فلا تقولوا إلّا خيراً.

قال العلامة الحلي: طريقه ضعيف، والأولى عندي التوقف في روايته.

وروي أن عمر فرض لأُسامة أكثر مما فرض لابنه عبد الله، فقال له: أتفضل عليَّ أُسامة وهو مولى؟ فقال: كان أحبَّ إلى رسول الله من أبيك، وكان هو أحبّ إلى رسول الله منك.

ص: 733

وحكى المسعودي في مروج الذهب قال: تنازع أُسامة بن زيد وعمرو بن عثمان إلى معاوية في أرض، فقام مروان بن الحكم فجلس إلى جانب عمرو، وقام الحسن بن عليٍّ علیهما السلام فجلس إلى جانب أُسامة، وقام سعيد بن العاص فجلس إلى جانب مروان، فقام الحسين بن عليٍّ علیهما السلام فجلس إلى جانب أخيه الحسن علیه السلام، وقام عبد الله بن عامر فجلس إلى جانب سعيد بن العاص، فقام عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وجلس إلى جانب الحسين علیه السلام، فقام عبد الرحمن بن الحكم فجلس إلى جانب عبد الله بن عامر، فقام عبد الله بن العبّاس فجلس إلى جانب عبد الله بن جعفر، فلمّا رأى ذلك معاوية قال: لا تعجلوا أنا كنت شاهداً إذ أقطعها رسول الله لأُسامة، فقام الهاشميون فخرجوا، وأقبل إلّامويون فقيل: إلّا أصلحت بينهما ؟ فقال: دعوني، فوالله ما ذكرت عيونهم تحت المغافر بصِفّين إلّا لبس عليَّ عقلي.

وعن عمرو بن دينار قال: دخل الحسين بن عليٍّ علیهما السلام على أُسامة بن زيد وهو مريض، وهو يقول: واغمّاه، فقال له الحسين علیه السلام: وما غمّك يا أخي؟ قال: دَيني، وهو ستون ألف درهم، فقال الحسين علیه السلام:هو عليَّ، قال: إنّي أخشى أن أموت، فقال الحسين علیه السلام: لن تموت حتّى أقضيها عنك، قال: فقضاها قبل موته.

وروى الكشّي بإسناده عن أبي مريم الأنصاري، عن أبي جعفر علیه السلام قال: إن الحسن بن عليٍّ علیهما السلام كفّن أُسامة بن زيد في برد أحمر حبره.

ص: 734

وصوابه الحسين بن عليٍّ علیهما السلام؛ لأن الحسن بن عليٍّ علیهما السلام توفي سنة تسع وأربعين، أو خمسين، ومات أُسامة بن زيد سنة أربع وخمسين، لا خلاف في ذلك، فتعين أن يكون المكفّن له الحسين علیه السلام، والله أعلم.

ص: 735

أبو ليلى الأنصاري

أبو ليلى الأنصاري، اختلف في إسمه، فقيل: بلال، وقيل: بليل – بالتصغير-، وقيل: داود، وقيل: يسار - بالمثناة من تحت، والسين والراء المهملتين -، وقيل: أوس بن داود بن بلال بن أحيحة بن الجلاح.

أحد الصحابة المشهورين، شهد أُحداً، وما بعدها.

قال البرقي: كان من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام من إلّاصفياء.

قال القاضي إبن خلكان: شهد وقعة الجمل، وكانت راية عليٍّ علیه السلام معه.

وقال الذهبي: قُتل بصِفّين، له دار بالكوفة، روى عنه إبنه عبد الرحمن، وسيأتي ذكره في الطبقة الثانية، إن شاء الله.

وأُحيحة: بضمّ الهمزة، وفتح الحاء المهملة، وسكون المثناة من تحت، وفتح الحاء الثانية، وبعدها هاء، والجلاح: بضمّ الجيم، وبعد اللام ألف وحاء، والله أعلم.

ص: 736

زيد بن أرقم بن زيد

زيد بن أرقم بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي.

صحابي مشهور..أوّل مشاهده الخندق، ثُمَّ شهد ما بعده، وهو الذي رفع إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن عبد الله بن أبي سلول قوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ، فكذّبه عبد الله بن أبي سلول وحلف، فأنزل الله تعالى تصديق زيد بن أرقم.

وكان من خبر ذلك ما ذكره محمّد بن إسحق، وغيره من أهل السير أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بلغه أن بني المصطلق مجتمعون لحربه، وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، أبو جويرية زوج النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم .

فلمّا سمع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بهم خرج إليهم، حتّى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع، من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف النّاس واقتتلوا، فهزم الله تعالى بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونقل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليه.

فبينما النّاس على ذلك الماء إذ وردت واردة النّاس، ومع عمر بن الخطّاب أجير له من بني غفار، يقال له: جهجأة بن سعيد الغفاري، يقود له فرسه، فازدحم جهجأة، وسنان بن وبرة الجهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين، وأعان جهجأة

ص: 737

الغفاري رجل من المهاجرين يقال له: جعال، وكان فقيراً، وغضب عبد الله بن أبي سلول، وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم، غلام حديث السنِّ، فقال ابن أبي: أفعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلّا كما قال القائل: سمّنْ كلبَك يأكلكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعز منها إلّاذلّ، يعني بالأعز نفسه، وبإلّاذلِّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثُمَّ أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتموهم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولتحولوا إلى غير بلادكم، فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد.

فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمّد في عزٍّ من الرحمن، ومودة من المسلمين، فقال عبد الله بن أبي: إسكت، فإنّما كنت ألعب.

فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وذلك بعد فراغه من الغزو، فأخبره الخبر، وعنده عمر بن الخطّاب، فقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: كيف يا عمر؟ إذاً يتحدث النّاس أن محمّداً يقتل أصحابه، ولكن أذّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يرتحل فيها.

فارتحل النّاس وأرسل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى عبد الله بن أبي فأتاه، فقال: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني، فقال عبد الله: والذي أنزل عليك الكتاب، ما قلت شيئاً من ذلك، وإن زيداً لكاذب.

ص: 738

وكان عبد الله في قومه شريفاً عظيماً، فقال من حضر من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قاله، فعذره النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم، وفشت الملامة في الأنصار لزيد وكذّبوه، وقال له عمّه، وكان زيد معه: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والنّاس ومقتوك، وكان يساير النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم، فاستحى بعد ذلك أن يدنوا من النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم .

فلمّا استقبل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وسار، لقيه أسيد بن خضير، فحيّاه بتحية النبوة، ثُمَّ قال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت لتروح فيها؟! فقال له رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أو ما بلغكم ما قال صاحبكم عبد الله بن أبي؟ قال: وما قال؟ فقال صلی الله علیه و آله و سلم: زعم أنّه إنْ رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها إلّاذلَّ، فقال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت..هو والله الذليل وأنت العزيز.

ثمَّ قال: يا رسول الله إرفق به، فوالله لقد جاء الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنّه ليرى أنّك استلبته مُلكاً.

وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: يا رسول الله إنّه بلغني أنّك تريد قتل عبد الله بن أبي؛ لما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمرني به، وأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالديه منّي، وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر الى قاتل عبد الله بن أبي يمشى في النّاس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر، فأدخل النار.

ص: 739

فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

قالوا: وسار رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يومهم ذلك حتّى أمسى، وليلتهم حتّى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتّى آذنتهم الشمس، ثُمَّ نزل بالنّاس، فلم يكن إن وجدوا مسّ الأرض وقعوا نياماً، وإنّما فعل ذلك ليشغل النّاس عن الحديث الذي كان بإلّامس من حديث عبد الله بن أبي.

ثُمَّ راح بالنّاس حتّى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال له: نقعاء، فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها، وضلّت ناقة النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم، وذلك ليلاً، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: لا تخافوا فإنّما هبّت لموت عظيم من عظماء الكفار، توفي بالمدينة، قيل: من هو؟ قال: رفاعة بن زيد بن التابوت.

فقال رجل من المنافقين: كيف يزعم أنّه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته؟!.. ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي؟

فاتاه جبرئيل علیه السلام فأخبره بقول المنافق، وبمكان الناقة، فأخبر بذلك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أصحابه، وقال: [ما أزعمُ أنّي أعلمُ الغيبَ، وما أعلمُه، ولكنَّ اللهَ أخبرني بقولِ المنافقِ وبمكان ناقتي .. هيْ في الشِعبِ قدْ تعلقَ زمامُها بشجرةٍ]، فخرجوا يسعون قبل الشِعب فإذا هي كما قال صلی الله علیه و آله و سلم فجاءوا بها، وآمن ذلك المنافق.

فلمّا قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت قد مات ذلك اليوم، وكان من عظماء إليهود، وكهفاً للمنافقين.

ص: 740

فلمّا وافى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المدينة قال زيد بن أرقم: جلست في البيت لما بي من الهمّ والحياء، فأنزل الله تعالى سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله بن أبي.

فلمّا نزلت أخذ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأذن زيد وقال: [يا زيدُ إنَّ اللهَ تعالى قدْ صدّقك، وأوفى بإذنكَ].

وكان عبد الله بن أبي بقرب المدينة، فلمّا أراد أن يدخلها جاء إبنه عبد الله بن عبد الله حتّى أناخ على مجامع طرق المدينة، فلمّا جاءه عبد الله بن أبي قال: وراءك؟ قال: مالك ويلك؟ قال: لا والله لا تدخلها أبداً إلّا أن يأذن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولتعلمنّ اليوم من الأعزُّ ومن الأذلُّ.

فشكى عبد الله إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما صنع إبنه، فأرسل إليه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن خلّ عنه حتّى يدخل، فقال: أمّا إذا جاء أمر رسول الله فنعم، فدخل، فلم يلبث إلّا أياماً قلائل حتّى اشتكى ومات.

قالوا: فلمّا نزلت إلّاية، وبان كذب عبد الله بن أبي، قيل له: يا أبا حبّاب قد نزل فيك آيٌ شداد، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك، فلوى رأسه ثُمَّ قال: أمرتموني ان أؤمن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمّد،

ص: 741

فأنزل الله تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾ (1).

قال أبو عمرو بن عبد البر في كتاب (الإستيعاب): سكن زيد بن أرقم الكوفة، وبنى داراً في بني كندة، وشهد مع عليٍّ علیه السلام صِفّين، وهو معدود في خاصته.

وروى الكشّي عن الفضل بن شاذان أنّه من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين علیه السلام .

وروي أن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم عاد زيد بن أرقم من مرض كان به، فقال له: [ليسَ عليكَ بأسٌ، ولكنْ كيفَ بكَ إذا عمّرتَ بعديْ فعميتَ؟]، فقال: أحتسب وأصبر قال: [تدخلُ الجنّةَ بغيرِ حسابٍ].

وعن أبي إسرائيل، عن الحكم عن سليمان المؤذّن، عن زيد بن أرقم قال: نشد عليٌّ بن أبي طالب علیه السلام النّاس في المسجد فقال: {أُنشدَ اللهَ رجلاً سمعَ النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم يقول: [مَنْ كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ، اللهمَّ والِ منْ وإلّاهُ، وعادِ منْ عاداهُ]}؛ فقام إثنا عشر بدريّاً، ستة من الجانب إلّايسر، وستة من الجانب إلّايمن، فشهدوا بذلك.

قال زيد بن أرقم: وكنت فيمن سمع ذلك فكتمته، فذهب الله ببصري، وكان يتندم على ما فاته من الشهادة ويستغفر.

ص: 742


1- سورة (المنافقون) - الآية: 5

وروى مسلم في صحيحه، بإسناده إلى يزيد بن حيّان قال: إنطلقت أنا وحسين بن شبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلمّا جلسنا إليه قال حسين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً..رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصلّيت معه .. لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً..حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

قال: يا ابن أخي، والله لقد كبرت سنّي وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فما حدثتكم فاقبلوه، وما لا أحدثكم فلا تكلفونيه، ثُمَّ قال: قام فينا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوماً خطيباً بماء يدعى خما بين مكّة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثُمَّ قال: [أمّا بعدُ أيّها النّاس إنّما أنا بشرٌ يوشِكُ أنْ يأتينيْ رسولُ ربّيْ فأُجيب، وأناْ تاركٌ فيكُمْ الثقلينِ، أوّلهما كتابُ اللهِ، فيهِ النورُ، فخُذوا بكتابِ الله واستمْسكواْ بِهِ]، فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه، ثُمَّ قال: [وأهلُ بيتيْ، أُذكّركُم اللهَ فيْ أهلِ بيتيْ .. أُذكّركُم اللهَ فيْ أهلِ بيتيْ .. أُذكّركُم اللهَ فيْ أهلِ بيتيْ].

فقال حسين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرّم الصدقة بعده.

وفى رواية أخرى فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ فقال: لا أيمَ الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر، ثُمَّ الدهر، ثُمَّ يطلقها فترجع إلى أهلها وقومها .. أهل بيته أهله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.

ص: 743

وروى إبن ديزيل في كتاب (صِفّين) قال: حدّثنا يحيى بن زكريا، قال: حدّثنا علي بن القاسم، عن سعد بن طارق، عن عثمان بن القاسم، عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم [إلّا أدُلّكمْ علىْ ما إنْ تسالمتمْ عليهِ لمْ تهلكواْ، إنّ وليَّكم اللهُ، وإمامَكم عليٌّ بن أبيْ طالبٍ، فناصحوهُ وصدّقوهُ، فإنَّ جبرئيل علیه السلام أخبرنيْ بذلكَ].

وذكر الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب (الإرشاد)، أنّه لمّا وصل رأس الحسين علیه السلام، ووصل ابن سعد من غد يوم وصوله، ومعه بنات الحسين علیه السلام وأهله، جلس إبن زياد في قصر الإمارة، وأذن للناس إذناً عامّاً، وأمر بإحضار الرأس، فوضع بين يديه، فجعل ينظر إليه ويتبسم، وبيده قضيب يضرب به ثناياه علیه السلام، وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وهو شيخ كبير، فلمّا رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال: إرفع قضيبك عن هاتين الشفتين، فوالله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عليهما، ما لا أحصيه كثرة، يقبلهما، ثُمَّ انتحب باكياً.

فقال له إبن زياد: أبكى الله عينيك، أتبكي لفتح الله، لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، لضربت عنقك؛ فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار إلى منزله.

وعن زيد بن أرقم أنّه قال: مرّ برأس الحسين علیه السلام عليّ، وهو على رمح، وأنا في غرفة لي، فلمّا حاذاني سمعته يقرأً: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا

ص: 744

مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً﴾ (1)؛ فقفّ والله شعري، وناديت: رأسك والله يا ابن رسول الله وأمرك أعجب وأعجب.

وتوفي زيد بن أرقم سنة ست، أو ثمان وستين، والله أعلم.

ص: 745


1- سورة الكهف - الآية: 9

البراء بن عازب بن الحرث

البراء بن عازب بن الحرث بن عدي الأنصاري الأوسي، يكنّى أبا عامر.

صحابي إبن صحابي، إستصغر يوم بدر، وشهد أُحداً، وكان من أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام .

قال أبو عمرو بن عبد البر في كتاب (الإستيعاب): شهد مع عليٍّ علیه السلام الجمل وصِفّين والنهروان، ثُمَّ نزل الكوفة، ومات بها أيام مصعب بن الزبير.

وقال العلامة الحلّي قدس سره: البراء بن عازب مشكور بعد أن أصابته دعوة أمير المؤمنين علیه السلام في كتمان حديث غدير خم.

وروى الكشّي بإسناده عن أبي جعفر وأبي عبد الله علیهما السلام أن أمير المؤمنين قال للبرآء بن عازب: {كيفَ وجدتَ هذاْ الدينَ؟}، قال: كنّا بمنزلة إليهود قبل ان نتبعك تخف علينا العبادة، فلمّا اتبعناك ووقع حقائق الإيمان في قلوبنا، وجدنا العبادة قد تناقلت في أجسادنا.

قال أمير المؤمنين علیه السلام: {فمنْ ثُمَّ يُحشرُ النّاس يومَ القيامةِ في صورِ الحميرِ، وتحشرونَ فرادىْ فرادىْ يؤخذُ بكم إلى الجنّة}.

ثُمَّ قال أبو عبد الله علیه السلام ما بدا لكم ما من أحد يوم القيامة إلّا وهو يعيى عوي البهائم، ثُمَّ إن استهدوا لنا واستغفروا، فنعرض عنهم، فما هم بمفلحين.

ص: 746

قال أبو عمرو الكشّي: هذا بعد أن أصابته دعوة أمير المؤمنين علیه السلام فيما روي من جهة العامّة.

روى عبد الله بن إبراهيم قال: حدّثنا أبو مريم الأنصاري، عن المنهال بن عمر، عن زر بن حبيش قال: خرج عليُّ بن أبي طالب علیه السلام من القصر، فاستقبله ركبان متقلدون بالسيوف، عليهم العمائم، فقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا مولانا.

فقال عليٌّ علیه السلام: من هيهنا من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ؟ فقام خالد بن زيد أبو أيّوب، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وقيس بن سعد بن عبادة، وعبد الله بن بُديل بن ورقاء، فشهدوا جميعاً أنّهم سمعوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم غدير خم قال: [مَنْ كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ]، فقال عليٌّ علیه السلام لأنس بن مالك، والبراء من عازب: {ما منعكما أن تقوما فتشهدا ؟، فقد سمعتما كما سمع القوم}، ثمَّ قال علیه السلام: {اللهمَّ إنْ كانا كتَماها مُعاندةً فابتلهماْ}؛ فعمي البراء بن عازب، وبرَصَ قدما أنس بن مالك، فحلف أنس بن مالك أن لا يكتم منقبة لعليٍّ بن أبي طالب علیه السلام ولا فضلاً أبداً.

وأمّا البراء بن عازب، فكان يسأل عن منزله، فيقال: هو في موضع كذا وكذا، فيقول: كيف يرشد من أصابته الدعوة؟.

وروى الشيخ المفيد قدس الله روحه في كتاب (الإرشاد)، عن إسماعيل بن صبيح، عن يحيى بن المساور العابد، عن إسماعيل بن زياد قال: إن عليّاً علیه السلام قال للبرآء

ص: 747

بن عازب ذات يوم: {يا براءُ يُقتل إبني الحسين، وأنت حيٌّ لا تنصرُهُ}، فلمّا قُتل الحسين علیه السلام كان البراء يقول: صدق والله عليُّ بن أبي طالب علیه السلام قُتل الحسين علیه السلام ولم أنصره، ثُمَّ يظهر الحسرة على ذلك والندم.

وروى بعض الأصحاب عن إسحق بن جعفر، عن سليمان بن مهران الأعمش قال: شهد عندي عشرة نفر من خيار التابعين أن البراء بن عازب قال: إنّي لأتبرأ ممّن تقدّم على عليٍّ بن أبي طالب علیه السلام، وأنا برئ منهم في الدنيا والآخرة.

وروى أبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة، قال: حدثني المغيرة بن محمّد المهدي من حفظه، وعمر بن شبة من كتابه، بإسناد رفعه إلى أبي سعيد الخدري قال: سمعت البراء بن عازب يقول: لم أزل لبني هاشم محبّاً، فلمّا قبض رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تخوّفت أن تتمالاً قريش على إخراج هذا الأمر من بني هاشم، فأخذني ما يأخذ الواله العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وأنا في الحجْرة أتفقد وجوه قريش، فإنّي لكذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر، وإذا قائل يقول: في سقيفة بني ساعدة، وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر، فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل، ومعه عمر وأبو عبيدة، وجماعة من أصحاب السقيفة وغيرهم، وهم محتجزون بإلّازر الصنعانية، لا يمرّون بأحد إلّا خبطوه وقدّموه، فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر، يبايعه شاء ذلك أو أبى، فأنكرت عقلي وخرجت أشتدّ حتّى انتهىت الى بني هاشم، والباب مغلق، فضربت عليهم الباب ضرباً شديداً عنيفاً، وقلت: قد بويع لأبي بكر بن أبي قحافة، فقال العبّاس: تربت أيديكم إلى آخر الدهر، أما إنّي قد أمرتكم

ص: 748

فعصيتموني، فمكثت أكابد ما بنفسي، فلمّا كان بليل خرجت إلى المسجد، فلمّا صرت فيه تذكرت أنّي كنت أسمع همهمة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالقرآن، فامتنعت من مكاني فخرجت إلى الفضاء، فضاء بني بياضة، وأجد نفرا يتناجون، فلمّا دنوت منهم سكتوا، فلمّا رأيتهم سكتوا انصرفت عنهم، فعرفوني وما عرفتهم، فدعوني إليهم فأتيتهم، فأجد المقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وسلمان الفارسي،وأبا ذرّ الغفاري، وحذيفة، وأبا الهيثم بن التيهان، وإذا حذيفة يقول لهم: والله ليكوننّ ما أخبرتكم به، والله ما كذبت ولا كذبت، وإذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين.

ثُمَّ قال: إئتوا أبيّ بن كعب فقد علم كما علمت، قال: فانطلقنا إلى أبيّ فضربنا عليه بابه حتّى صار خلف الباب قال: من أنتم؟ فكلّمه المقداد، فقال: ما حاجتكم؟ فقال له: إفتح عليك بابك، فإن الأمر أعظم من أن يجري من وراء حجاب، قال: ما أنا بفاتح بابي، وقد عرفت ما جئتم له، كأنّكم أردتم النظر في هذا العقد، فقلنا: نعم، قال: أفيكم حذيفة؟ قلنا: نعم، قال: فالقول ما قال، والله ما أفتح عني بابي حتّى يجري عليّ ما هي عليه جارية، ولما يكون بعدها شر منها، والى الله المشتكى.

قال: وبلغ الخبر أبا بكر وعمر، فأرسلا إلى أبي عبيدة والمغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي، فقال المغيرة: إن تلقوا العبّاس فتجعلوا له في هذا الأمر نصيباً فيكون له ولعقبه، فتقطعوا به من ناحية عليٍّ، ويكون لكم حجة عند النّاس على عليٍّ إذا مال معكم العبّاس.

ص: 749

فانطلقوا حتّى دخلوا على العبّاس في الليلة من وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثُمَّ ذكر خطبة أبي بكر وكلام عمر، وما أجابهما العبّاس به، وقد ذكرناه فيما تقدم من هذا الكتاب، في ترجمة العبّاس بن عبد المطّلب رضی الله عنه .

قال إبن حجر في التقريب: مات البراء بن عازب سنة اثنين وسبعين.

ص: 750

تنبيه إلى هنا تنتهي الطبقة الأولى في الصحابة الكرام، وقد كان المؤلف رتب كتابه هذا على اثنتي عشرة طبقة، كما أشار إليه في أوّله:

1 – الصحابة.

2 – التابعين.

3 - المحدثين الذين رووا عن الأئمّة الطاهرين علیهم السلام

4 - علماء الدين.

5 - الحكماء والمتكلمين.

6 - علماء العربية.

7 - السادة الصوفية.

8 - الملوك والسلاطين.

9 - الأمراء.

10 – النوادر.

11 – الشعراء.

12 - النساء.

ص: 751

وقد أنجز من الكتاب الطبقة الأولى في الصحابة وهو ما كمل طبعه، وقسما من الطبقة الرابعة، وقيلا من الطبقة الحادية عشرة، وهو ما سنثبته هنا بالتوالي المصحح (1).

ص: 752


1- مما يؤسف له إنا لم نظفر بالطبقة الثانية والثالثة من الكتاب رغم التتبع التام، وكل النسخ الموجودة في المكتبات وغيرها يعوزها هاتان الطبقتان وبقية الطبقات ما عدا هذا المقدار من الطبقة الرابعة والحادية عشر الذي نمثله للطبع, ولعل التوفيق يساعدنا على الظفر ببقية الطبقات وطبعها في المستقبل.

الطبقة الرابعة في سائر العلماء من المحدثين والمفسرين والفقهاء

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الطبقة الرابعة من (الدرجات الرفيعة في طبقات الإمامية من الشيعة)

في

سائر العلماء من المحدثين والمفسرين والفقهاء

وهي تشتمل على بابين:

الباب الأوّل: في بني هاشم وساداتهم من أكابر العلماء وأفاضل الفقهاء

اشارة

ص: 753

الحسن بن حمزة الطبري

السيد أبو محمّد الحسن بن حمزة بن علي بن عبيد الله بن محمّد بن الحسن بن الحسين بن عليٍّ بن الحسين بن عليٍّ بن أبي طالب علیهم السلام الطبري، يعرف بالمرعشي.

كان من أجلّاء هذه الطائفة وفقهائها .. فاضلاً ديّناً فقيهاً زاهداً ورعاً عارفاً أديباً، كثير المحاسن، جمّ الفضائل.

روى عنه التلعكبري، وكان سماعه منه أوّلاً سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وله منه إجازة بجميع كتبه ورواياته.

قال الشيخ الطوسي رحمه الله: أخبرنا عنه جماعة منهم الحسين بن عبيد الله، وأحمد بن عبدويه، ومحمّد بن محمّد بن النعمان، وكان سماعهم منه سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.

وقال النجاشي: قدم بغداد ولقيه شيوخنا في سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وله تصانيف كثيرة، منها كتاب (المبسوط)، وكتاب (المفتخر)، وكتاب (الغيبة)، وكتاب (جامع)، وكتاب (المرشد)، وكتاب (الدر)، وكتاب (تباشير الشيعة)، وغير ذلك .. مات سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة.

ص: 754

الشريف المرتضى

أبو القاسم علي بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمّد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليٍّ بن أبي طالب علیهم السلام الملقب ذا المجدين علم الهدى رضوان الله عليه.

كان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر عظيم المنزلة في دولة بني العبّاس ودولة بني بويه، ولقّب بالطاهر ذي المناقب، وخاطبه بهاء الدولة أبو نصر بالطاهر إلّاوحد، وولّي نقابة الطالبيين خمس دفعات، ومات وهو يتقلدها، بعد أن خالفته الأمراض وذهب بصره.

وهو الذي كان السفير بين الخلفاء وبين الملوك من بني بويه، والأمراء من بني حمدان وغيرهم.

وكان مبارك الغرّة ميمون النقيبة مهيباً نبيلاً، ما شرع في صلاح أمر فاسد إلّا وصلح على يديه، وانتظم بحسن سفارته، وبركة همّته، وصواب تدبيره.

ولاستعظام عضد الدولة أمره، وامتلاء صدره وعينه به، ما حمله على القبض عليه، وحمله إلى القلعة بفارس، فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة، فأطلقه شرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة، واستصحبه في حملته حين قدم إلى بغداد وملك الحضرة.

ص: 755

كان مولده في سنة أربع وثلاثمائة، وتوفي ليلة السبت لخمس بقين من جمادى الأولى، في سنة أربعمائة، وله سبع وتسعون سنة رحمه الله تعالى.

وأمّا والدة الشريف المرتضى فهي فاطمة بنت الحسين بن أحمد بن الحسن الناصر إلّاصم صاحب الديلم، وهو أبو محمّد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر إلّاشرف بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام، وسيأتي ذكره في ترجمة إبنه أبي الحسن علي بن أبي محمّد الناصر، وهي أم أخيه أبي الحسن الرضي رحمه الله تعالى.

وكان الشريف المرتضى قدس الله روحه أوحد زمانه فضلاً وعلماً وفقهاً وكلاماً وحديثاً وشعراً وخطابةً وكرماً وجاهاً إلى غير ذلك.

قال ابن بسام الآندلسي في أواخر كتاب (الذخيرة) في وصفه: كان هذا الشريف إمام أئمة العراق بين الإختلاف وإلّاتفاق .. إليه فزع علماؤها، وعنه أخذ عظماؤها .. صاحب مدارسها، وجماع شاردها وآنسها، ممّن سارت أخباره، وعرفت به أشعاره، وحمدت في دين الله مأثوره وآثاره، إلى توإليَّفه في الدين، وتصانيفه في أحكام المسلمين، ما يشهد أنّه فرع ذلك إلّاصل إلّاصيل، ومن أهل ذلك البيت الجليل.

ولد رحمه الله في رجب سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وقرأ هو وأخوه الرضيّ على ابن نباتة صاحب الخطب الآتي ذكره، وهما طفلان، ثُمَّ قرأ كلاهما على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان قدس الله روحه.

ص: 756

وكان المفيد رحمه الله رأى في منامه فاطمة الزهراء علیها السلام بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ، ومعها ولداها الحسن والحسين علیهما السلام صغيرين، فسلّمتهما إليه، وقالت له: علّمهما الفقه، فانتبه متعجباً من ذلك، فلمّا تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا، دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر، وحولها جواريها، وبين يديها إبناها عليّ المرتضى ومحمّد الرضي صغيرين، فقام إليها وسلّم عليها، فقالت له: أيّها الشيخ هذان ولداي، قد أحضرتهما إليك لتعلّمهما الفقه، فبكى الشيخ، وقصَّ عليها المنام.

وتولّى تعليمهما، وأنعم الله عليهما، وفتح لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا، وهو باق ما بقي الدهر.

وذكر الشيخ الشهيد في أربعينه قال: نقلت من خط الفاضل السيد العالم صفي الدين محمّد بن محمّد الموسوي في المشهد المقدس الكاظمي في سبب تسمية الشريف المرتضى بعلم الهدى، أنّه مرض الوزير أبو سعيد محمّد بن آشين بن عبد الصمد سنة عشرين وأربعمائة، فرأى في منامه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام وهو يقول له: قل لعلم الهدى يقرأ عليك حتّى تبرأ، فقال يا أمير المؤمنين ومن علم الهدى؟ فقال: علي بن الحسين الموسوي، فكتب الوزير إليه بذلك، فقال المرتضى: الله الله في أمري، فإن قبولي لهذا اللقب شناعة عليّ.

ص: 757

فقال الوزير: ما كتبت إليك إلّا بما لقّبك به جدك أمير المؤمنين علیه السلام، فعلم القادر الخليفة بذلك، فكتب إلى المرتضى: تقبّل يا علي بن الحسين ما لقّبك به جدك أمير المؤمنين، قال فقبل وأسمع النّاس.

وكان رحمه الله نحيف الجسم حسن الصورة، وكان يدرّس في علوم كثيرة، ويجري على تلامذته رزقاً، فكان للشيخ أبي جعفر الطوسي رضوان الله عليه أيّام قراءته عليه كل شهر إثني عشر ديناراً، وللقاضي إبن البراج كل شهر ثمانية دنانير.

وأصاب النّاس في بعض السنين قحط شديد، فاحتال رجل يهودي على تحصيل قوت يحفظ به نفسه، فحضر يوماً مجلس المرتضى، وسأله أن يأذن له في أن يقرأ عليه شيئاً من علم النجوم، فأذن له وأمر له بجراية تجري عليه كل يوم، فقرأ عليه برهة ثُمَّ أسلم على يديه، وكان قد وقف قرية على كاغد الفقهاء.

وكان يلقب بالثمانيني؛ لأنّه أحرز من كل شيء ثمانين، حتّى أن مدة عمره كانت ثمانين سنة وثمانية أشهر.

وتولّى نقابة النقباء، وإمارة الحاج والمظالم، بعد وفاة أخيه الرضيّ أبي الحسن رحمه الله، وهو منصب والدهما.

قال أبو الحسن العمري: إجتمعت بالشريف المرتضى سنة خمس وعشرين وأربعمائة ببغداد، فرأيته فصيح اللسان يتوقد ذكاءً.

ص: 758

وحضر مجلسه أبو العلاء المعرّي ذات يوم، فجرى ذكر أبي الطيب المتنبّي، فنقصه الشريف المرتضى، وعاب بعض أشعاره، فقال أبو العلاء المعرّي لو لم يكن لأبي الطيب إلّا قوله: (لكِ يا منازل في القلوب منازلٌ) لكفاه، فغضب الشريف وأمر بالمعرى فسُحب وأخرج، فتعجب الحاضرون من ذلك، فقال لهم الشريف: أعلمتم ما أراد إلّاعمى؟ إنّما أراد قوله:

وإذا أتتك مذمّتي من ناقصٍ *** فهي الشهادة لي بأنّي كاملُ

وحكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي اللغوي، أن أبا الحسن علي بن محمّد بن علي بن سلك الغالي الأديب، كانت له نسخة من كتاب (الجمهرة) لإبن دريد في غاية الجودة، فدعته الحاجة إلى بيعها، فاشتراها الشريف المرتضى بستين دينار، فتصفّحها فوجد فيها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن الفإليَّ وهي:

أنست بها عشرين حولاً وبعتها *** لقد طال وجدي بعدها وحنيني

وما كان ظنّي أنني سأبيعها *** ولو خلّدتني في السجون ديوني

ولكن بضعف وافتقار وصبية *** صغار عليهم تستهل عيوني

فقلت ولم أملك سوابق عبرة *** مقالة مكويّ الفؤاد حزين

وقد تخرج الحاجات يا أمَّ مالك *** كرائم من ربٍّ بهن ضنين

فردّ عليه النسخة، وسمح له بالثمن.

ص: 759

وحُكي عن الشريف المرتضى رحمه الله أنّه كان جالساً في مجليّة له تشرف على الطريق، فمرّ به إبن المطرز الشاعر، يجرّ نعلاً له بالية، وهي تثير الغبار، فأمر بإحضاره، وقال له: أنشدني أبياتك التي تقول منها:

إذا لم تبلّغني إليكم ركائبي *** فلا وردت ماءً ولا رعت العشبا

فأنشده إيّاها، فلمّا انتهى إلى هذا البيت أشار الشريف إلى نعله البالية، وقال: هذه كانت من ركائبك، فأطرق إبن المطرز ساعة، ثُمَّ قال: لما عادت هبات سيدنا الشريف إلى مثل قوله:

وخذا النوم من جفوني فإنّي *** قد خلعت الكرى على العشاق ِ

عادت ركائبي إلى مثل ما يرى، فإنّه خلع ما لا يملك على من لا يقبل، فاستحيا الشريف ووصله.

قال المؤلف عفا الله عنه: إبن مطرز المذكور هو أبو القاسم عبد الواحد بن محمّد الشاعر، ذكره الثعالبي في ذيل اليتيمة، وأنشد له - وهو من جيد الشعر -:

سرى مغرماً بالعيس ينتجع الركبا *** يسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا

إذا لم تبلغني إليكم ركائبي *** فلا وردت ماءً ولارعت العشبا

على عذبات الجزع من ماء تغلب *** غزال يرى ماء العيون له شربا

إذا ملأ البدر العيون فإنّه *** لعينك بدر يملأ العين والقلبا

ص: 760

وأورد له شعراً كثيراً أغلبه جيد حسن.

وإمّا بيت الشريف المرتضى الذي أشار إليه ابن المطرز فهو من أبيات مشهورة له رضى الله عنه وهي:

يا خليليَّ من ذؤابة قيس *** في التصابي رياضة الأخلاق ِ

علّلاني بذكرها تطرباني *** واسقياني دمعي بكاس دهاق

وخذا النوم من جفوني فإنّي *** قد خلعت الكرى على العشاق

وملح سيدنا الشريف المرتضى رحمه الله ومحاسنه كثيرة جداً.

وذكر أبو القاسم بن فهد الهاشمي في تأريخه إتحاف الورى بأخبار أمّ القرى، في حوادث سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، قال: فيها حجّ الشريف المرتضى والرضيُّ، فاعتقلهما في أثناء الطريق إبن الجرّاح الطائي، فأعطياه تسعة آلاف دينار من أموالهما.

وللشريف المرتضى مصنفات كثيرة منها: كتاب (الشافي في الإمامة)، وهو كتاب لم يصنف مثله في الأصول، وكتاب (الذخيرة)، وكتاب (جمل العلم والعمل)، وكتاب (تنزيه الأنبياء)، وكتاب (الصرفة)، وكتاب (الذريعة في الأصول)، وكتاب (الغرر والدرر)، وكتاب (المقنع في الغيبة)، وكتاب (الخلاف في أصول الفقه)، وكتاب (الملخص في أصول الدين)، وكتاب (الإنتصار)، وكتاب (الشيب والشباب)، وكتاب

ص: 761

(الطيف والخيال)، وكتب أخرى في المسائل وغير ذلك، وديوان شعره يزيد على عشرين ألف بيت.

وذكر أبو القاسم التنوخي صاحب الشريف قال: حصرنا كتبه فوجدناها ثمانين ألف مجلد من مصنفاته ومحفوظاته ومفرداته.

وقال الثعالبي في كتاب (اليتيمة): أنّها قوّمت بثلاثين ألف دينار، بعد أن أهدى إلى الرؤساء والوزراء منها شطراً عظيماً.

وكانت وفاته لخمس بقين من شهر ربيع الأوّل، سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وصلّى عليه إبنه أبو جعفر محمّد، وتولى غسله أبو الحسين أحمد بن الحسين النجاشي، ومعه الشريف أبو يعلى محمّد بن الحسن الجعفري، وسلار بن عبد العزيز الديلمي، ودفن أوّلاً في داره، ثُمَّ نُقل منها إلى جوار جده الحسين علیه السلام، فدفن في مشهده مع أبيه وأخيه، وقبورهم ظاهرة مشهورة قدس الله أرواحهم الطاهرة.

ولنورد الآن من منظوم كلامه الرفيع الشأن، ما يهزُّ له السامع عطف إلّاستحسان، فمن ذلك قوله من قصيدة، قال الثعالبي: وهو ممّا يُسكر بلا شرب، ويُطرب بلا سماع:

أحبّ ثرى نجد ونجد بعيدة *** إلّا حبذا نجد وإن لم تفد قربا

يقولون نجد لست من شعب أهلها *** وقد صدقوا لكنّني منهم حبّا

ص: 762

كأنّي وقد فارقت نجداً شقاوة *** فتى ضلَّ عنه قلبه ينشد القلبا

وقوله في أخرى:

ولقد زادني عشية جمع *** منكم زائر على الآكام ِ

بات أشهي إلى الجفون وأحلى *** في منامي غب السرى من منامي

كدت لما حللت بين تراقيه *** حراماً أحلّ من إحرامي

وسقاني من ريقه فسقاني *** من زلال مصفق بمدام

صدَّ عني بالنزر إذ أنا يقظان *** وأعطى كثيره في المنام

والتقينا كما اشتهينا ولا عيب *** سوى أن ذاك في إلّاحلام

وإذا كانت الملاقاة ليلاً *** فالليإليَّ خيرٌ من الأيّام ِ

وقوله من قصيدة طويلة:

أترى يؤب لنا إلأبيرق *** والمنى للمرء شغلُ

طلل لعزّة لا يزال *** على ثراه دمٌ يطلّ

قتلوا و ما قتلوا وعند *** هم لنا قود وعقل

قل للذين على مواعدهم *** لنا خلف ومطل

ص: 763

كم ضامني من لا أضيم *** وملّني من لا أملّ

يا عاذلاً لملامه *** كلٌّ على سمعي وثقل

ان كنت تأمر بالسلو *** فقل لقلبي كيف يسلو

قلبى رهين في الهوى *** إن كان قلبك منه يخلو

ولقد علمت على الهوى *** أنّ الهوى سقم وذلُّ

وتعجبت جمل لشيب *** مفارقي وتشيب جمل

ورأت بياضاً في سواد *** ما رأته هناك قبل

كذبالة رفعت على *** الهضبات للسارين ضلّوا

لا تنكريه سويب غيرك *** فهو للجهلات غلّ

وله قدس الله سره:

مولاي يا بدر كل داجية *** خذ بيدي قد وقعت في اللجج ِ

حسنك ما تنقضي عجائبه *** كالبحر حدّث عنه بلا حرج

بحقِّ من خط عارضيك ومن *** سلّط سلطانها على المهج

مدّ يديك الكريمتين معاً *** ثُمَّ ادع لي من هواك بالفرج

ص: 764

وقوله:

ولما تفرّقنا كما شاءت النوى *** تبيّن ودٌّ خالص وتوددُ

كأنّي وقد سار الخليط عشية *** أخو جنّة مما أقوم وأقعد

وله من قصيدة:

إلّا يا نسيم الريح من أرض بابل *** تحمّل إلى أهل الخيام سلامي

وقل لحبيب فيك بعض نسيمه *** أما آن أن تسطيع رجع كلامي

رضيت ولولا ما علمتم من الجوى *** لما كنت أرضى منكم بلمام

وإنّي لأرضى أن أكون بأرضكم *** على أنني منها استفدت سقامي

وقوله:

بيني وبين عواذلي *** في الحب أطراز الرماحِ

أنا خارجيٌّ في الهوى *** لا حكم إلّا للملاحِ

وقوله:

قل لمن خدّه من اللحظ دامٍ *** رقَّ لي من جوانح فيك تدمى

يا سقيم الجفون من غير سقم *** لا تلمني إنْ متُّ منهن سقما

ص: 765

أنا خاطرت في هواك بقلب *** ركب البحر فيك إمّا وإمّا

وقوله من قصيدة:

قل لمعزٍ بالصبر وهو خلي *** وجميل العذول ليس جميلا

ما جهلنا أن السلوّ مريح *** لو وجدنا إلى السلوّ سبيلا

وقوله من مقطوع في الشيب:

يقولون لا تجزع من الشيب ضلّة *** وأسهمه إياي دونهم تهمي

وقالوا أتاه الشيب بالحلم والحجى *** فقلت بما يبري ويعرف من لحمي

وما سرّني حلم يفئ إلى الردى *** كفانيَ ما قبل المشيب من الحلم

إذا كان يعطيني من الحزم سالباً *** حياتي فقل لي كيف ينفعني حزمي

وقد جربت نفسي الغداة وقاره *** فما شدّ من وهني ولا سدَّ من ثلمي

وإنّي مذ أضحى عذاري قراره *** أعاد بلا سقم وأجفى بلا جرم

وسيّان بعد الشيب عند حبائبي *** وقفن عليه أم وقفن على رسمي

وفى هذا المقدار من محاسن شعره كفاية، إذ كان جميعها ليس له نهاية.

ص: 766

الشريف الرضيُّ

أبو الحسن محمّد بن أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي، أخو الشريف المرتضى المذكور قبله.

كان يلقب بالرضيِّ ذي الحسبين، لقّبه بذلك الملك بهاء الدولة، وكان يخاطبه بالشريف الأجل.

مولده سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ببغداد.

كان فاضلاً عالماً شاعراً مبرزاً.

ذكره الثعالبي في اليتيمة فقال: إبتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز العشر سنين بقليل، وهو اليوم أبرع أبناء الزمان، وأنجب سادات العراق، يتحلّى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر، وفضل باهر، وحظٍّ من جميع المحاسن وافر.

ثُمَّ هو أشعر الطالبيين، من مضى منهم ومن غبر، على كثرة شعرائهم المفلقين، ولو قلت إنّه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أجريه من ذكره شاهد عدل، من شعره العإليَّ القدح، الممتنع عن القدح، الذي يجمع إلى السلامة متانة، والى السهولة رصانة، ويشتمل على معان يقرب جناها ويبعد مداها.

كان أبوه يتولّى نقابة الطالبين، والحكم فيهم أجمعين، والنظر في المظالم والحجّ بالنّاس، ثُمَّ ردت هذه الأعمال كلّها إليه في سنة ثمانين وثلاثمائة، وأبوه حيٌّ.

ص: 767

وذكره أبو الحسن الباخرزي في دمية القصر فقال: له صدر الوسادة بين الأئمّة والسادة، وأنا إذا مدحته كنت كمن قال لذكاء: ما أنورك! ولخضارة ما أغزرك!، وله شعر إذا أفتخر به أدرك به من المجد أقاصيه، وعقد بالنجم نواصيه، وإذا نسب انتسبت الرقّة إلى نسيبه، وفاز بالقدح المعلّى من نصيبه، حتّى إذا أنشده الراوي بين يدي الغرهاة، قال له من الغر: هات، وإذا وصف فكلامه في إلّاوصاف أحسن من الوصائف الوصاف، وإن مدح تحيرت الأوهام بين مادح وممدوح له، بين المتراهنين في الحلبة سبق سابح مروح، وان نثر حمدت منه إلّاثر، ورأيت هناك خرزات من العقد نفض، وقطرات من المزن ترفض.

ولعمري إن بغداد قد أنجبت به، فبوّأته ظلالها، وأرضعته زلالها، وأنشقته شمالها.

وورد شعره دجلتها فشرب منها حتّى شرق، وانغمس فيها حتّى كاد أن يقال غرق، وهو وأخوه في دوحة السيادة ثمران، وفي فلك الرياسة قمران.

وأدب الرضيّ إذا قرن بعلم المرتضى كان فرنداً في متن الصارم المنتضى.

قال الخطيب في تاريخ بغداد: سمعت أبا عبد الله الكاتب، بحضرة أبي الحسن بن محفوظ، وكان أوحد الرؤساء قال: سمعت جماعة من أهل العلم بإلّادب يقولون: الرضيُّ أشعر قريش، فقال إبن محفوظ: هذا صحيح، وقد كان في قريش من يجيد القول إلّا أن شعره قليل، فأمّا مجيد ومكثر فليس إلّا الرضيُّ.

ص: 768

وكان الرضيُّ قد حفظ القرآن بعد أن جاوز الثلاثين سنة في مدة يسيرة، وكان عارفاً بالفقه والفرائض معرفة قوية.

وأمّا اللغة والعربية فكان فيهما إماماً، وله من التصانيف كتاب (المتشابه في القرآن)، وكتاب (حقائق التنزيل)، وكتاب (تفسير القرآن)، وكتاب (مجازات إلّاثار النبوية)، وكتاب (تعليق خلاف الفقهاء)، وكتاب (تعليقة إلّايضاح لأبي علي)، وكتاب (خصائص الأئمّة)، وكتاب (نهج البلاغة)، وكتاب (تلخيص البيان في مجازات القرآن)، وكتاب (الزيادات في شعر أبي تمّام)، وكتاب (سيرة والده الطاهر)، وكتاب (إنتخاب شعر إبن الحجّاج)، وكتاب (مختار شعر أبي إسحق الصابي)، وكتاب (ما دار بينه وبين أبي إسحق من الرسائل)، ثلاث مجلدات، وكتاب (ديوان شعره)، يدخل في أربع مجلدات.

قال أبو الحسن العمري: رأيت تفسيره للقرآن، فرأيته من أحسن التفاسير، يكون في كبر تفسير أبي جعفر الطوسي، أو أكبر.

وكانت له هيبة وجلالة، وفيه ورع وعفة وتقشف، ومراعاة للأهل والعشيرة، وهو أوّل طالبيّ جعل عليه السواد.

وكان عإليَّ الهمّة شريف النفس، لم يقبل من أحد صِلة ولا جائزة، حتّى أنّه ردّ صِلات أبيه، وناهيك بذلك شرف نفس وشدّة صلف.

ص: 769

وأمّا الملوك من بني بويه، فإنهم اجتهدوا على قبوله صِلاتهم فلم يقبل، وكان يرضى بالإكرام، وصيانة الجانب، وإعزاز الأتباع والأصحاب.

وذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ، في وفاة الشيخ أبي إسحق إبراهيم بن أحمد بن محمّد الطيربي، الفقيه المالكي، قال: كان شيخ الشهود المعدولين ببغداد ومتقدّمهم، وكان كريماً مفضلاً على أهل العلم، وقرأ عليه الشريف الرضيُّ القرآن، وهو شاب حدث، فقال يوماً من الأيّام للشريف: أين مقامك؟ قال: في دار أبي بباب محول، فقال: مثلك لا يقيم بدار أبيه، قد نحلتك داري بالكرخ، المعروفة بدار البركة، فامتنع الرضيُّ من قبولها، وقال له: لم أقبل من أبي قطّ شيئاً، فقال: إن حقّي عليك أعظم من حقّ أبيك عليك؛ لأنّي حفّظتك كتاب الله، فقبلها، وكان يلتهب ذكاء وحدّة ذهن من صغره.

ذكر أبو الفتح ابن جنّي في بعض مجاميعه قال: أُحضر الرضيُّ إلى ابن السيرافي النحوي، وهو طفل جداً لم يبلغ عمره عشر سنين، فلقّنه النحو، وقعد عنده يوماً في الحلقة، فذاكره شيئاً من إلّاعراب، على عادة التعليم، فقال له: إذا قلنا رأيت عمراً، فما علامة النصب في عُمَر؟ فقال له الرضيُّ: بُغض عليٍّ، فتعجّب السيرافي والحاضرون من حدّة خاطره.

وحكى أبو الحسن العمري قال: دخلت على الشريف المرتضى، فأراني أبياتاً قد عملهما وهي:

ص: 770

سرى طيف سعدى طارقاً فاستفزني *** هبوباً وصحبي في الفلاة هجودُ

فلمّا انتهىنا للخيال الذي سرى *** إذ الدار قفرى والمزار بعيد

فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي *** لعلَّ خيإلّا طارقاً سيعود

فخرجت من عنده ودخلت على أخيه الرضيّ رضوان الله عليه، فعرضت عليه الأبيات فقال بديهاً:

فردّت جواباً والدموع بوادرٌ *** وقد آن للشمل المشتّ ورودُ

فهيهات من لقيا حبيب تعرضت *** لنا دون لقياه مهامة بيد

فعدت إلى المرتضى بالخبر، فقال يعزّ عليّ أخي، قتله الذكاء، فما كان إلّا يسيراً حتّى مضى الرضيُّ لسبيله.

وذكر أبو الحسين بن الصابي، وابنه غرس النعمة في تاريخهما: أن القادر بالله عقد مجلساً أحضر فيه الطاهر أبا أحمد الموسوي، وابنه أبا القاسم المرتضى، وجماعة من القضاة والشهود، وأبرز لهم أبيات الرضيّ أبي الحسن رضي الله عنه التي أوّلها:

ما مقامي على الهوان وعندي *** مقول صارم وأنف حميُّ

وإباء محلق بي عن الضيم *** كما راع طائراً وحشيُّ

ص: 771

أيّ عذر له إلى المجد إذا *** ذلَّ غلام في غمده المشرفيُّ

أحمل الضيم في بلاد إلّاعادي *** وبمصر الخليفة العلويُّ

من أبوه أبي ومولاه مولاي *** إذا ضامني البعيد القصيُّ

لفّ عرقي بعرقه سيدا النّاس *** جميعاً محمّدٌ وعليُّ

إنّ ذلي بذلك الجو عزٌّ *** وأوامي بذلك الصقع ريُّ

قد يذلُّ العزيز ما لم يشمّر *** لانطلاق وقد يضام الأبيُّ

إنّ شراً عليَّ إسراع عزمي *** في طلاب العلى وحظّي بطيّ

أرضىً بإلّاذى ولم يقف ال *** عزم قصوراً ولم تعز المطيّ

تاركاً أسرتي رجوعا إلى *** حيث غديري قذى ورعيي ربيّ

كالذي يخبط الظلام وقد *** أقمر من خلفه النهار المضيّ

وقال الحاجب عن لسان الخليفة للنقيب أبي أحمد: قل لولدك محمّد: أيّ هوان قد أقام عليه عندنا؟، وأيّ ذلّ أصابه في ملكنا؟، وما الذي يعمل معه صاحب مصر لو مضى إليه؟، أكان يصنع إليه أكثر من صنيعنا ؟، ألم نولّه النقابة؟ ألم نولّه المظالم؟ ألم نستخلفه على الحرمين والحجاز وجعلناه أمير الحجيج؟ فهل يحصل له من

ص: 772

صاحب مصر أكثر من هذا؟ ما نظنه يكون لو حصل عنده إلّا واحداً من أفناء الطالبيين بمصر.

فقال النقيب أبو أحمد: أمّا هذا الشعر فمّما لم نسمعه منه، ولا رأيناه بخطّه، ولا يبعد أن يكون بعض أعدائه نحله إيّاه وعزاه إليه.

فقال القادر: إن كان كذلك فليكتب محضر يتضمن القدح في أنساب ولاة مصر، ويكتب محمّد خطّه فيه؛ فكتب محضر بذلك، وشهد فيه جميع من حضر المجلس، منهم النقيب أبو أحمد وابنه المرتضى.

وحُمل المحضر إلى الرضيّ ليكتب خطّه فيه .. حمله إليه أبوه وأخوه، فامتنع من سطر خطّه، وقال: لا أكتب وأخاف من دعاة مصر، وأنكر الشعر، وأقسم أنّه ليس بشعره، وأنّه لا يعرفه، فأجبره أبوه على أن يسطّر خطّه في المحضر، فلم يفعل، وقال: أخاف دعاة المصريين وغيلتهم لي، فإنّهم معروفون بذلك.

فقال له أبوه: يا عجباه أتخاف من بينك وبينه ستمائة فرسخ ولا تخاف من بينك وبينه مائة ذراع؟!، وحلف أن لا يكلّمه، وكذلك المرتضى فعل ذلك، تقية وخوفاً من القادر وتسكيناً له.

ولما انتهى الأمر إلى القادر سكت على سوء أضمر له، وبعد ذلك بأيّام صرفه عن النقابة، وكان الطائع لله أكثر ميلاً إلى الرضيّ من القادر، وكان هو أشدّ حبّاً وأكثر ولاءً للطائع منه للقادر، وهو القائل للقادر في قصيدته التي مدحه بها:

ص: 773

عطفاً أمير المؤمنين فإنّنا *** في دوحة العلياء لا نتفرقُ

ما بيننا يوم الفخار تفاوت *** أبداً كلانا في المعالي معرق

إلّا الخلافة ميزتك فإنّني *** أنا عاطل منها وأنت مطوق

فيقال: أن القادر قال له: على رغم أنف الشريف.

وحضر يوماً مجلس القادر فجعل يشمّ لحيته، فقال القادر: أظنّك تشمّ منها رائحة الخلافة، فقال: لا بل رائحة النبوّة، فاهتزّ القادر لهذا الجواب.

وكان الرضيُّ لعلو همته وشرف نفسه تنازعه نفسه إلى الخلافة، وكان ربّما يحبس بذلك خاطره، وينظمه في شعره، ولا يجد من الدهر عليها مساعدة، فيذوب كمداً ويفنى وجداً، حتّى توفي رحمه الله، ولم يبلغ غرضاً، فمن ذلك قوله:

ما أنا للعلياء إن لم يكن *** من ولدي ما كان من والدي

وما مشت بي الخيل إذا لم اطأ *** سرير هذا إلّاغلب الماجد

فإن أنلها فكما رمته *** أو لا فقد يكذبني رائدي

والغاية الموت فما فكرتي *** أسايقي أصبح أم قائدي

وقوله، يعنى نفسه:

فيا عجباً مما يظن محمّد *** وللظنّ في بعض المواطن غرّار

ص: 774

يقدر أن الملك طوع يمينه *** ومن دون ما يرجو المقدر أقدار

له كل يوم منية وطماعة *** ونبذ قريض بالأماني سيّار

لئن هو أعفى للخلافة لمّة *** لها طرر فوق الجبين وأطرار

وأبدى لنا وجهاً نقياً كأنّه *** وقد نقشت فيه العوارض دينار

ورام العلى بالشعر والشعر دائباً *** ففي النّاس شعر خاملون وشعّار

وإنّي أرى زنداً تواتر قدحه *** ويوشك يوماً أن تشبّ له نار

وقوله مثل ذلك:

هذا أمير المؤمنين محمّد *** كرمت مغارسه وطاب المولدُ

أو ما كفاك بأن أمّك فاطم *** وأباك حيدرةٌ وجدّك أحمدُ

يمسي ومنزل ضيفه لا يحتوي *** كرماً وبيت نضاره لا يقلد

وفى شعره الكثير الواسع من هذا النمط.

وكان إسحق بن إبراهيم بن هلال الصابي صديقاً له، وكان يطمعه في الخلافة، ويزعم أن طالعه يدلّ على ذلك، وكتب إليه في هذا النمط:

أبا حسن لي في الرجال فراسة *** تعودت منها أن تقول فتصدقا

ص: 775

وقد خبرتني عنك أنّك ماجد *** سترقى من العلياء أبعد مرتقى

فوفّيتك التعظيم قبل أوانه *** وقلت أطال الله للسيد البقا

وأضمرت منه لفظة لم أبح بها *** إلى أن أرى إظهارها لي مطلقا

فإن عشت أو إن متّ فاذكر بشارتي *** وأوجب بها حقّاً عليك محققاً

وكن لي في الأولاد وإلّاهل حافظاً *** إذا ما اطمأن الجنب في مضجع البقا

فاجابه الرضيّ بقصيدة طويلة، يعده فيها بإبلاغه آماله إن ساعده الدهر وتمّ المراد، وأوّلها:

سننت لهذا الرمح غرباً مذلّقا *** وأجريت في ذا الهندوانيّ رونقا

وسوّمت ذا الطرف الجواد وإنّما *** شرعت له نهجاً فخبّ وأعنقا

لئن برقت منّي مخائل عارض *** لعينيك تقضي أن يجود ويغدقا

فليس بساقٍ قبل ربعك مربعاً *** وليس براقٍ قبل جوّك مرتقى

وحكي أنّه لما شاعت أبيات الصابي المذكورة أنكرها، وقال: إنّما عملتها في أبي الحسن على بن عبد العزيز، كاتب الطائع بالله، وما كان الأمر كما ادّعاه، ولكنه خاف على نفسه.

ص: 776

وحكى أبو إسحق الصابي قال: كنت عند الوزير أبو محمّد المهدي ذات يوم، فدخل الحاجب واستأذن للشريف المرتضى، فأذن له، فلمّا دخل قام إليه وأكرمه، وأجلسه معه في دسته، وأقبل عليه يحدّثه حتّى فرغ من حكايته ومهماته، ثُمَّ قال: فقام وودعه وخرج.

فلم تكن ساعة حتّى دخل الحاجب واستأذن للشريف الرضيّ، وكان الوزير قد ابتدأ بكتابة رقعة فألقاها، ثُمَّ قام كالمندهش حتّى استقبله من دهليز الدار، وأخذ بيده وأعظمه، وأجلسه في دسته، ثُمَّ جلس بين يديه متواضعاً، وأقبل عليه بجميعه، فلمّا خرج الرضيّ خرج معه وشيّعه إلى الباب ثُمَّ رجع.

فلمّا خفّ المجلس قلت: أيأذن الوزير لي أعزّه الله تعالى أن أسأله عن شيء، قال: نعم، وكأنّك تسأل عن زيادتي في إعظام الرضيِّ على أخيه المرتضى، والمرتضى أسنُّ وأعلم؟ فقلت: نعم أيّد الله الوزير، فقال: إعلم أنّا أمرنا بحفر النهر الفلاني، وللشريف المرتضى على ذلك النهر ضيعة، فتوجّه عليه من ذلك مقدار ستة عشر درهماً، أو نحو ذلك، فكاتبني بعدّة رقاع يسأل في تخفيف ذلك المقدار عنه.

وأمّا أخوه الرضيُّ فبلغني ذات يوم أنّه ولد له غلام، فأرسلت إليه بطبق فيه ألف دينار، فردّه وقال: قد علم الوزير أنّي لا أقبل من أحد شيئاً فرددته، وقلت: إنّي إنّما أرسلته للقوابل فردّه ثانية وقال: قد علم الوزير أنّا أهل بيت لا يطّلع على أحوالنا قابلة غريبة، وإنّما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا، ولسن ممّن يأخذن أجرة، ولا يقبلن صلة، فرددته إليه وقلت: يفرقه الشريف على ملازميه من طلبة العلم،

ص: 777

فلمّا جاءه الطبق وحوله الطلبة قال: ها هم حضور فليأخذ كل أحد ما يريد، فقام رجل وأخذ ديناراً فقرض من جانبه قطعة وأمسكها، وردّ الدينار إلى الطبق، فسأله الشريف عن ذلك، فقال: إنّي احتجت إلى دهن السراج ليلة، ولم يكن الخازن حاضراً، فاقترضت من فلان البقال دهناً، فأخذت هذه القطعة لأدفعها إليه عوض دهنه.

وكان طلبة العلم الملازمون للشريف الرضيّ في دار قد اتخذها لهم، سمّاها دار العلم، وعيّن لهم فيها جميع ما يحتاجون إليه، فلمّا سمع الرضيُّ أمر في الحال أن يتّخذ للخزانة مفاتيح بعدد الطلبة، ويدفع إلى كل منهم مفتاحاً، ليأخذ ما يحتاج إليه ولا ينتظر خازناً يعطيه، وردّ الطبق على هذه الصورة، فكيف لا أعظم من هذه حاله.

ولذلك كان الرضيُّ يُقدّم على المرتضى؛ لمحلّه في نفوس العامّة والخاصّة، وكان الرضيُّ ينسب إلى آلافراط في عقاب الجاني من أهله، وله في ذلك حكايات.

منها أن امرأة علويّة شكت إليه زوجها، وإنّه يقامر بما يحصّله من حرفة يعانيها، وأن له أطفالاً، وهو ذو عيلة وحاجة، وشهد لها من حضر بالصدق فيما ذكرت، فاستحضره الشريف، وأمر به فبُطح، وأمر بضربه، فضُرب، والمرأة تنتظر أن يكفَّ، والأمر يزيد حتّى جاوز ضربه مائة خشبة، فصاحت المرأة: وايتم أولادي، كيف تكون حالنا إذا مات هذا؟ فقال لها الشريف: ظننتُ أنّك تشكيه إلى المعلم.

ورأيت في ديوانه أنّه بلغه عن قوم من أعدائه، قالوا لبهاء الدولة: قد جرت عادة الرضيُّ بإنشاده الخلفاء شعره، وإنّه إنّما يتكبّر عليك في ترك الآنشاد، وكذبوا في

ص: 778

ذلك؛ لأنّه لم ينشد قطّ ممدوحاً، وهذه فضيلة تفرّد فيها عن الشعراء، فكتب بهذه الأبيات إليه مع قصيدة في كتاب:

جناني شجاع إن مدحت وإنّما *** لساني إذا سيم النشيد جبانُ

وما ضرّ قوالاً أطاع جنانه *** إذا خانه عند الملوك لسان

وربَّ حييٍّ في السلام وقلبه *** وقاح إذا لفّ الجياد طعان

وربّ وقاح الوجه تحمل كفَّه *** أنامل لم يقرع بهن عنان

وفخر الفتى بالقول لا بنشيده *** ويروي فلان مرّة وفلان

وحكى بعضهم قال: إجتاز بعض الأدباء بدار الشريف الرضيِّ ببغداد وهو لا يعرفها، وقد أخنى عليها الزمان، وذهبت بهجتها، وخلقت ديباجتها، وبقايا رسومها تشهد لها بالنظارة وحسن الشارة، فوقف عليها متعجباً من صروف الزمان وطوارق الحدثان، وتمثّل بقول الشريف الرضيِّ المذكور:

ولقد وقفت على ربوعهم *** وطلولها بيد البلا نهبُ

فوقفت حتّى ضجَّ من لغب *** نضوي ولجَّ بعذليَ الركب

وتلفتت عيني فمذ خفيت *** عنّي الطلول تلفّت القلب

ص: 779

فمرَّ به شخص وهو ينشد الأبيات، فقال له: هل تعرف هذه الدار لمن؟ فقال: لا، فقال: هذه الدار لصاحب الأبيات الشريف الرضيّ؛ فتعجب من حسن إلّاتفاق.

ومثل هذه الحكاية ما ذكره الحريري في كتاب (درّة الغوّاص في أوهام الخواص)، وهو ما رواه، أن عبيد بن شرية الجرهمي عاش ثلاثمائة سنة، وأدرك الإسلام فأسلم، فدخل على معاوية بن أبي سفيان بالشام وهو خليفة، فقال: حدّثني بأعجب ما رأيت، فقال: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتاً لهم، فلمّا انتهىت إليهم إغروقت عيناي بالدموع، فتمثلت بقول الشاعر:

يا قلب إنّك من أسماء مغرورُ *** فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكيرُ

قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد *** حتّى جرت لك إطلاقاً محاضير

فلست تدري وما تدري أعاجلها *** أدنى لرشدك أم ما فيه تأخير

فاستقدر الله خيراً وارضينَّ به *** فبينما العسر إذ دارت مياسير

وبينما المرء في إلّاحياء مغتبط *** إذا هو الرمس تعفوه إلّاعاصير

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه *** وذو قرابته في الحيّ مسرور

قال: فقال لي رجل: أتعرف من يقول هذا الشعر؟ فقلت: لا، فقال: إن قائله هو الذي دفناه الساعة، وأنت الغريب تبكي عليه، وهذا الذي خرج من قبره أمسّ النّاس رحماً

ص: 780

به وأسرّهم بموته، فقال له معاوية: لقد رأيت عجباً، فمن الميت؟ قال: عشير بن لبيد العذري.

قال المؤلف عفا الله عنه: ومع كثرة وجود ديوان الشريف الرضيّ رضی الله عنه فلا حاجة إلى إلّاكثار من شعره.

ولنذكر نبذة من إنشائه ومراسيله، فإنّه قليل الوجود، فمن ذلك قوله: (وإمّا فلان فما عندي أنّك تقرب عرضه إلّا شاماً صادقاً وذائقاً باصقاً، فأمّا أن تجعله لوكةً لفيك وعرضة لقوافيك، فتلك حالٌ أرفعك عن إلّاسعاف إليها والرضا بها، وأجلُّ سهمك أن يصيب غير غرضه، وحدّك أن يطيق غير مفصله، فما كلّ رمية يطرد فيها النبال، ولا كل فريسة ينشب فيها إلّاظفار).

فصل: (قد كاد الرسول يا أخي وسيدي أطال الله بقاك، من كثرة الترداد تتظلم قدماه، وكاد المرسل من امتداد الطرف لانتظاره تزور عيناه، فلا تجعل للّوم طريقا إليك، ولا للعتاب متسلقاً عليك، وكن مع مواصلتك إلبّاً على مقاطعتك، واحمل لمفارقتك كثيراً على مباعدتك، فإن ذلك أخصف لمعاقد العهود، وأعطف لتزلف القلوب).

فصل: (إن رأي السيد الشريف أطال الله بقاه، أن يلقي إليَّ طرفاً من حال سلامته، وما جدده الله تعالى من حسم شكايته، فحرام على جبيني الهدو إذا بنا جنبه، ومحصن على عيني الرقاد إذا سهر طرفه؛ لأن النفس واحدة، وإن اقتسمها جسمان، واستهم فيها جسدان، ولست أشكّ في هزيمة الداء ونقيصة إلّالم، لما أجده من سكون النفس

ص: 781

وطمأنينة القلب، ولو كان غير ذلك لعلقت نفسي لعلق قسيمتها، وتألّمت مهجتي لألم مساهمتها، والله يقيه ويقيني فيه إلّاسواء بمنّه وقدرته إن شاء الله).

فصل: (وراودت نفسي في إنفاذ رسول إليه، يسأله الحضور، ثُمَّ أضربت عزيمة الرأي خوفاً من إزعاجه في مثل هذا الوقت، ولئلا ينسبني إلى نقض الشرائط وفسخ العهود اللوازم؛ لأنّه يشارطني في ليلة يومنا هذا في داره، ولهذا كان عزمي في الآنفاذ إليه بين رأيين، جاذب إلى إمام، وممسك إلى وراء، الجاذب يحضّه الشوق ويحرضه النزاع إلى رؤيته فينجذب دأباً، والممسك ينتبه الوفاء بعهده والمحافظة على وده فيقف هائباً، والذي أمكنني عند غيبته أنّي حرمت القراءة على نظري، وصرفت مستأذن الحديث عن دخول سمعي، وفزعت إلى المضجع وإن كان نابياً لنبوة النوم، وإن كان نائباً لنابه، فإن رأى أدام الله عزه أن يجعل شخصه الكريم جواباً عن هذه إلّاحرف؛ لينشر من نسائمي ما انطوى لفراقه، ويطفئ من جناني ما اضطرم من نار أشواقه فعل، إن شاء الله تعالى.

فصل: (وإن اتسق الأمر الذي إلى الله أرغب في تمامه، وأسأل العون على لمّ شمله وتإليَّف نظامه، كان فلان عندي في المنزلة التي إن أسرف منها وجد النّاس جميعاً تحته، والمكان الذي إذا طمح فيه بطرفه لم ير أحدا من الرجال فوقه، والله يعين على مشاطرته كرائم النعماء، ويجعل الرشد مقروناً بصحبته في الدين والدنيا، إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه).

ص: 782

فصل: (قرأت ما كتب به مولاي إلّاستاذ أطال الله بقاه، وملكني إلّابتهاج ممّا وقفت عليه ممّن علم خبره، واقتسمتني أيدي إلّارتياح لما آنسته به من دوام سلامته، والله يقيه الهمّ ويكفيه الغمّ بمَنِّه وقدرته.

وإمّا خبري فأنا الآن في منزلة من العافية، بعد أن كنت في نازلة من المنزلة، وتحت ظل من السلامة بعد حصولي في هجير من عارض العلة، ولله الحمد على إلّابتلاء بالأوّل، والآنعام بالآخر.

ولولا شغلي بما ذكرت، وانغماسي فيما وصفت، لم أقنع نفسي بالتأخر عنه طول هذه المدة، مع السرور الذي يهفوني إليه، والجواذب التي تسرع بي نحوه، والله يحرسه ويحرسني فيه بمَنّه، إنّه وليُّ ذلك والقادر عليه).

فصل: (فإنّ رأى أطال الله مدّته أن يجيبني إلى ما التمسه، ويحتمل ما اقترحته، فإنّه أهل لنزول الحوائج به، وموضع لتكاثر المسائل عليه، فيما يسأل إلّا باذل، ولا يحمل إلّا حامل فعل إن شاء الله).

فصل: (إختلف ميعاد أو صدق بعاد، أعيذك أطال الله بقاك من ذلك، وعدتني أنّك بصيرا لتصف فيه عن قولك: أحشفاً وسوء كيلة؟! والمعنى بجميع هذا وذا لي وأخلفت، وأوعدتني أنّك تجازيني على ما فعلته بالقطيعة، وعادة الكريم إنجاز الوعد وإخلاف الوعيد، فإن لا بدّ فالصدق في كليهما ليتوارث الفعلان، ويعتدل الأمران،

ص: 783

ولا يكون الشر أغلب الطبيعتين عليك، والخير أنقص الحظين عندك، والذي أسألك - أدام الله عزّك - أن تسرع النهضة إليَّ، ولا تعجل الطلوع عليّ، إن شاء الله تعالى).

فصل: (لو شئت - أطال الله بقاك - لا تشمت الخجل من قبيح ما ترتكبه، وقعة بعد أخرى، وانا دائب أتلاقاك بالصعب والذلول، والدقيق والجليل، وأستميلك استمالة النافر، وأستعطفك استعطاف الشارد، وأداريك مداراة الولد والوالد، بل مداراة الناظر الرامد، وأنت ماض على غلوائك في البعد، وجارٍ على سننك في القطيعة والهجر، ولو رمت شرح جميع ما جرى منك لطال الكلام وكثر الخصام، والآن فإن الذي أسألك - أدام الله عزّك - أن تخرج من لباس الخلق الجافي، وتشرع في غدير الود الصافي، فإنّه أولى بك وأشبه بمثلك).

فصل: (إذا كان إنعام سيدنا الوزير - أطال الله بقاه - عريض إلّاكتاف بعيد إلّاقطار وإلّاطراف، ينال المحروم المرزوق سجله، ويسع القاصي والداني فضله، كان أحقّ من ضرب فيه بسهم، وآخذ منه بنصيب، وقسيم من سبقت منه خدمة وتوكدت له حرمة، وقد شمل أفضال سيدنا الوزير - أدام الله عزّه - أشكإليَّ وأمثإليَّ من أهل هذا البيت، وأنا أعوذ بعامر فضله أن يعريني الزمان من ملابس طوله، فإن رأى - حرس الله مدّته - أن ينعم عليّ بالتوقيع في معنى كيت وكيت فعل، إن شاء الله).

وكانت وفاته قدس الله روحه بكرة يوم إلّاحد لستٍّ خلون من المحرم، سنة ست وأربعمائة.

ص: 784

وحضر الوزير فخر الملك وجميع الأعيان والأشراف والقضاة جنازته والصلاة عليه، ودفن في داره بمسجد الآنباريين بالكرخ، ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد مولانا الكاظم موسى بن جعفر علیهما السلام؛ لأنّه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه، وصلّى عليه فخر الملك أبو غالب، ومضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى، إلى المشهد الشريف الكاظمي، فألزمه بالعود إلى داره، ثُمَّ نُقل الرضيُّ إلى مشهد الحسين علیه السلام بكربلاء، فدفن عند أبيه.

ورثاه أخوه المرتضى بقصيدة أوّلها:

يا للرجال لفجعة جذمت يدي *** ووددت لو ذهبت عليَّ براسي

ما زلت أحذر وردها حتّى أتت *** فحسوتها في بعض ما أنا حاسي

ومطلتها زمناً فلمّا صممت *** لم يثنها مطلي وطول مكاسي

لله عمرك من قصير طاهر *** ولربَّ عمر طال بالأدناس

ورثاه أيضاً تلميذه مهيار بن مرزويه الكاتب بقصيدة لم أسمع في باب المراثي أبلغ منها وأوّلها:

من جبَّ غارب هاشم وسنامها *** ولوى لؤيّاً واستزل مقامها

وغزا قريشاً بالبطاح فلفّها *** بيد وقوّض عزّها وخيامها

وأناخ في مضرٍ بكلكل خسفه *** يستام فاحتملت له ما سامها

ص: 785

من حلّ مكّة فاستباح حريمها *** والبيت يشهد واستحلّ حرامها

ومضى بيثرب مزعجاً ما شاء من *** تلك القبور الطاهرات عظامها

يبكي النبيُّ وليت هيج لفاطم *** بالطفِّ في إنبائها أيّامها

الدين ممنوع الحمى من راعه *** والدار عالية البنا من رامها

أ تناكرت أيدي الرجال سيوفها *** فاستسلمت أم أنكرت إسلامها

أم غال ذا الحسبين حامي دورها *** قدر أراح على العدو سهامها

ومنها:

بكر النعيُّ من الرضيّ بمالك *** غاياتها متعود إقدامها

كلح الصباح بموته عن ليلة *** نفضت على وجه الصباح ظلامها

صدع الحمام صفاة آل محمّد *** صدع الرداء به وحلّ نظامها

بالفارس العلوي شقّ غبارها *** والناطق العربي شقّ كلامها

سلب العشيرة يومه مصباحها *** مصلاحها عمّالها علاّمها

برهان حجتها التى بهرت به *** أعدائها وتقدمت أعمامها

النص مرويُّ وكنت دلالة *** مشهورة لما نصبت إمامها

ص: 786

قدمت فضليتها وجئت فبرزت *** سبقاً خطىً لك أحمدت أقدامها

دبّرتها طفلاً وسدت كهولها *** برضى النفوس وكنت بعد غلامها

ومنها:

أبكيك للدنيا التي طلقتها *** وقد اصطفتك شبابها وغرامها

ورميت غاربها بفتلة حبلها *** زهداً وقد ألقت إليك زمامها

وهي قصيدة طويلة طنّانة.

وكان المهيار أنشد هذه القصيدة المرثية بحضور جماعة ممّن كان يحسد الرضيَّ، فشقّ عليه ونسبوه إلى المبالغة وآلافراط في إطرائه، فرثاه بقصيدة أخرى أجاد فيها كل إلّاجادة، وعرّض بهم ليزدادوا غيظاً، مطلعها:

أقريش لا لفم أراك ولا يدِ *** فتوكلي غاض الندى وخلا الندي

وما أحسن قوله من جملتها:

يا ناشد الحسنات طوّف قالياً *** عنها وعاد كأنّه لم ينشدِ

إهبط إلى مضرٍ فسلْ حمراءها *** من صاح بالبطحاء يا نار اخمدي

بكر النعي فقال أردى خيرها *** إن كان يصدق فالرضيُّ هو الردي

ص: 787

فجعت بمعجز آية مشهودة *** ولربَّ آيات له لم تشهد

كانت إذا هي في الإمامة وزعت *** ثُمَّ ادّعت بك حقّها لم تجحد

تبعتك عاقدة عليك أمورها *** وعرى تميمك بعد لمّا تعقد

ورآك طفلاً شيبها وكهولها *** فتزحزحوا لك عن مكان السيّدِ

ص: 788

عدنان إبن الشريف الرضيِّ

أبو أحمد، عدنان بن الشريف الرضيّ، أبي الحسن محمّد المذكور قبله، كان يلقب الطاهر ذا المناقب، لقب جدّه أبي الحسن بن موسى، وتولّى نقابة الطالبيين ببغداد بعد وفاة عمّه المرتضى، على قاعدة جدّه وأبيه.

قال أبو الحسن العمري: هو الشريف العفيف المتميّز بصلاحه وإصابة رأيه، يعرف علم العروض، وأظنّه يأخذ ديوان أبيه وجدّه بحسن إلّاستماع، ويتصور ما يسنده إليه.

وقال غيره: كانت الملوك من بني بويه تعظّمه كثيراً، وتراه بالعين التي كانت ترى أباه بها وعمّه وجدّه.

قال صاحب عمدة الطالب: وانقرض بانقراضه عقب الرضيّ رضی الله عنه .

قال المؤلف: ورأيت في مشجّرة معتمد عليها أن أبا أحمد عدنان المذكور أوّلد ولداً إسمه عليٌّ، لكنّه درج ولم يعقب، فانقرض بانقراضه عقب الشريف الرضيّ رحمه الله تعالى.

ص: 789

محمّد بن محمّد بن علي

أبو الحسن محمّد بن أبي جعفر، محمّد بن أبي الحسن علي بن الحسن بن علي بن إبراهيم بن علي بن عبد الله الأعرج بن الحسين الأصغر بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام، يلقب بشيخ الشرف النسّابة.

كان عالماً فاضلا كبيراً إليه انتهى علم النسب في عصره، وله فيه مصنفات كثيرة، ما بين مختصر ومطوّل.

وهو شيخ الشريفين المرتضى والرضيّ، إبني أبي أحمد الموسوي، وشيخ أبي الحسن العمري النسّابة.

وكان قد بلغ من السن عمراً طويلاً، وأحرز من الفخر قدراً جليلاً، بلغ تسعاً وتسعين سنة وهو صحيح إلّاعضاء، مات سنة خمس وثلاث وأربعين، وخلّف عدّة من الولد درجوا، وانقرض بانقراضهم عقبه.

ص: 790

محمّد بن أحمد بن الحسن

السيد أبو الحسن، محمّد بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام .

كان فاضلاً أديباً شاعراً حسن الشعر، موصوفاً بالديانة والعفّة، متوقد الذهن ذكيّ الفطنة، مولده بأصبهان.

وله تصانيف منها كتاب (نقد الشعر)، وكتاب (تهذيب الطبع)، وكتاب (العروض)، وكتاب (في المدخل إلى معرفة المعمّى من الشعر)، وكتاب (تقريض الدفاتر)، وديوان شعره.

ومن شعره في العفّة قوله:

الله يعلم ما أتيت خناً *** إن أكثروا العذال أو سفهوا

ماذا يعيب النّاس من رجل *** خلص العفاف من الآنام لهُ

يقظاته ومنامه شرع *** كلٌّ بكلٍّ منه مشتبهُ

إن همَّ في حلم بفاحشة *** زجرته عفّته فينتبهُ

ومن جيد شعره قوله:

بانوا وأبقوا في حشاي لبينهم *** وجداً إذا ظعن الخليط أقاما

ص: 791

لله أيام السرور كإنّما *** كانت لسرعة مرّها أحلاما

لو دام عيش رحمة لأخي هوى *** لأقام لي ذاك السرور وداما

يا عيشنا المفقود خذ من عمرنا *** عاماً وردّ من الصبا أيّاما

وقوله في طول الليل:

كأن نجوم الليل سارت نهارها *** فوافت عشاءً وهي أنضاد أسفارِ

وقد خيمت كي تستريح ركابها *** فلا فلك جارٍ ولا كوكب سارِ

وكانت وفاته رحمه الله تعالى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وطباطبا لقب جدّه إبراهيم.

قال أبو الحسن العمريُّ وغيره: وإنّما لقّب بذلك لأن أباه أراد أن يقطع له ثوباً وهو طفل، فخيّره بين أن يجعل له قميصاً أو قبا، فقال: طباطبا، يعني قباقبا.

وقيل: بل أهل السواد لقّبوه بذلك، وطبا طبا بلسان النبطية سيّد السادات، نقل ذلك أبو نصر البخاري عن الناصر بالحق، والله أعلم.

ص: 792

أبو الحسين بن علي بن الحسين

السيد أبو الحسين بن علي بن الحسين بن الحسن بن القاسم بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام .

كان من علية العلويّة ومحاسن الحسينية، وأهل الفضل والعلم وإلّادب.

وكان الصاحب إسماعيل بن عبّاد صاهره بابنته، التي هي واحدته، ويفتخر بهذه الوصلة ويباهي بها، وكان الحسين بن علي يقول لولده أبي الحسن علي المذكور: لا أعلم في بني عيباً إلّا اتصالك بابنة الصاحب؛ وذلك لجلالة قدره وعظم بيته.

ولمّا ولدت ابنة الصاحب من أبي الحسين ابنه أبا الحسن عبّاداً، ووصلت البشارة إلى الصاحب أنشأ يقول:

أحمد الله لبشرى أقبلت عند العشي *** إذ حباني الله سبطاً هو سبط للنبي

مرحبا ثُمَّة أهلاً بغلام هاشمي *** نبويٌّ علويٌّ حسنيٌّ صاحبي

ثُمَّ قال:

الحمد لله حمداً دائماً أبدا *** إذ صار سبط رسول الله لي ولدا

فقال أبو محمّد الخازن قصيدة على وزنه ورويه مطلعها:

بشرى فقد أنجز إلّاقبال ما وعدا *** وكوكب المجد في أفق العلى صعدا

ص: 793

وقد تفرّع في أرض الوزارة عن *** روح الرسالة غصن مورق رشدا

لله آية شمس للعلى ولدت *** نجماً وغاية عزٍّ أطلعت أسدا

وعنصر من رسول الله واشجة *** كريم عنصر إسماعيل فاتّحدا

وبضعة من أمير المؤمنين زكت *** اصلا وفرعاً وصحت لحمة وسدا

وما أحسن قوله فيها:

وكادت الغادة الهيفاء من طرب *** تعطى مبشرها إلّارهاف والغيدا

ولقد أبدع وأغرب في قوله:

لم يتّخذ ولداً إلّا مبالغة *** في صدق توحيد من لم يتخذ ولدا

وكان الصاحب إذا ذكر عباداً أنشد:

يا ربّ لا تخلني من صنعك الحسن *** يا ربّ حطني في عبادة الحسن

ولما فطم قال فيه:

فطمت أيا عبّاد يا ابن الفواطم ِ *** فقال لك السادات من آل هاشم ِ

لئن فطموه عن رضاع لبانه *** لما فطموه عن رضاع المكارم

ص: 794

وكان الصاحب رحمه الله قال قصيدة معرّاة من الألف، التي هي أكثر الحروف دخولاً في المنثور والمنظوم، وأوّلها:

قد ظلّ يجرح صدري *** من ليس يعدوه فكري

وهي في مدح أهل البيت علیهم السلام تقع في سبعين بيتاً، فتعجب النّاس منها، وتدأوّلتها الرواة، فسارت مسير الشمس في كل بلدة، وهبت هبوب الريح بالبرّ والبحر.

فاستمر الصاحب على تلك الطريقة، وعمل قصائد كل واحدة منها خالية من حرف من حروف الهجاء، وبقيت عليه واحدة تكون معرّاة من الواو، فأنبرى صهره أبو الحسين المذكور لعملها، وقال قصيدة فريدة ليس فيها واو، مدح الصاحب في عرضها، وأوّلها:

برق ذكرت به الحبائبْ *** لمّا بدا فالدمع ساكبْ

أمدامعي منهلة *** هاتيك أم غرر السحائب

نثرت لئإليَّ أدمع *** لم تفترعها كفّ ثاقب

لما سرت ليلى تحث *** لنأيها عنّا الركائب

ظلت تجيل لحاظها *** كالسيف لم يخط المضارب

للسحر في أرجائها *** مهما أدارتها ملاعب

ص: 795

جعلت قسيّ سهامها *** إن ناضلته عقد حاجب

لم يخط سهم أرسلته *** إن سهم اللحظ صائب

تسقيك ريقاً نشره *** إن قسته للخمر غالب

كم قد تشكّى خصرها *** من ضعفه ثقل الحقائب

كم أخجلت بظفائر *** أبدت لنا ظلم الغياهب

إخجال كفّ الصاحب *** القرم المرجّى للسحائبْ

ملك تلإلّا من معاقد *** عزّه شرف المناصب

نشأت سحائب رفده *** في الخلق تمطر بالرغائب

وهي طويلة تنيف على الستين.

ولما مات الصاحب رحمه الله رثاه صهره أبو الحسين المذكور بمراثٍ، منها قصيدة أوّلها:

إلّا إنّها أيدي المكارم شُلّتِ *** ونفس المعالي إثر فقدك سلّتِ

حرام على العلياء إن هي قوضت *** وحجْر على شمس الضحى إن تجلتِ

ومن محاسن شعره يصف جارية بيدها شمعة:

ص: 796

خطرت لنا بعد العشاء بشمعة *** تحكي لنا شكل القنا الخطارِ

فكأنّها طعنت بها عشاقها *** فتكلّلت عوض النجيع بنارِ

وأشعاره كثيرة غالبها يتصف بالجودة والحسن، وفيما أوردناه كفاية.

ص: 797

أبو الحسن بن أبي الغنائم

أبو الحسن بن أبي الغنائم، محمّد بن على بن أبي الطيب محمّد بن أبي عبد الله محمّد بن أبي الحسين أحمد الأصغر الضرير بن على بن محمّد الصوفي بن يحيى بن عبد الله بن محمّد بن عمر إلّاطرف بن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام، المعروف بالعمريّ.

علّامة النسب المشهور، وفهّامة إلّادب المذكور، إنتهى إليه علم النسب في زمانه، وتميز به على أمثاله وأقرانه، وصار قوله حجة من بعده، ومحجة يسلكها المهتدي لقصده، والمتأخرون من النسّابين كلّهم عيال عليه، وما منهم إلّا من يروي عنه ويسند إليه، سخّر الله له هذا العلم تسخيراً، ولقي فيه من أجلّاء المشايخ خلقاً كثيراً وصنف فيه كتاب (المبسوط)، و(المجدي)، و(الشافي)، و(المشجّر).

وكان يسكن البصرة ثُمَّ أنتقل منها سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وسكن الموصل، وتزوج بامرأة هاشمية من بيت قديم بالموصل له رياسة، وفيه ستر يعرف ببيت آل عيسى الهاشمي، فولدت له ولديه أبا عليّ محمّداً، وأبا طالب هاشماً، وغيرهما، ودخل بغداد مراراً، آخرها سنة خمس وعشرين وأربعمائة، واجتمع بالشريفين الأجلين المرتضى والرضيّ، وحضر مجالسهما، وروى عنهما.

وكان أبوه أبو الغنائم نسّابة أيضاً، إماماً في فنّ النسب، وكان يُكاتَب من الأمصار البعيدة في تحرير الأنساب المشكوك فيها، فيجيب بما يعوّل عليه من إثبات أو نفي،

ص: 798

فلا يُتجاوز قوله، وبالجملة فقد رزق هو وولده - أبو الحسن العمري المذكور - من هذا العلم حظاً وافراً، ولم يتيسر لأحد من علماء النسب ما تيسّر لهما، وكان أبو الحسن حيّاً إلى بعد سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، رحمه الله تعالى.

ص: 799

محمّد بن علي بن الحسين

أبو الحسن محمّد بن علي، بن الحسين بن الحسن بن أحمد بن القاسم بن الحسن بن عليٍّ بن أبن طالب علیه السلام، المعروف بالوصيِّ الهمداني.

ذكره الثعالبي في يتيمة الدهر فقال: هو من علية العلويّة، وأركان الدولة الهاشمية السامانية، وكان مستوطناً بخارى، ووصي الأمير السديد علي بن طاهر بن الحسين الساماني؛ فاشتهر بالوصي.

وكان الأمير الرضي أبو القاسم نوح بن منصور وجهه رسولاً إلى فخر الدولة، فقوبل بالأجلال والترحيب والتأهيل والتقريب، وخرج كافي الكفاة الصاحب بن عبّاد في موكبه لاستقباله، وبالغ في اكرامه وإجلاله.

حكى أبو الحسن الرضيّ المذكور عن نفسه قال: لمّا توجهت تلقاء الري في سفارتي هذه فكرت في كلام ألقى به الصاحب، فلم يحضرني ما أرضاه، وحين استقبلني وأفضى عنانه إلى عناني جرى على لساني ﴿مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إلّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ (1)، فقال الصاحب: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ﴾ (2)، ثُمَّ قال: مرحباً .. ألف مرحب بالرسول ابن الرسول، والوصيّ ابن الوصي.

ص: 800


1- سورة يوسف , الآية: 31
2- سورة يوسف , الآية: 94

وله شعر كثير الملح والظرف، لا يكاد يخلو من لفظ رشيق ومعنى أنيق، فمن ذلك قوله:

يا ربِّ أنت على الأمور قديرُ *** وبإمرئٍ جمّ الذنوب خبيرُ

يسّرْ لعبدك من نوالك توبة *** فعليك تيسير الأمور يسير

وقوله:

وشادن مقرطق *** نادمته في المجلسِ

تحكى لنا غرته *** بدراً بدا في الحندسِ

جعلت ورد خدّه *** ومقلتيه نرجسي

وقوله في الصاحب بن عباد:

مات الموالي والمحبُّ *** لأهل بيت أبي تراب ِ

قد كان كالجبل المنيع *** لهم فصار مع التراب

ص: 801

محمّد بن داود بن أحمد

أبو هاشم محمّد بن داود، بن أحمد بن داود بن أبي تراب علي بن عيسى بن محمّد البطحائي بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام، المعروف بالعلوي الطبري.

أحد أعيان السادة المشهورين بالسيادة، جمّ الفضائل حميد الصفات والشمائل، يأخذ من إلّادب بأوفر نصيب، ويحلّ من الفضل بواد خصيب، وكان بينه وبين الصاحب بن عبّاد مزيد محبة وإخلاص، وأكيد صحبة واختصاص، ومراسلات من النظم والنثر، صادرة عن ولاء لا يشوبه رياء.

وفيه يقول الصاحب ابن عباد رحمه الله تعالى:

إن أبا هاشم يد الشرفِ *** مادحه آمن من السرفِ

حلّ من المجد في وسائطه *** وخلّف العالمين في طرف

وهذه شهادة في السيادة ما عليها زيادة.

وكتب إليه الصاحب أيضاً - وقد أعتلّ -:

أبو هاشم ما لي أراك عليلا *** ترفّق بنفس المكرمات قليلا

لترفع عن قلب النبيّ حرارة *** وتدفع عن صدر الوصيّ غليلا

ص: 802

فلو كان من بعد النبيّين معجز *** لكنت على صدق النبيّ دليلا

وكتب أبو هاشم إلى الصاحب كتاباً بحبر، وكان الصاحب يكره الحبر فأنكره، وكتب إليه:

كتبت يا سيدي كتاباً *** يحسده الروض والغديرُ

لكن تحبيره بحبر *** أنكره رقة الحبير

فعد عنه إلى دواة *** قليل تأثيرها كثير

وخذ دواتي بلا امتنان *** فربّما يغرم المشير

وبعث إليه دواة، وكانت من ألف مثقال ذهب أحمر.

وكتب أبو هاشم إلى الصاحب:

دعوت إله النّاس حولاً محوّلا *** ليصرف سقم الصاحب المتفضلِ

إلى بدني أو مهجتي فاستجاب لي *** فها أنا مولانا من السقم ممتلي

فشكراً لربّي حين حوّل سقمه *** إليَّ وعافاه ببرء معجّل

واسأل ربّي أن يديم علاءه *** فليس سواه مفزع لبني علي

فأجابه الصاحب:

ص: 803

أبا هاشم لم أرض هاتيك دعوة *** وإن صدرت عن مخلص متطولِ

فلا عيش لي حتّى تدوم مسلماً *** وصرف الليإليَّ عن ذراك بمعزل

فإن نزلت يوماً بجسمك علّة *** وحاشاك منها يا علاء بني علي

فناد بها بالحال غير مؤخر *** إلى جسم إسماعيل دون تحوّل

والله أطال بقاء الشريف مولاي ما علمت، ولو علمت لعدت أغناه الله بحسن العادة عن العيادة وهو حسبي.

ولأبي هاشم في فخر الدولة:

يا فلك الأرض وبحر الورى *** وشمس ملك مالها من مغيبْ

دعوت مولاك بنيل المنى *** وقد أجاب الله وهو المجيب

فقال قل ما شئت مستولياً *** ودبر الدنيا برأي مصيب

يامن كتبنا فوق أعلامه *** (نصر من الله وفتح قريب)

ص: 804

عليّ بن موسى بن إسحق

السيد الرئيس أبو القاسم عليّ بن موسى، بن إسحق بن الحسن بن الحسين بن إسحق بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب سلام الله عليهم أجمعين، الموسوي الملقب ذا المجدين، نقيب النقباء بمرو.

ذكره أبو الحسن الباخرزي في دمية القصر فقال: هذا جمال العترة الموسوية، الممعن منها في الطريقة السويّة، إذا علويٌّ لم يكن مثله في كرم المناسب وشرف المناصب، فما هو إلّا حّجة للنواصب، وقد سعدت بضيافته في شهر رمضان سنة سبع وأربعين وأربعمائة، فرأيت من دسته المطروح وزنده المقدوح نعيماً وملكاً كبيراً وخبراً وخيراً وفضلا كثيراً، كما قلت فيه من قصيدة:

أتاك الصيام فعاشرته *** بقلب تقيّ وعرض نقي

وأوجبت للقوم هشم الثريد *** على شرط منصبك الهاشمي

ولو ذهبت أصف ما تلقاني به من تشريف وتقريب، وأهّلني له من تأهيل وترحيب، وحكمني فيه من إنزال وأنوال، وخلع عليّ من جاه ومال، لخرجت من شرط الكتاب، واستهدفت من ألسنة النقّاد لسهام العتاب.

ص: 805

أمّا إلّادب فمنه وإليه، ومعوّل أرباب الصناعة عليه، وأمّا الخُلُق فكما يقتضيه الإسلام، وكأنه منتسخ من أخلاق جده علیه السلام، وأمّا الجاه فمسلّم له غير منازع فيه، وأمّا المحل فسلّم لا يسلم من الزلل مرتقيه، وأمّا الرياسة فقد ألقت إليه الأرسان، وأمّا النقابة فقد فرشت له رفرفها الخضر وعبقريها الحسان، وهذا مكان غرر من كلماته، ودرر من حصياته، يلوح عليها سيماء النبوة، ويحيط بجوانبها سماء المروة.

أنشدني لنفسه بمرو سنة سبع وأربعين وأربعمائة:

رجوتك حيناً والرجاء وسيلة *** وحسبك لوماً أن تخيّب راجيا

ووالله لا تبقى على الحرّ نعمة *** فجد واغتنم شكراً على الدهر باقيا

وله أيضاً:

إذا أنا لم اهتز للجود والندى *** فمن ذا الذي يهتز يا أمّ مالكِ

ذريني وإنفاقي لمالي على العلى *** ورأيك فيما اخترت من حفظ مالكِ

فجود يميني عادة عرفت بها *** وكل يمين لم تجد كشمالكِ

وما أنا ممن ينتهي عن سماحة *** بنهىك إذ تنهىنني بجمالك

ولا عذل ربات الخدور بما تعي *** مكارمي اللاتي سرت في الممالكِ

ص: 806

وله أيضاً:

وليس عجيباً أن مثليَ خاضع *** لمثلك وإلّاملاك حولي خضّعُ

وأنك تقصيني وتملك طاعتي *** وأملاك هذا الدهر لي منك أطوع

ولولا الهوى ما قادني لك قائد *** ولكنّه بالحرّ ما شاء يصنع

وله أيضاً:

يا أضعف العالمين وصلاً *** وأسعف النّاس بالفراقِ

و من غرامي به شديد *** ليس يداوى بألف راقِ

إن كان لا بدّ من فراق *** فعن وداع وعن عناق

وزورة ترغم إلّاعادي *** وخلوة حلوة المذاق

وله أيضاً:

ما لي وللعلّة لازمتها *** ولازمتني كلزوم الغريمْ

كأنّها عافت لئام الورى *** ثُمَّ اصطفت كلّ صفيٍّ كريم

ص: 807

قال الأديب يعقوب بن أحمد النيشابوري: ما أحسن ما اعتذر من جنايتها عليه وإسائتها إليه، بلفظ يتضمن امتداح أصله وشرف عرقه، والمعنى الذي أشار إليه المتنبّي في قصيدة له:

ومنازل الحيّ الحسوم فقل لنا *** ما عذرها في تركها خيراتها

وزائرة المتنبّي في قوله:

وزائرتي كأنّ بها حياءً *** فليس تزور إلّا في الظلامِ

بذلت لها المطارف والحشايا *** فعافتها وباتت في عظامي

لاعظامه، وفيه يقول الأديب المذكور:

يقول صديقي إلّا دلّني *** على برمك الجود والهاشمِ

فقلت وأقسمت ربّ العلى *** عليُّ بن موسى أبو القاسم

وكانت وفاته رحمه الله سنة ثلاث وخمسمائة.

ص: 808

محمّد بن عبيد الله بن علي

السيد أبو الحسن محمّد بن عبيد الله بن علي بن الحسن بن الحسين بن جعفر بن عبيد الله بن أبي الحسين الأصغر بن عليّ بن أبي طالب علیه السلام، الملقب شرف السادات البلخي.

كان أوّل من دخل من آبائه إلى بلخ جعفر بن عبيد الله، وكان يُلقّب بالحجّة؛ لفضله وزهده وبيانه، وكان أبو البحتري وهب بن وهب قد حبسه بالمدينة ثمانية عشر شهراً، فما أفطر إلّا بالعيدين.

ولمّا دخل بلخ ألقت إليه الرياسة زمامها وقدمته أمامها، وكان هو وأولاده نقباءها ورؤساءها وسفراءها الذين أرّجوا لشرفهم أرجاءها.

وأمّا شرف السادة المذكور فذكره الباخرزي في دمية القصر فقال: هو سيّد السادات وشرفهم، وبحر العلماء ومغترفهم، وتاج الأشراف العلوية المتفرعين من الجرثومة النبويّة، الشارحين غرر إلّاداب في أخبية الأنساب.

وهو ولا مثنوية من المشرفين في الذروة العليا، وفي المجدّين من أسنمة الدنيا، شوس على عالم العلم ذوائبه، وتقرطس أهداف إلّاداب صوائبه، ولم يزل له أمام سرير الملك قدم صدق، يطلع في سماء الفخار بدره، ويوطئ أعناق النجوم قدره.

ص: 809

وأقلّ ما يعد من محصوله جمعه بين ثمار إلّادب وأصوله، ووصفه بأنّه ينثر، فينفث في عقد السحر، ويحلّق إلى الشعرى إذا أسفّ إلى الشعر.

وأمّا الذي وراءه من العلوم إلّالهية التي أجال فيها آلافكار، وافتضّ منها إلّابكار، فما لا يحصر ولا يحزر، ولا يحدّ ولا يعدُّ.

وقد صحبته عشرين سنة أرتدي في ظلال نعمه العيش الناعم، حتّى عادت فراخ وسائلي قشاعم، فكم زممت إليه المطيّة، وركزت على مكارمه الخطية، مادحاً لما اشتهر على إلّالسنة من حسبه ونسبه، وآخذاً بحظّي من أدبه ونشبه.

ولم يرتع ناظري في الروض الناضر إلّا بتأمّلي في أقلامه، ولا صار سمعي صدف اللآلئ إلّا بتقريضي روائع كلامه، وليس أسير وأجئ إلى التنويه باسمه، وإلّاشادة بذكره، إلّا نوع تعليل، ومتى احتاج النهار إلى دليل!.

قال المؤلف عفا الله تعالى عنه: ولسلسلة السيد المذكور حديث متسلسل بأربعة عشر أباً، وهو ما رواه أبو سعد بن السمعاني، في الذيل، قال: أخبرنا أبو شجاع عمر بن أبي الحسين البسطامي الإمامي بقراءتي، قال: حدّثني السيد أبو محمّد الحسين بن عليّ بن أبي طالب من لفظه ببلخ، حدّثني سيدي ووالدي أبو الحسن عليّ بن أبي طالب سنة ست وأربعمائة، حدّثني أبو طالب الحسن بن عبيد الله سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، حدثني والدي أبو علي عبيد الله بن محمّد، حدّثني أبي محمّد بن عبيد الله، حدثني أبي عبيد الله بن علي، حدثني أبي علي بن الحسن، حدثني

ص: 810

أبي الحسن بن الحسين، حدّثني أبي الحسن بن جعفر - وهو أوّل من دخل بلخ من هذه الطائفة - حدّثني أبي جعفر الملقب بالحجّة، حدّثني أبي عبد الله، حدّثني أبي الحسن الأصغر، حدّثني أبي علي بن الحسين بن علي، عن أبيه عن جدّه عليّ بن أبي طالب علیهم السلام قال: ( قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [ليسَ الخَبَرُ كالمعاينةِ] .

قال شيخنا الشيخ زين الدين الشهيد رحمه الله في شرح الدراية: هذا أكثر ما اتفق لنا روايته من الأحاديث المسلسلة بالآباء.

قال المؤلف: واتّفق لي أنا رواية أربعة أحاديث مسلسلة بسبعة وعشرين أباً، وسيأتي ذكرها إن شاء الله في ترجمة الوالد رحمه الله تعالى، في الطبقة العاشرة من هذا الكتاب.

ولشرف السادة المذكور من المنثور والمنظوم ما يفوق الدرر في أسلاكها، والدراري في أفلاكها.

وله في النثر كلمات قصار، كلّ واحدة منها تقصار، وهي محذوة على مثال إلّامثال، كقوله: من استغنى عن الدنيا فكأنّه دعاها إلى إلّامتاع، ومن حرص عليها فكأنّه أغراها بإلّامتناع .. اللئيم من قصر عن الواجب من غير قصر في يديه ولا قصور فيما لديه .. الغنيّ معان ومن عادى معاناً فقد عاد مهاناً .. من دقَّ نجارك عن نجاره فلا تجاره، ومن قصر حسامك عن حسامه فلا تسامه.

ص: 811

ومن شعره قوله يمدح الوزير أبا نصر أحمد بن عبد الصمد سنة خمس وعشرين واربعمائة:

أشبه الغصن إذ تأوّد قدّا *** وحكى الورد إذ تفتّح خدّا

وثنى للوداع في حرمة البين *** بناناً يكاد يعقد عقدا

ولقد حأوّل الكلام فحاشا *** واشييه فأسبل الدمع سردا

لست أنسى وإن تقادم عهدا *** عهد أحبابنا بنجد ونجدا

حين غصن الشباب غض ونجم *** الوصل سعد بحسن إسعاد سُعدى

وغزال قد أورث البدر غيظاً *** وجهه الطلق والغزالة حقدا

ألف الصدّ والتجنّب حتّى *** علّم الطيف في الكرى أن يصدّا

فسقى عهده العهاد وإن لم *** يقض حقّاً لنا ولم يرعَ عهدا

بل سقاه ندى الوزير فجدوى *** راحتيه أجدى وأهنى وأندى

وقوله من أخرى:

أراعك أن تجري الدموع كما تجري *** وقد جدّ من يجري إلى الوصل والهجرِ

أتعجب أن أرعى المصابيح في الدجى *** وقد زالت الشمس المنيرة عن حجري

ص: 812

أيجمل تأتيني وجمل سرت بها *** جمالتها نشوى الحمائل إذ تسري

لك الله من قالٍ له لفظ وامق *** يرى أنّه يسلي ولكنه يغري

يكلفني الصبر الجميل وإنّما *** يجرعني كأساً أمرّ من الصبر

وساحرة إلّالحاظ لم أرَ قبلها *** بأن تناهي الحسن ينفث بالسحر

تردّ الغصون المائسات بحسرة *** وتثني البدور الطالعات على وزر

وقوله أيضاً:

قالوا رأيت كإسماعيل من رشإ *** فقلت شرواه في دار الخلود يرى

من ذا رأى الحور في الدنيا معاينة *** أم من يشاهد ما بين الورى قمرا

أعجب به بانة فرعاء ناضرة *** ترى عناقد من مسك لها ثمرا

إذا بدا وجهه أو لاح مبسمه *** أو جاد بالقول إمّا قلّ أو كثرا

رأيت في عارضيه الدرّ منسبكاً *** والدرّ متنظما والدرّ منتثرا

سبحان خالقه ما كان أقدره *** أن يفضح العقل أو أن يفتن البشرا

لو شاء أوسع أهل الأرض قاطبة *** من ثغره سُكّراً من طرفه سكرا

وقوله أيضاً:

ص: 813

شدّ النطاق بخصره *** فغدا فريداً في جماله

يجني اللجين من الجبال *** فكيف عيد إلى جباله

وله أيضاً:

أفدي بروحي من قلبي كوجنته *** في الوصف لا الحكم فالأحكام تفترقُ

أعجب بحرقة قلب ما له لهب *** ومن تلهب خد ليس يحترق

وله أيضاً:

وإنّي لمن قوم إذا ما تنمّرت *** ليال تلقّوا صرفها بالتنمّرِ

قدام الورى في كل يوم تقدم *** صدورهم في كل يوم تصدر

بقرباهم قد سار كل خليفة *** وبالأمر منهم ساس كل مؤمر

بنى الله فوق الساريات بيوتناً *** بأحمده المحمود ثُمَّ بحيدر

مقلبنا كف الوصي وحجْره *** ومرضعنا دار النبيّ المطهر

ونحن تنقذنا الآنام من العمى *** ووشك الردى في الجاحم المتسعر

ونحن كسرنا الوثن والصلب كلّها *** ونحن نجوم الأرض في كل مشعر

فيدعو لنا في الفرض كل موحد *** ويدعو لنا في الأرض كل مكبر

ص: 814

ويسمو إلى تفضيلنا كل موقن *** ويفضى إلى تنقيصنا كل ممتري

وقد ذقت من حلو الزمان ومرّه *** وجربت طوري عرفه وتنكر

فلم أر أزرى للعلى من تسوف *** ولم أر أحرى للمنى من تشمر

قضيت لأقلامي ديوناً كثيرة *** وقد حلّ دين المشرفيّ المشهر

واشعاره كثيرة في هذا المقدار كفاية.

ص: 815

عليّ بن أبي طالب بن عبيد الله

السيد الأجل أبو الحسن، عليّ بن أبي طالب بن عبيد الله البلخي، إبن أخي المذكور قبله.

ذكره الباخرزي في كتاب (دمية القصر) فقال: شرف السادة عمّه، وله أخصّ الفضل وأعمّه، وهو من أغصان تلك الدولة العلياء، ومن أزهار تلك الدوحة الغنّاء، ورأيت الشيخ أبا عمرو يروي بين يدي عمّه شعره وأسارير وجهه من سرور تشرق، ولسانه بالحمد والشكر ينطق، لما يرشح به إناؤه، ومن فضل مختزن في إهابه وبخاته سار ذكره لها وشرف قدرها به، ورأيت في كتاب (قلايد الشرف) قافية منسوبة إليه فلم أتمالك أن قلت: عين الله عليه وحوإليه، مطلعها:

أرقت وحجْري بالمدافع يشرقُ

وقلبي إلى شرقي رامة شيّقُ

وما زلت أحمي بالتصبر مهجة

يكرّ عليها للصبابة فيلق

خليلي هل لي بالعذيبة رجعة

وإن لم يعاودني الصبا المتأنق

ص: 816

وهل لي بأطراف الوصال تماسك

وهل أنا من داء التفرق مقرق

بحيث الصبا فينان أخضر مورق

يغازلني والعيش صاف مورق

وكم قد مضى ليل على أبرق الحمى

يضئ ويوم بالمشرق يشرق

تسرقت فيه اللهو أملس ناعماً

وأطيب أنس المرء ما يتسرق

ويا حسن طيف قد تعرض موهناً

وقلب الدجى من صولة الصبح يخفقُ

تنسمت رياه قبيل وروده

وما خلته يحنو عليّ ويشفق

ص: 817

إسماعيل بن حيدر العبّاسي

السيد أبو المحاسن، إسماعيل بن حيدر العلوي العبّاسي، ذكره الشيخ أبو الحسن علي بن عبيد الله بن بابويه في رجاله، فقال: جليل ثقة صالح محدث، وروى عنه الشيخ المفيد عبد الرحمن بن أحمد النيشابوري شيخ الأصحاب بالري.

وذكره الباخرزي في (دمية القصر) فقال: كان خبر هذا الفتى يتراءى لي، وأسمع أنّه قد نبغ، وأن قميص فضله قد سبغ وهو في ريعان صباه، سبق القاضي حيدر أباه، وكنت أقترح على الأيّام أن تكحلني بطلعته، فأقف على صفته كما وقفت على صنعته، فاتفق حصولي في الري في ديوان الرسائل بها، وقد كنت أظن أنّه إذا سمع بي قصدني، إمّا مفيداً أو مستفيداً، فلمّا تراخى عني، وتنفست على استبطائي إيّاه مدة مديدة، قلت في نفسي: لعلّ له عذراً، وتعرّفت خبره فزعموا أنّه صاحب فراش منذ أسبوع، يكاد ينفجر عليه من عين الفضل ينبوع، فكتبت إليه أعوده:

عجّل الله برء إسماعيلا *** وجلاه الشفاء عضباً صقيلا

لا يروعنّه الذبول فقدماً *** قد حمدنا من القناة الذبولا

ونسيم الرياض لا يكتسي *** الصحة إلّا بأن يهبّ عليلا

فحمل إليه أبوه القاضي حيدر هذه الأبيات، وهو لما به مستعد لما به، فكتب إليَّ ببنان مرتعش، وقلم لا يكاد ينتعش ببيتين، تمثّل بهما وهما:

ص: 818

رمتني وستر الله بيني وبينها *** ونحن بأكناف الحجاز رميمُ

فلو أنّها لمّا رمتني رميتها *** ولكن عهدي بالنضال قديم

وانطفأ بعد ذلك بساعة، وفيَّ منه حسرة أتجرعها ولا أكاد أسيغها، وفى العين عبرة أجلبها من الشؤن ثُمَّ أسبلها، وكانت وفاته سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، ومن شعره قوله:

العرب والعجم عالمان بنا *** أنّا على الحادثات فتيانُ

من معشر ما أطلّ هامهم *** في المجد إلّا ظبىً وتسجان

أولئك السادة الأولى شرفت *** مغارس منهم وأغصان

يإليَّت شعري متى يجلل من *** هامة قرني أغر عريان

يضئ ما أظلم البهيم كما *** يضحك والدمع منه هتّان

كم قلت إذ شامه الكفاح لنا *** إنك يا مشرفيُّ فتّانُ

إلّا ويبدي فتور حقك لي *** أنّك بين القراب يقظان

سقيا لأيامنا التي سلفت *** والدهر مغضيّ الجفون وسنان

حتّى إذا قرّت العيون بكم *** علمت أن الزمان غيران

ص: 819

فلجّ حتّى تقاذفت بكم *** عنّا مطايا الفراق غيطان

لمّا تصرّمت تصارمت لكم *** منّا بوصل السهاد أجفان

وقوله أيضاً:

أفي الصبا أشتاق وصل الصبا *** كلّا ولكنّ معاليَّ شيب

لو أن ما حمّلته همتي *** حمل سلمى لعراه المشيب

ص: 820

المطهّر بن علي بن محمّد

السيد الأجل أبو الحسن المطهّر، إبن أبي القاسم علي بن أبي الفضل محمّد بن علي بن محمّد بن حمزة بن أحمد بن محمّد بن إسماعيل الديباج بن محمّد بن عبد الله الباهر علي بن الحسين بن على ابن أبي طالب علیهما السلام، الملقب بالمرتضى بن ذي الفخرين.

ذكره الشيخ أبو الحسين بن بابوبه في (رجاله) فقال: هو من كبار سادات العراق وصدور الأشراف، وانتهى منصب النقابة والرياسة في عصره إليه، وكان عالماً في فنون العلوم، وله خطب ورسائل لطيفة.

قرأ على الشيخ الموفق أبي جعفر الطوسي في سفر الحج، وذكره أبو الحسن الباخرزي في دمية القصر فقال: هو من الأشراف السادة، اتفق اكتحالي بغرّته الزهراء، واسضائتي بزهرته الغرّاء سنة أربع وثلاثين وأربعمائة بالري، إلّا أن إلّالتقاء كان خلسة وإلّاجتماع لحظة، وما زالت أخباره تترامى إليَّ بإثنية الجميل علي، فيزداد غرس ولائه في قلبي أثماراً، وهلال وفائه بين جوانحي أقماراً، ولم أظفر ممّا ألقاه بحر علمه على لسان فضله إلّا بهذين البيتين:

جانب جناب البغي دهرك كله *** واسلك سبيل الرشد تسعد والزمِ

من وسّخته عذرة أو فجرة *** لم ينقه بالرحض بحر القلزم

ص: 821

قال المؤلف عفا الله عنه: السيد المذكور من أكابر السادة العظماء، ومشاهير الفضلاء والعلماء، وكان نقيباً على الري وقم وآمل، ذا ثروة ونعمة عظيمة، مع كمال الفضل وعلوّ النسب والحسب، له مدرسة عظيمة بقُمْ، ولمّا توفي كان من جملة متروكاته أربعمائة من لؤلؤ، وناهيك بها ثروة، وكانت ملوك آل سلجوق يلتمسون مصاهرته، ويفتخرون بذلك؛ لعلوّ قدره وارتفاع شأنه، وكان الخواجة نظام الملك صاهر إبنه السيد الأجل محمّد بابنته، التي هي واحدة، بعد أن تشفع إليه بمن يعزّ عليه، ولم تزل النقابة والرياسة في ولده حتّى تغلب خوارزم شاه تكش على العراق، فقتل السيد يحيى بن محمّد بن علي بن محمّد بن المطهّر المذكور، وهرب إبنه إلى بغداد، كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله، فزالت أيّامهم، وانقضى زمانهم، وخلد في صدور الدفاتر محاسنهم وإحسانهم، رحمهم الله تعالى.

ص: 822

يحيى بن محمّد بن علي

السيد الأجل أبو القاسم، يحيى بن أبي المفضل محمّد بن علي بن محمّد بن النقيب المطهّر المذكور قبله، ملقب عز الدين المرتضى علم الهدى ذا الشرفين.

قال الشيخ أبو الحسن علي بن عبيد الله بن بابويه في وصفه: هو الصدر الكبير الإمام، السيد الأجل الرئيس، الآنور إلّاطهر إلّاشرف، المرتضى المعظم، عزّ الدولة والدين، شرف الإسلام، نصير الملك رضيّ الملك والسلاطين، ملك النقباء في العالمين، اختيار الأيّام، إفتخار الآنام، قطب الدولة، ركن الملّة، عماد الأمّة، سلطان العترة الطاهرة، عمدة الشريعة، رئيس رؤساء الشيعة، صدر علماء العراق، قدوة إلّاكابر، معين الحقّ، حجّة الله على الخلق، ذي الشرفين، كريم الطرفين، نظام الحضرتين، جلال الأشراف سيد أمراء السادة شرقاً وغرباً، قوام آل الرسول، ملك السادة، ومنبع السعادة، وكهف الأمّة وسراج الملّة، وطود الحلم والرزانة، وقسّ اللسن وإلّابانة، وعلم الفضل وآلافضال، ومقتدى العترة والآل.

كان رحمه الله خاتمة أهل بيته في الرياسة بالعراق، وعظيمهم الذي لا يزاحمه عظيم، من دون إغراق، عظم في الرياسة قدره، وأشرق في سماء إلّايالة بدره، وفوضت إليه نقابة الطالبيين بالري وقم وآمل، وكان فاضلاً عالماً كبيراً، عليه تدور رحى الشيعة، وإليه ترد أحكام الشريعة، وخوطب بسلطان العلماء ورئيس العظماء.

ص: 823

وكان راوية للأحاديث، يروي عن والده المرتضى السعيد شرف الدين محمّد، وعن مشايخه الكرام قدست أرواحهم، وكانت سدّته قبلة إلّامال ومحط الرحال، وباسمه الشريف نظم السيد عز الدين علي بن السيد الإمام ضياء الدين فضل الله الحسيني الراوندي، حبيب النسيب للحسيب النسيب، ولم يزل راقياً لأوج السعد والإقبال، ممتطياً صهوة العزّ والجلال، حتّى أصابته عين الكمال وجرى الدهر على عادته في تبديل إلّاحوال، فختم له بالشهادة، ونال من خيري الدنيا والآخرة الحسنى وزيادة.

وكان سبب شهادته أن الملك خوارزم شاه تكش لمّا استولى على الري وتلك إلّاطراف، وقتل من بها من الأعيان والأشراف، كان الشريف المذكور ممّن عرض على السيف، وجرى عليه ذلك الظلم والحيف، وذلك في سنة تسع وثمانين وخمسمائة.

وانتقل محمّد ولده إلى بغداد، ومعه السيد ناصر بن مهدي الحسيني، وكان وروده إليها في شعبان، سنة اثنين وتسعين وخمسمائة، وتلقيا من قبل حضرة الخليفة الناصر لدين الله بالقبول، ففوضت نقابة الطالبين في بغداد إلى السيد ناصر المذكور، ثُمَّ فوضت إليه الوزارة، فترك أمر النقابة إلى محمّد بن السيد عز الدين، فصار نقيب الطالبيين، على رسم آبائه الطاهرين، ثُمَّ حجّ ورجع إلى بلده، رحمهم الله أجمعين.

تكش: بفتح المثناة من فوق، والكاف والسين المعجمة، على وزن حبش، والله أعلم.

ص: 824

جعفر بن محمّد بن جعفر

السيد أبو عبد الله، جعفر بن محمّد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام .

قال النجاشي: كان وجهاً في الطالبين متقدماً، روى الحديث، وكان ثقة في أصحابنا، سمع وأكثر وعمّر وعلا إسناده، له كتاب (التاريخ العلوي)، وكتاب (الصخرة والبئر).

مات في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثمائة، وله نيّف وتسعون سنة، وذكر عنه أنّه قال: ولدت بسُرّ من رأى سنة أربع وعشرين ومائتين، وعلى هذا فيكون وفاته عن أربع وثمانين سنة، رحمه الله تعالى.

ص: 825

حسن بن علي بن عبد الرحمن

السيد أبو إبراهيم، حسن بن علي بن عبد الرحمن الشجري بن قاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام .

كان من أعاظم الأشراف بقزوين، عظيم الشأن وافر الجاه، مقدماً رئيساً ذا فضائل وكمالات عديدة، إليه انتهت الرياسة في تلك الديار، وبه اقتدت السادة الأخيار.

وكان قد عمّر عمراً طويلاً؛ فأضر في آخر عمره عند كبر سنه، فأسف على ذهاب بصره، وتألم لذلك كثيراً، فجمع مائة نفر من السادات والفضلاء والصالحين من أهل قزوين وأبهر، وأعطى كل منهم راحلة وزاداً، وحجّ بهم معه.

ولمّا وصل إلى المدينة المنورة رأى في منامه قائلاً يقول: ما هذا الأسف كلّه على ذهاب بصرك، ولم ببق من عمرك ما تأسف على ذهاب البصر؟ فاختر إمّا رجوع بصرك كما كان، أو أن يكون في أحد أولادك دعوة مستجابة دائمة، فاختار في منامه الاستجابة، ورجع من الحجّ بجميع من ذهب معه.

ولمّا وصل إلى قزوين انتقل إلى جوار الله تعالى، وتوفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، ولم تزل الرياسة في أعقابه إلى اليوم.

ص: 826

محمّد بن الحسن بن حمزة

أبو يعلى محمّد بن الحسن بن حمزة الجعفري، صهر الشيخ المفيد رحمه الله، وخليفته والجالس بعد وفاته مجلسه.

متكلم فقيه، قيّم بالأمرين جميعاً، صنّف كتباً كثيرة مفيدة، منها كتاب (التكملة في التوحيد)، كتاب (جواب المسألة في إيمان آباء النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم )، (جواب المسألة في ولد صاحب الزمان (عج))، (جواب المسألة في الردّ على الغلاة)، (جواب المسألة في أوقات الصلاة)، (جواب المسألة الواردة من صيداء)، (جواب مسألة أهل الموصل)، (جواب المسألة في أن الفعال غير هذه الجملة)، (مسألة في المسح على الرجلين)، (جواب المسائل الواردة من طرابلس)، (أجوبة مسائل شتى في فنون من العلم).

مات يوم السبت، سادس عشر شهر رمضان، سنة ثلاث وستين وأربعمائة، ودفن في داره.

ص: 827

محمّد بن الحسين بن داود

السيد أبو الحسن محمّد بن الحسين بن داود العلوي الحسني النيسابوري، شيخ الأشراف.

كان سيّداً نبيلاً وفاضلاً صالحاً محدّثاً، سمع من جماعة، وأخذ عن المخالفين نقبة، منهم أبو حامد بن الشرفي، ومحمد بن إسماعيل المروزي صاحب علي بن حجر وطبقتهما.

قال الحاكم: عقدت له مجلس إلّاملاء وانتقيت له ألف حديث، وكان يعد في مجلسه ألف محبرة.

مات رحمه الله فجأة في جمادى الآخرة، سنة إحدى وأربعمائة.

ص: 828

عليّ بن جعفر بن علي

السيد تاج الدين علي بن عماد الدين جعفر بن علي بن عبد الله بن أحمد الجعفري.

كان سيّداً فاضلاً بدهستان، قرأ على علماء خوارزم أنواع العلوم، وقرأ طرفاً من تصانيف الفخر الرازي عليه، وفوّض إليه منصب الفتوى بدهستان، كما كان مفوّضاً إلى والده السيد عماد الدين، وكان يفتي على مذهب الحنفية تقيّة، وذكر ذلك الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن بابويه في رجاله.

ودهستان - بكسر الدال المهملة، والهاء، وسكون السين المهملة، وفتح التاء المثنّاة من فوقها، وبعد الألف نون - مدينة مشهورة عند مازندران، بناها عبد الله بن طاهر، خرج منها جماعة من العلماء، قاله السمعاني في الأنساب، والله العالم بالصواب.

ص: 829

عليّ بن الحسين بن علي

السيد أبو البركات، علي بن الحسين بن علي بن جعفر بن محمّد بن الحسين بن علي بن محمّد الملقب بالديباج إبن الإمام جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام .

ذكره الثعالبي في يتيمة الدهر فقال: هو بقية الشرف وبحر إلّادب وربيع الكرم، وغرّة نيسابور، وشيخ العلويّة وحسنة الحسينيّة، وإمام الشيعة بها، ومن له صدر تضيق عنه الدهناء، وتفزع إليه الدهماء:

وكلام كدمع صبِّ غريب *** رقّ حتّى الهواء يكشف عندهْ

رقّ لفظاً ورقّ معنىً فأضحى *** كلّ شيء من البلاغة عبده

يزين تالد أصله بطارف فضله، ويحكى طهارة نسبه وبراعة أدبه، ويرجع من حسن المروة وكرم الشيمة إلى ما تتواتر به أخباره وتشهد عليه آثاره، ويقول شعراً صادراً عن طبع شريف وفكر لطيف.

وذكره أبو نصر العتبي في (تاريخ اليميني) فقال: قد جمع الله له بين ديباجتي النظم والنثر، فنثره منثور الرياض جادتها السحائب، ومنظومه منظوم العقود زانتها النحور والترائب، فمن نثره ما كتبه إلى بعض أصحابه في شكاية لحقته، وكان هو أيضاً شاكياً: رقعتي هذه وأنا عائد معود، وقاصد بالزيارة مقصود، أخاطب أصدقائي

ص: 830

بما أخاطب، وأكاتب إخواني بما أكاتب، سمائي وقدة، وأرضي رعدة، تنتابني الحمّى وتفارقني الشكوى، نفسي نفسان، ونَفَسي نَفَسان، كأنّ الحول شاطرني فصوله، فنلت غرّته وحجوله، فالربيع بين عيني وخيشومي، والصيف كامن بين صدري وحلقومي، وما عرفت لعلتي هذه سبباً، إلّا أنّي رأيت نفس الكرم شاكية، فشاركتها في شكواها، ووجدت عين الكمال متأذية فاحتملت عيني أذاها، وقلت متمثلاً لا ممتثلاً:

ونعود سيّدنا وسيّد غيرنا *** ليت التشكّي كان بالعوّادِ

ثُمَّ ذكرت ما أعدّ الله للعباد من ثواب العلّة في المعاد، فاستصغرت من ذلك ما استعظمته، وسهل مسلكي وإن استوعرته، وقلت نصح الله تلك النسمة من العلّة، وأعطى الشيخ بها أماناً من القلّة، وأعمى عنه ناظر الزمان، ولا طرق إلى فنائه طوارق الحدثان، وتمنيت أنّي واصلت غدوّي برواحي في زيارة الشيخ مشاهداً للحال، وإقباله نحو البرء وإلّاقبال، لكن حيل بين العير والنزوان.

ومنه قوله: أحبّ أن تكون كتابتي للأمير انفاً لم ترتع، وبكر لم تفترع، فلا أشوبها بأرب، ولا أتسبب إليها بسبب، فعل من لا يشين ولاءه طمع، ولا يشوب دعواه عيب ولا طبع، غير أن إلّاضطرار يغيّر وجه الأختيار، والعذر فيه مقبول عند ذوي الأخطار وإلّاحرار، وفلان يمسّني بحق الجوار، ولقد نشر جرائد شكره، وأظهر بحسن البشر خبايا برّه؛ فملأ الأرض ثناءً والسماء دعاءً، وعادة الأمير أن يحيي إلّامال ويسترقّ إلّاحرار، فليجعل متكرماً هذا إلّامل محظوظاً ولا يجعله محطوطاً إن شاء الله.

ص: 831

ومنه قوله: بعض الوقت مقت، وبعض الحين حين، والطالب عجول والمطلوب منه ملول، وكل إناء يرشح بما فيه، وكل جان يده إلى فيه.

ومن كلامه: أنا من النّاس لم يعدوا الخطّ حظاً، ولا الشعر شعاراً.

ومن نظمه قوله:

وأغيد سحّار بألحاظ عينه *** حكى لي تثنيه من البان أملودا

سلخت بذكراه عن الصبح ليلة *** أنادمه والكأس والناي والعودا

ترى أنجم الجوزاء والنجم فوقها *** كباسط كفيه ليقطف عنقودا

وقوله:

أسرب القطا هل من يعير جناحه *** فيوسعني براً وأوسعه شكرا

لعليّ ألقى من أحب لقاءه *** فقد فرق الأيّام ما بيننا دهرا

وكان هذا السيد في زمن السلطان يمين الدولة محمود بن سبكتكين ينزل نيشابور، وإبنه الحسين بن علي بن الحسين ورد بغداد في خلافة المهتدي، وأدرك خلافة المعتمد، وتوفي ببغداد في خلافته، وقبره ببغداد ظاهر.

وإبنه جعفر بن الحسين بن علي أقام ببغداد بعد موت أبيه مدة، ثُمَّ انتقل إلى الجبل، ووقع اختياره على همدان فاتخذها دار مقام، وأوّلد بها.

ص: 832

وإبنه الحسين بن جعفر بن الحسين بن علي أقام بهمدان بعد موت أبيه، ثُمَّ انتقل إلى قزوين واتخذها دار مقام، وكان من المعمّرين، مات وله مائة وخمس سنين رحمه الله.

ص: 833

محمّد بن عمر بن يحيى

السيد أبو طالب، محمّد بن عمر بن يحيى بن الحسين النسّابة، إبن أحمد المحدث إبن عمر بن يحيى بن الحسين ذي العبرة إبن زيد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام .

كان جدّه أحمد المحدث سيداً جليلاً عالماً نسابة نقيباً رئيساً، وهو أوّل نقيب ولّي على ساير الطالبيين كافة، ورد العراق من الحجاز سنة إحدى وخمسين ومائتين.

وكان السيد أبو طالب المذكور أحد السادة المذكورين، واوحد الفضلاء المشهورين، يجمع بين شرفي الحسب والنسب، ويأخذ بطرفي المجد الأرثي والمكتسب، ويقيم من أدبه وفضله أعدل شاهد على طهارة أصله، وإذا طابقت الفروع الأصول فذاك هو الشرف الموصول، ولله درّ إبن الرومي حيث يقول بعدم التعويل على مجرد النسب:

وما النسب الموروث لا درّ درّه *** بمحتسب إلّا بآخر مكتسب

وكان السيد لمّا سمع هذا البيت صدق قائله، فاجتهد في اكتساب الفضل حتّى لحق أوائله، وهكذا فلتكن الهمم العليّة والشيم العلوية، وكانت وفاته رحمه الله في سنة سبع وأربعمائة.

ص: 834

وقد جعل الله من نسله سادة أجلّاء وقادة نبلاء، منهم سبط النقيب شمس الدين أبو عبد الله أحمد إبن النقيب أبي الحسن عليّ بن أبي طالب محمّد المذكور، وكان سيداً جليلاً وفاضلاً نبيلاً توفي في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، عن أربع وخمسين سنة.

وقام مقامه ولده السيد النقيب نجم الدين أُسامة، بن أبي عبد الله شمس الدين أحمد، ولّي النقابة سنة إثنتين وخمسين وأربعمائة، فأقام فيها أربع سنين، ثُمَّ قلّت رغبته فيها، فاستعفي منها، وتوفي في رجب سنة إثنتين وسبعين وأربعمائة، عن خمس وأربعين سنة.

وقام مقامه ولده أبو طالب عبد الله المعروف بالتقي النسّابة، إبن أُسامة، وكان عالماً فاضلاً مبجلاً، وهو صاحب الحكاية مع السيد الفاضل النسّابة إمام الحرم جعفر بن أبي البشر الضحاك بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمّد المعروف بتغلب إبن عبد الله الأكبر بن محمّد السائري بن موسى الثاني بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام .

والحكاية هي ما رواه السيد الجليل شهاب الدين أحمد بن على بن عتبة في كتاب (عمدة الطالب)، قال: حدّثني الشيخ الملقب تاج الدين أبو عبد الله محمّد بن معيّة الحسيني، بإسناده إلى السيد العالم عبد الحميد بن التقي بن أُسامة النسّابة، قال: حدثني أبو طالب عبد الله بن أُسامة، قال: حججت أنا وعبد الله بن المختار، فبينما نحن ذات ليلة في المسجد الحرام وإذا بجماعة مجتمعة على شخص، ورأيت النّاس

ص: 835

يعظمون ذلك الشخص ويجتمعون عليه، فسألنا عنه من هو، فقيل: جعفر بن أبي البشر إمام الحرم، فقال لي السيد عدنان - وكان منّا ضعف -: إنّي لأضعف من الذهاب إليه والسلام عليه، فقم أنت وسلّم عليه، فقمت فأتيته وسلّمت عليه وقبّلت رأسه، وقبّل صدري لأنّه كان رجلاً قصيراً، ثُمَّ قال لي: من أنت ؟ قلت: بعض بني عمك، فقال: أعلويٌّ أنت؟ قلت: نعم، قال: أحسيني أم حسني أم محمّدي أم عبّاسي أم عمري؟ فقلت: بل حسيني، فقال: إن الحسين الشهيد علیه السلام أعقب من زين العابدين عليّ علیه السلام وحده، وأعقب زين العابدين علیه السلام من ستة رجال: محمّد الباقر علیه السلام، وعبد الله الباهر، وزيد الشهيد، وعمر إلّاشرف، والحسين الأصغر، وعلي الأصغر، فمن أيّهم أنت؟ فقلت: انا من ولد زيد الشهيد، فقال: إن زيداً أعقب من ثلاث رجال: الحسين ذي الدمعة، وعيسى، ومحمّد، فمن أيّهم أنت؟ فقلت: أنا من ولد الحسين ذي الدمعة، قال: فإن الحسين ذا الدمعة أعقب من ثلاثة: يحيى، والحسين القعدد، وعليّ، فمن أيّهم أنت؟ فقلت: أنا من ولد يحيى، قال: فإن يحيى بن ذي الدمعة أعقب من سبعة رجال: القاسم، والحسن الزاهد، وحمزة، ومحمّد الأصغر، وعيسى، ويحيى، وعمر، فمن أيّهم أنت؟ فقلت: أنا من ولد عمر بن يحيى، قال: فإن عمر بن يحيى أعقب من رجلين: أحمد المحدّث، وأبي منصور محمّد، فلأيّهما أنت؟ قلت: لأحمد المحدّث، قال: فإن أحمد المحدّث أعقب من الحسين النسّابة النقيب، وأعقب الحسين النسّابة من رجلين: زيد ويحيى، فمن أيّهما أنت؟ قلت: من يحيى بن الحسين، قال: فإن يحيى أعقب من رجلين: أبي عليّ عمر، وأبي محمّد الحسن، فمن أيّهما أنت؟ قلت: من ولد أبي عليّ عمر بن يحيى، قال: فإن ابا عليّ عمر بن يحيى

ص: 836

أعقب من ثلاثة: أبي الحسن، وأبي طالب، وأبي الغنائم محمّد، فمن أيّهم أنت؟ قلت: من ولد أبي طالب محمّد بن أبي على عمر بن يحيى، قال: فكن إبن أُسامة، قال: فقلت: أنا ابن أُسامة.

وهذه الحكاية تدلّ على حسن معرفة هذا الشريف بأنساب قومه واستحضاره لأعقابهم.

وكان للسيد أبي طالب أبي عبد الله التقي المذكور ولدان جليلان: أحدهما أبو الفتح نجم الدين، والثاني أبو علي عبد الحميد بن التقي النسّابة، ويلقب جلال الدين إليه انتهى علم النسب، مولده ليلة الثلاثاء، تاسع عشر شوال، سنة اثنين وعشرين وخمسمائة.

أمّا أبو الفتح فقد انقرض نسبه، وأمّا عبد الحميد فأعقب من ولدين، وكلاهما عالم فاضل: أبو طالب محمّد شمس الدين، وأبو الفتح عليّ نجم الدين.

وكان أبو طالب محمّد بن عبد الحميد نقيب المشهد والكوفة، وكان عالماً فاضلاً نسّابة، وفى بيته العقب، توفي سنة ست وستين وستمائة رحمه الله تعالى.

ص: 837

الحسن بن عليّ بن حمزة

السيد أبو محمّد، الحسن بن علي بن حمزة بن كمال الشرف أبي القاسم محمّد بن الحسن بن محمّد بن عليّ الزاهد بن محمّد الأصغر بن يحيى بن الحسين ذي العبرة بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام، الملقب علم الدين الطاهر النقيب إلّاقاسي.

كان جدّه كمال الشرف أبو القاسم محمّد نقيباً ولّاه الشريف المرتضى نقابة الكوفة وإمارة الحج.

حجّ بالنّاس مراراً، وأولاده أجلاء رؤساء، وآباؤه سادة معظمون.

وأمّا السيد أبو محمّد علم الدين المذكور فذكره إبن كثير الشامي في تاريخه وقال: مولده ومنشأه الكوفة، وكان شاعراً ماهراً فاضلاً، من بيت أدب ورياسة ومروة، دخل بغداد ومدح المقتفي والمستنجد وولده المستضئ وإبنه الناصر.

فوّض إليه الناصر نقابة العراق، وكان شيخاً مهيباً تجاوز عمره الثمانين، وتوفي في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.

وولده السيد أبو عبد الله الملقب قطب الدين كان سيداً جليلاً عالماً شاعراً، تولّى نقابة النقباء ببغداد إلّا أنّه لم يعقب فانقرض عقبه.

ص: 838

وإلّاقاسي - بفتح الهمزة، وسكون القاف، وفتح السين المهملة، وبعد الألف سين مهملة أيضاً - نسبة إلى أقاس، وهي قرية من قرى الكوفة، وأوّل من نسب إليها جدّه محمّد الأصغر بن يحيى بن الحسين ذي العبرة، ثُمَّ جرت النسبة على من بعده من أولاده.

ص: 839

فضل الله بن علي بن عبد الله

السيد أبو الرضا، فضل الله بن علي بن عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن أبي الفضل عبيد الله بن الحسن بن علي بن محمّد بن محمّد بن الحسن بن جعفر بن إبراهيم بن جعفر بن الحسن المثنى بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب علیهما السلام، الملقب ضياء الدين، الإمام الراوندي، علّامة زمانه وعميد أقرانه، جمع إلى علوّ النسب كمال الفضل والحسب، وكان أستاذ أئمة عصره ورئيس علماء دهره، له تصانيف تشهد بفضله وأدبه، وجمعه بين موروث المجد ومكتسبه.

روى عن الشيخ العلّامة أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، وأبي علي الحداد، والشيخ أبي جعفر النيسابوري، وأبي الفتح بن أبي الفضل الأخشيدي، وخلق آخرين من الشيعة والسنة، وروى عنه أكثر أهل عصره.

ومن تصانيفه كتاب (الكافي في التفسير)، و(ضوء الشهاب)، و(مقاربة الطيبة إلى مقارنة النية)، و(الأربعين في الأحاديث)، و(الكافي في علم العروض والقوافي)، و(نظم العروض)، و(الطب الرضوي)، وغير ذلك.

له مدرسه عظيمة بكاشان ليس لها نظير على وجه الأرض، سكنها من العلماء والفضلاء والزهاد والحجّاج خلق كثير، وفيها يقول ارتجإلّا:

ومدرسة أرضها كالسماء *** تجلّت علينا بآفاقها

ص: 840

كواكبها غرّ أصحابها *** وأبراجها عزّ أطباقها

وصاحبها الشمس ما بينهم *** تضئ الظلام بإشراقها

فلو أن بلقيس مرّت بها *** لأهوت لتكشف عن ساقها

وظنته صرح سليمان إذ *** يمرّد بالجنِّ حذّاقها

قال أبو سعيد السمعاني في كتاب (الأنساب): لمّا وصلت إلى كاشان قصدت زيارة السيد أبي الرضا المذكور، فلمّا انتهىت إلى داره وقفت على الباب هنينة أنتظر خروجه، فرأيت مكتوباً على طراز الباب هذه إلّاية المشعرة بطهارته وتقواه ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ (1)، فلمّا أجتمعت به رأيت منه فوق ما كنت أسمع عنه، وسمعت منه جملة من الأحاديث، وكتبت عنه مقاطيع من شعره، ومن جملة أشعاره التي كتبها إليَّ بخطه الشريف هذه الأبيات:

هل لك يا مغرور من زاجرِ *** أو حاجز عن جهلك الغامرِ

أمس تقضى وغداً لم يجئ *** واليوم يمضي لمحة الباصر

فذلك العمر كذا ينقضي *** ما أشبه الماضي بالغابر

ص: 841


1- سورة الأحزاب , الآية: 33

قال المؤلف عفا الله عنه تعالى: ولقد وقفت على ديوان هذا السيد الشريف، فرأيت ما هو أبهي من زهرات الربيع وثمرات الخريف، فاخترت منه ما يروق سماعه لأولي إلّالباب، ويدخل إلى المحاسن من كل باب، فمن ذلك قوله في أوّل قصيدة يمدح بها الصاحب بهاء الدين:

سفرت لنا عن طلعة البدرِ *** إحدى الخرائد من بني البدرِ

فأجلّ قدر الليل مطلعها *** حتّى تراءت ليلة القدرِ

لو أنها كشفت لآلئها *** من فوقها والعقد والثغر

لأضاءت الدنيا لساكنها *** والليل في باكورة العمر

حتّى يظنّ النّاس أنّهم *** هجم العشاء بهم على الفجر

وحديثها سحر إذا اتسقت *** لو كان طعم الشهد للسحر

وجبينها بدر التمّام إذا *** حاذاك لولا كلفة البدر

ومنها:

يا لائمي كفّ الملام فقد *** غلب الغرام بها على الصبرِ

فوحق فاحمها إلّاثيث وهل *** في ذلكم قسم لذى حجْر

إنّي إلى معسول ريقتها *** أظما من البادى إلى القطر

ص: 842

عهدي بها والوصل يجمعنا *** كاللوز توأمتين في قشر

ما شئته شائت وما كرهت *** فهو الكريه يحل في صدري

نغدوا كلانا وفق صاحبه *** ومطيع حكم النهى والأمر

كالدهر ممتثلاً لسيّده *** أعلمت من هو سيد الدهر

وقوله في أوّل قصيدة يمدح بها ربيب الملوك ابن أمين الملوك الحسين المستوفي: عودوا ببعض عشيات الحمى عودوا عودوا فإن لم يكن نقد فموعودُ

وعدتمونا إذا ما العود فيه جرى *** ماء الربيع فهذا الماء والعود

السمع يصغي إلى مكذوب وعدكم *** والقلب يصغى إليه وهو معمود

بل للكواعب عذر في الصدود إذا *** أنصفتهن وما الآنصاف محمود

شيبت نفسك لما رحت مكتهلاً *** فكيف تصبو إليك الخرّد الغيد

واسودّ يومك لما ابيض رأسك من *** بيض وسود جناها البيض والسود

غصن الشباب ذوى فينانه نضراً *** فعاد وهو جنيّ المتن مخضود

عهد الشباب جزاك الله صالحة *** فليس مثلك في إلّاشياء موجود

إن الشباب إذا ولى بطيّبة *** فليس يرجعه نوح وتعديد

ص: 843

وقوله في أوّل قصيدة يمدح بها الصاحب مجد الدين:

آها لبرق أومضا *** هاج غرامي ومضى

كأنّه لما بدا *** لمع سيوف تنتضى

أو التواء حيّة *** قتلته فنضنضا

و يا لريح نسمة *** من ساكني ذات إلّاضا

مريضة لم تستطع *** من ضعفها أن تنهضا

فاحتبست على الربى *** وكل خبت روضا

حتّى غدت لطيمة *** مفضوضة على الفضا

يا برق يا ريح معا *** تركتماني حرّضا

ما لكما أوقدتما *** على الحشا جمر الغضا

واأسفاً على الصبا *** أكان ديناً يقتضى

عاد برغم معطسى *** ذاك الغداف أبيضا

وعاد حقي باطلاً *** وعاد جسمي غرضا

لهفي على عهد الصبا *** أفلت عنى وانقضى

ص: 844

جار عليه الشيب *** لمّا أن قضا فلا قضا

أظلمت الدنيا على *** عينيى لما أن أضا

من الذي اشكوا إذا *** صار الطبيب ممرضا

آه على شبيبة *** بنيانها تقوضا

لأقصرنّ خاطري *** إذا شدا أو قرضا

على مراثيها فقد *** أبقت بقلبي مرضا

وقوله في أوّل قصيدة يمدح بها الصاحب بهاء الدين:

مقل الظباء إذا رمين قواصدْ *** وقلوبنا أبداً لهن مقاصدْ

حور تسلّحت الحليّ وطاردت *** شوس الرجال فهم لهنّ طرائد

قامت دمالجها مقام سيوفها (1) *** ومن السلاح دمالج ومعاضد

بل حسنهن هو السلاح وغالب *** قرن بها ذاك السلاح يجالد

من كل واضحة الجبين كأنّها *** بدر تكنّفه ظلام راكد

يشفى غليل ضجيعها من ريقها *** عذب يرقرقه شبيب يارد

ص: 845


1- وفى نسخة: سلاحها

سقياً لأيّام مضين حميدة *** والدهر عزٌّ والزمان مساعد

ما أنس لا أنسى العشيّات التي *** سلفت لنا يا ليتهن عوائد

يجنيننا ثمرات كل لبانة *** إذ نحن ولدان وهنّ ولائد

سقياً لهنّ معالماً ومعاهداً *** ما مثلهنّ معالم ومعاهد

وكأنّها أيّام مولانا التي *** هي في نحور المكرمات قلائد

أعنى بهاء الدين والصدر الذي *** بعلاجه صلح الزمان الفاسد

إلّاريحيّ المستجاد المرتجى *** واللوذعيّ المستماح الماجد

نام الخلائق في ذراه وطرفه *** ممّا يحافظهم رقيب شاهد

هو في سماء الفخر بدر زاهر *** والآخرون أهلّة وفراقد

ولقد أصيبت في الكواكب كثرة *** والبدر ما بين الكواكب واحد

أغنى نداه العالمين فأصبحوا *** ما فيهم إلّا غنيٌّ واجد

المجد للعافي عليه حاكم *** والبشر في تلك الحكومة شاهد

وأنامل أم أبحر زخّارة *** وشمائل أم أنعم وعوائد

يبقي على العافين ماء وجوههم *** بمواهب لم يبلهن مواعد

ص: 846

سهل على إلّاحباب عفو كلامه *** وعلى العداة بوارق ورواعد

صبٌّ ولكن العلى صبواته *** لا تصبينه عقائل وخرائد

لا بل خرائده نهى وصرامة *** ومآثر تحتاطها ومحامد

ولقد تفرع في المكارم ذروة *** ذلَّ العدو لها وخاب الحاسد

وعياله طوعاً وكرهاً كل من *** تحت السماء فمادح أو حامد

وقوله:

إسمع هديت وخير القول أنصحه *** ولا تكن في استماع النصح ذا شططِ

إن في الذرى ملكأ أو في الثرى سقطاً *** ولا تكن وسطاً لا خير في الوسط

وقوله:

إنّ سليمى أقسمت لا تجودُ *** إلّا ضحى السبت إذا ما يعودُ

فنحن لاستنجاز موعودها *** نعظم السبت كأنّا يهود

وقوله:

بليت من الهوى بجوىً عتيدِ *** وقلبٍ لا يطاوعني عنيدِ

وحزن لا أقاومه قويٌّ *** يحاكمني إلى صبر شديد

ص: 847

وحبّ يبتغي منّي مزيداً *** وما عندي وحقّك من مزيد

وخلٍّ لا أطيق له خلافاً *** ولو أمر العداة بضرب جيدي

جفاني إذ نوى سفراً بعيداً *** فيا لله للسفر البعيد

وكنت ألفته إلفاً جديداً *** ففاجأني بهجران جديد

وقوله من قصيدة:

يا سقى الله عشيات الحمى *** بين أكناف النقى فالمنحنى

وليإليَّ بجمع إنّها *** فرص العمر وتارات المنى

بينما نحن معاً نرتع إذ *** نفضوا الخيف وأمّوا اليمنا

حرست بيضهم بيض القبا *** ورعت سمرههم سمر القنا

وأتت عاذلتي باكرة *** أن رأتني وصبا حلف ضنا

ثُمَّ لمّا أعجبتها نفسها *** وأذابت قلبيَ الممتحنا

حلفت لو أنني كنت أنا *** أنت لم أختر لروحي المحنا

قلت خليني وخلّي عذلي *** ما أنا أنت ولا أنت أنا

لو رأتني حين بانوا والنوى *** تجعل إلّاعين منّا أعينا

ص: 848

لرأت أنملنا ألسننا *** ورأت ألسننا أنملنا

وقوله ملغزا في أحمد:

أقبل كالبدر في مدارعه *** تشرق في السعد من مطالعه

أوّله ربع عشر ثالثه *** وربع ثانيه جذر رابعه

وكان السيد المذكور موجوداً إلى سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.

والراوندي - بفتح الراء المهملة، والواو وبينهما ألف، وسكون النون، آخرها دال مهملة - نسبة إلى راوند، وهي قرية من قرى كاشان، بنواحي أصبهان، قاله السمعاني في الأنساب.

ص: 849

علي عزّ الدين بن فضل الله

إبنه السيد الإمام أبو الحسن علي عز الدين بن السيد الإمام أبي الرضا فضل الله ضياء الدين الحسيني الراوندي.

هو شبل ذلك الأسد، وسالك نهجة الأسد، والعلم إبن العلم، ومن يشابه أباه فما ظلم.

كان سيداً عالماً فاضلاً فقيهاً ثقةً أديباً شاعراً، ألّف وصنّف وقرّط بفوائده الإسماع، وشنّف ونظم ونثر، وحمد منه العين وإلّاثر، فوائده في فنون العلم صنوف، وفرائده في آثار الدهر شنوف.

ومن تصانيفه: (تفسير كلام الله المجيد) لم يتمّه، و(الطراز المذهب في إبراز المذهب)، و(مجمع اللطائف ومنبع الطرائف)، وكتاب (غمام الغموم)، وكتاب (مزن الخزن)، وكتاب (نثر اللئالي لفخر المعالي)، وكتاب (حسيب النسيب للحسيب النسيب)، وهو ألف بيت في الغزل والنسيب، وكتاب (غنية المتغني ومنية المتمني).

ومن نظمه الباهر المزري بعقود الجواهر، قوله في حسيب النسيب:

يقولون إن الركب بعد غد غادي *** فهل لفؤادي إن غدا الركب من فادي

يقولون لا قالوا ويحكون لاحكوا *** بأن غداً يحدو بظعنهم الحادي

فيا نفس غيضي لات حين تبلّد *** ويا عين فيضي ليس ذا وقت إبلادي

ص: 850

فهذا ولمّا يخل منهم نديّهم *** فكيف بأحوإليَّ إذا ما خلا النادي

فديتك هل بعد الفراق تواصل *** وهل يرتجى التقريب من بعد إبعاد

هداني إليك الحب ثُمَّ أضلّني *** فكيف احتيإليَّ والمضلّ هو الهادي

دعاني الهوى سرّاً فلبيت جهرة *** وإن كان إضلإليَّ إليه وإرشادي

فقال الحجى مهلاً فقلت له مهٍ *** فإنّي في واد وإنّك في واد

إلّا ليت شعري هل أرى قلّة الحمى *** وهل يروين سكانها غلّة الصادي

وهل تسهلن للعاشقين بذى الغضى *** موارد طلاب مطالب ورّادِ

وقوله أيضاً:

ذكرتكم والشهب رزحى من السرى *** وكف الثريا للغروب تشيرُ

وقد نشرت صدغ الظلام يد الدجى *** فلم يبق من صدغ الظلام ضفير

فقلت لندمانيّ قوما فعالجا *** فؤاداً يسير الوجد حيث يسيرُ

فقاما إلى صبّ له من جوى النوى *** قرين ومن فرط الغرام عشير

له رنّة من بعدها ألف رنّة *** إليكم ومن بعد الزفير زفير

فقالا معاً في السر نادى فؤاده *** وإن لم يعد لا عاد فهو أسير

ص: 851

فهل من فؤاد سالم نستعيره *** فإن فؤاد الهاشمي كسير

وقوله أيضاً:

سلا عذبات رامة بل رباها *** سلاها لا عدمتكما سلاها

انازحة فراجعة سليمى *** إليك أم استقر بها نواها

اما ومنى وزمزم والمصلّى *** وأركان العتيق ومن بناها

لقد الف الفؤاد هوى سليمى *** ولم يخلص إليه هوى سواها

ورب ليلة زهراء بتنا *** نروى من جوانحنا صداها

فلف الصبح أردية الدياجى *** ورق على مطارفنا نداها

فقامت تعقد إلّازرار عجلى *** وقد حلت مدامعنا حباها

فتبكى تارة وتنوح أخرى *** أسى فلها بكاى ولى بكاها

وقوله:

وقالوا سقيم أي وربِّ محمّد *** وربِّ عليٍّ إنني لسقيمُ

سقيم جفاه إلّاقربون فقلبه *** به من ندوب الحادثات كلوم

وقالوا لها هلّا وأنت كريمة *** وصلت الفتى العذري وهو كريم

ص: 852

ومالك قد أصبحت لا ترحمينه *** وقلبك فيما يزعمون رحيم

فقالت لهم حيٌّ سليم من الهوى *** بلى إننى من حبها لسليم

وقوله:

سرى طيفها والشهب صاح ونشوانُ *** وجنح الدجى في عرصة الجو جيرانُ

وكفّ الثريا بالدعاء ملحّة *** وصحن الثرى من عسكر الزنج ملآن

فأرقني والوجد والركب جنح *** وأكثرهم من قهوة النوم سكران

إلّا أيّها الوجد الذي هو قاتلي *** ترفق قليلاً إنّما أنا إنسان

فلو أنّه ما بي بثهلان بعضه *** لأصبح رجراج الثرى منه ثهلان

وشعره كله على هذا إلّاسلوب الذي يملك السامع ويسترق القلوب.

ص: 853

محمّد بن أحمد بن محمّد

السيد أبو طالب، محمّد بن أحمد بن محمّد العلوي الحسيني صاحب كتاب (الرضا).

ذكره الشيخ أبو الحسن علي بن عبيد الله بن بابويه في فهرس أسماء علماء الإمامية وقال في شأنه: فاضل ثقة.

وذكره أبو الحسن على بن الحسن الباخرزي في كتاب (دمية القصر) فقال: رأيت هذا السيد العالم الزاهد رضی الله عنه عند اجتيازي بالطبس، وأقررت بطلعته الناظر، وارتديت بصحبته العيش الناضر، وطالما كنت أسمع به، فلمّا التقينا صغر الخبر الخبر، فالخلق جددوا العلم ماله في طريقته المثلى من ندد، وكان ملحّاً على أصحاب الملح يستفيدهم ويفيدهم، حتّى أمليت عليه شيئاً من محفوظاتي، واستكتبته بعض فوائده، فجشم قلمه واستعمل في إجابتي كرمه، إلّا أنّي فجعت بما أفادنيه، ونفذ الدهر حكمه فيه، وآفات التعليقات كثيرة، كما قال ابن دوست:

عليك بالحفظ دون الجمع للكتب *** فإن للكتب آفات تفرقها

الماء يغرقها والنار تحرقها *** والفأر يخرقها واللص يسرقها

فما أنشده لنفسه:

إنّ المكارم أصبحت لهفانة *** حرّى وأنت بلالها وبليلها

ص: 854

وإذا المكارم ذللت أو ضللت *** يوماً فأنت دلالها ودليلها

وله:

لا تلحقنك ضجرة من سائل *** قد رام عزّك أن ترى مقتولا

وأعلم بأنّك عن قريب صائر *** خبراً فكن خبراً يروق جميلا

فصل: من نثر له رشحه بنظم، وكتب بهما إلى الرئيس أبي القاسم عبد الحميد بن يحيى: طلع عليّ خطاب حضرة سيدنا مقصوراً على عقود حلّاها تقاصيرها، وحليها كالرياض جلا أزاهيرها، وحليها هذه نظمها خاطر المولى، وهذه وسمها ماطر الولي، حارت أحداق البشر في حدائقه، وغارت حقائق الدرّ من حقائقه، فخدمته وتلقيته باليمين وقلت: ﴿أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (1).

ولو أطاقت من إلّاعظام تنشره *** نواظر العين ما مكنتُ فيه يدا

وان من أعطته المعالي زمامها، وأمطته المكارم سنامها، وأوّلته البلاغة صمصامها، وجعلته البراعة عصامها، ثُمَّ اعتام صفاياها اعتياماً، واحتكم في مزاياها احتكاماً، فأحرِ به أن يكون كتابه المعالي، مقصوراً على ﴿حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ (2)،

ص: 855


1- سورة الشعراء - الآية: 90
2- سورة الرحمن - الآية: 72

وتبسم ألفاظه عن اللؤلؤ الفرادى والتوأم، فهنيئاً له منزلته السماء في المجد العميم، ف- ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ (1) .

وكم كرّرت ناظري في فصوله عند وصوله، فكانت أحسن من ملك أو شباب معاد، وأشقى من ملك محاسد ومعاد، ووقفت على سلامة نفسه النفيسة، نفّس الله مددها، ووفر من الخير مددها، ولا زالت عيون البلاء عنها غافلة، وفنون العلماء إليها رافلة، وأفنان العواف عليها مائدة، وأنواع العوائد إليها عائدة، فإنّها نفس من عاتق المكارم وإلفها، كما عانقت لام الكتاب ألفها، أمّا المخطوبة والكريمة المطلوبة فقد وصلت، ومثله وإن كان لا مثل له مثلها إلى مثلي، من المنتمين إلى خدمته والمربوبين بنعمته، يهدي فيزفّ، وعن غيره يكفّ:

فرائد جاوز الشعرى تراقيها *** نظم المحاسن عقداً في تراقيها

فلو تجسّم ما فيهنّ من حكم *** زهر كزهر جلاها صوب ساريها

تناهبتها العذراى الحور ناظمة *** على النحور عقوداً من لإليها

لها محاسن ما إن سوّيت بدلاً *** إلّا وأبدى مساويه مساويها

إذ لا مروة إلّا وهو ناظمها *** ولا فتوّة إلّا وهو بانيها

ص: 856


1- سورة الجمعة - الآية: 4

متى نظمت مديحاً في مفاخره *** تضوعت عنبراً ورداً قواليها

هذى المهارى حداهن الولاء إلى *** دار تعطّرت الدنيا اهإليها

ولما انصرفت من البصرة في خدمة الركاب العميدي، اتفق لي إلّاستسعاد برؤيته ثانية، وتدالت أسباب الوصول دانية، يكاد يأخذها من قام بالراح، فتزودت من انبساط تلقائه وإلّاغتباط ببقائه ما اعتقدت معه لله تعالى حمداً دائباً وشكرا واصباً، ولم تطل به الأيّام حتّى بسط القضاء جناحه عليه، وقبضه الله تعالى - وله الكبرياء - إليه رحمة الله ورضوانه عليه.

ص: 857

هبة الله بن علي بن محمّد

السيد الشريف أبو السعادات، هبة الله بن علي بن محمّد بن حمزة بن أحمد بن عبيد الله بن محمّد بن عبد الرحمن الشجري بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام، المعروف بابن الشجري البغدادي.

ذكره الشيخ أبو الحسن علي بن عبيد الله بن بابويه القمّي في رجاله، وعدّه من مشايخ الإمامية، وقال: كان فاضلاً صالحاً، صنّف إلّامالي، شاهدت غير واحد يقرأها عليه.

وذكره القاضي إبن خلكان في وفيّات الأعيان، وقال: كان إماماً في النحو واللغة وأشعار العرب وأيّامها وأحوالها، كامل الفضائل متضلعاً من إلّاداب، صنّف فيها عدّة تصانيف، فمن ذلك كتاب (إلّامالي)، وهو أكبر تإليَّفه وأكثرها إفادة، أملاه في أربعة وثمانين مجلساً، وهو يشتمل على فوائد جمة وفنون إلّادب، وختمه بمجلس قصره على أبيات من شعر أبي الطيّب، تكلّم عليها وذكر ما قاله السرّاج فيها، وزاد من عنده ما سنح له، وهو من الكتب الممتعة.

ولمّا فرغ من إملائه حضر إليه أبو عبد الله بن الخشاب، والتمس سماعه منه، فلم يجبه إلى ذلك، وعاداه وردّ عليه في مواضع من الكتاب، ونسبه في مواضع منه إلى الخطأ، فوقف أبو السعادات على ذلك الرد، فردّ عليه وبيّن غلطه، وجمعه كتابا سمّاه (الأمصار)، وهو على صغر حجمه مفيد جداً، وسمعه عليه النّاس، وجمع

ص: 858

أيضاً كتاباً سماه (الحماسة)، ضاهي به حماسة أبي تمّام الطائي، وهو كتاب غريب مليح أحسن فيه، وله في النحو عدة تصانيف.

وكان حلو الكلام فصيحاً، جيد البيان والتفهيم، وقرأ الحديث على جماعة من الشيوخ المتأخرين، مثل أبي الحسن المبارك بن عبد الجبار الصيرفي، وأبي على محمّد بن سعيد الكاتب، وغيرهما.

وذكره الحافظ السمعاني في كتاب (الذيل)، وقال: اجتمعت معه في دار الوزير أبي القاسم علي بن طرد الزينبي، وقت قراءتي عليه الحديث، وعلّقت عليه شيئاً من الشعر في المدرسة، ثُمَّ مضيت وقرأت عليه جزء من أمالي أبي العبّاس ثعلب النحوي.

وحكي أن أبا القاسم محمود الزمخشري لمّا قدم بغداد قاصداً للحجّ في بعض أسفاره، مضى إلى زيارة أبي السعادات المذكور، فلمّا اجتمع به ذكر قول المتنبّي:

واستكثر الأخبار قبل لقائه *** فلمّا التقينا صغر الخبر الخبر

ثُمَّ أنشده بعد ذلك قول محمّد بن هاني الآندلسي:

كانت مساءلة الركبان تخبرني *** عن جعفر بن فلاح أحسن الخبر

حتّى التقينا فلا والله ما سمعت *** أذني بأحسن ممّا قد رأى بصري

ص: 859

فقال الزمخشري روى عن النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم لمّا قدم عليه زيد الخيل قال: {يا زيدُ ما وصفَ ليْ أحدٌ في الجاهليةِ فرأيتُهُ في الإسلام إلّا رأيتُهُ دونَ ما وصفَ ليْ غيركَ}، فخرج الحاضرون وهم يعجبون كيف يستشهد الشريف بالشعر، والزمخشري بالحديث، وهو رجل أعجميّ.

وكان أبو السعادات المذكور نقيب الطالبين بالكرخ، وله شعر حسن، فمن ذلك قصيدة يمدح بها بعض الوزراء وصدرها:

هذي السديرة والغدير الطافح *** فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح

يا سدرة الوادي الذي إن ظلّه *** الساري هداه لنشره المتفاوح

هل عائد قبل الممات لمغرم *** عيش تقضّى في ظلالك صالح

ما أنصف الرشأ الضنين بنظرة *** لما رعى مضغي الصبابة طامح

شطّ المزار به وبوّئ منزلاً *** بصميم قلبك فهو دانٍ نازح

غصن تعطّفه النسيم وفوقه *** قمرٌ يحفّ به ظلام جانح

وإذا العيون تساهمته لحاظها *** لم يرو منه الناظر المتراوح

ولقد مررنا بالعقيق فشاقنا *** فيه مراتع للمها ومسارح

ظلنا به نبكي فكم من مضمر *** وجداً أذاع هواه دمع سافح

ص: 860

محت السنون رسومها فكأنّما *** تلك العراص المقفرات نواضح

يا صاحبيّ تأمّلا حيّيتما *** وسقى دياركما الملثّ الرائح

أدمى بدت لعيوننا أم ربرباً *** أم خرّداً أكفالهن رواجح

أم هذه مقل الصوار رنت لنا *** خلل البراقع أم قناً وصفايح

لم يبق جارحة وقد واجهننا *** إلّا وهنّ لها بهن جوارح

كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى *** ومن الشقاوة أن يراض القارح

لو بلّة من ماء ضارج شربة *** ما أثرت للوجد فيه لواقح

ومن هاهنا يخرج إلى المديح، ومن شعره أيضاً:

هل الوجد خاف والدموع شهود *** وهل مكذب قول الوشاة جحودُ

وحتّى متى تفني شؤنك بالبكا *** وقد حدَّ حدّاً للبكاء لبيد

وإنّي وإن حفّت قناتي كبرة *** لذو مرّة في النائبات جليد

فيه أشارة إلى قول لبيد يخاطب ابنتيه:

إلى الحول ثُمَّ اسم السلام عليكما *** ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

ص: 861

وكان بين الشريف أبي السعادات المذكور وبين أبي محمّد الحسن الحريمي الشاعر تنافس جرت العادة بمثله بين أهل الفضل، فلمّا وقف على شعره قال فيه:

يا سيدي والذي يعيذك من *** نظم قريض يصدى به الفكرُ

ما فيك من جدك النبيّ سوى *** أنّك لا ينبغي لك الشعر

ولعمري ما أنصفه، ولكن العدوّ يقول في عدوّه ما شاء.

وكانت ولادة الشريف المذكور في سنة خمس وأربعمائة، وتوفي يوم الخميس، لعشر بقين من شهر رمضان، سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.

والشجري- بفتح الشين المعجمة، وفتح الجيم، وبعدها راء - نسبة إلى شجرة، وهي قرية من أعمال المدينة على ساكنها الصلاة والسلام، وليس من أجداده من إسمه شجرة فينسب إليه، كما تردد في ذلك ابن خلكان، والله أعلم.

ص: 862

عماد الدين ذو الفقار بن محمد

السيد أبو الصمصام عماد الدين ذو الفقار، بن محمّد بن سعيد بن الحسن بن أحمد الملقب حميدان إبن إسماعيل قتيل القرامطة إبن يوسف بن محمّد بن يوسف الأصغر بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام .

الحسني المروزي، حسام المجد القاطع، وقمر الفضل الساطع، والإمام الذي عرف فضله الإسلام، وأوجبت حقّه العلماء إلّاعلام، ونطقت بمدحه أفواه المحابر وألسن إلّاقلام، وسعى جهده في بثّ أحاديث أجداده الكرام عليهم الصلاة والسلام، وقلّ ما خلت إجازة من روايته؛ لسعة علمه وروايته، والثقة بورعه وديانته.

كان فقيهاً عالماً متكلماً، وكان ضريراً، يروي عن السيد الأجل المرتضى علم الهدى أبي القاسم علي بن الحسين الموسوي، والشيخ الموفق أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي، والشيخ الجليل الصدوق أبي العبّاس أحمد بن علي بن أحمد بن العبّاس النجاشي، وروى عنه السيد أبو الرضا فضل الله الراوندي، ومن في طبقته.

قال الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن بابويه في رجاله: صادفته وهو إبن مائة وخمسة عشر سنة رحمه الله تعالى.

ص: 863

والمروزي، بفتح الميم وسكون الراء وفتح الواو بعدها زاي، هذه النسبة إلى مرو الشاهجان، وهي إحدى كراسي خراسان، وهي أربع مدن، هذه ونيسابور وهرات وبلخ، وهذه مرو بناها إلّاسكندر ذو القرنين، وزاد في النسبة إليها زاي، كما قالوا بالنسبة إلى الري رازي، وهذا من باب تغيير النسب.

وأكثر أهل العلم يخصّ زيادة الزاي في النسب ببني آدم، وما عدا ذلك لا يزاد فيه، فيقال فلان المروزي، والثوب وغيره من المتاع مروي - بسكون الراء – وقيل: بل يقال في الجميع، بزيادة الزاي، ولا فرق بين بني آدم وغيرهم، والله أعلم.

ص: 864

أحمد بن علي المرعشي

السيد أحمد بن علي العلوي الحسيني المرعشي، أحد السادات الفضلاء والقادة النبلاء.

ولد بدهستان، في صفر سنة إثنتين وستين وأربعمائة، ونشأ بجرجان، واستوطن في آخر عمره ساري مازندران.

وكان سيّداً فاضلاً نسّابة، سافر إلى الحجاز والعراق وخراسان وما وراء النهر والبصرة وخوزستان، ولقي كثيراً من أئمة الحديث، وسمع ببغداد من أبي يوسف عبد السلام بن محمّد بن يوسف القزويني، وبالكوفة من أبي الحسين أحمد بن محمّد بن جعفر الثقفي، وسمع بجرجان من أبي القاسم إسماعيل بن مسعدة الإسماعيلي، وبأصبهان من أبي عمرو محمّد بن أحمد بن عمر النهاوندي.

قال السمعاني: كان السيد المذكور صاحب فضل كبير، لكنّه كان غإليَّاً في التشيع معروفاً بذلك، وكنت رأيته أوّلاً بمرو وأنا صغير، ثُمَّ رأيته بساري وسمعت منه بعض الأحاديث، وكتبتها عنه.

وتوفي في شهر رمضان، سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، رحمه الله تعالى.

والمرعشي - بضم الميم، وسكون الراء المهملة، وفتح العين المهملة، وكسر الشين المعجمة - نسبة إلى مرعش، وهو لقب لجدّه علي بن عبيد الله بن محمّد بن الحسين

ص: 865

بن الحسين الأصغر بن زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام، لقّب به؛ لأنّه كانت به رعشة، وتشبيهاً له بمرعش، وهو جنس من الحمام، يحلّق في الهواء، والله أعلم.

ص: 866

محمّد بن يحيى بن ظفر

السيد أبو طاهر، محمّد بن يحيى بن ظفر بن الداعي بن مهدي بن جعفر بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب علیهما السلام .

كان من أهل أسترآباد، شيخ الإمامية بها، ومقدّم طائفته وعشيرته، وأهل بيته كلّهم علماء فضلاء محدّثون،

أمّا جده الداعي بن مهدي فكان من علماء الحديث المشهورين، وإمّا ظفر بن الداعي فكان فقيهاً ثقة صالحاً، قرأ على الشيخ أبي الفتح محمّد بن علي الكراجكي، تلميذ الشريف المرتضى.

وإمّا أبو طاهر المذكور، فكان جليل القدر رفيع الشأن، فقيهاً محدّثاً رئيساً مدرساً، سمع منه المخالف والمؤالف، وممّن سمع منه أبو سعد السمعاني.

وكانت ولادته سنة ست وستين وأربعمائة، ولم تؤرخ وفاته، رحمه الله.

ص: 867

أحمد بن فضل الله بن علي

السيد أبو المحاسن، أحمد بن السيّد الإمام فضل الله إبن علي الحسيني الراوندي، الملقب كمال الدين.

تقدّم ذكر أبيه وأخيه، كان عالماً فاضلاً، ولّي القضاء فحمدت سيرته، وذكره الشيخ أبو الحسن علي بن بابويه في فهرس أسماء علماء الإمامية، ووصفه بالعلم والفضل، ولأبيه أشعار كثيرة يخاطبه بها، فمن ذلك قوله يخاطبه:

أقرّة عيني إننى لك ناصح *** وإن سبيل الرشد دونك واضح

أقرّة عيني لا تغرنّك المنى *** فما هنّ إلّا قانصات جوامح

وليس المنى إلّا سراباً بقيعة *** ترقرقه بادي النهار الصحاصح

وإيّاك والدنيا الدنيّة إنّها *** بوارح سوء ليس فيهنّ سانح

إذا ما استشفّتها الحقيقة أفصحت *** بأن المنايا غاديات روائح

وأن ليس نفس المرء إلّا منيحة *** ولابدّ يوماً أن تردّ المنايح

كفى حزناً أن الذنوب كثيرة *** وما هنّ إلّا المخزيات الفواضح

كفى حزناً أنّا نسينا عديدنا *** وقد عدّها مستأمن لا يسامح

ص: 868

ويا صدق ما قد قال من قبل شاعر *** يعبّر عمّا أضمرته الجوانح

كفى حزناً إلّا حياة شهية *** ولا عمل يرضى به الله صالح

وقوله في أوّل قصيدة كتبها إليه، وهو بأصبهان:

البين فرّق بين جسمي والكرى *** والبين أبكاني نجيعاً أحمرا

دمعي دمٌ مذ صعّدته حرقتي *** سلبته حمرتَه فسال مقطّرا

كالورد أحمر ثُمَّ إن قطّرته *** خلع الرداء وعاد أبيض أزهرا

قالوا تصبر قلت لا تستعجلوا *** أو تصبر الأيّام أن أتصبرا

هذا حديث والنزاع يكاد أن *** يقوى فينزع قلبي المتجبّرا

قسماً لو انّي كنت أعلم أنني *** أبقى كذا متلدّداً متحيّرا

لعلقت ذيل أبي المحاسن عنوة *** إمّا تهيّأ للفراق وشمّرا

وكتب إليه في جواب كتابه:

وصل الكتاب فكان أكرم واصل *** وقبلته في الحال أفرح قابل

وحمدت ربّي إذ قرأت كتابه *** غرراً حوإليَّ لم تكن بعواطل

وسألته التوفيق وهو موفّق *** لمصالح الولد الأعز الفاضل

ص: 869

وقضاء ما قد كان من تقصيره *** بالجدّ فيما بعد غير مماطل

فليجتهد هيمان في تحصيله *** لا شيء أحسن من قضاء عاجل

ص: 870

علي بن رضيّ الدين ما نكديم

السيد أبو الحسن، علي بن رضي الدين ما نكديم بن إسماعيل بن عقيل بن عبد الله بن الحسن بن جعفر بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين بن أبي طالب علیهم السلام .

كان أبوه السيد رضي الدين إماماً فاضلاً فقيهاً ثقة، ذكره الشيخ أبو الحسن علي بن عبيد الله بن بابويه في فهرس أسماء علماء الإمامية وأثنى عليه.

وإمّا إبنه السيد أبو الحسن المذكور، فذكره أبو الحسن الباخرزي في دمية القصر، فقال: ما عسى أن أقول في هذا السيد؟!.. والوجه وضئ، والشعر مرضي، واللسان عربي، والجدّ نبي، والجلّة شرف، وهو من أسلاف الأشراف، خلف رايته عارضي الوجه من الشعر، متناصف حسن الوجه والشعر، غضّ إلّادب والسن، يضرب جماله وهو من الآنس بعرق من الجنّ، واستكتبته نبذاً من أشعاره، فكتب لي بخطه الديباجي الجليّ، وضمّنها ما لم يضمّن صدور الغانيات من الحلي:

لعمرك ما نجدية الدار اتهمت *** وحنّت إلى نجد وأنت من الوجد

بأ جزع منّي لا وأسكب عبرة *** وأدنى الذي أخفي كاقصى الذي تبدي

ص: 871

أقول إذا ما الليل أرخى سدوله *** وطال مطال الصبح والقول لا يجدي

إلّا ليت شعري هل أرى الصبح طالعاً *** بوجهك لي أفديه من طالع سعد

وإن جلّ ذاك الوجد عن قدر مهجتي *** فليس على العبد الضعيف سوى الجهد

ولو كنت أعطى ما أشاء من المنى *** لما كنت تمشي قطّ إلّا على خدّي

قلت: ليت شعري من المنتعل لهذا الخدّ، فأشهد له بعلوّ الجد.

وله:

وما زهرات الروض باكرها الندى *** ولا البدر فيما بين أنجمه الزهر

باحسن من سعدى إذا ما تبسمت *** بياقوت فيها عن نظام من الدرّ

وقوله:

بنفسى معسول الرضاب مهفهف *** حثيث الخطى في المشي سود غدائره

ص: 872

أراق دمي وجداً وأرّق ناظري *** إذا ما دجى جنح الحنادس ناظره

وكنت سجيس الدرّ أخشى فراقه *** فكان الذي كنّا قديماً نحاذره

وبتّ كما شاء الفراق ولم أزل *** أكفكف دمعاً تستهلّ بوادره

بكى عند توديعي أسى فتهتكت *** على ملأٍ من حاسديه ستايره

فدمعته أشفت إلى الرقباء ما *** أسرته من برح الغرام ضمائره

وما نكديم: لفظة فارسية، معناها خدّ القمر، أو قمري الخدّ، وهي مركبة من مانك وديم، فمانك - بفتح الميم، وسكون النون بعد الألف، وكاف – فارسية، وهو القمر، وقيل: الشمس، والأوّل أصحّ، والديم - بكسر الدال، وسكون إليَّاء المثناة من تحت - على وزن جيم، وهو الخدّ، فاعلمه، فقلّ ما عرف أحد تأمّل معنى ذلك، ولقد سألت عن هذه اللفظة جماعة من الفرس فلم يعلموه، حتّى وقفت عليه في كتاب من كتب اللغة الفارسية.

ص: 873

الحسن بن أبي الضوء العلوي

الشريف أبو محمّد الحسن بن أبي الضوء العلوي الحسيني، نقيب مشهد باب التين ببغداد.

وكان سيّداً جليلاً عالماً فاضلاً أديباً، حسن الشعر والرواية، عظيم الشأن جليل القدر، وذكره العماد الكاتب في الخريدة، وأنشد له من قصيدة يرثى بها النقيب الطاهر أبا عبد الله:

إحملاني إن لم يكن لكما *** عقر إلى جنب قبره فاعقراني

وانضحا من دمي عليه فقد *** كان دمي من نداه لو تعلمانِ

قال العماد: وتوفي الشريف أبو محمّد المذكور سنة سبع وثلاثين وخمسمائة.

قال المؤلف عفا الله عنه: ذكرت بهذين البيتين حكاية ذكرها الشيخ أبو الفرح عبد الرحمن بن الجوزي في كتاب (الأذكياء)، وهي تنافي كون هذين البيتين للسيد أبي محمّد المذكور.

وصورة الحكاية قال: بلغني من بعض أصحاب المبرّد إنه قال: إنصرفت من مجلس المبرّد فعبرت على خربة، فإذا أنا بشيخ قد حرج منها وفى يده حجر، فهمّ أن يرميني فتترست بالدفتر، فقال لي: مرحباً بالشيخ، فقلت: وبك، فقال لي: من أين أقبلت؟

ص: 874

قلت: من مجلس المبرد، فقال: البارد، ثُمَّ قال: ما الذي أنشدكم؟ وكان عادته أن يختم مجلسه ببيت أو بيتين ومن الشعر، فقلت انشدنا:

أعار الغيثَ نائله *** إذا ما ماؤه نفدا

وإن أسد شكى جبناً *** أعار فؤاده الأسدا

فقال: أخطأ قائل هذا الشعر، قلت: كيف؟ قال: إلّا تعلم إذا أعار الغيث نائله بقي بلا نائل، وإذا اعار الأسد فؤاده بقي بلا فؤاد، قال: هلّا قال مثل هذا، وأنشد:

علّم الغيث نداه فإذا *** ما وعاه علّم البأس الأسدْ

فله الغيث مقرٌ بالندى *** وله الليث مقرٌ بالجَلَدْ

فكتبتها عنه وانصرفت، ثُمَّ مررت به بعد أيام، وإذا به قد خرج وبيده حجر فكاد يرميني، ثُمَّ ضحك وقال: مرحباً بالشيخ، أتيت من مجلس المبرد؟ فقلت: نعم، فقال ما الذي أنشدكم؟ فقلت: أنشدنا

إن السماحة والمروّة ضمّنا *** قبراً بمرو على الطريق الواضحِ

فإذا مررت بقبره فاعقرْ به *** كرم الجياد وكل طرف سابح

فقال لي: أخطأ قائل هذا الشعر، قلت: كيف؟ قال: ويحك لو نحر نجب خراسان ما أثر في حقّه، هلّا قال مثل هذا، وأنشد:

ص: 875

إحملاني إن لم يكن لكما *** عقر إلى جنب قبره فاعقراني

وانضحا من دمي عليه فقد *** كان دمي من نداه لو تعلمانِ

فلمّا عدت الى المبرد قصصت عليه القصّة، فقال لي: أتعرفه؟ قلت: لا، فقال: ذاك خالد الكاتب، تأخذه السوداء في أيام الباذنجان.

فإن صحّت هذه الحكاية، بطلت نسبة البيتين المذكورين إلى السيد أبي محمّد المذكور؛ لأن المبرد توفي سنة ست وثمانين، وقيل: سنة خمس وثمانين ومائتين، وقد علمت أن وفاة السيد أبي محمّد المذكور سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، فتعيّن نظم البيتين المذكورين قبل وجوده بمدة مديدة، فيحتمل أن يكون ضمنها قصيدة فنسبها إليه، والله أعلم.

ص: 876

محمّد بن أحمد بن محمّد

الشريف أبو إبراهيم، محمّد بن أحمد بن محمّد بن الحسين بن إسحق المؤتمن بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام، المعروف بالحرّاني.

كان عالماً فاضلاً أديباً لبيباً عاقلاً شجاعاً مقدماً، تقدّم بحرّان ونبغ بها، واشتهر ذكره وعلا صيته.

قال العمري النسّابة: لم تكن حال أبي إبراهيم في أوّل أمره واسعة، فزوّجه أبو عبد الله الحسين الحراني بن الحسين بن علي بن عبد الله بن علي الطيب العلوي العمري إبنته خديجة، المعروفة بأمّ سلمة، وكان أبو عبد الله الحسين العمري متقدماً بحرّان مستولياً عليها، وقوي أمر أولاده، حتّى استولوا على حرّان وملكوها على آل وثّاب، وساروا سيرة رديّة، وأسلم بعضهم بعضاً، حتّى تفرقوا وقهروا وأخرجوا عن حرّان.

قال: فأمدّ أبو عبد الله الحسين أبا إبراهيم بماله، وجاهد ونبغ أبو إبراهيم وتقدم، وخلّف أولاد سادة فضلاء، هذا كلامه.

ومن شعر أبي إبراهيم القصيدة التي كتبها إلى أبي العلاء المعرّي، وأجاب عنها المعرّي بالقصيدة المشهورة المثبتة في ديوانه، وأوّل قصيدة الشريف أبي إبراهيم قوله:

ص: 877

غير مستحسن وصال الغواني *** بعد ستين حجّة وثمانِ

فصن النفس عن طلاب التصابي *** وازجر القلب عن سؤال المغاني

إن شرخ الشباب بدّله شيباً *** وضعفاً مقلب الأعيان

فانفض الكفّ عن خباء الحميّا *** وامعن الفكر في اطّراح المعاني

وبيمن بساعة البين فاجعل *** خير فأل تناعب الغربان

أترجّي مالاً رحيباً فإسعاد *** سعاد وقد مضى إلّاطيبان

فالأديب إلّاريب يعرف ما *** ضمن طيّ الكتاب بالعنوان

علّق الدهر عارضيك بشيب *** أنكرت عرفه أنوف الغواني

وتحامت حماك نافرة عنك *** نفار البهمى من السرحان

ورد الغائب البغيض إليهنّ *** وولّى حبيبهنّ المداني

وأخو الحزم مغرم بحميد *** الذكر يوم الندى ويوم الطعان

همّه المجد واكتساب المعالي *** ونوال العافي وفكّ العاتي

لا يعير الزمان طرفاً ولا يجمل *** صبراً بطارق الحدثان

وهي قصيدة طويلة غرّاء جيدة جداً، وفى هذا القدر منها كفاية.

ص: 878

وقصيدة المعرّي أوّلها:

علّلاني فإنّ بيض الغواني *** فنيت والظلام ليس بفاني

إن تناسيتما وداد أناس *** فاجعلاني من بعض من تذكراني

ربَّ ليل كأنّه الصبح في الحسن *** وإن كان أسود الطيلسان

قد ركضنا فيه إلى اللهو لمّا *** وقف النجم وقفة الحيران

كم أردنا ذاك الزمان بمدح *** فشغلنا بذمِّ هذا الزمان

ومع شهرة ديوانه فلا حاجة إلى إثبات أكثر من هذا.

وما أحسن قوله فيها:

وعلى الدهر من دماء الشهيدين *** عليٍّ ونجلِه شاهدانِ

فهما في أواخر الليل فجران *** وفي أوّلياته شفقانِ

قال بعض الشراح: إنّما قال هذا لأنّ الممدوح كان رجلاً علويّاً شيعيّاً، وفرقة من الشيعة يزعمون أن الحمرة التي في أوائل الليل وأواخره لم تكن إلّا منذ قتل الحسين علیه السلام .

ص: 879

ومنهم من يرى أن ادّعاء هذا محال؛ لأن تلك الحمرة لم تزل موجودة قبل قتله علیه السلام، بل يحسن القول على مذهبه بأن يقول: إنّما كانت إعلاماً من الله تعالى بما سيكون من قتلهما علیهما السلام قبل أن يكون.

قال المؤلف: لم ينفرد الشيعة بهذا القول، بل قال به أيضاً جماعة من أهل السُنّة، منهم العلّامة جلال الدين السيوطي، فقد قال في (تاريخ الخلفاء): كان قتله يوم عاشوراء، وكسفت الشمس ذلك اليوم، واحمرّت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثُمَّ لا زالت ترى الحمرة بعد ذلك، ولم تكن ترى فيها قبله، هذا نصّه، فنسبة القول به إلى فرقة من الشيعة لا وجه له.

وتوفي السيد أبو إبراهيم بحلب، فرثاه المعرّي بقصيدته التي خاطب بها أولاده:

بني الحسب الوضّاح والشرف الجمِّ *** لسانيَ إن لم أرثِ والدكم خصمي

وهي قصيدة طويلة أحسن فيها كل الإحسان.

والحرّاني - بفتح الحاء، وتشديد الراء المهملتين، وبعد الألف نون - نسبة إلى حرّان، وهي مدينة عظيمة مشهورة بين الموصل والشام، قيل: سمّيت بهاران أخي إسماعيل علیه السلام؛ لأنّه أوّل من بناها، فعرّبت فقيل: حرّان، والله أعلم.

ص: 880

طاهر بن الحسين بن طاهر

الشريف أبو القاسم، طاهر بن الحسين بن طاهر بن يحيى بن الحسن بن جعفر الحجّة إبن عبد الله الأعرج إبن الحسين الأصغر إبن زين العابدين علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب علیهم السلام .

كان شريفاً جليلاً عالماً فاضلاً كريماً ممدّحاً شهماً شجاعاً مقداماً مهيباً، مع الصلاح والورع والتقوى.

وهو الذي مدحه أبو الطيّب المتنبّي بالقصيدة البائية التي يقول فيها:

إذا علويٌّ لم يكن مثل طاهر *** فما هو إلّا حجّة للنواصبِ

يقولون تأثير الكواكب في الورى *** فما باله تأثيره في الكواكب

علا كتد الدنيا إلى كلّ غاية *** تسير به سير الذلول براكب

وحقَّ له أن يسبق النّاس جالساً *** ويدرك ما لم يدركوا غير طالب

ويحدي عرانين الملوك وإنّها *** لمن قدميه في أجلّ المراتب

يد للزمان الجمع بيني وبينه *** لتفريقه بيني وبين النوائب

هو ابن رسول الله وابن وصيّه *** وشبههما شبّهت بعد التجارب

ص: 881

وكان يسكن الرملة من بلاد الشام، وكانت له المنزلة العظيمة والجاه الرفيع عند صاحبها الأمير أبي محمّد الحسين بن عبيد الله بن طغج، حتّى قيل: إنّه الذي أمر المتنبّي بمدحه، وكان المتنبّي وعد الأمير أبا محمّد بقصيدة، فقال له: إجعلها عوضاً عنّي في الشريف، فسار إليه وأنشده القصيدة المذكورة، والله أعلم.

ص: 882

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

الطبقة الحادية عشرة من الدرجات الرفيعة في طبقات الإمامية من الشيعة(رحمهم الله تعالى برحمته الواسعة)

اشارة

ص: 883

النابغة الجعديّ

هو أبو ليلى حيّان بن قيس بن عبد الله بن وحوح بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن قصعة بن قيس بن عيلان بن مضر.

قال أبو الفرج الأصبهاني: هذا النسب الذي عليه النّاس اليوم مجتمعين، وقد روى فيه روايات تخالف هذا.

وعن محمّد بن سلام أنه: قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة بن صعصعة.

وقال إبن الأعرابي: هو قيس بن عبد الله بن عمرو بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة.

قال أبو الفرج: وهذا وهم ممّن قال: أنه اسمه قيس، إذ ليس يشكّ في أنّه كان له أخ يقال له: وحوح بن قيس، وهو الذي قتله بنو أسد.

وإنّما سمّي النابغة لأنّه أقام مدة لا يقول الشعر، ثُمَّ نبغ، فقيل له: النابغة.

وقيل: أنّه قال الشعر في الجاهلية، ثُمَّ أجبل دهراً، ثُمَّ نبغ بعد بالشعر في الإسلام.

ص: 884

قال المؤلف: يقال: أجبل الشاعر، إذا صعب عليه قول الشعر فانقطع، كأنّه وصل إلى جبل، من قولهم: أجبل الحافر، إذا أفضى إلى الجبل والصخر الذي لا يحيك فيه المعول.

وعن ابن الأعرابي قال: أقام النابغة الجعديّ ثلاثين سنة لا يتكلم، ثُمَّ تكلم بالشعر فقيل له: النابغة.

وكان شاعراً قديماً مفلّقاً، طويل البقاء في الجاهلية والإسلام، وهو أسنّ من نابغة بني ذيبان، ويدلّ على ذلك قوله:

ومن يك سائلاً عنى فإنّي *** من الفتيان أيّام الخنانِ

أتت مائة لعام ولدت فيه *** وعشر بعد ذاك وحجتانِ

فقد أبقت خطوب الدهر منّي *** كما أبقت من السيف اليماني

وعمّر بعد ذلك عمراً طويلاً.

والخنان - بضمّ الخاء، وبعدها نونين، بينهما ألف - على وزن سراب، سئل محمّد بن حبيب عن أيّام الخنان ما هي، فقال: وقعة كانت لهم، فقال قائل منهم: خنوهم بالرماح، فسمّي ذلك العام عام الخنان.

يقال: خنى الجذع إذا قطعه، والقوم وطئ مخنّتهم، أي حريمهم.

ص: 885

وقال الفيروز آبادي في القاموس: الخنان - كقراب - زمام للإبل، وزمن الخنان كان في عهد المنذر بن ماء السماء، ماتت الإبل منه.

ومن شعر النابغة في طول عمره:

قالت أمامة كم عمرت زمانة *** وذبحت من عنز على إلّاوثانِ

ولقد شهدت عكاظ قبل محلّها *** فيها وكنت أعد ملفتيانِ

والمنذر بن محرّق في ملكه *** وشهدت يوم هجائن النعمانِ

وعمرت حتّى جاء أحمد بالهدى *** وقوارع تتلى من القرآنِ

ولبست في السلام ثوباً واسعاً *** من سيب لا حرمٍ ولا منّانِ

والمنذر بن محرق المذكور، هو ابن النعمان ملك الحيرة، وكان من ندمائه، كما يدلّ عليه قوله:

تذكرت والذكرى تهيج على الفتى *** وما حاجة المحزون أن يتذكرا

نداماي عند المنذر بن محرّق *** أرى اليوم منهم ظاهر الأرض مقفرا

كهول وفتيان كأن وجوههم *** دنانير ممّا شيف في أرض قيصرا

ص: 886

وهذا مما يدلّ على أنّه أسنّ من النابغة الذبياني؛ لأن الذبياني أدرك النعمان بن المنذر، وهو أدرك أباه المنذر ونادمه، ومات الذبياني قبله، ولم يدرك الإسلام، وهو أدرك الإسلام وأسلم، وعاش إلى أيام عبد الملك بن مروان.

وقال أبو حاتم السجستاني في كتاب (المعمّرين): عاش مائتي سنة، وقال عمر بن شبّه: مائة وثمانين سنة.

وأنشد عمر بن الخطّاب أبياته التي يقول فيها:

لبست أناساً فافنيتهم *** وأفنيت بعد أناس أناسا

ثلاثة أهلين أفنيتهم *** وكان إلّاله هو المستآسا

فقال عمر: كم لبثت مع كل أهل؟ قال: ستين سنة.

وقال إبن قتيبة: إنّه عمّر مائتين وعشرين سنة.

قال أبو الفرج: وما ذاك بمنكر؛ لأنّه قال لعمر: إنّه أفنى ثلاثة قرون، كلّ قرن ستون سنة، فهذه مائة وثمانون سنة، ثُمَّ عمّر بعدهم، فمكث بعد قتل عمر خلافة عثمان وعليّ علیه السلام ومعاوية ويزيد، وقدم على عبد الله بن الزبير فمكث بمكّة، وقد دعا إلى نفسه، وبين هؤلاء وعمر نحو ما ذكر إبن قتيبة، بل لا أشكّ أنّه بلغ هذا السنّ.

وعن الأصمعي أنّه عاش مائتين وثلاثين سنة.

ص: 887

قال أبو عبيدة: كان النابغة ممّن فكر في الجاهلية، وأنكر الخمر والسكر، وهجر إلّازلام واجتنب إلّاوثان، وقال في الجاهلية كلمته التي أوّلها: (الحمد لله لا شريك له، من لم يقلها فنفسه ظلما).

وكان يذكر دين إبراهيم علیه السلام والحنيفية، ويصوم ويستغفر، ولما بعث النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم وفد عليه، وأنشده قصيدته التي أوّلها:

خليليّ غضّا ساعة وتهجّرا *** ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا

فلمّا وصل إلى قوله:

بلغنا السماء مجدنا وجدودنا *** وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا

غضب النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم وقال له: [إلىْ أينَ يا أبا ليلىْ؟] قال: إلى الجنّة: قال: [أجلْ إنْ شاءَ اللهُ تعالىْ]، فلمّا فرغها قال له النبيُّ صلی الله علیه و آله و سلم: [لاْ يفضُّ اللهُ فاكَ]، مرّتين.

قال يعلى بن الأسد والعقيلي: فلقد رأيته وقد أتت عليه مائة سنة، أو نحوها، وما انفضّ من فيه سنٌّ ولا انفلت، وإن أسنانه لكالبَرَد المنهل.

وفى رواية نصر بن عاصم الليثي: أنّه أنشد النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم من القصيدة قوله:

ولا خير في حلم إذا لم تكن له *** بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا

ولا خير في جهل إذا لم يكن له *** حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

ص: 888

فقال له صلی الله علیه و آله و سلم: [صدقتَ، لا يفضُّ اللهُ فاكَ]، فمكث بعد كلّما سقطت له سن عادت أخرى.

وهذه القصة رويت مسلسلة بالشعراء، من رواية دعبل بن علي الشاعر، عن أبي نواس، عن والبة بن الحُبّاب، عن الفرزدق، عن الطرماح، عن النابغة، وهي في كتاب (الشعر) لأبي زرعة الرازي.

وعن مسلمة بن أبي محارب قال: دخل النابغة الجعديّ على عثمان بن عفّان فقال: أستودعك الله، قال: وأين تريد يا أبا ليلى ؟ قال: ألحق بإبلي فأشرب من ألبانها، فإنّي منكر لنفسي، فاذن له، فدخل على الحسن والحسين إبني عليّ، فقالا له: أنشدنا من شعرك يا أبا ليلى، فأنشدهما:

الحمد لله لا شريك له *** من لم يقلها فنفسه ظلما

المولج الليل في النهار وفى *** النهار ليلاً يفرج الظلما

الخافض الرافع السماء على *** الأرض ولم يبن تحتها دعما

ثُمَّ عظاما أقامها عصب *** ثُمَّة لحماً كساه فالتحما

من نطفة قدّرها مقدّرها *** يخلق منها الآنسان والنسما

واللون والصوت والمعايش *** والأرزاق شتّى وفرّق الكلما

ثُمَّة لابد أن سيجمعكم *** والله جهداً شهادة قسما

ص: 889

فائتمروا الآن ما بدا لكم *** واعتصموا ما وجدتم عصما

في هذه الأرض والسماء ولا *** عصمة منه إلّا لمن عصما

وهي قصيدة طويلة يذكر ضروب التوحيد وإلّاقرار بالبعث والجزاء والجنّة والنار.

قال: فقال الحسن والحسين: يا أبا ليلى كنا نروى هذا الشعر لأميّة بن أبي الصلت، فقال: يا ابني رسول الله إنّي لصاحب هذا الشعر، وأوّل من قاله، وإن السروق من سرق شعر أميّة.

قال أبو الفرج وغيره: وشهد النابغة مع عليٍّ بصِفّين.

وروى أحمد بن عبد العزيز الجوهري بإسناده إلى إبن داب، قال لما خرج أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام إلى صِفّين، خرج معه نابغة بني جعدة، فساق به يوماً فقال:

قد علم المصران والعراقُ *** ان عليّاً فحلها العتاقُ

أبيض جحجاح له رواق *** وأمّه غالى بها الصداق

أكرم من شُدَّ به نطاق *** إن الأولى جاروك لا أفاقوا

لهم سباق ولكم سباق *** قد علمت ذالكم الرفاق

سقتم إلى نهج الهدى وساقوا *** إلى التي ليس لها عِراق

ص: 890

في أهله عادتها النفاق

ولما تغلب معاوية كتب إلى مروان فأخذ أهل النابغة وماله، فلمّا قدم معاوية الكوفة دخل عليه النابغة، وعنده مروان، فقال:

أمن راكب يأتي ابن هند بحاجتي *** على النأي والأنباء تنمى وتجلب

ويخبر عني ما أقول ابن عامر *** ونعم الفتى يأوي إليه المعصّب

فإن تأخذوا أهلي ومالي بظنّة *** فإنّي لحرّاب الرجال مجرب

صبور على ما يكره المرء كلّه *** سوى الظلم إنّي إن ظلمت لأغضب

فالتفت معاوية إلى مروان فقال: ما ترى؟ قال: أرى أن لا تردّ عليه شيئاً، فقال: ما أهون عليك أن ينحجر هذا في غار، ثُمَّ يقطع عرضي عليّ، ثُمَّ تأخذه العرب فترويه، أما والله إن كنت لمن يرويه، أردد عليه كل شيء أخذته منه.

وذكر أبو نعيم في تاريخ أصبهان: أن معاوية كان أخرج النابغة إلى أصبهان، وكانت وفاته بها.

وعن إبن قتيبة: أنّه مات بأصبهان أيضاً.

وفى تاريخ الإسلام للذهبي: أن النابغة قال هذه الأبيات:

المرء يهوى أن يعيش *** وطول عمر قد يضرّه

ص: 891

وتتابع الأيّام حتّى *** ما يرى شيئاً يسرّه

تفنى بشاشته ويبقى *** بعد حلو العيش مرّه

ثُمَّ دخل بيته فلم يخرج حتّى مات.

وكان موته في أيّام عبد الملك بن مروان.

ومن شعره:

وكم من أخي عيلة مقتر *** تأتى له المال حتّى انجبر

وآخر قد كان جم الغنى *** أتته الحوادث حتّى افتقر

وكم غائب كان يحشى الردى *** ناب وأودى الذي في الحضر

وللصمت أفضل في حينه *** من القول في خطل أو هذر

عليك من أمر ك ما تستطيع *** وليس يعنيك منه قدر

وما البغى إلّا على أهله *** وما النّاس إلّا كهذا الشجر

ترى الغصن في عنفوان الشباب *** يهتز في بهجة قد نضر

زماناً من الدهر ثُمَّ التوى *** فعاد إلى صفرة فانكسر

وبينا الفتى يعجب الناظرين *** مال على عطفه فانعقر

ص: 892

فأحمد ربّي بإحسانه *** إليَّ وأشكر فيمن شكر

هداني بنعمته للهدى *** وشقَّ المسامع لي والبصر

وأحسن ربّي فيما مضى *** وأرجو المعافاة فيما غبر

فائدة: النوابغ الشعراء جماعة: الجعديّ المذكور، والنابغة الذبياني، وعبد الله بن المخارق الشيباني، ويزيد بن أبان الحارثي، ونابغة بني رمد، والنابغة بن لؤي الغنوي، والحرث بن بكر إليَّربوعي، والحارث بن عدوان التغلبي، والنابغة العدواني، ولم يسمّ، قاله في القاموس.

ص: 893

كعب بن زهير بن أبي سُلمى

كعب بن زهير بن أبي سُلمى - بضم السين - قال في الصحاح: وليس في العرب سُلمى - بضمّ السين غيره - وإسمه ربيعة بن رياح - بكسر الراء، ثُمَّ تحتية مثناة - بن مرّة بن الحرث بن مازن بن تغلب بن ثور بن هرمة بن إلّاطم بن عثمان بن عمرو بن طابخة بن إليَّاس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

وأمّه امرأة من بني عبد الله بن غطفان يقال لها: كبشة بنت عمّار بن عدي بن سحيم، وهي أمّ سائر أولاد زهير.

كان أبوه زهير أحد الشعراء الثلاثة الفحول المقدّمين على سائر الشعراء بإلّاتفاق، وإنّما الخلاف في تقديم أحدهم على الآخر، وهم أمرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني.

روى المدائني عن عيسى بن يزيد قال: سأل معاوية الأحنف بن قيس عن أشعر الشعراء، قال: زهير، قال: وكيف ذلك؟ قال: كفَّ عن المادحين فضول الكلام، قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قوله:

فما يك من خير أتوه فإنّما *** توارثه آباء آبائهم قبل

ص: 894

قال محمّد بن سلام: إحتجّ من فضّل زهيراً بأنّه كان أمتنهم شعراً، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل في اللفظ، وأشدّهم مبالغة في المدح، وأكثرهم أمثإلّا فمن ذلك قوله في معلقته:

سئمت تكإليَّف الحياة ومن يعش *** ثمانين عاماً لا أباً لك يسأمِ

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب *** تصبه ومن تخطي يعمّر ويهرمِ

ومن لم يصانع في أمور كثيرة *** يضرّس بأنياب ويوطا بمنسم

ومن يك ذا فضل فيخبل بفضله *** على قومه يستغن عنه ويذمم

ومن يجعل المعروف من دون عرضه *** يفره ومن لا يتّقي الشتم يشتم

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه *** يهدم ومن لا يظلم النّاس يظلم

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه *** ولو نال أسباب السماء بسلّم

ومن يغترب يحسب عدوّاً صديقه *** ومن لم يكرّم نفسه لم يكرّم

ومهما تكن عند أمر ء من خليقة *** وإن خالها تخفى على النّاس تعلم

وعن عكرمة بن جرير قال: قلت لأبي: يا أبه من أشعر النّاس؟ قال: أ عن الجاهلية سألتني أم عن الإسلام؟ قال: ما سألتك إلّا عن الإسلام، فإذا قد ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها، قال: زهير أشعر أهلها، قلت: فالإسلام؟ قال: الفرزدق نبعة

ص: 895

الشعر، قلت: فالأخطل؟ قال: يجيد مدح الملوك، ويصيب وصف الخمرة، قلت: فما تركت لنفسك؟ قال: نحرت الشعر نحرا.

ويروى ان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم نظر إلى زهير بن أبي سلمى وله مائة سنة، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [اللهمَّ أعذنيْ منَ الشيطانِ]، فمات، وكان موته قبل البعثة بسنة.

وروي عن ابن عبّاس أنّه قال: كنت مع عمر بن الخطّاب سنة ست عشرة، أذ خرج إلى الشام، وهي أوّل خرجة خرجها، حتّى إذا أتيته فشكا إليَّ تخلف عليٍّ صلوات الله عليه عن الخروج معه، فصلّى صلاة المغرب، ثُمَّ ثبت حتّى صلّى العشاء وأوتر، فركب وأخذ كل إنسان زميله، وكنت زميلاً له، فصار لا يرى شيئاً إلّا رفع سوطه وقرع به وسط رحله، ثُمَّ رفع صوته يتغنى بشعر الأسود بن زنيم الدؤلي بمدح النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم:

ما حملت من ناقة فوق رحلها *** أبرّ وأوفى ذمّة من محمّدِ

حتّى أتى على الشعر، ثُمَّ قال: أستغفر الله، وسكت هنيهة، ثُمَّ قرع وسط رحله واندفع يتغنى بشعر أبي طالب رضوان الله عليه:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثُمَّال إليَّتامى عصمة للأراملِ

حتّى أتى على الأبيات، ثُمَّ قال: أستغفر الله، هيه يا ابن عبّاس، ما منع عليّاً أن يخرج في هذه الغزاة؟ قلت: أو لم تبعث إليه فجاءك وذكر عذره لك؟ قال: بلى، قلت: هو ما اعتذر به.

ص: 896

ثُمَّ قال: أبوك يا ابن عبّاس عم رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قلت: نعم، قال: بخٍ بخٍ، ما منع قومك منكم؟ قلت: لا أدري، قال: إنّهم يكرهون ولايتكم، قلت: فلم يكرهون ذلك؟ فوالله ما زلنا لهم بخير، قال: اللهمَّ اغفر، يكرهون أن تكون النبوة والخلافة فيكم، فتكونون حجفاً حجفاً، إن أوّل من رابكم عن هذا الأمر أبو بكر، ولو جعل لكم من الأمر نصيباً لما هنأكم قومكم.

يا ابن عبّاس أنشدني لشاعر الشعراء، قلت: من هو؟ قال: أو لا تعرفه؟ قلت: لا، قال: هو إبن أبي سلمى، قلت: فكيف صار شاعر الشعراء؟ قال: إنّه لا يتبع حوشي الكلام، ولا يعاظل بين المنطق، ولا يقول إلّا ما يعرف، ولا يمدح الرجل إلّا بما يكون في الرجال.

فأنشدته حتّى برق الفجر، قال: حسبك الآن، إقرأ القرآن، قلت: ما أقرأ؟ قال: الواقعة، فقرأتها، ونزل فأذّن وصلّى الصبح.

وكان زهير نظاراً متوقياً فرأى في منامه آتياً أتاه فحمله إلى السماء، حتّى كاد يمسّها بيده، ثُمَّ تركه فهوى إلى الأرض، فلمّا احتضر قصّ رؤياه على أولاده، وقال: إنّي لا أشكّ أن يكون بعدي من خبر السماء شيء، فإن كان فتمسّكوا به وسارعوا إليه، ثُمَّ توفي قبل المبعث الشريف بسنة.

ص: 897

فلمّا بعث صلی الله علیه و آله و سلم خرج إليه بجير إبنه فأسلم، ثُمَّ رجع إلى بلاده، فلمّا جاهر صلی الله علیه و آله و سلم أتى بجير المدينة، فكان من خيار المسلمين، وشهد الفتح مع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يوم حُنَين أو خيبر.

وإمّا كعب بن زهير فكان من فحول الشعراء المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وكان يقال: أشعر الشعراء في الجاهلية زهير، وأشعرهم في الإسلام إبنه كعب.

وعن هشام بن إسحق قال: قال زهير بيتاً ونصفاً ثُمَّ أكدى، فمرّ به النابغة فقال: يا أبا أمامة أجزْ، قال: وما قلت؟ قال: قلت:

تزيد الأرض إمّا متّ خفّاً *** وتحيى إن حييت بها ثقيلا

نزلت بمستقرّ العزِّ منها

فأكدى والله النابغة، وأقبل كعب، وإنّه لغلام، فقال له أبوه: أجز، وأنشده، فقال كعب:

وتمنع جانبيها أن تزولا

فضمّه إليه وقال: أشهد أنّك إبني حقّاً.

وروى أصحاب السير أن كعباً وبجيراً إبني زهير خرجا إلى أبرق العراق، فقال بجير لكعب: إثبت في غنمنا هنا حتّى آتي هذا الرجل، يعنى النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم، فأسمع كلامه وأعلم ما عنده، فأقام كعب.

ص: 898

ومضى بجير إلى النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم فسمع وآمن به، فبلغ ذلك كعب، فغضب وقال:

إلّا بلّغا عنّي بجيراً رسالة *** فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا

سقاك بها المأمون كأساً رويّة *** وأنهلك المأمون منها وعلّكا

ففارقت أسباب الهدى وتبعته *** على أيّ شيء ويب غيرك دلّكا

على مذهب لم تلف أمّاً ولا أباً *** عليه ولم تعرف عليه أخاً لكا

فإن أنت لم تفعل فلست بآسف *** ولا قائل اما عثرت لعاً لكا

وأرسل بها إلى بجير، فلمّا وقف عليها أخبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فلمّا سمع قوله: سقاك المأمون قال صلی الله علیه و آله و سلم: [مأمونٌ واللهِ]، وذلك أنّهم كانوا يسمّون رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم المأمون.

ولما سمع صلی الله علیه و آله و سلم قوله: على مذهب - ويروى على خلق - لم تلفَ أُمّاً .. البيت قال صلی الله علیه و آله و سلم: [أجلْ لمْ يلفَ عليهِ أباهُ ولا أمّهُ].

ثُمَّ إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: [منْ لقيَ منكمْ كعبَ بنَ زهيرَ فليقتلْهُ]، وذلك عند انصرافه صلی الله علیه و آله و سلم عن الطائف، فكتب إليه أخوه بجير بهذه الأبيات:

أمن مبلغ كعباً فهل لك في التي *** تلوم عليها باطلاً وهي أحرم

إلى الله لا العزّى ولا اللات وحده *** فتنجو إذا كان النجاء وتسلم

لدى يوم لا تنجو وليس بمفلت *** من النّاس إلّا طاهر القلب مسلم

ص: 899

فدين زهير وهو لا شيء دينه *** ودين أبي سلمى عليّ محرّم

وكتب بعد هذه الأبيات: أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد أهدر دمك، وأنّه قتل رجالاً بمكّة ممّن كان يهجوه ويؤذيه، ومن بقي من شعراء قريش كابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه، وما أحسبك ناجياً، فإن كان لك في نفسك حاجة فصر إليه، فإنّه يقبل من أتاه تائباً، ولا يطالبه بما تقدم قبل الإسلام.

فلمّا بلغ كعباً الكتاب أتى إلى مزينة؛ لتجيره من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فأبت ذلك عليه، فحينئذ ضاقت عليه الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان عدوّه، فقالوا: هو مقتول، فقال قصيدته المشهورة يمتدح فيها النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم، ويذكر خوفه وإرجاف الوشاة به، ومطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ *** متيّمٌ إثرها لم يفدَ مكبولُ

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا *** إلّا أغنّ غضيض الطرف مكحول

يجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت *** كأنّها منهل بالراح معلولُ

ومنها:

تسعى الوشاة بجنبيها وقولهم *** أإنك يا ابن أبي سلمى لمقتولُ

وقال كل خليل كنت آمله *** لا ألهينّك إنّي عنك مشغول

ص: 900

فقلت خلّوا سبيلي لا أباً لكم *** فكلُّ ما قدّر الرحمن مفعول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته *** يوماً على آلة حدباء محمول

أنبئت أن رسول الله أوعدني *** والعفو عند رسول الله مأمول

مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة *** القرآن فيه مواعيظ وتفصيل

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم *** أذنب وإن كثرت فيَّ الاقاويل

إنّي أقوم مقاماً لا يقوم به *** أرى وأسمع ما لو يسمع الغيل

لظلّ يرعد إلّا أن يكون له *** من النبيِّ بإذن الله تنويل

حتّى وضعت يميني لا أنازعه *** في كفِّ ذي نقمات قيله القيل

ومنها:

إن الرسول لنور يستضاء به *** مهنّد من سيوف الله مسلولُ

في عصبة من قريش قال قائلهم *** ببطن مكّة لمّا أسلموا زولوا

زالوا فما زال أنكاس ولا كشف *** عند اللقاء ولا ميل معاذيل

شمّ العرانين أبطال لبوسهم *** من نسج داود في الهيجا سرابيل

ص: 901

ثُمَّ خرج حتّى أتى المدينة، فنزل على رجل من جهينة كانت بينه وبينه معرفة، فأتى به إلى المسجد، ثُمَّ أشار إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال: هذا رسول الله، فقمْ إليه وأستأمنه على نفسك.

وعرف كعب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالصفة التي وصفه له النّاس، وكان مجلس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بين أصحابه مثل موضع المائدة، يتحلقون حوله حلقة حلقة، فيقبل على هؤلاء فيحدثهم، ثُمَّ يقبل على هؤلاء فيحدثهم، فقام إليه حتّى جلس بين يديه، فوضع يده في يده، ثُمَّ قال: يا رسول الله إن كعب بن زهر جاء ليستأمن منك تائباً مسلماً، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال: نعم، ولم يكن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يعرف كعباً ولا رآه قبل ذلك، قال: يا رسول الله أنا كعب بن زهير، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [الذي يقول ما يقول]، ثُمَّ أقبل على أبي بكر فاستنشده الشعر، فأنشد:

سقاك بها المأمون كأساً روية *** وأنهلك المأمون منها وعلكا

فقال كعب: ما هكذا قلت يا رسول الله، قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: وكيف قلت؟ قال: قلت:

سقاك أبو بكر بكأس روية *** وانهلك المأمون منها وعلكا

فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: [مأمونٌ واللهِ]، ووثب رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله دعني وعدوّ الله، أضرب عنقه، فقال صلی الله علیه و آله و سلم: [دعهُ عنكَ، فإنَهُ قدْ جاءَنا تائباً نازعاً]. ثُمَّ انشد النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم قصيدته المذكورة، فلمّا بلغ إلى قوله:

إن الرسول لنور يستضاء به *** مهند من سيوف الله مسلولُ

ص: 902

أشار رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى من حوله أن أسمعوا.

ويروى أن كعباً أنشد من سيوف الهند، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: قل من سيوف الله، فلمّا أتى على آخرها رمى عليه بردة كانت عليه؛ ولذلك سمّيت هذه القصيدة بالبردة.

وقال أبو بكر بن الآنباري: إن معاوية بذل لكعب في البردة عشرة آلاف، فقال: ما كنت لأؤثر بثوب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أحداً، فلمّا مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألف، فأخذها منهم، وهي التي كانت تلبسها الخلفاء في إلّاعياد.

وعن علي بن زيد: أن كعب بن زهير أنشد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قصيدته في المسجد الحرام، لا في مسجد المدينة، ذكره أبو الفرج الأصبهاني في الجامع الكبير، والأوّل هو المشهور.

وكان إسلام كعب بعد رجوع النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم من الطائف وغزوة تبوك، وذلك في السنة التاسعة من الهجرة.

ومن شعره الذي يشهد بحسن عقيدته، ويدل على خلوص سريرته ما أنشده له الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب (العيون والمحاسن)، والشريف المرتضى في كتاب (الفصول)، والشيخ أبو جعفر إبن شهر آشوب في موضعين من كتاب (المناقب)، وهي قوله يمدح أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام:

صهر النبيِّ وخير النّاس كلّهمُ *** فكلُّ من رامه بالفخر مفخورُ

ص: 903

صلّى الصلاة مع إلّامّي أوّلهم *** قبل العباد وربُّ النّاس مكفورُ

ص: 904

همام بن غالب بن صعصعة(الفرزدق)

أبو فراس، همام، وقيل: هميم – بالتصغير- إبن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمّد بن سفيان بن مجاشع بن دارم - وإسمه بحر، وسمّي دارماً لأن قوماً أتوا أباه في حمالة، فأمره أن يأتيه بخريطة فيها دراهم، فجاءه يحملها وهو يدرم تحتها ثقلاً، أي يقارب خطاه، فقال: جاءكم دارم - إبن مالك - وإسمه عرف، سمّي مالكاً لجوده - إبن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم بن مرّة التميمي البصري.

الشاعر المعروف بالفرزدق، وهو لقب لقّب به؛ لأنّه كان جهم الوجه، والفرزدق في إلّاصل قطع العجين، واحدها فرزدقة.

وقيل: لُقّب به لغلظه وقصره، تشبيهاً بالقنينة التي يشرب بها الماء، وهي الفرزدقة، والأوّل أصحّ؛ لأنّه كان أصابه جدري في وجهه، ثُمَّ برئ منه، فبقي وجهه جهماً متغضناً.

وأمّه ليلى بنت حابس أخت إلّاقرع بن حابس.

وكان أبوه غالب من أجلّة قومه وسراتهم، سيّد بادية تميم، وله مناقب مشهورة ومحامد مأثورة.

فمن ذلك أنّه أصاب أهل الكوفة مجاعة، وهو بها، فخرج أكثر النّاس إلى البوادي، فكان هو رئيس قومه، وكان سحيم بن وثيل رئيس قومه فاجتمعوا بمكان يقال له:

ص: 905

صوار، في طرف السماوة، من بلاد كلب، على مسيرة يوم من الكوفة، فعقر غالب لأهله ناقة، وصنع منها طعاماً، وأهدى إلى قوم من بني تميم جفاناً من ثريد، ووجّه إلى سحيم جفنة فكفأها، وضرب الذي أتى بها وقال: أنا مفتقر إلى طعام غالب، إذا نحر ناقة نحرت أخرى، فوقعت المنافرة، ونحر سحيم لأهله ناقة.

فلمّا كان من الغد عقر غالب لأهله ناقتين، فعقر سحيم لأهله ناقتين، فلمّا كان اليوم الثالث عقر غالب ثلاثاً، فنحر سحيم ثلاثاً.

فلمّا كان اليوم الرابع عقر غالب مائة، فلم يكن عند سحيم هذا القدر فلم يعقر شيئاً، وأسرّها في نفسه، فلمّا انقضت المجاعة ودخلت النّاس الكوفة، قال بنو رياح لسحيم: جررت علينا عار الدهر، هلّا نحرت مثل ما نحر، وكنّا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين، فاعتذر أن إبله كانت متفرقة، وعقر ثلاثمائة ناقة، وقال للناس: شأنكم والأكل.

وكان ذلك في خلافة أمير المؤمنين علیه السلام فاستفتي في الأكل منها فقضى علیه السلام بتحريمها، وقال: (هذهِ ذُبحت بغيرِ مأكلةٍ، ولمْ يُردْ بها إلّا المفاخرةُ والمباهاةُ)؛ فأُلقيت لحومها على كناسة الكوفة، فأكلتها الكلاب والعقبان والرخم.

ويروى أن غالب بن صعصعة المذكور دخل على أمير المؤمنين علیه السلام بعد الجمل بالبصرة، وغالب شيخ كبير، ومعه إبنه الفرزدق وهو غلام، فقال له أمير المؤمنين علیه السلام: من الشيخ؟ قال: أنا غالب بن صعصعة، قال: ذو الإبل الكثيرة، قال: نعم، قال: ما فعلت بإبلك؟ قال: ذعذعتها الحقوق، وأذهبتها الحمالاًت والنوائب، قال: ذاك

ص: 906

أحسن سبلها، من هذا الغلام معك؟ قال: هذا إبني همام، وقد رويته الشعر يا أمير المؤمنين، وكلام العرب، ويوشك أن يكون شاعراً مجيداً، فقال علیه السلام: أقرأه القرآن فهو خير له.

فكان الفرزدق - بعد ذلك - يروي هذا الحديث ويقول: مازالت كلمته في نفسي، حتّى قيّد نفسه بقيد، وآلى أن لا يفكّه حتّى يحفظ القرآن، فما فكّه حتّى حفظه.

قوله: ذعذعتها - بذإليَّن معجمتين بعد كل منهما عين مهملة - أي فرّقتها.

وكان الفرزدق كثير التعظيم لقبيلة أبيه، فما جاءه أحد واستجار به إلّا نهض معه وساعده على بلوغ غرضه.

فمن ذلك ما حكاه المبرد في كتاب (الكامل)، أن الحجّاج بن يوسف الثقفي لمّا ولّى تميم بن زيد القيني بلاد السند، دخل البصرة، فجعل يخرج من أهلها ما شاء، فجاءت عجوز إلى الفرزدق فقالت: إنّي استجرت بقبر أبيك، وأتت منه بحصيات، فقال: ما شأنك؟ قالت: إن زيد بن تميم خرج بإبن لي معه، ولا قرّة لعيني، ولا كاسب عليّ غيره، فقال: وما اسم ابنك؟ فقالت: خنيس، فكتب إلى تميم مع بعض من شخص:

تميم بن قيس لا تكونن حاجتي *** بظهر فلا يبقى عليّ جوابها

وهبني خنيساً وأحتسب فيه منّة *** لعبرة أمٍّ ما يسوغ شرابها

أتتني فعاذت يا تميم بغالب *** وبالحفرة السافي عليها ترابها

ص: 907

وقد علم إلّاقوام أنّك ماجد *** وليث إذا ما الحرب شبَّ شهابها

فلمّا ورد الكتاب على تميم تشكّك في الإسم، أ خنيس أم حبيش، فقال: أنظروا من له مثل هذا الإسم في عسكرنا، فأصيب ستّة، ما بين خنيس وحبيش، فوجّه بهم إليه.

وحضر الفرزدق ونصيب الشاعر عند سليمان بن عبد الملك، فقال سليمان للفرزدق: يا أبا فراس أنشدني شيئاً، وإنّما أراد أن ينشده مدحاً له، فأنشده قوله في مدح أبيه - وهو من جيد الشعر-:

وركب كأن الريح تطلب عندهم *** لهاترة من جذبها بالعصائبِ

سعوا يخبطون الريح وهي تلفّهم *** إلى شعب إلّاكوار ذات الحقائب

إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها *** وقد حضرت أيديهم نار غالب

فأعرض عنه سليمان كالمغضب، فقال له نصيب: يا أمير المؤمنين إلّا أنشدك في رويّها، فقال: هات، فأنشده أبياتا منها:

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله *** ولو سكتوا أثنت عليك الحقائبُ

فقال سليمان للفرزدق: كيف تراه ؟ قال: أراه أشعر أهل جلدته، ثُمَّ قام وهو يقول:

وخير الشعر أشرفه رجالاً *** وشرّ الشعر ما قال العبيدُ

ص: 908

وكان نصيب عبداً أسودَ لرجل من أهل القرى، فكاتب على نفسه، ومدح عبد العزيز بن مروان؛ فاشترى ولاءه.

وللفرزدق في مفاخر أبيه أشياء كثيرة.

وأمّا جدّه صعصعة بن ناجية، فإنّه كان عظيم القدر في الجاهلية، واشترى ثلاثين موؤدة، وفى ذلك يقول الفرزدق مفتخراً:

وجدّي الذي منع الوائدات *** وأحيا الوئيد فلم يوئدِ

ويقال: أنّه أحيا ألف موؤدة، وحمل ألف فرس، وهو أوّل من أسلم من أجداد الفرزدق، وقد ذكره إبن عبد البر في كتاب (الإستيعاب)، في جملة الصحابة.

وكان الفرزدق في الطبقة الأولى من الشعراء الإسلاميين.

قال ابن شبرمة: الفرزدق أشعر النّاس، وعن يونس: لولا الفرزدق لذهب شعر العرب.

وقيل لابن هبيرة: من سيّد أهل العراق؟ قال: الفرزدق، هجاني ملكاً، ومدحني سوقة.

وقال أبو عمر: ولم أرَ بدوياً أقام في الحضر إلّا فسد لسانه غير رؤبة والفرزدق.

وكان بينه وبين جرير من المهاجاة والمعاداة ما هو مشهور.

ص: 909

قال جرير: أدركت الفرزدق ولم يبق من أسنانه إلّا سنّ واحدة، ولو كان له سنّان لأكلني.

ومن أخبار الفرزدق أن النوار بنت أعين المجاشعية خطبها رجل من بني أميّة فرضيته، وجعلت أمرها إلى الفرزدق، فقال لها: أشهدي بذلك على نفسك، ففعلت، واجتمع النّاس لذلك، فتكلم الفرزدق وقال: إشهدوا أنّي قد تزوجتها وأصدقتها كذا وكذا، فأنا ابن عمّها وأحقّ النّاس بها، فبلغ ذلك النوار فأبته، وجزعت واستترت منه، ونافرته إلى عبد الله بن الزبير، فلمّا قدمت نزلت على خولة بنت منطور بن زبّان، واستشفعت بها عند عبد الله.

وانضم الفرزدق إلى حمزة بن عبد الله الزبير، وتوسّل به، فجعل أمر الفرزدق يضعف، وأمر النوار يقوى، فقال الفرزدق:

أما بنوه فلم تقبل شفاعتهم *** وشفعت بنت منظور بن زبّانا

ليس الشفيع الذي يأتيك متّزراً *** مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا

فبلغ إبن الزبير هذا فدعا النوّار فقال: إن شئت فرّقت بينكما وقتلته، فلا يهجونا أبداً، وإن شئت سيّرته إلى بلاد العدو، فقالت: ما أريد واحدة منهما، قال: فإنّه ابن عمّك، وراغب فيك، فأزوّجه إيّاك، قالت: نعم، فزوّجه إيّاها، فكان الفرزدق يقول: خرجنا متباغضين، ورجعنا متحابّين.

ثُمَّ إن الفرزدق طلّق النوار، فندم على ذلك، وله فيها أشعار منها قوله:

ص: 910

ندمت ندامة الكسعيّ لمّا *** غدت مني مطلقة نوارُ

وكانت جنّتي فخرجت عنها *** كآدم حين أخرجه الضرار

ولو أنّي ملكت يدي وقلبي *** لكان عليّ للقدر الخيار

والكسعي الذي أشار إليه، هو غامد بن الحرث من بني كسع، كصرد، حي من اليمن، وكان قد أتّخذ قوساً وخمسة أسهم، وكمن في قنطرة قطيع، فرمى عيراً فانحطه السهم، وصدم الجبل، فأورى ناراً، فظنّ أنّه قد أخطأ، فرمى ثانياً وثالثاً إلى آخرها، وهو يظن خطأه، فعمد إلى قوسه فكسرها، فلمّا أصبح نظر فإذا الحمر مطروحة مصرّعة، فندم وقطع إبهامه وأنشد:

ندمت ندامة لو أن نفسي *** تطاوعني إذاً لقطعت خمسي

تبين لي سفاه الرأي مني *** لعمر أبيك حين كسرت قوسي

ومن شعر الفرزدق:

هما دلياني من ثمانين قامة *** كما انقضّ باز أقثم الريش كاسره

فلمّا استوت رجلاي في الأرض قالتا *** أحيٌّ يرجّى أم قتيل نحاذره

فقلت أرفعا الأستار لا يشعروا بنا *** وأقبلت في أعجاز ليل أبادره

أحاذر بوابين قد وكّلا بنا *** وأسود من ساج تصر مسامره

ص: 911

وكان الفرزدق قال هذه الأبيات بالمدينة، فلمّا سمع أهل المدينة بها جاءوا إلى مروان بن الحكم، وهو وإليَّ المدينة من قبل معاوية، فقالوا: لا يصلح هذا الشعر بين أزواج النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم، وقد أوجب على نفسه الحدّ، فقال مروان: لست أحدّه، ولكن أكتب إلى من يحدّه.

ثُمَّ أمره أن يخرج من المدينة، وأجله ثلاثة أيام، وفي ذلك يقول:

توعدني وأجّلني ثلاثاً *** كما وعدت بمهلكها ثمود

ثُمَّ كتب مروان إلى عامله أن يحدّه ويسجنه، وأوهمه أنّه كتب له بجائزة، ثُمَّ ندم مروان على ما فعله، فوجّه رسولاً إلى الفرزدق يقول له: إنّي قلت شعراً فاسمعه، ثُمَّ أنشد:

قل للفرزدق والسفاهة كاسمها *** إن كنت تارك ما أمرتك فاجلسِ

ودع المدينة إنّها محبوبة *** واقصد لمكّة أو لبيت المقدسِ

وإذا اجتنبت من الأمور عظيمة *** فخذن لنفسك بالرماع إلّاكيسِ

قوله: فاجلس، أي أقصد الجلساء، وهي نجد، سمّيت بذلك لارتفاعها؛ لأن الجلوس في اللغة إلّارتفاع.

ص: 912

فلمّا وقف الفرزدق على الأبيات فطن لما أراده، ورمى بالصحيفة، وخرج هارباً إلى أن أتى سعيد بن العاص إلّاموي، وعنده الحسن والحسين علیهما السلام وعبد الله بن جعفر، فأخبرهم الخبر، فأمر له كلّ واحد بمائة دينار وراحلة، وتوجّه إلى البصرة.

وقيل لمروان: أخطأت فيما فعلت، فإنّك عرضت عرضك لشاعر مضر، فوجّه وراءه بمائتي دينار وراحلة خوفاً من لسانه.

وأنشد الفرزدق سليمان بن عبد الملك قصيدة ميمية انتهى منها إلى قوله:

ثلاث واثنتان فهن خمس *** وسادسة تميل إلى سمامِ

فبتنّ بجانبيّ مصرعات *** وبت أفضّ أغلاق الختام

فقال له سليمان: قد أقررت عندي بالزنا، ولا بدّ من إقامة الحدّ عليك، فقال الفرزدق: ومن أين أوجبت عليّ الحدّ، فقال من كتاب الله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ﴾ (1) .

فقال الفرزدق: إن كتاب الله تعالى يدرأ عني بقوله تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (2)﴾، فأنا قلت ما لم أفعل، فتبسم سليمان وقال: أولى لك، وكان حلو النادرة سريع الجواب.

ص: 913


1- سورة النور - الآية: 2
2- سورة الشعراء – الآيات: (224- 226)

جاء عنبسة بن معدان إلى باب بلال قال له: بلغت النار يا أبا الفارس، قال: أجل ورأيت أباك ينتظرك، وقال: وجهك أحراح مجموعة، فقال: تأمّل هل ترى فيها حرامك!.

والاحراح - بحائين مهملتين - جمع حرح، وهو فرج الأمرأة، يخفف للفرد بحذف آخره فيقال حرومتي جمع عادت الحاء؛ لأن الجمع يرد إلّاشياء إلى أصولها.

وكان يقول: ما عييت بجواب أحد قطّ إلّا بجواب امرأة وصبي ونبطي.

أمّا الأمرأة فإنّي ذهبت ببغلتي أسقيها بالنهر، وإذا بالنسوة يغسلن ثيابهنّ، فلمّا حاذيتهنّ ضرطت، فضكحنّ منها، فالتفت إليهنّ وقلت لهن: لا تضحكنَ، فوالله ما حملتني أنثى قطّ إلّا وفعلت ما فعلت البغلة، فقالت إحداهن: فكيف كان حال من حملتك تسعة أشهر، فأراها قد قاست منك ضراطاً عظيماً، فما وجدت لها جواباً.

وأمّا الصبيّ فإنّي كنت أنشد في مربد البصرة، وفى حلقتي الكُميت بن زيد، وهو أذ ذاك صبيّ، فأعجبني حسن استماعه، فقلت له: كيف ما سمعت يا غلام؟ قال: حسن، قلت: أيسرّك أنّي أبوك؟ قال: أمّا أبي فلا أبغي به بدلاً، ولكن وددت أنّك أمّي؛ ليأكل أبي من أطايبك، فأخجلني، ولم أجد له جواباً.

وأمّا النبطي فإنّه لقيته بيثرب، فقال لي: أنت الفرزدق؟ قلت: نعم، قال: أنت الذي يخاف النّاس من لسانك؟ قلت: نعم، قال: إذا هجوتني تموت فرسي؟ قلت: لا، قال أ

ص: 914

فيموت ولدي؟ قلت: لا، قال: أ فأموت أنا؟ قلت: لا، قال: فأدخلني في حر أمّ الفرزدق من رجلي إلى عنقي، قلت: فلم تركت رأسك؟ قال: حتّى أرى الزانية ما تصنع ؟.

وكان الفرزدق يروي عن أمير المؤمنين وعن إبنه الحسين علیهما السلام، وأبي سعيد الخدري، وغيره.

وعنه الكُميت الشاعر، ومروان الأصغر، وخالد الحذاء، وأشعث بن عبد الملك، والصعق بن ثابت، وإبنه لبطة بن الفرزدق، وآخرون.

قال الشريف المرتضى رضوان الله عنه في الغرر والدرر: وكان الفرزدق شيعياً مائلاً إلى بني هاشم.

ولما خرج الحسين علیه السلام من مكّة قاصداً الكوفة سنة إحدى وستين من الهجرة، ووصل الشقوق، إذا هو بالفرزدق قد وافاه هناك، فسلّم عليه، ثُمَّ دنا منه وقبّل يده، فقال له الحسين علیه السلام: من أين أقبلت يا أبا فراس؟ قال: من الكوفة، قال: كيف تركت أهل الكوفة؟ قال: خلّفت قلوب النّاس معك، وسيوفهم مع بني أميّة عليك، وقد قلّ الديانون، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل في خلقه ما يشاء.

وفى رواية عن الفرزدق أنّه قال: لقيني الحسين علیه السلام في منصرفي من الكوفة، فقال: ما وراءك يا أبا فراس؟ قلت: أصدقك؟ قال: الصدق أريد، قلت: أمّا القلوب فمعك، وأمّا السيوف فمع بني أمية، والنصر من الله، فقال علیه السلام: (ما أراكَ إلّا صدقَتَ،

ص: 915

النّاس عبيدُ المالِ، والدينُ لعقٌ على ألسنتِهمْ يَحوطونهُ ما درّتْ بهِ معائشُهمْ، فإذاْ مُحِصوا بالبلاءِ قلَّ الديّانُونَ).

وفي رواية عنه أيضاً أنّه قال: حججتُ بأمّي في سنة ستين، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم، إذ لقيت الحسين علیه السلام خارجاً من مكّة، معه أسيافه وأتراسه، فقلت: لمن هذا القطار، فقيل: للحسين بن عليٍّ، فأتيته وسلمت عليه، وقلت له: بلغك الله سؤلك، وأملك فيما تحبّ، بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول الله، ما أعجلك! فقال: لو لم أعجل لأخذت، ثُمَّ قال لي: من أنت؟ قلت: أنا أمرؤ من العرب، فلا والله ما فتشني عن أكثر من ذلك، ثُمَّ قال: أخبرني عن النّاس خلفك، فقلت: الخبير سألت، قلوب النّاس معك، وسيوفهم عليك، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.

قال: (صدقتَ، للهِ الأمر، وكلّ يومٍ ربُّنا فيْ شأنٍ، إنْ نزلَ القضاءُ بما نحبُّ فنحمدُ اللهَ على نعمائِهِ، وهوَ المستعانُ علىْ أداءِ الشكرِ، وإنْ حالَ القضاءُ دونَ الرجاءِ فلا يبعدُ منْ كانَ الحقّ نيّتهُ والتقوى سريرتهُ).

فقلت له: أجلْ، بلغك ما تحبّ، وكفاك ما تحذر، وسألته عن أشياء من نذر ومناسك، فأخبرني بها وحرك راحلته، وقال: السلام عليك، ثُمَّ افترقنا.

وفى رواية أن الفرزدق قال له: يا ابن رسول الله كيف تركن إلى أهل الكوفة، وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلماً ؟! فترحّم عليه وقال: أما إنّه قد صار إلى رحمة الله ورضوانه، وقضى ما عليه، وبقي ما علينا، وأنشد علیه السلام:

ص: 916

فإن تكن الدنيا تعدّ نفيسة *** فإن ثواب الله أعلى وأنيلُ

وإن تكن الأبدان للموت أنشأت *** فقتل أمرئ بالسيف في الله أفضل

وإن تكن الأرزاق قسماً مقدراً *** فقلّة جهد المرء في الكسب أجمل

وإن تكن الأموال للترك جمعها *** فما بال متروك به المرء يبخل

ثُمَّ ودّعه الفرزدق في نفر من أصحابه، ومضى يريد مكّة، فقال له ابن عمّ له من بني مجاشع: يا أبا فراس هذا الحسين بن عليٍّ، فقال له الفرزدق: نعم هذا الحسين بن عليٍّ، وابن فاطمة الزهراء بنت محمّدٍ المصطفى، هذا والله ابن خيرة الله، وأفضل من مشى على الأرض، وقد كنت قلت فيه قبل اليوم أبياتاً غير متعرض لمعروفه، بل أردت بذلك وجه الله والدار الآخرة، فلا عليك أن تسمعها، فقال ابن عمّه: إن رأيت أن تسمعنيها يا أبا فراس، فقال: قلت فيه، وفي أمّه وأبيه وجدّه، عليهم الصلاة والسلام:

هذا ابن خير عباد الله كلهم *** هذا التقيُّ النقيُّ الطاهر العلمُ

هذا حسينٌ رسول الله والده *** أمست بنور هداه تهتدي إلّاممُ

هذا ابن فاطمةَ الزهراء غرّتها *** في جنّة الخلد مجريّاً بها القلمُ

إذا رأته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ

يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلمُ

ص: 917

بكفّه خيزران ريحه عبق *** من كفّ أروع في عرنينه شممُ

يغضي حياءً ويُغضى من مهابته *** فما يُكلَّم إلّا حين يبتسمُ

ينشقُّ نور الهدى عن نور غرّته *** كالشمس تنشقُّ عن إشرافها الظلمُ

مشتقّةٌ من رسول الله نبعته *** طابت أرومته والخيم والشيمُ

من معشر حبّهم دين وبغضهم *** كفر وقربهم منجىً ومعتصمُ

يُستدفعُ السوء والبلوى بحبّهم *** ويستقيم به الإحسان والنعمُ

إنْ عُدَّ أهل الندى كانوا أئمتهم *** أو قيل من خير أهل الأرض قيل همُ

لا يستطيع مجارٍ بعد غايتهم *** ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

بيوتهم من قريش يستضاء بها *** في النائبات وعند الحكم إن حكموا

فجدّه من قريش في أرومتها *** محمّدٌ وعليٌّ بعده علمُ

بدر له شاهد والشِعب من أحد *** والخندقان ويوم الفتح مذ علموا

وخبير وحُنَين يشهدان له *** وفى قريظة يوم صيلمٌ قتمُ

مواطنٌ قد علت أقدارها ونمت *** آثارها لم تنلها العرب والعجمُ

ص: 918

هكذا نسب هذه القصيدة للفرزدق في الحسين علیه السلام الشيخ كمال الدين بن طلحة في مناقبه.

قال الشيخ علي بن عيسى القمي رحمه الله: وأظنّه نقل هذا الكلام والقصيدة من كتاب (الفتوح) لابن أعثم، فإنّه نسب القصيدة إلى الفرزدق في الحسين علیه السلام أيضاً، والذي عليه الرواة مع اختلاف كثير في أبياتها، أنّها للحر بن الليثي، قالها في قثم بن العبّاس، وإن الفرزدق أنشدها في عليّ بن الحسين علیهما السلام .

قال المؤلف عفا الله عنه: أمّا كون القصيدة بتمامها في قثم بن العبّاس فأمر يشهد بعض أبيات القصيدة باستحالته، كما تراه.

وإمّا إنشاد الفرزدق لها في عليّ بن الحسين علیهما السلام فقد ذكره كثير من رواة الأخبار والمؤرخين.

ونحن نذكر الخبر في ذلك من رواية الشيخ الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن إبراهيم السلفي الأصبهاني:

قال: أخبرنا الشيخ أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي، بقراءتي عليه في جمادى الآخرة، من سنة خمسة وتسعين وأربعمائة، ببغداد، قال: أخبرنا أبو الحسين محمّد بن محمّد بن علي الوراق قراءة عليه، قال: أخبرني أبو أحمد عبد السلام بن الحسين بن محمّد بن عبد الله طيفور البصري اللغوي، قال: قرأت على أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن يعقوب المتوفي بالبصرة سنة أربعة وخمسين

ص: 919

وثلاثمائة، على باب داره، وكتبته من كتاب أملاه املاءً من أصله، ثُمَّ قرأته بعد ذلك بعشر سنين، عشية الجمعة، لست ليال بقين من شعبان، سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، على أبي الحسين محمّد بن محمّد بن جعفر ابن لنكك اللغوي، على باب داره، ولم يكن أصل يرجع إليه، وذكر أنّه قد سمعه، قال: حدّثنا أبو عبد الله محمّد بن زكريا بن دينار، قال: حدّثنا عبد الله بن محمّد، يعنى إبن عائشة، قال: حدثني أبي وغيره، قال: حجّ هشام بن عبد الملك، في زمن عبد الملك أو الوليد، فطاف بالبيت، فجهد أن يصل إلى الحجر فيستلمه، فلم يقدر عليه، فنُصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى النّاس، ومعه أهل الشام، إذ أقبل عليُّ بن الحسين بن عليٍّ، وكان من أحسن النّاس وجهاً، وأطيبهم ريحاً، فطاف بالبيت، فكلّما بلغ إلى الحجر تنحّى له النّاس حتّى يستلمه، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي قد هابه النّاس هذه الهيبة ؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام.

وكان الفرزدق حاضراً، فقال الفرزدق: لكنّي أعرفه، قال الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فقال الفرزدق:

هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَه *** والبيتُ يعرفهُ والحلُّ والحرمُ

هذا ابنُ خيرِ عبادِ اللهِ كلّهمُ

ص: 920

هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلمُ (1)

إذا رأتهُ قريشٌ قالَ قائلُها *** إلى مكارمِ هذا ينتهي الكرمُ

يُنمى إلى ذروةِ العزِّ التي قَصرتْ *** عن نيلِها عربُ الإسلام والعجمُ

يكادُ يُمسكهُ عرفانَ راحتِهِ *** ركنُ الحطيمِ إذا ما جاءَ يستلمُ

يُغضي حياءً ويُغضى منْ مهابتِه *** ولا يُكلّمُ إلّا حينَ يبتسمُ

مِن جَدّه دانَ فضلُ الأنبياء لهُ *** وفضل أمّتِه دانتْ لهُ إلّاممُ

ينشقُّ نورُ الهدى عن نورِ غُرّتهِ

ص: 921


1- روى ابن لنكك: الظاهر, بظاء معجمة, وروى المتوثي: بطاء غير معجمة. ( المؤلف عفا الله عنه)

كالشمسِ ينجابُ عن إشراقِها القَتمُ

مُشتقّةٌ من رسولِ اللهِ نبعتُهُ *** طابت عناصرُها والخيمُ والشِيمُ

هذا ابنُ فاطمةٍ إنْ كنتَ جاهلَهُ *** بجدّهِ أنبياءُ اللهِ قد خُتموا

اللهُ شرّفَهُ قُدماً وفضّلهُ *** جرى بذاكَ لهُ في لوحِهِ القلمُ

فليسَ قولُك مَنْ هذا بضائرِهِ *** العربُ تعرفُ مَنْ أنكرتَ والعجمُ (1)

كلتا يديهِ غياثٌ عَمَّ نفعُهُما *** يستوكفانِ ولا يعروهما العدمُ

سهلُ الخليقةِ لا تُخشى بوادرُهُ *** يزينُه اثنانِ حسنُ الخلقِ والكرمُ

ص: 922


1- ليس هذا البيت في رواية المتوثي, وعرفه ابن لنكك. ( المؤلف عفا الله عنه)

حَمّالُ أثقالِ أقوامٍ إذا فُدحوا *** حلوُ الشمائلِ تحلو عندهُ نَعمُ

لا يخلفُ الوعدً ميمونٌ نقيبتُهُ *** رحبُ الفناء أريبٌ حينَ يعتزمُ

عمَّ البريّةَ بالإحسان فانقشعتْ *** عنهُ الغيابةُ وإلّاملاقُ والعَدَمُ

منْ معشرٍ حبُّهم دينٌ وبُغضهمُ *** كفرٌ وقربُهمُ منجىً ومُعتصمُ

إنْ عُدَّ أهل التُقى كانوا أئمّتَهمْ *** أو قِيلَ مَنْ خيرُ أهلِ الأرض قِيلَ همُ

لا يستطيعُ جوادٌ بعدَ غايتِهم *** ولا يُدانيهمُ قومٌ وإنْ كَرموا

همْ الغيوثُ إذا ما أزمةٌ أزمتْ *** والأسد أُسْدُ الشرى والبأسُ مُحتدمُ

ص: 923

لا يُنقصُ العسرُ بَسطاً من أكفِّهمُ *** سيّان ذلكَ إنْ أثروا وإن عدَموا (1)

يُستدفعُ السوءُ والبلوى بحبِّهمُ *** ويستربُّ بهِ الإحسان والنِعمُ

مقدّمٌ بعدَ ذكرِ اللهِ ذكرُهمُ *** في كلِّ بدءٍ ومختومٌ بهِ الكَلِمُ

يأبى لهم أنْ يَحلَّ الذمُّ ساحتَهمْ *** خيمٌ كريمٌ وأيدٍ بالندى هُضمُ

أيّ الخلايقِ ليستْ في رقابِهمُ *** لأوليةِ هذا أوْ لهُ نِعمُ

منْ يعرفُ اللهً يعرفْ أوّليّةَ ذا *** والدينُ منْ بيتِ هذا نالهُ إلّاممُ (2)

ص: 924


1- روى لنكك: لا يقبض العسر. ( المؤلف عفا الله عنه)
2- كان ابن لنكك يروى الدين بلا واو. ( المؤلف عفا الله عنه)

قال: فغضب هشام، وأمر بحبس الفرزدق بعسفان، بين مكّة والمدينة.

وبلغ ذلك عليَّ بن الحسين علیهما السلام، فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، وقال: (اعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به)، فردها الفرزدق وقال: يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت إلّا غضباً لله ولرسوله، وما كانت لأرزء عليه شيئاً، فقال: (شكر الله لك ذلك، غير أنّا أهل بيت إذا أنفذنا أمراً لم نعد فيه)، فقبلها، وجعل يهجو هشاماً وهو في الحبس، فكان ممّا هجاه به:

أيحبسني بين المدينة والتي *** إليها قلوب النّاس يهوى منيبها

يقلب رأسا لم يكن رأس سيد *** وعيناً له حولاء بادٍ عيوبها

فبعث إليه فأخرجه.

قلت: جزى الله الفرزدق عن هذا المقام أحسن جزائه، فلقد أدى ما وجب عليه من إخلاصه وولائه .. لا جرم أن الله شكر له هذه الحسنة، وأعدّ له ذخائر ثوابها، وقد رأى ما أقرّ عينه في الدار التي ثوى بها.

ومن أخبار الفرزدق ما حكاه محمّد بن حبيب قال: صعد الوليد بن عبد الملك المنبر، فسمع صوت ناقوس فقال: ما هذا؟ فقيل: البيعة، فأمر بهدمها، وتولّى ذلك بيده، فتتابع النّاس يهدمون، فكتب إليه ملك الروم: أن هذه البيعة قد أقرّها من كان قبلك، فإن يكونوا أصابوا فقد أخطأت، وإن تكن أصبت فقد اخطأوا، فقال: من يجيبه؟ فقال الفرزدق: يُكتب إليه ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ

ص: 925

الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ (1)، فاستحسن ذلك.

وروى معاوية بن عبد الكريم عن أبيه قال: دخلت على الفرزدق فتحرّك، فإذا في رجليه قيد، قلت: ما هذا يا أبا فراس؟ قال: حلفت أن لا أخرج هذا من رجلي حتّى أحفظ القرآن.

وروي أنّه لمّا ماتت النوار امرأة الفرزدق، خرج الحسن البصري في جنازتها، ووقف على قبرها، والفرزدق واقف معه، والنّاس ينظرون، فقال الحسن: ما للناس؟ فقال الفرزدق: خير النّاس، وشرّ النّاس، فقال الحسن: لست بخير النّاس ولست بشرّهم، ما أعددت لهذا المضجع؟ قال: شهادة أن لا إله إلّا الله منذ ثمانين سنة، قال الحسن: نعم العدّة، ثُمَّ أنشأ الفرزدق يقول:

أخاف وراء القبر إن لم يعافني *** أشدّ من القبر التهاباً وأضيقا

إذا جاء في يوم القيامة قائد *** عنيف وسوّاق يسوق الفرزدقا

فقد خاب من أولاد آدم من مشى *** إلى النار مشدود القلادة أزرقا

يُساق إلى نار الجحيم مسربلاً *** سرابيل قطران لباساً محرّقا

ص: 926


1- سورة الأنبياء – الآيتان 78 و 79

إذا شربوا مرّ الصديد تمزقا

فأبكى النّاس.

وروي أنّه مات للفرزدق إبن صغير، فصلّى عليه، ثُمَّ الفتت إلى النّاس وقال:

وما نحن إلّا مثلهم غير أنّنا *** أقمنا قليلاً بعدهم ثُمَّ نرحلُ

فمات بعد ذلك بأيام رحمه الله تعالى.

قال الشريف المرتضى رضوان الله عليه في الغرر والدرر: كان الفرزدق قد نزع في آخر عمره عمّا كان من القذف والفسق، وراجع طريقة الدين، على أنّه لم يكن في خلال فسقه منسلخاً عن الدين جملة، ولا مهملاً أمره أصلاً.

قال: وممّا يشهد بذلك ما أخبرنا به أبو عبد الله المرزباني، قال: أخبرنا أبو ذرّ القراطيبي، قال: أخبرنا ابن أبي الدنيا، قال: أخبرنا الرياشي، عن الأصمعي، عن سلام بن مسكين، قال: قيل للفرزدق: علام تقذف المحصنات؟ فقال: والله لله أحبّ إليَّ من عيني هاتين، أفتراه يعذبني بعدها.

وروي أنّه تعلق بأستار الكعبة، فعاهد الله على ترك الهجاء والقذف الذين كان ارتكبهما، وقال:

ألم ترني عاهدت ربّيَ أنني *** لبين رتاج قائماً ومقامِ

على حلفة لا أشتم الدهر مسلماً *** ولا خارجاً من فيَّ زور كلامِ

ص: 927

أطعتك يا إبليس تسعين حجّة *** فلمّا انقضى عمري وتمَّ تمامي

فزعت إلى ربّي وأيقنت أنني *** ملاقٍ لأيّام الحتوف حِمامي

وروى الصولي عن الحسن بن فياض، عن إدريس بن عمران قال: جاءني الفرزدق فتذاكرنا رحمة الله وسعتها، فكان أوثقنا بالله تعالى، فقال له رجل: ألك هذا الرجاء بالله والمذهب، وأنت تقذف المحصنات، وتفعل ما تفعل؟!، فقال أترونني لو أذنبت الى أبويَّ ذنباً كانا يقذفانني في تنور، وتطيب أنفسهما بذلك؟ قلنا: لا، بل يرحمانك، قال: فأنا والله أوثق برحمة ربّي مني برحمتهما.

قال أبو عمرو بن العلا: حضرت الفرزدق وهو يجود بنفسه، فما رأيت أحسن ثقة منه بالله تعالى.

وكانت وفاته في أوّل سنة مائة وعشرة، وقيل: سنة اثنتي عشرة، وقيل: سنة أربع عشرة، وكان قد قارب المائة.

وروي أنّه لما نعي الفرزدق إلى جرير بكى بكاءً شديداً، فقيل له: أتبكي رجلاً يهجوك وتهجوه من أربعين سنة؟ قال: إليكم عني، ما تسابّ رجلان، ولا تناطح كبشان، ومات أحدهما، إلّا تبعه الآخر من قريب، ثُمَّ عاش بعده أربعين يوم فمات.

وفى رواية أنّه نعي الفرزدق إلى المهاجر بن عبد الله، وجرير عنده فقال:

مات الفرزدق بعد ما جدعته *** ليت الفرزدق كان عاش قليلا

ص: 928

فقال له المهاجر بئس لعمرك والله ما قلت في ابن عمك، أتهجو ميتاً، والله لو رثيته لكنت أكرم العرب، فقال: إن رأى الأمير أن يكتمها عليّ، فإنها سوأة، ثُمَّ قال يرثيه من وقته:

فلا ولدت بعد الفرزدق حاملٌ *** ولا ذات بعل من نفاس تعلّتِ

هو الواقد الميمون والراتق النئي *** إذ النعل يوماً بالعشيرة زلّتِ

وقال يرثيه أيضاً:

فجعنا بحمّال الديات ابن غالب *** وحامي تميم عرضها والمزاحمِ

بكيناك حدثان الفراق وإنّما *** بكيناك إذ نابت صروف العظائم

فلا حملت بعد ابن ليلى مهيرة *** ولا شدّ أنطاع المطيّ الرواسم

ومما يستجاد من شعر الفرزدق:

قالت وكيف يميل مثلك في الصبى *** وعليك من سمة الحليم وقارُ

والشيب ينهض في الشباب كأنّه *** ليل يصيح بجانبيه نهارُ

وقوله في الهجاء:

فلو يرمى بلؤم بني كليب *** نجوم الليل ما وضحت لساري

ص: 929

ولو لبس النهار بنو كليب *** لدنس لؤمهم وضح النهارِ

وما يعدو عزيز بني كليب *** ليطلب حاجة إلّا بجار

وقوله في الفخر:

إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعزّ وأطولُ

بيتاً بناه لنا المليك وما بنى *** ملك السماء فإنّه لا ينقل

بيتاً زرارة محتبٍ بفنائه *** ومجاشع وأبو الفوارس نهشل

الأكثرون إذا يعدّ ذو الحجى *** والأوّلون إذا يعدّ الأوّل

حلل الملوك ثيابنا في أهلنا *** والسابغات الرعي ما نتسربل

أحلامنا تزن الجبال رزانة *** وتخالنا جنّاً إذا ما نجهل

ص: 930

الفضل بن العبّاس بن عتبة

الفضل بن العبّاس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، وقد تقدم ذكر أبيه العبّاس في الأوّل من الطبقة الأولى.

وكان الفضل هذا أحد شعراء بني هاشم المذكورين، وفصحائهم المشهورين، هاشمي إلّابوين، أمّه أمينة بنت العبّاس بن عبد المطّلب، عم النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم .

وكان شديد الأدمة، وفي ذلك يقول:

وانا الأخضر من يعرفني *** أخضر الجلدة في بيت العرب

قال عبيد الله بن حبيب: وإنّما أتاه السواد من قبل جدّته، وكانت حبشية.

وحدث أبو عبيدة النحوي قال: أخبرني من سمع الفرزدق يقول: أتيت الفضل بن العبّاس اللهبي، وهو يمتح بدلو من زمزم ويقول:

وانا الأخضر من يعرفني *** أخضر الجلدة في بيت العربْ

من يساجلني يساجل ماجداً *** يملأ الدلو إلى عقد الكرب

ورسول الله جدّي جدّه *** وعلينا كان تنزيل الكتب

ص: 931

قال: فقلت: من يساجلك فرجلي من كذا أمّه، قال: أتعرفني لا أمّ لك؟ قال: قلت: كيف لا أعرفك، وقد نزل في أبويك سورة من كتاب الله، فقال عزّ من قائل ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ (1)، قال: فضحك وقال: أنت الفرزدق؟ قلت: نعم، قال: قد علمت أن أحداً لا يحسن هذا غيرك.

قال أبو الفرج المعافى بعد نقل هذه الحكاية: وقد ألطف الفرزدق فيما خاطب به الفضل؛ لأنّه لمّا لم يمكنه مساجلته، وقد فخر بنفسه من هاشم، وقرباه من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم اتى يمضّه ويفل من غربه.

وحدث علي بن محمّد النوفلي قال: كان أبي عند الحسن بن عيسى بن علي، وهو وإليَّ البصرة، وعنده وجوه أهل البصرة، وقد كانت فيهم بقية حسنة في ذلك الدهر، فأفاضوا في ذكر بني هاشم، وما أعطاهم الله من الفضل بنبيه صلی الله علیه و آله و سلم، فمن منشد شعراً، ومحدّث حديثاً، وذاكر فضيلة من فضائل بني هاشم، فقال أبي: قد جمع هذا الكلام اللهبي في بيت قاله، ثُمَّ أنشد قوله:

ما مات قوم كرام يدعون يداً *** إلّا لقومي عليهم منّة ويدا

فمن صلّى صلاتنا وذبح ذبيحتنا عرف أن لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يداً بما هداه الله تعالى الى الإسلام به، ونحن قومه، فتلك منّة لنا على النّاس.

ص: 932


1- سورة المسد - الآية: 1

وحكى أبو السكن مولى بني هاشم قال: كان الفضل بن العبّاس بخيلاً، فقدم على عبد الله بن العبّاس حاجّاً، فأتاه إلى منزله مسلّماً عليه، فقال له: كيف أنت؟ وكيف حالك؟ قال: بخير، نحن في عافية، قال: فهل لك من حاجة؟ قال: لا والله، وإنّي لأشتهي هذا العنب، وقد أغلاه علينا هؤلاء العلوج، فغمز غلاماً له فذهب فأتاه بسلّة عظيمة من عنب، فجعل يغسل عنقوداً عنقوداً ويناوله، فكلّما فعل ذلك قال له: برّتك رحم.

وحكى علي بن محمّد النوفلي عن عمّه: أن سليمان بن عبد الملك حجّ في خلافة الوليد، فجاء إلى زمزم فجلس عندها، ودخل الفضل بن العبّاس اللهبي يستقي، فجعل يرتجز ويقول:

يا أيّها السائل عن عليّ *** سألت عن بدر لنا بدريّ

مقدّم في الخير أبطحي *** ولين الشيمة هاشمي

زمزمنا بوركت من زكيّ *** بوركت للساقي وللمسقيّ

فغضب سليمان، وهمّ بالفضل، فكفّه عنه علي بن عبد الله، ثُمَّ أتاه بقدح فيه نبيذ من نبيذ السقاية، فأعطاه إيّاه، فسأله أن يشربه، فأخذه من يده كالمتعجب، ثُمَّ قال: نعم إنّه يستحبّ، ووضعه في يده فلم يشربه، فلمّا ولّى الخلافة وحجّ لقيه الفضل فلم يعطه شيئاً.

ص: 933

وحكى ابن الأعرابي قال: كان رجل من كنانة يقال له: عقرب حناط قد داين الفضل فمطله، ثُمَّ مرّ به الفضل وهو يبيع الحنطة، وهو يقول:

جاءت بها ضابطة التجار *** ضافية كقطع إلّاوتار

فقال الفضل:

قد تجرت عقرب في سوقنا *** واعجباً للعقرب التاجره

قد ذاقت العقرب واستيقنت *** أن مالها دنياً ولا آخره

فإن تعد عادت لما ساءها *** وكانت النعل لها حاضره

وحدث ابن عائشة عن أبيه: أن عمر بن أبي ربيعة وفد على عبد الملك بن مروان، فأدخل عليه، فسأله عن نسبه، فانتسب له، فقال:

لا أنعم الله بعين عينا *** تحية السخط إذا التقينا

أأنت القائل:

نظرت إليها بالمحصّب من منى *** ولي نظر لولا التحرج عازمُ

فقلت أشمس أم مصابيح بيعة *** بدت لك خلف السجف أم أنت حالم

بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل *** أبوها وإمّا عبد شمس وهاشمُ

ص: 934

قال: قاتلك الله ما إلّامك! أما كانت لك في بنات العرب مندوحة عن بنات عمّك؟ فقال عمر: بئست والله يا أمير المؤمنين هذه التحيّة لابن العمّ على شطّ الدار وبعد المزار، فقال له عبد الملك: أفتراك مرتدعاً عن ذلك؟ فقال: إنّي الى الله تائب، فقال عبد الملك: إذن يتوب الله عليك، وسنحسن جائزتك، ولكن أخبرني عن منازعتك اللهبي في المسجد الجامع، فقد أتاني نبأ ذلك، وكنت أحبّ أن أسمعه منك، فقال عمر: نعم يا أمير المؤمنين، بينا أنا جالس في المسجد الحرام في جماعة من قريش، إذ دخل علينا الفضل بن العبّاس بن عتبة، فسلّم وجلس ووافقني، وأنا أتمثل بهذا البيت:

وأصبح بطن مكّة مقشعراً *** كأن الأرض ليس لها هشامُ

فأقبل عليّ وقال: يا أخا بني مخزوم، والله إن بلدة تبجّح فيها عبد المطّلب، وبعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، واستقرّ بها بيت الله لحقيقة أن لا تقشعرّ لموت هشام، وأشعر من هذا الذي يقول:

إنّما عبد مناف جوهرٌ *** زين الجوهر عبد المطّلب

فأقبلت عليه وقلت: يا أخا بني عبد المطّلب أشعر من صاحبك الذي يقول:

إن الدليل على الخيرات أجمعها *** أبناء مخزوم للخيرات مخزومُ

فقال لي: أشعر من صاحبك الذي يقول:

جبريل أهدى لنا الخيرات أجمعها *** أولاد هاشم لا أبناء مخزومِ

ص: 935

فقلت في نفسي: غلبني والله، ثُمَّ حملني الطمع في انقطاعه أن قلت: بل أشعر منه الذي يقول:

أبناء مخزوم الحريق إذا *** حركّته تارة ترى ضرما

يخرج منه الشرار مع لهب *** من حاد عن حدّه فقد سلما

فقال: يا أخا بني مخزوم أشعر من صاحبك وأصدق الذي يقول:

هاشم بحر إذا سما وطما *** أخمد حرّ الحريق واضطرما

فاعلم وخير المقال اصدقه *** بأن من رام هاشماً هشما

فتمنيت أن الأرض يا أمير المؤمنين ساخت بي، ثُمَّ تجلدت عليه وقلت: يا أخا بني هاشم أشعر من صاحبك الذي يقول:

أبناء مخزوم أنجم طلعت *** للناس تجلو بنورها الظلما

تجود بالليل قبل مسألة *** جوداً هنيئاً وتضرب البهما

فأقبل عليّ كأسرع من اللحظ، ثُمَّ قال: أشعر من صاحبك الذي يقول:

هاشم شمس بالسعد مطلعها *** إذا بدت أخفت النجوم معا

إختارنا الله بالنبيِّ فمن *** قارعنا بعد أحمد قرعا

ص: 936

فاسودت الدنيا في عيني وانقطعت، فلم أجد له جواباً، ثُمَّ قلت: يا أخا بني هاشم إن كنت تفخر علينا بالنبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم فما تسعنا مفاخرتك، فقال: كيف لا أمّ لك ؟! والله لو كان منك لفخرت به عليّ، فقلت: صدقت، وأستغفر الله، إنّه لموضع الفخار.

وداخلني السرور لقطعه الكلام؛ لئلا ينالني خور عن أجابته فأُفتضح، ثُمَّ إنّه فكر هنينة ثُمَّ قال: قد قلت شيئاً فلم أجد بدّاً من إلّاستماع، فقلت: هات، فقال:

نحن الذين إذا سما بفخارهم *** ذو الفخر أقعده هناك القعددُ

إفخر بنا إن كنت يوماً فاخراً *** تلقى الأولى فخروا لفخرك أفردوا

قل يا ابن مخزوم لكلّ مفاخر *** منّا المبارك ذو الرسالة أحمد

ماذا يقول ذووا الفخارهنا لكم *** هيهات ذلك هل ينال الفرقد

فحصرت وتبلّدت، وقلت: إن لك عندي جواباً فأنظرني، وافتكرت مليّاً، ثُمَّ قلت:

لا فخر إلّا قد علاه محمّد *** فإذا فخرت به فإنّي أشهدُ

إن قد فخرت وقفت كلّ مفاخر *** وإليك في الشرف الرفيع المقصد

ولنا دعائم قد تناهى أوّل *** في المكرمات جرى عليها المولد

ما ذاقها حاشا النبيَّ وأهله *** في البحر غطغطة الخليج المزبد

دع ذا ورح بفناء خود بضّة *** ممّا نطقت به وغنّى معبد

ص: 937

مع فتية تندى بطون أكفّهم *** جوداً إذا هزَّ الزمان الآنكد

يتناولون سلافة عامية *** طابت لشاربها وطاب المقعد

فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجابني بجواب كان أشدّ عليّ من الشعر، قال: يا أخا مخزوم أريك السهي وتريني القمر، أي أريك الأمر الغامض، وتريني الأمر الواضح، وتخرج من المفاخرة إلى شرب الراح، وهي الخمر المحرمة.

فقلت: أما علمت أصلحك الله أن الله تعالى يقول في الشعراء: ﴿ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ﴾ (1)، قال: صدقت، ولكنّ الله تعالى استثنى منهم قوما فقال: ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ (2) .

فإن كنت منهم فقد دخلت في إلّاستثناء، واستحققت العقوبة بدعائك إليها، وإن لم تكن منهم، فالشرك بالله أعظم من شرب الخمر.

فقلت: أصلحك الله لا أرى للمتحدّي شيئاً أصلح من السكوت، فضحك وقال: أستغفر الله، وقام عنّي.

فضحك عبد الملك وقال: يا ابن أبي ربيعة أما علمت أن لبني عبد مناف ألسنةً لا تطاق؟ إرفع حوائجك، فرفعتها فقضاها، واحسن جائزتي.

ص: 938


1- سورة الشعراء – الآية: 226
2- السورة نفسها – الآية: 227

ونسب إليه صاحب الإصابة هذه الأبيات:

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف *** عن هاشم ثُمَّ منها عن أبي حسنِ

من فيه ما فيهم من كلّ صالحة *** وليس في كلّهم ما فيه من حسنِ

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم *** وأعرف النّاس بالقرآن والسنن

وأقرب النّاس عهداً بالنبيِّ ومَنْ *** جبريل عون له في الغسل والكفن

ماذا يردّكم عنه فنعرفه *** ها إنّ بيعتكم من أوّل الفتنِ

وقد تقدم ذكر هذه الأبيات في ترجمة والده العبّاس، وذكرنا اختلاف العلماء في ناظمها.

وعن عبد الله بن يحيى قال: حدّثنا عمر الشيباني قال: قال الفضل بن عبّاس بن عتبة بن أبي لهب يرثي من قُتل مع الحسين من أهله، وكان قد قُتل الحسين، والعبّاس، وعمر، ومحمّد، وعبد الله، وجعفر، بنو عليّ بن أبي طالب علیه السلام، وأبو بكر، والقاسم، وعبد الله، بنو الحسن بن عليّ علیهما السلام، وعليّ، وعبد الله، أبناء الحسين علیه السلام، ومحمّد، وعون، أبناء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب علیهم السلام، ومسلم بن عقيل بن أبي طالب، وعبد الله، وعبد الرحمن، وجعفر، بنو عقيل بن أبي طالب رضى الله عنهم أجمعين:

أعينيّ إن لا تبكيا لمصيبتي *** فكلّ عيون النّاس عني أصبرُ

ص: 939

أعينيّ جودا من دموع عزيزة *** فقد حقّ إشفاقي وما كنت أحذر

أعينيّ هذا إلّاكرمون تتابعوا *** وصلّوا المنايا دارعون وحُسّرُ

من إلّاكرمين البيض من آل هاشم *** لهم سلف من واضح المجد يُذكر

مصابيح أمثال إلّاهلّة إذ هم *** لدى الحرب أو دفع الكريهة أبصر

بهم قد فجعنا والفواجع كلّها *** تميم وبكر والسكون وحمير

وهمدان قد جاشت علينا وأجلبت *** هوازن في أفناء قيس وأعصر

وفى كل حيّ نضحة من دمائنا *** بنو هاشم يعلو سناها ويشهر

فللّه محيانا وكان مماتنا *** ولله قتلانا تدان وتنشر

لكلّ دمٍ مولىً ومولى دمائنا *** بمرتقب يعلو عليكم ويظهر

فسوف ترى أعدائنا حيث نلتقي *** لأيّ الفريقين النبيّ المطهّرُ

ومن شعر الفضل بن العبّاس في الحماسة:

مهلاً بني عمّنا مهلاً موإلينا *** لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

لا تطمعوا أن تهينونا فنكرمكم *** وأن نكفّ إلّاذى عنكم وتؤذونا

ص: 940

مهلاً بني عمّنا من تحت أثلتنا (1) *** سيروا رويداً كما كنتم تسيرونا

اللهُ يعلم أنّا لا نحبُّكمُ *** ولا نلومكمُ أن لا تحبّونا

كلٌّ له نعمة في بغض صاحبه *** بنعمة الله نقليكم وتقلونا

ومن شعره:

سبقنا ولم نسبق وضمنا ولم نضم *** لما ذاك محتوماً على النّاس محكما

فما عدّ إنسان بأمثل هاشم *** إذا عددوا الاباء أسنى وأكرما

وما افتخر إلّاقوام إلّا بفضلنا *** وما وجدوا إلّا لنا متجشما

ونحن خُصصنا بالنبوة منهم *** وكان لهذا النّاس عزّاً مقدّما

ونحن ولينا الحجر والبيت دونهم *** ونحن حفرنا جانب الحجر زمزما

تخيّرنا ربّ العباد بعلمه *** هداة وكان الله بالنّاس أعلما

وما مثلنا في النّاس أوفى بذمة *** وأقول إن قالوا لحقٍّ وأحكما

فمن ذا الذي يعتدّ إن عدَّ مثلنا *** أعز وأنكى للعدوّ وأرغما

وأصدق عند النّاس في كل موطن *** إذا شمّرت حرب وأحمد مقدما

ص: 941


1- الأثل: شجر، وهو نوع من الطرفاء، الواحدة: أثلة.

ومن شعره:

إنّا أناس من سجيتنا *** صدق الحديث ووعدنا حتمُ

والحزم تقوى الله فاتقين *** ترشد وليس لفاجر حزم

والمرء أكثر ما يعاب به *** خطل اللسان وصمته حكم

ص: 942

الكُميت بن زيد بن جيش

أبو المنهل، الكُميت بن زيد بن جيش بن مجالد بن وهب بن عمرو بن سبيع بن مالك بن سعد بن ثعلبة بن ذودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إليَّاس بن مضر الأسدي الكوفي.

شاعر مقدّم، عالم بلغات العرب، خبير بأيامها، فصيح زمانه، من شعراء مضر وألسنتها المتعصبين على القحطانية، المقارعين لشعرائهم، العالمين بالمثالب والأيّام المفاخرين بها.

وكان يقال: ما جمع أحد من علم العرب ومناقبها ومعرفة أنسابها ما جمع الكُميت، فمن صحّح الكُميت نسبه صحَّ، ومن طعن فيه طعن.

وسئل معاد الهرّاء عن أشعر النّاس فقال: من الجاهليين إمرؤ القيس وزهير وعبيد بن إلّابرص، ومن الإسلاميّين الفرزدق وجرير والأخطل، فقيل له: يا أبا محمّد ما رأيناك ذكرت الكُميت؟ قال: ذاك أشعر الأولين والآخرين.

وقال ابن عكرمة الضبّي: لو لا شعر الكُميت لم يكن للّغة ترجمان، ولا للبيان لسان.

ويقال: أن شعره بلغ أكثر من خمسة آلاف بيت.

وقال أبو عبيدة: لو لم يكن لبني أسد منقبة غير الكُميت لكفاهم حبّهم إلى النّاس وأبقى لهم ذكرا.

ص: 943

وقال بعضهم: كان في الكُميت عشر خصال لم تكن في شاعر: كان خطيب أسد، وفقيه الشيعة، حافظ القرآن العظيم، ثبت الجنان، وكان كاتباً حسن الخط، وكان نسّابة، وكان جدلاً، وهو أوّل من ناظر في التشيع، وكان رامياً لم يكن في أسد أرمى منه، وكان فارساً شجاعاً ديّناً، وكان مشهوراً في التشيّع مجاهداً في ذلك، وقصائد الهاشميات من جيد شعره.

وحدث محمّد النوفلي قال: لمّا قال الكُميت الشعر كان أوّل ما قال الهاشميات فسرّها، ثُمَّ أتى الفرزدق فقال له: يا أبا فراس إنّك شيخ مضر وشاعرها، وقد نفث على لساني فقلت شعراً، فأحببت أن أعرضه عليك، فإن كان حسناً أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحاً أمرتني بستره، وكنت أوّل من ستره عليّ.

قال: أمّا عقلك فحسن، وإنّي لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشده:

طربت وما شوقاً إلى البيض أطربُ

قال: ففيم تطرب يا ابن أخي ؟، فقلت:

ولا لعباً منّي وذو الشيب يلعبُ

قال: بلى يا ابن أخي فالعب، فإنّك في أوان اللعب، فقلت:

ولم تلهني دار ولا رسم منزلٍ *** ولم يتطرّبني بنان مخضّبُ

قال: وما يطربك يا ابن أخي ؟، فقلت:

ص: 944

ولا أنا ممّن يزجر الطير همّه *** أصاح غرابٌ أم تعرّض ثعلبُ

فقال: أجل لا تتطيّر، فقلت:

ولا السارحات البارحات عشيّةً *** أمرَّ سليم القرن أمْ مرَّ أعضبُ

فقال: أجل فماذا قلت ؟فقلت: (1)

ولكن إلى أهل الفضائل والنهى *** وخير بني حوّاء والخير يُطلبُ

قال: هؤلاء بنو دارم، فقلت:

إلى النفر البيض الذين بحبّهم *** إلى الله فيما نابني أتقربُ

قال:هؤلاء بنو هاشم، فقلت:

بني هاشم رهط النبيِّ فإنّني *** بهم ولهم أرضى مراراً وأغضبُ

فقال: والله لو جزتهم إلى سواهم لكان قولك باطلاً.

ثُمَّ قال: يا ابن أخي أذعْ، ثُمَّ أذع، فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي:

خفضت لهم منّي جناحي مودّة *** إلى كنف عطفاه أهل ومرحبُ

ص: 945


1- وفي نسخة: فقال: إلى من طربت لا أمّ لك ؟.

وكنت لهم من هؤلاء وهؤلا *** مجنّاً على أنّي أذمُّ وأنصب ُ

وأرمي وأومي بالعداوة أهلها *** وإنّي لأُؤذى فيهم وأؤنّبُ

فما ساءني قول أمرئ ذي عداوة *** بعوراء فيهم يجتذبني فأجذب

فقل للذي في ظلّ عمياء جونة *** ترى الجور عدلاً أين لا أين تذهبُ

بأيِّ كتاب أم بأيّة سُنّة *** ترى حبّهم عاراً عليَّ وتحسب

فما ليَ إلّا آل أحمد شيعة *** وما لي إلّا مذهب الحقِّ مذهبُ

ومَنْ غيرهم أرضى لنفسي شيعة *** ومَن بعدهم لا من أجلّ وأرحب

ص: 946

يعيّرني جهّال قومي بحبّهم *** وبغضاؤهم أدنى لعارٍ وأعطبُ

أريب رجالاً منهم وتريبني *** خلائق ممّا أحدثوهن أريب

إليكم ذوي آل النبيِّ تطلعت *** نوازع من قلبي ظماءٌ وألببُ

فإنّي عن الأمر الذي تكرهونه *** بقولي وفعلي ما استطعت لأجنب

وإنّي لمن شايعتم لمشايعٌ *** وإنّي فيمن سبّكم لمسببُ

يشيرون بإلّايدي إليَّ وقولهم *** إلّا خاب هذا والمشيرون أخيب

فطائفة قد كفّرتني بحبّكم *** وطائفة قالوا مسئٌ ومذنبُ

ص: 947

فما ساءني تكفير هاتيك منهمُ *** ولا عيب هاتيك التي هي أعيبُ

يعيبونني من خبّهم (1) وضلالهم *** على حبّكم بل يسخرون وأعجب

وقالوا ترابيٌّ هواه ورأيُه *** بذلك أدعى فيهمُ وألقّبُ

فلا زلت منهم حيث يتهمونني *** ولا زلت في أشياعكم أتقلبُ

وأحمل أحقاد إلّاقارب فيكمُ *** وينصب لي في إلّابعدين فأنصب

بخاتمكم غصباً (2) تجوز أمورهم *** فلم أر غصباً مثله حين يغصبُ (3)

ص: 948


1- الخب: الرجل الخدّاع.
2- وفى نسخة: كرهاً.
3- وفى نسخة: فلم ار غصباً مثله يتغصب

وبدّلت إلّاشرار بعد خيارها *** وجدّ بها في أمّة وهي تلعبُ

وجدنا لكم في آل حم آيةً *** تأوّلها منّا تقيٌّ ومعرب

وقالوا ورثناها أبانا وأمّنا *** وما ورثتهم ذاك أمٌّ و لا أبُ

ولكن مواريث بن آمنة الذي *** به دان شرقيٌّ له ومغرب

فدىً لك موروثاً أبي وأبو أبي *** ونفسي فنفسي بعد بالنّاس أطيبُ

حياتك كانت مجدنا وسنائنا *** وموتك جدع للعرانين موعب

بك اجتمعت أنسابنا بعد فرقة *** فنحن بنو الإسلام ندعى وننسبُ

ص: 949

فبوركت مولوداً وبوركت ناشئاً *** وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيبُ

وبورك قبر أنت فيه وبوركت *** به وله أهلٌ لذلك يثرب

لقد غيّبوا برّاً وصدقاً ونائلاً *** عشيّة واراك الصفيح المنصّبُ

يقولون لم يورث ولولا تراثه *** لقد شاركت فيها بكيل وأرحب

وعكّ ولخم والسكون وحمير *** وكندة والحيّان بكر وتغلبُ

لعلَّ عزيزاً آمناً سوف يُبتلى *** وذو سلب منهم أنيق سيسلب

فيا لك أمراً قد أشتت أموره *** ودنياً أرى أسبابها تتقضبُ

ص: 950

يروضون دين الله صعباً محرّماً *** بأفواههم والرائض الدين أصعبُ

إذا شرعوا يوماً على الغيِّ فتنة *** طريقهم فيها عن الحقِّ أنكب

رضوا بخلاف المهتدين وفيهم *** مخبّأة أخرى تصان وتحجبُ

حنانيك ربَّ النّاس من أن يغرّني *** كما غرّهم شرب الحياة المنضب

يرون لهم حقاً على النّاس واجباً *** سفاهاً وحقّ الهاشميين أوجبُ

إذا قيل هذا الحق لا ميل دونه *** فإنضاؤهم في الغيّ حسرى ولغّب

فيا موقداً ناراً لغيرك ضوؤها *** ويا حاطباً في غير حبلك تحطبُ

ص: 951

الم ترني من حبّ آل محمّدٍ *** أروح وأغدو خائفاً أترقبُ

كإنّي جانٌ محدث وكأنّما *** بهم أتقى من خشية العار أجرب

على أيِّ جرم أم بأيّة سيرة *** أعنّف في تقريظهم وأكذّبُ

أناس بهم عزّت قريش فأصبحت *** وفيها حباء المكرمات المطنّب

مصفّون في إلّاحساب محضون نجرهم *** هم المحض منّا والصريح المهذبُ

خضمون أشراف لها ميم سادة *** مطاعيم أيسار إذ النّاس أجدبوا

عن عكرمة الضبّي عن أبيه قال: أدركت النّاس بالكوفة من لم يروِ: طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب، فليس بشيعي.

ص: 952

حدّث إبراهيم بن سعد إلّاسعدي عن أبيه قال: رأيت النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم في المنام فقال لي: من أيّ النّاس أنت؟ قلت: من العرب، قال: من أيّ العرب؟ قلت: من بني أسد، قال: من أسد بن خزيمة؟ قلت: نعم، قال: أهلاً، لي أنت؟ قلت: نعم، قال: أتعرف الكُميت بن زيد؟ قال: قلت: يا رسول الله من أهلي وقبيلتي، قال صلی الله علیه و آله و سلم: أتعرف من شعره شيئاً؟ قلت: نعم، قال: فأنشدني:

طربتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطربُ

فأنشدته إلى أن بلغت إلى قوله:

فما ليَ إلّا آلَ أحمدَ شيعةٌ *** وما ليَ إلّا مذهبُ الحقِّ مذهبُ

فقال صلی الله علیه و آله و سلم: إذا أصبحت فأقرأه منّي السلام، وقل له: قد غفر الله لك بهذه القصيدة.

وقال محمّد بن عقبة: كانت بنو أسد تقول: فينا فضيلة ليست في العالم: ليس من أمرئٍ فينا إلّا وفيه بركة، وذلك أن الكُميت عليه الرحمة رأى النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم في النوم فقال له: أنشدني

طربتُ وما شوقاً إلى البيضِ أطربُ

فأنشده، فقال له: بوركت، وبورك قومك.

وعن محمّد بن سهيل قال: قال الكُميت: رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في النوم، وأنا خائف، فقال لي: ممَّ خوفك؟ فقلت: يا رسول الله من بني أميّة، ثُمَّ أنشدته:

ص: 953

ألمْ ترنيْ منْ حبِّ آلِ محمّدٍ *** أروحُ وأغدوْ خائفاً أترقّبُ

فقال لي: إظهر، فقد آمنك الله في الدنيا والآخرة.

وعن نصر بن مزاحم المنقري أنّه رأى النبيَّ صلی الله علیه و آله و سلم في النوم، وبين يديه رجل ينشد:

منْ لقلبٍ متيّمٍ مستهامِ

فجعل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: جزاك الله خيراً، وأثنى عليه، وسألت عنه، فقيل: هو الكُميت بن زيد.

وحكى صاعد مولى الكُميت قال: دخلت مع الكُميت على عليِّ بن الحسين علیهما السلام فقال: إنّي قد مدحتك بما أرجو أن يكون لي وسيلة عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ثُمَّ أنشده قصيدته التي أوّلها:

من لقب متيم مستهامِ *** غير ما صبوة ولا أحلام ِ

طارقات ولا ادّكار غوان *** واضحات الخدود كإلّارام ِ

بل هوايَ الذي أجنّ وأبدي *** لبني هاشم فروع الآنام

للقريبين من ندىً والبعيدين *** من الجور في عرى الأحكام

والمصيبين باب ما أخطأ النّاس *** ومرسي قواعد الإسلام

والحماة الكماة في الحرب إن *** لفّ ضرام وقودها بضرام

ص: 954

والولاة الكفاة للأمر إن *** طرق بيتا بمجهض أو تمام ِ

وإلّاساة الشفاة للداء ذي *** الريبة والمدركين بإلّاوغام

واضحي أوجه كريمي جدود *** واسطي نسبة لهام فهام

للذري فالذري من الحسب *** الثاقب بين القمقام فالقمقام

فضلوا النّاس في الحديث *** حديثاً وقديماً في أوّل القدّام

أسد حرب غيوث جدب بهإليَّل *** مقاويل غير ما إفدام

لا مهاذير في الندى مكاثير *** ولا مصمتين بآلافحام

سادة ذادة عن الخرّد البيض *** إذا اليوم كان كالأيّام

ساسة لا كمن يرى رعية الناس *** سواء ورعية الآنعام

لا كعبد المليك أو كوليد *** أو سليمان بعد أو كهشام

من يمت لا يمت فقيداً ومن *** يحيَ فلا ذال ولا ذو ذمام

فهم إلّاقربون من كل خير *** وهم إلّابعدون من كل ذام

وهم إلّارأفون بالنّاس في الرأفة *** وإلّاحلمون في إلّاحلام

أسرة الصادق الحديث أبي القاسم *** فرع القدامس القدّام

ص: 955

خير حيٍّ وميت من بني آدم *** طرّاً مأمومهم والإمام ِ

فهم شيعتي وقسمي من الأمّة *** حسبي من سائر إلّاقسام

إن أمت لا أمت ونفسي نفسان *** من الشكّ في عمىً أو تعامي

عادلاً غيرهم من النّاس طرّاً *** بهم لاهمام بي لاهمام

لم أبع ديني المساوم بالوكس *** ولا مغلياً من السوّام

أخلص الله لي هواى فما *** أغرق نزعاً ولا تطيش سهامي

فلمّا أتى على آخرها قال له علیه السلام: (ثوابكَ يعجزُ عنهُ، ولكنّ ما عجزنا عنهُ فإنّ اللهَ لا يعجزُ عن مكافاتكَ .. اللهمَّ اغفرْ للكميت .. اللهمَّ اغفر للكميت)، ثُمَّ قسّط له على نفسه وعلى أهله أربعمائة ألف درهم، وقال له: خذ يا أبا المستهل، فقال له: لو وصلتني بدانق لكان شرفاً لي، ولكن إن أحببت أن تحسن إليَّ فادفع إليَّ بعض ثيابك التي على جسدك أتبرك بها؛ فقام علیه السلام فنزع ثيابه ودفعها إليه كلّها، ثُمَّ قال: (اللهمَّ إنّ الكُميت جاد في آل رسولك وذرية نبيك بنفسه، حين ضنّ النّاس، وأظهر ما كتمه غيره من الحقِّ، فأمته شهيداً، وأحيه سعيداً، وأحسن له الجزاء عاجلاً، وأجزل له جزيل المثوبة آجلاً، فإنّا قد عجزنا عن مكافاته).

قال الكُميت: فما زلت أعرف بركة دعائه عليه وعلى آبائه السلام.

ص: 956

وحدّث محمّد بن سهل قال: دخلت مع الكُميت على أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق علیهما السلام، في أيام التشريق، فقال: جُعلت فداك، إلّا أنشدك؟ قال: إنّها أيّام عظام، قال: إنّه فيكم، قال علیه السلام: هات، فأنشده قصيدته التي أوّلها:

إلّا هل عمٍ في رأيه متأمّلُ *** وهل مدبرٌ بعد إلّاساءة مقبلُ

وهل أمّة مستيقظون لدينهم *** فيكشف عنه النعسة المتزمل

فقد طال هذا النوم واستخرج الكرى *** مساويهم لو أن ذا الميل يعدل

وعطلت الأحكام حتّى كأننا *** على ملة غير التي نتنحل

كلام النبيّين الهداة كلامنا *** وأفعال أهل الجاهلية نفعل

رضينا بدنيا لا نريد فراقها *** على أنّنا فيها نموت ونقتل

ونحن بها المستمسكون كأنّها *** لنا جُنّة مما نخاف ومعقل

فكثر البكاء وارتفعت إلّاصوات، فلمّا مرّ على قوله في الحسين علیه السلام:

كأنّ حسيناُ والبهاليل حوله *** لأسيافهم ما يختلي المتبقل ُ

يخضن بهم من آل أحمد في الوغى *** دماً ظلّ منهم كالبهيم محجّل

فلم أرَ مخذولاً أجلّ مصيبة *** وأوجب منه نصرة حين يخذل

ص: 957

يصيب به الرامون عن قوس غيرهم *** فيا آخراً أسدى له الغيّ أوّل

رفع أبو عبد الله علیه السلام يديه وقال: ( اللهمَّ اغفر للكميت ما قدّم وأخّر، وما أسرّ وأعلن، وأعطه حتّى يرضى ).

ومن غرر أبيات هذه القصيدة قوله في آل البيت علیهم السلام:

إلّا يفزع إلّاقوام ممّا أضلّهم *** ولمّا تجئهم ذات ودقين ضئبل ُ

إلى مفزع لن ينجيَ النّاس من عمىً *** ولا فتنة إلّا إليه التحوّل

إلى الهاشميين البهإليَّل إنّهم *** لخائفنا الراجي ملاذٌ وموئل

إلى أيّ عدل أم لأيّة سيرة *** سواهم يؤمّ الظاعن المترحل ُ

وفيهم نجوم النّاس والمهتدى بهم *** إذا الليل أمسى وهو بالنّاس إليَّل

لهم من هوايَ الصفو ما عشت خالصاً *** ومن شعريَ المخزون والمتنخل

فلا رغبتي فيهم تغيض لرهبة *** ولا عقدتي في حبّهم تتحلل ُ

وأخرج الكشّيّ عن يونس بن يعقوب قال: أنشد الكُميت أبا عبد الله علیه السلام:

ص: 958

أخلص الله لي هواي فما *** أغرق نزعاً ولا تطيش سهامي

فقال أبو عبد الله علیه السلام: لا تقل هكذا، ولكن قل:

أخلص الله لي هواي فقد *** اغرق نزعاً وما تطيش سهامي

وعن عقبة بن مشير الأسدي، عن الكُميت بن زيد الأسدي قال: دخلت على أبي جعفر علیهما السلام فقال: (والله يا كميت، لو كان عندنا مال لأعطيناك منه، ولكن لك ما قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لحسّان: [لا يزالُ معَكَ روحُ القدسِ ما ذبَبْتَ عنّا]).

وعن عبيدة بن زرارة عن أبيه قال: دخل الكُميت بن زيد على أبي جعفر علیهما السلام،وأنا عنده فأنشده شعره:

مَنْ لقلبٍ متيّمٍ مستهام ِ

فلمّا فرغ منها قال علیه السلام للكميت: (لا تزال مؤيداً بروح القدس ما دمت تقول فينا).

وروي انّه دخل يوماً على جعفر بن محمّد علیهما السلام فأنشده، فأعطاه ألف دينار وكسوة، فقال الكُميت: والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكنني أحببتكم للآخرة، فأمّا الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركتها، وأمّا المال فلا أقبله.

وروى أنه دخل يوماً على فاطمة علیها السلام بنت الحسين علیه السلام فقالت: هذا شاعرنا أهل البيت، وجاءت بقدح فيه سويق، فحرّكته بيدها، وسقت الكُميت فشربه، ثُمَّ أمرت له بثلاثين ديناراً ومركب، فهملت عيناه وقال: لا والله لا أقبلها إنّي لم أحبّكم للدنيا.

ص: 959

وعن عبد الله بن مروان الحراني قال: كان عندنا رجل من عباد الله الصالحين، وكان راوية لشعر الكُميت، يعنى الهاشميات، وكان سمع ذلك منه، وكان عالماً بها، فتركه خمساً وعشرين سنة لا يستحلّ روايته وأشعاره، ثُمَّ عاد فيه، فقيل له: ألم تكن زهدت فيه، وتركتها؟ فقال: نعم، ولكن رأيت رؤيا دعتني إلى العود فيه، فقيل له: وما رأيت؟ قال: رأيت كأن القيامة قد قامت، وكأنّما أنا في المحشر، فدفعت إليَّ مجلة، قال أبو محمّد: قلت لأبي الشيخ: وما المجلة؟ قال: الصحيفة.

قال: فنشرتها فإذا فيها (بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، أسماء من يدخل الجنّة من محبّي عليِّ بن أبي طالب علیه السلام، قال: فنظرت في السطر الأوّل، فإذا أسماء قوم لم أعرفهم، ونظرت في السطر الثاني، فإذا هو كذلك، ونظرت في السطر الثالث والرابع، فإذا فيه الكُميت بن زيد الأسدي، قال: فذاك الذي دعاني إلى العود فيه.

وعن الورد بن زيد قال: قلت لأبي جعفر علیهما السلام: جعلني الله فداك، قدم الكُميت فقال علیه السلام: أدخله، فسأله الكُميت عن الشيخين، فقال له أبو جعفر علیهما السلام: (ما أهريق دم، ولا حُكم بحكم غير موافق لحكم الله تعالى، وحكم النبيِّ صلی الله علیه و آله و سلم، وحكم عليٍّ علیه السلام، إلّا وهو في أعناقهما)، فقال الكُميت: الله أكبر.. الله أكبر، حسبي حسبي.

وعن داود بن النعمان قال: دخل الكُميت على أبي عبد الله علیه السلام، فأنشده، ثُمَّ قال الكُميت: يا سيدي أسألك عن مسألة، وكان علیه السلام متكئاً، فاستوى جالساً، وكسر في صدره وسادة، ثُمَّ قال: سَلْ، فقال: أسألك عن الرجلين، فقال علیه السلام: (يا كُميت بن زيد ما أهريق في الإسلام محجمة دم، ولا اكتسب مال من غير حلّه، ولا نُكح فرج حرام،

ص: 960

إلّا وذلك في أعناقهما إلى يوم يقوم قائمنا، ونحن بنو هاشم نأمر كبارنا وصغارنا بسبّهما، والبراءة منهما).

ومن شعره:

نفى عن عينك إلّارق الهجوعا *** وهمٌّ يمتري منها الدموعا

دخيل في الفواد يهيج سقماً *** وحزناً كان من جذل منوعا

وتوكاف الدموع على اكتئاب *** أحلّ الدهر موجعه الضلوعا

ترقرق أسجماً درراً وسكباً *** يشبّه سحّها غرباً هموعا

لفقدان الخضارم من قريش *** وخير الشافعين معاً شفيعا

لدى الرحمن يصدع بالمثاني *** وكان له أبو حسن مطيعا

حطوطاً في مسرّته ومولىً *** إلى مرضاة خالقه سريعا

فأصفاه النبيُّ على اختيار *** بما أعيا الرفوض له المذيعا

ويوم الدوح دوح غدير خُمٍّ *** أبان له الولاية لو أطيعا

ولكن الرجال تبايعوها *** فلم أر مثلها خطراً مبيعا

فلم أبلغ بهم لعناً ولكن *** أساء بذاك أوّلهم صنيعا

ص: 961

فصار بذاك أقربهم لعدل *** إلى جور وأحفظهم مضيعا

أضاعوا أمر قائدهم فضلّوا *** وأقومهم لدى الحدثان ريعا

تناسوا حقّه وبغوا عليه *** بلا ترة وكان لهم قريعا

فقل لبني أميّة حيث حلّوا *** وإن خفت المهند والقطيعا

أجاع الله من أشبعتموه *** وأشبع من بجوركمُ أُجيعا

بمرضيِّ السياسة هاشميٍّ *** يكون حياً لأمّته ربيعا

وليثاً في المواطن غير نكس *** لتقويم البريّة مستطيعا

يقيم أمورها ويذبّ عنها *** ويترك جدبها أبداً مريعا

ويلعن فذّ أمّته جهاراً *** إذا ساس البريّة والخليعا

إلّا أفٍّ لدهر كنت فيه *** هِداناً سامعاً لكم مطيعا

وكان خالد بن عبد الله القسري قد أنشد قصيدة الكُميت التي يهجو فيها اليمن، وهي التي أوّلها:

إلّا حيّيت عنّا يا مدينا

ص: 962

فقال: أو فعلها؟ والله لأقتلنه، ثُمَّ اشترى ثلاثين جارية، وتخيرهنّ نهاية في الحسن والكمال وإلّادب، فراواهنّ الهاشميات، ودسّهنّ مع نخاس إلى هشام بن عبد الملك، فاشتراهنّ جميعاً، فلمّا أنس بهنّ استنطقهنّ، فرأى منهنّ فصاحة وأدباً، واستقرأهنّ القرآن فقرأنه، واستنشدهنّ الشعر فأنشدنه قصائد الكُميت الهاشميات، فقال: ويلكنّ من قائل هذا الشعر؟ قلن: الكُميت بن زيد الأسدي، قال: وفى أي بلد هو؟ قلن: في العراق، ثُمَّ بالكوفة.

فكتب إلى خالد، وهو عامله على العراق: إبعث إليَّ برأس الكُميت بن زيد الأسدي، فلم يشعر الكُميت إلّا والخيل محدقة بداره، فأُخذ وحبس في الحبس.

وكان أبان بن الوليد عاملاً على واسط، وكان الكُميت صديقه، فبعث إليه بغلام على بغل، وقال له: أنت حرّ إن لحقته، والبغلة لك، وكتب إليه: أمّا بعد فلقد بلغني ما صرت إليه، وهو القتل، إلّا أن يدفع الله عزَّ وجلَّ، وأرى لك أن تبعث إليَّ حبي، وهي زوجة الكُميت، وكانت ممن تتشيع أيضاً، فإذا دخلت إليك تنقبت نقابها ولبست ثيابها وخرجت، فإنّي أرجو إلّامن لك.

فركب الغلام وسار بقية يومه وليلته، من واسط إلى الكوفة فصبحها، فدخل الحبس متنكراً، وأخبر الكُميت بالقصة، فبعث إلى امرأته، فقصّ عليها القصّة، وقال: أي بنيّة عم، أعلمي أن الوالي لا يقدم عليك، ولا يسلمك قومك، ولو خفته عليك لما عرضتك له، فألبسته ثيابها وأزارها وخمرته، وقالت: أقبل وأدبر، ففعل، فقالت: ما أنكرت منك شيئاً إلّا يبساً في كفيك، أخرج على اسم الله، وأخرجت معه جاريتين لها،

ص: 963

فخرج وعلى باب السجن أبو الوضّاح حبيب بن بُديل ومعه فتيان من أسد، فلم يؤبه له، ومشى الفتيان بين يديه إلى سكّة شبيب بناحية الكناس، فمرّ بمجلس من مجالس بني تميم، فقال بعضهم: رجل وربّ الكعبة، وأمر غلامه فاتبعه، فصاح به أبو الوضّاح: يا كذا وكذا أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم، وأومئ إليه بنعله، فولّى العبد مدبراً.

وادخله أبو الوضّاح منزله، ولما طال على السجّان الأمر، نادى الكُميت فلم يجبه، فدخل ليعرف خبره، فصاحت به المرأة: ورائك لا أمّ لك فشقّ ثوبه ومضى صارخاً إلى باب خالد، فأخبره، فاحضر حبّى، فقال لها: يا عدوّة الله، إحتلت على أمير المؤمنين، وأخرجت عدوّ أمير المؤمنين، لأنكلنّ بك ولأصنعن ولأفعلن، فاجتمعت بنو أسد، وقالوا: ما سبيلك على امرأة منّا خدعت، فخافهم، فخلّى سبيلها.

وسقط غراب على الحائط فنعب، فقال الكُميت لأبي وضّاح: إنّي لمأخوذ، وإن حائطك لساقط، فقال: سبحان الله، هذا ما لا يكون إن شاء الله.

وكان الكُميت خبيراً بالزجر، فقال: لا بدّ أن تحوّلني، فخرج به إلى بني علقمة، وكانوا يتشيعون، فأقام فيهم، ولم يصبح حتّى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب.

قال المستهل: وأقام الكُميت مدّة متوارياً، حتّى إذا أيقن أن الطلب خفّ عنه، خرج ليلاً في جماعة من بني أسد على خوف ووجل فيمن معه، قال: وأخذ الطريق على

ص: 964

القطقطانية، وكان عالماً بالنجوم مهتدياً بها، فلمّا سار سحراً صاح بنا: هوّموا يا فتيان؛ فهوّمنا، وقام فصلّى.

قال المستهل: فرأيت شخصاً فتضعضعت له، فقال: مالك؟ قلت: أرى شخصاً مقبلاً، فنظر إليه، فقال: هذا ذئب قد جاء يستطعمكم، فجاء الذئب فربض ناحية فأطعمناه يد خروف فتعرقها، ثُمَّ أهرقنا له بأناء فيه ماء فشربه، فارتحلنا، فجعل الذئب يعوي، فقال الكُميت: ويله .. ويله، ألم نطعمه ونسقه ؟! وما أعرفني بما يريد، وهو يعلمنا أنّا لسنا على الطريق، فتيامنوا يا فتيان؛ فتيامنّا، فسكن عواؤه.

فلم نزل نسير حتّى جئنا الشام، فتوارى في بني أسد وبني تميم، وأرسل إلى أشراف قريش، وكان سيّدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص، فمشت رجال قريش وأتوا عنبسة، وقالوا: يا أبا خالد هذه مكرمة أتاك الله بها، هذا الكُميت بن زيد، لسان مضر، كان أمير المؤمنين كتب في قتله، فجاء وقد تخلص إليك وإلينا، قال: مروه أن يعوذ بقبر معاوية بن هشام.

فمضى الكُميت وضرب فسطاطه عند قبره، وأتى مسلمة بن هشام فقال: يا أبا شاكر مكرمة أتيتك بها تبلغ الثريّا، إن اعتنيت بها، فإن علمت أنّك تفي وإلّا كتمتها، قال: وما هي؟ فأخبره الخبر، فقال: عليّ خلاصه.

فدخل على هشام وهو عند أمّه، في غير وقت دخول، فقال له هشام: أجئت لحاجة ؟ قال: نعم، قال: هي مقضيّة إلّا أن تكون الكُميت، قال: ما أحبّ أن تستثني عليّ في

ص: 965

حاجتي، وما أنا والكُميت، قالت أمّه: لتقضينّ حاجته كائنة ما كانت، قال: قد قضيتها ولو أحاطت بما بين قطريها، قال: هي الكُميت يا أمير المؤمنين، وهو آمن بأمان الله وأمانك، وهو شاعر مضر، وقد قال فينا قولاً لم يقل مثله، قال: قد آمنته، وأجزت أمنك له، قال: فاجلس له مجلساً ينشدك فيه ما قال، فقعد له، وعنده إلّابرش الكلبي، فتكلّم بخطبة ارتجلها، ما سُمع بمثلها قطّ، ومدحه بقصيدته الرائية، ويقال: أنّه ارتجلها، وهو قوله:

قفْ بالديارِ وقوفَ زائرْ

ومضى فيها إلى أن وصل إلى قوله:

والآن صرت إلى أميّة *** والأمور إلى مصائرْ

وجعل هشام يغمز مسلمة بقضيب في يده، ويقول له: إسمع، ثُمَّ جاء الكُميت إلى منزله آمناً، فحشدت له المضريّة بالهدايا، وأمر له مسلمة بعشرين ألف درهم، وأمر له هشام بأربعين ألف درهم، وكتب إلى خالد بأمانه وأمان أهل بيته، وأن لا سلطان له عليهم.

وفى رواية أنّه لما أجاره مسلمة بن هشام، وبلغ هشاماً، دعا به، وقال له: أتجير على أمير المؤمنين بغير أمره؟ فقال: لا، ولكنّي انتظرت سكون غضبه، قال: أحضره الساعة، فإنّه لا جوار لك، فقال مسلمة للكميت: يا أبا المستهل إن أمير المؤمنين قد أمرني بإحضارك.

ص: 966

قال: أو تسلمني يا أبا شاكر؟ قال: كلا، ولكنّي أحتال لك، ثُمَّ قال: إن معاوية بن هشام قد مات قريباً، وقد جزع عليه جزعاً شديداً، فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره، وأنا أبعث إليك ببنيه يكونون معك في الرواق، فإذا دعا بك تقدّمت إليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك، ويقولون: هذا استجار بقبر أبينا، ونحن أحقّ من أجاره.

فأصبح هشام على عادته، متطلعاً من قصره إلى القبر، فرأى فسطاطاً، فقال: ما هذا؟ فقالوا: لعلّه مستجير بالقبر، فقال: يُجار من كان إلّا الكُميت، فإنّه لا جوار له، فقيل: فإنّه الكُميت، قال: يُحضر أعنف إحضار.

فلمّا دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه، فلمّا نظر هشام إليهم، اغرورقت عيناه واستعبروا هم يقولون: يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا، وقد مات ومات حظّه في الدنيا، فاجعله هبة لنا وله، ولا تفضحنا فيمن استجار به؛ فبكى هشام حتّى انتحب، ثُمَّ أقبل على الكُميت فقال: يا كميت أنت القائل:

وإلّا تقولوا غيرنا تتعرفوا *** نواصيها تردى بنا وهي تشرب ُ

قال: كلّا ولا اتان من أتن الحجاز، ثُمَّ إنّه حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه صلی الله علیه و آله و سلم، ثُمَّ قال: أمّا بعد، فإنّي كنت أتدهدى في غمرة جهالة، وأعوم في بحر غواي، آخى عليّ خطلها، واستنفرني وهلها، فتحيّرت في الضلالة، وتسكعت في الجهالة، مهرعاً عن الحقّ، جائراً عن القصد، أقول الباطل ضلالاً، وأفوه بالبهتان وبإلّا، وهذا مقام

ص: 967

عائذ أبصر الهدى، ورفض العمى، فاغسل يا أمير المؤمنين الحوبة بالتوبة، واصفح عن الزلة، واعفُ عن الجرم، ثُمَّ قال شعراً:

كم قال قائلكم لعا *** لك عند عثرته لعاثرْ

وغفرتم لذوي الذنوب *** من إلّاكابر وإلّاصاغر

أبني أميّة إنّكم *** أهل الوسائل وإلّاوامر

ثقتي لكلّ ملمّة *** وعشيرتي دون العشائر

أنتم معادن للخلافة *** كابراً من بعد كابر

بالتسعة المتتابعين خلا *** ئفاً وبخير عاشرْ

ثُمَّ إنّه قطع الآنشاد، وعاد إلى خطبته فقال: إغضاء أمير المؤمنين وسماحته وصباحته مناط المنتجعين، من لا يحل حبوته لإساءة المذنبين، فضلا عن استشاطة غضبه لجهل الجاهلين، فقال له: ويلك يا كُميت من زيّن لك الغواية، ودلّاك في العماية؟ قال: الذي أخرج أبانا من الجنّة، وأنساه العهد، فلم يجد له عزماً.

فقال له: إيهٍ يا كُميت أنت القائل:

فيا موقداً ناراً لغيرك ضؤها *** ويا حاطباً في غير حبلك تحطبُ

فقال: بل أنا القائل:

ص: 968

إلى آل بيت أبي مالك *** مناخ هو إلّارحب إلّاسهل ُ

فقال له: وأنت القائل:

وكعبد المليك أو كوليدٍ *** أو سليمانَ بعد أو كهشام ِ

من يمتْ لا يمت فقيداً ومن *** يحيَ فلا ذوال ولا ذو ذمام ِ

فقال له: ويلك يا كميت، جعلتنا ممّن لا يرقب في مؤمن إلّا ولا ذمّة، فقال: بل أنا القائل يا أمير المؤمنين:

والآن صرت إلى أميّة *** والأمور إلى مصائرْ

والآن صرت بها المصيب *** كمهتدي بإلّامس حائر

يا ابن العقائل وإلّاماثل *** والجحاجحة الأخابر

من عبد شمس وإلّاكابر *** من أمية فإلّاكابر

إن الخلافة وإلّالاف *** برغم ذي حسد وواغر

دلفا من الشرف التليد *** إليك بالرفد الموافر

فحللت معتلج البطاح *** وحلّ غيرك بالظواهر

فقال له: إيهٍ وأنت القائل:

ص: 969

فقل لبني أميّة حيث كانوا *** وان خفت المهند والقطيعا

أجاع الله من أشبعتموه *** وأشبع من بجوركم أجيعا

بمرضي السياسة هاشمي *** يكون حياً لأمّته ربيعا

فقال: لا تثريب يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تمحو عني قولي الكاذب بقولي الصادق، فقال: وما هو؟ فقال:

أورثته الحصان أمّ هشام *** نسباً ثاقباً ووجهاً نضيرا

وتعاطى به ابن عائشة البدر *** فأمسى له رقيباً نظيرا

وكساه أبو الخلائف مروان *** سناء المكارم المأثورا

لم تجهم له البطاح ولكن *** وجدتها له مغانٍ ودورا

وكان هشام متكئاً، فاستوى جالساً وقال: هكذا فليكن الشعر، يقولها لسالم بن عبد الله بن عمر، وكان إلى جانبه.

ثُمَّ قال: قد رضيت عنك يا كُميت، فقبّل يده، ثُمَّ قال: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تزيد في تشريفي، فلا تجعل لخالد عليّ إمارة، قال: قد فعلت، وكتب له بذلك، وأمر له بأربعين ألف درهم وثلاثين ثوباً شاميّة، وكتب إلى خالد أن يخلي سبيل امرأته، ويعطيها عشرين ألف درهم وثلاثين ثوباً، ففعل ذلك.

ص: 970

وعن ابن محمّد الهمداني قال: حدثني دُرست بن أبي منصور، قال: كنت عند أبي الحسن موسى علیه السلام، وعنده الكُميت بن زيد، فقال للكُميت: أنت الذي تقول:

فالآن صرت إلى أميّة *** والأمور إلى مصائرْ

فقال: قلت ذاك والله، ما رجعت عن إيماني، وإنّي لكم لموالٍ ولعدوكم لمعادٍ، ولكنني قلته على التقيّة، قال علیه السلام: أما لئن قلت ذلك إنّ التقيّة تجوز في شرب الخمر.

وروي أنّه دخل على أبي جعفر محمّد بن علي الباقر علیهما السلام وأبو جعفر ينشد:

ذهب الذين يُعاش في أكنافهم *** لم يبقَ إلّا شامت أو حاسد ُ

فأنشده الكُميت بديهة فقال:

وبقى على وجه البسيطة واحد *** وهو المراد وأنت ذاك الواحد ُ

وروي عن الكُميت أنّه قال: رأيت أمير المؤمنين علیه السلام في المنام، فقال: أنشدني قصيدتك العينية، فأنشدته حتّى انتهىت إلى قولي:

ويوم الدوح دوح غدير خُمٍّ *** أبان له الولاية لو أُطيعا

ولكنّ الرجال تبايعوها *** فلم أرَ مثلها خطراً مبيعا

فقال علیه السلام: صدقت، ثُمَّ أنشد علیه السلام:

ولم أرَ مثل ذاك اليوم يوماً *** ولم أرَ مثله حقّاً أُضيعا

ص: 971

قال محمّد بن مسلمة: كان مبلغ شعر الكُميت حين مات خمسة آلاف ومائتين وتسعاً وثمانين بيتاً.

وكانت ولادته أيّام مقتل الحسين بن عليّ علیهما السلام، سنة ستين، وتوفي شهيداً سنة ست وعشرين ومائة، في خلافة مروان بن محمّد.

وكان سبب موته ما حكاه حجر بن عبد الجبار، قال: خرجت الجعفريّة على خالد القسري، وهو يخطب على المنبر، ولا يعلم بهم، فخرجوا ينادون: لبّيك جعفر .. لبّيك.

وعرف خالد خبرهم وهو يخطب، فدهش ولم يعلم ما يقول فزعاً، فقال: أطعموني ماءً، ثُمَّ خرج النّاس إليهم، فأخذوا وقتلوا وحرقوا.

فلم عزل خالد عن العراق، وولّي يوسف بن عمر دخل عليه الكُميت، فأنشده:

خرجت لهم تمشى البراح ولم تكن *** كمن حضّه فيه الرتاج المضبب ُ

وما خالد يستطعم الماء فاغراً *** بعدلك والداعي إلى الموت ينعب

قال: والجند قيام على رأس يوسف بن عمر، وهم يمانيّة، فتعصبوا لخالد فوضعوا نعال سيوفهم في بطن الكُميت فوجؤه بها، وقالوا: تنشد الأمير ولم تستأمره، فلم يزل ينزف الدم حتّى مات رحمه الله تعالى.

ص: 972

قال المؤلف عفا الله عنه: هذه الشهادة التي دعا له بها عليُّ بن الحسين علیهما السلام، وقد تقدم خبر ذلك.

وحدّث المستهل بن الكُميت قال: حضرت أبي عند الموت، وهو يجود بنفسه، فأغمي عليه، ثُمَّ أفاق ففتح عينيه، ثُمَّ قال: اللهمَّ آل محمّد، اللهمَّ آل محمّد، اللهمَّ آل محمّد، ثلاثاً، ثُمَّ قال: يا بنيّ إنّه بلغني في الروايات أنّه يحفر بظهر الكوفة خندق يخرج فيه الموتى من قبورهم، وينبشون منها، فيحولون إلى قبور غيرهم، فلا تدفني في الظهر، ولكن إذا متُّ فامضِ بي إلى موضع يقال له: مكران، فادفني فيه، فدفن في ذلك الموضع، وكان أوّل من دفن فيه، وهو مقبرة بني أسد إلى الساعة.

ص: 973

كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة

أبو صخر، كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة الأسود بن عامر بن عويمر بن خالد بن سعيد بن خثيمة بن سعد بن مليح - بضم الميم - إبن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن مريقياط بن عامر بن ماء السماء بن حارثة بن أمرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن أزد بن قمعة بن إليَّاس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الخزاعي، الحجازي الشاعر المشهور، أحد عشاق العرب المشهورين به، صاحب عزّة بنت جميل، الآتي ذكرها، له معها حكايات ونوادر وأمور مشهورة، وأكثر شعره فيها.

وكان ابن إسحق يقول: كثير أشعر أهل الإسلام، وكانت له منزلة عند قريش وقدر، وكان عبد الملك معجباً بشعره، فقال يوماً: كيف ترى شعري يا أمير المؤمنين؟ فقال: أراه يسبق السحر ويغلب الشعر، فقال: من أشعر النّاس يا أبا صخر؟ فقال: من يروي أمير المؤمنين شعره، فقال له عبد الملك: إنّك لمنهم.

ويحكى أن الفرزدق لقي كثيراً فقال له: أنت يا أبا صخر أنسب العرب حيث تقول:

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما *** تمثّل لي ليلى بكل سبيل ِ

فقال له كثير: وأنت يا أبا فراس أفخر العرب حيث تقول:

ترى النّاس ما سرنا يسيرون حولنا *** وإن نحن أومأنا إلى النّاس وقّفوا

ص: 974

وقال الجمحي: كان لكثير في النسيب نصيب وافر، وكانت له من فنون الشعر ما كانت لجميل، وكان راوية جميل، وإنّما صغر اسمه لقصره وحقارته.

وقال الوقّاصي: رأيت كثيراً يطوف بالبيت، فمن حدثك أنّه يزيد على ثلاثة أشبار فلا تصدقه.

وكان إذا دخل على عبد الملك، أو أخيه عبد العزيز يقول له: طأطئ رأسك لا يصيبه السقف.

وكان عبد الملك يحبّ النظر إلى كثير، فلمّا ورد عليه، فإذا هو قصير حقير، تزدريه العين، فقال: تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه، فيقول: مهلاً يا أمير المؤمنين، فإنّما المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، إن نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان، وأنا الذي أقول:

ترى الرجل النحيف فتزدريه *** وفى أثوابه أسد هصور ُ

ويعجبك الطرير فتبتليه *** فيخلف ظنّك الرجل الطرير

وما عظم الرجال لها بزين *** ولكن زينها كرم وخير

بغاث الطير أطولها جسوماً *** ولم تطل البزاة و لا الصقور

وقد عظم البعير بغير لبٍّ *** فلا يستغن بالعظم البعير

فيركب ثُمَّ يضرب بالهراوى *** فلا عرف لديه ولا نكير

ص: 975

يجرره الصبيُّ بكل سهب *** ويحبسه على الخسف الجرير ُ

فاعتذر إليه عبد الملك، ورفع مجلسه.

ونسب في الحماسة هذه الأبيات إلى العبّاس بن مرداس، ويحتمل ان يكون كثير تمثل بها.

وكان أوّل أمره مع عزّة أنّه مرّ بنسوة من بني خمرة، ومعه جلب غنم، فأرسلن إليه عزّة، وهي صغيرة، فقالت: يقلن لك النسوة بعنا كبشاً من هذه الغنم، وانسئنا بثمنه إلى أن ترجع، فأعطاها كبشاً، فأعجبته، فلمّا رجع جاءته امرأة منهن بدراهمه، فقال: وأين الصبيّة التي أخذت مني الكبش؟ قالت: وما تصنع بها؟ هذه دراهمك، قال: لا آخذ دراهمي إلّا ممّن دفعت إليها الكبش، وهو يقول:

قضى كل ذي دين فوفّى غريمه *** وعزّة ممطول معنّىً غريمها

فقلن له: أبيت إلّا هذه، وأبرزنها له وهي كارهة، ثُمَّ إنّها أحبته بعد ذلك حبّاً شديداً، أشدّ من حبّه لها.

وحكي أن عزّة دخلت يوماً على أمّ البنيين بنت عبد العزيز، أخت عمر بن عبد العزيز، فقالت: أرأيت قول كثير:

قضى كل ذي دين فوفّى غريمه *** وعزّة ممطول معنّىً غريمها

ما كان ذلك الدين؟ قالت: وعدته قبل، وخرجت منها، قالت: أنجزيه، وعليّ إثمُها.

ص: 976

وكان لكثير غلام عطّار بالمدينة، وربّما باع نساء العرب بالنسيئة، فأعسر على عزّة بعطر، فمطلته أيّاماً، وحضرت إلى حانوته في نسوة، فطالبها، فقالت: حبّاً وكرامة، ما أقرب الوفاء وأسرع، فأنشد متمثلاً:

قضى كل ذي دين فوفّى غريمه *** وعزّة ممطول معنّىً غريمها

فقالت النسوة: أتدري من غريمتك؟ قال: لا والله، قلن: هي عزّة، قال: أشهدكم أنّها في حلّ ممّا لي عندها، ثُمَّ مضى إلى سيده فأخبره بذلك، فقال كثير: وأنا أشهد الله أنّك حرٌّ لوجهه، ووهبه جميع ما في الحانوت من العطر.

وله في مطالها بالوعد شعر كثير منه قوله:

أقول لها عزيز مطلت دَيني *** وشرّ الغانيات ذوا المطإليَّ

فقالت ويح غيرك كيف أقضي *** غريماً ما ذهبت له بمالي

وعن الهيثم بن عدي أن عبد الملك سأل كثيراً عن أعجب خبر له مع عزّة، فقال: حججت سنة من السنين، وحجّ زوج عزّة بها، ولا يعلم أحد بصاحبه، فلمّا كنّا في بعض الطريق، أمرها زوجها بابتياع سمن يصلح به طعاماً لأهل رفقته، فجعلت تدور الخيام خيمة خيمة، حتّى دخلت إليَّ، وهي لم تعلم أنّها خيمتي، وكنت أبرى أسهماً لي، فلمّا رأيّتها جعلت أبري وأنا أنظر إليها ولا أعلم، حتّى بريت ذراعي مرّات، وأنا لا أشعر، والدم يجري، فلمّا تبينت ذلك دخلت إليَّ وأمسكت يدي، وجعلت تمسح الدم عنها بثوبها، وكان عندي نحى من سمن، فحلفت لتأخذنّه فأخذته وجاءت الى زوجها

ص: 977

بالسمن، فلمّا رأى ثوبها سألها عن خبره، فكاتمته، حتّى حلف عليها لتصدقنه فصدقته، فضربها، وحلف لتشتمني في وجهي، فوقفت عليّ وهو معها، فقالت لي: يا ابن الزانية، وهي تبكي، ثُمَّ انصرفا، فذلك حين أقول:

يكلّفها الخنزير شتمي وما بها *** هواني ولكن للمليك استذلت ِ

وهذا البيت من قصيدة له، هي من محاسن شعره أوّلها:

خليلي هذا ربع عزة فاعقلا *** قلوصيكما ثُمَّ ابكيا حيث حلت ِ

وما كنت أدري قبل عزّة ما البكا *** ولا موجعات القلب حتّى تولت ِ

فلا يحسب الواشون أن صبابتي *** بعزّة كانت غمرة فتجلت

فوالله ثُمَّ الله ما حلّ قبلها *** ولا بعدها من خلّة حيث حلت

ص: 978

وما مرّ من يوم عليّ كيومها *** وإن عظمت أيّام أخرى وجلّت

وكانت لقطع الحبل بيني وبينها *** كناذرة نذراً فأوفت وبرّت

فقلت لها يا عزّ كل مصيبة *** إذا وطنت يوماً لها النفس ذلّت

ولم يلق إنسان من الحبّ منعة *** تعمّ ولا عمياء إلّا تجلت

أباحت حمى لم ترعها النفس قبلها *** وحلّت تلاعاً لم تكن قبل حلّت

أريد ثواءً عندها وأظنّها *** إذا ما أطلنا عندها المكث ملّت

فو الله ما قاربت إلّا تباعدت *** بهجر ولا أكثرت إلّا أقلّت

ص: 979

يكلفها الخنزير شتمي وما بها *** هواني ولكن للمليك استذلّت

هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر *** لعزّة من أعراضنا ما استحلّت

فإن تكن العتبى فأهلاً ومرحباً *** وحقّت لها العتبى علينا وقلّت

وإن تكن الأخرى فإن ورائنا *** مناويح لو سارت بها العيس كلّت

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقليّة إن تقلت ِ

فما أنا بالداعي لعزّة بالردى *** ولا شامت إن نعل عزّة زلّت

وإني وتهيامي بعزّة بعدما *** تخلّيت عمّا بيننا وتخلت

ص: 980

لكالمبتغي ظلّ الغمامة كلّما *** تبوأ منها للمقيل اضمحلت

كأنّي وإيّاها غمامة ممحل *** رجاها فلمّا جاوزته استهلت

كإنّي أنادى صخرة حين أعرضت *** من الصمّ لو تمشي بها العصم زلت

صفوحاً فما نلقاك إلّا بخيلة *** فمن حلّ منها ذلك النيل ملّت

فما انصفت أمّا النساء فبغضت *** إليَّ وإمّا بالنوال فضنّت

فواعجباً للقلب كيف اعتزازه *** وللنفس لمّا وطّنت كيف ذلّت

وكنّا عقدنا عقدة الوصل بيننا *** فلمّا توافقنا شددت وحلّت

ص: 981

وكنّا سلكنا في صعود من الهوى *** فلمّا توافينا ثبت وزلّت

فإن سأل الواشون فيم سلوتها *** فقل نفس حرٍّ سُلّيت فتسلّت

وللعين تذراف إذا ما ذكرتها *** وللقلب وسواس إذا العين ملت

فكنت كذا رجلين رجل صحيحة *** وأخرى رمى فيها الزمان فشلّت

ولي عبرات لو يدٌ من قتلنني *** توالى التي ما بالتي قد تولّت ِ

فليت قلوصي عند عزّة قيّدت *** بحبل ضعيف بان منها فضلت

وأصبح في القوم المقيمين رحلها *** وكان لها باع سواي فشلت

ص: 982

تمنيتها حتّى إذا ما رأيتها *** رأيت المنايا شرّعاً قد أطلت

أصاب الردى من كان يبغي لها الردى *** وجنّ اللواتي قلن عزّة جنت

عليها تحيات السلام هدية *** لها كل حين مقبل حيث حلت ِ

وعن يعقوب بن عبد الله الأسدي، ومحمّد بن صالح الأسلمي قال: دخلت عزّة على عبد الملك بن مروان وقد عجزت، فقال لها: أنت عزّة كثير، فقالت: أنا عزّة بنت جميل، قال: أنت الذي يقول لك كثير:

لعزّة نار ما تبوح كأنّها *** إذا ما رمقناها من البعد كوكب ُ

فما الذي أعجبه منك؟ قالت: يا أمير المؤمنين إنّي كنت في عهدي أحسن من النار في الليلة القرّة.

وفى حديث محمّد بن صالح الأسلمي فقالت: ما أعجب المسلمين منك حين صيّروك خليفة، قال: وكانت له سن سوداء فضحك حتّى بدت، فقالت له: هذا الذي أردت أن أبديه، فقال لها: هل تروين قول كثير:

ص: 983

وقد زعمت أنّي تغيّرت بعدها *** ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغير ُ

تغيّر جسمي والخليقة كالتي *** عهدت ولم يخبر بسرّك مخبر ُ

فقالت: لا بل أروي له وهو من قصيدته المتقدمة -:

كأنّي انادي صخرة حين أعرضت *** من العصم لو تمشي بها العصم زلّت ِ

صفوحاً فما تلقاك إلّا بخيلة *** فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت ِ

وعن إبراهيم بن أبي عمرو الجهني قال: سارت إلينا عزّة في جماعة من قومها، فنزلت حيّاً لنا، فجاءني كثير ذات يوم، فقال لي: أريد أن اكون عندك اليوم حتّى أمسي فأذهب الى عزّة، فصرت به إلى منزلي، فأقام عندي، حتّى كان العشاء.

ثُمَّ أرسلني إليها وأعطاني خاتمه، وقال: إذا سلمت فستخرج إليك جارية، فادفع إليها خاتمي، وأعلمها مكاني، فجئت بيتها فسلّمت، فخرجت إليَّ الجارية، فأعطيتها الخاتم، فقالت: أين الموعد؟ قلت: صخيرات أبي عبيدة، الليلة، فوعدته هناك، فخرجت إليه فأعلمته.

فلمّا أمسى قال لي: إنهض بنا فنهضنا، فجلسنا هناك نتحدث، حتّى جانب من الليل، فجاءت فجلست، فتحدثا فأطالا، فذهبت لأقوم، فقال لي: إلى أين تذهب؟ قلت: أخلّيكما ساعة، لعلّكما تتحدثان ببعض ما تكتمان، فقال لي: إجلس، فو الله ما كان بيننا شيء

ص: 984

قطّ، فجلست وهما يتحدثان، حتّى أسحرنا، ثُمَّ قامت وانصرفت، وقمت أنا وهو، فظلّ عندي حتّى أمسى، ثُمَّ انطلق.

وكان كثير بمصر، وعزّة بالمدينة، فاشتاق إليها، فسافر ليلقاها، فصادفها في الطريق وهي متوجهة الى مصر، فجرى بينهما كلام طويل الشرح، ثُمَّ إنّها انفصلت عنه، وقدمت مصر، ثُمَّ عاد كثير الى مصر، فوافاها والنّاس منصرفون عن جنازتها، فأتى قبرها وأناخ راحلته، ومكث ساعة ثُمَّ رحل، وهو يقول أبياتاً منها:

أقول ونضوي واقف عند قبرها *** عليك سلام الله والعين تسفح ُ

وقد كنت أبكي من فراقك حيّةً *** وأنت لعمري اليوم أنأى وأنزح ُ

ولكثير مع عزة أخبار كثيرة اقتصرنا منها على هذا المقدار خشية من إلّاطالة.

وكان كثير شيعياً شديد التشيع، وكان آل مروان يعلمون بمذهبه فلا يغيرهم ذلك له؛ لجلالته في عيونهم، ولطف محلّه في أنفسهم.

وحدّث إبن قتيبة قال: بلغني أن كثيراً دخل على عبد الملك بن مروان، فسأله عن شيء فأخبره به، فقال: أو حقّ عليّ بن أبي طالب إنّه كما ذكرت، فقال: يا أمير المؤمنين لو سألتني بحقّك لصدقتك، قال: لا أسألك إلّا بحقّ أبي تراب، فحلف له به، فرضي.

ص: 985

ولمّا عزم عبد الملك على الخروج إلى حرب الزبير، ناشدته زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية أن لا يخرج بنفسه، ويبعث غيره فأبى، فلم تزل تلحّ عليه في المسألة، وهو يمتنع من إلّاجابة، فلمّا يئست منه بكت، وبكى من حولها من جواريها وحواشيها، فقال عبد الملك: قاتل الله كثيراً، كأنّه رأى موقفنا هذا حين قال:

إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه *** فتاة عليها نظم درٍّ يزينها

نهته فلمّا لم ترَ النهى عاقه *** بكت فبكى مما شجاها قطينها

ثُمَّ عزم عليها أن تقصر فأقصرت، وخرج لقصده، فنظر إلى كثير في ناحية عسكره يسير مطرقاً فدعا به، وقال: إنّي لأعرف ما أسكتك وألقى عليك ثبك، فإن أخبرتك عنه أتصدقني؟ قال: نعم، قال: وحقِّ أبي تراب إنّك تصدقني؟ قال: والله لأصدقنّك، قال: لا، أو تحلف به، فحلف به، فقال: تقول رجلان من قريش يلقى أحدهما صاحبه فيحاربه، القاتل والمقتول في النار، فما مغني سيرى مع أحدهما، ولا آمن سهماً غائراً لعلّه أن يصيبني فيقتلني، فأكون معهما، قال: والله يا أمير المؤمنين ما أخطأت، قال: فارجع من قريب، وأمر له بجائزة.

وفي رواية أنّه دعا به فقال: ذكرت الساعة بيتين من شعرك، فإن أصبت ما هما؟ فلك حكمك، فقال: نعم، أردت الخروج فبكت عاتكة، وبكى حشمها، فذكرت قولي:

إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه *** فتاة عليها نظم درٍّ يزينها

نهته فلمّا لم ترَ النهى عاقه *** بكت فبكى مما شجاها قطينها

ص: 986

فقال: أصبت فاحتكم، فأعطاه ما أراد، ثُمَّ نظر إليه عبد الملك يسير في عرض الموكب متفكراً، فقال: علي بابن أبي جمعة، فقال: إن عرفتك في أي شيء كنت تفكر فلي حكمي، فقال: نعم، قال: كنت تقول: أنا في شرّ حال، خرجت في جيش من أهل النار، ليس على ملّتي ولا مذهبي، يسير إلى رجل من أهل النار، ليس على ملّتي ولا على مذهبي، يلتقي الخيلان فتصيبني سهم غرب فأتلف، فما هذا؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أخطأت ما كان في نفسي فاحتكم، قال: حكمي أن أصلك في عشرة آلاف درهم، وأردّك إلى منزلك، فأمر له بذلك.

وحدّث حفص إلّامدي قال: كنت أختلف إلى كثير أتروى شعره، قال: فوالله إنّي لعنده يوماً إذ وقف عليه واقف فقال: قتل آل المهلب بالعقر، فقال: ما أجلّ الخطب، ضحّى آل أبي سفيان بالدين يوم الطفّ، وضحّى بنو مروان بالكرم يوم العقر.

فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك فدعا به، فلمّا دخل عليه قال: عليك بهلّة الله أترابية وعصبية!، وجعل يضحك منه.

وعن أبي بكر الهذلي قال: كان عبد الله بن الزبير قد أغرى ببني هاشم، يتبعهم بكل مكروه، ويغري بهم ويخطب بهم على المنابر، ويصرّح ويعرّض بذكرهم، فربّما عارضه ابن عبّاس وغيره منهم، ثُمَّ بدا له فيهم، فحبس ابن الحنفية في سجن عارم، ثُمَّ جمعه وسائر من كان بحضرته من بني هاشم، فجعلهم في مجالس، وملأه حطباً وأضرم فيه النار.

ص: 987

وكان قد بلغه أن أبا عبد الله الجدلي وسائر شيعة ابن الحنفية قد وافوا لنصرته ومحاربة إبن الزبير، فكان سبب إيقاعه بهم، وبلغ أبا عبد الله الخبر، فوافى ساعة أضرمت النار عليهم فأطفأها واستنقذهم، وأخرج إبن الحنفية عن جوار إبن الزبير يومئذ، فأنشد محمّد بن العبّاس اليزيدي، قال: أنشدنا محمّد بن حبيب لكثير في ابن الحنفية، وقد حبسهم إبن الزبير في سجن يقال له سجن عارم:

ومن ير هذا الشيخ بالخيف من منى *** من النّاس يعلم أنّه غير ظالم ِ

سميّ النبيّ المصطفى وابن عمّه *** وفكّاك أغلال ونفّاع غارم

أبى فهو لا يشري هدى بضلالة *** ولا يتقي في الله لومة لائم ِ

ونحن بحمد الله نتلو كتابه *** حلولاً بهذا الخيف خيف المحارم

فما فرح الدنيا بباقٍ لأهله *** ولا شدّة البلوى بضربة لازم

تخبر من تلقى بأنّك عائذ *** بل العائذ المظلوم في سجن عارم

وقال بعضهم: إن كثيراً كان يرى رأى الكيسانية، ويقول بإمامة محمّد بن الحنفية، ويروون شعراً في ذلك، وهو:

إلّا إن الأئمّة من قريش *** ولاة الحق أربعة سواء ُ

عليٌّ والثلاثة من بنيهِ *** هم إلّاسباط ليس بهم خفاء

ص: 988

فسبط سبط إيمان وبرٍّ *** وسبط غيّبته كربلاء ُ

وسبط لا تراه العين حتّى *** يقود الخيل يقدمها اللواء

تغيب لا يرى عنهم زماناً *** برضوى عنده عسل وماء

قال المؤلف عفا الله عنه: إنّه إن صحّ أنّه كان كيسانياً، فالظنّ أنّه رجع عن ذلك، كالسيد الحميري، فقد اتفق النقل عن المخالف والمؤالف أن الباقر علیه السلام حضر جنازته ورفعها، كما سنذكر.

وذكر إبن شهر آشوب في معالم العلماء: أنّه كان من أصحاب الباقر علیه السلام .

وروي أن الباقر علیه السلام قال له: تزعم أنّك من شيعتنا، وتمدح آل مروان، قال: إنّما أسخر منهم، وأجعلهم حيّات وعقارب، وآخذ أموالهم.

وذكر الشريف المرتضى رحمة الله عليه في كتاب (الغرر والدرر): أن أبا جعفر محمّد بن علي الباقر علیهما السلام قال لكثير: أمدحت عبد الملك بن مروان؟ فقال: لم أقل له يا أمام الهدى، إنّما قلت له: يا شجاع، والشجاع حيّة، ويا أسد، والأسد كلب، فتبسم أبو جعفر علیه السلام .

وهذا يدلّ على أنّه كان نوى على بني مروان في مدائحه.

ص: 989

وذكر أيضاً في الكتاب المذكور: أن رجلاً نظر إلى كثير، وهو راكب، وأبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر علیهما السلام يمشي، فقيل له: أتركب وأبو جعفر يمشي؟ فقال: هو أمرني بذلك، وأنا بطاعته في الركوب أفضل من عصياني إيّاه بالمشي.

وهذا كلّه ممّا يدلّ عن حسن عقيدته، والعامّة - لعلمهم بتشيعه - رموه تارة باعتقاده مذهب الكيسانية، وتارة بالقول بالتناسخ، وتارة بعدم الدين والحمق، وأخرى بالزندقة وإلّالحاد، وغير ذلك.

وكانت وفاته في خلافة يزيد بن عبد الملك، بالمدينة المنورة، ويقال: أنّه لمّا حضرته الوفاة قال شعراً:

برأت إلى إلّاله من ابن أروى *** ومن دين الخوارج أجمعينا

ومن (فعل) برئت ومن (فعيل) *** غداة دعي أمير المؤمنينا

ثُمَّ إن روحه خرجت كأنّها فصّ في ماء.

وعن جويرية بن أسماء قال: مات كثير وعكرمة مولى ابن عبّاس في يوم واحد، فاجتمع النّاس في جنازة كثير، ولم يوجد لعكرمة من يحمله.

وقال إبن شهر آشوب في معالم العلماء: إنّه لما مات كثير رفع جنازته الباقر علیه السلام وعرقه يجري.

ص: 990

وعن يزيد بن عروة قال: غلب النساء على جنازة كثير يبكينه، ويذكرن عزّة في ندبهنّ، قال: فقال أبو جعفر محمّد بن عليٍّ علیهما السلام: أفرجوا لي عن جنازة كثير لأرفعها، قال: فجعلنا ندفع عنها النساء، وجعل يضربهن محمّد علیه السلام بكمّه ويقول: تنحّينَ يا صويحبات يوسف، فانتدبت له امرأة منهن فقالت: يا بن رسول الله لقد صدقت، إنّا لصويحبات يوسف، وقد كنّا خيراً منكم له، فقال أبو جعفر علیه السلام لبعض مواليه: إحتفظ بها حتّى تجيئني بها إذا انصرفنا.

قال: فلمّا انصرف علیه السلام أتى بتلك المرأة كأنّها شرارة النار، فقال لها محمّد بن عليّ علیهما السلام: إيهٍ أنت القائلة أنكنّ خير منّا، قالت: نعم تؤمنني غضبك يا بن رسول الله؟ قال: أنت آمنة من غضبي فأبيني، قالت: نحن يا بن رسول الله دعوناه إلى اللذات من المطعم والمشرب، والتمتع والتنعم، وأنتم معاشر الرجال ألقيتموه في الجبّ، وبعتموه بأبخس إلّاثمان، وحبستموه في السجن، فأيّنا كان به أحنى، وعليه أرأف؟ فقال محمّد بن عليّ علیهما السلام: لله درّك لن تغالب امرأة إلّا غلبت، ثُمَّ قال لها: ألك بعل؟ قالت: لي من الرجال من أنا بعله، قال: فقال أبو جعفر علیه السلام: صدقت مثلك من تملك زوجها ولا يملكها، قال: فلمّا انصرفت قال رجل من القوم: هذه زينب بنت معيقب الأنصارية.

ص: 991

ولله الحمد أوّلاً وآخراً، والصلاة والسلام على خير خلقه، المبعوث محمّد صلّى الله عليه، وعلى ابن عمه عليٍّ بن أبي طالب، أمير المؤمنين، وعلى ابني ابنته وسبطيه الحسن والحسين، وعلى ذريته المعصومين الطيبين من ذرية الحسين، عليهم أفضل الصلاة والسلام.

ص: 992

الفهرست

التسلسل - الموضوع - رقم الصفحة

1- مقدمة مؤسسة مسجد السهلة المعظم1

2- مقدمة الحجة الراحل السيد محمد صادق بحر العلوم – طاب ثراه - 6

3- ترجمة المؤلف6

4- ولادته ونشأته8

5- مؤلفاته9

6- مشايخه12

7- الراوون عنه12

8- شعره13

9- كلمته حول نسبه20

10- وفاته22

11- مقدمة الكتاب24

12- مقدمة المؤلف28

13- الطبقة الأولى من الصحابة34

14- المقدمة الأولى: في تعريف الصحابة34

15- المقدمة الثانية: في عدالة الصحابة37

16- المقدمة الثالثة: في تقسيم الصحابي75

17- المقدمة الرابعة: الصحابة مع أمير المؤمنين (ع)86

18- الباب الأول: في بني هاشم وساداتهم من الصحابة90

19- أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم91

20- حمزة بن عبد المطلب بن هاشم127

21- جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب136

22- العباس بن عبد المطلب بن هاشم151

23- عبد الله بن العباس بن عبد المطلب179

24- الفضل بن العباس بن عبد المطلب243

25- عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب247

26- قثم بن العباس بن عبد المطلب257

27- عبد الرحمن بن العباس بن عبد المطلب260

28- معبد بن العباس بن عبد المطلب261

29- كثير بن العباس بن عبد المطلب262

30- تمام بن العباس بن عبد المطلب263

31- عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب265

32- أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب282

33- نوفل بن الحرث بن عبد المطلب285

34- عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب287

35- عبد الله بن جعفر بن أبي طالب289

ص: 993

36- عون بن جعفر بن أبي طالب313

37- محمد بن جعفر بن أبي طالب314

38- ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب317

39- الطفيل بن الحرث بن عبد المطلب318

40- الحرث بن نوفل بن الحرث319

41- المغيرة بن نوفل بن الحرث320

42- عبد الله بن الحرث بن نوفل322

43- عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث324

44- العباس بن ربيعة بن الحرث326

45- العباس بن عتبة بن أبي لهب330

46- عبد المطلب بن ربيعة بن الحرث336

47- جعفر بن أبي سفيان بن الحرث337

48- الباب الثاني: في ذكر غير بني هاشم من الصحابة340

49- عمر بن أبي سلمة341

50- سلمان الفارسي343

51- المقداد بن الأسود بن عبد يغوث377

52- أبو ذر الغفاري385

53- عمار بن ياسر429

54- حذيفة بن اليمان472

55- خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين513

56- أبو أيوب الأنصاري519

57- أبو الهيثم مالك بن التيهان529

58- أبي بن كعب بن قيس534

59- سعد بن عبادة537

60- قيس بن سعد بن عبادة550

61- سعيد بن سعد بن عبادة575

62- أبو قتادة الأنصاري576

63- عدي بن حاتم الطائي577

64- عبادة بن الصامت بن قيس593

65- بلال بن رباح594

66- أبو الحمراء608

67- أبو رافع611

68- هاشم بن عتبة بن أبي وقاص615

69- عثمان بن حنيف بن واهب625

70- سهل بن حنيف بن واهب636

71- حكيم بن جبلة العبدي640

72- خالد بن سعيد بن العاص642

73- الوليد بن جابر بن ظليم647

74- أبو سعيد الخدري650

75- البراء بن مالك بن النضر655

76- بريدة بن الحصيب656

77- خباب بن الأرث بن جندلة662

ص: 994

78- كعب بن عمرو الأنصاري664

79- رفاعة بن رافع بن مالك666

80- مالك بن ربيعة بن البدن667

81- عقبة بن عمرو الأنصاري668

82- هند بن أبي هالة التميمي669

83- جعدة بن هبيرة بن أبي وهب677

84- أبو عمرة الأنصاري683

85- مسعود بن أوس بن زيد687

86- أبو برزة الأسلمي688

87- مرداس بن مالك الأسلمي689

88- المسور بن شداد بن عمير690

89- عبد الله بن بديل بن ورقاء691

90- حجر بن عدي الكندي698

91- عمرو بن الحمق الخزاعي710

92- أسامة بن زيد بن حارثة720

93- أبو ليلى الأنصاري736

94- زيد بن أرقم بن زيد737

95- البراء بن عازب بن الحرث746

96- تنبيه انتهاء الطبقة الأولى من الصحابة751

97- الطبقة الرابعة: في سائر العلماء من المحدثين والمفسرين والفقهاء753

98- الباب الأول: في بني هاشم وساداتهم753

99- الحسن بن حمزة الطبري754

100- الشريف المرتضى755

101- الشريف الرضي767

102- عدنان إبن الشريف الرضي789

103- محمد بن محمد بن علي790

104- محمد بن أحمد بن الحسن791

105- أبو الحسين بن علي بن الحسين793

106- أبو الحسن بن أبي الغنائم798

107- محمد بن علي بن الحسين800

108- محمد بن داود بن أحمد802

109- علي بن موسى بن إسحق805

110- محمد بن عبيد الله بن علي809

111- علي بن أبي طالب بن عبيد الله816

112- إسماعيل بن حيدر العباسي818

113- المطهر بن علي بن محمد821

114- يحيى بن محمد بن علي823

115- جعفر بن محمد بن جعفر825

116- حسن بن علي بن عبد الرحمن826

117- محمد بن الحسن بن حمزة827

118- محمد بن الحسين بن داود828

119- علي بن جعفر بن علي829

ص: 995

120- علي بن الحسين بن علي830

121- محمد بن عمر بن يحيى834

122- الحسن بن علي بن حمزة838

123- فضل الله بن علي بن عبد الله840

124- علي عز الدين بن فضل الله850

125- محمد بن أحمد بن محمد854

126- هبة الله بن علي بن محمد858

127- عماد الدين ذو الفقار بن محمد863

128- أحمد بن علي المرعشي865

129- محمد بن يحيى بن ظفر867

130- أحمد بن فضل الله بن علي868

131- علي بن رضي الدين ما نكديم871

132- الحسن بن أبي الضوء العلوي874

133- محمد بن أحمد بن محمد877

134- طاهر بن الحسين بن طاهر881

135- الطبقة الحادية عشرة من الدرجات الرفيعة883

136- النابغة الجعدي884

137- كعب بن زهير بن أبي سلمى894

138- همام بن غالب ( الفرزدق)905

139- الفضل بن عباس بن عتبة931

140- الكميت بن زيد بن جيش943

141- كثير بن عبد الرحمن بن أبي جمعة974

142- الفهرست993

ص: 996

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.