التوجيه الدلالي لآيات الأحكام

هویة الکتاب

اسم الكتاب : التوجيه الدلالي لآيات الأحكام

تأليف : د. عادل عباس النصراوي

الإخراج الفني : حنان شير على

الطبعة الأولى : الأولى

الكمية : 1000 نسخة

الناشر : أمانة مسجد السهلة المعظم

سنة الطبع : 1436ه- - 2015م .

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة مسجد السهلة المعظم

www.alsahla.net www.Alsahla.org

تنفيذ طباعي

دار المتقين

للثقافة والعلوم والطباعة والنشر

بيروت لبنان – طريق المطار

مفرق مطعم الساحة

بناية شاهين ط1

009613953622

Emal:walialah@yahoo.com

ص: 1

اشارة

التوجيه الدلاليّ لآيات الأحكام

دراسة تحليليّة

( آيات الحج والنكاح والطلاق والمعاملات والجنايات والحدود أنموذجاً )

تأليف

د. عادل عباس النصراوي

1436ه- 2015م

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾

صَدقَ الله العَليّ العَظِيم

سورة هود - الآية1

ص: 3

ص: 4

الإهداء

اليوم سترحلُ النجومُ ... و يغفو القمر ...

وغداً , ستنساب الشمسُ على منحدرِ الضوء ... تحملُ فوق أكتافها الشحوبَ و الشجن ...

وعند الصباح سيستفيقُ المغادرون ... وسط أكداس الصمت الكثيف ...

وستستفيقُ طفلةٌ تتعثّرُ بخطاها الصغيرة في الطريق ...

لتنثر الورد و الطيب في شوارع المدينة ...

و الحزنُ يلفُ المكانَ ...

وهناكَ مَنْ يعزفُ شعراً بقوافٍ حزينة ...

لكنّي سأحمل جَرحي و أطوفُ به بين أكداس الضحايا ...

حتى ينزَ الصبحُ من وجعي ...

فيبرز من بعيدِ ... في عمق السكون الأبدي ... موكبٌ مهيب ...

كأنًه الزمن القادمُ من عمق التراث ...

فيا أيّها المفجوع في هذا التراث ...

نحن بالانتظار ... لا نغادر المكان ...

و إن طال الانتظار ... عادل

ص: 5

ص: 6

كلمة مسجد السهلة المعظم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأتم الصلاة وأفضل التسليم على خير خلقه محمد واله الطيبين الطاهرين .

ارتبطت آيات الأحكام في القرآن الكريم بالتشريع الذي من شأنه وضع الأسس و الضوابط التي يحتكم اليها المسلمون أفراداً و جماعات في إدارة شؤون حياتهم و ما يتعلّق بها سواء كانت في الأسرة أم في عموم المجتمع الذي يعيش فيه المسلم .

إنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) رسم منهجا مستقيما لمن يريد أن يتعرض للقران المجيد بالكتابة والدرس والبحث فقال عليه السلام ( كتاب ربّكم فيكم , مبيّنا حلاله وحرامه , وفضائله وفرائضه , وناسخه ومنسوخه , ورخصه وعزائمه , وخاصّه وعامه , وعبره وامثاله , ومرسله ومحدوده , ومحكمه ومتشابهه , مفسرا مجمله ومبينا غوامضه . بين مأخوذ ميثاق علمه , وموسع على العباد في جهله , وبين مثبت في الكتاب فرضه ومعلوم في السنة نسخه , وواجب في السنة أخذه , ومرخّص في الكتاب تركه , وبين واجب بوقته , وزائل في مستقبله , ومباين بين محارمه , من كبير أوعد نيرانه , أوصغير أرصد له غفرانه , وبين مقبول في أدناه , موسع في اقصاه ..)) .

ص: 7

ونشرا للفكر القراني وعلومه , واعتزازا بالكتاب المجيد وايضاحا لدلالاته وبمباركة وتوجيه من السيد أمين المسجد المعظم السيد مضر علي خان المدني توكّلت مؤسسة مسجد السهلة المعظّم لإصدار هذا الكتاب الذي يحمل التسلسل (88) من مطبوعاتها وهو من تأليف الدكتور عادل عباس هويدي النصراوي الذي تناول فيه آفاق النص وحدود الدلالة في جمع من الآيات والأحكام في القران الكريم وهو المطبوع الثالث بعد كتاب ( نصيحة الضال ) و( السيد علي خان المدني وآثاره العلمية ) الذي تتولى المؤسسة نشره .

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبّل مناّ هذا العمل القليل في هذه المؤسسة الثقافية التي أخذت على عاتقها نشر علوم أهل البيت عليهم السلام كما نسأله جل شأنه التوفيق الدائم لمؤلّف الكتاب ، وصلى الله على محمد وآل محمد وسلم تسليما كثيرا .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

مدير مؤسسة مسجد السهلة المعظّم

الحاج أحمد رزاق عبد الحمزه الجنابي

9/شهر رمضان /1435ه-

ص: 8

ص: 9

المقدّمة

ص: 10

ص: 11

المقدّمة

الحمد لله يا ربِّ على ما أنعمت , و الشكر على منّك عليّ و احسانك , كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك , و الصلاة و السلام على خير خلقك محمد و آله الطيبين الطاهرين , و على صحابته الغر الميامين , و من تبعهم بإحسان الى يوم الدين , و بعد :

إنّ الكشف عن القيم النبيلة في القرآن الكريم لابدّ لها من منهج يُوصِل اليها , و لعلّ في الدراسات القرآنية السبيل القويم للوصول الى معالي أشرف الخطاب , و يكون ذلك من خلال تثوير النص المبارك من خلال فكّ المجموعة المؤسسة لبناء هذا النص المتمثلة ببناه اللغوية و النحوية و البلاغية , فضلاً عن الأحاطة بالعلوم الأخرى المتصلة بذلك , من نحو علم أسباب النزول , و الناسخ و المنسوخ , و الاطلاق و التقييد , و الأجمال و التفصيل, و العام و الخاص , وغيرها , إذ إنّ كلَّ علمٍ من هذه العلوم يسهم مساهمة خاصة فيسلط ضوءً كاشفاً على دلالة النص , و بأشتراك هذه العلوم مع بعضها فأنه سوف يؤدي الى كشف المضامين العليا في النص المبارك .

عند استعمال المنهج الصحيح – في أي أمر كان – فسوف نحصل منه على منهج معرفي صحيح لأن المنهج هو المنتِج للمعرفة و الموّجه للكشف عن الدلالة المتوخاة , و لمّا كانت موضوعة آيات الأحكام من الموضوعات التي تمسّ حاجة الانسان , و أنّ الجهد لابدَّ أن يُصب في مَوضِع الحاجة الماسة , كانت دراستي هذه

ص: 12

(التوجيه الدلالي لآيات الأحكام – دراسة تحليلية ) ؛ و قد خصصتها لدراسة و تحليل بعض من آيات الحج و النكاح و الطلاق والمعاملات والجنايات والحدود , آملاً في المستقبل دراسة آيات أخرى .

لقد استوت هذه الدراسة على ستة فصول , يسبقها تمهيد , و تليها خاتمة لأجمع فيها أهم النتائج التي توصلت اليها .

فالتمهيد , قدّمتُ فيه مطلباً يحدد أهمية النص و علاقته بالواقع الذي جاء فيه , و من ثم الأسس التي اعتمدتها في تحليل آيات الأحكام , و من ثمّ قدّمتُ قائمة بأهم المصادر و المراجع التي تناولت أيام الاحكام بالدرس و البحث .

أمّا الفصل الأول , فقد خصصته لدراسة آيات الحج , متناولاً فيه أهمية هذه الشعيرة قبل الإسلام , واهتمام القبائل العربية انذاك في أدائها , و تلبياتهم فيها , فضلا عن معنى الحج في اللغة و الاصطلاح , ثم تابعت بعض الايات القرآنية التي اختصت بشكل مباشر بشعيرتي الحج و العمرة .

في حين كان الفصل الثاني مخصّصاً لدراسة آيات النكاح , فتناولت فيه انواع الأنكحة عند العرب قبل الإسلام , التي كان بعضها غير خاضع للضوابط و القيم التي تحفظ للأنسان قيمه الإنسانية , و ما كرّمه الله فيها , ثمّ عرّجت على الآيات التي لها مساس مباشر بأحكام النكاح و متعلّقاته من المهر و النفقة و غيرها .

أمّا الفصل الثالث , فكان لدراسة آيات الطلاق , الذي هو في الحقيقة فك لقيد الزوجية , عندما يتعذّر على الطرفين مواصلة الحياة مع بعضها , ثمّ عرّفته في اللغة و الاصطلاح و بعدَ ذلك درستُ الآيات التي لها مسيس العلاقة بهذا الموضوع .

ص: 13

أمّا الفصل الرابع , فكان لدراسة آيات المعاملات , من نحو الدًين والقرض والفرق بينهما فضلا عن الرهن, والضمان والكفالة والفرق بينهما , وهي مجمل المعاملات التي تقوم مشاركة بين اثنين وأكثر , فعرّفت بها في اللغة والاصطلاح , ثمّ درست الآيات التي تختصّ بها .

امّا الفصل الخامس فقد خصّص لدراسة آيات الجنايات عامة , فعرّفت بها وحلّلتها بعد أن درست معنى الجناية ومفهومها والعقوبة الموازية لكل حالة منها بعد أن لم تكن حدود معروفة لها قبل التشريع الإسلامي .

أمّا الفصل السادس فدرست فيه الحدود التي وضعها الإسلام لمجموع الجرائم كالزنا وتوابعه والقذف والحرابة والسرقة , وعرّفت بكل حدّ منها في اللغة والاصطلاح , ثمّ حلّلت الآيات الخاصة بكل جريمة منها .

و أخيراً ختمتُ الكتاب بأهم ما توصلتُ اليه من نتائج , أدرجتها في خاتمة البحث , و محدّداً نتائج كل موضوعة على حدة , ثمّ ألحقتها بقائمة المصادر و المراجع التي استعان بها البحث .

أمّا اهم المصادر التي استعنت بها فكان اهمها ما كُتِبَ و صُنِّف من كتب تفسير آيات الأحكام من القدماء و المعاصرين , من نحو كتاب " تهذيب الاحكام فيما أختلف فيه من الأحكام " للشيخ الطوسي , و " تفسير آيات الأحكام وفق المذهب الجعفري و المذاهب الاربعة " للسيد حسين الطباطبائي النجفي , و " آيات الاحكام في جواهر الكلام " للشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر , فضلاً عن كتب التفسير من نحو " الكشّاف " للزمخشري , و " التفسير الكبير " للفخر الرازي , و "

ص: 14

الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي , فضلاً عن كتب اللغة و النحو و البلاغة و اعراب القرآن و غريبه .

هذا و آخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين , و صلّى الله على محمد و آله الطيبين الطاهرين و على صحابته الغر الميامين .

د.عادل عباس هويدي النصراوي

العراق – النجف الأشرف

الأربعاء 9 جمادى الآخرة -1435ه-

9 نيسان - 2014 م

ص: 15

التمهيد - آفاق النص وحدود الدلالة

ص: 16

ص: 17

آفاق النص وحدود الدلالة

أن النص اللغوي هو نتاج الأَمّة التي وُلد فيها ذلك النص وانعكاس لما في بيئتها من قيم اجتماعية وسياسية وأعراف وتقاليد تحكم في أغلبها حركة المجتمع وصيرورته، فلا ينفك ذلك النص من قيودها وبراثنها التي أُسست له ونمت في كنفه.

لذا فإنّ فهم النص اللغوي يحتاج إلى كلّ تلك المفردات المؤلفة للقيم الاجتماعية؛ لأنها هي التي نسجته وصاغته على وفق قيمها المعرفية، فتحرّكَ النصُ في رحمها وسار على الخطى التي رُسمت له، وتمدّد ضمن مساحتها فأيّ خروج عن تلك القيم يُعدّ خروجا عن المعنى الأصل الذي وُضع من أجله النص، وأيّ تأويل يتمدد خارج تلك المساحة إنما هو خروج عمّا هو عليه، وتحميل النص فوق طاقته وإمكاناته؛ لأنّه حُدّد على وفق الأطر المرسومة له، وهذا إنما يتحدد بمقدار منتج النص ومؤلفه، ولما كان الإنسان محكوم بالنقص فإنّ النص الذي يُنظمه لا يتعدى حدود الإمكانات المعرفية التي تحكم مؤلف النص والمؤثرات الخارجية التي ساهمت بتكوين أفكاره وقيمه المعرفية.

أمّا النص القرآني فهو يختلف عن أي نص لغوي آخر لأنه نتاج القدرة الإلهية المحكومة دوماً بالمطلق الذي لا تحدّه حدود الزمان والمكان، وإن تلوّن بلون البيئة العربية التي كان قدرها أن تعيش هذا الحدث العظيم في حياتها.

لقد رسمت العربية ملامح النص القرآني بنحوها وبيانها وبلاغتها وغير ذلك، إذ إنّ هذه المفردات حددت قيم المعنى وآفاق الدلالة، فكانت تلك القاعدة التي انطلق منها النص المبارك، تسانده في إيضاح المعنى ما حُدّد من أسباب النزول وباقي علوم

ص: 18

القرآن الكريم، إلا أنّ هذه المحددات لم تمسك بالنص فتقيّد دلالته لزمن معيّن، غير أنّ حدود تأثير السبب ربما يكون معقولا عند أفق محدد، وعند مغادرة ذلك الأفق أو المحطة تجد النص ينطلق بعيدا ليشمل دلالات ربما لا يمكن التكهّن بها آنذاك، حتى أن أغلب الصحابة لا يدرك منها إلا بحدود ما يمتلكه من سليقة اللغة ومفرداتها التي تعوّد عليها أغلبهم لأنها كانت مادة حديثهم وكلامهم، وربما غابت معانٍ كثيرة عنهم من نحو قوله تعالى:﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(1)، وقوله سبحانه:﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾(2)، عن كبار الصحابة من نحو عبد الله بن عباس(رض)وغيره(3)، ولذلك ينبغي الحذر مما ينقله بعض الرواة من تفسير للنص القرآني وتبيان أحكامه، فضلاً على ذلك أن النص المبارك لحظة نزوله هو (نص إلهيّ) ومع قراءة النبي (صلى الله عليه و آله) أصبح قرآنا لا ينطق بنفسه، بل لابد له من يترجم عنه وهو مفسر اللغة، لذلك قال الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام) في قضية التحكيم (إنّا لم نحكّم الرجال، بل حكّمنا القرآن، هذا القرآن هو خط مسطور بين الدفتين، لا ينطق بلسان، ولابد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال)(4)، فأعطى مساحة للعقل في فهم النصوص وتوجيهها.

لذا يجب النظر إلى أعماق النص وتثويره وعدم الاكتفاء بظاهره،أي لابد أن يُفرّق بين مجالات الممارسة الدينية التي يكون الكتاب إطارها المرجعي وبين مجالات الحياة التي تكون الخبرة والتجربة هما إطارها المرجعي(5)من خلال مراجعة الواقع الذي انبثق

ص: 19


1- سورة يوسف:101.
2- سورة النحل:47.
3- ظ: مقدمتان في علوم القرآن، ابن عطية:270.
4- نهج البلاغة:125، خطبة 213.
5- ظ: الإمام الشافعي، د. نصر حامد أبو زيد:102.

منه النص ومراعاة خصائصه، وعرضه عليه لاستجلاب كلّ الدلالات والمعاني المطلوبة، بل والإفادة من الواقع بأخذ ما هو مناسب وطرح غير المفيد جانبا وتحريمه وتصحيح الأخطاء والأنحرافات من أجل بناء الإنسان الذي نزل القرآن من أجله.

ولأجل اكتشاف دلالة النص اللغوي ومحتواه ، يجب مفاتحة الواقع الذي ينتمي له ذلك النص ، ومحاكاته ، لأن النص يشتمل على كثير من قيم الواقع وعاداته وتقاليده ، فالنص الشامل هو النص الذي يستوعب الواقع الذي يعيشه الإنسان بكل قيمه ومعتقداته وعاداته وتقاليده وعلاقاته مع ما حوله ، أما النص القاصر فهو الذي لا تستطيع كلماته وألفاظه استيعاب كل تلك الدلالات .

أما النص القرآني العظيم فلا نقول أنه ينتمي للواقع العربي ، لأنه نص للإنسانية ومصدره الله تعالى ، فهو يحمل همومها ، غير أنّه أُطِّر بإطار عربي فنزل بلغة العرب ، فكانت حصتهم فيه الأوفى .

إذن كان اختيار لغة العرب في القرآن الكريم اختياراً لوعاء مليء بقيم العربية الفصيحة والثقافة العربية المتمثلة بالشعر العربي الذي وصل إلى قمة مجده عند الجاهليين قُبيل البعثة النبوية المباركة ، فكان الشعر العربي آنذاك يحمل هموم العربي وتمثّلها بلغته ، فكانت اللغة معياراً للثقافة العربية ، فعندما تمثّلها القرآن الكريم وأحضرها لتضم معانيه وقيمه الإسلامية الجديدة لم يكن بمعزل عن القيم الاجتماعية والدينية أو العادات التي توارثوها عن آبائهم فضمنّوها شعرهم وثقافتهم .

إلّا أنّ القرآن الكريم أخذ يفرض هيمنته كنص ديني إلهي على كل القيم الدينية والاجتماعية السابقة ، فطوّر اللغة ووسّع من معاني ألفاظها ، ففرض ثقافته الجديدة

ص: 20

على المجتمع العربي ، فأصبح نصاً مهيمناً لم يُفارق الثقافة والواقع العربيين إلّا أنّه طوّرهما فهذّب بعض العادات والتقاليد ووجّهها نحو الصحيح من العبادات والمعاملات ، فتقبّلها العرب .

والنص القرآني لا يمكن أن نحدّه بحدود الحالة التي نزل فيها أو وُجِدَ من أجلها لأنه نصٌّ متّسعٌ في دلالاته لا يُحدُّ بالجزئيات من الوقائع ، لهذا ( فإنّ السعي لاكتشاف دلالة النص يجب أن لا يفصل بين النص وبين الوقائع الذي يُعبّر عنها ، ولكنه لا يصح أن يقف عند حدود هذه الوقائع دون أن يدرك خصوصية الأداء اللغوي في النص وقدرتها على تجاوز الوقائع الجزئية )(1) .

لذا نجد أن الأساليب اللغوية التي نزل بها القرآن الكريم في معالجة الوقائع قد خرجت في كثير منها عن الأساليب التي دوّنها النحويون في كتبهم ومصنفاتهم ، وذلك على سبيل التطور والاتساع لأغراض دلالية ، فأسلوب الأمر أو الطلب بقي أسلوباً للطلب في مضانّه ، إلّا أن القرآن طوّره ليعبّر عن أكثر من دلالة ، فأخرجه إلى الإباحة أو التخيير أو غيرهما طلباً للاتساع .

إن استقصاء كل الدلالات في النص القرآني قد يكون عملاً يجانبه الصواب ، لأنه نصّ مطلق ، لذا لا يمكن لفرد أو جماعة استقصاء كل الدلالات في النص المبارك ، فضلاً عن ذلك أن الكتاب العظيم كتاب للبشرية جمعاء ، لم ينته عند زمن معين أو حدود جغرافية محددة ، بل يتسع لكل الدنيا، فما أن ينته عصر من العصور ويبتدأ آخر حتى تتجلى فيه معانٍ ودلالات جديدة ما كنا نتصور لها قريناً ، والقرآن باق

ص: 21


1- ظ: الإمام الشافعي، د. نصر حامد أبو زيد : 103

بكلماته ذاتها التي نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أربعة عشر قرناً من الزمان .

إن المعاني هي التي تتوالد في إطار ألفاظها ، وبعضها يتجذّر ، وهذه الخاصية في الكلم القرآني أعطت له قابلية البقاء والديمومة ، وأكسبت الألفاظ سماتٍ منها الإجمال والتفصيل ، و الاشتراك والترادف ، والإطلاق والتقييد ، وغيرها وهذا مما يحدو بنا بوصفنا دارسين للنص القرآني الكريم أن نُعْمِل الفكر ونغوص في عمق النص للكشف عن المضامين الكبرى ، وإزاحة الغموض بسبب ما في النص من إجمال او إطلاق أو اشتراك ، أو غير ذلك، بآليات النحو تارة أو اللغة مع الاتكاء على ما جاء في السُّنة النبوية المباركة من إيضاحات ، فضلاً عن تفعيل دور العقل في استقصاء وجوه الحكم لمراد السياقات المتناثرة في آيات القرآن وسوره التي أحكمت في نسجها ووضعت وضعاً دقيقاً ، لا يمكن فيه استبدال لفظ محل آخر ، أو جملة مكان جملة ، حتى عجز الناس أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً .

بيد أني لا بُدَّ من أن أتبّع طريقاً ومنهجاً في تحليل النص واستنتاجاته ، بما يتلاءم مع وجوه الحكم ، فجعلتُ من اللفظ المادة الأولى التي تتمحور حولها المعاني في أصل الوضع ، ليدلّ على حقيقته مع مراعاة الظواهر اللغوية من حيث الاشتراك والترادف والتضاد والفروق وغيرها ، ثم نظرتُ في دلالة الألفاظ في تركيبها للمعاني في حركة المجاز أو ما يسميه الأصوليون ب- (المعنى الاستعمالي) للألفاظ ، أو نقل الألفاظ من معان إلى أخرى بحسب حركة الزمان .

ص: 22

فضلاً عن تطور هذه المعاني بما يتلاءم وحالة المجتمع العربي الذي انتقل من رذيلة الجاهلية إلى فضيلة الإسلام ، واكتساب كثيرٍ من الألفاظ دلالات جديدة كالصلاة والصيام والزكاة ، أو ما يسمى بالمعاني الشرعية ، التي عمّت أكثر آيات الأحكام في القرآن الكريم ، وقد أعارها العلماء أهمية كبيرة جداً لما لها من تأثير في توسيع الدلالة وتطورها ، ومن ثمَّ رصد دلالة السياق في إعطاء معنى معيناً ، وفرز المعنى المطلوب في حالة الاشتراك من خلال القرائن الدالة عليه ، وعند عدم وجود القرينة فإنّ كلَّ المعاني ستكون محتملة ، وهذا مما يؤشر إلى عظمة التعبير القرآني واتساعه وإمكان الحصول على معانٍ محتملة كثيرة بألفاظ قليلة .

كما أن أسباب النزول والإطلاق والتقييد والإجمال والتفصيل، كلها أدوات يستعملها المحلل للنص المبارك ليسلط من خلالها ضوءاً على خبايا النص وليضيء ما غمض من المعاني أو عَسُرَ فهمه ، فتكون تلك شموعا تنير درب الباحث ليجد من خلالها ضالته ، إذ إن سبب النزول يوضح الظروف التي جاء بها النص ، مع كون النص لم يحدّده زمان ومكان معيّنان ، بل أن هذا السبب يمثّل شمعةً في درب السالك في خضم هذا البحر المتلاطم بالمعاني والدلالات .

وكذلك يمكن الاستعانة بالسنة الشريفة وأحاديث آل البيت (عليهم السلام) وأقوال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في توضيح النص المبارك ، وقد أخذ بهذا المنهج ثلة من علماء الرعيل الأول ، معتمدين في ذلك على ظاهر النص فحدّدت الدلالة بمستوى خاص ، وذلك لقربهم من عهد الرسالة والصحابة والتابعين وأتباع التابعين .

ص: 23

بيد أن القرآن الكريم كان قد نظر إلى ما بعد ذلك، فخاطب المسلمين بضرورة التدبّر فقال تعالى : ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ﴾(1) ، ليرسم لهم خارطة الطريق في الكشف عن المعاني القرآنية الجديدة لعصور ما بعد الرسالة من خلال اعتمادهم العقل و النقودات العقلية المبنية على أساس من الالتزام وعدم الإسراف في الاحتمالات .

هذه أهم وسائل تحليل النص ، فضلاً عن القراءات القرآنية ومسائل الوقف والابتداء والفك والإدغام ودلالات أصوات الحروف في اللفظ القرآني ، كلها أداوت مهمة في الكشف عن المضامين ، ولم أجد مفسراً أو دارساً للنص الكريم قد استعمل كل هذه الوسائل وغيرها بل تجدهم قد استعملوا بعضها وأهملوا أخرى لا عن قصد سيء – معاذ الله - ، بل هو حال البشر في قدرتهم المقترنة بالنقص دوماً حيال كلام الله تعالى .

كما لا بدّ من الإشارة إلى أمر مهم هو أنه يجب النظر إلى القرآن الكريم على أنه منظومة واحدة ، لأنك قد تجد آية معينة قد أجمل معناها أو أطلق في موضع ما ،تجد تفصيلها أو تقييدها في موضع آخر ، وبهذا يكون القرآن الكريم قد فسّر آياته بآياته ، وهذا منهج متّبع في كثير من الدراسات القرآنية الرصينة ومن خلاله يمكن أن نرجّح معنى على آخر .

فضلاً عمّا اعتمدناه في التوجيه والترجيح الدلالي على الأمور اللغوية والنحوية المسلّمة والاستعانة بالسياق لتلمس الفروق في الدلالة وللكشف عن

ص: 24


1- سورة النساء / الآية 82

المضامين في آيات الأحكام لتكون هذه المعاني مفتاحاً لدلالات أخرى يحدّدها علماء الأصول ، والله المستعان على ذلك .

آيات الأحكام في النص القرآني

ارتبطت آيات الإحكام في القرآن الكريم بالتشريع الذي من شأنه وضع الأسس و الضوابط التي يحتكم اليها المسلمون أفراداً و جماعات في ادارة شؤون حياتهم و ما يتعلّق بها سواء كانت في الأسرة أم في عموم المجتمع الذي يعيش فيه المسلم .

وقد اختلف العلماء المسلمون بعدد هذه الآيات , و ذلك بسبب ما اتبعوه من أساليب في دراسة النص القرآني وفهمه والأدوات العلمية التي استعملها مفسرو النص , لذا فقد انقسموا على عدّة آراء في ذلك (1) :

1-إنّ عددها مئة وخمسون آية , ذهب الى هذا من المحدثين محمد الخضري .

2-إنّ عددها مئتان و أربعون آية , ذهب الى هذا من الزيدية محمد بن الحسن بن القاسم الزيدي (ت 1076ه-) .

3-إنّ عددها ثلاثمئة و خمس و خمسون آية , و من القائلين بهذا الشيخ احمد الجزائري النجفي (ت 856ه-) في كتابه قلائد الدرر .

4-إنّ عددها ثلاثمئة و سبعون آية , و هذا ما أورده عبد الوهاب خلاّف في اصول الفقه.

ص: 25


1- - ظ: موضوع (منهج تفسير آيات الاحكام في القرآن) / د.صاحب نصّار : مجلة المصباح – العدد 11 لسنة 2012 م : 180-182 , و أنظر مصادرها في هوامش الصفحات .

5-إنّ عددها خمسمئة آية أو أكثر , و هو رأي الغزالي (ت 555ه-), و المقداد السيوري (ت826ه-) , و المتوّج البحراني (ت830ه-) .

6-إنّ عددها ستمئة آية أو أكثر , و هذا ما أورده ابن العربي المالكي (ت543ه-) .

7-منهم من ذهب الى عدم تحديدها بعدد معيّن من الآيات , و هو مذهب جمع كبير من القدماء والمحدثين من المفسرين .

جهود المفسرين في آيات الأحكام

صنّف علماء ومفسّرو المذاهب الإسلامية في تفسير آيات الأحكام كتباً كثيرة , و توزّعت هذه الجهود على مختلف المذاهب الإسلامية . و ندرج هنا بعضها (1) :-

1-آيات الأحكام أو أحكام القرآن : محمد بن السائب الكلبي (ابو المنذر) (ت 146ه-) .

2-أحكام القرآن : عبّاد بن العباس الديلمي القزويني (ابو الحسن) و هو (ابو الصاحب بن عباد الطالقاني) (ت334ه-) أو (ت335ه-) .

3-فقه القرآن : سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي الكاشاني (ابو الحسن) (ت573ه-) .

ص: 26


1- - احصى الشيخ الكتور صاحب نصار محمد حسين نصّار كتب تفسير آيات الاحكام موزعة على المذاهب الاسلامية كافة من الشيعة الامامية و الزيدية و الشافعية و المالكية و الحنبلية , مستعيتاً بذلك على عدد من المصادر ظ : م.ن :168-179- و انظر الهوامش التي اعنمد عليها في هوامش الصفحات .

4-كنز العرفان في فقه القرآن : مقداد بن عبد الله بن محمد بن الحسين الحلي الاسدي السيوري (ت826ه-) المشهور بالفاضل السيوري .

5-منهاج الهداية في تفسير آيات الاحكام الخمسماية : احمد بن عبد الله بن سعيد المتوّج البحراني (ت830ه-) .

6-معدن العرفان في فقه مجمع البيان لعلوم القرآن : ابراهيم بن حسن الدرّاق او الورّاق (توفي في اوائل القرن العاشر) .

7-أحكام القرآن : يحيى بن آدم (ت203ه-) .

8-أحكام القرآن : محمد بن ادريس الشافعي (ت203ه-) .

9-أحكام القرآن : أحمد بن محمد الأزدي الطحاوي (ت322ه-) .

10-أحكام القرآن : ابو بكر احمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص (ت370ه-) .

11-آيات الأحكام : محمد بن الحسين القاضي الفرّاء ابو يعلى (ت458ه-) .

12- تفسير آيات الأحكام : شمس الدين محمد ابو بكر الدمشقي المعروف بأبن قيّم الجوزية (ت753ه-) .

13- شرح خمسمائة آية المنظمة للأحكام الشرعية الحسين بن أحمد النجدي (ت877ه-) .

14-أحكام القرآن : داود بن علي بن خلف الاصفهاني (ت270ه-) .

ص: 27

الفصل الأول - التوجيه الدلالي لآيات الحج

اشارة

ص: 28

ص: 29

التوجيه الدلالي لآيات الحج

كان العرب في الجاهلية يعظمون البيت الحرام ، ( وإنه كان لا يضعن من مكة ضاعن إلّا احتمل منه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم وصبابة بمكة ، فحيثما حلّوا وضعوه ، وطافوا به كطوافهم بالكعبة ، وهم بعد كانوا يعظمون الكعبة ومكة ويحجون ويعتمرون على إرث ابراهيم واسماعيل (عليهما السلام))(1)، فتطورت هذه الحالة حتى جعلوا من هذه الحجارة أرباباً يعبدونها ، فإن كانت تماثيل سمّوها أصناماً وأوثاناً وإذا لم يقدروا نصبوا حجراً أمام الحرم أو غيره وسموها الأنصاب يطوفون حولها ، وسمّوا الطواف بها الدوار(2)، وقد صوّرها القرآن الكريم أحسن تصوير في آيات عديدة ، فضلاً عن ذلك أن المشرّع قد أخذ كثيراً من الأعمال التي كان العرب قبل الإسلام يؤدون بها مناسكهم في الحج والعمرة ، وطوّروها ، منها التلبية والإفاضة والطواف وغيرها من أعمال الحج ، وأضاف لها أشياء أخرى لأجل تطهير النفوس وإعلاء شأن المسلمين ، فقد نَقَل أبو العلاء المعري في رسالة الغفران تلبيات بعض قبائل العرب وقال : ( أنها جاءت على ثلاثة أنواع : مسجوع لا وزن له ومنهوك ، ومشطور :

فالمسجوع كقولهم :

لبّيك ربنا لبّيك $$$ والخيرُ كُلُّه بيديك

والمنهوك على نوعين : أحدهما من الرجز ، والآخر من المنسرح ، فالذي من الرجز كقولهم :

ص: 30


1- الحياة العربية من الشعر الجاهلي / د. أحمد محمد الجوفي : 383-384
2- ظ : م ، ن : 398

لبّيك إنَّ الحمد لك $$$ والملك لا شريك لك

إلّا شريكٌ هو لك $$$ تملكه وما ملك

أبو بنات بفدك

فهذه من تلبيات الجاهلية ، وفدك يومئذ فيها أصنام ، وكقولهم :

لبّيك يا معطي الأمر $$$ لبّيك عن بني النّمر

جئناك في العام الزَّمر $$$ نأمل غيثاً ينهمر(1)

يطرقُ بالسيل الخمر

والذي من المنسرح جنسان : أحدهما في آخره ساكنان ، كقولهم :

لبّيك ربَّ همدانْ $$$ من شاحطٍ ومن دانْ(2)

جئناك نبغي الإحسان $$$ بكل حرف مذعانْ(3)

نطوي إليك الغيطان $$$ نأمل فضل الغفران

والآخر لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم :

لبّيك عن بجيلة $$$ الفخمة الرجيلة(4)

ص: 31


1- الزمر : القليل العطاء
2- شاحط : بعيد
3- الحرف : الناقة ، ومذعان : مطيعة
4- بجيلة : عظيمة ، الرجيلة : القوية

ونعمة القبيلة $$$ جاءتك بالوسيلة

تؤمل الفضيلة

وربما جاءوا به على قوافٍ مختلفة كما رووا في تلبية بكر بن وائل :

لبّيك حقاً حقّا $$$ تعبّداً ورقا

جئناك للنصاحة $$$ لم نأتِ للرقاحة(1)

والمشطور جنسان : أحدهما عند الخليل من الرجز ، كما روي في تلبية تميم :

لبّيك لولا أنَّ بكراً دونكا $$$ يشكرك الناس ويكفرونكا

ما زال مِنّا عثجٌيأ تونكا(2)

والآخر من السريع وهو نوعان : أحدهما يلتقي فيه ساكنان كما يرون في تلبية همدان :

لبّيك مع كلِّ قبيل لبّوك $$$ همدان أبناء الملوك تدعوك

قد تركوا أصنامهم وانتابوك $$$ فاسمع دعاء في جميع الأملوك(3)

قولهم : لبوك : أي لزموا امرك ، ومما روى : لبوك ، فهو إسناد مكروه .

والمشطور الذي لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم :

ص: 32


1- للرقاحة : للمتاجرة
2- العثج : المجموعة من الرجال
3- انتابوك : قصدوك ، الأملوك : المقصود بهم الملوك

لبيك عن سعدٍ وعن بنيها $$$ وعن نساءٍ خلفها تعنيها

سارت إلى الرحمة تجنيها )(1)

فعندما جاء الإسلام جعل من التلبية واجباً من واجبات الإحرام وصورتها ان يقول : (لبّيك اللهم لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبّيك )(2) على العموم .

الحج في اللغة والاصطلاح :-

قال الراغب الأصفهاني : ( أصل الحج القصد والزيارة ، قال الشاعر

يحجّون بيت الزِّبرقان المعصفرا

خّصَّ في تعارف الشرع قصد بيت الله تعالى إقامة للنسك ، فقيل : الحَجُّ والحِجُّ ، فالحَجُّ مصدرٌ ، والحِجُّ اسم ، ويوم الحجِّ الأكبر يوم النحر ويوم عرفة وروي : (والعمرة الحجُّ الأصغر))(3) ، وهو من الواجبات على كلِّ مكلّف ، ووجوبه من الضروريات وتركه مع الاعتراف بثبوته معصية كبيرة ؛لأن في ذلك إنكار لفريضة من فرائض الدين ، إذا لم يكن مستنداً إلى شبهة ، فكفٌر ، وشرائطه البلوغ والعقل والحرية

ص: 33


1- رسالة الغرفان / المعري : 331-333 ، ظ : الحياة العربية من الشعر الجاهلي : د.أحمد محمد الحوفي : 401-403
2- ظ : مناسك الحج / الإمام الخوئي : 84-85
3- مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الأصفهاني : 218-219 - حجج

والاستطاعة(1)، أما أقسامه فثلاثة ،هي : حج التمتّع وحج الإفراد وحج القران ، ويجب على الحاج ترك مجموعة من المحرمات في الحج هي :

الصيد البري ، ومجامعة النساء ، وتقبيلها ، ومسها ، والنظر إليها ، وملاعبتها ، والاستمناء ، وعقد النكاح ، واستعمال الطيب ، ولبس المخيط للرجال ، والاكتحال ، والنظر في المرآة ، ولبس الخف ، والكذب والسب ، والجدال ، وقتل هوام الجسد ، والتزيّن ، والإدهان ، وإزالة الشعر عن البدن ، وستر الرأس للرجال ، وستر الوجه للنساء ، والتظليل للرجال ، وإخراج الدم من البدن، والتقليم ، وقلع الضرس ، وحمل السلاح(2) .

ويتحلل الحاج من إحرامه بعد رمي العقبة والنحر وحلق الرأس في اليوم العاشر من ذي الحجة ، ويجوز له ما حُرّم عليه إلّا الطيب والنساء ، وبعد أداء الطواف الواجب يحلُّ له الطيب ، وعند الإمامية تحلّ له النساء بعد أداء طواف النساء .

الآيتان الأولى والثانية

: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾(3)

تؤسس الآية لوجوب الحج إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة على الناس كافة ، ولتبيين أهمية هذا البيت المبارك الذي ذكره تعالى في ستة مواضع بالتصريح أو

ص: 34


1- ظ / مناسك الحج / الإمام الخوئي : 5-11
2- ظ / مناسك الحج / الإمام الخوئي : 92-121
3- سورة آل عمران / الآية 96-97

بالضمير العائد على البيت منها (أول بيت ، للذي ، فيه ، دخله ، البيت ، إليه) ، تحدياً لليهود الذين أنكروا أفضليته ، فقدموا بيت المقدس عليه ، عندما ( تناحر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لأنها مهاجر الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة ، وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فنزلت )(1) ، لتأكد أن مهوى قلوب الناس عند الله هو البيت الحرام الذي أقام قواعده نبي الله إبراهيم (علیه السلام) قال تعالى : ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾(2) ، فبارك به وجعله مقصداً لأداء مناسك الحج وشعائره إيماناً واحتساباً للناس كافة ، فلم يخصصه للمسلمين دون غيرهم ، ولذا قال ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ﴾ ، فالناس لفظ عام يشمل المسلمين وغيرهم من الديانات الأخرى ، ثم خصّصه بذلك البيت الذي بارك به وجعله هدى للعالمين ، وزاد في تخصيصه إذ جعل من علاماته مقام إبراهيم (علیه السلام) . ومن ثم شرّفه فكان من يدخله آمناً وإن كان قد جنى جناية حتى يخرج منه .

هذه الصفات للبيت الحرام قدّمها تعالى قبل الدخول لمراد الآية وهو إيجاب الحج على الناس كافة ، فعظّم البيت المعمور في نفوسهم وجعله مثابة لهم ، ورمزاً يهتدون إليه ، من دون البيوت ثم أمرهم بالحج إليه ، ليكون تقبُلُ هذا الأمر سهلاً ، ولأن الحج ( تكليفٌ شاق جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرّد من الشهوات والإقبال على الله )(3) ، وهذه أمور تصعب على كثير من الناس

ص: 35


1- البحر المحيط / أبو حيان : 3/10
2- سورة البقرة / الآية 127
3- كنز العرفان / السيوري : 241

وخصوصاً أن قيم الجاهلية لازالت تعبثُ في نفوسهم ، فقدَّم كل ذلك لأجل الولوج بسهولة ويسر لتقبّل إيقاع أمر وجوب الحج ، ولو لمرة واحدة ، فعن المقداد السيوري (ت سنة 826ه) : إنه يجب الحج في العمر مرة واحدة ؛لأنّ الإطلاق في قوله سبحانه ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ ، يُحمل على أقلّ مراتبه لأصالة البراءة ، ولأنَّ الأمر لا يقتضي التكرار(1) ، وقد رُوي عن ابن عباس قوله : ( لما خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحج قام إليه الأقرع بن حابس فقال : أفي كل عام؟ فقال (صلى الله عليه وآله): لا ، ولو قلت نعم لوجب عليكم؛ لم تعملوا به ، الحجُ في العُمر مرةً واحدةً فمن زاد فتطوّع )(2) .

وقوله سبحانه ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ ، قد نَسَبَ تعالى الحج لنفسه عندما قال:﴿وَلِلَّهِ ﴾ ثم قدّمه في صدر الكلام لتأكيد أهميته ، وحصره به من دون غيره ولو قال: (على الناس لله حجُّ البيت) لاختلفت الدلالة ، إذ تنحرف الأهمية إلى كون الحج على الناس فقط ، وتقل أهميته كونه لله تعالى ، ولأوحى لنا أن الله تعالى محتاج له ، بل هو الغني ، في حين أنَّ المراد من الحج مصالح الناس فقرنها بنسبة الحج له على الناس ، لتكون المصالح غاية في الخير .

وممّا يزيد من دلالة الوجوب كون الآية جاءت بالجملة الخبرية الدالة على الطلب ، فالطلب فيه دلالة تأكيد الوجوب ، مع عدم وجود قرينة مانعة لحصول

ص: 36


1- ظ : كنز العرفان / السيوري: 248
2- م ، ن : 248 ، ظ : تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 1/385

الأمر ، وقد تأتّى هذا الأمر بالوجوب من خلال تقديم ما حقه التأخير (لله ، على الناس) الذين يحتملان كونهما خبرين للمؤخر (حِجُّ البيت) ، فهذا التخصيص مما يُزيد من إمكان الوجوب ودفع أي قرينة مانعة من إرادته .

ففي حالة كون الجار والمجرور (لله) خبر ل- (حج البيت) تنحصر الدلالة بكون الحج لله دون غيره ، وتقع (على الناس) في موقع الفضلة الدالة على الحال أو المفعول(1) ، ففي كونه حالاً على تقدير أنهم مكلفون بالحج الذي جُعل لله تعالى وشاملاً به كل الناس في هذا التشريع ، أما كونه مفعولاً ، فقد خصص الحج بالناس الذين آمنوا به فريضةً لله تعالى وهم المسلمون ، لا على وجه الإطلاق كما في الحال ، لأن من شأن المفعول به أن يخصص فعل الفاعل بمن يقوم به دون غيرهم ممّن أنكره أو جحده .

أما من ذهب إلى أنَّ الجار والمجرور ﴿على الناس﴾ تقع خبراً لقوله ﴿حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ فيكون تخصيص الحج على الناس دون أهمية كونه (لله) تعالى ، فيفقد النص رونقه ، ويُشعر أن الله تعبّد الناس بالعبادة لحاجته إليها ، في حين أن تعبّدهم بها لما عُلِمَ فيها من مصالحهم(2) .

وعليه فإن كون (لله) خبراً أسلم من (على الناس) ، لبقاء التشديد في وجوب الحج ، واتساع الخطاب لعموم الناس من المسلمين وغيرهم ، لأنه حقٌ له تعالى على المستطيع منهم .

ص: 37


1- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 3/17 ، إملاء ما منَّ به الرحمن / العكبري : 1/144
2- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م1/478-479 ، حقائق التأويل/ الشريف الرضي : 196

وقد يتوهم بعضهم أن ما ذُكِرَ إنما كان ذلك لحاجته تعالى إليه ، فأزال الله تعالى ذلك الوهم بذكر الاستغناء(1) فأنزل قوله سبحانه ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾

أما قوله تعالى ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ فهو تقييد لمطلق الناس في صدر الآية ، بالمستطيع دون غيره ، أي اشتراط الحج بالاستطاعة ، على تقدير أن ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ شرطٌ لوجوب الحج عليه ، واختلف العلماء في الاستطاعة ، فمنهم من جعلها الزاد والراحلة ، وقيل : ما يمكنه معه بلوغ مكة بأي وجه كان(2)، أو هو على قدر الطاقة فقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر ، وقد يقدر عليه من لا زاد له ولا راحلة(3).

أما المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) فهو ( وجود الزاد والراحلة ونفقة من تلزمه نفقته والرجوع إلى كفاية عند العود إما من مال أو ضياع أو عقار أو صناعة أو حرفة مع الصحة والسلامة وزوال الموانع وإمكان السير )(4)، وهو الأقرب إلى دلالة الاستطاعة ولاسيما أنها وردت على سبيل الإطلاق لا التقييد ، لأن الاستطاعة في اللغة من الفعل طَوَعَ ، و( الطوع نقيض الكَرْهِ ... قال ابن سيدة : وطاعَ يَطاعُ وأطاعَ لانَ وانقاد ... وقال الجوهري : والاستطاعة الطاقة .. والاستطاعة القدرة على

ص: 38


1- ظ : كنز العرفان / السيوري : 245
2- ظ : تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 1/386 ، غريب القرآن / الشهيد زيد بن علي : 162 ، أنوار التنزيل / البيضاوي : 1/172
3- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/419
4- التبيان / الطوسي : 2/537 ، ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م1/478 ، حقائق التأويل / الشريف الرضي : 196

الشيء)(1) ، فالاستطاعة طلبُ الشيء بسهولة ولين ، وانقياده بيسر ، على وسع الطاقة مع القدرة عليه والتمكّن منه ، وهذا المعنى اللغوي أوسع ممّا يحدّده بعضهم بالزاد والراحلة ، أو بالقدرة مع توفّر الزاد والراحلة أو مع عدمهما ، وإنما يكون بهذه الأشياء وزيادة ، لأنّ الاستطاعة مبنية على اتساع القدرة في طلب الأشياء لا اقتصارها ، وهذا المفهوم للاستطاعة يتناسب تماماً مع ما قدّم في صدر الآية في أن الحج لله تعالى قد جعله حقاً له على الناس كافة ، وحقّ الله سبحانه على عباده دائماً ما يقترن بتوفر مستلزمات تنفيذه كي يحقق وجوب وقوعه .

أما الضمير في ﴿ إِلَيْهِ ﴾ ، فمن العلماء من أعاده إلى البيت ، ومنهم من جعله عائداً إلى الحج(2)، وهو الأقرب إلى الدلالة ، وذلك أنَّ الوصول إلى البيت الحرام لا يحتاج أكثر من الزاد والراحلة ، في حين أن مناسك الحج لا تقتصر على البيت الحرام ، بل هناك مناسك تتمثل في الوقوف على عرفة والإفاضة والمزدلفة ومنى ورمي الجمرات ، فضلاً عن السعي بين الصفا والمروة وغيرها مما تحتاج إلى عناء وتعب وجهد للقيام بها وأدائها ، ثم أنّ محور القضية الرئيسة في مجمل الآية هو الحج ووجوبه ، فقدّم له بذكر أهمية البيت وتعظيمه ، لأجل الدخول إلى القضية الأهم ألا وهو الحج .

فضلاً عن ذلك أنَّ ورود لفظة (البيت) في قوله تعالى ﴿حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ جاء لتعريف الحج وتخصيصه بأنَّهُ لبيت الله الحرام لا لغيره ، ولم يكن للبيت وظيفة أخرى غيرها

ص: 39


1- لسان العرب / ابن منظور : 8/219-220 - طوع
2- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/418 ، أنوار التنزيل / البيضاوي : 1/172 ، مشكل إعراب القرآن / مكي بن أبي طالب : 98

في هذا المقطع من الآية ، لذا فإن عود الضمير إلى الحج هو الأولى من عوده إلى البيت الحرام .

ولو أُعيد الضمير في (إليه) إلى البيت؛ لاقتصرت الاستطاعة على الزاد والراحلة ، وفي هذا تضييق في الدلالة ، والله سبحانه لا يريد أن يضيّق على عباده في أداء الواجبات ، وخاصة الحج لما فيه من جهد ومشقة ، حتى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (حجّوا قبل أن لا تحجوا) إيحاءً منه (صلى الله عليه وآله) إلى الإسراع لأداء فريضة الحج في حال الحاج في أفضل صحة وأتم عافية .

أما قوله سبحانه ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ فقد عدّوا (ومن كفر) بمعنى ومن ترك الحج(1)، ومنهم من ذهب إلى أنه يمكن أن يكون المعنى من كفر بسبب إنكار الحج لا وجوبه(2)، ونقل الشيخ الطوسي (ت460ه) والطبرسي (ت548ه) وابن كثير (ت 747 ه) عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك إلى أن معناه ، من جحد فرض الحج فلم يره واجباً(3)، وهو رأي الشريف الرضي (ت406ه)(4) أيضاً .

ص: 40


1- ظ : الكشاف /الزمخشري : 1/418 ، أضواء البيان / الشنقيطي : 1/227 ، أنوار التنزيل / البيضاوي : 1/172 ، مسالك الإفهام / الكاظمي : 329
2- ظ : قلائد الدرر / أحمد الجزائري : 2/13
3- ظ : التبيان / الطوسي : 2/538 ، مجمع البيان / الطبرسي : م1/479 ، تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 1/386
4- حقائق التأويل / الشريف المرتضى : 196

ولما كان السياق العام لما قبلها دالاً على الوجوب بدلالة الأمر (على الناس) وأنه لله تعالى فأنّ الكفر هنا يتجه إلى معنى نقض الوجوب وإنكاره ، لذا فإنّ (من كفر) جاءت بمعنى من أنكر فريضة الحج ولم يعدّها من الواجبات عليه ، أو أن هذا المُنكِر إنما أنكرها لأنه يظنّ إنمّا أمره الله تعالى بها لحاجته إليها ، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، فكان الرد على الافتراء عنيفاً عندما قال ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ ، فكانت دلالة الكفر أبعد من معناها اللغوي الذي تضمّن معنى جحود النعمة ، وسترها(1) ، أو الإنكار مع العلم(2) ، أي على الاتساع لا التضييق فيها .

وعليه فإن هذه الآية المباركة قد أسست لدلالة وجوب الحج على المستطيع حصراً وشرعته لكونه لله تعالى ، فأمر بأداء مناسكه ، ومن لم يؤمن بذلك ، فالله غنيّ عن العالمين .

الآيات الثالثة والرابعة والخامسة

قوله تعالى : ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾(3).

بعد أن شرّع تعالى الحج وأوجبه على مَنْ استطاع إليه سبيلاً ، حدّد العلماء وجه الاستطاعة المتمثّل بالقدرة على تنفيذ الأحكام والتمكّن منها وهذا ممّا وسّعَ وجوه

ص: 41


1- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 12/118 - كفر
2- ظ : م . ن : 2/182 - جحد
3- سورة الحج / الآيات 27-29

الاستطاعة تيسيراً منه تعالى وتسهيلاً لعباده على أداء المناسك ، كي لا يجعل في الدين من حرج على الناس كافة ، فبعد هذا التشريع أمر تعالى نبيّه أن يؤذنَّ في الناس بالحج ، فقال ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا ...﴾ ، فالأمْرُ بالشيء لا يكون إلّا بعد تشريعه ووضع أحكامه بما يضمن مصالح العبادة .

فقوله سبحانه ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ ، جاء بصيغة الأمر للأذان أو التأذين ، وهو في الأصل من النداء إلى الصلاة وهو الإعلام بوقتها(1)، وأكّد هذا المعنى ابن الأثير عندما قال : (يُقال : آذَن يُؤذن إيذاناً ، وأذَّنَ يُؤَذِّنُ تأذيناً ، والمشدّدُ مخصوص في الاستعمال بإعلام وقت الصلاة )(2) ، بيد أنه جاء في الآية المباركة على الاتساع في المعنى ، إلى الإعلام بأداء فريضة الحج ، والإيذان ببدء العمل بها وفق ما شرّع الله تعالى في كتابه العزيز وتفصيلات ذلك في السنة النبوية المباركة وأحاديث آل البيت (عليهم السلام) والصحابة الكرام .

فالفعل (أذّن) جاء متعدياً إلى مفعوله مرة ب- (في) الظرفية (في الناس) ومرة بالباء (بالحج) ، وهذا ممّا يضفي على فعل الآذان الاتساع في الدلالة ، إذ إن في تعدِيه ب- (في) الظرفية دلالة تختلف عما إذا تعدّى بالباء المفيدة للإلصاق أو المِلْك .

فعندما يقول تعالى ﴿أَذِّنْ فِي النَّاسِ﴾ جعل من الناس وعاءً لآذانه بالحج ، أي أنَّ الإعلان بالحج لا يكون مجرد سماع ، فلا يتجاوز أذن السامع بل أن استعمال (في)

ص: 42


1- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 1/106 - أذن
2- النهاية / ابن الأثير : 1/34- أذن

هنا لأجل تلبّس هذا الأذان أو التأذين في نفوسهم وقلوبهم ، بعدما أقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) مدة عشر سنين في المدينة لم يحج ، فاحتاج هذا التوقف إلى دفق جديد للدعوة إلى الحج ، فكان استعمال (في) الظرفية خير دليل لهذا الدفق الدلالي المعبّر عن الحاجة لإقامة هذه الشريعة ، ولو لم يكن هناك توقّف عن أداء الفريضة لكان النداء أقل قوة وإشعار كمن ينادي إلى أمر يوميّ .

إذن كان استعمال (في) الظرفية قد أعطى الفعل (أذّن) دلالة أوسع من الإعلان للقيام بفريضة الحج ، بل مضافاً إليها التحشيد والقوة ومباهاة الكافرين والتفاخر عليهم بالإسلام وقوته من خلالها ، لذا فإن الآية لمّا نزلت أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) مناديه أن يؤذّن في الناس بالحج فاجتمع بالمدينة خلقٌ كثير من الأعراب وغيرهم وأكثر أهل الأموال من أهل المدينة(1).

أمّا ( أذّن بالحج ) فدلالتها الإعلام لقيامه ولوقته كالإعلام للصلاة وغيرها على رؤوس الأشهاد وقصد إقامتها لوقتها وعدم تأخيرها وإبلاغ المؤمنين بذلك بغض النظر عن مدى تمكّن هذه الفريضة من قلب المصلي .

إذن اجتمع في هذا المقطع المبارك من الآية ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ دلالتان للفعل (أذَّن) من خلال تعدِّيه بأكثر من فعل ، وهذا الأسلوب من أساليب القرآن الإعجازية الذي وسّع فيه استعمال الفعل بأكثر من دلالة من خلال تعدّد أحرف التعدّي للفعل الواحد .

ص: 43


1- ظ : كنز العرفان / السيوري : 249

قوله سبحانه ﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ أي يأتوك مشاة راجلين ، وهو رأي أغلب العلماء(1) ، ويمكن أن يكون بمعنى الرجال الراجلين ، إذ عبّر عنهم ب- (رجالاً) الدالة على الحال بخصوص الرجال لا غيرهم ، لأن الخطاب موجّه لعموم الناس من الرجال والنساء ، وكلا الاحتمالين ممكن الوقوع والمعنى يدل عليهما .

أما قوله سبحانه ﴿ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ ﴾ أي على كل ناقة أو بعير مهزول يأتين لبعد السفر وكثرة الجهد ، وهو رأي أكثر العلماء(2)، إذ ذهبوا أنَّ (يأتين) صفةٌ لكل ضامر لأنه في معنى الجمع ، والحال غير ذلك لأن (يأتين) لم تأتِ صفة إلى الضوامر ، وإنّما صفة للنساء الآتيات إلى الحج ، وذلك للأسباب الآتية :

الأول : إن الخطاب في الأصل جاء لعموم الناس ، وهذا يشمل الرجال والنساء .

الثاني : قدم الرجال من الناس فقال ﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا﴾ على كون معنى (يأتوك) للرجال دون غيرهم ، فكان لا بدّ من أن يذكر فيما بعد النساء ، لأن العرب تقدّم المذكّر على المؤنث ، فقال فيما بعد (يأتين) على الضوامر إشارة إلى النساء ، لأنهنَ أقل طاقة من الرجال وتحمُّلٍ في قطع المسافات الطويلة فيأتين على الإبل .

ص: 44


1- ظ : الكشاف / الزمخشري : 3/153 ، مجمع البيان / الطبرسي : م4/81 ، تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 2/216 ، إملاء ما منَّ به الرحمن / العكبري : 2/143 ، وضح البرهان / النيسابوري : 86 ،أنوار التنزيل / البيضاوي : 2/87 ، كنز العرفان / السيوري : 250
2- ظ : المصادر ذاتها .

الثالث : أن لفظة (يأتين) وردت في القرآن الكريم بأربعة مواضع غير ما ذكرنا كلّها تدل على النساء هي :

قوله تعالى ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ﴾(1)

وقوله سبحانه ﴿ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾(2)

وقوله عز من قائل ﴿ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾(3)

وقوله عز وجل ﴿وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾(4) ، وعليه فالمعنى أن يأتوك من الرجال والنساء راجلين ، وراكبين بحسب الاستطاعة .

ولا دليل في هذه الآية على أفضلية المشي على الركوب ، وقد وردت الأحاديث بأفضلية الحالين ، وروي عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) (أن الركوب أفضل من المشي لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ركب)(5) ، وروى كذلك عن جده الإمام الحسن بن علي (علیه السلام) فقال : ( إنَّ الحسن بن علي (علیه السلام) كان يمشي وتُساق معه محاملُه ورحاله )(6) .

ص: 45


1- سورة النساء / الآية 15
2- سورة النساء / الآية 19
3- سورة الممتحنة / الآية 12
4- سورة الطلاق / الآية 1
5- تهذيب الأحكام / الشيخ الطوسي : 5/779 (باب الحج – 5270)
6- م . ن : 5/780 (باب الحج – 2572)

وفضلاً على ذلك أن لا دليل على سقوط فروض الحج على من يركب البحر ولا طريق له سواه إلى البيت الحرام(1)، بحجة أن وصول الحاج إلى البيت الحرام أما أن يكونوا راجلين وامًا راكبين على ظهور الضوامر .

وهذا الأمر لا يتحقق في الآية ، بل هو واجب على الجميع لأنَّ الخطاب عام لجميع الناس ولم يخصّص ناساً دون غيرهم ، ثم أنه لو أراد بالضوامر الإبل المهزولة لذكرها باسمها ، بيد أنه جاء بالضوامر لدلالة أبعد من ذلك وأوسع ، إذ إن معنى الضامر ليس بالهزيل إذ إن تضمير الخيل (أن تُعلف قوتاً بعد سِمَنها ، قال أبو منصور : ويكون المضمار وقتاً للأيام التي تُضمَّر فيها الخيل للسباق أو للركض إلى العَدْوِّ ، وتضميرها أن تُشَدَّ عليها سُروجُها وتجلّل بالأجّلة حتى تعرق تحتها ، فيذهب رهلُها ويشتد لحمها ويُحمل عليها غلمانٌ خفاف يُجْرونها ولا يعْنفون بها ؛ فإذا فعل ذلك بها أمِنَ عليها البُهْرُ الشديد عند حُضْرها ولم يقطعها الشدُّ)(2) ، وهذا المعنى اللغوي يُرشدنا إلى أن مهمة التضمير تهيأة ما يُركب عليه لأجل السفر ، على وجه العموم.

فضلاً على ذلك نجد تنكير الضامر الذي دلّ على العموم ايضاً، إذ هو شامل لكل رُكوب في البر أو في البحر أو في الجو ، وقد خُصِّص آنذاك لعدم وجود وسيلة نقل عند العرب غير الإبل والخيل .

إذن فلا حجة لمن أسقط وجوب الحج على من هو ساكن بمناطق تفصلها الأنهار العظيمة أو البحار أو الخلجان عن بيت الله الحرام ، ثم أن التشريع لم يكن

ص: 46


1- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 6/442
2- لسان العرب / ابن منظور : 8/85 - ضمر

محصوراً بزمان النبي (صلى الله عليه وآله) ، بل هو عام لجميع الناس وفي كل العصور والأزمان ، فيقتضي التشريع الإسلامي أن يكون عاماً في الزمان والمكان .

قوله تعالى ﴿ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ ، أي يأتوك من كل طريق بعيد يسلكه الحاج إلى بيت الله الحرام ، لأنّ الفج هو الطريق الواسع بين جبلين ، وقيل هو ما انخفض من الطرق ، وكل طريق بعيد فهو فج(1) ، أما العميق والعمق فهو البعد إلى أسفل وقيل هو قعر البئر والفج والوادي(2)فيكون المعنى للفج العميق الطريق الواسع المنحدر للأسفل ، ولما كانت الأرض مستوية فلا يكون انحداراً إلى أسفل ، ولذا لابدّ أن يكون استواء في السطح كالكرة ، كي يكون الانحدار نحو الأسفل ، فدلّت الآية المباركة على كون الأرض كروية(3) .

بعد هذا الأذان في الحج ، الذي توقّف مدة عشر سنين ، بيّن تعالى أن للناس مصالح ومنافع فيه و ( نكّر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات )(4) ، ورُوِي عن الإمام أبي جعفر الباقر (علیه السلام) أنها منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة (5) .

ص: 47


1- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 10/185-186- فجج
2- ظ : م . ن : / 9-399 - عمق
3- جاء في موسوعة الإعجاز العلمي : - ( كلمة عميق تشهد بإعجاز القرآن منذ (1400) سنة بأن الأرض كروية ، ولو كانت مسطحة كما كان يُعتقد وقت نزول القرآن لو وردت كلمة بعيد أي (فج بعيد) لأن كلمة بعيد تفيد المسافة بين شيئين على مستوى واحد ، ولكن الأرض كروية والقادمون إلى مكة المكرمة يأتون من بقاع الأرض ومن نواحٍ شتى لذا قال تعالى ﴿مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾. / موسوعة الإعجاز العلمي : 958
4- الكشاف / الزمخشري : 3/153 ، ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : 8/222
5- - ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م5 / 82

واختُلِفَ في الأيام المعلومات وفي الذكر في قوله سبحانه ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ ( فقيل هي العشر، وقيل معلومات للحرص على علمها من أجل وقت الحج في آخرها ، والمعدودات أيام العشر عن ابن عباس، وهو المروي عن أبي جعفر (علیه السلام) واختاره الزجاج )(1) .

وقال ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ﴾ على التراخي باستعمال (ثم) وقد عطفت ما بعدها على ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ ... ﴾ الآية بمعنى أي ليزيلوا شعث الإحرام من تقليم الأظافر وأخذ الشعر وغسْل واستعمال طيب ، وهو كناية عن الخروج من الإحرام إلى الاحلال(2) .

أما قوله ﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ ، فهو صريح في الأمر بالطواف بالبيت الحرام الدال على الوجوب ، وقد أجمل فيه ، تفسره السنة الشريفة التي عُلِمَ بيانها من الرسول (صلى الله عليه وآله) بقوله (خذوا عنَي مناسككم) ، فيكون شاملاً لطواف النساء وطواف الزيارة (طواف الإفاضة) وغيرها ، أي لا يمكن تخصيصه على طواف الزيارة أو طواف النساء(3)، فلا يحل للحاج أن يأتي بواحدة دون الأخرى ؛لأن الخطاب خطاب عموم لا خصوص .

ص: 48


1- مجمع البيان / الطبرسي : م5 / 82 ، ظ : انوار التنزيل / البيضاوي : 1/89
2- مجمع البيان / الطبرسي : م5 / 81 ، الكشاف / الزمخشري : 3/154 ، التفسير الكبير / الفخر الرازي : 8/222
3- ظ : كنز العرفان / السيوري : 252

الآية السادسة

قوله تعالى ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(1).

من سمات النص القرآني المبارك أنّه يُجمل في موضع ويفصّل في آخر ، أو يعمّم في مكان ويخصص في آخر ، لضرورة يحتمها المقام ، ففي قوله سبحانه ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾(2) ، جاء لفظ الحِجّ –بالكسر- وهو اسم لذات الحدث(الحَج) ، فضلاً عن عدم تقييده بزمن معيّنٍ.

وقد عمل العرب منذ الجاهلية على نشر راية الإسلام على ربوع الجزيرة العربية فقد كانوا يحجّون البيت الحرام في ذي الحجة ، ويعتمرون في أشهر أُخر ، والقرآن الكريم في لغته لم يخرج عن سنن العربية ، فضلاً على كثير من عاداتهم وتقاليدهم ، فعندما أراد القرآن أن يُعبّر عنهما جاء بالاسم الدال على ذات الحدث والقصد المنوي فيه إلى البيت العتيق ، بشقّيه الحَج –بالفتح- والاعتمار ، فعندما أوجَبَ الحج – كما بينّا ذلك – إنّما أوجب المناسك لتأدية هذا الغرض ، أي مناسك الحَج والعُمرة ، بل

ص: 49


1- سورة البقرة / الآية 196
2- سورة آل عمران / الآية 97

وأمر بإتمامها ، لأن إتمام المناسك من إتمام الفريضة ، قال تعالى ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ ، فجاء بلفظ الحَج بالصيغة المصدرية لا الاسمية، لأن المقام هنا مقام إتمام المناسك ، فعبَّر عن هذه المناسك بالحدث الجامع لها وهو الحَج –بالفتح- لأن الاسم لفظ يدلّ على ذات ، أو هو اللفظ الذي يدلّ على مسمى(1) ، وهذه المناسك التي بمجموعها تتم الفريضة هي أحداث لفريضة الحج ، وأيُ تقصير في أداء إحداها أو إهماله أو تركه لا يتم الحج ، لذا قال سبحانه ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ﴾ بصيغة الأمر الدال على وجوب الاتمام ، وممّا يعضد هذا الأمر بالوجوب عدم وجود قرينة مانعة له .

ثم عطف عليه بالعُمرة فقال : ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ ، فشرّع لوجوب إتمام مناسكها كذلك ، ولو لم يكن لفظ العُمرة معطوفاً على الحج لانخرمت الدلالة ولوقعنا في عبثية السياق المفضية إلى تدهور المعنى وسقوطه ، لأنهما صِنوان في الوجوب بدلالة مسمى القصد المنوي إلى البيت الحرام في قوله سبحانه ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ فعملية الأمر إتمام أحدهما وإهمال الآخر في السياق ذاته تُوحي بضعف السياق وسذاجة في الدلالة وقهر النص على أمر غير مستساغ بسبب من القطع في كل شيء .

ولذا فإنّ القراءة لقوله سبحانه ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ برفع العمرة تُعدُّ قراءة شاذة وغير مستساغة ، والاحتجاج بالرفع عند أبي جعفر النحاس خطأ(2)

ص: 50


1- ظ :الانصاف في مسائل الخلاف /ابن الانباري:ا/6
2- ظ : إعراب القرآن / النحاس : 84

ودفع الفخر الرازي (ت 606ه) الرفع بوجوه (1) :

الأول : إن القراءة شاذة ، فلا تعارض القراءة المتواترة بالنصب .

الثاني : فيها ضَعْف في العربية .

الثالث : أن قوله ﴿ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ معناه ، أن العمرة عبادة لله ، ومجرد كونها عبادة لا يُنافي وجوبها ، وإلّا وقع التعارض بين مدلول القراءتين وهو غير جائز .

الرابع : أن العمرة مأمور بها لأنها عبادة لله ، لقوله تعالى ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾(2)و الأمر دالُ على الوجوب كما يقول الأصوليون.

وذهب الإمامية إلى وجوب العمرة(3)، وكذلك الشافعي(4) ، وصرّح القرطبي ( ت 671 ه-) بذلك أيضاً إذ وجد في هذه الآية دليلاً على وجوب العمرة ، لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج ، وروى ذلك عن عكرمة وابن عباس(5).

وهي واجبة كذلك عند الفخر الرازي على وجوه (6)

ص: 51


1- - ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : 2/297-298
2- سورة البيّنة / الآية 5
3- ظ : كنز العرفان / السيوري : 254 ، آيات الأحكام في جواهر الكلام / محمد حسن النجفي : 1/409-410 ، تفسير آيات الأحكام / الطباطبائي : 1/411 ، قلائد الدرر / الجزائري : 2/27
4- ظ : تفسير آيات الأحكام / الجزائري : 1/411 ، قلائد الدرر / الجزائري ، 2/27
5- ظ:الجامع لاحكام القرآن /القرطبي :3/736
6- - ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : 2/297-298

الأول ان وجه الاستدلال في قوله تعالى ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ هو الإتمام الذي يُراد به فعل الشيء كاملاً .

الثاني في وجوب العمرة أن قوله تعالى ﴿ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾(1) ، يدل على وجوب حج أصغر على ما عليه حقيقة أفعَل ، وما ذاك إلّا العمرة بالاتفاق ، وإذا ثبت أن العمرة حج وجب أن تكون واجبة لقوله ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ ﴾، ولقوله ﴿ولله على الناس حج البيت﴾ .

الثالث الأحاديث الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) في وجوبها .

الرابع في وجوب العمرة قال الشافعي : اعتمر النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الحج ولو لم تكن العمرة واجبة لكان أشبه أن يُبادر إلى الحج الذي هو واجب .

في حين ذهب ابو حنيفة ومالك والشعبي إلى على أنَّها سُنّة(2) ، وانتصر لهم الزمخشري في الكشاف(3) بما لا ينهض دليلاً على دعواهم ، واستشهد بأحاديث ضعيفة(4) .

ص: 52


1- سورة التوبة / الآية 3
2- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : 2/296 ، كنز العرفان / السيوري : 254 ، تفسير آيات الأحكام / الطباطبائي : 1/411
3- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/265
4- ظ : م . ن : 1/265 (الهامش)

أما قوله ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ ، الحصر والإحصار بمعنى المنع والحبس بمرض أو عدو او غيرهما ، واختلف العلماء في تعيين المانع له على ثلاثة أقوال(1):

الأول : انه مختص بالمرض ، وهو رأي أكثر أهل اللغة .

الثاني : ان الإحصار يفيد الحبس والمنع سواء كان بسبب العدو أم بسبب المرض ، وهو قول الفرّاء .

الثالث : انه مختص بالمنع الحاصل من جهة العدو وهو قول الشافعي ، وهو المروي عن ابن عباس وابن عمر

بيد أن المنع هنا هو أعم من ذلك فقد يكون بسبب المرض او العدو أو غيرهما من الأسباب التي تستحدث في أي عصر فتمنع الحاج من أداء مناسكه وهو مُحرم ، لأن السياق الذي وردت فيه هذه الجملة القرآنية يدل على العموم فضلاً عن أن الدلالة الرئيسة للفعل (أحصر) أوسع من الفعل (حصر) إذ إنّ زيادة المبنى تعني زيادة في المعنى ، ونقل أبو حيان الأندلسي (ت 745ه) عن يونس بن حبيب (ت 182 )في معنى (أحصر) ، قال ( قال يونس بن حبيب : أحصر الرجل رُدَّ عن وجه يُريده )(2)، من دون تحديد الرد والاحصار ، فعمّمَهُ ، وعلاوة على ذلك أن مجيء (إن) الشرطية ، يُعزّز هذا التعميم إذ إنها تُستعمل ( في المعاني المحتملة الوقوع والمشكوك في حصولها ، والموهومة والنادرة ، والمستحيلة وسائر الافتراضات الأخرى ، فهي لتعليق

ص: 53


1- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : 2/301 -302 ، ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/267
2- البحر المحيط / أبو حيان : 2/100

أمر بغيره عموماً )(1)، فاحتمالات المنع والحبس كثيرة ومتعددة بمختلف الأزمان والعصور ، ولا يمكن حصرها بالمرض أو العدو كما ذهب إليه بعض العلماء ، اعتماداً منهم على سبب نزولها في عام ست للهجرة عام الحديبية حيث حال المشركون بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) و الوصول إلى بيت الله الحرام(2).

ومذهب الاتساع في الأحصار هو ما ذهب إليه الإمامية ، قال المقداد السيوري(ت 182ه-): ( وعند أصحابنا الإمامية أن الإحصار يختص بالمرض والعدو وما ماثله لاشتراك الجميع في المنع من بلوغ المراد )(3)، وهو قول أبي حنيفة(4)، فيما جعله مالك والشافعي محصوراً بمنع العدو وحده(5) ، وهو مذهب الفخر الرازي أيضاً(6) .

وممّا يزيد احتمالات التعميم فيها أيضاً قوله سبحانه ﴿ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ﴾ ، واستيسر استفعل ، وهذه الصيغة تجيء لاستدعاء الفعل وطلبه(7)، أي أن في الفعل طلب اليسر في الفداء ، قال ابن منظور : (وتيسّر لفلان الخروج واستيسر له بحين أي تهيأ ... ويُقال : أخذ ما تيسّر وما استيسر وهو ضد ما تعسّر والتوى وفي حديث الزكاة : ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهماً ؛ ... وهذا التخيير بين

ص: 54


1- معاني النحو / د.فاضل السامرائي : 4/59
2- ظ : تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 1/231 ، وضح البرهان /النيسابوري : 1/193
3- كنز العرفان / السيوري : 257
4- ظ : الجامع الكبير / الفخر الرازي : 2/302-303
5- ظ : م .ن
6- ظ : الجامع الكبير / الفخر الرازي : 2/302-303
7- ظ : التكملة / الفارسي : 520 ، الصرف الواضح / د.عبد الجبار النايلة : 108

الشاتين والدرهم ، أصل في نفسه وليس ببدل فجرى مجرى تعديل القيمة لاختلاف ذلك في الأزمنة والأمكنة وهو تعويض شرعي)(1)، فتلمس من ذلك تعميم في دلالة التيسير ، ليوائم ما عُمِّمَ في دلالة (أحصرتم) إذ إن وضع الخيارات في الهدي بين البعير والبقرة والشاة هو من باب اليسر ، فالشاة أصل في نفسها كفارة عن المحصر ، وكذلك البعير والبقرة على حدٍ سواء ، وليس كل واحد منها تجري مجرى البدل عن الأخرى ، فالحاج المحصر يطلب ما تيسر له من إحداهن .

وقوله تعالى ﴿وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ ، فيه نهي عن حلق الرأس ، ويومئ إلى عدم الإحلال من الإحرام حتى يبلغ الهدي وكفى بالحلق عنه لكونه من لوازمه(2)، وأبيح الفدية ، ويعضده ما روي من إنها نزلت بكعب بن عُجْرة، -وانه كان قد قَمُلَ رأسه ، وكان في زمن الحديبية فأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحلقه فنزلت الآية(3) .

واختلف في قوله (مَحِلَّهُ) أهو اسم للزمان أو للمكان ، فذهب أبو حنيفة إلى أنه للمكان(4)، وهو رأي الزمخشري في الكشاف(5)، والقرطبي في جامعه(6) ، فيما عدّ النيسابوري أن المحِل هو الحرم عند عامة المفسرين(7) .

ص: 55


1- لسان العرب / ابن منظور : 15/446-يسر
2- ظ : كنز العرفان / السيوري : 258
3- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م1/291 ، التفسير الكبير / الفخر الرازي : 2/306
4- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي: 2/305
5- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/267
6- ظ : جامع أحكام القرآن / القرطبي : 1/744
7- ظ : وضح البرهان / النيسابوري : 1/195

فيما ذهب الشافعي إلى أن المحل في هذه الآية اسم للزمان ، وهو ما ذهب إليه الفخر الرازي وقال : ( هذه الآية دالة على أنّه لا ينبغي لهم أن يحلّوا فيحلقوا رؤوسهم إلّا بعد تقديم ما استيسر من الهدي كما أنه أمرهم أن لا يُناجوا الرسول إلّا بعد تقديم صدقة )(1) ، والظاهر احتمال الأمرين أي دلالة المحلِّ على الزمان والمكان ، لعدم وجود قرينة واضحة وصارفة لأحدهما دون الآخر ، وأنَّ السياق يحتملهما ، فالفعل (يبلغ) ومشتقاته قد ورد في مواضع من القرآن دالاً على الوصول إلى زمان أو مكان محدّدين ، فما دلّ الفعل على زمان ، قوله تعالى : ﴿ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ﴾(2)، أي وقته وزمانه ، وقوله سبحانه : ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾(3)، وقوله أيضاً : ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾(4)، وما دلّ على مكان ، فقوله تعالى : ﴿ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾(5) وقوله جل ثناؤه : ﴿ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾(6)، وقوله أيضاً : ﴿ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾(7).

وكذلك وجود (حتى) سابقة للفعل (يبلغ) تأخذ به إلى زمن المستقبل وليكون بلوغ الهدي إلى مكان النحر في زمن محدَّدٍ لا يمكن أن يجري قبله ولا بعده وهذا ممّا يأخذ

ص: 56


1- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : 2/306
2- سورة البقرة / الآية 235
3- سورة غافر / الآية 67
4- سورة البقرة / الآية 231
5- سورة الرعد / الآية 14
6- سورة الأحزاب / الآية 10
7- سورة الكهف / الآية 6

بالمحل إلى أنه دالٌ على الزمان ، وعلاوة على ذلك أن أداة النفي في (لا تحلقوا) هي الأخرى تُحلّق بالفعل إلى الاستقبال دون وقوع فعل الحلق في الآن قبله .

إذن نجد أن دلالة (مَحِلَّهُ) المحتملة للزمان والمكان ، ويترجّح عندي لما سبق دلالتها على الزمان لا المكان ، أي اسم للزمان الذي يقع فيه النحر ، وذلك أن موضع النحر لايشكّل خلافاً في الإحلال ، بقدر ما يشكّل الزمن الذي يُنحر فيه الهدي ليكون ابتداءً للإحلال من الإحرام ، وعندما لا يحصل النحر ولا يحصل التحلّل .

فقد ساقنا هذا التحليل اللغوي والنحوي إلى أنّ هناك حذفاً ، قصد الإيجاز في اللفظ وتكيثف للمعنى ، لهذا قال الفخر الرازي : ( في الآية حذف لأن الرجل لا يتحلّل ببلوغ الهدي محلّه بل لا يحصل التحلّل إلّا بالنحر ، فتقدير الآية ؛ حتى يبلغ الهدي مّحلِّه ، وينحر فإذا نحر فاحلقوا )(1)، فبتقديم قوله (ولاتحلقوا) المنفية وكان حقّهما التأخير للتأكيد على أمر التحليل مقدماً ولو كان وقوعه في المستقبل .

إذن السياق كُلّه يدلُّ على الزمان لا المكان وإن كانت دلالة المكان فيه ضامرة إلّا أن لها أثراً بسبب عدم وجود قرينة واضحة ودافعة لها ، مع أن مكان النحر معلوم لدى المسلمين ، وإن اختلفوا فيه ، وتجده في مضان من كتب الفقه .

وممّا يدلّل على أن المحلِّ يدل على الزمان أيضاً ، ما جاء بعده في قوله سبحانه ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ﴾ أي أن المشرّع قد استثنى المرضى من بلوغ زمن التحلّل ، فأباح لهم الإحلال قبل بلوغ زمن الهدي وقته

ص: 57


1- التفسير الكبير / الفخر الرازي : 2/305

، على أن يفتدوا بما شاءوا من صيامٍ أو صدقة ٍ أو نُسك ، على حد التخيير ،لا الإلزام بأحدها دون الأخرى .

فبعد أن أوضح سبحانه أحكام المحصر بسبب من المرض أو العدو أو غيرهما وفصّل فيها وبيّن أحكامها ، التفت إلى مَنْ هو آمن من الحاج من عدو أو مرض أو غيره ، فقال سبحانه ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ ﴾ أي ممّا يحصركم من مرض أو عدو أو غيرهما ، أو في حال كنتم آمنين(1).

وقوله :﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ أي مَنْ تمتع ابتداءً من نهاية آخر منسك من العُمرة والتحلل من الإحرام إلى يوم بدء الإحرام مرة ثانية للحج ، فعليه في هذه المدة أن ينحر ما تيسّر من الهدي ، وجاء بالباء في (بِالْعُمْرَةِ) بمعنى إلتصاق نهاية العمرة بأول لحظات التمتع ، لأن الباء هنا استعملت للإلصاق المجازي ، فيكون تعلّق نهاية آخر منسك منها ببدء التمتع وتكون نهايته مع بدء مراسم الحج . ولو قيل فمن تمتّع من العمرة إلى الحج ، لكان ذلك خطأ وغير مراد الآية لأن (من) تفيد ابتداء الغاية فيدخل التمتّع بالإحلال مع أداء مناسك العمرة ، وهذا لا يجوز ، إذ لا يمكن الجمع بين الإحلال والإحرام في آن واحد ، ومنهم من جعلها سببيّة فيكون المعنى : (فمن تمتّع بسبب العمرة فكأنّه لا يتمتّع بالعمرة ولكنه يتمتّع بمحظورات الإحرام بسبب إتيانه بالعمرة وهو معنى التمتّع بالعمرة إلى الحج)(2).

ص: 58


1- ظ : كنز العرفان / السيوري : 260
2- التفسير الكبير / الفخر الرازي : 2/308 ، كنز العرفان / السيوري : 260

وقوله ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ أي في حالة عدم التمكّن على وجه العموم من الهدي ، فالواجب صيام ثلاثة أيام في الحج ، إذ جعل أيام الحج ظرفاً للصيام من خلال استعمال (في) الظرفية ، على وجه الإطلاق ، فالزمان الذي يعدّ زماناً للحج هو زمان إحرام الحج إلى الرجوع ، زمان الصيام ثلاثة أيام(1) ، ووردت الروايات أن وقت الصيام أما قبل عيد الأضحى أو بعد أيام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله(2) ، ثم يتمّها بسبعٍ عند الرجوع للوطن ، فتكون عشرة كاملة ، وهذه الأحكام تصدق على من كان أهله من غير ساكني مكة المكرمة ، وأمرهم بالالتزام بها ، وان مخالفتها توجب العقوبة لقوله ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ ، ويكون اتّقاء عقابه تعالى بالالتزام بأوامره ونواهيه لأنه تعالى إنما يشرِّع عباداته لمصلحتهم، لا لحاجة له فيها ، فهو الغني عن عباده .

الآية السابعة

قوله تعالى ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾(3)

بعد أن أوجب تعالى إتمام مناسك الحج والعمرة وحدّد أحكام المحصِر فيهما بين الفدية والصيام للذي لم يكن أهلُهُ حاضري المسجد الحرام ، وغيرها من الأحكام الأخرى ، فحُدّد لهم تعالى وقت الحج ، وهي معلومة لهم ، فقال : ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ

ص: 59


1- ظ : الميزان / الطباطبائي : 2/78
2- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م1/291
3- سورة البقرة / الآية 197

﴾ أي وقت الحج أو زمنه أشهر معلومة للناس ، فحذف المضاف مكتفياً بالمضاف إليه كقوله تعالى : ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾(1) ، أي اسأل أهل القرية ، لأن القرية لا يمكن سؤالها ، وكذلك قوله سبحانه ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾(2) ، أي جاءَ أمرُ ربِّكَ ، و (أشهرٌ) لم تكن ظرفاً ، وإنمّا جاءت هنا اسماً دالاً على وقت أداء الحج ولو كانت ظرفاً لجاءت على النصب ، والسياق لا يريد ذلك ، وإنمّا أراد أن يسمي وقت الحج وزمانه ، فعبّر عنها بالأشهر ، وقال (معلومات) ، ولم يقل معروفات ، إذ إنّ هناك فرقاً بين العلم والمعرفة ، فالعلم إدراك الشيء على حقيقته ، أو هو مَلَكَة يُقتَدرُ بها على إدراك الكليات والجزئيات ، ويكون نقيض الجهل ، ويفترق عن المعرفة في أنها تُدرك بتفكّر وتدبّر لآثار الشيء ويُضادها الإنكار(3) ، فلما كانت أشهر الحج لا تحتاج إلى تفكّر وتدبّر لمعرفتها ، فذكر إنها معلومة للناس ، قال السيوري : (﴿معلومات﴾ أي معروفات للناس يريد أنَّ زمان الحج لم يتغيّر في الشرع ، وهو رد على الجاهلية في قولهم بالنسيء)(4)، وقال ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ﴾ ولم يقل (والعمرة) ،لأن الحج الواجب لا يقع إلّا في شهر معلوم من السنة ، في حين أنّ العمرة المستحبة تقع في كل أشهر السنة .

ص: 60


1- سورة يوسف / الآية 82
2- سورة الفجر / الآية 22
3- ظ : دقائق الفروق اللغوية في البيان القرآني / د.محمد ياس الدوري : 189
4- كنز العرفان / السيوري : 268

واختلف في أشهر الحج على أقوال(1) :

أولها شوال وذو القعدة وذو الحجة ، ( قال عروة بن الزبير : إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك )(2) ، وحجته إن الله ذكر الأشهر بلفظ الجمع وأقله ثلاثة ، ثم أن أيام النحر يُفعل فيها بعض ما يتصل بالحج ، وهو رمي الجمار ، والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لا بُدَّ منه إلى انقضاء أيام بعد العشر(3) ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري(4) ، وقال السيوري : ( هي شوال وذو القعدة وذو الحجة عند المحققين من أصحابنا )(5) .

ثانيها هي شوال وذو القعدة وعشراً من ذي الحجة ، وبه قال أبو حنيفة(6)، وقال الطبرسي : ( وأشهر الحج عندنا شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة على ما روي عن أبي جعفر )(7) .

ثالثها هي شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة بليلة النحر ، وبه قال الشافعي ، وإلى ذلك ذهب البيضاوي(8) .

ص: 61


1- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/270 ، مجمع البيان / الطبرسي : م1/293 ، أنوار التنزيل / البيضاوي : 1/111 ، كنز العرفان / السيوري : 268 ، التفسير الكبير / الفخر الرازي : 5/314 ، الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2/714
2- التفسير الكبير / الفخر الرازي : 5/314
3- ظ : م . ن ، مجمع البيان / الطبرسي : م1/393
4- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2/764
5- كنز العرفان / السيوري : 268
6- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/270
7- مجمع البيان / الطبرسي : م1/293
8- ظ : أنوار التنزيل / البيضاوي : 1/111

وإنَّ سبب الاختلاف في أشهر الحج إنّما يعود إلى عموم (أشهر معلومات) لأنها نكرة وهي في الأصل في مكنونات عقول الناس من الجاهلية إلى الإسلام ، فلا تحتاج إلى تفصيل ، ولو قال (أشهر معروفات) فهنا يحتاج التتبع لأجل المعرفة إلى تدبّر وتتبع آثارها ، ولأجاز وقوع تأخير الحج إلى أشهر أخرى ، بحسب ما يتوصل له المتتبّع ، وهذا ممّا يوقع الخلاف فيها ، وذلك ما لايريده السياق فجاءت ب-( معلومات ) التي لاتقبل الاجتهاد والتفسير لأنها في علم الناس وعقولها .

فضلاً على ذلك أن (أشهر) في موضع الخبر وهي نكرة ، والنكرة عامة لكنها موصوفة ، والوصف هنا يفيد التخصيص ، أي تخصيص الأشهر بما هو معلوم عند الناس منذ الجاهلية ، وفي هذا التخصيص نستدل على إحرام الحج لا ينعقد إلاّ في هذه الأشهر ، ولو انعقد في غيرها للزم كون المبتدأ أعم من خبره وهو باطل(1) ،أي أن الخبر كان قاصراً في الإخبار عن المبتدأ ، مع كون المبتدأ عند النحويين دائماً ما يكون معرفة وهذا مما يسيء إلى السياق العام ، ويخذل تماسك النص، ويخرم إعجازه فيكون مَهْمَزاً لأقوال المتقوّلين .

أمَا قوله تعالى ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ الفرض هنا بمعنى الإلزام والبيان ، أي فمن ألزم نفسه إذا وجب عليها الحج وبيَّنه بالإحرام؛ لأن من علامات الحج الإحرام ، قال ابن منظور : ( وقوله عز وجل ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ ﴾ أي أوجبه على نفسه بإحرامه )(2) ، فكان الإحرام دلالة على إلزام النفس به ،

ص: 62


1- ظ : كنز العرفان / السيوري : 268
2- لسان العرب / ابن منظور : 10/230 - فرض

وواجبات الإحرام وانعقاده تتم بحسب ما يراه الإمام الخوئي(رحمه الله تعالى) بالأمور الآتية(1) :

الأمر الأول : النية ، ومعنى النية أن يقصد الإتيان بما يجب عليه في الحج والعمرة متقرباً بهما إلى الله تعالى .

الأمر الثاني : التلبية ، وصورتها أن يقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، والأحوط الأوْلى إضافة هذه الجملة : ( إنّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك ) ويجوز إضافة ( لك ) إلى الملك ، بأن تقول : ( والملك لك لا شريك لك لبيك) .

وقال المقداد السيوري : ( أي ألزم نفسه به بإيقاع النية والتلبيات الأربعة للتمتّع والمفرد )(2)، فيما ذهب آخرون إلى أن الإحرام ينعقد بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية ، ورأى أبو حنيفة أنه لا يصح الشروع بالإحرام بمجرد النية حتى ينضم إليها التلبية أو سوق الهدي(3) ، وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج ، وتكفي النية في الإحرام بالحج(4) .

لكن الإحرام لا ينعقد بمجرد النية ، إذ هي من مقدمات الإحرام ، بل من مصاديقها لتلبيات الأربعة ولبس الإحرام على وجه الاستقلال(5) ، وعند ذلك يصدق

ص: 63


1- ظ : مناسك الحج / الإمام الخوئي : 83-88
2- كنز العرفان / السيوري : 268 ، ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م1 / 294
3- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : 5/316 ، ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/270
4- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2/765 ، ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/270
5- ظ : مناسك الحج / الإمام الخوئي : 88

على الشخص إنه محرّم ، وبعد الإحرام الذي يصدق على الشخص كونه محرماً وجب عليه إتمام مناسك الحج كافة لقوله تعالى : ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾(1) .

وقوله سبحانه ﴿ فِيهِنَّ ﴾ دلالة على أن الأشهر المزبورة هي ظرف لوقوع الحج لأن (في) تفيد الظرفية ، وجاءت على أصل معناها ، وإن قيل لماذا قال (فيهنّ) ولم يقل فيها ؛ أي وصف الأشهر بالعقل ، قال القرطبي: ( فقال قوم هما سواء في الاستعمال ، وقال المازني أبو عثمان : الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة ، والقليل ليس كذلك ، تقول : الأجذاع انكسرن ، والجذوع انكسرت ، ويؤيد ذلك قوله تعالى ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ﴾(2)، ثم قال : ﴿ مِنْهَا﴾ )(3)، إذ جعل ضمير الأشهر الهاء ، لأنها أكثر من عشرة ، في حين جعل ضمير الأشهر الحرم (هنّ) لأنها أربعة ، لذا أعاد الضمير الهاء في (فيهن) على الأشهر وهي جمع قلة لأنها ثلاثة - كما علمت – ومثلها قوله سبحانه ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾(4)، فأعاد الضمير (هن) على السموات بصيغة جمع القلة لأنهن سبع ، وقوله تعالى ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾(5) ، أي الأشهر الحرم الأربعة ، وهذا مذهب العرب في

ص: 64


1- سورة البقرة / الآية 196
2- سورة التوبة / الآية 36
3- الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2/ 765 ، ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/144
4- سورة نوح / الآيتان 15و16
5- سورة التوبة / الآية 36

كلامهم ، إذ ( يقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة (هن) و (هؤلاء) فإذا جزت العشرة قالوا (هي وهذه) إرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير )(1).

ثم أخبر تعالى عن (مَنْ) المرفوعة بالابتداء والشرطية بقوله ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ أي من أحرم بالحج فليتجنب الرفث والفسوق والجدال وأصل الرفث في اللغة الفحش(2)، أو هو كل كلام يُستَحيا من إظهاره(3) ثم تطوّر في استعماله إلى الجماع وغيره مما يكون بين الرجل وامرأته ، يعني التقبيل والمغازلة ونحوهما مما يكون في حالة الجماع ، أو هو النكاح(4) ، ويتعدى الفعل منه ب- (إلى والباء ومع وفي) ، وكل أداة منهنّ تأخذ بالفعل إلى دلالة مختلفة عن الأخرى ، فيقال رفث في كلامه ورفث بها ومعها وقوله عز وجل ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾(5)، قال ابن منظور : (فانه عدّاه بإلى كقولك : أفضيتُ إلى المرأة ، جئت بإلى مع الرفث ، إيذاناً وإشعاراً أنه بمعناه)(6)، أي بمعنى الدخول ، بيد أن في الآية إطلاقاً فقال ﴿فَلَا رَفَثَ ﴾ انه يحتمل كل الدلالات ولو عدّاه بواحدة منهنّ لخصّص معنى الرفث ، وهو غير مراد الآية الكريمة ، فضلاً عن ذلك انسباقه ب- (لا) النافية للجنس الدالة على نفي جنس الرفث على وجه التنصيص ، وكذلك الفسوق والجدال ، ولو أراد غير ذلك لجاء النفي ب- (ليس) ، إذ إنّ هناك فرقاً كبيراً بينهما في العمل ، فعندما يقع النفي ب- (لا)

ص: 65


1- معاني القرآن / الفراء : 1/435
2- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 5/263- رفث
3- ظ : مقاييس اللغة / ابن فارس : 394- رفث
4- ظ : المصدرين نفسهما .
5- سورة البقرة / الآية 187
6- لسان العرب / ابن منظور : 5/263- رفث

الجنسية فانه يفيد التنصيص على عموم الجنس ، وذلك لأنها في الأصل جاءت جواباً ل- (هَلْ) ، فقولنا (هل من رجل) ، يكون جوابه (لا رجلَ) بالفتح ، وهذا النفي يفيد الاستغراق في نفي الجنس بالتنصيص عليه ، لان التنصيص تحديد المنفي واحتماله معنًى واحداً ، فضلاً عن إطلاقه ، وهذا الاستغراق ما كان إلاّ باستعمال (مِنْ) الاستغراقية ، فأفاد نفي عموم لا خصوص(1) ثم عندما يُراد منها نفي الجنس ، جاء اسمها نكرة في سياق النفي ، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم ، لكن اذا طلب عدم العموم في النفي ، فهنا يحسَن أن يؤتى بعدهما _ أي لا واسمها – بما يزيل اللبس ، كأن يقال : (لا رجلٌ مسافراً ، بل رجلان أو رجال) وان أطلق الكلام بعدهما ترجّح أن تكونا لنفي الجنس على سبيل الاحتمال(2) .

أما في (ليس) فالأمر مختلف ، فهي تستعمل لنفي الحال مطلقاً ، إلاّ اذا قُيِّدت بقيد يصرفها الى الماضي أو المستقبل ، وقد تأتي للحقيقة ، وعندها ستكون غير مقيدة بزمن معين(3) ، من نحو ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾(4) ، وقوله سبحانه ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾(5) وقوله جلّ ثناؤه ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾(6) ، ثم ان (لا) الجنسية هي آكد في النفي وأبلغ من (ليس) ، وذلك ان (ليس) عندما تدخل على المبتدا والخبر ، ستكون جملة فعلية ، لان (ليس) فعل ماضٍ ناقص ، في حين ان (لا) الجنسية واسمها يكوّنان كلمة واحدة بمقام الاسم ، فيكون معها الابتداء باسم ، والجملة الاسمية أثبت

ص: 66


1- ظ : شرح التسهيل / ابن مالك : 1 / 435
2- ظ : جامع الدروس العربية / الغلاييني : 2/336
3- ظ : معاني النحو / د.فاضل السامرائي : 4/163
4- سورة الشورى / الآية 11
5- سورة الحج / الآية 10
6- سورة الزمر / الآية 36

من الفعلية(1) لذا سيكون النفي في الجملة الفعلية أضعف من النفي ب- (لا) الداخلة على الاسم .

كما ان إعمال (لا) الجنسية عمل (إنّ) إلحاق لها بها , لمشابهتها في التصدير والدخول على المبتدأ والخبر وإفادة التوكيد ، وبما أنّ (إنّ) تستعمل لتوكيد الاثبات والمبالغة فيه فان (لا) الجنسية تفيد لتوكيد النفي والمبالغة فيه أيضاً(2) ، في حين ان ليس لا تفيد توكيد النفي الاّ مع القرائن لضعفها .

وعليه فإن نفي الرفث والفسوق والجدال ب- (لا) الجنسية جاء بقصدية النفي لعمومها على وجه الاخلاف والتأكيد ، وهذا إنما كان لارتباط هذه المنفيات بوجوب الحج وفرضه ولو كان على وجه الاستحباب لأمكن مجيء (ليس) لأنها أضعف من (لا) النافية للجنس في كل أحوالها .

إنّ ما جاء من قراءات عدا الفتح في كلها إنما توهن المعنى وتُضعف الدلالة وتحدّدها ، في حين أن مراد الآية نفي العموم - وإن كان جائزاً ما ورد من قراءات في لغة العرب إلّا أنه أضعف في الدلالة من الفتح .

أما قوله تعالى ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ ففيه حث على عمل الخير عقيب نهيه عن الشر ، والتزوّد بما يكف به الحاج وجهه عن الناس وقيل

ص: 67


1- ظ : معاني النحو / د.فاضل السامرائي : 4/163
2- ظ : شرح التسهيل / ابن مالك : 1/435 ، جامع الدروس العربية / الغلاييني : 2/334

أنها نزلت في قوم من أهل اليمن كانوا يرعون بأزوادهم ويتسمّون بالمتوكلة ، فقيل لهم تزوّدوا بالطعام ولا تلقوا كلكم على الناس ، وخير الزاد مع ذلك التقوى(1).

الآية الثامنة

قوله تعالى ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾(2)

ليس الذكر هنا مطلق الأذكار ، وإنّما هو ذكر مقيّد خاص لأنه جاء في أيام معدودة ، وهي معروفة عند الناس ، وهو التكبير عقيب خمس عشرة صلاة لمن كان بمنى وعقيب عشر لمن كان بغيرها وصورته ( الله اكبر الله اكبر لا إله إلّا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ) وهذا عند أغلب المذاهب(3) ، وزاد الإمامية تبعاً للروايات عن آل البيت (عليهم السلام) وجمعا بينهما ( الله اكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا والله اكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام )(4).

وقال ﴿فيأَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ فوصف الأيام بأنها معدودات ، بجمع المؤنث السالم ، وهذا الجمع يدلّ على القلة ، وأقلّها ثلاثة ، غير أنّا نجد أنّ وصف الأيام التي مفردها يوم ، وهو مذكر يجب أن يكون بالمذكر كذلك ، لكن الوصف جاء بالمؤنث ، ولعل

ص: 68


1- ظ: الكشاف / الزمخشري : 1/111 ، مجمع البيان / الطبرسي : م1/ 294 ، تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 1/239 ، كنز العرفان / السيوري : 270 ، الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2/769
2- سورة البقرة / الآية 203
3- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2/7-8
4- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م1/ 299 ، كنز العرفان / السيوري : 285 ، آلاء الرحمن / البلاغي : 1/241

هذا الوصف بُني على أساس أن اليوم يتكون من ساعات والساعات مفردها ساعة وهي مؤنث فوصفت كذلك ، والسبب في ذلك إن اليوم في الآية لا يعني الليل والنهار ، وإنما هو شامل لساعات النهار فقط ، فقد عرّف ابن معصوم المدني(ت 1120 ه )اليوم بقوله : ( اليوم في اللغة عبارة عن الزمن الذي يقع ما بين طلوع الشمس إلى غروبها ، وفي الشرع عبارة ممّا يقع بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس)(1)، وقال أيضاً ( إنّ العرب قد تطلقه وتريد به مطلق الوقت والحين نهاراً كان أو ليلاً ، فيقولون : ذخرتك لهذا اليوم أي : لهذا الوقت الذي افتقرت فيه إليك )(2).

فعليه أن اليوم المذكور في الآية المباركة بحسب الفهم اللغوي هو ساعات النهار من شروق الشمس إلى غروبها ، وبحسب اليوم الشرعي يُضاف لها ساعة وبعض الساعة من طلوع الفجر إلى شروق الشمس وبحسب هذين الفهمين اللغوي والشرعي فإن وصف معدودات سيؤول إلى وصف هذه الساعات المحسوبة بحسبهما ، لا بحسب مطلق الوقت والحين ، لأنّ السياق يؤيد ذلك – كما هو معلوم- وبهذا فإن معدودات جاءت موافقة لهذا الوصف .

فضلاً على ذلك أن معدودات جمع معدودة ، واليوم لا يوصف بمعدودة لأن الصفة ها هنا مؤنثة والموصوف مذكر ، وإنّما الوجه أن يقال (أيام معدودة) لمطلق اليوم فتصف الجمع بالمؤنث(3)، كما في قوله تعالى ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً

ص: 69


1- رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين / ابن معصوم المدني : 2/228
2- م ، ن : 2/117
3- ظ : إملاء ما منَّ به الرحمن / العكبري : 1/88

(1)، واليوم هنا مطلق الوقت شاملاً الليل والنهار أي أن النار لن تمسهم إلّا في ليالي ونهارات أيام كفرهم وخروجهم عن الدين ومعصية الرسول ، فوصفها بالمؤنث (معدودة) لأنها جمع ويجوز وصف الجمع بالمؤنث ، على خلاف ما جاء في الآية المباركة إذ إن اليوم فيها يقع على ساعات محددة منه لا لمطلق زمن اليوم لليل والنهار .

أما الأيام المعدودات فهي أيام التشريق( ثلاثة أيام بعد النحر) ، وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) ، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر(2)، وبه قال ابن عباس ومجاهد ، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة(3)، ونقل أبو حيان الأندلسي عن الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) إنها يوم النحر ويومان بعده(4)، أو هو يوم النحر وثلاثة أيام التشريق نقله عن المروزي(5).

ثم أنّ الأيام المعدودات جاءت لمطلق الأيام ولم يبيّن الله تعالى ما هي لكن قوله تعالى ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ يُشعر أن تلك الأيام هي التي يُنفر فيها ، وهي أيام التشريق(6)، واستدل الفخر الرازي عليها بقوله : ( وهذا يقتضي أن يكون المراد ﴿ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ من هذه الأيام المعدودات ، وأجمعت الأمة على أن هذا الحكم

ص: 70


1- سورة البقرة / الآية 80
2- ظ : مجمع البيان / الطبرسي: م1 / 299 ، كنز العرفان / السيوري : 285
3- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/178 ، الكشاف / الزمخشري: 1/277 ، وضح البرهان / النيسابوري : 1/198
4- ظ : البحر المحيط : 2/178 ، تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 1/245
5- ظ : م ، ن : 2/178
6- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/176

إنما ثبت في أيام منى وهي أيام التشريق ، فعلمنا أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق )(1) .

وسميت أيام التشريق بذلك ( لتشرّق لحوم الأضاحي فيها ، وقيل : لشروق القمر طول الليل ، وقال ابن الإعرابي : لأن الهَدْي لا يُنحر حتى تشرق الشمس ، وقيل لقولهم : (أشرق ثبير كيما نغير) )(2).

أما قوله سبحانه ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ ، فقد جاء الفعل (تعجَّل) على صيغة (تفعَّل) الدالة على التدرج والتكلّف ، فمثلاً يُقال : تحلَّم الأمير ، أي تكلّف الحِلم ، فهو يتكلّف أصل الفعل ويُريد حصوله فيه حقيقة(3)، لأنه في الأصل ليس حليماً ، وإنما هو يطلب أن يصير حليماً ، ومثله تمرّأ أي تكلّف المروءة ، وتصبَّر الرجل بمعنى تكلّف الصبر ، وهو ليس بصابر وتشجَّع الطفل ، أي تكلّف الشجاعة(4)، وتكون (تعجَّل) فيه دالة على تكلّف العجلة وتدرجها ، وكذلك تأخر فيه أيضاً دلالة تكلّف التأخير وتدرجه ، من غير طلب لهما ، لأنّ هذا في أصله جاء تشريعاً لرخصة من الله تعالى للحاج ، بعد أن كانت قريش تتأثّم التعجّل والتأخّر في أيام منى ، فأنزل الله تعالى هذه الآية لإباحة ما تأثّموا منه(5) ، وقال القرطبي : ( ونزلت الآية رافعة للجُناح في محلِّ ذلك ، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن

ص: 71


1- التفسير الكبير / الفخر الرازي : 2/340
2- كنز العرفان / السيوري : 285
3- ظ : شرح شافية ابن الحاجب / الرضي الاستربادي : 1/75-76
4- ظ : الصرف الواضح / د. عبد الجبار النايلة : 106
5- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2/15

مسعود وإبراهيم النخعي أيضاً : معنى من تعجّل فقد غفر له ، ومن تأخر فقد غُفِرَ له )(1) .

وعليه فلا يمكن أن يأتي (تعجّل) بمعنى (استفعل) أي (استعجل) ، كما ذهب إليه الزمخشري(2) وأبو حيان الأندلسي(3)، لأن صيغة (استفعل) فيها طلب وسؤال للقيام بالفعل(4)في حين أن الحاج لم يتمتع بهذه الرخصة بسبب من طلبه وإنمّا هي عملية تشريع بسبب التأثم–لما ذكرنا- فمنحوا رخصة الاختيار بين التعجل في يومين و التأخر ، فالرخصة لم تكن آتية في أصلها من طلب أو سؤال كي تكون بمعنى (استفعل) الدالة على ذلك ، ثم أنّ الرخصة الشرعية هذه في أصلها دالة على الاختيار بين أمرين ، وهذا ممّا يدفع عنها دلالة السؤال أو الطلب ، لذا جاء الفعلان (تعجّل) و (تأخّر) على أصل معناهما لا بمعنى استعجل و استأخر .

لكن قد يُسأل لماذا جيء بالفعل (تأخر) نظيراً ل-(تعجّل) في حين أن السياق ينبغي أن يأتي بنظيره المخالف (تأنّى) ، مع أن النظير المخالف للفعل (تأخّر) هو (تقدّم)(5).

وذلك لأنّ المقصود في التأخّر هو المبيت في منى عندما يدرك الحاج الغروب في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة ، وعند دخول الليل بعد غروب الشمس انتفت

ص: 72


1- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي: 2/15
2- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/277
3- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/176
4- ظ : شرح شافية ابن الحاجب / الرضي : 1/79-80
5- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 1/87 – أخر ، 9/63 - عجل

معه دلالة اليوم ، لأن اليوم كما بينّاه يبتدئ من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس إلى الغروب للحالتين .

وهذا ممّا يوجب على الحاج المكث في منى حتى يحين وقت اليوم الشرعي أو اللغوي ومن ثم أداء رمي الجمار كما في اليومين الأولين الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة ، ولذلك لم يردف قوله سبحانه ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ ﴾ يوماً لأنّ السياق العام في الآية يوحي بذلك والسُنة لا تقول بالمكث بأكثر من ثلاثة أيام في منى .

فضلاً على ذلك أن قوله ﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ﴾لا يكون مكافئاً أو مطابقاً للفعل (تأخّر) وإن جاء كلاهما على صيغة (تفعّل) ، لأن (تعجّل) تعني عدم البطأ والتواني ، في حين أنّ تأخّر تدلّ على عدم التقدّم ، فالتعجّل والتقدّم ليس لهما ذات المعنى ولم يكن معنياهما متقاربين في الدلالة ، لأنّ التأخر والتقدّم يكون في الرتبة ، والتعجّل يدلّ على عدم التواني والبطء فيلحظ فيه دلالة الزمن ، لذلك ذكر معه ﴿فِي يَوْمَيْنِ ﴾ .

وعليه فلا نلحظ لهما طباقاً في معنى من الضدية أو التكافؤ أو التطبيق ، وكذلك لم ألحظ فيهما مناسبة بين معنى المطابقة ، كي يكونا لفظين متطابقين .

وهذا ممّا يضيف دليلاً آخر إلى كون (تعجّل) جاء على أصل صيغة (تفعّل) الدال على التكلّف والتدرّج لا على معنى (استعجل) الدال على الطلب والسؤال في (استفعل) ، ولو جاء مكان (تأخّر) توانى أو تباطأ ، لأمكن القول أن (تعجّل) قد جاءت تحمل معنى صيغة (استفعل) الدالة على السؤال والطلب .

ص: 73

أمّا مجيء (لا) النافية للجنس فأنه يُفيد نفي عموم الإثم بلا قيد في الموضعين عن الحاج ، لأنّه لم يقيّده بشيء أصلاً ( ولو كان المراد لا إثم عليه في التعجّل أو في التأخر لكان من اللازم تقيده به ، فالمعنى مَنْ أتمَّ عمل الحج فهو مغفور لا ذنب له سواء تعجّل في يومين أو تأخر . ومن هنا يظهر : أن الآية ليست في مقام بيان التأخر والتعجّل للناسك ، بل المراد بيان كون الذنوب مغفورة للناسك على أي حال )(1) .

وقوله تعالى ﴿لِمَنِ اتَّقَى ﴾ لفظ مطلق ، إذ إنَّ الاتقاء لم يُحدَّد بمقيَّد ما بعده ، والظاهر إنَّ الاتقاء لمطلق ما بقي من محرمات الحج ، لما بقي من أيامه في التعجّل والتأخّر ، وذلك فيما إذا كان ﴿لِمَنِ اتَّقَى ﴾ متعلق بالتعجّل والتأخر(2).

أو يمكن القول إن ﴿لِمَنِ اتَّقَى ﴾ كل محرمات الحج المفروضة ؛ لأن في عموم الآية بيان لانتهاء كل مناسك الحج عندها ، فأردفها ب- ﴿لِمَنِ اتَّقَى ﴾ أي أن الاتقاء يكون من المحرمات في كل أيام الحج ، وهذا إنّما صائر على الاتساع .

وذهب آخرون إلى تقدير المغفرة لمن اتقى الصيد(3) ، أو أن التقوى تكون بجواز التعجّل والتأخر على كون (لمن اتقى) خبراَ لمبتدأ محذوف تقديره (جواز التعجّل

ص: 74


1- الميزان في تفسير القرآن / محمد حسين الطباطبائي : 2/83
2- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م1/299 ، كنز العرفان / السيوري : 286 ، الميزان في تفسير القرآن / الطباطبائي : 2/83
3- ظ : إعراب القرآن / النحاس : 87 ، مشكل إعراب القرآن / مكي بن أبي طالب : 65

والتأخر)(1)، وقيل أيضاً بمعنى ذلك لمن اتقى(2)، أو هو بمعنى : لمن اتقى قتل الصيد في الحرم(3) .

وأخيراً ختمت الآية المباركة بأمره تعالى عباده بالتقوى وذكَّر بالمحشر والوقوف بين يديه تعالى يوم الحساب ، وفيها دعوة إلى ضرورة الالتزام بأحكام الله تعالى بعد الحج المبارك لأن فيه تكفيراً للذنوب ، ويخرج الحاج بعد أداء مناسكه كمن ولدته أمه من دون ذنب أو إثم إلى أن يحين الأجل والوقوف بين يديه تعالى مغفوري الذنوب والآثام .

الآية التاسعة

قوله تعالى ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(4)

ابتدأ الخطاب في هذه الآية المباركة بحذف المسند وهو الفعل الذي عمل النصب في (البُدْنَ) ليكون الخطاب أكثر بلاغةً مما لو ذكر الفعل ثم ليجعل المتلقي أكثر حذراً في اختيار الفعل المناسب ، وذلك يتطلب منه فهم الدلالة فهماً دقيقاً ، لأن في اختيار الفعل المحذوف ستترتب عليه معانٍ ودلالات مهمة تفصح عن الدلالة المركزية في النص المبارك .

ص: 75


1- ظ : إملاء ما منَّ به الرحمن / العكبري : 1/88
2- ظ : معاني القرآن / الأخفش : 1/178
3- ظ : معاني القرآن / الفراء : 1/127
4- سورة الحج / الآية 36

ولعل في هذا الحذف دفعاً للمتلقّي في إحضار الغائب ويدعوه للتدخّل في ذلك ممّا يعطيه زخماً مهماً وحضوراً فاعلاً ، غير أنه إحضارٌ قائمً على الاحتمالات إذ يتكئ في إحضارها على الإدراك العقلي أو الإدراك الصياغي ، غير أن الإدراك الأول يكون صاحب السيادة في الموقف لتوافقه مع طبيعة النص الأدبي وصياغته(1) ، فضلاً على وجود القرائن الدالة على تحديد المفهوم العام في النص .

في حين أن تحديد المحذوف سيفرض صياغات متعددة يحتملها السياق ، وكل صياغة لها دلالة ربّما تختلف عن الصياغة الأخرى ، وكل ذلك إنّما وقع بسبب وجود الحذف الذي وسّع الدلالة بفضل تدخّل المتلقّي ، وإنّ النص هو الذي أحضره لأنّه نصٌ لكل العصور والقرون لا يقف عند عصر دون آخر ، وهذا مما يظهر عظمة النص الإلهي وديمومته .

لقد ذهب أغلب المفسرين إلى أن المحذوف الذي نصب (البُدْنَ) فعلٌ تقديره (جعلنا) الدال عليه ما بعدها (جعلناها)(2)، وهذا واحد من الاحتمالات المتوقعة للمحذوف ، وهو يكسب صدر الآية صورة الخبرية ويكون الخطاب معدولاً من المتكلم (جعلنا البدنَ) إلى المخاطب (لكم) ، فيكون المتكلم والمخاطب وجهاً لوجه ، فضلاً على وجود شيء من المباشرة في المعنى وهذا ممّا لا يرتضيه النص المبارك لأنّه نصٌّ غاية في البلاغة ، وإنّ أصل الحذف فيه كان لأجل الاتساع ، في حين كان هذا التقدير مقيّداً للدلالة ، ثمّ أنّ الخبرية في النص بعد التقدير تجعل من الخطاب غير

ص: 76


1- ظ : البلاغة العربية – قراءة أخرى / د. محمد عبد المطلب : 217
2- ظ : إعراب القرآن / النحاس : 625 ، التبيان / الطوسي : 7/317 ، مجمع البيان / الطبرسي : م6/86 ، إملاء ما منّ بهالرحمن / العكبري : 2/144 ، البحر المحيط / أبو حيان : 6/450 ، كنز العرفان / السيوري : 280 .

مؤكد وقوع الحدث فيه ، في حين أن المطلوب هو إيقاع الحدث على وجه القطع لذا فإن التقدير ربما يكون (انحروا) أي : (انحروا البُدْنَ التي جعلناها لكم من شعائر الله) ، وممّا يقوّي هذا التقدير إنها من شعائر الله ، وإن النحر في يوم النحر فيه تعظيم لها ، قال تعالى ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾(1)، علاوة على هذا أن هذا التقدير يتسق مع قوله سبحانه ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ﴾ ، أي أن وجوب جنوب الأضاحي لا يكون إلّا بعد نحرها ، وكذا ذِكرُ الله عليها صواف هو الآخر لا يقوم إلّا عند النحر .

في حين أن التقدير (جعلنا) لا يؤدي إلى هذا الاتساق في النص بل يكون قاصراً عن أداء تمام الدلالة التي يطلبها النص .

وكذلك في تقدير فعل الطلب (انحروا) يجعل الجملة في صورة الإنشاء التي تأخذ بالنص إلى توليد دلالة إضافية إذ إنه يخرج من أصل معناه ، فهو لا يؤدي مهمته الإنتاجية في حدود السياق الذي يحتمله ، وإنما يعمل السياق على توليد ناتج إضافي ، أي أن الأصل الوضعي يظل في خدمة السياق(2)، لذا فإن تقدير (انحروا) هو أقرب لدلالة النص المطلوبة ، وتأخذ به إلى معانٍ أضافية غير (المعنى الأصل) ، بعد توفّر قرائن تساعد على تثوير النص واكتشاف دلالات أخرى .

﴿والبُدْنَ﴾ جمع ،واحدته بَدَنة ، وسميت بذلك لعِظَم بدنها وسمنها ، قال الزجاج ( : يقولون : بدنَت الناقة إذا سمنتها ، ويُقال لها بَدَنة من هذه الجهة ، وقيل أصل البدن

ص: 77


1- سورة الحج / الآية32
2- ظ : البلاغة العربية – قراءة جديدة / د. محمد عبد المطلب : 278

الضخم ، وكل ضخم بدن ، وبدن بَدَناً إذا ضخم ، وبدنَ تبديناً ، فهو بَدِن ، ثَقُلَ لحمه للاسترخاء كما يثقل ، والبدنة الناقة وتجمع على بَدن وبُدَن ، وتقع على الواحد والجمع )(1)، وهي من الإبل خاصة(2)، ويدل على ذلك قوله ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ﴾ ، فالوصف خاص بالإبل ، والبقر يذبح ويضجع كالغنم(3)، لذا فيجب أن يكون الهدي الواجب تاماً غير مهزول ، وينبه على ذلك قوله سبحانه ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾ ، إذ إنها تقع حال واصفة للبدن(4)، فالناقص المهزول لا خير فيه(5)، ولا تعظيم بها للشعيرة التي أمر الله تعالى بتعظيمها .

ومنهم من ذهب إلى أن ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾ أي لكم فيها منافع في دينكم ودنياكم(6) ، واختلف العلماء في البدن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا وتجد ذلك مفصلاً في كتب الفقه بين القبول والرفض .

وقوله تعالى ﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ﴾ ، أي عند النحر أن يقول : (الله أكبر لا إله إلّا الله والله أكبر ، اللهم منك وإليك)(7)، عن ابن عباس ، و﴿صَوَافَّ ﴾ ( أي

ص: 78


1- التبيان / الطوسي : 7/317 ، ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م4/85
2- ظ : الكشاف / الزمخشري : 3/159 ، كنز العرفان / السيوري : 280 ، الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 6/376
3- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 6/377
4- ظ : إملاء ما من به الرحمن / العكبري : 2/144
5- ظ : كنز العرفان / السيوري : 282
6- ظ : التبيان / الطوسي : 7/319 226 ، مجمع البيان / الطبرسي : م4/86، التفسير الكبير / الفخر الرازي : 8/ ، البحر المحيط / أبو حيان : 6/450
7- مجمع البيان / الطبرسي : م4/86 ، ظ : الكشاف / الزمخشري : 3/159

قياماً مقيدة على سنة محمد (صلى الله عليه وآله) عن ابن عباس ، وقيل هو أن تعقل إحدى يديها وتقوم على ثلاث تنحر كذلك فيسوي بين أوظفتها لئلا يتقدم بعضها على بعض عن مجاهد ، وقيل هو أن تنحر وهي صاخة أي قائمة ربطت يديها ما بين الرسغ والخف إلى الركبة عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) هذا في الإبل )(1)، ولعلّ هذا التوصيف لحالات النحر إنّما مبعثه اختلاف دلالة (صواف) تبعاً لاختلاف القراءات فيها الذي أدّى إلى اختلاف هذه المفاهيم ، فصواف في قراءة عبد الله (صوافن) وهي القائمات ، وقرأ الحسن (صوافي) وهي الخوالص لله(2)، والصوافن جمع مفرده صافن ، وهو صفة للفرس إذا قام على ثلاث قوائم وثنى سنبك الرابعة ، والسنبك طرف الحافر(3)، وعن عبد الله بن مسعود أن (صوافن) جمع صافنة(4)، والصواف واحدتها الصافة عن الأخفش(5)، ونقل عن الشيخ الطوسي أن السنة في الإبل تنحر وهي واقفة ، وبه قال الفقهاء(6) ، ومهما يكن فهي في موضع الحال للذبيحة .

ص: 79


1- مجمع البيان / الطبرسي: م4/86
2- ظ : معاني القرآن / الفراء : 2/226
3- ظ : تفسير غريب القرآن /الطريحي : 396
4- ظ : إعراب القرآن / النحاس : 625
5- ظ : معاني القرآن / الأخفش : 2/451
6- ظ : قلائد الدرر / الجزائري : 2/82

وقوله ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ﴾ أي وقعت على الأرض بعد النحر(1) ، واختلف العلماء في أكل الأضحية ، فقال قوم : الأكل والإطعام واجبان ، وهو وجه لبعض الشافعية(2)، وقال الشافعي : الأكل مستحب والإطعام واجب(3).

ومنهم من ذهب إلى الوجوب ، هو قول مالك(4) ، في حين ذهب الإمامية الى أنّ يُطعم ثلثه ، ويُعطى ثلثه القانع والمعتر ، ويُهدى الثلث الباقي على الندب(5)، وهو المروي عن الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق (عليهما السلام).

واحتجّ من قال بالوجوب بظاهر قوله سبحانه ﴿فَكُلُوا مِنْهَا ﴾ فإنه حقيقة في الوجوب ، وأما من قال بالندب فقد ذهبوا إلى أن الأمر فيها يخرج إلى الإباحة ، وذلك أن بنية الأمر لا تقتصر على كونها بنية إنشائية طلبية ، بل تتجاوزه إلى كونها بنية توليدية ، لأنها لا تعرف الإلتزام بأصل المعنى الطلبي بل تحاول أن تنتج ما لن تتعوّد اللغة أن تنتجه ، وذلك لأن التحوّل موضعي يُخرج البنية عن أصل المعنى(6)، ولعل من أهم هذه التحوّلات الإباحة ، وإذا رجعنا إلى البنية العميقة لمقطع الآية المباركة ، نتلمس فيها إذن عام في الأكل والإطعام .

ص: 80


1- ظ : إعراب القرآن / النحاس : 625 ، الكشاف / الزمخشري ، 3/159 ، مجاز القرآن / أبو عبيدة : 2/51
2- ظ : تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 3/323
3- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 6/380
4- ظ : تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 3/223
5- ظ : التبيان / الطوسي : 7/319 ، مجمع البيان / الطبرسي : م4/86 ، كنز العرفان / السيوري : 282
6- ظ : البلاغة العربية – قراءة جديدة / د. محمد عبد المطلب : 293

وهذا ممّا يؤدي إلى الإباحة فيهما ، ولعل سبب النزول يقوي هذا الإتجاه ، إذ إنّ عرب الجاهلية كانوا يحرمونها على أنفسهم فلا يأكلون من هديهم(1) ، فأنزل الآية المباركة ليبيح لهم ما حرّموه عليهم . وبهذا يكون قد خرج الأمر والطلب فيها من الوجوب إلى الندب ، هذا أمر ، والأمر الآخر أنَّ ورود (إذا) الشرطية المتضمنة لمعنى الظرفية للزمان المستقبل تدلُّ على نسخ ما كان عليه عرب الجاهلية من تحريم لحوم الأضاحي وهذا ممّا يحمل معنى الإباحة لهم في الأكل والإطعام .

فضلاً على ذلك أنها تختص بما تيقَّن وجوده أو رُجِّح ، وهذا يدل على وجود أمر ما فيما سبق وهو تحريم لحوم الأضاحي ، وأراد تعالى إلغاءه بما يُناسب الحاج فأمر بالأكل والإطعام على سبيل الإباحة لا على سبيل الوجوب .

ولو قيل لماذا استعمل (إذا) ولم يستعمل (إن) الشرطية محلها ، وذلك أنَّ (إنْ) الشرطية تكون مبهمة الزمان في وقوع الحدث ، في حين أنّ المراد بالنحر والأكل في أيام النحر المعدودة التي تعارف عليها الحاج منذ الجاهلية حتى نزول الآية ، وهذا مما يُناسب استعمال (إذا) الشرطية الدالة على ما استقبل من الزمان في وقوع الحدث على وجه اليقين والترجّح .

أما قوله سبحانه ﴿كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ وتسخير البُدن انقيادها للنحر، لا كالحيوانات المتوحشة التي تقاوم عند النحر ، واستعمل (لعل) لإفادة التقليل ، وليس على أصل معناها في الترجّي ، أي أن ما قُدِّم لكم أيها الناس من هذه النعم ينبغي عليكم الشكر لكنكم قليلو الشكر لله .

ص: 81


1- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م4/86 ، الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 6/380

من كل هذا نستدل أن الدلالة المركزية في هذه الآية المباركة هي بيان صورة النحر للبدن وطريقة تقييدها ومنافذ توزيعها وأكلها والتصدّق بها .

الآية العاشرة

قوله تعالى : ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾(1)

نزلت هذه الآية المباركة لرفع الحرج الذي وقع فيه المسلمون عند السعي بين الصفا والمروة ، إذ كان عليهما صنمان (أساف ونائلة) ، فقد كان ( المسلمون قد كرهوا الطواف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾)(2) ، وان سبب الحرج والكراهية كان خوفاً من أن يكون فعلهم من أفعال الجاهلية ، إذ إنّ الصنمين كانا على حالهما حول الكعبة ، وذلك في عمرة القضاء ، ولم يكنفتح مكة بعد(3) ، وقد كان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوها تيمُّناً بهما وعبادة ، وقد قيل انهم كانوا يكرهون السعي بينهما ، فظن قوم ان في الإسلام مثل ذلك(4) ،فأنزل الله تعالى الآية وجعلهما من شعائره سبحانه ، بالسعي بينهما والطواف بهما ، فقال : ﴿إِنَّ الصَّفَا

ص: 82


1- سورة البقرة / الآية 158
2- معاني القرآن / الفراء : 1/95 ، ، ظ : التبيان / الطوسي : 244 ، الكشاف / الزمخشري: 1/234 ، الطراز الأول / ابن معصوم : 4/296-297 – جنح
3- ظ : التبيان / الطوسي : 244
4- ظ : م . ن

وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾، إذ قدّر العلماء محذوفاً (الطواف) أي ان طواف الصفا والمروة من شعائر الله . غير أن هذا التقدير غير مسوّغ له إذ قال تعالى : ﴿مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾بعده(1) ، والشعائر جمع شعيرة وهي (المعالم للأعمال ، فشعائر الله : معالم الله التي جعلها مواطن للعبادة وهي أعلام متعبداته من موقف أو مسعى او منحر ، وهو مأخوذ من شعرتُ به أو علمت ، وكل معلم لعبادة من دعاء أو صلاة أو أداء فريضة فهو مشعر لتلك العبادة)(2) ، ونقل أبو حيان الأندلسي (ت 756ه-) عن الهروي قال : (سمعت الأزهري يقول : هي العلائم التي ندب الله اليها ، وأمر القيام بها)(3) ، وهذا مُشعر لعدم أهمية تقدير محذوف لانَّ المقدّرَ معروفٌ كالمسلِّم به ومتبادر الى الذهن حال السماع .

وقد وقع الوهم في دلالة الآية المباركة بسبب من تعدّد المفاهيم المأخوذة عن النص المبارك ، ولذلك تعدَّدَت الآراء في حكم السعي بين الصفا والمروة :أهو واجب أم تطوّع ،أهو ركن أم لا ، وكان القوم على ثلاثة أقوال :

1-ان السعي واجب وركن ، ولا يتم الحج إلا به ، وان في تركه او بعضه يُبطل الحج . وهو رأي الامامية ، وقال به الحسن وعائشة ومالك وهو مذهب الشافعي واصحابه ، واستندوا لذلك في أن السنة قد أوجبته ، وهو قوله(صلى الله عليه وآله) : ( كُتِبَ عليكم السعي فاسعوا) ، فظاهر الآية انما يدل على

ص: 83


1- ظ : البحر المحيط / ابو حيان : 1/651
2- ظ : البحر المحيط / ابو حيان : 1/651
3- م . ن : 1/647

اباحة ما كرهوه من السعي(1)، لهذا فان نفي الجناح قد ورد على فعل السعي ولم يرد على عدمه ، وفي هذا دلالة على الجواز بالمعنى الأعم ، لا على التخيير المحض ، لان التخيير المحض انما يدل على الفعل والترك ، ولم تتضمن الآية دلالة الترك .

2-إنّ السعي واجب ، وليس بركن ، وهو قول أبي حنيفة وعلى تاركه دم(2) ، ودليل من أوجبه دلَّ على مطلق الوجوب(3)

3-ان السعي تطوّع ، ويروى ذلك عن أنس وابن عباس وابن الزبير وعطاء ومجاهد و احمد بن حنبل ، وتنصره قراءة ابن سعد ، ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لا يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ ، ودليلهم ان رفع الجناح وما فيه من التخيير بين الفعل والترك(4) كقوله تعالى﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا ﴾(5) ، وقوله سبحانه ﴿مَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾(6) وقوله جلّ ثناؤه ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾(7) .

ص: 84


1- ظ : التبيان / الطوسي : 1/240 ، ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/234
2- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/234 ، تفسير آيات الأحكام / محمد علي السايس : 1/38
3- ظ : المغني / ابن قدامة : 3/408
4- ظ : م . ن :1/234 ، معاني القرآن / الفراء : 1/95 ، البحر المحيط / ابن حيان : 1/651 ، تفسير آيات الاحكام / محمد علي السايس :1/39
5- سورة البقرة / الآية 230
6- سورة البقرة / 158
7- سورة البقرة / الآية 184

وقد استند أصحاب القولين الأول والثاني إلى ما ما جاء في السنة النبوية المباركة(1) ، وما روي عنه (صلى الله عليه وآله) : (اسعوا فقد كتب عليكم السعي ) وفي الحديث دلالة على الوجوب ، وأما كون السعي ركناً فانه ثبت انه

نسك من مناسك الحج والعمرة ، او كان منهما ، فهو كالطواف ، ومستند ذلك قوله (صلى الله عليه وآله) : (خذوا عني مناسككم) .

أما مستند اصحاب القول الثالث فأنهم أوّلوا (أن يطَّوّف) على تقدير (ألاّ يطَّوّف) قال الفراء : (وهذا يكون على وجهين : أحدهما أن نجعل (لا) مع (أن) صلة على معنى الالغاء كما قال : ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾(2) والمعنى : ما منعك أن تسجد ، والوجه الآخر أن نجعل الطواف بينهما يرخّص في تركه ، والأول المعمول به)(3) .

لكن أجدُ في السعي بين الصفا والمروة من المسلم به ، وان الآية المباركة قد تجاوزت مسألة وجوده وانه ركن واجب ، عندما عُدَّ من شعائر الله تعالى وعلامة من علامات متعبداته ، ولم تشر اليه الآية بقوة لانه مما تعارف عليه كل من حج البيت او اعتمر في الجاهلية وفي صدر الإسلام ، حتى حُذف من صدر الآية فقال تعالى : ﴿ان الصفا والمروة...﴾ الآية ولو كان هناك حكمٌ متعلقٌ بالسعي ذاته

ص: 85


1- ظ : تفسير آيات الأحكام / محمد علي السايس : 1/38-39
2- سورة الأعراف / الآية 12
3- معاني القرآن / الفراء : 1/95 ، ظ : تفسير آيات الاحكام / محمد علي السايس : 1/39

لأشار اليه لفظاً ، لكنه عندما كان مما تُسلِّمَ على وجوده ووجوبه على عادة الحجاج ترك معنى الاشارة اليه .

فاذن رفع الجناح لم يكن موضوعه ذات السعي بين الصفا والمروة ، وانما كان يشير الى موضع الحرج الذي تعرض له الحاج وهو وجود الصنمين عليهما ، ثم أنه لو كان رفع الجناح يشير الى السعي ذاته لقال سبحانه : ﴿ِانَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ ﴾ وسكت ، وعندها سيكون رفع الجناح مطلقاً الى السعي لا غير .

بيد اني أجد ان هذا النفي قد قًيِّد بقيد ﴿ان يطَّوَف بهما﴾ أي ان رفع الجناح لا يكون الاّ بالطواف بهما ، رغم وجود الصنمين وتحرجهم منهما ، فكان الطواف بهما علة في رفع الجناح لا شرطاً في وقوعه وقد تنبه الطبرسي الى ذلك فقال ( فرجع رفع الجُناح عن الطواف بهما الى تحرجهم عن الطواف بهما لاجل الصنمين لا الى عين الطواف ، كما لو كان الانسان محبوساً في موضع لا يمكن الصلاة الاّ بالتوجه الى ما يكره التوجيه اليه من المخرج وغيره ، فيقال له : لاجُناح عليك في الصلاة الى ذلك المكان ، فلا يرجع رفع الجناح الى عين الصلاة ، لان عين الصلاة واجبة وانما يرجع الى التوجه الى ذلك المكان)(1) .

وان وقوف الآية عند قوله ﴿ان يطَّوَف بهما﴾ دليل وجوب الطواف والسعي ، لان ظاهر النص بعده يشير الى التطوّع ، إذ إنّ النص ابتدأ بجملة جديد حين استأنف

ص: 86


1- مجمع البيان / الطبرسي : 1/240 ، ظ : الطراز الاول / ابن معصوم : 4 /296-297 - جنح

الحديث بقوله سبحانه ﴿ومن تطوع فهو خير له﴾ . وهذا مما لايدع شكاً لوجوبه ، ولو لم يأتِ بهذه الجملة الاستئنافية الجديد ، لاطلق الدلالة واحتمل الوجوب والتطوع في السعي والطواف .

إذن في الآية إجمال وتفصيل ، فقد أجمل سبحانه في المواضع التي تسالم عليه الحجيج، وفصّل في نفي الجناح ، وموضعه والتطوّع ومكامنه لأنه كان موضعاً لسبب نزول الآية وبيان أحكامها ، ففصّل بها فاحكم التفصيل .

ثم قد يتساءل أحد لماذا قال تعالى : ﴿ان يطَّوَف بهما﴾فجيء بالمصدر المؤول من (أن والفعل) الذي يبدو أن مجيئه فيه الدلالة على الزمن الماضي والمستقبل(1) ، وان القرينة هي التي تحدد ذلك الزمن ، ولما لم توجد قرينة محددة لزمن معين ، دلت الآية على الزمنين الماضي والمستقبل أي ان عدم وجود القرينة قد ناسب نفي الجناح عن المسلمين قبل نزول الآية وبعدها . ولو جاء بالمصدر الصريح (التطوّف) لوقع الابهام ، لان المصدر الصريح يدل على مطلق الزمن ، وعندها لم تعرف حدود الزمن أ هو الماضي أم الحاضر أم المستقبل ، وعندها ستختلف الإحكام في السعي والطواف وتزداد الاحتمالات وهذا مما لا يدعو له النص المبارك .

ثم أنه قد جاء بحرف الجر في (بهما) ولم يقل (بينهما) ، فلو قال بينهما لم يدخل فعل الطواف على الجبلين (الصفا والمروة) ، وهذا ليس مطلوب الآية أيضاً ، فمجيء بحرف الجر الباء الدال على الإلصاق ، أي أنّ على الطائف أن يسحق بأقدامه سفحهما الذَيْن نُصِبا عليهما الوثنان (أساف ونائلة) ، وفي هذا مغزى كبير ، ذلك ان

ص: 87


1- ظ : الاشباه والنظائر / السيوطي : 4 /69 .

المسلمين كانوا حديثي عهد بالإسلام ، ومازالت أدران الجاهلية عالقة في صدورهم ، من تقديس الصنم ورمزيته ، فدفع الله بهم الى المواجهة مع هذين الرمزين والطواف بالجبلين مع وجود الصنمين قبل فتح مكة ، لغرض تجاهلهما وانتصار القيم الجديدة على قيمهم القديمة .

أما المغزى من الطواف بهما بعد الفتح وتكسير الاصنام فهو لأجل تمكين النفوس المسلمة من التقدم خطوة اخرى بعد تجاهل الصنمين ، الى سحقهما باقدامهم والوقوف عليهما انتصاراً لوحدانية الله وأن لا اله إلاّ هو ، واسقاط رمزية الصنم من نفوسهم .

ويُستفاد أيضاً من صيغة الفعل (يتطوّف) الذي على جاء على زنة (يتفعّل) الثلاثي المزيد بحرفين المطاوع لصيغة (فعّل) الذي يفيد التكثير ، إذإن من معانيها العمل المتكرر ، في مهلة ،نحو جرّعتك الماء فتجرّعته أي كَثَّرتُ لك جرع الماء ، فتقبّلت ذلك التكثير(1)

وهذا يعني أن(يطّوّف) تفيد كثرة التطوّف حولهما ، ولو أراد طوفة واحدة لقال (يطوف) التي تعني أداء الفعل لمرة واحدة ، لكنه كثّر ذلك عندما جاء بصيغة (يطّوّف) الدالة على تكرار فعل الطواف مرة بعد مرة في مهلة ، وان السنة النبوية هي التي حدّدت العدد بسبع مرات.

وقد ناسبت هذا الفعل أيضاً طريقة السعي والطواف ، فقال (يطّوّف) فقلب التاء طاءً وادغم في الطاء الثانية ، لانهما من مخرج واحد وكلاهما اسناني شفوي ، وشديد

ص: 88


1- ظ : شرح الشافية / ابن الحاجب : 1/76 ، شذا العرف / احمد الحملاوي : 45

ومهموس ، إلاّ أن الطاء صوت مطبق ، والتاء منفتح(1) ، فتوافق الحرفان في اكثر الصفات واتحدا مع بعضهما ، فكانت الغلبة لصوت الطاء لما فيه من الاطباق الذي افقد صوت التاء خاصية الانفتاح ، فنتج عن ذلك ادغامهما , ( وأنّ الادغام انبى اللسان عن المثلين نبوة واحدة فصارا لذلك كالحرف الواحد )(2) ، وهذا ممّا قلّل الزمن المستغرق في نطقهما وأسرع ، فضلاً عن ذلك نجد في موضع الطاء الاولى قلقلة صغرى التي تؤدي الى حفز على موضعها وضغط مما يُناسب حالة السعي الذي هو (عدوٌ دون الشد)(3) ، ولو جاء الفعل على صيغة (يتطوّف) لاحتاج إلى زمن أطول ، مع رفع القلقلة التي ينعدم معها الحفز والضغط على التاء أو الطاء ، فيأتي الفعل على صيغته الطبيعية من الأداء الخالي من السرعة والضغط ، فضلاً عن قلة العناء والتعب ، في حين يُصاحب السعي شدة وتعب وعناء وسرعة ، وهذا مما ناسب صيغة (يطّوّف) .

الآية الحادية عشرة

قوله تعالى : ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾(4)

وقع الخلاف في الإذن بالتجارة والتكسب أيام الحج وفي الإحرام ، وربما كان ذلك بسبب ما ورثه العرب المسلمون من عادات كانت في الجاهلية أو بسبب من

ص: 89


1- ظ : سر صناعة الاعراب / ابن جني : 1/60 ، الأصوات اللغوية / د.ابراهيم انيس : 58
2- الخصائص / ابن جني : 2/496
3- لسان العرب / ابن منظور : 6/271- سعى
4- سورة البقرة / الآية 198

اجتهادٍ او فهم معيّن للنص القرآني ، فتعددت الآراء وتزاحمت فيما بينها وربما تتعارض ، ولأجل ان نؤسس لفهم صحيح للنص المبارك ، لابدّ من أن نسلّط الضوء على ظروف النص وأسباب نزوله ، إذ كثرت الروايات في ذلك واجتمع الرواة على أهم الأسباب وهي

1-ما روي عن عبد الله بن عباس (رضی الله عنه) من ان ناساً من العرب كانوا يحترزون من التجارة ايام الحج ، واذا دخلوا الشهر بالغوا في البيع والشراء حتى امتنعوا من إغاثة الملهوف والضعيف وإطعام الجائع ،فأزال الله تعالى هذا الوهم من فأنزل الآية . وكانوا يُسَمُّون التاجر أيام الحج الداج ، ويقولون : هؤلاء داج وليسوا حاج(1) .

2-ما روي عن عبد الله بن عمر أن رجلاً قال له : إنّا قوم نكري ، وأن قوماً يزعمون ان لا حج لنا ، فقال : سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله) مما سألت ولم يرد عليه حتى نزل قوله تعالى﴿ليس عليكم جناح﴾فدعاه وقال : أنتم حجاج .

3-ما روي من أن عرب الجاهلية كانوا يتّجرون في أيام موسم الحج في أسواق عكاظ وجنة وذي المجاز ، وكانت معايشهم منها ، فلما جاء الإسلام كرهوا

ص: 90


1- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : 5/323 ، الكشاف الزمخشري : 1/272 ، تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير : 2/240 ، الكشاف / الزمخشري : 1/273 ، الجامع لاحكام القرآن / القرطبي : 2/771

أن يتّجروا في الحج بغير إذن فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنزلت الآية(1) .

4-ما روي عن مجاهد أنّ العرب كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بعرفة ولا منى فنزلت هذه الآية(2).

وقد استنتج العلماء من هذه الأسباب شبهة حاصلة في حرمة التجارة في الحج من وجوه(3) :

1. انه تعالى منع الجدال في الحج ؛ والتجارة تفضي إلى المنازعة من خلال الجدال .

2. إن التجارة محرمة في دين الجاهلية ، فعلى الحاج ان لا يشتغل في الامور الدنيوية في أيام الحج .

3. لمّا علم المسلمون أنّ كثيراً من المباحات محرّمة عليهم أيام الحج ، غلب على ظنّهم أن التجارة محرمة عليهم بعد ان كانت مباحة عندهم .

4. إن الاشتغال بالصلاة يحرّم الاشتغال بسائر الطاعات فضلاً على المباحات ، فوجب أن يكون الأمر كذلك في الحج .

ويمكن ان يُردَّ على هذه الوجوه التي أوقعت الشبهة ؛ ففي حال أنَّ التجارة تفضي الى المنازعة من خلال الجدال ، فهذا غير صحيح ، لان الجدل هو اللدد في الخصومة ، أو هو الشدة فيها ورجل جَدِل إذا كان اقوى في الخصومة(4) ، وقال

ص: 91


1- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : 5/323 ، البحر المحيط / ابو حيان : 2/156 ، تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 2/240
2- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : 5/323
3- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : 5/322
4- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 3/212 - جدل

الزجاج في قوله تعالى : ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾(1) ( قالوا معناه : لاينبغي للرجل ان يجادل اخاه فيخرجه الى ما لا ينبغي )(2) ، وان عملية البيع والشراء أو اكتراء الجمال وغيرها من الاعمال لاتؤدي الى هذا المعنى ، لذا لا يمكن ان يكون هذا المفهوم وجهاً من وجوه الشبهة لما بيّنّا .

أمّا الوجه الثاني ، فان الإسلام يجِبُّ ما قبله ، وان تحريم الجاهلية للتجارة في أيام الحج لايشكّل مظهراً اسلامياً ، ولأن الإسلام دين العمل فقد خالف هذا المفهوم الجاهلي برفع الجناح عن اعمال التجارة ، فضلاً عن اعمال الاكتراء بالجمال ونقل الحجاج المرضى والضعفاء من منسك إلى آخر أو الطواف بهم حول الكعبة أو بين الصفا والمروة ، فالإرفاق بالحاج المريض أو الضعيف ممّا يحثُّ عليه الإسلام . لذا لا يمكن أن يعدّ هذا الوجه موجهاً لشبهة حرمة التجارة والتكسّب .

أمّا الوجهان الثالث والرابع فلا يجوز القياس عليهما لعدم وجود المشتركات الني تجمع بين اعمال الحج وتلك الاعمال ، فضلاً على ذلك ( هذا هو قياس في مقابلة النص فيكون ساقطاً )(3) ثم أن(الفاء) في قوله سبحانه ﴿فإذا افضتم من عرفات ...﴾ جاءت عاطفة للجملة الفعلية التي بعدها على الجمل الثلاثة (وماتفعلوا، وتزوّدوا ، واتقوا) على نسق واحد وفي سياق واحد أيضاً ، خلافاً لقوله سبحانه (ليس عليكم جناح... الآية) المعترض للسياق ، لاجل التنبيه على حالة واقعة أثناء الحج ، وقد جاءت متراخية على الخلاف ، ثم أنّ (إذا) أخذت بزمن الفعل الماضي (أفضتم) الى

ص: 92


1- سورة البقرة / الآية 197
2- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 3/213 - جدل
3- التفسير الكبير / الفخر الرازي : 5 / 323

الاستقبال ، فالفعل لم يقع بعد ، ولهذا جاءت ﴿ليس عليكم جناح﴾ قبلها ، لتوحي ان الاعمال اثناء اداء هذا المنسك لاحرج فيها ولا إثم . فناسب مجيئها مع تراخي وقوع الفعل على غير عادة السياق من الجمع والمصاحبة لوقوع تلك الافعال .

غير أن هناك من ذهب الى حرمة العمل أيام الحج ، وحمل الآية على ما بعده ، وهذا ابو مسلم قد قدّر محذوفاً ( قال والتقدير : (فاتقون في كل أفعال الحج) ثم بعد ذلك ، (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) )(1) ، وفي هذا تحميل للنص ما لا يمكن تحميله ، فضلاً عن كونه غير مجمل ، بعد أنّ فصل فقال سبحانه : ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾(2) ، فيتضح من هذا ان هذا التقدير غير مسوّغ لعدم الحاجة اليه ، وان في النص كفاية من تفصيل ، ولو كان مجملاً لأمكن تقدير محذوف ، فهذا اجتهاد امام النص غير مسوغ له .

وكذلك فان سياق الآية المباركة ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لايتفق مع السياق العام للآية التي قبلها وما جاء بعدها ، إذ إن السياق كان في مقام تفصيل مناسك الحج وأنها بعين الله تعالى ، وهي خير زاد للمتقين ، في حين جاءت الآية الكريمة معترضة لهذا السياق بأمر مخالف لتلك النسك وتفصيلاتها بوضع إشارةأو منبه على حالة خارجة عن تلك الشعائر والمناسك ، وهو ما يخص التكسّب والاتجار في أيام الحج .

ص: 93


1- التفسير الكبير / الفخر الرازي: 5/323
2- سورة البقرة / الآية 197

إذن هذه المخالفة السياقية جاءت لتوجه معنى الآية إلى وجهة أخرى كانت محل ابتلاء المتكسبين والتجار من أهل مكة وما جاورها ، لأجل رفع الحرج عنهم وأداء مناسكهم .

ونضيف الى ذلك ان الله تعالى قد خاطب المجاميع التي حضرت موسم الحج بقوله ( وما تفعلوا ، وتزودوا ، واتقوني يا اولي الألباب ، عليكم ، تبتغوا ، أفضتم ، اذكروه) وغيرها، ثم فتح خطابه لهم بقوله (قضيتم ، اذكروا ) وكل هذا خطاب موجّه لمن كان حاضراً مناسك الحج ، بدليل قوله سبحانه ﴿فإذا قضيتم مناسككم ﴾ ولم يستثن منهم أحداً سواء من كان تاجراً أمتكسباً أم من كانت نيته الحج .

بيد أنه لما أراد خطاب غيرهم عدل عن خطاب المواجهة إلى خطاب الغائب فقال : ﴿ فَمِنَ النَّاسِ ﴾(1) دون أن يدخلهم ضمن الحجيج مما دلّأن مضمون الآية قد خصَّ كل حاضر في موسم الحج بنية الحج وان كان يتكسّب بتجارة أو نحوها فضلاً عن نية الحج .

ويجب أن ننتبه إلى مسألة مهمة أنَّ الفصل الذي وقع بين ليس ومعموليها ، وتقديم الجار والمجرور عليهما ، أضعف تأثير النفي بليس للجناح على ابتغاء الرزق ، فجاءت (عليكم) فضلة من حيث الإعراب ، غير انها أفادت تخصيص النفي ، بالتجار والمتكسبين دون غيرهم ، على أن ليس جملة ﴿إن تبتغوا فضلاً﴾ اسماً لليس ، ولوعُدَّت (عليكم) في محل نصب خبر لها لوقع اللبس ، لعدم تمام المعنى بها وعدم قدرتها على الإخبار بالنفي ، و لعدم وجود ما يشير إليها قبلها لكنها تعدُّ قيداً للمنفي ،

ص: 94


1- سورة البقرة / الآية 200

ومخصصاً له ، في حين كون ﴿إن تبتغوا فضلاً﴾ في محل نصب خبر (ليس) جاء مخبراً عن نفي الجناح ، إلاّ انه لم يكن قيداً فيه .

هذه الأمور أضعفت من دلالة كون الجناح بمعنى الاثم بل جاء بمعنى الحرج(1) لان الإثم أشد وقعاً منه لذا فقد جُعلت هذه الاعمال عند اغلب العلماء من المباحات التي لا يحبط فيها اجراً ولا ينقص ثواباً(2) .

أما الفضل المذكور في الآية المباركة , فهو طلب الرزق بالتجارة والتكسب عموماً ، وليست برخصة تمنح لأولئك العاملين(3) ، لان الرخصة هبة من الشارع المقدس لتجاوز ممنوع أو محرم بسبب ظروف قاهرة ، ولا يعني طلب المغفرة كما رواه جابر الجعفي(4) ، لان طلب المغفرة مباحة للمؤمنين في أي وقت وبأيِّ زمان ولاحاجة فيه لرفع جناح أو حرج .

إذن دلت هذه الجملة من الآية في مجملها على التصريح بالاذن والاباحة في التجارة ونحوها في حال الإحرام في موسم الحج ، وهو المروي عن الامامين ابي جعفر محمد بن عليّ الباقر وأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام ، وكذلك عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد وعطاء والحسن وقتادة وغيرهم(5) .

ص: 95


1- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : 13 /294 .
2- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : 5 /324 ، تفسير آيات الاحكام / السايس : 1/108 ، روح المعاني /الآلوسي : 2/87
3- ظ : فتح القدير / الشوكاني : 2/308
4- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : 3/295 ، تفسير جابر الجعفي : 109
5- ظ : التبيان / الطوسي : 2/166 , مجمع البيان / الطبرسي : 13/294 ، الكشاف / الزمخشري : 1/272-273 ، تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 2/240 / التفسير الكبير / الفخر الرازي : 5/323

فهكذا اتفق المفسرون وعلماء الفقه على أن التجارة والتكسب في موسم الحج من المباحات ، وهي التي لا يترتّب عليها نقصان في طاعة ولا تشغل الحاج عن أداء المناسك فضلاً على الاتجار والعمل .

أما قوله تعالى ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾(1)، فقد عاد فيه سبحانه إلى بيان أحد مناسك الحج ، وهو الإفاضة من عرفات ، بعد الوقوف الواجب بها(2)بعد ساعة من ظهر يوم التاسع من ذي الحجة حتى غروب الشمس ، وتحرم الإفاضة قبل غروب الشمس عالماً عامداً لكنها لا تفسد الحج ، فإذا ندم الحاج على ذلك ورجع فعليه كفارة بدنه ينحرها في منى ، فإن لم يتمكن من ذلك صام عشرة أيام(3).

والإفاضة من الفعل (أفاض) الثلاثي المزيد ، الذي أصله (فيض) وهو ( يدل على جريان الشيء بسهولة)(4)، أو هو بمعنى الاندفاع والانخراط والخروج من المكان بكثرة وسهولة ويسر ، شُبِّهَ بفيض الماء المندفع دون عوائق(5)، فهو ليس مشتقاً من (فوض) الدال على اتكالٍ في الأمر على آخر وردّه عليه(6)، مما يوجب الفوضى عند الانخراط والاندفاع فهذا خلاف المطلوب .

ص: 96


1- سورة البقرة / الآية 198
2- ظ : مناسك الحج / الإمام الخوئي : 62 ، 158
3- ظ : م ، ن : 160
4- مقاييس اللغة / ابن فارس : 803- فيض
5- ظ : البحر المحيط / ابو حيان : 2/139 ، مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الأصفهاني : 648 - فيض
6- ظ : مقاييس اللغة / ابن فارس : 801 - فوض

وجاء الفعل (أفضتم) بزيادة الألف على الأصل الثلاثي ، غير أنَّ هذا الألف لا يُعَدُّ من أحرف التعدية فيه ، وإن كان الغالب في صيغة (أفعل) أن الألف فيها للتعدية ، لكن المزيد فيه لغير الإلحاق لا بُدَّ له من زيادة في المعنى ، لأنها إذا لم تكن لغرض لفظ كما كانت في الإلحاق ولا لمعنى كانت عبثاً ، فإذا قيل مثلاً : إنّ أقال بمعنى قال : فذلك منهم تسامحٌ في العبارة(1).

إذن مجيء الألف في (أفاض) جاء على أصل معناها في (فيض) ، الدالة على الاندفاع والجريان بسهولة مضافاً إليها الكثرة والمبالغة وشدّة الاختلاط ، وكأن فيه إيحاء إلى إظهار قوة المسلمين من خلال كثرة عددهم وانسجامهم ، أمام الأعداء الذين كانوا يتربصون بهم سواء مما كان بينهم من المنافقين ، أم من غيرهم ، على طول الأزمان والدهور .

أو يُراد بها التأكيد على فعل الإفاضة من عرفات بعد انتهاء الوقوف بها ، وهذا مما يُوحي إلى وجوب الوقوف بعرفات ، لأن في إرادة الإفاضة من مكان إلى آخر مغزى ، وهو وجوب أداء المناسك فيهما .

وذهب آخرون إلى الوجوب أيضاً بسبب أن الإفاضة لا تكون إلّا بعد أن انتهى هذا القول(2)، أي قوله سبحانه ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾ في حين لا يرى أبو حيان (ت 745ه-) أي دليل على ذلك في الوجوب(3).

ص: 97


1- ظ : شرح شافية ابن الحاجب / الرضي الاستربادي : 1/61
2- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/157
3- ظ : م ، ن : 158

ثم حدّد تعالى بعد ذلك موضع الانتهاء من الإفاضة في المشعر الحرام ، وهو مزدلفة ، وقد (سميت مشعراً لأنه مَعْلَمٌ للحج والصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده من أعمال الحج)(1)، لذلك قال تعالى في جواب (إذا) الشرطية : ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ بصيغة الأمر الدال على وجوب الذكر في هذا الموضع ، ولما كان الذكر فيها واجباً وهو كذلك عند الإمامية(2)، خلافاً للفقهاء ، وهو ركن ، أي فمن أخلَّ به سهواً بَطُلَ حَجُّهُ ، ووقته من طلوع فجر يوم العاشر من ذي الحجة إلى طلوع شمسه(3).

علاوة على ذلك أن اقتران جواب الشرط بالفاء في (فاذكروا) فيه دلالة على وقوع الذكر –جواب الشرط- حال الانتهاء من الإفاضة مباشرة ، أما في حال عدم اقترانه به يكون زمان الذكر مبهم ( ومنه قوله تعالى في سورة الكهف ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ﴾(4)، وقوله ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ﴾(5)، وقوله ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا﴾(6)، فالفاء باتفاق النحاة تفيد التعقيب ، أي أن ما بعدها يعقب وقوع ما قبلها بغير مهلة لهذا جاءت في الفعل (فقتله) لتدل أنّ قتل الغلام وقع مباشرة عندما (لقيه) ، وأما خرق السفينة واستطعام الطعام فتُرك فيه الزمن مبهماً ؛ أوقع بعد الركوب

ص: 98


1- مجمع البيان / الطبرسي : م1/195
2- ظ : كنز العرفان / السيوري : 272
3- ظ : م، ن : 272 ، مناسك الحج / الأمام الخوئي : 162
4- سورة الكهف / الآية 71
5- سورة الكهف / الآية 74
6- سورة الكهف / الآية 77

مباشرة أم بعده بمدة قصيرة أم طويلة )(1)، وكذلك جاء الفعل (فاذكروا) ليدل على وقوع ذكر الله تعالى مباشرة بعد الإفاضة من عرفات ، ولو لم يكن الفعل مقترناً بها لوقع الإبهام في زمن الذكر ، لذلك حُدِّد من طلوع الفجر العاشر إلى طلوع شمسه .

الآية الثانية عشرة

قوله تعالى ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(2)

هذه الآية معطوفة على ما قبلها لابتدائها ب- (ثُمَّ) المفيدة للعطف والمهلة والاشتراك ، أي اشتراك فعلها مع ما سبقها من أفعال الحج ،

وقد قيل في (ثم) آراء نجملها بما يأتي :

الأول : إن (ثم) تفيد التراخي والمهلة ، إذ في قوله سبحانه ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ ...﴾ الآية فيه تأخير ، والتقدير ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) ، وهذا مناسب لما قبله في قوله تعالى ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ ، وهو خطاب للحجيج التجار والمتكسبين ، بمعنى أنّكم أيها التجار والمتكسبون الآتون إلى البيت الحرام بنية الحج وتعملون في إكراء الإبل والكسب أثناء الحج ، بعد ان تنتهوا من تجارتكم هذه تعالوا إلى حيث يتواجد الحجيج ، وأفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفات إلى المشعر الحرام ، وبذلك يكون قوله تعالى ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾ الآية جملة اعتراضية ، وفائدتها إعلام هؤلاء التجار بأن

ص: 99


1- مباحث في لغة القرآن الكريم وبلاغته / د.عائد الحريزي : 108-109 .
2- سورة البقرة / الآية 199

موضع إفاضتهم سيكون من عرفات إلى المشعر الحرام ، حيث الذكر والدعاء فيه ، ولأشعارهم بأهمية المشعر وفيه دلالة على وجوب الوقوف به ، وقد يكون في القول إيحاء لهؤلاء الناس إلى التوقف عن البيع والشراء والتكسّب في هذا الموضع لأهميته ، بدلالة قوله تعالى ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ ، ولا يكون الذكر في حال الاكتراء والعمل ، لأن في الذكر اتصالاً بالله سبحانه دون غيره ، ولذلك أمرهم تعالى بالاستغفار لما قد يقع فيه الحاج من التأخير في أداء هذه الفريضة من عرفات إلى المشعر الحرام .

وهذا ممّا يجعل جملة ﴿أَفِيضُوا ﴾ معطوفة على جملة ﴿أَنْ تَبْتَغُوا ﴾ ، وبذلك تكون (ثم) قد دلّت على التراخي والمهلة فضلاً عن الترتيب ، لأنّ زمن الوقوف بعرفة قبل الإفاضة منها يستغرق ساعات من بعد الظهر بساعة حتى غروب الشمس وهذا الزمن يستحق أن يُعبّر عنه ب- (ثم) لما فيه من مهلة وتراخي ، وعلاوة على ذلك أن العطف على ﴿أَنْ تَبْتَغُوا ﴾ قد أباح لهؤلاء الحجيج من التجار أقل مهلة من غيرهم للوقوف بعرفة لما في عملهم من استغراق للزمن فجُعِلَ الوقوفُ بها ليس بركن ، وأنّ من ترك الوقوف بها في مقدار من الوقت لا يفسد حجّه(1).

الثاني : إذا أخذنا بسبب نزول هذه الآية من أن العرب كانت تقف بعرفة ، وكانت قريش وحلفاؤها وهم الحُمُس يقفون دون ذلك في المزدلفة تكبّراً منهم ، وكانوا

ص: 100


1- ظ : مناسك الحج / الإمام الخوئي : 159

يقولون : نحن أهل حرم الله فلا نخرج منه(1)، فهنا (ثم) لا تخرج عن كونها للترتيب ، غير أن هذا الترتيب للذكر ، إذ إنّ مجمل النص أمرٌ بالإفاضة من عرفات ، وليس من المزدلفة ، وفيه شيئٌ من الزجر لهم ، لذلك أمرهم بالاستغفار فقال ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ﴾ لما ارتكبوه من خطيئة عدم الإفاضة من حيث تعارف عليه الناس من قبل البعثة النبوية وبعدها من عرفات ، فهنا ستكون جملة (افيضوا) معطوفة على جملة ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، إذ على الحاج أن يتهيأ ويتزوّد بالتقوى قبل اداء المناسك ، فجعل الإفاضة في رتبة تختلف عن التزوّد بالتقوى ، ففارق بينهما ب- (ثم) الدالة على الترتيب دون الزمان .

الثالث : إنّ في (ثم) دلالة إفاضة ثانية غير الإفاضة من عرفات ، وهي الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر ، وهو المروي عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) وبه قال الجبائي ، وقوي عند السيوري(2)، وبذلك تكون جملة (أفيضوا) معطوفة على جملة (واذكروا) ، والمهلة هي من أول الوقت إلى آخره ، ودلّ بذلك على أن الإفاضتين واجبتان(3).

الرابع : منهم من زعم أن (ثم) هنا بمعنى الواو ، لا تدلّ على الترتيب ، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول(4) ، وهذا لا يجوز لأنّ الواو تفيد الاشتراك

ص: 101


1- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م1 / 296 ، البحر المحيط / ابو حيان : 2/163 ، لباب النقول في أسباب النزول / السيوطي : 28-29
2- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م1/296 ، كنز العرفان / السيوري : 273
3- ظ / م ، ن : م1/296
4- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/163

في العمل أي اقتران وقوع الفعل ما قبلها مع الفعل ما بعدها ، وهذا غير حاصل في أداء مناسك الحج .

بعدها قال سبحانه ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ ، ولم يقل (المسلمون) ، وذلك أن موضع الإفاضة معروف لجميع الحجيج من قبل البعثة النبوية وبعدها ، فشمل لفظ الناس الكافرين والمسلمين وعلاوة على ذلك فيه تنبيه على أن الحج من السنن القديمة

وقال ﴿مِنْ ﴾ المفيدة لابتداء الإفاضة ، ولم يذكر انتهائها ب- (إلى) المفيدة لانتهاء الغاية وهي الاستفاضة ، وذلك أن المقام هنا هو لتنبيه الحُمس إلى الرجوع إلى عرفات وابتداء الإفاضة منها لا من المزدلفة ، مع أن نهاية الإفاضة كانت في المشعر الحرام وقد سبق القول بها في قوله سبحانه ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ ، فلا حاجة إلى التكرار .

ص: 102

ص: 103

الفصل الثاني - التوجيه الدلالي لآيات النكاح

اشارة

ص: 104

ص: 105

التوجيه الدلاليّ لآيات النكاح

كان في العصر الجاهلي أعراف لا يمكن تجاوزها في شؤون المجتمع العامة، بل يحرّم الخروج عليها أو يُقبّح من يأتي بها، فمن ذلك مسألة النكاح، فعندهم لا يجوز نكاح الأب ابنته ولا الجد حفيدته، ولا يجوز أن تتزوج الأم من ابنها ولا الجدة حفيدها، ولا الأخ من أخته، وذلك بسبب من مراعاة الأصل بالفرع، أي لعلاقة الدم، ومن يفعل ذلك عندهم يُعد آثما(1)، وقد أقرّ الإسلام ذلك لصحته، وكانوا يعدّون الجمع بين الأختين وأن يخلف الرجل على امرأة أبيه من القبيح(2).

لقد تعددت الأنحكة في الجاهلية وتنوعت، فهي في نظر الإسلام كان أغلبها من الأنكحة الفاسدة فشرع حرمتها وبعضها كان صحيحا لكنه احتاج إلى تهذيب، ومن هذه الأنكحة(3):

1- نكاح البعولة: وهو النكاح المألوف بين الجاهليين وهو الزواج الذي اقرّه الإسلام والقائم على الإيجاب والقبول وتحديد المهر والخطبة، وهو ما عليه زواج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من خديجة (رضي) قبل الإسلام(4).

2- نكاح المقت أو الضيزن: وذلك أنّ المرأة في الجاهلية إذا مات عنها زوجها كان ابنه أو قريبه أوْلى بها من غيره، إن شاء نكحها وإن شاء عضلها، وقد وقع هذا

ص: 106


1- ظ: المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي:5/528، مثالب العرب والعجم، ابن الكلبي:79-80.
2- ظ: م.ن:5/528.
3- ظ: م.ن:5/534-547.
4- ظ: نهاية الأرب، النويري:16/97-98.

النكاح في بعض بيوتات العرب المعروفة(1).

3- نكاح المتعة: وهو نكاح إلى أجل، فإذا انقضى وقعت الفرقة، وقد أشير له في القرآن الكريم بقوله تعالى:﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾(2).

4- نكاح الشغار: وهو أن يُزوج الرجل ابنته أو أخته على أن يزوجه الآخر ابنته أو أخته، وليس بينهما صداق، وهو أخصّ بالأقارب، فكان الرجل يقول للرجل: شاغرني ، أي زوجني ابنتك أو أختك.

5- نكاح الاستبضاع: وهو أن يقول الرجل لامرأته إذا طهرت من طمثها: ارسلي إلى فلان فاستبضعي منه لتحملي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا حملت أصابها زوجها بعد ذلك، ويُفعل ذلك رغبة في نجابة الولد.

6- نكاح البدل: وهو أن يقول الرجل للرجل: انزل لي عن امرأتك ، وأنزل لك عن امرأتي، فهو نكاح بطريقة المبادلة.

7- زواج صاحبات الرايات: وفيه يجتمع عدة رجال عند امرأة من ذوات الرايات

ص: 107


1- نقل ابن الكلبي(ت204ه-) أن ناجية بنت جرم كانت تحت سامة بن لؤي فولدت له غالبا، ثم مات فخلف عليها ابنه الحارث فولدت له عدة بنين وهم الذين خرجوا على الإمام علي علیه السلام. وكانت آمنة بنت أبان عند أمية بن عبد شمس فولدت له الأعياص ثم هلك فخلف عليها ابنه أبو عمرو بن أمية فولدت له أبا معيط، وكانت برّة بنت مرّ تحت خزيمة بن مدركة فولدت له أسد بن خزيمة ثم هلك عنها فخلف عليها ابنه كنانة فولدت له ولده كلهم إلا عبد مناف بن كنانة ، وهو خلاف ما ذكره د. جواد علي. ظ: مثالب العرب والعجم، ابن الكلبي:76، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي:5/529.
2- سورة النساء:24.

فتحمل، فإذا حضر وُلاّدها حكّموها في الولد، فمن لحقته الولد لحقه ووصله(1).

8- نكاح الضعينة: وذلك إذا سبى رجل امرأة فله أن يتزوجها متى شاء، وليس لها أن ترفض ذلك، ويكون هذا النكاح من دون خطبة أو مهر.

9- نكاح الخدن: ويتم هذا النكاح باتخاذ أخلاّء في السر، فالرجل يتخذ له صديقة أو تتخذ المرأة صديقا لها ويكون ذلك بتراضٍ واتفاق ، وقد نهى عنه الإسلام فقال تعالى:﴿وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾(2).

10- وهناك من كان يجمع بين الأختين، وذُكر أيضا أن الأخوة يشتركون في زوجة واحدة، وتكون الرئاسة لأكبرهم، وإذا أراد أحد الأخوة الاتصال بالزوجة وضع عصاه على باب الخيمة لتكون علامة تُفهم الآخرين أن أحدهم بداخلها فلا يدخلها. وهذا يشير إلى إباحة تعدد الأزواج للزوجة الواحدة في شرائع الجاهليين، ويعلل وقوع مثل هذا النكاح إلى قلة البنات وربما يكون ذلك بسبب من عادة وأد البنات التي كانت شائعة آنذاك، وقد نهى الإسلام عنها فقال تعالى:﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ*بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾(3).

إن تعدد أنواع النكاح وطرقه وعدم وجود ضوابط تحفظ النسب والدم، أدّى إلى ضرورة وضع معايير لأجل عدم اختلاط الأنساب، فشرّع الله تعالى ضوابط النكاح، ووضع أسسه ولوازمه وحدد واجبات الزوج اتجاه حليلته وبالعكس وأنزل بذلك قرآنا

ص: 108


1- لقد نقلت المصادر أن كثيرا من المشهورين العرب كان من هذا النكاح حتى تواترت الأخبار عنهم في ذلك. ظ: مثالب العرب والعجم، ابن الكلبي:80، شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد:1/306.
2- سورة النساء:25.
3- سورة التكوير:9.

مبينا.

النكاح في اللغة والاصطلاح:

تطورت لفظة النكاح من أصل وضعها للوطء إلى التزوج ، قال ابن منظور:(أصل النكاح في كلام العرب الوطء، وقيل للتزويج لأنه سبب الوطء المباح، الجوهري: النكاح الوطء، وقد يكون العقد)(1).

ولم يرد النكاح في القرآن الكريم إلا بمعنى العقد، وهو دليل على كونه حقيقة فيه شرعا، ولأنه لو استعمل في الوطء وكان تصريحا بكونه حقيقة فيه لغة لا شرعا، لأنّ من دأب القرآن التعبير عنه بالملامسة والممارسة والمقاربة والتغشي والإتيان والدخول والوطء، والكل كناية(2).

ولما كان لفظ النكاح يحتمل المعنيين (الوطء أو العقد) وكلاهما يعني إحكام القيد على الزوجة بالزوجية، فقد ناسب فك هذا القيد بالطلاق الذي يعني الانطلاق والإرسال.

لقط قسمت آيات النكاح على عدة أقسام ، وكل قسم يختص بلازمة من لوازمه، فسوف يتعرّض البحث إلى تحليلها وتوجيه دلالاتها بأدوات اللغة والنحو وغيرها مما له علاقة بذلك ما وفقني الله لذلك.

ص: 109


1- لسان العرب، ابن منظور:14/279، مادة(نكح).
2- سوف أقوم بدراسة بعض تلك الآيات لا كلها لأن بعضها قد درس في موضوعة الطلاق أو في غيره وبعضها الآخر قد أشبع بحثا ودرسا مما لا مسوغ لإعادة ذلك هنا.

أولا: شرعية النكاح وأقسامه

اشارة

وفيه آيات:

الآية الأولى

قوله تعالى:﴿وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم﴾(1).

بعد أن أمر الله تعالى الرجال بغض البصر عن المحرمات وحفظ فروجهم، وأمر النساء بعدم إبداء زينتهنّ إلا لبعولتهنّ وبقية المحارم في النسب لقوله تعالى:﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ...﴾(2)، فكان أمر بعدم الضرب بالأرجل لأجل إظهار الزينة، وذلك لأجل العفاف والستر، ثم أردفه بقوله سبحانه:﴿وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ﴾ لإتمام الأمر بالصون والعفة وعدم الابتذال لحفظ المجتمع وعدم السقوط في هاوية الزنا فجاء بصيغة الأمر للمخاطبين، ولو كان لغيرهم لجاء مقترنا بلام الأمر، كقوله تعالى:﴿لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾(3).

اختلف العلماء في الأمر هل جاء دالا على الوجوب أم أنه يخرج إلى غيره من مطالب الإباحة أو التخيير أو الترغيب والحضّ على فعل الانكاح؟

ص: 110


1- سورة النور:32.
2- سورة النور:31.
3- سورة الزخرف:77.

هذا الاختلاف إنما كان مردُّه إلى اختلاف العلماء أعني الأصوليين منهم في حقيقة الوجوب لصيغة الأمر، إذ إنهم(اختلفوا في أنها موضوعة للطلب الإلزامي - أعني الوجوب - أو الطلب غير الإلزامي - أعني الندب - قيل هذا وقيل ذاك، وقيل إنّها مشتركة بينهما لفظاً،يعني وضِعت لكل منهما بوضعٍ مستقلٍ،وقيل إنّها وضِعَت لمعنى عام شامل لهما فتكون مشتركة معنىً)(1)،وقيّد الشيخ محمد رضا المظفر الأمر كونه دالاً على الوجوب وظاهر فيه فيما إذا كان مجرّداً وعارياً عن قرينة،على الاستحباب(2).

ولعلّ خروج بنية الأمر إلى غيره مردّه إلى حضور أكثر من طرق مؤثر في الحدث ممثلين بطرفيْ الاتصال بكل مكوّناتهما الداخلية والخارجية(3). وهذا مما يولّد حركة داخل النص ربما تخرجُهُ عن ظاهر دلالة البنية الخارجية إلى دلالة أوسع ومعنىً أدلّ من الظاهر،وذلك بمساعدة بعض القرائن في السياق ذاته أو من خارج السياق فتتجاوزه إلى دلالات أخرى بعيدة عن صيغة الأمر الدالة على الوجوب في ظاهرها،لذا فانّ بنية الأمر لا تقتصر على كونها بنية إنشائية طلبيّة وإنما تتجاوزه إلى كونها بنية توليدية(4)،فيخرج الأمر عن معناه الحقيقي إلى المجاز.

ولعل في قوله سبحانه:﴿وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ﴾،خروج صيغة الأمر من الوجوب إلى الترغيب والإرشاد إلى ضرورة إنكاح المؤمنين من أصحاب الولاية للمستحقين له من الأحرار والحرائر وغيرهم. والسبب في ذلك أنّ قرينة(منكم) تفيد التبيين وتخصيص أمر

ص: 111


1- مرقاة الأصول،الشيخ بشير النجفي :60،أصول الفقه،الشيخ محمد رضا المظفر:1/61.
2- ظ: أصول الفقه،الشيخ محمد رضا المظفر:1/61.
3- ظ: البلاغة العربية - قراءة أخرى،د.محمد عبد المطلب:293.
4- ظ: م.ن:293.

الانكاح بالمسلمين دون غيرهم لأنَّ الخطاب موجَّهٌ لهم،ولو كان الزواج واجباً لعممَّ،فبالتخصيص أخرج دلالة الوجوب في صيغة الأمر إلى دلالة الترغيب والدعوة والحضّ عليه،فضلاً على ذلك أنّ عدم وجوب الزواج يتّضح أكثر في قوله سبحانه:﴿وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا﴾(1)،إذ لو كان واجباً لِمَا أمرهم بالاستعفاف حتى يجدوا سبيلاً إلى الزواج،ولِمَا خُيّر بينه وبين مِلك اليمين في قوله تعالى:﴿ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾(2)،إذ لا تخيير بين الواجب والمستحبّ، ولا شكَّ في إباحة ملك اليمين)(3).

ثم أنّ أولياء الأمور لهم الولاية على أبنائهم،في حين تكون دلالة(الأيامى) شاملة لغير المتزوجين من النساء والرجال،سواء كانوا ممن يصلح عليهم أنهم أبناء أو هم من كبار السن،وهؤلاء الكبار من الرجال لا يمكن أن يكونوا تحت ولاية غيرهم إذا كانوا أحراراً لا عبيد.

إنّ خروج هؤلاء الكبار من ولاية المتولين تثبت عدم وجوب صيغة الأمر بل خروجها إلى غيرها،وعليه فالأمر مختصّ بالحثّ والتخصيص والترغيب في الانكاح لا بالوجوب.

أما (الأيامى) فهو جمع مفردة (أيِّم) وفي الأصل يطلق على من لا زوج لها. قال أبو بكر بن الخفاف: (الأيّم،التي لا زوج لها،وأصله في التي كانت متزوّجة ففدت زوجها

ص: 112


1- سورة النور:33.
2- سورة النساء:3
3- ظ: كنز العرفان،المقداد السيوري:495.

برزءٍ طرأ عليها،فهو من البلايا،ثم قيل في البكر مجازاً لأنها لا زوج لها)(1)،وتوسّع استعمالها حتى شمل العزّاب من الرجال تجوّزاً(2) .

قال الشاعر:(3)

فان تنكحي وإنْ تتأيَّمي $$$ وإنْ كُنتِ أفتى منكموأتأيَّمُ

وهو الأولى وذلك لموافقته لما بعده،إذ يقول تعالى:﴿وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾،فذكر الجنسين من الصالحين،الرجال والنساء،وهذا يقتضي المطابقة في أن يكون(الأيامى) شاملاً لهما أيضاً،إذ إنّ المطابقة جمع بين المعنى وضده،ومعناها أن يأتلف في اللفظ ما يضاد في المعنى(4)،فهنا ائتلف الرجال والنساء مع الأحرار مع ما يضاده منهما من العبيد.

أمّا قوله سبحانه:﴿وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾،فقد ورد فيه قراءة مجاهد والحسن:(وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَيدِكُمْ) (5)،وجوز الفراء(إماءكم) بالنصب،يردّه على الصالحين)(6). بمعنى الذكور والإناث.

واختلف في معنى الصلاح،فمنهم من ذهب إلى معناه الشرعي المعروف،وهو

ص: 113


1- البحر المحيط،أبو حيان: 6/551،ظ: إعراب القرآن،النحاس:650.
2- ظ: وضح البرهان،النيسابوري: 2/111،مجاز القرآن،أبو عبيدة:2/65.
3- ظ: مجاز القرآن،أبو عبيدة:2،التفسير الكبير،الفخر الرازي: 8/268،الجامع لأحكام القرآن،القرطبي: 6/528.
4- ظ: أنوار الربيع،ابن معصوم:2/32.
5- ظ: الجامع لأحكام القرآن،القرطبي:6/529،البحر المحيط،أبو حيان:6/551.
6- ظ: معاني القرآني،الفراء:2/251.

مراعاة أوامر الدين ونواهيه وعمل الطاعات وغيرها من العبادات،أي بمعنى الإيمان،في حين ذهب آخرون إلى معناه اللغوي،وهو الأهلية للنكاح والقيام بواجبه(1)،والأوّل هو الأوْلى،وذلك لأجل الترغيب في الإيمان وعمل الصالحات والإحصان،فضلاً على ذلك أن تخصيصهم بصفة الإيمان والصلاح فيها دعوة إلى ضرورة تحريرهم،لأنّ فائدتهم لمجتمعهم ربما تكون أكثر مما لو كانوا عند مالكيهم،بسبب صلاحهم وإيمانهم.

وقال:(عبادكم) ولم يقل: عبيدكم،لأنّ العبد جمعٌ للأرقّاء على وجه العموم في حين (العباد) هم الأرقاء المتعبدين خاصة،وبما أنهم صالحون جاء الجمع هنا على أساس الأرقّاء المتعبّدين فقال:(عبادكم) فوافق بذلك بين الصالحين والعباد،ولو أراد بالحدث على تزويج عامة العبيد لما جاء "الصالحين" مقترناً ب-"عبادكم" ولقال: انكحوا الأيامى منكم وعبيدكم...

فضلاً على ذلك أنّ الخطاب في أصله خاص بالمؤمنين عندما ذكر (منكم) ولو كان الخطاب عاما لقال: وانكحوا الايامى وعبيدكم،دون تخصيص المؤمن والصالح في الخطاب.

وكذلك جاء ب-(عبادكم) لرفع مكانة المالكين لهؤلاء العبيد،لأنّ الأصل في (العباد) أنّ ينسبوا إلى الله فنقول: عباد الله،فإسباغ هذه النسبة المقدسة التي هي في الأصل لله تعالى ممّن يملكون هؤلاء العبيد فيها رفعة لهم واشعار لهم بالدعوة إلى العتق إيحاءً.

لقد استدل أكثر العلماء من قوله سبحانه(والصالحين من عبادكم) على أنّ للسيد

ص: 114


1- ظ: مجمع البيان،الطبرسي: 2/140،البحر المحيط،أبو حيان:6/551.،أنوار التنزيل ، البيضاوي :2/122 ، تفسير آيات الأحكام،السايس:3/168.

أن يُكره عبده وأمتَه على النكاح(1)،وذكر المقداد السيوري أنّ العبد والأَمَة لا يستبدان بالنكاح،وإلا لما أمر الولي بإنكاحهما،وان للمولى ولاية الإجبار(2)،وذهب مالك أن العبد مكلّفٌ فلا يجبر على النكاح لأنّ التكليف يدلّ على أنّ العبد كامل من جهة الآدمية،وإنّما تتعلق به المملوكية فيما كان للسيد من ملك الرقبة والمنفعة،بخلاف الأَمَة فانّ له حق المملوكية في بضعها ليستوفيه(3)،وذهب آخرون إلى أنّ الآية جعلت للسيد حقّ تزويج كل منهما ولم تشترط رضاهما(4).

كذلك فأنّ الأمر بتزويج الأَمَة إذا أرادت فهو ندب،والأمر ذاته للعبد(5)،ويكون ذلك بأذن سيدهما،وروي عن زرارة قال:(وسألتُ أبا جعفر (عليه السلام ) عن رجلٍ تزوَّج عبده امرأة بغير إذنه فدخل بها ثم أطلع على ذلك مولاه قال: ذلك لمولاه أن شاء فرّق بينهما،وإن شاء أجاز نكاحهما)(6)،وجعلَ زواج الأَمَة من رجل من دون علمِ وليّها زنىَ،فقد روي عن أبي العباس البقباق قال:(قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام ) "يتزوّج الرجل والأَمَة بغير علم أهلها؟ قال: هو زنىَ،إنّ الله عز وجل يقول:﴿فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ﴾(7))(8)..

ص: 115


1- ظ: الجامع لأحكام القرآن،القرطبي:6/529.
2- ظ: كنز العرفان،المقداد السيوري:496.
3- ظ: الجامع لأحكام القرآن،القرطبي:6/529.
4- ظ: تفسر آيات الأحكام،السايس:3/170.
5- ظ: التبيان،الطوسي: 7/433.
6- من لا يحضره الفقيه،الصدوق:530 ،كتاب النكاح،الحديث4550.
7- سورة النساء:25.
8- من لا يحضره الفقيه،الصدوق:532،كتاب النكاح،الحديث 4562.

والظاهر من هذا أنّه تعالى أراد تنظيم حقّ الملكية والحفاظ عليها،إذ إنّ أيام نزول الآية المباركة كان النظام الاجتماعي عند العرب خاصةً قائمٌ على الاسترقاق والعبودية،وهذا الأمر في حاجة إلى تنظيم،فوضِعْتْ الضوابط لذلك لأجل حفظ النظام وعدم انهيار المجتمع والدولة.

إمّا قوله تعالى:﴿إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ففيه عودٌ على الأحرار،وفيهم خاصة على رأي(1)،لأنّ معونة العبد والأَمَة في تزويجهما تكون على المولى،وفي هذا إشعار بأنّ الفقر ليس مانعاً من الزواج خوف العيلة(2)،قال تعالى:﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(3)،أي ذو غنى وسعة وخزائن فضله تعالى لا تنقص ولا تغيض،وقد روي عن ابن عباس قوله:(التمسوا الرزق بالنكاح)(4)،ونُقِل عن عبد الله بن مسعود: التمسوا الغنى بالنكاح" وتلا هذه الآية)(5).

وقال بعضهم أن معناه: إن تكونوا فقراء إلى النكاح يغنيهم الله تعالى بذلك عن الحرام،وعليه تكون الآية عامة في الأحرار والمماليك(6) على الاتساع لأنّ في الحذف دلالة توسّع في المعنى.

ص: 116


1- ظ: التبيان،الطوسي:7/433.
2- ظ: كنز العرفان،المقداد السيوري:496.
3- سورة التوبة:28.
4- ظ: التفسير الكبير،الفخر الرازي:8/371.
5- الجامع لأحكام القرآن،القرطبي: 6/529.
6- ظ: التبيان،الطوسي:7/433.

ويُسعِفُ ذلك ما جاء بعدها من قوله سبحانه:﴿وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾(1)،فدلّت لفظة (نكاحاً) على المحذوف فيها،فعمّم الحكم على الأحرار والعبيد.

الآية الثانية

قوله تعالى:﴿وَ لْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾(2)

بعد أن ذكر حال تزويج الحرائر والاماء،ورغّب المؤمنين وأوحى للأسياد وفي عبيدهم ما أوحى من فعلِ الحسنات اتجاه المتعبدين الصالحين منهم،ذكر مَنْ يعجز عن الزواج،فقال:(وليستعفِف)، وهو فعلٌ ثلاثيٌّ مزيدٌ بثلاثة أحرف على وزن (استفعل) مصدره الاستفعال أي(الاستعفاف) ومعناه (طلب العفاف والتعفّف،وهو الكف عن الحرام والسؤال من الناس،أي من طلب العضة وتكلّفها أعطاه الله إياها،وقيل الاستعفاف: الصبر والنزاهة عن الشيء)(3). وفيه سؤال،وهو أصل معنى (استفعل) لأنّها تستعمل للسؤال غالباً(4)،وفي ذلك مشقة على النفس لمقاومة الشهوة في الذين لا يجدون نكاحاً.

والنكاح هنا ليس بمعنى الوطء،بل متطلباته التي يجب على الرجل تهيأتها لأجل الزواج،من مالٍ ونفقة وملابس وآثاث،فعبر عنها بما هو ملازم لها بدلالة قوله:﴿حَتَّى

ص: 117


1- سورة النور:33.
2- سورة النور:33.
3- النهاية في غريب الحديث والأثر،ابن الأثير:3/264. عفف.
4- ظ: شرح النظام،النيسابوري:59،الصرف الواضح،د. عبد الجبار النايلة: 108.

يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾،فيكون ذلك بتقدير: طَوْل النكاح فحذف المضاف،فتكون (نكاحاً) مفعولاً به لفعل الإيجاد،وهو رأي طائفة من العلماء(1).

ومنهم من كان يرى: أن قوله:﴿لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا﴾ بمعنى التمكّن منه،بدلالة نزع الخافض،أي من نكاح حتى يغنيهم الله من فضله(2).

كان اختلاف العلماء في معنى (نكاحاً) إنما مردّه إلى اختلافهم في دلالة فعل الإيجاد (يجدون)، فقد ذكر ابن السكيت(ت244ه-) للفعل (وجد) ثلاثة معانٍ،فنقل عن الفرّاء،أن الوجد بمعنى المقدرة(3)،ونقل عن الأصمعي قوله: (يقال: الحمد لله الذي أوجدني بعد فقر،أي أغناني،والواجد: الغني،وأنشد: الحمد لله الغني الواجد)(4).

وقال أيضاً: (وقد وجدتُ الشيء أجِدُهُ وجداناً)(5).

فالذي ذهب إلى أنّ معنى قوله:﴿لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا﴾ بمعنى المتطلبات من نفقة ومهر وغيرها،فقد جعل من فعل الإيجاد الغنىَ وخلافه الفقر.

أمّا من قال: أنّ المعنى هو عدم التمكّن من الزواج فقد ذهب إلى أنّ معنى فعل الإيجاد هو المقدرة. وهذا مما يدفع دلالة الفعل على وجدان الشيء،لأنّه بعيد وسياق

ص: 118


1- ظ: الجامع لأحكام القرآن،القرطبي:6/531،التبيان،الطوسي: 7/433،مجمع البيان،الطبرسي:4/140،البحر المحيط،أبو حيان:6/551،كنز العرفان،المقداد السيوري:497.
2- ظ: الكشاف،الزمخشري:2/242،كنز العرفان،المقداد السيوري: 497.
3- ظ: اصلاح المنطق،ابن السكيت:86.
4- م.ن:305.
5- ظ: اصلاح المنطق،ابن السكيت:186.

الآية لا يؤيّد ذلك،لأنّ المقام ليس مقام بحثٍ عن شيء ماديٍّ مفقود.

وأرى أنّ دلالة فعلي الإيجاد (الغنى والمقدرة) يجب توفّرهما لدى طالب النكاح وذلك قد تجد رجلاً متمكّناً من الزواج لكنه غير قادر على الإنفاق لفقره،وتجد آخر غنياً لكنه غير متمكّن منه.

إذن حضور الفعل (وجد) هنا جاء ليجمع كلا المعنيين في سياق واسعٍ وهذا هو أسلوب القرآن الكريم المبني على الاتساع،وهي سمته الغالبة فيه استنفاد كل المعاني المرجوة في اللفظ ووضعها في سياقها المناسب.

الآية الثالثة

قوله تعالى:﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا﴾(1).

الدلالة المركزية والمحورية في هذه الآية المباركة هي العدالة في معاملة الزوجات سواء كنَّ من اليتامى أم من غيرهن،وبيان العدد المسموح للزواج بهنَّ،بعد أن كان العرب يتزوّجون ما شاء لهم،فقد ورد أن غيلان بن أمّية عندما أسلم كان تحته عشر نسوة،فأمره النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يختار أربعاً منهنّ ويفارق سائرهن،وذُكِر أيضاً أنّ القيس بن الحارث كان عنده ثمان نسوة حرائر فذكر ذلك للنبي (صلی الله علیه و آله) فأمره أن

ص: 119


1- سورة النساء:3.

يختار أربعاً منهنّ(1).

فتعدّد الزوجات نظام شائع عند العرب وغيرهم من الأقوام كالرومان،حتى عجزت عن محوه القوانين الصارمة،وكان هذا نظام اجتماعي عند قبائل الجرمان كذلك،وكان مباحاً عند المصريين،وقد مارسه الاغريق وأباحته التوراة،وكان اليهود يمارسونه في أوربا في القرون الوسطى،وما زالوا يمارسونه في البلاد الإسلامية(2).

عندما جاء الإسلام أخذ يقنّن هذه المسألة ويضع لها ضوابط تكفل العدالة في ذلك،فناشد المؤمنين بضرورة أن يكونوا هم من يعمل على بسط العدالة والمساواة في الزواج وخاصة عند تعدّد الزوجات.

ربما يعود سبب عدم العدالة إلى أنّ بعض القبائل كانت تنظر للمرأة نظرة بغضٍ لأنّها في نظرهم تجلب العار عند سبيها وأخذها أسيرة،فكان العربي عندما تلد له زوجته بنتاً يئدها لعارها حتى نهت السماء عن ذلك فنزل قوله تعالى:﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ*بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾(3)،وقد يبيت الرجل عند غير أهله بسبب ذلك،وهذا أبو حمزة الضبيّ هجر امرأته وكان يقيل ويبيت عند جيرانٍ له حين ولدت امرأته بنتاً،فمرّ يوماً بخبائها وإذا هي ترقّصها وتقول:

ما لأبي حمزة لا يأتينا $$$ يظلُّ في البيت الذي يلينا

غضبان ألاّ نلد البنينا $$$ تاللهّ ما ذاك في أيدينا

ص: 120


1- ظ: الجامع لأحكام القرآن،القرطبي: 3/20،التفسير الكبير،الفخر الرازي:3/488.
2- ظ: الحياة العربية من الشعر الجاهلي،د. احمد الحوفي:223/224.
3- سورة التكوير:8.

وإنّما نأخذ ما أعطينا $$$ ونحن كالأرض لزارعينا

ننبت ما قد زرعوا فينا

فغدا الشيخ حتى ولج البيت فقبّل رأس امرأته وابنتها(1).

وقد يرجع نظام تعدّد الزوجات في مثل هذا الحال وشيوعه إلى الحروب والى وقوع النساء في الأسر،فيكون الأولاد منها تابعين لمن يأسرها ويلتحقون به ويأخذون نسبه لأنها تكون ملكاً له،فلذلك عُوملت الزوجة بعد وفاة زوجها معاملة التركة(2). ولهذا ولغيره شدّد الإسلام على ضرورة العدل والقسط مع النساء وخاصة اليتيمات منهنّ.

فقوله تعالى:﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾، فالخوف في أصل معناه في اللغة الفزع(3)،وأوردها علماء العربية في الأضداد (قال أبو عبيدة: ومن الأضداد الخوف،يقال: خاف يخافُ خوفاً،من الفزع الذي لا يتيقَّن،وخافَ يخافُ خوفاً إذا أيقن الشيء،وقال جلّ أسمه:﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا﴾(4)أي ايقنتم،وقوله:﴿إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾(5)، أي يوقنا بذلك)(6)، وإنّما مرجع ذلك إلى كون الفعل "خاف" يتعدى إلى مفعوله مرة ب-(مِنْ) فيكون معناه الفزع الذي لا يتيقّن،ويتعدّى ب-(على) فيكون بمعنى التيقّن في وقوع الفزع،فلما أطلق الفعل في هذه الآية احتمل الأمرين،لذا جعل الله تعالى تقدير ذلك لأولي الأمر

ص: 121


1- ظ: البيان والتبيين،الجاحظ:1/186.
2- ظ: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام،د. جواد علي: 5/533.
3- ظ: لسان العرب،ابن منظور: 4/248،مادة(خوف).
4- سورة النساء:3.
5- سورة البقرة:229.
6- الأضداد،أبو الطيب اللغوي:1/236،ظ: مجاز القرآن،أبو عبيدة:1/116.

بعدما عرفوا حدوده في عدم السطو على أموال اليتامى من النساء والاستحواذ عليها في إجبارهن على النكاح بهم لأجل ذلك.

فاطلاق الخوف بعدم استعمال حرف الجر المناسب قد أوقعَ المعنيَيْن لأجل أخذ الحيطة والحذر والتدبّر في نكاح يتامى النساء،فأرشدهم تعالى في مثل هذه الحالة إلى نكاح ما كانوا هم على يقين من عدم الوقوع في الجور اتجاه النساء ووافق هذا التعدّد في احتمالات الدلالة في (خفتم) انه تعالى أردفها ب-(ألاّ تقسطوا) والإقساط هو العدل وزيادة في معنى آخر،لأنَّ العدل ضد الجور،والزيادة تتمثل بالقسمة التي يقسها الذي يقدرها أو من اختصّ بها في أمرٍ ما،لأنّ الإقساط هو تمثيل لما يقدّره المقسط،ومصداق ذلك ما نقله ابن منظور إذ يقول:(وفي الحديث:أنّ الله لا ينام ولا ينبغي ولا ينبغي له أن ينام،يخفض القسط ويرفعه،القسط: الميزان،سمي به من القسط العدل،أراد أن الله يخفض ويرفع ميزان أعمال العباد المرتفعة إليه وأرزاقهم النازلة من عنده كما يرفع الوزّان يده ويخفضها عند الوزن،وهو تمثيل لما يقدّره الله وينزله)(1)، فجعل من المقسط هو الذي يضع الموازين ويقدّرها كما يرفع الوزّان يده ويخفضها عند الوزن ليحكم بالعدل،لذا فأنّ دلالة القسط هي العدل متصّلة بمن يقدّر ذلك العدل،فهي دعوة لأولياء الأمر في اليتامى أن يكونوا عادلين في ولايتهم، وهم الذين يقدرون ذلك لأنهم أعرف بأمر اليتامى من غيرهم فضلاً على كونهم محاسبين أمام الله تعالى يوم القيامة، زيادة في دلالة الخوف فوسّعَه تعالى بعد تقييد فعل الخوف بحرف الجر،فأطلق المعنى لتوسعة معنى الإقساط.

ص: 122


1- لسان العرب،ابن منظور:11/159،مادة(قسط).

وقد ذهب غير واحد إلى أنّ هذه الجملة القرآنية لا تعنىَ بنكاح اليتامى من نساء المسلمين وإنما تختص بولايتهم والخوف من عدم العدل فيهم(1)،وهذا بعيد بدلالة قوله تعالى:﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ...﴾(2)،فضلاً على أن محور حديث الآية النكاح أصلاً،وعليه فانّ تقدير (في نكاح اليتامى) أو (في مهورهن وفي النفقة عليهن) يكون هو الأوْلى ويعضده ما جاء من سبب النزول إذ (روي عن عائشة إنّها قالت: نزلت في اليتيمة التي تكون في حجر وليّها فيرغب في مالها وجمالها،ويريد أن ينكحها بدون صداق مثلها فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لها صداق مثلها وأُمِروا أن ينكحوا ما طاب مما سواهن من النساء إلى أربع)(3)،وسقوط غير هذا مما روي عن سبب النزول.

وقوله سبحانه:﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ شرط،وجوابه "فانكحوا" ،ويعِضّده ما ذكرناه في سبب النزول، وهو المروي عن عائشة والإمام محمد الباقر (صلی الله علیه و آله) (4)،ومما يلفت النظر فيه أن فعل الشرط جاء ماضياً،وذهب النحاة إلى أنّ معناه الاستقبال وفي ذلك إنزال غير المتيقّن،وغير الواقع منزلة الواقع(5)،وهذا يدلّل أن الخوف من عدم العدل واقع لا محالة بدلالة الزمن الماضي الذي ورد فيه فعل الخوف وعدم الإقساط،جاء عن ابن جني:(وكذلك قولهم: إن قمتَ قمت،فيجيء بلفظ الماضي والمعنى "معنىَ المضارع"، وذلك انه أراد الاحتياط للمعنى،فجاء بمعنى المضارع المشكوك في وقوعه بلفظ

ص: 123


1- ظ: معاني القرآن:،الفراء:1/53،التفسير الكبير،الفخر الرازي:3/285.
2- سورة النساء:3.
3- التبيان،الطوسي: 3/103،ظ: الجامع لأحكام القرآن،القرطبي:3/15،التفسير الكبير،الفخر الرازي:3/485.
4- ظ: التبيان،الطوسي:3/104.
5- ظ: معاني النحو،د. فاضل السامرائي:4/47.

"الماضي المقطوع"،حتى كأنَّ هذا قد وقع واستقرّ لا أنّه متوقّع مترقّب،وهذا تفسير أبي عليّ عن أبي بكر وما أحسنه)(1). وهذا يدلّل على وقوع عدم العدل مع الزوجات في كلّ الأحوال،ولذلك نجد تكرار فعل عدم العدل والخوف منه أكثر من مرة في هذه الآية،فذكر (إلا تقسطوا،إلا تعدلوا،إلا تعولوا) والأخيرة جاءت بمعنى "إلا تعدلوا" على أصحّ الأقوال.

وقوله تعالى:﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾،هو جواب للشرط (وان خفتم)، وقد جاء بصيغة الأمر في (فانكحوا) إلاّ أنّه لا يدلّ على وجوب النكاح في حال بدلالة التخيير بين الحرائر ومِلك اليمين في ذيل الآية المباركة،وقوله تعالى:﴿ مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾(2) جاء على سبيل الإطلاق في العدد ثمّ قيّد هذا الإطلاق باثنين وثلاثة وأربعة على البدلية ، ولو قيل لماذا استعمل (ما) وهي لغير العاقل بدلاّ من (مِن) للعاقل،والجواب أن الموضع هنا موضع إبهام فيليق به استعمال "ما" فلا يقصد فيه التفصيل والتخصيص وإنما قصد الصفات والأجناس فحَسُنَ لذلك استعمالها دون (من)(3)، أي جنس النساء المستطابة من الرجال في الأمور الزوجية وبناء الأسرة السليمة،لذا فأنّ هذا يأخذ بنا إلى القول بعدم إجبار المرأة على الزواج إلاّ بمن ترضىَ به وان لا تكون دون سن البلوغ،ولعلّ لفظة (طاب) توحي بذلك،إذ إنّ دلالتها تعني النضج،فالبنت التي هي في سن دون سن البلوغ لا يمكن أن يأتي ثمارها من حيث مواضع الزوجية والإنجاب وغيرها.

ص: 124


1- الخصائص،ابن جني:3/107،ظ: معاني النحو،د. فاضل السامرائي:4/47-48.
2- سورة النساء:3.
3- ظ: حقائق التأويل،الشريف الرضي:306.

وربما يعني ب-(ما طاب لكم) من الزواج المحلل،وقد حدّد تعالى النساء التي يحرم الزواج بهنّ.

وقد تعدّدت المناكح في العصر الجاهلي واختلط في بعضها النسب بسبب عدم وجود الضوابط التي تحدّدها. فمن المناكح الجاهلية التي حرّمها الإسلام ما يدعى بزواج المقت،وهو أنّ يتزوّج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها،وكان يفعل بالجاهلية وحرّمه الإسلام(1).

ومنها أيضاً ما يسمى بزواج الضيزن،وهو من مناكح المجوس،فيتزوّج الرجل منهم امرأة أبيه وامرأة ابنه،وقد تناوب ثلاثة من بني قيس بن ثعلبة على امرأة أبيهم فعيّرهم بذلك أوس بن حجر إذ يقول(2):

والفارسيةُ فيهم غيرُ منكرةٍ $$$ فكُلُّهم لأبيه ضَيْزَنٌ سلِفُ

ومن المناكح المحرّمة في الإسلام أيضا وكانت معروفة بالجاهلية زواج الاستبضاع(وكان الرجل منهم يقول لأَمَتِهِ أو امرأته إرسلي إلىّ فلان فاستبضعي منه،ويعتزلها فلا يمسّها حتى يتبيّن حملها من ذلك الرجل،وإنّما يُفعل ذلك رغبة في نجابة الولد)(3). وغيرها من المناكح المحرّمة من نحو زواج البدل والشغار ونكاح الضعينة في حين حلّل الإسلام الطيب منها لصلاح المجتمع وطهارة المولد.

فباتساع دلالة (طاب) توسّعت معها الدلالة في هذه الآية فلم يشمل الطيب من

ص: 125


1- ظ: لسان العرب،ابن منظور: 13/153،مادة(مقت)،النهاية،ابن الأثير:4/346،مادة(مقت).
2- ظ: لسان العرب،ابن منظور:13/153،مادة(مقت)،النهاية،ابن الأثير:4/346،مادة(مقت).
3- ظ: لسان العرب،ابن منظور: 1/426،مادة(بضع)،النهاية،ابن الأثير:1/133،مادة(بضع)،المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام،د.جواد علي:5/538-539.

النساء بل شمل أيضاً الطيّب من الزواج المؤدّي إلى طهارة الولد لأجل طهارة المجتمع من الرجس،فالاحتمالان ممكنان في هذا النص المبارك.

ثم حدّد عدد الزوجات بالاثنين أو بالثلاثة أو بالأربعة على أنّ اجتماعهن عند زوج واحد يكون بشرط العدالة بينهنَّ من قِبَلِهِ،وإلا فالنكاح بواحدة أو ما ملكت يمين الرجل من الإماء.

وقال تعالى:﴿ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾،فجاء بها معدولة عن اثنين وثلاثة وأربعة،ولم يأتِ بها على أصلها،ولعلّ ذلك راجع إلى أنّ الاسم المعدول لابدّ وان تكون له زيادة في معنى،غير فائدة الاسم المعدول عنه،وإلاّ يجيء به،فقد تكون الفائدة في حصر العدد على ما قرّر سبحانه باثنين وثلاثة وأربعة على سبيل التخيير بينها،ولو أراد التخير لأستعمل (أو) بدلاً من (الواو) بل على سبيل التحديد والحصر والأذن بها وعدم الزيادة على هذه الأعداد،إذ إنّ دلالة (الواو) هنا ليست للجمع - على رأي أكثر المفسرين(1). ولو أراد بها الجمع لدلَّ على إباحة تسع وهو مخالف لإجماع الأَمَة،بدلالة أمر النبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) لغيلان بن أمية عندما اسلم وتحته عشرة نسوة أن يختار منهنّ أربع حرائر،وقال الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ):(لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر)(2).

قوله سبحانه:﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، أي فان خفتم الجور في

ص: 126


1- مجمع البيان،الطبرسي:م2/6.
2- ظ:م.ن:م2/5،البحر المحيط،أبو حيان: 3/228،التفسير الكبير،الفخر الرازي:3/488، الجامع لأحكام القرآن،القرطبي: 3/20،إملاء ما منّ به الرحمن،العكبري: 1/166. كنز العرفان،السيوري:499.

نكاح النساء. وجاء بلفظة (ألا تعدلوا) لأنّه لمطلق عدم العدل في النساء،ولكن عندما خصّص الخوف بعدم العدل في يتامى النساء جاء بلفظة (الا تقسطوا) لزيادة في معنى كما بيّنا ذلك. وجملة(وإن خفتم إلا تعدلوا) جملة فعل الشرط،وجوابها (فواحدة أو ما ملكت أيمانكم)، والفاء فيها رابطة،وتقدير فعل الشرط(فانكحوا واحدة أو...) وفي قراءة الأعرج جاءت(واحدة) بالرفع على تقدير (فواحدة تقنع) فهو ابتداء محذوف الخبر، أو يكون خبر لمبتدأ محذوف وتقديره فهي واحدة(1).،والأول هو الأوْلى لأنّ مدار حديث الآية على النكاح،ولأنّه متعلّق بقوله سبحانه:﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ....﴾الآية،فالمسوّغ أن يكون فعل النكاح هو الأقرب لذلك،ثم أنّ تقدير فعل أفضل من تقدير الاسم في هذا المقام،وذلك أنّ الجملة الفعليّة جملة دالة على التغيرّ،والجملة الاسمية دالة على الثبات،وهذا التغيّر ألصق بالمعنى العام للآية،وذلك أن حال الرجل قد يختلف في المستقبل عمّا هو عليه اليوم من القدرة على الزواج من ثانية أو ثالثة ومن العَدْل بين نسائه،فيكون تقدير الفعل أفضل من تقدير الاسم.

وقوله تعالى:﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا﴾ أي ذلك أقرب إلى أن لا تجوروا وتميلوا عن الحق،لأنّ أصل العول في اللغة(الخروج عن الحد والمجاوزة للقدر)(2)،فالجور هو خروج عن حد العدل،وهو رأي أكثر العلماء(3)،وذهب الشافعي إلى أنّ معناه ألا يكثر مَنْ

ص: 127


1- ظ: مشكل إعراب القرآن،مكي بن أبي طالب:113،البيان في إعراب غريب القرآن ، الانباري :1/342 ، إعراب القرآن،النحاس:171.
2- حقائق التأويل،الشريف الرضي:301.
3- ظ: وضح البرهان،النيسابوري:1/274،مجاز القرآن،أبو عبيدة:1/117،معاني القرآن،الفراء:1/255،التفسير الكبير،الفخر الرازي:3/489،الجامع لأحكام القرآن،القرطبي: 3/23.

تعولون(1)،وخالفه الشريف الرضي فقال:(هذا خطأ بيِّن لأنّ الأمر لو كان على ما ظنّه لكان وجه الكلام "إلا تعدلوا" أي تكثِروا عيالكم مثل،أمشى الرجلُ،إذا كثُرت ماشيته،وأثرى إذا كَثُر ماله فصار كالثرىَ كثرة،وكذلك يقال: أعال الرجلُ إعالة،إذا كثر عياله،ويقال: علتُ من الفقر عيلةً. فإذا كان أراد هذا الوجه أيضاً فهو خطأ،لأنّه كان يجب أن يقول: "ذلك أدنى إلا تعولوا")(2). ويؤيّد ما ذهب إليه الشريف الرضي أن "تعولوا" بمعنى"تميلوا" هي لغة لجرهم(3)،فقد نقل السيوطي(ت911ه-) عن ابن عباس في سؤالات نافع بن الأزرق انه (قال: إخبرني عن قوله تعالى:﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا﴾ قال: أجدر ألاّ تميلوا. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم،أمّا سمعتَ قول الشاعر:

إنّا تبعنا رسول الله واطّرحوا $$$ قول النبيّ وعالوا في الموازين)(4)

ونقل الفخر الرازي أنّ (هذا هو المختار عند أكثر المفسّرين ولأنشد لأبي طالب:

بميزانِ قسطٍ لا يغلّ شعيرة $$$ ووزان صدقٍ وزنه غير عائل)(5)

ووافق الشافعيَ أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي (ت185ه-) وأبو عمر الدوري وابن الأعرابي وذكر الثعلبي أنها لغة لحمير(6).

ولعل عدم العدل هو الأوْلى لأنّ الدلالة المركزية للآية تدور حول الخوف من عدم

ص: 128


1- ظ: حقائق التأويل،الشريف الرضيّ:294.
2- حقائق التأويل،الشريف الرضي:294-295.
3- ظ: الإتقان،السيوطي:1/297.
4- ظ: الإتقان،السيوطي:1/48.
5- ظ: التفسير الكبير،الفخر الرازي:3/489.
6- ظ: الجامع الكبير لأحكام القرآن،القرطبي:3/24.

العدل في حال تعدّد الزوجات،ثمّ أن تقدير(ذلك أدنىَ ألاّ يكثر عيالهم) غير مستساغة في اللغة إذ لا يتناسب الدنو والقرب مع كثرة العيال،في حين هو ألصق بدلالة قوله تعالى:﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعْدلُوا﴾.

ونستنتج من ذلك أن عدم العدل في معاملة الزوجة الواحدة أو الزوجات المتعددات لدى الرجل واقعة لا محالة،والظاهر أن ذلك سجيّة في نفس الرجل في الجور ولو بدرجات متفاوتة اتجاهَهُنَّ سواء في حالة التعدّد أم في حالة الإفراد،وهذا مما يوحي إلى أنّ تعدّد الزوجات صعب الوقوع مع اشتراط العدل،لأنّ الزواج من الواحدة يقع فيه عدم العدل بدلالة قوله تعالى:﴿أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا﴾ أي ذلك أقرب إلى عدم الجور،ويعني أن الجور واقع حتى مع الواحدة، قال تعالى:﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾(1)،فجاء ب-(لن) الدلالة على تأييد عدم الاستطاعة في العدل بينهم.

إذن الأولى ترك التعدّد في الزوجات،بيد أنّه شرّع ذلك لأسباب هي قائمة إلى يومنا هذا،ولدفع ما هو أشرّ،والقبول بما هو أقل ضرراً منه لأن فيه ضرورة من ضرورات الحياة،يقول عباس محمود والعقاد: (فليس النص على إباحة تعدّد الزوجات لأنه واجب على الرجل،أو مستحسن أو مطلوب،وإنّما النص فيه لاحتمال ضرورته في حالة من الحالات،فيكفي أن تدعو إليه الضرورة في حالة بين ألف حالة لتقضي الشريعة بما يتبع في هذه الحالة ولا تتركها غفلاً من النصّ الصريح)(2)، لأن شريعة الله في الناس إنّما بُنيت على حاجات الناس وتدبير أمورهم وصلاح شأنهم في الحياة.

ص: 129


1- سورة النساء:129.
2- المرأة في القرآن،عباس محمود العقاد:69.

الآيات الرابعة والخامسة والسادسة

قوله تعالى:﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ﴾(1)

ابتدأ سورة المؤمنون المباركة بذكر المؤمنين المفلحين،فوصفت حالهم من الخشوع في الصلاة، والأعراض عن اللغو وإخراج الزكاة من أموالهم وغيرها من الصفات الأخرى التي مدحهم بها الله تعالى وبيّن حالهم وصلاحهم،فمن ذلك قوله سبحانه تعالى:﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾،فالذين اسم موصول نعت للمؤمنين،وما بعده جملة من المبتدأ والخبر صلة للموصول(2). لا محل لها من الإعراب،وعُدِّي الفعل في (حافظون) إلى مفعولة باللام فقال:(لفروجهم)،وهذا للدلالة على شدة الحفظ للفروج،وذلك أنَّ الفعل المتعديّ لفعله بحرف جر يكون أكثر تمكّناً مما لو جاء متعدياً بنفسه،إذ إنّ التعدّي بدون حرف جر إنما جاء في العربية قصد الخفة والإيجاز،وهذا شان العربية في تشبّثها بالإيجاز(3)،فلو قال:(هم حافظون فروجَهم) لكان تشبث الفعل (حفظ) بمفعوله أقلّ تمكّناً من الأصل،فضلاً على ذلك تقديم المفعول به على الفاعل يزيد من أهمية الحفظ. فصفة حفظ الفروج للمؤمنين الممدوحين بها في هذه الآية المباركة إنما حصل

ص: 130


1- سورة المؤمنون:5-7.
2- ظ: إعراب القرآن،النحاس:632.
3- ظ: الفعل زمانه وأبنيته،د. إبراهيم السامرائي:83، الجهود اللغوية والنحوية عند ابن معصوم المدني،د. عادل عباس النصراوي:314.

من طريق تقديم ما حقّهُ التأخير ومن تعدّي الفعل بحرف الجر إلى مفعوله،وهذا إنما يوحي إلى اهتمام الشارع المقدّس بحفظ أعراض الناس وشرفهم من الدنس والانحراف،عن الطريق السليم.

فضلاً على ذلك أراد الله سبحانه أن يقرّر أنَّ أساس العفة إنما يكون متعلقاً بالرجال قبل النساء، لذا وجهت السنة النبوية الشريفة إلى ذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله ) : (عفّوا نفسكُم تعفُّ نساؤكم) ، فجعل ابتداء العفّة بالرجل ثم الزوجة.

علاوة على ذلك أن مجيء اللام في (لفروجهم) كان للاستحقاق والمِلك قال سيبويه(ت185ه-):(لام الإضافة: ومعناها المِلك واستحقاق الشيء،إلا ترى أنّك تقول: الكلام لك والعبد لك ،فيكون في معنى عبدك. وهو أخٌ له فيصير نحو هو أخوك فيكون مستحقّاً لهذا،كما يكون مستحقّاً لما يملك)(1)، ولم يذكر غير ذلك.

وذهب الزمخشري وغيره إلى إفادة الاختصاص فقال:( واللام للاختصاص، كقولك: المال لزيد،والسرج للدابة)(2)، فقوله:(المال لزيد) أفاد ملكية المال لزيد لا لغيره،فيكون قد أرجع المِلك للاختصاص،وأفادت عبارته(السرج للدابة) الاختصاص لا غير،وهذا مذهب الرضّي الاسترابادي أيضاً(3).

وأما ما ذهب إليه الفراء من أنَّ (اللام) جاء بمعنى(على) بتقدير (على فروجهم

ص: 131


1- الكتاب،سيبويه:4/217.
2- المفصل،الزمخشري:286.
3- ظ:شرح الرضي على الكافية، الرضي الاستربادي:4/284.

يحافظون)(1). يقتضي أنَّ يكون المعنى دالاً على شدّة وضرر نتيجة الحفظ،لأنَّ من شأن (على) أنَّ ترمز إلى الضرر والشدة فضلاً على الاستعلاء(2).

وهذا غير مراد الآية وأنّه لا يتفق مع دلالة الحفظ،بل سيؤول المعنى في الآخر عدمه،لذا فأنّ مجيء(اللام) على أصل معناه أوْلى وأصحّ لأنّ أصل معنى الحفظ يتفق معه تماماً.

قوله تعالى:﴿ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾(3).

بعد أنَّ بيّن الله تعالى سبيل حفظ سوآت المؤمنين على سبيل الإطلاق قيّده بعد ذلك بما يصدق عليها كونها زوجة أو سريّة على سبيل الإباحة التخييرية باستعمال (أو) المفيدة للتخيير بينهما فقال مستثنياً:﴿ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾، فادخل الإمامية فيها زواح المتعة،لأن المتمتّع بها زوجة،وان خالفت الزوجات في بعض الأحكام مع كون حكم الزوجات في نفسه مختلف(4).،إذ إنَّ زواج المتعة أو الزواج المنقطع كالزواج الدائمي؛ لأنّه لا يكون إلا بعقد ومهر. فللمتمتّع بها لها تمام المهر بالعقد إلا أنّها لا ترث،ولا يجب لها النفقة على الزوج وغيرها من الأمور الأخرى التي يمكن أنَّ تجدها في مضانها،فيما أخرجَ المتعةَ أغلبُ العلماء من غير الإمامية من هذه الآية عندما عدّوه نكاحاً محرَّماً. لأنّه عندهم لا تصدق عليه الزوجية بسبب من سقوط النفقة

ص: 132


1- ظ: لسان العرب،ابن منظور: 10/209،مادة(فرج).
2- ظ: من أسرار حروف الجر في القرآن الكريم،د. محمد أمين الخضري:240،الجهود اللغوية والنحوية عند ابن معصوم المدني،د. عادل عباس النصراوي:376.
3- سورة المؤمنون:6.
4- ظ:مسالك الأفهام، الكاظمي:694.

والميراث(1)،وغيرها،غير أنَّ هذه الأحكام تسقط في بعض الحالات،فالنفقة تسقط مع النشوز،والميراث يسقط مع الرّق والقتل والكفر. وغيرها. فقد انتفت هذه الأمور مع بقاء الزوجية وصدقها.

لكن الزمخشري لم يعد زواج المتعة محرّماً،لأنّ المنكوحة نكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صحَّ النكاح(2)،والظاهر أنّه أخذ بصدق الزوجية مع سقوط بعض هذه الأمور للأسباب المذكورة قبل قليل واقتضتها الضرورة.

أمّا دلالة الاستثناء فهي صرف الزوجات والسرايا عن جنس النساء التي ينبغي على الزوج أن يحفظ سوءته منهنّ،لأنّ الاستثناء صرف لفظ المستثنى منه وهُنَّ الزوجات عن عمومه وهُنّ عامة النساء،بمعنى تخصيص صفة عامة بذكر ما يدلّ على تخصيص عمومها وشمولها بواسطة أداة الاستثناء(3)،وهذا التخصيص إنّما يكون بنفي صفة عامة عن المخصوصين بالاستثناء،فيكون معنى (إلاّ) قريب في هذه الحالة من معنى النفي،ويبعد أنَّ تتحمل معنىَ الشرط،وعليه فأنّ جملة المستثنى هي جزء من جملة المستثنى منه،وهذا مّما يحملنا على القول بتعلّق ما بعد (إلاّ) ب-(حافظون)، لا كما ذهب إليه الزمخشري في احد رأييه من تعلّق (على) بمحذوف يدلّ عليه(غير ملومين)،بمعنى كأنّه قيل: يلامون إلاّ على أزواجهم(4)،بل إنّ (على) متعلقٌ أصلاً بت(يحافظون)، إذ إنّ الفعل(حفظ) يمكن أن يتعدّى إلى مفعوله ب-(على) على قلّة،قال ابن منظور: (وقد

ص: 133


1- ظ:الجامع لأحكام القرآن، القرطبي:6/417، التفسير الكبير، الفخر الرازي:4/41.
2- ظ: الكشاف، الزمخشري:3/180.
3- ظ: جامع الدروس العربية،الغلاييني:3/124.
4- ظ: الكشاف،الزمخشري:3/180.

حفظ على خلقه وعباده ما يعملون من خيرٍ أو شر)(1)،إذ نلحظ في (حفظ) زيادة من دلالة سطوة الحفظ باستعمال(على) المفيدة للعلو والارتفاع والمتمثّلة بكون الحفظ من الله تعالى على عباده. وهذا مّما يدلّنا إلى أنَّ استعمال(على) في الآية المباركة لم يكن إلا بتقدير قوامة الرجال على النساء،وبمالهم من درجة عليهنّ قال تعالى:﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾(2).

وقال تعالى أيضا:﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(3). فواءم بين سطوة حفظ سوآت الرجال إلا على زوجاتهم وسراريهم،وبين قوامتهم وازديادهم عليهنَّ درجة من خلال تعدّي كل أفعال الحفظ والقوامة وتقدير الازدياد ب-(على).

وأما (ما) في قوله تعالى:﴿ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾،فهي دلالة على العموم،وربما كان ذلك بسبب إباحة تعدد الزواج بالإماء من غير عدد محدود(4). وهذا يتفق مع كونها من صيغ العموم.

وقوله تعالى:﴿فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾،على ما فعلوه من حفظ سوآتهم واقتصار نفيه على أزواجهم وسراريهم. والجملة اسمية في موضع نصب حال تصف دوام كينونة المؤمنين،ومن لا يتّصف بهذا فقد خرج عن هذه الكينونة. لذا قال تعالى:﴿ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ

ص: 134


1- لسان العرب،ابن منظور:3/242،مادة(حفظ).
2- سورة النساء:34.
3- سورة البقرة: 228.
4- لمعرفة المزيد راجع توجيه قوله تعالى:( فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ(.

ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ﴾(1)،ومنها نستدل على دخول زواج المتعة في الاستثناء السابق(2). وذلك لو أريد خلافها لقال:(فمن ابتغى غير ذلك فأولئك هم العادون) باستعمال (غير) بدلاً من (وراء) لأنّ غير تشير إلى وجود نظير من زواج،لكنه مختلف في شروطه وأحكامه،على حين أنَّ استعمال (وراء) يشير إلى حالة هي دون ما يصدق عليه صفة الزوجية لأنّ (وراء) تعني انحداراً في الدرجة وتخلّفاً في هذه الآية،وربّما يشير إلى ما يمارس من اللواط والخضخضة،ويعضده ما نقله صاحب الجواهر(في خير أحمد بن عيش المروي عن نوادر ولده،سأل الصادق (عليه السلام ) عن الخضخضة،فقال: إثم عظيم قد نهى الله عنه في كتابه،وفاعله كناكح نفسه،ولو علمتَ بمن يفعله ما أكلتَ معه،فقال السائل: بيّن لي يا ابن رسولِ الله فيه،فقال:﴿فمن ابتغىَ وراء ذلك﴾... الآية(3)، ولذلك وصِفَ من يعمل هذه الرذائل بأنهم عادون.

ص: 135


1- سورة المؤمنون:7.
2- وللإطلاع أكثر على مشروعية نكاح المتعة راجع: آلاء الرحمن،البلاغي:2/810-814،الزواج المؤقت،السيد محمد تقي الحكيم،الزواج المؤقت في شريعة سيدنا محمد (صلی الله علیه و آله) أيوب الحائري،شبهات وردود حول الزواج المؤقت،الأستاذ عادل كاظم عبد الله.
3- آيات الأحكام في جواهر الكلام،محمد حسن النجفي:5/126.

الآية السابعة

قوله تعالى:﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾(1).

في هذه الآية المباركة عدّة مضامين أنزلها تعالى لحلّ بعض الإشكالات التي تعرّض لها المسلمون في مسألة زواج من وَقَعْنَ في الأسر من ذوات الأزواج علاوة على زواج المتعة،إذ اختلف علماء التفسير في شرعيته،فمنهم من قال بحليته،ونُقِلَ عن آخرين حرمتَهُ،وأنّ الآية نزلت كما نقل عن أبي سعيد الخدري أن (بعث رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) يوم حنين جيشاً إلى أوطاس فلقوا العدو فأصابوا سبايا لهنَّ أزواج من المشركين،فكرهوا وطأهُنَّ وتأَثَّموا من ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية)(2).

ابتدأ قوله تعالى:﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ﴾،وبالعطف على أمهاتكم في قوله تعالى:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾(3)،بمعنى حُرِّمت عليكم المحصنات من النساء،والإحصان المنع،قال ابن منظور:(حَصُنَ المكان يحصُنُ حصانةً... والحِصنُ كلُّ موضع حصين لا يوصل إلى ما في جوفه... وتحصَّنّ إذا دخل الحصن واحتمى به. ودرع حصين

ص: 136


1- سورة النساء:24.
2- الكشف والبيان في تفسير القرآن،الثعلبي:2/263،لباب النقول في أسباب النزول،السيوطي:55-56.
3- سورة النساء:23.

وحصينة:محكمة)(1). فالمحصنات الممنوعات من غير ما شُرِّعنَ لهم بالزواج واللفظ اسم مفعول من الفعل المبنيّ للمجهول (يُحصن) على زنة(يُفعَل) للدلالة على ما وقع عليه الفعل،وهو في الحقيقة وصفٌ للمفعول أي للمحصنات. لأنّه يدلُّ على معنى مجرّد ليس بدائم،ويصف صاحبه الذي وقع عليه هذا المعنى،فالمحصنات جمع مُحْصَن،فهذه الكلمة تدل على المعنى المجرّد (الإحصان) وعلى الذات التي وقع عليها الإحصان وهُنَّ النسوة،وهذا المعنىَ المجرّد يحتمل الأزمان الثلاثة ولذلك فأنّ المعنى سيكون معنى طارئاً لا تدوم كما في اسم الفاعل)(2).

وعليه فأنّ المرأة اليوم هي محصَنة بزوجها،وقد تكون بعد ذلك غير محْصنَة بطلاقها منه أو وفاته،وهي أصلاً قبل الزواج به لم تكُنْ محصنة.

لذلك كان الخطاب عاماً وشاملاً لجميع المحصنات من النساء (ويدخل في ذلك ذات العدّة الرجعية لأنّها في حكم الزوجة ما دامت فيها. ومن ثم وجبت نفقتها وحرّم عليه تزويج أختها ونحو ذلك فيتناولها عموم الآية)(3). وقال:﴿مِنْ النِّسَاءِ﴾ للتبعيض إذ إنّ في النساء من هي محصنة وأخرى غير محصنة،فخصَّ المحصنات بالحرمة دون غيرهنّ،لكنه تعالى استثنى من هؤلاء المحصنات ما وقعَ منهنَّ بالأسر،فأنزل الحكم حال وقوع الأسر لهن،فقال:﴿إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، أي إلا المحصنات الأسيرات من النساء بعد استبراء أرحامهنَّ مما علق من أزواجهنَّ السابقين، ودلالة الزمن على الحال فيها ظاهرة

ص: 137


1- لسان العرب،ابن منظور:3/208،مادة(حصن).
2- ظ: الصرف الواضح،د. عبد الجبار النايلة:165،المدخل إلى علم النحو والصرف،د. عبد العزيز عتيق:87.
3- قلائد الدرر،احمد الجزائري: 3/116.

بسبب من عدم وجود قرينة دالة على زمن معيّن،وفي الآية لا نلمح وجود قرينة دافعة لزمن الحال.

ولعلّ دلالة الزمن على الحال تشير إلى أهمية حلّ مثل هذه الإشكالات على الفور ودون تأخّر لئلا يقع بعضهم في براثن الرذيلة أو السقوط في هاوية الزنا فضلاً على حفظ الأنساب لمن سيولد بعد حين من وقوع النساء المحصنات في الأسر،وفيه حَلٌّ لمعضل قد وقع،ونلمح في الآية أيضاً شيئاً من تنظيم شؤون الأسرى وحفظ حقوقهم،وهي بادرة لم تكن معهودة في العالم قبل نزول هذه الآية المباركة،فجعل ذلك فرضاً على المسلمين بقوله تعالى:﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾،أي جعلنا ذلك التحريم نصّاً مفروضاً عليكم إلى قيام الساعة،فهو من باب الواجب المقطوع بدلالته على ذلك ولا يحتمل التغيير بدلالة مجيئه بالصيغة الاسمية الملازمة للدوام. ولو أرادها على سبيل التغيير والحدوث لذكر الفعل للتدليل على ما سيقع في المستقبل بل جعله قانوناً عاماً وسائراً لكل الناس على سبيل الدوام والثبوت.

ومما يزيد من دلالته على القطع والدوام إضافة(كتاب) إلى لفظ الجلالة (الله) أي إضافة المفعول المفعول(المصدر) إلى فاعله لتأكيد قطيعته وثبوته ثم أردافه ب- (عليكم)المقتضية للإلزام.

ذهب الكوفيون إلى أنَّ (كتابَ) منصوب على الإغراء ب-(عليكم) بمعنى "الزموا كتاب الله"(1). وهو عند البصريين بعيد،لأنّ "عليكم" عامل ضعيف فليس له في المتقدّم أي (كتابَ الله) تصرّف،ولو كان النص "عليكم كتاب الله" لكان نصبه على الإغراء

ص: 138


1- ظ: مشكل اعراب القرآن،مكي بن أبي طالب:117،إملاء ما مّنَّ به الرحمن،العكبري:1/175.

أحسن(1).

بيد أنَّ تقديم "عليكم" يعني تخصيص هذا الكتاب المفروض على المسلمين خاصة،لكن الظاهر أنّه تعالى أراد أنَّ يجعله عاماً لكل الناس فأطلقه بتأخير "عليكم" ليكون أكثر تعميماً على سبيل الاتساع والظهور.

ثم قال تعالى:﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾،فبعد ذكر المحرمات في الزواج بسبب النسب والمصاهرة والرضاع وغيرها ذكر ما أُحِلَّ للرجل من سوى ذلك في الزواج بهنَّ تشريعاً جديداً،وابتغاء ذلك بالأموال،أي أن يكون مقابل ذلك أجراً من المال الحلال إحصاناً لا سفاحاً.

إذن كان ذلك نصاً صريحاً بالتحليل يقابله نصٌّ صريحٌ في التحريم. بقوله تعالى:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ...﴾الآية،وجاء بالفعل (أُحِلَّ) مبنياً للمجهول،وهي قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم عطفاً على قوله:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾ والباقون بالبناء للمعلوم عطفاً على (كتابَ الله) يعني: كَتَبَ الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحَلّ لكم ما وراءها وهو مذهب الفخر الرازي(2).

غير أنَّ مجيئه للمجهول هو الأوْلى وذلك أنّه جيء ب-(ما) نائباً عن الفاعل لدلالة الاهتمام بأمر المحلّلات من النساء و لمعلومية الفاعل المحلّل وهو الله تعالى فلم يذكر في الكلام هنا للعلم به،وكذلك للإيجاز.

ص: 139


1- ظ: مشكل اعراب القرآن،مكي بن أبي طالب:117، إملاء ما مّنَّ به الرحمن،العكبري:1/175.
2- ظ: التفسير الكبير،الفخر الرازي:4/35،ظ: البيان في إعراب غريب القرآن،ابن الانباري:1/248.

ثم أنَّ تقديم المفعول به ليكون نائباً عن الفاعل لشدة الاهتمام به،ويشير إلى وجود دافع خارجي مهتم بها،فمثلاً(ألا تحسّ أنّ ثمة فرقاً بين قوله تعالى:﴿وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ﴾(1) وقوله:(انغاض الماء وانقضى الأمر؟))ففي الأولى تحسَّ كأنّ هناك يدا خفيّة غاصت الماء بخلاف انغاص،وكأنَّ هناك قاضياً قضى الأمر وحسمه،بخلاف "انقضىَ الأمر" فكأنّه تصرَّم من نفسِهِ)(2).وكذا الحال في (أُحِلَّ) المبني للمجهول تُشْعر القارئ بأنَّ وراء هذا التحليل أمراً،كان محل ابتلاء الناس بعد اختلاط الأنساب بسبب عدم وجود ضوابط تحكم عملية الزواج فأحكمها الله تعالى بأمره هذا،لكن لو جيء به على البناء للمعلوم لأشعرنا إنما وقع ذلك من تلقاء ذاته،وهذا مما لا يكون بعد أن تعوّدت بعض القبائل العربية على زيجات محرّمة وهي عندهم بحكم الحلال،فاقتلاع مثل هذا الأمر سوف لا يكون من تلقاء نفسه وإنما يكون بدفع خارجي يقوى على تغيير ما تعوّدت عليه الناس آنذاك.

ثم قال تعالى:﴿أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ فجعل ابتغاء الزوجة بالمال قصد الإحصان،وفي "الأموال" دلالة على فرضِ المهر المفضي إلى الإحصان وعدم الزنا بالسفاح،أي جعل المهر من شروط الصحة في ابتغاء الزوجة، (وان تبتغوا) مصدر في موضعه وجهان النصب والرفع(3)،فالنصب من وجهين،أحدهما: أن يكون منصوباً على البدل من (ما) في حال كونها مفعولاً به بدلالة مجيء(أحِلّ لكم) على البناء للمعلوم.

ص: 140


1- سورة هود:44.
2- معاني النحو،د.فاضل السامرائي:2/72.
3- ظ: البيان في إعراب غريب القرآن،ابن الانباري:1/248.

الثاني: أن يكون منصوباً لأنه مفعول به تقديره "وأحلّ لكم ما وراء ذلكم لأن تبتغوا بأموالكم" فلما حُذِفَ اللام اتصل الفعل فوجب أن يكون في موضع النصب أمّا الرفع فهو على البدل من "ما" إذا كانت في موضع رفع على أنّها تكون نائباً عن الفاعل للفعل (أُحِلَّ) المبني للمجهول.

في حين ذهب أبو حيان الأندلسي إلى أنَّ (موضع "وان تبتغوا" نُصِبَ على أنّه بدل اشتمال من "ما وراء ذلكم" ويشتمل الابتغاء بالمال، النكاح والشراء)(1).

لكن كون "أن تبتغوا بدلاً من "ما" النائبة عن الفاعل أحسن لما بيّنا من قوة الدلالة بالبناء للمجهول مما هو في البناء للمعلوم.

ثم يقول سبحانه:﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾،وهو نصٌّ صريح على نكاح المتعة،ومتوفرٌ على شروطه من الإيجاب والمهر،فالإيجاب ظاهر في الفعل(استمتع) على وزن(استفعل) الدال على الطلب،أي طلب المتعة والطلب لا يتحقق إلا بموافقة من طُلِبَ منها الاستمتاع. وكذلك المهر إذ جُعِلَ فرضاً واجباً على طالب المتعة. و(ما) ضمير لغير العاقل عُبرِّ به عن الجماع وغيره المفيد في الاستمتاع،والهاء في (بهِ) تعود على (ما) أي فما استمتعتم بالحلال من الجماع وغيره من المنكوحات بعد رضاهنّ آتوُهنَّ أجورهنّ فرضاً واجباً عليكم.

وعُبّر هنا عن المهر بالأجرِ،فالأجر هو الجزاء على عمل،ثم ينقطع بانتهائه،قال ابن منظور: (الأجر الجزاء على العمل،والجمع أجور،والإجارة من أجَرَ يأجِرُ،وهو ما

ص: 141


1- البحر المحيط،أبو حيان:3/302.

أعطيت من أجرٍ في عمل)(1)، لا على سبيل الاستمرار،فالأجر هنا يكون مقيّداً في إجرائه بمدة العمل وينتهي بانتهائه،وقد ورد مصداق ذلك في القرآن الكريم في قصّة النبي شعيب مع النبي موسى عليهما السلام إذ قال تعالى:﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ﴾(2). فاقترن الأجر بالمدة،وهذا مما يُعضّد كون زواج المتعة زواجاً مؤقتاً،فضلاً على ذلك ما أورده الثعلبي في تفسيره عن عبد الله بن عباس وغيره،إذ يقول:(روى داود عن أبي نظرة قال: سألتُ ابن عباس عن المتعة،فقال: أما تقرأ سورة النساء؟ قال: بلى،قال: فما تقرأ: ((فما استمتعتم به منهُنَّ إلى أجلٍ مسمى)) قلتُ: لا أقرها هكذا. قال ابن عباس: والله لهكذا أنزلها الله،ثلاث مرات. وروى عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير انه قرأها: فما استمتعتم به منهنّ إلى أجلٍ مسمّى)(3).

وذكر أيضاً أنَّ حبيب بن أبي ثابت قال:( أعطاني ابن عباس مصحفاً فقال: هذا على قراءة أُبَيّ،فرأيتُ في المصحف" فما استمتعتم به منهنّ إلى اجل مسمّى")(4). وروي كذلك عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام ) انه قال:("فما استمتعتم به منهُنّ - أي إلى اجلِ مسمّى - فآتوهن أجورهنَّ فريضة")(5).

ص: 142


1- لسان العرب،ابن منظور:1/77،مادة(أجر).
2- سورة القصص:27.
3- الكشف والبيان في تفسير القرآن،الثعلبي:2/265،تفسير القرآن العظيم،ابن كثير:1/474،ظ: كنز العرفان،السيوري:507.
4- م.ن:2/264.
5- تفسير جابر الجعفي،جابر الجعفي:190.

نستنتج من ذلك أنَّ الأجر محكوم بمدّة. ولو كان الزواج دائمياً لاستعاض عن الأجر المفروض بما هو مصداق للدوام،فالحال أنّه تعالى سمّاه "نِحلة" في قوله سبحانه:﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾(1). فالنِحلة عند بعض العلماء واجبة أو هي عطية من الله تعالى وكلّ ذلك لا يصدق عليه معنىً الأجر،ثم أنَّ الزواج الدائم يصحّ من دون فرض المهر في العقد فان دخل بها استحقت عليه مهر المثل،وإن طلقها قبل الدخول استحقت عليه المتعة على قدر الموسع والمقتر(2).

لكن ذهب أكثر علماء الجمهور على أنَّ قوله سبحانه:﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ...﴾(3). أراد به الزواج الدائم(4)،واجمع فقهاء أتباع أهل البيت ( عليهم السلام ) ،فضلا على قول ابن عباس وعطاء وجريح: إنّها نازلة في الزواج المؤقت. وأدلتهم على ذلك كثيرة منها قراءة أبي(فما استمتعتم به منهنّ إلى اجل مسمى فأتوهن أجورهن)،ومنها اضطراب الروايات في الحل والتحريم حتى نُقِل عن الشافعّي قوله:(لا أعلم في الإسلام شيئاً أُحِلَّ ثم حُرِّمَ ثم أحلََّ ثم حرَّم غير المتعة)(5)، فضلا عما أورده الفخر الرازي فيها(6).

وعليه فليس من الحكمة أن تُحلّل ثم يُحرَّم سبع مرات من قبل النبي محمد (صلی الله علیه و آله) فأنّ ذلك لو صدر من أي شخص لأضعف هيبته واسقط مكانته كمشرّع.

ص: 143


1- سورة النساء:4.
2- ظ: آلاء الرحمن،البلاغي:2/809.
3- سورة النساء:24.
4- ظ: التفسير الكبير،الفخر الرازي:4/41.
5- الكشف والبيان في تفسير القرآن،الثعلبي:2/266،ظ: تفسير القرآن العظيم،ابن كثير:1/474.
6- ظ: التفسير الكبير،الفخر الرازي:4/41-44.

غير أننا نقول أنَّ تشريع مثل هذه الأمور الحساسة التي تكون مثار اهتمام الناس في كلّ العصور،فيها من الحذر الكثير لأنّها تمسُّ مواطن أكثر توتّراً من حياة الرجلُ والمرأة على حدٍّ سواء،وإنّ مثل هذا التشريع يكون ضرورياً في مثل عصرنا هذا بعد الاختلاط الكثير بين الرجال والنساء في المدرسة والجامعة والدوائر الحكومية والشوارع والساحات العامة وغيرها من مرافق الحياة الأخرى ليكون حلاًّ لكثير من المشكلات الجنسية،وان إيقاف مثل هذا التشريع قد يؤدي إلى مزالق لا يعلم مدى أثرها السيئ في المجتمع، قال الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام:(لولا أنَّ عمر نهىَ الناس عن المتعة ما زنىَ إلا شقيّ)(1). لأنّ نداء الجنس صارخٌ لا يمكن أنَّ نصمّ أذاننا عنه ولا يقوى على اسكاته تجاهل أو تغافل(2).

ثم قال تعالى:﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾(3).

أي أنَّ رفع الجناح في الذي يتراضىَ به الزوجان لا يحصل إلاّ من بعد الفريضة المحدّدة بالأجر المقترن بالمدة والأجل وليس أثناءها في تجديد الزواج أو جعله دائمياً بدلالة (من) المفيدة لابتداء الغاية و(بعد) لتجاوز الحد المفروض،أي أنَّ رفع الجناح المحدّد بالتراضي الذي سيقع سيكون بعد انتهاء المدة ولا يجوز قبلها،وعليه فأنّ استيفاء الأجر سيكون باستيفاء المدة المخصصة له. وفي حالة طلب الافتراق قبل انتهاء المدة سيسقط من الأجر بمقدار ما بقي من المدة.

ص: 144


1- ظ: الكشف والبيان في تفسير القرآن،الثعلبي:2/265،بحار الأنوار،المجلسي:49/31.
2- للمزيد في معرفة اثر هذه المشكلة الاجتماعية وطرق حلّها ومواجهتها راجع: الزواج المؤقت،محمد تقي الحكيم،زواج المتعة، توفيق الفكيكي وغيرها.
3- سورة النساء:24.

ثم أنّه تعالى لما ذكر هذه الأحكام والتشريعات من التحريم والإحلال بيّن أنه تعالى لا تخفى عليه خافية في خلقه،وأنّه حكيم لا يشرّع إلا وفق الحكمة فيوجب علينا إتباعه والتسليم له.

الآية الثامنة

قوله تعالى:﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(1).

بعد أنَّ بيّنَ الله تعالى من تحلُّ ومن لا تحلّ من النساء تبنّت هذه الآية أمراً آخر هو سعة المؤمن وإمكاناته في الزواج من الأَمَة بعد عدم استطاعته من زواج الحرّة المحصن وتشريع ذلك ومتعلقات هذا الزواج وتوجيهات السنة الشريفة لذلك.

قال تعالى:﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ فابتدأ القول بالشرط (مِنْ) وهو اسم شرط،وفعله "لم يستطع" وجوابه "فمن ما ملكت إيمانكم" و "مِنْ" في "منكم" تفيد التبعيض، وفيه خطاب مباشر للمؤمنين،والطَوْل:

ص: 145


1- سورة النساء:25.

الفضل والسعة والغنىً،قال ابن منظور: (والطَوْل: القدرة على المهر... وقيل: الطَوْل: الغنى،والطول: الفضل،يقال: لفلان على فلانٍ طَوْل: أي فضل،ويقال: إنَّه ليتطوَّل على الناس بفضله وخيره)(1). وقال ابن الأثير:(ومنه الحديث "إنّه قال لأزواجه: أوّلكُنَّ لحوقا بي أطولكنَّ بداً،فاجتمعن يتطاولن،فطالتهُنَّ سودة،فماتت زينب اوّلهنَّ" أراد أمدكنّ يداً بالعطاء،من الطَّول،فظننّه من الطَوْل،وكانت زينب تعمل يدها وتتصدَق به)(2).

واختلف في إعراب "الطول" فمنهم من عدّة مفعولاً ل-"يستطع" ومنهم من جعله مفعولاً له(3). لكن يمكن القول أنَّ مفعول الفعل "يستطع" هو المفعول المطلق له وهو "الاستطاعة" وذلك لأنه(المصدر،سمي بذلك لأنَّ الفعل يصدر منه،ويسميه سيبويه الحدث والحدثان،وربّما سمّاه الفعل وينقسم على مبهم نحو: ضرَبتُ ضرْباً،ومؤقت نحو: ضربتُ ضربةً وضربتين)(4). أو (هو اسم ما فعله فاعل فعل)(5).

ويكون فضلة ومؤكّداً لعامله أو مبيّناً نوعه أو عدده. أمّا ابن معصوم المدني(ت1120ه-) فيذهب إلى أنَّ (المفعول المطلق سمي بذلك لصحة إطلاق صفة المفعول عليه لغةً من غير تقييد.... وأما اصطلاحاً فيصحّ الإطلاق على كلِّ واحدٍ من الخمسة،وهو ما قُرن بفعل الفائدة ولم يسند إليه ذلك،وتعلّق به تعليقا مخصوصاً)(6)،

ص: 146


1- لسان العرب،ابن منظور:8/229،مادة(طول)،مفردات ألفاظ القرآن،الراغب:533،مادة(طول).
2- النهاية،ابن الأثير:3/145، مادة(طول).
3- ظ إملاء ما منَّ به الرحمن،العكبري: 1/275-276. البيان في إعراب غريب القرآن،الانباري:1/250،آلاء الرحمن،البلاغي:1/835.
4- المفصل،الزمخشري:31-32.
5- شرح الرضي على الكافية،الرضي الاسترابادي:1/295،المقرب،ابن عصفور:160.
6- الحدائق الندية،ابن معصوم:1/45.

فحدّد الإطلاق بخصوصية إيجاد الفعل فلا يكون واقعاً عليه،أو علّة له أو فيه أو معه،وإنّما يكون المفعول مُوجِداً من الفعل بوساطة الفاعل،لذا كان اسماً له ومعبّراً عنه(1)،على خلاف بقية المفاعيل الخمسة،فهي مخصّصة للمفعول الأصل(المطلق) أو وصف له. وقد اكتسب النصب وعلامته اتباعاً له(2).

وعليه فانَّ(طولاً) مخصّصٌ للمفعول الأصل(الاستطاعة) في الفعل (يستطع)بمعنى أن عدم الاستطاعة كانت بسبب من عدم السعة والفضل والغنىَ،كما تقول: (قمتُ إجلالاً)، فجعل الإجلال مخصّصاً للمفعول الأصل (القيام) أو أن القيام كان إجلالاً لا احتقاراً،أي أنَّ علة القيام هي الإجلال،لأن المفعول لأجله أو من أجله،مصدرٌ قلبيٌّ يذكر لحدث شاركه في الزمان والفاعل(3). وأنّ (طَوْلاً) مصدرٌ قلبيّ شارك حدث الاستطاعة في الزمان والفاعل فلم يتقدّم عليه ولم يتأخّر،وإنّما كان عدم السعة والغنى ملازماً لعدم الاستطاعة في نكاح المحصنات المؤمنات،فأضحى قوله (أن ينكح) في موضع من يقع عليه فعل الفاعل أي بوضع النصب مفعولاً به،وهو مصدرٌ مؤوّل بمعنى النكاح،ومخصِّص للمصدر السابق (الاستطاعة) أي أنَّ الاستطاعة مخصوصة بالنكاح لا بغيره في هذه الآية كما تقول: قرأتُ الكتاب،فناتج الفعل (قرأ) هو(القراءة) وهذه القراءة قد خُصِّصت بالكتاب لا على المجلة أو القرطاس أو الصحيفة(4).

إذن يكون لمفعول الفعل (يستطع) مخصّصان هما (الطول والنكاح) ومقيّدٌ بهما،

ص: 147


1- ظ: الجهود اللغوية والنحوية عند ابن معصوم المدني،د.عادل عباس النصراوي:311.
2- ظ: الجهود اللغوية والنحوية عند ابن معصوم المدني:315.
3- ظ: جامع الدروس العربية،الغلاييني:3/40.
4- ظ: الجهود اللغوية والنحوية عند ابن معصوم المدني،د. عادل عباس النصراوي:314-315.

إلا أنَّ بلوغ الاستطاعة في الزواج في هذه الآية المباركة مقترنٌ بالطول وهو السعة والغنى،وهو مقدَّمٌ على النكاح في كلّ حال،إذ لو تأخّر الطول لفسد المعنى لأنّ فيه بيان بعدم القدرة،والاستطاعة الجسمية على النكاح،فضلاً على السعة والفضل والغنى،إذ لا فائدة من السعة إذا لم يكن هنا قوة على النكاح،وكذلك يظهر منها فساد الشرط أيضاً، إذ إنَّ من لم يستطع جسمياً نكاح المحصنات المؤمنات لا يستطيع أنَّ ينكح الإماء المؤمنات.

لهذا فأنّ تقديم الطَّوْل في سياق الآية الكريمة يأخذ بنا إلى صلاح السياق والمعنى وثبوت الشرط وصلاح قوامه دلالياً.

إذن كان تخصيص عدم استطاعة النكاح متسبَّباً بعدم الطّول،وأنَّ تأخير الطول في الترتيب الجملي يأخذ بنا السياق عدم استطاعة النكاح أصلاً لا بسبب من الطَوْل.

بعد أنَّ حدّد علّة عدم الاستطاعة من زواج المحصنات المؤمنات وجّه تعالى من لا يستطيع ذلك إلى زواج مِلْك اليمين،لكنه اشترط فيهنَّ الإيمان،فقال ﴿فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ ف-(مِنْ) الأولى تفيد التبعيض،بمعنى من جنس ملك أيمانكم،فعبّر عنهنّ بالفتيات. ولربّ قائل يقول: لماذا استعمل (مِنْ) الثانية،فقال:﴿مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ﴾.أقول: إنّ (مِنْ) هذه مفيدة لابتداء الغاية،وهذا أصل معناها،وإنْ اختلف النحاة في أوجه معاني (مِنْ) بين مكثرٍ ومقلٍّ،فقصر سيبويه معانيها على الابتداء والتبعيض والتوكيد(1).،غير أنَّ ابن هشام عدَّ من أوجه معانيها خمسة عشر وجهاً منها(ابتداء

ص: 148


1- ظ: الكتاب،سيبويه:4/224-225.

الغاية،وهو الغالب عليها)(1)، وعدَّ الزمخشري هذه المعاني راجعة إلى الابتداء(2)،أي ابتداء الغاية،والغاية لا تعني انتهاء المسافة،بل تعني المراد،فابتداء غايتي أي مراديٌ،ف-(من) الثانية في هذه الآية المباركة تعني: أن الغاية والمراد فتياتكم المؤمنات،ولعلّ في ذلك توجيه إلى ضرورة الزواج بهنّ في حالة عدم الاستطاعة طَوْلاً من المحصنات المؤمنات،فجعل ذلك غاية ومراداً،وهو ليس على سبيل الوجوب،بل على سبيل الأفضلية،لأنّه لو أراد تخصيصهنَّ دون غيرهن من الإماء غير المسلمات لقدّم (فتياتكم المؤمنات مّمن ما ملكت أيمانكم) على سبيل الحصر والاكتفاء بهنَّ دون غيرهنَّ،غير أنَّ للتأخير دلالة إطلاق غيرهنَّ في حلية الزواج كالإماء والكتابيات وقد قيّده المتأخرون من فقهاء الأمامية بزواج المتعة،قال المقداد السيوري(والمتأخرون من أصحابنا حكموا بحلّ الكتابيات متعةً لا غير لأن آية المائدة تدل على إباحة نكاح الدوام بل نكاح المتعة لقوله تعالى:﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾(3) ولم يقل مهورهنّ وعوض المتعة سمّي أجراً ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾(4))(5)، وهذا ظاهر عند الضرورة لعدم الطول في زواج المحصنة المؤمنة وخوفَ العَنَت،ثمّ أن محور الحديث في الآية يستند إلى السعة والغنى في الزواج، فإنْ عُدِمَ فلا سبيل بعده إلى الزواج من الحرة المؤمنة،فعندها وجههم الله تعالى إلى زواج الإماء وحبّب لهم المؤمنات منهنَّ وفضلهنَّ على غير المؤمنات من الكتابيات. وهذا مذهب أكثر فقهاء الامامية المعاصرين منهم السيد عبد

ص: 149


1- ظ: مغني اللبيب،ابن هشام:1/608.
2- ظ:المفصل، الزمخشري:283.
3- سورة المائدة:5.
4- سورة النساء:24.
5- كنز العرفان،السيوري:528.

الأعلى السبزواري(رحمه الله تعالى) إذ جعل من أسباب تحريم الزواج الكفر غير أنّه قال بجواز نكاح الكتابية فقال:(من أسباب التحريم - أي تحريم زواج الرجل من المرأة - الكفر،فلا يجوز للمسلم أن ينكح غير الكتابية لا دواماً ولا انقطاعاً بخلاف الكتابية فيجوز مطلقاً مع الكراهة خصوصاً في الدائمة)(1).

وجواز الزواج بالأَمَة الكتابية هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر والثوري في حين ذهب سعيد والحسن ومالك والشافعي إلى عدم جواز التزوّج بالأَمَة الكتابية(2).

ثم قال تعالى:﴿والله أعلم بإيمانكم﴾، أي الاكتفاء بظاهر الإيمان لا على سبيل التحقُقّ والتيقّن في إيمان الإماء،إذ لا سبيل إلى العلم بما عندهُنَّ من الإيمان الثابت وملكاته الحميدة،وفي هذا تخفيف من شرط الإيمان على قدر المستطاع،وهو مناسب لإطلاق الزواج بالإماء المؤمنات والكتابيات المبيّن قبل قليل.

ثم قال:﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾، أي الجميع منكم ومن أقاربكم في النسل من آدم ( عليه السلام ) إذ لا مزية لأحدكم على أرقّائه وعبيده،أي أنكم أمام الله سواسية ولا فرق بينكم وبين غيركم من فتياتكم وفتيانكم إلا بمقدار إيمانكم الذي يَفْضُل به أحدكم على الآخر.

أمّا قوله سبحانه: (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)،ففيه شرطان للنكاح هما: الأذن من الأهل،وإيتاء الأجور بالمعروف.

ص: 150


1- جامع الأحكام الشرعية،السبزواري: 464.
2- ظ: التفسير الكبير،الفخر الرازي:4/49،مجمع البيان،الطبرسي:م2/36،البحر المحيط،أبو حيان:3/306.

(وأهل الرجل في الأصل: مَنْ يجمعُهُ وإيّاهم مسكنٌ واحدٌ)(1). وكذلك (أهل الرجل: أخصُّ الناس به)(2)، ثم توسعّت دلالة الأهل فتُجُوِّز فيه،فقيل: أهل الرجل لمن يجمعه وإيّاهم نسبٌ أو دين(3)،وان أخصُّ الناس بالأَمَة مولاها وسيّدها،وهو من تجتمع معه في مسكن واحد،فهو المرجع في زواجها ولا يقع إلا بأذنه لأنّه مالكها والمتصّرف بها،وفي الآية دلالة على عدم استقلال الأَمَة بالعقد على نفسها دون إذن سيّدها وقد (روى داود بن الحصين عن أبي العباس البقباق قال: قلتُ لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام ): يتزوّج الرجل الأَمَة بغير علم أهلها؟ قال: هو زنا أنَّ الله عز وجل يقول:"فانكحوهنَّ بأذن أهلهِنَّ")(4)

وقال تعالى:﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ فاشترط إيتاء المهر أن يكون بأيديهنَّ،لأنّه فريضة لهنّ من الله تعالى فيكون قبضه بأيديهنًّ لا بأيدي مواليهنَّ،إذ سيكون الإذن في النكاح مستلزماً للأذن في قبض المهر(5). وهي سنّةٌ متًّبعةٌ،ويعود المهر بعدها إلى سيِّدها،لأنَّهنَّ وما في أيديهنَّ مال مواليهنَّ،فكان أداؤها إليهنَّ أداءً إليهم(6).

وذهب جمهور العلماء على أنّه يجب دفعه للسيد دونها،في حين ذهب مالك إلى

ص: 151


1- مفردات ألفاظ القرآن،الراغب:96 أهل.
2- لسان العرب،ابن منظور: 1/53،مادة(أهل).
3- ظ: مفردات ألفاظ القرآن،الراغب: 96،مادة(أهل).
4- من لا يحضره الفقيه،الشيخ الصدوق:532،الحديث4562.
5- ظ: كنز العرفان،السيوري:514.
6- ظ: الكشاف،الزمخشري:1/532.

وجوب إيتاء الأَمَة مهرها لها،وأنّها أحقُّ بمهرها من سيدها(1).

ثم قال تعالى:﴿بالمعروف﴾، أي بما لا ينكر في الشرع،وهو ما تراضى عليه الأهلون ووقع عليه العقد،وقيل معناه من غير مَطْلٍ ولا سوء خلق(2)،لأنّ المعروف هو اسم جامع لكل ما عُرِفَ طاعة الله والتقرّب إليه والإحسان إلى الناس،وهو من الصفات الغالبة أي أمرٌ معروف بين الناس،إذا رأوه لا ينكرونه(3). وفي هذا ضمان لحقوق الأَمَة لكي لا يبخسوا من حقّها شيئاً استهانةً بهنّ لكونهنّ مملوكاتٍ،لهذا خصَصَّ إيتاء الأجر بما لا ينكر ويستقبَح بين الناس.

وقال:﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾، بموضع الحال لهنَّ، ولكن لماذا كرر صفة الإحصان بألفاظ (غير مسافحات، ولا متخذات أخدان)، والظاهر أن في الجاهلية كان الاقتران بصاحبات الأخدان والمسافحات غير محرّم أو غير مرفوض فنكاح الخدن كان بشكل صداقة، أي أن المرأة تصادق الرجل، والرجل يصادق المرأة، وقد وقع قبول ورضا، فهو عمل حلال ولا بأس في عرفهم. أمّا المسافحة فإنّ أهل الجاهلية كانوا يُحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي منه، ويعدون ما ظهر منه لؤما، وأما ما خفي منه فلا بأس به، فالزنا عندهم ما كان زنا علنيا وليس سرا، فهو ما يعاب عليه، وأما اتخاذ الخدن فلا يعد عيبا البتة(4).

ص: 152


1- ظ: البحر المحيط،أبو حيان : 3/311.
2- ظ: مجمع البيان،الطبرسي:م 2/34،كنز العرفان،السيوري:513.
3- ظ: لسان العرب،ابن منظور:9/155،مادة(عرف).
4- ظ: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: د. جواد علي:5/546.

إذن الإرادة التشريعية هنا، رفض لهذه الحالات من الأنكحة الجاهلية فذكرها مرادفة للإحصان، وجعل العفة معيارا لصلاح النكاح، فقال(محصنات).

ثم قال تعالى:﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ﴾، وقُرِئ(أُحصنَّ) بالفتح عن حمزة والكسائي وعاصم وباقي السبعة بالضم، وكذلك حفص(1)، فمن قرأ بفتح الهمزة، فمعناه أسلمن، وهو المرويّ عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وإبراهيم والشعبي(2)، ومن قرأها بالضم فمعناه التزويج، وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة(3).

وقراءة الضم أفضل لأنها أوسع في الدلالة ؛لأنّ قراءة الفتح تعني الإحصان بالإسلام فقط، أي أسلمن، في حين أن قراءة الضم تحتمل الإحصان بالتزويج والإحصان بالإسلام، وذلك أن فيها إطلاق حين قال(فإذا أُحصنَّ) قلم يُعرف علّة الإحصان، فيمكن أن يكون الإحصان بسبب نكاحهن أو بسبب إسلامهنّ، لكن دلالة الإحصان بالتزويج هي الأوضح بدلالة قوله سبحانه(فانكحوهنّ)، أمّا دلالة الإحصان بالإسلام فمخفية لخفاء إباحة الزواج بالإماء الكتابيات، ولو على كراهة في قوله سبحانه:﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ كما أوضحنا ذلك من قبل.

إذن حذف علّة الإحصان قادت السياق إلى توسيع الدلالة فاحتمل السياق الأمرين

ص: 153


1- ظ: البديع، ابن خالويه:89، البحر المحيط، أبو حيان:3/313.
2- ظ: مجمع البيان، الطبرسي:م2/34.
3- ظ:م.ن:م2/34، البحر المحيط، أبو حيان:3/343، الكشاف، الزمخشري:1/532.

معا، ولا يوجد مانع من تقدير أيّ منهما، فنقول:(فإذا أحصنّ بالنكاح أو فإذا أحصن بالإسلام، فكل من(النكاح، والإسلام) يعد مفعولا لأجله، لأنهما شاركا حدث الإحصان بالزمان والفاعل، وكلّ منهما يعد سببا للإحصان المذكور، إلا أن دلالة التزويج أوضح من دلالة الإسلام لخفائه - كما رأيت -.

ثم أن السياق ورد باستعمال(إذا) الشرطية وذلك للدلالة على أنّ وقوع الإحصان يكون كالمعلوم المعترف بوجوده، نحو قولنا:(إذا طلعت الشمس فأتني)(1) لا على سبيل التخمين، أو التوقّع غير المسوّغ له، وذلك يُوحي لنا أن الله تعالى يدعو إلى ذلك وكأنّه حاصل فعلا.

في حين جيء ب-(إن) فيما بعد ذلك بقوله:﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ﴾،على سبيل الإبهام لأنّ(إنّ) الشرطية تستعمل فيما كان مشكوكا في وجوده نحو قولنا:(إنْ تأتني آتِك)، فأنت لا تدري أيقع منه الإتيان أم لا، فلذلك لا يجوز أن نقول(آتيك إن تطلع الشمس)(2)، وكذلك قوله سبحانه:﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ﴾ على سبيل الإبهام، فوضع هذا الشرط فيما إذا وقع الإتيان بالفاحشة، فهو لا يدعو بقوله إلى نشرها، بل ذكرها لأنّ السياق الدلاليّ يدعو لها، فذكرها بصيغة الإبهام دفعا لما قد يُقال خلاف ذلك، غير أنّ التشريع فرض ذكرها فأقتصى ذكر ذلك، والأدب القرآني يأبى ذكر الألفاظ المتعلقة بالفواحش،فعبّر بألفاظ أخرى موحية لها تأدبّا وتكرّما، ثم قضى أن تُحكم بنصف ما

ص: 154


1- ظ: المقتضب، المبرد:1/56.
2- ظ: المقتضب، المبرد 1/56.

يُحكم به المحصنات(1)، ولم يردفها بالمؤمنات؛ لأنّ ذكر المؤمنات يأبى أن يقترن مع من تتعاطى السفاح من المحصنات، وإن كنّ مؤمنات، فنزّه ذكرهنّ عن ذلك، فضلاً على العذاب.

ثم قال سبحانه:﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ﴾، ذلك إشارة إلى نكاح الإماء من المؤمنات على الأظهر والكتابيات لمن لا يجد طَوْلاً أن ينكح الحرائر من المؤمنات، وإنما يكون ذلك لمن خشي الضرر الشديد في الدين بسبب من الزنا أو الإثم، وهو استعارة عن المشقة والضرر(2).

ثم قال تعالى:﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، أي عن نكاح الإماء وإنما كان خيرا، قيل: لئلا يجيء الولد رقّا كما هو مذهب الشافعي، وقيل لئلا يتبع ساداتها وأهلها ولئلا يفرّق السيد بينهما بوجه، والأَوْلَى أنه خير لئلا يعيّر الولد بأنّه ولد أمة(3)، وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ، ممن عُيّر بأنّه ولد أمة، وإن كان من أشراف الناس من نحو زيد الشهيد ابن علي بن الحسين (عليه السلام ) وغيره.

ونخلص من كلّ ذلك أنّ الاضطرار في زواج الأََمَة لم يكن إلا لضرورة ، وهو خوف الوقوع في المحرّم، فشُرِّعَ على الكراهة.

ص: 155


1- تجد تفصيلات الحكم في مضانه من كتب الفقه.
2- ظ: كنز العرفان، السيوري:515، آلاء الرحمن ، البلاغي:2/841.
3- ظ: كنز العرفان، السيوري:515.

ثانيا: المحرمات في النكاح وأسباب التحريم

اشارة

وفيها آيات:

الآية الأولى

قوله سبحانه:﴿وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً﴾(1).

اختلف العلماء في حكم هذه الآية المباركة والمعنى الدال عليه النص بين أن يكون النهي عن منكوحات الأب أو النهي عن طبيعة نكاح الآباء بشكل عام، فذهب ابن عباس وقتادة وعطاء وغيرهم إلى أن التحريم المشار إليه ما كان يفعله أهل الجاهلية من نكاح امرأة الأب، وكانوا يسمونه نكاح(المقت) وكان المولود عليه يُقال له(المتقيّ)(2) ، وعليه فإن(ما) في قوله سبحانه:﴿وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ هي موصولة، بمعنى منكوحات الآباء من النساء، ويعزز هذا الرأي سبب نزولها وذلك أنه لما مات أبو قيس بن الأسلت وكان من صالحي الأنصار خطب ابنه قيس امرأة أبيه، فقالت: إنّي أعدّك ولدا وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) فاستأمره فأتته فأخبرته فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه و آله ): ارجعي إلى بيتك فأنزل هذه

ص: 156


1- سورة النساء:22.
2- ظ: التبيان ، الشيخ الطوسي:3/154، الكشاف، الزمخشري:1/524.

الآية(1).

وأما من ذهب إلى النهي عن طبيعة نكاح الآباء بشكل عام، فإنه عدّ(ما) مصدرية، والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم، أي مثل نكاح آبائكم، وعليه فسيكون كل نكاح لهم قبل الإسلام فاسدا، وهو اختيار الطبري، وعلل هذا بأنه لو أراد حلائل الآباء لقال: لا تنكحوا من نكح آباؤكم، على أصل أن (من) تفيد الجنس(2).

فاختلاف العلماء هنا كائن في المسافة الواقعة بين خصوص المعنى المتمثل بسبب النزول المفضي إلى تحريم زوجة الأب، وبين عموم اللفظ المتمثل بآليات اللفظ المؤلِّف للنص والسياق العام المفضي إلى تحريم الأنكحة قبل نزول الآية.

لكننا لا يمكن أن نتمسك بعموم اللفظ ونهدر خصوص السبب، أو أن نتمسك بخصوص السبب ونهدر عموم اللفظ، وذلك أن النص هو نتاج الواقع الذي وُلد فيه فلا يمكن تجاهله أبدا، وحصر الدلالة بجزئيات المعنى المتمثلة بخصوص السبب وعند ذلك لا فائدة من مجمل دلالات الألفاظ، ولرب قائل يقول:إنّ هناك هدرا كبيرا في دلالات الألفاظ المستعملة في النص بسبب من الاقتصار على دلالة سبب النزول، وهذا مما قد يذهب ببعضهم إلى القول أن النص القرآني استعمل ألفاظا ذات دلالات كبيرة لمعانٍ قليلة، وهذا شرخ في إعجاز القرآن، فضلاً على القول بعدم قدرة لغة القرآن على استيعاب الجزئيات بالألفاظ مناسبة لها، وهذا خلاف الواقع.

كذلك لا يمكن تجاوز الدلالات في عموم اللفظ المؤلِّف للنص وذلك أن النص

ص: 157


1- ظ: مجمع البيان، الطبرسي:م2/26-27، لباب النقول في أسباب النزول، السيوطي:55.
2- ظ: التبيان، الطوسي:2/154.

القرآني نصّ متسع ذو دلالات كبرى لا يمكن تحديدها بالجزئيات ، بل أن الجزئيات المعلنة من سبب النزول قد تكون جزءا من أجزاء الدلالة، التي يتوخاها القرآن الكريم، فضّمها إليه، ففي النص القرآني دوال ونُظُم دلالية ثانوية داخل النظام العام للنص، فمن هذه الدوال تتجاوز إطار الوقائع الجزئية، ونجد أخرى تشير إلى الوقائع الجزئية ولا تتجاوزها، وهناك دوال خاصة وأخرى عامة، فهذه الدوال تمكّن العصور المختلفة من قراءة النصوص واكتشاف دلالات مغايرة فيها(1). أو جديدة، فكل هذه الدوال تتفاعل مع بعضها داخل الألفاظ ، فعندما تتهيّأ الظروف المناسبة لانطلاقها من نحو البيئة الثقافية والقيم الاجتماعية والظروف السياسية وغيرها فإنها ستنطلق من جديد لتظهر أكثر بريقا وأبعد مدى وأعمق غورا(من هنا يكون الوقوف عند أحد جانبي الدلالة في النص خطرا على مستوى النصوص الدينية من حيث أنّه يؤدي إلى أن يخلق تعارضات داخل النص لا يمكن حلّها، وهي تعارضات ناشئة عن إهدار "الخصوص" لحساب "العموم")(2)، بل ينبغي وضع الحدود لمقدار تمدد الخصوص ضمن إطار العموم الشامل، ولتمدد العموم على حدود الخصوص.

لذا فإنّ دلالة:﴿وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ﴾لا يمكن قصرها على النهي عن زواج الابن لزوجة الأب، بل هذه جزئية من مجمل الدلالة الكلية في النص؛ لأنّ النهي مطلقٌ عن أنكحة الجاهلية لأنّ أغلبها كان غير خاضع لنظام يحافظ على طهارة المولد والنسب والحقوق بين الأزواج والأبناء، وأقول أغلبها لأن هناك نكاحا في الجاهلية قد أقرّه الإسلام وعمل به بعد أن هذّبه وهو ما كان مألوفا عند أغلب الناس، وهو نكاح

ص: 158


1- ظ: مفهوم النص، د. نصر حامد أبو زيد:106.
2- م.ن:107.

البعولة(1) المبنيّ على أساس الرضا والقبول من الطرفين وتحديد الصداق وإعلانه على رؤوس الناس من خلال الخطبة، من نحو زواج رسول الله (صلی الله علیه و آله) من خديجة بيت خويلد(رض) قبل الإسلام، فهو شاهد على ذلك(2)، لذا قال تعالى:﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾، يعني إلا النكاح المبني على الصحة، وهو زواج البعولة فإنّه مستثنى من النهي لأنه زواج ليس بفاسد، ومما يؤيد ذلك، أن هذه الجملة جاءت في موضع المعترض للسياق العام للآية، لأن المخاطب قطع السياق بها المفضي إلى التحريم، وهذا من أساليب القرآن الكريم البليغة لأنه أراد أن ينبّه على حالة طيبة قائمة قبالة حالة فاسدة لا خير فيها، ويؤنب عليها بذكر الطيبة.

وهناك أمر آخر هو أنّ هذا النكاح لم يكن قريب العهد من الإسلام، بل كان قديما أُقِرّ مع النبوات السابقة للإسلام، ثم لو كان هذا الذي وقع فيما سلف من صنف نكاح الآباء المذكور لاقترن بهم، بيد أنه جاء على سبيل الإطلاق بالزمن الماضي الذي عبّر عنه بالزمن السالف، أي المتقدم على زمان الجاهلية لأنّ عصر النبوة كان ملاصقا له وإنّ كثيرا من عادات الجاهلية وقيمها مازالت عاملة في صدر الإسلام.

قد يقال إنّ استعمال (قد) يعمل على تقريب زمن الماضي إلى الحال فتكون دلالة زمن (قد سلف) هو الزمن الماضي القريب من الحال من نحو قولنا:(قد قامت الصلاة، نداء لمنتظري الصلاة في أنّ وقتها قد حلّ، أو كقولهم: قد ركب الأمير، لمن

ص: 159


1- ظ: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي:5/533.
2- ظ: نهاية الأرب، النويري:16/97-98.

ينتظر ركوبه، وفي التنزيل:﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ﴾(1)؛ لأنّها تتوقع إجابة الله سبحانه وتعالى لدعائها)(2)، وهذا الأمر واقع؛ لأن قرينة الحالية نستمدها من السياق الدال عليها، إذ نتلمس حالة الانتظار لوقوع فعل، فعندما وقع الفعل أُخْبِرَ عنه بعد وقوعه مباشرة، وأما مجيء الفعل ماضيا إنما كان لإكساب الحدث صفة اليقين، لكن في قوله سبحانه:﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾لا نتلمس فيه حالة الانتظار لوقوع الحدث حتى نترقبه فيُخْبَر عنه بعد وقوعه مباشرة، بل إنّ حدث الزواج الصحيح واقع أصلا عند أغلب العرب ومعروف لديهم، فعبّر عن زمن وقوعه بأنه قد سلف، أي المقدّم فيهم، ولأجل تأكيد التقدم بالزمن استعمل(قد) أي أنها دخلت لتوكيد السلفية، لا باعتبار القرب من الحال؛ وهذا مما يبعد كون(ما) تدل على الموصولية، بل على المصدرية.

فضلاً على ذلك أنّ الاستثناء هنا جاء متصلا لأنّ المستثنى بعضها من المستثنى منه، كقولنا:جاء الطلابُ إلا خالدا، فخالد مستثنى متصل لأنه بعض الطلاب، فنكاح البعولة واحد من أنكحة العرب ، غير أنه استثني من هذه الأنكحة لصحته وعدم فساده.

ولو قلنا إنه استثناء منقطع لتحتم علينا القول إنّ نكاح البعولة ليس جزءا من أنكحة العرب، وهذا خلاف المعلوم، لأنّ الاستثناء المنقطع (هو ما كان فيه المستثنى ليس بعضا من المستثنى منه، كقوله تعالى:﴿فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ*إِلاَّ

ص: 160


1- سورة المجادلة:1.
2- ظ: المغني ، ابن هشام:1/347.

إِبْلِيس﴾(1)فإبليس ليس من الملائكة، بل هو من الجن)(2)، فدلّ بذلك أنّ(ما) مصدرية ايضا وليست موصولة.

وأمّا من قال إنّ(إلا) جاء بمعنى "سوى"(3)، فهذا لا يصحّ لكون "سوى" ظرف بمعنى (مكان)، فإذا قلت: جاءني القوم سواك، كان المعنى جاءني القوم مكانك، وبدلك(4)، وهذا المعنى لا يحتمل في الآية، لكنها من الممكن أن تحمل معنى المغايرة وزيادة، أي مغايرة المستثنى عن المستثنى منه بمعنى(غير)، وهذا حاصل إذا إنّ نكاح البعولة مغاير لباقي الأنكحة، وقد زادت عليه بكونها اتصفت بأنها فاحشة وإثما وساء سبيلا، فتكون (إلا) قد حملت معنى استثناء هذا النكاح من أنكحة العرب ومغايرته في صفاتها، فضلاً على أصل مغايرة(إلا) المبنية على نفي أنكحة العرب وإثبات نكاح البعولة.

فهنا يكون القرآن الكريم قد أضفى دلالة أخرى على(إلاّ) من خلال السياق الحاكم للنص في مغايرة الوصفية، فضلاً على دلالة الأصل لها، فأكدّ بذلك على أن (ما) مصدرية.

ثُم قال تعالى:﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً﴾، فبعد أن توضّح أن قوله سبحانه:﴿ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ جاء معترضا للسياق العام، فيكون الضمير في (إنّه) عائدا على النكاح في

ص: 161


1- سورة الحجر:30-31.
2- معاني النحو، د. فاضل السامرائي:2/213.
3- ظ: حقائق التأويل، الشريف الرضي:318.
4- ظ: معاني النحو، د. فاضل السامرائي:2/230.

المصدر المؤول(ما نكح) اتساقا مع السياق العام، فيكون التقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم إنّه كان فاحشة. ولو كانت(ما) بمعنى المنكوحات لاختلف المعنى، إذ سيكون التقدير: ولا تنكحوا منكوحات آبائكم إن نكاحهنّ كان فاحشة. وفي هذا تحميل للنص ما لا يستسيغه فضلاً على تضييق المعنى، والقرآن الكريم مبنيّ على الاتساع في الدلالة.

وأما قوله تعالى:﴿كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً﴾، فقد اختلف العلماء في(كان)،(فقال محمد بن يزيد المبرد: يجوز أن تكون زائدة، ويكون المعنى إنّه فاحشة ومقت، واستشهد في ذلك بقول الشاعر:

فكيف إذا حللت بدار قوم $$$ وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ

وخطّأه الزجاج في ذلك، وقال": لو كانت زائدة في الآية لم يُنصب خبرها، والدليل على ذلك هذا البيت الذي أنشده فإن"كان" لما كانت زائدة فيه لم تعمل فقال"وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ" ولم يقل كراما)(1).

والحال أن (كان) لها دلالة كبيرة في الآية تمثّل استغراق الزمن الماضي في وصف الأنكحة المحرمة بالفاحشة والمقت؛ لأنّ (كان) فعل حالٍ من الحدث ودال على المعنى من الزمان، فكأنّ هذا الفعل يُريد أن يشير إلى أنّ هذه الأنكحة المحرّمة موصوفة بالفحش والمقت من القدم، فجعل تقادم العهد وصفا لها للدلالة على شدة إنكارها وتحريمها، وجعل قبالتها ما استثني من هذه الأنكحة المتمثل بنكاح البعولة الصحيح ، فوصفه بكونه فيما سلف، ليتوازى قدم العهد لإنكار الأنكحة المحرمة مع

ص: 162


1- حقائق التأويل، الشريف الرضي:320.

ما استثني منها فيما سلف.

لذا فإن خصوص السبب المتمثل بسبب النزول لهذه الآية لم يضمحل في خضم عموم دلالة الألفاظ المؤلِّفة لنص الآية المبنيّ على الاتساع، بل أصبح جزءا مهما من ضمن الدلالة العامة للآية، فالنص القرآني المؤلف من مجموع الدوال المفضية إلى دلالاتها لم تهمل أي شيء من دلالات أسباب النزول فضلاً على الدلالات الأخرى التي يتوخاها واضع النص المبارك سبحانه.

الآية الثانية

قوله تعالى:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾(1).

بعد أن شرع الله تعالى في الآية السابقة حرمة نكاح الأبناء لنساء آبائهم الذين يتوفون بعد ما كان ذلك عادة عندهم؛ لأنّ العرف الجاهلي كان يقضي أن تكون زوجة الأب جزءا من الميراث يحظى به الابن الأكبر للمتوفى من غيرها، فأكرم الله تعالى

ص: 163


1- سورة النساء:23.

النساء بحرمة ذلك(1)؛ لأنها تكون بمثابة الأم لولد زوجها، وجّه بعدها بحرمة الزواج من مجموعة من النساء، فابتدأهنّ بالأمهات ثم البنات والأخوات والعمات... الخ، فجاء التحريم بصيغة الخبر، فقال تعالى:﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾، في حين كان تشريع حرمة نكاح زوجات الآباء بصيغة الإنشاء(الطلب) بالنهي فقال تعالى:﴿وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾، وذلك أن التعامل مع بنية النهي في الإنشاء الطلبي(تستدعي حضور حالة ذهنية شعورية لدى المتلقي تبدأ فاعليتها من منطقة"الإثبات" لأنّ "الكف" فعل يحصل بشغل النفس ضد المنهي عنه، وهو ما يستدعي تقدّم الشعور بالمكفوف عنه، لأننا لا نطالب أحدا بعدم الفعل - أي تركه - إلا وعنده عزم على هذا الفعل، وعلى الأقل وعيّ بإمكانية وقوعه)(2). إذ إنّ تيقّن المسلمين آنذاك بترك هذا النموذج من النكاح صعبا عليهم لأنه كان عادة عندهم فأصبح جزءا من حالة اجتماعية، وهذا يستدعي ثورة داخلية في نفوس الناس للكفّ عن هذا الفعل الذي أصبح في منطقة الثبات والاستقرار من قيم العرب الجاهليين، فجيء النهي هنا ردعا عن الاستمرار بهذا العمل، ثم حبّب إليهم ما قد سلف من الزواج الصحيح من نحو زواج النبي محمد ( صلى الله عليه وآله )المسمى بزواج البعولة، قبالة ذلك النكاح الفاسد مما تُعُوّدَ عليه.

إذن كان أسلوب النهي ملائما لذلك، بيد أنه تعالى عندما أراد أن يُوجّه بحرمة

ص: 164


1- أكرم الله النساء في القرآن أي إكرام فبعد أن كانت موروثة أصبحت وارثة، وبعد أن كانت سقط متاع الرجل أصبح لها كنصيب الرجل في الميراث وغيره، وحرّم تعالى أن يكون للرجل أكثر من أربع نساء بعد أن كان للرجل الحقّ في ايّ عدد شاء منهنّ أن يتزوج، وأنزل فيهنّ سورة النساء وغيرها، ولم يذكرهنّ في القرآن إلا بخير.
2- البلاغة العربية، قراءة أخرى، د. محمد عبد المطلب:297.

نكاح الأمهات والبنات والأخوات - وهنّ الأَوْلَى بالحرمة من غيرهن - وجّه لذلك باستعمال أسلوب الخبر المتضمن معنى الإنشاء ، فشرّع حرمة نكاح المذكورات بأسلوب خالٍ من المؤكدات البتة، ولعلّ ذلك كان؛ لأنّ ذهن المخاطَب خالٍ من مضمون ذلك الخبر، وغير متعارف عنده نكاحهنّ، إذ لم نقرأ أن رجلا من العرب نكح أمّه أو أخته أو ابنته أو غيرهن من المذكورات، لذا فلم يكن السياق بحاجة إلى ما يؤكدها وذلك لعدم حاجة المخاطَب إلى استدعاء حالة ذهنية شعورية بسبب عدم وجودها أصلا عنده، لذا كان استسلامه لها والقبول بها أمرا واقعا، ولا يحتاج إلى ما يؤكد ذلك.

بيد أنه عندما ذكر الجمع بين الأختين بقوله سبحانه:﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾ جاء بما يقيّده وذلك لأنّ المخاطَب سيكون مترددا في قبوله لأنّه واقع معلوم لدى المخاطَبين، فاستدرك سبحانه مستثنيا له فقال:﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ كي يكون أمر التحريم مقبولا ومستوعبا لكلّ الحالات من دون حاجة إلى كثير تفكير وتدبر.

لكن لو استعمل أسلوب الخبر المتضمن معنى الإنشاء أو أسلوب الإنشاء المحض لما كانت دلالة التحريم بهذه القوة، لأن في أسلوب الخبر المحض لا يكون هناك أمر وإلزام بالحرمة أبدا، وكذلك في استعمال أسلوب الإنشاء المحض، ستكون هناك حرمة لكنها ليست بشدة الحرمة التي تضمنها السياق الحالي باستعمال الخبر المتضمن معنى الإنشاء، فهذا الأسلوب قد جمع حالة الأخبار عن شيء لا جدال في حرمته وعدم وجود مانع يقيّد ذلك، فضلاً على النهي عن أدائه، فوسّع بذلك من دلالة هذه الجملة القرآنية بهذا الأسلوب الذي تناوبت فيه الدلالة بين الخبر والإنشاء.

ص: 165

ومما يزيد من حرمة هذا النوع من النكاح أنّه استعمل الحرف(على) الذي يدلّ دوما على الاستعلاء، أي أن الأمر بالنهي صادر عن جهة عليا، فقوة الأمر بالنهي تتناسب مع قوة الصدور، بل وإطلاقه؛ لأنّه صادر عن المطلق، وهو الله تعالى.

فضلاً على ذلك أن مجيء الفعل بصيغة البناء للمجهول(حُرِّم) تأخذ بذهن السامع إلى تصوّر عدّة فاعلين للفعل، بسبب من إبهام الفاعل وعدم تصوّره، مما تزيد من هيبته وإعظامه، وهذا يزيد من مرونة المجال الذي تتمحور فيه مساحة فضاءات تتحرك فيها الدلالة، التي تفيض بها هذه البنى المؤلفة له. علاوة على ذلك أن الانتباه سيُشدّ نحو الفعل دون الفاعل، وهذه غاية أخرى لحذف الفاعل، فإطلاق الفاعل يأتي للتركيز على حدث الفعل(حُرِّم) من ناحية، ولمسايرة ديمومة الفعل وإطلاقه في دلالته على الأمر المذكور(1).

إذن في استعمال الخبر المتضمن معنى الإنشاء أوجد توازنا بين فعل الحرمة وفاعلها من حيث اشتراكهما بصفة الإطلاق الدلالي، فهذه الصيغة تدلّ على أنّ(الأمر) مطلق زمانيا يسنده المعنى المعجمي لفعل(حُرّم) الدال على ثبوت الكفّ عن الممنوعات دوما، فضلاً على الالتزام والوجوب الذي أفاده الحرف(على) في السياق(2).

وعليه فإنّ حرمة نكاح المنكوحات حرمة مطلقة أيّدها السياق الذي وردت فيه الآية المباركة من قبل نزولها وبعدها، وطبيعة البنية السياقية المؤلِّفة للنص المبارك

ص: 166


1- ظ: التناوب الدلالي بين الخبر والإنشاء، د. مديحة السلامي:75-76(رسالة دكتوراه).
2- ظ: التناوب الدلالي بين الخبر والإنشاء، د. مديحة السلامي:75-77.

التي أفاضت كلّ تلك الدلالات فعمّت أبعادها كل فضاءات النص.

لكن قد يسأل سائل، لماذا نزل تحريم النكاح بتلك النسوة المذكورات، مع علمنا أن أغلب هذه الأنكحة لم تكن موجودة عند العرب آنذاك؟ إذ لم نعلم أنّ رجلا من العرب تزوّج من أمّه أو أخته أو ابنته(1)، أو عمته أو غيرهن من المذكورات ، إلا ما قيّدته الآية من نحو الجمع بين الأختين بما سلف، ولعلّ ذلك يعود إلى أن الإسلام دين لكل البشرية ومنزّل من الله تعالى، وهو أعلم بحال البشر في كلّ بقاع الأرض، وقد نقل أهل الأخبار كثيرا من هذه الأنكحة المحرمة عند الأقوام الأخرى من غير العرب، إذ إنّ بعضها جائز في الديانات الأخرى، فزواج الأولاد لأمهاتهم شيء قليل الوقوع عند البشر، وأما زواج الأخوة من الأخوات فهو معروف وثابت في سيام وبورما وسيلان وأوغندا، وكان عند الفرس والمصريين، وخاصة بين أفراد الأسر المالكة، وذلك لاعتقادهم بضرورة المحافظة على نقاء الدم وخصائص الأسرة لأن في عقيدتهم أنّ أسرهم مقدسة، وأنّ زواج الآباء ببناتهم كان من المجوس(2)، لذلك تحريم هذه الأنكحة إنما مرجعه إلى ما كان يجري منها لدى شعوب الأرض الأخرى من دون العرب فكان الخطاب الإلهي خطابا عاما شاملا لهم، وقد يُستفاد من ذلك أن تعاليم الإسلام سوف تعمّ كل شعوب الأرض؛ لأنّ الدلالة المتوخاة عامة لكلّ الناس، وأنّ أيّا منها لا يصحّ أن لا يكون لها موضع في حياة الناس، وإلا لكان وجودها غير مسوّغ

ص: 167


1- إن دعوى زواج حاجب بن زرارة من ابنته(دفتنيوس) لم يثبت بسبب من تضارب الأخبار فيها، حتى أن الشعر الذي ذُكر والقصص التي أوردها أهل الأخبار تحتاج إلى إثبات ، ويرى د. جواد علي أن كثيرا منه تعمله معامل الوضع، ومنها ما ثبت وضعه، وذلك للطعن في القبائل واشاعته ، وروّجه الطالبون لمثالب العرب. ظ: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي:5/544-545.
2- ظ: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي:5/544.

فيه فيكون ذلك طعنا في القرآن الكريم، وقد قال تعالى في وصفه:﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾(1).

ومن المحرمات على الرجال أيضا بنات الأخ وبنات الأخت، فذكر البنات بصيغة الجمع مضافة إلى الأخ والأخت بصيغة المفرد فقال:﴿وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾، وذلك لو قال: بنات الأخوة، وبنات الأخوات لاقتصر لتحريم على طبقة هذه البنات فقط دون بناتهنّ ، ولكن عندما أفرد المضاف إليه إنما أراد به شمول بنات البنات من الأخ والأخت وإن سلفت أيضا لوقوع اسم البنت عليهن، وكذلك أريد به الجنس المنتظم في الدلالة الواحدة وغيره(2).

ومن المحرمات كذلك الأخوات من الرضاعة، فقال:﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ﴾ بفتح الراء في الرَّضاعة على صيغة(فَعالة)، ومنهم من قرأها (الرِّضاعة) بكسر الراء على صيغة(فِعالة) وهي قراءة أبي حيوة(3)، فالفعل(رضع) ورد بصيغتين، رَضَعَ يرضِع مثال ضَرَبَ يضِرب، وهي لغة نجدية، ورَضِع مثال سمِع يسَمع، وهي لغة حجازية(4)، ولعل ورود المصدر(رضاعة) بصيغتين راجع إلى اختلاف اللغات فيه، وربما كان هذا الاختلاف سببا إلى فهم دلالة الرضاعة وتعددها بين دلالة الصفات الخلقية والمعنوية

ص: 168


1- سورة فصلت:43.
2- ظ: البحر المحيط، أبو حيان:3/294.
3- ظ: ظ: البحر المحيط، أبو حيان:3/295.
4- ظ: لسان العرب، ابن منظور:5/231، الكامل ،المبرد:1/52.

في(فَعالة) بالفتح ودلالة الحرفة والولاية في(فِعالة) بالكسر(1).

أجد أنّ من ذهب إلى صيغة(رِضاعة) على وزن(فِعالة) بالكسر جعل منها حرفة أو ولاية، وشُبّهت بالولاية لأنّ معناها القيام بالشيء(2)، وأنّ أداء رضاعة المولود بأيّ عدد كان من الرضعات قليلها أو كثيرها يصدق على المرأة كونها أمّا مرضعة ووليّة، لأنّ المطلوب من هذه الصيغة أن تكون المرأة وسيلة لأداء هذا العمل ، فتقع لذلك حرمة ابنها من المولودة التي أرضعتها بأيّ عدد كان من الرضعات، وإلى ذلك ذهب مالك وأكد أنّ مجرد الرضاع ينشر الحرمة(3)، في حين يرى أبو حنيفة أن قليل الرضاع أو كثيره ينشرها(4) غير أنّ الشافعي ذهب إلى التحريم بخمس رضعات(5).

أمّا من ذهب إلى صيغة(رَضاعة) على(فَعالة) بالفتح، فأجد أنه ذهب إلى معانٍ تدلّ على صفات خلقية أو معنوية، وهذه الصيغة تكون مطردة في (فَعَل) أي: رَضَعَ يرضِع رَضاعة، وفيها لا تكون المرضعة مجرد وسيلة لأداء عمل الرضاع، بل ستسبغ في رضاعتها على الولد بعضا من صفاتها الخلقية والمعنوية، ولا تكون من رضعة واحدة أو رضعتين، وهذا مما يقود الفقيه إلى النظر مليا في ذلك واستعانته بالسنة النبوية، فشرَّعوا بضرورة الإكثار من عدد الرضعات المتواليات، فذهب الإمامية إلى أنَّ نشر الحرمة بسبب الرضاع لا يقع إلا عندما ينبت اللحم ويشدّ العظم، ويعتبر ذلك برضاع يوم وليلة ولا يفصل بينه برضاع امرأة أخرى، أو بخمس عشرة رضعة

ص: 169


1- ظ: المصادر والمشتقات في لسان العرب، د. خديجة الحمداني:263.
2- ظ: م.ن:263.
3- ظ: التفسير العظيم،ابن كثير:1/469.
4- ظ: مجمع البيان، الطبرسي:م2/28، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي:3/101.
5- ظ: م.ن:م2/29، كنز العرفان، السيوري:520، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي:3/101.

متواليات لا يفصل بينهما برضاع امرأة أخرى كذلك، واشترطوا لها أيضا أن تكون ضمن مدة الحولين(1)، لقوله تعالى:﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾(2).

لقد أثبت العلم الحديث أن سبب الحرمة من الرضاعة يتعلق بأمور وراثية إذ يكتسب الرضيع بعض الصفات الوراثية الخاصة بالمناعة من اللبن الذي يرضعه مشابهة لأخيه أو لأخته من الرضاع في هذه الصفات(3).

إذن كان معيار الحرمة متعلقا عند الفريقين بعدد الرضعات ، ولما كان لبن الأم هو المسؤول عن ذلك، فالأوْلى أن الكثير منه اقوى على نقل الصفات الوراثية من الأم إلى رضيعها من القليل، وعليه فإنّ نشر الحرمة بالعدد الكثير من الرضعات أقوى من قليلها.

ومن المحرمات أيضا أمهات الزوجات والربائب اللاتي في حجور الأزواج من زوجاتهم اللاتي دخلوا بهنّ فقال:﴿وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، أي أن حرمة نكاح أمهات النساء مطلقة سواء دُخل

ص: 170


1- ظ: مجمع البيان،الطبرسي:م2/28.
2- سورة البقرة:233.
3- يعد هذا من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، إذ (إنّ القرابة من الرضاعة تثبت وتنتقل في النسل ، والسبب الوراثة ونقل الجينات، أي أن قرابة الرضاعة سببها انتقال "عوامل وراثية" من حليب ألأم واختراقها لخلايا الرضيع واندماجها مع سلسلة الجينات عند الرضيع، يساعد على هذه النظرية أن حليب الأم يحتوي على أكثر من نوع من الخلايا، ومعلوم أن المصدر الطبيعي للجينات هو نواة الخلايا"DNA""). موسوعة الإعجاز العلمي، يوسف الحاج احمد:156.

بالزوجة أم لا،أي أن وقوع الحرمة يكون بمجرد كتابة العقد لعدم وجود قيد يحدد ذلك، وهذا شامل لجميع الأمهات للزوجة وإن علن، ويدلّ على تحريمهن أيضا مجيء صيغة الجمع في(أمهات)(1) فهي شاملة للأم والجدة، وهكذا.

ومنهم من جعل الحرمة قيد الدخول بالبنت عندما فهم عود الضمير في (بهنّ) من قوله تعالى:﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾، أي في تزويجهن(2)، وهذا لا يجوز لأمرين: الأول: لظهور الدلالة على الحرمة، إذ لا يوجد ما يوقع اللبس كي يخصص أكثر، كما في الزواج من الربائب أو من حلائل الأبناء(3)، وأنّ الرسول (صلی الله علیه و آله) قال في رجل تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها:(لا بأس أن يتزوج ابنتها ولا يحلّ له أن يتزوج أمّها)(4).

والثاني: لا يجوز أن يكون الخبران المختلفان نعتهما واحدا إذ لا يُجيز النحويون:مررتُ بنسائك، وهربتُ من نساء زيدٍ الظريفات، على أن تكون"الظريفات" نعتا لهؤلاء النساء.

ثم قال سبحانه:﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾بصيغة المصدر المؤول من(أن

ص: 171


1- ظ: كنز العرفان، السيوري:520.
2- ظ: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير:1/470.
3- كان العرب يعدون المتبنّى بمنزلة الابن الصحيح، وله من الحقوق الطبيعية الموروثة المعترف بها للأبناء ويكون بهذا التبنّي فردا من العائلة التي تبنته، ولما جاء الإسلام نظم الحياة الاجتماعية للمسلمين فنزل قوله تعالى:(ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ(، سورة الأحزاب:5، ونزل قوله سبحانه:(وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ(، سورة النساء:23، في رسول الله (صلی الله علیه و آله) : حين نكح امرأة زيد بن حارثة.
4- أنوار التنزيل، البيضاوي:1/208.

والفعل) خلافا لما سبقهما من الأسماء. وقد يسأل سائل لماذا لم يأتِ بالمصدر الصريح محلها، ونقول: حُرّم عليكم جمع الأختين. ولعل ذلك أنّ المصدر الصريح يدلّ على الحدث، فتعددت احتمالات سبب الحرمة، وقد يكون كل احتمال لا يؤدي الغرض أو الدلالة المطلوبة من الحرمة، فلو(قلت: مثلا:"يعجبني مشي محمد" فقد يفيده ذلك أنّ في مشيه صفة معينة هي التي تعجبك، ويحتمل أيضا أنه يعجبك مجرد المشي من دون قصد إلى صفة معينة، ولكن إذا قلت:"يعجبني أن يمشي" كان ذلك لمجرد المشي لا شيء آخر أو صفة خاصة)(1)، فقولنا :حُرّم عليكم جمع الأختين، يحتمل أنّ جمعهم بينهما إنما حُرّم عليهم لما في الجمع من سوء العشرة بينهما أو غير ذلك، بيد أنّ قوله سبحانه:﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾، بيان أنّ الحرمة وقعت عليهم لأنهم جمعوا بينهما، لا أنّ جمعهم له صفة معينة هي التي سببت الحرمة. وفي هذا فرق كبير.

فضلاً على ذلك أن استعمال المصدر المؤول هنا جيء به ليجتمع الإخبار عن الحدث مع الدلالة على الزمان(2)الحاضر والمستقبل، أي أنّ الحرمة واقعة من لحظة نزول هذا الأمر بالتحريم والى المستقبل، غير أنّ المصدر الصريح يكون للإخبار عن الحدث وأنّ الزمان فيه مطلق، فقد يدلّ على المضي أو الاستقبال، وأنّ المراد الزمن المستقبلي فقط، لذا استثنى ما وقع من هذا النكاح فيما قد سلف.

إذن كان أمر الحرمة هنا لما يستقبل من الزمان، في حين يكون مجيء المصدر الصريح موهما في الدلالة بين المضي والحال والاستقبال، وهو غير مراد الآية ؛لأنّ

ص: 172


1- معاني النحو، د. فاضل السامرائي:3/128.
2- ظ: بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية:1/104.

ذلك مما يوجب حدوث أزمة اجتماعية بسب ما توالد من هذا النكاح من الناس، فأردف ذلك بقوله سبحانه:﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾،لما وقع من هذه الأنكحة الفاسدة.

الآية الثالثة

قوله تعالى:﴿وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾(1).

تُعدّ هذه الآية من الآيات التي تحدد نوعا من المحرمات في النكاح ألا وهو الزواج من المشركة أو المشرك، وتفضيل الإماء والعبيد من المؤمنين على غيرهم من المشركات والمشركين ولو أعجبوا بهم، وذلك أن الإيمان هو معيار التفضيل لا غيره، فقال تعالى:﴿وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ﴾بأسلوب النهي عن نكاحهنَّ، ولفظ(المشركات) لفظ عام شامل للوثنيات والكتابيات من اليهود والنصارى، وذلك لعدم وجود قرينة لفظية دالة على صنف منهما، غير أن سبب نزولها الذي حُكِيَ في كتب التفسير يؤيد كون المشركات من الوثنيات حصرا، وذلك(أنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها أناسا من المسلمين، وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق فأتته وقالت: ألا نخلو؟ فقال": ويحك إنّ الإسلام قد حال بيننا، فقالت: فهل لك أن تتزوج بي؟ قال: نعم، ولكن ارجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فاستأمِره،

ص: 173


1- سورة البقرة:221.

فاستأمَره فنزلت:﴿وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ﴾)(1). ومن هذا نستدل على حصر حرمة النكاح بالوثنيات.

فضلاً على ذلك أن لا دلالة في الآية على نسخها كما ذهب إلى ذلك الشيخ الطوسي(2)، ومذهب النسخ هو لابن عباس ومالك بن أنس وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن عمر والأوزاعي(3)، وقولهم إنها منسوخة بقوله تعالى:﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾(4).

وعلل الإمام أبو القاسم الخوئي(رحمه الله تعالى)في عدم نسخها بقوله:(والحق أنه لا نسخ في شيء من الآيتين، فإنّ المشركة التي حرمت الآية الأولى نكاحها، إن كان المراد منها التي تعبد الأصنام والأوثان، كما هو الظاهر - فإن حرمة نكاحها لا تنافي نكاح الكتابية التي دلّت عليه الآية الثانية، لتكون إحداهما ناسخة والثانية منسوخة، وإنْ كان المراد من المشركة ما هو أعمّ من الكتابية - كما توهمه القائلون بالنسخ، كانت الآية الثانية مخصصة للأولى، ويكون حصل معنى الآيتين جواز نكاح الكتابية دون المشركة)(5).

كذلك أن (المشركات) جاءت في سياق إنشائي(فهو لا يؤدي مهمته الانتاجية في

ص: 174


1- الكشاف الزمخشري: 1/292،مجمع البيان،الطبرسي:م1/23،البحر المحيط،أبو حيان:2/261.
2- ظ: التبيان، الطوسي:2/218.
3- ظ: البيان في تفسير القرآن، الإمام الخوئي:323.
4- سورة المائدة:5.
5- البيان في تفسير القرآن، الإمام الخوئي:323.

حدود السياق الذي يحتمله، وإنما يعمل على توليد ناتج إضافيّ، أي أن الأصل الوضعي يظل في خدمة السياق، وبخاصة السياق الخارجي)(1). فتأثير أصل وضع النصّ مبنيّ على سبب النزول المذكور سابقا الدال على حرمة نكاح الوثنية حصرا. في حين دلّت لفظة(مشركة) في قوله سبحانه:﴿ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ﴾،على المشركة بالمعنى الأعمّ شاملة الوثنية والكتابية وذلك لأنها جاءت في سياق خبري عام شامل ليخبر عن حالة تشريعية تالية لأصل التشريع الذي نزل النص بسببه، فعمّم دلالته، ومما يعضد ذلك مجيء(لو) الشرطية عندما قال تعالى:﴿وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ﴾، إذ إنّ (لو) الشرطية هذه لا تفيد التوكيد، ولو جاء بمؤكد شرطي لعلمنا أنّه يريد الاقتصار على الوثنية فقط، كأن يقول:(وإن أعجبتكم)، فإنّ (إنْ) الشرطية جازمة، والجزم يعني الوقوف على الفعل وحذف حركته، ليوحي إلى تأكيد الدلالة فيه، في حين استعمال(لو) لا يفيد التوكيد، وإنما جاءت مرسلة في أدائها لتتفق مع السياق العام الذي جاء به النص المبارك.

إذن، لا يمكن أن تحلّ (إنْ) الشرطية محل(لو) كما ذهب إلى ذلك بعضهم(2). والظاهر أنّ من ذهب إلى إمكان إحلال إحداهما محل الأخرى في هذا الموضع ذهب إلى غلبة عدم التأكيد لأنّه هو الأصل، والتأكيد فرع عليه، ثم الوقوف على تعميم لفظة(مشركة) حصرا لتدلّ على الوثنية والكتابية، وهو لا يجوز، في حين أن من ذهب إلى استقلال (لو) في عملها وعدم إمكان (إنْ) أداء معناها ذهب إلى عموم دلالة

ص: 175


1- البلاغة العربية -قراءة أخرى،د.محمد عبد المطلب:278.
2- ظ: معاني القرآن، الفراء:1/143، التبيان، الطوسي:1/218، مسالك الإفهام ، الكاظمي:731، إملاء ما من به الرحمن، العكبري:1/94.

(مشركة) لتدلّ على الوثنية والكتابية، وهو الأقوى؛ لأنّ كلّ لفظ في القرآن لا يمكن أن يحلّ محل الآخر، وإنما يتفاضلان عن بعضهما بمعانٍ دقيقة جدا في حال تقاربهما في الدلالة.

ثم لو أننا اقتصرنا على أن سبب النزول الذي ذكره علماء التفسير منحصر في قوله سبحانه:﴿وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ..﴾ لا نستطيع أن نستدل به على حرمة الزواج من المشركات؛ لأنّه جاء بسياق الإخبار، والخبر غير ملزم لأنّه وصف، بل نفهم منه أفضلية الأَمَة المؤمنة على غير المؤمنات عامة، أي جعل الإيمان معيارا لهذا التفضيل لا الحسب أو النسب، أو المال أو الجمال، لذلك عندما أراد تعالى أن يشرّع حرمة نكاح المشركات قدّم النهي فقال:﴿ وَلاَ تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾،ثم أخبر أن السبب هو عدم إيمانهنّ على وجه العموم، فكان سبب النزول مخصصا لحدث باعتباره انعكاسا لحالة وقعت آنذاك، فضلاً على كونه موضحا لحالة أعمّ من ذلك قد تكون محل ابتلاء المسلمين في المستقبل وليكون هذا النص قابلا لاستيعاب دلالات جديدة وقابلا للاجتهاد مرة أخرى، وهذا هو سر بقاء القرآن الكريم على حيويته منذ الرسالة والى قيام الساعة.

وقد يقال :لماذا استعمل(حتى) في قوله تعالى:﴿حتى يؤمِنَّ﴾،ولم يقل:(إلى أن يؤمِنَ) وهما متقاربان في الدلالة وذلك أنّ استعمال (حتى) فيه فائدة عدم دخول ما بعدها في حكم ما قبلها بمعنى انتهاء الأمر عنده، أي عند إعلان المشركة إسلامها فتنتفي في حرمة النكاح بها، فيكون ما بعد إسلامها غير داخل في حكم ما قبله من حيث عدم النكاح بها، ودون الحاجة إلى قرينة دالة على ذلك.

ص: 176

بيد أنّ استعمال (إلى) يحتاج إلى قرينة دالة على عدم دخول ما بعدها في حكم ما قبلها واحتياج القرينة تأخذ بالنص إلى الإيجاز، وهذا مما يُفسد بلاغة النص ويفقده رونقه.

وقوله تعالى:﴿وَلاَ تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا﴾،جاء فيه لفظة النكاح بصيغة الفعل المضارع من الفعل الثلاثي المزيد على وزن(أفْعَلَ) أي أنْكَحَ،ومن دلالات هذه الصيغة التمكّن في بلوغ الشيء(1). وهي جارية بها في هذا الموضع،بمعنى عدم تمكين المشركين وبلوغهم من وطأ المؤمنات،أي أعدم كل الوسائل والطرق المؤدّية إلى ذلك،وفي هذا زيادة من معنى؛ ففي بدأ الآية كان النهي عن زواج المشركات،لكن هنا مُنِعَ من توفير الامكانات من أن يتمكن المشرك من الزواج من المؤمنة،وفي هذا حرمة شديدة اكبر من حرمة زواج المؤمنين من المشركات،وهذا من نحو قولنا: أحفرتَهُ النهرَ،أي مكّنتهُ من حفر النهر،أو المثل: (وقد اعذر من أنذر) أي بلغ أقصى العذر بالإنذار المسبق من قبول العذر.

فاستعمال صيغة (أفْعَلَ) بدلالة الفعل المضارع قد زادت من حرمة زواج المؤمنات من المشركين بعدم توفير الإمكانات لذلك الزواج،من المخالطة والتعارف وغيرها من وسائل التمكين المعروفة آنذاك.

هذا التشدّد في حرمة زواج المؤمنة من المشرك توحي إلى أنَّ دلالة المشرك هنا لا تعني الوثني،بل جاءت عامة لتشمل الوثني والكتابيّ على السواء،فضلاً على عدم وجود مخصِّص لذلك كما في صدر الآية المباركة.

ص: 177


1- ظ: شذا العرف في فن الصرف،احمد الحملاوي:49،الصرف الواضح،د. عبد الجبار النايلة:100.

ثم كرّر تعالى معيار الإيمان في أفضلية المؤمن ولو كان عبداً على المشرك ولو كان حرّاً وذا حسبٍ ونسبٍ ومال وغيرها من الصفات الأخرى،في قوله تعالى:﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ دون تحديد صفة المشرك سواء كان وثنياً أم كتابياً وكما بيّنا ذلك قبل قليل.

واختلف العلماء في أحكام الزوجين إذا أسلما سويةً،أو أحدهما قبل الآخر أو دونه،وفيما كان الزوجان وثنيَيْن أو ذميَيْنِ،وتجد تفاصِل ذلك في كتب الفقه.

ثم قال تعالى:﴿أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ فأولئك يعني بهم المشركين والمشركات وهم الذين يدعون إلى النار،فجعل من الدعوة إلى النار سبباً لعدم النكاح،فعبّر عن الكفر بالنار للدلالة على ضرورة الابتعاد عنها لأنّها سبب الإحراق،فكأنّ الكفر عندما يتمكّن من النفوس المؤمنة به أو القريبة منه يحرقها شَرَّ إحراق،فلا يبقي لها من أثرٍ.

في حين كانت دعوة الله تعالى إلى الجنة،فطابق في الجملتين لأجل إظهار قيمة ما يدعو له وأهميته،فكرر ذلك بالطباق،فناسب بين المعنَيْين ليبيِّن صلة هذا التركيب بالمستوى الدلالي العميق (أصل المعنى والتركيب) لهذه البنية البديعّية ويوجد علاقة مع المستوى الدلالي السطحي(المعنى السياقي) الذي ظهرت فيه هذه الجملة القرآنية.

"فأولئك" اسم إشارة إلى البعيد،ذكره مناسباً للمشركين والمشركات استصغاراً لشأنهم ولما يدعون له وهو النار،ففي ذلك دعوة للابتعاد عنهم ومحاربتهم وإقصائهم وضرورة القرب من الله تعالى لأنّه يدعو إلى الجنة،والى هنا يكون المعنى قد

ص: 178

تمَّ،وحصل مع ذلك إيغالُ حسنٌ بقوله:﴿ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ بكسر التاء - ليزيد عليهم،لأنه لا يجوز المقارنة بين الله وأولئك،وهي أفضل من قراءة الضم(1)،لأنَّ الواو ستكون استئنافية وما بعدها جملة ابتداء وخبر مقطوعة عمّا قبلها في الدلالة،فاتباع المغفرة بالعطف على الجملة كان على سبيل التتمّة في الإحسان وتهيئة سبب دخول الجنة(2)،لأنّ دخوله يحتاج إلى مقدمات تتمثّل بما تحمله لفظة المغفرة من دلالات،لذا قدّم تعالى المغفرة على الجنة في أكثر من موضع،منها قوله سبحانه:﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾(3)، وقوله:﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ﴾(4)، فجاء السياق على الأصل من تقديم المغفرة على الجنة،لأن دخول الجنة متسبّب عن حصول المغفرة،ففي تلك الآيتين جاء على الأصل،واما هنا فقدّم الجنة على المغفرة لتناسب الغاية لما يدعو له الله تعالى مقابلاً دلالياً لما يدعو له المشركون،فأخّر السبب لذلك.

لكنه تعالى قيَّد الدعوة إلى الجنة والمغفرة بأذن منه،في حين أطلق السياق في دعوة المشركين إلى النار ليوحي بأن طريق الله تعالى واضح المعالم لا عوجَ فيه ولا أمت ودليلهم إلى ذلك التزام أوامره ونواهيه،في حين طريق المشركين متشعّب إلى النار فقد يسوقهم الشيطان إلى ذلك،أو هواهم أو بغيهم أو غيرها من الطرق غير المستقيمة فأطلقها على سبيل الاتساع في طلب النار،وجعل اللجنة طريقاً واحداً هو طريق الله سبحانه وتعالى عما يشركون.

ص: 179


1- ظ: البحر المحيط،أبو حيان: 2/266،إعراب القرآن،النحاس:94.
2- ظ: البحر المحيط،أبو حيان:2/266.
3- سورة آل عمران:30.
4- سورة الحديد:21.

ثالثاً: لوازم النكاح من المهر والنفقة وغيرها

اشارة

وفيها آيات:

الآية الأولى

قوله سبحانه:﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾(1).

كان من عادة بعض أهل الجاهلية إذا زوّج الرجل ابنته أخذ صداقها دونها وجعل لنفسه منه أو كلّه جعلاً يسمى "الحُلوان" وكانوا يسمّون ذلك الشيء الذي يأخذونه "النافجة" وكانت العرب تُعيِّر به،لأنّهم يعدّون المهرَ فريضة لازمة لصحة عقد الزواج وبدونه لا يقرّون زواجاً ولا يعترفون بشرعية(2). فنزلت هذه الآية المباركة لينهاهم الله تعالى عن أخذ صداقها دونها(3). ونقل أبو حيان الأندلسي عن الحضرمي أنَّ سبب نزولها أن قوماً تحرَّجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات(4)،وفي ضوء ذلك يكون الخطاب في الأول إلى الأولياء،وفي الثاني إلى الأزواج،وهو الأقرب لأن سياق الآية متّصل بما قبله في قوله سبحانه:﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ

ص: 180


1- سورة النساء:4.
2- ظ: تاريخ العرب قبل الإسلام،د. جواد علي: 5/530-531.
3- لباب النقول في أسباب النزول،السيوطي:53،تفسير القرآن العظيم،ابن كثير:1/451.
4- ظ: البحر المحيط،أبو حيان:3/232.

وَرُبَاعَ...﴾(1)، فقال سبحانه:﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾،الصَدُقات جمع مفردة صَدُقة. قال الأخفش: وبنو تميم يقولون صُدْقة والجمع صُدْقات،وان شئت فتحت وان شئت اسكنت(2)،والصدقة بمعنى المهر والأجر،إلا انه تعالى قد خصّها في هذا الموضع دونهما،وذلك لدلالة الايتاء عن طيبة نفس وتبرّع وهبة دون عِوَض ومثامنة،حتى اقترنت هذه الجملة القرآنية بالسهولة واليسر،وقد تجلّى ذلك بما يأتي:

1- أنّه تعالى قال: (فاتوا) ولم يقل : فأعطوا ، وذلك أن المعنيين متقاربان في الدلالة،إلا انه الإيتاء أسهل مأخذاً وأيسر تناولاً من الإعطاء من حيث الصوت والمعنى،ففي الصوت أنَّ الفعل (آتوا) في الأصل (إِأْتوا)، والهمزتان نبرتان تخرجان من الصدر مصحوبتان بصعوبة في نطقهما فادغما مع بعضهما فانقلبا إلى ألفين فمدّتا فخرجتا من جوف الفم بسهولة ويسر،في حين أنَّ الهمزة والعين في "أعطوا" فيهما من الثقل مالا يوجد في الألف الممدودة،لأنّ الهمزة نبرة في الصدر تخرج بإجهاد،والعين تولد من أقصى الحلق،فعند انتقال النفس لإطلاقهما سيواجه صعوبة في ذلك لا توجد في أي حالٍ من الأحوال في (آتوا) فضلاً على ذلك أن التاء فيها والطاء في (أعطوا) كلاهما صوت شديد مهموس،غير أنَّ الطاء من أصوات الإطباق ويتخذ اللسان عند النطق به شكلاً مقعّراً منطبقاً على الحنك الأعلى ويرجع إلى الوراء قليلاً(3)،مما يكون أغلظ صوتاً من التاء.

إذن صفات التاء أسهل في النطق وأيسر في الخروج من الفم مما هو عليه في

ص: 181


1- سورة النساء:3.
2- ظ: معاني القرآن،الأخفش:1/245،الجامع لأحكام القرآن،القرطبي:3/25.
3- ظ: الأصوات اللغوية،د. إبراهيم أنيس:56-57.

الطاء للفظة (أعطوا) المفترضة.

أمّا في المعنى فأن الإيتاء أفضل من الإعطاء وأيسر،ففي الأول السهولة وحسن المطاوعة والموافقة من دون طلب،وفي الإعطاء تناول بعد طلب(1). قال الراغب الأصفهاني: (الإتيان: المجيء بسهولة،ومنه قيل للسيل المار على وجهه أتي وأتاويّ)(2). وقال في الإعطاء: (العطوْ: التناول، والمعاطاة: المناولة،والإعطاء: الإنالة)(3). ففرّق بينهما فالسهولة للأول،وبعض المعاناة في الثاني؛ لأن الإنالة لا تكون إلا بالمطالبة والجهد.

2- أنَّ لفظ الَصدُقة هي الأخرى تقترن بالسهولة واليسر لأنّها تأتي طوعاً من غير إكراه مما يَحسُن اقترانها مع (آتوا)،وقال: صدقاتهنَّ،ولم يقل مهورهنَّ،لأنّ الصدقة اسم لما يبذله الرجل للمرأة طوعاً من غير إلزام،والمهر اسم لذلك ولما يلزمه،ومنه الصداقة لأنها لا تكون بإلزام وإكراه،ومنه أيضاً الصَدَقَة،وإنّما تداخلَ معنى المهر والصدقة لتقارب معناهما(4)،ومما زاد في السهولة واليسر أنّه تعالى أورد (صدقاتهنَّ) بالتأنيث ولم يقل: (صُدُقهنَّ) بالتذكير لأن المؤنث،أخفّ من المذكر في الطبع.

3- اقتران الإيتاء والصَدُقات بلفظة النِحْلة،والنِحلة عطيّةٌ على سبيل التبرّع وهي هبة،واشتقاقها فيما يرى الراغب الأصفهاني من النَّحل،نظراً منه إلى فعله فكأنَّ: نَحلتُهُ أعطيته عطية النحل،وسمي الصداق بها من حيث أنه لا يجب في مقابلته أكثر من

ص: 182


1- ظ: لسان العرب،ابن منظور:1/67،مادة(أتىَ)، 9/275 ،مادة(عطا).
2- مفردات ألفاظ القرآن،الراغب الأصفهاني: 12،مادة(أتى).
3- م.ن:351،مادة(عطا).
4- ظ: معجم الفروق اللغوية،العسكري والجزائري:310.

تمتِّع دون عوض مالي(1).

فسهولة الإيتاء وعدم الإكراه في الصَدُقة كانتا هما الأجمل في مقابلتها مع عطية النحل،فحسُنَ لذلك اقترانهم مع بعضهم بعضاً.

إذن اقترن في تشريع المهر هنا سهولة اللفظ من حيث الصوت ويسر النطق مع الدلالة المفضية إلى السهولة وعدم التعسير في الأعطاء،وكونه تبرّعاً وهبةً يأتي عن طيبة نفس،لذلك فأنَّ الصدقة منحة وهبة ربّانية،فهي لذلك دائماً ما تقترن باليسر والسهولة والطيبة.

لقد جيء بلفظة (الصدُقات) هنا على سبيل التشريع،ولم ترِد هذه اللفظة إلا في هذا الموضع من القرآن العظيم،في حين ورد رديفها (الأجور) مقترناً بالإيتاء أيضاً من نحو قوله تعالى:﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾(2)، وقوله:﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾(3)،وغيرها .عندما أراد التعبير به عن المعارضة في إباحة الفروج بالعقد الشرعي،ولا يقال إلا في النفع دون الضرر في غير النكاح(4).

واختلف العلماء في إعراب (نِحْلةَ) فمنهم من جعله منصوباً على المصدر أي مفعولاً مطلقا بتقدير: انحلوا النساء صدقاتهن نحلة، ومنهم من عدّها حالا من المخاطبين، أي آتوهن صدقاتهنّ ناحلين، ومنهم من جعله مفعولا لفعل مضمر "شرع" أي: انتحل الله ذلك نحلة بمعنى شرّعه شرعة ودينا، ومنهم جعله مفعولا له بمعنى

ص: 183


1- ظ: المفردات،الراغب الأصفهاني: 259 نحل.
2- سورة النساء:24.
3- سورة الأحزاب:50.
4- ظ: المفردات،الراغب الأصفهاني:64 - أجر.

آتوهن ديانة وفرضا(1).

فأما من قال:إنّ النحلة بمعنى شرعة ودينا وفرضا، فإنّ صدر الآية اشار إلى وجوب دفعه إلى النساء بقوله:(وآتوا النساء) بصيغة الأمر الدال على الوجوب مع عدم وجود قرينة لفظية دالة على دفع هذا الجواب، فضلاً على ذلك أنّ سبب النزول جاء لينهي عن أخذ مهورهن من قبل الأزواج، وعليه فلا مسوغ لصدور أمر أو فرض آخر لذلك ، ثم أنّ الامتثال لهذا الواجب يعدّ تديّنا وتشريعا، فسقط كون النحلة بمعنى الفرض والواجب أو الدين.

وأما من قال بكونه منصوبا على المصدر، فتكون (نحلة) مصدرا مبنياً للمفعول المطلق الأصل وهو الإيتاء، بمعنى:"وآتوا النساء صدقاتهن إيتاء نحلة" فتكون "نحلة" وصفا للإيتاء بأنه طيّب، وهذا صحيح.

وكذلك من عدّها حالا بمعنى ناحلين، أي كونهم الأزواج واهبين المهر لهنّ عن نفس طيبة، هو صحيح أيضا ، فيكون الاحتمالان قائمين ومتعاضدين مع بعضهما في إظهار المعنى، لأنّ أصل التشريع قائم على الهبة والمنحة عن نفس طيبة.

وقوله تعالى:﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا﴾، أي تتنازل الزوجة عن بعض مهرها مشروط بطيبة نفسها هي، لا إكراها ولا مسامحة،ولو أراد ذلك لقال: طبن أو سمحن،وفي ذلك إعلام بأنّ المراعىَ هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة(2)،فحصر

ص: 184


1- ظ: الكشاف، الزمخشري:1/501، البحر المحيط، أبو حيان:3/232، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي:3/27،كنز العرفان،السيوري:532.
2- ظ: الكشاف،الزمخشري:1/501.

هبتها بطيبة نفسها منها.

واختلف في (لكم) أهو للأزواج أو للأولياء،والظاهر أنّه للأزواج لأنّ الخطاب في الأصل موجَّهٌ لهم،ونقل أبو حيان الأندلسي عن الحضرمي أن سبب نزولها أنَّ قوماً تحرّجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات(1).

ثم قال تعالى:﴿عن شيء﴾على سبيل التنكير،فقد يكون مالاً أو ثياباً أو أرضاً،فأحدها أو بعضها أو كلها تصلح أنَّ تكون مهراً،وقد يكون كثيراً أو قليلاً،أي متجاوزين،ثم قال:(منه) للتبعيض،والضمير عائد على (الشيء)،أي بعض من ذلك الشيء،ومنهم من قال بعوده على الصداق،وهو إشارة إلى ما تهبَهُ الزوجة يكون بعضاً من الصداق(2). غير أنّ الصداق ورد جمعاً مؤنثاً (صدقاتهنّ) فينبغي أن يكون الضمير العائد عليها مؤنثاً أيضاً بتقدير (منها) أي من الصدقات،لذلك فعوده إلى (شيء) أَوْلَى،وفي هذا تشريع إلى قلّة ما تهبه الزوجة لزوجها مشروطاً بطيبة نفسها منه وبعض من أحد أجزائه،وقد نقل الزمخشري عن الليث قوله: (لا يجوز تبرّعها إلا باليسير)(3).

وتدلّ الآية بعمومها على جواز أنَّ تهب المرأة جزءاً من صداقها لزوجها بكرا كانت أو ثيّباً،طيبة به نفسها،وبه قال جمهور الفقهاء،غير أنَّ مالكاً منع من هبة البكر صداقها لزوجها وجعل ذلك للوليّ مع أنَّ الملك لها(4). وهذا خلاف لظاهر الآية.

ص: 185


1- ظ: البحر المحيط،أبو حيان:3/232.
2- ظ: م.ن،الكشاف،الزمخشري: 1/501،كنز العرفان،السيوري:532.
3- ظ: الكشاف،الزمخشري:1/502.
4- ظ: الجامع لأحكام القرآن،القرطبي:3/27.

وقال تعالى:﴿فكلوه هنيئاً مريئاً﴾ أمر لإباحة ما وهِبَ للأزواج من صداق الزوجة حال كون المأكول هنيئاً،والمراد به نعمة بلا نكد ولا تبعة،و "مريئاً" المراد منه السائغ كالطعام السائغ في المريء بسهولة وبلا غُصّة(1)،وفي ذلك شفاء،وعَبَّر عن أخذه بالأكل مجازاً لا على سبيل الحقيقة.

وقد روي (أنَّ رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين - أي عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) - فشكا إليه وجع بطنه فقال ( عليه السلام ) : ألك زوجة؟ قال: نعم،قال: استوهب منها شيئاً طيّبة به نفسها من مالها،ثم اشترِ به عسلاً ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه،فأنّي سمعتُ الله تعالى يقول:﴿وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾(2)، وقال:﴿يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ﴾(3)،وقال:﴿ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾(4)،فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنيّ والمريء شفيت أن شاء الله تعالى. قال: ففعل ذلك فشفِي)(5).

إذن مجمل ما نزلت به الآية المباركة لتشريع صداق الزوجة ووجوبه وما تهبه منه وشروط ذلك على وجه الجواز والإباحة لا على وجه القطع والوجوب.

ص: 186


1- ظ: آلاء الرحمن،البلاغي:2/700.
2- سورة ق:9.
3- سورة النحل:69.
4- سورة النساء:4.
5- كنز العرفان،السيوري:532-533.

الآيتان الثانية والثالثة

قوله تعالى:﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا*وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾(1).

الخطاب في هذه الآية موجّه للمؤمنين عامة بدليل ما سبقها في قوله تعالى:﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ﴾(2)، ونهى عن عضلهنَّ،إلا أنَّ يأتينَ بفاحشةٍ فبّين تحريم المضارة في غير هذا الحال،فقال تعالى:﴿وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ ﴾،فابتدأها بشرط بمعنى أنَّ وقوع الاستبدال يكون سبباً لوقوع شيء ثانٍ،أي أنَّ وقوع الثاني يتوقّف على وقوع الأول،غير أنَّه جاء بفعل الشرط(أردتم) بصيغة الزمن الماضي،وفي هذا دلالة على أنَّ افتراض إرادة الاستبدال ستكون في المستقبل على وجه اليقين،وهذا معناه إنزال غير المتيقّن منزلة المتيقّن(3). لأن الحدث إذا وقع في الماضي ثبت وقوعه في حين وقوعه في المضارع غير مقطوع فيه،وقد تنبَّه ابن جني(ت392ه-) لذلك فقال: (وكذلك قولهم: أن قمت قمت،فيجيء بلفظ الماضي والمعنى معنى المضارع،وذلك أنّه أراد الاحتياط للمعنىَ،فجاء بالفعل المضارع المشكوك في وقوعه بلفظ الماضي المقطوع بكونه،حتى

ص: 187


1- سورة النساء،20-21.
2- سورة النساء:19.
3- ظ: معاني النحو،د. فاضل السامرائي:4/47.

كأنّ هذا قد وقع واستقرّ لا أنّه متوقّع مترقّب)(1)،وذلك أنَّ تشريع أي حالة إنّما يبنى على حالات مفترضة غير أنَّ أسس هذا الافتراض موجودة في الواقع العملي للمجتمع،لذلك فأنّ التشريع سيأخذ بنا إلى ما سيقع من محفزات لهذه الأسس في المستقبل،وعليه فأن مجيء الماضي في الشرط يزيد من احتمالات وقوع السبب الذي يؤدّي إلى المسبب فاحتاط لذلك فجعله كأنّه سيقع على وجه اليقين لا الشك.

ومّما زاد من هذا اليقين أنّه جاء بالمصدر (استبدال) المأخوذ من الفعل (استبدل) على صيغة(استفعل) الدالة على الطلب ههنا،وهو ليس بمعنىَ (أبدل) الدال على أنه أبدله مرة واحدة،ولا هذا كذلك بمعنى (بدّل) الذي يدلّ على طلب البدل من نفسه(2). بل أنَّ (استبدل) جاء بمعنى (تحيّل) طلب البدل والتلطّف فيه كي يجيء البديل المطلوب.

هذا إذا كان بصيغة الفعل،لكنه جاء على سبيل الدوام عندما أورده بالاسم(استبدال)،ليدلَّ فيه على الثبات وعدم التغيّر ليزيد من اليقين الواقع من إرادته في ذلك.

ولو جاء بصيغة الفعل المضارع (استبدل) لدلّ على وقوع هذه الحالة مرة بعد أخرى،لأنّ الفعل متجدّد وفيه افتراض تكرار الحدث وتجدّده مرة بعد أخرى،وهذا مما لا يريده تعالى لأنّ فيه تمزّقاً لنسيج وحدة المجتمع وخرابه.

إذن مجيء اللفظ بصيغة الاسم فيه إبعاد لما نكْرَهُ حصوله في المجتمع لآثاره

ص: 188


1- الخصائص،ابن جني:3/107.
2- ظ: شرح الرضي على الشافية،الرضي الاسترابادي:1/80.

السيئة،وهذا هو في أصله غير مراد الآية ولا مضمونها،ويمكن أنَّ نعدّ هذا المعنى ثانوياً بيد أنَّ المعنى الأصل في الآية هو التشريع الثابت المبني على أسس ثابتة في إرادة استبدال زوج مكان زوج،والزوج هنا يعني المرأة،لأنّ الخطاب موجّه في الأصل إلى الرجال من المؤمنين.

ثم عقّب بقوله:﴿ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا﴾، قالوا للحال،لأنّها جاءت هنا وما بعدها وصف لعامل الحال وهم المخاطبون من الرجال بالمعنى،أي حال كونهم معطين أزواجهنّ قنطاراً من الذهب مبالغة فيه،فذهب القرطبي إلى جواز المغالاة في المهور مستدلاً عليه بخطبة عمر بن الخطاب حيث قال: (ألا لا تغالوا في صدقات النساء فأنها لو كانت مُكرمة في الدنيا عند الله لكان أولاكم بها رسول الله (صلی الله علیه و آله) ما أصدق قطّ امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية،فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر،يعطينا الله وتحرمنا أليس الله سبحانه وتعالى يقول:﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾ فقال عمر: أصابت امرأة واخطأ عمر)(1)، لكن هذا لا يصح أن يكون دليلاً على جواز المغالاة في المهور لأن قوله سبحانه:﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا﴾ إنما يجيء به لغرض التأكيد على الزجر في أخذ صداق المبهوتة وان كان كثيراً،فضلاً على كونه قليلاً،أي أنَّ فيها تفصيلاً لما أجمل في حال استبدال زوج مكان زوج ولبيان الحكم على أنصح وجه له،ثم لو أراد ذلك حقاً لجيء به معطوفاً على الفعل(أردتم) فيشتركا في الحكم غير أنَّ مجيئه حالاً أضعف كونه أراد جواز الغلاء في المهور للنساء.

ص: 189


1- الجامع لأحكام القرآن،القرطبي:3/92.

فضلا على ذلك أن تقديمه على جواب الشرط:﴿ فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا﴾،يدلل على شدة الزجر في أخذه أيضاً وان كثر على سبيل الافتراض لا الحقيقة،ثم كرّره مرة أخرى بالضمير (منه) على سبيل التبعيض أي أنَّ النهي لم يكن على أخذ كل صداق المبهوتة بل حتى وان كان جزءاً منه،لأنّ النهي هنا يدلُّ على عموم ما أتاها،وهذا مما زاد في الزجر،لأنّ عدم جواز أخذ الجزء يفضي إلى عدم جواز أخذ الكل على سبيل البداهة،وإشعار من المشرّع بأهمية الصداق للمرأة وحق تصرفها به.

وقد يقال أنَّ الآية ابتدأت بذكر زوج وهو لفظ مفرد،ثم أردفها بالجمع في (إحداهنّ) فكيف يسوغ هذا؟ أنَّ هذا الإشكال غير وارد هنا،وذلك أنَّ ذكر الزوج بالمفرد،والمفرد أصل للجمع وأعمَّ منه وذكرها بالنكرة والنكرة أعمّ من المعرفة،فاجتماع العام في النكرة والإفراد يفضي إلى تعميم الدلالة لتشمل المفرد والجمع،فلهذا استسيغ الإتيان ب-(إحداهنّ) على سبيل الجمع لإفادة العموم المتفق مع ما قبلها.

ثم قال سبحانه:﴿ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾،مستفهماً ومخاطباً الأزواج الذين يبهتون زوجاتهم،وزاجراً لهم على فعلتهم،لذا فأنّ (بهتاناً) في موضع المفعول له،لا في موضع الحال كما يذهب النحاس والأنباري والشيخ الطوسي والطبرسي إلى ذلك(1). لأنّ المقام هنا ليس مقاماً لبيان حال المُبهِتين لزوجاتهم،وإنما مراد الآية هو بيان علة حدث البهتان،والزجر عن الإتيان به فجاء بأسلوب الاستفهام المفضي دوماً إلى السؤال عن ذلك وكشف الحقيقة من وراء ذلك فبيّن أنّه عملٌ غير صالح فأردفه بقوله:(وإثما

ص: 190


1- ظ: إعراب القرآن،النحاس:178،البيان في غريب القرآن، الأنباري :1/248، التبيان، الطوسي :4/252، مجمع البيان،الطبرسي:م2/35.

مبيناً) زيادة في وصف البهتان لأجل تأكيد الزجر على أخذ صداق الزوجة بأبهاتها.

ثم قال تعالى:﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾(1)،متعجّباً لعظم ما هم عليه وتعليلاً لمنع الأخذ وتشديداً على الإنكار والزجر عليه،وقد ذكره بالضمير في (تأخذونه) العائد على الضمير في (منه) لا على التبعيض،ولو أراد تبعيضه لقال: وكيف تأخذونه منه ،ولدلّ على بعض المهر،وأنّ النصف هو بعضٌ من الكل.

عندئذ يصدق عليه عدم الجماع،لأنّ المطلقة غير المدخول بها تأخذ نصف مهرها لقوله تعالى:﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾(2)،فأسقط كون المطلقة هنا غير المدخول بها،لذا أردفها بقوله:﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ التي تعني الجماع،لأنّ غاية الإفضاء الدخول بالزوجة فعُديَ معنى الإفضاء ب-(إلى) الدالة على انتهاء الغاية.

ولو أراد مجرد الخلوة دون الجماع لما أردفها بقوله:﴿ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، الدالة على عموم الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان(3)ليشمل حال الدخول وعدمه لكن تقديمه لقوله:﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ﴾، إنما جاء به ليخصص هذا العموم بالمدخول بها دون غيرها، وقد روي أن الرجل منهم إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى

ص: 191


1- سورة النساء:21.
2- سورة البقرة:237.
3- ظ: معاني القرآن، الفراء:1/259، مجمع البيان، الطبرسي:م2/26.

رمى زوجه بنفسه بالفاحشة وهي تحته كي يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها(1).

إذن، مجمل القول، أنّ هاتين الآيتين المباركتين تشرّعان بعدم أخذ صداق الزوجة وزجر عن ابهاتها لأجل إسقاط الصداق وصرفه إلى أخرى قصد الزواج بها؛ لأنّ ذلك هدما لبنية المجتمع بظلم المرأة وسلبها حقوقها.

ص: 192


1- التفسير الكبير، الفخر الرازي:4/13.

ص: 193

الفصل الثالث - التوجيه الدلالي لآيات الطلاق

اشارة

ص: 194

ص: 195

التوجيه الدلالي لآيات الطلاق

لمّا ارتبط مفهوم النكاح بالعقد الشرعي الذي يبيح فيه للزوجين اللقاء بينهما ، ويُعلم على الناس من خلال الخطبة ، ومن ثم إجراء عقد النكاح المبني على الايجاب والموافقة من الطرفين ؛ نظر الإسلام إلى حالة رفع هذا القيد عند عدم التوافق بين الزوجين لسببٍ ما ، فعمد الإسلام إلى وضع ضوابط لفك هذا الارتباط ؛ أي إيقاع الطلاق بينهما ولو على كراهة ، لأن من شأن الطلاق وقوع الافتراق ، وربما يكون له آثارٌ اجتماعية على الاسرة ذاتها ، وقد يتعدى ذلك إلى اسرتي الزوجين ، فوُضِعَ لأجل ذلك أحكامٌ وأسس يُحفظ بها حقوق كليهما ، وما يتبع ذلك من مسؤولية الأطفال إن وُجدوا من قبيل المهر والنفقة وحفظ النسب وغيرها من الأمور التي لها علاقة بذلك ، فشرّع الله تعالى لكل ذلك أسسه وقوانينه في مجموعة من الآيات القرآنية التي بسطت الحديث في ذلك .

الطلاق في اللغة والاصطلاح

الطلاق في اللغة: من ( طلّق الرجل امرأته وطلَقَت بالفتح ، تطْلُق طلاقاً وطَلُقَت ، والضم أكثر عن ثعلب ، طلاقاً وأطلقها بَعْلُها وطَلُقت ، ... وفي حديث عمر والرجل الذي قال لزوجته : أنتِ خَليّة طالق ، الطالق من الإبل : التي طُلِقت في المرعى ، وقيل : هي التي لا قيد عليها ، وكذلك الخليّة . وطلاق النساء لمعنيين ، أحدهما حل عقدة النكاح ، والآخر بمعنى التخلية والإرسال

ص: 196

ويُقال للإنسان إذا أعتق طليق أي صار حراً )(1) ، والطلاق في الشرع ، إزالة قيد النكاح ، وهو إمّا من قبيل التخصيص أو النقل ، ولا يقع عند الإمامية إلّا بلفظه الصريح الدال على الجملة بالمواطئة(2).

وأنّ ( أصل النكاح في كلام العرب الوطء ، وقيل للتزوج لأنه سبب الوطء المباح ، الجوهري : النكاح : الوطء ، وقد يكون العقد )(3)، ولم يرد النكاح في القرآن الكريم إلّا بمعنى العقد وهو دليل على كونه حقيقة فيه شرعاً ولأنه لو استعمل في الوطء وكان تصريحاً بكونه حقيقة فيه لغةً لا شرعاً ، لأن من دأب القرآن التعبير عنه بالملامسة والمماسة والمقاربة والتغشي والإتيان والدخول والوطي والكل كناية(4) .

ولمّا كان لفظ النكاح يحتمل معنيين وكلاهما يعني إحكام القيد على الزوجة بالزوجية ، فقد ناسب فك هذا القيد لفظ الطلاق الذي يعني الانطلاق والإرسال ، وعليه فإن الطلاق لفظ جاء من قبيل التخصيص لا النقل في الأصول(5)، ومن

آيات الطلاق في القرآن الكريم ما يأتي :-

ص: 197


1- لسان العرب / ابن منظور : 8/187 – 188 - طلق
2- ظ : كنز العرفان / السيوري : 576-577
3- لسان العرب / ابن منظور : 14/279 - نكح
4- ظ : كنز العرفان / السيوري : 587
5- ظ : م . ن : 576

الآيتان الأولى والثانية

قوله تعالى: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾(1)

في هاتين الآيتين المباركتين أمور تتعلق بالطلاق وأحكامه وأنواعه وما يترتّب عليه من مسائل المهر والصداق فضلاً عن حصر إنهاء العقد والزواج بيد الرجل ، وانتقاله استثناءً إلى الزوجة ، وهو خلاف الاصل والقواعد ، الشرعية المعتبرة ، وإباحة ذلك لها وعدم ارتكابهما الإثم والمعصية .

وعليه فأنّي استطلع فيها أمرين مهمين هما :

الأمر الأول : جواز مراجعة الزوجة فقوله تعالى (الطلاق مرتان) ، محدِّد لعدد مرات الطلاق ، وان سبب نزول هذه الآية يبيّن لنا الأسباب المؤدية لهذا التحديد ، فقد ( روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن امرأة أتت فشكت أن زوجها يطلقها ويسترجعها يُضارها بذلك ، وكان الرجل في الجاهلية إذا طلّق امرأته ثم راجعها قبل أن

ص: 198


1- سورة البقرة / الآيتان 229-230

تنقضي عدتها كان له ذلك وان طلقها ألف مرة ، لم يكن للطلاق عندهم حد ، فذكرت ذلك لرسول الله فنزلت ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ )(1) .

فعملية التحديد بالمرتين هو لدرء الضرر الذي يصيب المرأة المطلّقة وإعطائها الحرية في اختيار ما يناسب حياتها من نحو الزوج وغيره . فضلاً عن إلغاء مفهوم الجاهلية في المراجعة ألف مرة ، الذي يجعل من المرأة لا حياة لها وأنها تابع ذليل لا يقدر على عمل الخير حتى لنفسها فضلاً عن غيرها ، وهذا مما يعمل على هدم الأسرة ، فقيّد هذا التحديد حرية الرجل ومنحها إلى المرأة لتجد نفسها وحياتها .

والمغزى الذي يهدف إليه الإسلام من ذلك ، هدم الأعراف الجاهلية المبنية على إلغاء حق النوع الآخر وهو (النساء) ، لان الإسلام قد جعل للمرآة نصيباً كما للرجل نصيب فقال تعالى : ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ ... وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ﴾(2) من غير تجاوز على حقوقها و حرمتها .

ومما يستدل من هذه الآية كذلك أن وقوع الطلاق مرتين لا يكون في مجلس واحد بل لو كان في مجلس واحد لقدّم العدد على المعدود وقال (مرتان الطلاق) أي أن يلفظ الرجل (أنت طالق ، أنت طالق) أو نحوه ، فيكون قد وقع الطلاق مرتين ، وكذلك في طلاق الثلاث ، غير أن تقديم المعدود على العدد أوجب وقوع الطلاق

ص: 199


1- مجمع البيان / الطبرسي : 13/329 ، الكشاف / الزمخشري : 1/302 ، البحر المحيط / ابو حيان : 2/306
2- سورة النساء / الآية 7

الأول ثم الرجوع عنه بعد مدة ومن ثم وقوع الطلاق الثاني والرجوع عنه بعد مدة أخرى ، فيكون قد وقع الطلاق مرتين.

لذا فان طلاق الاثنين وطلاق الثلاث في مجلس واحد يعدُّ طلقة واحدة فقط ، على وفق نظم هذه الآية ، وهو رأي الأمامية والحنفية ، قال المقداد السيوري في معرض حديثه عن الآية المباركة : ( وقال أصحابنا الحنفية : المراد التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق كقوله تعالى ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾(1) أي كرّة بعد كرّة ومثله لبيك وسعديك ، ولذلك قالوا : الجمع بين الطلقتين أو الثلاث بدعة ، واحتج أصحابنا بعد أخبارهم التي رووها عن أهل البيت (عليهم السلام) )(2) .

وقوله تعالى :﴿ فإمساك بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ ﴾ عطف على قوله ﴿الطلاق مرتان﴾ بالفاء المفيدة للتعقيب ، وإنما جاء العطف بها لإفادة ( وقوع حكم ما بعدها عقيب حكم ما قبلها بلا مهلة عرفية وتراخٍ عادٍ )(3) ، ونستدل منها أن الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان يقع عقيب الطلاق الثاني مباشرةً وبأقل زمن أي أثناء عِدّة المطلقة ، وهذه العدّة تعدُّ مهلة عرفية ، فناسب مجيء الفاء مع وقوع الحكمين ، وان استعمالها كذلك يُفيد تقصير المدة ، ولو أراد التطويل لجاء بالأداة (ثم)(4)، وبما أن المقام في الآية مقام تقصير فأحسن فيها مجيء الفاء .

ص: 200


1- سورة الملك / الآية 5
2- كنز العرفان / السيوري : 590 ، ظ : التبيان / الطوسي : 2/248
3- الفرائد البهية / ابن معصوم : 572 ، ظ :
4- ظ : معاني النحو / د.فاضل السامرائي : 3/204

إن المغزى من الإتيان بالفاء المفيدة للعطف الثاني على الأول ، هو لفضّ النزاع ودرء المشاكل التي تواجه الرجل والمرأة ، وكذلك أهليهما من بعد لأجل صيانة المجتمع وحفظه من المشاكل بأسرع وقت ممكن ، لان بقاء المشاكل عالقة مدعاة لتطورها وتشعّبها مما يدخل المجتمع في حالة من صراعات ، وهذا عمل فيه مزيدٌ من احترام النفس والمجتمع ، والانشغال بما هو مفيد .

ثم جاء ب-(أو) ليضع المخاطبين من الرجال أمام خيارين ليختاروا واحداً منها ، أما الإمساك بمعروف من حسن المعاشرة وإعطاء النفقة وغيرها وهو الزواج الرجعي ، أو تسريح المرأة وإعطائها حريتها لتختار من يناسبها ولتعيش بأمان وطمأنينة ، وهو الطلاق .

غير أن (أو) ترشدنا إلى أمر مهم ، هو أنها لا تأتي إلاّ بعد أمر أو طلب لأجل أن تكون تخييرية ، إذ إنَّ معنى التخيير ( ترك المخاطب حرجاً يختار احد المتعاطفين فقط ويقتصر عليه دون أن يجمع بينهما لوجود سبب يمنع الجمع )(1) ، ففي الآية الكريمة لا يجوز عقلاً أن يُرجع المطلقة ، ويطلقها في آن واحد ، فهنا يجب اختيار أحد الأمرين .

وكذلك يدلّ استعمال (أو) المشروط عملها بأن يسبقها أمرٌ وطلب ، فيكون قوله (الطلاق مرتان) بموضع الوجوب أو الأمر ، ثم لو كان خبراً لاحتمل الصدق والكذب في ذلك ، وهذا مما لا يكون في كتاب الله ، لأنه كله صدق ولا وجود للكذب فيه البتة .

ص: 201


1- النحو الوافي / د.عباس حسن : 3/433

أما دلالة قوله(فإمساك بمعروف) يقول المقداد السيوري : (أي على وجه سائغ ، وهو كناية عن ردّها إلى النكاح إمّا بالرجعة ، إن كانت العدة باقية ، أو باستئناف العقد إن انقضت)(1)

وأما قوله (تسريح بإحسان) فقد ( اختلف في معنى التسريح ، فقيل : هي الطلقة الثالثة لما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أن المراد من التطليق الرجعي اثنان ، فعندما سُئِل عن الثالثة قال (صلى الله عليه وآله) : (( أو تسريح بإحسان ))(2) وقيل أيضاً هو ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة ، وهو المروي عن الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) ، وهو الأصح لان الطلاق لايقع بالكناية بل بالتصريح ، وهو رأي الأمامية من الشيعة(3) ، وعند طلاق الزوجة لا يؤخذ من مهرها شيء ، بدليل قوله سبحانه ﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا﴾(4) ، وقال (مما) أي من ما ، فجاءت (من) تبعيضية و(ما) اسم موصول ، وهي من صيغ العموم ، فأفادت عموم المهر سواء كان أموالاً ونقداً أم أرضاً أو عقاراً أم غير ذلك ، ولذلك جيء بلفظة (شيء) وهي نكرة في سياق النفي لتفيد العموم كذلك ، ولو جاءت معرفة لخصّص ذلك الشيء بأحد مذكورات المهر ، فناسب مجيئها ما سبق من العموم ، فتوجيه النص هو عدم حليّة اخذ أي جزء من هذه الأشياء من المطلّقة ، ومما يزيد من حرمة أخذ المهر من المطلقة ، مجيء الفعل (أخذ) متعدياً إلى مفعوله حرف الجر فقال (لا

ص: 202


1- كنز العرفان / السيوري : 591
2- ظ : كنز العرفان / السيوري : 590 ، مجمع البيان / الطبرسي : 329 ، الكشاف / الزمخشري : 1/301 ، التبيان / الطوسي : 2/244
3- ظ : م . ن : 590 ، التبيان / الطوسي : 2/244
4- سورة البقرة / الآية 229

تأخذوا مما أتيتموهن) ، ليؤكد عدم حلّية أخذ الجزء من المهر وهذا يوحي إلى عدم اخذ كل المهر ، لان حرمة اخذ الجزء منه تدلّل على حرمة أخذ كله ، وهذا أبلغ في التعبير ، ولو أراد عدم حلية أخذ الكل لعدى الفعل (أخذ) بنفسه ، قال ( لا تأخذوا ما أتيتموهن ) فيكون الأخذ لكل المهر على وجه الإطلاق ، وهو غير مطلوب الآية المباركة .

ثم نبّه تعالى إلى أمر مهم عندما عدل عن أسلوب الخطاب (و لا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا) إلى أسلوب الغيبة عندما قال ﴿ إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾ليلفت الأنظار إلى أمر مهم آخر ، وهو افتداء الزوجة بالمال (الخلع) .

وفي هذا تنشيط للسمع واستمالة في الإصغاء إلى ما يقول بعد الكلام الأول(1) لأهميته ، وهو ما يمثل الأمر الثاني ، وهذا إنما يدلّل على أن الخطاب لأولي الأمر أو الحكام القائمين على تطبيق الشريعة لا إلى الأزواج كما ذهب بعضهم إلى ذلك ، لأن أولي الأمر أعرف بحدود الله من عامة الناس وأولى من غيرهم في ضرورة تطبيقها على الناس كافة .

والفعل (أخذ) في قوله ﴿ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ ﴾لم يأتِ على أصل معناه المعجمي بمعنى التناول(2) ، فقد تعدّى ب- (من) إلى مفعوله فاتخذ له معنًى مجازياً بمعنى المنع(3) ، وهذا المعنى ناسب دلالة الفعل (أتى) في قوله (أتيتموهن) الذي جاء

ص: 203


1- ظ : الطراز / العلوي اليمني : 266
2- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 1/84 – أخذ ، الطراز الاول / ابن معصوم : 6/365- أخذ
3- ظ : م , ن : 1/84 - أخذ

بمعنى الإعطاء(1) ، فيكون المعنى أن لا تمنعوا أي شيء من مهور النساء المطلّقات الذي أعطي لهن وفق العقد بين الزوجين وان الذي ينظم عقد الزواج والطلاق هو الذي يحدّد متى يمنع المهر ومتى يعطيه وفق الشريعة عند الترافع عليه ، وهو ولي الأمر والحاكم بأمر الله تعالى .

وكذلك لو جاء الفعل (أخذ) على أصل معناه (تناول) الذي على صيغة (فاعل) الدالة على المشاركة بين اثنين من نحو ( وتناولت من يده شيئاً إذا تعاطيته وناولته الشيء فتناوله )(2) ، فيكون بمعنى الأخذ على أصل معناه بين اثنين وهما الزوج والزوجة .

إذن توجيه النص المبارك لا يكون لمخاطبة الأزواج ، ومما يعزز هذا أيضاً ما جاء بعده من الاستثناء في قوله ( وان خفتم ) أي إن علمتم يا ولاة الأمر والحكام من أن لا يقيما - أي الزوجين – حدود الله. فلا وجه لقبول كلا الاحتمالين كما ذهب إليه الزمخشري(3) . والله اعلم .

الأمر الثاني : - جواز افتداء الزوجة بالمال (الخُلع) :-

عند تدبّر قوله تعالى﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ﴾نجد ان نفي الجناح هنا قد نُصَّ عليه باستعمال (لا) النافية للجنس التي تفيد نفي العموم بالتنصيص ؛ مع وجود محدِّد

ص: 204


1- ظ . لسان العرب / ابن منظور: 1/67 - أتى
2- م ، ن : 14/335 - نول
3- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/302 ، البحر المحيط / ابو حيان : 2/317 ، مجمع البيان / الطبرسي : 13/329

لهذا النفي وهو افتداء الزوجة بمهرها لأجل طلاقها ، ومحدِّد آخر يشمل هذين يقع عليهم النفي وهما الزوجان، بدلالة قوله(عليهما) – أي الزوج والزوجة- .

إن الخلع هو طلاق لا محالة , وليس بفسخ، لان الفسخ هو نقض العقد والمعاملة ، وان نقض العقد بيد الزوج ، لأنه صاحب العصمة في ذلك ، وقد اتفقت الشيعة الأمامية على كون الخُلع طلاقاً وليس بفسخ(1) ، وهو مذهب السيد المرتضى(2) ، ومالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والاوزاعي والشافعي في الجديد ، على انه طلاق بائن(3) ، وهو كذلك عند الإمام الصادق(علیه السلام) ، والشيخ الطوسي(4) ، وصاحب الجواهر(5).

في حين ذهب آخرون إلى انه فسخٌ لا طلاق ، منهم ابن عباس ، وعثمان بن عفان، وهو قول طاوس وعكرمة ويقول به احمد بن حنبل ، وهو مذهب الشافعي في القديم(6) ، وتجد أسباب كل فريق وأدلتهم في مظانها .

والأوْلى أن يكون الخُلع طلاقاً ( لقول الإمام الصادق (علیه السلام) : ( خلعها طلاقها، وقوله في رواية ثانية : إذا خلع الرجل امرأته فهي واحدة بائن )(7) ، وهو المروي أيضاً عن الإمام موسى الكاظم بن الإمام الصادق (عليهما السلام)(8) .

ص: 205


1- ظ : فقه الامام جعفر الصادق / محمد جواد مغنيه : 6/17
2- ظ : مسالك الافهام / الشهيد الثاني : 9/366
3- ظ : تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 1/275
4- فقه الامام جعفر الصادق / مجمد جواد مغنية : 6/17
5- ظ : مختلف الشيعة / العلامة الحلي : 7/394
6- ظ : تفسير القرآن العظيم / ابن قتيبة : 1/275
7- فقه الإمام جعفرالصادق / محمد جواد مغنية : 6/17
8- م . ن

أما دليلنا في ذلك هو ان السياق العام للآية يدل على أن الخلع طلاق وذلك أن صدر الآية المباركة كان حديثاً عن أمر الطلاق بشكل عام ، وحرم أخذ المهر من المطلقة ، واستثنى نوعاً خاصاً منه ما كان شأنه بانتقال حق إنهاء العقد إلى الزوجة مقابل دفع المهر أو مع الزيادة ، فرفع بذلك الحرج عن الزوج والزوجة لضرورة يحتّمها الموقف ، من باب النهي عن المنكر ، لأن المرأة الكارهة لزوجها وغير المطيعة له يدخلها هذا السلوك في المحرم ، فقبول هذه الطريقة في إنهاء العقد يرفع عن الزوجة الإثم، بالافتداء بالمال للزوج مقابل تنازله عن حقه الشرعي في انهاء العقد .

أما قيمة الافتداء من المال فهو محل خلاف ، فمنهم من ذهب إلى أن المرأة تبذل كل صداقها أو غيره أو الصداق مع غيره ليخلعها او يطلقها ، والحقيقة أن كل هذه الاحتمالات قائمة .

فإذا عاد الضمير في (به) على (ما) الموصولة في قوله (فيما افتدت به ) ، فان الافتداء سيحتمل كل هذا الاحتمالات ، لان (ما) اسم موصول (يفيد العموم) فقيمته تكون محل اتفاق بين الزوجين ، فقد يكون اقل من مهرها أو مثله أو مع زيادة ، هو مذهب جمهور المسلمين إما إذا عاد الضمير إلى ما الموصولة في (لا تأخذوا مما أتيتموهن) الآية ، فان (ما) هنا يعني بها الصداق فيكون الافتداء بمقدار المهر .

أما في قراءة الربيع بن أنس (ولا جناح عليهما فيما افتدت به منه) فان الضمير الهاء في (منه) إذا عاد على الزوج فيكون لا جناح عليها فيما افتدت به من زوجها ، فحكم الافتداء يحتمل الوجوه الثلاثة .

ص: 206

أما إذا عاد الضمير إلى الصداق ، في (ما أتيتموهن) وهو المهر فانه يكون اقل منه ، لان الضمير مسبوق ب-(من) التبعيضية .

فالذين قالوا بعموم صداقها وبأكثر منه ، وبكل مالها ، عمر وعثمان وابن عباس ومجاهد وعكرمة والنخعي والحسن وقبيصة بن ذؤيب ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور ، وقضى بذلك عمر ، والذين قالوا بالصداق وحده من غير زيادة قاله : علي وطاوس وعمر بن شعيب وعطاء والزهري وابن المسيب والشعبي والحسن والحكم وحماد واحمد وإسحاق وابن الربيع ، وحكي ان أبا حنيفة قال ببعض صداقها ولا يجوز بجميعه إذا دخل بها حتى يبقى منه بقية ليكون بدلاً عن استمتاعه بها(1) ولعل وقوع الإباحة على الصداق في الافتداء هو لتنازل الزوج عن حقه الشرعي في العصمة إلى زوجته ، وكراهتها له وحبه لها .

أما نفي الجناح ففيه إباحة محضة ، وليس تخييرية ، وذلك لأن في نقض عقد الزواج من المرأة الكارهة لزوجها والعاصية له ، ربما تُدخل المرأة بسبب ذلك في المحرم ، فإباحة ذلك لها نهياً عن المنكر ولا خيار لها غير ذلك .

وكذلك سيكون نفي الجناح عنهما سوية ، إذ لا جناح عليها فيما بذلت من المال لزوجها ، ولا جُناح عليه فيما أخذ ، وذكر (عليها) لأجل درء اللبس وإزالة الإبهام في أن المرأة وقعت في المعصية .

ص: 207


1- ظ : البحر المحيط / ابو حيان : 2/318

وبعد هذا التفصيل في شأن الطلاق الرجعي وطلاق الخلع وإتمام ما يُراد من كل ذلك قال تعالى : ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(1) .

ثم يفصل ما أجمل في الآية السابقة فيقول : ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾(2) ، فاستعمل الفاء العاطفة في (فان طلقها) ، لإفادة تفصيل ما أجمل من الطلاق المخصوص ب- (تسريح بإحسان) الذي من مستثنياته طلاق الخلع ، إذ ( الفاء تعطف المفصل على المجمل وتسمى تفصيلية إيذاناً بأن حق التفصيل من حيث هو تفصيل ترتّبه على الإجمال وتأخرّه عنه أو لتأخره عنه في الذكر)(3) , لان ما جاء قبلها لم يوضّح حكم ما بعد الطلاق بأنواعه وما يؤول إليه حال المطلقة ، بل ذكر ما يتعلق بالحقوق المالية اتجاه الزوج والزوجة فقط ، أما ما يؤول إليه حال المطلقة بعد التطليقة الثانية فلم يوضح ذلك.

لذا جاء قوله سبحانه ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ ، فأعطى حكم لما أجمل قبلها فهذا تفصيل وترتيب على الاجمال وإن تأخَّر عنه في الذكر ، وهي من نحو قولنا : (توضَّأ فغسلَ وجهه وذراعيه ومسح رأسه وقدميه)(4) ، فالوضوء إجمال ، أما غسل الوجه والذراعين ومسح الرأس والقدمين فهي مكونات الوضوء ، فاستعمل الفاء لأجل تفصيل ما أجمل من الوضوء بها لذا فلا تعد (فان طلقها ...

ص: 208


1- سورة البقرة / الآية 229
2- سورة البقرة / الآية 230
3- الفرائد البهية / ابن معصوم المدني : 573
4- م . ن

الآية) تطليقة ثالثة ، بل هي مفصلة للتطليقة الثالثة ومشيرة لها وهي (تسريح بإحسان) وما يتعلق بها من الطلاق العادي او طلاق الخلع .

أما قوله سبحانه ﴿ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾، فقد اسند فعل النكاح إلى الزوجة ، ولم يسنده إلى الزوج ، وذلك لان الزوجة هي محور الحدث في النص المبارك في حين أن الزوج الثاني جاء طارئاً على مجمل القضية وكذلك يوميء هذا الإسناد إلى أنّ الزوجة - محور المسألة – معنية بأمور أكثر من الزوج ، فهنا ينبغي أن تكون راضية بهذا الزواج وغير مكرهة عليه ، ولو كان هناك إكراه مهما كان قليلاً فلا يصح أن يسند اليها فعل النكاح ، لذا جاءت السنة النبوية الشريفة مؤيدة لهذا الاتجاه فقضى النبي محمد (صلى الله عليه وآله) بوجوب أن تذوق المرأة عسيلة الرجل ويذوق عسيلتها(1) ، وان تكون له مطيعة ومحبة ، فذاك من حسن التبعل .والنكاح ههنا لا يعني الوطء لانه لا يسند الى المرأة بل إلى الرجل كالوطء(2)

بيد أنه لو قال (حتى ينكحها زوجٌ غيره) لاختلفت الدلالة ، فهنا قد تكون المرأة كارهة لهذا الزواج وغير راغبة فيه ، فيبطل عقد الزواج .

ثم ان الله تعالى قد خصّ هذا بالنكاح ، ولم يقل (تتزوج) ، ذلك ان النكاح يقترن العقد فيه بالوطء ، وهو الاصل في كلام العرب في حين أن التزوج سببٌ للوطء(3) .

ص: 209


1- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/303 ، مجمع البيان / الطبرسي : 1 / 303
2- ظ : الطراز الأول / ابن معصوم المدني : 5/80 - نكح
3- ظ : لسان العرب / ابن منظور: 14/278-297 – نكح , البحر المحيط / ابو حيان : 2/320

وذكر تعالى لفظة (زوجاً) ولم يقل (بعلاً) إذ إن البعل هو الرجل القوي على النكاح ، في حين أن لفظة الزوج أعم وقد جيء بها على سبيل الاتساع .

فقد يكون الزوج قويّ النكاح أوضعيفه أو صبياً أو مراهقاً ، أو غير ذلك بشرط الوطء ، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والاوزاعي وقول بعض أصحاب مالك وغيرهم(1) .

فضلاً عن ذلك يدلنا لفظة (زوجاً) إلى إمكان دوام هذا الزواج فلا يكون زواجا محلِّلا ، بل يكون بنيّة الدوام والبقاء ، لأنه علاقة شرعية تدل على قوة ارتباط بين الزوجين ،وهو من أمر الدين توارد ذكره في مواطن إثبات صحة العلاقة الزوجية(2) .

ولو أراد أن يكون هذا الزواج بنية التحليل للزوج الأول فقط لجاء بصيغة (فإذا طلقها فلا تحل ...) لا أن تأتي (فان طلقها...الآية) لان (إنْ) الشرطية هذه تأتي للمبهم والمجوز وقوعه وعدم وقوعه أو للمحقق المبهم زمان وقوعه(3) ، فأبعد بذلك كون هذا الزواج للحلية فقط ، ولو أراده كذلك لاستعمل (إذا طلقها) ، لان (إذا) إنما تأتي للمحقق الوقوع(4) ، وهذا غير مراد الآية . فضلاً عن ذلك نجد في (إنْ) معنى التوكيد ، لذلك الإبهام ، الذي يزيد من فرص دوام الزواج الثاني وعدم استعماله لأغراض الحلية .

ص: 210


1- ظ : البحر المحيط / ابو حيان : 2/321
2- ظ : دقائق الفروق اللغوية في البيان القرآني / د. محمد الدوري : 97
3- ظ : البحر المحيط / ابو حيان : 2/322
4- ظ : م . ن

أما قوله سبحانه ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا ﴾، فالضمير في (طلقها) يعود على الزوج الثاني ، أي إن طلقها الزوج الثاني ، أما الضمير في (يتراجعا) ، فعوده يحتمل وجهين :

الأول / أن يعود الضمير على الزوج الثاني والزوجة ، وفي هذه الحالة يمكن رجوع الزوج الثاني لمطلقته أثناء العدة، وهو جائز لأنها في العدة ولا وجود لمانع شرعيّ يمنعهما من الرجوع إلى بعضهما ، لأنه ينزل بمنزلة الزوج الأول ، ويكون ذلك دفعاً لما يتبادر إليه الذهن من انه إذا طلقها الثاني حلّت للأول وبكونها حلّت له اختصت به(1) .

الثاني / أن يعود الضمير إلى الزوج الأول والزوجة ومشروعية زواجهما بعد نكاح زوج غيره ، بشروط الزواج العامة .

فتعدد الاحتمالات والوجوه بسبب من عود الضمير قد وسّع من دلالة النص ، وأسس لمشروعية حالات من زواج كانت محل ابتلاء المسلمين ، بسبب من المنع أو الحرمة وعليه فان نفي الجُناح قد أسس لمشروعية الاستثناء لمنع عام في قوله سبحانه : ﴿ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ﴾، وإمكان رجوع الزوج الثاني للزوجة أثناء العدة بعد استكمال شروط التراجع .

أما قوله ﴿ إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ﴾، ولم يقل (إن علما) ، لان العلم يفيد اليقين , وهما لا يعلمان ما ستؤول إليه الأمور في غدهم ، لكن الذي يُعنى بهذا الظن ليس

ص: 211


1- ظ : البحر المحيط / ابو حيان : 2/322

اليقين على سبيل القطع ، وإنما هو المتوفّر من المشتركات بينهما بعدما خبرا الحياة وذاقا طعم الفراق ورغبتهما في العيش ضمن أسرة متماسكة كريمة ، فالقبول بهذه المشتركات والابتعاد عمّا يفرقهما ، هو الظن منهما بإقامة حدود الله في حسن المعاشرة وطيب الإقامة .

إذن نفي الجناح فصّل لنا فهماً ، برفع توهّم حرمة نكاح الزوجة بعد التطليقة الثالثة ، فضلاً عن حلية رجوع الزوج الثاني لها في عدتها ، فأسس بذلك لجواز عام.

الآية الثالثة

قوله سبحانه ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(1)

تؤسس لنا الآية المباركة لمشروعية مجموعة أحكام تتوزع بين الأمر والنهي والوجوب والجواز ،فمطلع الآية جاء بصيغة الإخبار عن شأن من شؤون المطلقات ، غير أنَّهُ أُريد به الأمر ، بتقدير حكم المطلقات أن يتربصن(2) ، أو على المطلقات أن يتربصنَ وهو الأوْلَى ، لان سياق الآية يتفق مع ما قبلها في العزم على الطلاق فقال سبحانه ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾(3) ، فكان لا بدّ من وجود أحكام تُلزم

ص: 212


1- سورة البقرة / الآية 227
2- ظ : املاء ما منّ به الرحمن / العكبري : 1/96 ، البحر المحيط / ابو حيان : 2/297
3- سورة البقرة / الآية 227

كل من المطلّق والمطلّقة بالعمل بها لأجل تنظيم الحقوق المترتبة على كل واحدٍ منهما وعدم ترك الأمور من دون ضوابط ، لأجل صيانة المجتمع من انهيار الأسرة بالطلاق ، ولذا فان تقدير (على المطلقات) ألزم من(حكم المطلقات) .

وقد يقال لماذا ابتدأ قوله تعالى ب- (المطلقات) ولم يبتدأ بالفعل فيقول : يتربص المطلقات .

وذلك أنّ الابتداء بالاسم يكون آكد في ثبوت الدلالة في حين أن البدء بالفعل يكون نصيب السياق فيه التغير والتبدل في الحكم ، والله تعالى أراد ثبوت ذلك فابتدأ باسم من دون الفعل ، فقال (والمطلقات) .

أما قوله سبحانه (يتربَّصْنَ) . فالتربص : الانتظار ، من ربص بالشيء ربصاً ، والتربّص بالشيء أن تنتظر به يوماً ما(1)، ونستدل من هذه المعاني أن التربص يفيد انتظار وقوع شيء ما في زمن غير معلوم أهو قصير أم طويل ، في حين أن الانتظار يحدد بزمنٍ معين ، فتقول : انتظرني دقيقة أو ساعة أو نحوهما ، قال تعالى : ﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾(2) ، وقوله سبحانه ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾(3) ، ففي الآية الأولى قال (حتى حين) والحين غير معلوم الزمن ، وفي الثانية أضاف (أربعة أشهر) إلى التربّص ، فحدّد زمنه لأنَّه في

ص: 213


1- ظ : كتاب العين / الفراهيدي : 1/644 – ربص ، القاموس المحيط / ابو حيان : 2/304 – ربص ، لسان العرب / ابن منظور : 5/109 - ربص
2- سورة المؤمن /الآية 25
3- سورة البقرة / الآية 226

الأصل غير معلوم الزمن فعرفه بالأشهر الأربعة ، والانتظار غير المحدد بزمن (التربّص) في هذه الآية المباركة يحتمل وجهين :-

الوجه الأول :- انتظار المطلقة في الامتناع عن التزويج حتى انقضاء القروء الثلاثة(1) .

الوجه الثاني :- انتظارها بتفتيش ما يقع لها من أحداث الطهارة والحيض في زمن القروء تلك ويكون ذلك بنفسها .

وكلا الوجهين ممكن الوقوع ، لأن أصل السياق المنحدر من الإخبار إلى الإنشاء جاء للتوكيد فضلاً عن البدء بالاسم (المطلقات)الدال على الثبات ، وكذلك لمّا كانت أنفس النساء طوامح للرجال ، فأُثِرْنَ أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربّص(2).

وقال تعالى﴿بِِأَنْفُسِهِنَّ ﴾، فلو أُريد الوجه الأول مما سبق فأن الباء تحتمل معنى الإلصاق ، أي أن المطلقات ينتظرن قابضات على أنفسهن وممسكات بهنّ في الامتناع عن التزويج حتى انقضاء القروء الثلاثة ، وإن معنى الإلصاق ، معنى لا يفارق الباء ، ولهذا اقتصر سيبويه عليه(3) .

أمّا لو أُريد الوجه الثاني ، فأنَّ الباء فيها تحتمل الاستعانة ، أي استعانة المطلقة بنفسها في تفتيش حالها من الطهر والحيض ، طيلة أيام إقرائها لأنها مؤتمنة على

ص: 214


1- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : 12/326
2- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/298
3- مغني اللبيب/ ابن هشام : 1/197

نفسها من الله تعالى بدليل قوله سبحانه ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾(1) ، وإنَّما قلنا أنها تفيد الاستعانة هنا ، لأنها داخلة على آلة الفعل وهي النفس الذي تفعل التفتيش أيام انتظارها وتربصها .

وقال تعالى ﴿ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾، والقروء جمع كثرة مفرده قُرْء ، وهو من الأضداد أي يعني الطهر والحيض ، ونقل ابو الطيب الحلبي ت(251ه-) فقال : ( قال أبو عبيدة : القرء واحدُ القروء ، مثال (فُعول) وهو الدخول في الحيض ، والقرء أيضاً الخروج من الحيض إلى الطهر . يقال : أقرأت المرأة ، إذا حاضت ، وأقرأت إذا طهرت ، وقال قطرب : يُقال : قرأت المرأة ، إذا حاضت ، وقرأت إذا طهرت . قال وهو من قول الله عز وجل ﴿ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ والواحدة قُرءْ . وقال الأصمعي : القُرء عند أهل الحجاز وأهل المدينة الطهر ، وعند أهل العراق الحيض ... قال : والقُرء : الوقت ، والقروء : الأوقات فقد تكون وقتاً للحيض ووقتاً للطهر )(2) ، ونقل ابن منظور عن أبي إسحاق فقال : ( الذي عندي في حقيقة هذا أنَّ القرء في اللغة ، الجمع ، وان قولهم قريتُ الماء في الحوض ، وإن كان قد ألزم الياء ، فهو جمعتُ ، ... والأصل في القرء الوقت المعلوم )(3).

ونستدل من هذه الأقوال أَنَّ للقرء معاني تتمثل بالطهر والحيض والوقت والجمع .

ص: 215


1- سورة البقرة /الآية 228
2- الأضداد / أبو الطيب الحلبي : 2/571-572 ، ظ : كتاب الأضداد / أبو حاتم السجستاني : 99 ، كتاب الأضداد / ابن السكيت : 242
3- لسان العرب / ابن منظور : 11/80-81 - قرأ

وقد اختلف العلماء في دلالة القرء في الآية ولهم أدلتهم في ذلك ، فمنهم من ذهب إلى أنه الطهر ، وهو مذهب الأمامية والشافعية ، و به قال زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر ومالك وأهل المدينة واستشهدوا بقوله تعالى : ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾(1) ، أي في طهر لم تجامع فيه ، وكذلك بقول النبي(صلى الله عليه وآله) لمّا طلّق ابن عمر زوجته وهي حائض أمره ليراجعها ، فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك(2) .

ومنهم من ذهب إلى أن القرء هو الحيض ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، واستشهدوا بقوله(صلى الله عليه وآله) للمستحاضة (( دعي صلاتك أيام اقرائك )) ، والصلاة إنّما تترك أيام الحيض ، وكذلك قوله(صلى الله عليه وآله) ((طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان)) ، فجعلوا العدة في الحيض(3) ، وإلى هذا ذهب الزمخشري وابن النحاس(4) .

بيد أن الظاهر من السياق العام للآية المباركة أّنَّ القرء جاء بمعنى الوقت وذلك أن الله سبحانه وتعالى ، قد حدّد مع اولات الأحمال والايلاء واللواتي يئسن من المحيض

ص: 216


1- سورة الطلاق / الآية 1
2- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : 2/326 ، كنز العرفان / السيوري : 582 ، أضواء البيان / الشنقيطي : 1/125-126
3- ظ : م . ن : 1/326 ، م . ن : 583 .
4- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/298 ، اعراب القرآن / النحاس : 95-96

لصغر أو كبر آجالاً معينة لهن ، فقال :﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾(1) ، وقوله ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾(2)، وقوله جل ثناؤه ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾(3) ، لذا فأنَّ القرء هو الآخر أجلٌ قد وضعه الله تعالى لهؤلاء المطلقات المتربصات بأنفسهم وهو في اللغة يطلق على الأجل والزمان كذلك(4) .

فضلاً عن ذلك أن التربُّص-كما علمنا- هو الانتظار وان من متعلقاته الرئيسة الزمن ، لأنه يكون انتظاراً ما لم يقترن بزمان يحدده ، أي أن الانتظار هو استهلاك لزمن معيّن ، فكان القرء هو الزمن المستهلك قبالته ، لكن لماذا جاء بلفظ القرء ولم يقل شهر أو نحوه ، كما هو الحال في ما ذكر من الآيات السابقة ؛ ولعل ذلك يعود إلى أنّ القرء يتم باجتماع الدم ، سواء كان أيام الطهر أم أيام الحيض بسبب اختلافهن في عدد الأيام فيهما ، فنجد الفقهاء ، قد قسموا –مثلاً- حالات العادة الشهرية على أقسام(5) :

الأول : العادة الوقتية والعددية ، وهي أن المرأة ترى الدم في أول الشهر أو في وسطه أو في آخره لمدة سبعة أيام أو خمسة أيام أو غيرها ، وعلى الدوام ؛

ص: 217


1- سورة الطلاق / الآية 4
2- سورة البقرة / الآية 226
3- سورة الطلاق / الآية 4
4- ظ : لسان العرب / ابن منظور : / - قرء
5- جامع الأحكام الشرعية / السبزواري : 22

فحينئذ تكون العادة وقتية وعددية ، وذلك لثبات وقوعها في أحد أيام الشهر ولكل أشهر السنة وثبات عدد أيامها فيها أيضاً فتنطوي على هذه الحالة العديد من النساء .

الثاني : العادة الوقتية فقط ، وهي التي ترى الدم في أول الشهر مثلاً أو في وسطه أو في آخره على الثبات ، في حين تختلف معها عدد الأيام فقد تكون سبعة أيام أو خمسة أو غيرها .

فهنا نجد ثبات بدأ الدورة في أحد أيام أشهر من كل السنة مع تغير في عدد أيامها لكل شهر وهذه الحالة تشتمل على أعداد كبيرة من النساء والتي يتفق زمن وقوعها ويختلف عدد أيامها من دورة لأخرى .

الثالث : العادة العددية وهي عكس الحالة الثانية يكون فيها ثبات عدد أيام الدورة مع اختلاف زمن وقوعها فربما تأتي في أول الشهر ، ثم تتغير لتأتي في منتصفه أو آخره من الشهر الآتي ، وهكذا .

وهذه الحالة تشتمل على أعداد كبيرة من النساء التي تتفق في عدد أيام دورتها ويختلف زمن وقوعها من كل شهر .

ثم اننا نجد من النساء التي تضطرب عندهنّ العادة الشهرية ، إذ لا يثبت عندها لا زمن وقوعها ولا عدد أيامها ومن شهر لشهر .

وان العرب لم تحدّد عدد أيامه ، وكذلك القرآن الكريم ، لذلك قد يترجح الوجه الثاني من معاني التربّص في أن المطلقة هي التي تنتظر وتفتش بنفسها ما يقع لها من أمور الطهر والحيض ، وهذا مما يفسّر مجيء لفظة (بأنفسهن) ، على غير وجه

ص: 218

امتناعها عن الزواج حتى انقضاء القروء الثلاثة ، لأنّ حق الزواج بعد طلاقها قد ضُمِنَ لها في غير موضع من القرآن الكريم .

ففي كل هذه الحالات المذكورة سيختلف معها عدد أيام الطهر وعدد أيام الحيض ، فربما يزيد القرء أو يقل عن مدة الشهر ، وتأسيساً على ما سبق فأنه سيشتمل كل قرء على عدد غير قليل من حالات العادة الشهرية لدى النساء وعندها ستتعدد الإقراء ، وسيزيد هذا العدد مع تعددها لمرات ثلاث ، فيخرجها من حيز جمع القلة إلى جمع الكثرة ، وهذا مما يُحسن معه الإتيان بجمع الكثرة (قروء) لا جمع القلة ، وعليه فإن العدد (ثلاثة) لا يمثل لفظه الدال على القلة ، بل يمثل المعنى أو المعاني الكثيرة التي تنطوي تحت دلالته التي أوضحناها سابقاً ؛ أما مجيء العدد (ثلاثة) على التأنيث ، فهو لما كان يدلُّ عليه القرء من الأجل أو لزمن خاص بأحداث هذه العادة لدى المرأة ، والأجل أو الزمن المخصص أو الوقت كلها تدل على التذكير(1) ،خالف في العدد فجاء على التأنيث وهذا من سنن العربية .

وعوداً على بدء ، فبعد أن عرفنا أن القرء يدلّ على الزمن ، واجتماع غير أنه لفظ عام ، أو مشترك ، لم يخصص لأيام طهر أو أيام حيض في اللغة وإنما بحسب السياق الذي يرد فيه .

غير أن اجتماع الدم في رحم المرأة سيكون خلال أيام طهرها لا أيام حيضها ، لأن في الحيض سيتم قذف الدم المتجمّع خارج الجسم ، فضلاً عن ذلك فأن المطلقة هي التي تقوم بنفسها من خلال انتظارها وتربّصها بالتفتيش والبحث عما سيحدث

ص: 219


1- ظ : معجم الفروق اللغوية / العسكري و الجزائري : 267-268

معها من شؤون النساء كي تتيقن من وضعها ، فإذا قذفت ما في رحمها من الدم سينتهي عندئذ عملية البحث والتفتيش بعد اتضاح حالها ، وعندها سينتهي الانتظار والتربّص عند خروج الدم ، ولتستعد مرة أخرى بعد انقضاء العادة ، وذلك أن العادة قد تختلف عندها أثناء تلك الأحوال الشاقة عليها بسبب الطلاق ، فربما يؤول بها سوء الحال إلى اختلاف في وقتها وعدد أيامها ، لذلك جاءت لفظة التربّص بمعنى الانتظار المقترن بالتفتيش ، على طول أيام طهرها ، وينتهي ذلك مع قذف أول دفعة من دم الحيض .

لذلك فان القرء إنما يدل على وقت الطهر ، لا على وقت الحيض ، لما قدمنا من دليل ، وهذا ما ذهبت إليه الأمامية وقال به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (علیه السلام) ، فقد نقل السيوري إذ قال ( روى أصحابنا عن زرارة قال : سمعتُ ربيعة الرأي يقول : إنَّ من رأيي أنّ الإقراء الأطهار بين الحيضتين ، وليس بالحيض ، فدخلتُ على الباقر (علیه السلام) فحدثتهُ بما قال ، فقال (علیه السلام) : ((كذب لم يقل برأيه وإنما بلغه عن علي (علیه السلام) ، فقلت : أصلحك الله أكان عليّ يقول ذلك ؟ قال : نعم ، وكان يقول : إنّما القرء الطهر، يقرء فيه الدم فيجمعه فإذا جاء الحيض قذفته )(1) . والله اعلم .

أما قوله تعالى : ﴿وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾ قدّم فيه جواب الشرط (إن يكتمن ...) على فعله (إن كنّ يؤمنّ...) لأن في التقديم أهمية كبيرة ، وهي إعلان ما خلق الله تعالى في رحم المرأة من جنين أو غيره ، وإن ما قيل من احتمال دلالة (ما) على الحيض أو الولد أو هما معاً(2) ، لان (ما) تدلّ على

ص: 220


1- كنز العرفان / السيوري :582-583
2- م . ن : 583،البحر المحيط / أبو حيان : 2/300،إعراب القرآن/النحاس : 95

العموم ، فاحتمال دلالتها على أي منها وارد ( وهو أولى لعموم اللفظ ولقول الصادق (علیه السلام): وقد فوّض الله إلى النساء ثلاثة الحيض والطهر والحمل )(1) ، والتفويض وارد في ذلك بدليل قوله سبحانه ﴿إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾ إذ جعل من إيمانهم الميثاق بينهن وبين الله تعالى في بيان ما استودع الله تعالى في أرحامهم ، لذا فإن كتمان ما استودع خروج بهن من طريق الإيمان ، لأنّ في إظهار ما خلق الله في أرحامهن حفظاً لحقوق الزوج وكتمانه إبطالاً له .

إذ يترتّب على عدم الكتمان أمور تتعلق بعدة المطلقة سواء كانت حاملاً من زوجها أم لا ، فضلاً عن رجوعها إذا كان الطلاق رجعياً ، وعلّل الزمخشري ذلك فقال : ( وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ، ولئلا أن يشفق على الولد فيترك تسريحها ، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض : قد طهرت ، استعجالاً للطلاق ، ويجوز أن يُراد اللاتي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنّة فلا يعترفن به ويجحدن لذلك ، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه )(2) ، فعدم حلّية الكتمان تأسيس لمشروعية وجوب إعلان ما خلق الله في أرحام المطلقات لحفظ حقوق المجتمع والنسب .

وقوله تعالى : ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ . فقد جاء بلفظة (بعولتهن) ، لما فيه من دلالة الدخول بالمرأة ، فناسب في ذلك عدم الكتمان لان ( الرجل لا يكون بعلاً للمرأة حتى يدخل بها وذلك أن البعال ، النكاح والملاعبة ، ومنه قوله عليه

ص: 221


1- كنز العرفان / السيوري : 583
2- الكشاف / الزمخشري : 1/300

السلام (( أيام أكل وشرب وبعال )) وقال الشاعر :

وكم من حصانٍ ذات بعل تركتها $$$ إذا الليل أدجى لم تجد من تباعله

وأصل الكلمة القيام بالأمر ومنه يُقال للنخل إذا شرب بعروقه ولم يحتج إلى سقي بعل كأنه يقوم بمصالح نفسه )(1) .

وقال ﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُا إِصْلَاحًا﴾ أي برجعتهن في أيام التربًص والعدة إذا كان الطلاق رجعياً ، وإن كان لفظ (المطلقات) يدلّ على العموم ، إلاّ أن (أحقّ) قد خصّص هذا العموم بالرجعيات دون غيرهن ، إذ لا يجوز على المطلقة أن تتزوج في أيام عدتها وتربصها غير مطلِّقها ، وبحدود الطلقات الثلاثة . وبعد الطلقة الثالثة لا تحلّ له حتى تنكح زوجاً غيره .

ولذلك فإن (أحقّ) لا تدلُّ على المفاضلة ، لأن المفاضلة تكون بين اثنين أو أكثر ، في حين أن سياق الآية يدل على استحقاق الزوج إرجاع مطلقته أيام عدتها . ولو كانت (أحقّ) تدل على المفاضلة لكان ذلك بعد أن تنكح زوجاً غيره بعد الطلقة الثالثة ، باعتبار ما بينهما من وشائج صلة قد تكون بوجود أبنائهم أو نحوها ، فهو أحقّ من غيره بها إن أرادوا إصلاحاً بينهم والضمير في (أرادوا) يعود على الزوجين ، لأن الإصلاح لا يكون من طرف الزوج دون المرأة ، وإنما جاء بواو الجماعة الدالة على الأزواج لتغليب المذكر على المؤنث ، وهذا من سنن العربية .

إن قوله سبحانه ﴿ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ جملة فعل الشرط ، متأخرة ، وأما جوابها فقوله ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ وهي جملة إسمية ، فلم تكن جزاءً لجملة فعل الشرط ، لما فيها من

ص: 222


1- معجم الفروق اللغوية / العسكري والجزائري : 104

معنى السببية والترتّب(1) ، لذلك لم تعد ﴿إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ شرطاً للرجعة ، بل هي حضاً للزوج على إرادة الإصلاح للنساء وعدم المضارة بهن(2) .

أمّا قوله سبحانه ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ، فاللام في(لهن) للاستحقاق ، أي أن اللواتي رجعن إلى أزواجهن يستحقنّ منهم ما أقرّه الشرع والعرف الاجتماعي ولذا قال (بالمعروف) ، وكذلك عليهن من الحقوق لهم ، مثل ما لهن من حقوق عليهم ، فجعل (على) الدالة على الاستعلاء المعنوي مصاحبة لواجباتها اتجاه زوجها ، لأن للرجال درجة على النساء ، ولو تساوت الحقوق لكليهما تجاه الآخر لساوى بحرف الجر معهم ولقال (ولهن مثل الذي لهم) فناسب مجيء (على) مع قوله (وللرجال عليهن درجة) ، من فضيلة القيام عليها وإنفاقه في مصالحها ورعايتها وغيرها(3) ، ونتلمس من خلال (اللام) في (لهن) وعلى في (عليهن) و(مثل) دلالة الوجوب والإلزام في أداء الحقوق والواجبات على الزوجين معاً اتجاه الآخر ، لأن في أدائها إدامة للمعروف بإقامة حدود الله تعالى في حفظ الحياة الزوجية وصيانة المجتمع .

وختم الآية بقوله سبحانه ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ ، والعزيز والحكيم لفظان جاءا على صيغة فعيل التي من معانيها القوي على أداء الفعل ، فالعزيز (هو الخطير الذي يقل وجود مثله ، وتشتد الحاجة إليه ، ويصعب الوصول إليه)(4) ، وهو كذلك بمعنى

ص: 223


1- ظ : الفرائد البهية / ابن معصوم : 406
2- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/300 ، كنز العرفان / السيوري : 584
3- ظ : كنز العرفان / السيوري : 583
4- شرح اسماء الله الحسنى / الغزالي : 62

المعزّ والمتَّبع الذي لا يُغلب أو هو الشديد القوي(1) ، أما الحكيم فهو بمعنى العليم الذي يتقن خلق الأشياء أو الذي يعرف أفضل المعلومات بأفضل العلوم وهو المقدّس عن فعل ما لا ينبغي ، الذي لا يقول ولا يفعل إلاّ الصواب(2) .

واقتران الاسمين مع بعضهما فيهما دلالة اقتران المنَعة والقوة وشدة الحاجة مع إتقان خلق الأشياء وتدبيرها والتنزيه عن الوقوع في الخطأ ، وهذا موافق لما جاء في الآية إذ إنه تعالى قد أمر في (يتربّصن) ، ونهى في (ولا يحل لهن ..) وأجاز في (وبعولتهن أحق بردّهن) ، وأوجب في (ولهنّ مثل الذي عليهن) ، فناسب كل هذا وصفه تعالى بالعزة والقهر والغلبة ، وناسب كذلك وصفه بالحكمة

في تدبير الأشياء وإتقانها ووصفها بما ينبغي ، وكل هذا مناسب للتكليف أيضاً(3) ، والله اعلم وسبحانه من مدبّر قدير يضع الأشياء في مواضعها ويأمر بما هو يجب أن يكون ، فلا يقول إلّا الحق ولا يفعل إلاّ الصواب .

الآية الرابعة

قوله تعالى : ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(4)

ص: 224


1- ظ : اسماء الله الحسنى / د.أحمد مختار عمر : 64
2- ظ : شرح أسماء الله الحسنى / الغزالي : 112 ، أسماء الله الحسنى / د.أحمد مختار عمر : 51
3- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/306
4- سورة البقرة / الآية 231

في الآية خطاب ظاهره لعموم الأزواج في حال طلاقهم لنسائهم ، وقيل أنها ( نزلت في ثابت بن يسار ، ويُقال : سنان الأنصاري ، طلّق امرأته حتى إذا بقي يومان أو ثلاثة ، وكادت أن تبين راجعها ، ثم طلقها ، ثم راجعها ، ثم طلقها ، حتى مضت سبعة أشهر مضارة لها ، ولم يكن الطلاق يومئذ محصوراً )(1) ، فخوطب الواحد بلفظ الجمع لاشتراكهم في الحكم نفسه وإن كان المخاطب واحداً ، فأسس حكماً عاماً من حادثة مفردة اشترك فيها عموم العرب في الجاهلية واستمرت حتى صدر الإسلام ، فنزل فيها نهيٌ بسبب المضارة التي تلحق الزوجة .

فقوله تعالى ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ ، ابتدأها ب- (إذا) الشرطية ، الدالة على محقق الوقوع لحدث الطلاق ، ثم عمّم بقوله (النساء) ، ليشمل ذوات الإقراء اللائي يئسن من المحيض وذوات الأحمال ، دون اللائي لم يُدخل بهن ، بدليل قوله (فبلغن أجلهن) ، إذ لا عدة عليهن ما لم يُدخل بهن .

وقوله ﴿فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ ، فالبلوغ هو المقاربة ومشارفة الوصول إلى الحد المعلوم ، أما الأجل ، فهو (الوقت المضروب لانقضاء الشيء ، ولا يكون أجلاً بجعل جاعل وما علم أنَّهُ يكون في وقت فلا أجل له إلاّ أن يحكم بأنّه يكون فيه)(2)، لذلك فهو من ألفاظ العموم ، فلم يقل فبلغن إقراءهن أو عدتهن أو نحوها ، بل خاطب بالأجل لأن ابتداء الآية كان خطاباً عاماً فجاءت بالأجل ليشمل ذوات الإقراء على تعدّد إقرائهن ، وذوات العدة لمدة عدتهن ، وذوات الأحمال حتى يضعن أحمالهن ، وفي هذا عدم

ص: 225


1- البحر المحيط / أبو حيان : 2/330
2- معجم الفروق اللغوية / العسكري والجزائري : 20

تساوٍ في زمن كل حالة من هذه الحالات ، فناسب مجيء الأجل ليدل على كل هذه الأزمان ، وأما العطف بالفاء ، فلأنها تفيد الترتيب إذ إنَّ بلوغ الأجل يعقب وقوع الطلاق ، فضلاً عن كون هذا البلوغ مسبّباً من وقوع الطلاق ، والفاء أنسب لذلك لأنها تفيد الترتيب والسببية، خلافاً لاستعمال الواو فلو قلنا (وبلغن أجلهن) بالواو لوقع لَبْسٌ في الدلالة ، لأن الواو تستعمل لمطلق الجمع من غير ترتيب ، قال سيبويه في نحو (مررتُ بزيد وعمرو) : ( وإنما جئت بالواو لتضم الآخر إلى الأول وتجمعهما ، وليس فيه دليل على أنَّ أحدهما قبل الآخر )(1) ، فضلاً عن ذلك أنها لا تفيد السببية ، وسياق الآية يذهب إلى كون (فبلغن أجلهن) مسبّباً من (إذا طلقتم النساء) ، فالعطف بالفاء أسلم وأنسب في هذا المقام .

وقوله سبحانه ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ واقعة في جواب الشرط ل- (إذا) (وامسكوهن) ، من أمسك الشيء : حبسه ، غير أن الحبس مقترن بالعقل ، ولذا قيل : رجلٌ ذو مُسْكة ومَسُك ، أي رأي وعقل يرجعُ إليه(2)، وعليه فإن رجوع المطلقة أثناء عدتها إلى زوجها لا يعني أصلاً المضارة بها بعد أن اقترن فعل المسك بالعقل والرأي المفضي إلى العدل وحسن العشرة ، ولهذا لم يقل (أرجعوهن) الدالة على مجرد الرجوع والرد إلى الزوج من دون ذلك كلّه أو اشتراطه عليه .

ص: 226


1- الكتاب / سيبويه : 2/ 120 .
2- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 13 / 108 - مسك

وجاء (معروفاً) نكرة ، ليدل على العموم ، فقد يدل على الحق الذي يدعو إليه العقل أو الشرع(1) أو هو الوجه الذي أباحه الله له من القيام بما يجب لها من النفقة(2) ، أو أن يراجعها من غير ضرر بالمراجعة(3) ، ومنهم من فسّر المعروف بالإشهاد على الرجعة(4) ، وكلها احتمالات ممكن أن تكون مراد المعروف ، وقد تحتمل كلها في الحال .

وكذلك مجيء (معروف) مرة أخرى نكرة في قوله (أو سرحوهن بمعروف) ، إذ إنَّ المعروف هنا غير المعروف في (فامسكوهن بمعروف) ، فذلك نكّره ، ولو أراد المعنى ذاته لما سبق لقال : بالمعروف معرّفاً ، لذلك فدلالة المعروف هنا إخراجها من منزله من غير شقاق ولا مخاصمة(5) ، أو أنه الترك حتى تنقضي عدتهن فيكن أملك لأنفسهن(6) .

أما دلالة (سرحوهن) فلا تعني التطليقة الثالثة كما في قوله سبحانه﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾(7) ، بل هو فك القيد عن المطلقة وعدم إرجاعها إلى زوجها أثناء عدتها في التطليقة الأولى والثانية ، لأنه لو أراد بهذا التسريح التطليقة الثالثة لما قال (فبلغن أجلهن) لأن في بلوغ الأجل إمكان الرجعة عن

ص: 227


1- ظ : التبيان/ الطوسي : 2/251
2- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : 13/332
3- ظ : الكشاف / الزمخشري: 1/305
4- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/330 ، تفسير آيات الأحكام / السايس : 1/148
5- ظ : تفسيرالقرآن العظيم / ابن كثير : 1/281
6- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : 1/332 ، الكشاف / الزمخشري : 1/305 ، البحر المحيط / ابو حيان : 2/331
7- سورة البقرة / الآية : 229

الطلاق ، وهو مطلوب الآية المباركة ، ولو لم يكن يريد الرجوع لأطلق الآية بدون وجود الأجل المحدِّد ، إذ إن تحديد الأجل جاء لمشارفة العدة أو الإقراء ومقاربتهما على الانتهاء الذي يعني أن ما بعد الأجل التسريح فكأنه يُنذر الرجال على ضرورة اتخاذ ما يلزم من الرجل أما بالرجعة أو الطلاق قبل الطلقة الثالثة .

ثم أن مجيء الآية بالصيغة الفعلية (طلقتم ، بلغن ، امسكوهن ، سرّحوهن) ، إنما تدلّ على التغيّر والتبدّل ، لا كما في قوله سبحانه ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾(1) ، إذ جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الاسمية ، (الطلاق ، إحسان ، تسريح) التي تدلّ على ثبات الدلالة وقطعيتها ، إذ دلّ التسريح فيها على الطلقة الثالثة قطعاً كما بينّا ذلك في حين أن جملة (سرّحوهن) جاءت بمعنى اتركوهن أو خلّوهن حتى تنقضي عدتهن وتبين(2) ، أو أبقوهن على حكم العدة من دون مضارة لهن(3) بدلالة الفعل الدال على التغيّر وعدم الثبات ، الذي يوحي إلى إمكان إرجاعها بعد انتهاء عدتها لعدم وجود ما يقيّد هذا التسريح من دلالة لفظية أو إشارة من السنة النبوية في ذلك ، فضلاً عن ذلك أنّ الطلاق لا يقع بصيغة الفعل ، بل بصيغة الاسم فتقول للزوجة عند طلاقها : أنت طالق ، بالجملة الاسمية الدالة على الثبات والوقوع لان اسم الفاعل طالق يدل على وقوع الحدث في الحال والمستقبل إذا لم يُضَف إلى

ص: 228


1- سورة البقرة / الآية : 229
2- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/331 ، مجمع البيان/ الطبرسي : م1 /332 ، تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 1/281
3- ظ : كنز العرفان / السيوري : 594

معموله(1) ، ولو قلت : طلّقتُ فلانة ، فلا يقع الطلاق(2) ، لأن الفعل يدلّ على المضي من الزمان ، في حين أن المراد بوقوعه في الحال والمستقبل .

علاوة على ذلك أنّ مجيء الفعل (سرّح) على صيغة (فعّل) يدلّ على تعدّد وقوع التسريح مرة بعد أخرى ، وهذا لا يقع إلاّ في التطليقتين الأولى والثانية ، ولو أراد بالتسريح هنا التطليقة الثالثة لما عدّد وقوعه ولجاء بصيغة تدلّ على وقوعه لمرة واحدة أو بقرينة لفظية مشيرة إليه .

وقوله سبحانه ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ ، إنما جاء العطف بالواو خلافاً لما سبق الذي جيء بالفاء ، (فبلغن , فامسكوهن) ، وذلك أن العطف بالواو لا يفيد الترتيب ، وإنما لمطلق الجمع من غير ترتيب –كما علمت- إذ لا ترتيب في الإمساك بمعروف والإمساك بالإضرار وقال (ضراراً) . مصدره من (ضَرَّ) للدلالة على الامتناع كأبى إباءً ، وشرَد شِراداً ، لأنّ فيها فِرقاً وتباعداً ، فالضرار أشدُّ من الضرر ، وأقرب إلى المباعدة والفراق منه ، لأنّ في الضرار تقصيراً في النفقة أو المسكن أو تطويل المدة أو طلب المفاداة أو غير ذلك(3) مقترنة بالقصد في كل ذلك واختلف في إعرابها بين الحال والمفعول لأجله(4) ، وإعراب ضراراً على أنه مفعول لأجله أنسب في الدلالة مما لو أعْرِبَ حالاً ، لأن المفعول لأجله هو المصدر المفهِم للتعليل(5)

ص: 229


1- ظ : الفعل ، زمانه وأبنيته / د.إبراهيم السامرائي : 38
2- ظ : جامع الأحكام الشرعية / السبزواري :488
3- ظ : التبيان / الطوسي : 2/251 ، كنز العرفان / السيوري : 594 ، الكشاف / الزمخشري : 1/305
4- ظ : اعراب القرآن / النحاس : 97 ، مشكل إعراب القرآن / ابن أبي طالب : 69 ، إملاء ما منَّ به الرحمن / العكبري :1/96
5- ظ : شرح ابن عقيل : 1/574

وهو مخصص للمفعول الأصلي ، وهو المفعول المطلق الإمساك من (ولا تمسكوهن) أي أنه المنتج من الفعل امسك، فيكون الإضرار مخصصاً له فعندما نقول:( قمتُ إجلالاً) فإن المفعول الأصلي هو (القيام) وخُصِّص بأنه قيام للإجلال لا شوقاً ولا حباً(1) ، وكذلك الإمساك فقد خُصِّص بالضرار لا بغيره ، وهذا يوحي بالقصدية في وقوع الضرار بالمطلقة .

ولهذا قال سبحانه ﴿لِتَعْتَدُوا ﴾ ، لشدة الأثر وعدوانيته بقصدية فاضحة ، ولو أُعرب حالاً ، لكان على خلاف مُراد الآية ، لأن الحال وصف يدلُّ على الهيئة(2) ، وهذا لا يتناسب مع قوله (لتعتدوا) لأنَّ الضرار يكون وصفاً له ومزية تحلى بها الزوج من دون قصد .

وبيان القصدية واضح في قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾(3)، والفعل مقترن بقصد معين ، وتدبّر وتخطيط مسبق ، ولهذا فان دلالة كون (ضراراً) مفعولاً لأجله أليق من دلالة كونها حالاً كما بينّا .

وقوله سبحانه ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ ، يعني ما ذكره من الأحكام السابقة ووجوب الالتزام بها ، وفيه نهي عن عادة جاهلية فقد ( روي عن أبي الدرداء وأبي موسى أنهم قالوا : كان الرجل يُطلق ثم يعتق ثم يقول : إنما كنتُ لاعباً ، فلذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من طلق لاعباً ، أو أعتق لاعباً فقد جاز عليه )(4) لأنّ

في هذا هزءاً بالقيم الاجتماعية وحقوق الناس .

ص: 230


1- ظ : الجهود اللغوية والنحوية عند ابن معصوم المدني / د.عادل عباس هويدي : 314-315
2- ظ : شرح ابن عقيل : 1/625
3- سورة البقرة / الآية 131
4- التبيان/الطوسي:2/251،البحر المحيط/ أبو حيان :2/332 ،وضح البرهان/النيسابوري : 1/211

وختم الآية بنعمه تعالى على الناس وألزمهم بذكرها فقال : ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(1) ، أي اذكروا نعمة الله التي أسبغها عليكم بالإسلام وبنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وما أباحه الله لكم ، وبيّن الحلال والحرام ، وما أنزل عليكم من العلوم والشرائع في القرآن والسنة ، موعظة لكم ، لأجل أن تتركوا المعصية ، والله عليم بأفعال العباد(2) ، الذين يلزمون طاعته ويؤدّوا أحكامه التي فرضها عليهم بالكتاب والسنة النبوية المباركة . والله أعلم

الآية الخامسة

قوله تعالى ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(3)

بعد أن بيّن الله تعالى أحكام الزوجة وما يؤول إليه حالها عند إرجاعها قبل انقضاء الأجل ، وقال ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾(4) ثم عقّب ففصّل ما أُجمِل بقوله ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا ...﴾(5) الآية .

ص: 231


1- سورة البقرة / الآية 231
2- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/306 ، مجمع البيان / الطبرسي : م1/332
3- سورة البقرة / الآية 332
4- سورة البقرة / الآية 231
5- سورة البقرة / الآية 231

وعاد في هذه الآية المباركة ليخاطب الأزواج مرة أخرى وليفصِّل ما أُجمِل ، في قوله ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ ، ليقول : ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾(1) ، أي إذا طلقتموهن وقد انتهت العدة ببلوغ الأجل ، وذلك بدليل قوله سبحانه ﴿أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ﴾ ، لأن النكاح في العدة باطل والخطبة فيها حرام(2) ، ولهذا فقد دلّ السياق في هاتين الآيتين المباركتين ، على افتراق الأجلين ، بين الاقتراب والمشارفة في الأولى ، وبلوغ النهاية في الثانية ، وعليه فأنّ العضل يكون بعد انتهاء العدة وفك قيد المرأة من مطلِّقها ، وقد نهى الله تعالى عنه ، فقال ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ ، والظاهر أنه كان عادة جاهلية واستمرت إلى عهد الرسالة المحمدية في أيامها الأولى ، إذ تذكر الروايات أنّ هذه الآية نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته جملاء في أن ترجع إلى الزوج الأول وهو عاصم بن عدي ، فانه كان طلقها وخرجت من العدة ثم أرادا أن يجتمعا بعقد آخر فمنعهما ، وقيل إنها نزلت في جابر بن عبد الله حين عضل بنت عم له(3) ، ومنهم من روى أنها نزلت في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يُراجعها ، وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى الله أن يمنعوها(4) .

ص: 232


1- سورة البقرة / الآية 232
2- ظ : كنز العرفان / السيوري: 595
3- ظ: التبيان / الطوسي : 2/252 ، الكشاف / الزمخشري : 1/306 ، مجمع البيان / الطبرسي : م1/332 ، البحر المحيط / أبو حيان : 2/334
4- ظ : تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 1/282

وذُكِر أنَّ ( أصل العضل : المنع والشدة ، يقال : أعضل بِيَ الأمر إذا ضاقت عليك فيه الحيل )(1) ، وقال ابن منظور : ( وعَضَلَ المرأة عن الزوج : حبسها ... وعضَّلها : منعها الزوج ظلماً )(2) ، فالمعنى اللغوي يحتمل أن يكون عضلُ المرأة إما من الولي أو من الزوج ، لذا فقد اختلف العلماء في العضل أ هو من ولي المرأة أو من مطلِّقها ، فذهب الفراء(3) وابن الأثير(4) إلى وليّ الأمر ، واستدل الشافعية بذلك على ثبوت الولاية على المرأة وأنّها لا تزوّج نفسها(5) ، في حين ذهب الطبرسي(6) ، والراوندي والسيوري(7) وغيرهم من الأمامية إلى أنّ الخطاب موجّه إلى المطلّقين ؛ ومن اللغويين ذهب الأخفش (ت 215 ه-) إلى ذلك(8) . في حين ذهب الزمخشري إلى أنّ الخطاب أما أن يكون موجَّهاً إلى الأزواج وأما إلى الأولياء(9) .

والظاهر أنَّ توجيه الخطاب إلى الأزواج هو الأولى وذلك أنَّ الآية السابقة عندما شرَّعت حين وقوع الطلاق ومشارفة الأجل ومقاربته إلى الإمساك بمعروف أو التسريح بمعروف ، ثم فصّلت ما أجمل من الإمساك بالمعروف الذي جاء بصيغة الفعل بقوله ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ للدلالة على الحدوث والتغيير ونهى عن الإمساك بقصد الأضرار لأنه اعتداءٌ على المرأة وظلماً لها ، وعدّ ذلك تشريعاً أوجب الالتزام به

ص: 233


1- النهاية / ابن الأثير : 3/254 - عضل
2- لسان العرب / ابن منظور : 9/259 - عضل
3- معاني القرآن / الفراء : 1/148
4- تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 1/282
5- كنز العرفان / السيوري: 595
6- مجمع البيان / الطبرسي: م1/332
7- كنز العرفان / السيوري : 595
8- معاني القرأن / الأخفش : 1/188
9- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/306

فقال ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ﴾(1) ، وانه من نعم الله على المؤمنين ؛ في حين لم يفصّل قوله ﴿أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ ، فعاد سبحانه وتعالى هنا ليفصِّل هذا المجمل الذي يقع بعد انتهاء الأجل ومؤكداً له فقال ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ بعد تسريحهن في الطلقة الأولى أو الثانية .

وقد نسب الضمير في النكاح إلى المرأة ، ولم ينسبه إلى الرجل ، وذلك يدلّ على أن هذا النكاح لم يحصل إذ لم يكن هناك رغبة في المرأة تجاه من ترغب في الزواج منه ، ولو لم يكن ذلك لنسب الضمير إلى الرجل ولقال (أن ينكحها زوجها) ، ولهذا وقع العَضْلُ .

إذن ستكون في دلالة العضل تقاطع إرادتين ، وهما إرادة المنع والحبس والتضييق المقترن بالشدة من قبل المطلِّق ظلماً لها ، وإرادة المرأة في نكاح من تجده مناسباً لها ، إذ إنَّ من المطلِّقين مَنْ يطلقون نساءهم سرّاً ولا يُظهروا طلاقهن لأجل أن لا يتزوَّجْنَ من غيرهم(2) ، ظلماً لهن وعدواناً ، وإرادة الأضرار بهن ، أو لأجل إجبارهن على الخلع وافتدائهن بمهورهن للأزواج ، وفي كل هذا منع وحبس وشدة ، قد نهى الله تعالى هؤلاء الأزواج عن ذلك .

ص: 234


1- سورة البقرة / الآية 231
2- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م1/332

أما الذين ذهبوا إلى أنّ الخطاب موجهٌ للأولياء ، فانه سِيقَ اعتماداً على ما روي من أسباب النزول ؛ وإن كان كذلك فيمكن أن نستدل من النهي في قوله سبحانه ﴿فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ على وفق أسباب النزول على أمرين اثنين هما :-

1-نفي ولاية الأخ وابن العم على المرأة المطلقة المدخول بها ، ويمكن أن تلحقها المرأة المدخول بها والمتوفى عنها زوجها ، لجريان الأحكام ذاتها عليها .

2-منح المطلقة –محل البحث- بعد انقضاء عدتها حرية زواج نفسها ممن تجده كفء لها ، وعدم الرجوع في ذلك إلى الولي ، لأنها حينئذ ستكون ولية نفسها .

وهذا ما يأخذ بنا إلى القول أنّ الخطاب لمطلق العاضل ، وإن كان الأولى الذهاب إلى المطلِّق ، أو أنّ المطلِّق هو الذي يعضل زوجته لما بينّاه .

وقوله ﴿ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ أي ما يؤول إليه حال الخاطب لهنَّ في المستقبل وهو (مجاز من حيث كون الزوجية في الماضي ، كما في الثاني أو من حيث كونها في المستقبل)(1) .

وقوله ﴿ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ الضمير هنا عائد على الخُطّاب والنساء ، وغُلِّبَ ضمير المذكر في ذلك وهذا من سنن العربية أو هو يعود على الأولياء

ص: 235


1- ظ: آلاء الرحمن / البلاغي : 1/388

والأزواج(1) ، وهو بعيد ، لأن عود الضمير في (أن ينكحن أزواجهن) إلى النساء والأزواج لا إلى الأولياء ، أما المعروف فهو النكاح الصحيح وبما يحسن في الدين والمروءة(2) .

﴿ذَلِكَ﴾ أي ذلك الخطاب(3) ، وذهب الشيخ البلاغي إلى أنه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله)(4) بدليل قوله ﴿ يُوعَظُ بِهِ﴾ من المسلمين ﴿مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ﴾ فهم أهل للوعظ والرشد .

وجوّز الزمخشري أن يكون الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) ولكل واحد(5) ونحوه ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾(6) ، وهو الأقرب لعدم وجود قرينة تقيّده .

ثم قال سبحانه ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ وهو خطاب للمسلمين والمشار إليه بترك العضل المذكور(7) ، لأن فيه زكاء وبركة وفضل عظيم ، وهو أطهر لقلوبكم من الريبة وذلك لعلّ في قلب المرأة حباّ فإذا منعها من التزوّج لم يؤمن

ص: 236


1- ظ: البحر المحيط / أبو حيان : 2/336
2- ظ: مجمع البيان / الطبرسي : م1/332-333 ، الكشاف الزمخشري : 1/306
3- ظ: كنز العرفان/ السيوري : 596
4- ظ: آلاء الرحمن / البلاغي : 1/388
5- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/306
6- سورة المجادلة / الآية 12
7- ظ : آلاء الرحمن / البلاغي : 1/388

أن يتجاوزوا إلى ما حرَّم الله ، وقيل أطهر لقلوبكم من الذنوب(1) ، والله اعلم وأنتم لا تعلمون ، لأنه يعلم خائنة الأنفس وما تُخفي الصدور .

الآية السادسة

قوله تعالى ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(2)

تشرّع الآيتان لنفي الجناح في طلاق النساء غير المدخول بهن في حالتين ، الأولى إذا لم يُفرض لهن مهر ، والثانية عندما يُفرض لهن مهر .

والجناح الإثم والميل والحرج ، ونفي الجناح يكون عن الأزواج في حال طلاق نسائهم ، وفي هذه الآية دلالة جواز الطلاق بسبب من حصول لذلك .

وفسّر الزمخشري الجُناح بقوله : ( لا تبعة عليكم من إيجاب المهر )(3) ، ويُدفع هذا إذ لم يُعرف الجناح بهذا المعنى في اللغة لا حقيقة ولا تجوّزاً(4) ، بل عُرِفَ

ص: 237


1- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م1/333
2- سورة البقرة / الآيتان 236-237
3- الكشاف / الزمخشري : 1/314
4- ظ : أساس البلاغة / الزمخشري : 102 - جنح

إنه الإثم والحرج والميل ، في حين تبعة المال لا تعد إثماً ولا ميلاً ولا حرجاً(1) ، وإنما رُفِع الجناح ، لأنه كان يُعد بدعةً أي الطلاق قبل المسيس والفرض ، وفي ذلك حرج(2) ، وفي هذا دلالة على جواز الطلاق بسبب حصول الإذن لذلك .

وورد النفي مقيّداً في قوله سبحانه ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ إذ نفي الجناح عمّن طلق النساء ، وأما غير ذلك فهو مسكوت عنه ، أي أنّ (لا) النافية للجنس لم تَنْفِ القيد المتمثِّل بعدم المس وعدم فرض المهر ، بل سكت عنهما ، فأطلق النفي في طلاق النساء دون شيء آخر مما ورد في النص المبارك ، فضلاً عن ذلك أن النفي في (لا) قد شمل عموم جنس الرجال وذلك لإفادتها التنصيص عليهم ، وذلك لأنها في الأصل قد جاءت جواباً ل- (هل) ، فقولنا : (هل من رجل) ، فالجواب : لا رجلَ ، فأفاد الاستغراق وفي هذا دلالة التوسعة والإطلاق في نفي الجناح الذي من معانيه الإثم والميل والحرج وغيرها ، عمّا قُيّد به ، وهو طلاق النساء .

لذا فإن إطلاق نفي الجناح عن الرجال عموماً قد اقترن بطلاق النساء بيد أن لفظ النساء عام فهو شامل للثيّبات والأبكار ، سواء كن ثيّبات لم يُدخل بهنَّ في حال زواجهن مرة أخرى ثم طلاقهن ؛ أم أبكاراً ، لم يمسهنّ الرجال من قبل عقد الزواج ، وفي هذا دلالة إطلاق .

ص: 238


1- ظ : آلاء الرحمن / البلاغي : 1/396
2- مسالك الإفهام / الكاظمي : 3/239

بيد أن النص القرآني قد قيّد المطلق بنص آخر في موضع آخر منه ، إذ لم يُذْكر عدم المس فيه إلاّ مع الإبكار من دون الثيّبات ، فقال تعالى ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾(1) ، وقوله أيضاً : ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾(2) ، فضلاً عن ذلك فأنّ بناء المضارع ( قد يأتي للتعبير عن حالات خاصة بصرف النظر عن الدلالة الزمانية التي يشير إليها البناء وذلك لأن هذه الحالة قد تتحصل مما يبرز من قرائن تكون في بناء الجملة )(3) ، ومن هذه الحالات إذا كان الفعل المضارع مسبوقاً ب- (لم) فإنه يشير إلى الماضي إذا اقترن بقرينة تأخذ بهذا البناء إلى الزمن الماضي(4) ، ففي قوله سبحانه ﴿إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنّ﴾ ، فإن (تمسوهن) المنفية تدل على انتفاء المس من زمن ماضٍ لا نعلمُه إلى زمن الطلاق ، أو حال وقوعه ، وذلك أنَّ القرينة (طلقتم) الدالة على وقوع الفعل في الماضي قد أخذت بزمن فعل عدم المس إلى زمن قبل العقد لا يُعلم مداه حتى وقوع الطلاق ، ولو أراد دخول الثيّبات لحدّد زمن المضي ، إذ أنهن قبل الطلاق الأخير كنَّ مدخولاً بهنّ وطُلِّقْنَ بزمنٍ معلوم ، وهذا مما يوحي بضرورة وضع قرينة تحدد ذلك الزمن لا أن يُطلقه .

فضلاً عن ذلك أن الطلاق هنا قد ذُكِرَ قبل المساس مطلقاً دون النظر إلى طهارة المرأة أو حيضها ، بخلاف الطلاق بعد المساس الذي يشترط فيه أن تكون المرأة في طهر لم تُجامع فيه .

ص: 239


1- سورة آل عمران / الآية 47
2- سورة مريم / الآية 20
3- ظ : الفعل أبنيته وزمانه / د.ابراهيم السامرائي
4- ظ : م.ن : 32-33

لهذا فإنّ النص المبارك قد خصَّصَ رفع الجناح عن الرجال في طلاق الأبكار حصراً قبل الدخول بهنَّ ولم يعممه على النساء كافة من ثيّبات وأبكار كما بيّنا ذلك وفي هذا ردٌّ للتوهم في أن هذا الطلاق يقع على الممسوسة من قبل وغير المفروض لها .

أما دلالة (ما) في قوله سبحانه ﴿ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنّ ﴾ فقد ذهب العلماء فيها إلى ثلاثة وجوه الأول:أن تكون بمعنى اللاتي أي :اللاتي لم تمسوهن ، والثاني :أن تكون ظرفية زمانية مصدرية أي:مدة لم تمسوهُنَّ ، والثالث: أن تكون شرطية أي: إن لم تمسّوهنّ .

ففي الأول سيكون عدم المس وعدم الفرض صفتين للمرأة المطلقة، ويكون نفي الجناح متعلقاً بالطلاق ذاته،في حين أنَّ أصل النفي متعلّقٌ بهما،لأن الطلاق بهذه الطريقة بدعة،أي قبل المسّ والفرض ، وعليه فلا مسوّغ لهذا الوجه لأنه خلاف مراد الآية المباركة.

وأجد أن كون (ما) ظرفية زمانية غير مسوّغ له في النص المبارك بعد أن علمنا أن دخول (لم) على الفعل المضارع (تمسّ) تأخذ بزمنه إلى المضي ، ليدلّ على زمن فعل عدم المس إلى ما قبل العقد بزمن لا يُعلم مداه للدلالة على كون النساء – موضع البحث – تدلّ على كونهنّ أبكاراً لا ثيّبات ، وهذا ممّا سوّغ عدم الحاجة إلى أداة ترادفها للدلالة على المدة .

أما كون (ما) شرطية ، فهو الأولى ، وتقديرها (إنْ) ، وذلك ممّا يحدّد دلالة عدم الجُناح بقيدين اثنين هما : عدم المس أو عدم الفرض للمطلّقة ، غير أن جوابها محذوف ، ومع وجود (أو) التي جاءت على أصل معناها في الإباحة يمكن أن يجتمع

ص: 240

القيدان معاً لنفي الجناح . قال الرضي الاستربادي : ( وتقول في (أو) التي للإباحة : (جالس الحسن أو ابن سيرين وباحثه) ، ويجوز باحثهما ؛ وكذا تقول : (هذا إما جوهر أو عرض) أو (وإمّا عرض) ثم تقول : وهما محدثان ، قال تعالى : ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا﴾(1) ، وليس (أو) بمعنى الواو ، كما قال بعضهم ، بل نقول : جواب الشرط محذوف ، والمعنى : إن يكن غنياً أو فقيراً فلا بأس فانَّ الله أولى بالغني والفقير معاً)(2) .

وعليه فإن معنى الآية المباركة يكون : إن لم تمسوهن أو لم تفرضوا لهن ، فلا جناح عليكم فأنَّ الله أعلم بهما معاً فلم تجيء (أو) بمعنى الواو في هذا الموضع بعد تقدير المحذوف ، إذ عوَّض المحذوف عن الدلالة التي اختفت في(أو) وثوّرتها ، فأمكن جمع الأمرين معاً وافردهما في تقييد نفي الجناح ، وعلى ذلك ستكون المتعة متحققة على الزوج لكل أمر منهما أو مجتمعين ، وهو مراد الآية .

بيد أن منهم من ذهب إلى احتمال أن تكون (أو) بمعنى الواو (3) ، فيكون نفي الجناح قد قيّد بالأمرين معاً ، ويؤيده ما نقله بعض المفسرين من أنَّ رجلاً من الأنصار تزوّج بامرأة لم يسمِّ لها مهراً ثم طلّقها قبل أن يمسّها ، فمتعها(4) ، باجتماع الأمرين معاً ، فضيّق الدلالة ، وهذا يدفعه قوله سبحانه ﴿ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ﴾ وهو صاحب حاجة لا يقدر على مثل هذا المتاع لمطلّقته .

ص: 241


1- سورة النساء / الآية 135
2- شرح الرضي على الكافية / الرضي الاستربادي : 352
3- -ظ :مغني اللبيب/ابن هشام: 1/132 ، معاني النحو / د.فاضل السامرائي :3/220
4- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/313 ، البحر المحيط / أبو حيان : 2/367

أمّا قوله سبحانه ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ وظاهر الآية وجوب المتعة على المطلِّق لقوله (متّعوهن على) ، الذي جاء بصيغة الأمر الدالة على الوجوب وأتى بلفظة (على) التي تستعمل في الوجوب أيضاً(1) ، حيث لا جُناح عليهم في ذلك ، وتختلف قيمتها تبعاً لحال الزوج ، من السعة والإقتار(2) ، ونجدها في مضانها من كتب الفقه .

﴿ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ﴾ انتصب على المصدر بتقدير(ومتعوهُنَّ متاعاً) ، وكان المتوقع أن يقول (ومتعوهن تمتيعاً) ، لأن متّع على صيغة فعّل يكون مصدرها على تفعيل ، أي تمتيع .

وهذا من أساليب القرآن الكريم العجيبة ، وجاء منها قوله سبحانه ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا﴾(3)، والمتوقع أن يقول تبتُّلاً مصدراً للفعل تبتَّل ، وقوله تعالى : ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾(4) ، والمتوقع أن يقول : (وأنبتها إنباتا حسناً) ، وقوله أيضاً ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾ والمتوقع (فتقبّلها بتقبّلٍ حسنٍ) ، لكن عندما جاء بهذه المغايرة بين الفعل ومصدره لدلالة أوسع ، فالفعل (متّع) على صيغة (فعّل) تفيد التكثير والمبالغة ، وذلك نحو كسَر وكسَّر ، فإنّ في كسَّر المضاعف من المبالغة والتكثير ما ليس في كسَرَ

ص: 242


1- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/372
2- ظ : كنز العرفان / السيوري : 535-536
3- سورة المزمل / الآية 8
4- سورة آل عمران / الآية 37

الثلاثي(1) ، وكذا في متَع ومتَّع ففي متَّع المضاعف مبالغة وتكثير في ما تتمتَّع به المطلَّقة من مطلِّقها ، في حين أن متعَ تدل على مجرد حدوث الفعل ، فلا تفيد التكثير بيد أن الله تعالى جاء بالفعل لمعنى التدرج ، ثم جاء بالمصدر على غير صيغة الفعل لمعنى آخر هو التكثير وجمع المعنيين في عبارة واحدة موجزة ، ولو جاء بالفعل (متّع) فقال : (ومتّعوهن تمتيعا) لأفاد التدريج فقط ، ولكنه تعالى أراد المعنيين فجاء بالفعل من صيغة والمصدر من صيغة أخرى وجمعها(2)، وربما كان هذا متسقاً مع سياق الآية إذ جمعت بين الإمتاع مع السعة والإمتاع مع الإقتار ، فناسب بين الكثرة والقلّة والتدرّج بحسب حال الزوج .

ثم أردفها بقوله ﴿ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ فقد انتصب حقّاً على أنَّه صفة ل- (متاع)(3)، فيكون المتاع موصوفاً أنه حق على المطلّقين ، ومنهم من جعله حالاً من (متاع)(4)، وذهب الفراء و الطبرسي إلى أنّ (حقاً) يُنصب على نية التأكيد بجملة الخبر ، كأنه قال : أخبركم خبراً حقاً ، أو حقَّ ذلك عليهم حقاً(5)، وهو الأولى والأنسب إلى معنى الإحسان ، في قوله (حقاً على المحسنين) ، إذ جعل من المتاع إحساناً من الأزواج إلى مطلقاتهم ، وذلك لدفع ما قد تقع فيه المطلّقة من الحرج بسبب الطلاق ، فالإحسان إليها من مطلّقها يزيل الحرج ويجعلها في مأمن من نظرة المجتمع إليها نظرة غير طيبة ، وهذا يجعل نصيبها في الزواج بعد طلاقها أوفر .

ص: 243


1- ظ : التعبير القرآني / د.فاضل السامرائي : 34
2- ظ : م.ن : 35
3- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/373 ، الكشّاف / الزمخشري : 1/315، آلاء الرحمن / البلاغي : 1/398
4- ظ: وضح البرهان / النيسابوري : 1/213 ، مجمع البيان / الطبرسي : م1/340
5- ظ : معاني القرآن / الفراء : 1/154 ، مجمع البيان / الطبرسي : م1/340

علاوةً على ذلك فإنَّ (حقاً) تدلُّ على إيجاب المتعة على المحسنين ، الذين يحسنون الطاعة ويجتنبون المعصية ، وإنّما خصَّ المحسنين بذلك تشريفاً لهم لا أنّه لا يجب على غيرهم ، وإنما دلَّ ذلك على وجوب الإحسان على جميعهم(1) .

وبهذا تكون الآية قد أسّست لمشروعية طلاق الأبكار غير الممسوسات واللاتي لم يحدّد لهن مهر من خلال رفع الجناح عن الرجال بعد فرض متاع لهنّ من قبل أزواجهنّ ، إحساناً منهم ، لأجل الحفاظ على لحمة المجتمع وعدم تفككه .

الآية السابعة

قوله تعالى : ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾(2)

بعد أن بيّن الله تعالى أحكام طلاق النساء اللاتي لم يمسهُن الرجال ولم يفرضوا لهنَّ صداقاً أو مهراً ، عقّب في هذه الآية المباركة أحكام المطلقات ممّن لم يمسّهن الرجال ، غير أنهم فرضوا لهن مهورهن .

فقال تعالى : ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ إذ إنَّ (قبل) ، اسم

للزمان السابق ، هو ظرفٌ مبهمٌ غير محدود بحدود تحصره(3)، غير أنه قد قُيِّد ب- (من) التي تفيد ابتداء الغاية ، وإن زمن الابتداء قد حدّدته من يوم عقد الزواج وغايته

ص: 244


1- ظ: مجمع البيان / الطبرسي : م1/340 ، الكشاف / الزمخشري : 1/315
2- سورة البقرة / الآية 237
3- ظ : شذور الذهب / ابن هشام الأنصاري : 137 ، الظروف المطلقة والمقيدة / د.عائدالحريزي : 3 ، البرهان في توجيه متشابه القرآن / الكرماني : 102-103

يوم الطلاق ، بدلالة (إن طلقتموهن) ، لأن الطلاق لا يقع ما لم يكن هناك عقد زواج بين الرجل والمرأة ، فإذن الزمن هنا غير مطلق ، بل محدّدٌ ، وهذا التقييد قد حدّد صفة المطلقات بأنهن غير ممسوسات ؛ بغض النظر عن كونهنّ قبل العقد أبكاراً أم ثيّبات ، فالآية تشرّع لكليهما بشرط عدم المس من يوم عقد الزواج حتى يوم الطلاق .

لكن لو حُذِفَت (من) لأُطلِقَ زمان (قبل) وأُبهم لما قبل العقد وبعده ، إلى يوم الطلاق ، أي أن هذا الحذف يجعل من الظرف يستغرق الزمانين قبل العقد وبعده وتحدّد نهايته بيوم الطلاق ، غير أنه لم يحدّد ما قبله بيوم معيّن ، وفي هذا سيكون عدم المس قد استغرق كل الأزمان قبل العقد فأطلقه ، وهذا ممّا يدلّل على أنّ المطلقات ستكون أبكاراً .

إذن كان استعمال (مِنْ) في هذه الآية استعمالاً دقيقاً بحسب مقتضى الدلالة المطلوبة . ومن ذلك ما جاء في قصة يوسف (علیه السلام) بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾(1) ، ( لأن الرأي في سجنه (حتى حين) قد جاء مباشرة بعد رؤيتهم الآيات ، ولم تأتِ في قوله : ﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾(2) ، لأن التذكر حصل بعد عدة سنوات فناسبه (بعد) المطلقة واطلاقها مقصود للتنبيه على هذا الطول ، وهو المهم في هذه المسألة )(3) ، فالذي يبدو من هذا أن استعمال (من) مقيّدة للظروف عامة لأجل الاتصال والملامسة وقرب المدة

ص: 245


1- سورة يوسف / الآية 35
2- سورة يوسف / الآية45
3- الظروف المطلقة والمقيدة ب- (من) في القرآن الكريم / د.عائدالحريزي : 10

لأنها وُضِعت في الأصل لابتداء الغاية(1) ، عند اتصالها بظروف الزمان والمكان على حدٍّ سواء .

وفي ضوء هذا كان تقييد الظرف (قبل) ب- (من) قد حدّد صفة المطلقات فشمل الثيّبات والأبكار ، خلافاً للآية السابقة ، التي حدّدت المطلقات بالأبكار دون الثيّبات .

وقوله﴿ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾ ، أخرج حالة الغرابة في هذا الزواج بعد فرض المهر للمطلقات فيه ، خلافاً لما في الآية السابقة ،ممّا جعله أكثر وثاقةً من الأول .

أما قوله تعالى ﴿ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ ، على الأمر وفيه رأيان ، الأول : أن يكون مبتدأ وخبره محذوف يقدّر ب- (عليكم) ، والتقدير : فعليكم نصفُ ما فرضتم(2) ، أما الثاني : أن يكون خبراً ، والمبتدأ محذوف يُقدر ب- (الواجب) ، والتقدير : الواجبُ نصفُ ما فرضتم(3) .

والأوْلَى الأول ، لما فيه من الوجوب لأن (عليكم) تدلُّ على الأمر ، وهذا أقوى في الدلالة عليه ، أما الثاني فالجملة ستكون خبرية ، وهي أضعف في الدلالة على الوجوب من الأولى .

ص: 246


1- ظ : م.ن : 24
2- ظ : معاني القرآن / الأخفش : 1/190 ، وضح البرهان / النيسابوري : 1/213 ، مشكل إعراب القرآن / مكي بن أبي طالب : 70 ، مجمع البيان / الطبرسي : م1/342
3- ظ : البيان في غريب إعراب القرآن / ابن الأنباري : 1/162 ، إملاء ما منَّ به الرحمن / العكبري : 1/100

أما قوله ﴿ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ ، فهنا (أو) جاءت على أصل معناها في الإباحة ، لأجل توسيع الدلالة ، بعد الاستثناء ب- (إلّا) المفيدة لانقطاع ما بعدها عمّا قبلها(1) ، وإباحة الاستثناء تكون على وجهين :-

الأول : تقديره إلّا في حال العفو ، أي عفو عموم المطلقات من الثيّبات والأبكار عمّا فُرِضَ لهنَّ إلى الرجال ، على تقدير كون الولاية بأيديهن والظاهر أن الأبكار ممّن كنّ عاقلات رشيدات ، لأن النون في (يعفونَ) نون النسوة ، فيكون العفو من النساء دون الرجال ، وكذلك عدم وجود مقيّد للدلالة إلى غير ذلك .

الثاني : أن يعفو من بيده عقدة النكاح ، وقد اختُلِفَ فيه أ هو الولي أم الزوج ، فقد ذهب الإمامية والشافعي في القديم إلى أنه الوليّ(2), وكذلك الزمخشري(3)، وذهب الفرّاء ، وأبو حيان الأندلسي إلى أنه الزوج(4)، وقال بيان الحق النيسابوري (توفي بحدود سنة555 ه) : (هو الزوج لا غير)(5) .

ولعل السبب يعود إلى عموم لفظة العفو ، فالذي جعل العفو بمعنى الطمس والمحو(6)، ذهب إلى أن العافي هو وليّ المطلقة ، لأنه هو الذي سيعفو عن مهر من تولاها إلى مطلِّقها ، لأن ( في الآية دلالة ثبوت الولاية في النكاح على المرأة أصالة

ص: 247


1- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/375
2- ظ : كنز العرفان / السيوري : 537 ، آلاء الرحمن / البلاغي : 1/398-399 ، مجمع البيان / الطبرسي : م1/342
3- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/314
4- ظ : معاني القرآن / الفراء : 1/155 ، البحر المحيط / أبو حيان : 2/376
5- ظ : وضح البرهان / النيسابوري : 1/213
6- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 14/295- عفو

لقوله (بيده) أي في ملكه ، لأن اليد تدلّ على الملك عُرْفاً )(1)، واختُلِفَ في الولي لإطلاقه ، وتجد ذلك في مظانه من كتب الفقه .

أما الذي جعل العفو بمعنى الفضل والإنفاق(2) ذهب إلى أن العافي هو الزوج ، ويدعمه ما روي من ( أن جبير بن مطعم تزوج وطلّق قبل الدخول ، فأكمل الصداق ، وقال : أنا أحقُّ بالعفو ..)(3).

أما قوله سبحانه ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ ، خطاب للأزواج ، بدلالة جزم الفعل المضارع (تعفو) ب- (إنْ) الشرطية وحذف نونه والأصل (تعفوُن) ، ولو كان خطاباً للزوجات لقال (وإن تعفَوْنَ) بنون النسوة الدالة على الزوجات لكن الذي فسّر ﴿ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ بالزوج قال : إنه أعاد خطابهم تأكيداً(4) ، لأجل الحثّ على الإفضال والإنفاق ، ومن فسّرها بالولي ذهب إلى أنّه ( لما ذكر عفو المرأة ووليّها ذكر عفو الرجل وجمعه مطابقة لجمع النساء ولأنه خطاب لكل زوج )(5). وفيها حثّ على

الإنفاق لذلك قال ﴿ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ لأن فيها اتقاء للظلم .

ص: 248


1- كنز العرفان / السيوري : 538
2- ظ : مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الأصفهاني : 574-عفو ، لسان العرب / ابن منظور : 14/295- عفو
3- البحر المحيط / أبو حيان : 2/376 ، كنز العرفان / السيوري : 540
4- ظ : كنز العرفان / السيوري : 539
5- كنز العرفان / السيوري: 539

أمّا قوله سبحانه ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ ، ( أي لا تتركوا الأخذ بالفضل بينكم والإحسان ويمكن أن يستفاد من هذا استحباب الأخذ ناقصاً والإعطاء راجحاً في سائر المفاوضات )(1) .

ونستنتج منها : أن الآية شرّعت بعدم الحرج من طلاق غير الممسوسات وقد سُمِّيَ لهنّ مهورهن سواء كنّ ثيّبات أم أبكاراً ، وفرض نصفه لهنّ ، وثبوت ولاية الولي على الأبكار ، وكذلك إعطاء الثيبات والأبكار العاقلات الرشيدات الولاية على أنفسهن في العفو عن مهورهن .

الآية الثامنة

قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾(2)

إنّ الخطاب العام في سورة الأحزاب خطابٌ للنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة والمؤمنين عامة ، إذ ابتدأها تعالى بخطاب رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾(3) وكرر ذلك في أكثر من موضع من السورة المباركة ، وخاطب المؤمنين كذلك بقوله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾ في مواضع متعددة منها، وذلك لأنّ جوّ السورة مشحون بأحداث تجييش قريش ومن

ص: 249


1- كنز العرفان / السيوري : 541
2- سورة الأحزاب / الآية 49
3- سورة الأحزاب / الآية 1

والاهم لحرب النبي،(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين في المدينة المنورة ، وكان ذلك في معركة الخندق ، وقد أنعم الله على المؤمنين بالنصر عندما أرسل على الكافرين ريحاً وجنوداً فقال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾(1)، ثمّ بشّرهم تعالى مخاطباً رسوله الكريم بأنّ لهم فضلاً كبيراً فقال : ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ﴾(2)، ثم عدل في خطابه إلى المؤمنين بقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾(3)، ليبيّن لهم بعض الأحكام الخاصة بحياتهم الاجتماعية جزءاً ممّا فضّل عليهم ، فوجّه تعالى ( أنّ من شأن المؤمن أن لا ينكح إلاّ مؤمنة تخييراً لنطفته )(4)، لأن الحِجر الطاهر أسلمُ للمؤمن من الحجر المدنس بالآثام و الأرجاس ، فكان هذا الخطاب نعمة منه تعالى على المؤمنين والمؤمنات ، ومتوافقاً مع بشارته لهم على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) ، فضلاً عن ذلك فيه إيحاء أن الحرب ومداهمة حصون المسلمين من قبل الكافرين لا توقف تشريعاً ، بل عمّم فجعل من المؤمنين والمؤمنات قدوة في ذلك لغيرهم من الكتابيين ، وكان من الممكن أن يقول : يا أيها الناس إذا نكحتم النساء ، ليكون خطاباً عاماً للمسلمين ولغيرهم لكنه تعالى خصَّ المؤمنين بذلك تكريماً لهم .

ص: 250


1- سورة الأحزاب / الآية 9
2- سورة الأحزاب / الآية47
3- سورة الأحزاب / الآية 49
4- أنوار التنزيل / البيضاوي : 2/249 ، ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 7/317

فقوله تعالى : ﴿ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ ، جاء لفظ النكاح يُفيد العقد صراحةً ، لقوله تبارك وتعالى : ﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ والنكاح لم يرد في القرآن بدلالة الوطء إلّا في قوله سبحانه : ﴿ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾(1)، تجوّزاً لا على وجه الحقيقة ، وذلك أنّ ( أصل النكاح للعقد ثم استعير للجماع ، ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد ، لأنّ أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ، ومحال أن يستعبر من لا يقصد فحشاً اسم ما يستضعفونه لما يستحسنونه )(2) .

أمّا (ثُمَّ) ، فهي تفيد التراخي والمهلة بين عقد الزواج والطلاق ، ولو أراد عدم وجود مهلة لعطف (طلقتموهن) بالفاء المفيدة للتعقيب بلا مهلة ، فضلاً عن ذلك أنَّ اقتران عدم المس ب- (قبل) الظرفية المبهمة الزمان في القبلية وتقييدها ب- (من) عندما قال (من قبل) ، سيخلّف زمناً ومهلة بين يوم العقد ويوم الطلاق لذا فإن استعمال (ثم) جاء على أصل وضعها من العطف والتراخي .

أما إذا اختلى الزوج بزوجته في هذه المهلة ويمكن معها المساس ، فلا يقوم ذلك مقام المساس ، كما ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأصحابه من الفقهاء ، والزمخشري

ص: 251


1- سورة البقرة / الآية 230
2- مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الأصفهاني : 823 – نكح ، ظ: كنز العرفان / السيوري : 588

من المفسرين(1)، لأن ظاهر النص لا يشير إلى ذلك . فضلاً عن ذلك أن الخلوة خالية من التماس لا تقوم مقامه ، وهو مذهب الإمامية(2) .

علاوة على ذلك نفيد من هذا النص المبارك إباحة الطلاق من قبل المس ومشروعيته لا على وجه السرعة أو وقوعه بعد العقد مباشرة ، لأنّ ذلك لا يتفق مع دلالة (أو) ووظيفتها في أصل الوضع ، ويوحي لنا أيضاً بعدم الاستعجال في وقوعه بقصد تدخّل عقلاء القوم في ردم الهوة بين الزوجين وإصلاح ذات البين بينهما ، مما يُفضي إلى زيادة في قوة وحدة المجتمع .

أما في قوله سبحانه ﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ ، فإنه يدلّ على أنّ من حقّ الزوج على مطلقته العدة(3) عندما أرجع الضمير في (لكم) على الرجال ، فلعله يراجعها فيها ، ومعرفة الولد

بيد أنه هنا قد شرّع لعدم وقوع العدّة في حالة عدم المس وذلك لاستبراء الرحم أصلاً ، وأنّ من حقّها أن تتزوج على الفور بعد طلاقها منه ، لا أن تَعُدَّ أيام عدتها أو اقراءَها ، هذا إذا قُرأ بتشديد الدال في (تعتدّونها) على صيغة (افتعل) فيكون المعنى استيفاء العدد(4) .

ص: 252


1- ظ : الكشاف / الزمخشري : 3/557 ، كنز العرفان / السيوري : 587
2- ظ : كنز العرفان / السيوري : 587 ، أنوار التنزيل / البيضاوي : 2/249
3- ظ : الكشاف / الزمخشري : 3/558 ، كنز العرفان / السيوري : 588
4- ظ : كنز العرفان / السيوري : 588 ، أنوار التنزيل / البيضاوي : 2/249

أما من قرأ بتخفيف الدال أي (تعتدونها) فذهب إلى أنها من العدوان بمعنى ، فما لكم عليهن عدة تلزمونها عدواناً وظلماً لهن(1) على ما في قوله تعالى ﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا ﴾(2).

وظاهر النص أن الرأي الأول هو الأولى ، لأنه في الأصل قد نفى العدّة ، أي لا إمساك أصلاً حتى يقع الضرار من الزوج على مطلقته فيعتدي عليها بذلك .

أما قوله سبحانه ﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ ﴾ فقد جاء بصيغة الأمر منه تعالى في (متعوهن) ، الدالة على الوجوب ، لأنّ الأمر حقيقة في الوجوب لتبادره منه(3) ، ما لم توجد قرينة تأخذ به إلى الاستحباب(4)، ويؤيده قوله سبحانه ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾(5)، ففي (متعوهن) دلالة الأمر الواجب ، إذ لا توجد قرينة تدفعه إلى الاستحباب ، فضلاً عن كونه أمرٌ قد صدر من الله تعالى إلى المؤمنين كافة .

وهذا وحده كافٍ ليدلّ على الوجوب لا الندب ، وهو ما عليه أبو حيان الأندلسي(6) .

ص: 253


1- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 7/318
2- سورة البقرة / الآية 231
3- ظ: مرقاة الأصول / الشيخ بشير النجفي : 60
4- ظ : أصول الفقه / الشيخ محمد رضا المظفر : 1/61
5- سورة النور / الآية 63
6- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 7/319

أمّا الذي ذهب إلى أن الفعل يدلّ على الندب ، فذلك على أساس من تعميم فعل الأمر فيهما ، أي إنه موضوع لمعنى عام شامل من الطلب الوجوبي والندبي ، فعليه تكون مادة الأمر مشتركة بينهما(1) ، وهو ما عليه ابن كثير في هذا الموضع من الآية إذ يقول : ( المتعة ها هنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمّى أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمّى لها )(2) ، وجعله البيضاوي أحد خياراته فقال : ( ويجوز أن يؤول التمتيع بما يعمهما أو الأمر المشترك بين الوجوب والندب فإن المتعة سنة )(3).

ولمّا جاء الخطاب في قوله سبحانه ﴿ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ على وجه الإطلاق ، فقد صحّ إطلاق الطلاق على غير الممسوسة ممّن سمّي لها مهرها ،ومن لم يسمِّ لها ، فاختلفت المتعة بحسب حال المطلقة من هذين الأمرين وتوزع العلماء فيهما بين الوجوب والندب .

فذهب أبو حنيفة إلى إنها واجبة فيمن لم يسمِّ لها مهرها ، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قرر أن المتعة لا تكون إلّا لها دون سائر المطلقات ؛ وهي واجبة كذلك عند الزمخشري(4) وأبي حيان الأندلسي(5) ، وقال الطبرسي : (الآية محمولة عندنا على التي لم يُسمَّ لها مهر فيجب لها المتعة )(6) ، وهو الأصح ، لأن التي سمي لها

ص: 254


1- ظ : مرقاة الأصول / الشيخ بشير النجفي : 58
2- تفسير القرآن العظيم / ابن كثير : 2/498
3- أنوار التنزيل / البيضاوي : 2/249
4- ظ : الكشاف/الزمخشري : 3/558
5- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 7/319
6- مجمع البيان / الطبرسي : م4/364

مهرها لها نصفه ، ولم يخصص لها تمتيع ، قال تعالى : ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾(1)، في حين أنّ التي لم يُفرض لها صداقها خصّها بالمتعة دون المفروض لها ، فقال : ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ﴾(2).

أما قوله ﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ ، فهو على الأمر كذلك ، إذ وجب التسريح الجميل ، وكان من المتوقع أن يقول : وسرّحوهن تسريحاً جميلاً ، لأن مصدر (سرّح) بتشديد العين على زنة تفعيل أي تسريح ، بيد أنّه جمع الأمرين معاً ، لإفادة التدريج والكثرة معاً وبعبارة موجزة بليغة ، ولو قال : وسرحوهن تسريحاً لإفادة التدريج في التسريح فقط ، في حين ان السياق يطلب المزيد من الانطلاق ، إذ إنّ معنى (سرّح عنه وتسرّح : خرّج ، وإذا ضاق شيء ففرّجت عنه ، قلت : سرّحت عنه تسريحاً والتسريح : التسهيل)(3) ، وذكر ابن فارس (ت392ه) أن التسريح : ( يدلّ على الانطلاق ، يقال منه : أمر سريح إذا لم يكن فيه تعويق ولا مطل )(4)، فتكون دلالة (سرّحوهن سراحاً جميلاً) الإفراج عن المطلقة وعدم الإعاقة والمماطلة والإضرار بها ومنعها حقها أو الإخلال به ، لأن الطلاق وحده يؤدي إلى الأذى ، فأنكر الله زيادة أذاها فأمر بالإفراج عنها وإعطائها حقها كاملاً ، وقد روي عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي (علیه السلام) قال : ( متعوهن جمّلوهن مما قدرتم عليه من معروف فانهن

ص: 255


1- سورة البقرة / الآية 237
2- سورة البقرة / الآية 236
3- لسان العرب / ابن منظور : 6/230 - سرح
4- مقاييس اللغة / ابن فارس : 493 - سرح

يرجعن بكآبة وخشية وهمٍّ عظيم وشماتة من أعدائهن ، فإنّ الله كريم يستحي ويحب أهل الحياء ، إنّ أكرمكم أشدّكم إكراماً لحلائلهم )(1)، ومنهم من ذهب إلى معنى الإفراج من المنزل لعدم وجوب العدة(2)، أو أن لا يطالبها بما أتاها(3)وغيرها ، واللفظ يحتمل أغلب هذه الدلالات وغيرها مما تعمل على رفع الظلم والأذى عن المطلقة .

الآية التاسعة

قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ﴾(4)

ابتدأت الآية بخطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ثم عدل إلى خطاب المؤمنين ، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) قائد الأمة وإمامها وموجّهها ، فابتدأ بخطابه تكريماً له ، وان السيد المقدّم إذ نودي وخُوطِبَ خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب(5) ، إذ لا مانع من قوله (إذا طلقتم) وهو خطاب الجماعة عن ان يفرد للنبي (صلى الله عليه وآله) خطاباً مخصوصاً مُوَحَّداً(6)

ص: 256


1- تفسير جابر الجعفي : 536- 537
2- كنز العرفان / السيوري : 588
3- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 7/319
4- سورة الطلاق / الآية 1
5- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م5/303 ، كنز العرفان / السيوري : 577
6- درة التنزيل / الخطيب الاسكافي : 28

فضلاً عن ذلك فإنه تعالى عندما أراد أن يشرّع لمسألة اجتماعية مهمة وأراد أن تكون مثار انتباههم وهي محل ابتلائهم ، خاطب الرسول (صلى الله عليه وآله) لغرض إيضاح ما أُبهم منها ، علاوة على ذلك أنّ سبب نزولها كان من طلاق النبي (صلى الله عليه وآله) زوجه حفصة ثم مراجعته لها بعد ذلك(1) .

وقوله سبحانه ﴿ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ ورد على إطلاق لفظ النساء المطلقات ، ممّن كُنّ حوامل أو يائسات من المحيض ، أو ممّن دُخِلَ بهن ولم يحملن ، فلم يخصص الخطاب لواحدة منهنّ ، والغرض من ذلك توسيع الدلالة .

وقوله ﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ ، جاء لفظ (طلقوهن) لفظ عام خصص بالعدة في وقتها ، بدلالة (لام) التوقيت ، نحو كتبته لليلة بقيت من شهر كذا(2)، فهي مشربة بمعنى (عند)(3) الدالة على زمان الحضور(4)، فيكون المعنى فطلقوهن لوقت عدتهن كقوله تعالى ﴿ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ﴾(5)، ولفظ العدة جاء مجملاً ، لأنه يحتمل عدة معاني مشتركة بيّنها قوله سبحانه ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ...﴾(6)الآية، وفي هذا وجوب إيقاع الطلاق في طهر لأن الإقراء كما بينّا من قبل هي الأطهار ، وهو مذهب الإمامية والشافعي(7) .

ص: 257


1- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 8/393 ، أضواء البيان / الشنقيطي : 8/182 ، التفسير الكبير / ابن كثير : 4/377
2- ظ : معاني القرآن / الفراء : 3/162
3- ظ: مغني اللبيب / ابن هشام : 1/418
4- ظ : م . ن : 1/315
5- سورة الأعراف / الآية 187
6- سورة الطلاق / الآية 4
7- ظ : كنز العرفان / السيوري : 577

ولا يصدق على العدة حالٌ في طلاق إلاّ عندما تُطلّق المرأة في طهر لا يجامعها فيه الرجل ، فإن طلّقها وهي حائض ، أو هي في طهر وجامعها فيه ، فلا يقع الطلاق لما روي عن طلاق ابن عمر لزوجته وهي حائض ، تطليقة واحدة فأمره الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها فإذا أراد أن يطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدة ، وتعد طلقة واحدة(1) ، وإن عاد وراجعها قبل انتهاء عدتها ويُشهد شاهدين عدلين على رجعتها وواقعها ثم انتظر حتى تحيض ثم يطلقها بعد الحيض دون أن يجامعها ويُشهد على طلاقها ، فإن ذلك يعد تطليقة ثانية ، وإن راجعها قبل انتهاء عدتها وأشهد على ذلك ثم واقعها ومن ثم أمهلها حتى تحيض ، ثم طلقها بعد الحيضة دون أن يجامعها في طهرها واشهد على ذلك أيضاً ، فإنها تعد تطليقة ثالثة ، فإذا فعل ذلك فقد بانت منه ولا تحل له ، حتى تنكح زوجاً غيره ، وهذا يسمى طلاق العدة(2)، وهو المروي عن أئمة آل البيت (عليهم السلام)(3)، أو أن يتركها في طلاق السنّة حتى تمضي إقراؤها الثلاثة فلا يراجعها ، فقد بانت منه ، فإذا تزوجها بعد ذلك بمهر جديد كانت عنده على تطليقتين باقيتين ، فإن طلقها بعد ذلك طلاق السنة ثم تزوجها بعد انقضاء إقرائها الثلاثة ، فقد بانت منه باثنتين فإن تزوجها بعد ذلك ومن ثم طلقها لم تحلّ له حتى تنكح زوجاً غيره ، وهذا الطلاق هو طلاق للعدة أيضاً إلّا أن الفرق بينهما ما ذكرناه(4).

ص: 258


1- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م5/ 303
2- ظ : معاني القرآن / الفراء : 3/162
3- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م5/305
4- ظ : م . ن : م5/305

وفي هذا وجب على الزوج أن يحصي أيام عدتها لقوله تعالى ﴿ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ﴾ ، لأن في الإحصاء تترتب حقوق للزوجة من نفقة وسكن ، وحقوقاً للرجل بالرجوع إذا شاء مع بقائها لا مع خروجها ، ولذلك له منْعَها من الأزواج ، فضلاً عن إلحاق النسب لو أتت بولد يمكن إلحاقه به في العدة وغيرها(1) . وإنّ الإحصاء يكون من قبل الزوجين ، وإنما ورد في الآية بواو الجماعة في (وأحصوا) لتغليب المذكر على المؤنث ، لأن الأمر يتعلق بهما سوية لا بالزوج فقط .

وربّ قائل يقول : لِمَ كان طلاق العدة المذكور بثلاث طلقات ، ولم يكن تطليقة واحدة ، وجواب ذلك في قوله سبحانه ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾(2)، فذكر (فارقوهن) ولم يقل (فسرّحوهنَّ) ، لأنّ دلالة الفعل (سرّح) هو الإفراج ولم يرد في آيات الطلاق إلّا في الطلقتين الأولى والثانية ، ولو أراد ذلك لجاء بالفعل (سرَّح) ، في حين أن دلالة (فارق) تعني المباينة والفراق ، قال ابن منظور : ( فارق الشيء مفارقةً وفراقاً : بايَنَهُ ... وتفارق القومُ : فارق بعضهم بعضاً وفارق فلان امرأته مفارقة وفِراقاً : باينها )(3)، وعن ابن فارس فإن فرق (يدلّ على تمييز وتزييل بين شيئين)(4)، وفي هذا دلالة أبعد من الإفراج الذي يكون بعد الحبس والقيد ، في حين أن دلالة (فارق) مُجاوزة الحبس والقيد إلى الابتعاد و المزايلة بين الزوجين ،

ص: 259


1- ظ : كنز العرفان / السيوري : 578
2- سورة الطلاق / الآية 2
3- لسان العرب / ابن منظور : 10/244 - فرق
4- مقاييس اللغة / ابن فارس : 814 - فرق

وهذه الدلالة المضافة تضفي على السياق معانٍ أخرى تتجاوز الطلاق الرجعي إلى الحد الذي فيه لا تحل المرأة على زوجها ما لم تنكح زوجاً آخر .

فضلاً عن ذلك أن (سرّح) تدل على وقوع التسريح مرة بعد أخرى لأن صيغة(فعّل) بتضعيف العين تدل على التكثير في الفعل(1)، في حين جاء الفعل (فارق) بصيغة (فاعَلَ) الدالّة على المشاركة بين اثنين أو أكثر ، وهو أن يفعل أحدهما بصاحبه فعلاً فيقابله الآخر بمثله ، وحينئذ فيُنسب للبادئ نسبة الفاعلية وهو الزوج ، وللمقابل نسبة المفعولية(2)، المتمثل بالزوجة ، ونتلمس فيها معنى المغالبة إذ يدلّ على غلبة الزوج على الزوجة لأنه يملك عصمة النكاح بيده ، فتكون المفارقة والمباعدة من الاثنين (الزوج والزوجة) ، وفي هذا اتساع في المعنى أكثر ممّا في دلالة (سرّح) التي تحتمل إعادة الزواج بعد الطلاق مباشرة ، بيد أن في المفارقة قطيعة لا يمكن إعادة الزواج مباشرة إلّا بعد نكاح المرأة من زوج آخر ، وعند ذلك تتحقق المفارقة و المباينة بشكل واضح وجلي .

وفي قوله سبحانه ﴿ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ﴾ نَسبَ البيوت إليهن ، لأنّ من حق المطلّقة على زوجها السكن والنفقة، ولا يتحقق ذلك إلّا في بيتها ، وهو واجب لأن السياق جاء بصيغة النهي الدال على الأمر المفضي إلى الوجوب .

وقوله ﴿ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ ﴾ جاء بصيغة النهي أيضاً الدال على الأمر المفضي إلى وجوب عدم خروج المطلقة في عدتها ، ما لم تأتِ بفاحشة فقال :

ص: 260


1- ظ : شذا العرف / الحملاوي : 50
2- ظ : م ، ن : 49

﴿ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ وهي الزنا وروي عن الإمام محمد الباقر والإمام جعفر الصادق (عليهما السلام) وعن ابن عباس أن البذاء أو أذى أهل الزوج(1)، وهو الأوْلى من الزنا بدليل قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء ))، فقرن البذاءة بالفحش ، وعليه فلا يعدو أن تكون الفاحشة في قوله سبحانه ﴿ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ﴾ أن تكون قرينة البذاء .

ثم بيّن تعالى أن هذه التشريعات والأحكام حدود قد وضعها سبحانه لكل المؤمنين حفاظاً على بنية المجتمع ووحدته ، ومَنْ يتعداها فقد ظلم نفسه ، لأنّها جاءت بموضع الأمر الواجب إطاعته وتنفيذه ، ﴿ لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ﴾ وهو بقاء حالة الزوجية بينهما وهو كالتعليل لعدم الإفراج والخروج من البيت وفيه دلالة على كون المراد بذلك الطلاق الرجعي(2)، وذلك يأتي من خلال مواقعة الزوج لزوجته بعد الطلاق الأول وإعادة الكرة مرة أخرى بعد الطلاق الثاني ، فإنّ هذا الاتصال المتكرر بعد الانفصال المتكرر ، ربما يُراجع الزوجان أنفسهما في كل مرة فتزول من أنفسهما أسباب البغض والكراهية وتغليب حالة الزوجية على الطلاق الذي هو أبغض الحلال عند الله .

ص: 261


1- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م5/304
2- ظ : كنز العرفان / السيوري : 579 ، ظ : معاني القرآن / الفراء : 3/162

الآية العاشرة

قوله تعالى ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾(1)

في هذه الآية المباركة أعقب تعالى الطلاق ببلوغ الأجل ، لأن البلوغ لا يأتي إلّا بعد الطلاق مباشرة ، لذا استعمل الفاء الدالة على التعاقب فقال ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ ...﴾ والبلوغ هنا بمعنى المقاربة ومشارفة الأجل ، وهو العدة الذي جاء مطلقاً – كما مرّ- ويؤيده مجيء الفعل (امسكوهن،فارقوهن) بصيغة الأمر ، الدال على ضرورة وقوع الفعل في زمان الأمر ، فهذا يعني مقاربة الأجل لا انقضاؤه ، لأن بلوغ الإنقضاء يعني عدم وقوع طلاق الرجعة بل سيقع طلاق البينونة وهو خلاف الإمساك ، وكذلك فإن معنى (فارقوهن) الدالة بصيغتها على المشاركة ، هو الابتعاد والمزايلة بين الزوجين ، أكثر من دلالة الفعل (سرّح) الذي اقترن بالإمساك في أكثر من موضع الدال على وقوع الفعل مرة بعد أخرى ، لذا فإن الفراق سيقع بعد زمان التسريح الكلي ، فيُعنى به ما بعد التطليقة الثالثة التي بعدها لا يحل له نكاح مطلقته ما لم تنكح زوجاً غيره .

إذن كان قوله سبحانه ﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ تفسيراً لصدر السورة المباركة في قوله تعالى ﴿ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ ثم قال ﴿ وَأَشْهِدُوا

ص: 262


1- سورة الطلاق / الآية 2

ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ﴾بصيغة الأمر ، الذي يدل على وجوب الإشهاد مجملاً على الزواج والطلاق في حالاته لعدم وجود قرينة دافعة لإرادة الوجوب ، واشترط أن يكون الشهود من العدول ، لكن اختُلِفَ في عوده فقيل هو راجع إلى الرجعة ، وهو قول الشافعية ، وذلك عندهم على الندب ، ونُقل عن الشافعي وجوبه ، وقال الإمامية بوجوبه ورجوعه إلى الطلاق ، وهو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) لكون الكلام في الطلاق ، فيكون ذلك قرينة دالة على رجوعه إليه(1)

ثم إنّ الأمر بإقامة الشهود على الشهادة لله تعالى وحفظها وعدم كتمانها دليل آخر على عوده على الطلاق ، لما يترتب عليه من أمور كثيرة تتعلق بحقوق الزوج على مطلقته وحقوق الزوجة على مطلقها ، وحق المرأة بعد ذلك في الزواج من الرجال إذا أرادت ذلك ، وكتمان الشهادة خراب لبنية المجتمع وهدر لحقوق الأفراد وغيرها من الأمور المهمة ، لذلك فإن الله تعالى قد نسبها له ، فقال ﴿ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ﴾ ، فجاء في موضع الوجوب لا الندب على الطلاق وترجيحها على فعل الزواج ، علاوة على ذلك فإن قوله ﴿ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ﴾ جاءت على الإطلاق ، وإن خصّها السياق هنا في الطلاق، وقد نهى الرسول (صلى الله عليه وآله) كتمانها وقد نقل جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر (علیه السلام) ( قال : ((قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من كتم شهادة أو شهد بها ليهدر بها دم مسلم أو ليقوي بها مال امرئ مسلمٍ أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مد البصر وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه ، ومن شهد شهادة حق

ص: 263


1- ظ : كنز العرفان / السيوري : 581 ، ظ: مجمع البيان / الطبرسي : م5/306

ليحيي بها حقّ امرئٍ مسلمٍ أتى يوم القيامة ولوجهه نور مدّ البصر يعرفه الخلائق باسمه ونسبه ، وثم قال أبو جعفر (علیه السلام) : ألا ترى الله عز وجل يقول : ﴿ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَة َلِلَّهِ ﴾)(1)

ثم إنّ الخروج عما نُسِبَ إليه , خروج عن الامتثال لأوامره ونواهيه ، فتعيّن الامتثال لها بموضع الأمر الواجب ، فلذلك قال : ﴿ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ﴾ ، فالمؤمنون أحرى بأن يمتثلوا أوامره ، و ينزجروا بها عن الباطل ، (وخصّ المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به ، فالطاعة الواجبة فيها وعظ بأن رغِبَ فيها باستحقاق الثواب ، وفي تركها العقاب)(2).

وفي ضوء ذلك نتلمس مشروعية الوجوب في شهادة ذوي العدل وإقامة الشهادة وعدم كتمانها ، لأنها من ضرورات الحياة .

الآية الحادية عشر

قوله تعالى : ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾(3)

جاءت هذه الآية المباركة تبيّيناً لمجمل لفظ العدة في قوله سبحانه ﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾(4)

ص: 264


1- ظ : تفسير جابر الجعفي : 717-718
2- مجمع البيان / الطبرسي : م5/306
3- سورة الطلاق / الآية 4
4- سورة الطلاق / الآية 1

إذ بيّن تعالى عدة المطلقات من النساء ، ممّن يئسن من المحيض ، واللاتي لم يحضن لصغر سنّهنّ أو لكبرهن ، وأولات الأحمال ، فقد ذُكِر من سبب نزولها (أن معاذ بن جبل سأل النبي (صلى الله عليه وآله) فقال : قد عرفنا عدة التي تحيض ، فما عدة الكبيرة التي قد يئست ؟ فنزل ﴿ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ﴾ فقام رجل فقال : يا رسول الله فما عدة الصغيرة التي لم تحض؟ فقال : واللائي لم يحضن بمنزلة الكبيرة التي يئست عدتها : ثلاثة أشهر . فقام آخر فقال : فالحوامل ما عدتهن؟ فنزلت ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾)(1) .

وقوله تعالى ﴿ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ ﴾ ، اللائي بمعنى اللواتي بوزن القاضي والداعي ، وإنّما جاء بلفظ اللائي للدلالة على الشدة التي تكون فيها المرأة مع الحيض ، لأنها من اللأي قال ابن منظور : ( اللأي : الجهد والشدة والحاجة إلى الناس ... واللأي الشدة في العيش )(2) ، ولو لم يكن شدة وجهد لجاء بالتي كقوله تعالى ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ﴾(3)، واليأس انقطاع الرجاء من الحيض ، وقال ﴿ مِنْ نِسَائِكُمُ﴾ فإنّ (من) دالة على التبعيض لأن ليس كل النساء يائسات من المحيض ، ولو أراد كل النساء لقال : ونسائكم اللاتي يئسن من المحيض .

ص: 265


1- معاني القرآن / الفراء : 3/163 ، ظ : كنز العرفان / السيوري : 586
2- لسان العرب / ابن منظور : 12/213 - لأي
3- سورة النساء / الآية 23

وقوله سبحانه ﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ ﴾ ، فقد اختلف العلماء في موضع الارتياب أو الشك ونسب الضمير إلى الرجال دون النساء لأنهم المعنيون في ذلك في إن المرأة يئست أم لا , لأجل مكان ظهور الحمل أو انقطاع دمها(1) ، وقيل (إن ارتبتم) شككتم في حالهن وحكمهن فلم تدروا ما حكمهن ، وهو مذهب الطبري ، وقيل معناه : إن تيقنتم إياسهن ، وقال الزجاج : إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع الدم عنها ، وكانت مما يحيض مثلها ، وقال مجاهد : (إن ارتبتم) هو للمخاطبين ، أي إن لم تعلموا عدة الآيسة(2) .

لكن الرأي أن دلالة الارتياب تتجه باتجاهين اثنين ، أولاهما : أن الارتياب يكون في حكم العدة لعدد أيامها ويعضده سبب النزول من سؤال معاذ بن جبل للنبي (صلى الله عليه وآله) في عدة الآيسة .

وثانيهما : أن الارتياب يكون بمعنى الشك في سبب انقطاع الدم من المرأة أكان بسبب اليأس من الحيض ، أم بسبب علوق الحمل في الرحم إذ أنّ كلا السببين يؤدي إليه ، وكلاهما قائم للأسباب التي ذكرناها .

فضلاً عن ذلك أنّ مجيء أداة الشرط (إنْ) الدالة على عدم وقوع الحدث بشكل قطعيّ إذ إنّ هناك شكاً في وقوعه ، وهذا الشك إنّما يقع عندما يلتبس وقت وقوع الطلاق مع الأيام الأولى ليأس المطلقة من الحيض ، وعندما تكون مثيلاتها في السن

ص: 266


1- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 8/397
2- ظ : م . ن : 8/398 ، معاني القرآن / الفراء : 3/163 ، أنوار التنزيل / البيضاوي : 2/502 ، الكشاف / الزمخشري : 4/560

لم يبلغن مرحلة اليأس ، فهنا يقع الالتباس عند انقطاع الحيض أهو ليأسهن أم بسبب علوق الحمل ، ولذلك جاء ب- (إنْ) الشرطية الدالة على الشك وعدم القطع في وقوع الحدث ، ممّا سبّب الارتياب في ذلك ، فقُطِعَ هذا الارتباك بتحديد زمن العدة لليائسات من المحيض بثلاثة أشهر ، واتبعهن باللائي لم يحضن على وجه الإطلاق ، فشمل الصغيرات المدخول بهن ولم يحضن ، والكبيرات اللائي صدق عليهن القول بأنهن لم يحضن ، وشمول الكبيرات ممّن لم يحضن بذلك دليل على وقوع الارتياب في حديثات العهد في اليأس من الحيض ، لأن الكبيرات ممّن لم يحضن لم يعلق بهن حمل بعد ، فأحكم زمن العدة بثلاثة أشهر في المرتاب بها ، وغير المرتاب بها أولى في قبول الحكم .

وقوله : ﴿ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ ، فاللفظ في (أولات الأحمال) جاء مطلقاً في المطلّقات والمتوفى عنهن أزواجهن(1)، وذهب بعضهم إلى أنه لايقع خصوص إلّا بتوقيف من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

لكن السياق في هذا الموضع يشير إلى المطلقات حصراً ، لأن المقام مقامُ الحديث عن الطلاق وشؤونه ، ثم أن إبعاد المتوفّى عنها زوجها عن مدة وضع الحمل فقط ، كان بدلالة قوله تعالى : ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾(3)، بل أنّ عدتها أبعد الأجلين (الوضع أو العدة) ، وهو قول أمير المؤمنين

ص: 267


1- ظ : الكشاف / الزمخشري : 4/560 ، أنوار التنزيل / البيضاوي : 2/502 ، البحر المحيط / أبو حيان : 8/398
2- ظ : إعراب القرآن / النحاس : 1166
3- سورة البقرة / الآية 234

علي بن أبي طالب (علیه السلام) وابن عباس(1) ، ويعلل ذلك بدلالة قوله (يتربّصْنَ) بمعنى الانتظار والتفتيش في حالهن من علوق حمل أم لا فإن لم تكن حاملاً فعدتها أربعة أشهر وعشراً ، وإن كانت حاملاً فعدتها أبعد الأجلين أما الوضع أو العدة ، لأن التربص لا يعني القطع في المدة أبداً وإنّما هو الانتظار والتفتيش عن وقوع حدثٍ ما ، والبحث عن حكم يتفق مع الحال تحدّده السنة الشريفة ، لأن الأصل في هذه القضية ليس براءة الرحم .

وقال ﴿ أَنْ يَضَعْنَ َحَمْلَهُنَّ﴾ بالمصدر المؤول ، ولم يقل (وضعهُن حملهن) بالاسم ، لأن الجملة الاسمية فيها دلالة ثبات المدة ، فيما أن مراد الآية المدة المتبقية من الحمل بعد الطلاق ، وهذه متغيرة لذا جاء بالجملة الفعلية الدالة على التغير وعدم الثبات .

وقد جعل الله سبحانه الالتزام بهذه التشريعات على سبيل الوجوب والإلزام ، لأنّ فيها تقوى الله فقال : ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ ، تسهيلاً وتيسيراً على المؤمنين كافة ولتفتح آفاقاً جديدة لهم في حياتهم في أسرة طيبة بعيداً عن المشاكل .

ص: 268


1- ظ : كنز العرفان / السيوري : 586

ص: 269

الفصل الرابع - التوجيه الدلالي لآيات المعاملات

اشارة

ص: 270

ص: 271

التوجيه الدلالي لآيات المعاملات

قسّم علماء الفقه والأصول أبواب الفقه على بابين رئيسين هما : باب العبادات المتمثلة بالصوم والصلاة والحج والزكاة وغيرها من العبادات الأخرى ،والباب الثاني هو باب المعاملات المتمثلّة بالتجارة والدّين والرهن والضمان وغيرها ممّا له علاقة مباشرةً في تعامل الناس مع بعضهم ، وسميت معاملات لأنّ عماد قيامها هو التعامل من حيث الأخذ والعطاء بينهم ،فالدَّين يكون بين شخصين هما الدائن والمدين ، والكفالة بين الكفيل والمكفول ،والرهن بين الراهن والمرتِهِن وهكذا ، فوقوع أيّ فعلٍ من هذه الأفعال يكون بين أثنين أو أكثر مشاركة ، في حين أنّ باب العبادات يتعلّق بما يقوم به العبد اتجاه ربّه .

وقد أقتصر البحث على بعض المعاملات قصد الاختصار والتركيز على بعضها من دون الأخريات من المعاملات ، ولعل ذلك يعود إلى طبيعة البحث والوقت ؛ فأقتصر على قضايا الدَّين والقرض والفرق بينهما وشروطهما ، وكذلك الرهن والضمانات عليه ، فضلاً عن الضمان والكفالة ؛وإنْ كان بعض العلماء لم يفرّق بينهما .

ص: 272

فالدَّين ورد في القرآن الكريم بلفظ التداين من الفعل تداين الدال على المشاركة في أداء فعل التداين بين الدائن والمدين ،(قال أبو عبيدة دنْتُهُ: أقرضتُه ، ورجل مدين ومديون ودنتُه استقرضتُه)(1).

وذهب آخرون إلى أنَّ القرض هو الدّّين،ومنهم من جعل الدَّين مما أختصّت به معاملات التجارة،والقرض خاص بالمال دون التجارة، قال القرطبي: (حقيقة الدَّين عبارة عن كلِّ معاملة كان أحد العوضين فيها نقداً والآخر في الذمة نسيئةً ، فأن العين عند العرب ما كان حاضراً والدَّين ما كان غائباً)(2) ؛وعرّفه علماء الفقة المعاصرون بأنّه( المال الكلي الثابت في ذمة شخص لآخر لسبب من الأسباب ،وهو أعمّ من القرض لشمول الدَّين أعواض المعاملات إن كانت الذَّمة والضمانات والكفارات وعوض الجنايات ، بخلاف الثاني فأنّه عنوان مخصوص وهو تمليك مال لآخر بضمان)(3) وقيل في معناه غير ذلك ،وهو أنَّ الدَّين مالَهُ أجلٌ ، وما لا أجَلَ له فقرض(4).

وقد أولت الشريعة الإسلامية التداين و الأقراض أهمية كبرى لما لَهُ من علاقة بالمجتمع فأقرّت بضرورة كتابته والشهادة عليه كي لا يقع الخطأ والتفاوت في المال؛ وقد يقع الدَّين بالاتفاق الشفوي إذا كان المدين ثقة لدى الدائن.

ص: 273


1- المفردات /الراغب الأصفهاني : 323- دين.
2- الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2/ 323.
3- جامع الأحكام الشرعية / السبزواري :304
4- ظ : المخصص / ابن سيده :12/266

إنّ الشرائع الجاهلية التي سبقت الإسلام قد اهتمت بهذا أيضاً ،وأعطت شأناً كبيراً للوفاء به وعُدَّ عدم الوفاء مخالفة لأوامر الآلهة،وتقوم المعابد بتقديم الدَّين لمن يحتاجه ، وتُعيّن مدة السداد فيُسجَّل الدَّين باسم آلهة المعبد ،وإذا لم يتمكّن المدين من سداد دَيِنهُ صودِر كل ما يملكه حتى أموال زوجه وابنائه ؛ وقد حكمت بعض الشعوب ببيع المدين إن لم يتمكّن من السداد فيصير رقيقاً ؛ وقد منع الإسلام ذلك(1) ؛ بل منع بيع بيت المدين ودار سكناه وثيابه التي يحتاج إليها ولو للتجمّل ونحو ذلك مما يحتاجه بحسب حاله وشرفه في حال إذا وقع المدين في عسرة وشدة ؛بل لو كان عند المدين أمتعة أو بضاعة أو عقار زائدة يمكنه بيعها ، ولكنها لا تُباع بأقل من سعرها السوقية وبتفاوت كبير بمقدار لا تتحمل عادة ولا يصدق عليه اليسر فلا يجب البيع لفكاك الدَّين (2) ، وفي المقابل لا يجوز عدم الوفاء به في حال التمكّن .

أما الرهن (لغة : الثبات والدوام ، وشرعاً فهو وثيقة للمدين يستوفي منه دَيْنَهُ)(3) (والرهان مثله ، لكن يختص بما يوضع في الخِطار)(4) أي السباق؛ وعند الفقهاء (هو دفع العين للأستيثاق على الدَّين ، ويقال للعين (الرهن)أو (المرهون) ، وللآخذ(المرتِهِن) وهو عقد لازم من طرف المرتِهِن ، ويحتاج

ص: 274


1- ظ :المفصل في تأريخ العرب قبل الأسلام / د جواد علي : 5/ 618-619.
2- ظ : الجامع لأحكام الشرعية / السبزواري : 306.
3- كنز العرفان / السيوري :421.
4- المفردات / الراغب الأصفهاني : 367- رهن.

إلى إيجاب من الراهن وقبول من المرتِهِن ، ويقع الأيجاب بكل لفظ أفاد المقصود)(1).

الرهن معروف في شرائع الجاهلين ، وأُشير له في القرآن الكريم ، وأُقِرَّ في الإسلام ، ويُعبَّر عنه ب-(فقدون) أو (فقدي) عند العبرانيين ، وكان عرب الجاهلية يبعون الطعام مقابل رهن يُوضع عند البائع حتى يؤدي المشتري ثمنه ، وكان من حق المرتِهِن الأستيلاء على الرهن أذا مضى أجل الرهن ولم يدفع الراهن ما عليه ، كما يجوز له بيعه ومطالبة الراهن بالفرق إذا لم يستكمل المبلغ الدي رُهِنَ الرهن عليه .

وقد أستُعمل الرهْنُ في الأمور السياسية في الغالب إذا المقهورون من الأشراف وسادات القبائل يضعون أبناءهم رهائن لدى الغالبين وتكون وديعة عندهم لضمان حسن سلوكهم وعدم خروجهم عن طاعة الغالبين ،قد رهن (أبو أحيحة ابن العاصي) أباناً إبنه عند بني عامر بن لؤي في دم أبي ذئب ؛ ورهنت قريش (الحرث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف) عند (أبي يكسوم) الحبشي وعُرِف لذلك بالرهينة(2) .

أما المراهنة فهي في الخيل أكثر ، وقد نهى عنها الإسلام بسبب ما يقع من خصومات بين المتراهنين وسمي كذلك (بالمخاطرة) لأن المتراهنين كانوا يتخاطرون على المال بجعله خطراً بينهما فيقع تلاعب فيه ويُقال لها

ص: 275


1- ظ : الجامع لأحكام الشرعية / السبزواري :321.
2- ظ : المفصل في تأريخ العرب قبل الاسلام / د. جواد علي : 622-623.

(المناحية) أو المقامرة وهي من الأمور المباحة في شريعة الجاهلين ؛ ولما جاء الإسلام حرّمها لما فيها من الضرر(1) .

أما الضمان أو الكفالة فهما عقد وعلى المتعاقدين الأيفاء بالعقود ؛ والضمان هو نقل المال من ذمة إلى ذمّة ، وفي هذه الحالة فأن المضمون له يُطالب الضامن ولا علاقة للمضمون عنه بذلك وبه قالت الأمامية ، أو هو ضمّ ذمة الى ذمة وعليه فأن المضمون له مخيّرٌفي مطالبة أيهما شاء وبه قال الفقهاء الأربعة(2) .

وعند الجاهلين الكافل والكفيل بمعنى الضامن والضمين والغرير الكفيل ، وقولهم : أنا رهن لك بكذا ،أي كفيل وضامن ، ويُقال للكفيل : القبيل أو العريف(3) .

غير أن علماء الفقه فرّقوا بين الضمان والكفالة بنقل المال من ذمة إلى أخرى أو ضمّها ، ويقال للمتعهد (الضامن) وللمديون (المضمون عنه) وللدائن (المضمون له) وهو عقد لازم يحتاج إلى إيجاب صادر من الضامن وقبول من المضمون له,ويكفي في الأول كل لفظ دالّ على ذلك بالعرف الشائع بينهم(4) .

ص: 276


1- ظ : المفصل في تأريخ العرب قبل الاسلام / د. جواد علي: 623.
2- كنز العرفان / السيوري : 425.
3- ظ : المفصل في تأريخ العرب قبل الأسلام / د. جوادعلي :621.
4- ظ : جامع الأحكام الشرعية / السبزواري : 311 .

أماّ الكفالة فقد خُصّصت بإحضار نفس وتسليمه لمن عليه عند طلبه , وهي عقد لازم بين الكفيل والمكفول,ويعتبر فيه الإيجاب من الكفيل ما يدلّ على تعهدّه بذلك والتزامه(1) ,كقوله تعالى:[وكفّلها زكريا](2) ( أي كفّلها الله تعالى ,ومن خفّف جعل الفاعل زكريا ,المعنى تضمّنها )(3).

ولمّا كان الضمان والكفالة عقداً فما على الضامن والكفيل الاّ دفع ما بذمة المدين أو المكفول من المال أو غيره عند نكوله أو امتناعه ,لهذا كان الضامن في الجاهلية كالمدين في وجوب وفائه بالدّين(4) ؛ولمّا جاء الإسلام أقرّ ذلك وهذّب أحكامه بما يتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية .

أولاً/ التوجيه الدلالي لآيات الدَّيْن وتوابعه

الآية الأولى

قوله تعالى :[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا

ص: 277


1- ظ جامع الأحكام الشرعية / السبزواري: 315 .
2- سورة آل عمران / الآية 37 .
3- المفردات / الراغب الاصفهاني : 717 – كفل .
4- ظ : المفصل في تاريخ العرب قبل الأسلام / د. جواد علي : 5 - /621 .

الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ](1)

تشرّع الآية المباركة لمسألة الدَّيْن والتجارة والبيع ، وقيل في هذه الآية أربعة عشر حكماً ، وقال قومٌ فيها إحدى وعشرون حكماً(2) ، في المعاملات وتنظيمها بعد أن كانت من دون ضوابط وأحكام ،وجاء التشريع لغرض ضمان حقوق المتعاملين فيها .

فالآية تنظمّ للدَّيْن ونضع الشروط الواجبة التي يتّخذها الدائن والمدين لأجل ضمانها والحفاظ عليها ورجوعها ؛ فهي تقدم لنا نظاماً لضبط عملية التداين بين الناس ؛

أما سبب نزولها فقد نُقِل عن عباس أن (هذه الآية نزلت في السَّلم خاصة وقال غيره : حكمها في كُلِّ دَيْن من سَلَمٍ أو تأخير ثمن في بيع ، وهو الأقوى لآية العموم)(3) .

ص: 278


1- سورة البقرة / الآية :282.
2- ظ : التبيان : الطوسي : 2/ 378- 379.
3- م . ن : 2/371 ؛ الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 3/ 323 ؛ البحر المحيط / أبو حيان : 2/553.

فقوله تعالى :[ إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ] ،شرط أستعمل فيه [ إِذَا] الشرطية الدالة على وقوع فعل التداين على وجه الحقيقة لا الشك أو الوهم كما في استعمال (إنْ) المفيدة للشرط كذلك ؛ واستعملت هنا [ إِذَا] للدلالة على أنَّ كل المخاطبين مقصودون بذلك شاملاً المدينين والدائنين على حدٍّ سواء ، لأنّ الخطابَ عامٌ .

والفعل (تداين) مضارع (داين) على صيغة (فاعَلَ) الدالة على المشاركة ، بمعنى أنَّ المداينة تكون بين الدائن والمدين مشاركة ، والفاعل (هم) دالُّ على عموم المخاطبين من المؤمنين دون أن يخصَّ الدائن أو المدين.

ولو أراد المدين لوحده لقال : (إذا تداينتم ديناً) بحذف حرف الجر الباء ؛ فيكون المقصود هنا المدين دون الدائن بأعتباره الفاعل و(ديناً) يكون مفعولاً عفابه ، فخصَّصَ الفاعل بالمفعول ولكن عندما عُدِّي الفعل ب- (الباء) في [بِدَيْنٍ] قطع المفعول به عن الفاعل فتجاوز بذلك الفعل (تداين) دلالة التخصيص الى دلالة التعميم ، وكأنه تعالى أن يقول : أنَّ الدائن ربما يكون مديناً في زمان ما ، والمدين يكون دائناً ؛فكلاهما مشترك في الدلالة .

وقوله سبحانه :[ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى]الأجل (الوقت المضروب لانقضاء الشيء ... وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره ، وأجل الدَّين محله وذلك لانقضاء مدة الدَّين)(1) ، ولا يمكن فيه التأخير باتفاق الطرفين ، ولا يكون

ص: 279


1- الفروق اللغوية / العسكري : 226.

الأجلُ أجلاً بجعل جاعل ، وما عُلمَ أنه يكون في وقت فلا أجل له(1) كأشهر الحج في قوله سبحانه :[ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ](2) لإِنَّ حصول الحج يكون في أشهر معيّنة ولا يكون في غيرها لأن وقوعه لا يكون باتفاق من جملة معيّنة في كل عام ،كي يكون أجلاً ،ولو كان كذلك لعبّر عن الحج بأنه أجل محدّد يُتفق عليه .

وقوله [مُسَمًّى] من السمة أو العلامة المحدِّدة لوقت انقضاء الدَّين والوفاء به ومحدّد باليوم والشهر والسنة ، إذ إنّ هذه المسميات هي المحدّدات للأجل ، وتكون باتفاق الدائن والمدين ، وهذا التحديد للأجل كان السبب لنزول آية الدَّيْن هذه فقد ذكر المفسرون أنها نزلت في سَلَم(3) أهل المدينة خاصة(4) في العموم البيوع الجائزة والسلف والاستلاف إذ كان أكثر السلف غير محدّد بالمدة ولا بالعوض وقد نُهِيَ عن ذلك ("وفي حديث خُزَيْمة:من تَسَلَّم من شيءِ فلا يصرفه الى غيره" ومعنى الحديث أن يُسلف مثلاً في بُرٍّ فيعطيه المستلف غيره من جنس آخر، فلا يجوز له أخذه)(5)،ولكن ظاهر الآية أن حكمها فيكلِّ دَيْن ،وهو الأقوى عند الشيخ الطوسي(6) .

ص: 280


1- ظ : الفروق اللغوية / العسكري : 226.
2- سورة البقرة / الآية : 197.
3- السَّلم : هو كل بيع من البيوع الجائز بالأنفاق ، فيما يكون السلف في القرض خاصة .
4- ظ : التبيان / الطوسي : 2/ 371 ؛ الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 3/ 323 ؛ البحر المحيط / ابو حيان : 2/ 553 .
5- لسان العرب / ابن منظور : 6/ 346 – سلم .
6- ظ : التبيان / الطوسي : 2/371.

ثم قال [فَاكْتُبُوهُ] ، الفاء رابطة لجواب الشرط [اكْتُبُوهُ] بفعله [تَدَايَنْتُمْ] ولها معنى آخر غير الربط ؛ فهي تدلّ على تقدّم كتابة الدَّين على التداين من نحو قوله سبحانه :[ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ](1)، قوله تعالى :[ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ](2)بمعنى إذا أردتم القيام الى الصلاة وأنتم على غير وضوء فاغسلوا ، فالغُسل قبل القيام ، وفي الثانية إن أردتَ القراءة(3).

واختُلِفَ في دلالة فعل الأمر (أكتبوا) بين الوجوب والندب ،فقد ذهب الربيع وكعب وعطاء وابن جريح والنخعي الى الوجوب ، وهو اختيار محمد بن جرير الطبري(4) فيما ذهب جمهور العلماء الى الندب (5) ، وهو الأصح عند الشيخ الطوسي لإجماع أهل عصره على ذلك (6) لأن عدم الكتابة ، ثم قد تكون سبباً لعدم حفظ المال من الجانبين ، ثمّ أنَّ صاحب الدَّين إذا علم حقَّهُ قد قُيدِّ بالمكاتبة والأشهاد يحذر من طلب الزيادة(7).

بيد أنّ فعل الأمر في أصل وضعه يكون للطلب ، ولا يشترط فيه أنْ يكون للوجوب حصراً بل هو معنىً من معانيه ، فقد يخرج عن معناه الحقيق الى معاني مجازية لا يستلزم أن تكون للوجوب ؛ مثل الأباحة ، والندب ،

ص: 281


1- سورة المائدة / الآية : 6.
2- سورة النحل / الآية :98.
3- ظ : الأزهية /الهروي : 255.
4- ظ :التبيان / الطوسي : 2/ 371 .
5- ظ :م . ن ، التفسير الكبير / الفخر الرازي : م 3/ 92 ، الجامع لأحكام القرأن / القرطبي : 3/ 327 .
6- ظ :م . ن .
7- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : م3 / 92.

والدعاء ، والتهديد والتوجيه والإرشاد وغيرها (1)،بوجود قرينة مانعة من ارادة الوجوب ، لأنه لا يُفْهم من الطلب هذا المعنى وحده ، ولعل هناك دلائل تشير الى غير هذا المعنى ، واختلف الأصوليون كذلك في موضوعة الطلب في صيغة (إفعل) فهناك طلب الزامي (الوجوب)،وطلب غير الزامي(الندب) ، فمنهم من قال بهذا ومنهم بذاك ، وذهب آخرون الى أن هذه الصيغة مشتركة بينهما لفظاً ، يعني أنها وضعت لكلّ منهما بوضع مستقل(2) .

ولماّ كانت دلالة الجزاء في (اكتبوه) مقتضية للتوثيق لأجل حفظ المال وعدم نسيان الودائع ، وأن تركها لا يؤدي الى معصية أو هدر المال وضياعه إذا كان المدين ثقة أو مما يطمئن له الدائن ،لذا فأن ترك المكاتبة ليس فيها خروج عن الشرع فتكون كشأن المستحب أو الندب .

فضلاً عن ذلك يُعدُّ هذا الجزاء غير مرتبط بفعل الشرط من حيث السببية أي هو غير متسبَّب عن فعل الشرط (تداين) ، لأنه وقوعه يأتي بعد فعل الشرط ، بمعنىَ "اكتبوا الدَّينْ قبل أن تأخذوه "، فنلمس في الجزاء المضي في الزمان قبل تحقيق فعل المداينة ، وهذا مما يُفقد الجزاء في سياق الآية معنى الوجوب فيظهر معنى التوجيه والإرشاد ،ثم أن زمن الأمر عند النحاة يكون للمستقبل(3) لأنه مطلوب به حصول ما لم يحصل أو دوام ما

ص: 282


1- ظ : معاني النحو / د . فاضل السامرائي : 4/26-27.
2- ظ : مرقاة الأصول / الشيخ بشير النجفي : 60 .
3- ظ : معاني النحو / د . فاضل السامرائي : 4/ 27.

حصل (1)، فلما كان فعل الشرط لم يحصل ما لم يحصل الجزاء ، فيكون الجزاء (اكتبوه) دالاً على المضي ، لأنه لم يتحقق التداين إلاّ إذا تحققت الكتابة فالمدينة إذن لا تتم ما لم يسبقها فعل الكتابة ، وعليه فانّ فعل الأمر (اكتبوه) لا يدلُّ على الوجوب في أيَّ وجه من الوجوه بل هو للندب والاستحباب على ما أتضح من بناء الجملة القرآنية ،ودلالة الشرط فيها هو الذي يفصل بين فعل الشرط وجزائه في تحقق وقوع كل منها وسبق الجزاء على فعل الشرط .

أما قوله تعالى [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ] ،ففيه أن الأمر لما كان لغير المخاطب أستعمل لام الأمر مع الفعل المضارع في [لْيَكْتُبْ] من نحو قوله تعالى [لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ](2)، و الامر في (ليكتب) دالٌ على الوجوب لعدم وجود قرينة مانعة منه ، وذلك أنَّ المضارع دالٌ على الاستقبال ، وهو من صفات الأمر ،فضلاً وجود اللام الآمرة ، و الحاقهُ بالنهي عن عدم الكتابة في قوله تعالى [وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ]وهو أحد معانيها .

وجاء ب-(كاتب) نكرة ، والنكرة عامة ، لكن المراد بها هنا التخصيص بمعنى كاتبُ العدل ، بدلالة ما يكتب ، وهو العدل ولا يراد بها تعظيم الكاتب وأن كان من اغراض النكرة التعظيم من نحو قوله سبحانه [وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ

ص: 283


1- ظ : الجهود اللغوية والنحوية عند ابن معصوم المدني / د .عادل عباس النصرواي : 315- 317.
2- سورة الزخرف / الاية 77 .

حَكِيمٍ عَلِيمٍ](1)، وقوله ايضاً [ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ](2)، ولو أراد ذلك لقال : كاتبٌ عَدْلٌ ، أي وصف الكاتب بالعدل بالمصدر ، وهو أعظم وصف وربما كان تعدّي فعل الكتابة إلى العدل بالباء في (بالعدل) فيه دلالة التأكيد على أن تكون الكتابة بما شرع الله تعالى من العدل وعدم الزيغ والانحراف عن الشريعة السماوية العادلة ،إذا إنّ الباء تدلّ على الإلصاق والاختلاط ، أي التعلّق ، قال ابن سيدة (ت 458ه-) في الغرض منها.

إنه (تعليق الشيء بالشيء وهي تأتي على ثلاثة أضرب ، اختصاص الشيء بالشيء ، واتصال الشيء بالشيء ،وعمل الشيء بالشيء ، وهذا كلّه راجع الى معنى التعلّق)(3)،جاء والتعليق بمعنى الاختلاط والملابسة والإلصاق،أي تكون الأشياء مرتبطة مع بعضها(4)،أي أن تعلّق الكاتب والتصاقه بالعدل يكون قوياً بما لا يسمح أنْ تنفك هذه العلاقة أو تنفصم .

ثم أنّ لزوم الفعل فيه من قوة فعل الكتابة بالعدل أكبر ممّا لو تعدى إليه من دون حرف جر فيقال (فليكتْب كاتبٌ العدلَ) ، لأن اللزوم في الحقيقة – هو الأصل في الأفعال لأنه أكثر تمكّناً وقوة في الفعلية ، وأنْ تخليه عن حرف الجر كان بقصد الخفة والإيجاز وهذا شأن العربية في تشبثها بالإيجاز(5) .

ص: 284


1- سورة النمل / الاية 6 .
2- سورة هود / الاية 103 .
3- المخصص / ابن سيده : 14/51.
4- ظ : الجهود اللغوية والنحوية عند ابن معصوم المدني / د . عادل عباس النصراوي :366.
5- ظ : الفعل زمانه وأبنيته / د . أبراهيم السامرائي : 83-84 ؛ ظ : م . ن : 314 .

أما قوله سبحانه : [وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ]، فقد ذكرنا قبل قليل من تعضيدها لدلالة الوجوب في قوله[لْيَكْتُبْ] والوقوف عليها فيه تمام معنى ماسبق من الكتابة بالعدل ، ولكن لو أتممنا هذا بقوله تعالى:[كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ] لكان هناك احتمالان في معناها بسبب عدم استيفاء الفعل (عَلَّم)مفعوله الثاني ، فالاحتمال الأول: أن يكتب بما تفضل عليه بتعلم الكتابة لقلّة عدد الكتّاب في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله)، وفي هذا دلالة خصوص ، لأن الكتابة اليوم شائعةٌ عن الناس، والثاني أن يكتب متفقهاً كما تعلَّمَ بفضل الله تعالى فِقْه الشريعة العادلة ، حتى لا تكون لأي من الدائن والمدين حجة على الآخر بل يكون الكتابُ حجّةً لهما في الرجوع إليه ، ومتفق فيه عند الفقهاء .

وان النهي عن عدم الكتابة في قوله [وَلَا يَأْبَ....] ثم صدور الأمر الوجوبي بها يُعَدَّ تأكيداً للأمرِ الأول ، أي هو أَمر بعد نهي ، كقولنا: لا تقعُدْ هنا قُمْ ؛ فيكون الألزام أكثر والوجوب أقوى بضرورة الكتابة .

قوله سبحانه :[وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا] هذا خطاب للمدين وأمر بضرورة أن يملي ويقرّ ما بذمته من الدَّين كي يكتبه الكاتب فقال :[وَلْيُمْلِلِ] ،أمراً بالإملاء ، وهو في الأصل من الجذر(ملو) ، قال ابن فارس (الميم واللام والحرف المعتل أصل صحيح يدلُّ على أمتداد

ص: 285

في شيء زمان أو غيره ، وأمليتُ القيد للبعير إملاءً إذا وسَّعْته ، وتملّيتُ عمري إذا استمتعتُ به)(1).

ويخرج الفعل أيضاً الى معنىَ الوضوح مجازاً ، فقد نقل الزمخشري (ت 538ه-) أن فتى من العرب جمَّشَ حضريةً فتشاحّت عليه فقال لها : ما لَكِ ملاءة الحُسن ،و لا عموده ، ولا بُرْنُسُهُ ، فما هذا الامتناع ؟. ملاءَتُهُ : البياض، وعموده : الطول ، وبُرْنُسُهُ : الشَّعَر ، وقال ذو الرّمة :

أقامت به حتىَ ذوىَ العودُ في الثرى $$$ وساق الثريا في ملاءته الفجر

أي :طلعت مع بياض الفجر(2)

فالدلالة اللغوية للفعل هي الامتلاء والسعة المقترنة بالوضوح و أنما استعمل الفعل في هذا الموضع من الآية المباركة بقصد ذكر كلّ ما يتعلّق بالدَّين على السبيل الأتساع وعدم إهمال فيذكر أي ملاحظة ولو كانت صغيرة كي يتحقّق فعل الامتلاء والوضوح ، لأن نقص أي معلومة في الدَّين من حيث صفات المال ومقداره ونوعه وغيرها ممّا يتعلّق به يُعَدُّ حُرماً في الدلالة ومهمزاً للشك فيما بعد ، ولهذا سُمِّي الدَّيْن حقّاً ؛ والحقُّ دائماً ما يقترن بالوضوح .

وقد ورد الفعل (مَلَلَ) بمعنى الامتلاء بصيغة أَمَلَّ وأملىَ ،(قال الفراء : أمْلَلْتُ لغة أهل الحجاز وبني أسد ، وأمليتُ لغة بني تميم وقيس ، يُقال : أمَلَّ

ص: 286


1- مقايس اللغة : ابن فارس : 960 – ملو .
2- ظ : أساس البلاغة / الزمخشري : 602 – ملأ .

عليه شيئاً يكتَبُهُ وأملىَ عليه ، ونزل القرآن العزيز باللغتين معاً)(1) ، وقوله تعالى :[فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ](2)،مِنْ أمَلَّ المضعَّف ؛ وفي قوله سبحانه :[فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا](3)من أملى بالمد .

ولمّا سمىّ تعالى الدَّيْنَ حقّاً على المدين وحقّاً على الدائن أَمِرَ الدائن أن يتقي الله في ذكر كلّ ما يتعلّق به ، وهذا الأمر فيه وضوح مناسب لفعل الأملاء المقترن بالسعة والوضوح .

ثم أمر الله تعالى أن لا يبخس المدين من الدَّين شيئاً ؛ والبخس : النقص المقترن بالظُّلم (4) ، ونكَّر (شيئاً) للنهي عن الأنقاص مهما كانت قيمة الشيء المأخوذ بغير حقّ صغيراً أو كبيراً ، ولعله الى الصغر أرجح لدلالة النهي .

قوله سبحانه :[فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ].

والسفيه من السفه ، وهو من الخفة والسخافة وقلة الحلم (5) ، والشخص الذي وَصِف بهذه الصفة سيفوته كثيراً من معلومات الدَّيْن الذي سيكون بذمّته

ص: 287


1- لسان العرب / ابن منظور : 13/ 188 – ملل .
2- سورة البقرة / الآية :282 .
3- سورة الفرقان / الآية : 5 .
4- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 1/ 330 – بخس .
5- ظ : مقايس اللغة / ابن فارس : 461- سفه .

،فلأجل الحفاظ على أموال الناس يتولّى مَنْ هو أكثر حلماً أمر الإملاء ؛ والأمر ينطبق على الضعيف سواءُ كان ضعيفاً عقلاً أم جسماً ، لأن اللفظ جاء منكَّراً فيحتمل الأمرين معاً ، وكذلك على من لا يستطيع أن يملل هو بنفسه لعاهة الخرس أو البكم أو غيرها فيتولى وليُّهُ ذلك .

وأستعمل (أو) هنا لغرض تقسيم الذين لا يستطيعون الإملاء لسفه أو ضَعْف أو عاهة جسمية مع احتفاظها في هذا الموضع بالمغايرة لأنَّ السفيه ليس هو الضعيف ، وهو من لا يستطيع ان يملي بنفسه ، وهكذا لباقي هذه الأصناف .

ومن هذا نستدل على شرعية الولاية عليهم ، وعدم صحة استقلالهم بعقود المعاملات وجواز استدانة الوليّ لمن عليه الولاية مع الحاجة لذلك وصلاحيتها .

ونستدلُّ منها أيضاً أنَّ الوليَّ هو الذي يقوم مقام غيره ، وربمّا شمل الوكيل أيضاً ، مع صحة الاستشهاد على الوليّ باستدانة موكله باعتباره يقوم مقامه(1).

أما جواب الشرط فقوله :[ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ]، والولي الذي يقوم مقام هؤلاء المذكورين ، والهاء في [وَلِيُّهُ] تعود على السفيه ، للقرب ، ومنهم من قال تعود الى وليّ الحق(2) وهو بعيد .

ص: 288


1- ظ : كنز العرفان / السيوري : 414- 415.
2- ظ : التبيان / الطوسي : 2/373 .

ثم أكدَّ تعالى على ضرورة الإملاء بالعدل ، وفي هذا دلالة تأكيد،ووقعت الفاء رابطة بين فعل الشرط وجوابه .

أمّا قوله تعالى :[وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْة تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى].

جاء فعل الشهادة (استشهد) بصيغ (استفعل) أي إطلبوا مَنْ يشهد على هذا الإملاء و الاكتتاب، ولا يجوز أنْ يقال : (وأشهدوا) من الفعل (شَهَدَ) لأنَّ دلالة صيغة (فَعَلَ) لا تكون مستوعبة لكل حالات الاستشهاد على الدَّيْن،لإنَّ دلالة (فَعَلَ) هي أداء حدث الشهادة على عمومها من غير وجهٍ معيّن لكن في حال المداينة يكون طلب الشهيد من قِبَل الدائن والمدين ، ليشهد على فعل المداينة ،فتكون صيغة (استفعل) الأليق في هذا المقام باعتبار الطلب لأنّ حدوث الاستشهاد غير دائم .

وسُمّيَ مَنْ يشهد على الدَّيْن بالشهيد على صيغة المبالغة (فعيل) ولم يَقُل (شاهد) على صيغة اسم الفاعل ، وذلك لأن اسم الفاعل هو اسم يدلُّ على معنىَ مجرد حادثٍ وعلىَ فاعله(1) فالشاهد يدلَّ على أمرين معاً هما : الشهادة مطلقاً ، والذات التي فعلتهما ونُسيَت لها أي أنَّ الصيغة قد تدل ُّ- قليلاً- الى معنىَ دائم أو شبه الدائم ، فضلاً عن كون نصّها لا يفيد أنَّ

ص: 289


1- ظ : النحو الوافي / د . عباس حسن : 3 /173.

المعنىَ هذا قليل أو كثير ، فصيغته محتملة لكل واحدِ منهما إلاّ إذا وجدت قرينة تعيّن أحدهما دون الآخر(1).

في حين أن أستعمال لفظة (شهيد) تدل على الأمرين معاً ( المعنى المجرد، والذات التي فعلته) لكنها تختلف عن دلالة اسم الفاعل في مقدار الحدث ، قْلةً وكثرةً، وضعفاً وقوةً لأن صيغة اسم الفاعل (لا تدل وحدها على شيء من ذلك إلاّ من طريق الاحتمال ، ولا تدل دلالة صريحة خالية من هذا الاحتمال على قوة ولا ضعف ولا كثرة ، ولا قلة في المعنى المجرد)(2) ، غير أن صيغة المبالغة تقصد هذين الأمرين مزيداً عليهما بيان الدرجة كثرة وقوة ، لهذا لا تصاغ من مصدر فعل لا يقبل الزيادة والتفاوت (3).

عليه فأنّ استعمال (شهيد)فيه دلالة على حدث الشهادة المجردة مع الذات التي تنسب لها الشهادة مقترنة بالقوة والدوام وعدم وجود ما يدلّ على أي أحتمال غير ذلك ، ولعلَّ السَبَبَ في ذلك -على العموم - هو ما للشهادة من أهمية بالغة في توجية القضاء وتقرير الحكم في المسائل المختلف بها بين المتخاصمين وتبيان الحق ، وإعطاء كلَّ ذي حقّ حَقَّهُ وإشاعة العدل بين الناس ؛ وخلاف ذلك فأن شهادة الزور لها عكس هذا الأثر من حيث القوة والضعف ، والكثرة والقلّة في إشاعة الفوضى وهدر الحقوق وتضليل القضاء.

ص: 290


1- ظ : النحو الوافي / د . عباس حسن: 3 /174 .
2- النحو الوافي / عباس حسن : 1/186.
3- ظ : م . ن .

وقوله [مِنْ رِجَالِكُمْ] يعني منكم أيّها المؤمنين ، بدلالة افتتاح الآية بقوله سبحانه [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا] من دون تحديد كونهم أحراراً أو عبيداً ولو أراد ذلك لخصَّصَ وقد اشترط مجاهد أن يكون الشهداء من الأحرار المسلمين دون الكفار والعبيد ، فيحين لم يشترط الأمامية الحرية في قبول الشهادة ، وأنما كان الإسلام شرطاً مع العدالة ، وبه قال شريح والبتي وأبو ثور(1) ، وحجة شريح في ذلك أن قوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رَجُالٌكم] عام يتناول العبيد وغيرهم .

ثم أنّ صلاحَ الدين يُعَدُّ معياراً مهماً في الشهادة لأنه حافظٌ للأنسان من شهادة الزور سواء كان الشهيد حُرّاً أم عبداً،وربما استدل الشيخ الطوسي (ت 460ه-) على صحة شهادة العبيد(2) لقوله سبحانه [وانكحوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ](3) ولم يرَ مالك وأبو حنيفة والشافعي جواز شهادة العبيد ، وعليه جمهور العلماء ، لأنهم غلّبوا نقص الرقّ ، وعللّوا ذلك أن ظاهر الخطاب يتناول الذين يتداينون، والعبيد لا يملكون ذلك دون إذن السادة(4).

ص: 291


1- ظ : التبيان / الطوسي : 2 / 373؛ الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2 /332.
2- التبيان / الطوسي : 2 / 373 .
3- سورة النور / الآية :32.
4- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2/333.

لكن هذا الأذن للعبد في الشهادة للعبد في الشهادة ينبغي أن لا يتعارض مع الأمر الألهي ، والله تعالى قال: [وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا](1)؛ والإباء أشدُّ الأمتناع(2) ولما كان النهيّ عن الإباء في الشهادة والاستشهاد فأنّ مِنَ الأوْلىَ أن يكون النهي سارياً على ما هو دونه ، وهو المنع الذي يصدر من السيّد لعبده ، لأنَّ هناك مصلحة أكبر من هذه القيود التي وضعها الإنسان لأخيه الإنسان .

ونخلص مِنْ هذا أَنْ ليس للسيد مِنْع عبده من أداء الشهادة إذا كان فيها تنوير الحاكم في إصابة الحكم ؛ ومنهم مَنْ أجازها لغير سيِّده(3) ، لأنَّ المصلحة العامة ينبغي أنْ تتغلب على المصلحة الخاصة ، وأنَّ أمتناع السيد من أنْ يؤدّي عبده الشهادة يعاني إباء السيد ذاته ، وهذا مخالف للأمر الألهي لذا فقد تحدّ إداء الشهادة فرض كفاية وعند عدم وجود غير ذينك الشاهدين صار فرض عين (4).

ولم يُطلق قبول الشهادة من أي شخص كان ، بل حُدِّد بمن يرضاه الغرماء لقوله سبحانه [مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ] أو يرضاه ولاة الأمر من المؤمنين ؛ وربما كان الأول هو الأرجح ، لأنهَّم هم المخاطبون في المداينة ؛ ولو أراد ممّن يرضاه الله تعالى ، لقال : مِن المرضيين .

ص: 292


1- سورة البقرة / الآية : 282.
2- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 1/55 – أبي.
3- ظ : البحر المحيط : أبو حيان : 2/ 558.
4- ظ : كنز العرفان / السيوري : 417.

وقدّم وصف الشهداء بقوله [مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ] وهو صف عام لهم من الذكور والأناث ؛ وتحتمل الجملةُ النصبَ على أنها وصف (شهدت) ، أو الرفع على أنّها وصف لقوله [رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ] وذُكِرَ أيضاً الجر على أنّها بدل(1) من قوله [مِنْ رِجَالِكُمْ] وهو بعيد لأنّ سياق القول هنا لوصف الشهداء لا عموم الرجال ، والرفعُ هو الأرجح ليشمل عموم الشهداء من الرجال والنساء ، وأنَّ القول بوصف الشهداء من الرجال دون النساء فيه تضييق للدلالة ، والقرآن كلّه أتساع .

ثم وصف حال النساء بقوله [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى]بفتح همزة (أَنْ) وهي قراءة الجمهور،وقرأ أبان بن تغلب والأعمش وحمزة بكسر(إِن)(2)على الجزاء، أي : إنْ ضلت أحداهما تذكرها الأخرى ، فيكون الضلال شرطاً للتذكير ، وربما ذهب مَنْ ذهَبَ إلى ذلك هو وقوع الفاء في[فَتُذَكِّرَ] على أنها فاء السبب ، والحال أنّها رابطة ، وذلك أنّ السياق اللفظي لا يُوجب وقوع فاء السبب هنا لأنّ ما يُدعى بالجواب [فَتُذَكِّرَ] متجانس لفظياً مع الفعل [تَضِلَّ] أي : إِنْ تضلَّ إحداهما تذكرها الأخرى دون الحاجة الى الفاء ، وأنَّ احتياج الجزاء لها يكون عند عدم وجود تجانس لفظي مع فعل الشرط ، وهذا ممّا يدعم عدم وجود جزاء في الأصل .

ص: 293


1- ظ : البيان في غريبإعراب القرآن / ابن الأنباري : 1 / 183.
2- ظ : التبيان / الطوسي : 2/374 ؛ البحر المحيط / أبو حيان : 2/562 ؛البيان في غريبإعراب القرآن / ابن الأنباري : 1 / 183 ؛ كنز العرفان / السيوري : 416 ؛ إعراب القرآن / النحاس :116 .

في حين كان مجيء [أَنْ] المفتوحة لأجل كشف العلّة من وراء التذكير كما في قولنا : (أنتِ طالق أَنْ دخَلْتِ الدار) بفتح همزة (أَنْ) ، فيكون الطلاقُ واقعاً في الحال لأنّ المعنى : لأَنْ دخَلْتِ ، أي من أجل أَنْ دخَلْتِ ، فصار دخول الدار علّة في طلاقها ، لا شرطاً في وقوعه كما في (إِنْ) المكسورة في قولنا : (أنتِ طالق إنْ دخَلْتِ الدار) فالطلاق هنا لم يقع حتى تدخل الدار ، فيكون دخول الدار شرطاً للطلاق(1) .

إذن المطلوب في قوله سبحانه [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] هو بيان علّة التذكير ، لأن السياق فيها سياق وصفٍ لحال المرأتين من حيث النسيان والتذكير لا غير .

ثم أنَّ وقوع التذكير مسبَّباً بوقوع الضلال والنسيان وهذا السبب محتمل الوقوع لا على وجه التأكيد والقطع لأن عمل (إِنْ) للمشكوك في وقوعه ، ففي حالة عدم وقوع السبب وشهدت أحداهُما فسيكون وجود الأخرى لا مسوّغ له ؛ وهذا مالا يتفق مع إحكام الدلالة القرآنية على العموم فلاحظ .

أما قوله سبحانه :[ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا] فيه دعوة لضرورة الإجابة للشهادة والاستشهاد إذا ما دُعوا إليها أو لها ، وهو على تقرير محذوف ، فأذا قُدِّرَ : دُعوا إليها ، فتكون الشهادة منتهية إليهم ،أي : دُعوا إلى أدائها

ص: 294


1- ظ :/ شرح المفصل / ابن يعيش : 1 /13 ؛ الفروق النحوية / د . شهاب أحمد أبراهيم : 152.

وإقامتها ؛ إذا قُدِّر : دُعوا لها ، أي : دُعوا لأن يكونوا شهداء على التداين لأنهم أهلاً للشهادة عند الغرماء .

ولو قيل : كيف يُوصفوا بأنّهم شهداء وهم لم يكونوا شهداء قبل الشهادة، فنقول: إنّ الله تعالى سّماهم شهداء قبل الشهادة في قوله [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ] وهم لم يكونوا شهداء بعدُ .

ثم استأنفت الآية بالنهي عن السأم في كتابة الدين فقال (أن تكتبوه) إذ إنَّ الضمير عائد على الدَّين ، سواء كان صغيراً أم كبيراً إلى وقت استحقاقه ، (ثم ذكر سبحانه لرجحان الكتابة ثلاثة أسباب : الأول [أنه أقسط عند الله] أي أعدل ، الثاني أنه [أقوم للشهادة] أي أعدل لها لأن المكتوب أبعد زوالاً من الحفظ ، والثالث أنّه[أدنى أن لا يرتابوا]أي أقرب في أنتفاء الريب أي لأنّ عدم الكتابة سببٌ لريب أحد الغريمين في أنّه صادق أو كاذب)(1).

بعد أَنْ وضع ما يجب أن يتخذه الغرماء عند المداينة ، من تحديد الأجل والاستشهاد وكتابة ما يتعلق بقيمة الدَّين صغيراً أو كبيراً ، عرَّجت الآية المباركة على قضية أخرى ، لم تُوجب فيها المكاتبة ، وهي التجارة ، لعدم وجود متعلقات بين البائع والمشتري ، فالمشتري يأخذ البضاعة ، والبائع يقبض ثمنها منه ، فتكون المواد المشتراة ، عوضاً عن الأموال المدفوعة فلا وجه للمكتابة فيها إذ لا غيبة لأحد العوضين كما في المداينة ، وهذا على

ص: 295


1- كنز العرفان / السيوري : 417 – 418.

حدِّ عموم اللفظ فقال تعالى مستثنياً [إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا] والأستثناء يحمل وجهين ، أما أن يكون تاماً أو منقطعاً (1) وربما يعود ذلك إلى تقدير محذوف (تكون) على قراءة النصب في (تجارةً) ؛ وبما أنَّ التجارة هي بيع وشراء لأجل استثمار المال ، فالأليق أن يكون اسم[تَكُونَ] المحذوف (المعاملة) ، من الفعل (عامَلَ)الثلاثي المزيد ، على صيغة (فاعَلَ) الدالة على المشاركة في أداء الفعل ؛ والتقدير : (ألا أن تكون المعاملةُ تجارةً حاضرةً) ، وأن التجارة حالٌ من أحوال المعاملة وجزء منها، فيكون الأستثناء تاماً ومتّصلاً ، وهنا تكون المداينة محتملة ولو لمدة قصيرة جداً ،يؤيدها قوله سبحانه [تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ] وهو من فعل المداورة في الأخذ والعطاء بين المتبايعين لا على وجه الأجال البعيدة .

ولو كان المحذوف (التجارةُ) بتقدير (ألاّ أن تكون التجارةُ تجارةً حاضرةً)، سيكون الأستثناء تاماً منقطعاً لكون التجارة ليس من جنس المستثنى منه ، وعنده فلا تقع المداينة بين البائع والمشتري ، إذلا يترتّب فيها غيبة أحد العَوَضَيَنْ بينهما .

والأحتمالان وجيهان ومطلوبان إذ إنّ المداينة تقع بين المتبايعين في أيّ حال من الأحوال لمدة قصيرة ، لا على سبيل الأجال البعيدة ، وقد لا يقع أيضاً، فالاحتمالان واردان وبقوة ، وأنّ وقوع الحذف هو الذي وسَّع الدلالة فجعل من الاحتمالين واردين ، وهذا هو هدف الآية .

ص: 296


1- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : م 3/ 98 ؛ البحر المحيط / أبو حيان : 2/ 568.

لذا جاء قوله سبحانه [فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا] مخاطباً بها عموم المؤمنين ليدلَّ على إباحة عدم المكاتبة لما ذُكر من أمر التجارة ، لا كما وقع في المداينة من أمر الكتابة ولو على الندب .ولما رفع الكتابة في أمر التجارة أمَرَ بضرورة الأشهاد على المبالغة فقال: [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ] فهو أحَفُّ منها ، وفيه دلالة أحتياط لأجل حفظ أموال الناس .

ثم قال سبحانه :[ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ] .

الفعل [يُضَارَّ] يحتمل أن يكون فعلاً مبنياً للمعلوم فيكون كلٌ من (كاتبٌ .وشهيد) فاعلاً ، فيكون النهي عن الضرر الذي يقومان به في كتابة العقد والشهادة عليه بين الغارمين أو المتبايعين ؛ ويحتمل أيضاً أن يكون مبيناً للمجهول فيكون كل من (كاتبٌ وشهيد) نائبُ فاعل ، فتكون دلالة النهي عن الأضرار بهما من قبل الغارمين أو المتبايعين في حالة الكتابة والأشهاد الأحتمالان واردان وقويان والدلالة عليهما واضحة ، إذ جعل من [يُضَارَّ]وسيلة لأيضاح إرادة الأتساع في نفي المضارّة منهما أو عنهما .

ثم وجّه الخطاب إلى عموم الغارمين والمتبايعين والشهداء والكتاّب فقال: [وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ] أي تفعلوا المضارّة ، فجعل الواو في [تَفْعَلُوا]تعود على الكاتبين والشهداء في حال كون كل واحدٍ منهم فاعلاً ، أو أنّها تعود على الغارمين و المتبايعين في حال كون الكاتب والشهيد نائب فاعل .

ص: 297

وجعل وقوع الضرر فسوقاً ممّن يفعله وملتصقاً بهم لا يُفارقهم بدلالة (الباء) في (بكم) الدالة على الألصاق أي التصاق الفسوق بمن أوقع المضارة.

ثم أمرهم جميعاً بالتقوى فقال [وَاتَّقُوا اللَّهَ]،ثم استأنف تعالى قائلاً:[ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ]مِنّةً منه وفضلاً ،[وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] في تشريع هذه وبيان حدودها للمؤمنين كافة .

الآية الثانية

قوله تعالى:[وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ](1) .

في هذه الآية يشرّع الله لأمرٍ واقع بين المتداينين ،وهو حالة الإعسار الذي يقع بين الغريم بسبب من قلة ذا اليد ، فيعسرُه الدائنُ أي يطلب منه الدَّيْن من دون الرفق به إلى ميسرة .

وقد شرّع هذا الأمر بسبب تفشّي الربا بين الناس فآذنهم الله بحرب منه إذا لم يتركوا التعامل به . وقد نقل الواحدي في سبب نزولها عن الكلبي

ص: 298


1- سورة البقرة / الآية : 280 .

عندما (قالت بنو عمر بن عمير لبني المغيرة هاتوا رؤوس أموالنا ولكم الربا ندعه لكم ، فقالت بنو المغيرة نحن أهل عسرة فأخّرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أنْ يؤخّروهم،فأنزل الله تعالى" وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ")(1) فأن خصوص السبب متعلّق بقريش عندما كانوا معسرين ،ومطالبة ثقيف لهم بأموالهم دون الربا المتحققِّ لهم على قريش ، فخصوص السبب يكون متعلّقاً بالنظرة إلى الميسرة بالربا فقط ، لكن اللفظ يدعو إلى الميسرة لعموم الدَّيْن ، لعدم وجود قرينة لفظية تأخذ بخصوص اللفظ فقط دون عموم الدَّيْن .

فأبتدأ سبحانه بالشرط عندما قال [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ] فجاء فعل الشرط [كَانَ]ماضياً وهنا لا يجوز أن تكون[كَانَ] ناقصة،وذلك أَنْ الفعل لا يتم حصوله عندما يكون دالاً على الوقت فقط بسبب من فقدان الحدث الذي يتعلّق به فعل الشرط ، فلا بُدَّ أنْ تكون[كَانَ] تامة ويكون [ ذُو عُسْرَةٍ] فاعلاً لَهُ ، ولو أنّه وقع اسماً ل-- [كَانَ] فلم يحصل فيه الشرط أبداً لعدم تمام معنى الفعل ، وذلك أنَّ تقرير الكوفيين ( إنْ كان من غرمائكم ذو عسرة...)(2) لا تفيد وقوع فعل الشرط ؛ بل يُفاد منها أَنَّ العَسرَ تحقَّقَ في زمن ماضٍ على الغريم بدليل الفعل [كَانَ]، لأنها مع معموليها تفيد أتصاف اسمها بمعنى خبرها إتصافاً مجرداً ، أي لا تدلّ بصيغتها على نفي أو دوام أو تحوّل أو غيرها من شؤون الفعلية(3) ، في حين عند مجيئها تامّة يتحّق وقوع الفعل وثبوت الشرطية في الجملة فلزم وجوب كون فعل الشرط تاماً ليحقق وقوع

ص: 299


1- أسباب النزول/ الواحدي 65-66:
2- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/547.
3- ظ : النحو الوافي / د . عباس حسن : 1/ 448.

الفعل وحصوله ثم مجيئه ماضياً لكن فيه معنى الأستقبال وذلك لأجل إنزال الفعل غير المتيقّن وغير الواقع منزلة الواقع ، وهذا ما فسرّ به علماء النحو والتعبير عن الأحداث المستقبلية بأفعال ماضية في غير الشرط أيضاً(1)نحو قوله تعالى:[وَنُفِخَ فِي الصُّورِ](2) وقوله:[وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا](3)،أي أنَّ مجيء الفعل[كَانَ]ماضياً في الشرط يعني كثرة وقوع العسرة عند الغرماء لذا فأن الأعسار وقلة ذات اليد واقعة لا محالة عند المسلمين بسبب الربا ، وكأنّه تعالى يريد أن يوحي للناس بضرورة مقارعة هذا النوع من المعاملات التي تؤدي إلى كثرة حصول الأعسار في المجتمع ، فدلالة المعنى فيه تفسّر هذه الأحوال ، فضلاً عن الأيحاء بكثرة وقوعه ، وذلك أنَّ الفعل إذا كَثُر عُبِّر عنه بالمضي ، قال الدكتور مصطفى جواد:(إنّ الفعل المعبَّر عنه بلفظ الشرط إذا كثر حدوثه أستعمل الماضي،وإذا قلَّ حدوثه استعمل المضارع، فالماضي أَوْلىَ بالكثير لأنه كالحادث ،والمضارع أَوْلى بالقليل لأن لم يحدث)(4).

وذكر[عُسْرَةٍ] نكرةً ، ليدل على عدم تخصيص العسر بنوع من أنواع المداينة سواء كانت ربوية أم غير ربوية، فذكرها منكّرة قصد الأتساع والتعميم ، ولو أراد بها خصوص السبب لجاء بها معرَّفة أي (كان ذو العسرة) ليدلّ على ذات المعسر الذي نزلت الآية بسبب من إعساره الذي جاء من الربا فعندما نكّرها ليعمَّ بهما كل معسرِ في ديْن ربوي أو غيره .

ص: 300


1- ظ : معاني النحو / د . فاضل السامرائي : 4 / 47.
2- سورة الكهف / الآية : 99.
3- سورة الكهف / الآية :47.
4- المباحث اللغوية في العراق / د . مصطفى جواد : 48 ، ظ: م . ن : 48.

ثم قال سبحانه:[ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ]جاءت الفاء هنا واقعة في جواب الشرط وتفيد الشرط لضمان تعلّقه بفعل الشرط ، أي أنَّ النَظِرَةَ لا تتحقّق إلاّ في حال وقوع العسرة في قضاء الدَّيْن، أهو واجبٌ في كلِّ ديْن ، أم في دَيْن الربا فقط وقيل فيه ثلاثة أقوال :(1)

1. الأنظار واجب في ديْن الرِّبا خاصة ، وهو رأي شريح وأبراهيم .

2. الأنظار واجب في كَلِّ ديْن، قاله ابن عباس والضحاك والحسن وهو قول الأمام محمد الباقر والأمام أبي عبد الله الصادق (عليهما السلام)

3. الأنظار في دَيْنِ الرَّبا واجب وبالقياس في كلِّ دَيْن.

فالقول الأول ، فيه تقييد الدلالة وحصرها في دلالة سبب النزول وإهمال دلالة عموم اللفظ ، مع عدم وجود قرينة تحدّده بخصوص السبب .

وأما القول الثالث فأنه لا يجوز القياس لعدم وجود مشتركات تأخذ دّيْن الربا وغيره ، فضلاً عن ذلك أنّه جعل القياس قرينة على دلالة عموم اللفظ ، والعموم غير محتاج لذلك ، ويكون بذلك قد حمّل النصّ مالا يحتاجه ، وفي هذا هدر لأحكام النص القرآني .

في حين يكون الوجه الثاني أرجحها لاستيعابه خصوص السبب وعموم اللفظ ، مع عدم وجود قرينة مانعة من إرادتها جميعاً .

ص: 301


1- ظ : التبيان / الطوسي : 2 / 268 ؛ التفسير الكبير الرازي : 3/ 86.

والميسرة من الفعل يَسُرَ يَيْسَر ، وهي اسم للزمان على زنة (مَفْعَل) والتاء فيها زائدة(1) ، أي زمان حصول اليسار للغريم على الأطلاق ، ولو أراد زماناً محدّداً لعرّفها (الميْسرة) وقرينة الزمان ظاهرة بلفظة (نَظِرَة) بمعنى الأنظار أو التأخير ، فدلّت هذه الصيغة على الزمان لا غيره وأستُعملت هذه الصيغة للاختصار في الكلام وإيجازه ؛ وهذا من طبيعة العربية التي تطلب الإيجاز لأنّه بلاغة ؛ فبدلاً من أن نقول : فَنَظِرَةُ إلى الزمان الذي يَيْسَر فيه المال عوَّض عنه بقوله : [فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] .

ونستدل منها وجوب الأنظار لحين الميسرة ، لأن الأصل في سياق الآية والتي قبلها حرمة الربا والأذن بالمحاربة من الله تعالى للذين يتعاطوه ، أي أنَّ حقَّ الوجوب لم يحصل لولا حصول حقٍّ تقدّمه حتى يلزم التأخير ؛ لكن هذا لا يعني ثبوت وجوب سائر الديون بسبب الأشتراك في معنىَ الدَّيْن –كما يذهب إلى ذلك الفخر الرازي (2)، لما ذكرنا قبل قليل بسبب من جعل القياس قرينة على إرادة العموم ، واللفظ الظاهر غير محتاج لذلك وهو ممّا ينتهك قوة الأحكام في النسيج القرآني .

ثم قال تعالى :[وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] جملة استئنافية أبتدأت بالمصدر المؤوّل [وَأَنْ تَصَدَّقُوا] ، والفعل في أصله (تتصدَّقوا) ، فحُذِفت التاء قصد الخفة وهذا الحذف فيه دلالة السرعة في اداء الفعل ، لأنّ في الحذف أختصار في

ص: 302


1- ظ : إعراب القرآن / النحاس :114.
2- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : م 3/86 .

الصوت ليوحي للمتلقي بسرعة أداء الفعل ، ومثله الأدغام قوله تعالى :[إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا](1)،والفعل [يَطَّوَّفَ] أصله (يتطوَّف) فأدغمت التاء في الطاء قصد الخفّة،فكان أداء السعي بين الصفا والمروة هرولةً لا مشياً وقد عَبَّرت عنه حالة الإدغام في الفعل [يَطَّوَّفَ]،ولو جاء من غير إدغام لصوّر فعل السعي مشياً لا هرولةً .

وكذلك الفعل (تَصدَّق) عندما حُذِفت منه التاء ليعبَّر به عن سرعة أداء التصدّق والحث عليه ، وقرأ عبد الله بن مسعود[وَأَنْ تَصَدَّقُوا] غير أنَّ هذه القراءة لانجد فيها سرعة أداء التصدَّق بالمال ، بل جاء الفعل على سجيته في الأداء،وهذا ممّا يُفقد النصّ دلالة الحث على التصدّق فضلاً عن الأداء البسيط للفعل،وهذا مما سيُفقد مناسبة التفضيل مع بساطة الأداء،فيما أنّ الأدغام المصحوب بسرعة الأداء في الفعل قد ناسب التفضيل في (خيرٌ)الذي هو بمعنى (أَخْيَر)،وهذا الاسم جاء شاذاً عن القاعدة(أَفْعَل)،ومنه أيضاً (شرٌّ)بمعنىَ(أشرّ) في قوله سبحانه[أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ](2) .

لكن لماذا جيء بالمصدر مؤوّلاً :[أن تصدَّقَوا] ولم يُؤتَ صريحاً (التصدّق) ؟ وذلك لأمور تتعلق بالمعنى هي :(3)

ص: 303


1- سورة البقرة / الآية : 158 .
2- سورة البينة / الآية : 6.
3- ظ : النحو الوافي / د.عباس حسن : 1/ 346, معاني النحو / د.فاضل السامرائي : 3/126- 128 ، بدائع الفوائد / ابن قيم الجوزية :1/ 104 .

1. إنّ المصدر الصريح (التصدُّق) لا يدلُّ على زمنٍ معيَّنٍ في حين المراد من الآية المباركة الدلالة على زمن المستقبل ، فأستعمل المصدر المؤول للدلالة عليه، أي أنَّ المؤوّل يستعمل للتمييز بين ما هو واقع وما سيقع .

2. استعمل المصدر المؤوّل للدلالة على أنَّ الحكم مقصور على المعنى المجرَّد للفعل (تصدَّق) من غير واصفٍ آخر يلابسه أو لشيء آخر يتصل به ، فمثلاً قولنا : أعجبني أنْ أكَلْتَ ، أي : مجرد أكلك لذاته ،لا لاعتبار أمر خارج عنه ككثرته أو قلته أو بطئه أو سرعته أو غير ذلك ، ولو قلنا :أعجبني أكلك ... لكان محتملاً لبعض تلك الأشياء والحالات ، كطريقة الأكل أونوع المأكول .

3. إنّ (أَنْ) والفعل تفيد الإباحة،وتفيد القطع بحصول الفعل،بخلاف المصدر الصريح الذي يُفيد القطع بحصوله ؛ فقوله تعالى :[وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ]،تفيد أن فعل التصدُّق سيحصل،وإن حصل فهو خير،وفي هذا إباحة في وقوع الفعل ،في حين قولنا: (التصدّق خيرٌ لكم) قَطَعَ بكون التصدّق خيراً،وفي هذين المثالين أختلاف في الدلالة ؛ففي الأول إباحة قيام الفعل وهو المراد من الخطاب؛وفي الثاني قَطَعَ بوقوع التصدّق فلا خطاب فيه

4. إن المصدر المؤول [وَأَنْ تَصَدَّقُوا] بيّن الفاعل،وفيه شعور بحدثه ومدحه في فعل الصدقة،فيما لا يكون ذلك في المصدر الصريح .

ص: 304

وأختُلِف كمية في المال المتصدَّق به هل كلّه أو بعضه ،والظاهر إباحة التصدّق بالمال كلّه أو بعضه على وجه التخيير ،وذلك أن الفعل (تصدَّق) قُطِعَ عنه مفعوله ،وهو يحتمل أمرين ،الأول: (أنْ تصدَّقوا بالمال خيرٌ لكم) ،والثاني: (أنْ تصدَّقوا من المال خيرٌ لكم)،وكلا الأمرين واردٌ، ولو أراد تعالى أحدهما لقيَّد اللفظ بأحدهما دون الآخر،لكنه تعالى شأنه جعل في هذا الحذف سعة في الدلالة فوسَّع على صاحب الدَّيْن في التصدَّق به كاملاً أو بعضه على وجه التخيير والندب(1)كقوله تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى](2).

(وقيل أُريد بالتصدُّق الأنظار)(3) على صاحب المال وهذا رأي ضعيف لأنَّ الأنظار للمعسر واجب على ربِّ الدَّيْن،فالحمل على جديد أفضل ولأن أفعل التفضيل باقية على أصل وصفها(4) .

ثم أخبر سبحانه عن التصدَّق بأنه خيرُ للمتصدَّقين بدلالة التفضيل في (خير) وأكدّ ذلك بقوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] لأنه أصلح لشأن الغرماء.

ص: 305


1- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/350.
2- سورة البقرة / الآية : 237.
3- م . ن .
4- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/ 550.

الآية الثالثة

قوله تعالى :[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ](1)

لم أرَ فيها تأسيساً لمشروعية الأقراض بين الناس ، وذلك أنّ القرض(هو قطع جزء من المال بالإعطاء على أنْ يرد بدله)(2) ، ويكون ذلك في موضع الحاجة ،وقد نُسِبَ الأقراض في هذه الآية إلى الله تعالى،وهذا يستحيل لأنّه غير محتاجٍ ،لذا فهو إلى المجاز أقرب ؛ ولو لم يُقيّد بلفظ الجلالة لكان هناك إمكان لتأسيس هذه المشروعية بدلالة الإطلاق .

لكن الذي تتوخاه الآية المباركة الحث على فعل الأعمال الصالحة في الدنيا وتعويض ذلك في الآخرة إذ لايُعدم العمل الصالح من أجرٍ عليه من الله تعالى آجلاً أم عاجلاً .

ولعلّ في سياق الآية ما يوضّح ذلك ، إذا أجتمع فيها دلالة الأقراض والقرض فالمصدر للفعل (يُقرض)هو (الأقراض) ، والسياق يدعو إلى ذلك ،أي(مَنْ يُقرض الله إقراضاً حسناً) ؛إذ نجد في الفعل دلالة التمكين من فعل الأقراض ، والحث عليه لأن ماضيه (أَقْرضَ) على زنة (فاعَلَ) الدالة على

ص: 306


1- سورة البقرة / الآية : 245.
2- التبيان / الطوسي : 2/ 285؛ مفردات القرآن / الراغب الأصفهاني : 666- قرض.

التمكين (1) ، بتقدير :مَنْ ذا الذي يُمْكِنُهُ الأقراض ، فجمع في الآية دلالة التمكين من فعل الأقراض ، ومعنى القرض في سياقٍ واحد .

ومثله قوله سبحانه :[فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ](2)،إذ جمع دلالة التقبلّ من الفعل (قبَّل) ودلالة القبول ، في سياق واحد أيضاً .

ومنه أيضاً قوله سبحانه :[وَاذْكُرِ اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا](3) ، فجاء بالفعل [تَبَتَّلْ] غير أنَّه لم يأتِ بمصدره ،وإنما جاء بمصدر فعلٍ آخر هو (بتَّلَ) في حين مصدر [تَبَتَّلْ] هو (التبتَّل) لأنّ مصدر (تفعَّلَ) هو (التفعّل) ، ومصدر (فعّل) (التفعيل) وأنما جاء بذلك لأنه أراد أن يجمع بين معنيين التبتّل والتبتيل في سياق واحدٍ(4) .

فضلاً عن ذلك أنَّ مناسبة الآية لما قبلها يدعو إلى ذلك ، فأنه لما أمر تعالى بالقتال في سبيله ، وكان ذلك مما يقضي إلى قتل النفوس وبذل الأموال في إعزاز دين الله أثنى على ذلك ببذل شيء من ماله في سبيل الله(5) .

فهذا ما قررّته دلالة عموم اللفظ ؛ وأما في خصوص السبب فهو الآخر لا يشير إلى تشريع القرض بين الناس في الآية المباركة ؛ فقد نُقِل أنّ النبي

ص: 307


1- ظ : شذا العرف / الحملاوي : 49 .
2- سورة آل عمران / الآية : 37.
3- سورة المزمل : الآية :8.
4- ظ : التفسير القيم / ابن قيّم الجوزية : 501- 502 ؛ التعبير القرآني / د . فاضل السامرائي : 34 -35.
5- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/402 -403 .

محمد (صلى الله عليه وآله) قال : من تصدَّق فله مثلاًها في الجنة ، فقال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله إنّ لي حديقتين إن تصدّقت بأحدهما فأنّ لي مثلها في الجنة،فقال:نعم ؛ فتصدّق بأفضل حديقتيه فدفعها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنزلت الآية فضاعف له صدقته (1) .

إذن لا يدل عموم اللفظ في الآية المباركة ولا خصوص السبب ولا السياق التي وردت فيه الآية مع ما قبلها أو بعدها على تشريع الأقراض بين الناس ، وإنما كانت للحث على الإنفاق في سبيل الله تعالى ، واقتران ذلك بالله تعالى لأهمية وزيادةً في حث المؤمنين على عمله .

ثانياً : التوجيه الدلالي لآية الرهن

•قال تعالى :[وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ](2) .

بعد أن تأسَّسَ آية الدَّين الى الأشهاد عليه الدِّيْن والكتابة لأجل حفظ اموال الناس في قوله تعالى :[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ](3)، شرَّع بعدها تعالى لحالة الأعذار المانعة من

ص: 308


1- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م 1/ 349؛ الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2/ 201 -202.
2- سورة البقرة / الآية :283 .
3- سورة البقرة/ الآية :282.

الكتابة والأستيثاق بها ، فجعل لها الرهن حلاً للأعذار التي منها السفر وعدم وجود الكاتب .

فأبتدأ الآية بأداة الشرط [وَإِنْ] ليؤسس لوقوع حدث ما أو عمل مرتبط بوقوع فعلٍ قبله ، فقال :[وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ] فجعل السفر وعدم وجود الكاتب شرطاً لوقوع الرهن وسبباً له ، على ظاهر لفظ الآية ، وهذا ما ذهب إلية مجاهد والضحاك وداود متمسكين بظاهرها(1) ولاحجة لهم في ذلك إلاّ الظهور إذ إن من خواص (إنْ) الشرطية استعمالها في المعاني المحتملة الوقوع والمشكوك في حصولها والموهومة والنادرة(2)فهي تجعل الشرط غير ملزم ،لأنَّ وقوع السفر وعدم وجود الكاتب أو غيرها من الأعذار قد لم تقع ،فيكون مَنْ تداين شيئاً من المال أوغيره مضطراً أن يسلك طريقاً آخر لأجل ضمان حق صاحب المال ، فكان الرَهْن هو وثيقة الدائن على المدين .

وقد نقل السيوطي عن بعضهم وقوع (أنْ) في القران بصيغة الشرط ، وهو غير مراده في ستة مواضع (3)، ذكر منها قوله سبحانه[وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ](4) في كون الشرط فيها غير ملزم ،لأن وقوعه

ص: 309


1- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 2/347 ؛ التفسير الكبير / الفخر الرازي : م 3/ 100- 101.
2- ظ : معاني النحو / د. فاضل السامرائي :1/61.
3- ظ : الاتقان / السيوطي : 1/ 312.
4- سورة البقرة/ الآية : 283.

وعدمه في كليهما محتمل ، وذكر منها كذلك قوله تعالى [ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ](1) وقوله تعالى :[ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ](2)،فمعاني القتال والطلاق محتملة في الوقوع وعدمه ،وأن مجيء (أنْ) في الآية ربما يكون لغرض تسويغ الأعذار وتمثّلها فذكر السفر وعدم وجود الكاتب ، وإلاّ فأنّ الرهن المقبوضة واقع مقابلاً للدَيْن في حال عدم وقوع الشرط .

ولو أراد سبحانه إلزام وقوع الشرط لجاء بالأداة (إذا) فيقول :"واذا كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة"، ولكان هذا الشرط ملزم الوقوع للراهن والمرتِهِن ، وذلك أنّ الأصل في (إذا) أن تكون للمقطوع بحصوله وللكثير الوقع(3)، من نحو قوله سبحانه :[كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ](4) فأنّ كل واحدٍ منّا سيحضره الموت وقوله سبحانه [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ](5) فأنّ الصلاة لابُدَّ أن تنقضي(6).

فضلاً عن ذلك قيل أنّ النبي محمد (صلى الله عليه واله)اشترى من يهودي طعاماً إلى أجلٍ ورهن درعاً من حديد ، وبقيت مرهونة عند اليهودي بثلاثين

ص: 310


1- سورة البقرة / الآية : 191.
2- سورة البقرة / الآية : 230
3- ظ : معاني النحو / د. فاضل السامرائي :4/61.
4- سورة البقرة / الآية : 180 .
5- سورة الجمعة /الآية : 10.
6- م . ن .

صاعاً من شعير لأهله حتىَ وفاته(1) وكان النبي (صلى الله عليه واله) في حضر مع وجود الكاتب.

لقد ذهب جمهور من المفسرين والفقهاء الى جواز وقوع الرهن وصلاحه مع الحضر ووجود الكاتب ، فقال الشيخ الطوسي :(يجوز أخذ الرهن مع الحضر ومع وجود الكاتب )(2) وهو الصحيح عند القرطبي ، وثابت عنده بنصّ السنة والشريعة(3) .

ثم قال تعالى:[فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ]، الفاء فيها رابطة لكون جواب الشرط ليس من جنسه لفظاً ، فجعل من الفاء رابطة له ، والرِهان اسم لما يُوْدّع مقابل الدَّيْن ؛ ويكون كذلك مصدراً على وزن (فعِال) من الفعل (راهن ، يُراهن ، رِهاناً) ، وهو ما يقع من الرهن بين أثنين ، ومثله أيضاً قاتل يُقاتل قتالاً ، وخاصم يُخاصم خِصاماً ، وعالج يُعالج عِلاجاً ، وقراءة الجمهور (فرهان ،جمع رَهْن نحو كَعْب وكِعاب ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بن العلاء : فرُهنُ ، بضم الراء والهاء ... وقيل هو جمع رِهان ، ورِهان جمع رَهَن ، ... وقال أبو عمرو بن العلاء : لا أعرف الرِهان إلاّ في الخيل لا غير ، وقال يونس : الرُهُن والرِهان عربيان ، والرُهُن في الرَهْن أكثر ، والرِهان في الخيل أكثر)(4).

ص: 311


1- ظ : الجامع لأحكام القرأن / القرطبي : 2/347.
2- التبيان / الطوسي : 2/380.
3- ظ : الجامع لأحكام القرأن / القرطبي : 2/347.
4- البحر المحيط / أبو حيان : 2 / 572 ؛ لسان العرب / ابن منظور : 5/ 348 – 349 – رهن .

و[فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ] قرأءة الأمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) وقراءة أهل الكوفة وأهل المدينة(1).

والرَهْنُ من الفعل رَهنَ بمعنى الحبس ، وقد ذكر ابن منظور عن ابن عرفة قوله : (الرِّهْنْ في كلام العرب هو الشيء الملزم ، يُقال : هذا راهنٌ لك ،أي دائمٌ محبوسٌ عليك)(2)غير أن سياق هذه الآية والتي قبلها تعني المشاركة، فالمداينة تكون بين أثنين ، بدليل قوله سبحانه [إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ](3) والفعل (تداين) ماضيه (دايَنَ) على وزن (فاعَلَ) الدال على المشاركة بين أثنين أو أكثر(4)،والمراهنة معطوفة على المداينة فحكم سياقها يكون كذلك بين اثنين ،لأنَّ الفعل فيها أصله المداينة ، لكنها بطريقة أخرى في حال وجود أعذار ؛ فلأجل الاستيثاق جُعِلَ الرهن ،وهو مادة عينية عوضاً عن الوثيقة في الدَين.

وإنّ أفضل فعل للمراهنة أن يكون معناه المشاركة وهو الدال على وقوع الفعل بين أثنين وهما الراهن والمرتِهِن ، فمن الراهن يحتاج إلى إيجاب، ومن المرتِهِن القبول ؛وأنّ اصلحُ شيئ لهذا أن يكون الفعل على صيغة (فاعَلَ) الدالة على المشاركة ، وهو (راهَنَ) وفيه إفادة تمام المعنى المطلوب بين الايجاب والقبول مع الحبس للمادة المرهونة ، ومصدره (رِهان)؛ فيما وانَّ

ص: 312


1- ظ : أعراب القرآن / النحاس : 117- 118.
2- لسان العرب / ابن منظور : 5/ 349- رهن .
3- سورة البقرة / الآية : 282.
4- ظ : شرح النظام / النيسابوري : 55 ؛ شذا العرف / الحملاوي : 49 .

الرَّهَن فيه دلالة حبس المادة عند المرتِهِن لا غير، فيما أنّ مراد الآية أوسع من ذلك .

لذا كان (رِهان) بدلالة المصدر الدال على حدث القبول والإيجاب لحبس المادة مقابل الدَّيْن هو الأليق في هذا المقام ، وأنَّ السياق العام يأخذنا الىَ ذلك ويدلّنا عليه .

فضلاً عن الإيجاب والقبول من الراهن والمرتِهِن ، فأنّه يشترط في الرهان القبض وبهذا قال أكثر الأمامية مستدلين بالآية وبقول الأمام محمد الباقر(عليه السلام)فيما رواه محمد بن قيس : ( لا رهنَ إلاّ مقبوضاً)(1)وهو رأي الجمهور ، ويشترط فيه القبض إلاّ مالكاً فقد اكتفى بالإيجاب والقبول(2) أما أبو حنيفة والشافعي فلا يصح عندهما الرهن من دون قبض ، وقالت المالكية يلزم الرهن بالعقد(3) .

ولو قُدِّر أنْ يكون محل المصدر (رِهان) لفظ (رَهَن) وهو اسم للمادة العينية أو جمع (رُهُن) لتوجَّبَ أن يكون القبض هو الأصل في المسألة ، ولا يهّم إن وقع الأيجاب والقبول أو لم يقع ، وذلك لأن الاسم يدلُّ على ذات معيّنة دون الحدث ،بيد أن ما كل ّ وكالة يدلّ على وجود عقد بين طرفين ؛ ولا يكون إلاّ مصدر يدلُّ على هذا الحدث المقترن بقبض المادة المرتِهِنة ، إذ

ص: 313


1- كنز العرفان / السيوري : 422.
2- ظ : م . ن .
3- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 2/573.

إنّ حدث الرهان لا يكتمل من دون القبض ولا يقع القبول أصلاً وعليه لا يصحّ أن يكون الدَّيْن رهناً لعدم إمكان قبضه في حال الأرتهان .

ثم استأنف سبحانه قوله[فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا] ،جاءت فيه الفاء تفيد الاستئناف وذلك حصول حالة أخرى ، وهي أن يكون الدَّيْن من دون وثيقة مداينة بين الدائن والمدين فأبتدأه بالشرط مستعملاً (إنْ) الشرطية ، وجعل فعل الشرط (أمِنَ) وجوابه(يؤدِّ) وإنّ ابتداءه ب- (أنْ) فيه دلالة تعدّد لأحتمالات معاني فعل الشرط (أمِن)، فمنهم مَنْ يأمَنْ الأخر ثقة به ، أو لقربه منه ومصاحبته أو يأمنه لدينه ؛ واستعمالها في هذه الدلالات المحتملة أليق من غيرها ولو أراد واحدةً من هذه المعاني وعلى وجه اليقين في الوقوع لاستعمال (إذا) الشرطية وقد وضّحت ذلك من قبل(1) .

ثم قال تعالى :[ بَعْضُكُمْ بَعْضًا] على سبيل المساواة في الأمن بين الدائن والمدين لأن كليهما مرتبط بالأمن ؛ ولو وقع الأمن من واحد دون الآخر لما كان هناك أمن .

ثم أردفه بجواب الشرط في قوله سبحانه[فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ]وقعت فيه الفاء رابطة للجواب لعدم وجود مجانسة لفظية مع فعل الشرط ؛ ووجود لام الأمر

ص: 314


1- ولمزيد من إضاح استعمالات (إن) و(إذا) الشرطيتين . ظ : شرح المفضل للزمخشري / ابن يعيش : 9 /4 ؛ الأتقان / السيوطي : 1/ 312- 313 ؛ الكليات / الكفوي : 58 – إذا ؛ 161- إنْ ؛ معاني النحو / د . فاضل السامرائي : 4/59- 62.

فيه دلالة على الأمر بضرورة أداء الأمانة وجوباً ، لعدم وجود ما يدفع الوجوب في الأمر.

ولمّا كان الدَّين أو القرض غير موثّق بكتاب أو وثيقة سمّاه تعالى (أمانة) عند المدين ؛ والضمير في [أَمَانَتَهُ] عائد عليه، وأمر تعالى بضرورة أن يُرجع ما بذمته من الدين لصاحبه .

ثم قال تعالى :[ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ] في إعادة ما بذمته من المال من غير مطل أو تسويف .

ونهى بعد ذلك عن كتم الشهادة وأخفائها عند طلبها ، والذي يكتمها سيكون آثماً قلبهُ لأنَّ في ذلك ضياعاً لحقوق الناس ، وأن الله تعالى معاقبه على ذلك ، وعَدَّ عمله أثماً يُعاقب عليه الشرع ولعل في اضافة الأثم إلى القلب أبلغ في الذم ،كما أنّ إضافة الأيمان الى القلب أبلغ في المدح .

وقد تبين من قوله سبحانه [فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا] على أنّ الأشهاد والكتابة في المداينة ليس بواجب ، ولكن إيقاعه يكون من جهة الأحتياط (1)في حفظ أموال الناس وعدم التفريط في حقوقهم ، والإنسان قد يغلب عليه السهو والنسيان فتكون الكتابة حافظة لكل ذلك .

ص: 315


1- ظ : التبيان / الطوسي : 2/381.

التوجيه الدلالي لآية الضمان

•قوله تعالى :[... وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ،وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ](1)

ذهب كثير من علماء الفقه والتفسير إلى أنَّ في هذه الآية المباركة حكمين هما : مشروعية الجعالة وشرعية الضمان (2) ورأى الشيخ أحمد الجزائري أنّ الضمان فيه آيتان هما قوله سبحانه [... وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ] وقوله تعالى [سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ](3) على أنَّ الأولى دلت على مشروعية الجعالة والضمان ،وفي الثانية إذا حصل الضمان انتقل المال إلى ذمة الضامن و ليس للمضمون له المطالبة بالحق من المضمون وهذا – كما يقول- وضع وفاق عند الأصحاب (4) .

وفسّر أهل غريب القرآن ومعانية وإعرابه قوله سبحانه [وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ] أي أناَبِه كفيل ،بمعنى أنا أُؤدّي حمل بعير من الحنطة لمن جاء بالصواع وأحضره(5)،على أنَّ الزعيم هو الغارم والزعيم: الكفيل:والغارم: الضامن(6)وذكر ابن منظور ذلك فقال :(قالوا جميعاً:معناه،وأنا به كفيل،ومنه حديث عليّ

ص: 316


1- سورة يوسف / الآية :72.
2- ظ : كنز العرفان / السيوري : 426.
3- سورة ن /الآية : 40.
4- ظ : قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر / الشيخ أحمد الجزائري :2/ 290 .
5- ظ : غريب القرآن / زيد الشهيد : 225 ؛ معاني القرآن / الفراء : 2/ 51 ؛ تفسير غريب القرآن الكريم / فخر الدين الطريحي :502؛ إعراب القرآن / النحاس : 457.
6- ظ : النهاية / ابن الأثير : 2/ 303 – زعم

(رضوان الله عليه) : ذمتي رهينة، وأنا به زعيم ؛ وزعمتُ أزعم زعماً وزعامةً أي كفلتُ)(1)

قال ابو هلال العسكري (ت حدود 400ه-) :( الفرق بين الكفالة والضمان ،أنَّ الكفالة تكون بالنفس ، والضمان يكون بالمال ، ألا ترى أنَّك تقول : كفلتُ زيداً وتريد إذا التزمت تسليمه ، وضمنتُ الارضَ إذا التزمت أداء الأجرِ عنها ، ولا يقال : كفلتُ بالأرض ، لأنَّها عينٌ لا تغيب فيحتاج إلى إحضارها ، والضمان التزام شيء عن مضمون ، والكفالة التزام نفس المكفول به)(2) .

وممّا يؤيد ذلك ما وردَ في القرآن الكريم وهو قوله تعالىَ :[ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ](3) وقوله سبحانه : [وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا](4)فالكفالة تكون عن النفس .

وعرّف الأمام السيد عبد الأعلى السبزواري (رحمه الله تعالى) الكفالة بأنها ( الالتزام والتعهّد بأحضار نفس وتسليمه لمن له الحق عليه عند طلبه ذلك ، وهي عقد لازم بين الكفيل والمكفول له وصاحب الحق ، ويُعتبر فيه الأيجاب من الكفيل بكل ما يدلَّ على تعهّده والتزامه بذلك)(5).

ص: 317


1- لسان العرب / أبن منظور : 6/ 303 – زعم .
2- الفروق اللغوية / العسكري : 170 -171 .
3- سورة القصص / الآية : 12 .
4- سورة آل عمران / الآية : 37 .
5- جامع الأحكام الشرعية / السبزواري :315.

فيما اذا كان الضمان عنده (التعهد بمال ثابتٍ في ذمة شخص لأخر وأنه عقد لازم يحتاج إلى إيجاب صادر من الضامن وقبول من المضمون له)(1)

واختلف العلماء في الضمان هل هو ضم ذمة إلى ذمة وأشراكها معاً في المال المضمون ، أو هو تضمين ذمة الضامن ذمة المضمون عنه .

ويرى الأمامية الرأي الأوّل باعتبار أن الضمان مشتقّ من الضمن،لأنه يجعل ما في ذمة المضمون عنه من المال في ذمة أخرى ، فتكون عندئذ النون أصلية في (ضمن)، لكن العامة يذهبون إلى إِشراك الذمتين بالمال ، ويكون للمضمون له أن يتخيّر في المطالبة بالمال أَيَّ الذمتين يُريد ، لأنهم كانوا يَرَوْنَ أنَّ الضمان مشتق من الضمِّ والنون زائدة فيه(2) .

هذه المعاني للضمان أجدها بعيدة عن دلالة الآية المباركة ،لعدم وجود مديونية بذمة شخص أو أي تعلّق مالي حتى يُنقل إلى ذمة الزعيم ، وكذلك لايوجد مَنْ يُكْفَل لأجل أحضاره ، لأنّ أصل القضية فقدان شيء ،و التأذين بفقدانه لأجل أرجاعه ، إذ إِنَّ السكوت عن ذلك في دولة يسودها النظام لا يمكن أن تمرّ من دون البحث والتقصّي ، كما أنَّ السكوت عنها يعني السماح لعمل ما هو غير قانوني وإشاعة الفوضى وعدم النظام وخاصة أنَّ البلاد كانت تعيش آنذاك في أزمةً غذائية .

ويرى أبو بكر الجصاص (ت 370ه-) ، أن معنىً قوله تعالى [وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ] لا يدل بشيء على الكفالة ، فقال : (ظنَّ بعض الناس أن ذلك كفالة عن أنسان وليس كذلك

ص: 318


1- جامع الأحكام الشرعية / السبزواري: 311.
2- ظ : مفتاح الكرامة / محمد جواد العاملي : 16/ 343- 344.

،لأنّ قائل ذلك جعل حملَ بعيرٍ أجرةً لمن جاء بالصاع وأكده بقوله " وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ " يعني ضامن)(1) ، وهذا الأخير ليس بشيء لأنَّ ليس هناك من نقل لذمة أصلاً حتى تُنقل إلى ذمة الزعيم ، فيصحّ عندها مفهوم الضمان ، بل جعل حملَ البعير مقابلاً لأجرة استرداد صواع ، وهنا يجب ملاحظة مجهولية الشخص الذي يُرْجعُهُ وكونه سارقاً،وهذا ممّا يرجّح عدم إمكان كون ما يقوله دالاً على الضمان ، كما يتضح في أحكامه التي قررها علماء الأصول والفقه .

ونجد أنَّ العلاّمة الألوسي (ت1270ه-) قد تنبّه لذلك فقال مستثنياً ما قيل في كون ذلك كفالة بقوله ( إلا أنَّ هذه كفالة مالٍ لرد السرقة وهي كفالة لما لم يجب لأنه لا يحل للسارق ان يأخذ شيئا على رد السرقة)(2) غير أنّه جعل الكفالة والضمان مترادفين ، ولم يُفرّق بينهما وهو رأي طائفة من العلماء ، وبه قال الشيخ أحمد الجزائري(3)

ثم لو أنّنا بحثنا عن الدلالة اللغوية والنحوية في الآية المباركة لو جدناها تخالف دلالة الزعامة على الكفالة فمثلاً عندما أجره إرجاع صواع الملك حِملَ بعير من الطعام ، لم يكن ذلك إلا بسبب من حاجة الناس إليه آنذاك نتيجة للقحط وقلّة الزرع والجوع وشدّة الطلب للطعام، ولو لم يكن ذلك لكانت أجرة إرجاعه مالاً أو ذهباً أو غيرها ، وهي متوفرة عندهم ، ولكن حاجة الناس إلى الطعام أكثر ؛ ولما كان كذلك أصبح محصوراً بيد الدولة والنظام الحاكم ، فكان تحفيز العير

ص: 319


1- أحكام القرآن / الجصاص : 3/226.
2- روح المعاني /الألوسي : م 5 /25.
3- ظ : قلائد الدرر في بيان الأحكام بالأثر / الشيخ أحمد الجزائري :2/ 29.

بهذه الطريقة أفضل من غيرها لأنَّ الطعام كان يُعدُّ عاملَ تحفيزٍ قويٍّ ، وأراد المؤذّن أن يُعلمَهم أنَّ موضع الحاجة عنده ، فقال : [وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ] .

وقد دَلَّ على معنىَ الزعامة هذه بكثرة المال وأفضليته على غيره من الأطعمة ؛ أو أنه يعني الطعام بوجه عام ،وهو ما ذكر الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 171ه-) من أنَّ زعامة المال : أكثره وأفضله ، أو هي الطعام بعينه(1) لذا فأنّ ما جاء من قوله تعالى [... وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ] مردوفاً إياه بقوله تعالى [وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ] مناسب جداً ، وهو أليق بالمقام من كون دلالة الزعيم على الكفيل أو الضامن .

كما أنَّ عود الضمير في (به) من قوله سبحانه [وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ] يحتمل أن يعود على الصواع ؛ إذ وردت الروايات من كونه مصنوعاً من الذهب ومرصّعاً بالجواهر فكان ثمنه غالياً ، وهذا من أفضل المال ،لذا فأنّ الزعامة هنا ملازمة له ومناسبة .

ويحتمل عوده أيضاً على الطعام ،وهذا لا يقلّ أهمية عن الأول كما ظهر ذلك من حَصْرِه بيد السلطة والنظام .

ويحتمل أيضاً أن يعود الضمير على المجيء ،أي أنا قادر على المجيء به إذا لم تسترجعوه ،لما تمتلكه السلطة من القوة والقدرة على البحث عنه وايجاده .

وهذه الاحتمالات كلها ظاهرة وممكنة ولا يوجد من يُضعِف أحدهما ، فهي واردة لما يتمتع به السلطان والحاكم من القوة والقدرة على تحقيق أيّ منها .

ص: 320


1- ظ : كتاب العين / الفراهيدي :2/752- زعم .

ثم أن في النص المبارك تقديم الجار والمجرور(به) وكان حقُّهُ التأخير لأنه فضلة وذلك لأجل أن تختصّ مجموعة الأحتمالات بالزعيم لا بغيره ولو أخّره وقال:"وأنا زعيم به " لأمكن إشراك غيره بالزعامة ؛ وهذا ممّا يُحدث ضعفاً في الدعوة ،وربمّا يفقد الأستجابة له من العير لأنّ السياق الجديد يُوجد إمكان إشراك غيره بهذا الأمر .

فضلاً عن ذلك نجد في قوله سبحانه[... وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ] تقديم الخبر على المبتدأ ، ولو جاء على الأصل (حِمْلُ بعيرِ لمن جاء به) لكان الأمر لايَعدو أن يكون مجرد إخبار ساذج ، غير أنَّ في تقديم الخبر دلالة جديدة , فقد خرج السياق بهاعن مجردِ الأخبار الساذج إلى دلالات أخرى لم تتضمنها بنية الأصل المبنية على تقديم المبتدأ على الخبر .

إذ نجد في السياق شبه شرط ، أي أن إعطاء حمل البعير من الحنطة لا يتم إلاّ بمجيء الصواع فجعل أعطاء الطعام مُسَبَّباً لمجيء الصواع ، وهذا ممّا يُظهر مقدار اهميتهما بل تساويهما في القيمة ،لذا فأنّ تقديرَ عود الضمير و أحتمالاته في (به)- كما قدّرنا قبل قليل - لائق جداً أو واقعي .

ثم أنَّ المؤذّن أراد أن يوضح شيئاً آخر عندما أَوْرَدَ فِعلَ الشرط (جاءَ) بصيغة الزمن الماضي ،وهو دالًّ على الأستقبال ،ليقرر أن إرجاع الصواع حاصل لا محالة،وذلك أن مجيء فعل الشرط ماضياً لا يكون إلاّ لأجل أنزال غير المتيقّن منزلة المتيقّن ، وغير واقع بمنزلة الواقع(1)،أي أن إرجاع الصواع سيحصل في المستقبل ليدّل بذلك على ضرورة أرجاعه وأخذ المكافأة عليه قبل أن يُعرِّض العير للتفتيش، وفي هذا تهديد

ص: 321


1- ظ : معاني النحو / د . فاضل السامرائي : 4/47.

للمخاطبين أو تخويف ، وكل ذلك لأجل سيادة الحق والنظام والقانون في المجتمع فقوله[وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ] يعني أنا قادر على إقامة النظام مرة بقوة القانون وأُخرى بالمال ، وأنتم ترون ذلك ؛وهذه دلالة تبعد كون الزعامة دالةً على الكفالة ،بل أَنها تُوْمِيءُ إلى قوة النظام المرتبطة بقوة القانون وقوة المال ، أي أنّها تمثّل كل ما يتمتّع به القانون والمال من القوة في بسط الأمن وهي في الوقت ذاته تشرع الخيار للحاكم في أستعمال أيٍّ من القوتين يراها مناسبةً في تطبيق النظام على الرعية وهذا يتفق تماماً مع ما ذكره أبو هلال العسكري من أَنّ الزعامة تفيد القوة على الشيء وأن الزعيم هو أقواهم وأقدرهم على ما يريده(1) ،وهذه هي الدلالة الكبرى في الآية المباركة المبنية على الأتساع لا التضييق ،وإنّ ما قيل من دلالة الزعامة على الكفالة أو الضمان ربما كانت من قبيل المجاز، باعتبار أنَّ الكافل أو الضامن قادر على أداء ما تكفّل به أو تضمّنه ، لكنَّ الأكتفاء بهذه الدلالة يعني التضييق وحصراً لدلالة عموم اللفظ ودحضاً لقابلية النص القرآني الكريم على التشريع وهو الذي يلتمس ذلك في كل مناسبة أو قصة أو حادثة ، لشّرع ما يراه مناسباً للناس.

فلو استكملنا دلالة سياق هذه الآية الكريمة مع ما يعدها لرأينا أنّ الله تعالى يفوّض الحاكم بأمر جديد أوضحه في قوله سبحانه[قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي

ص: 322


1- الفروق اللغوية / العسكري :171.

دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ](1) وهو تشريع يفيد منه الحكم على الجاني من بلاد أخرى بقوانين بلاده ،إذا كانت القوانين البلاد التي يُقيم بها لا تمكّن حاكمها من أقامة الحد علية بدلالة [مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ] أي أنّ قانون دولة النبي يوسف (عليه السلام) كانت لا تبيح القصاص بمثل قضية أخيه إلاّ أنها في شرعة أخوته أباحت له ذلك ، حينما حكم أخوة يوسف في ذلك فأخذوه بما هم حكموا به عليه أيْ أنّه في واقع الحال لم يتِّهم أحداً ولم يحكم عليه لكنه أقام حدّاً بما قررته شريعة أولئك الأقوام على مواطنيهم غير أنهم أقاموه في ظل سلطته ودولته.

ولما كان هذا التشريع القرآني يحدّد العلاقة في معاملة رعايا الدول المقيمين في دول أخرى فأنه أعطى للحاكم القوة والقدرة على إقامة الحدود على الجناة من غير أهل دولته الذين يقيمون فيها ، وهذه السلطة الضامنة تتفق تماماً مع كون (الزعيم) لا يعني الكفيل المضافة على وجه التحديد ، بقدر ما تعني الحاكم الذي يُدير شؤون البلد ،حين أمتدت سلطته على غير مواطنيه ممّن أقاموا في بلده وتحت سلطته .

وربما كان من تداعيات هذه القضية أنْ وجّهت الآية المباركة إلى ضرورة تشريع القوانين المتصلة بمثل هذه الحالة في الإسلام ، وأنّ على المشرّع الإسلامي أنْ يلتفت إلى ذلك حفظاً للنظام العالمي لا نظام دولة دون أخرى ، لأنّ النظام الدولي متصّل مع بعضه بمفردات واسعة ، فالشارع المقدس كان قد وضع الأسس العامة من خلال مثالٍ حيِّ في قصة النبي يوسف (عليه السلام) وأخوته .

ص: 323


1- سورة يوسف / 73-76.

بعد هذه المعطيات التي ثبّتها البحث لا يُحسن قصر دلالة[وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ]على معنى الكفيل أو الضامن لحمل بعير من حنطة ، إذ تضافرت الدلالات التي يكتنزها مجمل السياق على غير ذلك حين برزت معالم قوة القانون وسطوة المال ، واحترام قوانين ما جاورهم من البلدان في ظل وحدة عالمية تجمع الناس على هدي قانون عام يحّدد صلاحيات حاكم البلد بما يحكم به رعايا دول أخرى ، مع احتفاظ ذلك البلد بقوانينه التي شَرِّعت لمواطنيه لما فيها من الخصوصية التي يتمتّع بها كل بلد دون البلد الأخر .

ص: 324

ص: 325

الفصل الخامس - التوجيه الدلالي لآيات الجنايات

اشارة

ص: 326

ص: 327

التوجيه الدلالي لآيات الجنايات

مدخل

سعى الإسلام منذ أول نزول القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله) إلى مكافحة جريمة القتل ، والحدّ من هذه الظاهرة ، لأن شيوعها يُشعر الناسَ بعدم الأمان والخوف من حدوثه واتساعه ، لأنّ ذلك ممّا يُثير حميّة بعض الناس للردِّ بالمثل بأخذ الثأر من دون ضوابط وأسس لحكم هذه الظاهرة ، فكافحها الإسلام بوضع القوانين اللازمة لكل حالة بما يضمن الحقوق جراء تلك الجريمة البشعة .

فجعل الإسلام العقوبة بما يكافئ الجريمة ، لا أن يُزاد عليها بما لا يتناسب مع ما قالوا به من جرمٍ فيظلموا غيرهم ، وقد وجّه الله تعالى إلى ذلك بقوله تعالى :(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم )(1)وقد نزلت هذه الآية بعد معركة أُحُد حيث قُتِلَ الحمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنهما) ، ومُثّل به ، فغضب النبي محمد(صلى الله عليه وآله) والمسلمون لذلك ، وتوعّدوا من فعل به المُثلة بأشدِّ العقوبات ، فلما نزلت الآية توقفوا عن ذلك (2) .

أمّا القتل الذي يستحق عليه الجاني العقوبة عند الجاهلين فهو نوعان : القتل العمد والقتل الخطأ؛ وهو أقل درجةً من النوع الأوّل ، وقسّمه فقهاء المسلمين على

ص: 328


1- سورة النحل/ الاية : 126.
2- ظ : أسباب النزول / الواحدي :214- 215.

خمسة أقسام : قتل العمد ،وقتل شبه العمد ،والقتل الخطأ ،وقتل قائم مقام الخطأ، وقتل بسبب (1) ، ولكل نوع من هذه الجنايات أحكامها وعقوباتها الخاصة بها .

وقد نصَّ العرفُ الجاهلي على القصاص، أي وجوب معاقبة القاتل بنفس الفعل الذي فعله بالمجني عليه بالقتل العمد ، وهو أن يطلبَ أهلُ القتيل من أهل القاتل تسليمه إليهم ، ويسمى لذلك (القود) ، فيُغسل دم القتيل , ووفق الجاهلية أنّ (الدم لا يُغسل إلاّ بالدم)(2) ،غير أن تطبيق الأحكام آنذاك لم تكن بالشكل الذي تحصل به العدالة في إقامة الجزاء على الجاني ، فغالباً ما يقع الزيغ في ذلك ، فمثلاً في عرفهم إذا كان القاتل من بيت دون بيت القتيل ، فان أهل القتيل غالباً ما لا يكتفون بالقود ، بل يطلبون شخصاً آخر أو أكثر عوضاً عن قتيلهم ، وقد يثأرون له فيغتالون ما يشاؤون من أهل القاتل أو رجال قبيلته (3) ، وهذا ممّا نهى عنه الإسلام ، فجعل الدماء متكافئة فالحرُ بالحرِّ ، والعبدُ بالعبد ، والأنثى بالأنثى .

وقد يُوجِب العرب كذلك الدية ، لكنهم قد يظهرون التعدّي فيها أيضاً (4)، وروي (أنّ واحداً قتل إنساناً من الأشراف، فأجتمع أقارب القاتل عند والده وقالوا ماذا تريد؟ فقال : أحدى ثلاث :قالوا :وماهي؟ قال : إمّا تحيون ولدي ، أو تملأون داري من نجوم السماء ،أو تدفعوا إليّ جملة قومكم حتى أقتلهم ، ثم لا أرى أنّي أخذتُ عوضاً)(5).

ص: 329


1- راجع كتب الفقه والحديث في باب القتل.
2- ظ : المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام / د . جواد علي :5/581.
3- ظ : م .ن .
4- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي :م2/ 221 .
5- ظ :م.ن .

أما عقوبة القتل عند اليهود فهي الرجم بالحجارة حتى الموت ،وقد نصّت عليها التوراة ، وهذه العقوبة غير معروفة عند أكثر عرب الجاهلية آنذاك ، وقد روي أنهم قتلوا (عبد الله بن طارق) رجماً بالحجارة (1) ؛ أمّا عند النصارى فقد كانوا يُوجبون العفو(2) .

وورد أيضاً ما يفيد أنّ الصلب كان عقوبة على الجاني ، وبه قال الله تعالى : ﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ، ويسعون في الأَرض فساداً أن يُقتّلوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض﴾(3) ؛ وقد قتل المشركون (حبيب بن عدي الأنصاري) صلباً على خشبة وطُعِن بالرماح , وصُلب أيضاً (هلال بن عقّة)، وكان عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس) أول من صُلِبَ في الإسلام بعد معركة بدر(4) .

واختُلِف في مَنْ يقوم بالحدِّ على الجاني , وكان ذلك بحسب البيئة الإجتماعية التي تقع فيها جريمة القتل ، فقانون الأعراب من الجاهليين أنّ عقوبة الجاني بيد أصحاب القتيل ، في حين فوّض عرب اليمن الجنوبيين الملكَ في إقامة الحدّ على الجاني ، فهو الذي يأمر بالقصاص ،وإن شاء فرضَ الديّة (5) ؛ ولمّا جاء الإسلام هذّب هذه الأحكام وأوضح مواردها ،وبيّن حدودها وأُسسها بما يُرضيَ الله تعالى ويحقق العدالة والأمن الإجتماعيين ،محاكياً في كلَّ ذلك الطبيعة ﴿الإنسانية للبشر في ضرورة إقامة الأحكام بالمثل فجّرد أحكامهم من التطبيق المنحرف ، وهذا لايعني أن

ص: 330


1- ظ : المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام / د . جواد علي :5/586.
2- .ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي :م2/ 221 .
3- سورة المائدة / الآية :33
4- ظ : المفصل في تأريخ العرب قبل الإسلام / د . جواد علي :5/585
5- ظ : م . ن .

أحكامه (تعالى) هي أحكامٌ الجاهلية ، بل هي أحكام ألهية جاءت منسجمة مع الطابع الإنساني بما يضمن تطبيقها وأقامتها عليهم .

وقد نهى الإسلام أن يؤخذ غير الجاني بجريمة غيره ، ولا يُطالب بجناية غيره من أقاربه أو أباعده ، فأذا جنى أحدهم ذنباً لا يُطالب به الآخر لقوله سبحانه ﴿ ولا تزرُ وازرةٌ وزر أخرى﴾(1) لأنّ ذلك جوراً ومنافياً للعدل .

والجناية في اللغة من الفعل (جنىَ) قال ابن منظور : (جنى الذنب عليه جناية ، جرَّهُ والجناية : الذنب والجرم ، وما يفعله الإنسان مما يُوجب عليه العقاب أو القصاص في الدنيا والآخرة)(2)فجعلت اللغةُ من تعريف الجناية وفعلها ما يناسبها في الدلالة قدراً في العقوبة بما يًفاد منها في ردع الجاني ومن تُسَوِّل له نفسه ارتكاب هذه الجرائم .

ص: 331


1- سورة فاطر /الآية : 18.
2- لسان العرب / بن منظور :2/392-392- جنى .

الآية الأولى

قوله تعالى :﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قتل النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أحيا الناس جميعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾(1)

أدرج علماء تفسير آيات الأحكام والأصوليون هذه الآية المباركة في باب الجنايات،وعدّوها ممّا يُقضي بها في جناية القتل ، غير أنهم لم يوضحوا ما فيها من أحكام ، ولم يدلّلوا على الجناية وظروفها وقواعدها التي يمكن الأستناد عليها لأجراء حكم معيّن كي تكون جناية ، لكنهم ذكروا آراء عديدةٍ تبيّن المعنى العام للآية ؛ فالشيخ الطوسي (460ه-) قد ذكر ستة أقوال في ذلك نقلاً عن الزجاج وأبي علي والحسن وقتادة وغيرهم ؛ في أغلبها ذِكرٌ لتهويل القتل من دون علة وسبب وتعظيم الوزر والمأثم في حال وقوعه ،أنّ وقوعه يمثّل سنّة سيئةً يتحملّها من أوقعه أولاً ، فهو يتحمل مَنْ وقع عليه القتل بلا حقِّ (2) ، والزمخشري(ت 538ه-) قد تساءل عن الفائدة في ذكر التهويل فقال : ( فأنقلت : فما الفائدة في ذكر ذلك ؟ قلت : تعظيم قتل النفس وإِحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها ، لأن ّ المتعرّض لقتل النفس إذا تصوّر قتلها بصورة قتل النفس جميعاً عظم ذلك عليه فثبّطه ، وكذلك إذا أراد إِحياءها)(3).

ص: 332


1- سورة المائدة / الآية : 32.
2- ظ : التبيان الطوسي : 3/501.
3- الكشاف /الزمخشري :1/661.

وذهب أبو حيان الأندلسي (ت 745ه-)إلى أنّ ما وقع من التهويل كان بسبب من طغيان بني إسرائيل وسفكهم الدماء ، ولتطهير ذمتهم لأنهم كانوا لا يفقهون ولا يراعون ذمة ، حتى همّوا بقتل النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لمّا دعاهم إلى الإسلام (1)؛ فذكر الله تعالى ذلك أنساً له وليضع أمامه (صلى الله عليه وآله) حال بني إسرائيل من السرف والخروج عن الطاعة ووقوعهم في المعصية ، فالله تعالى لم يشرّع حكماً وإنما أوضح نتيجة لجناية وليضع أسساً لقضاء فيه.

وقد ذكر الشيخ احمد الجزائري ، أنَّ الآية المباركة تؤسس لمسألة وضع السنن والأحكام وما يمكن أن يتحمّل واضعها من وزر(2)،يقول :( وفي الآية دلالة على تعظيم الدماء وأنها من أعظم المحرمات وأشدّ الكبائر)(3) من دون أن يقرّر ما فيها من أحكام لجناية القتل .

لقد تتبّعتُ سياق الآية المباركة مع ما سبقها من الآيات المباركات فوجدتُ أن هناك مناسبة وتعلّقاً بينها، وأنّ الدلالة التي يريدها نصّ الآية كانت نتاجاً لما تقرّر في الآيات السابقة لها , ففي قوله تعالى : ﴿ياأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (4) ،

ص: 333


1- ظ : البحر المحيط : أبو حيان :3/651.
2- ظ : قلائد الدرر / الجزائري :3/394.
3- م . ن : 3/394.
4- سورة المائدة /الآية :19.

الخطاب فيه موجّه لعموم أهل الكتاب ، إلاّ أنه مختصّ ببني اسرائيل ، بدليل قوله تعالى : ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾(1) .

فضلاً عن ذلك أنّ سبب نزول الآية كان فيهم ، وذلك عندما دعا النبي محمد(صلى الله عليه وآله) اليهود إلى الإسلام ورغبهم فيه فأبَوْا عليه ( فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة : يا معشر يهود اتقوا الله إنكم لتعلمون أنّه رسولُ الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعث هو تصفونه لنا بصفته ، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهوذا: ما قلنا لكم هذا ، وما أنزل الله من كتابٍ بعد موسى ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده ، فأنزل الله﴿ يا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾ (2) .

فعندها أُريد تأسيسٌ لحكمٍ معيّن ، وضَعَنا القرآنٌ الكريم أمام نموذجين أو حالين ممّا يخصّ مسالة القتل في الآية قيد البحث ، وهذا خلاف ما كُنّا نجده في الأحكام للعبادات والحدود وغيرها من أبواب الفقه ، وذلك عندما تقع حادثة معيّنة نجد الحكم فيها حاضراً ، غير أنَّ في الآية قد أتَّبع أسلوب آخرٌ ولعلّ في هذا الاسلوب أراد تعالى أن ينبهنا الى حالة قيميّة عالية الأهمية ؛ ففي جناية القتل من دون إثمٍ تجاوزٌ على الذات الألهية التي خلقت هذه النفس المحّرمة ، ونتيجتها الخروج عن المسار الصحيح الذي ينبغي على المجتمع البشري أن يسير عليه .

النموذج الأول ، ما ذكره من حال بني اسرائيل وتعاملهم مع نبيّهم موسى (عليه السلام) ، فخاطب الله تعالى النبي محمد(صلى الله عليه وآله)بأن يذكّرهم بما

ص: 334


1- سورة المائدة /الآية :31.
2- لباب النقول في أسباب النزول / السيوطي : 79.

قال موسى (عليه السلام)لقومه ،فقال تعالى﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَيَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَقَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَقَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَقَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ في هذا النموذج كان بنو اسرائيل ، في بداية أمرهم من المؤمنين ،فأنعم الله عليهم وجعل منهم الأنبياء وجعلهم مالكين لأمرهم بعد أن كانوا عبيداً للقبط، وعدما أراد النبي موسى (عليه السلام)أن يمكّنهم في الأرض ويطهرهم بدخولها وتطهيرها من رجس الكافرين ، أبَوْا ذلك وعصَوْا الرسول جبناً وخوفاً وطمعاً بما عندهم مع وعد الرسول لهم بأنهم إن دخلوها فسيكونوا من الغالبين ، لكنهم أصرّوا على الإمتناع وعدم الدخول مادام الجبابرة فيها ، ثم أنّهم لم يكتفوا بذلك فقد عمدوا إلى التضحية بنبيهم موسى(عليه السلام) وأظهار كفرهم عندما قالوا:﴿ˎفَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، فصَوَّروا الله تعالى جسداً يرونه كما يرون موسى(عليه السلام) ، وهذا رأي المجسّمة ، والله تعالى﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ﴾(1) .

هذا النموذج البشري المتقلّب بين الكفر والفسوق وعدم الثبات على مبدأ معيّن والمتشتت في ولائه وحبّه للمال والدعة وتقاعسه عمّا يأمر به الولي بأمر الله تعالى ، وابتعاده عمّا يطهّره من الدنس ، وعدم امتلاكه لرؤية تنجيه وأبناء جلدته في المستقبل

ص: 335


1- سورة الشورى / الآية : 11 .

، يمكن أن نصفه بأنه نموذج ميّت معنوياً وفكرياً وعقائدياً ، ويصدق عليه أنه نموذج مقتول وإن كان يمارس الأفعال الحياتية المادية ، فهو حي بالفعل الطبيعي ، لكنّه ميّت معنوياً وفكرياً وعقائدياً ، وعندما يئس النبي موسى(عليه السلام) من هداية بني اسرائيل دعا عليهم ، فقال تعالى ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾(1) فنسبهم إلى الفسوق وذلك بسبب خروجهم عن الإيمان.

أما النموذج الثاني فهو ما ذكره سبحانه من نبأ ابني آدم (عليه السلام) وقتل قابيل لأخيه هابيل حسدا وغلاً من دون سبب أو جريرة ، قال تعالى ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(2)،فذكر صفات المجرم القاتل بأنه حاسد وغير تقيّ ، ولا يهمّه أن يتحمل أثم من سيقتله بعد أن أصابه العمى في بصيرته ، فضلاً عن أنحيازه لهوى نفسه وانصياعه لها في القتل من دون حق ، في حين صَوَّر المقتول من غير حقٍّ بأنه تقيّ وغير حاسدٍ ، ويخاف الله ربَّ العالمين ولا ينصاع لهوى النفس المنحرفة إلى الجريمة .

ص: 336


1- سورة المائدة / الآية : 25.
2- سورة المائدة / الآيات : 27-30.

في هذا النموذج شكّل لنا رمز المقتول من دون الحق والقاتل المجرمَ ؛ وفيه صَوَّر رمزية القتل المادي الجسدي الحقيقي من دون إثم مُرتَكَب ، وإنما هو تحيّزٌ وإنحراف لهوى النفس وطغيان الذات وتعاليها على القيم الإنسانية المنحازة دوماً إلى حفظ الدماء ، إلاّ بالحق،فهذا قتل للجسد،وليس قتلاً للقيم والمبادئ الحقّة التي تحافظ على الجنس البشري .

إذن صَوَّر لنا هذان النموذجان حالين؛تمثَّل الأول بالقتل المعنوي و القيمي لدى الإنسان،مقابل الحفاظ على الجسد حيّاً وعدم التضحية به؛ والآخر تمثّل في القتل الجسدي المحافظ على القيم ،لأن المقتول ضحّى بنفسه كي لا يرتكب جريمة القتل .

لقد وضَعَنا القرآن الكريم في هذين النموذجين أمام حقيقتين ،كلاهما مُرٌّ من خلال مخاطبة الرسول محمد(صلى الله عليه وآله) مرة عندما أمره تعالى أن يذكّرهم بقول موسى(عليه السلام)﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ والأخرى أن يتلو عليهم ما وقع لأبني آدم(عليه السلام)فقال: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ﴾ فكأنّه تعالى أراد أن يقول أنّ الرجوع إلى الطريق الحقّ مفتوح وواسع لمن أراد سلوكه والألتحاق بركب الذين يبعثون الحياة في الناس ، ومن لم يرد ذلك فأنّه سيتحّمل وزر هذه الجريمة ومَن عمل بها إلى يوم القيامة ،لأنّ في ذلك قتل الحياة .

نستنتج من ذلك أنّ الآية المباركة تحملُ أمرين مهمّين :

الأول :خاص ببني اسرائيل لأجل ردعهم عمّا هم عليه من التآمر على الإسلام والمسلمين ومحاولة قتل النبي محمد (صلى الله عليه وآله) ودعوتهم إلى أن يسلكوا

ص: 337

طريق الخير والانخراط في دين الإسلام ،لأنَّ أعمالهم باتت مكشوفة ومعلومة بعد أن اتضّح كذبهم وبانت نواياهم اتجاه الدين الجديد ،وأنهم سيتحّملون وزر كل قتيل بغير حقّ إلى يوم القيامة لشدة بغيهم وإشاعة القتل عندهم للأنبياء وغيرهم من المؤمنين .

الثاني: عام بوصفه خطاب لجميع الناس ، ودعوة من الله تعالى لهم إلى ضرورة الحفاظ على الحياة وتهويل القتل بغير اثم أو جريمة ، أو جعله وسيلة للحياة إذا أقتضى ذلك على سبيل التضحية لسلامة الدين ونشر العقيدة والألتزام بالقيم الخلقية التي تدعو إلى خير الناس .

لهذا كلّه لم يكن قوله تعالى ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ دالٌّ على السبب أو العلة،كما ذهب بعضهم إلى ذلك (1) ،وذلك لأنَّ الله تعالى لا يحتاج إلى تسويغ أحكامه وتسبيبها بل أنّه سبحانه قد أعطى فسحة للعقل البشري في أن يفكّر لإيجاد الحلول لما يعترضه من مشكلات ،ويقنّن ذلك ويقضي فيها ارادة الله سبحانه، أي أن يُدرس النص القرآني ويثوّره ليكشف مضامينه ودلالته .

بيد أنّي وجدتُ أنّ الدلالة في﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾هي إرادة منع وجود أيّ من النموذجين السابقين بدلالة﴿ذَلِكَ﴾عليهما وحبس أسبابها المؤدبة إلى وقوعها،بمعنى أنَّ هذا المنع يكون ابتداءً من تحميل بني اسرائيل وزر أيّ منهما وذلك من دلالة﴿مِنْ﴾على الإبتداء،وعود ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ على﴿كَتَبْنَا﴾ بمعنى حمّلنا وأوقعنا الوزر

ص: 338


1- ظ:أنوار التنزيل وأسرار التأويل /البيضاوي:1/264؛ كنز العرفان /السيوري :675.

عليهم ،لهذا لا يجوز أن نقول لأجل ذلك لأن اللام تفيد السبب والتعليل وهو غير صحيح ،كما أوضحنا ذلك قبل قليل.

أما قوله سبحانه ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ فيها جملتان شرطيتان،والأصل في الشرط أن يتوقّف الثاني على وقوع الأول ،من نحو :إنْ زرتني أحسنت إليك ، فالإحسان لا يُستحق إلاّ بالزيارة،غير أنّ قوله﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ ليست جواباً لفعل الشرط ، وأنّما وقعت وصفاً لهول فعل القتل في قوله سبحانه ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ﴾، وتقرير جوابه:فجزاؤه عقوبة من يقتل الناس جميعاً وذلك لتهويل الجريمة.

وكذلك قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ ليس بجواب لفعل الشرط في قوله﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ ، وأنما وقعت وصفاً لجميل فعل الإحياء وصنيعه ؛ وتقدير الجواب : فجزاؤه ثوابُ مَنْ أحيا الناس جميعاً .

ووقع فعلا الشرط ماضيين (قتَلَ،أحيا) وهما دالان على الاستقبال،وذلك لأجل إنزال الفعل غير المتيقّن من وقوعه منزلة المتيقّن من ذلك، وغير الواقع منزلة الواقع(1) ، وفي مجيئ الفعليين ماضيين دلالة على كثرة وقوع فعلي القتل الإحياء ، وقد ذهب الدكتور مصطفى جواد إلى أنَّ الفعل إذا كَثُر عُبُّرَ عنه بالمضي ، قال : (إنّ الفعل المَعَّبرَ عنه بلفظ الشرط إذا كثر حدوثه استعمل الماضي ،وإذا قلَّ حدوثه استعمل

ص: 339


1- ظ : معاني النحو/ د فاضل السامرائي : 4/47.

المضارع، فالماضي أولى بالكثير لأنّه كالحادث ،والمضارع أولى بالقليل لأنّه لم يحدث)(1) .

ولعلّ في إخفاء جواب الشرط اتساع في تقديره ،فجزاء القتل قُدِّر له عقوبة غير محدود المعالم في كثرتها وزيادتها فمن يستطيع أن يُحدِّد عقوبة قاتل الناس جميعاً من دون حق أو فساد في الأرض .

ويمكن أن تصرَّف دلالة﴿بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾أي من دون جريمة قتل؛وهذا الأمر يعود على النموذج الثاني ، وأما قوله سبحانه﴿أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ﴾ فربّما تُعَدَّ الدعوة إلى الله سبحانه والإصلاحفي نظر القائل فساداً ، وهذا متعلّق بالنموذج الأول .

أما قوله﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾،ففيه حذف أيضاً وهو نوع الإحياء وفيه أنّ الإحياء قد يكون بالشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحق، وهذا موت مادي لكن يُقابله بعث للحياة في نفوس الناس ، أو أن يكون الإحياء بأنقاذ مَنْ وقعَ في مستنقع الإنحراف والزيغ عن طريق الإيمان بالله والعمل بالفضائل ؛ أو هو حاصل من تخليص إنسان من حريق أو غرق أو نحو ذلك .

لذا فأن ثواب الإحياء وجزاءه وفق هذه الأنواع المذكورة لا يمكن أن تحدّدها حدود عينية أو مادية أو آنية للفاعل،فأطلقها الله تعالى وجعلها بعدد من أُحْيوا ؛ والإحياء هنا لا يكون للإنسان ، بل هو مجاز،لأنّ المحيي هو الله تعالى فأعار صفته لفاعل الخير إكراماً له وتعظيماً لشأن ما فعلَ في الناس من الخير.

ص: 340


1- المباحث اللغوية في العراق / د . مصطفى جواد : 48.

نستنتج مما سبق أنّ هذه الآية المباركة لم تُحدّد عقوبةً أو تشرّع حدّاً للقتل ،وإنما هوّلت الجريمة وشدّدت على فاعلها،وفي مقابل ذلك عظّمت من شأن مانع القتل بغير حقّ وأغدقت عليه من مكارم الله سبحانه ما يستحقه .

فضلاً عن ذلك كانت تمثيلاً حقيقياً لكل الدلالات التي تمخّضت من آيات النموذجين المذكورين ،ودالة على ضرورة قمع الأسباب المؤدّية لجريمة القتل ومؤسِّسةً لعزم قويِّ وإرادة شديدة في وضع الأحكام لها .

وحسناً فعل مفسرو آيات الأحكام والأصوليون أن جعلوا هذه الآية في صدر باب الجنايات لتكون مدخلاً عاماً لباقي آياته التي تشرّع عقوبة لكل جناية .

الآية الثانية

قوله تعالى: ﴿ياأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(1)

يتبادر من ظاهر اللفظ أنّ ما جاءت به الآية إلاّ لتستوفِ قضية القِصاص بسبب القتل الذي وقع من دون إثم أو جريرة وتحميل المجرم عقوبة ذلك،ولعلّ في تماسك نسيج النصّ المبارك وكثافة المعنىَ الذي يستكن في طيّاته قد أخفى كثيراً من الدلالات التي كمنت فيه،فظهرت إشارات موحية بها ومشيرة إليها.

ص: 341


1- سورة البقرة / الآية :178.

فأبتدات الآية المباركة بخطاب عام للمؤمنين بقوله تعالى :﴿ياأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ في سياق تشريع حكم القِصاص بمن قام بجريمة القتل من دون ذنب يقترفه القتيل أو جريرة ؛ بما أنّ الجاني لا يقتصَّ من نفسه بل هناك مَنْ يُقيم الحدّ عليه،وهم المؤمنون ؛ وعليه فأن عموم الخطاب سيكون موجَّهاً لجميع المؤمنين الذين يقومون بالقصاص على عمومه أيضاً . ويمثلهم الحاكم أو مَنْ ينوب عنه في ذلك؛ ومنهم من ذهب إلى أنَّ الجاني منهم(1)،وفي هذا نظر(2).

ثم قال سبحانه :﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾

الظاهر من هذا القول فَرْضُ القِصاص بسبب من قتل القتلى،وهو قول الفخر الرازي (ت 606 ه-) على تقدير: يا أيها الذين آمنوا وجَبَ القِصاص بسبب قتل :القتلى(3)؛ وإلى هذا ذهب أبو حيان الأندلسي (ت 745ه-) حين قال :( أي بسبب القتلى مثل" دخلت امرأةٌ النار في هرة"(4)،والمعنى: إنّكم أيّها المؤمنون وجب عليكم أستيفاء القِصاص من القاتل بسبب قتل القتلى بغير مُوْحِب)(5)،وذلك أنهم جعلوا من الحرف(في) مفيد للسبب والعلة هنا ؛وفي هذا قصور فهم دلالة للتشريع الآية لأنها حُصِرَت في القتل وجَعْله سبباً للتشريع،ولعلّ ما قدّمناه في الآية السابقة (6) يكفي للتدليل على القصد .

ص: 342


1- ظ : البحر المحيط / أبو حيان :2/18.
2- سنوضح ذلك في موضعه أنشاء الله تعالى .
3- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي :م2/222
4- صحيح مسلم :4/2110.
5- البحر المحيط / أبو حيان :
6- سورة المائدة /الآية :32.

غير أنّ هذا قد يكون سبباً من الأسباب أو متضمناً فيه ، إلاّ أنَهُ لم يَعُدّ السبب الرئيس لهذا التشريع ، وذلك أن القِصاصَ كحدٍّ موجود في الديانات السابقة كاليهود ،وفي أعراف الجاهلية وفقهها في هذه المسألة (1) ؛لذا فلا مُسَوِّغ لأن ننسب هذا التشريع إلى سبب القتل لأنّه معلوم ،وقد ينسب بسبب ذلك الفضول إلى كلام الله تعالى – وحاشا لكلام الله منه -

فضلاً عن ذلك ،أنّ ما تمثّل به أبو حيان الأندلسي من قصة المرأة التي دخلت النار في هرّة كان تضحيةً لدلالة أعمق من ذلك، حين جعل حبسها سبباً لدخول المرأة النار بأستعمال "في" الدلالة على السبب والعلّة، دون النظر إلى العوامل النفسية والإنفعالية التي صُوَّرت في هذا الحديث الدلالة على السلوك العدواني لدى المرأة،وذلك لأن التعبير ب-- "في" قد صَوَّر لنا الكيفية الأسلوبية لحشر إرادة المرأة كلها :العقلية والإنفعالية في حيز ضيق هو (الهرة)، فالهرة إذن ظرف لنفس شريرة حقيرة ، فصار حبس الهرة حتى الموت – ظاهراً- هو سبب دخول المرأةِ النارَ ، وذلك فالسبب من المعنى العميق،وهو ظاهر يمكن رصده بسهولة ،لذا قيل"في" سببية،وبهذا المعنى نكون قد ضحّينا بالدلالة الأشارية العميقة لصالح أحد لوازمها الظاهرة ،ونكون قد وضعنا السياق الذهني المستمد من ترابط أحداث الواقع بدلاً من السياق النصّي الذي هو المرجح الأول للبحث ،وأن لم يكن الوحيد)(2) .

ص: 343


1- ظ : الجامع الاحكام القرآن /القرطبي:1/634؛ البحر المحيط / أبوحيان :2/16؛المفصّل في تأريخ العرب قبل الإسلام / د . جواد علي :5/585-586.
2- مجلة اللغة العربية وآدابها – كلية الأداب-جامعة الكوفة – العدد 9 – ربيع الأول 1431ه- ،2010م موضوع ("في" في القرأن الكريم ) – تومان غازي – 258.

فضلاً عن ذلك أنَّ القِصاص في الأصل من الفعل (قصّ) كما يذهب إليه ابن فارس (ت 395ه-) الذي (يدلّ على تتبّع الشيء , من ذلك قولهم : اقتصصتُ الأثرَ إذا تتبَّعتُهُ ، ومن ذلك اشتقاق القصِاص في الجراح، وذلك أنه يُفعل به مثل فعل الأول ، فكأنَّه اقتصَّ أثره)(1) ؛ أي أنّ دلالة القِصاص في الجراحات جاءت متأخرة عن الأصل (تتبّع الأثر)،لعلّ هذا المعنى(تتبّع الأثر) في هذه الآية هو الأوْلىَ من القِصاص في الجراحات وإنْ كان متضمِّناً فيها ،أي أنَّ على قاضي الحكم أن يتقصّى ويتحقّق ما في المقتول من تفاصيل الجريمة،من نحو:مكان الضربة بالسيف وعمقها وطولها ونتائجها(2) وغيرها ممّا يتعلق بجريمة القتل، أهو قتل عمدٌ أو خطأ أو شبه عمد ، ويكون محل البحث - في كل ما تقدم – في المقتول ، فيكون هو الحيز الذي يتقصّى فيه أثر الجريمة،وعليه فأنَّ "في"تكون قد استُعملت في وظيفتها الظرفية المكانية ، لا بمعنى السبب أو العلّة .

كذلك أن الكتابة في قوله سبحانه﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ هي فرضٌ وواجبٌ في التقصّي عن ظروف الجريمة،وقد جاء ﴿كُتِبَ﴾ بهذا المعنى أيضاً في قوله سبحانه﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾(3) أي فرضٌ وغيرها .

هذا التقصي يكون مقدمةً لأصدار الحكم على مرتكب الجريمة،لأن تفاصيل الجريمة تدلُّ قاضي الحكم على كل تفاصيلها وظروفها وتبعاتها , وعليه فأن

ص: 344


1- مقاييس اللغة /ابن فارس : 826- قصّ .
2- مجلة اللغة العربية وآدابها /موضوع ("في" في القرأن الكريم ) – تومان غازي – 259
3- سورة البقرة / الآية :183

(القصِاص) بهذا المعنى لا يعني قتل المجرم لسبب من جريمته التي ارتكبها بحق المقتول ظُلماً .

على ضوء ما تقدّم يسقط قول من قال:أنّ الآية منسوخة(1)بقوله تعالى ﴿النفس بالنفس﴾(2) أو بقوله تعالى ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾(3)فضلاً عن ذلك أن ما تضمنتْهُ الآية معمول فيه ، ولا ينافي تلك الآيات،ولا تناقض بينها،إذ إنَّ حكمها وجوب التقصّي عن ظروف الجريمة في حين ما جاء في الآيتين الكريمتين،هو مكافأة الدماء ومساواتها وضرورة عدم الإسراف في إقامة الحكم على الجاني من قبل ولي المجني عليه .

ولعلّ في قوله سبحانه﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ ما يسند دلالة التقصّي هذه،وهو توجيه من الله تعالى أن لا يُساوى الحرُّ بالعبد،أو بالأنثى،أو العكس؛ فأنْ قَتَلَ حرُّ امرأة وأراد أولياؤها قتل القاتل الحر، فعليه أن يُؤَدّوا نصف ديته إلى أهل الرجل استناداً على قوله تعالى:﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾(4)، وهكذا للحالات الأخرى التي لم يكن فيها تكافؤ وتساوِ في الدماء وفق أحكام الشريعة هذا الأمر متوافق تماماً مع ما جاء من سبب نزول الآية الكريمة، مِنْ أنَّ حيَّيْن من أحياء العرب كان بينهما دم،وكان لأحدهما على الآخر طَوْلٌ ،فأقسموا ليقتلَنَّ الحرَّ بالعبدِ،والذكرَ بالأنثى ،

ص: 345


1- ظ : الناسخ والمنسوخ / الهمداني : 40- 42؛ الناسخ والمنسوخ / هبة الله بن سلامة:50 -53.
2- سورة المائدة /الآية 48.
3- سورة الاسراء /الآية : 33.
4- سورة النساء /الآية : 11

والرجلين بالرجل، وكان ذلك قُبيل الإسلام ، ولما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية،وأمرهم أن يتساوَوْا أي يتكافؤا بالدماء(1) .

نخلص من هذا أنه لا يعني إذا قتل حرٌّ عبداً أو أنثى، لأ يؤاخذ الحرُّ على جريمته أو لا يُقام عليه القِصاص لأنَّ القاتل حرُّ والمقتول عبدُ أو أنثى؛ لا بل لا يُقام عليه القِصاصُ لكن وفق أحكام الشريعة الضامنة للحقوق والواجبات،فيقع على كلِّ واحدٍ منهم ما يستحقهُ وفق الأحكام ،فالعبد إذا زنى أو سرق فعليه نصف حدّ الحر ، وكذلك الأنثى إذا كانت حرّةً فلها أحكامها الخاصة بها ،وأن كانت أَمَةً فلها أيضاً أحكامها التي تختلف فيها عن الحرة ، فيكون على الحاكم أن يُلاحظ هذا الأختلاف في الحقوق والواجبات والأصول الشرعية لأنَّ لها أثراً في تشريع حدّ القِصاص لذا كان على الحاكم أن يتقصّى الحقيقة في وقوع مثل هذا الأختلاف وأنْيُ راعي فيه هذا الأمر من عدم تكافؤ الدماء عند الحكم .

هنا نلمس وجود فسحة للمشرِّع في إِعمال الفعل في القضايا التي لم يُفصّل فيها القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة ليضَعَ الحلول المناسبة بما يتّفقَ والشريعة الإسلامية،وقد نصَّ على ذلك(قول النبي لمعاذ حين قلّدة قضاء اليمن: بِمَ تحكم ؟ قال : بكتاب الله ،قال :فأن لم تجد ؟ قال بسنة رسول الله،فأن لم تجد ؟ قال:أجتهد رأيي.قال :الحمدُ لله الذي وفّق رسول الله)(2) .

ص: 346


1- ظ : أسباب النزول /الواحدي : 33، لباب النقول في أسباب النزول /السيوطي :22 ؛ التبيان / الطوسي : 2/ 102؛ الجامع لأحكام القرأن / القرطبي: 1/ 634 ؛ كنز العرفان / السيوري :674.
2- الحاوي الكبير / علي محمد الماوردي :16/ 138.

إذن دلالة (القِصاص)على تتبّع الأثر هي الأقوى في هذا الموضع من دلالتها على القتل كأجراء مثلي لما أرتكبه القاتل بحق المقتول ظلماً وعدواناً .

قوله تعالى ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾

بعد أنْ شرّع الله تعالى الأحكام وفق التقصّي والبحث عن تفصيلات جريمة القتل وما يتبعها، وجّه سبحانه المؤمنين إلى أمرٍ فيه صلاح المجتمع من خلال التسامح فيما بين أولياء المقتول والقاتل في التجاوز عما ارتكبه القاتل ،وذلك فضلٌ منه خَصَّ به المؤمنين دون سائر أهل الأديان الأخرى ، إذْ كان قتلُ القاتل سنةً في اليهودية،والعفو عند النصارى،فيما كان عند قبائل العرب الجاهلية القِصاص(1)والديّة،فسهّل تعالى على المؤمنين أما بالإفتداء بالمال أو العفو عما ارتكبه الجاني،أو القِصاص فأبتدأ قوله سبحانه﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيه﴾،فالعفو أصله المحو والطمس في اللغة،وهو ترك العقاب والتجاوز عنه(2).واختلف العلماء في﴿مَنْ﴾،فقال أبوجعفر النحاس (ت 338ه-)أنّها شرطية(3)،وجوابها ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾، في حين ذهب العكبري (ت616ه-) إلى أنّها مبتدأ بمعنى (الذي) وخبرها تقديره : عليه اتباع

ص: 347


1- ظ : ظ : الكشاف /الزمخشري :1/248.
2- ظ :.النهاية / ابن الأثير : 3/265- عفا.
3- ظ إعراب القرآن /النحاس:77 .

بالمعروف ، وأجاز كونها شرطية(1) ويترتب على كلِّ رأي منها دلالة تختلف عن الأخرى .

أجدُ في هذا التعدّد في المعنى توسّعاً في الدلالة يقتضيها الحال لوضع حلول لجريمة القتل لأجل إشاعة التسامح بين الناس ولغرض المحافظة على نسيج المجتمع متماسكاً.

فالقول بكون﴿مَنْ﴾ ابتدائية لا يترتّب عليها أمر من دية أو غير ذلك ،بل يكون العفو تاماً من قبل أولياء المقتول إتجاه القاتل، والسبب في ذلك أنه لا يتبع المبتدأ إلا إخبارٌ عنه ،والإخبار لا يترتب عليه حكم أو إلزام ، بل هو عفو لا غير، بمعنى أنَّ موافقة أولياء القتيل على العفو وأنْ يتبعه معروفٌ من قبل القاتل في حُسن السلوك والسيرة الحسنة،لأنَّ العفوَ يُعَدَّ منحاً للقاتل حياةً أخرى.

أما القول أنّ (مَنْ) شرطية يترتّب عليها أمرمن دية إلى وليّ دم المقتول،وذلك لأنَّ معنى الشرط أن يقع الشئ لوقوع غيره،أي يتوقّف حصول الثاني على وقوع الأول، فأذا وقع الأول وقع الثاني(2)،بمعنى أنَّ دلالة ﴿مَنْ﴾ على الشرط تُوجب وجود فعل الشرط وهو﴿عُفِيَ﴾،وجوابها ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي عليه اتباع بالمعروف،وأ نّ حصول الإتباع بالمعروف والأداء بالإحسان متوقّفٌ على العفو، فأذا حصل العفو من أولياء القتيل يجب أن يُتبع ذلك ما يرضيهم من الدية،فيكون أداؤها واجباً على القاتل مقابل حياته أو حريته؛ وتجد تفاصيل ذلك في مضانها في كتب الأصول ؛ ولعلَّ في

ص: 348


1- ظ : إملاء ما مَنَّ به الرحمن /العكبري :1/78.
2- ظ : معاني النحو / د .فاضل السامرائي :4/45.

قوله سبحانه ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ توسيعاً لمسالك الحلول وتعدّداً لسُبل فضَّ النزاعات وتقويضاً لأحداث القتل بين أبناء المجتمع الواحد لما لهُ من آثار سلبية آنية ومستقبلية فضلاً عن ذلك إعطاء حرية لذي الفكر والعقل والفضيلة في المساهمة لإشاعة روح التسامح والعفو، والابتعاد عما لا يصلحه ، فمن ذلك (ما يُروى أنَّ واحداً قتل رجلاً من الأشراف،فأجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول،وقالوا: ماذا تريد؟ فقال:إحدى ثلاث،قالوا: وماهي: قال :إمّا تحيونَ ولدي أو تملئون داري من نجوم السماء، أو تدفعوا إليَّ جملةً من قومكم حتى أقتلهم،ثم لا أرى أنّي أخذتُ عوضاً)(1)،هذا الطلب لا يمكن أن يؤدي إلى حلِّ القضايا بين الناس ويبقى المجتمع بسبب من ذلك في حالة من توتر وغليان،فلا يقرّ له قرار،في حين نجد في التسامح طريقاً سليماً لصلاح المجتمع ووسيلة لحفظ الدماء.

إذن التخفيف الذي وجَّه إلَيه الله تعالى هو فضل منه أسبغه على عباده المؤمنين سواءً من أولياء القتيل حين يعفون عما أرتكب بحقهم القتل أم الجاني بمحنه الحياة مرة أخرى بالعفو عنه والتجاوز عن الخطيئة بشرط أن يكون شخصاً صالحاً في المجتمع .

أما قوله سبحانه﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾،جملة شرطية فيها﴿مَنِ اعْتَدَى﴾شرط،وجوابه﴿فَلَهُ﴾(2)،أي :له عذاب أليم من أعتدى بعد الصلح والتراضي ودفع الدية،ولم يخصص المعتدي، بل جعله مجهولاً ، فيكون شاملاً للقاتل ولولي المقتول إذا اعتدى ، ويكون الأعتداء بأنْ يُقتل بعد العفو عنه أو دفعه للدية ، أو أن

ص: 349


1- التفسير الكبير/ الفخر الرازي :م2/ 221.
2- ظ : إملاء ما مَنَّ به الرحمن /العكبري :1/78.

يُقتل غير القاتل، أو طلب ولي القتيل أكثر ممّا وجَبَ له من الديّة أو جاوز الحد بعدما تبيّن له كيفية القِصاص؛ويمكن الحمل على كلِّ الأوجه لعموم اللفظ، وروي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)أنّ الأعتداء هو القتل بعد قبول الديّة أو العفو(1).

وجوّز العكبري أنّ ﴿مَنِ اعْتَدَى﴾بمعنى الذي أعتدى(2)،فتكون ﴿مَنِ﴾ مبتدأ، خبرُها﴿فَلَهُ﴾وهذا ضعيف لعدم ترتّب أثر من حكم في ذلك لأنَّ وظيفة الجملة ستكون مجرد إخبار عن مسألة معينّة لا غير؛ في حين كونها جملة شرطية تأخذ بنا الى تلمّس حكم , وهذا الأمر يدعمه السياق العام المنشغل بمعالجة مشكلة إجتماعية لا بُدَّ أن يكون لها حلولٌ رادعة لممارسة القتل،فضلاً عن ذلك مجئ فعل الشرط ﴿اعْتَدَى﴾ ماضياً ، الدال على الاستقبال والموُحي بوقوع مثل هذا الاعتداء مستقبلاً ؛ إذ إنّ مجئ هذه الأفعال على صيغة الماضي وإنْ كانت مستقبلة للدلالة على أنّها متيقنّة الحصول وأنّها بمنزلة الفعل الماضي في التحقيق(3)،وفي هذا الأمر مزيدٌ من التحرّز لمواجهة جريمة القتل،وما سوف يقع بسببها في المستقبل من قتل آخر أو أي أعتداء يُمارس من أيِّ من الطرفين إتجاه الآخر بعد الصلح والتراضي .

ص: 350


1- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م1/ 266.
2- ظ : إملاء ما مَنَّ به الرحمن /العكبري :1/78.
3- ظ : معاني النحو / د .فاضل السامرائي :4/ 47- 48 .

الآية الثالثة

قوله تعالى :﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(1)

قٌدِّم في هذه الآية ما حقّهُ التأخير لأسباب دلالية ،إذ إنَّ الصيغة الإبتدائية لهذه الجملة القرآنية (حياةٌ في القِصاص لكم )، لكن هذه البنية لا تستطيع أن تؤدي الدلالة المطلوبة ،لذا عُدِلَ إلى هذا الشكل.

ولمّا كان الخطابُ في الأصل موجّهاً للمؤمنين في الآية السابقة ،استأنف الخطابَ ذاته لهم بقوله:﴿وَلَكُمْ ﴾؛ فهم المقصودون من هذا التشريع من حيث إقامته والألتزام به حقناً لدمائهم وحفظاً لحياتهم،غير أنَّه قال ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾؛فهنا نلمس تخصيصاً لهذا العموم وحصراً بأولي العقول ؛ أي ليس كلُّ المؤمنين مخاطبين به،فربّما كان المقصود بهم أولي العقول وهو الحكام أو القضاة ممّن يعملون في التشريع وضعاً وإقامةً له؛ أو عقلاء القوم ممّن يقدّرون عواقب الأمور فيُعلمون أصحاب الشأن بذلك كي يتجنبوا إراقة الدماء .

ثم قال تعالى :﴿ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ إذ جُعل القصِاص ظرفاً للحياة ،بعد أن كان في قوله سبحانه ﴿كُتب عليْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾(2) مظروفاً،فوظيفة القصِاص بوِصفِهِ ظرفاً تختلف عن كونه مظروفاً،فعندما كان مظروفاً دلَّ على تتبّع آثار جريمة القتل ونوعها وأسبابها ومعرفة تفاصيلها من خلال تتبّعها في مجموع القتلى لا على الإفراد فلم

ص: 351


1- سورة البقرة / الآية : 179.
2- سورة البقرة / الآية :179.

يقل:كُتِبَ عليكم القصِاص في القتيل؛ لأنّ في القتيل الواحد يمكن رصد حالة واحدة، وهذه لا تكون مستوفية لكل حالات القتل وتفاصيله، فعَدَّدَ الظرف﴿الْقَتْلَى﴾ كي يتّضح من كل واحد منهم حالة أو قضية،ومن مجموع هذه التفاصيل يمكن تشريع قانون يحكم كل هذه الحالات .

إذن لما كا ن القصِاص مظروفاً تحرك في رحم القتلى فأتضحت معالمه فوُلِدَ قانون يُشرّع لكل حالات القتل وتفاصيله ، لأنه عاش في أحضان القضية ، فاكتسبَ كلَّ معارفها وأحداثها فصوّرها حُكماً وتشريعاً وقضاءً .

إمّا في حال كون القِصاصُ ظرفاً فأنّ وظيفته تختلف ، لأنّه سيكون حاضناً لشئ ومحصِّناً له بالتشريع الذي وُضِعَ له من قبل،ومحافظاً عليه، فيشكّله وفق رؤاه وأفكاره ،فالحياة هي التي تستقرّ في رحم القصاص،فترضع منه كلّ أحكامه وتشريعاته، فتكون العلاقة حينئذ بين الحياة والقصاص علاقة الجنين بأمه مادام في رحمها روحاً وجسداً يرضع ما أرضعته من خلاصة ما احتوته وعصارة ما اكتنزته .

إذن الإرتباط بين القصاص والحياة لا يمكن أن تنفصم عراه أو تنحلَّ روابطه، وأنّ أي خللٍ في ذلك سيؤدي إلى قتل الحياة وإشاعة الفوضى وسفك الدماء لذا فأنّ مجيئ ﴿الْقِصَاصِ﴾مسبوقاً ب-- ﴿في﴾ الظرفية قد أعطاه بُعْداً دلالياً واسعاً في أنّه يُغذّي بنسغ الوجود، أو أنّه مَثَلَّ الحياة بالتشريع المنضبط والمتضمّن لكلّ قيمتها التي تُشكّل الإنسان الحضاري الذي يدعو لحياة أفضل في ظل هذا التشريع الألهي .

ولعلّ في مجيئ ﴿حَيَاةٌ﴾ نكرة دلالة أوسع من كونها حياة مادية أي الحياة التي هي عكس الموت المادي ؛أو أنها تعني الحياة الأخروية،فهذه بعيدة ، لأنَّ الآية

ص: 352

جاءت في مضمار وضع حكم شرعي دنيوي وليس أخرويا، فدلالة ﴿حَيَاةٌ﴾على الآخرة بعيدة .

ثم أنَّ الإنسان المتحضّر لا يمكن أن نسميه إنساناً حيّاً ، لا بمعني الحياة المادية – من دون آمن ؛أي أمنٌ اجتماعي أو اقتصادي أو غذائي،أو أمن ثقافي يستدل به على هويته الثقافية وبنيته العقلية،أو آمن لغوي يحافظ فيه على شخصيته القومية وغيرها من أنواع الأمن الأخرى؛ وأنَّ حياة الإنسان تتمثّل في كل هذه القيم ؛ففقدان أيّ منها بأي طريقّة يمثُّل تحدياً لقيمهِ كإنسان متحضر ، وخرقاً للمُثل التي خلِق من أجل تحقيقها على الأرض .

من مجمل هذه الأفكار نستدل على أنَّ القِصاص في هذه الآية لا يدلَّ على القتل في المجرم القاتل فقط بل قد يكون ذلك دلالة واحدة من مجموع الدلالات التي تكتنفها لفظة ﴿الْقِصَاصِ﴾المتمثّلة بتتبع الأثر ،وملاحظة أي خرقٍ أو إنحراف يعمل على إنهيار أي صنف من صنوف الأمن المذكورة ، ومعرفة تفاصيلها ووضع الحلول الناجعة لها من خلال تشريع القوانين والأحكام التي تحدّد المسار العام لسلوك الناس وتصّرفهم،التي تضمن حياة كل أفراد المجتمع.

لهذا السبب نجد أنَّ الله تعالى خاطب فصيله من المؤمنين بقوله ﴿يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ أي عقلاء القوم على عمومهم،لأنهم القادرون على تولّي أمر الفحص والتقصّي ومعرفة تفاصيل الخروق والتنظير لها من خلال التشريعات والقوانين التي تحكم كل ذلك بالعدل .

ص: 353

ثم قال سبحانه ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؛و(لعل) في كلام العرب تفيد التمنّي ،لكن الاستعمال القرآني لهذه اللفظة لم يكن على سيرة العرب في كلامها،ففي قوله سبحانه ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾(1) وقوله ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾(2) لاتدلُّ (لعلّ) فيهما على التمنّي أبداً،وهي كذلك في قوله سبحانه﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.

غير أنّها تقصد معنىً آخر،يمكن أن نستدل عليه ممّا سبق من هذا النصّ المبارك بمعنى : كي تحذروا من الوقوع فيما يسيء إليكم ويفقدكم حياتكم المادية والمعنوية،وهذه الدلالة ترتبط مع ما شُرِّع من القوانين والأحكام التي تنظم حياة الإنسان وتحفظه من الوقوع فيما يحذر ويخاف منه .

إذن لا تدلّ لفظة ( القِصاص ) في كلا الآيتين المباركتين على قتل الجاني مطلقا بل يكون ذلك متضمّنا فيهما مع عدّة دلالات أخرى غايتها التشريع ووضع الأحكام لغرض توفير مستلزمات الحياة السعيدة للأنسان ؛ كما أنّ الخطاب القرآني في هاتين الآيتين للمؤمنين عامة ؛ ولا يحتمل فيه خطاباً للجاني بشيئ .

ص: 354


1- سورة الأحزاب / الآية : 63.
2- سورة الطلاق / الاية : 1

الآية الرابعة

قال تعالى : ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾(1)

وردت هذه الآية في سياق النهي ، إذ جاء قبلها نَهْيٌ عن قتل الأولاد خشية الإملاق في قوله سبحانه : ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾(2) ، ثم أردفها تعالى بنهي عن الاقتراب من الزنا بقوله : ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾(3) ثم أُلحِقَت بالنهي عن قتل النفس المحرّمة لقوله سبحانه :﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾(4).

وهذا السياق يأخذ بنا إلى أنَّ الأصل الحرمة لهذه الأمور ، ومنها القتل عموماً في الآية المباركة لقوله سبحانه : ﴿ ولا تقتلوا ﴾ مخاطباً عموم المؤمنين بالنهي عن القتل .

وعرَّف (النفس) ، لاستغراق جميع النفوس ، شاملاً بذلك النفس الإنسانية والنفس الحيوانية ،أي أنّ حرمة القتل في الأصل شاملة لكلا النفسين ،ولو أراد النفس الإنسانية لوحدها لما استغرق عموم جنس النفس ، ولقال: ولا تقتلوا أنفسكم .

ص: 355


1- سورة الاسراء / الآية : 33.
2- سورة الاسراء / الآية : 31.
3- سورة الاسراء / الآية :32.
4- سورة الاسراء / الآية : 33.

ثم وصف الله سبحانه هذه النفس بأنها محرّمة لقوله : ﴿الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ﴾ولم يذكر المفعول به ، لدلالة ما تقدّم عليه ؛ وهو يحتمل أن يعود على النفس بتقدير: التي حرّمها الله ؛أو أنه يعود على القتل ، بتقدير : التي حرَّمَ الله قتلها ،وكلا الاحتمالين وارد ،إلاّ أنّ الاحتمال الثاني أقرب لمراد الآية لدلالة عموم السياق عليه ، لأنّ أصل توجيه الآيات التي سبقتها تنهي عن أحداث سيئة ،لأنَّ محور السياق فيه توجيه لنبذ قتل الأبناء بسبب الإملاق ، وعدم الاقتراب من الزنا ،ونبذ قتل النفس المحرّمة .

ولعل ما يدعم الدلالة التي ذهبتُ إليها من خلال ما دلَّ عليه السياق العام أنَّ هذه الآية المباركة أوّل ما نزل من القرآن الكريم على النبي محمد (صلى الله عليه وآله ) في النهي عن القتل ؛فقد نقل أبو حيان الأندلسي عن الضحاك قوله : (هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل)(1) .

ثم قال تعالى : ﴿إلاّ بالحقِّ﴾ وحذف المستثنىَ ، وهذا فيه احتمالان :

الأول : يعود على النفس(2) ، وهو يعود بعيد لأنَّ في مقابل دلالة قوله تعالى ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرَّمَ الله﴾ يوجد ما يدلُّ على حليّة قتل النفس غير المحرّمة ، فلا موجب لأن تُذكَرَ مستثناه من عموم النفس المحرّمة مع وجود ما يدلَّ عليها .

والاحتمال الثاني يعود على القتل؛ بتقدير: ﴿إلاّ بالحقِّ﴾؛وذلك أنَّ القتل محرَّم ، فالمستثنى منه القتل بالحقِّ .

ص: 356


1- البحر المحيط / أبو حيان :6/40.
2- ظ التبيان / الطوسي :6/40.

وقد يقول قائل بالإحتمال الأول دون الثاني ، فأقول : في قولنا : لا تضرب الطلابَ إلا المقصَّرَ ؛ يختلف عن قولنا : لا تضربَ الطلاب إلاّ بالحقِّ ؛ففي الأول المستثنى منه عموم الطلاب ، وهو الذي يقع عليه الضرب ؛ أما الثاني فأن المستثنى نوعٌ من الضرب ، وهو المتَّصف بالحق من عموم الضرب ؛فالأول فيه المستثنى المقصر من الطلاب وأما في الثاني ، فالمستثنى الضرب المتَّصف بالحق ،والمستثنى منه عموم الضرب وفي هاتين الدلالتين اختلاف واضح .

وكذلك قوله تعالى : ﴿إلاّ بالحقِّ﴾ فأنّ المستثنى حدثُ متَّصفُ بصفة معينة من عموم حدث عام غير متّصف بصيغة أصلاً ،غير أنَّ الصفة هي التي أوضحت الإبهام وخصَّصت المقصود ودلّت على المستثنى والمستثنى منه .

وقد ذهب أغلب المفسرين أنَّ المستثنى من القتل هو ما تعلّق به سبب فأوجبه، من النحو : الكفر بعد الإيمان، والزنا بعد إحصان ، وقتل المؤمن عمداً(1) ؛ وتكلم الفقهاء أيضاً عن ترك الصلاة ، وفعل اللواط ، والإمتناع عن أداء الزكاة وإتيان البهيمة وغيرها ؛ وأختلفوا في حكم مرتكب هذه الأعمال والفواحش بين وجوب القتل وعدمه(2) ، وتجد تفاصيل ذلك في مضانه من كتب الفقه .

ثم قال الله سبحانه : ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا َقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ﴾أي قُتِلَ بغير حقٍّ والضمير في﴿لِوَلِيِّهِ﴾ يعود على القتيل المظلوم .

ص: 357


1- ظ : الكشاف / الزمخشري : 2/622؛ التبيان / الطوسي : 6/475؛ التفسير الكبير / الفخر الرازي :7/337.
2- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي:6/334.

والوليُّ هو الوريث الشرعي له ،وهو مَن يتولّى تبعاته بعد قتله ، وأمّا في سياق هذه الآية فأنّهُ يتولّى أمر متابعة القاتل لأجل إقامة القصِاص في قتله أو أخذ الدية منه ،أو العفو عنه ،كما هو مقرّر في قوله سبحانه :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(1) .

والسُلْطانُ من الفعل " سَلَّطَ فتسَلَّط، وهو دالُّ على القوة والتمكّن والقهر؛ أوهو الحجة(2) ؛وقد نقل القرطبي أنّ السلطان هو تسليط الوليّ على الجاني أو العاقلة ؛إن شاء قتل أو عفا وإن شاء أخذ الدية ؛ راوياً ذلك عن ابن عباس وغيره ، والسلطان كذلك أمر الله ، أو هو الحجة(3) .

لقد اجتمع في دلالة السلطان التمكّن والحجة ،أي هو الحجة والدليل الذي يمكّن صاحبه من إقامة العدل و أرجاع الحقّ إلى أهله لأجل ردع من تسوّل له نفسه وقوع الجريمة .

ولمّا كانت هذه دلالة السلطان ، فأنها تعني أنّ الله سبحانه قد امكن وليَّ الدم من الجاني بما وضع له من أحكام تقيّد الجاني بعد إلزامه الحجة وإقامة الدليل عليه لأجل أستيفاء دم القتيل ؛لا أن يكون التمكّن مبنياً على القوة والقهر غير المقترن

ص: 358


1- سورة البقرة /الآية : 178.
2- ظ : مقايس اللغة / ابن فارس :467- سلط ؛ مفردات الفاظ القرآن / الراغب الأصفهاني : 42- سلط .
3- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 5/590 ؛ الكشاف / الزمخشري :2/662 ؛ كنز العرفان / السيوري :677.

بالحجة والدليل لأنه قد يوقع وليّ الدم في الإسراف وهذا إنما يحصل من خلال القصِاص الذي أوضحنا دلالته من قبل (1) .

ثم قال تعالى: ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾؛والإسراف تجاوز الحد في كل شيء ، قال بن فارس : (يدلُّ على تعدّي الحد والإغفال أيضاً للشيء ، تقول : في الأمر سَرَف أي مجاوزة القدر)(2) وعبَّر الراغب الأصفهاني (ت 425ه-) عن السرف في القصِاص بأن يُقتل غير القاتل ، إما بالعدول إلى من هو أشرف منه ، أو يتجاوز قتل القاتل إلى غيره حسبما كانت الجاهلية تفعله(3) .

وهذا هو الراجح ، وذلك أن الله تعالى جعل القتل ظرفاً للإسراف في قوله ﴿فِي الْقَتْلِ﴾؛ أي أنَّ الإسراف يتحرك في فضاء القتل ويدور في ساحته ، فالعربُ في الجاهلية كانت لا تعدل في إقامة الحدود ، فربما قتلت بالمرأة الرجلَ ، وبالرجل الرجلين ، أو أن يُقتل غير الجاني أو يُمثّل بالقاتل ؛وفي هذا كله تجاوز عن الحد والقدر في فضاءات القتل وحدوده ؛ومن ذلك ما روي أن مهلهلاً حين قَتَلَ بُجيرَ بن الحارث بن عبّار قال(4):

بُؤ بشسع نَعْلِ كُلَيْب

أي أنَّ بُجيراً لا يعدل إلاّ شسع نَعْلِ كُلَيْب؛ وفي هذا تجاوز عن الحدود المعقولة ولم يقرّها الإسلام ، بل نهى عنها وعدّها اسرافاً .

ص: 359


1- أنظر تحليلنا لمعنى القصاص في سورة البقرة / الآيتان 178-179.
2- ظ : مقاييس اللغة / ابن فارس :491- سرق .
3- ؛ مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الأصفهاني : 408- 409- سرق .
4- ظ : الكشاف / للزمخشري : 2/622.

وربما يُشعرنا النهي عن الإسراف في القتل أنّ هناك تحرّزاً من الشارع المقدس من أن يقوم وليُّ الدم نفسه إقامة الحدِّ على الجاني ، ذلك لأنَّ الوليّ قد تأخذه العاطفة أو الطغيان في القتل فيتجاوز ما وُضِع من أحكام الشريعة على الجاني فيلحقه من العقاب أكثر مما يستحقه .

وفي هذا إيماءةُ بضرورة إقامة الحدّ من قِبل الحاكم الشرعي أو القاضي لأنّها أبعد من وليّ الدم في تجاوز القدر المحدّد في القصِاص لالتزامه ما بقيود الشريعة وإقامة حدود الله في الأرض .

وفي قراءة ابن عامر و الكساني (لا تُسرف) بالتاء (1)،والضمير فيها يعود على القاتل ، بمعنى : فلا تُسرف أيّها القاتل (2) ، ونقل القرطبي أنّ الطبري ذهب أنَّ ذلك على معنى الخطاب للنبي (ص) والأئمة(ع) من بعده أي لا تقتلوا غير القاتل(3) ؛وهذا بعيد وذلك أن الله تعالى لم يُخاطب الجاني مباشرة لجرمه ، ولم يُشر إليه حتى بضمير الغائب غضّاً من شأنه بسبب ما أقترفه من ذنب ؛ ثم أنَّ النبي (ص) هو القيّم على تطبيق أحكام الشريعة الحقِّة ؛ فلا مسوغ لأن ينهاه الله تعالى عن الإسراف , بل أنّ نهي النبي عن الإسراف في القتل قد يعني أنّه اقترف الإسراف من قبل فنهاه ، وهذا لا يتفق مع عصمته (ص) وقوله تعالى : ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىإِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(4) .

ص: 360


1- البديع / ابن خالويه : 164؛ ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 5/590 .
2- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 5/590 .
3- ظ : م. ن .
4- سورة النجم / الآية : 3 .

ولعل الرأي الأوجه هو ما ذهب إليه ابن خالويه (ت 370ه-) أنّ (مَن قرأهُ بالياء ردّه على الوليّ لأنه غير مقصود بمواجهة الخطاب والحجة لمن قرأه بالتاء فالمعنى للوليّ والخطاب له وللحاضرين ، أي فلا تُسرف يا وليُّ ولا انتم يا مَنْ حَضَر)(1).

ثم قال الله تعالى : ﴿إنه كان منصوراً﴾ ؛ فالضمير في ﴿إنهُ﴾ يحتمل أن يعود على وليِّ الدم بأن مكّنهُ من استيفاء دم القتيل بالقصاص فيكون منصوراً ، أو يعود على القتيل ذاته ، وذلك أنّ نصرة الله له في الحكم له بذلك(2)، وقيل أنّ الضمير يعود على القاتل ذاته الذي يقتله الوليّ ويسرف في قتله(3)، لأنِّ سياق الآية يستغرق في القتيل ووليه دون سواهما .

ص: 361


1- الحجة في القراءات السبع / ابن خالويه : 126.
2- ظ: التبيان / الطوسي : 6/475 ، الكشاف / الزمخشري : 2/622 ، التفسير الكبير / الفخر الرازي : م7/336، كنز العرفان السيوري : 671 .
3- ظ : الكشاف / الزمخشري : 2/ 622، كنز العرفان / السيوري : 678.

الآية الخامسة

قوله تعالى : ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾(1)

جاءت الآية المباركة مع النسق العام لما قبلها من الآيات في موضوع القتل والقتال والحض عليه اتجاه الكافرين من أهل الحرب والعداوة للمسلمين ؛ ومعالجة قضية النفاق التي استشرت في مجتمع المدينة المنّورة ، حتى توهّم بعض المسلمين من إسلام بعضه ممّن جاء مهاجراً إليها ولم يعلم بإسلامه ، وما صاحب ذلك من أحداث القتل وغيره اشتباهاً أو سهواً ؛فجاءت هذه الآية المباركة لتحلَّ مُعْضِلاً تشريعياً صاحَبَ تلك الأحوال.

وقد نقل أصحاب الروايات أن الآية ( نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي عندما أسلم وخاف ان يُعلِنَ إسلامه ، فخرج هارباً إلى المدينة فقدمها فجزعت منه أمه ؛ وكان قد عذّبه الحرث بن يزيد بن أنيسة العامري مع أبي جهل بسبب إسلامه، واقسم إن ظَفَر به ليقتله ؛فلما ظفر بالحرث قتله وهو لا يعلم بإسلامه ، وهذا هو

ص: 362


1- سورة النساء / الآية : 92.

المروي عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وقيل غير ذلك(1) قريب في دلالته لهذا الأمر.

إذن أصل دلالة الآية يذهب إلى أن القتل غير العمد أو السهو هو واحدٌ من المعاني التي يكتنفها النص المبارك ويستثنيه من القتل العمد في بعض الأحكام الخاصة بذلك.

غير أنّ التركيب العام فيه يكشف عن دلالات أخرى ،وربما كانت دلالة ظاهر النص هي واحدة من دلالات متعدّدة ،إذ نجد فيها ما ينفي اتّصاف المؤمن أصلاً بالقتل من قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ وغيرها لكونه مؤمناً .

إنّ أصل الدلالة في هذا النص المبارك هو أنّ المؤمن لا يقتل ُ مؤمناً، وإنْ وقع منه القتل فذلك سهواً ،لكن الإكتفاء بهذا الأمر سيكون هدراً لدلالة أكبر قد وجّه إليها النص من خلال التركيب الفني العالي لمفرداته وأدواته .

فقوله تعالى﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾،الأصل في هذا التركيب ان نقول :لا يقتل المؤمنُ المؤمنَ ، وفي هذا مجرد إخبار عن نفي القتل عن المؤمن لأخيه المؤمن لا غير وهي دلالة أولية يمكن أن يُعبِّر بها أي إنسان عن هذا المضمون الإبتدائي ، لكن الله تعالى عندما أراد أن ينفي كون المؤمن قاتلاً من قبْلُ ، جاء بالفعل الناقص ﴿كَانَ﴾ الدال على الزمن الماضي ، فهو يستغرق كل ذلك الزمان تم قدّم النفي بما

ص: 363


1- ظ : أسباب النزول / الواحدي :26؛ التبيان / الطوسي :3/290؛ مجمع البيان / الطبرسي :م2/ 90؛ لباب النقول في اسباب النزول/ السيوطي :65- 66.

يُلائم ما يسبق﴿كَانَ﴾ الدالة على الزمن الماضي ، فوُضعت (ما) لنفي الماضي (1) ، في حين ان النفي ب- (لا) يكون للمستقبل البعيد المتطاول(2) .

وهناك أمرٌ آخر لوحِظَ في النص المبارك وهو أنه قد يُتوَهم أنَّ القتل من صفات المؤمن أو مختصاً به ؛فجاء بحرف الجر (اللام) الدالة على الإختصاص(3) ،نحو الجنةُ للمؤمنين ؛ أي الجنة مختصة بالمؤمنين ؛ وذهب المتأخرون إلى أنّ للّام معاني يرجع أكثرها إلى الإختصاص أو الإستحقاق (4) ،فدخول اللام المسبوقة بالنفي على المؤمن, يعني نفي اختصاص المؤمن بالقتل أو اتصافه به ، وقيل ايضاً معناها ما ينبغي ولا يصحّ ولا يليق بحاله (5) ؛ ثمّ عندما أُريد تعميم هذه الصفات على كَلِّ المؤمنين نكَّرَ لفظة ﴿مؤمن﴾ بحذف (ال) التعريف منه ،لأنَّ النكرة تفيد العموم ، والمعرفة تفيد الخصوص ؛ومن هذا نفيد أنَّ القتل لم يكُن مختصّاً بالمؤمنين عامة قبل الرسالة المحمدية وبعدها ، أي يدخل في هذا التحديد كلّ الموحّدين المؤمنين من أتباع الديانات السماوية , كلّ في وقت نبوّته وزمانه .

ونلحظ أيضاً أن هناك حذفاً ؛ عندما أطلق القتل ، فلم يُعرف أهو قتلُ عمدٍ أو قتلُ سهوٍ أو شبه عمد، أو هو قتل بدلالة المفعول المطلق ، بتقدير :ما كان للمؤمنِ أن يقتل مؤمناً عمداً أو سهواً أو شبه عمد ، أو كان يقتله قتلاً .

ص: 364


1- ظ : معاني النحو / د . فاضل السامرائي :4/ي164.
2- ظ : بدائع الفوائد / ابن قيم الجوزية :1/107؛ م .ن 3/ 312.
3- ظ : مغني اللبيب / ابن هشام : 1/410.
4- ظ : معاني النحو / د . فاضل السامرائي:3/550.
5- ظ : الكشاف للزمخشري : 1/580 ؛ م . ن :1/198 ،206.

ولعل في هذا الحذف إرادة نفي أي نوع من أنواع القتل عن المؤمن وحّرمها عليه ، ولو أراد نفي أحدهما لحدَّد ذلك النوع ، وعندما حَذَفَها أطلق كلَّ الاحتمالات في النص .

أما قول تعالى ﴿إلاّ خطأً ﴾ ؛ فقد تعدَّدت الآراء في هذا على وجوه :

1-إن الاستثناء متصلٌ(1)،والمستثنى محذوف ، وتقديره (إلاّ قتلاً خطأً) ، أو (إلاّ أن يقتلَ خطأً) ، و(خطأً) صفة القتل ، فيكون القتل خطأً جزء من عموم القتل المذكور قبل قليل .

2-إن الاستثناء متصلٌ أيضاً بمعنى لم يكن للمؤمن أن يقتل متعمداً ، ومتى قَتَلَ متعمداً لم يكن مؤمناً ، فأنّ ذلك يُخرجُه من الإيمان ، إلا أن يكون قتله خطأً (2) .

3-إنّ الاستثناء منقطع ، وهو قول أكثر المفسرين(3) ، وكانوا في هذا القول على أمرين :

الأول: وهو ما ذهب إليه الشيخ الطوسي ؛ وتقديره : إلاّ أنَّ المؤمنَ قد يقتلَ خطأً ،وليس ذلك مما جعل الله له (4) .

ص: 365


1- ظ : التبيان / الطوسي :3/ 289.
2- ظ :م .ن ، التفسير الكبير / الفخر الرازي :م4 /175 .
3- ظ : التبيان / الطوسي :3/ 289 ؛ البيان في إعرابغريب القرآن / الأنباري : 1/264 ؛ وضح البرهان / النيسابوري : 1/291 ؛ مشكل إعراب القرآن / مكي بن أبي طالب : 125- 126.
4- ظ : التبيان / الطوسي :3/ 289 .

الثاني: قوله تعالى ﴿إلاّ خطأً﴾، بمعنى " لكن" وهو قول سيبويه وتبعه آخرون ، أي لكن إن قتله خطأ فعليه كذا أو حكمهُ كذا (1) .

وإذا أردنا مناقشة هذه الآراء نجد أن بعضها أقترب من مراد الآية،وبعضها الآخر قد ابتعد عن ملامسة الدلالة التي يبتغيها النص القرآني، وألمسُ في مجمل الآيات تحجيماً لمضمون الآية وقصوراً عن ادراك كل معانيها .

فالقول أنّ القتل الخطأ مستثنى من عموم القتل، صحيح إلاّ أنَّ في هذا التقدير قد أُهملت مسألة الإيمان ، فأصبح التقدير غير قادر على إستيعاب كلّ الدلالات وأكَّد على الفئة التي تُعفىَ من الأمر لا غير ؛ وفي هذا تحجيم للدلالة .

أما القول الثاني , فقد اشتغل بالإيمان غاضّاً من قيمة الحكم الذي يلحق الجاني المخطئ فضلاً عن القول بالنهي .

أما في القول الثالث ، فلا يختلف سيبويه عمّا ذهب إليه بعض المفسرين من إجراء الحكم بتقدير (إلاّ) ب- (لكن) ، ثم أدرج ضرورة إقامة الحكم ، غير منتبهٍ إلى مسالة الإيمان والنهي عن القتل ، وهما عماد الآية ، في حين كان الشيخ الطوسي الأقرب إلى مضمون الآية .

أقول : إنّ الإستثناء قد حمل معانٍ أكبر ممّا وُضِعَ له في أصل قاعدة الإستثناء في النحو، فأنّ القرآن قد وظّفَهَ بما يتّسع لأكبر من دلالة النحاة له بما يُناسب مع ما قُدِّرَ من محذوف في نوع القتل ،أيكون قتلاً عمداً أو سهواً أو شبه عمدٍ

ص: 366


1- ظ: اعراب القرآن النحاس : 200، وضح البرهان / النيسابوري : 1/291 ؛ إملاء ما منَّ به الرحمن / العكبري :1/190.

أو غير ذلك ؛ فعوَّض عن كلِّ المستثنيات وتلك التقديرات بالمصدر (خطأً) ؛ أي تحوّل المستثنى إلى حدثٍ مجرّد عن كلّ المسميات الدالة على الذوات ؛ كما في قول الخنساء عندما وصفت ناقتها (1)

ترتعُ مارتعت حتى إذا ادّكرت $$$ فإنّما هي إقبالُ وادبارُ

فقد وصفت الناقة بأنها (لم يكن لها حال غيرهما ،كأنّها قد تجسَّمت من الإقبال والآدبار(2)) وذهب الدكتور فاضل السامرائي الى أنها(حُولت إلى حدثٍ مجرد من الذات ،فليس فيها ما يتعلقها من عنصر الذات ، وانّما تحوّلت إلى إقبال وإدبار ، ومثل هذا الوصف بالمصدر نحو : أقبل رجلُ عَدْلٌ)(3) .

وكذلك قوله تعالى ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾(4) عندما أخبر بالمصدر عن الذات ؛وكذلك قوله تعالى : ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾(5) عندما أخبر بالمصدر عن الذات.

إنَّ تحول المستثنى إلى حدثٍ ، استوعب كل الدلالات المطلوبة ، بغض النظر عن كون الإستثناء منقطعاً أو متصلاً ؛ أي أن حدث الخطأ يكون مشتملاً على كون المستثنى كلَّ القتل غير العمد بأنواعه ، أو غير ذلك من التقديرات ، لأنّكلّ تلك

ص: 367


1- ظ : دلائل الأعجاز /الجرجاني :300.
2- ظ: م .ن : 300-301 .
3- معاني النحو / د . فاضل السامرائي : 1/176 .
4- سورة هود /الآية : 46.
5- سورة البقرة/ الآية : 177.

الأمور المستثناة سواء كانت منقطعة ام متصلة تحتمل أن تكون خطأ ؛ بما في ذلك أن يكون القاتل بحكم الكافر احتمالاً ، لأن المصدر حدثٌ تجاوز الذات والمسمّيات مطلقاً متقبلاً لكل تلك الاحتمالات .

ولعل ما ذهب إليه الزمخشري من كون (خطأ) في موضع الحال(1) يقترب من هذه الإحتمالات الدلالية للمستثنى ، وأن لم يقدرّ هو تلك الإحتمالات , ولعل التقدير : إلاّ أن يكون مرتكب الجريمة في حال كونه مخطأ ، أي أن ذاته كلها كانت الخطأ بعينه في أثناء قيامه بالجريمة وهذا مما يعطي شمولية كبيرة لكل المستثنيات الواقعة موقع الخطأ وغير محددّة بحالة واحدةٍ ، وأنّ أيّ تحديد لها سيوقع النقص في دلالة النص وعدم احتواء القيم الدلالية التي يبغيها المشرّع سبحانه .

إذن (الإتيان بالحال هنا بلفظ المصدر يفيد ما يفيده المصدر، مع زيادة فائدة الحال ،فهو أتمّ معنى ولا تنافي بينهما)(2) ، فقام الإستثناء هنا على قاعدة الإتساع والشمول لا للتضييق الذي قال به أغلب المفسرين .

ثم قال سبحانه وتعالى : ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾.

بعد الوصف لكل بشاعة القتل وإبعاد المؤمن من القيام به في كلِّ الأحوال عمد إلى تفصيل القتل في حال وقوعه منه على وجه الخطأ ؛فأبتدأ قوله تعالى مشروطاً ب-- ﴿مَنْ﴾ الشرطية الدالة على الذات العائدة على القاتل سهواً من المؤمنين وجئ بالفعل

ص: 368


1- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/ 580.
2- التفسير القيم /ابن القيم : 258.

﴿قتلَ﴾ماضياً لإعطاء فعل الشرط دلالة التيقّن من وقوعه ، ومن ثم ميّز القتل بأنّه خطأ كي لايذهب بنا الأمر إلى شمول القتل العمد في ذلك .

ولعلّ مجيء (الفاء) في﴿فَتَحْرِيرُ﴾لأجل ارتباط الجواب وتعلّقه بفعل الشرط ، أي لأجل أن يكون وقوع الجواب مُسَبَّباً بوقوع الفعل مع تخصيص دلالة الجواب بمتعلّقه ، ولو حُذِفت (الفاء) لبدت الجملة دالةٌ على ذلك وعلى غيره كالإخبار مثلاً . ونلمس كذلك في وجودها دلالة إيقاع الحكم وايجابه على القاتل من جراء جريمة القتل التي ارتكبها بحق المؤمن المقتول.

إنّ ايقاع الحكم مختلف فيه ، وذلك بسبب من الحذف في قوله تعالى ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾فمن أعرب ﴿تَحْرِيرُ ﴾ مبتدأ قدّر خبره ب- (عليه)(1) ، ومن أعربه خبراً قدّر المبتدأ (الواجب تحرير رقبة)(2) ،فدلّ (عليه) في هذا التقدير إلزام القاتل بثمن الرقبة وعلى ذلك أجماع الأمة (3) . لكن في حال عدم تمكّن الجاني من الوفاء به ، فمن يقوم بذلك عنه ؟فأذا كانت العاقلة هي التي تقوم عنه أو بيت المال فيكون التقدير (عليه) مقيِّداً للنص ، في حين اطلاق التقدير ب- (فالواجب تحرير رقبة) أو الحكم أو الجزاء تحرير رقبة ، فتكون العاقلة وبيت المال قد دخلوا في هذا المجال ، عند عدم تمكنّ الجاني من ذلك وأيضا توسعاً في دلالة النص .

ص: 369


1- ظ : التبيان / الطوسي : 3/ 290 ؛ اعراب القرآن / النحاس : 200 ؛ الكشاف / الزمخشري : 1/581 ؛ البيان في أعراب غريب القرآن /الأنباري :1/246.
2- إملاء ما مَنَّ به الرحمن العكبري :1/190 .
3- ظ : التبيان / الطوسي : 3/ 293 .

وللفقهاء في مواصفات الرقبة المؤمنة آراء كثيرة تجدها في مضانها من كتب الفقه والأصول ، وفيها ما يُغني البحث ذكرها ، فضلاً عن الدية وكميتها ومن يدفعها ، وتفصيلات ذلك ومستحقيها من ورثة المقتول والعاقلة .

ثم جاء قوله سبحانه ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾، بمعنى إلاّ أن تعفو عصبة المقتول وورثته عن الدية ، على الإستثناء المنقطع بعدّ العفو ليس من جنس الدية ؛ ومنهم من قال الإستثناء متصل بمعنى : فعليه دية في كلّ حال إلاّ في حال التصدّق عليه بها(1) .

غير أني اذهب إلى أن حكمها كحكم (خطأ) السابق على أنّ (أن يصّدّقوا) مصدر بمعنى تصدّقهم ، إلاّ أنّ مقدار التصدق بالدية غير معلوم بسبب حذف المفعول ، ولو أراد التصّدق بأجمعها أو بعضها لقال :ألاّ أنّ يصّدقوا بها أو ببعضها ، لكنه تعالى أطلق ذلك لذوي المقتول وورثته ، أو قد يكون ذلك بسبب وجود بعض الورثة القُصّر وهؤلاء لايمكن التصّدق بحصتهم من الإرث ماداموا على ذلك .

فضلاً عن ذلك ألمس في قوله سبحانه ﴿إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ الدعوة إلى التصّدق بالدية والدفع الى العفو ما استطاع إليه أهل المجني عليه, وذلك أن ادغام التاء في الصاد بسبب قرب مخرجهما ، فيه دلالة السرعة في التصّدق والحث عليه ، كقوله تعالى﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾فأدغم ولم يَقُل : ليِتطَوَّف ، لأنّه لم يكن فعل الطواف مُناسباً لفعل السعي ، فالسعي يحتاج إلى سرعة في الحركة لأجل

ص: 370


1- إملاء ما مَنَّ به الرحمن العكبري :1/190 .

أدائه فالفعل لم يستغرق زمناً طويلاً كالمشي ،لذا أدغم التاء في الطاء لتقليل الزمن المستغرق في أداء فعل السعي كي يكون مناسباً وهو كذلك في التصدّق .

ثم قال سبحانه : ﴿فأن كان من قومٍ عدوٍ لكم ، وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة﴾ فوصف المقتول بأنه مؤمن غير أن قومه أهل حرب وعداء مع المسلمين، فجعل جزاء قتله تحرير رقبة مسلمه على القاتل ولم يشترط الدية في الجزاء لعداوة قومه للمسلمين .

وأما قوله سبحانه ﴿وإن كان من قومٍ بينكم وبينهم ميثاق فديةٌ مسلّمةٌ إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً﴾.

وهنا يمكن أن يتسع النص في صفة المقتول إلى كونه مؤمناً أو كافراً لعدم وجود ما يخصصّه كما ذًكر ذلك قبل قليل عندما قال : ﴿وهو مؤمن﴾ ؛ فجعل جزاء قتله في كلا الحالين ديّةً مسلّمةً إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة .

وقد قدّم الديّة على تحرير الرقبة لغرض الألتزام بما تعاهد عليه المسلمون مع أهل الذمة في دفعها إليهم ؛ وأما تحرير الرقبة المؤمنة فهي من شأن المسلمين خاصة دون اولئك، لإنّ الحاكم المسلم له الخيار في الزام القاتل بها أو الصيام لمدة شهرين متتابعين إن لم يتمكن من ذلك بوصف ذلك توبة من القاتل عن ذنبه ، وأن الله تعالى أعلم بما حكم , وأحكم بما وضع وأسس لهذا الأمر.

ص: 371

الآية السادسة

قوله تعالى ﴿ومن يقتُل مُؤْمناً متعّمداً فجزاؤُةُ جهنَّم خالداً فيها وغَضِبَ الله عليه ولعنه وأعَدَّ له عذاباً أليماً﴾(1) .

بعد أن فصّل سبحانه وتعالى في شأن القتل غير العمد وحدوده ، ونفي كونه من صفات المؤمن ، وما لمسناه من النهي من القيام به ؛ استأنف القول في القتل العمد ، مسبَّباً نزوله بقضية مقيس بن جنابة الكناني ، عندما وجد أخاه قتيلاً في بني النجار ، فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فارسل معه قيس بن هلال الفهري الى بني النجار ليقتصَّ من قاتله إن عرفوه ،أو يدفعوا له الديّه ، فأبلغ الفهريّ الرسالة ،فأعطوا الديّة وانصرف الكنانّي ومعه الفهري ، فوسوس له الشيطان فقتل الفهريَ بحجارة على رأسه ورجع إلى مكة مرتداً ، فلما علم النبيُّ محمد(صلى الله عليه وعلى وآله)قال : لا أُؤْمِنْه في حلٍ ولا حرمٍ فقِتُلَ يوم الفتح (2) ،فأنزل الله تعالى هذه الآية شديدةً على كل مَنْ يقتل مؤمناً متعمدَّاً ومستحلاً لدمه وعالماً بأتمامه مع علمه بحرمة قتله وعصمة دمه ؛ فبالغ بالشدة في العقاب ليماثل القصدية في وقوع الجريمة .

إِن الآية المباركة تحمل مضامين كبيرة وواسعة، فلم تقتصر على الإخبار بذلك بصيغة (القاتلُ متعمداً جزاؤُه الخلود في جهنم)ففي هذه دلالة أولية ، وربما هي الأصل

ص: 372


1- سورة النساء/ الآية :93 .
2- ظ : مجمع البيان / الطبرسي :م2 /92؛ أسباب النزول / الواحدي :127؛ لباب النقول في أسباب النزول / السيوطي :65-66.

في بناء تركيب الآية الكريمة، غير أنَّ تحوّلات كثيرة جرت على البنية الأولية استوت على شكلها النهائي ، وهي تحوّلات افتراضية القصد منها الكشف عن المضامين التي يكتنفها النص بشكل تدريجي ربما يأتي :

1-إن القاتل اسم فاعل ، وهو دالّ على فعل القتل في الحاضر والمستقبل وعلى الذات التي قامت به ويمكن ان يُعبَّر عنها بلفظة (الذي) ، وهو اسم موصول يدلّ على الذات العاقلة للمفرد ؛ ولو عوّضنا في جملة أصل الوضع المذكورة عن القاتل بالفعل والذات لكان التقدير : (الذي يقتل جزاؤهُ الخلود في جهنم) .

2-وعندما أُريد أن يُخصِّصَ نوع القتل من كونه خطأً أو سهواً أ وعمداً، جاء بما يناسب سبب النزول ، وهو القتل العمد؛ ولأجل إظهار حال القاتل بأنه كان مستحلاً لدم المقتول ومنتهكاً لعصمة القتل، ومتلبّساً بهذا الفعل ، وقاصداً إلى ذلك بجدَّ ويقين جيئ به حالاً للقاتل فقيل (متعمداً) من الفعل (تعمدّ) ،فأصبحت الصيغة : (الذي يقتل المؤمنَ متعمداً جزاؤه الخلود في جهنم) .

3- ولماّ أراد وقوع حادثة القتل على شخصٍ معيَّنٍ جيئ بما يُناسب ذلك ،فحدَّد له شخص المؤمن ليكون مفعولاً به ، وجعله مناسباً لحالة إفراد القاتل فكان تدرّج الدلالة بقوله : (الذي يقتل المؤمنَ متعمداً جزاؤه الخلود في جهنم) .

4-غير أنَّ دلالة الإفراد للقاتل والمقتول تكون دلالة قاصرة عن إستيعاب كل الأحوال فالتوسّع فيها إلى حالة أعم أفضل لغرض أحتواء كلّ الاحتمالات التي ستقع فضلاً عن كل أوصاف القاتل والمقتول ،فعند ذلك لابُدّ من تحويل لفظة (الذي) الدالة على الإفراد إلى دلالة أعم منها فاختيار (مَنْ) أصلح لذلك لأنّها تدلُّ على المفرد والمثنى والجمع وللمذكر والمؤنث، فضلاً عن كونها تصلح أن تكون اسماً

ص: 373

موصولاً واسم شرط ، فيكون الوصف لهذه الحالة قد تمثّل في قولنا : (مَنْ يقتل المؤمنَ متعمداً جزاؤه الخلود في جهنم) .

5-وفي مقابل التعميم القاتل وعدم تخصيصه بفئة معيّنة ، لابُدَّ من الإفادة من ذلك والإتساع في هذه الدلالة ليضمّ كل المؤمنين ،وتوسّعاً فوق دلالة سبب النزول ،فقد نكّر لفظة (المؤمن) ،لأنّ النكرة أعمّ دلالة من المعرفة ، فيكون التوصيف طبقاً لذلك ما يأتي : (مَنْ يقتل مؤمناً متعمداً جزاؤه الخلود في جهنم) .

6-في قولنا (جزاؤه الخلود في جهنم) هو أصل في تركيب الجملة ولها دلالة أبتدائية ، وهي الإخبار عن الجزاء بالخلود في جهنّم لكن هذا الإخبار لا يتناسب مع جريمة القتل ، كما أنّ قوة الرّدع فيها ضعيفة لأنك لم تدرك الشدّة في هذا الجزاء لأنّه مجرد خلود في النار، فلأجل الزجر عن جريمة القتل وتشديد العقوبة جعل الإخبار عن الجزاء بوضع العقاب وهو جهنّم وهذا اشدّ في الردع من الإخبار بالخلود . غير أنّه لم يعدم الإفادة من دلالة الخلود المخبر بها عن الجزاء فجعلها حالاً لجهنّم ولمن يقيم فيها (خالداً) فضمن دلالتين من ذلك , الأولى وصف الجاني في النار بدلالة (فيها) والثانية :أنّها كانت حالاً مؤكدة لمضمون الجملة ( جزاؤه جهنّم) التي قبلها ، وهذه الحال المؤكدة لا تأتي إلاّ بشرط أنّ يكون المضمون أمراً ثابتاً وملازماً في الغالب ، كي يتفق معنى الحال ومضمون الجملة (1) ووفقاً لذلك تكون الصياغة بما يأتي: (مَنْ يقتل مؤمناً متعمداً جزاؤه جهنم خالداً فيها).

ثم أنّ هذه الحال حلّت لنا إشكالاً نحوياً في تعدّد احتمالات مرجعه ؛فقد قال العكبري: ("خالداً" حال من محذوف تقديره : يجزاها خالداً فيها ، وإن شئت جعلته من

ص: 374


1- ظ : النحو الوافي /. عباس حسن :2/ 285 ؛ معاني النحو / د . فاضل السامرائي :2/ 266

الضمير المرفوع، وإن شئت من المنصوب ، وقيل التقدير : جازاه بدليل قوله "وغضب الله عليه ولعنه " فعطف عليه الماضي ، فعلى هذا يكون "خالداً " حالاً من المنصوب لا غير، ولا يجوز أن يكون حالاً من الهاء في " جزاؤه " لوجهين : أحدهما أنه حال من المضاف إليه ، والثاني أنه فَصَلَ بين صاحب الحال والحال بخبر المبتدأ)(1) إذ إنّ هذه التقديرات قاصرة عن إستيعاب الدلالة لأنها قصرت الحال على الجاني فقط في حين أنّ سياق الآية يذهب إلى بيان حال الجاني وهو في جهنم فضلاً عن الجزاء المستكن فيها على حدٍّ سواء .

لكن هذا التركيب بصيغته الأخيرة ذات دلالة احتمالية ، فهو يحتمل عدّة دلالات ، منها أنّ الجزاء هو مجرد إخبار ،وذلك لأن (مَنْ) في موضع الإبتداء ، وخبرها الجملة (جزاؤه جهنم) ، وهذا الإخبار لا يفيد وقوع الحكم ولا وقوع الجريمة والآخر يحتمل أن معنى (مَنْ يقتل) شخص معروف ، وتعنى أيضاً أنّ الجزاء ليس مرتباً على القتل بل هو مستحقه قبل ذلك ؛ وكذلك يحتمل أنّ يكون الأسم الموصول(مَنْ) اسم شرط ،فالجزاء مرتّب على القتل ،فكل من يقتله يستحق هذا الجزاء ، غير أنه لا يحتمل الإلزام والوجوب في وقوع الجزاء .

وهذا شبيه بقولنا : (الذي يدخل الدار له جائزة)؛ فهذه الجملة تحتمل أنّك تعني ب- (الذي يدخل الدار) شخص معروف ، وأنَّ الجائزة ليست مرتبة على دخول الدار ، بل هو مستحقّها قبل ذلك ؛ كما تحتمل أيضاً أن يكون الأسم الموصول هنا يحتمل معنى الشرط ، فالجائزة مرتبة على دخول الدار ، فكل من يدخلها يستحق الجائزة(2).

ص: 375


1- املاء ما مَنَّ به الرحمن / العكبري : 1/191.
2- معاني النحو / د . فاضل السامرائي :2/ 17 .

ولأجل القطع في وقوع دلالة الجزاء بسبب من القتل العمد، وتعميم الدلالة ، وأرتفاع الجملة عن كونها إخباراً ساذجاً ؛جيء بالفاء الرابطة لتحّمل هذه الجملة دلالة قطعية لا تعني إلاّ معنى الشرط والجزاء الملزم ،أي بمعنى أنَّ قاتل المؤمن متعمداً لا يُجزى إلا بدخوله جهنم خالداً فيها جزاءً له بالجزاء الموصوف بالخلود مع الإلزام والوجوب بوقوعه على الجاني ، فكانت الصيغة النهائية ما يأتي :﴿مَنْ يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها﴾ .

لكن لنعُد إلى (خالداً ) فهذه اللفظة– كما علمنا – جاءت من "الخلود" والخلود في اللغة يعني طول المكث ، ولا يوصف بالبقاء ، لأنّ البقاء لله تعالى وحده ، وهو غير معروف بهذا المعنى في اللغة (1) أي أنّ خلود قاتل المؤمن متعمداً في جهنَّم لم يكن أبدياً ، لكنه من حيث المدة طويل ، وهذا يناسب دلالة الإستمرارية والثبات في الجملة الإسمية فوافق صيغة الحال الإسمية مع الجزاء بالأسم لطول هذا المكث في جهنّم .

لذلك أختلف العلماء في قبول توبة القاتل المتعمد لأن مجيء الخلود كحال للجاني وللجزاء بصيغة اسم الفاعل وهو حال ؛يدلّ على الفعل وعلى الذات الفاعلة ،فهذا ممّا زاد في احتمال العفو عن الجاني في حال توبته ،أي أنّفيه إمكان لوقوع مثل هذا الأمر سواء بالتوبة أو بغيرها .

ص: 376


1- ظ : التبيان /الطوسي : 3/295؛ المفردات الراغب الأصفهاني: 3/ 291- خلد ؛ مقاييس اللغة / ابن فارس :308- خلد ؛ لسان العرب/بن منظور : 4/171-172- خلد .

أما قوله تعالى ﴿وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً أليماً﴾فقد جاءت عدة جمل معطوفة على بعضها بصيغة الزمن الماضي معطوفة على ما استُقبل من الزمان، وفي هذه وعيدٌ منه تعالى لقاتل المؤمن ،مضافاً الى خلوده في النار ، وقد جاء بصيغة المضي من الزمان ليدلّ على وقوعه حتماً ، بوصف وقوعه في الزمن الماضي وأن كان وقوعه الحقيقي في المستقبل فأنه يفيد اليقين في حدوثه ،وإنّما جيء بهذه الصيغة لإفادة الوعيد والتهديد لمن تسوّل له نفسه القيام بهذه الجريمة فيكون ذلك وسيلة ردع وحدٍّ من وقوع هذه الجريمة .

الآية السابعة

قوله تعالى : ﴿وكتبنا عليهم فيها أنَّ النفسَ بالنفسِ والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنَّ بالسنِّ والجروح قَصاصٌ فمن تصدَّقَ به فهو كفّارةٌ له ومنْ لم يحكم بما انزل أنزل الله فاولئك هم الظالمون﴾(1) .

أنتظم في هذه الآية المباركة من خلال سياقها العام زجر ونهيّ لبني اسرائيل عندما خرجوا عن طاعة الله في تشريعاته وقوانينه التي شرّعها لهم ، فهؤلاء اليهود الذين نزلت بهم الآية غيّروا أحكام الله في عقوبة الزاني وغيرها بين أبناء ملتهم وقومهم , فقد فضَّلوا بني النضير على بني قريضة وخصصوا إيجاب القود ببني قريضة دون

ص: 377


1- سورة المائدة /الاية : 45.

بني النضير)(1)، فضلاً عن ذلك فيها تأكيد على ضرورة إقامة هذه الأحكام على المسلمين.

ولعلّ في ذكر سبب نزولها في هذا الموضع ما يضيء النصّ ويكشف عن بعض الحقائق التي تقود إلى فهم أوسع له ، فقد حُكي أن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)قد مُرَّ عليه بيهودي محممٍّ ومجلود فدعاهم فقال : هكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم ؟ فقالوا نعم ، فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى :هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم ؟فقال :لا والله ،ولولا أنَّكَ أنشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حدّ الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنَّه كَثُر في أشرافنا،فكنا إذا زنى الشريف تركناه وإذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدَّ، قلنا تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع ، فأجتمعنا على التحميم والجلد ،فقال النبي (صلى الله عليه واله وسلم) : (اللّهم إني أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه ، فأمر به فرجم)(2) .

لذلك فالضمير في ﴿عليهم﴾ يعود على بني اسرائيل وأنَّ الضمير في ﴿فيها﴾ يعود على التوراة ، فيكون المعنى أنَّ الكَتْبَ وقع على بني اسرائيل في التوراة، فهو ملزم لهم ، بوصف أنّ تعدّي فعل الكَتب ب- (على) قد أفاد الإلزام ، لأنّه يدلُّ على الفوقية والإستعلاء .

ولمّا كان أصل المعنى في الآية المباركة (كتبنا النفس بالنفس)(3) وأنَّ الكَتْبَ قد وقع على بني اسرائيل وجاء في التوراة فيكون صيغة الجملة في هذه الحالة : (كتبنا

ص: 378


1- التفسير الكبير / الفخر الرازي :م4/368.
2- ظ : اسباب النزول /الواحدي :145؛ لباب النقول في اسباب النزول / السيوطي :80.
3- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/669-670؛التفسير الكبير / الفخر الرازي :م4/368.

عليهم فيها " النفسُ بالنفس") ، فتكون جملة" النفسُ بالنفس" مبتدأ وخبراً على أنها في موضع النصب على المفعولية ، وهي كما نقول : كتبتُ الحمدُ لله وقرأ سورة أنزلناها (1) وغيرها من هذا النحو ، أي هي مخصصِّة لفعل الكَتْب والفرض الذي وقع على بني اسرائيل وذُكِرَ في التوراة .

لكن عندما أُريد أنّ يؤكد هذا الجزاء وأن تكون النفس مأخوذة بالنفس على هذا الوجه من الإلزام بعد الإنحراف عنه إلى ما يُرضي سادة يهود؛ وليكون ذلك أمراً للمسلمين ، جاء بما يؤكد هذا الحكم ، فأضافت (أنّ) فكانت الصيغة(كتبنا عليهم فيها أنّ" النفس بالنفس") وعندما أكد النفس ، وهي كُلٌّ فلا يحتاج إلى أن يؤكد العين والأنف والأذن والسن وهي بعض من كلّ فتأكيد الكلّ يجزي عن أبعاضه ، وعند ذلك فلا يحتاج السياق إلى بعض زيادة ما يؤكد المؤكّدة لذا جيئ بهذه الألفاظ على الرفع في قراءة الكسائي وذكر الشيخ الطوسي (ت 460ه-) أنّ هذه القراءة مروية عن النبي محمد(صلى الله عليه واله وسلم)(2).

غير أن قراءة النصب لعاصم وحمزة (3)هي آكد من قراءة الرفع، وذلك أنّ السياق أحتفظ بالألفاظ ذاتها من دون زيادة ،إلاّ أنّه بتغيير الحركة من الرفع إلى النصب قد أضفى زيادة من دلالة التأكيد على الإلزام في افتداء العين المفقوءة بالعين أو الأنف المجدوعة بالأنف ، والأذن المصلومة بالأذن ، والسن المقلوعة بالسن من خلال العطف على النفس الأولى ، ولعل في ذلك إرادة إلزام المسلمين فضلاً عن

ص: 379


1- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1/669-670.
2- التبيان / الطوسي :3/ 529- 530.
3- ظ : م . ن : 3/ 530.

اليهود في بقاء هذا الحكم والعمل به ، بعد انحراف اليهود عنه ، فأوجَبَهُ عليهم وعلى المسلمين جميعاً ، ولو لم يكن ذلك لاكتفى بالصيغة الأولى (كتبنا فيها النفسُ بالنفسَ) بوصف أنّ الحكم معلوم ،فأحتاج النصُ من أجل إلزام المسلمين به إلى ما يؤكِّدَ فأكِّدهُ ب- (أنّ) .

أما قراءة الرفع(1) في (الجروح والقصاص) كانت كما يذهب ابن خالويه(2) (ت 370ه-) على (أنّ الله تعالى كتب في التوراة على بني اسرائيل:أنّ النفس بالنفس إلى قوله :"السنَ بالسنِ " ثم كأنه قال – والله أعلم – ومن ذلك : الجروح قصاص والدليل على انقطاع ذلك من الأول : أنَّه لم يقل فيه : الجروح بالجروح قصاص، فكان الرفع بالإبتداء أوْلىَ ،لأنه لما فقد لفظ " أنَّ " استئناف لطول الكلام)(3)أي على الإستئناف لذكر الجروح وبداية كلام وفي هذا التخريج إضعاف لإلزام إقامة الحدِّ على الجاني ،لأنه مجرد إخبار غير ملزمٍ ، غير أنَّ قراءة النصب معطوف على اسم (إنَّ) أقوى في دلالة الزام الجاني وكما وضحنا ذلك قبل قليل .

أما قوله تعالى ﴿فمن تصدَّق به فهو كفّارة له﴾ استئناف ومعنى الجملة في أصلها (التصدّقُ كفّارة) ولمّا كان الضمير في (به) عائداً على القصاص كانت صيغة أصل النص (التصدّقُ به كفّارة) ، ولأجل التشجيع المتصَّدق على هذا الفعل جُعِلَ ذلك كفّارة له ودرءٌ لذنوبه ؛ ليضاف إلى أصل النص في قولنا (التصدّقُ به كفّارة له) .

ص: 380


1- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي:م4/368 .
2- الحجة في القراءات السبع / ابن خالويه : 68.
3- م .ن .

وكانت إرادة النصّ أنَ يكون التصدّق حدثاً واقعاً وفعلاً قائماً لذا مُنح قابلية الفعلية ، فأوقع الحدث على من يقوم بعد فاعلاً ، فعوّض عن الحدث بمن يقوم به فاعلاً بصيغة ( الذي يتصدّقُ به كفّارة له) .

ولأجل تعميم دلالة المتصّدق وعدم حصره بشخص معيّن أبدل بماهو أعم منه (مَنْ) وهو اسم دال على الإفراد والتثنية والجمع ، فضلاً عن أنّه يحمل معنى الشرطية، فتكون صيغة الوضع (من تصدّقُ به كفّارة له) ،ولأجل تأكيد كون التصدُّقَ كفارة جيئ بضمير الشأن (هو) فأصبح للجملة معنى أكثر تأكيدا من الأول، لقولنا : (من تصدّقُ به هو كفّارة له) ، وهذه الجملة احتمالية فهي تحتمل أن تكون الجملة إخبارية ولا تحمل معنى الإلزام والحكم على الجاني بل هي مجرد إخبار عن حالة التصدّق بالقصاص بأنه كفارة لمن يتصدّق به ؛أو أنّها تحتمل انّ مَنْ يتصدّق بالقصاص شخص معروف ؛ وتعني أيضاً أن الكفارة ليست مترتّبة على التصدّق بل أن المتصدّق مستحق لها قبل ذلك ، وتحتمل كذلك أن يكون اسم الموصول (مَنْ) اسم شرط ، فالجزاء مترتّب على التصّدق ، فكل مَنْ يتصدّق يستحق هذا الجزاء لكنه لا يحتمل الإلزام في وقوع الجواب .

لكن إرادة السياق أن يكون هناك معنىً مركزي مطلوب وهو أن تنزل الكفارة درءً لذنب المتصّدق عند تصدّقه بالقصاص لا غير ، فجاء بأداة الربط (الفاء) للقطع بوقوع الكفارة عن التصدّق فارتفع النص عن كل الإحتمالات التي لا يريدها السياق فجاء قوله تعالى (فمن تصدّق به فهو كفارةٌ له) فسمت دلالة النص النهائي على كل الاحتمالات المطروقه آنفاً .

ص: 381

ومما يثير الإنتباه في الصيغة النهائية التي طغت على السطح بعد هذه التحولات الإفتراضية التي جرت على الدلالة المركزية للنص في بنيته العميقة أنْ لم يكن هناك أي أثر للجاني وذلك اغفالاً له وتقليلاً من شأنه لجنايته , وأمّا القول بأن الضمير في ﴿له﴾ عائد عليه وإنّ تصدّق المجني عليه أو وليّه بالقصاص يعدّ كفارة عن الجاني أي أن الله لا يؤاخذه بعد ذلك العفو(1) ، وهذا ليس بشيء ، لأنَّ مجمل السياق في هذا المقطع من الآية هو حَثُّ المجني عليه أو وليّه على العفو ونشر روح التسامح بين الناس .

أما قوله تعالى ﴿فمن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون﴾ ففيه أنه عندما ذُكِرَ اليهود في الآية السابقة وإنحرافهم عمّا أنزل الله تعالى في التوراة , وصفهم الله بأنهم كافرون بقوله تعالى﴿فمن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون﴾(2)في حين وصف الله تعالى المخاطبين هنا بالظالمين ، وذلك أن الخطاب في حقيقته موجهاً إلى المسلمين ،ولو كان المخاطبون من اليهود لما أكّدَ الحكم ب- (أنّ) في قوله (أنَّ النفسَ بالنفس) ولأكتفى (النفسُ بالنفس) بحسب قراءة الكسائي ، وذلك أن اليهود يعلمون الحكم ويعلمون أنهم أنحرفوا عن تطبيقه بعد أن فشى الزنا في أشرافهم فعُوِّض عنه بالتحميم والجلد ،وإقامته على الضعفاء منهم ، فلا حاجة إلى أن يؤكّد لهم ؛ لكنّ المسلمين لم يكن عندهم علم بهذا الحكم في الشريعة الإسلامية بعدُ ، فعندما أراد أن يقيمه حكماً في الإسلام أكّده ب- (أنّ) وقرّره في قوله (صلى الله عليه وعلى وآله) المأخوذة من

ص: 382


1- ظ : التبيان / الطوسي :3/538؛ التفسير الكبير / الفخر الرازي : م4/369 .
2- سورة المائدة /الآية :44.

سبب النزول : (اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه) (1)أي الرجم فوصف المسلمين الذين لا يقيمون هذا الحكم بأنهم ظالمون وهذا يعني أن المسلم الظالم لا يصدق عليه الكفر , وهذا ما يؤيّده الذي ذكرناه .

وكذلك يمكن حمل النص على عمومه في كل من لم يحكم بما أنزل الله ، وحكم بخلافه بأنه يكون ظالماً لنفسه بارتكاب المعصية الموجبة للعقاب(2), أي يحتمل أن المخاطبين بذلك من المسلمين واليهود ، وفي هذا يصدق عليهم أن يكونوا ظالمين ،لكن الأَوَّل هو الأرجح لما بيّناه قبل قليل ؛وقد أشار الشيخ الطوسي إلى ذلك إشارة خفية حين قال : (ويمكن أن يُحمل على عمومه في كل من لم يحكم بما أنزل الله وحكم بخلافه بأنّه يكون ظالماً لنفسه بارتكاب المعصية الموجبة للعقاب ،وهذا الوجه يُوجب أن تقدّم ذكره من الأحكام يجب العمل به في هذا الشرع وإن كان مكتوباً في التوراة) (3) ،أي في شرع الإسلام ، فيكون المسلم الذي لا يعمل بها ظالماً لنفسه .

ص: 383


1- أسباب النزول / الواحدي :145؛ لباب النقول في أسباب النزول / السيوطي : 80.
2- ظ : التبيان / الطوسي :3/532.
3- م.ن .

الفصل السادس - التوجيه الدلالي لآيات الحدود

اشارة

ص: 384

ص: 385

التوجيه الدلالي لآيات الحدود

أفرد كثيرٌ من علماء تفسير آيات الأحكام ، فضلاً عن الفقهاء والأصوليين أبواباً خاصة في الحدود ،فبيّنوا أحكام كلّ حدٍّ وعقوبة كلّ جريمة تُقترفُ بحق الناس ،وسُمّيت تلك العقوبات حدوداً ،لأنها تحدّ أو تمنع من إتيان ما جُعلت عقوبات فيها ،( وأصل الحدِّ المنع والفصل بين شيئين ، فكأن حدود الشرع فصلت بين الحلال والحرام)(1)؛وقد ذكر الأزهري (ت 370ه-) أن حدود الله ضربان(2) :ضربُ منها حدود حدّها الله سبحانه للناس في مطاعمهم ومشاربهم و مناكحهم وغيرها مماّ أحَلَّو حرَّم ؛ والضربُ الثاني جُعلت عقوبات لمن ركب ما نُهِيَ عنه كحد السارق وحدّ الزاني والقاذف وحدّ المحارب .

فحدود الله سبحانه هي عين أحكامه الشرعية (3) ؛ لأنها مانعة من التخطّي إلى ما ورائها ومنها قوله سبحانه [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا](4) ؛ وحدود الله أيضاً محارمه ونواهيهه لأنّها ممنوع الاقتراب منها كقوله تعالى[تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا](5).

ومن تلك الحدود حدّ الزنا ، وقد ورد الفعل مع مشتقاته في القرآن الكريم تسع مرات ، بمعنى الوطء المحرَّم ؛ والزناء بالمدّ لغة بني تميم ، والزنىَ بالقصر لغة أهل الحجاز

ص: 386


1- لسا ن العرب / ابن منظور : 3/79 – حدد .
2- ظ : م . ن .
3- ظ : الطراز الأول والكناز/ أبن معصوم المدني : 5/ 308 – حدد .
4- سورة البقرة / الآية : 229.
5- سورة البقرة / الآية : 187 .

، وقيل لأهل نجد(1)، وهو وطء المرأة من غير قصد شرعي(2) ، أو هو كما يعرّفه الفقهاء (اسم لوطء الرجل امرأةً في فرجها من غير نكاح ، ولا شبهة نكاح بمطاوعتها)(3) ؛ وتوسَّعوا في فهم هذا الاسم لماله

من ملحقات محرّمه كالسحاق واللواط ؛ وعليه فهو على عموم دلالة اللفظ (إدخال فرج في فرج مشتهى طبعاً محرّم شرعاً)(4) .

الزنا وتوابعه معروفة عند عرب الجاهلية ، ويُقِال أنّه وفَدَ على النبيّ محمد (صلى الله عليه واله وسلم) (مالك بن ثعلبة ، فقال : مَنْ أنتم ؟ فقالوا : نحن بني الزَّنِيَّة ، فقال : بل أنتم بنو الرِّشدة ، الزَّنِيَّة -بالفتح والكسر-آخر وَلدِ الرجل والمرأة ....وإنما قال لهم النبيّ (صلى الله علية واله وسلم) : بل أنتم بنو الرِّشدة نفياً لهم عمّا يوهمه الزَّنِيَّة من الزنا ؛ الرِّشدة أفصح اللغتين)(5) .

وعقوبة الزنا عند العرب في الجاهلية الرجم بالحجارة حتى الموت ؛ وهي من جملة الأحكام التي أقرَّها الإسلام وكان يسير عليها الجاهليون .

وكان الزنا معروفاً عندهم ولا يُعاب على الرجل إذا فعله أو مارسه علناً ، بل يُعَدَّ ذلك من الرجولة ؛ فيما تُعاقَبُ المرأة إذا أتَتْهُ ولا يُعاقَب الرجل على ذلك ،وإذا وُلِدَ مولود من زنا ألحقه الزاني بنفسه ، وعُدَّ له أبناً شرعياً ، وله من الحقوق ما للأبناء من

ص: 387


1- لسا ن العرب / ابن منظور: 6 / 96- زنا .
2- المفردات / الراغب الأصفهاني : 384- زنا .
3- الجامع لأحكام القران / القرطبي : 6/462 .
4- الجامع لأحكام القران / القرطبي : 6/462 .
5- لسان العرب / ابن منظور : 6/ 96 – زنا .

الزواج الشرعي ؛ وإنّ أول مَنْ ذَكرَ الولدَ للفراش الحكيم أكثم بن صيفي ثم جاء الإسلام بتقريرة(1) ، وقد ورد الحديث الشريف بذلك (الولدُ للفراش وللعاهر الحجر

أما الزنا الذي يُعاقب عليه الجاهليون ، فهو زنا المرأة المحصنة من رجل غريب بدون علم زوجها ، لذا تُعيّر المرأة الحرة إذا زنت،وأمّا زنا الأماء فلا يُعدُّ عيباً عندهم بل يعود كسب الزانية من فرجها لمن يملكها ؛ وقد كان بعض السادة تُكْرِهُ الأماء على البغاء من اجل كسب المال ، حتى نزل قوله تعالى[ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا](2)، فحرّم ذلك لسلامة المجتمع الإسلامي من أخطاره وحفظاً للأنساب.

أما عقوبة الرجم فلم تكن معروفة بكثرة عند قبل الإسلام ، ويُقال أنّ أوّل من رَجَمَ (ربيع بن حدان) ثم جاء الإسلام بتقريره في المحصن(3)بعد أنّ فصِّل في شروط وقوعه في الرجل أو المرأة .

أما الحدُّ الآخر فهو حد القذف ؛ والقذف رمي المرأة المحصنة بما لا يوجد فيها من السيئات ، ثم خُصِّص بالزنا ، وكانت العرب قبل الإسلام تُعاقب من يقذف المرأة المحصنة إذا اثبتت طهارتها مما رُميت به بالدليل البيّن ، أو أن يحتكم أهل المرأة مع زوجها إلى أحد كهّان اليمن (4) فيحكم بصلاحها أو فسادها ،وخاصة في بيوتات العرب المعروفة .

ص: 388


1- ظ : المفصل في تأريخ العرب قبل الأسلام / د . جواد علي : 5/ 560- 561 .
2- سورة النور : الآية :33.
3- ظ : المفصل في تأريخ العرب قبل الأسلام / د . جواد علي : 5 /560 .
4- ظ : العقد الفريد / ابن عبد ربه الاندلسي :6 /87.

أما اتهام الرجل زوجه أو قذفها ،فلم يرى الدكتور جواد علي من رأي واضح فيها عند العرب قبل الإسلام ، لكن عندما جاء الإسلام شرَّع الملاعنة (و الإمام يلاعن بينهما ، فيبدأ الرجل ، ثم يثنّي بالمرأة ، فإذا أتمَّ التلاعن بانت منه ، ولم تحلّ له ابداً ، وإن كانت حاملاً فجاءت بالولد فهو ولدها ولا يلحق بالزوج )(1) .

ولم يرد شيء في رمي المحصنات من غير أزواجهن بحسب ما أعلم ، وعندما جاء الإسلام شرّع لذلك وأقام الحد في قوله سبحانه : [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ](2) ، وفصّل الفقهاء في هذا الحدَّ عقوبة الجِّلْد وعدد الجلدات للأحرار والعبيد والمرضى والاصحاء وغيرها ، بحسب كل حالة منها .

أما حدّ الحرابة ، هو المسمّى بقطع السبيل أو السلب والنهب من أموال الناس وممتلكاتهم وما يصاحبه من قتل أو غيره ، فأنّ الإسلام قد نهىَ عنه وعاقب عليه بقوله سبحانه [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ](3) ، وقد نزلت في حادثة العرنيين أو العكليين الذين قتلوا راعي رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) واستاقوا إبله ، فلما بلغه ذلك أمر بالقبض عليهم ، فعاقبهم بأحكام الحرابة هذه .

ص: 389


1- المفضل في تاريخ العرب قبل الاسلام / د. جواد علي : 5 / 560 .
2- سورة النور / الآية 4 .
3- سورة المائدة / الآية 33 .

وقد اجتمع في هذا الحد مجموعة من المحرمات متمثلة بقطع الطريق وإشاعة الفوضى بين الناس فضلاً عن القتل والسرقة .

غير أنّ الاستيلاء على مال الآخرين عُنوة لا يُعدّ عند الجاهليين سرقة ، بل هو اغتصاب وانتهاب إذا كان داخل القبيلة ، وأما إذا كان من قبيلة أخرى ليس لها حلف ولا جوار ولا عقد مع قبيلة المغتصب ، فذلك يُعدَّ مغنماً ومالاً حلالاً ، ولا يرى فيه المغتصب دناءةً ؛ بل هو شجاعة ورجولة(1)، وهذا العُرف الجاهلي كان موجوداً عندنا لزمن قريب .

لقد فصّل المشرّع عقوبة قطّاع الطرق بحسب الجريمة التي يرتكبها قاطع السبيل ، فمنهم مَنْ يقتل ، وآخر يسرق ، ومنهم من أخافَ الناس والسبيل ، فلكل جريمة من هذه الجرائم عقوبة تناسبها حدّدها الفقهاء وفق الآية الكريمة بالصلب والقتل وقطع الأيدي والارجل والنفي .

أما عرب الجاهلية، فكانوا يصلبون قاطع الطريق ، وقد صلب (النعمان بن المنذر) رجلاً من بني (عبد مناف بن دارم) من تميم كان يقطع الطريق(2) وقد أقرّ الإسلام هذه العقوبة وهذّبها وفق أحكام الآية المباركة .

أما حدّ السرقة فهو من الفعل (سَرَق ) وورد هذا الفعل ومشتقاته في القرآن الكريم تسع مرات منها ما دلّ على اخذ شيء مستتراً ، أو بدلالة الاستماع خلسةً وخفية وذلك في قوله سبحانه [إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ](3)، فجعل تعالى الاستماع خلسةً استراقاً ، لتخفّي صاحبه في السمع ، فكأنَّهُ يسرق شيئاً من دون علم صاحبه

ص: 390


1- ظ: المفضل في تاريخ العرب قبل الاسلام / د. جواد علي : 5/560.
2- ظ : م. ن .
3- سورة الحجرات / الآية 18 .

ولذلك كان (السارقُ عند العرب مَنْ جاءَ مستتراً إلى حرزٍ فأخذ منه ما ليس له)(1) أي إلى شيء محروز عن أعين النظّار فجيء له قاصداً ،لكن ( إنْ أُخِذَ من ظاهر فهو مختلسٍ ومستلب و منتهب ومحترس ، فأنْ مُنعَ ممّا في يديه فهو غاصب)(2) .

وقد عرَّفَ الراغب الأصفهاني (ت 425ه-) السرقة بقوله: (أَخْذُ ما ليس له أخْذُهُ في خفاء)(3) على العموم ،ثم تطوّر هذا المفهوم لدى العلماء فأفادوا من هذا التعريف اللغوي ، فضلاً عماّ جاء من الأحاديث النبوية حتى(صار ذلك في الشرع لتناول الشيء من مَوْضع مخصوصٍ وقدْرِ مخصوص)(4) .

وعلى ضوء هذا الفهم حدّد الفقهاء صفات المال المسروق وقدره وكميته ،فليس كُلُّ ما أُخذ يُعَدُّ سرقة ؛ ثم حدّدوا عقوبة السارق بالقطع وفقاً لقوله سبحانه [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا](5) ؛ وهذه العقوبة كانت سُنّةً في الجاهلية ، إذ كان- أهل مكّة وهم من قريش يعاقبون السارق بقطع يده ، وأوّل من سنّها عبد المطلب جدّ رسول الله (صل الله عليه واله) منهم مَنْ يرجعها إلى الوليد بن المغيرة ،فالرسول (صلى الله عليه واله) اقر هذا العمل بعد ذلك سُنّةً في قريش(6).

ص: 391


1- لسان العرب / ابن منظور : 6/ 246- سرق .
2- ظ : م.ن.
3- المفردات / الراغب الأصفهاني : 408- سرق
4- م . ن .
5- سورة المائدة / الآية : 38 .
6- ظ : الجامع لأحكام القرأن / القرطبي :3 /519 ؛ المفصل في تأريخ العرب قبل الأسلام / د . جواد علي : 506.

إنّ أول سارق أمر قطعه رسول الله(صلى الله عليه واله)هو( الخبار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف)من الرجال ,ومن النساء(مرة بنت سفيان بن عبد الأسد)من بني مخزوم.

ومن الذين قُطعت أيديهم في الجاهلية بسبب السرقة (وابصة بن خالد بن بن عبد الله بن عمر بن مخزوم) و(عوف بن عبد الله بن عمر بن مخزوم) و(مرار)، ثم سرق فَرُجمَ حتى مات ، ولعل أشهر سارق عُرِف في الجاهلية رجل اسمه (شظاظ) ، وقالوا فيه : شُظاظ أسرق رجل عند العرب(1) ويسمى السارق عند العرب أيضاً لُصّاً وذلك في لغة طيء وبعض الانصار(2) .

ولما جاء الإسلام أقرَّ هذا الحكم في السّراق ، وهذّبه وعَّدل أحكامه وفق ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ،فوصف الفقهاء مفهوم السرقة وحدود القطع ومن يقوم بالقطع ومقدار المال المسروق

ص: 392


1- ظ :المفصل في تأريخ العرب قبل الأسلام / د . جواد علي : 606 .
2- ظ : لسان العرب /أبن منظور : 12/278- لصص.

أولاً: آيات حد الزنا وتوابِعِهِ

الآيتان الأولى والثانية

قوله تعالى : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وأصلحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا)(1)

تؤسس الآيتان المباركتان من سورة النساء لإقامة الحد على مِنْ يعمل الفاحشة سواء كان من النساء أم الرجال ؛ واختُلف في دلالة الفاحشة أهي الزنا أو المساحقة أو اللواط ، ومعلوم أن الزنا يكون بين الذكر والانثى ، ويكون المساحقة بين الأنثيين ، وفيما يكون اللواط بين الذكريين .

والفاحشة من الفعل فَحَشَ وفَحُشَ علينا ، ونُقِل ابن سيده : الفُحش والفحشاء والفاحِشةُ القبيح من القول والفعل ، وجمعها فواحش (2) ، وجاء في الحديث أنّ الفاحشة هو كلّ ما يشتدُّ قُبحُه من الذنوب والمعاصي ، وكثيراً ما ترد الفاحشة بمعنى الزنا وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال والأفعال(3) ويدخل في الذنوب والمعاصي أعمال المساحقة واللواط والزنا فاللفظة مشتركة بين هذه الذنوب ، لذا اختلفت دلالتها عند علماء التفسير بين هذه المعاصي المذكورة ؛ ونتيجة لذلك اختلف الحكم في كون الآيتان منسوختين أولاً؛ تبعاً لدلالة الفاحشة على أيِّ منها تقع .وقد

ص: 393


1- سورة النساء /الآيتان 15-16
2- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 10/ 192- فحش .
3- ظ : النهاية في غريب الحديث والأثر / ابن الأثير : 3/415 – فحش .

ذهب الزمخشري أنَّ الفاحشة تعني الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح ، لذلك رأى أن الآية منسوخة (1) بقوله تعالى [الزانية والزاني ...](2) وهو المروي عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام)(3) .

فيما ذهب ابو مسلم الأصفهاني إلى أن الفاحشة تعني المساحقة ، ولذا لا يكون نسخ في الآية(4)ودليل مَنْ ذهب إلى عدم النسخ كذلك ، أنَّ الحبس لم يكن مؤبداً ، بل كان مستنداً إلى غاية فلا يكون بيان الغاية نسخاً له (5).

ولعل من المناسب هنا أنّ نبيّن أي الرأيين أرجح من الآخر ؛ فقد جاء في الآية الأولى قوله تعالى : [وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ] . فجاء بلفظة [وَاللَّاتِي]، وهي اسم موصول للعلم المؤنثوفائدته – كما يذكر علماء اللغة – وصف المعرفة بالجملة ، فاذا أُرِيدَ وَصْف النكرة استغنوا عن ذلك ، كقولنا : "رأيت رجلاً يضربُ أخاه" ، لكن إذا أردت ان تصف المعرفة بالجملة جئت بالذي وأخواتها من نحو ( التي ، اللاتي ، اللائي ، الذين ) ، فتقول : " رأيت الرجل الذي يضرب أخاه " ، فتوصلت بالذي إلى وصف الرجل بكونه يضرب أخاه "(6).

إذن جاءت [وَاللَّاتِي] في الآية المباركة وسيلة لتوصلنا إلى وصف اسم معرّف ، ولما كانت [وَاللَّاتِي] هي اسم موصول جمع (التي) ، وهي المقصودة منها نساء

ص: 394


1- ظ : الكشاف / الزمخشري 1/ 518 ؛ ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 3/ 80 ؛ ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : م8/ 305 .
2- سورة النور / الآية : 2.
3- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م2 / 21.
4- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي: م2/ 528 .
5- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م2 / 21.
6- ظ : الخصائص / ابن جني : 1/ 322 ؛ معاني النحو / د . فاضل السامرائي : 1/ 114 .

معرّفات ، هن نساء المسلمين ، لا غيرهن لأن الخطاب في مجمل الآيات السابقة لها يشير اليهن ، لكن لا على تعيين كونهن من أزواج المسلمين أم من الحرائر أم غيرهن بقوله سبحانه [يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ](1) في معنى النساء على العموم دون تعيين قسم منهنّ ، فيما كان في آية أخرى تعني زوجات المسلمين ، قال تعالى : [وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ](2) ؛ فتنوّع الخطاب في ذكر النساء في هاتين الآيتين بين الحرائر والثيبات ، لذا فأن [وَاللَّاتِي] هنا غير مختصّة بالأبكار ولا المتزوجات ؛ وانما هي عامة فيهنّ لدلالة السياق على ذلك ، غير أنهنّ في كلا الأمرين يكُنَّ مسلمات لنسبتهُنَّ إلى رجال المسلمين المخاطبين في الآية بقوله [مِنْ نِسَائِكُمْ] ولو فيهنّ من غير المسلمات لما نسبهنّ إليهم ، لأنّ النسبة هنا نسبة إلى دين الأزواج لا إلى الأزواج ذاتهم كما هو موضّح قبل قليل .

ولما أنفرد هذا الخطاب بذكر النساء فقط ،فأن الراجح في الفاحشة أن لا يكون بمعنىَ الزنا ، لأنَّ الزنا يكون بين الرجل والمرأة ؛ والرجل هنا غير مقصود فيها ، بل اقتصر الخطاب على النساء دون الرجال ، لذا فأنّ الفاحشة تعني ما يجري بين النساء من هذه المعصية ، وهو الأرجح .

ويمكن ان نستدل أكثر على ذلك أنه جاء [وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ]،ولم يقل (واللائي) وقد وردت (اللائي) في مواضع من القرآن الكريم مقترنة بالصعوبة والعَنَتِ

ص: 395


1- سورة النساء / الآية : 11.
2- سورة النساء / الآية :12.

من نحو قوله سبحانه [وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ](1) ، وقوله تعالى :[ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ] (2) وغيرها ، ونعلم أن لقاء المرأة بالمرأة أبعد في الشبهة من لقائها بالرجل الأجنبي عنها وقد اقترنت [اللَّاتِي] بالقرآن الكريم بما هو أسهل من ذلك ، من نحو قوله تعالى [وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ] (3) وقوله سبحانه [إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ] (4) ، وغيرها من الآيات ، فلو أراد لقاء الرجل بالمرأة على المعصية لجاء ب- (اللائي) الدالة على العنت والصعوبة في إيراد هذا المقام لكثرة الشبهة وتواردها فيه الذي يأخذ إلى الشدة في إتيانه ؛ على خلاف لقاء النساء بالنساء المفضي في أكثر الأحوال إلى السهولة، سوا كان بالغشيان أو بالشبهة.

ثم أنه تعالى قال: [يَأْتِينَ] ولم يقل (يجئن) ، لأنَّ الفعل (جاء) يدل على المجيئ المقترن بالحركة والسعي لقوله تعالى : [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى](5) إذ اقترن المجيئ هنا بالسعي وهذا ما يصاحبه بعض العنت والتعب ، ولو أن المقام في الآية المباركة في الآية المباركة يستدعي ذلك لاستعمل فعل المجيئ فيه ، لذا جاء بالفعل (أتى) الدال على التأخير والسهولة واليسر وهو ما يتوافق مع ما عليه من لقاء النساء ببعضهنّ . قال تعالى [أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ](6) وقوله :[ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ

ص: 396


1- سورة الأحزاب / الآية :4 .
2- سورة المجادلة / الآية : 2 .
3- سورة النساء / الآية : 23 .
4- سورة الأحزاب / الآية : 50 .
5- سورة القصص / الآية : 20 .
6- سورة النحل / الآية : 1 .

أَتَى](1)؛ فأقترن الفعل (أتى) في هاتين الآيتين وفي غيرها بما هو سهل يسير مقترناً بالتؤدة والتانّي .

إذن ، من هذا يمكن الاستدلال على أنّ المعصية كانت بين النساء فقط ، وفي هذا دليل على سقوط نسخ هذه الآية ، وإنّ الحكم فيها يختلف عن حكم آية الجلد (2)وأنها غير ناسخة للآية موضع البحث وعلى هذا لو قلنا أنّ الآية منسوخة بآية الجلد لقوّضنا النص لأن ذلك يقود إلى تفكّك وحدة المعاني واضطرابها بما يسيئ إلى النص ذاته باعتبارها وحدة دلالية تحدّد قيمة تشريعية مهمة ، إذ إنّ الآية الناسخة ستكون مستوعبة لحالة إجتماعية وممارسة غير طبيعية ينبغي للمشرّع أن يحدّد لها الضوابط والأسس التي تهذّب المجتمع وتبعده عن ممارستها بما يصلحه .

وعليه فأن القول بنسخ الآية بعد أن بيّنا ما خفي من دلالتها سيعمل شرخاّ في المنظومة التشريعية المتجانسة ، باعتبار أنّ حكمها يمثّل مرحلة من مراحل التدرّج في البناء التشريعي في النص ؛ مع أنّ النسخ في القرآن الكريم لا يُخرج الأحكام من منظومة إلى أخرى لأن الناسخ لا يشكل منظومة تشريعية متناقضة مع منظومة المنسوخ في الأحكام (3).

ثم قال تعالى :[فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ]، إذ جاء الاستشهاد هنا بالفعل على صيغة (استفعل) الدلالة على الطلب (4) ، بمعنى اطلبوا مَنْ يشهد عليهن ، وبتمهل

ص: 397


1- سورة طه / الآيه : 60 .
2- وهوقوله سبحانه (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) سورة النور / الآية : 2.
3- ظ : النص وآليات الفهم في علوم القرآن / د . محمد الحريش : 212 .
4- ظ : شذا العرف / الحملاوي : 52 .

وذلك أن (السين) هنا تعنّي التأني في الطلب لا الإسراع فيه لشدّة وطأة ذلك على النساء ، وقدّم الجار على المجرور (عليهنّ) لأجل التخصيص ؛ أي تخصيص الشهادة عليهن لا على غيرهن ولو أراد الذكور والإناث لقال (عليهم) لتغليب المذكر على المؤنث ، وهو من سنن العربية .

ثم زاد من عدد الشهود لضمان صحة الشهادة والتثبّت فيها ، لأنَّ القضية تتعلّق بالشرف والكرامة ، وأنّ الناس يخشون ذلك خوفاً من العار ، وإنّ مخالفة واحد منهم للثلاث يخرم الشهادة وتسقط القضية .

ثم قال :[ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا] ؛ فأبتدأ ب- (إنْ) الشرطية ولم يَقُل (فأذا) وذلك أنَّ (أنْ) لاتدخل إلاّ في المواضع المحتملة المشكوك في وقوعها ، في حين وظيفة (إذا) عند دخولها على الفعل تأخذ به إلى اليقين في وقوعه ؛ فالله تعالى عندما جاء ب-(إن) كأنَّهُ يُريد أنْ يوُحي إلى ضرورة التحققّ من وقوع الفاحشة على وجه اليقين ، خلافاً ل-(إذا) الدالة على اليقين في وقوع الفعل آجلاً أو عاجلاً ، لذا نجد أنَّ الشريعة قد وضعت قواعد صارمة كان من شأنها مزيد من التحقّق والتأكيد من وقوع المعصية ، لأن أثر ذلك سيؤول على بناء المجتمع ووحدته ، فضلاً عن ذلك وقوع (الفاء) في جواب الشرط ، فقال [فَأَمْسِكُوهُنَّ] ، أي إنْ حصلى اليقين في وقوع فعل الفاحشة ؛ يجب امساكهنُّ في البيوت ، وأكَّد هذا الحكم الشرط بوقوع الفاء في جواب الشرط، ويرى الدكتور فاضل السامرائي أنَّ الغرض من دخول الفاء على فعل جواب الشرط الماضي هو الأشعار بأنَّ الحدث وقع فعلاً ، أو هو بمنزلة الواقع تحقيقاً وتأكيداً له(1) ؛ وهذا يعني أنّ فعل إمساك النساء اللاتي وقعْنَ

ص: 398


1- ظ : معاني النحو / د. فاضل السامرائي : 4/93 .

في المعصية في بيوتهنّ واجبٌ ، باقتران فعل الإمساك بالفاء ، وذلك أنَّهُ تعالى قد ناسب بين المبالغة في التفتيش عن الأدلة في إثبات وقوع المعصية وبين التأكيد على إقامة الحد بالحبس عند ثبوته. كذلك أختلفوا في الحبس أو هو دائم ٌ أو محدَّد ؛ أي ممدود إلى غاية معيّنة . فقال تعالى[حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ] ؛ والظاهر أنّ في الجملة محذوف لأنَّ الموت لا يتوفّىَ الأنفس ، قال سبحانه [اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا](1)،وقد ورد الفعل (توفّىَ) ومشتقاته في القرآن الكريم (24) مرةً ، لم يرد فيها مسنداً إلى الموت إلاّ في هذه الآية ، والباقي مسنداً إلى لفظ الجلالة أو الملائكة ؛ وهذا يعني أنَّ في ذلك إطلاق في المعنى وأتساع في الدلالة : فلو قُدِّر لها فاعل من نحو (حتى يتوفاّ هُنَّ ملك الموت) فأن دلالة ذلك أن حبسهن يدوم حتى الموت ؛ ولو لم يُقدَّر محذوف لكانت دلالة الموت دلالة معنوية أي ليس المقصود منها الموت الحقيقي بل هو الموت المعنوي من نحو ضمور الذِّكْر لَهُنَّ ، أو تقادم العمر بهنّ حتى لا يطمع أحدٌ في نكاحهنّ وهذا يُعَّد موتاً لهنّ وإنْ كُنّ أحياء.

وبهذا نستدل أن الحبس غير ممدود؛ وقد يُعزّز هذا الرأي قولُه سبحانه [أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا] المعطوف على [يَتَوَفَّاهُنَّ] ، والفعل فيها منصوب بعد (أنْ) المضمرة بعد (حتى) ، فلما عطف الفعل (يجعل) جَعَلَهُ منصوباً دالاً بذلك على عطفه عليه ومتعلّقاً به دلالياً ، فجعل من السبيل مانعاً لديمومة الحبس ، من نحو النكاح الصالح أو التوبة النصوح .

ص: 399


1- سورة الزمر / الآية : 42 .

ثم استأنف تعالى قوله :[وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصلىحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا] (1) ليتمّ ما أبتدأه بالنساء فخاطب الذكور من دون الأناث فقال[وَاللَّذَانِ] ؛ وهو اسم موصول مفرده (الذي) جاء ليوصل به ألوصف المخاطبين من رجال المسلمين فقط ، وقد بيّنّا ذلك في قوله سبحانه [وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ] فحصر الدلالة بالمخاطبين من الرجال دون غيرهم ، و (أما أن يكون للرجال والمرأة على أن يُغلّب المذكر على المؤنث فبعيد لأنه لا يخرج الشيء إلى المجاز ومعناه صحيح في الحقيقة )(2) ثم حدَّد سبحانه الحكم في ذلك بإيذائهما بالقول كالتوبيخ والاستخفاف ، (وعلى قول أبي مسلم يمكن حمله على القتل لأنه حدَّ اللواط ،وإطلاق الأذى ينصرف إلى أبلغ مراتبه وهو القتل)(3)ويرى الفراء (ت 207ه-) أنّ هذه الآية نسخت الأولى (4)، وقد بيّنا بطلان ذلك من قبل.

ص: 400


1- سورة النساء / الآية : 16 .
2- اعراب القرآن /النحاس : 176 .
3- كنز العرفان / السيوري : 656 .
4- ظ : معاني القرآن / الغراء : 1/ 259 .

الآية الثالثة

قوله سبحانه [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ](1)

تشرح هذه الآية المباركة حدّ الزنا (والزنا هو وطأ المرأة في الفرج من غير عقد شرعي ولا شبهة عقد شرعي مع العلم بذلك أو غلبه الظن)(2)قول سبحانه : [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي] على العموم يقصد جنس الزناة في ظاهر اللفظ ،أي أنَّ وصف الزانية والزانية في العموم يشمل المحصن وغير المحصن والحر والعبد ، فأمر الله تعالى بجلدهما مئة مرةً إلا أنَّ السنة النبوية وللمحصن الرجم ) ، وهذا لا يُعَدَّ نسخاً للآية وإنما هو تخصيص الحكم وتفصيله بأعتبار تعدّد أنواع الزنا ، بين المحصنين وغير المحصنين أو الاحرار والعبيد ، لأن عموم الحكم يُوقع عدم العدالة فيه ، إذ إنَّ العقوبة تكون على قدر الذنب ، فعقوبة المحصن والمحصنة إذا زنيا أشدّ من غير المحصنين من الرجال والنساء وذلك لاختلاف الحال في الكفاية الجنسية في الحالين ، لذا جاءت السنة النبوية مخصِّصة لحكم الزنا فجرئ حكم الجلد بمئة جلدة لغير المحصن ، وقُرِّر الرجم للمحصن من الرجال والنساء.

واختلف الفقهاء في شروط المحصن عند ايقاع عقوبة الرجم عليه ، فذهب الشيخ الطوسي(ت 460ه-) إلى أنَّ من شرط وجوب الرجم الإحصان المقترن بالحرية في

ص: 401


1- سورة النور / الآية : 2
2- التبيان / الشيخ الطوسي : 7/ 406 .

غشيان الرجل زوجَهُ على وجه الدوام(1) ؛ فالعبد لا يكون محصناً وكذلك الأَمَة ، فهؤلاء عليهم نصف الحد لقوله سبحانه : [فأذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ](2)، وأورد الزمخشري أن من شرائط الاحصان عند أبي حنيفة ست : الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والتزويج بنكاح صحيح والدخول ، فإذا فُقد واحدة منها فلا إحصان ؛ ونقل أيضاً عن الشافعي ، إنَّ الإسلام ليس بشرط لما روي من أن النبي (صلى الله علية واله وسلم) رجم يهودِيين زنيا(3) ، فيما يرى مالك أنّ المحصن هو ما كان في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل(4) ، ومجمل تفاصيل خلاف هذه المسألة تجدها في مضانها من كتب الفقه و الاصول .

ثم قال تعالى :[فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ] أي الزانية والزاني غير المحصنين ؛ والجَلْد مصدر الفعل جَلَده بالسوط يجلده جلداً ضربه ، وأصاب جِلْدَهُ ، وكذلك ظَهَرَهُ ورَأَسَهُ وبَطَنهُ ، وجلده الأرض فضربها(5)، ويرى ابن معصوم المدني أنّ من مجازه (جلدَهُ على الأمر أكرهَهُ ، وجلدته و جلدته الحية لَسَبتْهُ ،وأجلده إلى كذا : ألجاُهُ)(6) ، وجاء في المثل : (التجلّد ولا التبلُّد) ، وهو تكلّف الجلادة ، ويضرب في الحثَّ على تحمّل النوائب دون التضعضع(7).

ص: 402


1- ظ ك التبيان / الشيخ الطوسي : 7 / 405 .
2- سورة النساء / الآية : 25 .
3- ظ: الكشاف / الزمخشري :3/ 212 .
4- ظ : التفسير القآن العظيم / ابن كثير : 3/ 260 .
5- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 2/ 323 – جلد ، الكشاف / الزمخشري : 3/212 .
6- الطراز الاول / ابن معصوم : 5/284 – جلد .
7- ظ : م ن : 5 / 287 – جلد .

ويتعدى أيضاً بحرف الجر من نحو جلد به الأرض أي ضربها في حالة التعدي بحرف الجر يكون الفعل أكثر تمكناً في الفعلية ، ولكن عندما يتخلّى الفعل عن حرف الجر يضْعف في أدائه من حيث قوة الفعل وشدته(1)، ، ولعل ذلك تابع إلى تطوّر حالة المجتمع ، فالمجتمعات المتحضرة دائماً ما تطلب الخفة الدعة في كلّ شيء ،لذا فأن تّعدي الفعل (جلد) بنفسه إلى مفعول في هذه الآية يوحي إلى ان الضرب فيه ليس ضرباً مبرحاً شديداً ، ولو أراد ذلك لعدّاه بحرف جر كما في قولنا :جلده في بالأرض أي ضرب الارض به وهذا الضرب أشدُّ من سابقه .

وقد اختلف العلماء في شدة جلد الزانية والزاني ، فذهب مالك وأصحابه والليث بن سعد أن الضرب في الحدود كلها سواء، ضَربٌ غير مبرح ، أي هو ضرب بين ضربين ، وهو قول الشافعي أيضاً، فيما قال أبو حذيفة وأصحابه : أن التعزيز أشدُّ الضرب، وضرب الزاني أشد من الضرب في الخمر ،وضرب الشارب أشدّ من ضرب القذف(2).

وهذا يأخذ بنا إلى أن هيئة المجلود أن يكون واقفاً لأنه سيكون أبعد منه إلى الأرض وعند ضربه جالساً سيكون الضرب أكثر شدة وقسوة ، وربما يكون سقوطه على الأرض أسهل مما هو واقف ، فيتحقق عند سقوطه على الأرض الشدة في الضرب فيخرج الجلد عن أصوله إلى الضرب الشديد المبرح وأن نجلد الرجل وهو واقف قول الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)(3).

ص: 403


1- ظ : الجهود اللغوية والنحوية عند ابن معصوم المدني / د. عادل عباس النصراوي :314 .
2- الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 6 / 465- 466 .
3- ظ : م . ن : 6/465 .

أما موضع الجَلَد فأننا نستشر من [فأجلدوهما]عموم جسم الرجل او المرأة وذلك لأن الجلِدَ شامل لكل الجسم ، ولو أراد بعضاً من الجسم لبعِضّه، فمثلاً يقال : ظَهَرهُ وبَطَنَهُ ورَأَسَهُ إذا أراد ضرب الظهر والبطن والرأس ، لكنْ هناك مواضع من الجسم قد تؤدي إلى القتل أو التشويه وهو خارج دلالة الجلد الذي يَعني به الضرب غير الشديد ولا المبرح ، فلذلك شرّع بعض الفقهاء محدودية الجلد فذهب مالك إلى ان الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر، وعن الشافعي وأصحابه أن يتقي الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء ، وقال ابن عطية : والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل(1) .

وقد أقترن الفعل جَلَدَ بالفاء ، فلعلها فاء الجزاء في الشرط على تقدير ، (الزانية والزاني مما فرض فيهما الحد إن زنيا فأجدوهما ....) ويدل على ذلك ما جاء في الآية السابقة لها في قوله سبحانه [سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ](2)، فَفَرْضُ حدِّ الزنا مّما فُرضَ في هذه السورة ، ثم فصلى في ذلك ، إنّ زنيا فالجلد حدّهما أي أن الفاء واقعة في جواب الشرط ، باعتبار أن حد الجلد المعّين فيها بمئة جلدة لغير المحصن مقترن بوقوع الزنا .

ثم قال تعالى : [وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دين الله ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر] وهو خطاب لأولي الامر ، إذ لا يقام الحد إلآ من قبل الأمام أومن ينوب عنه وذلك أنّ النبي محمد (صلى الله عليه واله )كان يأمر بتنفيذ الحدود لمن يقوم به عنه، والرأفة

ص: 404


1- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي :6 /256 .
2- سورة النور / الآية : 1 .

أشد الرحمة ، او هي أخص منها وأرقّ ، وهي لا تقع في الكراهية وربما تقع الرحمة في الكراهية للمصلحة(1)، وفيها احتمالان هما : أن يكون المراد أن لا تأخذكم رأفة بأن يُعِطّل الحدّ أو ينقض فتعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها للشفقة والرحمة ، وهو قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ؛ و الأحتمال الآخر أنْ لا تأخذكم رأفة بأن يخفّف الجلد وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وقتادة (2) ، وكلا الاحتمالين واردٌ فيها ، لكن الأول الأقرب في الدلالة لأن الخطاب موجّه لأولي الأمر وهؤلاء عليهم إقامة الحدود لا تركها ، فيما تكون تفصيلات تنفيذ الحكم للمأمورين من قبلهم .

وفضلاً عن ذلك أنّ المقام مقامُ تشريع الحدود لذا كان الاحتمال الأول أقرب لدلالة المقام عليه فضلاً عن مجيئ قوله [في دين الله] أي في حكم الله ، فقرن إقامة الحد بالدين أو الحكم ، إذ أن إقامة الحدود من دين الله ، فمن تأخر فيها أو عطّلها فكأنما عطّل دين الله تعالى ، لذا اردفها تعالى بقوله [ِأنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ] ، ثم قوله سبحانه [وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ] .

فسُمِّيَ الجلدُ لغير المحصن والرجمُ للمحصن بالعذاب لما فيه من أذى جسدي ونفسي ، فالأذى الجسدي من خلال الضرب والرجم بالحجارة ؛ والأذى النفسي من خلال حضور طائفة من المؤمنين ، وربما سمي كذلك لأنه عقوبة(3).

ص: 405


1- ظ : لسان العرب / أبن منظور : 5/82 – رأف .
2- ظ : التبيان / الشيخ الطوسي : 7 / 406 ؛ التفسير الكبير / الفخر الرازي : م 8/ 317 ؛ الجامع لأحكام القرأن / القرطبي : 6 / 467 .
3- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : م8 / 318.

واختلف في الطائفة ،(قال مجاهد الطائفة الرجل الواحد إلى الألف ، وقيل الرجل الواحد فما فوق ،وروي عنه أنه قال : أقلّه رجل، وقال عطاء أقلّه رجلان)(1) وعن الأمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) : أن أقله رجل واحد(2) .

وحصر الطائفة بالمؤمنين دون غيرهم لأجل أن يتعزز الحكم بوجودهم ويعظم موضع الأخبار كي يكون الحكم أكثر ردعاً فيخاف المجلود ويرتدع من يسمع بذلك خوفاً ، وطمعاً في الستر ؛ أو ربما يكون حضور غير المسلمين يكون رادعاً لهم من دخول الإسلام فأقتصر على المؤمنين دون غيرهم من أتباع الديانات الأخرى.

الآية الرابعة

اشارة

قوله تعالى :[ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا](3) .

دلالة ظاهر اللفظ في هذه الآية لا تُوحي أنّ فيها حكماً أو تشريعاً لقضيةٍ ما يعاني منها المجتمع ، وذلك لأن أغلب آيات الأحكام التي أنزلها الله تعالى تتعلّق بحدثٍ ما وقع فينزل فيه قرآنٌ يحدد أحكامه ويُشرِّع قوانينه فيكون دلالة ذلك السبب جزءً الدلالة الكلية التي تحملها الآية القرآنية ، فلا يستحوذ سبب النزول على الدلالة

ص: 406


1- لسان العرب / ابن منظور : 8/ 223 – طوف .
2- ظ : التبيان / الشيخ الطوسي : 7 / 406 .
3- سورة المائدة /الآية : 41 .

في النص المبارك ؛ لكن نجد بعضاً من علماء التفسير وعلوم القرأن الكريم قد ( اتخذوا أخبار أسباب النزول أداة للقول بخصوص السبب أو لتخصيص العموم وحرصوا على الحد من الشهود المبيّنة لهذا المواقف حتى لا تنشأ مقالة للموقف الذي فرض نفسه في أعمالهم ونعني به أعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب خاصةً في آيات الأحكام) (1) ، إذ لابُدّ من وجود توازن بين دلالة خصوص السبب المعتبر في أسباب النزول ودلالة عموم اللفظ التي تُؤخذ من معاني الألفاظ المكوّنة للنص القرآني ، وامتداد دلالة تلك الألفاظ في المجتمع الذي ولدت فيه وبجذور الثقافية لذلك المجتمع وما تفرزه تلك الثقافات من دلالات أضافية على المعنى لكل لفظ في ذلك النص ، لذلك دعا بعض المفكرين المعاصرين (إلى قلب المسلّمة التي استقرت في الوجدان الإسلامي منذ القرن الثاني الهجري إلى الأقرار بأن العبرة ليست بخصوص السبب ولا بعموم اللفظ معاً ، بل في ما وراء السبب الخاص واللفظ المستعمل له ؛ يتعيّن البحث عن الغاية والقصد ، وفي هذا البحث مجال لاختلاف التأويل بحسب احتياجات الناس واختلاف بيئاتهم وأزمنتهم وثقافتهم وما إلى ذلك)(2) ، لذا أنّ الطريق السليم لفهم النص هو أن يُقرأ من خلال اللغة التي جاء فيها ، مع الأخذ بثقافة العصر الذي تشكّل النص في إطارها ، وعدم إهدار السياقات الواردة فيه لأن إهدارها قد يكون بسبب من عدم الوعي بقوانين النصوص اللغوية وسياقاتها الداخلية والخارجية (3).

لقد تعدّدت الروايات في أسباب نزول هذه الآية المباركة ، فذكر الواحدي أن رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) مرّ بيهودي محمّاً مجلوداً فدعا بعض اليهود

ص: 407


1- أسباب النزول / د . بسام الجمل : 367 .
2- الإسلام بين الرسالة والتأريخ / د . عبد المجيد الشرفي : 367- 368 .
3- ظ : قراءة في سورة الرحمن / د . عادل عباس النصراوي (بحث منضد)

فقال لهم :أهكذا تجدون حدّ الزنى في كتابكم فقالوا : نعم ، فدعا رجلاً من غلمانهم فقال أنشدك الله الذي انزل التوراة على موسى (عليه السلام) هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم، قال:لا ، ولو لا أنك نشدتني لم أخبرك ، نجد حدّ الزنى في كتابنا الرجم ، لكنه كثر في اشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركنا وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحدّ ، فقلنا :تعالوا نجتمع على شيئ نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم ، فقال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) : اللهم إني أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم(1) ؛ فانزل قوله سبحانه [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] إلى قوله :[ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا].

أضاف السيوطي سبباً آخر رواه ابن عباس (قال : انزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت أحداهما الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا ، فأصلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فدية خمسون وسقاً ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مئة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله (صلى الله عليه واله) فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً فأرسلت العزيزة أن بعثوا إلينا بمئة وسق ، فقالت الذليلة وهل كان ذلك في حين قطُّ ؛ دينهما واحد ونسبتهما واحدة ويلدهما واحد دية بعضهم نصف بعض ، وانأ أعطيناكم هذا ضيماً منكم وخوفاً وفرقاً ، فأما إذا قدم محمد فلا نعطيكم ، فكادت الحرب تهيج بينهما ثم أرتضوا على أن جعلوا رسول الله (صلى الله عليه واله)

ص: 408


1- ظ : اسباب النزول/ الواحدي : 145 ؛ لباب النقول /السيوطي : 80 .

بينهما فأرسلوا ناساً من المنافقين ليختبروا رأيه فأنزل الله [ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر](1).

وأورد الشيخ الطوسي في التبيان ، والزمخشري في الكشاف، والفخر الرازي في التفسير الكبير ، وأبو حيان في البحر المحيط ، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم ، والطبرسي في مجمع البيان قريب؛ من لفظ الرواية الأولى ومضمونها (2)، في حين أهُملت الرواية الثانية في أغلب كتب التفسير ، ولعلي أرى أن ظاهر دلالة النص المبارك لا يتوافق مع هذا الحدث ، إذ لا يوجد ما يدلّ على تحريف في أمر ، بل هو أتفاق بين القبيلتين على دفع الدية ، فنكثت الذليلة ما تعاهدوا عليه ، وكان بإمكان العزيزة أن تحصل على أرادت بقوتها ، ولا يوجد في الحدث ما يدعو إلى التسارع في الكفر أو غيره ثم أنهم لمّا ارتضوا برسول الله (صلى الله عليه واله ) حكماً بينهم ، فما المسوغ أن يبعثوا من المنافقين لاختبار رأيه وبالنتيجة أنّ هذا الحدث ملفّق ولا يتفق مع مضمون النص ، ولهذا لا يمكن قبوله سبباً لنزول الآية .

بيد أن ما ذُكر من حادثة الزنا هو أقرب لدلالة النص عليه ؛والتحليل اللغوي سوف يكشف عن قرب سبب النزول لدلالة الآية المباركة .

ص: 409


1- لباب النقول /السيوطي : 79- 80 .
2- التبيان / الطوسي :520 ؛ الكشاف /الزمخشري :1/666 ؛ التفسير الكبير / الرازي :11/359 ؛ الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 3/533 ؛ البحر المحيط / ابو حيان : 3/668 ؛ تفسير القرآن العظيم / ابن كثير 21/ 59 ؛ مجمع البيان / الطبرسي :23/ 193 .

وقوله سبحان [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر] ، ولم يقل يا أيهّا النبي ، وذلك لسببين أولهما: تسليةٌ له(صلى الله عليه واله ) وثانيهما إنَّ لفظ الرسول لم ترد إلآ في هذه الآية ،بقوله سبحانه [ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ](1)، وفي كلا الآيتين أمرٌ من الله تعالى بإبلاغ أحكامه للناس كافة ، فشرفه بذلك تسليةٌ له إذ إن (الرسول معناه في اللغة الذي يُتابع أخبار الذي بعثه ، أُخِذَ من قول العرب : قد جاء الإبل رسَلاً أي جاءت متتابعة ، قال الاعشى :

يسقي دياراً لنا قد أصبحت غَرَضاً $$$ زوراء أجنفَ عنها القودُ والرَسَل (2)

و به سمي النبي لتتابع الوحي إليه ولو جاء الخطاب إلى رسول الله محمد (صلى الله علي واله ) بصيغة النبي أي (يا أيها النبي ) لما أفاد ابلاغ رسالة أو تنفيذ حكم ، ولا أردفه بقوله [وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ،إذ انّ من شأن الرسول أن يَنْفَّذ أمر الله على الجميع ولا يستثني منهم أحداً ،فَحُزْنُ الرسول (صلى الله عليه واله ) لم يكن من الكافر المعلن كفره بل من المنافقين ، فالفعل (أسرع) يتعدى إلى مفعوله بالحرف (إلى) فيقال أسرع إليه ، لكنه هنا عّداه بالحرف (في) المفيد للظرفية ، ليدلّ على أن هؤلاء المنافقين استغلوا ظاهر إسلامهم ليدخلوا في المسلمين ، فكان المسلمون لهم وعاءً ليبنوا سمومهم وحقدهم للقضاء على شأفة الإسلام من الداخل ، وهذا أعظم أثراً وأشدُ على الإسلام من اليهود المعلنين كفرهم وبغضهم للنبي محمد (صلى الله عليه

ص: 410


1- سورة المائدة / الآية : 67 .
2- الزاهر / ابو بكر الانباري : 1/127 .

واله ) وللمسلمين ، وهؤلاء لا يحتاجون إلى أنْ يسمعوا ، لأنهم يعيشون في قلب الحدث في حين كان اليهود أبعد منهم وهم بحاجة كبيرة لان يسمعوا ، لهذا كان الوقوف على قوله تعالى [ولم تؤمن قلوبهم] فيه تمام معنى ، ومنقطع عما بعده في قوله تعالى [وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ](1) ، إذ جاء مستأنفاً اي اليهود وقد أخبر عنهم تعالى أنهَّم[ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ] ويقال : (رجل سمّاع إذ كان كثير الاستماع لما يُقال ويُنطق به)(2)، وقد فُسَّر قوله تعالى[سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ] على وجهين ، أحدهما أنهم يسمعون لكي يكذبوا فيما سمعوا ، ويجوز أنْ يكون معناه أنهم يسمعون الكذب ليشيعوه بين الناس(3)، وكلا الاحتمالين قائم والأول ارجح ،لأنهم يعلمون أنهم قد حّرفوا التوراة وانزلوا غير إحكامها، ويعلمون أن الرسول( صلى الله عليه واله ) لو حكم بينهم لحكم بحكم التوراة قبل تحريفها ، فلذلك هم كانوا يعلمون بحكم الرسول(صلى الله عليه واله ) فيهم ، فكانت حادثة زنا اليهودي واليهودية ممن شَرَف عندهم وسيلة لتكذيبه (صلى الله عليه واله ) عندما يصدر عليهم حكم الرجم ، لذا كان توجيه زعماء اليهود لهؤلاء المرسلين إليه (صلى الله علية واله ) من قبلهم أن يحذروا من قبول حكم الرجم لان هذا الحكم موجود في التوراة ، وهم لا يرغبون في أنزاله بالمذنبين من إشرافهم فوّجهوا بالحذر من قبوله منهم ، لان ذلك مصيبهم وموضحاً لفسادهم في تحريف التوراة .

إذن أسَّست هذه الآية المباركة لحكم رجم الزاني والزانية من المحصنين ،وكان سبب النزول قد وثّق هذه الحادثة ،فضلاً عن أن الآية قد وضعت حدوداً للتعامل مع

ص: 411


1- سورة المائدة / الآية :41 .
2- لسان العرب / ابن منظور : 6/365- سمع .
3- ظ : م . ن .

اليهود و اخبرت عن صفاتهم وكراهيتهم للرسول محمد (صلى الله عليه واله ) ولعامة المؤمنين ، إذن لم يكن سبب النزول في هذه الآية قد أستحوذ على كل الدلالة بل كانت دلالة النزول جزءً من دلالة عموم لفظ الآية ، فضلاً عن ذلك كشفت الآية عن تحالف المنافقين واليهود لهدم صرح الإسلام ، فالمنافقون يعملون على هدمه من الداخل ، واليهود من الخارج ، لذا كان حزن النبي (صلى الله عليه واله ) كبيراً، فأيّده الله بنصره وعظّمه بخطابه [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ] تشريفاً له وتسليةً ، واخباراً بالنصر المبين على هؤلاء.

وفي ختام هذه الدراسة نجد أن الله تعالى قد خصّص كل آية بحالة من حالات الزنا وما يتعلق به ، فشرّع في الأولى أحكام عقوبة السحاق وفي الثانية أحكام اللواط وفي الثالثة أحكام زنا الابكار من النساء ، وفي الآية الأخيرة أحكام زنا المحصنين .

ص: 412

ثانيا: حدُّ القذف

الآيتان الأولى والثانية

قوله تعالى: [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأصلحوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ](1)

بعد أن أسسَّت الآيات السابقة عقوبة حدّ الزنا وأحكامه ، فرّعت هاتان الآيتان حُكماً للذين يرمون عموم المحصنات من المسلمات وغيرهن بالزنا ، لا لغيره ، وذلك أن موضوع الآيات السابقة كان فيه . وإرادةً لأتمام هذا الموضوع ، وضعت أسساً لقاذف المحصنة ، فقال تعالى [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ] ، ف-- [وَالَّذِينَ] جاء لفظاً عاماً ، وهو الغالب للرجل والمرأة ، مسلماً أو كافراً، حراً كان أو عبداً ، فأما التصنيف في الأماء والعبيد فقد جاء في الزنا (2) ، لقوله تعالى [فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ](3) .

ص: 413


1- سورة النور/ الايتان : 4-5 .
2- ظ : كنز العرفان / السيوري : 662.
3- سورة النساء / الآية : 25.

الرمي في اللغة من الفعل (رمى) الذي يتعدى بنفسه أو بالحرف مثل رمى به ورمى عن القوس ، ورمى عليها وبها ، والرمي : القذف قال (ابن الاعرابي : ورمى فلانٌ فلاناً بأمرٍ قبيح ، أي قذفه، ومنه قوله (عز وجل) [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ]، [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ](1)، معناه القذف)(2)، والرميّ إنما سُمّي قذفاً كونه في موضع الشك ، لأنه مبنيّ على الظن ، قال ابن منظور :(ورمى فلانٌ يرمي إذا ظن ظناً غير مصيب ، قال ابو منصور هو مثل قوله (عز وجل) [رَجْمًا بِالْغَيْبِ](3)(4) .

فلما كان الرمي ّ مبنياً على الظن والشك ، فكان لا بُدَّ للشريعة من أنْ تضع عقوبةً لذلك حفاظاً على أعراض الناس وعدم إشاعة الفاحشة ولضمان المصلحة العامة وسلامة المجتمع .

أما [الْمُحْصَنَاتِ] فهو لفظ شامل للمتزوجات وغير المتزوجات العفيفات من الحرائر والأماء المسلمات وغير المسلمات ، على ظاهر اللفظ - كما بيّنا على ذلك – إذ لم يحدّد اللفظ فئةً منهنّ ، ولا توجد قرينة مانعة أو محدّدة لذلك . إلاّ أنّ منهم مَنْ جعل للأحصان شرائط خمسة : الإسلام ، والعقل ، والبلوغ ، والحرية ، والعفة ، وقال الفخر الرازي في شرائط الإسلام : (وإنما اعتبرنا الإسلام لقوله " عليه السلام" "مَنْ أشرك بالله فليس بمحصن")(5)؛ والراجح أنّها لعموم المحصنات ، وأن جاء سبب النزول في السيدة عائشة زوج النبي (صلى الله عليه واله ) أو في نساء المؤمنين (6) وذلك أن ّ قوله

ص: 414


1- سورة النور / الآية : 6 .
2- لسان العرب / ابن منظور : 5/ 329 – رمى .
3- سورة الكهف / الآية : 22 .
4- لسان العرب / ابن منظور : 5/ 329 – رمى .
5- التفسير الكبير / الفخر الرازي : م 8 / 323 .
6- ظ : التبيان / الطوسي : 7/ 408 ؛ الجامع الكبير لأحكام القرآن / القرطبي : 6 /502 .

تعالى سبحانه [إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ](1) قد أختصّت برمي المحصنات من المؤمنات فقط دون غيرهم ، وإنْ كُنَّ داخلات في عموم اللفظ .

ودلالة الأَحصان في اللغة المنع ، فالمتزوجات ممنوعات من الكلّ غير أزواجهن ّفي سُنَّة الله تعالى ، والعفيفات غير المتزوِّجات ممنوعات من الكِّل لذات السبب .

وقوله سبحانه [ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ]،استعمل فيه (ثُمَّ) أداة ً للعطف الدالة على التراخي والترتيب ، أيْ أنَّ على القاذف أن يأتي بأربعة شهداء ليشهدوا على صحة ما وصف به المحْصَنَة ، مع وجود مهلة محدّدة وهي من يوم القذف حتى إصدار الحكم ،وفي هذه المهلة لم يتَرتّب عليه أي شيئ من العقوبات فيها ما لم يقع الحكم بالعفو أو العقوبة ، وهذا إنما استنتج من (ثُمّ).

واستعمل الفعل في [لَمْ يَأْتُوا] مضارعاً منفياً ب- (لم) لأخذ الفعل من زمن الحاضر والمستقبل إلى الزمن الماضي ، لأنَّ الأداة (لم) من أدوات النفي ،فهي تخلص مدخولها وهو بناء (يفعل) للماضي (2)، وفضلاً عن دلالة (لم) على النفي ، فبدخولها على المضارع أفادت توكيد الفعل في عدم الإتيان بالشهداء الأربعة حتى

ص: 415


1- سورة النور / الآية : 23 .
2- ظ : الفغل - زمانه وابنيته - / د . فاضل السامرائي : 33 .

اللحظة قبل صدور الحكم ؛ فعند التيقّن من ذلك بالحجج والبراهين ، يجب عندها إصدار العقوبة .

قال تعالى [فَاجْلِدُوهُمْ] ؛ الفاء هنا واقعة في شبه جواب الشرط لشبه الشرط في قوله سبحانه [لَمْ يَأْتُوا] ووظيفتها الربط ، إذ ذكر ابن هشام الانصاري (ت 761ه-) في أحد تنبيهاته في وظيفة الفاء بقوله : (تربط – أي الفاء – شبه الجواب بشبه الشرط ، وذلك في نحو "الذي يأتيني فله درهم" ، وبدخولها فَهِمَ ما أراده المتكّلم من ترتّب لزوم الدرهم على الإتيان ، ولو تدخل احتمل غيره)(1)، لذا نفهم من دخول الفاء على (اجلدوهم) أن لزوم الجلد يترتّب على عدم الإتيان بالشهداء الأربعة وبعكسه لا يترتّب الجلد ، بل يُقام حدّ الجلد ذاته على مَنْ شهد في حالة إنكار أحدهم الجناية ،أو عدم تيقّنه من وقوعه وارتباك شهادته .

ولو أرادة عدم جلدهم في حال نكول أحدهم لأخَّرَ قوله[لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ] ولقال : (والذين يرمون المحصنات فاجلدوهم ثمانين جلدةً إن لم يأتوا بأربعة شهداء) ،فيكون حكم الجلد على القاذف فقط دون الباقي الشهداء ، لكن عندما قدّم فعل عدم الإتيان بالشهداء على فعل الجلد ، فكأنه أراد شمول الباقي منه بالجلد ، وذلك لأنّ هؤلاء يُعدّون ممّن قذف المحصنة بشهاداتهم وقد يكون القاذف صادقاً فيما يقوله،ولكنه عُوقِبوا صيانةً للأعراض(2).

ص: 416


1- مغني اللبيب / ابن هشام : 1/33.
2- كنز العرفان / السيوري : 663.

وعند عدم وجود الفاء الرابطة سيترتّب حكم آخر ، إذ ينتفي وجود شبه الشرط بسبب عدم تعلّق جملة [ لَمْ يَأْتُوا ] حينها بجملة ( اجلدوهم ) من حيث دلالة الجلد ، وعندها سينتفي وقوع الجلد على الشهداء في حال نكول أحدهم أو بعضهم في الشهادة .

إذن كان وجود الفاء الرابطة هنا معزِّزاً للحكم ومفيداً لضرورة التيقّن في الشهادة ؛وإن إدخال الشهداء في جملة من يقع عليهم مسؤولية صيانة أعراض المسلمين ، لا مجرد أداء الشهادة .

أما عود الضمير (هم)في (اجلدوهم)فيكون على حالين :.

1-أنه يعود على [الذين] في حال عدم الإتيان بالشهداء من قبل القاذف.

2-أنه يعود على الشهداء الباقين في حال عدم شهادة أحدهم أو بعضهم لصالح القاذف .

وفي هذا التركيب اللغوي جمالية رائعة من حيث الاختصار مع أتساع الدلالة في هذه الكلمات القليلة بهذا التركيب الجملي والنظم الرائع .

أما الخطاب في مجمل الآية ، فهو موجّة إلى أئمة المسلمين في إقامة الحدود إذ لا يقوم بتنفيذها غير الأمام أو من ينوب عنه في ذلك . وحُدِّد عدد الشهداء في القذف بأربعة من الرجال ، وفي حال عدم توفّر الأربعة فيكون ثلاث رجال وامرأتين وهكذا ، إذ يقوم عن كَلِّ رجلٍ امرآتان لقوله سبحانه [فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ

ص: 417

الشُّهَدَاءِ](1)أما عدد الجلدات فثمانون على ظاهر اللفظ في الآية ، وبه قال أكثر الأمامية ، في الحر والعبد على السواء ؛ فيما ذهب أكثر الفقهاء إلى أربعين جلدةً قياساً منهم على قوله سبحانه [فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ](2)أي الأماء ، مُقاساً عليهن العبد من الذكور (3).

أما قوله تعالى :[ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا] ، فقد عقّب به على قوله [فَاجْلِدُوهُمْ] بواو العطف ، ويكون ما بعدها معطوفاً عليه ، أي أنَّ عدم قبول شهادتهم مبنيٌّ على إقامة الجلد ؛ وهو على سبيل التأبيد بقرينة [أَبَدًا] الدالة على ذلك ؛ ولا يقع عدم قبول الشهادة قبل إقامة الجلد بل بعده .

ثم يستأنف بقوله سبحانه :[ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] ، إذ إنَّ الواو هنا تفيد الاستئناف ، وواصفاً إياهم – أي الذين يرمون المحصنات والذين فسدت شهاداتهم – بالفسق ؛ ثم استثنى من ذلك جماعة بقوله : [إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأصلحوا] ؛ وأختُلف في هذا الاستثناء في مرجعيته ، وقد ذكر الطبرسي أنه يرجع إلى قولين(4) :

الأول: إنه يرجع إلى الفسق خاصة ، دون قوله [وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا]،وعلى ذلك أن في توبتهم يزول الفسق لا شهادة .

ص: 418


1- سورة البقرة /الآية :282 .
2- سورة النساء /الآية :25 .
3- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : م 8 /323 .
4- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : 4/ 226 .

الثاني :إنه يرجع إلى أمرين معاً ؛ فأذا تابوا – أي الذين قذفوا المحصنات ، أو الشهود دون الأربعة الذين لم تتم بشهاداتهم الشهادة - قُبلت شهاداتهم ورُفع عنهم الفسق ، وهو أختيار الشافعي وأصحابه ، وقول الإمامين أبي جعفر الباقر وابي عبد الله الصادق (عليهما السلام) .

ويمكن القول بأن الاستثناء يرجع إلى [وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا] لأن في قبول الشهادة ، زوال الفسق أيضاً إذ لا شهادة لفاسق .

ثم ختم الآيتين بقوله سبحانه [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ، فقرن الغفران بالرحمة ،لأنَّ الله برحمته يغفر الذنوب ويحطّها عن المسلمين الذين يطلبون منه رأفةً ورحمةً ومسامحةً على ما ارتكبوه من الذنوب .

وتجد تفاصيل طريقة الرجم وتفاصيله للرجل والمرأة ؛ وآراء العلماء والفقهاء واختلافهم واتفاقهم في أحكام القذف منتشرة في كتب الفقه والأصول وبعض التفاسير ، ممّن يُعنىَ مفسروها بالأحكام الشرعية ، ولم أذكر ذلك لأنه ليس من اختصاصي .

إذن الآيتان وضعتا إحكام القذف بشكل عام للرجال والنساء ، من المسلمين والكافرين ، أحراراً كانوا أو عبيداً وإماءً ، ولم يستثنِ منهم أحداً وذلك لأنَّ أحكام الإسلام وتشريعاته لم تكن مقيّدة بفئة دون أخرى في المجتمع العربي الإسلامي لأنه دين للبشرية جمعاء .

ص: 419

الآية الثالثة

قوله تعالى : [إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ](1)

بعد أن بيّن الله تعالى حكم قذف عموم المحصنات من المسلمين وغيرهن ، سواء كن من متزوجات أم عفيفات ؛أراد الله أن يؤكد هذا الحكم لا أن يخص به جماعة دون جماعة ، لأن سياق الآيات التي وردت فيها هذه الآية ، هو سياقٌ توجيه للمؤمنين في عدم أتباع خطوات الشيطان كيفما كانت ،من نحو قطع المنافع عن ضعفاء المسلمين بعد حادثة الأفك وغيرها ، فوردت هذه الآية في سياق توجيهي لعموم المسلمين ويحذرهم فيها من رمي المحصنات المؤمنات الغافلات ، ولعل مجيئ لفظة[الْغَافِلَاتِ] يوحي بأن المحصنات لفظ عام لكافة المؤمنات ، اذ إن معناها اللواتي لم يفطنَّ عمّا يقع من حولهنّ أو اللاتي لم يحسبن حساباً لما يحيط بهنِّ ، وهذه المسألة عامة ، بسبب أن المجتمع النسوي غالباً ما يكون بعيداً عمّا يقع من أحداث أجتماعية أو غيرها ، فالغفلة لا تعني هنا عدم الفطنة أو البلاهة ، بل جاء بمعنى عدم المعرفة بتفاصيل ما يجري من أحداث قذ تنسحب آثارها عليهنّ ، وهذا أمرٌ عام يشمل اغلب نساء المسلمين إذ انّ من طبيعة المجتمع العربي الإسلامي أن تقرّ النساء في بيوتهنّ لتربية أبنائهن ، وهو أعظم عمل كُلّفِن به .

ص: 420


1- سورة النور/ الآية : 23 .

وهناك نرأى أنّ في هذه الآية تخصيص جملة من النساء المؤمنات هُنّ عاشة وسائر ازواج النبي محمد (صلى الله عليه واله) ، فمن قذف غيرهنّ من المحصنات فقد جعل الله له توبة لأنّه قال [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ]إلى قوله [إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصلحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ](1)، في حين لم يجعل لمن قذفهنّ من توبة لشرفهن وقربهنّ من النبي (صلى الله عليه واله) ، وهذا غير صحيح وذلك :.

1-- ان الله تعالى قد شرّع حكم قذف المحصنات على العموم ، وأزواج النبي محمد (صلى الله عليه واله) داخلات في ذلك باعتبارهن من المؤمنات

2-- أكثر العلماء ذكروا أنّ الآية إذا نزلت على سببٍ معين لم يجب قصرها عليه(2) ، بل إنّ دلالة سبب النزول ستكون جزءً من دلالة عامة تحتفي بها الآية .

ومنهم من رآى أن سبب نزولها كان في مشركي مكة ، حين كان بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه واله) عهد ، فكانت المرأة اذا خرجت إلى المدينة مهاجرة ،قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا انما خَرجَتْ لتفجُر فنزلت فيهم(3) ، وهذا السبب بعيداً أيضاً ، لأنّ المؤمنة المهاجرة من مكة إلى المدينة ، تعلم ما سيلحقها من أذى من أبناء قومها وبلدها الذي تركته لكفرهم، فهي تكون بذلك قد هزأت بهم وأنكرت عليهم دينهم وسفَّهتم ، لذا فأنَّ مثل هذه المؤمنات لا يمكن وصفهنَّ بالغفلة ، وعليه فلا يمكن انّ نعتدَّ هذا سبباً لنزول الآية .

ص: 421


1- سورة النور / الآيتان 4و5 .
2- ظ : التبيان / الطوسي : 7/422 .
3- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : م 8 /354، الجامع لإحكام القرآن / القرطبي: 6 /502 .

ثم أن في قوله : [لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ] ، لم يُبّين مدى حدود اللعنة وعقوبتها سواء في الدنيا أم في الآخرة ، وربما كانت الدلالة أنهم ملعونون في الدنيا بتحديد عقوبة القذف ، وفي الآخرة باعتبار أنّ أمر الحكم على القاذف هو منزل من الله تعالى ، فوقع عليهم بذلك العذاب في الدنيا والآخرة وهذا هو أعظم العذاب لهم ولذا قال تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]إذ تمثل هذه العقوبة عذاباً مادياً بالجلد ومعنوياً بعدم قبول شهاداتهم ووصفهم بأنهم فاسقون في الدنيا والآخرة .

ثالثا : حد الحرابة

الآية الأولى

قوله تعالى : [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ](1) .

ذكر علماء التفسير لهذه الآية المباركة عدّة أسباب لنزولها واختلفوا فيه فقد ذكر المفسرون أنّها (نزلت في قومٍ كان بينهم وبين النبي (صلى الله عليه واله) موادعة فنقضوا العهد ، وأفسدوا الأرض ، فخيّر الله نبيّه فيما ذكر في الآية ؛ وقال الحسن وعكرمة أنها نزلت في أهل الشرك وقال قتادة ، وانس وسعيد بن جبير والسدّي،أنها

ص: 422


1- سورة المائدة / الآية : 33.

نزلت في العرنيين والعكليين حين ارتدوا وأفسدوا في الأرض فأخذهم النبي (صلى الله علية واله)وقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمَل أعينهم)(1).

وعلى ضوء هذه الأسباب حدِّدوا الحدود والعقوبات وفصلوا فيها ، إذ إنّ كلّ سببٍ رُبمّا يأخذ على بالمفسر إلى أن يتخذ منه سبيلاً لوضع الأحكام وتفصيلاتها ، لما له من دور في تحديد بعض دلالات النص ، لانَّ عموم اللفظ أوْسع دلالة من خصوص السبب لكنّ جمهور المفسرين ذهبوا إلى أنّ الآية نزلت في قطّاع الطريق ، وعليه جلُّ الفقهاء(2).

فقوله تعالى :[ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]،أبتدأ ب- (إنّما) المفيدة للحصر فهي مؤلفة من (أنّ) المفيدة للتأكيد ، و (ما) الكافة عن العمل ؛ وظيفة (إنّما) هنا لتأكيد الجزاء على المحاربين وحصره بهم ، فجاءت (ما) للإحاطة بالحكم وزيادة تأكيده ،و(الجزاء)هنا بمعنى العقوبة على جريمتهم في الحرابة ، فقال (يحاربون) من الفعل (حَرَب) وذكر ابن فارس (ت 395ه-) معاني حَرَب فقال: (أحدها السَّلب ... واشتقاقها من الحَرَب ، وهو السلب؛ فيقال حَرَبيْةُ مالَهُ ، وقد حُرِبَ مالَهُ ، أي سَلَبَهُ حَرَباً ،... وحربتهُ الرجل : مالُهُ الذي يعيش به ، فإذا سُلِبَهُ لم يُقيِمْ بعده )(3)، وهذا المعنى اللغوي عليه أكثر المفسرين؛غير أنَّ أباَ عبيدة (ت 210ه-) كان يرى ان المحاربة هنا هي:الكفر(4)؛ وربما يكون ذلك حينما ننظر إلى البعد المجازي للفظة

ص: 423


1- التبيان / الطوسي : 3 /503 ، ظ : الجامع لإحكام القرآن / القرطبي : 3/ 509 – 510 ، التفسير الكبير / الفخر الرازي : م 6 / 345 – 346 .
2- ظ : مجمع البيان / الطبرسي : م 2 / 188 ، التفسير الكبير / الفخر الرازي : م 6 / 346 .
3- مقاييس اللغة / ابن فارس : 240 – حَرَب ؛ ظ : لسان العرب / ابن منظور : 3/ 100 – حرب
4- ظ : مجاز القرأن / أبو عبيدة : 1/ 164 .

المحاربة ، إذ نلمس فيها مجازاً في مجاوزة حدود الله وأحكامه وشرائعه التي نَدَب لها النبي محمد (صلى الله عليه واله) ،فسمّى هذه المجاوزة كفراَ ؛ لكن الذي ذهب إلى الحقيقة في دلالتها يجد أن الدلالة تذهب إلى المعنى اللغوي المتمثل بالسلب ، وانما ذكر محاربة هؤلاء المحاربين لله تعالى ورسوله (صلى الله عليه واله) ، لعظم ما يقوم به هؤلاء من شر وفسادٍ في وتعطيل لأحكام دينه وشريعته ؛ بل تعطيل الحياة العامة ، لنشرهم الفساد ، لذا أردفه بقوله سبحانه [وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا] ؛ والسعي هو الحركة والانتقال ، وقال ابن فارس (سعىَ يسعىَ سَعياً ، إذا عدا)(1)،ويجئ السعي بمعنى القصد(2) ؛ ويأتي أيضاً في الاصطلاح وفي الهلاك والأذى(3)والقرينة هي التي تأخذ بزمان الدلالة ، فتكون دلالة(يسعون) إشاعة ما من شأنه نشر الأذى بين الناس على وجه من سرعة بدلالة (سعىَ) على العَدْوِ ، مع وجود قصد سيئ وفاسد ، بقرينة (فساداً) التي جاءت مفعول لأجله ، كما لو قلت : يقوم الرجل إجلالاً للعالم واحتراما ، أي أنَّ قيامهُ لأجل إجلال العالم واحترامه ؛ وهذه الدلالة أرجح مما لو قلنا أن (فساداً) جاءت مصدراً في موضع الحال أو غيره(4) وذلك لأن الحال يأتي لبيان هيئة صاحب الحال ، هذه الدلالة غير مطلوبة في هذا المقام ؛ بل هي بعيدة ، لانّ دلالة (يسعون) تدلّ على من يقوم بالفساد، فاستُغِنيَ بها عن كون (فساداً) حالاً .

ص: 424


1- مجمل اللغة / ابن فارس : 311- سعىَ .
2- ظ : لسان العرب / ابن منظور : 6 / 271 – سعا .
3- ظ : م . ن : 6/272- 273.
4- ظ : البحر المحيط / أبو حيان : 3 /653.

ثم قال [أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصلبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ]، فأورد الأفعال على صيغة (فعَّل)الدالة على كثرة الفعل وتكراره مرة بعد اخرى ، ولعل شدّة الأذى وكثرة الفساد من الحرابة هو الذي دعا إلىَ شدة العقوبة فكرّر أفعال الجزاء .

وقد اختلف العلماء بين الجمع والتفريق أو الترتيب في العقوبات المذكورة ولعل منشأً ذلك في بعض الأحيان منشأ لغوياً ، إذ إنّ فهم النص وفق آليات اللغة فيه اتساع في الدلالة بسبب من كثرة الاحتمالات وتعدّدها ،وربما يضيق المتلقّي باللغة فيحصر الدلالة بأقل ما يمكنه وذلك باستعمال الحدود الدنيا لمجال دلالة الألفاظ والصيغ ، فتضيق الدلالة بضيق المجال الدلالي ؛ وجاء كذلك في النص المبارك (أو) العاطفة المفيدة للتخيير والإباحة أو الترتيب والتفصيل بحسب السياق الذي ترد فيه(1)؛ فالذي ذهب إلى كون (أو) دالة على التخيير،أباح للأمام أن يختار من هذه العقوبات ما يشاء ، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وجاهد والضحاك والنخعي وكلهم قال:(الأمام مخيّر في الحكم على المحاربين ، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي)(2)،ويعضد هذا الرأي ظاهر الآية الذي يوحي بالخبار ، وقد ضعّف الفخر الرازي هذا القول بوجهين(3) :

الأول :انه لو كان المراد من الآية التخيير لوجب أن يمكّن الأمام من الاقتصار على النفي ، ولما أجمعوا على أن ليس له ذلك علمنا أنه ليس المراد من الآية التخيير .

ص: 425


1- التفسير الكبير / الفخر الرازي : م6 /346.
2- الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 3/512.
3- التفسير الكبير / الفخر الرازي : م6 /346.

الثاني :إنّ هذا المحارب إذا لم يُقتَل ولم يُأْخذ المال فقدهَّم بالمعصية ولم يفعل.

وأما الذي ذهب إلى أنَّ (أو) تفيد الترتيب والتفصيل فقد حدّد لكل جريمة من جرائم الحرابة حدّاً معيّناً ،فمنهم من قال يُقْتَل ويَصلب ؛ ويقول بعضهم يُصلب و يُقْتَل ؛ ويقول آخرون: تقطع يده ورجله ؛ ومنهم قرّر النفي (1) أي أن الاحكام تختلف باختلاف الجنايات ، وهذا هو قول أكثر العلماء ، وهو مذهب الشافعي (2) وإلى ذلك ذهب الأمامية فقال الشيخ الطوسي (ت 460ه-) : ( وجزاءهم على قدر الاستحقاق ، إن قَتَل قُتِلَ وإن أخذ المال قَتَل قُتِلَ وصلبَ ، وإن أخذ المال ولم يقتل قُطِعَت يده ورجله من خلاف ، وإن أخاف السبيل فقط فأنّ عليه النفي لا غير ؛ هذا مذهبنا ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)(3).

ولعل القول يكون (أو) تفيد التفصيل هو الأرجح ، وذلك أنها لا تأتي مفيدة للتخيير إلا إذا وقعت بعد طلب(4) ، من نحو ( إقرأ الكتاب أو أكتب الدرس ) وقولنا (خذ قلماً أو دفتراً) فأنت مخيّر بين أحد الأفعال ولم يجز لك فعلهما جميعاً ، لأنّك خالفت الأمر والطلب .

أنَّ السياق العام للآية لا يوحي بالطلب أو الأمر حتى تكون (أو) مفيدة للتخيير ، لذا كانت إلى التفصيل أقرب لأنّ الجزاء يكون موازياً للجريمة ، وإذا كان أكبر من الجرم ، فيكون في ذلك حيف على المجني عليه .

ص: 426


1- الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 3/512.
2- التفسير الكبير / الفخر الرازي : م6 /346.
3- التبيان /الطوسي : 3/502- 503 .
4- ظ : معاني النحو / د . فاضل السامرائي : 3 /218 .

أما مجيئ الأفعال (قَتّل ، صلب ،قَطَّع) على صيغة التكثير (فَعَّل)بسبب من عِظَم الجريمة وأثرها التشنيع على المجتمع ، لذا غَلّظَ الله تعالى على من يقوم بذلك في الدنيا والآخرة ؛ ولها وجهان في الدلالة مرجعهما الدلالة الكثرة في صيغة( فَعَّل) وهما :

أولهما : التشديد في الوعيد والعقوبة على من يجتريء بممارسة الحرابة على المجتمع ، فأستعمل صيغة ( فَعَّل ) الدالة على التكثير لمناسبة فعل الجزاء مع الجريمة .

ثانيهما: أن دلالة (فَعَّل) تعني أقامة عقوبة القتل على المجرم لا تكون بضربة واحدة ، وإنما أكثر من مرة وفي مواضع القتل من الأنسان ؛ وأمّا دلالة (صلب) فتعنيث صلب المجرم أكثر من مرة ،فهو يُصلب قبل القتل وهو حيّ ويصلب بعد القتل أيضاً ؛ وأما (قَطَّعَ) فهي الأخرى تعني دلالة القطع أكثر من مرة ،وهذا المعنىَ وهذا موجود في قطع الأيدي والأرجل .

إذن دلالة التكثير متحققة في هذه الأفعال ، وفق هذا الوجه ، ولعل هو الأرجح في الدلالة ، وإن كان الوجه الأول فيه من الوجاهة مالا يمكن التغاطي عنه .

أما الفعل دلالة (ينفوا) فالوجه فيها الإبعاد والتشريد والملاحقة أكبر من دلالة السجن أو الحبس لمن أوقع المخافة في الناس ؛ فقد ذكر ابن فارس أن الفعل نفىَ (يدلَّّ على تعرية شيء وإبعاده منه ، ... ونَفِيٌّ الريح ما تنفيه من التراب حتى يصير في أُصول الحيطان ، ونفيُّ المطر : ما تنفيه الريح وترشَهُ)(1) ، فعبر عن النفي

ص: 427


1- مقاييس اللغة / ابن فارس : 1001 – نفي .

بمعنَى إبعاد الشيء عن أصله ورميه بعيداً عنه في مكان غير مكانه ، وعدم استقراره ، لذا قيل في معنى الآية ( يُقاتلون حيثما توجهّوا لأنه كون)(1)، ولعل ما يسند دلالة الإبعاد والملاحقة هو ما تدل عليه لفظة الأرض ، فقد ذكر ابن منظور : (أرض الإنسان ركبتاه فما بعدهما . وأرض النعل : ما أصاب الأرض منها، وتأرَّضَ فلان بالمكان إذا ثبت فلم يبرح ، وقيل : التأرّض التأنّي والانتظار)(2)،فلّما كان دلالة الأرض وما يشتق منها الالتصاق والثبوت ، والتأنّي والانتظار فأن دخول (من) عليها مقترنة بفعل النفي تعني الابعاد وعدم الثبوت في أي محلًّ منها وعليه فأن دلالة النفي على الحبس ، تكاد تكون بعيدة ، وهو مذهب أبي حنيفة أما مذهب الإمامية فعندهم النفي إخراج المجرم من بلاد الإسلام ، أي يُنفى من بلد إلى بلد إلى أنْ يرجع ويتوب(3) .

وقوله سبحانه [ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ، فاسم الإشارة (ذلك) يعود على العقوبات الأربعة في خزي لهم في الدنيا ؛ وفضلاً عن ذلك لهم في الآخرة عذاب عظيم عقوبة على ما فعلوه في الدنيا.

من خلال ما تقدّم نلمس أنَّ سبب نزولها في قطّاع الطريق هو الأرجح على باقي الأسباب التي ذكرها علماء التفسير ، لما فيها من تفصيل في ترتيب العقوبات وتوزيعها على مستحقيها بحسب الجريمة ،وهي في أصولها في المحارب المسلم فشملت في حكمها غير المسلم ، لأن ظاهر اللفظ يدلُ على ذلك .

ص: 428


1- لسان العرب / ابن منظور : 14/ 247- نفيٍ .
2- م . ن : 1/118- الارض .
3- ظ : م, ن .

الآية الثانية

قوله تعالى : [ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ](1)

في هذه الآية استثنِيَ من المحاربين الذين تابوا قبل أن يؤخذوا ويكونوا في قبضة الأمام ، فأن الله تعالى أسقط عنهم العقوبة ؛ وأختلف العلماء في العقوبات التي لا يُؤْخذون بها ، بعد التوبة وعدم القدرة عليهم ؛ لكنَّ الغالب منهم ذهب إلى أن حقّ الله تعالى يسقط عنهم ولا يسقط حق الآدمي ،وهو مذهب الأمامية وبه قال الشافعي (2) . ولعل ذلك راجع إلى دلالة قوله سبحانه [يحاربون الله].

وأن الله وهو الذي وضع الحدود وأسقط العقوبات التي من حقه ، وأما حق الأدمي من القتل والجرح والمال فلا يسقطه إلاّ بالقصاص والأداء(3) وهناك أقوال أخرى في ذلك تجده تفصيلاتها في كتب الفقه والأصول .

ص: 429


1- سورة المائدة : الآية :34 .
2- ظ : التبيان / الطوسي : 3/506
3- ظ : كنز العرفان / السيوري : 669 .

رابعا:حد السرقة

الآية الأولى

قوله تعالى : [ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ](1)

تُشرِّع هذه الآية المباركة لعقوبة مَنْ يسرق المال ؛ لأجل امتناع وقوع السرقة ؛ والسرقة أخذ شيء من حرزٍ مستتراً (2) ،لذا لا يُعدّ من أخذ شيئاً في غير حرزٍ ، وجاء غير متخفٍّ بسارق على العموم .

فقد رأى العلماء وفقاً للمعنى اللغوي ،عدم وقوع السرقة بسقوط أحد الشرطين فيها ، التخفي للرجل والمرأة ، وحفظ المال في حرزٍ : والحرز في اللغة (الموضع الحصين ... تقول هو في حرزٍ لا يُوْصل إليه ... يُقال : أحرزتُ الشيء أحرزهُ إذا حفظتهُ ،وضمَمتُه إليك وصنْتَهُ عن الأخذ)(3)،و عليه فأن الشيء الموضوع في غير موضع حصينٍ لا يُعَدُّ مالاَ محفوظاً .ٍعلى ضوء هذا فأن (السارق عند العرب من جاء مستتراً إلى حرزٍ فاخذ منه ما ليس له)(4).

ص: 430


1- سورة المائدة / الآية : 38.
2- ظ : لسان العرب /ابن منظور : 6/246- حرز .
3- م .ن 3/ 121 – حرز .
4- ظ : لسان العرب /ابن منظور : 6/246- سرق .

ففي قوله تعالى [ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ] قدَّم المذكر على المؤنث خلافاً لآية الزنا حين قال [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي](1) ولعل السبب في ذلك أن تمكّن الرجل من السرقة أكثر من المرأة ، في حين أن الزنا تكون المرأة هي التي تهيأ أسبابه للرجل، فأخره وقدمت المرأة .

والخطاب هنا موجّه لجنس الرجال والنساء أحراراً وعبيداً على العموم ، لأنّ (أل) فيهما تفيد الاستغراق ، أي تشمل عموم السّراق من الرجال والنساء وعلّل الشيخ الطوسي ذلك في (أن الالف واللام إذا دخلا على الأسماء المشتقة أفادا الاستغراق إذا لم يكونا للعهد دون تعريف الجنس)(2) ، أي أنَّ (أل) أفادت هنا شمول جميع أفراد هذا الجنس من البشر المتَّصفين بصفة السرقة ؛ وللتدليل على ذلك أن تَخْلُفَ المعرّف بها لفظ (كل) على الحقيقة(3) فقوله سبحانه [والسارق والسارقة] أي كل سارق وسارقة بلا استثناء مشمول بهذا الحكم ، وهو قطع اليد ومجيئهما على الأفراد أفادت ذلك أيضاً ، ولو جاء اللفظان (السارقون والسارقات) لكان الخطاب موّجهاً إلى فئة معينة معلومة ، فتكون (أل) مفيدة للعهد ، وستكون دلالة الآية خاصة وهذا خلاف مرادها .

ورد اللفظان على الرفع ، وعند سيبويه الأجود فيهما النصب(4)، فيما ذهب الفراء والمبرد إلى الرفع لان معناها الجزاء، وتقديره ( مَنْ سَرَق فاقطعوه ) على العموم ،

ص: 431


1- سورة النور / الآية : 4.
2- التبيان /الطوسي : 3 /512.
3- ظ : معاني النحو / د . فاضل السامرائي : 1/ 107 .
4- ظ : التبيان / الطوسي : 3/ 511 .

ولو أُريدَ سارقٌ بعينه أو سارقةٌ بعينها كان النصبُ عند أوجه(1) ، لكن الرفع هنا أوجه لدلالته على الشرط ولعموم الخطاب .

أيّ أنّ حدَّ السرقة هذا مقترن بوقوعها ؛ وفي هذه الآية تفصيل لما سبق لها من السورة ذاتها في قوله سبحانه [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ](2) فجعل من القطع حدّاً لمنع اقتراف السرقة هو الوسيلة التي نبتغي بها إليه تعالى سبيلاً في هذا الموضع من القرآن الكريم وهي جهادٌ في سبيل الله لأجل الفلاح من خلال سلامة المجتمع والحفاظ عليه بفرض العقوبة والقضاء على جريمة السرقة .

ولما كانت دلالة التفصيل واضحة ، فقد أتضح من خلالها وجاهة الرفع على الابتداء في (السارق والسارقة) بتقدير : (مَنْ سَرَق فاقطعوا يده) ؛ فلا يكون (مَنْ) إلاّ مرفوعاً ، وهو المعبّر عن السارق والسارقة .

ووقعت الفاء في (فقطعوا) رابطة ، بعد ان تبيَّن دلالة الجزاء ، باعتبار أنَّ هذه الجملة القرآنية شبه شرط ، على تقدير الجزاء ،أي مَنْ سَرَقَ فاقطعوا يده ، فالفاء ألزمت ارتباط الجواب الشرط بشبه الشرط ، وبدخولها فُهِمَ من إرادة المشرَّع من ترتَّب لزوم الحد على إتيان السرقة، ولو لم تُوجد في هذا الموضع لصحَّ وقوع قطع الأيدي على من أتصف بصفة السرقة من قبل وإنْ لم يسرق ؛ بل ارتكب جريمة أخرى ليس

ص: 432


1- ظ : معاني القرآن / الفراء / 1/306 ، التبيان الطوسي : 3 /511- 412، الكشاف / الزمخشري : 1/ 663 – 664 .
2- سورة المائدة : الآية 35 .

من حدَّها القطع فهنا يقع اللبس في فَهمِ الحدّ(1)، فضلاً عن دلالة قوله تعالى[جَزَاءً بِمَا كَسَبَا] .

لقد اختلف العلماء في دلالة قطع الأيدي على أقوال ، لاختلاف دلالة اليد في اللغة واتساعها في الاستعمال القرآني ، فاليد اسم يقع على الأصابع وحدها ، ويقع على الأصابع مع الكف ، ويقع كذلك على الأصابع والكف والساعد إلى المرفقين ، ويقع كذلك على المرفقين(2) .

من هذا نستدل أنَّ اليد الجارحة هي المخصوصة لغة وعرفاً من الكتف إلى رؤوس الأصابع ،وقد شرع الأمامية مفهوم اليد(3)بأنها من المرفق إلى رؤوس الأصابع كما في آية الوضوء ومن الزند إلى الرؤوس كما في التيمَّم عندهم ، وهي تدلّ كذلك على الأصابع لا غير(4) كما في قوله سبحانه [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ](5)،ولهذا ذهب الأمامية إلى كون لفظة اليد في آية السرقة مجملة ، لكنهم ذهبوا في حدَّها إلى قطع الأصابع الأربعة من أصلى الكف(6)، لدلالة اليد في الآية السابقة على أنَّ الأصابع وسيلة الكتابة ، وهي المعبرَّ عنها باليد ، و اما الرِجِل فتقطع أصابعها الأربعة من مشط القدم ويُترك الإبهام والعقب ، ثم أنَّ قوله سبحانه

ص: 433


1- اوضحت دلالة الفاء قبل ذلك في أية الجلد فلاحظ ذلك .
2- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : م 4/352 .
3- ظ : كنز العرفان / السيوري : 665 .
4- ظ : م.ن .
5- سورة التحريم / الآية 4 .
6- ظ : التبيان / الطوسي : 3/ 514 .

[وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا](1) تدلّ علىَ أنّ الكف من مساجد الله تعالى فلا يجوز فيها الحدّ.

في حين ذهب آخرون إلى أنّ القطع من الرسخ ، وهو المشهور عند العامة ، وعند الخوارج من المنكب(2)،واستدل الفخر الرازي على رأي الخوارج من أنَّ ظاهر الآية يُوجِب القطع من المنكبين(3) دون أن يقدّموا دليلاً على مكان القطع ، هذا مما حدا بالشيخ الطوسي أن يقول : (وما قالوا ليس عليه دليل)(4) على القطع من الرسغ أو الكف .

ولعلَّ ممّا يُعَضِّد صحة قطع الأصابع في السرقة أنّها هي الوسيلة أو الأداة التي بها يُوخذ المال ، فقطعها يعني قطع الأداة التي تقبض وتأخذ ؛ عقوبةً عينيّةً لها وجزاءً لفعلها ، وأنّ قطعها تعطيل لتلك الأداة للقيام بالجريمة مرة أخرى ، وانَّ بقاء الأعضاء الأخرى كالكف والساعد والعضد لضمان أداء العبادات لله ، لأن قطعها يُعطِّل أداء العمل العبادي فضلاً عن فقدان وسيلة العمل وجني الرزق .

ثم إن القطع كان من نصيب اليد ابتداءً لأنَّ اليد وسيلة الكسب في العمل وجني الرزق الحلال ، فلما استُعمِلت في غيرها وُضِعَتْ لها عندما أخذت المال الحرام ، قُطِعَت جزاءً لفعلها .

ص: 434


1- سورة الجن / الآية : 18.
2- ظ : الكشاف / الزمخشري : 1 /665، الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 3/ 529 ، كنز العرفان / السيوري : 666 .
3- ظ : التفسير الكبير / الفخر الرازي : م4/353.
4- التبيان /الطوسي / 3/514.

لذا أردف ذلك بقوله سبحانه [جَزَاءً بِمَا كَسَبَا] والجزاء بمعنى العقوبة المجزية للجريمة لأنَّ الجزاء لا يكون إلاّ على قدر الجناية ، وهذا مما يلفت النظر إلى قيمة المال المسروق الذي يحلّ بموجبه قطع اليد فيكون الجزاء مساوياً للقيمة ، باعتبار المجازاة لا التخمين ، بل يجب الوقوف على قيمة المال المسروق الذي تتحقّق بموجبه مقدار العقوبة المجزية .لذا أعربوا (جزاءٍ) بأنه مفعول لأجله ، لأنه جاء تفسيراً لما قبله ، أو أنّه موقوع له ، أي أنّ فعلَ القطع وقع لأجل مجازاة السارق على فعله ،وقد يكون مفعولاً مطلقاً ، بتقدير : مَنْ سَرَقَ فاقطعوا يده قطعاً جزاءً،فهو مفعول مطلق لبيان نوعه. قال أبو جعفر النحاس (ت 338ه-) ([جَزَاءً بِمَا كَسَبَا]مفعول لأجله ، وأنشئت كان مصدراً)(1).

إذن ليست كلّ كمية تُوخذ تُعَدُّ سرقةً وتُقام بموجبها الحدود على الجاني وهذه كانت محل خلاف عند الفقهاء ، فذهب الأمامية إلى أن نصاب القطع ربع دينار وقال به الشافعي والأوزاعي ؛ وذهب مالك بن أنس وأحمد إلى أن نصاب القطع ثلاثة دراهم ، ومنهم من قال لا يُقطع الخمس إلاّ في الخمسة دراهم ، وهو أختيار أبي علي وأبن أبي ليلى وهو المروي عن الأمام علي (عليه السلام) وعن عمر الخطاب ؛ وقال الحسن يُقطع في الدرهم لأنّ ما دونه تافه ، في حين ذهب أبو حنيفة وأصحابه أن نصاب القطع عشرة دراهم من الذهب ؛وقال أصحاب الظاهر وابن الزبير يُقطع في القليل والكثير ؛ فيما كان رأي الحسن البصري أن القطع يُوجب بمطلق السرقة(2).

ص: 435


1- إعراب القرآن /النحاس:232.
2- ظ : التبيان /الطوسي :3/513 ؛ التفسير الكبير/ الفخر الرازي : م4/354 .

ولعل سبب الاختلاف ؛ هو الأجمال الذي وقع في دلالة الأيدي والقطع على حدٍّ سواء ، وعدم الاستدلال ببعض ما في القرآن الكريم من دلالة اليد واستعمالاتها ،و إلاّ لأتَّضح كثير من معالم الدلالة المطلوبة .

ثم قال سبحانه [نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ].أي استهانة وتحقيراً لمن قام بالسرقة على فعلته ، وتعرب [نَكَالًا] مفعولاً لأجله ، وذلك للأشعار بأن القطع للجزاء ،والجزاء للنكال فيكون [نَكَالًا] مفعولاً له متداخلاً (1) ، وقوله[مِنَ اللَّهِ] متعلّق بمحذوف صفة ل- [نَكَالًا] بتقدير (عقوبة وتنكيلاً من الله)(2) وقوله[وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] أي غالب في تنفيذ أوامره كيف يشاء ومتى يشاء لا ينازعه أحدٌ في حكمه وجاءت العزة والحكمة متناسبة مع تنفيذ أحكام الله في عبادة لا يمنعه مانع في ذلك ، على كل عبادة سواء كانوا أحراراً أم عبيداً أم رجالاً أم نساء، لأن الخطاب عام شامل لكل جنس المخاطبين من السارقين والسارقات.

الآية الثانية

قوله تعالى : [ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وأصلح فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ](3)

هذه الآية تخصّ من تاب من السّراق قبل أَنْ يُقْدَرَ عليه ، فابتدأها بالشرط فقال[فَمَنْ تَابَ] أي جعل التوبة شرطاً لوقوع الجزاء ، فجيئ الفعل ماضياً دالاً على

ص: 436


1- ظ : أعراب القرآن / النحاس : 232 ؛ تفسير أيات الأحكام / محمد علي السايس : 2/192 .
2- ظ : مجاز القرآن / أبو عبيدة : 1/166 .
3- سورة المائدة /الآية :39 .

الاستقبال وذلك بقصد أنزال غير المتيقّن منزلة المتيقّن ، وغير الواقع بمنزلة الواقع(1) ،ولأن فعل التوبة من البشر في الكبائر ؛ لكن فعل التوبة من الله تعالى على عباده يتكرر لذا جاء على صيغة المضارع (يتوب) للدلالة منه تكرارها على على عباده ؛ إنّ التوبة من العبد لا تكون إلاّ بالابتعاد عن السرقة ونبذها التي يعبر عنها بالظلم في قوله[مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ] ، وهو ما ذهب إلية جمهور المفسرين (2) .

أما قوله تعالى [وَأَصلحَ] فيه دلالة على أن مجرد التوبة لا تجدي نفعاً وغير مقبولة ما لم تقترن بالصلاح ، وهو إرجاع ما بذمة السارق التائب من المال المسروق إلى أصحابه ، أو طلب العفو عنه إذا كان محتاجاً أو فقيراً ، إذا به يتم الصلاح ؛ أو على عموم دلالة اللفظ يكون الصلاح بترك المعاصي كلّها ومن ضمنها ما ذُكر.

أما جواب الشرط فهو قوله سبحانه [فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ] ،وهو رأي أبي جعفر النحاس والقرطبي(3) لكن الظاهر في هذه الآية أنّ هناك حذفاً يدلَّ عليه ما سبقه من قوله سبحانه [فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا] أي أنَّ جزاء التوبة عن السرقة وصلاح حال السارق هو عدم القطع ،وهذا صالح لأن يكون جواباً للشرط (من تاب عن ظلمه) ؛ وتقديره (من تاب عن ظلم وأصلح تسقط عقوبته) ، وهذا الجواب محذوف جوازاً ، وأنَّ الشرط

ص: 437


1- ظ : معاني النحو / د. فاضل السامرائي : 4/47.
2- ظ : التبيان / الطوسي : 3/ 515 ؛ الكشاف / الزمخشري : 1/665 ؛ الجامع لأحكام القرآن /القرطبي : 3/ 531 ؛ كنز العرفا ن /السيوري : 666.
3- ظ : معاني القرآن / النحاس : 232 ؛ الجامع لأحكام القرآن /القرطبي :3/531.

يُشعِرُ به ، مثل قوله سبحانه [فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ](1) بتقدير: إنْ استعطت فافعل.

وهذا أوْجهُ من كون [فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ] جواباً لفعل الشرط ؛ إلاّ أنَّ هذا الجواب المزعوم عند بعضهم له من الدلالة ما لا يكون في غيره وذلك أنّ توبته تعالى على التائب هي تفضّل منه ورحمة وأساس لفتح هذا الباب واسعاً أمام العصاة من السرّاق ،وليحثّ الأمام على إسقاط هذه العقوبة عن الجاني بعد توبته وأصلاح نفسه من المعاصي وردّ حقوق الناس ، بدلالة أنه تعالى سيتوب عليه وعدم الاقتصاص منه يوم القيامة ، وقرن كُلَّ ذلك بقوله سبحانه [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ، فجمع الله تعالى هنا أسُسَ ردّ المال المسروق إلى أصحابه ، وأسقاط عقوبة التائب عن السرّاق ، وعفو الله تعالى عنه في الآخرة .

نفهم أيضاً من سياق الجملة الشرطية أن إسقاط عقوبة القطع غير ملزمة للأمام ،فهو متخيّر بين القطع وإسقاطه ، وذلك أنّ فعل الشرط لا يكون إلاّ فعلاً خبرياً ، أي ليس فيه أمرٌ أو استفهام أو نهي ، وهو من شروطه ، وأن من شروط جواب الشرط أن يكون كفعله في الأصل ،وبالنتيجة لا تكون جملة الجواب آمرة أو ناهية ، وعليه فلا يكون الجواب ملزماً للأمام القيام بالحد أو تنفيذه .

وربما كان هذا الأمر هو الذي فرّق بين إقامة الحد أو لا في حالة توبة السارق وإصلاحه قبل أن يُقْدَرَ عليه ؛ فذهب الأمامية إلى إسقاط عقوبة القطع عند قبول

ص: 438


1- سورة الأنعام /الآية :35.

توبته قبل الثبوت عند الحاكم (1) وفي حال إقراره يتخيّر الحاكم ، وهو ما فعله الأمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، لما وهب يد السارق المقُرّ بسرقته ثم تاب ، فقال له : هل تحفظ شيئاً من القرآن ؟ فقال :نعم ، سورة البقرة ، قال وهبتُ يدكَ بسورة البقرة (2) باعتبار أنَّ المُقرَّ بالسرقة لم يُقدر عليه في الأصل .

وقال أبو حنيفة : لا يسقط ، وهو أحد قولَيّ الشافعي(3) و به قال القرطبي(4)، وعن عطاء وجماعة : يسقط بالتوبة قبل القدرة على السارق (5) في حين ذهب أبن عربي إلى أنَّ الحد لا يسقط بالتوبة ، فالتوبة مقبولة والقطع كفارةً لهو هو قول جاهد (6) ، ولكن الشيخ الطوسي عدَّ ذلك غير صحيح بدلالة (أنَّ الله تعالى دلَّ على معنى الأمر بالتوبة)(7)

ثم أردف ذلك بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] مناسبة لما في السياق العام من التوبة وغفران الذنوب والعفو ؛ على خلاف ما كان في آية السرقة عندما ختمها بقوله سبحانه [وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] للتدليل على إقامة الحد على من عصى من عباده أوامره متى شاء ذلك من غير منازع له في حكمه.

ص: 439


1- ظ : التبيان / الطوسي : 3/515 .
2- ظ : كنز العرفان / السيوري :667 .
3- ظ : م . ن .
4- ظ : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي : 3/531.
5- ظ : م . ن .
6- ظ : التبيان / الطوسي : 3/ 516
7- ظ : التبيان / الطوسي : 3/ 516

الخاتمة

ص: 440

ص: 441

الخاتمة

1- آيات الحج

كانت بعض المناسك لدى عرب الجاهلية مهمة كالحج , إذ إنه يسهم في بناء المجتمع العربي وهو عنوان لوحدة القبائل وتناسي خلافاتهم , إذ كان البيت الحرام يمثل رمزاً لهم ومملوكاً لقلوبهم , فحددوا أشهراً لأداء مناسكه , تمثلاً بما قام به جدّهم نبي الله ابراهيم ( عليه السلام ) فحرّموا فيه القتال و الغزو بينهم احتراماً و تقديساً لفريضة الحج .

إلا إن بعض الشعائر والمناسك التي كانوا يؤدونها قد خرجت عن بعض القيم فكانوا يطوفون عراة في أقدس بقعة في أرض الله الواسعة , وكذلك اختلفت تلبياتهم فكان لكل قبيلة تلبية خاصة بها , فضلاً عن تمايز قريش و الحُمس عن باقي القبائل الأخرى في طوافهم باعتبارهم قُطّان بيته الحرام فيميِّزون أنفسهم عن غيرهم من القبائل , وهذا مما يُخرم وجدة هذا التجمع الإنساني الكبير .

وعندما جاء الإسلام هذب هذه الشعائر وحدد المناسك فأُسبغ عليها طابعاً دينياً تعبدياً يملؤه الخشوع والرهبة في أداء هذه المناسك و الشعائر وجعلها وسيلة لمحاربة الشيطان وهوى النفس الأمارة بالسوء , فحّرم منها ما كان منها يخالف الشرع وقيم الدين الحنيف و أثبت ما كان يتوافق منها معها , فألغيت الفوارق فيه بين السيد و العبد و الرئيس و المرؤوس و الغني و الفقير , فهم بلباسهم الأبيض يتقربون الى الله بقلوب يملؤها التذلل و الخشوع و حب الآخرين و الزهد بالدنيا و ملذاتها , يجمعها

ص: 442

توحد النفس و فناؤها بالذات الإلهية مع كل منسك ابتداءً من الوقوف على عرفة و الإفاضة منها الى المشعر الحرام ورمي الجمار و الطواف حول الكعبة و السعي بين الصفا و المروة , فأصبح البيت الحرام مهوى لقلوب المسلمين و أفئدتهم عبر كل السنين و عنواناً لتوحدهم

2- آيات النكاح

تعدّ مسألة النكاح في المجتمع العربي الجاهلي من المسائل المهمة في حياة الفرد، وقد تعددت لديهم طرقه ومسالكه، وكان أغلبها لا يُحرص فيه على طهارة المولد وكرامة المرأة، فهدرت شخصيتها، وربما كان ذلك لأنهم كانوا يعدّون المرأة لقضاء حاجاتهم الجنسية وأنها جزء من ميراث الرجل، فأطلق الرجل لنفسه الزواج بما شاء منهنّ وأن يجمع بين الأختين وغيرها من طرق النكاح الأخرى، فلما جاء الإسلام نظم حياة الناس الزوجية وأعاد ما أهدر من كرامة المرأة وأعطاها حقها من كونها إنسانة محترمة، وقد تجلّى تنظيم القرآن لحياة الأسرة المسلمة بما يأتي:

1. أمر بتحريم كثير من الزيجات وأثبت الصالح منها كزواج البعولة وهذّبه لأنه مبنيّ على القبول والإيجاب وتحديد المهر.

2.اشترط في تعدد الزوجات العدل، مع علمه تعالى عدم تحقيق العدل في ذلك لكنه أكد تشريعه لضرورة مهمة ترتبط بالحفاظ على سلامة الأسرة.

3.شرّع عند عدم التمكن من الزواج بالحرة الزواج بالإماء ومِلْك اليمين وحبّب المؤمنات إليهم فيما أطلق بغيرهن من الكتابيات دون المشركات، وأفتى الفقهاء بحليّة الكتابية، متعة لا دواما مع الإكراه؛ لأنّ النكاح بالإماء عموما إنما شُرّع على سبيل الاضطرار خوف الوقوع في المحرمات.

ص: 443

4.اختلف العلماء في زواج المتعة(الزواج المؤقت) بين الحلية والحرمة فذهب علماء العامة إلى حرمته لأنه لا يصدق عليه صفة الزوجية بسبب من سقوط النفقة والميراث، لكن مذهب الإمامية قائم فيه على الحلية، وعدّوا ما اعتذر به غيرهم لم يكن منحصرا بزواج المتعة فقط، بل إنّ النفقة تسقط مع النشوز، والميراث يسقط مع الرق والقتل والكفر، فضلاً على القول بتحليله ثم تحريمه وهكذا عدة مرات مما يأخذ بالمتثبت بعدم وجود تحريم أصلا وإنما هي اجتهادات لا أصلى لها.

5.لم يكن تحريم بعض النساء بالزواج منهن كون تلك الحالات واقعة في المجتمع العربي، بل إنّ بعضها لم يكن له وجود عند العرب قبل الإسلام، غير أنه وجد في أقوام أخرى، وبذلك يكون القرآن الكريم قد انطلق إلى خارج حدود العرب لعالم أوسع وأرحب في التشريع.

6.عندما شرّع القرآن بوجوب صداق المرأة جعل ما تهبه إلى زوجها على سبيل الجواز والإباحة لا على وجه الوجوب والقطع، كما زجر وحرّم إبهات الرجل لزوجته قصد الحصول على مهرها والتصرف به.

7.لقد فرّق تعالى بين الأجر والمهر، إذ حكم على الأجر أن يكون خاصا بمدة معينة، وعلى المهر والصداق يكون مقترنا بالدوام.

8.إنّ مسألة سبب النزول ودلالتها لا تلغي الدلالات الأخرى في النص القرآني، بل يُعدّ خصوص السبب نقطة مضيئة في عموم دلالة اللفظ في آيات النكاح خاصة، وفي الباقي عامة.

ص: 444

3- آيات الطلاق

لم يُشرّعَ أمرٌ في الإسلام إلّا و به صلاح الأمة وسعادتها ، لأن الإسلام قد نظر إلى الإنسان أولاً ، ووجد أن الحقيقة الواقعية يجب أن يكون الإنسان فيها حاضراً ، لأنه محور الشريعة وواقع تطبيقها ، فشرّع الله له كل ما فيه سعادته وحفظاً لإنسانيته ،وكان الطلاق أحد هذه التشريعات التي شُرِّعت لحفظ المجتمع وسلامته من الانهيار ، وهو يعني في الأصل فك قيد الزوجية ، وهدم لبنة من لبنات بناء المجتمع أصابتها علة ، فاستعصى على أهل الحل والعقد أن يُعيدوا بناءَها ويحافظوا على ابنائها فشرّع لذلك الطلاق بفك هذا القيد ونقضه ، لئلا تنتقل عدوى المشاكل إلى دائرة أوسع ، ومع ما فيه من أذى، إلّا أنّ المصلحة العامة تكون هي الغالبة في هذا التشريع الذي هو أبغض الحلال عند الله ، فحدّد الله تعالى أصوله وقوانينه ، وسننه حتى لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلّا وكانت مثار اهتمام الشارع المقدّس فوضع لكل حالةٍ علاجها ، ودواءها ، وأوضح لكلا الزوجين حقوقه وواجباته تجاه الآخر حال وقوع الطلاق ، فضلاً عن ضمان حقوق الأطفال من النفقة والإعانة ، كي لا يكونوا ضحية الفقر والفاقة ، فتزلّ بهم قدمٌ إلى ما لا يحمد عقباه، إذن كان تشريع الطلاق في الإسلام تشريع بناء للمجتمع لا هدم كما يُتصور.

وقد وجدتُ أن التشريع القرآني معجزٌ في اختيار ألفاظه ومبانيه فضلاً عن دقتها في الدلالة التي تدل على دقة التشريع ورفعته ، حتى عجزت كل أدوات اللغة والنحو والبلاغة من أن تستوعب كل تلك الدلالات التي بقيت منظورة في تطورها عبر السنين والقرون ، منذ عهد الرسالة وإلى أن تقوم الساعة ، غير عاجزة عن وضع الأحكام بما يُناسب حالة المجتمعات والأمم .

ص: 445

4- آيات المعاملات

بعد هجرة الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم ) الى المدينة المنورة بدأت مرحلة جديدة في الإسلام تمثّلت في التشريع ووضع القوانين التي تحفظ حياة الناس ، وتضمن لهم الحياة الكريمة وتبعدهم عن الوقوع في المحرمات ونبذ الأعراف الجاهلية ، إلاّ بعضها أقرّها الإسلام بعد تهذيبها و اصلاحها بما يتوافق و الشرع الالهي ، وخاصة في المعاملات المتمثلة بالبيع والشراء والتجارة و التداين والرهان والضمان والكفالة .

فربما جاءت الآية في أيٍّ من هذه المعاملات عامة في دلالتها ، لكن الفاحص المدّقق في النص الكريم وبالاستعانة بأسباب النزول وباقي علوم القرآن يرى فيها أحكاماً كبيرة ، وربما توزعت بين الوجوب والندب أو ما بينهما من الأباحة بحسب الحالة التي وردت فيها ، وربمّا حدّد ذلك دلالة عموم اللفظ أو خصوص السبب المتمثل بأسباب النزول أو طبيعة تركيب الجملة القرآنية المتضمن لنوع السياق الذي خرج عن أصلى القاعدة بالتقديم أو التأخير أو الحذف أو الزيادة النقصان أو ما يتعلّق بطبيعة صيغ الألفاظ التي صيغت بها الجملة القرآنية ، فهذه كلها مسوِّغات لبروز دلالات أخرى تضمنها النص القرآني المبارك ، فوُسِم بأتساع الدلالة وكثرة الاحتمالات المبنيّة على أصول صحيحة ، حتى كان النص القرآني في آيات المعاملات شاملاً لكل أحكامها ومبيّناً لدقائقها وتفصيلاتها ، فنجد أن هناك فرقاً بين التداين والإقراض ، وبين الكفالة والضمان وهكذا لباقي الأحكام.

ص: 446

5- آيات الجنايات

يفارق التشريع الإسلامي العادات والقيم الاجتماعية المحمودة في المجتمع العربي أيام الجاهليّة , فقد أقرّ أكثرها بعد أن هذّبها بما يتّفق وأحكام الشريعة الإسلامية التي جاءت للبشرية جمعاء , ومنها العقوبات التي أُقيمت كرادع لأقتراف الجنايات , فأصلى بعضها بعد تهذيبها ودعا الى نبذ الأخرى , وجعل إقامة الحد والعقوبة بيد الحاكم الشرعي لا بيد وليّ الدم , وغيرها من الأحكام .

وقد نزلت الآيات الخاصة بالجنايات التي شُرّعت لجريمة القتل , وحدّد الفقهاء الأحكام وأيّدوها بالقرآن والسنة النبوية الشريفة , إلاّ أنّ بعض الفقهاء والمفسرين ذهب في تفسير بعض آيات الجنايات الى أنّها جاءت بأحكام معيّنة , غير أن التحليل اللغوي العام لم يرَ ذلك , بل وجد أنّ دلالة مثل هذه الآيات كانت لتهويل حدث القتل فشدّدت على فاعله وعظّمت من شأن مانع القتل بغير حق , وأغدقت عليه من مكارم الله سبحانه بما يستحقّه .

فضلا عن ذلك فأنّ الشريعة الغرّاء قد سهّلت كثيراً من أحكام الجنايات على المؤمنين فوسّعت من طرق الحل وجعلت ذلك لوليّ الدم وأهل الحل والعقد في المجتمع , فتمثّلت بالقود أو الدية أ و العفو والصفح , في حين كانت الشرائع الأخرى قد ضيّقت ذلك على أتباعها .

ص: 447

6- آيات الحدود

لقد وقف البحث عند مفاصل لآيات الحدود التي شرّع الله تعالى أحكامها ووضع أسسها ؛ إذ كان عرب الجاهلية يتعاطون العمل بها أو بعضها ، ولما جاء الإسلام هذّبها وأرسَ قواعدها ومهّدَ الطريق للعمل بها وتطبيق أحكامها، وكان الرسول محمد(صلى الله عليه وآله) أول من أمر بإقامتها بعد أن أمره الله تعالى للعمل بها.

وقد استنتج البحث مجموعة من النتائج ندرجها بما يأتي:.

1-إن أغلب هذه الحدود كانت موجود عند عرب الجاهلية ، غير أنهم كانوا يُقيمون بعضها ويتركون الأخرى بحسب الذي يُقام عليه الحد وقد دلَّ على ذلك أسباب النزول.

2- بعض الحدود التي أقرّها الإسلام كانت لا يُعْتَدّ بها في الجاهلية من نحو بعض أنواع الزنا والسرقة والسلب التي تقع بين القبائل

3- لم تكن دلالة سبب النزول الحدود الوحيدة في آيات الحدود وأنما كانت واحدة من مجموعة دلالات أقرّها النص المبارك بفضل دلالة عموم اللفظ ومقتضيات السياق .

4-استعمال أساليب لغوية في النص المبارك لم تكن مستعملة أو قليلة عند عرب الجاهلية كأسلوب شبه الشرط وذلك لأجل درء اللبس واختلاط الدلالة .

5- أن دراسة آيات الحدود بالاعتماد على أساليب اللغة من صرف ونحو

ص: 448

وصوت ، يدلّ الباحث على دقائق الدلالة في النص المبارك ، وربما يكون حجة له في قلّة الاعتماد على الأثر وما شابهه،الذي يشوبه أكثره اللبس والدس و شاكل ذلك .

6-إن استعمال المنهج اللغوي التحليلي يأخذ بيد الباحث الجرا إلى إصابة الدلالة ، فضلاً عن الرؤية الواسعة في تعدّد احتمالات بما يستوعب كل حالات الجرائم ،وهذا مما يُعطي فسحة للمشرّع في اختيار الحكم الأليق بالجريمة أو الجنحة.

هذا وأخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ص: 449

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1.آلاء الرحمن في تفسير القرآن، الشيخ محمد جواد البلاغي(موسوعة العلامة البلاغي)، مركز العلوم والثقافة الإسلامية، قسم إحياء التراث الإسلامي، إيران، قم، مطبعة الباقر عليه السلام ، ط1، 1428ه-/2007م.

2.آيات الأحكام في جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي(صاحب الجواهر)، تحقيق صاحب علي المحبي، مؤسسة أحسن الحديث، قم، إيران، ط1، 1429ه- .

3.الأتقان في علوم القرآن - جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي(ت911ه-) - ضبطه وصححه وخرّج آياته محمد سالم هاشم - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان - 2003م - 1424ه-.

4.أحكام القرآن- تأليف الأمام حجة الإسلام أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص(المتوفى سنة 370ه-) ,ضبط نصّه وخرّج آياته عبد السلام محمد علي شاهين ,دار الكتب العلمية ,بيروت ,الطبعة الثانية ,1424ه-,2003م .

5.الأزهية في علم الحروف/ تأليف علي بن محمد النحوي الهروي (ت415ه-) – تحقيق عبد المعين الملّوحي – مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق – 1391ه- - 1971م.

6.أساس البلاغة/ تأليف الإمام العلاّمة جارالله أبي القاسم محمد بن عمر

ص: 450

الزمخشري (المتوفى سنة 538ه-) – بيروت – دار صادر – 1399ه- - 1979م.

7.إصلاح المنطق، ابن السكيت، شرح وتحقيق احمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون، دار المعارف، القاهرة، ط4، (د.ت).

8. أسباب النزول- علي بن أحمد الواحدي النيسابوري ( ت 468 ه- )- دار ومكتبة الهلال- بيروت- 1985 م.

9.الإسلام بين الرسالة و التأريخ –د.عبد المجيد الشرفي –دار الطليعة –بيروت –الطبعة الأولى -2001م.

10.الأصوات اللغوية، د. إبراهيم أنيس، مكتبة الانجلو المصرية، مطبعة محمد عبد الكريم حسان، 1999م.

11.أصول الفقه، الشيخ محمد رضا المظفر، مطبعة النعمان بالنجف، ط4، 1386ه-/1966م.

12.الأضداد في كلام العرب، أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي الحلبي(ت351ه-)، عني بتحقيقه د. عزة حسن، دمشق، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق، 1382ه-/1963م.

13.إعراب القرآن، لأبي جعفر احمد بن محمد بن إسماعيل النحاس(ت338ه-)، اعتنى به الشيخ خالد العلي، دار المعرفة، بيروت،

ص: 451

لبنان، ط2، 1429ه-/2008م.

14.الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان، ط1، 2007م.

15.إملاء ما منّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن، أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري (ت616ه-)، مؤسسة الصادق، طهران، ط3، 1379ه-.

16.أنوار التنزيل وأسرار التأويل، (تفسير البيضاوي)، القاضي ناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي (ت685ه-)، دار الكتب العلمية،،بيروت، لبنان، ط3، 1427ه-/2006م.

17.أنوار الربيع في أنواع البديع، السيد علي صدر الدين بن معصوم المدني(ت1120ه-)، تحقيق شاكر هادي شكر، مطبعة النعمان، النجف الأشرف، ط1، 1388ه-/1968م.

18.الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين و الكوفيين/ للشيخ كمال الدين ابي البركات الانباري (ت 577ه-)-دار إحياء التراث العربي د.ت

19.البحر المحيط، أثير الدين محمد بن يوسف بن علي بن حيان الشهير بأبي حيان الأندلسي الغرناطي،(ت745ه-)، حقق أصوله وعلّق عليه وخرّج

ص: 452

أصوله د. عبد الرزاق المهدي، بيروت، لبنان، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1423ه-/2002م.

20.بدائع الفوائد، للإمام أبي عبد الله بن أبي بكر الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزية(ت751ه-)، تصحيح محمود غانم غيث، مكتبة القاهرة، مطبعة الفجالة الجديدة، ط2، 1392ه-/1972م.

21.البديع، ابن خالويه، تحقيق أ.د. جايد زيدان مخلف، ديوان الوقف السني، العراق، بغداد، 1428ه-/2007م.

22.البرهان في توجيه متشابه القرآن / تأليف تاج القراء محمود بن حمزة الكرماني (ت حوالي 505ه-)-تحقيق عبد القادر عطا-دار الكتب العلمية-بيروت-لبنان-الطبعة الأولى 1406ه--1986م

23.البلاغة العربية قراءة أخرى، د. محمد عبد المطلب، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، طبع دار نوبار للطباعة والنشر بالقاهرة، ط2، 2007م.

24.البيان في تفسير القرآن، الإمام السيد أبو القاسم الخوئي، منشورات دار العلم للإمام السيد الخوئي، النجف الأشرف، مطبعة العمال المركزية، 1410ه-/1989م.

25.البيان في غريب إعراب القرآن، أبو البركات بن الأنباري، تحقيق طه عبد الحميد طه، مراجعة مصطفى السقا.

ص: 453

26.البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ(ت255ه-)، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط4، (د.ت).

27. التبيان/ لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي (المتوفي سنة 460ه-) – تحقيق أحمد حبيب قصير العاملي.

28. التعبير القرآني/ د. فاضل السامرائي – وزارة التعليم العالي البحث العلمي – جامعة بغداد – بيت الحكمة – 1986 – 1987م.

29.تفسير القرآن العظيم، الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي(ت774ه-)، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1388ه-/1969م.

30.تفسير آيات الأحكام، الشيخ محمد علي السايس، مطبعة محمد علي صبيح، (د.ت).

31.تفسير جابر الجعفي، جابر الجعفي، أعاد جمعه ورتبه رسول كاظم عبد السادة، مركز الأمير لإحياء التراث الإسلامي، انتشارات الاعتصام، ط1، 1429ه-/2008م.

32. تفسير غريب القرآن –تأليف المحدّث الشيخ فخر الدين الطريحي (المتوفى سنة 1085ه-) , عنى بتحقيقه والتعليق عليه ونشره محمد كاظم الطريحي , انتشارات زاهدي ,1953م .

33.التفسير القيّم – للأمام شمس الدين أبي عبد الله محمد ابن قيّم الجوزية , جمعه محمد أويس الندوي ,حققه محمد حامد الفقي ,دار الكتب العلمية ,

ص: 454

بيروت , لبنان ,الطبعة الثالثة ,1425ه-,2004م .

34.التفسير الكبير، الفخر الرازي(ت606ه-)، إعداد مكتب تحقيق دار إحياء التراث العربي،بيروت، لبنان،ط1، 1329ه-/2008م.

35.تقريب الأصول-محمد بن احمد بن محمد بن جزي-تحقيق د.عبد الله الجبوري- مطبعة دار الخلود-1990م

36.التكملة / لأبي علي الفارسي / دراسة و تحقيق كاظم بحر مرجان / الجمهورية العراقية/ 1301ه- 1981م

37.التناوب الدلالي بين الخبر والإنشاء في التعبير القرآني(أطروحة دكتوراه)، مديحة خضير السلامي، إشراف أ.م. د. محمد عبد الزهرة الشريفي، كلية الآداب، جامعة الكوفة.

38.تهذيب الأحكام فيما اختلف فيه من الأخبار / الشيخ الطوسي-الأميرة للطباعة و النشر و التوزيع–بيروت-لبنان-الطبعة الأولى 1429ه- -2008

39.جامع الأحكام الشرعية، من فتاوي فقيه عصره آية الله العظمى السيد عبد الأعلى السبزواري، مطبعة الآداب في النجف الأشرف، (د.ت). الجامع لأحكام القرآن / لابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي-راجعه و ضبطه و علق عليه د.محمد إبراهيم الحفناوي-خرج احاديثه محود حامد عثمان-دار الحديث القاهرة-1428ه--2007م .

40.جامع الدروس العربية، الشيخ مصطفى الغلاييني، المطبعة العصرية للطباعة والنشر، صيدا، لبنان، ط3، 1398ه-/1978م.

ص: 455

41.الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن احمد الأنصاري القرطبي، راجعه وضبطه وعلّق عليه د. محمد إبراهيم الحفناوي، خرّج أحاديثه محمود احمد عثمان، دار الحديث، القاهرة، 1428ه-/2007م.

42.الجهود اللغوية والنحوية عند ابن معصوم المدني(ت1120ه-)، د. عادل عباس هويدي النصراوي، العتبة العلوية المقدسة، الرسائل الجامعية، 35، العراق، النجف الأشرف، 1432ه-/2011م.

43. الحاوي الكبير في فقه مذهب الأمام الشافعي ( شرح مختصر المزني) ،تأليف علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري الشافعي ، تحقيق علي محمد معوض و الشيخ عادل أحمد عبد الموجود،دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان ، الطبعة الأولى ، 1419ه- - 1999م .

44. الحجة في القراءات السبعة/ تأليف أبي عبد الله بن احمد بن خالويه (المتوفى سنة 370ه-) – تحقيق أحمد مزيد المزيدي – قدّم له الدكتور فتحي حجازي – بيروت – لبنان – دار الكتب العلمية – الطبعة الثانية – 1428ه- - 2007.

45.الحدائق الندية في شرح الفوائد الصمدية، السيد علي خان المدني(ت1120ه-)، حققه وعلّق السيد حسين الخاتمي، النشر مهر بيكران، ط1، 1388ه-.ش.

46.حقائق التأويل في متشابه التنزيل، الشريف الرضي(ت406ه-)، شرحه العلامة الأستاذ محمد رضا آل كاشف الغطاء، دار إحياء الكتب الإسلامية،

ص: 456

قم، إيران، (د.ت).

47.الحياة العربية من الشعر الجاهلي، د. احمد محمد الحوفي، دار القلم، بيروت، لبنان، ط4، 1382ه-/1962م.

48.الخصائص، صنعة أبي الفتح عثمان بن جني، تحقيق محمد علي النجار، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة ولإعلام، بغداد، 1990م.

49.درة التنزيل و غرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز- لابي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالخطيب الاسكافي-برواية بن ابي الفرج الاردستاني-دار الكتب العلمية-بيروت-لبنان-الطبعة الأولى 1416ه--1995م

50. دقائق الفروق اللغوية في البيان القرآني/ د. محمد ياس خضر الدوري – بيروت – لبنان – دار الكتب العلمية – الطبعة الأولى – 1427ه- - 2006م.

51.دلائل الإعجاز/ تأليف الشيخ الإمام عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني النحوي (المتوفى سنة 471ه- أو 474ه-) – قرأه وعلّق عليه أبو فهر محمود محمد شاكر – القاهرة – مكتبة الخانجي – الشركة الدولية للطباعة – الطبعة الخامسة – 1424ه- - 2004م.

52. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني - أبو الفضل محمود الآلوسي - دار إحياء التراث العربي - بيروت

53.رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين الامام علي بن

ص: 457

الحسين (ع) / للعلامة السيد علي خان الحسيني المدني الشيرازي ( ت 1120 ه- ) / مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة / تحقيق السيد محسن الحسيني الأميني / 1428 ه- .

54.الزاهر في معاني كلمات الناس/ لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري (المتوفى سنة 328ه-) – تحقيق د. حاتم صالح الضامن – الجمهورية العراقية – وزارة الثقافة والإعلام – دار الرشيد للنشر – 1399ه- - 1979م.

55.سر صناعة الإعراب، تأليف أبي الفتح عثمان بن جني(ت392ه-)، تحقيق محمد إسماعيل، وأحمد رشدي شحاتة عامر، دار الكتب العلمية، بيروت،لبنان، ط1(1421ه-/2000م).

56.شذا العرف في فن الصرف، الأستاذ احمد الحملاوي، ضبطه وشرحه ووضع فهارسه د. محمد احمد قاسم، مطبعة سيلمان زاد، قم، إيران، ط1، 1426ه-..

57.شرح التسهيل - تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد / تأليف جمال الدين محمد ابن عبد الله بن مالك الطائي ( ت 672ه- ) تحقيق محمد عبد القادر عطا و طارق فتحي السيد / دار الكتب العلمية / بيروت / لبنان / الطبعة الثانية / 2009 .

58.شرح الرضي على الكافية، محمد بن الحسن الرضي الاسترابادي، تصحيح يوسف بن حسن عمر، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر، ط2،

ص: 458

(د.ت).

59.شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب – تأليف الإمام ابي محمد عبد الله جمال الدين الأنصاري المصري,و معه كتاب منتهى الارب بتحقيق شرح شذور الذهب تأليف محمد محيي الدين عبد الحميد-ايران-طهران-مطبعة شريعت-الطبعة الأولى.

60.شرح أسماء الله الحسنى-الإمام ابو حامد الغزالي (ت سنة 505ه-)-المكتبة الحديثة-بغداد-1990م

61.شرح النظام ، نظام الملة والدين، الحسن بن محمد النيسابوري (من أعلام القرن التاسع الهجري)، مكتبة العزيزي، مطبعة الأمير، قم، إيران، ط6، 1385ه-.

62.صحيح مسلم – مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 261ه-) – عيسى البابي – مصر 1374ه-

63.الصرف الواضح، د. عبد الجبار النايلة، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة الموصل، 1408ه-/1988م.

64. الطراز الأول والكناز لما عليه لغة العرب المعوّل/ للإمام اللغوي الأديب السيد علي بن احمد بن محمد معصوم الحسيني المعروف بابن معصوم المدني (ت1120ه-) – تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث – قم – إيران – مطبعة ستارة – الطبعة الأولى – ربيع الأول 1427ه-.

ص: 459

65.الظروف المطلقة و المقيّدة ب-(من)في القران الكريم- أ.د عائد الحريزي-د.ت .

66. العقد الفريد – لأبن عبد ربّه الاندلسي (ت ه-) – لجنة التأليف والنشر – 1948م.

67.غريب القرآن / الشهيد زيد بن علي بن الحسين(ع) - تحقيق محمد جواد الحسيني الجلالي مطبعة مكتب الاعلام الإسلامي-الطبعة الثانية 1418ه-

68.فتح القدير الجامع بين فنّي الرواية و الدراية من علم التفسير / محمد بن علي بن محمد الشوكاني-مطبعة مصطفى الحلبي-الطبعة الثانية 1964م

69.الفرائد البهية في شرح الفوائد الصمدية(الشرح الصغير على الصمدية)-السيد علي خان المدني(توفي ((ت 1120ه-)حققه و علق عليه السيد حسين خاتمي-ايران-قم-منشورات مهر بيكران-(توفي سنة 1120ه ) –حققه وعلّق عليه السيد حسن خاتمي – منشورات مهر بيكران - ايران _ الطبعة الاولى-1432ه.

70.الفروق النحوية في اللغة العربية ,دراسة في وظائف المفردات - الدكتور شهاب أحمد ابراهيم , ديوان الوقف السني ,الطبعة الأولى ,1430ه-,2009م.

71.الفعل زمانه وأبنيته، د. إبراهيم السامرائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1400ه-/1980م.

72.فقه الامام جعفر الصادق (عليه السلام) – عرض واستدلال –محمد

ص: 460

جواد مغنية-قم-مؤسسة أنصاريان-1379ه- -2000م

73. القاموس المحيط/ لمجد الدين الفيروز آبادي – مصر – المكتبة التجارية الكبرى – مطبعة السعادة.

74.قراءة في سورة الرحمن –د.عادل عباس النصراوي –بحث منشور في مجلة المصباح –العدد التاسع عشر- خريف سنة 1435ه-2014م.

75.قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر، الشيخ احمد الجزائري، مؤسسة الوفاء ،بيروت، لبنان، ط2، 1404ه-/1984م.

76.الكتاب، أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ودار الرفاعي بالرياض، ط2، 1402ه-/1982م. 77. كتاب العين -- للخليل بن احمد الفراهيدي -- المتوفى سنة (175ه-) -- تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور ابراهيم السامرائي تصحيح الأستاذ اسعد الطيب -- مطبعة باقري -- قم -- ط1 -- 1414ه-.

78.الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم محمد بن عمر الزمخشري الخوارزمي(ت538ه-)، تحقيق د. عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1421ه-/2001م.

79.الكشف والبيان في تفسير القرآن، للإمام العلامة أبي إسحاق احمد بن محمد بن إسماعيل الثعلبي(ت427ه-)، تحقيق سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية،،بيروت، لبنان، ط1، 1425ه-/2004م.

ص: 461

80.الكلّيات , معجم في المصطلحات والفروق اللغوية-لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي (المتوفى سنة 1094ه-) ,تحقيق د.عدنان درويش ومحمد المصري ,منشورات ذوي القربى , الطبعة الأولى ,1433ه- .

81.كنز العرفان في فقه القرآن، للفقيه البارع الفاضل السيوري (ت826ه-) ، متحفا برسالة"منابع الفقه ومصادره" ، قدمه وحققه الأستاذ الشيخ عبد الرحيم العقيقي البخشايشي، مطبعة معراج، قم، إيران، ط2، 1424ه-.

82.لباب النقول في أسباب النزول، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي(ت911ه-)، ضبطه وصححه احمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية،، بيروت، لبنان، (د.ت).

83.لسان العرب، للإمام العلامة ابن منظور(ت711ه-)، مؤسسة التاريخ العربي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط3، 1413ه-/1993م.

84.مباحث في لغة القران الكريم و بلاغته / د. عائد كريم الحريزي / اصدارات كلية الآداب (1) جامعة الكوفة / العراق / 2008م .

85.المباحث اللغوية في العراق –الدكتور مصطفى جواد ,مطبعة العاني ببغداد , الطبعة الثانية ,1385ه-, 1965م.

86.مثالب العرب والعجم، أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي،(ت204ه-)، حققه وضبط نصوصه الشيخ محمد حسن الحاج مسلم الدجيلي، مطبوعات دار الأندلس في النجف الأشرف، بيروت، لبنان، ط1،

ص: 462

1430ه-/2009م.

87.مجاز القرآن، صنعة أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي(ت210ه-)، عارضه بأصوله وعلّق عليه د. محمد فؤاد سزكين، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط2، 1401ه-/1981م.

88.مجمع البيان في تفسر القرآن، الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقيق الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1379ه-.

89.المدخل إلى علم النحو والصرف، د. عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط2، 1974م.

90.المخصّص/ تأليف أبي الحسن علي بن إسماعيل النحوي اللغوي الأندلسي المعروف بابن سيده (المتوفى سنة 458ه-) – دار السرور – د.ت .

91.المرأة في القرآن، عباس محمود العقاد، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، صيدا، (د.ت).

92.مرقاة الأصول بحوث تمهيدية في أصول الفقه، آية الله العظمى الشيخ بشير النجفي، مطبعة سيلمان زاده، ط1، 1424ه-.

93.مسالك الإفهام في آيات الأحكام إلى آيات الأحكام، الجواد الكاظمي، المكتبة الرضوية، طهران، (د.ت).

ص: 463

94.مشكل إعراب القرآن، مكي بن أبي طالب(ت437ه-)، تحقيق أسامة عبد العظيم، دار الكتب العلمية،، بيروت، لبنان، ط1، 2010م.

95.المصادر والمشتقات في معجم لسان العرب، د. خديجة الحمداني، دار أسامة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2011م.

96.معاني القرآن، أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط(ت215ه-)، تحقيق هدى محمد قراعة، مكتبة الخانجي، القاهرة،ط1، 1411ه-/1990م.

97.معاني القرآن، أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء(ت207ه-)، تحقيق احمد يوسف نجاتي، ومحمد علي النجار، دار السرور، (د.ت).

98.معاني النحو، د. فاضل السامرائي، دار الفكر، عمان، ط2، 1423ه-/2003م.

99.معجم الفروق اللغوية الحاوي لكتابي أبي هلال العسكري وجزءا من كتاب السيد نور الدين الجزائري، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين بقم المقدسة، ط4، 1429ه-.

100.مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، قدمه ووضع حواشيه وفهارسه حسن حمد، اشرف عليه وراجعه د. أميل يعقوب، دار الكتب العلمية،، بيروت، لبنان،ط2، 1426ه-/2005م.

101. مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلّامة ,للسيد محمد جواد الحسيني العاملي (المتوفى سنة 1226ه-) ,حققه وعلّق عليه الشيخ محمد باقر

ص: 464

الخالصي ,مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة ,الطبعة الأولى , 1426ه- .

102.مفردات ألفاظ القرآن، العلامة الراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان عدنان داودي، منشورات ذوي القربى، قم، إيران، ط4، 1425ه-.

103.المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، منشورات الشريف الرضي، ساعدت جامعة بغداد على نشره.

104.مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، د. نصر حامد أبو زيد، الناشر المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان، ط2، 2011م.

105.مقاييس اللغة / لأبي الحسين احمد ابن فارس بن زكريا ( ت 395ه- ) اعتنى به د. محمد عوض مرعب والآنسة فاطمة محمد أصلان / دار إحياء التراث العربي / بيروت 1429 ه- _ 2008م .

106.المقتضب / لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد ( ت 285ه- ) / تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة / عالم الكتب , بيروت / لبنان /1431ه- , 2010 م .

107.مقدمتان في علوم القرآن، ابن عطية، تحقيق آرثر جفري، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1972م.

108.مناسك الحج / فتاوى مرجع المسلمين زعيم الحوزة العلمية السيد ابو

ص: 465

القاسم الخوئي / مطبعة الآداب / النجف الأشرف / منشورات دار العلم / الطبعة الثانية عشرة , 1410 ه- .

109.المقرَّب، علي بن مؤمن المعروف بابن عصفور الأشبيلي(ت669ه-)، تحقيق احمد عبد الستار الجواري، وعبد الله الجبوري، مطبعة العاني، بغداد، 1986م.

110.من أسرار حروف الجر في القرآن الكريم، د. محمد أمين الخضري، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1409ه-/1989م.

111.من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، 1429ه-/2008م.

112.موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة المطهرة، خادم السنة يوسف الحاج أحمد، مكتبة ابن حجر ، دمشق، الطبعة الجديدة، 1428ه-/2007م.

113. الناسخ والمنسوخ , تأليف الشيخ الأمام المحقق أبي القاسم هبة الله بن سلامة أبي النصر .على هامش كتاب أسباب النزول للواحدي , عالم الكتب , بيروت .

114. الناسخ والمنسوخ , تأليف علي بن شهاب الدين الهمداني(ت 786 ه-) , تحقيق محمد جواد النجفي , مركز دار الحكمة للدراسات الإسلامية , مطبعة الرائد , الطبعة الأولى , 2009م .

ص: 466

115.نقد الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، بيروت، لبنان، ط3، 2007م.

116. النحو الوفي – الاستاذ عباس حسن – دار المعارف بمصر – ط4 – د. ت.

117.نهاية الأرب في فنون العرب، النويري، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1374ه-/1955م.

118.النهاية في غريب الحديث والأثر، للإمام مجد الدين أبي السعادات بن محمد الجوزي (ابن الأثير) (ت606ه-) ، تحقيق طاهر احمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، مطبعة شريعت، قم، إيران،ط1، 1426ه-.

119.نهج البلاغة، المختار من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، تحقيق السيد هاشم الميلاني، العتبة العلوية المقدسة، النجف، العراق، ط4، 1431ه-/2010م.

120.وضح البرهان في مشكلات القرآن، محمود بن أبي الحسن بن الحسين النيسابوري الغزنوي الملقب ببيان الحق النيسابوري، تحقيق صفوان عدنان داودي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، ط1، 1410ه-/1990م.

ص: 467

المجلات :-

* مجلة المصباح – العتبة الحسينية المقدسة - العدد الحادي عشر– خريف 2012م – 1433ه- .

* مجلة المصباح- العتبة الحسينية المقدسة- العدد التاسع عشر-خريف2014م-1435ه.

ص: 468

ص: 469

الفهرس

•المقدمة ............................................................. 10

•التمهيد _ آفاق النص و حدود الدلالة ................................. 16

•الفصل الأول _ التوجيه الدلالي لآيات الحج ........................ 28

•الفصل الثاني _ التوجيه الدلالي لآيات النكاح ...................... 104

•الفصل الثالث _ التوجيه الدلالي لآيات الطلاق ...................... 194

•الفصل الرابع _ التوجيه الدلالي لآيات المعاملات ................... 270

• الفصل الخامس _ التوجيه الدلالي لآيات الجنايات.................. 226

•الفصل السادس _ التوجيه الدلالي لآيات الحدود .................... 384

•الخاتمة .......................................................... 440

•المصادر ......................................................... 450

ص: 470

الباحث في سطور

•الدكتور عادل عباس هويدي النصراوي

-محل الولادة : النجف الأشرف

-تاريخ الولادة :10 ذي الحجة لسنة 1377 ه-/الموافق 28حزيران لسنة 1958م

-حاصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية .

-تخرج في كلية الآداب جامعة الكوفة , وحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية و آدابها سنة 2002/2003م.

-حاصل على شهادة الماجستير من الكلية ذاتها عن رسالته الموسومة ( الظواهر اللغوية في كتب إعجاز القران حتى نهاية القرن الخامس الهجري ) سنة 2006م

-حاصل على شهادة الدكتوراه من الكلية ذاتها عن أطروحته الموسومة ( الجهود اللغوية والنحوية عند ابن معصوم المدني المتوفى سنة 1120 ه- ) .

- له أكثر من 20 بحثاً منشوراً في المجلات المحكمة .

-له أكثر من 30 مقالا منشوراً في المجلات العامة .

•مؤلفاته المطبوعة

1.الجهود اللغوية و النحوية عند ابن معصوم المدني (2012م)

2.ثلاث رسائل في تجويد القران – دراسة و تحقيق – ( 2013م ).

3.نصيحة الضال , في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) – دراسة و تحقيق – ( 2013م)

4.السيد علي خان المدني وآثاره العلمية ( 2014م)

5.التوجيه الدلالي لآيات الأحكام – دراسة تحليلية – هو الكتاب الذي بين يديك .

•مؤلفاته غير المطبوعة

1.المشتقات للميرزا محمد صادق التبريزي – دراسة وتحقيق .

2.المنهج الرياضي في دراسة اللغة و الشعر – دراسة صوتية ,معجمية ,عروضية .

3.إعجاز القران – دراسة في ضوء المقاربات اللغوية .

4.قراءة في البعد التاريخي لبعض سور وآيات القران الكريم – دراسة تأسيسية في تاريخ القران الكريم .

ص: 471

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.